سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -
عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح
عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.
مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.
مشخصات ظاهری:41ج.
شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9
وضعیت فهرست نویسی:فیپا
يادداشت:عربی.
يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -
يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.
يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.
یادداشت:کتابنامه .
یادداشت:نمایه.
مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.
موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر
موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.
شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده
شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح
رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392
رده بندی دیویی:297/342
شماره کتابشناسی ملی:3334286
ص: 1
فقه الصادق
تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
ص: 4
كتابُ الصّوم: وفيه أبواب:
الباب الأوّل: الصّوم: هو الإمساك عن المفطّرات مع النيّة.
(كتابُ الصّوم) ويلحقه الاعتكاف (وفيه أبواب):
(الباب الأوّل): في بيان ماهيّته، وما يتحقّق به، ووجوبه ونيّته، وأحكامه.
وفيه مسائل:
المسألة الأُولى : عن معنى (الصّوم) في اللّغة:
قيل: هو الإمساك، كما عن جماعةٍ من اللّغويين(1).
أو إمساك الحيوان كما عن آخرين(2).
وعن أبي عُبيدة(3): كلّ مُمسكٍ عن طعامٍ أو كلامٍ أو سيرٍ، فهو صائم.
وعن ابن دُريد(4): كلّ شيءٍ سكنت حركته، فقد صام صوماً.
(وهو) شرعاً (الإمساك عن المفطّرات مع النيّة) كما صرّح به غير واحدٍ(5).
وفي «الشرائع»(6) وغيرها(7): هو الكف عن المفطّرات مع النيّة.
ص: 5
وعن جماعةٍ (1): أنّه توطينُ النفس على ترك ما يأتي من المفطّرات.
وحيث إنّ البحث في ذلك لا يترتّب عليه أثر، فعدم التعرّض له أولى .
نعم، هنا أمران لابدَّ من التعرّض لهما:
أحدهما: أنّ الصّوم في عُرف المتشرّعة، وإطلاقات الشارع الأقدس، ليس له معنى آخر غير معناه اللّغوي، وإنّما هو أحد مصاديقه يطلق عليه، وما في جملةٍ من الكلمات من تعريفه بالكفّ عن المفطّرات، ليس من جهة أخذ الكفّ فيه، بل من جهة ما قيل إنّ الترك المجرّد خارجٌ عن تحت الاختيار، لكونه أزليّاً فلا يتعلّق به الأمر.
ويرد عليه: أنّ الترك وإنْ كان أزلاً خارجاً عن تحت الاختيار، إلّاأنّه بقاءٌ اختياري، وإلّا لم يكن الفعل اختياريّاً كما هو واضح، بل لا يُعقل صدور الترك المعتبرة فيه عن العزم عليها بأجمعها، فإنّ للتروك أسباباً كثيرة، فربّما يجتمع مع بعضها عدم المقتضي للفعل، وعدم التمكّن منه وما شاكل، فالترك في أمثال هذه الموارد مستندٌ إلى عدم المقتضي وعدم القدرة، لا إلى نيّة الترك، والعزم عليه، الذي هو من قبيل الموانع، فالذي يعتبر فيه هو كونه قاصداً للترك، وعازماً عليه، بحيث لو وجد سائر أجزاء علّة الفعل كان ذلك مؤثراً في الترك، ولذا لو نوى الصّوم في الغد ونام، أو غفل عن المفطّر إلى أنّ انقضى اليوم، صَحّ صومه بلا كلام، وسيأتي لذلك).
ص: 6
زيادة توضيح إن شاء اللّه تعالى .
الثاني: أنّه لا خلاف في إجزاء صوم من أفطر ناسياً، فهل يكون عمله هذا صوماً حقيقةً أم يكون بدلاً عنه ؟ وجهان:
أقواهما الثاني، لأنّ الصّوم عبارة عن الإمساك في الزمان المعيّن، والإفطار في جزء منه ينافي ذلك.
وعن بعض المحقّقين رحمه الله:(1) اختيار الأوّل، واستدلّ له بأنّ الصّوم هو الإمساك من غير تعمّد الإفطار.
وفيه: إنّ المراد من تعمّد الإفطار، إنْ كان إتيان المفطّر مع القصد إليه، فالناسي عن كونه صائماً يأتي بالمفطر عن التفاتٍ إليه واختياره، وإنْ كان المراد التعمّد إلى مفهوم الإفطار وعنوانه، وبعبارة أُخرى الالتفات إلى الصّوم، فيلزم صدق الصائم على أغلب الفُسّاق، فإنّهم غالباً غير ملتفتين إلى الصّوم والإفطار، وإنْ لم يصحّ صومهم لعدم النيّة، وهو كما ترى .
فالأظهر أنّ عمله بدل عن الصّوم ومجز عنه للدليل كما سيمرّ عليك.
وتشهد له: من الكتاب آيات:
1 - قال اللّه عزّ وجلّ : (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1)، و (كُتِبَ ) أي فُرِض، و (اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) هم الأُمم السّالفة من لدن أبينا آدم عليه السلام، إلى عهدنا، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) أي تتّقون المعاصي، فإنّ الصّوم يكسر الشهوة كما في الأخبار، أو لعلّكم تنتظمون في زُمرة المتّقين، الّذين شعارهم الصّوم.
أقول: وفي هذه الآية الشريفة إشارة إلى أنّ الصّوم كالصلاة مقرّبٌ إلى طاعات أُخر، وسببٌ لاجتناب جملةٍ من المعاصي، وإعلامنا بأنّه كان واجباً على جميع الأُمم:
إمّا تأكيدٌ للحكم، لأنّه إذا كان الحكم مستمرّاً من أوّل الخلقة تأكّد الانبعاث عنه.
أو تنبيهٌ على علّة مشروعيّته، بأنّ التكليف به عامٌ .
أو تطييبٌ للنفس، وتسهيلٌ عليها.
2 - قال اللّه تعالى : (أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (2)، وقوله (فَعِدَّةٌ ) جوابٌ للشرط، أي ففرضه عدّة من أيّام أُخر.
3 - قال اللّه سبحانه: (شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ4.
ص: 8
وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1) .
وأمّا النصوص: الدالّة عليه، فأكثر من أن تُحصى .
والكلام في أنّ منكر الضروري كافرٌ مطلقاً، أو بشرط علم المنكر بأنّه من الدِّين، قد تقدّم في البحث عن منكر الضروري من هذا الشرح(2)، وقد عرفت أنّ الثاني أظهر.
وعليه، فمن علم أنّه من الدِّين وأنكره مرتدٌّ ووجب قتله، إنْ كان وُلد على الفطرة، وإلّا فيستتاب وإنْ لم يتُب يُقتل، كما تقدّم تفصيل الكلام في ذلك.
ومن أفطر فيه لا مستحلّاً، عالماً عامداً، يُعزّر بلا خلافٍ ، لصحيح بُريد العِجْلي: «سُئل أبو جعفر عليه السلام عن رجلٍ شهد عليه شهود أنّه أفطر من شهر رمضان ثلاثة أيّام ؟ قال عليه السلام: يُسأل هل عليك في إفطار شهر رمضان إثم، فإنْ قال: لا، فإنّ على الإمام أن يقتله، وإنْ قال: نعم، فإنّ على الإمام أن ينهكه ضرباً»(3).
ومقتضى إطلاقه، كإطلاق التعزير في كلمات الفقهاء(4)، أنّ تقديره موكولٌ إلى نظر الإمام، وأنّه لم يقدّر بقدرٍ خاص.
نعم، في خصوص الإفطار بالجماع، دلَّ النَّص على أنّه يُعزّر خمسة وعشرين).
ص: 9
سوطاً، لاحظ خبر المفضّل بن عُمر، عن الصادق عليه السلام:
«عن رجلٍ أتى امرأته وهو صائمٌ وهي صائمة ؟، فقال:... إنْ كان أكرهها فعليه ضُرب خمسين سوطاً نصف الحَدّ، وإنْ كانت طاوعته ضُرب خمسة وعشرين سوطاً، وضُربت خمسة وعشرين سوطاً»(1).
وضعف سنده لو كان منجبرٌ بالعمل، والتعدّي عنه إلى سائر المفطّرات، غير خارج عن القياس، فإنْ عاد عُزّر ثانياً، فإنْ عاد قُتل على المشهور المنصور لموثّق سماعة: «سأله عن رجلٍ أُخذ في شهر رمضان، وقد أفطر ثلاث مرّات، وقد رفع إلى الإمام ثلاث مرّات ؟ قال عليه السلام: يُقتل في الثالثة»(2).
ونحوه خبر أبي بصير(3).
وأمّا المرسل: «إنّ أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة»(4) فلإرساله لا يُعتمد عليه، مع أنّه مطلقٌ يقيّد إطلاقه بما سبق.
وإنّما يُقتل في الثالثة إذا عُزّر في كلٍّ من المرتين، كما عن «التذكرة»(5) وغيرها(6)لاختصاص النَّص به.
وإذا ادّعى شبهة محتملة في حقّه، لم يُعزّر؛ لأنّ الحدود تُدرأ بالشّبهات.
***).
ص: 10
فإنْ تعيّن الصّوم كرمضان، كفت فيه نيّة القُربة، وإلّا افتقر إلى التعيين.
المسألة الثالثة: تعتبر في الصّوم النيّة، بمعنى الإرادة المحرّكة بالمعنى المتقدّم، أي كونه بحيث لو التفت، ووجد المقتضي والشرائط للفعل، يكون ذلك رادعاً عنه عن الفعل، لأنّه من الواجبات، واعتبار الاختيار فيها واضح.
ويعتبر فيه قصد القُربة، لأنّه من العبادات.
وأمّا الكلام في أنّ الدّاعي القُربي منحصرٌ في الأمر والمحبوبيّة أم لا، وبيان مراتب غايات الامتثال، وأنّ قصد الوجه والتمييز هل يعتبر أم لا، وغير ذلك من المباحث المتعلّقة بالنيّة، فقد تقدّم في كتاب الصَّلاة(1)، فلا نعيدها.
أقول: إنّما الكلام في المقام، في أنّه هل يعتبر في الصّوم قصد عنوان آخر وراء قصد عنوان الصّوم، أي الإمساك في الزمان الخاص أم لا؟
(ف) في المتن، وعن جماعةٍ من المتقدّمين(2) والمتأخّرين(3): (إنْ تعيّن الصّوم كرمضان) والنذر المعيّن، وما شاكل (كفت فيه نيّة القُربة) ولا يعتبر قصد عنوانٍ آخر، (وإلّا افتقر إلى التعيين).
ص: 11
وتنقيح القول بالبحث في موارد:
الأوّل: في خصوص صوم رمضان.
الثاني: في الصّوم المعيّن غيره.
الثالث: في الصّوم غير المعيّن، أعمّ من الواجب والمندوب.
أمّا المورد الأوّل: فالمشهور بين الأصحاب أنّه يكفي فيه قصد الصّوم وإنْ لم ينو كونه من رمضان، بل عن «التذكرة»(1)، و «المنتهى»(2)، و «المختلف»(3) نسبته إلى علمائنا.
وعن «التنقيح»(4)، و «الغُنية»(5) دعوى الإجماع عليه.
وعن «الذخيرة»(6): حكاية الخلاف عن نادرٍ.
أقول: والأوّل أظهر، لأنّ صوم شهر رمضان لم يُؤخذ فيه عنوانٌ آخر، ليلزم قصده، ولأصالة الإطلاق، ولأصل البراءة، ووقوعه في شهر رمضان ليس
ص: 12
عنواناًللمأمور به، لكون شهر رمضان ظرفاً للواجب، لا قيداً له، ولا يصحّ فيه صوم غير صومه، فإذا قصد الصّوم المطلق، فقد قصد المأمور به، وحيث إنّه لا يعتبر في الامتثال سوى الإتيان بالمأمور به مضافاً إلى المولى، فلا محالة يكتفي بذلك، ولا يعتبر فيه نيّة كونه من رمضان.
وإلى ذلك يرجع ما استدلّ به لهذا القول، بأنّ التعيين فرع صلاحيّة المورد للترديد، وحيثُ إنّ رمضان غير قابل له، فيكون متعيّناً بالذّات بلا حاجة إلى التعيين، فلا يرد عليه ما أورده بعض المعاصرين(1) من أنّ التعيين فرع الترديد في نظر المكلّف، وهو حاصل.
نعم، بناءً على ما عن الشيخ في «المبسوط»(2): من أنّ المسافر إذا نوى صوم التطوّع أو النذر المعيّن أو صوماً واجباً آخر، وقع عمّا نواه، وعليه قضاء رمضان، ويكون حكمه حكم الواجب المعيّن غير صوم رمضان الذي سيمرّ عليك.
لكن المبنى ضعيفٌ ، إذ عدم صحّة الصّوم الآخر غير صوم رمضان في شهر رمضان، لعلّه من قطعيّات أرباب الشريعة إنْ لم يكن من ضروريّاتها، كما عن «الجواهر»(3).3.
ص: 13
ويشهد له:
1 - مرسل الحسن بن بسام، عن رجلٍ ، قال: «كنتُ مع أبي عبد اللّه عليه السلام فيما بين مكّة والمدينة في شعبان وهو صائم، ثمّ رأينا هلال شهر رمضان، فأفطر. فقلت له: جُعِلت فداك، أمس كان من شعبان وأنتَ صائم، واليوم من شهر رمضان وأنتَ مُفطر؟
فقال عليه السلام: إنّ ذلك تطوّع، ولنا أن نفعل ما شئنا، وهذا فرضٌ وليس لنا أن نفعل إلّا ما أُمرنا»(1).
فإنّ مقتضى قوله عليه السلام: (وليس لنا... إلى آخره) عدم صحّة الصّوم فيه غير صوم رمضان، واشتمال صدره على ما لا يلتزم به لا يضرّ بالاستدلال بذيله.
فإن قيل: إنّه يدلّ على المنع عن صوم رمضان في السفر، فغير مربوط بالمقام.
قلنا: إنّ السؤال إنّما كان عن وجه كونه مفطراً، والفرق بين اليومين، فلو كان المراد من الجواب ما ذُكر، لما كان منطبقاً عليه، بل الظاهر منه كونه مسوقاً لبيان عدم صحّة صوم غير ما أمر به فيه، على النحو الذي أمر به، وهو صوم رمضان في الحضر، وبإطلاقه يدلّ على عدم صحّة صوم غير رمضان فيه، وضعف سنده منجبرٌ بالعمل.
2 - وخبر الزُّهري، عن عليّ بن الحسين عليهما السلام، في حديثٍ : «لأنّ الفرض إنّما وقع على اليوم بعينه»(2).
وقد استدلّ للقول الآخر: بتوقّف الإمتثال على الإتيان بالفعل المأمور به، من1.
ص: 14
جهة أنّه مأمورٌ به للسبب الذي أُمر به.
وفيه: منع التوقّف على الجزء الأخير.
أقول أوّلاً: ولو قصد في رمضان غير صوم رمضان عالماً عامداً، لا يُجزي لما قصده كما عرفت، لكن هل يُجزي عن صوم رمضان، كما عن السيّد(1)، والشيخ في «المبسوط»(2)، والمحقّق في «المعتبر»(3)، والمصنّف في «التذكرة»(4)، و «المختلف»(5)؟.
أم لا يُجزي كما عن الحِلّي(6)، والكركي(7)، والشهيدين(8) وغيرهم(9)؟ وجهان:
واستدلّ للأوّل: بأنّ القُربة حاصلة، وما زاد لغوٌ لا عبرة به.
ولكن يرد عليه: أنّ القُربة غير حاصلة، فإنّه بقصده أمراً غير أمر صوم رمضان يكون مشرّعاً، فصومه تشريعٌ محرّم، ولذا استدلّ للثاني بفوات التقرّب، لعدم قصد الأمر إلّاعلى الوجه التشريع المبغوض.
وثانياً: أمّا إنْ كان قصده لذلك عن جهلٍ أو نسيان، فالمشهور بين الأصحاب2.
ص: 15
الإجزاء عن صوم رمضان، بل عن غير واحد(1) دعوى الإجماع عليه.
وتشهد به: قاعدة الإجزاء والنصوص:
أمّا الأُولى : فلأنّ إجزاء المأتي به عن أمره عقلي، وفي المقام إذا أتى الصائم بالصّوم، وأضافه إلى المولى، فقد أتى بجميع ما تعلّق به الأمر، وما يعتبر أن يأتي به، لفرض عدم دخل عنوان آخر فيه، ولا يعتبرُ في الانتساب إلى المولى الإضافة إليه بقصد شخص الأمر الصادر عنه، بل الميزان الإتيان بالمأمور به بما أنّه مطلوبٌ له ومأمور به، ولا دليل على اعتبار شيءآخر فيه، والقُربة تحصل بذلك، فالإجزاء عقلي.
فإن قيل: إنّ ذلك يتمّ لو قصد الأمر الواقعي المتوجّه إليه في تلك الحالة، وإن اعتقد أنّه غير الأمر بصوم رمضان، فيكون من باب الخطأ في التطبيق، وأمّا لو كان ذلك على نحو التقييد، بأن كان قاصداً امتثال الأمر بصوم الكفّارة خاصّة، بحيث لو علم أنّه غير المأمور به، لما صام، فلا يصحّ ، فإنّ ما قَصَده لا واقع له، وما له واقعٌ لم يُقصد.
قلنا أوّلاً: إنّ هذا الوجه يجري في الفرض الأوّل، فإنّ من اعتقد أنّه أُمر بصوم الكفّارة وقَصَده، يكون قاصداً لما لا واقع له، وغير قاصد لما له واقع، وكونه بحيث لو توجّه إلى أنّه أُمر بصوم رمضان لقَصَده لا يكفي في الفرق.
وثانياً: بالحَلّ ، وهو أنّ اتّصاف الفعل بالعباديّة، لا يتوقّف على قصد خصوص الأمر الخاصّ المتوجّه إلى المتعلّق به، بل على الإضافة إلى المولى على غير الوجه المبغوض له، وهذا موجودٌ في الفرضين، والمفروض فيهما إتيان المأمور به بقيوده5.
ص: 16
الأُخر المعتبرة فيه، وقصد عنوان صوم الكفّارة مثلاً لم يدلّ دليلٌ على مانعيّته، فالأظهر هو الإجزاء مطلقاً.
وبذلك ظهر ما في كلام بعض المعاصرين(1) من أنّ لازم القول بالإجزاء مطلقاً، القول بالإجزاء والصحّة في العالم أيضاً، فإنّ العالم يُضيف الفعل إلى المولى على نحو التشريع المبغوض له، فلا يكون مقرّباً.
وأمّا النصوص: ففي خبر سماعة، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال عن الاجتزاء بصوم يوم الشكّ على أنّه من شعبان: (فإنْ كان من شهر رمضان أجزأ عنه بتفضّل اللّه، وبما قد وسّع على عباده»(2).
وفي خبر الزهري المتقدّم: (لأنّ الفرض وقع على اليوم بعينه). ونحوهماغيرهما.
القول الثاني: ما عن الشيخ في جملةٍ من كتبه(1)، والمحقّق في «الشرائع»(2)و «النافع»(3)، والمصنّف في «المختلف»(4)، والشهيد في «الدروس»(5) و «اللّمعة»(6)، من لزوم تعيين المأمور به.
القول الثالث: التفصيل بين النذر المعيّن وغيره، كالإجارة المعيّنة، والقضاء المضيّق، فيعتبر في الثاني دون الأوّل، وقد استند هذا القول إلى أكثر القائلين بالقول الأوّل، بل في «المستند»(7): (لم أجدُ خلافاً في لزوم التعيين في القسم الثاني).
ونخبة القول في المقام: إنّ الصّوم المأمور به:
1 - إنْ كان قد أخذ فيه عنوانٌ آخر وراء عنوان الصّوم، كالنيابة عن الغير، لزم التعيين قطعاً، فإنّ العنوان الآخر المفروض كونه قصديّاً، لا يتحقّق بدون القصد، ومعه لا وجه للإجزاء، لعدم انطباق عنوان المأمور به على المأتي به.
نعم، إذا كان الأمر المتوجّه إليه أمراً واحداً، ولم يكن أمرٌ آخر ولو بنحو الترتّب، وقَصَد الأمر، حيثُ إنّ الأمر لا يدعو إلّاإلى ما تعلّق به، فلا محالة يكون ذلك قصداً إجماليّاً لذلك العنوان، وهو كافٍ فيكون مجزياً، ولكن بما أنّ المختار صحّة الترتّب، وصلاحيّة الزمان لوقوع صيامٍ آخر فيه، ولو كان يجبُ إيقاع المعيّن فيه،).
ص: 18
فقصد الأمر وحده لا يكفي، بل لابدّ من تعيينه بنحوٍ آخر ولو بقصد الأمر الوجوبي المتوجّه إليه أوّلاً.
2 - وإن لم يؤخذ فيه عنوانٌ آخر، كما في الصّوم المنذور:
فإنْ كان معيّناً، كما هو المفروض، وبنينا على عدم صحّة الترتّب، صحَّ لو قصد الأمر، وإلّا فلا يصحّ ، فإنّه من جهة قابليّة المأتي به امتثالاً لكلا الأمرين، وعدم إمكان وقوعه امتثالاً لهما معاً، ولا لأحدهما المعيّن، لأنّه ترجيح بلا مرجّح، فلا محالة لا يقع امتثالاً لشيءٍ منهما، فيجبُ التعيين لذلك.
ولو قصد غير ذلك العنوان يقع عنه ويُجزي، بناءً على ما هو الحقّ من عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه، وتصحيح الترتّب.
وأمّا بناءً على تصحيح الترتّب، فلا يقع عمّا قصد، لعدم الأمر، وهل يجزي عن المأمور به ؟ الظاهر ذلك في غير صورة العلم والعمد، فإنّ الفرض إتيانه بما وَجَب عليه بجميع قيوده، وقصد العنوان الآخر لا يكون من الموانع للأصل، وقد أضافه إلى المولى حسب الفرض، فيصحّ ويُجزي.
وأمّا في صورة العلم، فحيثُ إنّه يكون مشرّعاً في قصده الأمر الآخر، فيكون حراماً، فلا يصحّ .
وقد استدلّ لعدم لزوم التعيين مطلقاً: بأنّه زمانٌ يتعيّن للصوم الخاص، فيكون كشهر رمضان لا يعتبر فيه التعيين.
وفيه: أنّ الفرق بين صوم شهر رمضان وغيره من أقسام المعيّن من ناحيتين:
أحدهما: عامّة لجميع الأقسام.
ص: 19
ثانيهما: مختصّة ببعضها.
أمّا الأُولى : فهي ما تقدّم من أنّ شهر رمضان لا يصلح لوقوع غير صومه فيه، وليس كذلك سائر الأقسام، فإنّ الوقت صالحٌ له بمقتضى إطلاق الأدلّة، فبالترتّب يمكن البناء على صحّة غيره من الصيام المعنون بعنوانٍ آخر لو وقع فيه.
وأمّا الثانية: فما عرفت من أنّ صوم شهر رمضان غير مقيّدٍ بعنوان آخر وراء الإمساك الخاص، وبعض أقسام المعيّن يعتبر فيه عنوانٌ قصدي آخر.
وقد يقال: إنّ الصّوم المنذور أيضاً من أقسام الصيام الّتي يعتبر في وقوعها امتثالاً للأمر قصد عنوان خاص، فمع استحالة الترتّب أيضاً لا يكفي إتيان الصّوم بدون قصد ذلك العنوان الخاص، فإنّ النذر يوجبُ كون المنذور مِلْكاً له تعالى، وتسليم ما في الذّمة يتوقّف على قصد المصداقيّة.
وفيه أوّلاً: إنّه بناءً على هذا يكفي قصد الأمر، لأنّه لا يدعو إلّاإلى ما تعلّق به، فقصده قصدٌ إجمالي لذلك العنوان.
وثانياً: إنّ النذر لا يوجبُ إلّاوجوب المنذور فقط، والفرض عدم دخل عنوان قصدي فيه، وتسليمه إليه تعالى عبارة أُخرى عن إيجاده في الخارج.
وأمّا المورد الثالث: فإنْ كان ما عليه متعدّداً، وأُخذ في جميعها عناوين قصديّة أُخرى غير عنوان الصّوم لزم التعيين، وإلّا لم يتحقّق المأمور به، ولا يكفي قصد عنوان الصّوم، ولا قصد الأمر لتعدّده.
ص: 20
وإنْ كان جميعها لم يؤخذ فيها عناوين أُخرى لزم التعيين أيضاً، نظراً إلى صلاحيّة المأتي به لوقوعه امتثالاً لكلّ واحدٍ منها، وترجيح واحدٍ منها بلا مرجّح، فلا يقع امتثالاً لواحدٍ منها.
نعم، بناءً على ما حقّقناه في محلّه، من أصالة التداخل في المسبّبات ما لم يدلّ دليلٌ على خلافه، يقع المأتي به امتثالاً للجميع.
وإنْ كان المأخوذ في بعضها عنوانٌ آخر غيره، فامتثال الأمر الأوّل يتوقّف على قصد عنوانه، ولا يكفي قصد الأمر بالصوم لفرض التعدّد.
وليس كذلك الآخر، فلو قَصَد عنوان الصّوم خاصّة، وأضافه إلى المولى ، يقع امتثالاً لما لم يؤخذ في دليله عنوانٌ قصدي إنْ كان واحداً، كما يظهر ذلك كلّه ممّا أسلفناه، ولا حاجة إلى التكرار.
أقول: وللفاضل النراقي(1) كلامٌ تتميماً لهذا البحث، موافقٌ للحقّ ، لا بأس بنقله قال: (لمّا كان الأصل - على الأقوى - تداخل الأسباب، فالأصل في أنواع الصيام التداخل، إلّاما ثبت فيه العدم، وممّا ثبت فيه عدم التداخل صومُ شهر رمضان، والنيابة عن الغير، والقضاء والنذر معيّناً ومطلقاً، والكفّارة، فإنّه لا يتداخل بعضها مع بعض إجماعاً، ويتداخل النذر المطلق والمعيّن مع صوم أيّام البيض، وهو مع صوم دعاء الاستسقاء حينئذٍ، وهو مع القضاء ونحو ذلك). انتهى كلامه الشريف.
***1.
ص: 21
ووقتها اللّيل،
المسألة الرابعة: اختلفت كلمات القوم في وقت النيّة في جملةٍ من أقسام الصّوم، وقبل بيان الأقسام، وأدلّة القوم، لابدّ من تأسيس أصلٍ يكون هو المرجع مع فقد الدليل، فنقول:
الأصل الأوّلي: اعتبار مقارنة النيّة لأوّل جزءٍ من الصّوم، وبقائها إلى آخر الأجزاء، بحيث لا تتأخّر عنه ولا تتقدّم، إذ لو تأخّرت لزم وقوع جزءٍ من الصّوم بلا نيّةٍ ، ولا قصد القُربة، فلا يقع عبادةً ، فلا يصلح جزءً للصوم المأمور به، وكذا التقديم إنْ لم تستمرّ إلى الجزء الأوّل، وإنْ استمرّت إليه لزمت منه المقارنة، بناءً على ما هو الحقّ من أنّ النيّة المعتبرة هي الدّاعي المحرّك، لا الإخطار.
وأمّا على القول باعتبار الإخطار، فيعتبر استمرار حكمها، وقد مرّ أنّ المراد من وجود النيّة مقارناً للترك، وجودها شأناً لا فعلاً، بحيث مهما عرضها الالتفات وجدها باقية غير مرتدعة عنها، فلا ينافيه عروض الغفلة والنوم وما شاكل، ولذا لو نوى الصّوم ونام - وكان حين طلوع الفجر نائماً - صحَّ صومه بلا كلام، وحيثُ أنّ المشهور بين الأصحاب في سائر العبادات اعتبار صدورها عن نيّة تفصيليّة، مقارنة لأوّل جزء العبادة، وهذا المعنى متعذّر أو متعسّر في الصّوم بحسب الغالب، فلذا أجازوا فيه تبييت النيّة في أيّ جزءٍ من اللّيل مستمرّاً على حكمها من باب التوسعة.
ولعلّه إلى هذا نظر المصنّف رحمه الله حيث قال: (ووقتها اللّيل).
ص: 22
ويجوزُ تجديدها إلى الزّوال.
وكيف كان، فقد تخلّف الصّوم عن هذا الأصل في مواضع ستمرّ عليك.
أقول: بعد وضوح الأصل الأوّلي يقع البحث عن موارد، وهي:
المورد الأوّل: البحث عن الواجب المعيّن.
فعن جماعةٍ منهم السيّد رحمه الله(1): جواز تأخير النيّة عمداً إلى الزَّوال.
وعن ابن أبي عقيل(2): لزوم تقديمها من اللّيل.
والمشهور بين الأصحاب(3): عدم جواز التأخير عمداً.
(و) لو أخّرها جهلاً أو نسياناً (يجوز تجديدها إلى الزَّوال).
بل عن «الغنية»(4)، وظاهر «المعتبر»(5)، و «التذكرة»(6): دعوى الإجماع على الحكم الثاني.
ص: 23
وعليه، فالكلام يقع في موضعين:
الموضع الأوّل: في صورة العلم والعمد:
والأظهر لزوم مقارنة النيّة لأوّل جزءٍ من أجزاء الصّوم بالمعنى المتقدّم، لما مرّ من أنّه يعتبر في الصّوم كسائر العبادات صدوره عن النيّة والقُربة، ولا يعتبر أزيد من ذلك، وعليه فله أن ينوي عند طلوع الفجر، وأن ينوي من اللّيل إنْ كانت النيّة باقية في النفس فعلاً - أو شأناً - كما لو نوى الصّوم غداً ونام، وعلم بأنّه لا يستيقظ إلّا بعد طلوع الفجر.
وعلى ما ذكرناه يجوزُ تقديمها على اللّيل، إذا استمرّ حكمها إلى وقت الصّوم، ولكن بما أنّ استمرارها يُلازم غالباً الالتفات التفصيلي في اللّيل، فلذا ذكرنا تبعاً للمشهور أنّ له إيقاعها في اللّيل، وإلّا فلا خصوصيّة له، فلو نوى صوم الغد في اليوم السابق، واستمرّ حكمها بالمعنى المتقدّم صحَّ صومه.
واستدلّ لما اختاره السيّد(1) وتابعوه(2):
1 - بالنصوص الآتية في غير المعيّن بإلغاء الخصوصيّة.
2 - وبإطلاق صحيح الحلبي - أو عمومه، الحاصل من ترك الاستفصال - عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ : «قلت: فإنّ رجلاً إذا أراد أن يصوم ارتفاع النهار أيصوم ؟ قال عليه السلام: نعم»(3).
بدعوى أنّ كون السؤال في صدره عن غير الواجب المعيّن، لايوجبُ تخصيص1.
ص: 24
الذيل العام به.
3 - وصحيح ابن سنان، عنه عليه السلام: «من أصبح وهو يريدُ الصيام، ثمّ بدا له أنْ يفطر، فله أن يفطر ما بينه وبين نصف النهار، ثمّ يقضي ذلك اليوم، فإنْ بدا له أن يصوم بعدما ارتفع النهار فليصم، فإنّه يُحسب له من الساعة التي نوى فيها»(1).
4 - وصحيح ابن سالم، عنه عليه السلام: «في الرّجل يصبح ولا ينوي الصّوم، فإذا تعالى النهار حَدَث له رأيٌ في الصّوم ؟ فقال عليه السلام: إنْ هو نوى الصّوم قبل أن تزول الشمس، حُسِب له يومه، وإن نواه بعد الزَّوال حُسِب له من الوقت الذي نوى»(2).
ولكن يرد على الأوّل: أنّه ما لم يُحرز المناط، لا يجوز التعدّي، وفي المقام لم يحرز.
ويرد على الثاني: أنّ الظاهر من مورد السؤال ثانياً، وحدته مع مورد السؤال الأوّل، الذي هو صريحٌ في غير المعيّن، ويعضده قوله عليه السلام: (فإن أراد أن يصوم) لظهوره فيمن يجوزُ له إرادة عدم الصّوم.
ويرد على الثالث: أنّ قوله عليه السلام: (بدا له أن يصوم) ظاهرٌ في غير المعيّن، وكذا قوله: (يحسب له) إذ الحساب من وقت النيّة، يفيدُ أنّ ما قبله ليس صوماً، وإنّما هو بعض الصّوم، أي له ثواب ذلك وإن لم يكن صوماً شرعيّاً.
أقول: وبذلك يظهر ما في الأخير، لأنّ قوله: (حَدَث له رأي) ظاهرٌ في غير المعيّن، مع أنّقوله: (الرّجل يصبحُ لاينوي الصّوم) مخصوصٌ به، بقرينة تجويزالإفطار.
واستدلّ لما ذهب إليه ابن عقيل(3): بالنبويّ المشهور في كتب الفتاوى:5.
ص: 25
«لا صيام لمن لم يبيّتُ الصيام من اللّيل»(1).
ولكن لضعفه، وللإجماع على عدم اعتبار شيء في الصّوم زائداً عمّا يعتبر في اتّصافه بالعباديّة، لا يُعتمد عليه، ويحمل على إرادة أنّه لعدم القدرة على إيقاع النيّة حدوثاً في أوّل وقت الصّوم، لابدّ من تقديمها عليه، لئلّا يقع جزء منه من غير نيّة.
الموضع الثاني: فيما لو أخّر النيّة عن جهلٍ أو نسيان:
فقد عرفت أنّ المشهور بينهم(2) أنّ له تجديد النيّة إلى الزَّوال، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه.
واستدلّ له بوجوه:
1 - الإجماع، ولكنّه لمعلوميّة مدرك الُمجمعين لا يُعتمد عليه.
2 - ما روي من: «أنّ ليلة الشكّ أصبح النّاس فجاء أعرابيٌ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فشهد برؤية الهلال، فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله مُنادياً يُنادي كلّ من لم يأكل فليصم، ومن أكل فليمسك»(3)، فإنّه يعمّ الشاكّ كما يعمّ الغافل والجاهل الذي يزعم عدم انقضاء شعبان، فإذا جاز مع الجهل بأنحائه، جاز مع النسيان أيضاً، لعدم الفرق بينهما في المعذوريّة، بل هو في الناسي أولى منه في الملتفت الذي يحتمل كونه من رمضان.
وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السند، واستناد الأصحاب إليه غير ثابت.
وثانياً: أنّه مع عدم إحراز كون المناط هو المعذوريّة، لا وجه للتعدّي إلى الناسي.ظ.
ص: 26
3 - النصوص الآتية الدالّة على أنّ المريض إذا برأ قبل الزَّوال، والمسافر حَضَر قبله ولم يفطرا قبله، صحّ صومهما، فإنّه يستفاد منها كبرى كليّة، وهي أنّ وقت النيّة باقٍ إلى الزَّوال.
وفيه: إنّ استفادة الكبرى الكليّة تحتاج إلى دليل وحجّة أو إحراز المناط، وحيث أنّهما مفقودان فلا وجه لها.
4 - النصوص الواردة في الواجب غير المعيّن، سيّما النصوص الثلاثة المتقدّمة.
وفيه: قد مرّ في الموضع الأوّل ما في ذلك.
5 - عموم قوله صلى الله عليه و آله: «رُفع عن أُمّتي تسعة أشياء: الخَطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما لا يعلمون... إلى آخره»(1).
بناءً على ما هو الحقّ من أنّ المرفوع جميع الآثار التي كانت تترتّب على الفعل، مع قطع النظر عن عروض أحد هذه العناوين.
وفيه: إنّ حديث الرفع، إنّما يرفع التكليف المتعلّق بالمجموع، لأنّه تكليفٌ ضمني تابعٌ لأصل التكليف حدوثاً وبقاءً ، فإذا ارتفع ذلك كان إثبات التكليف ببقيّة الأجزاء محتاجاً إلى دليل آخر، لأنّ مفاد حديث الرفع رفع الثابت، لا ثبوت الحكم للفاقد لبعض ما يعتبر في المتعلّق.
فإنْ قلت: ليس المراد من صحّة الصّوم إلّاعدم وجوب قضائه، وحيث إنّ من آثار ترك النيّة في أوّل الوقت وجوب قضائه، فإذا كان الترك نسياناً كان مشمولاً لحديث الرفع، ويرفع الحديث جميع آثاره، ومنها وجوب القضاء.).
ص: 27
قلت: إنّ وجوب القضاء ليس من آثار الترك، بل هو مترتّب على فوت الفريضة فلا يرفعه الحديث، إذ الحديث إنّما يرفع الأحكام المترتّبة على فعل المكلّف، ولذا قلنا بأنّه لو لاقى بدن الإنسان مع شيء نجس نسياناً أو اضطراراً، لا يحكم بعدم تنجّس البدن، لأنّ تنجّس الملاقي من آثار الملاقاة ولو كانت غير اختياريّة، وتمام الكلام في محلّه.
وبالجملة: فالعمدة إذاً الإجماع إنْ ثبت وكان تعبّديّاً، لكن للمنع عن كونه تعبّديّاً مجالاً واسعاً، وطريق الاحتياط معلوم.
***
ص: 28
المورد الثاني: في الواجب الموسّع:
والمشهور بين الأصحاب(1) أنّه يمتدّ وقت النيّة فيه اختياراً إلى الزَّوال.
وعن «المدارك»(2) أنّه مقطوعٌ به عند الأصحاب.
وعن ابن الجُنيد(3) و «المفاتيح»(4)، و «الذخيرة»(5): جواز تجديد نيّة قضاء رمضان إلى الغروب.
والحقّ أنْ يقال: إنّ في المقام طوائف من النصوص.
الطائفة الأُولى : ما تدلّ على امتداد وقت النيّة في قضاء رمضان إلى الغروب؛ كصحيح ابن الحجّاج، عن أبي الحسن عليه السلام: «في الرّجل يبدوا له بعدما يصبح ويرتفع النهار في صوم ذلك اليوم، ليقضيه من شهر رمضان، ولم يكن نوى ذلك من اللّيل ؟ قال عليه السلام: نعم، ليصمه وليعتدّ به إذا لم يكن أحدث شيئاً»(6). ونحوه غيره.
ص: 29
الطائفة الثانية: ما يدلّ على أنّ آخر وقت التجديد زوال الشمس؛ كموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان، ويريد أن يقضيها، متى ينوي الصيام ؟ قال عليه السلام: هو بالخيار إلى أنّ تزول الشمس، فإذا زالت الشمس، فإنْ كان نوى الصّوم فليَصُم، وإنْ كان نوى الإفطار فليفطر.
سُئل: فإنْ كان نوى الإفطار، يستقيم أن ينوي الصّوم بعدما زالت الشمس ؟ قال عليه السلام: لا»(1).
الطائفة الثالثة: ما توهّم دلالته على امتداد وقت التجديد بعد الزَّوال؛ كصحيح ابن الحجّاج، عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «عن الرّجل يَصبح لم يُطعم ولم يَشرب ولم ينو صوماً، وكان عليه يومٌ من شهر رمضان، ألهُ أن يصوم ذلك اليوم، وقد ذهب عامّة النهار؟ فقال عليه السلام: نعم، له أن يصوم، ويعتدّ به من شهر رمضان»(2).
بدعوى أنّ ذهاب عامّة النهار إنّما يتحقّق بمضيّ مقدارٍ من الزَّوال.
ومرسل البزنطي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قلت له: الرّجل يكون عليه القضاء من شهر رمضان، ويصبح فلا يأكل إلى العصر، أيجوز أن يجعله قضاءً من شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: نعم»(3).
أقول: إطلاق الطائفة الأولى يقيّد بالثانية، وأمّا الثالثة فالصحيح منها لا يدلّ على ما ذكر، فإنّ المراد ب (النهار) بقرينة المقام، هو ما بين طلوع الفجر إلى الغروب، فذهاب عامّة النهار يتحقّق قبل الزَّوال، فهو من النصوص المطلقة يقيّد إطلاقه بما4.
ص: 30
يقدم، والمرسل منها وإنْ كان لا إشكال فيه سنداً، فإنّ المُرسِل من أصحاب الإجماع، ولا دلالة لظهوره فيما ذكر، إلّاأنّه لمعارضته مع الموثّق لابدّ من طرحه، لأنّ المرجّح وهو الشهرة معه، مضافاً إلى إعراض الأصحاب عن المُرسِل.
وبالجملة: فالجمعُ بين النصوص يقتضي البناء على ما ذهب إليه المشهور في قضاء رمضان.
الطائفة الرابعة: النصوص المطلقة الشاملة لقضاء شهر رمضان، وغيره من أفراد الواجب الموسّع، وتدلّ بالإطلاق على امتداد وقت النيّة إلى الغروب؛ كصحيح محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام: «قال عليٌّ عليه السلام: إذا لم يفرض الرّجل على نفسه صياماً، ثمّ ذكر الصيام قبل أن يطعم طعاماً أو يَشرب شراباً، ولم يفطر، فهو بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر»(1). وبمعناه غيره.
الطائفة الخامسة: ما تدلّ على التحديد بالزوال في الواجب الموسّع مطلقاً؛ كخبر ابن بُكير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ طلعت عليه الشمس وهو جُنُبٌ ، ثمّ أراد الصيام بعدما اغتسل ومضى ما مضى من النهار، قال عليه السلام: يصوم إنْ شاء، وهو بالخيار إلى نصف النهار»(2).
وصحيح هشام عنه عليه السلام: «عن الرّجل يصبح ولا يَنوي الصّوم، فإذا تعالى النهار، حَدَث له رأيٌ في الصّوم ؟ فقال عليه السلام: إنْ نَوى الصّوم قبل أنْ تزول الشمس حُسِب له يومه، وإنْ نواه بعد الزَّوال حُسِب له من الوقت الذي نوى»(3).1.
ص: 31
فإذا زالتِ الشَّمس فاتَ وقتها.
والجمعُ بين هاتين الطائفتين يقتضي تقييد إطلاق الأولى منهما بالثانية، فيوافق مضمونهما مع ما تقدّم.
الطائفة السادسة: ما تدلّ على امتداد وقتها إلى الغروب في النذر وشبهه؛ لاحظ خبر صالح بن عبد اللّه، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «قلت له: رجلٌ جَعل للّه عليه الصيام شهراً، فيصبح وهو ينوي الصّوم، ثمّ يبدو له فيفطر، ويصبح وهو لا ينوي الصّوم، فيبدو له فيصوم ؟ فقال عليه السلام: هذا كلّه جائز»(1).
أقول: لو سُلّم إطلاق ذلك - مع أنّ للمنع عنه مجالاً - يقيّد بموثّق عمّار المتقدّم، فإنّه وإنْ كان في قضاء رمضان، إلّاأنّه لعدم القول بالفصل بين صوم النذر وشبهه وقضاء رمضان، يثبتُ بالتحديد بالزوال فيها أيضاً.
مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ النسبة بين خبر صالح وبين الطائفة الخامسة عمومٌ من وجه، فإنّها أعمّ من حيث الشمول لغير النذر وشبهه، وهو أعمٌّ لدلالته على الامتداد بعد الزَّوال أيضاً، فيتعارضان، والمرجع إلى المرجّحات، والترجيح معها لوجوه لا تخفى .
وعليه، فالأظهر امتداد وقت النيّة في الواجب الموسّع إلى الزَّوال، (فإذا زالت الشمس فاتَ وقتها).
*** 6
ص: 32
المورد الثالث: في النافلة:
1 - فعن الصدوق(1)، والشيخ(2)، والإسكافي(3)، وابن حمزة(4)، والحِلّي(5)، والمصنّف في «التحرير»(6) و «المختلف»(7)، والشهيد في «الدروس»(8) وغيرهم(9):
أنّه يمتدّ وقتها فيها إلى أنّ يبقى إلى غروب الشمس زمانٌ يمكنُ تجديد النيّة فيه، بل نُسب ذلك إلى أكثر القدماء(10)، بل عن «الانتصار»(11) و «الغُنية»(12)و «السرائر»(13) دعوى الإجماع عليه.
ص: 33
2 - وعن العُمّاني(1)، وظاهر «الخلاف»(2)، وصريح «النافع»(3) أنّها مثل الواجب غير المعيّن، ونسبه سيِّد «المدارك»(4) إلى المشهور.
يشهد للأوّل: موثّق أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الصائم المتطوّع تعرض له الحاجة ؟ قال عليه السلام: هو بالخيار ما بينه وبين العصر، وإنْ مكثَ حتّى العصر، ثمّ بدا له أن يصوم، فإنْ لم يكن نوى ذلك، فله أن يصوم ذلك اليوم إن شاء»(5).
ولا يضرّ اختصاصه بالعصر، لعدم الفصل بين هذا الحَدّ وما بعده إلى الغروب.
ويمكن أن يستدلّ له: بصحيح هشام، عنه عليه السلام: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يدخل على أهله، فيقول: عندكُم شيءٌ وإلّا صمت، فإنْ كان عندهم شيءٌ أتوه به وإلّا صام»(6).
فإنّ المنقول وإن كانت قضيّة في واقعة، إلّاأنّ نقل الإمام عليه السلام إيّاها في مقام بيان الحكم من دون استفصال، يدلّ على المطلوب.
وأمّا صحيح محمّد بن قيس المتقدّم، الذي استدلّ به الفاضل النراقي(7) وتبعه5.
ص: 34
بعض المعاصرين(1)، فقد مرّ أنّه يقيّد إطلاقه بما دلّ على تحديد الوقت بالزوال.
وقد استدلّ للقول الثاني: بالأصل، وبخبر ابن بُكير المتقدّم.
لكن الأصل لا مجرى له مع الدليل، وإطلاق خبر ابن بُكير الشامل للواجب الموسّع والنافلة، يقيّد بموثّق أبي بصير، وعلى هذا لو كنّا قائلين بانقلاب النسبة، أمكن تصحيح استدلال العَلَمين بصحيح محمّد بن قيس، بدعوى أنّ خبر ابن بُكير بعد تقييد إطلاقه بالموثّق، يختصّ بالواجب الموسّع، فيقيّد إطلاق صحيح محمّد في ذلك، فإطلاقه بالنسبة إلى النافلة بحاله، لكنّه لا نقول بانقلاب النسبة.
فتحصّل ممّا ذكرناه:
1 - أنّ آخر وقت النيّة في الواجب المعيّن للعالم العامد طلوع الفجر.
2 - وللناسي والجاهل، لا يبعد أن يقال إنّه زوال الشمس.
3 - وفي الواجب غير المعيّن يمتدّ وقتها اختياراً إلى الزَّوال.
4 - وفي النافلة الأظهر امتداده إلى غروب الشمس.
***5.
ص: 35
ووجبَ الإمساكُ في رمضان والمعيّن، ثمّ قضاه.
فرعان:
الفرع الأوّل: لو فات وقت النيّة:
فعن غير واحدٍ من الأساطين(1)(و) في المتن: (وَجَب الإمساك في رمضان والمعيّن ثمّ قضاه).
أمّا وجوب القضاء: فسيأتي الكلام فيه، وستعرف أنّه لا دليل له يعتدّ به سوى الإجماع.
وأمّا وجوب الإمساك: فقد استدلّ له:
1 - بقاعدة الميسور، بتقريب أنّه يجب الإمساك في مجموع اليوم، فبتعذّر الإمساك في بعضه، لا يسقط وجوب الإمساك في غيره.
2 - وبما روي: «أنّ ليلة الشكّ أصبح النّاس، فجاء أعرابيٌّ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فشهد برؤية الهلال، فأمر النبيّ صلى الله عليه و آله مُنادياً ينادي: كلّ من لم يأكل فليَصُم، ومن أكل فليُمسِك»(2)، فإذا ثبت ذلك مع العذر في الإفطار، فبدونه أولى .
ولكن يرد على الأوّل: ما تكرّر منا في هذا الشرح من أنّه لا دليل عليها في الميسور ممّا يعتبر في المركّب الاعتباري.
ص: 36
ويُجزي في رمضان نيّةٌ عن الشهر في أوّله.
وأمّا الخبر: فقد مرّ أنّه ضعيفُ السند.
وعليه، فالعمدة هو الإجماع المُدّعى في المقام، كما عن «الخلاف»(1)، وعن «المنتهى»(2)، و «التذكرة»(3) نسبة الخلاف إلى عطاء وأحمد، وأنّه لم يقل به غيرهما.
وأمّا النصوص المفصّلة بين ما قبل الزَّوال وما بعده، الظاهرة في عدم وجوب الإمساك، فقد مرّ أنّها مختصّة بالواجب الموسّع.
الفرع الثاني: المحكيّ عن جماعة منهم الشيخ(4)، والسيّد(5)، وأبو الصّلاح(6)، والديلمي(7)، والحِلّي(8)، (و) المصنّف(9) وغيرهم(10) أنّه (يُجزي في رمضان نيّةٌ عن الشهر في أوّله)، بل عن «المنتهى»(11) نسبته إلى الأصحاب، وهو الأقوى إن استند).
ص: 37
ويجوزُ تقديم النيّة عليه بيومٍ أو يومين.
الإمساك في كلّ يومٍ إلى تلك النيّة، أو كان الدّاعي باقياً في النفس حقيقةً أو حكماً، وبعبارة أُخرى استند الإمساك إلى اختيار المكلّف بالمعنى المتقدّم في أوّل الكتاب، لما تقدّم من أنّه لا يعتبر في الصّوم سوى استناد الإمساك إلى الاختيار، بمعنى أنّه لو وُجد الدّاعي والمقتضي للفعل، وتوجّه إليه كان ما في نفسه مانعاً عن الفعل، ومعه لا حاجة إلى ما تكلّف به بعضٌ من جعل صوم الشهر كلّه بمنزلة عبادة واحدة ذي أجزاء، إذ هذا التكلّف لو تمّ فإنّما هو مبنيٌّ على اعتبار الأدلّة التفصيليّة، وقد عرفت منعه، مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً، إذ لا ريب في أنّ صوم كلّ يومٍ عملٌ مستقلٌّ له عصيانٌ مستقلّ غير مرتبط بصيام سائر الأيّام.
أقول: وعلى ما ذكرناه لا يختصّ ذلك بصوم شهر رمضان، ولعلّ تخصيص القوم هذا الحكم به، لأجل عدم العزم في غيره غالباً على الصّوم كذلك.
(و) قد ظهر أيضاً ممّا ذكرناه أنّه (يجوزُ تقديم النيّة عليه بيومٍ أو يومين)، وفي غير هذه الصورة، وهو ما إذا لم يكن الإمساك مستنداً إلى الاختيار، فالأظهر عدم الإجزاء بحسب القواعد، ولكن ظاهرهم التسالم على الإجزاء والصحّة.
أمّا الصورة الثالثة: التي يكون مدرك الحكم بالصحّة فيها هو الإجماع هل تكفي نيّة واحدة في النصف من الشهر لمجموعه أو لا؟
ذهب الشهيد الثاني رحمه الله(1) إلى الثاني، واستدلّ له بأنّ صيام الشهر إمّا عبادة واحدة أو ثلاثون عبادة، وعلى كلا التقدير لا يكفي.7.
ص: 38
وأشكل عليه الشيخ الأعظم رحمه الله(1): بأنّ الظاهر من استدلال مُدّعي الإجماع بأنّه حرمة واحدة، هو جواز ذلك.
وفيه: أنّ استدلال بعض المُجمعين بما يشمل غير مورد الاتّفاق، لا يوجبُ تسرية الحكم إليه، فما أفاده الشهيد رحمه الله(2) أظهر.
***7.
ص: 39
ويومُ الشكّ يُصام ندباً عن شعبان، فإن اتّفق أنّه من رمضان أجزأ.
المسألة الخامسة: (ويوم الشكّ ) في أنّه من شعبان أو رمضان (يُصام ندباً) بلا خلافٍ بيننا، بل إجماعاً(1) محقّقاً ومحكيّاً، وعن أكثر مخالفينا العدم.
وتشهد لنا: جملةٌ من النصوص الآتي بعضها.
ولا خلاف أيضاً بيننا، في أنّه إن صام (عن شعبان، فإن اتّفق أنّه من رمضان أجزأ).
كما أنّه لا إشكال في أنّه لا يجوز أن ينوي عن رمضان، وفي جواز أن ينوي أنّه إنْ كان اليوم من رمضان فالصوم واجبٌ ، وإلّا فهو مندوب، قولان سنتعرّض لهما لاحقاً.
وتنقيح القول في المقام: إنّ النصوص الواردة في المقام على طوائف:
ص: 40
الطائفة الأُولى : ما تضمّن النهي عنه، وأنّه لو بانَ بعد ذلك أنّه من رمضان وجب قضاءه:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «في الرّجل يصوم اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان ؟ فقال عليه السلام: عليه قضاؤه وإنْ كان كذلك»(1).
ومنها: خبر قتيبة الأعشى، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن صوم ستّة أيّام: العيدين، وأيّام التشريق، واليوم الذي يُشكّ فيه من شهر رمضان»(2).
ونحوهما غيرهما.
الطائفة الثانية: ما تضمّن الأمر به، وأنّه لو بانَ بعد ذلك من رمضان أجزأ:
منها: مصحّح معاوية بن وهب: «قلتُ لأبي عبد اللّه: الرّجل يصوم اليوم الذي يشكّ فيه من شهر رمضان، فيكون كذلك ؟ فقال: هو شيءٌ وفّق له»(3).
ومنها: خبر الكاهلي، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن اليوم الذي يُشكّ فيه من شعبان ؟ قال عليه السلام: لأن أصوم يوماً من شعبان أحبّ إليَّ من أنّ أفطر يوماً من شهر رمضان»(4).
ومنها: حسن بشير النبّال، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن صوم يوم الشكّ؟ فقال عليه السلام: صُمه، فإنْ يكُ من شعبان كان تطوّعاً، وإنْ يكُ من شهر رمضان فيومٌ وفّقتَ له»(5). ونحوها غيرها.
الطائفة الثالثة: ما دلّ على التفصيل بين أن يصوم على أنّه من شعبان، وأن5.
ص: 41
يصوم على أنّه من رمضان:
منها: خبر الزّهري، عن علي بن الحسين عليه السلام، في حديثٍ طويل، قال: «وصوم يوم الشكّ أُمرنا به ونُهينا عنه؛ أمرنا به أن نصومه مع صيام شعبان، ونُهينا عنه أن ينفرد الرّجل بصيامه في اليوم الذي يُشكّ فيه النّاس.
فقلت: جُعِلْتُ فداك، فإن لم يكن صام من شعبان شيئاً، كيف يصنع ؟
قال عليه السلام: ينوي ليلة الشكّ أنّه صائمٌ من شعبان، فإنْ كان من شهر رمضان أجزأ عنه، وإنْ كان من شعبان لم يضرّه.
قلت: كيف يُجزي صوم تطوّع عن فريضة ؟...
إلى أنْ قال عليه السلام: لأنّ الفرض إنّما وقع على اليوم بعينه»(1).
ومنها: موثّق سماعة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن اليوم يُشكّ فيه من رمضان ؟ إنّما يُصام يوم الشكّ من شعبان، ولا يصومه من شهر رمضان، لأنّه قد نُهي أن ينفرد الإنسان بالصيام في يوم الشكّ . الحديث»(2). ونحوهما غيرهما.
أقول: مقتضى الجمع بين النصوص تقييد الطائفتين الأولتين بالثالثة، ومن ذلك يظهر أنّ ما أفاده المفيد رحمه الله من حمل نصوص النهي على الكراهة غير تامّ ، لأنّ الجمع الموضوعي مقدّمٌ على الجمع الحكمي.
كما أنّ ما عن الشيخ رحمه الله في «البيان»(3)، والعُمّاني(4) والإسكافي(5) من أنّه لو0.
ص: 42
صام يوم الشكّ بنيّة أنّه من رمضان أجزأ عنه، غير تامّ .
وربما يتوهّم: أنّه يعارض الطائفة الثالثة خبران آخران:
أحدهما: موثّق سماعة: «عن اليوم الذي يُشكّ فيه من رمضان، ولا يدرى أهوَ من شعبان أو من شهر رمضان، فصامه من شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: هو يوم وُفّق له لا قضاء عليه»(1). إذ ظاهره أنّه صامه بنيّة أنّه من رمضان.
ثانيهما: حسن معاوية المتقدّم(2)، بدعوى أنّ الظاهر منه تعلّق رمضان ب (يصوم).
ولكنّه توهّمٌ فاسد، لأنّ الموثّق وإنْ روي عن «التهذيب»(3) كما نُقل، إلّاأنّه مرويٌّ في «الكافي»(4) هكذا: (فصامه فكان من شهر رمضان)، وهو يقدّم لوجوه:
منها: أضبطيّة الشيخ الكليني رحمه الله.
ومنها: أنّ الشيخ الطوسي يرويه عن الكليني فلا يعتنى بما نقله بعد فرض كونه مخالفاً لما في «الكافي».
ومنها: أنّه على رواية الشيخ الطوسي لا يكون الجواب منطبقاً على السؤال، إذ عليه لم يفرض في السؤال تبيّن كونه من شهر رمضان، فقوله عليه السلام: (هو يومٌ وُفّق له) غير مربوط بالسؤال.
ومنها: أنّه عند دوران الأمر في خبر بين الزيادة والنقصان، يُبنى على الأُولى ، وفي المقام يدور الأمر بين زيادة كلمة (فكان) كما في نقل الكليني، ونقصها كما في نقل2.
ص: 43
الشيخ رحمه الله، فيبنى على ما نقله الشيخ الكليني.
وعليه، فالموثّق من قبيل النصوص المطلقة، يُقيّد إطلاقه بما مرّ.
وأمّا الحَسَن: فالظاهر تعلّق قوله: (من رمضان) بقوله: (يشكّ ) لأنّه أقرب.
أقول: وفي المقام روايةٌ توهم كونها من النصوص المطلقة، وهي رواية عبد الكريم بن عمرو، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي جَعلتُ على نفسي أن أصوم حتّى يقوم القائم ؟ فقال عليه السلام: صُم ولا تَصُم في السفر، ولا في العيدين، ولا أيّام التشريق، ولا اليوم الذي يُشكّ فيه من شهر رمضان»(1).
وقيل: إنّه يقيّد إطلاقها بما مرّ، ولكنّه ليس كذلك، إذ لو كان المراد النهي عن صومه بنيّة أنّه من رمضان، لما صحَّ النهي عنه بقولٍ مطلق، لفرض أنّه نذر أن يصوم مدّة عمره، فليست هي من قبيل النصوص المطلقة.
وقد يقال: إنّه يُحمل الخبر على الكراهة.
ويرد عليه: أنّه لو كان مكروهاً، فبما أنّ الكراهة فيه ليست من الكراهة المصطلحة، لأنّها كراهة في العبادة، بل هي بمعنى أقليّة الثواب أو أرجحيّة الترك، لانطباق عنوانٍ أرجح عليه، فلا محالة يكون واجباً بالنذر، وعليه فيتعيّن طرحها، وردّ علمها إلى أهلها، أو حملها على التقيّة.
وأيضاً: أمّا ما عن الصدوق في «الفقيه»: «عن أمير المؤمنين عليه السلام: لأن أفطر يوماً من شهر رمضان أحبّ إلي من أنّ أصوم يوماً من شعبان، أزيده في شهر رمضان»(2)فلا ينافي ما اخترناه، إذ الظاهر منه بقرينة قوله عليه السلام: (أزيده... إلخ) إرادة أنّ الإفطار3.
ص: 44
أحبّ من صوم ذلك اليوم، بعنوان أنّه من رمضان، إذ لا تصدق الزيادة المتوقّف تحقّقها في المركّبات الاعتباريّة على قصد كونه منها إلّابذلك، وإلّا يكون متّصلاً بشهر رمضان لا زائداً فيه، لا أنّه أحبّ من صومه مطلقاً.
أقول: وبذلك ظهر أنّ ما أفاده الصدوق(1) عنه بقوله: (وهذا حديثٌ غريبٌ ، ولا أعرفه إلّامن طريق عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني المدفون بالرّي في مقابر الشجرة، وكان مرضيّاً رضي اللّه عنه، هذا ونحن نجد الأمر بالعكس).
غير تامّ ، إذ هذا الخبر أيضاً ينطبق مفاده على مفاد سائر النصوص.
فتحصّل: أنّ الأقوى صحّة صوم من صامه على أنّه من شعبان، وبطلان صوم من صام بنيّة أنّه من شهر رمضان.
فرع: ولو بان أنّه من رمضان في أثناء النهار:
هل تجبُ تجديد النيّة، كما عن الشهيد رحمه الله في «الدروس»(2)، والمحقّق رحمه الله في «المعتبر»(3)، وسيّد «المدارك» قدس سره(4)؟
أم لا يجب، بل يَجتزي بالنيّة الأُولى ، كما اختاره في «الجواهر»(5)؟ وجهان:
قد استدلّ للأوّل: بأنّ النيّة تعلّقت بغير صوم رمضان، فلا ينصرف إليه بغير نيّته.).
ص: 45
وأورد عليه في «الجواهر»(1): بأنّ الصرف هنا غير شرعي، لا مدخليّة للنيّة فيه. ثم قال رحمه الله: (ومنه يُعلم عدم وجوب التحديد للإطلاق المزبور).
وفيه: إنّ هذا الحكم التعبّدي كسائر الأحكام الشرعيّة يدورُ مدار موضوعه، فمع ارتفاعه لا يكون باقياً، ولا مورد للتمسّك بإطلاق دليله، وفي الفرض بما أنّ موضوع هذا الحكم - وهو يوم الشكّ - ارتفع وتبدّل إلى العلم بكونه من رمضان، يكون هذا الحكم أمراً مرتفعاً.
وإنْ شئتَ قلت: إنّه مع العلم بعدم كونه من شعبان، وعدم الأمر الندبي، كيف يصحّ قصد كونه من شعبان وصومه بما أنّه مأمورٌ به بالأمر الندبي ؟ وعليه، فالأقوى لزوم التجديد.
عنه، إنْ تبيّن كونه من رمضان.
وعن الشيخ في جملةٍ من كتبه(1)، والحِلّي(2)، والمصنّف في «التذكرة»(3)، والمحقّق(4)، وسيّد «المدارك»(5)، وأكثر المتأخّرين(6): القول بالبطلان.
واستدلّ للبطلان بوجوه:
الوجه الأوّل: الحصر المستفاد من النصوص، حيث إنّه حَصَر فيها الصحّة بما إذا أتى بالصوم بقصد أنّه من شعبان، لاحظ موثّق سماعة وغيره.
وفيه: أنّ ظاهر الحصر كونه إضافيّاً بالنسبة إلى قصده من رمضان، لاحظ الموثّق، حيث إنّه عليه السلام بعد قوله: (إنّما يصام.. إلى آخره) قال: (ولا يصومه من شهر رمضان).
مع أنّه لو سلّم ظهورها في ذلك، يتعيّن حملها على ما ذكرناه، لما ستعرف عند بيان الوجه المختار.
الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ الأعظم(7) رحمه الله من أنّ حقيقة صوم رمضان تُغاير حقيقة الصّوم المندوب، كما يكشف عن ذلك اختلاف أحكامهما، فإذا لم يتعيّن حقيقة أحدهما في النيّة التي حقيقتها استحضار حقيقة الفعل المأمور به، لم يقع عن أحدهما.1.
ص: 47
وفيه أوّلاً: النقض بما إذا لم يدر أنّ ما في ذمّته الظهر أو العصر، إذ لا ريب في صحّة الإتيان بأربع ركعات بقصد ما في الذّمة، مع أنّ حقيقة الظهر غير حقيقة العصر، كما يكشف عن ذلك اختلاف أحكامهما.
وثانياً: بالحلّ ، وهو أنّ المعتبر هو قصد عنوان المأمور به ولو إجمالاً، ولا دليل على لزوم قصده تفصيلاً، وعليه فلو صام يوم الشكّ بقصد أمره الواقعي، فإنْ كان اليوم من رمضان كان ذلك قصداً له، إذ الأمر لا يدعو إلّاإلى ما تعلّق به، وإن لم يكن من رمضان، كان ذلك قصداً إجماليّاً للصوم المندوب.
الوجه الثالث: ما أفاده الشيخ رحمه الله(1) أيضاً وهو إنّه لم ينو أحد السببين، والنيّة فاصلة بين الوجهين.
وبما ذكرناه في سابقه يندفع ذلك، إذ بما أنّ النيّة كذلك، تكون نيّة كونه من رمضان إنْ كان الواقع منه، ونيّة كونه من شعبان إذا انكشف أنّه من شعبان، فيكون الفاصل بين الوجهين موجوداً.
الوجه الرابع: خبر هشام، عن الإمام الصادق قال في يوم الشكّ : «من صامه قضاه وإنْ كان كذلك، يعني من صامه على أنّه من رمضان بغير رؤية قضاه وإنْ كان يوماً من شهر رمضان، لأنّ السُنّة جاءت في صيامه على أنّه من شعبان، ومن خالفها كان عليه القضاء»(2).9.
ص: 48
فإنّه بمفهوم العلّة الظاهرة في المنحصرة يدلّ على ذلك.
وفيه أوّلاً: يحتمل أن يكون قوله: (يعني من صامه.. إلى آخره) من الراوي لا الإمام عليه السلام.
وثانياً: يتعيّن حمله على إرادة الحصر الإضافي، كما سيمرّ عليك.
أقول: والأقوى هو الأوّل، لأنّه ممّا يقتضيه القاعدة، بل لو ورد ما ظاهره البطلان، لابدّ من تأويله أو طرحه، وذلك لأنّه لا ريب في أنّ الأمر بصوم رمضان إنْ كان في الواقع منه يكون فعليّاً، والنصوص على فرض دلالتها على تعيّن أن يصوم بقصد أنّه من شعبان، إنّما تدلّ على ثبوت حكمٍ ظاهري كما يقتضيه الاستصحاب، ولذا لو انكشف أنّه من رمضان وجب عليه قضاؤه إن لم يصمه.
وبالجملة: لا ينبغي الشكّ في فعليّة أمره، وحيث أنّ إجزاء الإتيان بالمأمور به الواقعي عن أمره يكون حكماً عقليّاً، غير قابلٍ للتخصيص، فلا محيص عن الحكم بالصحّة.
فإنْ قلت: بناءً على ذلك، يلزم البناء على الصحّة حتّى لو أتى به بقصد أنّه من رمضان، فانكشف كونه من رمضان.
قلت: إنّه لا يحكم بالصحّة في هذا الفرض، لأنّه حينئذٍ يكون الإتيان به بقصد أمره تشريعاً محرّماً.
ودعوى: أنّ التشريع من الأُمور القلبيّة، ولا يسري إلى الفعل.
مندفعة: بما حقّقناه في محلّه من سرايته إلى الفعل، وصيرورة الفعل المأتي به بقصد الأمر مع عدم العلم به مبغوضاً.
ص: 49
ولو أصبحَ بنيّة الإفطار ولم يُفطر، ثمّ تبيّن أنّه من رمضان، جدّد النيّة إلى الزَّوال، ولو كان بعد الزَّوال أمسكَ واجباً وقضى.
(ولو أصبَح) يوم الشكّ (بنيّة الإفطار، ولم يُفطر، ثمّ تبيّن أنّه من رمضان، جَدّد النيّة إلى الزَّوال، ولو كان بعد الزَّوال أمسك واجباً وقضى) وقد تقدّم في المسألة السابقة تحقيق القول في جميع ذلك.
وبالجملة: النهي عن إتيان الصّوم بنيّة القُربة المطلقة بقصد ما في الذّمة، عبارةٌ عن عدم كون الأمر بصوم رمضان محرّكاً وفعليّاً، وهو خُلف الفرض.
أقول: وقد فصّل بعض المحقّقين:(1)
بين الترديد في النيّة، بأنْ يصوم على أنّه إنْ كان من شعبان كان ندباً، وإنْ كان من رمضان كان واجباً، فاختار البطلان.
وبين الترديد في المنويّ بأن يصومه بنيّة القُربة المطلقة، بقصد ما في الذّمة، وكان في ذهنه أنّه إمّا من شعبان أو من رمضان، فاختار الصحّة لتحقّق النيّة إلى الصّوم المأمور به.
وفيه: أنّه لا إشكال في أنّ إتيان الصّوم بقصد الجامع بين الأمر بصوم شهر رمضان، والأمر بصوم شعبان لا يصحّ ، لما ذكرناه آنفاً(2)، كما أنّ الإتيان به بقصد الأمر الخاص الثابت واقعاً المتعلّق بأحدهما غير المعلوم لنا يصحّ لما تقدّم آنفاً(3)، ولا أتصوّر صورتين لذلك، مع أنّه لا دليل على مبطليّة الترديد في النيّة، ما لم يرجع إلى عدم قصد الأمر الخاص.
***د.
ص: 50
المسألة السادسة: يدور البحث فيها عن أنّه لو نوى الصائم القطع أو القاطع:
فإمّا أن يكون قبل عقد نيّة الصّوم أو بعده:
والأوّل مضى حكمه بأقسامه.
وإنْ كان بعده فلا شكّ في كونه حراماً، لو كان الصّوم واجباً معيّناً، لكونه عزماً على الحرام واتّباعاً للهوى .
وإنّما وقع «الخلاف» في إفساده للصوم وعدمه:
فعن السيّد في بعض رسائله(1)، وأبي الصّلاح(2)، والمصنّف في بعض كتبه(3)، والشهيدين(4)، والمحقّق الثاني(5): الأوّل، فلو جَدّد النيّة بدون الإفطار لايصحّ صومه.
وعن الشيخ في «المبسوط»(6) و «الخلاف»(7)، والمصنّف في جملة من كتبه(8)، والمحقّق في «الشرائع»(9) وغيرهم(10): القول بالصحّة.
ص: 51
بل عن «المدارك»(1)، أنّه المشهور بين الأصحاب.
وفي «الجواهر»(2): التحقيق حصولُ البطلان بنيّة القطع، التي هي بمعنى إنشاء رفع اليد عمّا تلبّس به من الصّوم على نحو إنشاء الدخول فيه، ضرورة خلوّ الزمان المزبور عن النيّة فيقع باطلاً، وأمّا نيّة القطع بمعنى العزم على ما يحصل به ذلك، وكذلك نيّة القاطع، فقد يقوى عدم البطلان.
واستدلّ للصحّة بوجوه:
الوجه الأوّل: استصحاب الصحّة السابقة.
وفيه: أنّ جريانه يبتني على أنّ يكون للصوم هيئة اتّصاليّة يعبّر عنها بالصورة الصوميّة، كما تقدّم في كتاب الصَّلاة(3)، وحيثُ لا دليل عليه، فالأقوى عدم جريانه.
الوجه الثاني: أصالة البراءة عن مانعيّة الخلاف.
وفيه: أنّه يبتني جريانها على عدم الدليل على اعتبار استدامة النيّة.
الوجه الثالث: ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله(4) من أنّ المراد من النيّة المعتبرة:
إنْ كانت هي الصورة المخطرة المقارنة في بعض العبادات، والمتقدّمة بزمانٍ خاصّ في بعضها الآخر، فالمفروض حصولها فيما نحن فيه.
وإنْ كان المراد بها هي الداعية إلى العمل، فاعتبارها مختصٌّ بما إذا أمكن استناد العمل بمجموعه إلى النيّة، فالعمل الذي لا يمكن فيه ذلك كالصوم، لا يفسدُ لأجل خلوّه جزءٌ فجزء عن النيّة، فيثبت صحّته بالإطلاقات.5.
ص: 52
ودعوى: بدليّة استمرار النيّة حكماً عن النيّة الحقيقيّة في وجوب تلبّس كلّ جزء به، محتاجة إلى البيّنة.
وفيه: أنّ المراد من النيّة المعتبرة، هي الموجبة لصيرورة العمل اختياريّاً ومضافاً إلى المولى، كما عرفت في أوّل الكتاب، وعليه فاستدامته إلى آخر العمل في جميع العبادات كالصوم، استدامة حقيقيّة لا حكميّة، والدليل على اعتبارها بهذا المعنى قد تقدّم، وعليه فقصد الخلاف يوجبُ البطلان.
الوجه الرابع: ما عن الشهيد رحمه الله(1) من أنّ نيّة الخلاف إنّما تُنافي النيّة لا حكمها الثابت بالانعقاد، الذي لا ينافيه النوم، وهو أشدّ منافاة من نيّة المنافي، والنيّة لا يجبُ تجديدها في كلّ أزمنة الصّوم إجماعاً، فلا تتحقّق المنافاة.
وفيه: أنّها وإن لم تناف النيّة بمعنى الإخطار، إلّاأنّها تنافيها بالمعنى المعتبر في صيرورة العمل اختياريّاً، ومضافاً إلى المولى الذي لا يُنافيه النوم، كما تقدّم تحقيقه.
الوجه الخامس: حصر المفطّرات في النصوص في عدّة أُمور ليست نيّتها منها، كصحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء»(2). ونحوه غيره.
وفيه أوّلاً: إنّ هذه النصوص إنّما تدلّ على حصر المفطّرات، ولا ندّعي كون نيّة الخلاف منها، بل نقول إنّها موجبة للإخلال بالشرط.
وثانياً: إنّ معنى قوله عليه السلام: (إذا اجتنب أربع خصال) كفّ نفسها عنها، لا أنّه3.
ص: 53
تركها بلا نيّة، فهي أيضاً تدلّ على اعتبار النيّة والقصد.
وثالثاً: إنّ هذه النصوص واردة في مقام بيان التروك المعتبرة في الصّوم، وأمّا أنّه لابدّ وأن يكون تحقّق هذه عن قصد أم لا، فهي ساكتة عنه.
الوجه السادس: أنّ نيّة القطع أو القاطع إذا كانت مفطّرة، لما كان الأكل والشرب وغيرهما من المفطّرات منها، إذ لو لم تصدر هي عن قصدٍ، لم تكن مفطّرة، ولو صدرت عن قصد، فلا محالة تتحقّق النيّة المفطرة قبلها، فلا يستند الإفطار إليها في شيء من الموارد، فيكون ذكرها منها لغواً وغير صحيح.
وفيه أوّلاً: أنّ الكفّارة تترتّب على تحقّق تلك الأُمور لا على نيّة الخلاف.
وثانياً: أنّ نيّة فعل أحد تلك الأُمور توجبُ بطلان الصّوم، لا نيّة كلّ فعلٍ ، فلا يكون ذكر تلك الأُمور من المفطّرات لغواً.
فالمتحصّل: أنّ الأظهر فساد الصّوم بنيّة القطع أو القاطع.
قال صاحب «الجواهر»(1): إنّ نيّة القطع بمعنى العزم على ما يحصل به ذلك، وكذلك نيّة القاطع، فقد يقوى عدم البطلان.
ويرد عليه: أنّ المعتبر في صحّة الصّوم نيّة الإمساك من الفجر إلى الغروب، ولا ريب في أنّهما إنّما تنافيان نيّة الصّوم بهذا المعنى، وإنْ لم تنافيا نيّة الصّوم إلى ذلك الزمان.
أقول: ثمّ إنّ جماعة من القائلين(2) بالصحّة قيّدوهابما إذا جدّد في أثناء النهارالنيّة.0.
ص: 54
وأشكل عليهم: سيّد «المدارك» رحمه الله(1) بأنّ المقتضي للفساد عند القائل به، هو العزم على فعل المفطّر، فإنْ ثبت ذلك وجب الحكم بالبطلان مطلقاً، وإلّا وجب القول بالصحّة كذلك، كما أطلقه في المعتبر.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم رحمه الله: بأنّ امتثال قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ ) (2) لا يحصل عرفاً إلّاإذا تعقّب قصد الإفطار رجوعٌ واستمرار على النيّة الأولى إلى اللّيل.
وفيه: إنّ هذه الآية الكريمة إنّما تكون شاملة لجميع الآنات غير الآن الأوّل الذي ينعقد فيه الصّوم، فإنّه بعد ذلك يتوجّه الأمر بإتمامه إلى الغروب، ولا تكون مختصّة بالآن الأخير، بل يمكن أن يقال إنّه أمرٌ وإيجابٌ لإيجاده من المبدأ إلى المنتهى تامّاً، كقولهم: (ضيّق فم الركية)، و (افرج بين سطورك)، وما شاكل.
وعلى هذا فإمّا أن يلزم كون الصائم ناوياً للصوم في جميع الآنات، ممّا يعني أنّ نيّة القطع أو القاطع توجبُ الفساد، وإمّا لا يلزم ذلك، فلا توجب الفساد حتّى مع عدم تجديد النيّة.
فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر فساد الصّوم بنيّة القطع أو القاطع مطلقاً.
***7.
ص: 55
ومحلّ الصّوم، النهار من طلوع الفجر الثاني إلى الغروب.
(و) المسألة السابعة: (محلّ الصّوم) هو (النهار من طلوع الفَجر الثاني إلى الغروب) بلا خلافٍ ، بل إجماعاً(1)، بل ضرورة من المذهب.
أقول: وتشهد لكون مبدأه طلوع الفجر الصادق - مضافاً إلى الإجماع - قوله تعالى : (كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ) (2)ونصوص كثيرة:
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ فقال عليه السلام: بياض النهار من سواد اللّيل - إلى أنْ قال - فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: إذا سمعتم صوت بلال فدعوا الطعام والشراب، فقد أصبحتم»(3).
ومنها: خبر أبي بصير، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام فقلت: متى يحرمُ الطّعام والشراب على الصائم، وتحلّ الصَّلاة صلاة الفجر؟
فقال عليه السلام: إذا اعترض الفجر، وكان كالقِبطيّة البيضاء، فثمَّ يحرُم الطعام ويحلّ
ص: 56
الصيام، وتحلّ الصَّلاة صلاة الفجر»(1). ونحوهما غيرهما.
وأيضاً: تشهد لكون آخره غروب الشمس قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ ) (2) وجملةٌ من النصوص:
منها: ما رواه الصدوق بإسناده عن أبان، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «يحلّ لك الإفطار إذا بدت ثلاثة أنجم، وهي تطلع مع غروب الشمس»(3).
ومنها: مرسل الصدوق، قال الصادق عليه السلام: «إذا غابت الشمس فقد حَلّ الإفطار، ووجبت الصَّلاة»(4). ونحوهما غيرهما.
وقد مرّ تحقيق القول في ذلك في كتاب الصَّلاة(5)، وعرفت أنّ الأظهر أنّ آخر وقت الصّوم والظهرين، وأوّل وقت العشاءين استتار القرص لا ذهاب الحُمرة المشرقيّة.
***).
ص: 57
الباب الثاني: فيما يمسك عنه الصائم.
وهو ضربان: واجبٌ وندبٌ ، فالواجب الأكل والشُّرب.
(الباب الثاني: فيما يُمسك عنه الصائم: وهو ضربان: واجبٌ وندبٌ ).
أقول: (ف) الكلام يقع في فصلين:
الفصل الأوّل: في (الواجب) وله أقسام، لأنّ جملة من الأُمور التي يجبُ الإمساك عنها توجبُ القضاء والكفّارة، وجملةٌ منها توجب القضاء خاصّة، وجملةٌ منها لا توجب شيئاً منهما.
فالكلام يقع في مقاصد:
المقصد الأوّل: في الأُمور التي يجب الإمساك عنها، وتوجبُ القضاء والكفّارة، وهي سبعة:
الأمرين الأوّل والثاني: (الأكل والشرب) بلا خلافٍ بين المسلمين، ويشهد به الكتاب والسُنّة المتواترة الآتية.
والنزاع في أنّهما مفطّر واحدٌ، أو أنّ كلّ واحدٍ منهما مفطّرٌ مستقلّ لا فائدة فيه، فالصفح عنه أولى ، وإنّما الكلام يقع في موارد:
المورد الأوّل: المشهور بين العلماء أنّه لا فرق في المأكول والمشروب بين المعتاد منهما، كالخبز والماء ونحوهما، وغيره كالحَصى وعصارة الأشجار ونحوهما، بل عن
ص: 58
«الناصريّات»(1)، و «الخلاف»(2)، و «المنتهى»(3)، دعوى إجماع العلماء إلّاالنادر من المخالفين عليه.
وإنّما خالف في ذلك الحسن بن صالح(4)، وأبو طلحة(5)، وابن الجُنيد(6)، ونُسب(7) الخلاف إلى السيّد في بعض كتبه وهو بعيدٌ، إذ هو قدس سره نسب في «الناصريّات»(8) الخلافَ إلى ابن صالح وأبي طلحة، وردّهما بأنّ الإجماع متقدّم ومتأخّر عن هذا الخلاف.
وكيف كان، فالأقوى ما هو المشهور: للإجماع، ولصدق الأكل والشرب، فيشملهما إطلاق الأدلّة، وللنّص الواردفي الغبارالآتي، ولكونه من مرتكزات المتشرّعة.
واستدلّ للقول الآخر بوجوه:
الوجه الأوّل: ما عن «المختلف»(9) من أنّ تحريم الأكل والشرب إنّما ينصرفُ).
ص: 59
إلى المعتاد، لأنّه المتعارف، فيبقى الباقي على أصل الإباحة.
الوجه الثاني: أنّ الأدلّة المتضمّنة للأكل والشرب، وإن كانت مطلقة، إلّاأنّه يتعيّن تقييدها بمثل صحيح ابن مسلم، عن إمامنا الباقر عليه السلام: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء»(1).
المتضمّن للطعام والشراب غير الصادقين على غير المتعارف.
الوجه الثالث: خبر مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: عن آبائه: «أنّ عليّاً عليه السلام سُئل عن الذُّباب يدخل في حلق الصائم ؟ قال عليه السلام: ليس عليه قضاء، لأنّه ليس بطعام»(2).
أقول: وفي الجميع نظر:
إذ يرد على الأوّل: ما تكرّر منّا من أنّ الانصراف الناشئ من تعارف فردٍ، لا يصلح أن يكون مقيّداً لإطلاق الأدلّة، لأنّه بدوي يزول بالتأمّل.
مع أنّه إنْ أُريد به انصراف متعلّق الأكل والشرب إلى المتعارف.
ففيه: أنّه غير مذكورٍ حتّى يُدّعى فيه الانصراف، بل لعلّ حذفه يكشف عن إناطة الحكم بماهيّة الأكل والشرب بأيّ شيءٍ تحقّقت.
وإنْ أُريد به انصراف نفس الأكل والشرب إلى المتعارف، وهو ما إذا تعلّقا بما تعارف أكله وشربه.
ففيه: أنّ انصرافهما حينئذٍ عن غير المتعارف من حيث ذات الأكل والشرب أوليمن هذا الانصراف، مع أنّ هذا ممّا لم يتفوّه به أحد، فهذايكشف عن عموم الحكم.2.
ص: 60
مضافاً إلى أنّ المراد ب (التعارف): إنْ كان التعارف في زمان المعصومين عليهم السلام، فلازمه عدم مفطّرية ما تعارف أكله في هذه الأزمنة كالطماطة.
وإنْ أُريد به التعارف عند الكُلّ ، فلازمه أن لايفطركثير من المأكولات والمشروبات.
وإنْ أُريد التعارف عند شخص المكلّف، فلازمه مفطّرية شيء في زمان، وعدم مفطريّته في زمان آخر، وأيضاً مفطّرية شيء واحد في زمانٍ واحدٍ لشخص، وعدم مفطريّته لشخصٍ آخر، وإنْ أُريد التعارف ولو عند واحدٍ من الأفراد، فلازمه دوران مفطّرية ذلك الشيء مدار وجود ذلك الشخص، وشيء من هذه ممّا لا يمكن التفوّه به.
ويرد على الثاني أوّلاً: أنّ أمثال ذلك الصحيح من النصوص إنّما وردت في مقام بيان عدم مفطّرية غير ما ذُكر فيها ممّا توهم منافاته للصوم، كاللّغو والباطل، لا ما يعمّ بعض مصاديق الأكل.
وثانياً: أنّ للطعام والشراب مطلقين كالكلام والسلام، فيمكن أن يكون المراد بهما في هذه النصوص معناهما المصدري المنطبق على الأكل والشرب.
ويرد على الثالث: أنّ مورد الخبر دخول الذُّباب إلى الحلق بغير اختيار، لا ما إذا أكله باختياره، والمراد من قوله: (ليس بطعام) أنّه ليس بأكل، لا أنّه أكلُ ما لا يُطعم، ونحوه ما ورد في الاكتحال، فإنّه لا يشكّ أحدٌ في أنّه يستفاد منه أن الاكتحال ليس بأكل، ولذلك لا يفطّر، ولو كان ما يكتحل به ممّا تعارف أكله أو شربه، فالأظهر عدم الفرق بين المتعارف وغيره.
***
ص: 61
المورد الثاني: لا كلام في عدم الفرق بين الكثير والقليل، كعشر حَبّة من الحنطة مثلاً، إذا صدق عليه الأكل أو الشرب، ولم يستهلك في الفم، حتّى أنّ الخيّاط لو بَلّ الخيط بريقه أو غيره، ثمّ ردّه إلى الفم وابتلع ما عليه من الرطوبة بَطَل صومه، إذا لم يستهلك ما كان عليه من الرطوبة بريقه.
قال المصنّف في محكيّ «المنتهى»(1): (لو ترك في فمه حصاة أو درهماً فأخرجه وعليه لمعة من الريق، ثمّ أعاده في فيه، فالوجه الإفطار، قَلَّ أو كثُر، لابتلاعه البَلَل الذي على ذلك الجسم. وقال بعض الجمهور: لا يُفطّر إنْ كان قليلاً). انتهى .
وظاهره بقرينة إسناد الخلاف إلى بعض الجمهور، أنّ عليه إجماع الطائفة.
أقول: وخالف المحقّق الأردبيلي رحمه الله(2) القوم، واستدلّ له بوجوه:
الوجه الأوّل: الأصل وعدم صدق الأدلّة، قال: (ولهذا مع قولهم بالتحريم جَوّزوا الأكل بالملعقة بإدخالها في الفم، وكذا أكل الفواكه بعد العضّ مع بقاء الرطوبة في موضع العض، وكذا في الشربة).
الوجه الثاني: يجوز ابتلاع الريق ما دام في الفم، وإنْ كثُر، فكذلك إنْ خرج.
الوجه الثالث: جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح أبي ولّادالحنّاط: «قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: إنّي أُقبّل بنتاً لي صغيرة وأنا صائم، فيدخل في جوفي من ريقها شيءٌ؟ فقال عليه السلام: لا بأس ليس عليك شيء»(3).
ص: 62
ومنها: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه الإمام موسى عليه السلام: «عن الرّجل الصائم، ألهُ أن يمصّ لسان المرأة أو تفعل المرأة ذلك ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(1).
ومنها: موثّق أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الصائمُ يُقبِّل ؟ قال عليه السلام: نعم، ويُعطيها لسانه تمصّه»(2).
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ دعوى عدم صدق الأدلّة لا وجه لها، سوى توهّم عدم صدق الأكل والشرب، وهو إنّما يتمّ إذا استهلك الرّيق الخارج في الفم، وأمّا في صورة بقائه، فيصدق ذلك على ابتلاعه، لما عرفت آنفاً فيكون مفطّراً.
وأمّا ما في «الحدائق»(3): من تسليم عدم صدق الأكل، والالتزام بالمفطّرية، بدعوى عدم التلازم بين عدم كونه مأكولاً، وصحّة الصّوم، فإنّهم صرّحوا ببطلان الصّوم بالغبار، والدخان الغليظ، مع أنّهما ليسا من المأكول، فيجوز أن يكون هذا من قبيله عندهم.
فغير سديد: إذ لو سُلّم عدم صدق الأكل عليه، لا مناص عن القول بعدم المفطّرية، لما دلّ على حصر المفطّرات في عدّة أُمور ليس منها ابتلاع الريق.
وأمّا الثاني: فلأنّ الفارق هو ما سيأتي من الأدلّة الدالّة على عدم مفطّرية ابتلاع الريق ما دام كونه في الفم.
وأمّا الثالث: فلأنّ ما ورد في امتصاص أحد الزوجين ريق الآخر أجنبيٌ عن1.
ص: 63
المقام، إذ الامتصاص أعمٌّ من الابتلاع.
وأمّا صحيح أبي ولّاد فالظاهر منه السؤال عمّا لو دخل الريق في حلقه بغير اختياره، كما يشهد به قوله: (فيدخل في جوفي.. إلى آخره).
فتحصّل: أنّ الأظهر هو بطلان الصّوم بابتلاع الرطوبة الخارجيّة، ولو كانت من فيه إذا خرجت، إلّافيما إذا استهلكت.
ودعوى: عدم تحقّق الاستهلاك بنحوٍ يصدق ابتلاع ريقه لا غير للاتّحاد في الجنس، ممنوعة.
وأيضاً: لا يبطل الصّوم بابتلاع البصاق، بلا خلافٍ ، وعن «التذكرة»(1) نسبته إلى علمائنا.
ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك، وإلى السيرة القطعيّة، ولزوم الحَرَج بل الضرر من الالتزام بمفطّريته، وعدم جواز بلعه - خبر زيد الشحّام:
«في الصائم يتمضمض ؟ قال عليه السلام: لا يبلع ريقه حتّى يبزق ثلاث مرّات»(2).
فإنّه يدلّ على جواز البلع بعد ذلك.
ثم إنّه إذا كان البصاق كثيراً مجتمعاً - مع تعمّد السبب - لا يبعد القول بمفطّريته، إذ الأدلّة المتقدّمة لا تشمله.
أمّا غير الخبر من الأدلّة: فلكونها أدلّة لُبّية، يجبُ الأخذ بالمتيقّن منها.
وأمّا الخبر: فلعدم وروده في مقام بيان هذا الحكم، فلا إطلاق له من هذه الجهة كي يتمسّك به، وعليه فالأحوط عدم البلع في هذه الصورة.2.
ص: 64
المورد الثالث: المشهور بين الأصحاب أنّ ابتلاع ما يخرج من بقايا الطعام من بين الأسنان يُبطل الصّوم.
وفي «الجواهر»(1): قولاً واحداً عندنا، وهو الأقوى لإطلاق الأدلّة.
وعن سيّد «المدارك»(2)، وصاحب «الحدائق»(3): عدم البطلان.
واستدلّ له:
1 - بعدم تسميته أكلاً.
2 - وبصحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل الصائم يقلس فيخرج منه الشيء أيفطّره ذلك ؟ قال عليه السلام: لا. قلت: فإن ازدرده بعد أن صار على لسانه ؟ قال: لا يفطر ذلك»(4).
ولكن يرد على الأوّل: ما تقدّم من صدق الأكل عليه.
ويرد على الثاني أوّلاً: أنّه أجنبيٌ عن المقام، إذ يمكن أن يكون الخارج بعد البلع بحكم النخامة الخارجة من الصدر، فالتعدّي إلى المقام لا وجه له.
وثانياً: أنّه لم يعمل به في مورده، سيّما وأنّ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين القليل والكثير.
وثالثاً: أنّه من المحتمل أن يكون المراد به أصل اللّسان الملتصق بالحلق،
ص: 65
ويكون الازدراد بغير اختياره، كما هو الغالب في القلس، ويؤيّد هذا الاحتمال موثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يخرج من جوفه القلس، حتّى يبلغ الحلق، ثمّ يرجع إلى جوفه وهو صائم ؟ فقال عليه السلام: ليس بشيء»(1).
فرع: لو ترك الصائم التخليل:
فتارةً : يعلم بترتّب دخول البقايا بين الأسنان في حلقه بعد ذلك سهواً.
وأُخرى : يعتقد عدم ترتّبه، ولكن يترتّب عليه خارجاً.
وثالثة: يشكّ في ذلك.
أقول: لا كلام في بطلان الصّوم في الصورة الأُولى ، لأنّ الابتلاع المفروض مستندٌ إلى الاختيار، فهو عمدي في الحقيقة.
كما لا كلام في عدم البطلان في الصورة الثانية.
إنّما الكلام في الصورة الثالثة:
فعن «فوائد الشرائع»(2)، و «المسالك»(3): وجوب القضاء.
واستدلّ له:
1 - بالتفريط الموجب للإلحاق بالعمد.
2 - وبأنّ مقتضى الإطلاقات تحقّق الإفطار به.
3 - وما دلّ على عدم قدح الأكل سهواً مختصٌّ بغير ما يكون فيه تفريط.
ولكن يرد على الأوّل: أنّه مع صدق السهو في صورة التفريط، لا دليل على3.
ص: 66
المفطّريّة، لعدم الدليل على إلحاق التفريط بالعمد.
وأمّا الجواب عن ذلك: بعدم صدق التفريط، إلّامع العلم بالترتّب ولا يكفي مجرّد احتمال الترتّب.
ففاسد: إذ التفريط إنّما يصدق مع الاحتمال وعدم سدّ باب العدم من ناحيته بالمقدار الممكن، ألا ترى أنّ من لم يحفظ الأمانة، ووضعها في محلّ يحتمل التلف فتلف، يكون مفرّطاً عرفاً، ولذلك يُحكم بضمانه.
ويرد على الثاني: أنّ الظاهر عدم الواسطة بين العمد والسهو.
وعليه، فإن قيل إنّه في الفرض يصدق عليه أنّه أكل عن عمدٍ، فهو بديهي البطلان، وإن قيل إنّه يصدق الأكل عن سهو، ومع ذلك لا يشمله النصوص الدالّة على عدم قدح الأكل سهواً، فهو منافٍ لإطلاق تلك النصوص.
وبالجملة: فالأظهر عدم القدح في الفرض، لما دلّ على عدم مبطليّة الأكل سهواً.
المورد الرابع: في ابتلاع ما يخرج من الصَّدر وما ينزل من الرأس، أقوالٌ :
القول الأوّل: ما عن «الإرشاد»(1) وفي «الشرائع»(2) من الجواز في الأوّل ما لم ينفصل عن الفم، وعدم الجواز في الثاني وإن لم يصل الفم.
القول الثاني: الجواز فيهما ما لم يصلا إلى فضاء الفم، والمنع إذا وصلا إليه،
ص: 67
اختاره الشهيدان(1).
القول الثالث: ما عن «المعتبر»(2)، و «المنتهى»(3)، و «التذكرة»(4)، و «البيان»، و «المدارك»(5) من الجواز فيهما ما لم ينفصلا عن الفم.
أقول: الظاهر أنّ عمدة منشأ الخلاف، هو الخلاف في معنى موثّق غياث الوارد فيه قوله عليه السلام: «لا بأ س بأن يزدرد الصائم نُخامته»(6).
والوجوه المحتملة فيه أربعة:
1 - إذ من الجائز أن يكون المراد من النخامة خصوص ما يخرج من الصدر.
2 - وأن يكون ما يعمّ ما ينزل من الدماغ.
وعلى التقديرين:
1 - يمكن أن يكون المراد بالإزدراد بلع ما لم يصل إلى فضاء الفم.
2 - ويمكن أن يكون ما يعمّ ما يصل إلى فضاء الفم.
فعلى الأوّل: لا مناص عن الالتزام بالجواز فيما يخرج من الصدر، ما لم يصل إلى فضاء الفم، وعدم الجواز فيما ينزل من الدماغ مطلقاً.
وعلى الثاني: يتعيّن الالتزام بالقول الأوّل.
وعلى الثالث: بالقول الثاني.1.
ص: 68
وعلى الرابع: بالقول الثالث.
وحيثُ أنّ الأظهر عموم النخامة لهما، كما صرّح به اللّغويون(1)، واستظهره غير واحدٍ من الفقهاء(2)، وعموم الإزدراد لما يصل إلى فضاء الفم، فالأقوى هو القول الثالث.
وأمّا الوجوه الأُخر التي ذُكِرت لكلٍّ من الأقوال، فلوضوح فسادها أغمضنا عن ذكرها.
المورد الخامس: لا ينبغي التوقّف في مفطّريّة كل ما يصدق عليه الأكل أو الشرب، وإنْ كان بطريقة غير متعارفة عند النّاس، لإطلاق الأدلّة.
ودعوى: انصرافهما إلى الأكل والشرب بالنحو المتعارف.
فاسدة: لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الانصراف الناشئ من التعارف بدويٌ يزول بالتأمّل، ولا يصلح لتقييد المطلقات.
كما أنّ الأظهر صدقهما على إيصال الغذاء والماء إلى المعدة من طريق الحلق من غير طريق الفم، كما لو شرب الماء من أنفه.
إنّما الكلام، فيما لا يصدق عليه الأكل أو الشرب، كإيصال الغذاء إلى المعدة من غير طريق الفم ثمّ الحلق.
ص: 69
وقد يقال: إنّه وإنْ لم يصدق عليه الأكل أو الشرب، إلّاأنّ الأظهر مفطريّته، لما دلّ على مفطّرية الطعام والشراب، فإن مقتضاه مفطريّتهما إذا وصلا إلى الجوف، وإن لم يصدق الأكل والشرب.
وفيه: الظاهر من تلك الأدلّة، خصوص الأكل والشرب كما أشرنا إليه فيما سبق، ولكن يمكن أن يقال بالمفطّريّة:
1 - لتنقيح المناط.
2 - ولعموم العلّة المنصوصة.
3 - ولما ورد في استنقاع المرأة في الماء، معلّلاً بأنّها تحمله بقُبُلها.
4 - وارتكاز المتشرّعة.
فإنّ كلّاً من هذه الوجوه، وإنْ كان قابلاً للمناقشة، ولكن المجموع لعلّها توجبُ الاطمئنان بالحكم، فالبناء على القدح لو لم يكن أظهر لاريب في كونه أحوط.
أقول: وبذلك يظهر حكم ما تعارف في هذه الأزمنة من تلقيح المواد الغذائيّة والأدوية التي يكون تأثير تلقيحها في البدن أكثر من الأكل والشرب بمراتب.
***
ص: 70
والجماع في القُبُل والدُّبر.
(و) الثالثُ من المفطّرات: (الجماع) المتحقّق بإدخال الحشفة، وإنْ لم يُنزل، و (في القُبُل والدُّبر) إجماعاً وكتاباً ونصّاً، فها هنا مسائل:
المسألة الأُولى : الجماع في قُبُل المرأة يُبطل الصّوم، وإن لم ينزل إجماعاً، كما صرّح به غير واحدٍ(1)، بل لعلّه من الضروريّات.
وتشهد به:
1 - قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ ) (2) فإنّها كالصريحة في وجوب الإمساك في اليوم عن جميع المذكورات الّتي أحلّها اللّه تعالى في اللّيل، وهي مباشرة النساء، والأكل والشرب، وقد وقع التصريح بذلك في جملةٍ من النصوص الواردة في تفسير الآية الشريفة.
2 - وكثير من النصوص:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن مولانا الباقر عليه السلام: «لا يضرّ الصائم ما صنع
ص: 71
إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب والنساءوالارتماس في الماء»(1) ونحوه غيره.
المسألة الثانية: الجماع في دُبُر المرأة أيضاً يُفطّر:
أمّا في صورة الإنزال: فلما سيمرّ عليك من النصوص الواردة في الاستمناء، فإن موردها وإنْ كان الإنزال بغير الوطء، إلّاأنّه يُثبت فيه الحكم بالأولويّة.
وأمّا إذا لم يُنزل: فهو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل عن «الخلاف»(2)، و «الوسيلة»(3)، و «المبسوط»(4) الإجماع عليه.
ويشهد به:
1 - عموم الآية الشريفة.
2 - والنصوص الدالّة على الإفطار بالجماع أو النكاح أو الوطء، أو إصابة الأهل أو إتيانها، سيّما وقد ورد في الدُّبر أنّه أحد المأتيين(5).
ودعوى: الانصراف إلى الجماع في القُبُل.
مردودة: إذ لا وجه له سوى الغلبة التي عرفت غير مرّة أنّ الانصراف الناشئ منها الزائل بالتأمّل، لا يصلحُ أن يكون مقيّداً للإطلاقات.
ثمّ إنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق في الإفطار بين الواطئ والموطوءة، كما هو المشهور بين الأصحاب.
وأمّا مرسل علي بن الحكم: عن رجل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:0.
ص: 72
«إذا أتى الرّجل المرأة في دُبُرها وهي صائمة ؟ قال عليه السلام: لا ينقض صومها، وليس عليها غُسل»(1).
ونحوه مرفوع أحمد بن محمّد عن بعض الكوفيّين(2).
فلإعراض الأصحاب عنهما، وضعفهما في أنفسهما، لا يُعتمد عليهما.
وإفتاء الشيخ(3) بعدم وجوب الغُسل على الموطوءة في دُبُرها لا يفيد، لاحتمال استناده إلى غيرهما، بل هو الظاهر، فإنّه في المقام لم يفتِ بعدم انتقاض صومها، وإنْ تردّد فيه في «المبسوط»(4) على ما حُكي، وتبعه في «الحدائق»(5)، بل جعلا الفساد أحوط.
واستدلّ للأوّل:
1 - بالإجماع.
2 - وبإطلاق ما دلّ على حصول الإفطار بالجماع والنكاح والوطء، سيّما وفي بعض تلك النصوص، كخبر عبد السلام بن صالح الهروي، عن الإمام الرضا عليه السلام:
«متى جامع الرّجل حراماً أو أفطر على حرامٍ في شهر رمضان، فعليه ثلاث كفّارات، الحديث»(1).
فإنّ المجامعة حراماً تشمل النكاح في دُبُر الغلام شمولاً ظاهراً.
3 - وبخبر عمر بن يزيد، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: لأيّ علّةٍ لا يفطّر الاحتلامُ الصائم، والنكاحُ يفطّر الصائم ؟ قال عليه السلام: لأنّ النكاح فعله، والاحتلام مفعولٌ به»(2).
فإنّ الظاهر من النكاح بقرينة المقابلة بالاحتلام الحاصل بوطء النساء والغلام والبهيمة، إرادة الأعمّ ، لا خصوص نكاح المرأة.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الإجماع: فمضافاً إلى ما عرفت من مخالفة جماعةٍ من الأساطين(3)، حيث التزموا بتبعية الإفطار لوجوب الغُسل، لا يكون حجّة لاستناد المجمعين إلى ما تقدّم.
وأمّا الثاني: وهو إطلاق ما دلّ على الإفطار بالنكاح، أو النكاح المحرّم، فهو6.
ص: 74
معارضٌ مع مثل صحيح ابن مسلم المتقدّم(1): «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء».
والنسبة بينهما وإنْ كانت عموماً من وجه، لشمول الأوّل لوطء النساء والغلام أو البهيمة، وشمول الثاني لغير الوطء من الأفعال، والمجمع هو وطء الغلام والبهيمة، فإنّ الأوّل يدلّ بإطلاقه على مفطريّته، والثاني يدلّ على العدم، إلّاأنّه تقدّم نصوصُ حَصر المفطّرات إنْ لم يثبت كون المفطّريّة مشهورة بين الأصحاب، لأصحيّتها حينئذٍ، ولكن سيمرّ عليك ما هو الحقّ .
وأُجيب عن هذا الوجه:
تارةً : بأنّه تتعارض الطائفتان، وحيثُ أنّ دلالة نصوص الحَصر بالعموم، لأنّ الطبيعة الواقعة عقيب النفي تُفيد العموم، ودلالة نصوص الجماع والنكاح بالإطلاق، فتقدّم نصوص الحَصر.
وأُخرى : بأنّهما تتساقطان، والمرجع إلى الأصل، وهو يقتضي العدم.
وثالثة: بانصراف نصوص الجماع والنكاح عن وطئها بدون الإنزال.
ولكن يرد على الأولين: ما أثبتناه في محلّه من أنّ العامين من وجه داخلان في أخبار الترجيح والتخيير مطلقاً، ولابدّ فيهما من الرجوع إليها.
ويرد على الأخير: ما تقدّم من منع الانصراف.
وأمّا خبر عمر: فلأنّه إنّما سيق سؤالاً وجواباً، لبيان أنّ النكاح المفطّر في اليقظة، لماذا لا يكون مفطّراً في حال النوم، وليس مسوقاً لبيان أنّ أيّ قسمٍ من النكاح مفطّرٌ في حال اليقظة، كي يتمسّك بإطلاقه.3.
ص: 75
أقول: ولكن الإنصاف تماميّة الوجه الثاني، لأنّه وإنْ كانت النسبة بين أخبار النكاح والجماع والوطء، ونصوص الحصر عموماً من وجه، إلّاأنّه لأشهريّة الأولى - حتّى قيل لم يخالف أحدٌ إلّاجمعٌ من المتأخّرين - تُقدّم، فالأظهر مفطّريّة الوطء مطلقاً.
وقد استدلّ للثاني - أي تبعية الإفطار بوطي الغلام والبهيمة، لوجوب الغُسل، وبعبارة أُخرى تعليق الإفطار على حصول الجنابة -:
1 - بخبر ابن يزيد المتقدّم(1)، بدعوى أنّ الظاهر منه كون المرتكز في ذهن السائل مساواة الاحتلام والنكاح في حصول الجنابة، التي هي السبب في الإفطار، فجوابه عليه السلام ببيان الفرق تقريرٌ لما في ذهن السائل.
2 - وبما في محكيّ «الفقيه»(2) وغيره(3) عن يونس بن عبد الرحمن، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «في المسافر يدخلُ أهله وهو جُنُب قبل الزَّوال، ولم يكن أكل، فعليه أن يُتمّ صومه ولا قضاء عليه، يعني إذا كانت جنابته عن احتلام»(4)، فإنّه يدلّ على أنّ الجنابة الاختياريّة تُنافي الصّوم.
3 - وبالنصوص(5) الدالّة على مفطّريّة البقاء على الجنابة، وأنّه يوجبُ القضاء وبطلان الصّوم، فإنّها تدلّ على منافاة الإحداث للصوم كالبقاء بالأولويّة.
أقول: وفي الجميع نظر:0.
ص: 76
أمّا الأوّل: فلأنّه يمكن أن يكون السؤال مختصّاً بصورة الإنزال، بل لا يبعد دعوى أنّ الظاهر هو ذلك، من جهة أنّ الاحتلام يوجبُ الجنابة في تلك الصورة، فجوابه عليه السلام لا يدلّ على أنّه يفطّر في غير تلك الصورة أيضاً.
وبالجملة: لا إطلاق له سؤالاً وجواباً كي يتمسّك به.
وأمّا الثاني: فلأنّه من الجائز كون قوله: (يعني إذا... إلى آخره) من كلام الراوي، فلا يصحّ التمسّك به، واهتمام الرواة بضبطه، وإسقاط كلمة (قال) في «التهذيب»(1) لا يدلّان على أنّه من كلام الإمام عليه السلام، هذا فضلاً عن أنّه لا مفهوم له كي يدلّ على أنّ الجنابة الحاصلة عن غير الاحتلام تفطّر الصّوم، ليصحّ التمسّك بإطلاقه في المقام.
وأمّا نصوص البقاء على الجنابة: فهي تدلّ بالفحوى على أنّ إحداث الجنابة في أوّل انعقاد الصّوم، يوجبُ بطلانه لا أنّه في وسط الصّوم يُفطّره، إذ يمكن أن يكون شيءٌ مانعاً عن انعقاد شيءٍ آخر، غير مانعٍ عن استدامته، بل الجنابة الحاصلة بالاحتلام كذلك كما لا يخفى .
فالصحيح أن يستدلّ لهذا القول: بصحيح البزنطي، عن أبي سعيد القمّاط، عن الصادق عليه السلام: «عمّن أجنبَ في شهر رمضان في أوّل اللّيل، فنام حتّى أصبح ؟ قال عليه السلام:
لا شيء عليه. وذلك أنّ جنابته كانت في وقت حلال»(2).
فإنّه بمفهوم التعليل يدلّ على مفطّرية الجنابة في الوقت الحرام.
فإنْ قيل: إنّه يدلّ على مفطّرية الجنابة الحاصلة من مباشرة النساء ووطء7.
ص: 77
الغلام والبهيمة وما شاكل، فيقع التعارض بينه وبين نصوص الحَصر المتقدّم بعضها، والنسبة عمومٌ من وجه، فإمّا أن تقدّم نصوص الحَصر من جهة كون دلالتها بالعموم وهذا بالإطلاق، أو يتساقطان والمرجع إلى الأصل، وهو يقتضي العدم.
قلنا: قد تقدّم أنّ المختار في تعارض العامين من وجه، هو الرجوع إلى أخبار الترجيح، وأوّل المرجّحات وهي الشهرة مع صحيح البزنطي.
ولا يتوهّم منافاة ذلك لما بيّناه من دلالة نصوص النكاح والجماع لمفطّريّة وطئهما مطلقاً، فإنّهما متوافقان لا تنافي بينهما.
فتحصّل: أنّ الأظهر مفطّرية وطئهما مطلقاً.
فرع: ولو أدخل الرّجل بالخُنثى قُبُلاً، لم يبطل صومهما، إذا لم يُنزل، لظهور الأدلّة في الإدخال في الفرج، وهو غير معلوم في المورد، واحتمال صدق الفرج على قُبُلها حقيقةً بعيدٌ، وعلى فرض صدقه، فإنّ شمول الأدلّة له محلّ تأمّل ونظر.
***
ص: 78
والإستمناء.
(و) الرابع من المفطّرات للصوم: (الاستمناء):
وهو إنزال المني متعمّداً باليد، أو الملامسة، أو التفخيذ، أو غير ذلك من الأفعال التي يُقصد بها حصوله، بلا خلافٍ فيه في الجملة.
وعن «الانتصار»(1)، و «الوسيلة»(2)، و «التذكرة»(3) وغيرها(4): دعوى الإجماع عليه.
وتشهد به: - مضافاً إلى ما مر من أدلّة مفطّرية الجنابة العمديّة - جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن سيّدنا الصادق عليه السلام:
«عن الرّجل يعبثُ بأهله في شهر رمضان حتّى يُمني ؟ قال عليه السلام: عليه من الكفّارة مثل ما على الذي يُجامع»(5).
ص: 79
ومنها: موثّق سماعة، قال: «سألته عن رجلٍ لزق بأهله فأنزل، قال عليه السلام: عليه إطعام ستّين مسكيناً، مدٌّ لكلّ مسكين»(1).
ومنها: خبر أبي بصير، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ وضع يده على شيءٍ من جسد امرأته فأدفق ؟ فقال عليه السلام: كفّارته أن يصوم شهرين متتابعين، أو يُطعم ستّين مسكيناً، أو يُعتق رقبة»(2). ونحوها غيرها.
وهي وإن دلّت على وجوب الكفّارة خاصّة، إلّاأنّها تدلّ على فساد الصّوم، ويترتّب عليه وجوب القضاء بدليله.
أقول: وتشهد بالمفطّريّة جملةٌ أُخرى من النصوص الواردة في اللّمس والتقبيل:
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يمسّ من المرأة شيئاً أيفسد ذلك صومه أو ينقضه ؟ فقال عليه السلام: إنّ ذلك يُكره للرّجل الشاب مخافة أن يسبقه المنيّ »(3).
ومنها: صحيح الفاضلين، عن مولانا الباقر عليه السلام: «هل يُباشر الصائم أو يُقبّل في شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: إنّي أخافُ عليه، فليتنزّه من ذلك، إلّاأن يثق أنْ لا يسبقه منيّه»(4). ونحوهما غيرهما.
إذ لو لم يكن خروج المني عقيب فعل اقتضى ذلك مفسداً للصوم، لما صَحَّ التعليل، والظاهر من النصوص - خصوصاً الطائفة الثانية - وما دلّ على مبطليّة الجنابة العمديّة، مفطّرية الاستمناء مطلقاً، من غير دخل للأمثلة المذكورة في4.
ص: 80
النصوص في الحكم، والظاهر أنّه المشهور بين الأصحاب.
أقول: وما عن ظاهر «الخلاف»(1)، و «السرائر»(2)، وفي «الشرائع»(3) وغيرها(4)من عدم مفطّرية نزول المنيّ عقيب النظر إلى المرأة مطلقاً، وعن المفيد(5)، وسلّار(6)، وابن البرّاج(7)، والسيّد في بعض كتبه(8)، وابن حمزة(9)، وصاحب «التحرير»(10)اختياره، إذا كان النظر إلى من يحلّ النظر إليها.
لا ينافي ذلك، لأنّ ذلك منهم محمولٌ على إرادة صورة عدم القصد إليه، كما أفاده سيّد «الرياض»(11)، وعليه يُحمل ما ظاهره عدم مفطّرية نزول المني عقيب التكلّم، مضافاً إلى ضعف سنده.
والمتيقّن من مورد ثبوت هذا الحكم المتّفق عليه، ما لو قَصَد الإنزال مع كون عادته الإنزال بذلك الفعل.
وأمّا في غير هذه الصورة، فقد وقع الخلاف بين الأصحاب، فاختار سيّد «المدارك»(12): عدم المفطّريّة مع فقد أحد هذين القيدين - أي الاعتياد، وقصد2.
ص: 81
الإنزال - والمشهور بين الأصحاب اعتبار أحدهما، والاكتفاء به في المفطّريّة، وأمّا مع فقدهما فلا يكون مفطّراً.
وعن جماعةٍ (1): ثبوت المفطّرية فيما إذا أوجد بعض تلك الأفعال، ولم يكن قاصداًللإنزال، ولا كان من عادته الإنزال به، فاتّفق أنّه أنزل، بشرط أن يحتمل ذلك.
وأمّا إنْ كان واثقاً بعدم الإنزال، فلا خلاف في عدم المفطّرية.
والأظهر هو الأخير، لإطلاق الأدلّة.
أقول: واستدلّ لما ذهب إليه السيّد رحمه الله في مداركه(2): بأنّ الحُجّة من نصوص مفطّرية الاستمناء، خصوص صحيح ابن الحجّاج، ومورده الفعل الذي يعتاد الإنزال عقيبه، وحيثُ أنّ من المحتمل أو الظاهر من كلمة (حتّى فيه) تعليليّة، بمنزلة كي، فما لم يتحقّق القصد لا يكون نزول المني مفطّراً.
وفيه أوّلاً: إن موثّق سماعة، ومرسل حفص حُجّتان:
أمّا الأوّل: فلما حُقّق في محلّه من حجيّة خبر الثقة.
وأمّا الثاني: فلأنّ الراوي عن حفص، هو ابن أبي عمير الذي يعدّ من أصحاب الإجماع، وهما مطلقان.
وثانياً: أنّ الظاهر كون (حتّى ) للغاية دائماً، ما لم يقم على خلافه قرينة، كما صرّح به أهله(3).).
ص: 82
واستدلّ لما ذهب إليه المشهور: بأنّه إذا قصد الإنزال، يكون ذلك بنفسه مفطّراً، لما تقدّم من مفطّرية قصد المفطر، وإلّا فيعتبر الاعتياد لوجوه:
1 - إن ظاهر السؤال في صحيح ابن الحجّاج استمرار العَبَث إلى حصول الإمناء، فيظهر منه كثرة العَبَث، وهي عادةً موجبة للإمناء.
وفيه: أنّه لا مفهوم لجوابه عليه السلام كي يوجبُ تقييد إطلاق سائر النصوص، ومنطوقه لا ينافي إطلاقها حتّى يقيّد به.
2 - إنّ نصوص الباب وإنْ كانت مطلقة، إلّاأنّها لتضمّنها الكفّارة، تختصّ بصورة القصد أو الاعتياد، إذ الكفّارة لا تناسب العُذر المفروض من جهة عدم القصد وعدم الاعتياد معاً، هذا بخلاف تحقّق أحدهما الذي له نحوٌ من الطريقيّة العرفيّة.
وفيه: أنّ الكفّارة وإنْ كانت لا تناسب العُذر، إلّاأنّ الكلام في كون عدم الاعتياد وعدم القصد معاً، مع احتمال نزول المني بذلك الفعل عُذراً، ومقتضى إطلاق النصوص عدم كونه عذراً.
3 - المرسل المروي في «المقنع» عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لو أنّ رجلاً لصق بأهله في شهر رمضان فأمنى ، لم يكن عليه شيء»(1)، المحمول على صورة عدم القصد، وعدم الاعتياد معاً، جمعاً بينه وبين النصوص المتقدّمة.
وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف للإرسال.
وثانياً: أنّه مرويّ عن «الفقيه» هكذا: «لو أنّ رجلاً لصق بأهله في شهر رمضان فأدفق، كان عليه عتق رقبة».
وثالثاً: أنّه معارضٌ مع النصوص المتقدّمة، والجمع بالنحو المذكور تبرّعي لا4.
ص: 83
يعبأ به، لابدّ من طرحه.
4 - خبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ كلّم امرأته في شهر رمضان فأمنى؟ فقال عليه السلام: لا بأس»(1)، بدعوى أنّ مورده ما لا يعتاد غالباً خروج المني بعده، فبه يقيّد إطلاق سائر النصوص.
وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السند.
وثانياً: أنّ مورده ما يوثق بعدم خروج المني.
فإنْ قيل: إنّ لازم ما ذَكرت، مفطّرية خروج المني عقيب فعل المكلّف، وإنْ كان واثقاً بعدم خروجه حين ارتكابه، فلا وجه للتخصيص بصورة الاحتمال.
قلنا: إنّ الطائفة الأولى من النصوص لتضمّنها الكفّارة، لا تشمل صورة ثبوت العُذر، وهو في المقام الوثوق بعدم الإنزال، والطائفة الثانية كالصريحة في الاختصاص بصورة احتمال سبق المني، وأمّا أدلّة مفطّرية الجنابة العمديّة، فاختصاصها بها واضحٌ لا يحتاج إلى بيان.
مع أنّه لو سُلّم إطلاق النصوص، يتعيّن تقييدها بقوله عليه السلام في صحيح الفاضلين المتقدّم(2): (إلّا أن يثق أنْ لا يسبقه مني).
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر مفطّرية إنزال الماء بأيّ سببٍ كان مطلقاً، إلّا إذا أتى بالسبب واثقاً بعدم خروج المني.
***4.
ص: 84
مسألة: لو احتلم بعد نيّة الصّوم نهاراً، لم يفسد صومه إجماعاً، حكاه جماعة(1).
وتشهد به: جملةٌ من النصوص:
منها: خبر عمر بن يزيد: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: لأيّ علّةٍ لا يفطّر الاحتلام الصائم، والنكاح يفطر الصائم ؟
قال عليه السلام: لأنّ النكاح فعله، والاحتلام مفعول به»(2).
ومنها: خبر عبد اللّه بن ميمون، عن الإمام الصادق عليه السلام: «ثلاثة لا يفطّرن الصائم: القي والاحتلام والحِجامة»(3). ونحوهما غيرهما.
أقول: وتمام الكلام في هذه المسألة يتحقّق بالبحث في فروع:
الفرع الأوّل: لا يجب على من احتلم في نهار شهر رمضان البدار إلى الغُسل، بلا خلافٍ ، ويشهد به - مضافاً إلى الأصل - صحيح العيص بن القاسم، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن الرّجل ينام في شهر رمضان فيحتلم، ثمّ يستيقظ، ثمّ ينام قبل أن يغتسل ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(4). وبمعناه غيره.
ص: 85
نعم، الأولى ذلك لمرسل إبراهيم بن عبد الحميد، عن بعض مواليه، قال:
«سألته عن احتلام الصائم ؟ فقال: إذا احتلم نهاراً في شهر رمضان، فلا ينام حتّى يغتسل»(1) المحمول على الكراهة بقرينة ما تقدّم.
الفرع الثاني: يجوزُ للمحتلم في النهار الاستبراء بالبول أو الخرطات، وإنْ علم بخروج بقايا المنيّ في المجرى ، بلا خلافٍ (2).
ويشهد به: الأصل، وعموم دليل الاستبراء، بعد اختصاص نصوص مفطّرية الإنزال العمدي بغير ذلك، بل يمكن دعوى قيام السيرة القطعيّة من المحتلمين عليه، بلا احتمال أحدٍ منهم للمنع، ولا فرق في ذلك بين الإستبراء قبل الغُسل أو بعده.
ودعوى: أنّه في الإستبراء قبل الغُسل لا يوجب خروج ما في المجرى من المنيّ الجنابة، فلا موجب لمفطّريته، وهذا بخلاف الإستبراء بعد الغُسل.
مندفعة: بأنّ عمدة ما دلّ على مفطّرية الاستمناء من النصوص، إنّما تدلّ على مفطّرية الإنزال، ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين صيرورته موجباً للجنابة وعدمها.
فإنْ قيل: إنّ مقتضى نصوص مفطّرية الجنابة العمديّة، هو الفرق بينهما.
قلنا: إنّه لا إطلاق لها لتشمل هذه الجنابة.
وبالجملة: شيءٌ من أدلّة مفطّرية إنزال المني متعمّداً، لا يدلّ على مفطّرية مثل هذا الخروج، من غير فرق بين الصورتين، فالأظهر عدم الفرق بينهما، وعدم المفطّرية فيهما للأصل.
أقول: وبما ذكرناه ظهر حكم فرعٍ آخر، وهو: ما لو احتلم فنَزَل المنيّ من مقره7.
ص: 86
وسالَ في مجراه، دون أن يخرج إلى الخارج بل بقي في المجرى فاستيقظ، فإنّه لايجبُ التحفّظ عن خروج المني، لعدم شمول النصوص له، فيرجع إلى الأصل، وهو يقتضي عدم المفطّرية، وعدم البأس به، من غير فرقٍ بين صورة الإضرار أو الحَرَج وغيرها.
الفرع الثالث: إذا علم من نفسه أنّه لو نام في نهار رمضان سوف يحتلم، فالظاهر جواز نومه وعدم مفطّرية الاحتلام بعده، لعموم ما دلّ على عدم مفطّرية الاحتلام، سيّما قوله عليه السلام في خبر عمر بن يزيد المتقدّم(1): (والاحتلام مفعولٌ به) فإنّه يدلّ على أنّ نزول المني بالاحتلام، إنّما لا يكون مفطراً لعدم كونه من الجنابة العمديّة بفعله، لعدم استناد خروج المني إلى فعله، مع أنّ نصوص مفطّرية الجنابة العمديّة، وإنزال المنيّ متعمّداً، مختصّة بغير صورة الاحتلام، كما هو واضح لمن لاحظها، فأصل البراءة محكّم.
وعليه، فالقول بوجوب ترك النوم في الفرض ضعيفٌ .
وأضعف منه: التفصيل بين ما إذا كان الترك موجباً للحرج، وبين ما إذا لم يكن كذلك، فلا يفسد في الصورة الأُولى ويفسد في الثانية.
إذ لا وجه لهذا التفصيل سوى تخيّل أنّه في الصورة الأولى مقتضى أدلّة نفي الحَرَج عدم الإفساد، وإنْ كان مقتضى العمومات ذلك، وهو فاسدٌ، لأنّ أدلّة نفي الحَرَج إنّما تدلّ على جواز الإفطار، لا على عدم المفطّرية.
***1.
ص: 87
وإيصال الغبار إلى الحلق متعدّياً.
(و) الخامس من المفطّرات: (إيصال الغبار إلى الحلق متعدّياً):
وهو مشهورٌ شهرة عظيمة، وفي «الجواهر»(1): (لم أجد فيه خلافاً بين القائلين بعموم المفطر للمعتاد وغيره، إلّامن المصنّف في المعتبر). انتهى .
وفي صوم الشيخ الأعظم(2): (بل لم يُعلم مصرّحٌ بالخلاف إلى زمان بعض متأخّري المتأخّرين). انتهى .
وظاهرُ جماعةٍ من القدماء كالصدوق(3)، والشيخ في «المصباح»(4)، والدّيلمي(5)، وصريح جمعٍ من متأخّري المتأخّرين، كالمحدِّث الكاشاني(6)، وصاحب «الحدائق»(7) وغيرهما(8) عدم مفطريّته.
أقول: والأظهر هو الأوّل، ويشهد به أمران:
أحدهما: عموم ما دلّ على مفطّرية الأكل، بناءً على ما تقدّم من شموله للمعتاد
ص: 88
وغيره، وشموله للقليل والكثير، فإنّه يلصق الأجزاء الترابيّة إذا وصل الغبار الغليظ إلى الحلق، من دون أن يستهلك بالحلق، وتنزل مع الريق.
وبهذا البيان يندفع ما أورده صاحب «المدارك» رحمه الله(1) على هذا الوجه، بالمنع من كون مطلق الإيصال مفسداً، بل المفسد خصوص الأكل والشرب وما في معناهما.
ثانيهما: خصوص ما رواه الشيخ، بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن محمّد بن عيسى ، عن سليمان بن جعفر المزوري، قال:
«سمعته يقول: إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان، أو استنشق متعمّداً، أو شمَّ رائحة غليظة، أو كَنَس بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبارٌ، فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّ ذلك له فِطرٌ مثل الأكل والشرب والنكاح»(2).
وأورد عليه بأُمور:
الأمر الأوّل: ضعف سنده، لاشتماله على جماعة من المجاهيل.
وفيه: بعد الموافقة معه بأنّ المروزي ضعيفٌ - لأنّ بقيّة رجال السند ثقاة - أنّ ضعفه ينجبر بعمل الأصحاب واستنادهم إليه.
لا يقال: إنّه لم يثبت استنادهم إليه، ولعلّهم استندوا إلى عموم ما دلّ على مفطّرية الأكل، بل المظنون عدمه لطرحهم سائر الفقرات التي تضمّنها الخبر، ولما في «الحدائق»(3) من أنّ المشهور بين الأصحاب، عدم وجوب الكفّارة، بل القضاء خاصّة، وهو خلاف ما وقع التصريح به فيه.2.
ص: 89
فإنّه يقال: إنّ الظاهر من كلماتهم - مضافاً إلى تصريح جماعةٍ به(1) - استنادهم إليه، لأنّ كلماتهم طفحت بأنّ إيصال الغبار إلى الحلق مفطّر، مع أنّ الإيصال إلى الحلق بنفسه ليس مفطّراً، بل المفطّر خصوص نزوله ووصوله إلى الجوف، وليس ذلك إلّامن جهة متابعة النَّص، مع أنّهم لو كانوا مستندين في ذلك إلى عموم ما دلّ على مفطّرية الأكل لذكروه في ذيل مفطّرية الأكل والشرب، لكونه من فروعهما حينئذٍ، لا ذكره مستقلّاً.
وبالجملة: بعد ملاحظة القرائن الداخليّة والخارجيّة، تطمئنّ النفس باستناد الأصحاب إليه، وطرحهم سائر فقراته، لأجل معارضتها مع النصوص الأُخر، لا ينافي الاستناد إليه فيما لا معارض له.
ومنه، يظهر ما في حكمهم بعدم وجوب الكفّارة، مع أنّ هذا الإشكال يرد حتّى بناءً على أنّ يكون مدركهم عموم مفطّرية الأكل.
وسيأتي تنقيح القول فيه إن شاء اللّه تعالى.
الأمر الثاني: إنّه مضمر، والقائل مجهولٌ ، ولعلّه غير الإمام عليه السلام.
وفيه: إنّ تدوين أرباب الحديث والأساطين له في كتبهم، يعدّ شهادةً منهم بكونه رواية مرويّة عن المعصوم عليه السلام.
الأمر الثالث: إنّه معارضٌ مع صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم(2) الحاصر للمفطّرات في أُمور ليس ذلك منها.
وفيه: أنّه أخصّ مطلقاً منه، فيقيّد إطلاقه به.3.
ص: 90
الأمر الرابع: أنّه يعارضه موثّق عمرو بن سعيد، عن الإمام الرضا عليه السلام:
«عن الصائم يتدخّن بعودٍ أو بغير ذلك، فتدخل الدُّخنة في حلقه ؟ فقال عليه السلام:
جائز لا بأس به.
وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(1).
وفيه: أنّ الموثّق أعمٌّ من الخبر من وجهين:
1 - من جهة شمول الموثّق للعَمد وغيره. إنْ لم يكن ظاهراً في غير العَمد.
2 - ومن جهة شموله للغليظ والرقيق، والخبر مختصٌّ بالعَمد والغبار الغليظ، فيقيّد إطلاق الموثّق به.
الأمر الخامس: إنّ الأصحاب قيّدوا الغبار بالغليظ والخبر مطلق.
وفيه: أنّ قوله: (أو كَنَس بيتاً فَدَخل... إلخ) ظاهرٌ في إرادة الغبار الغليظ، إذ الغبار الذي يحصل عند كنس البيت، يكون غليظاً غالباً، مع أنّه لا مانع من تقييد إطلاقه بالإجماع لو كان.
فالمتحصّل: صحّة الاستدلال بهذا الخبر، فالأظهر مفطّرية الغبار الغليظ.
وأمّا الغبار الرقيق: فعن الأكثر عدم مفطريّته، بل نُسب إلى المشهور(2)، وهو الأظهر، لموثّق ابن سعيد المتقدّم، إذ قد عرفت أنّ الجمع بينه وبين خبر المروزي يقتضي الالتزام بذلك، إن لم يكن مختصّاً بغير العمد، ومورده وإنْ كان الغبار الحرام إلّا أنّه يتعدّى عنه إلى الحلال بالأولويّة، وتنقيح المناط، بل مورد النَّص في المقام).
ص: 91
مُلغاةٌ بنظر العرف، كما لا يخفى ، بل ليس في الخبر ما يشهد بكون مورده الحرام، أضف إلى ذلك كلّه أنّه حيثُ لا دليل على مفطريّته، فالمرجع إلى الأصل، وهو يقتضي العدم.
وأمّا الشهيد الثاني: فقد بنى في «المسالك»(1) على مفطريّته، واستدلّ له:
1 - بأنّه نوع من المتناولات فيحرم ويفسد.
2 - وبإطلاق خبر المروزي.
ولكن يرد على الأوّل: عدم صدق الأكل عليه، ولا يقال إنّه أكل التراب وإلّا لفسد الصّوم بإيصال مطلق الهواء الكَدِر المخلوط بالأجزاء الأرضيّة.
ويرد على الثاني: ما تقدّم من اختصاص النَّص بالغبار الغليظ، ولا أقلّ من الإجمال، والمتيقّن منه ذلك.
وقع البحث بين الأعلام في أنّه: هل يلحق بالغبار الغليظ في مفطريّته للصوم، دخان التَّنباك والتّتن والترياك وما شاكل، كما عن متأخّري المتأخّرين(2).
أم لا يلحق به، ولا يفسد الصّوم، كما عن جماعةٍ ، كما استبعد الإلحاق سيّد «المدارك»(3)، والفاضل الخراساني(4)، وعن «التنقيح»(5) الجزم بعدم الإلحاق ؟
ص: 92
أم يفصَّل بين المعتاد وغيره، فيفسد صوم الأوّل به خاصّة، كما عن كاشف الغطاء(1)؟ وجوه:
قال الشيخ الأعظم رحمه الله(2): (الأقوى الإلحاق لو عمّمنا الغبار لغير الغليظ، لتنقيح المناط والأولويّة، وإنْ قيّدناه بالغليظ، فالأقوى عدم اللّحوق، لأنّ الأجزاء الترابيّة تلصق بالحلق، وتنزل مع الريق بخلاف الأجزاء اللّطيفة الرماديّة في الدخان، فإنّها تدخل في الجوف مصاحبة للدخان النازل، ولا تلصق بالحلق، ولا ينزل مع الريق منها شيءٌ ، والدخان ليس ممّا يؤكل، والأجزاء الرماديّة ليست منفردة عن الدخان حتّى يصدق الأكل بنزولها). انتهى .
أمّا المحقّق الهمداني رحمه الله(3): بعد الجزم بعدم إلحاق الدخان والبخار بالغبار الغليظ، قال: (نعم، قد يتأمّل في جواز تناول كلّ من هذه الأشياء وإيصاله إلى الجوف بابتلاعه وتجرّعه عند ملحوظيّته من حيث هو، وتعلّق القصد إلى إيصاله إلى الجوف بعنوانه المخصوص به، لا من حيث كونه هواءً مشوباً بأجزاء خارجيّة مستهلكة فيه، كما هو الشأن في شُرب التّتن والتّنباك ونظائره، بل قد يقوى في النظر إلحاقه في مثل الفرض بالطعام والشراب، خصوصاً بعد تعارفه). انتهى .
أقول: وكيف كان، فقد استدلّ للإلحاق - خصوصاً في شرب التُّتن وماشاكل - بوجوه:
الوجه الأوّل: فحوى ما دلّ على مفطّرية الغبار.1.
ص: 93
وفيه: أنّه إنْ أُريد بذلك صِدق الشرب أو الأكل عليه، كما يصدق الأكل في الغبار الغليظ على ما تقدّم، فيرده أنّ نفس الدخان لا ينزل من الحلق إلى المعدة، بل له ممرٌّ آخر ويدخل في الرئة لا في المعدة، فلا تصحّ دعوى صدق الشرب أو الأكل عليه، لصدقه على إيصال أي شيء كان إلى المعدة من طريق الحلق، والأجزاء اللّطيفة الرماديّة لا تلصق بالحلق، ولا تبقى في الحلق أوّلاً، وتستهلك في الريق ثانياً على فرض البقاء، فلا يصحّ أن يقال يصدق الأكل عند ابتلاعها.
وإنْ أُريد به التعدّي من النَّص، فهو يتوقّف على إحراز عدم الخصوصيّة، وقد عرفت أنّه غير ثابتٍ ، بل قد عرفت الفرق بين الغبار والدخان، بلصوق الأوّل بالحلق، ونزوله إلى المعدة، بخلاف الثاني.
الوجه الثاني: إطلاق الشرب على شرب التّتن عند العرب، كذا في «المستند»(1).
وفيه: أنّه لا إشكال في أنّ ما دلّ على مفطّرية الشرب من قبيل القضايا الحقيقيّة المتعلّقة حكمها على الموضوع أينما تحقّق، ولا نظر له إلى الأفراد الخارجيّة، إلّا أنّه ليس لازم ذلك ثبوت الحكم على غير تلك الحقيقة الخاصّة لو سُمّي بذلك الإسم، مثلاً قد دلّ الدليل على حرمة شُرب الفقاع - وهو عبارة عن شرابٍ خاصّ مأخوذ من الشعير، فيه نسبة معيّنة من الكحول التي توجب السُّكر - فلو فرض أنّه سُمّي في الأزمنة المتأخّرة شرابٌ آخر ليس فيه المادّة المسكرة بالفقّاع، لا يكون إطلاق دليل حرمة شرب الفقاع شاملاً له، وهذا من الوضوح بمكان، وفي).
ص: 94
المقام الشُرب عبارة عن إيصال المائع من طريق الحلق إلى المعدة، وإطلاقه على شُرب التّتن الذي لا يصل إلى المعدة اصطلاحٌ جديد، فلا مورد لتوهّم شمول دليل مفطّرية الشّرب له.
الوجه الثالث: استمرار سيرة المسلمين على الاجتناب عنه.
وفيه: أنّها منقطعة، وهي إنّما تكون لأجل فتوى العلماء والمقلَّدين في هذه الأعصار بذلك.
الوجه الرابع: أنّه ماحٍ لصورة الصّوم بحسب ارتكاز المتشرّعة.
وفيه: أنّ حقيقة الصّوم هي الإمساك عن جميع ما وجب الإمساك عنها عن النيّة، واعتبار أمرٍ آخر في الصّوم زائداً على ذلك المُسمّى بالصورة الصوميّة يحتاج إلى دليلٍ مفقود.
واستدلّ للأخير: بأنّه في صورة الاعتياد، يقوم شُرب التّتن مقام القوت، ويكون أشدّ من الغبار.
وفيه: أنّه لم يدلّ دليلٌ على أنّ كلّ ما قام مقام القوت من حيث التلذّذ ورفع الألم يكون مفطّراً، فإذا لا دليل على مفطريّته، بل يشهد بالعدم - مضافاً إلى الأصل - موثّق عمرو بن سعيد المتقدّم(1)، واستقرار السيرة على عدم الاجتناب عن الدخان لمن يباشر الطبخ وغيره.
والتفريق بينه وبين شُرب التّتن - كما أفاده المحقّق الهمداني(2) - من أنّ في الثاني يلاحظ ابتلاع الدخان من حيث هو، ويتعلّق القصد بإيصاله إلى الجوف بعنوانه1.
ص: 95
المخصوص به دون الأوّل، لم يظهر لي وجه كونه فارقاً في كون الثاني مفطّراً دون الأوّل، إذ إيصال الدخان إلى الجوف إنْ لم يكن مفطّراً كما هو المفروض، فكيف تكون ملاحظته من حيث هو وتعلّق الغرض الأقصى به موجباً للمفطريّة ؟!
وعليه، فالأظهر بحسب الأدلّة، عدم مفطّرية شُرب التّتن وما شاكل.
ولكن بما أنّ الحكم بالمفطّريّة في هذه الأعصار كاد أن يكون من المسلّمات، وقد قال بعضهم(1): إنّ الحكم المذكور بَلَغ من الاستبشاع في هذه الأعصار حَدّاً يلحقه بمخالفة الضروري، فالاحتياط بتركه لا يُترك.
قال الشيخ الأعظم رحمه الله(2): - بعد تقوية عدم المفطّرية بحسب الأدلّة - (وممّا ذكرناه ظهر أنّ الاجتناب عن دخان التُّتن، شيءٌ اقتضت به سيرة المسلمين، ومراعاة الاحتياط في الدِّين).
***0.
ص: 96
والبقاءُ على الجنابة متعمّداً حتّى يطلع الفجر.
(و) السادس من المفطّرات: (البقاءُ على الجنابة متعمّداً حتّى يطلع الفجر) على المشهور المعروف عن غير شاذّ، كما في «المعتبر»(1)، وعن «السرائر»(2)، وفي «الغنية»(3)، و «الروض»(4)، كما وعن «الاقتصاد»(5)، و «الخلاف»(6)، و «الوسيلة»(7)، و «السرائر»(8) و «التذكرة»(9) الإجماع عليه، كذا في رسالة صوم الشيخ(10) رحمه الله.
و عن الصدوق في «المقنع»(11)، وأبيه(12)، والمحقّق الدّاماد في
ص: 97
«شرح النجاة»(1)، والمحقّق الأردبيلي في «آيات الأحكام»(2)، و «شرح الإرشاد»(3): القول بعدم مفطريّته، وعن جماعة آخرين(4) الميل إليه.
وظاهر «الشرائع»(5) حيث استند القول بالمفطّريّة إلى الأشهر، أنّ القول بعدمها أيضاً مشهورٌ.
أقول: وكيف كان، فيشهد للثاني مضافاً إلى الأصل:
1 - قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ) (6) فإنّ إطلاقه يقتضي جوازه في كلّ جزءٍ من اللّيل حتّى الجزء الأخير.
2 - وقوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ) (7) فإنّه يقتضي جواز المباشرة كجواز الأكل والشرب في الجزء الأخير من اللّيل، ويلزمه البقاء على الجنابة إلى الصبح.
وأمّا النصوص فهي طائفتان:
الطائفة الأُولى : ما تدلّ على القول الأوّل:
منها: موثّق أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجل أجنبَ في شهر رمضان باللّيل، ثمّ ترك الغُسل متعمّداً حتّى أصبح ؟ قال عليه السلام: يعتق رقبة، أو يصوم7.
ص: 98
شهرين متتابعين، أو يُطعم ستّين مسكيناً، وقال: إنّه حقيقٌ أنْ لا أراه يدركه أبداً»(1).
ومثله خبرالمروزي(2)، ومرسل ابن عبدالحميد(3)، مع التصريح فيهما بالقضاء، والنصوص الواردة في النائم:
منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجلٍ احتلم أوّل اللّيل، أو أصاب من أهله، ثمّ نام متعمّداً في شهر رمضان حتّى أصبح ؟ قال عليه السلام: يُتمّ ذلك، ثمّ يقضيه إذا أفطر من شهر رمضان ويستغفر ربّه»(4).
ومنها: صحيح البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ أصاب من أهله في شهر رمضان، أو أصابته جنابة، ثمّ ينام حتّى يُصبح متعمّداً؟ قال عليه السلام: يُتمّ ذلك اليوم وعليه قضاؤه»(5). ونحوهما غيرهما.
أقول: قد ادّعى سيّد «الرياض»(6) تواتر النصوص الدالّة على مفطريّته، ويعضد ذلك فحوى النصوص الصحيحة الموجبة للقضاء في النومة الثانية أو الثالثة، أو الموجبة له مع نسيان الغُسل، ويؤيّده ما دلّ من النصوص على فساد الصّوم بتعمّد الجنابة.
بتقريب: أنّ ذلك ليس إلّالمنافاة تعمّد الجنابة للصوم، بل ما نحن فيه أولى بالبطلان، باعتبار سبق انعقاد الصّوم وعدمه، كما صرّح بذلك في محكيّ).
ص: 99
الطائفة الثانية: ما تدلّ على عدم مفسديّة ذلك للصوم، وأنّه لا شيء عليه:
منها: صحيح حمّاد، عن الخثعمي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يُصلّي صلاة اللّيل في شهر رمضان، ثمّ يُجنب ثمّ يؤخّر الغُسل متعمّداً حتّى يطلع الفجر»(3).
ومنها: صحيح العيص، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ ينام في شهر رمضان فيحتلم، ثمّ يستيقظ، ثمّ ينام قبل أن يغتسل ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(4).
ومنها: خبر إسماعيل بن عيسى ، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن رجل أصابته جنابة في شهر رمضان، فنام عمداً حتّى يُصبح، أيّ شيء عليه ؟ قال عليه السلام: لا يضرّه هذا، ولا يفطر، ولا يُبالي، فإنّ أبي عليه السلام قال: قالت عائشة: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أصبح جُنُباً من جماع غير احتلام، قال: لا يفطر ولا يُبالي.
ورجلٌ أصابته جنابة فبقي نائماً حتّى أصبح أيّ شيء يجب عليه ؟ قال عليه السلام:
لا شيء عليه يغتسل»(5). ونحوها غيرها.
وقد قيل: في الجمع بين الطائفتين وجوه:
منها: حمل الثانية على العُذر ولو للنبيّ صلى الله عليه و آله.
ومنها: حملها على النوم بقصد الإغتسال مع اعتياد الإنتباه.6.
ص: 100
ومنها: غير ذلك، ولا شاهد لشيءٍ منها.
وقد يقال: إنّ الجمع العرفي بين الطائفتين يقتضي حمل الأُولى على الأفضليّة.
وفيه: إنّ ذلك ينافي ما تضمّن من نصوص الجواز بمداومته رسول اللّه صلى الله عليه و آله لذلك، فإنّ من المستبعد جدّاً التزامه بفعل هذا المكروه، مع أنّه لا يلائم مع الأمر بالكفّارة، فالأظهر تعارض الطائفتين بنحوٍ لا يمكن الجمع بينهما، والترجيح مع الأولى لأنّها اشتهرت بين الأصحاب، فيقدّم ويقيّد إطلاق الآيتين بها.
وعليه، فالأظهر مفطّرية البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر متعمّداً.
وتمام الكلام بالبحث في فروع:
***
ص: 101
الفرع الأوّل: هل البقاء على الجنابة من المفطّرات في غير صوم رمضان، أم لا؟
فيه أقوال، والكلام فيه في موارد:
المورد الأوّل: في قضاء شهر رمضان، والمشهور بين الأصحاب أنّه يوجب فساد الصّوم.
وعن «المنتهى»(1): التردّد فيه.
وعن «المعتبر»(2): الميل إلى عدم المفسديّة.
ويشهد للمشهور:
1 - صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يقضي شهر رمضان فيجنب من أوّل اللّيل، ولا يغتسل حتّى يجيء آخر اللّيل، وهو يرى أنّ الفجر قد طلع ؟ قال عليه السلام: لا يصوم ذلك اليوم، ويصوم غيره»(3).
2 - وصحيحه الآخر: «كتبَ أبي إلى أبي عبد اللّه عليه السلام، وكان يقضي شهر رمضان وقال: إنّي أصبحتُ بالغُسل، وأصابتني جنابة، فلم أغتسل حتّى طلع الفجر؟ فأجابه عليه السلام: لا تَصُم هذا اليوم وصُم غداً»(4).
ونحوهما موثّق سماعة(5).
ص: 102
واستدلّ للقول الآخر:
1 - بخبر ابن بُكير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ طلعت عليه الشمس وهو جنبٌ ، ثمّ أراد الصيام بعدما اغتسل ومضى ما مضى من النهار؟ قال عليه السلام: يصوم إن شاء، وهو بالخيار إلى نصف النهار»(1).
وباختصاص النصوص المتقدّمة على كثرتها بصوم شهر رمضان، فإنّ ذلك آية اختصاص الحكم به.
2 - وبقوله عليه السلام في صحيح الحلبي المتقدّم(2): (ثمّ يقضيه إذا أفطر من شهر رمضان) فإنّه يدلّ بالمفهوم على عدم المفطّرية، والفساد في غيره.
ولكن يرد على الأوّل: أنّه أعمٌّ من النصوص المتقدّمة، فيقيّد إطلاقه بها.
وعلى الثاني: أنّ الاختصاص فيها إنّما هو من جهة السؤال عنه.
وعلى الثالث: أوّلاً: أنّه يمكن أن يكون القيد لمجموع الحكمين، وهو إتمام الصّوم والقضاء، وهذا يختصّ بشهر رمضان.
وثانياً: أنّ غايته الإطلاق، فيقيّد بما عرفت.
وعليه، فالأظهر ثبوت الحكم في قضاء شهر رمضان.
المورد الثاني: في الصّوم المندوب:
فالمشهور بين من تعرّض له، أنّه لا يفسده البقاء على الجنابة متعمّداً.
ويشهد به: صحيح عبد اللّه بن المغيرة، عن حبيب الخثعمي، قال:
«قلت لأبي عبد اللّه: أخبرني عن التطوّع، وعن صوم هذه الثلاثة الأيّام إذا1.
ص: 103
أجنبتُ من أوّل اللّيل، فأعلمُ أنّي أجنبتُ فأنام متعمّداً حتّى يتفجر الفجر، أصوم أو لا أصوم ؟ قال عليه السلام صُم»(1). ونحوه غيره.
المورد الثالث: في الصيام الواجب غير صوم رمضان وقضائه:
فالمشهور بين الأصحاب على ما نُسب إليهم إلحاقه بالصومين، وعن «المصابيح»(2): الإجماع عليه، وعن «مفتاح الكرامة»(3): لم أجد في علمائنا المتقدّمين من خالف في ذلك أو تردّد، سوى المحقّق في «المعتبر».
أقول: ولكن ظاهر الشيخ في «الخلاف»(4) وابن زُهرة(5) تقييدهما الحكم بصيام شهر رمضان، وصريح «الدروس»(6) وجمعٍ من المتأخّرين(7) الحكم بعدم مفسديّته له.
واستدلّ للأوّل: بالإطلاق المقامي، بتقريب أنّ المولى إذا أمر بمركبٍ اعتباري اختراعي - أي غير عُرفي - وبيّن له قيوداً وجوديّة وعدميّة، ثمّ بعد ذلك أمر بفردٍ آخر من ذلك المركب، ولم يبيّن القيود، يكون ذلك بالإطلاق المقامي دالّاً على اعتبار جميع تلك القيود فيه، مثلاً أمر الشارع الأقدس بالصلاة وبيّن أجزائها وشرائطها وموانعها، فإذا أمر بصلاة ركعتين في وقت خاصٍ أو مكان مخصوص، يفهم العرف من ذلك اعتبار جميع قيود الصَّلاة فيها، ولا سبيل إلى أنْ يُقال إنّ الدليل5.
ص: 104
إنّما دلّ على اعتبار الطهارة مثلاً في الصلوات اليوميّة، ولا دليل على اعتبارها في هذه الصَّلاة، والأصل يقتضي عدمه، وهذا واضح لا لبس فيه، ففي المقام أمرَ الشارع الأقدس بصوم شهر رمضان وبين له قيوداً، ومنها عدم البقاء على الجنابة متعمّداً إلى طلوع الفجر، وبعد ذلك أمر بصيام آخر، فكما أنّه لم يبيّن في دليل ذلك أنّ وقت ذلك الصيام من أوّل طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومع ذلك لا يشكّ أحدٌ في أنّ وقته ذلك اعتماداً على بيانه في صوم شهر رمضان الذي هو الأصل، فكذلك لم يبيّن أنّ البقاء على الجنابة مفطّر له، وإنّما بيّن ذلك في صوم شهر رمضان، فلا ينبغي التردّد في الاعتماد عليه، والبناء على اعتبار ذلك فيه أيضاً.
ولا وجه لمعارضة ذلك بأنّ في الصّوم المندوب بيَّن عدم الاعتبار ولعلّه اعتمد عليه، فإنّ الأصل الذي يُعتمد عليه، هو صوم شهر رمضان، دون الصّوم المندوب الذي يُتسامح فيه عادةً بما لا يتسامح في الواجب.
هذا غاية ما يمكن أن يستدلّ به للمشهور.
ولكن يرد عليه: أنّ في المقام خصوصيّة موجبة للخروج عن هذه الكليّة، وهي أنّ بعض النصوص متضمّنٌ بأنّه (لا يضرّ الصائم ما صَنَع إذا اجتنبَ أربع خصال)، وليس البقاء على الجنابة منها، وهذا دليلٌ عامٌ يدلّ على عدم اعتباره في الصّوم مطلقاً، خرج عنه صوم شهر رمضان وقضاؤه، وبقي الباقي تحت العام، ومع هذا الدليل اللّفظي لا مجال للرجوع إلى الإطلاق المقامي المتوقّف على عدم البيان.
وعليه، فالأظهر: عدم الاعتبار فيه أيضاً.
***
ص: 105
الفرع الثاني: لو تعذّر الغُسل للصوم الواجب، فهل يجب عليه التيمّم بدلاً عنه، أم لا؟ فيه خلاف:
ذهب إلى الأوّل جماعة: منهم المحقّق(1)، والشهيد الثانيان(2).
وذهب إلى الثاني جماعة آخرون: منهم المصنّف رحمه الله في محكيّ «المنتهى»(3).
يشهد للأوّل: عموم ما دلّ على بدليّة التيمّم عن الغُسل والوضوء:
منها: صحيح حمّاد: «في الرّجل لا يجد الماء؟ قال: يتيمّم هو بمنزلة الماء»(4).
ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «التيمّم أحد الطهورين»(5).
ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ ربّ الماء هو ربّ الصعيد، فقد فعل أحد الطهورين»(6).
ومنها: صحيح محمّد بن حمران وجميل: «إنّ اللّه تعالى جَعَل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً»(7). ونحوها غيرها.
فإنّ هذه النصوص تدلّ على ترتّب جميع آثار الغُسل والوضوء على التيمّم عند فقد الماء، ومنها لزوم الغُسل للصوم.
ص: 106
وقد استدلّ للقول الآخر بوجوه:
الوجه الأوّل: ما عن سيّد «المدارك» في كتاب الطهارة(1) من أنّ ما ثبت توقّفه على مطلق الطهارة من العبادات يبيحه التيمّم، وما ثبت توقفه على نوع خاص منها كالغُسل في صوم الجُنُب، لا يبيحه التيمّم، لإختصاص أدلّة كونه مبيحاً بالقسم الأوّل.
وفيه: إنّ مقتضى إطلاق الأدلّة، قيام التيمّم مقام الغُسل والوضوء في جميع أحكامها، سيّما بناءً على المختار من كون الطهارة من العناوين المنطبقة عليهما، لا أمراً متولّداً منهما.
الوجه الثاني: أنّ المانع في المقام هو الجنابة، والتيمّم لا يرفعها لأنّه طهورٌ بمنزلة الماء في كلّ ما يجب فيه الغُسل، لا فيما توقّف على رفع الجنابة، فالتيمّم يجبُ في كلّ موضعٍ يجبُ فيه الغُسل، لا فيما يشترط بعدم الجنابة، ولذلك لم يذكروا في كتاب الطهارة من التيمّم الواجب ما كان لصوم واجب، كما عدّوا للصلاة والطواف الواجبين.
وفيه: أنّه قد تقدّم في هذا الشرح في مبحث التيمّم(2)، أنّ التيمّم رافعٌ للحَدَث ما دام بقاء العُذر لا مبيحٌ خاصّة.
مع أنّه لو سُلّم كونه مبيحاً، فإنّ مقتضى إطلاق دليله أنّ كلّ ما أباحه الغُسل، إمّا لكونه شرطاً أو لأنّه رافعٌ للحَدَث الذي هو رافعٌ له، يُبيحه التيمّم.
الوجه الثالث: أنّ قوله عليه السلام في صحيح محمّد بن مسلم: «في الرّجل تُصيبه الجنابة في رمضان، ثمّ ينام قبل أن يغتسل ؟ قال: يُتمّ صومه ويقضي ذلك اليوم، إلّاأن يستيقظ قبل أن يطلع الفجر، فإن انتظر ماءً يسخّن أو يستقى فطلع الفجر، فلا يقضي3.
ص: 107
صومه»(1)، يدلّ على ذلك، حيث إنّه عليه السلام لم يأمره بالتيمّم.
وفيه: أنّ عدم التنبيه عليه لا يدلّ على عدم مشروعيّته.
وعليه، فالأظهر هو وجوبه عليه، وصحّة صومه حينئذٍ.
أقول: وعلى ما اخترناه، لو تيمّم ولمّا يطلع الفجر، فهل يجبُ عليه أن يبقى مستيقظاً لئلّا يبطل تيمّمه، أم لا؟
ذهب الشيخ الأعظم رحمه الله(2) إلى الأوّل، ولعلّ نظره الشريف إلى أنّ الحَدَث الأصغر يوجبُ انتقاض التيمّم الواقع بدلاً عن الغُسل فيصير جُنُباً، ويشمله ما دلّ على مبطليّة البقاء على الجنابة.
ولا يرد عليه حينئذٍ ما أفاده بعض أساطين الفقه(3): من أنّ انتقاض التيمّم بالنوم لا يحصل إلّابعد تحقّقه، وبعده يسقط التكليف، لاستحالة تكليف الغافل، فإنّ النوم إذا كان باختياره، كان البقاء على الجنابة عمديّاً، وتشمله الأدلّة.
ولكن يندفع هذا الوجه: بما حقّقناه في مبحث التيمّم(4) من هذا الشرح، من أنّ الحَدَث الأصغر لا يوجبُ انتقاض التيمّم الذي وقع بدلاً عن الغُسل، وعليه فلا مانع من أنّ ينام.
***0.
ص: 108
الفرع الثالث: لو أخّر الغُسل عمداً إلى أنّ ضاق الوقت، أو أجنب عمداً في وقت يعلم بأنّه لا يسع الغُسل، فتيمّم وصام:
فقد صرّح غير واحدٍ(1): بأنّه يصحّ صومه وإنْ كان عاصياً.
أمّا صحّة الصّوم: فلما مرّ من أنّ مقتضى أدلّة بدليّة التيمّم، ترتّب جميع أحكام الغُسل عليه، إلّاأنّ في مشروعيّة التيمّم لمجرّد ضيق الوقت كلاماً ذكرناه في مبحث التيمّم(2) من هذا الشرح وذكرنا جميع ما استدلّ به لكون ضيق الوقت من مسوّغات التيمّم، وبيّنا ما فيها من الإشكال.
ومحصل ما اخترناه من وجه المسوّغية: أنّه حينما ضاق الوقت، ولم يتمكّن المكلّف من الصّوم في الوقت مع الطهارة المائيّة، لا محالة يسقط الأمر بالمركّب منهما، وحيثُ إنّه لا ريب في عدم سقوط التكليف بالصوم رأساً، بحيث لا يكون هذا الشخص مكلّفاً بالصوم، فلا محالة يحدثُ أمرٌ آخر متعلّق بالمركّب من سائر الأجزاء والشرائط، وأحد هذين الأمرين - أي الطهارة المائيّة وقضاء الصّوم - أو الإتيان به في وقته مع الطهارة الترابيّة، فيقع التعارض بين دليل وجوب الصّوم في الوقت، ودليل اعتبار الطهارة المائيّة، والنسبة بينهما هي العموم من وجه، ويقدّم الثاني للشهرة، وعليه فيتيمّم ويصوم ويصحّ صومه. وتمام الكلام في ذلك المبحث.
وأمّا العصيان: فمبنيٌّ على أنّ تكون في الطهارة المائيّة مصلحة لزوميّة لا تستوفى بالصوم مع الطهارة الترابيّة، فوّتها المكلّف بسوء اختياره، فيستحقّ العقاب.
ص: 109
أقول: ولا يبعد كونه كذلك، لما دلّ على أنّ التيمّم بدلٌ اضطراري من الوضوء أو الغُسل، سوّغه العجز عن الإتيان به، إذ لازمه عدم كونه موجباً لانتفاء ملاك الطهارة المائيّة، مضافاً إلى أنّ ارتكازيّة بدليّة التيمّم عنهما تقتضي ذلك. فتأمّل وراجع مبحث التيمّم(1) من هذا الشرح.
ولا يخفى أنّ ما ذكرناه، بالنسبة إلى صحّة صومه لو تمّ ، فإنّما هو فيما لو كان معذوراً في التأخير أو الإجناب، وأمّا لو كان غير معذورٍ في ذلك، فيُشكل الحكم بمشروعيّة التيمّم له، نظراً إلى أنّه بعد سقوط التكليف بالصوم مع الطهارة المائيّة، لا مانع من أنّ يجب عليه أمران:
أحدهما: الصّوم مع الطهارة الترابيّة.
ثانيهما: الصّوم خارج الوقت، كما هو كذلك في من بقي على الجنابة متعمّداً إلى طلوع الفجر. وعليه، فلا يقع التعارض بين الدليلين، بل لابدّ حينئذٍ من الجمع بينهما.
كما أنّ ما ذكرناه وجهاً للعصيان، إنّما هو فيما لو لم يكن معذوراً في ذلك، فالحكمان لا يردان على موردٍ واحد.
***7.
ص: 110
الفرع الرابع: وهل يلحق بالجنابة الحيض، بحيث لو بقيت الحائض على حَدَث الحيض عمداً بعدما طهرت في اللّيل إلى طلوع الفجر تبطل صومها أم لا؟
المشهور بين الأصحاب ذلك، وعن «المقاصد العليّة»(1): نفي الخلاف فيه.
وعن «المعتبر»(2) و «الذكرى»(3): التردّد في الحكم.
بل عن «نهاية الأحكام»(4): الميل إلى العدم.
بل يُستظهر ذلك من عدم التعرّض له في كثيرٍمن كتب السيّدين و الشيخين وغيرهما.
واستدلّ للأوّل: بخبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنْ طَهُرت بليل من حيضتها ثمّ توانت أن تغتسل في رمضان حتّى أصبحت، عليها قضاء ذلك اليوم»(5).
وأُورد عليه: بضعف السند.
ويرده أوّلاً: أنّه من قسم الموثّق، سيّما وهو من أخبار بني فضّال التي أمرنا
ص: 111
بالخصوص بالأخذ بها.
وثانياً: إنّ استناد الأصحاب إليه يوجبُ جبر ضعفه لو كان.
وربما استدلّ له: بأنّ الحيض أشدّ تأثيراً فيه من الجنابة، لضرورة بطلان الصّوم بمفاجأته قهراً، فليس إلّاللمنافاة بينه وبين الصّوم، فالبقاء متعمّداً حتّى الصبح مبطلٌ للصوم.
وفيه: أنّ نفس الحيض أشدُّ تأثيراً من الجنابة، والكلام إنّما هو بعد ارتفاع الحيض وبقاء أثره، وكون أثره كذلك يحتاجُ إلى دليلٍ .
وعليه، فالعمدة هو الموثّق.
واستدلّ للقول الآخر: بالأصل بعد تضعيف الخبر، وقد عرفت ما فيه.
والظاهر عدم الخلاف بينهم في أنّ النُفساء كالحائض، وقد تقدّم الكلام فيه في الدّماء الثلاثة، وأوضحنا أنّه لا دليل يعتدّ به على هذه الكليّة سوى الإجماع.
وأمّا المستحاضة: فقد ذكرنا حكمها في ذلك المبحث مفصّلاً، وبيّنا شرطيّة الأغسال النهاريّة لصحّة صومها، كما هو المشهور بين الأصحاب، وعن غير واحدٍ(1) دعوى الإجماع عليه، فراجع.(2)
***4.
ص: 112
ومعاودة النوم بعد انتباهتين حتّى يطلع الفجر.
(و) السابع من المفطّرات: (معاودة النوم) على الجنابة ليلاً (بعد انتباهتين حتّى يطلع الفجر).
وتفصيل القول في ذلك: إنّ نوم الجُنُب في شهر رمضان ليلاً:
1 - إمّا أن يكون مع العلم بعدم الاستيقاظ قبل الفجر.
2 - أو يكون مع العلم بالاستيقاظ.
3 - وإمّا أن يكون مع احتماله.
وعلى التقديرين الأخيرين:
تارةً : يكون عازماً على ترك الغُسل.
وأُخرى : يكون متردّداً فيه.
وثالثة: يكون غافلاً عنه.
ورابعة: يكون بانياً على الغُسل لو استيقظ.
أقول: لا إشكال في المفطّرية في الصورة الأُولى ، لأنّه من مصاديق البقاء على الجنابة متعمّداً.
وإنْ كان بانياً على عدم الإغتسال: سواءٌ أكان عالماً بالاستيقاظ، أو احتمل ذلك ونام واستمرّ إلى ما بعد طلوع الفجر، فالظاهر عدم الخلاف في المفطّرية أيضاً، بل
ص: 113
عن «المعتبر»(1) و «المنتهى»(2) نسبتها إلى علمائنا.
وادّعى سيّد «الرياض»(3) الاتّفاق عليها، وهي الأظهر لصدق البقاء على الجنابة متعمّداً.
وإنْ كان متردّداً في الغُسل وعدمه، ونام ولم يستيقظ، ففيه خلاف:
فالمحكي عن جماعةٍ (4) البناء على المفطّرية.
وعن آخرين(5): عدمها.
وظاهر كلام المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(6): (لو نام غير ناوٍ للغُسل، فسد صومه، وعليه القضاء، ذهب إليه علماؤنا). انتهى .
وبرغم دعواه قيام الإجماع على المفطّرية، إلّاأنّ ما استدلّ به لذلك يقتضي أن يكون مراده خصوص صورة البناء على عدم الغُسل.
أقول: وكيف كان، فقد استدلّ لمفطّريته، بالنصوص الدالّة على فساد الصّوم بتعمّد البقاء على الجنابة، بتقريب أنّ معنى ذلك هو ترك الغُسل اختياراً، ومن الواضح أنّه لا يتوقّف ذلك على العزم على ترك الغُسل، بل على عدم إرادة فعله الملائم مع التردّد.
وفيه: أنّه لو تمّ ذلك في صورة احتمال عدم الاستيقاظ، لما تمّ في فرض اعتقاده).
ص: 114
ذلك، فإنّه حينئذٍ لا يكون تعمّداً للبقاء على الجنابة حتّى يُصبح.
فالأولى أن يستدلّ له: بأنّ المتردّد في الغُسل غير ناوٍ للصوم، لفرض اعتبار الطهارة في أوّل الفجر في قوام الصّوم، فنيّة الصّوم متوقّفة على نيّة الطهارة، ومع التردّد في الطهارة يكون متردّداً في الصّوم، فلا يكون ناوياً له، فالإمساك في أوّل الفجر إمساكٌ عن غير نيّة الصّوم، فيبطل لذلك.
وإنْ كان ذاهلاً عن الغُسل: فلا تشمله نصوص تعمّد البقاء على الجنابة كما عرفت، ولا يكون الذّهول عنه منافياً لنيّة الصّوم، إنْ كان ناوياً ترك المفطّرات إجمالاً، وعليه فيلحقه حكم الباني على الاغتسال.
وإنْ كان بانياً على الاغتسال: فإن لم يكن واثقاً بالانتباه، فالظاهر لحوق حكم تعمّد البقاء على الجنابة له، بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الأُمور الاستقباليّة، فإنّه يستصحب بقاء نومه إلى ما بعد طلوع الفجر.
وأمّا إنْ كان معتاد الانتباه، وواثقاً منه: فالمشهور بين الأصحاب أنّه في النومة الأولى بعد العلم بالجنابة لا شيء عليه، ويصحّ صومه، وأمّا في النومة الثانية فإنّه يجب عليه القضاء خاصّة، وفي النومة الثالثة يجب القضاء والكفّارة.
أقول: فيقع الكلام أوّلاً في القضاء، ثمّ في الكفّارة، ثمّ في جواز النوم وحرمته.
أمّا الأوّل: فنخبة القول فيه: إنّ في المقام طائفتين من النصوص:
إحداهما: ما تدلّ على وجوب القضاء مطلقاً:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليه السلام: «عن الرّجل تُصيبه الجنابة في شهر رمضان، ثمّ ينام قبل أن يغتسل ؟ قال عليه السلام: يتمّ صومه، ويقضي ذلك اليوم،
ص: 115
إلّا أن يستيقظ قبل أن يطلع الفجر، فإنْ انتظر ماءً يُسخّن أو يستقى فطلع الفجر، فلا يقضي صومه»(1).
ومنها: صحيح ابن أبي يعفور: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرّجل يُجنب في شهر رمضان ثمّ يستيقظ ثمّ ينام حتّى يُصبح ؟
قال: يتمّ صومه، ويقضي يوماً آخر، وإنْ لم يستيقظ حتّى يصبح، أتمّ صومه وجاز له»(2). ونحوهما غيرهما.
ثانيتهما: ما تدلّ على عدم وجوب القضاء في النومة الأُولى بعد العلم بالجنابة، ووجوبه في النومة الثانية:
منها: صحيح معاوية بن عمّار: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرّجل يُجنب في أوّل اللّيل، ثمّ ينام حتّى يُصبح في شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: ليس عليه شيء.
قلت: فإنّه استيقظ ثمّ نام حتّى أصبح ؟ قال عليه السلام: فليقض ذلك اليوم عقوبة»(3).
ونحوه صحيح ابن أبي يعفور بنقله الآخر، وهو هكذا: (يُجنب في شهر رمضان ثمّ ينام، ثمّ يستيقظ ثمّ ينام).
أقول: والجمع بين الطائفتين بحمل الأُولى على من كان عازماً على ترك الغُسل، والثانية على العازم عليه، جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، بل مقتضى الجمع بينهما إمّا تقييد إطلاق الأُولى بالثانية، بتقريب عدم صراحة الأولى في إرادة استمرار النومة الأُولى ، لجواز أن يكون المقصود النوم في وقتٍ من شأنه أن يغتسل فيه، لا أنّه لم2.
ص: 116
يستيقظ من نومته الأُولى أصلاً، حتّى في ابتداء النومة، وأمّا حملها على الأفضليّة لصراحة الثانية في صحّة الصّوم، وعدم وجوب القضاء في النومة الأُولى؟
وإنْ أبيتَ عن ذلك كلّه، فالمتعيّن طرحها، لعمل الأصحاب بمعارضها وهي الطائفة الثانية، فالمتعيّن هو وجوب القضاء في النومة الثانية.
أمّا النوم الثالث والرابع، فهو في حكم النوم الثاني في وجوب القضاء:
1 - لإطلاق الطائفة الأُولى، إنْ لم تُحمل على الأفضليّة ولم تُطرَح.
2 - ولما دلّ على وجوبه في النومة الثانية، فإنّ المنساق منه وجوب القضاء في النومة الثانية وما فوق.
بحثٌ : هل نوم الاحتلام من النوم الأوّل، كما اختاره الفاضل النراقي(1)، ومالَ إليه المحقّق الهمداني رحمه الله(2)؟
أم النوم الأوّل هو النوم بعد الاستيقاظ منه والعلم بالجنابة، كما عن الفخر(3)، والشهيدين(4)، وسيّد «المدارك»(5) وغيرهم(6)؟ وجهان:
ظاهر صحيح معاوية هو الثاني، فإنّ قوله: (ثمّ ينام) ظاهرٌ في حدوث النوم بعد الجنابة.
اللّهم إلّاأنْ يقال: إنّه مختصّ بالجنابة بغير الاحتلام، لظهور (ثمّ ينام) في أنّه لم).
ص: 117
يكن حين حدوث الجنابة نائماً.
وأمّا صحيح ابن أبي يعفور، فقد عرفت اختلاف متنه باختلاف نُسَخ مصادره، وعلى النقل الثاني هو أيضاً ظاهرٌ في غير الاحتلام.
وعليه، فتبقى المطلقات بمفردها وهي تقتضي وجوب القضاء بالنوم بعد نوم الاحتلام، وموثّق سماعة، قال:
«سألته عن رجلٍ أصابته جنابة في جوف اللّيل في رمضان، فنام وقد علم بها ولم يستيقظ حتّى يدركه الفجر؟ فقال عليه السلام: عليه أن يتمّ صومه ويقضي يوماً آخر»(1).
وهو يعمّ الجنابة بالاحتلام وبغيره، ويدلّ على وجوب القضاء في النوم الأوّل بعد العلم بالجنابة، وفي النوم الثاني بعد نوم الاحتلام، فبالنسبة إلى الأوّل يقيّد إطلاقه بما مرّ، وبالنسبة إلى الثاني لا مقيّد له، فتكون النتيجة احتساب نوم الاحتلام من النوم الأوّل.
وبالجملة: فما اختاره العَلَمان(2) أظهر.
وأمّاالكفّارة: فلاخلاف ظاهراً في عدم وجوبهافي النومة الثانية، ويقتضيها الأصل.
واستدلّ لوجوبها فيها:
1 - بأصالة وجوب الكفّارة عند وجوب القضاء.
2 - وبخبر المروزي المروي عن الفقيه عليه السلام: «إذا أجنبَ الرّجل في شهر رمضان بليلٍ ، ولا يغتسل حتّى يُصبح، فعليه صوم شهرين متتابعين، مع صوم ذلك اليوم، ولا يدرك فضل يومه»(3).
3 - ومرسل إبراهيم بن عبد الحميد: «فمن أجنبَ في شهر رمضان، فنام حتّى4.
ص: 118
يُصبح، فعليه عتق رقبة أو إطعام ستّين مسكيناً، وقضاء ذلك اليوم، ويَتمّ صيامه ولن يُدركه أبداً»(1).
ولكن يرد على الأوّل: ما سيأتي إنْ شاء اللّه تعالى من عدم الدليل على ذلك الأصل.
ويرد على الثاني: أنّه غير مختصّ بالنوم، وظاهره البقاء على الجنابة عمداً.
وعلى الثالث: مضافاً إلى إرساله، أنّه لايمكن العمل بإطلاقه الشامل للنوم الأوّل.
وعليه، فكما يمكن تقييده بالنوم الثاني، يمكن تخصيصه بالبقاء متعمّداً.
وأمّا في النومة الثالثة: فعن الشيخين(2)، وابني حمزة(3) وزُهرة(4)، والحلبي(5)، والحِلّي(6)، والمصنّف(7)، والشهيد(8)، والمحقّق الثاني في جملةٍ من كتبهم(9)وغيرهم(10): وجوبها.
وعن «المعتبر»(11)، و «المنتهى»(12)، و «المدارك»(13)، والشيخ الأعظم(14)4.
ص: 119
والمحقّق الهمداني(1) وجماعة من متأخّري المتأخّرين(2): عدم وجوبها.
واستدلّ لوجوبها:
1 - بالخبرين المتقدّمين(3).
2 - وبموثّق أبي بصير المتقدّم(4) في البقاء على الجنابة متعمّداً.
3 - وبالإجماع.
أمّا الخبران: فقد عرفت حالهما.
وأمّا الموثّق: فهو ظاهرٌ في البقاء على الجنابة متعمّداً كما مرّ.
وأمّا الإجماع: فغيرُ ثابتٍ ، اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال إنّه متحقّقٌ إلى زمان المحقّق(5)، وحيث إنّ من المستبعد جدّاً استناد المُجمعين إلى النصوص المُشار إليها، فالبناء على ثبوتها إنْ لم يكن أقوى، لا ريب في كونه أحوط.
وأمّا جواز النوم الثاني وما بعده: ففيه قولان:
ذهب المصنّف رحمه الله(6) إلى الأوّل، وتبعه سيّد «المدارك»(7)، واختار ثاني الشهيدين(8) الثاني.8.
ص: 120
وقد استدلّ للثاني بوجوه:
1 - قوله عليه السلام في ذيل صحيح معاوية المتقدّم(1): (فليقضِ ذلك اليوم عقوبةً ) والعقوبة إنّما تثبت على فعل المحرّم.
وفيه: أنّ العقوبة بمعنى العقاب الأخروي، إنّما تثبتُ على فعل المحرّم خاصّة، وأمّا العقوبة الدنيويّة كالكفّارة فتثبت على غيره أيضاً، ألا ترى ثبوتها على من مرض في شهر رمضان، واستمرّ مرضه إلى رمضانٍ آخر، فإنّه يجبُ عليه الفدية عن كلّ يومٍ بمُدّ، مع أنّه لم يرتكب محرّماً.
2 - قوله عليه السلام في ذيل صحيح الحلبي المتقدّم(2): (ويستغفر ربّه) ولا يخفى أنّ الاستغفار إنّما يكون عن المعصية.
وفيه: أنّه مختصٌّ بمن نام متعمّداً غير بانٍ على الغُسل.
3 - قوله عليه السلام في مرسل ابن عبد الحميد المتقدّم(3): (وإنْ أجنبَ ليلاً فلا ينام ساعةً حتّى يغتسل)، ولكنّه لإرساله لا يصلح أن يكون منشأً لثبوت الحرمة.
4 - اقتضاء قاعدة المقدّميّة حرمة النوم.
وفيه: أنّه يتمّ إذا علم بعد الانتباه، أو احتمل ذلك، فإنّه يجري استصحاب العدم، فيلزم من النوم تفويت الواجب في ظرفه، وقد حُقّق في محلّه حرمة المقدّمة المفوّتة لاستقلال العقل بذلك، وأمّا إنْ كان واثقاً بالانتباه فلا يتمّ .
فتحصّل: أنّ الأظهر هو التفصيل بين الوثوق بالانتباه وعدمه، فيحرم في الثاني5.
ص: 121
دون الأوّل، غاية الأمر إذا انتبه يظهر عدم الحرمة واقعاً كما لا يخفى .
ثمّ إنّ ما ذكرناه في مسألة تعمّد البقاء على الجنابة، من إلحاق الصيام الآخر بصوم شهر رمضان، جارٍ هنا فلا نعيد.
وهل تلحق بالجُنُب الحائض كما عن جماعة(1) أم لا؟ الظاهر هو الثاني، إلّافي الأحكام التي تقتضيها القاعدة، كما لا يخفى .
***).
ص: 122
وهذه السَّبعة توجبُ القضاء والكفّارة.
أقول: ثبت ممّا قيل في البحث الآنف أنّ المفطّرات على قسمين:
الأوّل: ما يوجبُ القضاء والكفّارة.
الثاني: ما يوجب القضاء خاصّة.
القسم الأوّل: (وهذه السبعة) المذكورة جميعها من القسم الأوّل حيث (توجبُ القضاء والكفّارة) معاً.
أمّا إيجابها القضاء: فلما مرّ من دلالة نصوصها عليه، مضافاً إلى ما دلّ على أنّ (من أفطر في شهر رمضان، أو لم يصمه يجب عليه القضاء)، وسيأتي في الباب الثالث تفصيل القول فيه.
وأمّا إيجابها الكفّارة: فتشهد لإيجاب جميعها الكفّارة جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجلٍ أفطر في شهر رمضان متعمّداً يوماً واحداً من غير عُذر؟
قال عليه السلام: يعتق نسمةً ، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يُطعم ستّين مسكيناً، فإنْ لم يقدر تصدّق بما يُطيق»(1).
ونحوه غيره من النصوص الآتية.
وأمّا إيجاب الأكل والشرب إيّاها فموضع وفاقٍ بين المسلمين، وإنّما الخلاف في
ص: 123
غير المعتاد منهما:
فعن الأكثر(1): أنّه كذلك.
وعن جماعةٍ (2): أنّه لا يُفسد الصّوم، وقد مرّ ضعفه.
وقيل: إنّه يوجب القضاء خاصّة(3).
ويردّه: إطلاق ما دلّ على وجوب الكفّارة على من أفطر في شهر رمضان، بناءً على ما تقدّم من حصول الإفطار به، ولا سبيل إلى دعوى انصراف ذلك الدليل عن ذلك، فإنّه عُلّق فيه الكفّارة على عنوان الإفطار، لا على عنوان الأكل والشرب كي يُدّعى الانصراف، مضافاً إلى ما تقدّم من منعه فيهما أيضاً.
وأمّا الجماع: فتشهد لإيجابه الكفّارة - مضافاً إلى المطلقات - نصوصٌ كثيرة:
منها: صحيح البجلي المتقدّم: «عن الرّجل يَعبثُ بأهله في شهر رمضان حتّى يُمني ؟ قال عليه السلام: عليه من الكفّارة مثل ما على الذي يُجامع»(4).
ومنها: موثّق سماعة: «عن رجلٍ أتى أهله في شهر رمضان متعمّداً؟
فقال عليه السلام: عليه عتق رقبة، أوإطعام ستّين مسكيناً، أوصيام شهرين متتابعين»(5).
ونحوهما غيرهما.
وهل وطء الغلام والبهيمة يوجبها أم لا؟ وجهان مبنيّان على كونه مفطّراً وعدمه، وقد مرّ أنّ الأظهر ذلك.1.
ص: 124
ويجبُ القضاء بالإفطار بعد الفجر، مع ظَنّ بقاء اللّيل، وترك المراعاة مع القدرة عليها.
وأمّا الاستمناء: فقد مرّ أنّ أكثر روايات مفطّريّته متضمّنة لثبوت الكفّارة.
وأمّا الغبار الغليظ: فدليل مفطريّته بالخصوص متضمّنٌ لها كما تقدّم، وكذا البقاء على الجنابة.
وأمّا معاودة النوم جُنُباً: فقد مرّ أنّ عمدة مدرك إيجابها الكفّارة هو الإجماع.
فتحصّل: أنّ ما أفاده من إيجاب هذه الكفّارة متينٌ .
أقول: والكلام في الكفّارة نفسها، وفي أنّها هل تجبُ في إفطار سائر أقسام الصيام وفي سائر أحكامها، سيأتي في آخر هذا الباب مفصّلاً، كما أنّ الكلام في أنّها هل تثبتُ في صورة الكُره والإجبار والنسيان أم لا؟ سيأتي بعد بيان جميع مايجبُ الإمساك عنه، وعدم إيجاب سائر ما يجبُ الإمساك عنه للكفّارة، نتعرّض له في ذيل مسألة مفطّرية كلّ واحدٍ من تلك الأُمور.
القسم الثاني: في الأُمور التي يُمسَك عنها: (ويجبُ القضاء ب) - ها خاصّة دون الكفّارة، وهي عدّة موارد:
المورد الأوّل: (الإفطار بعد الفجر، مع ظنّ بقاء اللّيل، وترك المراعاة مع القُدرة عليها) بلا خلافٍ فيه في الجملة، وعن غير واحد(1) دعوى الإجماع عليه.
ص: 125
والشاهد به: نصوصٌ :
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ تسحّر ثمّ خرج من بيته وقد طلع الفجر وتبيّن ؟ فقال عليه السلام: يُتمّ صومه ثمّ ليقضه، وإنْ تسحّر في غير شهر رمضان بعد الفجر أفطر»(1).
ومنها: موثّق سماعة، قال: «سألته عن رجلٍ أكل أو شرب بعدما طلع الفجر في شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: إنْ كان قام فنظر فلم ير الفجر فأكل، ثمّ عاد فرأى الفجر، فليُتمّ صومه ولا إعادة عليه، وإنْ كان قام فأكل وشرب، ثمّ نَظَر إلى الفجر، فرأى أنّه قد طلع الفجر، فليُتمّ صومه، ويقضي يوماً آخر، لأنّه بدأ بالأكل قبل النظر فعليه الإعادة»(2).
ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «عن رجلٍ شَرب بعدما طلع الفجر، وهو لا يعلم، في شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: يصوم يومه ذلك ويقضي يوماً آخر، وإنْ كان قضاءً لرمضان في شوّال أو غيره فشرب بعدما طلع الفجر، فليفطر يومه ذلك ويقضي»(3). ونحوها غيرها.
أقول: وتمام الكلام يتحقّق بالبحث عن فروع:
الفرع الأوّل: دلالة هذه النصوص على وجوب القضاء واضحة، وأمّا عدم وجوب الكفّارة به، فتشهد به الأصل، بعد اختصاص ما دلّ على وجوبها بالإفطار في شهر رمضان بصورة العَمَد، كما سيأتي، لكن السؤال عن أنّه هل الفعل بنفسه6.
ص: 126
جائز أم لا؟
الظاهرذلك، لأنّمقتضى استصحاب بقاء اللّيل غير المتوقّف جريانه على الفحص، لكونه في الشبهة الموضوعيّة، جوازه بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الزمان - سيّما في عدم زمان خاص - ولو نوقش فيه فأصل البراءة محكم.
وربما استدلّ له:
1 - بقوله تعالى : (كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ) (1) المحمول ذيله على الحكم الظاهري.
2 - وبخبر إسحاق بن عمّار: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: آكلُ في شهر رمضان باللّيل حتّى أشكّ؟ قال عليه السلام: كُل حتّى لا تشكّ »(2).
ونحوه مرسل الصدوق(3)، وخبر سعد(4).
وعن الشيخ في «الخلاف»(5): أنّه لا يجوزُ فعل المفطّر مع الشكّ ، واستدلّ له بقاعدة المقدّميّة.
وفيه أوّلاً: أنّه لا وجه للتخصيص بالشكّ ، لأنّ ما ذكره من الوجه يجري في الظنّ غير المعتبر أيضاً.
وثانياً: أنّ جميع ما تقدّم من أدلّة الجواز حاكمة عليها، كما لا يخفى .).
ص: 127
الفرع الثاني: ظاهر المتن و «الشرائع»(1)، وصريح «المدارك»(2) وغيرها(3)، بل المشهور بينهم أنّه لا يجبُ القضاء على العاجز عن المراعاة كالمحبوس ونحوه، وعن «الرياض»(4) بلا خلافٍ أجده فيه.
واستدلّ له: (بالأصل، مع اختصاص النَّص والفتوى بحكم التبادر وغيره بصورة القُدرة، كما لا يخفى على من تدبّرهما) كذا في محكيّ «الرياض»(5).
ولكن يمكن أن يقال: إنّ مقتضى القاعدة بطلان الصّوم بالأكل بعد الفجر، لإطلاق الأدلّة، ولذا صرّح غير واحدٍ(6) بفساد الصّوم بتناول المفطّر بعد الفجر في غير شهر رمضان، ولو مع المراعاة، ورفع اليد عن ذلك يحتاج إلى دليل، وإذا فسد الصّوم وَجَب القضاء لإطلاق دليله.
وعليه، فالأظهر وجوبه عليه، إلّاأن يقوم إجماعٌ على عدم الوجوب.
وبه يظهر حكم غير العارف بالفجر.
الفرع الثالث: ولو راعى الفجر، فإنْ حصل له الاطمئنان بطلوعه فلا كلام، كما أنّه لو اطمئن ببقاء اللّيل، فإنّه لا خلاف في عدم وجوب القضاء لو ظهر سبق طلوعه.
وأمّا لو ظنّ بالطلوع، أو شكّ فيه وأكل:3.
ص: 128
فإن لم يظهر سبق الطلوع، فلا شيء عليه.
وأمّا إنْ ظَهَر سبقه، فعن غير واحدٍ(1) وجوب القضاء، لإطلاق أدلّة المفطّرية، ولأنّه أولى بذلك من الظانّ ببقاء اللّيل بأخبار الجارية والاستصحاب.
ولكن إطلاق الأدلّة كإطلاق صحيح الحلبي المتقدّم(2) يقيَّد بموثّق سماعة(3)الدالّ بإطلاقه على أنّ من راعى الفجر ولم يره، فأكَلَ وشَرب صحّ صومه، وإنْ لم يحصل له الاطمئنان ببقاءاللّيل، لأنّمن الواضح تقدّم إطلاق المقيّدعلى إطلاق المطلق.
وعليه، فالأظهر عدم وجوب القضاء مع المراعاة، وعدم حصول الاطمئنان بطلوع الفجر مطلقاً.
الفرع الرابع: لو أكل وشرب بعد طلوع الفجر، مع عدم العلم به في صوم غير رمضان، فهل يلحقه حكم الإفطار في رمضان، فلا قضاء مع المراعاة، ويصحّ صومه أم لا؟
أم يفصّل بين المعيّن وغيره ؟ وجوهٌ وأقوال.
فالكلام يقع في موردين:
المورد الأوّل: في الواجب المعيّن، وفيه روايتان:
ص: 129
إحداهما: صحيحة معاوية بن عمّار: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: آمر الجارية أن تنظر الفجر فتقول لم يطلع ف آكل، ثم أنظر فأجده قد طلع حين نظرت ؟ قال عليه السلام: تُتمّ يومك ثمّ تقضيه، أما إنّك لو كنتَ أنتَ الذي نظرت ما كان عليك قضاؤه»(1).
فإنّها بإطلاقها الشامل لرمضان وغيره تدلّ على الصحّة مع المراعاة، وحملها على إرادة (أنّك لو كنتَ أنتَ الذي نظرت) لعلمتَ طلوع الفجر فلم تأكل، خلاف الظاهر.
الثانية: صحيحة الحلبي المتقدّمة(2)، فإنّ إطلاق قوله عليه السلام: (وإنْ تَسحّر في شهر رمضان بعد الفجر أفطر) تدلّ على بطلان الصّوم بالإفطار في غير رمضان بعد طلوع الفجر حتّى مع المراعاة.
والنسبة بينهما عمومٌ من وجه، لأنّ الأُولى أعمّ لشمولها لرمضان وغيره، والثانية أعمّ لشمولها للمراعاة وغيرها، وتقييد صدر الثانية بعدم المراعاة، لا يوجب تقييد ذيلها به، سيّما وأن المقيّد منفصل.
كما أنّ الجمع بينهما بحمل الثانية على صورة عدم المراعاة، أو الأُولى على صوم شهر رمضان، جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، والترجيح مع الأُولى . فتأمّل.
المورد الثاني: في غير الواجب المعيّن:
والظاهر عدم الإشكال في فساد الصّوم به مطلقاً:1.
ص: 130
وكذا لو أخبره غيره ببقاء اللّيل.
1 - لإطلاق ذيل صحيح الحلبي المتقدّم(1).
2 - وخبر علي بن أبي حمزة الذي قد تقدّم:(2) «وإنْ كان قضاءً لرمضان في شوّال أو غيره فشرب بعد الفجر فليفطر يومه ذلك».
3 - وموثّق إسحاق بن عمّار المتقدّم(3): «فيمن تسحّر مُصبحاً في قضاء شهر رمضان ؟ قال: بل تفطر ذلك اليوم لأنّك أكلتَ مُصبحاً».
ولا يعارضها صحيح معاوية المتقدّم(4)، لاختصاصه بالمعيّن، بقرينة القضاء.
وعليه، فالأظهر فساده به مطلقاً.
(و كذا) يجب القضاء دون الكفّارة (لو أخبره غيره ببقاء اللّيل) بلا خلافٍ فيه، كما صرّح به صاحب «الجواهر»(5)، بل عن «الغنية»(6) الإجماع عليه.
ويشهد به: صحيح معاوية بن عمّار المتقدّم(7) آنفاً بالنسبة إلى وجوب القضاء، وأصالة البراءة عن وجوب الكفّارة بعد عدم شمول ما دلّ على وجوبها بالإفطار متعمّداً، كما مرّ في سابقه بالنسبة إليها.
ص: 131
أقول: ثمّ إنّه صرّح جماعة منهم المحقّق(1)، والشهيد الثانيان(2)، وسيّد «المدارك»(3)، والفاضل الخراساني(4): بأنّه يسقط القضاء لو كان المُخبِر عدلين، لحجيّة البيّنة.
وأضافَ جماعةٌ آخرون(5) إلى ذلك، سقوطه إنْ كان المُخبر عدلاً واحداً، بناءً على حجيّة خبر الواحد في الموضوعات كما قوّيناه.
وأورد عليهم: بأنّ الكلام ليس في جواز الأكل، بل في وجوب القضاء بعد انكشاف الخلاف، ومن الواضح أنّ حجيّة البيّنة وخبر الثقة لا تصلحُ أن تكون نافية لذلك، كما أنّ الاستصحاب لا ينفي ذلك.
أقول: الظاهر أنّ هؤلاء فهموا من صحيح معاوية المتقدّم: (أمّا أنّك لو كنتَ أنتَ الذي نظرتَ لم يكن عليك شيءٌ ) أنّ الميزان علم الصائم بعدم طلوع الفجر، إذ المراد به أنّك إذا (نظرتَ فاعتقدت عدم الطلوع) فيدلّ الصحيح على أنّ العالِم بعدم الطلوع لا يقضي، ولذلك اعتبر جمعٌ منهم صاحب «الجواهر»(6) جزم المراعي بعدم طلوع الفجر في عدم وجوب القضاء كما مرّ.
وعليه، فأدلّة حجيّة البيّنة وخبر الثقة تدلّان على ترتّب هذا الحكم عليهما.
وبعبارة أُخرى: الثابت في محلّه أنّ الأمارات بأدلّة اعتبارها تقوم مقام العلم.
وفيه: لكن الذي يرد عليهم ضعف المبنى، بل المراد بالنص أنّ الميزان لعدم7.
ص: 132
وجوب القضاء مراعاة الشخص نفسه، حتّى ولو بقي متردّداً في تحقّق الطلوع وعدمه، وعلى ذلك فلا تفيد البيّنة وغيرها من الأمارات في ذلك.
بل الخبر الصحيح من خلال إطلاق صدره يدلّ على وجوب القضاء، في ما لو كان المُخبر عادلاً.
اللّهم إلّاأن يقال: إنّه في المرأة وعلى أيّ تقدير تكفي أدلّة المفطّرية في الحكم بوجوب القضاء، فهذا هو الأظهر.
المورد الثالث: الآكل إذا أخبره مخبرٌ بطلوع الفجر، لزعمه سخريّة المخبر أو لعدم العلم بصدقه، بلا خلافٍ ، وأسنده سيّد «المدارك»(1) رحمه الله إلى قطع الأصحاب.
أقول: ويشهد بعدم وجوب الكفّارة الأصل كما مرّ في سابقيه.
كما يشهد بوجوب القضاء ما تقدّم فيهما من النصوص، فإنّها تدلّ على وجوبه في المقام بالأولويّة، ولعلّه لذلك لم يذكره المصنّف رحمه الله.
وصحيح العيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ خرج في شهر رمضان وأصحابه يتسحّرون في بيتٍ ، فنظر إلى الفجر فناداهم إنّه قد طلع، فكفَّ بعضٌ وظنّ بعضٌ أنّه يسخر فأكل ؟ فقال عليه السلام: يُتمّ صومه ويقضي»(2).
هذا إذا لم يكن المُخبِر عادلاً وخبره واجداً لشرائط الحجيّة، وإلّا فتثبت الكفّارة أيضاً، فإنّ أكله حينئذٍ إفطارٌ في شهر رمضان الثابت بالخبر، فتشمله أدلّة ثبوت الكفّارة على من أفطر متعمّداً. 4
ص: 133
وقبل الغروب، للظُّلمة المُوهِمة، ولو غَلب الظنّ دخول اللّيل ولم يدخل، فلا قضاء.
(و) المورد الرابع: الإفطار (قبل الغروب للظلمة الموهمة).
بذلك طفحت كلماتهم، وقد أشكل تصوير الموضوع على كثيرٍ من المتأخّرين، نظراً إلى أنّ المراد بالوهم:
إنْ كان ما يقابل الشكّ والظنّ ، يشكل الالتزام بنفي الكفّارة، لعدم جواز الإفطار له حينئذٍ بحكم الاستصحاب وقاعدة الشّغل التي هي من الفطريات في مثل المقام، فيعدّ متعمّد الإفطار بحكم الشرع والعقل.
وإنْ كان المراد به الظنّ ، كما هو أحد إطلاقاته، ومن قول المصنّف رحمه الله وغيره(1)(ولو غَلب الظنّ دخول اللّيل، ولم يدخُل، فلا قضاء) الظنّ القوي لا مطلقه، يُشكل الالتزام بهذا التفصيل، إذ لا يساعد عليه دليل.
وأفاد الشهيد قدس سره(2): أنّ المراد بالوهم ترجيح أحد الطرفين لا لأمارةٍ شرعيّة، ومن الظنّ الترجيح لأمارة شرعيّة.
وفي رسالة صوم الشيخ الأعظم(3): أنّ المراد بالوهم الخيال في بادي النظر وإن
ص: 134
قطع به، ومن الظنّ معناه المصطلح، مع عدم التمكّن من العلم.
أقول: وهناك أقوالٌ أُخر، والأولى صرف عنان الكلام إلى بيان الحكم، فنقول:
والكلام في ذلك في موردين:
الأوّل: فيما تقتضيه القواعد.
الثاني: في مقتضى النصوص الخاصّة.
أمّاالموردالأوّل: فالمفطّر في آخرالوقت بتخيّل دخول اللّيل مع عدم دخوله واقعاً:
تارةً : يكون معتقداً دخوله.
وأُخرى : يكون ظانّاً به.
وثالثة: يكون شاكّاً فيه.
ورابعة: يكون غافلاً عن ذلك.
فإنْ كان معتقداً دخوله أو مطمئنا به فأفطر، لا يكون إفطاره عمديّاً، فلا تشمله أدلّة وجوب الكفّارة، ولكن إطلاق ما دلّ على فساد الصّوم بالأكل والشرب عمداً يشمله، وفي شمول ما دلّ على أنّ (من أفطر جاهلاً) المتضمّن أنّه يصحّ صومه الآتي للجهل بالموضوع نظرٌ سيأتي.
وإنْ كان ظنّاً:
فإنْ كان بظنٍّ حجّةٍ ، فحكمه حكم العلم.
وإنْ كان بظنٍّ غير حجّة، فيجب عليه القضاء والكفّارة، كالشاكّ المتردّد لاستصحاب بقاء اليوم، ولإطلاق أدلّة وجوب القضاء والكفّارة.
وأمّا الغافل: فالظاهر عدم وجوب الكفّارة عليه ووجوب القضاء، كما لا يخفى .
وأمّا المورد الثاني: فالنصوص الواردة في الباب طائفتان:
الطائفة الأُولى : ما تدلّ على عدم وجوب القضاء في بعض الصور:
ص: 135
منها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، في حديثٍ : «قال لرجلٍ ظنّ أنّ الشمس قد غابت فأفطر، ثمّ أبصر الشمس بعد ذلك ؟ قال عليه السلام: ليس عليه قضاؤه»(1).
فإنّ مقتضى إطلاق هذا الصحيح أنّ الظنّ بدخول اللّيل موجبٌ لسقوط القضاء وصحّة الصّوم، وإن تبيّن بقاء النهار بعد الإفطار، سواءٌ أكان الظنّ حجّة أم غير حجّة، وسواءٌ تحرّى أم لم يتحرّ.
ومنها: صحيحه الآخر: «قال أبو جعفر عليه السلام: وقت المغرب إذا غاب القرص، فإنْ رأيته بعد ذلك وقد صلّيت أعدت الصَّلاة، ومضى صومك، وتكفّ عن الطعام إنْ كنت قد أصبتَ منه شيئاً»(2).
فإنّ قوله عليه السلام: (إذا غاب القرص) أي ثَبَت عندك ذلك، وإلّا امتنع الرؤية بعده، وهذا الصحيح يدلّ على صحّة الصّوم مع اعتقاد دخول اللّيل، أو قيام الحجّة عليه، فلا قضاء ولا كفّارة، واحتمال أن يكون المراد ب (مضى صومك) فساده بعيدٌ لا ينبغي التفوّه به، كما أنّه لا منافاة بين الصحيحين كي يُحمل أحدهما على الآخر.
ومنها: صحيح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ صام ثمّ ظنّ أنّ الشمس قد غابت، وفي السماء غيمٌ فأفطر، ثمّ إنّ السَّحاب انجلى، فإذا الشمس لم تغب ؟ قال عليه السلام: قد تمَّ صومه ولا يقضيه»(3).
وهذا الخبر برغم اختصاصه بصورة خصوص وجودالسّحاب، ولكن لامفهوم له كي يقيّد الصحيحين.
ومثله خبر زيد الشحّام(4).0.
ص: 136
وبالجملة: فالتخصيص بصورة ما إذا كان في السماء علّة، أو بصورة التحرّي ممّا لا أجدُ لشيء منهما وجهاً صحيحاً.
نعم، لا يبعدُ القول بأنّ المراد من الظنّ هو العلم أو الحجّة، لاستعمال كلمة (الظنّ ) في المفهومين المذكورين، ولعدم التنبيه على عدم جواز الإفطار مع عدم قيام الحجّة على دخول اللّيل، وللشهرة العظيمة، بل الإجماع على عدم ثبوت هذا الحكم لمطلق الظنّ ، مع إمكان تحصيل العلم أو المراعاة.
الطائفة الثانية: ما تدلّ على وجوب القضاء:
منها: موثّقة سماعة وأبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في قومٍ صاموا شهر رمضان، فغشيهم سحابٌ أسود عند غروب الشمس، فرأوا أنّه اللّيل فأفطر بعضهم، ثمّ إنّ السَّحاب انجلى فإذا الشمس ؟
فقال عليه السلام: على الذي أفطر صيام ذلك اليوم، إن اللّه عزّ وجلّ يقول: (أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ ) (1) فمن أكل قبل أن يدخل اللّيل فعليه قضاؤه، لأنّه أكل متعمّداً»(2).
والإيراد عليها: بضعف السند؛ لأنّ فيه محمّد بن عيسى عن يونس، واشتراك أبي بصير، وعدم إيمان سماعة.
في غير محلّه: لأنّ سماعة ثقة، وخبر محمّد بن عيسى عن يونس حجّة، مضافاً أنّ الخبر روي بطريق آخر عن الشيخ قدس سره(3).
أقول: وقد ذكروا في الجمع بين الطائفتين وجوها:
الوجه الأوّل: ما في رسالة الشيخ الأعظم(4) من حمل الأُولى على من لم يتمكّن).
ص: 137
من تحصيل العلم، والثانية على من تمكّن منه، لظهور الثانية في المبادرة إلى الإفطار بمجرّد تخيّل الظلمة - ظلمة اللّيل - من غير مراعاة لكون الظلمة من السّحاب أو من اللّيل، إذ لو راعوا لتبيّن لهم أنّها ظلمة السّحاب، وأن وجودها كعدمها.
وفيه: أنّ ما ذكره شاهداً للجمع غير وافٍ بذلك، إذ نرى بالوجدان أنّ ظُلمة السَّحاب مع العلم بها توجبُ خطأ الإنسان وتوهّمه دخول اللّيل.
الوجه الثاني: ما في «الوسائل»(1) من حمل الأُولى على غلبة الظنّ ، والثانية على عدمها.
وفيه: أنّه لا شاهد له، بل قوله: (فرأوا) في الموثّق يشهد بخلاف ذلك.
الوجه الثالث: ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) من حمل الموثّقة على صورة الجهل بوجود العلّة في السماء، وزعمه أنّ السَّحاب الذي غشيهم هو اللّيل، والأولى على صورة العلم بذلك.
وفيه: أنّه لا شاهد لهذا الجمع، بل هو تبرّعيٌ محض لا اعتبار به.
الوجه الرابع: حمل الموثّقة على إرادة لزوم الإمساك بقيّة النهار، دفعاً لتوهّم بطلان الصّوم، وجواز تناول المفطّر بعده عمداً، فقوله: (فمن أكَلَ قبل أن يدخل اللّيل فعليه قضاؤه) أي أنّه لو انكشف له الخطأ، كما يؤيّده التعليل بأنّه أكل متعمّداً.
وفيه: إنّ معنى قوله: (على الذي أفطر صيام ذلك اليوم) أنّ صوم ذلك اليوم من أوله إلى آخره في ذمّته، وهذا عبارة أُخرى عن فساده ولزوم قضائه، وحمله على إرادة الإمساك في آخر النهار بعيدٌ جدّاً، والاستشهاد بالآية الكريمة لا يصلح شاهداً له، فإنّ المراد بها كما مرّ لزوم الصّوم الكامل التامّ ، وقوله: (فمن أكل... إلى4.
ص: 138
وتقليد الغير في دخول اللّيل ولم يدخل.
آخره) متفرّعٌ على ذلك، والتعليل بأنّه (أكل متعمّداً) دون أفطر متعمّداً يشهد بخلاف ما أفيد.
أقول: فالحقّ أنّه لا يمكن الجمع بين الطائفتين، فيتعيّن الرجوع إلى المرجّحات، وحيث إنّ الموثّقة موافقة للشهرة بين الأصحاب - كما ادّعاه غير واحدٍ - وهي أوّل المرجّحات، ومع وجودها لا يرجع إلى المرجّحات الأُخر فتقدّم الموثّقة، ممّا يعني أنّ الأظهر وجوب القضاء.
فالمتحصّل: أنّ من تخيّل دخول اللّيل:
إن أفطر على وجهٍ شرعيّ ، ثمّ تبيّن له بقاء اليوم، وجب عليه القضاء خاصّة.
وإنْ كان إفطاره على غير وجهٍ شرعيّ ، وجب عليه القضاء والكفّارة معاً.
وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام.
(و) المورد الخامس: (تقليد الغير في دخول اللّيل ولم يدخل).
المشهور بين الأصحاب ما في المتن، وهو وجوب القضاء على من أفطر تقليداً لمن أخبر بدخول اللّيل دون الكفّارة.
وعن «الحدائق»(1): نفي الإشكال فيه.
وعن «الرياض»(2): نفي الخلاف فيه إلّاعن «المدارك»(3) في بعض صوره.4.
ص: 139
ومعاودة النوم بعد انتباهة واحدة قبل الغُسل حتّى يطلع الفجر، وتعمّد القيء
أقول: وبما ذكرناه في الأمر السابق يظهر حكم ذلك، وحاصله:
أنّه إنْ كان قوله حجّة عليه وجب القضاء خاصّة، وإلّا فمع الكفّارة، إلّاأن يثبت إجماعٌ على عدم الكفّارة في الصورة الثانية أيضاً، وهو غير بعيد، ففي الكفّارة يُبنى على عدم وجوبها مطلقاً.
وما عن «المدارك»(1): من عدم وجوب القضاءفي صورة حجيّة قول المُخبر له.
وما عن المحقّق(2): من عدم وجوبه عليه، لو كان المُخِبر عدلين، لحجيّة شهادتهما.
ضعيفان، إذ الحجيّة تسوغ الإفطار، ولا تلازم مع عدم وجوب القضاء لو انكشف الخلاف كما هو المفروض.
(و) المورد السادس: (معاودة النوم بعد انتباهة واحدة قبل الغُسل حتّى يطلع الفجر) كما تقدّم في المقصد الأوّل، فراجع(3).
المورد السابع: عمّا إذا بطل صومه بالإخلال بالنيّة مع عدم الإتيان بشيء من المفطّرات، وقد مرّ في مبحث النيّة.(4)
***
وفي «الجواهر»(1): (على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل إجماع من المتأخّرين). انتهى .
وفي «المنتهى»(2): (ذهب إليه أكثر علمائنا وأكثر الجمهور). انتهى .
وعن السيّد المرتضى رحمه الله(3): أخطأ ولا قضاء عليه.
وعن الحِلّي(4): أنّه محرّمٌ ولا يجب به القضاء ولا الكفّارة.
وتشهد للأوّل: طائفة من النصوص:
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا تقيّأ الصائم فقد أفطر، وإنْ ذرعه من غير أن يتقيّأ فليتمّ صومه»(5).
ومنها: موثّق سماعة: «سألته عن القيء في رمضان ؟ فقال عليه السلام: إنْ كان شيءٌ يبدره فلا بأس، وإنْ كان شيءٌ يكره نفسه عليه، فقد أفطر، وعليه القضاء»(6).
ومنها: خبر عليّبن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن الرّجل يستاك وهو صائم فيقيء، ما عليه ؟ قال عليه السلام: إنْ كان تقيّأ متعمّداً فعليه قضاؤه، وإنْ لم يكن تعمّد ذلك فليس عليه شيء»(7). ونحوها غيرها.7.
ص: 141
وهذه النصوص صريحة في وجوب القضاء عليه.
وأمّا عدم وجوب الكفّارة:
1 - فللأصل بعد عدم شمول دليلها له، لأنّه متضمّن لوجوب الكفّارة على مَن أفطر متعمّداً غير الشامل لذلك.
2 - ولخلوّ النصوص على كثرتها عنه.
3 - مضافاً إلى صريح إجماع «الخلاف»(1) وظاهر غيره(2) المؤيّد بالتتبّع.
وأمّا ما في الموثّق من قوله: (فقد أفطر) فلتعقّبه بقوله: (وعليه القضاء)، لا إطلاق له يشمل التنزيل بلحاظ الكفّارة أيضاً، أضف إلى ذلك كلّه قوله عليه السلام في خبر مسعدة: «وإنْ شاء اللّه عذّبه، وإنْ شاء غفر له»(3)، فإنّه كالصريح في عدم وجوب الكفّارة التي يفزع إليها في تكفير الذنب، فلا ينبغي التوقّف في عدم وجوب الكفّارة، ووجوب القضاء خاصّة.
وقد استدلّ لعدم وجوب القضاء أيضاً:
1 - بأنّ الأصل الصحّة وبراءة الذّمة.
2 - وبأنّ الصّوم إمساكٌ عمّا يصل إلى الجوف، لا ما ينفصل عنه، فليس بمنافٍ .
هكذا نقل المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(4) عن السيّد المرتضى قدس سره.).
ص: 142
واستدلّ من تأخّر عنه:
1 - بصحيح ابن مسلم المتقدّم(1)، الحاصر للمفطّرات في أُمورٍ ليس القيء منها.
2 - وبصحيح عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه عليهما السلام: «ثلاثة لا يفطّرن الصائم: القيء والاحتلام والحِجامة»(2)، بدعوى أنّ الجمع بينه وبين النصوص المتقدّمة، يقتضي البناء على عدم وجوب القضاء به مع كونه حراماً.
أقول: لكن الأصل لا يرجع إليه مع وجود الدليل، وكون الصّوم إمساكاً عمّا يدخل الجوف خاصّة، اجتهادٌ في مقابل النَّص، أمّا إطلاق صحيح ابن مسلم فيقيّد بالنصوص المتقدّمة، والجمع بين صحيح ابن ميمون وما تقدّم يقتضي تقييد إطلاق الصحيح بما لو ذرعه القيء، للتصريح في النصوص السابقة بعدم وجوب القضاء في هذه الصورة.
وعليه، فالأظهر وجوب القضاء عليه خاصّة.
ولو ذرعه القيء لا شيء عليه، من غير فرقٍ بين ما إذا كان من محرّمٍ أو غيره، استكثر أم لا، لإطلاق النصوص المتقدّمة.
وعليه، فما عن ابن الجُنيد(3) من وجوب القضاء به إذا كان من محرّمٍ ، بل عليه إذا استكثر الكفّارة أيضاً، ضعيفٌ مخالفٌ للأدلّة ولا وجه له.
***).
ص: 143
الفرع الأوّل: لو خرج بالتجشّؤ شيءٌ ثمّ نزل من غير اختيار، لم يكن مبطلاً، لأنّ الخروج بالتجشّؤ لا يُفطّر، كما تشهد به النصوص الآتية، والنزول بلا اختيار أيضاً كذلك، لما سيأتي من اعتبار الاختيار في تحقّق الإفطار، أضف إلى ذلك مدلول صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«عن الرّجل الصائم يقلس، فيخرج منه الشيء من الطعام أيفطّر ذلك ؟ قال عليه السلام: لا قلت: فإن ازدرده بعد أن صار على لسانه ؟ قال عليه السلام: لا يفطّره ذلك»(1).
وموثّق عمّار، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يخرج من جوفه القَلَس حتّييبلغ الحلق، ثمّ يرجع إلى جوفه وهو صائم ؟ قال عليه السلام: ليس بشيء»(2).
ونحوهما غيرهما.
ومقتضى إطلاق الصحيح أنّه لو وصل إلى فضاء الفم فبلعه اختياراً لم يبطل صومه، ولكن النسبة بينه وبين ما دلّ على مفطّرية الأكل عن اختيار عموم من وجه، والترجيح مع الثاني للشهرة، فلو بلعه اختياراً بطل صومه وعليه القضاء والكفّارة، بل لو كان حراماً ولو لخباثته، وجب كفّارة الجمع.
الفرع الثاني: لو أكل في السّحر ما يجبُ عليه قيؤه في النهار، فهل يفسد صومه وإن لم يتقيّأ، كما صرّح به بعضهم(3)، نظراً إلى أنّ وجوب فعل القيء المُفطّر يمنع من التعبّد بالإمساك عنه أم لا؟
ص: 144
ودخول الماء إلى الحلق للتبرّد، دون ماء المضمضة للصَّلاة.
وجهان؛ أظهرهما الثاني، فإن فعل القيء وإنْ كان واجباً، إلّاأنّ تركه أيضاً واجب، لدليل وجوب الصّوم فيقع التزاحم بينهما.
فإن قُدّم الثاني أو حُكم بالتخيير فالصحّة واضحة.
وإن قُدّم الأوّل، فحيثُ أنّ الترك عباديٌ ، فللواجبين المتزاحمين شِقٌّ ثالث، وهو ترك القيء لا بقصد الصّوم، فيدخل المقام في باب التزاحم، فله اختيار الترك على فرض عصيان وجوب القيء، بناءً على ما هو الحقّ من تصحيح الترتّب.
أقول: وأولى بالصحّة ما لوأمكن الإخراج بغيره، لإمكان العمل بالدليلين حينئذٍ، وما لو كان مثل دَرّة أو بُندقة أو درهم ونحوها ممّا لا يصدق معه القيء، وهو واضح.
الفرع الثالث: إذا أكل في اللّيل شيئاً يعلم بأنّه يوجبُ القيء في النهار، من غير اختيار، فهل يجبُ القضاء نظراً إلى صدق القيء عن اختيار، أم لا يجب من جهة أنّ الموضوع المأخوذ في نصوص وجوب القضاء بالقيء، إكراه نفسه عليه، وما شاكل، غير الصادق على ذلك ؟ وجهان، أظهرهما الثاني.
الفرع الرابع: إذا ظهرت آثار القيء، فإنْ أمكن الحبس من دون لزوم ضررٍ أو حَرَج وجب، وإلّا وجب القضاء، وإن لزم منه الضرر أو الحَرَج لا يجب الحبس، ولكن يوجبُ القضاء، لأنّ أدلّة نفي الضرر والإكراه لا تصلح لرفع وجوب القضاء، كما سيجىء في الفصل الآتي إنْ شاء اللّه تعالى .
(و) المورد التاسع: (دخول الماء إلى الحلق للتبرّد دون ماء المضمضة للصلاة).
والمراد أنّ من أدخل الماء في فمه فدخل حلقه وجوفه بغير اختياره، فإنْ كان
ص: 145
للتبرّد فعليه القضاء خاصّة، وإنْ كان للمضمضة لوضوء الصَّلاة، لا يجبُ عليه القضاء. وهذا هو المشهور بين الأصحاب(1).
وفي «المنتهى»(2): (وهو قول علمائنا). انتهى .
وعن «الانتصار»(3) و «الخلاف»(4): دعوى الإجماع عليه.
وتشهد لوجوب القضاء: جملةٌ من النصوص:
منها: موثّق سماعة: «عن رجلٍ عبث بالماء يتمضمض به من عطشٍ ، فدخل حلقه ؟ قال عليه السلام: عليه قضاؤه، وإنْ كان في وضوء فلا بأس به»(5).
ومنها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الصائم يتوضّأ للصّلاة، فيدخل الماء حلقه ؟ فقال عليه السلام: إنْ كان وضوءه لصلاة فريضةٍ فليس عليه شيء، وإنْ كان وضوءه لصلاة نافلةٍ فعليه القضاء»(6).
ومثله ما رواه الكليني عن حمّاد عنه عليه السلام(7).
ومنها: خبر الريّان بن الصلت، عن يونس، قال: «الصائم في شهر رمضان يستاك متى شاء، وإن تمضمض في وقتِ فريضةٍ فدخل الماء حلقه، فليس عليه شيءٌ وقد تمَّ صومه، وإنْ تمضمض في غير وقت فريضةٍ ، فدخل الماء حلقه فعليه1.
ص: 146
الإعادة، والأفضل للصائم أن لا يتمضمض»(1).
ولا يعارضها موثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يتمضمض فيدخل في حلقه الماء وهو صائم ؟ قال عليه السلام: ليس عليه شيء إذا لم يتعمّد ذلك. قلت:
فإنْ تمضمض الثانية فدخل في حلقه الماء؟ قال عليه السلام: ليس عليه شيءٌ . قلت: فإنْ تمضمض الثالثة ؟ فقال: قد أساء ليس عليه شيء ولا قضاء»(2).
لأنّه مطلق يقيّد إطلاقه بما سبق.
فإنْ قيل: إنّ الموثّق منصرفٌ إلى إرادة المضمضة للطهارة لمعهوديّة التثليث فيها، وتعريف الثانية والثالثة في كلام السائل يرشد إلى ذلك، فهو في خصوص المضمضة في الوضوء، فيتّحد مفاده مع موثّق سماعة.
قلنا: إنّه لو سُلّم ذلك، فهو في غير الجملة الأُولى ، وأمّا هي فمطلقة ومفادها عدم وجوب القضاء في المضمضة للطهارة ولغيرها، وإنْ دخل الماء إلى الحلق مطلقاً.
وأمّا خبر الريّان: فلضعفه، واحتمال كونه كلام يونس لا يُعبأ به.
وأمّا خبر الحلبي: فهو يدلّ على أنّ المضمضة إنْ كانت في وضوء صلاة نافلةٍ فعليه القضاء، وحيث إنّه مخالفٌ لفتوى المشهور - بل عن «الخلاف»(3)و «الانتصار»(4) و «المنتهى»(5) دعوى الإجماع على عدم وجوب القضاء في المضمضة في وضوء صلاة النافلة أيضاً - فيُحمل على إرادة الاستحباب أو يُطرح،).
ص: 147
وإنْ حُكي عن جماعة القول به أو الميل إليه(1).
فيبقى موثّق سماعة، وهو يدلّ بمنطوق جملته الثانية على عدم وجوب القضاء في المضمضة للوضوء مطلقاً، سواءٌ أكان لصلاة فريضة أو نافلة أو لنفسه أو لغير ذلك من الغايات، وبمفهومه على ثبوت البأس، والمراد به القضاء بقرينة الجملة الأُولى في المضمضة لغير ذلك أيّاً ما كان.
ودعوى: أنّ الشرطيّة في المقام المسبوقة بحكم موهمة للعموم، بمنزلة الاستدراك، وليس لها ظهورٌ في المفهوم، فلا تدلّ على انتفاء عدم القضاء في المضمضة في غير الوضوء، كما أفاده المحقّق الهمداني(2).
مندفعة: بأنّ مجرّد سبق ذلك لا يصلح قرينةً لرفع اليد عن ظهور القضية في إرادة الانتفاء عند الانتفاء.
أقول: فالمتحصّل من النصوص، بعد ضمّ بعضها إلى بعض، هو أنّ المضمضة إنْ كانت في الوضوء، لا يوجب دخول الماء إلى الحلق القضاء، وإلّا فيوجبه، والأحوط الاقتصار على وضوء صلاة الفريضة.
وهل تلحق المضمضة في الغُسل بالمضمضة في الوضوء، كما عن المشهور(3)، بل).
ص: 148
عن غير واحد(1) دعوى الإجماع عليه، لإطلاق موثّق عمّار وكذا موثّق سماعة، بناءً على أنّ المراد بالوضوء فيه هو الطهارة، وذكر الوضوء إنّما هو لأنّه الشائع ؟ أم لا لأن إطلاق خبر عمّار يقيّد بموثّق سماعة، وإرادة مطلق الطهارة من الوضوء غير ظاهرة الظاهر؟ هو الثاني.
وهل يلحق الاستنشاق بالمضمضة كما عن «الدروس»(2)؟ الأظهر العدم، إذ لا وجه للإلحاق سوى القياس.
هذا كلّه في القضاء.
وأمّاعدم وجوب الكفّارة: فهومقتضى الأصل، بعداختصاص دليلهابالإفطار متعمّداً.
وعن «التهذيب»:(3) لو تمضمض لغير الصَّلاة فدخل حلقه فعليه الكفّارة، واستدلّ له بخبر المروزي، عن الفقيه عليه السلام:
«إذا تمضمض الصائم، أو استنشق متعمّداً، أو كنس بيتاً فدخل في أنفه وحلقه غبارٌ، فعليه صوم شهرين متتابعين، فإنّذلك له فطر مثل الأكل و الشرب و النكاح»(4).
وفيه أوّلاً: أنّه ضعيفُ السند وغير معمولٍ به.
وثانياً: أنّه لم يفرض فيه وصول الماء إلى الحلق عند المضمضة، وحيث إنّ من المقطوع به نصّاً وفتوى عدم العمل بما هو مقتضى إطلاقه وظاهره، فيتعيّن التصرّف فيه. وعليه، فكمايجوز حمله عليصورة دخول الماء، يجوز حمله على إرادة مالو وصل8.
ص: 149
والحقنة بالمائعات.
الماء إلى جوفه بهذه الوسيلة متعمّداً، بل قوله: (متعمّداً) يشير إلى إرادته الثاني.
وعليه، فالقول بوجوب الكفّارة في الفرض ضعيف.
ومثله في الضعف ما عن «الاستبصار»(1) من عدم جواز المضمضة لغير الصَّلاة، إذ لا وجه له سوى ما قيل(2) من إنّ النصوص تدلّ على وجوب الإعادة على من تمضمض لغير الصَّلاة ودخل الماء في جوفه قهراً، ولو كانت المضمضة جائزة لما وجبت الإعادة.
وفيه: منع الملازمة، وتشهد لجوازها - مضافاً إلى النصوص المتقدّمة والأصل - نصوصٌ أُخر.
وعليه، فالأظهر جوازها مطلقاً.
(و) المورد العاشر: (الحُقنة بالمائعات) فإنّه ذهب جماعةٌ (3) إلى أنّها توجب القضاء دون الكفّارة.
وملخّص القول فيها: أنّه قد اختلفت كلمات القوم فيها:
ص: 150
1 - منهم من حكم بحرمة الإحتقان مطلقاً بالمائع أو الجامد، من دون لزوم القضاء أو الكفّارة، وهو المحكيّ عن الصدوق(1).
2 - ومنهم من ذهب إلى حرمة الاحتقان بالمائع دون الجامد، وهو المحكيّ عن «جُمل» السيّد(2)، حاكياً له عن قومٍ ، وعن «الاستبصار»(3)، و «السرائر»(4)، و «المنتهى»(5)، و «المسالك»(6)، و «المدارك»(7)، وغيرها(8).
3 - ومنهم من حكم بأنّها توجبُ القضاء مطلقاً، نُسب إلى المفيد رحمه الله(9).
4 - ومنهم من حكم بأنّ الحُقنة بالمائع توجبُ القضاء خاصّة، وهو ظاهر المتن، وعن «المبسوط»(10)، والقاضي(11)، والحلبي(12)، و «الإرشاد»(13)، و «التحرير»(14)، وغيرها(15).8.
ص: 151
5 - ومنهم من حكم بأنّها توجبُ القضاء والكفّارة مطلقاً، حكاه السيّد في محكيّ جُمله(1) عن قومٍ من أصحابنا.
6 - ومنهم من حكم بإيجاب الحقنة بالمائع لهما، ذهب إليه جماعة(2).
7 - ومنهم من ذهب إلى عدم حرمتها، وعدم إيجابها للقضاء والكفّارة، كابن الجُنيد(3).
وأمّا النصوص:
فمنها: صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن الرّجل والمرأة هل يصلح لهما أن يستدخلا الدواء وهما صائمان ؟ فقال عليه السلام: لا بأس»(4).
وهي مطلقة شاملة للجامد والمائع.
ودعوى : ظهورها في خصوص الجامد كما ترى .
ومنها: موثّق الحسن بن فضّال: «كتبتُ إلى أبي الحسن عليه السلام: ما تقول في اللّطف(5) يستدخله الإنسان وهو صائم ؟ فكتب عليه السلام: لا بأس بالجامد»(6).
وعن الشيخ رحمه الله(7) روايته في اللّطف من الأشياف، وهذا مختصٌّ بالجامد، ولكن لا مفهوم له كي يدلّ على عدم الجواز في المائع.7.
ص: 152
ومنها: صحيح البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام: «أنّه سأله عن الرّجل يحتقن، تكون به العلّة في شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: الصائم لا يجوز له أن يحتقن»(1).
وهذا يدلّ على عدم جواز الاحتقان مطلقاً.
وعن «المسالك»(2): أنّه لا يُطلق اسم الاحتقان على استدخال الجامد، فإن تمَّ ذلك فهو مختصٌّ بالمائع.
أقول: الجمع بين النصوص يقتضي البناء على عدم الجواز في المائع، وجوازه في الجامد، لا ما أفاده بعض المعاصرين(3) من تقييد صحيح البزنطي بالموثّق، ثم تقييد صحيح علي بن جعفر به، فإنّه يتوقّف على القول بانقلاب النسبة ولا نقول به، بل لاختصاص صحيح البزنطي بالمائع، لما أفاده الشهيد الثاني(4)، وهو حينئذٍ أخصّ من صحيح علي بن جعفر بنفسه، ولولا ذلك كان الجمع بينهما مقتضياً لما بَنى عليه ابن الجُنيد(5).
أقول: المنسوب إلى كثيرٍ من الأصحاب(6) القول بحرمة الاحتقان تعبّداً، لظهور (لا يجوز) في ذلك، لرجوعهم في المفطّرية إلى النصوص الحاصرة للمفطرات في4.
ص: 153
أُمورٍ ليس الاحتقان منها.
وأورد عليه: بأنّ الظاهر من النهي في أمثال المورد، إرادة الحكم الوضعي، لا محض التكليف، فالخبر يدلّ على أخذ عدمه في الصّوم، فبه يبطل ويجبُ قضاءه، وهل تجب الكفّارة حينئذٍ؟
وجهان مبنيّان على شمول قوله: (من أفطر متعمّداً) له وعدمه، ولا يبعد الثاني، فإنّ المنساق إلى الذهن منه غير ذلك.
ولكنّي متأمّلٌ في ذلك، فإنّ النهي في أمثال المقام إرشادٌ إلى الحكم الوضعي بلا كلام، وأمّا كون (لا يجوز) و (يحرم) وما شاكل ظاهرة في ذلك فغيرُ ثابتٍ ، وعليه فلا مقيّد لإطلاق النصوص الحاصرة، والاحتياط طريق النجاة.
أقول: وربما استدلّ لوجوب القضاء به - مضافاً إلى ما تقدّم -:
1 - بالإجماع المنقول.
2 - وبشباهته بالإغتذاء.
3 - وبأنّ نفي جوازه للصائم إنّما هو لأجل الصّوم، فتكون بين الصّوم والاحتقان منافاة، وثبوت أحد المتنافيّين مستلزمٌ لنفي الآخر، فالاحتقان يوجبُ عدم الصّوم وهو يوجبُ القضاء.
ولكن يرد على الأوّل: أنّه غيرُ ثابتٍ ، وعلى فرض ثبوته لا يعدّ حجّةً لعدم كونه تعبّديّاً.
وعلى الثاني: أنّه قياسٌ مع الفارق.
وعلى الثالث: أنّ نقيض المنع عن الاحتقان هو جوازه، لا نفس الاحتقان، واللّازم منه انتفاء الصّوم عند جوازه، وهو كما ترى.
ص: 154
وأخيراً: لا إشكال في جواز الاحتقان عند الضرورة تكليفاً، إذ ما من شيء حرّمه اللّه إلّاوقد أحلّه في حال الاضطرار، ولكن على القول بكونه مفطّراً للصوم يوجبُ بطلانه وثبوت القضاء، لأنّ أدلّة الجواز عند الضرورة لا تصلح لإثبات عدم البطلان.
نعم، من يرى أنّه يوجب الكفّارة أيضاً، لابدّ له من التفصيل بين الاختيار والاضطرار، إذ لا مجال للكفّارة مع الجواز، ولذلك فصّل ابن زُهرة(1) بين الصورتين في الكفّارة مدّعياً عليه الإجماع.
***9.
ص: 155
ويجبُ الإمساك عن الكَذِب على اللّه، وعلى رسوله صلى الله عليه و آله، وعلى الأئمّة عليهم السلام.
(و) المقصد الثالث فيما (يجبُ الإمساكُ عن) - ه، ولا يوجبُ القضاء ولا الكفّارة، وهي أُمور:
الأمر الأوّل: الحقنة على تردّدٍ، وقد مرّ الكلام فيها.
الأمر الثاني: (الكَذِب على اللّه، وعلى رسوله صلى الله عليه و آله، وعلى الأئمّة عليهم السلام).
أقول: لا كلامٍ في وجوب الإمساك عنه في الصّوم وغيره، إنّما الكلام في أنّه هل يَفسد الصّوم بذلك، ليترتّب على وقوعه في حال الصّوم وجوب القضاء، كما عن المشايخ الثلاثة(1)، وأتباعهم، وابن زُهرة(2)، وظاهر الصدوقين(3)، وعن «الدروس»(4) إنّه المشهور بين الأصحاب، وعن السيّدين في «الانتصار»(5)، و «الغنية»(6)، والشيخين(7) دعوى الإجماع عليه ؟
ص: 156
أم لا يوجبُ فساد الصّوم، كما اختاره المصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(1)، وعن العُمّاني(2)، والسيّد في «الجُمل»(3)، والحِلّي(4)، والمحقّق في «المعتبر»(5)، و «الشرائع»(6)، ونُسب إلى أكثر المتأخّرين - إن لم يكن جميعهم - كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(7)، وعن «الحدائق»(8) نسبته إلى المشهور بين المتأخّرين ؟
وقد استدلّ للأوّل: بجملةٍ من النصوص:
منها: موثّق سماعة: «سألته عن رجلٍ كذب في رمضان ؟ فقال عليه السلام: قد أفطر وعليه قضائه.
فقلت: وما كذبته ؟ قال عليه السلام: يكذب على اللّه وعلى رسوله»(9).
ومنها: موثّقه الآخر: «سألته عن رجلٍ كَذِب في شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: قد أفطر، وعليه قضائه، وهو صائمٌ يقضي صومه ووضوئه إذا تعمّد»(10).
ومنها: موثّق أبي بصير: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: الكذبة تَنقضُ الوضوء3.
ص: 157
وتُفطر الصائم. قال: قلت له: هلكنا، قال عليه السلام: ليس حيثُ تذهب، إنّما ذلك الكَذب على اللّه وعلى رسوله صلى الله عليه و آله وعلى الأئمّة عليهم السلام»(1).
ومنها: خبره الآخر، عنه عليه السلام: «الكذب على اللّه وعلى رسوله وعلى الأئمّة عليهم السلام يفطّر الصائم»(2). ونحوها غيرها.
أقول: وأُورد على الاستدلال بها:
أوّلاً: بأنّها ضعيفة سنداً.
وفيه: أنّ الأظهر حجيّة الموثّق، مع أنّ ضعف السند لو كان ينجبر بالعمل، فإنّ الأصحاب عملوا بها، واستندوا إليها.
وثانياً: أنّ المظنون، بل الظاهر أنّ موثّقي سماعة في الأصل رواية واحدة، وكذلك روايات أبي بصير، وقد وقع الحكم فيهما بناقضيته للوضوء أيضاً، وحيثُ أنّ المتّفق عليه نصّاً وفتوى عدم كونه ناقضاً للوضوء حقيقةً ، فلا محالة أُريد من النقض بالنسبة إليه نقص الكمال، فكذلك بالنسبة إلى الصّوم، وهو يوجبُ بقرينة وحدة السياق أن يكون المراد من الإفطار فيها ما أُريد به في كثير من النصوص المتضمّنة أنّ الغيبة، والنميمة، والظلم، والسَّب وغيرها من المفطّرات للصوم، لا الإفطار الحقيقي، ولا أقلّ من الإجمال، وحيث إنّ النَّص الخالي عن هذه القرينة غير ثابت التحقّق، فلا يصحّ الحكم بالمفطريّة.
وفيه: أنّ حمل (الإفطار) على ما ذُكر حمل للّفظ على خلاف ظاهره، وهو يتوقّف على القرينة المفقودة في المقام، ووحدة السياق سيّما مع اختلاف المادّتين لا4.
ص: 158
تصلحُ أن تكون قرينة لذلك.
وثالثاً: إنّ بعض النصوص حاصرٌ لما يضرّ الصائم من حيث صومه في غير الكذب، والجمع بينه وبين هذه النصوص، يقتضي حمل الإفطار على إرادة نقض كماله.
وفيه: إنّ نصوص الباب أخصٌّ مطلقاً منه، فيقيّد إطلاقه بها.
ورابعاً: صريح موثّق سماعة أنّ الصائم يقضي صومه، فلو كان الكذب مفطراً لم يكن صائماً، وهذه قرينة قطعيّة على إرادة نقصه الكمال.
وأُجيب عن ذلك: بأنّه كما يصلح قوله: (وهو صائم) قرينة لحمل الإفطار على خلاف ظاهره، كذلك يصلح أن تكون قرينة لحمل (الصّوم) على الإمساك الواجب، ولا أولويّة لأحدهما على الآخر، فالخبر مجملٌ وهو يقتضي الرجوع إلى النصوص الأُخر.
وفيه: إنّ ظهور (الصّوم) في الحقيقي منه، أقوى من ظهور (الإفطار) في نقص الصّوم، سيّما بعد ملاحظة وحدة السياق المذكورة في الوجه الثاني، وإسناد الإفطار إلى جملةٍ من المحرّمات كما مرّ، بضميمة النصوص الحاصرة، وهذه كلّها لو لم توجب ظهور (الإفطار) في إرادة نقص الكمال، لا ريب في صيرورتها سبباً لإجماله، والمرجع إلى الأصل وهو يقتضي العدم.
وبالجملة: الأظهر عدم المفطّرية، والاحتياط لا ينبغي تركه.
أقول: وعلى القول بالإفساد، هل يجب القضاء خاصّة، أم تجب الكفّارة أيضاً؟ وجهان:
ص: 159
من إطلاق قوله عليه السلام: (من أفطر متعمّداً) في دليل الكفّارة، ومن انصرافه إلى الأكل والشرب.
فإنْ قيل: على الثاني أيضاً لابدّ وأن يُبنى على وجوب الكفّارة، لإطلاق الإفطار عليه في نصوص، فإنْ لم يكن الإطلاق حقيقيّاً، فبمقتضى عموم التنزيل يُبنى على ترتّب الكفّارة أيضاً.
قلنا: إنّه في هذه النصوص حيث رتّب على إطلاق الإفطار أنّ عليه قضائه، فلا يبقى له إطلاق، فالأظهر عدم وجوب الكفّارة للأصل.
***
ص: 160
ثمّ إنّه على القول بالمفطّريّة حقيقةً أو كمالاً، لابدّ من بيان فروعٍ تتميماً لهذه المسألة:
الفرع الأوّل: لا يختصّ هذا الحكم بالكذب في خصوص أمرٍ شرعي، بل يعمّ ما كان متعلّقاً بأُمور الدُّنيا، كما عن المصنّف رحمه الله في «التحرير»(1)، لإطلاق النصوص.
ودعوى: انصراف الأخبار إلى ما يتعلّق بأُمور الدِّين التي بيانها من خواصّهم.
غير مسموعة، سيّما في موثّق أبي بصير، الذي قابل عليه السلام فيه بين الكذب على اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، وبين الكذب على سائر النّاس، وحَكَم بمفطّريّة الأوّل دون الثاني، إذ من المعلوم أنّ الكذب على سائر النّاس إنّما أريد به الكذب في أُمور الدُّنيا، فكذلك ما قابله.
وعليه، فما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله(2) من الاختصاص ضعيفٌ .
الفرع الثاني: الإفتاء بغير العلم مفطّر، سواءٌ أخبر عن الواقع بأن قال هذا حلالٌ في الواقع، أم أخبر عن رأيه.
أمّا الأوّل: فواضح.
وأمّا الثاني: فلأنّه بنظر العرف حيثُ يرون العلم طريقا محضاً، يكون إخباره عن رأيه دالّاً بالالتزام على المعلوم والواقع، مثلاً من قال: (في رأيي المتنجّس يَنجُس)، يكون هذا عند العرف نظير ما لو قال: (المتنجّس ينجّس)، فكما أنّه
ص: 161
إخبارٌ عن اللّه تعالى بالالتزام، فكذلك ما لو أخبر عن رأيه.
الفرع الثالث: الكذب على باقي الأنبياء والأوصياء، إنْ رجع إلى الكذب على اللّه تعالى يفطّر الصّوم، لإطلاق الأدلّة.
ودعوى: أنّ المنساق إلى الذهن منها نسبة الشيء إلى اللّه تعالى ابتداءً ، ولا تشمل مثل ذلك.
غير مسموعة: لأنّ ذلك خلاف إطلاقها.
نعم، ما يرجع إلى الكذب على اللّه تعالى ، ولكن لا يعدّ في العرف إخباراً عن اللّه تعالى ، لا تشمله النصوص، وأمّا إنْ لم يرجع إلى الكذب على اللّه تعالى، فلا دليل على مفطّريّته.
وإنْ قيل: إنّ المراد بالرسول هو الجنس الشامل لجميع الأنبياء.
قلنا: إنّه خلاف الظاهر، وأوهن منه ما قيل من شمول الحكم لهم لتنقيح المناط.
وأخيراً: نقول عن الكذب على فاطمة الزهراء عليها السلام من أنّه إذا رجع إلى الكذب على اللّه فلا إشكال، وإلّا ففي مفطّريّته تأمّلٌ ، إذ لا وجه لها سوى تنقيح المناط، أو كون المراد بالأئمّة في الأخبار أعمٌّ من الصديقة عليها السلام، بدعوى أنّ الظاهر من الأخبار كون الموضوع هو صاحب النفس النبويّة أو الولويّة، وكلاهما كما ترى ، والاحتياط سبيل النجاة.
الفرع الرابع: إذا تكلم بالخبر غير موجّهٍ خطابه إلى أحدٍ، ففي كونه مفطّراً للصوم قولان: منشأهما صدق الخبر الذي هو المقسم للصدق والكذب مع عدمه، ولذا تصحّ تعدية الفعل إليه، فيقال: (أخبرت زيداً)، وعدم صدقه صرفاً أو انصرافاً، والثاني لو لم يكن أظهر، فلا أقلّ من كون احتماله مساوياً لاحتمال الصدق فيصير
ص: 162
مجملاً، والمتيقّن منه ما إذا كان متوجّهاً إلى شخصٍ يفهم معناه، وفي غيره يرجع إلى الأصل، فإذاً الأظهر عدم المفطّرية.
الفرع الخامس: إذا أخبر صادقاً عن اللّه، ثمّ قال: كذبتُ ، أفطر صومه، لأنّه كذب على اللّه، غاية الأمر يكون من الكذب غير الصريح، فتشمله الإطلاقات كما عرفت.
الفرع السادس: لا إشكال في أنّه يحرم أن ينسب إليهم حكماً لا يعلم بصدوره منهم، ولم يقم حجّة عليه، لما دلّ على حرمة الإخبار بما لا يعلم من الآيات والروايات كقوله تعالى : (أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (1). ونحوه غيره.
إنّما الكلام في أنّه هل يفطّر الصّوم أم لا؟
فقد استدلّ للثاني: بوجهين:
الوجه الأوّل: الأدلّة إنّما دلّت على مفطّرية الكذب، وهو عبارة عن مخالفة الخبر للواقع، فمع الشكّ في المخالفة، يشكّ في حصول الإفطار به، والمرجع فيه الأُصول النافية للمفطريّة.
وفيه: الأُصول النافية لا تجري فيه، للعلم الإجمالي بأنّ الإخبار به أو بنقيضه مخالفٌ للواقع، ومفطّر للصوم، فعدم أحدهما مأخوذٌ في الصّوم والإمساك الواجب، فلا يجري في شيء منهما الأصل للتعارض، فيبقى احتمال نقض الصّوم بلا معذّرٍ شرعي، فيتعيّن الرجوع إلى القواعد المقتضية للإحتياط.
الوجه الثاني: أنّه لا يصدق الكذب متعمّداً الذي هو المفطّر دون مطلق الكذب، لأنّه لم يقصد الإخبار كذباً، بل بمحتمله.8.
ص: 163
وفيه: أنّه مع احتمال المخالفة وإن لم يعلم بكونه كذباً، ولكن على تقدير كونه كذلك، هو صادرٌ عنه عن عمد، ولذا يصحّ العقاب عليه، وإنْ كان الموضوع للحرمة الكذب، فإذا البناء على المفطّرية أظهر.
الفرع السابع: إذا اضطرّ إلى الكذب على اللّه ورسوله، فلا إشكال في جوازه، لأدلّة الاضطرار، وهل يفطّر صومه أم لا؟ وجهان مبنيّان على انصراف النصوص، سيّما بعد ملاحظة مناسبة الحكم والموضوع إلى الكذب المحرّم، فلا تشمل ما وقع على وجهٍ مرخّص فيه وعدمه.
***
ص: 164
وفي الإرتماس في الماء قولان.
الأمر الثالث: الإرتماس في الماء: فهو يعدّ مفطّراً عند جماعة، منهم الشيخ في «الاستبصار»(1)، والمحقّق في «المعتبر»(2) و «الشرائع»(3)، والمصنّف في «المختلف»(4)و «المنتهى»(5)، والمحقّق الثاني في «حاشية الإرشاد»(6)، والشهيد الثاني(7) وسيّد «المدارك»(8)، بل نُسب إلى أكثر المتأخّرين(9)، فإنّهم اختاروا حرمته، وعدم كونه موجباً للقضاء والكفّارة.
(وفي الإرتماس في الماء قولان) آخران، بل أقوال:
القول الأوّل: ما عن الشيخ في جملةٍ من كتبه(10)، والسيّد في «الانتصار»(11)،
ص: 165
وابن البرّاج(1)، وهو أنّه حرامٌ ، وموجبٌ للقضاء والكفّارة، ونُسب هذا إلى المشهور(2).
القول الثاني: ما اختاره الحلبي(3)، وتبعه بعض المعاصرين(4)، وهو أنّه موجبٌ للقضاء دون الكفّارة.
القول الثالث: ما عن العُمّاني(5)، والسيّد في أحد قوليه(6)، والحِلّي(7)، وهي الكراهة، ومالَ إلى القول بها جمعٌ من متأخّري المتأخّرين(8).
أقول: وأمّا النصوص الواردة في المقام، فهي على طوائف:
الطائفة الأُولى : ما تضمّن النهي عنه: كصحيح حريز، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«لا يرتمس الصائم ولا المُحْرِم رأسه في الماء»(9). ونحوه غيره.
وظاهر هذه النصوص هو كونه مبطلاً للصوم، إذ الظاهر من الأوامر والنواهي المتعلّقة بكيفيّات العبادات، كونها إرشاداً إلى الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة، لا محض التكليف، ولولا ذلك لزم تأسيس فقهٍ جديد، إذ أغلب الأُمور المعتبرة في العبادات، إنّما ثبت اعتبارها بمثل هذه الأدلّة.2.
ص: 166
الطائفة الثانية: ما هو أصرّح من هذه النصوص في المفطّرية: وهو صحيح محمّد ابن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال - كما عن «الفقيه»(1)، وعن موضعٍ من «التهذيب»(2): أو ثلاث خصال - الطعام، والشراب، والنساء، والإرتماس في الماء».
فإنّ الظاهر منه كون هذه الأُمور مضرّة بالصائم بما هو صائم، أي بصومه لا بذات الصائم، لأنّ الظاهر من أخذ كلّ عنوانٍ في الموضوع، دخله فيه في نفسه، لا لأجل كونه مرآةً لغيره.
وعليه، فما عن الشهيد رحمه الله(3) من عدم ظهوره في الإفساد، إذ يكفي في الإضرار فعل المحرّم، ضعيفٌ ، إذ فعل المحرّم يضرّ بذات الصائم، لا به بما هو كذلك.
الطائفة الثالثة: ما هو أصرّح من ذلك أيضاً في الإفساد: وهو الخبر الذي رواه الصدوق في «الخصال» عن محمّد بن الحسن عن الصفّار، عن أحمد بن أبي عبداللّه، عن أبيه، بإسناده رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السلام: قال:
«خمسة أشياء تفطّر الصائم: الأكل، والشرب، والجماع، والارتماس في الماء، والكَذِب على اللّه وعلى رسوله وعلى الأئمّة عليهم السلام»(4).
الطائفة الرابعة: ما تضمّن التعبير بالكراهة: وهو خبر ابن سنان، عن الإمام9.
ص: 167
الصادق عليه السلام: «يُكره للصائم أن يرتمس في الماء»(1).
وحيث إنّ الكراهة في الأخبار لم يثبت أن يكون المراد بها الكراهة المصطلحة، ولذا يستعمل كثيراً في الحرمة، فهذه الخبر لا ينافي مع شيء ممّا تقدّم.
الطائفة الخامسة: ما هو صريح في عدم الإفساد: وهو موثّق إسحاق بن عمّار:
«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجلٌ صائم ارتمس في الماء متعمّداً، عليه قضاءُ ذلك اليوم ؟ قال عليه السلام: ليس عليه قضاء ولا يعودنّ »(2).
أقول: والجمع بين هذه النصوص، بعد طرح خبر الخصال لضعفه، وعدم ثبوت استناد الأصحاب إليه، يقتضي أن يقال:
إنّ الطائفة الأُولى ظاهرة في اللّزوم، وقابلة للحمل على الكراهة الوضعيّة، فالجمع بينها وبين الموثّق يقتضي ذلك، وأمّا صحيح محمّد بن مسلم، فهو ظاهر في كونه مضرّاً بحقيقة الصّوم، وقابلٌ للحمل على إرادة كونه مضرّاً بكماله، فبقرينة الموثّق يُحمل على ذلك.
وقد يقال: إنّه يُجمع بين النصوص بحمل الموثّق على إرادة عدم الإفساد، وسائر النصوص على إرادة الحرمة التكليفيّة، واستُشهِد له بقوله عليه السلام في الموثّق: (ولا يعودن).
وفيه: إنّ الجمع بهذا النحو خلافُ ما هو المتعارف بينهم في أمثال المقام، حيث إنّهم في نظائر المقام يجمعون بين النهي والرّخصة الواردين في بيان الماهيّات، على إرادة الكراهة الوضعيّة، لاحظ ما ذكروه في الجمع بين قوله عليه السلام: (لا صلاة لجار المسجد إلّافي المسجد) وما تضمّن صحّة الصَّلاة الواقعة في غير المسجد، وقوله عليه السلام:4.
ص: 168
(لا يعودنّ ) إنّما يكون حاله حال سائر النصوص الناهية المحمولة على الكراهة.
أقول: ويؤيّد عدم صحّة هذا الجمع، أنّه يلزم منه الالتزام بحرمة الارتماس في الصّوم المندوب، لإطلاق الأدلّة، وهو كما ترى ممّا لم يلتزم به أحد، مع أنّه بعد ملاحظة مناسبة الحكم والموضوع، يظهر أنّ الالتزام بذلك مشكلٌ في نفسه ما لم يدلّ عليه دليل ظاهر.
وما أفاده بعض(1): من أنّ الجمع بين هذه النصوص غير ممكن، فالمرجع إلى المرجّحات، والترجيح مع تلك النصوص، مردودٌ بما تقدّم.
فالمتحصّل: أنّ الجمع بين النصوص يقتضي الالتزام بالكراهة، ولكن من جهة كون هذا القول ممّا لم يذهب إليه أكثر المحقّقين والأساطين، فالإفتاء بذلك مشكلٌ جدّاً، والاحتياط سبيل النجاة.
غَمس الرأس، لاحظ صحيح ابن مسلم المتقدّم(1) وغيره.
ودعوى: أنّ التقييد بالرأس، لكونه الجزء الأخير الذي يتحقّق به الانغماس لا لإرادته بالخصوص.
ضعيفة: لأنّ ذلك خلاف ظاهر الدليل.
وجعل الموضوع في بعض النصوص هو الارتماس، الظاهر في رمس جميع البدن، لا ينافي ذلك، لإمكان العمل بالطائفتين معاً.
وبعبارة أُخرى : لا مفهوم له كي يدلّ على عدم ثبوت هذا الحكم لغمس الرأس، لينافي مع ما تقدّم.
ونُسب إلى الشهيد رحمه الله في «الدروس»(2): أنّه تردّد في ذلك، ولكن ظاهر محكيّ كلامه لا يدلّ على ذلك، فإنّه قال: (لو غَمس رأسه في الماء دفعةً أو على التعاقب، ففي إلحاقه بالارتماس نظرٌ)، وظاهر ذلك إرادة التنبيه على أنّه يمكن أن يقال بعدم الإلحاق كما قيل.
لكنّه ضعيفٌ ، وعلى أيّ تقدير الأظهر ما عرفت.
الفرع الثاني: لا فرق في هذا الحكم بين أن يكون رَمْسه لجسمه في الماء دفعةً أو تدريجاً على وجهٍ يكون تمام ما رمسه تحت الماء زماناً، لإطلاق الأدلّة، إذ بعد تحقّق تغطية الماء لجسمه وصدق الارتماس، يشمله الدليل، سواءٌ أكان بنحو الدفعة أو التدريج. نَعم لو رمَسَه على سبيل التعاقب، لا على هذا الوجه، فإنّه لا شيء عليه، لعدم شمول الأدلّة له.8.
ص: 170
وعليه، فما عن «المدارك»(1) من احتمال تحريمه ضعيفٌ .
وأمّا من صرّح من الأصحاب(2) بعدم الفرق بين الدفعة وغيرها، فالظاهر أنّهم أرادوا به المعنى الأوّل للتعاقب، كما لا يخفى .
الفرع الثالث: الظاهر اختصاص هذا الحكم بغمس الرأس بتمامه، فلو غَمَس خصوص المنافذ لا شيء عليه، كما هو المشهور(3) لاختصاص الأدلّة به.
ودعوى: أنّ المناط في هذا الحكم عدم إدخال الماء المنافذ - كما يشعر به خبر حنّان بن سُدير(4) الآتي، المُعلّل نهي المرأة عن الاستنقاع في الماء بأنّها (تحمل الماء بقُبُلها) - فموضوعُ الحكم غَمس المنافذ خاصّة.
مندفعة: بأنّه لم يظهر كون ذلك علّة يدور الحكم مدارها، بل الظاهر عدمه، وإلّا لزم الالتزام بعدم ثبوت الحكم في بعض الموارد، الذي لم يلتزم به فقيهٌ ، كما لو سَدّ المنافذ بنحو يُحرز عدم دخول الماء إليها، بل الظاهر كون ذلك من قبيل حكمة التشريع.
مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ غَمس مجموع الرأس في الماء أشدّ تأثيراً في نفوذ الماء إلى المنافذ، وعليه فما عن «المدارك»(5) من إلحاق غَمس المنافذ كلّها برمس الرأس كلّه ضعيفٌ .).
ص: 171
الفرع الرابع: هل يختصّ هذا الحكم برمَس الرأس في الماء، كما هو المشهور بين الأصحاب ؟
أم يعمّ رَمسه في الماء المضاف، كما عن كاشف الغطاء(1) وتبعه جماعة(2)؟
أم يعمّ رَمسه في كلّ مائعٍ ، كما عن الشهيد الثاني في «المسالك»(3)؟ وجوه:
وقد استدلّ للأخير:
1 - بكلام بعض أهل اللّغة(4) والفقهاء(5)، القائلين بأنّه يصدق الارتماس على الغَمس في كلّ مائع.
2 - وبقوله عليه السلام في صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «الصائم يستنقع في الماء، ولا يرمس رأسه»(6).
ولكن يرد على الأوّل: أنّ الحكم في النصوص عُلّق على الارتماس في الماء لا مطلق الارتماس، والماء حقيقة في المطلق، وإطلاقه على غيره محتاج إلى قرينة مفقودة.
وعلى الثاني: أنّ عطف (ولا يرمس) على قوله: (يستنقع في الماء) يجعله ظاهراً في إرادة رمس رأسه في الماء.1.
ص: 172
واستدلّ للقول الثاني:
1 - بعدم معقوليّة دخل وصف الإطلاق في مثل هذا الحكم.
2 - وبشمول لفظ (الماء) للمضاف.
ولكن يرد على الأوّل: أنّه لعدم إحاطتنا بمناطات الأحكام الشرعيّة، لا يصحّ الاعتماد على هذه الوجوه الاستحسانيّة.
وعلى الثاني: ما تقدّم من كون (الماء) حقيقةٌ في المطلق منه.
فتحصّل: أنّ الأظهر هو الاختصاص بالارتماس في الماء، والأحوط الاجتناب عن الارتماس في المضاف أيضاً.
الفرع الخامس: في ذي الرأسين إذا تميّز الأصلي منهما لا كلام، وإلّا فهل يبطل الصّوم برمس أحدهما على القول بمفطّريّة الارتماس أم لا؟
وعلى الثاني فهل يجبُ الاجتناب عن كلٍّ منهما أم لا؟
وجوهٌ وأقوال، أقواها الأوّل، إذ مقتضى العلم الإجمالي بكون رمس أحدهما مبطلاً، هو الاجتناب عن كلّ منهما، بمعنى عدم الاجتزاء بالصوم مع رمس أحدهما، لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه.
وبعبارة أُخرى : الأُصول النافية لا تجري في أطراف العلم الإجمالي، فالمتعيّن الرجوع إلى قاعدة الاشتغال.
فإنْ قلت: إنّه تتعارض أصالة البراءة عن مفطّرية رمس كلٍّ منهما، مع أصالة البراءة عن مفطّرية رمس الآخر، فيجري استصحاب الصحّة بعد رمس أحدهما بلا معارض.
قلت: لو سلّمنا جريان استصحاب الصحّة في نفسه - مع أنّه محلّ تأمّل - هو
ص: 173
أيضاً يسقط بالتعارض، بناءً على ما حقّقناه في محلّه من أنّ الأُصول الطوليّة في بعض الأطراف، تعارض بأجمعها مع الأصل الجاري في الطرف الآخر، ولو كان واحداً وتسقط الجميع.
اللّهم إلّاأن يقال: إنّ ذلك في غير ما إذا كان الأصل الجاري في كلٍّ منهما مسانخاً مع الأصل الجاري في الآخر، وإلّا فالحقّ سقوط المسانخين وجريان الأصل الطولي الذي لأحدهما، كما في المقام.
أقول: وعليه فيتعيّن الجواب عن هذا الوجه، بالمنع من جريان استصحاب الصحّة في نفسه، كما حُقّق في محلّه.
وبما ذكرناه ظهر مدرك القول الأخير، مع ما يمكن أن يورد عليه.
وأمّا القول الثاني: فقد استدلّ للقول بعدم البطلان: بما تقدّم، ولوجوب الاجتناب بقبح التجرّي عقلاً، وصيرورته موجباً لاستحقاق العقاب.
وفيه: أنّه بعد فرض أنّ مقتضى الأصل عدم المفطّرية، لا تجري في ارتكابه كي يستحقّ العقاب.
أقول: وبذلك كلّه ظهر حكم فرعٍ آخر وهو: ما لو كان مايعان يعلم بكون أحدهما ماءً ، فإنّ الكلام فيه هو الكلام في ذلك.
الفرع السادس: إذا اُكره الصائم على الارتماس، لم يصحّ صومه على القول بمفطّريّة الارتماس، لإطلاق أدلّته، وحديث الرفع وغيره من أدلّة نفي الإكراه لا تقتضي الصحّة، لأنّها إنّما تدلّ على نفي الحكم، وحيثُ إنّ نفي الحكم الضمني إنّما يكون بنفي الحكم المتعلّق بالمركّب، فنتيجة ذلك نفي وجوب الصّوم، وأمّا إثبات الأمر بغير ذلك من الأُمور المعتبرة فيه، كي يترتّب عليه الصحّة في الفرض، فتلك
ص: 174
الأدلّة أجنبيّة عنه.
ودعوى: أنّ تلك الأدلّة تدلّ على أنّ فعل المكره عليه وجوده كالعدم، ومعنى ذلك فرض وجود الارتماس في المقام كالعدم، فلا مناص عن الحكم بالصحّة.
مندفعة: بأنّه إنْ أُريد به أنّ معنى حديث الرفع وغيره، رفع ما تعلّق به الإكراه بهذا القيد، وبعبارة أُخرى تنزيل الإكراه منزلة العدم، فلازمه ترتيب آثار الفعل الصادر عن الاختيار عليه، وهو خلاف المقصود.
وإنْ أُريد به رفع ذات ما تعلّق به الإكراه به، وتنزيله منزلة العدم، فهو خلاف ظاهر الأدلّة، فإنّ ظاهرها رفع ما تعلّق به الإكراه بهذا العنوان لا بعنوانه الأوّلي.
وعلى ذلك فلا مناص من أنْ يُقال: إنّ المرفوع هو الفعل المعنون بهذا العنوان، ونتيجة ذلك ما ذكرناه، وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه من الأُصول.(1)
الفرع السابع: إذا كان جُنُباً، وكان غُسله متوقّفاً على الارتماس:
فإنْ كان الصّوم واجباً معيّناً، انتقل فرضه إلى التيمّم، لأنّه يمتنع عليه الغُسل شرعاً لأدلّة مفطّرية الارتماس أو حرمته، بناءً على القول بإحداهما، والممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، فهو فاقدٌ للماء، فيكون فرضه التيمّم.
وأمّا إنْ كان الصّوم مستحبّاً أو واجباً موسّعاً، فيجبُ عليه الغُسل، لكونه واجداً للماء عقلاً وشرعاً، فيبطل صومه بالارتماس، بل بالأمر بالغُسل كما لا يخفى .
لا يقال: إنّ ذلك بناءً على مفطّرية الارتماس تامٌّ ، وأمّا بناءً على حرمته، فحيث أنّ مقتضى إطلاق أدلّته حرمته في الواجب المعيّن وغيره، فينتقل فرضه إلى التيمّم أيضاً، لكونه غير واجد شرعاً لحرمة الارتماس.
فإنّه يقال: إذا لم يكن الصّوم واجباً معيّناً، فلا محالة يجوز له إبطاله، ومعها.
ص: 175
لا حرمة للارتماس، فيجبُ مقدّمةً للغسل إبطاله ثمّ الارتماس، فلا تصل النوبة إلى التيمّم.
الفرع الثامن: إذا ارتمس الصائم في الماء عمداً، بطل صومه مطلقاً، بناءً على القول بالمفطريّة، وحينئذٍ:
إمّا أن يقصد الغُسل بالارتماس، أو يقصده بعد تحقّقه:
1 - فإنْ قَصَده بالارتماس، بَطَل غُسله أيضاً، إنْ كان في الصّوم الواجب المعيّن، للنهي عنه الموجب لفساد العبادة.
ودعوى: أنّه في المقام لا يكون العنوان المأمور به متّحداً مع العنوان المنهيّ عنه، لأنّ المأمور به هو إيصال الماء، والمنهيّ عنه هو جمعُ جميع أجزاء الرأس تحت الماء دفعةً ، وعليه فلا وجه للبطلان.
مندفعة: بأنّ معنون العنوانين وجودٌ واحد، وفي مثله لا مناص عن البناء على الامتناع.
وإنْ كان في غير المعيّن، فكذلك إنْ قلنا بالحرمة.
وإنْ قلنا بالمفطّريّة، فالأظهر صحّة غسله.
2 - وإن قَصَد الغُسل بعد الارتماس حال المكث في الماء، أو حال الخروج:
ففي صوم غير المعيّن، يصحّ الغُسل على القولين.
وأمّا في المعيّن:
فإنْ قلنا بعدم وجوب الإمساك عن المفطّرات بعد إفطار الصّوم، صحّ غُسله، كما أنّه على القول بحرمة الارتماس تكليفاً يصحّ ، لعدم شمول دليل الحرمة للخروج عن الماء.
ص: 176
وكذا الإمساك عن كلّ محرمٍ سوى ما ذكرناه، ويتأكّد في الصّوم.
وأمّا على القول بالمفطّريّة، ولزوم الإمساك عن المفطّرات بعد إفطار الصّوم، فيُشكل الحكم بالصحّة، من جهة أنّ نفس الكون تحت الماء منافٍللصوم و الإمساك، ومبغوضٌ للمولى ، ولا يصحّ التقرّب بالمبغوض، وللكلام في ذلك محلّ آخر.
(وكذا) يجب (الإمساك عن كلّ محرمٍ سوى ما ذكرناه، ويتأكّد في الصّوم). ولكن لا يوجب القضاء والكفّارة.
أمّا تأكّد ذلك في الصّوم، فلجملةٍ من النصوص، وهي وإنْ تضمّنت مفطّرية بعض المحرّمات للصوم، إلّاأنّه للإجماع على عدم البطلان تُحمل على إرادة نقص الكمال، وعليه فعدم وجوب القضاء والكفّارة واضح.
***
ص: 177
والمندوبُ ترك السّعوط.
(و) الفصل الثاني: في (المندوب): أي ما يستحبّ للصّائم الإمساك والاجتناب عنه. وهي أُمور:
الأمر الأوّل: (ترك السّعوط) مطلقاً، سواءٌتعدّى إلى الحلق أم لا، كماعن «الجمل»(1)، و «الخلاف»(2)، و «النهاية»(3)، و «النافع»(4)، وظاهر «المدارك»(5) وغيرها(6).
بل عن المشهور، وعن المفيد(7)، والصدوق(8)، والحِلّي(9)، والديلمي(10)، والقاضي(11)، وابن زُهرة(12)، والحلبي(13): لزوم الإمساك عنه وحرمة السعوط.
ص: 178
وعن الإسكافي(1): الجواز بلا كراهية.
وعن «المبسوط»(2)، و «الشرائع»(3)، و «المختلف»(4): لزوم الترك مع التعدّي، وجواز الفعل على كراهية مع عدم التعدّي، ونسب ذلك إلى جماعةٍ آخرين(5).
ومدرك الحكم خبران:
أحدهما: موثّق ليث: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصائم يحتجم، ويصبّ في أذنه الدّهن ؟ قال عليه السلام: لا بأس إلّاالسعوط فإنّه يُكره»(6).
ثانيهما: خبر غياث الآتي: «كره السّعوط للصائم»(7).
استدلّ القائلون بالحرمة:
1 - بالخبرين المذكورين، بدعوى أنّ الكراهة في عُرف القدماء صادقة على الحرمة.
2 - وباستثناء السعوط في الموثّق عن عدم البأس الذي هو العذاب.
3 - وبأنّ إيصال شيء مفطّر إلى الدماغ الذي هو من الجوف حرامٌ .
ولكن يرد على الأوّل: أن الكراهة في عرف القدماء وإنْ لم تكن ظاهرة في الكراهة المصطلحة، إلّاأنّها ليست ظاهرة في الحرمة أيضاً، فهي قابلة للحمل على كلّ منهما.9.
ص: 179
والكُحل بما فيه صبرٌ أو مِسْك.
وأمّا الثاني: فالبأس في نفسه وإنْ كان ظاهراً في ما أفيد، إلّاأنّه من جهة تعليله بقوله: (فإنّه يكره) يصبح مجملاً وقابلاً للحمل على الحزازة المطلقة، فلا يستفاد من الخبرين الحرمة، والمتيقّن هي الكراهة، والحرمة تُدفع بالأصل.
وأمّا الثالث: فيرد عليه أنّ إيصال الشيء إلى مطلق الجوف ليس مفطّراً، ألا ترى أنّ المضمضة والاستنشاق وما شاكل لا تُفطّر.
فالمتحصّل: هو القول بالكراهة.
أقول: وحيث يكون الخبران في مقام بيان حكم السّعوط من حيث هو، ولا نظر لهما إلى عناوين أُخر، فعليه فلو وصل إلى الحلق يكون حراماً لو قلنا بحرمة إيصال الشيء إلى الحلق، إلّاأنّه لا دليل عليها أيضاً، بل مقتضى ما دلّ على حصر المفطّرات المتقدّم(1)، عدم حرمته و عدم مفطريّته، إلّاإذاكان بحيث يصدق عليه الشرب، بأن يجتمع في الحلق، ثمّ تدخل المعدة، ولا يبعد كون الغالب كذلك، وعليه فلايجوز.
(و) الثاني: (الكُحل بما فيه صبرٌ أو مِسْك) أو نحوهما ممّا يصل طعمه أو رائحته إلى الحلق، بلا خلافٍ (2).
وعن جماعةٍ (3): كراهة الاكتحال مطلقاً، اختاره في «المستند»(4).).
ص: 180
وهناك أقوالٌ أُخر منشأها اختلاف الأخبار:
منها: ما تضمّن النهي عنه مطلقاً: كصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن الرّجل يكتحل، وهو صائم ؟ فقال عليه السلام: لا، إنّي أتخوّف أن يدخل رأسه»(1). ونحوه غيره.
ومنها: ما تضمّن عدم البأس به مطلقاً:
1 - خبر غياث: «لا بأس بالكُحل للصائم»(2).
2 - وخبر عبد اللّه بن ميمون، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ : «أنّه كان لا يرى بأساً بالكُحل للصائم»(3).
3 - وخبر ابن أبي يعفور، عنه عليه السلام: «عن الكحل للصائم ؟ فقال: لا بأس به إنّه ليس بطعام يُؤكل»(4). ونحوهما غيرهما.
ومنها: ما تضمّن ثبوت البأس في خصوص الكُحل، بما فيه مِسك أو طعم في الحلق:
1 - موثّق سماعة: «عن الكُحل للصائم ؟ قال عليه السلام: إذا كان كُحلاً ليس فيه مِسك، وليس له طعمٌ في الحلق، فلا بأس»(5).
2 - وصحيح محمّدبن مسلم، عن أحدهما عليه السلام: «عن المرأة تكتحل، وهي صائمة ؟ فقال عليه السلام: إذا لم يكن كُحلاً تجد له طعماً في حلقها، فلا بأس»(6). ونحوهما غيرهما.9.
ص: 181
وإخراج الدّم، ودخول الحمّام المُضعِفان.
ومنها: ما يدلّ على عدم البأس بالكُحل بما فيه مِسك: كخبر الحسين بن أبي غندر، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أكتحل بكُحلٍ فيه مِسك وأنا صائم ؟ قال عليه السلام:
لا بأس به»(1).
والجمع بين هذه النصوص يقتضي البناء على الكراهة مطلقاً، وشدّتها مع وجود أحد الوصفين، وهما المِسْك، وطعمٍ يجدهُ في الحلق.
ويمكن تخصيص الطائفة الأُولى بالثالثة، وحملها على الكراهة للإجماع، وللطائفة الرابعة فتختصّ الكراهة بما فيه الوصفان، وهذا أوفق بالقواعد.
(و) الثالث والرابع: (إخراج الدّم، ودخول الحمّام المُضعفان) كما هو المشهور، بلا خلافٍ بينهم فيهما(2).
ويشهد للثاني: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن الرّجل يدخل الحمام وهو صائم ؟ فقال عليه السلام: لا بأس ما لم يخش ضعفاً»(3)، المحمول على الكراهة إجماعاً.
وأمّا الأوّل: فتشهد له جملةٌ من النصوص:
1 - صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الصائم أيحتجم ؟ قال عليه السلام: إنّي أتخوّف عليه، أمّا يتخوّف به على نفسه ؟! قلت: ماذا يتخوّفَ عليه ؟ قال عليه السلام:3.
ص: 182
الغشيان أو تثور به مرّة! قلت: أرأيتَ إنْ قَوي على ذلك، ولم يخشَ شيئاً؟ قال: نعم، إنْ شاء»(1).
ومورده وإنْ كان الحجامة، ولكن لإلغاء الخصوصيّة، ولعموم التعليل يستفادُ عموم الحكم للحجامة وغيرها.
2 - خبر الطبرسي، عن جعفر بن محمّد عليهما السلام: «يحتجم الصائم في غير شهر رمضان متى شاء، فأمّا في شهر رمضان فلا يضرّ بنفسه، ولايُخرج الدّم. الحديث»(2).
فإنّه أيضاً ظاهرٌ في أنّ الموضوع إخراج الدّم، بلا خصوصيّة للحجامة.
3 - وموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الصائم ينزع ضرسه ؟ قال عليه السلام:
لا، ولا يُدمي فاه»(3).
4 - وصحيح سعيد الأعرج، عنه عليه السلام: «عن الصائم يحتجم ؟ فقال عليه السلام: لا بأس، إلّا أن يتخوّف على نفسه الضعف»(4).
ونحوها غيرها من النصوص الكثيرة المحمولة جميعها على الكراهة للإجماع.
أقول: هناك طائفةٌ اُخرى من الأخبار، وهي:
1 - خبر عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه عليهما السلام، قال:
«ثلاثة لا يفطّرن الصائم: القيء، والاحتلام، والحجامة، وقد احتجم النبيّ صلى الله عليه و آله وهو صائم»(5).3.
ص: 183
وشَمّ النّرجس والرَّياحين.
2 - صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «لا بأس أن يحتجم الصائم في شهر رمضان»(1).
ونحوهما غيرهما.
وهذه النصوص وإن كانت أعمّ من الأُولى ، إلّاأنّها بضميمة الإجماع تصلح شاهدة لرفع اليد عن ظهور تلك في اللّزوم، مع أنّ ما فيها من التعليل أيضاً يُشعر بذلك.
وما في خبر الطبرسي(2)، ومثله صحيح عبد اللّه بن سنان(3) من التفصيل بين شهر رمضان وغيره، محمولٌ على اختلاف مراتب الكراهة.
وهل تكره الحجامة مطلقاً وإنْ أمن الضعف أم لا؟
فيه وجهان: من إطلاق النصوص الناهية، ومن أنّ القاعدة تقتضي تقييده بغيرها من النصوص.
(و) الخامس والسادس: (شَمّ النَّرجس والرَّياحين) إجماعاً، حكاه جماعة(4).
ويشهد للأوّل: خبر ابن رئاب، قال: «سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام: ينهى عن النرجس، فقلت: جُعِلْتُ فداك لم ذلك ؟ فقال: لأنّه ريحان الأعاجم»(5).8.
ص: 184
والحُقنة بالجامد،
وهذا الخبر يدلّ بالحكومة على دخول النرجس في الريحان، إنْ لم يكن شاملاً له، فيشمله ما دلّ على النهي عن شَمّ الريحان في حال الصّوم، كخبر الحسن بن راشد، في حديثٍ ، قال:
«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: الصائم يَشمّ الريحان ؟ قال عليه السلام: لا، لأنّه لذّة ويُكره له أن يتلذّذ»(1). ونحوه غيره، المحمولة على الكراهة، بقرينة النصوص المصرّحة بالجواز، كصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال: قلت له: الصائم يَشمّ الريحان والطيب ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(2). ونحوه غيره.
أقول: ثمّ إنّ ما ذكرناه عن خبر ابن رئاب إنّما هو بمقتضى نقل الكليني(3) إيّاه، وأمّا على رواية الصدوق(4)، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام: ينهى عن النرجس للصائم»، فدلالته على المرجوحيّة واضحة، وإنّما يُحمل النهي عنه على الكراهة من جهة ما فيه من التعليل الموجب لكون حكمه حكم شَمّ الريحان الذي هو الكراهة.
قال الكليني رحمه الله(5): (وأخبرني بعض أصحابنا أنّ الأعاجم كانت تشمّه إذا صاموا، وقالوا: إنّه يُمسك الجوع).
(و) السابع: (الحُقنة بالجامد) على المشهور(6).4.
ص: 185
وبَلّ الثوب على الجسد. والقُبلة والملاعبة والملامسة بشهوة.
وعن «الغنية»(1): دعوى الإجماع عليه، وقد تقدّم في مفسديّة الاحتقان تمام القول في ذلك(2).
(و) الثامن: (بَلّ الثوب على الجسد) بلا خلافٍ أجده فيه، أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(3).
ويشهد به:
1 - خبر الحسن الصيقل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الصائم أيلبس الثوب المبلول ؟ قال عليه السلام: لا»(4)، ونحوه خبر ابن راشد(5) المحمولان على الكراهة للإجماع.
2 - ولمفهوم خبر ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا تلزق ثوبك إلى جسدك وهو رطب، وأنت صائم حتّى تعصره»(6).
فإنّه بالمفهوم يدلّ على الجواز بعد العصر غير المنافي للبلل.
ثمّ إنّ النهي في هذا الخبر أيضاًمحمولٌ على شدّة الكراهة، لعدم الخلاف في جوازه.
(و) التاسع: مباشرة النساء ب (القُبلة والملاعبة والملامسة بشهوة) إجماعاً في الجملة(7).4.
ص: 186
واختلفوا في أنّها مكروهة مطلقاً، أو للشاب دون الشيخ، أو لذي الشهوة ومن تُحرّك هذه الأفعال شهوته دون غيره ؟ والأشهر الأخير.
وعن «المنتهى»(1): دعوى الإجماع عليه، والنصوص كالفتاوى مختلفة.
يشهد للأوّل:
1 - خبر أصبغ، قال: «جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين عليه السلام، قال: يا أمير المؤمنين أُقبّل وأنا صائم ؟ فقال له: عفّ صومك، فإنّ بدو القتال اللّطام»(2).
2 - والمرويّ في «قرب الإسناد»، عن عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن الرّجل هل يصلح له أن يقبّل أو يلمس، وهو يقضي شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: لا»(3).
ونحوهما غيرهما، المحمولة على الكراهة، لنصوص مصرّحة بالجواز كذلك:
منها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يضع يده على جسد امرأته وهو صائم ؟ فقال عليه السلام: لا بأس وإن أمذى فلا يفطّر»(4).
ومنها: خبره الآخر، عنه عليه السلام: «والمباشرة ليس بها بأس، ولا قضاء يومه، ولا ينبغي له أن يتعرّض لرمضان»(5). أي لايحرم المباشرة و لكنّهامكروهة لحرمة رمضان.
ودليل الثاني:7.
ص: 187
1 - صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يمسّ من المرأة شيئاً، أيفسد ذلك صومه، أو ينقضه ؟ فقال عليه السلام: إنّ ذلك ليكره للرجل الشاب، مخافة أن يسبقه المني»(1).
2 - صحيح منصور بن حازم، عنه عليه السلام: «قال: قلت له: ما تقول في الصائم يُقبّل الجارية والمرأة ؟ فقال عليه السلام: أمّا الشيخ الكبير مثلي ومثلك فلا بأس، وأمّا الشّاب الشَّبق فلا، لأنّه لا يؤمَن، والقُبلة إحدى الشهوتين، الحديث»(2).
3 - وصحيح عبد اللّه بن سنان: «رُوي عن أبي عبد اللّه عليه السلام رخصة للشيخ في المباشرة»(3).
ودليل الثالث: صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام:
«عن الصائم هل يُباشر أو يقبّل في شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: إنّي أخاف عليه، فليتنزّه من ذلك، إلّاأن يثق أن لا يسبقه منيّه»(4).
لأنّ ذا الشهوة لا يكون واثقاً وغيره واثق البتّة، ولعلّ التعليل في صحيح منصور يدلّ على ذلك بقرينة قوله عليه السلام: (والقُبلة إحدى الشهوتين).
إلى غير ذلك من النصوص.
أقول: والنهي في الطائفتين الأخيرتين محمولٌ على الكراهة للإجماع، ولخبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يضع يده على جسد امرأته وهو صائم ؟ فقال عليه السلام: لا بأس وإنْ أمذى. الحديث»(5). فإنّ الإمذاء إنّما يترتّب مع تحرّك6.
ص: 188
وجلوس المرأة في الماء.
الشهوة، ولما في النصوص من القرائن الأُخر.
والطائفتان لا تنافيان مع الطائفة الأولى، فالمتعيّن الالتزام بالكراهة مطلقاً، غاية الأمر تشتدّ الكراهة مع أحد الأمرين.
ثمّ إنّ هذا كلّه مع عدم قصد الإنزال وعدم الإنزال، وإلّا فيحرم، وقد تقدّم في الاستمناء.
(و) العاشر: (جلوس المرأة في الماء) على الأشهر، وعن سلّار الديلمي(1)، والحِلّي(2)، وابن زُهرة(3)، والقاضي(4)، وظاهر «الفقيه»(5)، ومحتمل «المقنعة»(6):
حرمته عليها، إمّا مع القضاء كالأولين، أو مع الكفّارة أيضاً كالثالث والرابع، أو بدونهما كالباقين. والدليل هو موثّق حنان بن سدير: «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصائم يستنقع في الماء؟ قال عليه السلام: لا بأس، ولكن لا ينغمس، والمرأة لا تستنقع في الماء، لأنّها تحمل الماء بُقُبلها»(7).
وقد استدلّ القائلون بالحرمة به، ولكن لابدّ من حمل ما فيه من النهي على الكراهة، لعدم الخلاف من الأكثر فيها، ولما في الخبر من التعليل، فإنّه بقرينة حصر3.
ص: 189
المفطّرات في أُمور ليس منها ذلك، يكون ظاهراً في إرادة الحكم التنزيهي.
وعليه، فالأظهر هو الكراهة، وإنْ كان الأحوط تركه، بل لا ينبغي ترك هذا الاحتياط.
أقول: لا خلاف في أنّه ينبغي للصائم ترك أُمور، وقد دلّت النصوص عليها:
كالسواك بالعود الرَّطب، والمضمضة خصوصاً عبثاً، والمبالغة فيها، والجدال، والمِراء، وأذى الخادم، والمسارعة إلى الحلف، ونحو ذلك ممّا يظهر لمن راجع النصوص.
ثمّ إنّ بعض هذه الأُمور حرامٌ في نفسه، والمقصود كراهته أيضاً من حيث كونه صائماً.
وممّا حُكم بكراهته للصائم إنشاد الشعر، وقد دلّت النصوص عليه:
1 - صحيح حمّاد، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «يُكره رواية الشعر للصائم، وللمُحْرِم، وفي الحرم، وفي يوم الجمعة، وأن يروى باللّيل. قال: قلت: وإنْ كان شعر حق ؟ قال عليه السلام: وإنْ كان شعر حقّ »(1).
2 - صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «لا ينشد الشِّعر باللّيل، ولا يُنشد في شهررمضان بليل ولا نهار، فقال له إسماعيل: يا أبتاه فإنّه فينا؟ قال عليه السلام: وإنْ كان فينا»(2).
أقول: في المقام كلامين للمحدّثين المحقّقين، كلٌّ منهما حَسَنٌ :
1 - قال صاحب «الحدائق» رحمه الله(3): (إنّ أصحابنا قد خصّوا الكراهة بالنسبة إلى
ص: 190
إنشاد الشِّعر في المسجد، أو يوم الجمعة، أو نحو ذلك من الأزمنة الشريفة والبقاع المنيفة، بما كان من الأشعار الدنيويّة الخارجة عمّا ذكرناه، وممّن صرّح بذلك شيخنا الشهيد في «الذكرى»(1)، والشهيد في جملةٍ من شروحه(2)، والمحقّق الشيخ علي(3)، والسيّد السند في «المدارك»(4).
ومن الأخبار الظاهرة في ما ذكرناه صحيح علي بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام:
«عن إنشاد الشعر في الطواف ؟ فقال: ما كان من الشِّعر لا بأس به فلا بأس به».
ومورده في الطواف مع تصريح النصوص بالنهي عنه في الحَرَم، وللمُحْرم).
ثم استدلّ رحمه الله:
1 - بالأخبار العديدة الواردة في مدح الشّعر المنظوم في أهل البيت عليهم السلام وفي مراثيهم(5).
2 - وبصحيح محمّد بن مسلم الذي نقل أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان بفناء الكعبة إذ أقبل وفد بكر بن وائل، فاستخبرهم من خبر قسّ بن ساعدة، ثمّ قال: «هل فيكم أحدٌ يُحسن من شعره شيئاً؟ فأنشد بعضهم أشعاراً منه، وترحّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليه» فإنّه صريحٌ في جواز إسناد الشعر الحقّ ، وحُسنه حتّى في الحَرَم.
3 - وبخبر خلف بن حمّاد، قال: «قلتُ للرِّضا عليه السلام: إنّ أصحابنا يروون عن آبائك أنّ الشِّعر ليلة الجمعة، ويوم الجمعة، وفي شهر رمضان، وفي اللّيل مكروه،ه.
ص: 191
وقد هممتُ أن أرثي أبا الحسن، وهذا شهرُ رمضان ؟ فقال: ارث أبا الحسن في ليالي الجُمَع، وفي شهر رمضان، وفي سائر الأيّام، فإن اللّه عزّ وجلّ يكافيك على ذلك»(1).
وهذا الأخير، بل ما قبله أيضاً يعارضان ما تقدّم، ويُحمل ما سبق على التقيّة أو غير ذلك، ولا يضرّ ضعف الأخير، لأنّ المقام مقام المسامحة.
وأمّا العمومات المتضمّنة للحثّ على الأشعار في مراثيهم وغيرها من الأشعار الحقّة، فالنسبة بينها وبين صحيحي حمّاد عمومٌ من وجه، ولعلّ الترجيح معها فتُقدّم.
2 - قال المحدِّث الكاشاني رحمه الله: (والشِّعر غلب على المنظوم من القول، وأصله الكلام التخيّلي الذي هو أحد الصناعات الخمس، نظماً كان أو نثراً، ولعلّ المنظوم المشتمل على الحكمة والموعظة أو المناجاة مع اللّه سبحانه ممّا لم يكن فيه تخييل شعري مستثنى من هذا الحكم أو غير داخلٍ فيه.
ثمّ قال في بيان قوله عليه السلام في صحيح حمّاد: (وإنْ كان شعر حقّ ): إنّ كون موضوعه حقّاً لحكمةٍ أو موعظة، لا يخرجه عن التخييل الشعري، وأمّا إذا لم يكن كلاماً شعريّاً بل كان موزوناً فقط فلا بأس)(2). انتهى .
ويؤيّد ما ذكره رحمه الله أنّ الكفّار سمّوا القرآن شِعراً، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله شاعراً.
فالمتحصّل ممّا أفاده: أنّ المنظوم الخالي عن الخيالات الشعريّة، المتضمّن للحكمة أو الموعظة أو مدح أهل البيت عليهم السلام ورثاءهم لا يكون مكروهاً في شهر رمضان، ولا في غيره من الأزمنة والأمكنة الشريفة.
***0.
ص: 192
ولا يَفسدُ الصّومُ بمصّ الخاتم، ومَضْغ العِلك. وذوق الطعام إذا لَفَظه،
(ولا يفسدُ الصّوم ب) أُمور، ولا بأس بها:
منها: (مصّ الخاتم) للأصل، وحصر المفطّر في غيره، وصحيح ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الرّجل يعطش في شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: لا بأس بأن يمصّ الخاتم»(1). ونحوه صحيح منصور(2).
(و) منها: (مَضغ العلك) للأصل والعموم المتقدّم، وصحيح محمّد بن مسلم، قال أبو جعفر عليه السلام: «يا محمّد إيّاك أن تمضغ عِلْكاً فإنّي مضغتُ اليوم عِلكاً وأنا صائم، فوجدتُ في نفسي منه شيئاً»(3).
ونحوه خبر أبي بصير(4). فما في مصحّح الحلبي من النهي عنه محمولٌ على الكراهة، كما يشهد بها التحذير عنه في صحيح محمّد.
(و) منها: (ذوق الطعام إذا لَفَظه) ولا يبلعه لما مرّ، ولصحيح الحلبي: «أنّه سُئل عن المرأة الصائمة تطبخ القدر، فتذوق المرق، تنظر إليه ؟ فقال عليه السلام: لا بأس به»(5).
وبه يُحمل النهي عنه في بعض النصوص على الكراهة.
ص: 193
وزقّ الطائر، واستنقاع الرّجل في الماء.
(و) منها: (زقّ الطائر) لصحيح حمّاد: «سأل ابن أبي يعفور أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا أسمع، عن الصائم يصبُّ الدواء في أُذُنه ؟ قال عليه السلام: نعم، ويذوق المرق، ويزقّ الفرخ»(1).
(و) منها: (استنقاع الرّجل في الماء) لموثّق حنّان المتقدّم(2).
فائدة: كلّ ما شُكّ في كونه مفطّراً، واحتمل دخل عدمه في الصّوم، ولم يدلّ دليلٌ على أحد الطرفين، فبالنسبة إلى وجوب الكفّارة والقضاء لو أتى به تجري أصالة البراءة، بلا كلامٍ ، بناءً على ما هو الحقّ من أنّ القضاء بأمر جديد، وأمّا بالنسبة إلى جواز ارتكابه، فجريان الأصل يبتني على القول بجريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين، وحيثُ أنّ المختار جريانه في ذلك، فمقتضى الأصل جوازه.
هذا، مضافاً إلى العمومات الحاصرة للمفطّرات في أُمورٍ، الظاهرة في جواز ارتكاب غيرها، وقد تقدّمت، واللّه العالم.
***3.
ص: 194
مسائل: الأُولى: الكفّارة لا تجبُ إلّافي رمضان، والنذر المعيّن، وقضاء رمضان بعد الزَّوال، والاعتكاف على وجهٍ .
وما لا يتعيّن صومه كالنّذر المطلق، وقضاء رمضان قبل الزَّوال، والنافلة لا يجبُ بإفساده شيء.
فصل: فيما يتعلّق بكفّارة الصّوم، وفيه (مسائل):
المسألة (الأُولى): الكفّارة لا تجبُ إلّافي رمضان، والنذر المعيّن، وقضاء رمضان بعد الزَّوال، والاعتكاف على وجهٍ .
وما لا يتعيّن صومه: كالنِّذر المطلق، وقضاء رمضان قبل الزَّوال، والنافلة لا يجبُ بإفساده شيءٌ ).
أقول: ها هنا فروع:
الفرع الأوّل: لا تجبُ الكفّارة على من أفطر في غير المواضع الأربعة المذكورة، والظاهر أنّه اتّفاقي كما عن «الذخيرة»(1)، و «المدارك»(2)، وعن «المنتهى»(3): أنّه قول العلماء كافّة.
ويشهدبه: - مضافاًإليذلك - الأصل، بعداختصاص الموجب لها بالأقسام الأربعة.
ص: 195
الفرع الثاني: تجبُ الكفّارة على من أفطر في شهر رمضان بلا خلافٍ ، ونقلُ الإجماع عليه مستفيضٌ (1)، والأخبار به متواترة تقدّم طرفٌ منها، وتأتي البقيّة عند بيان كفّارته في المسألة اللّاحقة.
الفرع الثالث: تجبُ الكفّارة على من أفطر في قضاء رمضان بعد الزَّوال على المشهور(2)، بل لاخلاف فيه، إلّا عن ابن أبي عقيل(3)، فلم يوجبهافيه وإن أثِم بالإفطار.
وتشهد للمشهور: نصوصٌ :
منها: خبر العجلي، عن أبي جعفر عليه السلام: «في رجل أتى أهله في يوم يقضيه من شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: إنْ كان أتى أهله قبل زوال الشمس، فلا شيء عليه إلّايوماً مكان يوم، وإنْ كان أتى أهله بعد زوال الشمس، فإنّ عليه أن يتصدّق على عشرة مساكين، فإن لم يقدر صام يوماً مكان يوم، وصام ثلاثة أيّام كفّارةً لما صنع»(4).
ونحوه في الدلالة على وجوب الكفّارة صحيح هشام(5)، وموثّق زرارة(6)، ومرسل حفص(7)، ومرسل الصدوق(8).0.
ص: 196
واستدلّ للقول الآخر: بموثّق الساباطي، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن الرّجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان - إلى أنْ قال - سُئل فإنْ نَوى الصّوم ثمّ أفطر بعدما زالت الشمس ؟ قال عليه السلام: قد أساء، وليس عليه شيء إلّاقضاء ذلك اليوم الذي أراد أن يقضيه»(1).
وأورد عليه تارةً : بضعف السند، لاشتماله على جماعة من الفطحيّة، كما عن «المدارك»(2).
وأُخرى : بأنّ قوله: (ليس عليه شيء) محمولٌ على إرادة أنّه ليس عليه شيء من العقاب، لأنّ من أفطر في هذا اليوم لا يستحقّ العقاب، وإنْ أفطر بعد الزَّوال وإن لزِمته الكفّارة، كما عن الشيخ الطوسي في «الاستبصار»(3).
وثالثةً : بأنّه خبرٌ شاذّ لا يصلح لمعارضة تلك الأخبار المتّفق عليها، كما عن «الوافي»(4).
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلما حُقّق في محلّه من حجيّة الموثّق من الأخبار.
وأمّا الثاني: فلأنّه حملٌ لا شاهد له، بل قوله عليه السلام: (قد أساء) يشهد بخلافه، كما يشهد له أيضاً التفصيل بين قبل الزَّوال وبعده.
وأمّا الثالث: فلأنّه يمكن الجمع العرفي بين الطائفتين، بحمل الأُولى على9.
ص: 197
الندب، كما عن «المسالك»(1) و «الذخيرة»(2).
فالصحيح أن يقال: إنّه لإعراض الأصحاب عنه لا يُعتمد عليه، فلابدّ من طرحه، أو حمله على التقيّة، لاتّفاق الجمهور كافّة على سقوط الكفّارة فيما عدا رمضان.
ثمّ إنّ كلمة القائلين بوجوب الكفّارة متّفقة على التحديد بالزوال، كما يشهد به خبر العِجْلي(3).
وأمّا صحيح هشام: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجلٌ وقع على أهله وهو يقضي شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: إنْ كان وقع عليها قبل صلاة العصر، فلا شيء عليه، يصوم يوماً بدل يوم، وإن فعل بعد العصر صام ذلك اليوم وأطعم عشرة مساكين، إن لم يمكنه صام ثلاثة أيّام كفّارة لذلك»(4).
فيُحمل على ما أفاده الشيخ رحمه الله(5) من أنّ وقت العصر يدخل بالزوال، فيصحّ التعبير عن بعد الزَّوال ببعد العصر، وذلك وإنْ كان بعيداً، إلّاأنّه بعد معارضته بخبر العجلي، وإفتاء الأصحاب بمضمونه يتعيّن ذلك، حيث إنّه يدور الأمر بين الطرح أو الحمل على ذلك، والثاني أولى .
ومع الإغماض عن ذلك، فإنّ الجمع بينه وبين خبر العِجلي يقتضي تقييد إطلاق الخبر به، لا حمل خبر الزَّوال على الندب، وحمل هذا الخبر على الوجوب،1.
ص: 198
لأنّ الجمع الموضوعي مقدّم على الجمع الحكمي.
الفرع الرابع: لو أفطر صوم النذر المعيّن يجبُ عليه الكفّارة، بلا خلافٍ إلّامن ابن أبي عقيل(1)، وعن «الانتصار»(2) الإجماع عليه.
ويشهد به: نصوصٌ كثيرة:
منها: مكاتبة ابن عبيدة، إلى الإمام الهادي عليه السلام: «رجلٌ نذر أن يصوم يوماً للّه، فوَقَع ذلك اليوم على أهله ما عليه من الكفّارة ؟ فأجابه عليه السلام: يصوم يوماً بدل يوم، وتحرير رقبة»(3).
ونحوها غيرها من النصوص.
الفرع الخامس: تجبُ الكفّارة في إفطار صوم الاعتكاف في بعض الموارد، وسيأتي الكلام فيه في كتاب الاعتكاف مفصّلاً(4).
***).
ص: 199
الثانية: كفّارة المتعيّن: عتقُ رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو اطعام ستّين مسكيناً.
المسألة (الثانية: كفّارة المتعيّن) وهو صوم شهر رمضان، والنذر المعيّن، والاعتكاف يكون (عتق رقبةٍ ، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستّين مسكيناً).
أقول: ها هنا أحكام:
الحكم الأوّل: كفّارة صوم شهر رمضان مخيّرة بين الخصال الثلاث، كما عن الشيخين(1)، والسيّدين(2)، والإسكافي(3)، والقاضي(4)، والحلبي(5)، والحِلّي(6)، والديلمي(7)، وكثيرٌ من المتأخّرين(8).
وفي «الحدائق»(9): أنّه المشهور بين الأصحاب.
ص: 200
وفي «المنتهى»(1): أنّه اختيار أكثر علمائنا.
وعن «الانتصار»(2) و «الغنية»(3): أنّ عليه الإجماع.
وعن العُمّاني(4)، وأحد قولي السيّد(5)، ومحتمل «الخلاف»(6) الترتيب بين الأنواع الثلاثة.
أمّا النصوص: فهي على طوائف:
الطائفة الاُولى: ما تدلّ على القول المشهور:
منها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل أفطر من شهر رمضان متعمّداً يوماً واحداً، من غير عذر؟ قال عليه السلام: يعتق نسمة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يُطعم ستّين مسكيناً، فإنْ لم يقدر على ذلك تصدّق بما يُطيق»(7).
ومنها: موثّق سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن معتكفٍ واقع أهله ؟ فقال عليه السلام:
عليه ما على الذي أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستّين مسكيناً»(8).
ومنها: موثّق أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجل أجنبَ في شهر رمضان باللّيل، ثمّ ترك الغُسل متعمّداً حتّى أصبح ؟ قال عليه السلام: يعتق رقبة، أو يصوم0.
ص: 201
شهرين متتابعين، أو يُطعم ستّين مسكيناً، وحقيق أن لا أراه يُدركه أبداً»(1).
ومنها: مرسل إبراهيم بن عبد الحميد، في حديثٍ : «في مَن أجنبَ في شهر رمضان، فنام حتّى يصبح، فعليه عتق رقبة، أو إطعام ستّين مسكيناً، وقضاء ذلك اليوم»(2).
أقول: وهذا المرسل يدلّ على التخيير من وجهين:
أحدهما: عطف الإطعام على العتق ب (أو).
ثانيهما: عدم التعرّض للصوم، مع كون الإطعام متأخّراً عنه في الرتبة على تقدير القول بالترتيب.
ومنها: موثّق سماعة، قال: «سألته عن رجل أتى أهله في رمضان متعمّداً؟ فقال عليه السلام: عليه عتق رقبة، أو إطعام ستّين مسكيناً، أو صيام شهرين متتابعين، وقضاء ذلك اليوم، وأنّى له مثل ذلك»(3)، هكذا رُوي عن «الوسائل» المصحّحة، ولكن في «الوسائل» الموجودة عندنا روايته بالواو، ثمّ قال(4): (المراد بالواو التخيير دون الجمع، ويُحتمل أن يكون مخصوصاً بمَن أتى أهله في حال يحرم فيها الوطئ).
ومنها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ وضع يده على شيء من جسد امرأته فأدفق ؟ فقال عليه السلام: كفّارته أن يصوم شهرين متتابعين، أو يُطعم ستّين مسكيناً، أو يعتق رقبة»(5).9.
ص: 202
ومنها: ما ورد في ذيل صحّح جميل: «قال أصحابنا: إنّه بدأ بالعتق، فقال: أعتق رقبة أو صُم أو تصدّق»(1).
الطائفة الثانية: ما ظاهرها تعيّن الإطعام:
منها: موثّق سماعة: «عن رجلٍ لزق بأهله فأنزل ؟ قال عليه السلام: عليه إطعام ستّين مسكيناً، مُدٌّ لكلّ مسكين»(2).
ومنها: موثّق عبد الرحمن، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً؟ قال عليه السلام: عليه خمسة عشر صاعاً لكلّ مسكينٍ مُدٌّ بمدّ النبيّ صلى الله عليه و آله أفضل»(3). ونحوهما روايات كثيرة.
الطائفة الثالثة: ما ظاهرها تعيّن الصيام:
منها: خبر المروزي: «عن الفقيه عليه السلام: إذا أجنبَ الرّجل في شهر رمضان بليل، ولا يغتسل حتّى يصبح، فعليه صوم شهرين متتابعين، مع صوم ذلك اليوم، ولا يُدرك فضل يومه»(4).
الطائفة الرابعة: ما تدلّ على تعيّن العتق:
منها: صحيح البزنطي، عن المشرقي، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ أفطر من شهر رمضان أيّاماً متعمّداً، ما عليه من الكفّارة ؟ فكتب عليه السلام: من أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً، فعليه عتق رقبة مؤمنة، ويصوم يوماً بدل يوم»(5).7.
ص: 203
الطائفة الخامسة: ما استدلّ به على الترتيب:
منها: خبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام: «عن رجل نكح امرأته وهو صائم في رمضان، ما عليه ؟ قال عليه السلام: عليه القضاء، وعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستّين مسكيناً، فإن لم يجد فليستغفر اللّه تعالى »(1).
ومنها: خبر عبد المؤمن الأنصاري، عن أبي جعفر عليه السلام: «أنّ رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: هلكتُ وأهلَكت! فقال صلى الله عليه و آله: وما أهلكك ؟ قال: أتيتُ امرأتي في شهر رمضان وأنا صائم.
فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله: أعتق رقبة. قال: لا أجد، قال صلى الله عليه و آله: فصُم شهرين متتابعين.
قال: لا أطيق. قال صلى الله عليه و آله: تصدّق على ستّين مسكيناً، قال: لا أجدُ. الحديث»(2).
أقول: مقتضى الجمع بين النصوص، أن يقيّد بالطائفة الأُولى إطلاق الطوائف الثلاث التي بعدها، المقتضي للوجوب التعييني، وحملها على إرادة الواجب التخييري.
وأمّا الطائفة الخامسة: فالخبر الأوّل منها ضعيفُ السند، لجهالة عبد المؤمن، مع أنّ دلالته على الترتيب إنّما هو بالإطلاق الظاهر في التعيين، فيقيّد إطلاقه بما مرّ.
نعم، خبر علي بن جعفر صحيحٌ سنداً، ودلالته على الترتيب إنْ لم تكن صريحة، لا ريب في كونها ظاهرة، والجمع بينه وبين الطائفة الأُولى إنّما يكون بأحد نحوين:5.
ص: 204
إمّا حمله على الاستحباب.
أو حمل تلك النصوص على إرادة التنويع من (أو) لا التخيير.
والأوّل أولى :
1 - لأنّ إطلاق الأمر في المستحبّات كثيرٌ، بخلاف استعمال (أو) في غير التخيير.
2 - ولأنّه يلزم من الثاني حمل الطائفة الثانية والثالثة على صورة العجز عن ما عداه، مع ما فيهما من إطلاق السؤال.
3 - ولفهم المشهور.
وإن أبيت عن ذلك، فغايته التعارض، والترجيح مع الطائفة الأُولى وهو واضح.
وبالجملة: فالأظهر أنّه على نحو التخيير لا الترتيب.
***
ص: 205
وعن الصدوق في «الفقيه»(1)، والشيخ في كتابي(2) الأخبار، وكذلك ذكر في «الوسيلة»(3)، و «الجامع»(4)، و «القواعد»(5)، و «الإرشاد»(6)، وظاهر «التحرير»(7)، و «الإيضاح»(8)، و «الدروس»(9)، و «المسالك»(10)، و «اللّمعة»(11)، و «الروضة»(12)، و «الحدائق»(13)، وجمعٌ آخر من متأخّري المتأخّرين(14): أنّه إنْ كان الإفطار في رمضان على محرّمٍ ، كأكل المغصوب، وشُرب الخَمر، والجماع المحرّم، وما شاكل، وجب على الفاعل الجمع بين الخصال الثلاث، ومدركهم خبر عبد السلام بن صالح الهروي، عن أبي الحسن الرّضا عليه السلام، قال: «قلت له: يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد روي عن آبائك فيمَن جامَعَ في شهر رمضان، أو أفطر، فيه ثلاث كفّارات، وروي عنهم
ص: 206
أيضاً كفّارة واحدة، فبأيّ الحديثين نأخذ؟
قال: بهما جميعاً، متى جامع الرّجل حراماً، أو أفطر على حرامٍ في شهر رمضان، فعليه ثلاث كفّارات: عتقُ رقبة، وصيام شهرين متتابعين، وإطعام ستّين مسكيناً، وقضاء ذلك اليوم، وإنْ كان نكح حلالاً أو أفطر على حلالٍ فعليه كفّارة واحدة، وإنْ كان ناسياً فلا شيء عليه»(1).
ويؤيّده ما قاله الصدوق في «الفقيه»(2): (وأمّا الخبر الذي رُوي فيمن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً، أنّ عليه ثلاث كفّارات، فإنّي أفتي به فيمن أفطر بجماعٍ محرّمٍ عليه، أو بطعامٍ محرّم عليه، لوجود ذلك في روايات أبي الحسن الأسدي رضى الله عنه فيما ورد عليه من الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري). انتهى .
ولا يخفى أنّ العَمري لا يفتي بذلك من قِبل نفسه، فالظاهر كونه مأخوذاً من صاحب الزمان عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف، لكونه من الوكلاء الذي كانت ترِد عليهم التوقيعات.
ويؤيّده أيضاً: إطلاق موثّق سماعة المتقدّم، المحمول على ذلك، وبذلك يقيّد إطلاق النصوص المتقدّمة، وتختصّ بالإفطار على الحلال.
وأورد عليه بإيرادات:
الإيراد الأوّل: أنّ العمدة هي رواية الهروي، وهي ضعيفة من جهة عبد الواحد ابن محمّد بن عبدوس، وعلي بن محمّد بن قتيبة، وعبد السلام بن صالح الهروي، فإنّهم لم يوثّقوا.2.
ص: 207
وفيه أوّلاً: إنّ المصنّف في كفّارات «التحرير»(1)، والشهيد في «الروضة»(2)- على ما حُكي - حكما بصحّة الخبر.
وثانياً: أنّ التضعيف من ناحية من ذُكر خلاف التحقيق، إذ الأوّل منهم من مشايخ الصدوق(3)، والثاني من مشايخ الكشّي(4)، وقد صرّحوا بعدم احتياج مشائخ الإجازة إلى التوثيق، مضافاً إلى توثيق المصنّف(5) للثاني.
وأمّا الثالث: فعن الخلاصة(6): أنّه ثقةٌ صحيح الحديث، ونحوه عن النجاشي(7) وغيره(8)، فلا إشكال في الحديث من حيث السند.
الإيراد الثاني: ما في «مصباح الفقيه»(9)، قال: (ارتكاب التقييد في المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان، المعتضدة بالشهرة، بمثل هذه الرواية المسوقة لتوجيه الأخبار المختلفة التي ليس لها قوة ظهور في إرادة الوجوب، لا يخلو عن إشكال). انتهى .
وفيه: أنّ منشأ الإشكال إنْ كان كثرة المطلقات، فيدفعه أنّ إطلاق الكتاب المجيد يقيّد بالخبر، فضلاً عن النصوص الكثيرة.).
ص: 208
وإنْ كان عدم ظهور الخبر في نفسه في الوجوب، فيدفعه أنّ قوله: (فعليه ثلاث كفّارات) ظاهرٌ فيه.
الإيراد الثالث: إنّه تعارضه مكاتبة الجرجاني، إلى أبي الحسن عليه السلام:
«يسأله عن رجلٍ واقع امرأةً في شهر رمضان، من حلالٍ أو حرام، في يومٍ عشر مرّات ؟ قال عليه السلام: عليه عشر كفّارات، لكلّ مرّةٍ كفّارة، فإن أكل أو شرب فكفّارة يوم واحد»(1).
حيث إنّه حكم بأنّ في كلّ مرّة من ارتكاب المفطّر الحرام كفّارة واحدة.
وفيه: أنّ الكفّارة عبارة عمّا يجب بإزاء الفعل، سواءٌ أكان واحداً أو متعدّداً، فكما أنّ صيام ستّين يوماً كفّارة واحدة، كذلك الخصال الثلاث.
وعليه، فالأظهر هو ثبوت الخصال الثلاث فيه.
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النَّص كصريح «الروضة»(2) وغيرها(3) عدم الفرق بين المفطّرات المحرّمة أصليّاً كان تحريمه كالزِّنا، أو عارضيّاً كوطئ الزوجة في الحيض.
وعن ظاهرالصدوق(4) الاختصاص بالقسم الأوّل، وقوّاه المحقّق الهمداني رحمه الله(5)، ولم يستبعده الشيخ الأعظم رحمه الله(6)، واستدلّ له بانصراف النَّص عن المحرّم بالعرض.
وفيه: أنّ الفرق بين المحرّم بالذّات وبالعرض، إنّما هو من ناحية أنّ الأوّل ما5.
ص: 209
حَرُم بعنوانه الأوّلي، والثاني ما حَرُم بالعنوان الثانوي المنطبق عليه، وعليه فالانصراف ممّا لا وجه له أصلاً.
أقول: وهل يشمل الخبر الاستمناء باليد أم لا؟
ذهب المحقّق الهمداني رحمه الله(1) إلى الثاني، لأنّه لا يصدق عليه اسم النكاح حقيقةً ، فضلاً عن انصرافه عنه، ولا يُطلق عليه أنّه أفطر على الاستمناء، خصوصاً مع جعل الإفطار على الحرام قسيماً للنكاح، فلا يراد من مثل هذا الإطلاق إلّا الأكل والشرب.
وفيه: أنّ الإفطار على الاستمناء بعد فرض كون الاستمناء أحد المفطّرات يصدق، ولذلك لا إشكال في إطلاق الإفطار عليه، وأمّا جعل الإفطار على الحرام قسيماً للنكاح الحرام، فإنّما هو من باب عطف العام على الخاص، والوجه في ذكر الخاص حينئذٍ هو ذكره في السؤال.
وعليه، فالأظهر ثبوت الخصال الثلاث فيه أيضاً.
***6.
ص: 210
الحكم الثاني: المشهور بين الأصحاب أنّ كفّارة النذر المعيّن، ككفّارة إفطار شهر رمضان مخيّرة بين الخصال الثلاث.
وعن «الانتصار»(1)، و «الغنية»(2): دعوى الإجماع عليه.
وعن الصدوق(3)، والمحقّق في «النافع»(4)، والشهيد الثاني في «المسالك»(5): أنّ كفّارته كفّارة يمين.
أقول: ومنشأ الخلاف اختلاف النصوص.
فمنها: ما يدلّ على القول المشهور: كصحيح جميل، عن عبدالملك بن عمرو، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عمّن جعل للّه عليه أن لا يركب محرّماً سمّاه فركبه ؟ قال عليه السلام: لا، ولا أعلمه إلّاقال: فليعتق رقبة، أو ليصم شهرين متتابعين، أو ليُطعم ستّين مسكيناً»(6).
فيتمّ فيما عدا مورد النَّص بعدم القول بالفصل.
ومنها: ما يدلّ على القول الآخر:
1 - صحيح علي بن مهزيار، قال: «كتب بندار مولى إدريس: يا سيّدي إنّي نذرتُ أنْ أصوم كلّ سبتٍ وأنا لم أصمه، ما يلزمني من الكفّارة ؟
ص: 211
فكتب وقرأته: لا تتركه إلّامن علّةٍ ، وليس عليك صومه في سفرٍ ولا مرض، إلّا أن تكون نويتَ ذلك، وإنْ كنتَ أفطرت فيه من غير علّة، فتصدّق بعدد كلّ يوم على سبعة مساكين، نسأل اللّه التوفيق لما يحبُّ ويرضى »(1).
بناءً على كون (السبعة) من سهو النسّاخ، والصحيح العشرة، كما حكى الشهيد الثاني(2) روايته كذلك في «المقنع» قائلاً:
(في «المسالك»(3) على ما حكى هو عندي بخطّه الشريف، فإنّ إطعام عشرة مساكين إحدى خصاله الثلاث).
2 - ومصحّح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يجعل عليه نذراً ولا يُسمّيه ؟ قال عليه السلام: إنْ سمّيته فهو ما سمّيت، وإن لم تُسمّ شيئاً فليس بشيء، فإنْ قلت للّه عَليَّ ، فكفّارة يمين»(4).
3 - وخبر حفص بن غياث، عنه عليه السلام: «عن كفّارة النذر؟ فقال عليه السلام: كفّارة النذر كفّارة اليمين»(5).
أقول: وهناك طائفة ثالثة من النصوص، قابلة للحمل على كلٍّ من القولين، وهي مكاتبات ابن مهزيار(6)، والحسين بن عبيدة(7)، والقاسم بن الصيقل(8)، المتضمّنة لثبوت عتق رقبة مؤمنة، فإنّه إحدى الخصال في كفّارة اليمين وفي كفّارة8.
ص: 212
شهر رمضان، فالمهمّ الجمع بين الطائفتين الأولتين.
وقيل فيه أُمور:
أحدها: ما عن الحِلّي(1)، والمصنّف(2)، و «المسالك»(3)، وفي «الوسائل»(4)، وهو:
أنّ المنذور إنْ كان صوماً، فكفّارة شهر رمضان، وإنْ كان غيره فكفّارة اليمين.
وفيه: أنّ ما تضمّن أنّ كفّارته كفّارة شهر رمضان، إنّما هو خبر عبد الملك، ومورده نذر أنْ لا يركب محرّماً، وإنّما التزمنا به في الصّوم، لعدم القول بالفصل، وأمّا ما ورد في خصوص الصّوم، فهو يدلّ على أنّ كفّارته كفّارة اليمين، فلو عكسوا كان أولى .
ثانيهما: ما عن الشيخ رحمه الله(5)، وهو حمل الأُولى على القادر، والثانية على العاجز، لشهادة خبر جميل بن صالح: «كلّ من عجز عن نذرٍ نذره، فكفّارته كفّارة يمين»(6).
وفيه: إنّ الخبر يدلّ على ثبوت كفّارة اليمين مع العجز عن المنذور، لا مع العجز عن كفّارة النذر، فيتعيّن حمله على الاستحباب.
ثالثهما: أنّهما متعارضان، فتُقدّم الأُولى للأشهريّة والمخالفة للعامّة.
وفيه: أنّه يتوقّف على عدم إمكان الجمع بينهما.
والحقّ أن يقال: إنّ الجمع بينهما يقتضي حمل الطائفة الأُولى على الاستحباب،4.
ص: 213
سيّما وفي متن خبر عبد الملك قرينة وهي قوله: (ولا أعلمه إلّاقال) توهن دلالته على المدّعى، لظهوره أو إشعاره بأنّه كان كلام الإمام عليه السلام متضمّناً لشيءٍ غير ما حفظه الراوي، فلعلّ ذلك كان إنْ أراد الفضل وما شاكل، ويؤكّد ذلك كلمة (لا) لعدم مناسبتها مع المقام.
وعلى ذلك، فالأظهر أنّ كفّارته كفّارة اليمين، ولكن رعاية فتوى المشهور أولى وأحوط.
وأمّا ما عن الديلمي(1) والكراجكي(2): من أنّ كفّارة النذر كفّارة الظهار، فلعلّ مستندهما المكاتبات المتضمّنة للأمر بتحرير رقبة مؤمنة، الظاهرة في تعيّنها مع الإمكان، ولكن الجمع بينها وبين غيرها من النصوص يقتضي الحمل على إرادة الواجب التخييري لا التعييني.
وعلى ذلك، فلا وجه لما قاله الراوندي(3) من أنّ كفّارته كفّارة الظهار، ومع العجز فكفّارة يمين.
الحكم الثالث: المشهور بين الأصحاب، أن كفّارة صوم الاعتكاف في مورد وجوبها، ككفّارة شهر رمضان، وسيجيء الكلام فيه في مبحث الاعتكاف(4)، وستعرف أنّه المنصور.
***7.
ص: 214
وكفّارة قضاء رمضان بعد الزَّوال: إطعامُ عَشَرة مساكين، فإنْ عجز صام ثلاثة أيّام.
الحكم الرابع: (و) الأكثر على أنّ (كفّارة قضاء رمضان بعد الزَّوال، إطعام عشرة مساكين، فإنْ عجز صام ثلاثة أيّام).
وعن الصدوقين(1) وابن البرّاج(2): أنّ عليه كفّارة إفطار شهر رمضان.
وعن أبي الصّلاح(3)، وابن زُهرة(4): التخيير بين الإطعام والصيام، مدّعياً ثانيهما الإجماع عليه، وهناك أقوالٌ أُخر لعلّه ستقف عليها.
ويشهد للأوّل:
1 - خبر بريد العِجلي، عن الإمام الباقر عليه السلام: «في رجل أتى أهله في يوم يقضيه من شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: إنْ كان أتى أهله قبل زوال الشمس، فلا شيء عليه إلّا يومٌ مكان يوم، وإنْ كان أتى أهله بعد زوال الشمس، فإنّ عليه أن يتصدّق على عشرة مساكين، فإنْ لم يقدر عليه صام يوماً مكان يوم، وصام ثلاثة أيّام كفّارةً لما صنع»(5).
ص: 215
والإيراد عليه: بضعفه بالحارث بن محمّد المجهول، يندفع باعتماد المشهور عليه، وبكون الراوي عنه الحسن بن محبوب، الذي هو من أصحاب الإجماع، وكون الراوي عنه أحمد بن محمّد الظاهر في ابن عيسى الأشعري.
2 - وصحيح هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «قلت له: رجلٌ وقع على أهله وهو يقضي شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: إنْ كان وقع عليها قبل صلاة العصر، فلا شيء عليه، يصوم يوماً بدل يوم، وإنْ فعل بعد العصر، صام ذلك اليوم، وأطعم عشرة مساكين، فإنْ لم يمكنه صام ثلاثة أيّام كفّارة لذلك»(1).
أقول: وقد مرّ أنّ التقييد بما بعد العصر، كناية عمّا بعد الزَّوال، لدخول وقتها به وبعد المواقعة بين الصلاتين، مع أنّ محلّ الاستشهاد الفقرة الثانية، فلا يقدح مخالفة ظاهر الأولى للإجماع، سيّما بعد جواز التقييد بما قبل الزَّوال.
ويؤيّد ما أفتوا به من أنّه مع عدم إمكان الإطعام يصوم ثلاثة أيّام، ما يأتي من بدليّة صوم ثمانية عشر يوماً من إطعام ستّين مسكيناً، وفي حديثها مكان (عشرة مساكين) ثلاثة أيّام.
واستدلّ للقول الثاني: بمرسل حفص بن سوقة، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«في الرّجلُ يُلاعب أهله أو جاريته، وهو في قضاء شهر رمضان، فيسبقه الماء فيُنزِل ؟ فقال عليه السلام: عليه من الكفّارة مثل ما على الذي يُجامع في رمضان»(2).
والإيراد عليه: بالضعف بالإرسال، مندفعٌ بأنّ الراوي عن حفص هو ابن أبي عمير.7.
ص: 216
3 - وموثّق زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن رجلٍ صام قضاء من شهر رمضان فأتى النساء؟ قال عليه السلام: عليه من الكفّارة ما على الذي أصاب في شهر رمضان، لأنّ ذلك اليوم عند اللّه من أيّام رمضان»(1).
أقول: وقيل في الجمع بينهما وبين الخبرين المتقدّمين وجوه:
منها: ما عن الشيخ رحمه الله(2) من حمل هذين على الإفطار مع الاستخفاف.
وفيه: أنّه جمعٌ لا شاهد له.
ومنها: ما عنه أيضاً(3) من حملها على إرادة التشبيه في وجوب الكفّارة لا في قدرها.
وفيه: أنّه لا يُلائم مع قوله: (عليه من الكفّارة ما على الذي.. إلخ).
والحقّ أنْ يُقال: إنّه إنْ أمكن الجمع بين الطائفتين بحمل الثانية على الاستحباب فهو المتعيّن، وإلّا فيتعيّن تقديم الأُولى من جهة الشهرة وغيرها من المرجّحات.
***).
ص: 217
ولو تكرّر الإفطار في يومين، تكرّرت الكفّارة.
الحكم الخامس: (ولو تكرّر الإفطار) من صومٍ له كفّارة:
فتارةً : يكون (في يومين).
وأُخرى : يكون في يومٍ واحد.
1 - فإنْ كان في يومين (تكرّرت الكفّارة) إجماعاً، حكاه جماعة(1)، وفي «الجواهر»(2): (الإجماع بقسميه عليه، من غير فرقٍ بين تخلّل التكفير وعدمه، واتّحاد الجنس الموجب وعدمه، والوطء وغيره، لصدق الإفطار المعلقة عليه الكفّارة). انتهى .
وهو المستند في الخروج عن أصالة التداخل التي بنينا عليها.
نعم، مع تخلّل التكفير يشهد به، مضافاً إلى ذلك إطلاق ما دلّ على وجوب الكفّارة بالإفطار.
2 - وإنْ كان في يومٍ واحد، ففيه أقوال:
القول الأوّل: تكرّر الكفّارة مطلقاً، ذهب إليه السيّد(3)، وثاني المحقّقين(4)، بل وثاني الشهيدين(5)، وإن قال: (إن لم ينعقد الإجماع على خلافه)، لكنّه صرّح
ص: 218
بتعدّدها في الأكل والشرب بتعدّد الازدراد، وفي الجماع بالعود بعد النزع(1).
القول الثاني: أنّه لا تتكرّر الكفّارة مطلقاً، وهو المحكيّ عن «المبسوط»(2)، و «الخلاف»(3)، و «الوسيلة»(4)، و «المعتبر»(5)، و «المنتهى»(6)، و «الشرائع»(7) وغيرها(8).
القول الثالث: التفصيل بين الجماع وغيره، ذهب إليه جماعةٌ منهم الفاضل النراقي(9) والسيّد الطباطبائي(10) وغيرهما(11).
القول الرابع: تكرّرهامع تخلّل التكفير، وعدمه مع عدمه، ذهب إليه الإسكافي(12).
القول الخامس: أنّه إن تغاير الجنس أو تخلّل التكفير تتكرّر الكفّارة وإلّا فلا، وهو المحكي عن «المختلف»(13).
القول السادس: التكرّر بالوطء مطلقاً، ومع تخلّل التكفير أو تغاير الجنس في غيره، وهو المحكيّ عن «اللّمعة»(14) و «الدروس»(15).5.
ص: 219
أقول: والكلام عن حكم هذه المسألة:
تارةً : فيما يقتضيه القواعد العامّة.
وأُخرى : فيما يقتضيه النصوص الخاصّة.
أمّا الأوّل: فقد استدلّ للتكرّر بأنّ إطلاق الموجبات للكفّارة يقتضي ثبوتها في كلّ مرّةٍ وجد الموجب، من غير فرق بين تخلّل التكفير وعدمه، وبين اتّحاد الجنس وتعدّده، وبين الجماع وغيره، ولا وجه للاكتفاءبكفّارة واحدة، لأصالة عدم التداخل.
وفيه أوّلاً: إنّ أكثر النصوص علَّقت فيها الكفّارة على الإفطار، وهذا العنوان لا يصدق في المرة الثانية، لأنّ الصّوم قد بطل على الفرض قبل ذلك، فلا يكون فعله ثانياً إفطاراً.
فإنْ قيل: إنّه يجب الإمساك بعد الإفطار الأوّل، كما يجب قبله، فإذا وجبت الكفّارة في الأوّل لمخالفة وجوب الإمساك، وجبت في الثاني أيضاً.
قلنا: إنّ الموضوع في الروايات إفطار الصّوم، لا مخالفة وجوب الإمساك.
فإنْ قيل: إنّه في بعض النصوص عُلّق وجوب الكفّارة على استعمال المفطّر لا على الإفطار، ومقتضى ذلك التعدّد.
قلنا: الظاهر إرادة المفطّر منه، ولذا لم يستفصل بين تعدّد الأكل ووحدته، وتعدّد الإيلاج والاستمناء ووجود أحدهما ونحو ذلك.
وثانياً: أنّ الأصل هو التداخل كما حقّقناه في محلّه.
وبما ذكرناه يظهر مدرك القول الثاني.
واستدلّ للثالث: بأنّه في الجماع عُلّق وجوب الكفّارة على نفسه، وفي غيره على الإفطار.
ص: 220
وفيه: مضافاً إلى أنّ ذلك كذلك في الاستمناء أيضاً، يردّه ما تقدّم من أنّ الظاهر منه الجماع المفطّر، مضافاً إلى أصالة التداخل.
واستدلّ للرابع: بأنّ الأصل مع عدم تخلّل التكفير التداخل، ولا مورد له مع التخلّل.
ويردّه: ما تقدّم من أنّ أصالة عدم التداخل تُجدي مع تكرّر عنوان السبب، وقد مرّ امتناعه.
واستدلّ للخامس: بأنّه مع اختلاف الجنس، فإنّ مقتضى إطلاق دليل كلٍّ من الموجبين ثبوت الكفّارة فتتعدّد، وكذا مع تخلّل التكفير، وأمّا لو اتّحد الجنس ولم يتخلّل التكفير، فإطلاق ذلك الدليل الشامل للمرّة والتعدّد كون ما أتى به سبباً واحداً، فإنّه يدلّ على سببيّة الطبيعة الصادقة على الواحد والمتعدّد، فالثاني ليس سبباً آخر.
أقول: قد ظهر ممّا ذكرناه ما فيه، إذ الثاني لا يكون موجباً للكفّارة وإنْ اختلف الجنس، لامتناع كونه مفطّراً، والموجب هو المفطّر منه لا مطلقاً، مضافاً إلى أصالة التداخل.
كما أنّه قد ظهر ممّا ذكرناه آنفاً مدرك القول السادس وجوابه.
فالمتحصّل: أنّ مقتضى القواعد هو القول بعدم التكرّر مطلقاً.
أمّا الثاني: ما تقتضيه النصوص الخاصّة، وهي روايات:
أحدها: رواية الفتح بن يزيد الجرجاني: «أنّه كتبَ إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله عن رجلٍواقعَ امرأة في شهررمضان من حلال أو حرام، في يومٍ عشرمرّات ؟ قال عليه السلام:
عليه عشر كفّارات، لكلّ مرّة كفّارة، فإن أكل أو شرب فكفّارة يوم واحد»(1).4.
ص: 221
ويُعزَّر المُفْطِر، ولو كان مستحلّاً قُتل.
وهذه تدلّ على الفرق بين الجماع وغيره، وأنّه يتكرّر الكفّارة بتكرّر الجماع، ولا تتكرّر بتكرّر غيره من الموجبات.
ثانيتها: ما رواه ابن أبي عقيل مرسلاً عن كتاب «شمس المذهب» عنهم عليهم السلام:
«إنّ الرّجل إذا جامع في شهر رمضان عامداً، فعليه القضاء والكفّارة، فإن عاد إلى المجامعة في يومه ذلك مرّةً أُخرى فعليه في كلّ مرّة كفّارة»(1).
وثالثتهما: ما عن المصنّف رحمه الله: (روي عن الإمام الرّضا عليه السلام: أنّ الكفّارة تتكرّر بتكرّر الوطء)(2).
وهاتان أيضاً تدلّان على التكرّر بتكرّر الجماع.
أقول: لكن الأخيرتين مرسلتان، والثانية منهما إشارة بحسب الظاهر إلى خبر الجرجاني، فالعمدة هو ذلك، وأمّا خبر الجرجاني فهو ضعيفٌ ، لأنّ عدّة من رجاله كالحسن بن صالح، وابنه، وعلي بن محمّد بن شجاع، وغيرهم مجاهيل أو ضعفاء، واستناد السيّد رحمه الله الذي لا يعمل بالقطعيات إليه غير معلوم، وعليه فالأظهر عدم التكرّر مطلقاً.
وأخيراً يقول المصنّف: (ويُعزّر المُفْطِر، ولو كان مستحلّاً قُتل)، وقد تقدّم الكلام فيه في أوّل كتاب الصّوم(3).
***د.
ص: 222
الثالثة: المُكْرِه لزوجته يتحمّل عنها الكفّارة، والمطاوعة تُكفِّر عن نفسها.
المسألة (الثالثة): ويدور البحث فيها عن حكم الجماع إكراهاً ومطاوعةً :
1 - أمّا (المُكْرِه لزوجته) في شهر رمضان على الجماع، وهما صائمان (يتحمّل عنها الكفّارة) والتعزير، فيعزّر خمسين سوطاً.
2 - (و) أمّا (المطاوعة تُكفّر عن نفسها) وتُعزَّر خمسة وعشرين سوطاً بلا خلافٍ .
وعن «الخلاف»(1)، و «المنتهى»(2)، و «التنقيح»(3)، و «المعتبر»(4): دعوى الإجماع على ذلك.
بل عن «المعتبر»(5): حكاية الإجماع عن جمعٍ من علمائنا.
ويشهد به: ما عن المفضّل بن عمر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجلٍ أتى امرأته وهو صائم وهي صائمة ؟ فقال: إنْ كان استكرهها فعليه كفّارتان، وإنْكانت طاوعته، فعليه كفّارة وعليها كفّارة، وإنْ كان أكرهها فعليه ضرب خمسين سوطاً نصف الحَدّ، وإنْ كانت طاوعته ضُرِب خمسة وعشرين سوطاً، وضُرِبت خمسة وعشرين
ص: 223
سوطاً»(1)، وضعفه لا يضرّ للعمل.
وفي «المنتهى»(2): (وهذه الرواية وإنْ كانت ضعيفة إلّاأنّ أصحابنا ادّعوا الإجماع على مضمونها، مع ظهور العمل بها، وتسبقه الفتوى إلى الأئمّة عليهم السلام، وإذا عرف ذلك لم يعتدّ بالناقلين)، انتهى .
وعليه، فما عن العُمّاني:(3) (من أنّ عليه كفّارة واحدة في صورة الإكراه، وليس عليها شيءٌ )، لا وجه له سوى ما عن الجمهور من أنّه يسقط الكفّارة عنها لصحّة صومها، وهو كما ترى اجتهادٌ في مقابل النَّص.
أقول: وتمام الكلام في هذه المسألة يتحقّق في ضمن فروع:
الفرع الأوّل: إذا كان الزوج مفطراً بسبب كونه مسافراً أو مريضاً أو نحو ذلك، وكانت زوجته صائمة، وأكرهها على الجماع، لا يتحمّل عنها الكفّارة، ولا التعزير، لاختصاص النَّص بالصائم، فالمرجع هو الأصل، فما يوهمه ظاهر الكتاب، وصرّح به بعضهم(4) من ثبوت كفّارتها عليه، غير ظاهر الوجه.
نعم، لا كفّارة عليها أيضاً للإكراه ولصحّة الصّوم.
إنّما البحث عن أنّه هل يجوز له إكراهها، كما عن «القواعد»(5) احتماله، وتشعر به عبارة «الجواهر»(6)؟9.
ص: 224
أم يحرم له ذلك، كما عن «المدارك»(1)، وفي العروة(2)؟ وجهان:
قد استدلّ للثاني: بأصالة عدم جواز إجبارالمسلم على غيرالحقّ الواجب عليه.
وفيه: أنّ ما دلّ على ثبوت حق الانتفاع بالبُضع للزوج شاملٌ للمقام، وحرمة التمكين عليهاتكليفاً، من جهة كونه صائمة لا تنافيه، فإجبارها ليس على غير الحقّ .
فإنْ قيل: إنّه لم يثبت الحقّ المذكور إلّامن باب وجوب الإطاعة، فإذا ثبت تقييده بغير المعصية، فلا طريق إلى ثبوته.
قلنا: إنّ هذا الحقّ ثابتٌ حتّى مع عدم وجوب الإطاعة، كما لو كانت نائمة، فإنّ له أن ينتفع ببضعها ولا تجبُ عليها الإطاعة لعدم القدرة، مع أنّ الحقّ المزبور وإنْ ثبت من باب وجوب الإطاعة، وقيّد بغير المعصية، يكون ثابتاً في المقام، فإنّها إن امتنعت ولم تطاوع، لا يكون الجماع حراماً عليها، فيكون إجباراً على جماعٍ غير محرّم.
وعليه، فالأظهر: أنّه يجوز بلا إشكال.
أقول: وبما ذكرناه يظهر أنّه إذا كانت الصائمة نائمة، يجوز مقاربتها، ولا كفّارة مطلقاً، لا عليه لعدم الدليل، ولا عليها لعدم فساد الصّوم وللإكراه.
الفرع الثاني: لا يتحمّل الزوج الصائم الكفّارة عن امرأته لو أكرهها على غير الجماع من المفطّرات، حتّى مقدّمات الجماع، وإنْ أوجبت إنزالها، للأصل بعد اختصاص النَّص بالجماع.).
ص: 225
الفرع الثالث: لو أكرهت الزوجة زوجها على الجماع، لا تتحمّل عنه الكفّارة للأصل، وكذا لو أكره الرّجل الأجنبيّة على الجماع.
وعن «المختلف»(1): الإشكال فيه، من جهة أنّ الكفّارة عقوبة على الذّنب، وهو هنا أفحش، ومن أنّه قد يكون الذنب قويّاً، فلا تُجدي الكفّارة في تخفيفه.
أقول: وشيءٌ ممّا أفاده لا يصلح مدركاً للحكم، فالعمدة الأصل بعد عدم الدليل، وعدم معلوميّة المناط.
وفي إلحاق الأمَة بالزوجة أو الأجنبيّة قولان، منشأهما إضافة (الإمرأة) إلى الضمير وعدمها.
إذ على الأوّل: حيث لا يصدق عليها أنّها امرأته، فهي ملحقة بالأجنبيّة.
وعلى الثاني: من جهة صدق المرأة عليها تكون ملحقة بالزوجة.
والخبر وإنْ كان مرويّاً عن فخر المحقّقين وعميد الدِّين(2) خالياً عن الضمير، لكنّه مرويٌ في كتب الحديث معه.
وعليه فالأظهر عدم الإلحاق بالزوجة.
الفرع الرابع: لو اجتمع في حالة واحدة الإكراه والمطاوعة ابتداءً واستدامة، كما لو أكرهها في الابتداء، ثمّ طاوعته في الأثناء، أو طاوعته في الابتداء، وأكرهها في الأثناء، فهل يتحمّل عنها الكفّارة، وعليه كفّارتان أم لا؟ أم يفصّل بين الفرضين ؟ وجوه:
والحقّ أن يقال: إنّه إنْ أكرهها على ذلك في بداية الجماع أوجب عليه كفّارتين9.
ص: 226
لإطلاق النَّص، ودعوى ظهوره في الإكراه المستمرّ، غير مسموعة، فإنّ الموضوع هو الجماع عن إكراهٍ الصادق عليه، وحيثُ إنّه لا يوجب فساد صومها، فلو طاوعته في الأثناء، يشملها ما دلّ على ثبوت الكفّارة على من طاوعت زوجها في الجماع، فعليها أيضاً كفّارة.
وإنْ طاوعته في الابتداء فعليها كفّارة وعليه كفّارة، ثمّ إكراهها المتأخّر لا يؤثّر شيئاً، لفرض فساد صومها، فليس إكراهها على الجماع المُفطّر.
***
ص: 227
المسألة الرابعة: إذا أفطر متعمّداً، ثمّ سقط فرض الصّوم عنه بسفرٍ أو حيضٍ أو مرض وما شاكل، ففيه أقوال:
القول الأوّل: ما عن جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(1) من سقوط الكفّارة عنه.
القول الثاني: ما عن الأكثر كما في «الحدائق»(2) من عدم سقوط الكفّارة، وعن «الخلاف»(3) دعوى الإجماع عليه.
القول الثالث: التفصيل بين الموانع الاختياريّة والاضطراريّة، فتسقط في الثانية دون الأُولى .
واستدلّ للأوّل: بأنّ الكفّارة إنّما تجبُ على من أفطر وأبطل صومه، فإذا سقط فرض الصّوم، كشف عن عدم كون إمساكه من الأوّل صوماً، وعليه فلا كفّارة عليه.
واستدلّ للثاني: بوجوه:
الوجه الأوّل: ما في «الجواهر»(4) وهو الإجماع.
وفيه: مضافاً إلى عدم ثبوته، لم يثبت كونه تعبّديّاً.
الوجه الثاني: أنّه لو سقطت الكفّارة بسقوط فرض الصّوم مطلقاً، لزم إسقاط الكفّارة عن كلّ مفطرٍ باختياره، ثم السفر لأجل إسقاط الكفّارة.
ص: 228
وفيه أوّلاً: أنّه لو تمّ ذلك، لزم منه البناء على عدم السقوط في خصوص المانع الاختياري لا مطلقاً.
وثانياً: أنّه لا محذور في الالتزام به لو ساعد الدليل.
الوجه الثالث: ما أفاده بعض المعاصرين(1) من أنّ السفر أو ما شاكل إذا وقع في أثناء النهار، كان مبطلاً للصوم، وناقضاً له من حينه، لا من الأوّل، وعليه فحين الإتيان بالمفطّر يكون صائماً حقيقةً ، فيصدق العنوان الموجب للكفّارة، ولا وجه لسقوطها بعد ذلك.
وفيه: أنّ الظاهر من الأدلّة كون عدم السفر والمرض وما شاكلّ من قيود الوجوب، ومع أحدها لا وجوب للصوم واقعاً، وإنْ وجب الإمساك فلا يكون الإفطار إفطاراً للصوم، بل للإمساك فلا يوجب الكفّارة.
الوجه الرابع: ما في «المستند»(2) من أنّ من الأخبار ما لا يتضمّن لفظ (الإفطار) بل مثل قوله: (نكح) أو (مسّ امرأته)، أو (بقي جُنُباً)، أو (كذب على اللّه) ونحوها، وهذه الألفاظ تدلّ على خروج من لا يجب عليه الصوم ظاهراً حال الفعل بالدليل، فيبقى الباقي.
وفيه أوّلاً: النقض بمن برأ من مرضه بعد الزَّوال، أو جاء من السفر، أو إذا بلغ في أثناء النهار مع الإفطار قبل ذلك، فإنّ مقتضى الإطلاق الذي أفاده، ثبوت الكفّارة على من جامع من هؤلاء، ولا يمكن الالتزام به، ودعوى خروج هؤلاء وأمثالهم بالإجماع كما ترى .1.
ص: 229
وثانياً: بالحَلّ وهو أنّه لا ريب في أنّ الموضوع هو (الجماع في حال الصّوم) أو (الكذب على اللّه) وما شاكل ذلك، وحيثُ إنّه ليس في الواقع صوماً فلايوجب الكفّارة.
الوجه الخامس: ما ذكره جمع(1) من أنّ موضوع الكفّارة، هو الإفطار في حال وجوب الصّوم ظاهراً، الصادق في المقام.
وفيه: إنْ أُريد به الحكم الظاهري، فيرد عليه:
أوّلاً: النقض بما لو صام باعتقاد أنّه آخر رمضان، وأتى بالمفطّر، ثمّ انكشف أنّه من شوّال، فإنّه مع وجوب الصّوم عليه ظاهراً لا تجب عليه الكفّارة قطعاً.
وثانياً: أنّ الموضوع هو الإفطار في حال وجوب الصّوم، والحكم الظاهري ليس بحكمٍ حقيقةً ، فلا وجوب واقعاً، بل تخيّل الوجوب، ومخالفته ينطبق عليها عنوان التجرّي.
وثالثاً: لو تمّ ، فإنّما يتمّ لو لم يعلم بعروض ذلك من الأوّل، وإلّا فلا يتمّ ، وإنْ أُريد به وجوب الإمساك تأدّباً واحتراماً للشهر، فيردّه أنّ إفطار الصّوم موجبٌ للكفّارة لا الإفطار في حال مطلق الإمساك.
واستدلّ للقول الثالث: بوجهين:
أحدهما: أنّ اعدام موانع الصّوم الاختياريّة كالسفر الاختياري يعدّ قيوداً للواجب دون للوجوب، كما يقتضيه صدق الفوت والقضاء في حقّ المسافر فيقال:
فاته الصّوم، ويجب عليه قضاؤه، إذ الفوت إنّما يصدق في ظرف وجودالملاك، والقضاء فرع وجوب الأداء أو فوته، وعليه فالصوم واجبٌ مقيّداً بأنْ لا يسافر، فقبل أن يسافر يكون لصومه صحّة تأهليّة. وهذا المعنى لا يختل بتحقّق السفر باختياره.
نعم، لو كان السفر غير اختياري، كان موجباً للمنع عن التكليف بالصوم،5.
ص: 230
لأنّه مع الاضطرار إلى السفر مثلاً، لا يقدر على إتمامه، فلا يكون مكلّفاً به، فينتفي موضوع الكفّارة، لأنّه الصّوم الواجب، أمّا السفر الاختياري فلا يمنع عن القدرة على الصّوم التامّ ، ولا عن التكليف به من غير جهة السفر، وهذا هو الفارق بين الموانع الاختياريّة والاضطراريّة، فتجبُ الكفّارة بالإفطار قبل الأُولى ، ولا تجبُ به قبل الثانية.
وفيه: أنّ الكبرى الكليّة الدالّة على أنّ قيود الواجب الإفطار قبلها توجب الكفّارة، وليس كذلك قيود الوجوب متينٌ جدّاً، ولكن الموانع الاختياريّة التي تكون محلّ الكلام من السفر والحيض والمرض وما شاكل، ليست إعدامها من قيود الواجب، بل هي من قيود الوجوب، ولذا لا يجب تحصيلها، ولو كانت من قيود الواجب كان تحصيلها واجبة، وثبوت القضاء إنّما هو للدليل؛ وسيأتي زيادة توضيح لذلك في مسألة جواز السفر في رمضان.
ثانيهما: صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام الوارد في الفرار من الزكاة بعد تعلّقها، وأنّه كالفارّ عن الكفّارة بالإفطار بالسّفر في آخر النهار(1).
وفيه: أنّ السفر في آخر النهار خارجٌ عن فرض المسألة، فإنّه لا يوجب بطلان الصّوم، ولا يعدّ فراراً عن الكفّارة.
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لولا الإجماع، تعيّن البناء على سقوط الكفّارة بسقوط فرض الصّوم اختياراً أو اضطراراً، ولكن لأجل احتمال وجوده يُشكل الإفتاء به، وعلى فرض وجوده يقتصر على المقدار المتيقّن، وهو المانع الاختياري، وأمّا في الاضطراري فتسقط الكفّارة بلا إشكال.
***4.
ص: 231
المسألة الخامسة: في حكم العاجز عن الكفّارة، وفيها فروض:
الفرع الأوّل: لو عجز عن بعض الخصال في الكفّارة المخيّرة أو المرتّبة، ينتقل الفرض إلى الفرد الآخر.
أمّا في المرتّبة: فللتصريح بذلك في النصوص.
وأمّا في المخيّرة: فلأنّه في جميع موارد التخيير، إذا تعذّر أحد فردي التخيير تعيّن الآخر وهذا واضح، وعليه فما في «الشرائع»(1) من أنّه لو عجز عن صوم شهرين متتابعين، كان عليه أن يصوم ثمانية عشر يوماً - الشامل إطلاقه للفرض - غير ظاهر الوجه، وما دلّ على بدليّة الثمانية عشر يوماً عن الستّين، إنّما هو في صورة العجز عن الخصال الثلاث.
الفرض الثاني: لو عجز عن بعض الخصال في كفّارة الجمع، ففيه أقوال:
1 - وجوب الباقي مطلقاً.
2 - عدمه كذلك.
3 - وجوبه إذا طرأ العجز على الوجوب.
مدرك الأوّل: قاعدة الميسور، والروايات المتضمّنة لواحد واحد منها كلٌّ فيمن يعجز عن غيره.
ولا يعارضه ما تضمّن غيره، لعدم شموله لمكان العجز عنه.
مدرك الثالث: استصحاب بقاء وجوب الباقي.
ولكن يرد على الأوّل: ما حقّق في محلّه من عدم تماميّة قاعدة الميسور في
ص: 232
المركّب الاعتباري.
ويرد على الثاني: أنّ تلك الأخبار متضمّنة لأحكام ضمنيّة على الفرض، وتسقط هي بسقوط الأمر بالكُلّ .
ويرد على الثالث: عدم إمكان جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة، لكونه محكوماً لاستصحاب عدم الجعل، مع أنّ مجموع الخصال الثلاث متعلّقة لحكم واحد، فإذا تعذّر بعضها سقط هذا التكليف، والتكليف الضمني المتعلّق بالباقي قطعاً، وأمّا حدوث تكليف آخر متعلّق به فغير معلوم، والأصل عدمه، واستصحاب الكلّي الجامع بين التكليفين من قبيل الاستصحاب الكلّي للقسم الثالث، ولا نقول بجريانه.
وبالجملة: فالأظهر عدم وجوب الباقي، نعم يجب عليه أحد الأخيرين، لإطلاق دليل وجوب الكفّارة، فإنّه إذا جامع حراماً، أو أفطر حراماً، فمقتضى إطلاقات الكفّارة وجوب إحدى الخصال عليه، وقد دلّ دليل خاص على أنّه في صورة الإمكان، يجب الجمع بين الخصال، ففي صورة العجز عن البعض يكون باقياً تحت تلك الإطلاقات، فيجب عليه كغيره إحدى الباقيتين.
وعن الإسكافي(1)، و «المقنع»(2)، و «المدارك»(3)، و «الذخيرة»(4): يجب عليه التصدّق بما يطيق.
وعن «المنتهى»(5): يجبُ الصّوم، ومع العجز عنه الصدقة بما يطيق.
وعن «المختلف»(6)، و «الدروس»(7)، وغيرهما(8): التخيير بينهما.
أقول: منشأ الاختلاف هو اختلاف النصوص:
منها: ما تضمّن خصوص الصّوم:
1 - خبر أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن الرّجل يكون عليه صيام شهرين متتابعين، فلم يقدر على الصيام، ولم يقدر على العتق، ولم يقدر على الصدقة ؟
قال عليه السلام: فليصم ثمانية عشر يوماً، عن كلّ عشرة مساكين ثلاثة أيّام»(9).
2 - وخبره الآخر، عنه عليه السلام: «عن رجل ظاهر من امرأته، فلم يجد ما يعتق، ولا ما يتصدّق، ولا يقوى على الصيام ؟ قال عليه السلام: يصوم ثمانية عشر يوماً، لكلّ عشرة مساكين ثلاثة أيّام»(10).
ومنها: ما تضمّن الأمر بالصدقة خاصّة:9.
ص: 234
1 - صحيح ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجلٍ أفطر في شهر رمضان متعمّداً يوماً واحداً من غير عُذر؟ قال عليه السلام: يعتق نسمة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يُطعم ستّين مسكيناً، فإنْ لم يقدر تصدّق بما يُطيق»(1).
2 - ومصحّحه الآخر، عنه عليه السلام: «في رجلٍ وقع على أهله في شهر رمضان، فلم يجد ما يتصدّق به على ستّين مسكيناً؟ قال عليه السلام: يتصدّق بقدَر ما يُطيق»(2).
ومدرك القول الأوّل الطائفة الأُولى ، ومدرك القول الثاني الثانية، ومدرك الأخيرين الجمع بين النصوص.
والحقّ أن يقال: إنّ الثاني من الأولى وارد في خصوص الظهار، والأوّل منها ناقش فيه سيّد «المدارك»(3) بضعف السند، وهو في غير محلّه، إذ ليس في سنده من يتوقّف فيه سوى عبدالجبّار وإسماعيل بن مرار، والأوّل حَسَنٌ ، والثاني محلّ وثوق، ولكن الخبر مطلقٌ شامل لكفّارة الظهار وكفّارة شهر رمضان، وحينئذٍ إن كانت الطائفة الثانية غير منافية له، لزم الجمع بين الأمرين، وإلّا كما هو الظاهر يقيّد إطلاق الخبر بها، ويختصّ هو بكفّارة الظهار، ممّا يعني تعيّن الصدقة في كفّارة شهر رمضان.
ويمكن أن يقال: بعدم العموم للخبر، بنحوٍ يشمل كفّارة شهر رمضان، إذ قوله في ذيله: (على كلّ عشرة مساكين ثلاثة أيّام) ظاهرٌ في كون الصّوم ثمانية عشر يوماً بدل الصدقة على ستّين مسكيناً المتعيّنة، وهو يختصّ بالكفّارة المترتّبة، فإن آخر الخصال فيها الصدقة، ولا أقلّ من عدم ظهوره في العموم.0.
ص: 235
فالمتحصّل: أنّ المعتمد في المقام الطائفة الثانية، فيجبُ دفع الصدقة بالقَدَر الذي يُطيقه.
وأمّا صحيح أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «كلّ من عَجَز عن الكفّارة التي تجبُ عليه من صومٍ أو عتق أو صدقة، في يمينٍ أو نذرٍ أو قتلٍ أو غير ذلك ممّا يجب على صاحبه فيه الكفّارة، فالاستغفار له كفّارة، ما خلا يمين الظهار»(1)، فلا ينافي ما سبق لإمكان حمل الكفّارة العاجز عن أدائها على ما يشمل الصدقة بما يطيق التي جُعلت بدلاً.
نعم، ورد في صحيح عليّ بن جعفر قوله عليه السلام: «إذا عجز عن الخصال الثلاث فليستغفر اللّه»(2).
لكنّه ليس معارضاً لما سبق، لإمكان الجمع بوجوبهما معاً، ولكن للإجماع على عدم وجوبه مع الصدقة بما يطيق، يُحمل على ما إذا لم يقدر عليه أيضاً.
فالأظهر أنّه مع عدم القدرة عليه أنْ يستغفر اللّه تعالى، كما هو المشهور بين الأصحاب(3).
أقول: لو قدر على بعضها، فقد صرّح غير واحد(4) بوجوبه، هكذا عنون المسألة في بعض الكلمات، ولكنّه كما ترى غير صحيح، فإنّ الصدقة الواجبة ليس لها حَدٌّ معيّن، بل المأمور بها هو الصدقة بما يطيق، وعليه فعنوان أنّه لو عجز أتى بالممكن منها في غير محلّه.1.
ص: 236
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق صحيح أبي بصير، هو أنّه لو أتى بالاستغفار ثمّ تمكّن من الكفّارة بعد ذلك، أنّه لا يجبُ عليه الإتيان بها لإطلاق الكفّارة عليه، فبعنوان الحكومة يدلّ على الإجزاء.
إنّما الكلام في أنّ الموضوع هل هو العجز المستمرّ عن الكفّارة ؟
أو العجز في زمانٍ؟
مقتضى الأصل الأوّلي هو الأوّل، لعدم فوريّة وجوب الكفّارة، فوقتها مادام العمر.
وظاهر جعل العجز عنها موضوعاً، هو العجز عن الكفّارة المجعول لها في تمام الوقت، كما في سائر الأبدال الاضطراريّة، وعليه فلو تمكّن بعد ذلك انكشف عدم البدليّة، فلا يُجزي.
اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّه من جهة أنّ المستبعد جدّاً العجز المستمرّ عن الصدقة بما يطيق، يتعيّن البناء في المقام على أنّ الموضوع هو العجز في زمان العمل، لا العجز المستمرّ، وعليه فمقتضى إطلاق البدليّة هو الإجزاء.
نعم، يمكن أن يستدلّ لعدم الإجزاء، بما ورد عنه عليه السلام في الظهار المتضمّن أنّه:
(إن استغفر فَوَجد السبيل إلى ما يكفِّر يوماً من الأيّام فليكفّر)، بإلغاء الخصوصيّة.
***
ص: 237
المسألة السادسة: لا خلاف بينهم في جواز التبرّع عن الميّت بالكفّارة.
ويشهد به: ما دلَّ من النصوص الكثيرة الدالّة على انتفاع الميّت بما يفعله الأحياء من الصّوم والصَّلاة والحجّ والصَّدقة، وسيأتي الحديث عنه في مبحث صلاة الاستيجار والقضاء، والمستفاد منها سقوط شرطيّة المباشرة، وقد تقدّم تفصيل القول في ذلك في مبحث قضاء الصَّلاة(1)، وسيأتي مستوفى في كتاب الحجّ (2).
أقول: إنّما الخلاف في التبرّع بها عن الحَيّ ، وفيه أقوال:
القول الأوّل: ما نسبه صاحب «الحدائق»(3) إلى جماعة - وفي «الجواهر»(4) لعلّه المشهور - من عدم الإجزاء مطلقاً.
القول الثاني: ما عن «المبسوط»(5) و «المختلف»(6) من الإجزاء كذلك، واختاره جمعٌ من متأخّري المتأخّرين منهم الفاضل النراقي(7).
القول الثالث: ما في «الشرائع»(8) كما عن غيرها(9) من التفصيل بين الصّوم فلا يجزي، وبين غيره فيجزي.
ص: 238
واستدلّ للأوّل: بأنّ مقتضى القاعدة أنّ الأمر بفعل إذا توجّه إلى شخصٍ يعتبر مباشرته فيه، ولا يكون فعل الغير مسقطاً له.
وبعبارة أُخرى : إنّ مقتضى إطلاق الخطاب المتوجّه إلى شخصٍ مطلوبيّة المادّة منه مطلقاً، أي سواءٌ فعل غيره أم لا، فسقوطه بفعل الغير خلاف الإطلاق، وخلاف الأصل، فالقول بالإجزاء يحتاج إلى دليل.
واستدلّ له في المقام:
1 - بأنّ الكفّارة دينٌ كسائر الديون التي يجوز التبرّع فيها، بل هي حقٌّ اللّه ودينه، فيكون أولى بالتخفيف.
2 - وبما ورد في قصة الأعرابي الذي ادّعى العجز عن الكفّارة، حيث قال له النبيّ صلى الله عليه و آله: «خُذ هذا التمر وتصدّق به»(1).
3 - وبما ورد في قصّة الخَثعميّة المشهورة الآتي، حيث قال لها النبيّ صلى الله عليه و آله: «دَينُ اللّه أحقّ أن يُقضى »(2).
ولكن يرد على الأوّل: أنّه لم يدلّ دليلٌ على صحّة التبرّع في وفاء كلّ ما يصدق عليه الدين، وثبوته في الدين المالي لا يقتضي ذلك في غيره.
وعلى الثاني: أن ظاهره التمليك والتصدّق به من ماله، ولا أقلّ من قابليّته لإرادة ذلك منه.
وبه يظهر ما في خبر سماعة، عن أبي بصير، الوارد في كفّارة الظهار، حيث قال3.
ص: 239
رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «أنا أتصدّق عنك، فأعطاه تمراً لإطعام ستّين مسكيناً، فقال صلى الله عليه و آله:
اذهب وتصدّق به»(1).
وعلى الثالث: أنّ من المحتمل كون مورده الميّت، مع أنّه لم يعمل بإطلاقه في الحَيّ أحدٌ، فلابدّ من الاقتصار فيه على مورده للإجمال.
والحقّ أن يقال: إنّ النيابة في الصّوم، والتبرّع فيه عن الحَيّ ، لا تجوز لما مرّ.
أمّا العتق: فلا يهمّنا البحث عنه لعدم المورد له.
وأمّا الصدقة: فلا خلاف ظاهراً في جواز الوكالة فيها، والنيابة في دفعها، وقد ادّعى المحقّق النائيني رحمه الله(2) جواز التبرّع في كلّ ما تدخله النيابة إجماعاً، وعليه فيجوز التبرّع في الإطعام.
وإنْ شئتَ قلت: إنّه من جواز الوكالة وصحّتها، يُستكشف عدم اعتبار المباشرة فيها، وعليه فحيثُ لم يدلّ دليلٌ على اعتبار كون الصدقة من ماله، بل مقتضى إطلاق النَّص عدم اعتباره، فيجوز التبرّع فيها، وعليه فما اختاره المحقّق رحمه الله(3) هو الأظهر، واللّه العالم.
***5.
ص: 240
المسألة السابعة: في مصرف كفّارة الإطعام ومقدارها، وجنسها وعدد من يطعم.
أمّا مصرفها: فالفقراء، فإنّ الآية والنصوص وإنْ تضمّنت المسكين، إلّاأنّه لا خلاف بينهم في أنّ المسكين والفقير يراد كلُّ منهما من الآخر عند الانفراد، لاحظ «المبسوط»(1)، و «نهاية الأحكام»(2)، و «المسالك»(3)، و «الروضة»(4)، وغيرها(5)تجد القوم مصرّحين بعدم الخلاف في ذلك، أو الإجماع عليه.
وعليه، فما عن «القواعد»(6) من الإشكال في إجزاء الإعطاء للفقير ضعيفٌ .
ثمّ إنّ إعطاء هذه الصَّدقة للفقير يكون عليوجهين: إمّابإطعامه، أو بالتسليم إليه.
أمّا النصوص فمختلفة، أكثرها متضمّنة للإطعام، وجملةٌ منها متضمّنة للتسليم، فمقتضى الجمع بين النصوص التخيير بينهما.
وأمّا مقدارها: فإن أطعمهم لابدّ من إشباعهم مرّة واحدة، بلا خلاف ولا إشكال، كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(7)، ويقتضيه إطلاق إطعام المسكين الظاهر في إشباعه.
ص: 241
أقول: وفي خصوص كفّارة اليمين روايتان:
إحداهما: ما يدلّ على الإشباع مرّة واحدة.
والثانية: تتضمّن الإشباع طول يومه.
والأُولى صحيحة، والثانية مرسلة محمولة على الندب، كما سيأتي في محلّه.
وعليه، فما عن المفيد رحمه الله(1) من اعتبار أن يطعمه طول يومه في كفّارة اليمين، غير تامّ .
وإنْ سَلّم إليهم، لابدّ أن يكون مُدّاً واحداً لكلّ مسكين، كما هو المشهور بين الأصحاب.
وعن الشيخ في «الخلاف»(2) و «المبسوط»(3) و «النهاية»(4) و «التبيان»(5):
أنّها مُدّان، ووافقه غيره(6)، بل عن الأوّل(7) دعوى قيام الإجماع عليه.
ويشهد للمشهور:
1 - صحيح عبدالرحمن - أوموثّقه عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ أفطريوماً من شهر رمضان متعمّداً؟ قال عليه السلام: عليه خمسة عشرصاعاً، لكلّمسكين مَدّ»(8).
2 - وموثّق سماعة: «عن رجلٍ لزق بأهله فأنزل ؟ قال عليه السلام: عليه إطعام ستّين6.
ص: 242
مسكيناً، مُدّ لكلّ مسكين»(1).
ونحوهما حديث الأنصاري المتقدّم(2).
أقول: وبإزائها نصوص:
منها: ماورد في كفّارة الظهار، المتضمّن أنّها ثلاثون صاعاً لكلّ مسكينٍمُدّان»(3).
ولكنّه إنْ احتُمل الاختصاص بمورده فلا كلام، وإلّا فالجمع بينه وبين ما سبق يقتضي حمله على الاستحباب.
ومنها: النصوص المتضمّنة أنّها عشرون صاعاً:
1 - خبر إدريس بن هلال، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ أتى أهله في رمضان ؟ قال عليه السلام: عليه عشرون صاعاً من تمر»(4).
2 - وخبر محمّد بن النعمان، عنه عليه السلام: «في رجلٍ أفطر يوماً من شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: كفّارته جريبان من طعام، وهو عشرون صاعاً»(5).
3 - وموثّق عبد الرحمن البصري، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ أفطر في شهر رمضان متعمّداً؟ قال عليه السلام: يتصدّق بعشرين صاعاً»(6).
وحيث أنّ الصاع أربعة أمداد، فيصير المجموع ثمانين مُدّاً، لكلّ مسكين مُدّ وثُلث مُدّ.8.
ص: 243
ومنها: صحيح جميل المتقدّم، المتضمّن حكاية الرّجل المجامع الذي أتى النبيّ صلى الله عليه و آله، وكان لا يملك ما يتصدّق به، قال: «فدخل رجلٌ من النّاس بمكتلٍ من تمرٍ فيه عشرون صاعاً يكون عشرة أصوع بصاعنا»(1)، ولازم ذلك أنّ لكلّ مسكين ثُلثي مُدّ.
ولكن هاتين الطائفتين لا تصلحان لمعارضة النصوص المتقدّمة، المعمول بها بين الأصحاب، فالمتّجه حملهما على اختلاف الصاع.
وقد استدلّ للقول الثاني:
1 - بما ورد في كفّارة الظهار.
2 - وبأنّ المُدَّين بدلٌ عن اليوم في كفّارة صيد الإحرام.
3 - وبأصالة الاحتياط.
أمّا الأوّل: فقد عرفت ما فيه.
والثاني: يندفع بأنّه قياسٌ مع الفارق، وهو وجود النَّص بكفاية المُدّ كما مرّ.
والثالث: يندفع لأنّه لا يرجع إلى الأصل مع وجود الدليل، مع أنّ الأصل هو البراءة، لكون الشكّ في التكليف.
وأمّا جنسها: فمقتضى إطلاق النصوص كفاية كلّ ما يعدُّ طعاماً، ولم يرد في النصوص ما يوجبُ تقييده بنوعٍ خاص سوى جملةٍ من النصوص في كفّارة اليمين، المتضمّنة تقييده بالحنطة والدقيق والخُبز، وما ورد في تفسير كلمة (أَوْسَطِ) في الآية الكريمة: (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) (2) بالخَلّ والزيت والتمر والخبز(3)،7.
ص: 244
ولكنّها في كفّارة اليمين، والتعدّي عنها يحتاج إلى دليل.
وأمّا ما عن بعض كتب اللّغة(1): من أنّه قد يختصّ الطعام بالبُرّ، فهو خلاف الاستعمال الشائع الذي يُحمل عليه اللّفظ عند الإطلاق.
مع أنّه لو سُلّم، فإنّما هو في خصوص هذه الصيغة، لا في المادّة التي في ضمنها ولو كانت مع هيئةٍ أُخرى ، وعليه فحيثُ إنّ النصوص متضمّنة للإطعام، فلا سبيل إلى ذلك فيه.
وأمّا ما ورد في قضيّة الأعرابي الذي أفطر في شهر رمضان، أو الذي ظاهر من امرأته، حيث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أعطاه التمر ليتصدّق به فلا يدلّ على التعيين كي يقيّد به إطلاق النصوص.
وبالجملة: فالأظهر كفاية مطلق الطعام.
وأمّا العدد: فيعتبر الستّون، لأنّ ما أمر به في النصوص إطعامُ ستّين مسكيناً أو التصدّق كذلك، أضف إليه مدلول مصحّح إسحاق بن عمّار، عن أبي إبراهيم عليه السلام:
«عن إطعام عشرة مساكين، أو إطعام ستّين مسكيناً، أيُجمع ذلك لإنسانٍ واحد يعطاه ؟ فقال عليه السلام: لا، ولكن يعطى إنساناً إنساناً، كما قال اللّه عزّ وجلّ »(2).
نعم، لو دفع مُدّاً إلى فقير ثم اشتراه منه ودفعه إلى آخر، وهكذا إلى تمام الستين أجزأه بلا خلافٍ ولا إشكال، إذ لا يعتبر في ذلك أكل الفقير إجماعاً، وقد ورد في النصوص تفسير (الإطعام) ببذل الطعام ليأكلوه أو تمليكهم إيّاه.5.
ص: 245
وهذا إنّما هو مع التمكّن من الستّين، وإلّا فيكفي إعطاء الواحد أزيد من مرّةٍ بلا خلاف، كمانصّ عليه صاحب «الجواهر»(1)، وعن ظاهر «الخلاف»(2) الإجماع عليه.
وأيضاً: يشهد به خبر السكوني: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنْ لم يجد في الكفّارة إلّا الرّجل أو الرجلين، فيكرّر عليهم حتّى يستكمل العشرة، يعطيهم اليوم ثمّ يعطيهم غداً»(3).
ولا يضرّ اختصاصه بكفّارة العَشَرة، لعدم القول بالفصل، كما أنّ فيه من التقييد بإعطاء الغد الظاهر في التعدّد في الأيّام الذي لم يقل به الأصحاب، لا يضرّ بعد معلوميّة عدم الخصوصيّة، وأنّه بلحاظ أنّ مورده الإشباع والمتعارف فيه ذلك.
ولا فرق في الفقير الذي تُدفع إليه الكفّارة بين الرّجل والمرأة، والكبير والصغير، غاية الأمر إنْ كان صغيراً يدفع إلى وليه إنْ كان بنحو التمليك، وإنْ كان بنحو الإشباع، فلا يعتبر إذن الولي.
وهل يجوز إعطاء المُعيل لو لم يكن وليّاً؟ فيه تأمّل، لعدم سلطنته على التملّك.
وهل يعتبر في الإشباع احتساب الاثنين من الصغار بواحدٍ؟
أو يتخيّر بين ذلك، وبين أن يزوّد الصغير بقدر ما أكل الكبير؟
أم يعتبر الأوّل في صورة الانفراد، والثاني في صورة الانضمام، أم لا يعتبر شيءٌ من ذلك ؟
أم لا يكفي إشباعهم مطلقاً؟ وجوهٌ وأقوال:0.
ص: 246
أقول: مقتضى إطلاق النصوص كفاية إشباعهم مطلقاً.
وعليه، فما عن المفيد(1) من المنع عن إعطائهم مطلقاً ضعيفٌ ، إذ الإشباع ليس مثل التمليك كي يتوقّف على السلطنة على التملّك المسلوبة عن الصغير، لكن في خصوص كفّارة اليمين وردت روايتان:
الرواية الاُولى: رواية السكوني: «مَن أطعم في كفّارة اليمين صغاراً وكباراً، فليزوّد الصغير بقدر ما أكل الكبير»(2).
الرواية الثانية: رواية غياث: «لا يُجزي إطعام الصغير في كفّارة اليمين، ولكن صغيرين بكبير»(3).
فإمّا أن يقيّد إطلاق الثانية بالأُولى لتكون النتيجة أنّه في صورة الانفراد يُحتسب الاثنان بواحد، وفي صورة الانضمام يعطى الصغير بقَدَر ما أكل الكبير، أو يجمع بينهما بالتخيير بين الأمرين مطلقاً. والأوّل أقرب.
ولا يخفى أنّ شمول هذا الحكم للمقام يتوقّف على إلغاء خصوصيّة المورد، ولا بأس به.
فالمتحصّل: أنّه في إطعام الصغار بالإشباع في صورة الانفراد، يُحتَسب اثنان بواحد، وفي صورة الانضمام بالكبار يُعطى الصغير بقدر ما أكل الكبير.
***2.
ص: 247
أقول: إنّ وجوب الإمساك عمّا ذُكر من المفطّرات، وإيجابها للقضاء أو له وللكفّارة، إنّما هو إذا كان الإفطار عمديّاً، مع كون المُفطر ذاكراً الصوم وعالماً بالحكم، وإلّا فلا يترتّب عليه شيءٌ من هذه الأحكام إجماعاً في بعض الصور، ومع الخلاف في بعض آخر.
وتفصيل القول بالبحث في مقامات:
المقام الأوّل: في الناسي.
لا خلاف بينهم في أنّ المفطّرات المذكورة إنّما توجبُ بطلان الصّوم، إذا وقعت على وجه العمد، وأمّا إذا وقعت سهواً فلا تفسد الصّوم، وهو ما عبّر عنه صاحب «الجواهر»(1) بقوله: (قولاً واحداً ونصوصاً) انتهى .
وفي «المنتهى»(2): (ولا خلاف بين علمائنا في أنّ الناسي لا يفسد صومه، ولا يجبُ عليه قضاء ولا كفّارة بفعل المفطّر ناسياً). انتهى .
وفي رسالة صوم الشيخ الأعظم(3): إجماعاً في الجملة.
ويشهد به: جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول من صام فنسي فأكل وشرب، فلا يفطر من أجل أنّه نسي، فإنّما هو رزقٌ رزقه اللّه
ص: 248
تعالى ، فليُتمّ صيامه»(1).
ومنها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ نسي فأكل وشرب ثمّ ذكر؟ قال عليه السلام: لا يفطر، إنّما هو شيءٌ رزقه اللّه تعالى ، فليتمّ صومه»(2).
ومنها: موثّق عمّار، عنه عليه السلام: «عن الرّجل ينسى وهو صائم، فجامع أهله ؟ فقال عليه السلام: يغتسل ولا شيء عليه»(3).
ومنها: خبر أبي بصير: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجلٌ صام يوماً نافلةً فأكل وشرب ناسياً؟ قال عليه السلام يتمّ يومه ذلك، وليس عليه شيء»(4).
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة، ولا يضرّ باستفادة الكبرى الكليّة منها اختصاصها بالثلاثة - لما في الصحيح الأوّل من التعليل بالنسيان العام للجميع ولعدم الخصوصيّة - وعدم الفصل.
واستدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله:(5) - مضافاً إلى ذلك - بعموم قوله عليه السلام: «ما غَلَب اللّه عليه فاللّه أولى بالعُذر»(6) الوارد في نفي القضاء عن المُغمى عليه، بتقريب أنّ تطبيقه بلحاظ نفي القضاء، قرينة على إرادة المعذوريّة حتّى من ناحية القضاء، ولا يكون مختصّاً بالمعذوريّة من جهة التكليف.
وأورد عليه المحقّق الهمداني رحمه الله(7): بأنّه لو أُخذ بعموم العلّة لزم الالتزام بعدم1.
ص: 249
وجوب القضاء في كلّ موردٍ كان الفوت مسبّباً عن عُذرٍ مستند إلى اللّه تعالى ، وهذا مخالفٌ لغيره من النصوص والفتاوى ، ولا يلتزم المستدلّ أيضاً بذلك في غير مورد الرواية، وإنّما غَرَضه في المقام إثبات أنّه لو تناول شيئاً من المفطّرات نسياناً، لا يقدح ذلك بصومه حتّى يجب عليه قضاؤه، وإلّا فهو معترفٌ بأنّه لو ترك الصّوم نسياناً وجب عليه قضاؤه، بخلاف المُغمى عليه، فالقاعدة المزبورة أجنبيّة عن مدّعاه.
وفيه: أنّ عموم العلّة بلحاظ ما فيه من التطبيق، يدلّ على أنّ ترك الصّوم رأساً، أو الإتيان بما ينافيه، إنْ كان عن عُذرٍ لا يجب قضاء ذلك اليوم، ولازم ذلك في صورة الإتيان بالمنافي سهواً، سيّما بعد ضمّ ما دلّ على وجوب الإمساك بقيّة النهار، هو إجزاء المأتي به، والاكتفاء به عن الصّوم المأمور به، غاية الأمر أنّ هذا العام كسائر العمومات التي ترد عليها مخصّصات، فلا مانع من أنّ يُخصّص بها، ويعمل به في غير تلك الموارد.
أقول: ثمّ إنّ مقتضى إطلاق أكثر ما تقدّم، هو ثبوت هذا الحكم في جميع أقسام الصّوم، من الواجب المعيّن والموسّع والمندوب، كما هو المشهور بين الأصحاب، واختصاص بعض النصوص برمضان، وبعضها بالنافلة لا يوجب التقييد لعدم التنافي، سيّما وفي «الفقيه»(1) في ذيل موثّق عمّار على ما في «الوسائل»:(2) (ورُوي عن الأئمّة عليهم السلام أنّ هذا في شهر رمضان، وغيره لا يجب منه القضاء).
فما عن المصنّف في «أجوبة المسائل المهنائيّة»(3)، و «التذكرة»(4) من القول).
ص: 250
بالفساد في الواجب غير المعيّن والمندوب ضعيفٌ .
وأضعف منه: الاستدلال له:(1)
1 - بأنّ حقيقة الصّوم الإمساك عن المفطّرات ولم يتحقّق.
2 - وبما رواه العلاء في كتابه، عن محمّد، قال: «سألته فيمن شرب بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم ؟ قال عليه السلام: يُتمّ صومه في شهر رمضان وقضائه، وإنْ كان متطوّعاً فليفطر».
3 - وبأنّ مقتضى إطلاق مفهوم النصوص الحاصرة: (لا يضرّ الصائم ما صَنَع إذا اجتنبَ أربع خصال...) المتقدّمة، مضريّة هذه الأربعة وإنْ وقعت سهواً.
فإنّه يرد على الأوّل: ما تقدّم منّا في مبحث النيّة(2)، من قيام الدليل على أنّ مَن أفطر ناسياً يكون عمله بدلاً عن الصّوم مُجزياً عنه.
ويرد على الثاني: أنّه في غير الناسي، مع أنّه في المتطوّع الذي دلّ النَّص الخاص على الاكتفاء بعمله.
ويرد على الثالث: أنّه يقيّد إطلاقه بما مرّ من النصوص.
وعليه، فالأظهر عدم مفسديّة المفطّرات لشيءٍ من أقسام الصَّوم إذا وقعت سهواً أو نسياناً.
***د.
ص: 251
المقام الثاني: في الجاهل، وفيه أقوال:
القول الأوّل: ما عن موضع من «التهذيب»(1)، و «السرائر»(2)، و «الحدائق»(3)، وظاهر «الجامع»(4)، ومحتمل موضعٍ من «المنتهى»(5)، و «الاستبصار»(6)، و «التهذيب»(7)، هو أنّه لا يجب عليه القضاء والكفّارة.
القول الثاني: أنّه يجبُ عليه القضاء خاصّة، كما عن «المعتبر»(8)، و «الدروس»(9)، وحواشي «القواعد» للشهيد، و «الروضة»(10) و «المدارك»(11)، ومحتمل «المختلف»(12)، ونسبه سيّد «المدارك»(13) إلى أكثر المتأخّرين.
القول الثالث: أنّه يجبُ عليه القضاء والكفّارة، كما عن «المنتهى»(14)،
ص: 252
و «التذكرة»(1)، ومحتمل «المختلف»(2)، ونسبه في محكيّ «الكفاية»(3) إلى الأكثر.
القول الرابع: التفصيل بين الجاهل المقصّر في السؤال فيجب عليه القضاء والكفّارة، وبين غير المقصّر لعدم تنبّهه فيجبُ عليه القضاء خاصّة، اختاره صاحب «الجواهر»(4)، ونسبه إلى بعض مشايخه.
القول الخامس: ما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله(5) من وجوب القضاء والكفّارة على الجاهل المقصّر، وعدم وجوب شيءٍ منهما على القاصر.
وقد استدلّ لفساد الصّوم، ووجوب القضاء والكفّارة، بإطلاق ما دلّ على اعتبار الإمساك عن الأشياء المزبورة في ماهيّة الصّوم، بل لا معنى للصوم إلّا الإمساك عن تلك الأشياء، فيمتنع تحقّق مفهومه بدونه، مع أنّ تقييد مفطّرية المفطّرات بالعلم بمفطّريّتها، الراجع إلى اشتراط وجوب الإمساك عنها بالعلم بوجوبه، غير معقولٍ .
أقول: إنّ هذه الوجه يتمّ بالنسبة إلى وجوب القضاء، لو قلنا إنّه بالأمر الأوّل، وحيث أنّه فاسدٌ بل هو كالكفّارة بأمر جديد، فلابدَّ من ملاحظة تلك الأدلّة، لأنّ الأوليّة لا تكفي، ولذا استدلّ بعضٌ آخر له:
1 - بإطلاق ما دلّ على وجوب القضاء على مَن لم يصم أو أفطر صومه.
2 - وبإطلاق ما دلّ على وجوب الكفّارة المتقدّم، فإنّ بعض تلك النصوص2.
ص: 253
وإنْ كان في الإفطار متعمّداً، إلّاأنّ جملة منها الواردة في وجوب الكفّارة على من جامع، أو استمنى، أو أكل وشرب، مطلقة غير مقيّدة بالعمد، فالمطلقات مقتضية لوجوب القضاء والكفّارة، بل بعض أدلّة القضاء في الجاهل بالموضوع الذي هو أولى بالمعذوريّة من الجاهل بالحكم، بل ظهور أكثر الأسئلة التي وقع في جوابها الأمر بالقضاء أو الكفّارة، واردة في كون مورده الجاهل.
واستدلّ لعدم وجوب القضاء والكفّارة بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّ المتبادر من الإطلاقات صورة العلم أو انصرافهاعن صورة الجهل.
وفيه: منع التبادر والانصراف، إذ لا وجه لهما سوى الشيوع، وهو ممنوعٌ ، مع أنّه لا يصلح منشئاً للانصراف المقيّد للإطلاق.
الوجه الثاني: تقييد أكثر النصوص بمتعمد الإفطار غير الصادق هنا، وإنْ كان متعمّداً للفعل، لأنّ تعمّد الإفطار لا يكون إلّامع العلم بكونه مفطّراً، وبه يقيّد المطلقات أيضاً، لوجوب حملها على المقيّد.
وفيه: المقيّدات من جهة أن لا مفهوم لشيء منها لا تصلح لتقييد المطلقات.
الوجه الثالث: موثّق أبي بصير وزرارة، قالا جميعاً: «سألنا أبا جعفر عليه السلام عن رجلٍ أتى أهله وهو مُحْرِم، وهو لا يرى إلّاأنّ ذلك حلال له ؟ قال عليه السلام: ليس عليه شيء»(1).
وحمله على الجاهل القاصر غير ظاهر، ومثله حمله على نفي خصوص الكفّارة، فإنّه خلاف إطلاقه، نعم هو مختصٌّ بالجاهل المعتقد عدم المفطّرية، ولا يشمل المتردّد إلّاالمتردّد الذي يقتضي العقل أو الشرع جواز الفعل بالنسبة إليه، فإنّه0.
ص: 254
حينئذٍ يرى أنّه حلالٌ له، غاية الأمر حلالاً ظاهريّاً وإطلاق الموثّق يشمله.
وأورد عليه: بأنّ النسبة بينه وبين كلٍّ من أدلّة القضاء والكفّارة، عمومٌ من وجه، لأنّ عدم الشيء عليه أعمٌّ من القضاء والكفّارة والعقاب، وأدلّة القضاء والكفّارة أعمٌّ من العالم والجاهل، والترجيح ثابتٌ لأدلّة القضاء والكفّارة للشهرة.
وأُجيب عنه تارةً : - كما عن بعض المعاصرين -(1) بأنّ الشهرة الفتوائيّة لا تصلح للترجيح، مع أنّ إعمال الترجيح في تعارض العامين من وجه خلاف التحقيق.
وأُخرى: كما في «المستند»(2)، بأنّ أخبار الكفّارة وإن كانت مخصوصة على الظاهر بالكفّارة، فيتوهّم وجه خصوصيّةٍ لها، إلّاأنّ ثبوت الكفّارة يستلزم ثبوت القضاء أيضاً بالإجماع المركّب، بل الإثم للتقصير، فتساوي الموثّق من تلك الجهة، فالموثّقة أخصّ مطلقاً منها، لاختصاصها بالجهل فتُقدّم عليها.
وأمّا أخبار القضاء: فالنسبة بينها وبين الموثّقة وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّا أنّ الأصل مع الموثّقة، وهو المرجع عند فقد الترجيح والتخيير، كما في المقام، وهو مع عدم القضاء.
وثالثة: بما في «رسالة صوم» الشيخ الأعظم رحمه الله(3) من حكومة الموثّق على أدلّة القضاء والكفّارة، إذ لو قُدّمت تلك الأدلّة، لم يبق له مورد النفي، إذ لا ينفي حكماً إلّا وعليه دليلٌ يقتضي وجوده لولاه.
أقول: وفي كلّ نظر:3.
ص: 255
أمّا الأوّل: فلما حقّقناه في محلّه من أنّ اللّازم في تعارض العامين من وجه، الرجوع إلى أخبار الترجيح والتخيير، وأنّ المرجّح الأوّل هو الشهرة الفتوائيّة.
وأمّا الثاني: فلأنّ الميزان في تعارض الأدلّة، ملاحظة كلّ دليلٍ بخصوصه مع معارضه، وأمّا ضمّ ما دلّ على وجوب القضاء في كلّ موردٍ وجبت الكفّارة إلى دليل الكفّارة، ثمّ ملاحظة النسبة بينه وبين معارضه خلاف التحقيق، ومن الواضح أنّ النسبة بينهما حينئذٍ عموم من وجه.
ودعواه: أنّ الأصل مع الموثّق عند تعارضه مع دليل القضاء لفقد الترجيح.
مردودة أوّلاً: بأنّه مع عدم الترجيح، لابدّ من البناء على التخيير، ولا معنى للرجوع إلى الأصل، نعم له حينئذٍ اختيار الموثّق والبناء على عدم وجوب القضاء.
وثانياً: بأنّ المرجّح الأوّل وهو الشهرة موافق مع أدلّة وجوب القضاء، ومع الإغماض عنه، فالمرجّح الثاني وهو صفات الراوي معها أيضاً.
ويرد على الثالث: بأنّ ضابط الحكومة على ما أفاده هو قدس سره وأسّسه، كون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر بتضييق موضوعه أو توسعته، أو أن يلوّن الحكم الذي تضمّنه، وهذا الضابط غير صادق على المقام، كما لا يخفى . ومجرّد عدم بقاء المورد له لو قدّم سائر الأدلّة لا يُصلح وجهاً لتقديمه، إذ كم خبر يطرح عند التعارض، ولا يعمل به، هذا مع أنّه قابلٌ للحمل على إرادة نفي العقاب خاصّة.
ومن الغريب أنّه قدس سره عند ذكر حكم الجاهل القاصر يدّعي ظهور الموثّق في نفي غير العقاب، وعند بيان حكم المقصّر يدّعي ظهوره في نفي العقاب!
أقول: وبذلك يظهر اندفاع ما قيل من إنّ الأمر يدور بين تقديم الموثّق على جميع أدلّة القضاء والكفّارة.
ص: 256
وبين تقديم جميعها عليه وتقديم بعضها عليه، وتقديمه على بعضها، والأخير ترجيحٌ بلا مرجّح، وما قبله مستلزمٌ لطرح الموثّق رأساً، فيتعيّن الأوّل، فإنّه لا مانع من طرحه كسائر الأخبار التي تُطرح عند التعارض، مع أنّ تقديمها لا يلزم منه طرحه، لإمكان حمله على نفي العقاب خاصّة.
فالمتحصّل: أنّه يُقدّم أدلّة وجوب القضاء والكفّارة على الموثّق.
وبما ذكرناه اندفع الوجه الرابع الذي ذكروه في المقام، وهو النصوص الدالّة على أنّ (من رَكِب أمراً بجهالةٍ لا شيء عليه)(1).
أقول: وقد استدلّ للتفصيل بين الجاهل المقصّر والقاصر، وأنّه يجب القضاء والكفّارة على الأوّل دون الثاني، بأنّ مقتضى إطلاق الأدلّة وإنْ كان وجوبهما على الجاهل مطلقاً، إلّاأنّه في القاصر يدلّ ما تضمّن من النصوص على أنّ (ما غَلَب اللّهُ عليه فهو أولى بالعُذر) على عدم وجوبهما عليه.
وقد تقدّم تقريب الاستدلال به، وما أورد عليه، والجواب عنه في المقام الأوّل.
وجه اختصاصه بالقاصر: أنّ جهل المقصّر ليس ممّا غلب اللّه عليه، وهو واضح، والنسبة بينه وبين أدلّة وجوب القضاء والكفّارة وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّا أنّه حاكمٌ عليها، كما لا يخفى .
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الجاهل القاصر لا يجبُ عليه القضاء والكفّارة، وأمّا المقصّر فيجب عليه الأمران، ويؤيّده ما ادّعي من الإجماع على أنّ الجاهل المقصّر في حكم العالم في جميع الأحكام.
***7.
ص: 257
المقام الثالث: في المُكْرِه.
والإكراه على قسمين:
1 - إمّا بنحو الإيجار في الحلق، والوضع فيه بغير مباشرة نفسه، فحكمه حكم غير القاصد للفعل، كالذباب يطير في الحلق والغبار يدخل فيه، وسيأتي الكلام فيه في المقام الخامس(1).
2 - وإمّا بنحو التوعيد بما يوجبُ الضرر الذي يخاف ترتّبه على مخالفة المُكرِه من قتلٍ أو هتك عِرْضٍ أو ذهاب مالٍ ونحوه.
أقول: لا خلاف في جواز الإفطار حينئذٍ، وعدم ترتّب الإثم عليه، ويشهد به:
1 - عموم ما دلّ على رفع التسعة، التي منها ما استكرهوا عليه(2).
2 - وما تضمّن إفطار الإمام عليه السلام تقيّةً عن السّفاح كما في روايات رفاعة(3)وداود بن الحُصين(4) وخلّاد(5)، وعيسى(6).
ففي الأُولى : «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: دخلتُ على أبي العبّاس بالحيرة، فقال: يا أبا عبد اللّه ما تقول في الصيام اليوم ؟ فقلتُ : ذاك إلى الإمام إنْ صمتَ صُمنا وإنْ أفطرتَ أفطرنا.
ص: 258
فقال: يا غلام عَليَّ بالمائدة، فأكلتُ معه، وأنا واللّه أعلم أنّه يومٌ من شهر رمضان، فكان إفطاري يوماً وقضائه أيسر عَليَّ من أن يُضرب عنقي ولايُعبد اللّه»(1).
وقريب منها البقيّة.
إنّما الكلام في أنّه هل يصحّ الصّوم، فلا يجب قضاؤه ولا كفّارة عليه كما عن الشيخ في «الخلاف»(2)، والمحقّق في «الشرائع»(3)، و «النافع»(4)، و «المعتبر»(5)، والمصنّف رحمه الله في «المنتهى»(6) و «التحرير»(7) و «المختلف»(8) و «الإرشاد»(9)، والشهيدين في «الدروس»(10) و «الروضة»(11)، بل الأكثر كما قيل(12)؟
أم يفسد الصّوم ويجبُ قضاؤه، كما عن «المبسوط»(13)، و «التذكرة»(14)، و «المسالك»(15)، و «الحدائق»(16)؟7.
ص: 259
أم يجب الكفّارة أيضاً، كما لم يستبعده بعض الأساطين(1) لولا الإجماع على عدمها؟ وجوه:
فقد استدلّ للأوّل بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّ نصوص وجوب القضاء والكفّارة مختصّة بغير المُكرَه صرفاً أو انصرافاً، والمرجع حينئذٍإلى الأصل و الاستصحاب، وقداستدلّ بهاسيّد «المدارك»(2)، والظاهر أنّ نظره إلى ما ذكرناه من قصور أدلّة القضاء والكفّارة عن الشمول للمُكرَه، ومراده من الصحّة ذلك، أي لا يجب عليه القضاء والكفّارة لا إلى ما أفاده المحقّق الهمداني رحمه الله(3) من قصور ما دلّ على أنّ الإتيان بتلك الأُمور مفسدٌ للصوم عن شموله للمكرَه.
ولذلك لا يصحّ الإيراد عليه بأنّ حقيقة الصّوم هو الإمساك عن المفطّرات المذكورة، فيمتنع تحقّقها مع الإتيان بها، إلّاأن ينزّل الشارع الفعل المقرون بالعزم على الترك لو خُلّي ونفسه منزلة العدم.
وكيف كان، فيرد عليه: منع التبادر والانصراف في تلك النصوص، ومع إطلاقها لا وجه الرجوع إلى الأصل.
الوجه الثاني: النصوص المتقدّمة المتضمّنة لإفطار الإمام عليه السلام تقيّةً عن السّفاح، لو كان منافياً للصوم لما ارتكبه، ولا ينافي ذلك قضاء الإمام عليه السلام، لجواز كونه على وجه الأفضليّة.2.
ص: 260
وفيه: أنّ غاية ما يثبت بها جواز الإفطار تكليفاً، وهو ممّا لا كلام فيه كما مرّ، بل قوله عليه السلام: (فكان إفطاري يوماً وقضائه... إلى آخره) يدلّ على لزوم القضاء وفساد الصّوم.
الوجه الثالث: مادلّمن النصوص عليوجوب الكفّارة على المكرِه زوجته دونها(1).
وفيه: أنّ غايته عدم وجوب الكفّارة عليها، وليس متعرّضاً للقضاء، مع أنّه قد دلّ النَّص على ثبوت كفّارتين على الزوج(2)، ولعلّه لبطلان صوم الزوجة.
الوجه الرابع: حديث رفع التسعة التي منها (ما استكرهوا عليه)(3)، فإنّه يدلّ على رفع حكمها، ومنه القضاء والكفّارة في المقام.
وأورد عليه ثاني الشهيدين(4): بأنّ المراد رفع المؤأخذة عليه، لارفع جميع أحكامها.
وفيه: ما حُقّق في الأُصول(5) من أنّ المرفوع بالحديث جميع أحكامها.
ولكن يرد على هذا الوجه: أنّ حديث الرفع إنّما يرفع الحكم دون أن يثبت حكماً آخر بدل المرفوع، وعليه فإذا تعلّق الإكراه بجزءٍ من أجزاء المركّب الاعتباري المأمور به، بما أنّه لا يمكن رفع الحكم الضمني وحده، يرفع الأمر بالمركّب، لكن لا يثبت تعلّق التكليف ببقيّة الأجزاء والقيود، وعلى ذلك فحديثُ الرفع في المقام يقتضي سقوط التكليف بالصوم رأساً، ومعه يسقط وجوب الكفّارة أيضاً، لأنّه مترتّب على إفطار الصّوم، وأمّا وجوب القضاء فهو ليس من آثار إفطار الصائم وأحكامه الشرعيّة، بل من أحكام عدم الإتيان بالصوم، فالحديث لا يصلح لرفعه.8.
ص: 261
فإنْ قيل: إنّ الحديث يرفع فساد الصّوم المترتّب على الإفطار، وإذا لم يفسد الصّوم لم يجب قضائه.
قلنا: إنّ الفساد ليس أثراً شرعيّاً، بل هو منتزعٌ بحكم العقل من لحاظه عدم مطابقة المأتي به للمأمور به.
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ مقتضى حديث الرفع سقوط حرمة الإفطار، ووجوب الكفّارة، دون وجوب القضاء، ويعضد ذلك النصوص المتقدّمة المتضمّنة لإفطار الإمام عليه السلام تقيّةً من السَّفاح، فإنّها متضمّنة للقضاء دون الكفّارة، كما يؤيّد عدم وجوب الكفّارة ما دلّ على عدم وجوبها على الزوجة المكرهة.
قال الشهيد الثاني رحمه الله(1): متى جاز الإفطار للإكراه، وجب الاقتصار على ما تندفع به الحاجة، فلو زاد عليه كفّر، ومثله ما لو تأدّت بالأكل فشرب معه أو بالعكس.
وأورد عليه سبطه(2): بأنّه يمكن المناقشة في وجوب الكفّارة بالزائد، بناءً على ما ذهب إليه من أنّ التناول على وجه الإكراه مفسدٌ للصوم، لأنّ الكفّارة تختصّ بما يحصل به الفطر، ويفسد به الصّوم، وما حصل به الفطر هنا لم يوجب الكفّارة، كما أنّ ما زاد عليه لم يوجب الفطر.
أقول: إنْ بنينا على تكرار الكفّارة بتكرّر موجبها في يومٍ واحد، تمّ ما أفاده الشهيد قدس سره(3)، وإلّا تم ما أفاده السيّد(4)، وسيأتي تنقيح القول في المبنى لاحقاً.1.
ص: 262
ثمّ إنّ منشأ القول بجواز الإفطار، وعدم وجوب الكفّارة، بمقتضى مدلول حديث الرفع، فلا يختصّ الحكم المذكور بما إذا خاف التلف على النفس، كما عن «الدروس»(1)، والظاهر أنّه استند إلى أخبار إفطار الإمام في هذا الحكم، وهي مختصّة بما أفاده.
***6.
ص: 263
المقام الرابع: لو أفطر الصائم تقيّةً ، ففيه أقوال:
1 - من لزوم القضاء والكفّارة.
2 - أو لزوم القضاء خاصّة.
3 - أو عدم وجوب شيء منهما.
4 - أو الإجزاء إذا تناول ما ليس مفطراً عندهم.
5 - أو أفطر قبل الغروب تقيّةً .
6 - أو وجوب القضاء لو أفطر في عيدهم.
ذهب إلى كلّ هذه الأقوال سوى الأوّل جمعٌ من المحقّقين والأساطين(1).
أقول: أمّا جواز الإفطار، فيشهد به ما تقدّم في المكرَه، ونصوص التقيّة.
وأمّا عدم وجوب الكفّارة: فهو أيضاً يظهر ممّا تقدّم فيه.
فالكلامُ في خصوص القضاء، فمن يقول بعدم وجوب القضاء على المكرَه، يقول به في المقام أيضاً، وأمّا من ذهب إلى وجوب القضاء على المكرَه، فيمكن أن يذهب في المقام إلى عدم وجوب القضاء ولو في بعض الصور.
توضيح ذلك: إنّ أكثر نصوص التقيّة وإنْ كانت في مقام بيان الحكم التكليفي خاصّة، ولا تدلّ على الإجزاء والصحّة، ولكن جملةٌ منها تدلّ على صحّة العمل المأتي به على طبق التقيّة، وإنْ كان فاقداً لبعض القيود الوجوديّة أو العدميّة، لاحظ مصحّح الأعجمي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «والتقيّة في كلّ شيء إلّافي النبيذ، والمسح
ص: 264
على الخُفّين»(1)، فإنّ استثناء المسح على الخُفّين، يدلّ على شمول المستثنى منه للحكم الوضعي، ومثله صحيح زرارة(2)، ونحوهما غيرهما ممّا سيأتي مفصّلاً في مبحث الوقوف بعرفات من مباحث الحجّ (3)، وستعرف دلالة جملة من النصوص على إجزاء العمل الناقص الجاري على طبق التقيّة، كما ستعرف هناك أنّ ذلك كما يكون في الحكم الكلّي، كذلك يكون في الموضوعات المستنبطة.
وعلى هذا، فلو أفطر تقيّةً بما لا يرونه مفطّراً وهو يعتقد مفطريّته كالارتماس، أو أفطر بعد استتار القرص قبل ذهاب الحُمرة المشرقيّة، وهو يرى أنّه آخر وقت الصّوم، صَحَّ صومه ولا قضاء عليه، لأن النصوص تدلّ على إجزاء الصّوم الناقص عن الكامل.
وأمّا لو أفطر في عيدهم، ولم يَصُم، فليس هناك عملٌ ناقص يكون مُجزياً، والنصوص لا تدلّ على أنّ ترك العمل تقيّةً يكون بحكم العمل، كما لو لم يصل صلاة مؤقّتة تقيّةً ، فإنّه لم يدلّ دليلٌ على أنّه بحكم الإتيان.
وبالجملة: النصوص تدلّ على أنّ العمل الجاري على طبق التقيّة يكون مُجزياً عن المأمور به، وأمّا ترك العمل فلا يدلّ على أنّه بحكم العمل، وسيأتي زيادة توضيح لذلك.
وبذلك يظهر: أقوائيّة القول الأخير، كمايظهر أنّ النصوص المتضمّنة لإفطاره عليه السلام يوم العيد وقضائه، إنّما يكون على وفق القاعدة، وإن كانت ضعيفة سنداً.
***5.
ص: 265
المقام الخامس: لا إشكال ولا خلاف في أنّ غير القاصد للفعل كالذُّباب يطيرُ فيدخل إلى حلقه لا يفسد صومه، ولا قضاء عليه ولا كفّارة، لاختصاص أدلّة القضاء والكفّارة، بل أدلّة المفطّرات أنفسها بالإفطار الصادر عن اختيار.
ويستفاد ذلك من النصوص الخاصّة أيضاً:
1 - ففي موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يتمضمض فيدخل الماء في حلقه ؟ قال عليه السلام ليس عليه شيء إذا لم يتعمّد ذلك»(1).
فإن الشرطيّة في الخبر جارية مجرى التعليل.
2 - وفي خبر مسعدة، عنه عليه السلام: «عن أمير المؤمنين عليه السلام: عن الذُّباب يدخلُ حلق الصائم ؟ قال عليه السلام: ليس عليه قضاء، لأنّه ليس بطعام»(2).
بناءً على أنّ المراد به أنّه لا يعدّ أكلاً مستنداً إليه كما مرّ.
وكذلك في موثّق سماعة تعليل وجوب القضاء على من أفطر بظنّ دخول اللّيل بأنّه: (أكل متعمّداً)(3).
إلى غير ذلك من النصوص الواردة في الموارد المخصوصة، وعليه فلا ينبغي التوقّف في الحكم المذكور، كما لا خلاف فيه.
***
ص: 266
الباب الثالث: في أقسامه، وهي أربعة: واجبٌ ، ومندوبٌ ، ومكروهٌ ، ومحظور.
والواجبُ : شهر رمضان، والكفّارات، ودم المتعة، والنذر وشبهه، والاعتكاف على وجه، وقضاء الواجب.
فغير رمضان يأتي بيانه في أماكنه.
(الباب الثالث: في أقسامه) أي أقسام مطلق الصّوم، الشامل للصحيح والفاسد.
يقول رحمه الله: (وهي أربعة: واجبٌ ، ومندوبٌ ، ومكروهٌ ، ومحظور) عليماسيأتي بيانها.
(والواجبُ ): ستّةٌ بحكم الاستقراء، وتتبّع الأدلّة الشرعيّة، والإجماع بقسميه:
الأوّل: صوم (شهرُ رمضان).
(و) الثاني: صوم (الكفّارات) التي مرَّ بيانها.
(و) الثالث: صوم بدل (دم المتعة) في الحجّ .
(و) الرابع: صوم (النذر وشبهه) من العهد واليمين.
(و) الخامس: صوم: (الإعتكاف على وجهٍ ) يأتي بيانه في محلّه(1).
(و) السادس: صوم (قضاء الواجب).
يقول رحمه الله: (فغير رمضان يأتي بيانه في أماكنه).
***
ص: 267
وأمّا شهر رمضان فعلامته: رؤية الهلال، أو مُضيّ ثلاثين يوماً من شعبان.
(وأمّا شهر رمضان ف) النظر فيه في أُمور:
الأوّل: في (علامته) وطرق ثبوت هلاله، وهي أُمور:
الأمر الأوّل: (رؤية الهلال).
لا خلاف في الثبوت بها، كما صرّح بذلك في «التذكرة»(1) بقوله: (ويلزم صوم رمضان من رأى الهلال، وإنْ كان واحداً انفرد برؤيته، سواءٌ كان عدلاً أو غير عدل، شهد عند الحاكم أو لم يشهد، قُبلت شهادته أو رُدّت، ذهب إليه علماؤنا أجمع)، انتهى .
وتشهد به: - مضافاً إلى أنّه يرجع إلى حجيّة العلم وهي ذاتيّة - نصوصٌ كثيرة:
منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ : «فإذا رأيت الهلال فَصُم، وإذا رأيته فأفطر»(2).
ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي، ولكن بالرؤية»(3).
ومنها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «في الرّجل يرى الهلال وحده ؟ قال: إذا لم يشكّ فليصم»(4).
ص: 268
او قيام البيّنة بالرؤية.
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.
الأمر الثاني: ما ذكره رحمه الله بقوله: (أو مُضيّ ثلاثين يوماً من شعبان) بإجماع المسلمين، بل قيل(1) إنّه من ضروريّات الدِّين.
وتشهد به: - مضافاً إلى حصول العلم بدخول رمضان به، والعلم حجّة ذاتاً - نصوص عديدة:
منها: خبر إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّه قال: «في كتاب عليّ : صُم لرؤيته وأفطر لرؤيته، وإيّاك والشكّ والظنّ ، فإنْ خفي عليكم فأتمّوا الشهر الأوّل ثلاثين»(2). ونحوه غيره.
والإسكافي(1)، والسيّد(2)، والحِلّي(3)، والفاضلين(4)، والشهيدين(5) وغيرهم(6)، بل عليه الأكثر كما صرّح به غير واحدٍ(7)، بل المشهور كما في «الجواهر»(8)؟
أو تختصّ حجيّتها بما إذا كانت في السماء علّة، ومع عدمها يعتبر الخمسون، كما عن الشيخ(9)، وبني زُهرة(10)، وحمزة(11)، والبرّاج(12)، وأبي الصّلاح(13)؟
ثمّ إنّ في عبارتهم خلافاً بالنسبة إلى داخل البلد وخارجه، وظاهر بعض كلماتهم أنّ العدلين من خارج البلد تجوزُ شهادتهما، ولو لم تكن في السماء علّة، وظاهر غيره وصريحُ ثالثٍ عدم الفرق بينهما.
وهناك اختلافات أُخر في بعض الخصوصيّات ستمرّ عليك.
أقول: وتنقيح القول بالتكلّم في جهات:
الجهة الاُولى: هل البيّنة وهي شهادة عدلين حجّة مطلقاً أم لا؟ وقد استدلّ للأوّل بوجوه:1.
ص: 270
منها: الإجماع، وقد مرّ ما فيه مراراً.
ومنها: موثّق مسعدة بن صدقة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «كلّ شيءٍ هو لك حلالٌ حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتَدَعه مِن قِبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك ولعلّه حُرٌّ قد باعَ نفسه، أو خُدِع فبيع، أو قُهر فبيع، أو امرأةً تحتك وهي أُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة»(1).
بتقريب: أنّ البيّنة جُعلت غاية لحلّية كلّ شيء، حتّى ولو كانت فيه مستندة إلى اليد أو الاستصحاب، فالحديث يدلّ على حجيّتها بقول مطلق.
ودعوى: أنّها إنّما جُعلت حجّة على الحرمة دون الموضوع الخارجي.
مندفعة: بأنّه بما أنّ مورد الحديث هو الشبهات الموضوعيّة، فالمجعول حجيّة البيّنة في الموضوعات أيضاً.
وإن قيل: إنّه مختصٌّ بالبينة القائمة على موضوعٍ تترتّب عليه الحُرمة، ولا يدلّ على حجيّتها حتّى في موضوع يترتّب عليه حكم آخر.
قلنا: إنّه يتعدّى عنه حينئذٍ بعدم الفصل قطعاً.
أقول: هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه دلالته على حجيّة البيّنة.
ولكن يرد عليه: أنّ البيّنة هي الحجّة الموجبة للظهور، كما هي معناه اللّغوي، والمستعمل فيها في الآيات وكلمات العلماء، كقوله تعالى : (وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ ) (2) وحملها في الموثّق على معناه الجديد يحتاجُ إلى دليلٍ مفقود.7.
ص: 271
فإنْقيل: إنّ القرينة لإرادة معناها الاصطلاحي في الموثّق جعلها في مقابل الاستبانة.
قلنا: إنّه لا يكون قرينةً لذلك، فإنّ الاستبانة هي الظهور من قبل نفسه، والبيّنة هي الظهور بواسطة الدليل.
ومنها: فحوى ما يدلّ على حجيّتها في باب المرافعات من الأموال والدماء والفروج وغيرها، ولا بأس به.
الجهة الثانية: البيّنة حجّة في خصوص الهلال، لدلالة نصوص كثيرة عليها:
منها: موثّق منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ : «فإنْ شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه»(1).
ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: لا أجيز في الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين»(2).
ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «قال عليٌّ عليه السلام: لا تُقبل شهادة النساء في رؤية الهلال إلّاشهادة رجلين عدلين»(3). ونحوها غيرها.
أقول: وبإزاء هذه النصوص طائفتان من الأخبار:
إحداهما: ما يدلّ على قول الشيخ وتابعيه:
1 - كخبر إبراهيم بن عثمان الخزّاز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:
«قلت له: كم يُجزي في رؤية الهلال ؟ فقال عليه السلام: إنّ شهر رمضان فريضةً من فرائض اللّه، فلا تؤدّوا بالتظنّي، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدّة فيقول واحدٌ قد رأيته، ويقول الآخرون لم نره، إذا رآه واحدٌ رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف، ولا0.
ص: 272
يُجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السّماء علّة أقلّ من شهادة خمسين، وإذا كانت في السماء علّة قُبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر»(1).
2 - وخبر حبيب الخزاعي: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: لا تجوزُ الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلاً عدد القسامة، وإنّما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج مصر، وكان بالمصر علّة فأخبرا أنّهما رأياه، وأخبرا عن قومٍ صاموا للرؤية»(2).
ومقتضى هذين الخبرين، أنّه إذا لم يكن في السّماء علّة، يعتبر شهادة خمسين، وإنْ كان فيها علّة يُجتزأ بشهادة عدلين إذا كانا من خارج البلد، وهما أخصّ من النصوص المتقدّمة، فيقيّد إطلاقها بهما.
وأورد عليه بإيرادات:
الإيراد الأوّل: ما في «المنتهى »(3) من منع صحّة سنديهما.
ولعلّ نظره إلى ما قيل من أنّ في طريق الأوّل العبّاس بن موسى ، وهو غير معلوم الحال، وجهالة حبيب الذي هو في سند الثاني.
ولكن يرد على الأوّل: أنّ الظاهر منه بقرينة روايته عن يونس، ورواية سعد عنه أنّه الورّاق الثقة، الذي كان من أصحاب يونس، أضف إليه عمل جمعٍ من أساطين الفنّ بهما.
الإيراد الثاني: ما عن «المعتبر»(4) من أنّ اشتراط الخمسين لم يوجد في حُكمٍ سوى قسامة الدم، ثمّ لا يفيد اليقين، بل قوّة الظنّ ، وهي تحصل بشهادة العدلين.8.
ص: 273
ثمّ قال: وبالجملة فإنّه مخالفٌ لما عليه عمل المسلمين كافّة فيكون ساقطاً.
وفيه: أنّه مع دلالة النصوص عليه، أيّ مانعٍ من الالتزام به، وعمل المسلمين على خلافه، حتّى مع عدم حصول الاطمئنان الذي هو حجّة عقلائيّة غير معلوم.
الإيراد الثالث: ما عن «المختلف»(1)، و «الروضة»(2) وغيرهما(3) من حمل الخبرين على حصول التُّهمة في أخبارهم، قال صاحب «الرياض»(4): (وهو الأقوى لظهور سياقهما فيه). انتهى .
أقول في توضيح ذلك: إنّ المفروض في الخبر الأوّل الذي هو الحجّة دون الثاني، قيام جماعة لرؤية الهلال، ثمّ يقول اثنان إنّا رأيناه، ويقول البقيّة ما رأيناه، ففي الحقيقة ينكرون لما شَهدا به، وهذا عين التُّهمة، ويعضده قوله عليه السلام: (إذا رآه واحدٌ رآه مائة... إلى آخره)، فإنّه بيان لعلّة الاطمئنان بالخطأ في فرض الرواية.
فمحصّل مفاد الخبر: أنّه مع الاطمئنان بخطأ الشاهدين، وكونهما موردا للتُّهمة، من جهة أنّ المستهلّين جماعة سالموا الأبصار، فاقدوا الموانع الخارجيّة والداخليّة، ثمّ ادّعاء بعضهم الرؤية مع إنكار الباقين لها، تجعل البيّنة عديمة حجّة، وهذا أمرٌ ثابتٌ لا اختلاف فيه، ولعلّ مراد المانعين هذه الصورة فيرتفع النزاع رأساً.
فإنْ قيل: بناءً على هذا ما وجه اعتبار شهادة خمسين ؟
قلنا: إنّها تمثيلٌ لما يحصل به الاطمئنان، ولذا ترى في الطائفة الثانية من الأخبار النهي عن الخمسين أيضاً، لاحظ خبر أبي العبّاس، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الصّوم).
ص: 274
للرؤية والفطر للرؤية، وليس الرؤية أن يراه واحدٌ ولا اثنان ولا خمسون»(1).
ونحوه غيره.
الجهة الثالثة: إنّ مقتضى إطلاق النصوص، حجيّة البيّنة، وثبوت الهلال بها، سواءٌ شهدا بها عند الحاكم أم لا، أو شهدا عنده ورد شهادتهما، كما أنّ مقتضاه عدم الفرق بين أن تكون البيِّنة من البلد أو من خارجه، وبين وجود العلَّة في السماء وعدمها، لكن يبقى البحث عن أنّه:
هل يشترط توافقهما في الأوصاف بحيث لو اختلفا فيها لا اعتبار بها؟
أم لا يشترط ذلك ؟
نصَّ على الأوّل غير واحدٍ، بل كأنّه من المسلّمات بينهم.
والحقّ أن يقال: إنّه مع اختلافهما في الأوصاف، إن شهدا بشيءٍ واحد إما لعدم التضادّ بين الوصفين، أو لرجوع شهادة كلّ منهما إلى شهادتين، كأن يشهدا برؤية الهلال، ويشهد أيضاً أحدهما بأنّه كان مُحدّباً إلى الشمال، ويشهد الآخر بأنّه كان محدّباً صوبَ الأرض، فإنّه لا إشكال في اعتبارها، ولا يضرّ مثل هذا الاختلاف.
وأمّا إنْ لزم منه عدم عن موجودٍ شخصي خارجي، كما لو كان الوصفان اللّذان اختلفا فيه متضادّين، وكانت شهادتهما بنحو وحدة المطلوب، فإنّه لا تكون مثل هذه الشهادة حجّة، إذ يعتبر في حجيّة البيّنة الحكاية عن خارجي واحد، فلو شهد أحدهما برؤية الهلال في محلّ من الأُفق، وشهد الآخر برؤيته في ذلك الوقت في محلٍّ آخر، بينهما فاصلةٌ كبيرة لا تثبت بهذه الشهادة الهلال.
ودعوى: أنّهما وإنْ اختلفا في المدلول المطابقي، إلّاأنّهما يتّفقان في المدلول3.
ص: 275
الالتزامي، وهو كون الغد من رمضان، أو رؤية الهلال، والبيّنة كما تكون حجّة في المدلول المطابقي، تكون حجّة في المدلول الالتزامي.
مندفعة: بأنّ حجيّة البيّنة في المدلول الالتزامي، فرع حجيّتها في المدلول المطابقي، فإنّه تابعٌ له وجوداً وحجيّة، فمع عدم حجيّتها في المدلول المطابقي، لا تكون حجّة في الالتزامي منه بالضرورة.
وعلى هذا، فلو شهد أحدهما برؤية الهلال في ليلة الاثنين، والآخر برؤيته في ليلة الثلاثاء، هل تثبت بشهادتهما رؤية الهلال في اللّيلة الثانية، نظراً إلى أنّ الشهادتين تردان على محلٍّ واحد، فإنّ كلّاً منهما يشهد أنّ يوم الثلاثاء من رمضان ؟
أم لا نظراً إلى أنّ من يشهد برؤية الهلال ليلة الاثنين، وإنْ كان المدلول الالتزامي لشهادته كون يوم الثلاثاء من رمضان، لكن مع عدم حجيّة شهادته في مدلولها المطابقي، لا حجيّة لها في مدلولها الالتزامي ؟
وجهان، أظهرهما الأوّل، لأنّ عدم حجيّة شهادة الأوّل بالنسبة إلى مدلولها المطابقي، ليس لقصورٍ فيها، بل هي واجدة لجميع ما يعتبر فيها سوى عدم شهادة الثاني، فإذا تحقّق هذا الشرط ولو بالنسبة إلى مدلولها الالتزامي، أثّرت أثرها.
بل يمكن أن يقال: إنّه من قبيل الدلالة التضمّنيّة، نظير ما إذا شهد واحدٌ بأنّ زيداً أخذ من عمر مائة درهم، وشهد آخر بأنّي رأيتُه يأخذ تسعين درهماً منها ولم أرَ العشرة، فإنّه لا ريب في ثبوت التسعين، فتدبّر.
الجهة الرابعة: ولا يثبت الهلال بشهادة النساء إجماعاً، صرّح به جماعة(1)،3.
ص: 276
والنصوص المتقدّمة شاهدة به، وأمّا خبر داود بن الحُصين، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ : «لا تجوز شهادة النساء في الفطر إلّاشهادة رجلين عدلين، ولا بأس في الصّوم بشهادة النساء ولو امرأة واحدة»(1)، فلمعارضته مع النصوص المتقدّمة، وعدم عمل أحدٍ من الأصحاب به، سيّما مع ما فيه من التفصيل لابدّ من طرحه.
الجهة الخامسة: هل يثبت الهلال بالشهادة على الشهادة، كما صرّح به غير واحدٍ(2) لعموم ما دلّ على قبولها؟
أم لا كما عن تذكرة المصنّف رحمه الله(3)، وأسنده إلى علمائنا، لاختصاص مورد القبول بالأموال وحقوق الآدميّين، ولأصل البراءة، ولما في النصوص المتقدّمة من أنّه لا يثبت الهلال إلّابشهادة رجلين عدلين ؟ وجهان، أظهرهما الأوّل، لأنّ البيّنة حجّة مطلقاً كما مرّ، وأصالة البراءة لا تجري مع الإطلاق، ولا ينافي ذلك مع النصوص المتقدّمة، لأنّه بهذه الشهادة تثبت شهادة رجلين عدلين، وبها يثبت الهلال.
أقول: والكلام عنه يقع في موردين:
الأوّل: في أنّه هل يكون خبر الواحد حجّة في الموضوعات، كما هو حجّة في الأحكام أم لا؟
الثاني: في خصوص ثبوت الهلال به.
أمّا المورد الأوّل: فالأظهر حجيّته فيها، لعموم ما دلّ على حجيّته في الأحكام من بناءً العقلاء، وسيرة المتشرّعة، ومفهوم آية النبأ(1).
واستدلّ لعدم حجيّته: بموثّق مسعدة بن صدقة المتقدّم: (والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة) فإنّه دلَّ على انحصار الحجّة في الموضوعات بالعلم الوجداني والبيّنة، فيكون رادعاً عن بناءً العقلاء والسيرة، ومقيّداً لإطلاق مفهوم الآية الكريمة، فإنّ النسبة بينهما وإن كانت عموماً من وجه، إلّا أنّ دلالة الموثّق تكون بالعموم، ودلالة الآية بالإطلاق، وقد حُقّق في محلّه أن ما دلالته بالعموم مقدّمٌ على ما تكون دلالته بالإطلاق.
وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ المراد بالبيّنة الحجّة، وما يكونُ مثبتاً للشيء، وعليه فالأدلّة المتقدّمة حاكمة عليه.
وثانياً: إنّه بناءً على ما هو الحقّ الثابت في محلّه، من قيام الأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة، يصبح خبر العدل الواحد من مصاديق الاستبانة بالحكومة، ويشمله الشقّ الأوّل المأخوذ في الموثّق.
فإنْ قيل: إنّه على هذا يلغو ذكر البيّنة.
قلنا: إنّها إنّما ذُكرت على هذا للتنبيه على حجيّتها، مع أنّ ذكرها حينئذٍ من6.
ص: 278
قبيل ذكر الخاص بعد العام.
وثالثاً: إنّه مع الإغماض عن جميع ما ذكر، لا يكون خبر الواحد حجّة في مورد الموثّق، وهو ما إذا كان معارضاً باليد أو الاستصحاب لا مطلقاً.
ورابعاً: إنّا لا نُسلّم تقدّم ما دلالته بالعموم على ما تكون دلالته بالإطلاق، بل يعامل معهما معاملة المتعارضين، وحيثُ إنّ أحد طرفي التعارض الآية الشريفة، فلا وجه للرجوع إلى المرجّحات غير الموافقة للكتاب، فيقدّم الكتاب.
وبالجملة: فالأظهر حجيّته فيها مطلقاً إلّاما خرج بالدليل، وتعضد ما ذكرناه النصوص الواردة في الأبواب المتفرّقة، الدالّة على ثبوت الموضوعات الخاصّة به مثل ما ورد في ثبوت الوقت بأذان الثقة العارف بالوقت(1)، وما دلَّ على جوار وطئ الأمَة إذا كان البائع عادلاً أخبر باستبرائها(2)، إلى غير ذلك من الأبواب المتفرّقة.
وأمّا المورد الثاني: فالنصوص المتقدّمة المتضمّنة أنّه لا يجوز إلّاشهادة رجلين عدلين بالمفهوم، تدلّ على عدم حجيّة شهادة العدل الواحد، وقد استدلّ بها الأصحاب في المقام لذلك.
ولكن يمكن أن يقال: إنّ دلالة تلك النصوص على ذلك إنّما تكون بالإطلاق، لأن المأخوذ في المنطوق قيود كون الشاهد رجلاً، وكونه عدلاً، وكونه اثنين، فمفهومها عدم الثبوت مع فقد أحد القيود، ممّا يعني عدم حجيّة شهادة النساء، وغير العدل والواحد، وعليه فدلالتها تكون بالإطلاق، فيقع التعارض بين مفهومها ومفهوم آية النبأ(3)، الدالّ على حجيّة خبر العدل الواحد في الموضوعات مطلقاً،6.
ص: 279
والنسبة عموم من وجه، والمختار عندنا في تعارض العامين من وجه، أنّه لا يُحكم بالتساقط، بل لابدّ من الرجوع إلى المرجّحات السنديّة، وحيث إنّ أحد الطرفين الكتاب وسنده قطعي، فيقدّم ذلك على النصوص.
وبالجملة: فالأظهر حجيّته فيه.
أقول: وربما يستدلّ لها بصحيح محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو شهد عليه عدلٌ من المسلمين»(1).
وأورد عليه بإيرادات:
الإيراد الأوّل: إنّه ضعيف السند، لاشتراك محمّد بن قيس بين الضعيف والثقة.
وفيه: الظاهر بقرينة كون الراوي عنه يوسف بن عقيل أنّه هنا البَجَليّ الثقة.
الإيراد الثاني: إنّه واردٌ في هلال شوّال.
وفيه: أنّه يثبت به هلال رمضان لعدم الفصل القطعي.
الإيراد الثالث: إعراض الأصحاب عنه.
وفيه: أنّه يمكن أن يكون عدم عملهم به لبعض ما ذُكر، لا للإعراض عن السند، فلا موهنٌ له.
الإيراد الرابع: إنّ لفظ (العدل) يُطلق على الواحد فما زاد، لأنّه مصدرٌ يقع على القليل والكثير، فيُقال رَجلٌ عَدلٌ ، ورجلان عَدل، ورجالٌ عَدل.
وفيه أوّلاً: إنّه ظاهرٌ في إرادة الواحد.
وثانياً: إن غاية ذلك الإطلاق، فيدلّ بإطلاقه على حجيّته.
الإيراد الخامس: إنّه معارضٌ مع ما هو أصحّ سنداً وأكثر عدداً منه.2.
ص: 280
وفيه: إنّه لو دلَّ على حجيّة خبر الواحد في ثبوت الهلال، كان أخصّ من النصوص المتقدّمة فتقيّد به، ولا تلاحظ النسبة.
الإيراد السادس: اضطرابه، فقد رواه الشيخ في «الاستبصار»(1) بضبطين:
أحدهما: ما ذكر.
والثاني: «إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو تشهد بيّنةَ عَدلٍ من المسلمين».
وفي «التهذيب»(2) بضبطين أيضاً:
أحدهما: ما سمعت.
والثاني: «إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو أشْهِدوا عليه عدولاً من المسلمين».
أقول: إن ثبت أنّ الخبر واحدٌ منقول بطريقين أو بطرق يسقط عن الحجيّة في غير المتيقّن، وأمّا إذا احتملنا أنّ أبا جعفر عليه السلام نقل عن عليّ عليه السلام متوناً أو متنين، وسمع محمّد بن قيس كلّ مرّة كيفيّة منها، ونقلها لأصحابه، كما أنّا نحتمل ذلك إنصافاً، فلا وجه لرفع اليد عن ظاهر الخبر، ولكن احتمال وحدة الخبر قوي جدّاً.
وأمّا خبر داود بن الحُصين المتقدّم الوارد فيه قوله عليه السلام: (ولا بأس بالصوم بشهادة النساء ولو امرأة واحدة)، فقد مرّ أنّه لا يُعمل به في أصله فكيف بفرعه.
وأمّا خبر يونس بن يعقوب،: «قال له غلامٌ : إنّي رأيتُ الهلال ؟ قال: فاذهب فأعلمهم»، فلا يدلّ على قبول شهادته، بل أمره بالشهادة لجواز أن يكون رآه غيره أيضاً.
***3.
ص: 281
الأمر الرابع: الشياع بأن تصبح رؤية الهلال شائعة عند أهل البلد، بلا خلافٍ فيه في الجملة، بل عليه الإجماع القطعي(1).
إنّما الكلام في أنّه هل يختصّ حجيّته بما إذا أفاد العلم أو الاطمئنان الذي هو حجّة عقلائيّة، أم يكون الشياع الظنّي حجّة بنفسه أيضاً؟
ذهب إلى الأوّل جماعة(2)، وإلى الثاني المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(3)، والشهيدالثاني(4).
أقول: يقع الكلام فيه في موردين:
الأوّل: في حجيّة الشياع الظنّي مطلقاً.
الثاني: في حجيّته في خصوص المقام.
أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ للحجيّة بوجوه:
الوجه الأوّل: بمرسل يونس، المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة، من غير مسألةٍ إذا لم يعرفهم ؟ فقال عليه السلام: خمسة أشياء يجبُ على النّاس أن يأخذوا فيها بظاهر الحكم: الولايات، والمناكح، والذبائح، والمواريث، والشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً، جازت شهادته، ولا يسأل عن باطنه»(5).
ص: 282
بتقريب: أنّ المراد بالحكم في قوله: (بظاهر الحكم) هو النسبة الخبريّة، وظهور هذه النسبة عبارة عن الاستفاضة والشيوع، مثلاً يقال: إنّ خبر مجىء زيد كان ظاهراً في البلد، فيما إذا كان ذلك شائعاً، فيدلّ المرسل على أنّه يجوز الأخذ بهذا الظهور الخبري في الموارد الخمسة، فيثبت في غيرها بعدم القول بالفصل.
وفيه: أنّ الظاهر منه إرادة النسبة لا الخبريّة، وظهور النسبة عبارة عن ظهور الحال، وهو غير ظهور الخبر عنها وشيوعه، مثلاً قد يكون ولديّة زيدٍ لعمرو ظاهرة، ولكن الخبر عنها ليس شائعاً، والشاهد على كون المراد به ما ذكرناه - مضافاً إلى ظهوره - قوله عليه السلام في ذيل الخبر: (فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً... إلى آخره) فإنّه صريحٌ في إرادة الظاهر في قبال الباطن، أضف إلى ذلك أنّ عن بعض نسخ «التهذيب»(1) (ظاهر الحال) بدل (ظاهر الحكم)، وعليه فالأمر واضح.
فمحصّل ما يستفاد من الخبر: أنّه في الموارد الخمسة يجوزُ الأخذ بظاهر الحال، ففي مورد الشهادة إذا كان الشاهد ظاهر الصّلاح عند النّاس تُقبل شهادته.
الوجه الثاني: صحيح حريز، المتضمّن لقصّة، إسماعيل وفيه:
«فقال إسماعيل: يا أبه إنّي لم أره يشرب الخمر، إنّي سمعتُ النّاس يقولون.
فقال عليه السلام: يا بُني إنّ اللّه يقول في كتابه: (يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (2)يقول: يصدق اللّه ويصدق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم، ولا تأتمن شارب الخمر»(3).
بتقريب: أنّه عليه السلام أمر بترتيب آثار الواقع على مجرّد قول النّاس، الذي هو1.
ص: 283
عبارة عن الشياع، وجعله عليه السلام من يقول النّاس إنّه يشرب الخمر شارب الخمر، وهذا عبارة أُخرى عن حجيّة الشياع.
وفيه: أنّ المأمور به ليس ترتيب آثار الواقع بأجمعها، بل خصوص ما ينتفع المخبر إليه، ولا يضرّ المخبر عنه.
وبعبارة أُخرى : لا ملازمة بين تصديق الُمخبِر المأمور به في الخبر، وبين العمل على طبق قوله، ويشهد لما ذكرناه قوله عليه السلام في خبرٍ آخر:
«كَذّب سَمعك وبَصَرك عن أخيك، فإنْ شَهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولاً، وقال لم أقله فصدّقه وكذّبهم»(1)، فإنّه أمر بتكذيب خمسين قسامة وتصديق قول الواحد، وليس ذلك إلّالما ذكرناه.
الوجه الثالث: إنّ الظنّ الحاصل من الشياع، أقوى من الظنّ الحاصل من البيّنة العادلة.
وفيه: أنّه لم يثبت كون ملاك حجيّة البيّنة العادلة إفادتها الظنّ ، بل الثابت خلافه.
فالمتحصّل: أنّه لا دليل على حجيّة الشياع الظنّي مطلقاً، ويشهد لعدم حجيّته ما دلّ على عدم حجيّة الظنّ من الآيات والروايات.
وأمّا المورد الثاني: فقد استدلّ لحجيّة الشياع مطلقاً في خصوص المقام بعدد من النصوص:
منها: خبر سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سأله عن اليوم في شهر رمضان يختلف فيه ؟ قال: إذا اجتمع أهل مصرٍ على صيامه للرؤية، فاقضه إذا كان أهل المصر5.
ص: 284
خمسمائة إنسان»(1).
ومعلوم أنّ ذكر خمسمائة إنّما هو من باب المثال، وإلّا فلا خصوصيّة لهذا العدد، والميزان هو الشياع، وحيثُ أنّ المفروض في السؤال الاختلاف في شهر رمضان، وعدم حصول العلم، فالخبر يدلّ على حجيّة الشياع الظنّي.
ومنها: خبر أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام: «صُم حين يصوم النّاس، وأفطر حين يفطر النّاس، فإنّ اللّه تعالى جعل الأهلّة مواقيت»(2).
ومنها: خبر عبد الحميد الأزدي: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أكون في الجبل في القرية، فيها خمسمائة من النّاس ؟ فقال عليه السلام: إذا كان كذلك فصُم لصيامهم، وأفطر لفطرهم»(3).
قال الشيخ رحمه الله(4): (يريد بذلك أنّ صومهم إنّما يكون للرؤية، فإذا لم يستفض الخبر عندهم برؤية الهلال، لم يصوموا على ما جرت به العادة في بلاد الإسلام)، انتهى .
ومنها: خبر عبد الرحمن، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن هلال رمضان يغمُّ علينا في تسع وعشرين من شعبان ؟ فقال عليه السلام: لا تَصُم إلّاأن تراه، فإنْ شهد أهل بلدٍ آخر فاقضه»(5).
ومنها: ما ورد في خبره الآخر: «لا تَصُم ذلك اليوم إلّاأن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصمه»(6).0.
ص: 285
إلى غير ذلك من النصوص.
أقول: وأورد على الاستدلال بها:
تارةً : بما في «الجواهر»(1) من أنّه لا دلالة لها على غير المفيد للعلم، لعدم ذكر الشياع فيها نفسه حتّى يستند إلى صدقه بدعوى شموله للأعمّ .
وأُخرى: بما في «الرياض»(2) و «المستند»(3) من استفاضة الأخبار بأنّه ليس الهلال بالرأي ولا الظنّ .
ولكن يرد الأوّل: أنّه لا ينحصر استفادة العموم بوجود لفظ (الشياع)، بل يمكن الاستفادة مع وجود مفاهيم متقاربة معه، بل عرفت أنّ مورد خبر سماعة عدم العلم.
ويرد على الثاني: أنّ الشياع الظنّي إذا صار حجّة، كان دليله حاكماً على تلك الأدلّة، ويدلّ على أنّه ليس من الظنّ ، كحكومة أدلّة حجيّة الظنون الخاصّة على العمومات، الدالّة على عدم حجيّة الظنّ ، فالمانع عن الإفتاء ينحصر في عدم إفتاء القوم بها، وإلّا فالنصوص دالّة عليها.
***5.
ص: 286
الأمر الخامس: حكم الحاكم، كما هو ظاهر الأصحاب على ما في «الحدائق»(1)، وخالفهم صاحبا «الحدائق»(2) و «المستند»(3) تبعاً لبعض الأفاضل(4)، وتبعهم بعض أعاظم العصر(5).
واستدلّ للأوّل بوجوه:
الوجه الأوّل: ما في «الجواهر»(6) وغيرها(7) من دعوى إطلاق ما دلّ على نفوذه، وعدم جواز ردّه.
وفيه: أنّ تلك الأدلّة واردة فيما يتعلّق بالدعاوي والقضاء بين الخصوم والفتوى في الأحكام، ولا تشمل المقام.
الوجه الثاني: عموم أدلّة النيابة الثابتة للفقيه، بتقريب أنّه لا ريب في أنّ زمان رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان هو الحاكم بذلك ويتبعه النّاس، وكذلك في أيّام أميرالمؤمنين عليه السلام، وأمّا في عصر سائر الأئمّة، فعدم حكمهم في مثل هذه القضيّة إنّما كان لأجل التيقيّة، وتصدّي غيرهم مقامهم.
وفيه: أنّه قد تقدّم في بحث ولاية الفقيه من هذا الشرح أنّه لا دليل على
ص: 287
عموم نيابة الفقيه، وأن من جميع ما ذكروه من الأدلّة، لا يستفاد منها إلّامرجعيّة الفقهاء للقضاء والفتوى.
الوجه الثالث: التوقيع الشريف: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اللّه»(1).
بتقريب: أنّه يدلّ على لزوم الرجوع في الحوادث الواقعة إلى المجتهدين، ومن تلك الحوادث الهلال.
وفيه: أنّه فرقٌ واضحٌ بين التعبير بإرجاع الشيء إلى شخصٍ ، وبين التعبير بالرجوع فيه إليه، فإنّ الظاهر من الأوّل إيكال ذلك الشيء إليه، ومن الثاني الرجوع في حكمه إليه، وفي التوقيع الشريف حيث يكون بالثاني، فلا محالة يكون ظاهراً في الرجوع إليهم في الأحكام الشرعيّة.
الوجه الرابع: خبر رفاعة، عن رجلٍ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:
«دخلتُ على أبي العبّاس بالحيرة، فقال: يا أبا عبد اللّه ما تقولُ في الصيام اليوم ؟ فقلتُ : ذاك إلى الإمام إنْ صمتَ صُمنا، وإنْ أفطرتَ أفطرنا، الحديث»(2).
بتقريب: أنّ صدره متضمّنٌ لأنّ ذلك وظيفة أئمّة المسلمين، بأن يحدّدوا الصوم والعيد، وعلى النّاس متابعتهم، غاية الأمر طبقه المعصوم عليه السلام على أبي العبّاس تقيّةً ، فالتقيّة إنّما هي في تطبيق الكبرى على المورد، لا في أصل الكبرى الكليّة.
ودعوى: أنّه يُعلم بأنّ في الخبر تقيّة إمّا في بيان الكبرى أو الصغرى، فلا يصحّ الاستدلال بها، لعدم جريان أصالة عدم التقيّة في الكبرى ، لابتلائها بالمعارض.7.
ص: 288
مندفعة: بأنّه حيثُ لا تجري أصالة عدم التقيّة في التطبيق على كلّ تقدير، إمّا على فرض كونه تقيّة فواضح، وإمّا على فرض كون الكبرى تقيّة فلأنّه أحد مصاديقها، فتجري أصالة عدم التقيّة في الكبرى.
ولكن يرد عليه أوّلاً: أنّه مرسل.
وثانياً: أنّ كون المراد ب (الإمام) من يشمل الحاكم الشرعي غير معلوم، وعمومات أدلّة النيابة قد عرفت ما فيها.
وأضعف من ذلك: الاستدلال بقوله عليه السلام في خبر ابن عمارة: «ما صومي إلّا بصومك، ولا إفطاري إلّابإفطارك»(1)، فهو صادرٌ تقيّة قطعاً.
نعم، يستفاد من الخبرين أنّ ذلك من وظائف الحكّام والقضاة، وأنّ بناءً المسلمين كان على الرجوع إليهم، فإذا حكموا أفطروا وصاموا بمجرّد الحكم، وليكن ذلك على ما ذُكر منك فإنّه ينفعك.
الوجه الخامس: صحيح محمّد، عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً، وأمر الإمام بإفطار ذلك اليوم، إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، وإنْ شهدا بعد زوال الشمس، أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم، وأخّر الصَّلاة إلى الغد فصلّى بهم»(2).
وفيه: أنّ الظاهر من كلمة (الإمام) - ولا أقلّ من المحتمل - هو إمام الأصل، ولم يدلّ دليل على قيام المجتهد مقامه في أمثال ذلك.
وممّا يشهد أنّ المراد هو إمام الأصل، قوله: (فصلّى بهم) لما عرفت في مبحث1.
ص: 289
صلاة العيد أنّه لا يشرع الجماعة فيها إلّامع إمام الحقيقي.
أقول: فالحقّ أن يستدلّ له:
1 - بمقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ : «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(1).
2 - ومشهورة أبي خديجة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً»(2).
بتقريب: أنّهما يدلّان على أنّ المجتهدين حُكّام وقضاة بجعله عليه السلام، فيثبت لهم جميع ما هو من مناصب القضاة والحكام، كالولاية على الأوقاف والأيتام والمجانين، ومن المعلوم أنّ الحكم بالهلال من وظائفهم التي كانوا يتناولونها، وكذا الآن، ومن الواضح والضروريّ أنّ كلّ فردٍ من المسلمين في عصر صدور هذه الأخبار، وكذا ما بعد ذلك إلى الآن، لا يتصدّى لرؤية الهلال ولا لتحصيل طريق آخر كالبيّنة، بل إنّما يرجع الأكثر إلى حكّام الشرع فإذا حكموا صاموا أو أفطروا بمجرّد الحكم، وإنْ شئتَ فاختبر ذلك في هذه الأزمنة في صورة الاختلاف، والنصوص المتقدّمة تشير إلى ذلك، فالحكم بالهلال من المناصب التي فوّضها الحجّة من اللّه إلى حججه، فلهم ذلك، بل ريب ولا إشكال، فما عن جمعٍ من المحقّقين(3) من عدم حجيّة حكم الحاكم في ثبوت الهلال في غير محلّه.1.
ص: 290
وأخيراً: مقتضى إطلاق ما ذكرناه من الدليل، عدم الفرق في ذلك:
بين أن يكون مستند الحكم البيّنة أو الشياع العلمي أو غيرهمامن الأمارات المثبتة.
وبين أن يكون علم الحاكم بنفسه، بناءً على جواز حكمه في باب القضاء بعلمه، كما هو الظاهر على ما حُقّق في محلّه.
كما أنّ مقتضى إطلاق الدليل نفوذ حكمه على الحاكم الآخر أيضاً، ويدلّ على ذلك - مضافاً إلى الإطلاق - ما في ذيل المقبولة من الرجوع إلى قواعد التعارض عند اختلاف الحَكَمين، ومعلوم أنّ ذلك وظيفة المجتهد كما هو ظاهر.
لا يجوز فيما لو حكم الحاكم بثبوت الهلال نقضه وردّه، إجماعاً في الجملة(1).
ويشهد به: قوله عليه السلام في المقبولة المتقدّمة: «فإذا حَكَم بحُكمنا فلم يُقبل منه، فإنّما بحكم اللّه استخفَّ ، وعلينا رَدّ، والرّاد علينا كالرّاد على اللّه تعالى وهو على حَدّ الشرك باللّه». وهذا لا كلام فيه.
إنّما الكلام في أنّ جماعة من الأساطين، منهم المصنّف رحمه الله في «القواعد»(2)و «الإرشاد»(3)، والمحقّق في «الشرائع»(4) استثنوا من ذلك ما إذا تبيّن خطائه، وأضاف بعضهم إليه(5): (أو تبيّن خطاء مستنده).
ص: 291
والظاهر أنّ مرادهم بالأوّل العلم الوجداني بالخطأ، وبالثاني إحراز تقصيره في الاجتهاد.
قال السيّد الطباطبائي في ملحقات «العروة»(1): (لايجوز نقضه، إلّاإذا علم علماً قطعيّاً بمخالفته للواقع، بأن كان مخالفاً للإجماع المحقّق، أو الخبر المتواتر، أو إذا تبيّن تقصيره في الاجتهاد، ففي غير هاتين الصورتين لا يجوز له نقضه، وإنْ كان مخالفاً لرأيه، بل وإنْ كان مخالفاً لدليل قطعي نظري) انتهى .
والظاهر من هذه العبارة، جواز النقض في خصوص ما إذا كان التقصير في الاجتهاد عمداً أو سهواً، وإلّا فلا يجوز النقض.
وكيف كان، فلا إشكال في أنّه إذا علم تقصير الحاكم في الاجتهاد، وأنّه حكمٌ على خلاف موازين الاستنباط، جاز نقضه، لأنّه يصير بذلك ساقطاً عن الأهليّة، مع أنّ الحاكم بنفسه لا يراه حكمهم، فلا يشمله قوله عليه السلام: (فإذا حَكَم بحُكمنا)، كما أنّه إذا كان الحكم فاقداً لبعض الشرائط المعتبرة فيه عند الحاكم غفلةً منه، كما لو حكم بشيءٍ استناداً إلى شهادة رجلين فاسقين غفلةً عن كونهما كذلك، فإنّ الحاكم بنفسه لا يراه حكمهم الذي هو الموضوع.
وأمّا إذا لم يقصّر في مقدّمات الاستنباط، وكان استنباطه على وفق الموازين، ولكن المجتهد الآخر يرى خطأه في المستند، مثلاً كان يرى الحاكم حجيّة الشياع الظنّي، والمجتهد الآخر يرى عدمها، فحَكَم الحاكمُ بثبوت الهلال مستنداً إليه، فلايجوز نقضه إلّاإذا علم بالعلم الوجداني مخالفته للوقع، أمّا المستثنى منه فلإطلاق الدليل.6.
ص: 292
فإنْ قيل: إنّ المأخوذ في موضوع عدم جواز الرّد حُكمه بحكمهم عليهم السلام، وإذا حكم الحاكم مستنداً إلى ما لا يراه المجتهد الآخر حجّة، يكون الحكم بنظره خلاف حكمهم، فلا يشمله الدليل.
قلنا: إنّ المراد به هو الحكم بما يراه أنّه حكمهم عليهم السلام، لا بما هو حكمهم في نظر غيره، وإلّا لزم عدم حجيّة حكمه في موردٍ، إلّامع إحراز مطابقته للواقع.
وأيضاً: إن مورد المقبولة النزاع في الحكم الكُلّي، واستناد كلٍّ من المتنازعين إلى حجّة غير ما استند إليه الآخر، فلا محالة يكون حُكم الحاكم في هذا المورد مخالفاً لما يراه أحدهما أو كلاهما حكم اللّه الكلّي اجتهاداً أو تقليداً، فيلزم عدم حجيّته، ولغوية الرجوع إليه.
وأمّا المستثنى : فمقتضى إطلاق المقبولة وإنْ كان عدم جواز النقض.
- ودعوى: أنّ وجوب القبول إنّما يكون وجوباً طريقيّاً، وحجيّة الحكم نظير حجيّة الخبر على نحو الطريقيّة لا الموضوعيّة.
مندفعة: بأنّ ذلك خلاف الظاهر جدا، سيّما بعد ملاحظة مورد المقبولة الظاهر في اجتهاد المتنازعين أو هما معاً كما مرّ -.
ولكن لا يبعد دعوى الانصراف عن ذلك، سيّما ومن البعيد جدّاً وجوب قبول حُكمٍ بخلاف ما أنزل اللّه تعالى ، ويكون الرّاد عليه كالرّاد على اللّه تعالى .
***
ص: 293
أقول: ينبغي التنبيه على أُمور تتعلّق برؤية الهلال:
التنبيه الأوّل: اختلف الأصحاب في أنّه هل يثبت الهلال برؤيته قبل الزَّوال من يوم الثلاثين، فيحكم بكون ذلك اليوم أوّل الشهر، أم لا يثبت، بعد اتّفاقهم على عدم ثبوته برؤيته بعد الزَّوال ؟
فعن الأكثر عدم الثبوت(1)، بل في «الجواهر»(2): (المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة يمكن تحصيل الإجماع معها) انتهى .
وفي «التذكرة»(3): نسبته إلى علمائنا أجمع.
وعن ظاهر الكُليني(4)، وعن الصّدوق في «المقنع»(5) و «الفقيه»(6)، والسيّد المرتضى في «الناصريّات»(7)، وجماعة من متأخّري المتأخّرين كالعلّامة الطباطبائي في مصابيحه(8)، والفاضل السبزواري في ذخيرته(9)، والمحدِّث
ص: 294
الكاشاني في «الوافي»(1)، والفاضل النراقي في «المستند»(2) وغيرهم(3): أنّه يثبت برؤيته قبل الزَّوال.
وعن «الناصريّات»(4): دعوى إجماع الفرقة المُحقّة عليه، وهو مختار المصنّف في محكيّ «المختلف»(5)، لكنّه في خصوص الصّوم.
وقد استدلّ الأوّلون بوجوه:
الوجه الأوّل: الاستصحاب، بناءً على جريانه في الزمان.
وفيه: أنّه يرجع إليه مع عدم الدليل.
الوجه الثاني: إطلاق النصوص الكثيرة، الدالّة على أنّ الصّومُ للرؤية والإفطار للرؤية، حيثُ إنّ المتبادر منها الرؤية اللّيليّة، وتدلّ بالظهور أو الصراحة على حصر الطريق بذلك، أضف إليه أنّ الأمر بالصوم فيها إنّما يكون قبل دخول وقت الصّوم، إذ لو أمر به بعد مُضيّ جزءٍ من وقته، فإمّا أن يتوجّه إلى مجموع الوقت أو إلى اللّيلة المستقبلة من النهار، والأوّل باطلٌ لانتفاء القدرة عليه، وكذا الثاني لعدم كونه صوماً شرعيّاً، فيتعيّن كون المراد الأمر بصوم يوم ليلة الرؤية وإفطار يوم ليلتها.
وفيه أوّلاً: منع تبادر الرؤية اللّيليّة، إذ لا منشأ له سوى التعارف والشيوع، وهو لا يصلح منشئاً للتبادر والانصراف، ولذا استدلّ بها الآخرون على ما3.
ص: 295
اختاروه، والأمر بالصوم للرؤية ليس حكماً تأسيسيّاً غير حكم وجوب صوم رمضان، فمفاده أنّ هذا اليوم من رمضان فيجبُ صومه، وحيث إنّه لم يكن ثابتاً من أوّل النهار لم يكن يجب ذلك ظاهراً وإنْ كان في الواقع مأموراً به، ولذا لو صام اجتزأ به وهو ظاهر.
وثانياً: إنّ منطوق تلك النصوص وهو طريقيّة الرؤية اللّيليّة على فرض تسليم ظهورها فيها، لا ينافي النصوص المتضمّنة لطريقيّة الرؤية قبل الزَّوال الآتية، بل المنافي مفهومها وهو عدم طريقيّة غيرها، وهو مطلقٌ فيقيّد إطلاق مفهومهابماسيأتي من النصوص، وعليه فلا وجه لجعل صاحب «الجواهر»(1) الطائفتين متعارضتين.
الوجه الثالث: صحيح محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام:
«قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا رأيتم الهلال فأفطروا، أو شهد عليه عَدلٌ من المسلمين، وإنْ لم تروا الهلال إلّامن وسط النهار أو آخره فأتمّوا الصيام إلى اللّيل»(2).
فإنّ الوسط قبل الزَّوال، إذ اليوم من أوّل طلوع الفجر، فيدلّ الصحيح على أنّه لو رأى الهلال قبل الزَّوال من يوم الثلاثين من رمضان، وجب عليه أن يُتمّ صومه.
وفيه: أنّ (النهار) في عُرف النّاس من طلوع الشمس إلى غروبها، كما صرّح به في «مجمع البحرين»(3)، واستعمال (نصف النهار) على أوّل الزَّوال شائع، في الكلمات، فيدلّ الصحيح بقرينة ذكر (من) في قوله: (من وسط النهار)، وذكر (آخره) على).
ص: 296
اختصاص ذلك بما إذا رأى الهلال بعد الزَّوال، ولا يجب إتمام الصّوم، مع أنّه إن لم يدلّ الصحيح على القول الآخر، فلا أقلّ من سكوته عن بيان حكم ما لو رأى الهلال قبل الزَّوال.
الوجه الرابع: مكاتبة محمّد بن عيسى ، قال: «كتبتُ إليه عليه السلام: جُعِلْتُ فداك ربما غُمَّ علينا الهلال في شهر رمضان، فنرى الغد الهلال قبل الزَّوال، وربما رأيناه بعد الزَّوال، فترى أن نفطر قبل الزَّوال إذا رأيناه أم لا، وكيف تأمر في ذلك ؟ فكتب عليه السلام:
تتمّ إلى اللّيل، فإنّه إنْ كان تامّاً رؤي قبل الزَّوال»(1).
ولا مجال للمناقشة فيها من حيث السند، إذ الظاهر اعتبار سندها، خصوصاً بعد عمل الأصحاب، كما لا مجال للإيراد عليها بعدم معلوميّة المكتوب إليه، فإنّ الظاهر كونه الإمام، وفي الخبر قرائن تشهد بذلك.
ولكن يرد عليها: أنّها مرويّة في «التهذيب»(2): (وربما غُمَّ علينا هلال شهر رمضان)، وعليه فاليوم الذي يرى فيه الهلال الثلاثون من شعبان، فالأمر بالصيام إلى اللّيل يدلّ على اعتبار الرؤية قبل الزَّوال، بل على تقدير صحّة النقل الأوّل يكون الخبر قابلاً للحمل على ذلك.
ولا منافاة بين ذلك وقول السائل: (فترى أن نفطر) فإنّه يلائم مع السؤال عن ثبوت رمضان وعدمه.
الوجه الخامس: خبر جرّاح المدائني، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «من رأى هلال2.
ص: 297
شوّال بنهارٍ في شهر رمضان فليتمّ صيامه»(1).
وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السندلقاسم بن سليمان، واستناد الأصحاب إليه غير ثابت.
وثانياً: أنّه أعمّ مطلقاً من النصوص الآتية، فيقيّد إطلاقه بها.
وتشهد للقول الثاني: جملةٌ من النصوص:
منها: مصحّح حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا رأوا الهلال قبل الزَّوال فهو للّيلة الماضية، وإذا رأوه بعد الزَّوال فهو للّيلة المستقبلة»(2).
ومنها: موثّق عبيد بن زرارة وعبد اللّه بن بُكير، قالا: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: إذا رؤي الهلال قبل الزَّوال، فذلك اليوم من شوّال، وإذا رؤي بعد الزَّوال فذلك اليوم من شهر رمضان»(3).
ومنها: موثّق إسحاق بن عمّار، عنه عليه السلام: «عن هلال رمضان يَغمُّ علينا في تسع وعشرين من شعبان ؟ فقال عليه السلام: لا تصمه إلّاأن تراه، فإنْ شهد أهل بلدٍ آخر أنّهم رأوه فاقضه، وإذا رأيته من وسط النهار فأتمّ صومه إلى اللّيل»(4). ونحوها غيرها.
وأورد عليه تارةً : بإعراض الأصحاب عنها.
وفيه: بعدما عرفت من إفتاء جماعة بما تضمّنته، وادّعاء السيّد الإجماع عليه(5)، لا يبقى مجالٌ لذلك.
وأُخرى : بمخالفتها لظواهر القرآن والأخبار المتواترة.1.
ص: 298
قال في محكيّ «الوافي»(1): (وليتَ شعري ما موضع دلالة خلاف مقتضى الخبرين في القرآن والأخبار المتواترة، وليس في القرآن والأخبار إلّاأنّ تحقّق دخول الشهر إنّما هو بالرؤية أو مُضيّ ثلاثين يوماً، وأمّا أنّ الرؤية المعتبرة فيه متى تتحقّق، وكيف تتحقّق، فإنّما تتبيّن بمثل هذه الأخبار ليس إلّا) انتهى .
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر بحسب الأدلّة، ثبوت الهلال برؤيته قبل الزَّوال من يوم الثلاثين.
***0.
ص: 299
التنبيه الثاني: قد يقال بثبوت الهلال بأُمور أُخر:
منها: الجداول، والمراد به:
إمّا التقويم المتعارف الموضوع لضبط بعض الأحوال المتعلّقة ببعض الكواكب في السنة.
وإمّا جدول أهل الحساب، المتضمّن لثبت الشهر تامّاً وشهر ناقصاً سوى الكبيسة، صرّح به في محكيّ «الروضة»(1).
والمشهور بين الأصحاب(2) عدم ثبوت الهلال به، وعن غير واحدٍ(3) دعوى الإجماع عليه.
ويشهد لعدم الثبوت به:
1 - الأصل وهو الاستصحاب.
2 - والنصوص الدالّة على عدم العبرة بالظنّ فيه.
3 - ومفهوم ما دلّ على حصر المثبت في الرؤية، وشهادة رجلين عدلين.
وقد يستدلّ لعدم ثبوته به: بصحيح محمّد بن عيسى ، قال: «كتبَ إليه أبو عمر:
أخبرني يا مولاي أنّه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان، ولا نراه ونرى السماء
ص: 300
ليست فيها علّة، ويفطر النّاس، ونفطر معهم، ويقول قومٌ من الحساب قبلنا أنّه يُرى في تلك اللّيلة بعينها بمصرَ وإفريقيّة والأندلس، هل يجوزُ يا مولاي ما قال الحساب في هذا الباب، حتّى يختلف الفرض على أهل الأمصار، فيكون صومهم خلاف صومنا، وفطرهم خلاف فطرنا؟
فوقّع عليه السلام: لا صوم من الشكّ ، أفطر لرؤيته وصُم لرؤيته»(1).
بناءً على أنّ المراد أنّه لا يحصل من قول أهل الحساب سوى الشكّ ، ولا يعتنى به، فتأمّل.
وأمّا النبويّ الذي ذكره المحقّق في «المعتبر»(2): «من صَدّق كاهناً أو منجّماً فهو كافرٌ بما أنزل على محمّد صلى الله عليه و آله»(3)، الذي استدلّ به بعضهم لردّ ذلك، فهو غير مربوط بالمقام، أي معرفة الأهلّة من حساب سير القمر والشمس، ويُقال لأهله أهل الحساب لا المنجّم.
وقد استدلّ لثبوته به:
1 - بالآية الكريمة: (وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (4).
2 - وبالرجوع إلى النجوم في القبلة.
ولكن يرد على الأوّل: أنّ الآية تدلّ على جواز الاهتداء بالنجوم، لا العمل بقول أهل الحساب بلا اهتداء.6.
ص: 301
ويرد على الثاني: بالفرق بين المقامين، فإنّ الظنّ في باب القبلة حجّة، ومن موجباته ذلك، وفي المقام دلّت النصوص على أنّ لا عبرة به.
ومنها: العدد، وهو:
1 - إمّا عَدّ شعبان ناقصاً أبداً ورمضان تامّاً كذلك، مبتدئاً من المحرّم.
2 - أو عَدّ شهر تامّاً والآخر ناقصاً مطلقاً.
3 - أو عَدّ تسعة وخمسين من هلال رجب.
4 - أو عَدّ خمسة أيّام من هلال رمضان الماضي وجعل الخامس أوّل الحاضر.
أقول: والقائل بثبوت الهلال به بمعناه الأوّل هو الشيخ المفيد رحمه الله(1)، والصدوق(2)على ما نُسب إليهما، وبثبوته به بالمعنى الثاني صاحب «تمهيد القواعد»(3)، وبثبوته به بالمعنى الثالث العُمّاني(4)، وبثبوته به بالمعنى الرابع الشيخ في «المبسوط»(5)،
ص: 302
والمصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(1).
ولكن المشهور بين الأصحاب(2) عدم ثبوته به بشيء من معانيه:
أمّا الأوّل والثاني: فنصوص دالّة عليهما:
1 - خبر حذيفة، عن معاذ بن كثير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «شهر رمضان ثلاثون يوماً لا ينقص واللّه أبداً»(3).
ومثله أخبار كثيرة أُخر لحذيفة(4) ومعاذ(5) وشُعيب(6) وابن عمّار(7) وغيرهم.
وتضمّن بعضها تفسيرقول اللّه تعالى : (وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ ) (8) بأنّ شهررمضان ثلاثون يوماً.
أقول: لكن من جهة الشهرة المحقّقة التي على خلافها، بل الإجماع عن غير العَلَمين(9)، ومعارضتها مع نصوص كثيرة، كمصحّح حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، أنّه قال في شهر رمضان: «هو شهرٌ من الشهور، يصيبه ما يصيب الشهور من النقصان»(10). ونحوه غيره، ومخالفتها للعادة، فإنّا نرى بالوجدان أنّه قد ينقص4.
ص: 303
شهر رمضان، فإنّه بملاحظة جميع هذه الاُمور لابدّ من طرحها، أو حملها على معنى لا يهمّنا بيانه.
وأمّا المعنى الثالث: فقد استدلّ لثبوته به بأخبار:
1 - روى الصدوق أنّه قال الإمام الصادق عليه السلام: «إذا صَحَّ هلال رجب فعدّ تسعة وخمسين يوماً، وصُم يوم الستّين»(1). ونحوه غيره.
لكنّها أيضاً معرض عنها عند الأصحاب.
وأمّا عَدّ الخمسة الذي هو المعنى الرابع، فقالوا:
1 - إنّه موافقٌ للعادة، بل قال صاحب «عجائب المخلوقات» للقزويني(2): (قد امتحنوا ذلك خمسين سنة فكان صحيحاً).
2 - وأنّه تدلّ عليه نصوصٌ مستفيضة، كخبر الزعفراني:
«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ السماء تطبق علينا بالعراق اليومين والثلاثة، فأيّ يوم نصوم ؟ قال عليه السلام: انظر اليوم الذي صُمت من السنة الماضية فعدّ منه خمسة أيّام، وصُم يوم الخامس»(3) ونحوه غيره.
ولكن قيد ذلك في خبر السياري ب (غير السنة الكبيسة)، قال:
«كتب محمّد بن الفرج العسكري عليه السلام يسأله عمّا روي من الحساب في الصّوم عن آبائك عليهم السلام في عَدّ خمسة أيّام بين أوّل السنة الماضية، والسنة الثانية الذي يأتي ؟ فكتب عليه السلام: صحيحٌ ولكن عَدّ في كلّ أربع سنين خمساً، وفي السنة الخامسة ستّاً فيما1.
ص: 304
بين الأُولى والحادث، وما سوى ذلك فإنّما هو خمسة خمسة».
قال السياري: (وهذه من جهة الكبيسة، قال: وقد حسبه أصحابنا فوجدوه صحيحاً، الحديث)(1).
وعلى هذا فتختصّ النصوص المزبورة بالعالم بذلك الحساب، ولعلّه يحصل له القطع به، وأمّا غيره فلا وجه لاعتماده عليها، بعد عدم معرفة سنة الكبيسة.
ومنها: التطوّق: وهو ظهور النور في جرمه مستديراً، وغيبوبة الهلال بعد الشفق، ورؤية ظِلّ الرأس في ظِلّ القمر.
فعن ظاهر «الفقيه»(2) في الأوّل، وعن «المقنع»(3) و «الذخيرة»(4) في الثاني، فجعلاه فيهما لليلتين، وعن «المقنع»(5) و «رسالة والد الصدوق»(6) في الثالث، فجعلاه لثلاث ليال. كلّ ذلك للاعتبار، والأخبار:
1 - صحيح مرازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا تطوّق الهلال فهو لليلتين، وإذا رأيتَ ظِلّ رأسك فيه فهو لثلاث»(7).
2 - وخبر إسماعيل بن الحسن، عنه عليه السلام: «إذا غاب الهلال قبل الشفق، فهو لليلة، وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين»(8). ونحوهما غيرهما.2.
ص: 305
وأورد عليها تارةً : بمنافاتها لنصوص اعتبار الرؤية، ومع عدمها فعدّ الثلاثين من أوّل الشهر.
وأُخرى : باحتمالها لمعانٍ كالاختفاء تحت الشعاع ليلتين أو ثلاث.
ولكن يرد على الأوّل: أنّها أخصّ من تلك النصوص، فيقيّد إطلاقها بها.
ويرد على الثاني: أنّها خلاف ظاهرها.
وبالجملة: فالعمدة إعراض الأصحاب عنها.
***
ص: 306
التنبيه الثالث: إذا ثبت رؤية الهلال في بلدٍ آخر، ولم يثبت في بلده:
1 - فإنْ كانا متقاربين، كفى بلا خلافٍ ، بل إجماعاً، كما عن غير واحدٍ(1)، والمراد بالمتقاربين ما لم يختلف مطلعهما، وتشهد للحكم نصوص كثيرة:
منها: مصحّح هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّه قال فيمن صام تسعة وعشرين، قال عليه السلام: إنْ كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنّهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً»(2).
ومنها: حسن أبي بصير، عنه عليه السلام: «عن اليوم الذي يقضى من شهر رمضان ؟ فقال: لا تقضه إلّاأن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصَّلاة متى كان رأس الشهر؟! وقال: لا تَصُم ذلك اليوم الذي يقضى إلّاأن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصمه»(3).
ومنها: خبر عبد الرحمن، عنه عليه السلام: «عن هلال رمضان يَغمُّ علينا في تسع وعشرين من شعبان ؟ فقال عليه السلام: لا تَصُم إلّاأن تراه، فإنْ شهد أهلُ بلدٍ آخر فاقضه»(4). ونحوها غيرها.
2 - وإنْ كانا متباعدين، فقد اختلف الأصحاب في ذلك:
ص: 307
ففي «المنتهى»(1)، وعن «التحرير»(2) وفي «التذكرة»(3): حكايته عن بعضٍ القول بالكفاية.
ففي «المنتهى»(4): (إذا رأى الهلال أهل بلدٍ، وجب الصّوم على جميع النّاس، سواءٌ تباعدت البلاد أو تقاربت)، انتهى .
وعن جماعةٍ منهم الشيخ رحمه الله(5)، والمحقّق في «الشرائع»(6) و «المعتبر»(7)، والمصنّف رحمه الله في «القواعد»(8)، والشهيد الثاني في «المسالك»(9)، أنّه لا يثبت به، بل لكلّ بلدٍ حينئذٍ حكم نفسه.
وعن «المناهل»(10): نسبته إلى المعظم.
وعن جماعةٍ آخرين(11): الكفاية والثبوت إنْ احتمل تحقّقه فيها، وعدم العلم بعدم وجدانه فيها، فإنْ علم بعدم وجوده في الآفاق المتباعدة، فلا يعمّهم حكم ثبوت الهلال.5.
ص: 308
أقول: ثمّ إنّ القائلين بعدم الثبوت مطلقاً، صرّح بعضهم(1) بأنّ ذلك فيما رُئي في البلاد الغربيّة، وأمّا لو رُئي في البلاد الشرقيّة، فإنّه تثبت رؤيته في الغربيّة بطريق أولى .
والكلام في موارد:
1 - في أنّه هل يكون اختلاف في المطالع في الربع المسكون أم لا؟
2 - في أنّه هل يحصل القطع بذلك لغير الماهرين من الهيويّين أم لا؟
3 - في ما يستفاد من النصوص.
أمّا المورد الأوّل: ففي «الجواهر»(2): (قد يشكل بمنع اختلاف المطالع في الربع المسكون، إمّا لعدم كرويّة الأرض، بل هي مسطحة، فلا تختلف المطالع حينئذٍ، وإمّا لكونه قدراً يسيراً لا اعتداد باختلافه بالنسبة إلى علوّ السماء) انتهى .
وتبع في إنكار اختلاف المطالع، المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(3)، لكنّه لا ينكر كرويّة الأرض، بل يقول: (إنّ المقدار المسكون من الأرض حيث يكون يسيراً فلا اعتداد به عند السماء).
أقول: أمّا إنكار كرويّة الأرض فقد بيّن فساده بمقتضى الأدلّة القطعيّة، وليس المقام مقام ذكرها.).
ص: 309
وأمّا عدم اختلاف المطالع لما أفاده المصنّف رحمه الله، فيمكن أن يقال - كما ذكره بعض المحقّقين(1) - بإمكان اختلافها، نظراً إلى أنّه لا إشكال في اختلاف البلاد طولاً وعرضاً، وعليه فكلّ بلدٍ طوله أكثر عن جزائر الخالدات - التي هي مبدأ الطول على الأشهر - وأبعد، تغربُ النيران فيه قبل غروبها في البلد الذي طوله أقلّ ، وعلى هذا فلو كانت الفاصلة الزمنيّة بين المغربين معتدّاً بها يتحرّك القمر فيه بحركته الخاصّة، وقدراً معتدّاً به، ويبعد عن الشمس، فيمكن أن يكون القمر وقت غروب الشمس في البلد الأكثر طولاً بحيث لا يمكن رؤيته لعدم خروجه عن الشعاع، ويبعد عن الشمس فيما بين المغربين، ويمكن رؤيته في البلد الأقلّ طولاً، مثلاً إذا كان طول البلد مائة وعشرين درجة، وطول بلدٍ آخر خمسة وأربعين درجة، فيكون التفاوت بين الطولين خمسة وسبعين درجة، وإذا غربت الشمس في الأوّل، لابدَّ أن تسير الخمسة والسبعين درجة بالحركة المعدلية حتّى تغرب في البلد الثاني، وتقطع الخمسة والسبعين درجة في خمس ساعات، وفي هذه الخمس يقطع القمر بحركته درجتين إلى ثلاث درجات، وعليه فربّما يكون القمر وقت المغرب في البلد الأوّل تحت الشعاع، ويخرج عنه في البلد الثاني، أو يكون في الأوّل قريباً من الشمس فلا يُرى لأجله، والثاني يُرى لبعده عنها، لمثل ذلك يمكن أن يصبح الاختلاف في العرض أيضاً سبباً لاختلاف الرؤية في البلدين، لأنّه أيضاً قد يوجب الاختلاف في وقت الغروب، وإن لم يختلفا في الطول، فإنّه لو كان العرض الشمالي للبلد أربعين درجة، يكون نهاره الأطول خمس عشرة ساعة تقريباً، ويكون في ذلك اليوم الذي تكون الشمس في أوّل السرطان النهار الأقصر للبلد الذي عرضه الجنوبي كذلك،ف.
ص: 310
ويكون يومه تسع ساعات تقريباً، ويكون التفاوت بين اليومين ستّ ساعات، ثلاث منها تفاوت المغرب، ويقطع القمر في هذه الثلاث درجةً ونصفاً تقريباً إلى درجتين، وتخلّف رؤيته بهذا القَدَر عن البُعد عن الشمس(1).
وأمّا المورد الثاني: فالظاهر عدم حصول القطع بذلك، إذ مضافاً إلى أنّه قد يتعارض الاختلاف العرضي مع الطولي - كما إذا كان نهار بلدٍ أقصر من الآخر، ولكن كان طول الأوّل أقلّ بحيث يتّحد وقت مغربيهما، أو يتفاوتان ويكون ظهور تفاوت النهارين في الشرق، بل قد يتأخّر المغرب في الأقصر نهاراً - أنّ غاية ما يلزم من الاختلاف الطولي أو العرضي، جواز الرؤية ووجود الهلال في أحدهما دون الآخر، لا تعيّن ذلك، لجواز أن يخرج القمر عن تحت الشعاع قبل مغربيهما، وإنْ كان في أحدهما أبعد من الشعاع من الآخر.
وعلى ذلك، فالعلم بعدم وجود الهلال في بلدٍ لم يرَ فيه الهلال يتوقّف على العلم بقدر طول البلدين وعرضهما، وقدَر بُعد القمر عن الشمس في كلٍّ من المغربين، ووقت خروجه عن تحت الشعاع، ولا سبيل إلى معرفة جميع ذلك إلّاللأوحدي من النّاس، فالأظهر أنّه لا يحصل القطع بالمخالفة.
وأمّا المورد الثالث: فمقتضى إطلاق النصوص هو الاكتفاء برؤية الهلال في بلدٍ واحد ليحكم بالرؤية لجميع البلاد.ة.
ص: 311
وأورد عليه الشيخ الأعظم رحمه الله(1): بأنّ المراد بالنصوص في مقام بيان حكم الانكشاف - أي انكشاف كون يوم الشكّ من رمضان، بعد فرض ثبوت الكاشف - لا في مقام بيان الكاشف، وأنّه يحصل الرؤية في الجميع بمجرّد رؤيته في بلدٍ من البلاد ولو كان في غاية البُعد.
وفيه: أنّها في مقام بيان كلا الأمرين، بل ظاهر خبر عبد الرحمن كون ذيله في مقام بيان الكاشف، مع أنّ الكاشف وإن لم يكن الإمام بصدد بيانه، بمعنى أنّ مقصوده الأصلي بيان غيره، إلّاأنّه بيّن في النصوص، والميزان في التمسّك بالإطلاق هو البيان لا المقصود الأصلي.
وإنْ شئتَ قلت: إنّه لو كان كما أفيد، لما كان وجهٌ لهذا التطويل في البيان، وكان يكفيه عليه السلام أن يقول عوضاً عن هذه الجملات المطوّلة: (إذا ثبت الهلال)، فيعلم أنّه أيضاً أُريد بيانه.
أقول: وأضعف من ذلك ما أفاده بعض المحقّقين(2) من ورود النصوص لتعميم الحكم لداخل البلدة وخارجها، لا من حيث التعميم للمختلفين والمتّفقين.
فإنّه يرد عليه: أنّه إذا كان وارداً لبيان تعميم الحكم إلى الثبوت في خارج البلد، كان مقتضى إطلاق ذلك الاكتفاء به، ولو كان البلد بعيداً.
وبالجملة: فالحقّ أنّ إطلاق النصوص يقتضي البناء على كفاية رؤية الهلال في بلدٍ للحكم بثبوته في جميع البلاد، ولعلّ ذلك هو المراد من الدُّعاء المأثور: (وجعلتَ).
ص: 312
رؤيتها لجميع النّاس مرءاً واحداً).
وقد يقال: إنّ ما ذكرتم يتمّ مع عدم العلم لعدم الرؤية، وإلّا فلو علم بعدم الرؤية لم يتمّ ، إذ لا مجال للحكم الظاهري مع العلم بالخلاف.
وفيه أوّلاً: أنّه لا يحصل العلم بذلك - كما مرّ - إلّالأفراد نادرة جدّاً، ليس قولهم حجّة على غيرهم لإمكان خطائهم.
وثانياً: لو علم أنّ الموضوع لوجوب الصّوم والإفطار وجود الهلال في البلد بخصوصه، صحَّ ما أفيد، وأمّا لو لم يعلم بذلك، بل احتمل كون الموضوع وجوده ولو في بلدٍ آخر فلا يتمّ ، كما هو واضح.
أقول: وبما ذكرناه يظهر سقوط جملةٍ من الفروع، من قبيل أنّه لو رأى المكلّف بالصوم الهلال في بلدٍ، ثمّ سافر إلى بلدٍ آخر يخالفه في حكمه، هل ينتقل حكمه إليه، ونحو ذلك من الفروع، وقد ذكرنا جملة منها في كتابنا: «المسائل المستحدثة»(1).
***5.
ص: 313
التنبيه الرابع: الأسير والمحبوس إذا لم يتمكّنا من تحصيل العلم بالشهر، وجبَ عليهما العمل بالظنّ ، بلا خلافٍ كما في «المنتهى »(1)، وإجماعاً كما في «التذكرة»(2)، ويشهد به مصحّح عبد الرحمن، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
«قلت له: رجلٌ أسرته الروم ولم يصحّ له شهر رمضان، ولم يدر أيّ شهرٍ هو؟
قال عليه السلام: يصوم شهراً يتوخّاه ويحسب، فإنْ كان الشهر الذي صامه قبل شهر رمضان لم يجزه، وإنْ كان بعد شهر رمضان أجزأه»(3).
ونحوه مرسل المفيد رحمه الله(4)، والظاهر أنّ مراده هذا المصحّح.
وكيف كان، فالصحيح برغم أنّه واردٌ في خصوص الأسير، إلّاأنّه يتعدّى إلى المحبوس أيضاً لعدم الفصل قطعاً، بل قد يتعدّى إلى غيرهما ممّن لا يعلم الشهر، وفي الحقيقة يدلّ هذا النَّص على أحكام إجماعيّة، وهي أنّه إنْ استمرّ الاشتباه فهو بري، ومع عدمه إنْ اتّفق في شهر رمضان أو بعده أجزأه، وإنْ كان قبله قضاه.
ص: 314
والإيراد عليه: بأنّه إذا كان بعده كيف يُجزيه ويُحسب قضاءً عنه مع أنّه لم ينوِ القضاء، يدفعه النَّص، مضافاً إلى ما تقدّم منّا من عدم وجوب نيّة القضاء والأداء.
أقول: وهل يترتّب على ذلك الشهر الذي انتخبه وصام فيه، أحكام شهر رمضان، بحيث لو أفطر فيه تجب الكفّارة، وكذا ما شاكله من الأحكام، أم لا؟
الظاهر العدم، إذ ليس في النَّص مايدلّ عليتنزيل صوم الشهر منزلة صوم شهر رمضان، أو تنزيل الشهر نفسه منزلة شهر رمضان كي يتمسّك بعموم التنزيل لإثباته.
وأوهن من ذلك: ترتيب آثار العيد على اليوم الذي يلي آخر ذلك الشهر من الصَّلاة والفطرة، وما شاكل.
فإنْ قيل: إنّ النَّص يدلّ على حجيّة الظنّ بما يراه شهر رمضان، فتترتّب عليه جميع أحكام لوازمه وملزوماته وملازماته، لحجيّة الأمارات في مثبتاتها.
قلنا أوّلاً: إنّ النَّص لا يدلّ على حجيّة الظنّ ، وإنّما يدلّ على أنّ المظنون كونه شهر رمضان يجب صومه.
وثانياً: أنّه لو سُلّم دلالته على حجيّة الظنّ ، لكن لم يدلّ على حجيّة الأمارة في مثبتاتها، لعدم الدليل على هذه الكليّة، بل إنّما نلتزم بحجيّة الأمارة في المثبتات مع وجود قيدين:
أحدهما: كون الأمارة حاكية عن الملازمات والملزومات واللّوازم، كحكايتها عن نفس ذلك الشيء كالخبر.
ثانيهما: دلالة الدليل على حجيّة الحاكي في تمام ما يحكى عنه، كما هو مقتضى إطلاق أدلّة حجيّة خبر الواحد.
ص: 315
ومع فَقْد أحد هذين القيدين، لا تكون الأمارة حجّة في مثبتاتها، كما هو الحال في المقام فإنّ القيد الأوّل مفقودٌ، بل الثاني أيضاً، فلا حجيّة للظنّ في مثبتاته.
ولو لم يغلب على ظنّه شيئاً، فالمشهور بين الأصحاب(1) التخيير في كلّ سنة بين الشهور، فيعيّن شهراً له، وقد نفى صاحب «الجواهر»(2) الخلاف فيه بينهم، وعن بعضهم(3) دعوى الإجماع عليه.
أقول: يدور الكلام في المقام:
تارةً : فيما تقتضيه القواعد.
وأُخرى : في النَّص.
أمّا الأوّل: فمقتضى العلم الإجمالي بوجوب صوم شهرٍ مردّدٍ بين الشهور، لزوم الاحتياط، بأن يصوم إلى أنّ يعلم بأداء الواجب في وقته، بناءً على ما هو الحقّ من تنجيز العلم الإجمالي في التدريجات.
ولكن في المقام هناك علمٌ إجمالي آخر يعارض ذلك، وهو العلم بحرمة صوم بعض الأيّام، ففي كلّ يوم يحتمل كونه ذلك اليوم يقع التعارض، فإنّ العلم الأوّل يقتضي الإتيان به، والثاني يقتضي تركه، ومقتضى القاعدة في أمثال هذه الأيّام هو التخيير، وأمّا في الأيّام التي يعلم بعدم حرمة الصّوم فيها، فإنْ لم يلزم من الصّوم).
ص: 316
في أيّام السَّنة الحَرَج فلا كلام، وإلّا فإنْ كان الحَرَج والمشقّة والاضطرار في أشهر معيّنة، وكان ذلك قبل حدوث التكليف بالصوم، غاية الأمر بعد مُضيّ سنةٍ يجب عليه قضائه، لأنّ الاضطرار إلى بعض أطراف العلم المعيّن قبل حدوث التكليف مانعٌ عن تنجيزه، ويجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض، وإنْ كان إلى غير المعيّن، فبمقدار رفع الحَرَج والاضطرار يجوز ترك الصّوم، والزائد عليه يجب الإتيان به قضاءً للعلم الإجمالي.
وأخيراً: هل يجب عليه القضاء حينئذٍ؟ الظاهر ذلك، فإنّه يحصل العلم الإجمالي بوجوب الإتيان بالصوم في أشهر لا حرج عليه بالصوم فيها، أو قضائه في شهرٍ بعد مُضيّ السَّنة.
وأمّا الثاني: فالظاهر دلالة النَّص على الاكتفاء بصوم شهر تخييراً بين شهور السنة لإطلاقه، وقوله عليه السلام: (يتوخّى ) لا يوجبُ تقييده بصورة الظنّ ، فإنّ التوخّي ليس بمعنى التظنّي، بل معناه القصد إلى الشيء وطلبه، فمعناه أنّه يطلب شهر رمضان ويقصده، ويتفحّص عنه، فإنْ تمكّن من الظنّ به فهو، وإلّا فيعمل بما هو وظيفته المجعولة في الخبر، وهو صيام شهر.
ثمّ إنّ قوله عليه السلام: (يتوخّى) إشارة إلى عدم سقوط قيديّة الزمان، بل الاكتفاء بصوم شهر واحد من باب الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي، وعليه، فلابدّ من مراعاة المطابقة بين الشهرين في سنتين، بأن تكون الفاصلة بينهما أحدَ عَشر شهراً، لئلّا يحصل له العلم بأنّ أحد الشهرين ليس شهر رمضان.
***
ص: 317
وشرائط وجوبه ستّة: البلوغ.
(وشرائط وجوبه ستّة) أو سبعة، على ما سيتبيّن:
الشرط الأوّل: (البلوغ) إجماعاً، لحديث: «رُفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم»(1).
وإنْ بلغ في أثناء النهار:
1 - فإنْ أتى بالمفطّر قبل البلوغ، لا كلام أيضاً في عدم وجوبه.
2 - وإنْ لم يأت بالمفطّر:
فعن «الخلاف»(2)، و «المعتبر»(3)، و «المدارك»(4): أنّه إنْ نوى الصبي الصّوم ندباً، وجب عليه الإكمال وإلّا فلا.
وعن «الوسيلة»(5): وجوب الصّوم عليه مطلقاً، أي وإنْ لم ينوِ الصّوم ندباً.
والمشهور بين الأصحاب(6) شهرة عظيمة: عدم وجوبه عليه مطلقاً، وعن الحِلّي(7) دعوى الإجماع عليه.
ص: 318
أقول: وقبل التعرّض لهذه المسألة، لابدّ من بيان فرع، وهو: أنّه هل يصحّ صوم الصبي المميّز أم لا؟ الأقوال فيه ثلاثة:
القول الأوّل: إنّ صوم الصبي شرعي، وهو مكلّفٌ استحباباً بما وجبَ على غيره، بمعنى أنّ تلك الطبيعة بما لها من المصلحة التي أوجبها اللّه تعالى على البالغين مستحبّة على الصبي.
القول الثاني: أنّ الصّوم مستحبٌّ على الصبي لمصلحة التمرين، يعني أنّ المصلحة المترتّبة على صومه ليست سوى التمرين، لكنّه أوجبَ أمر الشارع به ندباً.
القول الثالث: أنّه لا أمر به أصلاً، وإنّ ما يأتي به الصبي تمرينيٌ محض، ذهب إليه جماعة، كما عن «المختلف»(1)، و «الإيضاح»(2)، و «البيان»(3)، و «الروضة»(4)، وعن ظاهر «الفقيه»(5) وغيرهم(6).
واستدلّ للأوّل: بأنّ إطلاقات أدلّة التكليف بالصوم شاملة له أيضاً، وغاية ما يرتفع بحديث الرفع، إمّا العقاب أو الإلزام أو الأمر مع بقاء المصلحة على حالها، فإنْ).
ص: 319
كان المرفوع به أحد الأولين، فنفس الأدلّة الأوّليّة تدلّ على شرعيّته منه، وإنْ كان المرفوع هو الأخير، فيستكشف من المصلحة أمر الشارع به ندباً.
وفيه: أنّ مقتضى إطلاق حديث الرفع رفع التكليف مطلقاً.
ودعوى: أنّ الظاهر من إسناد الرفع رفع ما فيه المشقّة.
مندفعة: بأنّ الرفع في مقابل الوضع، فلا يختصّ بما ذُكر. مع أنّ رفع العقاب من دون التصرّف في منشأه:
إنْ أُريد به رفع الفعليّة، فهو خلاف الواقع قطعاً، إذ لا ريب في عدم استحقاق الصبي العقاب.
وإنْ أُريد به رفع الاستحقاق، فهو غير معقول.
وأمّا الإلزام، فقد عرفت غير مرّة أنّه بحكم العقل.
وعليه، فالمتعيّن رفع الأمر، ومع رفعه لا كاشف عن وجود المصلحة.
وبالجملة: فالحقّ أن يستدلّ لشرعيّة عباداته منها الصّوم، بالنصوص المتضمّنة لأمر الأولياء بأمر الصبيان بالصوم وغيره من العبادات.
بتقريب: أنّه إذا لم تكن المصلحة في الأمر خاصّة، وعلم أنّ الشارع الأقدس أراد وجود الفعل وتحقّقه في الخارج، لا محالة يكون ذلك أمراً بذلك الفعل، فيكون مشروعاً.
وأورد عليه بإيرادين:
الإيراد الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله(1) من أنّ الأمر بالأمر إنّما يدلّ على أنّ5.
ص: 320
الآمر مريدٌ لوقوع الفعل عن المأمور الثالث، لا على طلبه منه وخطابه به الذي هو معنى الاستحباب.
وفيه: أنّ الطلب والخطاب والاستحباب لا حقيقة لها سوى إرادة المولى صدور الفعل من العبد، مع إبرازه ذلك، وأمّا اعتبار كون الإبراز بالأمر به بلا واسطة فلا دليل عليه، ألا ترى أنّ المولى إذا أمر أحد عبيده بأن يأمر جميع العبيد بفعلٍ خاص، لا يشكّ أحد في أنّ ذلك الفعل مأمورٌ به ومطلوب للمولى من الجميع، والتنظير بما لو أمر أحدٌ صاحبَ الكلب المعلّم بأخذ الصيد، فإنّه لا يقال إنّ أخذ الصيد مستحبٌّ من الكلب، مغالطة واضحة، فإنّ الكلب غير قابلٌ لتوجّه الخطاب إليه، بخلاف الصبي المميّز.
الإيراد الثاني: مدلول خبر الزُّهري، عن عليّبن الحسين عليهما السلام، في حديثٍطويل:
«الصّوم على أربعين وجهاً، فعشرة أوجه منها واجبة كوجوب شهر رمضان، وعشرة أوجه منها حرام، وأربعة عشر منها صاحبها بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم الإذن على ثلاثة أوجه، وصوم التأديب....
ثمّ ذكر عليه السلام في أقسام ما فيها بالخيار كثيراً من أقسام المندوب، إلى أنْ قال:
وأمّا صوم التأديب: فأن يؤخذ الصبي إذا راهق بالصوم تأديباً، وليس ذلك بفرض، وكذلك من أفطر لعلّةٍ من أوّل النهار ثمّ قوي بقيّة يومه، الحديث»(1).
ونحوه غيره، يدلّ على عدم شرعيّة صومه، لجعل صومه قسيم الصّوم المندوب، ومثل صوم الحائض والمسافر.1.
ص: 321
وفيه: أنّ غاية ما يلزم من جعل صومه للتأديب، عدم كون صومه من قبيل صوم البالغين، فالجمع بينه وبين ما ذكرناه يقتضي البناء على أنّ صومه شرعي تأديبي تمريني، لا كصيام البالغين.
إذا تبيّن ذلك أقول: إذا بلغ الصبي في أثناء النهار، فعلى المختار من كون صومه شرعيّاً تمرينيّاً، الأظهر عدم وجوب الإتمام، فإنّ الصّوم الواجب الذي هو صنفٌ آخر غير ما أتى به الصبي، لم يكن مأموراً به من أوّل النهار، وصوم بعض النهار لا أمر به، وأوضح من ذلك في عدم الوجوب ما لو قلنا بأنّ صومه غير شرعي كما هو واضح.
نعم، إن قلنا بأنّ صومه شرعي، وهو بعينه الصّوم الذي كُلّف به البالغون، الظاهر وجوب إكماله، لأنّ الصّوم قبل التلبّس به، يأمر الشارع الأقدس بالتلبّس به، وبعده يأمر بإتمامه وإكماله، والصبي في أوّل النهار لم يكن يجب عليه التلبّس به لمانعٍ وهو الصباوة، ولكن بعدما تلبّس به وبلغ يأمر الشارع بإتمامه كصيام البالغين لرفع المانع، ولا فرق في ذلك كلّه بين البلوغ قبل الزَّوال وبعده.
نعم، الظاهر عدم وجوب القضاء عليه لو لم يتمّ صومه، لإختصاص دليل الوجوب بالصوم الواجب من أوّل النهار. واللّه تعالى العالم.
أقول: وفي مبدأ تمرين الصبي الصَّوم خلافٌ بين الأصحاب:
فعن «المبسوط»(1)، و «الشرائع»(2)، و «النافع»(3)، و «القواعد»(4)، و «المختلف»(5)،6.
ص: 322
و «الدروس»(1) وغيرها(2): أنّ المبدأ سبع سنين.
والمحكيّ عن الأكثر:(3) أنّ المبدأ تسع سنين.
وتشهد للثاني: جملةٌ من النصوص، ففي صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«مروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم، ما أطاقوا من صيامٍ ، فإذا غلبهم العطش أفطروا»(4). ونحوه غيره.
وبها يقيّد إطلاق ما دلّ على أنّه يؤمر به إذا قوي على الصيام، كموثّق سماعة، قال: «سألته عن الصبي متى يصوم ؟ قال عليه السلام: إذا قوي على الصيام»(5). ونحوه غيره.
واستدلّ للقول الأوّل: بصدر صحيح الحلبي: «إنّا نأمر صبياننا بالصيام إذا كانوا بني سبع سنين، بما أطاقوا من صيام اليوم».
ولكن ظاهره الاختصاص بأولادهم، سيّما وفي ذيله ما تقدّم.
وهذه النصوص مختصّة بالصبي، ولعلّ سرّه أنّ الصبيّة إذا كانت بنت تسع سنين يجبُ عليها الصّوم.
***3.
ص: 323
وكمال العقل.
(و) الشرط الثاني: من شرائط وجوب الصّوم: (كمال العقل)، فلا يجبُ الصّوم على المجنون، بل ولا يصحّ منه، بلا خلافٍ ظاهر، بل إجماعاً(1) في عدم وجوبه عليه، ويشهد لعدم وجوبه وسقوط التكليف عنه، حديث رفع القلم المتقدّم، ومقتضى إطلاقه عدم تكليفه بشيء من التكاليف، وحيثُ لا دليل على اختصاص المجنون بخطابٍ خاص، فصومه غير شرعي وباطل، وهذا هو الوجه في عدم الصحّة، لا ما قيل من إنّه غير مكلّف لعدم التمييز حتّى يُشكل الأمر في بعض المجانين لوجود التميّيز فيه.
ومقتضى إطلاق النَّص عدم الفرق بين الجنون الأدواري والإطباقي إذا كان يحصل دور جنونه في النهار ولو في جزءٍ منه.
نعم، إنْ كان دور جنونه في اللّيل، بحيث يفيق قبل الفجر، وجب عليه الصّوم، لاختصاص دليل الرفع بحال جنونه.
ولو كان مجنونٌ لا يعقل الأُمور المتعارفة العادية، ولكن يعقل العباديّات كالصلاة والصيام، ولا يجنّ فيها، وهذا أمرٌ ممكن فإنّ الجنون فنون، فهل يكون
ص: 324
التكليف بها ساقطاً عنه أم لا؟ وجهان:
من إطلاق رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق.
ومن ظهوره في رفع ما جُنّ فيه، كما في الرفع عن المكره والناسي.
أمّا القول الأوّل: فهو الأظهر، لأنّ دليل الرفع عن الناسي والمكره لم يتعلّق الرفع فيه بهذين العنوانين، بل بما استكرهوا عليه، والنسيان نفسه، والمرفوع عنه القلم بقول مطلق في المقام هو المجنون، فإنْ كان بنحوٍ يصدق عليه هذا العنوان، فالقلم مرفوعٌ عنه مطلقاً، ولعلّه المسألة إجماعيّة.
أقول: ثمّ إنّ المحكيّ عن المصنّف(1) وغيره(2) أنّه إنْ عرض الجنون ولو لحظةً في أثناء النهار بطل صومه، والوجه فيه أنّه في حال جنونه يسقط التكليف بالصوم عنه، وإمساك بقيّة النهار ولو بضمه إلى الإمساك ما قبل الجنون، لا يعدّ صوماً مأموراً به، وهو واضح.
ثمّ إنّ المشهور بين الأصحاب(3): أنّ من شرائط وجوب الصّوم عدم الإغماء، ولم يذكره المصنّف، ولعلّه من جهة شمول كمال العقل له، وكيف كان، فيشهد لعدم وجوب الصّوم عليه عدم تعقّله، وعدم تمكّنه من الإمساك عن النيّة، والنصوص الدالّة على أنّه:1.
ص: 325
«كلّما غلب اللّه فليس على صاحبه شيء فلا صوم عليه»(1).
أمّا القول الثاني: وإنْ اختصّ بالإغماء العارض بنفسه، ولا يشمل ما لو حصل الإغماء بفعله، إلّاأنّ الأوّل يكفي في الحكم بسقوط الوجوب عنه، وأمّا قاعدة (الامتناع بالاختيار لا تنافي الاختيار) فإنّما هي في العقاب دون التكليف.
أمّا النقض بالنائم فمردود:
أوّلاً: بالفرق بينهما.
وثانياً: بأنّه لم يدلّ دليلٌ على وجوب الصّوم على النائم في حال نومه، بل دلَّ على صحّة صومه.
وثالثاً: إنّ خروج فرد عن تحت كبرى كليّة، لا يستلزم خروج بقيّة الأفراد.
وعليه، فالإغماء في جزء من النهار موجبٌ لبطلان الصّوم، لأنّه في جزء من الوقت لا أمر بالصوم، وما قبله وما بعده ليسا صوماً كي يُؤمر بهما.
وعن «المقنعة»(2)، و «المبسوط»(3)، و «الخلاف»(4)، والسيّد(5)، والديلمي(6)والقاضي(7): صحّة صومه مع سبق النيّة، واستدلّوا له:
1 - بالقياس على النائم.6.
ص: 326
2 - وبأنّ سبق النيّة موجبٌ لبقاء النيّة الحكمية مع الإغماء.
ويرد على الأوّل: أنّه قياسٌ لا نقول به.
وعلى الثاني: أنّ المانع ليس خصوص عدم النيّة، بل عدم التكليف أيضاً.
ويمكن أن يوجّه ذلك: بأنّ المعتبر في صحّة الصّوم، ليس كون كلّ جزء من الإمساك من المبدأ إلى المنتهى مأموراً به، إذ لا ريب في صحّة صوم النائم والغافل وما شاكل، ولا صدور الإمساك عنه عن نيّة متوجّه إليها حينه، وإلّا لزم بطلان صوم الغافل والنائم، بل المعتبر هو كون الإمساك من المبدأ إلى المنتهى عن قصدٍ.
وعليه فمن يعلم أنّه يطرأ عليه الإغماء في جزءٍ من النهار، وبرغم ذلك يقصد الإمساك من أوّل طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يكون إمساكه حين الإغماء عن النيّة، فيصحّ لذلك، فتدبّر فإنّه لا يخلو عن إشكال، وقد مرّ الكلام في مبحث النيّة.(1)
***د.
ص: 327
والسّلامة من المرض.
(و) الشرط الثالث: (السَّلامة من المرض) بلا خلافٍ ، بل إجماعاً محقّقاً ومحكيّاً مستفيضاً(1). ويشهد به من الكتاب، قوله تعالى : (وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (2) ونصوصٌ كثيرة ستمرّ عليك جملة منها.
وليس المرض المسوّغ للإفطار كلّ ما يصدق عليه المرض، بل هو مرض يضرّ معه الصّوم للإجماع، ولصحيح علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام:
«عن حَدّ ما يجبُ على المريض ترك الصّوم ؟ قال عليه السلام: كلّ شيء من المرض أضرَّ به الصّوم، فهو يسعه ترك الصّوم»(3).
ومرسل الصدوق، قال عليه السلام: «كلّ ما أضرَّ به الصّوم، فالإفطار له واجب»(4).
وصحيح حريز: «الصائم إذا خاف على عينيه من الرّمد أفطر»(5).
وخبر الأزدي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن حَدّ المرض الذي يترك الإنسان فيه الصّوم ؟ قال عليه السلام: إذا لم يستطع أن يتسحّر»(6).
ص: 328
فإنّ تعذّر السحور ملازمٌ لإضرار الصّوم بالمريض عادةً .
بل يمكن الاستدلال بالنصوص الكثيرة الدالّة على أنّ المريض إذا قوي فليصم، كصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال:
«قلت له: ما حَدّ المرض إذا نقه في الصيام ؟ قال: ذاك إليه هو أعلم بنفسه، إذا قوي فليصم»(1). ونحوه غيره.
فإنّها تدلّ على أنّ المرض من حيث هو لا يسوّغ الإفطار، بل إذا قوي عليه يجب أن يصوم، والمرض إنْ أضرَّ به فهو لا يقوى عليه، ثمّ إنّه لا فرق في المتضرّر بين زيادة المرض أو بطؤه، أو عسر علاجه، أو حدوث مرضٍ آخر، أو حدوث مشقّةٍ لا يتحمّل عادةً ، لإطلاق الأدلّة.
أقول: وينبغي التنبيه على أُمور:
الأمر الأوّل: إذا عَلم الصحيح أنّه لو صام حَدَث المرض، فهل يجوز له الإفطار كما صرّح به غير واحد(2)، أم لا؟ وجهان:
ظاهر «المنتهى»(3) التردّد فيه، لعدم دخوله تحت الآية، ولكن الأوّل أظهر لعموم دليل نفي الضرر والحَرَج، ولإطلاق قوله في صحيح حريز: «إذا خافَ على عينيه من الرَّمد»(4)، فإنّه يشمل خوف حدوث الرمد إنْ لم يكن ظاهراً فيه، ويتمّ في غير الرمد بعدم القول بالفصل، والآية لا تدلّ على أنّ غير المريض يجبُ عليه4.
ص: 329
الصّوم إلّابالإطلاق، فيقيّد بما عرفت.
وربما يستدلّ بقوله في الصحيح: «كلّما أضرَّ به الصّوم، فالإفطار له واجبٌ »(1).
وفيه تأمّل، فإنّ عمومه إنّما هو في المرض، ويدلّ على أنّ المريض إن أضرَّ به الصّوم يفطر، وأمّا الصحيح لو أضرَّ به فهو يفطر، فلا تعرّض له.
التنبيه الثاني: إنّ المسوغ للإفطار كلّ ما أضرَّ وإن لم يُسمَّ مرضاً كالرّمد، للعمومات، والصحيح.
التنبيه الثالث: إنّه لا إشكال في جواز الإفطار مع العلم بالضرر، ولو لم يعلم بذلك ولكن ظنّ به، فالمشهور بينهم أيضاً جواز الإفطار.
واستدلّ له الشيخ الأعظم(2) بوجوه:
منها: أنّ باب العلم بالضرر منسدٌّ غالباً، فلو وجب الصّوم مع الظنّ بالضرر لوقع المكلّفون كثيراً في الضرر، فيستكشف من ذلك حجيّة الظنّ وطريقيّته.
وفيه: أنّ ذلك يتمّ لو لم يكن قول أهل الفنّ حجّة، وإلّا فباب العلمي مفتوحٌ ولا يلزم ما أُفيد.
ومنها: أنّه إنْ ظنّ بالضرر يصدق المُضرّ على الصّوم عرفاً، فيدخل في الخبر:
(كلّ ما أضرَّ... إلى آخره).
وفيه: إنّه إنْ كان الظنّ حجّة صدق ذلك، وإلّا يظنّ بصدقه، لا أنّ صدقه محرزٌ.
ومنها: لزوم الحَرَج لو لم يعتبر، لأنّ الإقدام على ما يظنّمعه الضرر حَرجٌ عظيم.).
ص: 330
وفيه أوّلاً: أنّه لا يلزم ذلك مع حجيّة قول أهل الخبرة.
وثانياً: أنّه لو لزم كان لازم شمول أدلّة نفي الحَرَج، عدم الصّوم في خصوص مورد لزوم الحَرَج لا مطلقاً.
وثالثاً: إنّ دليل نفي الحَرَج لا يصلح لإثبات اعتبار الظنّ ، فإنّه نافٍ لا مثبت.
فالصحيح أن يستدلّ له: بأنّ المأخوذ في جملةٍ من النصوص الخوف، وهو يصدق مع الظنّ بالضرر، ويمكن أن يستدلّ له بالنصوص المتقدّم بعضها، المتضمّنة أنّ الإنسان أعلم بنفسه، وأنّه مؤتمنٌ عليه، مفوّض إليه، وما شاكل، فإنّه حيث يتعسّر العلم غالباً، يكون المراد لا محالة هو الظنّ به.
ويظهر من الوجه الأوّل أنّه يجوز الإفطار مع الاحتمال المتساوي الطرفين أيضاً، لصدق خوف الضرر، وعليه فما عن بعض من الاقتصار على كفاية الظنّ (1)، أو التصريح بعدم كفاية الاحتمال(2)، ضعيفٌ .
فإنْ قيل: إنّه لو احتمل الضرر بما أنّ الصّوم الواجب قُيّد بما إذا لم يكن مضرّاً، فمع احتمال مضرّيته يشكّ في الوجوب، ولا مجال للرجوع إلى العمومات، لعدم جواز التمسّك بالعام في الشُّبهة المصداقيّة، فيتعيّن الرجوع إلى البراءة المقتضية لعدم الوجوب.
قلنا: إنّه متينٌ لولا العلم الإجمالي بوجوب صوم اليوم أو قضائه، بناءً على ما هو الحقّ من منجّزية العلم الإجمالي في التدريجيّات، حتّى فيما إذا كان التكليف على فرض وجوده في الطرف الآخر غير فعلي.
***5.
ص: 331
والإقامة أو حكمها.
(و) الشرط الرابع: (الإقامة أو حكمها) ككثرة السفر، أو المعصية به، أو الإقامة عشرا، أو مُضيّ ثلاثين يوماً متردّداً، فلا يجب الصّوم على المسافر الذي يجب عليه تقصير الصَّلاة بلا خلافٍ ، وفي «المنتهى»(1): (وهو قول كلّ العلماء)، وقال اللّه تعالى:
(وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (2) .
أقول: أمّا النصوص الدالّة عليه فهي تفوق حَدّ التواتر، وأكثرها وإنْ دلّت على عدم صحّة الصّوم في السفر، ولكن من جهة عدم التنبيه في شيء منها على عدم جواز السفر، تدلّ على ذلك أيضاً:
منها: ما وردت في مطلق الصّوم:
1 - صحيح صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرّجل يسافر في شهر رمضان فيصوم ؟ قال عليه السلام: ليس من البِرّ الصّوم في السفر»(3).
2 - ومرسل ابن أبي عمير، عن رجلٍ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله:
«إنّ اللّه تصدّق على مرضى أُمّتي ومسافريها بالتقصير والإفطار، أيسرُّ أحدكم إذا
ص: 332
تصدّق بصدقةٍ أن تُردّ عليه»(1).
3 - ومرسل الصدوق: «قال الصادق عليه السلام: ليس من البِرّ الصيام في السفر»(2).
4 - وموثّق عمّار، عنه عليه السلام: «أنّه لا يحلّ له الصّوم في السفر، فريضةً كان أو غيره، والصّوم في السفر معصية»(3).
ومنها: ما وردت في صوم شهر رمضان، وهي كثيرة:
1 - خبر يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الصائم في السفر في شهر رمضان كالمُفطِر فيه في الحَضَر»(4). ونحوه غيره.
ومنها: ما وردت في قضاء شهر رمضان:
1 - صحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن الرّجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان وهو مسافر، يقضي إذا قام في المكان ؟ قال عليه السلام: لا، حتّى يجمع على مقام عشرة أيّام»(5). ونحوه غيره.
ومنها ما وردت في صوم الكفّارة، أو الصوم المنذور.
فما عن المفيد(6): من عدم اشتراطه في صوم الكفّارة، بل في غير صوم رمضان، ضعيفٌ .
أقول: وتمام الكلام يتحقّق بالبحث في جهات:).
ص: 333
الجهة الاُولى: سيأتي في الباب الرابع أنّه يجب القضاء على المسافر، وأنّه إذا قدم من السفر قبل الزَّوال، وجبَ عليه الصّوم إن لم يأت بالمفطّر، ولو قدم بعدهُ يفطر.
الجهة الثانية: يجب الصّوم في السفر في مواضع:
منها: صوم ثلاثة أيّام بدل هَدْي التمتّع.
ومنها: صوم بدل البدنة ممّن أفاض قبل الغروب عامداً. سيأتي الكلام فيهما في كتاب الحجّ (1).
ومنها: صوم النذرالمشترط فيه سفراً خاصّة، أو سفراً وحضراً، كما هو المشهور بين الأصحاب.
وعن «المنتهى»(2): نفي الخلاف فيه، وعن «الحدائق»(3): أنّه اتّفاقي.
وعن المفيد(4) والمرتضى(5) وسلّار(6): وجوب الصَّوم في السفر ولو مع إطلاق النذر.
أمّا النصوص: فهي طوائف عدا ما دلّ بإطلاقه على اعتبار الحضر في الصّوم:
ص: 334
الطائفة الأُولى : ما تدلّ على المنع عن الصّوم في السفر في مطلق النذر:
1 - مصحّح كرّام: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي جَعلتُ على نفسي أن أصوم حتّى يقوم القائم ؟ فقال عليه السلام: صُم ولا تَصُم في السفر»(1).
2 - وخبر مسعدة، عنه عليه السلام: «في الرّجل يجعل على نفسه أيّاماً معدودة مسمّاة في كلّ شهر ثمّ يسافر فتمرّ به الشهور أنّه لا يصوم في السفر ولا يقضيها إذا شهد»(2).
3 - وموثّق زرارة، عن الباقر عليه السلام: «عن أمَةٍ كانت جعلت عليها نذراً إنْ رَدَّ اللّه عليها بعض ولدها من شيءٍ كانت تخاف عليه، أن تصوم ذلك اليوم ما دامت باقية، فخَرجَت إلى مكّة، أتصوم أم تفطر؟
قال عليه السلام: لا تصوم، قد وضع اللّه عنها حقّه، الحديث»(3). ونحوها غيرها.
الطائفة الثانية: ما تدلّ على عدم مانعيّة السفر عنه وأنّه يصام فيه:
1 - خبر إبراهيم بن عبد الحميد، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن الرّجل يجعل للّه عليه صوم يومٍ مسمّى ؟ قال عليه السلام: يصوم في السفر والحضر»(4).
ولكنّه ضعيفُ السند، لأن في سنده جعفر بن محمّد بن أبي الصباح وليس له ذكرٌ في الأخبار، مع أنّه معارض للطائفة الأُولى ، وهي أشهر وأصحّ سنداً منه.
الطائفة الثالثة: ما استدلّ بها المشهور في المقام، وهو صحيح علي بن مهزيار:
«كتب بندار مولى إدريس: يا سيّدي نذرتُ أن أصوم كلّ يوم سبتٍ ، فإن أنا لم أصمه ما يلزمني من الكفّارة ؟ فكتب عليه السلام وقرأته: لا تتركه إلّامن علّة، وليس عليك6.
ص: 335
صومه في سفرٍ ولا مرضٍ ، إلّاأن تكون نويت ذلك، وإنْ كنتَ أفطرت منه من غير علّةٍ ، فتصدّق بقدَر كلّ يومٍ عليسبعة مساكين، نسأل اللّه التوفيق لما يُحبّويرضى »(1).
وأورد عليه تارةً : بجهالة الكاتب وهو بندار.
وأُخرى : بالإضمار.
وثالثة: باشتماله على ما لا يقول به أحدٌ، وهو وجوب الصّوم في المرض إذا نوى ذلك.
ورابعة: باشتمال ذيله على أنّ كفّارة النذر إطعام سبعة مساكين، المخالف لغيره من الأدلّة الدالّة على أنّها كفّارة يمين، أو كبرى مخيّرة ككفّارة شهر رمضان.
وخامسة: باحتمال أن يكون المراد بقوله: (إلّا أن تكون نويت) أن يكون نوى الصّوم ثمّ سافر.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ جهالة بُندار لا تضرّ بعد قراءة ابن مهزيار المكتوب الشريف.
وأمّا الثاني: فلظهوره في كونه من الإمام، لكون الحاكي هو ابن مهزيار الذي هو من الإجلّاء، والمكتوب مشتملٌ على لفظ سيّدي إلى غير ذلك من القرائن، أضف إليه إثبات الأعاظم(2) الخبر في كتبهم المعدّة لجمع أحاديث المعصومين عليهم السلام.
وأمّا الثالث: فلأنّ الجملة المركّبة من المستثنى والمستثنى منه تدلّ على أنّه لا يجوز الصّوم في السفر والمرض، ويجوزُ الصّوم مع النيّة، ويكفي في صدق ذلك جواز4.
ص: 336
الصّوم في السفر خاصّة.
وبعبارة أُخرى : أنّ المفهوم المستفاد من الاستثناء وإنْ كان مطلقاً، إلّاأنّه يقيّد بما دلّ على أنّ الصّوم في حالٍ يجوز مع عدم الضرر، لا يجوز معه، من غير فرقٍ بين أن ينوي ذلك أم لا؟ وليس نصّاً في جوازه مع النيّة، فتدبّر.
وأمّا الرابع: فلأنّ سقوط بعض فقرات الرواية عن الحُجيّة لابتلائه بالمعارض، لا يوجب سقوط النّص بأكمله عنها، مع أنّ الصحيح مرويّ عن بعض نسخ «المقنع»(1) (عشرة) بدل (سبعة).
وأمّا الخامس: فلأنّه احتمالٌ خلاف الظاهر.
وأجاب الفاضل النراقي(2) عن ذلك بوجه آخر: مع أنّه على فرض الاحتمال يحصل الإجمال في المخصّص، والعام المخصّص بالمُجمل ليس حجّة في موضعه، فعمومات المنع من الصّوم أو المنذور منه في السفر لا تكون حجّة في المورد، وتبقى عمومات الوفاء بالمنذور فارغة عن المعارض فيه.
وفيه أوّلاً: إن المخصّص المنفصل لا يسري إجماله إلى العام، إذ العام حجّة ما لم تعارضه حجّة أقوى ، والمخصّص على الفرض مجمل غير حجّة، وتمام الكلام في محلّه.
وثانياً: أنّه لو سُلّم ذلك، لا وجه للرجوع إلى عمومات النذر، لأنّها مقيّدة بالرجحان في متعلّقه، ولا دليل على رجحان الصّوم في السفر.
وإنْ شئتَ قلت: إنّ دليل النذر قُيّد بما إذا كان المنذور راجحاً، ومع عدم ثبوت3.
ص: 337
رجحان الصّوم في السفر - ولو من جهة ورود المخصّص المجمل على عمومات مطلوبيّة الصّوم - يعدّ التمسّك به تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة، وهو غير جائز، فالصحيح ما ذكرناه.
وكما يكون الحَضَر شرطاً في وجوب الصّوم، هل يكون شرطاً في استحبابه، بحيث لا يجوز الصّوم المندوب في السَّفر، كما عن الصدوقين(1)، والحِلّي(2) والقاضي(3)، وجماعة من المتأخّرين(4)، بل عن المفيد(5): (أنّه المشهور بين القدماء)، وعن الحِلّي(6): (أنّه مذهب جملة المشيخة الفقهاء المحصّلين)؟
أم لا يكون شرطاً، فيجوز المندوب في السفر على كراهية أو بدونها، كما عن «التهذيبيّن»(7) و «النهاية»(8)، و «الوسيلة»(9)، و «الشرائع»(10)، والشهيد (11)
ص: 338
وجمع آخرين(1)، بل نُسب إلى الأكثر(2)؟ وجهان:
تشهد للأوّل: - مضافاً إلى عموم ما دلّ على أنّه (لا صيام في السفر) المتقدّم - جملة من النصوص الخاصّة:
منها: صحيح البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الصيام بمكّة والمدينة ونحن في سفر؟ قال عليه السلام: أفريضة ؟ فقلت: لا، ولكنّه تطوّع كما يتطوّع بالصلاة. فقال عليه السلام: تقول اليوم وغداً؟ قلت: نعم. فقال عليه السلام: لا تَصُم»(3).
والإيراد عليه: بأنّ سؤاله عليه السلام عن كون الصّوم فريضة أو نافلة دالٌّ على الفرق بينهما، وليس إلّاكون النهي في التطوّع للكراهة، إذ لا فرق بينهما غيره إجماعاً.
يندفع: بأنّه يمكن أن يكون السؤال لغرضٍ آخر، وهو أنّه لو كان فريضةً لأمره بالمُقام والصيام إن أمكن مع تضيّقه، أو أنّ غرضه أنّه إنْ كان فريضةً للنذر المقيّد لأمره بالصوم، أو غير ذلك، فلا صارف عن ظهور النهي في عدم الجواز.
ومنها: موثّق عمّار المتقدّم(4): «فإنّه لا يحلّ له الصّوم في السفر، فريضةً كان أو غيره، والصّوم في السفر معصية».
ومنها: المروي في «تفسير العيّاشي»، عن محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لم يكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله يصوم في السفر تطوّعاً ولا فريضة»(5).
واستدلّ للقول الثاني:0.
ص: 339
1 - بصحيح الجعفري، عن أبي الحسن عليه السلام: «كان أبي يصوم يوم عرفة في اليوم الحارّ في الموقف، ويأمر بظلٍّ مرتفع فيُضرب له»(1).
2 - وبمرسل إسماعيل بن سهل، عن رجلٍ ، قال: «خرج أبو عبد اللّه عليه السلام من المدينة في أيّامٍ بقين من شهر شعبان، فكان يصوم، ثمّ دخل عليه شهر رمضان وهو في السفر، فأفطر. فقيل له تصومُ شعبان وتفطر شهر رمضان ؟! فقال عليه السلام: نعم، شعبان إلي إنْ شئتُ صمت، وإنْ شئتُ لا، وشهر رمضان عزم من اللّه عزّ وجلّ على الإفطار»(2).
ومثله مرسل الحسن بن بسّام(3).
أقول: وجمعوا بين هذه النصوص وبين ما تقدّم بحمل تلك النصوص على الكراهة، فيقع الكلام في موردين:
الأوّل: في دلالة هذه النصوص وسندها.
الثاني: في الجمع بينها وبين تلك الأخبار.
أمّا المورد الأوّل: فالمرسلان ضعيفان للإرسال، ولبعض الرجال الذين في طريقيهما، وأمّا صحيح الجعفري فهو حكاية فعل مُجمل، ولعلّه كان صوم النذر، واحتمال إرادة أن صوم يوم عرفة بخصوصه خارجٌ عمّا دلّ على عدم جواز الصّوم في السفر، أو أنّ عرفة ليست مسافة، ومع هذه الاحتمالات لا يصحّ الاستدلال به.
وأمّا المورد الثاني: فالجمع بين الطائفتين على فرض تسليم دلالة الثانية على8.
ص: 340
القول الثاني بحمل الأُولى على الكراهة لا يصحّ لوجهين:
الوجه الأوّل: أنّ ضابط الجمع العرفي جمع المتنافيين في كلام واحد، فإنْ كان أحدهما قرينةً على الآخر، ولم يلاحظ العرف التعارض والتهافت بينهما، فالجمع عرفي، وإلّا فلا، وفي المقام إذا جمعنا قوله: (شعبان إلي إنْ شئت صمت)، أو قوله في الصحيح: (كان أبي يصوم يوم عرفة) مع قوله في النصوص الأُولى: (لا يحلّ له الصّوم في السفر فريضة أو غيره، والصّوم في السفر معصية) لا نقاش في أنّ العرف يراهما متهافتين.
الوجه الثاني: أنّ الكراهة في المقام هي الكراهة في العبادة، بمعنى أقليّة الثواب، فكيف يصحّ حمل قوله: (الصّوم في السفر معصية) على أنّه عبادة مطلوبة للشارع غايته أنّ ثوابه أقلّ ، فالطائفتان متعارضتان والترجيح للأُولى، لكونه أشهر وأصحّ سنداً، وموافقتها لعمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسُنّته، فالأظهر عدم جواز الصّوم المندوب في السفر.
نعم، يستثنى عن ذلك صوم ثلاثة أيّام للحاجة في المدينة، بلا خلافٍ ، والنصوص دالّة عليه، وسيأتي في آخر كتاب الحجّ (1) إن شاء اللّه تعالى.
الجهة الثالثة: المشهور بين الأصحاب(2) أنّه يجوز السفر اختياراً في شهر
ص: 341
رمضان، وإنْ كان للفرار من الصّوم.
وعن الحلبي(1): أنّه إذا دخل عليه الشهر وهو حاضرٌ لا يحلّ له السَّفر.
يشهد للأوّل: - مضافاً إلى الأصل - أنّ الحَضَر شرطٌ لوجوب الصّوم بمقتضى الآية الكريمة: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (2)، كان ذلك بمنزلة الشرط كما صرّح به المفسّرون(3)، أي إذا حضر أم لم يكن، فإنّ الشهود مأخوذٌ في موضوع وجوب الصّوم، وظاهر أخذ كلّ عنوان في الموضوع، دخله فيه حدوثاً وبقاءً ، وبديهي أن تحصيل شرط الوجوب ليس بواجب ويجوز إعدامه.
فإنْ قيل: إنّ لازم ذلك عدم صدق الفوت بترك الصّوم في السفر ووجوب القضاء، لأن انتفاء شرائط الوجوب يقتضي انتفاء الملاك المشرّع للواجب، ومع انتفائه لا معنى للفوات والقضاء.
قلنا: إنّه لولا النَّص الخاص لقلنا به، ولكن دل الدليل من الكتاب والسُنّة على وجوبه:
أمّا الكتاب: فقوله تعالى في ذيل الآية: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (4).
وأمّا النصوص: فهي كثيرة:5.
ص: 342
منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يدخل عليه شهر رمضان وهو مُقيم، لا يريد براحاً، ثمّ يبدو له ما يدخل شهر رمضان أن يسافر؟ فسكت فسألته غير مرّة ؟ فقال عليه السلام: يُقيم أفضل، إلّاأن تكون له حاجة لابدّ له من الخروج فيها أو يتخوّف على ماله»(1).
ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن الرّجل يعرض له السفر في شهر رمضان وهو مُقيم، وقد مضى منه أيّام ؟ فقال عليه السلام: لا بأس بأن يسافر ويفطر ولا يصوم»(2).
ونحوهما غيرهما، وسيأتي طرف منها.
واستدلّ للقول الآخر: بخبر أبي بصير الذي رواه المشائخ الثلاثة(3) باختلاف يسير لا يضرّ بالاستدلال، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الخروج إذا دخل شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: لا، إلّافيما أخبرك به خروج إلى مكّة، أو غزو في سبيل اللّه تعالى، أو مال تخاف هلاكه، وأنّه ليس أخاً من الأب والأُمّ ».
ونحوه خبره الآخر(4)، ومرسل علي بن أسباط(5)، وحديث الأربعمائة(6)، وخبر الحسين بن المختار(7).
وهي وإنْ كانت أخصّ من جملة من نصوص الجواز كصحيح محمّد، ولكن5.
ص: 343
يعارضها صحيح الحلبي وما شاكله، ولأجلها تُحمل هذه النصوص على ما لا ينافي الجواز، ونصوص الجواز مختلفة من حيث تضمّن بعضها أفضليّة المقام، وبعضها الآخر أفضليّة بعض الأسفار، والثالث التساوي بينهما.
والحقّ أن يقال: إنّ المستفاد من مجموع النصوص، بعد ضمّ بعضها إلى بعض، هو أنّ السفر في شهر رمضان، إمّا أن يكون لحاجةٍ يفوت بتأخيرها إلى خروج الشهر، أو لا يكون كذلك.
وعلى الأوّل: قد تكون الحاجة من الأُمور الرّاجحة شرعاً، كالحج ومشايعة الأخ وما شاكل، وقد تكون من الأُمور المباحة.
وفي الأوّل: يكون السفر أرجح: لصحيح محمّد، عن أحدهما عليهما السلام: «في الرّجل يشيّع أخاه مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة ؟ قال عليه السلام: إذا كان شهر رمضان فليفطر.
قلت: أيّهما أفضل أن يصوم أو يشيّعه ؟ قال: يشيّعه، إنّ اللّه قد وضعه عنه»(1).
ونحوه غيره بضميمة عدم الفصل.
وفي الثاني: يكون هو بالخيار لخبر أبي بصير.
وفي الثالث: يكون الأفضل المقام، لصحيح الحلبي، وما تضمّن أنّ المقام والصّوم أفضل من السفر وزيارة أبي عبد اللّه عليه السلام. واللّه العالم.
أقول: وأفضليّة المقام في موردها إنّما هي قبل مُضيّ ثلاث وعشرين يوماً، وإلّا فلا فضيلة له، كما تضمّنت النصوص لذلك.
وأيضاً: صرّح غير واحدٍ(2) بأنّه لا يجوز السفر اختياراً في الصّوم الواجب).
ص: 344
المعيّن، وعن صاحب «الجواهر»(1)، والشيخ الأعظم(2)، والسيّدالشيرازي(3) جوازه.
يشهد للأوّل: أنّ مقتضى إطلاق دليله عدم تقيّد وجوبه بالحضر، وإنّما هو من شرائط الواجب، فيجبُ تحصيله، ويحرم تفويته، كسائر شرائط الواجب.
واستدلّ بعض الأعاظم من المعاصرين(4) للقول الثاني: بأنّ شرائط الواجب على قسمين:
أحدهما: ما يؤخذ مطلق وجوده شرطاً للواجب.
الثاني: ما يؤخذ وجوده شرطاً له لا بداعي الأمر.
وفي القسم الأوّل يجب تحصيل الشرط، وفي الثاني لا يجب، بل يمتنع للّزوم الخلف، فإنّ حصوله يكون بداعي الأمر، وعليه فحيث إنّ الحضر بالنسبة إلى الواجب المعيّن من الصّوم من قبيل الثاني، لقاعدة الإلحاق بصوم رمضان الّتي استقرّ بنائهم على العمل بها في سائر الحدود المعتبرة في صوم رمضان وسائر الموارد، إلّا أن يقوم دليلٌ على خلافها، فلا يجب تحصيله، فيجوز المسافرة اختياراً.
أقول: يرد على ما أفاده قدس سره بأنّ تقسيم شرائط الواجب إلى قسمين غير صحيح، فإنّ الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب ليس إلّافي أنّ الأوّل مفروض الوجود في الخطاب، والثاني يتعلّق به الخطاب، ففرض كون الشرط شرطاًف.
ص: 345
للواجب وخارجاً عن حيّز الخطاب خلفٌ .
وبالجملة: إنّا لا نتعقّل الأمر بشيء ولو بنحو الشرطيّة، وكون المطلوب وجود ذلك الشيء من باب الاتّفاق ولا بداعي الأمر، وهل هذا إلّاالتناقض الواضح، مع أنّ قاعدة الإلحاق التي أشار إليها لا مجرى لها في مثل القيود السابقة على الأمر، والخارجة عن حيّزه، بل فيها لابدّ من الرجوع إلى دليل ذلك الأمر، وقد عرفت أنّه يقتضي عدم جواز السفر.
أقول: وقد يستدلّ للجواز بنصوص:
منها: خبر عبد اللّه بن جُندَب: «سمعتُ من زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه سئل عن رجلٍ جعل على نفسه نذر صوم يصوم، فحضرته نيّة في زيارة أبي عبداللّه عليه السلام ؟ قال عليه السلام: يخرج ولا يصوم في الطريق، فإذا رجع قضى ذلك»(1). وقريبٌ منه غيره.
وفيه: أنّه لم يُفرض في هذه النصوص كون المنذور صوم يوم معيّن، بل بقرينة فرض السائل أنّه خرج في نيّةٍ ظهورها في النذر غير المعيّن.
وإنْ شئتَ قلت: إنّ محطّ السؤال والجواب هو الصّوم في السفر وعدمه، لا جواز السفر وعدم الجواز، نعم بعض نصوص نذر الصّوم في السفر متضمّنٌ للسفر مع كون المنذور صوماً معيّناً، كخبر زرارة المتقدّم(2)، ولكنّه في مقام بيان أحكام أُخر من عدم جواز صومه في السفر، ولزوم القضاء، وليس فيها خبرٌ يدلّ على جواز السفر اختياراً، وإنْ كانت أكثرها مُشعرة به، والاحتياط طريق النجاة.
***5.
ص: 346
والخلوّ من الحيض والنفاس.
(و) الشرط الخامس والسادس: (الخلوّ من الحيض والنفاس) في مجموع النهار، فلا يجبُ معهما، وإنْ كان حصولهما في جزءٍ من الزمان، إجماعاً محقّقاً ومحكيّاً مستفيضاً(1)، والنصوص الدالّة عليه متواترة:
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن امرأة أصبحت صائمة، فلمّا ارتفع النهار أو كان العشيّ حاضت أتفطر؟ قال عليه السلام: نعم، وإنْكان وقت المغرب فلتفطر.
قال: وسألتهُ عن امرأةٍ رأت الطهر في أوّل النهار من شهر رمضان، فتغتسل ولم تطعم، فما تصنع في ذلك اليوم ؟ قال عليه السلام: تفطر ذلك اليوم، فإنّما فطرها من الدّم»(2).
ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن المرأة ترى الدّم غدوةً أو ارتفاع النهار، أو عند الزَّوال ؟ قال عليه السلام: تفطر»(3).
ومنها: صحيح البَجَلي، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن المرأة تلِد بعد العصر، أتتمّ
ص: 347
ذلك اليوم أم تفطر؟ قال عليه السلام: تفطر وتقضي ذلك اليوم»(1). ونحوها غيرها.
ومقتضى إطلاقها، بل صراحة بعضها، أنّه لا يصحّ صومها إذا فاجأها الدّم قبل الغروب ولو بلحظة، أو انقطع عنهما الدّم بعد الفجر ولو بلحظة.
وأمّا المستحاضة: فقد مرّ الكلام فيها مفصّلاً في الجزء الثاني من هذا الشرح في مبحث الاستحاضة، وبيّنا أنّ الحقّ توقّف صحّة صومها على الأغسال النهاريّة، وأنّه يجب الصّوم عليها، فراجع(2).
***).
ص: 348
وشرائط القضاء: البلوغ.
(و) يدور البحث في المقام عن (شرائط) وجوب (القضاء) وهي أُمور:
منها: (البلوغ): فلا يجب على البالغ ما فاته أيّام صباه بلا خلافٍ ، وفي «الجواهر»(1): (بل الإجماع بقسميه عليه)، وفي «المنتهى»(2): (وهو قول كلّ من يُحفظ عنه العلم).
واستدلّ له بوجوه:
الوجه الأوّل: ما في «المنتهى»(3) من أنّ الصغير لا يتناوله الخطاب وقت الأمر بالصوم، ولم يوجد فيه شرطه وهو العقل، فلا يتناوله خطاب القضاء.
وفيه: أنّه يجبُ القضاء على من لم يجب عليه الأداء في موارد، كالنائم والحائض وما شاكل، فليس القضاء تابعاً للأداء، فلابدّ من ملاحظة الدليل في مقام الإثبات، وإلّا فلا محذور من ناحية مقام الثبوت.
الوجه الثاني: وهو ممّا استدلّ به صاحب «الرياض» إنّ الدليل لو كان فإنّما يدلّ على وجوب القضاء، وصدق هذا المفهوم متوقّفٌ على التكليف بالأداء، والصبي حيث لا يكون مكلّفاً بالأداء فلا يجب عليه القضاء.
وفيه: القضاء عبارة عن إتيان العبادة ذات الوقت المحدّد والمعيّن خارجاً عنه،
ص: 349
سواءٌ أكان في الوقت مأموراً به أم لا.
الوجه الثالث: حديث رفع القلم عن الصبي(1).
وفيه: إنّ الحديث يُفيد ما دام صبيّاً، والكلام فعلاً في التكليف المتوجّه إليه بعد البلوغ.
أقول: والحقّ أن يستدلّ له - بعد منع وجود إطلاق يدلّ على وجوب قضاء الصّوم مطلقاً حتّى غير الواجب منه - بأصالة البراءة واستصحاب عدم التكليف به.
ولو بلغ الصبي قبل طلوع الفجر، وجبَ عليه الصّوم، ولو تركه وجبَ عليه قضاؤه، ولو بلغ بعده، فقد مرّ أنّه لا يجب عليه الأداء، فلا يجب القضاء أيضاً، بل لو ثبت وجوب إمساكه أداءً ، فإنّه لا دليل على وجوب القضاء، فإنّ الدليل يدلّ على وجوب قضاء الصّوم دون الإمساك مطلقاً.
ولو شكّ في أنّ البلوغ كان قبل الفجر أو بعده، لا يجب عليه القضاء، لاستصحاب عدم البلوغ إلى ما بعد طلوع الفجر، ولا يعارضه استصحاب عدم طلوع الفجر إلى ما بعد البلوغ، لأنّ الموضوع هو البالغ في النهار، وهذا العنوان لا يثبت باستصحاب عدم طلوع الفجر إلى ما بعد البلوغ، إلّاعلى القول بالأصل المثبت، ولا نقول به، من غير فرقٍ في ذلك بين الجهل بتاريخ البلوغ أو العلم به، كما لو علم بأنّه بلغ قبل ساعةٍ وجهل تاريخ طلوع الفجر، بناءً على ما هو الحقّ من جريان الأصل في مجهول التاريخ ومعلومه في الحادثين المعلوم تحقّقهما والمشكوك المتقدّم منهما والمتأخّر. راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح في المسألة الأولى من أحكام الوضوء.
***0.
ص: 350
وكمال العقل.
(و) الشرط الثاني: (كمال العقل): فلا يجبُ القضاء على المجنون ما فات منه أيّام جنونه، بلا خلافٍ ظاهر(1). وعن «الروضة»(2) دعوى الإجماع عليه.
ويشهد به:
1 - الأصل بعد عدم شمول ما دلّ على وجوب القضاء له.
2 - ونصوص الإغماء الآتية.
وعن الإسكافي(3): وجوبه عليه إذا كان بفعله على جهة الحرمة، ومالَ إليه بعض متأخّري المتأخّرين(4)، لكن قال: (لا فرق بين المحرّم والمحلّل)، وسيأتي وجهه في الإغماء.
وكذا لا يجب على المُغمى عليه، كما هو المشهور شهرة عظيمة(5)، وعن غير واحدٍ(6) دعوى الإجماع عليه.
ص: 351
أقول: وتشهد به نصوص كثيرة:
منها: صحيح أيّوب بن نوح: «كتبتُ إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام: أسأله عن المُغمى عليه يوماً أو أكثر، هل يقضي ما فاته أم لا؟ فكتب عليه السلام: لا يقضي الصّوم، ولا يقضي الصَّلاة»(1).
ومنها: صحيح عليّ بن مهزيار، عن أبي الحسن الثالث عليه السلام: «عن هذه المسألة - يعني مسألة المُغمى عليه - فقال عليه السلام: لا يقضي الصّوم ولا الصَّلاة، وكلّما غَلَب اللّه عليه، فاللّه أولى بالعذر»(2).
ومنها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «كلّما غَلَب اللّه عليه فليس على صاحبه شيء»(3). ونحوها غيرها.
ولا يعارضها الخبرين المرويّين:
1 - خبر منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المُغمى عليه شهراً أو أربعين ليلة ؟ فقال عليه السلام: إنْ شئتَ أخبرتك بما آمر به نفسي وولدي: أنْ تقضي كلّ ما فاتك»(4).
2 - وخبر حفص بن البختري، عنه عليه السلام: «يَقضي المُغمى عليه ما فاته»(5).
إذ مضافاً إلى ضعف سند الثاني، وكون الأوّل في قضاء الصَّلاة، أنّهما لا يصلحان لمعارضة ما تقدّم، لوجوه غير خفيّة. 6
ص: 352
أقول: إنّما وقع الخلاف في المقام في موردين:
المورد الأوّل: أنّ المحكيّ عن المفيد(1)، والسيّد(2)، والشيخ في «الخلاف»(3): أنّه يقضي إنْ لم تسبق منه النيّة، وإنْ سبقت منه النيّة لم يقض، وحيث إنّهم قائلون بصحّة صوم المُغمى عليه مع سبق النيّة، فهم مخالفون في أصل المسألة، يعني بناؤهم على وجوب القضاء على المُغمى عليه إنْ لم يصم.
وعن المصنّف رحمه الله في «المختلف»(4) الاستدلال لهم:
1 - بما دلّ على وجوب القضاء على المريض، بدعوى صدقه على المُغمى عليه.
2 - وبما دلّ على وجوب قضاء الصَّلاة عليه.
ويرد الأوّل: أنّه لو سُلّم صدق المريض عليه، يقيّد إطلاق تلك النصوص بالنصوص المتقدّمة الدالّة على عدم وجوب القضاء عليه.
ويرد الثاني: أنّه في غير المقام، والقياس باطلٌ عندنا، مع أنّه لم يعمل به في مورده، كما مرَّ في كتاب الصَّلاة(5).
المورد الثاني: أنّ المنسوب إلى بعض المحقّقين وجوب القضاء عليه، إذا كان الإغماء حاصلاً بفعله.
واستدلّ له: بمفهوم التعليل في جملة من النصوص: (كلّما غَلَب اللّه عليه فليس على صاحبه شيء) أو (فاللّه أولى بالعُذر) فإنّه كما يتعدّى عن مورده إلى كلّ عذرٍ كان من قِبل اللّه تعالى ، كذلك يقيّد إطلاق النصوص بمفهومه، وهو أنّه إن لم يكن ممّا2.
ص: 353
غلب اللّه عليه فالقضاء ثابت عليه.
وبعبارة أُخرى : العلّة تُعمّم وتخصّص، كما في سائر العلل، وهذا هو الوجه فيما أفاده بعض المتأخّرين(1) من أنّ الجنون إنْ كان حاصلاً بفعله فعليه القضاء.
ويرد عليه أوّلاً: أنّها كبرى كليّة ذُكرت في ذيل النصوص للتعدّي عن موردها إلى سائر الموارد، ولم تُذكر علّة للحكم حتّى يكون لها مفهوم، فلا مفهوم لها كي توجبُ تقييد النصوص.
وثانياً: أنّه لو سُلّم ثبوت المفهوم لها، يقع التعارض بين إطلاق بقيّة النصوص غير المذيّلة بتلك وهذه الجملة، والنسبة عموم من وجه، والترجيح مع النصوص المطلقة للشهرة وغيرها.
وثالثاً: أنّه لو سُلّم ثبوت المفهوم لها، لا تدلّ على أنّ الأعذار الأُخر إذا حصلت بفعل المكلّف، كان على صاحبها القضاء، ألا ترى أنّه لو قال: (أكرم هؤلاء لأنّهم علماء)، لا يدلّ التعليل على عدم وجوب إكرام غير هؤلاء، إذا لم يكن عالماً، بل مفهومه عدم لزوم إكرام من يكون من هذا الجمع غير عالم، ووجوب إكرام العالم من غيرهم. وعليه فهذه الجملة لو كان لها مفهومٌ ، يكون مفهومها لزوم القضاء على المُغمى عليه إذا حصل الإغماء بفعله، وعدم لزوم القضاء على المجنون، مثلاً إن حصل الجنون لا بفعله، ولا تدلّ على وجوب القضاء على المجنون إنْ كان الجنون بفعله، فتدبّر فإنّه دقيق.
***0.
ص: 354
والإسلام.
(و) الشرط الثالث: (الإسلام): فلا يجبُ على مَن أسلم إجماعاً(1).
وتشهد به: مضافاً إلى حديث الجُبّ ، نصوص خاصّة:
منها: صحيح العيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن قومٍ أسلموا في شهر رمضان، وقد مضى منه أيّام، وهل عليهم أن يصوموا ما مضى منه، أو يومهم الذي أسلموا فيه ؟ فقال عليه السلام: ليس عليهم قضاء، ولا يومهم الذي أسلموا فيه، إلّاأن يكونوا أسلموا قبل طلوع الفجر»(2).
ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ أسلم في النصف من شهر رمضان ما عليه من صيامه ؟ قال عليه السلام: ليس عليه إلّاما أسلم فيه»(3). ونحوهما غيرهما.
وأمّا خبر الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ أسلَم بعدما دخل شهر رمضان أيّام ؟ فقال عليه السلام: ليقضِ ما فاته»(4).
فلصراحة النصوص المتقدّمة في عدم الوجوب، يُحمل على الاستحباب.
وأمّا ما عن الشيخ رحمه الله(5): من حمله على ما إذا كان الفوت بعد الإسلام، أو المرتدّ
ص: 355
إذا أسلم، فليس جمعاً عُرفيّاً ولا شاهد له، إذ مقتضى الجمع العرفي ما ذكرناه، ومع الإباء عنه لابدّ من طرحه لا الجمع بينهما تبرّعاً.
ولو أسلم في أثناء اليوم، لا يجبُ عليه صوم ذلك اليوم، فإنّ دليل الجُبّ يشمل بعض اليوم الذي لم يَصُم فيه عمداً، والباقي لا أمر به، لأنّ بعض الصّوم لا أمر به إلّا في موارد، مع أنّ قوله عليه السلام في صحيح العيص: (ولا يومهم الذي أسلموا فيه) ظاهرٌ في عدم وجوبه عليه، فلو أفطر لا يجبُ عليه القضاء لعين ما ذكر في الصبي.
وعن الشيخ في «المبسوط»(1)، والمحقّق في «المعتبر»(2): أنّه إن أسلم قبل الزَّوال، وجدّد النيّة، كان صومه صحيحاً، وإنْ ترك قضى .
واستدلّ له:
1 - بأنّ وقت النيّة في الصّوم إلى الزَّوال، كما يظهر من الموارد المختلفة، فالوقت باق، والتكليف متوجّهٌ إليه، فيجبُ عليه أن يأتي به.
2 - وبقوله في صحيح الحلبي: (ليس عليه إلّاما أسلم فيه)، بدعوى أنّ المراد اليوم الذي أسلم فيه.
أقول: وفيهما نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ التعدّي عن الموارد الخاصّة يحتاج إلى دليل، أو استفادة الكبرى الكليّة منها، وكلاهما مفقودان.
وأمّا الثاني: فظاهره بقرينة السؤال؛ أنّ المراد النصف الثاني من رمضان، فالأظهر أنّه لا يجب عليه الصّوم ولا قضائه.1.
ص: 356
والمرتدّ يقضي ما فاته من زمان ردّته.
فرع: (و) هل (المرتدّ يقضي ما فاته من زمان ردّته) أم لا؟
المشهور بين الأصحاب هو الأوّل، بل عن «الذخيرة»(1) أنّه لا خلاف فيه بين الأصحاب، وعن «المدارك»(2) أنّه قطعي.
وقد ناقش فيه الشيخ الأعظم رحمه الله(3): نظراً إلى أنّه لا عموم لنا يدلّ على وجوب قضاء الصّوم سوى الإجماع، قال:
لأنّ ما استدلّ به لذلك، إنّما هو صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا كان على الرّجل شيءٌ من صوم شهر رمضان، فليقضه في أيّ شهور شاء أيّاماً متتابعة، فإنْ لم يستطع فليقضه كيف شاء، وليحص الأيّام، فإنْ فرّق فحَسَنٌ ، وإنْ تابع فَحَسَنٌ »(4).
وصحيح عبداللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «مَن أفطر شيئاً من شهر رمضان في عذر، فإنْ قضاه متتابعاً فهو أفضل، وإنْ قضاه متفرِّقاً فحَسَنٌ »(5).
أقول: وشيءٌ منهما لا يدلّ على ذلك:
أمّا الأوّل: فهو في مقام بيان التوسعة لمَن عليه القضاء، لا في مقام بيان من عليه القضاء.3.
ص: 357
وأمّا الثاني: مضافاً إلى وروده في ذوي الأعذار، فهو في مقام بيان الرخصة في تفريق القضاء لمن عليه القضاء، ثمّ في آخر كلامه ينكر وجود الإجماع أيضاً.
أقول: بعد فرض أنّ المرتدّ مكلّفٌ بالأداء، وحديث الجُبّ لا يشمله، فهو كسائر من ترك الصّوم عامداً، فهل يتوهّم أحدٌ أن يُنكر وجود دليل يدلّ على وجوب القضاء على من ترك الصّوم في الشتاء، نظراً إلى عدم الدليل عليه، والسرّ أنّ المستفاد من النصوص الواردة في من أفطر متعمّداً والمريض والحائض والنفساء والمسافر وناسي الجنابة وغيرهم، وجوب القضاء على كلّ مكلّفٍ ترك الصّوم عن علم وعمد ولو كان معذوراً، إلّامن خرج بالدليل، بل يظهر من النصوص الأُخر، أنّ وجوب القضاء كان أمراً مفروغاً عنه.
وإلى ما ذكرناه نظر صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) حيث استدلّ له بعموم (من فاتته) وغيره ممّا هو دالٌّ على وجوب القضاء لكلّ تارك، وخصوص العامد الذي هو محلّ الفرض، وليس نظره الشريف إلى المرسل المعروف: (من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته)، حتّى يورد عليه بأنّه ليس في كتب الحديث، مضافاً إلى اختصاصه بالصلاة.
ومن الغريب أنّ بعض المعاصرين(2) مع اعترافه بوجود قولهم عليهم السلام: (من أفطر متعمّداً فعليه القضاء) في غير واحدٍ من النصوص، مع ذلك ينكر وجود دليل يدلّ على وجوب القضاء بنحو يشمل المرتدّ، ولا أدري أي قصور في هذه الجملة كي).
ص: 358
لا تشمل المرتدّ المفطر متعمّداً، والإنصاف أنّ التشكيك في ذلك يشبه التشكيك في الواضحات.
وربما يستدلّ له: بذيل الآية الكريمة: (وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ ) (1) بدعوى ظهوره في تعليل وجوب القضاء على المريض والمسافر، فيؤخذ بعمومه في غير مورده، فمقتضى الأدلّة وجوب القضاء على المرتدّ.
ولكن قد يقال: إنّ النصوص المتقدّمة الدالّة على عدم وجوب القضاء على من أسلم، تشمل المرتدّ، بناءً على قبول إسلامه، كما هو الحقّ .
وأُجيب عنه: بظهورها كحديث الجُبّ في الكافر الأصلي، وفيه توقّفٌ .
ثمّ إنّ الكلام في أنّه: هل يجبُ القضاء على المخالفين مطلقاً، أو في بعض الموارد؟ قد تقدّم في مبحث الزكاة(2)، وسيأتي البحث عنه مفصّلاً في كتاب الحجّ (3).
***0.
ص: 359
ويتخيّر قاضي رمضان في إتمامه إلى الزّوال، فيتعيّن
المسألة الأُولى: (و) المشهور بين الأصحاب أنّه (يتخيّر قاضي رمضان في إتمامه إلى الزَّوال، فيتعيّن) وعليه الكفّارة.
بل عن «المدنيّات الأُولى »(1): دعوى الإجماع على الحكم الأوّل.
وعن «الانتصار»(2)، و «الغنية»(3): دعوى الإجماع على الثاني، والثالث.
وعن العُمّاني(4)، والحلبي(5)، وابن زُهرة(6): عدم جوازالإفطار قبل الزَّوال أيضاً.
وعن التهذيبيّن(7): عدم الحرمة بعد الزَّوال أيضاً.
أقول: أمّا الكفّارة فقد مرّ الكلام فيها، وأمّا الحكمان الآخران، فتشهد لما هو المشهور فيهما جملةٌ من النصوص:
ص: 360
منها: خبر بريد العِجلي، عن الباقر عليه السلام: «في رجلٍ أتى أهله في يوم يقضيه من شهر رمضان ؟ قال: إنْ كان أتى أهله قبل زوال الشمس، فلا شيء عليه إلّايوم مكان يوم، وإنْ كان أتى أهله بعد زوال الشمس، فإنّ عليه أن يتصدّق على عشرة مساكين، فإنْ لم يقدر صام يوماً مكان يوم، وصام ثلاثة أيّام كفّارة لما صنع»(1).
ومنها: صحيح جميل، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّه قال في الذي يقضي شهر رمضان: إنّه بالخيار إلى زوال الشمس، فإنْ كان تطوّعاً فإنّه إلى اللّيل بالخيار»(2).
ومنها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «قال صوم النافلة لك أن تفطر ما بينك وبين اللّيل متى ما شئت، وصوم الفريضة لك أن تفطر إلى زوال الشمس، فإذا زالت الشمس فليس لك أن تفطر»(3)، ونحوها غيرها.
واستدلّ للقول الثاني:
1 - بصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج: «عن الرّجل يقضي رمضان، ألَهُ أن يفطر بعدما يصبح قبل الزَّوال إذا بدا له ؟ فقال عليه السلام: إذا كان نوى ذلك من اللّيل، وكان من قضاء رمضان، فلا يفطر ويُتمّ صومه»(4).
2 - وبالنصوص المتقدّمة المتضمّنة لثبوت الكفّارة على من أفطر في قضاء شهر رمضان مطلقاً، كخبر زرارة(5).
3 - وبحرمة إبطال العمل.5.
ص: 361
ولكن الأوّل: يُحمل على الاستحباب، للنصوص المتقدّمة الصريحة في الجواز.
والثاني: يقيّد إطلاقه بها.
والثالث: قد مرّ ما فيه، وأنّه لا دليل على حرمة إبطال العمل مطلقاً، وعلى فرض وجوده يقيّد إطلاقه بما تقدّم.
واستدلّ للثالث: بأنّ غاية ما يستفاد من النصوص المتقدّمة، ثبوت الكفّارة على مَن أفطر بعد الزَّوال، وهو أعمّ من الحرمة.
وفيه أوّلاً: إنّ قوله عليه السلام في صحيح ابن سنان: (فإذا زالت الشمس، فليس لك أن تفطر) يدلّ على عدم الجواز بالمنطوق.
وثانياً: إنّ جملة من النصوص الأُخر، كخبر العجلي بمفهوم الغاية تدلّ عليه.
وثالثاً: إنّ قوله عليه السلام في موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «فيمن أفطر بعدما زالت الشمس قد أساء»(1)، كالصريح فيه.
وأمّا صحيح هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ وقع على أهله وهو يقضي شهر رمضان ؟ فقال: إنْ كان وقع عليها قبل صلاة العصر فلا شيء عليه، يصوم يوماً بدل يوم، وإنْ فعل بعد العصر صام ذلك اليوم، وأطعم عشرة مساكين، الحديث»(2)، فلعدم عمل أحدٍ بما فيه من التفصيل يُطرح، أو يُحمل على ما ذكره الشيخ رحمه الله(3) من إرادة دخول وقت العصر وهو عند الزَّوال، لأنّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان.).
ص: 362
أقول: وها هنا فروع لابدَّ من التنبيه عليها:
الفرع الأوّل: صرّح الشهيد رحمه الله(1) بأنّه لو أفطر الصائم بعد الزَّوال، وجبَ عليه الإمساك بقيّة النهار. واستدلّ له بوجوه:
منها: قوله عليه السلام في صحيح هشام: (وإن فعل بعد العصر صام ذلك اليوم).
وفيه: أنّ الظاهر منه بواسطة إطلاق الصّوم، وقرينة السياق، إرادة صوم بدل ذلك اليوم.
ومنها: ما في خبر زرارة المتقدّم: (لأنّ ذلك اليوم عند اللّه من أيّام رمضان).
وفيه: أنّه لعدم المساواة بينهما في جميع الأحكام قطعاً، يُحمل على إرادة التنزيل في خصوص الكفّارة.
ومنها: استصحاب وجوب الإمساك الثابت قبل الإفطار، فإنّه يُشكّ بعد الإفطار في أنّه هل يتبدّل وجوبه بالعدم أم بعدُ باقٍ فيستصحب.
وفيه أوّلاً: عدم إمكان جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة، كما ذكرناه في هذا الشرح مراراً.
وثانياً: إنّ الموضوع متبدّل، فإنّ الإمساك كان واجباً من باب كونه صوماً، وهذا الإمساك ليس صوماً قطعاً.
وبالجملة: فالأظهر عدم وجوبه، كما عن جماعةٍ (2) للأصل.
الفرع الثاني: إنّ هذا الحكم يختصّ بما لو لم يتضيّق الوقت إنْ قلنا به، وإلّا4.
ص: 363
فلا يجوز الإفطار قبل الزَّوال، لدليل التعيّين الذي لا يعارضه على فرض وجوده هذه النصوص، فإنّها تدلّ على الجواز من حيث إنّه قضاء، وأمّا لو انطبق عليه عنوانٌ آخر، استلزم عدم جواز الإفطار، فهذه غير ناظرة إليه، ألا ترى أنّه لو نذر أن لا يفطر لو صام قضاءً ، فإنّه لا يشكّ أحدٌ في عدم جواز الإفطار من جهة النذر، ولا ينافي ذلك مع النصوص المتقدّمة، وكذلك في المقام.
الفرع الثالث: إنّ هذا الحكم حكمٌ لقضاء صوم رمضان، فمن يقضي احتياطا إن أراد أن يحتاط لا يفطر بعد الزَّوال، وإنْ كان لو أفطر لا بأس به، ولكن لا من جهة انصراف النصوص عن ذلك، وكونه مندوباً بالعنوان الثانوي، فإنّهما فاسدان، بل من جهة أنّه لا يجب عليه الصّوم للحجة الشرعيّة على عدم اشتغال الذّمة، وهي الحجّة على عدم كون صومه قضاء.
الفرع الرابع: مقتضى إطلاق جملةٍ من النصوص، أنّه لا يختصّ هذا الحكم بالقضاء لنفسه، بل يعمّ القاضي عن غيره ولايةً وتبرّعاً أو إجارة، ودعوى تبادر القاضي لنفسه، ممنوعة.
***
ص: 364
المسألة الثانية: المشهور بين الأصحاب(1) أنّه لا يجبُ الفور في القضاء، ويشهد به صحيحا الحلبي وابن سنان المتقدّمان في المرتدّ، وصحيح البُختري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «كنّ نساء النبيّ صلى الله عليه و آله إذا كان عليهن صيام أخّرنَ ذلك إلى شعبان، كراهة أن يمنعنَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فإذا كان شعبان صمن وصام معهنّ »(2).
وعليه، فما عن أبي الصّلاح(3) من وجوب الفوريّة ضعيفٌ .
أقول: إنّما الكلام في أنّه هل يجوز التأخير إلى ما بعد رمضانٍ آخر، أم لا؟
نُسِب إلى المشهور(4): عدم الجواز.
وعن المحقّق القمّي في «الغنائم»(5): أنّه لا خلاف فيه، ولعلّه كذلك، فإنّ الأصحاب يذكرونه في ضمن مسائل متفرّقة كحكمٍ مفروغ عنه.
قال المصنّف رحمه الله: في محكيّ «المختلف»(6)، في مسألة سقوط القضاء مع استمرار
ص: 365
العُذر إلى رمضانٍ آخر، في مقام الاستدلال على سقوط القضاء: (بأنّ العُذر قد استوعب وقت القضاء - إلى أنْ قال - وأمّا استيعاب وقت القضاء، فلأنّ وقته بين الرمضانين، إذ لا يجوز التأخير عنه) انتهى، ونحوه كلام غيره.
وكيف كان، فقد استدلّ له بوجوه:
الوجه الأوّل: النصوص الآتية الدالّة على ثبوت الفدية إذا صحَّ بين الرمضانين ولم يقض، فإنّ الكفّارة إنّما هي على ترك الواجب.
الوجه الثاني: التعبير عن ترك الصّوم بين الرمضانين إذا صحَّ بينهما ولم يَصُم، بالتهاون والتواني والتضييع، ولولا تعيّن الوجوب، لم يكن تركه تهاوناً ولا توانياً ولا تضييعاً.
وفيه: أنّ المراد بتلك النصوص - على ما قيل - إنّه إن صحَّ ولم يَصُم، وكان عازماً على ترك القضاء، تجب عليه الفدية، فإطلاق هذه العناوين باعتبار بنائه على ترك القضاء، مع أنّه يصحّ إطلاقها على ترك الراجح أيضاً.
الوجه الثالث: قوله عليه السلام في خبر أبي بصير الآتي: «فإنْ صحّ بين الرمضانين فإنّما عليه أن يقضي الصيام، فإن تهاون... إلى آخره»(1)، بدعوى ظهوره في أنّ عليه أن يقضي الصيام بين الرمضانين.
وفيه: أنّه يدلّ على أنّ المريض إنْ استمرّ مرضه فعليه الفدية خاصّة، وإنْ صَحَّ كان عليه القضاء دون الفدية، وإنْ أخّره حينئذٍ كان القضاء والفدية، ولا يدلّ على أنّه إن صَحَّ وجبَ عليه القضاء في زمان الصحّة الذي بين الرمضانين تعييناً.0.
ص: 366
الوجه الرابع: مصحّح الفضل، عن الإمام الرضا عليه السلام في حديثٍ :
«إنْ قال: فلِمَ إذا مرض الرّجُل أو سافر في شهر رمضان، فلم يخرج من سفره أو لم يقو من مرضه حتّى يدخل عليه شهرُ رمضانٍ آخر وجب عليه الفداء للأوّل، وسقط القضاء، وإذا أفاق بينهما أو أقام ولم يقضه، وجبَ عليه القضاء أو الفداء؟
قيل: لأنّ ذلك الصّوم إنّما وجبَ عليه في تلك السنة في هذا الشهر، فأمّا الذي لم يفق، فإنّه لما مرّ عليه السَّنة كلّها، وقد غَلَب اللّه تعالى عليه، فلم يجعل له السبيل إلى أدائها سَقَط عنه - إلى أنْقال - لأنّه دَخَل الشهر وهو مريضٌ ، فلم يجب عليه الصّوم في شهره، ولا في سنته، للمرض الذي كان فيه، ووجبَ عليه الفداء، الحديث»(1).
وفيه: أنّه ليس في هذا الخبر سوى أنّه إذا صَحَّ يتوجّه إليه التكليف بالصوم، وهذا ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في أنّ هذا التكليف هل يكون مقيّداً بما بين الرمضانين، أم لا؟ وليس في الخبر إشعارٌ بذلك، فضلاً عن الدلالة.
والنتيجة: أنّه لا دليل على لزوم المبادرة، بل هو من الواجبات الموسّعة إلى آخر العمر، وسبيله سبيل تلك الواجبات، ويشهد به - مضافاً إلى الأصل -: مرسل سعد بن سعد، عن رجلٍ ، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجل يكون مريضاً في شهر رمضان، ثمّ يصحّ بعد ذلك، فيؤخّر القضاء سنة أو أقلّ من ذلك أو أكثر، ما عليه من ذلك ؟ قال: أحبُّ له تعجيل الصيام، فإنْ كان أخّره فليس عليه شيء»(2).3.
ص: 367
وأيضاً المشهور بينهم: عدم وجوب التتابع في قضاء الصّوم ولا التفريق، وتشهد بهما نصوصٌ منها صحيحا الحلبي وابن سنان المتقدّمان في مسألة المرتدّ(1)، نعم يستحبّ التتابع لجملةٍ من النصوص، وبإزائها وإنْ كانت نصوصٌ أُخر دالّة على أفضليّة التفريق، لكنّها أشهر وأصحّ سنداً فتُقدَّم.
ولا يجب الترتيب أيضاً بلا خلاف(2)، وقيل(3) يستحبُّ ولا دليل عليه.
أقول: إنّما الكلام في أنّه هل يجبُ تعيين الأيّام، فلو كان عليه أيّام فصام بعددها لا يكفي، بل لابدّ وأن يعيّن ولو بنحو الإطلاق المنصرف إلى الأوّل فالأوّل، أم لا يجب التعيّين، فلو كان عليه أيّام وصام بعددها كفى؟ وجهان:
قد استدلّ للثاني: بأنّ التعيين فرع التعيّن، والتعيّن تابعٌ لاعتبار خصوصيّةٍ في كلٍّ من ما أمر به غير الخصوصيّة المعتبرة في الآخر كخصوصيّة الظهريّة والعصريّة، وليس في المقام ما يوجبُ ذلك، فإنّ قضاء الصّوم الفائت ماهيّة واحدة، قد يكون الواجب منها فرداً واحداً، وقد يكون متعدّداً، وفي صورة التعدّد لا مائز بين الفردين سوى أنّ لكلّ منهما وجوداً غير وجودالآخر، وعليه فلايعتبر التعيّين، بل لامجال له.
ص: 368
نعم، لو كان وقوع الصّوم في اليوم الأوّل، وكذا في سائر الأيّام عنواناً مأخوذاً في المأمور به، صحَّ لزوم التعيين، لكنّه ليس كذلك بل المأمور به في الأداء صوم رمضان، وفي قضائه أيضاً كذلك.
أقول: إنّه بعد فرض تعدّد ما في ذمّة المكلّف، وأنّ لكلٍّ من الأفراد أمراً متعلّقاً به غير ما تعلّق بالآخر، إن أتى المكلّف بفردٍ من الصّوم غير المعيّن لكونه امتثالاً لأيّ أمرٍ من الأوامر - والفرض صلاحيّته لوقوعه امتثالاً لكلّ واحد منها - لا يعقل وقوعه امتثالاً للجميع، وهو واضح، ولا امتثالاً لواحدٍ معيّن لكونه ترجيحاً بلا مرجّح، وهو ممتنعٌ قطعاً، ولا لواحدٍ غير معيّن، لعدم كونه فرداً خارجيّاً، فلابدّ وأن لا يقع امتثالاً لشيء منها، وعلى هذا فيجبُ التعيين فراراً عن هذا المحذور.
نعم، لا يجب الترتيب، بل له أن يعيّن اللّاحق قبل السابق، لأصالة البراءة عن وجوبه بعد فقد الدليل على الاعتبار.
***
ص: 369
المسألة الثالثة: إذا علم أنّه فاته أيّامٌ من شهر رمضان، ودارت بين الأقلّوالأكثر:
1 - فهل يجبُ الإتيان بالأكثر؟
2 - أم يجوز الاكتفاء بالأقلّ؟
3 - أم يفصّل بين ما لو كان الترك على فرضه على وجهٍ غير جائز فيجوز الاكتفاء بالأقلّ ، وبين ما إذا كان على وجهٍ جائز، كما لو كان مريضاً وأفطر في مرضه، ولكن لا يعلم أنّه كان مرضه خمسة أيّام أم سبعة، فيجب الإتيان بالأكثر؟ وجوه:
قد استدلّ للأوّل بوجوه:
الوجه الأوّل: استصحاب وجوب الموقّت بعد وقته، فلو علم بأنّه فاتَ منه صيام أربعة أيّام، وشكّ في فوت صوم يوم الخامس، يستصحب بقاء وجوبه، فلابدّ من الإتيان به.
أقول: والجواب عن ذلك بانتهاء وجوب صوم رمضان بدخول العيد الذي يحرم صومه، كما عن بعض المعاصرين(1).
غريبٌ ، فإنّ صوم يوم العيد حرامٌ ، لا أنّ وجوب قضاء صوم رمضان بعد يوم العيد، بنحوٍ يكون الزمان ظرفاً للامتثال لا للتكليف، يرتفع بمجيء يوم عيد، كما لا يخفى .
والحقّ في الجواب أن يقال: إنّ القضاء إنْ كان بالأمر الأوّل، كان ما أُفيد تامّاً
ص: 370
- مع قطع النظر عمّا سيمرّ عليك -، ولكن الصحيح أنّه بأمرٍ جديد، وعليه فذلك الأمر انعدم قطعاً، والأمر الآخر مشكوكُ الحدوث من أصله واستصحاب الجامع بينهما، يكون من قبيل استصحاب الكلّي القسم الثالث، فلا يجري.
الوجه الثاني: إنّ مقتضى عموم الدليل وجوب القضاء على كلّ من لم يَصُم، وعليه فيجري استصحاب عدم الإتيان بالصوم المشكوك فيه، ويترتّب عليه وجوب القضاء، وليس موضوع وجوب القضاء الفوت كي يقال إنّه أمرٌ وجودي ملازمٌ لعدم الإتيان بالمأمور به، فلا يثبت به.
وفيه: إنّ كون الموضوع المأخوذ في الدليل عنوان الترك لا الفوت، غير ظاهر.
الوجه الثالث: إنّ مقتضى قاعدة الاشتغال الجارية في مورد العلم بالتكليف، والشكّ في الامتثال، لزوم الإتيان بالأكثر، فإنّ تعلّق التكليف بالزائد عن المعلوم معلوم وثابت ولا نقاش فيه، والشكّ إنّما هو في الامتثال.
وفيه: ما عرفت من سقوط التكليف الأصلي، والشكّ في تكليف آخر وهو مشكوك الحدوث، فيكون مجرى أصالة البراءة لا قاعدة الاشتغال.
واستدلّ للقول الثالث بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّه إذا كان الفوت لمانع كالمرض، وشُكّ في أنّ زواله كان يوم الخامس أو الرابع، يُستصحب بقاء المرض إلى اليوم الخامس، فيكون صوم ذلك اليوم أيضاً فائتاً، وكذا في سائر الأعذار، وهذا بخلاف احتمال الترك لا عن عذر.
وفيه: أنّ استصحاب بقاء المانع إلى زمان الأكثر، وإنْ كان مقتضاه حرمة صومه، فلو كان صائماً مع المانع، يثبت به أنّه صام حراماً، إلّاأنّه لا يثبت به مع عدم الصّوم مع المانع فوت الصّوم، بل ولا تركه إلّاعلى القول بالمثبت.
ص: 371
الوجه الثاني: أنّ قوله تعالى : (وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (1)، وكذا غيرها من أدلّة الموانع، تقتضي وجوب قضاء كلّ يومٍ مقارن مع المانع، فباستصحاب بقاء المانع يثبتُ وجوب القضاء، بلا حاجةٍ إلى إثبات ترك الصّوم.
ولا يصحّ الجواب عن ذلك: بأنّ وجوب القضاء من آثار عدم الصّوم الصحيح في أيّام الشهر، لا من آثار نفس وجود المانع كالمرض، فإنّ الموضوع المأخوذ في الآية الكريمة وغيرها من الأدلّة، هو المريض والمسافر والحائض ومن شاكل.
والصحيح في الجواب: حكومة قاعدة الشكّ بعد خروج الوقت إن جرت على ذلك الاستصحاب.
الوجه الثالث: أنّ قاعدة الشكّ بعد خروج الوقت تجري، فيما لو احتمل الترك لا عن عذر، ولا تجري مع احتمال الترك عن عذر.
وفيه: يتعيّن الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وما شاكل.
أقول: إنّ ما أُفيد من جريان قاعدة الشكّ بعد خروج الوقت في مورد احتمال الترك لا عن عذرٍ، متينٌ جدّاً، إذ مورد تلك القاعدة وأُختيها إنْ كانت متعدّدة هي ما لو علم الأمر، وشكّ في الامتثال، وأمّا لو كان الأمر مشكوكاً فيه، فلا يجري شيء منها، وفي المقام بما أنّه إذا كان المانع متحقّقاً لا أمر فلا تجري القاعدة، وعليه فمقتضى أصالة بقاء المانع حسب ما ذكر في الوجه الثاني، هو شمول أدلّة القضاء له، ولزوم الإتيان بالأكثر، ومعه لا مورد لجريان أصالة البراءة.
وبالجملة: فالقول الثالث أظهر بحسب القواعد، وإن لم نجد القائل به.
***5.
ص: 372
والمندوب: جميعُ أيّام السَّنة، إلّاالمنهي عنه.
يقول المصنّف رحمه الله: (و) يُستحبّ إتيان الصوم (المندوب جميع أيّام السَّنة، إلّا المنهي عنه) بلا خلافٍ .
وفي «الجواهر»(1): (وقد ورد فيه من الأخبار ما ظهر بها مرتبة ظهور الشمس في رابعة النهار)، ولعلّه كذلك، فإنّه قد تضمّنت النصوص:
أنّه أحد الخمسة التي بُني الإسلام عليها، كما في صحيح زرارة(2).
وأنّه يسوّد وجه الشيطان، كما في خبر إسماعيل بن أبي زياد(3).
وأنّه وكَّل اللّه تعالى ملائكته بالدعاءللصائمين، كمافي خبر مسعدة بن صدقة(4).
وأنّ نوم الصائم عبادة، ونَفَسه تسبيح، كما في خبره الآخر(5).
وأنّ خلوف فَم الصائم أطيب عند اللّه من ريح المِسك، كما في مرسل ابن أبي عُمير(6).
وأنّ للصائم فرحتين: فرحةٌ عند إفطاره، وفرحةٌ عند لقاء ربّه، كما في خبر الكناني(7).
ص: 373
وأنّ الصّوم جُنّة من النار، كما في خبر عليّ بن عبد العزيز(1).
وأنّ زكاة الأجساد الصّوم، كما في خبر موسى بن بكر(2).
وأنّ الرّجل ليصوم تطوّعاً يُريد ما عند اللّه، فيدخله اللّه به الجنّة، كما في خبر إسماعيل بن بشّار(3).
وأنّ الصائم في عبادة، وإنْ كان على فراشه، ما لم يغتَب مُسلماً، كما في خبر عبداللّه بن طلحة(4).
وأنّ الصيام جُنّةً من النار، كما في خبر عُمر بن جمع(5).
وأنّ نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله متقبّلٌ ، ودعائه مُستجاب، كما في مرسل الصدوق(6).
وأنّ المؤمن إذا قام ليله ثمّ أصبح صائماً نهاره، ولم يكتب عليه ذنبٌ ، ولم يخطُ خطوةً إلّاكتب اللّه له بها حسنة، وإنْ مات في نهاره صَعَد بروحه إلى عليّين، وإنْ عاش حتّى يفطر كتبه اللّه من الأوّابين، كما في خبر محمّد بن مسلم(7).
إلى غير ذلك من المضامين التي تضمّنتها النصوص الكثيرة.
والصوم المندوب له أقسام:
منها: ما لا يختصّ بسببٍ مخصوص، ولا بوقتٍ معيّن وقد تقدّم.م.
ص: 374
والمؤكّد ستّة عشر قسماً: أوّل خميسٍ من كلّ شهر، وأوّل أربعاءٍ من العشر الثاني، وآخر الخميس من الثالث.
ومنها: ما يختصّ بسببٍ مخصوص، وأفراده غير محصورة، ومذكورة في كتب الأدعية والآداب.
ومنها: ما يختصّ بوقتٍ معيّن وهو في مواضع، (والمؤكّد) منها (ستّة عشر قسماً) منها، ولعلّه أوكدها صوم ثلاثة أيّام (أوّل خميس من كلّ شهر، وأوّل أربعاء من العشر الثاني، وآخر الخميس من الثالث)، ففي صحيح حمّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«صام رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتّى قيل ما يفطر، ثمّ أفطر حتّى قيل ما يصوم، ثمّ صام صوم داود يوماً ويوماً لا، ثمّ قُبِض رسول اللّه صلى الله عليه و آله على صيام ثلاثة أيّام في الشهر، وقال: يعدلنّ صوم الدَّهر، ويُذهبن بوحر الصَّدر.
وقال حمّاد: الوحر: الوسوسة.
قال حمّاد: فقلت: وأيّ الأيّام هي ؟ قال عليه السلام: أوّل خميس في الشهر، وأوّل أربعاء بعد العشر منه، وآخر خميس فيه، الحديث»(1)، ونحوه غيره من النصوص الكثيرة.
وقد وردت في النصوص كيفيّات أُخر لصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر، كصوم الخميسين بينهما أربعاء في العشرات الثلاث، أو ذلك في شهر، وأربعاء وخميس وأربعاء في شهر آخر، أو الأربعاء والخميس والجمعة، أو الخميس بين الأربعائين، ولكن آكدها ما في المتن.1.
ص: 375
الفرع الأوّل: يُكره المجادلة والجهل والإسراع إلى الحَلف والأيمان باللّه تعالى أثناء الصوم، كما أنّه يستحبّ احتمال من يجهل عليه، كلّ ذلك لخبر الفضيل بن يسار: «إذا صامَ أحدكم الثلاثة أيّام من الشّهر، فلا يجادلنّ أحداً، ولا يجهل، ولا يَسرع إلى الحلف باللّه والأيمان باللّه، وإنْ جهل عليه أحدٌ فليتحمّله»(1).
الفرع الثاني: من ترك هذا الصّوم يستحبّ له القضاء، بلا خلافٍ ، لصحيح عبداللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ : «ولا يقضي شيئاً من صوم التطوّع إلّا الثلاثة أيّام التي كان يصومها من كلّ شهر، ولا يجعلها بمنزلة الواجب، إلّاأنّي أحبّ لك أن تدوم على العمل الصالح»(2).
وفي ثبوت القضاء على من تركها للسفر أو المرض روايتان، فإنْ أمكن الجمع بحمل النافية على عدم التأكّد، وإلّا فتُطرح النافية لأشهريّة المثبتة.
الفرع الثالث: المحكيّ عن «شرح القواعد» لفخر الإسلام(3): (الصائم لرمضان أو النذر المعيّن إذا كان فيه أحد الأيّام الثلاثة الّتي يستحبّ أن يصومها من كلّ شهر، وأيّام البيض، يحصل له ثوابُ الواجب والمندوب، ودخل المندوب ضمناً، وكذا لو صام قضاء شهر رمضان، أو النذر المعيّن، أو الكفّارات، أو أيّ صومٍ كان من الواجبات في الأيّام المندوبات) انتهى .
ويمكن أن يستدلّ له بوجهين:
أحدهما: أصالة التداخل التي بنينا عليها نحن أيضاً، ما لم يثبت العدم.
ص: 376
ويوم الغدير، والمباهلة.
الثاني: أنّ المستفاد من نصوص الباب وما شاكل رجحان وجود طبيعة الصّوم في تلك الأيّام واجباً أو غيره، ويستفاد ذلك من ما في الأخبار من التعليلات المنطبقة على ذلك أيضاً، وهذا ليس من التداخل في شيء.
الفرع الرابع: إنْ عجز عن صومها لكبرٍ أو نحوه، أو شقَّ عليه ذلك، استحبّ له أن يتصدّق عن كلّ يومٍ بمُدٍّ من طعام، أو درهم، للنصوص المستفيضة الواردة في الباب الحادي عشر من أبواب الصّوم المندوب من كتاب «وسائل الشيعة»(1).
(و) منها: صوم (يوم الغدير)، وهو الثامن عشر ذي الحجّة، وهو عيد اللّه الأكبر، وتشهد به نصوصٌ كثيرة:
1 - خبر الحسن بن راشد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال: قلتُ : جُعِلْتُ فداك، للمسلمين عيدٌ غير العيدين ؟ قال عليه السلام: نعم يا حسن، أعظمهماوأشرفهما. قلت: وأيّ يومٍ هو؟ قال: يومٌ نُصِب أمير المؤمنين فيه عَلَماً للناس. قلت: جُعِلْتُ فداك وأيّ يومٍ هو؟ قال: إنَّ الأيّام تدور وهو يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة. قلت: جُعِلْتُ فداك وما ينبغي لنا أن نصنع فيه ؟ قال عليه السلام: تصومه يا حسن - إلى أنْ قال - قلت: فما لمَن صامه ؟ قال: صيام ستّين شهراً»(2)، ونحوه غيره.
(و) منها: صوم يوم (المباهلة) بأمير المؤمنين عليه السلام، وسيّدة النساء، وسيّدي شباب أهل الجنّة، وهو يوم الرابع والعشرون من ذي الحجّة.1.
ص: 377
ويوم المبعَث، ومولد النبيّ صلى الله عليه و آله،
وعن «المسالك»(1): قيل إنّه اليوم الخامس والعشرون، وقائله غير معلوم.
وفي «الرياض»(2): ولم أجد به رواية، نعم رواها الخال العلّامة رحمه الله مرسلة.
كفى بها مدركاً في المقام لقاعدة التسامح.
(و) منها: صوم (يوم المبعث) وهو اليوم السابع والعشرون من شهر رجب، لخبر الحسن بن راشد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«لا تدَع صيام يوم سبعة وعشرين من رجب، فإنّه هو اليوم الذي أُنزلت فيه النبوّة على محمّد صلى الله عليه و آله، وثوابه مثل ستّين شهراً لكم»(3). وغيره.
(و) منها: صوم يوم (مولد النبيّ صلى الله عليه و آله) وهو السابع عشر من ربيع الأوّل على الأشهر روايةً وفتوى، خلافاً للكليني(4) حيث جعله الثاني عشر منه.
وعن الشهيد الثاني في «فوائد القواعد»(5): الميل إليه.
ففي خبر إسحاق بن عبد اللّه، عن أبي الحسن عليّ بن محمّد عليه السلام، في حديثٍ :
«إنّ الأيّام التي تُصام فيهن أربعة: منها يوم مولد النبيّ صلى الله عليه و آله، يوم السابع عشر من شهر ربيع الأوّل»(6).4.
ص: 378
ويوم دَحو الأرض، ويوم عاشوراء على وَجه الحُزن.
وعن «المصباح»: وروي عنهم عليهم السلام أنّهم قالوا: (مَن صامَ يوم السابع عشر من ربيع الأوّل كَتَب اللّه له صيام سنة)(1). ونحوهما غيرهما.
(و) منها: صوم (يوم دَحو الأرض) وهو اليوم الذي دحت الأرض - أي بسطت - من تحت الكعبة، وهو اليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة، ففي خبر الحسن بن عليّ الوشّاء، عن الإمام الرِّضا عليه السلام، في حديثٍ :
«فمَن صامَ ذلك اليوم، كان كمَن صام ستّين شهراً»(2).
ونحوه غيره من النصوص الكثيرة.
(و) منها: صوم يوم (عاشوراء على وَجه الحُزن) هكذا ذكره غير واحدٍ من أصحابنا(3).
أقول: وتمام الكلام في المقام أنّ في الباب طوائفٌ من النصوص:
منها: النصوص الدالّة على استحبابه:
1 - خبر أبي همّام، عن أبي الحسن عليه السلام: «صام رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوم عاشوراء»(4).
2 - وخبر مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، عن أبيه، عن عليٍّ عليه السلام:
«صوموا عاشوراء التاسع والعاشر، فإنّه يكفِّر ذنوب سنة»(5).1.
ص: 379
3 - وخبر القداح، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «صيام يوم عاشوراء كفّارة سنة»(1). ونحوها غيرها.
ومنها: ما تضمّن النهي عنه:
1 - خبر عبد الملك، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن صوم تاسوعاء وعاشوراء من شهر المحرّم ؟ فقال عليه السلام: تاسوعاءيومٌ حوصِر فيه الحسين عليه السلام وأصحابه رضيَ اللّه عنهم بكربلاء، واجتمع عليه خيل أهل الشام، وأناخوا عليه، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها، واستضعفوا الحسين عليه السلام وأصحابه كرّم اللّه وجوههم، وأيقنوا أن لا يأتي الحسين ناصرٌ، ولا يمدّه أهل العراق، بأبي المستضعف الغريب.
ثمّ قال:
وأمّا يوم عاشوراء، فيومٌ أُصيبَ فيه الحسين صريعاً بين أصحابه وأصحابه صرعى حوله، أفصومٌ يكون في ذلك اليوم ؟ كلّا وربّ البيت الحرام، ما هو يومُ صومٍ وما هو إلّايوم حزن ومصيبة.
إلى أنْ قال: فمَن صامَ أو تبرّك به حشره اللّه مع آل زياد، ممسوخ القلب مسخوطٌ عليه، الحديث»(2).
2 - وخبر الحسين بن أبي غندر، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:
«قلتُ : فصوم يوم عاشوراء؟ قال عليه السلام: ذاك يومٌ قُتل فيه الحسين عليه السلام، فإنْ كنت شامتاً فصُم.
إلى أنْ قال: إنّ الصّوم لا يكون للمصيبة، ولا يكون إلّاشكراً للسّلامة، وأنّ7.
ص: 380
الحُسين عليه السلام أُصيبَ يوم عاشوراء فإنْ كنت فيمن أُصيب به فلا تَصُم، وإنْ كنت شامتاً ممّن سَرّه سلامة بني أُميّة، فصُم شكراً للّه تعالى »(1). ونحوهما غيرهما.
أقول: وقد جمع الشيخ رحمه الله(2) بين الطائفتين، وقال: (إنّ مَنْ صام يوم عاشوراء على طريق الحزن بمصاب آل محمّد صلى الله عليه و آله، والجزع لما حَلّ بعترته، فقد أصاب، ومَن صامه على ما يعتقده مخالفونا من الفضل في صومه، والتبرّك به، والاعتقاد ببركته وسعادته، فقد أثم وأخطأ).
ونقل هذا الجمع عن المفيد(3)، وتبعهما جمعٌ من المحقّقين(4).
ولكن يرد عليه: - مضافاً إلى أنّه جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، ومجرّد تعقيب النهي عن الصّوم في بعض النصوص الناهية بالنهي عن التبرّك لا يقتضي ذلك - أنّ في خبر أبي غندر، صرّح عليه السلام بأنّه (لا يكون الصّوم للمصيبة، ولا يكون الصّوم إلّا شكرا للسّلامة)، ومثل هذا التعبير يمنع عن هذا الجمع.
وقد يقال: إنّ الطائفتين متعارضتان، وحيثُ إنّ الأصحاب عملوا بالأُولى وتركوا الثانية فتُقدّم.
وفيه: إنّ الأصحاب لم يعرِضوا عن الثانية، بل حَمَلوها على إرادة الصّوم على غير وجه الحزن.0.
ص: 381
أقول: والحقّ ما أفاده الشهيد الثاني(1) من حمل الأُولى على الإمساك إلى ما بعد العصر، وإبقاء الثانية على حالها، لخبر عبد اللّه بن سنان، قال:
«دخلتُ على أبي عبد اللّه عليه السلام يوم عاشوراء، ودموعه تنحدر على عينيه كاللّؤلؤ المتساقط، فقلتُ : مِمَّ بُكائك ؟ فقال: أفي غفلةٍ أنتَ ، أمّا علمت أنّ الحُسين عليه السلام أُصيبَ في مثل هذا اليوم ؟ فقلتُ : ما قولك في صومه ؟ فقال لي: صُمه من غير تبيّيتٍ ، وأفطره من غير تشميتٍ ، ولا تجعله يوم صوم كَملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربةٍ من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، الحديث»(2).
وذهب صاحب «الحدائق» رحمه الله(3) إلى حرمة صوم يوم عاشوراء للروايات المتقدّم طرف منها، ولكن لابدّ من حملها على الكراهة، لقوله عليه السلام في حديث الزُّهري: (إنّ من الصّوم الذي صاحبه بالخيار إنْ شاء صام وإنْ شاء أفطر صوم عاشوراء)(4).
فالمتحصّل من النصوص: أنّ صوم يوم عاشوراء كَملاً مكروهٌ ، وصومه إلى ما بعد صلاة العصر مستحبٌّ ، والمراد بالكراهة هي الكراهة في العبادة، وهي في أمثال المقام من العبادات التي لابدّل لها، إنّما تكون بمعنى أنّ الفعل وإنْ كان ذا مصلحة، ولكن ينطبق على الترك عنوانٌ آخر أرجح من الفعل أو يلازمه. وتمام الكلام في محلّه.1.
ص: 382
وعَرفة لمَن لا يضعفه عن الدّعاء.
(و) منها: صوم يوم (عرفة) وهو يوم التاسع من ذي الحجّة (لمن لا يضعفه) الصّوم (عن) ما عزم عليه من (الدُّعاء). هذا، ويشترط في استحباب صومه تحقّق الهلال على وجهٍ لا يقع في صوم العيد، كما صرّح بذلك كلّه غير واحدٍ(1)، وأنكر بعضهم(2) استحبابه بالخصوص.
أقول: ولنصوص الباب مضامينٌ مختلفة:
بعضها: تدلّ على الاستحباب:
1 - خبر عبد الرحمن، عن أبي الحسن عليه السلام: «صوم يوم عرفة يعدل السَّنة»(3).
2 - ومرسل «الفقيه»: «قال الصادق عليه السلام: صوم يوم التروية كفّارة سنة، ويوم عرفة كفّارة سنتين»(4). ونحوهما غيرهما.
وبعضها: ما ظاهرها عدم الاستحباب:
1 - خبر محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يصم يوم عرفة منذ نزل صيام شهر رمضان»(5) وقريبٌ منه غيره.8.
ص: 383
وبعضها: تدلّ على عدم استحبابه بالخصوص، غير المنافي لاستحبابه بما أنّه أحد أيّام السَّنة:
1 - خبر يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن صوم يوم عرفة ؟ فقال عليه السلام: إنْ شئتَ صُمت، وإنْ شئتَ لم تَصُم»(1).
2 - وخبر سالم، عنه عليه السلام، في حديثٍ : «دخل رجلٌ يوم عرفة على الحسن عليه السلام وهو يتغذّى، والحسين عليه السلام صائم، ثمّ جاء بعدما قبض الحسن عليه السلام فدخل على الحسين عليه السلام يوم عرفة وهو يتغذّى وعليّ بن الحسين عليه السلام صائم، فقال له الرّجل: إنّي دخلت على الحسن عليه السلام وهو يتغذّى وأنتَ صائم، ثمّ دخلت عليك وأنتَ مفطر؟!
فقال عليه السلام: إنّ الحسن كان إماماً فأفطر لئلّا يُتّخذ صومهُ سُنّة، وليتأسى به النّاس، فلمّا قبض كنت أنا الإمام فأردتُ أنْ لا يَتّخذ النّاس صومي سُنّة فيتأسّى النّاس بي»(2).
وهذا الخبر كالنص في عدم الخصوصيّة، وإنّما يُصام كأحد الأيّام.
وبعضها: تدلّ على أنّه مستحبٌّ ، ما لم يُزاحم الدُّعاء، ولم يحتمل التصادف مع يوم العيد:
1 - خبر سُدير، عن أبيه، عن جعفر عليه السلام: «عن صوم يوم عرفة، فقلت: جُعِلْتُ فداك إنّهم يَزعمون أنّه يعدل صوم سنة ؟! فقال عليه السلام: كان أبي لا يصومه. قلت: ولِمَ ذاك ؟ قال عليه السلام: إنّ يوم عرفة يوم دعاء ومسألة، وأتخوّف أن يضعفني عن الدّعاء، وأكره أن أصومه، وأتخوّف أن يكون يوم عرفة يوم أضحى ، وليس بيوم صوم»(3).1.
ص: 384
وأوّل ذي الحجّة، وأوّل رجب، ورَجب كلّه، وشعبان كلّه، وأيّام البيض.
أقول: والجمع بين النصوص يقتضي البناء على عدم استحبابه بالخصوص، وحمل ما دلّ عليه على التقيّة، كما يشهد عليه خبرا سُدير وسالم، وإنّما يستحبّ بما أنّه أحد الأيّام ما لم يضعفه عن الدُّعاء، ولم يلتبس أوّل الشهر، وإلّا فيُكره.
(و) منها: صوم (أوّل ذي الحجّة) لجملةٍ من النصوص:
1 - ففي مرسل «الفقيه»: «وروي: أنّ في أوّل يوم ذي الحجَّة وُلد إبراهيم خليل اللّه عليه السلام، فمَن صام ذلك اليوم، كان كفّارة ستّين سنة، الحديث»(1). ومثله غيره.
(و) منها: صوم (أوّل رجب، ورجب كلّه) أو بعضه، (وشعبان كلّه) أو بعضه، للنصوص المستفيضة الدالّة على ذلك(2).
وفي جملةٍ منها الترغيب إلى صوم بعض كلٍّ منهما، ويُستكشف من المجموع أنّ كلّ يومٍ من الشهرين مطلوبٌ ومرغوب فيه، ولبعض أيّامهما خصوصيّة زائدة، وما ورد في شعبان على خلافه يطرح أو يؤوّل.
(و) منها: صوم (أيّام البيض) من كلّ شهر إجماعاً، كما عن «المنتهى»(3)، و «التذكرة»(4).).
ص: 385
وكلّ خميسٍ وكلّ جمعة.
أقول: بالرغم من أنّ النصوص الدالّة عليه(1) ضعيفةٌ سنداً، لكنّها بالعمل منجبرة، مضافاً إلى قاعدة التسامح، ولا ينافيها ما في خبر الزُهري من جعل صوم تلك الأيّام من المخيّر إنْ شاء صام وإنْ شاء لم يَصُم، فإنّه يُحمل على إرادة نفي الوجوب، وما يظهر من بعض النصوص من نسخ صومها بصوم الخميس والأربعاء، للإجماع على خلافه، مطروحٌ .
أقول: والمشهور بين الأصحاب(2) أنّ أيّام البيض هي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، كما في خبر الصدوق(3).
وما عن ابن أبي عقيل(4): من أنّها أربعاء بين خميسين، لمخالفته للمجمع عليه، والخبر، وعدم انطباقه على ما جاء في وجه التسمية في اللّغة وغيرها، لابدّ من طرحه.
(و) منها: صوم: (كلّ خميسٍ ، وكلّ جمعة)، قيل عن مستنده إنّه:).
ص: 386
1 - خبر الزُهري، عن علي بن الحسين: «وأمّا الصّوم الذي يكون صاحبه فيه بالخيار، فصومُ يوم الجمعة والخميس. الحديث»(1).
2 - وخبر عبد اللّه بن سنان، قال: «رأيتُ أبا عبد اللّه عليه السلام صائماً يوم الجمعة، فقلتُ له: جُعِلْتُ فداك إنّ النّاس يَزعمون أنّه يوم عيد؟ فقال عليه السلام: كلّا، إنّه يوم خَفض ودِعة»(2).
3 - ولما دلّ على الترغيب على عمل الخير في يوم الجمعة، كخبر هشام بن الحكم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرّجل يريد أن يعمل شيئاً من الخير مثل الصدقة والصّوم ونحو هذا؟ قال عليه السلام: يستحبّ أن يكون ذلك يوم الجمعة، فإنّ العمل يوم الجمعة يُضاعَف»(3).
أقول: ولكن شيئاً منها لا يدلّ على استحباب الصّوم فيهما بالخصوص:
أمّاالأوّل: فلأنّه يدلّ على التخيير، وأنّه لايجبُو لايدلّ على استحبابه بالخصوص.
وأمّاالثاني: فلأنّفعله عليه السلام لايدلّ إلّا على الاستحباب، لاعلى استحبابه بالخصوص.
وأمّا الثالث: فلأنّ تلك النصوص دالّة على حسن الصّوم في الجمعة بما أنّه عبادة لا بما أنّه صوم.
وبالجملة: فالصحيح أن يستدلّ له بخبر «العيون» بإسناده عن الإمام الرِّضا عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «من صام يوم الجمعة صبراً واحتساباً، أُعطي ثواب صيام عشرة أيّام غُرّ زهر لا تشاكل أيّام الدُّنيا»(4). وهو يختصّ بالجمعة.2.
ص: 387
وأمّا الخميس: فلم أعثر على رواية تدلّ عليه.
إلّا أن يستدلّ له بخبر الزُهري من جهة ذكره في عدد الأيّام التي يستحبّ صيامها، وإنْ كان الخبر مسوقاً لبيان عدم الوجوب، لا لبيان الاستحباب.
أو بخبر أُسامة: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يصوم الاثنين والخميس».
لكنّه وردت رواياتٌ أُخر أنّ ذلك كان في أوّل الأمر، ثمّ تحوّل إلى صيام أيّامٍ أُخر.
والمحكيّ عن الإسكافي(1): أنّه لا يستحبّ فرداً يوم الجمعة، إلّاأن يصوم معه ما قبله أو ما بعده، ويشهد به خبران ضعيفان، أحدهما عن أبي هريرة(2)، والآخر عن دارم بن قبيصة(3)، ولكنّهما لا يصلحان لتقييد إطلاق خبر «العيون»(4)، فإنّ التسامح في أدلّة السُنن إنّما هو في إثبات الاستحباب، لا لنفيه وتضييقه.
***2.
ص: 388
ويستحبّ الإمساك وإنْ لم يكن صوماً للمسافر القادم بعد الزَّوال أو قبله وقد أفطر، والمريض إذا برئ كذلك، وكذا الحائض والنفساء إذا طَهُرتا، والكافر الأصلي إذا أسلَم، والصبي إذا بلغ، والمجنون إذا أفاق، والمُغمى عليه.
(و) هنا مسائل:
المسألة الأُولى : صرّح الأصحاب بأنّه (يُستحبّ الإمساك) تأديباً (وإنْ لم يكن صوماً؛ للمسافر القادم بعد الزَّوال أو قبله، وقد أفطر، والمريض إذا برئ كذلك، وكذا الحائض والنفساء إذا طَهُرتا، والكافر الأصلي إذا أسلَم، والصبيّ إذا بَلغ، والمجنون إذا أفاق، والمُغمى عليه) من غير فرقٍ فيها بين ما قبل الزَّوال وما بعده، كما تقدّم الكلام فيها مفصّلاً.
المسألة الثانية: إذا صام ندباً ودُعي إلى طعامٍ ، الأفضل له الإفطار بلا خلافٍ (1)، وعن «المعتبر»(2): (أنّ عليه الاتّفاق)، وتشهد به نصوصٌ :
منها: خبر الخثعمي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل ينوي الصيام، فيلقاه أخوه الذي هو على أمره أيفطر؟ قال عليه السلام: إنْ كان تطوّعاً أجزأه وحُسب له، وإنْ كان
ص: 389
قضاء فريضةٍ قضاه»(1).
ومنها: صحيح جميل، عنه عليه السلام: «أيّما رجلٍ مؤمن دخل على أخيه وهو صائم، فسأله الأكل، فلم يُخبره بصيامه، فيمنَّ عليه بإفطاره، كتب اللّه جل ثناؤه له بذلك اليوم صيام سنة»(2).
ومنها: خبر الرقي، عنه عليه السلام: «لإفطارك في منزل أخيك المسلم أفضل من صيامك سبعين ضعفاً أو تسعين ضعفاً»(3).
ومنها: خبر عبد اللّه بن جُندَب: «قلتُ لأبي الحسن الماضى عليه السلام: أدخلُ على القوم وهم يأكلون، وقد صلّيت العصر وأنا صائم فيقولون أفطر؟ فقال: أفطر فإنّه أفضل»(4).
إلى غير ذلك من النصوص الدالّة عليه.
أقول: ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصوص، وصراحة خبر عبد اللّه، عدم الفرق بين ما قبل الزَّوال وما بعده. كما أنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين الإعلام بالصوم وكتمانه. وعن الحِلّي(5) التخصيص بالثاني، ولعلّه لصحيح جميل المتقدّم، ولكنّه لا مفهوم له كي يقيّد به إطلاق سائر النصوص.
قال صاحب «الحدائق» رحمه الله(6): (المستفاد من هذه الأخبار تعليق الاستحباب7.
ص: 390
على الدعوة إلى الطعام، وأمّا ما اشتهر في هذه الأوقات سيّما في بلاد العجم من تعمّد تفطير الصائم لشيءٍ يدفع إليه من تمرةٍ أو يسير من الحلواء، أو نحو ذلك لأجل تحصيل الثواب بذلك، فليس بداخلٍ تحت هذه الأخبار، ولا هو ممّا يترتّب عليه الثواب المذكور فيها).
وفيه: أنّ أكثر نصوص الباب وإنْ تضمّنت الإفطار بالدّعاء إلى الطعام، ولكن خبر الخثعميّ مطلقٌ شامل لما اشتهر في هذه الأوقات من غير تعمّد تفطير الصائم بشيء قليل يدفع إليه، ولا وجه لتقيّيد إطلاقه بتلك النصوص، لعدم التنافي بينهما.
وبالجملة: فإنّ مقتضى إطلاق النصوص، وصريح خبر الخثعمي، عدم اختصاص هذا الحكم بالمندوب، وشموله للواجب الموسّع كالقضاء، إلّابعد الزَّوال الذي قد مرّ عدم جواز الإفطار حينئذٍ.
وأخيراً: قد نصّ المصنّف رحمه الله(1) وغيره(2) على اختصاص الحكم بالمؤمن، واستدلّ له بأنّه المتبادر من الأخ، وبأنّه الذي رعايته أفضل من الصّوم. وهو كما ترى .
المسألة الثالثة: المعروف بين الأصحاب(3) أنّه لا يجوز التطوّع بالصوم لمن عليه قضاء رمضان.
ص: 391
بل قيل(1): لا خلاف فيه إلّامن السيّد في «المسائل الرَّسيّة»(2).
وعن جماعةٍ موافقته، منهم المصنّف رحمه الله في «القواعد»(3).
تشهد للأوّل: جملة من النصوص:
منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن ركعتي الفجر؟ قال عليه السلام: قبل الفجر، أتريد أن تقايس، لو كان عليك من شهر رمضان أكنتَ تتطوّع، إذا دخل عليك وقت الفريضة فابدأ بالفريضة»(4).
ومنها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل عليه من شهر رمضان طائفة أيتطوّع ؟ فقال عليه السلام: لا، حتّى يقضي ما عليه من شهر رمضان»(5). ومثله خبر الكناني(6).
ونقل المصنّف رحمه الله(7) عن السيّد أنّه استدلّ على ما ذهب إليه بأصالة البراءة، وهو كما ترى .
وهذا لا كلام فيه، إنّما الكلام في أنّه إذا كان عليه واجبٌ آخر غير رمضان،).
ص: 392
من نذرٍ أو كفّارةٍ أو ما شاكل.
فعن ظاهر الأكثر(1): عدم الجواز.
وعن السيّد(2)، وظاهر الكليني(3)، والصدوق(4)، وسيِّد «المدارك»(5)وغيرهم(6): الجواز.
واستدلّ للأوّل بوجوه:
الوجه الأوّل: إنّ المندوب لا يصلح للتزاحم مع الواجب، بل لا محالة يكون أمره ساقطاً.
وفيه أوّلاً: إنّه لو سُلّم، فإنّما هو في الواجب المعيّن، والكلام إنّما هو في الموسّع.
وثانياً: إنّ لازم ذلك ليس فساد النافلة، بل تكون النافلة مع القضاء كسائر المتزاحمين اللّذين يكون أحدهما أهمّ ، فإنّه يصحّ الإتيان بالآخر لصحّة الترتّب.
الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله(7) من أنّ الصّوم حقيقة واحدة في).
ص: 393
الواجب والمندوب، وليس بين فردين منه أحدهما واجبٌ والآخر مندوب اختلاف إلّا اختلاف الزمان، نعم قد يختلف حكم الواجب والمندوب بعد تحقّق وصفي الوجوب والندب، فإذا طلب حقيقته في يوم من الأيّام تخييراً على وجهٍ لا يرضى الطالب بتركه، فيستحيل أن يطلبه في بعض هذه الأيّام على وجه يرضى بتركه.
وبالجملة: ليس له أن ينوي بما يأتي به أوّلاً الندب، لأنّ ما يقع أوّلاً لا يجوز تركه إلّاإلى بدل، ولا يمكن أن يقال إنّ الثاني أيضاً كذلك، لأنّ المفروض عدم تغايرٍ في حقيقتهما.
أقول: قد تقدّم في مبحث النيّة(1) أنّ صوم رمضان وكذا الصيام المستحبّ في أيّام السَّنة كما أفاده لا اختلاف فيهما حقيقة، ولكن الصيام الآخر كالنذر والكفّارة وما شاكل تكون عناوين أُخر دخيلة في الحكم فيها، وعليه فذات الصّوم من حيث هو مندوبٌ ومقيّدٌ بعنوان آخر واجب، فلو قصد الذّات خاصّة، لا يقع عن الواجب، فلا مانع من وقوعه عن المندوب.
أضف إلى ذلك: أنّه لو سُلّم كون الواجب منه بأقسامه والمندوب حقيقة واحدة، يرد على ما أفاده بأنّه إذا طلب حقيقته في يوم من الأيّام تخييراً على وجه لا يرضى الطالب بتركه، فيستحيل أن يطلبه في بعض هذه الأيّام على وجهٍ يرضى بتركه، أنّه إنْ أراد بذلك عدم معقوليّة طلب الصّوم ندباً في جميع الأزمنة الصالحة لوقوع الواجب فيها، فهو خلاف المقطوع به، ولا وجه له، وإن أراد به عدم معقوليّته في زمان يساوي زمان الواجب، مثلاً لو وجب عليه صوم أحد يومين تخييراً - لا أمر ندبي بصوم كلٍّ من اليومين، بل الأمر الندبي أيضاً متعلّقٌ بصوم أحدهما - فأحد اليومين صومه واجبٌ والآخر مندوب، وعليه فكما أنّ الأمر الوجوبي يكون فعليّاًد.
ص: 394
من الأوّل، كذلك الأمر الندبي، وكما يجوز أن يترك الواجب ولا يأتي بشيء منهما، يجوز أن يأتي بالمندوب، فالأمر موجودٌ والزمان صالح لوقوعه، فأيّ محذورٍ في الإتيان بالمندوب ؟! وقد مرّ في مبحث النيّة(1) ما له نفعٌ بالمقام.
الوجه الثالث: رواه صاحب «الوسائل» عن الصدوق، بإسناده عن الحلبي، وبإسناده عن أبي الصباح الكناني، جميعاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«أنّه لا يجوز أن يتطوّع الرّجل بالصيام، وعليه شيءٌ من الفرض»(2).
قال: (وقد وردت بذلك الأخبار والآثار عن الأئمّة عليهم السلام)(3).
وفي كتاب «المقنع»، قال: (اعلم أنّه لا يجوز أن يتطوّع الرّجل وعليه شيءٌ من الفرض، كذلك وجدته في كلّ الأحاديث)(4).
والإيراد عليه: بأنّ الخبرين مطلقان من حيث قضاء رمضان وغيره، فيقيّد إطلاقهما بما تقدّم من النصوص المختصّة بقضاء رمضان.
في غير محلّه، لما تكرّر منّا من عدم حمل المطلق على المقيّد في غير المتخالفين.
أقول: ولكن الذي يرد على هذا الوجه أنّ الصدوق عنونَ في «الفقيه»(5) بقوله:
(باب الرّجل يتطوّع بالصّيام، وعليه شيءٌ من الفرض: وردت الأخبار والآثار عن الأئمّة عليهم السلام أنّه لا يجوز أن يتطوّع الرّجل بالصيام، وعليه شيءٌ من الفرض).ض.
ص: 395
وممّن روى ذلك الحلبي وأبو الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، وهذا غير ما نقله في «الوسائل»(1).
وعلى هذا فالصدوق يروي مرسلاً.
ويُحتمل أن يكون مراده بالخبرين السابقين في قضاء شهر رمضان، بأنْ فهم منهما عدم الخصوصيّة، وأنّ الميزان هو الفريضة، ويُحتمل أن يكون غيرهما.
ويؤيّد الأوّل: أنّ الكليني(2) وصاحب «الوسائل» رحمهما الله(3) اقتصرا على ذكر الخبرين، وعليه فلا يصحّ الاستدلال به، فإنّه حينئذٍ استدلالٌ بما فهمه الصدوق من الأخبار، وأمّا ما في «المقنع»(4) فهو أيضاً يحتمل أن يكون مراد المفيد(5) منه ما تقدّم من الخبرين، وبهذا التقريب يندفع الوجه الرابع الذي استدلّ به الفاضل النراقي(6)، قال: (وما يدلّ عليه ما في «المقنع» و «الفقيه» وهما بمنزلة خبرين مرسلين مجبورين بحكاية الشهرة، بل بالشهرة المعلومة)، انتهى .
فإنّه لم يثبت كونهما خبرين آخرين غير ما تقدّم، مع أنّ استناد الأصحاب إليهما غير ثابت، ولعلّهم كالصدوق فهموا من الصحيحين المتقدّمين في قضاء شهر رمضان مطلق الفرض.
فالمتحصّل: أنّه لا دليل على عدم جواز التطوّع لمن عليه فريضة، إلّاقضاء شهر رمضان.9.
ص: 396
ولو لم يتمكّن من أداء القضاء، كما إذا كان مسافراً، وقلنا بجواز الصّوم المندوب في السفر، أو كان في المدينة، وأراد صيام ثلاثة أيّام لقضاء الحاجة، فهل يصحّ صومه المندوب، كما عن جماعة منهم الشهيد(1) وسيّد «المدارك»(2)؟
أم لا يصحّ ، كما قوّاه صاحب «الجواهر»(3)؟ وجهان:
من إطلاق النصوص، ومن انصرافها إلى ما لو تمكّن من القضاء، بقرينة ارتكاز أهميّة الفرض المانعة من صلاحيّة التطوّع لمزاحمته، ولا مجال لذلك مع عدم التمكّن منه.
وأظهرهما الأوّل، فإنّ المسافر إذا تمكّن من الإقامة والصّوم، فهو متمكّنٌ منه، وإلّا فلا يجب عليه القضاء، وليس التطوّع حينئذٍ من قبيل التطوّع لمَن عليه فريضة.
ولو نسي الواجب وأتى بالمندوب، لا يبعد القول بالصحّة، كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(4) نظراً إلى أنّ وجوب القضاء يرتفع بحديث رفع النسيان، فهو تطوّعٌ ممّن ليس عليه فريضة.
وأخيراً: ممّا ذكرناه يظهر تماميّة ما أفاده صاحب «الجواهر»(5) من تقوية البطلان في الفرع الأوّل، والصحّة في الثاني، فلا يرد عليه ما أفاده بعض المعاصرين(6) من أنّه فرقٌ من دون فارق، بل الصحّة مع النسيان أخفى .7.
ص: 397
ولو نذر التطوّع على الإطلاق صَحَّ ، وإنْ كان عليه واجبٌ ، لأنّ الاشتغال به يمنع عن صحّة التطوّع لا عن صحّة نذره، فإذا تحقّق النذر، فهل يجوز الإتيان بالمنذور قبل ما عليه من القضاء، نظراً إلى أنّه بعد النذر ليس تطوّعاً بل هو فريضة غير مشمولة للنصوص ؟
أم لا، لما أفاده بعض المعاصرين(1) من أنّه إذا كان لا يجوز التطوّع لمن عليه الفرض، فلا يجوز أن يكون للمنذور إطلاقٌ يشمله، بل يختصّ بغيره، فلا يكون الإتيان به قبل الواجب فرداً للمنذور؟
وجهان، أظهرهما الثاني، وسيأتي الكلام فيه في الفرع اللّاحق، وبه يظهر حكم المقام، وهو ما لو نذر أيّاماً معيّنة، لا يمكن إتيان الواجب قبلها، ففي صحّة نذره إشكالٌ ، فاختار السيّد الفقيه الطباطبائي(2) صحّة النذر، وكذلك المحقّق النائيني رحمه الله(3).
واستدلّ السيّد(4) لذلك: بأنّ متعلّق النذر وإنْ كان لابدّ وأن يكون راجحاً، إلّا
ص: 398
أنّ المعتبر هو الرجحان ولو بالنذر، ولا يعتبر كونه راجحاً مع قطع النظر عن النذر، وعليه فإذا نذر التطوّع، فحيث إنّه بالنذر يخرج عن كونه تطوّعاً، فيكون راجحاً، فتشمله أدلّة الوفاء بالنذر.
وفيه: أنّ صيرورته بالنذر راجحاً متوقّفة على شمول دليل الوفاء له، ليصبح واجباً ويخرج عن كونه تطوّعاً، وشمول الدليل متوقّفٌ على كونه راجحاً، إذ لو لم يكن راجحاً لما شمله الدليل لتقيّده بذلك، وهذا دورٌ واضح، فضلاً عن أنّه خلاف ظاهر الأدلّة، فإنّها ظاهرة في اعتبار الرجحان مع قطع النظر عن النذر.
واستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله(1) له: بأنّ الصّوم في نفسه عادة راجحة يجوز تعلّق النذر بها، فيكون بعده واجباً، ويخرج بذلك عن موضوع التطوّع فلا تشمله الأدلّة المانعة، إذ المفروض أنّ فعل الصّوم المنذور قبل الفريضة فعلُ الواجب لا فعل المندوب.
وفيه: أنّ الصّوم مطلقاً ليس عبادة راجحة، فإنّ الواقع منه ممّن عليه قضاء ليس عبادة راجحة بمقتضى الأدلّة، فالأظهر عدم صحّة النذر.
أقول: وممّا ذكرنا يظهر أنّ المنذور إذا كان مطلقاً، لا يصحّ الإتيان به قبل القضاء، مع أنّ ظاهر النصوص النهي عن الصّوم الذي يكون مندوباً بعنوانه، ولو صار واجباً بعنوان آخر، فلو أمر به الوالد لا يجوز وكذلك النذر، فلو كان ما عليه من الصّوم الواجب استيجاريّاً، فهل يجوز التطوّع قبله أم لا؟ الظاهر ذلك، لاختصاص النصوص بقضاء نفسه، ولا تشمل ما يقضيه عن غيره.
***ل.
ص: 399
ولا يصحّ صوم الضيف تطوّعاً بدون إذن المضيّف.
المسألة الرابعة: المعروف بين الأصحاب تقيّد صيام التطوّع لطوائف الإذن، وبه تدلّ الأخبار الآتية، والكلام إنّما هو في أنّه على وجه اللّزوم أو الفضيلة ؟
أقول: (و) تنقيح القول يتحقّق بالبحث في كلّواحدةٍمن تلك الطوائف مستقلّاً:
المورد الأوّل: صرّح غير واحدٍ منهم الشيخان(1)، والحِلّي(2)، والمحقّق في «المعتبر»(3)، و «النافع»(4)، والمصنّف في المقام بأنّه (لا يصحّ صوم الضيف تطوّعاً بدون إذن المضيّف).
وعن سلّار(5)، وابني زُهرة(6)، وحمزة(7)، وفي «المنتهى»(8): أنّه يصحّ ، لكنّه مكروه، بمعنى أنّ الأفضل أن يستأذن، وإن لم يأذن لا يصوم، وإنْ كان لو صام صَحّ صومه.
ص: 400
وعن ظاهر «الدروس»(1)، وفخر المحقّقين(2)، وفي «الشرائع»(3): اختيار الأوّل مع النهي، والثاني مع السكوت.
واستدلّ الأولون: بجملةٍ من الأخبار:
منها: خبر الفضيل بن يسار، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إذا دخل رجلٌ بلدة فهو ضيفٌ على مَن بها من أهل دينه، حتّى يرحل عنهم، ولا ينبغي للضيف أن يصوم إلّابإذنهم، لئلّا يعملوا له الشيء فيفسد عليهم، ولا ينبغي لهم أن يصوموا إلّابإذن الضيف لئلّا يحتشم فيشتهي الطعام فيتركه لهم»(4).
ومنها: خبر الزُهري، عن علي بن الحسين عليهما السلام، في حديثٍ : «وأمّا صوم الإذن فإنّ المرأة لا تصوم تطوّعاً إلّابإذن زوجها، والعبد لا يصوم تطوّعاً إلّابإذن سيّده، والضيف لا يصوم تطوّعاً إلّابإذن صاحبه»(5).
ومنها: خبر هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من فقه الضيف أن لا يصوم تطوّعاً إلّابإذن صاحبه»(6).
ومنها: خبر حمّاد بن عمرو، وأنس بن محمّد، عن أبيه جميعاً، عن الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: «يا عليّ لا تصوم المرأة تطوّعاً إلّا بإذن زوجها، ولا يصوم العبد تطوّعاً إلّابإذن مولاه، ولا يصوم الضيف تطوّعاً إلّا بإذن صاحبه»(7).2.
ص: 401
أقول: وهذه النصوص وإنْ كانت جملة منها ظاهرة في عدم الجواز، ولا يصغى إلى ما قيل من عدم ظهور الجملة الخبريّة في اللّزوم، أو إلى أنّ قوله في خبر الفضيل:
(ولا ينبغي للضيف... إلى آخره) ظاهرٌ في الكراهة، وبه ترفع اليد عن ظهور غيره، لا أقلّ من التساوي، فيرجع إلى الأصل، أو إلى أنّه في خبر الزهري جعل صوم الإذن في مقابل الصّوم المحرّم، وهذا آية عدم الحرمة.
فإنّه يرد الأوّل: ما تقدّم مراراً من أنّ الجملة الخبريّة ظاهرة في اللّزوم.
ويرد الثاني: أنّ كلمة (لا ينبغي) في الأخبار غير ظاهراً في الكراهة.
ويرد الثالث: أنّه يمكن أن يكون جَعَله في مقابل الصّوم الحرام، وأنّ هذا الصّوم وإن لم يصحّ بدون الإذن، إلّاأنّه يصحّ معه.
ولكن جميعها ضعيفة سنداً، سيّما ما كان منها ظاهراً في اللّزوم، وعليه فلا تصلح مدركاً إلّاللحكم غير اللّزومي، بمعنى أنّ الأفضل أن لا يصوم بدون إذنه.
وأمّا القول الثالث: فقد تصدى صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) لذكر وجه له، ولكن الاعتراف بعدم العثور على مدركه أليق بشأنهم ممّا ذكره.
فرع: ثمّ إنّه إذا جاء الضيف نهاراً، وكان صائماً تطوّعاً، فهل يشترط إذن المضيف صحّة أو فضلاً أم لا؟
الظاهر هو الثاني، لظهور النصوص في ابتداء الصّوم، وعلى فرض شمولها للاستدامة أيضاً، أمّا لو جاء قبل الزَّوال فلا كلام، وأمّا لو جاء بعد الزَّوال فقد يقال إنّه يقع التعارض بين ما دلّ على اشتراط الصّوم بالإذن، وبين ما دلّ على كراهة رفع اليد عن الصّوم المندوب بعد الزَّوال، والنسبة عموم من وجه، والترجيح مع الثاني لأصحّية السند.8.
ص: 402
ولا المرأة بدون إذن الزوج.
(و) المورد الثاني: المشهور بينهم شهرة عظيمة أنّه (لا) يصحّ صوم (المرأة) تطوّعاً (بدون إذن الزوج)، وعن «المعتبر»(1) دعوى الإجماع عليه، وهو ظاهر «المنتهى»(2)، وتشهد به طائفةٌ من النصوص:
1 - صحيح محمّدبن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «قال النبيّ صلى الله عليه و آله: ليس للمرأة أنْ تصوم تطوّعاً إلّابإذن زوجها»(3).
2 - وصحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «جاءت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه ما حقّ الزوج على المرأة ؟ قال صلى الله عليه و آله: أن تُطيعه ولا تعصيه، ولا تصدّق من بيته إلّا بإذنه، ولا تصوم تطوّعاً إلّابإذنه»(4).
3 - وخبر هشام المتقدّم: «ومن طاعة المرأة لزوجها أنْ لا تصوم تطوّعاً إلّا بإذنه وأمره».
ونحوها غيرها، وظهورها في عدم الجواز لا ينكر.
أقول: إلّاأنّها بإزائها خبرين:
أحدهما: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن المرأة تصوم تطوّعاً بغير إذن1.
ص: 403
زوجها؟ قال عليه السلام: لا بأس»(1).
ثانيهما: مرسل القاسم بن عروة، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:
«لا يصلح للمرأة أن تصوم تطوّعاً إلّابإذن زوجها»(2)، بدعوى ظهور (لا يصلح) في الكراهة، ولأجلها اختار جماعة منهم السيّدان في «الجمل»(3) و «الغنية»(4)وغيرهما(5) عدم الحرمة.
ولا وجه لما في «الحدائق»(6) و «المستند»(7): من حمل خبر علي بن جعفر عليه السلام على الصّوم الواجب، للتصريح فيه على ما في «الوسائل» بالتطوّع، اللّهُمَّ إلّاأن يكون ذلك اشتباهاً من صاحب «الوسائل»، وهما قد أخذا الرواية من كتاب عليّ وكان فيه بدون ذِكر التطوّع، ولكن سنده غير نقي، والثاني غايته عدم الظهور في الحرمة، لا الظهور في عدم الحرمة.
فإذًا لا يصحّ ما أفاده المشهور من عدم الصحّة بدون إذن زوجها.
وأيضاً: لا فرق بين كون الزوج حاضراً أو غائباً، ولا في الزوجة بين الدائمة والمنقطعة، لإطلاق النصوص.).
ص: 404
ولا الولد بدون إذن الوالد، ولا المملوك بدون إذن المولى .
اللّهم إلّاأن يقال: إنّ من المعلوم كون هذا الحكم رعايةً لحقّه، فلو كان غائباً، لا يكون الصّوم بدون إذنه منافياً لحقّه، وعليه فلو أحرَزتْ رضاه - وإنْ لم يأذن صريحاً - لا إشكال في الصّوم، كما أنّه لو كان الزوج طفلاً، لا يكون مشمولاً للنصوص، لظهوره فيمن له قابليّة الإذن.
(و) المورد الثالث: صرّح غير واحدٍ(1) بأنّه (لا) يصحّ صوم (الولد بدون إذن الوالد)، ومدركهم خبر هشام المتقدّم:
«ومن بِرّ الولد لأبويه أنْ لا يصوم تطوّعاً إلّابإذن أبويه وأمرهما، وإلّا كان....
الولد عاقّاً».
بتقريب: أنّ بِرّ الوالدين واجبٌ وعقوقهما حرام، وسبب الحرام حرام.
ولكن يرد عليه: أنّه ضعيفُ السند، بل والدلالة، فإنّ كلّ ما هو برٌّ بالوالدين لا يكون واجباً، والعقوق لا يتحقّق بدون النهي، ولذا ذهب جماعة منهم المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(2) والمحقّق في «الشرائع»(3) إلى الكراهة.
(و) المورد الرابع: قالوا: (لا) يصحّ صوم (المملوك بدون إذن المولى ) وقد ظهر حكمه ممّا أسلفناه، مع أنّه لا يترتّب على هذا البحث أثر في زماننا.
***5.
ص: 405
والمكروه: النافلة سفراً، والمدعوّ إلى طعامٍ ، وعرفة مع ضعفه عن الدُّعاء، أو شكّ الهلال.
(و) أمّا الصّوم (المكروه) على حسب كراهية غيره من العبادات، بمعنى ترتّب عنوان أرجح من الفعل على الترك، أو ملازمته معه، فله أقسام، وقد ذكر المصنّف رحمه الله ثلاثة منها:
القسم الأوّل: صوم (النافلة سفراً) وقد تقدّم(1) أنّ الأظهر حرمته، إلّاما خرج بالدليل.
(و) القسم الثاني: (المدعوّ إلى طعامٍ ) وقد مرّ مدركه(2).
كما أنّه قد تقدّم مدرك القسم الثالث (و) هو صوم يوم (عرفة مع ضعفه عن الدّعاء، أو شكّ الهلال).
وبالجملة: وممّا ذكرناه في المباحث المتقدّمة، ظهر أنّ له أقساماً أُخر، وحيث أنّ الكراهة في المقام بالمعنى المشار إليه، فلا سبيل إلى الاعتراض في بعض الأقسام، بأنّ النصوص إنّما تدلّ على أفضليّة القطع والإفطار لا كراهة الصّوم، كما عن سيّد «المدارك»(3)، فإنّ الكراهة في المقام معناها ذلك، وإلّا فالكراهة بمعنى مرجوحيّة الفعل غير متصوّرة في العبادات.
ص: 406
والمُحرّم صوم العيدين، وأيّام التشريق لمن كان بمِنى .
(و) أمّا الصّوم (المُحرّم) فعشرة كما صرّحوا به:
الأوّل والثاني: (صوم العيدين) بإجماع علماء الإسلام، والنصوص المستفيضة، كذا في «الجواهر»(1).
وفي «المنتهى»(2): وهو مذهب العلماء كافّة.
وفي «المستند»(3): بل الضرورة الدينيّة كما قيل.
نعم، استثنى الشيخ(4) من ذلك خصوص القاتل في أشهر الحُرُم، فإنّه يصوم شهرين منها وإنْ دخل فيهما العيد، وسيمرّ عليك وجهه.
الثالث والرابع: (و) الخامس: صوم (أيّام التشريق لمن كان بمِنى ) وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجّة، بلا خلافٍ فيه في الجملة. وفي «المنتهى»(5): (ذهب إليه علمائنا أجمع) ويدلّ عليه نصوص كثيرة:
منها: خبر الزُهري، عن عليّ بن الحسين عليهما السلام، في حديثٍ : «وأمّا الصّوم الحرام
ص: 407
فصوم يوم الفطر، ويوم الأضحى ، وثلاثة أيّام من أيّام التشريق، الحديث»(1).
ومنها: صحيح ابن أبي عمير، عن كرام، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّي جعلتُ على نفسي أن أصوم حتّى يقوم القائم ؟ فقال عليه السلام: صُم، ولا تَصُم في السفر، ولا العيدين، ولا أيّام التشريق، الحديث»(2).
ومنها: خبر الحسين بن زيد، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن آبائه:
«أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن صيام ستّة أيّام: يوم الفطر، ويوم الشكّ ، ويوم النحر، وأيّام التشريق»(3). ونحوها غيرها.
أقول: وهذه النصوص وإنْ كانت مطلقة شاملة لسائر الأمصار، إلّاأنّه يقيّد إطلاقها بطائفة أُخرى من النصوص:
منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن صيام أيّام التشريق ؟ فقال: أمّا بالأمصار فلا بأس به، وأمّا بمِنى فلا»(4). وقريبٌ منه صحيحه الآخر(5).
واستثنى من ذلك أيضاً القاتل في أشهر الحُرُم كما في العيد، حكي عن استثنائه كسابقه عن «المقنع»(6)، و «المبسوط»(7)، و «النهاية»(8)، و «التهذيب»(9)،4.
ص: 408
و «الاستبصار»(1) وغيرها(2)، ويشهد به خبر زرارة:
«قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجلٌ قَتَل رجلاً خطاءً في الشهر الحرام ؟ قال عليه السلام: تُغلّظ عليه الدية، وعليه عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين من أشهر الحرم. قلت: فإنّه يدخل في هذا شيءٌ؟
قال: وما هو؟ قلت: يوم العيد وأيّام التشريق ؟ قال عليه السلام: يصومه فإنّه حقٌّ يلزمه»(3).
ومثله خبره الآخر فيمَن قَتَل رجلاً في الحرم(4).
وأورد عليها تارةً : بضعف السند.
وأُخرى : بالشّذوذ والنُّدرة.
وثالثة: بعدم دلالتهما على أنّه يصوم يوم العيد وأيّام التشريق بمِنى .
ولكن يرد على ذلك: أنّ سند الأوّل صحيحٌ ببعض طرقه، والثاني صحيحٌ بجميع طرقه، وإفتاء من ذكرناه من الأعاظم(5) ومن لم نذكره يُخرجهما عن الشذوذ، كما لا مجال لإنكار ظهورهما في صوم العيد وأيّام التشريق.
نعم، لم يصرّح فيهما بصومه أيّام التشريق بمنى، لكنّه بقرينة ذكر العيد ظاهرٌ في ذلك، ومع ذلك كلّه لعدم إفتاء المعظم به ينبغي التوقّف في الإفتاء.6.
ص: 409
ويوم الشكّ على أنّه من رمضان، وصوم نذر المعصية، وصوم الصَّمت.
(و) السادس: صوم (يوم الشكّ ) في أنّه من رمضان أو شعبان (على أنّه من رمضان)، وقد تقدّم الكلام فيه في مبحث النيّة(1).
(و) السابع: (صوم نذر المعصية) وهو أن ينذر الصّوم إنْ فعل محرّماً أو ترك واجباً، ويقصد بذلك الشكر على تيسّر ذلك له، لا الزّجر عنه، والمائز النيّة، ولا خلاف في حرمته(2). ويشهد به:
1 - خبرالزُّهري، عن عليّبن الحسين عليه السلام، في حديثٍ : «وصوم نذر المعصية حرامٌ »(3).
2 - ونحوه خبر محمّد بن حمّاد، بن عمرو وأنس بن محمّد، عن أبيه، جميعاً عن الإمام الصادق عليه السلام المتضمّن لوصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام(4)، وضعف السندمنجبر بالعمل.
(و) الثامن: (صوم الصَّمت) بلا خلافٍ فيه(5).
وفي «المنتهى»(6): قاله علمائنا أجمع، ففي خبر الزُّهري، عن عليّ ابن الحسين عليه السلام: «وصوم الصَّمت حرام»(7).1.
ص: 410
وفي صحيح زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «ولا صمت يوماً إلى اللّيل»(1).
ونحوهما غيرهما.
أقول: والمراد بصوم الصمت على ما صرّح به الأصحاب(2)، هو أن ينوي الصّوم ساكتاً، بأن يجمع في النيّة بين قصد الإمساك عن المفطّرات والإمساك عن الكلام على النحو الذي كان متعارفاً في بني إسرائيل، وفسّر به قوله تعالى : (فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (3)لا نيّة الإمساك عن الكلام خاصّة، وإنْ كانت هي أيضاً حراماً تشريعاً.
وعلى هذا، فلو نوى الإمساك عن المفطّرات و الكلام معاً، فعن سيّد «المدارك»(4):
أنّ الأصحاب وإنْ أفتوا بفساده، ولكن يحتمل الصحّة لصدق الامتثال بالإمساك عن المفطّرات مع النيّة، وتوجّه النهي إلى خصوص الصمت المنويّ ونيّته، وهو خارج عن حقيقة العبادة ولا يضرّ بها.
وفيه: أنّ مدرك الفساد هو الأخبار والإجماع، وهما يدلّان على حرمة الصّوم نفسه، فيكون فاسداً كما أفاده الأصحاب.2.
ص: 411
والوصال.
(و) التاسع: صوم (الوصال) فإنّه لا خلاف في حرمته(1)، وفي «المنتهى»(2):
ذهب إليه علماؤنا أجمع، ويشهد به:
1 - صحيح منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ : «لا وصال في صيام، ولا صمت يوماً إلى اللّيل»(3).
2 - وصحيح زرارة، عنه عليه السلام، في حديثٍ : «لاوصال في صيام»(4). ونحوهماغيرهما.
وقد وقع الخلاف في المراد من (الوصال):
فعن الشيخين(5)، والصّدوق(6)، وفي «الشرائع»(7)، وعن «المختلف»(8)، بل الأكثر(9): أن ينوي صوم يومٍ وليلةٍ إلى السَّحر.
وعن الشيخ في «الاستبصار»(10)، والحِلّي(11)، والمصنّف في بعض0.
ص: 412
كتبه(1)، وغيرهم(2): هو أن يصوم يومين مع ليلة.
ويشهد للأوّل منهما:
1 - مرسل الصدوق، قال الصادق عليه السلام: «الوصال الذي نُهي عنه، هو أن يجعل الرّجل عشاءه سحوره»(3).
2 - وصحيح البُختري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «المواصل في الصيام يصوم يوماً وليلة ويفطر في السحر»(4). ونحوه صحيح الحلبي(5).
ويشهد للقول الثاني:
1 - خبر محمّدبن سليمان، عن أبيه، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ : «وإنّما قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ولاوصال في صيام، يعني لايصوم الرّجل يومين متواليين من غيرإفطار»(6).
أقول: ولا تنافي بين النصوص، بل الجمع بينهما يقتضي البناء على إرادة الأعمّ ، كما عن «الاقتصاد»(7)، و «المسالك»(8)، و «الروضة»(9)، وفي «الجواهر»(10) وغيرها(11).3.
ص: 413
والواجبُ في السَّفر إلّاالنذر المقيّد به، وبَدل دم المُتعة والبدنة لمن أفاضَ من عرفات قبل الغروب عامداً، أو يكون سفره أكثر من حضره، وهو كلّ من ليس له في بلده مقام عشرة أيّام.
(و) العاشر: الصّوم (الواجب في السَّفر، إلّاالنذر المقيّد به، وبدل دم المتعة والبدنة لمن أفاض من عرفات قبل الغروب عامداً، أو يكون سفره أكثر من حضره، وهو كلّ من ليس له في بلده مقام عشرة أيّام) وقد مرّ الكلام في المستثنى الأوّل والمستثنى منه مفصّلاً، وسيأتي الكلام في الثاني والثالث من المستثنى في كتاب الحَجّ (1)، وفي الرابع في الباب الرابع(2).
وأمّا تعريف كثير السفر بما أفاده، فقد تقدّم الكلام فيه في مبحث (حكم كثير السَّفر) من هذا الشرح.
ثمّ إنّه وقع الكلام في أنّ حرمة الصّوم في الموارد المشار إليها، هل هي ذاتيّة، كما هو ظاهر كلمات الأصحاب ؟ أم تشريعيّة كما هو ظاهر سيّد «المدارك»(3)؟
وقبل بيان ما هو الحقّ ، لا بدَّ من بيان موضوع الحرمة الذاتيّة.
أقول: لا إشكال في أنّ موضوع الحرمة ليس ذات الصّوم - مع قطع النظر عن
ص: 414
قصد التقرّب أو عنوان آخر - إذ لا خلاف بينهم في أنّ مجرّد البناء على الإمساك بلا قصد القُربة ليس حراماً، كما أنّه ليس المراد الصّومُ بقصد التقرّب الجزمي أو الاحتمالي، إذ مع إمكانهما لا يُعقل النهي عنهما، لأنّ حُسن الإطاعة ذاتي، ومع عدم إمكانهما أيضاً لا يُعقل النهي لعدم القدرة، بل الموضوع:
إمّا الصّوم تشريعاً ليكون التشريع الخاص محرّماً من حيث كونه تشريعاً، ومن حيث كونه تشريعاً خاصّاً.
أو الصّوم المأتيّ به بعنوان إظهار العبوديّة والتخضّع الذي لا يتوقّف صدق العبادة عليه، إلّاعلى العلم بكونه أدباً يليق الخضوع به، وقد كشف الشارع عن ذلك بالأمر فيما ليس للعرف طريقٌ إلى كشفه، ولعلّ هذا مراد المشهور، حيث إنّه نُسب إليهم القول بالعبادة الذاتيّة في قبال ما يكون عبادة بالأمر.
فإنْ قيل: إذا كان الشيء أدباً وحسناً ذاتيّاً، فالنهي عنه يكون نظير النهي عن الإطاعة.
قلنا: إنّه يمكن أن يكون ما يضمّ إليه موجباً لخروجه عن ذلك، ومانعاً عن اتّصافه بالحُسن.
أقول: إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ظاهر النصوص المتضمّنة أنّ صوم الوصال، أو صوم الصمت، أو صوم العيدين، أو غير ذلك حرامٌ يقصد به كون الحرمة ذاتيّة، لا لما قيل من أنّ موضوع الحرمة التشريعيّة التشريع القلبي لا العمل الجوارحي، فإنّ هذا مردودٌ بأنّ التشريع إنّما يوجبُ حرمة الفعل الجوارحي، بل لظهورها فيها في أنفسها، فالأظهر ما هو المشهور من الحرمة الذاتيّة بالمعنى الذي ذكرناه.
***
ص: 415
مسائل: الأُولى: الصّوم الواجب ينقسم إلى :
معيّنٍ : وهو رمضان وقضائه، والنذر، والإعتكاف.
ومُخيّرٍ: وهو صوم كفّارة أذى حلق الرأس، وكفّارة رمضان، وجزاء الصيد.
هاهنا (مسائل):
المسألة (الأُولى: الصّوم الواجب ينقسم إلى) أقسام:
القسم الأوّل: ما يجب الصّوم مع غيره، وهي كفّارة قتل العمد، وكفّارة من أفطر على محرّمٍ في شهر رمضان، فإنّه تجبُ فيهما الخصال الثلاث إجماعاً(1).
وتشهد للأوّل نصوص تأتي، والكلام في الثاني قد مرّ.
القسم الثاني: ما يجب الصّوم ال (معيّن) خاصّة، أي يجب الصّوم مضيّقاً (وهو رمضان، وقضائه والنذر) المعيّن (والاعتكاف)، وقد مرّ الكلام في الثلاثة الأُولى ، والكلام في الأخير سيأتي في الاعتكاف(2)، ويتّضح أنّ كفّارته كفّارة شهر رمضان.
(و) القسم الثالث: ما يجبُ الصّوم ال (مخيّر) بينه وبين غيره، (وهو صوم كفّارة أذى حلق الرأس، وكفّارة رمضان) وكفّارة إفساد الاعتكاف، (وجزاء الصيد)، فإنّ المكلّف مخيّرٌ في الأوّل بين دم شاةٍ ، أو صيام ثلاثة أيّام، أو التصدّق على ستّة
ص: 416
ومرتّبٍ : وهو صوم كفّارة اليمين، وقتل الخطأ، والظهار، ودم الهدي، وكفّارة قضاء رمضان بعد الزّوال.
الثانية: كلّ صومٍ يجبُ فيه التّتابع، إلّاالنذر المطلق وشبهه، والقضاء، وجزاء الصيد، والسَّبعة في بدل الهَدي.
مساكين لكلّ واحدٍ مُدّان، ومخيّر في الثلاثة الأخيرة بين الخصال الثلاث، وقد مرَّ الكلام في الأوّل منها وسيأتي في الأخيرين(1).
(و) القسم الرابع: ما يجبُ الصّوم ال (مرتّب) على غيره (وهو صوم كفّارة اليمين، وقتل الخَطأ، والظِهار، ودم الهَدْي، وكفّارة قضاء رمضان) وسيأتي الكلام في الأربعة الأُولى ، وقد مرّ في الأخير.
المسألة (الثانية): المشهور بين الأصحاب أنّ (كلّ صومٍ يجبُ فيه التتابع إلّا) صوم (النذر المطلق) أي المجرّد عن التتابع (وشبهه) من يمينٍ وعهدٍ، (و) صوم (القضاء) عن رمضان أو غيره، (و) صوم (جزاء الصيد، والسّبعة في بدل الهَدي) وقد وقع الكلام في كلٍّ من الكبرى ، والكليّة، والأربعة المستثناة.
أمّا الكبرى : فعن «المدارك»(2): (يمكن المناقشة في وجوب المتابعة في صيام كفّارة قضاء رمضان، وحلق الرأس، وصوم الثمانية عشر في بدل البدنة، وبدل الشهرين، لإطلاق الأمر بالصوم في جميع هذه الموارد، فيحصل الامتثال مع التتابع وبدونه). انتهى .
ص: 417
أقول: إنّ التتابع لازمٌ في الصّوم الذي عيّن فيه الزمان كصوم رمضان، أو نصّ عليه الكتاب أو السُنّة، وفي غير ذينك لا يجبُ التتابع للأصل، ولصحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «كلّ صومٍ يفرّق إلّاثلاثة أيّام في كفّارة اليمين»(1).
وخبر سليمان بن جعفر الجعفري، عن أبي الحسن عليه السلام، في حديثٍ : «إنّما الصيام الذي لا يفرّق كفّارة الظهار وكفّارة الدّم وكفّارة اليمين»(2).
فإنّه بالمفهوم يدلّ على ذلك.
فإنْ قيل: إنّ المراد بالصحيح عدم التفرقة، ولو على بعض الوجوه الآتية، وأنّ الحصر في الخبر إضافيٌ بالنسبة إلى قضاء شهر رمضان بقرينة السؤال.
قلنا يرد الأوّل: أنّ مقتضى إطلاقه، التفرقة بقول مطلق، لا على بعض الوجوه.
ويرد الثاني: أنّ كون السؤال عن موردٍ لا يوجبُ تقييد الدليل وجعل الحصر إضافيّاً لا حقيقيّاً.
وأمّا النذر: فعن الشهيد في «الدروس»(3): (عن ظاهر الشاميّين وجوب المتابعة في النذر المطلق)، واستدلّ له:
بأنّ منصرف الإطلاق التتابع، واستشهد عليه بفهم الأصحاب ذلك في أقلّ الحيض وأكثره مدّة الاعتكاف، وعشرة الإقامة وما شاكل.
وفيه: أنّ التقدير في تلك الموارد إنّما هو لأمرٍ واحد مستمرّ، والصّوم ليس كذلك، بل هي أعمال متعدّدة في أزمنة متفرّقة.
وقد نُقل فيها أقوالٌ أُخر لا مدرك لشيء منها في مقابل الإطلاقات والأصل.5.
ص: 418
نعم، في خبر الفضيل بن يسار، عن أبي عبد اللّه - أو أبي جعفر عليهما السلام على اختلاف الطرق ولعلّه خبران -: «في رجلٍ جُعل عليه صوم شهرٍ فصام منه خمسة عشر يوماً، ثمّ عرض له أمر؟ فقال عليه السلام: إنْ كان صام خمسة عشر يوماً فله أن يقضي ما بقي، وإنْ كان أقلّ من خمسة عشر يوماً لم يجزه حتّى يصوم شهراً تامّاً»(1).
ولكنّه وارد في مقام بيان حكم عروض المانع عن التتابع في الصّوم المنذور، الذي اعتبر فيه التتابع، كما لو نذر شهراً بمعنى ما بين الهلالين، فلا إطلاق له من الجهة المبحوث عنها، بل لا يبعد ظهوره في خصوص ذلك.
وأمّا صوم القضاء: فقد استقرب الشهيد في محكيّ «الدروس»(2) وجوب التتابع في قضاء النذر المشروط فيه التتابع، كنذر ثلاثة أيّام متتابعة في شهر رجب، وعن «القواعد»(3) التردّد فيه.
واستدلّ له:
1 - بقوله عليه السلام: «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته».
2 - وقوله عليه السلام: «اقض ما فات كما فات».
3 - وبأنّ القضاء عين الأداء، فإذا كان الأداء متتابعاً فالقضاء كذلك.
ولكن المُرسَلين قد مرّ أنّه لا وجود لهما في كتب الأحاديث، حتّى في كتب العامّة، مع أنّهما مختصّان بالفريضة في نفسها، لا بما هو موضوع النذر.
والأخير يرد عليه: أنّه لو سُلّم وجود الدليل على وجوب قضاء الصّوم المنذور، فغايته قضاء الصّوم بما هو صوم، وأمّا القيود الخارجة عن مفهومه،).
ص: 419
الثالثة: كلّ ما يشترط فيه التتابع إذا أفطر لعذر بنى.
المأخوذة في موضوع النذر، فلا دليل على لزوم رعايتها في القضاء.
وعن أبي الصَّلاح(1): لزوم التتابع في قضاء رمضان وقد مرّ ما فيه.
وأمّا صوم جزاء الصيد: فعن المفيد(2)، والديلمي(3)، والسيّد المرتضى(4):
وجوب المتابعة في صيام ستّين بدل النعامة.
وسيأتي الكلام فيه في كتاب الحَجّ (5) منقحاً.
وأمّا السَّبعة في بدل الهَدْي: فعن القديمين(6) وجوب المتابعة فيها، والكلام فيها في كتاب الحجّ .
المسألة (الثالثة): صرّح جماعة من الأصحاب بأنّ (كلّ ما يُشترط فيه التتابع) من أفراد الصّوم (إذا أفطر) في أثنائه (لعُذرٍ بنى) عليه بعد زواله.
وإطلاق كلامهم يقتضي عدم الفرق بين صوم الشهرين، وصوم الثمانية عشر، وصوم الثلاثة، وأيضاً يقتضي عدم الفرق بين كون العُذر هو الحيض أو المرض أو غيرهما، إنّما وقع الخلاف بينهم في موردين - بعد الاتّفاق على ذلك في صيام
ص: 420
الشهرين إذا أفطر في الأثناء لحيض أو مرض -:
المورد الأوّل: في اختصاص الحكم بالشهرين، والشمول للأقلّ :
فعن «الإنتصار»(1)، و «الغنية»(2)، و «الإقتصاد»(3)، وصريح «السرائر»(4)، وظاهر «النافع»(5)، و «الإرشاد»(6)، وصريح «التحرير»(7): الثاني، بل عن الأولين الإجماع عليه.
وظاهر «المبسوط»(8)، و «الجُمل»(9)، وعن «القواعد»(10)، و «الدروس»(11)، و «المسالك»(12)، و «المدارك»(13): وجوب الاستئناف في الثلاثة مطلقاً، وزاد سيّد «المدارك»: فخصّ البناء بالشهرين.
المورد الثاني: في أنّه هل يختصّ هذا الحكم بالحيض والمرض أم لا؟7.
ص: 421
فيه أقوال:
القول الأوّل: الاختصاص بهما، فلا يشمل حتّى للإفطار بمثل النسيان.
القول الثاني: الاختصاص بمعنى الاقتصار على الأعذار غير الاختياريّة، فلا يشمل مثل السفر الضروري، ذهب إليه في محكيّ «الخلاف»(1)، و «الوسيلة»(2)، وظاهر «المبسوط»(3) و «الجُمل»(4)، و «الاقتصاد»(5)، وظاهر الأوّل الإجماع عليه.
القول الثالث: الشمول للسفر الضروري، ذهب إليه الشيخ في محكيّ «النهاية»(6)، والمصنّف في أكثر كتبه(7)، والمحقّق في جملةٍ منها(8)، والشهيدان(9).
وتنقيح القول في المقام: إنّه لا ريب في البناء في صيام الشهرين إذا أفطر في الأثناء لحيضٍ أو مرضٍ ، والنصوص الشاهدة به كثيرة:
منها: صحيح رفاعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ عليه صيام شهرين متتابعين فصام شهراً ومرض ؟ قال: يبني عليه، اللّه حبسه، قلتُ : امرأة كان عليها صيام شهرين متتابعين، فصامت وأفطرت أيّام حيضها؟ قال عليه السلام: تقضيها. قلت:2.
ص: 422
فإنّها قضتها، ثمّ يئست من الحيض ؟ قال عليه السلام: لا تعيدها، أجزأها ذلك»(1).
ومنها: صحيح سليمان بن خالد، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ كان عليه صيام شهرين متتابعين، فصام خمسة وعشرين يوماً، ثمّ مرض، فإذا برأ يبني على صوم أم يعيد صومه كلّه ؟ قال عليه السلام: بل يبني على ما كان صام.
ثمّ قال: هذا ممّا غلب اللّه عليه، وليس على ما غلب اللّه عليه شيء»(2).
ونحوهما غيرهما.
أقول: وبإزائها ما يدلّ على الفرق بين صيام شهرٍ وشيء من الثاني، وبين صيام الأقلّ ، فيبني على الأوّل دون الثاني:
1 - كخبر أبي بصير، قال: «سألتُ عبد اللّه عليه السلام: عن قطع صوم كفّارة اليمين، وكفّارة الظِهار، وكفّارة القتل ؟ فقال: إنْ كان على رجلٍ صيام شهرين متتابعين، فأفطر أو مرض في الشهر الأوّل، فإنّ عليه أن يعيد الصيام، وإنْ صام الشهر الأوّل وصام من الشهر الثاني شيئاً، ثمّ عرض له ما له فيه عذر، فإنّ عليه أن يقضي»(3).
2 - وصحيح محمّد بن حمران وجميل، عنه عليه السلام: «في الرّجل يلزمه صوم شهرين متتابعين في ظهارٍ، فيصوم شهراً ثمّ يمرض ؟ قال عليه السلام: يستقبل، فإن زاد على الشهر الأوّل يوماً أو يومين بنى على ما بقي»(4).
ونحوهما صحيح الحلبي في مطلق الإفطار.1.
ص: 423
أقول: ولكن إنْ أمكن الجمع بين الطائفتين بحمل الثانية على الاستحباب، وإلّا فالمتعيّن هو طرح الثانية، لأرجحيّة الأُولى من وجوهٍ لا تخفى .
ثمّ إنّ النصوص وإنْ اختصّت بالمرض والحيض، ولكن من جهة ما فيها من الكبرى الكليّة، لا إشكال في شمولها لكلّ عذرٍ غير اختياري، ومنه ما إذا نسي النيّة حتّى فات وقتها، بأنْ تذكّر بعد الزَّوال، أو إذا نسي فنوى صوماً آخر ولم يتذكّر إلّا بعد الزَّوال، كما صرّح بذلك ثاني الشهيدين(1)، وسيّد «المدارك»(2)، وصاحب «الجواهر»(3) وغيرهم(4)، وتوقّف فيه صاحب «الحدائق» رحمه الله(5) مستدلّاً: بأنّ النسيان ليس من اللّه تعالى ، بل هو من الشيطان كما يشير إليه قوله تعالى :
(فَأَنْساهُ اَلشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ) (6) .
وفيه: أنّ المراد من قوله عليه السلام: (ما غَلَب اللّه عليه... إلخ) هو العارض غير الاختياري، ولو بتوسط المخلوق، كما هو الظاهر، فلا إشكال في الشمول.
أقول: وقد استدلّ لشمول النصوص للسفر الضروري، ونحوه ممّن يضطرّ إلى سبب الإفطار، بأنّ ظاهر قوله عليه السلام: (اللّه حَبَسه) وما ماثله من التعابير، هو أنّ الموضوع كون المنع من الصّوم منه تعالى ، في مقابل التعمّد للإفطار الذي هو فعل المكلّف، ولذلك قوّى صاحب «الجواهر» رحمه الله(7) الشمول للسفر الاختياري أيضاً.6.
ص: 424
وفيه: أنّ الظاهر إرادة حبس اللّه تعالى من التتابع، لا من التكليف بالصوم، ومعلومٌ أنّ الدخيل في المنع من الصّوم سفر الصائم باختياره، ولو كان ضروريّاً، فالحبس مستندٌ إلى اختياره لا إلى اللّه تعالى .
وأجاب عنه في «المستند»(1) بجواب آخر، وهو: أنّه لو سُلّم شمول التعليل له، يقع التعارض حينئذٍ بينه وبين صحيح الحلبي الوارد فيمن عليه شهران متتابعان، حيث حكم الإمام عليه السلام بأنّه لو عرض له شيءٌ يفطر منه أفطر، ثمّ يقضي ما بقي عليه، وإنْ صام شهراً ثمّ عرض له شيءٌ فأفطر قبل أن يصوم من الآخر شيئاً، فلم يتابع أعاد الصّوم كلّه.
والنسبة عمومٌ من وجه فيرجع إلى الأصل، وهو هنا مع عدم سقوط التتابع، لأنّه مأمور به، فلا يسقط إلّامع الإتيان به.
وفيه: إنّ ظاهر قوله عليه السلام: (فإن عرض له شيءٌ ) هو عروض أمرٍ غير اختياري، فيعارض الصحيح مع النصوص المتقدّمة، ويجري ما ذكرناه من الحمل على الاستحباب أو الطرح.
وعليه، فالأظهر عدم شمول النصوص للسفر الضروري، فضلاًعن الاختياري.
ولو حدث المرض أو الحيض بالاختيار، فهل يشمله هذا الحكم لإطلاق النصوص، أم لا كما عن بعض المعاصرين(2) للتعليل ؟
وجهان، أظهرهما الأوّل، إذ عرفت أنّ ما ذُكر في ذيل النصوص، ليس تعليلاً مصطلحاً، بل كبرى كليّة شاملة لموردها وغيره، فلا مفهوم لها كي يقيّد به النصوص.0.
ص: 425
وإنْ أفطر لغيره استأنف، إلّا.
أقول: وقد استدلّ لاختصاص الحكم بالشهرين، وعدم الشمول لغيرهما، بأنّ عموم التعليل يعارض مع مادلّ على اعتبار التتابع في هذا الصيام بالعموم من وجه، فيتساقطان، والمرج هو قاعدة عدم الإجزاء بالإتيان بالمأمور به على غير وجهه.
وفيه: أنّ عموم التعليل حاكمٌ عليه، فإنّه يدلّ على المعذوريّة فيمايثبت الاعتبار، فلا تلاحظ النسبة بينهما.
مع أنّه لو سُلّم التعارض لا يتساقطان، بل المرجع إلى المرجّحات، والترجيح مع نصوص الباب.
وقد استدلّ لوجوب الاستئناف في الثلاثة: بما تضمّن نفي التفريق في خصوصها.
وفيه: أنّ ذلك نظير ما دلّ على وجوب التتابع محكومٌ لعموم العلّة المذكورة، فالأظهر هو التعميم.
وكيف كان، فالموجود من النصوص مختصٌّ بالشهرين، وقد تقدّم، ولكن استدلّ له في غيرهما بأنّه لم يأتِ بالمأمور به على وجهه، فيبقى في عهدة التكليف.
وأورد عليه: بأنّ ذلك يتوقّف على كون الجميع عبادة واحدة، وعملاً واحداً، وهذا ممّا يصعب الالتزام به، لحصر مفسدات الصّوم بغير ذلك، ولأنّ لازم ذلك الاجتزاء للجميع بنيّة واحدة، فالمتابعة واجبة بالوجوب التعبّدي لا الشرطي، فغاية ما يلزم من الإخلال بها الإثم دون البطلان ولزوم الاستئناف.
وفيه أوّلاً: أنّ النصوص الآمرة بالتتابع كسائر النصوص المتضمّنة للأمر بشيء في المأمور به ظاهرة في الشرطيّة، وهذا لا ينافي حصر المفسدات، لأنّا لا ندّعي بطلان الصّوم بترك التتابع، بل ندّعي عدم امتثال المأمور به الذي هو مركّب من الصّوم وغيره.
وأمّا النيّة: فقد عرفت أنّها عبارة عن الدّاعي المحرّك، فلا فرق بين كون الجميع عملاً واحداً أم متعدّداً كما لا يخفى .
وثانياً: أنّه لو سلّم كون وجوب التتابع وجوباً آخر غير وجوب الصيام، فلابدّ من الإتيان به، وهو يتوقّف على الاستئناف فيكون واجباً.
اللّهم إلّاأن يقال: إنّ الواجب التتابع بين أفراد الصّوم الواجبة بعنوان النذر أو الكفّارة وما شاكل، فعلى فرض الإتيان ببعضها وحصول الفصل لا يمكن تحقّق التتابع، ولو بأن يصوم ثانياً، فإنّه ليس صوم النذر أو الكفّارة، كما هو واضح، فالصحيح هو الأوّل.
وعلى ما ذكرناه لا يلزم بطلان الصّوم، بل هو عبادة مستحبّة في جميع أيّام السنة، فيقع مصداقاً لذلك.
ص: 427
مَنْ وجَب عليه شهران فصام شهراً، ومن الثاني ولو يوماً بنى .
ودعوى: أنّه لم يقصد فيلزم وقوع ما لم يقصد.
مندفعة: بأنّه لا يكون دخيلاً في الصّوم المأمور به بالأمر الندبي عنوانٌ آخر وراء عنوان الصّوم المتحقّق على الفرض، وقصد العنوان الآخر ليس من المبطلات له.
فالمتحصّل: أنّ الأظهر ما هو المشهور بين الأصحاب من وجوب الاستئناف إذا أفطر لغير عُذرٍ إلّالأصناف:
الصنف الأوّل: (مَن وجبَ عليه شهران فصام شهراً ومن الثاني ولو يوماً) فإنّه إذا كان كذلك (بنى ) ولا يجب الاستئناف - وإنْ أخلَّ بالمتابعة عمداً - بلا خلافٍ أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه(1)، بل المحكيّ منهمامتواتر أو مستفيض كذا في «الجواهر»(2).
وتشهد به: النصوص الكثيرة، وقد تقدّم طرفٌ منها:
ومنها: صحيح منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجلٍ صام في ظهار شعبان ثمّ أدركه شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: يصوم شهر رمضان ويستأنف الصّوم، فإنْ
ص: 428
هو صام في الظهار فزاد في النصف يوماً قضى بقيّته»(1).
ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «عن قطع صوم كفّارة اليمين وكفّارة الظهار وكفّارة القتل ؟ فقال عليه السلام: إنْ كان على رجلٍ صيامُ شهرين متتابعين - والتتابع أن يصوم شهراً ويصوم من الآخر شيئاً أو أيّاماً منه - فإنْ عَرَض له شيءٌ يفطر منه أفطر، ثمّ يقضي ما بقي عليه، وإنْ صام شهراً ثمّ عرض له شيءٌ فأفطر قبل أن يصوم من الآخر شيئاً فلم يتابع أعاد الصّوم كلّه»(2).
ومنها: خبر سماعة: «عن الرّجل يكون عليه صوم شهرين متتابعين، أيفرّق بين الأيّام ؟ فقال عليه السلام: إذا صام أكثر من شهر فَوَصله، ثمّ عَرَض له أمرٌ فأفطر، فلا بأس، فإنْ كان أقلّ من شهرٍ أو شهراً فعليه أن يُعيد الصيام»(3).
إلى غير ذلك من الأخبار.
فرع: وهل يجوز له التفريق في البقيّة اختياراً، كما هو المشهور بين الأصحاب(4)؟
أم لا يجوز، كما عن المفيد(5) والسيّد(6) وابني زُهرة(7) وإدريس(8) وغيرهم(9)؟ الأظهر هو الأوّل:4.
ص: 429
وَمَنْ وَجَبَ عليه شهرٌ فصام خمسة عَشَر يوماً.
1 - لصحيح الحلبي المفسِّر للتتابع بذلك، فإنّه بالحكومة يدلّ على اختصاص ما دلّ على لزوم التتابع بصيام شهر، وشيءٍ من الشهر الثاني.
2 - ولإطلاق قوله عليه السلام: (فلا بأس) في موثّقة سماعة.
3 - ولأنّ وجوب التتابع شرطيٌكمامرّ، فمع سقوط الشرطيّة لامعنى لبقاءوجوبه.
(و) الصنف الثاني: (مَنْ وَجَب عليه شهرٌ فصام خمسة عشر يوماً) فإنّه يبني على ما تقدّم، ولا يجبُ عليه الإستئناف على المشهور، وعن الحِلّي(1) دعوى الإجماع عليه.
ويشهد به: خبر موسى بن بكر، عن الفضل بن يسار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجلٍ جعل عليه صومُ شهرٍ، فصام منه خمسة عشر يوماً، ثمّ عَرَض له أمرٌ؟ فقال عليه السلام: إنْ كان صام خمسة عشر يوماً فله أن يقضي ما بقي، وإنْ كان أقلّ من خمسة عشر يوماً لم يجزه حتّى يصوم شهراً تامّاً»(2).
ومثله خبره الآخر(3).
وأورد عليهما تارةً : بضعف السند.
وأُخرى : بعدم ظهورهما في نذر التتابع.
وثالثة: بتضمّنهما الإفطار لعروض أمرٍ لا مطلقاً.7.
ص: 430
ورابعة: بالاختصاص بالنذر، فالتعدّي إلى غيره كشهر كفّارة قتل الخطأ، وما شاكل يحتاج إلى دليل.
ولكن يرد الأوّل: - مضافاً إلى حُسن سندهما - أنّه لو كان ضعفٌ فهو منجبرٌ بالعمل.
ويرد الثاني: أنّ قوله: (وإنْ كان أقلّ من خمسة عشر لم يجزه) قرينة لإرادة نذر التتابع منهما.
ويرد الثالث: أنّهما مطلقان شاملان لمطلق الإفطار بدون عروض السبب، أو معه، كان السبب ممّا يفطر لأجله إلى الإفطار وغيره.
وأمّا الرابع: فالظاهر أنّه متين.
ودعوى: أنّ غيره أيضاً مندرجٌ تحت الجعل.
مندفعة: بأنّ الظاهر منه جعله لنفسه ابتداءً ، وذلك مختصٌّ بالعهد والنذر واليمين.
وعليه، فالأظهر الاختصاص بالنذر وأخويه.
فإنْ قيل: إنّه يمكن استفادة حكم غيرها من الكليّة الثابتة في الشهرين.
قلنا: إنّ الكليّة إنّما هي في الشهرين، وقياس غيرهما عليهما مع الفارق، سيّما وأنّ التتابع في الشهرين قابلٌ لإرادة التتابع في الأيّام، والتتابع في الشهر الصادق بضمّ جزءٍ من الثاني إلى الشهر الأوّل، وهذا بخلاف التتابع في الشهر فإنّه لا يتصوّر فيه سوى التتابع في الأيّام.
وأمّا ما عن ابن حمزة(1): من اعتبار تجاوز النصف ولو بيوم، فلم يذكر له دليلٌ).
ص: 431
والثلاثة في بدل هَدي المتعة إذا صام يُومي التروية وعرفة صام الثالث بعد أيّام التشريق.
سوى القياس على الشهرين، وهو كما ترى .
وعن ابن زُهرة(1) غير ذلك، لكن لم نظفر على ما يمكن الاستدلال به له.
(و) الثالث: مَنْ وَجَب عليه (الثلاثة في بدل هَدْي المُتعة، إذا صام يومي التروية وعرفة) فإنّه (صام الثالث بعد أيّام التشريق).
وسيأتي الكلام فيه مفصّلاً في كتاب الحجّ (2).
***).
ص: 432
الباب الرابع: في المعذورين:
إذا حاضت المرأة أو نَفَسَتْ أيّ وقتٍ كان من النهار بَطَلَ صومها وتقضيه.
وفيه فصلان:
الأوّل: فيمن يجبُ عليه الإفطار وفيه مسائل:
المسألة الأُولى : (إذا حاضت المرأة أو نَفَسَتْ أيّ وقتٍ كان من النهار، بطل صومها) كما تقدّم في شرائط وجوب الصّوم وصحّته(1)، (وتقضيه) بلا خلافٍ (2)، بل إجماعاً(3).
وعن «المعتبر»(4)، و «السرائر»(5): أنّه مذهب فقهاء الإسلام.
والنصوص الدالّة على ذلك كثيرة، وقد تقدّمت جملة منها في المسائل المتقدّمة.
وأمّا الصّوم المنذور:
ص: 433
1 - فإنْ كان النذر نذراً غير معيّنٍ ، وجبَ الإتيان به، وليس من القضاء بشيء.
2 - وإنْ كان معيّناً، كما لو نذرت صوم يوم الخميس فحاضت، فهل يجبُ عليها القضاء أم لا؟
أقول: لم يعنون أصحابنا المسألة بهذا العنوان الخاصّ ، بل المعنون في كلماتهم وجوب القضاء على مَن نذر فاتّفق له سفرٌ أو حيضٌ أو نحوهما.
وكيف كان، فعن «المسالك»(1) القطع بوجوبه، وظاهر «المختلف»(2) أنّه لا نزاع في وجوب القضاء حينئذٍ، وعن سيّد «المدارك»(3) أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب.
واستدلّوا لذلك:
1 - بصحيح ابن مهزيار: «كتب إليه يسأله: يا سيّدي رجلٌ نذرَ أن يصوم يوماً بعينه، فوقع ذلك اليوم على أهله ما عليه من الكفّارة ؟
فكتب إليه: يصوم يوماً بدَل يوم، وتحرير رقبة مؤمنة»(4).
ونحوه مكاتبة الحسين بن عبيدة(5)، والقاسم بن الصيقل(6).
2 - وبرواية عبد اللّه بن جُندَب المتقدّمة: «في رجلٍ جَعل على نفسه صومَ يومٍ ، فحضرته نيّة الزيارة - إلى أنْ قال - فإذا رجع قضى ذلك»(7).6.
ص: 434
3 - وبإطلاق ما دلّ على وجوب قضاء الصّوم على الحائض والنفساء.
أقول: أمّا ما دلّ على وجوب قضاء الصّوم على الحائض، فهو مختصٌّ بصوم شهر رمضان، إمّا للتصريح به، أو للتعليل بأنّ الصّوم إنّما هو في السنة شهر، والصَّلاة في كلّ يوم، أو لأنّه المتيقّن بعد عدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة.
وأمّا خبر ابن جُندَب: فهو غيرُ ظاهر في المعيّن، بل ظاهره في غير المعيّن، والمراد بالقضاء الفعل، كما هو مقتضى حقيقته اللّغوية.
وأمّا المكاتبات: فيُحمل الأمر بالصوم فيها على الندب، لخبر مسعدة بن صدقة، عن جعفر، عن أبيه عليه السلام: «في الرّجل يوقّت علينفسه أيّاماً معروفة مسمّاة في كلّ شهر، فيسافر بعده الشهور؟ قال عليه السلام: لا يصوم لأنّه في سفر، ولا يقضيها إذا شهد»(1).
وخبر زرارة المتقدّم، عن الإمام الباقر عليه السلام، فيمَن سألَهُ عن اُمّه التي نذرَت صوم يوم معيّن فسافرت، قال عليه السلام: «لا تقضيه إذا شهد»(2).
ويشهد لهذا الجمع - مضافاً إلى كونه عرفيّاً - ما رواه ابن أبي عمير، عن صالح ابن عبداللّه: «قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: إنّ أخي حُبس فجعلتُ على نفسي صوم شهرٍ، فصمت فربّما أتاني بعض إخواني فأفطرتُ أيّاماً فأقضيه ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(3).
فتأمّل فإنّ المكاتبات مختصّة بالإفطار لا لعُذر، والتعدّي إلى ما يكون لعذر يحتاج إلى دليل.
هذا كلّه مضافاً إلى أنّه يكشف بالحيض أو النفاس فساد النذر لعدم8.
ص: 435
وَلو طَهُرت بعد الفجر، أمسَكتْ استحباباً وقضته، ولو بلَغَ الصبي أو أفاق المجنون قبل الفجر، صاما ذلك اليوم واجباً، وإلّا فلا.
مشروعيّة المنذور فلا فوت ولا قضاء.
ودعوى الشيخ الأعظم رحمه الله(1): من أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا لم يكن النذر تعلّق بذلك الوقت الشخصي، بل تعلّق بنوعه، كما لو نذرت صوم كلّ خميس، فإنّ اتّفاق الحيض في بعض أيّام الخميس لا يكشف عن فساد النذر.
ممنوعة: إذ ذلك وإنْ لم يوجب فساد النذر مطلقاً، لكنّه يوجب فساده في أيّام المصادفة، إذ مشروعيّة بعض المنذور لا تكفي في صحّة نذر المجموع بعد اعتبار المشروعيّة في المتعلّق.
فتحصّل: أنّ الأظهر عدم وجوب قضاء المنذور، سيّما للحائض والنفساء، لولا الإجماع، والاحتياط طريق النجاة.
(ولو طَهُرت بعد الفجر أمسكتْ استحباباً) تأديباً، (وقَضَته) كما عرفت.
(و) قد مرّ أيضاً في شرائط وجوب القضاء أنّه (لو بلَغ الصبي، أو أفاق المجنون قبل الفجر صاما ذلك اليوم واجباً، وإلّا فلا).
***1.
ص: 436
والمريضُ إذا برأ أو قَدم المُسافر قبل الزَّوال ولم يفطرا، أمسكا واجباً وأجزأهما، وإلّا فلا.
(و) المسألة الثانية: (المريض إذا برأ، أو قدم المسافر قبل الزَّوال ولم يفطرا، أمسكا واجباً، وأجزأهما، وإلّا فلا)، فهاهنا فروع:
الفرع الأوّل: لو برأ المريض بعد الزَّوال لم يجب عليه النيّة بالإتمام، لفوات محلّ النيّة، ولو برأ قبل الزَّوال، فإنْ أفطر قبل البُرء لا يجب عليه النيّة بالإمساك، وإنْ لم يفطر، فالمشهور بين الأصحاب(1) أنّه ينوي ويصوم ويصحّ صومه، بل عن صاحب «المدارك»(2) نسبته إلى علمائنا أجمع.
واستدلّ له بوجوه:
منها: أنّ الأصل يقتضي بقاء محلّ النيّة إلى الزَّوال، وقد تقدّم الكلام فيه في مبحث النيّة(3).
ومنها: استفادة ذلك ممّا ورد في المسافر والجاهل لتنقيح المناط، بل عن صاحب «المدارك»(4) أنّ المريض أعذر من المسافر.
وفيه: أنّ المناط غير مُحرزٍ، ولم يثبت كونه العذر كي ينفع أعذريّة المريض.
ومنها: الإجماع.
ص: 437
وفيه: عدم ثبوت كونه تعبّديّاً.
أقول: وقد يفصّل بين ما إذا كان المريض لا يضرّه الصّوم واقعاً، وإنْ كان هو معتقداً لإضراره، وبين ما إذا كان يضرّه الصّوم ولو في أوّل النهار، فكان إمساكه موجباً لتضرّره ولكن أمسك فبرأ.
فعلى الأوّل: ينكشف أنّه كان يجب عليه الصّوم واقعاً، والفرض أنّه أمسك ولم يفطر، فهو كالجاهل الذي علم في أثناء النهار أن اليوم من رمضان.
وعلى الثاني: فإمساكه إلى حين البُرء حيث يكون على الوجه المحرم المنافي للعباديّة، فلا يصحّ صومه قطعاً.
وفيه أوّلاً: إنّ الإضرار بالنفس، سيّما بمثل هذا الضرر اليسير الذي تحمله إلى حين البُرء، لا يكون حراماً، نعم الفرق بين الصورتين أنّ في الأُولى يكون الصّوم واجباً واقعاً، وفي الثانية لا يكون كذلك قطعاً.
وثانياً: إنّه في الفرض الأوّل حيث يكون عدم نيّته الصّوم من أوّل اليوم على الوجه المرخّص فيه، فلزوم نيّته من حين البُرء، مع أنّه ليس بصوم، بل بعضه يحتاج إلى دليل، واستفادة حكمه ممّا ورد في الجاهل الذي علم في أثناء النهار أن اليوم من رمضان، لا تخرج عن القياس، مع أنّ الاكتفاء به عن الصّوم الكامل لا دليل عليه.
وعليه، فالأظهر عدم وجوب النيّة ولزوم القضاء عليه.
وهل يجب عليه الإمساك لا بنيّة الصّوم ؟ الظاهر عدم الوجوب لعدم الدليل عليه، وعن الشيخ المفيد(1) وجوبه لأنّه وقت يجب فيه الإمساك.).
ص: 438
وفيه: أنّه وقت وجوب الإمساك بعنوان الصّوم غير الواجب على المريض إلى هذا الوقت، لا وجوب الإمساك المجرّد عنه.
وبذلك ظهر حكم ما لو برأ المريض بعد الزَّوال.
نعم، لا بأس بالقول باستحباب الإمساك، لخبر الزُهري والإجماع المنقول والشهرة المحققة، وكذلك من أفطر لعلّةٍ من أوّل النهار ثمّ ارتفعت.
الفرع الثاني: لو صام المريض الذي لا يشرع له الصّوم جاهلاً، ففيه أقوال:
أحدها: وجوب القضاء عليه، وهو المعروف بين الأصحاب(1).
ثانيها: عدم وجوبه، اختاره صاحب «الحدائق» رحمه الله(2).
ثالثها: التفصيل بين القاصر فلايجب، والمقصّرفيجب، اختاره الفاضل النراقي رحمه الله(3).
أقول: والأظهر هو الأوّل، لأنّه صومٌ غير مأمور به، فلا يكون مُجزياً، ولخبر الزُهري، عن عليّبن الحسين عليه السلام: «فإنْصام في السفر، أو في حال المرض فعليه القضاء، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (4)».
واستدلّ للقول الثاني:
1 - بأخبار معذوريّة الجاهل.
2 - وبخبر عقبة بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ صام شهر رمضان، وهو مريض ؟ قال عليه السلام: يُتمّ صومه ولا يُعيد، يجزيه»(5).5.
ص: 439
ولكن يرد على الأوّل: أنّه لم أظفر بخبر يدلّ على معذوريّته مطلقاً بنحوٍ يشمل أمثال المقام.
ويرد على الثاني: - مضافاً إلى ضعفه، لأنّ في طريقه محمّد بن عبد اللّه بن هلال وهو مهمل - أنّه مطلقٌ قابل للحمل على المرض غير المضرّ، وقد حمله الشيخ وغيره عليه، ولم يذكر للثالث وجه.
الفرع الثالث: إذا كان مسافراً وحضر بلده، أو بلداً يعزم على الإقامة فيه عشرة أيّام:
فتارةً : يكون رجوعه إليه قبل الزَّوال.
وأُخرى : يكون رجوعه إليه بعد الزَّوال.
فإنْ كان قبل الزَّوال، ولم يتناول المفطّر، وجب عليه الصّوم، بلا خلافٍ ، ويشهد به:
1 - موثّق أبي بصير: «سألته عن الرّجل يقدِم من سفر في شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: إنْ أقدمَ قبل زوال الشمس، فعليه صيام ذلك اليوم، ويعتدّ به»(1).
2 - وخبر أحمد بن محمّد، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ قدِمَ من سفر في شهر رمضان، ولم يطعم شيئاً قبل الزَّوال ؟ قال عليه السلام يصوم»(2).
3 - ومصحّح يونس، في حديثٍ : «قال في المسافر يدخل أهله وهو جُنُب قبل
ص: 440
الزَّوال، ولم يكن أكل، فعليه أن يُتمّ صومه ولا قضاء عليه، يعني إذا كانت جنابته من احتلام»(1).
4 - وموثّق سماعة: «عن الرّجل كيف يصنع إذا أراد السفر؟ - إلى أنْ قال - إنْ قدِمَ بعد زوال الشمس أفطر، ولا يأكل ظاهراً، وإنْ قدِمَ من سفره قبل زوال الشمس، فعليه صيام ذلك اليوم إنْ شاء»(2).
ومن الأخير يظهر أنّه إنْ قدِمَ بعد الزَّوال لا صوم له، ويجبُ عليه القضاء حينئذٍ، لما دلّ على وجوبه على المسافر.
ويشهد به أيضاً: معتبرة محمّد بن مسلم: «عن الرّجل يقدم من سفر بعد العصر في شهر رمضان، فيُصيب امرأته حين طهُرت من الحيض، أيواقعها؟ قال عليه السلام:
لا بأس به»(3).
وأمّا صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ :
«فإذا دخل أرضاً قبل طلوع الفجر، وهو يريد الإقامة بها فعليه صوم ذلك اليوم، وإنْ دخل بعد طلوع الفجر، فلا صيام عليه، وإنْ شاء صام»(4).
وصحيحه الآخر عنه عليه السلام: «عن الرّجل يُقدِم من سفرٍ في شهر رمضان فيدخل أهله حين يصبح، أو ارتفاع النهار؟ قال عليه السلام: إذا طلع الفجر وهو خارج ولم يدخل أهله، فهو بالخيار إنْ شاء صام وإنْ شاء أفطر»(5).6.
ص: 441
فيُحملان على إرادة التخيير قبل القدوم، بين أنْ يُمسك إلى أنّ يدخل أهله فيصوم، وبين الإفطار والبقاء عليه بعد الدخول، كما يظهر ذلك من الخبر الذي رواه رفاعة عنه عليه السلام:
«عن الرّجل يقدم في شهر رمضان من سفرٍ حتّى يرى أنّه سيدخل أهله ضحوة، أو ارتفاع النهار؟ فقال عليه السلام: إذا طلع الفجر وهو خارج، ولم يدخل أهله، فهو بالخيار إنْ شاء صام وإنْ شاء أفطر»(1).
فالمتحصّل من مجموع النصوص: أنّه إنْ طلع الفجر عليه وهو في خارج البلد، يكون مخيّراً بين أنْ يفطر ويبقى على إفطاره إلى الغروب، وإنْ دخل البلد قبل الزَّوال، وله أنْ يُمسك حتّى يدخل البلد، فإن دخل قبل الزَّوال صام لزوماً، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل لا خلافٍ فيه كما مرّ.
أقول: ثمّ إنّ المعروف بينهم: أنّه يستحبّ لمن دخل بعد الزَّوال، ولمن أفطر ودخل قبله، أنْ يُمسك بقيّة النهار، وتشهد به جملة من النصوص:
منها: موثّق سماعة: «عن مسافر دخل أهله قبل زوال الشمس، وقد أكل ؟ قال عليه السلام: لا ينبغي له أنْ يأكل يومه ذلك شيئاً، ولا يواقع في شهر رمضان إنْ كان له أهلٌ »(2).
ومنها: خبر الزُهري، عن عليّ بن الحسين عليه السلام، في حديثٍ : «وأمّا صوم التأديب - إلى أنْ قال - وكذلك المسافر إذا أكل أوّل النهار، ثمّ قدم أهله أُمر بالإمساك بقيّة يومه وليس بفرض»(3). ونحوهما غيرهما.
والنهي عن المواقعة في الموثّق محمولٌ على الرجحان، لمعتبر محمّدبن مسلم المتقدّم.1.
ص: 442
الفرع الرابع: اختلف الأصحاب في حكم المسافر في نهار رمضان على أقوال:
القول الأوّل: إنّه إن خرج إلى السفر قبل الزَّوال أفطر، وإنْ خرج بعده صام، كما عن الإسكافي(1)، والمفيد(2)، والكليني(3)، والصدوق في «الفقيه»(4)، و «المقنع»(5)، والمصنّف في أكثر كتبه(6)، وولده فخر المحقّقين(7)، والشهيدين في «اللّمعة»(8)، و «الروضة»(9)، وغيرهم من المتأخّرين(10).
القول الثاني: أنّه إنْ بيّتَ السفر من اللّيل، أفطر متى خرج، وإلّا صام كذلك، كما عن الشيخ في «النهاية»(11) و «المبسوط»(12) و «الاقتصاد»(13) و «الجُمل»(14)، والقاضي(15)،
ص: 443
وابن حمزة(1)، والمحقّق في «المعتبر»(2) و «النافع»(3) و «الشرائع».(4)
القول الثالث: أنّه لا يجب الإفطار مطلقاً، في أيّ جزءٍ من النهار، خرج وإنْ لم يبيت الخروج، كما عن والد الصدوق في «الرسالة»(5)، و العُمّاني(6)، والسيّد(7)، والحِلّي(8)، وابن زُهرة(9).
القول الرابع: أنّه إنْ بيَّت النيّة من اللّيل، وخرج قبل الزَّوال أفطر، وإلّا صام.
القول الخامس: التخيّير بين الصّوم والإفطار إنْ خرج بعد الزَّوال، وبيّت النيّة من اللّيل، وتحتّم الإفطار إنْ خرج قبل الزَّوال مع التبيّيت، وتحتّم الصّوم إنْ لم يبيت النيّة في أيّ جزءٍ من النهار خرج، وهو المحكيّ في التهذيبيّن(10).
القول السادس: التخيّير في تمام اليوم، نفى عنه البعد سيّد «المدارك»(11).
أقول: وهناك أقوالٌ أُخر لم أظفر بما يمكن أن يستدلّ به لها، فالإغماض عن بيانها أولى .
وأمّا النصوص: فهي على طوائف:0.
ص: 444
الطائفة الأُولى : ما تدلّ على التخيير مطلقاً، مثل صحيح رفاعة، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن الرّجل يريد السفر في رمضان ؟ قال: إذا أصبح في بلده ثمّ خرج، فإنْ شاء صام وإنْ شاء أفطر»(1).
الطائفة الثانية: ما تدلّ على تعيّن أن يصوم مطلقاً، كموثّق سماعة، قال:
«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: من أراد السفر في رمضان، فطلع الفجر، وهو في أهله، فعليه صيام ذلك اليوم»(2).
وفي موثّقه الآخر: «وإنْ خرج من أهله قبل طلوع الفجر فليفطر، ولا صيام عليه»(3). ونحوهما غيرهما.
الطائفة الثالثة: ما تدلّ على تحتّم الإفطار متى خرج؛ كخبر عبد الأعلى مولى آل سام: «في الرّجل يريد السفر في شهر رمضان ؟ قال: يفطر، وإنْ خرج قبل أن تغيب الشمس بقليل»(4). ونحوه مرسل «المقنع»(5).
الطائفة الرابعة: ما تدلّ على أنّ الميزان هو تبيّيت النيّة وعدمه، فعلى الأوّل يفطر، وعلى الثاني يصوم:
منها: موثّق عليّ بن يقطين، عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «في الرّجل يسافر في شهر رمضان، أيفطر في منزله ؟ قال عليه السلام: إذا حدَّث نفسه في اللّيل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله، وإنْلم يُحدِّث نفسه من اللّيلة، ثمّ بدا له في السفر من يومه أتمّ صومه»(6).
ومنها: مرسل صفوان المُجمع على تصحيح ما يصحّ عنه، عمّن رواه، عن أبي4.
ص: 445
بصير، قال عليه السلام: «إذا خرجتَ بعد طلوع الفجر، ولم تنو السفر من اللّيل، فأتمّ الصّوم واعتدّ به من شهر رمضان»(1).
ومنها: مصحّح رفاعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يعرض له السفر في شهر رمضان حين يصبح ؟ قال عليه السلام: يتمّ صوم يومه ذلك»(2). ونحوها غيرها.
الطائفة الخامسة: ما تدلّ على أنّ المدار على الخروج قبل الزَّوال وبعده:
منها: صحيح محمّدبن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا سافر الرّجل في شهر رمضان، فخرج بعد نصف النهار، فعليه صيام ذلك اليوم، ويعتدّ به من شهر رمضان»(3).
ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يخرج من بيته وهو يريد السفر وهو صائم ؟ قال عليه السلام: إنْ خرج من قبل أن ينتصف النهار فليفطر، وليقض ذلك اليوم، وإنْ خرج بعد الزَّوال فليتمّ صومه»(4).
ومنها: موثّق عبيد بن زرارة، عنه عليه السلام: «إذا خرج الرّجل في شهر رمضان بعد الزَّوال أتمّ الصيام، فإذا خرج قبل الزَّوال أفطر»(5). ونحوها غيرها.
أقو: وقد استدلّ للقول الأوّل بالطائفة الأخيرة، وللثاني بالرابعة، وللثالث بالثالثة، وللرابع بأنّه مقتضى الجمع بين الطائفتين الأخيرتين، بدعوى أنّ التعارض بينهما بالعموم والخصوص من وجه، فيقيّد عموم كلّ منهما بخصوص الأُخرى ، وللخامس بأنّه مقتضى الجمع بين الطائفة الأُولى والأخيرتين، وللسادس بالطائفة الأُولى .
وحقّ القول في المقام أن يقال: إنّ الطائفتين الأولتين لعدم القائل بهما تُطرحان،2.
ص: 446
أو تُحملان على غيرهما، والطائفة الثالثة ضعيفة سنداً، فيبقى من النصوص الطائفتان الأخيرتان، ومن الأقوال القولان الأولان، وكلٌّ من الطائفتين متضمّنة لشرطيّتين:
إحدى الأُولى منهما: إذا بيَّت النيّة أفطر.
وثانيتها: إذا لم يبيّت النيّة صام.
وإحدى الثانية: إذا خرج قبل الزَّوال أفطر.
وثانيتها: إذا خرج بعد الزَّوال صام.
والتعارض إنّما هو بين الأُولى من كلّ منهما مع الثانية من الأُخرى، والنسبة عموم من وجه، ويتعيّن الرجوع إلى أخبار الترجيح، والترجيح مع الثانية، لأصحيّة سند نصوصها، فإنّ في نصوص الأُولى ليس خبر صحيح سوى خبر رفاعة، وعن «المعتبر»(1) و «المنتهى»(2) أنّهما روياه (حتّى يصبح) بدل (حين يصبح).
وعليه، فهو ظاهرٌ في خلاف القول الثاني، مع أنّ الجملة الأُولى من الثانية موافقة للكتاب والسُنّة ومخالفة للعامّة، فتقدّم على معارضها، فيبقى التعارض بين الثانية منها والأُولى من الأُولى ، وحيث لا قائل بوجوب الإفطار بدون التبيّيت لو خرج بعد الزَّوال، مع القول بوجوب الإفطار لو خرج قبل الزَّوال، وإنْ بيَّت، فتُطرح هذه الجملة.
فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ القول الأوّل هو الأظهر.
***).
ص: 447
ولو استمرّ المرض إلى رمضان آخر سقط القضاء، وتصدّق عن الماضي لكلّ يومٍ بمُدّ.
المسألة الثالثة: (ولو استمرّ المرض) الموجب للإفطار (إلى رمضان آخر) (سقط) عنه (القضاء) عندالأكثر (وتصدّق عن الماضي لكلّ يومٍ بمُدّ)، بل نُسب إلى المشهور(1).
وعن ابن أبي عقيل(2)، وابن بابويه(3)، و «الخلاف»(4)، و «الغُنية»(5)، و «السرائر»(6)، والحلبي(7)، و «التحرير»(8): وجوب القضاء دون الكفّارة.
وعن الشيخ(9): دعوى الإجماع عليه.
وعن ابن الجُنيد(10): وجوبهما معاً.
وتشهد للأوّل: عددٌ من النصوص:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن السيّدين الصادقين عليهما السلام: «عن رجلٍ مرض
ص: 448
فلم يَصُم حتّى أدركه رمضانٌ آخر؟ فقال عليه السلام: إنْ كان برأ ثمّ توانى قبل أن يُدركه الرمضان الآخر صام الذي أدركه، وتصدّق عن كلّ يومٍ بمُدٍّ من طعام على مسكين، وعليه قضائه، وإنْ كان لم يزل مريضاً حتّى أدركه رمضان آخر، صام الذي أدركه، وتصدّق عن الأوّل لكلّ يومٍ مُدّ على مسكين، وليس عليه قضاؤه»(1).
ومنها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «في الرّجل يمرض فيدركه شهر رمضان، ويخرج عنه وهو مريض، ولا يصحّ حتّى يُدركه شهر رمضان آخر؟ قال عليه السلام: يتصدّق عن الأوّل، ويصوم للثاني، فإنْ كان صحَّ فيما بينهما ولم يَصُم حتّى أدركه شهر رمضان آخر، صامهما جميعاً، ويتصدّق عن الأوّل»(2). ونحوهماغيرهما.
ونفى صاحب «الجواهر»(3) البُعد عن دعوى تواترها، وبها يقيّد إطلاق الآية الكريمة، والنصوص الدالّة على وجوب القضاء على المريض.
أقول: وبإزائها خبران:
أحدهما: خبر الكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ عليه من شهر رمضان طائفة، ثمّ أدركه شهر رمضان قابل ؟ قال عليه السلام: عليه أنْ يصوم، وأنْ يُطعم كلّ يومٍ مسكيناً، فإنْ كان مريضاً فيما بين ذلك حتّى أدركه شهر رمضان قابل، فليس عليه إلّا الصيام إنْ صحَّ ، وإنْ تتابع المرض عليه فلم يصحّ ، فعليه أن يُطعم لكلّيومٍ مسكيناً»(4).
وهذا بضميمة إطلاق الآية، والنصوص، وأصالة البراءة عن وجوب الكفّارة مدرك القول الثاني.3.
ص: 449
ثانيهما: موثّق سماعة: «عن رجلٍ أدركه رمضان وعليه رمضان قبل ذلك لم يصمه ؟ فقال: يتصدّق بدَل كلّ يومٍ من الرمضان الذي كان عليه بمُدٍّ من الطعام، وليصُم هذا الذي أدركه، فإذا أفطر فليصُم رمضان الذي كان عليه، فإنّي كنتُ مريضاً فمرَّ عَليَّ ثلاث رمضانات لم أصحّ فيهنّ ، ثمّ أدركتُ رمضاناً آخر فتصدّقت بدل كلّ يومٍ ممّا مضى بمُدٍّ من الطعام، ثمّ عافاني اللّه فصمتُهنّ »(1). وهذا هو مدرك القول الأخير.
أمّا خبر الكناني، فيرد عليه أوّلاً: أنّه ضعيفٌ لمحمّد بن فضيل.
وثانياً: أنّه مجملٌ ، لأنّ قوله: (فإنْ كان مريضاً... إلخ) وإنْ كان ظاهراً في القول المذكور، إلّاأنّ قوله عليه السلام بعده: (وإنْ تتابع المرض عليه... إلخ) ظاهرٌ في القول الأوّل، ولذا حُمل الأوّل على ما إذا صحَّ بينهما، وأراد القضاء ثمّ مرض، والثاني على استمرار المرض، وعليه فالخبر دليلُ القول المشهور، ولا أقلّ من الإجمال.
وثالثاً: أنّه لو سُلّم تماميّة سنده ودلالته، لايصلح لمعارضة ماتقدّم، لكونه أشهر.
وأمّا الآية والنصوص: فقد عرفت أنّه تقيّد إطلاقها بما ذكر.
وأمّا أصل البراءة: فلا مورد له مع الدليل.
وأمّا مُضمر سماعة: فصدره غيرُ ظاهرٍ في استمرار المرض، وذيله غير ظاهر في الوجوب، لتضمّنه فعله عليه السلام الذي هو أعمّ من الاستحباب.
فالمتحصّل: أنّ ما أفاده المشهور أظهر.
أقول: ثمّ إنّ المصرّح به في النصوص المتقدّمة، أنّه يتصدّق بمُدٍّ من طعام، لكن ورد في بعض النسخ المنقول فيها ما عن بعض نسخ موثّق سماعة (من المُدّين)، وهو1.
ص: 450
معارضٌ بما عن النسخ الصحيحة، من أنّه مُدٌّ من طعام، واستظهر صاحب «الجواهر»(1) أنّه اشتباه من قلم النسّاخ في لفظة (من) كما يشهد له الرسم في طعام، يعني حيث رسم بالجرّ، ولو كان المُدّ مثنّى لرسم بالنَّصب على التميّيز.
وأمّا ما ورد في ذي العطاش من لزوم المُدّين، فلا يتعدّى عنه إلى المقام.
فما عن «النهاية»(2)، و «الاقتصاد»(3)، والحلبيّين(4): من تعيّن المُدّين ضعيف.
أقول: وتمام البحث في هذه المسألة يتحقّق ببيان فروع:
الفرع الأوّل: الظاهر عدم الفرق في الحكم المذكور بين استمرار ذلك المرض، أو الانتقال منه إلى مرضٍ آخر، كما يستفاد من الأخبار.
وهل يُلحق بالإفطار أداءً وقضاءً للمرض الإفطار فيهما لعذرٍ آخر كالسفر أم لا؟ قولان:
قد استدلّ للأوّل: بمصحّح الفضل بن شاذان، عن الإمام الرضا عليه السلام، في حديثٍ ، قال: «فَلِمَ إذا مرض الرّجُل أو سافر في شهر رمضان، فلم يخرج من سفره أو لم يقوَ من مرضه حتّى يدخل عليه شهر رمضانٍ آخر، وجب عليه الفداء للأوّل، وسقط القضاء، وإذا أفاق بينهما أو أقام ولم يقضه وجب عليه القضاء والفداء؟...»(5).
ص: 451
ولكن يرد عليه أوّلاً: أنّ الأصحاب لم يعملوا به.
وثانياً: أنّه لا يدلّ على ذلك، فإنّ سقوط القضاء عن المسافر مذكورٌ في السؤال، وفي مقام الجواب اقتصر عليه السلام على بيان سقوط وجوب القضاء على المريض الذي لم يقو من مرضه، وهو يصلحُ رادعاً عمّا تخيّله السائل، مع أنّه لو سُلّم دلالته على ذلك، حيث إنّه ليس في مقام البيان من هذه الجهة، فيقتصر على المتيقّن وهو السفر الضروري.
أقول: ولو كان سبب الفوت هو السّفر، وكان العذرُ في التأخير هو المرض، بأن مَرض من حين ما رجع من السفر، واستمرّ مرضه إلى الرمضان الثاني:
فعن العُمّاني(1)، والشيخ في «الخلاف»(2)، وصاحب «الحدائق»(3)، وسيّد «المدارك»(4) والفاضل النراقي(5)، وغيرهم(6): سقوط القضاء وثبوت الفدية.
وعن «المعتبر»(7) و «المنتهى»(8): التوقّف.
يشهد لسقوط القضاء: صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«مَن أفطر شيئاً من رمضان في عُذرٍ، ثمّ أدركه رمضانٌ آخر وهو مريض، فليتصدّق بمُدٍّ لكلّ يوم، فأمّا أنا فإنّي صُمتُ وتصدّقت»(9).2.
ص: 452
وأورد عليه تارةً : بما عن «المختلف»(1) وفي «رسالة» الشيخ الأعظم(2) من أنّ المراد بالعُذر المرض، بقرينة قوله: (ثمّ أدركه... إلى آخره).
وأُخرى : بما في «رسالة» الشيخ رحمه الله(3) من أنّه لو لم يتمّ الظهور المذكور، حيث إنّ الكلام مقترنٌ بما يصلح أن يكون قرينةً صارفة عن معناه الحقيقي، فلا يدلّ على المطلوب، لصيرورته مجملاً بذلك.
وثالثةً : بما عن «المختلف»(4) من عدم صلاحيّته لتقييد أدلّة القضاء.
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّاالأوّل: فلأنّ القرينة فرعُ التنافي، وإطلاق العذر الشامل للسفر والمرض، يلائمُ مع مابعده، فكيف يكونُ قرينةً على التصرّف فيه ؟! وبذلك يظهر الجواب عن الثاني.
وأمّا الثالث: فلأنّه أخصّ من أدلّة القضاء، وظهور المقيّد على ظهور المطلق، فالأظهر سقوط القضاء في الفرض وثبوت الفدية.
نعم، يستحبّ القضاء لما في ذيل الصحيح.
ولو انعكس الفرض، بأن فاته الرمضان للمرض، وكان العُذر في التأخير غيره مستمرّاً من حين برئه إلى رمضان آخر، فمقتضى إطلاق أدلّة القضاء وجوبه، إلّاأنّ الفاضل النراقي رحمه الله(5) ادّعى الإجماع على عدم الفرق بين الفرضين، فإنْ تَمّ لحقه حكمه وإلّا فلا.).
ص: 453
الفرع الثاني: لو ارتفع العُذر بين الرمضانين بقدرٍ يتمكّن من قضاء بعض ما فاته دون بعض، وقضى ما يمكن أو لم يقض، فهل يسقط قضاء ما لم يتمكّن منه أو لا؟ وجهان:
من عدم استمرار العُذر، فلا تشمله أخبار الباب، ويكون باقياً تحت ما دلّ على وجوب القضاء.
ومن عدم تمكّنه من القضاء.
والأظهر هو الأوّل، لإطلاق صحيح ابن سنان، فإنّ عدم تمكّنه من القضاء عذرٌ.
الفرع الثالث: صرّح الشهيدان(1) بأنّ محلّ هذه الفدية مستحقّ الزكاة، وحيثُ إنّه صرّح في النصوص بأنّ محلّها المسكين، فيتعيّن صرف كلامهما إلى إرادة أنّها لا تُصرف في غير المستحقّ من مصارف الزّكاة من سُبُل الخير، لا أنّها تُصرف في كلّ من هو مستحقٌّ للزكاة، حتّى المؤلّفة قلوبهم مثلاً.
وهل تُعطى فدية غير الهاشمي إلى الهاشمي أم لا؟
وجهان مبنيّان على جواز إعطاء صدقة غير الهاشمي إلى الهاشمي، وقد مرّ في كتاب الزكاة(2)، وعرفت أنّ الأظهر حلّية الصدقات الواجبة على غير الهاشمي للهاشمي.
***0.
ص: 454
لو برأ بينهما، وكان عازماً على الصّوم، قضاه ولا كفّارة، وإنْ تهاون قضى وكفّر عن كلّ يومٍ بمُدٍّ.
المسألة الرابعة: (لو برأ بينهما) وتمكّن من القضاء:
فإنْ قضى فلا شيء عليه.
(و) إنْ لم يقض:
فتارةً : يكون عازماً على الصّوم بعد ارتفاع العُذر، فاتّفق العذر عند الضيق.
وأُخرى : يكون متعمّداً في الترك وعازماً عليه، أو متسامحاً، واتّفق العذر عند الضيق.
فإنْ (كان عازماً على الصّوم)، ولم يصُم (قضاه ولا كفّارة).
(وإنْ تهاون قضى وكفّر عن كلّ يومٍ بمُدّ) إجماعاً(1) في غير نفي الكفّارة عمّن عزم عليه، وعلى المشهور فيه(2).
وعن الصدوقين(3)، والعُمّاني(4) والمحقّق في «المعتبر»(5)، والشهيدين(6)، وسيّد
ص: 455
«المدارك»(1)، وصاحب «الذخيرة»(2)، والمحدِّث البحراني(3)، والشيخ الأعظم(4)، وجمعٌ آخر من متأخّري المتأخّرين(5): ثبوت الكفّارة أيضاًفي صورة العزم على القضاء.
أقول: أمّا وجوب القضاء في الصورتين، والكفّارة في الصورة الثانية، فالنصوص الكثيرة التي ستمرّ عليك شاهدة بهما، ولا معارض لها ولا مخالف.
وأمّا نفي الكفّارة في الصورة الأُولى ، فقد استدلّ له بنصوصٍ :
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام قال:
«سألتهما عن رجلٍ مرض فلم يَصُم حتّى أدركه رمضانٌ آخر؟ فقالا عليهما السلام: إنْ كان برئ ثمّ توانى قبل أنْ يُدركه الرمضان الآخر، صام الذي أدركه، وتصدّق عن كلّ يومٍ بمُدّ من طعام على مسكين، وعليه قضائه، وإنْ كان لم يزل مريضاً حتّى أدركه رمضان آخر، صام الذي أدركه، وتصدّق عن الأوّل لكلّ يومٍ مُدّ على مسكين وليس عليه قضائه»(6).
وتقريب الاستدلال: أنّه بمفهوم الشرط يدلّ على عدم لزوم الكفّارة على من لم يتوان، ومعلوم أنّ التواني لا يصدق مع العزم على القضاء، وبه يقيّد إطلاق ما يدلّ على لزوم الكفّارة مطلقاً، كصحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، في حديثٍ : «فإنْ كان صحَّ فيما بينهما، ولم يَصُم حتّى أدركه شهر رمضان آخر، صامهما جميعاً، ويتصدّق1.
ص: 456
عن الأوّل»(1)، ونحوه غيره.
وفيه أوّلاً: أنّ التواني يصدق على تأخير القضاء مع وجوبه، وإنْ كان عازماً على الفعل، لأنّ التواني في اللّغة التمهّل في الشيء وعدم التعجيل فيه، ومعلومٌ أنّ هذا يصدق على تأخير الصّوم لغير عُذر، مع أنّه في التأخير آفات، ويعضده مقابلته بقوله عليه السلام: (وإنْ كان لم يَزَل مريضاً... إلى آخره)، وعدم التعرّض للقسم الثاني المقابل للتواني بالمعنى المذكور من قسمي الصحّة بين الرمضانين، مع كونه الغالب، وكثرة التفصيل في النصوص المذكورة في الباب وعدم السؤال عنه.
وثانياً: أنّه لو سُلّم عدم صدق التواني عليه، ففي الخبر شرطيّتان، وظاهر الكلام كون الثانية وهي قوله عليه السلام: (وإنْ كان لم يزَل مريضاً) مفهوم الأُولى ، فلا مفهوم لها غيرها كي يقيّد به إطلاق نصوص الكفّارة، ولا أقلّ من الإجمال لصلاحيّتها لذلك.
ومنها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا مرض الرّجل من رمضانٍ إلى رمضان، ثمّ صَحَّ ، فإنّما عليه لكلّ يومٍ أفطر فدية طعام وهو مُدّ لكلّ مسكين، قال:
وكذلك أيضاً في كفّارة اليمين، وكفّارة الظهار مُدّاً مُدّاً، وإنْ صحَّ فيما بين الرمضانين، فإنّما عليه أن يقضي الصيام، فإنْ تهاون به وقد صحَّ ، فعليه الصدقة والصيام جميعاً لكلّ يومٍ مُدّاً إذا فرغ من ذلك الرمضان»(2).
وتقريب الاستدلال به من وجهين:
إحداهما: ما في سابقه، وجوابه ما تقدّم.0.
ص: 457
ثانيهما: ما عن المحدِّث الكاشاني(1) من أنّ الخبر متضمّنٌ لبيان أحكام الأقسام الثلاثة، لأنّ قوله عليه السلام: (فإنْ صحَّ بين الرمضانين.. إلى آخره) معناه إنْ صحَّ بين الرمضانين، فلم يقض في أيّام صحّته، مع عدم تهاونه فيه، فعليه القضاء خاصّة، وقوله عليه السلام: (فإنْ تهاون... إلى آخره) لبيان حكم الترك مع التهاون، وهو ثبوت القضاء والكفّارة، وصدره متضمّنٌ لبيان حكم استمرار المرض.
وفيه: أنّ الشرطيّة الأولى في مقام بيان حكم من صحَّ بعد الرمضان الأوّل، وأنّه يجب عليه القضاء خاصّة، والشرطيّة الثانية في مقام بيان حكمه بعد الرمضان الثاني، وأنّه لو ترك الصّوم بينهما وجب عليه الصّوم والكفّارة بعد الرمضان الثاني، ويشهد بذلك - مضافاً إلى ظهوره - الضمير المجرور بالباء في قوله: (تهاون به) إذ لا ريب في رجوعه إلى القضاء، فلابدّ وأن يكون المراد ب (القضاء) القضاء بعد الرمضان الأوّل لا الثاني، كما لا يخفى .
أقول: وبما ذكرناه ظهر الجواب عمّا أفاده من أنّ خبر الكناني المتقدّم أيضاً متعرّضٌ لبيان أحكام الأقسام الثلاثة، بدعوى أنّ صدره متعرّضٌ لحكم التهاون، وقوله: (فإنْ كان مريضاً فيما بين.. إلى آخره) متعرّضٌ لحكم عدم التهاون، وقوله عليه السلام:
(وإن تتابع... إلى آخره) متعرّضٌ لحكم استمرار المرض، وقد مرّ حال الخبر.
ومنها: المرويّ عن «تفسير العيّاشي»، عن أبي بصير، قال عليه السلام فيه:
«فإن صحَّ فيما بين الرمضانين، فتوانى أن يقضيه حتّى جاء الرمضان الآخر، فإنّ عليه الصّوم والصدقة جميعاً، يقضي الصّوم ويتصدّق، من أجل أنّه ضيّع3.
ص: 458
ذلك الصيام»(1).
وتقريب الاستدلال: أنّه يدلّ بمفهوم الشرط ومفهوم التعليل على عدم وجوب التصدّق على من لم يضيّع، ومعلومٌ أنّ من كان عازماً على الصّوم فاتّفق العذر لا يعدّ مضيّعاً.
وفيه: أنّ التضييع صادقٌ على التأخير، من جهة أنّه في التأخير آفات، وعدم الاعتداد بالسلامة عن الأعذار، سيّما مع القرينة المتقدّمة في الصحيح، وقد أطلق التضيّيع في تعليل وجوب القضاء على الحائض للصلاة التي دخل وقتها ولم يصلّها فاتّفق الدّم.
ومنها: صحيح الفضل بن شاذان، عن الإمام الرضا عليه السلام، في حديثٍطويلٍ قال عليه السلام:
«فإنْ أفاقَ فيما بينهما، ولم يصُمه، وجبَ عليه الفداء لتضيّيعه، والصّوم لإستطاعته»(2).
وتقريب الاستدلال به، والجواب عنه بمثل ما قيل في سابقه.
فتحصّل: أنّه لا دليل على نفي الكفّارة عمّن كان عازماً على الصّوم وأخّر، بل مقتضى إطلاق النصوص ثبوت الكفّارة عليه أيضاً.
وأمّا مرسل سعد بن سعد، عن رجلٍ ، عن أبي الحسن عليه السلام:
«عن رجلٍ يكون مريضاً في شهر رمضان، ثمّ يصحّ بعد ذلك، فيؤخّر القضاء سنةً أو أقلّ من ذلك أو أكثر ما عليه في ذلك ؟ قال عليه السلام: أحبُّ له تعجيل الصيام، فإنْ كان أخّره فليس عليه شيء»(3).3.
ص: 459
فلإرساله، ولإعراض الأصحاب عنه من جهة ظهوره في عدم ثبوت الكفّارة مع التهاون لابدّ من طرحه، والاستدلال لعدم وجوبها عليه، بأنّ الكفّارة لستر الذنب غالباً، فلا تجب مع عدمه قد مرّ جوابه من أنّ هذه الفدية لغير ذلك، والشاهد عليه وجوبها على من استمرّ مرضه، فضلاً عن أنّه اجتهادٌ في مقابل النَّص، وأوهن من ذلك الاستدلال به بأصالة البراءة.
فالمتحصّل: وجوب الكفّارة مطلقاً.
***
ص: 460
وحُكمُ ما زاد على رمضانين حكمُ رمضانين.
المسألة الخامسة: قد صرّح الشيخ(1)(و) غيره(2) بأنّ (حكم ما زاد على رمضانين حكم رمضانين) فيما تقدّم.
وعن ظاهر ابن بابويه(3)، والصّدوق(4): أنّ الرمضان الثاني يُقضى بعد الثالث وإنْ استمرّ المرض.
وعن «المختلف»(5): احتمال أن يكون مرادهما ما إذا صحَّ بعد الرمضان الثاني.
وعن الحِلّي(6): الجزم بذلك.
وعن «المبسوط»(7)، و «التذكرة»(8): أنّه إذا أخّر قضاء السنة الأُولى إلى سنين عديدة، تتكرّر الكفّارة.
أقول: يقع الكلام في مقامين:
المقام الأوّل: ما إذا استمرّ المرض إلى سنين، فالمشهور بين الأصحاب(9) أنّه إنْ
ص: 461
لم يبرأ بعد كلّ رمضانٍ إلى رمضان لاحقه، لا يجبُ قضاؤه، بل تجب الكفّارة خاصّة.
ويشهد به: - مضافاً إلى إطلاق الأدلّة:
1 - خصوص موثّق سماعة:
«عن رجلٍ أدركه رمضان وعليه رمضان قبل ذلك لم يصُمه ؟ فقال عليه السلام: يتصدّق بدل كلّ يومٍ من الرمضان الذي كان عليه بمُدٍّ من طعام، وليصُم الذي أدركه، فإذا أفطر فليصُم رمضان الذي كان عليه، فإنّي كنتُ مريضاً فمَرَّ عَليَّ ثلاث رمضانات لم أصحّ فيهنّ ، ثمّ أدركت رمضاناً آخر فتصدّقت بدل كلّ يوم ممّا مضى بمُدٍّ من طعام، ثمّ عافاني اللّه وصُمتهنّ »(1).
المحمول ما في ذيله على الاستحباب كما مرّ.
2 - وصدر المرويّ عن «تفسير العيّاشي» المتقدّم: «يتصدّق مكان كلّ يومٍ أفطر على مسكين بمُدٍّ من طعام - إلى أنْ قال - فإنْ استطاع أنْ يصوم الرمضان الذي يستقبل، وإلّا فليتربّص إلى رمضان قابل فيقضيه، فإنْ لم يصحّ حتّى رمضانٍ قابل، فليتصدّق كما تصدّق مكان كل يوم أفطر مُدّاً مُدّاً»(2).
وأمّا ما عن الصدوقين(3) فعلى فرض مخالفتهما للأصحاب، فلا دليل عليه سوى ما عن الفقه المنسوب(4) إلى مولانا الرِّضا عليه السلام، فإنّ عبارته كعبارة والد الصدوق رحمه الله، ولكن مضافاً إلى ما مرّ من عدم حجيّته، أنّه قابلٌ للحمل على ما أفاده المشهور كعبارة الصدوقين، وعليه فالأظهر ما هو المشهور.7.
ص: 462
المقام الثاني: المعروف بين الأصحاب أنّ كلّ صوم أخّر إلى رمضان بعده كفّر، ولكن لا تتكرّر الكفّارة بالتأخير إلى الثالث وما زاد، والوجه فيه اختصاص دليل الكفّارة بالسنة الأُولى ، بل مقتضى إطلاق أدلّتها ذلك.
وأمّا ما عن العَلَمين، فالاعتراف بعدم العثور على دليلهما، أليق بشأنهما من أن يقال إنّهما قاسا السنة الثانية بالأُولى .
***
ص: 463
ويجبُ الإفطار على المريض والمسافر، فلو صاما لم يُجزهما.
المسألة السادسة: (ويجبُ الإفطار على المريض والمسافر، فلو صاما لم يُجزهما) إلّافي المواضع المستثناة إجماعاً، وقد مرّ الكلام في ذلك في مبحث شرائط وجوب الصّوم وصحّته(1)، وقد مرّ بعض المواضع المُستثناة، وبقى مواضع اُخرى :
منها: صوم المسافر الجاهل بالحكم، فإنّه لا إشكال ولا كلام في صحّة صومه، ونسب صحّته في «المستند»(2) إلى الإجماعين.
وتشهد به: نصوصٌ كثيرة:
1 - صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ صام في السفر؟ فقال عليه السلام:
إنْ كان بلَغه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن ذلك فعليه القضاء، وإنْ لم يكن بلَغه فلا شيء عليه»(3).
2 - وصحيح البجلي، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ صام شهر رمضان في السفر؟ فقال عليه السلام: إنْ كان لم يبلغه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن ذلك، فليس عليه القضاء، وقد أجزأ عنه»(4).
3 - وصحيح العيص بن القاسم، عنه عليه السلام: «من صام في السفر بجهالةٍ لم
ص: 464
يقضه»(1). ونحوها غيرها.
أقول: وهل الحكم مختصٌّ بما إذا جهل أصل الحكم ؟
أم يعمّ ما إذا علمه وجهل بعض الخصوصيّات، كما إذا ظنّ أنّ السفر الذي يعصى فيه يوجب الإتمام ؟
وجهان، أظهرهما الثاني، كما هو المنسوب إلى إطلاق الأصحاب لإطلاق صحيح العيص.
فإنْ قيل: إنّ الصحيحين الأولين يقتضيان وجوب القضاء على العالم بأصل الحكم مطلقاً، وإنْ جهل الخصوصيّات.
قلنا: إنّه يتمّ لو جعل المشار إليه الصّوم في السفر، وأمّا لو جعل المشار إليه صومه الذي صامه، فلا يتمّ كما لا يخفى ، مع أنّ النسبة بينهما عمومٌ من وجه، والترجيح وهو الشهرة لصحيح العيص.
وهل يلحق الناسي بالجاهل للاشتراك في العلّة وهو العذر، أم لا؟
وجهان، أظهرهما الثاني لإطلاق النصوص.
ودعوى: انصرافها إلى العامد ممنوعة، والعلّة في الحكم بالصحّة النَّص لا العذر، فلا اشتراك في العلّة، وبه يظهر عدم إلحاق المريض به.
ثم إنّه إذا علم في الأثناء أفطر وقضى، لاختصاص النَّص بالجاهل حال الصّوم بتمامه، كما لا يخفى .
***2.
ص: 465
وشرائطُ قَصر الصّوم شرائط قَصر الصَّلاة.
(و) المسألة السابعة: (شرائط قَصر الصّوم شرائط قَصر الصَّلاة) إجماعاً(1).
ويشهد به: صحيح معاوية بن وهب، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ : «هذا واحد إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت»(2).
وخبر سماعة: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: وليس يفترق التقصير والإفطار، فمَن قصّر فليفطر»(3). ونحوهما غيرهما.
وقد مرّ تنقيح القول في ذلك في الأجزاء السابقة من هذا الشرح، وقد مرّ هناك بيان السفر وقيوده.
أقول: ثمّ إنّه قد استُثني من هذه الكبرى الكليّة موارد:
المورد الأوّل: ما عن الشيخ في «النهاية»(4) و «المبسوط»(5)، وابن حمزة(6) من أنّه إذا كانت المسافة أربعة فراسخ، ولم يرد الرجوع ليومه، يتحتّم عليه الصّوم،
ص: 466
ويتخيّر في الصَّلاة بين القصر والإتمام، إذا أراد الرجوع من الغد، كما عن ابن حمزة(1)، أو مطلقاً كما عن الشيخ رحمه الله(2)، ولعلّه من جهة عدم صدق السفر عليه شرعاً، وإنّما يتخيّر فيه في الصَّلاة للدليل الخاص.
ولكن قد عرفت في كتاب الصَّلاة(3) أنّ المتّجه لزوم القصر فيه، وصدق السفر عليه، فكذلك يجب عليه الإفطار للآية الكريمة والنصوص الكثيرة المعلّقة لوجوب الإفطار على السفر.
المورد الثاني: ما عن الشيخ(4) وابني البرّاج(5) وحمزة(6)، من أنّه إذا أقام كثير السفر في بلدٍ خمسة أيّام، يقصر في صلاة النهار، ويصوم ويُصلّي اللّيل بغير التقصير.
واستدلّ له: بصحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «المكاري إذا لم يستقر في منزله إلّاخمسة أيّام، أو أقلّ ، قصّر في سفره بالنهار، وأتمّ صلاة اللّيل، وعليه صيام شهر رمضان، فإنْ كان له مقامٌ في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيّام أو أكثر، وينصرف إلى منزله، ويكون له مقام عشرة أيّام أو أكثر في سفره أفطر»(7).
هكذا في الصحيح، وكذا في غيره، لكن بدون قوله: (وينصرف) إليقوله (قصّر).
وفيه: هذا الخبر مضافاً إلى عدم عمل الأصحاب به، وإفتائهم بوجوب التمام في صلاة النهار أيضاً في الفرض، لم يعمل به حتّى الشيخ ومن تبعه، فإنّه متضمّنٌ لثبوت7.
ص: 467
الحكم في الأقلّ من الخمسة، الصادق على نحو الثلاثة، ولم يقلّ هؤلاء به، هذا فضلاً عن أنّه متضمّنٌ في طريقه الصحيح لاعتبار إقامة العشرة في المنزل والمكان الذي يذهب إليه معاً، الظاهر في عدم الاكتفاء بها في أحدهما، وتمام الكلام في كتاب الصَّلاة.
المورد الثالث: ما عن جماعة(1) من أنّ المسافر إنْ خرج للصيد، وكان للتجارة يقصّر صومه ويتمّ صلاته، وصرّح صاحب «الرياض»(2) بأنّ القائل به أكثر القدماء، ومنهم الحِلّي(3) مدّعياً كونه إجماعاً.
واستدلّ له: بالإجماع المنقول، والشهرة المحققة، وبالمرسل المروي عن الحِلّي(4)والشيخ(5) قالا: (ووردت رواية بذلك)، وبالفقه الرضوي.
ولكن الإجماع المنقول ليس بحجّة، وكذا الشهرة، مضافاً إلى معارضتها بالشهرة بين المتأخّرين(6)، بل عن «التذكرة»(7) ادّعاء الشهرة المطلقة على أنّه يقصّر الصَّلاة فيه.
والمرسل غير حجّة، سيّما ولم ينقل متنه، ولعلّه غير دالّ على ذلك.3.
ص: 468
والفقه الرضوي قد مرَّ أنّه لم يثبت لنا كونه كتاب رواية، فضلاً عن الاعتبار.
وبالجملة: فالأظهر أنّه يقصّر صلاته أيضاً. وتمام الكلام في محلّه.
المورد الرابع: لا إشكال في أنّ المصلّي بالخيار بين القصر والإتمام في الأماكن الأربعة، بل الإتمام أفضل، كما أنّه لا إشكال في عدم جواز الصّوم فيها، وقد ذكر ذلك من المواضع المستثناة.
وعن «المسالك»(1): (أنّه يمكن تكلّف الغناء عن استثنائها من الكليّة المذكورة، بالتزام كون القصر فيها واجباً تخييريّاً بينه وبين التمام، لأنّ الواجب وهو الصَّلاة لا تتأدّى إلّابأحدهما، فيكون واحدٌ منهما موصوفاً بالوجوب كالجهر والإخفات في بسملة القراءة الواجبة الإخفاتيّة، وحينئذٍ تنطبق على الكليّة المزبورة) انتهى .
المورد الخامس: المسافر بعد الزَّوال، أو الداخل بلده بعد الزَّوال، فإنّ الأوّل يقصّر صلاته ولا يقطع صومه، والثاني بالعكس، وقد مرّ الكلام فيهما مفصّلاً.
***3.
ص: 469
والشَّيخ والشَّيخة مع عجزهما يتصدّقان عن كلّ يومٍ بمُدٍّ.
الفصل الثاني: فيمن وردت الرخصة في إفطاره شهر رمضان.
والكلام فيه في مسائل:
المسألة الأُولى : (والشيخ والشيخة مع عجزهما يتصدّقان عن كلّ يومٍ بمُدّ) بلا خلافٍ فيه في الجملة، بل الإجماع بقسميه عليه كما في «الجواهر»(1).
أقول: وتشهد به نصوص كثيرة:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «الشيخ الكبير، والذي به العطاش، لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان، ويتصدّق كلّ واحدٍ منهما في كلّ يومٍ بمُدّ من طعام، ولا قضاء عليهما، وإنْ لم يقدرا فلا شيء عليهما»(2).
ومنها: صحيحه الآخر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثله إلّاأنّه قال: «ويتصدّق كلّ واحدٍ منهما في كلّ يومٍ بمُدّين من طعام»(3).
ومنها: صحيح ابن سنان: «عن رجلٍ كبير يضعف عن شهر رمضان ؟ قال عليه السلام:
يتصدّق كلّ يومٍ بما يجزئ من طعام مسكين»(4).
ومنها: مرسل ابن بُكير، عن بعض أصحابنا، عنه عليه السلام: «في قول اللّه عزّ وجلّ :
ص: 470
(وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) (1) ؟ قال عليه السلام: الذين كانوا يطيقون الصّوم وأصابهم كِبر أو عطاش أو شبه ذلك، فعليهم لكلّ يومٍ مُدّ»(2).
ومنها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ كبيرٍ يضعف عن صوم شهر رمضان ؟ فقال عليه السلام: يتصدّق بما يُجزئ عنه طعام مسكين لكلّ يومٍ »(3).
ومنها: خبر الكرخي: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجلٌ شيخٌ لا يستطيع القيام إلى الخلا لضعفه - إلى أنْ قال: - قلت: فالصيام ؟ قال عليه السلام: إذا كان في ذلك الحَدّ، فقد وضع اللّه عنه، فإنْ كانت له مقدرة فصدقةٌ مُدّ من طعام بدل كلّ يوم أحبَّ إليّ ، وإنْ لم يكن له يسارُ ذلك، فلا شيء عليه»(4).
ومنها: خبر أبي بصير: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: أيّما رجلٍ كان كبيراً لا يستطيع الصيام، أو مَرِض من رمضان إلى رمضان ثمّ صحَّ ، فإنّما عليه لكلّ يومٍ أفطر فيه فديةٌ طعامٌ وهو مُدّ لكلّ مسكين»(5).
إلى غير ذلك من النصوص.
أقول: ونخبة القول في المقام بالبحث في أُمور:
الأمر الأوّل: إنّ الموضوع في النصوص هو الشيخ الكبير والرّجل الكبير، فما في الفتاوى من جعل الموضوع الشيخ والشيخة غير تامّ ، فإنّ (الشيخ) يُقال لمَن بلَغ أربعين سنة، كما صرّح بذلك اللّغويون(6)، وأمّا الشيخ الكبير:4.
ص: 471
فتارةً : يتعذّر عليه الصّوم.
وأُخرى : يكون الصّوم عليه حَرَجيّاً وذا مشقّة.
وثالثة: لا يكون متعذّراً ولا حَرَجيّاً.
لا إشكال في سقوط الصّوم عن الأولين:
أمّا في الأوّل: فلحكم العقل وأدلّة نفي الاضطرار، ونصوص الباب.
وأمّا في الثاني: فلأدلّة نفي العُسر والحَرَج، والنصوص الخاصّة.
وأمّا الثالث: فمقتضى إطلاق صحيحي محمّد بن مسلم سقوط وجوب الصّوم عنه، إلّاأنّه يقيّد إطلاقها بالإجماع، ومناسبة الحكم والموضوع، وسائر النصوص بما إذا تعذّر عليه الصّوم أو كان حَرَجيّاً.
الأمر الثاني: هل سقوط وجوب الصّوم يكون على نحو العزيمة أو الرخصة، فإنّ محلّ الكلام ما إذا كان الصّوم حَرَجيّاً، وأمّا مع التعذّر فلا مورد لهذا البحث، مقتضى أدلّة نفي العُسر والحَرَج كونه على نحو العزيمة، بناءً على ما هو الحقّ من أنّها حاكمة على جميع أدلّة الأحكام، وتوجب رفع الحكم رأساً، ولكن ظاهر صحيحي محمّد بن مسلم هو الثاني، ولا يعارضها خبر الكرخي، بدعوى أنّ لفظ (الوضع) يقتضي ذلك، فإنّ مورده بحسب الظاهر صورة التعذّر، وعليه فما أفاده صاحب «الحدائق»(1) وظاهر السيّد الطباطبائي(2) وغيرهما(3) من كونه على وجه الرخصة هو الصحيح.3.
ص: 472
الأمر الثالث: لا خلاف(1) بينهم في وجوب الكفّارة على من كان الصّوم عليه حَرَجيّاً وذا مشقّة، إنّما البحث عن أنّه:
1 - هل تجبُ على من تعذّر عليه الصّوم، وكان غيرقادرٍ عليه كماهو المشهور(2).
2 - أم لا تجب كما عن المفيد(3)، والسيّد(4)، وسلّار(5)، وابني زُهرة(6) وإدريس(7)، والمصنّف في بعض كتبه(8)، والشهيدين(9)، والمحقّق الثاني(10)، بل عن «المنتهى»(11)نسبته إلى الأكثر، وعن «الانتصار»(12) دعوى قيام الإجماع عليه.
قد استدلّ للأوّل: بإطلاق الأخبار المتقدّمة، وخبر أبي بصير المتقدّم، وبخبره الآخر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«قلت له: الشيخ الكبير لا يقدرُ أن يصوم ؟ فقال عليه السلام: يصوم عنه بعض ولده.
قلت: فإن لم يكن له ولد؟ قال عليه السلام: فأدنى قرابته. قلت: فإن لم يكن له قرابة ؟ قال عليه السلام:
يتصدّق بمُدّ لكلّ يوم»(13).6.
ص: 473
واستدلّ للثاني بوجوه:
منها: الأصل.
وفيه: أنّه لا يرجع إليه مع الدليل.
ومنها: تبادر صورة المشقّة من النصوص، سيّما من خبر الهاشمي عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة التي تضعف عن الصّوم في شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: تصدّق في كلّ يوم بمُدٍّ من حنطة»(1).
وصحيح ابن سنان المتقدّم.
وفيه: منع التبادر، والضعف يشمل عدم القدرة، كما يشمل الحَرَج والمشقّة.
ومنها: الآية الكريمة (وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) (2)بضميمة المعتبرات الواردة في تفسيرها، فإنّها تدلّ على وجوب الفدية على ذي المشقّة، وقد فُسّر في الأخبار بالشيخ الكبير، فيكون المتحصّل أنّ الشيخ الكبير الذي يطيقه تجبُ عليه الفدية.
وفيه أوّلاً: أنّه لا مفهوم لها كي تدلّ على عدم وجوبها على من تعذّر عليه الصّوم، ويقيّد بها إطلاق الأدلّة الأُخر.
وثانياً: أنّ مرسل ابن بُكير المتقدّم المفسّر للآية، دالٌّ على أنّ المراد بها الشيخ الكبير الذي كان يطيقه قبل الكبر لا حاله، بل الظاهر منه الذي أصابه الكبر ولا يطيقه، وفسّرخبرٌ ثالثٌلأبي بصيرالآية الكريمة بالشيخ الكبيرالذي لايستطيع(3).7.
ص: 474
ومنها: صحيح الكرخي المتقدّم: «فإنْ كانت له مقدرة فصدقة مُدٍّ من طعام بدل كلّ يومٍ أحبّ إليّ »، بتقريب أنّه دالّ على استحباب الفدية للعاجز لظهوره في العاجز، فيقيّد به إطلاق ما دلّ على ثبوت الكفّارة فيه، ويوجبُ حمل ما دلّ عليه بالخصوص على وجوبها فيه على الاستحباب.
وفيه: أنّه مطلق غير مختصّ بالعاجز، وتخصيصه أوّلاً بما دلّ على وجوب الفدية في القادر مع المشقّة، ثمّ تخصيص ما دلّ على وجوبها على غير القادر به، يتوقّف على القول بانقلاب النسبة ولا نقول به، فهو معارضٌ لما دلّ على وجوب الفدية، وحيثُ لا يمكن حمل جميع تلك النصوص على الاستحباب، فيتعيّن حمل الأحبية فيه على إرادة اللّزوم.
وبالجملة: الأظهر ثبوت الفدية مطلقاً.
الأمر الرابع: المعروف بين الأصحاب(1) أنّ الفدية المأمور بها مُدّ من طعام، وأكثر النصوص المتقدّمة شاهدة به، وما في خبر محمّد بن مسلم من المُدّين محمولٌ على الاستحباب، وما عن الشيخ(2) من الجمع بين النصوص بحمل خبر المُدّين على من تمكّن منهما، وحمل بقيّة النصوص على غير المتمكّن منهما، جمعٌ لا شاهد له.
وعليه، فالمتعيّن ما أفاده رحمه الله في محكيّ «الاستبصار»(3) من حمل صحيح محمّدبن مسلم على الاستحباب.4.
ص: 475
وما قيل: من أنّه يُجمع بينهما بالبناء على التخيير.
يدفعه: أنّ معنى التخيير بين الأقلّ والأكثر ذلك، أي وجوب الأقلّ واستحباب الأكثر، مضافاً إلى أنّ مقتضى الجمع العرفي ما ذكرناه.
الأمر الخامس: ما في خبر أبي بصير من أنّه يصوم عنه ولده أو غيره من ذي قرابته، وحيثُ لم يوجد عاملٌ بما هو ظاهره من وجوب ذلك، يُحمل على الندب، كما عن الشيخ(1) والشهيد في «الدروس»(2).
الأمر السادس: لو تمكّن الشيخ والشيخة من القضاء، هل يجب عليهما ذلك، كما هو المشهور بين الأصحاب(3)؟
أم لا يجب كما عن والد الصدوق(4)، والمحقّق في «النافع»(5)، وسيّد «المدارك»(6)وغيرهما من متأخّري المتأخّرين(7)؟ وجهان:
يشهد للثاني:
1 - صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم، الوارد فيه قوله عليه السلام: (ولا قضاء عليهما).
2 - وخبر ابن فرقد: «في من ترك الصيام ؟ إنْ كان من مرضٍ فإذا برأ فليقضه، وإنْ كان من كبر أو عطش فبدل كلّ يومٍ مُدّ».).
ص: 476
وكذا ذو العِطاش، ويقضي مع البُرء.
ودعوى: أنّ النصوص منصرفة إلى الغالب من عدم الاقتدار، لأنّ الكبر ليس من قبيل المرض كي يرتفع، بل هو لا يزال في الاشتداد، والكبير لا يزال في عدم الاقتدار.
مندفعة: بما أشرنا إليه غير مرّة من أنّ الغلبة لا تصلح منشئاً للانصراف المقيّد للإطلاق، فالأظهر عدم وجوب القضاء لو تمكّنا.
المسألة الثانية: في ذوي العطاش، وهو من به داءٌ لا يَروي، ولا يتمكّن من ترك شُرب الماء طول النهار أصلاً إلّامع المشقّة الشديدة، فكما أنّ الشيخ والشيخة يفطران ويتصدّقان بدل كلّ يومٍ مُدّاً من طعام (وكذا ذو العطاش) يفطر إجماعاً، حكاه غير واحد(1).
وتشهد به النصوص المتقدّمة في الشيخ والشيخة، مضافاً إلى عمومات سقوط الصّوم عن المريض، ولو استمرّ به المرض إلى رمضان قابل، يسقط القضاء عنه، لما مرّ في المريض وهو من مصاديقه.
(و) هل (يقضي مع البُرء) كما عن الأكثر(2)، بل حُكي عليه الإجماع(3)، أم لا كما
ص: 477
عن بعض(1)؟ وجهان:
يشهد للوجوب: عموم ما دلّ من الكتاب والسُنّة على وجوب القضاء على المريض لو برأ بين رمضانين.
ودعوى: عدم شمول إطلاق الكتاب والسُنّة له، لأنّ ظاهر المريض غيره، كما يشهد به خبر ابن فرقد.
مندفعة: بأنّه مريضٌ عرفاً، والخبر لا يدلّ على اختلافه مع المريض المطلق في بعض الأحكام.
ويشهد للثاني: صحيحا محمّد بن مسلم المتقدّمان.
فقد يقال: - كما أفاده الشيخ الأعظم(2) والفاضل النراقي(3) - بأنّ النسبة بين عمومات القضاء والصحيحين، عمومٌ من وجه، من جهة أنّ العمومات أعمّ من ذي العطاش وغيره، والصحيحين أعمّان من العمومات من جهة اختصاص العمومات بانقطاع المرض والبُرء منه، وتكون العمومات متقدّمة للشهرة وموافقتها مع الكتاب.
وأورد على ذلك: بأنّ الآية الكريمة وما ماثلها من النصوص غير مختصّة بصورة البرء، فإنّ المراد من (أَيّامٍ أُخَرَ) * في الآية ليس أيّام المرض، بل غير أيّام غير شهر رمضان، فهي مطلقة من هذه الجهة، فالنسبة عمومٌمطلق، فيقيّد إطلاقهابالصحيحين.5.
ص: 478
وفيه أوّلاً: أنّ بعض النصوص المتضمّنة للقضاء على المريض مختصٌّ بصورة البرء، بل مصرح بذلك، فما ذكراه يجري فيه.
وثانياً: أنّه إذا كان المرض مسوّغاً للإفطار في شهر رمضان، فمسوغيته للإفطار في قضائه أولى ، وهذه قرينة على ظهور (أَيّامٍ أُخَرَ) * في إرادة أيّامٍ عدا أيّام المرض.
وأمّا دعوى: أنّ التصدّق بدلٌ عن الصّوم نفسه فلا قضاء، فهي من قبيل الاجتهاد في مقابل الدليل.
وعليه، فالأظهر وجوب القضاء عليه.
وهل يجب التصدّق عليه مطلقاً، أم لا؟
الظاهر ذلك للنصوص المتقدّمة في الشيخ والشيخة الآمرة به، مضافاً في صورة الاستمرار إلى ما دلّ على وجوبه على المريض إن استمرّ مرضه إلى رمضان قابل.
أقول: وعن المصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(1)، والمحقّق الثاني في «جامع المقاصد»(2) نفي الفدية مع رجاء البرء، لأنّه من المريض الذي لا كفّارة عليه، وللأصل، وشيءٌ منهما لا يصلح لأن يقاوم مع النصوص المصرّحة بلزومها.
ودعوى: أنّ النسبة بين ما دلّ على وجوب الفدية عليه مطلقاً - أي حتّى مع حصول البُرء قبل مجىء رمضان قابل - وما دلّ على عدم وجوبها على المريض لو حصل البُرء وقضى ما عليه، عمومٌ من وجه فيتساقطان، والمرجع إلى أصالة البراءة.
مندفعة: بأنّ النسبة وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّاأنّ الترجيح مع نصوص0.
ص: 479
الوجوب لأنّها أشهر.
مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ نصوص نفي الفدية تدلّ على عدم وجوبها عليه من حيث إنّه مريض، ونصوص الوجوب تدلّ على لزومها عليه لخصوصيّة في مرضه فلا تعارض.
وعليه، فالأظهر ثبوت الفدية مطلقاً.
أقول: قد نُسب إلى بعض المحقّقين(1) أنّه يجبُ على ذي العطاش الاقتصار على مقدار الضرورة، لخبر عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«في الرّجل يصيبه العطاش حتّى يخاف على نفسه ؟ قال عليه السلام: يشرب بقدر ما يمسك رمقه ولا يشرب حتّى يَروي»(2).
ولكنّه فيمن غلبه العطش، لا من به العطاش، فوجوب الاقتصار على مقدار الضرورة إنّما هو في غير المقام.
وأمّا في مورد الخبر: فمضافاً إلى لزوم الاقتصار على ذلك، يختصّ الحكم بما إذا لم يقدر على ترك الشرب أو خاف الهلاك، ومع انتفاء الوصفين لا يجوز الإفطار، وإن تحمّل المشقّة الشديدة، لأنّ بناءً الصّوم على تحمّل الجوع والعطش، وقد ورد في فضله النصوص الكثيرة المقيّدة لإطلاق أدلّة نفي العسر والحَرَج.
***6.
ص: 480
والحامل المُقرِب، والمُرضعة القليلة اللّبن تفطران، وتقضيان مع الصدقة
(و) المسألة الثالثة: في: (الحامل المُقرب) وهي التي قَرُب زمان وضعها (والمرضعة القليلة اللّبن) فإذا خافتا على الولد أو النفس (تفطران، وتقضيان مع الصدقة) على المشهور، بل لا خلاف في شيء من ذلك في الجملة، وعلى بعضها إجماع فقهاء الإسلام كما عن «المنتهى»(1).
أقول: وتدلّ عليها جملة من النصوص:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «الحامل المُقرب والمرضعة القليلة اللّبن لا حَرَج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان، لأنّهما لا تطيقان الصّوم، وعليهما أن تتصدّق كلّ واحدة منهما في كلّ يوم تفطر فيه بمُدٍّ من طعام، وعليهما قضاء كلّ يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعد»(2).
ومنها: مكاتبة ابن مهزيار: «كتبتُ إليه - يعني عليّ بن محمّد عليهما السلام، أسأله عن امرأة ترضع ولدها وغير ولدها في شهر رمضان، فيشتدّ عليه الصيام، وهي ترضع حتّى يغشى عليها، ولا تقدر على الصيام، أترضع وتفطر وتقضي صيامها إذا أمكنها؟ أو تدَع الرِّضاع وتصوم ؟ فإنْ كانت ممّن لا يمكنها اتّخاذ من ترضع ولدها فكيف تصنع ؟
فكتب عليه السلام: إنْ كانت ممّن يمكنها اتّخاذ ظئر استرضعت لولدها، أتمّت صيامها،
ص: 481
وإنْ كان ذلك لا يمكنها، أفطرت وأرضعت ولدها وقضت صيامها متى أمكنها»(1).
ونحوهما غيرهما.
أقول: وتمام الكلام يتحقّق بالبحث في جهات:
الجهة الأُولى: أنّ الموضوع هي المرضعة القليلة اللّبن والحامل المُقرب، لكن لا مطلقاً، بل إذاكان الصّوم يضرّ بهما أو بولدهما، لاختصاص النصوص بهذين الموردين، فلو كانت الحامل أو المرضعة لا يضرّ الصوم بها ولا بولدها وجب عليها الصّوم.
الجهة الثانية: إنّ جواز الإفطار عليهما إجماعي، كما حكاه غير واحدٍ(2)، ويشهد به - مضافاً إلى النصوص الخاصّة - عموم أدلّة نفي الضرر والحَرَج، إنّما الكلام في أنّ سقوط وجوب الصّوم عنهما هل على وجه العزيمة أو الرخصة ؟
صرّح بعضهم بالثاني(3) وهو الظاهر من كلمات كثيرٍ منهم، حيث عبّروا بجواز الإفطار، ولكن لا يبعد دعوى كونه على وجه العزيمة، لعموم أدلّة نفي الضرر، فإنّها تنفي كلّ حكم ضرري، وبعد ارتفاعه لا دليل على بقاء الملاك، ولا على تعلّق الطلب الندبي بالصوم.
اللّهم إلّاأن يقال: إنّ قوله عليه السلام في صحيح محمّد بن مسلم: (لا حرج عليهما أن يفطرا) يشعر بجواز الصّوم وعدم لزوم الإفطار، فتأمّل.
الجهة الثالثة: قد اختلفت كلماتهم في وجوب التصدّق على المرضعة إذا كان الخوف على نفسها، بعد اتّفاقهم على وجوبه إذا كان الخوف على الولد، والأكثر على4.
ص: 482
الوجوب(1)، وعن جماعةٍ (2) عدمه.
أقول: مقتضى إطلاق صحيح ابن مسلم هو الوجوب، لو لم يكن الصحيح مختصّاً بصورة الخوف على النفس، لظاهر قوله عليه السلام: (لأنّهما لا تطيقان).
واستدلّ لعدم الوجوب: بمكاتبة ابن مهزيار، بدعوى أنّها خالية عن ذكر الصدقة، مع الورود في مقام الحاجة، فتصبح ظاهرة في عدم وجوبها وتقدّم على الصحيح لأنّها أخصّ ، وعلى فرض التباين يُحمل الصحيح على الاستحباب، ويقيّد بها أيضاً إطلاق الصحيح عن محمّد بن جعفر، قال:
قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: إنّ امرأتي جَعلتْ على نفسها صوم شهرين، فرضعت ولدها، فأدركها الحبل، فلم تقو على الصّوم ؟ قال عليه السلام: فلتتصدّق مكان كلّ يومٍ بمُدّ على مسكين»(3).
والإيراد عليها: بأنّها مجهولة السند، في غير محلّه بعدما عن «المسالك»(4) من نسبة عدم الوجوب على المشهور، بل عن «الدروس»(5) نسبة التقييد بالولد إلى الأصحاب، ولا مدرك لهم سوى المكاتبة.
أقول: ولكن يرد على الاستدلال بها أنّ عدم البيان لا يدلّ على عدم الوجوب، فإنّه يمكن أن يكون عدمه لمعلوميّة ذلك للسائل، أو لمانعٍ آخر في بيانه، وعلى فرض).
ص: 483
إشعاره به ليس بنحوٍ يصلح أن يقاوم مع ظهور ما تقدّم في الوجوب.
ودعوى: انجبار ضعف دلالتها بالشهرة والإجماع المحكيّين.
ممنوعة: لمعارضتها بما عن «الخلاف»(1) من دعوى قيام الإجماع على عدم التقييد، وما عن «المعتبر»(2) من نسبة هذا التفصيل إلى الشافعي خاصّة، مع أنّ ضعف الدلالة لا ينجبر بالإجماع المحكيّ والشهرة، وعليه فالأظهر وجوبه مطلقاً.
الجهة الرابعة: المشهور بين الأصحاب(3) وجوب القضاء عليهما، ويشهد به صحيح محمّد ومكاتبة ابن مهزيار المتقدّمان.
وعن والد الصدوق(4) والديلمي(5) عدم وجوبه، واستدلّ له بخلوّ الخبر الأخير عنه، وبالأصل، وبالرضوي، والكلّ كما ترى.
الجهة الخامسة: الظاهر عدم الفرق بين أن يكون الولد لها، أو متبرّعة برضاعه أو مستأجرة، لإطلاق الصحيح، وصريح المكاتبة. نعم يعتبر عدم قيام غيرها مقامها، وأمّا لو أمكن ذلك تبرّعاً أو بأجرةٍ من أبيه، أو متبرّعٍ ، أو منها بحيثُ لا يتضرّر الرضيع بذلك، فالظاهر عدم جواز الإفطار للمكاتبة.
ثمّ إنّ الكلام في أنّ الصدقة مُدّ أو مُدّان، ومصرف هذه الفدية، هو الكلام في المسألة السابقة.
***).
ص: 484
ولو ماتَ المريض في مرضه.
فصلٌ : فيما على وليّ الميّت من صيامه الذي لم يأت به في زمان حياته، والكلام فيه في مسائل:
المسألة الأُولى: (لو ماتَ المريض في مرضه) وفاته شهر رمضان أو بعضه في ذلك المرض، لم يجب عنه القضاء إجماعاً(1)، والنصوص الكثيرة تشهد به:
منها: موثّق سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ دخل عليه شهر رمضان وهو مريض، لا يقدر على الصيام، فمات في شهر رمضان، أو في شهر شوّال ؟ قال عليه السلام: لا صيام عليه، ولا يُقضى عنه.
قلت: فامرأته نُفساء دخل عليها شهر رمضان ولم تقدر على الصّوم، فماتت في شهر رمضان، أو في شهر شوّال ؟ فقال عليه السلام: لا يقضى عنها»(2).
ومنها: صحيح أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن امرأة مرضت في شهر رمضان وماتت في شوّال، فأوصتني أن أقضي عنها؟ قال عليه السلام: هل برأت من مرضها؟ قلت: لا ماتت فيه.
قال عليه السلام: لا يقضى عنها، فإنّ اللّه تعالى لم يجعله عليها.
قلت: فإنّي أشتهي أن أقضي عنها، وقد أوصتني بذلك.
ص: 485
استحبّ لوليّه القضاء عنه.
قال عليه السلام: كيف تقضي عنها شيئاً لم يجعله اللّه عليها، فإن اشتهيت أن تصوم لنفسك فصُم»(1).
ومنها: خبر منصور بن حازم، عنه عليه السلام: «عن المريض في شهر رمضان، فلا يصحّ حتّى يموت ؟ قال عليه السلام: لا يقضى عنه، والحائض تموت في شهر رمضان قال عليه السلام:
لا يقضى عنها»(2). إلى غير ذلك من النصوص.
أقول: يقع الكلامُ فيما أفاده المصنّف رحمه الله بقوله: (استحبّ لوليّه القضاء عنه)، فقد نسبه صاحب «المنتهى»(3) إلى علمائنا، واستدلّ له بأنّه طاعة فعلت عن الميّت فوصل إليه ثوابها.
وفيه: أنّ محلّ الكلام ليس هو أن يصوم الوليّ ويَهدي ثوابه إلى الميّت، فإنّ مثل هذا العمل حَسنٌ بلا كلام، إنّما الكلام في النيابة عنه في القضاء، وهو يتوقّف على دليل.
لا أقول: إنّه لا يُعقل ذلك نظراً إلى أنّ المنوب عنه لم يكن مكلّفاً بالأداء ولا بالقضاء، فلا فوت حتّى يُقضى عنه، إذ لو كان دليلٌ يدلّ على مشروعيّته لأمكن الجواب عن ذلك بأنّ القضاء إنّما هو لفوت الملاك وإن لم يفت الواجب.
بل أقول: إنّه لا دليل عليه، مضافاً إلى أنّ النصوص المتقدّمة لو لم تكن صريحة في عدم المشروعيّة، لا ريب في ظهورها في ذلك.).
ص: 486
ولو ماتَ بعد استقرار الصّوم.
وعليه، فالأظهر عدم الاستحباب.
ثمّ إنّ الظاهر عدم الاختصاص بما فات في المرض، بل الظاهر شموله لما فات عنه عن عُذرٍ لم يرتفع حتّى مات، أم ارتفع ولم يتمكّن من القضاء، نعم هناك كلامٌ في خصوص السفر سيأتي لاحقاً.
***
المسألة الثانية: (ولو ماتَ ) المريض (بعد استقرار الصّوم) عليه، «وجب على وليّه قضاءه عنه، كما هو المعروف بين الأصحاب(1)، بل في «المنتهى»(2) أنّه مذهب علمائنا، ولم ينقل الخلاف إلّامن ابن أبي عقيل(3)، حيث أوجب التصدّق عنه، وأمّا صاحب «الانتصار»(4) فأوجب الصدقة من ماله، وإنْ لم يكن له مالٌ صام عنه، وأمّا «المبسوط»(5) و «الاقتصاد»(6) و «الجُمل»(7) فخيّر فيها بينهما.
ص: 487
وأمّا النصوص: فهي طائفتان:
الطائفة الأُولى : ما تدلّ على ما هو المشهور بين الأصحاب:
منها: صحيح حفص بن البُختري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الرّجل يموت وعليه صلاة أو صيام ؟ قال عليه السلام: يقضي عنه أولى النّاس بميراثه.
قلت: فإنْ كان أولى النّاس به امرأة ؟ فقال عليه السلام: لا إلّاالرِّجال»(1).
ومنها: مرسل ابن بُكير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ :
«فإن مرض فلم يصم شهر رمضان، ثمّ صحّ بعد ذلك ولم يقضه، ثمّ مرض فمات، فعلى وليّه أن يقضي عنه، لأنّه قد صحَّ فلم يقض ووجب عليه»(2).
ومنها: مرسل حمّاد، عن من ذكره، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يموت وعليه دَينٌ من شهر رمضان، مَن يقضي عنه ؟ قال عليه السلام: أولى النّاس به.
قلت: وإنْ كان أولى النّاس به امرأة ؟ قال عليه السلام: لا، إلّاالرّجال»(3).
ونحوها غيرها.
وبهذه النصوص يقيّد إطلاق ما دلّ على القضاء عنه من دون تقييد بالولي، كخبر محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام في حديثٍ : «ولكن يقضى عن الذي يبرأ ثمّ يموت قبل أن يقضي»(4). وبمعناه غيره.
الطائفة الثانية: ما تدلّ على ما ذهب إليه ابن أبي عقيل(5):0.
ص: 488
منها: صحيح ابن بزيع، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام، قلت له: «رجلٌ ماتَ وعليه صومٌ ، يصام عنه أو يتصدّق ؟ قال عليه السلام: يتصدّق عنه فإنّه أفضل»(1).
ومنها: خبر أبي مريم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا صام الرّجل شيئاً من شهر رمضان، ثمّ لم يَزَل مريضاً حتّى مات، فليس عليه قضاء، وإنْ صحَّ ثمّ مرض حتّى يموت، وكان له مالٌ تصدّق عنه مكان كلّ يوم بمُدّ، وإنْ لم يكن له مال تصدَّق عنه وليّه»(2).
هكذا روي في محكيّ التهذيبيّن(3)، وعن «الكافي»(4) و «الفقيه»(5) روايته بطريق موثّق هكذا: (وإنْ لم يكن له مالٌ صام عنه وليّه).
واستدلّ المشهور: بالنصوص الأُولى ، وابن أبي عقيل بالثانية.
وأورد عليه تارةً : بأنّ ثبوت الصدقة لا ينافي ثبوت القضاء عليه.
وأُخرى : باختلاف نسخ خبر أبي مريم.
وثالثة: بإعراض الأصحاب عن هذه النصوص.
لكن يرد الأوّل: أنّ صحيح ابن بزيع كالصريح في عدم وجوب القضاء، نعم هو يدلّ على التخيّير بينهما.
ويرد الثاني: أنّه على كلتا النسختين يدلّ الخبر على لزوم الصدقة إنْ كان له مال.8.
ص: 489
ويرد الثالث: ما عن «المعتبر»(1) ردّاً على ذلك الذي أفاده الحِلّي(2) بقوله:
(وليس ما قاله صواباً مع وجود الرواية الصريحة، وفتوى الفضلاء من الأصحاب، ودعوى علم الهدى إجماع الإماميّة على ما ذكره(3)، فلا أقلّ من أنّ يكون قولاً ظاهراً بينهم).
ولكن يرد عليه: أنّ الجمع بين خبر أبي مريم الآمر بالصدقة عنه مكان كلّ يوم، الظاهر في التعيّن، والنصوص الآمرة بالقضاء كذلك، وصحيح ابن بزيع، هو البناء على التخيّير على ما أفاده الشيخ رحمه الله(4).
وأمّا ما عن «الانتصار»(5)، فمدركه خبر أبي مريم بالنقل الثاني، وهو أخصّ من نصوص المشهور يقيّد إطلاقها به.
أقول: ولكن الخبر لاختلاف نسخه لا يعتمد عليه، فالجمع بين النصوص يقتضي المصير إلى ما ذهب إليه الشيخ(6)، إلّاأنّ عدم إفتاء الأصحاب يوهن هذه الأخبار، فالمعتمد هو ما دلّ على المشهور، مع أنّه يمكن أن يقال إنّ صحيح ابن بزيع أعمٌّ من نصوص وجوب القضاء على الولي، فيقيّد إطلاقه بما إذا لم يكن له وليّ ، وستأتي تلك المسألة.
ومقتضى إطلاق النصوص أن يقضي جميعُ ما عليه، وإنْ كان تركه عمداً كما عن الأكثر(7).2.
ص: 490
وعن المحقّق في «المسائل البغداديّة»(1)، والسيّد عميد الدِّين(2) الاختصاص بالصوم المتروك لعُذرٍ، ونَفى عنه البأس الشهيد رحمه الله(3)، ومالَ إليه سيّد «المدارك»(4) وصاحب «الذخيرة»(5).
واستدلّ له:
1 - بانصراف النصوص إلى الغالب، وهو الترك لعذر.
2 - وباختصاص بعض الأخبار ببعض الأسباب، فيجبُ حمل المطلق على المقيّد.
ولكن يرد على الأوّل: منع الغلبة، ومنع كونه منشئاً للانصراف المقيّد للإطلاق.
ويرد على الثاني: أن حمل المطلق على المقيّد، إنّما هو في المتخالفين دون المتوافقين كما في المقام.
وعليه، فالأظهر عدم الاختصاص.
فرع: هل الصّوم الواجب على وليّ الميّت، هو خصوص صوم شهر رمضان، كما عن العُمّاني(6) وابن بابويه(7)؟
أم يعمّ كلّ صومٍ واجبٍ ، كما عن الشيخين(8) والمحقّق(9)، ومال إليه المصنّف1.
ص: 491
في محكيّ «المنتهى»(1)؟ وجهان:
يشهد للثاني:
1 - عموم صحيح حفص المتقدّم.
2 - وخصوص خبر الوشّاء، عن الإمام الرضا عليه السلام: «إذا مات رجل وعليه صيام شهرين متتابعين من علّة، فعليه أن يتصدّق عن الشهر الأوّل ويقضي الشهر الثاني»(2).
وأورد الفاضل النراقي(3) على الأوّل: بأنّه لا دلالة فيه على الوجوب، وإرادة مطلق الرجحان عنه ممكنة، والظاهر أنّ نظره إلى عدم دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب، وقد مرّ بطلان ذلك.
وأورد على الثاني: بأنّه مجملٌ لعدم تعين من يجب عليه، فلعلّه الميّت.
وفيه: أنّ قوله: (يقضي الشهر الثاني) ظاهرٌ في غير الميّت، وإطلاقه يقيّد بما سبق.
أقول: ولا يخفى أنّ وجوب القضاء على الوليّ ، إنّما هو في الصّوم الواجب الذي يجب قضاؤه على الميّت، وأمّا ما لا يجبُ عليه قضائه، فلا يجب عليه أيضاً كما لايخفى .
***0.
ص: 492
أو الفواتُ بسفرٍ وغيره قَضى الوليّ .
المسألة الثالثة: ما ذكرناه من أنّه لا يجبُ القضاء على الولي إذا كان العُذر المسوّغ لإفطار الميّت باقياً إلى حين الموت، هل يكون عامّاً للسفر وغيره، بحيث لو سافر في شهر رمضان، وكان باقياً على سفره حتّى مات، لا يجب على الولي القضاء عنه، كما نُسب إلى المشهور؟
(أو) يختصّ بالمرض، فلو كان (الفوات بسفرٍ وغيره) عدا المرض، (قضى الوليّ ) كما في المتن ؟
أو يكون خصوص السفر مستثنى من ذلك الحكم العام، وهو عدم القضاء على الولي، إذا لم يستقرّ الوجوب على الميّت، كما عن «التهذيب»(1)، و «المقنع»(2)، والجامع(3)، و «المدارك»(4)؟
أم يختصّ الاستثناء بخصوص السفر غيرالضروري، كماعن الشهيد الثاني رحمه الله(5)؟
وجوه؛ ومنشأ الاختلاف اختلاف النصوص.
استدلّ للقول الأوّل: بما في صحيح أبي بصير المتقدّم، من سقوط وجوب القضاء
ص: 493
عن الولي لو مات الميّت في مرضه، من التعليل له بأنّ اللّه لم يجعله عليها، فإنّه يدلّ على أنّ كلّ صومٍ لم يكن واجباً على الميّت في زمان حياته، لم يثبت على الولي القضاء عنه، فيشمل ما لو كان مسافراً، لعدم وجوبه عليه، وكذا التعليل لوجوبه في مرسل ابن بُكير المتقدّم، فيما لو برأ ولم يقض، بأنّه قد صحَّ فلم يقضِ وهو ما يستلزم وجوبه عليه.
واستدلّ لاستثناء السفر بقول مطلق: بجملةٍ من النصوص:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في امرأة مرضت في شهر رمضان، أو طمثت، أو سافرت، فماتت قبل أن يخرج رمضان، هل يقضى عنها؟
فقال عليه السلام: أمّا الطمث والمرض فلا، وأمّا السفر فنعم»(1).
ومنها: خبر منصور بن حازم، عنه عليه السلام: «في الرّجل يُسافر في شهر رمضان فيموت ؟ قال عليه السلام: يقضى عنه، وإنّ امرأة حاضت في شهر رمضان فماتت لم يقض عنها، والمريض في شهر رمضان لم يصحّ حتّى مات لا يقضى عنه»(2).
ومنها: صحيح أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن امرأةٍ مرضت في شهر رمضان، أو طمثت، أو سافرت فماتت قبل خروج شهر رمضان، هل يقضى عنها؟ قال عليه السلام: أمّا الطمث والمرض فلا، وأمّا السفر فنعم»(3).
ومنها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ سافر في شهر رمضان فأدركه الموت قبل أن يقضيه ؟ قال عليه السلام: يقضيه أفضل أهلُ بيته»(4).5.
ص: 494
أقول: وأورد على الاستدلال بها بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّها قاصرة من حيث السند.
وفيه: أنّه وإنْ كان بعضها كذلك، إلّاأنّ بعضها الآخر صحيحٌ أو موثّق.
الوجه الثاني: ما ادّعاه صاحب «الرياض»(1) من أنّ الأصحاب أعرضوا عنها، قال: (لم أرَ عاملاً بها صريحاً، بل ولا ظاهراً عدا الشيخ في «التهذيب»(2)، مع أنّه رجع عنه في «الخلاف»)(3).
وفيه: أنّه - مضافاً إلى إفتاء جمعٍ من الأصحاب بمقتضاه، كالصدوق في «المقنع»(4)، والشيخ في «التهذيب»(5)، وابن حمزة(6) وغيرهم(7) - يمكن أن يكون عدم إفتاء غيرهم به، للجمع بينها وبين ما يدلّ على إناطة وجوب القضاء باستقرار وجوبه على الميّت لا للإعراض عنها.
الوجه الثالث: أنّها محمولة على ما إذا كان السفر معصية، ولو لأنّه في شهر رمضان، بناءً على كونه فيه كذلك.
وفيه: أنّه حمل لا شاهد له.
الوجه الرابع: إنّ عموم العلّة في صحيح أبي بصير وموثّق ابن بُكير، يدلّ على عدم الوجوب عليه، وبهذه القرينة تُحمل النصوص المتقدّمة على الندب.3.
ص: 495
وهو أكبر أولاده الذكور.
وفيه: أنّ المحقّق في محلّه أنّ الجمع الموضوعي مقدّمٌ على الجمع الحكمي، وفي المقام حيث إنّه يمكن تقييد إطلاق العلّة في الخبرين بالنصوص المتقدّمة، لكونها أخصّ منها، فلا تصل النوبة إلى حملها على الندب.
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر هو استثناء السفر مطلقاً، ولم أظفر بما يمكن أن يستدلّ به للقول الثاني والرابع، فلو مات في السفر الذي فات منه الصّوم فيه، وجب على وليّه القضاء عنه.
***
المسألة الرابعة: في تعيّين الولي:
(و) المشهور بين الأصحاب أنّ الولي (هو أكبر أولاده الذكور).
وعن الإسكافي(1)، والصَّدوقين(2)، وجماعة منهم سيّد «المدارك»(3)، والفاضل النراقي:(4) أنّه أولى النّاس بميراثه من الذكور.
وعن المفيد(5): أنّه الولد الأكبر، وإنْ لم يكن له ولدٌ من الرِّجال قضى أكبر أوليائه من أهله، وإنْ لم يكن فمن النساء.
ص: 496
وفي المقام أقوالٌ أُخر لا يهمّنا التعرّض لها.
قيل: مقتضى إطلاق صحيح حفص المتقدّم: (يقضي عنه أولى النّاس بميراثه)، وكذا قوله عليه السلام في مرسل حمّاد في جواب قوله: من يقضي عنه: (أولى النّاس به)(1)، الظاهر في أولويّته بميراثه، أنّ الولاية على ترتيب طبقات الإرث، فمع الأب والإبن لا ولي غيرهما، ومع فقدهما تنتقل الولاية إلى الطبقة الثانية، وهكذا، إلّاالنساء للتصريح في الخبرين بعدم ثبوت الولاية لهن.
وأورد على الاستدلال بهما بوجوه:
الوجه الأوّل: إعراض المشهور عنهما.
وفيه: أنّ جماعة من القدماء(2) والمتأخّرين(3) أفتوا بمضمونهما، مع أنّ عدم إفتاء غيرهم به، يمكن أن يكون لبعض ما سيمرّ عليك، فلا إعراض.
الوجه الثاني: أنّ المراد من (أولى النّاس به وبميراثه) هو الولد، ولذا يحجبُ من عداه ويكون أوفر حظّاً وأكثر نصيباً.
وبعبارة أُخرى : المراد ب (الميراث) هو سنخ الميراث، ولو بلحاظ بعض المراتب، ولا شبهة في أنّ الأولى بالميراث على هذا هو الولد الذَّكَر، إذ أولويّة غيره من الطبقات إنّما تكون إضافيّة بلحاظ الموجودين حين الموت، وأولويّة الأب في بعض الموارد لكونه أكثر سهماً من الولد، كما لو اجتمع له أب مع عشرة أولاد، إنّما تكون بلحاظ أصل التوارث.2.
ص: 497
واجباً.
وفيه: أنّ الظاهر من قوله عليه السلام: (أولى النّاس بميراثه) هي الأولويّة الفعليّة بلحاظ أصل التوارث، فمع عدم الولد لا أولويّة، بل هي لغيره.
الوجه الثالث: أنّه لابدّ من تقييد الصحيح والموثّق بموثّق أبي بصير المتقدّم:
(يقضي عنه أفضل أهل بيته) لأنّ الأفضل ميراثاً بلحاظ الحباء هو الولد الأكبر.
وفيه: أنّ المراد من قوله عليه السلام: (أفضل أهل بيته) لو كان يقصد منه الأفضل ميراثاً كان ما ذكره تامّاً، ولكنّه خلاف الظاهر.
ويعضد ما ذكرناه من أنّ المراد ب (أولى النّاس به) أولاهم بميراثه؛ الخبر الصحيح الذي رواه الكناسي، عن أبي جعفر عليه السلام: «ابنك أولى بك من ابن ابنك، وابن ابنك أولى بك من أخيك، وأخوك لأبيك وأُمّك أولى بك من أخيك لأبيك، وأخوك لأبيك أولى بك من أخيك لأُمّك... إلى آخره»(1). فإنّه يفسر أولى النّاس به.
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الحقّ ثبوت الولاية لأولى النّاس بالميراث من الذكور، ولا اختصاص لهذا الحكم بالولد الأكبر، نعم بما أنّ الولد يكون سهمه غالباً أزيد من غيره من الورّاث، والولد الأكبر يكون نصيبه أزيد من غيره لاختصاص الحبوة به، فيكون القضاء عن أبيه (واجباً) عليه، وأمّا مع فقده، فيجبُ على غيره من الورّاث على ترتيب الطبقات.
وعليه، فما أفاده الشيخ المفيد رحمه الله من أنّه مع وجود الولد يجبُ عليه القضاء،1.
ص: 498
ومع فقده يقضي عنه أكبر أوليائه متين.
وأمّا ما أفاده رحمه الله من أنّه مع عدمه فمن النساء، فتردّه النصوص.
وقد استدلّ للقول المشهور: مضافاً إلى ما تقدّم بوجوه:
منها: ما في «الجواهر»(1) من أنّ المنساق من الولي هنا الولد، خصوصاً مع ملاحظة الشهرة، وقوله تعالى: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ) (2) ولذا فسّره الشيخ(3)به، وفي «المختلف»(4): (منع صدق الولي على غيره، ومكاتبة الصفّار إلى الأخير عليه السلام:
«رجلٌ مات وعليه قضاء من شهر رمضان عشرة أيّام، وله وليّان، هل يجوز لهما أن يقضيا عنه جميعاً، خمسة أيّام أحد الوليّين، وخمسة أيّام الآخر؟ فوقّع عليه السلام: يقضي عنه أكبر ولديه إنْ شاء اللّه تعالى »(5). انتهى .
وفيه: أنّ صدق الولي على الولد لا يُنكر، إنّما الكلام في صدقه على غيره، فالآية مرتبطة بالمقام، وأمّا كون المنساق منه ذلك، فهو ممنوعٌ لغةً وعرفاً.
وأمّا المكاتبة: فقد رويت بنحو آخر، وهو (ولييه) بدل (ولديه).
ومنها: غير ذلك ممّا يظهر فساده ممّا حقّقناه.
***0.
ص: 499
ولو كان وليّان تحاصّا.
المسألة الخامسة: (ولو كان) له (وليّان تحاصا) فيتساويان في القضاء بالتقسيط عليهما، كما عن الأكثر(1).
وعن الحِلّي(2): سقوط القضاء رأساً.
وعن ابن البرّاج(3): أيّهما شاء قضى ، فإن اختلفا فالقرعة.
أقول: لا إشكال في أنّ عناوين (الولي) و (أولى النّاس بالميراث) و (أولى النّاس به)، تشمل الواحد والمتعدّد، وخبر الأكبر المتقدّم إنّما يدلّ على تعيّنه مع وجوده، ولذا لا كلام في وجوب القضاء مع الاتّحاد الذي لا يصدق معه وصف الأكبريّة، وشمولها للمتعدّد ليس بمعنى كون المجموع وليّاً، بل كلّ واحد منهما كذلك.
ثمّ إنّ ظاهر الأمر بإتيان أفعال متعدّدة، وصيام أيّام عديدة وطلب إيجادها منهما، هو كون ذلك للتوزيع لا بنحو الواجب الكفائي، ولا بنحو الاشتراك، وعليه فيجبُ على كلّ منهما نصف ما على الميّت.
نعم، إذا بقي صومٌ واحدٌ اتّجه الوجوب الكفائي، كما صرّح به المصنّف رحمه الله(4)
ص: 500
ويقضي عن المرأة.
والشهيدان(1)، فحكمه حكم سائر الواجبات الكفائيّة حينئذٍ، وعلى ذلك فلا وجه لسقوط القضاء رأساً، المتوقّف على اعتبار وجود الأكبر، ولا للتخيير في أن يقضي أيّهما شاء، ولا للقرعة، كما لا يخفى .
هذا فيما إذا لم يكن أحدهما أكبر، وإلّا فيُقدّم الأكبر، ويجبُ عليه خاصّة، لمكاتبة الصفّار المتقدّمة، ولكن المتيقّن منها الولد، لاختلاف النسخ كما مرّ، وفي غيره يجري ما ذكرناه في المتساويين في السن.
***
المسألة السادسة: (و) هل (يُقضى عن المرأة) ما فاتها من الصّوم على حسب حال الرّجل كما نُسب إلى الأكثر(2) تارةً ، وإلى المعظم(3) أُخرى ، وفي «الجواهر»(4):
(بل نُسب إلى الأصحاب) أم لا؟ كما عن الحِلّي(5) حيث قال: إنّ وجوب قضاء ما عليهاليس مذهب أحدٍ من الأصحاب، والشيخ إنّما أورده إيراداً لا اعتقاداً، والإجماع إنّما انعقد على قضاءالولد من والده، ومالَ إليه الشهيد الثاني في محكيّ «الروضة»(6).
ص: 501
ولكن المصنّف رحمه الله في محكيّ «المختلف»(1) شدّد النكير على الحِلّي وقال:
(إنكاره كونه مذهباً لأحدٍ من الأصحاب جهلٌ منه، وأيّ واحدٍ أعظم من الشيخ، مع أنّ جماعةٍ قالوا بذلك كابن البرّاج، ونسبة قول الشيخ إلى أنّه إيرادٌ لا اعتقاد غلط وما يدريه بذلك)، انتهى .
أقول: وكيف كان، فقد استدلّ للأوّل:
1 - بقاعدة الاشتراك.
وفيه: أنّ قاعدة الاشتراك إنّما هي في الأحكام الموجّهة إلى الرّجال المخاطبين بها، وأمّا في الأحكام التي أُخذ عنوان (الرّجل) موضوعاً لها، والحكم متوجّهٌ إلى غيره فالقاعدة غير ثابتة، اللّهم إلّاأن يستدلّ بها لإثبات اشتغال ذمّة الميّت بالحكم، فإذا ثبت ذلك في حقّ النساء أيضاً، كان لازم ذلك وجوب القضاء على الوليّ .
2 - وبجملةٍ من النصوص المتقدّمة:
منها: صحيح أبي حمزة: «عن المرأة تترك الصّوم للطمث أو للسفر أو المرض هل يقضى عنها؟ قال عليه السلام: أمّا الطمث والمرض فلا، وأمّا السفر فنعم»(2).
ونحوه صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم(3).
ومنها: خبر أبي بصير حيث قال عليه السلام عن المرأة التي مرضت في شهر رمضان،5.
ص: 502
فماتت في مرضها، بأنّه لا يقضى عنها لأنّ اللّه سبحانه لم يجعله عليها(1).
وأورد عليها بوجوه:
الوجه الأوّل: إنّ غاية ما يستفاد منها مشروعيّة القضاء لا وجوبه.
والجواب عنه: بأنّه إذا ثبتت المشروعيّة ثبت الوجوب لعدم القائل بالفصل.
يدفعه: أنّ ظاهرهم الاتّفاق على استحباب القضاء عنها، والوجوب مختلف فيه.
كما أنّ الجواب عنه: بأنّ السؤال إنّما هو عن الوجوب، للاتّفاق على الاستحباب.
يدفعه: أنّ اتّفاق الأصحاب عليه لا يوجبُ وضوحه عند السائل.
والحقّ أن يقال: إنّ استحباب القضاء يكشفُ عن ثبوته في ذمّتها وسقوطه بإتيان الولي فيكون واجباً، مع أنّ مفهوم خبر أبي بصير دالٌّ على وجوبه كما لا يخفى .
الوجه الثاني: أنّها لا تدلّ على أنّه يجب القضاء على الولي على حسب الرّجل.
وفيه: حيث إنّه من المعلوم عدم وجوبه على جميع النّاس، فليس حينئذٍ إلّا الولي ولو بقرينة ثبوته في الرّجل، بل لا يبعد دعوى أنّه في تلك النصوص من باب المثال على حسب غير المقام.
الوجه الثالث: إنّ ثبوت القضاء في مقابل الحبوة المنفيّة، فأصالة البراءة حينئذٍ بحالها.
وفيه أوّلاً: أنّه اجتهادٌ في مقابل النَّص.
وثانياً: أنّه ليس في مقابل الحبوة، بناءً على ما اخترناه من عدم الاختصاص بالولد.
فتحصّل: أنّ الأظهر وجوب القضاء عنها.
***8.
ص: 503
ولو كان الأكبر أُنثى فلا قضاء، ويتصدّق من التركة عن كلّ يوم بمُدٍّ.
المسألة السابعة: (ولو كان الأكبر أُنثى ):
فإنْ كان له ولدٌ ذكرٌ أصغر منها، وجب عليه القضاء بناءً على ما قوّيناه من وجوبه على أولى النّاس بميراثه.
وإنْ لم يكن له ولد ذكر أصغرٌ منها، أي كان أولى النّاس بميراثه المرأة، (فلا قضاء) عليه، كما تقدّم.
(و) إنّما الكلام في المقام في أنّه:
هل (يتصدّق من التركة عن كلّ يوم بمُدٍّ) مطلقاً؟
أو مع العجز عن المُدّين، حسب ما سمعته في صدقة ما بين الرمضانين، كما عن الشيخ(1)، وابن حمزة(2)، وجماعة(3)، بل عن «المختلف»(4) و «الروضة»(5) أنّه المشهور بين الأصحاب ؟
أم لا كما عن جماعةٍ (6)، وتوقّف فيه غير واحدٍ من متأخّري المتأخّرين(7)؟
ص: 504
استدلّ للأوّل: بوجهين:
الوجه الأوّل: موثّق أبي مريم الأنصاري، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ :
«وإنْ صحَّ ثمّ مرض، ثمّ مات، وكان له مال تصدّق عنه مكان كلّ يوم بمُدّ، وإن لم يكن له مال صام عنه وليّه»(1).
وروي بسندٍ آخر ضعيف، إلّاأنّه قال: (صدّق عنه وليّه).
وفيه: إنّ الخبر لم يعمل به في مورده، فإنّه يدلّ على ذلك مع وجود الولي، وقد مرّ أنّه يتعيّن حينئذٍ الصّوم.
ودعوى: أنّ أقصاه كون الحكم كذلك عليتقدير وجودالولي أيضاً، والخروج عنه فيه بالخصوص، لحصول المعارض، لاينافي حجيّته في القسم الآخر كمافي «الجواهر»(2).
مندفعة: بأنّ مورد الخبر والأمر بالصدقة فيه ليس مطلقاً، بل عند وجود الولي، ولم يعمل به في مورده كي يثبت في غيره.
وأضعف منه: دعواه قدس سره(3) أنّ المراد بالولي غير الأكبر، وأنّه يصوم ندباً عنه مع عدم المال.
الوجه الثاني: أنّ الحكم مطلقاً هو التخيّير بين الصدقة وقضاء الولي، فمع تعذّر أحد فردي التخيّير يتعيّن الآخر.
وفيه: ما عرفت من ضعف المبنى.
أقول: وربما تُذكر وجوهٌ أُخر، ولوضوح ضعفها أغمضنا عن ذكرها.8.
ص: 505
ولو كان عليه شهران، قضى الوليُّ شهراً، أو تصدّق من مال الميّت عن الآخر.
فالحقّ أن يقال: إنّ صحيح ابن بزيع المتقدّم في صدر هذا الفصل، يدلّ على التخيّير بين أن يقضي عنه ويتصدّق، قال:
«قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: رجلٌ مات وعليه صوم، يصام عنه أو يتصدّق ؟ قال عليه السلام: يتصدّق فإنّه أفضل».
وقد مرّ أنّ إطلاقه يقيّد بما إذا لم يكن للميّت وليّ ، وعليه فالأظهر هو التخيّير بينهما كما عن جماعةٍ منهم الشهيد الثاني(1).
فرع: ولو كان الأكبر خُنثى ، لا يجبُ عليه، للشكّ في الرجوليّة الّتي هي شرط الوجوب.
اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّه للعلم الإجمالي بتوجّه خطابات الرّجال أو النساء إليه، لا مجال لإجراء الأصل في حقّه، فعليه الاحتياط بالقضاء.
نعم، لو كان معه ذكر أصغر منه، لا يجب عليه، لعدم ثبوت كونه أكبر، لاحتمال كون الخُنثى ذكراً، والفرض أنّه الأكبر، فالأصل براءة الذّمة.
وعن ظاهر المفيد(1)، وصريح الحِلّي(2)، والمصنّف(3)، والشهيد(4) وسيّد «الرياض»(5) وغيرهم من متأخّري المتأخّرين(6): وجوب القضاء تعيّيناً، إلّاأن يكون من كفّارة مخيّرة، فيتخيّر بين صومهما وبين العتق والإطعام من مال الميّت.
واستدلّ للأوّل: بخبر الوشّاء، عن أبي الحسن الرّضا عليه السلام: «إذا مات رجلٌ وعليه صيام شهرين متتابعين من علّةٍ ، فعليه أن يتصدّق عن الشهر الأوّل ويقضي الشهر الثاني»(7).
والمناقشة في سنده - بسهل بعد استناد المشهور عليه - في غير محلّها، وبه يقيّد إطلاق النصوص التي لها إطلاقٌ شامل للمقام، وقد تقدّم بيان ما له إطلاق منها.
فإنْ قيل: إنّه لم يذكر فيه من يجب عليه، فلعلّه الميّت باعتبار الثبوت في الذّمة، فيتصدّق حينئذٍ عنه عن الأوّل، ويستأجر على قضاء الثاني.
قلنا: إنّه خلاف الظاهر، فإن قوله: (عليه أن يتصدّق... إلى آخره) ظاهرٌفي إرادة من يباشر ذلك، وحيث إنّه ليس المراد كلّ فردٍ من المكلّفين، فلا محالة أريد به الولي.
ودعوى: أنّ المراد به الرمضانان المتتابعان.
مندفعة: بأنّ فوت الشهرين المتتابعين غير ثبوت الشهرين المتتابعين، والثاني6.
ص: 507
الذي هو في الخبر، غيرُ قابلٍ للحمل المزبور، فما عن المشهور هو الأظهر.
أقول: ولابدّ من الاقتصار على مورد النَّص، فلا يتعدّى عنه، فلو كان عليه شهران من رمضان، لابدّ من قضاء الجميع، كما أنّه لو كان عليه أزيد من الشهرين، لابدّ من القضاء، وهكذا في سائر صور الصّوم.
نعم، الظاهر عدم الفرق بين ما إذا كان عليه شهران تعييناً أو تخييراً، إلّاأنّه لا يتعيّن على الولي ذلك، لعدم نقصان الفرع عن الأصل، فله التخيير الذي كان على الميّت، فإنْ اختار الصيام، جاز له الصدقة عن شهرٍ وصيام الآخر.
وهل يختصّ ذلك بما إذا كان التتابع معتبراً فيه بأصل الشرع كالكفّارة فلا يدخل المنذور كذلك ؟ أم يعمّ كل ما اعتبر فيه التتابع ؟
نَسب صاحب «الجواهر»(1) الثاني إلى كلّ من تعرّض من الأصحاب لذلك، ولعلّه الظاهر، إذ لا مقيّد لإطلاق النَّص سوى ما يُدّعى من أنّ المنساق الإشارة إلى الكفّارة وهو كما ترى . وعليه فالأظهر هو التعميم.
***
المسألة التاسعة: يسقط القضاء عن الولي بفعل الغير، لأنّ الميّت ينتفع بما يفعله الحَيّ نيابةً عنه من الصّوم والصَّلاة وما شاكل كما نصّت عليه الأخبار:
منها: خبر عليّبن يقطين، عن الإمام الكاظم عليه السلام: «في الرّجل يتصدّق عن الميّت، أو يصوم، أو يُصلّي، أو يعتق ؟ قال عليه السلام: كلّ ذلك حَسنٌ يدخل منفعته على الميّت»(2).
ص: 508
ومنها: خبر الحسن بن محبوب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «يدخل على الميّت في قبره الصَّلاة والصّوم والحجّ والصَّدقة والبِرّ والدّعاء، ويكتب أجره للذي فعله وللميّت»(1).
ومنها: خبر عمّار بن موسى ، عنه عليه السلام: «في الرّجل يكون عليه صلاةٌ أو صوم، هل يجوز له أن يقضيه غير عارف ؟ قال عليه السلام: لا يقضيه إلّامسلم عارف»(2).
ونحوها غيرها.
أقول: والمستفاد من هذه النصوص أنّ ما يكون ثابتاً في ذمّة الميّت، لا تعتبر فيه المباشرة، بل يكفي إيجاد العمل في الخارج متقرّباً إلى اللّه تعالى .
وعن «الانتصار»(3)، و «الغنية»(4)، و «المختلف»(5): منع صحّة النيابة، وأنّ المراد من قولنا: (يقضي وليّ الميّت عنه) أنّه يقضي عن نفسه، ونسبته إلى الميّت باعتبار أنّه السبب في وجوب القضاء.
واستدلّ له:
1 - بالأصل، إذ لا ريب في أنّ ما في ذمّة الميّت، إنّما هو الصّوم الذي كان واجباً عليه تعيّيناً، والشكّ في صحّة النيابة مرجعه إلى الشكّ في سقوط ما في ذمّته بفعل الغير، والأصل يقتضي عدمه.0.
ص: 509
2 - وبقوله تعالى: (وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى ) (1).
3 - وبالأخبار(2) المتضمّنة أنّه ليس يتبع الرّجل بعد موته إلّاثلاث خصال.
وفيه: أنّ شيئاً ممّا ذكر لا يصلح للمقاومة مع ما سبق، بل يجبُ الخروج عنه به.
فالحقّ : أنّه تفرغ ذمّة الميّت بفعل الغير، فإذا فرغت ذمّة الميّت سقط القضاء عن الولي لارتفاع الموضوع.
وعن الحِلّي(3) وجماعة(4): عدم السقوط.
وتردّد المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(5) وقال: (ولو صام أجنبيٌ عن الميّت بغير قول الولي، ففيه تردّدٌ ينشأ من الوجوب على الولي، فلا يخرج عن العهدة بفعل المتبرّع كالصلاة عنه حيّاً، ومن كون الحقّ على الميّت، فأسقط المتبرّع عنه الوجوب كالدين)، ثمّ استقرب عدم الإجزاء أخيراً.
وقد استدلّ له:
1 - بأنّ الظاهر من التكليف، صدور المكلّف به عن المكلّف بالمباشرة، إذ عمل النائب لا يكون في نفسه عملاً للمنوب عنه لوساطة إرادته، فمقتضى القاعدة عدم سقوط الواجب بفعل الغير، سواءٌ مع الاستنابة أو بدونها.
2 - وبأنّ النيابة عن الحَيّ غير مشروعة.).
ص: 510
3 - وبمكاتبة الصفّار، فإنّها تدلّ على عدم جواز قضاء غير الأكبر.
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ دليل وجوب القضاء على الولي كسائر الأدلّة المتكفّلة لبيان الأحكام، لا يقتضي حفظ موضوع الوجوب، وعليه فلا ينافي أدلّة استحباب تبرّع غير الولي بالقضاء، فإنّ إتيان غير الولي بالقضاء يوجب فراغ ذمّة الميّت، ومع انتفاء الموضوع وهو ثبوت القضاء في ذمّة الميّت، يمتنع بقاء الوجوب على الولي.
فيكون وجوب القضاء على الميّت مشروطاً بعدم فعل الغير.
وأمّا الثاني: فلأنّ المتبرّع يكون نائباً عن الميّت لا الحيّ ، وسقوط الوجوب عن الحيّ ليس لتحقّق متعلّقه، بل لانعدام موضوعه.
وأمّاالثالث: فلأنّ المكاتبة تُعارض مرسل «الفقيه» المروي عن الإمام الصادق عليه السلام:
«إذا مات الرّجل، وعليه صوم شهر رمضان، فليقض عنه من شاء من أهله»(1).
والجمع بينهما يقتضي حمل المكاتبة على إرادة أنّه يجب على الأكبر القضاء دون غيره، لو لم تكن بنفسها ظاهرة في ذلك، وحمل المرسل على إرادة مشروعيّة القضاء لغيره.
فتحصّل: أنّ الأظهر جواز أن يتبرّع المتبرّع بالقضاء عن الميّت، ويوجب ذلك السقوط عن الولي، ويترتّب عليه أنّه يجوز أن يستأجر الولي من يصوم عن الميّت، لعموم أدلّة صحّة العقود والإجارة.
***9.
ص: 511
يجوز للميّت أن يُوصي بالاستئجار عنه، أو يُوصي بأن يُصلّي عنه الوصي لعمومات نفوذ الوصيّة، إنّما البحث عن أنّ الوصيّة النافذة الموجبة لوجوب ما أوصى به على الوصي، هل توجب سقوط الوجوب عن الوليّ كما عن الشهيدين(1)، و «الموجز»(2) وشرحه، و «الذخيرة»(3)، أم لا؟ وجهان:
استدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله(4) للأوّل: (بأنّه بعد فرض وجوب العمل بوصيّته لا يجب الفعل الواحد عيناً على مكلّفين وإرجاعه إلى الوجوب الكفائي، مخالف لظاهر التكليفين، والحكم بالوجوب على الولي منافٍ لفرض نفوذ الوصيّة، فإنّ التحقيق بأنّ دليل وجوب العمل بالوصيّة حاكمٌ على أدلّة مثل هذا الحكم أعني الوجوب على الولي، وإلّا فكلّ واقعةٍ قبل تعلّق الوصيّة بها لها حكمٌ غير ما يقتضيه الوصيّة).
انتهى .
وفيه أوّلاً: إنّ الحكم بالوجوب على الوليّ ليس منافياً لنفوذ الوصيّة، كما لا ينافي دليل مشروعيّته التبرّع كما مرّ، وإنّما ينافي كون وجوب العمل على الوصي وجوباً عينيّاً، لأنّ الواجب الواحد لا يجبُ عيناً على مكلّفين، فالجمعُ بين التكليفين يقتضي البناء على الوجوب الكفائي، لا طرح أحدهما والعمل بالآخر. لاحظ نظائره.
وثانياً: لم أعرف وجه ما أفاده من حكومة دليل وجوب الوصيّة على دليل
ص: 512
الوجوب على الولي، إذ كلّ واحدٍ من الدليلين يُثبت وجوب تفريغ ذمّة الميّت، ولا يكون أحدهما متعرّضاً لبيان حال الآخر من التصرّف في الحكم المستفاد منه، أو موضوعه، أو متعلّقه، ومع عدمه كيف يكون حاكماً عليه.
نعم، هو حاكمٌ على دليل استحباب القضاء على الوصي، بمعنى أنّه يوجب وجوبه عليه، لما أفاده من أنّ كلّ واقعةٍ قبل تعلّق الوصيّة بها لها حكم غير ما يقتضيه الوصيّة، وهذا لا علاقة له بحكم الولي.
وقد يستدلّ له: بقصور أدلّة الوجوب على الولي عن صورة الوصيّة، لعدم عموم أو إطلاق لها بالإضافة إلى العناوين الثانويّة.
وفيه: أنّ العناوين الثانويّة على قسمين:
إذ قد يكون العنوان عنواناً للحكم، ككونه معلوماً أو مجهولاً.
وقد يكون عنواناً للموضوع، كتعلّق الوصيّة به أو عدمه.
وما يمتنع أن يكون الدليل المتكفّل لبيان الحكم مطلقاً بالنسبة إليه، هو الأوّل دون الثاني.
فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى هو القول بالوجوب الكفائي على الوصي والولي.
***
المسألة العاشرة: لا ريب في أنّه إذا كان الولي غير بالغٍ حين الموت، لم يجب عليه القضاء، لعدم كونه مكلّفاً، إنّما الكلام فيما لو صار بالغاً، ففيه قولان من الوجوب وعدمه.
ص: 513
يشهد للأوّل: صدق الولي، واجتماع الشرائط، دون أن يضرّ عدم الاجتماع حين الموت.
واستدلّ للثاني:
1 - بأنّ تقييد دليل الوجوب على الولي بالبالغ، يقتضي كون الموضوع هو البالغ حين الموت، فلا يشمل البالغ بعده.
2 - وبأنّ هذا الشخص قد خرج عن تحت دليل وجوب القضاء على الولي، وبعد مُضيّ زمان الصغر يُشكّ في بقاء الحكم الخاص، فيستصحب ولا مجال للرجوع إلى عموم العام.
ولكن يرد على الأوّل: أنّ الدليل دلَّ على وجوب القضاء على كلّ وليّ ، خرج عنه غير البالغ، فبعدما أصبح الولي بالغاً يكون المقتضي فيه موجوداً والمانع مفقوداً، إذ المانع لم يكن الصغر حين الموت، ولا الشرط هو البلوغ حينه لعدم الدليل على ذلك.
ويرد على الثاني أوّلاً: أنّ المختار في العام المخصّص، هو الرجوع إلى العام بعد مُضيّ زمان التخصّص مطلقاً.
وثانياً: أنّ التخصيص في المقام إنّما يكون من الأوّل، والمرجع في مثله إلى عموم العام قطعاً لا إلى الحكم الخاص.
وبالجملة: بما ذكرناه يظهر أنّه لو كان أحد الوالدين أكبر سنّاً، والآخر أكبر من حيث البلوغ، وجب القضاء على الأوّل لأنّ الحبوة له، وهو أولى النّاس بميراثه.
وعن «الإيضاح»(1)، وحاشية «الإرشاد»(2)، وكشف الغطاء(3):7.
ص: 514
1 - أنّ الولي هو البالغ لأنّه أكبر عرفاً.
2 - ولأنّ المراد ب (الأولى ) الأولى بحسب النوع، والأولويّة النوعيّة حاصلة له.
ولكن يرد على الأوّل: عدم كونه أكبر عرفاً.
وعلى الثاني: أنّ الأولى بالميراث هو الأكبر سنّاً بلحاظ الحبوة، ولو تساوا سنّاً، وكان أحدهما بالغاًدون الآخر، سقطالقضاء عنهما، ولايجب على البالغ أزيدمن حصّته.
***
هذا آخر مباحث كتاب الصَّوم، والحمدُ للّه أوّلاً وآخراً، وصلّى اللّه على سيّدنا ونبيّنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.
***
ص: 515
الباب الخامس: في الاعتكاف:
وهو اللّبث للعبادة.
(الباب الخامس: في الاعتكاف).
أقول: ويقع الكلام فيه في مواضع:
الموضع الأوّل: في ماهيّته: وهو افتعال من العكف، وهو في اللّغة(1): الإقامة، والاحتباس، واللّبث الطويل، وملازمة الشيء.
قال تعالى : (سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ) (2) أي المُقيم والمسافر.
وقال تعالى : (ما هذِهِ اَلتَّماثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) (3).
وقال: (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ) (4).
وقال: (وَ اَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً) (5) أي محبوساً.
والظاهر أنّ معناه شيءٌ واحد، لكن عُبّر عنه في كتب اللّغة بألفاظ متقاربة.
(وهو) في الشرع أو عرفه عبارة عن (اللّبث للعبادة) في مدّة مخصوصة، وليس ذلك معنى آخر له كي يُنازع في أنّه حقيقة شرعيّة أو متشرعيّة، بل أحد مصاديق معناه اللّغوي.
ص: 516
أقول: وكيف كان، فلا ريب في مشروعيّته. فقد قال صاحب «المنتهى»(1):
(وقد اتّفق المسلمون على مشروعيّة الاعتكاف وأنّه سُنّة) انتهى .
ويشهد لها: من الكتاب قوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ) (2). وقوله عزّ وجلّ : (وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ) (3).
ومن السُنّة: نصوص كثيرة:
منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد، وضُربت له قُبّة من شعر، وشمّر المئزر وطوى فراشه»(4). ونحوه غيره.
ويتأكّد استحبابه في شهر رمضان للأخبار الدالّة على ذلك:
منها: خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، عن آبائه، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله:
«اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجّتين وعُمرَتين، خصوصاً في العشر الأواخر، تأسيّاً برسول اللّه صلى الله عليه و آله»(5).
ومنها: ما رواه أبو العبّاس، عن الصادق عليه السلام: «اعتكف رسول اللّه صلى الله عليه و آله في شهر رمضان في العشر الأُولى ، ثمّ اعتكف في الثانية في العشر الوسطى ، ثمّ اعتكف في الثالثة في العشر الأواخر، ثمّ لم يزل صلى الله عليه و آله يعتكف في العشر الأواخر»(6).3.
ص: 517
في مسجد مكّة، أو مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله، أو جامع الكوفة، أو البصرة خاصّة
ثمّ إنّ ظاهر الأدلّة كون الاعتكاف بنفسه من العبادات، فيجوزُ أن يقتصر على التعبّد به خاصّة، وعن المصنّف في بعض كتبه(1)، وكاشف الغطاء رحمه الله(2): اعتبار قصد كون اللّبث لعبادةٍ خارجيّة، ولا دليل لهما عليه، وسيأتي تمام الكلام في ذلك في طي المسائل الآتية إنْ شاء اللّه تعالى .
الموضع الثاني: في مكانه.
لا خلاف في أنّه يعتبر أنْ يكون ذلك (في) المسجد.
وفي «الجواهر»(3): إجماعاً بقسميه.
وفي «التذكرة»(4): (وقد أجمع علماء الأمصار على اشتراط المسجد في الجملة).
وفي «المنتهى»(5): (وقد اتّفق العلماء على اشتراط المسجد في الجملة)، وتشهد به نصوص كثيرة ستمرّ عليك.
واستدلّ له: بالآية الكريمة المتقدّمة: (وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ) (6) بتقريب أنّه لو صحَّ الاعتكاف في غيره، لم يخصّ التحريم بالاعتكاف
ص: 518
في المسجد، لأنّ المباشرة حرامٌ في حال الاعتكاف مطلقاً.
أقول: قد اختلفوا في تعيينه:
فعن الشيخ(1)، والسيّدين(2)، والديلمي(3)، والمصنّف في جملة من كتبه(4)، بل في «المنتهى»(5): نسبته إلى أكثر علمائنا من أنّه يجب أن يتحقّق في مسجد جمع فيه نبيٌّ أو وصي نبيّ ، وهو أحد المساجد الأربعة على المشهور:
(مسجد مكّة، أو مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله) حيث جمع فيهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله. (أو) مسجد (جامع الكوفة أو) مسجد (البصرة) حيث جمع فيهما أميرالمؤمنين عليه السلام (خاصّة).
وعن علي بن بابويه(6): جعل موضع الأخير مسجد المدائن الذي روي أنّ الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام صَلّى فيه. وعن «المقنع»(7): الجمع بينهما.
وعن صريح جماعة وظاهر آخرين، منهم المفيد(8)، والمحقّق(9)، والشهيدان(10)أنّه المسجد الجامع أو الأعظم، أو مسجد الجماعة على اختلافهم في التعبير.
أقول: والظاهر أنّ المراد شيءٌ واحد، وهو ما يقابل مسجد السوق والقبيلة وما9.
ص: 519
شاكل ذلك من المساجد الذي لم يُعدّ لاجتماع المعظم من أهل البلد فيه.
ونسبه في محكيّ «المعتبر»(1) إلى أعيان فضلاء الأصحاب، وعن ابن أبي عقيل(2) أنّه كلّ مسجد.
وأمّا النصوص: فهي على طوائف:
الطائفة الأُولى : ما تدلّ على جواز إيقاعه في كلّ مسجد:
منها: صحيح داود بن سرحان: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي أُريد أن اعتكف، فماذا أقول، وماذا أفرض على نفسي ؟ فقال عليه السلام لا تخرج من المسجد إلّالحاجةٍ لابدّ منها، ولا تقعد تحت ضلال حتّى تعود إلى مجلسك»(3).
ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلّا لحاجة لابدّ منها، ثمّ لا يجلس حتّى يرجع، ولا يخرج في شيء إلّالجنازةٍ أو يعود مريضاً، ولا يجلس حتّى يرجع»(4).
ومنها: موثّق داود بن الحُصين، عنه عليه السلام: «لا اعتكاف إلّابصوم، وفي المصر الذي أنت فيه»(5). ونحوها غيرها.
الطائفة الثانية: ما تدلّ على أنّ مكان الاعتكاف مسجد الجامع:
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا اعتكاف إلّابصوم في مسجد الجامع»(6).6.
ص: 520
ومنها: خبر عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «لا يصلح العكوف في غيرها - يعني غير مكّة - إلّاأن يكون في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو مسجدٍ من مساجد الجماعة»(1).
ومنها: خبر عليّ بن عمران الرازي، عنه عليه السلام: «المعتكف يعتكف في المسجدالجامع»(2).
ومنها: موثّق الكناني، عنه عليه السلام: «عن الاعتكاف في رمضان في العشرالأواخر؟ قال عليه السلام: إنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: لا أرى الاعتكاف إلّافي المسجد الحرام، أو في مسجد الرسول، أو في مسجدٍ جامع»(3).
ومنها: خبر الرازي، عنه عليه السلام: «لا يكون اعتكاف إلّافي مسجد جماعة»(4).
ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «لا يصلح الاعتكاف إلّافي المسجد الحرام، أو مسجد الرسول، أو مسجد الكوفة، أو مسجد جماعةٍ ، وتصوم ما دمتَ معتكفاً»(5).
إلى غير ذلك من الأخبار.
الطائفة الثالثة: ما استدلّ بها للقول الأوّل:
منها: صحيحة عمر بن يزيد: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ فقال عليه السلام: لا اعتكاف إلّافي مسجد جماعة قد صلّى فيه إمام عدل بصلاة جماعة، ولا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة والبصرة ومسجد المدينة ومسجد مكّة»(6).1.
ص: 521
ومنها: «روي في مسجد المدائن»(1).
ومنها: مرسل «المقنعة»: «وروي أنّه لا يكون الاعتكاف إلّافي مسجدٍ جمع فيه نبيّ أو وصي نبي، وهي أربعة مساجد: المسجد الحرام جَمَع فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ومسجد المدينة جَمَع فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة جَمَع فيهما أمير المؤمنين عليه السلام»(2).
ورواه الصدوق في «المقنع» أيضاً مرسلاً(3).
أمّا الطائفة الأُولى : فلا إطلاق لشيء منها، بل هي واردة في مقام بيان أحكام أُخر، من قبيل عدم الخروج من محلّ الاعتكاف، ولزوم الإسراع في الرجوع عند الخروج في موارد جوازه، واشتراط الإقامة ليصحّ الصّوم وما شاكل، وعلى فرض ثبوت الإطلاق لها تقيّد بالطائفتين الأخيرتين.
ودعوى: أنّه يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن.
مندفعة: بأنّ المستهجن تخصيص العام بالأكثر، وأمّا تقييد الإطلاق فلا استهجان فيه، ألا ترى إنّه لم يستشكل أحدٌ في تقييد إطلاق أدلّة الجماعة، المقتضي لجواز الاقتداء بكلّ أحدٍ بما دلّ على عدم جواز الاقتداء بالفاسق وغيره ممّن لا يجوز الاقتداء به، مع أنّ العدول أقلّ من الفُسّاق.
ومع الإغماض عن جميع ذلك، فإنّه لا مجال للاستناد إليها لإعراض الأصحاب عنها، وعدم إفتائهم بمضمونها.9.
ص: 522
وأمّا الطائفة الثانية: فأورد على الاستدلال بها بوجوه:
الوجه الأوّل: عدم إفتاء الأصحاب بما تضمّنته، فإنّ المشهور بينهم - من غير مخالفٍ صريح من القدماء سوى المفيد(1) - هو اختصاص الاعتكاف بمسجدٍ صلّى فيه النبيّ أو وصيّه، وفتوى المتأخّرين لا أثر لها في هذا المقام.
وفيه: أنّ عدم إفتائهم به إنْ كان لأجل الجمع بينها وبين الطائفة الثالثة، لايوجب وهناً فيها، ومعه فلابدّ من ملاحظة أنّ الجمع تامّ أم لا.
الوجه الثاني: ما استند إليه صاحب «الرياض»(2) أنّ جملة من نصوصها متضمّنة لمسجد جماعة، ولا ريب أنّه أعمّ من الجامع، لصدقه على مسجد القبيلة إذا صلّى فيه جماعة، ولم يقولوا به، وتقيّيده بالجامع على تقدير تسليم صحّته، ليس بأولى من تقييده بما عليه أصحابنا من مسجد صَلّى فيه إمامُ الأصل جمعةً أو جماعة، بل هو أولى ، للإجماعات الكثيرة، والشهرة العظيمة، وقاعدة توقيفيّة العبادة، ووجوب الاقتصار فيها على المتيقّن ثبوته من الشريعة، مضافاً إلى الصحيحة المتقدّمة، هكذا أفاد سيّد «الرياض».
وفيه أوّلاً: أنّه فرق بين التعبير ب (مسجدٍ أُقيمت فيه جماعة)، والتعبير ب (مسجد جماعة)، وظاهر الثاني هو المسجد المُعدّ لجماعة أهل البلد عامّة من غير اختصاص بقبيلة أو محلّة أو جماعة، فالمراد به المسجد الجامع.
وثانياً: لو أنكر هذا الظهور، فلا أقلّ من الإجمال، فالمرجع إلى النصوص الاُخر المتضمّنة لمسجد الجامع.).
ص: 523
وثالثاً: أنّه لو سُلّم ظهوره في الإطلاق، يقيّد بواسطة النصوص الاُخر بالجامع.
ودعوى: أنّه ليس بأولى من التقييد بمسجدٍ صلّى فيه إمام الأصل.
مندفعة: بأنّه أولى من جهة الدليل، والاجماعات المنقولة والشهرة العظيمة قد عرفت حالها، وقاعدة توقيفية العبادة لا تنافي الالتزام بالإطلاق من جهة الدليل، ومع وجوده لا يجب الاقتصار على المتيقّن، وأمّا الصحيحة فسيمرّ عليك حالها.
وعليه، فهذه الطائفة دلالتها على المطلوب ظاهرة.
وأمّا الطائفة الثالثة: فمرسلا «المقنعة»(1) و «المقنع»(2) لا مجال للاعتماد عليهما لإرسالهما.
وأمّا الصحيح، فالاستدلال به لما هو المشهور يتوقّف على إرادة أنّ إمام الأصل هو الإمام العدل وهو غير ثابت، إذ لو سُلّم ظهور لفظ (الإمام) في إمام الأصل دون إمام الجماعة، لا نُسلّم ظهور الموصوف بعدلٍ فيه، بل الظاهر منه - سيّما بقرينة كون مورد السؤال مساجد بغداد، التي لم تكن مساجد أهل الحقّ - هو إمام الجماعة، فمحصّل جوابه عليه السلام أنّ الاعتكاف يختصّ بمسجد أهل الحقّ ، وأمّا المسجد الذي اتّخذها المخالفون محلّاً لجماعتهم وصلاتهم فما دام لم يُصلِّ فيه أهل الحقّجماعةً خلف إمامٍ عدل، فهو ليس بأهلٍ لأن يُعتَكف فيه، فكأنّه ليس بمسجد الجامع، فالمسجد الجامع لأهل الحقّ أو لهم ولغيرهم يجوز فيه الاعتكاف.
ثمّ إنّه عليه السلام دفعاً لتوهّم السائل أنّ المسجد الذي تُقام فيه جماعة المخالفين لايعتكف فيه، قال عليه السلام: (ولا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة... إلى آخره)، وبيّن9.
ص: 524
بذلك أنّ الشرط هو إقامة أهل الحقّ فيه الجماعة، دون أن تكون إقامة المخالفين الجماعة فيه مانعة، وعليه فتتطابق الطائفتان، وتدلّان على جواز الاعتكاف في المسجد الجامع مطلقاً.
ولو تنزّلنا عن ذلك، فغاية ما هناك الإجمال، فيتعيّن الرجوع إلى الطائفة المبيّنة غير المجملة.
ولو سُلّم دلالة الصحيح على ما استدلّ ، فالمتعيّن تقيّيد إطلاق النصوص المتقدّمة به.
أقول: واُجيب عنه على هذا المسلك بوجوه:
الوجه الأوّل: ما في «المستند»(1) من أنّ الوارد في أكثر النسخ (لا يعتكف) موضع (لا اعتكاف)، وهو لا يكون صريحاً في نفي الجواز لإرادة نفي الاستحباب.
وفيه: أنّه يبتني على أصله غير الصحيح، وهو عدم ظهور الجملة الخبريّة في اللّزوم.
الوجه الثاني: ما فيه أيضاً(2) من أنّ المذكور في بعض الأخبار (مسجدالجماعة) بعد ذكر (مسجد الرسول، والكوفة، ومسجد الحرام)، فيكون المراد من مسجد الجماعة غيرها البتّة.
ويرد عليه: أنّ غاية ما هناك حينئذٍ التعارض، والترجيح مع الصحيح، لكونه ممّا اشتهر بين الأصحاب، والشهرة أولى المرجّحات.
الوجه الثالث: ما فيه أيضاً(3) من أنّه لو سُلّم دلالته، لايصحّتخصيص النصوص المتقدّمة به، وإلّا لزم خروج الأكثر، وهو غير جائز فيقع التعارض بينهما، وهي أرجح من جهة الموافقة لإطلاق الكتاب العزيز، وهي من المرجّحات المنصوصة.3.
ص: 525
وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أنّه لا محذور في تقييد إطلاقها.
وثانياً: أنّه لو سُلّم التعارض، فعلى ما هو الحقّ من الترتيب بين المرجّحات، وأنّ المراد بالشهرة هي الشهرة الفتوائيّة، لابدّ من تقديم الصحيح لأنّه أشهر، والشهرة مُقدّمة على موافقة الكتاب.
أقول: وبما ذكرناه ظهر إشكال ما في «الجواهر»(1) حيث قال: (فهو مع اتّحاده، وكونه من قسم الموثّق واحتماله ما عرفت، قاصرٌ عن معارضته لما تقدّم، سيّما بعد اعتضاده بظاهر الآية بناءً على دلالتها على مشروعيّته بكلّ مسجد)، انتهى .
وعليه، فالعمدة ما ذكرناه، والمتحصّل جواز الاعتكاف في كلّ مسجدٍ جامع، بشرط أن يكون قد صلّيفيه إمام عدل بصلاة الجماعة، ولاتعتبر صلاة إمام الأصل فيه.
فروع:
الفرع الأوّل: لو فرض تعدّد الجامع في البلد الواحد، فهل يجوز الاعتكاف في كلّ منهما أم لا؟
قد يقال بالثاني، نظراً إلى أنّ أيّاً منهما ليس مسجد جامع البلد، وكونهما معاً جامعاً لا يكفي، فإنّ المعتبر كون المسجد الذي يعتكف فيه جامعاً.
ولكن يرد عليه: أنّ المراد بالجامع ليس ما يجتمع عامّة أهل البلد فيه، وإلّا قلَّ مسجدٌ يكون كذلك، خصوصاً في هذه الأزمنة التي لا تجب فيه إقامة صلاة الجمعة، بل المراد به ما هو معدٌّ لذلك، وعليه فكلّ منهما يصدق عليه الجامع، فيصحّ الاعتكاف فيه.3.
ص: 526
الفرع الثاني: مع فرض التعدّد:
هل يجوز أن يجمع بينهما في الاعتكاف، بأن يلبث بعض المدّة في أحدهما وبعضها الآخر في الثاني ؟
أم لا يجوز ذلك كما في «الجواهر»(1)؟
أم يفصّل بين ما إذا كان أحدهما متّصلاً بالآخر بالباب فيجوز، وبين غيره فلا يجوز كما عن كاشف الغطاء(2)؟ وجوه.
وجه الأوّل: أنّ مقتضى إطلاق الأدلّة، هو أنّ المعتبر اللّبث في المدّة المعيّنة في الجامع، ولم يدلّ دليلٌ على اعتبار وحدة ذلك، وعليه فإنْ كانا متصلين بالباب فلا كلام، وإلّا فخروجه من أحدهما في نفسه، وإنْ كان غير جائزة - كما سيأتي - إلّاأنّه إذا خرج في موارد جوازه، فكما أنّ له أن يرجع إلى الجامع الأوّل، يجوز له أن يذهب إلى الجامع الثاني.
وجه الثاني: الوارد في بعض النصوص المتقدّمة - كصحيح داود -: «لا تخرج من المسجد إلّالحاجة لابدّ منها، ولا تقعد تحت ضلالٍ حتّى تعود إلى مجلسك» ونحوه غيره، وهذه ظاهرة في اعتبار الوحدة.
ولكن يرد عليه: أنّه لا يعتبر في الاعتكاف أن يلبث في مكانٍ معيّن من الجامع، بل له أن يغيّر مكانه من موضعٍ إلى موضع آخر، فالمراد من (مجلسك) هو المحلّ الذي لابدّ من اللّبث فيه في المدّة المعيّنة، فكما أنّه يصدق على ما لو رجع إلى موضعٍ آخر من المسجد، كذلك يصدق على ما لو رجع إلى مسجدٍ آخر.).
ص: 527
فالأولى أن يستدلّ له: بأنّ المأخوذ في الأدلّة ليس هو هذا العنوان الصادق على الواحد والمتعدّد، بل المأخوذ خصوص عنوان (مسجدٍ جامع)، وظهور ذلك في الوحدة لا يُنكر، فالأظهر اعتبار وحدة المسجد، فلا يجوز أن يشترك بينهما.
الفرع الثالث: إذا كان الجامع واحداً ولكن فصّل بحاجزٍ، جاز أن يعتكف في كلّ منهما لأنّه بعضه، فهل يجوز أن يخرج عن أحدهما إلى الآخر - كما في «المنتهى»(1) - فيما إذا كان أحدهما ملاصقاً للآخر، بحيث لا يحتاج إلى المشي في غيرهما، أم لا؟
وجهان، مبنيّان على صدق الوحدة والتعدّد، فعلى الأوّل يجوز، وعلى الثاني لايجوز، ولعلّ ذلك يختلف باختلاف أفراد الحاجز.
ولو شكّ في صدق الوحدة أو التعدّد، يبني على الأوّل، فإنّهما كانا واحداً سابقاً، ويُشكّ في عروض التعدّد، فيستصحب الوحدة بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الشبهات المفهوميّة.
الفرع الرابع: هل يجوز الاعتكاف في الفتحات الموجودة داخل حيطان المسجد التي من جانبها أو في داخل آبارها التي فيه، أو على السطح والمنائر والمحراب والسرداب ونحوها ممّا هو مبنيٌّ على الدخول، ما لم يعلم الخروج، أم لا؟
الظاهر ذلك، فإنّها من أجزاء المسجد وأبعاضه، فيشملها إطلاق الأدلّة، والانصراف إلى خصوص الرواق الداخل ممنوع، وعلى فرضه يزول بأدنى تأمّل، ومثله لا يصلح لتقييد الإطلاق، فما عن «الدروس»(2) من تحقّق الخروج عن المسجد بالصعود على السطح لعدم دخوله في معناه ضعيف.
***0.
ص: 528
وشرطه النيّة.
الموضع الثالث: البحث عن شرائط الاعتكاف:
الشرط الأوّل: يقول المصنّف (وشرطه النيّة) بمعنى الإرادة المحرّكة للعضلات الموجبة لاختياريّة الفعل مع قصد القُربة، بلا خلافٍ في ذلك في الجملة.
أمّا دخل الأوّل: فواضحٌ ، فإنّ الفعل غير الاختياري لا يُتّصف بحسنٍ ولا قبح، ولا يكون متعلّق التكليف.
وأمّا اعتبار الثاني: فلدخله في العبادات، والاعتكاف منها إجماعاً.
وقد مرّ بسط الكلام في النيّة وخصوصياتها في المباحث المتقدّمة، فلا نعيد، وإنّما نشير هنا إلى بعض الفروع الذي وقع الخلاف بين الفقهاء فيها:
الفرع الأوّل: أنّه بناءً على أنّ الاعتكاف المندوب بعد مُضيّ اليومين يصبح واجباً - كما سيأتي - كيف يصحّ فرض صدور النيّة ؟
قد يقال: - كما عن سيّد «المدارك» رحمه الله(1) - بأنّه ينوي من الأوّل كذلك، بمعنى أنّ اليومين الأوّلين على سبيل الندب والباقي على وجه الوجوب.
وأورد عليه: بأنّه يلزم تقديم النيّة على محلّها، لأنّ محلّها أوّل الفعل، والفعل الواجب محلّ النيّة فيه هو أوّل ما يتعلّق الوجوب به.
وفيه أوّلاً: أنّ النيّة ليست هي الإخطار، بل هي عبارة عن الدّاعي المحرّك
ص: 529
للعضلات، وعليه فمع التقديم حيثُ يكون ذلك باقياً حين العمل، يندفع الإشكال.
وثانياً: لو سُلّم أنّ المراد بها الإخطار، وأنّ ذلك معتبرٌ، فلا ريب في أنّ المعتبر هو الإخطار مقارناً لأوّل المركّب، وأمّا عند كلّ جزءٍ بالخصوص فلا يعتبر قطعاً، وهذا ما لم يلتزم به أحد، فاعتكاف اليوم الثالث بما أنّه جزءُ المأمور به لا يعتبر الإخطار في أوّله.
وقد يقال: - كما في «الشرائع»(1) - بأنّه إنْ كان مندوباً نوى الندب، فإنْ مضى يومان وجب الثالث على الأظهر، وجدّد نيّة الوجوب.
أُورد عليه: بعض المحشّين(2) بأنّ الثلاثة أقلّ ما تتحقّق به هذه العبادة، وهي متّصلة شرعاً، ومن شأن العبادة المتّصلة أن لا تفرّق النيّة على أجزائها، بل تقع بنيّة واحدة.
وفيه: لا دليل على المنع عن توزيع النيّة بالنحو المذكور، فإنّ الدليل دلَّ على لزوم إتيان المأمور به بقصد الأمر المتوجّه إليه، فلو نوى إتيان كلّ جزءٍ على نحو الاستقلال، بطل من جهة أنّ الجزء مستقلّاً غير مرتبط بالأجزاء الأخر، لا أمر به فيبطل لذلك.
وأمّا لو نوى عند إتيان كلّ جزءٍ الأمر الضمني المتعلّق به، وبنائه على ضَمّ سائر الأجزاء إليه، فلا إشكال في صحّته، كما اعترف الأصحاب بجوازه في الوضوء وغيره.
وقد يقال: - كما في «الجواهر»(3) - بأنّه حيث يكون اعتكاف الثلاثة عبادة3.
ص: 530
واحدة، ولا توصف قبل الوقوع إلّابالندب، فهو حينئذٍ وجهها، فيجوز أن ينوي قبل الشروع فيه الندب، والوجوب الحاصل بعد يومين من أحكام تلك العبادة المندوبة لا من وجوه أمرها، ضرورة كونه بأمرٍ آخر غير الأمر بأصل الاعتكاف، فلا يعتبر في صحّته أصل النيّة، فضلاً عن نيّة الوجه، ولذا لو أتمّ المكلّف الفعل بالاستدامة على مقتضى الأمر الأوّل غير عالمٍ بالأمر الثاني صحَّ فعله قطعاً.
وفيه: أنّه لا يعقل أنْ يأمر المولى بفعلٍ قبل مجيء زمانه، وحين العمل يتبدّل ذلك الأمر بأن يسقط ويأمر به بأمرٍ آخر مغاير له، كما لا يصحّ أن يكون ذلك الأمر باقياً ويأمر به بأمرٍ آخر:
أمّا الأوّل: فلأنّ الأمر إنّما هو للبعث نحو الفعل، وتحريك العضلات نحوه، فمع فرض عدم باعثيّته من جهة أنّه ما لم يأتِ زمان الفعل لا يكون هذا الأمر صالحاً للباعثيّة، وبعد مجيء زمانه يسقط الأمر، فلا يصل إلى مرتبة الباعثيّة أبداً، فمثل هذا الأمر لغو، ويستحيل صدوره من الحكيم.
وأمّا الثاني: فلأنّه يلزم منه اجتماع المثلين مع أنّ الأمرين بلا منشأ، مضافاً إلى أنّه لو كان كذلك كان الأمر الوجوبي أيضاً من الأوّل.
والغريب أنّه قدس سره ينكر وجود الأمر الوجوبي من الأوّل، نظراً إلى أنّ زمان الامتثال بعد يومين، فلا يصحّ توجّه الخطاب قبله، ولا يرى محذوراً في وجود الأمر الندبي، ولم يظهر الفرق بينهما من هذه الجهة.
وبالجملة: فالحقّ أنّه بناءً على اعتبار قصد الوجه، حتّى قصد وجه الاجزاء من الوجوب أو الندب، يتعيّن اختيار أحد الأولين، فإنّ اعتكاف اليوم الثالث من الأوّل مأمورٌ به بأمرٍ وجوبي، غاية الأمر أنّه مشروط بإتيان الاعتكاف في
ص: 531
اليومين الأولين، ولكن الأظهر - كما مرّ في كتاب الصَّلاة(1) مفصّلاً - أنّه لا يعتبر قصد الوجه، ولا قصد الوجوب والندب، وعلى فرض اعتباره لا يعتبر قصد وجه الأجزاء، وعلى ذلك - فكما أفاده ثاني الشهيدين رحمه الله(2) - نستريح من الإشكالات.
وله رحمه الله في المقام كلامٌ الظاهر منه: أنّه يسلك مسلكنا في الوجوب والندب، إذ قد مرّ أنّ الوجوب والندب عندنا خارجان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه، وأنّ الأمر في الموردين يستعمل في معنى واحد، وإنّما هما ينتزعان من ترخيص المولى في ترك ما أمر به، المستلزم عدم ترتّب العقاب على الترك، وعدم ترخيصه فيه.
وقال قدس سره (3) : (إنّ معنى وجوب الثالث على القول به، ترتّب الثواب على فعله، والعقاب على تركه بخلاف غيره). انتهى .
أقول: وهذا الكلام كالصريح في خروج الوجوب عن دائرة المستعمل فيه والموضوع له، وأنّه ينتزع من الأُمور اللّاحقة له.
الفرع الثاني: لو تخيّل المكلّف وجوب الاعتكاف عليه فأتى به كذلك، فهل يصحّ ما أتى به فيه ؟ أقوالٌ ثالثها التفصيل بين ما إذا كان قاصداً للأمر الواقعي المتوجّه إليه وإن اعتقد كونه هو الوجوبي، فيكون من باب الخطأ في التطبيق ويصحّ ، وبين ما إذا قصد الأمر الوجوبي على نحو التقييد، فلا يصحّ ، ونظيره ما لو اعتكف في مسجدٍ يتخيّل أنّه المسجد الخاص فتبيّن غيره. وله نظائر أُخر.
أقول: الحقّ هو الصحّة في الجميع، ولا أثر للتقيّد في هذه الموارد، لما ذكرناه في الجزء الأوّل من هذا الشرح في مبحث الوضوء، من أنّ الضابط في صحّة العبادة هو الإتيان بالمأمور به بحدوده وقيوده مضافاً إلى المولى، ولا يعتبر شيءٌ آخر وجوديد.
ص: 532
والصّوم.
أو عدمي فيها، وعليه فبما أن كون الأمر وجوبيّاً، أو كون هذا المسجد مسجداً معيّناً وما شاكل، لا يعدّ جزءً ولا قيداً للمأمور به، وقصده لا ينافي الإضافة إلى المولى، فمن أتى باعتكافٍ بتخيّل وجوده، أو بتخيّل كونه في مسجد خاص فهو آتٍ بجميع ما يعتبر في الاعتكاف، فإن أضافه إلى المولى ، كان لا محالة صحيحاً، ولا ينافيه القصد المزبور، فراجع تلك المسألة لملاحظة ما أورد على ذلك وما أجبنا به عنه.(1)
(و) الشرط الثاني: ممّا يعتبر في الاعتكاف هو (الصّوم)، فلا يصحّ بدونه، بلا خلافٍ أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه، كما في «الجواهر»(2).
وفي «المنتهى»(3): (والصّوم شرطٌ في الاعتكاف، وهو مذهب علماء أهل البيت عليهم السلام). انتهى .
ويشهد به:
1 - صحيح الحلبي، عن الصادق عليه السلام: «لا اعتكاف إلّابصوم»(4).
2 - ومثله صحيح محمّد بن مسلم(5)، وموثّقه(6)، وموثّق أبي العبّاس(7).
ص: 533
3 - وخبر أبي بصير، عنه عليه السلام، في حديثٍ : «ومن اعتكف صام»(1).
4 - وصحيح الحلبي، عنه عليه السلام، في حديثٍ : «وتصوم ما دمت معتكفاً»(2).
إلى غير ذلك من النصوص المستفيضة، إنْ لم تكن متواترة.
أقول: وتمام الكلام يتحقّق في البحث في جهات:
الجهة الاُولى: المعروف بين الأصحاب: أنّه لا يشترط فيه أن يكون صومه لخصوص الاعتكاف، بل يكفي في صحّة الاعتكاف وقوعه معه، وإنْ لم يكن له، سوءٌ أكان الصّوم واجباً عليه أو مندوباً، بل قال صاحب «المعتبر»(3) إنّ عليه فتوى علمائنا، ويقتضيه إطلاق النصوص والأخبار المتضمّنة لاعتكافه صلى الله عليه و آله في العشر الأواخر من شهر رمضان، مع أنّه لا يصحّ صومٌ آخر في شهر رمضان إجماعاً، ولم يكن صلى الله عليه و آله صائماً إلّابصوم شهر رمضان قطعاً.
الجهة الثالثة: ولو نذر أن يعتكف ثلاثة أيّام، ففي «التذكرة»(4): (وجب الصّوم بالنذر، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّابه يكون واجباً).
وأورد عليه صاحب «المدارك» رحمه الله(5): (بأنّ النذر المطلق يصحّ إيقاعه في صوم شهر رمضان أو واجب غيره، فلا يكون نذر الاعتكاف مقتضياً لوجوب الصّوم). انتهى .5.
ص: 534
أقول: إنّ المصنّف رحمه الله إنْ أراد بما في «التذكرة»(1) أنّه يجبُ الصّوم غير الصّوم الواجب عليه في نفسه، كان الإيراد عليه متيناً، ولكنّه يصرّح بأنّه لو اعتكف في شهر رمضان، صحَّ اعتكافه وكان صومه واقعاً عن رمضان، واجزأه عن صوم اعتكافه الواجب، وعليه فمراده أنّ الصّوم يجبُ بالنذر، وهو ما له أفرادٌ واجبة ومستحبّة، واختيار التطبيق بيد المعتكف، فإنْ اعتكف في شهر رمضان، كان المنذور منطبقاً على صوم ذلك الشهر، فينطبق عليه عنوانان؛ كلّ منهما واجبٌ ، فيلتزم بالوجوب الأكيد، وإنْ اعتكف في غيره صار الصوم المندوب واجباً فلا إيراد عليه.
الجهة الثالثة: لازم هذا الشرط، عدم صحّة الاعتكاف في زمان لا يصحّ الصّوم فيه كالعيدين، ولا ممّن لا يصحّ صومه كالحائض والنفساء، وهذا ممّا لا كلام فيه ولا خلاف.
إنّما الكلام في أنّه هل يصحّ الاعتكاف في السفر، كما عن ابن بابويه(2)، والشيخ(3)، وابن إدريس(4)، أم لا يصحّ كما لعلّه المشهور؟
واستدلّ للأوّل: بأنّه عبادة مطلوبة للشارع، لا يشترط فيها الحَضَر، فجاز صومها في السفر.
وأورد عليه تارةً : بأنّه يكفى في اشتراط الحَضَر في اشتراطه في شرطه وهو الصّوم.4.
ص: 535
وأُخرى : بأنّه لو سُلّم دلالة ما دلّ على مطلوبيّة الاعتكاف مطلقاً، الشامل للسفر على مشروعيّة الصّوم في السفر، ومع التعارض بينه وبين ما دلّ على عدم الصّوم في السفر، والنسبة عمومٌ من وجه، والترجيح مع الثاني.
أقول: إنّه حتّى ولو سُلّم شمول إطلاقه للسفر، لا يلزم منه مشروعيّة الصّوم في السفر، فإنّ حقيقة الإطلاق رفض القيود لا الجمع بين القيود، فمعنى إطلاق دليل مطلوبيّة الاعتكاف للاعتكاف في السفر، ليس مطلوبيته منه بقيد أنّه مسافرٌ، بل معناه أنّ الحَضَر والسفر غير دخيلين في الحكم، وتمام الموضوع هو الاعتكاف.
وعليه، فحيث إنّ دليل الاعتكاف كما مرّ لا يدلّ على أنّ الشرائط فيه هو الصّوم مطلقاً، بحيث يكون هذا الأمر دليل مشروعيّته، بل يدلّ على شرطيّة الصّوم المشروع له، فغاية ما يلزم من الإطلاق المزبور مطلوبيّة قصد الإقامة مقدّمةً للصوم والاعتكاف.
وإنْ شئتَ قلت: إنّ دليل مطلوبيّة الاعتكاف وإنْ استلزم منه الأمر بالصوم، ولكن حيث لم يبيّن قيوده وحدوده، فمقتضى إطلاقه المقامي اعتبار جميع ما يعتبر في الصّوم في غير المقام فيه، ومن تلك القيود أن يكون الصائم غير مسافر، نظير الإطلاق المقامي لدليل استحباب صلاة ركعتين، المقتضي لاعتبار الطهارة فيها كسائر الصلوات، فدليل الاعتكاف يدلّ على اعتبار الحضر أو قصد الإقامة في الصّوم، ولا يدلّ على صحّته من المسافر، فتدبّر فإنّه دقيق.
***
ص: 536
وإيقاعه ثلاثة أيّام فما زاد.
(و) الشرط الثالث: (إيقاعه) أي الاعتكاف (ثلاثة أيّام فما زاد) بلا خلاف.
وفي «المنتهى»(1): (لا يجوز الاعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام بليلتين، وهو مذهب فقهاء أهل البيت عليهم السلام، والجمهور كافّة على خلافه). انتهى .
ونحوه في دعوى الإجماع على ذلك ما في «التذكرة»(2)، والنصوص شاهدة به:
منها: صحيح أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا يكون الاعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام»(3).
ومنها: موثّق عمر بن يزيد، عنه عليه السلام: «لا يكون اعتكاف أقلّمن ثلاثة أيّام»(4).
ومنها: خبر داود بن سرحان: «بدأني أبو عبد اللّه عليه السلام من غير أن أسأله، فقال:
الاعتكاف ثلاثة أيّام، يعني السُنّة إنْ شاء اللّه»(5).
إلى غير ذلك من الأخبار، وعليه فلا كلام ولا إشكال في أصل الحكم، إنّما الكلام في فروع:
الفرع الأوّل: هل المراد باليوم في النصوص هو النهار خاصّة، أو ما يعمّ اللّيل ؟
ص: 537
وقد يقال بالثاني، ونُسب إلى جماعةٍ منهم الشهيد الثاني رحمه الله(1).
واستدلّ له: بأنّ المراد ب (اليوم) ذلك إمّا لكونه اسماً لمجموع اللّيل والنهار، أو للتغليب.
وفيه: أنّ (اليوم) اسمٌ للنهار خاصّة، ففي «المجمع»(2): (واليوم معروفٌ من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس) انتهى .
وربما يشهد له في الجملة قوله تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً) (3).
والتغليبُ لا يصلح أن يكون قرينةً لإرادة الأعمّ منه، وعليه فهل تدخل اللّيالي في الزمان الذي يعتبر في الاعتكاف، أم لا؟ فيه أقوال:
أحدها: ما هو المشهور بين الأصحاب، وهو دخول اللّيليتين، أي ليلتي الثاني والثالث فيه، وقد مرّ ما في «المنتهى»(4) من دعوى الإجماع عليه.
وعن الشهيد الثاني(5)، والمصنّف في بعض كتبه(6) دخول اللّيلة الأُولى أيضاً.
وعن بعضٍ (7) دخول اللّيلة الرابعة أيضاً.
وعن ظاهر «الخلاف»(8) و «المبسوط»(9) عدم دخول اللّيلتين المتوسّطتين،9.
ص: 538
فضلاً عن الأُولى والرابعة.
وقد تكلّف بعضٌ لإرجاع ما فيهما إلى ما عليه الأصحاب.
وكيف كان، فالمهمّ ملاحظة الدليل، وقداستدلّ لدخول اللّيلتين المتوسّطتين بوجوه:
الوجه الأوّل: ما في «الجواهر»(1)، و «المستند»(2)، وغيرهما(3) من أنّ المنساق من النصوص المتضمّنة أنّ الاعتكاف لا يكون إلّاثلاثة أيّام، هو الثلاثة المتتابعة، واستمرار حكم الاعتكاف، وأنّه لا انقطاع فيه.
وفيه: أنّ المأمور به لو كان هو الاعتكاف من اليوم الأوّل إلى آخر اليوم الثالث كان هذا الظهور غير مردودٍ، ولكن المأمور به هو الاعتكاف، أي اللّبث في المسجد ثلاثة أيّام، والمفروض خروج اللّيالي عنها، وعليه فغاية ما يستفاد من النصوص، هي أنّ اللّبث في المسجد في جميع ثلاثة أيّام عملٌ واحد، وفيه مصلحة واحدة، ومأمور به بأمر واحد، أمّا أنّه يعتبر أن لا ينقطع لبث اليوم الأوّل عن اليوم الثاني والثالث، فهذه النصوص لا تدلّ عليه، فكما أنّ الخروج لحاجةٍ لا يضرّ بوحدة العمل، فليكن الخروج باللّيل كذلك.
الوجه الثاني: ما قاله صاحب «الرياض»(4): (لو لم يدخلا لتحقّق الخروج منه بدخول اللّيل، فجاز فعل المنافي، فانقطع اعتكاف ذلك اليوم عن غيره، فيصير منفرداً، فحصل اعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام، وهذا خلف)، انتهى .
وفيه: أنّه لا يلزم من تحقّق فعل المنافي الذي دلَّ الدليل على كونه موجباً).
ص: 539
لبطلان الاعتكاف - ولو وقع في اللّيل - حصول اعتكافٍ أقلّ من ثلاثة أيّام، بل لازمه بطلان الواقع، نظير ما لو صلّى ركعةً وقطعها، مع أنّ الخروج في اللّيل حينئذٍ من قبيل الخروج لحاجة مسوّغة له في اليوم.
الوجه الثالث: عدم إمكان توجيه الأخبار المتضمّنة لثبوت الكفّارة لو جامع أهله باللّيل، برغم أنّ اللّيل غير داخل في زمان الاعتكاف.
وفيه: أنّه لا كلام في جواز الاعتكاف باللّيل، بمعنى جعله جزءً للاعتكاف، إنّما الكلام في اعتبار ذلك، وعليه فحيثُ أنّ النصوص تدلّ على أنّه لو جامعها وهو معتكفٌ ثبت عليه الكفّارة، فغاية مايستفاد منها صحّة الاعتكاف في اللّيل لا اعتباره.
الوجه الرابع: فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فإنّه كان يبقى في اللّيالي أيضاً معتكفاً، فيجب ذلك للتأسّي به.
وفيه: أنّ الفعل أعمٌّ من الاستحباب واللّزوم.
الوجه الخامس: الإجماع.
وفيه: أنّه يمكن أن يكون مدرك المجمعين بعض ما تقدّم.
أقول: والحقّ أن يستدلّ له بالنصوص الآتية الدالّة على عدم جواز خروج المعتكف ما دام لم يُتمّ ثلاثة أيّام، الشامل إطلاقها للخروج في اللّيل، وما دلّ على ثبوت الكفّارة على المرأة المعتكفة بإذن زوجها، إذا خرجت ولو باللّيل من المسجد، قبل انقضاء الثلاثة وواقعها زوجها، فلا ينبغي التوقّف في دخولهما.
وأمّا اللّيلة الأُولى : فقد قيست بالثانية والثالثة، وقيل بدخولها.
ولكنّه قياسٌ مع الفارق، لما عرفت من أنّ وجه دخولهما ليس دخل اللّيلة في مفهوم (اليوم) كي يقال لا فرق بين الأولى والثانية، بل الأدلّة المانعة عن الخروج
ص: 540
بعد الاعتكاف، والمثبتة للكفّارة لترتيب الكفّارة على المواقعة في أثناء الثلاثة، وهذه النصوص لا تشمل اللّيلة الأُولى .
وأمّا الرابعة: فلم أظفر بوجهٍ يمكن أن يستدلّ به لدخولها، بل قال صاحب «الجواهر»(1): (خبر عمر بن يزيد المتقدّم في كتاب الصّوم، صريحٌ في نسبة هذا القول للمغيرية، وأنّهم كذبوا فيه). انتهى .
نعم، له إدخالها في الاعتكاف إذ لا حَدّ لأكثره.
الفرع الثاني: هل يُجزي التلفيق في الثلاثة، بأن يعتكف يومين ونصفاًمن سابقه، ونصف يومٍ من اليوم الرابع، كما عن «المختلف»(2)، و «الجواهر»(3)؟
أم لا يُجزي، ويعتبر كون الثلاثة تامّة، كما عن «المبسوط»(4) وغيره(5)؟
وجهان مبنيّان على أنّ (اليوم) المأخوذ في لسان الدليل، الظاهر في التامّ :
هل أُخذ على نحو الطريقيّة في الساعات النهاريّة، كما في نظائر المقام من الإقامة عشرة أيّام، وأيّام الحيض والنفاس وما شاكل، فيجتزأ بالنهار الملفّق ؟
أم أُخذ على نحو الموضوعيّة، فلا يجتزأ به ؟
وحيثُ أنّ ظاهر كلّ عنوان أُخذ في الدليل دخله في الموضوع بما هو، لا بما أنّه طريقٌ إلى شيء آخر - ما لم يثبت الخلاف - فالأظهر عدم الاجتزاء به، وثبوت ذلك في نظائر المقام لا يكفي كما هو واضح.8.
ص: 541
الفرع الثالث: بناءً على أنّه لا حَدّ لأكثر الاعتكاف، لا كلام في الاعتكاف المندوب، فإنّه كلّما ازداد في الاعتكاف بعد الثلاثة يكون ذلك أفضل، وإنْ كان المجموع اعتكافاً واحداً، كما لا كلام في الواجب منه لو نذر معيّناً كخمسة أيّام أو أربعة أو ثلاثة وما شاكل.
إنّما الكلام في أنّه إذا نذر الاعتكاف وأطلق:
فإنْ أتى بثلاثة خاصّة، فلا كلام، لصدق المنذور عليه.
وأمّا إنْ زاد على الثلاثة، كما لو اعتكف أربعة أيّام ففي «الجواهر»(1): (أنّ المنذور ينطبق على أربعة)، ثمّ طرح إشكالاً وأجابَ عنه:
أمّا الإشكال: لو قيل: (إنّ لازم ذلك الالتزام بالتخيير بين الأقلّ والأكثر، وهو في الواجب غير معقول، لحصول الأقلّ دائماً قبل الأكثر، فيسقط الواجب).
وأجاب عنه: (بأنّه لا يمتثل التكليف الوجوبي في الفرض بالأقلّ الذي صار بعد فرض قصد المكلّف الزائد جزءً ، بل قد يحتمل عدم اعتبار القصد أخيراً له بعد القصد الأوّل، لعدم الدليل على مشروعيّته كذلك) انتهى .
وفيه: إنّ التكليف الوجوبي بمقتضى النذر، متعلّقٌ بنفس ما تعلّق به التكليف الندبي، ومن المعلوم أنّ قصد الاقتصار على الثلاثة، لا يعتبر في امتثاله، كما أنّ قصد الزائد عليها لا يكون مانعاً عن تحقّق الامتثال بها، ولذا لو قصد من الأوّل أن يعتكف أربعة أيّام فبعد ثلاثة أيّام انصرف صحَّ اعتكافه قطعاً، فكذلك بالنسبة إلى التكليف النذري، ودليل مشروعيّته حينئذٍ هو المطلقات، بعد عدم الدليل على مانعيّة قصد الزائد واقتضاء الأصل عدمها، فالمتعيّن هو البناء على حصول الامتثال6.
ص: 542
بإتيان الاعتكاف ثلاثة أيّام، والزائد عليها يكون من الاجزاء المستحبّة، ولا محذور في ذلك.
الفرع الرابع: لو نذر اعتكاف عشرة أيّام، لا يجبُ عليه التتابع، بل له أن يعتكف ثلاثة ثلاثة، ولا يجوز الفصل بين أقلٍّ من ذلك، إذ لا اعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام، وإذا أراد أن يعتكف اليوم العاشر، فإنْ وصله بما قبله لا إشكال، وإلّا فلابدّ من ضم يومين آخرين إليه تحقيقاً لشرط الصحّة.
فهل له التفريق يوماً فيوماً، على أنّ يصوم مع كلّ يومٍ من النذر يومين ندباً، كما عن «المختلف»(1)، أم لا؟
الظاهر هو الثاني، لا لما قيل من إنّه لا يصحّ الصّوم تطوّعاً ممّن عليه الصّوم الواجب، فإنّه فاسدٌ، ولا وجه له سوى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، والنهي عن العبادة يوجبُ فسادها، والقياس على صوم رمضان وكلاهما فاسدان.
بل لأنّ المأمور به الوجوبي لا لون له ولا خصوصيّة زائدة على الاعتكاف مع الصّوم، فبإتيان الصّوم في اليوم الثاني مع الاعتكاف، ينطبق عليه الواجب قهراً، إذ انطباق المأمور به على المأتي به في صورة المطابقة قهريٌ ليس قصديّاً حتّى يقال إنّه يقصد الصّوم المندوب، مع أنّه لو قصد الصّوم المندوب أيضاً صحّ اعتكافه، ووقع امتثالاً للأمر النذري، لعدم دخل الصّوم الخاص في الاعتكاف، فنذره ليس نذراً لصوم معيّن.
وهل تدخل اللّيالي في النذر أم لا؟
الظاهر دخول اللّيلتين المتوسّطتين بين كلّ ثلاثة أيّام، لما مرّ من أنّ الاعتكاف6.
ص: 543
في الثلاثة بدون اللّيلتين باطل.
نعم، لو نذر اعتكاف العشر الأواخر من الشهر، دخلت جميع اللّيالي حتّى اللّيلة الأُولى لكونها من العشر الأواخر.
وأمّا لو نذر اعتكاف عشرة أيّام، فله أن يشرع في الاعتكاف من أوّل طلوع الفجر إلى غروب الشمس من اليوم الثالث، ثمّ يخرج ولا يعتكف اللّيلة الرابعة، ثم يعتكف من أوّل طلوع الفجر من اليوم الرابع إلى غروب الشمس من اليوم السادس، ولا يعتكف اللّيلة السابعة أيضاً، ثمّ يعتكف من أوّل طلوع الفجر من اليوم السابع إلى آخر يوم العاشر.
الفرع الخامس: آخر وقت الاعتكاف من اليوم الثالث هو غروب الشمس - الذي هو آخر وقت الصّوم، والظهرين، وأوّل وقت العشائين - لا غروب الحُمرة المشرقيّة، كما تقدّم تفصيل القول في ذلك في مبحث المواقيت(1) من هذا الشرح.
***3.
ص: 544
أقول: ذكر الأصحاب شرائط أُخرى لصحّة الاعتكاف:
الشرط الأوّل: الإسلام.
الشرط الثاني: الإيمان.
الشرط الثالث: البلوغ.
الشرط الرابع: العقل.
وسيأتي الكلام مفصّلاً في اعتبار هذه الأُمور في العبادات الّتي منها الاعتكاف في كتاب الحجّ .
الشرط الخامس: استدامة اللّبث في المسجد، وسيأتي الكلام في ذلك أيضاً في الموضع الثالث عند بيان الأحكام، لأنّ المصنّف رحمه الله تعرض لهذه الجهة هناك.
الشرط السادس: إذن المستأجر في اعتكاف الأجير، إذا كان العمل المستأجر عليه منافياً مع الاعتكاف، وعُلّل ذلك بوجوه:
منها: أنّ المستأجر مالكٌ لمنفعة الأجير، فلا يصحّ صرفها في الاعتكاف بغير إذنه، لأنّه تصرّفٌ في ملك الغير فلا يجوز.
أقول: إذا كانت الإجارة بنحوٍ أوجبت مالكيّة المستأجر لمنفعة الاعتكاف صحَّ ما ذكر، وإلّا فلا.
ومنها: أنّ الأجير مأمورٌ بالعمل على المستأجر، وهو يقتضي النهي عن الاعتكاف، والنهي يقتضي الفساد.
وفيه: ما حُقّق في محلّه من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، مع أنّه
ص: 545
ربما لا يكون الاعتكاف ضدّاً للعمل المستأجر عليه، كما لو استؤجر على عمارة المسجد، أو حفر بئر فيه، أو خياطة فرشه في أيّام معيّنة وما شاكل.
ومنها: أنّ الاعتكاف الأجير في زمان كونه أجيراً للغير تفويتٌ لحقّ الغير فيكون حراماً، والحرمة في العبادة موجبة للفساد.
وفيه: أنّ الاعتكاف لا يكون تفويتاً، فإنّ له أن لا يعتكف ولا يعمل للمستأجر، فلا وجه لحرمته سوى اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه، وقد عرفت ما فيه.
وعليه، فالأظهر أنّه لا يعتبر إذن المستأجر إلّاإذا استأجره بنحوٍ ملك عليه منفعة الاعتكاف.
الشرط السابع: إذن الزوج بالنسبة إلى الزوجة، إذا كان منافياً لحقّه، وقد نفي صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) وجدان الخلاف فيه، وعلّل ذلك بمالكيّة الزوج منافعها، فلا يجوز لها صرفها بغير إذنه.
وفيه: أنّ الزوج لا يملك منافع الزوجة، ولا دليل على ذلك، وغاية ما ثبت بالدليل أنّ له الاستمتاع بها متى شاء.
أقول: والحقّ أن يُستدلّ له في بعض الصور بوجهين:
أحدهما: أنّه دلّ النَّص على عدم جواز خروج المرأة عن بيت زوجها بغير إذنه، وفهم الفقهاء منه - ونعم ما فهموه - أنّ المراد حرمة المكث خارج المنزل مع عدم الإذن، ففي هذا المورد لو اعتكفت بطل اعتكافها، لأنّ الاعتكاف الذي هو اللّبث في المسجد يعدّ بنفسه مصداقاً للمنهيّ عنه فيكون حراماً، فلا يمكن الأمر به،5.
ص: 546
لامتناع اجتماع الأمر والنهي، فيتمحّض في الحرمة.
ثانيهما: أنّه قد تقدّم أنّ للزوج منع الزوجة عن الصّوم الندبي، فإذا اعتكفت وصامت صوماً ندبيّاً مع منع الزوج عنه، بطل صومها، فيبطل الاعتكاف بتبعه.
وأمّا في غير هذين الموردين، كما لو أذن لها في الخروج عن البيت، وفي الصّوم، أو كان الصّوم واجباً عليها، ونهاها عن الاعتكاف، فإنّه لا دليل على بطلان الاعتكاف، فتدبّر.
أقول: وبما ذكرناه ظهر ما في «الدروس»(1) من دعوى لزوم إضافة اعتبار إذن الوالد في اعتكاف الولد.
لأنّه إنْ قلنا بأنّ إطاعة الوالد واجبة، ومخالفته محرّمة، كان له المنع عن الاعتكاف، ومع منعه لا يصحّ لأنّه لتقدم الحرمة على الاستحباب، ولكنّه لا يلزم من ذلك اعتبار إذنه بحيث لو اعتكف من دون أن يطلع الأب يصبح اعتكافه باطلاً.
وإنْ قلنا بأنّ غاية ما ثبت بالأدلّة حرمة إيذاء الأب، فإنْ كان الاعتكاف إيذاءً له بطل، وإلّا فلا، فلو اعتكف وصام دون اطّلاع الأب صحّا بلا كلام.
***8.
ص: 547
وهو واجبٌ وندب:
فالواجب: ما أوجبَ بالنذر وشبهه.
والنّدب: ما يتبرّع به.
الموضع الرابع: في أقسام الاعتكاف:
(وهو) ينقسمُ إلى (واجبٍ وندب)، لأنّه عبادة، والعبادة لا تخرج عنهما.
(فالواجبُ : ما أوجبَ بالنذر وشبهه) من العهد واليمين والإجازة ونحوها.
(والندبُ : ما يتبرّع به).
أمّا الواجب:
1 - فإنْ كان معيّناً، وجب إتمامه لوجوبه.
2 - وإنْ كان موسّعاً، فالمنسوب إلى المشهور عدم جواز قطعه ووجوب إتمامه، واستدلّوا لذلك بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّ الإتمام يجبُ من جهة أنّه طبق الكلّي الواجب عليه، على هذا الفرد الذي بيده، فالفرد هو الواجبُ ، فيجب إتمامه.
وفيه: أنّه لو كان تطبيق الواجب على الفرد موجباً لتضييق دائرة المأمور به، بحيث يكون بعد الشروع هو الواجب دون غيره من الأفراد، تمّ ما أفيد، لكنّه خلاف إطلاق الدليل، ويتوقّف ثبوت ذلك على دليل.
الوجه الثاني: الآية الكريمة: (وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (1).
ص: 548
فإذا مضى يومان وَجَب الثالث.
وفيه: إنّه لا يستفاد من الآية حرمة قطع العمل، وإلّا لزم تخصيص الأكثر المستهجن، بل الظاهر أنّ المراد بها النهي عن اتباع العمل بما يحبط أجره، إذ الإبطال بمقتضى وضع باب الأفعال حقيقته إحداث البطلان في العمل، وجعله باطلاً، فتكون الآية نظير قوله تعالى (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى ) (1).
ويشهد له: - مضافاً إلى ظهوره - الأخبار التي استدلّ فيها الإمام عليه السلام بهذه الآية الكريمة للنهي عن إرسال النيران لتحرق الشجرات المغروسة في الجنّة عوضاً عن أذكاره مثل قوله: الحمد للّه، ولا إله إلّااللّه.
وعليه، فتختصّ الآية بالشرك وبعض المعاصي الموجب لإحباطالأجر عليقول.
قال الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله(2): (ببالي أنّي سمعتُ أو وجدتُ ورود الرواية في تفسير الآية (وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) بالشرك).
الوجه الثالث: النصوص الآتية في المندوب، وستعرف ما فيها.
وأمّا المندوب: ففيه أقوال:
القول الأوّل: ما في الكتاب، قال: (فإذا مضى يومان وَجَب الثالث)، وحُكي ذلك عن الإسكافي(3)، وابن البرّاج(4)، والشيخ في «النهاية»(5)، وفي «الشرائع»(6)،8.
ص: 549
وجماعة من المتأخّرين(1) ومتأخّريهم(2).
القول الثاني: أنّه لا يجبُ أصلاً، بل يجوز قطعه متى شاء، وهو الذي اختاره المصنّف في «المنتهى»(3) و «التذكرة»(4)، وحكي عن السيّد(5) والحِلّي(6) والمحقّق في «المعتبر»(7)، والمصنّف في «المختلف»(8).
القول الثالث: أنّه يجبُ بالشروع فيه، وهو المنقول عن «المبسوط»(9)، و «الكافي» لأبي الصّلاح الحلبي(10)، و «الإشارة»(11)، و «الغنية»(12)، وعن الأخير دعوى الإجماع عليه.
ويشهد للقول الأوّل:
1 - صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام:
«إذا اعتكف الرّجل يوماً ولم يكن اشترط، فله أن يخرج ويفسخ الاعتكاف، وإنْ أقام يومين ولم يكن اشترط، فليس له أن يفسخ ويخرج عن اعتكافه، حتّى7.
ص: 550
تمضي ثلاثة أيّام»(1).
2 - وصحيح الحذّاء، عنه عليه السلام: «من اعتكف ثلاثة أيّام فهو يوم الرابع بالخيار، إنْ شاء زاد ثلاثة أيّام أُخر، وإنْ شاء خرج من المسجد، فإنْ أقام يومين بعد الثلاثة، فلا يخرج من المسجد حتّى يتمّ ثلاثة أيّام أُخر»(2).
والمصنّف في «المنتهى »(3) بعد ذكر خصوص الصحيح الأوّل دليلاً لهذا القول، ردّه بأنّ (الرواية ضعيفة السند، إذ في طريقها عليّ بن فضّال) انتهى .
وفيه: أنّ الرجاليين وثّقوه، حتّى المصنّف نفسه قال في «الخلاصة»(4) بعد كلام له: (وكان فطحي المذهب، وقد أثنى عليه محمود بن مسعود أبو النضر كثيراً، وقال إنّه ثقة، وكذا يشهد له بالثقة الشيخ الطوسي والنجاشي، فاعتمد على روايته وإنْ كان مذهبه فاسد) انتهى .
هذا فضلاً عن أنّ الخبرين مرويّان عن طريق «الكافي»(5) في أعلى مراتب الصحّة.
أقول: أورد عليهما صاحب عن «الذخيرة»(6) بأنّ قوله عليه السلام: (ليس له) لا يكون ظاهراً في الحرمة.
وفيه أوّلاً: أنّ صحيح الحذّاء متضمّنٌ لقوله: (فلا يخرج) وقد مرّ ظهور الجملة الخبريّة في اللّزوم.9.
ص: 551
وثانياً: أنّ قوله: (ليس له) نفيٌ لما تضمّنه له، وهو الحلّية، سيّما في مقابلة قوله:
(فله أن يخرج) المُثبِت لمجرّد الحلّية.
وعليه، فلا إشكال فيهما سنداً و دلالةً .
واستدلّ للقول الثاني: بالأصل، وبأنّه عبادة مندوبة، فكيف تجب بالشروع فيها، وبغير ذلك من الوجوه الاعتباريّة التي لا تصلح منشئاً لإثبات الحكم الشرعي، والأصل يخرج عنه بما تقدّم من الدليل.
واستدلّ للقول الثالث:
1 - بما دلّ على النهي عن حرمة إبطال العمل.
2 - وبما دلّ من النصوص الآتية على ثبوت الكفّارة بالوقاع قبل تمام ثلاثة أيّام، بضميمة أنّ الكفّارة على ما عُهد من الشرع إنّما تجبُ في مقام الوجوب، المستلزم مخالفته للعقوبة، فتكون الكفّارة لدفع تلك العقوبة.
3 - وبما دلّ على وجوب قضاء ما بقي على الحائض والمريض، إذ لو لم يكن الأداء واجباً، فكيف يجب القضاء.
4 - وبما تضمّن النهي عن الخروج بعد الشروع في الاعتكاف إلّالحاجة.
أمّا الأوّل: فقد عرفت ما فيه عند ذكر أدلّة وجوب الإتمام في الواجب الموسّع.
وأمّا الثاني: فيقيّد إطلاقه بالصحيحين الصريحين - خصوصاً الأوّل منهما - في جواز القطع قبل مُضيّ يومين.
وأمّا الثالث: فسيأتي أنّه لا يدلّ على وجوبه.
وأمّا الرابع: فظاهرٌ في كونه إرشاداً إلى اعتبار استدامة اللّبث في صحّة الاعتكاف، نظير سائر الأوامر والنواهي الواردة في المركّبات، فإنّها ظاهرة في
ص: 552
كونها إرشاداً إلى الجزئيّة أو الشرطيّة، والمانعيّة أو القاطعيّة.
وعليه، فالأظهر أنّه يجوز قطع الاعتكاف قبل مضيّ يومين، ولا يجوز بعده.
فرع: وهل يختصّ هذا الحكم بالثلاثة الأُولى بحيث لو زاد جاز قطعه مطلقاً؟
أم يعمّ كلّ ثلاثة ثلاثة، فلو اعتكف خمسة أيّام وجب عليه اعتكاف السادس.
ولو اعتكف ثمانية وجب عليه التاسع، وهكذا؟
أم يعمّ الثلاثة الثانية خاصّة ؟ وجوهٌ :
أقول: صحيح الحذّاء يدلّ على ثبوته في الثانية، ممّا يعني أنّه لا وجه للقول الأوّل، فإنْ تمّ ما عن «المسالك»(1)، و «المدارك»(2) من عدم القول بالفصل بين السادس وكلّ ثالثٍ ، ثبت القول الثاني، وإلّا كان مقتضى الأصل البناء على الثالث.
قال صاحب «الجواهر»:(3) بعد ذكر الصحيح: (بل قد يظهر من الأخير وجوب كل ثالث بعد اليومين). انتهى .
ولعلّ نظره الشريف إلى ما ذكره الشهيد ا لثاني رحمه الله(4) وسبطه(5)، وإلّا فالصحيح مختصٌّ بالسادس.
***
ثمّ إنّ ما ذكرناه من عدم جواز الرجوع عن الاعتكاف، إنّما هو مع عدم الشرط، وإلّا فيجوز، بلا خلافٍ فيه في الجملة.
ص: 553
وفي «المنتهى»(1): ولا نعرف فيه خلافاً.
أقول: وتنقيح القول فيه يتحقّق بالبحث في جهات:
الأُولى : في صحّة هذا الشرط في الاعتكاف، ومحلّ الشرط على فرض الصحّة.
الثانية: في صحّته في النذر.
الثالثة: في تعيّين الشرط الجائز.
الرابعة: في بعض فروع المسألة.
أمّا الجهة الأُولى : فلا إشكال في جواز هذا الشرط وصحّته، لا لعموم قوله عليه السلام:
«المسلمون عند شروطهم»(2) - الذي استدلّ به صاحب «الجواهر» رحمه الله(3)، فإنّه يدلّ على صحّة شرطه علينفسه لغيره، ولا ربط له بشرط المؤمن لنفسه على اللّه تعالى - بل للنصوص الخاصّة:
منها: صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم.
ومنها: صحيح أبي ولّاد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن امرأة كان زوجها غائباً فقدم وهي معتكفة بإذن زوجها، فخرجت حين بلغها قدومه من المسجد إلى البيت، فتهيّأت لزوجها حتّى واقعها؟ فقال عليه السلام: إنْكانت خرجت من المسجد قبل أن تقضي ثلاثة أيّام، ولم تكن اشترطت في اعتكافها، فإنّ عليها ما على المظاهر»(4).
ومنها: صحيح أبي بصير، عنه عليه السلام: «وينبغي للمعتكف إذا اعتكف أن يشترط كما يشترط الذي يحرم»(5).2.
ص: 554
ومنها: موثّق عمر بن يزيد، عنه عليه السلام: «واشترطْ على ربّك في اعتكافك كما تشترط في إحرامك أن يُحلّك من اعتكافك عند عارضٍ إنْ عَرَض له من علّة تنزل بك من أمر اللّه تعالى »(1).
ومقتضى إطلاق النصوص - عدا صحيح محمّد، ومفهوم ذلك الصحيح - جواز شرط الرجوع في اليوم الثالث.
وعن الشيخ في «المبسوط»(2) المنع عنه في الثالث، واستدلّ له بأنّ الشرط إنّما يؤثّر فيما يوجبه الإنسان على نفسه، والثالث واجبٌ بأصل الشرع، وسببه مُضيّ يومين.
أقول: أظنّ أن الاعتراف بعدم العثور على مدركه، أولى من ذكر هذا الوجه في مقابل النصوص.
وأيضاً: وقع الخلاف في أنّه:
1 - هل يجوز شرط الرجوع مطلقاً، كما عن الأكثر؟
2 - أم يجوز الشرط مع عروض العارض، كما عن جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(3)، والشهيد الثاني(4)؟
3 - أم يختصّ الجواز بالعارض الذي يعدّعذراً مسوّغاًولايكفي مطلق العارض ؟
استدلّ للأخير: بالتشبيه باشتراط المُحْرم في صحيح أبي بصير وغيره، إذ مقتضى عموم التشبيه أنّه كما يختصّ جواز اشتراط الرجوع عن الإحرام4.
ص: 555
باشتراطه عند العُذر، فكذلك في المقام، وبذيل خبر عمر بن يزيد.
ولكن يرد على الأوّل: أنّه من الجائز كون التشبيه في أصل الاشتراط لا في كيفيّته، مع أنّه يدلّ صحيح أبي ولّاد على جواز الاشتراط مع عدم العُذر، لأنّ حضور الزوج ليس عذراً قطعاً، سيّما مع التصريح فيه بوجوب الكفّارة للفسخ معه بلا شرط.
وأمّا خبر عمر بن يزيد فلا مفهوم له، كي يدلّ على عدم جوازه في غيره.
واستدلّ للثاني: بصحيح أبي ولّاد المتقدّم.
وأُورد عليه: بأنّ صحيح محمّد بن مسلم كالنص في غير العارض، للمقابلة فيه بين اليومين الأولين والثالث، إذ لو كان المراد خصوص صورة العُذر، لم يكن فرقٌ بينهما، فمنطوقه عدم جواز الفسخ بلا عذرٍ في الثالث بدون الاشتراط، والمفهوم تابعٌ للمنطوق، فيدلّ على جوازه مع الاشتراط بلا عذر.
وأجاب عن ذلك الفاضل النراقي رحمه الله(1): بأنّ المقابلة يظهر وجهها مع تعميم العارض أيضاً، فلا يظهر من الصحيحة الإطلاق.
وفيه: أنّ تعميم العارض يوجبُ عدم نصوصيّة الصحيح في الجواز معه، ولا يلزم منه نفي الإطلاق، فمقتضى إطلاق جواز الاشتراط، صحّته مطلقاً، أي حتّى مع عدم العارض. وأمّا صحيح أبي ولّاد فلا مفهوم له كي يدلّ به على عدم جوازه مع العارض.
فالمتحصّل: أنّ الأظهر هو الجواز مطلقاً.
أقول: ظاهر النصوص أنّ محلّ هذا الاشتراط وقت الدخول ونيّته، ويشير إليه6.
ص: 556
التشبيه بإحرام الحجّ الذي دلّ الدليل صريحاً على أنّ محلّ الشرط حين إرادة الإحرام، فما عن المحقّق الأردبيلي(1) من احتمال أن وقته عند نيّة اليوم الثالث غير ظاهر الوجه.
***
الجهة الثانية: لا إشكال في ظهور النصوص في أنّ محلّ هذا الشرط وقت الدخول في الاعتكاف، إنّما الكلام في أنّه هل يجوز اشتراطه في نذره كما هو المشهور - وفي «المستند»(2) أنّه إجماعي - أم لا يجوز كما عن سيّد «المدارك»(3)وفي «الحدائق»(4)؟
استدلّ للأوّل: في «الجواهر»(5) بأنّ نصوص الاشتراط حين النذر وإنْ كانت مختصّة بالاشتراط حين الاعتكاف، ولم ترد رواية بجواز الاشتراط حين النذر، كما أفاده العَلَمان، إلّاأنّها مسوقة لبيان أصل حكم الاشتراط في الاعتكاف، من غير مدخليّة للنذر الذي هو يلزم ما شرع، فلا حاجة إلى دليل خاص يدلّ على المشروعيّة في النذر، بل يكفى فيها ثبوته في الاعتكاف كما هو واضح.
أقول: إنّ الشرط في النذر يتصوّر على أنحاء:
تارةً : يقيّد الاعتكاف المنذور بالمشروط، بأن ينذر الاعتكاف المشروط، نظراً
ص: 557
إلى أنّ الاعتكاف على قسمين مطلق ومشروط، وكلاهما مشروعان، فينذر الثاني.
وأُخرى : يشترط في ضمن النذر أن يكون له الرجوع عن اعتكافه المنذور.
وثالثة: يذكر الشرط في النذر، ولكنّه يكون المشروط هو الاعتكاف، بأن ينذر الاعتكاف من الغد، ويذكر شرطه السائغ قبل زمان الاعتكاف.
أمّا الأوّل: فهو صحيحٌ ولا إشكال فيه، ولكن مرجعه إلى ذكر الشرط في الاعتكاف أيضاً.
وأمّا الثاني: فإنْ كان المنذور الاعتكاف المشروط، لغى ذكر الشرط في النذر، وإنْ كان هو الاعتكاف المطلق، فهو لا يجوز الرجوع عنه في اليوم الثالث، فالشرط خلاف المشروع.
وأمّا الثالث: فيبتني على أنّ محلّ الشرط في الاعتكاف هل هو حين الاعتكاف أم يجوز قبل ؟ ولا مجال لإنكار ظهور النصوص في الأوّل.
ولو نذر الاعتكاف مطلقاً، فهل يجدي الاشتراط في الاعتكاف، أم لا؟
صرّح بالثاني جماعة منهم المصنّف في «المنتهى»(1)، والمحقّق في محكيّ «المعتبر»(2)، والشهيد في محكيّ «الدروس»(3)، وهو الحقّ ، فإنّ الشرط يسوّغ ترك الاعتكاف الواجب بالأصالة، وأمّا الواجب بالنذر، فلا يصلح الشرط لتسويغه، كما لا يخفى .
وعلى فرض صحّة الشرط في النذر، فلو شرط ورجع عن اعتكافه لا يجب1.
ص: 558
عليه قضاؤه إنْ كان المنذور معيّناً، ولا الاستئناف إنْ كان غير معيّن، لفرض أنّه أتى بما نذره.
فما عن المصنّف(1) والمحقّق(2) من وجوب الاستئناف في غير المعيّن، لعلّه من جهة أنّ المنذور حينئذٍ الاعتكاف التامّ المشروط، فلو رجع فهو يجوز له، ولكن لا ينطبق على الناقص المنذور، فيجب الإتيان به ثانياً.
فإنْ قيل: إنّ لازم ذلك وجوب القضاء فيما إذا كان معيّناً.
قلنا: إنّه لا يتصوّر ذلك في المعيّن، فان معنى الاعتكاف التامّ أن لا يرجع فيه، ومعنى المشروط هو جواز الرجوع فيتدافعان، وليس للاعتكاف التامّ فردٌ آخر، كما في صورة عدم التعيّن، كي يدفع به التدافع، وعليه فهو متينٌ جدّاً.
الجهة الثالثة: لا خلاف في أنّ شرط الرجوع عن الاعتكاف جائز، وأكثر النصوص المتقدّمة ظاهرة، بل وبعضها صريح فيه، إنّما البحث هل يجوز اشتراط المنافيات كالجماع ونحوه أم لا؟
صرّح بالثاني المصنّف(3)، وصاحب «الجواهر»(4) وغيرهما(5)، واستدلّ له:
بأنّ النصوص مختصّة بشرط الرجوع، ولا تشمل هذا الشرط، فالمرجع فيه
ص: 559
إلى أصالة عدم نفوذ الشرط، وعدم ترتّب أثره عليه.
أقول: الظاهر شمولها له، إذ المراد بشرط الخروج عن الاعتكاف، ليس هو قصد ذلك مجرّداً، بل المراد هو الخروج العملي، وهو كما يكون بالخروج عن المسجد ورفع اليد بذلك عن الاعتكاف، كذلك يكون بالجماع بهذا القصد أو بسائر المنافيات، وإطلاق مثل صحيح أبي ولّاد كافٍ في إثبات الحكم.
الجهة الرابعة: ففي بيان فروع:
الفرع الأوّل: لو اشترط الخروج عن الاعتكاف:
فإنْ لم يكن هناك نذرٌ كان له ذلك ولو في اليوم الثالث، وله أن يأتي بالمنافيات بقصد الخروج عنه.
وإنْ كان هناك نذرٌ:
فإنْ كان المنذور الاعتكاف المشروط، وكان النذر معيّناً، وقلنا بصحّة هذا النذر جاز له الخروج عن الاعتكاف، ولو خرج ليس عليه قضاء.
وإنْ كان غير معيّن:
فإنْكان المنذور هوالاعتكاف التامّ المشروط، له الفسخ، ولكن عليه الاستئناف.
وإنْ كان هو الاعتكاف ولو الناقص منه، ليس عليه شيء.
وإنْ كان المنذور هو الاعتكاف التامّ غير المشروط:
فإنْ كان النذر معيّناً لم يجز له الشرط حين الاعتكاف، ولا يؤثّر في جواز الخروج، لما مرّ من أنّ الشرط يسوّغ الواجب بالأصل، ولا دليل على تسويغه الواجب بالنذر.
وإنْ كان غير معيّن، فحيثُ عرفت أنّ الواجب الموسّع لا يجب بالشروع فيه،
ص: 560
فله أن يشترط الرجوع حين الاعتكاف، فإذا اشترط له الرجوع عنه، ولكن يجب عليه الاستئناف كما مرّ جميع بذلك.
الفرع الثاني: هل يصحّ أن يشترط في اعتكافٍ أن يكون له الرجوع في اعتكاف آخر، كما مال إليه صاحب «الجواهر» رحمه الله(1)؟ أم لا كما عن كاشف الغطاء رحمه الله(2)؟ وجهان:
استدلّ للأوّل في «الجواهر»(3): بعموم: (المسلمون عند شروطهم)(4) الذي هو المُنشأ في كثيرٍ من الأحكام السابقة وغيرها.
وفيه: ما تقدّم من اختصاصه بشرط الإنسان على نفسه لغيره، ولا يشمل شرطه لنفسه على اللّه سبحانه، فالمُدرك في المقام منحصرٌ بالأخبار، وقد عرفت ظهورها في الاشتراط حين الاعتكاف، فقبله أعمّ من أنّ يكون في ضمن اعتكافٍ آخر أو معاملةٍ أو استقلالاً غير مشمول لها، والمرجع فيه إلى أصالة عدم النفوذ، فالأظهر هو الثاني.
الفرع الثالث: إذا شرط عند الشروع في الاعتكاف، ثمّ بعد ذلك أسقط حكم شرطه:
فعن كاشف الغطاء رحمه الله(5) وصاحب «الجواهر»(6) سقوط حكم شرطه، فليس9.
ص: 561
له الرجوع في اليوم الثالث، والظاهر أنّ وجهه أنّ الشرط من الحقوق القابلة للإسقاط، تنظيراً له بشرط الخيار في العقد.
ولكن قد عرفت أنّ هذا الشرط غير الشرط الثابت بعموم (المؤمنون عند شروطهم)، بل مدركه الروايات الخاصّة، ولم يظهر منها كونه من الحقوق، وعليه فمقتضى الأصل بل إطلاق الأدلّة عدم سقوط حكم الشرط بإسقاطه.
الفرع الرابع: قال في «الجواهر»(1): (كما أنّه يعلم أيضاً بأدنى نظر أنّه لا يجوز التعليق في الاعتكاف، فمن علّقه بطل إلّاإذا كان شرطاً مؤكّداً كقوله: إنْ كان راجحاً، أو كان المحلّ مسجداً، أو نحو ذلك على حسب ما قيل أو احتمل في العقد أيضاً). انتهى .
والذي يستفاد من كلماته وكلمات غيره، أنّ مدرك بطلان التعليق أمران:
أحدهما: بطلان التعليق في العقد، فكذلك في المقام لأنّه من قبيله.
ثانيهما: منافاته لحصول النيّة المعتبرة في العبادات.
أمّا الأوّل: فيردّه أنّه قياس مع الفارق ولا نقول به، لو ثبت ذلك في الأصل.
وأمّا الثاني: فيردّه أنّ الامتثال الاحتمالي من مراتب الامتثال كالامتثال القطعي.
***9.
ص: 562
ولا يخرجُ عن المسجد إلّالضرورة، أو طاعةٍ كتشيّيع أخٍ ، أو عيادة مريضٍ ، أو صلاة جنازةٍ ، أو إقامة شهادة.
الموضع الرابع: في أحكام الاعتكاف، وهي أُمور:
الأمر الأوّل: (ولا) يجوز أن (يخرج) المعتكف (عن المسجد إلّالضرورة أو طاعة كتشييع أخٍ ، أو عيادة مريضٍ ، أو صلاة جنازةٍ ، أو إقامة شهادة) كما هو المعروف بين الأصحاب. فالكلام في موردين:
الأوّل: في المستثنى منه.
الثاني: في المستثنى .
أمّا المورد الأوّل: فلا خلاف في وجوب استدامة اللّبث في المسجد، وقال صاحب «الجواهر»(1): أنّ الإجماع بقسميه عليه.
وفي «الرياض»(2): (بإجماع العلماء كمافي «المعتبر»(3)، و «التذكرة»(4)، و «المنتهى»(5).
وفي «التذكرة»(6): (لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد الذي اعتكف فيه
ص: 563
حالة اعتكافه إلّالضرورة، بإجماع العلماء كافّة). انتهى .
وتشهد له: جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح داود بن سرحان: «كنتُ بالمدينة في شهر رمضان، فقلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي أريدُ أن أعتكف فماذا أقول وماذا أفرض على نفسي ؟ فقال عليه السلام: لا تخرج من المسجد إلّالحاجة لابدّ منها، الحديث»(1).
ومنها: موثّق عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «ولا يخرج المعتكف من المسجد إلّا في حاجة»(2).
ونحوهما غيرهما من النصوص، وسيمرّعليك طرفٌمنهافي ضمن الفروع الآتية.
ولا يخفى أنّ المستفاد منها: أنّه يعتبر عدم الخروج في صحّة الاعتكاف، فلو خرج بغير الأسباب المبيحة بطل اعتكافه، لا أنّ الخروج حرامٌ في نفسه، والوجه في ذلك ظهور الأوامر والنواهي في المركّبات كونها إرشادية إلى الاعتبار في المأمور به لا في الحكم النفسي، وهو مرادُ الأصحاب، كما صرّح به بعضهم(3).
والظاهر عدم الفرق بين العالم بالحكم والجاهل، لإطلاق الأدلّة.
وقد يُقال: إنّه إذا كان الجاهل قاصراً، دلّ حديث رفع التسعة(4) على سقوط اعتباره، ولازم ذلك صحّة الاعتكاف مع الخروج عن جهل.
لكن يرد عليه أوّلاً: أنّ حديث الرفع رافعٌ للحكم لا مثبت، بمعنى أنّه يرفع9.
ص: 564
الحكم الضمني، وحيث أنّه لا يعقل رفعه من دون رفع الأمر بالكلّ ، فيرفع الأمر بالكلّ أيضاً، فلا أمر ببقيّة الأجزاء كي يحكم بصحّتها.
وثانياً: أنّ الرفع بالنسبة إلى الجاهل ظاهريٌ ، وإنّما يرفع وجوب الاحتياط ولا يعقل أن يكون واقعيّاً كما حُقّق في محلّه، فاعتباره فيه باقٍ في الواقع، فيبطل العمل لذلك.
وأمّا لو خرج ناسياً، فالمعروف بينهم أنّه لا يبطل، ونفي صاحب «الجواهر» رحمه الله(1)الخلاف فيه.
واستدلّ له:
1 - بالأصل.
2 - وحديث رفع النسيان(2).
3 - وانصراف ما دلّ على الشرطيّة إلى غيره، ولو لاشتماله على النهي المتوجّه إلى غيره.
أقول: أمّا الأصل فيخرج عنه بإطلاق الدليل.
وأمّا حديث الرفع: فحيثُ أنّ مانعيّة الخروج عن صحّة الاعتكاف منتزعة عن الأمر بالاعتكاف المقيّد بعدم الخروج، فرفع المانعيّة إنّما يكون برفع الأمر بالمقيّد، وهو لا يستلزم الأمر بالفاقد كي يصحّ الاعتكاف بدونه، وعليه:
فإنْ كان واجباً معيّناً سقط التكليف به، ولا يجب عليه العود إليه، وهل يجب قضاؤه ؟ فيه كلام سيأتي.9.
ص: 565
وإنْ كان واجباً غير معيّن، وجب الاستئناف.
وأمّا الانصراف: فممنوع، والنهي ليس نهياً نفسيّاً كي يختصّ بغير الناسي، بل إرشادي إلى اعتبار استدامة اللّبث، كما اعترف به رحمه الله(1).
أقول: لو خرج المعتكف مكرهاً ففيه خلاف بين الأساطين، وقد استدلّ لصحّة الاعتكاف لو لم يطل الزمان حتّى انمحت الصورة بوجوه:
أحدها: الأصل.
ثانيها: حديث الرفع.
ثالثها: عدم توجّه النهي إلى المكره.
وقد استدلّ بهذه الوجوه سيّد «المدارك»(2)، وقد عرفت ما في جميعها.
رابعها: انصراف أدلّة المنع عنه، وهو أيضاً قد ما مرَّ فيه.
خامسها: عموم ما دلّ على جواز الخروج لحاجةٍ ، فإنْ رفع الضرر المتوعّد به من أهمّ الحوائج فيشمله الدليل، وستعرف حال المبنى، وعليه فلو خرج مُكرَهاً ثمّ عاد ولم تنمح الصورة، صحَّ اعتكافه.
المورد الثاني: استثنى الأصحاب عن عدم جواز الخروج موارد:
منها: الخروج للأمور الضرورية الشرعيّة، أو العقليّة، أو العادية، كقضاء الحاجة من بول أو غائط: ففي موثّق ابن سنان المتقدّم: «ولا يخرجُ المعتكف من
ص: 566
المسجد إلّافي حاجة».
وفي صحيح الحلبي: «لا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلّالحاجةٍ لابدّ منها»(1).
وفي صحيح داود: «لا تخرج من المسجد إلّالحاجة لابدّمنها»(2). ونحوهاغيرها.
ومقتضى الموثّق جواز الخروج لكلّ حاجةٍ راجحة، ومقتضى الصحاح عدم جواز الخروج إلّالحاجة لزوميّة، وقاعدة حمل المطلق على المقيّد تقضي البناء على الاختصاص بالحاجة اللّزوميّة.
أقول: وقد استدلّ بوجوه لجواز الخروج لكلّ حاجةٍ ولو غير لزوميّة:
أحدها: ما دلّ على جواز الخروج لعيادة المريض، ولتشييع الجنازة، بتقريب أنّهما من الحوائج غير اللّزوميّة.
وفيه: إنّه يحتاج إلى دليلٍ على التعدّي، أو العلم بالمناط، وكلاهما مفقودان.
ثانيها: خبر ميمون بن مهران، قال: «كنتُ جالساً عند الحسين بن عليّ عليه السلام فأتاه رجلٌ فقال: يا بن رسول اللّه إنّ فلاناً له عَليَّ مالٌ ، ويريد أن يحبسني ؟ فقال:
واللّه ما عندي مالٌ فأقضي عنك، فقال: فكلِّمه، فلبس عليه السلام نعله، فقلت له: يا ابن رسول اللّه أنسيتَ اعتكافك ؟ فقال له: لم أنس ولكنّي سمعتُ أبي يحدِّث عن جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: مَن سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنّما عَبَدَ اللّه عزّ وجلّ تسعة آلاف سنة صائماً نهاره قائماً ليله»(3).8.
ص: 567
وفيه: أنّه لا يدلّ على عدم بطلان الاعتكاف بخروجه، بل من الجائز أنّه عليه السلام بنى على نقض اعتكافه.
ثالثها: الأدلّة الدالّة على استحباب تلك الحاجة كتشيّيع المؤمن وما شاكل، بدعوى أنّ النسبة بينها وبين أدلّة الباب وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّاأنّها تقدّم للأكثريّة والأصحيّة، والأشهريّة، وغير ذلك من المرجّحات.
وفيه: أنّها لا تدلّ على عدم قاطعيّة الخروج لتلك الحاجة، إذ غاية ما تدلّ عليه استحباب تلك الحاجة حتّيفي حال الاعتكاف، ولازمه جواز نقض الاعتكاف بل استحبابه، فيقع التزاحم بين دليل الاعتكاف وتلك الأدلّة، فلو قُدّمت لزم منه أرجحيّة رفع اليد عن الاعتكاف، ولو قدم ذلك كان لازمه أرجحيّة الاعتكاف.
وعلى أيّ تقدير، لا تدلّ على عدم قاطعيّة الخروج.
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الضابط هو ما لو كانت الحاجة لزوميّة، وعلى ذلك فتسقط كثير من الموارد التي ذكروها للإستثناء.
فهل الخروج لغُسل الجنابة من هذا القبيل أم لا؟ فقد اختلفت كلمات الفقهاء في جواز الخروج لأجله على أقوال:
مالَ سيّد «المدارك» رحمه الله(1) - بعد نقل أنّه لا يجوزُ أن يغتسل في المسجد وإنْ لم يستلزم تلويثه عن جماعة - إلى جوازه.
وأمّا صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) فقد قوّى المنع مطلقاً.8.
ص: 568
وبعضهم(1) فصّل بين الموارد.
فالحق أن يُقال: إنّه إنْ استلزم الغُسل في المسجد تلويثه، أو المكث في المسجد زائداً عمّا يحصل من الاغتسال خارج المسجد، أو في حال الخروج، أو لزم منه إهانة المسجد، وجب الخروج، فيكون حينئذٍ من الحاجة اللّزوميّة، وإلّا فلا، ولا يخفى وجهه.
وأمّا الغسل المندوب: فقد عرفت أنّه لا يجوز الخروج له كما أفاده صاحب «الحدائق»(2) وسيّد «المدارك»(3).
وأمّا إقامة الشهادة: فإنْ كانت واجبة، ولم يمكن أدائها في المسجد، وكانت تفوت بعدم الخروج منها، جاز الخروج لأجلها، ولا يوجب الخروج البطلان، لأنّها حينئذٍ من الحاجة التي لابدّ منها، وإلّا فلا يجوز.
ومنها: عبادة المريض، وتشيّيع الجنازة بلا خلاف، وعن «التذكرة»(4): أنّه قول علمائنا. ويشهد به ما ورد في صحيح الحلبي المتقدّم:
«ولا يخرج في شيء إلّالجنازةٍ ، أو يعود مريضاً، ولا يجلس حتّى يرجع»(5).
فروع:
الفرع الأوّل: إذا خرج المعتكف لحاجةٍ لا بدَّ منها، فهل تجبُ مراعاة أقرب الطرق كما هو المنسوب إلى الأصحاب(6)؟ أم لا كما عن «النجاة»(7)؟0.
ص: 569
ومع الخروج لا يمشي تحت الظلال.
وجهان: من إطلاق الأدلّة، ومن أنّ الخروج الجائز هو الكون الذي لابدّ منه، فإذا سلك أبعد الطرق لا يكون الزائد لحاجةٍ ، فلا يجوز إلّاإذا كان التفاوت يسيراً لا يعتنى به، وهذا هو الأرجح، فما عن الأصحاب أظهر.
ولو كان الأقرب ممّا لا يليق بشأنه، أو كان فيه مهانةٍ أو غضاضة عليه، فهل يجوز إلّابعد حينئذٍ، كما لو بذل له صديقٌ منزله وهو قريب من المسجد لقضاء حاجته، وكانت إجابته مستلزمة للمشقة بالاحتشام، فيجوز له أن يمضي إلى منزله البعيد عن المسجد، كما عن المصنّف رحمه الله(1)؟
أم لا كما عن «الحدائق»(2)؟ وجهان:
أظهرهما الأوّل، فإنّ اختيار الأبعد حينئذٍ لكونه حاجة لابدّ منها عرفاً كما لا يخفى .
الفرع الثاني: مع وجوب الخروج عليه، لو اعتكف ولم يخرج، لم يبطل اعتكافه وإنْ أثم، فإنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، فالاعتكاف غير منهيٌّ عنه فيصحّ .
الفرع الثالث: (ومع الخروج) في مورد جوازه (لا يمشي تَحت الظلال) كما في المتن، وعن جماعة منهم الشيخ(3) والمحقّق(4).4.
ص: 570
واستدلّ له:
1 - بما عن السيّد المرتضى رحمه الله(1) من دعوى قيام الإجماع على أنّه ليس للمعتكف إذا خرج من المسجد أن يستظلّ بسقفٍ حتّى يعود.
2 - وبأصالة الاحتياط.
3 - وبما دلّ عليه في المُحْرِم بناءً على أصالة مساواته له في ذلك حتّى يعلم الخلاف.
4 - وبأنّ النصوص كما ستمرّ عليك، دلّت على المنع عن الجلوس تحت الظلال، وظاهرها كون المانع منه مشيه تحت الظلال ولا خصوصيّة للجلوس.
5 - وبما في «الوسائل»(2): أنّه قد تقدّم ما يدلّ على عدم جواز الجلوس والمرور تحت الظلال للمعتكف.
أقول: وفي الكلّ نظر:
أمّا الأوّل: فلعدم ثبوته، وعدم حجيّته على فرض الثبوت، لمعلوميّة المدرك.
وأمّا الثاني: فلأنّ مقتضى أصالة البراءة عند الشكّ في شرطيّة شيء أو مانعيّته، عدم المانعيّة أو الشرطيّة.
وأمّا الثالث: فستعرف أنّ المانع هو الجلوس، بلا خصوصيّة لكونه تحت الظلال.
وأمّا الرابع: فلأنّا لم نقف على رواية ذكرها تدلّ على ذلك، ولعلّ نظره إلى نصوص المنع عن الجلوس تحت الظلال بإلغاء الخصوصيّة، فالأظهرأنّه لامانع عنه.7.
ص: 571
ولا يجلس. ولا يُصلّي إلّابمكّة.
الفرع الرابع: (و) إذا خرج المعتكف (لا يجلس) حتّى يرجع، كما صرّح به غير واحدٍ(1)، وعن غيرهم(2) تقييده بتحت الظلال.
والأخبار طائفتان:
طائفة: ناهية عن الجلوس مطلقاً: كصحيح الحلبي المتقدّم، وصحيح داود.
وطائفة: مقيّدة له بتحت الظلال: كخبرٍ آخر لداود جاء فيه قوله عليه السلام: «ولا تقعُد تحت ظلال»(3).
قال صاحب «الحدائق»(4): إنّ الأولى تُقيّد بالثانية.
وفيه: أنّ المطلق إنّما يُحمل على المقيّد في المتخالفين، ولا يحمل عليه في المتوافقين، وفي المقام منطوق الثانية موافقٌ مع الأُولى، ولا مفهوم لها كي توجب التقييد، وعليه فالأظهر هو المنع عن الجلوس مطلقاً.
وفي «الجواهر»(5): (هذا كلّه مع الاختيار، وأمّا مع الاضطرار فلا بأس به كما صرّح به غير واحد، ولعلّه لإطلاق ما دلّ على الجواز المقتصر في تقييده بما هو المنساق من حال الاختيار). انتهى .
الفرع الخامس: (ولا) يجوز للمعتكف أن (يُصلّي) خارجاً، أي خارج المسجد الذي اعتكف فيه، لإطلاق الأدلّة السابقة (إلّا بمكّة) فإنّه يُصلّي المعتكف بمسجدها أين ما شاء من بيوتها بلا خلاف.6.
ص: 572
ويستحبّ الاشتراط.
والنصوص الكثيرة شاهدة به:
منها: صحيح عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «المعتكف بمكّة يُصلّي في أيّ بيوتها شاء، سواءٌ عليه صَلّى في المسجد أو بيوتها»(1).
ومنها: صحيح منصور بن حازم، عنه عليه السلام: «المعتكف بمكّة يُصلّي في أيّ بيوتها شاء، والمعتكف بغيرها لا يُصلّي إلّافي المسجد الذي سمّاه»(2).
ونحوهما غيرهما.
الفرع السادس: لو خرج لضرورةٍ وطال خروجه، بحيث انمحت صورة الاعتكاف بطل، كما صرّح به غير واحدٍ(3)، لأنّ ما دلّ على جواز الخروج إنّما يدلّ على عدم مبطليّة الخروج نفسه للاعتكاف، وأمّا إذا لزم منه في مورد فقد الصورة، فهو لا يدلّ على عدم بطلانه.
الأمر الثاني: (ويستحبّ ) له (الاشتراط)، لدلالة صحيح أبي بصير المتقدّم:
«وينبغي للمعتكف إذا اعتكف أن يشترط كما يشترط الذي يُحرم»(4) وغيره، وقد تقدّم الكلام في ذلك مفصّلاً.
الأمر الثالث: ويدور البحث فيه عن أنّه إذا حَرُم اللّبث في المسجد، هل يبطل الاعتكاف، أم لا؟
ص: 573
ونخبة القول فيه أنّه:
تارةً : يكون اللّبث في نفسه محرّماً كما لو كان جُنُباً.
وأُخرى : يكون المحرّم هو التصرّف الملازم له، كما لو جلس عليفراشٍمغصوب.
أمّا الأوّل: فالأظهر بطلان الاعتكاف، لأنّه إذا كان المأمور به والمنهيّ عنه عنوانين منطبقين على وجود واحدٍ، فإنّه لا مناص عن القول بالامتناع، فلو كان الاعتكاف مستحبّاً أو واجباً غير معيّن، قُدِّم جانب النهي بلا كلام، فيتمحّض المجمع في كونه منهيّاً عنه، فلا محالة يكون فاسداً.
وأمّا الثاني: فالأظهر الصحّة وإن أثم، فإنّ الاعتكاف المأمور به هو مجرّد الكون في المسجد ولو بلا قرار، والمحرم هو القرار، والجلوس على الفراش مثلاً، فلكلٍّ منهما وجودٌ غير ما للآخر، فلا مناص عن البناء على الجواز، غاية الأمر إذا انحصر المكث في المسجد في القرار على الفراش المغصوب، وقع التزاحم بين التكليفين، وحيثُ أنّ المختار هو صحّة الترتّب، فيكون الاعتكاف - ولو مع تقديم الغصب - مأموراً به بنحو الترتّب فيصحّ .
وهل غصب المكان في المسجد، كما لو أزال من سبق إليه غيره، وجلس فيه من قبيل الأوّل أو الثاني، أو هو شقٌ ثالث ؟
الظاهر هو الأخير، لما تقدّم منّا في هذا الشرح في مبحث مكان المُصلّي(1)، أنّ من أزال غيره عن محلّه في المسجد، وإنْ أثم بذلك، إلّاأنّه يحلّ له مكثه فيه، وعليه فلا إشكال في صحّة الاعتكاف، ويكون المكث والجلوس مباحين.
نعم، إنْ قلنا بحرمة المكث فيه، كان من قبيل الأوّل، فإنّ المحرّم حينئذٍ ليس هو القرار على الأرض خاصّة، بل يعدّ إشغال الفضاء الذي ينتفع به السابق أيضاً حراماً، فاللّبث بنفسه يصبح حراماً، فيجري فيه ما ذكرناه في القسم الأوّل.8.
ص: 574
ويَحرُم عليه الاستمتاع بالنساء.
(و) الأمر الرابع: (يحرم عليه) أي على المعتكف عدّة أفعال:
الفعل الأوّل: (الاستمتاع بالنساء) بالجماع في القُبُل أو الدُّبر إجماعاً بقسميه، كما في «الجواهر»(1)، وباللّمس بشهوة والتقبيل كذلك على المشهور بين الأصحاب.
وتشهد للأوّل: كثيرٌ من النصوص:
منها: موثّق ابن الجهم، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن المعتكف يأتي أهله ؟ فقال عليه السلام:
لا يأتي امرأته ليلاً ولا نهاراً وهو معتكف»(2).
ومنها: موثّق سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن معتكفٍ واقع أهله ؟ فقال عليه السلام:
هو بمنزلة مَن أفطر يوماً من شهر رمضان»(3).
ونحوهما غيرهما.
ولا يعارضها صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد، وضُربت له قُبّة من شعر، وشمّر المئِزر، وطوى فراشه، وقال بعضهم: واعتزل النساء؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: أمّا اعتزال النساء فلا»(4).
ص: 575
فإنّه يُحمل على إرادة مجالستهن، وما شاكل، بقرينة ما سبق، وبقرينة خبر أبي بصير: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا دَخَل العشر الأواخر شَدّ المئزر واجتنب النساء»(1).
ولكن الذي يفهم من النصوص المتضمّنة للنهي عنه، هو البطلان لا التحريم، فإنّ النهي عن شيءٍ في المركّب الاعتباري، كالنهي عن التكلّم في الصَّلاة ظاهر في ذلك، ومن الغريب أنّ صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) مع اعترافه بهذه الكليّة في غير المقام - بل وفي المقام - مع ذلك يقول بأنّ المستفاد من النصوص هي الحرمة أيضاً.
فإنّه يرد عليه: أنّ النصوص إما ظاهرة في الحرمة، فكما أفاده المصنّف رحمه الله في محكيّ «المختلف»(3) لا يستفاد منها البطلان، وأمّا ظاهرة في الإرشاد إلى البطلان، فلا يستفاد منها الحرمة، والأظهر هو الثاني. فهذه النصوص تدلّ على فساد الاعتكاف به لا غير.
نعم، يصحّ الاستدلال على حرمته عليه بالنصوص الآتية، الدالّة على ثبوت الكفّارة بالجماع في حال الاعتكاف، فان الكفّارة على ما عهد من الشرع إنّما تجبُ في مقام الحرمة المستلزمة مخالفتها للعقوبة.
ويمكن أن يستدلّ له: بعموم التنزيل في موثّق سماعة، إذ لا وجه لتخصيصه بخصوص الإبطال.
فتحصّل: أنّ الأظهر حرمته ومبطليّته للاعتكاف.
وأمّا اللّمس والتقبيل: فالمشهور بين الأصحاب حرمتهما، وعن ظاهر0.
ص: 576
«التبيان»(1)، و «مجمع البيان»(2)، و «فقه القرآن»(3)، و «المدارك»(4): الاتّفاق عليها، وظاهره الاتّفاق على التقييد بالشهوة.
وعن ابن الجُنيد(5)، و «المختلف»(6) زيادة النظر بشهوة.
وعن ظاهر «التهذيب»(7) جواز ما عدا الجماع، وذهب إليه جمعٌ من متأخّري المتأخّرين(8).
أقول: وفي بطلان الاعتكاف بهما على القول بالحرمة قولان:
فعن «الخلاف»(9)، و «المعتبر»(10)، و «المنتهى»(11)، و «التذكرة»(12)، و «الدروس»(13) وغيرها(14): البطلان.
وعن «الوسيلة»(15)، و «المختلف»(16)، وظاهر «الشرائع»(17)، و «النافع»(18)،4.
ص: 577
و «الإرشاد»(1): عدم البطلان.
ولا مدرك لهم في المقام سوى الآية الكريمة: (وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ) (2).
ولكن الظاهر إرادة الجماع من المباشرة فيها، لأنّ المباشرة في اللّغة(3): هو إلصاق البشرة بالبشرة، ولكن يُكنّى بها عن الجماع تارةً ، وعنه ومقدّماته أُخرى .
والظاهر إرادة المعنى الكنائي من الآية، إذ لا كلام في أنّ المباشرة بمعناها اللّغوي ليست منهيّاً عنها، والمتيقّن إرادة الجماع، سيّما ما ورد في «المجمع»(4): من أنّه الجماع، وأنّ الآية إنّما ذكرت عقيب قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ - إلى أن يقول - فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) (5) ثمّ بعد ذلك يقول (وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ ) فإنّ الظاهر إرادة معنى واحد من المباشرة في الموردين، ومصدّرة بالرفث الذي هو الجماع، وعليه فلا دليل على حرمة التقبيل واللّمس ولا مبطليّتهما للاعتكاف، وأولى من ذلك في عدم الحرمة والإبطال النظر.
الفعل الثاني: الاستمناء، وإنْ كان على الوجه الحلال، كالنظر إلى حليلته الموجب لذلك، ذكره الشيخ في محكيّ «الخلاف»(6)، والمحقّق في «الشرائع»(7)وغيرهما(8)، وادّعى الأوّل الإجماع عليه.).
ص: 578
والبيع والشّراء.
واستدلّ له:
1 - بأولويّته من اللّمس والتقبيل بشهوة.
2 - وبالإجماع.
3 - وبأنّه مستلزمٌ للخروج عن المسجد المبطل للاعتكاف.
ولكن يرد على الأوّل: منع الأصل كما مرّ، مع أنّ الأولويّة غير قطعيّة.
ويرد على الثاني: عدم حجيّة الإجماع المنقول، سيّما مع معلوميّة المدرك.
ويرد على الثالث: أنّه مستلزمٌ للخروج لحاجةٍ لابدّ منها، وهو جائزٌ غير مبطل.
واحتمال عدم شمول النصوص لما لابدّ منه بالاختيار والتسبيب، يدفعه الإطلاق، مع أنّه حينئذٍ لا وجه للحرمة إلّافي اليوم الثالث.
(و) الفعل الثالث: (البيع والشراء) وقد اشتهر تحريمهما، وعن «المدارك»(1)و «الذخيرة»(2): الإجماع عليه، وهو الظاهر من «المنتهى»(3).
واستدلّ له: بصحيح أبي عبيدة، عن أبي جعفر عليه السلام: «المعتكف لا يَشمّ الطيب، ولا يتلذَّذ الريحان، ولا يماري ولا يشتري ولا يبيع»(4).4.
ص: 579
وفي دلالته على الحرمة نظر، لما قدّم من أنّ النهي عن شيءٍ في المركّب الاعتباري إرشادٌ إلى أخذ عدمه فيه، فظاهر الصحيح مبطليّتهما له لا الحرمة.
نعم، إذا حرم إبطاله حَرُما لذلك، ولعلّه لذا حكى عن «المبسوط»(1)، و «السرائر»(2)، و «اللّمعة»(3)، و «الروضة»(4) القول بعدم الحرمة، فإنْ ثبت إجماعٌ على الحرمة، وإلّا فالأظهر عدمها.
وفي «المنتهى»(5): (وقال السيّد المرتضى: يَحرُم التجارة والبيع والشراء، والتجارة أعمّ ) انتهى .
واستدلّ له في «المنتهى»(6): بأنّه مقتضى مفهوم ا لنهي عن البيع والشراء، وهو كما ترى .
ولو اقتضت الضرورة البيع أو الشراء مع تعذّر التوكيل أو النقل بغير البيع، فإنّه لا إشكال في الجواز وعدم الحرمة، وذلك لاختصاص دليل الحرمة - وهو الإجماع - بغير هذه الصورة، مضافاً إلى أدلّة نفي الحَرَج والاضطرار.
وهل يبطل الاعتكاف به أم لا؟ وجهان:
قد استدلّ للثاني: بانصراف النَّص عن ذلك، وبدليل نفي الحَرَج والاضطرار، ولكن قد عرفت أنّ مدرك الحرمة والبطلان في الأصل هو الإجماع لا النَّص، فضلاً عن أنّ الانصراف ممنوعٌ ، ودليل نفي الحَرَج نافٍ للحكم لا مثبت كما مرّ.).
ص: 580
وشَمّ الطيب، والجِدال.
وعليه، فالأظهر هو البطلان لو قلنا به في الأصل للإجماع.
وهل يكون البيع على هذا فاسد أم لا؟ وجهان مبنيّان على أنّ النهي النفسي عن المعاملة يدلّ على فسادها أم لا؟ وقد أشبعنا الكلام في ذلك في «حاشية المكاسب» المطبوعة، وبيّنا عدم دلالته على الفساد.
(و) الفعل الرابع: (شَمّ الطيب) على الأشهر.
والكلام فيه كما في سابقه، إلّاأنّ عدم ثبوت الإجماع فيه أظهر، وعلى القول بالحرمة أو المبطليّة، يختصّ ذلك بغير فاقد حاسّة الشَّم، فإنّه لا يشمّ الطيب الذي موضوع الحكم.
وأمّا مَن يشمّ ولا يتلذّذ به، فهل يثبت له الحكم أم لا؟ الظاهر ذلك.
وفي «الجواهر»(1): (المنساق إلى الذهن من شَمّ الطيب التلذّذ به. بل قد يؤمئ إلى ذلك في الجملة قوله عليه السلام في الصحيح: «لا يتلذّذ به») انتهى .
ولكن ليس في الصحيح هذه الجملة، بل الموجود فيه: (ولا يتلذّذ بالريحان) والظاهر أنّ نظره الشريف إلى أنّ إطلاق الطيب وتقيّيد الريحان بالتلذّذ إنّما هو من جهة الاختلاف في تأثير التلذّذ، فإنّ الطيب أقوى وأكثر تعارفاً فيه من الريحان.
وكيف كان، فللنظر فيه وفي سابقه مجالٌ واسع، وبما ذكرناه ظهر حكم التلذّذ بالريحان.
(و) الفعل الخامس: (الجدال).2.
ص: 581
والكلام فيه كما في سابقيه، والأولى تبديل الجدال بالمِراء، فإنّه المذكور في النَّص، وهو لا يكون إلّااعتراضاً بخلاف الجدال فإنّه يكون ابتدءً واعتراضاً، كما قيل(1).
وعن «المسالك»(2): (المراد بالمماراة المجادلة على أمرٍ دنيوي أو ديني، لمجرّد إثبات الغلبة والفضيلة، كما يتّفق لكثير من المنتسبين بالعلم، وهذا النوع محرّم في غير الاعتكاف، وقد ورد التأكيد في تحريمه في النصوص) انتهى .
وعليه، فيمتاز ذلك عن سابقيه بثبوت حرمته بأدلّة أُخر.
وفي «المنتهى»: وعن «الدروس» زيادة تحريم الكلام الفحش في الاعتكاف، ولم يدلّ دليل عليه بالخصوص.
وعن جُمل الشيخ(3) وابني حمزة(4) والبرّاج(5): يُحرم على المعتكف ما يحرم على المُحْرِم.
وعن «المبسوط»(6): وروي أنّه يجتنب ما يجتنبه المُحْرِم، ولكن الخبر ضعيف للإرسال وعدم العمل، فالأظهر عدم الحرمة.
***3.
ص: 582
ويفسده كلّ ما يفسد الصّوم.
(و) الخامس من الأحكام: أنّه (يفسده كلّ ما يُفسد الصّوم) إذا وقع في النهار، لما عرفت من اشتراطه بالصوم، والمشروط ينعدم بعدم شرطه، ويفسده أيضاً غير ذلك ممّا تقدّم، وهو إنّما يفسده ما وقع في النهار أو اللّيل كما مرّ.
أقول: إنّما الكلام في أنّه إذا فسد الاعتكاف، وكان واجباً معيّناً بنذرٍ وشبهه، فهل يجب قضاؤه أم لا؟ أمّا صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) فقد نفى الخلاف في وجوبه في مسألة من نذر اعتكاف شهرٍ معيّن، ولم يعلم به حتّى خرج، كالمحبوس والنّاسي.
وأمّا صاحب «المدارك»(2) فقد صرّح ذيل هذه المسألة أنّه مقطوعٌ به في كلام الأصحاب.
والتحقيق: يمكن أن يستدلّ له بطائفتين من النصوص:
الطائفة الأُولى : ما دلّ على ثبوت القضاء في الحائض والمريض، كصحيح أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في المعتكفة إذا طمثت ؟ قال عليه السلام: ترجع إلى بيتها، فإذا طهرت رجعت فقضت ما عليها»(3).
اللّهم إلّاأن يُقال: إنّه يدلّ على الإتيان بما عليها، والكلام الآن في أنّه إذا مضى الوقت، هل يكون عليها اعتكافٌ أم لا؟ وعليه فسبيله سبيل صحيح البَجَلي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا مرض المعتكف أو طمثت المرأة، فإنّه يأتي بيته ثمّ يعيد إذا برئ
ص: 583
ويصوم»(1). حيث يدلّ على الاستئناف مع بقاء الوقت.
الطائفة الثانية: ما تضمّن قضاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله، كمرسل الصدوق، قال:
«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: كانت بدر في شهر رمضان، ولم يعتكف رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فلمّا أن كان من قابل اعتكف عشرين عشراً لعامه، وعشراً قضاءً لما فاته»(2).
فإنّه يدلّ على أنّ الاعتكاف لا يسقط بمضيّ زمانه، فإنْ كان واجباً وجب قضاؤه، وإلّا كان مستحبّاً، وهذا وإنْ كان قابلاً للمناقشة لكن لعلّه يكفي فيه بضميمة تسالم الأصحاب على وجوب القضاء.
وأمّا الاستدلال له: بأنّه مشتملٌ على الصّوم الذي قد ثبت القضاء للواجب منه، وبعموم قولهم: (مَنْ فاتته فريضة فليقضها كما فاتته) و (اقض ما فات كما فات)، ففاسدٌ، فإنّ وجوب قضاء الصّوم لا يستلزم وجوب قضاء الاعتكاف.
وأمّا المرسلان فأوّلاً: لا عين ولا أثر منهما في كتب أحاديثنا، بل ولا كتب أحاديث العامّة.
وثانياً: إنّهما يدلّان على لزوم قضاء ما ثبت قضاؤه كما فات.
وبعبارة أُخرى : يدلّان على اعتبار المماثلة بين الفائت والمأتي به، ولا يدلّان على وجوب قضاء كلّما فات، وعليه فالعمدة ما ذكرناه.
ثمّ إنّه بناءً على وجوب القضاء، لا دليل على أنّه على الفور، بناءً على ما هو المحقّق في محلّه من عدم دلالة الأمر على الفور، وعليه فما عن «المبسوط»(3)و «المنتهى»(4) من وجوب الفورية ضعيف.).
ص: 584
فرع: ولو مات في أثناء الاعتكاف الواجب عليه بنذرٍ أو نحوه، هل يجب أن يقضى عنه، فيُخرَج من ماله من ينوب عنه ؟
أو يجبُ على الولي القيام به ؟ أم لا يجب القضاء؟
وجوهٌ وقد ذهب إلى كلّ منها جمعٌ من الأساطين.
وقد استدلّ للأوّل: بعموم ما روى: «أنّ من ماتَ وعليه صومٌ واجبٌ ، وجبَ على وليّه أن يقضى عنه أو يتصدّق».
وفيه: أنّ الصّوم في المقام ليس واجباً، وإنّما هو شرطٌ الصحّة، ووجوبه غيري، وظاهر الخبر وجوب قضاء الصّوم الواجب بالأصالة.
ويمكن أن يفصّل في المقام:
1 - بين ما لو استقرّ وجوبه عليه قبل موته، بحيث كان في ذمّته، كما لو وجب عليه اعتكاف أيّام مخصوصة، وتركها ومَضتِ الأيّام ثمّ مات.
2 - وبين ما إذا لم يستقرّ في ذمّته.
فيجبُ أن يُقضى عنه ويُخرج من ماله على الأوّل دون الثاني.
أمّا في الأوّل: فلأنّه بعدما ثبت وجوب القضاء عليه، ومات وهو في ذمّته، وانضمّ إليه جواز النيابة فيه عن الميّت على ما هو المقطوع به بينهم، يكون ذلك من ديون اللّه، فيخرج من ماله.
وأمّا في الثاني: فلأنّه ينكشف بموته في الأثناء أنّه لم يكن واجباً عليه في الواقع، لعدم التمكّن، ولعلّه إلى ذلك ما أفاده الشهيد رحمه الله في محكيّ «الدروس»(1)واللّه العالم.
***03
ص: 585
ولو جامع فيه، كفَّر مثل كفّارة رمضان، وإنْ كان ليلاً.
(و) الحكم السادس: أنّه (لو) أفسد المعتكف اعتكافه بأن (جامع فيه، كفَّر مثل كفّارة رمضان، وإنْ كان ليلاً) بلا خلافٍ في أصل وجوب الكفّارة، والنصوص شاهدة به:
منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن المعتكف يُجامع أهله ؟ قال عليه السلام: إذا فعل فعليه ما على المظاهر»(1).
ومنها: صحيح الحنّاط، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: في امرأة خرجت من اعتكافها وواقعها زوجها؟ «فقال: إنْ كانت خرجت من المسجد قبل أن تنقضي ثلاثة أيّام، ولم تكن اشترطت في اعتكافها، فإنّ عليها ما على المظاهر»(2).
ومنها: موثّق سماعة، عنه عليه السلام: «عن معتكفٍ واقع أهله ؟ هو بمنزلة مَن أفطر يوماً من شهر رمضان»(3).
ومنها: موثّقه الآخر، عنه عليه السلام: «عن معتكفٍ واقع أهله ؟ قال عليه السلام: عليه ما على الذي أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستّين مسكيناً»(4).
ص: 586
ومنها: خبر عبد الأعلى بن أعين، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ وطئ امرأته وهو معتكف ليلاً في شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: عليه الكفّارة، قال: قلت: فإنْ وطئها نهاراً؟ قال عليه السلام: عليه كفّارتان»(1).
أقول: وتمام الكلام فيه بالبحث في جهات:
الجهة الاُولى: أنّ الكفّارة الواجبة عليه هل هي ككفّارة شهر رمضان، كما نُسب إلى الأكثر، وفي «التذكرة»(2) نسبته إلى علمائنا، وفي «المنتهى»(3) إلى فتوى الأصحاب، فمخيّر بين الخصال الثلاث ؟
أو كفّارة الظهار، كما عن «المقنع»(4)، و «المسالك»(5)، و «المدارك»(6)، واختاره جماعة من المتأخّرين(7)، فتكون مرتّبة ؟ وجهان:
مقتضى الصحيحين الثاني، مقتضى الموثّقين الأوّل، وقد حَمل المشهور الصحيحين على إرادة التشريك مع المظاهر في أصل الكفّارة أو المقدار.
وبإزائهم قال الفاضل النراقي رحمه الله(8): بأنّ الموثّق الأوّل لا يدلّ عليه احتمال كونه بمنزلته في التأثيم أو مطلق التكفير أو القدر، والثاني قابلٌ للحمل على إرادة بيان3.
ص: 587
أقسام الأشخاص من لفظ (أو)، فيكون للتقسيم دون التخيير.
والحقّ أن يُقال: إنّه بعد اشتراك القسمين في الأشخاص، وكون الاختلاف بينهما في أنّ المعتبر في كفّارة الظهار الترتيب بين الأفراد، ولا يعتبر ذلك في كفّارة شهر رمضان، يكون مقتضى الجمع بين النصوص حمل الصحيحين على أفضليّة مراعاة الترتيب، فإنّ الموثّقين يدلّان على عدم اعتباره، وهما ظاهران في اعبتاره، ولو اُغمض عن ذلك، وحيثُ لا يصحّ الجمع بينهما بوجهٍ آخر، فيتعيّن الرجوع إلى المرجّحات، والمرجّح الأوّل وهي الشهرة مع الموثّقين.
وعليه، فالأظهر هو التخيير بين الخصال.
الجهة الثانية: مقتضى إطلاق النصوص ثبوت الكفّارة بالجماع في الاعتكاف، من غير فرقٍ بين المندوب منه، والواجب معيّناً أو غير معيّن في اليومين الأولين وفي غيرهما، والظاهر أنّه المشهور بين ا لقدماء، بل عليه الإجماع كما في محكيّ «الغنية»(1) و «الخلاف»(2).
ولكن ذهب جماعة من المتأخّرين(3) تبعاً للمحقّق في محكيّ «المعتبر»(4) إلى اختصاصها باليوم الثالث، أو بالاعتكاف اللّازم.
وقد استدلّوا له بوجوه:
منها: أنّه يجوز للمعتكف الرجوع في اليومين الأولين من اعتكافه، وإذا كان له الرجوع، لم يكن لإيجاب الكفّارة وجه.7.
ص: 588
وفي نهار رمضان تتضاعف الكفّارة.
وفيه أوّلاً: النقض بحرمة الجماع في اليومين الأولين، فإنّهم أفتوا بها.
وثانياً: بالحَلّ ، وهو أنّه لا مانع من أن يجوز الرجوع وبعده يجوز الجماع، ولكن ما دام كونه معتكفاً غير خارج عنه لو جامع يثبت عليه الكفّارة.
ومنها: ما في «الجواهر»(1)، قال: (إنّ تعليق الكفّارة على عدم الاشتراط في صحيح أبي ولّاد المتقدّم، يؤمئ إلى عدم وجوبها، مع عدم تعيّن الاعتكاف حتّى في اليوم الثالث إذا فرض الاشتراط فيه على وجهٍ يرفع وجوبه) انتهى .
وفيه: إنّ وجه عدم الكفّارة في صورة الاشتراط في مفروض الخبر، وقوع الجماع بعد الاعتكاف، فإنّه مع الاشتراط يكون بخروجه عن المسجد خارجاً عن الاعتكاف، لا أنّ الجماع واقعٌ في أثناء الاعتكاف المندوب.
ومنها: أصالة البراءة، ذكرها صاحب «الجواهر»(2).
وفيه: أنّه لا مجال للرجوع إليها مع إطلاق الدليل، فالأظهر ثبوتها مطلقاً.
الجهة الثالثة: (و) لو جامع المعتكف:
فإنْ كان في اللّيل، كان عليه كفّارة واحدة.
وإنْ كان (في نهار رمضان تتضاعف الكفّارة) بلا خلافٍ ، وعن غير واحدٍ(3)دعوى الإجماع عليه، ويشهد به خبر عبد الأعلى المتقدّم.
ولو واقعها نهاراً في أيّام صوم النذر المعيّن، أو قضاء رمضان بعد الزَّوال، أو كان الاعتكاف واجباً بمثل النذر، تجب كفّارتان أيضاً لا للخبر المذكور، بل لعموم أدلّة).
ص: 589
كفّارة كلّ من الأمرين، غاية الأمر إذا تماثل الكفّارتان تتداخلان بناءً على ما هو المختار عندنا من أصالة التداخل، وإلّا فلا.
وهل تجب كفّارة أُخرى غير كفّارة الجماع في الاعتكاف لو واقعها في النهار في غير ما ذكر، كما عن السيّد(1)، والحِلّي(2)، والشيخ في غير «النهاية»(3)، والصدوق(4)وغيرهم(5)، بل عن «الخلاف»(6)، و «الغنية»(7) الإجماع عليه، أم لا؟
استدلّ للأوّل:
1 - بإطلاق قوله في خبر عبد الأعلى : «فإنْ وطئها نهاراً؟ قال عليه السلام:
عليه كفّارتان».
وبما عن «المقنع»(8) والإسكافي(9): (أنّ بذلك رواية).
ولكن يرد على الأوّل: أنّ مفروض المسألة في الخبر الوطء في شهر رمضان.
ويرد على الثاني: أنّه غير ثابتٍ ، ويمكن أن يكون مرادهما الخبر المشار إليه.
وعليه فالأظهر عدمه.
***3.
ص: 590
ولو أفطر بغيره ممّا يوجب الكفّارة فإنْ وجب بالنذر المعيّن كفَّر، وإلّا فلا، إلّا في الثالث.
(و) الحكم السابع: (لو أفطر بغيره) أي غير الجماع (ممّا يوجب الكفّارة، فإن وجب) الاعتكاف (بالنّذر المعيّن كفّر، وإلّا فلا إلّافي الثالث).
وحاصله: إن أفطر صومه بما يوجب الكفّارة، وكان في رمضان في اليومين الأولين، فإنّه لا تجب عليه الكفّارة إلّاأن يكون واجباً معيّناً، وإنْ أفطر في اليوم الثالث وجبت الكفّارة، وبذلك أفتى المحقّق في محكيّ «المعتبر»(1) وجماعة آخرون(2).
وعن المفيد(3)، والسيّدين(4)، والحلبي(5)، والديلمي(6): إطلاق لزوم الكفّارة بحيث يشمل جميع الصور المتقدّمة.
وعن الشيخ(7) ومن تبعه، وعن «المدارك»(8): نسبته إلى أكثر المتأخّرين، من تخصيص الكفّارة بالجماع حسب، واقتصروا في غيره من المفطّرات على القضاء.
ص: 591
أقول: والأظهر هو الأخير، للأصل بعد عدم ا لدليل على أحد الأولين، فإنّهم استدلّوا له تارةً بالإجماع، وأُخرى بالتعدّي من الجماع إلى غيره.
والأوّل ممنوعٌ ، والثاني قياس لا نقول به.
وبما ذكرناه يظهر: حكم إفساد الاعتكاف بإتيان أحد المبطلات المتقدّمة، فإنّه لا تجب الكفّارة.
***
الحكم الثامن: إذا اكره الرّجل زوجته على الجماع وهما معتكفان نهاراً في شهر رمضان، لزمه عند المشهور أربع كفّارات: اثنتان عن نفسه، واثنتان عن زوجته.
وعن «المختلف»(1): نفي ظهور الخلاف فيه.
وعن «المسالك»:(2) أنّ العمل على ما ذكره الأصحاب متعيّن.
وجعل صاحب «الشرائع»(3) لزوم كفّارتين هو الأشبه.
أقول: وذهب جمع إلى أنّ عليه كفّارات ثلاث: إحداها: لاعتكافه، واثنتان للإفطار في شهر رمضان، إحداهما عن نفسه، والأُخرى تحمّلاً عن امرأته.
أمّا لزوم كفّارتين عليه: فقد مرّ وجهه، وقد عرفت دلالة خبر عبد الأعلى عليه، وأمّا الثالثة: فللإفطار في شهر رمضان، تحمّلاً على امرأته، فقد مرّ الكلام فيه في مبحث الصّوم(4)، وعرفت أنّ دليله وإنْ كان ضعيفاً إلّاأنّه ينجبر ضعفه بالعمل، وحيث أنّه غير مختصّ بغير المعتكف، فمقتضى إطلاقه شمول الحكم للصائم المعتكف.د.
ص: 592
ولو حاضتِ المرأة أو مرض المعتكف خرجا، وقضيا مع وجوبه.
وأمّا الرابعة: فلإفساد الاعتكاف تحمّلاً عن امرأته، فلم يذكروا له وجهاً سوى إلحاق الاعتكاف بالصوم، وهو كما ترى .
والأصل يقتضي العدم، ولكن لا إشكال في أنّ الشهرة العظيمة، بل عدم الخلاف إلّاعن قليل في مثل هذه المسألة التي لم يدلّ دليلٌ على الحكم فيها، ودلالة الأصل على عدم الوجوب، ظاهرة لو لم تكن كاشفة قطعيّة عن الحكم، كاشفة عنه ظنّاً، فالأحوط لزوماً ثبوتها أيضاً.
الحكم التاسع: (ولو حاضتِ المرأة) في أثناء الاعتكاف، (أو مرض المعتكف) مرضاً يخاف منه تلويث المسجد كإدرار البول، وانطلاق البطن، والجرح السائل (خرجا) من المسجد إجماعاً، لأنّه يُحرم على الحائض اللّبث في المسجد، ويجبُ على الثاني صيانة المسجد عن النجاسة.
(و) إذا طهرت وبرئ المريض، قال جماعة(1)(قضيا مع وجوبه)، وقال آخرون(2) وجب القضاء مطلقاً.
أمّا وجوب القضاء مع الوجوب فقد مرّ الكلام فيه، وعرفت أنّه متين.
وأمّا وجوبه مع عدم وجوب الاعتكاف، فقد استدلّ له:
1 - بإطلاق صحيح البجلي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا مرض المعتكف أو5.
ص: 593
طمثت المرأة المعتكفة، فإنّه يأتي بيته ثمّ يعيد إذا برئ ويصوم»(1).
2 - وموثّق أبي بصير، عنه عليه السلام: «في المعتكفة إذا طمثت ؟ قال عليه السلام: ترجع إلى بيتها، وإذا طهرت رجعت فقضت ما عليها»(2).
هما بإطلاقهما يشملان المندوب والواجب، بل المطلق والمشروط فيه التتابع.
أقول: ثمّ إنّ الصحيح ظاهر في الاستئناف مطلقاً، أعمٌّ من مُضيّ ثلاثة أيّام وعدمه، والموثّق يدلّ على قضاء ما عليها، وظاهره لزوم الإتيان بما اشتغلت ذمّتها به، ومن الواضح أنّ مقتضى القاعدة أنّه إنْ كان الاعتكاف منذوراً واشترط فيه التتابع، لزم الاستئناف كما عن «المبسوط»(3)، وإنْ لم يكن اشترط فيه التتابع، فإنْ لم يتمّ أقلّ الاعتكاف استأنف، وإلّا أتى بما بقي، خاصّة مع رعاية سائر الشرائط التي منها أن لو كان ما بقي أقلّ من ثلاثة، يضمّ إليه ما به تتمّ الثلاثة.
ولكن الأحوط هو الاستئناف مطلقاً، للصحيح الراجح على الموثّق سنداً ودلالة، واللّه العالم.
***
تمَّ كتاب الاعتكاف بيد مؤلّفه الحقير محمّد صادق الحسيني الروحاني، في بلدة يزد في زمان نتحمّل فيه جور الظالمين، (وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) ، ويتلوه كتاب الحجّ ، واللّه هو المُعين.
***1.
ص: 594
كتاب الصّوم 5
الباب الأوّل: الصُّوم وأحكامه 5
وجوب الصّوم من الضروريّات 7
النيّة المعتبرة في الصّوم 11
قصد الصّوم المطلق في رمضان 12
قصد النوع في صوم غير رمضان 17
قصد النوع في غير المعيّن 20
وقت النيّة 22
وقت النيّة في الواجب المعيّن 23
وقت النيّة في الواجب الموسّع 29
وقت النيّة في النّافلة 33
وجوب الإمساك لا بعنوان الصوم 36
صومُ يوم الشكّ 40
صوم يوم الشكّ بقصد ما في الذّمة 46
نيّة القطع أو القاطع 51
محلّ الصّوم 56
من المفطّرات الأكل والشُّرب 58
لا فرق بين القليل والكثير 62
ابتلاع بقايا الطعام 65
ابتلاعُ ما يخرجُ من الصَّدر 67
الأكل والشرب بالنحو غير المتعارف 69
من المفطّرات الجماع 71
ص: 595
وطئ الغلام والبهيمة 73
مفطّرية الاستمناء 79
الإحتلام لا يفسدُ الصّوم 85
إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق 88
حكم شُرب التَّتن 92
البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر 97
البقاء على الجنابة في غير رمضان 102
هل يتيمّم لو تعذّر الغُسل 106
التعمّد في الإجناب عند الضيق 109
البقاء على حدث الحيض عمداً 111
معاودة النوم جُنُباً 113
المفطّرات الموجبة للكفّارة 123
الإفطارُ بعد الفجر مع ظَنّ بقاء اللّيل 125
الإفطار بعد طلوع الفجر في غير رمضان مع ظنّ بقاء اللّيل 129
لو أخبره غيره ببقاء اللّيل 131
لو أفطر معتقداً دخول اللّيل 134
من المفطّرات تعمّد القيء 140
فروع 144
دخول الماء في الحلق عند المضمضة 145
الحُقنة بالمائعات 150
تعمّد الكَذب على اللّه أو رسوله أو الأئمّة 156
فروع حول كذب الصائم 161
الإرتماس في الماء 165
فروع الارتماس في الماء 169
يستحبّ للصّائم الإمساك عن اُمور 178
حكم إنشاد الشّعر 190
ص: 596
أُمورٌ لا يفسدُ الصومَ بها 193
موارد وجوب الكفّارة 195
كفّارة صوم شهر رمضان 200
لو أفطر في رمضان على محرّم 206
كفّارة النذر المعيّن 211
كفّارة صوم قضاء رمضان 215
عدم تكرّر الكفّارة بتكرّر الموجب في يومٍ واحد 218
الإكراه على الجماع والمطاوعة 223
من أفطر متعمّداً ثمّ سقط فرض الصّوم عنه 228
حكم العاجز عن إحدى الخصال الثلاث 232
العاجز عن الخصال الثلاث 233
التبرّع بالكفّارة عن الميّت والحيّ 238
مصرف كفّارة الإطعام 241
تناول المفطّر سهواً أو نسياناً 248
تناول المفطّر جهلاً 252
لو أُكره على تناول المفطر 258
تناول المفطر تقيّة 264
الإفطار بغير اختيار 266
أقسام الصوم 267
طرق ثبوت الهلال 268
حجيّة البيّنة في ثبوت الهلال 269
حجيّة خَبر العدل الواحد في ثبوت الهلال 277
حجيّة الشياع في ثبوت الهلال 282
حكم الحاكم في الهلال 287
لا يجوز نقض حُكم الحاكم 291
رؤية الهلال قبل الزَّوال من يوم الثلاثين 294
ص: 597
عدم ثبوت الهلال بالجداول 300
لا يثبت الهلال بالعَدَد 302
رؤية الهلال مع اتّحاد الآفاق واختلافها 307
حُكم الأسير والمحبوس 314
شرائط وجوب الصّوم 318
اشتراط كمال العقل 324
اشتراط السّلامة من المرض 328
اشتراط الحضر في وجوب الصّوم 332
صوم النذر 334
الصّوم المندوب في السفر 338
السفر اختياراً في شهر رمضان 341
اشتراط الخلوّ من الحيض والنفاس 347
شرائط القضاء 349
ما فات أيّام الجنون والإغماء 351
ما فات أيّام الكفر 355
يجوز لقاضي رمضان الإفطار قبل الزَّوال 360
عدم الفوريّة في القضاء 365
يجب تعيين الأيّام المقضيّة 368
دوران الفائت بين الأقلّ والأكثر 370
الصّوم المندوب 373
فروع 376
صوم التأديب 389
التطوّع لمَن عليه فريضة 391
نذر التطوّع بالصوم ممّن عليه قضاء 398
صوم الإذن 400
الصّوم المكروه 406
ص: 598
الصّوم المحظور 407
المراد من حرمة الصّوم 414
أقسام الصّوم الواجب 416
التّتابع في الصُّوم 417
الإفطار لعذرٍ في أثناء الصّوم المعتبر فيه التتابع 420
لو أفطر في الأثناء لا لعُذرٍ 426
المراد من تتابع الصّوم في الكفّارة 428
المعذورون 433
الباب الرابع: في المعذورين 433
لو برأ المريض أو قَدم المسافر قبل الزَّوال 437
رجوع المسافر في أثناء النهار ولم يفطر 440
المسافر في نهار رمضان 443
سقوط القضاء باستمرار المرض 448
وجوب القضاء إذا كان العُذر غير المرض 451
لو ارتفع العُذر بين الرمضانين وأمكنه القضاء 455
إذا استمرّ المرض عدّة سنين 461
الصّوم في السَّفر عن جهل أو نسيان 464
التلازم بين قَصر الصَّلاة والإفطار 466
يجوز الإفطار للشيخ والشيخة 470
ذو العِطاش يتصدّق عن كلّ يوم بمد 477
حكم الحامل المُقرب، والمرضعة القليلة اللّبن 481
في وجوب قضاء الوليّ وعدمه 485
يجبُ على وليّ الميّت قضاء ما فاته من الصّوم 487
وجوب القضاء إذا كان العُذر غير المرض 493
في تحديد القاضي 496
لو كان له وليّان 500
ص: 599
يقضى عن المرأة ما فات من الصّوم 501
بدليّة الفدية عن الصّوم 504
حكم فوت صوم شهرين 506
سقوط القضاء عن الولي بفعل الغير 508
الإيصاء بالاستئجار عنه 512
عدم اعتبار بلوغ الوليّ حين الموت 513
الاعتكاف 516
مكان الإعتكاف 518
شرائط الاعتكاف 529
اعتبار الصّوم في الاعتكاف 533
اشتراط كون الاعتكاف ثلاثة أيّام لا أقلّ 537
بقيّة الشرائط 545
أقسام الاعتكاف 548
اشتراط الرجوع عن الاعتكاف 553
اشتراط الرجوع عن الاعتكاف في النذر 557
جواز شرط المنافيات 559
اعتبار استدامة اللّبث في المسجد 563
موارد جواز الخروج من المسجد للمعتكف 566
اعتبار إباحة اللّبث في المسجد 573
ما يحرم على المعتكف 575
قضاء الاعتكاف 583
كفّارة إفساد الاعتكاف 586
إفساد الاعتكاف بغير الجماع 591
فهرس الموضوعات 595
ص: 600