فقه الصادق المجلد 13

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمدُ للّه الذي أوجب الحجّ تشيّيداً للدِّين، وجَعَله من القواعد الّتي عليها بناء الإسلام، والصّلاة على محمّدٍ المبعوث إلى كافّة الأنام، وعلى آله هُداة الخلق، وأعلام الحَقّ ، واللّعن الدائم على أعدائهم إلى يوم الدِّين.

وبعدُ، فهذا هو الجزء الذي يتضمّن البحث عن الحجّ وأحكامه من كتابنا (فقه الصادق)، وقد وفّقني اللّه سبحانه لطبعه، راجياً منه تعالى التوفيق لنشر بقيّة الأجزاء، إنّه وليّ التوفيق.

ص: 5

ص: 6

كتابُ الحَجّ

اشارة

معنى الحَجّ : وضبطه بفتح الحاء المهملة، وقد تُكسَر.

وهو لغةً : القصد(1)، أو القصد المتكرّر إلى من يُراد تعظيمه(2).

وشرعاً: عبارة عن القصد إلى بيت اللّه، لأداء مناسك مخصوصة عنده، متعلّقة بزمان مخصوص، كما في «المبسوط»(3).

وعن جماعةٍ (4) هو اسمٌ لمجموع المناسك المؤدّاة في المشاعر المخصوصة، كما في «الشرائع»(5).

وأورد المحقّق على التفسير الأوّل: بأنّه يخرج عنه الوقوف بعرفة والمشعر، لأنّهما ليسا عند البيت الحرام، مع كونهما ركنين من الحَجّ إجماعاً(6).

وأورد الشهيد الأوّل على التفسير الثاني: بأنّ لازمه النقل، ولازم التفسير الأوّل التخصيص، والتخصيص أولى من النقل(7).

وأورد ثاني الشهيدين عليه: بأنّ الآتي بالبعض، التارك للبعض الذي لا مدخل له في البطلان، يصدق عليه الحاجّ ، فلا يكون الحَجّ إسماً للمجموع(8)، وأيضاً أنّه

ص: 7


1- لسان العرب: ج 2/226.
2- كتاب العين: ج 3/9.
3- المبسوط: ج 1/296.
4- منهم ابن حمزة في الوسيلة: ص 155، وابن إدريس في السرائر: ج 1/506، والمحقّق الحِلّي في المعتبر: ج 2/745، والعلّامة في القواعد: ج 1/397.
5- شرائع الإسلام: ج 1/163.
6- المعتبر: ج 2/745.
7- الدروس: ج 1/306.
8- مسالك الأفهام: ج 2/120.

يصدق على العُمرَة(1).

أقول: وحقّ القول في المقام أنْ يقال:

بعدما لا ريب في أنّ للحجّ معنى شرعيّاً يستعمل فيه في لسان الشارع الأقدس وتابعيه، وذلك إمّا بالوضع التعييني بالاستعمال فيه بداعي وضعه له، أو التعيّني الحاصل من كثرة الاستعمال، أنّه كسائر ألفاظ العبادات موضوعٌ لعدّة أجزاء - المعبّر عنها بالأركان - فصاعداً بحيث يكون الزائد عن الأجزاء المقوّمة على فرض تحقّقه داخلاً في المسمّى ، وعدمه غير مضرٍّ بصدقه، ولا محذور في دخول شيء في مركّب اعتباري عند وجوده وخروجه عنه، عند عدمه، إذا اُخذ المقوّم له لا بشرط، كما في لفظ (الدار) فإنّه موضوعٌ للساحة المُحاطة بالحيطان مع غرفة، فإنْ كان هناك غير ذلك من غرفة اُخرى أو بئر أو ما شاكل يكون من اجزاء الدار، وإلّا فلا.

ولا يردُ على هذا شيٌ ء، إذ لم تثبت أولويّة التخصيص من النقل، وعلى فرض ثبوتها لا تصلح منشئاً لتعيين الموضوع له، بل المُثبت له هو التبادر، وهو يعيّن ما ذكرناه.

وصدق الحاجّ على الآتي بالبعض التارك لآخر، وعلى الآتي بالمجموع لا ينافي ما ذكرناه، بل يعيّنه، وصدقه على العمرة ينفي تقيّيده بزمانٍ خاص.

وجوب الحَجّ من ضروريّات الدِّين

لا كلام ولا خلاف بين علماء المسلمين أنّ وجوب الحَجّ من ضروريّات الدين، ويدخل من أنكره في سبيل الكافرين، وزاد في «الجواهر»، وقال: (بل لعلّ

ص: 8


1- مسالك الأفهام: ج 2/120.

تأكّد وجوبه كذلك فضلاً عن أصل الوجوب كما هو واضح، ولذا سَمّى اللّه تعالى تركه كُفراً في الكتاب العزيز) انتهى (1).

وفيه: أنّ الكُفر في الآية إنّما هو في مقابل الشُكر، كما عن جماعة من المفسّرين(2)، فالمراد به ترك المامور به، فإنّ امتثال أمر اللّه شكرٌ لنعمته، وترك المامور به كفرانٌ لها، مع أنّه ليس في الآية الكريمة(3) ما يشهد باطلاًق الكفر على تركه، ولعلّ المراد منها جحود فرض الحَجّ ، وعدم رؤيته واجباً، كما عن ابن عبّاس والحَسَن(4)، ويعضده خبر علي بن جعفر الآتي، قال:

«قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال عليه السلام: لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر»(5).

فغاية ما تدلّ عليه كون وجوب الحَجّ من ضروريّات الدِّين.

وكيف كان، فهو من أركان الدِّين، قال إمامنا الباقر عليه السلام على ما في صحيح زرارة: «بُني الإسلام على خمسة: على الصلاة والزكاة والحَجّ والصوم والولاية»(6)، ونحوه ما في سائر النصوص المرويّة عنهم عليهم السلام، بل هو من أعظم أركان الإسلام وأفضلها، لما فيه من إتعاب البدن، وصرف المال، والتجرّد عن الشهوات، والتغرّب عن الوطن، ورفض العادات وغير ذلك، وقد قال الإمام أبو الحسن عليه السلام على ما في خبر محمّد بن مسلم:2.

ص: 9


1- جواهر الكلام: ج 17/220.
2- منهم صاحب البرهان في تفسيره: ج 662/1، والقمّي في تفسيره: ج 1/108، وفي تفسير التبيان: ج 2/536.
3- سورة آل عمران: الآية 97.
4- المغني والشرح الكبير: ج 3/164، قوله: (من كفر باعتقاده أنّه غير واجب).
5- الكافي: ج 4/265 ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/16، ح 14128.
6- الكافي: ج 2/18، ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/13، ح 2.

وفيه أبواب: الباب الأوّل: في أقسامه.

«مَن قدم حاجّاً حتّى إذا دخل مكّة دخل متواضعاً، فإذا دخل المسجد الحرام قصّر خطاه من مخافة اللّه، فطاف بالبيت طوافاً، وصلّى ركعتين، كتب اللّه له سبعين ألف حسنة، وحطَّ عنه سبعين ألف سيّئة، ورفع له سبعين ألف درجة، وشفّعه في سبعين ألف حاجة، وحسب له عتق سبعين ألف رقبة، قيمة كلّ رقبة عشرة آلاف درهم»(1).

وقال الإمام الصادق عليه السلام كمافي خبرمعاوية، نقلاًعن آبائه عليهم السلام: «إنّرسول اللّه صلى الله عليه و آله لقيه أعرابيٌ ، فقال له: يا رسول اللّه إنّي خرجتُ أريد الحَجّ ، ففاتني وأنا رجلٌ مميل، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاجّ؟ فالتفت إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقال:

انظر إلى أبي قبيس، فلو أنّ أبا قبيس لك ذهبة حمراء انفقته في سبيل اللّه ما بلغت به ما يبلغ الحاجّ ، ثمّ قال: إنّ الحاجّ إذا أخذ في جهازه، لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلّاكتب اللّه له عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خُفّاً ولم يضعه إلّاكتب اللّه له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرجَ من ذنوبه، فإذا سعى بين الصّفا والمروة خرج من ذنوبه، الحديث»(2).

ونحوهما غيرهما من الأخبار الكثيرة المرويّة عن المعصومين عليهم السلام(3).

(و) كيف كان، ف (فيه أبواب: الباب الأوّل: في أقسامه).

**** .

ص: 10


1- وسائل الشيعة: ج 11/121، ح 14407.
2- التهذيب: ج 5/19، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/113، ح 14385.
3- وسائل الشيعة: باب 1 من أبواب مقدّمة العبادات، وجملة من أبواب وجوب الحَجّ وشرائطه من كتاب الحَجّ .

وهي حجّة الإسلام، وما يجبُ بالنّذر وشبهه، وبالإستيجار والإفساد.

فحجّة الإسلام واجبة بأصل الشرع مرّة واحدة.

أقسام الحجّ الواجب

أقول: وتنقيح القول في هذا الباب يتحقّق من خلال فصول:

الفصل الأوّل: أقسام الحَجّ الواجب أربعة:

القسم الأوّل: ما وجبَ بأصل الشرع، من دون أن ينطبق عليه عنوانٌ آخر (وهي حجّة الإسلام)، ويُطلق عليها هذا العنوان من جهة أنّها أحد أركان الإسلام كما تقدّم.

(و) القسم الثاني: (ما يجبُ بالنّذر وشبهه) من العهد واليمين.

(و) القسم الثالث: ما يجبُ (بالاستيجار).

(و) القسم الرابع: ما يصيرُ واجباً ب (الإفساد)، أي إفساد الحَجّ في العام السابق.

***

عدم وجوب حجّة الإسلام إلّامرّة واحدة

الفصل الثاني: في كيفيّة وجوب حجّة الإسلام وشرائطها، وأحكامها، (ف) الكلام في مطالب:

المطلب الأوّل: (حجّة الإسلام واجبة) على كلّ من اجتمعت فيه الشرائط القادمة (بأصل الشرع مرّة واحدة) بلا خلافٍ في ذلك.

ص: 11

وفي «الجواهر»: (إجماعاً بقسميه من المسلمين، فضلاً عن المؤمنين)(1).

وعن الصدوق في «العلل»: وجوبها على أهل الجِدة في كلّ عام(2).

ويظهر من المصنّف رحمه الله في «المنتهى » الارتياب في ثبوت ذلك(3).

وقد استدلّ لعدم وجوبها أكثر من مرّة في «الجواهر»(4) وغيرها(5)، بوجوهٍ :

الوجه الأوّل: الأصل، بتقريب أنّ وجوب الحَجّ مرّة واحدة معلوم، والزائد عليها وجوبه مشكوك فيه، فيرتفع بالأصل.

وفيه: أنّ الأصل إنّما يرجع إليه مع عدم الدليل، وحيثُ أنّ في المقام روايات تدلّ على وجوبه في كلّ عام - كما ستمرّ عليك - فلا سبيل إلى الاستدلال به.

الوجه الثاني: إطلاق الأمر في الكتاب والسُنّة، بتقريب أنّ الظاهر من تعلّق الأمر بالطبيعة كون المطلوب صرف وجودها، المنطبق على أوّل الوجودات، فبه يحصل الغرض والمطلوب، ويسقط الأمر لا محالة.

وفيه: أنّه متينٌ لولا الأخبار الخاصّة.

الوجه الثالث: الإجماع قديماً وحديثاً، ولذا ردّ المصنّف رحمه الله في «المنتهى » ما نُسب إلى الصدوق بمخالفته للإجماع(6).

وفيه: أنّ الإجماع الحجّة هو ما كان تعبّدياً غير معلوم المدرك، حيث يكون كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام، وأمّا الإجماع الذي يكون مدرك المجمعين معلوماً).

ص: 12


1- جواهر الكلام: ج 17/220.
2- علل الشرائع: ج 2/405.
3- منتهى المطلب: ج 2/643 (ط. ق).
4- جواهر الكلام: ج 17/220.
5- كشف اللِّثام: ج 5/8، (ط. ج).
6- منتهى المطلب: ج 2/643 (ط. ق).

وبأيدينا، فلايكون كاشفاًعنه، فلايكون حجّة، والمقام من هذا القبيل كما هو واضح.

الوجه الرابع: الأخبار الخاصّة:

منها: صحيح هشام المرويّ في «المحاسن» و «الخصال»، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«ما كلّف اللّه العباد إلّاما يُطيقون، إنّما كلّفهم في اليوم واللّيلة خمس صلوات - إلى أن قال - وكلّفهم حجّة واحدة، وهم يطيقون أكثر من ذلك»(1).

ومنها: خبر محمّد بن سنان: «أنّ أبا الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله، قال: علّة فرض الحَجّ مرّة واحدة، لأنّ اللّه تعالى وضع الفرائض على أدنى القوم قوّةً ، فمن تلك الفرائض الحَجّ المفروض واحداً، ثمّ رغّب أهل القوّة على قدر طاقتهم»(2).

ومنها: خبر الفضل بن شاذان، عنه عليه السلام: «إنّما أُمروا بحجّة واحدة لا أكثر من ذلك، لأنّ اللّه تعالى وضع الفرائض على أدنى القوّة، كما قال: (فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ ) ، إلى أن قال: فكان من تلك الفرائض الحَجّ المفروض واحداً، الحديث»(3).

ونحو ذلك جملةٌ من النصوص، كخبر «دعائم الإسلام»(4)، وما في «غوالي اللّالي»، والنبويّ المرويّ عن «العوالي» (5) .

أقول: وهذه النصوص وإنْ كانت معتبرة، ودلالتها على المطلوب ظاهرة، إلّا أنّه يعارضها طائفة اُخرى من النصوص:4.

ص: 13


1- وسائل الشيعة: ج 1/28، ح 37، باب 1 (باب وجوب العبادات الخمس...).
2- وسائل الشيعة: ج 11/20، ح 14137، باب 3 (وجوب الحَجّ ...).
3- وسائل الشيعة: ج 11/19، ح 14136، باب 3 (وجوب الحَجّ ...).
4- المستدرك، باب 3 من أبواب وجوب الحَجّ وشرائطه، ح 2 و 4.
5- المستدرك، باب 3 من أبواب وجوب الحَجّ وشرائطه، ح 2 و 4.

منها: صحيح أبي جرير القمّي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «الحَجّ فرضٌ على أهل الجِدة في كلّ عام»(1).

ومنها: خبر حذيفة بن منصور، عنه عليه السلام قال: «إنَّ اللّه عزّ وجلّ فرض الحَجّ والعمرة على أهل الجِدة في كلّ عام»(2).

ومنها: خبر عليّ بن جعفر(3)، عن أخيه الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، قال: «إنّ اللّه تعالى فرض الحَجّ على أهل الجِدة في كلّ عام، وذلك قوله تعالى: (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ ) (4)».

ونحوها غيرها.

أقول: وقد قيل في الجمع بين الطائفتين وجوه:

الوجه الأوّل: أن يكون الظرف في الطائفة الثانية، أي قوله: (في كلّ عام) متعلّقاً بأهل الجِدة، فيكون المعنى أنّه يجبُ الحَجّ على أهل جدة السّنة في كلّ عام، فلا يجب إلّامرّة واحدة، فإنّ من وجب عليه الحَجّ في السنة الماضية، فهو أهل جِدة تلك السنة لا أهل جِدة هذه السنة، فلا يجب عليه مرّة اُخرى .

وبعبارة اُخرى : كلّ من تمكّن من الحَجّ يكون أهل جِدة سنةٍ واحدة، لا سنوات متعدّدة.

ولكن ذلك خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر تعلّقه بفرض كما لا يخفى ، فالمصير إليه7.

ص: 14


1- وسائل الشيعة: ج 11/17، ح 14131.
2- الكافي: ج 4/266، ح 9، وسائل الشيعة: ج 11/17، ح 14132.
3- الكافي: ج 4/265، ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/16، ح 14128.
4- سورة آل عمران: الآية 97.

يحتاج إلى قرينة.

الوجه الثاني: أن يكون المراد من فرض الحَجّ في كلّ عام، أنّ وجوب الحَجّ ليس وجوباً موقّتاً، بل هو وجوبٌ ثابت إلى الأبد، وأنّه واجبٌ إلى يوم القيامة.

ويمكن تأييده بما قاله صاحب «المنتهى »: (وروي أنّه قيل: يا رسول اللّه أحجّنا لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال عليه السلام: بل للأبد)(1).

فيكون مفاد هذه النصوص، مفاد ما دلّ على أنّ : (حلالُ محمّدٍ حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة».

ولكنّه أيضاً خلاف الظاهر، إذ الظاهر من النصوص كون كلّ عام ملحوظاً مستقلّاً وموضوعاً برأسه، لا أنّ المجموع ظرفٌ لاستمرار حكم واحد كما لا يخفى .

الوجه الثالث: ما عن جمعٍ من الأساطين(2) من إرادة الوجوب على البدل، بمعنى أنّ من وجب عليه الحَجّ ، فلم يفعل في السنة الأُولى ، وجب عليه في الثانية، وهكذا في كلّ عام، فيكون وجوبه في كلّ عامٍ بدليّاً ومترتّباً على تركه في العام السابق.

وفيه: أنّه تصرّفٌ في ظاهر النصوص، وتقيّيد لإطلاقها من دون أن يشهد به شاهد.

الوجه الرابع: ما ذهب إليه في «الوسائل»(3) ومالَ إليه سيّد «العروة»(4) من).

ص: 15


1- الكافي: ج 4/245، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/213، ح 14647.
2- ذكره الشيخ الطوسي في الإستبصار: ج 2/149، والعلّامة الحِلّي في تذكرة الفقهاء: ج 7/16، (ط. ج)، وهومختاره فيها.
3- وسائل الشيعة: ج 11/18، باب 2 من أبواب وجوب الحَجّ وشرائطه.
4- العروة الوثقى: ج 4/343 (ط. ج).

حمل الأخبار الدالّة على الوجوب في كلّ عام، على الوجوب الكفائي، بمعنى أنّه يجبُ الحَجّ كفاية على كلّ أحدٍ في كلّ عام إذا كان متمكّناً، بحيث لا تبقى مكّة خالية من الحاجّ ، واستشهد لذلك بطوائف من النصوص:

منها: ما دلّ على عدم جواز تعطيل الكعبة من الحَجيج كصحيح حمّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«كان عليّ صلوات اللّه عليه يقول لولده: يا بَنيّ انظروا بيت ربّكم فلا يخلو منكم فلا تناظروا»(1) ونحوه غيره.

ومنها: ما دلّ على أنّ النّاس لو تركوا الحَجّ لوجب على الإمام عليه السلام - كما في بعضها - وعلى الوالي - كما في آخر - أن يجبر النّاس على الحَجّ والمقام في مكّة، كصحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«لو عطّل النّاس الحَجّ ، لوجب على الإمام عليه السلام أن يجبرهم على الحَجّ إنْ شاؤوا، وإن أبوا فإنّ هذا البيت إنّما وضع للحجّ »(2).

وصحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام، قال: «لو أنّ النّاس تركوا الحَجّ لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، فإنْ لم يكن لهم مالٌ أنفق عليهم من بيت مال المسلمين»(3).

ونحوهما غير هما.9.

ص: 16


1- الكافي: ج 4/270، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/21، ح 14139.
2- الكافي: ج 4/272، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/24، ح 14148.
3- وسائل الشيعة: ج 11/24، ح 14149.

ومنها: ما دلّ على أنّ النّاس لو تركوا الحَجّ نَزلَ عليهم العذاب، كخبر أبي بصير، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: أما أنّ النّاس لو تركوا حَجّ هذا البيت، لنزل بهم العذاب وما نوظروا»(1). ونحوه غيره.

وتقريب الاستدلال: أنّها تدلّ على وجوب الحَجّ كفايةً على المسلمين، وأنّه يسقط بحجّ البعض، ومع ترك الجميع يُجبِر بعضهم الإمام أو الوالي على الحجّ ، وإلّا نزل بهم العذاب.

وفيه أوّلاً: إنّ هذه النصوص التي استشهد بها لا تختصّ بأهل الجِدة، بل تختصّ بهم الأخبار التي استدلّ بها لوجوبه في كلّ عام، وأيضاً هذه تختصّ بصورة حصول التعطيل وتلك لا تختصّ بها.

وثانياً: إنّ نصوص عدم جواز تعطيل الكعبة، لا تدلّ على وجوب الحَجّ في كلّ عام كفايةً ، لأنّه كما يحصل عدم التعطيل بالحجّ يحصل كذلك بالعُمرة.

أقول: وأمّا نصوص الإجبار ونزول العذاب، فإنّه يمكن أن يورد عليها بأنّه حيث لا يتّفق عادةً عدم وجود مستطيع ضرورة في كلّ عام، فيمكن أن يكون المراد بها كون وجوب الإجبار ونزول العذاب لأجل تركهم حَجّة الإسلام الواجبة عيناً في تمام العمر مرّة واحدة، وحيث لا إطلاق لها من هذه الجهة، فلا يصحّ الاستدلال بها.

الوجه الخامس: حمل الطائفة الثانية(2) على الاستحباب، اختاره الشيخ(3) رحمه الله9.

ص: 17


1- وسائل الشيعة: ج 11/22، ح 14144.
2- التي استدلّ بها الصدوق على وجوب الحَجّ في كلّ عام على أهل الجِدة كما في علل الشرائع: ج 2/405.
3- الإستبصار: ج 2/149.

والمحقّق في «المعتبر»(1)، وسيّد «المدارك»(2)، وصاحب «الجواهر»(3) وغيرهم.

وتقريب ذلك: إنّ نصوص الوجوب مرّة واحدة، نصٌّ على عدم وجوب الأكثر، ونصوص الوجوب في كلّ عامٍ ظاهرة في ذلك، فإنّ الفرض في اللّغة بمعنى الثبوت، وهو كما يلائم مع الوجوب، يلائم مع الاستحباب، فبنصوصيّة الطائفة الأُولى تُحمل الثانية على الاستحباب.

وهذا مضافاً إلى كونه جمعاً عرفيّاً، يشهد به جملة من النصوص الصريحة في استحباب الحَجّ والعمرة بقدر القدرة، كصحيح ابن عمير عن أبي محمّد الفراء، قال:

«سمعتُ جعفر بن محمّد عليه السلام يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: تابعوا بين الحَجّ والعمرة، فإنّهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد»(4). ونحوه غيره.

وقد عقد لذلك في «الوسائل» باباً، وذكر فيه أربعاً وثلاثين حديثاً، ثمّ قال:

(وتقدّم ما يدلّ على ذلك ويأتي ما يدلّ عليه)(5).

وإنْ أبيت عن كون ذلك جمعاً عرفيّاً، فلابدّ من طرح نصوص الوجوب، لأنّ جملةٍ من المرجّحات مع نصوص النفي، كما هو واضح.

وعليه، فالأظهر عدم وجوبه أكثر من مرّة.

***2.

ص: 18


1- المعتبر: ج 2/705.
2- مدارك الأحكام: ج 6/235.
3- جواهر الكلام: ج 17/221.
4- الكافي: ج 4/255، ح 12، وسائل الشيعة: ج 11/123، ح 14413.
5- وسائل الشيعة: ج 11/132.

على الذكور والإناث والخناثي بشروط ستّة: البلوغ.

شرائط وجوب حَجّة الإسلام

المطلب الثاني: إنّما تجبُ حجّة الإسلام (على الذكور والإناث والخناثي بشروط ستّة):

الشرط الأوّل: (البلوغ).

واعتباره في وجوبها ممّا لا كلام فيه ولا خلاف، بل عليه العلماء كافّة، كما عن «المعتبر»(1)، وفي «التذكرة»(2) وعن غيرهما.

واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع، ففي «الجواهر»: (إجماعاً بقسميه)(3)، وفي «المستند»:

(إجماعاً محقّقاً ومحكيّاً مستفيضاً)(4). وفي «الرياض»: (عليه إجماع علماء الإسلام كما في عبائر جماعة)(5).

وفيه: إنّ مدرك المجمعين حيث يكون معلوماً فلا يعدّ مثل هذا الإجماع إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم.

الوجه الثاني: الاستدلال بحديث رفع القلم:

ص: 19


1- المعتبر: ج 2/745.
2- تذكرة الفقهاء: ج 7/23، (ط. ج).
3- جواهر الكلام: ج 17/229.
4- مستند الشيعة: ج 11/15.
5- رياض المسائل: ج 6/33.

1 - ففي محكي «الخصال» عن ابن الظبيان، عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام «في سقوط الرجم عن الصبي، أما علمت أنّ القلم يُرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتّى يحتلم، وعن المجنون حتّى يفيق، وعن النائم حتّى يستيقظ»(1).

2 - وفي موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الغلام متى يجبُ عليه الصلاة ؟ قال عليه السلام: إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة، فإنْ احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة، وجرى عليه القلم»(2).

3 - وخبر أبي البُختري، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام: «أنّه كان يقول: في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق، والصبي الذي لم يبلغ، عمدهما خطأ تحمله العاقلة، وقد رفع عنهما القلم»(3).

وأورد عليه بعض المعاصرين: تبعاً للشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله بأنّ الظاهر منه قلم المؤاخذة لا قلم جعل التكليف(4).

وفيه أوّلاً: أنّه لا شاهد لهذا الحمل، بل الظاهر منه قلم جعل التكليف، بل موثّق عمّار كالصريح في ذلك، حيث إنّه سؤالاً وجواباً في مقام بيان زمان وجوب الصلاة.

وثانياً: أنّ مورد بعض هذه النصوص القصاص وثبوت الدية، وهما ليسا من قبيل المؤاخذة على مخالفة التكليف، بل من قبيل الحكم الوضعي.

وثالثاً: لو كان المراد رفع فعليّة المؤاخذة، مع ثبوت الاستحقاق، ليكون مقتضاه العفو، كان ذلك ممّا يقطع بخلافه.4.

ص: 20


1- وسائل الشيعة: ج 1/45، ح 81، باب 4.
2- تهذيب الأحكام: ج 2/380، ح 5، الإستبصار: ج 1/408، ح 1560، وسائل الشيعة: ج 1/45، ح 82.
3- وسائل الشيعة: ج 29/90، ح 35225، قرب الإسناد ص 72.
4- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/14.

والعقل.

وإنْ كان المراد رفع الاستحقاق، فهو لايصحّ إلّامع رفع الحكم الذي هو منشأ هذا الحكم العقلي.

وبالجملة: فالحقّ تماميّة الاستدلال بهذه النصوص المعمول بها، التي لو فرض ضعف اسنادها، يكون منجبراً بالعمل والاستناد بلا كلام.

الوجه الثالث: الروايات الواردة في المقام:

1 - موثّق اسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن ابن عشر سنين يحجّ؟ قال: عليه حجّة الإسلام إذا احتلم، وكذلك الجارية عليها الحَجّ إذا طمثت»(1).

2 - ومثله خبر شهاب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(2).

3 - وخبر مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ ، قال: «لو أنّ غلاماً حجّ عشر حجج، ثمّ احتلم كانت عليه فريضة الإسلام»(3).

ودلالتها على المطلوب واضحة.

(و) الشرط الثاني: كمال (العقل) لا خلاف في اعتباره، وقد تكرّر في كلماتهم دعوى إجماع علماء الإسلام عليه(4)، ويشهد به النصوص العامّة المتقدّمة - أي نصوص رفع القلم - وقد مرّ تقريب الاستدلال بها(5).ل.

ص: 21


1- الفقيه: ج 2/435، ح 2898، وسائل الشيعة: ج 11/45، ح 14197.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/6، وسائل الشيعة: ج 11/45، ح 14198.
3- الكافي: ج 4/278، ح 18، وسائل الشيعة: ج 11/46، ح 14200.
4- جواهر الكلام: ج 17/229، مستمسك العروة الوثقى: ج 10/13، وغيرهما.
5- تقدّم ذلك في الشرط الأوّل، وكان الوجه الثاني من الإستدلال.

والحريّة، والزاد والراحلة.

(و) الشرط الثالث: (الحريّة) فلا يجبُ على المملوك - وإن أذن له مولاه، وكان مستطيعاً من حيث المال، بناءً على القول بملكه، أو بذل له مولاه الزاد والراحلة - إجماعاً بقسميه عليه، منّا ومن غيرنا، كما في «الجواهر»(1).

ويشهد به ما في موثّق الفضل بن يونس، عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «ليس على المملوك حجٌّ ولا عمرة حتّى يُعتق»(2). ونحوه غيره.

وحيثُ إنّه لاموضوع لذلك في هذه الأزمنة، فالصفح عن التعرّض له نقضاً وإبراماً، والفروع المتفرّعة عليه أولى .

اشتراط الزاد والراحلة

(و) الشرط الرابع والخامس: أن يكون له (الزّاد والرّاحلة) بلا خلافٍ في اعتبارهما في الجملة.

قال صاحب «المنتهى »: (اتّفق علماؤنا على أنّ الزاد والراحلة شرطان في الوجوب)(3).

وأمّا صاحب «الرياض» فإنّه بعد دعوى إجماع علماء الإسلام على اعتبار الاستطاعة، قال: (والمراد بالاستطاعة عندنا، الزاد والراحلة إنْ لم يكن من أهل

ص: 22


1- جواهر الكلام: ج 17/241.
2- الكافي: ج 4/266، ح 7، وسائل الشيعة: ج 11/48، ح 14203.
3- منتهى المطلب: ج 2/652.

مكّة ولا بها بالإجماع، كما في «الناصريّات»، و «الخلاف»، و «الغُنية»، و «المنتهى »، و «التذكرة»، و «السرائر»)(1).

ونحوهما كلمات غيرهما من الأساطين.

ويشهد به تفسير الاستطاعة، الّتي هي شرطٌلوجوب حجّة الإسلام بالإجماع والكتاب والسُنّة، قال اللّه تبارك وتعالى : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (2).

وقال أبو جعفر عليه السلام في صحيح محمّد بن مسلم، بعدما سأله عن قوله تعالى (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ ...) إلى آخره: «يكون له ما يحجّ به»(3).

ونحوه غيره وستمرّ عليك جملة منها.

وقال صاحب «الجواهر»: (بإجماع المسلمين والنّص في الكتاب المبين، والمتواتر من سُنّة سيّد المرسلين، بل لعلّ ذلك من ضروريّات الدِّين، كأصل وجوب الحَجّ ) انتهى (4).

كما ورد التصريح بهما في جملةٍ من النصوص:

منها: صحيح هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في قوله عزَّ وجَلّ : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ما يعني بذلك ؟ قال عليه السلام: من كان صحيحاً في بدنه، مخلّى له سربه، له زاد وراحلة»(5).3.

ص: 23


1- رياض المسائل: ج 6/33، طبع مؤسّسة النشر الإسلامي.
2- سورة آل عمران: الآية 97.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/4، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/33، ح 14167.
4- جواهر الكلام: ج 17/248.
5- وسائل الشيعة: ج 11/35، ح 14173.

ومنها: صحيح محمّد بن يحيى الخَثعمي، قال: «سأل حفص الكُناسي أبا عبد اللّه عليه السلام - وأنا عنده - عن قول اللّه عزَّ وجَلّ : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ما يعني بذلك ؟ قال عليه السلام: من كان صحيحاً في بدنه، مخلّى في سربه، له زاد وراحلة، فهو ممّن يستطيع الحَجّ - أو قال - ممّن كان له مال.

فقال له حفص الكناسي: فإذا كان صحيحاً في بدنه، مُخلّى في سربه، وله زاد وراحلة، فلم يحجَّ فهو ممّن يستطيع الحَجّ؟ قال عليه السلام: نعم»(1).

ونحوهما غيرهما من الأخبار الكثيرة.

أقول: ثمّ إنّ تنقيح القول في هذا المقام، يقتضي التكلّم في مسائل:

***0.

ص: 24


1- الكافي: ج 4/267، وسائل الشيعة: ج 11/34، ح 14170.

عدم اختصاص اشتراط الراحلة بصورة الحاجة إليها

المسألة الاُولى : هل يختصّ اشتراط وجود الراحلة بصورة الحاجة إليها، لعدم القدرة على المشي، أو كونه شاقّاً عليه وما شابه ؟

أم يشترط مطلقاً ولو مع عدم الحاجة ؟

ظاهر الأصحاب هو الثاني:

قال صاحب «المدارك»: (لا نعلم قائلاً بالأوّل)(1).

بل عن «الخلاف»(2)، و «الناصريّات»(3)، و «الغُنية»(4) وغيرها دعوى الإجماع عليه.

وفي «المستند»: (ظاهر «المنتهى» الأوّل، حيث اشترط الراحلة للمحتاج إليها، وهو ظاهرُ «الذخيرة» و «المدارك»، وصريح «المفاتيح» وشرحه، ونسبه في الأخير إلى الشهيدين، بل قال «التذكرة» بل يمكن استفادته من كلامٍ جماعة قيّدوها بالاحتياج والافتقار...) انتهى (5).

أقول: إنّ سيّد «المدارك» بعدما نقل عن المصنّف في «المنتهى » قوله: (وإنّما يشترط الزاد والراحلة في حقّ المحتاج إليهما لبُعد مسافته)، قال:

(ونحوه قال في «التذكرة»، وصرّح بأنّ القريب إلى مكّة لا يعتبر في حقّه

ص: 25


1- مدارك الأحكام: ج 7/36.
2- الخلاف: ج 2/247.
3- الناصريّات، الجوامع الفقهيّة: ص 243.
4- الغنية، الجوامع الفقهيّة: ص 511.
5- مستند الشيعة: ج 11/28.

وجود الراحلة إذا لم يكن محتاجاً إليها).

ثمّ استجوده، ولكن أشكل عليه في بيان ضابط القُرب، ثمّ قال:

(والرجوع إلى اعتبار المشقّة وعدمها جيّدٌ، إلّاأنّ اللّازم منه عدم اعتبار الراحلة في حقّ البعيد أيضاً، إذا تمكّن من المشي من غير مشقّة شديدة، ولا نعلم به قائلاً) انتهى (1).

أقول: وبهذا يظهر وجه النسبة إلى «التذكرة»، و «المنتهى »، و «المدارك»، والظاهر أنّ وجه نسبة ذلك إلى الشهيدين وجماعة آخرين هو ذلك.

وبالجملة: الظاهر أنّ مورد كلام هؤلاء هو القريب، ومورد البحث هو البعيد، نعم صرّح بعض متأخّري المتأخّرين بالاختصاص.

وأمّا النصوص: فهي على طائفتين:

الطائفة الأُولى: ما يدلّ على اشترط الراحلة في صدق الاستطاعة الشرعيّة مطلقاً:

1 - صحيحي هشام، وابن الخثعمي المتقدّمين آنفاً.

2 - خبر السكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «سأله رجلٌ من أهل القدر عن قول اللّه تعالى : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ ) إلى آخره، أليس قد جعل اللّه لهم الاستطاعة ؟ فقال: ويحك إنّما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة، ليس استطاعة البدن»(2).

3 - خبر الفضل بن شاذان، عن الإمام الرّضا عليه السلام، في كتابه إلى المامون: «وحجّ البيت فريضة على من استطاع إليه سبيلاً، والسبيل الزاد والراحلة مع الصحّة»(3).4.

ص: 26


1- مدارك الأحكام: ج 7/36.
2- الكافي: ج 4/268، ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/35، ح 14171.
3- وسائل الشيعة: ج 11/35، ح 14172، عيون أخبار الرّضا: ج 2/124.

4 - وخبر عبد الرحمن بن سيابة، عن الإمام الصادق عليه السلام، في الآية الشريفة، قال: «من كان صحيحاً في بدنه، مخلّى سربه، له زادٌ وراحلة، فهو مستطيع للحجّ »(1).

الطائفة الثانية: ما يدلّ على عدم اشتراطها لمَن لا يحتاج إليها:

1 - صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ عليه دَين، أعليه أن يحجّ؟

قال عليه السلام: نعم، إنّ حجّة الإسلام واجبة على مَن أطاق المشي من المسلمين، ولقد كان أكثر من حجّ مع النبيّ صلى الله عليه و آله مشاة، ولقد مرَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله بكراع الغميم، فشكوا إليه الجهد والعناء، فقال: شدّوا أزركم واستبطئوا. ففعلوا ذلك فذهب عنهم»(2).

2 - وصحيح محمّد بن مسلم، قلت لأبي جعفر عليه السلام: «فإنْ عَرَض عليه الحَجّ فاستحيى ؟ قال:... فإنْ كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل»(3).

3 - وصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «مَنْ عَرَض عليه ما يحجّ به فاستحيى من ذلك، أهو ممّن يستطيع إليه سبيلاً؟ قال عليه السلام: نعم، ما شأنه يستحيى ولو يحجّ على حمارٍ أجدع أبتر؟! فإنْكان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليحج»(4).

4 - وخبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «قلت له: من عرض عليه الحَجّ فاستحيى أن يقبله، أهو ممّن يستطيع الحَجّ؟ قال عليه السلام: مُره فلا يستحيي، ولو على حمارٍ أبتر، وإنْ كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل»(5).3.

ص: 27


1- وسائل الشيعة: ج 11/36، ح 14176، تفسير العيّاشي: ج 1/192.
2- الفقيه: ج 2/295، ح 2503، وسائل الشيعة: ج 11/43، ح 14195.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/4، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/40، ح 14185.
4- الكافي: ج 4/266، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/41، ح 14189، مع اختلاف يسير.
5- وسائل الشيعة: ج 11/42، ح 14193.

5 - وخبره الآخر: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: قول اللّه عزَّ وجَلّ : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (1)؟ فقال عليه السلام: يخرج ويمشي إنْ لم يكن عنده. قلت: لايقدر على المشي ؟ قال عليه السلام: يخرج ويمشي ويركب. قلت: لا يقدر على ذلك، أعني المشي ؟ قال عليه السلام: يخدم القوم ويخرج معهم»(2) ونحوها غيرها.

أقول: وأكثر هذه الأخبار وإنْ وردت في الاستطاعة البدنيّة، إلّاأنّ الظاهر منها أنّها تفسّر الاستطاعة التي علّق عليها وجوب الحَجّ في الكتاب والسُنّة، وعليه فلا عبرة بخصوص المورد، وقد ذكر الأصحاب في مقام الجمع بين الطائفتين وجوهاً:

الوجه الأوّل: ما عن الشيخ رحمه الله من حمل الطائفة الثانية على الحَجّ المندوب، والأولى على الحَجّ الواجب(3).

وأورد عليه تارةً : بأنّ بعض النصوص من الطائفة الثانية كصحيح معاوية مشتملٌ على كلمة (عليه) وهي ظاهرة في الوجوب.

واُخرى : بأنّ كثيراً منها مذكورة ذيل تفسير الآية الشريفة الواردة في الحَجّ الواجب.

وأجاب في «الجواهر» عن الثاني: بأنّ المراد من الآية القَدَر المشترك بين الوجوب والندب(4).

وتقريبه: إنّ كلمة (عَلَى اَلنّاسِ ) في الآية الكريمة إنّما تكون لمطلق المحبوبيّة، والاستطاعة أيضاً أعمٌّ من الاستطاعة للحجّ الواجب وللمندوب، والطائفة الأُولى1.

ص: 28


1- سورة آل عمران: الآية 97.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/10، ح 26، وسائل الشيعة: ج 11/44، ح 14196، مع اختلاف يسير.
3- الإستبصار: ج 2/141، ذيل الحديث 6.
4- جواهر الكلام: ج 17/251.

تفسّر الاستطاعة للحجّ الواجب، والثانية تفسّر الاستطاعة للحجّ المندوب، وعليه ففي الاستطاعة للواجب يعتبر الراحلة، ولا تعتبر في الاستطاعة للحجّ المندوب.

وبه يظهر الجواب عن الإشكال الأوّل.

ولكن يرد عليه أوّلاً: إنّ حمل الآية على القَدَر المشترك، لا يلائم مع قوله تعالى فيها: (وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ ) (1).

وثانياً: إنّ هذا الجمع تبرّعيٌ لا شاهد له، سيّما بعد كون النسبة بين الطائفتين عموماً مطلقاً، فإنّ الأُولى تدلّ على اعتبار الراحلة مطلقاً، والثانية تدلّ على عدم اعتبارها في خصوص صورة إطاقة المشي، فمقتضى القاعدة هو تقيّيد إطلاق الأُولى بالثانية.

الوجه الثاني: ما في «المستند» من حمل الأخبار الأُولى على من يكون الركوب بالنسبة إليه أسهل، والثانية على من لا فرق عنده بين المشي والركوب، أو يكون المشي عنده أسهل، لانصراف الأخبار الأُولى عن هذه الصورة.

وبعبارة اُخرى: إنّ الإطلاق منصرفٌ إلى صورة احتياج البعيد إلى الراحلة، ولو لدفع مطلق المشقّة، أو حفظ شرف النفس ونحوهما(2).

وفيه: إنّ منشأ الانصراف هو الغلبة، وحيثُ أنّ الانصراف الناشئ عن كثرة فردٍ وقلّة آخر لا يصلحُ منشئاً لتقيّيدالإطلاق، كما حُقّق في محلّه، فلا يتمّ هذا الوجه.

الوجه الثالث: أنّ الطائفتين متعارضتان، لا يمكن الجمع بينهما، نظراً إلى ما في خبر السكوني المتقدّم: (إنّما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة ليس استطاعة البدن)،1.

ص: 29


1- سورة آل عمران: الآية 97.
2- مستند الشيعة: ج 11/31.

حيث نفى عليه السلام في هذا الخبر كفاية استطاعة المشي، فيقع التعارض بينه وبين الطائفة الثانية المصرّحة بكفايتها، وليست النسبة عموماً مطلقاً(1).

وفيه: أنّ الظاهر ولا أقلّ من المحتمل، أنّ المراد من استطاعة البدن صحّته، فيكون مفاد الخبر أنّ صحّة البدن بحيث يتمكّن من الركوب والسفر من دون أن يلزم منه مشقّة، لا تكفي في وجوب الحَجّ ، ولا نظر له إلى نفي كفاية إطاقة المشي، فلاحظه.

الوجه الرابع: ما عن «كشف اللّثام» من حمل الطائفة الثانية على من استقرّ عليه حَجّة الإسلام سابقاً(2).

وفيه: أنّ صحيح معاوية الوارد فيمن حجّ مع النبيّ صلى الله عليه و آله يأبى عن هذا الحمل، فإنّه لم يكن الحَجّ ثابتاً على مَن حجّ معه صلى الله عليه و آله قبل تلك السنة، كما لا يخفى ، مع أنّه لا شاهد لهذا الحمل.

الوجه الخامس: ما في «العروة» وغيرها، من إعراض المشهور عن الطائفة الثانية، مع كونها بمرأى ومسمعٍ منهم، فيتعيّن طرحها، فإنّ إعراضهم عنها مع صحّة السند وكثرة العدد، وإمكان الجمع العرفي بينها وبين الطائفة الأُولى ، يكشف عن خللٍ في جهة الحكم أو الدلالة، ويوجبُ سقوط المعرض عنه عن الحجيّة(3).

وفيه: أنّ الإعراض مسقطٌ للخبر عن الحجيّة، إلّاأنّه لابدّ من أن يظهر كون عدم العمل به إعراضاً وفي المقام حيثُ يحتمل أن يكون الوجه في عدم عملهم).

ص: 30


1- جواهر الكلام: ج 17/251، قوله: (وإنْ أبيت فليس لها إلّاالطرح...).
2- كشف اللّثام: ج 5/92، (ط. ج).
3- العروة الوثقى: ج 2/429، (ط. ق).

بالطائفة الثانية بعض الاحتمالات التي مرّت، فلا يكون إعراضاً، فلا يصلح ذلك منشئاً لطرح الخبر، فتأمّل.

الوجه السادس: أنّ النصوص متعارضة، لأنّ الطائفة الثانية تدلّ على الوجوب حتّى مع المشقّة الشديدة والمهانة، لاحظ:

1 - قوله عليه السلام في صحيح معاوية: (ولقد كان أكثر من حَجّ - إلى أنْ قال - فشكوا إليه الجُهد والعناء).

2 - وقوله عليه السلام في صحيح ابن مسلم: (ولو على حمارٍ أجدع أبتر؟!).

فان المهانة اللّازمة من ذلك ظاهرة، ونحوه ما في صحيح الحلبي.

3 - وقوله عليه السلام في خبر أبي بصير: (يخرج ويمشي إنْ لم يكن عنده - إلى أنْ قال - يخدم القوم ويمشي معهم).

وهذه ظاهر في الوجوب مع المشقّة اللّازمة، مِنْ فَقد ما يحتاج إليه، والمهانة الحاصلة من الخدمة.

وعلى ذلك، فمن الجمع بين الطائفتين، وحمل الأُولى على غير مورد الثانية، يلزم حمل الأخبار الأُولى على صورة العجز حتّى مع المشقّة، والوقوع في المهانة، وحيث أنّه يلزم من ذلك حمل المطلق على الفرد النادر، فلا محالة يقع التعارض بين الطائفتين، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، ويكون الترجيح مع النصوص الأُولى، وذلك للأسباب التالية:

السبب الأوّل: كون مفادها مشهوراً بين الأصحاب كما تقدّم.

وما في «المستند» من الإيراد على ذلك:

ص: 31

أوّلاً: بأنّ كلمات الأصحاب منصرفة إلى الغالب من الاحتياج إلى الراحلة.

وثانياً: أنّ الترجيح بهذه الاُمور ممّا لم يثبت اعتباره.

يرد عليه: ما تقدّم من أنّ جمعاً من الآخرين، لا أقلّ من الإطلاق وعدم تسليم الانصراف، والشهرة الفتوائيّة ممّا دلّ النّص على كونها من المرجّحات، بل هي أوّل المرجّحات بناءً على أنّ الشهرة المجعولة مرجّحة، هي الشهرة الفتوائيّة لا الروائيّة.

السبب الثاني: أنّها موافقة للكتاب، الدالّ على نفي العُسر والحَرَج، والثانية مخالفة له.

فإنْ قيل: إنّ الثانية أيضاً موافقة لإطلاق الكتاب، أي إطلاق آية وجوب الحَجّ (1).

قلنا أوّلاً: أنّه لامجال للأخذ به بعد كونه محكوماً لدليل نفي العُسر والحَرَج.

وثانياً: أنّه قيّد دليل وجوب الحَجّ بالاستطاعة، وصدقها أوّل الكلام.

السبب الثالث: مخالفتهاللعامّة، حيث أنّ كثيراًمنهم ذهبوا إلى عدم اعتبار الراحلة مع عدم الحاجة(2)، بل عن مالك عدم اعتبارها مطلقاً ولو مع المشقّة(3)، فتأمّل.

أقول: ولعلّه إلى ذلك نظر الشيخ رحمه الله في حمل الأخبار الثانية على التقيّة(4).

فالمتحصّل: أنّه يعتبر الراحلة حتّى مع عدم الحاجة إليها.

***1.

ص: 32


1- سورة آل عمران: الآية 97.
2- الفروع: ج 3/171، الإنصاف للمرداوي: ج 3/402، وغيرهما.
3- حكاه في مستند الشيعة: ج 11/32.
4- الإستبصار: ج 2/141.

اعتبار الراحلة في حقّ القريب

المسألة الثانية: هل يشترط وجود الراحلة في حقّ القريب أيضاً كما هو المنسوب إلى إطلاق الأكثر في محكي «كشف اللّثام»؟(1)

أم لا يشترط بالنسبة إليه كما عن جماعةٍ (2)، بل في «الجواهر»: (بل لا أجد فيه خلافاً) بل في «المدارك» نسبته إلى الأصحاب مشعراً بدعوى الإجماع عليه(3)؟ وجهان.

أقول: وتنقيح القول يتحقّق بالبحث في مقامات:

1 - في دليل هذا الاستثناء، وأنّه هل هناك مايدلّ عليه أم لا؟

2 - في بيان المراد من القريب، وأنّه هل يختصّ بأهل مكّة أم لا؟

3 - في أنّه لو شكّ في اعتبارها في حقّ شحصٍ ، هل المرجع دليل الوجوب أم دليل البراءة ؟

أمّا المقام الأوّل: فقد يقال بأنّه لا فرق بين القريب والبعيد بعد إطلاق الأدلّة، فإنّ دليل التفصيل إنّما يدلّ على التفصيل بين من أطاق المشي وغيره، فإنْ أخذنا به كان المعيار هو ذلك، من غير فرق بين القريب والبعيد، وإلّا كان اللّازم البناء على اعتباره في حقّ القريب أيضاً.

فإنْ قيل: إنّ الجمع بين النصوص المتعارضة المتقدّمة، يقتضي حمل ما دلّ على

ص: 33


1- كشف اللّثام: ج 5/96، (ط. ج).
2- منهم الشيخ في المبسوط: ج 1/298، والعلّامة في التذكرة: ج 301/1، وفي منتهى المطلب: ج 653/2، وغيرهم.
3- جواهر الكلام: ج 17/252.

اعتبار الراحلة على البعيد، وحمل ما دلّ على عدم اعتبارها على القريب.

قلنا: إنّه جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، ولكن لا يبعد القول بعدم اعتبارها للقريب للانصراف.

وتقريبه: إنّ نصوص اعتبارها منصرفة إلى المسافة التي تعدّ الراحلة لها عادة، فلا تشمل غيرها، وبه يظهر أنّ منشأ هذا الانصراف، ليس هو الغلبة كي يقال إنّ الانصراف الناشئ عنها لا يصلح تقيّيداً لإطلاق الأدلّة، بل منشؤه شيء آخر.

قال صاحب «الجواهر»: (لكن في «كشف اللّثام» يقوى عندي اعتبارها أيضاً للمكّي للمُضيّ إلى عرفات وأدنى الحِلّ والعود»(1).

ولكن يرد عليه: أنّ دليل اعتبار الراحلة إنّما دلّ على اعتبارها في الاستطاعة في السفر إلى بيت اللّه الحرام، فإنّ الآية مختصّة بذلك، والنصوص تفسّر الآية، ولادليل على اعتبارها في السفر إلى عرفات، وكذا في الخروج إلى أدنى الحِلّ للإحرام للحجّ أو العمرة، فاللّازم في ذلك هو الرجوع إلى القواعد التي تقتضي الاعتبار مع الحاجة، وعدمه مع عدمها كبقيّة الاُمور التي ستمرّ عليك.

وأمّا المقام الثاني: فقد اختلف الأصحاب في المراد من القريب:

فعن جماعةٍ : أنّ المراد به أهلُ مكّة(2).

وعن آخرين: أهل مكّة وما قاربها(3).

وعن العامّة: اشتراط مسافة القصر(4).9.

ص: 34


1- جواهر الكلام: ج 17/252.
2- منهم المحقّق في المعتبر: ج 2/752.
3- منهم الشيخ في المبسوط: ج 1/298، والعلّامة في التذكرة: ج 7/51.
4- المجموع: ج 7/90، المغني: ج 3/170، الشرح الكبير: ج 3/179.

أقول: بعدما عرفت من دليل الاستثناء، تعرف أنّ الميزان أن يعدله الراحلة وعدمه، والظاهر كون الفرسخ أيضاً ممّا يعدله الراحلة فضلاً عمّا يزيد عليه، فتدبّر.

وأمّا المقام الثالث: فقد اختلف الأصحاب في المرجع عند الشكّ :

فقد يقال: إنّ المرجع هو البراءة، لأنّ الاستطاعة في الآية الشريفة مع قطع النظر عن النصوص المفسّرة لها، ظاهرة في العقليّة منها، ولكن بالنظر إليها يعلم أنّ المراد بها الاستطاعة الشرعيّة، ومع عدم تحديد الشارع لها تصبح مجملة، وعليه فلو شكّ في اعتبار الراحلة في حقّ شخص، لا محالة يشكّ في صدق الاستطاعة بدون الراحلة، والشكّ في الشرط يستتبع الشكّ في المشروط، وهو وجوب الحَجّ ، وحيث أنّه شكٌّ في الموضوع، لا مجال للتمسّك بالإطلاق فيتعيّن الرجوع إلى أصالة البراءة.

أقول: إنّ ذلك لو تمّ فإنّما هو على فرض عدم إطلاق النصوص المفسّرة، كي تكون مجملة، ولكن مع فرض ثبوت الإطلاق لها، كان هو المرجع، ولا يصل الدور إلى الأصل العملي.

***

ص: 35

عدم اعتبار وجود عين الراحلة والزاد

المسألة الثالثة: قال في «التذكرة»: (لا يشترط وجود عين الزّاد والراحلة، بل المعتبر التمكّن منهما تملّكاً أو استيجاراً) انتهى (1).

وقال صاحب «المستند»: (لو لم يكن له عين الزاد والراحلة، وأمكن شراؤهما أو استيجار ما يصحّ استيجاره منهما، وجب إجماعاً) انتهى (2).

ونحوهما كلمات غيرهما(3).

واستدلّ في «المستند» لوجوب الشراء أو الاستيجار، بتوقّف الواجب عليه، ولكن الكلام في المقام في وجوب الحَجّ ، وإلّا فعلى فرضه لا إشكال في وجوب الشراء أو الاستيجار.

وقد يقال: إنّ مقتضى الجمود على ما يتضمّنه قوله عليه السلام: (له زادٌ وراحلة) هو اعتبار وجودهما عيناً، لكن الظاهر أنّ المراد به أن يكون له ما يحجّ به، سواءٌ أكان واجداً لهما عيناً، أو كان واجداً لثمنهما، أو لاعيان لو باعها كفى ثمنها لهما، كما صرّح بذلك أي ب (ما يحجّ به) في صحيح ابن مسلم المتقدّم(4).

حكم عدم وجدان الزاد والراحلة إلّابأكثر من ثمن المثل

فرع: إذا لم يوجد الزاد أو الراحلة إلّابالزائد عن الثمن والاُجرة، فهل يجب عليه تحصيلهماوالحَجّ ، كماهو المشهور شهرة عظيمة، سيّمابين المتأخّرين، كمافي «الجواهر»(5)؟

ص: 36


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/52 (ط. ج).
2- مستند الشيعة: ج 11/39.
3- راجع: المعتبر: ج 2/752، ومنتهى المطلب: ج 2/652، (ط. ق)، وتذكرة الفقهاء: ج 7/52 (ط. ج)، وغيرهم.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/4، وسائل الشيعة: ج 11/40، ح 14185.
5- جواهر الكلام: ج 17/257.

أم لا يحبُ ، كما عن الشيخ رحمه الله في «المبسوط»(1)؟

وفي «التذكرة»: (فإنْ كانت يجحف بما له لم يلزمه - أي لم يلزم شراؤه - وإنْ تمكّن على إشكال)(2).

وعن «التحرير»: (ولو بأكثر من ثمن المثل، أو بأكثر من أجرة المثل، فإنْ تضرّر به لم يجب الشراء إجماعاً، وإنْ لم يتضرّر فالأقرب وجوب الشراء.. انتهى )(3).

واستدلّ للأوّل: بإطلاق أدلّة الوجوب بعد صدق الاستطاعة.

واستدلّ للثاني: بأدلّة نفي الضرر.

وللثالث: بدليل نفي العُسر والحَرَج.

أقول: وتحقيق القول في المقام يقع في موردين:

إنّه تارةً : يكون ذلك غير مضرّ بحاله.

واُخرى : يكون مضرّاً.

المورد الأوّل: ما إذا لم يكن مضرّاً بحاله، فإنْ كان الشراء أو الاستيجار بالقيمة، ولم يكن بأكثر من ثمن المثل، وإنْ كان بأكثر من ثمنه المعتاد، كما لو كانت الراحلة في محلٍّ يعتبرون لها العقلاء هذا المقدار من الماليّة، لقلّتها وكثرة الرغبة إليها، أو غير ذلك، فحيثُ إنّه يصدق عليه المستطيع وجب ذلك بمقتضى إطلاق الآية الشريفة والنصوص، ولامجال لتطبيق (لاضرر) لابلحاظالشراءأو الإجارة، ولابلحاظالحَجّ :

أمّا الأوّل: فلأنّه لا ضرر في شراء الشىء أو استيجاره بقيمته.

وأمّا الثاني: فلأنّه مضافاً إلى ما قيل من أنّ وجوب الحَجّ مطلقاً حكمٌضرري، لإقتضائه إتلاف المال، فيكون دليلة مخصّصاً لقاعدة (لا ضرر)، وإنْ كان فيه تأمّل).

ص: 37


1- المبسوط: ج 1/300.
2- تذكرة الفقهاء: ج 7/54، (ط. ج).
3- تحرير الأحكام: ج 1/551، (ط. ج).

ونظر - أنّ صرف الراحلة أو الزاد في سبيل الحَجّ ، كصرف المال في المقاصدالعقلائيّة، لا يعدّ ضرراً عرفاً، وإن اشتراه بثمن خطير، وقد بيَّن المعصوم عليه السلام ذلك بصورة العلّة المنصوصة في خبر صفوان الوارد في شراء ماء الوضوء بمائة درهم، أو بألف درهم، وهو واجدٌ لها، بعد حكمه عليه السلام بوجوب الشراء: (بأنّه يشتري بإزائه مالاً كثيراً)(1).

وعليه، فيجبُ الحَجّ في هذه الصورة، وإنْ كان الشراء بأكثر من ثمن المثل، فبرغم أنّ مقتضى القاعدة عدم وجوب الحَجّ ؛ لعموم حديث (لا ضرر) لكون الشراء أو الاستيجار بأكثر من ثمن المثل يعدّ ضرراً ماليّاً اتّفاقاً؛ إلّاأنّ مقتضى عموم العلّة المنصوصة المشار إليها، هو الوجوب.

المورد الثاني: ما إذا كان مُضرّاً بحاله، على وجهٍ يكون حَرَجاً عليه، فالظاهر سقوط وجوب الحَجّ ، لا لأدلّة نفي الضرر، بل لقاعدة نفي العُسر والحَرَج.

ولو كان مضرّاً بحاله من الجهة الماليّة فهل يسقط الوجوب أم لا؟

وجهان، بل قولان:

يشهد للأوّل: عموم ما دلّ على نفي العُسر والحَرَج.

واستدلّ للثاني: بعدم العلم بالبقاء إلى وقته، وبإمكان حصول مال له على تقدير البقاء.

ولكن يرد عليهما: أنّ استصحاب البقاء، وعدم حصول مالٍ آخر، يقتضي كون المورد مشمولاً لعموم ما دلّ على رفع الحَرَج.

فتحصّل: أنّ ما أفاده المصنّف رحمه الله في «التذكرة» و «التحرير» هو الأقوى .

ومنه يظهر حكم ما لو لم يكن له عين الزاد والراحلة، وكان له أموالٌ اُخر، ولم يمكن بيعها بثمن المثل، فإنّه يجري فيه ما ذكرناه من التفصيل، كما لا يخفى .

***8.

ص: 38


1- الكافي: ج 3/74، وسائل الشيعة: ج 3/389، ح 3948.

ملاحظة الشرف بالنسبة إلى الراحلة وعدمها

المسألة الرابعة: لا اشكال في أنّ المراد بالزاد هنا المأكول والمشروب، وسائر ما يحتاج إليه المسافر من الأوعية التي يتوقّف عليها حمل المحتاج إليه، وجميع ضروريّات ذلك السفر، بحسب حاله قوّةً وضعفاً، وزمانه حَرّاً وبرداً، وشأنه شرفاً وضِعةً .

وفي «التذكرة»: (كما يعتبر قدرته على المطعوم والمشروب، والتمكّن من حمله من بلده، كذا تعتبر قدرته على الآلات والأوعية التي يحتاج إليها كالغرائر(1)ونحوها، وأوعية الماء من القِرب وغيرها، وجميع ما يحتاج إليه كالسُّفرة وشبهها؛ لأنّه ممّا لا يستغنى عنه فأشبه علف البهائِم)(2).

ونحوه كلام غيره(3).

والوجه فيه: دخوله تحت قوله عليه السلام في صحيح ابن مسلم: (ما يَحجُّ به)، وما دلّ على نفي العُسر والحَرَج، فتدبّر.

كما لا إشكال في أنّه يشترط في الراحلة أن تكون مناسبة مع حال المسافر قوّة وضعفاً، كما صرّح به غير واحدٍ(4)، لعموم دليل نفي العُسر الحَرَج، فلو تعسّر عليه الركوب على الراحلة الخاصّة لضعفه، يعتبر في استطاعته ووجوب الحَجّ عليه أن يكون واجداً لما لا يكون الركوب عليه عَسِراً إما عيناً أو قيمة.

إنّما الكلام والإشكال في أنّه هل يعتبر أن تكون الراحلة مناسبة لحاله ضِعةً وشرفاً أم لا؟

ص: 39


1- الغرائر جمع، واحدتها غرارة، وهي الجوالق، كما في لسان العرب: ج 5/18.
2- تذكرة الفقهاء: ج 7/54 و 55، (ط. ج).
3- قواعد الأحكام: ج 1/404، مدارك الأحكام: ج 7/40، وغيرهما.
4- منهم الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 2/131، كشف اللّثام: ج 5/96، (ط. ج).

صريح «التذكرة» ذلك، قال: (فيعتبر في حقّ الرفيع زيادة على ما يحتاج إليه ممّا يناسبه)(1). وهو الظاهر من «الشرائع» و «القواعد».

قال المحقّق في «الشرائع»: (والمراد بالراحلة راحلة مثله)(2). وكذا عن «القواعد»(3).

وعن «كشف اللّثام» و «الدروس»: التصريح بعدم ملاحظة الشرف(4).

وعن «المدارك» جعله الأصحّ (5).

واستدلّ للثاني: في محكي «كشف اللّثام»:

1 - بعموم الآية(6) والأخبار.

2 - وخصوص قول الصادق عليه السلام في صحيح أبي بصير: «من عرض عليه الحَجّ ، فاستحيى ولو على حمارٍ أجدع مقطوع الذنب فأبى ، فهو ممّن يستطيع الحَجّ »(7).

ونحوه أخبارٌ اُخر.

3 - وبأنّهم عليهم السلام ركبوا الحمير والزوامل.

وأيّده بعض المعاصرين: بأنّه صرّح في الأخبار بأنّه ما شأنه يستحيى ولو على حمارٍ أجدع أبتر، وتلك الأخبار وإنْ وردت في مورد تحديد البذل، لكن الظاهر منها أنّها واردة في مقام بيان مفهوم الاستطاعة المعتبرة في وجوب الحَجّ ، ولا2.

ص: 40


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/53، (ط. ج).
2- شرائع الإسلام: ج 1/164.
3- قواعد الأحكام: ج 1/404.
4- كشف اللّثام: ج 5/96، (ط. ج)، الدروس: ج 1/312.
5- مدارك الأحكام: ج 7/40.
6- سورة آل عمران: الآية 97.
7- وسائل الشيعة: ج 11/42، ح 14192.

يختلف الحال باختلاف مناشئ حصولها، وحيث إنّه لا يمكن حمل تلك الأخبار على صورة عدم كون ركوبه على حمارٍ أجدع عسريّاً عليه، لصراحتها في خلاف ذلك، فلا وجه للتمسّك لرعاية الشرف بأدلّة نفي العُسر والحَرَج؛ لأنّها مخصّصة بهذه الأخبار(1).

أقول: وجميع هذه الأدلّة مردودة:

أمّا عموم الآية والأخبار: فهو يُخصّص بأدلّة نفي العُسر والحَرَج.

وأمّا الأخبار الخاصّة: فقد مرّ أنّها معارضة بغيرها ممّا يجب تقديمه عليها.

وأمّا حَجّهم عليهم السلام: - فمضافاً إلى ما قيل من إنّه لا يظنّ إمكان الالتزام بأنّهم عليهم السلام كانوا يوقعون أنفسهم في المهانة التي هي حَرَجيّة، بل الظاهر أنّه كان في زمانٍ لا نقص فيه ركوب ذلك - أنّه لم يعلم وقوع ذلك منهم في حجّة الإسلام بحيث لم يكونوا مستطيعين إلّابذلك.

وعلى هذا، فأدلّة نفي العُسر والحَرَج تكون حاكمة على الإطلاقات، وتوجب لزوم مراعاة حال الشخص بالنسبة إلى الراحلة ضِعةً وشرفاً.

نعم، إذا لم يكن بحَدّ الحَرَج وجب معه الحَجّ ، ووجهه ظاهر.

وهل تقتضي هذه الحكومة نفي الوجوب خاصّة، بحيث لو أقدم المكلّف على ما فيه العُسر والحَرَج، كان مقتضى الجمع بين دليل نفي الحَرَج، والإطلاقات الدالّة على الوجوب، هو الصحّة والإجزاء عن حَجّ الإسلام، أم تقتضي نفي المشروعيّة، فلو أقدم عليه لم يُجزئ عن حجّ الإسلام ؟ وجهان.

استدلّ للأوّل تارةً : بناءً على أنّ الاختلاف بين الوجوب والاستحباب إنّما يكون بالاختلاف في الترخيص في تركه وعدمه، بأنّ أدلّة نفي العُسر والحَرَج لا0.

ص: 41


1- الظاهر أنّ المراد به السيّد الخوئي في كتابه الحَجّ : ج 1/90.

ترفع الطلب، وإنّما تقتضي الترخيص فيرفع الوجوب، فالطلب يكون باقياً بحاله بلا نقص فيه أصلاً.

واُخرى : بأنّ ما دلّ على وجوب الحَجّ عند الاستطاعة، إنّما يدلّ على أنّ الحَجّ ولوكان حَرَجيّاً واجب، وواجد للملاك، ودليل نفي الحَرَج إنّما يوجب تقيّيد ذلك الدليل من جهة دلالته على وجوب الحَجّ ، وأمّا دلالته على واجديّة الحَجّ ولو كان حَرَجيّاً للملاك، فهي باقية بحالها، ولا دليل على تقيّيد إطلاقة من هذه الجهة، فإنّه إذا كان للكلام دلالات وظهورات متعدّدة، وسقط بعضها عن الحجيّة، فلا موجب لسقوط غيرها، وعليه فيصحّ الإتيان بداعي الملاك(1).

ولكن يرد على الوجه الأوّل: أنّ أدلّة نفي العُسر والحَرَج نافية للتكليف لا مثبتة، فلا يثبت بها الترخيص، وهي إنّما ترفع الأحكام الشرعيّة دون العقليّة، فلا تصلح أن تكون رافعةً لحكم العقل بوجوب إتيان ما أمر به المولى، فلا محالة تكون رافعة للطلب المتعلّق بالفعل الذي هو المُنشأ لحكم العقل بلزوم الإتيان بما تعلّق به.

ويرد على الوجه الثاني: أنّ التمسّك بالإطلاق فرع كون الكلام مسوقاً للبيان، وكونه مسوقاً لبيان حكم لا يكفي في التمسّك بالإطلاق في حكم آخر، ودليل وجوب الحَجّ إنّما يكون في مقام بيان وجوب الحَجّ لا كونه واجداً للملاك، وإنّما يُستكشف ذلك من الحكم، فإذا فرضنا تقيّيد الحكم وعدم ثبوته للحجّ الحَرَجي، فلا كاشف عن وجود الملاك، ولا إطلاق حتّى يتمسّك به، فالأظهر أنّها تقتضي نفي المشروعيّة.

نعم، مقتضى الأدلّة الاُخر كونه مستحبّاً، ولكن لا يجزئ عن الحَجّ الواجب.

***6.

ص: 42


1- الظاهر أنّ المستدلّ هو السيّد الحكيم في المستمسك: ج 10/76.

اعتبار الاستطاعة من مكانه لا من بلده

المسألة الخامسة: قال صاحب «المستند»: (لا يعتبر في الاستطاعات المذكورة، حصولها من بلد المكلّف، فلو حصلت له في موضعٍ آخر مطلقاً، حتّى الميقات واستطاع الحَجّ ، والعود إلى بلده، وجب عليه الحَجّ ، وإنْ لم يكن له الاستطاعة من بلده، وفاقاً للذخيرة و «المدارك»، وبعض آخر من المتأخّرين، بل الأكثر). انتهى (1).

وعن الشهيد الثاني: اعتبار الاستطاعة من بلده، إلّاأن تكون إقامته في البلد الثاني على وجه الدوام أو مع انتقال الفرض(2).

واستدلّ للأوّل: بصحيح معاوية بن عمّار: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرّجُل يمرّ مجتازاً يريداليمن أو غيرها من بلدان، وطريقه بمكّة، فيدرك النّاس وهم يخرجون إلى الحَجّ ، فيخرج معهم إلى المشاهد، يجزيه ذلك عن حجّة الإسلام ؟ قال عليه السلام: نعم»(3).

وفيه: الظاهر من السؤال أنّ المسؤول عنه صحّة الحَجّ وإجزاؤه عن حَجّة الإسلام، مع عدم قصده من بلد، لا إجزاؤه عنه مع عدم استطاعة من البلد، كما لا يخفى .

ولكن الظاهر عدم الإشكال في الحكم، لعدم دخل المكان لا في الحكم ولا في موضوعه، فإنّ الموضوع ومن وُجّه إليه الخطاب هوالمستطيع، فلو حصل هذا العنوان في أيّ مكانٍ ولو قبيل الميقات أصبح الحكم فعليّاً، وعليه فمقتضى العمومات الدالّة على وجوب الحَجّ على المستطيع وجوبه عليه، وإنْ كان مشيه إلى ذلك البلد

ص: 43


1- مستند الشيعة: ج 11/65.
2- شرح اللّمعة: ج 2/217.
3- الكافي: ج 4/275، ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/58، ح 14233.

والمكان متسكّعاً أو لحاجةٍ اُخرى ، وكان له هناك ما يمكن أن يحجّ به، وجب عليه.

أقول: إنّما الإشكال فيما أفاده في «العروة» بقوله: (بل لو أحرم مستكّعاً فاستطاع، وكان أمامه ميقاتٌ آخر، أمكن أن يقال بالوجوب عليه)، انتهى (1).

وجه الإشكال: أنّه بناءً على كون الإحرام جزء من أعمال الحَجّ ، لا من شرائطه، ومقتضى الأدلّة أنّ الحَجّ إنّما يصير حَجّة الإسلام إذا تحقّقت الاستطاعة من أوّل الأعمال إلى آخرها، يكون صيرورة حَجّ هذا الشخص حَجّة الإسلام متوقّفة على بطلان إحرامه أو إبطاله أو العدول به، وكلّها خلاف القاعدة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون أمامه ميقاتٌ آخر أم لا؛ إذ ليس له تجديد الإحرام في الميقات الثاني ما لم يبطل إحرامه.

***).

ص: 44


1- العروة الوثقى: ج 4/366، (ط. ج).

اعتبار وجود نفقة العود

المسألة السادسة: قال صاحب «الشرائع»: (والمراد بالزاد قدَر الكفاية من القوت والمشروب ذهاباً وعوداً.. انتهى )(1).

وأمّا صاحب «التذكرة»، فيقول: (والمراد منه أن يملك ما يبلغه إلى الحَجّ - إلى أن قال - وعوده إلى وطنه، سواءٌ كان له أهل وعشيرة يأوي إليهم أو لم يكن)(2).

وفي «المستند»: (أكثر الأصحاب اعتبروه، بل عن الشهيد الثاني الإجماع عليه)(3)، واستدلّ له بعموم ما دلّ على نفي الضرر والحَرَج، فإنّ في التكليف بالإقامة في غير الوطن مشقّة شديدة، وحَرَجاً عظيماً حتّى من ليس له أهل وعشيرة يأوي إليهم، إذ النفوس تطلب الأوطان.

وأُورد عليه: في محكي «المدارك» وفي «المستند»، بأنّ ذلك يتمّ في صورة تحقّق المشقّة لذلك، أمّا مع انتقائه كما إذا كان وحيداً لا تعلّق له بوطن ولا يريد العود إليه، أو أراد العود ولكن ترك العود، دون أن يوجب حَرَجاً عليه؛ لتساوي البلاد عنده أو غير ذلك فلا يتمّ ، وحيثُ أنّ زاد العود غير داخل في استطاعة الحَجّ ، فمقتضى عموم الكتاب والسُنّة عدم اعتبار زاد العود(4).

أقول: إنّ منشأ اعتبار زاد العود لو كان ما ذكر، لتمَّ ما أفاداه، ولكن ذكر بعض المعاصرين وجهاً آخر لطيفاً، وهو أنّ نفس الأخبار الواردة - الدالّة على لزوم

ص: 45


1- شرائع الإسلام: ج 1/164.
2- تذكرة الفقهاء: ج 1/301 (ط. ق).
3- مستند الشيعة: ج 11/35.
4- مدارك الأحكام: ج 7/41، مستند الشيعة: ج 11/32.

اعتبار الزاد والراحلة في تحقّق الاستطاعة - تدلّ على لزوم اعتبار نفقة العود، لأنّه لم يقيّد الزاد والراحلة في تلك الأخبار بخصوص الذهاب، ألا ترى أنّه لو قال المولى لعبده: (إذهب إلى السَّفر وعليَّ ثمن الزاد والراحلة)، لا يشكّ العرف في أنّ المولى أراد بذلك ثمنهما ذهاباً وإياباً، وعليه فلو أراد العودة إلى وطنه، يعتبر في وجوب الحَجّ أن يكون واجداً لنفقة العود أيضاً، وإنْ لم يكن تركه الرجوع إلى وطنه حَرَجيّاً عليه.

نعم، لو أراد المقام بمكّة لا يعتبر ذلك في حقّه.

أمّا لو أراد المقام في بلدٍ آخر، فإن كان نفقة الرجوع إليه أقلّ من نفقة الرجوع إلى بلده أو مساوية لها، كفى كونه واجداً لها، وإنْ كانت أزيد فإنْ كان تركه الرجوع إليه حَرَجيّاً عليه، يعتبر كونه واجداً لها، وإلّا فيكفي كونه واجداً لنفقة الرجوع إلى بلده.

***

ص: 46

فاقد الزاد إذا كان كسوباً

المسألة السابعة: قال صاحب «التذكرة»: (لو لم يجد الزاد، ووجد الراحلة، وكان كسوباً يكتسب ما يكفيه، وقد عزل نفقة أهله مدّة ذهابه وعوده، فإنْ كان السفر طويلاً لم يلزمه الحَجّ - إلى أن قال - وإنْ كان السفر قصيراً، فإنْ كان تكسّبه في كلّ يوم بقدر كفاية ذلك اليوم، من غير فضلٍ ، لم يلزمه الحَجّ - إلى أن قال - وإنْ كان كسبه في كلّ يومٍ يكفيه لأيّامه، لم يلزمه الحَجّ أيضاً) انتهى (1).

وفي «المستند»: (ولو لم يجد الزاد، ولكن كان كسوباً، يتمكّن من الاكتساب في الطريق لكلّ يومٍ بقدر ما يكفيه، وظنّ إمكانه بجريان العادة عليه من غير مشقّة، وجب الحَجّ ..) انتهى (2).

أقول: والمصنّف رحمه الله وإنْ استدلّ لما اختاره بلزوم المشقّة، وبإمكان انقطاعه من الكسب(3)؛ إلّاأنّ الظاهر - كما نبَّه عليه بعض أعاظم العصر - أنّه كان جرياً على مذاق المخالفين(4)، فإيراد «المستند» عليه بأنّه منازعة لفظيّة، لأنّ محلّ الكلام ما لو يكن مشقّة وظنّ إمكانه(5)، في غير محلّه.

والحقّ أنّ منشأ الوجهين، صدق الاستطاعة وعدمه.

واستدلّ في «المستند»: - في ضمن فرعٍ آخر تعرّض له بعد صفحات - لصدق الاستطاعة، بأنّ المراد بها الاستطاعة العرفيّة، فإنّ الألفاظ الواقعة في لسان الشارع تُحمل على معانيها العرفيّة، ما لم يصرف عنه صارفٌ ، والصارف المتوهّم وجوده في

ص: 47


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/59، (ط. ج).
2- مستند الشيعة: ج 11/27.
3- تذكرة الفقهاء: ج 7/59، (ط. ج).
4- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/78.
5- مستند الشيعة: ج 11/27.

المقام، هو النصوص المفسّرة للاستطاعة، بأن يكون له أو عنده زادٌ وراحلة، وهذه لا تصلح أن تكون صارفة؛ لأنّه بعدما ليس المراد وجود عين الزاد وراحلة؛ إذ يكفي وجود ثمنهما، أو ما يصلح أن يكون إزاء لهما، أو لثمنهما إجماعاً، بل هو من ضروريّات الدِّين، يتعيّن حملها على المعنى المجازي، وهو كما يمكن أن يكون عيناً موجودة، أو منفعة مملوكة، فلا تصدق الاستطاعة في المقام، يمكن أن يعمّ ما يقتدر ويتمكّن من تحصيله من غير مشقّة فتصدق(1).

وبعبارة اُخرى : مجازه كما يمكن أن يكون الأعمّ من وجود العين والثمن، يمكن أن يكون القدرة على تحصيلها التي هي حقيقة الاستطاعة، فلا نعلم إرادة معنى آخر غير الحقيقي للفظ الاستطاعة، فيجبُ الرجوع إليه، وهي تصدق في المقام كما مرّ.

أقول: قد مرّ أنّ المراد من الاستطاعة ليس هو معناها الحقيقي، لتفسيرها بوجود الزاد والراحلة، ولذلك بنينا على عدم وجوب الحَجّ على من يطيق المشي إنْ لم يكن له زادٌ وراحلة.

ثمّ إنّ أكثر النصوص المفسّرة متضمّنة لوجود الزاد والراحلة، ومقتضى الجمود على ظاهر اللّفظ، وإنْ كان اعتبار وجودهما عيناً، ولكن بقرينة مناسبة الحكم والموضوع، وقوله عليه السلام في بعض النصوص: (ما يحجّ به)(2)، التزمنا بأنّ المراد بهما أعمّ من وجودهما عيناً وثمناً. والبناء على إرادة الأعمّ من ذلك لا قرينة عليه لظهور قوله عليه السلام: (ما يحجّ به) في وجود ما يملك بالفعل، فتدبّر فإنّه دقيق.

وعليه، فالأظهر عدم وجوب الحَجّ على فاقد الزاد وإنْ كان كسوباً.

***0.

ص: 48


1- مستند الشيعة: ج 11/44.
2- الكافي: ج 4/266، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/25، ح 14150.

مستثنيات الحَجّ

المسألة الثامنة: قد عرفت عدم اعتبار وجود عين الزاد والراحلة ولا وجود أثمانها من النقود، بل يجب عليه بيع ما عنده من الأموال لشرائها، لكن المشهور بين الأصحاب أنّه يستثنى من ذلك ما يحتاج إليه في ضروريّات معاشه، فلا يباع خادمه ولا سكناه اللّائقة بحاله، ولا كتاب العلم لأهله وما شاكل.

وعن «المعتبر»(1)، و «المنتهى »(2)، و «التذكرة»(3) وغيرها دعوى الإجماع على أكثر ما ذكر، بل في «المستند»: (وعلى أكثرها حكاية الإجماع مستفيضة)(4).

وقد استدلّ لذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «المستند»، من أنّ صحيح المحاربي المتقدّم الوارد فيه قوله عليه السلام: (من مات ولم يحجّ حَجّة الإسلام، ما يمنعه من ذلك حاجة يجحف به...

فليمت يهوديّاً أو نصرانيّاً»(5). وصحيح ابن عمّار: (من مات ولم يحجّ الإسلام، ولم يترك إلّابقدر نفقة الحَجّ ، فورثته أحقّ بما ترك، إنْ شاؤوا حجّوا عنه وإنْ شاؤوا أكلوا)(6)، يدلّان على عدم كفاية نفقة الحَجّ في الاستطاعة واستقرار الحَجّ في الذمّة، بل لابدّ من الزائد عليها، ولعدم تعيّن الزائد يدخل الإجماع في العمومات

ص: 49


1- المعتبر: ج 2/753.
2- تذكرة الفقهاء: ج 7/63، (ط. ج).
3- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).
4- مستند الشيعة: ج 11/38.
5- الكافي: ج 4/268، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/30، ح 14162.
6- الاستبصار: ج 2/318، ح 1.

والإطلاقات، فلا يحكم بالوجوب إلّافي موضع اليقين، وهو بعد استثناء نفقة العيال والاُمور المذكورة طُرّاً. ثمّ قال: (ومنه يظهر جواز مراعاة المناسبة لحاله بحسب عادة زمانه ومكانه في العِزّ والشرف)(1).

وفيه: أنّه قد حُقّق في محلّه من الاُصول(2)، من أنّ إجمال المخصّص المنفصل لا يسري إلى العام، بل العام حجّة في غير المورد المتيقّن.

الوجه الثاني: ما دلّ من الأخبار على اعتبار اليُسر أو السّعة في المال، كخبر عبد الرحيم القصير، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «سأله حفص الأعور عن آية الحَجّ (3)؟ قال عليه السلام: ذلك القوّة في المال واليسار»(4).

ونحوه غيره ممّا سيمرّ عليك في مسألة اعتبار الرجوع إلى الكفاية.

وفيه: أنّ الخبر المشتمل على السعة في المال قد فُسّر فيه ذلك بأن يكون معه ما يحجّ ببعضه، ويبقى بعض يقوتُ به نفسه وعياله.

وأمّا خبر اليسار:

فأوّلاً: ضعيفُ السّند، فتأمّل.

وثانياً: أنّه يمكن أن يكون المراد به نفقة العيال حال السَّفر، وقد أشار الإمام عليه السلام عنه بذلك، ويمكن أن يكون المراد به الزاد والراحلة.

الوجه الثالث: قاعدة نفي العُسر والحَرَج، بتقريب أنّ التكليف بصرفها في الحَجّ مستلزمٌ للعُسر والحَرَج(5).ن.

ص: 50


1- مستند الشيعة: ج 11/38 و 39.
2- زبدة الاصول: ج 3/225.
3- سورة آل عمران: الآية 97.
4- المحاسن: ج 1/295، ح 463، وسائل الشيعة: ج 11/38، ح 14182.
5- استدلّ به في مستند الشيعة، المصدر السابق، ص 38، وصاحب العروة أيضاً، راجع مستمسك العروة الوثقى: ج 10/83، في المتن.

وأورد عليه: بعض من عاصرناه، بأنّه لو توقّف حجّه على بيع بعض المستثنيات لم يكن نفس الحَجّ حَرَجيّاً عليه؛ لإمكان أن يبيع بعضها ويحجّ بثمنه مع كمال الراحة، نعم ذلك مستلزمٌ لأمر حَرَجي وهو فقده ما يحتاج إليه في معيشته، فالحرج ليس ثابتاً في أصل حجّة، بل هو ثابتٌ في لازمه، وعليه فيشكل التمسّك بقاعدة نفي الحَرَج، وإثبات عدم وجوب الحَجّ بها؛ فإنّ القاعدة إنّما تنفي الحكم الحَرَجي، والمفروض أنّ وجوب الحَجّ ليس حكماً حَرَجيّاً عليه، وإنّما الحَرَج في لازمه.

ثمّ أجاب عنه: بأنّ قاعدة نفي الحَرَج وإنْ لم تكن جارية بالنسبة إلى وجوب الحَجّ ، ولكن تجري بالنسبة إلى التكليف بصرف ما احتاج إليه من المستثنيات، وجريانها بالنسبة إليه دليل على أنّ المراد بما في الأخبار من اشتراط كونه واجداً للزاد وراحلة في وجوب الحَجّ ، هو وجدانه لهما زائداً على ثمن المستثنيات؛ لأنّ شمول الزاد والراحلة لثمنهما منافٍ لجريان القاعدة بالنسبة إلى تلك المستثنيات.

ثمّ إنّه قال: (وإنْ شئت قلت: إنّ صرف ما يكون محتاجاً إليه من المستثنيات يكون مقدّمة للحجّ ، والمفروض أنّه حرجي، والقاعدة إنّما تجري فيما يكون رفعه بيد الشارع، ووجوب المقدّمة وإنْ لم يكن بنفسه قابلاً للرفع عند الشارع، إلّاأنّ بيده رفع منشئه، وهو وجوب ذي المقدّمة)، انتهى ملخّصاً.

أقول: إنّ الإيراد المذكور وإنْ كان محلّ النظر وقابلاً للدفع، إلّاأنّ جوابه غير كافٍ .

أمّا الأوّل: فلأنّ النفي في قاعدة الحَرَج والضرر، إنْ كان من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، كما في قوله: (لا ربا بين الوالد والولد)، و (لا رهبانيّة في

ص: 51

الإسلام) وماشاكل، وكان مفاد قاعدة الحَرَج نفي الأحكام إذا كانت موضوعاتها حَرَجيّة، كما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله في قاعدة لا ضرر(1)، تمّ الإيراد، ولم يمكن الجواب عنه.

وأمّا إذا كان المنفيّ هو كلّ حكمٍ ينشأ منه الحَرَج، سواءٌ أكان ناشئاً من نفس الحكم أم من متعلّقه كما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله(2)، أو بنينا على أنّ المنفيّ أعمٌّ منهما كما اخترناه، أمكن دفع الإيراد بسهولة، لأنّ الحَجّ وإنْ لم يكن حَرَجيّاً إلّاأنّه مستلزمٌ لأمر حَرَجي، والحكم بوجوبه ينشأ منه الحَرَج، فيكون منفيّاً بالقاعدة، وحيث إنّا قد أثبتنا المبنى في رسالتنا الخاصّة بقاعدة لا ضرر فجريانها في المقام لا إشكال فيه.

وأمّا الثاني: فلأنّه لو سُلّم أنّ القاعدة إنّما تنفي الحكم الذي يكون متعلّقه حَرَجيّاً، فجوابه غير كافٍ ، فإنّ وجوب المقدّمة بما أنّه عقلي غير قابل للرفع، يلزم منه عدم شمول القاعدة له، لا شمولها ورفعها منشأه.

وبعبارة اُخرى : إنّ القاعدة على هذا المسلك تختصّ بما إذا كان متعلّق الحكم الشرعي حَرَجيّاً، وفي المقام ما تعلّق به الحكم الشرعي - وهو وجوب ذي المقدّمة - ليس حَرَجيّاً، وما يكون حَرَجيّاً لم يتعلّق به الحكم الشرعي، فلا مورد للقاعدة.

فرع: لو لم يكن له زادٌ وراحلة زائداً على المستثنيات، ولكن مع ذلك صَرَف بعضاً منها في تحصيل زاد السفر والراحلة، وتحمّل ما توجّه إليه من العُسر والحَرَج، فهل يكون حجّة مُجزياً عن حجّة الإسلام أوّلاً؟1.

ص: 52


1- راجع كفاية الاُصول: ص 381 (قاعدة لا ضرر ولا ضرار).
2- كما يظهر من كلامه في قاعدة لا ضرر ولا ضرار راجع: ج 2/460-461.

لا إشكال في الإجزاء لو قلنا بأنّ حجّ غير المستطيع مُجزٍ عن حجّة الإسلام، إلّا في الصبي والعبد، إنّما الإشكال فيما لو قلنا بعدم إجزائه، فقد يقال - كما عن العَلَمين الذين عاصرناهما(1) - بالإجزاء(2) - وذكرا لذلك وجهين ذكرناهما مع جوابهما في ذيل المسألة الرابعة، فراجع - لكن الصحيح من خلال ما ذكرناه هو عدم الإجزاء.

ولو شكّ في موردٍ في صدق عنوان العُسر والحَرَج، فهل يجب الحَجّ أم لا؟

الحقّ أنّ الشكّ في صدقه إنّما يكون من جهة الشكّ في سعة مفهومهما وضيقه فالشبهة مفهوميّة، وعليه فحيث أثبتنا في محلّه(3) أنّ إجمال المخصّص المردّد مفهومه بين الأقلّ والأكثر لا يسري إلى العام، بل المرجع في صورة الشكّ هو العام، فيكون المرجع في المقام في صورة الشكّ إلى عموم أدلّة وجوب الحَجّ من الآية والأخبار، لا إلى البراءة(4).

***ة.

ص: 53


1- الظاهر أنّ المراد بهما السيّد الحكيم والسيّد الخوئي 0.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/76، كتاب الحَجّ للسيّد الخوئي: ج 1/88.
3- زبدة الاصول: ج 3/239.
4- راجع: زبدة الاُصول: المجلّد الثالث، مباحث الشبهة المفهوميّة.

وجوب بيع داره المملوكة لو كان بيده دار موقوفة

المسألة التاسعة: لو كان بيده دارٌ موقوفة تكفيه لسكناه، وكان عنده دار مملوكة، فعن جماعةٍ منهم سيّد «العروة» رحمه الله الحكم بوجوب بيع المملوكة إذا كانت وافية لمصارف الحَجّ أو متمّمة لها(1).

وعن «الدروس»: (لا يجب بيعها لو كان يمكنه الاعتياض عنها بالأوقاف العامّة)(2)، ومنشأ الاختلاف الاختلاف في صدق الاستطاعة.

والحقّ أن يقال: إنّه تارةً ليس بيده دارٌ موقوفة تكفيه لسكناه، ولكن يتمكّن من تحصيلها، واُخرى تكون بيده.

وفي الفرض الثاني: تارةً يكون الاعتياض منافياً لشأنه، أو يكون فيه حرج، واُخرى لا يكون منافياً لشأنه، وليس فيه حرج.

والظاهر أنّ الحجّ واجبٌ عليه في الصورة الأخيرة دون الأولتين.

أمّا عدم وجوبه في الأُولى : فلعدم صدق الاستطاعة، فإنّه حينئذٍ متمكّنٌ من أن يحصل الاستطاعة، لا أنّه مستطيعٌ بالفعل، والموضوع هو المستطيع فعلاً.

أمّا عدم وجوبه في الثانية: فلقاعدة نفي العُسر والحَرَج.

وأمّا وجوبه في الأخيرة: فلصدق الاستطاعة.

وظاهرٌ أنّ نظر الشهيد رحمه الله وصاحب «الجواهر»(3) إلى الصورتين الأولتين،

ص: 54


1- العروة الوثقى: ج 4/371، (ط. ج).
2- الدروس: ج 1/311.
3- جواهر الكلام: ج 17/254.

ومحلّ كلام سيّد «العروة» الصورة الأخيرة، فلا نزاع.

أقول: ولا يخفى ما في التعبير بوجوب بيع الدار المملوكة من المسامحة؛ فإنّه لا يجب قطعاً، بل له أن يحجّ مستكّعاً ولا يبيع داره، وحجّه حينئذٍ مُجزٍ عن حجّة الإسلام بلا كلام هو هي، والظاهر أنّ مرادهم من وجوب البيع، صدق عنوان المستطيع عليه فيجب عليه الحَجّ .

***

ص: 55

تبديل المستثنيات للصرف في الحَجّ

المسألة العاشرة: إذا لم تكن المستثنيات زائدة عن اللّائق بحاله بحسب عينها، لكن كانت زائدة بحسب القيمة، وأمكن تبديلها بما يكون أقلّ قيمة مع كونه لائقاً بحاله، فإذا لم يكن التبديل مستلزماً للحرج أو الضرر، فإنّه لا كلام في عدم الوجوب.

وأمّا إذا لم مستلزماً لشيء منهما:

ففي «التذكرة»: (الأقرب وجوب البيع و شراء الأدون ممّا تقوم به كفايته) انتهى (1).

وفي «الجواهر»: (الأقوى وجوب البيع لو غلت، وأمكن بيعها، وشراء ما يليق به من ذلك بأقلّ ثمنها(2)، كما صرّح في «التذكرة»(3)، و «الدروس»(4)، و «المسالك»(5) وغيرها)(6).

وعن المحقّق الكركي عدم الوجوب(7)، واحتمله صاحب «كشف اللّثام»(8).

دليل الأوّل: صدق الاستطاعة، وكونه واجداً لما يحجّ به.

واستدلّ للثاني: بوجوه:

أحدها: أنّ مقتضى الأصل عدم وجوب الاعتياض لفرض الشكّ فيه، والمرجع أصالة البراءة.

ص: 56


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/58، (ط. ج).
2- جواهر الكلام: ج 17/254.
3- تذكرة الفقهاء: ج 7/58، (ط. ج).
4- الدروس: ج 1/311.
5- مسالك الأفهام: ج 2/130.
6- مدارك الأحكام: ج 7/38.
7- جامع المقاصد: ج 3/129.
8- كشف اللّثام: ج 5/95، (ط. ج).

ثانيها: أنّ الاعتياض قد يوجب الحَرَج العظيم، فمقتضى قاعدة نفي الحَرَج والعُسر عدم وجوبه.

ثالثها: أنّ أعيان المستثنيات المفروضة لا تزيد على الحاجة، فمقتضى دليل الاستثناء عدم وجوب الاعتياض لفرض الاستثناء.

أقول: وفي الكُلّ مناقشة:

أمّا الأوّل: فلأنّ الأصل لا يرجع إليه مع الدليل، وهو في المقام إطلاق الآية والأخبار الدالّة على وجوب الحَجّ على المستطيع، المقتضية لوجوب الاعتياض.

وأمّا الثاني: فلأنّ محلّ الكلام صورة عدم الحَرَج، مع أنّه لا وجه للبناء على عدم الوجوب بقول مطلق، لوجود الحَرَج في بعض الموارد.

وأمّا الثالث: فلأنّ استثناء المذكورات لو كان لدليل لفظي، كان هذا الوجه تامّاً،، ولكن بما أنّ دليله هو دليل نفي الحَرَج فلا يتمّ ، كما لايخفى وجهه.

فتحصّل: أنّ الأظهر وجوب التبديل، بمعنى وجوب الحَجّ في الفرض.

ومقتضى ما ذكرناه عدم الفرق بين أن يكون الزيادة قليلة لايعتنى بها، أم معتدّاً بها إذا كانت الزيادة القليلة متمّمة لنفقة الحَجّ ، على ما هو مفروض المسألة.

وبالجملة: ثبت ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره صاحب «العروة» من إمكان دعوى عدم الوجوب إذا كانت الزيادة قليلة(1) ضعيفٌ ، وأضعف منه استدلال بعض المعاصرين له بانصراف الدليل(2)، فإنّه مع عدم الدليل اللّفظي كيف يدّعي الإنصراف!؟

***6.

ص: 57


1- العروة الوثقى: ج 4/372، (ط. ج).
2- الظاهر أنّ المراد به السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/86.

حكم شراء المستثنيات وترك الحَجّ

المسألة الحادية عشرة: إذا لم يكن عنده من المستثنيات، لكن كان عنده ما يمكن شراؤها به من النقود:

ففي «الجواهر»: (استثنى له أثمانها(1)، كما في «الدروس»(2)، و «المسالك»(3)، وغيرهما، واستجوده في «المدارك» إذا دعت الضرورة إليه) انتهى (4).

ونسب إلى بعض وجوب الحَجّ في الفرض، وعدم جواز شراء المستثنيات بما عنده(5).

وفي «العروة» فصّل بين ما إذا كان واجداً للأعيان، وبين ما إذا كان واجداً لأثمانها، وحَكَم في الأوّل بكونها مستثناة الحاجة إليها، وفي الثاني اعتبر الوصول الى حَدّ الحَرَج(6).

أقول: الظاهر أنّه لا نزاع بين الأعلام في الحكم، ويظهر ذلك ببيان أمرين:

أحدهما: أنّ دليل الاستثناء في المسألتين قاعدة نفي الحَرَج والعُسر، وعليه

ص: 58


1- جواهر الكلام: ج 17/254.
2- الدروس: ج 1/311.
3- مسالك الأفهام: ج 2/130.
4- مدارك الأحكام: ج 7/39.
5- وهو ظاهر الحدائق الناضرة: ج 14/94، حيث قال: (وجزم شيخنا المشار إليه - الشهيد الثاني - بأنّ من لم يكن له هذه المستثنيات يستثنى له أثمانها... إلى أن قال: أقول: إنّ مقتضى الآية والأخبار الكثيرة هو وجوب الحَجّ على كلّ من استطاع بمعنى قدر على الإتيان به، واستثناء هذه الأشياء أو بعضها يحتاج إلى دليل متى حصلت الإستطاعة بها).
6- العروة الوثقى: ج 4/372، (ط. ج).

فالميزان هو لزوم الحَرَج وعدمه فيهما.

ثانيهما: أنّ بيع الإنسان ما عنده من ضروريّات معاشه، سيّما إذا جرت عادته باستعماله، يكون حَرَجيّاً عليه لا محالة، لصعوبة ترك العادة والاستعمال، فلو كان عنده أعيانها ويستعملها وهو محتاجٌ إليها، يكون بيعها لامحالة حَرَجيّاً عليه، وهذا بخلاف ترك الشراء لما ليس عنده، فإنّه مع الحاجة إليه قد يكون الترك حَرَجيّاً، وقد لا يكون كذلك.

ومن هذين الأمرين يظهر وجه تفصيل سيّد «العروة»، كما يظهر أنّ نظر القائلين بعدم الاستثناء إلى صورة عدم لزوم الحَرَج، ونظر المفتين بالاستثناء إلى صورة لزومه.

قال صاحب «العروة»: لو كان عنده أعيان المستثنيات، وباعها بقصد التبديل لم يجب عليه صرف ثمنها في الحَجّ ، ولو باعها لا بقصد التبديل، وجب بعد البيع صرفع ثمنها في الحَجّ ، إلّامع الضرورة إليها على حَدّ الحَرَج في عدمها(1).

وأورد عليه: جمعٌ ممّن تأخّر عنه، بأنّه لا فارق بين البيع بقصد التبديل وعدمه، إذ مع الضرورة إليها لا يجبُ صرف ثمنها في الحَجّ مطلقاً، ومع عدم الضرورة يجب صرفه كذلك(2).

وقد انتصر بعضهم للسيّد بأنّه يمكن أن يقال: أذا باع لا بقصد التبديل فقد أقدم على الحَرَج، ومع الإقدام على الحَرَج لا مجال لتطبيق دليل نفي الحَرَج(3).7.

ص: 59


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/86.
2- كالسيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/87.
3- السيّد الخوئي في كتابه الحَجّ : ج 1/105-107.

أقول: يرد على ما انتصر به له:

أوّلاً: إنّ الإقدام إنّما يكون على البيع وبقاء الثمن عنده لا على الحَجّ الحرجي.

وثانياً: أنّ الإقدام لا يمنع عن شمول القاعدة، كما حقّقناه في رسالة قاعدة لا ضرر، ولذا لو أقدم على تحمّل الضرر أو الحَرَج، وحجّ لا يجزئ حجّه عن حجّة الإسلام كما تقدّم.

ولكن يمكن أن يكون نظر السيّد في هذا الفرق إلى ما ذكرناه من الأمر الثاني، فإنّ من يُقدم على بيع ما يحتاج إليه، وبنائه على عدم التبديل، فإنّه يوطّن نفسه على ترك عادته، وبعد ذلك قد يكون ترك شراء بدله حَرَجيّاً عليه، وقد لا يكون كذلك، ولذا استثنى السيّد رحمه الله من حكمه بوجوب الحَجّ في هذا الفرض، ما لو كانت الضرورة إليها على حَدّ الحَرَج في عدمها.

وأمّا من يبيعها بقصد التبديل، فهو غير تاركٍ لما عليه عادته، فوجوب الحَجّ دائماً يكون حَرَجيّاً عليه، ولذا أفتى بعدم وجوبه، فتدبّر فإنّه دقيق، وعلى هذا فلا يرد عليه شيء ممّا أورده المعاصرون عليه.

***

ص: 60

في المعارضة بين فرص الأموال في الحجّ أو النكاح

المسألة الثانية عشرة: لو كان له ما يحجّ به، لكنّه تاق إلى النكاح:

ففي «المنتهى »(1)، و «التذكرة»(2) و «الشرائع»(3)، وعن «القواعد»(4)، و «المبسوط»(5)، و «الخلاف»(6)، و «السرائر»(7): (لم يجز صرفه في النكاح وكان عليه الحَجّ ).

وفي بعضها: التصريح بوجوبه وإنْ خاف العَنَت(8).

وفي «المنتهى »(9)، وعن «الدروس»(10)، و «التحرير»(11): (لو خاف من ترك النكاح المشقّة العظيمة فالوجه تقديم النكاح).

وعن «المدارك»: (لو أوجب ترك النكاح حدوث مرضٍ أو الوقوع في الزنا ونحوه قُدّم النكاح)(12).

ص: 61


1- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).
2- تذكرة الفقهاء: ج 7/56، (ط. ج).
3- شرائع الإسلام: ج 1/165.
4- قواعد الأحكام: ج 1/404.
5- المبسوط: ج 1/298.
6- الخلاف: ج 2/248.
7- حكاه غير واحد عن الحِلّي.
8- تحرير الأحكام: ج 1/91.
9- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).
10- الدروس: ج 1/311.
11- تحرير الأحكام: ج 1/91.
12- مدارك الأحكام: ج 7/45.

أقول: الكلام في فروض:

الفرض الأوّل: لا كلام في وجوب الحَجّ إذا لم يكن ترك النكاح موجباً للمشقّة، ولا حدوث مرض، ولا الوقوع في الزنا، لأنّ النكاح مستحبّ والحَجّ فرض، والفرض مقدّم.

الفرض الثاني: ما لو أوجب تركه المشقّة البالغة حَدّ الحَرَج، فقد مرّ تصريح جمعٍ من الأساطين بتقديم الحَجّ (1).

وأورد عليهم: غير واحدٍ من أهل العصر، بأنّه بعد فرض وجود قاعدة نفي العُسر والحَرَج، لا وجه للتوقّف في تقديم النكاح، فإنّ مقتضاها سقوط وجوب الحَجّ (2).

ولكن الظاهر أنّ منشأ بنائهم على عدم جريان القاعدة في المقام، أنّ نظر هؤلاء الأساطين في مفاد القاعدة أنّها تكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، كما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله(3) فتختصّ بما إذا كان المتعلّق - وهو في المقام الحَجّ - حَرَجيّاً، وحيث إنّه في المقام لا يكون الحَجّ حَرَجيّاً، بل هو مستلزمٌ لأمرٍ حرجي، فلا مورد للقاعدة، فالمحكّم إطلاق أدلّة وجوب الحَجّ ، وعليه فالمتعيّن في الإيراد عليهم منع المبنى كما أشرنا إليه في بعض المسائل المتقدّمة، وقلنا إنّ المنفي بها كلّ موضوعٍ حرجي، وكلّ حكم استلزم الحَرَج، وحيثُ أنّ في المقام وجوب الحَجّ مستلزمٌ للحرج، فيكون منفيّاً بها.م.

ص: 62


1- راجع شرائع الإسلام: ج 1/165، وقواعد الأحكام: ج 1/404.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/88 / كتاب الحَجّ للسيّد الخوئي: ج 1/107.
3- كفاية الأُصول: ص 313 و 381، طبع مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

وعليه، فالأظهر تقديم النكاح في هذا الفرض.

ولو لم يحرز أنّه يكون ترك التزويج حَرَجيّاً عليه، وشكّ في ذلك، فهل يسقط وجوب الحَجّ عنه أم لا؟

الظاهر ذلك، فإنّه بعد تخصيص عمومات الحَجّ بدليل نفي العُسر والحَرَج، يكون التمسّك بالعمومات في مورد الشكّ في الحَرَج من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، وهو لا يجوز، فيتعيّن الرجوع إلى أصالة البراءة.

نعم، إذا كان منشأ الشكّ عدم إحراز مفهوم الحَرَج، صحّ التمسّك بدليل وجوب الحَجّ ، كما لا يخفى .

الفرض الثالث: ما لو أوجب ترك النكاح حدوث المرض، فقد استدلّ بعض الأعاظم لتقديم النكاح في هذا الفرض، بأنّ الإضرار بالنفس حرام، فدليل حرمته كسائر أدلّة الواجبات والمحرّمات رافعٌ لموضوع الاستطاعة، فيرتفع الموضوع(1).

أقول: سيأتي التعرّض لهذه المسألة، أي رافعية أدلّة الواجبات والمحرّمات لموضوع الاستطاعة، لكن الكلام في المقام في الصغرى، فإنّ الإضرار بالنفس سيّما هذا المقدار من الضرر لادليل على حرمته، ولكن يمكن أن يستدلّلسقوط وجوب الحَجّ بدليل لا ضرر، فإنّ الحَجّ حينئذٍ مستلزمٌ للضرر، فمقتضى ذلك الدليل رفع وجوبه.

الفرض الرابع: ما لو علم أنّه لو ترك النكاح لوقع في الزنا اختياراً، فقد استدلّ بعض الأعاظم(2) لتقديم النكاح، بأنّ أدلّة المحرّمات رافعة لموضوع الاستطاعة فيرتفع الوجوب.8.

ص: 63


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/88.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/88.

وفيه: أنّ رافعيتها له إنّما تكون فيما لو وقعت المزاحمة بين دليل وجوب الحَجّ ودليل الحرمة، كما لو توقّف الحَجّ على مقدّمة محرّمة، وأمّا مع عدم المزاحمة، وإمكان متابعة الدليلين، والمكلّف إنّما يقع في الحرام بسوء اختياره، فلا يكون دليل الحرمة رافعاً لموضوع الاستطاعة، والمقام من هذا القبيل.

وعليه، فإنْ لم يكن ترك النكاح وعدم الزنا حَرَجيّاً، ولا موجباًلحدوث مرض، وجب الحَجّ ، وإنْ علم بأنّه يقع في الزنا باختياره لو ترك النكاح.

ولو كانت له زوجة دائمة ونفقتها تمنع عن الاستطاعة، ولم يكن له حاجة فيها، لا يجب أن يُطلّقها، وصرف مقدار نفقتها في تتميم مصرف الحَجّ ، لأنّ مثل هذا الإقدام يعدّ تحصيلاً للاستطاعة وهو غير واجب.

***

ص: 64

حكم الدَّين المساوي لمؤونة الحَجّ

المسألة الثالثة عشرة: لو لم يكن عنده ما يحجّ به، ولكن كان له دينٌ على شخص بمقدار مؤونته، أو ما تتمّ به مؤونته:

ففي «المنتهى »: (إنْ كان على حالٍ موسر باذل بقدر الاستطاعة وجب الحَجّ ، ولو كان مُعسراً أو مانعاً، أو كان الدَّين مؤجّلاً سقط الوجوب) انتهى (1)، ونحوه في «التذكرة»(2) وغيرها(3).

وتحقيق الكلام: أنّه تارةً يكون الدَّين حالّاً، واُخرى يكون مؤجّلاً.

وعلى الأوّل: تارةً يكون المديون موسراً، واُخرى يكون مُعسراً.

وعلى الأوّل:

تارةً : يمكن استرجاعه بنفسه أو وكيله، أو بواسطة حاكم الشرع.

واُخرى : يمكن ذلك بواسطة حاكم الجور.

وثالثة: لا يمكن بوجهٍ .

وإنْ كان الدَّين مؤجّلاً:

فتارةً : يكون المديون باذلاً قبل الأجَل مع عدم المطالبة.

واُخرى : يكون باذلاً إيّاه لو طالبه.

وثالثة: لا يكون باذلاً.

ص: 65


1- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).
2- تذكرة الفقهاء: ج 7/59.
3- تحرير الأحكام: ج 1/547، (ط. ج).

وفي الصورة الأخيرة:

تارةً : يمكن له الإستدانة.

واُخرى : لا يمكنه ذلك.

الصورة الأُولى: فيما لو كان الدَّين حالّاً، وهو عاجز عن استرجاعه ولو بالواسطة، فإنّه لا إشكال في عدم وجوب الحَجّ في هذه الصورة، لأنّ الاستطاعة غير حاصلة، إذ وجود المال مع عدم قدرته على التصرّف فيه، لا يوجب صدق الاستطاعة عليه، وهو واضح.

فإنْ قيل: إنّ الاستطاعة فُسّرت بالزاد والراحلة، وبيّنا أنّ المراد بهما أعمّ من وجود عينهما وثمنهما، وعليه فحيث إنّه بمقدار الزاد والراحلة يكون مالكاًللمال، فتصدق الاستطاعة الشرعيّة عليه.

قلناأوّلاً: إنّ الظاهرمن النصوص المفسّرة، هوالتوسعة في الاستطاعة لا التضييق.

وثانياً: أنّه ورد التصريح منهم عليهم السلام في جملةٍ من النصوص بما يكون ظاهراً في اعتبار القدرة الفعليّة أيضاً، لاحظ مثلاً:

1 - صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا قدر الرّجُل على ما يحجّ به، ثمّ دفع ذلك وليس له شغل يعذره به، فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام»(1).

2 - وصحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «قال اللّه تعالى: (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (2) قال عليه السلام هذه لمن كان عنده مال وصحّة - إلى أنْ قال - إذا هو يجد ما يحجّ به»(3).0.

ص: 66


1- تهذيب الأحكام: ج 5/18، ح 27، وسائل الشيعة: ج 11/26، ح 14152.
2- سورة آل عمران: الآية 97.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/18، ح 52، وسائل الشيعة: ج 11/25، ح 14150.

3 - وخبر عليّبن أبي حمزة الذي رواه الصدوق بإسناده عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «من قدر على ما يحجّ به، وجعل يدفع ذلك، وليس له شغل يعذره اللّه فيه حتّى جاء الموت، فقد ضيَّع شريعةً من شرائع الإسلام»(1) ونحوها غيرها.

فالمتحصّل: أنّه يعتبر في الاستطاعة زائداً عن وجود الزاد والراحلة أو ثمنهما، القدرة الفعليّة على التصرّف في المال.

الصورة الثانية: فيما لو كان الدَّين حالّاً، وكان المديون باذلاً، وجب عليه الحَجّ بلا كلام، لصدق الاستطاعة بما لها من القيود المعتبرة فيها عليه.

الصورة الثالثة: فيما لو كان الدَّين حالّاً، وكان المديون مماطلاً، وتوقّف استنقاذ الدَّين على الاستعانة بالحاكم الشرعي أو غيره:

فعن بعض الأساطين في حاشيته على «العروة»: عدم وجوب الحَجّ (2).

وعلّله بعض المعاصرين: بأنّه مع المماطلة لا قدرة فعليّة، والفرض اعتبارها، نعم القدرة على الاستعانة به قدرةٌ على تحصيل الاستطاعة، فلا يجب معه الحَجّ (3).

وفيه: أنّ القدرة على السبب قدرةٌ على المسبّب حقيقةً ، لا أنّه قادر على تحصيل القدرة، ألا ترى أنّه لو كان له مالٌ موجود مودع في صندوق في بلد آخر، مع أنّه لا يقدر على التصرّف فيه إلّابالسفر إلى ذلك البلد، وفتح الصندوق وأخذ ما فيه، ومع ذلك لا يتوقّف أحدٌ في صدق القدرة والتمكّن، وكذلك في المقام، وعليه، فلا يبقى الشكّ في وجوب الحَجّ في هذا الفرض.0.

ص: 67


1- الفقيه: ج 2/448، ح 2936، وسائل الشيعة: ج 11/28، ح 14158.
2- لعلّ المراد به الشيخ ضياء الدِّين العراقي في تعليقته على العروة: ج 4/219.
3- السيّد الحكيم في المستمسك: ج 10/90.

الصورة الرابعة: فيما لو كان الدَّين حالّاً، وكان المديون مماطلاً، وتوقّف استنقاذ الدَّين على الاستعانة بالحاكم الجائر، فقد اختار صاحب «الجواهر» عدم وجوب الحَجّ حينئذٍ، للنهي عن الركون إليه والاستعانة به.

ثمّ قال: (وإنْ حملناه على الكراهة مع التوقّف عليه، ترجيحاً لما دلّ على الجواز بالمعنى الشامل للوجوب من دليل المقدّمة وغيره، ومثله لا يتحقّق معه الاستطاعة، بعد فرض أنّ الجواز المزبور كان بعد ملاحظة المعارضة بين ما دلّ على المنع، وما دلّ على خلافه من المقدّمة وغيرها) انتهى (1).

أقول: بناءً على حرمة الاستعانة بالحاكم الجائر - كما لعلّه الأظهر، وقد أشبعنا الكلام فيه في رسالتنا المطبوعة حول مبحث الاجتهاد والتقليد - لا إشكال في سقوط وجوب الحَجّ ، لأنّ دليل الحرمة رافع للاستطاعة.

وأمّا بناءً على الجواز، فلم يظهر لي وجه سقوط وجوب الحَجّ ، فإنّه مع عدم الحرمة لامزاحم له، فكيف يسقطمع ثبوت موضوعه و فعليّته، وعدم وجود المزاحم ؟!

الصورة الخامسة: فيما لو كان الدين مؤجَّلاً، وكان المديون باذلاً قبل المطالبة، فقد استدلّ لوجوب الحَجّ في هذه الصورة بأنّه بثبوته في الذمّة وبذل المديون له، بمنزلة المأخوذ، وتصدّق الاستطاعة ووجدان الزاد والراحلة عرفاً بذلك.

وقد استشكل صاحب «الجواهر» في ذلك، وقال: (يمكن منع ذلك كلّه)(2).

والظاهر أنّ نظر صاحب «الجواهر» رحمه الله في المنع إلى أنّ المديون إنّما يتبرّع بالبذل، لأنّ له التأجيل على الفرض، فلا يجبُ على الدائن قبوله، نظير الهبة التي لا8.

ص: 68


1- جواهر الكلام: ج 17/258.
2- جواهر الكلام: ج 17/258.

يجب على المتّهب قبولها.

ولكن يرد عليه: أنّ الدائن في المقام مالكٌ لما في ذمّة المديون، وببذل المديون إيّاه يحصل له القدرة الفعليّة عليه، فيصدق عليه المستطيع، فيجب الحَجّ ، ولا يقاس ذلك بالهبة التي يكون الملك فيها متوقّفاً على القبول، فلا يجب القبول، لعدم وجوب تحصيل الاستطاعة، فالأظهر وجوب الحَجّ في هذا الفرض.

الصورة السادسة: فيما لو كان الدَّين مؤجَّلاً، وكان بذل المديون إيّاه متوقّفاً على المطالبة، ففي «العروة» حكم بوجوب الحَجّ مستدلّاً بصدق الاستطاعة(1)، ولكن قد تقدّم أنّه يعتبر في صدق الاستطاعة أمران: أنْ يكون له ما يحجّ به، والقدرة الفعليّة عليه، والقيد الأوّل موجودٌ في المقام، ودون الثاني، لأنّ السلطنة له شرعاً غير متحقّقة، لأنّ للمديون أن يؤخِّر الأداء حتّى مع المطالبة، وهذا بخلاف صورة كون الدَّين حالّاً، فإنّ القيد الثاني أيضاً موجود، لأنّ له السلطنة شرعاً على أخذ ما له من المديون ولو جبراً.

وعليه، فيتوقّف صدق الاستطاعة على البذل، ومعلومٌ أنّ تحصيل الاستطاعة غير واجب.

وقدنسب إليصاحب «الجواهر» رحمه الله الحكم بعدم الوجوب في هذه الصورة، مع أنّ محلّكلامه قدس سره الصورة السابقة، وهو لم يتعرّض لهذه الصورة في «الجواهر»، فراجعها(2).

الصورة السابعة: وبما ذكرناه يظهر حكم ما لو كان الدين مؤجَّلاً والمديون غير باذل حتّى مع المطالبة، فإنّه يسقط وجوب الحَجّ بلا كلامٍ .8.

ص: 69


1- العروة الوثقى: ج 4/374، (ط. ج).
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/91، جواهر الكلام: ج 17/258.

الصورة الثامنة: فيما لو كان الدَّين مؤجَّلاً، والمديون غير باذل المطالبة، ولكن يمكن الاستدانة للحجّ وأداؤه من ماله بعد الأجل، ويكون واثقاً بحصول الدَّين بعد ذلك، فهل يجب الحَجّ عليه حينئذٍ كما في «المستند»(1) و «الجواهر»(2) و «العروة»(3)، وعن «الدروس»(4) و «المدارك»(5) وغيرهما؟

أم لا كما في «المنتهى »(6)؟ وجهان:

واستدلّ للأوّل: بصدق الاستطاعة، وبقول الإمام الصادق عليه السلام في خبر جفية:

«ما لَكَ لا تحجّ؟! استقرض وحَجّ »(7).

وأورد على الأوّل: بأنّ المراد الاستطاعة من ماله، وإلّا لوجب الاستدانة لو لم يكن له مال أيضاً، بل طلب البذل إذا علم أنّه يبذل له لو طلب، وهو خلاف الإجماع، ومنة القبول وذلّ الطلب حاصلان في الاستدانة أيضاً.

وأجاب صاحب «المستند» رحمه الله عنه: بمنع التقيد بالاستطاعة من ماله أوّلاً، وحصولها بالتمكّن من تحصيل المال ثانياً، وخرج الاستدانة من غير مال والسؤال بالاخبار والإجماع(8).2.

ص: 70


1- مستند الشيعة: ج 11/42.
2- جواهر الكلام: ج 17/258.
3- العروة الوثقى: ج 4/376، (ط. ج).
4- الدروس: ج 1/311.
5- مدارك الأحكام: ج 7/44.
6- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).
7- وسائل الشيعة: ج 11/140، ح 14469.
8- مستند الشيعة: ج 11/42.

أقول: قد مرّ أنّ نصوص الزاد والراحلة دالّة على اعتبار ملكيّته لهما، والتمكّن من تحصيل المال لا يوجب حصوله بالفعل.

فالحقّ أن يقال: إنّه وإنْ لم يعتبر في الاستطاعة ملكيّة شخص الزاد والراحلة، بل يكفي أن يكون مالكاً للمال بمقدار قيمتهما، ولكن يعتبر أن يكون له القدرة الفعليّة والسلطنة الشرعيّة على التصرّف في المملوك، وهذا الشخص لو استدان وتملّك المال بالاستدانة، وإنْ كان يصبح مستطيعاً، فإنّه مالك لمقدارٍ من المال يكفي للحجّ وله السلطنة عليه، وما عليه من دين يقابله ماله، ولكن قبل الاستدانة لا يكون مسلّطاً على ما يملكه، فلا يصدق عليه المستطيع، نعم يعدّ قادراً على تحصيل الاستطاعة وهو غير واجب.

وأمّا الخبر: فهو واردٌ في الحَجّ المندوب، ولا علاقة له بما نبحث عنه.

وعليه، فالأظهر عدم وجوب الحَجّ في هذه الصورة.

ونظير ذلك: ما لو كان له مالٌ حاضرٌ لا راغب في شرائه، أو مال غائبٌ لا يمكن صرفه في الحَجّ فعلاً، ولو بتبديله بواسطة وكيله، فإنّه يسقط عنه وجوب الحَجّ ، لأنّ ماله من المال لا يمكن له التصرّف فيه ولو ببدله، فلا يكون عنده ولا قادراً على ما يحجّ به، والاستدانة تحصيل للاستطاعة، فلا تكون واجبة، فما عن «الدروس» من الجزم بوجوب الحَجّ (1) ضعيفٌ .

***1.

ص: 71


1- الدروس: ج 1/311.

لو كان عنده ما يكفيه للحجّ وكان عليه دين

المسألة الرابعة عشرة: إذا كان عنده ما يكفيه للحجّ ، وكان عليه دينٌ بقدره، فهل بجب عليه الحَجّ أم لا؟

القدماءُ من الأصحاب لم يتعرّضوا لهذه المسألة، فلا يعلم فتاويهم، وأمّا المتأخّرون فلهم فيها فتاوى مختلفة:

فعن جماعةٍ منهم المحقّق في «الشرائع»(1)، والمصنّف في «المنتهى »(2)، وبعض كتبه الاُخر(3)، والشهيد في «الدروس»(4): عدم وجوب الحَجّ ، إلّاأن يَفضُل عن دَينه ما يقوم بالحجّ .

وعن «المدارك»(5)، والمحقّق الأردبيلي(6) وغيرهما وفي «المستند»(7): الوجوب إلّا مع الحلول والمطالبة.

وعن «كشف اللّثام»(8)، وصاحب «الجواهر»(9): عدم الوجوب إلّامع التأجيل وسعة الأجل للحجّ والعود.

ص: 72


1- شرائع الإسلام: ج 1/165.
2- منتهى المطلب: ج 2/653.
3- تذكرة الفقهاء: ج 7/61، (ط. ج).
4- الدروس: ج 1/311.
5- مدارك الأحكام: ج 7/43.
6- مجمع الفائدة والبرهان: ج 6/72.
7- مستند الشيعة: ج 11/43.
8- كشف اللّثام: ج 5/98، (ط. ج).
9- جواهر الكلام: ج 17/259.

وفي «العروة»: البناء على عدم الوجوب، إلّامع التأجّل، والوثوق بالتمكّن من أداء الدَّين إذا صرف ما عنده في الحَجّ (1).

والظاهر من هؤلاء الأساطين بأجمعهم سقوط وجوب الحَجّ لو كان الدين حالّاً مطالباً به، لكن في «المستند» بنى على التخيّير بين الحَجّ ووفاء الدَّين(2)، وتبعه بعض المعاصرين(3).

أقول: والحقّ أنّ الدَّين قد يكون حالّاً، وقد يكون مؤجَّلاً.

وعلى الأوّل: قد يكون مطالباً به، وقد يكون غير مطالب به.

وعلى الثاني: قد لا يسع الأجل لتمام المناسك والعود، وقد يسع ذلك.

وعلى الثاني: قد يثق بالتمكّن من أداء الدَّين إذا صرف ما عنده في الحَجّ ، وقد لا يثق بذلك.

الصورة الأُولى: إذا كان الدَّين حالّاً، ولم يكن الدائن راضياً بالتأخير، ففيه وجوهٌ واحتمالات:

الاحتمال الأوّل: تقديم الدَّين:

ذهب إليه جُلّ من تعرّض للمسألة، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ خبري أبي الربيع(4)، وعبد الرحيم القصير(5) - المتقدّمين والآتيين في مسألة اعتبار الرجوع إلى الكفاية - يدلّان على اعتبار السعة واليسار،5.

ص: 73


1- العروة الوثقى: ج 4/376، (ط. ج).
2- مستند الشيعة: ج 11/43.
3- الظاهر أنّ المراد به السيّد الخوئي في كتابه الحَجّ : ج 1/117.
4- الكافي: ج 4/267، وسائل الشيعة: ج 11/37، ح 14180 و 14181.
5- وسائل الشيعة: ج 11/38، ح 14182، المحاسن: ج 1/295.

وهما غير حاصلين مع الدَّين، إذا لم يزد ما يحتاج إليه في الحَجّ على ما يقابل الدين.

وفيه: ما تقدّم من أنّ خبر عبد الرحيم ضعيف السند، وخبر أبي الربيع فسّر فيه السعة بأن يكون معه ما يحجّ ببعضه، ويبقى بعض ما يقوت به نفسه وعياله.

الوجه الثاني: أنّ الدائن كما يكون مطالباً للمال قبل الحَجّ ، يكون مطالباً به بعده، فيجب أن يعطيه لأنّه متمكّن من الأداء، وإذا أدّى دينه لا يبقى له الرجوع إلى الكفاية الذي هو من قيود الاستطاعة.

وفيه: أنّ ذلك وإنْ كان تامّاً في بعض الصور، إلّاأنّه لا يتمّ في جميعها، مثلاً:

لو كان واثقاً بالتمكّن من الأداء بعد الحَجّ ، مع وجود ما به الكفاية، فلا يتمّ كما هو واضح.

الوجه الثالث: صحيح معاوية بن عمّار المتقدّم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ عليه دَين، أعليه أن يحجّ؟ قال: نعم إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين»(1).

وتقريب الاستدلال به: أنّه يدلّ بالمنطوق على وجوب الحَجّ على من أطاق المشي، ولو كانت ذمّته مشغولة بدين، ومفهومه أنّ من لم يطق المشي ليس عليه أن يسافر ويذهب إلى الحَجّ ، بل عليه أن يؤدّي دَينه تعييناً.

وفيه: ما تقدّم في مسألة اعتبار الزاد والراحلة، من معارضة هذا الصحيح وما ماثله مع طائفة اُخرى من النصوص، وتقدّم تلك الطائفة، وطرح هذه أو حملها على بعض المحامل، فراجع(2).د.

ص: 74


1- تهذيب الأحكام: ج 5/11، ح 27، وسائل الشيعة: ج 11/43، ح 14195.
2- صفحة 27 من هذا المجلّد.

الوجه الرابع: أنّ حقّ النّاس أهمّ من حقّ اللّه تعالى ، فيقدّم الدَّين على الحَجّ من باب الأهميّة.

وفيه: أنّ هذا - أي تقديم حقّ النّاس - وإنْ كان مشهوراً، إلّاأنّه لا دليل عليه، وغاية ما قيل في وجهه ما ورد من أنّ الذنوب ثلاثة: ذنبٌ يُغفر، وذنبٌ لا يُغفر، وذنبٌ لا يُترك، فالذي يُغفر ظُلم الإنسان نفسه، والذي لا يُغفر ظُلم الإنسان ربّه، والذي لا يُترك ظُلم الإنسان غيره(1).

ولكن يرد عليه: أنّه إنّما يدلّ على أنّ ظلم الإنسان غيره لا يُغفر إلّابمراجعة ذلك الغير، لكونه حقّاً له، ولا نظر له إلى الأهميّة، بل في بعض المسائل أفتى الفقهاء بعدم التقديم، كما لو فرض كونهما عليه بعد الموت، فإنّهم أفتوا بتوزيع التركة على الحَجّ والدين بعد الوفاة، وهذا كاشف عن بناء الأصحاب على عدم أهميّة الدَّين من الحَجّ .

الوجه الخامس: - وهو الصحيح - وهو أنّه من مرجّحات باب التزاحم كون أحدهما مشروطاً بالقدرة شرعاً، والآخر غير مقيّد بها شرعاً، ويكون وجوبه مطلقاً، فإنّه يقدّم الثاني من جهة أنّ التكليف المطلق بنفسه لا بامتثاله يكون معجزاً شرعاً، فيرتفع موضوع الآخر، وتمام الكلام في محلّه.

وفي المقام حيث إنّ وجوب أداء الدين مطلق، ووجوب الحَجّ مشروط بالاستطاعة الشرعيّة، فالتكليف بأداء الدَّين مستلزمٌ لرفع الاستطاعة، فيُقدّم أداء الدَّين لكون وجوبه وارداً على وجوب الحَجّ .7.

ص: 75


1- يناسبه ما في الكافي: ج 2/443، المحاسن: ج 1/7.

أقول: ويمكن أن يقال تأييداً لهذا الوجه إنّه قد مرّ اعتبار القدرة الفعليّة على التصرّف في المال زائداً على اعتبار وجوده، والتكليف بصرفه في أداء الدَّين معجزٌ مولوي عنه، وموجبٌ لسلب القدرة، ومع انتفاء قيد الوجوب يكون مرتفعاً لا محالة.

الاحتمال الثاني: تقديم الحَجّ .

وقد استدلّ له أيضاً بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ جملة من النصوص تدلّ على تقديم الحَجّ على الدَّين:

منها: صحيح معاوية المتقدّم: «عن رجلٍ عليه دَين، أعليه أن يحجّ؟ قال عليه السلام:

نعم إنّ حجّة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين»(1).

ومنها: خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الحَجّ واجب على الرّجُل وإنْ كان عليه دين»(2).

ومنها: صحيح الكناني، عنه عليه السلام قال: «قلتُ له: أرأيتَ الرّجُل التاجر ذا المال حين يسوّف الحَجّ كلّ عام وليس يشغله منه إلّاالتجارة أو الدَّين ؟ فقال عليه السلام: لا عذر له يسوّف الحَجّ ، إنْ مات وقد ترك الحَجّ ، فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام»(3).

ومنها: خبر معاوية بن وهب، عن غير واحدٍ، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام:

يكون عَليَّ الدَّين فتقع في يدي الدراهم، فإنْ وزّعتها بينهم لم يبق شيءٌ فأحجّ بها أو أوزّعها بين الغرماء؟ فقال عليه السلام: تحجّ بها، وادعُ اللّه أن يقضي عنك دَينك»(4) ونحوه6.

ص: 76


1- تهذيب الأحكام: ج 5/11، ح 27، وسائل الشيعة: ج 11/43، ح 14195.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/462، ح 1611، وسائل الشيعة: ج 11/140، ح 14470.
3- الكافي: ج 4/269، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/26، ح 14153.
4- الكافي: ج 4/279، ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/142، ح 14476.

خبر العطّار(1).

أقول: أمّا صحيح معاوية، فقد مرّ في مسألة اعتبار الزاد والراحلة معارضته بغيره من النصوص المقدّمة عليه، ويكون مطروحاً.

وأمّا خبر عبد الرحمن، فهو ضعيفُ السند، فإنّ في طريقه القاسم بن محمّد.

وأمّا صحيح الكناني، فالمفروض في السؤال فيه كون الرّجُل ذا المال، ويكون تركه الحَجّ تسويفاً، وعليه فهو أجنبيٌ عن المقام، وإنّما يدلّ على عدم جواز التعلّل والتهاون في الحَجّ بالاعتذار تارةً بالتجارة واُخرى بالدَّين.

وأمّا صحيح معاوية، ونحوه صحيح العطّار، فلم يذكر فيه أنّ الحَجّ وجوبي أو استحبابي، وأنّ الدَّين كان حالّاً أو مؤجَّلاً، ولا غير ذلك من الخصوصيّات، ولذلك لا يصحّ الاستدلال به.

الوجه الثاني: ما دلّ على أنّ دَين اللّه أحقّ أن يُقضى، كالخبر المتضمّن: «أنّ امرأةً خثعميّة سألت النبيّ صلى الله عليه و آله أنّ أبي أدركه فريضة الحَجّ شيخاً زَمِناً لا يستطيع أن يحجّ ، إنْ حججتُ أينفعه ذلك ؟ فقال صلى الله عليه و آله: أرأيت لو كان على أبيك دَينٌ فقضيته كان ينفعه ذلك ؟ قالت: نعم، قال: فدين اللّه أحقّ بالقضاء»(2). كذا في محكيّ «الذكرى»(3).

ونقل صاحب «التذكرة» الحديث، وفي ذيله: (فدين اللّه أحقّ أن يُقضى )(4).

ولكن الخبر مرويٌ في «المستدرك» بأدنى اختلاف في متنه سؤالاً وجواباً، وفين.

ص: 77


1- الفقيه: ج 2/437، ح 2906.
2- بحار الأنوار: ج 85/315، عوالي اللآلي: ج 1/216.
3- ذكرى الشيعة: ج 2/76 (ط. ج)، المبحث السادس: فيما يلحق الميّت من الأفعال بعد موته/ وحكاه قبله السيّد المرتضى في الانتصار ص 199 وغيرهما.
4- تذكرة الفقهاء، في مسألة عدم وجوب الحَجّ على الفقير والزَمِن.

ذيله: (فدين اللّه أحقّ )(1). ومثل هذه القضيّة مرويٌ عن العامّة، ومورد القضيّة في رواياتهم: أمرأة نذرت أن تحجّ وماتت، وسألته صلى الله عليه و آله وارثتها عن حجّها عنها، وقال له صلى الله عليه و آله في أحد النقلين: (فهو أحقّ بالقضاء)(2).

وفي الآخر: (فاللّه أحقّ بالوفاء)(3).

أقول أوّلاً: هذه النصوص ضعيفة الاسناد.

وثانياً: أنّ السؤال في المتضمّن قضيّة الخثعميّة إنّما هو عن انتفاع أبيها بالنيابة عنه، فمفاده أجنبيٌ عن المقام، لأنّه يدلّ على أنّه إذا انتفع بأداء دينه فانتفاعه بالحجّ عنه أولى .

وأمّا المرويّ عن طرق الجمهور، فلا يدلّ على أنّ حقّ اللّه أهمّ ليُقدَّم عند التزاحم، بل يدلّ على أنّ من يهتمّ بحقّ النّاس، ينبغي أن يهتمّ بحقّ اللّه تعالى ، وإلّا كان ذلك كاشفاً عن أنّ اللّه تعالى صغيرٌ في عينه، ولا يعتني به بمقدار اعتنائه بالناس، واللّه العالم.

الوجه الثالث: أهميّة الحجّ من الدين، كما يظهر ذلك من ملاحظة النصوص الواردة في تركه وتسويفه، والأهميّة من مرجّحات أحد المتزاحمين.

وفيه أوّلاً: إنّ أهميّته من الدين غير ظاهرة، لما ورد التشديدات في ترك أداء الدَّين أيضاً.

وثانياً: أنّ ذلك لو تمّ ، فإنّما هو في غير ما إذا كان أحد المتزاحمين مشروطاًي.

ص: 78


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 8/26، ح 8980-3.
2- حكاه العلّامة عن ابن عبّاس في تذكرة الفقهاء: ج 7/127.
3- المنتقى: ح 2320، نقلاً عن البخاري.

بالقدرة شرعاً، وإلّا فيكون الآخر بوجوده رافعاً لموضوع ذلك، فلا يبقى حتّى يرجّح بالأهميّة.

الاحتمال الثالث: تقديم ما هو الأسبق في الوجوب:

أي لو أصبح مستطيعاً ثمّ أتلف مال الغير مثلاً قُدِّم الحَجّ ، ولو صار مديوناً ثمّ صار واجداً لما يكفيه للحجّ ، قُدِّم الدَّين، لأنّ الأسبقيّة من مرجّحات باب التزاحم.

وفيه أوّلاً: لا نُسلّم كونها من المرجّحات، والأصحاب أيضاً غير بانين على ذلك، كما يظهر لمن راجع الفروع الفقهيّة.

وثانياً: أنّ ذلك لو تمّ ففي غير المقام وأمثاله ممّا يكون أحد المتزاحمين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة.

الاحتمال الرابع: التخيّير.

ووجهه: عدم ثبوت ترجيح أحدهما على الآخر، لكن لا يخفى اندفاعه بعد ثبوت ترجيح الدَّين.

نعم، يتمّ ذلك فيما لو استقرّ عليه الحَجّ سابقاً، فإنّ الحَجّ بعد ذلك لا يكون مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، ولكن إذا لم يتمكّن من الجمع بينهما بأداء الدَّين والحَجّ متسكّعاً، وإلّا فيجب ذلك.

أقول: فتحصّل ممّا ذكرناه:

1 - إذا كان الدَّين حالّاً، والمديون لا يرضى بالتأخير، يُقدَّم الدَّين، ويلحق بذلك ما لو كان الدَّين مؤجَّلاً ولا يسع الأجل لتمام المناسك والعود.

2 - وإنْ كان الدَّين حالّاً والمديون غير مطالب، بل كان راضياً بالتأخير، ففي

ص: 79

«المستند»: (حيث لا يكون مأموراً بالوفاء، فيبقى خطاب الحَجّ خالياً عن المعارض فيجب الحَجّ )(1).

أمّا صاحب «الجواهر» فإنّه بعد الحكم بعدم وجب الحَجّ في الحال، قال: (وإنْ لم يطالب به صاحبه الذي قد خوطب المديون بوفائه قبل الخطاب بالحجّ ) انتهى (2).

أقول: قد تقدّم أنّ السبق ليس من المرجّحات، وعليه فإنْ كان المديون واثقاً بتمكّنه من أداء الدَّين بعد الحَجّ ، أو في كلّ وقت طالبه الدائن، من دون أن يخلّ بالعود إلى الكفاية، وجب عليه الحَجّ ، لصدق الاستطاعة بالمعنى الذي ذكر لها في النصوص، ولا مانع عنه، وإلّا فلا يجب عليه، لعدم صدق الاستطاعة.

وعليه، فما في «المنتهى » من البناء على عدم الوجوب مطلقاً، مستدلّاً بعدم تحقّق الاستطاعة مع الحول(3)، ضعيفٌ .

3 - وإنْ كان الدين مؤجَّلاً:

فإنْ لم يسع الأجل تمام المناسك والعود، فقد مرّ حكمه.

وإنْ وسعها، فإنْ كان واثقاً بالتمكّن من أداء الدَّين في ظرفه، من دون أن يخلّ بسائر قيود وجوب الحَجّ ؛ كالرجوع إلى الكفاية وجب الحَجّ ، لصدق الاستطاعة، والوجوه المذكورة لعدم وجوبه تقدّمت عمدتها وما يرد عليها.

وممّا استدلّبه له ماذكره صاحب «المنتهى »، قال: (وتوجّه الضرر مع التأجيل)(4).

وفي محكي «المدارك» في رَدّ هذا الوجه: (ولمانعٍ أن يمنع توجّه الضرر في بعض الموارد، كما إذا كان الدين مؤجَّلاً أو حالّاً لكنّه غير مطالب به، وكان للمديون وجه).

ص: 80


1- مستند الشيعة: ج 11/43.
2- جواهر الكلام: ج 17/259.
3- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).
4- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).

للوفاء بعد الحَجّ ) انتهى (1).

ويرد عليه: مضافاً إلى ذلك:

أنّه إنْ اُريد توجّهه إلى المديون، فأيّ ضرر متوجّه إليه في هذا المورد لا يكون متوجّهاً إليه، لو كان له هذا المال ولم يكن مديوناً، فإنّه هناك يجب عليه الحَجّ ، مع أنّه ينفد ماله، فكذلك في المقام، غاية الأمر إنْ حصل له مالٌ بعد ذلك، يؤدّي دَينه منه، وإلّا فلا تسلّط عليه لوجوب النظرة.

وإنْ اُريد توجّهه إلى الدائن، فأيّ ضرر متوجّه إليه بعد فرض كون المديون واثقاً بالتمكّن من أداء دينه في ظرفه ؟ وإلّا لما كان يجوز صرفه في حوائجه، مع أنّه جائزٌ بلا كلام.

وأمّا ما في «المستند»: من الإيراد عليه:

تارةً : بأنّ هذا الضرر ممّا أقدم عليه، والضرر الناشئ من عمل المكلّف لا يمنع الأحكام التكليفيّة.

واُخرى : بأنّ الضرر يجب الحَجّ به مع وجود الدليل الشرعي كما في المقام.

وثالثة: بمنع كون ما بإزائه الثواب والدرجات الرفيعة ضرراً(2).

فغريبٌ : لا مجال لقبول دعواه رحمه الله.

إذ يرد على الأوّل: أنّ الإقدام على الضرر لا يمنع من إجراء حكمه، وهو دفع ما في مورده من الأحكام كما حُقّق في محلّه.

ويرد على الثاني: أنّه لم يرد دليلٌ شرعي في المقام يدلّ على وجوب الحَجّ حتّى مع الضرر، بل دليل نفي الضرر حاكمٌ على أدلّة وجوب الحَجّ .6.

ص: 81


1- مدارك الأحكام: ج 7/43.
2- مستند الشيعة: ج 11/46.

ويرد على الثالث: أنّ لازمه عدم رفع الضرر شيئاً من الأحكام التكليفيّة، كما لو كان الوضوء ضرريّاً، لعين ما ذكر من أن ما بإزائه الثواب لا يكون ضرراً.

وممّا استدلّ به على عدم الوجوب: الأخبار الدالّة على عدم الاستقراض للحجّ ، مع عدم مالٍ يفي بالقرض، كروايتي الواسطي(1) وموثّقة عبد الملك(2).

وفيه أوّلاً: أنّ موردها غير ما نحن فيه، فإنّ موردها الاستقراض للحجّ ، ومحلّ الكلام ما لو كان القرض لشيء آخر.

وثانياً: أنّها معارضة بأخبار اُخر كصحيحي ابن أبي عُمير(3)، وغيرهما(4).

وقد استدلّ ببعض وجوه اُخر بيِّن الفساد.

وأخيراً: إنْ لم يكن واثقاً بالتمكّن من أدائه في ظرفه، لا يجبُ الحَجّ ، لعدم صدق الاستطاعة، وتقدّم ما يمكن أن يستدلّ به للوجوب وما يرد عليه.

فرع: إذا كان عليه خمس أو زكاة، وكان عنده ما يكفيه للحجّ لولاهما:

فإن فرض تعلّقه بعين المال، كما إذا كانت العين المتعلّقة للخمس موجودة، وقلنا بتعلّقه بالعين لا بالذمّة، فلا إشكال في عدم وجوب الحَجّ ، إذ التعلّق بالعين - وإنْ كان بنحو الحقيّة لا الملكيّة - مانعٌ عن التصرّف فيها على خلاف مقتضى الحقّ .

وإنْ فرض تعلّقه بالذمّة، كما إذا كانت العين المتعلّقة له قد تلفت، فيصير ذلك دَيناً، فيجري فيه ما ذكرناه في الدين.

***6.

ص: 82


1- الكافي: ج 4/279، وسائل الشيعة: ج 11/141، ح 14473. وفي ذلك عدّة روايات؛ راجع الكافي: ج 4/279 (باب الرّجُل يستدين ويحجّ )، ووسائل الشيعة: ج 11/142، ح 14475 وغيره.
2- الكافي: ج 4/279، وسائل الشيعة: ج 11/141، ح 14471.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/441، ح 179، وسائل الشيعة: ج 11/140، ح 14467.
4- الكافي: ج 4/279 (باب الرّجُل يستدين ويحجّ )، وسائل الشيعة: ج 11/142، ح 14476.

حكم التصرّف في المال قبل خروج الرفقة

المسألة الخامسة عشرة: إذا حصل عنده مقدار ما يكفيه للحجّ ، جازَ له إتلاف الاستطاعة قبل أن يتمكّن من المسير، وقبل خروج الرفقة، وقبل أشهر الحَجّ بلا خلافٍ (1)، كما أنّ الظاهر التسالم على عدم جواز إتلاف الاستطاعة قبل مجيء وقت العمل، وبعد التمكّن من المسير، وخروج الرفقة في أشهر الحَجّ (2).

إنّما الكلام في باقي الصور:

قال صاحب «الدروس»: (لا ينفع الفرار بهبة المال أو إتلافه أو بيعه مؤجَّلاً، إذا كان عند سير الوفد) انتهى (3).

وفي «المنتهى »: (لو كان له مالٌ فباعه قبل وقت الحَجّ مؤجَّلاً إلى بعد فواته سقط الحَجّ - إلى أنْ قال - وكذا لو كان له مالٌ فوهبه قبل الوقت أو أنفقه) انتهى (4).

وقال صاحب «المدارك»: - بعد نقل ذلك عن «المنتهى » - (وينبغي أن يُراد بالوقت وقت خروج الوفد الذي يجب الخروج معه) انتهى (5).

أقول: وإنْ كان يؤيّده ما أفاده المصنّف في «التذكرة» بقوله: (لو كان له مالٌ فباعه نسيئةً عند قرب وقت الخروج إلى أجلٍ متأخّر عنه، سقط الفور في تلك السنة عنه، لأنّ المال إنّما يعتبر وقت خروج النّاس) انتهى (6).

ص: 83


1- حكاه السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/106، والسيّد الخوئي في كتابه الحَجّ : ج 2/25.
2- ذكره السيّد الخوئي في كتابه الحَجّ : ج 2/25.
3- الدروس: ج 1/312.
4- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).
5- مدارك الأحكام: ج 7/44.
6- تذكرة الفقهاء: ج 7/59، (ط. ج).

قال صاحب «الجواهر»: (ولا يخفى أنّ تحريم صرف المال في النكاح إنّما يتحقّق مع توجّه الخطاب بالحجّ ، وتوقّفه على المال، فلو صرف فيه قبل سير الوفد الذي يجب الخروج معه، أو أمكنه الحَجّ بدونه، انتفى التحريم قطعاً)(1).

وقد صرّح جملة من الأصحاب بأنّه لو كان عنده ما يحجّ به، فنازعته نفسه إلى النكاح، لم يجز صرفه في النكاح، كما تقدّم نقل كلماتهم، وتلك صريحة في أنّه لا يصحّ الفرار بتفويت الاستطاعة بعد توجّه الخطاب بالحجّ إليه، إلّاأنّ المصرّح به في كلمات الأكثر أنّ الميزان هو حضور وقت السفر، وخروج الرفقة.

وفي «العروة» جعل المدار على التمكّن من المسير(2)، وأضاف بعض الأساطين إلى التمكّن أن يكون قبل أشهر الحَجّ (3).

ثمّ إنّ جماعة منهم صرّحوا بأنّه مع عدم جواز التصرّف المُخرِج، لو تصرّف كان تصرّفه باطلاً، وعلى ذلك فتنقيح القول يتحقّق بالتكلّم في موارد:

الأوّل: في الدليل على عدم الجواز.

الثاني: في تعيّين ما عليه المدار.

الثالث: في أنّه هل يبطل ذلك التصرّف أم يكون حراماً فقط؟

الرابع: في أنّه لو فعل ذلك، فهل يكشف عن عدم وجوب الحَجّ عليه لفقد الاستطاعة بقاءً ، وهي شرط فيه حدوثاً وبقاء أم لا؟

أمّا المورد الأوّل: فقبل بيان ما هو الحقّ فيه، لابدّ وأن يعلم أنّ محلّ الكلام ما إذا0.

ص: 84


1- جواهر الكلام: ج 17/261.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/105.
3- لعلّ المراد به المحقّق آقا ضياء الدِّين العراقي في تعليقته على العروة الوثقى: ج 4/220.

كان التصرّف المُتلِف للاستطاعة موجباً لعدم التمكّن من الحَجّ ولو متسكّعاً أو بالخدمة، وإلّا فلا ريب في جوازه وإنْ بقي وجوب الحَجّ ، إذ من يجب عليه الحَجّ لا يجبُ عليه أن يحجّ بعين ماله من المال.

ثمّ بعد ذلك، قد يتوهّم أنّه لا وجه لعدم الجواز، فإن الاستطاعة شرط لوجوب الحَجّ ، وبديهي أنّ الوجوب المشروط كما لا يقتضي إيجاد شرطه لا يقتضي حفظه وإبقاءه، ألا ترى أنّه يجبُ الصوم على الحاضر، ولا يجب تحصيل ذلك ولا حفظه بعد حصوله، وكذا يجب القصر على المسافر، ولا يجب تحصيل القيد، ولا يحرم إعدامه إنْ كان حاصلاً.

وبالجملة: ثبت ممّا ذكرنا أنّ الدليل المتكفّل لبيان الكبرى لا يقتضي لزوم حفظ الصغرى، والموضوع من الواضحات.

وقد استدلّ لعدم الجواز بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع.

وفيه: ماعرفت مراراً من أنّ الإجماعات التي تكون مداركها معلومة أو محتملة، لا تكون تعبّديّة كاشفة عن رأي المعصوم عليه السلام، فليست بحجّة.

الوجه الثاني: أنّه لو جاز إتلاف المال، لزم لغويّة تشريع الحَجّ ، لجواز إخراج كلّ مستطيعٍ نفسه عن تحت عنوان المستطيع.

وفيه: أنّه لا داعي لكلّ أحدٍ من المستطيعين سيّما من له ثروة وسعة في المال إتلاف ماله، فراراً عن وجوب الحَجّ ، كيف وقد نرى أنّ جمعاً من المتدينين، يسعون في جمع المال لزيارة بيت اللّه الحرام.

الوجه الثالث: أنّ العقل مستقلٌ بحرمة المقدّمة المفوتة، فلو أعجز نفسه في

ص: 85

الوقت عن الصلاة أو عن الطهارة فإنّه وإنْ سقط التكليف للعجز، لكنّه يكون عاصياً بتفويته الملاك الملزِم.

وبعبارة أُخرى : بنظر العقل كما يحرم مخالفة المولى ، ويصحّ العقاب عليها، كذلك يحرم تفويت الملاك الملزم في نفسه، فلو كان المولى عطشاناً أو علم العبد بأنّه سيعطش، وكان معه الماء فأراقه، مع العلم بأنّه لا يوجد ماء آخر، لا إشكال في تقبيح العقلاء هذا العبد، ولو عاقبه المولى يرون عقابه صحيحاً وفي محلّه، وعليه ففي المقام من استطاع وصار الحَجّ في حقّه ذا ملاكٍ ملزم، لو أتلف المال وأعجز نفسه عن الحَجّ ، كان ذلك تفويتاً للملاك الملزم في نفسه، فيكون حراماً.

وفيه: إنّ هذا البيان يتمّ في ما إذا كان الشرط والقيد دخيلان في المكلّف به برغم عدم دخلهما في الملاك، كالقدرة العقليّة غير الدخيلة في الملاك، الدخيلة في الخطاب لقبح تكليف العاجز، فإنّه يلزم من التعجيز - أي تعجيز المكلّف نفسه - تفويت الملاك الملزم، ويكون ذلك بسوء اختياره.

وأمّا القيود الدخيلة في الملاك، التي هي من قيود الموضوع قهراً، فإعدامها وإذهابها وتفويتها ليس بحرام، لأنّه لا يلزم منه تفويت الملاك، كما مرّ، والمقام من هذا القبيل، فإنّ الاستطاعة المفسّرة بالزاد والراحلة، موضوعة لوجوب الحَجّ ، ولذا لا يجب تحصيلها، وعليه فهذا البيان لا يجري فيها.

ما ذكره بعض المعاصرين: من أنّ الاستطاعة حدوثاً من قيود الموضوع، ولكن بقاءً ليست كذلك، بل الاستطاعة آناً مّا موجبة لتحقّق الوجوب، واستظهر ذلك من قوله تعالى : (مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (1) وقال:

(الفرق بين هذا التعبير والتعبير بأنّه يجبُ الحَجّ على المستطيع ظاهر، فإنّ7.

ص: 86


1- سورة آل عمران: الآية 97.

التعبير الأوّل ظاهرٌ في أنّ الاستطاعة آنا مّا موجبة لتحقّق الوجوب، وظاهر الثاني إناطة الحكم بالوصف حدوثاً وبقاءً ، فإتلاف الاستطاعة وتعجيز نفسه تفويتٌ للملاك، ومخالفة للتكليف، فيكون حراماً)(1).

يرد عليه: أنّ الظاهر من كلّ قيدٍ مأخوذ في التكليف بنحو شرط الوجوب، كونه قيداً له حدوثاً وبقاءً ، ولذا اشتهر في ألسنة المتأخّرين رجوع القضايا الحقيقة المتكفّلة للأحكام الشرعيّة إلى قضايا شرطيّة، مقدّمها وجود الموضوع، وتاليها ترتّب الحكم، ورجوع القضيّة الشرطيّة إلى القضيّة الحقيقيّة المتكفّلة لإثبات الحكم على فرض وجود الموضوع.

أقول: وبما ذكرناه ظهر أنّه لا يمكن تصحيح ذلك بالواجب المعلّق، بأن يقال:

إنّ الحقّ صحّته، وعليه فبمجرّد تماميّة الاستطاعة وتحقّقها، يحكم بوجوب الحَجّ عليه، فيحكم بوجوب حفظ ماله لتحقّق موضوعه مقدّمةً للعمل إذا توقّف الحَجّ عليه، فإنّه لا يزيد الواجب المعلّق على الواجب المنجز، وفي المنجز بعد فعليّة الحكم، فإنّه لا محذور من إعدام الموضوع، إذ لا يعدّ مخالفة للتكليف، ولا تفويتاً للملاك، ولذا لا يحرم السفر على الحاضر بعد فعليّة وجوب التمام، ولا السفر بعد فعليّة الأمر بالصوم، وفي المقام بما أنّ المفروض أنّ الاستطاعة من قيود الموضوع وشرائط الوجوب، فالالتزام بالواجب المعلّق أيضاً لا يفيد.

والحقّ في المقام: ما أفاده بعض أعاظم العصر، وهو أنّ الظاهر من أدلّة اعتبار الاستطاعة في وجوب الحَجّ ، أنّ الاستطاعة التي لو لم يتلفها عمداً، لكانت تبقي بلا احتياج إلى صرفها في مؤونة نفسه وعياله، تكون قيداً ومعتبرةً في وجوب الحَجّ ،).

ص: 87


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/106، قوله: (اللّهُمَّ إلّاأن يُقال...).

وهذه الاستطاعة قيد حدوثاً وبقاءً ، وعليه فحيث إنّ الاستطاعة بهذا المعنى لا تتلف بإتلاف المال فإتلافه ليس إعداماً للموضوع، بل بعد إتلافه يكون الموضوع باقياً، فيصحّ التمسّك بحكم العقل المتقدّم من حرمة المقدّمة المفوتة، أو الالتزام بالواجب المعلّق لإثبات عدم جوازه، وهذا وإنْ كان متيناً ثبوتاً، إلّاأنّه لم يذكر ما يثبت إرادة هذا المعنى في مقام الإثبات(1).

أقول: ويمكن أن يستدلّ له بتسالم الأصحاب على عدم جواز إتلاف المال، وبتسالمهم على تقديم الحَجّ على النكاح إنْ لم يكن في ترك النكاح مشقّة ولا خوف الوقوع في الحرام، وغير ذلك من الفروع التي لا يتمّ ما ذكره الأصحاب فيها إلّا بذلك، واللّه العالم.

المورد الثاني: وهو أنّه بعد فرض عدم جواز إتلاف المال:

هل يُحكم بذلك من أوّل السنة ؟

أو يكون المعيار خروج الرفقة كما هو الظاهر من الأصحاب ؟

أو التمكّن من المسير كما أفاده سيّد «العروة»(2)؟

وعلى كلّ من التقديرين الأخيرين:

هل المعيار خروج الرفقة ؟ أو التمكّن من المسير في خصوص أشهر الحَجّ؟

أو المعيار ذلك وإنْ لم يكن فيها؟

وعلى التقدير الأوّل منهما: هل المعيار خروج القافلة الأُولى أو الأخيرة ؟ وجوهٌ وأقوال.).

ص: 88


1- الظاهر أنّ المراد به السيّد الخوئي في كتابه الحَجّ : ج 1/130.
2- العروة الوثقى: ج 4/383 و 384، (ط. ج).

أقول: وحق القول في المقام:

1 - إنّه لو بنينا على صحّة الواجب المعلّق، كان المتعيّن هو اختيار ما ذهب إليه في «العروة»، وذلك لأنّ ظاهر الأدلّة أنّ موضوع فعليّة الوجوب هو الاستطاعة، والتمكّن من المسير، من غير فرق بين أشهر الحَجّ وغيرها، فلو كان له زادٌ وراحلة، وكان متمكّناً من المسير، وتحقّقت سائر الشرائط، أصبح وجوب الحَجّ فعليّاً، فلا يجوز تعجيز نفسه.

2 - وأمّا لو التزمنا بامتناعه:

فعلى القول بوجوب المقدّمة التي يلزم من تركها فوت الواجب فكذلك، وهو واضح.

وعلى القول بعدم وجوبها، فمقتضى القاعدة جعل المدارخصوص خروج القافلة الأخيرة، اقتصاراً فيما خالف القاعدة على المقدار المتيقّن، وهو ما إذا تضيّق الوقت بسير القافلة الأخيرة، فإنّ حرمة الإتلاف، وعدم جوازه بعدما ضاق الوقت من الواضحات، فلابدّ من مخالفة القاعدة فيه.

وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام.

المورد الثالث: فعلى القول بعدم جواز التصرّف المتلف للمال المخرج إيّاه عن ملكه، هل يبطل ذلك التصرّف، فلو وهب ماله مثلاً لايصير ملكاً للمتّهب، أم يصحّ؟

وجهان؛ مقتضى القاعدة هو الثاني، لأنّ الذي دلّ عليه الدليل هو وجوب إبقاء المال وجوباً مقدميّاً، وقد حُقّق في محلّه أنّ وجوب المقدّمة عقلي لا شرعي(1).

مع إنّه لو سُلّم كونه شرعيّاً، فإنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، فلا يكون).

ص: 89


1- راجع زبدة الأصول،: ج 1 مباحث مقدّمة الواجب، ومصباح الفقاهة للسيّد الخوئي: ج 2/439، (ط. ج).

الإتلاف حراماً. أضف إلى ذلك أنّ النهي عن المعاملة إنْ لم يكن إرشادياً ولا نهياً عن الآثار - كالتصرّف في الثمن - لا يستلزم فسادها، كان النهي متعلّقاً بالاعتبار النفساني، أو ما يكون مظهراً إيّاه من قولٍ أو فعل، أو بعنوان خارجي منطبق عليه، كما حُقّق في الاُصول(1)، وبيّناه في أوّل الجزء الأوّل من كتابنا «منهاج الفقاهة»(2).

وعليه، ففي المقام بما أنّ حرمة التصرّف لو ثبتت ليست من قبيل أحد الأولين، فلا تستلزم فساده.

المورد الرابع: وهو أنّه لو فعل ذلك وأخرج المال عن ملكه، فهل يكشف عن عدم وجوب الحَجّ عليه أم لا؟

أقول: بناءً على ما اخترناه في وجه حرمة التصرّف المُتلِف، يكون وجوب الحَجّ باقياً، فإنّ القيد هو الاستطاعة التي لو لم يتلفها عمداً لكانت باقية، فهي بعد الإتلاف باقية فيجبُ الحَجّ ، وكذلك بناءً على الوجه الثاني، بل الأوّل أيضاً.

أقول: وقد استدلّ على بقاء وجوبه بوجهين آخرين:

الوجه الأوّل: أنّ النصوص الدالّة على تقديم الحَجّ على الدَّين، المتقدّمة في المسألة المتقدّمة، تدلّ عليه، بتقريب أنّه لو كان ينتفي وجوب الحَجّ بإتلاف المال عمداً، لم يكن وجهٌ لتقديم الحَجّ ، لإمكان أن يؤدّي دينه بماله، ويوجب ذلك انتفاء وجوب الحَجّ ، فتلك الأخبار كاشفة عن عدم سقوطه.

وفيه أوّلاً: ما عرفت ما في تلك الأخبار، وأنّه لا يقدّم الحَجّ على الدَّين.

وثانياً: أنّه يمكن أن يكون وجه تقديمه، عدم جوازالتصرّف المتلف للاستطاعة، الموجب لسقوط وجوب الحَجّ لا بقاء وجوب الحَجّ .0.

ص: 90


1- زبدة الاصول: ج 3/106.
2- منهاج الفقاهة: ج 4/130.

الوجه الثاني: جملة من النصوص المصرّحة بذلك:

منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا قدر الرّجُل على ما يحجّ به، ثمّ دفع ذلك وليس له شغل يعذره به، فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام»(1).

فإنّ قوله: (ثمّ دفع ذلك) ظاهرٌ في إرادة دفع ما حصل له من المال.

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، عنه عليه السلام: «من قدر على ما يحجّ به، وجعل يدفع ذلك، وليس له شغلٌ يعذره اللّه فيه، حتّى جاء الموت، فقد ضيّع شريعةً من شرائع الإسلام»(2).

وفيه: الظاهر من دفع ذلك، سيّما بقرنية قوله عليه السلام: (وليس له شغلٌ يعذره) في الصحيح، وكلمة (جعل) في الخبر، عدم العمل وترك الحَجّ ، فيكونان أجنبيّين عن المقام.

***8.

ص: 91


1- تهذيب الأحكام: ج 5/18، ح 54، وسائل الشيعة: ج 11/26، ح 14152.
2- الفقيه: ج 2/448، ح 2936، وسائل الشيعة: ج 11/28، ح 14158.

كفاية الملكيّة المتزلزلة في الاستطاعة

المسألة السادسة عشرة: هل تكفي الملكيّة المتزلزلة للزاد والراحلة وغيرهما، كما إذا صالحه شخصٌ بما يكفيه للحجّ ، بشرط الخيار له إلى مدّة معيّنة، أم لا؟

أم يفصّل بين ما يبقى تزلزله بعد التصرّف كما في المثال فلا يكفي، وبين ما يصبح لازماً بتصرّف المالك كما في الهبة من غير ذي رحمٍ فيكفي ؟

وجوهٌ بل أقوال، فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: فيما يبقى على تزلزله.

مقتضى إطلاق الأدلّة هو الكفاية، فإنّ الاستطاعة فسّرت بالزاد والراحلة، وهما موجودان في الفرض، واحتمال الزوال بأن يفسخ من له ذلك كاحتمال التلف في مورد الملكيّة اللّازمة، يندفع بالأصل، وهو استصحاب البقاء، بناءً على جريانه في الأمر الاستقبالي.

وبذلك يظهر أنّ ما استدلّ به سيّد «العروة» لعدم الكفاية بأنّه لا تصدق الاستطاعة، لأنّ الملكيّة في معرض الزوال(1)، غير تامّ .

وإنْ شئت قلت: إنّ الاستطاعة الواقعيّة ثبوتاً تدور مدار بقاء الملكيّة، كما هو كذلك في مورد الملك اللّازم، فكما أنّه يستكشف هناك عدم الاستطاعة من الأوّل لو تلف الملك، كذلك في المقام لو فسخ ينكشف عدم الاستطاعة، ولو لم يفسخ يظهر وجودها واقعاً، وأمّا في مقام الإثبات ففي كلا المقامين المثبت لها ظاهراً ببقاء الملك وعدم الرافع من التلف أو الفسخ هو الأصل.

ص: 92


1- العروة الوثقى: ج 2/441، (ط. ق).

المقام الثاني: فيما يزول تزلزله بالتصرّف:

فعلى القول بوجوب الحَجّ في المقام الأوّل، فالحكم في هذا المقام ظاهر.

وأمّا على القول الآخر، فقد يقال إنّه يمكن القول بوجوب الحَجّ في هذا المقام، بأن يقال إنّ له التصرّف في الموهوب له فتلزم الهبة، كما في «العروة»(1).

لكن يرد عليه: أنّ التزلزل إنْ كان مانعاً عن صدق الاستطاعة، فرفع ذلك بالتصرّف الموجب للّزوم والمحصل للاستطاعة لا يكون واجباً أيضاً قطعاً.

أقول: والحقّ ما عرفت من عدم مانعيّة التزلزل من صدق الاستطاعة، فإنّ وجود الزاد والراحلة محرزٌ بالوجدان، ويمكن إحراز بقاؤهما بالأصل، وبضمّ الوجدان إلى الأصل يحرز الموضوع.

***1.

ص: 93


1- العروة الوثقى : ج 2/441.

اعتبار مؤونة العيال في الاستطاعة

المسألة السابعة عشرة: المشهور بين الأصحاب أنّه يعتبر في الاستطاعة - مضافاً إلى مؤونة الذهاب والإياب - وجود ما يموّن به عياله حتّى يرجع إليهم، ومع عدمه لا يكون مستطيعاً.

بل قال صاحب «الجواهر»: (بلا خلافٍ أجده، بل ربما ظهر من بعضهم الإجماع عليه) انتهى (1).

وفي «المنتهى »: (ولا نعرف في ذلك خلافاً)(2).

وفي «الحدائق»: (الحكم اتّفاقيٌ لا خلاف فيه)(3).

وفي «المستند»: (بالإجماع المحقّق والمحكي)(4).

أقول: يقع البحث في موردين:

الأوّل: في الدليل الدالّ على اعتبار ذلك.

الثاني: في أنّه هل يختصّ بواجبي النفقة أم لا؟

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع، وقد مرّ الكلام والمناقشة في مثل هذه الإجماعات.

الوجه الثاني: ما في «المنتهى »، قال: (لأنّ نفقتهم واجبة عليه، وهي حقّ الآدمي،

ص: 94


1- جواهر الكلام: ج 17/273.
2- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).
3- الحدائق الناضرة: ج 14/124.
4- مستند الشيعة: ج 11/34.

فيكون مقدّماً على الحَجّ ، لأنّ حقّ الآدمي سابقٌ ) انتهى (1).

أقول: إنْ كان نظره الشريف إلى أنّ النفقة حقّ النّاس، والحَجّ حقّ اللّه، وعند التزاحم يُقدّم الأوّل، فقد تقدّم في المسألة الرابعة عشرة أنّ ذلك وإنْ اشتهر إلّاأنّه لا أصل له.

وإنْ كان مراده أنّ وجوب النفقة سابقٌ على وجوب الحَجّ ، فيكون مقدّماً، كما استند إلى ذلك في «الجواهر»(2)، فيرد عليه أنّ سبق الوجود لا يكون من مرجّحات باب التزاحم، كما حُقّق في محلّه.

الوجه الثالث: أنّ حفظ نفس العيال متوقّفٌ على الإنفاق، ولا ريب في أنّه مقدّم على الحَجّ .

وفيه: أنّ هذا أخصّ من المدّعى، فإنّ المدّعى والمقصود إثبات اعتبار نفقة العيال في صدق الاستطاعة، وتحقّقها مطلقاً سواءٌ لزم من ترك الإنفاق تلف نفوسهم أم لا.

الوجه الرابع: أدلّة نفي العُسر والحَرَج، فإنّ إبقاء العيال بلا مؤونة في زمان غيبته والسفر إلى الحَجّ عَسِرٌ وحَرَجي لكلّ أحدٍ بلا كلام.

لا يقال: إنّ الحَجّ ليس حَرَجيّاً وعَسِراً، بل الملازم له كذلك، وأدلّة نفي العُسر والحَرَج تختصّ بما إذا كان متعلّق التكليف عسراً وحَرَجيّاً.

فإنّه يقال: قد مرّ في بعض المسائل المتقدّمة أنّ المنفي بها ليس خصوص موضوعات الأحكام، لتكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، بل المنفيّ3.

ص: 95


1- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).
2- جواهر الكلام: ج 17/273.

أعمّ من ذلك، ومن كلّ حكمٍ أوجب الحَرَج، وفي المقام الحَجّ وإنْ لم يكن حَرَجيّاً إلّا أنّ وجوبه موجبٌ للوقوع فيه فيكون منفيّاً.

الوجه الخامس: استفادة ذلك من جملة من الأخبار:

منها: خبر أبي الربيع الشّامي - الذي رواه المشايخ الثلاثة الآتي بتمامه في مسألة الرجوع إلى الكفاية الآتية - في تفسير آية الحَجّ (1)، حيثُ قال عليه السلام: «السِّعة في المال إذا كان يحجّ ببعضٍ ويُبقي بعضاً لقوت عياله»(2).

ومنها: مرسلة الطبرسي الآتية، قال في تفسير الآية: «المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام أنّه الزاد والراحلة، ونفقة من تلزمه نفقته»(3).

ومنها: خبر الأعمش، عن جعفر بن محمّد عليهما السلام، في حديث شرائع الدِّين، قال عليه السلام: «وحجّ البيت واجبٌ على من استطاع إليه سبيلاً، وهو الزاد والراحلة مع صحّة البدن، وأن يكون للإنسان ما يخلفه على عياله، الخبر»(4).

ومنها: غير ذلك ممّا سيمرّ عليك في المسألة الآتية.

وبالجملة: فالحكم كما أفادوه خالٍ عن الإشكال.

وأمّا المورد الثاني: فمقتضى إطلاق بعض الأخبار، عدم الاختصاص بواجبي النفقة شرعاً، بل ولا بواجبي النفقة عرفاً، فإنّ قوله: (ويُبقي بعضاً لقوت عياله)، مطلقٌ شاملٌ لكلّ من يعدّ من العيال، ولو كان أجنبيّاً تكفّل الإنفاق عليه.

فإنْ قيل: إنّه يقيّد إطلاق ذلك بما في المرسل المروي عن «المجمع».5.

ص: 96


1- سورة آل عمران: الآية 97.
2- الفقيه: ج 2/418، ح 2858، وسائل الشيعة: ج 11/37، ح 14180 و 14181.
3- وسائل الشيعة: ج 11/39، ح 14184.
4- وسائل الشيعة: ج 11/38، ح 14183، الخصال: ج 2/605.

قلنا: - مضافاً إلى ضعف سنده - أنّه لا يحمل المطلق على المقيّد في المتوافقين، إذ لا تنافي بينهما، كما أنّ مقتضى أدلّة نفي العُسر والحَرَج ذلك كما لا يخفى .

وعليه، فما في «المنتهى » المشترط في الفاضل: (أن يكون نفقة عياله الذين يجب عليه نفقتهم، أمّا من يستحبّ له فلا، لأنّ الحَجّ فرضٌ فلا يسقط بالنقل)(1)، غير تامّ على ما اخترناه وجهاً لهذا الحكم، وأمّا على ما استدلّ هو قدس سره فتامٌّ ، راجع الوجه الثاني.

والظاهر أنّ ما عن «الدروس»(2)، و «المدارك»(3) أيضاً من دعوى الاختصاص بواجبي النفقة إنّما يكون لذلك.

***).

ص: 97


1- منتهى المطلب: ج 2/653، (ط. ق).
2- الدروس: ج 1/313.
3- مدارك الأحكام: ج 7/51 قوله: (والمراد بعياله الواجبي النفقة).

اشتراط الرجوع إلى الكفاية

المسألة الثامنة عشرة: اختلف علماؤنا في الرجوع إلى الكفاية على قولين:

القول الأوّل: ما عن المفيد(1)، وابن البرّاج(2)، وأبي الصّلاح(3)، والشيخ(4)، وابني زُهرة(5)، وحمزة(6) وسعيد(7)، وظاهر الصدوق(8): من أنّه شرط في وجوب الحَجّ .

وفي «المستند»: (الحقّ اشتراط الرجوع إلى ضيعةٍ أو بضاعةٍ أو عقارٍ أو نحوها ممّا يكون فيه الكفاية عادةً ، بحيث لا يحوجه صرف المال في الحَجّ إلى السؤال بعد العود، وفاقاً للشيخين والحِلّي والقاضي وابني زُهرة وحمزة وسعيد، وهو ظاهر الصدوق أيضاً)(9).

وفي «المسالك»: (إنّه مذهب أكثر المتقدّمين)(10).

وفي «الروضة»: (إنّه المشهور فيهم)(11).

وفي «المختلف» ذلك، وقد نقله السيّد عن الأكثر(12).

ص: 98


1- المقنعة: ص 385.
2- القاضي في شرح جمل العلم والعمل: ص 205.
3- الكافي في الفقه: ص 192.
4- الخلاف: ج 2/245.
5- الغنية: ص 153.
6- الوسيلة: ص 155.
7- الجامع للشرائع: ص 173.
8- الفقيه: ج 2/259.
9- مستند الشيعة: ج 11/35.
10- مسالك الأفهام: ج 1/92.
11- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/168.
12- مختلف الشيعة: ج 4/5.

وعن «الخلاف»(1)، و «الغُنية»:(2) (إجماع الإماميّة عليه).

القول الثاني: وعن غير واحدٍ أنّه لا يشترط:

ففي «المنتهى »: (وقال السيّد المرتضى إنّه ليس شرطاً. وبه قال ابن إدريس وابن أبي عقيل وأكثر الجمهور، وهو الأقوى )(3) انتهى .

وفي «التذكرة»: (وقال أكثر علمائنا لا يشترط الرجوع إلى كفاية. وهو قول الشافعي، وهو المعتمد)(4).

وعن «المعتبر»: (الرجوع إلى الكفاية ليس شرطاً، وبه قال أكثر الأصحاب)(5).

وفي «الجواهر»: (وقيل والقائل المرتضى وابن إدريس وابنا أبي عقيل والجُنيد والمتأخّرون، لا يشترط، بل نَسَبه غير واحدٍ إلى الأكثر، بل الشهرة، ومع هذا الاختلاف وذهاب جمع من الأساطين إلى عدم الاشتراط لا وجه لدعوى الإجماع عليه)(6).

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ لعدم الاشتراط، بصدق الاستطاعة بدونه، فمقتضى إطلاق الأدلّة عدم اعتباره، وأمّا اشتراط وجوده فقد استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع، وقد مرّ ما فيه.

الوجه الثاني: الأصل، وهو أصالة البراءة عن وجوب الحَجّ مع عدم وجوده.8.

ص: 99


1- الخلاف: ج 2/246.
2- غنية النزوع: ص 153.
3- منتهى المطلب: ج 2/657 (ط. ق).
4- تذكرة الفقهاء: ج 7/58.
5- المعتبر: ج 2/756.
6- جواهر الكلام: ج 17/308.

وفيه: أنّه لا يرجع إليه مع إطلاق الأدلّة.

الوجه الثالث: لزوم الحَرَج والمشقّة لو حجّ بما عنده، مع عدم وجوده، فمقتضى أدلّة نفي العُسر والحَرَج سقوط وجوب الحَجّ ، فكما أنّ مقتضاها استثناء المستثنيات - كما مرّ - واعتبار مؤونة العيال، كذلك مقتضاها اعتبار الرجوع إلى الكفاية.

وما في «التذكرة» من أنّ المشقّة ممنوعة، لأنّ اللّه هو الرزّاق(1)، مغالطة واضحة، فإنّ رازقيّته تعالى لا تنافي الوقوع في الحَرَج والمشقّة لو صرف ما عنده.

الوجه الرابع: جملة من النصوص:

منها: خبر أبي الربيع الشامي الذي رواه المشايخ الثلاثة مسنداً: «سُئل أبو عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (2)؟

فقال عليه السلام: ما يقول النّاس ؟ قال، فقلت له: الزاد والراحلة.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: قد سُئل أبو جعفر عليه السلام عن هذا فقال: هلك النّاس إذاً، لئن كان من كان له زادٌ وراحلة قدر ما يقوت به عياله، ويستغني به عن النّاس ينطلق إليهم فيسلبهم إيّاه، لقد هلكوا إذاً!

فقيل له: فما السبيل ؟ قال، فقال عليه السلام: السّعة في المال إذا كان يحجّ ببعضٍ ، ويُبقي بعضاً لقوت عياله، الحديث»(3).

ورواه المفيد رحمه الله في محكي «المقنعة»، وزاد فيها في روايته عنه بعد قوله:

ويستغني به عن النّاس: (يجب عليه أن يحجّ بذلك، ثمّ يرجع فيسأل النّاس بكفّه، لقد1.

ص: 100


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/58.
2- سورة آل عمران: الآية 97.
3- الفقيه: ج 2/418، ح 2858، وسائل الشيعة: ج 11/37، ح 14180 و 14181.

هَلَك النّاس إذاً)، ثمّ ذكر تمام الحديث، وقال فيه: (يقوت به نفسه وعياله)(1).

أقول: قد أورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّه ظاهرٌ في مؤونة العيال حال السفر.

وفيه: إنّ النسخة الثانية برواية المفيد رحمه الله ظاهرة لو لم تكن صريحة في اعتبار مؤونة العيال والرجوع إلى الكفاية، فإنّ قوله فيها: (ثمّ يرجع فيسأل النّاس بكفّه) دالٌّ على ذلك، وكذا قوله: (ويُبقي البعض يقوت به نفسه وعياله) ظاهرٌ في وقت الرجوع، وإلّا فكيف يقوت نفسه بذلك البعض الباقي، مع أنّه خرج إلى الحَجّ .

أقول: وأمّا النسخة الأُولى التي رواها المشائخ الثلاثة مسنداً، ففيها احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أنْ يكون المرد إبقاء مقدارٍ من المال لقوت عياله حتّى بعد رجوعه من الحَجّ ، فالمقصود هو ما يقوت به نفسه وعياله، وعليه فهذا الاحتمال يدلّ على اعتبار الرجوع إلى الكفاية.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد إبقاء قوت عياله في مدّة غيبته، وعليه فيدلّ على اعتبار مؤونة العيال، ولهذا قيل إنّ الخبر بناءً على ما رواه المشائخ الثلاثة مجملٌ .

ودعوى : أنّ قوله عليه السلام: (السّعة في المال) يعيّن الاحتمال الأوّل.

ممنوعة: لأنّه قد فسّرت السّعة في الخبر نفسه بقوله: (إذا كان يحجّ ... إلى آخره).

ولكن يمكن أنْ يرجّح الاحتمال الأوّل، بل يقال إنّ الظاهر من الخبر، بقرينة قول أبي جعفر عليه السلام: (من كان له زادٌ وراحلة قدر ما يقوت به عياله ويستغني به عن النّاس... الخ)، أنّ مورد الكلام ما لو كان له ما يستغني به عن النّاس، وهو عبارة اُخرى عن وجود ما به الكفاية بقول مطلق، لا خصوص أيّام السفر، ويكون بحيث4.

ص: 101


1- المقنعة: ص 384.

لو حجّ ببعض ما عنده يسلب ذلك عنهم، ويلزم منه عدم الرجوع إلى الكفاية، فقال عليه السلام في هذا المورد لا يجب الحَجّ ، وإنّما يجبُ إذا كان له ما يبقي لقوت عياله. وهو الرجوع إلى الكفاية، فتأمّل حتّى لا تبادر بالإشكال.

مع أنّه لو سُلّم إجمال هذه النسخة، فإنّه يمكن الاعتماد على النسخة الثانية المبيّنة والتي لا معارض لها، بل لو فرضنا ظهورها في اعتبار مؤونة العيال، أمكن القول بتقديم النسخة الثانية، سواءٌ أكانت هي رواية اُخرى أم كانتا معاًرواية واحدة.

أمّا على الأوّل: فلأنّ ما رواه المشائخ الثلاثة حينئذٍ مطلق، ولا يدلّ على عدم اعتبار الرجوع إلى الكفاية، وما رواه المفيد مقيّد ودالٌّ على اعتباره فيحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا على الثاني: فلما حُقّق في محلّه من الاُصول، من أنّه إذا نقل الخبربنحوين، وكان في أحدهما زيادة، يُبني على صدور الزيادة، ويرجّح احتمال النقيصة على احتمال الزيادة، وحيثُ إنّ خبر المفيد مشتملٌ على زيادة، بها صار ظاهراً في اعتبار الرجوع إلى الكفاية، يكون هو المعتمد.

الإيراد الثاني - وهو ما عن «المدارك»(1) و «الذخيرة»(2) - من أنّ أقصى ما يستفاد منه اعتبار بقاء شيء بعد الحَجّ والرجوع، وهو لا يدلّ على كونه بقدر الكفاية على الوجه المتنازع فيه، فيحتمل أن يكون المراد به قوت السنة له ولعياله، إذ ذلك كافٍ في عدم السؤال، وحصول الغنى الشرعي به.

وأجاب عنه صاحب «المستند» بقوله: (ويدلّ على المطلوب أيضاً ما مرّ من9.

ص: 102


1- مدارك الأحكام: ج 7/79.
2- ذخيرة المعاد: ج 3/559.

الإجمال في العمومات والمطلقات الموجب للرجوع) انتهى (1).

والظاهر أنّ مراده أنّه إذا كان هذا الدليل مُجملاً، سرى إجماله إلى العمومات والمطلقات، فلابدَّ فيها من الأخذ بالمتيقّن، وهو وجوب الحَجّ مع الرجوع إلى الكفاية، وفي غير ذلك أصالة البراءة هي المرجع.

ويرد عليه: ما حقّقناه في محلّه من أنّ المُخصّص المنفصل لا يسري إجماله إلى العام، بل العام حجّة في غير مورد حجيّة المخصّص، وهو المورد المتيقّن دخوله تحت المخصّص.

وبالجملة: فالأولى أن يقال - مضافاً إلى ما ذكروه من أنّه بعد اعتبار بقاء شيء بعد الحَجّ والرجوع، يثبت المطلوب بالإجماع المركّب - أنّ ظاهر قوله: (يُبقي بعضاً يقوت به نفسه وعياله) إرادة ما يستمرّ تحصيل القوت منه.

الإيراد الثالث: أنّ سند هذا الحديث ضعيفٌ لوجود أبي الربيع الشامي.

وفيه: - مضافاً إلى ما عن المولى الوحيد رحمه الله من أنّه من الحسان عند خالي وهو المجلسي الثاني، ومضافاً إلى اعتماد الأصحاب عليه في المقام لاستدلالهم به، وإلى نقله المشائخ الثلاثة - أنّ في سنده ابن محبوب، وهو من أصحاب الإجماع.

الإيراد الرابع: ما ذكره بعض المعاصرين في خبر المفيد، بقوله: (مع أنّ منصرف الحديث صورة العجز على نحوٍ يؤدّي إلى الهلاك)(2).

وفيه: أنّ قوله عليه السلام: (لقد هَلَك النّاس) إذا اُريد به أنّه إذا كان الحَجّ واجباً على مثل هذا الشخص، كان أكثر النّاس ممّن يجبُ عليهم الحَجّ ، ممّا يقتضي هلاكهم2.

ص: 103


1- مستند الشيعة: ج 11/36.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/162.

بتركهم إيّاه، فلا ربط له بما أفاده.

وعليه، فلا إشكال في الخبر سنداً ودلالة.

أقول: هناك بعض الأخبار التي استدلّ بها لذلك:

منها: خبر الأعمش، عن جعفر بن محمّد عليهما السلام في تفسير السبيل: «هو الزاد والراحلة، مع صحّة البدن، وأن يكون للإنسان ما يخلفه على عياله، وما يرجع إليه بعد حجّه»(1).

والإيراد عليه: بإجمال ما يرجع إليه بعد حجّه، من حيث المدّة، وأنّها سَنة أو أقلّ أو أكثر، ومن حيث الكم أنّه قليلٌ أو كثير، تقدّم الجواب عنه.

ومنها: ما عن «مجمع البيان» في تفسير الآية الكريمة، المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام:

«أنّه الزاد والراحلة، ونفقة من تلزم نفقته، والرجوع إلى كفاية إمّا من مالٍ أو ضياعٍ أو حرفة، الحديث»(2).

ولكن يرد عليه: أنّ ظاهره بيان مضمون الأخبار بحسب فهم الناقل، وهو غير الحجّة علينا، فضلاً عن أنّه وسابقه ضعيفان من حيث السند.

أقول: وقد استدلّ لاعتباره بطوائف اُخر من النصوص:

منها: ما تضمّن اعتبار اليسار، كخبر عبد الرحيم القصير المتقدّم، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «سأله حفص الأعور وأنا أسمع عن قول اللّه تعالى : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ ...) إلى آخره(3)؟ قال عليه السلام: ذلك القوّة في المال واليسار، الحديث»(4).2.

ص: 104


1- الخصال: ج 2/605، وسائل الشيعة: ج 11/38، ح 14183.
2- وسائل الشيعة: ج 11/39، ح 14184.
3- سورة آل عمران: الآية 97.
4- المحاسن: ج 1/295، ح 463، وسائل الشيعة: ج 11/38، ح 14182.

وقريبٌ منه خبر عبد الرحمن بن الحجّاج الذي رواه العيّاشي في تفسيره(1)، وروى عنه حفص الأعور(2).

وفيه أوّلاً: أنّها ضعيفة السند.

وثانياً: أنّ عنوان اليسار في المال والقوّة فيه غير معلوم المراد، ويمكن أن يكون المراد به خصوص الزاد والراحلة، أو هما مع مؤونة العيال.

ومنها: ما دلّ على أنّ الحاجة المُجحفة مانعة عن وجوب الحَجّ ، كصحيح المحاربي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من مات ولم يحجّ حَجّة الإسلام، ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرضٌ لا يطيق فيه الحَجّ ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهوديّاً أو نصرانيّاً»(3).

وتقريب الاستدلال به: أنّه يدلّ على أنّ الحاجة التي تجحف به مانعة عن وجوب الحَجّ ، ومعلوم أنّه مع عدم وجود ما به الكفاية زائداً على نفقة الحَجّ ، كان إجحافاً به.

وفيه: أنّ الإجحاف بنفسه يعدّ من العناوين المُجملة وله مراتب، فلعلّ المراد من عدم الإجحاف كونه واجداً للزاد والراحلة، أو ذلك بضميمة مؤونة عياله.

ومنها: ما دلّ على أنّ (من مات وخلّف مالاً قدر نفقة الحَجّ ، ولم يترك زائداً عليه شيئاً لا يجب الحَجّ على ورثته)، فيعلم من ذلك اعتبار شيء آخر في الوجوب سوى نفقة الإياب والذهاب، وليس هو إلّاالرجوع إلى الكفاية، لاحظ صحيح2.

ص: 105


1- تفسير العيّاشي: ج 1/193، ح 117، وسائل الشيعة: ج 11/36، ح 14178.
2- تفسير العيّاشي: ج 1/193، ح 118، وسائل الشيعة: ج 11/36، ح 14179.
3- الكافي: ج 4/268، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/29، ح 14162.

هارون بن حمزة الغنوي:

«في رجلٍ مات ولم يحجّ حَجّة الإسلام، ولم يترك إلّاقدَر نفقة الحَجّ ، وله ورثة ؟ قال عليه السلام: هم أحقّ بميراثه، إنْ شاؤوا أكلوا وإنْ شاؤوا حَجّوا عنه»(1).

ومثله صحيح معاوية بن عمّار(2).

وفيه: أنّ غاية ما يدلّان عليه اعتبار شيء زائداً على قدر نفقة الحَجّ ، وأمّا اعتبار وجدانه لمقدار الرجوع إلى الكفاية، فلا يدلّان عليه، ويمكن أن يكون وجدانه لقدر مؤونة العيال إلى زمان العود كافياً.

فالمتحصّل: أنّ دليل هذا القيد هو خبر أبي الربيع، وأدلّة نفي العُسر والحَرَج.

أقول: يقتضي المقام التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل: أنّه بعدما ثبت اعتبار الرجوع إلى الكفاية:

هل المراد به ما يكفي لقوت سنة نفسه وعياله ؟

أم يعتبر كفايته لقوت نفسه وعياله ما دام العمر؟

المشهور بين الأصحاب هو الثاني، بل لم أجد فيه خلافاً، وقد تقدّم أنّ من ما أورد على خبر أبي الربيع، أنّه لا يدلّ على اعتبار وجود ما يكفي له ما دام العمر، واُجيب عنه بالإجماع المركّب، وقد مرّ هناك أنّ ظاهر قوله عليه السلام في الخبر: (ويُبقي بعضاً يقوت به نفسه وعياله) إرادة ما يستمرّ به تحصيل القوت.

وعليه، فالأظهر ما هو المشهور، بل على الوجه الآخر، وهو دليل نفي العُسر والحَرَج أيضاً كذلك، لعدم الوجه للاختصاص بالسَّنة.8.

ص: 106


1- الفقيه: ج 2/441، ح 2917، وسائل الشيعة: ج 11/46، ح 14201.
2- الكافي: ج 4/305، وسائل الشيعة: ج 11/67، ح 14258.

لو تلف بعد الحَجّ ما به الكفاية

الأمر الثاني: يدور البحث فيه عن أنّه لو تلفت ضياعه، أو زالت قدرته على التكسّب، فهل يكشف ذلك عن عدم وجوب الحَجّ عليه أم لا؟ وجهان:

فعن «المدارك»: (فوات الاستطاعة بعد الفراغ من أفعال الحَجّ ، لم يؤثّر في السقوط، وإلّا لوجب إعادة الحَجّ مع تلف المال في الرجوع أو حصول المرض الذي يشقّ السفر معه، وهو معلوم البطلان) انتهى (1).

ونحوه ما عن «الذخيرة»(2).

وقال صاحب «الجواهر» بعد نقل ذلك عنه: (قلت: قد يمنع معلوميّة بطلانه بناء على اعتبار الاستطاعة ذهاباً وإياباً في الوجوب) انتهى (3).

أقول: وقد ذكر بعض الأعاظم في وجه عدم الإجزاء، وأنّ ما فعله لم يكن حَجّة الإسلام، بأنّه إذا كان ما يحتاج إليه في الإياب - وفي حكمه ما به الكفاية - دخيلاً في حصول الاستطاعة، كان فقده موجباً لانتفائها من أوّل الأمر، فالإجزاء لابدّ وأن يكون من قبيل إجزاء غير الواجب عن الواجب، وهو يتوقّف على دليل يوجب الخروج عن القواعد، سيّما وأنّ المكلّف إنّما نوى حَجّة الإسلام، فإذا لم يصحّ لم يصحّ غيره لأنّه لم ينوه(4).

وفيه: الأظهر عدم كشفه عن عدم وجوب الحَجّ عليه، وأنّ ما فعله مجزٍ عن

ص: 107


1- مدارك الأحكام: ج 7/68.
2- ذخيرة المعاد: ج 3/563.
3- جواهر الكلام: ج 17/301.
4- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/115.

حَجّة الإسلام، وذلك:

لأنّ مدرك اعتبار وجوده إنْ كان الدليل النافي للعُسر والحَرَج، فحيث إنّه وارد في مقام الامتنان، يكون مختصّاً بما كان في رفعه منّة، ورفع وجوب الحَجّ في المقام خلاف الامتنان، فلا يشمله هذه القاعدة.

وأمّا إنْ كان مدركه الأخبار، فالشرط الذي يدلّ عليه الأخبار، هو إبقاء ما به الكفاية، والمفروض في المقام ذلك، وأمّا بقاؤه فليس شرطاً، ويؤيّد ما ذكرناه خلوّ النصوص عن التعرّض لتلف ما به الكفاية، مع كثرة الطواري الحادثة في كلّ سنةٍ من مرضٍ وتلف مالٍ ، ونحو ذلك على جماعة من الحجّاج.

وأيضاً: ربما يستدلّ للإجزاء في المقام، بما ورد من أنّه من مات بعد الإحرام ودخول الحرم، أجزأه عن حَجّة الإسلام، كصحيح ضريس، عن إمامنا الباقر عليه السلام:

«في رجلٍ خَرَج حاجّاً حَجّة الإسلام فمات في الطريق ؟ فقال عليه السلام: «إنْ مات في الحرم، فقد اجزأت عنه حَجّة الإسلام، الحديث»(1)، ونحوه غيره.

تقريب الاستدلال: أنّها تدلّ على الإجزاء مع زوال الاستطاعة البدنيّة والماليّة معاً، والأوّل واضح، وأمّا الثاني فلانتقال أمواله إلى الورثة، فإذا فرض الإجزاء مع انتفائهما معاً، فالإجزاء مع انتفاء أحدهما أولى .

وفيه: أنّ انتفاء الاستطاعة الماليّة في مورد الأخبار، إنّما هو من جهة عدم احتياج الحاجّ إلى مؤونة العود وما به الكفاية، ومن المعلوم أنّ اشتراطها إنّما هو لمن يحتاج إليها وهو الحَيّ ، وعليه فالتعدّي عن مورد الأخبار - وهو انتفاء الاستطاعة البدنيّة - إلى ما هو محلّ الكلام، قياسٌ مع الفارق، مع أنّ التعدّي عن مورد الأخبار1.

ص: 108


1- الكافي: ج 4/276، ح 10، وسائل الشيعة: ج 11/68، ح 14261.

إلى المقام مع عدم معلوميّة مناط الحكم، واحتمال الاختصاص بالأموات لا يكون خارجاً عن القياس.

الأمر الثالث: إنّ من يمضي أمره بالوجوه اللّائقة به، كطلبة العلم إذا حصل لهم مقدار مؤونة الذهاب والإياب، ومؤونة عيالهم إلى حال الرجوع، والفقير الذي شغله أخذ الوجوه، ولا يقدر على التكسّب إنْ لم يكن له ما به الكفاية، هل يجب عليهم الحَجّ ، أم لا، بل يجب التفريق بين الفرضين ؟

أقول: إنّ مدرك اعتبار هذا الشرط:

إنْ كان دليل نفي العُسر والحَرَج لا يعتبر وجود ما به الكفاية في وجوب الحَجّ على الطائفتين ومن ماثلهم، لعدم لزوم العُسر والحَرَج من وجوب الحَجّ عليهم، كما هو واضح.

وإنْ كان هو النّص، فمقتضى إطلاقه لزوم وجود ما به الكفاية بالنسبة إليهم أيضاً، ولا يبعد الفرق بين من ينطبق عليه الوجوه اللّائقة ويُعطي وبين الفقير، بأن يقال ظاهر النّص أنّ هذا الشرط إنّما يعتبر لئلّا يسأل النّاس بكفّه، فالفرق بين الطائفتين ظاهرٌ، واللّه العالم.

***

ص: 109

أخذ الوالد من مال الولد للحجّ

المسألة التاسعة عشرة: اختلف الأصحاب فيما لو لم يكن الرّجُل مستطيعاً، وكان له ولد ذو مال:

1 - فعن الشيخ في «النهاية»(1) و «المبسوط»(2) و «الخلاف»(3)، والقاضي في «المهذّب»(4)، وظاهر المفيد أنّه يجبُ عليه أن يأخذ من مال ولده ويحجّ ، ويجب على الولد البذل، بل عن ظاهر «الخلاف» عدم الخلاف فيه.

2 - والأشهر بل المشهور - كما في «الجواهر» - أنّه لا يجوز له أن يأخذ من ابنه، ولا يجب على الابن أن يبذل له(5).

أقول: مقتضى القاعدة الأوليّة - أي قاعدة السلطنة - والتوقيع الشريف الوارد فيه قوله عليه السلام: (فلا يحلّ لأحدٍ أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه)(6) عدم الجواز، ولكن في المقام طائفتين اُخريين من الأخبار هما منشأ هذا الاختلاف:

الطائفة الاُولى: تدلّ على المنع:

1 - كحسن الحسين بن أبي العلاء، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما يحلّ للرجل من مال ولده ؟ قال: قوته بغير سرف إذا اضطرّ إليه. قال: قلت له: فقول

ص: 110


1- النهاية: ص 204.
2- المبسوط: ج 1/299.
3- الخلاف: ج 2/250.
4- المهذّب: ج 1/267.
5- جواهر الكلام: ج 17/275.
6- وسائل الشيعة: ج 9/540، ح 12670، كمال الدِّين: ج 2/520، ح 49.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله للرجل الذي أتاه فقدّم أباه، فقال: أنتَ ومالُك لأبيك ؟ فقال عليه السلام: إنّما جاء بأبيه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه هذا أبي، وقد ظلمني ميراثي من اُمّي، فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه وعلى نفسه، وقال: أنتَ ومالك لأبيك، ولم يكن عند الرّجُل شيءٌ ، أوَ كانَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يحبسُ الأبَ للابن ؟!)(1).

2 - خبر أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لرجلٍ :

أنتَ ومالُكَ لأبيك. ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام: ما أحبُّ أن يأخذ من مال ابنه إلّاما احتاج إليه ممّا لابدّ منه، إنّ اللّه لا يحبُّ الفساد»(2).

3 - خبر عليّ بن جعفر، عن أبي إبرهيم عليه السلام، قال: سألته عن الرّجُل يأكل من مال ولده ؟ قال عليه السلام: لا، إلّاأن يضطرّ إليه، فيأكل منه بالمعروف، ولا يصلح للولد أن يأخذ من مال والده شيئاً إلّابإذن والده»(3). ونحوها غيرها.

الطائفة الثانية: تدلّ على الجواز، وهي أيضاً طائفتان:

الطائفة الاُولى: تدلّ على جواز تصرّف الأب في مال الابن مطلقاً، كصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«سألته عن الرّجُل يحتاج إلى مال ابنه ؟ قال عليه السلام: يأكل منه ما شاء من غير سرف، وقال: في كتاب عليّ عليه السلام: أنّ الولد لا يأخذ من مال والده شيئاً إلّابإذنه، والوالد يأخذ من مال ابنه ماشاء، وله أن يقع على جارية ابنه إذا لم يكن الابن وقع عليها، وذكر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لرجل: أنتَ ومالُكَ لأبيك»(4) ونحوه غيره.9.

ص: 111


1- الكافي: ج 5/136، ح 6، وسائل الشيعة: ج 17، ص 265، ح 22486.
2- الكافي: ج 5/135، ح 3، وسائل الشيعة: ج 17، ص 263، ح 22480.
3- الكافي: ج 5/135، ح 2، وسائل الشيعة: ج 17، ص 264، ح 22484.
4- الكافي: ج 5/135، ح 5، وسائل الشيعة: ج 17/262، ح 22479.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على الجواز في خصوص الحَجّ ، بل الوجوب، وهو صحيح سعيد بن يسار: «سُئل الصادق عليه السلام: الرّجُل يحجّ من مال ابنه، وهو صغير؟ قال عليه السلام: نعم يحجّ منه حَجّة الإسلام، قلت: وينفق منه ؟ قال عليه السلام: نعم. ثمّ قال:

مال الولد لوالده. إنّ رجلاً اختصم هو ووالده إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقضى أنّ المال والولد للوالد»(1).

وقوله: (نعم يحجّ منه حَجّة الإسلام) جملة خبريّة، وهي أدلّ على الوجوب من الأمر، والورود في مقام توهّم الحظر وإنْ كان في غير المقام يوجب حمل ما هو ظاهرٌ في نفسه في الوجوب على الجواز، ولكن في خصوص المقام - بقرينة حَجّة الإسلام - يبقى على ظاهره من الوجوب، كما لا يخفى .

أقول: وأمّا الجمع بين النصوص، فالكلام فيه في موضعين:

الأوّل: في الجمع بين ما دلّ على المنع، وما دلّ على جواز التصرّف مطلقاً.

الثاني: في الجمع بين دليل المنع، وخصوص صحيح سعيد.

أمّا الموضع الأوّل: فالكلام فيه محرّرٌ مستوفى في كتاب البيع من هذا الشرح في مبحث الولاية(2).

وأمّا الموضع الثاني: فقد يقال إنّ الصحيح لا يعارضه الأخبار الدالّة على عدم جواز تصرّف الوالد في مال الولد، فإنّ تلك الأخبار مطلقة قابلة للتقيّيد بهذا الصحيح، ولا وجه في مقام الجمع لحمله على محامل بعيدة.

ثمّ قال: والعمدة إعراض الأصحاب عنه، وهو موهونٌ به.6.

ص: 112


1- تهذيب الأحكام: ج 5/15، ح 44، وسائل الشيعة: ج 11/91، ح 14325.
2- فقه الصادق: ج 21/308 و ج 24/46.

أقول: أمّا ما أفاده من عدم المعارضة فيرد عليه:

أنّ ظاهر الصحيح، أنّ جواز الحَجّ بمال الابن والإنفاق منه إنّما هو لأجل ما ورد في الخصومة بين الوالد وولده من قول النبيّ صلى الله عليه و آله: (إنّ المال والولد لوالده)، وعليه فيعارضه حسن حسين بن أبي العلاء المتقدّم الوارد فيها، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، والشهرة الفتوائيّة التي هي أوّل المرجّحات توجبُ تقديم دليل المنع، ومع الإغماض عنها، فدليل المنع موافقٌ لعموم المنع عن التصرّف في مال الغير بغير إذنه، فيقدّم لذلك.

وعليه، ففراراً عن طرح الصحيح، التزم الأصحاب بالحمل على محامل بعيدة، كالحمل على الاقتراض من ماله مع استطاعته من مال نفسه، أو على ما إذا كان فقيراً وكانت نفقته على ولده، ولم يكن نفقة السفر إلى الحَجّ أزيد من نفقته في الحضر، فلا يكون الحمل على هذه المحامل في مقام الجمع كي يرد عليهم ما ذكر، كيف وهم أهل اللّسان، وأعرف بهذه القواعد من غيرهم، ولا يُحتمل في حقّهم عدم التوجّه إلى أنّ الجمع بين المطلق والمقيّد إنّما يكون بحمل المطلق على المقيّد لا بالحمل على أمثال هذه المحامل.

وبما ذكرناه ظهر ما في دعوى إعراض الأصحاب عن الصحيح.

فتحصّل: أنّه لا يجوز للوالد أن يأخذ من مال الولد للحجّ ، كما لا يجب على الولد البذل له.

***

ص: 113

الاستطاعة البذليّة

المسألة العشرون: المشهور بين الأصحاب أنّه لو لم يكن له زادٌ وراحلة، ولا مؤونة العيال، فبذل له باذلٌ الزادوالراحلة ومؤونة عياله مدّة غيبته، وجبَ عليه الحَجّ .

قال صاحب «التذكرة»: (وجب عليه الحَجّ عند علمائنا)(1).

وفي «المنتهى »: (ذهب إليه علماؤنا)(2).

وفي «المستند»: (إجماعاً محقّقاً ومحكيّاً عن صريح «الخلاف» و «الغُنية»)(3).

وفي «الجواهر»: (إجماعاً محكيّاً في «الخلاف» و «الغُنية»، وظاهر «التذكرة» و «المنتهى » وغيرهما إنْ لم يكن محصّلاً)(4).

أقول: أصل الحكم لا إشكال فيه في الجملة، ويشهد به صحيح محمّد بن مسلم، المرويّ في كتاب التوحيد، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ :

(وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (5) ؟ قال: يكون له ما يحجّ به. قلت: فمن عرض عليه الحَجّ فاستحيى ؟ قال عليه السلام: هو ممّن يستطيع الحَجّ »(6).

أمّا ما في «المستند»(7) و «الجواهر»(8) من دعوى دلالة النصوص المستفيضة على ذلك، بل في «الجواهر»: (أو المتواترة)، فغير تامّ ، لأنّ جملة من تلك النصوص

ص: 114


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/60، (ط. ج).
2- منتهى المطلب: ج 2/652، (ط. ق).
3- مستند الشيعة: ج 11/48.
4- جواهر الكلام: ج 17/261.
5- سورة آل عمران: الآية 97.
6- الإستبصار: ج 2/140، ح 456.
7- مستند الشيعة: ج 11/48.
8- جواهر الكلام: ج 17/261.

بل عمدتها:

منها: صحيح الحلبي أو حسنه عن الصادق عليه السلام، قال: «قلت له: فإن عرض عليه ما يحجّ به فاستحيى من ذلك، أهو ممّن يستطيع إليه سبيلاً؟ قال: نعم، ما شأنه يستحيي ؟ ولو يحجّ على حمارٍ أجدع أبتر؟! فإنْ كان يستطيع أنْ يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليحجّ »(1).

ومنها: صحيح هشام بن سالم، عن أبي بصير، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:

من عرض عليه الحَجّولو عليحمارٍ أجدع مقطوع الذنب فأبى، فهو مستطيعٌللحجّ »(2).

ونحوهما أخبار أبي أسامة بن زيد(3)، وأبي بصير(4)، ومعاوية بن عمّار(5).

وغيرهم، وقد تقدّمت في مسألة اعتبار الراحلة لغير المحتاج إليها، ومسألة ملاحظة الشرف فيها.

قد مرّ أنّ هذه النصوص من جهة معارضتها مع غيرها من النصوص المقدّمة عليها لا يعمل بها.

وبعضها كصحيح معاوية بن عمّار: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجلٌ لم يكن له مال فحجّ به رجلٌ من إخوانه، هل يجزيه ذلك عن حجّة الإسلام أم هي ناقصة ؟ قال عليه السلام: بل هي حجّة تامّة»(6).6.

ص: 115


1- الكافي: ج 4/266، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/40، ح 14189.
2- الفقيه: ج 2/419، ح 2859، وسائل الشيعة: ج 11/42، ح 14191.
3- وسائل الشيعة: ج 11/42، ح 14194.
4- وسائل الشيعة: ج 11/42، ح 14193.
5- وسائل الشيعة: ج 11/40، ح 14187.
6- تهذيب الأحكام: ج 5/7، ح 16، وسائل الشيعة: ج 11/40، ح 14186.

أجنبيٌ عن المقام، فإنّه يدلّ على الإجزاء عن حَجّة الإسلام، وهو أعمّ من الوجوب، ويحتمل انطباق مفاده على ما يدلّ عليه جملة من النصوص، من أنّ من حَجّ نيابةً عن غيره يُجزيه عن حَجّة الإسلام، وستأتي. وبعضها ضعيف السند، فلا يصحّ الاستدلال بشيء منها.

وأيضاً: مثله في الإشكال، الاستدلال بالآية الشريفة، بدعويصدق الاستطاعة بالبذل، فإنّه قد فُسّرت الاستطاعة بما إذا ملك الزاد والراحلة، وكان له مؤونة عياله في مدّة غيبته، والرجوع إلى الكفاية، كما تقدّم.

وأضعف منهما: الاستدلال بالإجماع، لعدم كونه تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام.

وبالجملة: فالعمدة إذاً في الحكم المذكور صحيح محمّد بن مسلم.

أقول: وتمام الكلام في هذه المسألة يتحقّق بالبحث عن اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ مقتضى إطلاق النّص، عدم الفرق في عرض الحَجّ بين التمليك والإباحة، ولا بين أن يبذل عين الزاد والراحلة أو ثمنهما، ولا بين أن يكون البذل واجباً عليه بنذرٍ أو يمينٍ أو نحوهما أم لا، ولا بين كون الباذل موثوقاً به أم لا، لصدق ما أُخذ موضوعاً له - وهو عرض الحَجّ - على الجميع.

أقول: وفي المقام أقوالٌ اُخر، لا بأس بالتعرّض لها:

القول الأوّل: ما عن ابن إدريس، وهو الاختصاص بصورة التمليك(1).

وأورد عليه المصنّف رحمه الله: في محكي «المختلف» بأنّ كلمات الأصحاب خالية عنه، وكذا الروايات(2).1.

ص: 116


1- السرائر: ج 1/517.
2- مختلف الشيعة: ج 4/11.

أقول: بل هو مخالفٌ لصريح النّص، فإنّه على ما أفاده لا يجب الحَجّ بمجرّد البذل، لأنّه لا يجب القبول الموجب لحصول الملك لكونه اكتساباً، ومع عدم القبول لا ملكيّة فلا يجب الحَجّ ، وهو خلاف صريح النّص.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ مراد الحِلّي قدس سره ليس اعتبار فعليّة التمليك، بل مراده كون الباذل في مقام التمليك، وهذا المعنى لا يتوقّف على القبول، فبالبذل يوجب الحَجّ لتحقّق شرطه، فإذا وجب الحَجّ وجب القبول، لكونه حينئذٍ من قبيل شرط الواجب لا الوجوب، ولهذا يختلف البذل مع الهبة، فيجب القبول مع الثانية دون الأوّل، وعليه فلا يرد عليه ما ذكرناه ولا ما أورده المصنّف رحمه الله في «المختلف» بقوله بعدما نقلناه عنه آنفاً: (بل لو وهب المال لم يجب عليه القبول).

وعليه، فالصحيح في الإيراد عليه أن يقال إنّه خلاف إطلاق النّص.

القول الثاني: ما عن «المسالك» من الاختصاص بما إذا بذل عين الزاد والراحلة، فلو بذل ثمنهما لم يجب، واستدلّ له بأنّ ذلك يتوقّف على القبول، وهو شرطٌ للواجب المشروط، فلا يجب تحصيله(1).

وفيه أوّلاً: النقض ببذل عين الزاد والراحلة، فإنّه يجري فيه هذا التعليل.

وثانياً: أنّ المشار إليه بقوله: (ذلك) إنْ كان وجوب الحَجّ ، أو إباحة التصرّف، فالتوقّف ممنوعٌ ، فإنّه يجوز التصرّف وإنْ سكت، وإنْ كان هو الملكيّة واللّزوم، فكونهما شرطاً ممنوع.

وثالثاً: أنّ قوله: (فلا يجب تحصيله):

إنْ اُريد به أنّه لا يجبُ على القاعدة، فيرد عليه أنّه لابدّ من الخروج عن3.

ص: 117


1- مسالك الأفهام: ج 2/133.

القاعدة بالنّص.

وإنْ اُريد به أنّه لا يجب إجماعاً، فهو كما ترى .

أقول: إنّ بعض الأعاظم(1) نسب هذا القول إلى «التذكرة» أيضاً، والظاهر أنّه اشتباه، فإنّ المصنّف فرّق فيها بين بذل الزاد والراحلة، وبين ما إذا بذل له مالٌ يتمكّن به من الحَجّ ، وسيأتي الكلام في الفرع الثاني.

القول الثالث: ما عن «التذكرة» و «جامع المقاصد» من الاختصاص بما إذا وجب البذل.

فعن «جامع المقاصد»: (أمّا البذل لمجموعها أو بعضها وبيده الباقي، ففي وجوب الحَجّ بمجرّده قولان، أصحّهما أنّه إنْ كان على وجهٍ لازم كالنذر وجب، وإلّا لم يجب»(2).

وفي «التذكرة»: (هل يجب على الباذل الشيء المبذول أم لا؟ فإنْ قلنا بالوجوب أمكن وجوب الحَجّ - إلى أنْ قال - وإنْ قلنا بعدم الوجوب، ففي إيجاب الحَجّ إشكال، أقربه العدم)، ثمّ استدلّ له بقوله: (لما فيه من تعليق الواجب بغير الواجب)(3).

وفيه: فضلاً عن أنّه اجتهادٌ في مقابل النّص، أنّ غاية ذلك عدم استقرار الوجوب ولا بأس به.

القول الرابع: ما في «الحدائق»(4) - حيث نسبته إلى جمع من الأصحاب، وفي0.

ص: 118


1- لعلّ المراد به صاحب المدارك في مداركه: ج 7/46.
2- جامع المقاصد: ج 3/129.
3- تذكرة الفقهاء: ج 7/62، (ط. ج).
4- الحدائق الناضرة، ج 14/99 و 100.

«المستند»(1) نسبته إلى «الدروس» - وهو الاختصاص بأحد الأمرين: من التمليك أو الوجوب.

ولكن في الحدائق: (اشترط في «الدروس» التمليك أو الوثوق به، ونقل عن جمعٍ من الأصحاب اشتراط التمليك أو الوجوب بنذر أو شبهه)(2) انتهى .

وقد ذكر في وجه ذلك ما تقدّم، وقد مرّ ما فيه.

إذا لم يكن الباذل موثوقاً به

القول الخامس: ما ذكره جماعة كسيد «المدارك»(3) وصاحبي «الذخيرة»(4)و «المفاتيح»(5)، والفاضل النراقي(6)، ونفى عنه البُعد صاحب «الحدائق»(7)، ومالَ إليه في «الجواهر»(8) من الاختصاص بما إذا كان الباذل موثوقاً به، ووجه عدم الإختصاص ما تقدّم من إطلاق النّص.

واستدلّ للاختصاص بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «المستند»(9) من دعوى انصراف النّص إلى صورة الوثوق، فلا يشمل ما لو لم يثق به.

وإليه أشار في «الجواهر» بقوله: (للشكّ في شمول أدلّة الوجوب له، إنْ لم تكن

ص: 119


1- مستند الشيعة: ج 11/49.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/99 و 100.
3- مدارك الأحكام: ج 7/46.
4- ذخيرة المعاد: ج 3/560.
5- المفاتيح: ج 1/298 كما عن مستند الشيعة.
6- مستند الشيعة: ج 11/49.
7- الحدائق الناضرة: ج 14/101.
8- جواهر الكلام: ج 17/266.
9- مستند الشيعة: ج 11/49.

ظاهرة في خلافه)(1).

وفي «الحدائق»: (والظاهر أنّ الإطلاق في الأخبار بالنسبة إلى هذا القيد الذي ذكره، إنّما وقع بناء على ما هو المعروف المعهود يومئذٍ من وفاء النّاس بذلك، فلا يقاس على مثل زماننا هذا)(2).

وفيه: إنّ تمام الموضوع للوجوب في النّص هو عرض الحَجّ ، وهذا موضوعٌ واقعي لا دخل للوثوق بالوفاء وعدمه فيه، فلا وجه لدعوى الانصراف وشبهه.

ودعوى : عن عدم التقييد إنّما يكون بلحاظ ذلك الزمان.

غريبة: لعدم كون القضيّة شخصيّة، بل قضيّة حقيقيّة متضمّنة لجعل الحكم إلى الأبد.

الوجه الثاني: ما عن «المدارك»، قال: (لما في التكليف بالحجّ ، بمجرّد البذل، مع عدم الوثوق بالباذل، من التعرّض للخطر على النفس، المستلزم للحرج العظيم، والمشقّة الزائدة، فكان منفيّاً)(3).

أقول: إذا كان السفر إلى الحَجّ مع عدم الوثوق، مستلزماً للخوف على النفس، أصبح السفر حراماً فلا يكون مستطيعاً واقعاً، لحرمة السفر، وإلّا فالسفر لا يكون حراماً، وعليه فإن كان الباذل يفي بما بذل واقعاً، ولا يرجع عن بذله، يكون مستطيعاً واقعاً، وإلّا فهو غير مستطيع، لأنّ الموضوع هو البذل حدوثاً وبقاءً ، وأمّا في الظاهر وإنْ كان يحتمل أن يرجع عمّا بذله، إلّاأنّه كاحتمال تلف المال في الاستطاعة الماليّة، فكما أنّ هناك لا يعتنى بهذه الاحتمالات استناداً إلى استصحاب6.

ص: 120


1- جواهر الكلام: ج 17/266.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/101.
3- مدارك الأحكام: ج 7/46.

بقاء المال، وعدم التلف، وغيره من الاُصول المحرزة للبقاء، كذلك في الاستطاعة البذليّة، لا يعتنى باحتمال الرجوع لتلك الاُصول.

وبالجملة: عدم الوثوق بالباذل، واحتمال رجوعه عمّا بذله كعدم الوثوق ببقاء المال، فكما أنّه لا يمنع عن وجوب الحَجّ ، كذلك عدم الوثوق في المقام.

أقول: وبما ذكرناه يندفع الوجه الثالث الذي ذكره بعض الأعاظم، وحاصله:

أنّ موضوع وجوب الحَجّ هو البذل الفعلي حدوثاً وبقاءً ، لا حدوثاً فقط، ولذا لو رجع الباذل عن بذله في الأثناء، لا إشكال في عدم الوجوب(1).

وعليه، فمع عدم الوثوق بالباذل، والشكّ في البقاء، يشكّ في صدق الموضوع، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق، لكونه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

وجه الاندفاع: أنّ موضوع الوجوب الواقعي هو البذل الباقي، بلا دخلٍ لعلم المكلّف وجهله فيه، وفي الظاهر يرجع إلى الاُصول المحرزة للبقاءكما في الاستطاعة الماليّة.

الوجه الرابع: ما في «المستند» من عدم صدق الاستطاعة بدونه عرفاً ولا لغةً ، فيتعارض ما ينفي الوجوب بدونها - كمفهوم الآية وغيره - مع الإطلاق بالعموم من وجه، والمرجع إلى الأصل(2).

وفيه: - مضافاً إلى صدق الاستطاعة، بضميمة الأصل المُحرِز - أنّ الإطلاق لوروده في مقام تفسير الاستطاعة - لا حظ النّص - يكون حاكماً على ما ينفي الوجوب بدونها، فيقدّم عليه وإنْ كانت النسبة عموماً من وجه.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا وجه للاختصاص بصورة الوثوق أيضاً.

***9.

ص: 121


1- لعلّ المراد به السيّد الخوئي في كتابه الحَجّ : ج 1/178، كما هو الظاهر.
2- مستند الشيعة: ج 11/49.

لو كان يملك بعض النفقة فبذل له البقيّة

الأمر الثاني: المشهور بين الأصحاب أنّه لو كان يملك بعض النفقة، فبذل له البقيّة، وجب الحَجّ . واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «التذكرة»، قال: (لأنّه ببذل الجميع مع عدم تمكّنه من شيء أصلاً يجب عليه، فمع تمكّنه من البعض يكون الوجوب أولى )(1).

وتبعه على هذا الاستدلال صاحب «المدارك»(2) و «الجواهر»(3).

وفيه: أنّ الأولويّة تامّة إذا كان متمكّناً من البعض، ولكن الباذل بذل له تمام النفقة، وأمّا مع بذله البعض المتمّم فهي غير ظاهرة.

الوجه الثاني: أنّ ثبوت الحكم في الاستطاعة الماليّة والبذليّة، كاشفٌ عن كون الموضوع هو الجامع بينهما، بلا دخل لشيء من الخصوصيّتين فيه، والجامع موجود في مورد التبعيض(4).

وفيه: أنّ الظاهر من الدليل دخالة كلّ ما أُخذ قيداً في الحكم، وإلغاء الخصوصيّتين، مع تضمّن الدليل لهما يحتاج إلى قرينةٍ ، ودليل خاصٍ مفقود في المقام.

الوجه الثالث: أنّ ظاهر النّص كونه مبيّناً للاستطاعة حقيقة، وأنّ المبذول له يصير بالبذل مستطيعاً، وبه يصرف ما ظاهره اعتبار الملك في الاستطاعة، ويُحمل على إرادة اعتبار القدرة الماليّة، أعمّ من أن تكون بالملك أو البذل أو بهما(5).

وفيه: أنّ الجمع بين الدليلين، يقتضي البناء على أنّ للاستطاعة فردين: ملكيّاً

ص: 122


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/302، (ط. ق).
2- مدارك الأحكام: ج 7/47.
3- جواهر الكلام: ج 17/266.
4- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/132.
5- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/132.

وبذليّاً، كما عليه بناء الأصحاب، ولذا لم يفتوا بوجوب قبول الهبة، ولو كان الموضوع هو القدرة الماليّة، كانت تلك متحقّقة بمجرّد الهبة، فيجب القبول لكونه حينئذٍ من قبيل شرط الواجب.

الوجه الرابع: إطلاق دليل البذل، فإنّه كما يصدق ببذل التتمّة، كذلك يصدق ببذل الجميع(1).

وفيه: أنّ الموضوع المأخوذ في الدليل عرض الحَجّ ، وهو ظاهرٌ في بذل الجميع.

وهكذا ثبت أنّه لا دليل على ذلك، ولكن الظاهر من كلّ من تعرّض للمسألة التسالم على ذلك، راجع «القواعد»(2) و «التذكرة»(3) و «المسالك»(4) و «جامع المقاصد»(5) و «المستند»(6) وغيرها.

وممّا ذكرناه ظهر حكم ما لو بذل له نفقة الذهاب فقط، ولم يكن عنده نفقة العود، فإنّه لا ينبغي التوقّف في عدم وجوب الحَجّ ، لظهور عرض الحَجّ في بذل ما يحتاج إليه في الذهاب والإياب.

***2.

ص: 123


1- مختار السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/132.
2- قواعد الأحكام: ج 1/405.
3- تذكرة الفقهاء: ج 7/302، (ط. ج).
4- مسالك الأفهام: ج 2/133.
5- جامع المقاصد: ج 3/129.
6- مستند الشيعة: ج 11/52.

اشتراط مؤونة العيال في الاستطاعة البذليّة

الأمر الثالث: ظاهر كلمات الأصحاب اعتبار بذل مؤونة العيال في الاستطاعة البذليّة مدّة غيبته، بل يظهر من عبارة «الجواهر» الإجماع على الاعتبار، حيث قال:

(بل إنْ لم يقم الإجماع على اعتبار بذل مؤونة العيال في الوجوب، أمكن منعه في المُعسِر عنها) انتهى (1).

وتحقيق الكلام: أنّ من يُبذل له مؤونة السفر:

تارةً : يكون له ما يموّن به عياله.

واُخرى : لا يكون له ذلك.

وعلى الثاني: قد يتمكّن من الإنفاق على العيال مع ترك الحَجّ ، وقد لا يتمكّن من ذلك.

وعلى الثاني: إمّا أن يجب عليه نفقة من في عيلولته، وإمّا لا تجب عليه.

وعلى الثاني: قد يكون ترك الإنفاق حَرَجيّاً على المعيل، وقد لا يكون كذلك.

الصورة الأُولى : إنْ كان له ما يموّن به عياله، لا يعتبر بذل مؤونة العيال في وجوب الحجّ ، لأنّ مقتضى إطلاق النّص عدم اعتباره، ولا دليل آخر على اعتباره، وما دلّ على اعتبار المؤونة إنّما يدلّ على اعتبار وجودها المتحقّق في الفرض، مع أنّه مختصٌّ بالاستطاعة الماليّة.

الصورة الثانية: وإنْ لم يكن له ذلك، ولم يتمكّن من نفقتهم على فرض ترك الحَجّ فكذلك، لما تقدّم من إطلاق النّص، وعدم ما يدلّ على اعتبارها في الاستطاعة

ص: 124


1- جواهر الكلام: ج 17/266.

البذليّة، إلّاأن يقوم إجماعٌ على اعتبارها.

الصورة الثالثة: وإنْ لم يكن له ما يموّن به عياله، ولكن على فرض ترك الحَجّ يتمكّن من الإنفاق عليهم بالتكسب ونحوه، فإنْ كان العيال واجبي النفقة، فوجوب الإنفاق كسائر الأعذار الشرعيّة رافعٌ للاستطاعة، فإنّه معجز مولوي.

وإنْ شئت قلت: إنّه عند تزاحم الواجبين، إنْ كان أحدهما مشروطاً بالقدرة الشرعيّة دون الآخر، قُدِّم ماهو غير مشروطبها، ففي المقام بما أنّ وجوب الإنفاق غير مشروطٍبها، بخلاف الحَجّ ، والفرض وقوع التزاحم بينهما، فيُقدَّم دليل وجوب الإنفاق.

وإلى هذا المعنى يشير صحيح الحلبي المتقدّم: «إذا قدر الرّجُل على ما يحجّ به، ثمّ دفع ذلك، وليس له شغلٌ يعذره اللّه تعالى فيه، فقد ترك شريعةً من فرائض الإسلام»(1)، فإنّه ظاهر في أنّ العذر رافع للفرض مطلقاً.

الصورة الرابعة: وإنْ لم يكن العيال واجبي النفقة، وكان ترك نفقتهم حَرَجيّاً على المعيل، سقط وجوب الحَجّ بدون بذل مؤونة العيال، لأنّ أدلّة نفي العُسر والحَرَج رافعة له.

ودعوى : أنّ الحَجّ لا يكون حَرَجيّاً، فكيف يرتفع وجوبه بدليل نفي الحَرَج.

يدفعها: ما تقدّم منّا في هذا الكتاب مكرّراً، من أنّ دليل نفي العُسر والحَرَج ينفي كلّ حكمٍ كان متعلّقه حَرَجيّاً أو كان مستلزماً بذلك.

الصورة الخامسة: وإنْ لم يكن العيال واجبي النفقة، ولم يكن ترك نفقتهم حَرَجيّاً على المعيل، وإنْ كان حَرَجيّاً على العيال، فإنّه لا دليل على اعتبارها في وجوبه كما تقدّم، إلّاأنْ يقوم إجماعٌ على اعتبارها.

***2.

ص: 125


1- تهذيب الأحكام: ج 5/18، ح 54، وسائل الشيعة: ج 11/26، ح 14152.

لا يمنع الدين في الاستطاعة البذليّة

الأمر الرابع: هل الدَّين يمنع عن وجوب الحَجّ في الاستطاعة البذليّة أم لا؟ أم يفرق بين ما إذا كان الدَّين حالّاً، وكان الديّان مطالبين، فلا يكون مانعاً عنه، وبين ما إذا لم يكن حالّاً أو لم يكن الديّان مطالبين، فلا يكون مانعاً؟ وجوهٌ وأقوال:

مقتضى إطلاق كلمات الأصحاب عدم كونه مانعاً عنه مطلقاً.

ففي «الجواهر»: (ولا يمنع الدَّينُ الوجوبَ بالبذل، وإنْ منعه في غيره) انتهى (1).

وفي «المستند»: (ولا يمنع الدَّين وإنْ كان معجّلاً من وجوب الحَجّ على تقدير البذل والهبة) انتهى (2).

ونحو ذلك كلمات غيرهما، لاحظ «المسالك»(3)، و «كشف اللّثام»(4)و «المدارك»(5) وغيرها، وقد استدلّ لعدم المنع في «المدارك» بإطلاق النّص (6) .

وأورد عليه: (بأنّ النّص إنّما يتعرّض للمساواة بين البذل والملك، ولا يصلح للتعرّض للشروط الاُخرى التي منها تخلية السّرب، عقليّة كانت أو شرعيّة، بل كلّ منها باقٍ بحاله، فإذا قلنا بعدم الوجوب لعدم تخلية السّرب الشرعيّة) (7) لوجوب الحضر إذا كان الدَّين حالّاً والدائن مطالباً وهو يتمكّن من الأداء لو ترك

ص: 126


1- جواهر الكلام: ج 17/266.
2- مستند الشيعة: ج 11/51.
3- مسالك الأفهام: ج 2/133.
4- كشف اللّثام: ج 5/103، (ط. ج).
5- مدارك الأحكام: ج 7/47.
6- مدارك الأحكام: ج 7/47.
7- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/134.

الحَجّ ، لم يكن ذلك منافياً لإطلاق النّص، وعليه فالأظهر عدم الوجوب في هذا الفرض.

أقول: إذا كان السفر حراماً، صحَّ دعوى عدم تخلية السّرب، ولكنّه في المقام يتوقّف على أمرين لم يثبت شيء منهما:

أحدهما: وجوب مقدّمة الواجب شرعاً، كي يجب الحضر مقدّمةً لأداء الدَّين الواجب.

ثانيهما: كون الأمر بالشيءمقتضياً للنهي عن ضدّه، كي يحرم السفر المضادّللحضر.

وحيثُ أنّ المبنيين ممنوعان، فلا يصحّ هذا الإيراد.

والحقّ أن يقال: إنّ عمدة الوجه لتقديم الدَّين على الحَجّ في الاستطاعة الماليّة، إنّما هي تزاحم الواجبين، وكون وجوب أداء الدَّين مطلقاً، ووجوب الحَجّ مقيّداً بالقدرة والاستطاعة، فيكون الأوّل بنفسه معجزاً مولويّاً ورافعاً لموضوع الثاني.

وهذا الوجه جار في المقام أيضاً، فيما إذا كان الدَّين حالّاً والدائن مطالباً، وهو يتمكّن من الأداء لو ترك الحَجّ ولو تدريجاً، ولا يتمكّن مع الحَجّ منه، وحينئذٍ يقع التزاحم بين وجوب أداء الدَّين ووجوب الحَجّ ، فيُقدَّم الأوّل لما ذكر.

وأمّا في غير ذلك، كما إذا كان الدَّين مؤجَّلاً، أو الدائن راضياً بالتأخير، وإنْ كان على فرض ترك الحَجّ غير متمكّن من الأداء، أو إنْ كان متمكّناً منه لو حجّ أيضاً، فلا يكون الدَّين مانعاً عن وجوب الحَجّ في الاستطاعة البذليّة، والإجماع على مانعيّته غير ثابت، وعلى فرض ثبوته ليس تعبّديّاً.

***

ص: 127

عدم اشتراط الرجوع إلى الكفاية فيها

الأمر الخامس: لا خلاف ظاهراً في عدم اعتبار الرجوع إلى الكفاية في الاستطاعة البذليّة.

أقول: وأورد بعض الأعاظم على من التزم باعتبار مؤونة العيال، وعدم اعتبار الرجوع إلى الكفاية فيها، بأنّ حكمهما واحدٌ، فكما أنّه لم يرد دليلٌ تعبّدي بالنسبة إلى الرجوع إلى الكفاية، لم يرد دليلٌ تعبّدي بالنسبة إلى اعتبار مؤونة العيال فيها، والظاهر أنّ الفرق بينهما إنّما هو من ناحية وجوب الإنفاق الذي هو كسائر الاعذار الشرعيّة، مانعٌ عن وجوب الحَجّ ، راجع إلى ما ذكرناه وهو غير متحقّق في المقام.

وكيف كان، فإن كان دليل اعتبار الرجوع إلى الكفاية في الاستطاعة الماليّة، هو خبر أبي الربيع، فقد يتوهّم أنّ مقتضى إطلاقه اعتباره في الاستطاعة البذليّة أيضاً، بدعوى أنّ دليل الاستطاعة البذليّة متعرّضٌ للتساوي بين الملك والبذل، ولا نظر له إلى سائر الشرائط كالبلوغ والصحّة وما شاكل.

ولكن يرد عليه: أنّ خبر أبي الربيع ظاهرٌ فيما لو انفق في الحَجّ من كفايته، لاحظ قوله عليه السلام فيه:

«لئن كان من له زادٌ وراحلة قدَر ما يقوت به عياله، ويستغني به عن النّاس، يجب عليه أن يحجّ بذلك، ثمّ يرجع فيسأل النّاس بكفّه، الحديث» فلا يشمل الاستطاعة البذليّة، فالمحكّم فيها إطلاق النّص.

وقد أجاب عن ذلك في «المستند» بوجهٍ آخر: قال: (ومع ذلك يعارضها إطلاق وجوب الحَجّ بالبذل، وهي أقوى وأكثر، فيرجع إلى عمومات وجوب الحَجّ

ص: 128

والاستطاعة العرفيّة) انتهى (1).

ويرد عليه قدس سره من جهات عديدة:

الجهة الاُولى: أنّه على فرض شمول ذلك الدليل للمقام، يكون حاكماً على إطلاق دليل وجوب الحَجّ ، كحكومته على إطلاق دليل الحَجّ بالاستطاعة الماليّة.

وإنْ شئت قلت: إنّ نسبته حينئذٍ مع كلّ واحدٍ منهما، عمومٌ من وجه، ومعهما معاً عمومٌ مطلق، فحينئذٍ إمّا أن يقدّم هو على الدليلين، أو يقدّمان عليه، أو يقدّم هو على أحدهما ويقدّم الآخر عليه، وفي الأخير ترجيحٌ بلا مرجّح، وفي الثاني طرحٌ للدليل رأساً، فيتعيّن الأوّل، فيقيّد الإطلاق به، فتأمّل.

الجهة الثانية: إنّه بعدما فسّرت الاستطاعة في النصوص، وعلم أنّه لم يرد منها القدرة العقليّة، لا سبيل إلى الرجوع إليها، وإنْ اُريد الرجوع إليها بما لها من التفسير، فهو يتوقّف على صدق الاستطاعة الماليّة المفروض عدمه في المقام.

الجهة الثالثة: أنّه إنْ كان مبناه في تعارض العامين من وجه، الرجوع إلى أدلّة الترجيح والتخيّير كما هو المختار عندنا، فما معنى قوله: (فيرجع إلى عمومات وجوب الحَجّ )، لأنّه إنْ كان لأحدهما مرجّحٌ فهو يقدّم، وإلّا يُحكم بالتخيّير، وإنْ كان مبناه التساقط، فما معنى قوله: (وهي أقوى وأكثر)، إذ لا دخل للأكثريّة والأقوائيّة في هذا المقام، هذا كلّه إذا كان مدرك اعتبار الرجوع إلى الكفاية في الاستطاعة الماليّة، خبر أبي الربيع.

وأمّا إنْ كان مدركه دليل نفي العُسر والحَرَج، بالتقريب المتقدّم، فهو في المقام وإنْ كان يقتضي اعتباره أيضاً، إلّاأنّه إنّما يختصّ بما لو فرضنا أنّه لو حجّ وقع في4.

ص: 129


1- مستند الشيعة: ج 11/53 و 54.

الحَرَج، ومع ترك الحَجّ يظفر بمال تجارة أو غيره، وإلّا فلو فرض أنّه لايتفاوت عدم وجدانه للكفاية بعد الحَجّ ، بين قبوله البذل وعدمه كما هو الغالب، فلا مورد لتطبيقه.

فالمتحصّل: أنّه لايشترط الرجوع إلى الكفاية في الاستطاعة البذليّة الموجبة لوجوب الحَجّ ، إلّا في فرض التفاوت، بأن يكون على فرض عدم الحَجّ ظافراً بمالٍ يكفيه ولا يظفر به على تقدير الحَجّ .

والظاهر أنّ إطلاق كلمات الأصحاب حيث أفتوا بعدم اعتباره فيها، منزّلٌ على الغالب، واللّه العالم.

***

ص: 130

إذا وهبه ما يكفيه للحجّ

الأمر السادس: لو وهبه ما يكفيه للحجّ ، فهل يجب عليه القبول أم لا؟ فيه صور:

الأُولى: أن يهبه لأن يحجّ به.

الثانية: أن يهبه ويُخيّره بين أن يحجّ به أو يزور الحسين عليه السلام مثلاً.

الثالثة: أن يهبه ويُطلق، أي لم يقيّده بأن يحجّ به ولو بنحو التخيّير.

أمّا الصورة الأُولى : فعن ظاهر كلام جماعةٍ من الأصحاب عدم وجوب القبول.

وفي «الحدائق»: (بل الظاهر أنّه المشهور بين المتأخّرين)(1).

وفي «الحدائق»(2)، و «المستند»(3)، و «العروة»(4)، و «مجمع البرهان»(5)و «الذخيرة»(6)، و «المدارك»(7) وغيرها: وجوب القبول.

وقد استدلّللأوّل: المصنّف في «التذكرة»(8) والشهيدالثاني رحمه الله في «المسالك»(9)، وتبعهما صاحب «الجواهر»(10) وغيره، بأنّ قبول الهبة نوعٌ من الاكتساب غير الواجب للحجّ ، لأنّ وجوبه مشروط بالاستطاعة، فلا يجب تحصيل شرطه.

ص: 131


1- الحدائق الناضرة: ج 14/104 و 105.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/104 و 105.
3- مستند الشيعة: ج 11/50.
4- العروة الوثقى: ج 4/400، (ط. ج).
5- مجمع الفائدة والبرهان: ج 6/74، فإنّه بعد مناقشة الأدلّة قال: (وبالجملة الوجوب دائر مع صدق الإستطاعة وهي القدرة على الحَجّ مع الزاد والراحلة من غير مشقّة ولا شبهة في صدقها مع الهبة والبذل).
6- ذخيرة المعاد: ج 3/560.
7- مدارك الأحكام: ج 7/48.
8- تذكرة الفقهاء: ج 7/62، (ط. ج).
9- مسالك الأفهام: ج 2/134.
10- جواهر الكلام: ج 17/268.

وفيه: أنّ المأخوذ في دليل الاستطاعة البذليّة هو عرض الحَجّ ، وهذا العنوان كما يصدق على ما لو أباح الزاد والراحلة، كذلك يصدق على ما لو وهبهما أو وهب ثمنهما، فإذا ثبتت الاستطاعة بمجرّد الهبة، يصبح الحَجّ واجباً من دون توقّفٍ على القبول، فيكون القبول من قبيل شرط الواجب لتوقّف امتثاله عليه، فيكون واجباً.

وإنْ شئت قلت: إنّ تحقّق الملكيّة وإنْ كان متوقّفاً على القبول، إلّاأنّ إباحة التصرّف لا تتوقّف عليه، فإنّه يجوز التصرّف وإنْ سكت قولاً وفعلاً، والاستطاعة البذليّة لا تتوقّف على الملكيّة، بل على إباحة التصرّف، فإذا وجب الحَجّ وجب القبول مقدّمةً للحجّ .

أضف إلى ذلك، أنّ دليل الاستطاعة البذليّة يدلّ على وجوب الحَجّ بمجرّد عرض الحَجّ على المبذول له، سواءٌ أكان العرض بعنوان الإباحة أو الهبة، فإذا وجب الحَجّ ، وإنْ لم يقبل وجب القبول مقدّمةً له، وبه يخرج عن القواعة المقتضية لعدم وجوب القبول.

وبعبارة اُخرى : الاستطاعة الماليّة فُسّرت بملك الزاد والراحلة أو ثمنهما، والاستطاعة البذليّة فسّرت بما يكون معنىً لغويّاً للاستطاعة، وهو التمكّن من أداء الحجّ ، فمع الهبة يتمكّن من الحَجّ ، فيجب القبول مقدّمة له.

وبما ذكرناه ظهر ما في التعليل لعدم الوجوب، بأنّ قبولها مشتملٌ على المنّة.

وأمّا الصورة الثانية: فالظاهر أنّ حكمها حكم الصورة الأُولى ، وذلك لصدق عنوان العرض على كلٍّ من طرفي التخيّير، نظير صدق الواجب على كلٍّ من عِدلي التخيّير، وعليه فلو بذل له المال، وخيّره بين الحَجّ وزيارة سيّد الشهداء عليه السلام، صدق على كلّ منهما أنّه عَرَض عليه، وبذل مؤونته، فمع صدق عنوان عرض الحَجّ وبذل

ص: 132

المؤونة، يجب الحَجّ فيجب القبول، لما مرّ.

وأمّا الصورة الثالثة: فقد ذكر صاحب «المستند»: (إنّ المشهور عدم وجوب القبول)(1)، كما قال صاحب «الشرائع»: (لو وهبه مالاً لم يجب قبوله)(2). ونحوهما ما في «المنتهى »(3)، وكذلك الحكم في «التذكرة» حيث قال: (لو بذل له مال يتمكّن به من الحَجّ ، ويكفيه في مؤونته ومؤونة عياله، لم يجب عليه القبول) انتهى (4)، ونحوها كلمات غيرهم.

أقول: الظاهر تماميّة ما أفادوه، فإنّ موضوع وجوب الحَجّ البذلي، عنوانُ عرض الحَجّ ، ومن الواضح أنّ هذا العنوان لا يصدق في هذه الصورة، فلا يجعل مثل هذا العرض الحَجّ واجباً فلا يجب القبول، ولو قبل فإن صار به مستطيعاً بالاستطاعة الماليّة وجب عليه الحَجّ لذلك، وإلّا فلا.

وبما ذكرناه يظهر ما في «المستند»، حيث قال:

(فقيل: المشهور عدم وجوب القبول لكونه اكتساباً(5).

[وجوابه قد مرّ، ومراده ما ذكره من صدق الاستطاعة العرفيّة، فيجب الاكتساب المتوقّف عليه الحَجّ ] مع أنّه لا فرق في ذلك بين الإطلاق والتقييد) انتهى .

فإنّه في صورة التقيّيد بنينا على وجوب القبول من جهة صدق عنوان عرض الحَجّ المأخوذ موضوعاً للحجّ البذلي، وهذا لا يصدق في صورة الإطلاق، فلا يجب1.

ص: 133


1- مستند الشيعة: ج 11/51.
2- شرائع الإسلام: ج 1/165.
3- منتهى المطلب: ج 2/652، (ط. ق).
4- تذكرة الفقهاء: ج 7/61، (ط. ج).
5- مستند الشيعة: ج 11/51.

الاكتساب، وهذا هو الفارق بين الصورتين.

كما أنّه ظهر ما في «التذكرة»، قال: (لو وهب المال، فإن قَبل وجبَ الحَجّ وإلّا فلا) انتهى (1). فإنّه إذا قبل إنّما يجب الحَجّ عند صدق الاستطاعة الماليّة بما لها من القيود حتّى الرجوع إلى الكفاية، لا مطلقاً.

وبذلك كلّه ظهر حكم ما لو وقف شخص أمواله أو مالاً معيّناً لمن يحجّ ، أو أوصى أو نذر بذلك، فبذل المتولّي أو الوصي أو الناذر له، وجب عليه الحَجّ ، لإطلاق النّص، إذ لا فرق في صدق عنوان العرض بين كون المال مِلْكاً للعارض أو تحت سلطنته.

***).

ص: 134


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/62، (ط. ج).

إذا أعطاه الخمس وشرط عليه الحَجّ

الأمر السابع: يدور البحث في وجوب الحَجّ وعدمه فيما لو أعطاه الباذل من خمسه أو زكاته ما يكفيه للحجّ ، وشرط عليه أن يحجّ به ؟

أقول: وتحقيق القول في المقام يقتضي التكلّم في جهات:

الجهة الأُولى : هل يجوز أعطاء الخمس أو الزكاة من غير سهم سبيل اللّه للفقير بمقدار الاستطاعة الماليّة دفعةً واحدة أم لا؟

وقد تقدّم الكلام في ذلك في كتابي الزكاة والخمس(1)، وعرفت ما هو الحقّ عندنا، فراجع.

الجهة الثانية: هل للمالك ولاية وسلطنة على تعيّين المصرف أم لا؟

أقول: بعدما لا كلام ولا إشكال في أنّ له الولاية على إعطائه لكلّ مستحقّ شاء، أنّه كما له أن يعطي المستحقّ من غير أن يقيّده بشيء، كذلك له أن يعطيه مقيّداً بأن يحجّ به، فهذا القيد ليس شيئاً زائداً على أنّ تعيين المستحقّ بيد المالك حتّى يقال إنّه ما الدليل على هذا، بل هو عبارة عن تقيّيد المدفوع إليه وإعطاء المال إيّاه على تقديرٍ دون آخر.

ودعوى : أنّ الشخص الخارجي لا يقبل الإطلاق والتقيّيد.

ممنوعة: بأنّ الفعل الخارجي على قسمين:

الأوّل: ما لا يعتبر في تحقّقه القصد كالضرب.

الثاني: ما يعتبر فيه ذلك كالبيع.

والقسم الأوّل لايقبل التقيّيد والتعليق دون الثاني حيث أنّه قابل له، والمقام من

ص: 135


1- راجع المجلّد العاشر والحادى عشر من هذه الدورة الفقهية.

قبيل الثاني، فإنّ الإعطاء بعنوان الهبة أو إباحة التصرّف يُعدّ من الأفعال القصديّة.

ويمكن أن يقال: إنّ المعطي إذا دفع المال، وشرط أن يحجّ به، يكون المدفوع إليه مطلقاً، وهذا القيد إنّما يكون من قبيل شرط العمل عليه.

وما ذكره بعض الأعاظم: من أنّ صحّة هذا الشرط موقوفة على ثبوت ولاية المالك على مثل ذلك، ودليله غير ظاهر، وعمومات صحّة الشروط لا تصلح لإثبات السلطنة عليه عند الشكّ فيها(1).

يدفعه: أنّ الشرط إنّما يكون فعلاً خارجيّاً مُباحَاً، ولا يعتبر في صحّة الشرط سوى عدم كونه حراماً.

فالمتحصّل: أنّه يمكن تصوير هذا التقييد بأحد النحوين المذكورين.

الجهة الثالثة: إذا أعطاه المال بعنوان الخمس أو الزكاة، فإنْ صار مستطيعاً بالاستطاعة الماليّة، فلا كلام في وجوب الحَجّ عليه، بناءً على جواز الإعطاء بقدر الاستطاعة، وإنْ أعطاه لا بهذا المقدار، فإن لم يقيّده بالحجّ به لا يجب عليه الحَجّ ، وإنْ قيّده بذلك، وكان بمقدار مؤونة الحَجّ البذلي، فهل يجب عليه ذلك أم لا؟

قد يقال: - كما عن بعض الأعاظم - إنّه لا يجبُ عليه ذلك، ولا ربط لهذه المسألة بمسألة البذل، لأنّه في البذل إنّما يعطيه المال بعنوان السير إلى الحَجّ بإباحة أو تمليك، وأمّا فيما نحن فيه، فليس ما يعطيه بهبةٍ ولا إباحة، لعدم كون المعطي مالكاً له، بل إنّما يعطى الفقير حقّه، لأنّه شريك معه فيما تعلّق به الخمس أو الزكاة(2).

ولكن يرد عليه: أنّ هذا الفرق ليس بفارق فيما هو المناط، فإنّ موضوع وجوب4.

ص: 136


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/137.
2- كتاب الحَجّ للسيّد الخوئي: ج 1/169 و 174.

الحَجّ ليس هو البذل، بل عَرض الحَجّ ، وهذا العنوان كما يصدق في البذل من ماله، يصدق في إعطاء الخمس أو الزكاة أيضاً.

قد يقال: هذا على تقدير صحّة التقييد بأن يحجّ به، وأمّا على تقدير عدم صحّة ذلك، فقد يقال - كما عن بعض المعاصرين - بأنّه يمكن أن يُدّعى الوجوب بلحاظ صدق العرض، فتشمله نصوص البذل، فيجب عليه الحَجّ للاستطاعة البذليّة لا لصحّة الشرط(1).

ولكن يدفعه: أنّ الموضوع هو عرض الحَجّ ممّن له ذلك، فلو فرض عدم صحّة عرضه، وكونه كالعدم من حيث الأثر لعدم ولايته عليه، فلا يشمله النصوص، بل يكون حينئذٍ نظير ما لو عرض الحَجّ بإعطاء مال الغير، فكما أنّ النصوص لا تشمله كذلك في المقام.

فالمتحصّل: أنّ ما أفاده في «العروة» من أنّه على تقدير صحّة الشرط يجبُ عليه، هو الصحيح، كما مرَّ بيان ذلك.

هذا كلّه في غير سهم سبيل اللّه من الزكاة، وأمّا فيه فلا إشكال في صحّة الشرط، ويكون المصرف هو الحَجّ لاغير، ويجب الحَجّ البذلي بلا كلام.

***8.

ص: 137


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/138.

إجزاء الحَجّ البذلي عن حجّة الإسلام

الأمر الثامن: يدور البحث فيه عن إجزاء الحجّ البذلي عن حجّة الإسلام وعدمه، وفيه قولان:

1 - المشهور بين الأصحاب على ما في «الحدائق»(1)، وفي «المستند»(2)حكايته عن «المدارك» و «الذخيرة» و «المفاتيح» وشرحه: أنّ الحَجّ البذلي مُجزٍ عن حَجّة الإسلام، فلا تجب عليه إذا استطاع بعد ذلك، بل عن بعضٍ أنّ عليه فتوى علمائنا الظاهر في الإجماع.

2 - وعن الشيخ في «الاستبصار» وجوب الإعادة(3).

يشهد للأوّل: أنّ دليل الحَجّ البذلي يدلّ على أنّه من مصاديق الحَجّ الواجب بالآية الشريفة، فإذا انضمّ إلى ذلك ما دلّ من النصوص على أنّه لا يجبُ الحَجّ طول العمر إلّامرّة واحدة، المتقدّمة في أوّل هذا الكتاب، يستنتج منها إجزاء الحَجّ البذلي عن حَجّة الإسلام.

واستدلّ له أيضاً: بصحيح معاوية بن عمّار، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل لم يكن له مال، فحجّ به رجلٌ من إخوانه، أيجزيه ذلك عن حَجّة الإسلام أم هي ناقصة ؟ قال عليه السلام: بل هي حجّة تامّة»(4).

ص: 138


1- الحدائق الناضرة: ج 14/107.
2- مستند الشيعة: ج 11/52.
3- الإستبصار: ج 2/143 و 144، في تعليقته على روايات الباب 83 (باب المعسر يحجّ به بعض إخوانه ثمّ أيسر هل تجب عليه إعادة الحَجّ أم لا؟).
4- تهذيب الأحكام: ج 5/7، ح 17، وسائل الشيعة: ج 11/40، ح 14186.

ولكن لابدّ وأن ينضمّ إليه ما دلّ على أنّه لا يجبُ حَجّة الإسلام في العمر إلّا مرّة واحدة.

واستدلّ للقول الآخر:

1 - بموثّق الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «سألته عن رجلٍ لم يكن له مالٌ فحجّ به اُناسٌ من أصحابه أقضى حَجّة الإسلام ؟ قال عليه السلام: نعم. قال:

فإن أيسر بعد ذلك، فعليه أن يحجّ؟

قلت: هل يكون حجّته تلك تامّة أو ناقصة إذا لم يكن حجّ من ماله ؟ قال عليه السلام:

نعم قضى عنه حَجّة الإسلام، وتكون تامّة، وليست بناقصة، وإنْ أيسر فليحجّ »(1).

2 - وخبر أبي بصير، عنه عليه السلام: «لو أنّ رجلاً مُعسراً أحجّه رجلٌ كانت له حجّته، فإنْ أيسر بعد ذلك كان عليه أن يحجّ »(2).

أقول: وقد جمع الأصحاب بينهما وبين ما تقدّم:

تارةً : بحملهما على الاستحباب.

واُخرى : بالحمل على من حَجّ عن غيره.

وثالثة: بالحمل على الوجوب الكفائي.

ولكن الظاهر عدم تماميّة شيء منها، فإنّهما متضمّنان لكون الحَجّ البذلي مُجزياً عن حَجّة الإسلام، و مع ذلك يجب الإعادة، فلا يكونان معارضين لشيءٍ سوى ما دلّ على عدم وجوب حَجّة الإسلام في العمر إلّامرّة واحدة، والنسبة بينهما وبينه عموم مطلق، فالجمع بين الأدلّة يقتضي البناء على وجوب الإعادة، إلّاأنّه من0.

ص: 139


1- الكافي: ج 4/274، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/41، ح 14190.
2- الكافي: ج 4/273، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/57، ح 14230.

جهة إعراض الأصحاب عن الخبرين - حتّى أنّ الشيخ نفسه رجع عمّا أفتى به في «الاستبصار» في سائر كتبه - لا يعتمد عليهما.

واحتمال أنّ الأصحاب لم يعرضوا عن الخبرين، بل لم يفتوا بظاهرهما جمعاً بينهما وبين غيرهما من الأدلّة - كما عن بعض الأعاظم - سوءُ ظنٍّ بهم، فإنّ ما ذكرناه من مقتضى الجمع أمرٌ واضح لا يحتمل عدم تفطّن الأصحاب له، وعليه فالأظهر أنّه يُجزي عن حجّة الإسلام.

***

ص: 140

إذا رجع الباذل عن بذله

الأمر التاسع: الظاهر أنّه لا كلام بينهم في جواز رجوع الباذل عن بذله قبل الدخول في الإحرام، وأمّا في جواز رجوعه عنه بعده فوجهان، بل قولان:

أقول: وتنقيح القول يتحقّق بالبحث في جهات:

الجهة الأُولى : في أنّه هل يجوز رجوع الباذل عن بذله أم لا؟

الجهة الثانية: في أنّه هل يكون المبذول له ضامناً للمال المبذول أم لا؟

الجهة الثالثة: في أنّه هل يجب عليه نفقة العود إلى محلّه إذا رجع عن بذله، بل ونفقته إلى تمام الحَجّ والعود أم لا؟

أمّا الجهة الأُولى : فإنْ كان البذل بعنوان الهبة، لا يجوز الرجوع إنْ كانت لذي رحم بعد الإقباض، ولغيره بعد التصرّف، فإنّ الهبة تلزم بذلك.

وأمّا إنْ كان بعنوان الإباحة، أو كان بعنوان الهبة، لكن لم تلزم بالقبض أو التصرّف وكان قبل الإحرام فالظاهر عدم الخلاف في جواز الرجوع، كما هو الشأن في سائر موارد الإباحة والهبة.

ودعوى : أنّ بذل المال للحجّ من قبيل الشرط الابتدائي، وحيثُ أنّ مقتضى عموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالشرط، وجوب الوفاء بالشرط الابتدائي، لأنّه شرطٌ حقيقة، فلا يجوز الرجوع كما عن بعض أعاظم المعاصرين.

ممنوعة أوّلاً: أنّ البذل بعنوان الإباحة أو الهبة إنّما يكون إنشاءً لا وعداً وشرطاً.

وثانياً: أنّ الشرط الابتدائي ليس شرطاً حقيقة، فإنّه يعتبر في صدقه كون

ص: 141

الالتزام في ضمن التزام.

وإنْ شئت قلت: إنّ الشرط هو الالتزام التابع، كمايظهر لمن راجع موارد استعماله، ولذا قال في محكي «القاموس»: (الشرط: إلزام الشيء أو التزامه في البيع ونحوه)(1).

وثالثاً: أنّه لو سُلّم صدق الشرط عليه، لا خلاف في عدم وجوب الوفاء به.

وأمّا بعد الإحرام فقد يقال بعدم جواز الرجوع، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: ما تقدّم من صدق الشرط على البذل، فيجب الوفاء به. وجوابه ما تقدّم.

الوجه الثاني: أنّ البذل للحجّ إذا بقي إلى ما بعد الإحرام، حيث أنّ الشروع فيه يستلزم الإتمام، فيكون إذناً في الإتمام، إذ الإذن في الشيء إذن في لوازمه(2).

وفيه: أنّه ليس الكلام في إذن المالك، بل إنّما هو في رجوعه عن إذنه، وأنّه هل يؤثّر أم لا؟ وأمّا إذن المالك في التصرّف في ماله إلى آخر أعمال الحَجّ ، والعود إلى وطنه إثباتاً، فهو مسلّم لا كلام فيه، وغيره مربوط بما هو محلّ الكلام.

الوجه الثالث: أنّ وجوب الإتمام عليه موجبٌ لحرمة رجوع الباذل عن بذله(3).

وفيه: أنّ المبذول له إن تمكّن من إتمام الحَجّ بنفسه مع قطع النظر عن بذل الباذل، وجب عليه ذلك، وإلّا فلا يجب عليه، وأمّا أخذه مؤونة حَجّة ونفقة عوده إلى وطنه قضيّةٌ اُخرى سيأتي الكلام عنها لاحقاً.

وبذلك يظهر ما في الوجه الرابع، وهو أنّ مقتضى حديث لا ضرر عدم جواز7.

ص: 142


1- القاموس المحيط: ج 2/368.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/140.
3- كتاب الحَجّ للسيّد الخوئي: ج 1/177.

الرجوع، ولايعارضه قاعدة لاضرر الجارية في حقّ الباذل، لأنّه مقدّم عليه بالإذن.

الوجه الخامس: أنّ الأصحاب أفتوا بعدم جواز الرجوع في نظائر المقام، لاحظ جملة منها:

أحدها: أنّه إذا أذن المالك في رهن ملكه، ليس له الرجوع بعد الرهن(1).

ثانيها: أنّه لو أذن في دفن ميّت في ملكه، ليس له الرجوع بعد الدفن(2).

ثالثها: أنّه إذا أذن المولى في حَجّ العبد، ليس له الرجوع عن إذنه لو دخل في الإحرام(3).

رابعها: ما لو أذن لأحدٍ أن يُصلّي في ملكه، ليس له الرجوع عن إذنه بعد دخوله في الصلاة(4).

أقول: إنّ المقام ليس نظيراً لهذه الموارد، مضافاً إلى عدم تماميّة الحكم في جميع الموارد المذكورة:

أمّا المورد الأوّل: فلأنّ عدم جواز رجوع المالك عن إذنه في الرهن، إنّما يكون من جهة أنّ الرهن بحدوثه يوجبُ ثبوت حقّ للمرتهن مانعٍ عن تأثير رجوع المالك، ولا يقاس بالمقام الذي يتوقّف بقاء جواز التصرّف على بقاء الإذن، ويدور مداره حدوثاً وبقاءً .

وأمّا المورد الثاني: فإنّ رجوع من أذن في دفن ميّت في ملكه، فإنّما لايجوز بعد6.

ص: 143


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/141.
2- العروة الوثقى: ج 2/139، (ط. ج).
3- دليل الناسك للسيّد محسن الطباطبائي الحكيم، ص 16.
4- مصباح الفقيه: ج 2/176.

الدفن من جهة استلزام جوازه هتك حرمة الميّت الذي يهتمّ الشارع الأقدس بعدمه.

وأمّا المورد الأخير: فعدم جواز رجوع المولى عن الإذن في الحَجّ بعد إحرام العبد، فإنّما هو مبنيّ على عدم كون منفعة الحَجّ من المنافع المملوكة، والوجه فيه حينئذٍ ما ورد عنهم عليهم السلام أنّه: «لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق».

وبعين هذا الوجه يقال بعدم جواز رجوع الزوج عن الإذن للزوجة في الحَجّ بعد إحرامها، وعدم جواز رجوع الأب عن الإذن للابن في الحَجّ بعد إحرامه، وعدم جواز رجوع المولى عن الإذن للعبد في الاعتكاف بعد دخول اليوم الثالث، وبديهي عدم جريان هذا الوجه في المقام.

وأمّا رجوع المالك عن الإذن في الصلاة في ملكه بعد الدخول فيها، فهو جائزٌ كما أفتى به جمعٌ (1)، فإنّ الصلاة وإنْ حرم قطعها، ووجب إتمامها، إلّاأنّ رجوع المالك مع علم المُصلّي يوجب ارتفاع قيدها وهو إباحة المكان، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه، فتبطل الصلاة بنفسها، ومعلومٌ أنّ حرمة القطع مختصّة بالصلاة الصحيحة.

مع أنّه لو سُلّم البناء على عدم جواز الرجوع، فلا يقاس المقام به، فإن إتمام الحَجّ في المقام لا ينافي حرمة التصرّف في المال المبذول، لإمكان أن يحجّ بالاستقراض أو متسكّعاً أو بإجارة نفسه وما شاكل، فوجوب إتمام الحَجّ لا يوجب سلب قدرته عن ترك التصرّف في مال الغير، وهذا بخلاف مسألة الصلاة، فإنّه إذا وجب إتمامها، لابدّ من التصرّف في ملك الغير.

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز الرجوع.6.

ص: 144


1- منهم السيّد الخوئي في كتاب الحَجّ : ج 3/86.

وأمّا الجهة الثانية: فإنْ قلنا بجواز رجوع المالك عن إذنه، فلا محالة يحرم التصرّف فيه بعد الرجوع، وعليه فالضمان واضح.

وأمّا إنْ قلنا بعدم جواز رجوعه:

فإنْ استند إلى ما يدلّ على بقاء الإذن وأنّه لا يؤثّر الرجوع فيه - كما هو مقتضى أكثر الوجوه المتقدّمة - فالأظهر عدم الضمان، لأنّه مع بقاء الإذن في الإتلاف بلا عوض، لا معنى لضمانه.

وإنْ استند إلى ما يدلّ على عدم جوازه تكليفاً:

فإنْ قلنا بأنّ النهي في المعاملات وما شاكل يدلّ على الفساد، فكذلك، لأنّه يلزم منه عدم تأثير الرجوع وبقاء الإذن.

وإنْ قلنا إنّه لا يدلّ على الفساد، فيؤثّر الرجوع، فيرتفع الإذن، فالتصرّف المتلف غير مأذونٍ فيه من ناحية المالك، فيكون ضامناً.

ووجوب إتمام الحَجّ قد مرّ عدم توقّفه على التصرّف في المال المبذول(1)، لإمكان أن يحجّ متسكّعاً وما شاكل، فلا يوجب عدم الضمان.

وعلى فرض توقّفه عليه أيضاً، فإنّه لا يوجب عدم الضمان، لأنّ وجوب الإتمام والتصرّف في المال أعمٌّ من عدم احترام المال، لاحظ البذل عند المخمصة فإنّه مضمون على المتصرّف فيه بالأكل.

وأمّا الجهة الثالثة: فإنْ قلنا بعدم جواز الرجوع وبقاء الإذن فلا كلام، وإنْ قلنا بجوازه كما عرفت، فهل له أن يأخذ مصارف حَجّه وعوده إلى وطنه من الباذل أم لا؟ة.

ص: 145


1- تقدّم ذلك في الصفحة السابقة.

قد يقال بالأوّل، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع. وقد مرّ مراراً أنّه لا يُعتمد عليه مع وجود المدرك، أو ما يحتمل مدركيّته.

الوجه الثاني: قاعدة لا ضرر، فإنّ عدم أخذه منه ضررٌ عليه، ولا يعارضه ضرر المالك لإقدامه عليه.

وفيه: أنّ لا ضرر إنّما ينفي الحكم، ولا يكونُ مثبتاً له، فلا مجال لإثبات الضمان وجواز أخذ المصارف من الباذل واشتغال ذمّته به.

الوجه الثالث: قاعدة الغرور، المستفادة من النبويّ المرسل المشهور: (المغرور يرجع إلى من غَرّه)(1)، والنصوص الخاصّة الواردة في النكاح:

1 - خبر رفاعة:

«في امرأةٍ برصاء زوّجها وليّها، المتضمّن أنّ المهر على الذي زوّجها، وإنّما صار عليه المهر لأنّه دلّسها»(2).

2 - وخبر إسماعيل بن جابر، فيمن زوج غير ابنةً له مكان بنته، المتضمّن لقوله عليه السلام: «وعلى الذي زوّجه قيمة ثمن الولد، يعطيه موالي الوليدة كما غَرّ الرّجُل وخدعه»(3).

ونحوهما غيرهما، لأنّها وإنْ وردت في النكاح، إلّاأنّه من جهة ما فيها من عموم العلّة يتعدّى عن النكاح إلى غيره.8.

ص: 146


1- دعائم الإسلام: ج 2/231، ح 865.
2- الكافي: ج 5/407، ح 9، وسائل الشيعة: ج 21/212، ح 26920.
3- الكافي: ج 5/408، ح 13، وسائل الشيعة: ج 21/220، ح 26938.

وفيه: الظاهر عدم صدق الغرور على ذلك، بعد فرض جواز الرجوع.

نعم، لو قال لا أرجع فيما بذلت، واعتقد المبذول له أنّه لا يرجع فيه، صدق أنّه مغرورٌ.

الوجه الرابع: أنّ من أسباب الضمان الأمر، فلو أمر أحدٌ غيره بعملٍ ، كان ضامناً له كما هو الحال في المقام حيث أمر الباذل المبذول له بالحجّ ، فيكون ضامناً لما يخسره المبذول له من نفقة العود إلى محلّه.

وفيه: أنّ البذل وتجويز صرف المال في الحَجّ ، مع جواز الرجوع وعدم التزام الباذل بعدم الرجوع، لا يكون من قبيل الأمر المعاملي الموجب للضمان.

***

ص: 147

البذل للواحد المردّد

الأمر العاشر: لا إشكال ولا خلاف في أنّه إذا بذل المال لأن يحجّ أكثر من واحد، بل لجماعةٍ كثيرة، كما لو قال: (بذلتُ الزاد والراحلة لكلّ من في البلد لأن يحجّوا جميعهم). وجب الحَجّ على الجميع، لأنّه يصدق عرض الحَجّ على كلّ واحدٍ، وإنْ كان حين إنشاءه البذل لهم أنشأ الجميع بلفظ واحد، ولم يخاطب شخصاً معيّناً، بل لو قال: (بذلتُ الزّاد والراحلة لكلّ من يريد الحَجّ ) صدق عنوان العرض على كلّ واحدٍ وجب عليهم الحَجّ .

أقول: وبما ذكرناه يظهر ما في «الجواهر»، حيث قال: (بل إنْ لم ينعقد الإجماع على وجوبه للمبذول لهم الحَجّ على جهة الإطلاق، من دون خصوصيّة، كأن يقال:

(بذلت الزاد والراحلة لكلّ من يريد الحَجّ مثلاً) أمكن القول بعدمه، للأصل وغيره)(1) انتهى .

فإنّه مع صدق الموضوع، وإطلاق الدليل، لا وجه للرجوع إلى الأصل وغيره.

ولو بذل لأحدٍ اثنين أو ثلاثة، فالظاهر الوجوب عليهم كفايةً ، فلو ترك الجميع استقرّ عليهم الحَجّ ، فيجب على الكلّ ، وذلك لأنّ من يبذل لأحد اثنين مثلاً، لا يكون المبذول له أحدهما المعيّن، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح، ولا المخيّر، لعدم كونه فرداً ثالثاً، ولا عنوان أحدهما، لأنّ ذلك المفهوم غير قابل للبذل، فلا محالة يكون بذلاً لكلّ منهما مشروطاً بعدم سبق الآخر إلى قبوله، وعليه، فيجبُ على كلّ منهما السبق إليه، لصدق عرض الحَجّ على كلّ منهما.

وإنْتسابقا إلى أخذالمال من الباذل، وغلب أحدهما، يجبُ عليه الحَجّ بالخصوص

ص: 148


1- جواهر الكلام: ج 17/269.

وسقط عن الآخر، لفقد الشرط، وإذا تركا استقرّ الحَجّ على كلّ واحدٍ منهما.

ونظير ذلك: ما إذا وجد المتيمّمون ماءً لا يفي إلّالوضوء واحدٍ منهم، فإنّه يجب على كلّ واحدٍ منهم المبادرة إلى أخذ الماء والوضوء به، فلو ترك الجميع بطل تيمّمهم، لصدق وجدان الماء على كلّ فرد، ولو تسابقوا وغلب واحد منهم، بطل تيمّمه خاصّة، وبقي تيمّم غيره، لانكشاف عدم وجدانهم الماء.

وما ذكره بعض أعاظم المعاصرين: من أنّ الاستطاعة نوعان: ملكيّة وبذليّة، وكلتاهما في المقام غير حاصلة، لانتفاء الملك، ولعدم شمول نصوص البذل له(1).

يدفعه: ما تقدّم من شمولها لكلّ واحدٍ منهم، فراجع ما ذكرناه(2).

وأيضاً: ما أفاده في «الجواهر» بقوله: (وبالجملة المدار في المسألة أنّ وجوب الحَجّ على المبذول له، لصدق الاستطاعة المتحقّق في ذلك وأمثاله، أو أنّه لمكان الأدلّة المخصوصة، لعدم الاكتفاء بهذه الاستطاعة المشتملة على المنّة التي سقط لها، ونحوها أكثر التكاليف، ولعلّ الأخير لا يخلو من قوّة) انتهى (3).

يدفعه: أنّ المنّة الحاصله في الاستطاعة البذليّة، لا تُسقط التكليف ما لم تبلغ الحَرَج، وإلّا لما شرع الحَجّ البذلي، وعدم شمول العمومات لها ليس لأجل المنّة، بل لأجل اعتبار الملك في صدق الاستطاعة للنصوص المفسّرة إيّاها.

وبالجملة: ممّا ذكرناه ظهر أنّه لا فرق بين كون الباذل واحداً أو متعدّداً، لإطلاق دليل العرض.

***9.

ص: 149


1- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/146، تبعاً لصاحب الجواهر.
2- في الصفحة السابقة.
3- جواهر الكلام: ج 17/269.

لو آجر نفسه للخدمة وجبَ عليه الحَجّ

المسألة الحادية والعشرون: لو استأجره أحدٌ، أي طلب منه إجارة نفسه للخدمة أو التعليم وهو في طريق مكّة أو نحوهما بما يصير به مستطيعاً، فإنْ قبل وتحقّقت الإجارة، وجبَ عليه الحَجّ ، ويجزي عن حَجّة الإسلام.

وأورد عليه: بأنّ الوصول إلى تلك الأماكن قد وجب بالإجارة، فلا يتداخل الواجبان، وما الفرق بينه وبين ناذر الحَجّ في سنة معيّنة إذا استطاع في تلك السنة لحَجّة الإسلام، حيث حكموا بعدم تداخل الحَجّتين(1).

وأجاب عنه صاحب «الجواهر» رحمه الله بقوله: (ويدفع بأنّ الحَجّ الذي هو عبارة عن مجموع الأفعال المخصوصة، لم يتعلّق به الإجارة، وإنّما تتعلّق بالسفر خاصّة، وهو غير داخلٍ في أفعال الحَجّ ) انتهى (2).

ونحوه ما في «المستند»(3) وعن غيره(4).

أقول: ولكن سيأتي في محلّه إنْ شاء اللّه تعالى أنّ السفر من الميقات إلى الحرم من أفعال الحَجّ ، وأنّ ما أقامه صاحب «الجواهر» رحمه الله من النصوص، وادّعى دلالتها على كون وجوب السفر حتّى من الميقات غيريّاً لا يتمّ ، فانتظر.

فالحقّ أن يقال: إنّ الإجارة على صنفين:

ص: 150


1- مسالك الأفهام: ج 2/135.
2- جواهر الكلام: ج 17/270.
3- مستند الشيعة: ج 11/54.
4- شرائع الإسلام: ج 1/165، مدارك الأحكام: ج 7/49.

تارةً : يتعلّق الإجارة بالسفر نفسه.

واُخرى : تتعلّق بأعمال اُخر كالتعليم والخدمة.

فإنْ تعلّقت بغير السفر نفسه، فلا إشكال، إذ لا محذور في كون السفر واجباً غيريّاً بالإجارة، وواجباً نفسيّاً بالاستطاعة، فيتداخلان.

وأمّا إذا كان السفر بنفسه مستأجراً عليه، فحكمه حكم الطواف المستأجر عليه، بأن استؤجر لحمل غيره في الطواف، فإنّ الأقوال فيه أربعة:

أحدها: جواز الاحتساب عن نفسه. كما يظهر ذلك من «الشرائع»(1).

ثانيها: ما عن «المسالك» من أنّه يحتسب لكلّ من الحامل والمحمول في صورة كون الحامل متبرّعاً، أو حاملاً بجعالة، أو كان مستأجراً للحمل في طوافه لنفسه، أمّا لو استؤجر للحمل مطلقاً لم يحتسب للحامل(2).

ثالثها: ما عن جماعةٍ منهم الإسكافي، وهو أنّه لا يجور الاحتساب عن نفسه لو استؤجر للإطافة بغيره، أو لحمله في الطواف، ولو كان الحمل في طواف نفسه(3)، وبه يفترق عمّا في «المسالك».

رابعها: ما عن «المختلف» وهو أنّه يجوز الاحتساب عن نفسه لو استؤجر للحمل في الطواف، ولا يجوز ذلك لو استؤجر للطواف(4).

أقول: والحقّ في تلك المسألة هو الأوّل، إذ أنّ ما يستحقّ المستأجر إنّما هو6.

ص: 151


1- شرائع الإسلام: ج 1/165.
2- مسالك الأفهام: ج 2/177.
3- حكى السيّد الخوئي عن الشيخ الأعظم نسبته للإسكافي كما في مصباح الفقاهة: ج 1/731: (من كان أجيراًلغيره في الطواف لم يجز له أن يقصده لنفسه).
4- مختلف الشيعة: ج 4/186.

خصوص الحمل فقط، فلا ينافي مع طواف نفسه.

ودعوى : أنّه إذا آجره على الحمل في الطواف، تكون حركته حول البيت مملوكة للمستأجر، فكيف يسوغ له أن يحتسبها من طواف نفسه.

ممنوعة: لأنّ المملوك هو حركة المحمول لا الحامل، وإنْ كانتا متلازمتين.

أضعف إليه أنّ محذور التعبّد بما وقع مورد الإجارة، إنّما هو منافاة أخذ الاُجرة للعبادة، وحيث إنّه قد أثبتنا في محلّه، من كتابنا «منهاج الفقاهة»، عدم المنافاة بينهما(1)، وأنّ ذلك جائز، كما أنّه أثبتنا عدم منافاة الوجوب للاجارة، فلا مانع من وقوع ما يؤتى به لاستحقاق الغير بالإجارة على وجه العبادة لنفسه.

وما أفاده بعض المحقّقين: من أنّ أكل المال بإزاء هذا الفرد الواجب، أكلٌ للمال بالباطل(2).

يرد عليه: أنّ المُدّعى ليس عدم استحقاق الاُجرة، بل عدم وقوعه عبادة عن نفسه.

وعلى ذلك، فلو كان السفر بنفسه مستأجراً عليه، لا مانع أيضاً من التقرّب به، فيجب الحَجّ عليه، ويجزي عن حَجّة الإسلام.

نعم، لو كان نائباً عن الغير في السفر، كما في النائب عن الغير في الحَجّ ، لم يصحّ أن يحتسب به عن نفسه، إذ الفعل الواحد لا يعقل وقوعه عن شخصين وامتثالاً لأمرين متوجّهين إلى النائب المقتضي كلّ منهما للإتيان بفرد غير ما يقتضيه الآخر، فهو نظير ما لو كان عليه قضاء صلاة ظهر، وكان في وقت ظهر اليوم، فكما أنّهي.

ص: 152


1- منهاج الفقاهة: ج 2/269، بحث: (حقيقة النيابة في العبادات).
2- حكاه المصنّف في كتابه منهاج الفقاهة: ج 2/276 عن المحقّق التقي.

لا يجوز أن يأتي بصلاة واحدة امتثالاً لأمرين: القضائي والأدائي، فكذلك في المقام بلا تفاوت.

وأمّا مسألة النذر، فسيأتي البحث فيها مفصّلاً إنْ شاء اللّه تعالى .

أقول: وممّا ذكرناه ظهر أنّه كما لا مانع من وجوب الحَجّ على من آجر نفسه للخدمة أو التعليم أو المشي نفسه، كذلك لا مانع من إيجار من يكون مستطيعاً قبل الإجارة لذلك، وتصحّ الإجارة ولا تضرّ بحجّه.

نعم، لو آجر نفسه لحجٍّ بلدي، لا يجوز له أن يؤجّر نفسه لنفس المشي، لأنّ عمله هذا مملوكٌ للمستأجر الأوّل، فلا يجوز له أن يملّكه لغيره، هذا كلّه فيما لو قبل الإجارة.

فرع: هل يجب عليه إجابة المستأجر، وقبول الإجارة أم لا؟

ففي «المستند»: (المصرّح به في كلام الأكثر الثاني، لأنّه مقدّمة الواجب المشروط، وتحصيلها غير واجب، والحقّ الأوّل إذا كان ما استؤجر له ممّا لا يشقّ عليه، ويتمشّى منه) انتهى (1)، واستدلّ له:

تارةً : بأنّ الاستطاعة عبارة عن القدرة على المال الحاصلة في المقام.

واُخرى : بأنّ من يتمكّن من ما استؤجر له، وليس عليه مشقّة ومهانة وذلّة، يكون ذلك منفعة بدنيّة مملوكة له، حاصلة له، قابلاً لإيقاع الحَجّ به فيكون مستطيعاً، كما لو كان له منفعة ضيعة يفي بمؤونة الحَجّ ، غايته أنّه يبادلها بالزاد والراحلة(2).

يرد على الوجه الأوّل: ما تقدّم من أنّ الاستطاعة الماليّة عبارة عن مِلْك الزاد5.

ص: 153


1- مستند الشيعة: ج 11/54 و 55.
2- مستند الشيعة: ج 11/54 و 55.

والراحلة أو ثمنهما، وليست عبارة عن القدرة والتمكّن من المال.

وأمّا الوجه الثاني: فقد أفاد بعض اعاظم المعاصرين أنّه لو كان عمل الأجير قبل الإتيان به مالاً، لزم الحكم بوجوب الحَجّ على من يكون قادراً على عمل إنْ كان هناك مستأجرٌ، وكان مال الإجارة بمقدار الاستطاعة، ويكون الإيجار حينئذٍ من المقدّمات الوجوديّة للحجّ ، وليس ذلك تحصيلاًللاستطاعة، وقدالتزم دامَ ظلّه في آخر هذه المسألة بعدم كونه مالاً قبل الإجارة، ولذلك بنى على عدم وجوب القبول(1).

ولكن الظاهر أنّه اشتبه الأمر في المقام من ناحية الخلط بين الماليّة والملكيّة.

توضيح ذلك: أنّ لنا أمرين: أحدهما الماليّة، والآخر الملكيّة.

أمّا الماليّة: فهي حقيقة اعتباريّة ثابتة للشيء من جهة كونه ممّا يرغب إليه ويميل إليه النوع، لكونه ذا منفعة عائدة إلى الإنسان، أو أنّ نظام الاجتماع يتوقّف عليه، كما في ماليّة النقود.

وأمّا الملكيّة: التي حقيقتها السلطنة والاحاطة، فمراتبها أربع:

الأُولى: الملكيّة الحقيقيّة، وهي عبارة عن السلطنة التامّة، بنحوٍ يكون زمام أمر المملوك بيد المالك حدوثاً وبقاءً ، وهي مخصوصة باللّه تعالى .

الثانية: الملكيّة الذاتيّة، وهي الحاصلة بين الشخص ونفسه وعمله وذمّته، والمراد بالذاتي ما لا يتوقّف تحقّقه على أمر خارجي تكويني أو اعتباري، والشاهد على ثبوت ذلك السيرة القطعيّة العقلائيّة بضميمة إمضاء الشارع الأقدس إيّاها.

الثالثة: الملكيّة المقوليّة، وهي عبارة عن الهيئة الحاصلة من التعمّم والتقمّص وما شاكل.6.

ص: 154


1- الظاهر أنّ المراد به السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/156.

الرابعة: الملكيّة الاعتباريّة، وهي التي يعتبرها العقلاء أو الشارع لشخصٍ خاص من جهة المصلحة الداعية إلى ذلك.

ثمّ إنّ ما يكون مالاً تارةً يعتبرونه مِلْكاً لشخص، واُخرى لا يعتبر كذلك كما في المباحات الأصليّة.

فعلى هذا لا ريب في أنّ عمل الحُرّ قبل وقوع المعاوضة عليه، وإنْ كان مملوكاً بالملكيّة الذاتيّة، ولذلك يجوز إيقاع المعاوضة عليه، إلّاأنّه ليس مملوكاً بالملكيّة الاعتباريّة، لأنّ الملكيّة لابدّ وأن تكون عن سببٍ وهو مفقود، ولكنّه مالٌ ، ولا فرق بينه وبين عمل العبد، ولا بين قبل وقوع المعاوضة عليه وبين بعده.

ودعوى : أنّه لو كان مالاً، لكان حابسه ضامناً، مع أنّه لم يفتِ أحدٌ بالضمان إنْ لم يكن أجيراً(1).

مدفوعة: بأنّ الضمان لابدّ له من سببٍ ، وهو إمّا الإتلاف، أو اليد، أو الاستيفاء، وشيء منها لا يكون في المقام:

أمّا الأوّل: فلأنّ المال ليس مال العامل ومِلْكه حتّى يشمله قاعدة الضمان: (من أتلف مال الغير فهو له ضامن).

وأمّا الثاني: فلأنّ الحُرّ لا يدخل تحت استيلاء غيره، فإنّ الاستيلاء الموضوع لقاعدة اليد ليس عبارة عن الاستيلاء الخارجي.

وأمّا الثالث: فواضح.

فإنْ قيل: إنّ الماليّة صفة وجوديّة، ولابدّ لها من محلّ ، والعمل المعدوم لا يكون محلّاً لها.7.

ص: 155


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/157، كتاب الحَجّ للسيّد الخوئي: ج 1/197.

قلنا: إنّها من الاُمور الاعتباريّة، والاُمور الاعتباريّة تقوم بمحلّ يكون موجوداً تقديراً، والمقام كذلك، فإنّ عمل الحُرّ يقدّر وجوده بتبع وجود العامل وقدرته عليه.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ عمل الحُرّ مالٌ وليس بمِلْك، وعلى هذا فحيث أنّ الاستطاعة الماليّة متوقّفة على الملك كما تقدّم، فقبل قبوله الإجارة لا تكون الاستطاعة متحقّقة، فيصحّ القبول من قبيل شرط الوجوب لا الواجب، ومعلومٌ أنّ تحصيل الاستطاعة لا يكون واجباً، كما هو الشأن في جميع شرائط الوجوب.

وبما ذكرناه ظهر موارد المناقشة ممّا في «المستند»، وما ذكره بعض الأعاظم.

***

ص: 156

وإمكان المسير.

الاستطاعة البدنيّة

(و) الشرط السادس: (إمكان المسير) بلا خلافٍ أجد فيه.

وفي «المنتهى»: (قد اتّفق علماؤنا على اشتراط ذلك) انتهى (1).

وقد فُسّر ذلك في «التذكرة»(2)، و «المنتهى »(3)، و «الشرائع»(4) وغيرها(5)بالصحّة، وإمكان الركوب، وتخلية السِّرب، واتّساع الزمان.

أقول: ها هنا مسائل:

المسألة الأُولى : يعتبر في وجوب الحَجّ الصحّة، وهي المعبّر عنها بالاستطاعة البدنيّة، فلا يجب على المريض وإنْ وجد الزاد والراحلة، بلا خلافٍ .

وفي «المنتهى »: (ذهب إليه علماؤنا أجمع، ولا نعلم فيه خلافاً من الجمهور) انتهى (6).

وفي «المستند»: (فغير الصحيح لا يجبُ عليه الحَجّ بالإجماع) انتهى (7).

ويشهد به: - مضافاً إلى عدم صدق الاستطاعة، وإلى لزوم العُسر والحَرَج - جملةٌ من النصوص:

ص: 157


1- منتهى المطلب: ج 2/654 و 655، (ط. ق).
2- تذكرة الفقهاء: ج 1/303، (ط. ق).
3- منتهى المطلب: ج 2/654 و 655، (ط. ق).
4- شرائع الإسلام: ج 1/165.
5- المعتبر: ج 2/754، تحرير الأحكام: ج 1/92، (ط. ق)، مجمع الفائدة والبرهان: ج 6/59، وغيرها.
6- منتهى المطلب: ج 2/654 و 655، (ط. ق).
7- مستند الشيعة: ج 11/64.

منها: صحيح الخثعمي، قال: «سأل حفص الكناسي أبا عبد اللّه عليه السلام - وأنا عنده - عن قول اللّه عزّ وجلّ : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (1) ما يعني بذلك ؟

قال عليه السلام: من كان صحيحاً في بدنه، مُخلّى سربه، له زادٌ وراحلة، فهو ممّن يستطيع الحَجّ . أو قال: ممّن كان له مال.

فقال له حفص الكناسي: فإذا كان صحيحاً في بدنه، مخلّى سربه، له زادٌ وراحلة، فلم يحجّ فهو ممّن يستطيع الحَجّ؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

ومنها: صحيح هشام، عنه عليه السلام، في قوله عزّ وجلّ (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ ) إلى آخره، ما يعني بذلك ؟ قال عليه السلام: من كان صحيحاً في بدنه، مخلّى سربه، له زاد وراحلة»(3). ونحوهما غيرهما من الأخبار الكثيرة.

أقول: ولا يعارضها خبر السكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«سأله رجلٌ من أهل القدر، فقال: يا ابن رسول اللّه أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أليس قد جعل اللّه لهم الاستطاعة ؟ فقال: ويحك إنّما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة، ليس استطاعة البدن»(4).

فإنّ الظاهر أنّه دفعٌ لما توهّمه السائل من كفاية القدرة البدنيّة، ويدلّ أيضاً على أنّه يعتبر في الاستطاعة الزاد والراحلة، وإنْ أبيت عن ظهوره في ذلك فالجمع بينه وبين ما تقدّم يقتضي ذلك وإلّا فيطرح.1.

ص: 158


1- سورة آل عمران: الآية 97.
2- الكافي: ج 4/267، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/34، ح 14170.
3- وسائل الشيعة: ج 11/35، ح 14173، التوحيد: ص 350، ح 14.
4- الكافي: ج 4/268، ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/34، ح 14171.

أقول: ثمّ إنّ المرض المانع عن وجوب الحَجّ ، هو الذي يمنع عن الركوب، أو يكون حَرَجيّاً عليه، أو ضرريّاً، أو يمنع عن الإتيان بالافعال، وإلّا فمجرّد المرض لا يمنع الوجوب، وذلك - مضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه، ويشهد به مناسبة الحكم والموضوع - يدلّ عليه خبر ذريح المحاربي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من مات ولم يَحجّ حَجّة الإسلام، ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرضٌ لا يطيق فيه الحَجّ ، أو سلطانٌ يمنعه، فليمت يهوديّاً أو نصرانيّاً»(1). ونحوه غيره.

المسألة الثانية: يعتبر في وجوب الحَجّ إمكان الركوب، فلو كان صحيحاً، ولكنّه عاجزٌ عن الركوب لكبرٍ أو زيادة ضعف أو نحو ذلك، لم يجب عليه الحَجّ ، بلا خلافٍ أجده فيه، بل الظاهر أنّه إجماعي(2).

ويشهد به: أدلّة نفي العُسر والحَرَج، وما دلّ على مانعيّة المرض عن وجوب الحَجّ بعد إلغاء الخصوصيّة، ومفهوم خبر ذُريح المتقدّم وما ماثله، فإنّ مفهومه أنّ من منعه من الحَجّ حاجةً تجحفُ به، أو مرضٌ لا يطيق فيه الحَجّ ، لا بأس بتركه ولا عقاب عليه.

الإستطاعة السربيّة

المسألة الثالثة: يشترط في وجوب الحَجّ الاستطاعة السربيّة، بلا خلافٍ .

وفي المنتهي: (وعليه فتوى علماؤنا) انتهى (3).

ص: 159


1- الكافي: ج 4/268، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/29، ح 14162.
2- راجع منتهى المطلب: ج 2/655، (ط. ق)، ومسالك الأفهام: ج 2/138، ومدارك الأحكام: ج 7/54، وجواهر الكلام: ج 17/280، وغيرها.
3- منتهى المطلب: ج 2/656، (ط. ق).

وفي «التذكرة»: (عن علماؤنا)(1).

وفي «المستند»: (واشتراطها مجمعٌ عليه محقّقاً ومحكيّاً، والآية تدلّ عليه، وكثيرٌ من الأخبار المتقدّمة ترشد إليه، ونفي العُسر والحَرَج يؤكّده، وانتفاء الضرر والضرار يبيّنه) انتهى (2).

وبالجملة: فأصل الحكم ممّا لا ريب فيه، إنّما تنقيح القول يتحقّق بالبحث في فروع:

الفرع الأوّل: لو كان الطريق غير مأمون، بأن يخاف على نفسه أو عِرْضه أو ماله، فهل يسقط وجوب الحَجّ مطلقاً، أو في بعض الصور واقعاً أو ظاهراً؟

أقول: إنّ الخوف على النفس إنْ كان باحتمال التلف، لا محالة يصبح السفر محرّماً بالحرمة الواقعيّة، وإنْ كان في الواقع لا يتلف لو سافر، فلا محالة يكون وجوب الحَجّ ساقطاً واقعاً.

وأمّا إنْ كان لا بنحوٍ يحرم ارتكابه، كأنّ هناك أصلٌ عقلائي نافٍ لتخلية السِّرب، أم لم يكن، كما لو شكّ في تخلية السّرب، فلا محالة يشكّ في الاستطاعة، وفي وجوب الحَجّ ، فمقتضى الأصل العقلائي - لو كان وإلّا فأصالة البراءة - عدم وجوب الحَجّ ، غاية الأمر يكون ذلك حكماً ظاهريّاً لا واقعيّاً، فلو انكشف الخلاف، انكشف أنّه كان مستطيعاً واقعاً، وأنّه كان الحَجّ واجباً عليه، فيجبُ عليه في العام اللّاحق، ولو متسكّعاً.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّه إذا كان الحَجّ في العام اللّاحق حَرَجيّاً، يرتفع وجوبه بدليل0.

ص: 160


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/78، (ط. ج).
2- مستند الشيعة: ج 11/60.

نفي العُسر والحَرَج، وليس من قبيل من وجب عليه الحَجّ وتنجّز وجوبه، لكنّه أخّره عمداً، حيث دلّ الدليل على عدم كون العُسر والحَرَج مانعاً عن وجوبه، فتأمّله، فإنّ المسألة تحتاج إلى تأمّل زائد.

أو يقال: إنّ الحَجّ مع الخوف على العِرْض أو المال أو النفس حرجيٌّ ، فيرتفع وجوبه بدليل نفي العُسر والحَرَج.

الفرع الثاني: يكفي في وجوب الحَجّ سلامة بعض الطُرق، فلو كان هناك طريقان، وأحدههما خالياً دون الآخر، وجب السلوك من الأوّل وإنْ كان بعيداً.

وهل يشترط في الأبعد أن يعدّ عرفاً طريقاً من بدله إلى مكّة، فلو خرج الطريق لانحرافه عن كونه سبيلاً إليه عرفاً، كما لو مُنِع المدنيّ من المسير من المدينة إليمكّة، إلّا أنّه يمكن له المسير إلى الشام، ومنه إلى العراق، ومنه إلى خراسان، ومنه إلى الهند، ومنه عن طريق البحر إلى مكّة، لا يجب عليه الحَجّ ، أم لا يشترط ذلك ؟

وجهان، أقواهما الأوّل، لعدم صدق تخلية السّرب عرفاً، أضف إليه دليل نفي العُسر والحَرَج.

الفرع الثالث: لو كان في الطريق عدوٌّ لا يندفع إلّابمالٍ ، فهل يسقط الحَجّ عنه كما عن الشيخ(1) وجماعة(2)؟

أم لا يسقط، كما عن المصنّف في بعض كتبه(3)، والمحقّق(4)، وصاحب6.

ص: 161


1- المبسوط: ج 1/301.
2- كما في الإيضاح: ج 1/271، حكاه عنه في مستند الشيعة: ج 11/61.
3- تذكرة الفقهاء: ج 7/90، (ط. ج)، تحرير الأحكام: ج 1/553، (ط. ج).
4- شرائع الإسلام: ج 1/166.

«المدارك»(1) و «الذخيرة»(2) وجمع آخرين(3)؟

أم يسقط مع الإجحاف أو الضرر، ولا يسقط بدونهما، كما في «المنتهى »(4)؟

أم يسقطمع الإجحاف، ولايسقطبدونه كمافي «التذكرة»(5)، وعن «الدروس»(6)؟

وجوهٌ عديدة بعدد قائليها.

قد استدلّ للأوّل:

1 - بكون إعطاء المال إيّاه إعانة على الظلم، فلا يجوز.

2 - وبالقياس على من أخذ المال منه قهراً، الذي لا كلام ولا خلاف في سقوط الحَجّ معه.

3 - وبانتفاء تخلية السّرب.

4 - وبأنّه من تحصيل شرط الوجوب، فلا يكون واجباً.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ المحرم عناوين أربعة:

إعانة الظالم في ظلمه، بحيث يعدّ من المنسوبين إليه فيقال له: هذا كاتب الظالم مثلاً، وصيرورة الإنسان من أعوانه، وتعظيم شوكته، ومحبّته، وأمّا غير هذه الاُمور الأربعة فلا دليل على حرمته.

وإعطاء المال إيّاه لأداء الواجب، ومصانعة الظالم لتحصيل الحقّ ، إنّما هو من باب تحمّل الظلم، لا إعانة الظالم عرفاً، فتدبّر.4.

ص: 162


1- مدارك الأحكام: ج 7/62.
2- ذخيرة المعاد: ج 3/561 و 562.
3- جامع المدارك: ج 2/274، كشف اللّثام: ج 5/118، (ط. ج).
4- منتهى المطلب: ج 2/656، (ط. ق).
5- تذكرة الفقهاء: ج 7/90، (ط. ج).
6- الدروس: ج 1/313 و 314.

ويرد على الثاني أوّلاً: بالفرق بين المسألتين، فإنّه إذا كان العدوّ في الطريق يأخذ المال قهراً، يصدق عدم تخلية السّرب، وأمّا إذا كان لا يأخذ المال، إلّاأنّه لا يندفع إلّا بالمال، فالسرب مُخلّى.

وثانياً: أنّ الحكم في المقيس عليه غير مسلم، فعن «كشف اللّثام» في تلك المسألة: (لا أعرف للسقوط وجهاً وإنْ خاف على كلّ ما يملكه إذا لم يشترط الرجوع إلى الكفاية - إلى أنْ قال - بل وعلى اشتراط الرجوع إلى كفاية، وعدم الزيادة على ثمن المثل، واُجرة المثل أيضاً نقول إذا تحقّقت الاستطاعة الماليّة، وآمن في المسير على النفس والعِرض، أمكن أن لا يسقط خوفه على جميع ما يملكه، فضلاً عن بعضه، لدخوله بالاستطاعة في العمومات، وخوف التلف غير التلف) انتهى (1).

ويرد على الثالث: ما عن غير واحدٍ من منع اشتراط التخلية مطلقاً، بل المشترط تخليته بحيث يتمكّن من المسير دون مشقّةٍ وشدّة.

وبما ذكرناه يظهر ما في الرابع.

وقد استدلّ للثاني: بحصول الاستطاعة والقدرة، فيتناوله الآية والأخبار.

ويرد عليه أوّلاً: إنّ تخلية السّرب المأخوذة في النصوص قيداً للاستطاعة، عبارة عن كونه بحيث يتمكّن من أن يواصل حركته وسيره فيه نحو مكّة دون مشقّة شديدة أو ضرر يعتدّ به، زائداً عمّا هو لازم قطع المسافة، وعليه فإذا كان إعطاء المال إجحافاً أو ضرراً لا يصدق تخلية السّرب، فلا يجبُ الحَجّ .

أضف إلى ذلك أنّه في مورد لزوم المشقّة الشديدة، والضرر، فإنّ مقتضى أدلّة نفي العُسر ونفي الضرر سقوط وجوب الحَجّ عنه.).

ص: 163


1- كشف اللّثام: ج 5/118، (ط. ج).

وما أفاده بعض الأعاظم: من أن أدلّة وجوب الحَجّ مخصّصة لأدلّة نفي الضرر، لاقتضائها وجوب صرف المال، نظير أدلّة وجوب الإنفاق على الرحم، فلا مجال لإعمال أدلّة نفي الضرر معها(1).

ممنوع: لأنّ تخصيص أدلّة نفي الضرر بدليل الحَجّ ، إنّما يكون في خصوص المال المصروف في سبيل الحَجّ ، والمقام ليس من هذا القبيل، بل هو شيءٌ زائد.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو السقوط مع الإجحاف أو الضرر، كما أفاده المصنّف رحمه الله.

ولا فرق في الضرر الموجب لعدم تخلية السّرب، بين أن يؤخذ المال المتضرّر به قهراً أو نهباً أو صلحاً أو هدية، بأن يتصالح العدوّ ويرتفع عن الطريق بسبب أخذ المال، أو سلطاناً أو رياسة بأن يقهر أخذ مال لمن يحجّ ، أو يجتاز عن تحت ولايته.

ولكن الظاهر خروج ما تأخذه الحكومات عادةً من ضرائب ورسوم وما شاكل، فإنّ ذلك يُعدّ من المصارف العاديّة للسفر.

الفرع الرابع: كما يشترط خلوّ السّرب عن العدوّ، يشترط خلوّه عن الموانع الاُخر، فلو كان في بعض المنازل أو في مكّة نفسها أمراض مُعدية متفشّية كالوباء أو شبه الوباء المسمّى بالتور، وما شاكل وخاف على نفسه لا يجب.

الفرع الخامس: ولو تحمّل الضرر وحجّ ، فإن كان الضرر قبل الإحرام من الميقات، صَحَّ حَجّه، وأجزأ عن حَجّة الإسلام، لحصول الاستطاعة بعد تحمّل الضرر، وإنْ كان تحمّل الضرر بعده، لم يُجزئ عن حَجّة الإسلام، وقد تقدّم وجهه في بعض المسائل المتقدّمة.

***2.

ص: 164


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/172.

الاستطاعة الزمانيّة

المسألة الرابعة: يشترط في وجوب الحَجّ الاستطاعة الزمانيّة، فلو كان الوقت ضيّقاً لا يمكنه الوصول إلى الحَجّ ، أو أمكن ولكن بمشقّة شديدة لم يجب، كما هو المشهور شهرة عظيمة، بل لا خلاف فيه.

وفي «التذكرة»(1)، و «المستند»(2)، وعن «كشف اللّثام»(3) دعوى الإجماع عليه.

وفي «المستند»: (للإجماع، وفقد الاستطاعة، ولزوم الحَرَج والعذر، وكونه أمراً يعذره اللّه فيه، كما صرّح به في بعض الأخبار)(4) انتهى ، ولا بأس به.

***

ص: 165


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/92، قوله: (لم يجب الحَجّ في ذلك العام عند علمائنا).
2- مستند الشيعة: ج 11/65.
3- كشف اللّثام: ج 5/123، (ط. ج).
4- راجع وسائل الشيعة: ج 11 / باب 34 من أبواب وجوب الحَجّ وشرائطه.

لو اعتقد أنّه غير مستطيعٍ فبان الخلاف

المطلب الثالث: في جملةٍ من أحكام حَجّة الإسلام، غير ما تقدّم في ضمن المطلب الثاني، وتفصيل القول فيها في ضمن مسائل:

المسألة الأُولى: إذا اعتقد أنّه غير مستطيعٍ لفقد قيدٍ من القيود، وكان مستطيعاً حقّاً:

فإنْ اعتقد كونه غير بالغٍ ، مع تحقّق سائر الشرائط: فتارةً يأتي بالحجّ ، واُخرى يتركه، فإنْ أتى به بداعي الأمر الندبي، فقد حكم صاحب «العروة»(1) بأنّه لو قصد الأمر المتعلّق به فعلاً، وتخيّل أنّه أمرٌ ندبي، أجزأ المأتي به عن حَجّة الإسلام، لأنّه حينئذٍ من باب الاشتباه في التطبيق، وأمّا لو قصد الأمر الندبي على وجه التقيّيد، لم يجزئ عنها، وإنْ كان حَجّه صحيحاً.

أقول: ولكن الحقّ أنّه لو التزمنا بتباين الحَجّ الإسلامي عن الحَجّ الندبي، واعتبرناهما صنفين نظير صلاة الظهر والعصر، لا يجزي في الصورتين، وإلّا فيجزي كذلك، وذلك لأنّ الميزان في صحّة العبادة، الإتيان بذات المأمور به بجميع قيوده متقرّباً إلى اللّه تعالى ، ولا يعتبر فيها شيءٌ آخر، ولو نقصت عن ذلك لم تصحّ ، وعليه فلو صَلّى في أوّل الوقت بتخيّل أنّه صَلّى الظهر لم تصحّ على القاعدة، وإنْ كان قَصَد الأمر بالعصر على نحو الدّاعي، لأنّ حقيقة صلاة العصر تُغاير حقيقة صلاة الظهر، كما يكشف عن ذلك اختلاف أحكامهما، فإذا لم يقصد حقيقة إحداهما وقَصَد الاُخرى لا تقع عنها، لعدم تحقّقها.

ص: 166


1- العروة الوثقى : ج 4/388 (ط. ج).

فعلى هذا، مع الالتزام بتباين الحَجّ الإسلامي ومغايرته للحجّ الندبي، لو أتى بالحجّ الندبي ولم يقصد الحَجّ الإسلامي وإنْ كان قاصداً لامتثال الأمر الفعلي وتخيّل أنّه الأمر الندبي، وإنْ لم يكن مغايراً معه صَحَّ ، وإنْ كان قصده الأمر الندبي على وجه التقييد، وسيأتي الكلام في المبنى.

ودعوى : أنّه إذا قيّد حَجّه بالندبي وقصد الإتيان به كذلك، فإذا لم يكن ندبيّاً فحَجّه هذا لا يكون مقصوداً.

ممنوعة: بأنّه إذا لم يكن هذا العنوان دخيلاً في المأمور به، بل كان من العناوين المنطبقة عليه من جهة كون الآتي به غير بالغ مثلاً، فمَن قصد هذا العنوان وتعلّقت إرادته بإيجاده، فقد انبعثت عنها إرادة اُخرى إلى معنونه، فذات الحَجّ مقصود بتبع قصد الحَجّ الندبي.

أضف إلى ذلك أنّ هذا الوجه لا يختصّ بصورة التقييد، بل يعمّ ما إذا كان ذلك على نحو الدّاعي، إذ مع اعتقاد أنّ حَجّه ندبي لا محالة يقصد ذلك، فالحَجّ الإسلامي غير مقصودٍ وإنْ كان لو اعتقد عدم كونه كذلك لقصد غيره.

وإنْ ترك الحَجّ مع وجود شرائط الحَجّ ، فالظاهر استقرار وجوب الحَجّ عليه، وإنْ فقد بعد ذلك بعض الشرائط، كما إذا تلف ماله، فإنّ البلوغ بحسب ما يستفاد من الأدلّة شرط واقعي لوجوب الحَجّ ، من دون دخل للعلم والجهل فيه، فهو ممّن يجب عليه الحَجّ وتركه، فيجب عليه الإتيان به، و الظاهر أنّه لا خلاف فيه أيضاً.

قال صاحب «الجواهر»: (لا خلاف ولا إشكال نصّاً وفتوى، في أنّه يستقرّ الحَجّ في الذمّة إذا استكملت الشرائط وأهمل حتّى فات، فيحجّ في زمان حياته، وإنْ

ص: 167

ذهبت الشرائط التي لا ينتفي معها أصل القدرة، ويقضى عنه بعد وفاته) انتهى (1)، ونحوه كلام غيره(2).

أقول: وإنْ اعتقد أنّه غير مستطيعٍ من حيث المال، وكان في الواقع مستطيعاً، فإنْ حَجّ فالكلام فيه كما في سابقه، وإنْ ترك الحَجّ ثمّ تذكّر بعد أن تلف المال، فالظاهر استقرار وجوب الحَجّ عليه، لأنّ الجهل والغفلة لا يمنعان عن الاستطاعة، لعدم دخل العلم فيها، فمقتضى إطلاق دليل وجوب الحَجّ على من هو مستطيعٌ واقعاً وجوبه عليه.

قال المحقّق القمّي رحمه الله: الحكم في هذه الصورة عدم الاستطاعة، وعدم استقرار وجوب الحَجّ عليه(3)، والظاهر أنّه استند إلى النصوص المتقدّمة، الدالّة على أنّ من ترك الحَجّ ولم يكن له شغلٌ يعذره اللّه تعالى ، فقد ترك فريضةً من فرائض الإسلام، بدعوى أنّها تدلّ على مانعيّة العذر - ومنه الجهل بالموضوع - عن الاستطاعة ووجوب الحَجّ .

أقول: الظاهر منها إرادة العذر الواقعي، ولا تشمل قصور المكلّف من جهة جهله واشتباهه، فتأمّل، فإنّ مقتضى إطلاقه أنّ المانع عن الإتيان بالحجّ إنْ كان عذراً يعذره اللّه تعالى ، ومن البديهي أنّ الجهل بالموضوع كذلك لا يستقرّ الحَجّ عليه، فما أفاده المحقّق القمّي رحمه الله متين.

فرع: لو اعتقد المانع من العدو أو الضرر أو الحَرَج:6.

ص: 168


1- جواهر الكلام: ج 17/298.
2- العروة الوثقى: ج 4/387، (ط. ج).
3- حكاه عنه السيّدالحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/111، والسيّد الخوئي في كتاب الحَجّ : ج 1/136.

فإنْ حَجّ وتبيّن عدمه فالكلام فيه ما تقدّم.

وإنْ ترك الحَجّ ، فبانَ الخلاف، فهل يستقرّ عليه الحَجّ أم لا؟ وجهان:

اختار سيّد «العروة» الثاني، واستدلّ له بأنّ المناط في الضرر الخوف وهو حاصل(1).

وفيه: أنّ تخلية السّرب التي أُخذت شرطاً للاستطاعة، وكذلك الضرر المأخوذ مانعاً، إنّما هي بوجودها الواقعي شرط، وهذا بوجوده الواقعي مانعٌ ، إلّافي خصوص خوف تلف النفس، وعليه فحيثُ أنّ الشرط متحقّقٌ في الفرض والمانع مفقود، يصبح البناء على الأوّل متعيّناً.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ الحَجّ مع اعتقاد وجود المانع من العَدوّ المضرّ بنفسه حَرَجٌ عظيم، فمقتضى أدلّة نفي الحَرَج رفع وجوبه. وقد تقدّم الكلام في ذلك في الفرع الأوّل من الفروع المتفرّعة على اعتبار الاستطاعة السربيّة فراجع(2). وإنْ اعتقد عدم الضرر، أو عدم الحَرَج فحجَّ فبانَ خلافه، فالظاهر كفايته، لأنّ اعتبار عدم الضرر أو الحَرَج في الاستطاعة:

إنْ كان بمثل صحيح الحلبي المتضمّن منافاة العذر للاستطاعة، فهو مختصّ بمن ترك الحَجّ ، ولا يشمل مَن حَجّ .

وإنْ كان بالأدلّة العامّة الدالّة على نفي الضرر والحَرَج، فحيث إنّها واردة في مقام الامتنان، ولا امتنان في رفع الوجوب في الفرض، فلا تدلّ على عدمه.

***ع.

ص: 169


1- العروة الوثقى: ج 4/420، (ط. ج).
2- تقدّم ذلك في الصفحات السابقة من هذا الجزء فراجع.

فلو حجّ الصبي لم يجزئه.

حجّ الصبي لا يجزي عن حجّة الإسلام

المسألة الثانية: قد مرّ أنّه يشترط في وجوب الحَجّ البلوغ (فلو حَجّ الصبي لم يجزئه) عن حَجّة الإسلام، بل لا خلاف أنّه تجب عليه بعد البلوغ والاستطاعة.

وفي «الجواهر»: (إجماعاً بقسميه)(1)، وفي «التذكرة»: دعوى إجماع علماء الإسلام عليه(2).

ويشهد به: خبر مسمع عن الإمام الصادق عليه السلام: «لو أنّ غلاماً حجّ عشر حجج، ثمّ احتلم كانت عليه فريضة الإسلام»(3).

وخبر اسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن ابنِ عشر سنين يحجُّ؟ قال عليه السلام: عليه حَجّة الإسلام إذا احتلم، وكذا الجارية عليها الحَجّ إذا طمثت»(4).

ومثله خبر شهاب(5).

وأمّا خبر أبان، عن الحكم، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: الصبي إذا حُجّ به فقد قضى حجّة الإسلام حتّى يكبر»(6).

فبقرينة (حتّى يكبر) يكون ظاهره إرادة الحَجّ المشروع في حقّه، أو ثواب حجّة الإسلام.

ص: 170


1- جواهر الكلام: ج 17/229.
2- تذكرة الفقهاء: ج 7/36، (ط. ج)، قوله: (أجمع علماء الأمصار).
3- الكافي: ج 4/278، ح 18، وسائل الشيعة: ج 11/46، ح 14200.
4- الفقيه: ج 2/435، ح 2898، وسائل الشيعة: ج 11/44، ح 14197.
5- الكافي: ج 4/276، وسائل الشيعة: ج 11/45، ح 14198.
6- الفقيه: ج 2/436، ح 2900، وسائل الشيعة: ج 11/45، ح 14199.

إلّا إذا أدرك أحد الموقفين بالغاً.

أقول: إنّما الكلام فيما أفاده المصنّف رحمه الله وفاقاً للمشهور، بقوله: (إلّا إذا أدرك أحد الموقفين بالغاً).

قال صاحب «التذكرة»: (إنْ بلغ الصبي أو اعتق العبد قبل الوقوف بالمشعر، فوقف به أو بعرفة بالغاً أو معتقاً، وفعل باقي الأركان أجزأ عن حَجّة الإسلام، وكذا لو بلغ أو اعتق وهو واقف، عند علماؤنا أجمع) انتهى (1).

وعن «الخلاف» أيضاً دعوى الإجماع عليه(2).

وفي «المنتهى »(3)، و «الحدائق»(4)، و «الشرائع»(5)، وعن «المعتبر»(6)، و «المدارك»(7) التردّد في الحكم.

وفي «العروة»: (فالقول بالإجزاء مشكلٌ ، والأحوط الإعادة إنْ كان مستطيعاً، بل لا يخلو عن قوّة..) انتهى (8).

وفي «المستند» نسب المنع إلى جمعٍ من متأخّري المتأخّرين، وجعله الأظهر(9).2.

ص: 171


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/299، (ط. ق).
2- الخلاف: ج 2/378 و 379.
3- منتهى المطلب: ج 2/728، (ط. ق).
4- الحدائق الناضرة: ج 14/74.
5- شرائع الإسلام: ج 1/164.
6- المعتبر: ج 2/749.
7- مدارك الأحكام: ج 7/22.
8- العروة الوثقى: ج 4/351 و 352، (ط. ج).
9- مستند الشيعة: ج 11/21 و 22.

استدلّ للإجزاء بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع. وقد مرّ مراراً أنّ الإجماع الحَجّة هو التعبّدي الكاشف عن رأي المعصوم عليه السلام، ومع معلوميّة مدرك المجمعين لا يعتمد عليه.

الوجه الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم من المعاصرين، بقوله: (إنّ عمومات التشريع الأوّليّة، تقتضي الصحّة، وليس ما يستوجب الخروج عنها إلّاما تقدّم من النصوص الدالّة على اعتبار البلوغ في مشروعيّة حَجّة الإسلام، لكنّها مختصّة بصورة ما إذا وقع تمام الحَجّ قبل البلوغ، ولا تشمل صورة ما إذا بلغ في الأثناء، فتبقى الصورة المذكورة داخلة في الإطلاق المقتضي للصحّة) انتهى (1).

وفيه أوّلاً: إنّ حديث رفع القلم - كما مرّ - يدلّ على أنّ الصبي خارج عن تحت تلك الأدلّة رأساً، وإنّما نقول باستحباب الحَجّ له، للنصوص الخاصّة.

وثانياً: أنّ مقتضى إطلاق دليل القيد - أي النصوص الخاصّة الدالّة على اعتبار البلوغ - تقيّيد تلك العمومات واختصاصها بالبالغين.

وثالثاً: ما تفطّن له القائل رحمه الله، وقال: (نعم، لازم ذلك المشروعيّة أيضاً لو بلغ بعد الوقوف، قبل إتمام أعمال الحَجّ ، وبرغم دعوى قيام الإجماع على خلافه، لكن يمكن دفعه بأنّ الإجماع المذكور هو الموجب للخروج عن مقتضى الأدلّة)، فتدبّر(2).

الوجه الثالث: ما عن بعض المحقّقين، وهو أنّ الحَجّ الذي أُمر به الصبي استحباباً هو الذي أُمر به البالغ وجوباً، بلا تفاوت لواجديّة كلّ منهما للملاك، غاية الأمر أنّ الاختلاف في لون الأمر المتعلّق بهما، وعليه فمتضى القاعدة هو الإجزاء حتّى فيما1.

ص: 172


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/31.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/31.

لو بلغ بعد العمل، نعم بمقتضى الأخبار لابدَّ من الالتزام بعدم الإجزاء إذا بلغ بعد العمل.

وفيه: لا سبيل لنا لإحراز وحدة الملاك، سيّما بعدما ورد من عدم إجزاء حَجّه لو بلغ بعد العمل، ومن المحتمل دخل البلوغ في ملاك حَجّة الإسلام، وحجّ الصبي يكون فيه ملاك آخر أضعف من ذلك الملاك، أو مغايراً معه.

الوجه الرابع: أنّ مقتضى الإطلاقات الأوّليّة الشاملة للصبي أيضاً، أنّ المطلوب من الجميع شيءٌ واحد، وبمقتضى حديث رفع القلم يرفع الإلزام عن الصبي ويبقى أصل الطلب، والنصوص المتضمّنة لاستحبابه على الصبي لاتكون بصدد جعل حكمٍ آخر، بل مبيّنة لما يستفاد من الأدلّة العامّة، وعليه فالإجزاء يكون على القاعدة.

وفيه: أنّ حديث رفع القلم إنّما يرفع الحكم لا خصوص الإلزام الذي هو بحكم العقل، كما حُقّق في محلّه(1)، وأشرنا إليه في هذا الشرح مراراً، وبعد ارتفاع أصل الحكم والطلب لا سبيل لهذه الدعوى .

الوجه الخامس: النصوص الدالّة على إجزاء حَجّ العبد عن حَجّة الإسلام إذا اعتق قبل المشعر، بدعوى عدم خصوصيّة للعبد في ذلك، بل المناط الشروع حال عدم الوجوب لعدم الكمال، ثمّ حصوله قبل المشعر:

منها: صحيح شهاب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجلٍ أعتق عشيّة عرفة عبداً له ؟ قال عليه السلام: يجزي عن العبد حَجّة الإسلام، الحديث»(2).7.

ص: 173


1- راجع زبدة الأُصول: مبحث (عموم الحديث للشبهة الحكميّة والموضوعيّة).
2- الكافي: ج 4/276، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/52، ح 14217.

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: مملوكٌ اُعتق يوم عرفة ؟ قال عليه السلام: إذا أدرك أحد الموقفين فقد أدرك الحَجّ »(1).

ونحوهما غيرهما.

وفيه: أنّ استكشاف كون المناط ما ذكر، بعدما لا دلالة للنصوص، بل ولا إشعار فيها به، لابدّ وأن يكون من جهة القطع بالمناط، وحيث إنّه لقصورنا عن درك مناطات الأحكام، لا يحصل لنا القطع بالمناط، فلا سبيل إلى دعوى إلغاء خصوصيّة العبد، قال صاحب «العروة»: (مع أنّه لازمه الالتزام به فيمن حَجّ متسكّعاً، ثمّ حصل له الاستطاعة قبل المشعر ولا يقولون به) انتهى (2).

الوجه السادس: ما ورد من الأخبار من أنّ من لم يحرم من الميقات حتّيدخل مكّة، أحرم من حيث أمكنه، كصحيح جميل بن درّاج، عن سورة بن كليب، قال:

«قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: خرجتْ معنا إمرأة من أهلنا، فجهلتِ الإحرام، فلم تحرم حتّى دخلنا مكّة، ونسينا أن نأمرها بذلك ؟ قال عليه السلام: فمروها فلتحرم من مكانها من مكّة أو من المسجد»(3)، ونحوه غيره، بتقريب أنّه يستفاد منها أنّ الوقت صالحٌ لانشاء الإحرام، فيلزم أن يكون صالحاً للانقلاب أو القلب بالأولى.

وفيه: أنّ ذلك قياسٌ مع الفارق، كما اعترف به صاحب «الجواهر» رحمه الله(4).

الوجه السابع: الأخبار الدالّة على أنّ من أدرك المشعر، فقد أدرك الحَجّ كخبر1.

ص: 174


1- الفقيه: ج 2/432، ح 2892، وسائل الشيعة: ج 11/52، ح 14218.
2- العروة الوثقى: ج 4/351، (ط. ج).
3- الكافي: ج 4/326، ح 12، وسائل الشيعة: ج 11/329، ح 14935.
4- جواهر الكلام: ج 17/231.

وكذا العبد.

جميل: «من أدرك المشعر يوم النحر، من قبل زوال الشمس، فقد أدرك الحَجّ »(1).

ونحوه غيره، بتقريب أنّ المستفاد منها عموم الحكم لكلّ من أدركه، من غير فرق بين الإدراك بالكمال وغيره، فإذا بلغ الصبي قبل المشعر، فقد أدرك الحَجّ بالغاً، فحجّه حَجّة الإسلام.

وفيه أوّلاً: أنّ موردها من لم يدرك غير الوقوف بالمشعر، وليس فيها لفظٌ عامٌ يشمل كلّ من أدرك المشعر جامعاً للشرائط، حتّى يقال إنّ خصوص المورد فيها لا يُخصّص الوارد.

وثانياً: أنّها تدلّ على أنّ من أدرك المشعر فقد أدرك الحَجّ ، ولا تدلّ على أنّ ما أدركه هل هو الحَجّ الواجب أو المندوب، بل مقتضى إطلاقها أنّه إنْ كان واجباً فقد أدرك الواجب، وإنْ كان مستحبّاً فقد أدرك المستحبّ ، وإذا بلغ الصبي قبل المشعر، ولم يكن بالغاً من أوّل الأعمال، فبأيّ دليلٍ يثبت وجوب الحَجّ عليه، حتّى يقال إنّه أدرك حَجّاً واجباً بإدراك المشعر.

فالمتحصّل: أنّه لا دليل على الإجزاء، نعم ما أفاده بقوله: (وكذا العبد) يتمّ لدلالة النصوص عليه.

***6.

ص: 175


1- الكافي: ج 4/476، ح 3، وسائل الشيعة: ج 14/40، ح 18536.

عدم اعتبار تجديد النيّة بعد البلوغ

أقول: على تقدير القول بالإجزاء، فها هنا فروعٌ لابدَّ من التعرّض لها:

الفرع الأوّل: هل يشترط في الاجزاء تجديد النيّة للإحرام بحجّة الإسلام بعد البلوغ لتكون نيّته من باب القلب، أم لا يشترط ذلك بل تنقلب نيّته شرعاً؟

وعلى الثاني: هل يعتبر تجديد نيّة الوجوب أم لا؟ وجوهٌ وأقوال.

فعن «الخلاف»: وجوب تجديد نيّة الإحرام(1).

وعن «المعتبر»(2)، و «المنتهى »(3)، و «الروضة»(4): وجوب تجديد نيّة الوجوب.

وعن «الدروس»:(5) وجوب تجديد النيّة.

وفي «الجواهر»(6)، و «العروة»(7)، وغيرهما: عدم لزوم تجديد شيءٍ منهما.

أقول: ومنشأ الاختلاف إنّما هو أمران:

الأمر الأوّل: أنّ حَجّة الإسلام هل هي مثل صلاة الظهر من العناوين القصديّة الدخيلة في ماهيّة المأمور به أم لا؟

وعلى الثاني: لا مورد للبحث في لزوم تجديد نيّة حَجّة الإسلام أو تجديد نيّة الإحرام، كما لا يخفى .

ص: 176


1- الخلاف: ج 2/378 و 379.
2- المعتبر: ج 2/749.
3- منتهى المطلب: ج 2/649، (ط. ق).
4- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/164.
5- الدروس: ج 1/306.
6- جواهر الكلام: ج 17/232.
7- العروة الوثقى: ج 4/352 و 353، (ط. ج).

والحقّ هو الثاني، كما يقتضيه الإطلاق المقامي في النصوص الواردة في العبد المُدرِك للمشعر معتَقاً، فإنّها تدلّ على الإجزاء، ولو كان حجّة الإسلام عنواناً قصديّاً، كان اللّازم هو التنبيه على لزوم تجديد النيّة، ويقتضيه أيضاً أصالة البراءة، لأنّه يشكّ في لزوم قصدها والأصل يقتضي العدم.

واستدلّ للأوّل: بما ورد في تلك النصوص من قوله عليه السلام: (إذا أدرك أحد الموقفين فقد أدرك الحَجّ ) فإنّه إذا لم يكن حَجّة الإسلام غير ما بيده من الحَجّ ، لما اختصّ الإدراك بالموقف، بل كان الإدراك للحَجّ من الأوّل.

وفيه: أنّه يُصحّح هذا التعبير صيرورته واجباً من ذلك الحين، فقوله: (أدرك الحَجّ ) أي أدرك الحَجّ الواجب.

وأيضاً: هل يجب تجديد نيّة الوجوب أم لا؟ وجهان:

أقول: الأظهر هو الثاني، لأنّ الوجوب والاستحباب أمران انتزاعيّان ينتزعان من الترخيص في ترك المأمور به وعدمه، وإلّا فالطلب فيهما واحد لا اثنينيّة فيه، فلا وجه لوجوب تجديد نيّته.

الأمر الثاني: على القول بأن حَجّة الإسلام من العناوين القصديّة:

هل الحَجّ الذي تحقّق البلوغ فيه قبل أحد الوقوفين هو حَجّ الإسلام من حين وقوعه ؟

أو يكون حَجّ الإسلام من حين البلوغ ؟

أو يكون غيره حتّى بعد البلوغ، لكنّه يجزي عن حَجّ الإسلام، فهو مستحبّ يجزي عن الواجب، أو واجبٌ يجزي عن واجب آخر؟

فعلى الأوّل: لا يجبُ تجديد نيّة حَجّ الإسلام، ولا نيّة الإحرام، غاية الأمر على

ص: 177

القول باعتبار قصد الوجوب يجدّد نيّته، لأنّه حال وقوعه لم يكن واجباً، وأصبح في الأثناء واجباً.

وعلى الثاني: لابدّ وأنْ يجدّد نيّة الموضوع لتبدّله.

وعلى الثالث: لا يجدّد نيّة الموضوع، ولا نيّة الوجوب.

وعلى الرابع: يجدّد نيّة الوجوب.

وحيثُ إنّ استفادة الإجزاء كانت من استكشاف المناط وما شاكل، فلا سبيل إلى إحراز أحد الوجوه، فيتعيّن الرجوع إلى الأصل، وهو يقتضي عدم اعتبار تجديد النيّة مطلقاً.

اعتبار الاستطاعة حين الكمال

الفرع الثاني: إذا بلغ الصبي أو اعتق العبد قبل الوقوف أو في وقته، وقلنا بالإجزاء:

فهل يشترط كونه مستطيعاًمن الميقات، كماعن «الدروس»(1)، و «الروضة»(2)؟

أو يكفي استطاعته من حين الكمال، كماعن «كشف اللّثام»(3)، وفي «المستند»(4)؟

أوّلاً يشترط ذلك أصلاً، كماعن «المدارك»(5)، وفي «الجواهر»(6) و «العروة»(7)،

ص: 178


1- الدروس: ج 1/308.
2- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/165.
3- كشف اللّثام: ج 1/286، (ط. ق).
4- مستند الشيعة: ج 11/22.
5- مدارك الأحكام: ج 7/23.
6- جواهر الكلام: ج 17/232، قوله: (كما أنّ الأقوى عدم اعتبار الإستطاعة بعد الكمال).
7- العروة الوثقى: ج 4/354، (ط. ج).

بل نُسب ذلك إلى الأكثر، لعدم تعرّضهم اعتبار الاستطاعة ؟

أقول: يشهد للأوّل إطلاق ما دلّ على اعتبار الاستطاعة في وجوب الحَجّ من الآية والأخبار.

ودعوى : انصرافها عن المقام غير ظاهرة، وعلى فرضه فهو بدويٌّ يزول بعد التأمّل.

واستدلّ للثاني: - بعد تسليم إطلاق الأدلّة - بأنّ الاستطاعة إنّما تكون شرطاً حال الوجوب لا قبله، إذ لا دليل على اعتبارها قبله في غير المقام، فضلاً عن المقام.

وفيه: أنّ الدليل إنّما يدلّ على اعتبار الاستطاعة من أوّل الأعمال إلى آخرها في الوجوب.

وبعبارة اُخرى : إنّ الدليل على اعتبارها في المقام، هو الدليل على اعتبارها في غير المقام، وبديهي أنّه يدلّ على اعتبارها من أوّل الأعمال إلى آخرها، وعدم اعتبارها قبل الوجوب في غير المقام، ليس لأجل اعتبارها من حين الوجوب، بل من جهة عدم سبق شيء من الأعمال على الوجوب.

واستدلّ للثالث: بإطلاق نصوص الباب، حيث أنّها تدلّ على إجزاء حَجّ من كمل قبل أحد الموقفين، من غير تفصيلٍ بين المستطيع وغيره.

وحينئذٍ، فإنْ قلنا بانصراف نصوص اعتبار الاستطاعة عن المقام، فالحكم واضح، وإنْ قلنا بشمولها للمقام أيضاً، يقع التعارض بينهما، والنسبة عموم من وجه، والترجيح لما هنا من وجوه. كما في «الجواهر».

ويرد عليه أمران:

ص: 179

الأمر الأوّل: أنّ إطلاق نصوص المقام مسوقٌ لبيان أنّ الكمال وإنْ كان معتبراً من أوّل الأعمال، إلّاأنّه يكتفي بالكمال الحاصل قبل الموقف أو في وقته، وليس في مقام البيان من ناحية سائر الشرائط، كي يقال إنّ مقتضى إطلاقها عدم اعتبار سائر الشرائط.

الأمر الثاني: أنّه لو سُلّم دلالتها بالإطلاق على عدم اعتبارها، فقد ادّعي انصراف ما دلّ على اعتبار الاستطاعة في حَجّة الإسلام عن المقام، لكن قد عرفت ما فيها.

وأمّا على فرض التعارض فعلى ما هو الحقّ من الرجوع إلى المرجّحات في تعارض العامين من وجهٍ - كما يظهر من صاحب «الجواهر»(1)، والفاضل النراقي(2)، أنّ مختارهما أيضاً ذلك - فالترجيح يكون مع نصوص الاستطاعة، للأشهريّة، حتّى أنّ بعض الأجلّة ادّعى قيام الإجماع على اشتراط الاستطاعة، وموافقة الكتاب.

فتحصّل: أنّ الأظهر اعتبارها من حين الإحرام.

أقول: ولا يخفى أنّه لا سبيل إلى توهّم اعتبار الاستطاعة من البلد، لأنّ طيّ الطريق من البلد إلى الميقات، ليس ممّا يعتبر في الحَجّ ، بل هو مقدّمة وجوديّة له، فيكفي تحقّقها من أوّل الإحرام.

وعليه، فما عن ظاهر الشهيدين - على ما في «الحدائق»(3) - من اشتراط حصول الاستطاعة في البلد ضعيفٌ .2.

ص: 180


1- جواهر الكلام: ج 17/232 و 233.
2- مستند الشيعة: ج 11/22.
3- الحدائق الناضرة: ج 14/62.

عدم الفرق بين حجّ التمتّع والحجّين الآخرين

الفرع الثالث: هل الحكم المذكور آنفاً مختصٌّ بحجّ الإفراد والقران، أو يجزي في حَجّ التمتّع أيضاً؟ وجهان:

فعن «المسالك»(1)، و «كشف اللّثام»(2): الأوّل.

وفي «الجواهر»(3)، وعن «الخلاف»(4)، و «التذكرة»(5)، وفي «العروة»(6):

الثاني، بل عن «الدروس»(7) نسبته إلى ظاهر الفتوى.

أقول: مقتضى إطلاق النّص في العبد هو الثاني.

واستدلّ للأوّل: بأنّ العمرة فعلٌ آخر مفصول منه، وقعت بتمامها في حال النقص، كعمرة أوقعها في عامٍ آخر، فلا جهة للاكتفاء بها، فيكون كمن عدل إلى الإفراد اضطراراً، فإذا أتمّ المناسك أتى بعمرةٍ مفردة في عامه ذلك(8).

وفيه: إنّ إطلاق النّص يدلّ على الاجتزاء بما أتى به من العمرة، بعد فرض أنّ الحَجّ والعمرة عملٌ واحد، بل على فرض التعدّد أيضاً يمكن التمسّك بإطلاقه المقامي، فإنّه مع كونه في مقام البيان، لم يتعرّض لإعادة العمرة، واللّه العالم.

***

ص: 181


1- مسالك الأفهام: ج 2/125.
2- كشف اللّثام: ج 1/286، (ط. ق).
3- جواهر الكلام: ج 17/233.
4- الخلاف: ج 2/380.
5- كما حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 17/233.
6- العروة الوثقى: ج 4/355، (ط. ج).
7- الدروس: ج 1/308.
8- كشف اللّثام: ج 1/286، (ط. ق).

استحباب الحَجّ للصبي المميّز

المسألة الثالثة: يستحبّ للصبي المميّز أن يحجّ ، وإنْ لم يكن مُجزئاً عن حَجّة الإسلام، بلا خلافٍ ، كما هو ظاهر «التذكرة»(1)، و «المنتهى »(2)، وعن بعضهم دعوى الإجماع عليه(3).

أقول: واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع وقد مرّ مراراً ما فيه.

الوجه الثاني: مافي «المستند»: من أنّ الأخبار المتضمّنة للترغيب إلى الحَجّ ، وأفعاله الدالّة على استحبابه عامٌ ، يشمل الصبيّ أيضاً، ولا تخصّص بحديث رفع القلم عن الصبي، فإنّه مختصٌّ بالتكاليف الإلزاميّة، لأنّ تعدية الرفع بكلمة المجاوزة تستدعي كون المرفوع ذا مشقّة وكُلفة، فلا يشمل الحديث التكاليف الاستحبابية، فما دلّ على استحبابه باقٍ بحاله(4).

وأيّده بعضهم بأنّ ذلك ممّا يناسب مادّة الرفع، فإنّ مناسب مادّته رفع ما في حمله كُلفة ومشقّة، وليس ذلك إلّافي الأحكام اللّزوميّة.

ويرد على ما أفاده في «المستند»: أنّ كلمة (عن) التي تعدّى بها الرفع، ليست في ظهورها في التعدّي مثل كلمة (على ) إذ قد تستعمل ويراد بها البدل، نحو قوله تعالى :

ص: 182


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/24، (ط. ج).
2- منتهى المطلب: ج 2/648، (ط. ق).
3- الرياض: ج 6/37، طبع مؤسّسة النشر الإسلامي، الخلاف: ج 2/378.
4- مستند الشيعة: ج 11/15.

(لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) (1) ، وقد تُستعمل ويُراد بها معنى الباء نحو قوله تعالى : (وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى ) (2) وقد يُراد بها غير ذلك، راجع موارد استعمالها.

ويرد على التأييد: أنّه يصحّ إسناد الرفع إلى كلّ ما يصحّ إسناد الوضع إليه، لأنّهما متقابلان، فلا وجه للاختصاص ببعض الأحكام.

الوجه الثالث: أنّ مقتضى الإطلاقات الدالّة على ثبوت الأحكام، ثبوتها لغير البالغ أيضاً، وحديث رفع القلم عن الصبي إنّما يدلّ على رفع المؤاخذة خاصّة، فيبقى قلم جعل الأحكام بحاله، أو أنّه إنّما يرفع الإلزام، فأصل الطلب بحاله، أو أنّه إنّما يرفع الحكم، وأمّا الملاك فهو يكون باقياً.

ولكن يرد على الأولين: أنّ الظاهر من الحديث، رفع قلم جَعْل الأحكام، ولا أقلّ من الإطلاق.

ويرد على الأخير: أنّ أدلّة الأحكام ليست في مقام بيان الملاك، كي يقال إنّ مقتضى إطلاق المادّة وجوده في أفعال الصبي.

الوجه الرابع: الأخبار الخاصّة، وهي طائفتان:

الطائفة الأُولى : ما دلّ على ذلك بالمنطوق:

1 - صحيح زرارة، عن أحدهما عليهما السلام: «إذا حَجّ الرّجُل بابنه وهو صغير، فإنّه يأمره أن يُلبّي ويفرض الحَجّ ، فإنْ لم يحسن أنْ يُلبّي لَبّوا عنه، الحديث»(3).

قوله: (يفرض الحَجّ ) أي يُوجبه على نفسه بإحدى الموجبات المعروفة من1.

ص: 183


1- سورة البقرة: الآية 48 و 123.
2- سورة النجم: الآية 3.
3- الكافي: ج 4/303، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/288، ح 14821.

عقد الإحرام والتلبية أو الاشعار أو التقليد.

2 - خبر أبان، عن الحَكَم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «الصبي إذا حُجّ به فقد قضى حَجّة الإسلام حتّى يكبر، والعبد إذا حُجّ به فقد قضى حَجّة الإسلام حتّييُعتَق»(1).

وتقريب الاستدلال بهما: أنّ قوله في الصحيح: (فإنّه يأمره أن يُلبّي) يختصّ بالصبي المميّز، كما أنّ قوله فيه: (فإنْ لم يُحسِن أنْ يُلبّي لَبّوا عنه) ظاهرٌ في غير المميّز، وكذلك أيضاً قوله فيه: (إذا حَجّ الرّجُل بابنه) لا ينافي ذلك بقرينة ما ورد في الخبر (والعبد إذا حُجّ به)، فيستكشف من ذلك أنّ المراد به أعمٌّ من الأمر بمباشرته، أو جعله مباشراً، كما أنّه مقتضى إطلاق الثاني لو لم يكن قوله فيه: (والعبد إذا حُجّ به) قرينة على إرادة الأمر بالج من (حُجّ به)، فيختصّ حينئذٍ بالمميّز.

الطائفة الثانية: النصوص الدالّة على أنّ الصبي لو حَجّ لم يُجزه عن حَجّة الإسلام المتقدّم بعضها، فإنّها من جهة عدم نفيه عليه السلام لحجِّه، وإنّما نفي إجزائه عن حَجّة الإسلام، تدلّ بالالتزام على أنّ حجّه مطلوب ومرغّب فيه.

ويؤيّد ذلك: ما استدلّ به بعضهم له، وهو أنّ بعض الأخبار يدلّ على أنّ الصبي إذا بلغ اثني عشر سنة كُتب له الحسنات، وإذا بلغ الحُلُم كُتب عليه السيّئات. كخبر طلحة بن زيد(2)، فإنّ مقتضى إطلاقه أنّه يُكتب له الحسنات مطلقاً، فيدلّ على استحباب حَجّه، ومطلوبيّته عند الشارع، إذ الفعل غير المطلوب لا يكون عاملاً وسبباً لكتابة الحسنات.

***1.

ص: 184


1- الفقيه: ج 2/435، ح 2900، وسائل الشيعة: ج 11/49، ح 14208.
2- الكافي: ج 6/3، وسائل الشيعة: ج 1/42، ح 71.

اعتبار إذن الولي في حَجّ الصبي

فرع: وهل يتوقّف حَجّه المستحبّ على إذن الولي، كما عن «المعتبر»(1)، و «المنتهى »(2)، و «التذكرة»(3)، و «التحرير»(4)، و «الدروس»(5)، و «المسالك»(6)، و «المدارك»(7)، و «الجواهر»(8) وغيرها، بل الظاهر أنّه المشهور بين الأصحاب، بل ظاهر «المنتهى » و «التذكرة» نفي الخلاف فيه ؟

أم لا، كما ذهب إليه صاحبا «المستند»(9) و «العروة»(10) وغيرهما؟ وجهان:

قد استدلّ للأوّل:

1 - باستتباعه المال في بعض الأحوال للكفّارة والهَدْي، ومعلومٌ أنّ التصرّفات الماليّة للصبي تتوقّف على إذن الولي.

2 - وبأن الحَجّ عبادة متلقّاة من الشرع، مخالفٌ للأصل، فيجب الاقتصار فيه على القدرالمتيقّن منه وهو الصبي المأذون، فالشكّ إنّما هو فيمن توجّه إليه الخطاب، لا في دخل شيء في المتعلّق، كي يقال إنّ الأصل عدم اعتباره.

ويرد على الأوّل: أنّ الحَجّ ليس تصرّفاً ماليّاً أوّلاً وبالذات، واستتباعه المال في

ص: 185


1- المعتبر: ج 2/747.
2- منتهى المطلب: ج 2/648، (ط. ق).
3- تذكرة الفقهاء: ج 7/24، (ط. ج).
4- تحرير الأحكام: ج 1/90، (ط. ق).
5- الدروس: ج 1/306.
6- مسالك الأفهام: ج 2/125 و 126.
7- مدارك الأحكام: ج 7/23.
8- جواهر الكلام: ج 17/234.
9- مستند الشيعة: ج 11/18.
10- العروة الوثقى: ج 4/346، (ط. ج).

بعض الأحوال يمكن أن يقال فيه إنّ حكم الصبي فيه حكم العاجز، فينتقل إلى البدل لو أمكن، وإلّا فيسقط.

ويرد على الثاني: ما قيل من إنّ العمومات كافية في صحّته وشرعيّته مطلقاً.

أقول: ولكن الأظهر اعتباره، من جهة أنّ ما دلّ على مشروعيّته واستحبابه لا إطلاق له، لما ثبت آنفاً أنّ المدرك له هو ما دلّ على استحباب الحَجّ له بالخصوص، وهو طائفتان:

الأُولى: ما كان دالّاً عليه بالمنطوق، وهي عبارة عن صحيح زرارة وخبر أبان(1)، واختصاصهما بصورة إذن الولي ظاهرٌ، لاحظ:

1 - قوله عليه السلام في الصحيح: (إذا حَجّ الرّجُل بابنه وهو صغير، فإنّه يأمره أن يُلبّي).

2 - وقوله عليه السلام في خبر أبان: (إذا حجّ به).

فموردهما إذن الولي وأمره، وليس لهما إطلاق يشمل غير المورد، حتّى يقال إنّ المورد لا يُخصّص، بل هما متضمّنان لبيان الحكم لذلك المورد، ففي غير ذلك لا دليل على المشروعيّة، والأصل عدمها.

الثانية: ما دلّ عليه بالالتزام، وحيث إنّها في مقام بيان حكمٍ آخر، وهو الإجزاء عن حَجّة الإسلام وعدمه، فلا إطلاق لها من هذه الجهة، كي يتمسَّك به.

وبالجملة: فلا دليل على استحبابه له في غير مورد إذن الولي وأمره، والأصل يقتضي عدمه، كما اُفيد في الاستدلال.

فتحصّل: أنّ الأظهر اعتبار إذنه.

***ت.

ص: 186


1- تقدّمتا في بحث استحباب الحَجّ للصبي المميّز قبل صفحات.

ويصحّ الإحرام بالصبي غير المميّز.

يستحبّ للولي أنْ يُحرم بالصبي غير المميّز

المسألة الرابعة: (و) المشهور بين الأصحاب أنّه (يصحّ الإحرام بالصبي غير المميّز). وفي «الجواهر»: (بلا خلافٍ أجده في أصل مشروعيّة ذلك للولي، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه) انتهى (1).

ويشهد به: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «انظروا من كان معكم من الصبيان فقدّموه إلى الجُحفة أو إلى بطن مُرّ ويصنع بهم ما يُصنع بالمُحرم، ويُطاف بهم ويُرمى عنهم، ومَنْ لم يجد الهَدْي منهم فليصم عنه وليّه»(2).

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عنه عليه السلام في حديثٍ ، قال:

«قلت له: إنّ معنا صبيّاً مولوداً، فكيف نصنع به ؟ فقال عليه السلام: مُر اُمّه تَلقى حُميدة فتسألها كيف تصنع بصبيانها، فأتتها فسألتها كيف تصنع ؟ فقالت: إذا كان يوم التروية فأحرموا عنه وجرّدوه وغَسّلوه كما يُجرّد المُحرم، وقفوا به المواقف، فإذا كان يوم النحر فارموا عنه، واحلقوا رأسه، ثمّ زوروا به البيت، ومُري الجارية أن تطوف به بين الصفا والمروة(3).

ص: 187


1- جواهر الكلام: ج 17/235.
2- الكافي: ج 4/304، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/287، ح 14819.
3- وسائل الشيعة: ج 11/286، ح 14817.

ومنها: صحيح زرارة، وخبر أبان المتقدّمين في المسألة السابقة، ونحوها غيرها.

أقول: ومقتضى إطلاق هذه النصوص، شمول الحكم للصبي المولود من يومه، ولكن في خبر محمّد بن الفضيل، قال: «سألتُ أبا جعفر الثاني عليه السلام عن الصبي متى يُحرم به ؟ قال عليه السلام: إذا أثغر»(1).

وفي «مجمع البحرين» نقلاً عن «القاموس»: (أثغر الغلام: ألقى ثغره، يعني ثناياه. وعلى هذا يُحمل قوله عليه السلام: يُحرم بالصبي إذا أثغر) انتهى (2).

وحيث إنّه في مقام التحديد، فلا محالة يكون له المفهوم، ومفهومه عدم ثبوت المشروعيّة قبل ذلك، ومعلومٌ أنّ إلقاء الثغر إنّما يكون بعد خمس سنوات أو ست، وهو وإنْ كان أخصّ من جملةٍ من النصوص، إلّاأنّه يعارضه صحيح الحجّاج المتقدّم، فإنّه ورد في الصبي المولود، وهو مَنْ وُلد قريباً، ولا يصدق ذلك على من يكون سنّه خمساً أو ستّاً فيتعارضان، والترجيح مع الصحيح.

وعليه، فالأظهر استحباب إحجاج الصبي مطلقاً.

استحباب الإحرام بالصبيّة والمجنون

أقول: بقي في المقام فروع ينبغي التعرّض لها:

الفرع الأوّل: أُلحق الصبية بالصبي، وهو مختار صاحب «العروة»(3)، لكن استشكل صاحب «المستند» الإلحاق(4) في المقام.

ص: 188


1- الكافي: ج 4/276، ح 9، وسائل الشيعة: ج 11/55، ح 14225.
2- مجمع البحرين: ج 3/236.
3- العروة الوثقى: ج 4/346، (ط. ج).
4- مستند الشيعة: ج 11/19.

واستدلّ للأوّل: بوجوه:

الوجه الأوّل: قاعدة الاشتراك المستفادة من التفحّص في الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بهما، حيث يكونان متوافقين غالباً والتي عليها بناء الأصحاب في سائر الأحكام.

وفيه: أنّ المتيقّن منها الأحكام المتوجّهة إلى الذكور، وأمّا الأحكام المتوجّهة إلى الأولياء عليهم فهي غير ثابتة.

الوجه الثاني: موثّقا إسحاق(1) وشهاب(2) المتقدّمان: «عن ابن عشر سنين يحجّ؟ قال عليه السلام: عليه حَجّة الإسلام إذا احتلم، وكذلك الجارية عليها الحَجّ إذا طمثت».

وفيه: أنّ التشبيه إنّما هو في وجوب الحَجّ بعد البلوغ، لا في الحَجّ الواقع قبله حتّى يتمسّك فيه بالتقرير، فإنّ التشبيه في كلام الإمام بعد جوابه عن وجوب الحَجّ على الصبي بعد البلوغ، لا في كلام السائل، والحَجّ قبل البلوغ واردٌ في كلام السائل دون الإمام عليه السلام.

الوجه الثالث: موثّق يعقوب، قال: «قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام: إنّ معي صبية صغاراً وأناأخاف عليهم البرد، فمن أين يُحرِمون ؟ قال عليه السلام: ائتِبهم العرج(3) فليحرموا منها»(4).

بتقريب أنّ (الصبية) جمعٌ للذَّكر والاُنثى ، فإطلاق السؤال والجواب يقتضي ثبوت الحكم للصبية.3.

ص: 189


1- الفقيه: ج 2/435، ح 2898، وسائل الشيعة: ج 11/44، ح 14197.
2- الكافي: ج 4/276، ح 8، وسائل الشيعة: ج 11/45، ح 14198.
3- مكان بين مكّة والمدينة على طريق الحاجّ .
4- الكافي: ج 4/303، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/289، ح 14823.

وبالمجنون.

وأورد عليه في «المستند»: بأنّ الثابت منه هو حَجّ الصبية لا الحَجّ بها(1).

وفيه: إنّ قوله: (ائت بهم) لو لم يكن ظاهراً في الحَجّ بهم، وكونهم تحت تصرّفه، لا أقلّ من الإطلاق.

وأورد عليه بعض الأعاظم: بأنّ كلمة (يحرمون) لو كانت مجهولة صَحَّ الاستدلال به، وإلّا فليس مربوطاً بما نحن فيه.

وفيه: أنّ الظاهر كونها مجهولة، فإنّ الصبية جمعُ الصبي، وفسّره صاحب «القاموس» بأنّه (من لم يُفطِم). ويؤكّده التقييد في السؤال بكونهم صغاراً.

ولكن يرد على الاستدلال: أنّ (الصبية) جمع الصبي كما عن «الصحاح»، وجمع الصبية الصبايا، كما في «مجمع البحرين»(2)، ويؤيّده إرجاع الضمير المذكّر إليهم، فتأمّل.

الوجه الرابع: مرسل دعائم الإسلام، عن عليّ عليه السلام: «أنّه قال في الصبي الذي يحجّ به، ولم يبلغ ؟ قال عليه السلام: لا يُجزي ذلك عن حَجّة الإسلام، وعليه الحَجّ إذا بلغ، وكذا المرأة إذا حجّ بها وهي طفلة»(3).

وفيه: أنّه لإرساله، وعدم ثبوت وثاقة نعمان بن محمّد بن منصور صاحبه، لا يعتمد عليه، فإذاً لا دليل على إلحاقها به.

(و) قد طفحت كلمات الأصحاب بصحّة الإحرام (بالمجنون) كغير البالغ:1.

ص: 190


1- مستند الشيعة: ج 11/19 و 20.
2- مجمع البحرين: ج 1/260، وفيه نقل عن القاموس والصحاح معنى الصبي.
3- دعائم الإسلام: ج 1/289، مستدرك وسائل الشيعة: ج 8/23، ح 8969-1.

ومن العبد بإذن المولى.

ففي «المنتهى »: (حكمُ المجنون حكمُ الصبي غير المميّز، إذ لا يكون أخفض حالاً منه فيحرم عنه) انتهى (1).

وأورد عليه في «الحدائق»: بأنّه لا يخرج عن القياس، مع أنّه قياس مع الفارق(2).

وفي «المستند»: (لمّا كان المقام مقام المسامحة، يكفي في حكمه فتوى كثير من الأصحاب) انتهى (3).

وفيه: أنّ ثبوت الاستحباب بأخبار من بلغ لا يكفي فيه فتوى الأصحاب، بل لابدّ فيه من ورود خبر به مفقود في المقام.

أقول: لكن لمّا استقرّ فتوى الأصحاب بذلك، بل ظاهر «الجواهر» نفي الخلاف فيه(4)، وهم أعرف بالأدلّة الشرعيّة، وأنّ القياس ممنوعٌ في شرعنا، فلا محالة يستكشف وقوفهم على نص لم يصل إلينا، فتأمّل.

وأخيراً: يقول المصنّف: (ومن العبد بإذن المولى ) أي يصحّ حَجّه، ولا خلاف فيه نصّاً وفتوى، ولكن قد مرّ أنّ بناءنا على عدم التعرّض لأحكام العبيد والإماء.

***5.

ص: 191


1- منتهى المطلب: ج 2/649، (ط. ق).
2- الحدائق الناضرة: ج 14/65.
3- مستند الشيعة: ج 11/20.
4- جواهر الكلام: ج 17/235.

طريقة إحجاج الصبي

الفرع الثاني: في كيفيّة الحَجّ بالصّبي، والمراد بالاحرام به جعله مُحرماً بفعله، لا أنّه ينوب عنه في الإحرام. واستنده صاحب «الجواهر» إلى الأصحاب(1)، وهو كذلك، ولذا صرّح غير واحدٍ بأنّه لا فرق بين كون الولي مُحِلّاً أو مُحرِماً، وأكثر النصوص تدلّ عليه:

منها: قوله عليه السلام في صحيح معاوية المتقدّم(2): (ويصنع بهم ما يصنع بالمحرم).

ومنها: قوله في خبر ابن الفضيل(3): (متى يحرم به).

ومنها: قوله عليه السلام في خبر أيّوب: (كان أبي يجرّدهم من فَخ)(4).

وأمّا ما في صحيح ابن الحجّاج(5): (فأحرموا عنه فجرّدوه)، فالمراد به ما في غيره بقرينة قوله: (فجرّدوه).

فيُلبسه ثوبي الإحرام، وينوي الولي الإحرام بالطفل، فيقول: اللّهُمَّ إنّي أحرمتُ هذا الصبي... إلى آخر النيّة، لاستحباب التلفّظ بالنيّة، ويلقّنه التلبية إنْ أحسن أن يُلبّي، وإلّا فيُلبّي عنه، لصحيح زرارة(6)، ويُجنّبه عن كلّ ما يجبُ على الُمحرِم الاجتناب عنه. ويأمره بكلّ فعلٍ من أفعال الحَجّ يتمكّن منه، وينوب عنه في كلّ ما لا يتمكّن.

وأمّا الطهارة: ففي «التذكرة»(7)، وعن «الدروس»(8)، و «كشف اللّثام»(9): أنّه

ص: 192


1- جواهر الكلام: ج 17/236.
2- تقدّم في بحث استحباب إحرام الولي بالصبي غير المميّز من هذا الكتاب.
3- تقدّم في بحث استحباب إحرام الولي بالصبي غير المميّز من هذا الكتاب.
4- الكافي: ج 4/303، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/288، ح 14822.
5- تقدّم في بحث استحباب إحرام الولي بالصبي غير المميّز من هذا الكتاب.
6- تقدّم في بحث استحباب إحرام الولي بالصبي غير المميّز من هذا الكتاب.
7- تذكرة الفقهاء: ج 7/30، (ط. ج).
8- الدروس: ج 1/307.
9- كشف اللّثام: ج 1/287، (ط. ق).

لابدّ وأن يكون الولي متطهِّراً، واستدلّ له بأنّ الطواف بمعونة الولي صحّ ، والطواف لا يصحّ إلّابطهارة.

وفيه: أنّه طواف الصبي، ولذا في الخبر: (ثمّ مُروا الخادم أن يطوف به بالبيت)(1). والدليل دلّ على لزوم الطهارة في من يكون الطواف طوافه.

أقول: والحقّ أن الوضوء كغيره من الأفعال إن أمكن إيقاعه في الطفل - كما هو الغالب - يتعيّن فيه ذلك، وإلّا يجتزأ بفعل الولي عنه، وإنْ لم يمكن إيقاعه في الطفل ينوب عنه الولي.

ومع ذلك فما قاله صاحب «الجواهر» من (أنّ الأحوط طهارتهما معاً)(2)حَسَنٌ ، وإنْ كان يقوى في النظر الاكتفاء بطهارة الصبي إلّاإذا لم يتمكّن.

المراد من الولي

الفرع الثالث: المشهور بين الأصحاب أنّ المراد بالولي هو الولي الشرعي، أي من له الولاية في المال كالأب والجدّ، بل بلا خلافٍ بينهم فيه، فالكلام في موردين:

المورد الأوّل: هل جواز الإحرام بالصبي مختصٌّ بالولي الشرعي، كما هو المشهور، أم يجوز لكلّ من يتولّى أمر الصبي ويتكلفه وإنْ لم يكن وليّاً شرعيّاً، كما نفى عنه البُعد في «العروة»(3)، واختاره صاحب «المستند»(4) لولا الإجماع على خلافه ؟

المورد الثاني: في المراد بالولي الشرعي، وأنّه هل يختصّ بالأب والجَدّ، أم يعمّ الحاكم الشرعي والوصي ؟

أمّا المقام الأوّل: فقد استدلّ لعدم الاختصاص بالوليّ الشرعي، وشمول الحكم

ص: 193


1- تهذيب الأحكام: ج 5/410، ح 71.
2- جواهر الكلام: ج 17/237.
3- العروة الوثقى: ج 4/348، (ط. ج).
4- مستند الشيعة: ج 11/19.

للولي العرفي، أي كلّ من يتكفّل الصبي، بقوله عليه السلام في صحيح معاوية: (انظروا من كان معكم من الصبيان، فقدِّموه إلى الجُحفة أو إلى بطن مُرّ، الحديث)(1)، فإنّه يشمل غير الولي الشرعي، كما أنّه لا اختصاص في الأمر بقوله -: (قدّموا فجرّدوه ولَبّوا عنه)، وغير ذلك.

أقول: سبق وأن ذكرنا أنّ التمسّك بالإطلاق، فرع كون الدليل في مقام البيان من الجهة التي اُريد التمسّك به فيها، وفي المقام الدليل واردٌ في مقام بيان محلّ الإحرام وكيفيّته، فلا يصحّ التمسّك به من ناحية كون المحج شخصاً معيّناً أو أنّه لا اختصاص به.

وبالجملة: النصوص الدالّة على مشروعيّته، بين ما يكون في مقام بيان أحكامٍ اُخر، وبين ما يختصّ بمورد تصدّي الولي، كصحيح زرارة: (إذا حَجّ الرّجُل بابنه)(2)، بل وصحيح ابن الحجّاج: (إنّ معنا صبياً مولوداً)(3).

وعليه، فلا دليل على مشروعيّته في غير مورد تصدّي الولي، والأصل يقتضي عدمها.

وأمّا المورد الثاني: فملخّص القول فيه:

إنّه بعدما لا كلام بينهم في ثبوت الولاية للأب والجدّ، وقع الكلام في ثبوتها للحاكم الشرعي والوصي:

أمّا الحاكم: فالأظهر عدم ثبوت ولاية الإحجاج له، لما سيأتي في مبحث الولاية(4) من كتاب التجارة من هذا الشرح من اختصاص ولاية الحاكم بما يكون من قبيل الاُمور الحسبيّة، أو من مناصب القضاة، وعدم كون الإحجاج من أحد هذين القسمين واضح.6.

ص: 194


1- تقدّم ذكره في الصفحة 187، بحث (يستحبّ للولي أن يُحرم بالصبي غير المميّز) من هذا الكتاب.
2- تقدّم ذكره في الصفحة 187، بحث (يستحبّ للولي أن يُحرم بالصبي غير المميّز) من هذا الكتاب.
3- تقدّم ذكره في الصفحة 187، بحث (يستحبّ للولي أن يُحرم بالصبي غير المميّز) من هذا الكتاب.
4- فقه الصادق: ج 21/308 و ج 24/46.

وأمّا الوصي: فإنّ عين الموصي ذلك، وإلّا فحيث إنّه ليس له ولاية إلّاعليحفظ نفس الصبي وماله، فليس له الإحجاج به، وتمام الكلام في ذلك في كتاب الوصيّة(1).

وعن جماعةٍ من الأصحاب - كالمصنّف في «المنتهى »(2)، والمحقّق في محكي «المعتبر»(3)، والشهيد(4) وصاحب «الجواهر»(5) وغيرهم، بل عن «المدارك»(6)نسبته إلى الأكثر - ثبوت ولاية الإحرام للاُمّ أيضاً.

وظاهر «الشرائع»(7)، و «القواعد»(8)، و «السرائر»(9)، وغيرها عدم ثبوتها لها.

واستدلّ للأوّل: بمصحّح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: «سمعته يقول: مَرَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله برويثة وهو حاجّ ، فقامت إليه امرأة ومعها صبيٌ لها، فقالت:

يا رسول اللّه أيحجّ عن مثل هذا؟ قال: نعم ولكِ أجره»(10).

بتقريب: أنّ ثبوت الأجر لاُمّه التي تحجّه فرع ثبوت مشروعيّة الإحجاج لها.

وفيه أوّلاً: أنّه يحتمل عدم ارتباطه بالإحجاج لها، ولعلّه من قبيل ما دلّ على أنّ كلّ ما أتى به الولد من الأعمال الشرعيّة يُكتب لأبويه الثواب والأجر.

وثانياً: أنّه لو سُلّم وروده في الإحجاج لها، لكن لا إطلاق له من جهة أنّ4.

ص: 195


1- فقه الصادق: ج 30/314.
2- منتهى المطلب: ج 2/649، (ط. ق).
3- المعتبر: ج 2/748.
4- الدروس: ج 1/306.
5- جواهر الكلام: ج 17/238 و 239.
6- مدارك الأحكام: ج 7/26.
7- شرائع الإسلام: ج 1/164.
8- قواعد الأحكام: ج 1/403.
9- السرائر: ج 1/636.
10- تهذيب الأحكام: ج 5/6، ح 16، وسائل الشيعة: ج 11/54، ح 14224.

الإحجاج حسنٌ حتّى مع عدم إذن وليّه الشرعي، لأنّه في مقام بيان نفي قصور الصبي لانفيه من الجهة الاُخرى.

وعليه، فمقتضى الأصل عدم ثبوت مشروعيّة الإحجاج للاُمّ أيضاً إلّاإذا أذن لها الولي الشرعي.

مصارف الحَجّ على الولي

الفرع الرابع: أنّ للحجّ مصارفاً كالنفقة الزائدة على نفقة الحَضَر والهَدي والكفّارة، فهل هي على الولي أم من مال الصبي ؟ وتفصيل القول بالبحث في موارد:

المورد الأوّل: في النفقة:

قال صاحب «الجواهر»(1): إنّ نفقته الزائدة مثل آلة السفر واُجرة مركبه وما شاكل، تلزم الولي في ماله دون الطفل، بلا خلافٍ أجده فيه.

واستدلّ له فيها بأنّه هو السبب، والنفع عائد إليه، ضرورة عدم الثواب لغير المميّز بذلك، وعدم الانتفاع به في حال الكبر. وبأنّه أولى من فداء الصيد الذي نصَّ عليه في خبر زرارة.

وأورد على الأوّل: بأنّه قد يُشكل اقتضاء مثل هذه السببيّة للضمان.

أقول: كيف يُشكل ذلك بعد كون الوليّ هو المتصدّي للإتلاف والصرف والنفع عائدٌ إليه، فلا ينبغي التوقّف في سببيّته له، بل الظاهر أنّها عليه حتّى مع عود الثواب إلى الصبي، فإنّ تصرّفات الوليّ في مال الطفل إنّما يكون جوازها وعدم الضمان بسببها، فيما إذا كان هناك مصلحة دنيويّة للصبي متفرّعة عليها، ولا أقلّ من

ص: 196


1- جواهر الكلام: ج 17/239.

عدم المفسدة، ومن المعلوم أنّه لا مصلحة دنيويّة في صرف ماله في سبيل الحَجّ ، بل فيه المفسدة، فإنّه يتلف ماله من دون أن يعود إليه شيءٌ ، وإذن الشارع في الإحجاج به أعمٌّ من الإذن في صرف ماله.

نعم، إذا كان حفظه موقوفاً على السفر به، أو السفر يكون مصلحة له، جاز أخذها من مال الصبي، لما دلّ على جواز تصرّف الولي في مال الطفل، لو كان التصرّف ممّا فيه مصلحة الصبي، وهذا ما حدا بصاحب «الجواهر» ليقول: (ولعلّ إطلاق الأصحاب منزّل على غير ذلك)(1).

هذا في الإحجاج بالصبي غير المميّز.

وأمّا الصبيّ المميّز الذي يحجّ بنفسه: فلا شيء على الولي، بل هو بنفسه يتحمّل جميع نفقات سفره أيضاً من ماله، ويشهد لجواز ذلك ما دلّ على استحباب أن يحجّ .

وأمّا الهَدْي: ففي «الجواهر»: (كأنّه لا خلاف بينهم في وجوبه على الولي)(2)، ثمّ استدلّ له بوجوه(3):

الوجه الأوّل: أنّ الولي هو السبب في حَجّه.

وتوضيحه: أنّ الإحجاج بالصبي ليس فيه غبطة ومصلحة دنيويّة، حتّى لو فرضنا كون أصل سفره غبطة له، لإمكان أن لا يحجّ به، ويدخله مكّة من غير أن يحجّ ، فالإحجاج إذا لزم منه الهدي يكون من هذه الجهة تصرّفاً ماليّاً غير مأذون فيه، فلا محالة يكون على الولي، فلا وجه لاستشكال بعض الأعاظم(4) في سببيّته للضمان.5.

ص: 197


1- جواهر الكلام: ج 17/239.
2- جواهر الكلام: ج 17/239.
3- جواهر الكلام: ج 17/239.
4- هو السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/25.

الوجه الثاني: صحيح زرارة المتقدّم: (يذبح عن الصغار ويصوم الكبار)(1).

وأورد عليه بعض الأعاظم: بأنّ الأمر بالذبح عنهم إنّما كان بعد قول السائل:

(ليس لهم ما يذبحون)، فلا يدلّ على الحكم في صورة تمكّن الطفل منه، بل لعلّه ظاهر في الذبح من مال الصبي مع التمكّن منه، بل لا يبعد ظهوره في ذلك من جهة التقرير(2).

وفيه: أنّ قول السائل: (ليس لهم ما يذبحون) اُريد به ليس للكبار ما يذبحون عنهم وعن الصغار، لاحظ صدر الخبر، وعليه فيستكشف منه أنّه كان المغروس في ذهن السائل، كون الهدي في مال الكبار، وأنّهم مكلّفون به، فسئل عن حكم ما لا يتمكّن من الذبح من قبل نفسه ومن قبل الصغير، فجوابه عليه السلام من جهة التقرير ظاهرٌ في كونه من مال الولي.

الوجه الثالث: مصحّح إسحاق بن عمّار، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن غلمان لنا دخلوا معنا مكّة بعمرة، وخرجوا معنا إلى عرفات بغير إحرام ؟ قال عليه السلام: قل لهم يغتسلون ثمّ يَحرمون، وإذبحوا عنهم كما تذبحون عن أنفسكم»(3).

فإنّ إطلاقه يقتضي الذبح من مال الولي، بل بما إنّ مورده حَجّ الصبي المميّز نفسه حينما يأمره الولي بذلك.

وأيضاً: المباشر للذبح لا يجب أن يكون الولي بنفسه قطعاً، فإنّ فقوله: (إذبحوا عنهم) ظاهر في كون ما يُذبح من مال الولي لا أنّه يتولّاه بنفسه.8.

ص: 198


1- ذكره في الجواهر، نفس المصدر السابق.
2- هو السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/25.
3- الكافي: ج 4/304، ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/287، ح 14818.

ولا ينافي ذلك ما في صحيح معاوية المتقدّم: (ومن لا يَجد الهَدْي منهم فليصم عنه وليّه) لأنّه قابلٌ لأن يُحمل على عدم وجدان الولي للهدي عنهم، فيتعيّن ذلك في مقام الجمع بينه وبين ما تقدّم.

ثمّ إنّه يمكن أن يؤيّد ما ذكرناه بإطلاق الخطاب بإحجاجه، فإنّه كما في سائر الموارد - كما في بذل الحَجّ - لا يبعد دعوى ظهوره في كون الهدي من ماله.

وأمّا كفّارة الصيد: فالمشهور أنّها تجبُ في مال الولي، ويشهد به ما ورد من قوله عليه السلام في صحيح زرارة المتقدّم: (وإنْ قَتل صيداً فعلى أبيه).

فما في «التذكرة» من قوله: (إنّها في مال الصبي، لأنّه مالٌ وجب بجنايته، فوجب أن يجب في ماله) كأنّه اجتهادٌ في مقابل النّص، كما في «الجواهر»(1).

وأمّا الكفّارات الاُخر: المختصّة بالعمد، ففيها أقوال:

1 - قيل إنّها على الولي أيضاً كما عن «الكافي»(2) و «النهاية»(3) و «القواعد»(4)؟

2 - وقيل إنّها ثابتة في مال الصبي ؟

3 - وقيل إنّها غير واجبة أصلاً كما في «المنتهى »(5)، وعن «التحرير»(6)، و «المختلف»(7) وغيرها؟

أمّا القول الأخير: فقد استدلّ له بوجوه:4.

ص: 199


1- الوجه الثالث بأكمله ذكره السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/25 و 26.
2- الكافي للحلبي: ص 205.
3- النهاية: ص 229، (ط. ق).
4- قواعد الأحكام: ج 1/402.
5- منتهى المطلب: ج 2/649، (ط. ق).
6- تحرير الأحكام: ج 1/90، (ط. ق).
7- مختلف الشيعة: ج 4/144.

الوجه الأوّل: انصراف أدلّة الكفّارات عن الصبي.

وفي «العروة»: (والانصراف ممنوعٌ ، وإلّا فيلزم الالتزام به في الصيد أيضاً)(1).

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الكفّارة من قبيل المجازاة والعقوبة على الذنب، فتختصّ بغير الصبي، ويكون ذلك منشئاً للانصراف، ولا يقاس بالصيد التي تثبت الفدية فيه مع عدم العمد.

الوجه الثاني: النصوص المتضمّنة أنّ عمد الصبي وخطأه واحد(2)، فإنّها تدلّ على أنّ الأفعال الصادرة عن غير البالغين عمداً في حكم الأفعال الخطائيّة، ففي المقام كما أنّ موجبات الكفّارة إذا صدرت خطأ لا تثبت الكفّارة، كذلك إذا صدرت عن الصبي.

وأورد عليه: سيّد «المدارك»(3) وصاحب «العروة»(4) وغيرهما من المحقّقين بأنّ ذلك مختصٌّ بباب الديات لمقابلة الخطأ بالعمد، لشيوع التعبير بهما عن الجناية العمديّة والخطائيّة تبعاً للقرآن المجيد(5)، ولقوله عليه السلام: «تحمله العاقلة»(6)، فإنّ ذلك إنّما يكون في الجنايات، ولما عليه ضرورة العلماء والعوام من صحّة أعماله القصديّة، من صلاةٍ وصيامٍ وسفرٍ وإقامة عشرة أيّام وغير ذلك، ولو كان قصده بمنزلة العدم لما صحَّ شيءٌ من ذلك.).

ص: 200


1- العروة الوثقى: ج 4/350، (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 29/90، ح 35225.
3- مدارك الأحكام: ج 7/28.
4- العروة الوثقى : ج 4/350.
5- يظهر ذلك من قوله تعالى في الآية 93 من سورة النساء: «وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ..» وقوله تعالى في الآية السابقة عليها: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً..».
6- تقدّم قوله عليه السلام في الحديث السابق (عمد الصبي خطأ).

أقول: لا إشكال في أنّ هذه النصوص لا تدلّ على أنّ قصد الصبي كلّا قصد، لأنّه - مضافاً إلى استلزامه تخصيص الأكثر - خلاف الظاهر، كما أنّه لا إشكال في عدم شمولها لباب المعاملات، وذلك لأنّ تنزيل شيءٍ منزلة آخر لابدّ وأن يكون فيما للمنزل عليه أثر شرعي، ومن المعلوم أنّه في باب المعاملات لا أثر للمعاملات الخطئيّة، مع أنّ العمد والخطأ إنّما يتصوّران في الاُمور التي لها واقع محفوظ، وذلك الأمر قد يترتّب على سببه قهراً وآخر عن قصد، وأمّا الاُمور المتوقّف تحقّقها على القصد كالعقود والإيقاعات، حيث إنّها لا تتحقّق بدون القصد، فلا يتصوّر فيها الخطأ كما هو واضح، ولكن لا وجه للاختصاص بخصوص باب الجنايات، بل مقتضى إطلاقها الشمول لكلّ بابٍ ، كان لكلٍّ من العمدِ والخطأ حكمٌ يخصّه، وأثر مختصّ به، وتدلّ به على أنّ الحكم متّحدٌ في خصوص الصبي ومن مصاديقها باب الجنايات، ومنها المقام، وشيوع التعبير عنهما في خصوص باب الجنايات، لا يوجب التخصيص، كما أنّ ما في بعضها من قوله عليه السلام: (تحمله العاقلة) المختصّ بباب الجنايات، لا يوجب تقيّيد إطلاق ما ليس فيه ذلك، لعدم حمل المطلق على المقيّد في المثبتين، والأخذ بالمتيقّن مع وجود الإطلاق لا وجه له.

وبالجملة: فالأظهر تماميّة دلالة ذلك.

الوجه الثالث: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام:

«عن الصبيان هل عليهم إحرام ؟ وهل يتّقون ما يتّقي الرِّجال ؟ قال عليه السلام:

يحرمون وينهون عن الشيء يصنعونه ممّا لا يصلح للمحرم أن يصنعه، وليس عليهم فيه شيء»(1).6.

ص: 201


1- وسائل الشيعة: ج 11/336، ح 14956.

ولو قُرئ (يُحرَمون) مبنيّاً للفاعل يدلّ على المطلوب بتمامه، ولو قُرئ مبنيّاً للمفعول، اختصّ بالإحجاج، ولا يشمل ما لو حَجّ الصبي بنفسه، فيكون أخصّ من المدّعى، إلّاأنّه يتمّ بعدم القول بالفصل.

فالمتحصّل: أنّ الصبي إذا ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام، لا كفّارة عليه سوى كفّارة الصيد.

ولو سُلّم ثبوتها، فهل هي على الولي أو الصبي ؟ مقتضى إطلاق أدلّتها هو الثاني.

واستدلّ للأوّل: بأنّ الولي هو السبب في ترتّب الكفّارة، فيكون ضامناً، وبقوله عليه السلام: (عمد الصبيان خطأ يحمل على العاقلة)(1)، فإنّه يدلّ على أنّ الكفّارة على العاقلة.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ علّة ثبوت الكفّارة هي فعل الصبي وارتكابه المحظورات، والولي ليس سبباً في ذلك، وإنْ كان سبباً لإحرامه، نعم يجب على الولي منعه من ارتكابها.

ويرد على الثاني: أنّه مختصٌّ ببابٍ يكون خطأه على العاقلة، وهو باب الديات، ولا يشمل المقام الذي لا شيء على خطأه.

***0.

ص: 202


1- تهذيب الأحكام: ج 10/233، ح 921، وسائل الشيعة: ج 29/400، ح 35860.

ولو تسكّع الفقير لم يُجزئه بعد الاستطاعة.

عدم إجزاء الحَجّ الندبي عن الواجب

المسألة الخامسة: (ولو تسكّع الفقير) أي حجّ غير المستطيع تسكّعاً كان حَجّه ندباً، و (لم يُجزئه) عن الحَجّ الواجب، بل يجب عليه الإعادة (بعد الاستطاعة)، بلا خلافٍ كما قيل، بل بظاهر الإجماع كما عن «الخلاف»(1) و «المنتهى »(2) وغيرهما.

كذا في «المستند»(3).

وفي «الجواهر»: (بلا خلافٍ أجده في شيء من ذلك، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه)(4).

وفي «المنتهى »: (فلو حَجّ ماشياً حينئذٍ، لم يُجزئه عن حَجّة الإسلام عندنا، ووجب عليه الاعاده مع استكمال الشرائط، ذهب إليه علماؤنا)(5).

ومالَ جمعٌ ممّن قارب عصرنا إلى الإجزاء(6).

أقول: وليعلم أنّ محلّ الكلام ما لو لم يكن مستطيعاً من حين الإحرام، وإلّا فلا إشكال في الاجزاء، وكيف كان فالمهمّ ملاحظة الأدلّة:

استدلّ للأوّل: بإطلاق ما دلّ على وجوب الحَجّ على المستطيع، فإنّه يقتضي

ص: 203


1- الخلاف: ج 2/246.
2- منتهى المطلب: ج 2/652، (ط. ق).
3- مستند الشيعة: ج 11/64.
4- جواهر الكلام: ج 17/271.
5- منتهى المطلب: ج 2/652، (ط. ق).
6- لعلّ المراد به السيّد اليزدي صاحب العروة في كتابه العروة الوثقى: ج 4/423 و ص 424، (ط. ج).

وجوب الحَجّ بعد الاستطاعة، وإنْ كان قد حَجّ قبلها.

واستدلّ للثاني: بأنّ الظاهر أنّ حَجّة الإسلام هو الحَجّ الأوّل، وإذا أتى به كفى ولو كان ندباً، وهذا نظير ما إذا صَلّى الصبي صلاة الظهر ندباً - بناءً على كون عباداته شرعيّة - فبلغ في أثناء الوقت، فإنّه لا يجبُ عليه الإعادة(1).

والوجه فيه: أنّ الظاهر أنّ ما أمر به الصبيان هو الصلاة المعهودة التي أوجبها اللّه تعالى على البالغين، لا شيء مغاير لها، فالصبي مكلّفٌ بالطبيعة الواحدة بلغ أم لم يبلغ، غاية الأمر ما لم يبلغ يكون مرخّصاً في تركها، وإذا بلغ لا يكون مرخّصاً في الترك، فإذا أتى الصبي بتلك الطبيعة صحيحة سقط عنه التكليف، وإنْ بلغ بعد ذلك فلا شيء عليه، وبهذا البيان يُحكم بإجزاء الحَجّ الندبي عن الواجب.

لا يقال: إنّ لازم ذلك إجزاء حَجّ الصبي عن حَجّة الإسلام، مع أنّه لا قائل به.

فإنّه يقال: إنّ مقتضى القاعدة وإنْ كان ذلك، إلّاأنّه دلّ الدليل الخاص على لزوم الإعادة.

فإنْ قيل: إذا كانت حقيقة الحَجّ الندبي متّحدة مع حقيقة حَجّة الإسلام، فكيف يختلف آثارهما، إذ حَجّة الإسلام يستحقّ العقاب على تركها، ولو تركها استقرّت على المكلّف، وتركها بلا عذر يعدّ تركاً لشريعةٍ من شرائع الإسلام، ولو منعه مانعٌ منها تجب الإستنابة، ولو تركها إلى أنْ مات تُخرج من أصل التركة، وهذه الآثار لا تترتّب على الحَجّ الندبي، فيستكشف من جميع ذلك اختلاف حقيقتهما.

قلنا: إنّ هذه الآثار جاءت من قبل الوجوب، وأمّا ذات الواجب، فلا فرق بينه وبين ذات المستحبّ .).

ص: 204


1- المستدلّ هو السيّد اليزدي في العروة الوثقى: ج 4/424، (ط. ج).

أقول: الظاهر كون حقيقة الحَجّ واحدة، لا اختلاف فيها ولا تعدّد، ولكن هذه الحقيقة الواحدة متعلّقة للأمر في كلّ عام، والأمر المتعلّق بها في كلّ عام غير الأمر المتعلّق بها في العام اللّاحق، غاية الأمر أنّ الأمر بها في عام الاستطاعة وجوبيٌ ، وفي عام غير الاستطاعة ندبي، فهي نظير صلاة الظهر التي هي حقيقة واحدة، ومع ذلك في كلّ يومٍ متعلّقة لأمرٍ غير الأمر المتعلّق بها في اليوم اللّاحق، وعليه فكما أنّ الإتيان بالحَجّ في العام السابق لا يُجزي عن الأمر الندبي المتعلّق به في العام اللّاحق، إذا لم يصبح مستطيعاً، كذلك لا يكون مُجزياً عنه إذا كان وجوبيّاً، كما أنّ صلاة الظهر المأتيّ بها في اليوم السابق، لا تجزي عن الأمر المتعلّق بها في اليوم اللّاحق، فعدم الاجزاء يكون لتعدّد الأمر لا لتعدّد ماهيّة الحَجّ .

وبما ذكرناه، ظهر ما في القياس بصلاة الظهر، التي أتى بها قبل البلوغ، فإنّه قياسٌ مع الفارق.

ويمكن تنظير المقام بصلاة ظهر اليوم السابق المأتي بها قبل البلوغ، بالنسبة إلى الأمر بها بعد البلوغ في اليوم اللّاحق، فكما أنّ عدم الإجزاء في المقيس عليه، بديهيٌ ، وكذلك في المقام.

***

الحَجّ عن الغير لا يُجزي عن حَجّة الإسلام

أقول: وفي المقام فروع مناسبة لهذه المسألة، يقتضي استعراضها:

الوجه الأوّل: لا خلاف بين الأصحاب في أنّ من كان غير مستطيع للحجّ ، ثمّ استؤجر للحجّ عن غيره، فحجّه عن الغير لا يُجزي عن حَجّة الإسلام الواجبة بعد الاستطاعة.

ص: 205

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك، وإلى ما تقدّم من أنّ ذلك مقتضى القاعدة، باعتبار أنّ الحَجّ عن الغير متعلّقٌ لأمرٍ غير ما هو متعلّق بحَجّة الإسلام، فالإجزاء خلاف القاعدة - خبر آدم بن علي، عن أبي الحسن عليه السلام، قال:

«من حَجّ عن إنسانٍ ولم يكن له مالٌ يحجّ به، أجزأت عنه حتّى يرزقه اللّه تعالى ما يحجّ به، ويجب عليه الحَجّ »(1).

إلّا أن في المقام روايات توهم دلالتها على الإجزاء:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ حَجّ عن غيره، أيُجزيه ذلك عن حَجّة الإسلام ؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

ومنها: صحيح جميل بن درّاج، عنه عليه السلام: «في رجل ليس له مالٌ حجّ عن رجل أو أحجّه رجلٌ ، ثمّ أصاب مالاً هل عليه الحَجّ؟ قال عليه السلام: يُجزي عنهما»(3).

ومنها: صحيح معاوية، عنه عليه السلام: «حَجّ الصرورة يُجزي عنه وعمّن حجّ عنه»(4).

ونحوها خبر عمرو بن الياس(5)، وإنْ عارضه في مورده صحيح علي بن مهزيار.

أقول: أمّا غير صحيح جميل فإنّه قابلٌ للحمل على ما صرّح به في خبر آدم، وهو الإجزاء إلى اليسار، فالجمع بين الطائفتين يقتضي ذلك، وأمّا صحيح جميل فعن «المنتقى » الطعن في متنه، قال: (وربما تطرّق إليه الشكّ بقصور متنه، حيث تضمّن السؤال أمرين، والجواب إنّما ينتظم مع أحدهما، فإنّ قوله: (يجزي عنهما)8.

ص: 206


1- تهذيب الأحكام: ج 5/8، ح 20، وسائل الشيعة: ج 11/55، ح 14226.
2- الكافي: ج 4/274، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/56، ح 14229.
3- الفقيه: ج 2/423، ح 2870، وسائل الشيعة: ج 11/57، ح 14231.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/411، ح 78، وسائل الشيعة: ج 11/55، ح 14227.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/8، ح 21، وسائل الشيعة: ج 11/56، ح 14228.

يناسب مسألة الحَجّ عن الغير، وأمّا حكم من أحجّه غيره فيبقى مسكوتاً عنه، مع أنّ إصابة المال إنّما ذُكرت معه، وذلك مظنّة الرَّيب أو عدم الضبط في حكاية الجواب، فيُشكل الإلتفات إليه في حكم مخالف لما عليه الأصحاب) انتهى (1).

ولكن يمكن أن يقال: إنّ السؤال إنّما هو عن حكم فردين:

أحدهما: من حَجّ عن غيره.

والآخر: من أحجّه غيره.

فقوله عليه السلام: (يُجزي عنهما) أي من حَجّ عن غيره فأصاب مالاً، ومن أحجّه غيره فأصاب مالاً، فإنّ حَجّ كلّ منهما مُجزٍ عنهما.

قال صاحب «الوسائل»: (أقول: يُحتمل كون الإجزاء حقيقة بالنسبة إلى مَن حَجّ عنه، ومجازاً بالنسبة إلى النائب، ويُحتمل عود الضمير في قوله: (عنهما) إلى الرجُلين المنوب عنهما دون النائب، ويُحتمل الحمل على الإنكار) انتهى (2).

أقول: والكلّ خلاف الظاهر.

وأفاد بعض الأعاظم: أنّ الجمع بين صحيح جميل الذي هو ظاهرٌ في الإجزاء وغيره، يقتضي الأخذ بظاهره، وحمل غيره على الاستحباب(3).

وفيه: أنّ ضابط الجمع العرفي كون أحد الخبرين بنظر العرف قرينة على الآخر، ويعرف ذلك بجمعهما في كلام واحد، وفي المقام إذا جمعنا قوله عليه السلام في صحيح جميل:

(في مَن حجّ عن غيره ومن حَجّه غيره فأصابا مالاً يجزي عنهما جميعاً)، وقوله عليه السلام9.

ص: 207


1- منتقى الجمان للشيخ حسن صاحب المعالم: ج 3/80.
2- وسائل الشيعة: ج 11/57 في تعليقته على صحيحة جميل بن درّاج، ح (14231).
3- المراد به السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/158 و 159.

في خبر آدم: (أجزأت عنه حتّى يرزقه اللّه تعالى ما يحجّ به ويجب عليه الحَجّ ) الدالّ بالمفهوم على عدم الإجزاء، وبالمنطوق على وجوب الحَجّ ، فإنّه لا ريب في أنّ العرف يراهما متهافتين، ولا يرى أحدهما قرينةً على الآخر.

فالحقّ أنّهما متعارضان، لا يمكن الجمع بينهما، ويكون الترجيح مع خبر آدم، لأنّه المشهور بين الأصحاب ولموافقه الكتاب.

الحجّ مع العُسر والحَرَج

الفرع الثاني: لو حجّ فاقد شرطٍ من الشروط التي مدركها قاعدة لا حرج، أو قاعدة نفي الضرر، كصحّة البدن، وسعة الوقت، والعود إلى الكفاءة على قولٍ ، وماشاكل، أو حَجّ مع لزوم العُسر والحَرَج، أو مع الضرر:

فقد يقال - كما عن «الدروس»(1) وفي «العروة»(2) وتبعهما بعض الأعاظم(3) - بالإجزاء، ولكن المشهور عدم الإجزاء.

أقول: وقد استدلّ للإجزاء بوجوه:

الوجه الأوّل: ما عن الشهيد رحمه الله قال - بعد ذكر الشرائط وإنهائها إلى ثمانية -:

(ولو حَجّ فاقد هذه الشرائط لم يُجزئه، وعندي لو تكلّف المريض والمغصوب والممنوع بالعدوّ، وتضيّق الوقت، أجزأه ذلك، لأنّ ذلك من باب تحصيل الشرط، فإنّه لا يجب، ولو حصله وجب وأجزأ، نعم لو أدّى ذلك إلى إضرارٍ بالنفس يحرم

ص: 208


1- الدروس: ج 1/314.
2- العروة الوثقى: ج 4/426، (ط. ج).
3- لعلّ المراد به السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/184 و 185.

إنزاله، ولو قارن بعض المناسك احتمل عدم الإجزاء) انتهى (1).

وفيه: أنّ الذي يحصل بالتكلّف ليس إلّاالمقدّمة، وهو المشي إلى مكّة والوقوف بمنى وعرفات، لا الشرط الذي هو عدم الحَرَج أو الضرر.

وبعبارة اُخرى : الذي يحصل بالتكلّف هو الحَجّ أو السير إليه، لا الصحّة أو الأمن من الطريق مثلاً المعدودان من الشروط.

نعم، لو كان الضرر أو الحَرَج إلى ما قبل الميقات، ولم يكونا حين الشروع في العمل، تمّ ما ذكره، لكنّه خارجٌ عن فرض المسألة، ولا قائل بعدم الإجزاء فيه.

الوجه الثاني: ما في «العروة» حيث قال: (لأنّ الضرر والحَرَج إذا لم يصلا إلى حَدّ الحرمة، إنّما يرفعان الوجوب والإلزام، لا أصل الطلب، فإذا تحمّلهما وأتى بالمأمور به كفى ) انتهى (2).

أقول: يجب ملاحظة مراده:

1 - فإنْ اُريد أن الوجوب والاستحباب فردان من الطلب، ويكون الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك، أو أنّ الوجوب هو الطلب الشديد، والضرر والحَرَج يرفعان القيد الثاني أو الشدّة، فيكون الأوّل أو أصل الطلب باقياً، فيرد عليه ما ذكرناه تبعاً للأساطين من أنّ الاختلاف بينهما ليس إلّافي حكم العقل بلزوم المتابعة وعدمه، من جهة ترخيص الأمر في تركه وعدمه، وإلّا فالطلب شيءٌ واحد لا تركّب فيه(3).1.

ص: 209


1- الدروس: ج 1/314.
2- العروة الوثقى: ج 4/426، (ط. ج).
3- مستند العروة الوثقى: ج 1/221.

2 - وإنْ اُريد أنّ قاعدة نفي العُسر والحَرَج، وكذا قاعدة نفي الضرر إنّما ترفع المؤاخذة خاصّة، والطلب يكون باقياً، فيرد عليه - مضافاً إلى عدم معقوليّة رفع الحكم العقلي مع بقاء منشئه - أنّ مقتضى إطلاق دليلهما رفع الطلب رأساً.

الوجه الثالث: ما أفاده بعض الأعاظم من المعاصرين، وهو أنّه بناءً على أنّ الاختلاف بين الوجوب والاستحباب إنّما هو من ناحية الترخيص في مخالفته في الطلب الاستحبابي، وعدمه في التكليف الوجوبي، فإنّ أدلّة نفي الحَرَج والضرر راجعة إلى الترخيص في مخالفة الطلب، فالطلب قبل أدلّة نفي الحَرَج والضرر لا ترخيص في مخالفته، وبعدها مرخّصٌ في مخالفته، فالطلب في الحالين لا تبدّل فيه لا في ذاته ولا في صفته، وإنّما التبدّل في إنضمام الترخيص إليه بعد أن كان خالياً عنه، فإذا كان باقياً بحاله كان كافياً في مشروعيّة المطلوب وجواز التعبّد به(1).

وفيه: أنّ تلك الأدلّة نافية للتكليف لا مثبتة، فلا يثبت بها الترخيص في الترك، وبدونه لا معنى لرفع حكم العقل بوجوب إتيان ما أمر به المولى، مع أنّه لا وجه لتخصيص الرفع بخصوص هذا الحكم، بعد أنّ مقتضى إطلاقها رفع كلّ حكمٍ قابل للجعل.

الوجه الرابع: ما ذكره بعضٌ آخر من أعاظم المعاصرين(2)، وهو أنّ كلّ قيدٍ من قيود الموضوع، وإنْ كان دخيلاً في الملاك بلا كلام، إلّاأنّ القيد المستفاد من قاعدة نفي العُسر والحَرَج لا ملاك له إلّاالامتنان، ولا ربط له بأصل الملاك، فلو حَجّ مع لزوم الحَرَج، حكم بإجزائه عن حَجّة الإسلام، لاستيفائه جميع ملاك الحَجّ4.

ص: 210


1- المراد به السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/184.
2- كتاب الحَجّ للشاهرودي: ج 1/193-194.

الواجب، وملاك الامتنان يصلح منشئاً لرفع الحكم، لكنّه لا يصلح لمزاحمة ملاك الواجب، وهو واضح.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّه كيف يُستكشف وجود ملاك الواجب بعد رفع الحكم، إذ العلم بوجوده مع عدم الكاشف، علمٌ بالغيب الذي لا يعلمه إلّاعلّام الغيوب.

وأجاب عنه: بأنّه يُستكشف وجوده من نفس امتنانيّة القاعدة، إذ لو لم يكن ملاك الوجوب ثابتاً، فلا امتنان في رفعه، لارتفاعه بانتفاء الملاك لا للقاعدة، فتسليم امتنانيّتها مساوقٌ لتسليم ثبوت الملاك على حاله.

أقول أوّلاً: قد ذكرنا في مبحث النيّة من هذا الشرح(1) أنّ الدّواعي القُربية الموجبة لعباديّة العبادة، منحصرة في الأمر والمحبوبيّة، وأمّا باقي الدواعي التي توهم كونها منها كرجاء الثواب ورفع العقاب وما شاكل فليست منها، ومن تلك الدواعي داعي الملاك والمصلحة الكامنة في الفعل، إذ استيفاء المصلحة الكامنة في العبادة، لا يمكن إلّابإتيانه امتثالاً لأمره تعالى ، فلو أتى بالعبادة من دون قصد الأمر، ولو كان من قصده حصول المصلحة لا تستوفي تلك، لترتّبها على الفعل المأتي به امتثالاً لأمره تعالى ، وعليه فالإتيان بداعي الملاك لا يكفي في العباديّة، وكما أنّ قصد الأمر الندبي أيضاً يأتي فيه ما تقدّم من الإشكال في إجزاء الحَجّ الندبي عن الواجب، أضف إلى ذلك أنّ الملاك الذي لا يصلح أن يزاحم الامتنان وغير قابل لأن يكون منشئاً للأمر عند مزاحمته معه، لا يكفي في العباديّة والقُرب إلى اللّه تعالى ، مع أنّ عدم مزاحمة ملاك الامتنان على الاُمّة لملاك الحَجّ الواجب غير واضح، فيقع الكسر والانكسار بين الملاكين، بل يستكشف وجودها وتحقّقها من مزاحمته معه في المنشئيّة لجعل الحكم وغلبته عليه.8.

ص: 211


1- فقه الصادق: ج 7/8.

الوجه الخامس: أنّ عدم الضرر والحَرَج المأخوذ شرطاً في الاستطاعة، يُراد به عدم الحَرَج والضرر الواردين من قبل الشارع لا مطلقاً، فإذا تكلّف المكلّف الحَرَج والضرر لابدّاعي أمر الشارع، بل بداعٍ آخر، فعدم الحَرَج والضرر الآتيين من قبل الشارع حاصلٌ ، لأنّ المفروض أنّ الضرر والحَرَج الحاصلين كانا بإقدام منه، وبداع نفساني لا بداع الأمر الشرعي فتكون الاستطاعة حينئذٍ حاصلة بتمام شروطها، فيكون الحَجّ الواقع حَجّة الإسلام(1).

وفيه: أنّ مقتضى إطلاق الأدلّة رافعية الحَرَج والضرر للحكم مطلقاً، ولا يعقل وجه لهذا التقييد.

الوجه السادس: ما ذكره بعض الأعاظم من المعاصرين(2) أيضاً، وهو يعمّ جميع الشروط سوى الاستطاعة الماليّة والبلوغ والحريّة، وهو أنّه يجب على من يكون مستطيعاً من حيث المال، وفاقداً لشرطٍ آخر غيره كصحّة البدن وما شاكل، أن يستنيب مَن يَحجّ عنه، وهذا دليلٌ على ثبوت حَجّة الإسلام عليه، إذ لو لم يكن الحَجّ واجباً عليه لما أمر بالاستنابة، بأن يأتي النائب ما وجب على المنوب عنه، فوجوبه عليه مسلّمٌ ، غاية الأمر سقط عنه قيد المباشرة لأجل المانع، ومعلومٌ أنّ سقوط قيد المباشرة ترخيصيٌ لا عزيمي، لأنّه من الواضح أنّه لو تحمّل المرض أو الحَرَج وباشر الحجّ بنفسه لم يرتكب حراماً، فينطبق عنوان حَجّة الإسلام على فعله قهراً.

ثمّ قال: إنّ ذلك واضح على فرض وجوب الإستنابة، ولكنّه كذلك حتّى بناء).

ص: 212


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/182.
2- كتاب الحَجّ للشاهرودي: ج 1/195 (الوجه الثالث).

على استحبابها، لأنّ ظاهر الأخبار هو إتيان النائب بما على المنوب عنه من جهة الاستطاعة الماليّة وجوباً، لا إتيانه بالحجّ المستحبّ عنه، لكون الاستحباب صفة للاستنابة لا الحَجّ الذي يأتي به نيابة عنه.

وفيه أوّلاً: إنّ بقاء وجوب الحَجّ ، وتوجّهه إلى المنوب عنه مع الترخيص في تركه ممّا لا أتعقّله، لأنّه:

إنْ اُريد أنّه مخيّر بين أن يأتي بالحجّبنفسه أو يستنيب، فهذا ممّالم يدلّ عليه الدليل.

وإنْ اُريد أنّ الوجوب متوجّه بالأصالة ولكنّه يسقط بالاستنابة، فيرد عليه أنّ لازمه عدم جواز تركه عليه ابتداءً ، وهذا ممّا يخالفه الأدلّة.

وإنْ اُريد أنّ الخطاب موجّهٌ إلى المنوب عنه، أعمٌّ من بدنه الحقيقي والتنزيلي وهو النائب، فيرد عليه أنّ الخطاب الموجّه إلى شخصٍ لا يُعقل كونه محرّكاً لشخصٍ آخر.

والحقّ أنّه إنْ وجب الإستنابة كان ذلك تكليفاً آخر غير التكليف بحجّة الإسلام.

وثانياً: أنّه لو تمّ ذلك بناءً على وجوب الإستنابة، لا يتمّ بناءً على استحبابها، إذ كيف يكون هناك تكليفٌ وجوبي رُخِّص في مخالفته حتّى ببدله التنزيلي ؟!

ثمّ إنّ الكلام في حقيقة النيابة، وكيفيّة توجّه الأمر إلى النائب وامتثاله، سيأتي في محلّه إنْ شاء اللّه تعالى .

***

ص: 213

وجوب الإستنابة على المعذور

المسألة السادسة: وهي حول النيابة عن الحَيّ في الحَجّ .

أقول: لا إشكال في أنّ مقتضى القواعد الأوّليّة عدم مشروعيّة النيابة، فإن إطلاق الدليل المتضمّن للأمر بفعل مّا يقتضي المباشرة، أضف إليه خروج فعل الغير عن تحت قدرة المكلّف، فلا يُعقل أن يؤمر به، فجعله طرف التخيّير غير معقول، وجعل الإستنابة عِدْلاً معقولٌ إلّاأنّه خلاف الظاهر والإطلاق، ويحتاج إلى قرينة تُثبته، وسقوط الأمر بالاستنابة أو بفعل النائب خلاف الأصل، ويحتاج إلى دليل.

وبالجملة: فإنّ الإستنابة والنيابة خلاف الأصل، ولكن خرج عن ذلك النيابة عن الميّت، حيث دلّت النصوص على جواز النيابة عنه في كلّ عملٍ خير حَسَن فلا إشكال فيها.

كما أنّه لا إشكال في صحّة النيابة عن الحَيّ المتمكّن أيضاً في الحَجّ المندوب، لجملةٍ من النصوص:

منها: خبر محمّد بن عيسى اليقطيني، قال: «بعث إليَّ أبو الحسن الرِّضا عليه السلام رزم ثياب وغِلماناً وحَجّة لي، وحجّة لأخي موسى بن عبيد، وحَجّة ليونس به عبد الرحمن، وأمرنا أن نحجّ عنه، فكانت بيننا مائة دينار أثلاثاً فيما بيننا، الحديث»(1).

ومنها: خبر جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من وصل قريباً بحَجّةٍ أو عمرة كتب اللّه له حَجّتين وعمرتين، الحديث»(2).

ص: 214


1- تهذيب الأحكام: ج 8/40، ح 121، وسائل الشيعة: ج 11/208، ح 14637.
2- الكافي: ج 4/10، ح 1، وسائل الشيعة: ج 9/412، ح 12356.

ومنها: خبر إسحاق بن عمّار، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «عن الرّجُل يحجّ فيجعل حَجّته وعمرته أو بعض طوافه لبعض أهله، وهو عنه غائب ببلدٍ آخر؟

قال: فقلت: فينقصُ ذلك من أجره ؟ قال عليه السلام: لا، هي له ولصاحبه، وله أجرٌ سوى ذلك بما وصل، الحديث»(1).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالّة على ذلك.

كما لا إشكال في عدم صحّة النيابة في الحَجّ الواجب عن الحَيّ المتمكّن من الإتيان به مباشرة بدون العُسر والحَرَج والضرر.

إنّما الكلام في النيابة عنه مع عدم التمكّن من المباشرة، لمرضٍ أو حصر أو هَرَم، أو إذا كان حَرَجاً عليه، ومورد الكلام والبحث في جهات:

الجهة الأُولى : مَنْ استقرّ عليه الحَجّ بأن اجتمعت له شرائط الوجوب، ومضت مدّة يمكنه فيها استيفاء جميع أفعال الحَجّ ، وأهمل حتّى تعذّر عليه الحَجّ أو تعسّر، هل يجب عليه الاستنابه أم لا؟ وجهان:

المشهور شهرة عظيمة هو الأوّل.

وفي «الحدائق»: (وجبت الإستنابة قولاًواحداً. وقدصرّح بذلك جملة منهم)(2).

وفي «المستند»: (بل في «المسالك» و «الروضة» و «المفاتيح» و «شرح الشرائع» للشيخ علي وغيرها الإجماع عليه) انتهى (3).

ولكنّه قدس سره في آخر كلامه بعد استظهار التردّد عن «الشرائع» و «الذخيرة» و «النافع»، ونقل عدم تعرّض جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله للحكم بالوجوب، وخلوّ0.

ص: 215


1- الكافي: ج 4/315، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/197، ح 14613.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/131.
3- مستند الشيعة: ج 11/70.

كثيرٍ من كلمات الموجبين للإستنابة والنافين له عن هذا التفصيل، قال:

(وعلى هذا، فليس في المسألة مظنّة إجماعٍ ، ولا علمٌ بالشهرة).

ثمّ اختار رحمه الله أخيراً عدم الوجوب(1).

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ لوجوب الإستنابة في هذه الصورة بجملةٍ من الأخبار:

1 - صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام رأى شيخاً لم يحجّ قطّ، ولم يُطق الحَجّ من كِبره، فأمره أن يجهز رجلاً فيحجّ عنه»(2).

2 - صحيح عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «أنّ أمير المؤمنين أمرَ شيخاً كبيراً لم يحجّ قطّ، ولم يطق الحَجّ لكبره أن يُجهز رجلاً يحجّ عنه»(3).

3 - صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «كان عليٌّ عليه السلام يقول: لو أنّ رجلاً أراد الحَجّ فعرض له مرض، أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج، فليجهز رجلاً من ماله ثمّ ليبعثه مكانه»(4).

4 - خبر عبد اللّه بن ميمون القدّاح، عن أبي جعفر عليه السلام، عن أبيه: «أنّ عليّاً عليه السلام قال لرجلٍ كبير لم يحجّ قطّ: إنْ شئتَ أن تُجهز رجلاً ثمّ ابعثه يحجّ عنك»(5).

5 - خبر سلمة أبي حفص، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّ رجلاً أتى عليّاً عليه السلام ولم يحجّ قطّ، فقال: إنّي كثيرُ المال، وفرّطت في الحَجّ حتّى كبرتْ سنّي ؟ فقال: فتستطيع الحَجَّ؟ فقال: لا. فقال له عليٌّ عليه السلام: إنْ شئت فجهز رجلاً ثمّ ابعثه يحجّ عنك»(6).9.

ص: 216


1- مستند الشيعة: ج 11/74.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/14، ح 38، وسائل الشيعة: ج 11/63، ح 14247.
3- الكافي: ج 4/273، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/65، ح 14252.
4- الكافي: ج 4/273، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/64، ح 14251.
5- الكافي: ج 4/272، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/65، ح 14254.
6- تهذيب الأحكام: ج 5/460، ح 1599، وسائل الشيعة: ج 11/64، ح 14249.

6 - مصحّح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ ، قال:

«وإنْ كان موسراً، وحالَ بينه وبين الحَجّ مرضٌ أو حصر أو أمر يعذره اللّه تعالى فيه، فإنّ عليه أن يحجّ عنه من ماله صرورة لا مال له»(1).

7 - خبرعليّ بن أبي حمزة: «سألته عن رجُل مسلم حالَ بينه وبين الحَجّ مرض أو أمرٍ يعذره اللّه فيه، فقال عليه السلام: عليه أن يحجّ من ماله صرورة لا مال له»(2).

8 - خبر الفضل بن العبّاس، قال: «أتت امرأة من خثعم رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقالت:

إنّ أبي أدركته فريضة الحَجّ وهو شيخٌ كبير لا يستطيع أن يلبث على دابّته ؟ فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله: فحجّي عن أبيك»(3).

وأورد على الاستدلال بها على الوجوب بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الأخبار الثلاثة الأُولى غير ظاهرة في المستطيع، فيدور الأمر بين حملها على المستطيع وإبقاء الأمر فيها على ما هو ظاهره وهو الوجوب، وبين حمل الأمر فيها على مجرّد بيان المشروعيّة، وليس الأوّل أولى من الثاني، والرابع والخامس ظاهران في عدم الوجوب، والسادس والسابع لا يمكن الأخذ بظاهرهما من وجوب استنابة الصرورة، والتفكيك بين القيد والمقيّد في الوجوب بعيدٌ، والثامن غيرُ ظاهر في الوجوب.

وفيه: أنّ الروايات الثلاث الأُولى ظاهرة في الوجوب مطلقاً، وإنّما لا نلتزم به في غير الفرض، لدليلٍ خاص وهو يقيّد إطلاقها، فلا وجه لحملها على بيان مجرّد المشروعيّة، مع أنّ ذكر ما فيها من القيود قرينة على عدم الشمول للحجّ الندبي، فإن0.

ص: 217


1- الفقيه: ج 2/421، ح 2864، وسائل الشيعة: ج 11/63، ح 14248.
2- الكافي: ج 4/273، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/65، ح 14253.
3- وسائل الشيعة: ج 11/64، ح 14250.

الإستنابة فيه لا تختصّ بمجمع القيود.

أمّا الرابع والخامس: فليسا ظاهرين في عدم الوجوب، لإجمال متعلّق المشيئة، فلعله براءة الذمّة والخلاص من العذاب، أضف إليه ما في «الحدائق» من أنّه لا يخفى على من أحاط خُبراً بالاخبار أنّه كثيراً ما يؤتى بهذه الكلمة في مقام الوجوب(1)، هذا فضلاً عن أنّهما ضعيفان سنداً.

أمّا الأوّل منهما: فلأنّ في سنده سهل بن زياد وهو ضعيفٌ أو مجهول.

وأمّا الثاني: فلأنّ سلمة أبي حفص مهملٌ .

أقول: إنّ سهلاً يعتمد على روايته على الأظهر، والراوي عن سلمة، أبان بن عثمان، وهو من أصحاب الإجماع، فلا إشكال في الخبرين من حيث السند.

وأمّا السادس والسابع: فيؤخذ بظاهرهما، ويحكم بوجوب استنابة الصرورة، إلّا إذا قام الدليل على عدم تعيّين ذلك، ويرفع اليد عن وجوبهما بمقدار ما دلّ الدليل عليه. والتفكيك بين القيد والمقيّد بعد قيام الدليل عليه لا محذور فيه، وكم له نظير في الفقه.

وأمّا الثامن: فعدم ظهوره في الوجوب لم يظهر لي وجهه، بل ظاهر الأمر فيه هو الوجوب.

الوجه الثاني: أنّ أكثر نصوص الباب وإنْ كانت ظاهرة في الوجوب، إلّاأنّ ما تقدّم من حديثي سلمة والقدّاح ظاهران في عدم الوجوب، بل صريحان فيه، لتعليق الإستنابة فيهما على المشيئة، فبواسطتهما يرفع اليد عن ظهور تلك النصوص وتُحمل على الاستحباب.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من ضعف سندهما.2.

ص: 218


1- الحدائق الناضرة: ج 14/132.

وثانياً: من إجمالهما وعدم ظهورهما في عدم الوجوب.

وثالثاً: إنّ الروايات الخمس الأُولى - بناءً على وحدة الواقعة فيها، كما هو الظاهر أو المحتمل - لو سُلّم ظهور الخبرين الأخيرين منهما في عدم الوجوب، والفرض ظهور الثلاث الأُولى في الوجوب، يقع التعارض بينها لفرض الاختلاف في النقل، فالمرجع إلى مرجّحات ذلك الباب، وهي تقتضي تقديم الثلاث الأُولى لأصحّيتها سنداً وأكثريّتها عدداً.

أقول: وفيه تأمّل، فإنّ هذا قابل للمناقشة.

الوجه الثالث: إنّ صحيح محمّد المتقدّم ظاهرٌ في عدم الوجوب، وذلك لأنّه علق التجهيز - أي الإستنابة - فيه على إرادة الحَجّ ، فمفهومه عدم وجوبه مع عدم إرادة الحَجّ ، وبضميمة الإجماع المركّب يُحكم بعدم وجوبه في صورة إرادة الحَجّ أيضاً.

ولأنّه أمر بالتجهيز من ماله غير الواجب قطعاً، لكفاية بعثه ولو تبرّعاً، ولشمول إطلاقه لمن لا يجب عليه الحَجّ ، وبقرينة هذا الصحيح يُحمل سائر النصوص على الاستحباب.

وفيه: أنّ شيئاً من القرائن المذكورة لا يصلح لأنْ يكون سبباً لحمل الأمر على غير الوجوب:

أمّا الأُولى: فلأنّ الإجماع المركّب يجري من الطرفين، والظاهر أنّ التعليق على إرادة الحَجّ من جهة أنّمن لايريدالحَجّ لاحاجة له إلى الإستنابة ولايكون بصددها.

وأمّا الأخيرتان: فلما مرّ.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو وجوب الإستنابة في هذه الصورة.

***

ص: 219

ولو كان المتمكّنُ مريضاً لم يجب الإستنابة.

الإستنابة عن الحَيّ مع عدم استقرار الحَجّ عليه

الجهة الثانية: إذا كان المكلّف موسراً من حيث المال، ولم يتمكّن من المباشرة مع عدم استقراره عليه:

فهل يجبُ عليه الإستنابة كما عن الشيخ في «النهاية»(1)، و «التهذيب»(2)، و «المبسوط»(3)، و «الخلاف»(4) مدّعياً في الأخير الإجماع عليه(5)، والقديمين(6)والحلبي(7) والقاضي(8) والمصنّف في «التحرير»(9) وكثيرٌ من المتأخّرين، بل الأكثر، ولعلّه ظاهر «الشرائع»(10) و «المنتهى »(11)؟

أم لاتجب كمافي المتن حيث قال رحمه الله: (ولو كان المتمكّن مريضاً لم يجب الإستنابة).

وعن «المختلف»(12)، وابن سعيد(13)، وظاهر المفيد(14)، و «القواعد»(15)، و «كشف

ص: 220


1- النهاية: ص 203، وعبارته (كان عليه أن يخرج رجلاً يحجّ عنه).
2- تهذيب الأحكام: ج 5/14، باب وجوب الحَجّ .
3- المبسوط: ج 1/299.
4- الخلاف: ج 2/248.
5- الخلاف: ج 2/249، وعبارته (دليلنا: إجماع الفرقة...).
6- حكاه عنهما المحقّق النراقي في مستند الشيعة: ج 11/74.
7- الكافي للحلبي: ص 219.
8- المهذّب للقاضي ابن البرّاج: ج 1/267.
9- تحرير الأحكام: ج 1/92، (ط. ق).
10- شرائع الإسلام: ج 1/169.
11- منتهى المطلب: ج 2/861، (ط. ق).
12- مختلف الشيعة: ج 4/11.
13- الجامع للشرائع: ص 173-174.
14- المقنعة: ص 442.
15- قواعد الأحكام: ج 1/405.

اللّثام»(1)؟ وجهان:

يشهد للأوّل: إطلاق ما تقدّم من النصوص.

وقد استدلّ للثاني: بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ النصوص المتقدّمة منصرفة إلى صورة الاستقرار. وهو كما ترى .

الوجه الثاني: أنّ تلك النصوص طائفتان:

طائفة ظاهرة في الوجوب، وهي أكثرها.

وطائفة كخبري القدّاح وسلمة ظاهرة في عدم الوجوب.

فتُحمل الأُولى على صورة الاستقرار، والثانية على صورة عدم الاستقرار.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من عدم ظهورهما في عدم الوجوب، وضعف سندهما.

وثانياً: أنّه جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، بل خبر سَلَمة مختصٌّ بمن فرّط ففاته الحَجّ الظاهر في الاستقرار.

الوجه الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم من المعاصرين، بقوله: (إنّ الجمع بين تلك النصوص، وبين ما دلّ على اعتبار صحّة البدن، وإمكان المسير في الاستطاعة يقتضي البناء عليذلك، إذ الجمع بينها كما يكون بتقيّيد إطلاق الحكم بغير الإستنابة، بأن تُحمل الشرطيّة على الشرطيّة للوجوب بنحو المباشرة، يكون أيضاً بتقيّيد موضوع هذه النصوص بمن كان مستطيعاً، ولا ريب في كون التقييد الثاني أسهل، بل الأوّل بعيدٌ جدّاً في نفسه، وبملاحظة قرينة السياق، فإنّ الصحّة ذكرت في النصوص في سياق الزاد والراحلة الّذين هما شرط في الاستطاعة حتّى بالإضافة).

ص: 221


1- كشف اللّثام: ج 5/112، (ط. ج).

إلى وجوب الإستنابة، فتكون صحّة البدن كذلك) انتهى (1).

وفيه: أنّ الجمع فرع المعارضة، ولا تعارض بين الطائفتين، فإنّ ما دلّ على اعتبار صحّة البدن وإمكان المسير، إنّما يدلّ على دخلهما في الاستطاعة الموجبة لوجوب الحَجّ على المكلّف نفسه، وهذه النصوص تدلّ على أنّ الموسر من حيث المال وإنْ لم يكن واجداً لهذه القيود، يجب عليه الإستنابة، فمفاد الطائفتين أنّ من استطاع من حيث المال، إن كان مستطيعاً من سائر الجهات، وجب عليه الحَجّ بالمباشرة، وإلّا فيجب عليه الإستنابة، ولعمري أنّ هذا واضحٌ لا سُترة عليه، وأمّا أصل البراءة فلا يرجع إليه مع الإطلاق.

فالمتحصّل: أنّ الأظهر هو الوجوب، كما ذهب إليه جمعٌ من الأساطين.

عدم اختصاص وجوب الإستنابة بصورة اليأس

الجهة الثالثة: بناءً على وجوب الإستنابة على من استطاع مالاً، ولم يستقرّ عليه الحَجّ لعُذرٍ، هل يختصّ ذلك بالمأيوس من زوال العذر - كما عن جماعة(2)، وفي «المنتهى »: (في من يرجى برءه، فإنّ الإستنابة هنا ليست واجبة بالإجماع) انتهى (3).

وفي «الجواهر» بعد نقل ذلك عن «المنتهى »: (وربما يشهد له التتبّع)(4)؟

أم يعمّ ما يرجى زواله كما في «الحدائق»(5)، وعن «الدروس»(6)؟ وجهان:

ص: 222


1- الظاهر أنّ المراد به السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/193.
2- راجع تذكرة الفقهاء: ج 7/70، (ط. ج)، تحرير الأحكام: ج 1/552، (ط. ج)، جامع المقاصد: ج 3/132، الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/167 و ص 168، وغيرهم.
3- منتهى المطلب: ج 2/655، (ط. ق).
4- جواهر الكلام: ج 17/284.
5- الحدائق الناضرة: ج 14/130.
6- الدروس: ج 1/312.

قد استدلّ للثاني: بإطلاق الأخبار، بل ربما يقال إنّ حملها على صورة ما إذا كان المرض غير مرجوّ الزوال، حملٌ على الفرد النادر، إذ المرض يكون غالباً مرجوّ الزوال.

أقول: وأورد عليه:

تارةً : بانصراف الأخبار إلى صورة اليأس.

واُخرى : بأنّه لا مجال للعمل بها بعد إعراض الأصحاب عنها.

وثالثة: بأنّه يقيّد إطلاقها بالإجماع.

ورابعة: بأنّ جملة منها ورادة في استنابة الشيخ الكبير، ومعلومٌ أنّ الشيخوخة لا يرجى زوالها، فيقيّد بها إطلاق ماله إطلاق.

ولكن يمكن دفع الأوّل: بمنع الانصراف، وعلى فرضه بدويٌّ يزول بأدنى التفات.

ودفع الثاني: بأنّ عدم عمل الأصحاب بإطلاقها، ليس لأجل الإعراض عنها، بل لعلّه من جهة الجمع بين الأدلّة، فلا يكون عدم عملهم إعراضاً موهناً.

ودفع الثالث: بعدم كونه إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام.

ودفع الرابع: بأنّه لا يُحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا إطلاق الأخبار: فيرد على التمسّك به أنّ المأخوذ في موضوعها هو العذر، ولكن الظاهر منها - كما هو الشأن في جميع أدلّة التكاليف الاضطراريّة - أنّ الموضوع هو العُذر الذي يكون مانعاً عن الإتيان بالوظيفة، وحيثُ أنّ الوظيفة ليست هي الإتيان بالحجّ في خصوص سنة من السنين، بل الواجب هو الحَجّ مرّة واحدة إلى آخر عمره، فلا محالة يكون الموضوع هو العذر المستمرّ بلا دخل للرجاء واليأس فيه.

ص: 223

وبعبارة اُخرى : بعد كون المأخوذ في الموضوع هو وجود العذر، يدور الأمر بين كون العذر في سنةٍ موضوعاً أو العذر مادام العمر؟ ومقتضى الإطلاق وظاهر الأدلّة هو الثاني، مع أنّ الأوّل مستلزمٌ لجواز الإستنابة إذا كان مريضاً في سنةٍ ، وإنْ علم بارتفاعه إلى السنة الآتية، ولم يفتِ بذلك أحدٌ، فيعلم أنّ الموضوع هو العذر المستمرّ، وعليه:

فتارةً : يعلم بارتفاعه.

واُخرى : يعلم ببقائه.

وثالثة: لا يحرز شيء منهما.

ففي الفرض الأوّل لا يجب الإستنابة، وفي الثاني تجب، وأمّا في الثالث فبناءً على ما هو الحقّ من جواز البدار في جميع موارد الأبدال الاضطراريّة - نظراً إلى استصحاب بقاء العُذر، لجريانه في الاُمور الاستقباليّة كما حُقّق في محلّه - يجوز البدار والإستنابة، غاية الأمر يكون الجواز ظاهريّاً، فلو برأ وانكشف عدم استمرار العذر، وجب عليه أن يحجّ بنفسه، ولا يكفي حجّ النائب حينئذٍ عن حجّة الإسلام.

فتحصّل: أنّ الأظهر عموم الحكم لصورة رجاء زوال العذر، نعم لا يعمّ الحكم ما لو علم أو اطمأن بالزوال، أو كان له طريقٌ عقلائي إليه كما هو واضح.

أقول: وفي المقام تفصيلٌ آخر، وهو التفصيل بين المرض العارض فيجب فيه الإستنابة، والمرض الخَلْقي فلا تجب.

قال في «الجواهر» بعد إنكار وجوب الإستنابة: (وأمّا على الوجوب فيه، فالمتّجه الاقتصار على المنساق من النصوص المزبورة المخالفة للأصل، بل صحيح محمّد بن مسلم منها كالصريح في ذلك - إلى أنْ قال - ودعوى ظهور صحيح الحلبي

ص: 224

وخبر ابن أبي حمزة في العموم، وكذا صحيح ابن سنان ممنوعة، كدعوى أنّ القول بعدم الوجوب فيه إحداثُ قولٍ ثالث..) انتهى (1)، ويقصد رحمه الله بهذه العبارة التعريض على صاحب «الحدائق» رحمه الله حيث قال: السادسة: (ظاهر صحيحة الحلبي المتقدّمة، ومثلها رواية علي بن أبي حمزة تناول المانع الموجب للاستنابة لما لو كان خَلقيّاً أو عارضيّاً) انتهى (2).

أقول: أكثر أخبار الباب وإنْ كانت في المرض العارض، إلّاأنّ إنكار إطلاق صحيح الحلبي وخبر علي بن حمزة يعدّ مكابرة، كما أنّ دعوى الانصراف ممنوعة.

وأضعف منهما: دعوى لزوم الاقتصار على المتيقّن، إذ مع وجود الإطلاق لا يلزم ذلك.

وأضعف من الكُلّ ، دعوى حمل إطلاقهما على المقيّد، بقرينة سائر النصوص، إذ لا يُحمل المطلق على المقيّد في المثبتين.

وبالجملة: الأظهر هو التعميم.

***

إجزاء حجّ النائب عن المنوب عنه

الجهة الرابعة: لو ارتفع العذر بعدما حجّ النائب:

فهل يجب عليه الإتيان به كما هو المشهور، بل في «المستند»: (من غير خلافٍ صريح منهم أجده، بل قيل كاد أن يكون إجماعاً)(3)، وظاهر «التذكرة»(4)

ص: 225


1- جواهر الكلام: ج 17/286.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/135 و 136.
3- مستند الشيعة: ج 11/75.
4- تذكرة الفقهاء: ج 7/70، (ط. ج).

و «المنتهى »(1) الإجماع عليه ؟ أم لا يجب كما في «العروة»: (ولكن الأقوى عدم الوجوب)(2)، وتبعه جمع ؟

وقال في «الجواهر»: (إنّه على القول بوجوب الإستنابة الأظهر هو الإجزاء)(3).

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ للأوّل في «التذكرة» نقلاً عن الشيخ بأنّ ما فعله كان واجباً في ماله، وهذا يلزمه في نفسه(4).

وأوضحه صاحب «المدارك» رحمه الله، بأن إطلاق الأمر بالحجّ المتناول لجميع المكلّفين ممّن لم يحجّ يشمله، فإنّه لم يحجّ حقيقةً (5).

ولكن يرد عليه: أنّ ظاهر نصوص الإستنابة - حيث حملناها على الوجوب أو الاستحباب - أنّ ما يأتي به النائب هو الحَجّ الذي وجب على المنوب عنه، فإذا أتى به يكون الإجزاء قهريّاً لفرض الإتيان بما أُمر به، وإلى هذا يرجع ما نقله في «التذكرة»، بقوله: (ولأنّه أدّى حَجّة الإسلام بأمر الشارع، فلم يلزمه حجّ ثان كما لو حَجّ بنفسه)(6)، فلا يرد عليه ما أفاده المصنّف رحمه الله من أنّه نمنع أداء حَجّة الإسلام، بل بدلها المشروط بعدم القدرة على المباشرة، إلّاأن يرجع إلى ما سنذكره.

أقول: لكن الصحيح عدم الإجزاء، وذلك لما عرفت من أنّ المأخوذ في موضوع الإستنابة، وجواز إتيان النائب حَجّ المنوب عنه، هو العذر المستمرّ بوجوده).

ص: 226


1- منتهى المطلب: ج 2/655، (ط. ق).
2- العروة الوثقى: ج 4/435 و 436، (ط. ج).
3- جواهر الكلام: ج 17/286، وعبارته هكذا (لكن قد عرفت الإشكال في الوجوب عليه بناءً على وجوب النيابة).
4- تذكرة الفقهاء: ج 7/70، (ط. ج).
5- مدارك الأحكام: ج 7/59.
6- تذكرة الفقهاء: ج 7/71، (ط. ج).

الواقعي، فلو زال العذر، وانكشف عدم الاستمرار، يظهر عدم ثبوت الأمر واقعاً، وأنّ الثابت ليس إلّاأمراً ظاهريّاً، وموافقته لا تقتضي الإجزاء، ولا يبعد إرجاع ما ذكره المصنّف رحمه الله في «التذكرة» إلى ذلك، ولعلّ نظر الأصحاب أيضاً إلى ذلك، فالأظهر وجوب الإتيان به.

زوال العُذر في أثناء عمل النائب

فرع: لو زال العذر قبل إتمام العمل:

فتارةً : يكون قبل التلبّس بالإحرام.

واُخرى : يكون بعده.

فإن كان قبل التلبّس، فالمنسوب إلى الأصحاب انفساخ الإجارة، وعدم إجزائه عن حَجّه لو أتى به، وهذا بخلاف سيّد «العروة» حيث ذهب إلى عدم انفساخ الإجارة، ومالَ إلى القول بالإجزاء، واستدلّ لعدم انفساخ الإجارة بأنّ الإجارة من العقود اللّازمة، والبناء على انفساخها يتوقّف على وجود دليل مفقود، ويتفرّع على ذلك صحّة عمل النائب وإجزاؤه عن المنوب عنه(1).

وأورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله: بأنّ انفساخ الإجارة إنّما هو لانتفاءموضوعها، وهو عذر المنوب عنه، لأنّ وجوده شرطٌ في صحّتها، والمفروض زواله، فيحكم ببطلانها، نظير ما إذا آجر شخصاً لقلع ضرسه المولم، وقبل قلعه ارتفع عنه الألم، فتنفسخ الإجارة فيه، لانتفاء موضوعها، وهو قلع الضرس المولم(2).

ص: 227


1- العروة الوثقى: ج 4/437 و 438، (ط. ج).
2- العروة الوثقى: ج 4/437 (ط. ج)، ذكر ذلك في التعليقة رقم 3 على المتن (الهامش).

أقول: محلّ البحث ما لو زال العذر في سعة الوقت، وإلّا فإنْ زال في ضيقه فإنّ عذره يتبدّل إلى عذرٍ آخر، وهذا لا يوجبُ الانفساخ، ففي سعة الوقت بما أن الإستنابة موضوعها العذر وقد ارتفع، فلا تكون مشروعة، ومع عدم مشروعيّتها تصبح الإجارة منفسخة.

ودعوى : أنّه كانت الإستنابة بأمر الشارع، فكيف لها أن تنفسخ، كما في «العروة»(1)

ممنوعة: بأنّ ما تصوّره أمراً كان مجرّد أمر متخيّل لا أمر واقعي، وفي الفرض بما أنّ الحَجّ الذي أمر به المنوب عنه هو حَجّ الإسلام دون حجّ آخر ندبي، فلا يرد على المحقّق النائيني رحمه الله ما أفاده بعض المحقّقين من تلامذته بأنّه بناءً على ما هو الحقّ من عدم كون حجّ الإسلام نوعان، إذا كان النائب أجيراً للإتيان بالأعمال المخصوصة، في الأزمنة الخاصّة، وليس موضوع الإجارة إلّاتلك الأعمال، وبعد ارتفاع عذره لا مانع من الإتيان به عن المنوب عنه، فعلى هذا لا مجال للقول بانفساخ الإجارة، غاية الأمر أنّ المنوب عنه اعتقد وجوب الحَجّ عليه على هذا الوجه، وبعد ارتفاع عذره يتبيّن أنّ عمل الأجير كان حَجّاً ندبيّاً له، وأنّ الإستنابة كانت مستحبّة، ممّا يوجب صيرورة عمله المأتي به من مصاديق الاشتباه في التطبيق، ونظير المقام بما إذا استأجر أحد لزيارة الحسين عليه السلام بتخيّل وجوبها عليه بنذرٍ أو شبهه، ثمّ تبيّن بعد الإجارة بطلان النذر.

وجه عدم وروده: أنّ الإجارة إنّما وقعت على ما في ذمّة المنوب عنه، وبديهي أنّ).

ص: 228


1- العروة الوثقى: ج 4/438، (ط. ج).

ما في ذمّته في عام الاستطاعة هو حَجّة الإسلام لا غير، والإستنابة فيها لا تُشرع لفرض عدم العُذر واقعاً، فما وقعت الإجارة عليه عمل غير مشروع، وما هو مشروعٌ لم يقع عليه الإجارة.

وبالجملة: فالحقّ ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من انفساخ الإجارة، غاية الأمر لابدّ من إعطاء اُجرة المثل للنائب، لأنّ عمله محترم وقع بأمره واستنابته.

وإنْ كان زوال العُذر بعد التلبّس بالإحرام، فقد احتمل صاحب «المدارك» الإتمام والتحلّل بعمرة مفردة(1)، ولكن بناءً على المختار من أنّ الموضوع هو العذر المستمرّ بعد ارتفاعه، وظهور عدم استمراره وبطلان عمل النائب، لا سبيل إلى شيء منهما، لأنّهما من آثار الإحرام الصحيح، وإحرام النائب في الفرض باطلٌ ، فتدبّر.

***

الإستنابة للحجّ النذري

الجهة الخامسة: في أنّه هل يختصّ الإستنابة بحجّة الإسلام، كما في «الجواهر»(2) تبعاً للمدارك(3)؟

أم تعمّ الحَجّ النذري وما هو بدل الحجّ الفاسد إن قلنا إنّه عقوبة كما هو المنسوب إلى المشهور، بل في «المستند»: (والظاهر عدم الخلاف فيه أيضاً كما يظهر منهم في مسألة الإستنابة عن الحجّين في عام واحد) انتهى (4)؟ وجهان:

ص: 229


1- مدارك الأحكام: ج 7/58.
2- جواهر الكلام: ج 17/285.
3- مدارك الأحكام: ج 7/57 و 58.
4- مستند الشيعة: ج 11/75 و 76.

ومنشأ الاختلاف، الخلاف في وجود الإطلاق، ولو لبعض نصوص الإستنابة وعدمه، ودعوى القائلون بالشمول أنّ صحيح محمّد المتقدّم الوارد فيه قوله عليه السلام:

«لو أنّ رجلاً أراد الحَجّ فعَرَض له مرضٌ أو خالطه سُقمٌ فلم يستطع الخروج، فليجهز رجلاً من ماله ثمّ ليبعثه مكانه»(1)، يشمل الحَجّ النذري والإفسادي، وكذا صحيح الحلبي، وخبر علي بن حمزة المتقدّمان.

ومن ادّعى الاختصاص(2)، نظره إلى أنّ مورد النصوص هو حَجّ الإسلام، والتعدّي يحتاج إلى دليل مفقود، والأصل يقتضي عدم جواز الإستنابة.

أقول: ولكن الإنصاف أنّ منع الإطلاق في غير محلّه، إذ ليس فيها ما يتوهّم كونه منشئاً للاختصاص بانصرافٍ وشبهه، إلّاقوله: (فليجهز رجلاً من ماله)، بدعوى إشعاره بالاختصاص بحَجّة الإسلام، لفرض الاستطاعة الماليّة، وهي كما ترى ، وعليه فالأظهر عدم الاختصاص.

***8.

ص: 230


1- الكافي: ج 4/273، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/64، ح 14251.
2- كصاحب المدارك، المصدر السابق، ص 58.

ويجب مع الشرائط على الفور.

وجوب الحَجّ فوري

المسألة السابعة: (و) المشهور بين الأصحاب أنّه (يجب) الحَجّ (مع الشرائط على الفور)، بلا خلافٍ فيه.

وفي «التذكرة»: (ووجوب الحَجّ والعمرة على الفور، لا يحلّ للمكلّف بهما تأخيره عند علمائنا) انتهى (1).

وفي «الجواهر»: (اتّفاقاً محكيّاً عن «الناصريّات» و «الخلاف» و «شرح الجُمل» للقاضي) انتهى (2).

أقول: واستدلّ لكونه على الفور، وأنّه لو أخّره عن عام الاستطاعة عَصى وإنْ حَجّ بعد ذلك، وإنْ تركه فيه ففي العام الثاني، وهكذا بوجوهٍ :

الوجه الأوّل: الإجماع.

وفيه: قد ذكرنا مراراً أنّ الإجماع مع معلوميّة مدرك المجمعين ليس بحجّة.

الوجه الثاني: سيرة المتديّنين المتّصلة بزمان المعصومين عليهم السلام المستكشفة من إجماع العلماء على ذلك في كلّ عصرٍ منها عصر الحضور، وهي كاشفة عن رأي المعصوم عليه السلام.

وفيه: - مضافاً إلى أنّ الإجماع الذي هو مدرك المجمعين بأيدينا غير كاشفٍ عن سيرة المتديّنين حتّى في عصر الحضور - أنّه لو سُلّم كاشفيّته عنها بما أنّ الفعل

ص: 231


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/17، (ط. ج).
2- جواهر الكلام: ج 17/223.

مجملٌ يمكن أن يكون من جهة الاستباق إلى الخير والمسارعة إلى المغفرة، أو لغير ذلك من الدّواعي، فلا تدلّ على الفوريّة.

الوجه الثالث: دلالة الأمر على الفور إمّا بنفسه أو لأدلّةٍ اُخرى مذكورة في محلّها من الاُصول.

والجواب عنه: ما ذكرناه هناك، وبيّنا عدم دلالة الأمر على الفور ولا على التراخي، وإنّما هو يدلّ على مطلوبيّة صرف وجود الطبيعة في الظرف المقرّر له(1)، فالأمر بالحجّ الذي زمان إيقاعه إلى آخر العمر لا يدلّ على أزيد من ذلك، وأمّا لزوم الإتيان به في عام الاستطاعة، فلا الأمر يدلّ عليه ولا الأدلّة الخارجية العامّة الاُخر.

الوجه الرابع: أنّ ذلك من مرتكزات المتشرّعة، ولذا تراهم يذمّون من أخّر حَجّه عن عام الاستطاعة.

وفيه أوّلاً: أنّه يمكن أنْ يكون منشأ ذلك - لوسُلّم الاُنس بالفتاوى حديثاًوقديماً.

وثانياً: أنّ إرتكازيّة ذلك غير مُسلّمة.

وثالثاً: اتّصالها بزمان الحضور، لتكون كاشفة عن رأيه عليه السلام غير ثابت.

الوجه الخامس: نصوص الإستنابة الدالّة على وجوبها، إذا لم يتمكّن من الحَجّ لعذرٍ من كبر أو مرض وما شاكل، ولو لم يكن وجوب الحَجّ فوريّاً في أوّل عام الاستطاعة، فلم وجب الإستنابة ؟!

وفيه: لو كانت الإستنابة واجبة حتّى مع العلم بزوال العذر، كان الاستدلال).

ص: 232


1- راجع زبدة الأُصول: ج 1/14، مبحث (الفور والتراخي).

متيناً، إذ لا معنى للأمر بالاستنابة مع جواز التأخير، لكن قد عرفت أنّ وجوب الإستنابة ثابتٌ في صورة استمرار العذر، فراجع(1).

الوجه السادس: ما دلّ من النصوص على عدم جواز أن ينوب من اشتغلت ذمّته بالحجّ عن غيره، ولولا فوريّة الحَجّ لما كان وجه لعدم الجواز.

وفيه: أنّه يمكن أن يكون منشأه شيئاً آخر لانعرفه، ألا ترى أنّ جمعاً من الفقهاء أفتوا بعدم جواز التطوّع في وقت الفريضة حتّى في سعة الوقت، والتطوّع لمن عليه الفريضة ولو بناءً على المواسعة في القضاء، ولعلّ المقام أيضاً من هذا القبيل، مع أنّه سيأتي الكلام في نيابة المستطيع عن غيره.

الوجه السابع: ما دلّ على أنّ تارك الحَجّ كافرٌ، بتقريب أنّ تأخير الحَجّ عن العام الأوّل من الاستطاعة مستلزمٌ للترك، لعدم علمه ببقائه حيّاً قادراً إلى العام القابل، بل مع العلم بالبقاء يصدق أنّه تارك فعلاً فيشمله الأخبار.

وفيه: أنّ تلك النصوص تدلّ على أنّ من ترك الحَجّ رأساً - أي لم يأت به أصلاً - فقد كفر، وأمّا الترك في العام الأوّل فلا تدلّ عليه، نظير ما ورد من أنّ (تارك الصلاة كافرٌ)، فإنّ المراد به ترك الصلاة في مجموع الوقت المضروب لها، لا تركها في زمان خاص أو مكان مخصوص.

الوجه الثامن: ما دلّ من النصوص على عدم جواز التسويف بلا عُذر:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في قول اللّه عزّ وجلّ :

(وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (2) ؟ قال عليه السلام: هذه لمن كان7.

ص: 233


1- تقدّم ذلك قريباً تحت عنوان: (لو زال العذر في أثناء عمل النائب).
2- سورة آل عمران: الآية 97.

عنده مال وصحّة، وإنْ كان سوّفه للتجارة فلا يسعه ذلك، وإنْ مات على ذلك فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام إذا هو يجد ما يحجّ به»(1).

ومنها: صحيح الكناني، عنه عليه السلام، قال: «قلت له: أرأيتَ الرّجُل التاجر ذا المال حين يسوّف الحَجّ في كلّ عام وليس يشغله إلّاالتجارة أو الدَّين ؟ فقال: لا عذر له يسوّف الحَجّ »(2). ونحوهما غيرهما.

وتقريب الاستدلال: أنّ التسويف غير ترك الحَجّ رأساً، بل هو عبارة عن تأخيره، وقد فسّره صاحب «مجمع البحرين» بقوله: (التسويف في الأمر المطلّ وتأخيره، والقول بأنّي سوف أعمل)(3)، فتدلّ هذه النصوص على أنّه لا يجوز تأخير الحَجّ ، وتضمين نفسه بقوله إنّي سوف أحجّ في العام القابل، ودلالة هذه النصوص على الفوريّة ظاهرة.

الوجه التاسع: ما دلّ من النصوص على عدم جواز التأخير بلفظآخر، كصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا قدر الرّجُل على ما يحجّ به، ثمّ دفع ذلك وليس له شغلٌ يعذره به، فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام»(4).

ونحوه غيره، ودلالة هذه أيضاً ظاهرة.

الوجه العاشر: ما دلّ من النصوص على عدم جواز الاستخفاف بالحجّ كالخبر الذي رواه الفضل بن شاذان، عن أبي الحسن الرّضا عليه السلام: «في كتابه إلى المأمون:2.

ص: 234


1- تهذيب الأحكام: ج 5/18، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/25، ح 14150.
2- الكافي: ج 4/269، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/26، ح 14153.
3- مجمع البحرين: ج 5/73.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/18، ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/26، ح 14152.

الإيمان هو أداء الأمانة، واجتناب جميع الكبائر، مثل قتل النفس - إلى أنْ قال - والاستخفاف بالحجّ »(1).

ودلالة هذا أيضاً واضحة، فإنّ الاستخفاف غير الترك رأساً، ومن مصاديق الاستخفاف التأخير عن عام الاستطاعة بلا عُذرٍ، فيدلّ الحديث على عدم جوازه.

وأيضاً: قد استدلّ لعدم فوريّته بأنّ آية الحَجّ (2) نزلت ولم يحجّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلّا في حجّة الوداع.

واُجيب عنه: بأنّه أخر لعدم الاستطاعة، لأنّه كان قد هادن أهل مكّة أن لا يأتي إليهم، فلمّا نزلت آية الحَجّ سار إلى أنْ وصل الحديبيّة فصدّوه فحلق وأحلّ من إحرام حجّه.

ولكن يرد على الجواب: أنّه يتمّ قبل عام الفتح ولا يتمّ بعده، فإنّه صلى الله عليه و آله فتح مكّة سنة ثمان من الهجرة في شهر رمضان، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يحجّ فيها، ولا في السنة التي بعدها، وقد حَجّ أمير المؤمنين عليه السلام في السنة التاسعة مع جمع من المسلمين، وأدّى عنه آيات أوّل سورة براءة.

ويمكن ردّ الاستدلال: بأنّ تأخيره صلى الله عليه و آله لعلّه كان لأجل دوران النسئ.

فتحصّل: أنّ ما ذهب إليه الأصحاب من فوريّة وجوب الحَجّ ، هو الصحيح، ويشهد به جملة من النصوص.

أقول: وفي جملةٍ من الكلمات بعد إثبات فوريّة الوجوب عدّ تأخيره من الكبائر. وعن «المسالك» نفي الخلاف فيه(3)، وعن «المدارك» الإجماع عليه(4)،).

ص: 235


1- وسائل الشيعة: ج 15/329، ح 20660، عيون أخبار الرِّضا عليه السلام: ج 2/125.
2- سورة آل عمران: الآية 97.
3- مسالك الأفهام: ج 2/122.
4- مدارك الأحكام: ج 7/17، وعبارته: (عن النّاس أجمعين).

ويشهد به جملة من النصوص، إلّاأنّه قد حقّقنا في مبحث العدالة أنّ ما نُسب إلى المشهور من تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصغائر - وعن «مفتاح الكرامة» نسبته إلى قاطبة المتأخّرين - غير تامّ (1)، بل الحقّ كما عن جماعةٍ من الأساطين منهم المفيد(2)، والشيخ في «العدّة»(3)، والقاضي(4) والتقي(5) والطبرسي(6) والحِلّي(7) إنكار ذلك، وأنّ كلّ معصية كبيرة، والاختلاف بالكبر والصغر إنّما هو بالإضافة إلى معصية اُخرى ، ونسب الشيخ ذلك إلى الأصحاب، وكذلك الطبرسي في المجمع.

وعن الحِلّي - بعد ذكر كلام الشيخ في «المبسوط» الظاهر في انقسام الذنوب إلى الكبائر والصغائر -: (هذا القول لم يذهب إليه إلّافي هذا الكتاب، ولا ذهب إليه أحدٌ من أصحابنا، لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلّابالإضافة إلى غيرها)(8)، وللمزيد من التوضيح راجع مبحث العدالة في هذا الشرح(9).

يجب إتيان المقدّمات المتوقّف عليها الحَجّ

ثمّ إنّه قد اتّفق الأصحاب على أنّه لو توقّف إدراك الحَجّ - بعد حصول الاستطاعة - على مقدّماتٍ من السفر وتهيئة أسبابه، وجبت المبادرة إلى إتيانها،

ص: 236


1- مفتاح الكرامة: ج 8/283.
2- المقنعة: ص 385.
3- عدّة الاُصول: ج 1/139، قوله: (وعلى أُصولنا أنّ كلّ خطأ وقبيح كبيرة).
4- المهذّب: ج 1/208.
5- حكاه عنه صاحب مفاتيح الكرامة: ج 8/283.
6- حكاه عنه غير واحد من الفقهاء منهم: صاحب مفاتيح الكرامة: ج 8/283، وقبله الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 14/166، وهو مختاره في مجمع البيان: ج 3/70 حيث نسبه إلى أصحابنا مطلقاً.
7- السرائر: ج 1/515.
8- السرائر: ج 2/118.
9- فقه الصادق: ج 9/160.

على وجهٍ يدرك الحَجّ في تلك السنة.

أقول: هذا من حيث الفتوى لا إشكال فيه، ولكن قد يُشكل ذلك بأنّ وجوب المقدّمة إنّما يكون مترشّحاً من وجوب ذي المقدّمة، فلا يعقل تقدّمه عليه، وحيثُ أنّ ظرف وجوب الحَجّ إنّما هو الأيّام المخصوصة، فكيف يحكم بوجوب المقدّمة قبل مجيء ذلك الزمان!؟

والجواب عن ذلك: إنّما يكون بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: البناء على كون وجوب الحَجّ وجوباً تعليقيّاً، وإنّما يجبُ من حين الاستطاعة أو من أوّل أشهر الحَجّ مثلاً، وقد بسطنا القول في معقوليّة الواجب المعلّق في الاُصول، وذكرنا ما قيل في وجه عدم معقوليّته والنقد عليه(1).

الوجه الثاني: حكم العقل، وتوضيح ذلك يتوقّف على بيان مقدّمتين:

المقدّمة الأُولى: أنّ من القواعد المسلّمة أنّ (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار)، وهذه القاعدة لها موردان:

المورد الأوّل: أنّ امتناع إحضار الفعل الاختياري لأجل عدم تعلّق الاختيار والإرادة به لا ينافي الاختيار، والمخالف في هذا المورد هم الأشاعرة القائلون بالجبر، بدعوى أنّ كلّ فعل من الأفعال بما أنّه ممكن الوجود، يحتاج في وجوده إلى العلّة، وهي إمّا موجودة أو معدومة، فعلى الأوّل يجب وجوده، وعلى الثاني يمتنع، فلا يكون فعلٌ من الأفعال اختياريّاً.

والجواب عن ذلك: أنّ الفعل الاختياري يستحيل وجوده بلا اختيار وإرادة،ب.

ص: 237


1- راجع زبدة الأُصول: ج 2 مبحث مقدّمة الواجب.

فإذا أعمل الفاعل قدرته في الفعل فَفَعل، كان صدور هذا الفعل عن الاختيار، ووجوب الفعل بعد الاختيار غير منافٍ للاختيار، بل من لوازمه، و إذا أعمل قدرته في الترك فترك يمتنع وجود الفعل، وهذا الامتناع إنّما هو امتناعٌ بالاختيار، وهو لا ينافي الاختيار بل يؤكّده، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار في هذا المورد عقاباً وخطاباً.

المورد الثاني: أنّ امتناع الفعل الاختياري بالواسطة، لأجل عدم اختيار الواسطة، لا ينافي الاختيار، كمن ألقى نفسه من شاهق، فإنّ السقوط قبل الإلقاء مقدورٌ بواسطة القدرة على الإلقاء وعدمه، فامتناعه لأجل إختيار الإلقاء لا ينافي الاختيار، لأنّ هذا الامتناع منته إلى الاختيار، وهذا إنّما هو في خصوص العقاب، إذ العقلاء لا يذمّون المولى إذا عاقب مثل هذا الشخص، ويرون هذا العقاب صحيحاً، وإمّا في الخطاب فالامتناع ينافيه وإنْ كان بالاختيار.

والمخالف في هذا المورد منحصر بأبي هاشم الجُبّائي، فإنّه قائل بأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطاباً أيضاً، ولم يخالف في عدم منافاته للاختيار عقاباً أحد من العقلاء.

المقدّمة الثانية: أنّ القدرة على نحوين:

تارةً : لا يكون لها دخلٌ في ملاك الحكم أصلاً، بل الفعل يتّصف بالمصلحة، سواءً أكان المكلّف قادراً أم غير قادر، وفي هذا المورد القدرة شرط عقلي للتكليف.

وأُخرى : تكون القدرة شرطاً ودخيلة في الملاك واتّصاف الفعل بالمصلحة، وفي هذا المورد القدرة شرط شرعي كما في باب الوضوء، حيث إنّ القدرة على الماء

ص: 238

شرطٌ شرعي كما هو المستفاد من الآية الشريفة.

وعلى الثاني: قد يكون القدرة المطلقة ولو قبل حصول الشرط، دخيلة في الملاك، وقد يكون القدرة الخاصّة كذلك.

وعلى الثاني: قد يكون الخصوصيّة المعتبرة فيها، هي حصولها في زمان الواجب فقط، وقد تكون حصولها بعد تحقّق شرط الوجوب، ولو كان ذلك قبل زمان الواجب، فهذه أقسام أربعة.

القسم الأوّل: إذا عرفت هاتين المقدّمتين، فاعلم أنّه في القسم الأوّل - وهو ما إذا لم تكن القدرة دخيلة في الملاك والغرض أصلاً - أقوال:

القول الأوّل: ما نُسب إلى المحقّق العراقي رحمه الله من دعواه أنّه لا يجب تحصيل تلك المقدّمة التي يفوت الواجب في ظرفه بتركها، ولا يحكم العقل باستحقاقه العقاب لا على ترك المقدّمة ولا على ترك ذي المقدّمة، باعتبار أنّه لو قصّر المكلّف قبل زمان الواجب في تحصيل المقدّمات التي لو فعلها قبل تحقّق وقت الخطاب، لتمكّن من امتثاله، وتساهل في تحصيلها حتّى حضر وقت التكليف، وهو عاجزٌ عن امتثاله، لا يستحقّ العقاب على ترك شيء منهما.

أمّا عدم استحقاقه على ترك المقدّمة، فلعدم تعلّق التكليف بها لا عقلاً، لعدم وجود ملاكه فيها، ولا شرعاً، لعدم الدليل عليه.

وأمّا عدم استحقاقه على ترك ذي المقدّمة، فلأنّ التكليف غير متوجّهٍ إلى العبد، فلا يكون العبد مقصّراً في امتثال التكليف(1).1.

ص: 239


1- نهاية الأفكار: ج 3/480 و 481.

وفيه: أنّ العقل كما يستقلّ بأنّ تفويت الحكم، وعدم التعرّض لامتثاله مع وجوده موجبٌ لاستحقاق العقاب، كذلك يستقلّ بأنّ تفويت الغرض الملزم الذي هو قوام الحكم وملاكه، موجبٌ لاستحقاق العقاب، وإنْ كان هناك مانعٌ عن جعل الحكم، ألا ترى أنّه لو علم العبد بأنّ المولى عطشان، ومن شدّة العطش لا يقدر على طلب الماء، والعبد قادرٌ على سقيه الماء، فلا ريب في استحقاقه العقاب على تركه.

وعلى هذا، فلو ترك العبد المقدّمة، وبواسطة ذلك امتنع عليه الإتيان بذي المقدّمة في ظرفه، استحقّ العقاب على فوت ملاك ذي المقدّمة في ظرفه، لما تقدّم من أنّ (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار) عقاباً، فاستحقاق العقاب إنّما يكون على ذلك، لا على ترك المقدّمة، ولا على مخالفة التكليف.

القول الثاني: ما اختاره المحقّق النائيني رحمه الله، وهو وجوب المقدّمة التي يفوت الواجب في ظرفه بتركها قبل تحقّق وقت الخطاب، بدعوى أنّه يستكشف الوجوب شرعاً من حكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم بتركها حفظا للغرض، فيكون متمّماً للجعل الأوّل.

وأوضح ذلك بالقياس على الإرادة التكوينيّة، فإنّه كما لا شكّ في أنّ من يعلم بابتلائه في السفر بالعطش، لو ترك تحصيل الماء قبل السفر، تتعلّق إرادته التكوينيّة بإيجاد القدرة قبل بلوغه الى وقت العطش فكذلك في الإرادة التشريعيّة للملازمة بينهما(1).1.

ص: 240


1- أجود التقريرات: ج 1/151.

أقول: أمّا ما ذكره من استكشاف الوجوب الشرعي من هذا الحكم العقلي من باب الملازمة، فيرد عليه أنّ الحكم العقلي الواقع في سلسلة علل الأحكام، أي ما كان دركاً للمصلحة أو المفسدة التي هي ملاك الحكم، يستكشف منه الحكم الشرعي من باب الملازمة.

وأمّا الحكم العقلي الواقع في سلسلة معلولات الأحكام، أو ما يكون نظيره - والجامع ما لايكون دركاًللمصلحة أو المفسدة - فلايستكشف منه الحكم الشرعي.

والمقام من قبيل الثاني، إذ هذا الحكم من العقل لا يكون دركاً لمصلحة، بل إنّما هو دركٌ لصحّة العقاب على ترك ما فيه الغرض الملزم في ظرفه، وهو في نفسه يصلح لمحرّكيّة العبد، فلا يصلح أن يكون كاشفاً عن جعل حكم شرعي مولوي متمّم للجعل الأوّل.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول الثالث، وهو استحقاق العقاب بترك المقدّمة المفوّت تركها وعدم وجوبها الشرعي.

وأمّا القسم الثاني: وهو ما إذا كانت القدرة المطلقة دخيلة في الملاك، فحاله حال الشقّ الأوّل طابق النعل بالنعل، كما لا يخفى وجهه.

وأمّا القسم الثالث: - كالاستطاعة التي علّق عليها وجوب الحَجّ - فإنّ الظاهر أنّ الاستطاعة في أشهر الحَجّ ، توجبُ صيرورة الحَجّ ذا ملاكٍ ملزم، وإنْ كان ظرف أفعاله متأخّراً، والاستطاعة قبلها لا أثر لها، فمن يرى معقوليّة الواجب المعلّق، يلتزم بوجوب الحَجّ من أوّل تحقّق الاستطاعة في أشهر الحَجّ ، وعليه فوجوب سائر المقدّمات التي يتوقّف عليها الحَجّ واضحٌ على القول بوجوب المقدّمة، ومن

ص: 241

يرى عدم معقوليّته، يلتزم بأنّ وجوبه مشروط.

وعلى ذلك فالمقدّمة التي يترتّب على تركها فوت الواجب، وعدم القدرة على الحَجّ في ظرفه، بعد حصول شرط الملاك - وهو الاستطاعة في الأشهر - حكمها حكم المقدّمة في الشقّين الأولين، والمقدّمة التي يترتّب على تركها ذلك قبل حصوله، لا محذور في تركها، إذ العقل إنّما يحكم بقبح تفويت الغرض الملزم، ولا يحكم بقبح ما يوجبُ عدم تحقّق الملاك، ألا ترى أنّ الصوم ذو ملاكٍ ملزم بالنسبة إلى الحاضر، ولايحكم العقل بقبح السفر الموجب لإزالة ملاك وجوب العدم في حقّ هذا الشخص.

وبالجملة: لا قبح في الفعل المانع عن صيرورة فعل آخر ذا ملاك ملزم، بخلاف ما يوجب تفويت الملاك الملزم.

القسم الرابع: وبما ذكرناه ظهر حكم هذا القسم، وهو ما إذا كانت القدرة في زمان الواجب دخيلة في الملاك، فإنّه لا يحكم العقل بالقبح لو ترك المقدّمة الذي يوجب تركها فوت الواجب في ظرفه أصلاً، فإنّ ذلك يوجب عدم صيرورة الفعل ذا ملاكٍ ملزم.

فتحصّل من مجموع ما ذكرناه: عدم وجوب المقدّمات المفوّت تركها قبل الوجوب مطلقاً، وإنّما يوجب تركها العقاب فيما إذا لم تكن القدرة دخيلة في الملاك، أو كانت القدرة المطلقة دخيلة فيه، أم كانت القدرة بعد حصول شرطٍ خاص دخيلة، وترك المقدّمة بعده لا قبله، ولا يوجب العقاب في غير هذه الموارد.

وعلى هذا، ففي المقام بما أنّه يترتّب على ترك تهيئة أسباب السفر، وعدم الخروج مع الرفقة، فوتُ الواجب في ظرفه، يحكم العقل باستحقاق العقاب على

ص: 242

ترك الحَجّ بتركها.

ولعلّ مراد الأصحاب من وجوب ذلك، هو هذا المعنى ، أي استحقاق العقاب على ترك الحَجّ بترك المقدّمات المذكورة.

أقول: وفي المقام فرعٌ ، وهو أنّه لو تعدّدت الرفقة، وتمكّن من المسير مع كل واحدة منهم، فهل يجوز التأخير عن الرفقة الأُولى بمجرّد الاحتمال من التمكّن من المسير مع رفقة اُخرى ، كما اختاره سيّد «المدارك»(1) تبعاً للمصنّف ؟

أم يعتبر الوثوق بالمسير مع غيرهما، كما عن الشهيد رحمه الله(2)؟

أم هناك تفصيلٌ في المسألة ؟

وسيأتي التعرّض له في ضمن بعض المسائل الآتية، إنْ شاء اللّه تعالى .

***4.

ص: 243


1- مدارك الأحكام: ج 7/18.
2- الدروس: ج 1/314.

لو مات من استقرّ عليه الحَجّ في الطريق

المسألة الثامنة: لو مات من استقرّ عليه الحَجّ في الطريق، فهنا صورتان:

تارةً : يموت بعد الإحرام ودخول الحرم.

واُخرى : يموت قبل ذلك.

أمّا الأوّل: فإنْ مات بعد الإحرام ودخول الحرم، أجزأ عن حَجّة الإسلام، وقد صرّح بذلك جمعٌ كما في «المستند» بقوله: (بلا خلافٍ يُعرف)(1)، وفي «المدارك»:

(أنّه مذهب الأصحاب)(2)، وفي «المفاتيح» وشرحه(3)، وعن «المسالك»(4)، و «المنتهى »(5)، و «التنقيح»(6) وغيرها الإجماع عليه.

ويشهد به: جملة من النصوص:

منها: صحيح ضريس، عن الإمام الباقر عليه السلام: «رجلٌ خرج حاجّاً حَجّة الإسلام، فمات في الطريق ؟ فقال عليه السلام: إنْ مات في الحرم فقد أجزأت عنه حَجّة الإسلام، وإنْ مات دون الحرم فليقض عنه وليّه»(7).

ومنها: صحيح بريد العجلي، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن رجل خرج حاجّاً ومعه جَمل له ونفقة وزاد، فمات في الطريق ؟ قال عليه السلام: إنْ كان صرورةً ثمّ ماتَ في

ص: 244


1- مستند الشيعة: ج 11/122، وعبارته: (بلا خلافٍ يوجد).
2- مدارك الأحكام: ج 7/66.
3- حكاه عنه المحقّق النراقي في مستند الشيعة: ج 11/85 وفي الهامش (المفاتيح: ج 1/300).
4- مسالك الأفهام: ج 2/143.
5- منتهى المطلب: ج 2/863، (ط. ق).
6- حكاه عنه المحقّق النراقي في مستند الشيعة: ج 11/85 وفي حاشيته المفاتيح: ج 1/426.
7- الكافي: ج 4/276، ح 10، وسائل الشيعة: ج 11/68، ح 14261.

الحرم، فقد أجزأ عنه حَجّة الإسلام، وإنْ كان ماتَ وهو صرورة قبل أن يحرم، جعل جَمَله وزاده ونفقته وما معه في حَجّة الإسلام»(1).

ومنها: مرسل «المقنعة»، قال الإمام الصادق عليه السلام: «من خرج حاجّاً فمات في الطريق، فإنّه إنْ ماتَ في الحرم، فقد سقطت عنه الحَجّة، فإنْ مات قبل دخول الحرم لم يسقط عنه الحَجّ وليقض عنه وليّه»(2).

ولا يخفى أنّ المرسل على قسمين:

الأوّل: ما يروي المرسل الخبر بلفظ (روي) و (نُقل).

الثاني: مايُنسب الخبر إلى المعصوم عليه السلام بطريق البت والجزم، مثل: (قال الإمام عليه السلام).

أمّا القسم الأوّل من المُرسل فليس بحجّة، لعدم معلوميّة حال الواسطة، وأمّا القسم الثاني فحجّة إذا كان المُرسِل ثقة، فإنّ نسبته بطريق البت إلى المعصوم كاشفة عن اطمئنانه بصدوره، وكون الواسطة ثقة، وإلّا لعدَّ نقله هذا كذباً، والمفروض كونه ثقة، وهذه المرسلة بما أنّها من قبيل الثاني فتكون حجّة.

أقول: وقد يستظهر من صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا اُحصر الرّجُل بعث بهَدْيه - إلى أنْ قال - قلت: فإنْ مات وهو مُحرمٌ قبل أن ينتهي إلى مكّة ؟ قال عليه السلام: يحجّ عنه إنْ كان حَجّة الإسلام ويعتمر، إنّما هو شيءٌ عليه»(3)، اعتبار دخول مكّة في ثبوت الإجزاء، ولا يجزي عند دخول الحرم، فيعارض مع النصوص المتقدّمة.3.

ص: 245


1- الكافي: ج 4/276، ح 11، وسائل الشيعة: ج 11/68، ح 14262.
2- وسائل الشيعة: ج 11/69، ح 14264. المقنعة، ص 445.
3- وسائل الشيعة: ج 11/69، ح 14263.

وأجاب عنه بعض الأعاظم: بأنّه ليس فيه ظهورٌ في اعتبار الدخول في مكّة، وإنّما فيه الحكم بعدم الإجزاء إذا ماتَ قبل دخولها(1).

وفيه: جوابه غريبٌ ، فإنّ ما أفاده عبارة اُخرى عن اعتبار الدخول فيها في الإجزاء.

وقد يقال: إنّه يُحمل الصحيح على إرادة الحلول والوجود بالقرب من حرم مكّة لا الدخول فيها حقيقة، وهذا تعبيرٌ شائع.

وفيه أيضاً غريب، فإنّه حملٌ على غير الظاهر من دون أن يدلّ عليه دليل.

والتحقيق: وقوع التعارض بين منطوق الصحيح الدالّ على عدم الإجزاء ما لم يدخل مكّة، وبين منطوق النصوص المتقدّمة الدالّة على الإجزاء إن دخل الحرم، وإنْ لم يدخل حرم مكّة، ومورد التعارض مالو دخل الحرم ولم يدخل مكّة، والنسبة بينهما عموم من وجه، فإنّ لهما مورد اجتماع وهو ما عرفت، وموردي افتراق وهما: ما لو دخل مكّة، وما لو لم يدخل في الحرم.

وبهذا يظهر أنّ الجَمعين الذين ذكرهما الفقهاء في المقام - وهما: حمل إطلاق النصوص المتقدّمة، الشامل لصورتي دخول مكّة وعدمه، على الصحيح المقيّد للإجزاء بدخول مكّة، وحمل إطلاق الصحيح الشامل لصورتي الدخول في الحرم وعدمه، على النصوص المتقدّمة المختصّة بدخول الحرم - لا يتمّ شيءٌ منهما، لأنّ النسبة عموم من وجه، فكلّ منهما جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، وحيثُ أنّ المختار في تعارض العامين من وجه هو الرجوع إلى أخبار الترجيح(2)، لابدّ من الرجوع).

ص: 246


1- الظاهر أنّ المراد منه السيّد الخوئي قدس سره في مستند العروة الوثقى ، كتاب الحَجّ : ج 1/254 و 255، (ط. ق).
2- راجع زبدة الأُصول: ج 6 (حكم التعارض بين العامين من وجه).

إليها، ومقتضاها تقديم النصوص المتقدّمة للأشهريّة. وعليه فالأظهر عدم اعتبار دخول مكّة.

قال صاحب «الحدائق»: (وإطلاق الأخبار، وكلام الأصحاب، يقتضي عدم الفرق في ذلك بين أن يقع التلبّس بإحرام الحَجّ أو العمرة، ولا بين أن يموت في الحِلّ أو الحرم، مُحرِماً أو محلّاً، كما لو مات بين الاحرامين) انتهى (1)، ونحوه عن «المدارك»(2) و «الدروس»(3).

وأورد عليه صاحب «الجواهر» رحمه الله: بأنّ الحكم مخالفٌ للاُصول التي يجب الاقتصار في الخروج عنها على المتيقّن، وهو الموت في الحرم، اللّهُمَّ إلّاأن يكون إجماعاً(4).

وفيه: أنّه مع وجود الإطلاق، لا مجال للاقتصار على المتيقّن.

وعليه، فالحقّ أن يورد عليهم بما في «العروة» من ظهور الأخبار في الموت في الحرم(5)، لاحظ ما ورد في النصوص من قولهم عليهم السلام: (إنْ ماتَ في الحرم فقد أجزأت عنه)، وسيأتي توضيح ذلك.

أقول: بالرغم من أنّ مورد النصوص خصوص الحَجّ ولكن يلحق به عمرة التمتّع باعتبار أنّها كالجزء للحجّ فتلحق به، فلو مات في أثناء عمرة التمتّع أجزأه عن حَجّه أيضاً، ولكنّه لا يلحق به عمرة القِران ولا عمرة الإفراد لكونهما عملاًمستقلّاً.

والظاهر عدم الفرق بين حَجّ التمتّع والقِران والإفراد، لإطلاق النصوص.).

ص: 247


1- الحدائق الناضرة: ج 14/150.
2- مدارك الأحكام: ج 7/65.
3- الدروس: ج 1/316.
4- جواهر الكلام: ج 17/297.
5- العروة الوثقى: ج 4/442، (ط. ج).

فرع: هل يختصّ الحكم بحَجّة الإسلام، أم يعمّ الحَجّ النذري والإفساد، أم يعمّ الثاني دون الأوّل ؟ وجوه.

لا إشكال في أنّ النصوص وردت في حَجّة الإسلام، والتعدّي يحتاج إلى دليل مفقود، وعليه فلا يعمّ الحكم الحَجّ النذري.

وأمّا الإفساد فإنْ كان الثاني حَجّة الإسلام يعمّه، وإنْ كان هو الحَجّ العقوبي لا يعمّه.

هذا كلّه لو مات بعد الإحرام ودخول الحرم.

أمّا الحالة الثانية: وهي ما لو ماتَ قبل الإحرام والدخول في الحرم، فإنّه لا إشكال ولا كلام نصّاً وفتوى في عدم الإجزاء.

إنّما الكلام فيما لو مات بعد الإحرام وقبل الدخول في الحرم:

فعن المشهور: وجب القضاء عنه(1).

وعن الشيخ في «الخلاف»(2)، والحِلّي(3): الإجزاء.

وعن «كشف اللّثام»(4): نسبة الخلاف إلى الحِلّي فقط.

يشهد للمشهور مفهوم صحيح ضريس(5)، ومرسل «المقنعة»(6)، وصدر صحيح العجلي(7).2.

ص: 248


1- راجع العروة الوثقى: ج 4/441، (ط. ج).
2- الخلاف: ج 2/390.
3- السرائر: ج 1/628.
4- كشف اللّثام: ج 1/294، (ط. ق)، وعبارته: (واكتفى ابن إدريس بالإحرام).
5- الكافي: ج 4/276، وسائل الشيعة: ج 11/68، ح 14261.
6- وسائل الشيعة: ج 11/69، ح 14264، المقنعة: ص 445.
7- الكافي: ج 4/276، وسائل الشيعة: ج 11/68، ح 14262.

واستدلّ للقول الثاني: بمفهوم ذيل صحيح العجلي، قال: «وإنْ كان ماتَ وهو صرورة قبل أن يحرم، جعل جَمَله وزاده ونفقته في حَجّة الإسلام»، فإنّ مفهومه الإجزاء لو مات بعد الإحرام وإنْ لم يدخل الحرم.

وفيه: يحتمل أن يكون المراد من قوله: (قبل أن يحرم)، قبل أن يدخل الحرم، وهذا وإنْ كان خلاف الظاهر إلّاأنّ صدر الخبر يصلح قرينة على ذلك، لا أقلّ من أن يوجب إجماله، فيؤخذ بإطلاق مفهوم سائر النصوص، مع أنّه يقع التعارض بين مفهوم الصدر ومفهوم الذيل، وحيثُ أنّ كلّاً منهما يصلح أن يكون قرينةً على التصرّف في الآخر، فلا ينعقد الإطلاق لشيء منهما، فإنّ من مقدّمات الحكمة عدم القرينة، فكلّ منهما يصير مجملاً من هذه الجهة، ولا يكون حُجّة في المجمع، ممّا يقتضي الرجوع إلى سائر النصوص.

وعليه، فالأظهر ما هو المشهور بين الأصحاب.

لو مات قبل استقرار الحَجّ عليه

وهل يجري الحكم المذكور لو مات مع عدم استقرار الحَجّ عليه، فيجزيه عن حَجّة الإسلام إذا مات بعد الإحرام ودخول الحرم، ووجب القضاء عنه إذا مات قبل ذلك، كما عن ظاهر «القواعد»(1) و «المبسوط»(2) و «النهاية»(3).

أم لا كما عن المشهور؟

ص: 249


1- قواعد الأحكام: ج 1/408.
2- المبسوط: ج 1/323.
3- النهاية: ج 1/557.

وعلى الثاني، فهل يستحبّ القضاء عنه إذا ماتَ قبل الإحرام ودخول الحرم، وليس كذلك لو ماتَ بعدهما، كما في «الجواهر»(1)، و «العروة»(2)، أم لا يستحبّ أيضاً؟ وجوه.

أقول: مقتضى القاعدة عدم وجوب قضاء حَجّة الإسلام عنه ولا استحبابه، لأنّه بالموت في الطريق يُستكشف عدم الاستطاعة الزمانيّة، فلم يكن حَجّة الإسلام واجبة عليه، ولا مشروعة في حقّه، ولكن إطلاق النصوص المتقدّمة يشمل الفرض، ومقتضاه وجوب القضاء أيضاً.

وصاحبا «الجواهر»(3)، و «العروة»(4) أبقيا إطلاق النصوص على حاله، وحملا الأمر بالقضاء فيها على القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب، نظراً إلى أنّ ثبوت وجوب القضاء فرع ثبوت وجوب الأداء، ومن لم يستقرّ عليه الحَجّ لا يكون مكلّفاً بالأداء، فكيف يجب عليه القضاء، فلا يمكن حمل الأمر على الوجوب، وإنْ حُمل على الندب يبقى وجوب القضاء في صورة الاستقرار بلا دليل، فيتعيّن الحمل على القدر المشترك.

ويرد عليهما: - مضافاً إلى أنّ الوجوب والندب ليسا داخلين في الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل هما أمران انتزاعيّان ينتزعان من الترخيص في ترك المأمور به وعدمه، فلا يكونان شيئين بينهما قدر مشترك - أنّ القضاء فرع ثبوت الحَجّ في ذمّة المقضي عنه، لا فرع تكليفه فعلاً بالأداء، ألا ترى أنّ جمعاً كثيراً من الأصحاب أفتوا بوجوب استنابة الموسر من حيث المال غير المتمكّن من المباشره بنفسه، مع).

ص: 250


1- جواهر الكلام: ج 17/297.
2- العروة الوثقى: ج 4/444 و 445، (ط. ج).
3- جواهر الكلام: ج 17/297.
4- العروة الوثقى: ج 4/444 و 445، (ط. ج).

أنّ التكليف هناك لم يتوجّه إلى المنوب عنه، وليس ذلك إلّامن جهة استقرار الحَجّ في ذمّته، ممّا يوجب عليه الإستنابة، وأمّا فيما نحن فيه فنقول: إنّ من ذهب إلى الحَجّ في العام الأوّل من الاستطاعة، ومات في الطريق قبل أن يحرم ويدخل في الحرم، استقرّ الحَجّ في ذمّته فيجب القضاء من تركته، ويشهد به - مضافاً إلى ظهور الأمر في الوجوب - التصريح في النصوص بأنّ ما يؤتى به عن الميّت هو حَجّة الإسلام.

وقد يقال: إنّ النصوص لا إطلاق لها ليشمل من يذهب إلى الحَجّ في عام الاستطاعة، باعتبار أنّها واردة في مقام تشريع الإجزاء عن حَجّ الإسلام بعد الفراغ من ثبوته على المكلّف باجتماع شرائطه، فلا تشمل من لم يستقرّ الحَجّ عليه.

وبعبارة اُخرى : إنّ النصوص في مقام بيان جعل البدل، فلا تدلّ على إلغاء شرط وجوبه.

وفيه: أنّه ليس في النصوص ما يشهد بذلك، فإن السائل يسأل عمّن خرج إلى الحَجّ فمات، وأجاب عليه السلام بأنّه إنْ مات بعد دخول الحرم لا شيء عليه، وإلّا فيقضي عنه وليّه، وإطلاق هذا كما يشمل مورد ثبوته على المكلّف باجتماع شرائطه، كذلك يشمل المقام، وعليه فلا قرينة على التقييد.

فتحصّل: أنّ الأقوى وجوب القضاء إن مات قبل الإحرام والدخول في الحرم.

***

ص: 251

تزاحم النذر والاستطاعة

المسألة التاسعة: لو نذر أن يزور الحسين عليه السلام في كلّ يوم عرفة، وكان مستطيعاً أو أصبح مستطيعاً، فهل يقدّم الحَجّ مطلقاً، أو النذر كذلك، أم يفصّل بين كون النذر قبل الاستطاعة فالثاني، وبين كونه بعدها فالأوّل ؟

وجوهٌ وأقوال، والمسألة معنونة في كلمات الفقهاء تحت عنوان نذر حَجّ غير حَجّة الإسلام. والمشهور بينهم هو القول الثالث.

ووافق سيّد «العروة»(1) في هذه المسألة المشهور في تقديم النذر، لو كان قبل الاستطاعة، وأمّا لو كان بعدها فقد ذهب إلى أنّه تقع المزاحمة بينهما فيقدّم الأهمّ منهما لو كان، وإلّا فالتخيّير.

أقول: وكيف كان، فالبحث يقع في موردين:

الأوّل: فيما لو نذر قبل حصول الاستطاعة.

الثاني: فيما لو نذر بعد حصولها.

أمّا المورد الأوّل: فقد عرفت أنّ المشهور بينهم تقديم النذر، وأنّه يكون رافعاً للاستطاعة، بل الظاهر منهم التسالم على ذلك، وخالفهم جمعٌ (2) منهم المحقّق النائيني رحمه الله(3) فذهبوا الى تقديم الحَجّ وانحلال النذر.

ص: 252


1- العروة الوثقى: ج 4/393-395، (ط. ج).
2- منهم السيّد الخوئي قدس سره، في تعليقته على العروة الوثقى: ج 4/394، (ط. ج)، (الهامش)، والسيّد الگلبايگاني و السيّد البروجردي والخوانساري قدس سرهم، في نفس المصدر السابق في العروة الوثقى، (الهامش).
3- المحقّق النائيني قدس سره في تعليقته على العروة الوثقى: ج 4/394، (ط. ج)، في الهامش.

وقد استدلّ الأوّلون: بأنّ النذر حين انعقاده لم يكن ما يمنع عنه، فينعقد فيجب الإتيان بالمنذور، وهو يصلح مانعاً عن تحقّق الاستطاعة، لأنّ المانع الشرعي كالمانع العقلي، فلا يجب الحَجّ .

وأورد عليهم المحقّق النائيني رحمه الله: بأنّ النذر كما يكون مشروطاً برجحان المنذور مع قطع النظر عن النذر، يكون مشروطاً به بقاءً كذلك، وفي المقام لو غضّ النظر عن النذر لا يكون المنذور راجحاً بقاء، لأدائه إلى ترك الحَجّ ، وإنّما يكون راجحاً من جهة النذر الرافع للاستطاعة، والرجحان الآتي من قِبل النذر لا يكفي في صحّة النذر، فالاستطاعة توجبُ انحلال النذر.

أقول: وأورد على المحقّق النائيني رحمه الله إيرادان:

الإيراد الأوّل: أنّه لا ريب في اعتبار رجحان متعلّق النذر، إلّاأنّ المعتبر هو رجحانه بنفسه، بمعنى كون فعله أرجح من الترك في صورة نذر الفعل، وأمّا كونه أرجح من فعل آخر، فلا يكون معتبراً، وإلّا لزم عدم صحّة نذر غير أفضل الأعمال، وفي المقام الزيارة بنفسها راجحة، وإنْ كان الحَجّ أرجح منها.

الإيراد الثاني: أنّه كما يعتبر في النذر كون المنذور راجحاً مع غضّ النظر عن النذر، كذلك يعتبر أن تكون الاستطاعة المعتبرة في وجوب الحَجّ حاصلة مع غض النظر عن وجوب الحَجّ ، وفي المقام إذا غضّ النظر عن وجوب الحَجّ ، ترتفع الاستطاعة بالنذر، وعلى هذا فالأخذ بكلّ من الحكمين رافعٌ لموضوع الآخر، وحيث إنّهما ليسا من قبيل المتزاحمين، بل من قبيل المتواردين الذين يكون كلّ منهما رافعاً لملاك الآخر، فلا مورد للترجيح بالأهميّة، بل يتعيّن الرجوع إلى منشأ آخر

ص: 253

للترجيح، ولا ينبغي التأمّل في أنّ الجمع العرفي يقتضي الأخذ بالسابق تنزيلاً للعلل الشرعيّة منزلة العلل العقليّة، فكما أنّ العلل العقليّة تكون السابقة منها رافعة للّاحقة، كذلك العِلل الشرعيّة(1).

أقول: من شرائط انعقاد النذر، كون متعلّقه راجحاً بنفسه، وعدم كونه في نفسه محلّلاً للحرام وإلّا لم ينعقد، وعليه ففي الفرض وإنْ كان المتعلّق راجحاً بنفسه، لكنّه من جهة كونه محلِّلاً للحرام، لاستلزامه ترك الحَجّ الواجب في نفسه، مع قطع النظر عن النذر لا يكون منعقداً، فيقدم وجوب الحَجّ .

وبالجملة: إنّ وجوب الحَجّ لا مانع منه على الفرض، سوى وجوب الوفاء بالنذر، وحيث إنّه مشروطٌ بعدم كون متعلّقة محلّلاً للحرام، فلا يكون منعقداً في المقام، لاستلزامه ترك الحَجّ ، فلا يكون مانعاً عن فعليّة وجوب الحَجّ .

وأمّا ما قيل: من إنّ وجوب الوفاء بالنذر يصلح رافعاً لملاك الحَجّ ، ومانعاً عن وجوبه، لأنّ ملاك النذر تامّ لا مانع منه سوى وجوب الحَجّ ، فيشمل دليله الفرض، وبه تنتفي الاستطاعة، وبتبعه يرتفع الوجوب.

فيردّه: أنّ مانعيّة وجوب الوفاء بالنذر عن وجوب الحَجّ دوريّة، فإن فعليّة وجوب الوفاء متوقّفة على عدم التكليف بالحجّ ، وإلّا لزم منه تحليل الحرام، فلو كان عدم التكليف بالحَجّ من ناحية فعليّة وجوب الوفاء لزم الدور.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه يقدّم وجوب الحَجّ في هذا المورد، ويعضده ما ذكره بعض الأساطين بقوله:9.

ص: 254


1- هذا الإيراد للسيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/119.

(إنّ وجوب الوفاء بالنذر لو كان مانعاً عن تحقّق الاستطاعة، وسقوط وجوب الحَجّ عن المكلّف، للزم إمكان التخلّص عن وجوب الحَجّ بكلّ نذر يضادّ متعلّقه، للإتيان بمناسك الحَجّ في ظرفها، مع أنّ ذلك ممّا يقطع ببطلانه) انتهى (1).

أقول: وربما يورد على القوم - كما عن بعض المعاصرين - بأنّ وجوب الوفاء بالنذر لا يوجبُ عدم حصول الاستطاعة، لأنّها عبارة عن ملك الزاد والراحلة مع سائر الشرائط، وليس منها ترك الضدّ، فالنذر لا يوجبُ رفع الاستطاعة، فكلّ من التكليفين يصير فعليّاً بعد تحقّق موضوعه، فيقع التزاحم بين الحكمين لا الملاكين، فلو كان أحدهما أهمّ يقدّم، وإلّا فيحكم بالتخيير.

وفيه أوّلاً: أنّ جملة من النصوص تدلّ على أنّ من قيود الاستطاعة عدم مزاحمة تكليفٍ آخر معه، لاحظ صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«إذا قدر الرّجُل على ما يحجّ به، ثمّ دفع ذلك، وليس له شغلٌ يعذره به، فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام»(2)، فإنّ المستفاد منه أنّ كلّ عذرٍ رافع للفرض، وبديهيٌ أنّ الوفاء بالنذر عذرٌ شرعي فيكون رافعاً له.

وثانياً: أنّ النصوص المفسّرة للاستطاعة في مقام بيان اعتبار قيود فيها، ولا نظر لها إلى عدم اعتبار نفس الاستطاعة بما لها من المفهوم، وعليه فالتكليف الآخر بنفسه يوجبُ سلب القدرة والاستطاعة، فيكون رافعاً لموضوعه، وقد مرّ تفصيل2.

ص: 255


1- الظاهر أنّ المراد به السيّد الخوئي قدس سره في مستند العروة الوثقى، كتاب الحَجّ : ج 1/149، وعبارته (ولو صحَّ ذلك لأمكن لكلّ أحدٍ أن يحتال في سقوط الحَجّ بنذر هذه الأُمور، ويدفع وجوب الحَجّ عن نفسه بذلك، وهذا مقطوع البطلان.. الخ).
2- تهذيب الأحكام: ج 5/18، ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/26، ح 14152.

الكلام في ذلك.

قد يُقال: - بناءً على وقوع التزاحم بينهما - بأهميّة النذر نظراً إلى ثبوت الكفّارة في مخالفته.

ولكنّه يندفع: بأنّ ثبوت الكفّارة لعلّه لمصلحةٍ اُخرى ، لا لأهميّة ملاكه ومصلحته، بل الظاهر أنّه كذلك.

وقد يقال أيضاً: إنّ في المقام يمكن أنْ يُقال بأهميّة زيارة أبي عبد اللّه عليه السلام لما دلّ من الأخبار على أنّ اللّه تعالى ينظر إلى زوار الحسين عليه السلام في يوم عرفة قبل أن ينظر إلى الحجّاج، وأنّ زيارته أفضل من الحَجّ (1).

وفيه: إنّ باب الثواب المترتّب على الفعل، غير باب الملاك والمصلحة، فقد يكون ما ملاكه أهمّ أقلّ ثواباً ممّا ملاكه ليس بهذه المرتبة، بل قد يكون ثواب المستحبّ أزيد من ثواب الواجب، كما في ثواب ابتداء السلام بالنسبة إلى ثواب الجواب، فإنّ الأوّل أكثر مع الثاني واجب، ولكن يمكن استكشاف أهميّة الحَجّ من النصوص الواردة في تركه من أنّه يموت تاركه يهوديّاً أو نصرانيّاً أو يموت وهو كافر(2)، ولا أقلّ من كونها منشئاً لاحتمال الأهميّة، فيقدّم الحَجّ لذلك.

وأمّا سبق النذر فقد حُقّق في محلّه أنّ السبق وحده ليس من مرجّحات باب التزاحم.

وأمّا المورد الثاني: فبناءً على المختار من تقديم الحَجّ في المورد الأوّل، يكونً.

ص: 256


1- راجع: وسائل الشيعة: ج 14/462، ح 19601.
2- الكافي: ج 4/268، باب من سوف الحَجّ وهو مستطيع. وسائل الشيعة: ج 11/29، باب ثبوت الكفر والإرتداد بترك الحَجّ وتسويفه استخفافاً أو جحوداً.

تقديمه في هذا المورد واضحاً.

وأمّا بناءً على القول الآخر، فإنْ قلنا بأنّ المقام من باب تزاحم الحكمين، وقُدّم النذر لسبق وجوده، لابدّ من تقديم الحَجّ في هذا الفرض لسبق سببه، وكذا لو لم نُسلّم كون سبق السبب من مرجّحات ذلك الباب، قدّم الحَجّ لأهمّيته، ولا أقلّ من احتمال الأهميّة.

نعم، في بعض مصاديق كلّي المسألة ربما يقدّم النذر، كما في إنقاذ الغريق لأهميّة المنذور حينئذٍ.

وإنْ قلنا بأن المقام من قبيل تزاحم الملاكين، وقلنا بأنّ سبق السبب من مرجّحات ذلك الباب، فإنّه يقدم الحَجّ لسبق سببه، فتدبّر في أطراف ما ذكرناه حتّى لا تبادر بالإشكال.

ولو قدّمنا النذر وبقيت الاستطاعة إلى السنة الآتية وجب الحَجّ ، وإلّا فإنْ كان المقام من باب تزاحم الملاكين فلا يجب، فإنّ الحَجّ في العام الأوّل لم يستقرّ في ذمّته، ولم يؤثّر ملاكه في جعل الوجوب، وفي العام الثاني لا يكون مستطيعاً.

وإنْ كان من قبيل تزاحم الحكمين، وقدّمنا النذر لأهمّيته، أو لسبق وجوده، فقد يقال إنّه يستقرّ الحَجّ في ذمّته حينئذٍ، فيجبُ الإتيان به في العام اللّاحق حتّى ولو انتفت عنه الاستطاعة، وقد ذكر ذلك بعض الأعاظم من المعاصرين(1) وجعله إيراداً على من يرى أنّ المقام من قبيل تزاحم الحكمين.).

ص: 257


1- الظاهر أنّ المراد به السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/121، وعبارته: (فإنّ لازم هذه الدعوى أن لو كان الحَجّ مزاحماً بواجب... إلى أن قال: لوجب عليه حجّ الإسلام في السنة الثانية ولو متسكّعاً...).

وفيه:

1 - يجب ملاحظة المراد من الاستقرار في ذمّته: إنْ اُريد باستقرار الحَجّ في ذمّته، أنّ الحَجّ متعلّقٌ للوجوب غاية، الأمر يقدّم النذر للأهميّة أو للسبق.

فيرد عليه: أنّه في موارد التزاحم المهمّ أو اللّاحق لا أمر به، لا أنّه مأمور به فيسقط أمره، إذ البرهان على امتناع وجود الأمرين وبقائهما هو البرهان على امتناع حدوث الأمرين، فلا أمر به أصلاً.

2 - وإنْ اُريد تعلّق الأمر به بنحو الترتّب.

فيرد عليه: ما حُقّق في محلّه من عدم جريانه في التكاليف المشروطة بالقدرة شرعاً كالحَجّ والوضوء وما شاكل، إذ نفس الخطاب بالأهمّ أو السابق يكون مُعدِماً لموضوع وجوب الحَجّ أو الوضوء، وهو القدرة والوجدان، فلا يعقل ثبوت الحكم.

3 - وإنْ اُريد أنّه يستقرّ الحَجّ لاستقرار ملاكه.

فيرد عليه أوّلاً: أنّه لا كاشف عن وجود الملاك بعد سقوط التكليف، وعدم كون الدليل في مقام بيان ما فيه الملاك، بل ظاهر الأدلّة عدمه.

وثانياً: أنّ الدليل دلّ على أنّ من توجّه إليه التكليف بالحجّ وأهمل، يجب عليه أن يحجّ في السنوات اللّاحقة ولو متسكّعاً، ولم يدلّ على أنّ من كان ملاك الحَجّ في حقّه تامّاً، لكن رخّص له الشارع في ترك الحَجّ ، بل أمر بإتيان ضدّه وجب عليه أن يحجّ متسكّعاً.

وعليه، فالأظهر أنّه مع انتفاء الاستطاعة في العام اللّاحق، لا يجب عليه الحَجّ .

***

ص: 258

الكافر مكلّف بالحَجّ

المسألة العاشرة: الكافر المستطيع يجبُ عليه الحَجّ بلا خلافٍ .

وفي «التذكرة»: (الكافر يجبُ عليه الحَجّ وغيره من فروع العبادات عند علمائنا أجمع)(1) انتهى .

وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه)(2) انتهى .

ويشهد به: إطلاق أدلّة وجوب الحَجّ من الآية الكريمة(3) والنصوص(4)، إذ لا دليل على التقيّيد بالمسلم، وعدم تمكّنه ما دام كافراً من الإتيان بالمأمور به على وجهه، لا يمنع من التكليف بعد كونه قادراً على أن يُسلم ويحَجّ ، فيكون الإسلام بالإضافة إليه من قبيل الطهارة للصّلاة.

واختصاص بعض خطابات القرآن المجيد بالمؤمنين، كآية الابتلاء بالصَّيد في الحَجّ ، وآية قتل الصَّيد فيه، وآية الصوم(5) وغيرها، لا يوجب تخصيص سائر أدلّة تلك الأبواب المطلقة، فضلاً عن غيرها من آيات الأحكام، لكونهما من قبيل المُثبتين الذين لا تنافي بينهما.

مع أنّ جملة من الآيات دالّة على تكليفهم بالخصوص بالفروع، مثل:

قوله تعالى : (وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لا يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ ) (6).

ص: 259


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/92، (ط. ج).
2- جواهر الكلام: ج 17/301.
3- قوله تعالى : «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» سورة آل عمران، الآية 97.
4- تقدّم ذكرها أوائل هذا الجزء في مباحث الإستطاعة، فراجع.
5- سورة البقرة: الآية 183.
6- سورة فصلت: الآيات 6 و 7.

وقوله تعالى : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ ) (1).

وقوله عزّ وجلّ : (فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّى) (2).

وعليه، فلا إشكال في كونه مكلّفاً بالحجّ ، ولكن لا يصحّ منه ما دام كافراً بلا خلافٍ ، وعن «المدارك» دعوى الإجماع عليه(3)، وكذا عن غيرها(4)، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع، وقد مرّ ما فيه مراراً.

الوجه الثاني: عدم تمشّي قصد القربة منه، ومن المعلوم اعتباره في الحَجّ ، لكونه من العبادات.

وقيل: في وجه عدم تمشّي قصد القربة منه، أنّه إنْ أتى به على وفق مذهبه فغير صحيح، وإنْ أتى به على وفق مذهبنا فهو معتقدٌ بطلانه، فكيف يمكنه أن يقصد القربة ؟!

ولكن يرد عليه: أنّه يمكن فرض خطئه أو اشتباهه، وإتيانه بالحَجّ على وفق مذهبنا، أو يحتمل كونه صحيحاً أيضاً.

الوجه الثالث: أنّه ليس أهلاً للتقرّب إلى اللّه تعالى .

وفيه: أنّ الكلام ليس في حصول القرب، وإنّما هو في قصد الكافر القربة والأمر، ألا ترى أنّ غير المؤمن أيضاً ليس أهلاً للتقرّب، ولا يوجبُ عمله كرامة له عند اللّه، ولا تقرّباً إليه، ومع ذلك يصحّ عمله، ويقصد الأمر.6.

ص: 260


1- سورة المدّثر: الآية 43.
2- سورة القيامة: الآية 31.
3- مدارك الأحكام: ج 7/69.
4- راجع كشف اللّثام: ج 5/130، (ط. ج)، مستند الشيعة: ج 11/86.

الوجه الرابع: قوله تعالى : (وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ بِرَسُولِهِ ) (1).

وفيه: أنّ قبول العبادات غير صحّتها، ورُبَّ شيء يكون دخيلاً في القبول - كحضور القلب - ولا دخل له في الصحّة، والقبول عبارة عن ترتّب الثواب على العمل، وحصول القرب إليه تعالى ، ولكن الصحّة لا يعتبر فيها ذلك، بل هي عبارة عن مطابقة المأتي به للمأمور به.

أقول: وبما ذكرناه يظهر عدم صحّة الاستدلال له بالنصوص الدالّة على اعتبار الإيمان في قبول العبادات.

والحقّ أن يستدلّ له: - مضافاً إلى الإجماع وتسالم الأصحاب عليه - بأنّ جملة من أعمال الحَجّ لا يتمكّن الكافر من إتيانها في حال الكفر كالطواف، فإنّه لا يجوز للكافر أن يدخل المسجد الحرام، ولا يتمكّن من الإتيان بشرطه وهو الطهارة، لنجاسة بدنه، والطهارة شرطٌ في الوضوء والغُسل، كما لا يتمكّن من أداء صلاة الطواف، لعدم الطهارة، ولعدم شهادته بالرسالة، وحيث إنّه مقصّر في جميع ذلك، فلا يمكن تصحيح حَجّه بوجه من الوجوه.

ويؤيّد المقصود ما دلّ من النصوص على اعتبار الإسلام في النائب الذي يحَجّ عن غيره:

منها: خبر مصادف، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «في المرأة تحجّ عن الرّجُل الصرورة ؟ فقال: إنْ كانت قد حَجّت وكانت مسلمة فقيهة»(2).3.

ص: 261


1- سورة التوبة: الآية 54.
2- الكافي: ج 4/306، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/177، ح 14563.

ومنها: خبره الآخر، قال: «سألته أتحجّ المرأة عن الرّجُل ؟ قال عليه السلام: نعم، إذا كانت فقيهة مسلمة»(1).

فإنّهما يدلّان على اعتبار الإسلام في النائب.

والظاهر أنّ وجهه اعتبار الإسلام في صحّة الحَجّ ، ولا يضرّ في الاشتراط شرطكونها قد حجّت مع أنّه غير شرط لأنّه قرينة على أنّ المراد المرأة المستطيعة.

وبالجملة: فالأظهر اعتبار الإسلام في صحّة الحَجّ ، فلا يصحّ من الكافر ما دام كافراً.

سقوط الحَجّ عن الكافر إذا أسلم

ولو ماتَ لا يصحّ القضاء عنه، لعدم كونه أهلاً للإبراء من ذلك، والكرامة، وعموم الأدلّة له ممنوعٌ ، فيبقى أصالة عدم مشروعيّة القضاء عنه سالماً. كذا في «الجواهر»(2).

وإنْ أسلم، فإن بقي استطاعته، أو استطاع ثانياً، وجب عليه الحَجّ ، لبقاء الموضوع والسبب بعد الإسلام، فحديث الجُبّ لا يصلح لرفعه.

وإنْ زالت استطاعته فأسلم، لم يجب عليه، كما عن «التذكرة»(3)، و «القواعد»(4)، و «كشف اللّثام»(5)، وأمّا صاحب «الجواهر» فعنده: (لم يجب، وإنْ فرض مُضيّ

ص: 262


1- تهذيب الأحكام: ج 5/413، ح 82، وسائل الشيعة: ج 11/177، ح 14566.
2- جواهر الكلام: ج 17/301.
3- تذكرة الفقهاء: ج 7/102، (ط. ج).
4- قواعد الأحكام: ج 1/408.
5- كشف اللّثام: ج 5/130، (ط. ج).

أعوامٍ عليه مستطيعاً في الكفر)(1).

وعن «المدارك»(2)، و «المستند»(3)، و «الذخيرة»:(4) الوجوب.

ويشهد للأوّل: حديث الجُبّ : وأنّ (الإسلام يجبُّ ما قبله)، وقد تقدّم الكلام في سنده ودلالته وشموله للتكاليف، ومقدار شموله، وأنّه هل يشمل الأحكام الوضعيّة، أم لا، أم هناك تفصيل ؟

وتصوير الأمر بالقضاء مع شمول الحديث له، وغير ذلك من المباحث المتعلّقة به مذكورٌ في مبحث القضاء من كتاب الصلاة، وفي كتاب الزكاة فراجع(5)، ومقتضاه سقوط وجوب الحَجّ عنه لو أسلم، وهو غير مستطيع.

أقول: إنّما الكلام في المقام في اُمور:

الأمر الأوّل: قد يستشكل في شمول حديث الجُبّ للحَجّ - المستقرّ عليه في حال كفره - بما حاصله أنّه لا ريب في عدم شمول الحديث للتكاليف التي تكون موضوعاتها باقية، كما لو أسلم في أثناء الوقت، فإنّه يجبُ عليه الصلاة، أو أسلم والآية المخوفة متحقّقة، فإنّه يجب عليه صلاة الآيات، أو أسلم والاستطاعة باقية، فإنّه يجبُ عليه الحَجّ ، وما شاكل ذلك من الموارد.

وعليه، فحيثُ أنّ من استطاع وتوجّه إليه التكليف بالحجّ ، ولم يأتِ به يجب عليه الحَجّ بمقتضى الدليل ولو متسكّعاً، فالحكم الثابت بالدليل الثاني لم يؤخذ في موضوعه الاستطاعة، وهي غير دخيلة في بقاء وجوب الحَجّ ، بل يجب الحَجّ4.

ص: 263


1- جواهر الكلام: ج 17/301.
2- مدارك الأحكام: ج 7/69.
3- مستند الشيعة: ج 11/86.
4- ذخيرة المعاد: ج 3/563.
5- فقه الصادق: ج 8/422 و ج 10/104.

بحدوث الاستطاعة، كما أنّه يجب الصلاة بغروب الشمس، وبقاؤه لا يكون منوطاً بها، وحينئذٍ فإنْ أسلم يكون الموضوع بتمامه وكماله متحقّقاً، فيلزم عدم رفع الحديث وجوب الحَجّ .

وإنْ شئت قلت: إنّ بقاء الاستطاعة في السنوات اللّاحقة كالعدم، لا يكون دخيلاً في بقاء الوجوب، وعليه فما الفرق بين بقائها وعدمه، حيث يُحكم في الأوّل بأنّ الحديث لا يشمله وفي الثاني يشمله ؟!

نعم، هناك فرق بين التكاليف التي تكون موضوعاتها باقية، وبين الحَجّ ، فإنّه في تلك الموارد لا يكون شيءٌ آخر دخيلاً في فعليّة الحكم، مثلاً الصلاة في الوقت لا يكون غروب الشمس دخيلاً فيها، بل الدخيل هو الوقت من الغروب إلى انتصاف اللّيل أو طلوع الفجر، وعليه فإذا كان الموضوع باقياً يكون مقتضى الأدلّة وجوبها عليه، وحديث الجُبّ لا يشمل ما بعد الإسلام.

وأمّا الحَجّ فوجوبه وإنْ كان باقياً بعد زوال الاستطاعة، ولا يعتبر فيه الاستطاعة بقاءً ، إلّاأنّه لا ريب في أنّ السبب لوجوبه هو الاستطاعة المتحقّقة في العام السابق، وهي دخيلة في الموضوع بلا كلام، وحديث الجُبّ بلحاظها يشمل الحَجّ ، وهو نظير قضاء الصلاة التي يكون سبب وجوبها ترك الصلاة في الوقت، ونظير صلاة الآيات التي حدثت الآية في حال الكفر كالزلزلة، وما شاكل، فالفرق بينه وبين الواجبات الموسّعة في أوقاتها ظاهر.

وإنّما لا يشمل الحديث خصوص صورة بقاء الاستطاعة، فإنّ الحديث وإنْ كان صالحاً لشموله لها، باعتبار حدوث الاستطاعة، والاستطاعة حدوثاً وجودها كالعدم، إلّاأنّه بعد الإسلام نفس الاستطاعة الباقية تصبح سبباً لوجوب الحَجّ ،

ص: 264

والحديث لا يشملها، فتدبّر.

الأمر الثاني: أنّ في قضاء الصلاة إشكالاً على تقدير شمول الحديث له، وهو لغويّة التكليف بالقضاء، إذ لو لم يُسْلم لم يصحّ منه، ولو أسلم سقط، فهذا التكليف غير قابل للداعويّة والبعث، ولا يعقل الانبعاث منه.

أمّا صاحب «العروة»: فقد أسرى هذا الإشكال إلى المقام، وأورد عليه بأنّ في المقام وجوب الحَجّ بعد زوال الاستطاعة ليس وجوباً قضائيّاً، بل هو بعينه الوجوب المتوجّه إليه حال الاستطاعة، لا ربط لذلك الإشكال بالمقام(1).

وفيه أوّلاً: أنّ وجوب الحَجّ بعد زوال الاستطاعة إنّما يكون بدليل آخر غير ما دلّ على وجوبه على المستطيع، فهذا الإشكال إنّما هو بالنسبة إلى التكليف الثابت بذلك الدليل.

وثانياً: أنّ التكليف كما يعتبر في حدوثه إمكان داعويّته، كذلك يعتبر في بقائه ذلك، وهذا الإشكال إنّما هو في بقائه بعد زوال الاستطاعة.

وأمّا الجواب عنه: فقد مرّ في مبحث قضاء الصلاة من هذا الشرح، فراجع(2).

فتحصّل: أنّ الأظهر سقوط وجوب الحَجّ لو أسلم بعد زوال الاستطاعة.

الأمر الثالث: أنّه لو حَجّ في حال الكفر فاسداً، ثمّ أسلم والاستطاعة باقية، فهل يمكن رفع الفساد بالحديث، والحكم بصحّة الحَجّ وعدم وجوب إعادته بعد الإسلام، أم لا؟

الظاهر هو الثاني، لأنّ الحديث شأنه النفي لا الإثبات، ولذلك لا يمكن إثبات الصحّة به، والفساد ليس حكماً مجعولاً كي ينتفي به، بل هو عبارة عن عدم مطابقة2.

ص: 265


1- العروة الوثقى: ج 4/446، (ط. ج).
2- فقه الصادق: ج 8/406 و 422.

المأتي به للمأمور به.

الأمر الرابع: قد أشكل الأمر على بعض المعاصرين على ما نَسب إليه مقرّره، بأنّ اللّازم ممّا ذكر أنّه لو عقد على امرأة في حال كفره ثمّ أسلم، وجب الحكم ببطلان عقده، لأنّه سابق على الإسلام، فيجب بالقاعدة لكن لا مطلقاً، بل فيما إذا كان بطلانه نافعاً له لأنّها امتنانيّة، والالتزام به مشكلٌ ، كما أنّ الالتزام بعدم بطلانه أيضاً مشكلٌ ، لأنّ المذكور في الحديث بطلان الطلاق الصادر قبل الإسلام، ولا خصوصيّة للمورد، فأيّ فرقٍ بين بطلان الطلاق والنكاح ؟

وفيه: أنّه قدوردت الروايات الكثيرة في الأبواب المتفرّقة من كتاب النكاح(1)، وهي تدلّ على صحّة نكاح الكافر بالمنطوق والمطابقة، وبالمفهوم والالتزام.

وأمّا ما ذكر من أنّه يرفع ما في رفعه منّةً ، لكونها قاعدة امتنانيّة، فلا وجه له، ولذا يرفع الطلاق وإنْ لم يكن في رفعه منّة.

***

حكم المرتدّ

أقول: هنا عدّة فروع يقتضي التعرّض لأحكامها:

الفرع الأوّل: لو أحرم الكافر ثمّ أسلم، لم يكفه ووجبت الإعادة من الميقات، لفساد ما أتى به من الإحرام، فكأنّه لم يُحرم. كما أنّه لو لم يتمكّن من العود إلى الميقات أحرم من موضعه. كذا في كلمات الأساطين.

أقول: ولكن يشكل بأنّه لا دليل على الاكتفاء بالإحرام من موضعه، فإنّ الدليل إنّما دلّ على الاكتفاء به في الناسي والجاهل، والتعدّي منهما يحتاج إلى دليل.

ص: 266


1- فقه الصادق: ج 32/237.

وما أفاده سيّد «المدارك» بأنّ المُسلم في المقام أعذر منهما وأنسب بالتخفيف(1)، فممنوعٌ لأنّ العالم العامد في البقاء على الكفر من أين علم كونه أنسب بالتخفيف من المسلم العادل الناسي أو الجاهل ؟!

نعم، لو قلنا بذلك في العامد إذا لم يتمكّن من العود، قلنا به في المقام، وسيأتي الكلام في الأصل.

الفرع الثاني: المرتد يجب عليه الحَجّ لما مرّ من أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع، ولا يقضي عنه إذا مات على ارتداده، لما تقدّم في الكافر الأصلي.

وإنْ أسلم فإنْ بقي استطاعته، وجب عليه أن يحجّ ، لما ذكرناه في الكافر، ويصحّ منه لو أتى به، لما ذكرناه في مبحث مطهريّة الإسلام في هذا الشرح من أنّه تُقبل توبة المرتدّ الفطري، ويصحّ إسلامه وإنْ وجب قتله وانتقل أمواله منه إلى ورثته وبانت زوجته.

وإنْ زالت استطاعته، ثمّ أسلم، وجب عليه الحَجّ ولو متسكّعاً، لعموم الأدلّة، وعدم شمول حديث الجُبّ له، لإختصاصه بالكافر الأصلي كما تقدّم في كتاب الزكاة.

الفرع الثالث: لو حَجّ المسلم في حال إسلامه ثمّ ارتد، ثمّ أسلم، فهل يجب عليه إعادة الحَجّ ، كما عن الشيخ في «المبسوط»(2)، أم لا تجب ؟ وجهان:

واستدلّ الشيخ لما اختاره، بأنّ إسلامه الأوّل لم يكن إسلاماً عندنا، لأنّه لو كان كذلك لما جاز أن يكفر(3).5.

ص: 267


1- مدارك الأحكام: ج 7/69.
2- المبسوط: ج 1/305.
3- المبسوط: ج 1/305.

وفي «الجواهر»(1) علّل ما أفاده الشيخ من عدم كون إسلامه إسلاماً بقوله تعالى : (وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ) (2).

ويرد عليه أوّلاً: ما أفاده سيّد «المدارك»(3) رحمه الله قال: (يدفعه صريحاً قوله تعالى:

(إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) (4) حيث أثبت الكفر بعد الإيمان).

وثانياً: ما ذكره غير واحدٍ من أنّه مخالفٌ للوجدان، ولظواهر الكتاب والسُنّة.

ثالثاً: أنّ الآية مذيّلة بقوله تعالى : (حَتّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (5) وهو دالٌّ على خلاف ذلك.

وربما يستدلّ للشيخ، بقوله تعالى : (وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) (6). ومن أعماله الحَجّ ، فهو كالعدم، فلابدّ وأن يحجّ ثانياً.

وفيه أوّلاً: أنّ الآية الشريفة الاُخرى تفسّر هذه الآية، وهي قوله تعالى:

(وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) (7) ويدلّ على أنّ الإحباط مختصٌّ بمن مات على كفره.

وثانياً: أنّ الآية لعلّها مختصّة بالعمل حال الكفر.

وثالثاً: أنّ الحبط بمعنى عدم الأجر والثواب لا البطلان.7.

ص: 268


1- جواهر الكلام: ج 17/302 و 303.
2- سورة التوبة: الآية 115.
3- مدارك الأحكام: ج 7/70.
4- سورة النساء: الآية 137.
5- المراد بالآية آية 115 من سورة التوبة.
6- سورة المائدة: الآية 5.
7- سورة البقرة: الآية 217.

أقول: والحقّ عدم وجوب الإعادة، لتحقّق الامتثال، وعدم وجوب الحَجّ في العمر إلّامرّة واحدة.

أضف إلى ذلك، أنّ خبر زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «في من كان مؤمناً فحجّ ثمّ أصابته فتنة، ثمّ تاب، يحسب له كلّ عملٍ صالح عمله في إيمانه، ولا يبطل منه شيء»(1) يدلّ على ذلك.

الفرع الرابع: لو أحرم مسلماً ثمّ ارتدّ، ولم يتمّ حَجّه ثمّ تاب، فأتمّه بعد التوبة، فهل يصحّ حَجّه كما صرّح به غير واحد من الأساطين أم لا؟ وجهان:

يشهد للأوّل: أنّه قد أتى بالمأمور به بجميع قيوده وحدوده في حال الإسلام، فالإجزاء عقلي، ولم يدلّ دليلٌ على مانعيّة الارتداد في الأثناء أو قاطعيّته.

واستدلّ للثاني:

1 - بأنّ المرتد لا تُقبل توبته، فما يأتي بعد توبته واقعٌ في حال الكفر.

2 - وبأنّ إسلامه الأوّل لم يكن إسلاماً، فما أتى به قبل الارتداد كالعدم.

3 - وبأنّ الإحرام عبادة، ومع الارتداد في الأثناء يبطل منه الجزء المقارن للارتداد، نظير الارتداد في أثناء الصوم، فإنّه يوجبُ بطلان الصوم بلا كلام.

وفي الكلّ مناقشة:

أمّا الأوّل: فلما مرّ من أنّ الأظهر قبول إسلامه وتوبته.

وأمّا الثاني: فلما تقدّم في الفرع الأوّل، وعرفت ما يرد على هذا الوجه.

وأمّا الثالث: فلأنّ الإحرام لم يؤخذ في مفهومه الزمان، بحيث يعتبر فيه وقوعه6.

ص: 269


1- تهذيب الأحكام: ج 5/459، ح 243، وسائل الشيعة: ج 1/125، ح 316.

في زمانٍ متّصلٍ محدودٍ كالصوم حيث يعتبر فيه الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع الشرائط، كما لم يعتبر فيه الهيئة الاتّصاليّة مثلما هي معتبرة في الصلاة، بل هو من قبيل الأفعال، ويعتبر فيه أن يكون مُحرِماً من الميقات إلى ما يصير مُحِلّاً، فالارتداد في الأثناء لا يُخرج ما أتى به منه عن قابليّة أن يلحق به ما بعده، ولم يدلّ دليلٌ على كونه محلّاً.

إذا حجّ المخالف ثمّ استبصر

الفرع الخامس: إذا حجّ المخالف ثمّ استبصر، فالمشهور بين الأصحاب أنّه لا تجب عليه الإعادة، وعن ابني الجُنيد(1) والبرّاج(2) وجوب الإعادة.

ثمّ القائلون بالإجزاء وعدم وجوب الإعادة:

منهم: من ذهب إلى الإجزاء في خصوص ما إذا أتى بالحَجّ على وفق مذهبه.

ومنهم: من ذهب إلى الإجزاء إذا أتى بالحَجّ على وفق مذهبنا.

ومنهم: من اختار الإجزاء إذا كان حَجّه موافقاً لمذهبنا أو لمذهبه.

واحتمل بعضهم: الإجزاء حتّى مع الإتيان بما إذا كان مخالفاً لمذهبه ولمذهبنا.

فالكلام يقع في موردين:

الأوّل: في الإجزاء وعدمه في الجملة.

الثاني: في ما هو شرط له.

أمّا المورد الأوّل: فمحصّل القول فيه إنّ في الباب طوائف من النصوص:

ص: 270


1- فتاوى ابن الجُنيد: ص 123.
2- المهذّب: ج 1/268.

الطائفة الأُولى: ما يدلّ على الإجزاء بالنسبة إلى جميع عباداته، وقد نص على الحَجّ بالخصوص في جملة منها:

منها: صحيح بريد العِجْلي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ قال:

«كلّ عملٍ عمله وهو في حال نصبه وضلالته، ثمّ مَنَّ اللّه تعالى عليه وعَرّفه الولاية، فإنّه يُؤجر عليه إلّاالزكاة، لأنّه وضعها في غير مواضعها، لأنّها لأهل الولاية، وأمّا الصلاة والحَجّ والصيام فليس عليه قضاء»(1).

ومنها: مصحّح الفضلاء، عن السيّدين الصادقين عليهما السلام أنّهما قالا:

«في الرّجُل يكون في بعض هذه الأهواء: الحروريّة، والمرجئة، والعثمانيّة، والقدريّة، ثمّ يتوب ويعرف هذا الأمر، ويحسن رأيه، أيُعيد كلّ صلاةٍ صلّاها، أو صومٍ أو زكاةٍ أو حَجّ؟ أو ليس عليه إعادة شيء من ذلك ؟

قال عليه السلام: ليس عليه إعادة شيء من ذلك غير الزكاة، ولابدّ أن يؤدّيها»(2).

ومنها: خبر محمّد بن حكيم، قال: «كنتُ عند أبي عبد اللّه عليه السلام إذ دخل عليه كوفيّان كانا زيديّين، فقالا: إنّا كُنّا نقول بقولٍ ، وأنّ اللّه مَنَّ علينا بولايتك، فهل يُقبل شيءٌ من أعمالنا؟ فقال عليه السلام: أمّا الصلاة والصوم والحَجّ والصدقة، فإنّ اللّه يتبعكما ذلك، ويُلحق بكما، وأمّا الزكاة فلا»(3).

الطائفة الثانية: ما يدلّ على استحباب الإعادة:

منها: صحيح العجلي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجل حَجّ وهو لا يعرف1.

ص: 271


1- وسائل الشيعة: ج 1/125، ح 317.
2- الكافي: ج 3/545، ح 1، وسائل الشيعة: ج 9/216، ح 11871.
3- وسائل الشيعة: ج 1/127، ح 321.

هذا الأمر، ثمّ مَنَّ اللّه تعالى عليه بمعرفته، والدينونة به، أعليه حَجّة الإسلام، أو قد قضى فريضته ؟

فقال عليه السلام: قد قضى فريضته، ولو حَجّ لكان أحبَّ إليّ ...

إلى أنْ قال: وسألته عن رجلٍ وهو في بعض هذه الاصناف من أهل القبلة ناصبٌ متديِّن، ثمّ مَنَّ اللّه عليه فعرف هذا الأمر، يقضي حَجّة الإسلام ؟ فقال عليه السلام:

يقضي أحبّ إليّ »(1).

ومنها: حسن عمر بن اُذينة، قال: «كتبتُ إلى أبي عبد اللّه عليه السلام أسأله عن رجلٍ حَجّ ولا يدري ولا يعرف هذا الأمر، ثمّ مَنَّ اللّه تعالى عليه بمعرفته والدينونة به، أعليه حَجّة الإسلام ؟ قال عليه السلام: قد قضى فريضة اللّه والحَجّ أحبّ إليّ »(2).

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على وجوب الإعادة، وعدم الإجزاء:

منها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «وكذلك الناصب إذا عرف فعليه الحَجّ ، وإنْ كان قد حَجّ »(3).

ومنها: خبر عليّ بن مهزيار، قال: «كتبَ إبراهيم إلى أبي جعفر عليه السلام: أنّي حَجَجتُ وأنا مخالف، وكنت صرورة، فدخلتُ مُتمتّعاً بالعمرة إلى الحَجّ ، قال:

فكتب إليه أعد حَجّك»(4).

أقول: ومقتضى الجمع بين النصوص، هو البناء على الإجزاء، واستحباب الإعادة، إذ مضافاً إلى أنّ الطائفة الأُولى صريحة في عدم الوجوب، والثالثة ظاهرة9.

ص: 272


1- تهذيب الأحكام: ج 5/9، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/61، ح 14241.
2- الكافي: ج 4/275، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/61، ح 14242.
3- الكافي: ج 4/273، ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/126، ح 318.
4- الكافي: ج 4/275، ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/126، ح 319.

فيه، والجمع يقتضي حمل الثالثة على الاستحباب، يشهد به الطائفة الثانية.

فإنْ قيل: إنّ خبر أبي بصير مختصٌّ بالناصب، فمقتضى حمل المطلق على المقيّد البناء على لزوم الإعادة على خصوص الناصب.

قلنا: إنّ بعض نصوص الإجزاء كصحيح العجلي صريحٌ في عدم الوجوب على الناصب.

فإنْ قيل: إنّ صحيح العجلي مطلقٌ من ناحية اُخرى ، وهي عدم الاختصاص بالحَجّ ، فإنّه واردٌ في جميع الأعمال، فمقتضى حمل المطلق على المقيّد، البناءعلى وجوب إعادة الحَجّ على الناصب دون غيره من العبادات كالصيام والصلاة وما شاكل.

قلنا: إنّ ذلك الصحيح وإنْ هو واردٌ في مطلق الأعمال، لكن صريح كلام الإمام عليه السلام في ذيله بالحَجّ ، وأنّه لا يجب إعادته، ولا يخفى أنّه إذا صرّح بفردٍ في العام، يصبح العام نصّاً فيه لا يمكن إخراجه عن تحته.

أضف إلى ذلك كلّه، ماقيل من ضعف سند الطائفة الثالثة، وبالتالي فلا إشكال في عدم لزوم الإعادة.

وأمّا ما قيل: من حمل الثالثة على ما لو أخلّ بركن، والأولتين على ما لو لم يخلّ به.

فهو حملٌ تبرّعي لا شاهد له.

أقول: ثمّ إنّ النزاع في أنّ عدم وجوب الإعادة هل هو من باب تفضل اللّه تعالى عليه بعفوه عمّا سلف من الإتيان بالعبادات باطلاً، من جهة أنّه في تلك الحال كان فاقداً لما هو أعظم من بطلان عبادته، فإذا عفى عمّا هو أعظم منه يعفى عمّا هو دونه

ص: 273

كما عن «المدارك»(1)، و «الحدائق»(2)؟

أم أنّه من باب الشرط المتأخّر، بمعنى أنّ العمل في تلك الحال يقع صحيحاً بشرط أن يستبصر، كما اختاره جمعٌ من المحقّقين، ولعلّه الأظهر من الأخبار؟ وإشكال عدم معقوليّة الشرط المتأخّر، أجبنا عنه في محلّه، حيث إنّه لا يترتّب عليه ثمرة، فالإغماض عنه أولى .

وأمّا الموردالثاني، فهل يشترط أن يكون صحيحاً في مذهبه، كما لعلّه المشهور؟ أو صحيحاً في مذهبنا؟ أم يكون صحيحاً في أحد المذهبين ؟ أم يَعمّ ولو كان فاسداً في كلا المذهبين ؟ وجوه وبعضها أقوال:

أقول: لا إشكال في أنّ النصوص واردة في مقام بيان أنّ فساد العقيدة بعد استبصار صاحبها لا يضرّ بصحّة العمل، وليست في مقام بيان نفي اعتبار سائر الشرائط أيضاً، كي يستفاد منها الصحّة، وإنْ كان العمل فاقداً لسائر الشرائط، وعليه، فلو كان العمل باطلاً عندنا وعندهم، لا يكون مشمولاً لهذه الأخبار، بل هو حينئذٍ نظير من لم يأت بالعمل أصلاً.

ويؤكّد ذلك التعليل فيها للزوم إعادة الزكاة، بأنّه وضعها في غير محلّها، فإنّ وجه التعليل حينئذٍ أنّ الزكاة من حقوق النّاس، فلا تجزي، بخلاف غيرها فإنّها من حقوق اللّه تعالى التي يجتزي بها سبحانه وتعالى .

ومقتضى ذلك وإنْ كان اختصاص الأخبار بما إذا أتى بالعمل على وفق مذهب الحقّ ، مع تمشّي قصد القربة منه، ولكن بما أنّ لازمه حمل النصوص على الفرد النادر4.

ص: 274


1- مدارك الأحكام: ج 7/75.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/164.

جدّاً، وهو بعيدٌ غايته، فيلتزم بأنّه لو أتى به على وفق مذهبه أيضاً الحكم بالصحّة.

وإنْ شئت قلت: بما أنّ الغالب الإتيان به على وفق مذهبه، فمقتضى الإطلاق المقامي أنّه لو أتى به على وفق مذهبه يحكم بالصحّة.

فالمتحصّل: أنّه لو أتى به على وفق أحد المذهبين، وإنْ كان باطلاً في المذهب الآخر، يحكم بالصحّة، من غير فرقٍ بين الإخلال بالركن وعدمه.

وأمّا ما في «الشرائع»(1)، وعن «المعتبر»(2)، و «القواعد»(3)، و «المنتهى »(4)، و «الدروس»(5) وغيرها من وجوب الإعادة إذا أخلّ بالركن، فالظاهر أنّ المراد به ما لو أخلّ بالركن عندنا، فينطبق على ما اخترناه، فإنّ كلّ ما هو ركنٌ عندنا فهو ركنٌ عندهم ولا عكس.

وعليه، لو أخلّ بما هو ركنٌ عندنا، فالعمل باطلٌ في المذهبين، بخلاف ما لو أخلّ بما هو ركنٌ عندهم، كالحلق فإنّ العمل يمكن أن يكون صحيحاً عندنا فيشمله الأخبار.

وقد يقال: إنّ مقتضى مفهوم العلّة لوجوب إعادة الزكاة - بأنّه وضعها في غير مواضعها - هو عدم وجوب الإعادة في غير الزكاة من حقوق اللّه تعالى وإنْ كان فاسداً في المذهبين، ولكن كون العلّة هو ما أشرنا إليه غير ثابت، ولعلّ منشأه شيء آخر، فالصحيح ما ذكرناه.

***5.

ص: 275


1- شرائع الإسلام: ج 1/167.
2- المعتبر: ج 2/765.
3- قواعد الأحكام: ج 1/408.
4- منتهى المطلب: ج 2/859 و 860، (ط. ق).
5- الدروس: ج 1/315.

الولاية شرط لصحّة الأعمال

تتميم: هل الولاية شرطٌ لصحّة الأعمال، كما أصرّ عليه صاحب «الحدائق»(1)، واختاره سيّد «المدارك»(2)، ونُسب إلى غيرهما، أم لا، كما لعلّه المشهوربين الأصحاب ؟

وملخّص القول في ذلك: إنّه لا إشكال في أنّ عمل المخالف باطلٌ إذا كان فاقداً لجزءٍ أو شرط معتبر في ذلك العمل - كما لعلّه الغالب - حتّى الجزء أو الشرط غير الركني في الصلاة، فإنّ شمول أخبار (لا تعاد الصلاة) للصلاة الفاقدة لجملة من الأجزاء والشرائط، يختصّ بغير المقصّر، فمحلّ الكلام ما لو أتى المخالف بالعمل على وفق مذهب الحقّ ، كما لو صلّى على ميّتٍ بخمس تكبيرات مثلاً فهل يكتفى به أم لا؟

وقد استدلّ لعدم الاشتراط: بالأصل، وأنّه يشكّ في ذلك، والأصل عدمه.

واستدلّ للاشتراط: بجملة من النصوص جمعها صاحب «الحدائق» رحمه الله:

منها: ما لسانه أنّه لا ينفعه العمل بدون الولاية، كصحيح أبي حمزة الثمالي، قال: «قال لنا عليّ بن الحسين عليه السلام: أيّ البقاع أفضل ؟ فقلنا: اللّه ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال: أفضل البقاع لنا ما بين الرّكن والمقام، ولو أنّ رجلاً عمّر ما عمّر نوح في قومه ألف سنةٍ إلّاخمسين عاماً يصوم النهار ويقوم اللّيل في ذلك المكان، ثمّ لقي اللّه بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً»(3). ونحوه خبر عبد الحميد الآتي.

ولكن يرد عليه: أنّ عدم الانتفاع بعمله غير الصحّة، إلّاإذا قلنا بأنّ الثواب

ص: 276


1- الحدائق الناضرة: ج 14/168.
2- مدارك الأحكام: ج 4/290.
3- الفقيه: ج 2/245، ح 2313، وسائل الشيعة: ج 1/122، ح 308.

والجزاء على وجه الاستحقاق لا التفضّل، وهو خلاف التحقيق.

ومنها: ما يتضمّن أنّه لا ثواب لعمله:

1 - كصحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، في حديثٍ ، قال: «ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضى الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، أمّا لو أنّ رجُلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله، وحَجّ جميع دهره، ولم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على اللّه حقّ في ثواب، ولا كان من أهل الإيمان»(1).

2 - وخبر المُعلّى بن خُنيس، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: لو أنّ عبداً عَبَد اللّه مائة عام ما بين الرّكن والمقام، يصوم النهار، ويقوم اللّيل، حتّى يسقط حاجباه على عينيه، ويلتقي تراقيه هرماً، جاهلاً بحقّنا لم يكن له ثواب»(2).

وفيه: ما تقدّم في سابقه من أنّ الثواب لو كان بالاستحقاق، كان هذه الطائفة دالّة على الاشتراط كما هو واضح، ولكن الحقّ كونه بالتفضل.

ومنها: ما دلّ على أنّه لا يقبل اللّه تعالى عمل المخالف:

1 - خبر ميسر، عن أبي جعفر عليه السلام في حديثٍ ، قال: «إنّ أفضل البقاع ما بين الرّكن والمقام، وباب الكعبة، وذاك حطيم إسماعيل، وواللّه لو أنّ عَبداً صفَّ قدميه في ذلك المكان، وقام اللّيل مُصلِّياً حتّى يجيئه النهار، وصام النهار حتّى يجيئه اللّيل، ولم يعرف حقّنا وحرمتنا أهل البيت، لم يقبل اللّه منه شيئاً أبداً»(3).0.

ص: 277


1- الكافي: ج 2/18، ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/119، ح 298.
2- وسائل الشيعة: ج 1/122، ح 309، مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/159، ح 254-29.
3- وسائل الشيعة: ج 1/122، ح 310.

2 - وخبر عبد الحميد بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ ، قال:

«واللّه لو أنّ إبليس سجد للّه بعد المعصية والتكبّر عمر الدُّنيا، ما نفعه ذلك، ولا قبله اللّه ما لم يسجد لآدم. وكذلك هذه الاُمّة العاصية المفتونة بعد نبيّها صلى الله عليه و آله، وبعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيّهم لهم، فلن يقبل اللّه لهم عملاً»(1).

3 - وصحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «كل مَنْ دان اللّه عَزّ وجَلّ بعبادة يجهد فيها نفسه، ولا إمام له من اللّه، فسعيه غير مقبول»(2).

4 - وخبر فضيل عنه عليه السلام: «أما واللّه ما للّه عزَّ ذِكرُه حاجّ غيركم، ولا يتقبّل إلّا منكم»(3).

ونحوه خبر معاذ(4)، وخبر محمّد بن سليمان(5).

والجواب عن الاستدلال بهذه النصوص: أنّ القبول غير الصحّة، وهو عبارة عن ترتّب الثواب على العمل، وحصول القُرب إليه تعالى ، والصحّة عبارة عن مطابقة المأتي به للمأمور به، ورُبَّ شيءٌ يكون دخيلاً في القبول ولا يكون دخيلاً في الصحّة كحضور القلب.

ومنها: ما تضمّن أنّ اللّه تعالى يُعاقب المخالف:

1 - خبر سليمان الديلمي، عن أبيه، عن ميسر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ :).

ص: 278


1- الكافي: ج 8/270، ح 399، وسائل الشيعة: ج 1/119، ح 301.
2- الكافي: ج 1/183، ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/118، ح 297.
3- الكافي: ج 8/288، ح 434، وسائل الشيعة: ج 1/120، ح 304.
4- وسائل الشيعة: ج 1/121، ح 305.
5- وسائل الشيعة:: ج 1/119 ح 299 باب 29 من أبواب مقدّمة العبادات (باب: بطلان العبادة بدون ولاية الأئمّة عليهم السلام واعتقاد إمامتهم).

«يا ميسر ما بين الرّكن والمقام روضةٌ من رياض الجنّة، وماب ين القبر والمنبر روضةٌ من رياض الجنّة، وواللّه لو أنّ عبداً عمّره اللّه ما بين الرّكن والمقام، وما بين القبر والمنبر يعبده ألف عام، ثمّ ذُبح على فراشه مظلوماً كما يُذبح الكبش الأملح، ثمّ لقي اللّه تعالى بغير ولايتنا، لكان حقيقاً على اللّه عزّ وجلّ أن يكبّه على منخريه في نار جهنّم»(1).

ونحوه خبر محمّد بن حسّان السلمي(2).

وعدم دلالة هذه الطائفة على الاشتراط واضح، إذ لا شكّ في أنّ من لقي اللّه بغير ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده المعصومين كان مقرّه النّار، ولكن هذه النصوص لا تدلّ على أنّ العقاب على ترك العبادات، كي تدلّ بالالتزام على بطلانها، بل ظاهرها أنّ العقاب على نفس عدم الولاية.

ومنها: ما يدلّ على أنّ العمل بلا ولاية كلّا عمل:

1 - خبر مفضّل بن عُمر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في كتابٍ : «وأنّ مَن صَلّى وزكّى وحَجّ واعتمر وفعل ذلك كلّه بغير معرفة مَن افترض اللّه عليه طاعته، فلم يفعل شيئاً من ذلك...

إلى أنْ قال: ليس له صلاةٌ وإنْ ركع وإنْ سجد، ولا له زكاةٌ ولا حَجّ ، إنّما ذلك كلّه يكون بمعرفة رجلٍ منَّ اللّه على خلقه بطاعته وأمر بالأخذ عنه»(3).

2 - وخبر إسماعيل بن نُجيح، عنه عليه السلام في حديثٍ ، قال: «النّاس سوادٌ وأنتم الحاجّ »(4).3.

ص: 279


1- وسائل الشيعة: ج 1/123، ح 312 و 311.
2- وسائل الشيعة: ج 1/123، ح 312 و 311.
3- وسائل الشيعة: ج 1/124، ح 314، علل الشرائع: ج 1/250، ح 7.
4- الكافي: ج 4/523، ح 12، وسائل الشيعة: ج 1/120، ح 303.

ودلالة هذه الطائفة على الاشتراط واضحة، فإنّ نفي الصَّلاة والزّكاة والحَجّ عمّا أتى به المخالف، والتعبير بأنّه لم يفعل شيئاً، صريحٌ في ذلك، إنّما الكلام في سندها.

ولعلّ نظر صاحب «الوسائل» و «الحدائق» وكثيرٌ من المحدّثين في اشتراطهم الولاية إلى خصوص هذه الطائفة، وإنّما ذكروا غيرها تأييداً للمطلب، واللّه تعالى أعلم.

***

ص: 280

ولو أهمل مع الإستقرار.

لو استقرّ عليه الحَجّ ثمّ زالت الاستطاعة

المسألة الحادية عشر: (ولو أهمل) أداء الحَجّ (مع الإستقرار) على ذمّته:

فتارةً : يكون حَيّاً ولكن يزول عنه الاستطاعة.

واُخرى : يموت.

فإنْ زال عنه الاستطاعة:

فتارةً : لا يتمكّن من أنْ يحَجّ ولو متسكّعاً.

واُخرى : يتمكّن من ذلك.

فإنْ لم يتمكّن من الحَجّ ، فإنّه لا إشكال في سقوطه، غاية الأمر تشتغل ذمّته به، فلو مات وله مالٌ يخرج نفقة حَجّه من ماله، وإلّا فإنْ تبرّع عنه متبرّعٌ برئت ذمّته.

وإنْ تمكّن من الحَجّ من دون أن يلزم منه العُسر والحَرَج، وجب بلا إشكال، لتوجّهه إليه، وتمكّنه من إسقاطه.

إنّما الكلام فيما لو تمكّن منه مع استلزامه العُسر والحَرَج، فإنّه قد يقال بسقوط التكليف عنه كالصورة الأُولى ، نظراً إلى أدلّة العُسر والحَرَج بدعوى حكومة أدلّتها على أدلّة جميع الأحكام، منها ما دلّ على وجوب الحَجّ على من استقرّ عليه، وإنْ زالت الاستطاعة، وتقيّيدها بما إذا لم يستلزم ذلك، كما لو تمكّن من أن يحجّ بإيجار نفسه أو الخدمة وما شاكل.

أقول: وقد استدلّ لعدم كونها صالحة لذلك، وأنّ الوجوب يكون باقياً بوجوه:

ص: 281

الوجه الأوّل: الإجماع، فإنّ الظاهر تسالم الأصحاب على وجوب الإتيان به ولو استلزم العُسر والحَرَج لمن استقرّ عليه.

وفيه: أنّه لو سُلّم وجوده كونه تعبّديّاً غير ظاهر.

الوجه الثاني: أنّه أوقع نفسه بسوء اختياره في هذا المحذور، ولا ريب في أنّه كما يحكم العقل بأنّ (الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار) عقاباً، وأنّه إذا أصبح المكلّف به غير اختياري بسوء اختيار المكلّف، للمولى أن يُعاقب على مخالفة التكليف، وإنّما لا يحكم ببقاء الحكم، لقبح التكليف بما لا يطاق، كذلك يُحكم بأنّه لو لم يصل إلى حَدّ عدم القدرة، يجب امتثاله، والإتيان به وإنْ استلزم العُسر والحَرَج.

وفيه: أنّ هذا الحكم من العقل صحيحٌ ، لولا أنّ أدلّة نفي العُسر والحَرَج حاكمة على جميع أدلّة الأحكام الموجبة لارتفاع الوجوب.

الوجه الثالث: ما دلّ من النصوص على وجوب الحَجّ ولو على حمارٍ أجدع أبتر، وليس له أن يستحيى في الاستطاعة البذليّة، وفي حكمها الاستطاعة الماليّة.

وفيه: أنّها واردة في الحَجّ عام الاستطاعة، وغير مربوطة بما هو محلّ الكلام.

الوجه الرابع: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام المتقدّم في تفسير الآية الكريمة، قال عليه السلام: «يخرج ويمشي إنْ لم يكن عنده. قلت: لا يقدر على المشي، قال عليه السلام:

يمشي ويركب، قلت: لا يقدر على ذلك، أعني المشي، قال عليه السلام: يخدم القوم ويخرج معهم»(1).

بدعوى أنّ الجمع بين هذا النّص والنصوص الدالّة على اعتبار الزاد والراحلة وغيرهما ممّايعتبر في الاستطاعة الماليّة، يقتضي اختصاصه بصورة استقرار الحَجّ عليه.6.

ص: 282


1- الفقيه: ج 2/295، ح 2504، وسائل الشيعة: ج 11/43، ح 14196.

وفيه: أنّه جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، بل الشاهد على خلافه، وهو وروده تفسيراً للآية الشريفة، وظاهر الخبر وجوب الحَجّ على المكلّف ولو لم يكن عنده الراحلة، وحمله على صورة الاستقرار يحتاج إلى قرينة، بل عرفت وجود القرينة على خلافه، وعليه فالخبر مطروحٌ كما تقدّم.

أضف إلى ذلك ضعف سنده، لاشتراك قاسم بن محمّد، بين من هو ضعيفٌ أو مجهول، ومن هو مهملٌ والثقة وهو في السند.

الوجه الخامس: النصوص المتضمّنة لذمّ تارك الحَجّ ، ولها مضامين:

1 - جملةٌ من تلك النصوص متضمّنة أنّه يموت يهوديّاً أو نصرانيّاً:

منها: صحيح معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام في الآية الكريمة: «هذه لمن كان عنده مالٌ وصحّة، فإن سوّفه للتجارة، فلا يسعه ذلك - إلى أنْ قال - ومن ترك فقد كفر، قال: ولم لا يكفر وقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام»(1).

ومنها: خبر حمّاد بن عمرو، وأنس، عن أبيه، عنه عليه السلام: «في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله، قال: يا عَليّ كَفَرَ باللّه العظيم من هذه الاُمّة عشرة، وَعَدَّ منهم مَن وجد سعةً فمات ولم يحجّ ، ثمّ قال: يا عَليّ تارك الحَجّ وهو مستطيع كافر...

إلى أنْ قال: يا عَليّ مَن سوّف الحَجّ حتّى يموت، بعثه اللّه يوم القيامة يهوديّاً أو نصرانيّاً»(2).

ونحوهما صحيح ذُريح المحاربي(3).2.

ص: 283


1- وسائل الشيعة: ج 11/28، ح 14160، تفسير العيّاشي: ج 1/190.
2- الفقيه: ج 4/356، وسائل الشيعة: ج 11/31، ح 14164.
3- وسائل الشيعة: ج 11/29، ح 14162.

2 - وجملة منها متضمّنة لأنّه يحشر يوم القيامة أعمى :

منها: صحيح معاوية بن عمّار، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ له مالٌ ولم يحجّ قط؟ قال: هو ممّن قال اللّه تعالى : (وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَعْمى ) (1).

قال: قلتُ سبحان اللّه أعمى ! قال أعمّاه اللّه عن طريق الحقّ »(2).

ونحوه أخبار محمّد بن فُضيل(3)، وأبي بصير(4)، وكُلَيب(5).

3 - وجملةٌ من تلك النصوص تتضمّن أنّه من ترك الحَجّ ، فقد ترك شريعةً من شرائع الإسلام:

منها: صحيح حمّاد، عن الحلبي، عن إمامنا الصادق عليه السلام:

«إذا قدر الرّجُل على ما يحجّ به، ثمّ دفع ذلك، وليس له شغلٌ يعذره به، تركَ شريعةً من شرائع الإسلام»(6).

ونحوه غيره من الأخبار الكثيرة.

وفيه: أنّه لا كلام في أنّ التارك له مذنبٌ يُعاقب عليه إذا لم يتُب، إنّما الكلام في أنّه هل يجب بعد زوال الاستطاعة، مع استلزامه العُسر والحَرَج أم لا؟

ومقتضى قاعدة نفي العُسر والحَرَج، سقوط التكليف به، وهذا لا ينافي استحقاقه العقاب، نتيجة ذلك أنّه لو تاب يغفر له ولا شيء عليه.

ولكن يمكن أن يستدلّ له: بأنّه لا ريب فتوىً ونصّاً في أنّ الحَجّ يبقى في ذمّة من استطاع وزالت استطاعته، ولذا لو مات فإنْ كان له مال، يُخرج نفقة الحَجّ من2.

ص: 284


1- سورة طه: الآية 124.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/18، ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/25، ح 14151.
3- وسائل الشيعة: ج 11/27، ح 14157.
4- وسائل الشيعة: ج 11/26، ح 14154 و 14152.
5- وسائل الشيعة: ج 11/29، ح 14161.
6- وسائل الشيعة: ج 11/26، ح 14154 و 14152.

صلب ماله كما سيمرّ عليك، ولو كانت أدلّة نفي العُسر والحَرَج شاملة له، لزم سقوطه عن ذمّته رأساً، فمن ذلك يستكشف عدم شمولها له كما عليه بناء الأصحاب وتسالمهم عليه.

وبالجملة: فالأظهر أنّه يجب عليه أن يحجّ وإنْ استلزم العُسر والحَرَج.

***

ص: 285

حتّى ماتَ ، قضي من صُلب ماله من أقرب الأماكن، ولو لم يخلّف غير الاُجرة.

ما به يتحقّق الإستقرار

قال المصنّف رحمه الله: إذا أهمل من استقرّ عليه الحَجّ (حتّى ماتَ ، قضي من صُلب ماله من أقرب الأماكن، ولو لم يخلّف غير الاُجرة) بلا خلافٍ في شيء من ذلك، وتفصيل الكلام بالتكلّم في مباحث:

المبحث الأوّل: فيما يتحقّق به الاستقرار، وقد اختلفت كلمات الأصحاب في ذلك، والمستفاد منها أقوال:

القول الأوّل: مُضيّ زمانٍ يمكن الإتيان بجميع أفعاله فيه مع الشرائط، وهو إلى اليوم الثاني عشر من ذي الحِجّة، وهو الذي اختاره المصنّف رحمه الله في «التذكرة» حيث قالَ فيها: (تذنيبٌ : استقرار الحَجّ في الذمّة، يحصل بالاهمال بعد حصول الشرائط بأسرها، ومُضيّ زمان جميع أفعال الحَجّ ..) انتهى (1)، بل هو المنسوبُ إلى المشهور.

القول الثاني: مُضيّ زمانٍ يمكن إتيان الأركان فيه جامعةً للشرائط، فيكفي بقاؤها إلى مُضيّ جزءٍ من يوم النحر يمكن فيه الطوافان والسّعي، وفي «المستند» نسبة هذا القول إلى «التذكرة»(2)، لكن قال صاحب «كشف اللّثام» إنّه غير موجودٍ فيما عندنا، ولكن قد يستفاد ذلك ممّا ذكره فيها من أنّ من تلف ماله قبل عود الحاجّ ، وقبل مضيّ إمكان عودهم، لم يستقرّ الحَجّ في ذمّته(3).

ص: 286


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/308، (ط. ق).
2- مستند الشيعة: ج 11/83، والنسبة إلى التذكرة عن المسالك: ج 2/143 والمدارك: ج 7/68.
3- لكن حكاه عن العلّامة صاحب المدارك: ج 7/68.

القول الثالث: كفاية بقائها إلى زمان يمكن فيه الإحرام ودخول الحرم، وقد احتمله المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(1).

وفي «المستند»: (نسبه بعضهم إلى «التذكرة»، واستحسنه بعض المتأخّرين إنْ كان زوال الاستطاعة بالموت»(2).

القول الرابع: توجّه الخطاب بالحَجّ ولو ظاهراً، وهو مختار صاحب «المستند»(3)، وصريح «المفاتيح» وشرحه(4)، وظاهر «المدارك»(5).

القول الخامس: اعتبار بقاء الشرائط إلى زمانٍ يمكن فيه العود، وعن «المدارك» حكايته عن «التذكرة»(6).

القول السادس: اعتبار بقاء الشرائط إلى آخر ذي الحِجّة، وهو مختار سيّد «العروة» في المسألة الرابعة والستّين من هذا الباب(7).

أقول: ويتّضح ما هو الحقّ ببيان اُمور:

الأمر الأوّل: لم ترد كلمة (الاستقرار) في النصوص كي نبحث عن مفهومها سعةً وضيقاً، كما أنّه لم يرد نصٌّ خاصّ في المقام، إلّافي خصوص الموت قبل أن يحرم،).

ص: 287


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/308، (ط. ق).
2- مستند الشيعة: ج 11/83، والناسب إلى التذكرة هو صاحب الذخيرة: ج 3/563.
3- مستند الشيعة: ج 11/83، والناسب إلى التذكرة هو صاحب الذخيرة: ج 3/563.
4- المفاتيح: ج 1/300، كما عن المستند.
5- مدارك الأحكام: ج 7/68.
6- مدارك الأحكام، نفس المصدر السابق، وعبارته: (وجزم العلّامة في التذكرة بأنّ من تلف ماله قبل عود الحاجّ ، وقبل مضيّ إمكان عودهم، لم يستقرّ الحَجّ في ذمّته..).
7- قال المحقّق اليزدي في الجزء الرابع، ص 454 من «العروة الوثقى »: (والأقوى اعتبار بقائها إلى زمان يمكن فيه العود إلى وطنه بالنسبة إلى الإستطاعة الماليّة والبدنيّة والسربيّة، وأمّا بالنسبة إلى مثل العقل فيكفي بقاؤه إلى آخر الأعمال).

وقد مرّ الكلام فيه، ولا يتعدّى عنه إلى غيره، وعليه فما في «المستند» من الاستدلال بتلك النصوص في غير محلّه، بل الميزان هو ثبوت التكليف بالحَجّ ، فمع فقد شرطٍ من شرائط الوجوب لا يكون الحَجّ مستقرّاً، فلا قضاء على ذمّته.

الأمر الثاني: أنّ الشرائط مختلفة، بعضها شرطٌ إياباً وذهاباً كالاستطاعة الماليّة والسربيّة والبدنيّة، وبعضها شرطٌ إلى آخر الأعمال كالعقل، وبعضها يكون حدوثه شرطاً ولا يعتبر بقاؤه حتّى بعد الأعمال، كالرجوع إلى الكفاية، وقد مرّ أنّه لو تلف ما به الكفاية، لا يكشف ذلك عن عدم وجوب الحَجّ من الأوّل.

الأمر الثالث: أنّ إطلاقات وجوب القضاء ليست في مقام بيان أنّه يجبُ القضاء حتّى مع ظهور عدم وجوب الأداء عليه، كي يتمسّك بها، ويكتفى بتوجّه الخطاب ظاهراً وإنْ انكشف عدم وجوبه واقعاً، كما في «المستند».

أقول: وبما ذكرناه يظهر أنّه يعتبر في الاستقرار بقاء الاستطاعة الماليّة والسربيّة والبدنيّة إلى زمان العود إلى وطنه، إن أراد الرجوع، وإنْ أراد المقام بمكّة فإلى آخر الأعمال، وأمّا بالنسبة إلى العقل فيكفي بقاؤه إلى آخر الأعمال، لأنّ فقد بعضها يكشف عن عدم الوجوب واقعاً، وأنّ التكليف بالخروج مع الرفقة كان ظاهريّاً، هذا في غير الموت.

وأمّا فيه فإن شرع في الحَجّ فقد مرّ حكمه، وإلّا فإنْ مات بعد مضيّ زمانٍ يتمكّن من الإتيان بأعمال الحَجّ فيه، وجب عليه القضاء، ولا يعتبر بقاء الشرائط إلى زمان العود إلى وطنه، لعدم الحاجة حينئذٍ إليها.

وإنْ مات قبل ذلك، كما لو مات بعد مضيّ زمان يمكن فيه أن يحرم ويدخل الحرم، فالظاهر عدم استقرار الحَجّ عليه، لأنّ النصوص مختصّة بمن شرع في الحَجّ

ص: 288

ومات في الطريق، ولا تشمل من لم يشرع فيه، والتعدّي يحتاج إلى دليل، ولذا لو علم بأنّه يموت قبل تمام الأعمال لا يجب عليه الحَجّ .

كما أنّه ظهر ممّا ذكرناه ضعف سائر الأقوال:

أمّا الأوّل:(1) فلأنّه كما يعتبر في الحَجّ بقاء الاستطاعة إلى آخر الأعمال، يعتبر بقاؤها إلى العود إلى وطنه، وقد مرّ ذلك.

وأمّا الرجوع إلى الكفاية، فقد مرّ أنّ تلف ما به الكفاية بعد العود، لا يضرّ بالوجوب ولا ينافيه، نعم يتمّ ذلك في الحياة والعقل.

وأمّا الثاني:(2) فلأنّ الظاهر أنّه لا مدرك له سوى أنّ باقي الأجزاء والشرائط لو تُركت لعذرٍ أو لا لعذرٍ، لا يجب تداركها، ولا ينافي صحّة الحَجّ .

ولكن يرد عليه: أنّ ذلك أعمٌّ من عدم اعتبار وجود شرائط الاستطاعة فيها، بل مقتضى ظواهر الأدلّة اعتبارها فيها على حَدّ اعتبارها في الأركان، فمع فقدها يُستكشف عدم الوجوب.

وأمّا الثالث:(3) فلأنّ مدركه إلحاق المقام بما لو مات بعد الإحرام ودخول الحرم، وقد عرفت عدم الإلحاق، وأنّه لا وجه للتعدّي وإلّا لزم وجوب الحَجّ على من علم باننفاء الشرائط بعد دخول الحرم من الأوّل، ولم يلتزم بذلك أحدٌ.

وأمّا الرابع:(4) فلأنّ مدركه إطلاق أدلّة القضاء، ونصوص الموت قبل الإحرام،ً.

ص: 289


1- الذي هو مضيّ زمان يمكن الإتيان بجميع أفعاله فيه مع الشرائط، وهو إلى اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة، وهو مختار «التذكرة».
2- الذي هو مضيّ زمان يمكن إتيان الأركان فيه جامعة للشرائط فيكفي بقاؤها إلى مضيّ جزء من يوم النحريمكن فيه الطوافان والسعي.
3- الذي هو كفاية بقائها إلى زمان يمكن فيه الإحرام ودخول الحرم.
4- الذي هو توجّه الخطاب بالحجّ ولو ظاهراً.

وقد عرفت ما فيه.

وأمّا الخامس:(1) فلأنّه وإنْ كان تامّاً بالنسبة إلى جملة من الشرائط، إلّاأنّه لا يتمّ بالنسبة إلى جميعها، وأيضاً لا يتمّ بالنسبة إلى من يريد المقام بمكّة، فراجع ما ذكرناه(2).

وأمّا السادس:(3) فلم يظهر لي مدركه حتّى أجعله مورد البحث.

وأيضاً: لو علم من الأوّل بقاء الشرائط إلى آخر ما يعتبر، فلا إشكال في وجوب خروجه، كما مرّ وجهه، كما أنّه لو علم بعدم بقائها إليه، فإنّه لا إشكال في عدم وجوب الخروج، وأمّا لو شكّ في ذلك، فبناءً على المختار من جريان الاستصحاب في الأمر الاستقبالي، يجري ويحكم بوجوب الخروج ظاهراً.

ولو لم يخرج إلى الحَجّ وزالت استطاعته قبل مُضيّ زمان، حكمنا فيه باستقرار الحَجّ ، فإن كان زوالها مستنداً إلى عدم خروجه إلى الحَجّ فلا إشكال في استقرار الحَجّ عليه.

وإنْ علم بعدم دخل الذهاب إلى الحَجّ وعدمه في الزوال، لا كلام في عدم الاستقرار، لأنّه يكشف التلف حينئذٍ عن عدم استقرار الحَجّ في ذمّته، ولو شكّ في ذلك، فإنّه لا محالة يشكّ في الاستقرار وعدمه، وبالتبع يشكّ في وجوب القضاء وعدمه، فالمرجع حينئذٍ إلى أصالة البراءة المقتضية لعدم الوجوب.

***ة.

ص: 290


1- الذي هو اعتبار بقاء الشرائط إلى زمانٍ يمكن فيه العود.
2- في الصفحة 288 من هذا المجلّد.
3- الذي هو اعتبار بقاء الشرائط إلى آخر ذي الحجّة.

لو زال بعض الشرائط في أثناء حجّه

المبحث الثاني: لو زال بعض الشرائط غير الحياة في الأثناء، فأتمّ الحَجّ على تلك الحال، فهل يكفي حجّه ذلك عن حَجّة الإسلام أم لا؟

أقول: فيه وجوهٌ وأقوال:

ثالثها: ما في «العروة» من التفصيل بين الاستطاعة البدنيّة والسربيّة والماليّة ونحوها فيكفي عنها، وبين مثل العقل فلا يكفي(1).

ورابعها: ما اختاره بعض الأعاظم، من التفصيل بين الاستطاعة الماليّة، فلو زالت في أثناء العمل لم يُجزئ عن حَجّة الإسلام، وبين غيرها من الشرائط فيجزي عنها وإنْ زالت في الأثناء.

وملخّص القول في ذلك: أنّه لا ينبغي التوقّف في أنّ الاستطاعة التي هي موضوعة لوجوب الحَجّ ، لا يُراد بها الحدوث فقط، بل هي كسائر الموضوعات يدور الحكم مدارها حدوثاً وبقاءً .

نعم، لو استقرّ الحَجّ وأهمل، وجب عليه الحَجّ وإنْ زالت، ولكنّه فرعٌ آخر غير مربوط بالمقام.

قال بعض الأعاظم:(2) أنّ شرائط الاستطاعة على قسمين:

الأوّل: ما دلَّ دليلٌ بالخصوص على اعتباره.

الثاني: ما دَخَل تحت عنوان العذر، وهو ما يصحّ الاعتذار به عند العقلاء في ترك الحَجّ .

ص: 291


1- العروة الوثقى: ج 4/455 و 456، (ط. ج).
2- كما في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/240.

فالقسم الأوّل، إذا حَجّ مع فقده، ولو في الأثناء، لم يكن حَجّه حَجّة الإسلام، لفقد شرطها وهو الاستطاعة.

أمّا القسم الثاني إذا حَجّ مع فقد الشرط أجزأه وكان حَجّ الإسلام، لأنّ دليل اعتباره يختصّ بما لو ترك الحَجّ معتذراً به، فلا يشمل ما لو حَجّ مُقدّماً عليه.

وعدَّ الاستطاعة الماليّة من القسم الأوّل، وبقيّة الشرائط غير الاستطاعة السربيّة والبدنيّة من القسم الثاني، وأمّا هما فحيث أنّ المراد من صحّة البدن مايقابل الإحصار، ومن تخلية السّرب ما يقابل الصدّ، فلا يمكن فرض الحَجّ مع انتفائهما.

والجواب: إنّ كلامه قابلٌ للمناقشة من وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ بعض ما لم يدلّ دليلٌ على إعتباره بالخصوص، يدلّ على اعتباره قاعدة نفي العُسر والحَرَج لولا كلّها، وعليه فمقتضى إطلاقها أيضاً اعتبارها في جميع الأفعال وإلى آخر الأعمال.

الوجه الثاني: أنّ المراد من صحّة البدن وتخلية السّرب أعمٌّ ممّا أفاده، راجع ما ذكرناه، وعليه فحكم انتفائهما في الأثناء حكم انتفاء الاستطاعة الماليّة.

الوجه الثالث: أنّ اختصاص اعتبار ما دخل تحت العذر بما لو ترك الحَجّ غير ظاهر الوجه، فإنّ النصوص المستفاد منها ذلك وإنْ كان موردها صورة ترك الحَجّ ، ولكن يستفاد من مفهومها اعتبار عدم العذر مطلقاً كما لا يخفى .

الوجه الرابع: أنّ نفقة العود إلى الوطن لمن يريد الرجوع إليه قد مرّ في محلّه دلالة النصوص عليها، فلا وجه لإخراج العود إلى الوطن.

وبالجملة: على ما ذكرناه فالأظهر عدم إجزاء الحَجّ الذي زال بعض الشرائط

ص: 292

في أثنائه عن حَجّ الإسلام من غير فرق بينها.

ودعوى : استفادة الإجزاء لو زال بعد دخول الحرم من نصوص الإجزاء لو مات بعد دخوله، بتقريب أنّ زوال بعض الشرائط مع إتيان الحَجّ بتمامه، أولى بالإجزاء من الموت الموجب لعدم إتمام العمل.

ممنوعة: لأنّ ذلك لا يخرج عن القياس بعد عدم العلم بالمناط، ولعلّه للموت خصوصيّة.

***

ص: 293

لو مات المستطيع في عام استطاعته

المبحث الثالث: ويدور البحث فيه عمّا لو مات المستطيع:

1 - فإنْ كان ذلك بعد استقرار الحَجّ ، وجب القضاء عنه بلا خلافٍ ، ولا كلام نصّاً وفتوى، وفي «المستند»: (بالإجماع المحقّق والمحكي في «الخلاف» و «المنتهى » و «التذكرة»(1) انتهى .

ويشهد به: جملةٌ كثيرة من النصوص:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجُل يموت ولم يحجّ حَجّة الإسلام، ويترك مالاً؟ قال عليه السلام: عليه أن يحجّ من ماله رجلاً صرورة لا مال له»(2).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن رجل مات ولم يحجّ حَجّة الإسلام، يحجّ عنه ؟ قال عليه السلام: نعم»(3).

ومنها: صحيح رفاعة، عن سيّدنا الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ يموت ولم يحجّ حَجّة الإسلام، ولم يوص بها، أيقضى عنه ؟ قال عليه السلام: نعم»(4).

ونحوها غيرها من النصوص الكثيرة.

وتضمّنها الجملة الخبريّة لا يضرّ، فإنّها أصرّح في الوجوب من الأمر.

2 - ولو مات قبل أن يستقرّ الحَجّ عليه، كما لو مات قبل أن يمضي زمانٌ يمكن

ص: 294


1- مستند الشيعة: ج 11/76.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/15، ح 42، وسائل الشيعة:: ج 11/71، ح 14268.
3- وسائل الشيعة: ج 11/72، ح 14269.
4- الكافي: ج 4/277، ح 15، وسائل الشيعة: ج 11/73، ح 14273.

فيه إتيان جميع الأعمال، فالظاهر أنّه لا خلاف في عدم وجوب القضاء عنه.

وربما يقال: بأنّه يجب القضاء عنه، وذلك:

أوّلاً: لأنّه لم يدلّ دليلٌ تعبّدي على اعتبار الحياة في الاستطاعة، وإنّما كانت دخالتها لأجل دخلها في القدرة العقليّة التي ليست من شرائط الاستطاعة شرعاً، بل هي شرطٌ لحسن الخطاب عقلاً، فيجب القضاءعنه لتماميّة الموضوع، كماهو المفروض.

وثانياً: لأنّ الظاهر كفاية فوت الملاك التامّ في وجوب القضاء، والمفروض عدم دخل القدرة في الملاكات، ودخلها في حُسن الخطاب.

وثالثاً: لإطلاق النصوص المتقدّمة آنفاً، فإنّها بإطلاقها تدلّ على أنّه يجب القضاء عن كلّ من مات وترك من المال ما يحجّ به، ولو لم يكن مستطيعاً في حال حياته لفقد شرط آخر، لكن قيّد إطلاقها بما دلّ من النصوص على أنّ وجود مقدار نفقة الحَجّ من تركة الميّت لا يكفي في وجوب القضاء عنه كصحيح معاوية بن عمّار، عن إمامنا الصادق عليه السلام، في حديثٍ :

«ومن ماتَ ولم يحجّ حَجّة الإسلام، ولم يترك إلّاقَدَر نفقة الحمولة، وله ورثة فهم أحقّ بما ترك»(1).

وخبر هارون بن حمزة الغنوي، عنه عليه السلام: «في رجُلٍ مات ولم يحجّ حَجّة الإسلام ولم يترك إلّاقَدَر نفقة الحَجّ ، وله ورثة ؟ قال عليه السلام: هم أحقّ بميراثه»(2).

ونحوهما غيرهما، فيبقى إطلاقها بالنسبة إلى من مات في عام استطاعته بحاله.

ورابعاً: مقتضى إطلاق ما دلّ على أنّ من مات في طريق الحَجّ إنْ كان الموت1.

ص: 295


1- الكافي: ج 4/305، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/67، ح 14258.
2- الفقيه: ج 2/441، ح 2917، وسائل الشيعة: ج 11/46، ح 14201.

قبل دخول الحرم، وقبل أن يحرم يجب القضاء عنه، عدم الفرق بين كون الحَجّ في عام الاستطاعة، وكونه بعد استقراره، ويتمّ فيمَن لم يذهب إلى الحَجّ بعدم الفصل.

أقول: وفي الكلّ نظر.

أمّا الأوّل: فلأنّ الحياة معتبرة في الاستطاعة، لأنّ النصوص المفسّرة توسع دائرة الاستطاعة ولا تضيّقها، مع أنّ الاستطاعة السربيّة بمعنى تخلية السّرب له وتمكّنه من المسير، والاستطاعة البدنيّة تستلزمان الحياة.

وأمّا الثاني: فلأنّ عدم دخل الحياة في ملاك الحَجّ لا يحرز إلّابعلم الغيب أو بإخبار العالم به.

وأمّا الثالث: فلأنّها ليست في مقام بيان من يجب القضاء عنه ومن لا يجب، بل في مقام بيان أنّ من يجب القضاء عنه يخرج حَجّه من ماله، وأنّه لا يتوقّف الوجوب على الإيصاء، ولو لم يوص به أيضاً يخرج من ماله.

مع أنّه لو سُلّم ثبوت الإطلاق لها من هذه الجهة أيضاً، يقيّد إطلاقها بالخبر الصحيح الذي رواه الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«سألني رجلٌ عن امرأة توفّيت ولم تحجّ ، فأوصت أن ينظر قدر ما يحجّ به، فإنْ كان أمثل أن يوضع في فقراء ولد فاطمة عليها السلام وضع فيهم، وإنْ كان الحَجّ أمثل حَجّ عنها؟

فقلت له: إنْ كان عليها حجّة مفروضة، فإن ينفق ما أوصت به في الحَجّ أحبّ إليّ من أن يقسّم في غير ذلك»(1).

ومعلوم أنّ المراد من قوله عليه السلام: (أحبُّ إليّ ) الأحبيّة التعينيّة نظير الأولويّة في8.

ص: 296


1- الكافي: ج 7/17، ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/397، ح 24838.

آية الإرث(1)، فإنّه عليه السلام علّق تعيّن صرفه في الحَجّ على كون الحَجّ مفروضاً، فمفهومه أنّه مع عدم استقرار الحَجّ عليها، لا يتعيّن صرف مالها في الحَجّ ، فيقيّد به إطلاق تلك النصوص لو كان لها إطلاق.

وأمّا الرابع: فلأنّ عدم القول الفصل غير ثابت، بل الثابت خلافه، فالأظهر عدم وجوب القضاء، ولكن الاحتياط بالقضاء عنه لا ينبغي تركه.

***1.

ص: 297


1- سورة النساء: الآية 11.

قضاء حجّة الإسلام من أصل التركة

المبحث الرابع: تُقضى حَجّة الإسلام من أصل التركة إذا لم يوص بها بلا خلافٍ ، وفي «التذكرة»: (عند علمائنا أجمع)(1)، وفي «المستند»: (والظاهر أنّه إجماعي)(2)، وفي «الجواهر»: (بلا خلافٍ أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه)(3).

ويشهد به:

1 - حسن الحلبي، عن مولانا الصادق عليه السلام: «يقضى عن الرّجُل حَجّة الإسلام من جميع ماله»(4).

2 - وموثّق سماعة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجُل يموت ولم يحجّ حَجّة الإسلام، ولم يوص بها وهو موسر؟ فقال عليه السلام: يحجّ عنه من صُلب ماله، لا يجوز غير ذلك»(5).

3 - وصحيح العجلي، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ استودعني مالاً وهلك، وليس لولده شيء ولم يحجّ حَجّة الإسلام ؟ قال عليه السلام: حجّ عنه وما فضل فأعطهم»(6).

ونحوها غيرها.

وأمّا صحيح معاوية، وخبر الغنوي المتقدّمان في المبحث الثالث:

ص: 298


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/96، (ط. ج).
2- مستند الشيعة: ج 11/78.
3- جواهر الكلام: ج 17/314.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/403، ح 51، وسائل الشيعة: ج 11/72، ح 14270.
5- تهذيب الأحكام: ج 5/15، ح 41، وسائل الشيعة: ج 11/72، ح 14271.
6- الكافي: ج 4/306، ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/183، ح 14579.

ففي الأوّل: «مَن ماتَ ولم يحجّ حَجّة الإسلام، ولم يترك إلّاقدر نفقة الحمولة وله ورثة فهم أحقّ بما ترك».

وفي الثاني بدل (نفقة الحمولة): (نفقة الحَجّ ).

فلا يصلحان لمعارضة تلك، فإنّهما في غير من استقرّ عليه الحَجّ ، لأنّ مجرّد نفقة الحمولة أو الحَجّ لا يوجب الاستطاعة، للتوقّف على نفقة العيال والعود إلى الكفاية.

وأيضاً: تُقضى حَجّة الإسلام من صُلب ماله، إذا أوصى بها من غير تعيّين كونها من الأصل أو الثُّلث، كما يشهد به مصحّح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجل مات فأوصى أن يحجّ عنه ؟ قال عليه السلام: إنْ كان صرورة فمن جميع المال، وإنْ كان تطوّعاً فمن ثلثه»(1).

ونحوه صحيح الحلبي عنه عليه السلام(2).

وإن أوصى بإخراجها من الثُّلث، وجب إخراجها منه عملاً بالوصيّة.

ودعوى : أنّ مقتضى إطلاق المصحّح والصحيح إخراجها من الأصل، وإنْ أوصى بها من الثُّلث فيُصرف الثُّلث في سائر مصالحه إن أوصى به أيضاً.

يدفعها: أنّ الظاهر من الخبرين كون السؤال عن أنّ الحَجّ هل هو كسائر المصالح إنْ أوصى به يُخرج من الثُّلث ؟ فأجاب عليه السلام بأنّ الوصيّة بالحجّ لا يلحقها حكم الوصيّة، بل هو بحسب الوظيفة الأوّليّة الشرعيّة، يُخرج من الأصل وإنْ أوصى به، ولا تعرّض فيهما لصورة ما إذا عين الموصي إخراج الحَجّ من الثلث أو الأصل، فالمرجع في ذلك هو أدلّة الوصيّة.6.

ص: 299


1- تهذيب الأحكام: ج 9/228، ح 45، وسائل الشيعة: ج 11/66، ح 14255.
2- وسائل الشيعة: ج 11/66، ح 14256.

وعلى هذا، فإن لم يزاحمه شيءٌ فلا كلام، وإنْ زاحمه وصيّة اُخرى ، كما لو أوصى بإخراج حَجّه من الثُّلث، وأوصى بالصدقة عنه، ولم يكن الثلث وافياً بهما:

فتارةً : تكون تلك الوصيّة من الوصايا المستحبّة.

واُخرى : تكون من الوصايا الواجبة.

أمّا الأوّل: أي لو كانت من الوصايا المستحبّة، يُقدّم الحَجّ عليها:

لا لما قيل من أنّ المستحبّ لا يصلح أن يزاحم الواجب، وأنّه كلّما وقع التزاحم بينهما يقدّم الواجب، فالحجّ الواجب يُقدّم على غيره.

لأنّه يدفعه: أنّ الوجوب والاستحباب متوجّهان إلى الميّت، ولا تزاحم بينهما، وإنّما التزاحم في وجوب العمل بالوصيّة، وفي كلا الموردين يكون وجوب الوصيّة ثابتاً في نفسه، ونسبته إليهما على حَدٍّ سواء، فلا وجه لترجيح الواجب بعد اشتراكهما في المناط.

بل لجملةٍ من النصوص:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن امرأة أوصت بمالٍ في الصدقة والحَجّ والعتق ؟ فقال عليه السلام: ابدأ بالحجّ فإنّه مفروض، فإن بقي شيء فاجعله في العتق طائفة، وفي الصدقة طائفة»(1).

ومنها: خبره الآخر، قال: «إنّ امرأةً هلكت وأوصت بثلثها، يتصدّق به عنها، ويحجّ عنها، ويعتق عنها، فلم يسع المال ذلك ؟

إلى أنْ قال: فسالتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن ذلك، فقال: ابدأ بالحجّ فإنّ الحَجّ فريضة، فما بقي فضعه في النوافل»(2).1.

ص: 300


1- الفقيه: ج 2/442، ح 2920، وسائل الشيعة: ج 11/76، ح 14280.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/407، ح 63، وسائل الشيعة: ج 11/76، ح 14281.

وأمّا الثاني: أي لو كانت من الوصايا الواجبة، فقد يقال بأنّه حيثُ لا نصّ خاص فيه، فالمرجع إلى أدلّة الوصيّة، ومقتضاها تقديم السابقة إذا كانت مترتّبة، ورجوع النقص على الجميع على النسبة إذا كانت غير مترتّبة، ولكن يمكن أن يقال بتقديم الحَجّ في هذه الصورة أيضاً، لعموم التعليل.

توضحيح ذلك: أنّ التعليل في بادئ النظر يُحتمل فيه أمران:

الأمر الأوّل: أن يكون المراد أنّ الحَجّ كان واجباً على الميّت وغيره مستحبٌّ ، فعند المزاحمة يقدّم الواجب، وعليه فلا ربط له بهذه الصورة.

الأمر الثاني: أن يكون المراد أن الحَجّ يجبُ إخراجه مع قطع النظر عن الوصيّة وإنْ لم يسعه الثُّلث، بخلاف غيره الذي لا يجبُ إخراجه إذا لم يسعه الثُّلث، فيقدَّم الأوّل لكونه رافعاً للثاني.

وبعبارة اُخرى : النسبة بينهما نسبة الواجب المطلق والمشروط، وعليه فمقتضى عموم العلّة تقديم الحَجّ في المقام.

أقول: والظاهر هو الثاني، إذ الظاهر من التعليل كونه تعليلاً بأمر ارتكازي عرفي، ولازم الأوّل حمله على التعبّد الصرف، لما عرفت من أنّ الواجب على الميّت والمستحبّ عليه نسبتهما إلى وجوب العمل بالوصيّة على حَدٍّ سَواء، مع أنّ ظهور الوصف في الفعليّة يقتضي ذلك، كما هو واضح، فالأظهر تقديم الحَجّ على سائر الوصايا مطلقاً.

***

ص: 301

تزاحم الحَجّ مع الحقوق الماليّة

المبحث الخامس: لو كان عليه دَينٌ أو خمسٌ أو زكاة، ولم يحجّ حَجّة الإسلام، وأوصى بها أو لم يوص بها، وقصرت التركة.

1 - فإن كان المال المتعلّق به الخمس أو الزكاة موجوداً قُدّم ذلك، لما تقدّم من تعلّقهما بالعين، فقبل أن يموت كان المال متعلّقاً لحقّ الغير، وهكذا يبقى بعده، والدَّين والحَجّ وإنْ تعلّقا به، إلّاأنّه بعد الموت، فقبل تعلّقهما يكون المال غير طلق، وتعلّق حقّ الغير به قبلاً مانعٌ عن تعلّقهما به وهو واضح.

2 - وإنْ كانا في الذمّة، فحكمهما حكم سائر الدِّيون، وحكم الحَجّ أيضاً حكمها، لما دلّ من النصوص على أنّ الحَجّ بمنزلة الدَّين، فالجميع متساوون من هذه الجهة، لا ترجيح لأحدها على غيره، كي يُقدّم، فلابدّ من الالتزام بالتوزيع على الجميع بالنسبة كما في غرماء المفلّس.

أقول: وفي المقام قولان آخران:

أحدهما: تقديم دين النّاس.

ثانيهما: تقديم الحَجّ .

أمّا الأوّل: فقد استدلّ له بأهميّة حقّ النّاس وتقدّمه على حقّ اللّه تعالى ، وقد مرّ في بعض المباحث المتقدّمة ما في هذه الكبرى الكليّة.

وأمّا الثاني: فقد استدلّ له:

1 - بمصحّح معاوية بن عمّار، قال: «قلتُ له: رجلٌ يموت وعليه خمسمائة درهم من الزكاة، وعليه حَجّة الإسلام، وترك ثلاثمائة درهم، فأوصى بحَجّة الإسلام وأن

ص: 302

يُقضى عنه دين الزكاة ؟ قال عليه السلام: يحجّ عنه من أقرب ما يكون، ويخرج البقيّة في الزكاة»(1).

2 - وخبره الآخر، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجلٍ مات وترك ثلاثمائة درهم، وعليه من الزّكاة سبعمائة درهم، وأوصى أن يحجّ عنه ؟ قال: يحجّ عنه من أقرب المواضع، ويجعل ما بقي في الزكاة»(2).

وأورد على الاستدلال بهما صاحب «الجواهر» رحمه الله بقوله: (إنّه يمكن كون ما ذكره فيهما مقتضى التوزيع أيضاً..) انتهى (3).

واُجيب عنه: بأنّه لا يجب الحَجّ البلدي، بل الميقاتي يكون مُجزياً، وعليه فتكون حصّة الحَجّ على التوزيع غير كافية فيه، فالحكم بأن يحجّ عنه من أقرب ما يكون ينافي التوزيع.

أقول: كون الحَجّ الواجب هو الميقاتي، ليس من الواضحات، فليكن هذان الخبران ممّا يدلّان على وجوب البلدي، ومجرّد هذا الاحتمال المؤكّد بقوله: (من أقرب ما يكون)، يكفي في بطلان الاستدلال.

مع أنّه يمكن أن يكون المراد بقوله: (من أقرب ما يكون) مكّة، وعليه فيتمّ حتّى بناءً على وجوب الميقاتي.

فالحقّ أنّ هذا بضميمة إعراض الأصحاب، واختصاصهما بالزكاة، يكفي في بطلان هذا القول أيضاً، فالأظهر هو التوزيع.5.

ص: 303


1- الكافي: ج 3/547، ح 4، وسائل الشيعة: ج 9/255، ح 11962.
2- تهذيب الأحكام: ج 9/170، ح 40، وسائل الشيعة: ج 19/359، ح 24759.
3- جواهر الكلام: ج 17/315.

وعليه، فإنّ وفت حصّة الحَجّ بأحد النسكين من الحَجّ والعمرة، فيجب في مثل حجّ القِران والإفراد حيث أنّ كُلّاً منهما عملٌ مستقلّ واجبٌ غير مرتبط بالآخر، صرفها في أحدهما، فإنْ لم يحتمل أهميّة الحَجّ تخيّر بينهما، وإن احتمل تلك - نظراً إلى ما ورد فيه من الأخبار المتضمّنة للتشديدات التي لم ترد في العُمرة، وإلى ما دلّ من النصوص على أنّه يخرج من الأصل وإنْ كانت العمرة أيضاً كذلك على ما ستعرف، إلّاأنّه ليس لدليل خاص - يتعيّن تقديم الحَجّ ، لأنّ من مرجّحات باب التزاحم احتمال الأهميّة، وأمّا في حجّ التمتّع، فقد يحتمل تقديم الحَجّ ، لما مرّ.

وربما يحتمل تقديم العمرة، لأنّها متقدّمة زماناً، بناءً على كون التقدّم الزماني من المرجّحات وإنْ لا نُسلّمه، وربما يحتمل التخيّير.

أقول: ولكن الأظهر هو السقوط، وعدم لزوم صرفها في شيء منهما، لأنّهما في حجّ التمتّع عملٌ واحد لم يثبت مشروعيّة أحدهما بدون الآخر.

وأمّا قاعدة الميسور - فمضافاً إلى ضعف سند ما استدلّ به لها - تختصّ بالميسور من الأفراد، ولا تشمل الميسور من الأجزاء، كما حقّقناه في الجزء الثاني من حاشيتنا على «الكفاية».

***

ص: 304

لو كان عليه الحَجّ ولم تف التركة به

المبحث السادس: إذا ثبت الحَجّ على ذمّة الميّت، ولم تكن تركته وافية به حتّى من مكّة ولم يكن على ذمّته دَين:

فتارةً : لا يعيّن مالاً له ولا يوصي به.

واُخرى : يعيّن ذلك.

1 - أمّا إذا لم يعيّن، فإنْ وفت التركة بأحد النُسكين، ففي مثل حجّ القِران والإفراد يتعيّن صرفه في أحدهما؛ إمّا تخيّيراً أو خصوص الحَجّ على الخلاف في الفرع السابق، وفي مثل حَجّ التمتّع لا يجب صرفها في شيء منهما، بل لا يجوز كما عرفت، وعليه فالظاهر كونها للورثة، إذ المانع عن الميراث هو وجوب الحَجّ ، فمع فرض عدم الوجوب لعدم كفاية المال، لا مانع من صرفها في الميراث.

نعم، لو احتمل كفايتها للحجّ بعد ذلك، أو وجود متبرّعٍ بدفع التتمّة لمصرف الحَجّ ، وجب إبقاؤها، للزوم الاحتياط عند الشكّ في القدرة.

2 - وأمّا إنْ عيّن مالاً له، وأوصى به، فمقتضى القاعدة وإنْ كان ما ذُكر، إلّاأنّه دلّ دليل خاص على لزوم صرفه في التصدّق عنه، وهو خبر عليّ بن زيد صاحب السّابري، قال: «أوصى إليَّ رَجُلٌ بتركته، فأمرني أن أحجّ بها، فنظرت في ذلك فإذا هي شيءٌ يسير لا يكفي للحَجّ ، فسألتُ أبا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة، فقالوا:

تصدّق بها عنه.

إلى أن قال: فلقيتُ جعفر بن محمّد عليهما السلام، فقال عليه السلام: ما صنعت بها؟ فقلت:

ص: 305

تصدّقت بها، فقال عليه السلام: ضمنت، إلّاأن لا يكون يبلغ ما يحجّ به من مكّة، فإنْ كان لا يبلغ ما يحجّ به من مكّة فليس عليك ضمان»(1).

فإنّه يدلّ بالإطلاق على أنّ الوصي إذا صرف المال الموصى به للحجّ في الصدقة عنه، مع عدم وفائه بالحجّ ، من دون أن يراجع الورثة في ذلك، لم يكن قد فعل حراماً، ولا يكون ضامناً، ولولا تعيّنه لذلك كان المال للورَثَة، ولم يكن يجوز للوصي ذلك، فمن الحكم بالجواز يُستكشف عدم الانتقال إلى الورثة.

ودعوى : أنّه ضعيف السند من جهة أنّ الراوي مهملٌ مجهول الحال.

ممنوعة: لأنّ الخبر مرويّ بسند صحيح عن ابن أبي عمير الذي هو من أصحاب الإجماع، فلا ينظر إلى من قبله من الرجال، فلو كان الذي يروي عنه ابن أبي عمير معلوم الضعف، يكون الخبر معتبراً لو صحَّ سنده إليه، فضلاً عمّا إذا كان مجهولاً كما في المقام.

وعليه، فالأظهر أنّه يتعيّن في هذه الصورة صرفه في التصدّق عنه، ولو علم بعدم الخصوصيّة لصورة التعيين يتعدّى عنها إلى الصورة الأُولى، وإلّا فيقتصر عليها.

أقول: والظاهر اختصاص الخبر بالحجّ الواجب، وإلّا فلو كان مستحبّاً لما كانت الوصيّة بإخراجه من جميع التركة نافذة، فحيث إنّ ذلك مفروغٌ عنه سؤالاً وجواباً، فيستكشف كونه واجباً.

فرع: وفي المقام فرعٌ آخر يناسب ذلك، وهو: أنّه لو أوصى الميّت بالحَجّ عنه وتبرّع متبرّعٌ عن الميّت:2.

ص: 306


1- الكافي: ج 7/21، وسائل الشيعة: ج 19/349، ح 24742.

فتارةً : يكون الحَجّ واجباً.

واُخرى : يكون مستحبّاً أوصى به من الثلث.

فإن كان واجباً، فإنْ عيّن مقداراً له، لا يبعد القول بلزوم صرفه في التصدّق عنه، لخبر علي المتقدّم، فإنّ مورده وإنْ كان هو الوصيّة بتمام التركة، لكنّه لا يبعد التعدّي إلى المقام، وإنْ لم يعين ذلك، فإن أحرز عدم الخصوصيّة للتعيين يتعدّى عن مورد الخبر، ويحكم بلزوم التصدّق، وإنْ لم يُحرز ذلك رجعت اُجرة الاستيجار إلى الورثة، لما مرّ من أنّ المانع من صرف التركة في الإرث هو الحَجّ فإذا جىء به لا مانع من الإرث، وإنْ كان مستحبّاً.

وعليه، فالظاهر تعيّن صرفه في الحَجّ عنه، لأنّه بتبرّع المتبرّع لا ينتفي الموضوع وهو واضح.

ثمّ إنّه لا كلام في صحّة التبرّع، بل لا خلاف فيه ولا إشكال نصّاً وفتوىً ، كما صرّح به صاحب «الجواهر» قدس سره(1)، ويشهد به جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ مات ولم يكن له مالٌ ، ولم يحجّ حَجّة الإسلام، فأحجّ عنه بعض إخوانه، هل يجزي ذلك عنه، أو هل هي ناقصة ؟

قال عليه السلام: بل هي حجّة تامّة»(2).

وهو محمولٌ على ما لو وجب عليه الحَجّ من قبل، ولكن حين الموت لم يكن له مالٌ كما لا يخفى .2.

ص: 307


1- جواهر الكلام: ج 17/387.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/404، ح 54، وسائل الشيعة: ج 11/77، ح 14282.

ومنها: خبر عامر، عنه عليه السلام «قال: قلت له: بلغني عنك أنّك قلت: لو أنّ رجلاً مات ولم يحجّ حَجّة الإسلام، فحجّ عنه بعض أهله أجزأ ذلك عنه ؟ فقال عليه السلام: نعم، اشهد بها على أبي أنّه حدّثني أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أتاه رجلٌ فقال: يا رسول اللّه إنّ أبي مات ولم يحجّ ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: حجّ عنه، فإنّ ذلك يجزي عنه»(1).

ونحوهما غيرهما، فلا إشكال في الحكم.

***3.

ص: 308


1- الكافي: ج 4/277، ح 13، وسائل الشيعة: ج 11/77، ح 14283.

الواجب الحَجّ البلدي أو الميقاتي

المبحث السابع: هل الواجب الاستيجار عن الميّت من الميقات أو البلد؟ والمسألة ذات أقوال ثلاثة:

القول الأوّل: أنّه يستأجر من البلد مع السِّعة في المال، وإلّا فمن الميقات.

نَسب ذلك في «المستند» إلى الشيخ في «النهاية»، والصدوق في «المقنع»، والحِلّي والقاضي، و «الجامع»، والمحقّق الثاني، و «الدروس»، وظاهر «اللّمعة»(1).

القول الثاني: أنّه يستأجر من البلد مع السّعة، وإلّا فمن الأقرب إليه فالأقرب، حكاه في «الشرائع» قولاً(2)، ونُسب إلى «الدروس»(1) والحِلّي(2).

القول الثالث: أنّه يستأجر من أقرب المواقيت إلى مكّة إن أمكن، وإلّا فمن الأقرب إليه فالأقرب.

اختاره المصنّف في المتن و «التذكرة»(3)، وغيرهما من كتبه(4)، والفاضل النراقي في «المستند» (7) ، والمحقّق في «الشرائع» (8) ، وقال صاحب «الجواهر» بعد نقل ذلك عن المحقّق: (عن الأكثر، بل المشهور، بل عن «الغُنية» الإجماع عليه) انتهى (5) .

ص: 309


1- الدروس: ج 1/326.
2- السرائر: ج 1/629.
3- تذكرة الفقهاء: ج 7/97، (ط. ج).
4- قواعد الأحكام: ج 1/412، منتهى المطلب: ج 2/872، (ط. ق).
5- جواهر الكلام: ج 17/320.

وفي «المستند»: (كماهو مختار «المبسوط»، و «الخلاف»، و «الوسيلة»، و «الغُنية»، والفاضلين في كتبهما، و «المسالك» و «الروضة» و «المدارك» و «الذخيرة»، وأكثر المتأخّرين بل مطلقاً، وفي «الغُنية»: الإجماع عليه) انتهى (1).

وعن «المدارك»: احتمال آخر، وهو: (وجوب الاستيجار من البلد مع السّعة وإلّا فالسقوط)، ولكن قال أخيراً: (لا نعرف بذلك قائلاً)(2).

وفي «المستند»: (لا يعرف قائله كما صرّح به جمعٌ ، بل نفاه بعضهم)(3).

والتحقيق: أنّه يجب الاستيجار من الميقات، والظاهر أنّ مراد الأصحاب من أقرب المواقيت، ما هو أقلّ قيمةً ، فمرادهم أنّه لا يجب على الورثة ما هو أكثر قيمةً ، فلا دليل عليه، كما سيمرّ عليك.

والوجه في ذلك: أنّ الواجب على الميّت إنّما هو أداء المناسك في المشاعر المخصوصة، ومبدؤها الميقات، وأمّا السير من البلد إلى الميقات، فهو مقدّمة عقليّة للواجب، ولا يكون جزءً ولا شرطاً، ولذا قلنا إنّه لو خرج إلى التجارة ثمّ جَدّد نيّة الحَجّ عند المواقيت أجزأه فعله، فعلمنا أنّ قطع الطريق ليس مطلوباً للشرع على نحو الاستقلال.

وبالجملة: وجوب السير ليس إلّاعقليّاً، ولو سُلّم كونه شرعيّاً، فهو ليس داخلاً في الحَجّ شرطاً ولا شطراً، كي يجب الإتيان به أيضاً.

أقول: ليس للأصحاب في مقابل هذا البرهان سوى اُمور:9.

ص: 310


1- مستند الشيعة: ج 11/78 و 79.
2- مدارك الأحكام: ج 7/87.
3- مستند الشيعة: ج 11/78 و 79.

الأمر الأوّل: ما نقله في «التذكرة» بقوله: (إنّ الحَجّ إذا وجب على الميّت من بلده فوجب أن ينوب عنه منه، لأنّ القضاء يكون على وفق الأداء)(1).

وفيه: ما تقدّم من منع الوجوب من البلد أوّلاً، وعدم لزوم قضائه ثانياً، لعدم كونه جزءً للحجّ أو شرطاً له.

الأمر الثاني: النصوص الدالّة على أنّ من لم يتمكّن من المباشرة، يستنيب شخصاً آخر.

وفيه أوّلاً: أنّه في تلك المسألة أيضاً لا تدلّ النصوص على لزوم الإستنابة من البلد، إذ ليس في تلك النصوص إلّاما بهذا المضمون: (عليه أن يُجهز رجلاً من ماله)، ولا ظهور لذلك في التجهيز من البلد أو الميقات.

وثانياً: أنّه لا يخرج عن القياس بعد عدم العلم بالمناط، كما لا يخفى .

الأمر الثالث: الأخبار الواردة في الوصيّة بالحجّ ، فقد صرّح الإمام عليه السلام في جملةٍ منها بأنّه يستأجر من البلد، فبعد إلغاء الخصوصيّة يتمّ المطلوب.

أقول: تلك النصوص ستمرّ عليك، وستعرف أنّ الجمع بينها يقتضي البناء على كونه من الميقات، مع أنّه يحتمل أن تكون للوصيّة حكمٌ خاص من جهة التعارف، كما اشار إليه سيّد «المدارك» بقوله: (ولعلّ القرائن الحاليّة كانت دالّة على إرادة الحَجّ من البلد، كما هو المنصرف من الوصيّة عند الإطلاق في زماننا، فلا يلزم مثله مع انتفاء الوصيّة) انتهى (2).6.

ص: 311


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/97، (ط. ج).
2- مدارك الأحكام: ج 7/86.

الأمر الرابع: خصوص الخبر المرويّ عن «مستطرفات السرائر» من كتاب المسائل، بسنده عن عدّة من أصحابنا، قالوا: «قلنا لأبي الحسن - يعني علي بن محمّد عليهما السلام: - إنّ رجلاً مات في الطريق، وأوصى بحجّة، وما بقي فهو لك، فاختلف أصحابنا، فقال بعضهم: يحجّ عنه من الوقت، فهو أوفر للشيء أن يبقى، وقال بعضهم: يحجّ عنه من حيث مات ؟ فقال عليه السلام: يحجّ عنه من حيث مات»(1).

وفيه: - مضافاً إلى أنّه واردٌ في الوصيّة - أنّه يحتمل - لو لم يكن هو الظاهر - أن يكون المراد من قوله: (بحجّه) إتمام حجّته، فيكون من باب الوصيّة بذلك، وخارجاً عمّا نحن فيه، فإذاً لا ينبغي التوقّف في كفاية الميقاتي.

والغريب مع ذلك دعوى بعضهم تواتر الأخبار بالحجّ من البلد، فلنِعمَ ما أفاد المحقّق في محكي «المعتبر»(2)، والمصنّف رحمه الله في محكي «المختلف»(3) من أنّه لم نقف في ذلك على خبرٍ شاذٍّ، فكيف يُدّعى التواتر!؟

هذا كلّه مع عدم الوصيّة.

ولو أوصى بالاستيجار من البلد أو الميقات وجب، وهل يُحسب الزائد عن اُجرة الميقاتيّة من الثُّلث كما في «المدارك»(4)، و «الجواهر»(5)، و «العروة»(6)، أم يحسب من الأصل ؟ وجهان:).

ص: 312


1- وسائل الشيعة: ج 11/169، ح 14546، مستطرفات السرائر: ص 581.
2- المعتبر: ج 2/760.
3- مختلف الشيعة: ج 4/369 و 370.
4- مدارك الأحكام: ج 7/88.
5- جواهر الكلام: ج 17/320.
6- العروة الوثقى: ج 4/464، (ط. ج).

يمكن الاستدلال للثاني: بإطلاق موثّق ابن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«أنّه سُئل عن رجلٍ أوصى بماله في الحَجّ ، فكان لا يبلغ ما يحجّ به من بلاده ؟ قال عليه السلام: فيعطى في الموضع الذي يحجّ به عنه»(1).

بتقريب: أنّ الظاهر منه الوصيّة بجميع ماله، ومن جهة ترك الاستفصال يكون مطلقاً من حيث كون الحَجّ واجباً أو مندوباً، فمفاده أنّ الحَجّ يجب إخراجه من جميع المال من أيّ مكان وسع المال، وبه يقيّد إطلاق ما دلّ من النصوص على عدم نفوذ الوصيّة في الزائد عن الثُّلث.

وأورد عليه إيرادان:

الإيراد الأوّل: أنّ كلمة (ماله) في الخبر كما يمكن أن يكون بكسر اللّام، فيدلّ على ما اُفيد، يمكن أن يكون بفتح اللّام بأن يكون ما موصولة واللّام جارة، فلا يدلّ على ذلك كما لا يخفى .

وفيه: أنّ ذلك - أي احتمال كون اللّام مفتوحة - خلاف الظاهر جدّاً.

الإيراد الثاني: أنّ في باب الوصيّة طوائف من النصوص:

منها: ما يدلّ على نفوذ الوصيّة بأكثر من الثُّلث، كخبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ : «فإن أوصى به فليس له إلّاالثُّلث»(2). ونحوه غيره.

ومنها: ما يدلّ على جواز الوصيّة بتمام المال، إذا لم يكن له وارث، كخبر السكوني، عنه، عن أبيه عليهما السلام: «فيمن لا وارث له ؟ قال: يوصي بماله حيث شاء في المسلمين والمساكين وابن السبيل»(3). ونحوه غيره.9.

ص: 313


1- وسائل الشيعة: ج 11/166، ح 14539.
2- الكافي: ج 7/8، ح 10، وسائل الشيعة: ج 19/273، ح 24575.
3- تهذيب الأحكام: ج 9/188، ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/282، ح 24599.

ومنها: موثّق ابن بكير.

فإذا قيّدنا إطلاق الطائفة الأُولى بالثانية، تنقلب النسبة بين الثالثة والأُولى من العموم المطلق إلى العموم من وجه، فإنّ لهما مادّة الاجتماع وهي الوصيّة بأزيد من الثُّلث في غير الحَجّ ، مع وجود الوارث، ومادّتي الافتراق وهما الوصيّة بأزيد من الثُّلث في غير الحَجّ ، مع وجود الوارث، والوصيّة بأزيد من الثُّلث مع عدم وجوده، فلا تصلح الثالثة لتقييد الأُولى .

وفيه: إنّا لا نقول بانقلاب النسبة، سيّما فيما إذا ورد عام وخاصّان، بل تلاحظ النسبة بين العام والخاصّين دفعة واحدة، وعليه فالأظهر أنّه يُخرج من الأصل، ولا وجه لاحتسابه من الثُّلث.

حكم الوصيّة بالحَجّ

ولو أوصى بالاستيجار عنه، ولم يعيّن شيئاً، ولم يكن هناك انصرافٌ ، فهل تكفي الميقاتيّة أم لا؟

وملخّص القول فيه: إنّ النصوص الواردة فيه على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على أنّه إن وفّى المال، وجب الحَجّ عنه من البلد، وإلّا فمن الميقات:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «وإنْ أوصى أن يُحجّ عنه حَجّة الإسلام، ولم يبلغ ماله ذلك، فليحجّ عنه من بعض المواقيت»(1).

فإنّه بالمفهوم يدلّ على أنّه مع وفاء المال يُحجّ عنه من البلد، وبالمنطوق يدلّ

ص: 314


1- تهذيب الأحكام: ج 5/405، ح 56، وسائل الشيعة: ج 11/66، ح 14256.

على أنّه مع عدم الوفاء يُحجّ عنه من الميقات.

ومنها: صحيح علي بن رئاب، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ أوصى أن يُحجّ عنه حَجّة الإسلام، ولم يبلغ جميع ما ترك إلّاخمسين درهماً؟ قال عليه السلام: يحجّ عنه من بعض المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى الله عليه و آله من قرب»(1).

ومفهومه وإنْ كان أنّه مع وفاء المال يُحجّ عنه ممّا قبل الميقات، ولم يعيّن البلد، ولكن لعدم الفصل يتمّ المطلوب.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على أنّه مع وفاء المال يُحجّ عنه من البلد، وإلّا فمن المكان الذي يفي به المال:

منها: موثّق عبد اللّه بن بكير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّه سأل عن رجلٍ أوصى بماله في الحَجّ ، فكان لا يبلغ ما يَحجّ به من بلاده ؟ قال: فيعطى في الموضع الذي يُحجّ به عنه»(2).

ومنها: خبر محمّد بن عبد اللّه، قال: «سألتُ أبا الحسن الرّضا عليه السلام عن الرّجُل يموت فيوصي بالحجّ من أين يحجّ عنه ؟

قال عليه السلام: على قدر ماله، إن وَسِعه ماله فمن منزله، وإنْ لم يَسعه ماله من الكوفة، وإنْ لم يسَعه فمن المدينة»(3).

ومحمّد بن عبد اللّه وإنْ كان مجهولاً، إلّاأنّ الراوي عنه هو البزنطي الذي يُعدّ من أصحاب الإجماع، فلا إشكال فيه من حيث السند، كما أنّ دلالته على المطلوب واضحة.0.

ص: 315


1- تهذيب الأحكام: ج 5/405، ح 57، وسائل الشيعة: ج 11/166، ح 14538.
2- وسائل الشيعة: ج 11/166، ح 14539.
3- الكافي: ج 4/308، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/167، ح 14540.

ومنها: خبر أبي سعيد، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ أوصى بعشرين درهماً في حَجّة ؟ قال عليه السلام: يحجّ بها عنه رجلٌ من موضع بلغه»(1).

ومنها: خبر أبي بصير، عمّن سأله، قال: «قلت له: رجلٌ أوصى بعشرين ديناراً في حجّة ؟ فقال: يُحجّ له رجلٌ من حيث يبلغه»(2).

ومنها: خبر عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ أوصى بحجّه فلم تكفه ؟ قال: فيقدّمها حتّى يحجّ دون الوقت»(3). ونحوه خبره الآخر(4).

وأمّا المرويّ عن «مستطرفات السرائر» المتقدّم فليس ممّا نحن فيه، لوروده في خصوص من مات في الطريق.

أقول: والجمع بين هاتين الطائفتين واضح، فإنّهما متوافقتان من حيث إنّه إن وفى المال يجبُ الحَجّ من البلد، وإنّما الاختلاف بينهما فيما لو لم يف به، فإنّ الأُولى تدلّ بالإطلاق على أنّه يحجّ عنه من الميقات، والثانية تدلّ على أنّه يحجّ عنه من المكان الذي يفي به المال، وإنْ لم يف إلّامن الميقات فهي أخصّ من الأُولى فيقيّد إطلاقها بها.

فتكون النتيجة: أنّه إن وَفى المال يُحجّ عنه من البلد، وإنْ لم يفِ به فمن المكان الذي يفي به، وإنْ لم يفِ إلّامن الميقات فمنه.

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على أنّه يحجّ عنه من الميقات مطلقاً، وهو خبر زكريّا ابن آدم، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن رجلٍ مات وأوصى بحجّه، أيجوز أن يحجّ3.

ص: 316


1- الكافي: ج 4/308، ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/167، ح 14542.
2- الفقيه: ج 2/444، ح 2927، وسائل الشيعة: ج 11/168، ح 14545.
3- الكافي: ج 4/309، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/168، ح 14544.
4- وسائل الشيعة: ج 11/168، ح 14543.

عنه من غير البلد الذي مات فيه ؟ فقال عليه السلام: أمّا ما كان دون الميقات فلا بأس»(1).

وقد ذكروا روايات اُخرى ، ولكنّها ما بين ما لا يدلّ على هذا القول، وما يكون مورده غير ما نحن فيه.

أقول: وللأصحاب في الجمع بين هذه الطائفة وما تقدّم مسالك:

المسلك الأوّل: ما أصرّ عليه بعض الأعاظم من المعاصرين، وهو حمل الأولتين على ما إذا عيّن مالاً للحجّ ، كما ورد في موثّق عبد اللّه بن بكير، وحمل الأخيرة على ما إذا أطلق.

بتقريب: أنّه يقيّد خبر زكريّا ابتداءً بموثّق ابن بكير، ويُحمل على صورة عدم الوصيّة بمالٍ معيّن، ثمّ بعد ذلك تُحمل النصوص المطلقة الاُخر - كخبر محمّد بن عبداللّه - على ذلك، لأنّه أولى من حمله على صورة الضرورة(2).

وفيه: أنّ هذا يبتني على القول بانقلاب النسبة، وهو ما لا نقول به، فلا وجه لتقييد إطلاق خبر زكريّا أوّلاً، ثمّ ملاحظة النسبة بينه وبين سائر النصوص، والموثّق بنفسه لا يصلح لتقيّيد إطلاق سائر النصوص، لأنّهما متوافقان.

المسلك الثاني: حمل خبر زكريّا على غير حَجّة الإسلام، والطائفتين الأولتين على حَجّة الإسلام، والشاهد عليه صحيح الحلبي وصحيح ابن رئاب الواردان في خصوص حَجّة الإسلام.

وفيه: أنّه لو كنّا قائلين بانقلاب النسبة إذا ورد دليلان متبائنان، وكان لأحدهما مقيّدٌ لزم من تقيّيده انقلاب النسبة بينه وبين معارضه إلى العموم المطلق،2.

ص: 317


1- الكافي: ج 4/308، وسائل الشيعة: ج 11/167، ح 14541.
2- المراد به السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/261 و 262.

صحَّ ما اُفيد، فإنّه يقيّد إطلاق خبر زكريّا بالصحيحين، والنسبة بينه بعد التقييد وبين سائر النصوص عمومٌ مطلق، فيقيّد إطلاقها به، ولكن أثبتنا في محلّه عدم تماميّة الانقلاب حتّى في هذه الصورة.

المسلك الثالث: حمل الطائفتين الأولتين على الاستحباب، أي استحباب الحَجّ البلدي.

أقول: ولكن الأظهر في مقام الجمع هو الوجه الرابع، وهو أنّ خبر زكريّا الدالّ على الحَجّ الميقاتي مطلق من حيث وفاء المال وعدمه، فيقيّد إطلاقه بالطائفتين الأولتين، فتكون النتيجة لزوم الحَجّ البلدي مع وفاء المال، وإلّا فمن الأقرب فالأقرب، ومع عدمه فمن الميقات.

وعلى ما اخترناه لو خولف واستؤجر من الميقات، برئت ذمّته، لتحقّق الحَجّ الواجب عليه من الميقات، ولزوم الإخراج من البلد يكون تكليفاً زائداً لا شرطاً أو شطراً للحجّ ، وعليه فما عن «المدارك» من الإشكال في الإجزاء، لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه على هذا التقدير، فلا يتحقّق الامتثال(1)، ضعيفٌ .

***8.

ص: 318


1- مدارك الأحكام: ج 7/87 و 88.

المراد من البلد في الحَجّ البلدي

المبحث الثامن: اختلفت كلمات القوم في المراد من البلد في الحَجّ البلدي على أقوال:

القول الأوّل: بلد الموت، نُسب ذلك إلى ابن إدريس(1) وصاحب «المدارك»(2)وغيرهما(3).

القول الثاني: بلد الاستيطان، اختاره صاحب «الجواهر» رحمه الله(4)، وتبعه بعض محقّقي العصر(5).

القول الثالث: ما احتمله صاحب «الجواهر»(6) رحمه الله وصاحب «العروة»(7)، وحُكي عن بعض العامّة، وهو البلد الذي صار مستطيعاً فيه.

القول الرابع: ما قوّاه صاحب «العروة»(8)، وهو القول بالتخيير بين البلدان التي كان فيها بعد الاستطاعة.

أقول: والحقّ أنّه إن مات في أثناء الطريق فالأوّل:

ص: 319


1- السرائر: ج 1/648.
2- مدارك الأحكام: ج 7/87.
3- راجع مجمع الفائدة: ج 6/80، والعروة الوثقى: ج 4/465 و 466.
4- جواهر الكلام: ج 17/327.
5- كالسيِّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/266، والسيّد الخوئي في مستند العروة الوثقى، كتاب الحَجّ : ج 1/325.
6- جواهر الكلام: ج 17/327.
7- العروة الوثقى: ج 4/466، (ط. ج).
8- العروة الوثقى: ج 4/466، (ط. ج)، وعبارته: (والأقوى ما ذكرنا - من كون الظاهر أنّ المراد من البلد هوالبلد الذي مات فيه - وفاقاً لسيّد المدارك، ونسبه إلى ابن إدريس أيضاً، وإنْ كان الإحتمال الأخير وهو التخيّير قويّاً جدّاً).

1 - للمروي عن «مستطرفات السرائر» المتقدّم، المصرّح فيه بأنّه يحجّ عنه من حيثُ مات، وإلّا فالثاني، لأنّ نصوص الحَجّ البلدي متضمّنة لكلمة (منزله) كما في خبر محمّد بن عبد اللّه، و (بلاده) كما في موثّق ابن بكير، وما شاكل، وواضحٌ أنّ المراد منهما ما اتّخذه مقرّاً له ومنزلاً، وهو بلد الاستيطان، وإنكار كون المنساق من النّص ذلك مكابرة.

واستشهد لكون المراد بلد الموت مطلقاً، بأنّه آخر مكانٍ كان مكلّفاً فيه بالحجّ .

2 - وبخبر زكريّا المتقدّم: «أيجزيه أن يحجّ عنه من غير البلد الذي مات فيه».

ولكن يرد على الأوّل: أنّ طيّ الطريق والمسافة ليس داخلاً في الحَجّ ، ولذا التزمنا بكفاية الحَجّ من الميقات في صورة عدم الوصيّة، وإنّما بنينا على لزوم البلديّة في صورة الوصيّة، للنصوص الخاصّة وقد مرّ مفادها.

ويرد على الثاني: أنّ ذلك في السؤال لا في الجواب، والتقرير غير ثابت، بل الظاهر منه الردع، فإنّه عليه السلام ردعه عن أصل اشتراط البلديّة في الحَجّ عنه، فلا يدلّ على أنّه على فرض الاشتراط يكون الميزان بلد الموت.

وأيضاً: استدلّ لكون الميزان بلد الاستطاعة، بأنّه هو البلد الذي توجّه إليه الخطاب بالحجّ منه.

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّم من عدم تعلّق التكليف بالطريق ومبدئه - أنّ توجّه الخطاب إليه منه إنّما هو في صورة عدم انتقاله عنه، وإلّا فمن المحلّ المنتقل إليه، ولذا نُسب إلى الحِلّي الاستدلال بهذا الوجه للقول بكون الميزان هو بلد الموت.

وأيضاً: استدلّ للقول بالتخيّير، بإطلاق النصوص، ومنع انسباق بلد

ص: 320

الاستيطان منها.

وفيه: ما عرفت من أنّ ما فيها من الألفاظ من قبيل (منزله) و (بلاده) ظاهرة في بلد الاستيطان، مع أنّ لازمه التخيّير بين جميع البلدان، لا خصوص البلدان التي سكن فيها بعد الاستطاعة.

وقد يستدلّ له بتوجّه الخطاب إليه بالحجّ في كلّ بلدٍ من البلدان التي كان فيها بعدها، وحيث لا يمكن البناء على وجوب الجميع، تعيّن البناء على التخيّير.

وفيه: ما عرفت من أنّ السير من البلد إلى الميقات، ليس داخلاً في الحَجّ لا شرطاً ولا شطراً، مع أنّه لو سُلّم ذلك في كلّ من البلد المنتقل إليه، يتوجّه تكليف تعيّيني بالحجّ منه، والتكليف بالحجّ من البلد المنتقل عنه يكون ساقطاً، فلو تمَّ هذا لزم البناء على أنّ الميزان هو بلد الموت.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه إن مات في الطريق، فالمدار على بلد الموت، وإلّا فبلد الاستيطان.

***

ص: 321

حكم اختلاف تكليف الميّت والوصيّ

المبحث التاسع: إذا اختلف تقليد الميّت والوارث أو الوصي في اعتبار البلديّة أو الميقاتيّة، فهل المدار على تقليد الميّت كما في «العروة»(1)؟

أوالوارث أوالوصيّ كماعن جمعٍ من المحقّقين(2) منهم المحقّق النائيني(3) رحمه الله ؟ وجهان:

أقول: غير خفي أنّ هذه المسألة من صغريات الكبرى الكليّة التي لها مصاديق وصغريات عديدة في الفقه، مثل الصلاة الثابتة في ذمّة الميّت وما شاكل، بل والعقود والإيقاعات التي يُجريها الوكيل.

وملخّص القول فيها:

1 - إنّه إنْ قلنا بالتصويب، وأنّ لفتوى المجتهد موضوعيّة، ودوران الحكم الواقعي مدار اجتهاد المجتهد، فإنّه لا إشكال في أنّ المدار على تقليد الميّت، فإن الحكم الواقعي الثابت له هو ما يقتضيه تقليده، والوصي أو الوارث مكلّفٌ بإبراء ذمّة الميّت.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّه بناءً على المختار من كفاية الميقاتيّة مع عدم الوصيّة ولزوم البلديّة معها، أنّ لزوم البلديّة ليس من جهة كونها الثابتة في ذمّة الميّت، إذ الثابت هو الميقاتي، بل هو من أحكام الوصيّة المتوجّهة إلى الوصي، وعليه فالمدار على تقليد الوصي، إلّاأنّ الذي يسهل الخطب فساد المبنى .

2 - وإنْ قلنا بطريقيّة فتوى المجتهد - كسائر الأمارات الشرعيّة - إلى ما هو

ص: 322


1- العروة الوثقى: ج 4/469، (ط. ج).
2- كالمحقّق العراقي و السيّدالخوئي و السيّدالبروجردي و غيرهم في تعليقتهم على العروة الوثقى: ج 470/4، (ط. ج).
3- في تعليقته على العروة الوثقى: ج 4/470، (ط. ج).

الوظيفة الواقعيّة، وأنّ الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجميع واحد، والاختلاف في الطريق، وأنّه في صورة الخطأ ليس هناك سوى المعذّريّة كما عليه بناء الُمخطئة - وهو الصحيح - فالمدار على تقليد الوارث أو الوصي، فإنّه يرى بمقتضى تقليده أنّ الحكم الواقعي الثابت حتّى في ذمّة الميّت هو هذا، وأنّ الميّت كان مُخطئاً فيما يراه من الحكم المخالف لذلك.

فإذا كان الوارث يرى لزوم البلديّة، والميّت كان وظيفته بحسب التقليد أو الاجتهاد هي الميقاتيّة، فعلى الوارث أن يعمل بوظيفته، فإنّه يرى أنّ لزوم البلديّة وظيفة الجميع حتّى الميّت، وأنّه كان مخطئاً فيما يراه من كفاية الميقاتيّة، غاية الأمر أنّه معذورٌ في مخالفته، وعليه فالأظهر أنّ المدار على تقليد الوصي أو الوارث.

فرع: وإذا اختلف الورثة في التقليد، فهل يعمل كلٌّ بوظيفته، أم يرجع إلى الحاكم ؟ وجهان:

أقول: وتنقيح القول فيه يتوقّف على بيان أمرين:

انتقال المال إلى الورثة وعدمه

الأمر الأوّل: أنّه مع ثبوت الدين - ومنه الحَجّ - في ذمّة الميّت، أو الوصيّة، هل ينتقل المال بتمامه إلى الورثة، والواجب على الورثة التوزيع والتحصيص، أم لا ينتقل إليهم إلّامقدار ما زاد على الدين أو الوصيّة، وأمّا ما يساويهما فلا ينتقل إليهم ؟

المنسوب إلى كثيرٍ من كتب المصنّف(1) رحمه الله، و «جامع المقاصد»(2) وغيرها(3)

ص: 323


1- راجع قواعد الأحكام: ج 3/354، مختلف الشيعة: ج 8/531 و 532، منتهى المطلب: ج 1/464، (ط. ق)، تذكرة الفقهاء: ج 2/60، (ط. ق).
2- جامع المقاصد: ج 10/83.
3- إيضاح الفوائد: ج 4/205.

الأوّل، وعن الحِلّي(1) والمحقّق(2)، وبعض كتب المصنّف رحمه الله(3) الثاني، وعن «المسالك»(4) نسبته إلى الأكثر.

وقد ذكروا لكلّ من القولين وجوهاً غير خالية عن المناقشة والإشكال، ليس المقام مورداً لنقلها، إلّاأنّ الأظهر - بحسب مايستفاد من الآية الشريفة والنصوص - هو الثاني.

أمّا الآية: فهي قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (5) فإنّه ظاهرٌ في أنّ الوصيّة والدَّين مقدّمان على الإرث.

وأمّا النصوص: فهي أخبارٌ عديدة:

منها: خبر محمّد بن قيس، عن الإمام الباقر عليه السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أنّ الدِّين قبل الوصيّة، ثمّ الوصيّة على أثر الدّين، ثمّ الميراث بعد الوصيّة، فإنّ أوّل القضاء كتاب اللّه تعالى »(6).

ومنها: خبرالسكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أوّل شيء يُبدأ به من المال الكفن، ثمّ الدين، ثمّ الوصيّة، ثمّ الميراث»(7).

ونحوهما غيرهما، فإنّ ظاهر النصوص الترتيب في التعلّق، فلا يتعلّق الميراث8.

ص: 324


1- السرائر: ج 2/426.
2- شرائع الإسلام: ج 4/819.
3- تحرير الأحكام: ج 2/173، (ط. ق).
4- مسالك الأفهام: ج 13/61.
5- سورة النساء: الآية 11.
6- الكافي: ج 7/23، ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/330، ح 24709.
7- الكافي: ج 7/23، ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/329، ح 24708.

مع الدين أو الوصيّة.

ودعوى : أنّه يمكن أن يكون المراد عدم جواز تصرّف الورثة في التركة بعنوان الإرث قبل إخراج ديون الميّت والوصيّة، لا أنّه لا إرث قبلهما.

ممنوعة: أنّ ذلك وإنْ كان محتملاً إلّاأنّه خلاف الظاهر.

فإنْ قيل: إنّه مع عدم الانتقال إلى الورثة إمّا أن يلتزم ببقائه على ملك الميّت، أو يلتزم ببقائه بلا مالك، والميّت غير قابل لأنْ يكون مالكاً، والمال يستحيل أن يبقى بلا مالك.

قلنا: لا مانع من الالتزام بشيء منهما:

أمّا الأوّل: فلأنّ الملكيّة من الاُمور الاعتباريّة، وليس هناك مانعٌ عقلي أو شرعي في اعتبار شيء مِلْكاً للميّت، وصرفه في مصالحه.

وأمّا الثاني: فلأنّ المستحيل بقاء الملك بلا مالك، لا بقاء المال بلا مالك، فيلتزم في المقام ببقاء ما يساويهما بلا مالك، غاية الأمر يثبت حقّ الاختصاص للورثة متعلّق بالمال، يمنع من أن يحوزه غيرهم كسائر المباحات الأصليّة، ويترتّب على ما اخترناه عدم جواز تصرّف الورثة، لكونه تصرّفاً في مال الغير.

ودعوى : أنّه لا إشكال في ولاية الورثة على تعيين حصّة الدّيان ونفقة الحَجّ ولو من غير تركة الميّت، كما أنّ لهم الولاية على تعيّينها من مالٍ مخصوص، وعليه فلو أفرز حصّة الدّيان، أو نفقة الحَجّ ، وإنْ لم تؤدّ خارجاً، لزم جواز تصرّفهم في البقيّة.

ممنوعة: فبالرغم من أنّ هذه الولاية لا تنكر، إلّاأنّه ما دام لم تؤدّ خارجاً

ص: 325

لا يجوز لهم التصرّف فيها، فإنّ ثبوت هذه الولاية أعمّ من تعيّين حصّة الديّان، أو نفقة الحَجّ فيما أفرز، ومع عدم تعيّينها فيه، يكون المال مشتركاً لا يسوغ التصرّف فيه لأحد الشريكين.

نعم، خرج بدليل خاص ما لو لم يكن الدين مستوعباً للتركة، فإنّه دلّ دليلٌ خاص على جواز التصرّف في بعض التركة، كالخبر الصحيح الذي رواه الشيخ الكليني بإسناده عن البزنطي: «أنّه سُئل عن رجلٍ يموت ويترك عيالاً، وعليه دين، أينفق عليهم من ماله ؟ قال عليه السلام: إنْ استيقن أنّ الذي عليه يحيط بجميع المال فلا ينفق، وإنْ لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال»(1).

ونحوه موثّق عبد الرحمن بن الحجّاج(2).

وبذلك ظهر أنّ ما عن «جامع الشرائع» وميراث «القواعد» وحَجر «الإيضاح» ورهنه وغيرها، من عدم الفرق بين الدين المستغرق وغيره في المنع عن التصرّف(3) مستنداً إلى وجوهٍ لا يعتني بها في مقابل النّص، غير تامّ .

كما أنّ ما في «العروة»(4) من تخصيص الجواز بما إذا كانت التركة كبيرة جدّاً، في غير محلّه.

وأيضاً دلّ دليل خاص على أنّه إذا ضمن الورثة أو غيرهم الدين، ورضي الديّان بذلك، برئت ذمّة الميّت، ويجوز للورثة حينئذٍ التصرّف في التركة.).

ص: 326


1- وسائل الشيعة: ج 19/332، ح 24713.
2- الكافي: ج 7/43، ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/332، ح 24714.
3- حكاه عنهم السيِّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى : ج 10/252.
4- العروة الوثقى: ج 4/459 و 460، (ط. ج).

فما عن بعض المحقّقين من جواز التصرّف حتّى في الدين المستغرق مع تعهد الأداء وإنْ لم يرض الديّان، في غير محلّه.

وتمام الكلام في هذه المسألة وفروعها موكولٌ إلى محلّه.

الأمر الثاني: أنّه إذا وقع الخلاف بين شخصين:

فتارةً : لا يكون مرجع اختلافهما إلى إثبات حقّ أو مال على آخر.

واُخرى : يكون مرجعه إلى ذلك.

لا إشكال في أنّه في الصورة الأُولى لا مجال للرجوع إلى الحاكم، من غير فرقٍ بين كون اختلافهما في الموضوعات أو الأحكام.

وأمّا في الصورة الثانية:

فتارةً : يمكن الجمع بينهما، بأن يعمل كلٌّ بما هو وظيفته كما لو أقرَّ أحد الشريكين بشريكٍ ثالث، وأنكره الآخر، فإنّه يمكن الجمع بتوجيه الضرر إليخصوص المعترف.

واُخرى: لا يمكن الجمع كما لو رآى أحد الشخصين أنّ المتنجّس لا ينجس، وكان معتقد الآخر التنجيس، فأدخل الأوّل يده المتنجّسة في دهن الثاني، فإنّه يرى عدم الإتلاف، وصاحب الدهن يرى الإتلاف، فإنْ أمكن الجمع حينئذٍ فإنّه لا وجه للرجوع إلى الحاكم، وإلّا وجب الرجوع إليه، وتفصيل الكلام موكولٌ إلى محلّه.

أقول: وبعد تمهيد هذين الأمرين، نقول في المقام:

لابدّ من الرجوع إلى الحاكم، فإنّ القائل بالبلديّة يجبُ عليه إخراجها قبل أن يأخذ حصّته من التركة بمقتضى الأمر الأوّل، وعليه فالقائل بالميقاتيّة إذا لم يرض بالزائد عن اُجرة الميقاتيّة، لزم ورود الخسارة - أي خسارة التفاوت - بأجمعها على

ص: 327

القائل بالبلديّة، والحال أنّه يرى أنّ نصف تلك الخسارة عليه، فيقع النزاع، ومرجع الاختلاف إلى إثبات المال، ولا يمكن الجمع بينهما، فيتعيّن الرجوع إلى الحاكم الشرعي لقطع النزاع.

ومثله ما لو اختلف الوصي والورثة في ذلك، بأن رأى الوصي أنّ الواجب إخراج البلديّة، والورثة يعتقدون كفاية الميقاتيّة، فإنّ الواجب على الوصي أخذ اُجرة البلديّة من التركة، والورثة ينكرون ذلك، والمرجع في الفرضين إلى الحاكم وهو يعمل بوظيفته، فإنْ لم يُعلم فساد مدركه وجب على كلٍّ من المتنازعين العمل بحكمه، وعدم نقضه، وينتقض به الفتوى ، وإنْ علم فساده ولم يكن هناك حاكمٌ آخر، يتعيّن التراضي والمصالحة.

***

ص: 328

عدم كفاية الاستيجار في براءة ذمّة المنوب عنه

المبحث العاشر: إذا استؤجر للحجّ :

فتارةً : يعلم بإتيان الأجير الحَجّ عن الميّت.

واُخرى : يعلم بعدم إتيانه عنه.

وثالثة: يشكّ في ذلك مع الشكّ في أصل الحَجّ أو العلم به، والشكّ في قصده عن الميّت.

فإنْ علم بإتيان الأجير الحَجّ عن الميّت، لا إشكال في الاكتفاء به، وسقوط التكليف عنه، وإنْ شكّ في صحّة عمله وفساده.

أمّا لو علم بالصحّة فالحكم من الواضحات.

وأمّا لو شكّ في ذلك، فلجريان أصالة الصحّة في فعل الأجير، وببركتها يحكم بالصحّة، ومطابقة المأتي به للمأمور به.

كما أنّه لو علم عدم إتيانه به، فحينئذٍ لا ينبغي التوقّف في لزوم الاستيجار ثانياً، فإنّ المأمور به إتيان الحَجّ ولو بالتسبيب عن الميّت، والفرض عدم تحقّقه.

وأمّا إنْ شكّ في ذلك، فإنْ شكّ في الإتيان به وعدمه، فإنّ أصالة الصحّة - سواءٌ أكان مدركها السيرة أو غيرها - لا تجري، ما لم يُحرز ذات العمل، فإنّها من القواعد المصحّحة، ولا نظر لها إلى أصل الوجود، نظير قاعدة التجاوز المثبتة لأصل الوجود.

وكذا إن علم الإتيان به، وشكّ في الإتيان عن نفسه أو عن الميّت، فإنّه لا مجرى لأصالة الصحّة، وقد أثبتنا في «رسالتنا في القواعد الثلاث» أنّ جريان أصالة

ص: 329

الصحّة متوقّفٌ على إحراز ذات الموضوع، وهو في الفرض مشكوك فيه، وذكرنا أنّ هذا هو السِّر في تفريق الأصحاب بين الصلاة عن الميّت والصلاة على الميّت، فإنّه في الأُولى التزموا بعدم جريان أصالة الصحّة، لأنّها ذات وجهين، فأصل العمل غير مُحرزٍ، ولكنّها تجري في الثانية، لأنّها ذات وجه واحد، ويدور أمرها بين الصحّة والفساد.

وبالجملة: إنّما تجري أصالة الصحّة فيما إذا دار الأمر بين الصحّة والفساد، وأمّا إذا دار بين العملين الصحيحين، فلا مجرى لأصالة الصحّة، وهو من الوضوح بمكان.

نعم، لو أتى الأجير بالعمل المردّد وأخبر أنّه أتى به عن الميّت، يكتفي به إنْ كان ثقةً ، بناءً على المختار من حجيّة خبر الواحد في الموضوعات، إلّاما خرج بالدليل، بل مطلقاً، فإنّ النيّة من الاُمور التي لا تعلم إلّامن قبله، فيشملها ما دلّ على حجيّة قول المخبر في هذه الصورة.

هذا كلّه مع قطع النظر عن النصوص، وأمّا بملاحظتها، فسيأتي الكلام فيه في مبحث النيابة في شرائط النائب، فانتظر.

نيابة من استقرّ عليه الحَجّ

المسألة الثانية عشرة: (ولا يجوزُ لمَن وَجَب عليه الحَجّ أن يحجّ تطوّعاً ولا نائباً) ولو خالف فالمشهور البطلان.

وادّعى صاحب «الجواهر» رحمه الله عدم وجدان الخلاف في الثاني، أعمّ من أن يكون بإجارةٍ أو تبرّع(1).

ص: 330


1- جواهر الكلام: ج 17/328.

وعن الفاضل النراقي رحمه الله دعوى الإجماع عليه فيه(1)، لكن تردّد صاحب «المدارك» في الحكم(2).

أقول: وتنقيح القول يتحقّق بالبحث في موردين:

الأوّل: في الحكم التكليفي.

الثاني: في الحكم الوضعي، بمعنى الصحّة والفساد.

أمّا المورد الأوّل: فلا إشكال في كونه عاصياً بترك ما وجب عليه، بناءً على كون وجوب الحَجّ فوريّاً كما هو الحقّ ، وقد تقدّم الكلام فيه.

وهل يكون ما يأتي به من الحَجّ التبرّعي أو الإجاري أو التطوّعي مبغوضاً ومنهيّاً عنه أم لا؟

وجهان، مبنيّان على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه وعدمه، وحيثُ أنّ المختار عدم اقتضائه له، فالأظهر عدم المبغوضيّة.

وأمّا المورد الثاني: فقد استدلّ لما هو المشهور من البطلان بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، والنهي عن العبادة مقتض للفساد، وفيما نحن فيه الأمر بحجّة الإسلام يقتضي النهي عن غيره، فيقع فاسداً لو أتى به.

وفيه أوّلاً: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه.

وثانياً: أنّ النهي التبعي لا يقتضي الفساد.

الوجه الثاني: أنّه يجب عليه الحَجّ عن نفسه، فهو غير قادر على تركه شرعاً،9.

ص: 331


1- مستند الشيعة: ج 11/116 و 117.
2- مدارك الأحكام: ج 7/89.

فلا يكون قادراً على الحَجّ عن الغير، ولا على الحَجّ الندبي.

وفيه: يجب ملاحظة المراد:

1 - فإنْ اُريد بذلك أنّ وجوب الحَجّ يستلزم نفي القدرة على غيره عقلاً، فهو بديهي البطلان.

2 - وإنْ اُريد أنّه يوجبُ سلب القدرة شرعاً، فهو متين، إلّاأنّ القدرة الشرعيّة غير دخيلة في المقام، لا لما نُسب إلى بعض أعاظم العصر:(1)

تارةً : بأنّ القدرة الشرعيّة شرطٌ للتكليف لا للامتثال.

واُخرى : بأنّ أخذ القدرة في لسان دليل الحَجّ لعلّه لكونه إرشاداً إلى ما يحكم به العقل، لا من جهة دخلها في الملاك.

وثالثة: بأنّ الاستطاعة المأخوذة في دليل الحَجّ ، فسّرت في النصوص بأُمور ليس منها عدم المزاحمة مع واجب آخر.

فإنّه يرد الأوّل: أنّه لو سُلّم أخذها شرطاً للتكليف، لزم منه البطلان، فإنّه مع فقدها لا تكليف، فلا يكون صحيحاً.

ويرد الثاني: أنّ كونه إرشاداً إلى ما يُحكم به العقل خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من الدليل أنّ كلّ ما أُخذ فيه يكون له موضوعيّة، ولا يكون معرّفاً لشيءٍ آخر.

ويرد الثالث: أنّ النصوص المفسّرة منها ما دلّ على مانعيّة كلّ عذرٍ شرعي كما تقدّم، فمن جملة تلك القيود عدم المزاحمة مع واجبٍ آخر، كما تقدّم.

بل لأنّ أخذ القدرة إنّما هو بالنسبة إلى حَجّة الإسلام لا بالنسبة إلى الحَجّ5.

ص: 332


1- كتاب الحَجّ (للشاهرودي): ج 1/315.

الندبي، والحَجّ عن الغير، فإنّهما أُمر بهما ولو متسكّعاً.

وبالجملة: الاستطاعة شرطٌ لأداء حجّة الإسلام لا للحجّ الندبي والحَجّ عن الغير.

الوجه الثالث: أنّ دليل وجوب الحَجّ عن نفسه، يقتضي التوقيت، فالزمان مختصٌّ به لا يقبل لغيره، كالصوم في شهر رمضان، وصلاة الظهر في أوّل الوقت، وما شاكل.

وفيه: أنّه لا إشكال في الاختصاص الفعلي، بمعنى أنّه يكون مأموراً فعلاً بأن يوقع حَجّة الإسلام فيه، وأمّا الاختصاص بمعنى عدم صلاحيّة الوقت لوقوع غيره فيه، ولو بنحو الترتّب، أو الإتيان بداعي الملاك، فالدليل غير دالّ عليه.

وأمّا في المقيس عليهما، فإنّما يلتزم به من التزم من جهة ورود النّص الخاص به المفقود في المقام.

الوجه الرابع: ما عن الشيخ البهائي(1) رحمه الله، وهو أنّ الأمر بالحَجّ عن نفسه، وإنْ لم يقتض النهي عن ضدّه، لكنّه يمنع عن الأمر بضدّه، هو الحَجّ الندبي أو الحَجّ عن الغير، لامتناع الأمر بالضدّين، لعدم قدرة المكلّف على الجمع بينهما، وإذا امتنع الأمر به يقع فاسداً، إذ التقرّب إنّما يكون بالفعل بداعي الأمر، فمع عدم الأمر يمتنع التقرّب.

وأورد عليه إيرادان:

الإيراد الأوّل: ما في «العروة» من أنّه يكفي المحبوبيّة في حَدّ نفسه في الصحّة، كما في مسألة ترك الأهمّ والإتيان بغيره من الواجبين المتزاحمين(2).).

ص: 333


1- حكاه عنه السيّد الخوئي في كتابه الحَجّ : ج 1/347.
2- العروة الوثقى: ج 4/475، (ط. ج).

وفيه: أنّه مع سقوط الأمر لا كاشف عن المحبوبيّة والملاك، والتمسّك بالإطلاق لإثباتهما غير صحيح، بعد فرض عدم كون الدليل وارداً لبيانهما، وإنّما هو متضمّنٌ للأمر، وبالالتزام يدلّ عليهما، ومن المعلوم أنّ الدلالة الالتزاميّة تتبع الدلالة المطابقية وجوداً وحجيّةً .

الإيراد الثاني: أنّ الأمر بالشء يستلزم عدم الأمر بضدّه في عرضه، وهذا لا ينافي ثبوت الأمر به بنحو الترتّب، كما حُقّق في محلّه(1).

ودعوى : بعض أعاظم المحقّقين رحمه الله(2) من أنّ الترتّب إنّما هو في التكليف الذي لم يؤخذ في متعلّقه القدرة شرطاً شرعيّاً، وإلّا فلا مورد له، فإنّ التكليف بالأهمّ بنفسه لا بامتثاله يوجبُ سلب القدرة عن المأمور به، فلا يمكن الأمر به بوجه.

ممنوعة: لأنّ القدرة إنّما أُخذت شرطاً شرعيّاً في خصوص حجّة الإسلام لا في حَجّ التطوّع ولا في الحَجّ عن الغير، وإنْ كان حجّة الإسلام فإنّه يعتبر في حجّة الإسلام قدرة المنوب عنه لا قدرة النائب، فالتكليف بالمهمّ الذي يلتزم فيه بالترتّب غير مشروط بالقدرة شرعاً، والتكليف بالأهمّ وإنْ اشرطت فيه القدرة، إلّا أنّه لا يمنع عن الترتّب في التكليف الآخر.

فالمتحصّل: عدم تماميّة هذا الوجه أيضاً.

الوجه الخامس: مدلول قوله تعالى : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (3).7.

ص: 334


1- هذا الإيراد ذكره السيّد الخوئي على الشيخ البهائي في كتابه الحَجّ : ج 1/348.
2- الظاهر أنّ المراد به الميرزا النائيني، ويظهر ذلك في تعليقته على العروة الوثقى: ج 4/475، وحكاه عنه أيضاًتلميذه السيّد الخوئي في كتابه الحَجّ : ج 1/348.
3- سورة آل عمران: الآية 97.

بتقريب: أنّ اللّام فيها ظاهرة في المِلك، فتدلّ الآية على أنّ الحَجّ مملوكٌ للّه تعالى ، فلا يجوز التصرّف فيه بغير إذنٍ من اللّه تعالى ، فلو حَجّ عن غيره أو عن نفسه تطوّعاً كان ذلك تصرّفاً فيه بغير إذنه تعالى ، فيكون باطلاً.

ودعوى : أنّه على هذا لا دليل على وجوب الحَجّ ، فإنّ الآية دالّة على المِلْكيّة لا الوجوب.

باطلة: لأنّه يستفاد وجوبه من الأدلّة الاُخر.

وفيه: أنّه لو كان منفعته الخاصّة مملوكة، لم يجز التصرّف بغير الوجه الخاص، وأمّا لو كان المملوك عملٌ خاص في ذمّة الأجير، كما لو استأجره على إتيان عملٍ لزيد كخياطة ثوبه في يوم خاص، لم يحرّم التصرّف على غير ذلك الوجه بأن يخيط ثوب عمرو مثلاً في ذلك اليوم، والسرّ فيه أنّ ما في الذمّة من العمل الخاص، لا ينطبق على ما في الخارج قهراً، بل يتوقّف على القصد، وعليه فلا يكون حراماً.

أضف إلى ذلك منع ظهورها في الملكيّة الاعتباريّة، بل هي ظاهرة في الحقيقيّة، وقد دلّ الدليل على أنّ جميع الواجبات من قبيل الحقّ والدين.

الوجه السادس: الاستدلال بمدلول بعض الأخبار:

منها: صحيح سعد بن أبي خلف، عن أبي الحسن موسى عليه السلام:

«عن الرّجُل الصرورة يحجّ عن الميّت ؟ قال عليه السلام: نعم، إذا لم يجد الصرورة ما يحجّ به عن نفسه، فإن كان له ما يحجّ به عن نفسه، فليس يُجزي عنه حتّى يحَجّ من ماله، وهي تجزي عن الميّت إنْ كان للصرورة مال، وإنْ لم يكن له مال»(1).1.

ص: 335


1- الكافي: ج 4/305، ح 2، وسائل الشيعة: ج 11/172، ح 14551.

ومنها: صحيح سعيد الأعرج، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الصرورة أيحجّ عن الميّت ؟ فقال عليه السلام: نعم، إذا لم يجد الصرورة ما يحجّ به، فإنْ كان له مالٌ فليس له ذلك حتّى يحجّ من ماله، وهو يُجزي عن الميّت، كان له مالٌ أو لم يكن له مال»(1).

قال صاحب «العروة» في تعليقته على الخبرين: (وهما كما ترى بالدلالة على الصحّة أولى، فإنّ غاية ما يدلّان عليه أنّه لا يجوز له ترك حَجّ نفسه، وإتيانه عن غيره، وأمّا عدم الصحّة فلا، نعم يستفاد منهما عدم إجزائه عن نفسه) انتهى (2).

أقول: يقع الكلام أوّلاً في صحيح سعد، ثمّ في صحيح سعيد.

أمّا الأوّل: فقد استدلّ بفقرتين منه للبطلان:

الفقرة الأُولى: قوله عليه السلام في صدره: (نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحَجّ به عن نفسه)، فإنّه بمفهومه يدلّ على أنّه لو كان واجداً لما يحجّ به، لم يجز له الحَجّ نيابةً عن الميّت، فيكون حَجّه باطلاً للنهي عنه.

الفقرة الثانية: قوله عليه السلام: (فإنْكان له مايحَجّ به عن نفسه، فليس يُجزي عنه حتّى يحجّ من ماله)، فإنّ الظاهر منه - بواسطة كون السؤال عن الحَجّ عن الميّت - رجوع الضمير إلى الميّت، لا إلى الرّجُل النائب، وذكر الميّت ظاهراً بعد ذلك لا ينافي ذلك.

ودعوى : أنّ هيئة التركيب تقتضي أن تكون الضمائر في قوله: (عن نفسه)، في الموضعين، وقوله: (يُجزي عنه)، وقوله: (من ماله)، كلّها راجعة إلى مرجعٍ واحدٍ وهو الصرورة، والتفكيك بإرجاع بعضها إلى الصرورة، وبعضها إلى الميّت بعيدٌ عن السياق.).

ص: 336


1- الفقيه: ج 2/424، ح 2872، وسائل الشيعة: ج 11/172، ح 14553.
2- العروة الوثقى: ج 4/477، (ط. ج).

مردودة: بأنّ وحدة السياق في نفسها تصلح لذلك لولا قرينة اُخرى ، وهي في المقام موجودة، فإنّ الالتزام برجوع الضمير في قوله: (إلى الرّجُل) يقتضي الالتزام بأنّ الإمام عليه السلام في مقام الجواب، لم يجب أوّلاً عمّا سُئل عنه كما هو المتعارف، بل إنّما بيَّن حكماً آخر، ثم أجاب عن السؤال، وهذا بعيدٌ عن البلاغة، لا يليق بشأنه عليه السلام، وعليه فمرجع الضمير في قوله: (به هو الموصول ما)، وفي قوله: (عن نفسه) هو الرّجُل، وفي قوله: (يُجزي عنه) هو الميّت، فيدلّ على المطلوب.

أقول: ولكن قد يتوهّم التنافي على هذا بين هذه الجملة، وبين قوله عليه السلام في ذيل الخبر: (وهي تُجزي عن الميّت)، ولكن يندفع هذا التنافي بالالتزام بأحد أمرين:

الأمر الأوّل: البناء على رجوع الضمير في قوله: (عنه) إلى الرّجُل، لا إلى الميّت، فيدلّ قوله عليه السلام: (فليس يُجزي عنه) على عدم الاجزاء عن نفسه، فيتمّ ما أفاده سيّد «العروة» حينئذٍ من أنّ دلالته على الصحّة أولى ، فإنّه في مقام الجواب عن الإجزاء عن الميّت أجاب بعدم الإجزاء عن نفسه، وهذا يُشعر بالإجزاء عن الميّت، وأمّا قوله: (نعم إذا لم يجد الصَّرورة ما يَحجّ به عن نفسه) فيُحمل على إرادة الإرشاد إلى ما يُحكم به العقل، من لزوم الإتيان بالحجّ عن نفسه، فإنّه لعدم إمكان الجمع بينهما، وفوريّة وجوب الحَجّ عن نفسه، نهي حينئذٍ عن الحَجّ عن الغير.

الأمر الثاني: أن تكون هذه الجملة متفرّعة على الجملة الأُولى ، فمفادهما حينئذٍ أنّه إنْ كان للصرورة مالٌ فعليه أن يحجّ عن نفسه، ولا يُجزي عن الغير لو حَجّ عنه، حتّى يَحجّ من ماله، وبعد أن حَجّ عن نفسه، يُجزي حَجّه عن الميّت، سواءٌ أكان له مالٌ أم لم يكن، ولا ريب في أنّ الثاني أولى .

ص: 337

وأخيراً: قد ذكر في رفع التهافت وجوهٌ اُخر، واضحة المناقشة، مثل أنّ المقصود من الصرورة الواقعة في المنطوق، هو الميّت لا النائب، أو أنّ المقصود دفع توهم إجزاء حَجٍّ واحد عن نفسه وعن غيره، وأنّ ما أتى به عنه يقع كذلك، وعليه الإتيان بالحجّ عن نفسه إنْ كان له مال.

فالمتحصّل: أنّ هذه الرواية تدلّ على البطلان وعدم الإجزاء عن الميّت.

وأمّا الصحيح الثاني: فجملتان منه ظاهرتان في البطلان:

الاُولى: قوله عليه السلام: (نعم إذا لم يجد الصرورة ما يَحجّ به)، فإنّ مفهومه أنّه لا يحجّ عنه إنْ كان له ما يحِجّ به، وحمله على مجرّد التكليف دون الوضع، كما في بعض الكلمات:

إنْ اُريد به حمله على الحرمة المولويّة، فهي تستلزم الفساد، لأنّ النهي عن العبادة مستلزم له.

وإنْ اُريد حمله على الإرشاد إلى ما يحكم به العقل، من لزوم أن يحجّ به عن نفسه، فهو خلاف الظاهر جدّاً.

الجملة الثانية: قوله: (فإن كان له مالٌ فليس له ذلك)، فإنّه ظاهرٌ في أنّه لو كان مستطيعاً ليس له أن يحجّ عن غيره، وحمله على إرادة أنّه إنْ كان له من المال ما يوجب الحَجّ عليه، فليس له الاكتفاء بالحجّ عن نفسه بما أتى به من الحَجّ عن الميّت، بل عليه أن يأتي به عن نفسه على حِدة، خلاف الظاهر، فإنّ المشار إليه بقوله:

(ذلك) هو ما سُئل عنه كما هو واضح.

وأمّا قوله عليه السلام في ذيله: (وهو يُجزي عن الميّت، كان له مال أو لم يكن)، فيحمل

ص: 338

بقرينة الصدر على أنّ المراد منه أنّه بعدما حَجّ المستطيع عن نفسه، لو حَجّ عن الميّت، يجزي عنه، سواءٌ أكان له - أي للنائب أو للميّت - مالٌ أم لم يكن.

وعليه، فما عن «المدارك» من أنّه يدلّ على صحّة حَجّ الصرورة عن غيره مطلقاً(1)، غير تامّ .

كما أنّ ما أفاده بعض الأعاظم من أنّه لو رجع الضمير في قوله: (له)، إلى النائب، دلّ على الصحّة(2)، غير صحيح، فالحقّ أنّه يدلّ على البطلان أيضاً.

أقول: وأمّا خبر معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجلٍ صرورة ماتَ ولم يَحجّ حَجّة الإسلام، وله مال ؟ قال: يحجّ عنه صرورةً لا مال له»(3)، فلا يدلّ على البطلان لو حَجّ من له مالٌ عن غيره، إذ لا مفهوم له كما لا يخفى ، مع أنّه لو دلّ على ذلك كان دالّاً على لزوم استنابة الصرورة ولم يلتزم بذلك فقيه، والتفكيك بين القيد والمقيّد في الوجوب بعيدٌ.

وبه يظهر ما في الاستدلال بصحيح الحلبي(4) وغيره الواردة فيمن عجز عن الحَجّ وهو مستطيع، المتضمّنة للأمر باستنابة الصرورة الذي لا مال له.

ومورد الصحيحين هو الإستنابة عن الميّت، والتعدّي عنه إلى غيره يحتاج إلى دليل مفقود، فلو استنيب عن الحَيّ المعذور عن الحَجّ مباشرة، حكم بصحّته وإنْ كان عاصياً بتأخير الحَجّ عن نفسه، لما عرفت من أنّ إلغاء الخصوصيّة، واستفادة8.

ص: 339


1- مدارك الأحكام: ج 7/88.
2- الظاهر أنّ المراد منه السيّد الخوئي في مستند العروة الوثقى ، كتاب الحَجّ : ج 1/350.
3- الكافي: ج 4/306، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/172، ح 14552.
4- الكافي: ج 4/273، ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/63، 14248.

الكبرى الكليّة من النصوص الواردة في الموارد الخاصّة تحتاج إلى دليل، والاستدلال له بخبر علي بن أبي حمزة المتضمّن للأمر بأنّ يحجّ عنه صرورة لا مال له(1)، قد عرفت آنفاً فساده.

هذا كلّه مع تمكّنه من أن يحجّ عن نفسه، وإلّا فظاهر «الجواهر» وغيرها المفروغيّة عن صحّة الحَجّ ، وعن الفاضل النراقي رحمه الله أنّه خالف بعضهم، ولا وجه له(2)، ولكن عن ابن إدريس بطلان النيابة، وإنْ لم يتمكّن إذا كان قد استقرّ في ذمّته(3)، ونُسب ذلك إلى إطلاق الأكثر(4).

أقول: الحقّ هو الأوّل، لأنّ ما ذكر من أدلّة عدم الصحّة حتّى الأخبار تختصّ بصورة التمكّن، أمّا اختصاص غيرالأخبار فواضح، وأمّاهي فلأنّ المورد يدخل تحت إطلاق قوله عليه السلام: (إذا لم يجد الصرورة ما يحجّ به عن نفسه) المذكور فيها، فراجع(5).

نعم، لو تمّ دلالة الآية الكريمة على البطلان، لزم منه البطلان في المورد كما لا يخفى .

***

إذا كان الحَجّ عن الغير صحيحاً فالظاهر صحّة الإجارة عليه

فرع: ولو قلنا بصحّة الحَجّ عن الغير هل الإجارة عليه أيضاً صحيحة أم لا؟ فيه قولان:

ص: 340


1- الكافي: ج 4/273، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/65، ح 14253.
2- مستند الشيعة: ج 11/117.
3- السرائر: ج 1/626، وعبارته: (فأمّا من استقرّت حجّة الإسلام في ذمّته، بأن فرّط فيها، فلا يجوز أن يحجّ عن غيره...).
4- نسبة ابن إدريس ذلك إلى إطلاق الأكثر، كما يظهر ذلك من السرائر: ج 1/627، في قوله: (هكذا رواية أصحابنا وفتياهم).
5- صفحة 336 من هذا المجلّد.

مقتضى العمومات الدالّة على صحّة الإجارة على كلّ عملٍ يعود نفعه إلى المستأجر، صحّة الإجارة في المقام.

وأمّا البطلان فقد استدلّ له بوجوهٍ :

الوجه الأوّل: ما ذكره صاحب «العروة»(1) من عدم قدرته شرعاً على العمل المستأجر عليه، لأنّ المفروض وجوبه عن نفسه فوراً.

وعن المحقّق النائيني رحمه الله توضيح ذلك: بأنّه يعتبر في صحّة المعاملة - مضافاًإلى كون كلّ من المتعاملين مالكاً لما يبذله أو بحكمه، وإيجادها بسببٍ خاص وآلة مخصوصة - أن لا يكون محجوراً عن التصرّف فيه من جهة تعلّق حقّ الغير به، أو غير ذلك من أسباب الحجر، ليكون له السلطنة الفعليّة على التصرّف فيه، وإيجاب الحَجّ عن نفسه فوراً، يوجب سقوط مِلْك التصرّف، وسلب الاختيار ودفع السلطنة، فلا محالة تفسد الإجارة(2).

وفيه: أنّ توقّف صحّة المعاملة على السلطنة الوضعيّة المستتبعة لكون مورد المعاملة مِلكاً مطلقاً، ولم يتعلّق به حقّ الغير، وكون المتعاملين بالغين عاقلين مختارين غير محجورين بأحد أسباب الحجر من الواضحات.

وأمّا كون إيجاب الحَجّ عن نفسه موجباً لسلب هذه السلطنة، فهو أوّل الكلام.

نعم، الإيجاب يوجبُ رفع السلطنة التكليفيّة المنتزعة من جواز الفعل والترك، ونفوذ المعاملة غير متوقّف عليه.

الوجه الثاني: أنّ الأمر بالحَجّ عن نفسه يقتضي النهي عن النيابة، فتفسد).

ص: 341


1- العروة الوثقى: ج 4/478، (ط. ج).
2- ذكره الميرزا النائيني في تعليقته على العروة الوثقى: ج 4/480، (ط. ج).

الإجارة عليها، لأنّ اللّه إذا حَرّم شيئاً حَرّم ثمنه، وإنْ كانت الحرمة تبعيّة.

وفيه أوّلاً: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه.

وثانياً: أنّ النبويّ المشهور: (إنّ اللّه إذا حَرّم شيئاً حَرّم ثمنه)، لا أصل له في اُصول العامّة والخاصّة، بل الموجود في كتب العامّة: (إنّ اللّه إذا حَرّم على قومٍ أكل شيءٍ حَرّم عليهم ثمنه)(1)، فهو لم يثبت كونه رواية، فضلاً عن ضعف سنده، وعدم انجباره بشيء لا يُعتمد عليه، مع أنّ عمومه على هذا لم يعمل به أحدٌ، فإنّ كثيراً من الاُمور التي يحرم أكلها يجوز بيعها، بل الظاهر أنّه لو كان الموجود في كتب الحديث هو ما اشتهر في ألسنة الأصحاب، لما كان يعتمد عليه، لضعف السند وعدم الانجبار بالشهرة، إذ وإنْ كانت فتاويهم على وفق مضمونه حينئذٍ إلّاأنّه لم يثبت استنادهم إليه في الفتوى، بل الظاهر أنّهم استندوا في إفتائهم بذلك إلى اعتبارهم الماليّة في العوضين المتوقّفة على كون الشيء ذا منفعة محلّلة، وإنّما يذكرون النبويّ للتأييد.

الوجه الثالث: أنّه لو قلنا بصحّة الإجارة، لا يسقط وجوب الحَجّ عن نفسه فوراً، فيلزم اجتماع أمرين متنافيين فعلاً، فلا يمكن أن تكون الإجارة صحيحة.

وفيه: إنّ المورد حينئذٍ من قبيل الواجبين المتزاحمين، فيتعلّق الأمر بالأهمّ ، وعلى فرض عصيانه بالمهمّ لو كان هناك أهمّ ومهمّ ، وإلّا فيتعلّق التكليف بنحو التخيّير بأحدهما وبالآخر بنحو الترتّب، وبالجملة يدخل المورد في الواجبين المتزاحمين، ويجري حكمهما.

الوجه الرابع: ما نُسب إلى الشيخ الكبير كاشف الغطاء رحمه الله، وهو أنّ إيجاب الحَجّ7.

ص: 342


1- مسند أحمد: ج 1/247.

عن نفسه يوجب صيرورته مملوكاً للّه تعالى ومستحقّاً له، وحيث أنّ الإنسان لا يملك منافعه المتضادّة في آنٍ واحد، فلا يكون مالكاً للحجّ عن الغير، وإذا لم يكن مالكاً له، لا يصحّ أن يؤجّر نفسه عليه، وهذا يقتضي صيرورة الإجارة باطلة.

وفيه: أنّ المراد بملكيّته للّه تعالى إنْ كان هي الملكيّة الاعتباريّة، فالإيجاب لا يقتضي ذلك، فإنّه ليس إلّاإبراز شوق المولى بالفعل، وإنْ كان ثبوت سلطنة تكوينيّة، وسلب سلطنة العبد تكويناً فهو خلاف الواقع والوجدان، وإنْ كان بمعنى السلطنة التشريعيّة، فهي ثابتة قبل الإيجاب، فإنّ جميع أفعال العباد تحت سلطان المولى تشريعاً، من غير فرقٍ بين ما إذا أوجبها أو لم يوجبها، فإنّ السلطنة التشريعيّة عبارة اُخرى عن أنّ زمام هذا العمل بيد الشارع، وله جعل أيّ حكم أراد، وهذا المعنى موجود قبل الإيجاب، فالإيجاب لا يوجبُ سلطنة مانعة عن التمليك، نعم هو يسلب سلطنة المكلّف تشريعاً عن هذا العمل، وهو لا ينافي التمليك.

فالمتحصّل: أنّه إنْ قلنا ببطلان الحَجّ عن الغير، لا يجوز الإجارة عليه، وهي باطلة، وهو واضح، وإنْ قلنا بصحّته كانت الإجارة عليه أيضاً صحيحة، فالتفكيك بين صحّة الحَجّ والإجارة في غير محلّه.

ولو قلنا ببطلان الإجارة في فرض التمكّن من أن يحجّ عن نفسه، وصحّتها مع عدم التمكّن - كما هو الحقّ - لو لم يكن متمكّناً من الحَجّ عن نفسه فآجر نفسه، للحجّ عن الغير، ثم تمكّن من الحَجّ عن نفسه، فهل تبطل إجارته أم لا؟ وجهان:

اختارصاحب «العروة»(1) وصاحب «الدروس»(2) الثاني، وهوعدم بطلان الإجارة.0.

ص: 343


1- العروة الوثقى: ج 4/481، (ط. ج).
2- الدروس: ج 1/320.

أقول: والحقّ أنّه إنْ كان التمكّن بمال الإجارة لا تبطل، فإنّ بطلانها يوجب عدم التمكّن، وهو مستلزمٌ لصحّة الإجارة، وهذا محالٌ ، فإنّ الشيء لا يمكن أن يكون علّة لعدمه، وإنْ كان التمكّن بمال آخر بطلت الإجارة، فإنّ التمكّن في ظرف العمل يكشف عن عدم القدرة من الأوّل، فيكشف عن بطلان الإجارة.

وفي الصورة المفروضة - أي تمكّنه من أن يحجّ عن نفسه - لو حَجّ تطوّعاً:

فإنْ كان عالماً بوجوب الحَجّ عليه، وأنّه لا يكون مأموراً بالحجّ تطوّعاً في هذا العام، من جهة أنّ حجّة الإسلام ليس لها حقيقة مغايرة للحَجّ الندبي، كي يلتزم بكون الندبي أيضاً مأموراً به بنحو الترتّب، بل الحَجّ حقيقة واحدة، والمكلّف لا يتمكّن من أن يَحجّ مرّتين، والفرد الواحد مأمورٌ به بالأمر الوجوبي، فلا أمر ندبي في هذه السنة، فلا إشكال في البطلان، لعدم تحقّق قصد الأمر.

وإنْ كان جاهلاً بذلك، فالظاهر صحّته، سواءٌ أكان قاصداً امتثال الأمر الواقعي المتوجّه إليه، لكنّه أخطأ في التطبيق، وتخيّل أنّه الأمر الندبي، أو كان قاصداً الأمر الندبي بنحو التقيّيد، لأنّه قد عرفت أنّ الميزان في صحّة العبادة، الإتيان بالمأمور بجميع قيوده مضافاً إلى المولى ، والمفروض أنّه أتى بالحَجّ بجميع ما يعتبر فيه، وأمّا عدم قصده حَجّة الإسلام لا يضرّ بعد عدم كونها حقيقة مغايرة للحجّ الندبي، بل الفرق بينهما إنّما هو في أنّه قد يكون مستطيعاً، فالحجّ حجّة الإسلام، وقد لا يكون كذلك، فيعدّ الحَجّ الصادر منه حَجّاً ندبيّاً مضافاً إلى المولى ومتقرّباً به إليه.

وعليه، فالأظهر الصحّة في الصورتين.

ص: 344

فما عن مبسوط الشيخ رحمه الله من أنّه لو قصد الحَجّ الندبي، يقع عن حجّة الإسلام(1). إنْ أراد صورة العلم بوجوب الحَجّ عليه، فهو لا يمكن توجيهه بوجه، وإنْ أراد صورة الجهل أو الغفلة فهو متينٌ لا يرد عليه شيءٌ ممّا أورد عليه.

فرع: لو كان الحَجّ الواجب عليه نذريّاً، وكان وجوبه فوريّاً، فهل حكمه حكم حَجّة الإسلام أم لا؟ قولان:

أظهرهما الثاني، لإختصاص النَّص بحَجّة الإسلام، والتعدّي لا دليل عليه، وعرفت أنّ مقتضى القاعدة صحّة الحَجّ عن الغير حتّى مع وجوب الحَجّ عليه فوراً، وإنّما التزمنا بعدم الصحّة في حَجّة الإسلام للنص الخاص.

***2.

ص: 345


1- المبسوط: ج 1/302.

ولا يشترط في المرأة وجود محرمٍ .

استطاعة المرأة لا تتوقّف على وجود المَحرم

المسألة الثالثة عشر: (ولا يُشترط في) وجوب الحَجّ على (المرأة) واستطاعتها (وجود محرم)، بلا خلافٍ يُعرف كما في «الذخيرة»(1)، بل بالإجماع كما عن «المنتهى »(2) وغيره(3)، كذا في «المستند»(4). وفي «الجواهر»: (بلا خلافٍ أجده بيننا) انتهى (5).

وفي «التذكرة»: (وليس المَحرم شرطاً في وجوب الحَجّ عليها مع الاستغناء عنه عند علمائنا) انتهى (6).

ويشهد به: جملة من النصوص:

منها: صحيح هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في المرأة تريد الحَجّ ، ليس معها محرم، هل يصلح لها الحَجّ؟ قال عليه السلام: نعم، إذا كانت مأمونة»(7).

ومنها: صحيح صفوان الجمّال، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: قد عرفتني بعملي،

ص: 346


1- ذخيرة المعاد: ج 3/564.
2- منتهى المطلب: ج 2/658، (ط. ق).
3- الغنية: ص 193.
4- مستند الشيعة: ج 11/88.
5- جواهر الكلام: ج 17/330.
6- تذكرة الفقهاء: ج 7/82، (ط. ج).
7- الكافي: ج 4/282، ح 4، وسائل الشيعة: ج 11/153، ح 14504.

تأتيني المرأة أعرّفها بأسلامها وحُبّها إيّاكم وولايتها لكم، ليس لها محرم ؟ فقال عليه السلام:

إذا جاءت المرأة المسلمة فاحملها، فإنّ المؤمن مَحرم المؤمنة، ثمّ تلا هذه الآية:

(وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (1)) »(2).

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «عن المرأة تحجّ إلى مكّة بغير ولي ؟ فقال عليه السلام: لا بأس تخرج مع قوم ثقات»(3).

ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «عن المرأة تحجّ بغير ولي ؟ قال عليه السلام: لا بأس وإنْ كان لها زوجٌ أو أخ أو ابن أخ فأبوا أن يحجّوا بها، وليس لهم سعة، فلا ينبغي لها أن تقعد، ولا ينبغي لهم أن يمنعوها»(4).

ونحوها خبر أبي بصير(5)، ومرسل «المقنعة»(6)، وخبر الحسين بن عُلوان (7) ، ومقتضى هذه الأخبار وجوب الحَجّ على المرأة المستطيعة، إذا كانت مأمونة على نفسها.

ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين كونها ذات بعلٍ أو لا، بل صرّح عليه السلام في صحيح معاوية بعدم اشتراطه وإنْ كان لها زوج.

أمّا لو لم تكن مأمونة وجب عليها أن تستصحب معها من تكون مأمونة، لكونه مقدّمة الواجب، هذا إذا أمكن، وأمّا مع العجز عن ذلك فهل يجب عليها التزويج تحصيلاً للمحرم أم لا؟9.

ص: 347


1- سورة التوبة: الآية 71.
2- الفقيه: ج 2/439، ح 2912، وسائل الشيعة: ج 11/153، ح 14503.
3- الكافي: ج 4/282، ح 5، وسائل الشيعة: ج 11/153، ح 14505.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/401، ح 42، وسائل الشيعة: ج 11/154، ح 14506.
5- وسائل الشيعة: ج 11/154، ح 14507.
6- وسائل الشيعة: ج 11/155، ح 14510 و 14509.
7- وسائل الشيعة: ج 11/155، ح 14510 و 14509.

وجهان مبنيّان على أنّ ما في النصوص من تعليق الحَجّ على أن تكون مأمونة، هل يكون من جهة كون وجوب الحَجّ معلّقاً على ذلك، فيكون اعتبار الأمن لدخله في الاستطاعة نظير الزاد والراحلة ؟

أم يكون من جهة كون الامتثال معلّقاً عليه، لأهميّة حفظ العِرض والنفس ؟

إذ على الأوّل لا يجب، فإنّه لا يجب تحصيل الاستطاعة، وعلى الثاني يجب، لكونه من قبيل مقدّمة الواجب، نظير من له ثمن الزاد والراحلة ويتمكّن من تهيئتهما للسفر، ولعلّ ذلك منشأ إشكال صاحب «الجواهر» في الحكم(1).

أقول: لكن الظاهر من النصوص هو الثاني، فإنّ السؤال إنّما هو عن الامتثال لا الوجوب، فلاحظ النصوص، فالأظهر لزوم التزويج.

نعم إذا كان ذلك مهانة لها، ويشقّ عليها ذلك، فالظاهر سقوط وجوب الحَجّ ، لقاعدة نفي العُسر والحَرَج.

ومع عدم الأمن وعدم التمكّن من استصحاب من تكون مأمونة، مع مصاحبته ولو بالتزويج، فلو حَجّت فإن كان عدم الأمن قبل الميقات أجزأ عن حَجّة الإسلام، وإنْ كان متحقّقاً بعده، فالظاهر عدم إجزائه، إذ مع فرض أهميّة حفظ الفرج والعِرض لا محالة يكون التكليف بالحَجّ ساقطاً، ولا يمكن الالتزام فيه بالترتّب، لما تقدّم من عدم جريانه فيما يكون مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، وفي هذه الصورة هل يجب عليها الإستنابة أم لا؟

وجهان، أظهرهما ذلك، لما تقدّم من وجوب الإستنابة على الموسر من حيث المال غير المتمكّن من المباشرة.1.

ص: 348


1- جواهر الكلام: ج 17/331.

هذا إذا لم تكن عالمة بحصول الأمن في السنوات اللّاحقة، وإلّا فلا يجب عليها الإستنابة، وقد تقدّم وجه ذلك، وتفصيل الكلام فيه في المسألة السادسة.

اختلاف الزوج والزوجة في وجود الأمن وعدمه

فرع: وإذا كانت المرأة ذات بعل، وادّعى زوجها عدم الأمن عليها، وأنكرت هي، فهل يقدّم قولها مع عدم شاهد الحال أو البيّنة، كما عن «الدروس»(1)، و «المدارك»(2)، و «الجواهر»(3)، و «الحدائق»(4)، أم لا؟

أقول: إنّ اختلافهما على أقسام:

تارةً : يكون في أنّ الزوج يَخاف عليها، وهي تعتقد أنّ الطريق مأمون.

واُخرى : يكون في أنّ الزوج يدّعي أنّها خائفة على نفسها وهي تنكر ذلك.

وعلى الثاني:

فقد لا يستلزم الدعوى إثبات حقّ لأحدهما على الآخر.

وقد يستلزم ذلك، كما لو رجع النزاع إلى بقاء حقّ الاستمتاع وعدمه، أو إلى بقاء حقّ النفقة وعدمه، بأن تدّعي الزوجة ثبوته ولو في حال سفرها لوجود الأمان، ويدّعي الزوج سقوطه لعدم وجوده.

أمّا الصورة الأُولى : فلا إشكال في أنّه لا يُسمع دعوى الزوج، لعدم كون خوفه موضوع الأثر، فإنّ الموضوع هو خوفها لا خوفه، فمع كونها آمنة على نفسها، يجب

ص: 349


1- الدروس: ج 1/315.
2- مدارك الأحكام: ج 7/91.
3- جواهر الكلام: ج 17/331.
4- الحدائق الناضرة: ج 14/146.

عليها السفر، وإنْ كان زوجها خائفاً عليها، نعم مع خوفه عليها يحقّ له منعها من الخروج بإيجاد المانع من سفرها، وإجبارها على ترك السفر من جهة أنّ حفظ النفس والعِرض من الواجبات المهمة، وقد حكم بوجوب حفظهما على كلّ حال.

وأمّا الصورة الثانية: فلا مجرى لأحكام المدّعي والمنكر والتداعي فيها، لأنّه يعتبر فيها كون مصب الدعوى أو لازمها حقّاً من الحقوق، وعليه فيجب على كلّ منهما العمل بما هو وظيفته كما في الصورة الأُولى .

وأمّا الصورة الثالثة: فإن قلنا بأنّ الضابط لتشخيص المدّعي والمنكر هو أنّ الأوّل من يخالف قوله الأصل، والثاني من يوافقه، فلابدَّ من التفصيل في المقام بين ما إذا كانت الحالة السابقة ثبوت الأمان، أو ثبوت عدم الأمان، أو عدم العلم به.

فإنّه على الأوّل تكون المرأة مُنكِرة والزوج مدّعياً، وعلى الثاني بالعكس، وعلى الثالث يدخل في باب التداعي.

وإنْ قلنا بغير ذلك ممّا ذكر في مقام الضابط، فيختلف مع ما ذكر.

***

ص: 350

ولا إذن الزوج.

عدم اعتبار إذن الزوج في الحَجّ

المسألة الرابعة عشر: (ولا) يشترط (إذن الزوج) للزوجة في الحَجّ ، إذا كانت مستطيعة، بلا خلافٍ يوجد كما في «المستند»(1).

ويشهد به: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن امرأةٍ لها زوج وهي صرورة، ولا يأذن لها في الحَجّ؟ قال عليه السلام: تحجّ وإنْ لم يأذن لها»(2).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عنه عليه السلام: «عن المرأة لم تحجّ ، ولها زوج، وأبى أن يأذن لها في الحَجّ ، فغاب زوجها فهل لها أن تحجّ؟ قال عليه السلام: لا إطاعة له عليها في حَجّة الإسلام»(3).

ومنها: صحيح معاوية بن وهب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن امرأة لها زوج فأبى أن يأذن لها في الحَجّ ، ولم تحجّ حَجّة الإسلام، فغاب عنها زوجها، وقد نهاها أن تحجّ؟ فقال عليه السلام: لا طاعة له عليها في حَجّة الإسلام ولا كرامة، لتحجّ إنْ شاءَت»(4).

ونحوها غيرها.

وهل يختصّ ذلك بحجّة الإسلام، أم يعمّ كلّحجٍّواجب بالنَّذروغيره ؟ وجهان:

ص: 351


1- مستند الشيعة: ج 11/91.
2- الكافي: ج 4/282، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/156، ح 14514.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/400، ح 37، وسائل الشيعة: ج 11/155، ح 14511.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/474، ح 317، وسائل الشيعة: ج 11/156، ح 14513.

ويشترط في المندوب.

أقواهما الثاني، وذلك ليس لأجل إلغاء خصوصيّة المورد في النصوص المشار إليها، لعدم الدليل عليه، ولا للإجماع، لعدم كونه تعبّديّاً، بل للمرسل المشهور: (لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق)(1)، المنجبر ضعفه بالاستناد إليه في الموارد المتعدّدة.

ولكن هذا فيما إذا انعقد النذر جامعاً للشرائط، وهو واضح.

ولو كان الواجب موسّعاً، فالظاهر أنّ له المنع قبل تضيّقه، لأنّ ما دلّ على عدم اعتبار إذن الزوج، إنّما يدلّ على عدم اعتباره في أصل الواجب لا في الخصوصيّات، فإنّ المرجع فيها إلى عموم ما دلَّ على اعتبار إذن الزوج وأنّ له المنع، وهو مقدّمٌ على أصالة عدم سلطنته عليها في ذلك التي استدلّ بها الشهيد رحمه الله، لأنّه ليس له المنع في الموسّع إلى محلّ التضيّق.

أقول: كلّ هذا في الحَجّ الواجب، (و) أمّا في غيره فإنّه (يشترط) إذن الزوج (في) الحَجّ (المندوب) كما هو المشهور.

وفي «المنتهى »: (ولا نعلم فيه خلافاً) انتهى (2).

وفي «المستند»: (بلا خلافٍ يُعرف، كما في «الذخيرة»، ولا نعلم فيه خلافاً كما عن «المنتهى »، بل الإجماع كما في «المدارك»، بل لعلّه إجماعٌ مُحقّق) انتهى (3).

واستدلّ له المصنّف رحمه الله (4) . وغيره: بأنّ حقّ الزوج واجبٌ ، فليس لها تفويته بما ليس بواجب.).

ص: 352


1- الفقيه: ج 2/618، ح 3214، وسائل الشيعة: ج 11/157، ح 14517.
2- منتهى المطلب: ج 2/659، (ط. ق).
3- مستند الشيعة: ج 11/91 و 92.
4- منتهى المطلب: ج 2/659، (ط. ق).

وأورد عليه صاحب «المدارك» رحمه الله:(1) بأنّه إنّما يقتضي المنع من الحَجّ إذا استلزم تفويت حقّ الزوج، والمدّعى أعمّ من ذلك.

ولكن يرد على السيّد رحمه الله: أنّه من حقوق الزوج على الزوجة أن لا تخرج من بيتها إلّابإذنه، لاحظ صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «في حقوق الزوج على الزوجة: ولا تخرج من بيتها إلّابإذنه»(2)، ونحوه غيره، فخروجها بغير إذنه يستلزم تفويت حقّه مطلقاً.

وأيضاً: قد يستدلّ له بموثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام، قال:

«سألته عن المرأة الموسرة قد حَجّت حَجّة الإسلام، تقول لزوجها: أحجّني مرّة اُخرى ، ألهُ أن يمنعها؟ قال عليه السلام: نعم، ويقول لها: حقّي عليك أعظم من حقّك عَليَّ في هذا»(3).

وقد جعله المصنّف رحمه الله في «المنتهى »(4)، والفاضل النراقي في «المستند»(5)مؤيّداً، نظراً إلى أنّه لا يدلّ على اعتبار الإذن، بل يدلّ على أنّ له منعها من ذلك.

وفي «الجواهر»: (بل يؤمى إليه أيضاً حقّ الإسكان الذي تعيينه إلى الزوج)(6)، وكذا عن «كشف اللّثام»(7)، ولكن ذلك متفرّعٌ على مطالبة الزوجة بنفقة الإسكان، وأمّا إذا أسقطت حقّها من ذلك، فلا يتمّ هذا الوجه، فالعمدة ما عرفت.).

ص: 353


1- مدارك الأحكام: ج 7/91.
2- الكافي: ج 5/506، ح 1، وسائل الشيعة: ج 20/157، ح 25300.
3- الكافي: ج 5/516، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/156، ح 14512.
4- منتهى المطلب: ج 2/659، (ط. ق).
5- مستند الشيعة: ج 11/92.
6- جواهر الكلام: ج 17/333.
7- كشف اللّثام: ج 5/13، (ط. ج).

وإنْ كانت الزوجة مطلّقة:

1 - فإنْ كانت رجعيّة، فهي كالزوجة ما دامت في العِدّة بلا خلافٍ ، بل الظاهر تسالم الأصحاب على ذلك، ووجهه واضح، فإن الرجعية بحكم الزوجة، بل هي زوجة ما دامت في العده، فيجري التفصيل السابق.

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك - جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح منصور بن حازم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن المطلّقة تحجّ في عِدّتها؟ قال عليه السلام: إنْ كانت صرورة حَجّت في عِدّتها، وإنْ كانت حَجّت فلا تحجّ حتّى تقضي عِدّتها»(1). ونحوه غيره.

ومقتضى إطلاقها عدم جواز الحَجّ المندوب حتّى مع إذنه، ولكن يقيّد إطلاقها بموثّق معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «المطلّقة تحجّ في عِدّتها إنْ طابت نفس زوجها»(2).

وبه يقيّد أيضاً إطلاق ما دلّ على أنّ المطلقة تَحجّ في عِدّتها.

2 - وإنْ كانت بائنة، فلا خلاف بينهم في أنّه لا يعتبر إذن الزوج، وعلّلوه بانقطاع عصمتها منه، ومالكيّتها لنفسها، ولكن إطلاق النصوص المتقدّمة يشملها.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ النسبة بينها وبين ما دلّ على أنّ البائنة تملك نفسها ولا سبيل له عليها - كصحيح سعد بن أبي خلف(3) - عمومٌ من وجه، فيقدّم ذلك للاشهرية، وتختصّ نصوص المقام بالرجعيّة، أو يُقال إنّها بمناسبة الحكم والموضوع مختصّة بالرجعيّة.2.

ص: 354


1- تهذيب الأحكام: ج 5/402، ح 45، وسائل الشيعة: ج 11/158، ح 14519.
2- الكافي: ج 6/91، ح 12، وسائل الشيعة: ج 22/219، ح 28431.
3- الكافي: ج 6/90، ح 5، وسائل الشيعة: ج 22/216، ح 28422.

3 - وأمّا المعتدّة للوفاة، فيجوز لها الحَجّ ، واجباً كان أو مندوباً بلا خلافٍ ، ويشهد له - مضافاً إلى الأصل - جملة من النصوص:

منها: موثّق زرارة، عن إمامنا الصادق عليه السلام: «عن المرأة التي يتوفّى عنها زوجها أتحجّ؟ فقال عليه السلام: نعم»(1). ونحوه غيره.

***0.

ص: 355


1- تهذيب الأحكام: ج 5/402، ح 47، وسائل الشيعة: ج 22/244، ح 28500.

الفصل الثالث: الحَجّ الواجب بالنذر والعهد واليمين

يدور البحث في هذا الفصل عن الحَجّ الواجب بالعارض، وله أنواعٌ ثلاثة:

1 - الحَجّ الواجب بالنذر وأخويه.

2 - الحَجّ الواجب بالنيابة.

3 - الحَجّ الواجب بالإفساد.

وحيثُ إنّ الأخير يُذكر في طيّ مسائل الحَجّ وموارد فساده، فيكتفى في المقام بذكر الأولين، فهاهنا مطلبان:

المطلب الأوّل: في الحجّ الواجب بالنذر وأخويه.

والمصنّف رحمه الله مع أنّه أشار إليه في أوّل هذا الباب، لكنّه لم يتعرّض لمسائله، وكيف كان، فتنقيح القول فيه يتحقّق في طيّ مسائل:

المسألة الاُولى: قال في «المنتهى »: (النذر والعهد واليمين أسبابٌ في وجوب الحَجّ إذا تعلّقت به بلا خلافٍ - إلى أنْ قال - ولا خلاف بين المسلمين في ذلك...) انتهى (1).

وقال صاحب «المستند»: (لا شكّ في انعقاد نذر الحَجّ وعهده ويمينه، وانعقد عليه الإجماع، ودلّت عليه النصوص بالعموم والخصوص) انتهى (2)، ونحوهما كلمات غيرهما.

ص: 356


1- منتهى المطلب: ج 2/874 و 875، (ط. ق).
2- مستند الشيعة: ج 11/93.

أقول: وتفصيل القول في ذلك، وبيان حقيقة النذر والعهد واليمين، وأنّ النذر والعهد من الإيقاعات، وأنّ اليمين من قبيل الوعد، وأنّه هل هو من نوع الخبر أم لا، ووجوب الوفاء بكلّ واحدٍ منها، موضّحٌ في أبوابها.

***

اعتبار البلوغ في انعقادها

المسألة الثانية: يشترط في انعقادها شروط:

الشرط الأوّل: كمال العقل، فلا تنعقد من الصبي وإنْ بلغ عشراً، ولا من المجنون بلا خلافٍ فيه كما في «المدارك»(1)، وكذلك في «الجواهر» هنا(2). وعن نذرها دعوى الإجماع بقسميه عليه، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: حديث رفع القلم الذي رواه الصدوق في «الخصال» عن ابن الظبيان، عن أمير المؤمنين عليه السلام في سقوط الرجم عن الصبي: «أمّا علمت أنّ القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتّى يحتلم، وعن المجنون حتّى يفيق، وعن النائم حتّى يستيقظ»(3).

ورواه الحميري في «قرب الإسناد» عن عليّ عليه السلام.

وأُورد عليه بأُمور:

1 - ما عن الشيخ الأعظم رحمه الله، من أنّ الظاهر منه قلم المؤاخذة لا قلم جعل الأحكام(4).

ص: 357


1- مدارك الأحكام: ج 7/93.
2- جواهر الكلام: ج 17/336.
3- وسائل الشيعة: ج 1/45، ح 81، الخصال: ج 1/93.
4- كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: ج 3/278.

وفيه أوّلاً: أنّه لا شاهد لهذا الحمل، بل الظاهر منه قلم جعل الأحكام، ولا أقلّ من الإطلاق.

وثانياً: أنّ المراد لو كان رفع فعليّة المؤاخذة مع ثبوت الاستحقاق، ليكون مقتضاه العفو، كان ذلك ممّا يقطع بخلافه.

وإنْ كان المراد رفع الاستحقاق، فهو لا يصحّ إلّامع رفع الحكم الذي هو منشأ هذا الحكم العقلي.

2 - ما عن الشيخ الأعظم رحمه الله وتبعه غيره، من أنّ المشهور على الألسنة أنّ الأحكام الوضعيّة ليست مختصّة بالبالغين، فلا مانع من كون عقده سبباً فعليّاً للوجوب التعليقي، أي وجوب الوفاء بعد البلوغ، ويكون هذا الوجوب منشأ انتزاع الوضع، لعدم اختصاص منشأه بالوجوب الفعلي المنجّز(1).

وفيه: أنّ ما هو المشهور بينهم إنّما هو ثبوت الوضع في حقّه في الجملة، في قبال عدم ثبوت التكليف اللّزومي بقول مطلق، لا ثبوت الأحكام الوضعيّة في حقّه مطلقاً، كيف وقد اشتهر بينهم بطلان عقد الصبي، وعلى أيّ حال إطلاق الحديث يدفع ذلك.

3 - أنّه لو كان المراد بالقلم، قلم التكليف، كان المراد خصوص قلم التكليف الإلزامي، وذلك بقرينه الرفع، فإنّ ما يناسب مادّة الرفع إنّما هو رفع ما في حمله كُلفة وثقلٌ ومشقّة، وبقرينة كلمة المجاوزة الظاهرة في رفع منشأ الثقل، فلا يشمل الأحكام الوضعيّة، فإطلاق أدلّة سببيّة الأسباب الشامل لغير البالغ محكّمٌ .

وفيه: أنّ الرفع يصحّ إسناده إلى كلّ ما يصحّ إسناد الوضع إليه، لأنّهما8.

ص: 358


1- كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: ج 3/278.

متقابلان، فلا وجه للاختصاص ببعض الأحكام، وكلمة المجاوزة لا تصلح قرينة لما ذكر، فإنّها تعيّن الموضوع خاصّة، فالأظهر شمول الحديث لجميع الأحكام، ومنها سببيّة النذر والعهد واليمين لثبوت الحَجّ في ذمّته.

بل أفاد المحقّق النائيني رحمه الله أنّه يدلّ على كون الصبي والمجنون مسلوبي العبارة، فإنّ الظاهر من قوله عليه السلام: (رفع القلم عنهما) ما هو المتعارف بين النّاس، والدائر على ألسنتهم، من أنّ فلاناً قد رفع القلم عنه، وأنّه لا حَرَج عليه، وأعماله كالعدم لا يُحاسَب عليها(1).

الوجه الثاني: النصوص المتضمّنة أنّ عمد الصبي خطأ:

منها: صحيح محمّدبن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عمدالصبي و خطأه واحد»(2).

ومنها: خبر إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول:

عمد الصبيان خطأ يُحمل على العاقلة»(3). ونحوهما غيرهما.

بتقريب: أنّها تدلّ على أنّ الأحكام المترتّبة على الأفعال مع القصد والعمد، لا تترتّب على أفعال الصبي، وأنّ أعماله عن قصد كالأعمال الصادرة عن غيره بلا قصد، فنذره وعهده ويمينه كالنذر والعهد واليمين الصادرة من الهازل والنائم.

وفيه: أنّ صريح الأخبار أنّ الفعل الصادر عن عمدٍ منه، حكمه حكم الفعل الخطئي، لا أنّ قصد الصبي كلّا قصد، هذا فضلاً عن أنّها مختصّة بباب الجنايات، لأنّه في ذلك الباب يتصوّر العمد والخطأ حيث أنّ الاُمور فيه لها واقع محفوظ،0.

ص: 359


1- منية الطالب: ج 1/359، تقرير بحث النائيني للخوانساري.
2- تهذيب الأحكام: ج 10/233، ح 53، وسائل الشيعة: ج 29/400، ح 35859.
3- تهذيب الأحكام: ج 10/233، ح 54، وسائل الشيعة: ج 29/400، ح 35860.

وهي قد تترتّب على أسبابها عمداً، وقد تترتّب عليها خطأ.

وأمّا الاُمور المتوقّف تحقّقها على القصد، كباب العقود والإيقاعات، حيث أنّها لا تتحقّق بدون القصد، فلا يتصوّر فيها الخطأ.

ولأنّ تنزيل شيءٍ منزلة آخر، إنّما يصحّ إذا كان للمنزّل عليه أثرٌ ليكون التنزيل بلحاظه كما في القتل، فلا تشمل هذه النصوص المقام.

الوجه الثالث: ما في «الجواهر»، من دعوى سقوط عبارتهما(1).

وفيه: أنّه لم يدلّ دليل على ذلك.

وبالجملة: ثبت ممّا ذكرنا أنّ العمدة هو حديث الرفع، وبه يظهر أنّها لا تصحّ من الساهي والغافل والمكرَه، لحديث رفع التسعة(2)، مع أنّ الساهي والغافل لا قصد لهما، وبانتفائه تخرج عن موضوع الأدلّة.

***

انعقاد النذر وأخويه من الكافر

الشرط الثاني: وهو الإسلام، وقال الشيخ في «الخلاف»(3)، وابن إدريس(4)بأنّه لا يصحّ النذر وأخويه من الكافر.

وعن المشهور موافقتهما في خصوص النذر، بل عن «الجواهر»: (لا أجد خلافاً في عدم صحّته بين أساطين الأصحاب، كما اعترف به في «الرياض»، وحكي عن سيّد «المدارك» التأمّل فيه، وكذا عن «الكفاية»، وحُكي عن «الرياض» أنّه

ص: 360


1- جواهر الكلام: ج 17/336.
2- وسائل الشيعة: ج 15/369، ح 20769.
3- الخلاف: ج 6/116-117 مسألة 9 قوله: (لا تنعقد يمين الكافر باللّه.. الخ).
4- السرائر: ج 3/48.

لا يخلو من قوّة إنْ لم يكن الإجماع على خلافه كما هو الظاهر، إذ لم أرَ مخالفاً سواهما، يعني سيّد «المدارك» وصاب «الكفاية» من الأصحاب) انتهى (1).

واستدلّ للمشهور: بأنّه يعتبر في النذر قصد القربة، ولا يتحقّق ذلك من الكافر، فلا يصحّ نذره، بخلاف أخويه، فإنّه لا يعتبر فيهما قصد القربة، فالدليل مركّب من أمرين:

1 - اعتبار قصد القربة في النذر.

2 - وعدم تحقّقه من الكافر.

وتفصيل القول فيهما موكولٌ إلى كتاب النذر(2)، وإنّما نشير إليهما هنا إجمالاً.

الأمر الأوّل: في اعتبار قصد القُربة في النذر وعدمه.

وملخّص القول فيه: إنّه قد استدلّ لاعتبار قصد القربة فيه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ صيغة النذر تقتضي ذلك، وهي قول الناذر: (للّه عَليَّ كذا)، فإنّ مفاده الالتزام بالفعل أو الترك للّه تعالى ، وليست القربة المعتبرة في العبادة إلّاذلك.

وفيه: أنّه فرقٌ بين كون فعلٍ للّه تعالى بمعنى قصد امتثال الأمر به والتقرّب به إليه تعالى ، وبين كونه له بحيث يصير تعالى مالكاً لذلك الفعل بالمعنى المناسب له، والذي يدلّ عليه صيغة النذر هو الثاني، وقصد القربة الموجب لكون العمل عبادة هو الأوّل، وبينهما بونٌ بعيد.

ولنِعْمَ ما أفاد صاحب «الجواهر» رحمه الله في ذلك المبحث، حيث قال:

(ولا يخفى عليك أنّ كون الفعل للّه تعالى ، بمعنى امتثالاً لأمره، مبائنٌ لكونه له، بمعنى أنّه يعتبر في التزام النذر كون الصيغة الالتزام له لا بغيره، ولا مدخليّة له في1.

ص: 361


1- جواهر الكلام: ج 35/357.
2- فقه الصادق: ج 35/211.

نيّة القربة كما هو واضح، وحينئذٍ فالمعتبر في النذر كونه للّه بالمعنى الذي ذكرناه لا غيره، وهذا يجامع نذر المباح وغيره، فإنّ فرض إرادتهم من نيّة القربة المعنى المزبور، كما هو ظاهر سيّد «المدارك»....

إلى أنْ قال: فمرحباً بالوفاق، إلّاأنّه لا وجه للقول بعدم صحّته من الكافر لتعذر نيّة القربة منه..) انتهى (1).

الوجه الثاني: الإجماع، فإنّ صاحب «الجواهر» رحمه الله في مبحث النذر عند شرح قول المحقّق -: (يشترط مع الصيغة نيّة القربة، فلو قصد منع نفسه بالنذر لا للّه لم ينعقد) ادّعى الإجماع بقسميه على الحكم المذكور(2)، كما ادّعاه غيره(3).

وفيه: - مضافاً إلى عدم كونه إجماعاً تعبّديّاً - أنّ القوم اختلفوا في المراد منها، فعن «المسالك» استظهار أنّ المراد جعل شيءٍ للّه تعالى في مقابل جعل شيءٍ لغيره، أو جعل شيء من دون ذكر أنّه له تعالى أو لغيره، وجعله أصحّ (4).

أمّا صاحب «الجواهر» فقد جعل المراد منها رجحان المنذور، وكونه عبادة في مقابل نذر المباح(5).

واحتمل بعضهم أن يكون المراد ما يقابل النذر شُكراً على المعصية، أو زجراً عن الطاعة، وقد مرّ عبارة «الجواهر».

وبالجملة: فلا إجماع على اعتبار نيّة القربة فيه، بل ولا شهرة عليه.

الوجه الثالث: جملةٌ من النصوص:0.

ص: 362


1- جواهر الكلام: ج 35/372 و 369.
2- جواهر الكلام: ج 35/372 و 369.
3- تتمّة الحدائق الناضرة للشيخ حسين آل عصفور: ج 2/245.
4- مسالك الأفهام: ج 11/316.
5- جواهر الكلام: ج 35/369 و 370.

منها: صحيح منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا قال الرّجُل: (عَليَّ المشي إلى بيت اللّه، وهو مُحرِمٌ بحجّة، على هدي كذا وكذا)، فليس بشيءٍ حتّى يقول:

(للّه عَليَّ المشي إلى بيته)، أو يقول: (للّه عَليَّ هَدْي كذا وكذا إنْ لم أفعل كذا وكذا)»(1).

ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام في حديثٍ : «كلّ يمين لا يُراد بها وجه اللّه عزّ وجلّ فليس بشيءٍ في طلاقٍ أو عتق»(2).

ومنها: موثّق إسحاق، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي جعلتُ على نفسي شكرا للّه تعالى ركعتين اُصلّيهما في السفر والحضر، أفاُصلّيهما في السفر بالنهار؟ فقال عليه السلام: نعم»(3). ونحوها غيرها.

وفيه: إنّ جملة منها - كموثّق إسحاق - تدلّ على انعقاد النذر إذا كان متعلّقه الطاعة، وجملةٌ منها - كصحيح الحلبي - تدلّ على اعتبار أن يكون النذر له تعالى لا لغيره بالمعنى الذي ذكرناه في الوجه الأوّل، ونقلناه عن «الجواهر»، فإذاً لا دليل على اعتبار نيّة القربة في النذر، بل يمكن أن يستدلّ لعدم اعتبارها بدليلين:

الدليل الأوّل: الأصل، فإنّه يشكّ في اعتبارها وعدمه، والأصل يقتضي عدمه.

الدليل الثاني: إطلاق أدلّة النذر، بناءً على ما هو الحقّ من إمكان أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر.

وتمام الكلام في المبنى موكولٌ إلى محلّه في الاُصول(4).

أقول: وقد يستدلّ له بما دلّ على كراهة النذر، كموثّق إسحاق المتقدّم، قال:1.

ص: 363


1- الكافي: ج 7/454، ح 1، وسائل الشيعة: ج 23/293، ح 29590.
2- الكافي، ج 7، 441، ح 12 / وسائل الشيعة: ج 23، ص 230، ح 29447.
3- الكافي: ج 7/455، ح 5، وسائل الشيعة: ج 23/303، ح 29613.
4- زبدة الاصول: ج 1/411 إلى 421.

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي جعلتُ على نفسي شكراً للّه تعالى ركعتين، إلى أنْ قال: إنّي لأكره الإيجاب أن يوجب الرّجُل على نفسه، الحديث» ونحوه غيره.

وتقريب الاستدلال: أنّ نيّة القربة متوقّفة على الأمر والمحبوبيّة، وحيثُ أنّ الأحكام متضادّة، لا يمكن اجتماع فردين منها في موردٍ واحد، فما دلّ على كراهة النذر يدلّ على عدم الأمر به وعدم محبوبيّته، فلا يمكن التقرّب به وقصد القربة بالنذر. ولا بأس به.

فالمتحصّل: أنّه لا يعتبر فيه قصد القربة، وأولى منه في ذلك العهد واليمين، فإنّه لايجري فيهما أكثر ما استدلّ به في النذر، كما لا يخفى .

الأمر الثاني: في تحقّق القصد من الكافر وعدمه.

أقول: مرَّ في مبحث تكليف الكافر بالحجّ ، منع عدم تمشّي قصد القربة منه، سيّما الكافر القائل بثبوت الصانع لهذا العالم، نعم من لا يعتقد وجوده حتّى بالنحو الذي يعتقده عابد الصنم - فإنّه يعبد الصنم ليقرّبه إلى اللّه تعالى كالمادّي - فإنّ مثله لا يتمشّى منه قصد القربة.

وقد يقال: بعدم صحّة نذر الكافر الحَجّ ، لعدم تمكّنه منه، فإنّه من العبادات، ولا يتمكّن الكافر من إتيانها، وهذا الوجه يجري في العهد واليمين أيضاً.

ولكن يرد عليه: أنّه متمكّنٌ من أتيان الحَجّ ، بأن يُسْلٖم ويأتي به، فهو مقدور لمقدوريّة مقدّمته، فيجب عليه حال كفره كسائر الواجبات.

***

ص: 364

لو أسلم الكافر بعد النذر

فرع: لو نَذَر الكافر الحَجَّ ثمّ أسلم:

فتارةً : يَسلم مع بقاء وقت النَّذر.

واُخرى : يَسلم بعد مضيّه ومخالفته ووجوب الكفّارة عليه.

فإنْ أسلم مع بقاء الوقت، فالظاهر سقوط وجوب الحَجّ عنه، لحديث الجُبّ (1).

فإنْ قيل: إنّه لا ريب في عدم شمول الحديث للواجبات الموسّعة، لو أسلم في أثناء الوقت، كما لو أسلم ووقت صلاة الظهر باقٍ ، فإنّه لا كلام في وجوبها عليه بعد الإسلام، والنذر غير المقيّد بوقتٍ ماضٍ من هذا القبيل.

قلنا: إنّه في الواجبات الموسّعة، إنّما نلتزم بوجوبها عليه بعد الإسلام، من جهة أنّ شيئاً آخر غير ما هو موجود بعد الإسلام، لا يكون دخيلاً في الوجوب، وحديث الجُبّ لا يشمل بعد الإسلام.

وأمّا الحَجّ النذري فسبب وجوبه، هو النذر المتحقّق في حال الكفر، فحديث الجُبّ يشمله، وهو نظير قضاء الصلاة الذي يكون سبب وجوبه ترك الصلاة في الوقت، ونظير صلاة الآيات التي حدثت الآية في حال الكفر، وما شاكل.

ودعوى: انصراف الحديث عن المقام، غير مسموعة، كما هو واضح.

وإنْ أسلم بعد مُضيّ الوقت، فلا أشكال في سقوط وجوب الحَجّ ، لأنّ خصوصيّة الوقتيّة دخيلة في متعلّق النذر، فلو مضى ذلك الوقت، حُكم بسقوط وجوبه، ولو قلنا بوجوب القضاء لو مضى وقت النذر، ولم يأتِ بالحجّ ، فيسقط عنه بالإسلام لحديث الجُبّ .

ص: 365


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 7/448، ح 8625-2، عوالي اللآلي: ج 2/54، ح 145.

وأمّا الكفّارة: فسقوطها بالحديث وعدمه، مبنيّان:

1 - على أنّ حديث الجُبّ مطلق، أم أنّه مختصٌّ بالأحكام التي في رفعها منّة على الكافر نفسه ؟

أم أنّه مختصٌّ بالحكم الذي في رفعه منّةٌ على الاُمّة ؟

فعلى الأولين يشملها الحديث، وعلى الأخير لا يشملها، لأنّه يلزم منه خلاف الامتنان في حقّ الغير، وقد مرّ الكلام فيه في مبحث الزكاة(1)، وعرفت أنّ الأظهر هو الأوّل، فراجع. وعليه فلو أسلم يسقط عنه الكفّارة.

الشرط الثالث: الحريّة، فلا يصحّ نذر العبد إلّابإذن مولاه.

وحيثُ إنّ بناءنا في مؤلّفاتنا على إلغاء المباحث المتعلّقة بالعبيد والإماء، فالصفح عن التعرّض لهذا الشرط وما يتفرّع عليه أولى .

وأمّا الكلام عن نذر الزوجة بدون إذن الزوج، ونذر الولد بدون إذن الوالد، فموكولٌ إلى محلّه من كتاب النذر(2)، وإنّما نتعرّض لاُمور مربوطة بنذر الزوجة للحَجّ ، المختصّة بكتاب الحَجّ ، وهي خمسة:

نذر الزوجة الحَجّ بدون إذن الزوج

الأمر الأوّل: قد يقال بأنّه يعتبر إذن الزوج في نذر الزوجة الحَجّ الندبي، وإنْ لم نلتزم باعتبار إذنه في نذرها في غير المقام، نظراً إلى ما دلّ من النّص على اشتراط إذن الزوج وموافقته في الحَجّ التطوّعي.

وفيه: أنّه فرقٌ بين الإذن في الحَجّ ، وبين الإذن في النذر، والذي دلّ عليه النّص هو الأوّل، وما يكون مورد البحث هو الثاني، وإثباته بما دلّ على الأوّل ممنوعٌ .

ص: 366


1- فقه الصادق: ج 10/104.
2- فقه الصادق: ج 35/215.

الأمر الثاني: ربما يُقال إنّه يعتبر في متعلّق النذر الرجحان، وعليه فلو نذرت الحَجّ الندبي دون إذن الزوج، بما أنّه مستلزم لتفويت حقّ الزوج من الاستمتاع وغيره، بل عرفت أنّ نفس خروجها إلى السفر بدون إذنه تفويت لحقّه، وهو عدم الخروج من بيتها بدون إذنه، فلا محالة يكون مبغوضاً، فلا محبوبيّة فيه، ممّا يستلزم عدم انعقاد النذر.

وفيه: أنّه يرتفع هذا المحذور بالإذن في الحَجّ ، وإنْ لم يأذن في النذر.

الأمر الثالث: مقتضى إطلاق صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«ليس للمرأة مع زوجها أمرٌ في عتقٍ ولا صدقةٍ ولا تدبيرٍ ولا هبَةٍ ولا نذر في مالها إلّابإذن زوجها، إلّافي حَجٍّ أو زكاةٍ أو بِرّ والديها أو صِلَة رحِمها»(1) عدم توقّف نذرها للحَجّ على إذن الزوج.

توضيحه: الظاهر أنّ قوله: (إلّا في حَجٍّ ... إلى آخره)، استثناءٌ من الجملة الأخيرة، وهي: (لا نذر في مالها إلّابإذن زوجها)، إذ مضافاً إلى أنّه في الجُمل المتعقّبة بالاستثناء لولا القرينة يكون مرجع الاستثناء الجملة الأخيرة، كما حُقّق في محلّه، أنّه يلزم من إرجاعه في الحديث إلى ما قبلها من الجُمل، الالتزام بكون الاستثناء منقطعاً، وعليه فيدلّ الحديث على أنّه لا يعتبر إذن الزوج في نذر الحَجّ ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين الحَجّ الواجب والندبي، كما أنّ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين الزكاة الواجبة وغيرها، واشتمال الحديث على ما لا نقول به لا يقدح في العمل به، ولم أرَ مَن تنبّه لذلك، وهذا يقتضي التأمّل أزيد من ذلك، واللّه العالم.

هذا فضلاً عن أنّه لا ينبغي إنكار دلالة صدر الحديث على أنّ نذر الزوجة4.

ص: 367


1- الكافي: ج 5/514، ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/214، ح 24454.

يتوقّف على إذن زوجها.

الأمر الرابع: هل يختصّ الحكم أعمّ من ما اشتمل عليه المستثنى والمستثنى منه بالزوجة الدائمة، أم يعمّ المنقطعة فقط؟ وجهان:

أفاد سيّد «الرياض» أنّه ينبغي القطع بالاختصاص(1)، وذكر في وجهه أمران:

الأوّل: قوّة احتمال كون صدقها عليها على سبيل المجاز دون الحقيقة.

الثاني: عدم تبادرها منها عند الإطلاق.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ الزوجيّة الدائمية متّحدة مع الانقطاعيّة، والانقطاعيّة إنّما جاءت من قبل الشرط في ضمن العقد، كما اختاره صاحب «الجواهر» قدس سره(2)، مع أنّه لو سَلّمنا دخولها في مفهوم الزوجيّة الانقطاعيّة، وكونها من قبيل الفصول المميّزة بينها وبين الدائميّة، كما اختاره الشيخ الأعظم قدس سره(3)، فإنّه لا وجه لدعوى عدم صدق الزوجيّة عليها حقيقة، وأنّ إطلاقها عليها مجاز.

ويرد على الثاني: منع الانصراف والتبادر، وعليه فالأظهر عدم الاختصاص.

لو نذرت الحَجّ ثمّ تزوّجت

الأمر الخامس: إذا نذرت المرأة الحَجّ عندما كانت خليّة، ثمّ تزوّجت، فهل يجب عليها العمل به وإنْ كان منافياً للاستمتاع بها، وليس للزوج منعها، أم لا يجب العمل به إلّابإذن الزوج ؟ وجهان:

قد يقال: بأنّه للزوج حَلّ النذر، نظراً إلى عموم ما دلّ على اعتبار إذن الزوج في انعقاد نذر الزوجة، فبمجرّد أن أصبحت ذات زوج يُحكم بعدم انعقاد النذر من الأوّل، لكونه فاقداً لشرط الصحّة وهو الإذن.

ص: 368


1- رياض المسائل: ج 11/464، (ط. ج).
2- حكاه عنه في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/309.
3- حكاه عنه في مستمسك العروة الوثقى: ج 10/309.

ولكن يندفع ذلك: بأنّ الظاهر من النّص اعتبار إذن الزوج حال النذر، ولا يشمل الزوج الحاصل بعده، فلا دليل على اعتبار إذنه، والأصل عدمه.

وربما يقال: إنّ النذر واجدٌ لجميع ما يعتبر في نفوذه حتّى رجحان المتعلّق، فإنّه راجحٌ حين النذر، فيكون نافذاً، ويجب الوفاء به، وليس للزوج منعها من ذلك، إذ لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق.

ولكن يرد عليه: أنّ المعتبر هو رجحان المتعلّق حين العمل بالنذر، وعليه فحيث إنّ نذر الحَجّ مطلقاً يكون متعلّقه منافياً لحقّ الزوج، فلا يكون المتعلّق حين العمل راجحاً، فينحلّ نذرها.

لا يقال: إنّ متعلّق النذر حين العمل راجحٌ في نفسه، وإنّما يكون ملازماً لأمرٍ مرجوح، وهو فوت حقّ الزوج، والمعتبر رجحان العمل في نفسه.

فإنّه يقال: إنّ الحَجّ مصداقٌ للمفوّت، فينطبق العنوان المرجوح عليه، فيصبح بنفسه مرجوحاً.

فإنْ قيل: إنّه يصير نذراً لغير المشروع، إذا تقدّمت الزوجيّة، وإلّا فيسقط حقّ الزوج بسبق النذر، فلا يكون العمل مرجوحاً.

قلنا: إنّ منافاته لحقّ الزوج ثابتة على كلّ تقدير، وإنّما يجبُ العمل بالنذر إن سقط حقّ الزوج، وسقوطه متوقّف على وجوب العمل بالنذر، فيلزم الدور، وتمام الكلام في كتاب النذر.

فتحصّل: أنّ الأظهر على القول باعتبار إذن الزوج في نذر الحَجّ ، عدم الفرق بين الزوج حين النذر والزوج المتحقّق بعده.

***

ص: 369

لو نذر الحَجّ من مكانٍ معيّن

المسألة الثالثة: إذا نذر الحَجّ من مكانٍ معيّن، فحَجّ من مكانٍ سواه، لم تبرأ ذمّته، وما أتى به لغواً كالعدم لعدم مطابقته للمنذور بالنسبة إلى الأمر النذري.

ولو نذر أن يحجّ من غير تقيّيد بمكانٍ ، ثمّ نذر نذراً آخر عيّن فيه الحَجّ المنذور من مكانٍ معيّن، أو نذر أن يحجّ حَجّة الإسلام من بلدٍ معيّن فخالف، وحَجّ من غير ذلك المكان، فهل تبرأ ذمّته من المنذور الأوّل، ويجزيه عن حَجّة الإسلام أم لا؟

وعلى فرض سقوط الأمر الأوّل، فهل يجب عليه الكفّارة لمخالفته النذر الثاني أم لا؟ فالكلام في موردين.

المورد الأوّل: قد يُقال إنّ الظاهر من النذر الثاني، أخذ الحَجّ الواجب قيداً فيه، فإنّه ينذر أن يَحجّ حَجّة الإسلام أو النذري من مكان كذا، ومرجع ذلك إلى القول بأنّه لا يَحجّ إلّامن ذلك المكان، فيجب المحافظة على قيد المنذور، وهو يقتضي عدم إتيان الحَجّ الواجب من غير ذلك المكان والمنع عنه، ممّا يوجب تفويت الموضوع، فيكون حراماً، فلا يمكن التعبّد به، فيبقى الحَجّ الأوّل بذمّته، ولا يجزي ما أتى به عنه.

أقول: إنّ الحَجّ من مكان معيّن:

تارةً : يكون نذراً للحجّ من ذلك المكان، بأن يكون متعلّق النذر هو الحَجّ المقيّد بذلك المكان.

واُخرى : يكون نذراً للقيد خاصّة.

ففي الفرض الأوّل: يصحّ النذر، ويجب الوفاء به، وإنْ لم يكن ذلك المكان ذا مزيّة، فإنّ المعتبر في النذر رجحان المنذور نفسه، لا بجميع قيوده وحدوده، فيتعيّن

ص: 370

الحَجّ الواجب في الحَجّ في ذلك المكان، وذلك لا يوجب شرطيّة ذلك بالنسبة إلى الحَجّ الإسلامي، أو الواجب بالنذر الأوّل التي هي حكمٌ وضعيّ .

نعم، إنْ قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، لزم من الأمر بالحجّ من ذلك المكان، النهي عن الحَجّ عن غيره، فيفسد لذلك، كما أنّه لو لم نقل بالترتّب لقلنا بفساده لعدم الأمر، ولكن بما أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، والترتّب معقول، كما حُقّق في محلّه(1)، فالحجّ من غير ذلك المكان يكون مأموراً به بنحو الترتّب، فلو أتى به يكون مُجزياً عن أمره فيسقط الأمر الثاني أيضاً، لانتفاء موضوعه.

وأمّا الفرض الثاني: فإنْ لم يكن ذلك المكان ذا مزيّة، لم ينعقد نذره لاعتبار الرجحان في متعلّقه، وإنْ كان كذلك انعقد، وجرى فيه ما ذكرناه في الفرض السابق.

وأمّا المورد الثاني: فقد يقال إنّه إنْ أخذ الحَجّ الواجب بالأصل أو بالنذر شرطاً للنذر، فمع سقوطه بالأداء لا مجال للكفّارة، إذ لا حنثَ حينئذٍ.

وفيه: أنّه إنْ أُخذ شرطاً، والمفروض حصول الشرط، فكيف لا يتحقّق الحنث، نعم لو أُخذ شرطاً فترك الحَجّ رأساً لا حنثَ بالنسبة إلى النذر الثاني، لعدم تحقّق الشرط.

***).

ص: 371


1- راجع زبدة الاُصول، بحث: (اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ العام) حيث جاء فيه: (فالمتحصّل أنّ الأمربالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه مطلقاً).

عدم وجوب المبادرة إلى الحَجّ المنذور

المسألة الرابعة: إذا نذر أن يحجّ ولم يقيّده بزمانٍ معيّن، ولم يكن هناك انصراف، فالمعروف جواز تأخيره، وعدم وجوب المبادرة إليه إلى أنْ يتضيق الوقت بظنّ الوفاة.

وعن «المسالك»: نفي الخلاف فيه(1).

وعن «المدارك»: نسبته إلى قطع الأصحاب(2).

ونُسب إلى «تذكرة» المصنّف رحمه الله احتمال الفوريّة(3)، ولكنّه رحمه الله يصرّح في كتاب الحَجّ بعدم الفوريّة(4)، وكذا في «المنتهى »(5).

وفي «الجواهر»: (وقد يقال باستحقاق العقاب بالترك تمام عمره مع التمكّن منه في بعضه، وإنْ جاز له التأخير إلى وقتٍ آخر يظنّ التمكّن منه، فإنّ جواز ذلك - بمعنى عدم العقاب عليه لو اتّفق حصول التمكّن له في الوقت الثاني - لا ينافي استحقاق عقابه، لو لم يصادف بالترك في أوّل أزمنة التمكّن) انتهى (6).

أقول: والأظهر هو الأوّل، إذ الأمر لا يدلّ إلّاعلى مطلوبيّة الفعل، وكونه طرف شوق المولى من غير دلالة له على الفور أو التراخي.

واستدلّ لوجوب المبادرة إليه بوجوه:

ص: 372


1- مسالك الأفهام: ج 11/392 و 393.
2- مدارك الأحكام: ج 7/96.
3- قال رحمه الله في التذكرة: (إذا نذر الحَجّ مطلقاً لم يتعيّن الفور، بل يجوز التأخير إلى أن يغلب على الظنّ الوفاة لو لم يفعله) التذكرة: ج 7/106، (ط. ج). وقال في موضعٍ آخر منها ص 108: (لعدم الفوريّة فيه على الأقوى ).
4- قال رحمه الله في التذكرة: (إذا نذر الحَجّ مطلقاً لم يتعيّن الفور، بل يجوز التأخير إلى أن يغلب على الظنّ الوفاة لو لم يفعله) التذكرة: ج 7/106، (ط. ج). وقال في موضعٍ آخر منها ص 108: (لعدم الفوريّة فيه على الأقوى ).
5- منتهى المطلب: ص 875 (ط. ق)، قوله: (فإنّ نذره مطلقاً كان له الإتيان به متى شاء ويستحبّ له فعله في أوّل أوقات الإمكان).
6- جواهر الكلام: ج 17/340.

الوجه الأوّل: انصراف المطلق إليها، كما قيل في الأوامر المطلقة.

وفيه: منع الانصراف أوّلاً، وعلى فرض تسليمه فهو بدويٌ يزول بالتأمّل.

الوجه الثاني: أنّه إنْ لم نقل بها لم يتحقّق الوجوب، إمّا لجواز الترك ما دام حَيّاً، أو لضعف ظن الحياة هنا، لأنّه إذا لم يأتِ به في عام لا يمكنه الإتيان به إلّافي عام آخر.

وفيه أوّلاً: النقض بالواجب الموسّع، فإنّه يجري فيه جميع ما ذكر.

وثانياً: أنّه إذا حصل له الظنّ بالوفاة، يجب المبادرة إليه، ومع عدمه إنّما يجوز التأخير ظاهراً، وهذا لا ينافي الوجوب الواقعي.

الوجه الثالث: إطلاق بعض الأخبار الناهية عن تسويف الحَجّ .

وفيه: أنّ جملة من تلك النصوص مصرّحة بتسويف حَجّة الإسلام، وجملة منها واردة في تفسير آية الحَجّ (1)، وجملة منها متضمّنة لحكم تسويف من له مالٌ أو أنّه موسر، واختصاص هذه النصوص بحَجّة الإسلام واضح، وبعضها غير وارد في مقام البيان من هذه الجهة، فلا إطلاق لها، والمتيقّن منها حَجّة الإسلام، وبعضها ضعيف السند، وإنْ بقي شيءٌ فهو منصرفٌ إلى حجّة الإسلام.

الوجه الرابع: ما ذكره بعض الأعاظم من المعاصرين، قال: (إنّ النذر إذا كان مستوجباً حقّاً للّه تعالى ، كان تأخير الحقّ بغير إذن ذي الحقّ حراماً) انتهى (2).

وفيه أوّلاً: أنّ استيجابه لحقّ مماثلٍ للحقّ الثابت لنا ممنوعٌ .

وثانياً: أنّ الحقّ الثابت إنْ كان موسّعاً جاز تأخيره، وإنّما لا يجوز على فرض تضيّقه.9.

ص: 373


1- سورة آل عمران: الآية 97.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/319.

وبالجملة: فالأظهر أنّه لا تجب المبادرة إليه، ويجوزُ تأخيره إلى زمان ظنّ الوفاة.

وأمّا القول الثالث: فلا وجه له بعد جواز التأخير، سوى أنّ العقاب تابع للواقع لا للإقدام على المخالفة، وهو بيِّن الفساد.

وجوب قضاء الحَجّ المنذور

فرع: هل يجب قضائه عنه لو مات أم لا؟

المقطوع به في كلام الأصحاب الأوّل، كما في «الحدائق» حيث قال: (بلا خلافٍ أجده فيه)(1)، بل هو مقطوعٌ به في كلام الأصحاب كما اعترف به في «المدارك»(2)، كما في «الجواهر»(3)، وظاهر سيّد «المدارك» الثاني(4).

ومثله فتوىً ودليلاً ما لو نذر الحَجّ وقيّده بسنةٍ معيّنة، فإنّه لو أخّر عمداً وعصى بذلك، وجب عليه القضاء عند الأصحاب، وخالفهم السيّد رحمه الله(5).

نعم، يثبت فيه الكفّارة زائداً على ما يثبت بترك الحَجّ في الصورة الأُولى ، لمخالفته النذر.

وكيف كان، فقد استدلّ على وجوب القضاء في الصورتين بوجوهٍ ، ولا يبعد اختصاص بعضها بإحدى الصورتين:

الوجه الأوّل: الإجماع، وقد مرّ ما في الاستدلال به غير مرّة.

ص: 374


1- الحدائق الناضرة: ج 14/203.
2- مدارك الأحكام: ج 7/96.
3- جواهر الكلام: ج 17/340.
4- مدارك الأحكام، نفس المصدر السابق، ويظهر ذلك من قوله: (واستدلّوا عليه بأنّه واجبٌ ماليّ ثابت في الذمّة فيجب قضاؤه... إلى أن قال: وهو استدلالٌ ضعيف).
5- مدارك الأحكام: ج 7/96.

الوجه الثاني: الأخبار الدالّة على وجوب القضاء لو نذر أن يحجّ رجلاً من ماله.

تقريب الاستدلال: على ما في «الحدائق» فقد ادّعى رحمه الله: (ظهورها في أنّ المراد من أن يحجّ به، هو أن يمضي ذلك الرّجُل حتّى يوصله المناسك ويأتي بجميع أفعال الحَجّ ، وهو قائمٌ بمؤونته، لا أن يُعطيه مالاً يحجّ به، لأنّ المتبادر من مادّة الأفعال هو المباشرة لا السببيّة، فهي تدلّ على وجوب قضاء حجّة النذر في الجملة، وحيث إنّها تدلّ على أنّ نذر الحَجّ يجب قضاؤه بعد الموت، فيبطل قول من يدّعي أنّ النذر يقتضي وجوب الأداء، والقضاء يحتاج إلى أمرٍ جديد، وكون متعلّق النذر حجّه بنفسه، أو أن يحجّ غيره، لا مدخل له في تغيّر الحكم، فإنّ الموجب للقضاء هو النذر وتمكّنه من الفعل وتفريطه حتّى مات)(1).

وفيه أوّلاً: أنّ الأصحاب لم يعملوا بتلك الأخبار في موردها، فإنّها متضمّنة لإخراجه من الثُّلث، ولم يفتِ أحدٌ بذلك، بل التزموا بخروجه من الأصل.

وثانياً: أن الإحجاج بالغير بأيّ معنى كان، يكون تسبيبيّاً لا مباشريّاً، وإيصال الرّجُل المناسك وإتيانه بجميع الأفعال لا يجعله مباشريّاً، والظاهر من الإحجاج بالغير، هو بذل المال له ليحجّ بنفسه، وعليه فنذر الإحجاج نذرُ دينٍ مالي فتشمله الأخبار الدالّة على وجوب أداء الدين، وهذا بخلاف نذر الحَجّ الذي هو عبارة عن أعمال مخصوصة، وليس بذل المال داخلاً فيه، فالفرق بينهما واضح، فلايصحّ التعدّي.

وثالثاً: أنّه لو سُلّم عدم الفرق بينهما من هذه الجهة، دعوى أنّ المستفاد من النصوص كون الموجب للقضاء هو النذر، من غير فرقٍ بين كون متعلّقه الحَجّ بنفسه أو أن يحجّ غيره، غير مسموعة، إلّاممّن هو محيطٌ بملاكات الأحكام، أو مع5.

ص: 375


1- الحدائق الناضرة: ج 14/205.

وجود قرينة عليه، وإلّا فظاهر النّص الاختصاص بالمورد الثاني، والتعدّي يحتاج إلى دليل مفقود.

الوجه الثالث: ما في «الحدائق» أيضاً، وحاصله: أنّ نذر الحَجّ مطلقاً غير مقيّدٍ بوقتٍ خاص، يقتضي استقرار الحَجّ في ذمّته، ما دام لم يأتِ به وإنْ مات، وليس في الأخبار ما يدلّ على اختصاص الخطاب حال الحياة، ليكون القضاء بعد الموت بحاجة إلى أمرٍ جديد، وإنّما إطلاق الاستقرار واشتغال الذمّة اقتضى بقاء ذلك إلى أنْ تحصل البراءة بالإتيان بالفعل.

نعم، تجب المباشرة ما دام حَيّاً، ولكن النذر اقتضى شيئين: المباشرة، واستقراره في الذمّة، وبالموت يسقط الأوّل ويبقى الثاني(1).

وفيه أوّلاً: أن من ينذر الحَجّ ينذر الفعل مباشرة، وبالموت وتعذّر المباشرة يسقط المقيّد، وليس المنذور من قبيل تعدّد المطلوب.

وثانياً: أنّه لو نذر استقرار الحَجّ في ذمّته، وإنْ مات، فإنّما يوجبُ ذلك القضاء عنه لو ثبت مشروعيّة القضاء عنه، وإلّا فهو نذرٌ غير مشروع، فإثبات المشروعيّة به دورٌ واضح.

وثالثاً: أنّ ما أفاده من أنّه ليس في الأخبار مايدلّ على اختصاص الخطاب بحال الحياة، يدفعه أنّنفس الأمر بالوفاء بالنذر، يقتضي المباشرة كسائرالخطابات الشرعيّة.

الوجه الرابع: ما في «الجواهر» حيث قال: (إنّ الخطاب بالحجّ من الخطابات الدينيّة على معنى ثبوته في الذمّة، على نحو ثبوت الدين فيها، لا أنّه مثل خطاب السيّد لعبده يُراد منه شُغل الذمّة بإيجاده في الخارج، وإنْ لم يثبت في الذمّة ثبوت دين،5.

ص: 376


1- الحدائق الناضرة: ج 14/205.

ومن هنا وجب في حَجّ الإسلام إخراج قيمة العمل من أصل التركة، وبهذا المعنى كان واجباً ماليّاً لا من حيث احتياجه إلى المقدّمات الماليّة - إلى أنْ قال - إنّ متعلّق النذر الحَجّ على حسب مشروعيّته) انتهى (1).

وفيه: أنّ المراد من شُغل الذمّة وثبوته فيها، إنْ كان بمعنى كونه المطلوب منه، فهو سارٍ في جميع الواجبات، ولا اختصاص للحجّ به، وإنْ كان بمعنى ثبوته فيها زائداً على الأمر بإيجاده في الخارج على نحو ثبوت الدين فيها، الملائم مع سقوط التكليف به، فهذا لا دليل عليه، وقد عرفت أنّ الآية الكريمة من جهة تضمّنها اللّام أيضاً لا تدلّ على ذلك.

مع أنّ كون متعلّق النذر الحَجّ حسب ما شُرّع في الحَجّ الإسلامي ممنوعٌ ، بل متعلّقه إيجاد الأعمال المخصوصة في الخارج، ولم يظهر الفرق بين خطاب النذر وسائر الخطابات حتّى يُدّعى أنّ خطاب النذر نحو الخطاب بالإجارة، وأولى من الخطاب الأصلي بذلك، كما في «الجواهر».

الوجه الخامس: أنّ الحَجّ واجبٌ مالي ثابتٌ في الذمّة، فيجب قضاؤه، وذكر صاحب «الحدائق» رحمه الله في وجه كونه واجباً ماليّاً: أنّ الإتيان به متوقّفٌ على المال، وإنْ تفاوت قلّةً وكثرةً باعتبار مراتب البُعد والقُرب(2).

وفيه أوّلاً: النقض بالصلاة، فإنّها متوقّفة على الساتر، وتحصيله يتوقّف على المال، بل على المكان وما شاكل.

وثانياً: أنّ وجوب بذل المال إنّما هو في مقدّمات الحَجّ لا في أعماله.8.

ص: 377


1- جواهر الكلام: ج 17/342.
2- الحدائق الناضرة: ج 14/208.

وثالثاً: أنّ لزوم بذل المال أعمٌّ من ثبوته في الذمّة، ألا ترى أنّ أداء نفقة الاقارب واجبٌ مع أنّها ليست ديناً.

ورابعاً: لو سلّمنا كونه ديناً، إلّاأنّ وجوب أداء كلّ دَينٍ حتّى ما لو كان الدين في سبيل اللّه لم يدلّ عليه دليل.

الوجه السادس: الاستصحاب.

وفيه: التكليف بالأداء ساقطٌ بالموت قطعاً، والتكليف بالقضاء مشكوكٌ الحدوث، واستصحاب الجامع بينهما من قبيل القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلّي، ولا نقول به، سيّما في مثل المقام ممّا يكون للقضاء وقتٌ منفصلٌ عن الأداء.

فإنْ قيل: إنّه في وقت الأداء كانت الذمّة مشغولة بالحَجّ ، وبعد مضيّه يشكّ في فراغ الذمّة، فيستصحب الشُّغل، فيجب أن يقضى عنه كي تفرغ.

قلنا: إنّ اشتغال الذمّة به زائداً على ما هو مقتضى التكليف بإتيانه مباشرة غير معلوم من الأوّل، والأصل يقتضي عدمه، فتدبّر.

فإذاً لا دليل على وجوب القضاء، والقاعدة تقتضي عدم الوجوب بعد كون القضاء بأمرٍ جديد، كما هو مختار «المدارك»(1)، و «الذخيرة»(2)، و «المستند»(3)وغيرها، ولكن تسالم الأصحاب على وجوبه، وكونه عندهم من المسلّمات يوقفنا عن الإفتاء بعدم الوجوب، وعليه فالاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

***5.

ص: 378


1- مدارك الأحكام: ج 7/97.
2- ذخيرة المعاد: ج 3/565.
3- مستند الشيعة: ج 11/95.

القضاء يؤدّى من أصل التركة أو الثُلث

فرع: ثمّ إنّه بناءً على وجوب القضاء عنه لو مات:

1 - فهل الواجب القضاء من أصل التركة كما عن «السرائر»(1)، وفي «الشرائع»(2)، وعن إطلاق «المقنعة»(3) و «الخلاف»(4)؟

2 - أم من الثُّلث كما عن الصدوق(5)، و «النافع»(6)، وأبي عليّ (7)، والشيخ في «النهاية» و «التهذيب» و «المبسوط»(8)، وعن «المعتبر»(9) و «الجامع»(10)، وفي «المستند»(11)؟ قولان:

وقد استدلّ للأوّل بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الحَجّ واجبٌ مالي، وقد تقدّم تقريبه في الفرع السابق، وقد حصل الاتفاق بينهم على أنّ الواجب المالي يخرج من أصل التركة، ولكن قد

ص: 379


1- السرائر: ج 2/45.
2- شرائع الإسلام: ج 1/172.
3- المقنعة: ص 823.
4- الخلاف: ج 6/282.
5- الفقيه: ج 2/263.
6- المختصر النافع: ص 78، وعبارته: (من مات وعليه حجّة الإسلام وأُخرى منذورة أخرجت حجّة الإسلام من الأصل، والمنذورة من الثُّلث، وفيه وَجهٌ آخر).
7- المراد به الإسكافي، وحكاه عنه في المختلف: ص 321، (ط. ق).
8- النهاية، ص 284، تهذيب الأحكام: ج 5/406، المبسوط: ج 1/306.
9- المعتبر: ج 2/774.
10- الجامع للشرائع، ليحيى بن سعيد الحِلّي: ص 176.
11- مستند الشيعة: ج 11/94.

عرفت ما في دعوى كونه واجباً ماليّاً.

الوجه الثاني: ما نُسب إلى بعض الأعاظم من المعاصرين(1)، وهو أنّ الواجب المالي هو ما كان وجوده متوقّفاً على المال، وكذلك وجوبه، والحَجّ كذلك، ولا يقدح فيه وجوبه من دون مالٍ على أهل مكّة، لأنّه بحكم النادر، والواجبات الماليّة تُخرج من الأصل إجماعاً.

وفيه: أنّ الحَجّ الإسلامي وجوبه متوقّفٌ على المال، ولا كلام في خروجه من الأصل، وقد دلّ النّص عليه أيضاً، وأمّا وجوب الحَجّ النذري فهو غير متوقّفٍ عليه، ومحلّ الكلام هو الثاني.

الوجه الثالث: ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله من أنّ الحَجّ واجبٌ ديني، والواجب الديني يُخرج من الأصل(2).

توضيح ما أفاده: أنّ الحَجّ واجبٌ كالدَّين تشتغل به الذمّة، وذلك لوجوه:

1 - أنّه بالموت لا يسقط عن ذمّة الميّت، بل ذمّته مشغولة به، والنائب يأتي بما اشتغلت ذمّة المنوب عنه به، وليس معنى الدَّين إلّاذلك.

2 - أنّ الوجوب مطلقاً عبارة عن جعل المادّة في ذمّة المكلّف، وإليه يشير ما في بعض الأخبار من أنّ (دَين اللّه أحقّ أن يُقضى )، فإنّه يدلّ على أنّ كلّ واجبٍ دَينٌ .

3 - أنّ النذر مفاد صيغته جعل المنذور للّه سبحانه، يعني أنّ الذمّة تشتغل بالعمل للّه تعالى .

4 - ما في صحيح ضريس من قوله عليه السلام: (إنّما هو مثلُ دَينٍ عليه). وفي حسن2.

ص: 380


1- كتاب الحَجّ للشاهرودي: ج 1/380.
2- جواهر الكلام: ج 17/342.

معاوية: (إنّما هو بمنزلة الدَّين الواجب). وفي خبرِ الحارث: (إنّما هي دَينٌ عليه).

وستأتي جميعها في هذا المبحث، وكلّ واجب دَيني يخرج من الأصل، ويشهد به:

1 - حسن معاوية: «في رجلٍ توفّي وأوصى أن يُحجَّ عنه ؟ قال: إنْ كان صرورةً فمن جميع المال، إنّه بمنزلة الدَّين الواجب عليه، وإنْ كان قد حَجّ فمن ثُلثه»(1).

فإنّ مقتضى عموم العلّة خروج كلّ واجب ديني من الأصل.

2 - وخبر حارث بيّاع الأنماط، أنّه سُئل أبو عبد اللّه: «عن رجلٍ أوصى بحجّةٍ ، فقال: إنْ كان صرورة فهي من صُلب ماله، إنّما هي دَينٌ عليه»(2).

وهو أيضاً بعموم العلّة يدلّ على أنّ كلّ واجب ديني يُخرج من الأصل.

أقول: وبما ذكرناه في تقريب كونه دَيناً، يندفع ما قيل بانصراف الدين عن الحَجّ وسائر ديون اللّه تعالى إلى أموال النّاس، فإنّه لا وجه للانصراف، وعلى فرضه فهو بدوي يزول بأدنى تأمّل، فإنّه انصرافٌ ناشئ من اُنس الذّهن بالفتاوى.

وأضعف منه: ما قيل بأنّ إطلاق الاشتغال عليه مبنيٌ على ضرب من المسامحة، وليس فيه أمرٌ وضعي حتّى يُسمّى بالاشتغال، وإنّما يجبُ العمل وجوباً تكليفيّاً صرفاً، فإنّ الميّت لا يكون مُكلّفاً بتكليف صرف، بل لا يعقل ذلك، فلا محالة يكون ذمّته مشغولة به.

وظنّي أنّ المستشكل توهّم أنّا ندّعي اشتغال ذمّة الميّت بالمال، وهو توهّمٌ فاسد، بل المدّعى اشتغال ذمّته بالحَجّ ، والذمّة كما تشتغل بالمال، كذلك تشتغل بالأعمال، وبلحاظه يُطلق عليها الدِّيون، وإنكار ذلك مكابرة.9.

ص: 381


1- الكافي: ج 4/305، ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/67، ح 14258.
2- الفقيه: ج 2/441، ح 2918، وسائل الشيعة: ج 11/67، ح 14259.

وأضعف منهما: أنّه لو تمّ ذلك، لزم إخراج جميع الواجبات حتّى البدنيّة من الأصل.

فإنّه يرد عليه: أنّا نلتزم بذلك، ولا محذور فيه، بعد مساعدة الدليل عليه.

وأمّا ما عن «المدارك» من القطع بعدم وجوب إخراج الواجبات البدنيّة من الأصل(1)، وما قاله صاحب «الرياض» من إنّه (لا خلاف في أنّها تُخرج من الثّلث(2) مرسلين له إرسال المسلّمات) انتهى ، فلعدم كون ذلك إجماعاً تعبّديّاً لا يصلح دليلاً على إخراجها من الثُّلث، ولو سُلّم ذلك فيها فحيث لا إجماع في الحَجّ النذري كما مرّ أنّ جماعة من الفحول قائلون بإخراجه من الأصل، فهو الفارق.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ جميع الواجبات سيّما الحَجّ النذري تُخرج من الأصل.

أقول: وقد استدلّ للزوم إخراجه من الثُّلث:

1 - بصحيح ضُريس، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام: عن رجلٍ عليه حَجّة الإسلام نذر نذراً في شكر ليحجنّ به رجلاً إلى مكّة، فمات الذي نذر قبل أن يَحجّ حَجّة الإسلام، ومن قبل أن يفي بنذره الذي نذر؟ قال عليه السلام: إنْ ترك مالاً يُحجّ عنه حَجّة الإسلام من جميع المال، وأخرج من ثلثه ما يحجّ به رجلاً لنذره وقد وفى بالنذر، وإنْ لم يكن ترك مالاً إلّابقدَر ما يحجّ به حَجّة الإسلام حَجّ عنه بما ترك، ويحجّ عنه وليّه حَجّة النذر، إنّما هو مثل دَينٍ عليه»(3).

2 - وبصحيح عبد اللّه بن أبي يعفور: «سأل الإمام الصادق عليه السلام رجلٌ نذَرَ للّه إن7.

ص: 382


1- مدارك الأحكام: ج 7/97.
2- رياض المسائل: ج 9/544، (ط. ج).
3- الفقيه: ج 2/428، ح 2882، وسائل الشيعة: ج 11/74، ح 14277.

عافى اللّه ابنه من وجعه ليحجنّه إلى بيت اللّه الحرام، فعافى اللّه الابن ومات الأب ؟ فقال: الحَجّة على الأب، يؤدِّيها عنه بعض ولده. قلت: هي واجبة على ابنه الذي نَذَر فيه ؟ فقال: هي واجبةٌ على الأب من ثُلثه، أو يتطوّع ابنه فيحجّ عن أبيه»(1).

وتقريب الاستدلال بهما: ما عن «كشف اللّثام»، قال: (فإنّ إحجاج الغير ليس إلّا بذل المال لحجّه، فهو دَينٌ ماليّ محض بلا شبهة، فإذا لم يجب إلّامن الثُّلث فحجّ نفسه أولى )(2).

وفيه أوّلاً: أنّ الأصحاب لم يعملوا بهما في موردهما، فإنّ بناءهم على إخراج موردهما من الأصل - وفي «المستند»: (قيل: لم يفتِ به فيه أحد)(3) - فكيف يعمل بها في غير موردهما؟!

وثانياً: نمنع الأولويّة، لعدم معلوميّة العلّة والمناط.

وثالثاً: أنّه يعارضهما حسن مسمع بن عبد الملك أو صحيحه، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: كانت لي جاريةٌ حُبلى ، فنذرتُ للّه تعالى إن ولَدَت غُلاماً أن أحجّه أو أحجّ عنه ؟ فقال: إنّ رجلاً نذر للّه عزّ وجلّ في ابنٍ له إن هو أدرك أن يحجّه أو يحجّ عنه، فمات الأب وأدرك الغلام بعده، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فسأله عن ذلك، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يحجّ عنه ممّا ترك أبوه»(4).

فإنّ ظاهره الحَجّ عن أصل التركة لا من الثلث، وليس ذلك بالإطلاق، كي9.

ص: 383


1- تهذيب الأحكام: ج 5/406، ح 60، وسائل الشيعة: ج 11/75، ح 14279.
2- كشف اللّثام: ج 1/296، (ط. ق).
3- مستند الشيعة: ج 11/95.
4- الكافي: ج 7/459، ح 25، وسائل الشيعة: ج 23/316، ح 29639.

يقال إنّه يقيّد إطلاقه بالصحيحين.

أقول: قد حمل الأصحاب الصحيحين على محامل:

المحمل الأوّل: ما عن مختلف المصنّف رحمه الله من حملهما على صورة كون النذر في حال المرض، بناءً على خروج المنجزات من الثُّلث(1).

وفيه أوّلاً: أنّ المنجزات تُخرج من الأصل.

وثانياً: أنّه لم يفرض المرض فيهما.

وثالثاً: أنّ الواجب المالي يُخرج من الأصل وإنْ أوصى به.

ورابعاً: أنّه حملٌ لا شاهد له.

المحمل الثاني: حملهما على صورة عدم إجراء الصيغة.

وفيه أوّلاً: أنّ المصرّح به فيهما تحقّق النذر، والنذر بلا صيغة لا يعدّ نذراً.

وثانياً: أنّه لا يجب الوفاء به، فلا وجه لإخراجه من الثُّلث.

المحمل الثالث: حملهما على صورة عدم التمكّن من الوفاء به.

وفيه: أنّ النذر الذي لا يمكن الوفاء به باطلٌ من أصله، فلا يخرج من الثُّلث أيضاً.

وصاحب «المعالم» رحمه الله حملهما على الندب المؤكّد، الذي قد يُطلق عليه الوجوب، نظراً إلى عدم ظهورهما في الموت بعد التمكّن من المنذور(2).

ولكن يرد عليه: أنّه لا موجب له.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الحَجّ النذري لا دليل على وجوب قضائه، وإنّما جعلناهع.

ص: 384


1- مختلف الشيعة: ج 4/371.
2- منتقى الجمان: ج 3/74-75 في تعليقه على الحديثين وله فيهما كلامٌ ، فراجع.

أحوط نظراً إلى تسالم الأصحاب عليه، وعلى فرض القول به يخرج من الأصل لا من الثُّلث، وكذا جميع الواجبات التي يجبُ قضاؤها عن الميّت كالصلاة والصيام وما شاكل تُخرج من الأصل.

وإنْ نذر مطلقاً أو مقيّداً بسنةٍ ، ولم يتمكّن من الأداء حتّى مات، لم يجب القضاء عنه، لما مرّ، ولعدم وجوب الأداء عليه، الكاشف عن عدم انعقاد النذر، فإنّه يعتبر في متعلّقه التمكّن منه.

***

ص: 385

لو نذر الحَجّ معلّقاً على أمر

المسألة الخامسة: لو نذر الحَجّ معلّقاً على أمرٍ كشفاءمريضه أو مجيء مسافره، فمات قبل حصول المعلّق عليه، فهل يجب القضاء عليه أم لا؟ وجهان ابتناهما سيّد «العروة» على أنّ التعليق من باب الشرط، أو من قبيل الوجوب المعلّق:

فعلى الأوّل: لا يجبُ ، لعدم الوجوب عليه بعد فرض موته قبل حصول الشرط، وعلى الثاني يمكن أن يقال بالوجوب، لكشف حصول الشرط عن كونه واجباً عليه من الأوّل، إلّاأن يكون نذره منصرفاً إلى حصول الشرط في حال حياته(1).

أقول: بناءً على ما ذكرناه من عدم الدليل - غير الإجماع - على وجوب قضاء الحَجّ النذري، فعدم الوجوب في المسألة واضح.

وأمّا على القول بوجود الدليل عليه، فيمكن أن يقال بعدم وجوب القضاء، نظراً إلى أنّه يعتبر في النذر التمكّن من متعلّقه في ظرفه، ومع عدم التمكّن منه لا ينعقد النذر، فإنّه بالموت وعدم التمكّن من الإتيان بالحجّ وعدم وجوب أدائه، ينكشف عدم انعقاد النذر، فلا يجب قضاؤه.

ومع الإغماض عن ذلك، وتسليم عدم اعتبار التمكّن من متعلّقه في انعقاد النذر، فإنّ ما ذكره رحمه الله من أنّه لو كان شرطاً لا يجب القضاء، غير تامّ ، بل لابدّ وأن يفصّل بين أخذه من قبيل الشرط المتأخّر أو المقارن، وعلى الأوّل يجب القضاء، ولا يجب على الثاني.

أقول: والظاهر أخذ القيد شرطاً للنذر لا قيداً للمنذور، وكونه بنحو الشرط

ص: 386


1- العروة الوثقى: ج 4/503، (ط. ج).

المقارن، وعليه فلا يجب القضاء قطعاً.

وقد نُسب إلى بعض الأعاظم من المعاصرين، أنّه لو كان المعلّق عليه أمراً غير اختياري، لا يعقل أخذه قيداً للمنذور، لخروجه عن حيّز القدرة، فيكون القيد راجعاً إلى نفس النذر، فلا وجوب قبل حصوله(1).

وفيه أوّلاً: النقض بزمان الحَجّ ، فإنّه قيدٌ للحجّ لا لوجوبه.

وثانياً: بالحَلّ ، وهو أنّه فرقٌ بين الشرط والجزء:

ففي الجزء يكون الدخيل في المأمور به القيد والتقيد به.

وفي الشرط يكون المأمور به التقيّد به دون نفس القيد، ولذا لا مانع من كونه غير اختياري، مثلاً وجود الكعبة شرطٌ في الصلاة، ومعناه أنّ الصلاة متقيّدة بأن تقع مستقبل القبلة، وهكذا سائر الشرائط غير الاختياريّة للمكلّف، وكم له نظيرٌ في الفقه، عَصَمَنا اللّه من الخطأ.

***9.

ص: 387


1- راجع مستمسك العروة الوثقى: ج 10/329.

نذر الإحجاج المعلّق على أمر

المسألة السادسة: لو نذر الإحجاج معلّقاً على شرطٍ، كمجيء المسافر، أو شفاء المريض، فمات قبل حصول الشرط مع فرض حصوله بعد ذلك وتمكّنه منه قبله، فهل يجب القضاء عنه أم لا؟ وجهان:

أقول: المسألة معنونة في كلمات الفقهاء، ولكن صاحب «الرياض» رحمه الله يدّعي أنّ مفروض المسألة في كلماتهم حصول الشرط المعلّق عليه النذر في حال الحياة(1)، وعليه فيكون وجوب القضاء على وفق القاعدة، لأنّه حقٌّ مالي تعلّق بتركته فيجب القضاء عنه، ولذا التزم الشهيد رحمه الله بضرورة وجود التمكّن من المنذور حال الحياة(2)، ولم يتعرّضوا لحكم ما لو حصل الشرط بعد الموت.

لكن أنكره صاحب «الجواهر» وادّعى أنّ مفروض المسألة في كلماتهم هو حصول الشرط بعد الموت(3)، ولذا اعترف الشهيد الثاني في «المسالك» بأنّ الأصل في هذا الحكم حسنة مسمع(4)، وأتعب سبطه في «النهاية» نفسه في تصحيح الخبر - إلى أنْ قال - مع تلقّي الأصحاب لها بالقبول واشتهار مضمونها بينهم، حيث لا يتحقّق فيه خلاف(5)، وهذا كلّه يدلّ على العمل بمضمون الرواية، وإنْ خالف القواعد، بل تعبير الأصحاب بمضمونها كالصريح في ذلك، ولو كان مفروض

ص: 388


1- رياض المسائل: ج 11/510، (ط. ج).
2- الدروس: ج 1/318 و 319، وعبارته: (والظاهر مراعاة التمكّن في وجوب القضاء على الناذر أيضاً).
3- جواهر الكلام: ج 17/343.
4- مسالك الأفهام: ج 11/334.
5- نهاية المرام: ج 2/363.

المسألة كما ذكره من الموت بعد التمكّن، لم يحتج إلى هذه المحاولة الشاقّة.

أقول: لابدّ أوّلاً من نقل الخبر بتمامه، ثمّ بيان سنده ودلالته، ثمّ ملاحظة أنّ الأصحاب عملوا به أو أعرضوا عنه.

1 - أمّا الخبر: فهو حسن مسمع بن عبد الملك أو صحيحه المتقدّم، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه: كانت لي جارية حُبلى ، فنذرتُ للّه عزّ وجلّ إنْ ولدت غُلاماً أن أحَجّه أو أحجّ عنه ؟ فقال عليه السلام: إنّ رجلاً نذرَ للّه عزّ وجلّ في ابنٍ له إنْ هو أدرك أن يَحجّه، أو يحجّ عنه، فمات الأب وأدرك الغلام بعد، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله الغلام فسأله عن ذلك، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يحجّ عنه ممّا ترك أبوه»(1).

2 - وأمّا سنده: فطريقه إلى مسمع صحيح، كما أنّ مسمع بنفسه ممدوحٌ ، فقد قال عنه النجاشي: (إنّه كان شيخ بكر بن وائل بالبصرة ووجهها، وسيّد المسامعة، وأنّه روى عن أبي جعفر عليه السلام روايات كثيرة، وروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام أكثر واختصَّ به، وقال له أبو عبد اللّه: إنّي لأعدك لأمرٍ عظيم)، وهذا المدح لا يقصر عن التوثيق، فلا إشكال في سنده.

3 - وأمّا دلالته: فالخبر متضمّنٌ لفرضين:

أحدهما: - وهو المسؤول عنه - وهو ما إذا نذر إنْ وُلد له ولدٌ أن يحجّه أو يحجّ عنه، فولدَ له، ثمّ مات الوالد، فالموت مفروضٌ فيه بعد حصول الشرط.

ثانيهما: ما نقله الإمام عليه السلام عن واقعة حديث في زمان رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وهي: نَذَرَ رَجُلٌ إن أدرك ابن له أن يحجّه أو يحجّ عنه، فمات الأب، وأدرك الغلام لاحقاً، فالموت مفروضٌ فيها قبل حصول الشرط، ويدلّ الخبر على لزوم القضاء عنه9.

ص: 389


1- الكافي: ج 7/459، ح 25، وسائل الشيعة: ج 23/316، ح 29639.

في الفرضين:

أمّا في الفرض الثاني: فلأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أمرَ بذلك.

وأمّا في الأوّل: فلأنّه عليه السلام في مقام الجواب عنه بين حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فيعلم حكم الفرض الأوّل منه.

والأصحاب - رضوان اللّه تعالى عليهم - وإنْ لم يتعرّضوا للفرض الثاني وإنّما الموجود في كلماتهم مجرّد الفرض الأوّل، لاحظ «الشرائع»(1)، و «النافع»(2)، و «القواعد»(3) وغيرها، بل حتّى «المسالك» فإنّ الشهيد ذكر فيها أنّ الأصل في المسألة هو رواية مسمع، ثمّ قال: (إنّ القاعدة أيضاً تقتضي ذلك)(4)، وكذا الحال في «كشف اللّثام»(5)، فإنّ القاعدة - وهي لزوم أداء الحقّ المالي المتعلّق بالتركة من الأصل - إنّما هي في الفرض الأوّل دون الثاني.

ولكن بما أنّ الفرض الأوّل متفرّعٌ في الخبر على الفرض الثاني، وإنّما يستفاد حكمه من حكم الفرض الثاني، فلا يبقى مجالٌ للقول بعدم عمل الأصحاب بالخبر في الفرض الثاني.

وعليه، فما أفاده صاحب «الجواهر» من عمل الأصحاب بالخبر في الفرض الثاني(6) هو الصحيح، فمفاد الخبر لزوم القضاء عنه، سواءٌ أكان الموت قبل حصول0.

ص: 390


1- شرائع الإسلام: ج 1/172.
2- المختصر النافع: ص 78.
3- قواعد الأحكام: ج 3/291.
4- مسالك الأفهام: ج 11/334.
5- كشف اللّثام: ج 5/152، (ط. ج).
6- جواهر الكلام: ج 17/343، وجواهر الكلام: ج 35/390.

الشرط أو بعده.

وأمّا ما في نذر «الجواهر» فيصرّح بأنّ : (الظاهر بناءً على العمل بالرواية الإقتصار على مضمونها الذي هو رزق الولد وإدراك الغلام، ولا يتعدّى منهما إلى غيرهما، ومن هنا عَبّر الأصحاب بذلك، ولم يجعلوا العنوان أمراً كليّاً شاملاً له ولغيره) انتهى (1).

وتبعه بعض الأعاظم من المعاصرين(2)، فلايمكن المساعدة عليه، فإنّ الإمام عليه السلام عند بيان حكم الفرض الأوّل اقتصر على بيان حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الثاني، فلو كان الحكم مختصّاً بالمثال، لما صحَّ إيكال استفادة أحد الفرضين ممّا بين في الفرض الثاني، فمن الإيكال إليه يُستكشف عدم الخصوصيّة للمورد، فتدبّر، فإنّه دقيق.

نعم، الخبر مختصٌّ بما إذا نذر الحَجّ أو الإحجاج بنحو التخيّير، فإسراء الحكم إلى ما لو نذر الإحجاج فقط يتوقّف على إلغاء خصوصيّة المورد، ولا بأس به، ولا يبعد أن يكون قوله عليه السلام: (أو يحجّ عنه) من باب الإفعال، فيكون المنذور هو الإحجاج معيّناً.

وأولى بذلك ما لو نذر الإحجاج في سنةٍ معيّنة مع تمكّنه، أو مطلقاً أو معلّقاً على شرطٍ، وقد حصل وتمكّن منه، فإنّه يجبُ أن يحجّ ممّا ترك، وتقتضيه القاعدة أيضاً، فإنّه حَقٌّ مالي تعلّق بالتركة فيجب إخراجه منها.

وأمّا صحيحا ضريس وابن أبي يعفور فقد عرفت ما فيهما.

***4.

ص: 391


1- جواهر الكلام: ج 35/391.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/333 و 334.

نذر حجّ الإسلام

المسألة السابعة: لو نذر الحَجّ :

فتارةً : ينذر حَجّة الإسلام.

واُخرى : ينذر غَير حجّة الإسلام.

وثالثة: ينذر الحَجّ ويطلق ولا يقيّد بحجّة الإسلام ولا بغيرهما.

فالكلام في موارد ثلاثة:

المورد الأوّل: لو نذر حجّة الإسلام، فقديكون مستطيعاً و قديكون غير مستطيع:

1 - فإنْ كان مستطيعاً ففي «التذكرة»(1)، و «المنتهى »(2)، و «المستند»(3)، و «الحدائق»، وظاهر «الجواهر»(4) انعقاده، بل في «الحدائق»: (والأظهر الأشهر انعقاد نذره)(5).

لكن عن ظاهر المرتضى (6)، والشيخ(7)، وأبي الصّلاح(8)، وابن إدريس(9)الإشكال في انعقاده، فإنّهم وإنْ لم يتعرّضوا لذلك، إلّاأنّهم ذكروا ما لو نذر أن

ص: 392


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/102، (ط. ج).
2- منتهى المطلب: ج 2/875، (ط. ق).
3- مستند الشيعة: ج 11/96.
4- جواهر الكلام: ج 17/346.
5- الحدائق الناضرة: ج 14/220.
6- رسائل المرتضى: ج 1/441.
7- الخلاف: ج 6/200.
8- الكافي للحلبي: ص 185.
9- السرائر: ج 3/68.

يصوم أوّل يوم من شهر رمضان، وقالوا بعدم انعقاد نذره، وذكروا لها وجهاً يجري في المقام.

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ لعدم انعقاد نذره بوجوه:

الوجه الأوّل: لا خلاف أنّه يعتبر في النذر القدرة على متعلّقه، والحَجّ بعد الاستطاعة يصير واجباً لا يقدر المكلّف شرعاً على تركه، فلا يكون فعله أيضاً مقدوراً، لأنّ القدرة على الفعل إنّما تكون إذا كان الترك مقدوراً له، والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً.

وفيه: أنّه إذا كان دليلٌ من كتابٍ أو سُنّة أو إجماع دالّ على اعتبار القدرة في متعلّق النذر كان الاستدلال متيناً جدّاً، ولكن بما أنّ دليل اعتبارها لا يدلّ عليه إلّا من باب أنّ الممتنع الذي لا يمكن حصوله يكون نذره مستلزماً للتكليف بالمحال، أو يكون لغواً، ومن المعلوم اختصاص هذا الوجه بالممتنع عقلاً فلايشمل الممتنع شرعاً.

الوجه الثاني: أنّ إيجاب العمل يوجبُ صيرورته مِلْكاً للّه تعالى ، ويتأكّد ذلك في خصوص الحَجّ بناءً على أنّ الظاهر من اللّام في قوله تعالى : (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ ) (1) هو الملكيّة، فإذا كان حَجّ الإسلام مملوكاً للّه تعالى بالأصالة، لا يصحّ تمليكه له تعالى ثانياً بالنذر.

وفيه: أنّ المراد من الملكيّة للّه تعالى :

إنْكانت هي الملكيّة الاعتباريّة، فلا الإيجاب يقتضي تلك، ولا اللّام ظاهرة فيها.

وإنْ كان المراد منها ثبوت سلطنة تكوينيّة له تعالى ، وسلب سلطنة العبد، فهو خلاف الوجدان والواقع.7.

ص: 393


1- سورة آل عمران: الآية 97.

وإنْ كانت بمعنى السلطنة التشريعيّة، فهي ثابتة قبل الإيجاب، لأنّ أفعال العباد تحت سلطانه، وله أن يجعل لها أيّ حكمٍ شاء، وكونه موجباً لسلب سلطنة العبد تشريعاً لا ينافي النذر والتمليك.

الوجه الثالث: أنّ نذر ما هو واجبٌ بالأصل لغوٌ لا يترتّب عليه أثر.

وفيه: أنّه يمكن أن يكون العبد بحيث لا ينبعث من التكليف بالحَجّ وحده، بل ينبعث فيما إذا تأكّد ذلك بالتكليف بالوفاء بالنذر، سيّما مع ثبوت الكفّارة في مخالفته، التي هي أثرٌ زائد، فلا يكون التكليف حينئذٍ لغواً ويلتزم بالتأكّد.

فتحصّل: أنّ الأظهر انعقاد نذره، ويكفيه حَجّ واحد كما هو واضح، وإنْ تركه ثبت عليه الكفّارة مضافاً إلى القضاء.

وإنْ نذر حجّة الإسلام في العام الأوّل، وخالف نذره بالتأخير، وجب عليه الكفّارة، ووجب عليه الإتيان بالحَجّ في العام القابل، فإنْ أتى به فيه لا يجب عليه القضاء، فإنّ بالإتيان به يرفع الموضوع، فلا شيء كي يجب عليه قضاؤه، فإنّ المنذور هو حجّة الإسلام وقد أتى بها وبرئت ذمّته منها، فلا مورد لوجوب القضاء.

وإنْ كان غير مستطيعٍ فنذره، فهل يجب عليه تحصيل الاستطاعة أم لا؟

أقول: المعروف بين المتأخّرين الثاني، لاحظ «الروضة»(1)، و «المدارك»(2)، و «المستند»(3)، و «كشف اللّثام»(4)، و «الجواهر»(5).6.

ص: 394


1- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/179.
2- مدارك الأحكام: ج 7/99.
3- مستند الشيعة: ج 11/96.
4- كشف اللّثام: ج 5/146، (ط. ج).
5- جواهر الكلام: ج 17/346.

والحقّ أن يقال: إنّه تارةً ينذر أن يحجّ حجّة الإسلام إنْ وجب عليه، واُخرى ينذر أن يحجّها مطلقاً، ففي الأوّل لا يجب تحصيل الاستطاعة، لأنّه من قبيل شرط الوجوب، وفي الثاني يجب، لأنّه مقتضى إطلاق النذر، وتكون الاستطاعة حينئذٍ من قبيل شرط الواجب بالنسبة إلى النذر.

***

لو نذر حَجّاً غير حجّة الإسلام

المورد الثاني: ما لو نذر حَجّاً عدا حجّة الإسلام:

1 - فإنْ كان مستطيعاً، وأطلق نذره أو قيّده بسنةٍمتأخّرةٍ عن سنة الاستطاعة، انعقد نذره بلا كلام، ووجبا معاً، ولم يتداخلا اتّفاقاً، كما عن «التحرير»(1)، و «المختلف»(2)، و «المسالك»(3) وغيرها، ووجب تقديم حجّة الإسلام، وهذا كلّه ظاهرٌ لا غبار عليه.

2 - وإنْ قيّد نذره بسنةِ الاستطاعة:

فإن قيّده بزوالها انعقد ووجب عليه الحَجّ إن زالت استطاعته.

وإنْ قيّده ببقائها، فالمشهور بطلان نذره، وعدم انعقاده، وعلّلوه بأنّه نذر ما لا يصحّ ، ولكنّه يبتني على أن لا يصحّ عن المستطيع غير حجّة الإسلام، وقد مرّ الكلام فيه في المسألة الثانية عشر من الفصل السابق، وعرفت صحّته في بعض الفروض.

وربما يقال: إنّه وإنْ صَحَّ غير حجّة الإسلام في عام الاستطاعة، إلّاأنّه

ص: 395


1- تحرير الأحكام: ج 2/106، (ط. ج).
2- مختلف الشيعة: ج 4/375.
3- مسالك الأفهام: ج 2/157.

لايصحّ نذره، وذكر في وجه ذلك وجوه:

الوجه الأوّل: عدم قدرته شرعاً على أداء العمل المنذور لوجوب الحَجّ الإسلامي عليه، ويعتبر القدرة في متعلّق النذر.

وفيه: أنّ القدرة المعتبرة هي العقليّة وهي موجودة، والقدرة الشرعيّة لا دليل على اعتبارها فيه.

الوجه الثاني: أنّ الأمر بالحجّ الإسلامي يقتضي النهي عن غيره المضادّ معه، فإذا كان منهيّاً عنه، لا يصحّ النذر لاعتبار الرجحان في متعلّقه.

وفيه: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه كما حُقّق في محلّه(1).

الوجه الثالث: أنّه لو قلنا بصحّة النذر، لا يسقط وجوب الحَجّ الإسلامي فوراً، فيلزم اجتماع أمرين متنافيين فعلاً، فلا يمكن أن ينعقد النذر.

وفيه: أنّ المورد حينئذٍيكون من قبيل الواجبين المتزاحمين، ويجري فيهما حكمهما.

الوجه الرابع: أن إيجاب حَجّ الإسلام يوجبُ صيرورته مملوكاً للّه تعالى ، ومستحقّاً له، وحيثُ أنّ الإنسان لا يملك منافعه المتضادّة في آنٍ واحد، فلا يكون مالكاً لحَجّ آخر، وإذا لم يكن مالكاً له ليس له أن يُملّكه للّه تعالى بالنذر، لكن قد مرّ الجواب عنه في المسألة السابقة، فراجع(2).

وبالجملة: فالأظهر صحّة نذره بناءً على صحّة حَجّ غير حَجّ الإسلام في عام الاستطاعة.

3 - وإنْ أطلق نذره ولم يقيّده بزوال الاستطاعة ولا بقائها:

فعن «المدارك» احتمالان:د.

ص: 396


1- راجع: زبدة الاُصول، بحث: (اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد العام).
2- في الصفحة 393 من هذا المجلّد.

احتمال البطلان، لأنّه نَذَر في عام الاستطاعة غير حجّة الإسلام.

واحتمال الصحّة، حملاًللنذر على الوجه المصحّح، وهو ماإذا فقدت الاستطاعة(1).

وفيه: أنّ الحمل على الصحّة إنّما هو فيما إذا شكّ ، لا مع فرض العلم بانتفاء القصد والابهام.

فالحقّ أن يقال: إنّه بناءً على صحّة النذر وانعقاده، لو قيّده ببقاء الاستطاعة فلا كلام في الصحّة، وإلّا فالأظهر البطلان، لأنّ الجامع بين المشروع وغير المشروع غير مشروع.

نعم، إذا زالت الاستطاعة، أمكن البناء على الصحّة، من جهة أنّ زوالها يكشف عن صحّة النذر حال وقوعه، وعدم كونه نذراً للحجّ في عام الاستطاعة غير حجّة الإسلام، فتدبّر.

4 - وإنْ نذر غير حَجّ الإسلام، ولم يكن مستطيعاً، فيجب الإتيان بالمنذور بشرط التمكّن العقلي، ولا يعتبر في وجوبه الاستطاعة الشرعيّة، فإنّها شرطٌ في حَجّة الإسلام خاصّة، خلافاً للمحكي عن «الدروس»(2) فتشترط أيضاً.

ولكن صاحب «الجواهر» احتمل إرادة غير الظاهر من كلامه(3)، وإنْ أراد ما هو ظاهره، فلا وجه له، لاختصاص الأدلّة بحَجّ الإسلام، واعتبار القدرة في متعلّق النذر، ليس مدلول دليل لفظي، كي يُحمل على إرادة القدرة الشرعيّة.

وحينئذٍ إذا لم يكن مستطيعاً فلا كلام، وإنْ أصبح مستطيعاً بعد النذر، وقبل7.

ص: 397


1- مدارك الأحكام: ج 7/99.
2- الدروس: ج 1/318.
3- جواهر الكلام: ج 17/347.

الإتيان بالمنذور، فإن كان نذره مطلقاً أو مقيّداً بسنةٍ متأخّرة عن عام الاستطاعة، فإنّه لا إشكال في انعقاد نذره، لعدم المزاحمة بين المنذور وحجّ الإسلام، بل عليه أن يأتي بحجّ الإسلام في عام الاستطاعة، ويأتي بالمنذور في العام اللّاحق.

وإنْ كان نذره مقيّداً بسنةٍ معيّنة، وحصل فيها الاستطاعة، ففيه وجوهٌوأقوال:

1 - ما عن المحقّق النائيني رحمه الله(1)جواهر الكلام: ج 17/347.(2) من بطلان النذر، ولزوم الإتيان بحجّة الإسلام، ولا شيء عليه.

2 - ما عن صاحب «الجواهر» رحمه الله(2)، واختاره سيّد «العروة»(3)، من أنّه يجبُ عليه الحَجّ المنذور، فإنْ بقيت الاستطاعة إلى العام القابل، وجب عليه حجّة الإسلام، وإلّا فلا.

3 - التخيّير بينهما، فإنْ قدّم المنذور وبقيت الاستطاعة إلى العام القابل، وجب عليه الحَجّ فيه وإلّا فلا، وإنْ قدّم حَجّ الإسلام سقط وجوب المنذور ولا كفّارة عليه.

واستدلّ للأوّل: بأنّه يعتبر في متعلّق النذر الرجحان حين العمل، ومع عدمه لا ينعقد النذر، وإذا استطاع يصبح غير حَجّ الإسلام مرجوحاً حين العمل، فينحلّ نذره، بمعنى أنّه ينكشف عدم انعقاده من الأوّل.

أقول: إنّ هذا الوجه يتمّ فيما إذا كان المنذور حجّاً لا يصحّ لو أتى به في عام الاستطاعة، وإلّا فلا يتمّ ، فإنّ المنذور راجحٌ في نفسه وإنْ كان حجّ الإسلام أرجح منه، وقد مرّ تنقيح المبنى في المسألة الثانية عشر من الفصل السابق، وعرفت).

ص: 398


1- في تعليقته على العروة الوثقى: ج 4/511، (ط. ج)، حاشية رقم
2- .
3- العروة الوثقى: ج 4/511، (ط. ج).

اختصاص دليل عدم الصحّة بالحَجّ عن الميّت.

واستدلّ للثاني: بأنّ المعتبر في انعقاد النذر الرجحان حين النذر، والمفروض في المقام وجوده، لأنّه نذر في حال عدم الاستطاعة، فينعقد صحيحاً، ويجبُ الحَجّ ، وإذا صار مستطيعاً لا يعقل أن يصير حجّ الإسلام أيضاً واجباً، لعدم القدرة، فهو وإنْ استطاع من جهة المال، إلّاأنّه لا يصبح مستطيعاً من جميع الجهات، فإنّ من يكون مكلّفاً بواجبٍ آخر، لا يقدر معه على الحَجّ ، يكون ذلك مانعاً عن الاستطاعة في حقّه.

وفيه: أنّ المعتبر في النذر رجحان المنذور حين العمل لا حين النذر.

واستدلّ للثالث: بأنّ كلّاً من الدليلين في نفسه يشمل المورد، فيقع التزاحم بينهما.

والحقّ أن يقال: إنْ كان المنذور حَجّاً لا يصحّ لو أتى به في عام الاستطاعة - وقد مرّ ضابطه - بَطَل النذر، ولزم الإتيان بحجّة الإسلام، وإنْ كان حَجّاً يصحّ لو أتى به فيه، جرى فيه ما ذكرناه في المسألة التاسعة من الفصل السابق مفصّلاً، فراجع(1).

***

لو نذر مطلقاً بعد الاستطاعة

المورد الثالث: ما لو نذر الحَجّ وأطلق من غير تقيّيدٍبحجّة الإسلام ولا بغيرها، وكان مستطيعاً أو استطاع بعد ذلك، وفيه أقوال:

القول الأوّل: أنّهما يتداخلان، فيكفي حَجّ واحد عنهما. ونُسب ذلك إلى الشيخ(2) وسيّد «المدارك»(3) وصاحب «الذخيرة»(4).

ص: 399


1- في الصفحة 252 من هذا المجلّد.
2- الخلاف: ج 6/200.
3- مدارك الأحكام: ج 7/100 و 101، قوله: (وبالجملة فهذا القول لا يخلو من قوّة، وإنْ كان التعدّد أحوط).
4- ذخيرة المعاد: ج 3/566.

القول الثاني: أنّه يجب التعدّد. ونُسب ذلك إلى «الخلاف»(1)، و «السرائر»(2)، و «الناصريّات»(3)، و «الغُنية»(4)، والفاضلين(5) والشهيدين(6) وغيرهم، بل إلى المشهور، وادّعى صاحب «الناصريّات» الإجماع عليه.

القول الثالث: أنّه يكفي نيّة الحَجّ النذري عن حَجّة الإسلام دون العكس، وقد نُسب ذلك إلى «النهاية»(7)، و «الاقتصاد»(8)، و «التهذيب»(9) وغيرها.

أقول: ولعلّ الأظهر هو الأوّل، لأنّ النذر أوجب ثبوت الوجوب لطبيعة الحَجّ ، والاستطاعة أيضاً أوجبت ذلك، فطبيعة الحَجّ توارد عليها وجوبان، ولازم ذلك هو حدوث الوجوب عند تحقّق أوّل السببين، وتأكّده عند تحقّق السبب الثاني، فإنّه لا يلزم من ذلك التصرّف في شيء من الظهورات.

فإنْ قيل: لازمه التصرّف في ظهور الحكم في كونه تأسيسيّاً.

أجبنا عنه: بأنّ ذلك لا يستلزم كون شيءٍ من القضيتين في غير مقام إنشاء الطلب وجعل الحكم، فإنّا نقول إنّ الحكم المجعول في كلٍّ من القضيّتين إن حدث في محلّ فارغ عن مثله يكون تأسيسيّاً، وإنْ حدث في محلّ مشغولٍ بمثله فهو تأكيد،).

ص: 400


1- الخلاف: ج 2/256 و 257.
2- السرائر: ج 1/649.
3- الناصريّات للشريف المرتضى: ص 314.
4- غنية النزوع لابن زُهرة الحلبي: ص 194.
5- الفاضل الآبي في كشف الرموز: ج 1/329، والفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 5/147، (ط. ج).
6- الدروس: ج 1/318، مسالك الأفهام: ج 2/158.
7- النهاية للشيخ الطوسي: ص 205.
8- الإقتصاد للشيخ الطوسي: ص 298.
9- التهذيب: ج 5/406، قوله: (ومتى نذر الإنسان حجّاً وعليه حَجّة الإسلام فإنّه إذا حجّ أجزأه عنهما جميعاً).

وهذا بخلاف الالتزام بالتعدّد، فإنّه يلزم منه تقيّيد إطلاق المادّة في كلّ من القضيّتين بفردٍ غير الفرد الذي اُريد من المادّة الواقعة في حيّز الخطاب الآخر.

ولو تنزّلنا عن ما ذكرناه، وسلّمنا كون ما اخترناه خلاف الظاهر، ودار الأمر بين الالتزام بهذا الخلاف، أو الالتزام بتقييد إطلاق المادّة الذي لازمه التعدّد، فقد يقال بتعيّن الثاني، واستدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله(1) وحاصله:

أنّ ظهور الجملتين في عدم تعدّد الفرد ووحدة المتعلّق إنّما يكون بالإطلاق، وهو يتوقّف على عدم البيان، وظهور الجملة في كون ما تضمّنته سبباً أو كاشفاً عن السبب المقتضي لتعدّد الفرد، يصلح بياناً لما هو المراد من الإطلاق، ومعه لا ينعقد ذلك الإطلاق، فلا يلزم على هذا تصرّفٌ في ظهور أصلاً.

وفيه أوّلاً: أنّه لو تمّ ذلك كان لازمه تقيّيد الإطلاق لا عدم انعقاده، فيلزم خلاف الظهور.

وثانياً: أنّ ظهور الجملة في سببيّة ما تضمّنته أو كاشفيّته عن السبب لا ينافي ما التزمنا به من الالتزام بالتأكّد، وعلى فرض التنافي، فحيث إنّ ظهور الحكم في كونه تأسيسيّاً لو سُلّم فإنّما هو بالإطلاق، فيقع التعارض بين الإطلاقين فيتساقطان معاً، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2) وهو يتّضح ببيان أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ كلّ واحدة من الجملتين، ظاهرة في كون ما تضمّنته من السبب9.

ص: 401


1- كفاية الأُصول: ص 204، الأمر الثالث: تداخل المسبّبات.
2- أجود التقريرات: ج 1/429.

مستقلّاً في ترتّب الوجوب عليه، سبقه الآخر أو قارنه أم لا.

الأمر الثاني: أنّ تعلّق الطلب بشيء لا يقتضي كون المتعلّق صرف الوجود وأوّل الوجودات، بل إنّ ذلك إنّما يكون من جهة حكم العقل بالاكتفاء بوجود واحد عند تعلّق طلب واحد بالطبيعة، فإذا فرض ظهور الجملتين في تعدّد الطلب، يكون ذلك رافعاً لحكم العقل بالاكتفاء بوجود واحد، لارتفاع موضوعه وهو الطلب الواحد.

أقول: يرد على الأمر الثاني أنّ الطبيعة المتعلّقة للطلب، لابدَّ وأن تلاحظ على نهج الوحدة أو التعدّد، لعدم تعقّل تعلّق الحكم بالمهمل، وعليه فالاكتفاء بالواحد إنّما يكون بالإطلاق، ولتمام الكلام في ذلك محلّ آخر، وقد أشبعنا الكلام فيه في حاشيتنا على «الكفاية».

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ مقتضى القاعدة هو التداخل، لكن لا بالمعنى المصطلح عليه، بل بمعنى البناء على الوجوب المؤكّد.

واستدلّ للقول الثالث: بصحيح رفاعة بن موسى ، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ نذر أن يمشي إلى بيت اللّه الحرام فمشى ، هل يُجزيه عن حَجّة الإسلام ؟ قال عليه السلام: نعم، قلت: وإنْ حَجّ عن غيره، ولم يكن له مالٌ وقد نذر أن يحجّ ماشياً، أيجزي ذلك عنه من مشيه ؟ قال عليه السلام نعم»(1).

وبصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن رجلٍ نذرَ أن يمشي إلى بيت اللّه فمشى ، هل يُجزيه عن حجّة الإسلام ؟ قال عليه السلام: نعم»(2).5.

ص: 402


1- الكافي: ج 4/277، ح 12، وسائل الشيعة: ج 11/70، ح 14267.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/459، ح 241، وسائل الشيعة: ج 11/70، ح 14265.

ودلالتهما على إجزاء الحَجّ المنذور عن حَجّة الإسلام واضحة.

وأُورد عليه تارةً : بما في «العروة»(1) من أنّ ظاهرهما كفاية الحَجّ النذري عن حَجّة الإسلام، مع عدم الاستطاعة، وهو غير معمول به.

واُخرى : بما عن «كشف اللّثام»(2) وغيره بأنّه يحتمل أن يكون المراد بهما ما لو نذر المشي لا الحَجّ ، ثمّ أراد الحَجّ فسئل عن أنّه هل يُجزيه هذا الحَجّ الذي أتى به عقيب هذا المشي، فأجابه عليه السلام بالكفاية.

وثالثة: بما عن «التذكرة»(3) و «المختلف»(4)، من أنّهما يحملان على ما إذا قصد بالنذر حَجّة الإسلام.

ورابعة: بما عن «المنتهى »(5) باحتمال أن يكون النذر إنّما تعلّق بكيفيّة الحَجّ لا نفسه، فيكون النذر إنّما تعلّق بالمشي وهو طاعة هنا.

ولكن يرد على الأوّل: أنّه لا قرينة عليه، ولم يظهر وجه استظهاره، بل ظاهرهما السؤال عن إجزائه عن حجّة الإسلام في ذلك الحين، وهو إنّما يكون مع الاستطاعة.

ويرد على الثاني: أنّه لا معنى للسؤال عن نذر المشي خاصّة، إذ لا وجه لترتّب السؤال على ذلك، ولا يحتمل إجزاء مجرّد المشي عن حَجّة الإسلام حتّى يُسئل عنه.

فإنْ قيل: إنّ قوله: (فمشى ) يُحمل على إرادة الحَجّ ماشياً.).

ص: 403


1- العروة الوثقى: ج 4/515، (ط. ج).
2- كشف اللّثام: ج 5/147، (ط. ج).
3- تذكرة الفقهاء: ج 7/102-103 مسألة 71.
4- مختلف الشيعة: ج 4/376.
5- منتهى المطلب: ج 2/875، (ط. ق).

قلنا: فلِمَ لا يُحمل قوله: (نذر أن يمشي إلى بيت اللّه الحرام)، على ذلك ؟!

وبالجملة: الظاهر أنّ المراد من السؤال عن حكم من نذر الحَجّ ماشياً فأتى به هكذا، هل يكفي ذلك عن حَجّة الإسلام أم لا؟ فجوابه عليه السلام يدلّ على المطلوب، ويدلّ على ذلك صريح السؤال الثاني في الخبر الأوّل.

ويرد على الثالث: أنّ ظاهرهما كون المنذور هو الحَجّ مطلقاً وأتى به، فيكون السؤال عن إجزائه عن حَجّة الإسلام.

ويرد على الرابع: أنّ قوله: (أن يمشي) بعدما حملناه على أن يحِجّ ماشياً ظاهرٌ في نذر الحَجّ لا الكيفيّة.

فالمتحصّل: تماميّة دلالتهما على الإجزاء، ولكنّهما لا يدلّان على عدم إجزاء العكس، وقد عرفت أنّ القاعدة فيه أيضاً تقتضي العكس، فهذان الصحيحان يؤيّدان ما اخترناه من القاعدة،

***

ص: 404

من عليه حَجّ الإسلام والحَجّ النذري

المسألة الثامنة: إذا كان عليه حَجّة الإسلام والحَجّ النذري معاً، ولم يمكنه الإتيان بهما لعدم التمكّن إلّامن أحدهما، ففيه وجوه:

1 - تقديم الأسبق سبباً.

2 - تقديم حَجّة الإسلام.

3 - التخيّير.

وجه الأوّل: أنّ من مرجّحات باب التزاحم سبق الوجود بسبق سببه.

وفيه: إنّ الأصحاب عدّوا من المرجّحات في ذلك الباب سبق زمان أحد الواجبين، وذكروا في وجهه أنّه حين ما يصبح وجوبه فعليّاً لا مزاحم له، فإذا أتى به يسقط الآخر، لعدم التمكّن، ولم يذكروا سبق السبب من المرجّحات، وعلى فرض ذكره لا دليل لهم عليه.

ووجه الثاني: أهميّة حَجّة الإسلام.

وأُورد عليها: بأنّها غير ظاهرة، لأنّ تشخيص الأهميّة إنّما هو بنظر الشارع لا بنظرنا، لقصور عقولنا عن إدراك الملاكات، بل يمكن أن يقال بأهميّة الحَجّ النذري منهما، لترتّب الكفّارة على تركه، وحيث يحتمل أهميّة كل منهما، فالأظهر هو التخيّير، ولكن الروايات المتضمّنة للتوعيدات على ترك حَجّ الإسلام، من أنّه يموت تاركه يهوديّاً أو نصرانيّاً، أو يموت وهو كافرٌ، وما شابه لو لم تكن موجبة للعلم بالأهميّة، فلا أقلّ من كونها منشئاً لاحتمالها، ولا يحتمل أهميّة الحَجّ النذري، فإنّ ثبوت الكفّارة أعمّ من ذلك، وهو يوجب أيضاً تعيّنه، وعليه فالأظهر تعيّن حَجّة الإسلام.

ص: 405

فرع: وإذا مات وعليه حَجّتان، ولم تف التركة إلّالإحداهما:

فعن «القواعد»(1)، و «النهاية»(2)، و «المبسوط»(3)، و «السرائر»(4)، و «الجامع»(5)، و «الشرائع»(6)، و «الإصباح»(7) تقديم حَجّة الإسلام.

وفي «الجواهر»(8)، و «العروة»(9) التخيّير، إلّاأنّه في الأُولى احتمل تقديم سببه، وفي الثانية احتمل تقديم حَجّة الإسلام.

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ وجوب حجّة الإسلام ثابتٌ بأصل الشرع.

2 - وبأنّه كان تجب المبادرة فيه، فيجب الابتداء بإخراجه قضاءً .

3 - وبأنّ المنذور يُخرج من الثُّلث فهو كالوصيّة، وحجّة الإسلام يُخرج من الأصل فهو كالدين، والدين مقدّم على الوصيّة.

4 - وبأهميّة حَجّة الإسلام.

أقول: ولكن الجميع كما ترى .

فإنّه يرد على الأوّل: أنّ كون أحد المتزاحمين ممّا وجب بأصل الشرع، لم يدلّ).

ص: 406


1- قواعد الأحكام: ج 1/409 (شرائط نذر الحج وشبهه) قوله: (ولو اتّسعت لإحداهما خاصّة قدّمت حجّة الإسلام).
2- النهاية: ص 283 و 284.
3- المبسوط: ج 1/325، قوله: (من كان عليه حجّة الإسلام وحجّة النذر.. الخ).
4- السرائر: ج 1/649.
5- الجامع للشرائع: ص 176.
6- شرائع الإسلام: ج 1/168.
7- حكاه عنه السيّد الحكيم في مستسمك العروة الوثقى: ج 10/346.
8- جواهر الكلام: ج 17/343 و 344.
9- العروة الوثقى: ج 4/517 و 518، (ط. ج).

دليلٌ نقلي أو عقلي على كونه من المرجّحات.

ويرد على الثاني: - مضافاً إلى أنّ الحَجّ النذري أيضاً قد يجبُ المبادرة إليه، وهو ما لو تضيّق وقته - أنّ الواجبين المتزاحمين إذا كان أحدهما موسّعاً والآخر مضيّقاً قُدّم المضيّق، وأمّا إذا صارا مضيّقين فلا وجه لتقديم المضيّق على ما كان موسّعاً قبل.

ويرد على الثالث: - مضافاً إلى أنّ الحَجّ المنذور أيضاً يخرج من الأصل - أنّ الدين مقدّمٌ على الوصيّة للدليل، وأمّا ما هو مثل الدين، فلم يدلّ دليلٌ على لزوم تقديمه على ما هو مثل الوصيّة.

وأمّا الوجه الرابع: فهو غير بعيد فيُقدّم حجّة الإسلام.

وأمّا تقديم ما تقدّم سببه فقد عرفت آنفاً أنّه بلا وجه.

فالمتحصّل: أنّه يقدّم حجّة الإسلام على غيره.

***

ص: 407

نذر الحجّ أو الإحجاج

المسألة التاسعة: إذا نذر أن يحجّ أو يحجّ انعقد، ووجبَ عليه أحدهما على وجه التخيّير، وهو واضح، فإنّه نذرٌ مشروع يشمله العمومات، وإذا تركهما حتّى مات، وجب القضاء عنه مخيّراً.

1 - أمّا وجوب القضاء: فبناءً على وجوب قضاء الحَجّ المنذور على القاعدة أو النّص فواضح، فإنّ طرفي التخيّير ممّا يجب قضاؤه، فإنّ الحَجّ واجبٌ قضاؤه على الفرض، والإحجاج دلّ النّص على وجوب قضائه، مضافاً إلى كونه على وفق القاعدة، كما مرّ.

2 - وأمّا بناءً على عدم الدليل على وجوب قضاء الحَجّ المنذور، وإنّما الالتزام به في صورة نذره معيّناً، لتسالم الأصحاب عليه، فقد يقال - كما عن بعض الأعاظم(1) -: بأنّه لا يجب القضاء في الفرض، لتعلّق النذر بالفعل المباشري، وهو معتبر في جميع الواجبات، كما أنّ الخصوصيّة الوقتيّة معتبرة في جميعها، ولذلك أشكل على المشهور المفتين بوجوب القضاء في المقام.

ولكن يرد عليه: أنّ حَسَن مسمع أو صحيحه المتقدّم عن الصادق عليه السلام:

«كانت لي جارية حُبلى ، فنذرتُ للّه تعالى إنْ هي ولدت غُلاماً أن أحجّه أو أحجّ عنه ؟ فقال: إنّ رجلاً نَذرَ للّه عزّ وجلّ في ابنٍ له هو أدرك أن يحجّه أو يحجّ عنه فمات الأب، وأدرك الغلام بعدُ، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فسأله عن ذلك، فأمر

ص: 408


1- كتاب الحَجّ للشاهرودي: ج 1/401.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يحجّ عنه ممّا ترك أبوه»(1)، يدلّ على وجوب القضاء، غاية الأمر أنّه لمّا كان متعلّق النذر في الخبر إحجاج شخصٍ ، أو الحَجّ عنه، أمر صلى الله عليه و آله بأن يُحجّ عنه، كي ينطبق عليه كلا طرفي التخيّير.

3 - ولو كان حين النذر متمكّناً منهما، ثمّ طرأ عليه العجز عن أحدهما تعيّن، فإنّه في كلّ واجبٍ تخييري إذا امتنع أحد الفردين تعيّن الآخر.

4 - ولو مات بعد ذلك، هل عليه قضاء ما تعيّن أخيراً، لأنّه الفائت، أو يجب القضاء عنه مخيّراً، نظراً إلى أنّ التعيّين حينئذٍ عقلي، والمدار في القضاء على التعيّين والتخيّير الشرعيين ؟ وجهان أقواهما: الثاني.

5 - ولو كان حال النذر غير متمكّن إلّامن أحدهما معيّناً، ولم يتمكّن من الآخر إلى أنْ مات، فهل ينعقد نذره أم لا؟

وعلى فرض الانعقاد، هل يختصّ القضاء بالذي كان متمكّناً منه، أم يجب القضاء مخيّراً؟

فالكلام في موردين:

المورد الأوّل: فقد التزم صاحب «الدروس»(2)، وصاحب «الجواهر»(3) بعدم انعقاد النذر، خلافاً لصاحبي «المسالك»(4) و «الرياض»(5) من الحكم بانعقاده، ووافقهما سيّد «العروة»(6).).

ص: 409


1- الكافي: ج 7/459، ح 25، وسائل الشيعة: ج 23/316، ح 29639.
2- الدروس: ج 1/318 و 319.
3- جواهر الكلام: ج 17/344.
4- مسالك الأفهام: ج 11/336.
5- رياض المسائل: ج 11/509، (ط. ج).
6- العروة الوثقى: ج 4/520، (ط. ج).

واستدلّ للأوّل: بأنّ الناذر إنّما ألزم على نفسه كلّ واحدٍ من عِدْلي التخيّير على البدل، وهو غير مقدور، لعدم القدرة على أحد العدلين، والعدل الآخر وإنْ كان مقدوراً للناذر، لكنّه لم يلزمه بخصوصه، فما تعلّق النذر به لا يكون مقدوراً، وما كان مقدوراً لم يتعلّق به النذر فلا ينعقد.

وأُورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: ما عن الشهيد الثاني رحمه الله(1) وسيّد «الرياض»(2) من أنّ اشتراط القدرة على جميع الأفراد المخيّر بينها في وجوب أحدها ممنوعٌ ، كما لو نذر الصدقة بدرهم، فإنّ متعلّقه أمرٌ كلّي وهو مخيّر في التصدّق بأيّ درهمٍ اتّفق من ماله، ولو فرض ذهابه إلّادرهماً واحداً وجب التصدّق به.

أقول: وهذا الإيراد وإنْ كان لا يدفعه ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(3) بأنّه فرق بين المثال والمقام، فإنّ في المثال يكون عدم التمكّن طارئاً، والفرض في المقام ما لو كان عدم التمكّن من الأوّل، فإنّ الظاهر أنّ نظر العَلَمين إلى ما لو كان ذهاب الدراهم قبل وقت التصدّق، فحين ما يكون مكلّفاً بالتصدّق لا يتمكّن إلّامن التصدّق بدرهم، مع أنّه يمكن فرض عدم التمكّن من الأوّل بغيره من الأمثلة، كما لو نذر التصدّق بدرهم كلّي وكان بعض دراهمه مغصوباً.

إلّا أنّه يمكن أن يدفع: بأنّ في المثال يكون متعلّق النذر الكلّي القابل للصدق على كلّ فردٍ لا الأفراد، ومن المعلوم أنّ الكلّي بما أنّه عين الأفراد، تكون القدرة2.

ص: 410


1- مسالك الأفهام: ج 11/336.
2- رياض المسائل: ج 11/511، (ط. ج).
3- جواهر الكلام: ج 35/392.

على فردٍ قدرةً على الكلّي، وهذا بخلاف ما لو نذر الفردين على نحو التخيّير، والأولى تنظير المقام بتعلّق التكليف الشرعي ابتداءً بأحَد الفعلين على نحو البدل مع عدم التمكّن إلّامن أحدهما، فإنّه لا يصحّ ذلك.

الإيراد الثاني: ما عن سيّد «العروة»(1) رحمه الله من أنّ مقصود الناذر إتيان أحد الأمرين من دون اشتراط كونه على وجه التخيّير، فليس النذر مقيّداً بكونه واجباً تخييريّاً حتّى يشترط في انعقاده التمكّن منهما.

وفيه: أنّ ذلك خارجٌ عن الفرض، فإنّ محلّ الكلام ما لو كان متعلّق النذر هو أحد العِدلين على نحو التخيّير.

الإيراد الثالث: ما عن بعض الأعاظم(2) من أنّ عدم التمكّن يوجب عدم انعقاد النذر، وعدم التمكّن من المنذور لا يحصل بالنسبة إلى المنذور التخيّيري إلّابعدم التمكّن من العدلين معاً، وعدم التمكّن من أحدهما لا دليل على منعه من انعقاد النذر.

وفيه: أنّ التمكّن من المنذور شرطٌ إجماعاً، وهو ممّا يقتضيه دليل وجوب الوفاء، فإنّه يجب الوفاء بالنذر، أي يكون انعقاد النذر ووجوب الوفاء به متلازمين، ووجوب الوفاء مشروطٌ بالقدرة والتمكّن فكذلك انعقاد النذر، فكما أنّ الوجوب لا يتعلّق بإتيان أحدهما على نحو التخيّير، فكذلك النذر لا يكون منعقداً.

والحقّ أن يقال: إنّ المتعلّق للوجوب في الواجب التخيّيري:

إنْ كان عنوان أحدهما الجامع بينهما، القابل للانطباق على كلّ واحدٍ منهما، لابدّ من البناء على الانعقاد في المقام، لما مرّ من أنّ القدرة على الفرد قدرةٌ8.

ص: 411


1- العروة الوثقى: ج 4/520، (ط. ج).
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/348.

على الجامع.

وأمّا إنْ كان المتعلّق كلٍّ من الفردين على نحو التخيّير، فلابدّ من البناء على عدم الانعقاد، لما مرّ، وحيثُ أنّ الأظهر هو الثاني، فما أفاده الشهيد رحمه الله(1) من عدم الانعقاد، هو الأظهر.

وأمّا المورد الثاني: أمّا على القول بعدم انعقاد النذر فلا كلام، وأمّا على القول بالانعقاد، فالظاهر أنّه يجب القضاء مخيّراً، لأنّ فرض انعقاد النذر إنّما هو فرض أنّ الثابت في الذمّة أحدهما بنحو التخيّير، فيجب القضاء كذلك، وما في «العروة»(2)من أنّه يمكن أن يقال بالإختصاص بالذي كان متمكّناً منه، بدعوى أنّ النذر لم ينعقد بالنسبة إلى ما لم يتمكّن منه، غير تامّ ، إذ النذر لا يقبل التبعيض في الانعقاد، فإنْ انعقد ففي متعلّقه لا في بعضه، وإلّا فكذلك.

وعليه، فالأظهر أنّه على فرض الانعقاد، يجب القضاء على الولي مخيّراً.

***).

ص: 412


1- الدروس: ج 1/318 و 319.
2- العروة الوثقى: ج 4/519، (ط. ج).

نذر الحَجّ ماشياً

المسألة العاشرة: لو نذر أن يسافر إلى الحَجّ الواجب أو المستحبّ ماشياً، بحيث كان المنذور خصوصيّة المشي لا الحَجّ ماشياً، انعقد نذره ووجب الوفاء به، بلا خلافٍ فيه في الجملة، وإنّما الخلاف فيما إذا كان الركوب أفضل.

وكيف كان، فيقع الكلام أولاً فيماتقتضيه القاعدة، ثمّفي مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا الأوّل: فيبتني على بيان مسألة وهي أنّه هل المشي إلى الحَجّ أفضل أو الركوب، أم هناك تفصيل ؟

ونخبة القول فيها: إنّ في المقام طائفتين من النصوص:

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على أفضليّة المشي:

منها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «ما عُبد اللّه بشيءٍ أشدّ من المشي ولا أفضل»(1).

ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «عن فضل المشي ؟ فقال: الحسن بن عليّ عليه السلام قاسم ربّه ثلاث مرّات حتّى نعلاً ونعلاً وثوباً وثوباً وديناراً وديناراً، وحجّ عشرين حجّة ماشياً على قدميه»(2).

ومنها: خبر محمّد بن إسماعيل بن رجاء الزبيدي، عنه عليه السلام: «ما عُبد اللّه بشيءٍ أفضل من المشي»(3).

ص: 413


1- تهذيب الأحكام: ج 5/11، ح 28، وسائل الشيعة: ج 11/78، ح 14284.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/11، ح 29، وسائل الشيعة: ج 9/482، ح 12539.
3- تهذيب الأحكام: ج 5/12، ح 30، وسائل الشيعة: ج 11/79، ح 14287.

ومنها: خبر الربيع بن محمّد المسلى عن أبي الربيع، عنه عليه السلام: «ما عُبد اللّه بشيءٍ مثل الصَّمت والمشي إلى بيته»(1).

ومنها: عن محمّد بن علي بن الحسين، قال: «روي أنّه ما تقرّب العبدُ إلى اللّه عزّ وجلّ بشيءٍ أحبّ إليه من المشي إلى بيته الحرام على القدمين، وأنّ الحَجّة الواحدة تعدل سبعين حجّة، ومن مشى عن جمله كتب اللّه له ثواب ما بين مشيه وركوبه، والحاجّ إذا انقطع شِسْع نعله كَتَب اللّه له ثواب ما بين مشيه حافياً إلى منتعل»(2).

ومنها: خبر أبي اُسامة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «خرج الحسن بن عليّ عليهما السلام إلى مكّة سنة ماشياً، فورمت قدماه، فقال له بعض مواليه: لو ركبتَ لسكنَ عنكَ هذا الورم، قال: كلّا، الحديث»(3).

ومنها: خبر أبي المنكدر، عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «قال ابن عبّاس: ما ندمتُ على شيء صنعتُ نَدَمي على إنْ لم أحجّ ماشياً، لأنّي سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: مَن حَجّ بيت اللّه ماشياً كتب اللّه له سبعة آلاف حَسَنة من حسنات الحرم، قيل: يا رسول اللّه وما حسنات الحرم ؟ قال: حسنةٌ ألف ألف حَسَنة، وقال: فضل المشاة في الحَجّ كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم»(4).

ونحوها غيرها من النصوص الكثيرة.9.

ص: 414


1- وسائل الشيعة: ج 5/200، ح 6327، ثواب الأعمال، ص 178.
2- الفقيه: ج 2/218، ح 2216، وسائل الشيعة: ج 11/79، ح 14288.
3- الكافي: ج 1/463، ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/80، ح 14291.
4- وسائل الشيعة: ج 11/80، ح 14292، المحاسن: ج 1/70، ح 139.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على أفضليّة الركوب:

منها: خبر يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن رفاعة وابن بكير جميعاً، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّه سأل عن الحَجّ ماشياً أفضل أو راكباً؟ فقال عليه السلام: بل راكباً، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله حَجّ راكباً»(1).

ومنها: خبر سيف التمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ : «فقلت: أيّ شيءٍ أحبّ إليك نمشي أو نركب ؟ فقال عليه السلام: تركبون أحبّ إلي، فإنّ ذلك أقوى على الدُّعاء والعبادة»(2).

ومنها: خبر عبد اللّه بن بكير، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّا نريد أن نخرج إلى مكّة مشاة ؟ فقال: لا تمشوا واخرجوا ركباناً. فقلت: أصلحك اللّه! بلغنا عن الحسن ابن عليّ عليهما السلام أنّه حَجّ عشرين حجّة ماشياً؟ فقال: إنّ الحسن بن علي عليهما السلام كان يحجّ ماشياً وتُساق معه الرِّحال»(3).

ومنها: خبر رفاعة في حديثٍ ، قال: «سأل أبا عبد اللّه عليه السلام رجل الركوبَ أفضلُ أم المشي ؟ فقال: الركوب أفضل من المشي، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ركب»(4).

ومنها: خبر أبي بصير عنه عليه السلام: «أنّه سُئل أنّ المشي أفضل أو الركوب ؟ فقال:

إذا كان الرّجُل موسراً فمشى ليكون أفضل لنفقته فالركوب أفضل»(5).

ومنها: عن محمّد بن عليّ بن الحسين، قال: «الحَجّ راكباً أفضل منه ماشياً، لأنّ4.

ص: 415


1- تهذيب الأحكام: ج 5/478، ح 337، وسائل الشيعة: ج 11/82، ح 14298.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/12، ح 32، وسائل الشيعة: ج 11/83، ح 14299.
3- الكافي: ج 4/455، ح 1، مع اختلاف يسير. وسائل الشيعة: ج 11/84، ح 14301، مع اختلاف يسير أيضاً.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/12، ح 31، وسائل الشيعة: ج 11/81، ح 14295.
5- الكافي: ج 4/456، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/85، ح 14304.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله حَجّ راكباً(1)، قال: وكان الحسين بن عليّ عليهما السلام يمشي وتُساق معه المحامل والرِّحال»(2).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

أقول: وللأصحاب في الجمع بين الطائفتين مسالك:

المسلك الأوّل: ما هو المشهور بينهم، وهو أنّ المشي أفضل إنْ لم يُضعفه عن الدُّعاء، وإلّا فالركوب أفضل. ويشهد لهذا الجمع صحيح سيف المتقدّم(3).

المسلك الثاني: أنّ المشي أفضل لمن ساق معه المحمل والرّحل. نُسب ذلك إلى الشيخ في كتابي الأخبار(4)مسالك الأفهام: ج 2/151.(5).

المسلك الثالث: أنّ الركوب أفضل لمن كان الحامل له على المشي توفير المال مع استغنائه عنه، دون ما إذا كان الحامل له على المشي كسر النفس ومشقّة العبادة، نسبه الشهيد الثاني(5) إلى بعض الأفاضل(6)، واستجوده سيّد «المدارك»(7) نظراً إلى أنّ الشُّح جامعٌ لمساوي العيوب كلّها، كما ورد في الخبر، فيكون دفعه أولى من العبادة بالمشي، ويشهد لهذا الجمع خبر أبي بصير المتقدّم(8).ة.

ص: 416


1- وسائل الشيعة: ج 11/85، ح 14302.
2- وسائل الشيعة: ج 11/85، ح 14303.
3- المراد به خبر سيف التمّار عن الإمام الصادق عليه السلام الذي تقدّم قبل صفحتين.
4- تهذيب الأحكام: ج 5/155، في تعليقته على الحديث رقم (35)، الاستبصار: ج 2/142، بعد ذكره الحديث رقم
5- .
6- المراد به الشيخ ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة: ج 1/225.
7- مدارك الأحكام: ج 7/82.
8- تقدّم في الصفحة السابقة.

المسلك الرابع: ما اختاره الشهيد في محكي «الدروس»(1)، واحتمله الشيخ في محكي كتابي الأخبار(2)المراد به المسلك الثالث الذي استجوده سيّد المدارك.(3)، من أنّ الركوب أفضل لمن يضعف بالمشي عن التقدّم للعبادة، ويشهد له خبر هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام المتقدّم، بعد حكمه عليه السلام بأفضليّة المشي، فقلت: «أيّما أفضل نركب إلى مكّة، فنعجل فنُقيم بها إلى أنْ يقدّم الماشي أو نمشي ؟ فقال: الركوب أفضل»(4).

ولكن يرد على الأخير(5): أنّه يدلّ على أفضليّة التقدم للعبادة من المشي إلى الحَجّ ، ومحلّ الكلام مقايسة المشي والركوب.

ويرد على ما قبله(5): أنّ من يرى أفضليّة المشي إنّما يرى المشي بقصد القربة وبداعي الأمر كذلك، لا المشي بداعي توفير المال.

ويرد على الثاني(6): أنّه يدلّ النصوص على أنّ الإنفاق في سبيل الحَجّ أرجح من المشي، وهذا غير أفضليّة الركوب.

وعليه، فالمتعيّن هو الأوّل(7)، ولازم هذا الجمع مرجوحيّة المشي في صورة كون الركوب أقوى على الدُّعاء والعبادة، نظراً إلى كونه موجباً لفوات العنوان الراجح الذي يكون بالركوب، فهو يصير مرجوحاً بالعرض، فإذا صار مرجوحاًل.

ص: 417


1- الدروس: ج 1/317.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/12، بعد ذكره الحديث رقم (32)، الإستبصار: ج 2/142، بعد ذكره للحديث رقم
3- .
4- تهذيب الأحكام: ج 5/13، ح 34، وسائل الشيعة: ج 11/82، ح 14297.
5- المراد به المسلك الرابع الذي اختاره الشهيد في الدروس واحتمله الشيخ في كتابي الأخبار.
6- أي المسلك الثاني المنسوب إلى الشيخ في كتابي الأخبار.
7- أي المسلك الأوّل، وهوالمشهوربين الأصحاب وهو كون المشي أفضل إنْلم يضعفه عن الدُّعاء وإلّا فالركوب أفضل.

كان نذره غير صحيح، إذ لا فرق بين المرجوح بالذات والمرجوح بالعرض في عدم انعقاد النذر المتعلّق به.

ويترتّب على ذلك: أنّ مقتضى القاعدة انعقاد النذر ووجوب الوفاء به، إذا كان المشي أرجح، وفي مورد أرجحيّة الركوب لا يكون النذر صحيحاً، لا لأرجحيّة الركوب، بل لمرجوحيّة المشي حينئذٍ في نفسه، وعليه فما في «العروة»(1) من أنّ أفضليّة الركوب لا توجبُ زوال الرجحان عن المشي في حَدّ نفسه، غير تامّ ، فإنّ المشي يصبح مرجوحاً لا من جهة كونه ضدّاً للركوب الأرجح كي يتمّ ما أفاده، بل لكونه موجباً لفوات العنوان الراجح الذي يكون بالركوب.

وأمّا النصوص الخاصّة: فقد استدلّ لانعقاد نذر المشي إلى الحَجّ مطلقاً بجملةٍ من النصوص الخاصّة:

منها: صحيح رفاعة، قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: «رجلٌ نذرَ أن يمشي إلى بيت اللّه ؟ قال عليه السلام: فليمشِ . قلت: فإنّه تعب. قال عليه السلام: فإذا تعب ركب»(2).

ومنها: صحيح ابن أبي عمير، عن رفاعة، وحفص، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن رجلٍ نذر أن يمشي إلى بيت اللّه الحرام حافياً؟ قال: فليمشِ ، فإذا تعب فليركب»(3).

وهو وإنْ ورد في نذر المشي حافياً، إلّاأنّه إذا لم يكن نذر المشي صحيحاً لم يكن نذر المشي حافياً منعقداً كما هو واضح.4.

ص: 418


1- العروة الوثقى: ج 4/522، (ط. ج).
2- تهذيب الأحكام: ج 5/403، ح 48، وسائل الشيعة: ج 11/86، ح 14306.
3- الكافي: ج 7/458، ح 19، وسائل الشيعة: ج 23/307، ح 29624.

ومنها: خبر محمّد بن مسلم: «عن رجل جعل عليه مشياً إلى بيت اللّه فلم يستطع ؟ قال عليه السلام: يحجّ راكباً»(1).

ولكن الظاهر من النصوص إرادة الحَجّ ماشياً من السؤال والجواب وهي مسألةٌ اُخرى ستأتي، لا خصوصيّة المشي إلى الواجب أو المستحبّ الذي هو محلّ الكلام، فإنّ المشي إلى بيت اللّه كناية عن الحَجّ كذلك.

وبالجملة: الجمود على ظواهر الألفاظ، يقتضي أنّ المسؤول عنه خصوص المشي إلى مكّة لا للحجّ ، وهذا ليس مورد السؤال قطعاً، بل الظاهر منه ما ذكرناه، ويشهد به جوابه في خبر محمّد بن مسلم: (يحجّ راكباً)، وحيث لم يجب عليه السلام بأنّ عليه أن يركب.

ومع الإغماض عمّا ذكرناه، فهي مطلقة، ومقتضى إطلاقها انعقاد النذر مطلقاً حتّى مع أفضليّة الركوب، ولا وجه للرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة بعد ورود النّص الخاص.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ النسبة بين ما دلّ على اعتبار الرجحان في متعلّق النذر وأنّه لا ينعقد إذا لم يكن راجحاً، وبين إطلاق هذه النصوص، عموم من وجه، ولا وجه لتقديمها عليه.

هذا كلّه إذا كان متعلّق النذر خصوصيّة المشي، وأمّا إذا كان المنذور الحَجّ ماشياً، فلا خلاف في انعقاده في الجملة، ووجوب الوفاء به، بل في «الجواهر»: (بل لعلّ الإجماع بقسميه عليه)(2).9.

ص: 419


1- تهذيب الأحكام: ج 8/304، ح 8، وسائل الشيعة: ج 11/88، ح 14314.
2- جواهر الكلام: ج 17/349.

ويشهد به: - مضافاً إلى عمومات صحّة النذر ونفوذها، لأنّه عبادة راجحة - جملة من النصوص المتقدّمة كصحيح رفاعة، وخبر محمّد، وصحيح ابن أبي عُمير المذكورة آنفاً، وقد استشهد بها صاحب «الجواهر» وغيره من الأساطين لهذه المسألة، وهذا يؤيّد ما ذكرناه من عدم دلالتها على حكم المسألة السابقة.

أقول: وكيف كان، فلا خلاف في أصل الحكم، إنّما الكلام فيما إذا لم يكن المشي أرجح، فالمشهور انعقاده.

وعن كتاب الإيمان في قواعد المصنّف(1)، وظاهر «كشف اللّثام»(2) عدم انعقاد نذره، وعن «الإيضاح» انعقاد أصل النذر ولا يلزم المشي(3).

والأظهر هو الأوّل، إذ المنذور هو الحَجّ ماشياً ولا ريب في رجحانه، وأفضليّة غيره لا توجبُ عدم انعقاده، فإنّ المعتبر فيه الرجحان لا الأرجحيّة، ولا يعتبر كون المنذور راجحاً بجميع قيوده وأوصافه، ولنِعْمَ ما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله في محكي «المسالك» حيث قال: (إنّ الحَجّ في نفسه عبادة، وهي تتأدّى بالمشي والركوب وغيرهما من أنواع الأكوان الموجبة لانتقاله إلى المشاعر المخصوصة، فنذره على إحدى الكيفيّات نذرُ عبادةٍ في الجملة، وإنْ كان غيرها أرجح منها، إذ لا يشترط في انعقاد نذر شيء كونه أعلى مرتبة من جميع أفراده، ونظيره نذر الصلاة في الزمان والمكان الخاليّين عن المزيّة، أو المشتملين على المزيّة الناقصة عن غيرها..) انتهى (4).9.

ص: 420


1- قواعد الأحكام: ج 3/287.
2- كشف اللّثام: ج 2/234، (ط. ق).
3- إيضاح الفوائد: ج 4/66.
4- مسالك الأفهام: ج 2/159.

أضف إليذلك إطلاق النصوص المتقدّمة، وأمّاصحيح الحَذّاءفسيأتي الكلام فيه.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر حكم ما لو نذر الحَجّ راكباً، فإنّه إذا نذر أن يركب في الحَجّ بحيث كان النذر وارداً على القيد، اعتبر كونه راجحاً، ومع كونه راجحاً ينعقد نذره، وإنْ كان المشيء أفضل، ومع عدمه لا ينعقد، وقد مرّ تنقيح القول في المبنى .

وأمّا إنْ كان النذر وارداً على المقيّد بالركوب، فينعقد في جميع الصور، إذ لا يعتبر في النذر كون المتعلّق راجحاً بجميع قيوده وحدوده، فتدبّر.

***

ص: 421

لو نذر الحَجّ حافياً

فروع:

الفرع الأوّل: لو نذر الحَجّ حافياً:

فتارةً : ينذر الحَجّ المقيّد بالمشي حافياً.

واُخرى : ينذر المشي المقيّد بالحفا.

وثالثة: ينذر الحفا في المشي.

والكلام يقع أوّلاً فيما تقتضيه القواعد، ثمّ فيما تقتضيه النصوص الخاصّة كصحيح الحذّاء وخبر سماعة وحفص.

أمّا الأوّل: البحث عمّا تقتضيه القواعد.

ففي الصورة الأُولى:(1) ينعقد النذر مطلقاً، ويجب الوفاء به، لأنّ المنذور راجح مطلقاً، وإنْ كان غيره أرجح منه، بل وإنْ كان قيّده مرجوحاً، فإنّ المعتبر رجحان المتعلّق نفسه كما مرّ.

وفي الصورة الثانية:(2) ينعقد في مورد رجحان المشي مطلقاً، وإنْ كان المشي متنعلا أفضل من المشي حافياً، لما مرّ.

وفي الصورة الثالثة:(3) ينعقد النذر، لأنّ المشي إلى الحَجّ حافياً راجحٌ بنفسه، ففي خبر محمّد بن علي بن الحسين المتقدّم: (أنّ الحاجّ إذا انقطع شِسع نعله كَتَب اللّه له ثواب ما بين مشيه حافياً إلى منتعل).

وأمّا الثاني: وهي ما تقتضيه النصوص الخاصّة، فإنّ في المقام روايتان:

الاُولى: صحيحة أبي عبيدة الحذّاء، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن رجلٍ نذر أن

ص: 422


1- لو نذر الحَجّ مقيّداً بالمشي حافياً.
2- لو نذر المشي مقيّداً بالحفا.
3- لو نذر الحفا في المشي.

يمشي إلى مكّة حافياً؟ فقال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله خرج حاجّاً فنظر إلى امرأة تمشي بين الإبل، فقال: مَنْ هذه ؟ فقالوا: اُخت عُقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى مكّة حافية، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: يا عُقبة انطلق إلى اُختك فمُرها فلتركب، فإنّ اللّه غنيٌّ عن مشيها وحفاها»(1).

أقول: ظاهر الصحيحة عدم مشروعيّة نذر الحَجّ ماشياً حافياً، فإنّ المراد من غنى اللّه سبحانه عدم المشروعيّة، وإلّا فاللّه غنيٌ عن العالمين، وموردها ما ذكرناه لا المشي ولا الحفا فيه، كما يظهر ممّا ذكرناه في النصوص المتقدّمة في الفرع السابق.

وأجاب الأصحاب عنها بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «المنتهى »، قال: (إنّ ذلك حكاية حال فلا عموم، وإنّما تناول صورة واحدة، فلعلّ النبيّ صلى الله عليه و آله علم من حال المرأة العجز عن المشي، فأمرها بالركوب...) انتهى (2).

ونحوه ما عن «المعتبر»(3)، وقد تبعهما سيّد «العروة»(4).

وفيه أوّلاً: أنّ ما في ذيلها من التعليل يدفع ما أُفيد، فإنّه ظاهرٌ في أنّ المحذور عدم مطلوبيّة مشيها وحفاها.

وثانياً: أنّ الإمام عليه السلام اكتفى في مقام بيان الجواب عمّا سأله الراوي ببيان هذه الواقعة، ولو كان كما أفادوا من كونها قضيّة في واقعة، لما صحَّ ذلك كما لا يخفى .

الوجه الثاني: حملها على صورة التضرّر، أو إيجابه كشفها أو ما شابه ذلك.

وفيه: - مضافاً إلى أنّه حملٌ لا شاهد له - يأبى عنه ما في ذيلها من التعليل.

الوجه الثالث: أنّها تحمل بقرينة ما فيها من التعليل بعدم مطلوبيّة مشيها).

ص: 423


1- الإستبصار: ج 2/150، ح 3، وسائل الشيعة: ج 11/86، ح 14309.
2- منتهى المطلب: ج 2/875، (ط. ق).
3- المعتبر: ج 2/763.
4- العروة الوثقى: ج 4/524، (ط. ج).

وحفاها، على إرادة المشي حافياً، كما عن «الدروس»(1)، وسيّد «المدارك»(2)، لا نذر الحَجّ ماشياً حافياً.

لكنّه أيضاً لا يلائم مع كون نقله جواباً عمّا سأله الرّجُل عن الإمام الباقر عليه السلام.

إلّا أن يقال: إنّ السؤال أيضاً يكون عن نذر المشي حافياً، وعليه، فيعارضه الخبر الآخر، وهو خبر سماعة وحفص، قالا: «سألنا أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ نذر يمشي إلى البيت اللّه حافياً؟ قال عليه السلام: فليمش فإذا تعب فليركب»(3). والترجيح مع الخبر، لكن الصحيح إعراض الأصحاب عنه وعدم عملهم به.

لو نذر الحَجّ ماشياً أو حافياً مع كونه حَرَجيّاً عليه

الفرع الثاني: لو نذر الحَجّ ماشياً أو حافياً على نحو نذر الخصوصيّة، مع عدم تمكّن الناذر منه، لم ينعقد نذره لانتفاء الشرط.

ولو نذر مع تضرّره به، فإنْ قلنا بحرمة الإضرار بالنفس، فإنّه لا إشكال في عدم انعقاد النذر، لأنّ المشي أو الحفا وإنْ كان بعنوانه الأوّلي راجحاً، لكنّه بعنوانه الثانوي وهو كونه مضرّاً يصير مرجوحاً فلا ينعقد النذر.

وإنْ لم نقل بحرمته، فحكمه حكم ما لو كان حَرَجيّاً.

وملخّص القول فيه:

أوّلاً: أنّه تارةً لا يعلم حين النذر بكون المشي إلى الحَجّ أو الحفا فيه في وقته حَرَجيّاً، ولا كلام في انحلال نذره، بل في انكشاف عدم انعقاده من الأوّل لا من جهة تقيد نذره بكونه غير حَرَجي، فإنّه ربما لا يكون ملتفتاً إلى ذلك كي يقصده، بل

ص: 424


1- الدروس: ج 1/317، قوله: (ولا ينعقد نذر الحفاء في المشي للخبر).
2- راجع المدارك: ج 7/102-103 حيث علّق على الرواية: (بأنّ أقصى ما تدلّ عليه هذه الرواية عدم انعقاد نذر المشي مع الحفاء، وكأنّه لما فيه من المشقّة الشديدة، فلا يلزم من ذلك عدم انعقاد نذر المشي مطلقاً... الخ).
3- الكافي: ج 7/458، ح 19، وسائل الشيعة: ج 11/88، ح 14315.

لإطلاق أدلّة نفي العُسر والحَرَج الحاكم على جميع الأدلّة الأوّليّة، ولازم ذلك عدم وجوب الوفاء به، وعدم مشروعيّته، لا خصوص الأوّل منها، لما مرّ في بعض المسائل السابقة من الفصل السابق من أنّ حديث نفي الضرر ودليل نفي العُسر والحَرَج، إنّما ينفيان كلّ حكم أعمّ من التكليفي والوضعي، وبعده لا كاشف عن وجود الملاك، وإنّما يفيدان رفع العقاب او اللّزوم، وأمّا وجود الحكم مع بقاء الملاك فلا يمكن المساعدة على شيءٍ من ذلك.

نعم، لو أتى بالحجّ ماشياً أو حافياً حينئذٍ، كان ذلك عبادة مطلوبة للشارع، لأنّ دليل نفي العُسر لا يصلح لرفع الحكم الاستحبابي، لوروده مورد الامتنان.

ثانياً: وأمّا إذا علم من الأوّل كونه حَرَجيّاً عليه، فالظاهر وجوب الوفاء به، فإنّ دليل نفي العُسر والحَرَج لوروده مورد الامتنان لا يشمل ما كان في رفعه خلاف ذلك، وعليه فمن علم بأنّ المنذور حَرَجي ومع ذلك أقدم على ذلك، وجعله في ذمّته، أو علم أنّه ضرري وبرغم ذلك أقدم عليه مع عدم كون الإضرار بالنفس حراماً، أو كان الضرر ماليّاً، لا يكون نذره ذلك مشمولاً لأدلّة نفي العُسر والحَرَج أو الضرر، فتشمله العمومات والمطلقات الدالّة على الصحّة والنفوذ، إذ الفرض أنّ استحباب الحَجّ ماشياً أو حافياً بحاله، فالمتعلّق راجح في نفسه، ودليل وجوب الوفاء بالنذر أيضاً غير مشمول لتلك الأدلّة، فيجب الوفاء به، ويؤيّد ذلك ما دلّ من الأدلّة على وجوب الوفاء بنذر الحَجّ ماشياً أو حافياً، فإنّه حَرَجي بحسب الغالب، وكذا ما دلّ على وجوب الوفاء بنذر الصدقة وما شاكل، فإنّه ضرري، فيعلم من ذلك عدم مشموليّة الموردين لأدلّة نفي العُسر والحَرَج والضرر، فتدبّر.

تعيّين مبدأ المشي ومنتهاه

الفرع الثالث: في تعيّين مبدأ المشي ومنتهاه خلافٌ بين الأصحاب، فالكلام

ص: 425

في موردين:

المورد الأوّل: في المبدأ وفيه أقوال:

القول الأوّل: ما عن الشيخ في «المبسوط»(1)، والمصنّف رحمه الله في «التحرير»(2)، والمحقّق في «الشرائع»(3)، وغيرهم في غيرها(4) أنّه بلد النذر.

القول الثاني: ما عن الشهيد رحمه الله في «الدروس»(5)، ومالَ إليه صاحب «الحدائق» رحمه الله(6) وهو بلد الناذر.

القول الثالث: أنّه الأقرب من البلدين إلى الميقات(7).

القول الرابع: أنّه البلد الذي يقصد منه إلى الحَجّ ، ذهب إليه كاشف اللّثام(8).

القول الخامس: أنّه حين الشروع في أفعال الحَجّ ، اختاره الشهيد الثاني(9)وسيّد «المدارك»(10) وصاحب «الجواهر»(11) رحمه الله وغيرهم.

أقول: لا ينبغي الكلام في أنّه إنْ كان الناذر قَصَد محلّاً معيّناً، وتعلّق النذر به كذلك، كان هو المتعيّن، لأنّ المشي راجح من أي محلّ شرع فيه، فيتبع في تعيينه تعيّين الناذر.0.

ص: 426


1- المبسوط: ج 6/250، كما هو الظاهر.
2- تحرير الأحكام: ج 2/107، (ط. ق).
3- شرائع الإسلام: ج 3/725.
4- مسالك الأفهام: ج 11/320، مجمع الفائدة: ج 6/122، وغيرهما.
5- الدروس: ج 1/319.
6- الحدائق الناضرة: ج 14/230.
7- مدارك الأحكام: ج 7/103.
8- كشف اللّثام: ج 2/236، (ط. ق).
9- احتمله الشهيد الثاني في شرح اللّمعة: ج 2/181.
10- مدارك الأحكام: ج 7/103.
11- جواهر الكلام: ج 17/350.

ودعوى : أنّ المشي الراجح هو من مكّة، لصحيح رفاعة المتقدّم الدالّ على أنّ الحسن بن عليّ عليهما السلام كان مبدأ مشيه مكّة(1).

ممنوعة: بأنّه وإنْ كان يتضمّن الحديث أفضليّة الركوب إلّامن مكّة، لكن يعارضه عدّة من النصوص الدالّة على أنّ مشيه إلى الحَجّ كان من المدينة المنوّرة، فراجع(2).

وكذلك إذا كان هناك انصرافٌ ، وإلّا فالقول الأخير لا يخلو من قوّة، لما أفاده جمعٌ من الأساطين(3) بأنّ المشي حالٌ من الحَجّ وهو اسمٌ للمناسك المخصوصة، فلا يجب المشي إلّاحالة الحَجّ والاشتغال بأفعاله.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ ذلك يتمّ فيما لو قال الناذر: (للّه عَليَّ أن أحجّ ماشياً)، وأمّا لو نذر وأجرى الصيغة بما تضمّنته النصوص وهو هكذا: (للّه عَليَّ المشي إلى بيت اللّه أو إلى مكّة)، وما شاكل، فإنّه لا يأتي فيه البرهان المزبور، بل يمكن منعه في الأوّل أيضاً كما عن الشيخ في «المبسوط» بأن يُراد من الحَجّ القصد، لا الأفعال، فيجب المشي من حين الشروع قاصداً البيت الحرام.

وعلى ذلك، فالأظهر هو القول الرابع(4)، فإنّ المتبادر إلى الذهن من نذر الحَجّ ماشياً ما هو المتبادر إليه من نظائره، كنذر زيارة الحسين عليه السلام ماشياً، وهو المشي من حين الشروع في السفر، وإلى ذلك يرجع ما عن «كشف اللّثام» من التعليل له بتطابق العرف واللّغة، ويؤيّده النصوص المتضمّنة للقيام في المعبر الآتية.

هذا، ولو تمّ ما ذكرناه، وإلّا فمقتضى أصالة البراءة عدم الوجوب إلّامن أوّل أفعال الحَجّ . .

ص: 427


1- تهذيب الأحكام: ج 5/403، ح 48، وسائل الشيعة: ج 11/86، ح 14306.
2- صفحة 415 من هذا المجلّد.
3- راجع جواهر الكلام: ج 35/383، مستمسك العروة الوثقى: ج 10/358.
4- أي البلد الذي يقصد منه إلى الحَجّ .

المورد الثاني: البحث عن منتهى النذر.

فعن «الدروس»(1) و «الشرائع»(2) أنّ منتهاه مع عدم التعيين هو عند القيام بطواف النساء.

وعن «المسالك»(3) أنّه المشهور بين الأصحاب، وذهب أصحاب «المسالك»(4) و «المدارك»(5) و «الجواهر»(6) وغيرهم من الأساطين أنّه رمي الجمار، وربما يحتمل أن يكون المنتهى الإفاضة من عرفات.

ويشهد للثاني: جملة من النصوص:

منها: صحيح جميل، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «إذا حَجَجت ماشياً ورميتَ الجمرة، فقد انقطع المشي»(7).

ومنها: صحيح إسماعيل بن همّام، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: «قال أبو عبداللّه عليه السلام في الذي عليه المشي، إذا رمى الجمرة زار البيت راكباً»(8).

ومنها: صحيح الحلبي: «أنّه سأل أبا عبد اللّه عن الماشي متى ينقضي مشيه ؟ قال عليه السلام: إذا رمى الجمرة، وأراد الرجوع فليرجع راكباً، فقد انقضى مشيه، وإنْ مشى فلا بأس»(9). ونحوها غيرها.

أقول: ثمّ الظاهر أنّ مورد النصوص هو ما إذا لم يعيّن الناذر نهاية في نذره، وإنّما نذر الحَجّ ماشياً وأطلق من حيث المنتهى، وعليه فالنصوص على وفق القاعدة،1.

ص: 428


1- الدروس: ج 1/319.
2- شرائع الإسلام: ج 3/725.
3- مسالك الأفهام: ج 11/322.
4- مسالك الأفهام: ج 11/322.
5- مدارك الأحكام: ج 7/103.
6- جواهر الكلام: ج 17/350.
7- تهذيب الأحكام: ج 5/478، ح 338، وسائل الشيعة: ج 11/90، ح 14319.
8- الفقيه: ج 2/391، ح 2790، وسائل الشيعة: ج 11/89، ح 14318.
9- وسائل الشيعة: ج 11/90، ح 14322، مستطرفات السرائر، ص 561.

فإن آخر أفعال الحَجّ يكون رمي الجمار، فلو كان قصده المشي بعد ذلك وَجَب، ولعلّه لذلك أفتى المشهور - على ما نُسب إليهم(1) - بأنّ منتهى المشي هو طواف النساء، فإنّه وإنْ لم يكن من أجزاء الحَجّ ، ولكن عدم كونه من أجزائه لا ينافي ما ذكرناه، بعد كونه من توابع الحَجّ ، وعلى أيّ تقديرٍ تكفي النصوص المتقدّمة في ردّهم.

وبما ذكرناه ظهر مدرك القول الأوّل(2) وضعفه.

واستدلّ للثالث:(3) بخبر يونس بن يعقوب، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام متى ينقطع مشي الماشي ؟ قال عليه السلام: إذا أفاض من عرفات»(4).

وفيه: أنّه لم يُعرف القائل به، ولا يصلح لمعارضة النصوص المتقدّمة، ولا يمكن الجمع بتقيّيده بما إذا افاض ورمى كما هو واضح، وعليه فالمتعيّن طرحه أو حمله على بعض المحامل.

عدم جواز ركوب البحر لمَن نذر المشي

الفرع الرابع: لا خلاف في أنّه إذا نذر المشي إلى الحَجّ ، لا يجوز له أن يركب البحر، لمنافاته للنذر.

ولو اضطرّ لركوب البحر لعروض المانع من سائر الطرق، فقد يقال بأنّ النذر ينعقد ولا ينحلّ ، ويجب المشي إلّافيما لا يمكن، لأنّ نذر المشي ينصرف إلى ما يصحّ المشي فيه، فيكون موضع العبور مستثنى بالعادة، ولكن ذلك فيما لو علم بذلك من الأوّل، وأمّا الجاهل به، بل المعتقد تمكّنه من المشي في جميع الطريق، فلا يتمّ فيه ذلك، فإنّه ينصرف إلى المشي في الجميع، والفرض أنّه غير متمكّن من ذلك،

ص: 429


1- نسبه إليهم الشهيد الثاني في المسالك كما تقدّم قبل قليل.
2- كون منتهاه مع عدم التعيّين طواف النساء.
3- كون منتهاه الإفاضة من عرفات.
4- وسائل الشيعة: ج 11/90، ح 14323، قرب الإسناد: ص 75.

فيسقط نذره.

نعم، إذا كانت النقطة التي يمتنع المشي فيها قصيرةٌ جدّاً، بحيث لا ينافي صدق المشي في طريق الحَجّ ، لا يسقط نذره، بل له أن يركب البحر.

وأمّا خبر السكوني الآتي، فلعدم وروده في مقام بيان موارد انعقاد النذر لا إطلاق له من هذه الجهة، وسيأتي الكلام فيه.

أقول: وبهذا يظهر حكم ما لو كان الطريق منحصراً في البحر منذُ البداية:

1 - فإنّه إن علم به وبرغم ذلك نَذَر المشي انعقد نذره، وانحصر مشيه الواجب في المقدار الممكن، ولا مانع من الركوب الذي يحتاج إليه.

2 - وإنْ كان جاهلاً به، فإنْ كان المقدار الذي يحتاج فيه إلى الركوب قصيراً، بمقدار لم يكن مضرّاً بصدق أنّه حَجّ ماشياً انعقد أيضاً، ولا يضرّ الركوب في ذلك المقدار، وإلّا فالظاهر عدم انعقاد نذره، لعدم التمكّن من متعلّقه.

والاستدلال بقاعدة الميسور لوجوب الباقي في غير محلّه، لعدم تماميّتها في أجزاء الواجب.

أقول: اختلف الأصحاب في هيئته حال الركوب:

1 - نُسب إلى المشهور أنّه يجب أن يقوم في المركب في ما يجوز الركوب، دون أن ينحلّ نذره.

2 - لكن التزم المصنّف في «التذكرة»(1) و «المنتهى »(2) و «التحرير»(3)و «القواعد»(4) باستحباب القيام فيه.

3 - وذهب جماعة إلى عدم وجوبه وعدم استحبابه.1.

ص: 430


1- تذكرة الفقهاء: ج 7/103، (ط. ج).
2- منتهى المطلب: ج 2/875، (ط. ق).
3- تحرير الأحكام: ج 2/106، (ط. ج).
4- قواعد الأحكام: ج 3/291.

واستدلّ للأوّل: بقاعدة الميسور، بتقريب أنّ المشي مركّبٌ من القيام والحركة، فإذا تعذّر أحدهما لم يسقط الآخر.

وفيه: - مضافاً إلى عدم تماميّة قاعدة الميسور في أجزاء المركّب - أنّه لا يكون القيام ميسور المشي عرفاً، بل مفهوم المشي لم يُؤخذ فيه القيام، وإنّما اجتماعهما غالبي.

وربما يستدلّ له بخبر السكوني، الذي رواه المشائخ الثلاثة عن جعفر عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام سُئل عن رجلٍ نذر أن يمشي إلى البيت، فعبر في المعبر؟ قال عليه السلام: فليقم في المعبر قائماً حتّى يجوزه»(1).

والإيراد عليه: بضعف السند في غير محلّه، لأنّ السكوني والنوفلي الموجودين في السند، من المعتمدين عليهم عند الأصحاب، وقد بيّنا القرائن الموجبة للوثوق بأخبارهما في بعض مباحث هذا الشرح.

وأضعف منه: دعوى الإعراض، فإنّه مع إفتاء الأصحاب بوجوب القيام كيف يُدّعى الإعراض ؟!

وعليه، فالأظهر وجوب القيام.

أقول: هذا فضلاً عن أنّ الخبر من جهة وروده في مقام بيان الوظيفة مع الركوب في المعبر، لا دلالة له على جواز الركوب فيه وعدمه، وعليه فمن جهة عدم معلوميّة مورد الجواز، لابدّ من الاقتصار على القَدَر المتيقّن، وهو ما تقدّم من الموارد التي تقتضي القاعدة جوازه فيها.

وبما ذكرناه ظهر ضعف ما عن المصنّف رحمه الله من حمل الأمر فيه على الاستحباب، إذ لا وجه له إلّاأحد أمرين:

1 - إمّا ضعف سنده والحكم بالاستحباب لقاعدة التسامح في أدلّة السُّنن.

2 - أو أنّ نذر المشي ينصرفُ إلى ما يصحّ المشي فيه، فيكون موضع العبور6.

ص: 431


1- الفقيه: ج 3/374، ح 4316، وسائل الشيعة: ج 11/92، ح 14326.

مستثنى بالعادة، فلا يتعلّق النذر به مطلقاً، كما في «المنتهى »(1).

لكن قد عرفت ما فيهما.

لو نذر المشي في الحَجّ فحجَّ راكباً

الفرع الخامس: إذا نذر المشي فخالف نذره فحَجّ راكباً، ففيه صور:

الأُولى: أن ينذر الحَجّ ماشياً في سنة معيّنة.

الثانية: أن ينذر الحَجّ ماشياً مطلقاً، من غير تقيّيد بسنةٍ معيّنة، فخالف وأتى به راكباً.

الثالثة: أن ينذر المشي في حجّ معيّنٍ منذورٍ بنذرٍ آخر، أو بحَجّة الإسلام مثلاً، أو ما شابه ذلك.

أمّا في الصورة الأُولى : فالكلام فيها من جهات:

1 - تارةً في صحّة ما أتى به من الحَجّ راكباً.

2 - واُخرى في إجزائه عن الحَجّ المنذور.

3 - وثالثة في وجوب القضاء والكفّارة.

أمّا صحّة ما أتى به، فهي مقتضى القاعدة، فإنّه وإنْ خالف المنذور إلّاأنّ المأتي به عبادة في نفسه، وقع على وفق أمره، فيكون صحيحاً.

وعن سيّد «المدارك»(2) وغيره بطلانه، واستدلّ للبطلان بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الأمر بالحجّ المنذور، وهو الحَجّ ماشياً يقتضي النهي عن ضدّه وهو الحَجّ راكباً، والنهي عن العبادة يقتضي الفساد.

ص: 432


1- منتهى المطلب: ج 2/875، (ط. ق).
2- مدارك الأحكام: ج 7/108.

وفيه أوّلاً: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، كما حُقّق في الاُصول(1).

وثانياً: أنّ التضادّ إنّما هو بين الركوب والمشي، وشيءٌ منهما لا يكون داخلاً في الحَجّ ومن أجزائه، فلو كان هناك اقتضاء، فإنّما هو اقتضاء الأمر بالمشي للنهي عن الركوب لا عن الحَجّ ، إلّاأن يأتي ببعض أفعال الحَجّ راكباً كالطواف والسعي، فإنّه حينئذٍ يتّحد المأمور به والمنهيّ عنه، فيفسد على فرض تسليم المبنى .

وأمّا الركوب في الطريق، فلا يوجب فساد ما بعده من الأعمال.

الوجه الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم من المعاصرين(2) وهو أنّه بناءً على أنّ السير من الميقات إلى مكّة من أجزاء الحَجّ ، فإنّه يشكل الحكم بصحّته من جهة أنّ السير راكباً تفويتٌ لموضوع النذر، فيكون حراماً من باب أنّ علّة الحرام حرام ولو عقلاً، على نحو يكون مبعداً، فيمتنع أن يكون مقرّباً، وحرمة السبب المبعد المفوّت للواجب لا ترتبط بحرمة الضدّ.

وفيه: أنّ ما ذكر أحد الوجوه التي استدلّ به للاقتضاء، وهو يجري في جميع موارد التضادّ، مثلاً الصلاة والإزالة يجري فيهما عين هذا البرهان، ويقال إنّ الصلاة مفوّتة للإزالة الواجبة، فتكون حراماً من باب أنّ علّة الحرام حرام.

والحلّ : أنّ الحرام هو العلّة التامّة والسبب التوليدي للحرام حرامٌ دون العلل المُعدّة، وفي المقام على فرض ترك الحَجّ راكباً، يمكن له أن يحجّ ماشياً، كما يمكن أن لا يحجّ أصلاً، وتمام الكلام في محلّه.

الوجه الثالث: ما دلّ على أنّه لا تطوّع في وقت الفريضة، فإنّ الحَجّ راكباً تطوّعٌ ، والواجب عليه الحَجّ ماشياً فهو ممنوعٌ عنه.

وفيه أوّلاً: أنّه يختصّ الدليل بالصلاة، ولا مورد له في غيرها إلّابالقياس.2.

ص: 433


1- راجع: زبدة الاُصول، بحث: (اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ العام).
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/362.

وثانياً: أنّه لا مانع من التطوّع في وقت الفريضة حتّى في الصلاة، كما حُقّق في محلّه.

وثالثاً: أنّه وإنْ وجب الحَجّ ماشياً، إلّاأنّ المأتي به أيضاً ربما يكون واجباً بإجارة وشبهها.

الوجه الرابع: ما عن سيّد «المدارك»(1) من أنّه يستفاد من الحكم بوجوب الإعادة كون الحَجّ المأتي به فاسداً.

وفيه: أنّه لم يدلّ دليلٌ على وجوب الإعادة، ولو كان هناك إجماعٌ فإنّما تكون الإعادة من جهة قضاء ما تركه من الواجب بالنذر، ولا يستفاد منه عدم صحّته، لمطابقته للمأمور به بأمر آخر غير الأمر النذري.

الوجه الخامس: أنّ الحَجّ النذري الذي هو المقصود لم يقع، وما يُحكم بوقوعه لم يقصد.

وفيه أوّلاً: أنّه لو تمّ لاختصّ بما إذا لم يقصد الحَجّ الآخر، بل قصد الحَجّ النذري، ومحلّ الكلام أعمّ من ذلك.

وثانياً: أنّ النذر لا يكون منوّعاً للحجّ ، ولا يوجب قيديّة المشي له، وإنّما يوجب وجوب المقيّد، وعليه فمن أتى به وإنْ قصد الحَجّ المنذور، يكون آتياً بالحجّ المأمور به بالأمر التطوّعي مثلاً مع جميع قيوده وحدوده، مضافاً إلى اللّه تعالى ، ولا يعتبر في الامتثال وسقوط الأمر أزيد من ذلك، والإتيان به بعنوان الوفاء بالنذر، لا يكون أحد الموانع عن التقرّب، إلّاإذا علم بعدم كونه كذلك، فينطبق عليه عنوان التشريع المحرّم.

أقول: وبذلك يظهر ما في كلام بعض الأعاظم حيث قال: (إنّ الناذر حين ما يأتي بالحجّ المنذور، يأتي به بعنوان الوفاء بالنذر، والوفاء من العناوين التقييديّة5.

ص: 434


1- مدارك الأحكام: ج 7/105.

لا من قبيل الدّاعي، فمع انتفائه لا قصد للفاعل، وحينئذٍ لا يكون عبادة لانتفاء قصد الأمر)(1).

وقدمرّتفصيل ذلك في مسألة من وجب عليه حَجّة الإسلام، وأتى بغيرها، فراجع(2).

فالمتحصّل: أنّ الأظهر صحّته.

الجهة الثانية: وهي البحث عن إجزاؤه عن الحَجّ المنذور، فالأظهر عدمه، لأنّ المشي داخل في تحقّق الحَجّ المنذور، فمع الإخلال به لا يتحقّق الوفاء بالنذر، لعدم تحقّق متعلّقه، وما نسب إلى المصنّف رحمه الله(3) والمحقّق(4) وغيرهما(5) من الإجزاء، فالظاهر أنّ محلّ كلامهم نذر المشي خاصّة، لا الحَجّ ماشياً، فراجع كلماتهم.

أمّا الجهة الثالثة: فإنّه لا إشكال في وجوب الكفّارة عليه، لحنث النذر، وأمّا وجوب القضاء فقد مرّ الكلام فيه مفصّلاً، وعرفت أنّه لا دليل عليه سوى الإجماع، وتسالم الأصحاب عليه.

وأمّا في الصورة الثانية: وهي ما لو نذر الحَجّ ماشياً غير مقيّدٍ بسنة معيّنة، فلو حَجّ راكباً صحَّ حَجّه، وأجزأ عمّا أتى به بعنوانه - غير عنوان النذر - بلا كلام، ولا كفّارة عليه، لعدم المخالفة.

نعم، يجب عليه الإتيان به ماشياً في العام اللّاحق أو فيما بعده من السنوات بعنوان الأداء لا القضاء، وهذا واضح.

وأمّا في الصورة الثالثة: وهي ما لو نذر المشي في الحَجّ المعيّن، كما لو نذر الحَجّ مطلقاً ثم نذر نذراً آخر بإتيان المنذور ماشياً، فحجّ راكباً، فالكلام في صحّة ما أتى0.

ص: 435


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 10/364.
2- صفحة 395 من هذا المجلّد.
3- قواعد الأحكام: ج 3/291.
4- المعتبر: ج 2/763.
5- المبسوط: ج 6/250.

به، هو الكلام فيها في الصورة الأُولى قولاً ودليلاً، فالأظهر صحّته.

وأمّا إجزاؤه عن حَجّه المنذور فالظاهر ذلك، فإنّ النذر الثاني لا يوجب قيدية المشي للمنذور بالنذر الأوّل، وعليه فيكون مُجزياً عنه، كما صرّح به المصنّف رحمه الله في أغلب كتبه.

وأمّا الكفّارة فالظاهر ثبوتها لمخالفته النذر الثاني، وعدم وجوب القضاء واضحٌ لا سُترة عليه.

ولو ركب بعضاً ومشى بعضاً، فحكمه حكم ركوب الكلّ ، لأنّ المقصود من نذر قطع المسافة بالمشي، قطعها كذلك في عام واحد، وعليه فما عن الشيخ(1) وجمعٍ من الأصحاب(2) من أنّه يقضي ويمشي موضع الركوب. غير تامّ .

كما أنّ الاستدلال لذلك بما عن «المختلف» من أنّ الواجب عليه قطع المسافة ماشياً وقد حصل بالتلفيق، فيخرج عن العهدة(3)، في غير محلّه.

وقد أجاب هو قدس سره أيضاً عن ذلك بالمنع من حصوله مع التلفيق (4) ، والظاهر أنّ ما ذكرناه واضحٌ لا حاجة إلى إطالة الكلام فيه.

لو نذر المشي في الحَجّ ثمّ عجز

الفرع السادس: لو نذر أن يحجّ ماشياً وانعقد نذره لتمكّنه منه، ثمّ عجز عن المشي، سقط وجوب المشي بلا كلام، لعدم التمكّن.

وأمّا في وجوب الحَجّ راكباً فأقوال:

ص: 436


1- المبسوط: ج 1/303 قوله: (وإنْ ركب ناذر المشي مع القدرة على المشي لم يجزه، وعليه أن يُعيد الحَجّ يركب ما مشى ويمشي ما ركب). وفي: ج 6/250، قال أيضاً: (وروى أصحابنا أنّه يُعيد الحَجّ ويمشي ما ركب).
2- شرائع الإسلام: ج 3/725، الدروس: ج 1/319 قوله: (وإنْ ركب بعضه قضى ملفّقاً فيمشي ما ركب ويتخير فيما مشى منه). (3و4) مختلف الشيعة: ج 4/379.

القول الأوّل: وجوبه راكباً مع سياق بدنة، نُسب إلى الشيخ(1) وجماعة من الفقهاء(2)، وعن «الخلاف»(3) دعوى الإجماع عليه.

القول الثاني: وجوبه راكباً بلا لزوم سياق بدنة، وهو المنسوب إلى المفيد(4)، وابن الجُنيد(5)، وابن سعيد(6)، والشيخ(7) في نذر الخلاف، وعن «كشف اللّثام»(8)أنّه يحتمله كلام الشيخين والقاضي ونذر «النهاية» و «المقنعة» و «المهذّب».

القول الثالث: سقوط وجوب الحَجّ إذا كان الحَجّ مقيّداً بسنةٍ معيّنة، أو كان مطلقاً مع اليأس من التمكّن بعد ذلك، وتوقّع المُكنة مع الإطلاق وعدم اليأس، وقد نُسب إلى الحِلّي(9) والمصنّف في «الإرشاد»(10) والمحقّق الثاني في حاشية «الشرائع»(11)، وهو الظاهر من «المنتهى »(12).

القول الرابع: وجوب الركوب مع تعيّين السنة، أو اليأس في صورة الإطلاق،).

ص: 437


1- النهاية: ص 205، المبسوط: ج 1/303.
2- حكاه في منتهى المطلب: ج 2/875 (ط. ق)، عن الشافعي في أحد قوليه، وأحمد في إحدى الروايتين، وعن أبي حنيفة أنّه أوجب الهَدْي مع العجز والقدرة أيضاً.
3- الخلاف: ج 6/193 (مسألة 2: من وجوب الوفاء إلى نذر المشي) قوله: (وإنْ كان ركب مع العجز لم يلزمه شيء، وقد روي أنّ عليه دماً).
4- المقنعة: ص 565.
5- فتاوى ابن الجُنيد: ص 305.
6- الجامع للشرائع، لابن سعيد الحِلّي: ص 176.
7- الخلاف: ج 6/193.
8- كشف اللّثام: ج 5/145، (ط. ج).
9- المعتبر: ج 2/763، المختصر النافع: ص 76 و 77.
10- إرشاد الأذهان: ج 2/94.
11- حكاه غير واحد عن حاشية الشرائع.
12- منتهى المطلب: ج 2/876، (ط. ق).

وتوقّع المُكنة مع عدم اليأس فيها، وهو المنسوب إلى المصنّف في «المختلف»(1)، والشهيد الثاني في «المسالك»(2).

القول الخامس: وجوب الركوب مع سياق بدنة إذا كان بعد الدخول في الإحرام، وإذا كان قبله فالسقوط مع التعيّين وتوقّع المكنة مع الإطلاق، وهو الذي اختاره سيّد «المدارك»(3).

هذه هي أقوال المسألة.

وأمّا المدرك: فلابدّ من التكلّم في موردين:

الأوّل: فيما تقتضيه القاعدة.

الثاني: في مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا المورد الأوّل:

1 - فإنْ كان المنذور مقيّداً بسنةٍ معيّنة، سقط وجوب الحَجّ مع العجز عن المشي، لعدم التمكّن من المشي الذي هو قيد للمنذور، والتمسّك بقاعدة الميسور في وجوب الباقي، قد مرّ غير مرّة أنّه غير تامّ ، لعدم تماميّة القاعدة في إجزاء الواجب.

وما عن الشهيد رحمه الله من أنّ نذر الحَجّ ماشياً يرجع إلى نذرين: نذر الحَجّ ، ونذر المشي، فإذا تعذّر الثاني بقي الأوّل(4)، فإنّه يرد عليه أنّه غير ظاهر، فإنّ النذر واحدٌ ورد على المقيّد بالمشي، وإرجاعه إلى نذرين خلاف قصد الناذر.

2 - وإنْ كان المنذور غير مقيّد بسنةٍ معيّنة، فإنْ ارتفع العذر وتمكّن وجب الإتيان به، إذ المفروض أنّ وقت المنذور موسّع، وهو متمكّنٌ من العمل به، ومجرّد العجز في بعض الوقت مع التمكّن منه بعده، لا يوجب سقوطه من غير فرقٍ بين1.

ص: 438


1- مختلف الشيعة: ج 4/377.
2- مسالك الأفهام: ج 11/327 و 328.
3- مدارك الأحكام: ج 7/108.
4- شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/183، مسالك الأفهام: ج 2/161.

اليأس من المكنة أو الرجاء لها، وهذا هو القول الثالث مع اختلاف يسير.

وأمّا المورد الثاني: ففي المقام طوائف من النصوص:

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على وجوب الحَجّ راكباً مع سياق بدنة:

منها: صحيح الحلبي: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل نذر أن يمشي إلى بيت اللّه، وعجز عن المشي ؟ قال عليه السلام: فليركب وليسق بدنة، فإنّ ذلك يجزي عنه إذا عرف اللّه تعالى منه الجهد»(1).

ومنها: صحيح ذريح المحاربي: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل حلف ليحجنّ ماشياً، فعجز عن ذلك فلم يطقه ؟ قال عليه السلام: فليركب وليسق الهدي»(2).

ومنها: خبر أنس: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله رأى رجلاً يتهادى بين ابنيه وبين رجلين، قال: ما هذا؟ قالوا: نذر أن يحجّ ماشياً، قال: إنّ اللّه تعالى غنيٌّ عن تعذيب نفسه، مُروه فليركب وليهد»(3).

أقول: وهذه النصوص ظاهرة في وجوب الحَجّ راكباً مع سياق بدنة من غير فرقٍ بين كون النذر مقيّداً بسنةٍ معيّنة أو مطلقاً، مع عدم توقّع المكنة، أمّا مع توقّعها والعلم بالمكنة بعد ذلك، فالظاهر عدم شمول النصوص له، فإنّ موضوعها العجز عن الإتيان بالمنذور، فلا بدَّ وأن يكون في المطلق عاجزاً في تمام العمر، فحينئذ إن علم بذلك حَجّ راكباً، وساق بدنة، وإنْ علم بالمكنة توقّعها، وإنْ شكّ في ذلك يستصحب العجز، فتشمله النصوص، وفي الصورتين إذا تمكّن أتى بالمنذور، فإنّه ينكشف به عدم شمول النصوص له من الأوّل.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على وجوب الحَجّ راكباً، من دون تعرّض لسياق البدنة:3.

ص: 439


1- تهذيب الأحكام: ج 5/13، ح 36، وسائل الشيعة: ج 11/86، ح 14308.
2- تهذيب الأحكام: ج 5/403، ح 49، وسائل الشيعة: ج 11/86، ح 14307.
3- وسائل الشيعة: ج 11/88، ح 14313.

منها: صحيح رفاعة بن موسى ، قال: «قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: رجلٌ نذر أن يمشي إلى بيت اللّه ؟ قال: فليمش. قلت: فإنّه تعب ؟ قال: فإذا تعب ركب»(1).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم: «سأل أحدهما عليه السلام عن رجل جَعَل عليه مشياً إلى بيت اللّه تعالى فلم يستطع ؟ قال عليه السلام: يحجّ راكباً»(2).

ونحوهما أخبار سماعة، وحفص(3)، ومحمّد بن مسلم(4)، وحريز(5)، ومرسل الصدوق(6)، وبعضها في نذر المشي حافياً.

والجمع بين الطائفتين يقتضي أن يلتزم بوجوب السياق، فإنّ السكوت عن بيان القيد لا يزيد عن المطلق الذي يقيّد إطلاقه بالمقيّد.

الطائفة الثالثة: ما يكون صريحاً في عدم وجوب سياق بدنة، كخبر عنبسة بن مصعب، قال:

«قلت له - يعني لأبي عبد اللّه عليه السلام -: اشتكى ابنٌ لي فجعلتُ للّه عَليَّ إنْ هو برأ أن أخرج إلى مكّة ماشياً، وخرجتُ أمشي حتّى انتهيت إلى العقبة، فلم استطع أن أخطو فيه، فركبتُ تلك اللّيلة حتّى إذا أصبحتُ مشيتُ حتّى بلغت، فهل عَليَّ شيء؟ قال، فقال لي: إذبح فهو أحبّ إليّ . قلت له: أيّ شيء هو إليّ لازم أم ليس لي بلازم ؟ قال: من جعل للّه على نفسه شيئاً فبلغ فيه مجهوده، فلا شيء عليه، وكان اللّه أعذر لعبده»(7).1.

ص: 440


1- تهذيب الأحكام: ج 5/403، ح 48، وسائل الشيعة: ج 11/86، ح 14306.
2- تهذيب الأحكام: ج 8/304 ح 8. وسائل الشيعة: 11/88، ح 14314.
3- وسائل الشيعة: ج 11/88، ح 14315.
4- وسائل الشيعة: ج 11/89، ح 14316 و 14317.
5- وسائل الشيعة: ج 11/87، ح 14310.
6- وسائل الشيعة: ج 11/89، ح 14316 و 14317.
7- وسائل الشيعة: ج 11/87، ح 14311.

أقول: وإيراد صاحب «المدارك» عليه بأنّ الراوي لها واقفي ناووسي(1)، في غير محلّه، فإنّ الراوي عنه هو البزنطي الذي يعدّ من أصحاب الإجماع، مضافاً إلى اعتماد الشيخ وجماعة عليه، مع أنّ ابن أبي عمير يروي عن جميل في نفقة الأقارب روايةً فيها قال جميل: (قد رووا أصحابنا - وهو عنبسة بن مصعب وسودة بن كلب - الحديث)، وهذه كلّها تكفي في كون الخبر موثّقاً، ولذا عدّه صاحب «الجواهر» من قسم الموثّق(2).

وبالجملة: والجمع بينه وبين النصوص المتقدّمة يقتضي حملها على الاستحباب من جهة حمل الظاهر على النّص، ويؤيّد ذلك الطائفة الثانية، ومقتضى إطلاق النصوص عدم الفرق في وجوب الركوب بين أن يكون العجز قبل الشروع في الذهاب أو بعده، ومن غيرفرقٍ أيضاًبين قبل الدخول في الإحرام أو بعده، واختصاص بعض النصوص بما بعد الإحرام لا يوجب تقيّيد إطلاق غيره، لكونهما متوافقين.

وبما ذكرناه ظهر مدارك سائر الأقوال وما يرد عليها.

والمستفاد من صحيح رفاعة وخبر حفص وسماعة المتقدّمين أنّ الحَرَج والتعب يكفي في وجوب الركوب، وإنْ لم يصل إلى حَدّ العجز.

أقول: وربما يورد على الاستدلال بالنصوص لوجوب الركوب، بأنّ الأمر فيها لوروده مورد توهم الحظر، لا يستفاد منه أزيد من الجواز، فلا دليل على وجوب الركوب، ولذلك التجأ بعضهم للاستدلال على الوجوب تارةً بالإجماع، واُخرى بقاعدة الاحتياط، وثالثةً بقاعدة الميسور، والكلّ كما ترى .

ولكن يرد على الإشكال: أنّه في الفرض يحتمل السائل ابتداءً عدم وجوب الحَجّ أصلاً، ووجوبه راكباً، ولا يحتمل شيئاً آخر، فلا صارف عن ظهور الأمر5.

ص: 441


1- مدارك الأحكام: ج 7/107.
2- جواهر الكلام: ج 17/355.

في الوجوب.

وبعبارة اُخرى : احتمال المنع عن الركوب إنّما هو في ظرف القدرة على المشي، لا في صورة العجز عنه، فتدبّر.

مع أنّ قوله في صحيح الحلبي بعد الأمر بالركوب: (فإنّ ذلك يُجزيه)، كالصريح في اشتغال الذمّة بالحجّ بعد العجز أيضاً، وأنّ الحَجّ راكباً يُجزي عنه ويسقطه، ومع هذا التعليل لا معنى لاحتمال ورود الأمر مورد توهم الحظر.

فتحصّل: أنّه لا مناص عن البناء على وجوب الحَجّ راكباً.

ولا فرق فيما ذكرناه من مقتضى القاعدة، وفيما يستفاد من النصوص الخاصّة، بين أن يكون العجز عن المشي لضعفٍ في الاستعداد، أو لمرضٍ ، أو لوجود مانعٍ في الأرض من ماء ونحوه، أو لمانعٍ آخر من عدوّ أو حيوان.

وانصراف النصوص إلى خصوص ما إذا كان العجز عن قصورٍ في الفاعل، فيختصّ بالأولين لو سُلّم، فهو بدوي يزول بأدنى تأمّل.

هذا آخر هذا الجزء، ويليه في الجزء القادم البحث عن النيابة في الحَجّ ، والحمد للّه أوّلاً وآخراً، وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد و على آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

***

ص: 442

فهرس الموضوعات

كتابُ الحَجّ 7

وجوب الحَجّ من ضروريّات الدِّين 8

أقسام الحجّ الواجب 11

عدم وجوب حجّة الإسلام إلّامرّة واحدة 11

شرائط وجوب حَجّة الإسلام 19

اشتراط الزاد والراحلة 22

عدم اختصاص اشتراط الراحلة بصورة الحاجة إليها 25

اعتبار الراحلة في حقّ القريب 33

عدم اعتبار وجود عين الراحلة والزاد 36

حكم عدم وجدان الزاد والراحلة إلّابأكثر من ثمن المثل 36

ملاحظة الشرف بالنسبة إلى الراحلة وعدمها 39

اعتبار الاستطاعة من مكانه لا من بلده 43

اعتبار وجود نفقة العود 45

فاقد الزاد إذا كان كسوباً 47

مستثنيات الحَجّ 49

وجوب بيع داره المملوكة لو كان بيده دار موقوفة 54

تبديل المستثنيات للصرف في الحَجّ 56

حكم شراء المستثنيات وترك الحَجّ 58

في المعارضة بين فرص الأموال في الحجّ أو النكاح 61

حكم الدَّين المساوي لمؤونة الحَجّ 65

ص: 443

لو كان عنده ما يكفيه للحجّ وكان عليه دين 72

حكم التصرّف في المال قبل خروج الرفقة 83

كفاية الملكيّة المتزلزلة في الاستطاعة 92

اعتبار مؤونة العيال في الاستطاعة 94

اشتراط الرجوع إلى الكفاية 98

لو تلف بعد الحَجّ ما به الكفاية 107

أخذ الوالد من مال الولد للحجّ 110

الاستطاعة البذليّة 114

إذا لم يكن الباذل موثوقاً به 119

لو كان يملك بعض النفقة فبذل له البقيّة 122

اشتراط مؤونة العيال في الاستطاعة البذليّة 124

لا يمنع الدين في الاستطاعة البذليّة 126

عدم اشتراط الرجوع إلى الكفاية فيها 128

إذا وهبه ما يكفيه للحجّ 131

إذا أعطاه الخمس وشرط عليه الحَجّ 135

إجزاء الحَجّ البذلي عن حجّة الإسلام 138

إذا رجع الباذل عن بذله 141

البذل للواحد المردّد 148

لو آجر نفسه للخدمة وجبَ عليه الحَجّ 150

الاستطاعة البدنيّة 157

الإستطاعة السربيّة 159

الاستطاعة الزمانيّة 165

لو اعتقد أنّه غير مستطيعٍ فبان الخلاف 166

حجّ الصبي لا يجزي عن حجّة الإسلام 170

ص: 444

عدم اعتبار تجديد النيّة بعد البلوغ 176

اعتبار الاستطاعة حين الكمال 178

عدم الفرق بين حجّ التمتّع والحجّين الآخرين 181

استحباب الحَجّ للصبي المميّز 182

اعتبار إذن الولي في حَجّ الصبي 185

يستحبّ للولي أنْ يُحرم بالصبي غير المميّز 187

استحباب الإحرام بالصبيّة والمجنون 188

طريقة إحجاج الصبي 192

المراد من الولي 193

مصارف الحَجّ على الولي 196

عدم إجزاء الحَجّ الندبي عن الواجب 203

الحَجّ عن الغير لا يُجزي عن حَجّة الإسلام 205

الحجّ مع العُسر والحَرَج 208

وجوب الإستنابة على المعذور 214

الإستنابة عن الحَيّ مع عدم استقرار الحَجّ عليه 220

عدم اختصاص وجوب الإستنابة بصورة اليأس 222

إجزاء حجّ النائب عن المنوب عنه 225

زوال العُذر في أثناء عمل النائب 227

الإستنابة للحجّ النذري 229

وجوب الحَجّ فوري 231

يجب إتيان المقدّمات المتوقّف عليها الحَجّ 236

لو مات من استقرّ عليه الحَجّ في الطريق 244

لو مات قبل استقرار الحَجّ عليه 249

تزاحم النذر والاستطاعة 252

ص: 445

الكافر مكلّف بالحَجّ 259

سقوط الحَجّ عن الكافر إذا أسلم 262

حكم المرتدّ 266

إذا حجّ المخالف ثمّ استبصر 270

الولاية شرط لصحّة الأعمال 276

لو استقرّ عليه الحَجّ ثمّ زالت الاستطاعة 281

ما به يتحقّق الإستقرار 286

لو زال بعض الشرائط في أثناء حجّه 291

لو مات المستطيع في عام استطاعته 294

قضاء حجّة الإسلام من أصل التركة 298

تزاحم الحَجّ مع الحقوق الماليّة 302

لو كان عليه الحَجّ ولم تف التركة به 305

الواجب الحَجّ البلدي أو الميقاتي 309

حكم الوصيّة بالحَجّ 314

المراد من البلد في الحَجّ البلدي 319

حكم اختلاف تكليف الميّت والوصيّ 322

انتقال المال إلى الورثة وعدمه 323

عدم كفاية الاستيجار في براءة ذمّة المنوب عنه 329

نيابة من استقرّ عليه الحَجّ 330

إذا كان الحَجّ عن الغير صحيحاً فالظاهر صحّة الإجارة عليه 340

استطاعة المرأة لا تتوقّف على وجود المَحرم 346

اختلاف الزوج والزوجة في وجود الأمن وعدمه 349

عدم اعتبار إذن الزوج في الحَجّ 351

الفصل الثالث / الحَجّ الواجب بالنذر والعهد واليمين 356

ص: 446

اعتبار البلوغ في انعقادها 357

انعقاد النذر وأخويه من الكافر 360

لو أسلم الكافر بعد النذر 365

نذر الزوجة الحَجّ بدون إذن الزوج 366

لو نذرت الحَجّ ثمّ تزوّجت 368

لو نذر الحَجّ من مكانٍ معيّن 370

عدم وجوب المبادرة إلى الحَجّ المنذور 372

وجوب قضاء الحَجّ المنذور 374

القضاء يؤدّى من أصل التركة أو الثُلث 379

لو نذر الحَجّ معلّقاً على أمر 386

نذر الإحجاج المعلّق على أمر 388

نذر حجّ الإسلام 392

لو نذر حَجّاً غير حجّة الإسلام 395

لو نذر مطلقاً بعد الاستطاعة 399

من عليه حَجّ الإسلام والحَجّ النذري 405

نذر الحجّ أو الإحجاج 408

نذر الحَجّ ماشياً 413

لو نذر الحَجّ حافياً 422

لو نذر الحَجّ ماشياً أو حافياً مع كونه حَرَجيّاً عليه 424

تعيّين مبدأ المشي ومنتهاه 425

عدم جواز ركوب البحر لمَن نذر المشي 429

لو نذر المشي في الحَجّ فحجَّ راكباً 432

لو نذر المشي في الحَجّ ثمّ عجز 436

فهرس الموضوعات 443

ص: 447

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.