فقه الصادق المجلد 9

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

تتمة كتاب الصلاة

تتمة الباب السادس في صلاة الجماعة

تتمة شروط الجماعة

تتمة الشرط الأول النية
تنبيهات صلاة الجماعة

أقول: ينبغي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل: يجوز نيّة الإنفراد في جميع أحوال الصَّلاة، ولا يعتبر الدخول معه في ركنٍ ، فلو أدركه في أثناء القراءة، وفارقه قبل الركوع صحّ ، كما صرّح به جمعٌ من الأساطين(1).

واحتمل بعضهم(2) توقّف انعقاد الجماعة على إدراك ركوع الرّكعة الاُولى ، لما دلّ من النصوص على عدم الإدراك، إذا لم يُدرك الركوع.

وفيه: إنّ تلك النصوص ظاهرة في ابتداء الجماعة، لا مَنْ حَصَل منه ذلك، واتّصف بوصف المأموميّة، وتحمّل الإمام القراءة عنه.

وبالجملة: فالأظهر هو الأوّل، لأنّ الجماعة بمقتضى ما تقدّم مستحبّة في كلّ جزءٍ من أجزاء الصَّلاة، مع أنّ صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي الحسن عليه السلام:

«في رجل صَلّى جماعة يوم الجمعة، فلمّا ركع الإمام وألجأه النّاس إلى جدار أو اسطوانة، فلم يقدر على أن يركع ولا يسجد حتّى يرفع القوم رؤوسهم، أيركع ثمّ يسجد ثمّ يلحق بالصفّ ، وقد قام القوم، أو كيف يصنع ؟ قال عليه السلام: يركع ويسجد ثمّ يقوم في الصف ولا بأس بذلك»(3).

ص: 5


1- روض الجنان (ط. ق): ص 378، مسالك الأفهام: ج 1/320، مفتاح الكرامة: ج 10/90.
2- حكاه في جواهر الكلام: ج 14/28، قال: (... واحتمال توقّف انعقاد الجماعة على إدراك ركوع الرّكعة الاُولى ، بحيث إنْ لم يركع معه ينكشف أن لا ائتمام، واضح الفساد).
3- وسائل الشيعة: ج 7/335 ب 17 (حكم المأموم إذا منعه الزحام والسّهو عن الركوع أو السّجود في الجمعة وغيرها) ح 9514، من لا يحضره الفقيه: ج 1/419 ح 1236.

ونحوه خبره الآخر(1) كافيان في المقام، فإنّ دلالتهما على عدم اعتبار إدراك ركوع الإمام واضحة.

الأمر الثاني: إذا نوى الإنفراد قبل الركوع، ففيه أقوال:

إنّه يَجري عليه حكم المنفرد من محلّ نيّته، سواءٌ أكان ذلك بعد القراءة أو في أثنائها:

فإنْ كان بعد القراءة، لا يجب عليه القراءة، وإنْ كان في أثنائها، يأتي بما بقي منها، وهو مختار صاحب «الجواهر»(2)، ونسبه إلى جماعة، وتبعه سيّد «العروة» وجمعٌ من محشّيها(3).

وأمّا إنْ كان بعد القراءة، لا يجب عليه شيءٌ وإنْ كان في أثنائها تجبُ عليه إعادة السّورة التي انفرد فيها، وهو المحكيّ عن «العزية»(4)، و «التذكرة»(5)، و «تعليق الإرشاد»(6)، و «المسالك»(7)، و «نهاية الاحكام»(8).

ما عن بعضٍ ، وهو وجوب القراءة مطلقاً، واستوجهه في محكي «الذكرى»(9).).

ص: 6


1- وسائل الشيعة: ج 7/337 ب 17 (حكم المأموم إذا منعه الزحام والسّهو عن الركوع أو السّجود في الجمعة) وغيرها ح 9517.
2- جواهرالكلام: ج 14/27: (لو كان في أثناء قراءة الحمد أو السّورة، وجب عليه إتمامها خاصّة، لا استئنافهامن الأوّل، ولا سقوطهما من رأس، كما صرّح به جماعة، بل لعلّه كذلك في أثناء الكلمة الواحدة، فضلاً عن غيرهما، إلّاأنّ الإنصاف أنّ للتأمّل فيه بل فيما هو بمنزلة الواحدة مجالاً).
3- العروة الوثقى: ج 3/128: (... لا يجب عليه القراءة... وأنّ الأحوط استئنافها، خصوصاً إذا كان في الأثناء).
4- جواهر الكلام: ج 14/27 حكاه عنه.
5- تذكرة الفقهاء: ج 4/271.
6- جواهر الكلام: ج 14/27 حكاه عنه.
7- مسالك الأفهام: ج 1/320: (.. أعاد السّورة التي فارق فيها، ويحتمل قويّاً الاجتزاء بالقراءة من موضع القطع).
8- نهاية الاحكام: ج 2/128.
9- ذكرى الشيعة: ج 4/427: (... والاستئناف في الموضعين متّجه).

أقول: الأظهر هو الأوّل، لإطلاق أدلّة الضمان والإجزاء، فإنّه يقتضي إجزاء قراءة الإمام عن قراءة المأموم ولو بعدما انفرد، ولذا لم يشكّ أحدٌ في أنّه لو انفرد بعد الركوع، لا يعامل مع القراءة معاملة تاركها، ولو كانت أدلّة الضمان مختصّة بحال كونه مأموماً لزم ذلك.

واستدلّ للقول الثاني: بأنّ السّورة الواحدة شيءٌ واحدٌ لا يُتجزّئ.

وهو كما ترى.

واستدلّ للقول الثالث: بأنّ الأدلّة إنّما تدلّ على سقوط القراءة عن المأموم، وعليه فإذا نوى الإنفراد والمحلّ باق، وجب الإتيان بها.

وفيه: ما تقدّم من أنّ مفادها إجزاء قراءة الإمام عن قراءة المأموم، وضمانه قراءته، وعليه فإذا كان في حال قراءة الإمام مأموماً، فكأنّه قرأ بنفسه.

الأمر الثالث: إذا نوى الإنفراد في الأثناء، فهل يجوز له العود إلى الائتمام بلا فصلٍ ، أو مطلقاً، أم لا يجوز؟ وجوه.

أقول: والوجه في جواز العود إليه:

1 - إمّا جواز العدول الى الائتمام في الأثناء مطلقاً.

2 - أو جواز العدول من إمامٍ إلى إمامٍ آخر، لا سيّما إذا لم يكن الثاني أجنبيّاً، أي كان من المأمومين، إذ لو جاز في هذا المورد جاز العود الى الإمام الأوّل، لاسيّما إذا كان ذلك بلا فصلٍ .

وقد تقدّم الكلام ما في هذين الوجهين، فإذاً الأحوط عدم العود.

وهكذا فيما إذاتردّد في الإنفراد وعدمه، فإنّه من جهة أنّ الائتمام متقوّمٌ بالقصد، فمع الترديد ينعدم الائتمام لا محالة، فيكون حكمه حكم ما إذا نوى الإنفراد.

***

ص: 7

ولا تصحّ مع حائلٍ بين الإمام والمأموم يمنع المشاهدة،

اعتبار عدم الحائل بين الإمام والمأموم
اشارة

(و) الثاني من الشرائط: أن لا يكون بين الإمام والمأموم حائل:

قال المصنّف: (ولا تصحّ مع حائلٍ بين الإمام والمأموم يمنع المشاهدة) بلا خلافٍ فيه في الجملة، وعن جماعةٍ دعوى الإجماع عليه(1).

ودليلهم له: حسن زرارة أو صحيحه، عن الإمام الباقر عليه السلام المرويّ في «الكافي»، قال عليه السلام: إن صَلّى قومٌ وبينهم وبين الإمام ما لا يُتخطّى ، فليس ذلك الإمام لهم بإمامٍ ، وأيّ صفٍ كان أهله يُصلّون بصلاة إمامٍ ، وبينهم وبين الصف الذي يتقدّمهم قَدَر ما لا يتخطّى، فليس تلك لهم بصلاة، فإنْ كان بينهم سُترة أو جدار فليست تلك لهم بصلاة، إلّامن كان من حيال الباب.

قال: وقال: هذه المقاصير لم يكن في زمان أحدٍ من النّاس وإنّما أحدثها الجبّارون، ليست لمن صَلّى خلفها مقتدياً بصلاة من فيها صلاةٌ (2).

قال: وقال أبو جعفر عليه السلام: ينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة بعضها إلى

ص: 8


1- مدارك الأحكام: ج 4/317: (هذا الحكم مجمعٌ عليه بين الأصحاب)، ذخيرة المعاد (ط. ق): ج 1 ق 393: (الظاهر أنّ هذا الحكم متّفقٌ عليه بين الأصحاب كما نقله جماعة منهم)، غنائم الأيّام: ج 3/130: (بالإجماع نقله غير واحدٍ من أصحابنا)، مصباح الفقيه (ط. ق): ج 2/628 ق 2: (بل عن جملة من الأصحاب دعوى الإجماع عليه).
2- الكافي: ج 3/385 ح 4.

بعض، لايكون بين الصفّين ما لايُتخطّى ، يكون قدر ذلك مسقط جسدالإنسان»(1).

أقول: وقد استدلّ بالجملة الاُولى منه لهذا الحكم، بدعوى ظهور ما لا يُتخطّى في إرادة الارتفاع، بأن يكون العلوّ بمقدارٍ لا يمكن طيّه بخطوة واحدة، بل يحتاج إلى خطوة للصعود عليه، أو غير ذلك كما عن بعضهم، أو أنّه يُحمل عليه بقرينة قوله عليه السلام بعد ذلك: (فإنْ كان بينهم إلى آخره)، فإنّه ظاهرٌ في كونه تفريعاً على ما سبق، إذ على هذا لا يناسب مع إرادة العرض، كما عن المحقّق اليزدي(2).

ولكن يرد عليه: - مضافاً إلى ظهور قوله: (لا يتخطّى أو قدر ما لا يتخطّى) في إرادة المسافة - أنّ ذيل الخبر صريحٌ في ذلك، وهو قوله: (يكون قدر ذلك مسقط...)، وعليه فيتعيّن البناء على أنّ قوله: (فإنْ كان سُترة...) في مقام بيان مانع مستقلّ ، ولا يكون تفريعاً على ماسبق، مع أنّ المحكيّ عن بعض نسخ «الوافي» بالواو، فالصحيح الاستدلال بهذه الجملة للحكم.

ودعوى: أنّه مختصٌّ بما بين المأمومين أنفسهم، ولا يعمّ ما بين المأموم والإمام.

مندفعة: بأنّ الضمير في (بينهم) إنّما يرجع إلى جميع من تقدّم، وهم: الإمام والمأمومون، وأهل الصف، والصف الذي يتقدّمهم.

فإنْ قلت: إنّ الخبر مرويٌّ في «الوسائل» هكذا: «وإنْ صَلّى قومٌ بينهم وبين الإمام ستر أو جدارٌ...» وعليه فلا يعمّ ما بين المأمومين أنفسهم.

قلت: إنّ «الوسائل» إنّما يروي الخبر عن «الكافي» و «التهذيب» و «الفقيه»، والموجود فيها ما تقدّم.2.

ص: 9


1- وسائل الشيعة: ج 8/410 باب 62 ح 11038، الكافي: ج 3/385 ح 4، من لا يحضره الفقيه: ج 1/386 ح 1143.
2- كتاب الصَّلاة للحائري اليزدي: ص 472.

فتحصّل: أنّ المستفاد من الخبر، اعتبار عدم الحائل بين الإمام والمأمومين، وبين المأمومين أنفسهم.

ولا يعارضه موثّق إبن الجهم، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«عن الرّجل يُصلّي بالقوم في مكانٍ ضيّق، ويكون بينهم وبينه سترٌ، أيجوز أن يُصلّي بهم ؟ قال عليه السلام نعم»(1).

لأنّ الوارد في بعض النسخ:(2) كلمة (شبر) بدل (ستر) وهو أنسب بفرض كون المكان ضيّقاً، مضافاً إلى أنّه يتعيّن طرحه على التقدير الآخر، لإعراض الأصحاب عنه.

***2.

ص: 10


1- وسائل الشيعة: ج 8/408 باب 59 ح 11035.
2- حكاه في مستمسك العروة: ج 7/222.

إلّا في المرأة.

فروع صلاة الجماعة
الحكم الذي مرَّ ذكره إنّما هو ثابتٌ في حقّ الرِّجال

الفرع الأوّل: الحكم الذي مرَّ ذكره إنّما هو ثابتٌ في حقّ الرِّجال و (إلّا) فعدم اعتبار عدم الحائل (في المرأة) في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف، إلّاعن الحِلّي(1)، لموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن الرّجل يُصلّي بالقوم وخلفه دار فيها نساء، هل يجوز لهنّ أن يُصلّين خلفه ؟ قال عليه السلام: نعم، إن كان الإمام أسفل منهنّ .

قلت: فإنّ بينهنّ وبينه حائطاً أو طريقاً؟ قال عليه السلام: لا بأس»(2).

ولو كانت مقتدية بالمرأة فهل يعتبر عدم الحائل، كما عن الأصحاب(3)، أم لا(4)؟ وجهان:

من إطلاق الصحيح، ومن أنّ الظاهر من قوله عليه السلام: (فإنْ كان بينهم سُترة إلى آخره) كون مصبّ الخبر الصحيح هم الرِّجال، وحيثُ أنّ استفادة الحكم للنساء في بعض الموارد، مع كون الخطاب متوجّهاً إلى الرِّجال، إنّما هو بواسطة العلم بعدم خصوصيّة الذكوريّة، وفي المقام يحتمل تلك، مضافاً الى معارضة ذلك في الصحيح

ص: 11


1- السرائر: ج 1/289.
2- وسائل الشيعة: ج 8/409 باب 60 ح 11036، التهذيب: ج 3/53 ح 95.
3- أرسله غير واحد إرسال المسلّمات من المحشّين على العروة وغيرهم، وفي المستمسك: ج 7/224 حكى الإجماع عن العزيّة.
4- السرائر: ج 1/289 (وقد وردت رخصة للنساء أن يُصلّين إذا كان بينهنّ وبين الإمام حائط، والأوّل أظهر وهو الأصحّ ).

بجريان مثله في الموثّق، فلا مناص عن الرجوع الى مايقتضيه القواعد، وقد عرفت في أوّل هذا المبحث أنّها تقتضي عدم اعتبار كلّ ما شُكّ في اعتباره، مع عدم الدليل عليه.

والظاهر أولويّة الوجه الأوّل، إذ الإتيان بالضمير المذكّر إنّما هو للتغليب، كما في سائر الموارد.

إذا كان الحائل في بعض أحوال الصَّلاة من قيامٍ أو قعودٍ أو ركوعٍ

الفرع الثاني: إذا كان الحائل في بعض أحوال الصَّلاة من قيامٍ أو قعودٍ أو ركوعٍ أو سجود، فهل تبطل الجماعة أم لا؟ وجهان، بل قولان:

قد استدلّ للأوّل: بالإطلاق.

وأورد عليه: كما عن المحقّق النائيني(1)، بأنّ الظاهر من قوله عليه السلام: (فإنْ كان بينهم سترة أو جدار) هو استمرار وجود الستر في جميع أحوال الصَّلاة، لأنّه حالٌ لقوله:

(صَلّى قومٌ ) فيصير المعنى صلّوا في حال وجود الحائل، ومن الواضح أنّه لو كان الحائل في حال الجلوس فقط، لا يصدق قوله: (صلّوا في حال وجود الحائل).

وفيه أوّلاً: النقض بأكثر موانع الصَّلاة، فإنّ أدلّتها تتضمّن النهي عن الصَّلاة معها، أو بطلانها مع وجودها.

وثانياً: بالحَلّ ، وهو أنّ الصَّلاة من المركّبات الاعتباريّة، وتدريجي الوجود، وبتبعها تكون الجماعة كذلك، وعليه فإذا دلّ دليلٌ على اعتبار شيء أو عدمه فيها، أو بطلانها مع وجوده يدور الأمر في بادئ النظر بين كونه معتبراً في المجموع من حيث المجموع، فلا يقدح وجوده في بعض الحالات، وبين كونه معتبراً في الجميع، بمعنى اعتباره في حال التلبّس بكلّ جزءٍ من أجزائها، فيقدح وجوده ولو في حالٍ من الحالات.

ص: 12


1- كتاب الصَّلاة: ج 2/382 تقرير بحث النائيني للكاظمي، بتصرّف.

ولكن الظاهر هو الثاني، لأن أخذه بالاعتبار الأوّل يحتاج إلى عناية زائدة، فتدبّر، فالأظهر هو الأوّل.

أقول: وبما ذكرناه ظهر حكم ما إذا كان الحائل بنفسه قصيراً، لا يمنع عن المشاهدة، إلّافي بعض أحوال الصَّلاة كالجلوس، فإنّ الأظهر فيه المنع.

نعم، ماكان يمنع المشاهدة في حال السّجود، كما إذا كان بمقدار شبرٍ أو أقلّ كعتبة الباب، لا بأس به، بلا خلافٍ ظاهر، وإن حُكي عن «المصابيح»(1) الإشكال فيه، لعدم صدق السترة والجدار عليه عرفاً، كما هو واضح.

إذا كان الحائل بحيث يتحقّق معه المشاهدة في حال الصَّلاة

الفرع الثالث: إذا كان الحائل بحيث يتحقّق معه المشاهدة في حال الصَّلاة، كما إذا كان زجاجاً، أو كان فيه ثقوب، أو كان شبّاكاً، وحينئذٍ فهل مثل هذا الحائل يعدّ مانعاً أم لا؟

وجهان؛ مبنيّان على أنّ ما في الحسن المتقدّم من جعل الجدار مقابلاً للسّترة، هل هو باعتبار ذات الساتر، بمعنى أنّ الساتر قد يكون جداراً وقد يكون غيره.

وبعبارة اُخرى: هل الموضوع هو السّتر بالخصوص، أم غيره وإن كان ممّا يَستر، أم هو باعتبار أصل الستر؟ ليكون الجدار بنفسه من حيث هو مناطاًللحكم، سواءٌ تحقّق به السّتر أم لا؟

إذ على الأوّل لا بأس به، لعدم السّتر، وعدم المنع عن المشاهد.

وأمّا على الثاني ففيه بأس، لصدق الجدار والحائل.

أقول: والثاني أظهر، إذ الظاهر من تعليق الحكم على الجدار، وذكره في مقابل

ص: 13


1- مفتاح الكرامة: ج 10 شرح ص 61، وفي «المصابيح»: (الأحوط الاجتناب، بل الصحّة لا تخلو من الإشكال لأنّ لفظ «السترة والجدار» مطلق).

السترة، إنّما هو إرادة معنى آخر غير الساتر، والظاهر إرادة مطلق الحائل، وإنْ لم يمنع عن المشاهدة.

وأمّا دعوى: انصراف الجدار عن مثل الشبابيك والزجاج(1)، فممنوعة، فالأظهر هو المنع.

وقد استدلّ للمنع: عن الاقتداء خلف الشبابيك بوجهين آخرين:

أحدهما: عموم المقاصير في الحَسَن المتقدّم، فإنّ إطلاقها يشمل ما إذا جُعِلت مشبّكة.

وفيه: أنّ الظاهر كونها إشارة إلى المقاصير التي كانت موجودة في تلك الأزمنة، وكونها أو بعضها مشبّكة غير معلوم، مع أنّه لو سُلّم كونها للإشارة إلى الجنس، يكون ذلك بملاحظة أفرادها التي أحدثها الجبّارون.

وبعبارة اُخرى: ما كان من سنخ ما تعارف حدوثه في عصرهم.

الثاني: عموم قوله: (ما لا يُتخطّى)، بتقريب أنّ لما لا يُتخطّى فردين:

أحدهما: ما لا يمكن طيّه بخطوة.

ثانيهما: ما لا يُتخطّى للحائل.

وفيه: ما تقدّم من ظهور الخبر، بل صراحته في إرادة البعد.

حكم جماعة من بجناحي من يكون بحيال الباب

الفرع الرابع: يدور البحث في هذا الفرع عن حكم ما لو كان الحائل بين الإمام وبعض المأمومين، أو بين بعض الصف اللّاحق والصف السابق، إلّاأنّ من هو خلف

ص: 14


1- كما يظهر من ذخيرة المعاد: ج 1/393 ق 2، كتاب الصَّلاة تقرير بحث النائيني للكاظمي: ج 382/2.

الحائل متّصلٌ بفاقده، كما إذا كان الإمام في المحراب الداخل، وكان بعض المأمومين واقفاً بحيال الباب من الصف الأوّل إلى آخر الصفوف، والآخرون على يمين من بحيال الباب أو شماله ؟

أقول: لا إشكال في صحّة جماعة من بحيال الباب، كما صرّح بها في الحَسَن المتقدّم، إنّما البحث عن صحّة جماعة الباقين وعدمها؟

فقد اختلفت فيه أقوال القوم، وتشتّت فيه كلماتهم:

فعن «القواعد»(1): (لو صَلّى الإمام في محرابٍ داخل، صحّت صلاة من يُشاهده من الصف الأوّل خاصّة، وصلاة الصفوف الباقية أجمع، لأنّهم يشاهدون من يشاهده).

وعن «الدروس»(2): (ولو صَلّى في محرابٍ داخلٍ ، بطلت صلاة الجناحين من الصف الأوّل خاصّة).

وقريب منهما غيرهما.

وعن صريح جماعةٍ وظاهر آخرين خلاف ذلك، وأنّه يكفي مشاهدة من يشاهد الإمام، ولو بوسائط، سواء كان في صفّه أو في الصف المتقدّم عليه، بل لعلّ هذا هو المشهور بين الأصحاب(3).

أقول: وكيف كان، فالكلام يقع في موردين:

المورد الأوّل: في أنّه هل يعتبر عدم الحائل بين كلّ مأمومٍ وبين الإمام، أم).

ص: 15


1- قواعد الأحكام: ج 1/315، كشف اللِّثام ج 1/44.
2- الدروس: ج 1/221، المهذّب البارع: ج 1/471: (لم تصحّ صلاة من والى جانبيه في الصف الأوّل).
3- جواهر الكلام: ج 13/159: (في ظاهر جملة من الأصحاب بل صريحهم)، مصباح الفقيه (ط. ق): ج 2//630 ق 2 (هو المشهور بينهم، بل لم يثبت القول بخلافه ممّن عدا المحقّق البهبهاني).

يكفي عدم الحائل بين المأموم وبين مأموم آخر لا حائل بينه وبين الإمام، وإنْ كان بينه وبين الإمام حائل ؟

المورد الثاني: في أنّه هل يعتبر المشاهدة القدّامية بين المأموم والإمام والمأمومين بعضهم مع بعضٍ ، أم يكفي مطلق المشاهدة، ولو كانت يمينيّة أو يساريّة، بأنْ يكون مشاهداً من على يمينه أو يساره ؟

وقد وقع الخلاف في كلّ منهما.

أمّا الأوّل: فقد استدلّ لاعتبار عدم الحائل بين كلّ مأمومٍ والإمام، بأنّ الضمير في قوله عليه السلام: (فإنْ كان بينهم سُترة أو جدار فليس...(1) إلى آخره)، يرجع إلى المأمومين، فتكون جملة (وبين الإمام) مقدّرة، فتكون النتيجة أنّه إنْ كان بين المأمومين وبين الإمام سُترة أو جدار فليس تلك لهم بصلاة، وظاهر ذلك اعتبار عدم الحائل بين كلّ مأمومٍ وبين الإمام.

وفيه: الظاهر رجوع الضمير إلى ما اُريد منها في الفقرتين السابقتين على هذه الفقرة، وقد تضمّنت إحداهما اعتبار عدم البُعد بين الإمام والمأموم، والثانية لاعتبار عدم البُعد بين المأمومين بعضهم مع بعض، فيعدّ هذه الفقرة إجمال ما فصّل في تينك الفقرتين، ومتضمّنة لبيان اعتبار عدم الحائل على النحو الذي اعتُبر عدم البُعد، فتكون ظاهرة في إرادة أن لا يكون بين المأموم وبين الإمام أو من هو منشأ لاتّصاله بالإمام حائلٌ ، فمن هذه الجهة لا إشكال في صحّة جماعة مَنْ بجناحي من يكون بحيال الباب.4.

ص: 16


1- الخلاف: ج/ 1 558، تهذيب الاحكام: ج 3/52 ح 92، الكافي: ج 3/385 ح 4، من لا يحضره الفقيه: ج 1/386 ح 1144.

وأمّا الثاني: فعن جماعةٍ (1) عدم الاكتفاء بالمشاهدة اليمينيّة واليساريّة، واعتبار المشاهدة القدامية.

واستدلّ لهم: بقوله عليه السلام في الحَسَن المتقدّم: «وإنْ كان بينهم سُترة أو جدار، فليس تلك لهم بصلاة إلّامن كان بحيال الباب».

أقول: وتقريب الاستدلال به من وجهين:

أحدهما: أنّ المستثنى هو خصوص الشخص المُصلّي بحيال الباب، في قبال جانبيه ممّن كان على يمينه ويساره.

وثانيهما: أنّ الاستثناء إنّما يكون عن قوله عليه السلام: (وهذه المقاصير لم تكن في زمن أحدٍ من النّاس)، حيث قُدّم عليه، فتكون الجملة هكذا: وليس لمن صَلّى خلفها بصلاةٍ مَن فيها صلاةٌ إلّامن كان بحيال الباب.

ولكن يرد على التقريب الأوّل: - مضافاً إلى أنّ لازمه بطلان صلاة جميع الصفوف المتأخّرة، إلّامن كان بحيال الباب، لأنّه إذا حكم ببطلان طرفي الصف الأوّل، لعدم الاكتفاء بالمشاهدة اليمينيّة واليساريّة، لزم منه الحكم ببطلان طرفي الصف الثاني، لحيلولة طرفي الصف الأوّل بينهم وبين من هو بحيال الباب، فلا يمكن لهم المشاهدة إلّامن اليمين واليسار، وهذا ممّا لم يلتزم به أحد من الأصحاب، فإنّهم صرّحوا بصحّة جماعة الصفوف المتأخّرة أجمع - أنّ المستثنى يُحتمل أن يكون الصف الكائن بحيال الباب، في مقابل الصفوف الواقعة على جانبيه، لا خصوص الشخص الواقف بحيال الباب.

ويشهد له: أنّ موضوع الحكم في الفقرة السابقة على الفقرة المذكورة هو4.

ص: 17


1- حكاه النائيني عن جماعة في كتاب الصَّلاة: ج 2/384.

الصف، ويحتمل أن يكون الشخص الواقف بحيال الباب.

فعلى الأوّل: عدم دلالته على ما استدلّ به له واضحٌ ، بل يدلّ على العكس كما لا يخفى .

وأمّا على الثاني: فحيثُ أنّ المستثنى منه - كما عرفت - كلُّ من لا يكون بينه وبين من هو متّصلٌ به واسطة في اتّصاله بالإمام.

وبعبارة اُخرى: مَن يُحكم بصحّة اقتدائه حائلٌ ، فلامحالة يكون المستثنى من ذلك من جهة خروجه عن ذلك موضوعاً، فيكون المستثنى في قبال من هو وراء الحائل الذي يكون بينه وبين من اتّصل به حائلٌ ، لا في قبال جانبيه ممّن كان على يمينه ويساره.

ويرد على التقريب الثاني، أوّلاً: أنّ كون الاستثناء عن قوله عليه السلام: (وهذه المقاصير... إلى آخره) خلاف الظاهر جدّاً.

وثانياً: أنّه لو كان استثناء عنه، فالمستثنى منه ليس من يُصلّي في طرفي الصف المنعقد قدام الباب، الذي ليس بينه وبين من هو واقفٌ بحيال الباب حائل، بل من يُصلّي خلف حائطي جناحيه، لقوله: (ليس لمن صَلّى خَلفها) حيث قَصَر البطلان على مَن يُصلّي خلف المقاصير.

فتحصّل: أنّ هذه الجملة لا تُنافي ما قدّمناه، وعليه فالأظهر صحّة جماعة من بجناحي مَنْ يكون بحيال الباب.

لو شكّ في وجود الحائل

الفرع الخامس: لو شكّ في وجود الحائل، فإنْ كان مسبوقاً بالعدم، بنى على عدمه للاستصحاب.

ودعوى: أنّه لا يثبت به اتّصاف صلاة المأموم بأن لا يكون بينه وبين من

ص: 18

يتقدّمه سُترة أو جدار، الذي هو معتبرٌ في صحّة الجماعة.

مندفعة: بأنّه لا يُستفاد من الخبر الحَسَن أكثر من مانعيّة الحائل، وعليه فيجري فيه الأصل.

وبه يظهر أنّه لو لم يكن مسبوقاً بالعدم، فإنّه إن لم يجر الاستصحاب، إلّاأنّه تجري أصالة البراءة، بناءً على جريانها في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة الضمنيّة، وببركتها يُحكم بصحّة الجماعة.

وبعبارة اُخرى: قد عرفت في أوّل هذا البحث أنّ مقتضى الأصل، عدم اعتبار كلّ ما شُكّ في اعتباره في الجماعة، وجوداً أو عدماً، وسواءٌ كانت الشبهة موضوعيّة أو حكميّة.

أقول: وبما ذكرناه ظهر ضعف ما في «العروة»(1) من التفصيل بين سبق عدمه وعدمه، حيث حكم في الأوّل بإجراء الأصل، واعتبر في الثاني الاطمئنان بعدمه.

وأضعف منه التفصيل بين حدوث الشكّ في الأثناء، وحدوثه قبل الدخول فيها، والحكم في الأوّل بجريان الاستصحاب، وفي الثاني بعدمه.

***3.

ص: 19


1- العروة الوثقى: ج 3/147 مسألة 13.

ولا مَعَ عُلوّ الإمام في المكان بما يعتدّ به.

اعتبار عدم العلوّ

(و) الشرط الثالث: عدم عُلوّ مكان الإمام عن المأموم، ف (لا) تنعقد الجماعة (مع عُلوّ الإمام في المكان بما يعتدّ به) على المشهور(1).

بل عن جماعةٍ (2) دعوى الإجماع عليه.

وعن الشيخ في «الخلاف»(3) القول بالكراهة، مدّعياً عليه الإجماع، ووافقه صاحبا «المدارك»(4) و «الذخيرة»(5) وغيرهما.

وفي «الشرائع»(6) وغيرها التردّد في الحكم.

أقول: إنّ القائلين بالمنع على طوائف:

منهم: من قدّر العُلوّ المانع بالشِّبر وأزيد(7)، وهو المنسوب إلى المشهور(8).

ص: 20


1- مختلف الشيعة: ج 3/90 «المشهور»، غنائم الأيّام: ج 7/13: (المشهور بين الأصحاب).
2- رياض المسائل: ج 4/300: (بل لا خلاف فيما أجده إلّامن الخلاف)، مصباح الفقيه (ط. ق) ج 2/632 ق 2: (... بل عن غير واحد الإجماع عليه)، تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/174 (عند علمائنا).
3- الخلاف: ج 1/563: (لا ينبغي أن يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأموم إلّابما لا يعتدّ به... دليلناإجماع الفرقة). وص 556: (يكره أن يكون الإمام أعلى من المأموم على مثل السطح. دليلنا إجماع الفرقة)، وفي مختلف الشيعة: ج 3/90 (إنّما قصد به التحريم).
4- مدارك الأحكام: ج 4/320 (وذهب الشيخ في الخلاف إلى كراهة كون الإمام أعلى من المأموم بما يعتدّ به كالأبنية، وهو متّجه).
5- ذخيرة المعاد (ط. ق): ج 1/394 ق 2، فبرغم أنّه يقول: (وكذا لا يصلح الائتمام مع علوّ الإمام على المأموم)، لكن صاحب مستند الشيعة: ج 8/63 نسب إليه القول بالكراهية.
6- الشرائع: ج 1/93. لكنّه في المعتبر: ج 2/419، والمختصر النافع ص 46 لم يتردّد وحكم بالنهي عن الائتمام.
7- مجمع الفائدة: ج 3 شرح ص 281.
8- نسبه إلى المشهور المحقّق الخوئي قدس سره في كتاب الصَّلاة: ج 17/153 (ط. ج).

ومنهم: من قدّره بالمعتدّ به(1). والظاهر رجوعه إلى الأوّل، كما يشهد له أنّ بعضهم جمع بينهما.

ومنهم: من قدّره بما لا يُتخطّى، وهو المحكيّ عن «الدروس»(2) و «الموجز الحاوي»(3) و «الجعفريّة»(4) وغيرها.

أقول: وقد استدلّ جمعٌ منهم لهذا الحكم بحَسَن زرارة المتقدّم، بدعوى أنّ المراد بالموصول في (ما لا يُتخطّى) هو مطلق البُعد الذي لا يمكن طيّه بخطوة كان قائماً على الأرض أو مبسوطاً فيها.

ولكنّه خلاف الظاهر جدّاً، فإنّ الظاهر منه البُعد المبسوط في الأرض.

ويؤيّده: أنّه لو حُمِل على ما ذُكر، لزم التخصيص في الرواية حينئذٍ، من جهة أنّ العلوّ الذي لا يُتخطّى لا يعدّ مانعاً بالنسبة إلى موقف المأموم.

فالصحيح أنْ يستدلّ له:

1 - بمفهوم موثّق عمّار المتقدّم في مسألة اعتبار عدم الحائل، وهو وإنْ كان مقتضى إطلاقه عدم انعقاد الجماعة بما إذا كان الإمام مساوياً للمأموم في الموقف، لكنّه في هذا المورد يقيّد بما ستعرف.

2 - وبموثّقه الآخر، عن الإمام الصادق عليه السلام:).

ص: 21


1- ذكرى الشيعة: ج 4/435 (لا تقدير للعُلوّ إلّابالعرف). شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 1/795 (.. عرفاً في المشهور)، الحدائق الناضرة: ج 11/111 (فقيل إنّه القدر المعتدّ به وأنّه لا تقدير إلّابالعرف، وهو قول الأكثر)، مستند الشيعة: ج 8/64 (بل الأكثر إلى العرف والعادة).
2- الدروس: ج 1/220 (أن لا يعلو الإمام على المأموم ببناء لا يتخطّى وقيل بشبر...).
3- حكاه عنه جواهر الكلام: ج 13/167.
4- حكاه عنه في الجواهر: ج 13/173، وكذلك السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 10/47 (ط. ج)، وقد نقل قوله وهو: (لا يضرّ البُعد المفرط مع اتّصال الصفوف إذا كان بين كلّ صفّين القُرب العرفي إجماعاً).

«عن الرّجل يُصلّي بقومٍ وهم في موضعٍ أسفل من موضعه الذي يُصلّي فيه ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان الإمام على شبه الدكّان أو على موضع أرفع من موضعهم، لم تجز صلاتهم، وإنْ كان أرفع منهم بقدر اصبعٍ أو أكثر أو أقلّ ، إذا كان الارتفاع ببطن مسيلٍ [كما في «الكافي»(1)، وعن بعض نسخ «التهذيب»(2)] أو يقطع مسيلاً [كما عن بعض نسخه الاُخر]، أو بقدر شبرٍ [كما عن نسخةٍ ثالثة(3)] أو بقدرٍ يسير [كما عن نسخةٍ رابعة]، أو يقطع سبيلاً [كما عن الفقيه(4)]، فإنْ كان أرضاً مبسوطة، وكان في موضعٍ منها ارتفاع، فقام الإمام في الموضع المرتفع، وقام من خلفه أسفل منه، والأرض مبسوطة، إلّاأنّهم في موضعٍ منحدرٍ، فلا باس» انتهى(5).

وأورد عليه سيّد «المدارك»:(6) بأنّه ضعيفُ السند، متهافت المتن، قاصرة الدّلالة، فلا يسوغ التعويل عليه في حكمٍ مخالف للأصل.

وفيه: إنّ الخبر الموثّق حجّة، لا سيّما إذا كان لعمّار الذي ادُّعي الإجماعُ (7) على العمل برواياته، والتهافت ليس في محلّ الاستدلال به، ودلالته تامّة كما ستعرف.

ومجمل القول فيه: إنّه يدلّ على ثبوت البأس إذا كان عُلوّ الإمام على وجه التسنيم أو التسريح الشبيه به، إذا كان بقدر الشبر وأزيد، وعدم ثبوت البأس إذا كان أقلّ من الشبر، أو كان العلوّ على وجه الإنحدار.1.

ص: 22


1- الكافي: ج 3/386 ح 9.
2- كما حكاه السيّد الخوئي قدس سره في كتاب الصَّلاة: ج 17/153 (ط. ج).
3- تهذيب الأحكام: ج 3/53 (بقدر شبر).
4- من لا يحضره الفقيه: ج 1/388 (بقطع سيل).
5- وسائل الشيعة: ج 8/411 باب 63 ح 11042.
6- مدارك الأحكام: ج 4/320.
7- عدّة الأصول: ج 1/381.

وبالجملة: فهنا ثلاثة دعاوى :

الدعوى الاُولى: دلالته على ثبوت البأس إذا كان العلوّ تسنيميّاً وبقدر الشّبر.

والدليل عليه: أنّ كلمة (إنْ ) في قوله عليه السلام: (وإنْ كان أرفع إلى آخره) شرطيّة لا وصليّة وإلّا لزم المنع عن ارتفاع الإمام ولو كان أقلّ من إصبع، وهو بديهي الفساد.

مضافاً إلى أنّ هذا لا يلائم لعطف (أو أكثر) عليه، لأنّها لو كانت وصليّة تكون مسوقة لبيان الفرد الخفيّ ، مع أنّه ورد في بعض النسخ بالفاء.

وأمّا جزاؤها، فليس قوله عليه السلام: (فإنْ كان أرضاً إلى آخره)، وإلّا لزم المنع عن الارتفاع بأقلّ من إصبع في غير الأرض المبسوطة، وهو خلاف الضرورة، بل هو إمّا محذوفٌ وهو قوله: (جاز)، أو موجودٌ وهو قوله: (لا بأس).

وعلى ذلك فعلى نسخة (الشبر) تكون دلالته على المُدّعى واضحة، وأمّا على سائر النسخ، فلأنّ المتبادر من قوله عليه السلام: (وإنْ كان أرفع منهم بقدر إصبع إلى آخره) أو المتيقّن منه، إرادة مايقرب من إصبعٍ ، غايته إلى الشّبر.

الدعوى الثانية: دلالته على عدم البأس بما إذا كان العلوّ أقلّ من الشبر، وتلك بناءً على نسخة الشبر واضحة، وأمّا على سائر النسخ فإنْ قلنا بأنّ المتبادر منه مايكون غايته الشبر فكذلك، وإلّا فللشكّ ، فيتمسّك لعدم مانعيّته بإطلاقات أدلّة الجماعة، والأصل.

الدعوى الثالثة: دلالته على عدم مانعيّة العلوّ، إذا كان على وجه الإنحدار، حيث يكون العلوّ تدريجيّاً على وجهٍ لاينافى صدق انبساط الأرض، والدليل عليه ذيل الموثّق.

هذا في عُلوّ الإمام، وعرفت اعتبار عدمه.

ص: 23

ويجوزُ العكس.

(ويجوز العكس) أي لا بأس بعلوّ المأموم على الإمام، ولو بكثيرٍ، بلا خلافٍ ظاهر فيه، وعن جماعة دعوى الإجماع عليه(1).

ويشهد له: قوله عليه السلام في ذيل الموثّق المتقدّم: (وإنْ كان الرَّجل فوق بيتٍ أو غير ذلك دكّاناً كان أم غيره، وكان الإمام يُصلّي على الأرض أسفل منه، جاز للرّجل أن يُصلّي خلفه ويقتدي بصلاته، وإنْ كان أرفع منه بشيء كثير). ونحوه موثّقه الآخر المتقدّم، وخبر علي بن جعفر.

أقول: ولا يعارضها خبر محمّد بن عبدالله، عن الرِّضا عليه السلام:

«عن الإمام يُصلّي في موضع، والّذين خلفه يُصلّون في موضعٍ أسفل منه، أو يُصلّي في موضعٍ ، والّذين خلفه في موضعٍ أرفع منه ؟

قال عليه السلام: يكون مكانهم مستوياً»(2) لتعيّن حمله على الأفضليّة جمعاً.

***5.

ص: 24


1- حكاه في مستند الشيعة: ج 8/65 بقوله: (لا يضرّ عُلوّ المأموم من الإمام مطلقاً بالإجماع) كما عن المنتهى: ج 1/366 (ط. ق): (ذهب إليه علماؤنا) وغيره كالمدارك: ج 4/320: (قطع الأصحاب بجوازه).
2- وسائل الشيعة: ج 8/412 باب 63 ح 11044، التهذيب: ج 282/3 باب 25 فضل المساجدو الصَّلاة فيها ح 155.

ولا يَتباعدُ المأمومُ بالخارج عن العادة من دون صفوف.

اعتبار عدم التباعد

(و) الشرط الرابع: أنْ (لا يتباعد المأموم) عن الإمام أو من تقدّمه من المأمومين (بالخارج عن العادة، من دون) أن يكون بينهما (صفوف) متّصلة، على المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً، شهرةً كادت أن تكون إجماعاً، بل هو كذلك في ظاهر «التذكرة»(1)، كما قاله صاحب «الجواهر»(2).

وما عن «المبسوط»(3) من أنّه إذا كان بينهما ثلاثمائة ذراع صحّت الجماعة، وعن «التذكرة» احتماله(4)، ولم يتحقّق صاحب «الجواهر» رحمه الله حكاية ذلك عنهما.

وكيف كان، فلا شُبهة في ذلك، لعدم صدق الجماعة والاجتماع مع البُعد المُفرط، وهذا ممّا لا كلام فيه.

أقول: إنّما الكلام في أنّه إذا كان بينهما قدرُ ما لا يُتخطّى، فهل تنعقد الجماعة حينئذٍ أم لا؟

والمنسوب إلى المشهور هو الأوّل(5).

ص: 25


1- تذكرة الفقهاء: ج 4/251 (... عند علمائنا وهو قول أكثر العلماء).
2- جواهر الكلام: ج 13/170.
3- المبسوط: ج 1/156.
4- جواهر الكلام: ج 13/172.
5- مستند الشيعة: ج 3/83: (والمشهور المنع من التباعد الكثير، ويستند في ذلك إلى العرف)، مدارك الأحكام ج 4 شرح ص 322 (فذهب الأكثر إلى أنّ المرجع فيه إلى العادة).

وعن «الغُنية»(1) الثاني، وادّعى عليه الإجماع، وعن أبي الصّلاح(2) وجماعةٌ من المتأخّرين كأصحاب «المدارك»(3)، و «المفاتيح»(4)، و «الحدائق»(5) وغيرهم، وظاهر السيّد(6) والكُليني(7) والصدوق(8) موافقته.

ويشهد له: حسن زرارة المتقدّم: «إنْ صَلّى قومٌ وبينهم وبين الإمام ما لا يُتخطّى ، فليس ذلك الإمام لهم بإمام، وأيّ صفٍ كان أهله يُصلّون بصلاة الإمام، وبينهم وبين الصف الذي يتقدّمهم قَدَر ما لا يُتخطّى ، فليس تلك لهم بصلاة.

إلى أنْ قال: وأيّما إمراةٍ صَلّت خلف إمام، وبينها وبينه ما لايُتخطّى ، فليس تلك بصلاة»(9).

وظاهر الفقرات الثلاث اعتبار ذلك، لظهور النفي في نفي الصحّة.

أقول: وأورد على الاستدلال به بإيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّ النفي قد تعارف إرادة نفي الكمال منه، فلعلّه اُريد منه ذلك في المقام.4.

ص: 26


1- غنية النزوع: ص 89.
2- الكافي في الفقه: ص 144.
3- مدارك الأحكام: ج 4 شرح ص 322.
4- مفتاح الكرامة: ج 10/48 حكاه عن مفاتيح الشرائع: ج 1/160-161.
5- الحدائق: ج 11/105 قوله: (... وإلى هذا القول مالَ جملة من أفاضل متأخّري المتأخّرين وهو الحقّ الحقيق بالاتّباع).
6- حكاه عنه في المحقّق في المعتبر: ج 2/416 بقوله: (وقال علم الهدى: ينبغي أن يكون بين كلّ صفّين قدر مسقط الجسد، فإن تجاوز ذلك إلى القَدَر الذي لا يتخطّى لم يجز).
7- الكافي: ج 3/384 باب (الرّجل يخطو إلى الصف الأوّل... أو يكون بينه وبين الإمام ما لا يتخطّى).
8- حكاه عنه في مستمسك العروة الوثقى: ج 7/229، والظاهر من الحكاية أنّه لما رواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه: ج 1/386 ح 1143 و 1144.
9- وسائل الشيعة: ج 8/410 باب 62 ح 11039، الكافي: ج 3/385 ح 4.

وفيه: إنّه برغم ذلك ظاهرٌ في نفي الصحّة، ويؤيّده في المقام اقترانه بحكم الحائل.

الإيراد الثاني: أنّ الخبر الحسن مذيّلٌ بقوله عليه السلام: «ينبغي للصفوف أن تكون تامّة متواصلة بعضها الى بعض، ولا يكون بين الصفّين ما لا يُتخطّى ، يكون ذلك قدَر مسقط جسدِ الإنسان إذا سَجَد».

فإنّ كلمة (ينبغي) ظاهرة في الاستحباب، بل لا شبهة في إرادته بالنسبة إلى كون الصفوف تامّة، وحيثُ أنّ قوله عليه السلام: (ولا يكون بين الصفّين) عطفٌ على مدخول (ينبغي)، وظاهرٌ في إرادة بيان ضدّ التواصل، فيكون المتحصّل من هذه الجملة أنّه يستحبّ تواصل الصفوف، بأنْ يكون بينها قدَرُ ما لا يُتخطّى، كقدر مسقط جسد الإنسان إذا سجد، فإنّه في هذه الصورة لا يتحقّق شيءٌ من البُعد، بل يكون سجوده عند عقب من تقدّمه، وتتّصل الصفوف، وعلى ذلك فبما أنّ الخبر يشهد بعضه على بعضٍ ، فتكون الجمل الثلاث في الصدر محمولة على الاستحباب.

وفيه أوّلاً: إنّ (ولا يكون) عطفٌ على كلمة (ينبغي) لا على مدخولها.

وثانياً: دعوى ظهور (ينبغي) في إرادة الاستحباب، بنحوٍ يصلحُ أن يكون صارفاً عن ظهور النفي في نفي الصحّة غير ثابتة.

الإيراد الثالث: أنّ الظاهر من الجُمل اعتبار ان لا يكون بين الموقفين أزيد من ما لايُتخطّى، فيتعيّن حملها على الاستحباب، لا سيّما بعد تفسيره في الذيل بأنّ المراد (قدر مسقط جسد الإنسان إذا سجد)، فإنّه لا يتحقّق شيءٌ من البُعد في هذه الصورة، بل يكون سجوده عند عقب من تقدّمه، كما هو واضح، وبديهي اغتفار أزيد من ذلك.

وفيه: الظاهر إرادة ما بين موقف المتقدّم ومسجد المتأخّر، وذلك من جهة

ص: 27

ظهوره في إرادة ما لايُتخطّى، باعتبار المحلّ الذي يكون مُصلّى الإنسان، وهو الفضاء الذي يتمكّن فيه من الإتيان بجميع أفعال الصَّلاة.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - أنّ الظاهر من تواصل الصفوف، تواصلها بلحاظ حال السّجود، فكذلك يكون المراد من قوله: (ولا يكون بين الصفّين ذلك) كما لا يخفى ، وعلى ذلك فلا موجب للحمل على الاستحباب.

الإيراد الرابع: أنّ الموصول (في ما لا يُتخطّى) مجملٌ ومردّدٌ بين البُعد الذي لا يتخطّى، وبين العلوّ الذي لا يتخطّى، أو الحائل الذي لا يُتخطّى، فلايتمّ الاستدلال.

وفيه: ما تقدّم في الحائل من أنّ الخبر كالصريح في إرادة البُعد والمسافة، فراجع.(1)

الإيراد الخامس: أنّه يعارض - مع ما ورد في موثّق عمّار المتقدّم في ائتمام المرأة مع الحائل المصرّح بأنّه (يجوز للنساء أن يُصلّين خلف الإمام، في دارٍ بينهن وبينه حائط أو طريق)، فإنّه وإنْ ورد في المرأة، إلّاأنّه لعدم القول بالفصل بينها وبين الرّجل، يتحقّق التنافي بينه وبين الخبر الحَسَن الموجب ذلك، لحمله على الفضيلة.

وفيه: إنّه حيث يكون الموثّق وارداً في مقام بيان عدم مانعيّة الحائل والطريق، وقابلٌ للحمل على ما إذا لم يكن بين مسجدِ المرأة وموقف الإمام قَدرُ ما لا يُتخطّى ، فالمتعيّن ذلك، لعدم الإطلاق له من هذه الجهة.

الإيراد السادس: إعراض الأصحاب عن هذا الخبر الحسن.

وفيه: إنّهم حملوه على الاستحباب لما تقدّم، فالخبر ليس مُعرَضاً عند الأصحاب عنه.

وعليه، فالأظهر اعتبار أن لا يكون بين موقف المتقدّم، ومسجد المتأخّر مسافة أزيد من ما لا يتخطّى، بحيث لا يمكن طيّه بخطوة، ولا يبعد دعوى أنّ هذاد.

ص: 28


1- صفحة 9 من هذا المجلّد.

المقدار من الفصل يعدّ بُعداً في العادة مُخلّاً بهيئة الجماعة، وعليها فلا نزاع ولا كلام في البين.

أقول: ويُمكن أن يُستشهد للمختار بصحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«أقلّ ما يكون بينك وبين القبلة مربض عنز، وأكثر مايكون مربط فرس»(1).

بناءً على أنّ المراد ب (القبلة) الصف المتقدّم أو الإمام، كما عن المجلسي(2)وغيره(3)، ولا يخفى دلالته على هذا.

بقي في المقام اُمور:

الأمر الأوّل: الظاهر عدم اختصاص هذا الشرط بابتداء الصَّلاة، بل هو معتبرٌ ابتداءً واستدامة، كما هو المشهور بين الأصحاب على ما نُسب إليهم - خلافاً لما عن الشهيد قدس سره في قواعده(4)، فإنّه نُسب إليه القول بكونه شرطاً في الابتداء فقط، وتبعه بعضُ من تأخّر عنه(5)، للخبر الحسن المتقدّم، فإنّه يدلّ بإطلاقه على اعتبار هذا الشرط في جميع حالات الصَّلاة.

الأمر الثاني: لو كانت الصفوف متّصلة، وأهلها متهيّئون للجماعة، هل يجوز للبعيد أن يحرم قبل القريب، أم يعتبر في إحرامه أن يكون متأخّراً عن إحرام من يتّصل به ؟8.

ص: 29


1- وسائل الشيعة: ج 5/137 باب 12 ح 6144، من لا يحضره الفقيه: ج 1/387 ح 1145.
2- حكاه صاحب جواهر الكلام: ج 13/174، بقوله: (إذ المراد بالقبلة كما عن المجلسي ومولانا مراد في شرحيهما على الفقيه الصف الذي قبلك أو الإمام...)، مصباح الفقيه (ط. ق): ج 2/636 ق 2، بقوله: (كما عن المجلسى وغيره في شرح الحديث).
3- مفتاح الكرامة: ج 10 شرح ص 51 (... قال جدّي والفاضل مولانا مراد في شرحيهما على الفقيه، المراد بالقبلة الصف الذي قبلك أو الإمام).
4- كما حكى صاحب جواهر الكلام: ج 13/178 النسبة إلى الشهيد عن الذخيرة.
5- مدارك الأحكام: ج 4/323، الحدائق: ج 11/108.

وجهان، أقواهما الأوّل، فإنّه وإنْ كان مقتضى ظاهر الدليل اللّفظي هو الثاني، إلّا أنّه للسيرة القطعيّة المستمرّة إلى زمان المعصوم عليه السلام، المستكشف استمرارها بالبرهان - إذ لو اعتبر عدم دخول البعيد في الجماعة إلّابعد إحرام القريب وإحرازه ذلك، المستلزم ذلك للترتيب في الإحرام، لامتنع لحوق الجميع بالإمام في الجماعات الكثيرة كالجماعات المنعقدة أواخر عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله - لابدَّ من الالتزام بكفاية تهيّؤ المتقدّم للإحرام.

الأمر الثالث: لو انتهى صلاة مَنْ في الصف المتقدّم الذي هو واسطة في اتّصال المتأخّر، فعرض البُعد في الأثناء، فلا كلام في صيرورته منفرداً لو لم يرجع المتقدّم إلى الجماعة بلا فصل.

إنّما الكلام في أنّه لو عاد إليها بلا فصل، فهل تكون الجماعة باقية أم لا؟

وجهان، لا يبعد دعوى أظهريّة الأوّل، من جهة أنّ البُعد العارض في الفرض نظير الحائل غير المستقرّ، تكون الأدلّة الدالّة على مانعيّة البُعد منصرفة عنه، ولا أقلّ من الشكّ ، فالمرجع استصحاب بقاء الجماعة.

***

ص: 30

اعتبار عدم تقدّم المأموم على الإمام

الشرط الخامس: أن لا يتقدّم المأموم على الإمام، وهذا الشرط ممّا أجمع الأصحاب عليه صريحاً وظاهراً، وحكاه جماعة من الأساطين(1)، وهو كافٍ فيه، بل الحكم المزبور من الاُمور المسلّمة عند المتشرّعة من الصدر الأوّل، على وجهٍ كاد أن يلحق بالضروريّات، ويساعده الاعتبار، فلا مورد لإطالة الكلام فيه.

أقول: إنّما الكلام في أنّه هل يعتبر التأخّر عنه، أم يجوز مساواته معه ؟ فالمشهور بين الأصحاب - على ما نُسب إليهم - الثاني(2)، وعن «التذكرة» دعوى الإجماع عليه(3).

وقد استدلّ له بوجوه:

1 - الإجماع.

وفيه: إنّ المحصّل منه غير حاصل، والمنقول منه ليس بحجّة، مع أنّ مدرك المجمعين سيأتي، وستعرف عدم صحّة الاستدلال به، فلا يكون الإجماع على فرض ثبوته تعبّديّاً.

ص: 31


1- كفاية الأحكام: ج 1/149 (... عند الأصحاب لا أعرف خلاف في ما بينهم)، نهاية الاحكام: ج 2/119 (إجماعاً منّا)، ذكرى الشيعة: ج 4/428 (يجب أن لا يتقدّم المأموم على الإمام في الابتداء والاستدامة عند علمائنا أجمع)، مفتاح الكرامة: ج 10/25 (حكاه عن جماعة كالعزيّة وإرشاد الجعفريّة والمفاتيح والمنتهى والمدارك...).
2- كفاية الأحكام: ج 1/149 (والمشهور جواز المساواة)، مسالك الأفهام: ج 1/308 (وهو المشهور)، مجمع الفائدة والبرهان: ج 3 شرح ص 283 (والمشهور الصحّة).
3- تذكرة الفقهاء: ج 4/240 (فإنْ ساواه صحّ إجماعاً).

2 - إطلاق أدلّة الجماعة.

3 - أصالة البراءة عن اعتباره.

وهذان الوجهان يتّمان إذا لم يدلّ دليلٌ بالخصوص على اعتبار التأخّر.

4 - إطلاق الأمر بوقوف المأموم الواحد عن يمين الإمام في النصّ (1) وهو كثير.

وفيه: إنّ هذه النصوص ليست في مقام بيان هذا الحكم، كي يمكن أن يُتمسّك بإطلاقها، بل في مقام بيان حكمٍ آخر، فيمكن أن يكون المراد بها مايقابل الخَلف، فلا ينافيه التقدّم بمقدارٍ يسير، وبذلك يظهر ما في الوجه.

5 - إطلاق الإذن بالوقوف حذاء الإمام، إذا لم يجد في الصف مكاناً.

6 - حُكم أمير المؤمنين عليه السلام بصحّة صلاة المُختَلفين في دعوى كلّ منهما الإمامة(2)، إذ لا يكون هذه الدعوى إلّامع التساوي.

وفيه: إنّه يدلّ على صحّة الصَّلاة لا الجماعة، وهو موافقٌ للقاعدة، غير منافٍ لاعتبار التقدّم.

7 - إطلاق الأمر بقيام المرأة في وسط النساء لو صلّين جماعةً ، وفي بعض تلك النصوص النهي عن تقدّمها عليهنّ .

وفيه: إنّ التمسّك بإطلاق الأمر بقيامها وسطاً في غير محلّه، بعد عدم ورودها في مقام بيان هذا الحكم.

وأمّا النهي عن تقدّمها، فالظاهر إرادة التقدّم على النهج المتعارف في الجماعة،3.

ص: 32


1- وسائل الشيعة: ج 8/341 باب 23.
2- وسائل الشيعة: ج 8/352 باب 29 ح 10879، الكافي: ج 3/375 ح 3.

من وقوف الإمام بين يدي المأمومين. وبه يظهر ما في الوجه.

8 - الأمر بتقدّم الإمام فيما إذا كانوا ثلاثة فما فوق، بدعوى أنّه يدلّ على عدم لزومه إذا كانوا اثنين.

9 - ما دلَّ على أنّه إذا دخل جماعة المسجد قبل أن يتفرّق جميع من فيه، وأرادوا أن يُصلّوا جماعةً لا يبدو بهم إمامهم.

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّم من عدم الإطلاق له - أنّ في قوله عليه السلام: (ولا يبدو) نسخة اُخرى وهي: (ولا يبدر) بالراء المهملة.

وقد استدلّ لاعتبار التأخّر ولو قليلاً بوجوه:

الوجه الأوّل: الأصل.

وقد عرفت أنّ الأصل في المقام البراءة لا الاشتغال، مضافاً إلى إطلاق الأدلّة.

الوجه الثاني: الأمر بتقدّم الإمام إذا كان المأموم أزيد من واحد.

وفيه: إنّ هذا الأمر محمولٌ على الاستحباب قطعاً، إذ المراد بالتقدّم في هذه النصوص، وقوف الإمام في صفٍ والمأمومين في صفٍ آخر، ولا شبهة في عدم لزوم ذلك.

الوجه الثالث: التوقيع المرويّ عن الحميري، في «الاحتجاج»، والوارد في السّجود على القبر، والصَّلاة عند قبورهم عليهم السلام

«وأمّا الصَّلاة فإنّها خلفه، يجعله الإمام، ولا يجوز أنْ يُصلّي بين يديه، ولا عن يمينه، ولا عن شماله، لأنّ الإمام لا يتقدّم عليه ولا يُساوي»(1)، بتقريب أنّ المراد من1.

ص: 33


1- وسائل الشيعة: ج 5/160 باب 26 ح 6220 و 6221.

(الإمام) في التعليل إمام الجماعة لا إمام الأصل، وإلّا لزم اتّحاد العلّة والمعلول، وهو كما ترى .

وفيه أوّلاً: إنّه مرسل بالنسبة إلينا، وإنْ كان مسنداً عند مصنّفه، حيث حذف الإسناد رعايةً للاختصار.

وثانياً: إنّ الخبر محكيٌّ عن «الفقيه» هكذا(1): (ولا يجوز أن يُصلّي بين يديه، لأنّ الإمام لا يتقدّم عليه، ويُصلّي عن يمينه وشماله)، ولا شبهة في أنّ صاحب «الفقيه» أضبط من صاحب «الاحتجاج».

ولو سُلّم تساويهما في ذلك، فحيث أنّ الخبر واحدٌ قطعاً، فهو من قبيل اشتباه الحُجّة باللّاحجّة، لا من قبيل تعارض الخبرين، فلا يصحّ الاستدلال به للإجمال.

وثالثاً: إنّه يجوز حمل (الإمام) في التعليل، على إمام الأصل، من دون أن يلزم المحذور المتقدّم، بأنْ يكون المراد: أنّ الإمام في حال حياته ومماته، وفي حال الصَّلاة وغيرها لا يُتقدّم عليه.

وهذا الاحتمال لو لم يكن أظهر ممّا قيل، لا أقلّ من تساويه معه، فيصبح الخبر من هذه الجهة مُجملاً.

الوجه الرابع: النصوص(2) الواردة في كيفيّة صلاة العُراة جماعةً ، الآمرة بتقديم الإمام على المأمومين بركبتيه، وظهورها في الوجوب غير قابل للإنكار، إذ - مضافاً إلى ظهورها في نفسها فيه - أنّ الأمر به في مثل هذه الحالة الّتي لولا لزوم التقدّم1.

ص: 34


1- التهذيب: ج 2/228 باب 11 ح 106، وسائل الشيعة: ج 5/160 باب 26 ح 6220 و 6221.
2- وسائل الشيعة: ج 3 ص 328 باب 51.

لكان الأولى الأمر بالتساوي، لكونه أحفظ وأستر، لا مجال للتوقّف في حمله على الوجوب، وهذا الوجه تامّ .

ويؤيّده معهوديّة تقدّم الإمام في الجماعات، ومناسبة ذلك مع عنوان الإمامة.

وعليه، فالأظهر لزوم تقدّم الإمام، وأمّا مقدار التقدّم فموكولٌ إلى العرف.

ثمّ إنّ المعتبر تقدّم الإمام على المأموم في جميع حالات الصَّلاة، لما تقدّم في الشرط السابق.

***

ص: 35

التنبيه على أمرين مناسبين للمقام
الجماعة حول الكعبة

ثمّ إنّه لا بأس بالتنبيه على أمرين مناسبين للمقام:

الأمر الأوّل: في أنّه هل تجوز إقامة الجماعة حول الكعبة مستديرة، كما عن الإسكافي(1)، والشهيدين(2)، والمحقّق الثاني(3)، وغيرهم(4)، بل عن «الذكرى»(5)الإجماع عليه ؟.

أم لا تجوز كما عن «القواعد»(6) و «المنتهى»(7)؟

وعن جماعةٍ (8) الاستشكال فيه.

وقد استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ ما دلَّ على اعتبار تقدّم الإمام على المأموم، إنّما يراد به تقدّمه عليه بلحاظ الكعبة الشريفة، أو بلحاظ الدائرة المفروضة حولها، الّتي يكون مركزها وسط الكعبة، وعليه فحيثُ إنّه يمكن التقدّم بلحاظهما في الجماعة بالاستدارة، فلابدَّ من البناء على صحّتها.

ص: 36


1- حكاه عن ابن الجنيد السيّد العاملي في مدارك الأحكام: ج 4/331.
2- الدروس: ج 1/220، مسالك الأفهام: ج 1/308.
3- رسائل الكركي: ج 1/127.
4- جواهر الكلام: ج 13/230 (فالأقوى صحّة الجماعة مع الاستدارة).
5- ذكرى الشيعة: ج 3/161 (للإجماع عليه عملاً في كلّ الأعصار السالفة).
6- قواعد الأحكام: ج 1/314 قوله: (ولو صلّيا داخل الكعبة أو خارجها مشاهدين لها فالأقرب اتّحاد الجهة).
7- منتهى المطلب: ج 1/377، قوله: (لو صلّى الإمام في المسجد الحرام إلى ناحية من النواحي الكعبة واستدار حولها صحّت صلاة من خلف الإمام خاصّة).
8- مدارك الأحكام: ج 4/332 (والمسألة محلّ تردّد، ولا ريب أنّ الوقوف في جهة الإمام أولى وأحوط)، ذخيرة المعاد (ط. ق): ج 1/395 ق 2، نهاية الاحكام: ج 2/117 (فإشكال).

2 - وبأنّ ما دلَّ على اعتبار التقدّم مختصٌّ بما إذا كان استقبال الإمام والمأموم إلى جهةٍ واحدة، وفي صورة الاستدارة لا دليل على اعتبار التقدّم، والأصل يقتضي عدمه.

3 - وبالإجماع.

أقول: وفي الكلّ نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه - مضافاً إلى أنّ لازم ما ذُكر أن لا تكون الجماعة مشروعة في الكعبة، لعدم إمكان فرض التقدّم بذلك اللّحاظ - أنّه خلاف الظاهر، فإنّ المنساق إلى الذهن ممّا دلّ على اعتبار التقدّم، هو التقدّم في الجهة.

وأمّا الثاني: - مضافاً إلى أنّ لازمه مشروعيّة الجماعة داخل الكعبة، مع كون قفا كلٍّ منهما إلى الآخر - أنّه خلاف إطلاق الدليل.

وأمّا الثالث: فلعدم ثبوته أوّلاً، وعدم كونه تعبّديّاً ثانياً.

وبما ذكرناه يظهر مدرك القول الآخر.

أقول: لكن الأظهر الصحّة، لما عن «الذكرى»(1) من ثبوت السيرة عليه في عصر المعصومين عليهم السلام، دون أن ينكر أحدٌ منهم ذلك.

ثمّ إنّ الظاهر على ما حُكي أنّ بناء المجوّزين لهذه الجماعة، على اعتبار عدم تقدّم المأموم على الإمام، غاية الأمر صريح جماعة(2) منهم وظاهر آخرين(3) اعتبار عدم التقدّم بلحاظ الكعبة الشريفة.1.

ص: 37


1- ذكرى الشيعة: ج 3/161 (للإجماع عليه عملاً في كلّ الأعصار السالفة).
2- تقدّم في «المنتهى» ذلك، ولكن هنا فقط للمجوّزين، راجع الصفحة السابقة ح رقم (6).
3- مدارك الأحكام: ج 4 ش ص 331 (حكاه عن ابن الجنيد)، الدروس: ج 1/220 (بحيث لا يكون المأموم أقرب إليها - أي الكعبة -) رسائل الكركي: ج 1/127، مسالك الأفهام: ج 1/308، ذكرى الشيعة: ج 3/161.

وظاهر جماعة(1) منهم اعتباره بلحاظ الدائرة المفروضة حولها، الّتي يكون مركزها وسط الكعبة، وهما وإنْ توافقا في الدائرة الحقيقيّة حولها، إلّاأنّه ربما ينفكّ كلّ منهما من الآخر في بعض الفروض.

وحقّ القول في المقام: إنّ اعتبار عدم تقدّم المأموم على الإمام لمّا كان مدركه الارتكاز والإجماع والضرورة، لا يبعد دعوى اعتباره في هذه الجماعة، ولازمه كفاية أحد الأمرين، إذ في ما إذا لم يكن متقدِّماً بأحد اللّحاظين، ومتقدِّماً بلحاظ آخر، حيث إنّه لا دليل على اعتبار العدم بلحاظه أيضاً، ومقتضى الإطلاقات والأصل عدم اعتباره، فيُبنى على الصحّة.

وأمّا اعتبار التقدّم: فحيثُ أنّ دليله لايشمل هذه الجماعة الثابتة مشروعيّتها بالسيرة كماتقدّم، فلابدّ فيها من الرجوع إلى الإطلاق والأصل المقتضيين لعدم اعتباره.

وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام.

عدم بطلان الصلاة لو أخلَّ بأحد هذه الشروط عن غير عمدٍ وعلم

الأمر الثاني: قد تقدّم أنّه في موارد بطلان الجماعة، تصحّ الصلاة في ما إذا لم يخلّ بوظيفة المنفرد، وكذلك إذا أخلّ بوظيفته، لكن لم يكن الإخلال عن علمٍ وعَمد، أو كان عن جهل تقصيري، ولم يكن ما أخلّ به ممّا يوجب مطلق الإخلال به بطلان الصَّلاة وإنْ لم يكن عمديّاً.

وعليه، فإنْ أخلَّ بأحد هذه الشروط عن غير عمدٍ وعلم، صحّت صلاته، إذ لم يات بما يوجب البطلان مطلق وجوده، وإنْ بطلت الجماعة، لأنّها شروط واقعيّة لها، كما هو ظاهر النصوص.

ص: 38


1- جواهر الكلام: ج 13/230: (والأحوط عدم أقربيّة المأموم فيها إلى الكعبة بحسب الدائرة، وأحوط منه ملاحظة الكعبة مع ذلك، وأحوط منه أقربيّة الإمام إليها دائرةً وعيناً، واللّه العالم).

وما في بعض النصوص من نفي الصَّلاة عن فاقد بعض تلك الشروط، إنّما اُريد به في نفسه أو بواسطة حديث (لا تعاد الصَّلاة) المقصودة، أي الجماعة، أو نفي الصَّلاة في صورة العلم والعمد، كما يظهر لمن راجع ماذكرناه في تلك المسألة مفصّلاً.

***

ص: 39

فصلٌ : فيما تُدرَك به الرّكعة و ما تُدرَك به الجماعة:

اشارة

ولو أدرَك الإمام راكعاً، أدرك الرَّكعة، وإلّا فلا.

فيما تُدْرَك به الرَّكعة
اشارة

فصلٌ : فيما تُدرَك به الرّكعة (و) ما تُدرَك به الجماعة:

أقول: يقع الكلام في هذا الفصل في مقامين:

الأوّل: فيما تُدرَك به الرّكعة.

الثاني: فيما تُدرَك به الجماعة:

أمّا المقام الأوّل: فالمشهور بين الأصحاب(1) أنّه (لو أدرك) المُصلّي قاصد الجماعة (الإمام راكعاً أدرك الرَّكعة، وإلّا فلا).

وعن المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(2)، و «نهاية الاحكام»(3) أنّه يشترط فيه الذّكر قبل أن يخرج الإمام عن حَدّ الرّاكع.

وعن الشيخين(4)، والقاضي(5)، أنّه لا تُدرك الرَّكعة إلّا بإدراك تكبيرة الركوع.

أقول: ومنشأ الاختلاف في هذا الحكم اختلاف النصوص الواردة، فهي على طوائف ثلاث:

ص: 40


1- ذخيرة المعاد (ط. ق): ج 1/393 ق 2 (على المشهور بين الأصحاب)، غنية النزوع: ص 89 (بلا خلاف)، ذكرى الشيعة: ج 4/125 (إجماعاً).
2- تذكرة الفقهاء: ج 4/45.
3- نهاية الاحكام: ج 2/24.
4- المبسوط: ج 1/158، النهاية: ص 114.
5- المهذّب: ج 1/82.

الطائفة الاُولى : ما هو ظاهرٌ فيما ذهب إليه المشهور، كصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أدركت الإمام وقد ركع، فكبّرت وركعت قبل أن يرفع الإمام رأسه، فقد أدركت الرّكعة، وإنْ رفع رأسه قبل أن تركع، فقد فاتتك الرّكعة»(1).

وهذا في الدلاله على عدم اعتبار إدراك تكبيرة الركوع، وأنّ إدراك الرّكعة يكون بإدراك الركوع، يكون مثل:

1 - ما دلَّ على أنّ من خاف أن يرفع الإمام رأسه، جاز له أن يركع في مكانه، ويمشي راكعاً أو بعد سجوده.

2 - وما دلَّ على استحباب إطالة الإمام ركوعه، إذا أحسَّ بمَن يُريد الاقتداء به.

وبعبارة اُخرى : هذا الخبر صريح في المدّعى، لكنّه ليس بصريح في الدلالة على عدم اعتبار الذّكر قبل أن يرفع الإمام رأسه، نعم هو ظاهر فيه.

لا يُقال: إنّه يدلّ على إدراك الرّكعة بصِرف الإتيان بالتكبيرة قبل رفع الإمام رأسه، وإنْ لم يجتمع معه في الركوع في زمان، وهذا ممّا لم يلتزم به أحدٌ، فلابدّ من طرحه.

فإنّه يُقال: إنّ الشرطيّة الاُولى وإنْ كانت ظاهرة في ذلك، إلّاأنّ ظاهر قوله عليه السلام بعدها: (وإنْ رفع رأسه... إلى آخره) هو اعتبار إدراك الركوع، إذ الظاهر منه الأخذ أخذ عدم الرفع في جواز اللّحوق، وأيضاً الظاهر كونه مفهوماً للشرطيّة الاُولى، فتدبّر.

3 - وصحيح سليمان بن خالد، عنه عليه السلام: «في الرّجل إذا أدرك الإمام وهو راكع،2.

ص: 41


1- وسائل الشيعة: ج 8/382 باب 45 ح 10963، الكافي: ج 3/382.

وكبّر الرّجل وهو مُقيمٌ صلبه، ثمّ ركع قبل أن يرفع الإمام رأسه، فقد أدرك الرّكعة»(1).

ونحوهما خبر زيد(2)، وقريبٌ منهما خبرا معاوية بن ميسرة(3) وشُريح(4).

الطائفة الثانية: ماهو ظاهرٌ في القول الثالث:

1 - صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إنْ لم تُدرك القوم قبل أن يُكبِّر الإمام للرّكعة، فلا تدخل معهم في تلك الرّكعة»(5).

إذ لولا اعتبار إدراك تكبيرة الركوع، لما كان مورداً للنهي عن الدخول في الجماعة.

ودعوى:(6) أنّ من المحتمل إرادة الجماعة مع المخالفين، ويشهد له التعبير بلفظ (القوم)، فالوجه في النهي عن الدخول حينئذٍ عدم إجزاء قراءتهم عن قراءته.

مندفعة: بأنّه لم يعتبر فيه إدراك القراءة، وإنّما اعتبر إدراك تكبيرة الركوع، فهذا الاحتمال خلاف الظاهر، كما أنّ احتمال إرادة الكراهة من النهي فيه خلاف الظاهر.

2 - وصحيحه الآخر، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إذا أدركت التكبيرة قبل أن يركع الإمام، فقد أدركت الصَّلاة»(7).

3 - وصحيحه الثالث: «لا تعتدّ بالرّكعة التي لم تشهد تكبيرها مع الإمام»(8).0.

ص: 42


1- وسائل الشيعة: ج 8/382 باب 45 ح 10962، الكافي: ج 3/382 ح 6.
2- وسائل الشيعة: ج 8/283 باب 45 ح 10964.
3- وسائل الشيعة: ج 8/383 باب 45 ح 10964.
4- وسائل الشيعة: ج 8/383 باب 45 ح 10965.
5- وسائل الشيعة: ج 8/381 باب 44 ح 10959، التهذيب: ج 3/43 ح 61.
6- راجع مصباح الفقيه (ط. ق): ج 2/441 ق 2.
7- وسائل الشيعة: ج 8/381 باب 44 ح 10958، الاستبصار: ج 1/435.
8- وسائل الشيعة: ج 8/381 باب 44 ح 10960.

والمراد بالركعة، هو الركوع، لما عرفت من إطلاقها عليه، ولولا عدم إدراك الرّكعة مع عدم إدراك تكبيرة الركوع، لما صَحّ النهي عن الإعتداد بتلك الرّكعة.

4 - وصحيح الحلبي أو حسنه، عن الإمام الصادق عليه السلام في الجمعة:

«إذا أدركت الإمام قبل أن يركع الرَّكعة الأخيرة، فقد أدركت الصَّلاة، فإن ادركته بعدما ركع فهي الظهر أربع ركعات»(1).

وأورد عليه(2): بأنّه يحتمل أن يكون المراد من الشرطيّة الاُولى قبل أن يُتمّها، ومن الثانية بعد الفراغ عنها.

وفيه: إنّ هذا خلاف الظاهر، كما لا يخفى .

أقول: وذكروا في الجمع بين الطائفتين وجهين(3):

الوجه الأوّل: حمل الثانية على الكراهة.

وأورد عليه: بأنّه إنْ كان المراد من الكراهة، كونها أقلّ ثواباً بالنسبة إلى صلاة المنفرد، فهذا راجعٌ إلى عدم استحباب الجماعة بهذا النحو أصلاً.

وإنْ كان المراد كونها أقلّ ثواباً بالنسبة إلى الجماعة الّتي أدرك تكبيرة الإمام، فيرد عليه أنّ هذا لا يوجبُ النهي عن الدخول في هذه الجماعة الموجب لتفويتها.

ويمكن أن يُجاب عن الإيراد: بأنّ المراد هو رجحان تأخير الائتمام إلى ما بعد، ولو في حال التشهّد، إنْ أراد إدراك فضيلة الجماعة.

الوجه الثاني: أن يحمل الطائفة الاُولى على ما إذا لم يُدرك الإمام إلّافي الركوع، والثانية على ما إذا أدركه قبله.0.

ص: 43


1- وسائل الشيعة: ج 7/345 باب 26 ح 9536، الكافي: ج 3/427 ح 1. (2و3) راجع الإيرادات في مدارك الأحكام: ج 4/20.

أقول: في كلا الوجهين نظر.

أمّا الأوّل: فلأنّ بعض روايات ابن مسلم كصحيحه الثاني، غيرُ قابلٍ للحمل على ذلك، فإنّ لسانه لسان عدم إدراك الصَّلاة، لا النهي عن الدخول.

وأمّا الثاني: فللإجماع على عدم الفرق بين الصورتين.

وبالجملة: الحقّ أنّ الطائفتين متعارضتان، لا يمكن الجمع بينهما بوجهٍ ، ولابدّ فيهما من الرجوع الى المرجّحات، وهي مع الطائفة الاُولى ، لكونها أشهر، حتّى أنّ الشيخ رحمه الله(1) ادّعى في بعض كتبه - كما نُقل - الإجماع على إدراك الرّكعة بإدراك ركوع الإمام، بل هي مشهورة، والطائفة الثانية شاذّة نادرة، فيتعيّن العمل بالأولى .

الطائفة الثالثة: التوقيع المرويّ عن «الاحتجاج»، عن مولانا الحُجّة عليه السلام:

«كتب إليه: وسأله عن الرّجل يلحق الإمام وهو راكع، فيركع معه ويحتسب بتلك الرّكعة، فإنّ بعض أصحابنا قال: إنْ لم يسمع تكبيرة الرّكوع، فليس له أنْ يعتدّ بتلك الركعة ؟

فأجاب عليه السلام إذا لحق مع الإمام من تسبيح الركوع تسبيحة واحدة، اعتدّ بتلك الرّكعة، وإنْ لم يسمع تكبيرة الركوع»(2).

والظاهر أنّ هذا مدرك القول الثاني.

ولكن يرد عليه أوّلاً: إنّ التوقيع الشريف لضعفه في نفسه، وإعراض الأصحاب عنه لا يُعتمد عليه.4.

ص: 44


1- حكاه عنه في مصباح الفقيه: ج 2/434 ق 2: (بل عن الخلاف دعوى الإجماع على إدراك الرّكعة بإدراك الإمام راكعاً) راجع الخلاف: ج 1/314.
2- وسائل الشيعة: ج 8/383 باب 45 ح 10966، الاحتجاج: ج 2/487 ح 14.

وثانياً: إنّ النصوص المتقدّمة كالصريحة - خصوصاً بعضها - في إدراك الرّكعة بإدراك الركوع خاصّة، وعدم اعتبار إدراك الذّكر.

وعليه، فلابدّ من تقييد مفهوم الشرطيّة، أو رفع اليد عن مفهومها، وإنْ لم يكن شيء منها جمعاً عرفيّاً، فلابدّ من طرحه.

فتحصّل: أنّ الأظهر ما عليه المشهور.

***

تنبيهات الركوع
اشارة

أقول: يقتضي المقام التنبيه على بعض الاُمور:

صور معيّة المأموم مع الإمام في الركوع

التنبيه الأوّل: إنّ لمعيّة المأموم مع الإمام في الركوع، التي هي مناط إدراك الرّكعة - على ما تقدّم - صوراً:

1 - معيتهما حال وقوف كليهما في الركوع.

2 - معيتهما حال وقوف الإمام، وهوي المأموم، بأنْ كان الإمام واقفاً حين وصول المأموم إلى حَدّ الركوع، ولكن حين انتهاء هويّه إلى الركوع، أخذ الإمام في الرفع، وفي هذه الصورة:

تارةً : يقف المأموم في الركوع قبل أن يخرج الإمام عن حَدّ الركوع.

واُخرى : لايقف.

3 - معيتهما حال هوي المأموم، ونهوض الإمام، بأنْ اقترن وصول المأموم إلى حَدّ الركوع، مع أخذ الإمام في رفع الرأس عنه.

أمّا الصورة الاُولى: فلا إشكال فيها كما تقدّم.

ص: 45

وأمّا الصورة الثانية:

1 - فإنْ قلنا إنّ الركوع اسمٌ للمعنى الهيئي الاسم المصدري، أو قلنا إنّه يعتبر في صدقة، انتهاء الانحناء والهويّ إلى الحَدّ، ولايكفي فيه مجرّد الوصول إلى ذلك الحَدّ، فلا كلام في أنّه لا يعتدّ بتلك الرّكعة، وتكون فائتة، وذلك لأنّ ظاهر قوله في صحيح سليمان: (ثمّ رَكَع قبل أن يرفع الإمام رأسه) بقرينة التعبير بفعل الماضي، اعتبار تحقّق ركوع المأموم المتوقّف على الوقوف، والقرار قبل أن يرفع الإمام رأسه، أي يشرع في الرفع.

2 - وإنْ قلنا إنّه يكفي في صدق الركوع، الوصول إلى الحَدّ الشرعي، ولا يعتبر انتهاء الانحناء، كما لعلّه الأظهر، فقد يُقال إنّه لا يعتدّ بتلك الرّكعة، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: انصراف الركوع إلى الركوع بالمعنى الاسم المصدري، وهو عبارة عن القرار في حال الانحناء المخصوص.

الوجه الثاني: أنّ الظاهر منه الركوع الشرعي، أي الركوع مع ما يعتبر فيه شرعاً من الشرائط، التي منها الاستقرار والقرار، فلا يعتدّ بتلك الرّكعة.

الوجه الثالث: التوقيع الشريف المتقدّم، بدعوى كون تسبيح الركوع المذكور فيه، كنايةٌ عن استقرار الإمام في الركوع.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لا وجه لهذا الانصراف، ولا مستند له.

وأمّا الثاني: فلأنّ الخطابات الشرعيّة حيث أنّها مُلقاةٌ إلى العرف، فلابدّ من حملها على إرادة المفاهيم العرفيّة، فالموضوع هو الركوع العرفي دون الشرعي.

وأمّا الثالث: فلما تقدّم.

ص: 46

وعليه، فالأظهر على هذا المسلك، صحّة الجماعة، وكونه مدركاً الرّكعة في الفرض، ولكن الاحتياط سبيل النجاة.

وأمّا الصورة الثالثة: فحيث أنّ الظاهر من الخبر المشار إليه، اعتبار تحقّق ركوع المأموم، من جهة التعبير بصيغة الماضي قبل شروع الإمام في الرفع، من جهة التعبير بالمضارع، فيشكل الحكم بالاعتداد بتلك الرّكعة حتّى على المسلك الأخير في حقيقة الركوع المتقدّم في الصورة الثانية، لفرض عدم القَبلية، واقتران وصول المأموم إلى حَدّ الركوع مع أخذ الإمام في الرفع.

وعليه، فالصحيح ما تبنّاه في «الروض»(1)، و «المسالك»(2)، و «المدارك»(3)وغيرها(4) من فوات الرّكعة في هذه الصورة.

وما ذكره بعض المعاصرين:(5) من أنّ المراد بالرفع، الرفع عن حَدّ الركوع الشرعي، لا عن حَدّ شخص الركوع المأتي به للإمام.

خلاف الظاهر جدّاً، فإنّه لم يُذكر في الخبر قبل أن يرفع الإمام رأسه عن الركوع، بل ورد فيه: (قبل أن يرفع الإمام رأسه) وظاهر ذلك لحوقه قبل أن يرفع الإمام عمّا هو متلبّسٌ به، فتدبّر فإنّه دقيق.

اعتبار إدراك الركوع إنّما هو في ابتداء الجماعة

التنبيه الثاني: قد تقدّم في مسألة العدول من الائتمام إلى الإنفراد، المذكورة في مسائل الشرط الأوّل من شرائط الجماعة، أنّه لا يعتبر إدراك الركوع إذا أدرك

ص: 47


1- روض الجنان (ط. ق): ص 292.
2- مسالك الأفهام: ج 1 شرح ص 235.
3- مدارك الأحكام: ج 4 شرح ص 20.
4- جواهر الكلام: ج 13/149.
5- مستمسك العروة: ج 7 شرح ص 201.

المأموم الإمام قبل القراءة أو في أثنائها، وأنّ ما اشتهر من أنّه يعتبر إدراك الركوع في إدراك الرّكعة، ودلّت النصوص عليه إنّما هو في ابتداء الجماعة، لا مَنْ حصل منه تلك واتّصف بوصف المأموميّة وتحمل الإمام القراءة عنه، واستشهدنا له بصحيح ابن الحجّاج، فراجع.(1)

إنّما الكلام في المقام في أنّ اعتبار إدراك جزءٍ من أجزاء الرّكعة إلى أن ينتهي إلى إدراك الركوع:

هل يختصّ بالركعة الاُولى، كما في «العروة»(2)، وعن الشيخ الأعظم رحمه الله(3) فلو لم يدرك المأموم الإمام في الرّكعة الثانية بعدما أدركه في الاُولى حتّى رفع الإمام رأسه عن الركوع صحّت صلاته وجماعته وتُحتسب له ركعة ؟

أم يعتبر ذلك فى جميع الركعات، كما هو المشهور، بل عن ظاهر «جامع المقاصد»(4)، و «كشف اللّثام»(5)، و «مفتاح الكرامة»(6)، وغيرها(7) الاتّفاق عليه ؟ وجهان:

استدلّ للثاني:

1 - بالإجماع.

2 - وبأصالة عدم إدراك الرّكعة.

3 - وبأنّ المستفاد من صحيح الحلبي: «إذا أدركت الإمام، وقد ركع، فكبّرتة.

ص: 48


1- فقه الصادق: ج 8/531.
2- العروة الوثقى: ج 3/133.
3- راجع كتاب الصَّلاة للشيخ الأعظم: ج 2/424، بتصرّف.
4- جامع المقاصد: ج 2 شرح ص 409.
5- كشف اللّثام: ج 4/266.
6- مفتاح الكرامة: ج 8 شرح ص 429.
7- قواعد الأحكام: ج 1/286، الخلاف: ج 1/622 مسألة 392 قوله: إجماع الفرقة.

وركعتَ قبل أن يرفع الإمام رأسه، فقد أدركت الرّكعة، وإنْ رفع رأسه قبل أن تركع فقد فاتتك الرّكعة»(1).

بإلغاء خصوصيّة المورد، أو بأنّه يستأنس من تعليق الحكم بإدراك الرّكعة على إدراك الركوع، عدم اختصاص هذا الحكم بالركعة الاُولى.

أقول: وفي الكلّ نظر.

أمّا الأوّل: فلعدم ثبوت كونه تعبّديّاً لو ثبت.

وأمّا الثاني: فلأنّه إذا جاز وضعاً التأخّر عن الإمام في الائتمام، كما هو المفروض، وقد مرّ وجهه، فلا شكّ في إدراك الرّكعة ما لم يدلّ دليلٌ على اعتبار درك الركوع، فإذا أتى بما هو وظيفته في تلك الرّكعة، والمفروض بقاء الائتمام، فلا محالة يكون مُدْرِكاً للركعة، فلا مورد لجريان الأصل.

وأمّا الثالث: فلأنّ إلغاء خصوصيّة المورد غير ظاهر الوجه، والاستيناس لا يكون حجّةً ما لم يصل إلى حَدّ الظهور.

وبالجملة: الأظهر عدم الاعتبار، فلو زوحم المأموم عن السّجود مع الإمام في الرّكعة الاُولى، ولم يلتحق بالركعه الثانية حتّى رفع الإمام رأسه من ركوعها، وقام وأتي بما هو وظيفته، صحّت جماعته، وتُحتسب تلك له ركعة ثانية.

لو ركع بتخيّل إدراك الإمام راكعاً

التنبيه الثالث: لو ركع بتخيّل إدراك الإمام راكعاً، ولم يَدرك:

ففي «العروة»(2)، وعن «النجاة»(3): بطلت صلاته، وتبعهما جمعٌ من المحقّقين(4).

ص: 49


1- وسائل الشيعة: ج 8/382 باب 45 ح 10963، الكافي: ج 3/382 ح 5.
2- العروة الوثقى: ج 3/132.
3- كتاب الصَّلاة تقرير بحث النائيني للكاظمي: ج 2/375 «حكاه عنه».
4- الظاهر ذهاب غير واحد من محشي العروة الوثقى - لعدم تعليقهم - إلى ما ذهب إليه صاحب العروة من القول بالبطلان (العروة الوثقى (المحشى): ج 3/134 مسألة 25).

وعن المحقّق النائيني رحمه الله(1): صحّة صلاته، فيجب عليه إمّا الإنفراد أو الصبر الى أن يدخل الإمام في الرّكعة اللّاحقة.

وذهب بعض المعاصرين:(2) الى الصحّة وانفراده قهراً.

وقد استدلّ للأوّل: بزيادة الركوع التي لم يثبت اغتفارها.

وأورد عليه تارةً : بأنّ زيادة الركوع إنّما هي في مقام المتابعة، فلو لم تتحقّق المتابعة الفعليّة تكون الزيادة مغتفرة، ولذا لو سبق المأموم الإمام في رفع الراس من الركوع، فعاد إليه للمتابعة، ولم يُدرك ركوع الإمام، لم تبطل صلاته، مع أنّ ركوعه الثاني زيادة في مورد المتابعة دون تحقّق المتابعة الفعليّة، وهذا هو الذي ذُكِر مستنداً للقول الثاني.

واُخرى: بأنّ زيادة الركوع مبتنية على عدم سقوط القراءة، إذ لو بني على سقوطها، بمقتضى مدلول حديث (لا تُعاد) فالركوع في محلّه، ولا موجب للبطلان، وهذا هو الذي ذُكر وجهاً للثالث.

أقول: إنّ النصوص الدالّة على أنّ من فاته الركوع فقد فاتته الرّكعة، تدلّ على أنّه ليس له الاعتداد بهذه الرّكعة، فالقول الثالث لا يمكن الاستناد إليه.

وأمّا فرض زيادة الركوع مغتفرة للوجه المذكور، فيرد عليه أنّ تلك النصوص إنّما وردت في مورد خاص، وهو الإتيان بالركوع الثاني قاصداً به المتابعة، وسيأتي الكلام في بطلان الصلاة وعدمه فيما لو لم تتحقّق المتابعة لاحقاً،4.

ص: 50


1- كتاب الصَّلاة تقرير بحث النائيني للكاظمي: ج 2/375 و 376.
2- ممّن ذهب إلى الصحّة السيّد في مستمسك العروة الوثقى: ج 7/204، وقد ذهب إلى ذلك والإتمام منفرداً غير واحد من محشي العروة الوثقى: ج 3/134.

وعلى كلّ تقديرٍ لا يصحّ الاستدلال بها للمقام، إلّامع إحراز عدم الخصوصيّة.

وأيضاً: يمكن أن يستدلّ لهذا القول - أي القول الثاني - بخبر حفص بن غياث، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في رجل أدرك الجمعة، وقد ازدحم النّاس، وكبّر مع الإمام، وركع ولم يقدر على السّجود، وقام الإمام والنّاس بالركعة الثانية، وقام هذا معهم، فركع الإمام ولم يقدر هذا على الركوع في الرّكعة الثانية من الزحام، وقدر على السّجود كيف يصنع ؟

قال أبو عبد اللّه عليه السلام: أمّا الرّكعة الاُولى فهي الى عند الركوع تامّة، فلمّا لم يسجد لها حتّى دخل في الرّكعة الثانية، لم يكن له ذلك، فلمّا سجد في الثانية، فإنْ كان نوى هاتين السجدتين للركعة الاُولى، فقد تمّت له الاُولى، فإذا سَلّم الإمام قام فصلّى ركعةً يسجد فيها ثمّ يتشهّد ويُسلِّم، وإنْ كان لم ينو السجدتين للركعة الاُولى، لم تجز عنه الاُولى ولا الثانية، وعليه أن يسجد سجدتين، وينوي بهما للركعة الاُولى، وعليه بعد ذلك ركعةً تامّةً يسجد فيها»(1).

وعن «الذكرى»(2): إنّه لا بأس بالعمل بهذه الرواية، لاشتهارها بين الأصحاب، وضعف الراوي لا يضرّ مع الاشتهار.

أقول: الأظهر كون الراوي ثقة أيضاً.

وتقريب الاستدلال: إنّ الخبر المذكور يدلّ على أنّ السجدتين الواقعتين لا بنيّة الاُولى زيادة مغتفرة، وبضميمة عدم الفصل بين السّجدتين والركوع، يثبت عدم إضرار الركوع أيضاً.7.

ص: 51


1- وسائل الشيعة: ج 7/335 باب 17 ح 9515، الكافي: ج 3/429، باب نوادر الجمعة.
2- ذكرى الشيعة: ج 4/127.

وعليه، فبما أنّ المختار - على ما سيظهر - جواز الائتمام بعد الركوع، وتحقّق الجماعة، غاية الأمر لا تُحتسب تلك ركعة، حيث أنّه لا وجه لبطلان هذه الصَّلاة، سوى زيادة الركوع، والمفروض أنّها مغتفرة، فيكون وظيفة هذا المُصلّي وظيفة من لحق الإمام بعد الركوع، والذي نبحث عن حكمه لاحقاً.

لو شكّ في إدراك الإمام راكعاً

التنبيه الرابع: لو شكّ في إدراك الإمام راكعاً وعدمه، ففيه صورتان:

الاُولى: ما لو كبّر ورَكَع، ثمّ شكّ في إدراكه وعدمه.

الثانية: مالو شَكّ في الإدراك قبل التكبير.

أمّا في الصورة الاُولى : فالمشهور(1) بين الأصحاب - على ما نُسب إليهم - البناء على عدم الإدراك. بل عن المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(2) دعوى الإجماع عليه، من جهة استصحاب عدم الإدراك.

وربما يُقال: إنّه يحكم بالإدراك لأجل استصحاب بقاء الإمام راكعاً إلى حين ركوع المأموم.

أقول: حقّ القول في المقام إنّه لو كان موضوع الحكم هو اجتماع المأموم مع الإمام في الركوع، في زمان واحد، من دون دخلٍ لوصف وعنوانٍ متحصّل من ذلك، فالأظهر جريان الاستصحاب في ركوع الإمام، لأنّ موضوع الحكم على الفرض مركّبٌ من جزءين: أحدهما وهو ركوع المأموم محرزٌ بالوجدان، والجزء الآخر وهو

ص: 52


1- كتاب الصَّلاة: ج 2/427: (كما هو المشهور من الشيخ ومن تأخّر عنه).
2- منتهى المطلب: ج 1/333 «إجماعاً».

ركوع الإمام في ذلك الزمان يمكن إحرازه من خلال الأصل، فبضمّ الوجدان إلى الأصل يثبت الموضوع، ويترتّب عليه حكمه، وهو صحّة الائتمام وتحقّقه.

ودعوى: أنّ مقتضى أصالة عدم تحقّق المركّب من حيث هو مركّبٌ ، عدم ترتّب الحكم.

مندفعة: لا بما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1) من أنّ الشكّ في بقاء عدم المركّب، مسبّبٌ من الشكّ في وجود أجزائه، فإذا جَرى الأصل فيها، لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في المسبّب، لأنّه يرد عليه أنّ السببيّة في المقام ليست شرعيّة، فلا يكون الأصل في السبب حاكماً على الأصل في المسبّب.

بل لأنّ المركّب من حيث إنّه مركّبٌ بوصف الاجتماع، لا يكون موضوعاً للحكم، وإنّما هو مترتّب على ذوات الاجزاء المجتمعة، ولا شكّ فيها بعد ضمّ الوجدان إلى الأصل.

أقول: ولا فرق فيما ذكرناه بين ما لو جهل تاريخ الركوعين، وما لو علم تاريخ أحدهما، بناءً على ما حقّقناه في الاُصول،(2) من جريان الأصل في كلٍّ من معلوم التاريخ ومجهوله.

وأمّا لو كان الأثر مترتّباً على ركوع المأموم قبل أن يرفع الإمام رأسه، بحيث يحدث له صفة القَبْليّة، فالحقّ عدم جريان الأصل المزبور، لأنّ تلك الصِّفة لا تَثبت باستصحاب بقاء كون الإمام راكعاً إلّاعلى القول بالأصل المثبت، وحيث أنّ ظاهر النصوص هو الثاني، لاحظ قوله عليه السلام في صحيح ابن خالد:

«إذا أدرك الإمام وهو راكع، وكبّر الرّجل وهو مقيمٌ صُلْبه، ثمّ رَكَع قبل أن7.

ص: 53


1- كتاب الصَّلاة: ج 2/379، تقرير بحث النائيني الكاظمي.
2- زبدة الاصول: ج 6/17.

يرفع الإمام رأسه، فقد أدرك الرّكعة»(1).

فإنّه لو لم يكن هذا العنوان دخيلاً لما تعرّض له، فالأظهر هو القول الأوّل.

وأمّا في الصورة الثانية: فقد التزم صاحب «العروة»(2) بأنّ (الأحوط عدم الدخول إلّامع الاطمئنان بإدراك ركوع الإمام).

والظاهر أنّ مراده الدخول في الركوع، والمُضيّ في صلاته جماعةً ، لا في الصَّلاة، فإنّ الدخول في الصَّلاة جائزٌ مع العلم بعدم الإدراك، غاية الأمر مع العلم بذلك لا يجوز له الدخول في الركوع.

وكيف كان، فمنشأ الجواز في هذا الفرع وعدمه، هو ما عرفت في الصورة الاُولى.

أقول: نُسب إلى المحقّق النائيني رحمه الله(3) القول بعدم جواز الدخول في الركوع في هذه الصورة، حتّى بناءً على القول بدرك الركوع في الاُولى، لعدم جريان الاستصحاب المزبور في المقام، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: عدم جريان الاستصحاب في الأمر الاستقبالي رأساً، لإنصراف أدلّته عن شمول ما إذا كان المشكوك فيه استقباليّاً يتحقّق في المستقبل، بحيث لا يبقى الشكّ فيه في موطن وجوده.

وفيه: إنّه بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الاُمور الاستقباليّة، إذا كان الأثر مترتّباً عليه فعلاً، كما هو المفروض، لا فرق بين بقاء الشكّ في موطن وجوده وعدمه، كما أنّ الانصراف أيضاً لا وجه له، وأغلب الاُمور الاستقباليّة التي يجري الاستصحاب فيها من هذا القبيل، مثلاً لو أراد استيجار زيد8.

ص: 54


1- وسائل الشيعة: ج 8/382 باب 45 ح 10962، الكافي: ج 3/382 ح 6.
2- العروة الوثقى: ج 3/135.
3- تقرير بحث النائيني كتاب الصَّلاة: ج 2/378.

لعمل خاصّ لمدّة معيّنة، وشكّ في بقائه حيّاً إلى آخر تلك المدّة، فإنّه لا شبهة من جريان الاستصحاب في بقاء حياته، مع أنّه لا يبقى الشكّ فيه في موطنه.

الوجه الثاني: أنّه يعتبر في جواز الإتيان بالركوع تحقّق الاطمئنان بإدراك ركوع الإمام تكويناً، وبالاستصحاب لا يثبت صفة الاطمئنان ببقاء الإمام في الركوع تكويناً، ومع عدم حصوله لا ينفع اجراؤه بشيء أصلاً.

ثمّ قال: إنّ المختار عندنا وإنْ كان قيام الاُصول المحرزة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقيّة، إلّاأنّه لا ينفع في مثل المقام المعتبر فيه تحقّق صفة الاطمئنان التكويني.

يرد عليه أوّلاً: إنّه لم يؤخذ في شيء من النصوص صفة الاطمئنان دخيلةً في هذا الحكم، بل الموضوع خصوص إدراك ركوع الإمام لا الاطمئنان بإدراكه، راجع النصوص، فالاطمئنان لا محالة يكون طريقيّاً محضاً، ولا نقاش في قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي المحض.

وثانياً: إنّه لو سُلّم أخذه في الموضوع، فلا وجه لمنع قيام الاستصحاب مقامه في خصوص المقام، وذلك لأنّ القطع في كلّ مورد أُخذ في الموضوع، ظاهرٌ في كون المأخوذ هو القطع الوجداني، والأمارات والاُصول المحرزة على القول بقيامهما مقامه، توجبان توسعة الموضوع، ولا علاقة لهما بالحكومة أبداً.

وبالجملة: الحاجة إلى البحث عن قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي، إنّما هو من جهة ظهور الدليل في نفسه في إرادة الوجداني منه، وإلّا فلو كان الموضوع في نفسه هو الأعمّ ، لم تكن الأمارات قائمة مقام القطع، ولم تكن من باب الحكومة، إذ الموضوع بنفسه شاملٌ لها، وعليه فالأظهر عدم الفرق بين الصورتين.

***

ص: 55

فيما تُدرَك به الجماعة

أمّا المقام الثاني: فالكلام فيه:

تارةً : يقع فيما لو أدركه بعد رفع رأسه من الركوع إلى ما بعد السَّجدة الثانية.

واُخرى : فيما لو أدركه في التشهّد.

أمّا المورد الأوّل: فالمشهور بين الأصحاب(1) أنّه يجوز له الدخول في الجماعة، وهي تُدْرَك به بأن يكبِّر بنيّة الاقتداء.

وعن المصنّف رحمه الله في «المختلف» التوقّف فيه(2).

ويشهد للمشهور: جملةٌ من النصوص:

1 - خبر المعلّى بن خُنَيس، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا سبقك الإمام بركعة فأدركته وقد رفع رأسه، فاسجد معه ولا تعتدّ بها»(3).

2 - وصحيح محمّد بن مسلم: «قلت له: متى يكون يدرك الصَّلاة مع الإمام ؟ قال عليه السلام: إذا أدرك الإمام وهو في السَّجدة الأخيرة من صلاته، فهو مُدرِكٌ لفضل الصَّلاة مع الإمام»(4).

أقول: وأورد على الاستدلال بهما:

ص: 56


1- كفاية الأحكام: ج 1/153: (المشهور أنّه يكبّر ويتبعه في السجدتين والتشهّد، والأكثر ينوي ويُعيد التكبيربعد التشهّد وجوباً)، مدارك الأحكام: ج 4/385: (استحبّ أكثر علمائنا للمأموم التكبير ومتابعة الإمام)، ذخيرة المعاد (ط. ق): ج 1/401 ق 2.
2- مختلف الشيعة: ج 3/82.
3- وسائل الشيعة: ج 8/392 باب 49 ح 10989، التهذيب: ج 3/48 باب 3 أحكام الجماعة ح 778.
4- وسائل الشيعة: ج 8/392 باب 49 ح 10988، التهذيب: ج 3/57 باب 3 أحكام الجماعة ح 109.

تارةً : بأنّه يحتمل فيهما إرادة أحد اُمورٍ:

منها: الدخول مع الإمام في الصَّلاة ومتابعته في الفعل.

ومنها: مجرّد الحضور والإمام في هذه الحال.

ومنها: مجرّد متابعة فيما يجده متلبّساً به من السّجود ونحوه.

والاستدلال بهما يتوقّف على إرادة الأوّل، وهي غير ظاهرة.

واُخرى : بأنّه يعارضهما خبر البصري، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «إذا وجدتَ الإمام ساجداً، فاثبت مكانك حتّى يرفع رأسه»(1).

وثالثة: بضعف المُعلّى بن خُنيس.

ولكن يدفع الأوّل: أنّ الاحتمال الثاني خلافُ صريح خبر المُعلّى، كما أنّ الاحتمال الثالث خلاف الظاهر، بل الظاهر منهما هو الأوّل، كما يظهر لمن تدبّر فيهما، لاحظ سائر نصوص الباب، الواردة فيمن أدرك الإمام في الركوع أو في التشهّد، التي وقع فيها مثل هذا التعبير، مع ما فيها من الشواهد الموجبة لصراحتها في إرادة ذلك الاحتمال.

ويدفع الثاني: أنّ خبر البصري مجهولٌ .

ويندفع الثالث: بما حقّقناه في محلّه من أنّ روايات مُعلّى بن خُنيس يُعتمد عليها، مع أنّ في الصحيح كفاية.

وأمّا سائر النصوص التي استدلّ بها في المقام، وهي خبر معاوية بن شُريح(2)،3.

ص: 57


1- وسائل الشيعة: ج 8/393 باب 49 ح 10992، الكافي: ج 3/381.
2- الوسائل: ج 8/393 باب 49 ح 10993.

والنبويّ (1)، وخبر «دعائم الإسلام»(2) وغيرها، فلا يُعتمد عليها.

أمّا الأوّل: فلأنّ طريقه إلى سعد بن عبد اللّه، وهو صحابيٌ مجهولٌ .

وأمّا الثاني: فلأنّ روايه أبو هريرة.

وأمّا الثالث: فلعدم ثبوت وثاقة مؤلّف الكتاب.

وعن المصنّف رحمه الله: التعليل لتوقّفه في جواز الدخول:

1 - بلزوم زيادة الرّكن، وهو السجدتان.

2 - وبالنهي عن الدخول في الرّكعة عند فوات تكبيرها، في صحيح محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السلام المتقدّم(3).

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لا يمنع من الدخول مع الانتظار، مع أنّه لا محذور فيه بناءً على ما هو المشهور من وجوب الاستئناف.

مضافاً إلى أنّه لايعتمد على مثل هذا الوجه، في مقابل النصوص، مع أنّه قد عرفت عدم مبطليّة السّجود المأتي به للمتابعة.

وأمّا الثاني: فقد تقدّم في المقام الأوّل، أنّه لابدّ من رفع اليد عن ظاهره، للنصوص الصريحة الدالّة على جواز الدخول في حال ركوع الإمام.

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز الدخول في تلك الحال.

أقول: ثمّ إنّه إذا دخل، فهل يجب عليه أن يصبر إلى أن يرفع الإمام رأسه عنً.

ص: 58


1- وسائل الشيعة: ج 8/394 باب 49 ح 10994.
2- المستدرك: ج 6/497 باب 45 ح 7349.
3- تقدّم آنفاً.

السَّجدة الثانية فيتابعه بعد ذلك ؟

أم يتابعه في السجدتين، ويكتفي بهذا التكبير لصلاته(1)؟

أم يتابعه فيهما ثُمّ يستأنف الصَّلاة(2)؟

أم يتخيّر بين الأولين(3)؟

وجوهٌ وأقوال، والمنسوب إلى المشهور هو القول الثالث.

وعن صريح جماعةٍ من القدماء(4)، وظاهر آخرين(5)، عدم لزوم إعادة التكبير، ولكن الأظهر هو الثاني، للخبرين المتقدّمين.

واستدلّ للأوّل: بخبر البصري المتقدّم.

وفيه: ما عرفت من ضعف سنده.

واستدلّ للثالث:

1 - بما دلّ على مبطليّة الزيادة، لا سيّما إذا كان الزائد ركناً.

2 - وبأنّ الضمير في (لا تعتدّ بها) في خبر المُعلّى المتقدّم، يرجع إلى الصَّلاة.

ويرد على الأوّل: أنّ زيادة الرّكن للمتابعة لا تضرّ كما تقدّم، لا سيّما وقد دلّت النصوص الخاصّة في المقام على لزومها.

ويرد على الثاني: أنّ الظاهر من الخبر، رجوع الضمير الى الرّكعة، لا سيّما بعد2.

ص: 59


1- كفاية الأحكام: ج 1/153 (ومنهم من لم يوجبه)، المنتهى: ج 1/384.
2- كفاية الأحكام: ج 1/153 (الأكثر ينوي ويُعيد التكبير بعد التشهّد وجوباً).
3- المعتبر: ج 2/447.
4- المعتبر: ج 2/447 (... وبنى على تلك التكبيرة أنّ الافتتاح، وبه قال علم الهدى في المصابيح والشيخ في المبسوط) ج 1/148.
5- ذخيرة المعاد: ج 1/402 ق 2.

ملاحظة سائر النصوص المتضمّنة لمثل هذا المضمون، وأنّ الاعتداد بالركعة مظنّة التوهّم لإدراك الإمام فيها، كما لو أدركه في الركوع.

واستدلّ للأخير: بأنّه مقتضى الجمع بين الخبرين وخبر البصري، وقد عرفت ما في خبر البصري.

نعم، لا بأس بالاستدلال له باعتبار أنّ الأمر بالسجود في الخبرين لوروده مورد توهم الحظر، لا يستفاد منه أزيد من جواز المتابعة واستحبابها، ففي الانتظار والصبر يرجع الى مايقتضيه القواعد، وهو الجواز، كما لا يخفى .

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز الدخول والمتابعة، أو الانتظار، ولكن الاحتياط بترك الدخول في الصَّلاة، قبل أن يرفع الإمام رأسه من السجدتين، أو ترك متابعته فيهما، أو المُضيّ في الصَّلاة، ثمّ الإعادة لاينبغي تركه، لذهاب المشهور - على مانسب إليهم - إلى عدم جواز المتابعة، أو استئناف الصَّلاة لو تابع، وإنْ أنكر صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) ذلك.

أقول: وبما ذكرناه ظهر حكم فرعٍ آخر، وهو ما لو نوى المُصلّي وكبَّر فرفع الإمام رأسه قبل أن يركع، فإنّ وظيفته أن ينفرد وينتظر الى أن يفرغ الإمام عمّا بيده من الرّكعة، فيتابعه في الرّكعة اللّاحقة، ويجعلها الاُولى له، وأن يتابعه في السجدتين، ثمّ يقول بقيامه ولا يعتدّ بما أتى به من السَّجدة.

والغريب أنّ المحقّق النائيني - على ما نُسب إليه(2) - اختار ما اخترناه في الفرع).

ص: 60


1- راجع جواهر الكلام: ج 14/57.
2- كتاب الصَّلاة للنائيني: ج 2/378، (المسألة السادسة: لو شكّ في إدراك الإمام راكعاً، فلا إشكال في أنّه يجوزله الدخول في الصَّلاة بنيّة الاقتداء).

الأوّل، لكنّه اختار في الفرع الثاني تعيّن الانتظار، لو بقي على اقتداءه، مع أنّ ما دلَّ على جواز المتابعة في السَّجدة الاُولى يدلّ عليه في الثانية، بل هما في الحقيقة متحدان موضوعاً وحُكماً، غاية الأمر في الثانية كان يتخيّل المأموم دَرك الركوع.

وأغرب منه استدلاله للمتابعة، بقوله عليه السلام: «فإذا ركع فاركع، فإذا سجد فاسجد»، ثمّ الإشكال عليه، مع أنّه يدلّ عليها ما تقدّم من خبري المُعلّى وابن مسلم، مضافاً الى ما تقدّم ممّا يدلّ على عدم مبطليّة الزيادة إن كانت للمتابعة.

وأمّا في المورد الثاني: - وهو ما لو أدركه بعد رفع رأسه من السَّجدة الثانية وهو في التشهّد - فيجوز له الدخول معه على المشهور شهرةً عظيمة في التشهّد الثاني، بل لم يُنقل الخلاف إلّاعن «المدارك»(1)، حيث جعل أقصى إدراك الجماعة بإدراك الإمام في السَّجدة الأخيرة.

أقول: والأوّل أظهر:

1 - لإطلاق أدلّة الرخصة في الدخول.

2 - وفحوى ما دلَّ على جوازه في المورد الأوّل.

3 - وموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجل يُدرك الإمام وهو قاعدٌ يتشهّد، وليس خلفه إلّارجلٌ واحد عن يمينه ؟

قال عليه السلام: لا يتقدّم الإمام ولا يتأخّر الرّجل، ولكن يقعد الذي يدخل معه خلف الإمام، فإذا سَلّم الإمام قام الرّجل فأتمّ صلاته»(2).

4 - وموثّقه الآخر: «عن رجل أدرك الإمام وهو جالس بعد الركعتين ؟7.

ص: 61


1- مدارك الأحكام: ج 4 شرح ص 386.
2- وسائل الشيعة: ج 8/392 باب 49 ح 10990، الكافي: ج 3/386 ح 7.

قال عليه السلام: يفتتح الصَّلاة ولا يقعد مع الإمام حتّى يقوم»(1).

واستدلّ لما ذهب إليه في «المدارك»(2):

1 - بظاهر صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم، فإنّ مفهومه: (إذا رفع الإمام رأسه من السَّجدة الأخيرة فاتت الجماعة).

2 - وبانتهاء محلّ الاقتداء، بناءً على عدم وجوب المتابعة في الأقوال.

أقول: وفيهما نظر واضح:

أمّا الأوّل: فلأنّ الجمع بين الموثّق والصحيح، يقتضي حمل الصحيح على إرادة إدراك فضل الرّكعة مع الإمام، بإدراكه في السَّجدة الأخيرة، ولا يبعد دعوى ظهور الصحيح في نفسه في ذلك، وحمل الموثّق على إرادة دَرك الفضل في الجملة.

وعلى أيّ تقديرٍ، ليس مفهوم الصحيح عدم جواز الدخول، بل عدم إدراك فضل الصَّلاة مع الإمام.

وأمّا الثاني: فلأنّه لايقاوم مع النّص.

وعليه، فالأظهر جواز الدخول معه.

بحث: وهل يجب الجلوس أم لا؟

وجهان، بل وجوه، أظهرها التفصيل بين التشهّدين، جمعاً بين الموثّقين، حيث أنّ الأوّل يأمر بالجلوس في التشهّد الثاني، والثاني ينهي عنه في التشهّد الأوّل.

وبه يظهر عدم التعارض بينهما، إلّابضميمة عدم الفصل غير الثابت.6.

ص: 62


1- وسائل الشيعة: ج 8/393 باب 49 ح 10991، التهذيب: ج 3/274 باب 25 فضل المساجد والصَّلاة فيها ح 113.
2- مدارك الأحكام: ج 4 شرح ص 386.

ثمّ إنّه على فرض وجوب الجلوس، هل عليه أن يتشهّد أم لا؟

فعن جملةٍ من الكتب: منها «المعتبر»(1)، و «المنتهى»(2)، و «التذكرة»(3): إنْ شاء تشهّد.

ولكن النصوص وكلمات كثيرٍ من العلماء الأساطين خالية عن التصريح به، فالمتعيّن الإتيان به بعنوان الذكر المطلق، وفي جملةٍ من النصوص أنّ التشهّد بركة.

ولو سَلّم الإمام وقام المأموم، فهل يجب عليه استئناف التكبير، كما عن المحقّق في «النافع»(4)؟

أم لا يجب، كما هو المشهور، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(5)؟

وجهان، أقواهما الثاني:

1 - لفحوى ما تقدّم في المورد الأوّل.

2 - ولعدم الموجب للإعادة، بعد عدم الإتيان بما يبطل الصَّلاة، لما ستعرف من عدم صدق الزيادة على التشهّد المأتيّ به.

3 - ولقوله عليه السلام في موثّق عمّار المتقدّم: (قام الرّجل فأتمّ صلاته).

واستدلّ للأوّل بخبر ابن المغيرة: «كان منصور بن حازم يقول: إذا أتيتَ الإمامَ وهو جالسٌ قد صَلّى الركعتين، فكبّر ثمّ اجلس، فإذا قمتَ فكبِّر»(6).5.

ص: 63


1- المعتبر: ج 2/447.
2- المنتهى: ج 1/384.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/182.
4- راجع المختصر النافع: ج 1/48 (ط. ج)، وممّن ذهب إلى ذلك الشهيد في روض الجنان: ج 2/1006 (ط. ج) وفي (ط. ق) ص 378.
5- حكاه في ذخيرة المعاد: ج 2/400 عن الفاضلان بقوله: (فإذا سلّم الإمام قام وأتمّ ، قال الفاضلان في المعتبر والمنتهى إنّه مذهب علمائنا أجمع).
6- من لا يحضره الفقيه: ج 1/398 ح 1185.

4 - وبأنّ الجلوس زيادة في الصَّلاة، لم يُعلم اغتفارها في المقام، لقصور الأدلّة عن إفادة عدم الاستئناف هنا أيضاً.

ويردّ الأوّل: أنّه غير منسوب إلى المعصوم عليه السلام، وعدم وجدان العامل به كما عن «الرياض»(1).

ويردّ الثاني: أنّ الجلوس المأتي به لا بعنوان أنّه من أجزاء الصَّلاة، لا يصدق عليه الزيادة، لما عرفت من توقّف صدقها على مايؤتى به في المركّب الاعتباري على الإتيان به بقصد أنّه منه، مضافاً إلى الأمر به في الموثّق، وقوله عليه السلام فيه: (فأتمّ صلاته بعده)، الظاهر في عدم البطلان.

وعليه، فالأظهر عدم لزوم استئناف التكبيرة.

***).

ص: 64


1- رياض المسائل: ج 4/295 قوله: (.. بل الإجماع في الحقيقة لعدم عامل بهذه أجده إلّاشيخنا الشهيد الثاني).

ولا يقرأ المأمومُ مع المَرضيّ .

القراءة في الإخفاتيّة

فصل: في أحكام الجماعة:

اشارة

مضافاً إلى ما مرّ في المسائل المتقدّمة، بقى بعض الاُمور يقتضي المقام البحث عنها، فيقع البحث في موارد:

ولا يقرأ المأموم مع المَرضيّ
اشارة

المورد الأوّل: قال قدس سره: (ولا يقرأ المأموم مع المَرضيّ ).

أقول: إنّ كلمات القوم في هذه المسألة متشتّتة، حتّى قيل(1) لم نقف على الخلاف في مسألةٍ في الفقه يبلغ ما في هذه من الأقوال، ومنشأ اختلاف الأقوال اختلاف النصوص، وتنقيح الكلام عنها يتحقّق بالبحث في مسائل:

القراءة في الإخفاتيّة

المسألة الاُولى: في حكم القراءة في أولتي الإخفاتيّة:

لا كلام في عدم وجوب القراءة فيهما، إنّما الكلام في أنّها مكروهة كما هو المنسوب إلى المشهور(2)؟ أم غير جائزة، كما عن ظاهر «المقنع»(3)، و «الغُنية»(4)، و «السرائر»(5)، والمتن، و «المسالك»(6)، وجماعة من متأخّري المتأخّرين ؟

ص: 65


1- روض الجنان: ص 373.
2- في المعتبر: ج 2/420 (على الأشهر)، رياض المسائل: ج 4/305 (ط. ج)، الدروس: ج 1/224.
3- المقنع: ص 120.
4- غنية النزوع: ص 88.
5- السرائر: ج 1/284.
6- مسالك الأفهام: ج 1/307.

أقول: الأظهر هو الأوّل، لأنّه مقتضى الجمع بين النصوص المتضمّنة للمنع:

منها: صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا كنتَ خلف الإمام في صلاةٍ لا يَجهر فيها بالقراءة، حتّى يفرغ، وكان الرّجل مأموناً على القرآن، فلا تقرأ خلفه في الأولتين»(1).

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عنه عليه السلام: «أمّا الصَّلاة التي لا يُجهر فيها بالقراءة، فإنّ ذلك جُعل إليه فلا تقرأ خلفه»(2).

ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إنْ كنتَ خلف إمامٍ فلا تقرأنَّ شيئاً في الأولتين، وانصِت لقراءته»(3). ونحوها غيرها.

وبين النصوص الصريحة في الجواز:

منها: صحيح علي بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام عن الركعتين اللّتين يصمت فيهما الإمام، أيقرأ فيهما بالحمد، وهو إمامٌ يُقتدى به ؟ فقال عليه السلام: إنْ قرأت فلا بأس، وإن سكت فلا بأس»(4).

فإنّ المراد من الصمت هو الإخفات، لتعذّر إرادة معناه الحقيقي منه، كما أنّ المراد من (الركعتين اللّتين يصمت فيهما) الأوليان لا الأخيرتان وذلك لوجهين:

1 - قوله عليه السلام: (وإنْ سكت فلا بأس).

2 - ما قيل من إنّه متى اُطلق الجهر والإخفات يُراد منهما ما يكون في الأولتين.

وعلى ذلك فهذا الخبر صريحٌ في الجواز.6.

ص: 66


1- وسائل الشيعة: ج 8/357 ح 10892.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/32 ح 26، وسائل الشيعة: ج 8/356 ح 10888.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 1/392 ح 1161، وسائل الشيعة: ج 8/355 ح 10886.
4- تهذيب الأحكام: ج 2/296 ح 48، وسائل الشيعة: ج 8/358-359 ح 10896.

ومنها: خبر المرافقي والبصري، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن القراءة خلف الإمام ؟

فقال عليه السلام: إذا كنتَ خلف الإمام تتولّاه وتثق به، فإنّه يُجزيك قراءته، وإنْ أحببتَ أن تقرأ فاقرأ فيما يُخافت فيه»(1).

وضعف سنده منجبرٌ بالشهرة، فتأمّل.

أقول: ويؤيّد الجواز، بل يشهد به صحيح سليمان بن خالد:

«قلت للصادق عليه السلام: أيقرأ الرّجل في الاُولى والعصر خَلف الإمام، وهو لا يعلم أنّه يقرأ؟ فقال عليه السلام: لا ينبغي له أن يقرأ؛ يُكِله إلى الإمام»(2).

فإنّ المراد من قوله: (وهو لا يعلم... إلى آخره)، الكناية عن عدم سماع قراءته، لا الشكّ في قراءته إذ إرادة الشكّ في القراءة لاحتمال ترك القراءة عمداً، تنافي مع كونه إماماً مرضيّاً، المستكشف من قوله عليه السلام: (يُكِله إلى الإمام).

وإرادة الشكّ فيها لاحتمال تركها نسياناً أو اشتباهاً أبعد، لكونه محكوماً بالقراءة حينئذٍ للأصل.

وإرادته منه مع حمل الصحيح على خصوص الأخيرتين، اللّتين يكون الإمام فيهما مخيّراً بين القراءة والتسبيح أبعد، إذ لاوجه حينئذٍ لقصر مورد السؤال على خصوص الظهرين، وعليه فهو من جهة كلمة (لا ينبغي) يشهد بالجواز، ممّا يقتضي أن تصبح الكراهة هي الأظهر.

***1.

ص: 67


1- تهذيب الأحكام: ج 3/33 ح 32، وسائل الشيعة: ج 8/359 ح 10898.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/33 ح 31، وسائل الشيعة: ج 8/357 ح 10891.
حكم القراءة في الأولتين من الجَهريّة

المسألة الثانية: في حكم القراءة في الأولتين من الجهريّة.

والكلام فيها يقع في موردين:

الأوّل: فيما إذا سمع قراءة الإمام.

الثاني: فيما إذا لم يسمع.

أمّا في المورد الأوّل: فالظاهر أنّه لا خلاف(1) في مرجوحيّة القراءة، إنّما الكلام في أنّها محرّمة كما عن ظاهر جماعة من القدماء(2)، وصريح كثيرٍ من المتأخّرين، أم مكروهة كما هو المنسوب إلى الأشهر(3)؟

أقول: الأظهر هو الأوّل، ويشهد له جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«إنْ كنتَ خلف إمامٍ ، فلا تقرأنّ شيئاً في الأولتين، وانصت لقراءته، ولا تقرأنَّ شيئاً في الأخيرتين، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول للمؤمنين: (وَ إِذا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ ) يعني في الفريضة خلف الإمام (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (4)) »(5).

ومنها: صحيحه الآخر، عن الإمام الباقر عليه السلام: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: مَنْ قرأ خلف إمامٍ يأتمّ به فمات بُعِث على غير الفطرة»(6).

ص: 68


1- مستند الشيعة: ج 8/77، (بل الظاهر عدم الخلاف في مرجوحيّتها أيضاً.. الخ).
2- كتاب الصَّلاة للشيخ الأنصاري: ج 2/594، حيث نسبه إلى جماعة من القدماء والمتأخّرين.
3- الدروس: ج 1/222، ونسبه الشيخ الأعظم في كتاب الصَّلاة: ج 2/466 (ط. ج) إلى المشهور بقوله: (وفاقاً للمشهور على الظاهر).
4- سورة الأعراف: الآية 204.
5- من لا يحضره الفقيه: ج 1/392 ح 1161، وسائل الشيعة: ج 8/355 ح 10886.
6- تهذيب الأحكام: ج 3/269 ح 90، وسائل الشيعة: ج 8/356 ح 10887.

ومنها: صحيحه الثالث أو حسنه، عن أحدهما عليهما السلام: «إذا كنتَ خلف إمامٍ تأتمّ به فانصت وسبّح في نفسك»(1).

ومنها: صحيح قتيبة أو حسنه، عن الإمام الصادق عليه السلام، الوارد فيما يجهر فيه بالقراءة، حيث قال عليه السلام: «وإنْ كنت تسمع الهمهمة فلا تقرأ»(2).

ونحوها غيرها الظاهرة جميعها في المنع.

واستدلّ للقول بالكراهة بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ النهي في هذه النصوص عُلِّل بالإنصات.

وبعبارة اُخرى : صريح بعضها أنّ النهي عنها إنّما يكون بملاحظة مطلوبيّة الإنصات، وحيثُ لا ريب في أنّ الإنصات ليس بواجبٍ ، فلا مناص عن حمل النهي على الكراهة، لعدم إمكان الالتزام بحرمة شيء لأجل التوصّل إلى مستحبّ .

وفيه أوّلاً: أنّه لم يُعلّل النهي عنها في شيء من الأخبار بالإنصات، بل في بعضها جمعٌ بين الأمر بالإنصات، والنهي عن القراءة، وهذا لا يدلّ على أنّ الأوّل علّة للثاني.

واستشهاده عليه السلام في صحيح زرارة بالآية الشريفة، يمكن أن يكون بلحاظ الأمر بالإنصات، لا بلحاظ النهي عن القراءة، كما هو كذلك في خبر المرافقي.

وثانياً: ان الإنصات المأمور به، هو السكوت عن القراءة، لا عن كلّ شيء، لقوله عليه السلام في صحيح زرارة أو حسنه: (فانصت وسبّح في نفسك)، وعليه فيكون الأمر به باقياً على ظاهره من اللّزوم.0.

ص: 69


1- تهذيب الأحكام: ج 3/32-33 ح 28، وسائل الشيعة: ج 8/357 ح 10889.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/33 ح 29، وسائل الشيعة: ج 8/357 ح 10890.

وثالثاً: أنّه لو سُلّم كونه علّة، فيمكن أن يكون من قبيل الحكمة لاالعلّة المنصوصة.

الوجه الثاني: ورود النهي عنها في مورد توهّم الوجوب، فلاظهور له في الحرمة.

وفيه: أنّ ظهوره فيها لاينكر، لاحظ قوله عليه السلام في صحيح زرارة المتقدّم: «مَنْ قرأ خلف إمام يأتمّ به فمات، بُعث على غير الفطرة».

الوجه الثالث: قوله عليه السلام في موثّق سماعة: (إذا سمع صوته فهو يُجزيه) فإنّ لفظ (الإجزاء) مشعرٌ بالجواز.

وفيه: أنّ الإجزاء مشعرٌ بعدم المشروعيّة، ويشهد لإرادته منه - مضافاً إلى ذلك - مافيه من الشرطيّة الثانية: (وإذا لم يسمع صوته قرأ لنفسه) إذ لو حُملت الاُولى على الجواز، كان مفاد الثانية وجوب القراءة مع عدم السّماع، فتأمّل.

الوجه الرابع: أنّ في جملةٍ من الروايات، جَمَع الجهريّة والإخفاتيّة في النهي عن القراءة فيهما، وحيث إنّه قام الدليل على إرادة الكراهة منه بالنسبة إلى الإخفاتيّة، فلابدّ من حمله عليها بالإضافة إلى الجهريّة أيضاً، وإلّا لزم استعمال اللّفظ في معنيين أو عموم المجاز.

وفيه: أنّه قد حقّقنا في «حاشيتنا على الكفاية» أنّ الحرمة والكراهة خارجتان عن الموضوع له، والمستعمل فيه، بل النهي في الموردين مستعملٌ في معنى واحد، وهما تنتزعان من الترخيص في الفعل وعدمه، فإرادة الحرمة منه بالنسبة إلى الجهريّة، والكراهة بالإضافة إلى الإخفاتيّة، لا توجبان استعمال اللّفظ في غير ما وضع له ولا في معنيين.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم جواز القراءة إذا سمع قراءة الإمام، ولو همهمته.

وأمّا في المورد الثاني: فلا خلاف في جواز القراءة، إنّما الكلام في أنّها:

ص: 70

1 - هل تكون واجبة، كما عن ظاهر «المبسوط»(1)، و «التهذيب»(2)، و «النهاية»(3)، و «الغُنية»(4) وغيرها؟

2 - أم تكون مستحبّة، كما هو المنسوب إلى المشهور(5)؟

3 - أم تكون مباحة، كما عن الرّاوندي(6)، وابن نَما(7)، والقاضي(8)؟

فقد استدلّ للأوّل: بجملة من النصوص:

منها: صحيح الحلبي، وفيه بعد النهي عن القراءة، قال عليه السلام: «إلّا أن تكون صلاة تُجهر فيها بالقراءة، ولم تسمع فاقرأ»(9).

ومنها: صحيح ابن الحجّاج الوارد في الجهريّة: «وإنْ لم تسمع فاقرأ»(10).

ونحوهما غيرهما.

وفيه: إنّ ظاهر هذه النصوص، وإنْ كان هو الوجوب، إلّاأنّه لابدَّ من رفع اليد عنه، وحملها على الاستحباب، لصراحة بعض النصوص في جواز الترك، كصحيح عليّ بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام:

«عن الرّجل يُصلّي خلف إمامٍ يُقتدى به في صلاة يُجهر فيها بالقراءة، فلايسمع8.

ص: 71


1- المبسوط: ج 1/158.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/32، قوله: (ولا تسمعها أنتَ فإنّه حيث إذ يجب عليك القراءة).
3- النهاية: ص 113.
4- غنية النزوع: ص 88.
5- نسبه في رياض المسائل: ج 1/231 (ط. ق) إلى الأشهر، بقوله: (كما هو الأشهر الأقوى ).
6- فقه القرآن: ج 1/141.
7- نسبه إليه السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 7/257.
8- المهذّب: ج 1/81.
9- تهذيب الأحكام: ج 3/32 ح 27، وسائل الشيعة: ج 8/355 ح 10884.
10- تهذيب الأحكام: ج 3/32 ح 26، وسائل الشيعة: ج 8/356 ح 10888.

القراءة ؟ قال عليه السلام: لا بأس إنْ صمت وإنْ قرأ»(1).

فالجمع بين الطائفتين يقتضي القول بالاستحباب.

واستدلّ للقول الأخير: بأنّ الأمر بالقراءة في تلك النصوص، لوروده مورد توهم الحَظر، لا يستفاد منه أزيد من الجواز.

وفيه: ما حقّق في محلّه من أنّ الأمر بالعبادة في مورد توهّم الحَظر، محمولٌ على إرادة الاستحباب، فلو تَمّ القول بورود الأمر في هذه النصوص مورد توهّم الحَظر، يُحمل على الاستحباب.

وعليه، فالأظهر هو القول باستحباب القراءة في هذا المورد.

حكم القراءة في الأخيرتين من الإخفاتيّة

المسألة الثالثة: في حكم القراءة في الأخيرتين من الإخفاتيّة، فقد اختلفت فيها كلمات القوم، وكَثُرت أقوالهم، والذي يهمّنا البحث عنه في المقام عن أنّه:

هل لا يجب على المأموم شيءٌ من القراءة والتسبيح في الأخيرتين من الإخفاتيّة، كما عن السيّد(2) في ظاهر كلامه، وأبناء إدريس(3) وحمزة(4) والسّعيد(5)والمصنّف رحمه الله في محكي «المنتهى»(6)؟

ص: 72


1- تهذيب الأحكام: ج 3/34 ح 34، وسائل الشيعة: ج 8/358 ح 10894.
2- رسائل المرتضى: ج 3/41.
3- السرائر: ج 1/284.
4- راجع الوسيلة: ص 106، فإنّه ذكر واجبات الجماعة ولم يعدّ منها القراءة والتسبيح.
5- الجامع للشرائع: ص 99-100.
6- منتهى المطلب: ج 1/378 (ط. ق)، قال: (والأولى ما قاله - أي السيّد المرتضى - من نفي القراءة).

أم لا يجوز شيءٌ منهما، كما عن الحِلّي(1)؟

أم لا يجوز القراءة خاصّة، ويتعيّن التسبيح، كما عن ظاهر غير واحد(2)؟

أم يتخيّر بينهما؟

وأيضاً يجب البحث عن أنّه على القول بالتخيير:

هل يكون الأفضل هو التسبيح، أو القراءة، أو هما سواء؟

أقول: قد أشبعنا الكلام عن هذه الاُمور في مبحث القراءة من هذا الشرح، والأظهر عندنا هو الأخير، لإطلاق أدلّة التخيير، ولصحيح ابن سنان المتقدّم:

(ويُجزيك التسبيح في الأخيرتين) فإنّ ظهور الإجزاء في عدم تعيّنه، وكفاية كلّ منهما لا يُنكر.

واستدلّ للقول الأوّل: بجملةٍ من النصوص:

منها: ما دلَّ على النهي عن القراءة خلف الإمام، وأنّه ضامنٌ لقراءة مَنْ خلفه(3).

وفيه أوّلاً: أنّ الظاهر من هذه النصوص، إرادة القراءة في الأولتين اللّتين يتعيّن فيهما تلك، دون الأخيرتين اللّتين لم يتعلّق الوجوب فيهما بالقراءة خاصّة.

وثانياً: أنّ النهي عن القراءة فيهما، لا يقتضي عدم وجوب شيء عليه حتّى التسبيح، فإنّ الواجب التخييري إذا تعذّر بعض إطلاقه أو تعلّق النهي به أصبح الآخر متعيّناً، فلازم هذا لو تمّ تعيّن التسبيح، لا عدم وجوب شيءٍ عليه.

ومنها: خبر ابن سنان المرويّ في «المعتبر»، عن الإمام الصادق عليه السلام:ة.

ص: 73


1- المصدر السابق، حيث علّل عدم القراءة بأنّ الإمام ضامن، بعد صدور روايات بالنهي عنها، واعتبر هذه الروايات أنّها الأظهر والتي يقتضيها اُصول المذهب.
2- المقنع: ص 120.
3- وسائل الشيعة: ج 8/353 الباب 30 من أبواب صلاة الجماعة.

«إذا كان مأموناً على القرآن، فلا تقرأ خلفه في الأخيرتين»(1).

وفيه أوّلاً: أنّ المظنون - كما عن جُملةٍ من الأساطين - أنّه عين صحيح ابن سنان المتقدّم في أوّل المبحث، وقد وردَ فيه جملة (في الأولتين) بدل (في الأخيرتين)، ممّا يعني سهو المحقّق في ضبط الخبر، ولو لم يتمّ ذلك فهو مرسلٌ لا يُعتمد عليه.

وثانياً: يدلّ على النهي عن القراءة، من دون أن يدلّ على عدم وجوب التسبيح عليه.

ومنها: صحيح زرارة المتقدّم: «وإنْكنتَ خلف إمامٍ ، فلا تقرأنّ شيئاً في الأولتين، وانصِتْ لقراءته، ولا تقرأنَّ شيئاً في الأخيرتين... فالأخيرتان تبعان للأولتين».

وفيه: - مضافاً إلى أنّ مورده الجهريّة، فلا وجه للتعدّي منها إلى الإخفاتيّة - أنّه إنّما يدلّ على النهي عن القراءة، ولا يدلّ على عدم جوب التسبيح.

ومنها: صحيح ابن يقطين المتقدّم، بدعوى أنّ الركعتين اللّتين يَصمُتُ فيهما الإمام هما الأخيرتان(2).

وفيه: ما عرفت من اختصاصه بالأولتين من الإخفاتيّة.

ومنها: صحيح ابن خالد المتقدّم بدعوى أنّ المراد من قوله: (لا يعلم أنّه يقرأ) أي لا يدري أنّه يقرأ أو يسبِّح، فيكون مختصّاً بالأخيرتين، فجوابه عليه السلام بقوله: (لا ينبغي له أن يقرأ)، يدلّ على عدم الوجوب.

وفيه: ما تقدّم من أنّ المراد منه عدم السّماع، فراجع.(3)د.

ص: 74


1- ذكرها المحقّق في المعتبر: ج 2/421، وعنه في المستدرك: ج 6/479 ح 7304.
2- أشار إلى ذلك المُحدّث البحراني في الحدائق الناضرة: ج 8/438.
3- صفحة 67 من هذا المجلّد.

ومنها: مرسل السيّد(1) والحِلّي(2):

فعن الأوّل: «وأمّا الأُخريان فالأولى أن يقرأ فيهما أو يسبِّح»، وروي أنّه ليس عليه ذلك(3).

وعن الثاني: قريبٌ منه(4).

وفيه: إنّهما لإرسالهما لا يُعتمد عليهما.

فتحصّل: أنّ القول بعدم وجوب شيء فيهما ضعيفٌ ، وأضعفُ منه القول بعدم الجواز، لأنّ مدركه بعض ما تقدّم، وقد ثبت فيه.

أقول: وأمّا القول بتعيّن التسبيح، وعدم جواز القراءة، فبعض النصوص وإنْ كان ظاهراً فيه، إلّاأنّ الجمع بينه وبين غيره، كصحيح ابن سنان يقتضي الحمل على الاستحباب والأفضليّة، كما مرّ تفصيله في مبحث القراءة من شرحنا هذا، فراجع.(5)

حكم القراءة في الأخيرتين من الجهريّة

المسألة الرابعة: في حكم القراءة في الأخيرتين من الجهريّة:

أقول: الأحوط فيهما للمأموم اختيار التسبيح، وذلك لأنّ صحيح زرارة المتقدّم، الدالّ على النهي عن القراءة مختصٌّ بالجهريّة، وهو أخصّ من صحيح ابن

ص: 75


1- رسائل المرتضى: ج 3/41.
2- السرائر: ج 1/284.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج 6/480-481 ح 7310.
4- وسائل الشيعة: ج 8/362 ح 10909.
5- فقه الصادق: ج 7/113.

سنان(1) وغيره(2)، ممّا دلّ على التخيير، أو تضمّن الأمر بالقراءة كخبر أبي خديجة(3)، فالجمع بين النصوص يوجبُ البناء على تعيّن التسبيح في الجهريّة، ولكن لعدم القول بالفصل، لا يمكن الالتزام بذلك، والاحتياط سبيل النجاة.

فتحصّل: أنّ الأظهر ثبوت التخيير في الإخفاتيّة، مع أفضليّة التسبيح، وأنّ الأحوط في الجهريّة اختياره، بل لا ينبغي تركه.

***

تنبيهات القراءة
اشارة

أقول: وينبغي التنبيه على اُمور:

جواز الاشتغال بالتسبيح والتحميد والصَّلاة على النبيّ وآله صلى الله عليه و آله

التنبيه الأوّل: لا كلام في جواز الاشتغال بالتسبيح والتحميد والصَّلاة على النبيّ وآله صلى الله عليه و آله عند ترك القراءة في الأولتين من الإخفاتيّة، لشهادة جملةٍ من النصوص:

1 - ففي خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «سألته عن رجلٍ يُصلّي خلف إمام يُقتدي به في الظهر والعصر، يقرأ.

قال عليه السلام: لا، ولكن يسبِّح ويَحمد ربّه، ويُصلّي على نبيّه صلى الله عليه و آله»(4).

2 - وفي صحيح بكر بن محمّد: «إنّي أكره للمؤمن أن يُصلّي خلف الإمام صلاةً لا يجهر فيها بالقراءة، فيقوم كأنّه جماد!

ص: 76


1- تهذيب الأحكام: ج 3/276 ح 126، وسائل الشيعة: ج 8/357 ح 10892.
2- راجع وسائل الشيعة: ج 6/107 باب 42 من أبواب القراءة وباب 51 ص 122 منها.
3- وسائل الشيعة: ج 8/362 ح 10905.
4- وسائل الشيعة: ج 8/361 ح 10902، بحار الأنوار: ج 10/259.

قلتُ : جُعْلتُ فداك، فيصنع ماذا؟ قال عليه السلام: يُسبِّح»(1).

وأمّا في الأوليين من الجهريّة، فلا كلام أيضاً في الجوار، مع عدم سماع القراءة، للعمومات، وعدم مانع عن شمولها.

وأمّا مع السّماع: فقد اختلفت النصوص فيه.

فمنها: ماظاهره لزوم الإنصات للقراءة، كصحيح زرارة: «وأنصت لقراءته»(2).

ومنها: ما دلّ على جواز الاشتغال بالدّعاء، كصحيح أبي المعزا:

«كنتُ عند أبي عبد اللّه عليه السلام فسأله حفص الكلبي، فقال: إنّي أكون خَلف الإمام وهو يجهر بالقراءة، فأدعو وأتعوّذ؟ قال عليه السلام: نعم فادعُ »(3).

ومنها: ما تضمّن الجمع بينهما، كحسن زرارة أو صحيحه: «فأنْصِت وسبّح في نفسك»(4).

أقول: والجمع بين النصوص، يقتضي:

تخصيص الأوّل بصورة السّماع، إذ لامعنى لوجوب الإنصات مع عدم السّماع.

والثاني على صورة عدم السّماع لأخصيّة الأوّل عنه.

والثالث على إرادة حديث النفس من التسبيح في النفس، كما هو ظاهرٌ لا الذّكر الخَفيّ .3.

ص: 77


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/392، التهذيب: ج 3/276 ح 126، وسائل الشيعة: ج 8/360 ح 10900. وفي نسخة وسائل الشيعة: (للمرء) بدل (للمؤمن). وأيضاً الموجود كلمة (حمار) بدل (جماد).
2- وسائل الشيعة: ج 8/355 ح 10886، من لا يحضره الفقيه: ج 1/392 ح 1161.
3- وسائل الشيعة: ج 8/361 ح 10901، من لا يحضره الفقيه: ج 1/407 ح 1209.
4- وسائل الشيعة: ج 8/357 ح 10889 و: ج 8/361 ح 10903 / الكافي: ج 3/377 ح 3.

والإجماعُ (1) على عدم لزوم الإنصات، لا ينافي ما ذكرناه، فتدبّر.

المراد من السّماع هو السّماع الفعلي

التنبيه الثاني: المراد من (السّماع) المعلّق عليه الحكم في هذه النصوص، هو السّماع الفعلي في مقابل عدمه كذلك، من غير فرقٍ بين استناده إلى بُعد المأموم عن الإمام، أو كونه أصمّ أو غير ذلك من موانع السّماع، لأنّ الظاهر من كلّ عنوانٍ مأخوذ في الدليل دخل فعليّته في الحكم، وحمله على إرادة الشأني منه، يحتاجُ إلى قرينةٍ مفقودة في المقام.

إذا سمع بعض قراءة الإمام

التنبيه الثالث: إذا سمع بعض قراءة الإمام، ولم يسمع بعضها، ففيه وجوهٌ وأقوال:(2)

1 - جواز القراءة مطلقاً.

2 - عدم جوازه كذلك.

3 - التفصيل بين المقدار الذى يسمعه فلايجوز، والمقدار الذي لم يسمعه فيجوز.

واستدلّ للأوّل: بانصراف النصوص إلى سماع الكُلّ ، فلو لم يسمع الجميع لا يسقط شيءٌ منها.

واستدلّ للثاني: بأنّ جواز القراءة معلّقٌ على عدم السّماع، ومقتضى إطلاقه عدم سماع شيءٍ منها، فمع سماع البعض لم يتحقّق الموضوع، فلا يجوز القراءة.

واستدلّ للثالث: بأنّ السّماع مطلقٌ ويكون القراءة مقيّدة بما سمع.

أقول: والأوجه هو الثاني، فإنّه علّق عدم الجواز في بعض النصوص على عدم السّماع، ولو الهمهمة، فإنّ سماع الهمهمة غالباً يكون بسماع البعض فتأمّل، والاحتياط سبيل النجاة.

ص: 78


1- الرياض: ج 4/308 قال: (... هذا مضافاً إلى الإجماع علي ماحكاه بعض الأصحاب علي عدم وجوب الإنصات).
2- تعرّض لذلك في مصباح الفقيه: ج 2/642 ق 2.
لو شكّ في سماع القراءة

التنبيه الرابع: لو شكّ في سماع القراءة، أو كون المسموع صوت الإمام، أو غيره، لا يبعد القول بجواز القراءة من جهة استصحاب عدم السّماع.

وكون المتيقّن عدم السّماع، لعدم القراءة، والمشكوك فيه عدم السّماع مع فرض القراءة، لا يوجبان تعدّد المشكوك فيه والمتيقّن، كي لايجري الاستصحاب، لما حُقّق في محلّه من جريان الأصل في العدم الأزلي.

ودعوى(1): أنّ السّماع في الفرض الثاني معلومٌ ، وإنّما الشكّ في تعلّقه بصوت الإمام، فلا يجري فيه الأصل.

مندفعة: بأنّ الأصل يجري في تعلّقه بصوت الإمام، على المختار من جريان الأصل في العدم الأزلي، مع أنّ استصحاب عدم تحقّق المقيّد، أي عدم سماع صوت الإمام يجري، ولا يُعارضه أصالة عدم سماع صوت غيره، لعدم جريانها في نفسها لعدم الأثر.

وعليه، فالأظهر جواز القراءة حينئذٍ.

لا يجبُ على المأموم الطمأنينة حال قراءة الإمام

التنبيه الخامس: لا يجبُ على المأموم الطمأنينة حال قراءة الإمام، وذلك لوجهين:

الأوّل: ظهور ما دلَّ على ضمان الإمام للقراءة في ضمانه لها بما يتبعها من الشرائط التي منها الطمأنينة حالها.

الثاني: أنّ دليل الطمأنينة مختصٌّ بقراءة نفسه، فهو في نفسه لايشمل حال قراءة الإمام.

بحثٌ : هل يجب عليه القيام من أوّل قيام الإمام ؟ أم يجب عليه ذلك ولو بأنْ

ص: 79


1- مستمسك العروة: ج 7/263، كتاب الصَّلاة للسيّد الخوئي: ج 5/257.

يلحقه في آخر قيامه ؟ أم لا يجب عليه أصلاً؟ وجوه:

وجه الأوّل:

1 - لزوم متابعته، فإنّ ذلك واجبٌ عليه، وتحقيقاً لها يجب عليه أن يقوم مع الإمام من حين قيامه.

أمّا ما دلَّ على أنّه لو أدرك الإمام في آخر القراءة، فقد أدرك ما قبله، مختصٌّ بأوّل الشروع في الجماعة، أو مع المعذوريّة في ترك المتابعة، ولا علاقة له بالمقام.

ووجه الثاني: أنّه وإنْ كان لا تجب المتابعة، إلّاأنّه بما أنّ القيام - ولو مسمّاه - بنفسه شرطٌ للصلاة، ولا دليل على ضمان الإمام لغير القراءة، فلابدّ من الإتيان به.

ووجه الثالث: كون القيام من شرائط القراءة لا الصَّلاة، فالإمام ضامنٌ له بتبع ضمانه للقراءة.

القراءة خلف المخالف

التنبيه السادس: في حكم القراءة خلف من لا يُعتدّ بقراءته كالمخالفين.

أقول: قد ورد في كثيرٍ من الأخبار(1) الحَثّ على الصَّلاة مع المخالف، وفي بعضها:

«مَنْ صَلّى معهم في الصَّف الأوّل، كان كمَنْ صَلّى خلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الصَّف الأوّل»(2).

وفي آخر: إنّ المُصلّي معهم في الصَّف الأوّل، كالشّاهر سيفه في سبيل اللّه»(3).

ص: 80


1- وسائل الشيعة: ج 8/299 الباب الخامس من أبواب صلاة الجماعة.
2- الكافي: ج 3/380 ح 6، وسائل الشيعة: ج 8/299 و 300 ح 10717 و 10720.
3- تهذيب الأحكام: ج 3/277 ح 129، وسائل الشيعة: ج 8/301 ح 10723.

وعليه، فلا إشكال في أصل مطلوبيّتها.

إنّما الكلام في حكم القراءة حينئذٍ:

والمشهور(1) بين الأصحاب:

1 - أنّه تجبُ القراءة التامّة مع الإمكان.

2 - ومع عدم التمكّن يكتفي منها بحديث النفس.

3 - ومع عدم التمكّن أصلاً تسقط القراءة.

4 - وإنْ تمكّن من إتيان بعضها أتى بها خاصّة، وتسقط البقيّة.

وهذا هو المستفاد من النصوص:

منها: صحيح الحلبي(2) عن الصادق عليه السلام: «إذا صَلّيت خلف إمامٍ لا يُقتدى به، فاقرأ خلفه، سمعتَ قرائته أو لم تسمع».

وهذا يدلّ على وجوب القراءة مع الإمكان.

ومنها: صحيح علي بن يقطين(3)، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرّجل يُصلّي خلف من لا يُقتدى به بصلاته، والإمام يجهر بالقراءة ؟

قال عليه السلام: إقرأ لنفسك، وإنْ لم تُسمع نفسك فلا بأس».

وهذا يدلّ على أنّه مع عدم إمكان القراءة بشرائطها، يأتي بها فاقدة لها، إذ المراد من إسماع النفس ما يتحقّق به مصداق القراءة، وإنْ لم يسمع باُذنيه،1.

ص: 81


1- قال في الحدائق: ج 11/81 (وعليه عمل الأصحاب) وفي الرياض: ج 4/288 (ط. ج) اعتبر ذلك محلّ اتّفاق. ومثله ما في مستند الشيعة: ج 8/148.
2- وسائل الشيعة: ج 8/366 ح 10919، التهذيب: ج 3/35 ح 37، الاستبصار: ج 1/429 ح 1.
3- وسائل الشيعة: ج 8/363 ح 10911، التهذيب: ج 3/36 ح 41.

والمفروض فيه كون الصَّلاة جهريّة.

ومنها: صحيح أبي بصير، قال: «قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: من لا أقتدي به في الصَّلاة ؟ قال عليه السلام: افرغ قبل أن يفرغ، فإنّك في حصار، فإنْ فرغ قبلك فاقطع القراءة واركع معه»(1).

وهذا يدلّ على الاكتفاء ببعض القراءة، مع عدم إمكان الإتيان بالتامّة.

ومنها: خبر أحمد بن عائذ: «قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: إنّي أدخلُ مع هؤلاء في صلاة المغرب، فيعجلوني إلى ما أُؤذن واُقيم، فلا أقرأ شيئاً حتّى إذا ركعوا، واركع معهم، أيُجزيني ذلك ؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

وهذا يدلّ على سقوط القراءة مع عدم الإمكان رأساً، وقريبٌ منها غيرها.

وعليه، فما يظهر منه سقوط القراءة خلفهم، محمولٌ على صورة عدم التمكّن.

ثمّ إنّ الظاهر من هذه النصوص - من جهة ظهورها في أنّ ما يؤتي به خلف المخالف، هي الصَّلاة التي وظيفته، لا سيّما بعد بيان وظيفة المأموم في القراءة - الإجتزاء بالمأتي به، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء.

***7.

ص: 82


1- وسائل الشيعة: ج 8/367 ح 10922، التهذيب: ج 3/275 ح 121.
2- وسائل الشيعة: ج 8/365 ح 10916 (ولا اقرأ الحمد حتّى يركع)، التهذيب: ج 3/73 ح 43، الاستبصار: ج 1/431 ح 7.

ولا يتقدّمه في الأفعال.

لا يجوز تقدّم المأموم في الأفعال
اشارة

المورد الثاني: لا إشكال ولا خلاف في وجوب متابعة المأموم للإمام في الجملة، (و) تنقيح البحث في ذلك بالتكلّم في مقامين:

الأوّل: في المتابعة في الأفعال.

الثاني: المتابعة في الأقوال.

المتابعة في الأفعال
اشارة

أمّا المقام الأوّل: فلا خلاف(1) في أنّه (لا) يجوز أن (يتقدّمه في الأفعال)، ونقلُ الإجماع عليه مستفيضٌ (2).

ويشهد له: - مضافاً إلى الإجماع - النبويّان المشهوران(3):

أحدهما: «إنّما جُعل الإمام إماماً، ليؤتمّ به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا»(4).

ثانيهما: «أما يخشى الذي يرفع رأسه والإمام ساجد، أن يحوّل اللّه رأسه رأس الحمار»(5).

ص: 83


1- المعتبر: ج 2/421 (يجب متابعة الإمام في أفعال الصَّلاة، وعليه اتّفاق العلماء).
2- كتاب الصَّلاة: ج 2/485 (يجب متابعة الإمام في الأفعال بالإجماع المستفيض).
3- نقله الشيخ الأعظم في كتاب الصَّلاة: ج 2/485 وقال: (بل المحقّق وكأنّ الأصل فيه ما اشتهر من النبويّ ، وإنْ كان عاميّاً).
4- سنن ابن ماجة: ج 1/392 ح 1238، سنن الدارمي ج 1 باب فيمن يصلّي خلف الإمام، وذكر في العديد من مصادر المخالفين. وأورده المحقّق في المعتبر، وغيره.
5- البخاري: 1/177، مسلم: 1/320-427، سنن البيهقي: 2/93.

فإنّ الظاهر منهما - لا سيّما الأوّل - أنّ ذكر الركوع والسّجود من باب المثال، كما هو واضح.

ونوقش فيهما:

1 - بأنّهما ضعيفان سنداً.

2 - وبأنّ الظاهر من الأوّل بقرينة السّياق، النهي عن التأخّر الفاحش دون عدم التقدّم.

3 - وبأنّ المحتمل من الثاني إرادة الكراهة(1).

ولكن يدفع الأوّل: اعتماد الأصحاب(2) عليهما، وتلقّيهم إيّاهما - سيّما الأوّل - بالقبول.

ويدفع الثاني: أنّ تفريع قوله: (فإذا ركع.. الخ)، على قوله: (إنّما جُعل الإمام إماماً ليؤتمّ به) يوجبُ ظهوره في اعتبار عدم كلّ ما ينافي الائتمام والاقتداء في صحّة الجماعة، ومنه التقدّم.

ويمكن أن يستدلّ له أيضاً(3):

1 - بما دلّ على وجوب الانتظار لو فرغ المأموم عن القراءة قبل الإمام.

2 - وبما دلّ على العود إلى الركوع أو السّجود، لو رفع المأموم رأسه قبل الإمام، إذ لو لم يكن عدم التقدّم مأموراً به لما أُمر بذلك.

أقول: هذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه، إنّما الكلام في هذا المقام في مواضع:

الموضع الأوّل: في أنّه هل المتابعة الواجبة، هي عدم التقدّم المجامع للمقارنة، أو4.

ص: 84


1- مصباح الفقيه: ج 2/646 ق 2.
2- مستند الشيعة: ج 8/94.. (المنجبرين بالاشتهار والعمل).
3- تعرّض لهذا الاستدلال السيّد في مستمسك العروة الوثقى: ج 7/264.

هي خصوص التأخّر؟

الموضع الثاني: في أنّه هل تجب المتابعة في كلّ فعلٍ من أفعال الصَّلاة على سبيل الاستغراق، أو في معظم أفعالها؟

الموضع الثالث: هل يجوز التأخّر الفاحش أم لا؟

الموضع الرابع: في أنّ وجوب المتابعة شرطيٌ أو نفسي، وعلى أيّ تقديرٍ ماذا يترتّب على تركها؟

الموضع الخامس: في أنّه لو تقدّم في فعلٍ سهواً فماذا وظيفته ؟

المراد من المتابعة

أمّا الموضع الأوّل: فالمشهور بين الأصحاب أنّ المتابعة اللّازمة هي عدم التقدّم(1)، وأنّه يجوز المقارنة في الأفعال، بل عن الفخر(2) وغيره دعوى الإجماع عليه(3)، وعن «إرشادالجعفريّة»(4) لزوم التأخّر، ومالَ إليه صاحب «الحدائق» رحمه الله(5).

واستدلّ لجواز المقارنة: بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الظاهر من صدر النبويّ الأوّل أنّ الغرض الائتمام، وهو يتحقّق عرفاً بإتيان الفعل مقارناً للإمام بقصد المتابعة، والقضايا المذكورة بعده تفريعاً عليه، لا ظهور لها من جهة التفريع في اعتبار التأخّر.

ص: 85


1- كتاب الصَّلاة للشيخ الأنصاري: ج 2/485: (المشهور بين من تأخّر عن العلّامة وفاقاً له أنّ المراد عدم التقدّم المجامع للمقارنة)، مستند الشيعة: ج 8/96: (على المشهور، بل لم أعثر على مصرّحٍ بخلافه).
2- مستند الشيعة: ج 8/96 (بل عن شرح الإرشاد لفخر المحقّقين الإجماع عليه).
3- مدارك الأحكام: ج 4/326: (مجمعٌ عليه بين الأصحاب)، شرح اللّمعة: ج 1/800: (.. إجماعاً بمعنى أن لا يتقدّمه فيها، بل إمّا أن يتأخّر عنه وهو الأفضل، أو يقارنه لكن مع المقارنة تفوت فضيلة الجماعة، وإنْ صحّت الصَّلاة، وإنّما فضلها مع المقارنة).
4- كما حكاه في مستمسك العروة الوثقى: ج 7/265.
5- الحدائق الناضرة: ج 11/138.

وبالجملة: الظاهر من النبويّ أنّ الأمر بالركوع والسّجود إذا ركع الإمام أو سجد، إنّما يكون من جهة مطلوبيّة الائتمام، الذي هو الغاية من جعل الإمامة المتحقّق مع المقارنة، فمقتضى إطلاق الغاية جواز المقارنة.

وأورد عليه المحقّق اليزدي:(1) بأنّ هذا يتمّ لو كان النبويّ مسوقاً لبيان مطلوبيّة الائتمام، فيكون التفريعات المذكورة في الخبر من قبيل بيان صغريات الائتمام، وليس الأمر كذلك، كيف وأنّ الائتمام غير واجبٍ قطعاً، والمتابعة واجبة كما ذكره الأصحاب، فلا محالة يكون الصدر في مقام بيان أنّ الائتمام غرض الشارع، ويكون الذيل في مقام بيان شيءٍ آخر، وهو أنّ من أراد تحصيل هذا الغرض، وجب عليه أن يأتي بالأفعال بالنحو المذكور في الذيل، وحيثُ أنّ الذيل ظاهرٌ في نفسه في التأخّر، فيدلّ النبويّ على اعتباره.

وفيه أوّلاً: إنّ الصدر لايتضمّن الأمر بالجماعة، كي يُقال إنّه استحبابي، إنّما يتضمّن الأمر بالائتمام بمعنى المتابعة للإمام بعد فرض إرادة الجماعة، والائتمام بهذا المعنى واجبٌ ، وما في ذيله تفريعٌ عليه، وحيثُ أنّ ظهور العلّة والأصل مقدّمٌ على ظهور المعلول والفرع، فلا يبقى للذيل ظهورٌ في لزوم التأخّر، بعد ظهور الصدر في جواز المقارنة، فالمتّبع ظهور الصدر.

وثانياً: إنّ الذيل أيضاً لا ظهور له في اعتبار التأخّر، إذ لا منشأ لهذه الدعوى سوى ماذكره المحقّق المذكور (من أنّ الأمر بالركوع والسّجود إنّما رُتّب على تحقّق هذين الفعلين من الإمام، كما يستفاد من إتيان الشرط بصيغة الماضي، وظهوره في لزوم إتيانهما بعد تحقّقهما من الإمام ممّا لا يُنكر) وهو غير صحيح، فإنّ هيئة فعل8.

ص: 86


1- كتاب الصَّلاة للحائري اليزدي: ص 488.

الماضي، لم توضع للنسبة التحقّقية في الزمان الماضي، وإنّما وضعت للنسبة المذكورة، مجرّدةً عن الزمان الماضي.

نعم، صدق الأخبار معه يتوقّف على وقوع المخبَر به في الزمان الماضي، فالدلالة على الزمان الماضي إنّما هي في الأخبار لا في الإنشاء، ولذا يكون الجزاء والشرط في القضايا الشرعيّة - مثل: إذا زالت الشمس وجب الطهور والصَّلاة وغيره - متقارنين في الزمان، ومنها هذه القضيّة.

وعليه، فالأظهر أنّ النبويّ يدلّ على كفاية التقارن.

الوجه الثاني: ما عن «قرب الإسناد»: «في الرّجل يُصلّي أَلَهُ أنْ يُكبِّر قبل الإمام ؟ قال عليه السلام: لا يُكبِّر إلّامع الإمام»(1)، بضميمة عدم القول بالفصل بين جواز المقارنة في التكبيرة وجوازها في الأفعال.

وعليه، فالأظهر جواز المقارنة وإنْ كان الأحوط التأخّر.

هل تجب المتابعة في كلّ فعلٍ من أفعال الصَّلاة

وأمّا الموضع الثاني: فالظاهر من النبويّ وجوب المتابعة في كلّ فعلٍ من الأفعال، إذ الظاهر منه أنّه تجب المتابعة في الصَّلاة الّتي هي فعلٌ تدريجي بمتابعة الإمام في أفعالها المتدرّجة، فإذا لم يتابعه في فعل واحد، صَدَق عليه أنّه مشغولٌ بالصلاة، ولم يتابع الإمام في هذه الفترة.

ويؤيّد ذلك: ما دلَّ على أنّ المأموم لو رفع رأسه من السّجود أو الركوع قبل الإمام نسياناً عاد إليه، إذ لو لم تكن المتابعة لازمة في كلّ فعلٍ على سبيل الاستغراق، لما كان وجهٌ لذلك.

***

ص: 87


1- قرب الإسناد: ج 2/99.
حكم التأخّر في الأفعال

وأمّا الموضع الثالث: وهو حكم تأخّر المأموم عن الإمام في الأفعال.

فأقول: بعدما لا كلام من أحدٍ في جواز التأخّر عنه بقليل، بل عن بعض تعيّنه كما عرفت، وأنّه لا مانع من التأخّر في الأفعال القصيرة التي يعسر المحافظة فيها على الاجتماع مع الإمام، كالقيام بعد الركوع، والجلوس بين السجدتين، وعقيب الثانية.

إنّما وقع الكلام في التأخّر عنه في الأفعال الطويلة، كالقيام والركوع والسّجود بالتأخّر المعبَّر عنه في كلماتهم بالتأخّر الفاحش، وهو ما إذا أدَّى ذلك إلى فراغ الإمام من فعله قبل فعل المأموم:

المشهور بينهم عدم جوازه، بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه(1).

ويشهد له: أنّه لو تأخّر عنه، وبقي على ما هو عليه من الحالة، حتّى يصل الإمام في الرّكعة اللّاحقة إلى مثل ذلك الفعل، فإنّه وإنْ يصدق عليه المتابعة والائتمام عرفاً، بمعنى عدم زوال هذا العنوان عنه، إلّاأنّه لو أتي بذلك الفعل لما صدق عليه عنوان المتابعة والائتمام عرفاً، وعليه فالنبويّ المتقدّم يدلّ على عدم جوازه.

ويمكن أن يُستشهد له أيضاً: بما دلّ على لزوم ترك السّورة، واللّحوق بركوع الإمام، لو كان لا يلحق بركوعه لو قرأها، كصحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«إنْ أدرك من الظهر أو العصر أو العشاء ركعتين، وفاتته ركعتان، قرأ في كلّ ركعةٍ ممّا أدرك خلف الإمام في نفسه باُمّ الكتاب وسورة، فإنْ لم يدرك السّورة تامّة

ص: 88


1- ذكر الحكم العديد من الفقهاء، وأرسلوه إرسال المسلّمات، ودعوى الشهرة أو الإجماع في التأخّر الفاحش ذكروه بالملازمة كما قاله السيّد في مستمسك العروة الوثقى: ج 7/266 مثلاً، بقوله: (وجوب المتابعة تعبّدي... كما عن المشهور، بل عن جماعة نسبته إلى الأصحاب).

أجزأته أُمّ الكتاب»(1)، ونحوه غيره.

ولولا لزوم إدراك ركوع الإمام، لما كان وجهٌ للزوم ترك السّورة.

ودعوى: أنّه لا يستفاد منها الا كون ترك السّورة رخصة، فحيثُ لا كلام في مطلوبيّة إدراك الركوع، فيكون ذلك من جهة جواز ترك السّورة لدرك المصلحة، لا سيّما على المختار من عدم وجوب السّورة.

مندفعة: بأنّ ظاهر النصوص، كون تركها عزيمة لا رخصة، فلاحظ وتدبّر.

وبالجملة: فالأظهر عدم جواز التأخّر الفاحش.

***

وجوب المتابعة تعبّدي

وأمّا الموضع الرابع: ويدور البحث فيه عن أنّ وجوب المتابعة شرطيّ أو نفسيّ؟

المشهور(2) بين الأصحاب كون وجوبها تعبّديّاً لا تبطل الجماعة بتركها، وإنّما يترتّب عليه الإثم خاصّة، بل عن جماعة نسبته إلى الأصحاب.

وعن جماعةٍ (3) كون وجوبها شرطيّاً، لصحّة الجماعة.

وعن الشيخ في «المبسوط»(4)، والصدوق(5)، والحِلّي(6) أنّهاشرطٌلصحّة الصَّلاة.

ص: 89


1- تهذيب الأحكام: ج 3/45 ح 70، وسائل الشيعة: ج 8/388 ح 10977.
2- نسبه إلى المشهور السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى : ج 1/266.
3- ذكرالشرطيّة الحائري اليزدي في كتاب الصَّلاة: ص 485-486، والظاهر أنّه مبنى السيّد الخوئي في: ج 245/17.
4- يمكن استظهار ذلك من المبسوط: ج 1/159 و 160 أحكام صلاة الجماعة، أو من قوله: في ص 157: (من فارق الإمام لغير عذر بطلت صلاته).
5- حكاه عنه الشهيد في ذكرى الشيعة: ج 4/475 بقوله: (قال ابن بابويه: من المأمومين من لا صلاة له، و هو الذي يسبق الإمام في ركوعه و سجوده و رفعه).
6- حكاه في مستمسك العروة الوثقى: ج 7/268 بقوله: (وربما نُسب إلى ابن إدريس أيضاً، ولم يعرف لأحدٍ غيرهم من القدماء و المتأخّرين [القول بالشرطيّة]).

أقول: يقع الكلام في موردين:

الأوّل: في أنّ وجوبها شرطيٌ أو تعبّدي.

الثاني: فيما يترتّب على تركها على كلٍّ من المسلكين.

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ لكون وجوبها شرطيّاً بظاهر النبويّ المتقدّم، فإنّ الأمر بالأفعال المذكورة، وإنْ كان يمكن أن يكون نفسيّاً، لكن الظاهر من الأوامر المتعلّقة بأجزاء المركّب أو قيوده، كونها لبيان الجزئيّة أو الشرطيّة.

وفيه: إنّ الظاهر من صدر النبويّ ، كون المتابعة غايةً لجعل الإمام إماماً والائتمام به، فلا تكون شرطاً لها، وهذا هو المستفاد من مجموع الأدلّة، إذ الظاهر أنّ الإمامة من جملة الاُمور الاعتباريّة الوضعية الحاصلة بجعل المأموم له ذلك، بلحاظ الأفعال الصلاتيّة، فبعدما جعل ذلك كان مقتضى إمامته متابعته له في الأفعال، وعلى ذلك، فلا يُعتنى إلى ظهور ذيله المتضمّن للقضايا المذكورة بعده تفريعاً عليه، فإنّ ظهور العلّة مقدّمٌ على ظهور المعلول.

ويمكن أن يُستشهد له مضافاً إلى ذلك، بأنّ في جملةٍ من النصوص الآتية الأمر بالعود لتحصيل المتابعة، فيما إذا ركع أو سجد قبل الإمام، أو رفع رأسه عن الركوع والسّجود قبله، فإنّه إذا كانت المتابعة شرطاً للجماعة في الصَّلاة، أو في ذلك الجزء لما كان وجهٌ للحكم بلزوم العود، فإنّ الفائت على هذا المسلك لا يتدارك كما لا يخفى، وهذا بخلاف كون وجوبها تعبّديّاً.

أمّا المورد الثاني:

1 - فعلى القول بشرطيّتها للاقتداء، لزم بطلان الجماعة بتركها، لانتفاء المشروط بانتفاء شروطه.

ص: 90

وما أفاده المحقّق الهمداني رحمه الله(1): من أنّه به يبطل الاقتداء في خصوص الجزء الذي تركت المتابعة فيه، دون غيره من الأجزاء السابقة واللّاحقة الّتي أتى بها مقتدياً بإمامه، فتصحّ الجماعة فيما عداه من الأجزاء، إذ لا دليل على اشتراط صحّة الجماعة في كلّ جزءٍ بصحّتها في سابقه أو لاحقه، بل الأدلّة قاضية بخلافه، فإنّه بذلك لا يُسلب عنه عنوان المأموميّة.

ممنوع: لأنّ الاقتداء أمرٌ واحدٌ مستمرّ لا أنّه ملاحظٌ بالنسبة إلى كلّ جزءٍ مستقلّاً، وعليه فبطلانه في جزءٍ يستلزم انعدامه رأساً، وعوده يحتاج إلى دليلٍ آخر مفقود، بل الدليل قاضٍ بخلافه، وهو ما دلَّ على عدم جواز العدول من الإنفراد الى الجماعة، وبذلك ظهر ما يترتّب على تركها لو كانت شرطاً للصلاة.

2 - وأمّا على القول بأنّ وجوبها تعبّدي لاشرطي، فإنّ تَرَكها في جميع الأفعال أو معظهما، بحيث لزم منه ذهاب هيئة الجماعة في ارتكاز المتشرّعة، الكاشف عن ذهابها شرعاً، بطلت جماعته، وإلّا فلا يترتّب عليه سوى الإثم.

واستدلّ لبطلان الصَّلاة بتركها: بأنّ الفعل الجاري على خلاف المتابعة مضادٌّ للفعل الجاري على وفقها، فعلى القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، يلزم من حرمة ترك المتابعة فساد الصَّلاة حينئذٍ، كما لا يخفى .

وفيه: ما حُقّق في محلّه من ضعف المبنى، وأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، ولا عدم الأمر به، بناءً على تصحيح الترتّب.

في أنّه لو تقدّم في فعلٍ سهواً فماذا وظيفته ؟
اشارة

وأمّا الموضع الخامس: فمقتضى القاعدة بناءً على ما تقدّم من أنّ وجوب المتابعة تعبّدي، هو صحّة الصَّلاة والجماعة، ولزوم الانتظار، وعدم وجوب العود لتحصيل

ص: 91


1- مصباح الفقيه: ج 2/648 ق 2.

المتابعة، بل عدم جوازه، إذ لو أتى بذلك الجزء الذي تقدّم فيه على الإمام كالتشهّد بقصد الجزئيّة، بطلت الصَّلاة للزيادة، وإلّا فلا تحصل المتابعة، إلّاأنّه قد وردت روايات خاصّة في موردين على خلاف ذلك:

أحدهما: ما لو رفع رأسه من الركوع أو السّجود.

ثانيهما: ما لو أهوى إلى أحدهما كذلك.

تغتفر زيادة الرّكن لأجل المتابعة

وملخص القول فيهما: إنّ في المسألة الاُولى طائفتين من الأخبار:

الطائفة الاُولى: ما يدلّ على لزوم العود والمتابعة:

1 - صحيح عليّ بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرّجل يركع مع الإمام، يقتدي به، ثمّ يرفع رأسه قبل الإمام ؟ قال عليه السلام: يُعيد بركوعه معه»(1).

ونحوه بأدنى اختلاف خبر سهل الأشعري عنه عليه السلام(2).

2 - صحيح الفضيل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ صَلّى مع إمام يأتمّ به، ثمّ رفع رأسه من السّجود قبل أن يرفع الإمام رأسه من السّجود؟ قال عليه السلام: فليسجد»(3).

وقريب منه موثّق ابن فضّال(4).

الطائفة الثانية: ما يدلّ على وجوب البقاء، كموثّق غياث، قال:

«سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام: الرّجل يرفع رأسه من الركوع قبل الإمام، أيعود فيركع

ص: 92


1- تهذيب الأحكام: ج 3/277 ح 130، وسائل الشيعة: ج 8/391 ح 10984.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/47 ح 75، وسائل الشيعة: ج 8/390 ح 10983.
3- تهذيب الأحكام: ج 3/48 ح 77، وسائل الشيعة: ج 8/390 ح 10982.
4- وسائل الشيعة: ج 8/391 ح 10985.

إذا أبطأ الإمام ويرفع رأسه معه ؟ قال عليه السلام: لا»(1).

أقول: وقد جمع المشهور(2) بينهما بحمل الاُولى على صورة السهو، وحمل الثانية على صورة العَمَد.

وأورد (3) عليهم: بأنّه جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، بل مقتضى الجمع العرفي حمل الموثّق على نفي الوجوب، والطائفة الاُولى على الفضل.

أقول: الحقّ ما ذهب إليه المشهور، وذلك لإختصاص الطائفة الاُولى بنفسها بالسهو، لأنّ الغالب عدم رفع المأموم رأسه قبل الإمام عمداً مع عدم جوازه.

وبعبارة اُخرى : من يُصلّي الجماعة لدرك الفضل، لايتعمّد فعل الحرام في أثنائها.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ حمل تلك الطائفة على صورة العمد بعيدٌ جدّاً، فتكون مختصّة بصورة السهو في نفسها.

وعليه، فإنْ قلنا بظهور الثانية في العمد فلا كلام، وإلّا فتُحمل على تلك الصورة حملاً للمطلق على المقيّد.

أقول: ويمكن أن يوجّه مقالة المشهور، بأنّه لو سُلّم كون النسبة بين الطائفتين هو التباين، ولكن قيام الإجماع على وجوب الإعادة في صورة السهو تقلب النسبة وبحيث تصبح الثانية أخصّ من الاُولى، فيقيّد إطلاقها بها، ولكن هذا يتوقّف على القول بانقلاب النسبة.

وأمّا ما ذكره المورد في مقام الجمع، بأنّ الأولى تُحمل على الفضل.

فيرد عليه: أنّ هذا ليس جمعاً عُرفيّاً، إذ الطائفة الثانية ليست دالّة على الجواز،2.

ص: 93


1- تهذيب الأحكام: ج 3/47 ح 76، وسائل الشيعة: ج 8/391 ح 10987. (2و3) الحدائق الناضرة: ج 11/141 و 142.

بل هي ظاهرة في عدم الجواز، فلا محالة لا تكون قرينة لصَرف ظهور الأولى.

فتحصّل: أنّ الأظهر ماهو المشهور.

بقي فرعان:

الفرع الأوّل: لو ترك الإعادة في صورة السهو أثم، وصحّت صلاته وجماعته، لما عرفت من أنّ الإخلال بالمتابعة لا يوجب البطلان.

ودعوى: أنّ الأمر بالعود للمتابعة، كالأمر بسائر ما يعتبر في المركّب الاعتباري، ظاهر في كونه معتبراً في الجماعة، فتركه يوجب بطلان الجماعة.

مندفعة: بأنّ الأمر في نفسه في أمثال المقام، وإنْ كان ظاهراً فيما ذُكر، إلّاأنّه في خصوص المقام قرينة صارفة، وهي وجوب المتابعة تعبّداً، فلا يستفاد من الأمر في هذا المورد سوى أنّ وظيفة المأموم رعاية المتابعة بالعود، فاشتراط الصَّلاة أو الجماعة به مشكوك فيه، يدفع بالأصل.

مع أنّه يمكن أن يُقال: إنّ المستفاد من نصوص العود، ليس الا جوازه، لورود الأمر فيها مورد توهم المنع، ولا تكون ظاهرة في الوجوب، وإنّما نحكم بالوجوب لأدلّة المتابعة، وقد مرّ أنّ وجوبها تعبّدي لا شرطي، فتأمّل.

الفرع الثاني: لو رفع المأموم رأسه قبل الذّكر الواجب:

1 - فإنْ كان عمديّاً بطلت صلاته، للإخلال بالذِّكر، نعم على القول بجواز العود كلامٌ سيأتي.

2 - وإنْ كان سهويّاً:

فهل تبطل صلاته لو ترك العود، من جهة استلزامه ترك الذّكر الواجب، لأنّه لو عاد ليأتي بالذِّكر؟

ص: 94

أم لا من جهة فوات محلّ الذّكر؟

أم يفصّل بين كون الإخلال بالذِّكر عمديّاً فتبطل صلاته، وبين كونه مع الغفلة فتصحّ؟

وجوهٌ ، أقواها الأخير، وذلك يظهر بعد بيان أمرٍ وهو:

إنّ الركوع أو السّجود المأتي به للمتابعة، ليس بنفسه من أجزاء الصَّلاة، ولا يتّصل المأتي به بما أتى به أوّلاً، ليكون هو وما قبله ركوعاً واحداً، بل هو واجبٌ نفسي، ولذا لا يضرّ الإخلال به ولو كان عاصياً، وعلى هذا فمحلّ الذّكر لا محالة يكون فائتاً، لأنّ محلّه الركوع الذي هو من أجزاء الصَّلاة، فإنْ كان ترك الذّكر عمديّاً بطلت الصَّلاة للإخلال به، وإلّا صحّت وإنْ لم يُعد، بل لو عاد ليس له الإتيان بالذِّكر الذي هو من الاجزاء.

***

ص: 95

الرجوع أو السجود قبل الإمام

المسألة الثانية: إذا ركع المُصلّي أو سجد قبل الإمام:

1 - فإنْ كان عمداً لايجوز له المتابعة، لاستلزامها الزيادة غير المغتفرة، وحينئذٍ:

هل تصحّ صلاته أم لا؟

أم يجب التفصيل بين ما لو ركع قبل تماميّة قراءة الإمام فلا تصحّ ، وبين ما لو ركع بعدها فتصحّ؟

وجوهٌ أقواها الأخير، وذلك لأنّه:

إذا كان ذلك قبل تماميّة قراءة الإمام، فحيثُ أنّ الركوع غير مأمورٍ به، بل الركوع المأمور به إمّا الركوع بعد قراءة المصلّي نفسه، أو قراءة من هو ضامن لقراءته، ففي أثنائها لا أمر بالركوع، ممّا يعني أنّ الرّكوع المأتي به زيادة مبطلة.

وإنْ كان بعدها، صحّت صلاته، من جهة أنّه لا وجه للبطلان سوى ترك المتابعة، وقد مرَّ أنّه لا يوجب البطلان.

2 - وإنْ كان سهواً، فلا إشكال في عدم بطلان الصَّلاة والجماعة، وإنْ كان في أثناء قراءة الإمام، لأنّ اعتبار القراءة مخصوصٌ بحال الذّكر بمقتضى حديث (لا تُعاد الصَّلاة)، ومقتضى القاعدة عدم جواز العود للمتابعة، لاستلزامه الزيادة العمديّة.

لكن يدلّ على الجواز موثّق ابن فضّال، قال:

«كتبتُ إلى أبي الحسن الرّضا عليه السلام: في الرّجل كان خلف إمامٍ يأتمّ به، فيركع قبل أن يركع الإمام، وهو يظنّ أنّ الإمام قد ركع، فلمّا رآه لم يركع رفع رأسه ثمّ أعاد الركوع مع الإمام، أيفسد ذلك عليه صلاته، أم تجوز تلك الرّكعة ؟

ص: 96

فكتب عليه السلام: تتمّ صلاته ولا تفسد صلاته بما صَنَع»(1).

ومورده وإنْ كان هو الظانّ ، إلّاأنّه يتعدّى إلى الناسي الشريك معه في المعذوريّة في هذا الفصل، كما أنّ مورده وإن كان هو الركوع، إلّاأنّه لعدم الفصل بينه وبين السّجود، يثبت فيه أيضاً، فلا إشكال في الجواز.

أقول: إنّما الكلام في فرعين:

الفرع الأوّل: هل يجب العود أم لا؟

وقد استدلّ للأوّل بأنّ الموثّق وإنْ كان لايدلّ على الوجوب، ولا يستفاد منه أزيد من الجواز، إلّاأنّه إذا ثبت جوازه وجب للمتابعة.

وفيه: إنّه لو كان الركوع الثاني من أجزاء الصَّلاة، تمّ ذلك وإلّا فلا، لأنّ دليل وجوب المتابعة مختصٌّ بالأفعال الصلاتيّة، فتأمّل.

الفرع الثاني: هل الركوع الصلاتي هو الأوّل أو الثاني أو هما معاً؟

وجوهٌ ، أقواها الأوّل، وذلك لأنّ ركوعه الأوّل قد وقع في محلّه كما هو المفروض، فيكون ركوعاً صلاتيّاً، وكون الثاني ركوعاً صلاتيّاً يحتاج إلى دليلٍ آخر، وهو مفقود فإنّ ما دلَّ على المتابعة لا نظر له إلى ذلك، وعليه فيجب عليه الذّكر في الأوّل دون الثاني.

كما أنّه يترتّب على ذلك، عدم بطلان الجماعة لو ترك العود، وإنْ كان ركوعه في أثناء قراءة الإمام، كما لا يخفى .

***3.

ص: 97


1- تهذيب الأحكام: ج 3/277 ح 131 وص 280 ح 143.
المتابعة في الأقوال
المتابعة في تكبيرة الإحرام

المقام الثاني: في المتابعة في الأقوال، والكلام فيه يقع في مواضع:

1 - في المتابعة في تكبيرة الإحرام.

2 - في المتابعة في غيرها من الأقوال.

3 - في التسليم.

أمّا الأوّل(1): فلا ريب ولا خلاف في جواز التأخّر الفاحش. وما يظهر من الخبر المروي في «قُرب الإسناد» المتقدّم: «لا يُكبّر إلّامع الإمام»(2) من عدم جواز التأخّر لابدّ من تأويله بإرادة عدم التقدّم، وإلّا فقد اتّفقت النصوص والفتاوى على جواز ذلك، كما لا ينبغي التوقّف في عدم جواز التقدّم، لعدم تحقّق الإقتداء مع عدم الإمام، ولخبر «قرب الإسناد».

إنّما الكلام في أنّه:

هل يجوز المقارنة، أم يشترط التأخّر فيها؟

وعلى الثاني:

فهل يعتبر عدم الشروع فيها إلّابعد فراغ الإمام منها كما اختاره صاحب «الجواهر»(3)؟ أم يكفي التأخّر عن أوّلها؟

والأظهر هو الأوّل، لعدم الدليل على اعتبار التأخّر، ولخبر «قرب الإسناد».

ص: 98


1- الحدائق الناضرة: ج 11/139 (ولا ريب في الصحّة مع تأخّره بها عن الإمام).
2- قُرب الإسناد: ج 2/99.
3- جواهرالكلام: ج 13/208.

أقول: وقد استدلّ لعدم جواز المقارنة بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّه يعتبر في صحّة الجماعة وانعقادها، تحقّق الاقتداء من المُصلّي، فما دام لم يُكبِّر لا يعدّ مُصليّاً عرفاً.

وفيه: الدليل إنّما دلّ على اقتداء المأموم بالإمام في صلاته والائتمام به، ولا يتوقّف صدق ذلك على صدق اسم المُصلّي عليه عرفاً.

مع أنّ لازم هذا الوجه الذي استدلّ به للقول الثاني هو القول الثالث، إذ التكبيرة من أجزاء الصَّلاة، فبالشروع فيها يصدق الشروع في الصَّلاة، فيصدق عليه أنّه مُصلٍّ وإنْ لم يفرغ عنها.

الوجه الثاني: عدم صدق التبعيّة والإئتمام مع المقارنة الحقيقيّة.

وفيه: هذه دعوى فاسدة، فإنّ التبعيّة تصدقُ عرفاً مع المقارنة الحقيقيّة.

الوجه الثالث: الخبر المرويّ عن أبي سعيد الخُدري، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«إذا قمتم إلى الصَّلاة فاعدلوا صفوفكم، وأقيموها، وسوّوا الفُرَج، وإذا قال إمامكم: اللّه أكبر، فقولوا: اللّه أكبر، وإذا قال: سَمع اللّهُ لِمَن حَمِده، فقولوا: اللّهُمَّ ربّنا... الخ»(1).

وفيه: أنّ منشأ تخيّل دلالته على لزوم التأخّر أحد أمرين:

1 - إمّا أنّ الأمر بالتكبيرة عُلّق فيه على تحقّق التكبير من الإمام، المستفاد من إتيان الشرط بصيغة الماضي.

2 - وإمّا أنّ الجزاء صدر بالفاء، الدالّة على التأخّر.

وشيءٌ منهما لا يتمّ .5.

ص: 99


1- وسائل الشيعة: ج 8/423 ح 11075.

أمّا الأوّل: فلما تقدّم في المتابعة في الأفعال.

وأمّا الثاني: فلأنّ فاء الجزاء لا تدلّ على التأخّر الزماني.

الوجه الرابع: قوله عليه السلام في النبويّ المتقدّم: «فإذا كَبّر فكبّروا».

وفيه: مضافاً إلى عدم دلالته على لزوم التأخّر، فقد سبق عدم ثبوت اعتماد الأصحاب على النسخة المتضمّنة لهذه الجملة، ولذلك لا يعتمد عليها.

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز المقارنة.

المتابعة في سائر الأقوال

وأمّا الموضع الثاني: فالمنسوب إلى المشهور(1) جواز التقدّم في الأقوال على الإمام.

وعن «الدروس»(2) و «الجعفريّة»(3) عدم جوازه، واستدلّ (4) له:

1 - بإطلاقات معاقد الإجماعات المحكيّة على لزوم المتابعة.

2 - وبالنبويّ المتقدّم بدعوى أنّ ذكر التكبيرة فيه إنّما هو من باب المثال، كذكر الركوع والسّجود، الّذين هما مثالٌ للأفعال.

3 - وبأنّ مقتضى إمامة الإمام متابعة المأموم وعدم التقدّم عليه.

أقول: وفي الكُلّ نظر:

ص: 100


1- الحدائق الناضرة: ج 11/140 (والظاهر أنّه المشهور).
2- الدروس: ج 1/221.
3- حكاه عن الجعفريّة السيّد الحكيم في مستمسك العروة: ج 7/277 في معرض ردّه على الجعفريّة والدروس والبيان.
4- مستمسك العروة: ج 7/277.

أمّا الأوّل: فلأنّه لا مجال للتمسّك بها بعد تصريح الأكثر بخلافها(1).

وأمّا الثاني: فلما تقدّم من أنّ النسخة المتضمّنة لقوله عليه السلام: «فإذا كَبّر فكبّروا»، لم يثبت اعتماد الأصحاب عليها.

مع أنّه يُحتمل الاختصاص بالتكبيرة، من جهة أنّه ليس هناك صلاة قبلها كي تنعقد الجماعة، بخلاف سائر الأقوال.

وأمّا الثالث: فلأنّ المغروس في أذهان المتشرّعة، أنّ الإمامة المجعولة للإمام إنّما تكون بلحاظ الأفعال دون الأقوال المردّدة بين:

ما لايجب الإتيان به للمأموم كالقراءة.

وبين ما يكون الرّاجح فيه مخالفة المأموم للإمام، كالوظيفة المجعولة في الركعتين الأخيرتين.

وبين مايكون المأموم مخيّراً بين أن يختار الفرد الذي اختاره الإمام، وأن يختار غيره كذكر الركوع والسّجود.

وعليه، فالأظهر عدم وجوب المتابعة، ويؤيّده عدم وجوب إسماع الإمام للمأمومين إيّاها، بل لا يمكن في كثير من الموارد، ولو تنزّلنا عن ذلك، وشككنا في اعتباره، فإنّ مقتضى الأصل الذي أسّسناه هو العدم.

وأمّا الموضع الثالث: فقد يقال بعدم جواز التقدّم في التسليم قياساً له بالتكبير، ولكنّه مع الفارق، إذ مضافاً إلى الخصوصيّة المشار إليها في التكبيرة، المفقودة في التسليمة، يشهد لجواز التقدّم فيها:

1 - صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرّجل يكون خلف الإمام7.

ص: 101


1- مستمسك العروة: ج 7/277.

فيُطيل الإمام التشهّد؟ فقال عليه السلام: يُسلِّم مَنْ خلفه ويَمضي لحاجته إنْ أحبّ »(1).

2 - وصحيح أبي المعزا عنه عليه السلام(2)، المعمول به بين الأصحاب، كما عن «الروض»(3): «في الرّجل يُصلّي خلف إمامٍ ، فيسلِّم قبل الإمام ؟ قال: عليه السلام: ليس بذلك بأس».

وما ذكره المحقّق الهمداني رحمه الله(4) من حملهما على صورة قصد الإنفراد، يدفعه الإطلاق وترك الاستفصال.

***2.

ص: 102


1- وسائل الشيعة: ج 8/413 ح 11048.
2- وسائل الشيعة: ج 8/414 ح 11049.
3- روض الجنان: ص 379.
4- مصباح الفقيه: ج 2/65 ق 2.

ولابدَّ من نيّة الإئتمام، ويَجوزُ مع اختلافهما في الفرض. وإذا كان المأموم واحداً استحبَّ أن يقف عن يمينه، وإنْ كانوا جماعةً فخلفه،

ولابدّ للمأموم من نيّة الائتمام

المورد الثالث: قالوا: (ولابدّ) للمأموم (من نيّة الائتمام) وقال صاحب «الجواهر»(1): (بل هو مجمعٌ عليه)، وقد مرّ تفصيل القول في ذلك في شرائط الجماعة، فراجع.(2)

ويجوزُ أن يأتمّ المفترض بالمفترض مع اختلافهما في الفرض

المورد الرابع: (ويجوزُ) أن يأتمّ المفترض بالمفترض (مع اختلافهما في الفرض) كما هو المشهور بين الأصحاب(3)، وقد تقدّم تفصيل القول في ذلك في أوّل مبحث الجماعة(4) عند بيان ضابط ما يصحّ الائتمام فيه من الصّلوات وما لا يصحّ .

وإذا كان المأموم واحداً استحبَّ أنْ يقف عن يمينه

المورد الخامس: (وإذا كان المأموم واحداً استحبَّ أنْ يقف عن يمينه) أي يمين الإمام لا خلفه ولا يساره، (وإنْ كانوا جماعةً فخلفه) لا يمينه ولا يساره، كما هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة(5)، بل لم يُنقل الخلاف عن أحدٍ سوى صاحب «الحدائق»(6) وظاهر أبي علي(7).

أقول: ومستند الحكم جملة من النصوص، كصحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام: «الرجلان يؤمّ أحدهما صاحبه، يقوم عن يمينه، فإنْ كانوا أكثر من

ص: 103


1- جواهر الكلام: ج 13/230.
2- فقه الصادق: ج 8/505.
3- مدارك الأحكام: ج 4/335: (المعروف من مذهب الأصحاب)، منتهى المطلب: ج 1/367 (ط. ق) قوله: (ذهب إليه علماؤنا أجمع).
4- فقه الصادق: ج 8/492.
5- جواهر الكلام: ج 13/247 (على المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً)، رياض المسائل: ج 4/323 (ط. ق) قوله: (بإجماعنا المقطوع)، الخلاف: ج 1/544، المنتهى (ط. ق): ج 1/376.
6- جواهر الكلام: ج 13/247 (... خلافاً لظاهر المحكيّ عن أبي علي).
7- الحدائق الناضرة: ج 11/116.

إلّا العاري فإنّه يجلس وسطهم. وكذا المرأة، ولو صَلّينَّ مع الرِّجال تأخّرن عنهم،

ذلك قاموا خلفه»(1) ونحوه غيره.

وظاهر النصوص في بادئ النظر وإنْ كان هو الوجوب، إلّاأنّه بدوي يزول بملاحظة القرائن الداخليّة والخارجيّة، ولذا فهم المشهور منها ذلك.

وينبغي أن يُستثنى من استحباب الوقوف خلف الإمام موردان:

الأوّل: ما ذكره المصنّف رحمه الله بقوله: (إلّا العاري، فإنّه يجلس وسطهم) وقد تقدّم الكلام في ذلك في مبحث لباس المُصلّي مفصّلاً، فراجع.(2)

الثاني: ما أفاده بقوله: (وكذا المرأة) لو أمّت النساء فإنّها تقوم في وسط الصف.

ويشهد له: كثيرٌ من النصوص كمرسل ابن بُكير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن المرأة تؤمّ النساء؟ قال عليه السلام: نعم، تقوم وسطاً بينهنّ ولا تتقدمهن»(3). ونحوه غيره.

وظاهر الأخبار في أنفسها وإنْ كان هو الوجوب، إلّاأنّه لعدم إفتاء أحدٍ به، وورود النصوص مورد توهّم رجحان التقدّم، وغير ذلك من القرائن، تُحمل على الاستحباب.

(ولو صلينَّ مع الرِّجال تأخّرن عنهم) للأمر به في جملةٍ من النصوص، كصحيح هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«الرّجل إذا أمَّ المرأة كانت خلفه عن يمينه سجودها مع ركبتيه»(4). ونحوه غيره.8.

ص: 104


1- تهذيب الأحكام: ج 3/26 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/341 ح 10848.
2- فقه الصادق: ج 6/308 و ج 8/311.
3- وسائل الشيعة: ج 8/336 ح 10834.
4- وسائل الشيعة: ج 5/125 ح 6108.

وهذه الأخبار وإنْ كانت ظاهرة في وجوب التأخّر، إلّاأنّه يشكل البناء عليه، بناءً على عدم حرمة محاذاة الرّجل للمرأة في الصَّلاة، كما بنينا عليه،، لما يظهر من كلماتهم من التسالم على عدم الفرق بين المقامين، وعن غير واحدٍ دعوى ذلك صريحاً.

مضافاً إلى ما في نفس هذه الأخبار من الاختلاف في تحديد المقدار المعتبر من التأخّر، وغير ذلك من القرائن الصارفة عن هذا الظهور، وعليه فعدم الوجوب أقوى، والاحتياط طريق النجاة.

***

ص: 105

ويُعتبر في الإمام التكليف.

فصلٌ : في شرائط الإمام

اشارة

فصلٌ : في شرائط الإمام:

قال المصنّف: (ويعتبر في الإمام) اُمور:

التكليف

الأمر الأوّل: (التكليف)، أي يعتبر أن يكون عاقلاً بالغاً.

أمّا اعتبار كونه عاقلاً: فموضع وفاق(1)، ويشهد له - مضافاً إلى ذلك، وإلى أنّه لا عبادة للمجنون - صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«لا يُصلينّ أحدكم خلف المجنون، و ولد الزِّنا»(2). ونحوه غيره.

ولو كان أدواريّاً، فالمعروف جواز الائتمام به حال إفاقته، لعدم صدق المجنون عليه في تلك الحالة.

وقيل: بالمنع، واستدلّ له:

1 - بأنّه المتيقّن إرادته من النصوص، إذ غيره لا يحتاج إلى التعرّض له.

2 - وبإمكان عروضه حال الصَّلاة.

3 - وبأنّه لا يؤمَن احتلامه حال الجنون.

أقول: والكلُّ كما ترى، فالأظهر هو الجواز.

ص: 106


1- منتهي المطلب (ط. ق): ج 1/324 قوله: (ممّا لا خلاف فيه).
2- وسائل الشيعة: ج 8/321 ح 10784.

وأمّا اعتبار كونه بالغاً: فهو المشهور بين الأصحاب(1)، وهو بناءً على عدم شرعيّة عبادات الصبي واضحٌ ، وأمّا بناءً على شرعيّتها، كما قوّيناها فيشهد لاعتباره - مضافاً إلى انصراف أدلّة الجماعة إلى المكلّفين - خبر إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: لا بأس أن يؤذِّن الغلام قبل أن يحتلم، ولايؤمّ حتّى يحتلم، فإنْ أَمَّ جازت صلاته وفسدت صلاة من خلفه»(2)المنجبر ضعف سنده بعمل الأصحاب.

وعن الشيخ في «الخلاف»(3): تجويز إمامة المراهق، ويشهد له:

1 - خبر طلحة، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهما السلام: «لا بأس أن يؤذِّن الغلام يالذي لم يحتلم، وأن يؤمّ »(4). ونحوه خبر غياث(5).

2 - وموثّق سماعة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «يجوز صَدَقة الغلام وعتقه، ويؤمّ النّاس إذا كان له عشر سنين»(6).

ولكن يرد على الأولين: - مضافاً إلى ضعف السند - أنّهما معارضان لخبر إسحاق، المعمول به بين الأصحاب.

ويرد على الثالث: - مضافاً إلى عدم القائل بمضمونه، ووهنه بالإعراض، لا سيّما مع اشتماله على جواز صَدَقته وعتقه المخالف لفتوى القوم، والاُصول والأدلّة - أنّه7.

ص: 107


1- منتهي المطلب (ط. ق): ج 1/324 (ممّا لا خلاف فيه)، رياض المسائل (ط. ق): ج 1/235 على الأظهرالأشهر. مستمسك العروة: ج 7/316 على المشهور.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/29 ح 15، وسائل الشيعة: ج 8/322 ح 10789.
3- الخلاف: ج 1/553.
4- تهذيب الأحكام: ج 3/29 ح 16، وسائل الشيعة: ج 8/323 ح 10790.
5- الكافي: ج 3/376 ح 6، وسائل الشيعة: ج 8/321 ح 10785.
6- من لا يحضره الفقيه: ج 1/567 ح 1567.

أيضاً معارض مع خبر إسحاق، لعدم صحّة حمل قوله عليه السلام: (قبل أن يحتلم) على ما قبل عشر سنين، وخبر إسحاق مقدّمٌ ، فالأظهر هو المنع فيه.

الإيمان

الأمر الثاني: الإيمان.

أي كونه معترفاً بامامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام، واعتباره ممّا لا ريب فيه، ونُقل الإجماع عليه من جماعة(1).

ويشهد له: نصوصٌ كثيرة:

منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن الصَّلاة خلف المخالفين ؟ فقال عليه السلام:

ما هم عندي إلّابمنزلة الجدر»(2).

ومنها: صحيح البرقي، قال: «كتبتُ إلى أبي جعفر عليه السلام: أيجوزُ الصَّلاة خلف من وَقَف على أبيك وجدّك ؟ فأجاب عليه عليه السلام لا تُصلِّ وراءه»(3).

***

ص: 108


1- مجمع الفائدة: ج 3/246 وهو الإجماع، منتهي المطلب: ج 1/369 (ط. ق): (وذهب إليه علماؤنا أجمع).
2- الكافي: ج 3/373 ح 2، وسائل الشيعة: ج 8/309 ح 10749 وص 366 ح 10920.
3- تهذيب الأحكام: ج 3/28 ح 10، وسائل الشيعة: ج 8/310 ح 10753.

والعدالة

شرط العدالة
اشارة

(و) الثالث: (العدالة).

واعتبارها فيه ممّا لا خلاف فيه، بل هو المقطوع به في كلام الأصحاب، كما في «المدارك»(1)، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(2)، ويشهد له كثيرٌ من النصوص:

منها: مضمر سماعة، قال: «سألته عن رجلٍ كان يُصلّي، فخرج الإمام وقد صَلّى الرّجل ركعة من صلاة الفريضة ؟

قال: إنْ كان إماماً عدلاً فليُصلِّ ركعة اُخرى وينصرف، ويجعلها تطوّعاً، وليدخل مع الإمام في صلاته، وإنْ لم يكن إمام عَدلٍ ، فليبنِ على صلاته كماهو...)(3).

ومنها: النصوص المتضمّنة للنهي عن الصَّلاة خلف شارب الخمر والنبيذ، والأغلف، معلّلاً بأنّه ضيّع من السُنّة أعظمها، والمجاهر بالفسق والفاجر ونحو ذلك(4).

ومنها: النصوص المتضمّنة للأمر بالصلاة خلف من يُوثَقُ بدينه(5) إذ المراد

ص: 109


1- مدارك الأحكام: ج 4/347.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/145 (عند علمائنا أجمع)، منتهي المطلب (ط. ق): ج 1/370: (ذهب إليه علماؤنا أجمع).
3- تهذيب الأحكام: ج 3/51 ح 89، وسائل الشيعة: ج 8/405 ح 11027.
4- تهذيب الأحكام: ج 3/30 ح 20، وسائل الشيعة: ج 8/320 ح 10782.
5- وسائل الشيعة: ج 8/313 باب 11 و 12 و 13 من أبواب صلاة الجماعة.

بالوثوق بديانته إحراز صلاحه.

وبالجملة: فاعتبارها فيه ممّا لا ينبغي التوقّف فيه.

وهل يجوز لمن يعرف نفسه بعدم العدالة أن يتصدّى للإمامة أم لا؟

أقول: حقّ القول فيه يقتضي التكلّم في موضعين:

الأوّل: في الجواز الوضعي.

الثاني: في الجواز التكليفي.

أمّا الموضع الأوّل: فالأظهر عدم الجواز، بمعنى أنّ الإمام إذا علم بعدم عدالة نفسه لا تنعقد بصلاته الجماعة، ولا يترتّب عليها آثارها، وذلك لاعتبار العدالة، وستعرف أنّها أمرٌ واقعي يكون حسن الظاهر كاشفاً عنه، وطريقاً إليه، فمع كون الإمام فاسقاً لا يكون الائتمام متحقّقاً، وإنْ كان صلاة المأموم صحيحة لو كان مُحرِزاً لعدالته، فلو كان ذلك معلوماً للإمام فهو عالمٌ بعدم تحقّق الائتمام والجماعة، فلا يجوز له أن يرتّب آثارها.

وأمّا الموضع الثاني: فقد استدلّ على عدم الجواز بما عن «مستطرفات السرائر» نقلاً عن كتاب السياري، قال:

«قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: قومٌ من مواليك يجتمعون، فتحضر الصَّلاة فيتقدّم بعضهم فيُصلّي بهم جماعة ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان الذي يؤمّهم ليس بينه وبين اللّه طلبة، فليفعل»(1).

وفيه أوّلاً: إنّه ضعيف السند، لأنّ أئمّة الرِّجال ضعفوا السياري.5.

ص: 110


1- وسائل الشيعة: ج 8/316 ح 10775.

وثانياً: إنّه ناظرٌ إلى الحكم الوضعي، وقد ادّعى بعض المحقّقين رحمه الله(1) أنّ المراد منه إنْ من كان ذا نفس قدسيّة، بحيثُ لا يكون مقصوده من التقدّم إلّاالإتيان بالوظيفة، من دون أن يحدث له نشاط من جهة الترأس عليهم، فليُصلِّ بهم وإلّا فليَدَع.

أقول: ويشهد لذلك قوله عليه السلام بعد السؤال مرَّة ثانية: (إنْ كانت قلوبهم كلّها واحدة... إلى آخره)، فإنّ قلوب المؤمنين إنّما تتوجّه إلى أداء الوظيفة، فلو كان قلب من يتقدّم أيضاً كذلك، له أن يتقدّم، وعلى هذا فيكون الخبر أجنبيّاً عن المقام.

فتحصّل: أنّه لا دليل على الحرمة، والأصل يقتضي الجواز.

تنبيه: يتضمّن البحث في هذا المقام أبحاث دقيقة علميّة نافعة، وقد استوفينا الكلام فيها حين تدريس المباحث المتعلّقة بالاجتهاد والتقليد، وقد تصدّى لتحريرها وتقريرها وإخراجها إلى عالم الظهور، أحد الأفاضل ممّن حضروا أبحاثنا، وحيث أنّ ما كتبه وحرّره من تقريراتنا كان وافياً بما نقّحناه، مؤدّياً لما حقّقناه، فلذا أذكر في المقام عين ما كتبه في مبحث العدالة.

مفهوم العدالة
اشارة

أقول: تحقيق القول في هذه المسألة يقتضي التكلّم في مقامات.

الأوّل: في بيان مفهوم العدالة.

الثاني: في بيان الطريق إليها.

الثالث: في تنبيهات هذه المسألة.

أمّا المقام الأوّل: فالعدالة لغةً هي الاستواء والاستقامة(2)، أو ما يقاربهما

ص: 111


1- وهو المحقّق الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي في كتاب الصَّلاة: ص 527.
2- لسان العرب: 1/434، تاج العروس: 15/437.

مفهوماً، كما صرّح به غير واحدٍ(1)، بل هو ممّا لا خلاف فيه.

وإنّما الخلاف بين الأصحاب في بيان ما هو المراد من لفظها، الواقع في كلمات الشارع، وفيه أقوال:

القول الأوّل: ما هو المشهور بين العلّامة(2) ومن تأخّر عنه(3)، وهو أنّها كيفيّة نفسانيّة باعثة على ملازمة التقوى، وإنْ اختلفوا في التعبير عنها بالكيفيّة، أو الحالة، أو المَلَكة.

بل نُسِب هذا القول إلى المشهور(4)، بل إلى العلماء، أو الفقهاء، أو المؤالف والمخالف(5).

القول الثاني: إنّها عبارة عن مجرّد ترك المعاصي، أو خصوص الكبائر، وهو المحكيّ عن «السرائر»(6) وأبي الصلاح(7).

وعن المحقّق المجلسي والسبزواري:(8) أنّ هذا هو الأشهر في معناها.

القول الثالث: ما عن «المقنعة»(9)، و «النهاية»(10)، و «الوسيلة»(11)،).

ص: 112


1- كتاب الطهارة: ج 2/402 (ط. ق)، المبسوط: ج 8/217، السرائر: ج 2/117.
2- قواعد الأحكام: ج 3/494.
3- كتاب الطهارة للشيخ الأعظم: ج 2/370 (ط. ق) (هو المشهور بين العلّامة ومن تأخّر عنه).
4- مجمع الفائدة: ج 2/351: (بين علماء العامّة والخاصّة في الاُصول والفروع مشهور.. الخ).
5- كما حكاه الآخوند في كتابه: مقالة في العدالة: ص 50.
6- السرائر: ج 1/280: (وحَدّ العدل أن لا يخلّ بواجب ولا يرتكب قبيحاً).
7- الكافي في الفقه: ص 435: (واجتناب القبائح أجمع).
8- حكاه عنهما الشيخ الأعظم في رسائل فقهيّة: ص 7.
9- المقنعة: ص 725: (والعدل من كان معروفاً بالدِّين والوَرَع عن محارم اللّه عزّ و جلّ ).
10- النهاية: ص 325: (ظاهره الإيمان، ثمّ يُعرف بالستر والصلاح والعفاف، والكفّ عن البطن... وتُعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عزّ وجلّ عليها النّار من شرب الخمر، والزِّنا، والرِّبا، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف...).
11- الوسيلة: ص 230: (الاجتناب من الكبائر، ومن الإصرار على الصغائر).

والصدوق(1) من أنّها الاجتناب عن المعاصي عن مَلكةٍ .

القول الرابع: أنّها الإسلام، وعدم ظهور الفسق، وهو المحكيّ عن ابن الجنيد والمفيد(2) في كتاب «الأشراف».

القول الخامس: أنّها حُسْن الظاهر كما نُسب إلى جماعةٍ (3).

قال الشيخ الأعظم قدس سره في رسالة العدالة:(4)(الظاهر رجوع القول الأوّل إلى الثالث، إذ لا كلام في زوال العدالة بارتكاب الكبيرة، ويحدث الفسق، وحينئذٍ إنْ بقيتِ المَلَكة، ثبت اعتبار الاجتناب الفعلي في العدالة، وإنْ ارتفعت ثبت ملازمة المَلَكة للاجتناب الفعلي، فمراد الأولين من المَلَكة الباعثة على الاجتناب، الباعثة فعلاً، لا ما من شأنها أن تبعث، ولو تخلّف عنها البعث لغَلَبة الهوى ونحوها).

وفيه: إنّه لا كلام في أنّ ارتكاب الكبيرة حتّى على القول الأوّل مُضرٌّبالعدالة، إلّا أنّ ذلك لا يوجب تساوي القولين، إذ مَنْ كان فيه مَلَكة العدالة، ولم يرتكب الكبيرة، لعدم الابتلاء بها، كما إذا بلغ صاحب المَلَكة قبل أن يبتلي بها، أو لم يرتكبها لا للمَلَكة بل لاستحيائه من النّاس ونحوه، فإنّه على القول الأوّل عادلٌ ، وعلى الثالث ليس بعادل.

وأيضاً: أشكل الشيخ رحمه الله(5) في جعل الأخيرين - وهما: حُسْنُ الظاهر وعدم9.

ص: 113


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/38 ح 3280 (وتُعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عزّ وجلّ عليها النّار من شرب الخمر، والزِّنا، والرِّبا، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف وغير ذلك..).
2- راجع رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري: ص 8.
3- الحدائق الناضرة: ج 10/24 (وهو قول أكثر المتأخّرين).
4- رسائل فقهيّة: ص 10.
5- رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري: ص 9.

ظهور الفسق - نفس العدالة، بأنّه يقتضي كون العدالة من الاُمور التي يكون وجودها الواقعي عين وجودها الذهني، وهو لا يجامع مع كون ضدّها - أعني الفسق - أمراً واقعيّاً، لا دخل للذّهن فيه، وحينئذٍ لو ارتكب الشخص المعاصي في علم اللّه، من دون أن يعلمه أحدٌ، لزم كونه عادلاً واقعاً، لأنّ فيه حُسن الظاهر، ولم يظهر الفسق منه لأحدٍ، وفاسقاً واقعاً لأنّه ارتكب المعصية خفاء، مع أنّه لا يمكن الالتزام به.

وفيه: إنّ الشيخ قدس سره فرض كون الفسق أمراً واقعيّاً، ثمّ أشكل عليه بذلك، مع أنّه على هذين القولين في العدالة ليس كذلك، لأنّه ضدّ العدالة، فليس هو أيضاً أمراً واقعيّاً، ومن كان في علم اللّه مرتكباً للكبيرة مع عدم ظهور ذلك لأحدٍ، لا يعدّ فاسقاً واقعاً برغم عصيانه.

وأورد بعضٌ آخر: على كون العدالة هو حُسن الظاهر، بأنّه يلزم أن تكون العدالة من الأوصاف ذات الإضافة، ليكون شخصٌ واحدٌ عادلاً عند من حَسُن ظاهره عنده، وفاسقاً عند من لم يكن له حُسن الظاهر عنده.

ويرد عليه: أنّه لا محذور في ذلك، ويلتزم به هذا القائل، ألا ترى أنّ من يقول بأنّ حُسن الظاهر طريقٌ إلى العدالة، يقول بطريقيّته عند من كان له حسن الظاهر عنده، ويرتّب عليه آثار العدالة دون المطّلع على ارتكابه المعصية.

أدلّة كون العدالة هي حُسنُ الظاهر

أقول: قد استدلّ على كون العدالة هي حُسنُ الظاهر بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ ذلك هو مقتضى الجمع بين ما دلَّ على اعتبار العدالة في إمام

ص: 114

الجماعة، الظاهر في كونها شرطاً واقعيّاً، وما دلَّ على صحّة الصَّلاة بعدما ظهر الفسق من الإمام، فإنّه يستفاد منهما أنّ العدالة أمرٌ ظاهري غير قابل لانكشاف الخلاف، لا مَلَكة واقعيّة.

وفيه أوّلاً: أنّ الدليل إنّما يدلّ على صحّة الصَّلاة، لا صحّة الائتمام، وصحّة الصَّلاة غالباً تكون على القاعدة لحديث (لا تعاد الصَّلاة إلّامن خمس)(1)، بناءً على عدم اختصاص الحديث بالنّاسي، كما هو الحقّ عندنا.

وثانياً: لا يصحّ تعيين موضوع الحكم بذلك، بعد إمكان كون العدالة شرطاً عمليّاً لصحّة الائتمام، أو الالتزام بإجزاء الأمر الظاهري، وبعد دلالة الدليل على عدم كون العدالة هي حُسن الظاهر، فلا أقلّ من أن يكون مُجملاً، وتعيين أحدها من بينها يحتاج إلى الدليل.

الوجه الثاني: إنّ ذلك مقتضى الجمع بين ما دلَّ على اعتبار العدالة في قبول الشهادة، وبين ما دلَّ على أنّ حُسن الظاهر شرطٌ في قبول الشهادة، فيستفاد من ذلك أنّ العدالة هي حُسن الظاهر، لعدم كونهما شرطين متغايرين.

وفيه: أنّ غاية ما يدلّ عليه الطائفة الثانية، هي كفاية حُسن الظاهر في ترتيب أحكام العدالة، وهذا يلائم مع كونه طريقاً إليها، بل الظاهر من جملةٍ منها ذلك، لاحظ قوله عليه السلام:

«مَنْ عامل النّاس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يُكذَبهم، وَوَعدهم فلم يُخلفهم، فهو ممّن كمُلَت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبتْ اُخوّته، وحرُمت غيبته»(2).1.

ص: 115


1- وسائل الشيعة: ج 5/471، الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة، ح 14.
2- وسائل الشيعة: ج 12/279، كتاب الحجّ ، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 16301.

حيث أنّه عليه السلام رتّب من خلال هذا الخبر ظهور العدالة على حُسن الظاهر.

وصحيح ابن أبي يعفور الآتي، بعد تفسير العدالة بما هو ظاهرٌ في كونها أمراً واقعيّاً: «والدلالة على ذلك أن يكون ساتراً لجميع عيوبه»(1)، فان ستر العيوب هو حُسن الظاهر، ونحوهما غيرهما.

الوجه الثالث: أنّ المشهور بين الأصحاب(2) تقديم الجارح على المعدِّل عند التعارض، وعلّلوا ذلك بأنّ في ذلك تصديقاً لهما، لأنّ المعدِّل يدّعي عدم رؤيته منه شيئاً، والجارح يشهد بالرؤية، فتقديم قول الجارح ملائمٌ مع تصديق المعدل، وبديهي أنّ هذا لا يلائم إلّامع القول بأنّ العدالة هي حُسن الظاهر، وغير ملائمٍ مع كونها من الاُمور الواقعيّة.

وفيه أوّلاً: إنّه لم ترد آيةٌ ولا رواية على تقديم قول الجارح، معلّلةً بالتعليل المذكور، وما دام لم يتمّ الوجه المذكور، فلا يمكن الاعتماد عليه على تقدير القول بأنّ العدالة من الاُمورالواقعيّة، لزم عدم الاعتماد عليه، لا أن يُجعل دليلاً على أنّ العدالة من الاُمور الظاهريّة.

وثانياً: أنّ هذا التعليل يلائم مع كون العدالة هي المَلَكة، مع اعتبار عدم صدور الكبيرة منه، إمّا لأخذه قيداً فيها، أو لدليلٍ خارجي، إذ لو اُحرز وجود المَلَكة، يكفي في الحكم بتحقّق الجزء الآخر، أصالة العدم أو أصالة الصحّة، وعليه فشهادة الجارح تكون حاكمة على شهادة المعدّل، لأنّ الجارح يدّعي العلم بصدور الكبيرة، والمعدِّل لا يدّعي العلم بعدمه، وإنّما يشهد به اعتماداً على الأصل،5.

ص: 116


1- وسائل الشيعة: ج 27/391 الباب 41 من أبواب كتاب الشهادات ح 1.
2- الوجيزة في علم الدراية: ص 5.

ولا يعارض الأصلُ الدليلَ ، ولا يدّعي الجارح عدم المَلَكة حتّى يتعارضان، بل ربما يعترف بها، بل يدّعي صدور الكبيرة كما عرفت، وعليه فيتمّ ماذكروه من أنّ العمل بشهادة الجارح تصديقٌ لهما.

وثالثاً: إنّ شهادة المعدِّل ربما تكون لحُسن الظاهر، الكاشف عن المَلَكة، لا العلم بوجودها.

الرابع: قوله عليه السلام في رواية علقمة:

«من لم تره بعينِكَ يرتكبُ ذنباً، ولم يَشهَدْ عليه بذلك شاهدان، فهو من أهل العدالة والسِّتر، وشهادته مقبولة، وإنْ كان في نفسه مُذْنباً»(1).

فإنّه صريحٌ في أنّ الذّنب المُستَتر به غير منافٍ للعدالة، فالعبرة في عدالة الرّجل أن يكون ظاهره ظاهراً مأموناً.

وفيه أوّلاً: الظاهر منه إرادة بيان العدالة عند الشخص في مرحلة الظاهر، وليس ذلك إلّاببيان ماهو الطريق إليها، كما لا يخفى على المتأمِّل المُنصف.

وثانياً: إنّ الجمع بينه وبين ما دلَّ على طريقيّة حُسن الظاهر، إنّما يكون بالالتزام بذلك.

أقول: وبعدما ثبت عدم قيام الدليل على أنّ العدالة هي حُسن الظاهر أو الإسلام مع عدم ظهور الفسق، فاعلم أنّ مقتضى النصوص - المتقدّم بعضها، والآتي بعضها الآخر التي تكون متضمّنة لطريقيّة حُسن الظاهر - كون العدالة من الاُمور الواقعيّة، مع أنّ هذا يناسب مع مفهومها اللّغوي المرتكز في الأذهان، وهي:

الاستقامة، فإنّ الاستقامة العمليّة إنّما تكون بعدم الفسق واقعاً، لا عدم ظهوره للناس، فهذان القولان ساقطان.4.

ص: 117


1- وسائل الشيعة: ج 12/285 ح 16319 و: ج 27/395-396 ح 34044.
أدلّة كون العدالة هي مجرّد ترك المعاصي

قد استدلّ للقول بأنّ العدالة هي مجرّد ترك المعاصي، وعدم اعتبار المَلَكة فيها بأمرين:

الأمر الأوّل: ما عن المولى الأعظم الوحيد البهبهاني رحمه الله(1): (من أنّ حصول المَلَكة بالنسبة إلى كلّ المعاصي، إنّما يكون في غاية الندرة إنْ فرض تحقّقه، وبديهي أنّ العدالة ممّا تعمّ به البلوى، وتكثر إليه الحاجات في العبادات والمعاملات، فلو كان الأمر كما يقولون، لزم اختلال النظام، مع أنّ القطع حاصلٌ بأنّه لم يكن في زمان المعصومين عليهم السلام على هذا النهج، ألا ترى أنّه ورد في الأخبار أنّ إمام الجماعة إذا أحدث أو حَدَث له مانعٌ آخر، أخذ بيد آخر وأقامه مقامه).

ووافقه السيّد الصَّدر رحمه الله في محكي «شرح الوافية»(2)، وأوضحه بأنّ : (الوسط بين البلادة والجُربزة يُسمّى حكمة، وبين إفراط الشهوة وتفريطها هي العِفّة، وبين الظلم والانظلام هي الشجاعة، فإذا اعتدلت هذه القوى حصلت كيفيّة واحدة شبيهة بالمزاج، وبعد حصولها يلزمها التقوى والمروّة، وهذه الصِّفة الحميدة تكون في الأوحدي الذي لا يسمع الدّهر مثله إلّانادراً، والاحتياج إلى العدالة عامٌ لازم في كلّ طائفةٍ من كلّ فرقة من سكان البرّ والبحر حفظاً لنظام الشريعة).

أقول: إنّ المراد من (المَلَكة) التي فُسّرت العدالة بها، ليس ما أفاده السيّد

ص: 118


1- حكاه الشيخ الأعظم في رسائل فقهيّة: ص 25.
2- حكاه عنه الشيخ الأعظم في رسائل فقهيّة: ص 26.

الصدر رحمه الله، فإنّ ما ذكره هي العدالة الأخلاقيّة، حيث فسَّر علماء الأخلاق(1) العدالة بأنّها مَلَكة يقتدر بها العقل العَمَلي على تعديل القوى الثلاث؛ من العاقلة والشهويّة والغَضَبيّة على حسب ما يقتضيه العقل النظري، ولذا قالوا: (العدالة عند علماء الأخلاق(2) كاعتدال المزاج في القالب)، وهذه ليست معتبرة في العدالة الّتي هي موضوعٌ للأحكام الشرعيّة، لأنّها كما قيل قلّما توجد إلّافي الأوحدي في كلّ عصر ومصر، بل المراد بها الحالة الواحدة الحاصلة للنفس من خشية اللّه، باعثةً على فعل الواجبات وترك المحرّمات.

توضيح ذلك: إنّ تارك المحرّمات:

تارةً : يتركها لعدم الابتلاء بها.

واُخرى: للدّواعي النفسانيّة.

وثالثة: لحصول حالة الخوف عند كلّ معصيةٍ ، بحيث أنّه بعد ذلك يرى من نفسه عدم تأبيها عن ارتكابه، ولكن عند الابتلاء بفردٍ آخر يحصل له فردٌ آخر من الخوف يمنع عن ارتكابه.

ورابعة: يكون لوجود حالةٍ وجدانيّة مستمرّة، باعثة إلى ترك المحرّمات وفعل الواجبات، وأثرُ ذلك أنّه في حال عدم صدور المعصية، وعدم الابتلاء بها، يفرح بعدم ارتكابه المعصية حين الابتلاء، ويكون بانياً على عدم ارتكابها عند الابتلاء بها، كلّما توجّه لذلك، وهذه الرابعة هي المراد من مَلَكة العدالة.

ثمّ إنّ هذه الصفة النفسانيّة كسائر الصفات النفسانيّة، والأعراض الخارجيّة،0.

ص: 119


1- كتاب الاجتهاد والتقليد: ص 70.
2- حكاه الشيخ الإصفهاني في بحوث في الاُصول، كتاب الاجتهاد والتقليد: ص 70.

ذات مراتبَ مختلفة، أعلاها مرتبة العصمة، وأدناها العدالة المعتبرة في امام الجماعة وقبول الشهادة ونحوهما، وهي الحالة الباعثة في الحال المتعارف للإنسان، وإنْ كانت بحيث يغلب عليها إذا كان مقتضى المعصية أقوى منها في الإقتضاء، كما إذا عَرَضت له حالة كأنّه لا يملك نفسه من مخالفة الشهوة والغضب، لغَلَبة القوّة الشهويّة والغضبيّة، ولكن مع وجود تلك الحالة يندم من ذلك، وعلى هذا يُحمل ما قيل من إنّ المعصية تصدر من ذي المَلَكة كثيراً(1)، وهذه الصفة ليست نادرة في النّاس، كما ذكره الوحيد البهبهاني قدس سره بحيث يلزم من إناطة الأحكام بها اختلال النظام، بل هي متوفّرة.

الأمر الثاني: أنّ الحكم بزوال العدالة عند عروض ما ينافيها من المعصية، ورجوعها بمجرّد التوبة، أقوى شاهدٍ على أنّ العدالة ليست هي المَلَكة.

وفيه: أنّ العدالة عند القائلين بأنّها مَلَكة، ليست هي المَلَكة المجرّدة، بل هي مقيّدة بعدم عروض ما ينافيها، فعند عروضه تنعدم العدالة وإنْ كانت المَلَكة باقية، وأمّا رجوعها بالتوبة، فهو إنّما يكون لأجل ما دلَّ من النصوص على أنّ (التائبُ مِنْ الذَنب كمَن لا ذَنبَ له)، ففي الحقيقة العدالة عندهم عبارة عن المَلَكة، مع عدم كون الشخص مأخوذاً بالمعصية.

أدلّة اعتبار المَلَكة في العدالة والجواب عنها

استدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله(2) في رسالته في العدالة على اعتبار وجود المَلَكة في العدالة بوجوه:

ص: 120


1- جواهر الكلام: ج 13/296 حكاه عن المقدّس الأردبيلي.
2- رسائل فقهية للشيخ الأعظم: ص 11 وما بعدها.

الوجه الأوّل: الأصل.

والظاهر أنّ مراده منه أنّ العدالة مع ثبوت المَلَكة قطعيّة، ومع عدمها مشكوكٌ فيها، والأصل عدمها.

وفيه: إنّ هذا لو تمّ فإنّما هو إذا لم يقم دليلٌ على أحد الطرفين، وستعرف وجوده.

الوجه الثاني: الاتّفاق المنقول المعتضد بالشهرة الُمحقّقة.

وفيه أوّلاً: قد عرفت الأقوال في المسألة، فلا مجال للاعتماد على هذه الدعوى.

وثانياً: لو ثبت هذا الإجماع، لم يكن إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام.

الوجه الثالث: الأخبارالدالّة على اعتبار الوثوق بدين إمام الجماعة وورعه، مع العلم بأنّه لا يحصل الوثوق بمجرّد تركه المعاصي في جميع ما مضى من عمره، ما لم يُعلم أو يُظنّ فيه مَلَكة الترك.

وفيه أوّلاً: إنّه كما يمكن حصول الوثوق بتركه المعاصي في جميع ما مضى من عمره، كذلك يمكن حصوله بتركه إيّاها في المستقبل، لداعٍ نفساني مستمرّ.

وثانياً: أنّ مَلَكة فعل الواجبات وترك المعاصي، ربما تكون هي التديّن والخوف من العقوبة، وربما قد تكون لداعٍ آخر من تحبيب نفسه عند النّاس، أو غير مذموم، ومعروفاً بالدّيانة والصَّلاح عندهم، ومع وجود الثانية يحصل الوثوق بتركه المعاصي، مع أنّها ليست عدالة بناءً على القول بكونها مَلَكة باعثة على فعل الواجبات وترك المحرّمات.

وأمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله:(1) من أنّه إذا ترك المعصية في زمانٍ ، يُجديه الاستصحاب في ما بعده لترتيب الآثار عليه.5.

ص: 121


1- بحوث في الاُصول، كتاب الاجتهاد والتقليد: ص 75.

فيرد عليه: أنّ هذا إنّما يتمّ بالنسبة إلى ترك المحرّمات، وأمّا بالنسبة إلى فعل الواجبات فغير مُجدٍ.

الوجه الرابع: النصوص(1) الدالّة على اعتبار امتلاك الشاهد صفات الأمانة والعِفّة والصيانة والصلاح وغيرها من الصفات النفسانيّة، مع الإجماع على عدم اعتبارها زيادةً على العدالة(2).

أقول: إنّ المأمونيّة تعني كون غيره في أمن منه، فيجري فيها ما ذكرناه في الوثوق. وأمّا العفّة فسيأتي الكلام فيها فانتظر، وأمّا الصيانة فتتحقّق بصيانة الجوارح، وحفظها عن ارتكاب المعاصي، وأمّا الصلاح فعدم كونه مَلَكة أوضح من غيره، كما لا يخفى .

الوجه الخامس: صحيح ابن أبي يعفور، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: بِمَ تُعرف عدالة الرّجل بين المسلمين، حتّى تُقبل شهادته لهم وعليهم ؟

فقال عليه السلام: أن تعرفوه بالسِّتر والعَفاف، وكفّ البطن والفرج، واليد واللِّسان، ويُعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النّار، من شُرب الخمر والزِّنا وعُقوق الوالدين، والفرار من الزحف وغير ذلك، والدلالة على ذلك أن يكون ساتراً لجميع عيوبه، حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، وتفتيش ما وراء ذلك، ويجبُ عليهم تزكيته، وإظهار عدالته في النّاس، الحديث»(3).ت.

ص: 122


1- رسائل فقهيّة للشيخ الأعظم: ص 11.
2- راجع وسائل الشيعة: ج 27/391 ح 34032، باب ما يعتبر في الشاهد من العدالة.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/241 ح 1 باب البيّنات، وسائل الشيعة: ج 27/391 ح 34032 باب ما يعتبر في الشاهد من العدالة، وقد تقدّم قبل صفحات.

تقريب الاستدلال به: أنّ صدر الحديث في مقام تعريف العدالة اشتمل على ما يعدّ من الصفات النفسانيّة وهو العفاف، إذ الظاهر من هذه الصفة النفسانيّة هي الاستحياء من اللّه تعالى، فلا يجوز أن يكون أخصّ من العدالة، بل لابدّ أن يكون مساوياً لها أو أعمّ .

ودعوى: أنّ الظاهر من الحديث كونه في مقام بيان معرفة الطريق إلى العدالة، بعد كونها واضحة بحسب المفهوم، لا عن تعيين مفهومها.

مندفعة: بأنّه يتعيّن حمله على السؤال عن حقيقتها.

وبعبارة اُخرى : يتعيّن حمله على المعرّف المنطقي، لا المُعرّف الشرعي لوجهين:

الأوّل: قوله عليه السلام: (والدّلالة على ذلك كلّه... إلى آخره)، صريحٌ في كونه في مقام بيان الطريق لأنّه:

إنْ اُريد به بيان الطريق إلى العدالة، فحمل الأوّل - أي السّتر والعفاف - على بيان الطريق إليها يصبح لغواً، لكونه أخصّ ، لأنّه قد يكون ساتراً لعيوبه الظاهرة، وليس ستيراً وعفيفاً.

وإنْ اُريد به بيان الطريق إلى الأوّل، حتّى يكون طريقاً إلى الطريق، فهو أيضاً يلزم منه لغوية الطريق الأوّل، إذ لاحاجة غالباً إلى ذكر أمارة تُذكر لها أمارة اُخرى.

الثاني: أنّه لو جعله معرّفاً شرعيّاً، كان لازمه حمل الصفات المذكورة فتكون مجرّد ملكاتها معرفةً وطريقاً إلى العدالة، التي لاتكون هي حينئذٍ إلّانفس اجتناب المعاصي، وهذا بعيد غايته، لأنّ طريقيّة مَلَكة ترك المعاصي لتركها ليست من الاُمور التي تُعدّ معرّفاً منطقيّاً.

ص: 123

أقول: وأضاف إليها بعض الأعاظم(1) وجهاً آخر، وهو:

أنّ الستر والعفاف المذكورين فيه من سِنخ الملكات، وكف البطن والفرج من سِنخ الأفعال، فلو كان ذلك طريقاً إلى العدالة، لزم كون العدالة أمراً آخر وراء ماذكر، وهذا ممّا لم يقُل به أحد.

وأورد على ما ذكرناه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله(2)، وهو: (أنّ العفّة إنّما هي اعتدال القوّة البهيميّة، وهي إنّما تكون باعثة على ترك المعاصي المناسبة مع القوّة البهيميّة، ولا يُعقل أن تكون باعثة على تَرك جميع الكبائر المناسبة للقوّة البهيميّة، وغيرها من القوى، وإتيان الواجبات، فهي بهذا المعنى لازمٌ أعمّ للملكة المقصودة هنا، وعليه فلا مناص من الالتزام بعدم إرادة هذا المعنى منها في الصحيح، وحملها على إرادة معنى آخر، فلا وجه لجعلها من الصفات النفسانيّة.

وفيه: أنّ العفّة عند علماء الأخلاق، عبارة عن اعتدال القوّة البهيميّة خاصّة، ولكن في عُرف المتشرّعة، وبحسب المتفاهم العرفي، وتصريح اللّغويين، معناها أعمٌّ من ذلك، وهو الامتناع عن جميع المعاصي، ومنها ترك الواجبات.

هذا، مضافاً إلى أنّ العفّة لم تُذكر وحدها في التعريف، بل هي مع الستر الذي فسَّره الشيخ الأعظم بالإستحياء من اللّه تعالى.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق صاحب «الدُّرر» قدس سره(3)، وهو: (أنّ تلك العناوين3.

ص: 124


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 1/47.
2- بحوث في الاُصول للاصفهاني كتاب الاجتهاد والتقليد: ج 3/78.
3- راجع رسائل فقهيّة للشيخ الأعظم ص 13، وبحوث في الاُصول للاصفهاني كتاب الاجتهاد والتقليد: ج 77/3.

وإنْ كانت مشتملة على المَلَكة، فإنّه لا يقال: (رجلٌ ستير أو عفيف) إلّابالنسبة إلى من كان الستر والعفاف مَلَكة له، ولكنّها لاتدلّ على المَلَكة الخاصّة الّتي هي الديانة، لإمكان أن تكون من جهة اُخرى مثل كونه محبوباً عند النّاس أو غير مذمومٍ أو غير ذلك.

توضيح مراده: يقول رحمه الله: إنّ الحالة النفسانيّة الباعثة على فعل الواجبات وترك المحرّمات على أقسام:

تارةً : تكون لأجل وجود فضائل نفسانيّة مضادّة للرذائل النفسانيّة المقتضية لفعل ما يناسبها.

واُخرى: تكون لأجل الخشية من اللّه تعالى استشعاراً لعظمته.

وثالثة: تكون هي الاستحياء من اللّه.

ورابعة: تكون هي الخوف من العقاب.

وخامسة: تكون هي الخوف ممّا يترتّب على فعل الكبيرة، من زوال محبوبيّته عند النّاس أو غير ذلك، كما يشير إليه ما ورد من أنّ (مَنْ ترك شرب الخمر لغير اللّه تعالى ، سقاه اللّه من الرَّحيق المختوم [فقال الراوي]: فقلتُ : فيتركه لغير اللّه ؟ قال عليه السلام:

صيانةً لنفسه»(1).

وجميع هذه تكون من أقسام المَلَكة، حتّى الأخيرة منها، إلّاأنّها ليست مَلَكة حاصلة له من جهة التديّن، كيف وهي في الغالب تكون رذيلة أو كبيرة، ناشئة من تدليس أو رياء أو طلب سمعة أو طلب الجاه ونحو ذلك، وعلى ذلك فالعناوين المذكورة وإنْ كانت مشتملة على المَلَكة، إلّاأنّها لأعميّة تلك المَلَكة من مَلَكة2.

ص: 125


1- الكافي: ج 6/430 ح 8، وسائل الشيعة: ج 25/324 ح 32022.

الديانة، يمكن جعلها طريقاً تعبّديّاً إلى ثبوت العدالة، فلا موجب لرفع اليد عن ظاهر السؤال.

وفيه: - مضافاً إلى أنّه لو سُلّم كون العفّة من الملكات، فإنّه لا ريب في ظهورها في مَلَكة الديانة، دون المَلَكة التي بنفسها رذيلة - أنّ الباعث لفعل الواجبات وترك المحرّمات، حتّى الخفيّة منها كالرِّياء، لا يكون إلّامَلَكة الديانة الّتي أدنى مراتبها الخوف من العقاب، وأمّا الخوف من ترتّب مفسدة اُخرى على فعل الكبيرة، من زوال محبوبيّته عند النّاس وما ضاهاها، فإنّما يُجدي داعياً في المعاصي الظاهريّة دون الخفيّة، فالمَلَكة الباعثة لفعل الواجبات، وترك المحرّمات برمّتها ليست إلّامَلَكة الديانة.

الوجه الثالث: إنّ المذكورات في صدر الحديث، ليس شيءٌ منها من الصفات النفسانيّة:

أمّا العفاف: الذي عمدة نظر الشيخ رحمه الله إليه، فاعتباره فضيلةً للقوّة الشهويّة اصطلاحٌ أخلاقي، وإلّا فإنّ معناه في اللّغة والمتفاهم العرفي منه، ليس إلّاعبارة عن الامتناع والكفّ عن ما لا يحلّ أو لا يجمل، وفي الحديث:

«أفضل العبادة العفاف، أي كفّ النفس عن المحرّمات، وعن سؤال النّاس».

وفي جملةٍ من الروايات: «مَنْ عفَّ بطنه وفَرجه، أي صانهما عن المحرّمات...».

وفي الدُّعاء: (اللّهُمَّ حَصِّن فرجي واعفه)(1).

وبالجملة: من راجع هذه الكلمة في الروايات والأدعية، ولاحظ الاستعمالات العرفيّة، يظهر له عدم كونها من الصفات النفسانيّة، بل هي من عناوين الفعل.6.

ص: 126


1- تهذيب الأحكام: ج 1/53 ح 2، وسائل الشيعة: ج 1/401 ح 1046.

وأمّا السَّتر: فقد صرّح الشيخ الأعظم رحمه الله(1) بأنّه مرادفٌ للعفاف، فيجري فيه ما ذكرناه في العفاف.

وإنْ شئت قلت: إنّ السّتر مقابلُ الظهور، وعدم كونه من الصفات النفسانيّة واضح.

فإنْ قلت: قد ورد ذُكر السّتر في الحديث مرّتين:

الاُولى: في صدر الحديث.

الثانية: في الذيل، وهو قوله عليه السلام: (والدَّلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً... إلى آخره)، فلو حُمل السَّتر في الذيل أيضاً على ما حُمل الأوّل عليه، لزم اتّحاد الدليل والمدلول، وهو ممنوع، فلابدّ من حمله على ما يرادف الحياء.

قلت: إنّ عدم اتّحاد الدليل والمدلول، لا يتوقّف على الالتزام بذلك، فإنّه يمكن دفع هذا المحذور بأنْ يُقال: إنّ السّتر في كلا الموردين محمولٌ على معناه اللّغوي، وهو ما يقابل الظهور، غاية الأمر في المدلول محمولٌ على عدم ظهور آثار الرذائل النفسانيّة في الخارج، المساوق لعدم فعليّتها وتحقّقها في الخارج، وفي الدليل محمولٌ على عدم إظهاره للناس.

وأمّا الكفّ : فقد قال الشيخ الأعظم رحمه الله(2) في «كتاب الصَّلاة» في مبحث الجماعة: (إنّ المراد تحقّقه على وجهٍ يكون من الأوصاف الثابتة للشخص، لا من الأفعال الحادثة الصادرة عنه في زمانٍ من الأزمنة، ولا يكون ذلك إلّامع الحالة الموجبة).

وفيه: - مضافاً إلى رجوعه قدس سره عنه في ذيل كلامه، والتزامه بأنّ الكفّ مساوقٌ 8.

ص: 127


1- رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري: ص 13.
2- كتاب الصَّلاة: ج 2/258.

للاجتناب - يرد عليه أنّه لا حقيقة للكفّ سوى الإجتناب عن اختيارٍ، وأمّا كون الدّاعي إليه هي مَلَكة الديانة أو غيرها، فلا يمكن استفادته من هذا اللّفظ.

مع أنّه لو سُلّم عدم صدق الكفّ إلّامع وجود الحالة الموجبة، فإنّه لا يختصّ ذلك بما إذا كانت تلك الحالة حالة واحدة مستمرّة التي هي مَلَكة العدالة، بل يصدق مع حالة خوفٍ حاصلة على سبيل الاتّفاق، تمنعه عن الإقدام على المعصية.

فتحصّل: أنّ شيئاً من هذه الاُمور ليست من الصفات النفسانيّة، فحقيقة العدالة ليست إلّااجتناب المعاصي، وإتيان الواجبات.

أقول: ما ذكرناه وإنْ كان متيناً غايته، إلّاأنّ إتيان جميع الواجبات، وترك جميع المحرّمات - حتّى الخفيّة منها كالرِّياء - لا يكون إلّامع داعٍ إلهي وهي مَلَكة الديانة، وأمّا الحياء من النّاس، فهو إنّما يكون داعيا لترك المعاصي الظاهرة، بل لو كان الدّاعي غير إلهي، يكون بحسب الغالب نفسه من الكبائر من تدليس ونحوه، فلا يترتّب على هذا البحث ثمرة.

إنْ قلت: إنّ لازم ما ذُكر صيرورة الشخص أوان بلوغه عادلاً، إذا لم يصدر عنه فعل الحرام، وأتى بالواجبات.

قلت: العدالة التي هي بمعنى الاستقامة العَمَليّة على جادّة الشرع، وعدم الانحراف عنها يميناً ويساراً، تتوقّف على الابتلاء بالمعصية، ووجود الدّاعي إليها، ليصبح سالكاً كي يصدق عليه كونه مستقيماً، إذ غير السالك لا يصدق عليه ذلك، كما لا يخفى ، وكذلك بحسب ما ورد من تفسيرها في الصحيح، إذ العفّة والسَّتر والكفّ لا تصدق إلّامع الابتلاء، ووجود الدّاعي، أو كونه مع حالٍ تقتضي تلك الحالة ترك المعصية عند ابتلائه بها. عَصَمنا اللّه عن الزلل في القول والعمل.

ص: 128

طرق معرفة العدالة
اشارة

المقام الثاني: في بيان طُرق معرفة العدالة، وما توهّم طريقيّته، وهي بعد العلم الحاصل من المصاحبة أو الشياع، أو غيرهما، اُمور منها الإسلام مع عدم ظهور الفسق.

أقول: قد استدلّ لطريقيّته بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع القولي والعَمَلي، كما ادّعاه الشيخ قدس سره في «الخلاف»(1).

وفيه أوّلاً: إنّه لا سبيل إلى دعوى الإجماع، مع ما في كلماتهم من الاختلاف.

وثانياً: أنّ مدرك المجمعين بما أنّه معلومٌ لا يعتمد عليه، وإن ثبت الإجماع.

الوجه الثاني: أصالة عدم الفسق.

وفيه: إنّ الفسق يتحقّق بفعل المحرّم وترك الواجب، وهو في الأوّل مسبوقٌ بالعدم، وفي الثاني ليس كذلك، بل مقتضى الاستصحاب عدمه.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ العدالة حادثة، ولا مجال لإثباتها باستصحاب أمرٌ عدمي وهو عدم الفسق.

الوجه الثالث: أصالة الصحّة في أقوال المسلمين وأفعالهم، وهي تقتضي الحكم بعدم صدور الفسق، فيكون عدلاً لعدم الواسطة بينهما.

وفيه: إنّ لأصالة الصحّة معنيين:

المعنى الأوّل: حمل فعل المسلم وقوله على الوجه الحَسَن، الذى دلّت النصوص عليه.

المعنى الثاني: أنّه إذا صدر فعلٌ قابلٌ لوقوعه على وجهين: على وجهٍ يترتّب

ص: 129


1- الخلاف: ج 6/218.

عليه الأثر، وعلى وجهٍ فاسد، يُحمل على الأوّل ويُبنى عليه، وهي بكلا معنييها أجنبيّة عن المقام.

أمّا المعنى الأوّل: فلأنّ تلك النصوص إنّما تكون في مقام بيان عدم اتّهام المسلم، وعدم سوء الظنّ به، لا الالتزام بكون الصادر منه حَسَنٌ واقعاً.

وأمّا المعنى الثاني: فلأنّه إنّما يتمّ في ما إذا صدر فعلٌ قابلٌ لوقوعه على وجهين، لا في مثل المقام ممّا يكون الشكّ في أصل صدور الفعل.

الوجه الرابع: الظاهر من حال المسلم أنّه لايترك الواجبات، ولا يفعل المحرّمات.

وفيه: إنْ كان منشؤه الغلبة، فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ الغلبة مع الفسّاق.

وثانياً: أنّها لا تفيد سوى الظنّ ، وهو لا يُغني من الحق شيئاً.

وإنْ كان منشؤه غير ذلك فعلى المستدلّ البيان.

الوجه الخامس: قاعدة المقتضي والمانع، بدعوى أنّ التديّن والإعتراف بصدق النبيّ صلى الله عليه و آله، وصحّة شريعته، مقتضٍ لفعل ما أمر به، وترك ما نهي عنه، فإذا شكّ في تحقّق المقتضي بعد الشكّ في وجود المانع، وجب البناء عليه.

وفيه أوّلاً: إنّ القاعدة المذكورة لا مدرك لها.

وثانياً: الاعتراف بالنبوّة وصحّة الشريعة، ليس مقتضياً لذلك، وإنّما المقتضى له الخوف من العقاب.

الوجه السادس: إذا لم يكن الاعتماد على مجرّد إسلام المرء وعدم ظهور الفسق منه كافياً للحكم بالعدالة، لما انتظمت الاُمور والأحكام لم ينظم للحكام خصوصاً في المدن الكبيرة، وللقاضي القريب القادم اليها من بلد آخر.

ص: 130

وفيه: إنّ هذا يتمّ إذا اعتبرنا حصول العلم بها والوثوق، وأمّا لو اكتفينا بحُسن الظاهر، فلا يلزم ذلك كما لا يخفى .

الوجه السابع: إطلاق قوله تعالى: (وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (1).

بتقريب: إنّه يدلّ على الاكتفاء بشهادة كلّ أحدٍ، وقد قيّد إطلاقه بدليلٍ منفصل دالّ على اعتبار العدالة في الشاهد، فمن عُلم فسقه ترد شهادته، والمرجع فيما عداه إطلاق الآية الشريفة.

وفيه: أنّ هذا يتمّ إذا جاز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية، وأمّا على المختار من عدم جوازه، فلا يتمّ ، كما لا يخفى .

الوجه الثامن: أخبارٌ مستفيضة:

أحدها: صحيح حريز، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في أربعة شهدوا على رجلٍ مُحصَنٍ بالزِّنا، فعدل منهم اثنان، ولم يعدل الآخران ؟

فقال: إذا كانوا أربعة من المسلمين، ليس يُعرفون بشهادة الزور، اُجيزت شهادتهم جميعاً، واُقيم الحَدّ على الذي شَهدوا عليه، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا وعلموا، وعلى الوالي أن يُجيز شهادتهم، إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق»(2).

ثانيها: خبر علقمة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عمّن تُقبل شهادته، ومن لاتُقبل ؟

فقال: يا علقمة لو لم تُقبل شهادة المقترفين للذّنوب، لما قُبِلت إلّاشهادة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، لأنّهم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، ولم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من أهل العدالة والسِّتر، وشهادته9.

ص: 131


1- سورة البقرة: الآية 282.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/277 ح 164، وسائل الشيعة: ج 27/397 ح 34049.

مقبولة وإنْ كان في نفسه مذنباً»(1).

ثالثها: خبر العلاء بن سيّابة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن شهادة من يلعب بالحَمام ؟ قال عليه السلام: لا بأس به إذا كان لا يُعرف بفسق»(2).

رابعها: ما رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام إنّه قال لشُريح: «وأعلم أنّ المسلمين عدولٌ بعضهم على بعض، إلّامجلوداً بحَدٍّ لم يتُب منه، أو معروفاً بشهادة الزور أو ظنين»(3).

خامسها: حسن البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام عمّن أشهد رجلين ناصبيّين على الطلاق، أيكون طلاقاً؟

فقال عليه السلام: من ولد على الفطرة اُجيزت شهادته على الطلاق، بعد أن يُعرف منه خير»(4).

سادسها: خبر ابن المُغيرة(5)، وهو متّحدُ المضمون مع الحسن.

وهناك روايات اُخر استدلّ بها لهذا القول، ولكن لوضوح فساد الاستدلال بها أغمضنا عن ذكرها.

أقول: الجواب عن ذلك بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه لو تمّت دلالتها، لابدَّ من صرفها عن ظاهرها، وحملها على إرادة ما يجتمع مع اعتبار حُسن الظاهر، لما ستعرف من النصوص الدالّة على اعتبار ذلك.6.

ص: 132


1- وسائل الشيعة: ج 27/395 ح 34044.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/284 ح 189، وسائل الشيعة: ج 27/394 ح 34037.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/225 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/399 بعد الحديث رقم 34054.
4- تهذيب الأحكام: ج 8/49 ح 71، وسائل الشيعة: ج 22/26 ح 27930.
5- تهذيب الأحكام: ج 6/283 ح 183، وسائل الشيعة: ج 27/393 ح 34036.

الوجه الثاني: أنّه لا تتمّ دلالتها على هذا القول في أنفسها.

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر أنّ المراد من عدم معروفيّته بالفسق، عدم معروفيّته حتّى عند المعاشرين معه، وهذا ملازمٌ مع حُسن الظاهر.

وأمّا الثاني: فلأنّ صدره وإنْ تضمّن قبول شهادة المقترف بالذّنب، إلّاأنّ ذيله المتضمّن لقوله عليه السلام: (فهو من أهل العدالة والسّتر وشهادته مقبولة وإنْ كان في نفسه مذنباً)، يدلّ على اعتبار حُسن الظاهر، ويوجبُ تقييد الصدر بما إذا كان ذنبه مستوراً لا يعرفه أهله وأبناء محلّته.

وأمّا الثالث: فلما ذكرناه في الأوّل.

وأمّا الرابع: فلأنّه مجملٌ وقد استثني منه الظنين، وهو كلّ فاسقٍ ، كما يُشير إليه صحيح أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«قلت: فالفاسق والخائن ؟ قال عليه السلام: هذا يدخل في الظنين»(1).

وأمّا الأخيران: فلأنّه عليه السلام اقتصر في الجواب على بيان الحكم الكلّي، وهو أنّه تقبل شهادة من كان معروفاً بالخير والصلاح، وليس ذلك إلّاحُسن الظاهر، ولعلّ الإجابة بما لا ينطبق على السؤال من جهة التقيّة.

طريقيّة حسن الظاهر

ومنها: حُسنُ الظاهر.

ويشهد لإعتباره وكفايته جملةٌ من النصوص.

1 - صحيح ابن أبي يعفور المتقدّم، الوارد فيه قوله عليه السلام:

ص: 133


1- من لايحضره الفقيه: ج 40/3 ح 3281، تهذيب الأحكام: ج 242/6 ح 3، وسائل الشيعة: ج 374/27 ح 33981.

«والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه، حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، وتفتيش ماوراء ذلك، ويجبُ عليهم تزكيته، وإظهار عدالته في النّاس، ويكون منه التعاهد للصّلوات الخمس إذا واظب عليهنّ ، وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّامن علّة، فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصّلوات الخمس، فإذا سُئل في قبيلته ومحلّته، قالوا: ما رأينا منه إلّاخيراً، مواظباً على الصّلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه، فإنّ ذلك يُجيز شهادته وعدالته بين المسلمين الحديث»(1).

وهو صريحٌ في ذلك، ومتضمّن لبيان المراد من حسن الظاهر.

لا يُقال: إنّه اعتبر فيه عدم التخلّف عن جماعة المسلمين، وهو غير معتبر قطعاً.

فإنّه يُقال: إنّه عليه السلام علّل ذلك في ذيل الخبر بقوله: (ليس يمكن الشهادة على الرّجل بأنّه يُصلّي إذا كان لا يحضر مصلّاه، ويتعاهد جماعة المسلمين، وإنّما جُعل الجماعة والاجتماع إلى الصَّلاة، لكي يُعرف من يُصلّي ومن لا يُصلّي إلى آخره.

2 - مرسل يونس، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا كان ظاهر الرّجل ظاهراً مأموناً، جازت شهادته، ولا يُسأل عن باطنه»(2).

3 - ما في «الخصال»، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «مَنْ عامل النّاس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يُكْذبهم، وَوَعَدهم فلم يُخلفهم، فهو ممّن كَمُلَت مروّته، وظهرت عدالته»(3).6.

ص: 134


1- وسائل الشيعة: ج 27/391 ح 34032.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/16 ح 3244، وسائل الشيعة: ج 392/27 ح 33981.
3- وسائل الشيعة: ج 27/396 ح 34046.

ونحوه خبر سماعة(1).

4 - ما في جملةٍ من النصوص المتقدّم بعضها قوله عليه السلام: (إذا لم يُعرف بالفسق)، وقريبٌ منها غيرها.

أقول: وقد أورد على ذلك:

تارةً : بأنّ حُسن الظاهر ذات مراتب، أولى مرتبته مجهول الحال، وآخر مرتبته المعصوم، فأيّ مرتبةٍ منها جُعلت طريقاً إلى ثبوت العدالة ؟!

واُخرى: بأنّ الظاهر والباطن أمران إضافيّان، فالظاهر لأهل البلد باطنٌ بالنسبة إلى الغريب، والظاهر لأهل المحلّة باطنٌ لباقي أهل البلد، والظاهر للجيران باطنٌ لباقي أهل المحلّة، والظاهر لأهل البيت باطنٌ للجيران، والظاهر لزوجة الشخص باطنٌ لغيرها، وقد تكون السلسلة بالعكس(2).

أقول: الضابط هو ما ذكره عليه السلام في صحيح ابن أبي يعفور، وحاصله:

إنّ الشخص إذا كان بالإضافة إلى من عاشره وخالطه بالنسبة إلى غير ما يكون التفتيش عنه منهيّاً عنه، فاعلاً لما وجب عليه، وتاركاً لما نُهي عنه، فهو حَسنُ الظاهر.

وقد عبر عن هذه الحالة في النصوص والأخبار:

تارةً : بكونه ساتراً لعيوبه، من جهة أنّه لم يظهر منه لمن عاشره عيبٌ شرعي.

واُخرى : بكون ظاهره ظاهراً مأموناً، من جهة أنّه لم يظهر منه لأصحابه خيانة شرعيّة.1.

ص: 135


1- وسائل الشيعة: ج 27/395 ح 34041.
2- رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري: ص 41.

وثالثة: بغير ذلك.

وهذا طريق شرعي إلى العدالة، وكلّ من أحرز له ذلك بمعاشرته معه، أو أحرزه صاحبه، وجب عليه ترتيب آثار العدالة، وإنْ كان عند غيره غير محرز، فلو كان الشخص معاشراً لأهل بيته خاصّة، وكان عند معاشرته معهم لايظهر منه عيبٌ شرعي، يكون هو حَسنُ الظاهر، فهم وكلّ من أحرز هذا المعنى منه، عليهم ترتيب آثار العدالة دون غيرهم.

أقول: ومقتضى إطلاق هذه النصوص، كفاية حُسنَ الظاهر، ولو لم يفد الظنّ الفعلي، فضلاً عن الوثوق به، بل الظاهر من النصوص عدم اعتبار ذلك مع قطع النظر عن الإطلاق، لاحظ:

1 - قوله عليه السلام في مرسل يونس: (ولا يُسأل عن باطنه)(1) فإنّ الظاهر منه أنّه لايُلتفت إلى الباطن بعد كون ظاهره حَسَناً.

2 - وقوله عليه السلام فيه: (إذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً) لتوصيف الظاهر بالأمانة.

3 - وقوله عليه السلام في صحيح ابن أبي يعفور: (حتّى يحرم على المسلمين التفتيش عمّا وراء ذلك من عثراته وعيوبه).

وبالجملة: من تدبّر في النصوص، يظهر له أنّها تدلّ على عدم اعتبار إفادة الظنّ بالإطلاق وغيره.

أقول: نُسب إلى المشهور اعتبار إفادة حُسن الظاهر الظنّ الفعلي بالعدالة الواقعيّة، وقد اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله في موضعٍ من «كتاب الصَّلاة»(2)، واستدلّ 0.

ص: 136


1- تهذيب الأحكام: ج 6/283 ح 186، وسائل الشيعة: ج 27/289 ح 33776.
2- كتاب الصَّلاة: ج 2/250.

له بوجهين:

الوجه الأوّل: انصراف النصوص إلى صورة إفادته الظنّ المذكور، بدعوى ورود الأخبار مورد الغالب.

وفيه: أنّ الغلبة ممنوعة، مع أنّ الانصراف الناشيء عن غلبة الوجود، غير صالح لتقييد الإطلاق.

الوجه الثاني: قوله عليه السلام في خبر الكرخي: «مَنْ صَلّى خمس صلوات في اليوم واللّيلة في جماعةٍ ، فظنّوا به خيراً، وأجيزوا شهادته»(1).

بدعوى: أنّه يدلّ على أنّ اعتبار هذا السبب، إنّما هو لكونه مظنّة الخير.

وفيه: إنّ الأمر بترتيب الأثر، بلسان الأمر بتحصيل الظنّ ، بنفسه دليلٌ على عدم اعتبار حصول الظنّ ، وإلّا فالظنّ عند حصول السبب ليس أمراً اختياريّاً لتعلّق التكليف به.

وإنْ شئت قلت: إنّه يدلّ على أنّ حضور الشخص في الجماعة في الصّلوات الخمس بمنزلة الظنّ ، ويكون طريقاً إلى العدالة، لا أنّ طريقيّته منوطة بحصول الظنّ .

وأيضاً: وعن جماعةٍ منهم الشيخ الأعظم رحمه الله(2) في «رسالة العدالة» اعتبار الوثوق بها، واستدلّ له:

1 - بالانصراف.

2 - وبقوله - عليه السلام في مرسل يونس: (فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً...)(3).6.

ص: 137


1- وسائل الشيعة: ج 27/395 ح 34043.
2- رسائل فقهيّة: ص 42 و 43.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/283 ح 186، وسائل الشيعة: ج 27/289 ح 33776.

بتقريب: أنّ المراد به كون ظاهره موجباً للوثوق بباطنه.

وبعبارة اُخرى : كون ظاهره موجباً لحصول الأمن الفعلي، ومعلومٌ أنّه مساوقٌ للوثوق بباطنه.

3 - وبأنّه يقيّد إطلاق هذه الروايات، بما ورد في الجماعة والشهادة، ممّا دلّ على اعتبار الوثاقة بالأمانة والورع في الإمام والشاهد، مثل قوله عليه السلام: «لا تُصلِّ إلّا خلف من تثق بدينه وأمانته»(1) ونحوه غيره.

بدعوى(2): أنّ ظاهر هذه الأدلّة، اعتبار الوثوق من باب الموضوعيّة، لا من باب الطريقيّة والكاشفيّة، فإذا كان كذلك، فلا ينفع الطريق غير المفيد للوثوق.

أقول: وفي الكلّ نظر:

أمّا الأوّل: فلما تقدّم.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر من الخبر - كما تقدّم - إرادة مأمونيّة ظاهره، بمعنى عدم ظهور ما يوجب الخيانة منه شرعاً عند المعاشرة معه، إذ حينئذٍ تتّصف أفعاله الظاهرة بالأمانة وعدم الخيانة.

وأمّا الثالث: فلأنّ هذه الأدلّة - كسائر الأدلّة التي أُخذ فيها العلم أو الوثوق في الموضوع - ظاهرها اعتباره من باب الطريقيّة والكاشفيّة، ممّا يعني حكومة أدلّة حسن الظاهر عليها، كحكومة سائر أدلّة الطرق والأمارات كالبيّنة عليها.

مع أنّه لو التزمنا بأخذ الوثوق من باب الموضوعيّة، فحيثُ أنّ الدليل مختصٌّ بالائتمام، يصبح هذا شرطاً آخر في الجماعة، ويكون خارجاً عن محلّ الكلام.3.

ص: 138


1- تهذيب الأحكام: ج 3/266 ح 75.
2- الدرّ النضيد في الاجتهاد والاحتياط والتقليد: ج 2/133.

فتحصّل: أنّ الأظهر كون حُسن الظاهر طريقاً تعبّديّاً، لا يعتبر فيه الوثوق أو الظنّ بالعدالة الواقعيّة، وعليه فما أفاده جماعة من اعتبار حصول العلم أو الظنّ ممّا لا شاهد له.

طريقيّة الشهادة
اشارة

ومنها: الشهادة.

أقول: لا ريب في طريقيتها في الجملة، وتحقيق القول فيها يتمّ من خلال البحث عن عدّة موارد:

شهادة العدلين

المورد الأوّل: لا إشكال ولا خلاف في طريقيّة شهادة العدلين بالعدالة، ويشهد لها - مضافاً إلى عموم بعض أدلّتها والعموم المتقدّم - بعض نصوص الباب، المتضمّن أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يبعث رجلين من أصحابه لتزكية الشهود المجهولين، فيعمل بقولهما جرحاً وتعديلاً(1)، وهو وإنْ ورد في خصوص مورد حكم الحاكم، إلّاأنّ الظاهر بواسطة القرائن الداخليّة والخارجيّة إلغاء الخصوصيّة.

استدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله:(2) لإثبات العدالة بوجهين آخرين:

أحدهما: ما دلَّ على قبول شهادة القابلة إذا سُئِل عنها فعُدِّلت.

ثانيهما: فحوى ما دلَّ على اعتبارها في الجرح، مثل قوله عليه السلام:

«من لم تره بعينك يرتكبُ معصيةً ، ولم يَشهد عليه شاهدان، فهو مِنْ أهل السّتر والعدالة».

ص: 139


1- نقل الحديث الشيخ الأعظم في الرسائل الفقهيّة: ص 62 وص 65، تحت عنوان (إثبات العدالة بالشهادة)، وغيره أيضاً.
2- رسائل فقهيّة: ص 62.

أقول: وفيهما نظر.

أمّا الأوّل: فلعدم التعرّض فيه لما يَثبت به العدالة، وأنّ طريقه شهادة العدلين، أو الشياع المفيد للقطع، أو غيرهما.

لا يُقال: إنّ مقتضى إطلاق قوله عليه السلام: (فعُدّلت) ثبوتها بشهادة العدلين.

فإنّه يُقال: إنّ من المقطوع به عدم إرادة الإطلاق منه، بحيث يدلّ على ثبوتها بالتعديل بأيّ وجهٍ كان.

وأمّا الثاني: فلأنّه إنْ اُريد بالفحوى :

أنّ الخبر يدلّ على ثبوت العدالة بعدم شهادة الشاهدين بفسقه، فثبوتها بشهادتهما بالعدالة أولى من ذلك.

فيرد عليه: ما تقدّم من أنّ الخبر إمّا ظاهرٌ بنفسه، أو بضميمة سائر النصوص في كونه بصدد جعل الطريقيّة لحُسن الظاهر، لاحظ ما تقدّم، وعليه فلا أولويّة محرَزة كما لا يخفى .

2 - وإنْ اُريد بها أنّه يدلّ على ثبوت الفسق بشهادة شاهدين، فيدلّ بالأولويّة على ثبوت العدالة بها.

فيرد عليه: منع الأولويّة، كيف وأنّ إحراز الفسق أسهلُ بمراتب من إحراز العدالة، بل إحرازها في غاية الصعوبة، فتدبّر، فالصحيح ما ذكرناه.

وأيضاً: إنّها هل تكون معتبرة تعبّداً، حتّى لو كان الظنّ على خلافها؟ أو يشترط عدم الظنّ على خلافها؟ أو يشترط إفادتها الظنّ؟

وجوهٌ مبنيّة على ملاحظة إطلاق أدلّة اعتبارها، وانصرافها إلى صورة إفادة

ص: 140

الظنّ أو صورة عدم الظنّ بالخلاف، كذا في «رسالة العدالة» للشيخ الأعظم(1).

أقول: بناءً على ما أفاده رحمه الله(2) في وجه اعتبار إفادة حُسن الظاهر الوثوق في حجّيته، من دعوى انصراف الأدلّة، وتقييد إطلاق الأدلّة بما ورد في صلاة الجماعة، ممّا دلّ على اعتبار الوثاقة بالأمانة والورع، لابدّ له من اعتبار إفادة الوثوق في المقام:

أمّا على الأوّل: فواضح.

وأمّا على الثاني: فلأنّه إذا كان الوثوق معتبراً من باب الموضوعيّة، فلا ينفع الطريق غير المفيد للوثوق، ولو كان بيّنةً ، ولكن بما أنّ الانصراف ممنوع، وظاهر الأدلّة اعتبار الوثوق من باب الطريقيّة، فالأظهر حجيّتها مطلقاً.

وأيضاً: فصّل الشيخ الأعظم رحمه الله(1) في المقام:

بين ما إذا كان احتمال الخلاف مستنداً إلى احتمال تعمّد الكذب، فلا يعتنى به ولو كان مظنوناً.

وبين ما إذا كان احتمال الخلاف مستنداً إلى احتمال الخطأ والاشتباه فيعتبر الظنّ بالوفاق.

واستدلّ للشِّق الأوّل: بأنّ ظاهر أدلّة حجيّة الخبر، عدم الاعتناء باحتمال تعمّد الكذب، ومقتضى إطلاقها عدم الاعتناء به حتّى مع الظنّ بالخلاف.

أمّا الشِّق الثاني: فقد استدلّ لما ذهب إليه فيه بأنّ احتمال خطأ المُخبر إنّما ينفيه ظاهر حال المُخبر المعتبر عند كافّة العقلاء، وهو إنّما يختصّ بما إذا كان احتمال3.

ص: 141


1- رسائل فقهيّة: ص 62 و 63.

الخطأ موهوماً لندرة صدوره منه.

أقول: كلا الاستدلالين ممنوعان:

أمّا ما استدلّ به في الشّق الأوّل: فيرد عليه أنّ ظاهر أدلّة حجيّة البيّنة، عدم الاعتناء بكلا الاحتمالين، فتأمّل.

وأمّا ما استدلّ به في الشِّق الثاني: فيرد عليه أنّ مرجعيّة أصالة عدم الخطأ المبنيّة على بناء العقلاء ثابتة حتّى مع الظنّ بالخلاف، ألا ترى أنّ الكلام الصادر من المتكلّم يتطرّق فيه هذا الاحتمال، ومع ذلك يكون ظهوره حجّة وإنْ لم يظنّ بالوفاق، وليس للعبد الاعتذار عن مخالفة ظهور كلام المولى بعدم الظنّ بالوفاق، أو بالظنّ بالخلاف، فالأظهر حجيّتها مطلقاً.

شهادة العَدل الواحد

المورد الثاني: في شهادة العدل الواحد.

تثبت بشهادة العدل الواحد العدالة، لما عرفت في المسألة العشرين من حجيّة الخبر الواحد في الموضوعات.

وقد استدلّ لعدم حجّيته في المقام بما ورد من إرسال النبيّ صلى الله عليه و آله رجلين من أصحابه لتحقيق حال الشهود من أهل محلّتهم وقبيلتهم(1) ممّا يدلّ على أنّه لو كانت شهادة الرّجل المعدّل الواحد كافية لما أرسل رجلين.

وفيه أوّلاً: أنّ الخبر ضعيف السند.

وثانياً: أنّ فعله أعمٌّ من اللّزوم والتعيّن، كما هو واضح.

ص: 142


1- وسائل الشيعة: ج 27/239 ح 33678.
ثبوت العدالة بالشَّهادة الفعليّة

المورد الثالث: هل تثبت العدالة بالشهادة الفعليّة، بمعنى أنْ يفعل العدلان فعلاً يدلّ على عدالته، كأن يقتديا به أم لا؟

أقول: جزم الشهيد قدس سره في محكي «الدروس» بالأوّل(1)، وهو الأظهر، لصدق النبأ والخبر على الفعل كالقول، لكونه مُنبئاً ومُخبِراً عمّا في ضمير الفاعل، ولأجله يتّصف بالصدق والكذب، فيشمله ما دلَّ على حجيّة البيّنة وخبر الواحد.

وأوضح من ذلك شمول بناء العقلاء الذي هو عمدة أدلّة حجيّة الخبر للفعل، وعليه فما عن الشيخ الأعظم(2) قدس سره من انصراف الأدلّة بأجمعها إلى القول ضعيفٌ .

وأضعف منه: ما أفاده بقوله: (من أنّ إرادة تصديقه في مطلق ما يدلّك ويُنبئك عليه، ويُرشدك إليه واضح)، فان هذا لا وجه له سوى المناط، وهو غير قطعي.

ويؤيّد ما ذكرناه: أنّه لم يتأمّل أحدٌ في العمل بتعديلات أهل الرِّجال المكتوبة في كتبهم، إذ لو اختصّت الأدلّة بالقول لم يكن دليلٌ على حجيّة المكتوبات.

ودعوى(3): الفرق بينهما بأنّ الكتابة حيث أنّها نقش القول المخصوص بما له من المعنى ، فهي خبرٌ ورواية ونَبأ لكن بوجوده الكَتبي، وهذا بخلاف الفعل، فإنّه يدلّ على المعنى فقط، وليس وجوداً حقيقيّاً للخبر والرواية.

مندفعة: بأنّ الوجود الكَتبي غير الوجود الخارجي، وترتيب أثر الثاني على

ص: 143


1- الدروس: ج 1/218 قوله: (ويعلم العدالة بالشياع.. وصلاة عدلين خلفه).
2- رسائل فقهيّة: ص 59.
3- بحوث في الاُصول للاصفهاني: ج 3/132، (الأمر الثالث: في بيان طرق معرفة العدالة).

الأوّل يحتاج إلى دليل مثبت لذلك، ومجرّد المسامحة العرفيّة والعناية لا يُجدي كما لا يخفى .

استدلّ المحقّق الإصفهاني رحمه الله(1): لعدم الاكتفاء بالشهادة الفعليّة، بأنّ الفعل لايكون إلّاكاشفاً عن اعتقاد الفاعل بالعدالة، لأنّ عدالتهما لا تقتضي أزيد من ذلك، وهذا بخلاف القول، فإنّه من جهة وضع الألفاظ لنفس المعاني الواقعيّة، كاشفٌ عن الواقع، فلا يقاس الفعل في كيفيّة الدلالة على نفس المعنى بالقول، فلا يكون الفعل حينئذٍ دالّاً على أمرٍ ذي أثر بحسب المورد، لأنّ جواز الاقتداء وأشباهه مرتبة على العدالة، لا على اعتقاد المُخبر بالعدالة.

وفيه: ماحقّقناه في مبحث الوضع،(2) من أنّ حقيقته هو الالتزام بذكر اللّفظ عند إرادة تفهيم المعنى، وعليه فلا يكون اللّفظ أيضاً كاشفاً عن المعنى الواقعي، بل عن إرادة تفهيمه، فلا فرق بين القول والفعل، وعليه فالأظهر حجيّة الشهادة الفعليّة.

الشّياع الظنّي

ومنها: الشياع الظنّي.

وهو عبارة عن إخبار جماعةٍ يفيد إخبارهم الظنّ بالعدالة، والكلام فيه في مقامين:

الأوّل: حجّيته في كلّ موردٍ يعسر إقامة البيّنة عليه والعلم به، أو في جميع الموارد.

الثاني: حجّيته في خصوص المقام.

أمّا المقام الأوّل: فقد استدلّ لحجيّته بوجوه:

ص: 144


1- بحوث في الاُصول للإصفهاني: ج 3/133، (الأمر الثالث: في بيان طرق معرفة العدالة).
2- زبدة الاصول: ج 1/51.

الوجه الأوّل: مرسل يونس، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«سألته عن البيّنة إذا اُقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة من غير مسألةٍ إذا لم يعرفهم ؟

قال، فقال عليه السلام: خَمسة أشياء يجبُ الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، والمناكح، والذّبائح، والمواريث والشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته، ولا يسأل عن باطنه»(1).

بتقريب: أنّ المراد من الحكم هي النسبة الخبريّة، وظهور هذه النسبة عبارة عن الشيوع والاستفاضة، فيدلّ المرسل على أنّه يجوز الأخذ بهذا الظهور الخبري في هذه الاُمور الخمسة.

وفيه: الظاهر منه إرادة النسبة من الحكم لا الخبريّة، وظهور النسبة عبارة عن ظهور الحال، وهو غير ظهور الخبر عنها وشيوعه، ألا ترى أنّه ربما تكون عدالة زيد أو ولديّته لعمرو ظاهرة، دون أن يكون الخبر عنها شائعاً.

والشاهد على إرادة ذلك من الحكم - مضافاً إلى ظهوره في ذلك - قوله عليه السلام في ذيل المرسل: (فإذا كان ظاهره... إلى آخره)، فإنّه صريحٌ في أنّ المراد من الظاهر ما هو في قبال الباطن، هذا وقد ورد في بعض نسخ «التهذيب»(2): (ظاهر الحال) بدل (ظاهر الحكم)، وعليه فالأمر أوضح، فيكون المتحصّل من الخبر أنّه في هذه الموارد الخمسة يجوز الأخذ بظاهر الحال، ففي مورد الشهادات مثلاً إذا كان الشاهد ظاهر الصلاح عند النّاس تقبل شهادته.0.

ص: 145


1- تهذيب الأحكام: ج 6/283 ح 186، وسائل الشيعة: ج 27/289 ح 33776.
2- كما حكاه الإصفهاني في بحوث في الاُصول: ج 3/140.

الوجه الثاني: صحيح حريز المتضمّن لقصّة إسماعيل، وفيه:

«فقال إسماعيل: يا أبة إنّي لم أره يشرب الخمر، إنّي سمعتُ النّاس يقولون، فقال عليه السلام: يا بُني إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول في كتابه: (يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (1) يقول:

يُصدّق اللّه ويُصدّق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم، ولا تأتمن شارب الخمر»(2).

بتقريب: أنّه عليه السلام امر بترتيب آثار الواقع على مجرّد قول النّاس، الذي هو عبارة عن الشياع، وجعل عليه السلام من يقول النّاس عنه إنّه يشرب الخمر شارباً للخمر.

وفيه: إنّ المأمور به ليس ترتيب آثار الواقع بأجمعها، بل خصوص ماينفع المُخبَر إليه، ولا يضرّ المُخبَر عنه.

وبعبارة اُخرى : لا ملازمة بين تصديق المُخبِر المأمور به في الخبر وبين العمل على طبق قوله.

أقول: ويشهدُ لما ذكرناه قوله عليه السلام في خبرٍ آخر:

«كذِّب سَمْعَك وبَصَرك عن اخيك، فإنْ شَهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولاً وقال: لم أقُله، فصدّقه وكذّبهم»(3).

فإنّه أمر بتكذيب خمسين قسامة، وتصديق قول الواحد، وليس ذلك إلّالما ذكرناه، فتدبّر.

الوجه الثالث: أنّ الظنّ الحاصل من الشّياع، أقوى من الظنّ الحاصل من البيّنة العادلة.3.

ص: 146


1- سورة التوبة: الآية 61.
2- الكافي: ج 5/299 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/82 ح 24207.
3- الكافي: ج 8/147 ح 125، وسائل الشيعة: ج 12/295 ح 16343.

وفيه: إنّه لم يثبت كون ملاك حجيّة البيّنة إفادتها الظنّ ، بل الثابت خلافه، كما تقدّم.

الوجه الرابع: إجراء دليل الانسداد في كلّ ما يعسر إقامة البيّنة عليه، كالنسب والوقف.

بتقريب: أنّ تحصيل العلم فيها عَسِرٌ، وكذلك البيّنة العادلة، ويلزم من إجراء الأصل من أصالة عدم النسب، أو عدم الوقف، الوقوع في خلاف الواقع كثيراً، والاحتياط متعذّرٌ أو متعسّر، فلا مناص عن التنزّل إلى مرتبة الظنّ ، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وفيه: إنّ المقدّمة الثانية لا تفيد، ما لم ينضمّ إليها فرض أنّ الوقوع في خلاف الواقع مناف لغرض الشارع، إذ لو لم يُحرز ذلك كما في باب الطهارة لما كان مانع من إجراء الأصل، وحيث أنّ هذا غير ثابتٍ ، فلا يتمّ هذا الدليل.

فتحصّل: أنّه لا دليل على حجيّة الشياع الظنّي مطلقاً، ولا في كلّ ما يعسر إقامة البيّنة عليه.

أمّا المقام الثاني: فقد استدلّ الشيخ الأعظم(1) قدس سره - في «كتاب الصَّلاة»، في مسألة العدالة على حجّيته في خصوص المقام - بوجوه:

1 - ما استدلّ به على حجيّة مطلق الظنّ بالعدالة.

2 - ما ورد في ذيل رواية ابن أبي يعفور، من قوله عليه السلام: (فإذا سُئل عنه في قبيلته ومحلّته قالوا ما رأينا منه إلّاخيراً)(2).

3 - ما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يبعث رجلين لتحقيق حال الشهود المجهولين من2.

ص: 147


1- كتاب الصَّلاة: ج 2/272.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/38 ح 3280، وسائل الشيعة: ج 27/391 ح 34032.

أهل محلّتهم وقبيلتهم، وكان صلى الله عليه و آله يقبل قولهما إذا رجعا بخبر(1).

4 - السيرة المستمرّة الجارية من ترتيب آثار العدالة على الشخص، بمجرّد التسامع والتظافر، فإنّ الخلق الكثير يقتدون بالإمام في الصَّلاة ولم يشهد عند كلّ أحدٍ عَدْلان على عدالة الإمام، بل لم يحصل لهم إلّاالظنّ بالتسامع ونحو ذلك، وأيّده بقوله عليه السلام: (مَنْ وُلد على الفطرة وعُرِف بالصّلاح)(2).

أقول: وفي الكلّ مناقشة.

أمّا الأوّل: فلما سيأتي من عدم الدليل عليها.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر من ذيل الصحيح، وهو قوله عليه السلام: (ويكون منه التعاهد للصّلوات الخمس، إذا واظبَ عليهنّ ، وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة المسلمين، وأنْ لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّامن علّة، فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصّلوات الخمس، فإذا سُئل عنه في قبيلته ومحلّته، قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصّلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه، فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين»(3)، إنّما هو سوقه لبيان طريقٍ نافع للعدالة لمن ليس له معاشرة مع شخص إلّافي أوقات حضور الصَّلاة مع الجماعة، وأنّ حضوره للجماعة دليلٌ شرعاً على كونه تاركاً لما نهى اللّه تعالى عنه، وعاملاً بكلّ ما أمر اللّه تعالى به، فيكون قوله عليه السلام: (فإذا سُئل... إلى آخره) غاية مترتّبة على لزوم مصلّاه، وتعاهده لحضوره الجماعة، ويكون المراد منه: أنّ من تعاهد لذلك يكون لا محالةت.

ص: 148


1- وسائل الشيعة: ج 27/239 ح 33678.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/284 ح 188، وسائل الشيعة: ج 27/393 ح 34036.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/241 ح 1 باب البيّنات، وسائل الشيعة: ج 27/391 ح 34032 باب ما يعتبر في الشاهد من العدالة، وقد تقدّم قبل صفحات.

مذكوراً بالخير بين النّاس، وحُسن الظاهر عندهم، ويشعر بذلك تصديره بالفاء.

وبعبارة اُخرى : إنّ هذه الجملة من الرواية في مقام جعل الطريقيّة للتعاهد لحضور الجماعات، وأنّ ذلك يوجب كونه حَسَن الظاهر بين المسلمين، وقوله عليه السلام:

(فإنّ ذلك يُجيز شهادته) جوابٌ لقوله: (فإذا كان كذلك... إلى آخره)، لا لقوله: (فإذا سُئل عنه).

وعليه، فيكون المتحصّل منه أنّه إن تعاهد الصّلوات، وصار بحيث إذا سُئل عنه قالوا ما رأينا منه إلّاخيراً، فإنّه تجيز شهادته.

وإنْ أبيتَ إلّاعن كون المراد بقوله: (فإذا سُئل... إلى آخره) كون خبر خيره وصلاحه وعدالته شائعاً، وجعل ذلك طريقاً لثبوت العدالة، فهو لم يَجعل وحده طريقاً، بل مع التعاهد لحضور الجماعات، فلا يمكن الاستدلال به للمقام، كما هو واضح.

وأمّا الثالث: فلأنّه ضعيف السند، مع أنّ الظاهر أنّ المراد به قبول شهادة الرّجلين إذا أخبرا بكون الشاهد المجهول ظاهر الصلاح عند قومه، لا أنّ الشائع عندهم كونه صالحاً.

وأمّا الرابع: فلأنّ دعوى ثبوت السيرة من المتشرّعة المبالين بأمر الدِّين، واتّصالها بزمان المعصومين عليهم السلام عليترتيب آثارالعدالة بمجرّد الشياع الظنّي، ممنوعة.

وأمّا الأخير: فلأنّ المعروف بالصلاح غير ظهور خبر صلاحه، هذا لو كان المراد به معروفيّته بالصلاح بين النّاس، ويمكن أن يكون المراد به معرفة من يريد ترتيب الآثار على صلاحه، وعليه فعدم إشعاره بما ادّعى أوضح.

وبالجملة: الأظهر أنّ الشياع الظنّي لا يعدّ من طرق ثبوت العدالة.

ص: 149

الوثوق بالعدالة

ومنها: الوثوق بالعدالة.

أقول: استدلّ الشيخ الأعظم(1)، لطريقيته:

1 - بقوله عليه السلام: «لا تُصلِّ إلّاخلف من تثق بدينه»(2).

2 - وبقوله عليه السلام: «إذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته»(3)، بتقريب أنّ ظاهر هذا الخبر جواز شهادته فيما لو كان ظاهره موجباً للوثوق بباطنه.

3 - وبقوله عليه السلام: «مَنْ عامل النّاس فلم يظلمهم(4)... إلى آخره»، بتقريب أنّه لا يجب التآخي غير الثقة المُعتمد، فقوله في ذيله: (وجبت اُخوّته) يدلّ على اعتبار حصول الوثوق.

4 - وبأنّه المتيقّن من جميع الإطلاقات الدالّة على حُسن الظاهر.

أقول: وفي الكلّ مناقشة.

أمّا الأوّل: فلاختصاصه بصلاة الجماعة، والمدّعى أعمّ من ذلك، وما قيل من إنّه لا إطلاق له، فلعلّه الوثوق الخاص، والحاصل من البيّنة أو الطريق المعتبر الآخر، وإنْ كان يرد على من التزم بتقييد حجيّة تلك الطرق بصورة إفادتها الوثوق، ولكن لا يرد على ما اخترناه من حجيّتها مطلقاً، إذ عليه لو التزم بإرادة الوثوق الخاص، اللّغوية أو تقييد أدلّة تلك الطرق بما إذا أفاد الوثوق، كما لا يخفى .

ص: 150


1- رسائل فقهيّة: ص 64.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/266 ح 75، وسائل الشيعة: ج 8/315 ح 10771.
3- تقدّم آنفاً.
4- تقدّم آنفاً.

وأمّا الثاني: فلِما مرَّ من أنّ ظاهره إرادة كون ظاهره ظاهراً مأموناً، من حيث عدم ظهور الخيانة منه شرعاً عند المخالفة، فراجع.(1)

مع أنّه لو تمّ ما ذكرناه، فإنّما يدلّ على طريقيّة حُسْنِ الظاهر، الموجب لمطلق الوثوق لا الوثوق المطلق، وبه يظهر ما في الأخيرين.

مضافاً إلى أنّه يرد على الأوّل منهما: أنّ الظاهر منه وجوب التآخي من له ظاهرٌ حَسَن، وإنْ لم يثق به، ولم يدلّ دليل على عدم وجوب التآخي مع غير الثقة المعتمد.

ويرد على ثانيهما: أنّ تلك الأدلّة إنّما تدلّ على طريقيّة حُسن الظاهر من غير دخل لحصول الوثوق منه فيها.

وبالجملة: فالصحيح أن يُستدلّ لحجيّته ببناء العقلاء على العمل مع الوثوق معاملة العلم، ولذا قيل إنّه علم عادي، ولازم هذا حجّيته في جميع الموارد.

الظنّ بالعدالة

ومنها: الظنّ بالعدالة.

أقول: قد استدلّ على طريقيّته لثبوتها بوجهين(2):

الوجه الأوّل: أنّ باب العلم بالعدالة منسدٌّ، ولا يجوز الرجوع في جميع موراد الجهل بها إلى أصالة عدمها، وإلّا لبطل أكثر الحقوق، بل ما قام للمسلمين سوق، فيتعيّن الرجوع فيها إلى الظنّ .

وفيه: إنّ ذلك يتمّ لو لم يجعل الشارع طريقاً تعبّديّاً إليها، وقد جعل ذلك لما تقدّم

ص: 151


1- صفحة 145 من هذا المجلّد.
2- رسائل فقهيّة: ص 64.

من حجيّة حُسن الظاهر وغيره، ومعه لا يتمّ المقدّمة الاُولى، إذ باب العلم وإنْ كان منسدّاً إلّاأنّ باب العلمي مفتوح.

الوجه الثاني: خبر الكرخي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَنْ صَلّى خمس صلوات في اليوم واللّيلة في جماعةٍ ، فظنّوا به خيراً وأجيزوا شهادته»(1).

وفي خبرٍ آخر: «فظُنّوا به كلّ الخير»(2).

والإيراد عليهما: بضعف السند في غير محلّه، إذ الأخير وإنْ كان مرسلاً، إلّاأنّ الأوّل مسندٌ، والمشهور وإنْ حكموا بضعفه، إلّاأنّ الأظهر خلافه.

تقريب الاستدلال بهما: أنّ الأمر بالظنّ لا يعقل، لأنّه عند حصوله يكون سببه خارجاً عن الاختيار، فيدلّان بدلالة الإقتضاء على أنّ الظنّ بكون الرّجل من أهل الخير والصلاح، سببٌ لترتّب أحكامه، وأنّ حضوره الجماعة بمنزلته.

وفيه: إنّهما لورودهما في مقام بيان حكم المُنزل لا المنزّل عليه، لا إطلاق لهما من تلك الجهة، وعليه فلابدّ من الأخذ بالمتيقّن، وهو حجيّة خصوص الظنّ القوي، المُعبّر عنه عرفاً بالوثوق.

فتحصّل: أنّه لا دليل على طريقيّة الظنّ .

تعديل الشخص بقيام الطريق إلى عدالته

تتميمٌ : هل يجوز تعديل الشخص بمجرّد قيام الطريق إلى عدالته عنده من حَسُن الظاهر والبيّنة وغيرهما أم لا؟

ص: 152


1- وسائل الشيعة: ج 27/395 ح 34043.
2- وسائل الشيعة: ج 8/286 ح 10680 وفيه: (فظنّوا به خيراً).

وجهان، أقواهما الأوّل، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه وإنْ لا كلام في أنّ المأخوذ في موضوع جواز الشهادة، هو العلم بالمشهود به، للنصوص الكثيرة الدالّة عليه، إلّاأنّ الظاهر منها أنّ العلم مأخوذٌ على وجه الطريقيّة، لا على وجه الصفتيّة، خلافاً للشيخ الأعظم رحمه الله، إذ الظاهر منها أنّ النظر فيها إلى ثبوت الواقع، لا تحقّق هذا الوصف من حيث هو، وعليه فبناءً على ما اخترناه تبعاً للشيخ الأعظم رحمه الله(1) من قيام الطرق والأمارات بأدلّة اعتبارها مقام القطع الطريقي المحض، والمأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة، تجوز الشهادة مستندة إلى أيّة أمارة قائمة على الشيء، بل بناءً على ما حقّقناه من قيام الاُصول(2) المحرزة مقام القطع المأخوذ في الموضوع من حيث أنّه مقتضٍ للبناء العملي، والجري على وفق ما تعلّق القطع به، لا من حيث أنّه انكشاف للواقع، تجوز الشهادة مستندةً إلى الاستصحاب، إذا ثبت كون العلم المأخوذ في الشهادة مأخوذاً على هذا النحو.

وعلى ذلك، فالنصوص الدالّة على جواز الشهادة - مستندةً إلى الاستصحاب الذي عقد لها في «الوسائل» باباً في كتاب الشهادات - يمكن تطبيقها على القواعد.

وكيف كان، فلا ينبغي التوقّف في جواز الشهادة مستندةً إلى الأمارة.

أقول: وبما ذكرناه ظهر ضعف ما في «ملحقات العروة»(3) من استدلاله على عدم جواز الشهادة بالمِلْك، بالاستناد إليها، بأنّه لإعتبار العلم في الشهادة لا يجوز6.

ص: 153


1- كتاب الصَّلاة: ج 2/271 قال: (... حيث دلَّ على أنّ البناء في الشهادة بصلاح شخص، رؤيته مواظباً للصّلوات في الجماعة).
2- زبدة الاصول: ج 4/10.
3- تكملة العروة الوثقى: ج 2/75، مسألة 16.

ذلك، بل الشهادة المستندة إليها تعدّ تدليساً محرّماً.

الوجه الثاني: قوله عليه السلام في موثّق حفص، الوارد في مقام بيان جواز الشهادة بالمِلْك مستندة إلى اليد:

«فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير مِلْكاً لك ؟ ثمّ تقول بعد المِلْك: هو لي، وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار مِلْكه مِنْ قِبَله إليك ؟!»(1).

فإنّ ظاهر ذلك، هو التلازم بين جواز ترتيب الأثر في عمل نفسه، وجواز الشهادة به لغيره.

الوجه الثالث: النصوص الخاصّة الواردة في المقام:

1 - ففي صحيح ابن أبي يعفور المتقدّم(2)، بعد قوله عليه السلام: (والدليل على ذلك كلّه أن يكون ساتراً... إلى آخره) قال: (ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته).

2 - وأيضاً فيه: (ولولا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد بالصلاح).

3 - وفي خبر «الخصال» بعد قوله عليه السلام: (إذا حدّثهم فلم يُكْذِبهم... إلى آخره)، قال: (وجب أن يظهروا في النّاس عدالته)(3).

4 - جاء في الخبر المتضمّن إرسال النبيّ صلى الله عليه و آله رجلين من أصحابه لتحقيق حال الشهود إنّهما ربما كانا يرجعان بخيرٍ، لما رأوا مَنْ ذَكَرهم بالخير في قبيلتهم، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله يقبل ذلك منهما.

فإنّ هذه النصوص برغم أنّ موردها حُسن الظاهر والشياع، إلّاأنّه يثبت في غيرهما من الأمارات بضميمة عدم القول بالفصل.

وعليه، فالأظهر جواز تعديل الشخص بقيام الطريق على عدالته، بل الأظهر7.

ص: 154


1- تهذيب الأحكام: ج 6/261 ح 100، وسائل الشيعة: ج 27/292 ح 33780.
2- تقدّم آنفاً.
3- الكافي: ج 2/239 ح 28، وسائل الشيعة: ج 27/396 ح 34047.

جوازه لو استصحب عدالته.

بيان اُمور:
اعتبار المروّة في العدالة وعدمه

أمّا المقام الثالث: فهو في بيان اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ المشهور بين من تأخّر عن العلّامة رحمه الله(1) اعتبار المروّة في مفهوم العدالة، حيث عرّفوها بأنّها (هيئة راسخة تبعثُ عليملازمة التقوى والمروّة) وهو الذي يلوح من عبارة «المبسوط»(2)، كذا في رسالة العدالة للشيخ الأعظم رحمه الله أيضاً(3).

وفي «الجواهر»(4): ففي «الذخيرة» و «الكفاية» دعوى الشهرة على اعتبارها في عدالة الشاهد والإمام.

بل عن «الماحوزيّة»(5) نقل حكاية الإجماع على ذلك.

وظاهر «المفاتيح»(6) أنّ المشهور جعلها جزءٌ من مفهوم العدالة.

وعن صريح جماعة، وظاهر آخرين كالمفيد(5) والحِلّي(6) والصدوقين(7)والمحقّق في «الشرائع» و «النافع»(8)، والعلّامة في «الإرشاد»(9)، وولده في موضعٍ

ص: 155


1- رسائل فقهيّة: ص 17.
2- المبسوط: ج 8/217.
3- رسائل فقهيّة: ص 17.
4- جواهر الكلام: ج 13/301. (5و6) جواهر الكلام: ج 13/301.
5- المقنعة: ص 725.
6- السرائر: ج 1/280 قال: (وحَدّ العدل أن لا يخلّ بواجبٍ ولا يرتكب قبيحاً) وفي: ج 2/117 قال: (يعتبر المروّة).
7- من لا يحضره الفقيه: ج 3/38، المقنع ص 114.
8- الشرائع: ج 4/868، المختصر النافع ص 279.
9- إرشاد الأذهان: ج 2/156.

من «الإيضاح»(1)، والشهيد في «نُكت الإرشاد»(2) وغيرهم: عدم اعتبار المروّة في العدالة، بل هو المنسوب(3) إلى المشهور بين من تقدّم على العلّامة، وهو الذي اختاره جمعٌ من محقّقي من تأخّر عن الشيخ الأعظم رحمه الله.

أقول: قول الفصل في المقام أنّ المروّة تُطلق على معنيين:

المعنى الأوّل: معناها اللّغوى وهي الإنسانيّة أو ما يقاربها، فهي من مادّة (المراء) ويطلق على الرّجل والمراة، فما في «المنجد» وعن «الصحاح» من تفسيرها بالرجوليّة أو كمالها خطأ واشتباه.

والمراد من الإنسانيّة في المقام، هو ما يقتضي الاعتدال في القوى الثلاث:

العاقلة والشهويّة والغضبيّة، إذ الإنسان إذا وافق قوّته الغضبيّة كان سَبُعاً، كما أنّه إذا وافق قوّته الشهويّة كان بهيمةً ، فالمروّة هي الصفة الجامعة لمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وركوب المروّة بهذا المعنى يعدّ من فضائل النفس، كما أنّ ركوب ما ينافيها يُنبئ عن رذيلة نفسانيّة، وهي بهذا المعنى لا تعتبر في العدالة قطعاً، لما مرّ من عدم اعتبار العدالة الأخلاقيّة المرادفة لهذا المعنى، وأنّها غير العدالة الشرعيّة.

وعلى هذا يُحمل ما ورد في بعض النصوص من أنّ المروّة ستّة:

«ثلاثة في الحضر، وثلاثة في السّفر، أمّا التي في الحضر: فتلاوة القرآن، وعمارة المسجد، واتّخاذ الإخوان في اللّه، وأمّا التي في السّفر: فبذل الزاد، وحُسن الخُلُق، والمزاح في غير المعاصي»(4). وقريبٌ منه غيره.7.

ص: 156


1- إيضاح الفوائد: ج 1/149.
2- نقل عنه الشيخ الأنصاري في رسائله: ص 19 ذلك، إلّاأنّه في الدروس: ج 2/125 قال: (... تبعث عن ملازمة التقوى والمروّة)، وكذلك الذكرى: ص 230.
3- رسائل فقهيّة: ص 19: (لو ادّعى المشهور... لم يستبعد ذلك منه).
4- وسائل الشيعة: ج 11/436 ح 15197.

وكذا ما في خبر هشام، عن الإمام الكاظم عليه السلام: «لا دين لمن لا مروّة له، ولا مروّة لمن لا عقل له»(1).

إذ مَنْ لا عقل له ليس له ما به يمتاز فعل ما ينبغي فعله عن فعل ما لا ينبغي فعله، فليس له الصفة المعبّر عنها بالإنسانيّة، ومن ليس له تلك ليس له دين.

وبالجملة: المروّة التي استعملت في النصوص اُريد بها هذا المعنى .

المعنى الثاني: ما هو المصطلح في هذا الباب، وهو أنْ لا يفعل ما يتنفّر النفوس عنه عادةً ، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، وخلاف المروّة بهذا المعنى :

تارةً : يستلزم الطعن في عِرْض الرّجل، كما إذا لبس فقيهاً كبيراً ثياب المهرّجين والسَّفلة من غير داعٍ إلى ذلك وخرج إلى السوق.

واُخرى : يقتضي نقصان عقل فاعله.

وثالثة: لا يوجب شيئاً من ذلك، وإنّما يكون ممّا يُستهجن عادةً من دون قبح شرعي أو عقلي فيه، كالأكل في الأسواق ونحوه.

أمّا الأوّلان: فلا كلام في منافاتهما للعدالة، أمّا الأوّل، فللأمر بحفظ العِرْض، وأمّا الثاني فواضح.

وأمّا الأخير: فقد استدلّ على منافاته للعدالة، وأخذ المروّة في مفهومها بوجوه:

منها: أنّ منافيات المروّة، منافية لمعنى العدالة التي تعني عرفاً ولغةً الاستواء والاستقامة، فإذا كان الرّجل بحيث لا يُبالي بالأشياء المنكرة عرفاً، لا يعدّ من أهل الاستقامة لديهم، فلا يشمله ما أُخذ في موضوعه العدالة.ل.

ص: 157


1- الكافي: ج 1/19 جزء من حديث طويل.

وفيه: إنّ العدالة الشرعيّة، هي الاستقامة على جادّة الشرع، وعدم الميل عنها يميناً وشمالاً، لا مطلق الاستقامة، فخلاف المروّة لا ينافي مثل هذه العدالة.

نعم، ربما يكشف ذلك عن رذيلة نفسانيّة، كقصر الهمّة ونحوه، فهو ينافي العدالة الأخلاقيّة، التي عرفت أنّها أخصّ من العدالة الشرعيّة.

ومنها: قوله عليه السلام في صحيح ابن أبي يعفور: «أن تعرفوه بالسَّتر» بتقريب أنّ المراد منه ستر العيوب الشرعيّة والعرفيّة.

وفيه: إنّه بعدما لا ريب في عدم إرادة ستر كلّ شيء، وإرادة ستر العيوب، لا محالة يكون المراد منه ستر العيوب الشرعيّة، لأنّه المتبادر منه كما لا يخفى .

ومنها: قوله عليه السلام فيه: «وكَفّ البطن والفَرْج واليد واللِّسان»(1)، بناءً على أنّ منافيات المروّة غالباً من شهوات الجوارح.

وفيه: المراد بكفّ الجوارح، ليس كفّها عن كلّ ما تشتهيه حتّى المباحات، بل المراد كفّها عن المحرّمات والمعاصي.

ومنها: قوله عليه السلام في الصحيح: «والدلالة على ذلك أن يكون ساتراً لجميع عيوبه»، فان ارتكاب منافيات المروّة عيبٌ عند العرف.

وفيه: إنّه لا ينبغي التوقّف في عدم إرادة كلّ ما يعدُّ منقصة من العيوب، وإلّا لزم تخصيص الأكثر، فلا محالة يكون المراد به العيوب الشرعيّة، مضافاً إلى أنّها المنساق منها عند إطلاقها في كلمات الشارع الأقدس.

مع أنّه لو تمّت دلالة هذه الفقرة، كان لازمها دخلها في الطريق المُثبت لها، لا في مفهومها، كما لا يخفى .2.

ص: 158


1- وسائل الشيعة: ج 27/391 ح 34032.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم اعتبار المروّة في مفهوم العدالة.

وقد يُقال: إنّ ركوبها معتبرٌ في طريقيّة حُسن الظاهر، ومع فقدها لا يكون حُسن الظاهر كاشفاً، فإنّ فعل منافي المروّة يكشف عن قلّة المبالاة بالدِّين، بحيث لا يوثّق معه بالتحرّز عن الكبائر.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من طريقيّة حُسن الظاهر، وإنْ لم يفد الظنّ الشخصي، فضلاً عن الوثوق، وعليه فلا وجه لاعتباره، كما هو واضح.

وثانياً: إنّ عدم المبالاة بعادات النّاس، لا يكشف عن عدم المبالاة وأخذ الحيطة في الدِّين.

ولو أغمضنا عن جميع ما ذكرناه، وسَلّمنا ظهور ما تقدّم في اعتبارها في العدالة أو طريقها، لا مناص عن صرفها عن ظاهرها، إذ قوله عليه السلام في خبر علقمة: «فمن لم تَرهُ بعينك يرتكب ذنباً، ولم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من أهل العدالة والسّتر، وشهادته مقبولة»(1) يكون حاكماً عليها.

ويؤيّده: جملةٌ من النصوص الواردة في باب الشهادات، الدالّة على كفاية الاجتناب عن العيوب الشرعيّة، كصحيح حريز:

«إذا كانوا أربعة من المسلمين، ليس يُعرَفون بشهادة الزور، اُجيزت شهادتهم»(2)، ونحوه غيره.

وبالجملة: الأقوى عدم اعتبارها في العدالة ولا في طريقها.

***9.

ص: 159


1- وسائل الشيعة: ج 27/395-396 ح 34044.
2- الكافي: ج 7/403 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/397 ح 34049.
كلام حول الكبيرة والصغيرة
اشارة

الأمر الثاني: قد اشتهر بينهم التفصيل بين الكبيرة والصغيرة، وأنّ الكبيرة فعلها منافٍ للعدالة مطلقاً، وأنّ الصغيرة لا تنافيها إلّامع الإصرار.

أقول: والكلام في هذا الأمر يقع في جهات:

انقسام المعاصي الى كبائر وصغائر

الجهة الاُولى: نُسب إلى المشهور(1) انقسام المعاصي الى كبائر وصغائر.

وعن «مفتاح الكرامة»(2) نسبتهُ إلى قاطبة المتأخّرين.

وعن «مجمع الفائدة والبرهان»(3) نسبته إلى العلماء.

وعن جماعة من الأصحاب، منهم المفيد، والقاضي(4)، والتقي(5)، والشيخ في «العدّة»(6)، والطبرسي(7)، والحِلّي(8) إنكار ذلك، وأنّ المعاصي جميعها كبيرة، والاختلاف بالكبر والصغر إنّما هو بالإضافة إلى معصيه اُخرى، ونَسب الشيخ(9)ذلك إلى الأصحاب، وكذلك الطبرسي في المجمع(10).

ص: 160


1- مستند الشيعة: ج 8/83 (... ولا يحتاج إلى معرفة الكفّ عن جميع المعاصي، وهو ظاهر الأكثر) مستمسك العروة: ج 7/333 (المشهور)، غنائم الأيّام: ج 2/32.
2- مفتاح الكرامة ج 3 القسم 1 ص 88 (ط. ق) (الإيمان والعدالة) قوله: (.. وعلى ذلك نصّ جمهور الأصحاب).
3- مجمع الفائدة: ج 2/353.
4- كما هو ظاهر القاضي في المهذّب: ج 2/557 كتاب الشهادات.
5- حكاه عنه في مفتاح الكرامة: ج 8/283 (ط. ج).
6- العدّة: ج 2/617 (ط. ج).
7- تفسير مجمع البيان: ج 3/70: (وإلى هذا ذهب أصحابنا).
8- السرائر: ج 2/118.
9- العدّة: ج 2/617 (ط. ج).
10- تفسير مجمع البيان: ج 3/70: (وإلى هذا ذهب أصحابنا).

قال ابن إدريس الحِلّي:(1) - بعد ذكره كلام الشيخ في «المبسوط» الظاهر في انقسام الذّنوب إلى كبائر وصغائر -: (هذا القول لم يذهب إليه رحمه الله إلّافي هذا الكتاب، ولا ذَهَب إليه أحدٌ من أصحابنا، لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلّابالإضافة إلى غيرها).

وقد استدلّ للأوّل:

1 - بقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (2).

2 - وبالأخبار الصحيحة الصريحة في ذلك:

منها: صحيح ابن أبي يعفور المتقدّم: «ويُعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد اللّه عليها النّار»(3).

ومنها: حسن ابن محبوب، قال: «كتبَ معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله عن الكبائر كم هي وما هي ؟

فكتب: الكبائر مَنْ اجتَنَب ما وَعَد اللّه عليه النّار كفّر عنه سيّئاته إذا كان مؤمناً»(4).

ومنها: أخبار محمّد بن مسلم(5)، وأبي بصير(6)، والحلبي(7)، وعُبيد بن زرارة(8)،5.

ص: 161


1- السرائر: ج 2/118، المبسوط: ج 8/217.
2- سورة النساء: الآية 31.
3- وسائل الشيعة: ج 27/391 ح 34032.
4- الكافي: ج 2/276 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/318 ح 20628.
5- وسائل الشيعة: ج 15/322 ح 20633.
6- وسائل الشيعة: ج 15/324-325 ح 20643.
7- الكافي: ج 2/276 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/315-316 ح 20620.
8- وسائل الشيعة: ج 15/327-328 ح 20655.

ومسعدة بن صَدَقة(1)، وعبد العظيم بن عبد اللّه الحَسَني(2) الواردة في تعداد الكبائر، وغير ذلك النصوص.

أقول: أمّا الآية الشريفة فيمكن أن يُقال:

المراد بالكبائر فيها جميع المعاصي.

والمراد من السيّئات المُكفّر عنها؛ سيّئات المؤمنين قبل نزول الآية.

فيكون المتحصّل من الآية: أنّكم إذا اجتنبتم هذه الكبائر التي ذكرناها في هذه السّورة، نكفِّر عنكم ما وقع منها منكم في الماضي، فيكون مساق هذه الآية الشريفة مساق قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) (3).

وأيضاً يمكن أن يكون المراد بها: أنّكم إذا عزمتم على اجتناب جميع المعاصي، واجتنبتموها، كفّرنا عنكم سيّئاتكم السابقة عليها.

ويحتمل أن يكون المراد بالسيّئات: نيّة المعصية، فيكون المراد: إن تجتنبوا جميع المعاصي، نُكفِّر ما نويتم فعله من المعاصي.

قال الشهيد رحمه الله في «القواعد»(4): (لا يؤثّر نيّة المعصية عقاباً ولا ذمّاً ما لم يتلبّس بها، وهو ممّا ثبت في الأخبار العفو عنه).

ويحتمل أن يكون المراد بالكبائر: المعاصي التي لم يستغفر منها، ومقابلها ما تاب عنها.

ففي حسن ابن أبي عمير، عن الإمام الكاظم عليه السلام: «من اجتنب الكبائر من7.

ص: 162


1- الكافي: ج 2/280 ح 10، وسائل الشيعة: ج 15/324 ح 20640.
2- وسائل الشيعة: ج 15/318 ح 20629.
3- سورة الأنفال: الآية 38.
4- القواعد والفوائد: ج 1/107.

المؤمنين، لم يُسأل عن الصغائر، قال اللّه تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا) (1)...

قال النبيّ صلى الله عليه و آله: لا كبير مع الاستغفار، ولا صغير مع الإصرار»(2).

وقد فسّر عليه السلام فيه الإصرار بأنّ من لم يندم عليها كان مُصرّاً، والمُصرّ لا يغفر له.

أقول: ويشهد لإرادة جميع المعاصي من الكبائر:

1 - مضافاً إلى الخبر الحسن، وما هو مثله مضموناً.

2 - ما دلَّ على أنّ كلّ معصيةٍ لا تخلو إمّا أنّها كبيرة أو شديدة، فقد جاء في موثّق زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «الذّنوب كلّها شديدة»(3).

3 - وما دلَّ على التحذير من استحقار الذّنب، معلّلاً بأنّه قد يكون غضب اللّه فيه، ففي النبويّ : «ولا يستقلنّ أحدكم شيئاً من المعاصي، فإنّه لا يدري في أيّها سَخَط اللّه»(4). ونحوه غيره.

4 - وما دلَّ على أنّ الكبائر ما أوعد اللّه عليه النّار، كحسن ابن محبوب المتقدّم، بضميمة الآية الشريفة: (وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (5) فإنّها متضمّنة للإيعاد بالنّار على كلّ معصية.

أقول: وبما ذكرناه ظهر الجواب عن صحيح ابن أبي يعفور، وحسن ابن محبوب، وحمل هذه النصوص على إرادة الإيعاد على شيءٍ بالخصوص خلاف الظاهر، يحتاج إلى قرينة، مع أنّ من جملة ما ذكر في صحيح عبد العظيم من الكبائر،3.

ص: 163


1- سورة النساء: الآية 31.
2- وسائل الشيعة: ج 15/335-336 ح 20675 بتصرّف.
3- الكافي: ج 2/269-270 ح 7، وسائل الشيعة: ج 15/299 ح 20567.
4- وسائل الشيعة: ج 15/313 ح 20614.
5- سورة الجنّ : الآية 23.

ما لم يتوعّد اللّه عليه النّار بالخصوص، فإنّ جملةٍ منها لم يتعرّض القرآن لعقوبتها، ككتمان الشهادة، وجملةٍ منها نَطَق الكتابُ بعقوبات اُخر عليها غير النّار، كأكل الرِّبا والغَلول والسِّحر وغيرها.

وأمّا النصوص المتضمّنة لتعداد الكبائر، فهي من جهة ما فيها من الاختلاف على خلاف المطلوب أدلّ ، وقد عقد صاحب «الوسائل» في كتاب الجهاد باباً لتعيين الكبائر(1)، اشتملت نصوصه على أربعين أو أكثر، وهي مختلفة في عددها، وستمرّ عليك.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر أنّ كلّ ذنبٍ كبير، وأنّ الاختلاف بالكبر والصغر إنّما هو بالإضافة إلى معصية اُخرى .

ما به تمتاز الكبيرة عن الصغيرة

الجهة الثانية: - على القول بانقسام المعاصي إلى الكبائر والصغائر - البحث عمّا تمتاز به الكبيرة عن الصغيرة شرعاً؟ وقد ذكر الشيخ الأعظم رحمه الله(2) أنّها تمتاز باُمور:

الأوّل: النَّص المعتبر على أنّها كبيرة، كما ورد في بعض المعاصي.

الثاني: النَّص المعتبر على أنّها ممّا أوجب اللّه عليه النّار.

الثالث: النَّص في القرآن على ثبوت العقاب عليها بالخصوص.

الرابع: دلالة العقل والنقل على أشدّية معصيتها ممّا ثبت كونه من الكبيرة أو مساواتها معه.

ص: 164


1- راجع وسائل الشيعة: ج 15 باب 46 من أبواب جهاد النفس ص 318.
2- رسائل فقهيّة: ص 44.

الخامس: ورود النَّص بعدم قبول شهادة عليه.

أقول: المناط الواقعى لصيرورة المعصية كبيرة، كون مفسدتها قويّة، والموجب ذلك لصيرورة مبغوضيّتها شديدة، المترتّب على ذلك كون العقوبة المترتّبة عليها عظيمة.

وأمّا الكاشف عن ذلك في مقام الإثبات: فالضابطالكلّي الذي ذكر في النصوص، هو أنّ كلّ ما أوعد اللّه عليه النّار فهو كبير، كما ورد في جملةٍ من الصحاح أنّ الذّنب الكبير هو: «كلّ ما أوجبَ اللّه عليه النّار»(1).

وقد يُقال: إنّ الأوّل أخصّ من الثاني، من جهة أنّ إيجابه تعالى العقاب وإثباته كما يصدق مع إيجابه نفسه كذلك، يصدق لو جعل العقاب من النبيّ صلى الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام بتفويضٍ منه تعالى إليهما، وهذا بخلاف الإيعاد والإخبار، فإنّ إيعاد كلٍّ من اللّه تعالى والمعصوم عليه السلام إيعاده بنفسه، لا إيعادٌ مِنْ قِبل غيره، وعلى ذلك فالضابط الثاني أعمّ من الأوّل.

ولكن لو أُخذ بالظاهر، كان ظاهر الثاني أيضاً إيجاب اللّه تعالى بلا واسطة، ولو بُني على التصرّف، أمكن التصرّف في الأوّل بجعل إيعاده تعالى أعمّ من إيعاده بنفسه أو بإخبار المعصوم عليه السلام عن إيعاد اللّه تعالى ، فالحقّ أنّهما ضابط واحد.

أقول: ثمّ إنّ المراد بايعاد اللّه تعالى وإيجابه هو المعنى الأعمّ ، لأنّه مقتضى الجمع بين هذه النصوص، وبين صحيح عبد العظيم الحسني، المرويّ في «الكافي» وغيره، لاستدلاله عليه السلام فيه على اعتبار ترك الصَّلاة من الكبائر بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «مَنْ ترك الصَّلاة متعمّداً فقد بَرئ مِنْ ذمّة اللّه وذمّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(2).4.

ص: 165


1- الكافي: ج 2/277 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/322 ح 20633.
2- الكافي: ج 2/287 جزء من ح 24.

اللّهُمَّ إلّاأن يُقال: إنّ المراد من إيعاد اللّه أعمٌّ من إيعاده تعالى بنفسه في الكتاب صريحاً، أو بضمّ بعض الآيات إلى بعض، ففي المثال المقصود من الصحيح إثبات الكبرى بما ورد في قوله تعالى : (وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً * لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً) (1)، لأنّ من خرج عن ذمّة اللّه فليس له عهدٌ منه تعالى ، والجمع بين الصحيح المشار إليه، وبين النصوص المتضمّنة أنّ الضابط لمعرفة الكبائر إيعاد اللّه عليها النّار - لما فيه من عَدّ جملةٍ من المعاصي من الكبائر الّتي نصّ في الكتاب بترتيب عقوبات اُخر عليها، كما يظهر لمن راجعه - يقتضي حمل النّار على العذاب الاُخروي.

فتحصّل: أنّ الضابط في معرفة الكبيرة أن يُقال، إنّها:

(كلّ ما أوعد اللّه - ولو بواسطة النبيّ أو الإمام - عليه العذاب الأخروي).

وعلى ذلك فسائر الاُمور التي ذكرها الشيخ الأعظم في مقام الضابط غير الأخير تُرجع الى الأوّل.

أمّا الثاني والثالث: فواضحٌ .

وأمّا الرابع: فلأنّه إذا ثبت أشدّية معصيةٍ ممّا أوعد اللّه تعالى عليه، لا محالة تكون هي ممّا أوعد اللّه عليه بالفحوى .

وأمّا الأخير: فهو ليس ميزاناً:

أمّا بناءً على كون فعل الصغيرة مضرّاً بالعدالة فواضح.

وأمّا بناءً على عدم إضراره بها، فلأنّ تلك النصوص، تدلّ على أنّ المعصية الفلانية كالفسق مانعة عن قبول الشهادة، وليس المانع منحصراً في الفسق، كي7.

ص: 166


1- سورة مريم: الآية 86-87.

تدلّ على أنّ تلك المعصية موجبة للفسق لتكون كبيرة.

فتحصّل: أنّ الضابط الوحيد هو ما في جملةٍ من النصوص، وهو كون الفعل ممّا أوعد اللّه تعالى عليه النّار.

اشتراط العدالة باجتناب جميع المعاصي

الجهة الثالثة: المعروف بين القائلين بانقسام الذّنوب إلى الكبائر والصغائر، أنّ فعل الصغيرة لا يقدح في العدالة، بل ادّعى الشيخ الأعظم رحمه الله(1) في «كتاب الصلاة» إجماعهم عليه.

أقول: قد استدلّ لذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ الآية الشريفة تدلّ على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وعليه ففعل الصغيرة، من المُجتَنب عن الكبائر، يعدّ دائماً من المقتضي المقرون بالمانع، الذي لا يؤثّر ارتكابه، وهو أولى من التوبة، لأنّها رفع وهذا دفع.

توضيح ذلك: لا إشكال في أنّ فعل المعصية لا يكون موجباً لعدم اتّصاف الفاعل بالعدالة لو تاب وندم، بل إنّما يكون موجباً لذلك ما دام هو مطالب بتلك المعصية، فإذا فرضنا رفع المطالبة، فإنّه لا مانع من اتّصاف الفاعل بالعدالة، ولهذا لا كلام في أنّ المعصية التي تاب عنها مرتكبها لا تكون موجبة لعدم اتّصاف الفاعل بالعدالة، وعلى هذا فبما أنّ فعل الصغيرة من المُجتَنِب عن الكبائر لا يعدّ معصيةً يكون فاعلها مأخوذاً بجريرتها، بل لا يكون مطالباً ومحاسباً على تلك المعصية، فلا يضرّ ذلك بالعدالة، ولا يوجب ارتفاعها.

ص: 167


1- كتاب الصَّلاة: ص 405 و 404.

وإنْ شئت قلت: إنّ المعصية التي لا توجب البُعد عن المولى كالصغيرة، لا تكون سبباً لرفع العدالة.

وفيه: إنّ غاية ما يمكن استفادته من الآية والرواية - على فرض صحّة انقسام الذّنوب - إنّما هو عدم العقاب على فعل الصغيره من المُجْتَنِب عن الكبائر، فيكون سبيل هذه الآية سبيل ما دلَّ على تكفير الأعمال الصالحة للسيّئات، من غير فرق بين الكبائر والصغائر، ولا تدلّ على عدم مبغوضيّة الفعل، ولا على عدم كونه موجباً للبُعد عن اللّه تعالى، ولا على عدم كونه موجباً للانحراف عن جادّة الشرع.

وعدم العدالة إنّما يدور مدار ذلك، لا مدار العقاب، فلا يكون من المقتضي المقرون بالمانع، وهذا بخلاف التوبة، فإنّها توجبُ اتّصاف فاعل المعصية بالعدالة، لما دلّ على أنّ (التائبُ من الذّنب كمَن لا ذنبَ له)، فهي توجبُ عود الفاعل إلى جادّة الشرع بعد الانحراف عنها، وعليه فلا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

الوجه الثاني: قوله عليه السلام في صحيح ابن أبي يعفور في مقام تعريف مفهوم العدالة:

«وتُعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد اللّه عليها النّار»(1).

أقول: قوله عليه السلام: (وتُعرف... إلى آخره)، إمّا أن يكون معرّفاً للعدالة، أو معرِّفاً لمعرّفها، أو تتمّةً له، وعلى كلّ تقدير لا يصحّ الاستدلال به.

أمّا على الثاني: فلأنّه عليه لا يدلّ إلّاعلى أنّ اجتناب الكبائر طريقٌ إلى ثبوت العدالة، وأمّا أنّها بأيّ شيءٍ تَثبت، فلابدّ فيه من الرجوع إلى صدر الصحيح، وهو بإطلاقه يدلّ على أنّ حقيقة العدالة ليس إلّاستر جميع المعاصي.

وأمّا على الثالث: فلأنّه بعد ذكر السَّتر والعفاف، الَّذين عرفتَ أنّ مقتضى2.

ص: 168


1- وسائل الشيعة: ج 27/391، ح 34032.

إطلاقهما ترك جميع العيوب الشرعيّة بعدم فعلها، فذكر ذلك إمّا لشدّة الإهتمام بالمعاصي الكبيرة، أو للتنبيه على التلازم الغالبي بين ترك جميع الكبائر وبين ترك جميع المعاصي.

ولعلّ السرّ فيه: أنّ المعاصي الكبيرة مقرونة غالباً بالدّواعي النفسانيّة الدنيئة، والقوى الحيوانيّة دون الصغائر، فمن كانت درجة إيمانه بدرجةٍ توجب ترك جميع الكبائر، لا محالة يترك الصَّغائر التي يكفي في تركها أُولى درجات الإيمان، فلا يدلّ على عدم إضرار الصغيرة بالعدالة.

وأمّا على الأوّل: فلأنّه وإنْ كان يمكن تصحيحه بنحوٍ لا يرد عليه ما أورده الشيخ الأعظم رحمه الله بقوله(1): (إمّا أن يُراد من المعرّفين كليهما معنى واحد، وإمّا أن يُراد من كلّ منهما معنى، وعلى الأوّل يلزم التكرار، وعلى الثاني يلزم تغاير الشارحين لمفهوم واحد) بأنْ يُقال:

إنّ السَّتر والعفاف والكف من العناوين المتولّدة من ترك المعاصي مع وجود الدّاعي بمدافعة الهوى ، وترجيح جانب الترك على الفعل.

وبعبارة اُخرى : يصدر مثل هذا التصرّف لداعي حفظ النفس، وصونه من الانحراف عن جادّة الشرع.

وعليه، فالمعرّف الأوّل هو العنوان التوليدي، والثاني هو المعنون، فيكون المتحصّل من الصحيح أنّ الاستقامة العمليّة على جادّة الشرع تُعرف بأحد الأمرين المتلازمين:

إمّا بالصون المتقدّم رتبةً على الإجتناب.4.

ص: 169


1- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ج 2/404.

أو بنفس الإجتناب.

إلّا أنّه يتعيّن أن يقال عن مثل هذا التصرّف الصادر منه بأنّ التعبير باجتناب الكبائر إنّما يكون للملازمة الغالبيّة بين تركها وترك جميع المعاصي، لما في صدر الصحيح من تفسير العدالة بالسّتر، الذي هو عنوانٌ لعدم فعل شيء من المعاصي، ولمفهوم قوله في خبر علقمة: (فمَنْ لم تره بعينك يرتَكبُ ذنباً)، ولا أقلّ من الإجمال، ممّا يوجب عدم صحّة الاستدلال به.

الوجه الثالث: ما يستفاد من كلمات بعض أكابر المحقّقين، وهو(1) أنّ الذّنوب التي ليست في أنظار أهل الشرع كبيرة، يتسامحون في أمرها عادةً ، فكثيراً ما لا يلتفتون إلى حُرمتها حال الارتكاب، أو يلتفتون إليها ولكن يكتفون في ارتكابها بأعذار عرفيّة، كالخروج عن مجلس الغيبة حياءً ، فالظاهر أنّ ذلك لا ينافي اتّصاف بالفعل عرفاً بكونه من أهل السّتر والعفاف، وهذا بخلاف الكبائر.

واستُشهد له: بأنّ المتبادر من إطلاق كون الرّجل عَدْلاً في الدِّين، ليس إلّا إرادة كونه كافّاً نفسه عن مطلق ما يراه معصية، ومجتنباً عن كلّ ما هو كبيرٌ، ولم يظهر من صحيح ابن أبي يعفور ولا من غيره من الأخبار ما ينافي ذلك، فمَن شَهد أهل العرف - الذين اُلقي إليهم الخطاب بإشهاد ذوي عدل منهم - بكونه موصوفاً بهذه الصفة، جرى عليه حكمه، وإنْ كانت شهادتهم بذلك مبنيّة على بعض المسامحات المغتفرة لديهم، كسائر الموضوعات التي تعلّق بها حكمٌ شرعيّ ممّا يتحمّل المسامحات العرفيّة.

وفيه: لا اعتبار بالمسامحات العرفيّة في تطبيق المفهوم على المصداق، بل5.

ص: 170


1- كمصباح الفقيه: ج 2/675 ق 2، وكتاب الاجتهاد والتقليد للسيّد الخوئي: ص 275.

تُضرب على الجدار، ولا يعتنى بها، فبعد كون مفهوم العدالة هو الاستقامة على جادّة الشرع، فإنّ مسامحة أهل العرف في عَدّ الانحراف اليسير استقامة لا يُعتنى بها، مع أنّه في صدر كلامه يُقرّ بأنّ صدور الصغيرة إذا كان عن عمدٍ والتفات تفصيلي إلى حرمتها كالكبيرة منافٍ للعدالة، وعليه فلا وجه لما أفاده من أنّ أهل العرف يكتفون في ارتكابها بأعذار عرفيّة، كما لا يخفى .

فتحصّل: أنّ الأظهر كون فعل الصغيرة مضرّاً بالعدالة كالكبيرة على فرض صحّة الانقسام إليهما.

الإصرار على الصغائر
اشارة

الجهة الرابعة: المشهور(1) أنّ الإصرار على الصغائر من الكبائر.

أقول: والكلام في هذه الجهة يقع في موردين:

الأوّل: في حكم الإصرار.

الثاني: في موضوعه.

حكم الإصرار

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله(2) على كونه من الكبائر بوجوه:

منها: قوله عليه السلام: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار»، الوارد في خبري ابن سنان(3) وابن أبي عُمير(4)، وحديث المناهي(5).

ص: 171


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 2/353 (عند العلماء)، جواهر الكلام: ج 13/294، فقد نقل عن مصابيح الظلام أنّه المشهور بين الأصحاب.
2- رسائل فقهيّة: ص 48: (ويدلّ عليه - قبل الإجماع المحكيّ عن التحرير - وغيره النصوص الواردة).
3- وسائل الشيعة: ج 15/338 ح 20681.
4- وسائل الشيعة: ج 15/335 ح 20675 قوله عليه السلام: (مَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُسْأَلْ عَنِ الصَّغَائِرِ».
5- وسائل الشيعة: ج 15/312 ح 20610.

تقريب الاستدلال: إنّ النفي في الصغيرة راجعٌ إلى خصوص وصف الصغريّة وإن كان في الكبيرة راجعاً إلى نفي ذاتها حكماً.

وفيه: إنّه لا يدلّ على أنّ الإصرار بنفسه من الكبائر، وإنْ كان المُصرّ عليه من الصغائر، لأنّه إنّما ينفي الصغيرة ذاتها، أو وصف صِغَرها، وعليه فلابدّ من الالتزام بأنّ النفي فيه أيضاً راجع إلى نفي ذاتها حكماً، لا إلى وصف الصِغَريّة، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: وحدة السياق.

الوجه الثاني: أنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه، فالصغيرة بسبب الإصرار لا تنقلب كبيرة، كما أنّ مفسدتها الضعيفة بسببه لا تنقلب قويّة كي تصير كبيرة.

الوجه الثالث: عدم التزام أحدٌ بذلك، فإنّهم إنّما التزموا بأنّ الإصرار من حيث إنّه أمن مِن مَكر اللّه بنفسه يعدّ من الكبائر، لا أنّه يصبح سبباً لصيرورة المُصرّ عليه من الكبائر، فهذه الجمله تدلّ على أنّ الإصرار يوجب رفع أثر الصغيرة وهو التكفير باجتناب الكبائر، وهذا لا يلزم كون الإصرار بنفسه محرّماً، فضلاً عن كونه من الكبائر كي يستدلّ به عليه، فتدبّر.

ومنها: قول أبي جعفر عليه السلام في الخبر المروي في «تحف العقول»:

«الإصرار على الذّنب أمنٌ مِن مكر اللّه فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُون»(1). بضميمة ما ورد من أنّ الأمنَ لمَكر اللّه من الكبائر(2).

وفيه: مع الإغماض عمّا في سنده، إنّه مختصٌّ بالإصرار على الكبائر، إذ الإصرار على الصغيرة بعد كونها مكفّرة باجتناب الكبائر، وعدم مؤأخذة الشارع8.

ص: 172


1- حكاه عن التحف غير واحد منهم الوافي: ج 26/283-284، الآية 99 من سورة الأعراف.
2- راجع وسائل الشيعة: ج 15 باب 46 من أبواب الجهاد من ص 318.

على فعلها، لا يكون أمناً مِنْ أخذه تعالى ، فيتّحد مفاده مع ما في حَسن ابن أبي عُمير، عن الإمام الكاظم عليه السلام:

«والمُصرّ لا يُغفر له، لأنّه غير مؤمّنٍ لعقوبة ما ارتكب ولو كان مؤمّناً بعقوبة لنَدِم»(1).

وعليه، فهو يختصّ بالإصرار على الكبائر.

ومنها: قوله عليه السلام في الحسن كالصحيح إلى الفضل بن شاذان، في تعداد الكبائر:

«والإصرار على صغائر الذّنوب»(2).

وفيه: المذكور في هذا الخبر: (والإصرار على الذّنوب) لا (الإصرار على صغائر الذّنوب)، بل العبارة الأخيرة واردة في خبر الأعمش(3).

وعليه فأقول: أمّا ما ورد في الخبر الحسن، فمقتضى إطلاقه وإنْ يفيد أنّ الإصرار على الصغيرة يعدّ من الكبائر أيضاً، إلّاأنّه للتعليل لذلك في حَسن ابن أبي عمير وخبر «تحف العقول» بما يختصّ بالإصرار على الكبائر، كما عرفت، يختصّ هذا أيضاً به، كما لا يخفى .

وأمّا خبر الأعمش، فإنّ الاستدلال به على القول بعدم كونه من الكبائر أولى ، لأنّ الوارد في هذا الخبر قوله:

«قال عليه السلام: والكبائر محرّمة، وهي الشرك باللّه وقتل النفس.....، والملاهي التي تصدّ عن ذِكر اللّه عزّ وجلّ مكروهة، كالغناء، وضرب الأوتار، والإصرار على 3.

ص: 173


1- التوحيد لابن بابوية: ص 418، استقصاء الاعتبار: ج 7/158 (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 15/329-330 ح 20660.
3- وسائل الشيعة: ج 15/331 ح 20663.

صغائر الذّنوب».

ومعلومٌ أنّ تغيير التعبير، وإطلاق حكم الكراهة على هذه المعاصي وحكم الحرمة على الكبائر، شاهدٌ على اختلافهما في مراتب المبغوضيّة، فلا يدلّ على أنّها أيضاً من الكبائر.

فتحصّل: أنّه لا دليل على أنّ الإصرار على الصغائر من الكبائر.

موضوع الإصرار

أمّا المورد الثاني: فقد اختلفت كلماتهم في بيان موضوع الإصرار وتحديده من حيث أنّه بمعنى فعل المعصية مع عدم التوبة، أو بمعنى فعلها مع العزم على العود، أو بمعنى الإكثار من فعلها، أو المداومة عليه، أو غير ذلك.

والحقّ في المقام أن يُقال: إنّ الإصرار في اللّغة بمعنى الإقامة والمداومة والملازمة:

في «صحاح» الجوهري(1): أصررتَ على الشيء: أي: أقمتَ ودُمتَ .

وفي «النهاية»(2): أصرّ على الشيء يُصرُّ إصراراً: إذا لزمه وداومه، وثبت عليه.

وفي «القاموس»(3): أصرّ على الأمر: لزم.

وقريبٌ منهاكلمات غيرهم(4)، والظاهر أنّه ليس للشارع فيه حقيقة شرعيّة أو متشرّعيّة، بل استعماله في كلمات الشارع الأقدس إنّما يكون مطابقة لمعناه اللّغوي.

وعليه، فالظاهر أنّه لو فعل الذّنب، ولم يتُب منه، يصدق الإصرار، وذلك

ص: 174


1- الصحاح (الجوهري): ج 2/711.
2- النهاية في غريب الحديث (ابن الأثير): ج 3/22.
3- القاموس المحيط: ج 2/69 وفيه (وأصرّ يعدو: أسرع، وعلى الأمر: عزم).
4- مجمل اللّغة: ج 3/223 نقلاً عن مستند الشيعة: ج 18/137 في الهامش.

لأنّه يكون للذنب آثار وتوابع تبقى في نفس الإنسان المذنب، من الانحراف عن جادّة الشرع، والبُعد عن اللّه تعالى ، واستحقاق العقوبة على فعله، والتي تكون إبقاؤها وإعدامها بيد المذنب، فإنّه إن تابَ صار كمَن لا ذنب له، وإلّا تكون آثار الذّنوب باقية، فلو لم يتب يصدق عليه أنّه أقام على الذّنب، ولزمه، وداومه، وثبت عليه.

ويشهد لما ذكرناه: - مضافاً إلى ما عرفت - جملة من النصوص المتقدّمة:

منها: قوله صلى الله عليه و آله: «ما أصرّ مَن استغفر»(1).

فإنّ مفهومه: إنّ مَنْ لم يستغفر فقد أصرّ.

ومنها: قول الباقر عليه السلام في خبر جابر: «الإصرار هو أن يذنب الذَّنب فلا يستغفر اللّه، ولا يُحدِّث نفسه بالتوبة، فذلك الإصرار»(2).

ومنها: قول الإمام الكاظم عليه السلام في حسن ابن أبي عُمير: «ومَتى لم يندم عليها كان مُصرّاً»(3).

وقد عدّ الإمام عليه السلام في حديث جنود العقل والجهل: التوبة منها، وجَعَل ضدّها الإصرار.

فتحصّل: أنّه كلّ من أذنب ولم يندم ولم يتب كان مُصرّاً، وإنْ تابَ ثمّ عاد إليه لا يصدق الإصرار، إذ التوبة توجبُ صيرورة الأوّل كأنْ لم يكن، وعلى ذلك فلو سُلّم صحّة انقسام الذّنوب إلى الصغائر والكبائر، وتمّ ما عليه المشهور من أنّ 8.

ص: 175


1- بحار الأنوار: ج 90/282، مرآة العقول: ج 10/70 نسبه إلى طرق العامّة.
2- وسائل الشيعة: ج 15/338 ح 20682.
3- توحيد الصدوق: ص 407-408.

الإصرار على الصغائر يعدّ من الكبائر، لم تبق ثمرة لثبوت الصغائر، كما لا يخفى .

وأمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله:(1) من أنّ الصغيرة إذا صدرت من المجتنب للكبائر، تكون حال صدورها مقرونة بالمانع عن تاثيرها في العقوبة، فلا محالة لا تؤثّر في العقوبة، حتّى تحتاج إلى التوبة في رفعها، فلا يتحقّق الإصرار إلّابفعلها مرة بعد أولى وكرةً بعد اُخرى ، لا بعدم الندم، حيث إنّ الذَّنب مكفِّرٌ على الفرض، فيكون كما إذا تخلّلت التوبة المانعة من تحقّق الإصرار، وحيث أنّ هذه الصورة هي مورد الكلام فيصحّ لنا أن نقول:

إنّ الإصرار على الصغائر - فيما يهمّنا الكلام فيه - هو فعل الشيء مرةً بعد أولى، وكرّة بعد اُخرى ، من دون تحقّقه بعدم الندم أو العزم على العود.

فيرد عليه: أنّ غاية ما ثبت من الأدلّة - على فرض صحّة انقسام الذّنوب إلى الكبائر والصغائر - هو عدم العقاب على الصغيرة، وأمّا سائر آثار الذّنب فهي ثابتة لها، ولأجلها يصدق الإصرار، ويكون للتوبة مجال، وتشمله أدلّة وجوب التوبة، ويؤكّد ذلك إطلاق النصوص المتقدّمة.

وقياسُ تكفير الصغيرة باجتناب الكبائر بتخلّل التوبة، قياسٌ مع الفارق، إذ في التوبة ورد النص بأنّ (التائبُ من الذّنب كمَن لا ذنب له) فلا يبقى شيءٌ من آثار الذّنب بعدها، وهذا بخلاف التكفير باجتناب الكبائر وبالأعمال الصالحة.

وأضعف من ذلك: ما ذكره بعضٌ - في وجه ما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله(2)الملتزم بأنّه يصدق الإصرار مع العزم على العود - من أنّ مستنده في اعتباره العزم1.

ص: 176


1- بحوث في الاُصول: ج 3/108، بتصرّف.
2- رسائل فقهيّة: ص 49 و 51.

في مقابل إطلاق النصوص المقتضي لكفاية عدم الندم، هو هذا الوجه الذي استند إليه المحقّق الإصفهاني قدس سره(1)، بضميمة أنّ صورة العزم على العود إلى المعصية خارجة عمّا ذُكر سابقاً من قوله عليه السلام: (من اجتنب الكبائر لم يُسئل عن الصغائر).

فإنّه يرد عليه: - مضافاً إلى ما تقدّم - أنّه لا وجه لدعوى خروج الصورة المفروضة عن تحت تلك الأدلّة.

وأضعف من ذلك: تفصيله رحمه الله(2) بين:

ما إذا كان العزم على المعصية مستمرّاً من حين ارتكاب الصغيرة، فلا يعتبر اتّحاد المعصية سنخاً ونوعاً.

وما إذا حَدَث بعد فعلها قبل التوبة، فيعتبر الاتّحاد.

فإنّه رحمه الله استدلّ له في مقابل إطلاق النصوص، بأنّ العرف يأباه، أي إنّه مع عدم اتّحاد المعصية وعدم العزم عليه من زمان الفعل السابق، لا يصدق الإصرار عرفاً، فإنّ غاية ما قيل في توجيه كلامه رحمه الله، أنّ الإصرار لا بدَّ فيه من نحو من الاتّحاد: إمّا اتّحاد المقصود مع المأتى به، أو استمرار العزم ووحدته الاتّصاليّة من المتلبّس بالمعصية.

ويرد عليه: - على فرض تسليم المبنى من اعتبار العزم في صدق الإصرار - أنّ المراد بالمعصية التي نُسب إليها الإصرار:

إمّا أن يكون ذات ما هو معصية، أي شرب الخمر والزِّنا.

أو يكون بعنوان أنّه معصية.

أمّا على الأوّل: فلأنّه ليس هناك اتّحادٌ وإن عزم عليه من حين ارتكاب المعصية السابقة، فإنّ العزم على فعلٍ ليس إصرارٌ على الفعل الآخر.1.

ص: 177


1- بحوث في الاُصول: ج 3/108-109، بتصرّف.
2- رسائل فقهيّة: ص 51.

وأمّا على الثاني: فيصدق الإصرار وإنْ لم يكن العزم مستمرّاً من الأوّل.

وأخيراً: أضعفُ من ذلك كلّه، اشتراط فعل المعصية أن يكون مرّةً بعد أولى، وكرّةً بعد اُخرى ، فتدبّر في أطراف ما ذكرناه كي لا تبادر بالإشكال.

البحث عن مفهوم التوبة وحقيقتها
اشارة

ويقع الكلام أوّلاً في حقيقتها، ثمّ في حكمها.

أمّا حقيقتها: فهي الرجوع لغةً ، وتُنسب إلى العبد وإلى اللّه سبحانه، فتوبة العبد رجوعه عن المعصية إلى الطاعة، وتبديل البُعد عن اللّه إلى القرب إليه، وتوبة اللّه تعالى الرجوع عن العقوبة إلى اللّطف والتفّضل.

وفي الاصطلاح، ذُكر لها مراتب:

1 - الرجوع العِلْمي، وهو الرجوع من الجهل والغرور إلى العلم والإقرار، أي معرفة ضرر الذّنوب، وأنّها حجابٌ بين العبد ومحبوبه، وسمومٌ قاتلة لمن يباشرها.

2 - الرجوع من المسرّة إلى ضدّها.

3 - الرجوع من الفرح بالظفر على المعصية، إلى التألّم من فوات المحبوب، والتأسّف على فعل الذّنوب، ويعبّر عن التألّم والتأسّف بالندم.

4 - الرجوع إلى العزم على عدم العود إلى المعصية أبداً، وليس المراد به القصد والإرادة، كي يُقال إنّه لا يتحقّق إلّابعد الوثوق بحصول ما عَزم عليه، بل المراد به البناء الملائم مع عدم الوثوق به.

5 - الرجوع إلى طلب المغفرة وعفوه تعالى عنه طلباً قلبيّاً.

ص: 178

وهذه المراتب الأربع من مراتب التوبة الحالية.

6 - الرجوع إلى الاستقامة العَمَليّة، أي من فعل المعصية إلى تركها في الحال.

7 - الرجوع إلى التدارك والتلافي لما فات من قضاء أو إيفاء الحقوق.

أقول: الظاهر أنّ المرتبتين الأولتين المتلازمتين في التحقّق، من مقدّمات التوبة المسقطة لعقوبة ماصدر منه، بل هما من توابع الإيمان باللّه وبرسوله، وقد اُشير إلى ذلك في جملةٍ من النصوص:

منها: ما في الخبر: «ما من مؤمنٍ يذنُب ذنباً إلّاساءَه ذلك»(1).

ومنها: في خبرٍ آخر: «مَنْ سرّته حَسَنته وساءته سيّئته، فهو مؤمن»(2).

ونحوهما غيرهما.

وأمّا ما في خبر يونس، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من أذنب ذنباً فعلم أنّ اللّه مطّلعٌ عليه، إنْ شاء عذّبه وإنْ شاء غَفَر له، غُفِر له وإنْ لم يستغفر»(1).

فمضافاً إلى ضعف سنده، لابدّ من تأويله إلى إرادة العلم الذي يؤثّر في النفس، ويُثمر العمل، وإلّا فكلّ مسلّمٍ مقرٌّ بهذه الاُمور، فيلزم عدم عقاب مسلمٍ ، هذا مضافاً إلى النصوص الاُخر التي ستمرّ عليك.

وأمّا المرتبتان الأخيرتان: فهما من ثمرات التوبة، لا أنّهما داخلتان في حقيقتها.

وأمّا المرتبة الثالثة: فقد دلّت النصوص على أنّها التوبة:

منها: ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «الندامة توبة»(2).6.

ص: 179


1- الكافي: ج 2/427 ح 5، وسائل الشيعة: ج 16/59 ح 20977.
2- وسائل الشيعة: ج 16/62 ح 20986.

منها: في خبر أبان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «ما من عبدٍ أذنب ذنباً فندم عليه، إلّا غفر اللّه له قبل أن يستغفر»(1).

ومنها: في خبرٍ ثالث: «كفى بالنَّدم توبة»(2).

ونحوها غيرها، والظاهر أنّها أدنى المراتب.

وأمّا المرتبة الرابعة: فمضافاً إلى ملازمتها في التحقّق لهذه المرتبة، يشهد لاعتبارها فيها ما في الخبر الوارد في مقام بيان حقيقة التوبة من أنّها: «تصديق القلب، وإضمار أن لا يعود إلى الذّنب الذي استغفر منه»(3).

وأمّا المرتبة الخامسة: فهي غير معتبرة في التوبة، وقد جعلت هي في الآيات والروايات غير التوبة، فقد ورد في غير موضعٍ من سورة هود قوله تعالى : (وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) (4).

وفي الحديث المشهور الوارد المحصي جنود العقل والجهل، المرويّ في «الكافي»(5) عدّهما جُنْدين، وكذلك في سائر النصوص.

وأمّا النصوص المتضمّنة أنّ دواء الذّنوب الاستغفار(6) ونحو ذلك، فالمراد بالإستغفار فيها التوبة، لصدقه عليها، لأنّها موجبة للغفران والعفو.

فتحصّل: أنّ حقيقة التوبة الندامة، والعزم على عدم العود إلى المعصية.3.

ص: 180


1- الكافي: ج 2/427 ح 8، وسائل الشيعة: ج 16/62 ح 20985.
2- الكافي: ج 2/426 ح 1، وسائل الشيعة: ج 16/335 ح 20675.
3- وسائل الشيعة: ج 15/78 ح 21029.
4- سورة هود: الآية 3.
5- الكافي: ج 1/20 ح 14 (كتاب العقل والجهل).
6- الكافي: ج 2/439 ح 8، وسائل الشيعة: ج 16/65 ح 20993.
حكم التوبة

أمّا حكم التوبة فقد استدلّ في «التجريد» على وجوبها بأمرين:

الأمر الأوّل: أنّها دافعة للضرر الذي هو العقاب أو الخوف منه، ودفع الضرر عن النفس واجب.

الأمر الثاني: إنّا نعلم قطعاً وجوب النّدم على فعل القبيح، أو الإخلال بالواجب.

أقول: قد أقرّ شارح «التجريد»(1) بهذين الأمرين، ولعلّه إلى الثاني نظر الشيخ الأعظم رحمه الله(2) حيث قال: (فالظاهر أنّه حَكَم بوجوبه عقلاً كلّ مَنْ قال بالحُسن والقُبح العقليين).

تنقيح القول في المقام: بعدما تبيّن أنّ مورد البحث هو الندم، والعزم على عدم العود إلى المعصية أبداً، وأمّا سائر المراتب فبعضها من المعارف الواجبة كالمرتبة الاُولى، وبعضها واجبٌ من حيث نفسه، لا من حيث إسقاط العقاب، كالمرتبتين الأخيرتين، وبعضها وهو طلب المغفرة سيأتي التعرّض لبيان حُكمه يقتضي البحث في هذين الأمرين:

أمّا الأمر الأوّل الذي استدلّ به في «التجريد» فإنّه لا يستفاد منه الوجوب الجعلي الشرعي، لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر، ليس هو إلّادركه بترتّبه لو لم يدفعه، ومثل هذا الحكم العقلي الذي يكون المُدْرَك العقلاني فيه هو ترتّب العقاب، لا يكون منشئاً للحكم الشرعي، ويكون نظير الحكم بوجوب الطاعة

ص: 181


1- تجريد الاعتقاد: ص 305، كشف المراد: ص 331 مسألة 11 نقلاً عن رسائل فقهيّة للشيخ الأعظم رحمه الله.
2- رسائل فقهيّة ص 58.

وحرمة المعصية.

وأمّا الأمر الثاني: فيرد عليه أنّه:

1 - إنْ كان المراد دَركُ العقل حُسن التوبة من جهة أنّ بها يدفع الضرر، فمآله إلى الأمر الأوّل الذي عرفت ما فيه.

2 - وإنْ اُريد به أنّ العقل يرى حُسن الندامة، والعزم على عدم العود إلى المعصية، مع قطع النظر عن ذلك.

فيرد عليه: أنّ هذا ليس بنحوٍ يُستكشف منه وجوب ذلك، كما لا يُستكشف من دركه قُبح العزم على المعصية حرمته، ولذا لا شيء على العزم عليها، وإنْ كان من مساوئ الأخلاق.

وأمّا الآيات والروايات الآمرة بالتوبة، فهي غير ظاهرة في الوجوب المولوي الشرعي، من جهة الحكم العقلي المتقدّم، وما فيها من التعليل بدفع العقاب.

وقد يُقال: إنّ عدم التوبة من حيث اندراجه تحت عنوان (الأمنُ من مكر اللّه تعالى ) الذي يعدّ من الكبائر محرّمٌ شرعاً، ولكن ليس عدم الندم وعدم العزم على عدم العود دائماً كذلك، كما لا يخفى .

وعليه، فالحقّ أنّ وجوب التوبة وجوب إرشادي.

***

ص: 182

وطهارة المولد

اعتبار طهارة المولد

(و) الرابع ممّا يُعتبر في إمام الجماعة: (طهارة المولد) على ما عبَّر عنها الأصحاب.

أقول: لا خلاف في اعتبار هذا الشرط(1)، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(2)، ويشهد له جملة من النصوص:

منها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يُصلّينّ أحدكم خلف المجنون وولد الزِّنا»(3).

ومنها: خبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «خمسة لا يؤمّون النّاس على كلّ حال، وعَدَّ منهم: المجنون وولد الزِّنا»(4).

وقريبٌ منهما غيرهما من النصوص.

ولو شُكّ في كونه ابن الزنا أم طاهر المولد، فهل يجوز الاقتداء به أم لا؟

وجهان، مبنيّان على أنّ الشرط المذكور أمرٌ وجودي، وهو طهارة المولد، ففي هذه الصورة لا أصل فيها لنحرز وجوده، فلا يصحّ الاقتداء مع الشكّ .

ص: 183


1- المعتبر: ج 2/435 (مسألة: قال علماؤنا (طهارة) المولد شرطٌ في الإمام، ونعني به من لم يتحقّق ولادته عن الزنا)، مدارك الأحكام: ج 4/69 (واشتراط ذلك مذهب الأصحاب).
2- تذكرة الفقهاء ج 1 (ط. ق) ص 145: (عند عمائنا)، جامع المقاصد: ج 2/372: (فللإجماع)، ذكرى الشيعة: ج 4/102: (إجماعاً منّا).
3- وسائل الشيعة: ج 8/321 ح 10784.
4- تهذيب الأحكام: ج 3/26 ح 4، وسائل الشيعة: ج 8/321 ح 10783.

لا يَؤُمَّ القاعدُ القائمَ .

أو أنّه أمرٌ عدمي، بمعنى أنّ كونه ولد الزِّنا مانعٌ ، فيحرز ذلك بالأصل، وهو استصحاب عدم كونه متولّدٌ عن السّفاح بناءً على جريانه في العدم الأزلي، فيجوز الاقتداء به مع الشكّ .

والأظهر هو الثاني، حيث أنّ المذكور في النصوص هو ذلك.

وما أفاده(1) المحقّق الهمداني رحمه الله تبعاً للشهيد - من أنّه على الأوّل أيضاً يجوز الاقتداء، لأصالة طهارة المولد، وكونه عن نكاحٍ صحيح، فإنّها معوّل عليها عند العقلاء والمتشرّعة - يتمّ في جملةٍ من الموارد، ولا يتمّ في جميع موارده، مثلاً في لقيط دار الحرب الذي لم يُحرز كونه طاهر المولد، لا مجال للظنّ بقيام بناء من العقلاء والمتشرّعة على كونه كذلك.

في إمامة القاعدُ القائمَ

الخامس: أنْ لا يكون الإمام قاعداً للقائمين.

وبعبارة اُخرى : أنْ (لا يَؤُمَّ القاعدُ القائمَ ) على المشهور(2)، وعن جماعةٍ منهم الشيخ(3) والمصنّف(4) رحمه الله دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له:

1 - مرسل الصدوق، عن الإمام الباقر عليه السلام: «قال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله صَلّى

ص: 184


1- مصباح الفقيه: ج 2/676 ق 2، ذكرى الشيعة: (فلا تصحّ إمامة ولد الزّنا المعلوم حاله إجماعاً منّا).
2- جامع المدارك: ج 1/497 (فهو المشهور).
3- الخلاف: ج 1/561.
4- تذكرة الفقهاء ط. ق: ج 1/177 (عند علمائنا أجمع).

بأصحابه جالساً، فلمّا فَرَغ، قال صلى الله عليه و آله: لا يؤمّنَّ أحدكم بعدي جالساً»(1).

وقد ادّعى صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) أنّ هذا الخبر مرويٌّ عند الخاصّة والعامّة.

2 - وما رواه الشيخ(3) عن السكوني، عن الإمام الصادق، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام، قال: «لا يَؤُمّ المقيّد المطلَقين، ولا صاحب الفالج الأصحّاء، ولا صاحب التيمّم المتوضّئين»(4).

3 - وما عن الشِّعبي، عن علي عليه السلام: «لا يؤمَّ المقيّد المطلقين»(5).

ودلالتها على المنع واضحة، وضعف السند ينجبر بالشهرة.

وبالجملة: فلا إشكال في الحكم، إنّما الكلام في أنّه:

هل يختصّ هذا الحكم بمورد النص، كما عن الشيخ(6)؟

أم يتعدّى إلى كلّ ناقصٍ وكامل، كما عن جماعة ؟

أم يُفصَّل بين ما إذا اختلفا في الأفعال كالاضطجاع والقيام فيتعدّى إليه، وبين ما إذا اتّفقا فيها - كما في إمامة المتيمّم للمتوضّئ - فلا يتعدّى؟ وجوه.

أقول: وقد استدلّ للتعميم بوجوه.

1 - ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله(7) وهو وحدة المناط، وهو كما ترى ، لعدم إحرازه.

2 - استقراء الموارد الجزئيّة.0.

ص: 185


1- وسائل الشيعة: ج 8/345 ح 10863.
2- جواهر الكلام: ج 13/327.
3- الخلاف: ج 1/561.
4- تهذيب الأحكام: ج 3/27 ح 6، وسائل الشيعة: ج 8/340 ح 10845.
5- تهذيب الأحكام: ج 3/269 ح 93، وسائل الشيعة: ج 8/341 ح 10847.
6- الخلاف: ج 1/561، قوله: (سبعة لا يؤمّون النّاس على كلّ حال.. الخ).
7- كتاب الصَّلاة (ط. ق) ص 260.

3 - انصراف أدلّة الجماعة إلى الائتمام، بمن لا يكون صلاته من حيث هي، أنقص من صلاة المأموم، وهو أضعف من الأوّل.

4 - أنّ الشكّ في الصحّة كافٍ في الحكم بالعدم، لأصالة عدم الانعقاد.

وفيه: ما تقدّم منّا في أوّل هذا المبحث، من أنّ الأصل في كلّ ما شُكّ في اعتباره في الجماعة، هو عدم الاعتبار.

5 - ما عن «الإيضاح»(1) من أنّ الائتمام هيئة اجتماعيّة، يقتضي أن تكون الصَّلاة مشتركة بين الإمام والمأموم، وأنّ صلاة الإمام هي الأصل.

أقول - مضافاً إلى أنّه لو تمّ لكان مختصّاً بالأفعال، ولا يشمل الأقوال والشرائط كالوضوء كما لا يخفى - أنّه لا يتمّ فيها أيضاً، فإنّ حقيقة الإئتمام إنّما هي الإتيان بافعال الصَّلاة مربوطة بما يأتي به الإمام من الأفعال، وفي تحقّق هذا المعنى لا فرق بين كون صلاة الإمام كاملة أم ناقصة، فإذاً لا دليل على التعميم، فيدور الأمر بين الأوّل والثالث، ومقتضى القواعد وإن كان هو الأوّل، إلّاأنّ صحيح جميل والذي يتحدّث عن:

«إمام قومٍ أجنبَ وليس معه من الماء ما يكفيه للغُسل، ومعهم ما يتوضّأون به، أيتوضّأ بعضهم ويُصلّي بهم ؟

قال عليه السلام: لا، ولكن يتيمم الجُنُب، ويُصلّي بهم، فإنّ اللّه جعل التراب طهوراً»(2).

يدلّ على أنّ الائتمام يجوز في صورة كون صلاه الإمام مع البدل الاضطراري، بلا اختصاص للطهور، وذلك للتعليل، إلّاأنّه لا يستفاد منه الجواز حتّى مع3.

ص: 186


1- إيضاح الفوائد: ج 1/154.
2- وسائل الشيعة: ج 8/327 ح 10803.

الاختلاف في الأفعال كالاضطجاع والقيام، فإنّ المحذور المتوهم في هذا الفرض، ليس من ناحية نقصان صلاة الإمام وكمال صلاة المأموم خاصّة، بل هنا يكون المحذور المتوهّم شيئاً آخر، وهو عدم اتّفاق الإمام والمأموم في جميع أحوال الصَّلاة.

وأيضاً: وقد يتوهّم عدم جواز إمامة القاعد للقاعدين، لإطلاق المرسل المتقدّم.

ولكنّه فاسدٌ، إذ لو سُلّم الإطلاق، ولم ندّع انصرافه عن الفرض، لابدَّ من تقييده بصحيح ابن سنان الوارد في جماعة العُراة، الدالّ على الجواز في الفرض.

في إمامة الاُمّي

السادس: أنْ لا يكون الإمام اُميّاً؛ أي لا يَحسن القراءة أو أبعاضها، كما صرّح به غير واحدٍ(1).

وعن «الرياض»(2): عدم الخلاف فيه بينهم، إذا كان يؤمّ بقارئ.

وعن جماعةٍ (3): دعوى الإجماع عليه.

أقول: ويمكن أن يُستشهد له بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده المصنّف رحمه الله(4)، وهو أنّ المستفاد من النصوص المتضمّنة أنّ الإمام بقراءته (ضامنٌ لقراءة من خلفه)، وأنّ المأموم (يكل قراءته إلى الإمام) و (يُجزيك قراءته) أنّ الأخبار الناهية عن القراءة خلف الإمام، ليست مخصّصة لما دلّ على أنّه (لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب)(5)، بل يكون النهي لتحمّل الإمام القراءة

ص: 187


1- المعتبر: ج 2/437: (وبهذا قال علماؤنا).
2- رياض المسائل: ج 4/332.
3- الذكرى : ص 270.
4- منتهى المطلب: ج 1/371 (ط. ق).
5- مستدرك وسائل الشيعة: ج 4/158 ح 4365 و ح 4368.

عنه، وعليه فمع عجزه لا يتحقّق التحمّل، فتفسد صلاة المأموم، لخلوّه عن القراءة مع قدرته عليها، وعدم تحمّل الإمام عنه.

فإنْ قلت: إنّ غاية ما يقتضيه هذا الوجه، عدم سقوط القراءة عن المأموم، لا عدم جواز الائتمام، إلّابناءً على حجيّة العام في عكس نقيضه.

قلت: المستفاد من الأخبار والإجماع هو قيام الملازمة بين صحّة الجماعة وسقوط القراءة، ومع عدم سقوطها لا وجه للحكم بصحّة الجماعة.

الوجه الثاني: ما دلَّ من النصوص على اشتراط كون الإمام مأموناً على القرآن، كمصحّح عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«إذا كنتَ خلف الإمام في صلاة لا يُجهر فيها بالقراءة، حتّى يفرغ، وكان الرّجل مأموناً على القرآن، فلا تقرأ خلفه في الأولتين، وقال: يُجزيك التسبيح في الأخيرتين»(1).

فإنّه يدلّ على وجوب القراءه خلف غير المأمون على القرآن، ولو من جهة الاُميّة أو اللّحن، بل الظاهر الاختصاص بهاتين الجهتين، ولا يكون ناظراً إلى ترك القراءة خلف الإمام، كنايةً عن عدم جواز الاقتداء به.

الوجه الثالث: ما دلَّ على أنّه لا بأس بإمامة العبد إذا كان قارئاً، كخبر أبي البختري(2)، فإنّه بمفهومه يدلّ على عدم جواز إمامته إذا كان اُميّاً.

وبملاحظة انصراف القراءة في المنطوق، يظهر وجه دلالة المفهوم على عدم جواز الاقتداء مع اللّحن أيضاً.ك.

ص: 188


1- تهذيب الأحكام: ج 3/35 ح 36، وسائل الشيعة: ج 8/357-358 ح 10892.
2- وسائل الشيعة: ج 8/326 ح 10802، وفيه: أن يؤمّ المملوك.

ولا الأُميُّ القارئَ ، ولا المؤوف اللِّسان صحيحه، ولا المرأة رجلاً ولا خُنثى .

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه (لا) يجوز أن يؤُمَّ الاُميُّ (القارئَ ، ولا المؤوف اللِّسان صحيحه)، ولو تشاركا الاُميّة أو اللّحن جاز الائتمام إجماعاً(1).

في إمامة المرأة

(و) السابع: الذكورة إذا كان المأموم رجلاً، ف (لا) يؤمُّ (المرأة رجلاً) إجماعاً(2)، حكاه جماعة.

والشاهد له الخبرالمرسل المروى في «دعائم الإسلام» عن أميرالمؤمنين عليه السلام، قال:

«لا تؤمّ المرأة الرِّجال، ولا تؤمّ الخُنثى الرِّجال»(3).

وضعف سنده منجبرٌ بالعمل.

(و) به يظهر أنّه (لا) تؤمّ ال (خُنثى) الرِّجال، ولا المرأة الخُنثى .

وهل يجوز أن تؤمّ المرأةُ النساءَ في الفريضة، كما هو المشهور(4)، بل عن جماعةٍ دعوى الإجماع عليه(5)؟

ص: 189


1- غنائم الأيّام: ج 3/131 وقطع بذلك جماعة من الأصحاب. جواهر الكلام: ج 13/342، رياض المسائل: ج 4/332 تأمّل بها أكثر.
2- المعتبر: ج 2/438 (وعليه اتّفاق العلماء).
3- دعائم الإسلام: ج 1/151.
4- مختلف الشيعة: ج 3/53 / مدارك الأحكام: ج 4/351 قوله: (فهو قول معظم الأصحاب).
5- رياض المسائل: ج 4/334 (وفاقاً للأكثر بل عليه عامّة من تأخّر)، الخلاف: ج 1/562 إجماع الفرقة. تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/171 (عند علمائنا أجمع).

أم لايجوز، كما عن أبي عليّ (1) وعَلَم الهدى(2) وجماعة من المتأخّرين(3)؟ وجهان.

يشهد للمشهور: جملةٌ من النصوص:

منها: موثّق ابن بكير، عن بعض أصحابنا، عن الصادق عليه السلام: «في المرأة تؤمّ النساء؟ قال عليه السلام: نعم تقوم وسطاً بينهن ولا تتقدّمهن»(4).

ومنها: موثّق سماعة، عنه عليه السلام: «عن المرأة تؤمّ النساء؟ فقال عليه السلام: لا بأس به»(5).

والمُنساق إلى الذهن منهما إرادة الجماعة في الفريضة، الّتي تعمّ بها البلوى، لا مثل صلاة الاستسقاء من النوافل التي يجوز الاجتماع فيها.

ومنها: خبر الحسن بن زياد الصيقل: «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام كيف تُصلّي النساء على الجنائز - إلى أنْ قال - ففي صلاة المكتوبة أيؤمّ بعضهنّ بعضاً؟ قال عليه السلام: نعم»(6).

ويظهر من الأخبار - الواردة في بيان أحكام اُخر، كرفع الصوت بالقراءة - المفروغيّة عن جواز إمامتها.

وبإزاء هذه الأخبار نصوصٌ تدلّ على المنع في الفريضة، كصحيح هشام:

«أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة هل تؤمّ النساء؟ قال عليه السلام: تؤمّهنّ في النافلة، فأمّا في المكتوبة فلا»(7) ونحوه غيره.5.

ص: 190


1- حكاه عن أبي علي العلّامة في مختلف الشيعة: في الجماعة: ج 3/59.
2- السرائر: ج 1/281 (حاكياً رأي السيّد المرتضى.. إلى أنّه لا يجوز لها أن تؤمّ النساء في الفرائض ويجوز في النوافل).
3- حكاه في الرياض: ج 4/334.
4- وسائل الشيعة: ج 8/336 ح 10834.
5- تهذيب الأحكام: ج 3/31 ح 23، وسائل الشيعة: ج 8/336 ح 10835.
6- وسائل الشيعة: ج 8/334 ح 10826.
7- تهذيب الأحكام: ج 3/205 ح 34، وسائل الشيعة: ج 8/333 ح 10825.

أقول: وقيل يمكن الجمع بينهما بوجوه:

الوجه الأوّل: تخصيص الاُولى بالثانية، والبناء على المنع في الفريضة، والجواز في النافلة، كما ذهب إليه الجماعة المتقدّم ذكرهم.

وفيه: ما عرفت من إباء نصوص الجواز، عن الحمل على النافلة.

الوجه الثاني: حمل وصفي المكتوبة والنافلة على الجماعة، فيكون مفاد الروايات المانعة، عدم جواز إمامتها في الجماعة الواجبة كصلاة الجمعة، ومفاد المجوّزة جوازها في ما يستحبّ فيه الجماعة كاليوميّة.

وفيه: إنّ هذا مخالفٌ للمعهود من هذين اللّفظين، مع أنّه لا يصحّ ذلك مع ما ورد في صحيح زرارة: «عن المرأة تؤمّ النساء؟ قال عليه السلام: لا، إلّاعلى الميّت»(1).

الوجه الثالث: تقديم أخبار المنع لأصحيّة سندها.

وفيه: إنّه يتمّ بناءً على تعذّر الجمع العرفي، ولكنّه ممكنٌ بحمل نصوص المنع على الكراهة.

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز إمامتها على الكراهة.

***7.

ص: 191


1- تهذيب الأحكام: ج 3/326 ح 45، وسائل الشيعة: ج 8/334 ح 10827.

والهاشميُّ ، وصاحبُ المسجد والمنزل أولى .

في مَن أولى بالإمامة

(والهاشميّ ، وصاحبُ المسجد والمنزل أولى ) بالإمامة، كما هو المشهور(1) على ما نُسِب إليهم، بل بلا خلافٍ في الأخيرين، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع على ذلك(2).

أمّا الأوّل: فيدلّ على أولويّته، ما عن النبيّ صلى الله عليه و آله بطريقٍ غير معلوم:

«قدِّموا قريشاً ولا تتقدّموها» فإنّه تثبت به الأولويّة لقاعدة التسامح.

وأمّا الثاني: وهو صاحب المسجد الرّاتب فيه، فيشهد لأولويّته:

1 - ما رواه صاحب كتاب «دعائم الإسلام» عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يؤمّكُم أكثركم نوراً - والنور القرآن - وكلّ أهل مسجدٍ أحقّ بالصّلاة في مسجدهم»(3).

2 - وعن جعفر بن محمّد عليه السلام: «يؤمّ القوم أقدمهم هجرةً إلى الإيمان - إلى أنْ قال - وصاحب المسجد أحقّ بمسجده»(4).

ونحوه ما عن «الفقه الرضوي»(3).

وأمّا الثالث: فيشهد لأولويّته خبر أبي عُبيدة، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن

ص: 192


1- رياض المسائل: ج 4/337 (بلا خلاف في شيء من ذلك أجده).
2- المعتبر: ج 2/438: (وعليه اتّفاق العلماء). (3و4) دعائم الإسلام: ج 1/152.
3- فقه الإمام الرضا عليه السلام: في باب صلاة الجماعة وفضلها ص 143 و 124.

النبيّ صلى الله عليه و آله في حديثٍ : «ولا يتقدمنّ أحدكم الرّجل في منزله»(1).

وبالجملة: فأصل الحكم ممّا لا ريب فيه، إذ هذه النصوص وإنْ كانت ضعيفة الاسناد، إلّاأنّه يُعتمد عليها لأخبار (مَنْ بَلَغ)، ولعمل الأصحاب بها، إنّما الكلام في اُمور:

الأمر الأوّل: إنّ أولويّة صاحب المسجد هل هي على نحو الإطلاق أم لا؟

الأظهر هو الثاني، إذ لا مانع من إمامة غيره في غير وقت إمامته، ولا في وقته في غير مكان إمامته، بل في محلٍّ آخر من ذلك المسجد، إذا لم تزاحم إمامته إمامة الرّاتب.

وأيضاً: لو سبقه غيره إلى ذلك المكان في يومٍ ، هل يكون صاحب المسجد أولى أم السابق ؟ وجهان:

ذهب إلى الثاني المحقّق النائيني رحمه الله مدّعياً أنّ إمامته في الأيّام الماضية، لا توجب أحقّيّته بالإمامة في هذا اليوم، إذا كان مسبوقاً بغيره في هذا اليوم، إذ (الوقفُ لمن سبق).

وفيه: إنّ لازم ذلك إلغاء خصوصيّة صاحب المسجد، وهو خلاف ما تقدّم، مع أنّ مورد الكلام ليس وقف الراتب في شخص ذلك المكان الذي سبقه غيره، كي يستدلّ بما دلّ على أنّ (الوقف لمن سبق)، بل هو ائتمام النّاس به في ذلك المسجد وإنْ كان واقفا في مكان آخر.

وعليه، فالأظهر أولويّة صاحب المسجد.

الأمر الثاني: إنّ هذه الأولويّة هل هي عليوجه اللّزوم والإيجاب، بحيث لايجوز7.

ص: 193


1- الكافي: ج 3/376 ح 5، تهذيب الأحكام: ج 3/31 ح 25، وسائل الشيعة: ج 8/351 ح 10877.

لغير الراتب مزاحمة الراتب، أم تكون على سبيل الاستحباب والفضيلة ؟ وجهان:

المشهور بين الأصحاب هو الثاني(1)، وهو الأظهر، لأنّ مستند هذه الأولويّة ضعيف السند، وهو بضميمة أخبار (من بلغ) يصلحُ لإثبات الإستحباب، ولا يصلح لإثبات الوجوب.

لا يقال: إنّ ضعف سنده منجبرٌ بعمل الأصحاب.

فإنّه يُقال: إنّ عملهم به لعلّه لقاعدة التسامح لا للاعتماد عليه.

الأمر الثالث: الظاهر أنّ هذه الأولويّة لها جانبٌ أخلاقي اجتماعي، قد لوحظ فيها مراعاة حقّهم الذي هو أشبه شيء بحق السَّبق والأحقيّة الثابتة لأولياء الميّت بالنسبة إلى تجهيزه، لا لفضيلةٍ ذاتيّة فيها كما صرّح به في «الجواهر»(2) وغيرها(2)، ولذلك لو أذن صاحب المسجد أو المنزل لغيره، جاز وانتفت المرجوحيّة.

الأمر الرابع: المراد من (صاحب المنزل) هو الساكن فيه، وإنْ لم يكن مالكاً لعينه، بل يكفي فيه مِلْك المنفعة، كما صرّح به غير واحدٍ(3)، كما في «الجواهر»(5).

***5.

ص: 194


1- مستمسك العروة: ج 7/349، وقال في الجواهر: (إمكان تحصيل الإجماع أو الضرورة على عدم الوجوب، وعن التذكرة لا نعلم خلافاً). (2و5) جواهر الكلام: ج 13/350 و 348.
2- روض الجنان: ص 366.
3- مسالك الأفهام: ج 1/315.

ويُقدَّم الأقرأ، فالأفقه، فالأقدم هجرةً ، فالأسنّ ، فالأصبح.

مراتب الأئمّة

إذا اتّفق المأمومون على إمام فهو، (و) إنْ اختلفوا فأراد كلٌّ منهم تقديم شخصٍ (يُقدَّم الأقرأ) أي الأجود قراءةً ، (فالأفقه، فالأقدم هجرةً ، فالأسنّ ، فالأصبح) وجهاً كما في «الفقه الرضوي»(1).

أقول: يظهر من بعض الأخبار خلاف هذا الترتيب، ففي خبر أبي عُبيدة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: يتقدّم القوم أقرأهم للقرآن، فإنْ كانوا في القراءة سواء، فأقدمهم هجرةً ، فإنْ كانوا في الهجرة سواء، فأكبرهم سنّاً، فإنْ كانوا في السِّن سواء، فليؤمّهم أعلمهم بالسُّنة وأفقههم في الدِّين»(2).

ولا ينبغي التوقّف في تقديم خبر أبي عبييدة على ما ورد في «الفقه الرضوي».

نعم، يظهر من الأخبار الواردة في فضل الصَّلاة خلف العالم، وعدم أهليّة غيره للتقدم عليه، أنّ الأفقه مقدَّمٌ على غيره مطلقاً، وحيث أنّ أصل الترجيح ليس بلازمٍ ، فلا وجه لإطالة الكلام في بيان ما به يُجمع بين النصوص.

***

ص: 195


1- فقه الرضا: ص 143، باب صلاة الجماعة وفضلها.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/31-32 ح 25، وسائل الشيعة: ج 8/351 ح 10877.

ويُكره أنْ يأتمّ الحاضر بالمسافر، والمُتطهِّر بالمتيمّم،

مَنْ يُكره الإئتمام به

(ويُكره أنْ يأتمّ الحاضرُ بالمسافر) وبالعكس، على المشهور كما في «الجواهر»(1)، وقد تقدّم تفصيل القول فيه في أوّل هذا المبحث، عند بيان ضابط ما يصحّ الإئتمام فيه من الصَّلاة، وما لايصحّ ، وعرفت أنّ الأظهر هو الكراهة.

(و) يُكره أيضاً أنْ يأتمّ (المُتطهِّر بالمتيمّم) كما هو المشهور بين الأصحاب(2)، بل عن «منتهى » المصنّف رحمه الله(3) (إنّا لا نعرفُ فيه خلافاً إلّاما حُكي عن محمّد بن الحسن الشيباني من المنع).

أقول: ظاهر خبر عُبّاد المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام:

«لا يُصلّي المتيمّم بقومٍ متوضّئين»، ونحوه خبر السكوني، وإنْ كان هو المنع، إلّا أنّه يتعيّن حملهما على الكراهة، بواسطة النصوص الكثيرة الصريحة في الجواز:

منها: صحيح جميل المتقدّم.

ومنها: موثّق ابن بُكير: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ أجنبَ ثمّ تيمّم، فأمّنا ونحن طهور؟ فقال: لا بأس به»(4). ونحوهما غيرهما.

ص: 196


1- جواهر الكلام: ج 13/374.
2- مدارك الأحكام: ج 4/371: (هذا المشهور بين الأصحاب)، رياض المسائل: ج 1/238 (ط. ق)، قوله: (على الأظهر الأشهر بل عليه عامّة من تأخّر).
3- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/373.
4- تهذيب الأحكام: ج 3/167 ح 25، وسائل الشيعة: ج 8/327 ح 10804.

والسَّليم بالأجذم والأبرص، والمَحدُود بعد توبته،

(و) يُكره أيضاً أنْ يأتمّ (السَّليمُ بالأجذم والأبرص) على المشهور بين المتأخّرين(1).

وعن «الانتصار»(2): (ممّا انفردت به الإماميّة، كراهة إمامة الأبرص والأجذم).

وعن ظاهر جُملةٍ من القدماء المنع(3).

أقول: والأوّل أظهر، فإنّه وإنْ كان المنع ظاهرُ جملةٍ من النصوص، كحسن زرارة، أو صحيحه عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا يُصلينَّ أحدكم خلف المجذوم والأبرص(4)، الحديث»، ونحوه غيره، إلّاأنّه يتعيّن حملها على الكراهة جمعاً بينها وبين النصوص الصريحة في الجواز، كخبر عبد اللّه بن يزيد، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن المجذوم والأبرص يؤمّان المسلمين ؟ قال عليه السلام: نعم»(5). ونحوه صحيح حسين بن أبي العلاء(6).

(و) يُكره أيضاً أن يؤمّ (المحدود بعدتوبته) كما هو المشهور بين المتأخّرين(7)، أمّا قبلها فلايجوز لفسقه، إذ الحَدُّ لا يوجبُ صيرورته عادلاً، وإنْ كان مُكفِّراًلذنوبه.).

ص: 197


1- روض الجنان: ص 368.
2- الانتصار: ص 158.
3- الخلاف: ج 1/561 إجماع الفرقة، البيان ص 133 (ومنع كثير من الأصحاب إمامة... والأجذم والأبرص ممّن ليس كذلك)، رسائل المرتضى: ج 3/39.
4- الكافي: ج 3/375-376 ح 4، وسائل الشيعة: ج 8/325 ح 10797.
5- تهذيب الأحكام: ج 3/27 ح 5، وسائل الشيعة: ج 8/323 ح 10792.
6- وسائل الشيعة: ج 8/324 ح 10795.
7- رياض المسائل: ج 4/350: (فالمشهور بين المتأخّرين)، الحدائق الناضرة: ج 11/222: (قد ذكرالأصحاب)، جواهر الكلام: ج 13/383: (وفاقاً للمشهور بين المتأخّرين).

أمّا الائتمام بعد التوبة: فعن جماعةٍ من القدماء(1) المنع عن الاقتداء به.

ويشهد له: جملةٌ من النصوص، كصحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«خمسة لا يؤمّون النّاس، وعَدّ منهم: المحدود»(2) ونحوه غيره.

أقول: ولكن المشهور بين المتأخّرين الكراهة، واستدلّوا لها:

1 - بمفهوم بعض الأخبار الدالّة على أنّ خمسة لا يؤمّون النّاس، ولم يعدّ منهم المحدود.

2 - وبأولويته من الكافر إذا أسلم.

3 - وبقولهم عليهم السلام «لا تُصلِّ إلّاخلف من تثِق بدينه»(3).

وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ مفهوم العدد ليس حجّة، مع أنّه يُقيّد بما دلّ على المنع خلف المحدود لأخصيّته منه.

وأمّا الثاني: فلمنع الأولويّة.

وأمّا الثالث: فلأنّه لا إطلاق له من هذه الجهة، كي يدلّ على عدم اعتبار شيء آخر، وعلى فرض التنزّل، وتسليم دلالته على ذلك، يُقيّد بما دلّ على المنع.

وعليه، فالأقوى هو ما عليه جماعة من القدماء من المنع.8.

ص: 198


1- رياض المسائل: ج 4/350: (وعن جماعة من القدماء الحرمة مطلقاً)، رسائل المرتضى: ج 3/39.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/378 ح 1104، وسائل الشيعة: ج 8/324 ح 10794.
3- الكافي: ج 3/374 ح 5، وسائل الشيعة: ج 8/315 و 319 ح 10771 و ح 10778.

والأغلف، ويُكره إمامة مَن يكرهه المأمومون،

(و) كذا يُكره أنْ يؤمّ (الأغلف)، المعذور في تركه الختان، كما صرّح به غير واحدٍ(1)، للنهي عنه في خبري أصبغ بن نُباتة(2)، وعبد اللّه بن طلحة(3)، لكنّهما لضعف سنديهما لا يصلحان لإثبات المنع، فتأمّل، فان ثبوت الكراهية بهما حينئذٍ لايخلو عن تأمّل، لا سيّما ما ورد في خبر عمرو بن خالد، عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«الأغلف لا يؤمّ القوم - إلى أنْ قال - إلّاأن يكون تَرَك ذلك خوفاً على نفسه»(4).

وعليه، فلا دليل على الكراهة.

(و) كذا (يُكره إمامة مَن يَكرهه المأمومون) كما هو المشهور(5):

1 - لخبر عبد الملك ابن عمير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أربعة لا تُقبل لهم صلاة، وعَدَّ منهم من يكرهه المأمومون»(6)، ونحوه خبر ابن أبي يعفور(7).

2 - والنبويّ (8).

وظاهرها الكراهة، وحملها على المخالف لا وجه له.1.

ص: 199


1- تذكرة الفقهاء: ج 4/299 مسألة 574: (قال أصحابنا)، رسائل المرتضى: ج 3/39، الحدائق الناضرة: ج 222/11: (وقد أطلق جملة من الأصحاب كراهة إمامة الأغلف)، جواهر الكلام: ج 13/383.
2- وسائل الشيعة: ج 8/322 ح 10788.
3- بحار الأنوار: ج 85/75 ح 32، مستدرك وسائل الشيعة: ج 6/464 ح 7251.
4- وسائل الشيعة: ج 8/320 ح 10782.
5- مستند الشيعة: ج 8/46 (المستحبّ لإمام.. منها أن لا يكون ممّن يكره المأمومون على الأظهر الأشهر)، رياض المسائل: ج 4/352: (على المشهور).
6- وسائل الشيعة: ج 8/349 ح 10873.
7- وسائل الشيعة: ج 8/350 ح 10876.
8- وسائل الشيعة: ج 8/348 ح 10871.

والأعرابي بالمهاجر.

(و) كذا يُكره عند المشهور بين المتأخّرين(1) أن يؤمّ (الأعرابي بالمهاجر).

وعن جماعةٍ من القدماء المنع(2).

أقول: الجمود على ظواهر النصوص، يقتضي البناء على المنع، إلّاإذا هاجر، ففي صحيح زرارة أو حسنه: «والأعرابي لا يؤمّ المهاجرين»(3).

ونحوه خبرا أبي بصير، وعبد اللّه بن طلحة، وفي صحيح محمّد بن مسلم:

«خمسة لا يؤمّون النّاس، وعَدّ منهم الأعرابي»(4).

ودعوى: أنّ الأعرابي غالباً لا يكون جامعاً لشرائط الإمامة، ولو من باب القصور، وتكون الأخبار مختصّة بهذا المورد، فلا دليل على الكراهة أو المنع بقول مطلق، وإنْ كانت قريبة، إلّاأنّ الاحتياط سبيل النجاة.

***ت.

ص: 200


1- الحدائق الناضرة: ج 11/222، جواهر الكلام: ج 13/387 قوله: (على المشهور بين المتأخّرين).
2- البيان: ص 133: (ومنع كثيرٌ من الأصحاب إمامة الأعرابي بالمهاجرين).
3- وسائل الشيعة: ج 8/325 ح 10797.
4- مرت هذه الروايات قبل صفحات.

مسائل:

اشارة

مسائل:

الاُولى: لو أحدَثَ الإمامُ استنابَ ، ولو ماتَ أو اُغمي عليه قَدّموا إماماً،

العدول من إمامٍ إلى آخر

أقول: بقي (مسائل) مهمّة متعلّقة بموضوع صلاة الجماعة ينبغي التعرّض لها:

المسألة (الاُولى: لو أحدثَ الإمام استناب) كما في جملةٍ من النصوص، كصحيح سليمان، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن رجلٍ يؤمّ القوم، فيُحدث، ويقدّم رجلاً قد سبق بركعةٍ ، كيف يصنع ؟ قال عليه السلام: لا يقدّم رجلاً قد سبق بركعة، ولكن يأخذ بيد غيره فيقدّمه»(1).

(ولو ماتَ ) الإمام (أو اُغمي عليه، قدّموا إماماً)(2).

ويشهد للأوّل: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن رجلٍ أَمَّ قوماً فصلّى بهم ركعة، ثمّ مات ؟ قال عليه السلام: يقدِّمون رجلاً آخر، ويعتدّون بالرّكعة، ويطرحون الميّت خلفهم»(3) ونحوه غيره.

وأمّا في الإغماء: فليس هناك نصٌّ خاصٌّ دالّ عليه، إلّاأنّ الظاهر تسالم الأصحاب على عموم الحكم لكلّ عذرٍ موجبٍ لخروج الإمام عن أهليّة الإمامة.

ص: 201


1- تهذيب الأحكام: ج 3/42 ح 59، وسائل الشيعة: ج 8/378 ح 10952.
2- قال في رياض المسائل: ج 4/343: (بلا خلاف في شيء من ذلك بيننا أجده بالإجماع في جملة من الأعذار المسطورة في العبارة، عدا الإغماء، صرّح به جماعة حَدّ الاستفاضة، بل في الذكرى وغيرها الإجماع في مطلق العذر، فيدخل ما ذكرناه أيضاً، ونحوه الإغماء، وحكي الإجماع فيه وفي الموت عن التذكرة.. الخ).
3- الكافي: ج 3/383 ح 9، تهذيب الأحكام: ج 3/43 ح 60.

ويمكن استفادة ذلك من النصوص الخاصّة الواردة في الأعذار الطارئة للإمام، من الحَدَث والرّعاف، والأذى في البطن، ودخول الإمام في الصَّلاة على غير طهارة نسياناً، وما لو كان الإمام مسافراً، إذ التدبّر فيها يوجبُ القطع بعدم اختصاص الحكم بالأعذار المنصوصة، وأنّ الحكم المذكور عامٌّ يشمل كلّ عذرٍ يمنع الإمام عن إتمام صلاته؛ كالاستدبار أو الموت أو نحوهما، أو عن الإمامة إمّا لإتمام صلاته، أو لفقد بعض شرائط الإمامة، أو لتذكّر كونه جُنُباً، أو على غير وضوء.

أقول: بقي الكلام في اُمور:

الأمر الأوّل: أنّه لا فرق في هذه الموارد بين استخلاف أحد المأمومين أو الأجنبي، لإطلاق النصوص، بل صريح بعضها، كخبر زرارة، عن أحدهما عليه السلام:

«عن إمامٍ أمَّ قوماً، فذكرَ أنّه لم يكن على وضوء، فانصرف وأخذ بيد رجل وأدخله فقدّمه، ولم يعلم الذي قُدِّم ما صَلّى القوم ؟ فقال عليه السلام: يُصلّي بهم، فإنْ أخطأ سبّح القوم به، وبنى على صلاة الذي كان قبله»(1).

وقريبٌ منه صحيح جميل(2).

الأمر الثاني: لا فرق على الظاهر بين أن يستخلفه الإمام، أو يقدّمه المأمومون، أو يتقدّم بنفسه، كلّ ذلك: للإطلاق، ولصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام:

«عن الإمام أحدثَ فانصرف، ولم يقدِّم أحداً، ما حال القوم ؟ قال عليه السلام: لا صلاة لهم بإمامٍ ، فليقدّم بعضهم، الحديث»(3).2.

ص: 202


1- الكافي: ج 3/384 ح 13، وسائل الشيعة: ج 8/378 ح 10950.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/403 ح 1195، وسائل الشيعة: ج 8/377 ح 10948.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 1/403 ح 1197، وسائل الشيعة: ج 8/426 ح 11082.

الأمر الثالث: المراد من استخلاف الأجنبي، ليس إقامته مقامه في الإتيان بما بقي من أجزاء الصَّلاة، إذ ليس هذه صلاة، فلا وجه للبناء على صحّة الائتمام، بل المراد أن يأتي بصلاته والمأمومون يربطون بها بقيّة صلاتهم، والظاهر أنّ هذا واضحٌ لايحتاج إلى إطالة الكلام فيه، كما فعله بعض الأساطين.

الأمر الرابع: لو أصدر الإمام المُبطل اختياراً، فهل يجوز الاستنابة، كما عن «التذكرة» و «الشرائع» وغيرهما، أم لا؟

وجهان، مبنيّان على فهم خصوصيّة العُذر في هذا الحكم، أو عدمه، والاحتياط سبيل النجاة.

***

ص: 203

الثانية: إذا أحرم الإمام وهو في نافلةٍ ، قطعها.

إقامة الجماعة في أثناء الصَّلاة

المسألة (الثانية: إذا أحرم الإمام وهو) أي المأموم (في نافلةٍ ، قَطَعها) واستانفَمع الإمام الفريضة، بلا خلاف فيهٍ في الجملة، بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(1).

ويشهد له: - مضافاً إلى أنّ ذلك ممّا تقتضيه القواعد، بناءً على جواز قطع النافلة كما قوّيناه، فإنّه لايرتاب أحدٌ بعد التدبّر في النصوص الواردة في فضل الجماعة أهمّيتها من النافلة - صحيح عمرو بن يزيد:

«أنّه سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الرواية التي يَرُوون أنّه لا يتطوّع في وقت فريضةٍ ما حَدّ هذا الوقت ؟ قال عليه السلام: إذا أخذ المُقيم في الإقامة.

فقال: إنّ النّاس يختلفون في الإقامة، فقال المُقيم الذي يُصلّي معه»(2).

ودعوى:(3) اختصاصه بالإبتداء، وعدم شموله إدامة ما شرع فيه.

مندفعة: بأنّ ذلك خلاف الإطلاق، إذ الظاهر من (لا يتطوّع) النهي عن التلبّس بالتطوّع، سواءٌ أكان في الابتداء أو الاستدامة.

أقول: ثمّ إنّ مورد هذا الحكم:

هل هو ما إذا خاف فوات آخر ما يُجزي في انعقاد أوّل الجماعة، بأن خَشي عدم إدراك ركوع الرّكعة الاُولى ، كما هو الظاهر من كلمات القوم(4)؟

ص: 204


1- جامع المقاصد: ج 2/229، قوله: (وإلى هذا مالَ أكثر أصحابنا).
2- وسائل الشيعة: ج 4/228 ح 4995.
3- جواهر الكلام: ج 14/36.
4- مستمسك العروة: ج 7/293، (كما لعلّه ظاهر أكثرهم).

ولو كان في فَريضةٍ أتمّها نافلةً .

أم مطلق إدراك فضيلة الجماعة ولو بإدراك ركعةٍ من آخرها، كما عن الأردبيلي(1)؟

أم مطلق فوات شيءٍ منها حتّى الجزء الأوّل من الفاتحة، وإلى ذلك يرجع ما عن جماعةٍ (2) من الأصحاب من الحكم باستحباب القطع بعد إحرام الإمام ؟

وجوهٌ ، أقواها الأخير، بل يستحبّ القطع في حال إقامة الإمام قبل أن يحرم، لصحيح عمرو بن يزيد المتقدّم.

(ولو كان في فريضةٍ ) وأحرم الإمام، نَقل بنيّته إلى النفل، و (أتمّها نافلةً ) على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة(3)، بل عن بعضٍ التصريح بنفي الخلاف فيه(4).

ويشهد له: صحيح سليمان بن خالد، عن الصادق عليه السلام:

«عن رجلٍ دخل المسجد، فافتتح الصَّلاة، فبينهما هو قائمٌ يُصلّي، إذ أذّن المؤذِّن، وأقام الصَّلاة ؟ قال عليه السلام: فليصلِّ ركعتين، ثمّ ليستأنف الصَّلاة مع الإمام، ولتكن الركعتان تطوّعاً»(5) ونحوه موثّق سماعة(6).7.

ص: 205


1- مجمع الفائدة: ج 3/331.
2- روض الجنان: ص 377.
3- جواهر الكلام: ج 14/36، مستمسك العروة: ج 7/294، البيان ص 130، مدارك الأحكام: ج 4/381: (هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب، وأسنده في التذكرة إلى علمائنا، مؤذناً بدعوى الإجماع).
4- رياض المسائل: ج 4/363: (بلا خلافٍ صريح).
5- الكافي: ج 3/379 ح 3، وسائل الشيعة: ج 8/404 ح 11026.
6- الكافي: ج 3/380 ح 7، وسائل الشيعة: ج 8/405 ح 11027.

ولا مجال لإنكار ظهورهما في الاستحباب، وهذا ممّا لا كلام فيه.

أقول: إنّما الكلام في اُمور:

الأمر الأوّل: لاختصاص الخبرين بما إذا لم يتجاوز محلّ العدول، لا يجوز القطع لو تجاوز عنه، كما لو دخل في ركوع الرّكعة الثالثة.

الأمر الثاني: لو عدل إليها، هل يجوز قطعها أم لا؟ وجهان، الأقوى هو الأوّل، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه مقتضى الأصل، بناءً على جواز قطع النافلة.

الوجه الثاني: أنّه لو عدل إليها شمله صحيح عمرو بن يزيد المتقدّم، الدالّ على استحباب قطع النافلة لدرك الجماعة.

الوجه الثالث: أنّ عمدة مدرك حُرمة القطع، هو الإجماع(1)، والمتيقّن منه غير المقام.

أقول: وقد استدلّ لعدم جواز القطع بوجهين:

الوجه الأوّل: استصحاب حرمة القطع، الثابتة قبل العدول إليها.

وفيه: - مضافاً إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، كما أشرنا إليه في هذا الشرح غير مرّة - أنّ هناك مانعٌ آخر عن جريانه في المقام وهو تبدّل الموضوع.

ودعوى:(2) أنّ العدول إلى النافلة، إنّما يكون بعد الإتمام لا قبله.

مندفعة: بأنّ ذلك خلاف المنساق من الخبرين.ا.

ص: 206


1- كما حكاه في رياض المسائل: ج 3/293 (ط. ج).
2- كما في العروة الوثقى: ج 1/774، صلاة الجماعة للاصفهاني ص 94، وغيرهما.

ولو كان إمام الأصل، قطعها وتابعه.

الوجه الثاني: الأمر بالإتمام ركعتين في الخبرين، وظاهره اللّزوم.

وفيه: إنّ ظاهره رجحان العدول إلى النافلة.

وإنْ شئت قلت: بعدما لا ريب في عدم لزوم العدول إلى النافلة، لجواز إتمامها فريضةً ، لا مناص عن حمل الأمر به على رجحان العدول إليها.

وعليه، فالأظهر تبعاً لجماعةٍ من الأساطين جواز قطعها بعد العدول.

(و) الأمر الثالث: المشهور بين الأصحاب(1) أنّه (لو كان إمام الأصل قطعها وتابعه).

واستدلّ له: بالأصل.

ولنِعْمَ ما قيل: من إنّه مع حضوره عليه السلام، والتمكّن من السؤال عنه، لا مورد لهذا البحث.

***).

ص: 207


1- البيان ص 130: (فلا خلاف).

الثالثة: لو خاف الدّاخلُ فواتَ الرّكعة، ركَعَ ومَشي، ولحِقَ بهم.

لو خاف فوات الرّكعة

المسألة (الثالثة: لو خافَ الدَّاخلُ فوات الرَّكعة، رَكَع وَمَشي، ولحِقَ بهم) بلا خلافٍ في أصل الحكم في الجملة(1)، وعن جماعةٍ دعوى الإجماع عليه(2).

ويشهد له: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام: «عن الرّجل يدخلُ المسجد فيخافُ أن تفوته الرّكعة ؟ فقال عليه السلام: يركع قبل أن يبلغ القوم، ويمشي وهو راكع حتّى يبلغهم»(3).

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«إذا دخلتَ المسجد والإمامُ راكعٌ ، فظننتَ أنّك إنْ مشيتَ إليه رَفَع رأسه قبل أن تُدركه، فكبِّر واركع، فإذا رَفَع رأسه فاسجد مكانك، فإذا قام فألحِق بالصَّف، فإذا جَلَس فاجلس مكانك، فإذا قام فألحق بالصفّ »(4).

ومنها: صحيح إسحاق، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أدخلُ المسجدَ وقد رَكَع الإمام، فأركع بركوعه وأنا وحدي وأسجدُ، فإذا رفعتُ رأسي أيُّ شيءٍ أصنع ؟

قال عليه السلام: قُم فاذهب إليهم، وإنْ كانوا قياماً فقُم معهم، وإنْ كانوا جُلوساً

ص: 208


1- مصباح الفقيه: ج 2/691 ق 2، جواهر الكلام: ج 14/12: (بلا خلاف صريح أجده...).
2- منتهى المطلب: ج 1/382 (ط. ق): (ذهب إليه علماؤنا)، الخلاف: ج 1/555: (إجماع الفرقة).
3- تهذيب الأحكام: ج 3/44 ح 66، وسائل الشيعة: ج 8/384 ح 10968.
4- تهذيب الأحكام: ج 3/44 ح 67 / وسائل الشيعة: ج 8/385 ح 10970.

فاجلس معهم»(1) ونحوها غيرها.

أقول: ولابدّ من التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل: إنّ النصوص وإنْ تضمّنت المشي حال الركوع، وحال القيام إلى الثانية أو الثالثة، إلّاأنّ الظاهر جواز المشي بعده، أو حين سجوده أو بعده أو بينهما، وذلك لوجهين:

أحدهما: أنّ ذلك مقتضى القواعد، إذ لو جاز المشي حال الركوع وجاز في حال القيام الثانية، فإنّ هذا يعني جواز كونه على حاله إلى حين القيام، وعدم جواز المشي فيما بين السجدتين، وعدم الجواز المذكور لابدَّ وأن يكون:

إمّا لعدم جواز البقاء على تلك الحالة إلى ذلك الموضع.

أو قدح المشي في الصَّلاة.

أو قدحه في الجماعة.

والأوّل: يندفع بصريح النّصوص الدالّة على جواز المشي حال القيام.

والثاني يندفع بما دلّ على جواز المشي فيها إلى القبلة.

والثالث يندفع بالأصل.

ثانيهما: إلغاء خصوصيّة المورد.

الأمر الثاني: أنّ مناط الحكم وموضوعه، هو خوف الفوت، والملائم مع الاحتمال أيضاً، لصحيح ابن مسلم المتقدّم، ولا يعارضه صحيح عبد الرحمن المعلّق فيه الحكم على الظنّ ، لعدم المفهوم له.

الأمر الثالث: هل يختصّ جواز الاقتداء في مكانه:3.

ص: 209


1- وسائل الشيعة: ج 8/386 ح 10973.

1 - بما إذا لم يكن هناك مانعٌ من موانع الإقتداء، كالبُعد المانع عنه، أو الحائل وغيرهما، فيكون هذا الحكم مستثنى من كراهة انفراد الإنسان بالصَّف وحده، كما عن «التذكرة»(1)، و «الذكرى»(2)، و «البيان»(3)، و «الروض»(4)، و «المسالك»(5)، و «جامع المقاصد»(6)، وغيرها(7)، بل عن «مفتاح الكرامة»(8):

اتّفاق الأصحاب عليه ؟

أم لا، بل يصحّ مطلقاً؟

أم يُفصّل بين البُعد المانع من صحّة الإقتداء في غير المورد وغيره من الموانع، فيصحّ في الأوّل خاصّة، كما عن الشيخ الأعظم رحمه الله(9) وجمعٌ من المحقّقين ؟

وجوه، أقواها الأخير.

أقول: لنا دعويان:

الاُولى: جواز الاقتداء مع البُعد.

الثانية: عدم الجواز مع وجود سائر الموانع.

أمّا الدعوى الاُولى: فقد استدلّ لها المحقّق اليزدي(10):8.

ص: 210


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/183.
2- الذكرى: ص 276.
3- حكاه عنه في الجواهر: ج 14/14، وقد يظهر ذلك من البيان ص 228 في الفصل الثاني: في شرائط الاقتداء.
4- روض الجنان: ص 372.
5- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 14/14، وقد يظهر ذلك من مسالك الأفهام، راجع: ج 1/320.
6- جامع المقاصد: ج 2/498.
7- نهاية الاحكام: ج 2/133.
8- مفتاح الكرامة: ج 10/42 وما بعدها.
9- كتاب الصَّلاة للشيخ الأنصاري: ج 2/588.
10- كتاب الصَّلاة للحائري اليزدي: ص 468.

1 - بظهور الأمر باللّحوق في الوجوب، إذ لولا البُعد المانع عن الاقتداء، لم يجبُ المشي، بل جاز أن يُصلّي في مكانه.

2 - وبأنّ الأمر بالالتحاق بالصف بعد القيام، وإنْ لم يلحق في القيام الأوّل، ففي القيام الثاني لا يوافق إلّامع كونه غير متّصلٍ على نحوٍ يصحّ الإقتداء في غير هذه الصورة.

ولكن يمكن الجواب عن الأوّل: بأنّه وإنْ كان الأمر ظاهراً في الوجوب، إلّا أنّ النصوص الدالّة على جواز أن يقف المأموم في صفٍ وحده تصلحُ لصرف هذا الظهور.

ويمكن الجواب عن الثاني: بأنّه يمكن أن يكون المأموم واقفاً خلف صفٍ طويل يستلزم الالتحاق به إلى قطع مسافةٍ طويلة.

فالصحيح أن يستدلّ لها: بأنّ الظاهر من قوله عليه السلام: (قبل أنْ يبلغ القوم) في صحيح ابن مسلم، وقوله عليه السلام: (قُم فاذهب إليهم) في صحيح إسحاق، وقوله عليه السلام:

(فإذا قام فألحق بالصف) بُعدُه المانع في غير المقام.

وأمّا الدعوى الثانية: فقد استدلّ لها الشيخ الأعظم رحمه الله(1):

بعموم أدلّة منعها، ثمّ أورد على نفسه بوقوع التعارض بينها وبين إطلاقات المسألة، وأجاب عنه بأنّ العمومات والإطلاقات تتساقط للتعارض، وليس في أدلّة الجماعة إطلاقٌ كي يكون هو المرجع، والأصل عدم المشروعيّة.

أقول: يرد عليه أوّلاً: إنّه لو كان لروايات الباب إطلاقٌ ، كان مقدّماً على إطلاقات أدلّة الموانع، لحكومه نصوص الباب على تلك الأدلّة، فإنّها في مقام بيان9.

ص: 211


1- كتاب الصَّلاة: ج 2/589.

تنزيل هذه الجماعة منزلة الجماعة المشروعة.

وثانياً: إنّه لو تساقطت الإطلاقات، كان المرجع إطلاق أدلّة الجماعة، فيما لو صدق على لحوقه الاقتداء عرفاً برغم وجود ذلك المانع، لما عرفت من وجوده؛ ولو سُلّم عدمه، فيكفي في المقام أصالة عدم المانعيّة، لما تقدّم من جريانها عند الشكّ في مانعيّة شيء عنها.

فالصحيح أن يُقال: إنّ النصوص غير واردة في مقام البيان من تلك الجهات، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى تلك الموانع، فالمرجع إطلاقات أدلّة منعها.

الأمر الرابع: في أنّه هل يجب جَرّ الرّجلين حال المشي كما عن جماعةٍ ، أم لايجب، بل يجوز المشي المتعارف، كما هو المنسوب إلى المشهور(1)؟ وجهان، أقواهما الثاني، لإطلاق النصوص.

واستدلّ للأوّل: بمرسل «الفقيه»: «رُوي(2) أنّه يمشي في الصَّلاة يَجرُّ رجليه ولا يَتخطّى ».

وفيه: إنّه ضعيف السند، ومُعرضٌ عنه عند المشهور، فلا يصلح أن يكون مدركاً إلّالحكمٍ استحبابي بضميمة أخبار من بلغ.

الأمر الخامس: أنّه هل يجوز(3) المشي الى الصف حال الاشتغال بالذِّكر الواجب في الركوع، أو القراءة في القيام، أم لا يجوز(4)؟

وجهان، بل قولان، لا يَبعُد الأوّل، للأمر بالمشي حال الركوع في صحيح ابن6.

ص: 212


1- مستمسك العروة: ج 7/215 (كما هو المشهور).
2- من لا يحضره فقيه: ج 11/389 ح 1149.
3- مستند الشيعة: ج 8/137.
4- روض الجنان: ص 376.

مسلم، فإنّ ظاهره - لا سيّما بعد ملاحظة قصر زمان الركوع كما هو المفروض: - جواز المشي حال الاشتغال بالذكر، ولكن الأحوط لزوماً ترك المشي حال الاشتغال به.

ودعوى(1): أنّ مقتضى إطلاق النصوص جوازه.

مندفعة: بما تقدّم من عدم تعرّض النصوص لغير جهة البُعد، وأنّ المُحكّم أدلّة الموانع.

فإنْ قلت: إنّ عمدة دليل اعتبار الطمأنينة حال الذِّكر هو الإجماع، والمتيقّن منه غير المقام.

قلت: إنّ دليل اعتبارها حال القراءة وحال الركوع، هي النصوص، لا الإجماع خاصّة.

الأمر السادس: أنّ هذا الحكم هل هو مختصٌّ بالمسجد، أم يعمّ غيره ؟ وجهان، أقواهما الثاني، لأنّ النصوص وإنْ اشتملت على المسجد، إلّاأنّ الظاهر منها أنّ تمام الموضوع خوف فوت الرّكعة، بلا دخلٍ لعنوان المسجد في هذا الحكم، وإنّما عُبّر به لأنّ الغالب انعقاد الجماعة فيه.

***8.

ص: 213


1- رياض المسائل: ج 4/358.

الرابعة: لو فاتَه بعضُ الصَّلاة، دَخَل مع الإمام، وجعل ما يُدْرِكه أوّل صلاته، فإذا سَلّم الإمام قام وأتمّ الصَّلاة.

في المأموم المسبوق

المسألة (الرابعة: لو فاته) مع الإمام (بعض الصَّلاة، دَخَل مع الإمام) وصَلّى (وَجَعل ما يُدركه أوّل صلاته، فإذا سَلّم الإمام قام وأتمّ الصَّلاة) على حسب ما اقتضاه تكليفه لو كان منفرداً، بلا خلافٍ معتدّ به بيننا، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(1).

ويشهد له: جملةٌ من النصوص، كصحيح الحلبي، عن مولانا الصادق عليه السلام: «إذا فاتكَ شيءٌ مع الإمام، فاجعل أوّل صلاتك ما استقبلتَ منها، ولا تجعل أوّل صلاتك آخرها»(2)، ونحوه غيره.

وعليه، فأصل الحكم ممّا لا إشكال فيه ولا كلام. إنّما الكلام في اُمور:

الأمر الأوّل: إذا أدرك الإمام في الأخيرتين:

هل يجب عليه فيهما القراءة كما عن المرتضى(3)، والشيخ في التهذيبين، وظاهر «النهاية» و «المبسوط»(4)، وابن زُهرة(5) والحلبي(6) وجماعة من

ص: 214


1- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/383: (ذهب إليه علماؤنا أجمع)، الذكرى ص 277: (وهو مذهب علمائنا كافّة)، روض الجنان: ص 376: (وقد اتّفق علماؤنا).
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/404 ح 1199، وسائل الشيعة: ج 8/386 ح 10974.
3- رسائل المرتضى (جمل العلم والعمل): ج 3/41.
4- الاستبصار: ج 1/437، التهذيب: ج 3/45، النهاية: ص 115، المبسوط: ج 1/158.
5- غنية النزوع: ص 89.
6- الكافي للحلبي: ص 145.

متأخّري المتأخّرين(1)؟

أم لا تجب، بل هي مستحبّة، كما عن «المنتهى»، و «التذكرة»، و «المختلف»(2)، و «النفليّة»(3)، و «الفوائد العليّة»(4)، و «السرائر»(3)؟

وجهان، أظهرهما الأوّل، للأمر بالقراءة في جملةٍ من النصوص:

منها: صحيح زرارة، عن سيّدنا الباقر عليه السلام: «إذا أدرك الرّجل بعض الصَّلاة، وفاته بعضٌ خلف إمامٍ يُحتسب بالصلاة خلفه، جَعَل أوّل ما أدرك أوّل صلاته، إنْ أدرك من الظهر أو من العصر أو من العشاء ركعتين، وفاتته ركعتان، قرأ في كلّ ركعةٍ ممّا أدرك خلف إمامٍ في نفسه باُمّ الكتاب وسورة، فإنْ لم يُدرك السّورة تامّة أجزأته أُمّ الكتاب...

إلى أنْ قال: وإنْ أدرك ركعة، قرأ فيها خلف الإمام، الحديث»(4).

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن الرّجل يُدرك الرَّكعتين الأخيرتين من الصَّلاة، كيف يصنع بالقراءة ؟

فقال عليه السلام: إقرأ فيهما، فإنّهما لك الأولتان، ولا تجعل أوّل صلاتك آخرها»(5).

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عنه عليه السلام:

«إذا سَبَقك الإمام بركعةٍ ، فأدركت القراءة الأخيرة، قرأت في الثالثة من5.

ص: 215


1- مستمسك العروة: ج 283/7: (وجماعة متأخّرى المتأخّرين كالمُحدِّث البحراني والمحقّق البهبهاني وغيرهما).
2- مختلف الشيعة: ج 3/85، تذكرة الفقهاء: ج 4/323. (3و4) مستمسك العروة: ج 7/283.
3- السرائر: ج 1/286.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 1/393 ح 1163، وسائل الشيعة: ج 7/388 ح 10977.
5- الكافي: ج 3/381 ح 1، وسائل الشيعة: ج 7/387 ح 10975.

صلاته وهي ثنتان لك، فإنْ لم تُدرك معه إلّاركعةً واحدة، قرأتَ فيها وفي التي تليها، وإنْ سَبَقك بركعةٍ ، جلستَ في الثانية لكَ والثالثة له، حتّى تعتدل الصفوف قياماً»(1).

ونحوها غيرها.

وقد استدلّ للقول الثاني:

1 - بأنّ الأمر فى هذه النصوص بالقراءة يُحمل على إرادة الاستحباب، وذلك لما دلّ من النصوص على سقوط القراءة عن المأموم، وأنّ الإمام ضامنٌ لقراءة المأموم.

2 - ولخلوّ كلام الأكثر عن التعرّض لذلك.

3 - وباشتمال تلك النصوص على ما ليس بلازمٍ ، كترك القراءة في الأخيرتين، والتجافي في التشهّد، فإنّه يُحمل الأمر على غير اللّزوم، لوحدة السياق.

أقول: وفي الكلّ نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ تلك النصوص مختصّة بالمأموم حال قراءة الإمام، ولذا لا شكّ لأحدٍ في عدم سقوطها لو أدركه في التشهّد الأخير. مع أنّه لو سُلّم إطلاقها لابدّ من تقييده بالنصوص المتقدّمة.

وأمّا الثاني: فلعدم شهادته بعدم الوجوب.

وأمّا الثالث: فلأنّ بعض النصوص غير مشتملٍ على ما اُشير إليه، كموثّق عمّار، مع أنّ ذلك لا يصلح لرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب، بعد كون الوجوب والاستحباب خارجين عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه، وكونهما منتزعين من الترخيص في ترك المأمور به وعدمه.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو الوجوب.6.

ص: 216


1- الكافي: ج 3/381 ح 4، وسائل الشيعة: ج 7/387 ح 10976.

الأمر الثاني: إذا لم يمهله الإمام لقراءة السَّورة، اكتفى بالحمد خاصّة، بلا خلافٍ .

ويشهد به صحيح زرارة المتقدّم(1).

والمراد من عدم الإمهال المجوّز لترك السّورة، هو دخول الإمام في الركوع قبل شروع المأموم في السّورة، إذ الظاهر من قوله عليه السلام: (فإنْ لم يُدرك السَّورة التامّة أجزأه أُمّ الكتاب) عدم إدراكها على النحو المتعارف في الجماعة، من كون وضع المصلّين على هيئة واحدة من القيام والركوع وغيرهما من الأفعال.

نعم، الأحوط أن يقرأها إذا أمكنه إتمام السّورة، واللّحوق بآخر ركوع الإمام.

وأيضاً: لو أعجله الإمام عن الحمد، فهل يجب عليه الإتيان به بتمامه واللّحوق بالإمام في السّجود؟

أم يجوز ترك ما لم يُمهله الإمام ؟

قولان، لا يبعد القول الثاني، لصحيح معاوية، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن الرّجل يُدرك آخر صلاة الإمام، وهو أوّل صلاة الرّجل، فلا يمهله حتّى يقرأ فيقضي القراءة في آخر صلاته ؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

ودلالته على سقوطه في الفرض ظاهرٌ، حيث أنّه عليه السلام قرّر السائل على ترك القراءة عند عدم إمهاله الإمام.

فإنْ قلت: إنّه متضمّنٌ لما لا نقول به، وهو قضاء القراءة آخر الصَّلاة، فلابدّ من طرحه.

قلت أوّلاً: إنّه يمكن أن يكون المراد بقضاء القراءة آخر الصَّلاة، اختيارها في8.

ص: 217


1- تقدّم آنفاً.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/274-275 ح 117، وسائل الشيعة: ج 7/388 ح 10978.

الأخيرتين على التسبيح، فجوابه عليه السلام يدلّ على رجحانه.

وثانياً: أنّ إجمال هذه الفقرة منه أو ظهورها فيما لا نقول به، لا يضرّ بالاستدلال بصدر الخبر.

ثمّ إنّ الخبر في بادئ النظر وإنْ كان مختصّاً بصورة عدم الشروع في القراءة أصلاً، إلّاأنّه يمكن أن يُقال إنّه بعد التدبّر فيه، يظهر شموله لما إذا شَرَع فيها ولم يُمهله الإمام لإتمامها، بأنْ يكون المراد القراءة الموظّفة.

مع أنّه لو سُلّم الاختصاص يجب التعدّي عن مورده إلى الفرض الثاني، بإلغاء خصوصيّة المورد.

ويؤيّده مفهوم الخبر المحكيّ عن «دعائم الإسلام» مرسلاً، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «وليقرأ فيما بينه وبين نفسه إنْ أمهله الإمام»(1).

وعن الباقر عليه السلام: «فاقرأ لنفسك بفاتحة الكتاب إنْ أمهلك الإمام، أو ما أدركتَ أن تقرأ»(2).

وعن المحقّق النائيني رحمه الله: الاستدلال له بأنّ وجوب القراءة مزاحمٌ مع وجوب متابعة الإمام في أفعاله، وحيثُ أنّ الثاني أهمّ ، لعدم معهوديّة ترك المتابعة في الركوع، بمزاحمة واجبٍ من الواجبات، الكاشف عن أهميّة إدراكه على ما يزاحمه، فيقدّم.

وفيه: إنّه لا تزاحم بينهما، فإنّه يمكن له أن لا يُخالف شيئاً منهما، بأن ينفرد في صلاته، ولو التزمنا بعدم جواز قصد الإنفراد اختياراً، فإنّه لا كلام في جوازه في3.

ص: 218


1- دعائم الإسلام: ج 1/191، مستدرك وسائل الشيعة: ج 6/489 ح 7330.
2- دعائم الإسلام: ج 1/192، مستدرك وسائل الشيعة: ج 6/490 ح 7333.

أمثال هذا المقام، مع أنّ أهميّة الثاني غير ثابتة، وما ذُكر في وجهه غير ظاهر.

وعليه، فالصحيح ما ذكرناه، ومع ذلك كلّه الأحوط من حيث صحّة الصَّلاة إتمام القراءة، واللّحوق به في السّجود، وقصد الإنفراد من جميع الجهات.

الأمر الثالث: إذا أدرك الإمام في الرّكعة الثانية، يستحبّ له متابعته في القنوت، لموثّق عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في الرّجل يدخل في الرّكعة الأخيرة من الغداة مع الإمام، فقَنَتَ الإمام أيقنت معه ؟ قال عليه السلام: نعم، ويجزيه من القنوت لنفسه»(1).

وظاهره عدم استحباب القنوت في الرّكعة الثانية له، وهو وإنْ كان مورده الغداة، إلّاأنّه لإلغاء خصوصيّة الغداة، يستفاد منه الاستحباب بالكليّة.

الأمر الرابع: هل يجب متابعة الإمام في التشهّد، وإنْ لم يكن موضعُ تشهّدٍ للمأموم، أم لا؟ وجهان.

قد استدلّ للأوّل:

1 - بما دلّ على وجوب المتابعة.

2 - وبقوله عليه السلام في خبر عليّ بن جعفر الوارد في المأموم المسبوق بركعتين في المغرب: «يقعد فيهنَّ جميعاً»(2).

ولكن يرد على الأوّل: أنّ المتابعة واجبة في أفعال صلاة المأموم الواجبة عليه، ولا دليل على وجوبها في كلّ ما يفعله من الأفعال، ولو لم يكن واجباً على المأموم من حيث هو.8.

ص: 219


1- تهذيب الأحكام: ج 2/315 ح 143، وسائل الشيعة: ج 6/287 ح 7988.
2- وسائل الشيعة: ج 8/417 ح 11058.

ويرد على الثاني: أنّه واردٌ في مقام بيان وجوب التشهّد في الثانية والثالثة، وعدم سقوطه فيهما بالجلوس في الاُولى ، ولا يدلّ على أنّ ما أتى به تبعاً للإمام كان واجباً عليه، كما يشهد به السؤال:

«الرّجل يَدركُ ركعةً من المغرب، كيف يصنع حين يقوم يقضي، أيقعدُ في الثانية والثالثة ؟

وعليه، فالأظهر عدم الوجوب، وجواز بقائه ساجداً إلى أن يقوم.

نعم، يجوز ذلك، لخبر إسحاق بن يزيد، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: جُعِلتُ فداك، يسبقني الإمام بركعة، فيكون لي واحدة وله ثنتان، أفأتشهّد كلّما قعدت ؟ قال عليه السلام: نعم، فإنّما التشهّد بركة»(1).

ونحوه موثّق الحسين بن المختار(2)، وغيره.

وأيضاً: وهل يجبُ عليه التجافي فيه أم لا؟ وجهان:

يشهد للأوّل:

1 - قوله عليه السلام في صحيح الحلبي: «من أجلسه الإمام في موضعٍ يجبُ أن يقوم فيه، يتجافى وأقعى إقعاءً ولم يجلس متمكّناً»(3).

2 - وقوله عليه السلام في صحيح ابن الحجّاج: «يتجافى ولا يتمكّن من القعود»(4).

واستدلّ للثاني: بأنّه بما أنّ التجافي ليس من أفراد الجلوس حقيقةً أو انصرافاً، ولأجله لا يمكن حمل القعود المذكور في بعض النصوص المتقدّم عليه، فلا محالة5.

ص: 220


1- الكافي: ج 3/381 ح 3، وسائل الشيعة: ج 8/416-417 ح 11056.
2- وسائل الشيعة: ج 8/416 ح 11055.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 1/404 ح 1199، وسائل الشيعة: ج 8/418 ح 11060.
4- تهذيب الأحكام: ج 3/46 ح 71، وسائل الشيعة: ج 8/387 ح 10975.

يُحمل الأمر به على الاستحباب، جمعاً بين النصوص.

وفيه: الظاهر صدقه عليه، ويؤيّده قوله عليه السلام: (ولا يتمكّن من القعود) ولو كان التجافي غير القعود، لكان ينبغي أن يقول: (ولا يقعد).

وبالجملة: فالقول بوجوب التجافي، لو لم يكن أقوى ، لا ريب في أنّه أحوط.

وأيضاً: لو جلس أي تابعه في هذا الفعل، استحبّ له أن يتشهّد، للأمر به في خبري إسحاق وابن المختار المتقدّمين، المحمول على الندب بلا خلافٍ ، ويشهد له قوله عليه السلام: (إنّما التشهّد بركة)(1).

الأمر الخامس: يجب الإخفات في القراءة خلف الإمام، لقوله عليه السلام في صحيح زرارة المتقدّم: «قرأ في كلّ ركعةٍ ممّا أدرك خَلف الإمام في نفسه باُمّ الكتاب وسورة»، لأنّ ظهور الجملة الخبريّة في الوجوب لا ينكر.

وهل يجب الإخفات بالبسملة أيضاً أم يستحبّ الجهر بها؟

الظاهر هو الأوّل، لما دلَّ على وجوب الإخفات في القراءة الشاملة لها، وأمّا ما دلّ على استحباب الجهر بالبسملة، فهو بين ما لاإطلاق له، ومايكون ضعيف السند.

الأمر السادس: إذا أدرك مع الإمام الركعتين الأخيرتين، وسبّح الإمام، ولم يقرأ المأموم فيهما لعدم تيسّرها له:

فالمشهور(2) بقاء التخيير بين الفاتحة والتسبيح في الأخيرتين له.

وعن بعضٍ القول(3) بوجوب القراءة هنا في ركعةٍ .

ص: 221


1- تهذيب الأحكام: ج 3/56 ح 108، وسائل الشيعة: ج 8/416-417 ح 11056.
2- مسالك الأفهام: ج 1/323: (والمشهور بقاء التخيير)، مجمع الفائدة: ج 3/327: ونقل في الشرح عن بعض الأصحاب وجوب الفاتحة في ركعة: (لئلّا تخلو الصَّلاة عن الفاتحة، فالمشهور بقاء التخيير).
3- مجمع الفائدة: ج 3/327. نقل في الشرح عن بعض الأصحاب وجوب الفاتحة في ركعة، (لئلّا تخلو الصَّلاة عن الفاتحة)، مسالك الأفهام: ج 1/323 (نعم ذهب بعض أصحابنا إلى من فاتته الركعتان... وجب على المأموم أن يقرأ بالحمد في الأخيرتين حذراً من خلوّ صلاته من الفاتحة ولا صلاة إلّابها).

واستدلّ له:

1 - بما دلّ على أنّه (لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب)(1).

2 - وبمرسل أحمد بن النضر: «في الرّجل إذا فاته مع الإمام ركعتان، يقرأ بفاتحة الكتاب في كلّ ركعة»(2).

3 - وبصحيح معاوية، عن الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يُدرك آخر صَّلاة الإمام، وهو أوّل صلاة الرّجل، فلا يُمهله حتّى يقرأ، فيقضي القراءة في آخر صلاته ؟ قال عليه السلام: نعم».

ولكن يرد على الأوّل: ما تقدّم في هذا الشرح في مسألة من نسي القراءة في الأولتين، وقد بيّنا هناك ضعف هذا الوجه.

ويرد على الثاني: - مضافاً إلى إرساله - أنّ ظاهره وجوب الفاتحة في كلّ ركعةٍ ، وهو لا ينطبق على المدّعى، فحينئذٍ هو كسائر ما يدلّ بظاهره على تعيّن الفاتحة في الأخيرتين، وقد تقدّم الكلام فيها مفصّلاً في بحث (ما يجب في الركعات الأخيرة) هذا الشرح.

ويرد على الثالث: مضافاً إلى إجماله - أنّ مورده ما لو أدرك ركعة من صلاة الإمام، ووجوب الفاتحة في هذه الصورة في الأخيرتين ممّا لم يقل به أحدٌ، فهذا أيضاً لا ينطبق مفاده على المدّعى.

وعليه، فالأظهر بقاء التخيير، لإطلاق أدلّته.

***0.

ص: 222


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 4/158 ح 4365 و ح 4368.
2- وسائل الشيعة: ج 8/389 ح 10980.
اختلاف الإمام والمأموم اجتهاداً أو تقليداً

المسألة الخامسة: هل يجوز اقتداء المجتهد أو مقلّده بمجتهدٍ آخر أو بمقلّده المخالف له في الفروع، مع استعماله محلّ الخلاف في الصَّلاة أم لا، أم هناك تفصيل ؟

وجوه، أقواها الأخير، فإنّه:

1 - إذا كان المُخلّ به في صلاة الإمام من الفعل أو الترك بنظر المأموم ممّا لايخلّ مطلق وجوده، وإنّما يخلّ بها إذا كان عمديّاً وعن علم أو جهلٍ تقصيري - وهي جميع الأجزاء والشرائط والموانع غير الخمسة المستثناة في حديث (لا تعاد الصَّلاة)(1)، بناءً على ما تقدّم من شموله للموانع أيضاً - صحّت صلاته واقتداءه، لما تقدّم من شمول حديث (لا تعاد الصَّلاة) الجاهل القاصر أيضاً، وأنّ مفاده صحّة الصَّلاة حين الإتيان بها، إذ عليه تكون صلاة الإمام صحيحة حتّى عند المأموم، فيصحّ الاقتداء به، فلو تستّر الإمام بسنجابٍ ونحوه ممّا يرى المأموم عدم جوازه، جاز له الائتمام به.

أقول: ويستفاد ذلك من صحيح جميل أيضاً:

«في إمامِ قومٍ أجنبَ وليس معه من الماء ما يكفيه للغُسل، ومعهم ما يتوضّؤون به، أيتوضّأ بعضهم ويُصلّي بهم ؟

قال عليه السلام: لا، ولكن يتمّم الجُنُب ويُصلّي بهم، فإنّ اللّه جَعل التراب طهوراً»(2).

فإنّه بعموم علّته يدلّ على أنّه يجوز الائتمام لو كانت صلاة الإمام صحيحة،

ص: 223


1- وسائل الشيعة: ج 1/371-372 ح 980، وذكره في مواطن كثيرة أيضاً.
2- وسائل الشيعة: ج 8/327 ح 10803.

وإنْ كانت ناقصة.

هذا في غير ما يتعلّق بالقراءة في الرَّكعتين الأولتين.

وأمّا فيما يتعلّق بالقراءة فيهما، في مورد تحمّل الإمام عن المأموم، فيُشكل الحكم بالصحّة، كما تقدّم في شرائط إمام الجماعة.

2 - وأمّا إنْ كان المُخل به ممّا يوجب بطلان الصَّلاة مطلق وجوده، كما إذا كان الإمام يرى بقاء وقت العشاءين إلى طلوع الفجر، والمأموم يرى انتهاء وقتهما بانتصاف اللّيل، فأراد المأموم أن يقتدي في صلاة قضائه بالإمام المُصلّي أداءً بعد انتصاف اللّيل، فالأظهر عدم جواز الائتمام، لأنّ ما يفعله الإمام بنظر المأموم ليس إلّا صورة صلاة ليست بصلاةٍ في الواقع، والمشروع إنّما هو الاقتداء بالمُصلّي وهو ليس بمصلٍّ حقيقة باعتقاد المأموم.

ولا فرق فيما ذكرناه بين ما إذا ثبت بطلان صلاة الإمام لديه بدليلٍ قطعي أو ظنّي.

***

ص: 224

تبيّن بطلان الجماعة

المسألة السادسة: إذا ثبت أنّ الإمام كافرٌ أو فاسق أو على غير طهارة:

فتارةً : يكون ذلك بعد الصَّلاة.

واُخرى : يكون في أثنائها.

فالكلام يقع في موضعين:

الموضع الأوّل: لو كان وقوفه عليذلك بعدالصَّلاة، صحّت صلاته، وبطل اقتداءه.

أقول: لنا دعويان:

الاُولى: صحّة الصَّلاة.

الثانية: بطلان الاقتداء.

أمّا الدعوى الاُولى: فيشهد لها جملةٌ من النصوص:

منها: مرسل ابن أبي عمير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في قومٍ خرجوا من خراسان أو بعض الجبال، وكان يؤمّهم رجلٌ ، فلمّا صاروا إلى الكوفة، علموا أنّه يهودي ؟ قال عليه السلام: لا يعيدون»(1). ونحوه غيره.

وهي وإنْ وردت في الكفر، إلّاأنّه يثبت في الفِسق أيضاً بالأولويّة، والإجماع المركّب(2).

ومنها: صحيح الحلبي: «مَنْ صَلّى بقومٍ وهو جُنُب أو على غير وضوء، فعليه

ص: 225


1- تهذيب الأحكام: ج 3/40 ح 53، وسائل الشيعة: ج 8/374 ح 10941.
2- رياض المسائل: ج 1/293 (ط. ق) (لكنّه ملحق بالكفر إجماعاً وبطريق أولى)، مستند الشيعة: ج 8/130 (... بل إجماعاً مركّباً).

الإعادة، وليس عليهم أن يُعيدوا، وليس عليه أن يُعلمهم»(1). ونحوه غيره.

وعن الإسكافي(2) وعَلَم الهدى(3): وجوب الإعادة، واستدلّ له:

1 - بصحيح معاوية: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أيضمن الإمام صلاة الفريضة، فإنّ هؤلاء يزعمون أنّه يضمن ؟

فقال عليه السلام: لا يضمن، أيّ شيءٍ يضمن ؟! إلّاأن يُصلّي بهم جُنُباً أو على غير طهر»(4).

فإنّ مقتضى الاستثناء، بطلان صلاة المأموم في تلك الصورة، إذ لو كانت صلاتهم صحيحة، لم تفوتهم شيء حتّى يكون الإمام ضامنا.

2 - وبقوله عليه السلام في الخبر المنقول في «دعائم الإسلام»: «فإذا فَسَدت صلاة الإمام، فَسَدَت صلاة المأمومين»(5).

3 - وبما عن «نوادر الراوندي»(6): «مَنْ صَلّى بالنّاس وهو جُنُبٌ أعاد هو، وأعاد النّاس»(7).

أقول: وفي الكلّ نظر.

أمّا الأخيران: فلأنّهما ضعيفان سنداً.

وأمّا الأوّل: فلأنّه مختصٌّ بخصوص فَقْد الطهارة، مع أنّه معارَضٌ بالنصوص1.

ص: 226


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/403-404 ح 1198، وسائل الشيعة: ج 8/371 ح 10932.
2- مختلف الشيعة: ج 3/70.
3- السرائر: ج 1/282 (.. وذهب السيّد المرتضى إلى وجوب الإعادة).
4- تهذيب الأحكام: ج 3/277 ح 133، وسائل الشيعة: ج 8/373 ح 10937.
5- دعائم الإسلام: ج 1/152.
6- الحدائق الناضرة: ج 11/232.
7- مستدرك وسائل الشيعة: ج 6/485 ح 7321.

المتقدّمة، فيُحمل على الاستحباب، مضافاً إلى أنّه يمكن أن يكون المراد منه - كما قيل - أنّ الإمام متعهّدٌ للمأمومين بأنْ يُصلّي على طُهر، ولو تخلّف فإنْ كان عمديّاً أثم، وإلّا فهو معذور، ويترتّب عليه لزوم إعلام المأمومين لو تبيّن للإمام حاله في الأثناء، وهذا لا علاقة له بصحّة صلاة المأمومين وعدمها، فالقول بوجوب الإعادة ضعيف.

ومقتضى إطلاق النصوص، وترك الاستفصال، صحّة صلاة المأموم وإنْ ارتكب ما لا يُغتفر للمنفرد، كما لو زاد ركناً أو نحوه ممّا يُخلّ بصلاة المنفرد للمتابعة.

ودعوى: أنّها واردة في مقام نفي اقتضاء فساد صلاة الإمام، لبطلان صلاة المأموم، من غير تعرّض فيها لغير ذلك.

مندفعة: بأنّها في مقام صحّة صلاة المأموم الّتي يؤتى بها، على حسب مايقتضيه أدلّة الجماعة.

ودعوى: معارضتها مع دليل قدح ذلك في صحّة الصَّلاة، فتُحمل هذه النصوص على ما لو لم يزد ركناً أو نحوه ممّا يخلّ بصلاة المنفرد، جمعاً بين الأدلّة.

مندفعة: بأنّ هذه النصوص على فرض تسليم إطلاقها، تكون حاكمة على تلك الأدلّة، كما لا يخفى .

وأمّا الدعوى الثانية: فيشهد لها ما دلَّ على اعتبار كون الإمام عادلاً مسلماً، وكونه مصلّياً، فإنّ هذه الأدلّة تقتضي بطلانها مع فَقْد أحد هذه القيود، والنصوص المتقدّمة، غاية مايستفاد منها صحّة الصَّلاة، ولا تدلّ على صحّة الاقتداء.

الموضع الثاني: لو ثبت كون الإمام كافراً، أو فاسقاً، أو على غير طهارة في الأثناء، نوى المقتدي الإنفراد وصحّت صلاته، لصحيح زرارة:

ص: 227

«عن رجلٍ صلّى بقومٍ ركعتين، ثمّ أخبرهم أنّه ليس على وضوء؟ قال عليه السلام: يتمّ القوم صلاتهم، فإنّه ليس على الإمام ضمان»(1).

وقيل: يستأنف صلاته، لما عن «المنتهى»(2) من أنّ في رواية حمّاد عن الحلبي:

«يستقبلون صلاتهم إذا اخبرهم الإمام في الأثناء أنّه لم يكن على طهارة».

وفيه: إنّ الرواية غير مرويّة في الكتب المعتمدة، كما اعترف به جماعة منهم صاحب «الحدائق» رحمه الله(3) فضلاً عن أنّها معرض عنها عند الأصحاب.

مضافاً إلى أنّه على فرض وجودها وحجيّتها، لابدَّ من حملها على الاستحباب، جمعاً بينها وبين الصحيح المتقدّم.

وبالجملة: فالقول بوجوب الإعادة ضعيف.

***4.

ص: 228


1- تهذيب الأحكام: ج 3/269 ح 92، وسائل الشيعة: ج 8/371-372 ح 10933.
2- منتهى المطلب: ج 1/370 (ط. ق)، وأيضاً حكاه الشهيد في ذكرى الشيعة: ج 4/320.
3- الحدائق الناضرة: ج 11/234.
استحباب إعادة الصَّلاة جماعة
اشارة

المسألة الثامنة: لا خلاف(1) على الظاهر في أنّه يستحبُّ أن يعيد المنفرد صلاته التي صلّاها، إذا وجد من يُصلّي تلك الصَّلاة جماعةً ؛ إماماً كان أو مأموماً، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(2).

ويشهد له: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح ابن بزيع، قال: «كتبتُ إلى أبي الحسن عليه السلام إنّي أحضرُ المساجد مع جيراني وغيرهم، فيأمرونني بالصلاة بهم، وقد صلّيت قبل أن آتيهم، وربما صَلّى خلفي من يقتدي بصلاتي، والمستضعف والجاهل، فأكره أن أتقدّم، وقد صلّيت لحال من يُصلّي بصلاتي ممّن سمّيتُ لك، فمُرني في ذلك بأمرك أنتهي إليه، وأعمل به إنْ شاء اللّه تعالى؟ فكتب عليه السلام: صلِّ بهم»(3).

ومنها: صحيح هشام بن سالم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرَّجل يُصلّي الصَّلاة وحده، ثمّ يجد جماعة ؟ قال عليه السلام: يُصلّي معهم ويجعلها الفريضة إنْ شاء»(4)ونحوهما غيرهما.

وعليه، فلا إشكال في استحباب إعادة المنفرد إماماً كان أو مأموماً، كما لا إشكال في عدم استحباب إعادة المنفرد أو المأموم أو الإمام منفرداً، وكذلك لا

ص: 229


1- الحدائق: ج 11/162 (ولا خلاف فيه بين الأصحاب، بل ادّعى عليه الإجماع جمعٌ منهم).
2- مدارك الأحكام: ج 4/341: (مجمعٌ عليه بين الأصحاب)، رياض المسائل: ج 1/234 (ط. ق)، ذخيرة المعاد: ج 2/395: (... متّفقٌ عليه بين الأصحاب).
3- الكافي: ج 3/380 ح 5، وسائل الشيعة: ج 8/402 ح 11018.
4- الكافي: ج 3/379 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/401 ح 11014.

ينبغي التوقّف في عدم استحباب إعادة الإمام مأموماً.

أقول: إنّما الكلام في صورٍ ثلاث:

الاُولى: إعادة الإمام إماماً.

الثانية: إعادة المأموم إماماً.

الثالثة: إعادة المأموم مأموماً.

أمّا الصورة الاُولى : فعن المحقّق النائيني جوازه(1)، واستدلّ له بإطلاق صحيح ابن بزيع المتقدّم، بدعوى أنّ إطلاق قوله: (وقد صلّيتُ قبل أن آتيهم) يشمل ما إذا كان صَلّى جماعة.

أقول: هذا حسنٌ ، والإيراد عليه ببُعد إقامة الجماعة في غير المسجد، مع تمكّنه من حضور مساجد جيرانه من غير تقيّةٍ ، غير تامّ ، فإنّه لا بُعد في ذلك في تلك الأزمنة، كما لا يخفى ، فالأظهر جوازه.

وأمّا الصورة الثانية: فعن غير واحدٍ(2) منهم الشيخ الأعظم رحمه الله جوازه(3)، واستدلّ له:

1 - بما رُوي أنّ معاذاً كان يُصلّي مع النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ يرجع فيُصلّي بقومه(4).

2 - وبما عن «عوالي اللآلي»(5) عن فخر المحقّقين رحمه الله، عن والده المصنّف رحمه الله(6):).

ص: 230


1- ذكرها السيّد الخوئي في: ج 17/419.
2- كالسيّد الخوئي في كتاب الصَّلاة: ج 17/419-420.
3- كتاب الصَّلاة للشيخ الأنصاري: ج 2/358-359.
4- صحيح مسلم: ج 1/339 ح 465، سنن أبي داود: ج 1/163 ح 599 وغيرهما.
5- عوالي اللّئالي: ج 2/224.
6- نهاية الاحكام: ج 2/114، منتهى المطلب: ج 6/277 (ط. ج).

(روي أنّ أعرابيّاً جاء إلى المسجد وقد فرغ النبيّ صلى الله عليه و آله وأصحابه من الصَّلاة، فقال:

ألا رجلٌ يتصدّق على هذا فيُصلّي معه، فقام شخصٌ فأعاد صلاته وصَلّى به».

وأورد عليهما بضعف السند.

أقول: إنّ (أخبار من بلغ) تصلح لإثبات الاستحباب، برغم ضعف الخبرين.

ودعوى: أنّه لا يمكن حينئذٍ ترتيب آثار الجماعة على مثل هذه الجماعة، الثابت استحبابها بأخبار من بلغ.

مندفعة: بما تقدّم في أوّل مبحث الجماعة،(1) مع أنّه لا بأس بالتمسّك به بإطلاق صحيح ابن بزيع المتقدّم.

وأمّا الصورة الثالثة: فعن جماعةٍ منهم الشهيدان جوازه(2)، وهو الأظهر، لإطلاق جملةٍ من النصوص:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا صلّيت وأنتَ في المسجد، واُقيمتِ الصَّلاة، فإنْ شئتَ فاخرُج، وإنْ شئت فصلِّ معهم»(3).

ومنها: غيره(4).

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر استحباب الإعادة في صور خمس، وعدمه في أربع.

أقول: بقي في المقام البحث عن اُمور:
جواز الإعادة في موارد إنّما يختصُّ بالمرّة الاُولى

الأمر الأوّل: أنّ جواز الإعادة في موارد إنّما يختصُّ بالمرّة الاُولى، ولا دليل على جوازها مراراً، والأصل يقتضي عدم الجواز.

ص: 231


1- فقه الصادق: ج 8/484.
2- روض الجنان: ص 370 (قولان أصحّهما الجواز).
3- تهذيب الأحكام: ج 3/279 ح 141، وسائل الشيعة: ج 8/402-403 ح 11021.
4- راجع وسائل الشيعة: ج 8/398 باب 53 من أبواب صلاة الجماعة.
في تبديل الامتثال

الأمر الثاني: هل يتعيّن في الصّلاة المعادة نيّة الندب(1)، أم يجوز نيّة الوجوب ؟

قولان، المنسوب إلى جماعة منهم الشهيدان هو الثاني(2)، وظاهر الأكثر هو الأوّل(3).

وقد استدلّ لجواز نيّة الوجوب:

1 - بصحيح هشام المتقدّم: «ويَجعَلُها الفريضة إنْ شاء»(4).

2 - وبما في بعض النصوص: «يختار اللّه أحبّهما إليه»(5).

3 - وبما في مرسل «الفقيه»: «يحسبُ له افضلهما وأتمّهما»(4).

واعترض على ذلك الشيخ الأعظم رحمه الله (5) : بأنّ الفعل الأوّل قد وقع على جهة الوجوب، مستجمعاً لشرائط إسقاط الواجب، فلا يعقل نفي الوجوب عنه، ولا وجوبَ آخر حتّى يقع الفعل الثاني عليه.

وأجاب عنه المحقّق الهمداني رحمه الله (6) : تشييداً لأركان ما استدلّ به على هذا القول، بما حاصله:

إنّ تبديل الامتثال وإنْ كان لا يجوز في نفسه، إلّاأنّ ذلك ما لم يدلّ دليلٌ على

ص: 232


1- مدارك الأحكام: ج 4/343.
2- روض الجنان: ص 372، الدروس: ج 1/223: (ولو نوى الفرض جاز).
3- كتاب الصَّلاة للشيخ الأنصاري: ج 2/263: (ظاهر الأكثر الندب). (4و5) تهذيب الأحكام: ج 3/270 ح 96، وسائل الشيعة: ج 8/403 ح 11023.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 1/384 ح 1132، وسائل الشيعة: ج 8/401 ح 11017.
5- كتاب الصَّلاة: ج 2/263.
6- مصباح الفقيه: ج 2/665 ق 2.

جوازه، وحيثُ أنّ المفروض دلالة الدليل عليه في المقام، فلا محذور في الالتزام به.

أقول: إنّ مفاد أخبار الباب استحبابُ الإعادة في نفسها، مثل ما دلَّ على استحباب إعادة صلاة الآيات ما دامت الآية باقية، فيكون كلّ فردٍ امتثالاً لأمرٍ غير ما يكون الآخر امتثالاً له، وليس من باب تبديل الامتثال، والذي دعا الجماعة إلى الالتزام بدلالتها على جواز تبديل الإمتثال، إنّما هو تضمّن تلك النصوص لجُملٍ ثلاث، كما صرّحوا بذلك في الوجه الذي استدلّوا به في المقام(1)؛ وهي:

إحداها: قوله عليه السلام: (يُحسَبُ له أفضلهما وأتمّهما)، كما في مرسل «الفقيه».

الثانية: قوله عليه السلام: (يختارُ اللّه أحبّهما إليه)، كما في خبر أبي بصير.

الثالثة: قوله عليه السلام: (يجعلها الفريضة) كما في صحيح هشام وغيره.

أقول: ولكن شيئاً منها لا يدلّ على ذلك:

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر من المرسل المتضمّن لها، وروده في الصَّلاة مع المخالفين، فيكون نظير طائفة من النصوص الواردة في الباب، الدالّة على استحباب الإعادة مع المخالفين، والمستفادُ من مجموعها أنّها لا تُحسب صلاةً ولو نافلة، بل في بعضها التصريح بأنّه يجعلها تسبيحاً، وذكرا وفي آخر: «أريهم أنّي أسجدُ وما أسجدُ»(2)، فهو خارجٌ عن مورد البحث، وأجنبيٌ عن تبديل الامتثال، بل المراد من هذه الجملة حينئذٍ أنّ الصَّلاة معهم تقيّة، لما فيها من المصالح، وأنّ أفضل العملين له، أي الصَّلاة الثانية وإنْ كانت صوريّة فهي أفضل من الاُولى الحقيقيّة للمصالح العظيمة.

وعليه، فيتعيّن قراءة أفضلهما وأتمَّهما بالنَّصب لا بالرفع كما لا يخفى .5.

ص: 233


1- تقدّم هذه الروايات المستدلّ بها في الصفحتين السابقتين.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/269-270 ح 94، وسائل الشيعة: ج 8/304 ح 10735.

والشاهدُ على أنّ الخبر المرسل من هذه الطبقة النصوص، أنّ الظاهر كونه تتمّة رواية رواها عن الإمام الصادق عليه السلام، الواردة في الصَّلاة معهم، وهي: «قال رجلٌ للصادق عليه السلام: إنّي اُصلّي في أهلي ثمّ أخرجُ إلى المسجد، فيقدّموني ؟ فقال عليه السلام:

تقدّم لا عليك وصَلِّ بهم»(1).

وفي خبر آخر: «وصَلِّ بهم لا صَلّى اللّه عليهم»(2).

وأمّا الجملة الثانية: فلأنّ المراد منها - على الظاهر ولا أقلّ من المحتمل - هو أنّ اللّه تعالى يُعطي الثواب على الصَّلاة الكاملة منهما، الواقعتين بداعي امتثال الأمرين من الوجوبي والندبي، لا أنّ الصَّلاة التي تكون أحبُّ هي المُسقطة للأمر الوجوبي، وأنّها التي يستقرُّ عليها الإمتثال، والمُحصّلة للغرض الأقصى ، والشاهد على ذلك قوله عليه السلام: (أحبّهما إليه) الظاهر في اشتراكهما في المحبوبيّة، إذ القائل بتبديل الامتثال لايلتزم بذلك.

وأمّا الجملة الثالثة: ففيهما احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المراد بها، الإتيان بالثانية بعنوان القضاء عمّا في الذمّة من الصَّلوات الفاسدة، أو التي لم يؤتَ بها، ويؤيّده قوله عليه السلام في صحيح هشام:

(يجعلها الفريضة إنْ شاء).

الاحتمال الثاني: ما ذكره شيخ الطائفة(3) وهو أنّ المراد بها، أنّ من يُصلّي ولم يَفرغ من صلاته، ووجد جماعةً ، فله أن يجعلها نافلة، ثمّ يُصلّي الفريضة جماعة.8.

ص: 234


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/383 ح 1130، وسائل الشيعة: ج 8/401 ح 11016.
2- الكافي: ج 3/379-380 ح 4، وسائل الشيعة: ج 8/402 ح 11019.
3- تهذيب الأحكام: ج 3/50 في تعليقته على رواية البختري رقم 88.

وأيّده الوحيد البهبهاني(1) بأنّ ذلك هو ظاهر صيغة المضارع، وأنّ راوي هذا الخبر روى هذا المعنى الذى ذكره الشيخ، عن سليمان بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام.

الاحتمال الثالث: أن يكون المراد بها ما ذكره بعض المحقّقين رحمه الله من جعلها فريضة ذاتيّة من ظهرٍ أو عصر أو نحوهما ممّا أدّاها سابقاً، لا نافلة ذاتيّة، حيث لا جماعة فيها.

وعلى أيّ تقديرٍ، تكون الرواية أجنبيّة عمّا استدلّ بها له.

أقول: ويشهد لعدم كون نصوص الإعادة في مقام بيان جواز تبديل الامتثال، ما في بعضها: (فإنّ له صلاة اُخرى )، مضافاً إلى عدم معقوليّته ثبوتاً، إذ الأمر إنْ كان باقياً بعد الإتيان بفردٍ، فبما أنّه إيجابي يجبُ الإتيان به ثانياً، وإلّا فلا موجب للإتيان به.

وأيضاً: نُسِب إلى المحقّق العراقي في توجيه نصوص الإعادة كلامٌ لا بأس بنقله تتميماً للبحث، وهو: إنّ الأمر بالشيء:

1 - إمّا أن يكون لاشتماله على الغرض والمصلحة.

2 - وإمّا أن يكون لكونه مقدّمةً لما فيه الغرض الأقصى .

وعلى الثاني:

فتارةً : يكون ما فيه الغرض - وهو ذو المقدّمة - فعلُ المكلّف، كالصلاة بالإضافة إلى مقدّماتها مثل الوضوء ونحوه.

واُخرى : يكون هو فعل المولى .ة.

ص: 235


1- محاضرات في اُصول الفقه ج 2 تقرير بحث الخوئي للفيّاض ص 229، ذكر رأي الوحيد، وفي المصدر (حاشية المدارك ص 254 بحث صلاة الجماعة) ط. حجريّة.

وعلى الثاني:

1 - فقد يكون من أفعاله الجوارحيّة، كأمر المولى عبده بإحضار الماءليشربه.

2 - وقد يكون من أفعاله الجوانحيّة، كأمر المولى عبده بإعادة الصَّلاة جماعة، ليختار أحبّ الصَّلاتين إليه.

وعلى ذلك، فبناءً على القول باختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة، إذا أتى العبد بفردين من أفراد الواجب - في الأقسام المذكورة غير الأوّل طولاً فيهما - الذي يترتّب عليه ما فيه الغرض، عُدَّ هو المصداق للواجب، فيقع الآخر لغواً، فلو صَلّى فُرادى ثمّ جماعة واختار المولى الثانية في مقام ترتّب الثواب على إطاعته، تقع الثانية مصداقاً للواجب دون الاُولى ، بل هي تقع غير واجبة.

وفيه: أنّ ما التزم به قدس سره من عدم ترتّب غرضٍ على الصَّلاة في نفسها، وإنّما أُمر بها لأجل كونها مقدّمةً لاختيار المولى إيّاها في مقام ترتّب الثواب، التزامٌ بعدم كون هذا الحكم تابعاً للمصلحة، وهو منافٍ لمسلك العدليّة، مع أنّه قد وردت نصوص كثيرة دالّة على أنّ في خصوص الصَّلاة مصالحاً وأغراضاً من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وغير ذلك.

مضافاً إلى ما عرفت من دلالة هذه النصوص بأنفسها على وقوع كلٍّ من الصلاتين على صفة المحبوبيّة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: عدم جواز تبديل الامتثال، وأنّ نصوص الإعادة أجنبيّة عن ذلك، وعليه فإيراد الشيخ الأعظم رحمه الله على الشهيدين في محلّه، فالأظهر تعيّن قصد الندب.

ص: 236

القيد والدّاعي

الأمر الثالث: لو ظهر بطلان الاُولى:

فهل تكون الثانية المأتي بها بعنوان الإعادة مُجزية عنها ومسقطة لأمرها أم لا؟

أم يُفصّل بين ما إذا كان قاصداً امتثال الأمر الواقعي المتوجّه إليه في تلك الحال بالصّلاة، وإنْ اعتقد أنّه الأمر بالمعادة منها، وبين ما إذا كان قاصداً الأمر الذي يعتقده بنحو التقييد، فتصحّ في الأوّل دون الثاني ؟

وجوهٌ ، أقواها الأوّل، إذ الميزان في صحّة العبادة، الإتيان بذات المأمور به بجميع قيوده متقرّباً إلى اللّه تعالى، ولا يعتبر فيها شيءٌ آخر، ولو نقصت عن ذلك لاتصحّ ، فلو صَلّى في أوّل الوقت بتخيّل أنّه آخر الوقت صحّت صلاته، وإنْ كان ذلك على وجه التقييد، لأنّ زعمه الباطل ذلك لا يعدّ أحد المبطلات، والمفروض إتيان الصَّلاة تامّة متقرّباً بها إلى اللّه تعالى .

ولو صَلّى صلاة العصر بتخيّل أنّه صَلّى الظهر، لم تصحّ على القاعدة، وإنْ كان قَصَد الأمر بالعصر على نحو الدّاعي، لأنّ حقيقة صلاة العصر تُغاير حقيقة صلاة الظهر، كما يكشف عن ذلك اختلاف أحكامهما، فإذا لم يقصد حقيقة إحداهما، وقصد الاُخرى ، لا تقع عنها، لعدم تحقّقها.

وبالجملة: الميزان في الصحّة ما ذكرناه، من غير فرقٍ بين الدّاعي والقيد، وعلى ذلك فبما أنّ المستفاد من النصوص أنّ الصَّلاة الأصليّة والمعادة حقيقة واحدة، وأنّ اختلاف الآثار إنّما يكون من جهة اختلاف حالات المُصلّي، إذ ربما يكون مُصلّياً قبل هذه الصَّلاة، وربما يكون غير مُصَلِّ ، وعلى الأوّل تكون صلاته معادة، وعلى الثاني تكون أصليّة، وهذا لا يوجبُ الاختلاف في الحقيقة، وحينئذٍ فمن قَصَد الأمر

ص: 237

بالمعادة، وكان في الواقع غير مُصلٍّ ، فقد أتى بالصلاة المأمور بها بجميع قيودها متقرّباً إلى اللّه تعالى، فتكون مُجزية، وإنْ كان قصده الأمر بالعادة على وجه التقييد.

واستدلّ للقول الثاني: بأنّه إذا قيّد صلاته بالمعادة، وقصَد الإتيان بها كذلك، فإذا لم تكن معادة فصلاته هذه لا تكون مقصودة.

وفيه: إنّه إذا لم يكن هذا العنوان دخيلاً في المأمور به، بل كان من العناوين المنطبقة عليها من جهة وقوعها بعد صلاة اُخرى ، فمن قَصَد هذا العنوان، وتعلّقت إرادته بإيجاده، فقد انبعثت عنها إرادة اُخرى إلى معنونه، فذات الصَّلاة مقصودة بتبع إرادة المعادة.

واستدلّ للقول الثالث: بأنّه إذا كان قاصداً امتثال الأمر الفعلي المتوجّه إليه، فهو قاصدٌ لامتثال الأمر بالصلاة الأصليّة، ولا ينافيه اعتقاد كونه الأمر بالمعادة، إذ الخطأ في اعتقاد الصفة، مع عدم أخذها قيداً في الموضوع، لا يمنع من قصد ذات الموصوف وتحقّقه واتّصافه بوصفٍ يُغاير ذلك الوصف.

وأمّا إذا كان قصده امتثال الأمر بالمعادة منها بنحو التقييد، فبما أنّه بانتفاء القيد ينتفي المقيّد، فلا يكون ممتثلاً للأمر الواقعي المتوجّه إليه.

وبعبارة اُخرى : ما قصد لا واقع له، وما له واقعٌ لم يُقصد، وهذا بخلاف الصورة الاُولى، فإنّه على الفرض قاصدٌ لإمتثال الأمر الواقعي.

أقول: وقد ظهر ممّا ذكرناه في وجه المختار، الجوابُ عن ذلك، فلاحظ وتدبّر.

فتحصّل: أنّ ما عن جماعةٍ - منهم: الشيخ والمحقّق، من الحكم بالصحّة في الصورتين في ما هو نظير المقام - هو الأقوى .

***

ص: 238

يستحبُّ عمارة المساجد مكشوفة.

أحكام المساجد
اشارة

خاتمة تتعلّق بالمساجد: والمرادُ بالمساجد المكان الموقوف على كافّة المسلمين للصّلاة فيه، لو وقفه على أن يُصلّي فيه طائفة خاصّة:

فهل يبطل الوقف من أصله، كما عن فخر المحقّقين، والمحقّق الثاني(1) وغيرهما(2)؟

أم يبطل التخصيص، ويصحّ الوقف، كما عن المصنّف رحمه الله في باب الوقف من «القواعد»(3)؟

أم يصحّان معاً، كما عن المصنّف رحمه الله تقوتيه في «التذكرة»(4)؟

وجوهٌ سيأتي التعرّض لهذه المسألة في كتاب الوقف(5) إنْ شاء اللّه تعالى .

أقول: و (يستحبُّ عمارة المساجد) بضرورةٍ من الدِّين، لقوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اَللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ) (6)، ويستحبُّ أن تكون المساجد (مكشوفة)(7) لحسن عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله بنى مسجده بالسَّميط، ثمّ إنّ المسلمين كثروا، فقالوا: يا رسول اللّه لو أمرتَ بالمسجد

ص: 239


1- حكاه عنهما في جواهر الكلام: ج 14/69، ومفتاح الكرامة: ج 2/226 (ط. ق).
2- كالميرزا محمّد تقي في مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى: ج 4/154.
3- حكاه عنهما في جواهر الكلام: ج 14/69.
4- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/226 (ط. ق).
5- فقه الصادق: ج 30/217.
6- سورة التوبة: الآية 18.
7- رياض المسائل: ج 4/381: (على المشهور).

فزيد فيه، فقال: نعم، فزيدَ فيه وبناه بالسعيدة، ثمّ إنّ المسلمين كثروا، فقالوا:

يارسول اللّه لو أمرت بالمسجد فزيد فيه، فقال: نعم، فأمر به فزيد فيه، وبُني جداره بالاُنثى والذّكر، ثمّ اشتدّ عليهم الحَرّ، فقالوا: يارسول اللّه لو أمرتَ بالمسجد فظُلِّل، فقال: نعم، فأمر به فأُقيمت فيه سواري من جذوع النخل...

إلى أنْ قال: فقالوا: يارسول اللّه لو أمرت بالمسجد فطيّن.

فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لا عَريش كعريش موسى عليه السلام، فلم يَزل كذلك حتّى قُبِض صلى الله عليه و آله»(1).

ولكنّه لا يدلّ على استحباب كونها مكشوفة، لوجهين:

الأوّل: أنّه يظهر من نهيه عن التسقيف مرجوحيّة ذلك، وترك المكروه ليس بمستحبّ .

الثاني: أنّه يدلّ على مرجوحيّة التسقيف خاصّة، وعدم البأس بالتظليل.

وأمّا حسن الحلبي أو صحيحه، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن المساجد المظلّلة أتُكره الصَّلاة فيها؟ فقال: نعم، ولكن لا يضرّكم اليوم، ولو قد كان العدل لرأيتمّ كيف يصنع في ذلك»(2).

فمضافاً إلى عدم تعرّضه لحكم بناء المسجد، وإنّما هو في مقام بيان حكم الصَّلاة، أنّه لو اُغمض عن ذلك، يتعيّن حمله على إرادة التظليل بالنحو المتعارف من كونه بالتسقيف، جمعاً بينه وبين حسن ابن سنان.

وعليه، فالأظهر كراهة التسقيف خاصّة.0.

ص: 240


1- الكافي: ج 3/295 ح 1، وسائل الشيعة: ج 5/205-206 ح 6339.
2- الكافي: ج 3/368 ح 4، وسائل الشيعة: ج 5/207 ح 6340.

والمِيضاةُ على أبوابها، والمنارة مع حائطها، والإسراج فيها، وإعادة المستهدم، ويجوز استعمال آلته في غيره منها.

(و) يستحبُّ أيضاً أن يكون (الميضاة على أبوابها)، والمراد بها المَطْهرة، ومستند استحباب ذلك:

خبر عبدالحميد، عن أبي إبراهيم عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، قال: «جَنّبوامساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم، واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم»(1).

(و) المشهور بين الأصحاب(2) - على ما نُسِب إليهم - استحباب أن تكون (المنارة مع حائطها) لا في وسطها، واستدلّ له المصنّف رحمه الله(3) في بعض كتبه - على ما نُقِل - بأنّ فيه التوسعة ورفع الحجاب بين المُصلّين. وهو كما ترى .

(و) يستحبّ أيضاً (الإسراج فيها)، لقوله صلى الله عليه و آله:

«مَنْ أسرج في مسجدٍ من مساجد اللّه سِراجاً، لم يزل الملائكة وحَمَلة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوء من ذلك السراج»(4).

(و) كذايستحبّ (إعادة المستهدم) لعموم مادلَّ على استحباب عمّارة المساجد.

جواز استعمال آلات المساجد

(ويجوز استعمال آلته في غيره منها) مع استغنائه عنها، أو تعذّر استعمالها فيه، لاستيلاء الخراب عليه، بلا خلافٍ فيه(5).

ص: 241


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/237، وسائل الشيعة: ج 5/233 ح 6420.
2- رياض المسائل: ج 4/382: (على المشهور)، كشف اللّثام: ج 3/322: (وفاقاً للمشهور).
3- نهاية الاحكام: ج 1/352.
4- تهذيب الأحكام: ج 3/261 ح 53، وسائل الشيعة: ج 5/241 ح 6444.
5- جواهر الكلام: ج 14/84.

وظاهرُ جماعةٍ ، منهم المصنّف رحمه الله في المتن الجواز مطلقاً، وقد استدلّوا لهذا الحكم بوجوه:

منها: أنّ المساجد للّه، وما كان للّه فهو لوليّه، فله التصرّف فيه على حسب المصلحة كباقي ما كان له.

وفيه أوّلاً: إنّ المساجد موقوفة على أن يُصلّى فيها للّه، لا أنّها موضوعة للّه تعالى.

وثانياً: إنّ الولي هو الإمام عليه السلام، وجواز تصرّفه فيها كيف ماشاء ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في جواز التصرّف لغيره.

ومنها:(1) أنّ المساجد جميعها للّه، فهي في الحقيقة كمسجدٍ واحد، فلا بأس بإصلاح بعضها ببعضٍ للمصلحة ونحوها.

وفيه: إنّ مقتضى قولهم عليهم السلام (الوقوفُ عليحسب ما يوقفهاأهلها)(2) الإقتصار في التصرّف على النحو الذي أوقفها أهلُها، فإذا كان الوقف على مسجدٍ خاص، فالتصرّف فيه بالصَّرف في مسجدٍ آخر خلافٍ ذلك فلايجوز، وكون الجهة واحدة، لا يقتضي كون المجموع مسجداً واحداً، كما هو واضح.

ومنها: أنّ ترك التصرّف فيها تضييعٌ لها، بخلاف صرفها إلى مسجد آخر، فإنّه حفظ لوقفيّتها على الجهة التي تعلّق بها غرض الواقف.

وفيه: إنّه لا دليل على جواز العمل على وفق غرض الواقف، بل الدليل دلَّ على لزوم العمل على وفق ما أُوقف عليه، وعليه فإنْ لم يستغن ذلك المسجد الموقوف له عن تلك الآلات، لا ينبغي التوقّف في عدم جواز استعمالها في غيره، وإلّا فحكمها حكم الوقف الذي تعذّر الانتفاع به في الجهة التي وقف لها، والمشهور بين الأصحاب أنّه يُصرف في وجه البِرّ.7.

ص: 242


1- كما في جواهر الكلام: ج 14/84.
2- تهذيب الأحكام: ج 9/129-130 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/176 ح 24387.

ويَحرمُ زَخرفتها.

وهناك أقوالٌ اُخر، وتمام الكلام في محلّه.

فتحصّل: أنّ ما وقف لمسجدٍ لا يجوز استعماله في مسجدٍ آخر، مع عدم استغنائه عنه، وإمكان استعماله فيه، وأمّا مع الاستغناء فيجب صرفه في وجوه البِرّ بلا اختصاصٍ له بمسجدٍ آخر.

ثمّ إنَّه لا فرق في ما ذكرناه بين كون الآلات من قبيل الأحجار والأخشاب وغير ذلك ممّا هو من أجزاء المسجد، وبين كونها من قبيل الفرش والسّراج كما لا يخفى .

حكم زخرفة المساجد ونقشها بالصور

أقول: (و) المنسوب إلى المشهور(1) إنّه (يُحرَمُ زَخرفتها).

وظاهر ما في «الدروس»(2) من نسبة الحرمة الى القيل عدم صحّة النسبة.

وعن جماعة من المتأخّرين(3) الكراهة.

وعن «الدروس»(4) القول باستحباب تركها.

وقد استدلّ للحرمة:

1 - بأنّها بدعة، لم تكن في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

2 - وبأنّها إسراف.

ص: 243


1- جواهر الكلام: ج 14/88، كشف اللّثام: ج 3/333
2- الدروس: ج 1/156: (وترك الزخرفة والتصوير وقيل: يحرمان).
3- مصباح الفقيه: ج 2/704 ق 2.
4- الدروس: ج 1/156.

3 - وبالشهرة الفتوائيّة.

ولكن يرد على الأوّل: أنّه إنْ وقعت الزَخرفة بعنوان أنّها من الدّين، دون أن ينطبق عليها عنوان تعظيم الشعائر، ونحوه ممّا يوجب مطلوبيّتها، كانت بدعة ومحرّمة بالحرمة التشريعيّة، وهو ليس محلّ الكلام.

وأمّا مجرّد الفعل من دون إدخاله في الدِّين، أو معه من جهة انطباق عنوان عامٍ راجح عليه، فلا يكون بدعة، وإنْ لم يكن في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، كيف وكثير من الاُمور في زماننا لم تكن موجودة أو معهودة في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

ويرد على الثاني: أنّ الغالب تعلّق غرض عقلائي بها كتعظيم الشعائر، ومعه لايصدق عليها الإسراف.

ويرد على الثالث: - مضافاً إلى عدم ثبوتها - أنّها ليست بحجّة.

وبالجملة: فالأظهر عدم الحرمة.

واستدلّ للقول بالكراهة:

1 - بما في وصيّة ابن مسعود المرويّة في «المكارم» للطبرسي في مقام الذمّ :

«ويزخرفون المساجد»(1).

2 - وبما في «الغريبين» للهروي: (أنّ في الحديث: لم يدخل النبيّ الكعبة حتّى أمر بالزَّخرف فنحي)(2).

أقول: ولكن لضعف سنديهما، وعدم ثبوت اعتماد الأصحاب عليهما، لايصلحان لإثبات ذلك.8.

ص: 244


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 12/327-328 ح 14215.
2- سنن البيهقي: ج 5/158.

ونقشها بالصُّور.

ودعوى: كفايتهما لإثبات ذلك بواسطة أخبار (من بلغ).

مندفعة: بأنّها مختصّة بالمستحبّات، ولعلّ القائل باستحباب ترك الزَّخرفة فهم من الخبر الثاني استحباب تركها، فبواسطة أخبار (من بلغ) حكم بذلك.

ثمّ إنّ المراد بالزَّخرفة على ما عن «المدارك» وغيرها، النقش بالزّخرف وهو الذهب.

وعن غير واحدٍ(1) من اللّغويين، تفسيرها بمطلق التزيين.

وبالجملة: حيثُ عرفت عدم الدليل على حرمتها، بل ولا على كراهتها، فلا يهمّنا إطالة الكلام في هذه الجهة.

أقول: (و) أيضاً المنسوب إلى المشهور حرمة(2)(نقشها بالصُّور)، وقد استدلّ لذلك:

1 - بالبدعة.

2 - وبخبر عمرو بن جميع، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الصَّلاة في المساجد المصوّرة ؟

فقال: أكره ذلك، ولكن لا يضرّكم ذلك اليوم، ولو قام العَدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك»(3).5.

ص: 245


1- كتاب العين: ج 4/338، لسان العرب: ج 9/132، مجمع البحرين: ج 5/65.
2- كشف اللّثام: ج 3/335.
3- الكافي: ج 3/369 ح 6، وسائل الشيعة: ج 5/215 ح 6365.

3 - وبأنّ تصوير المساجد الموجب لكراهة الصَّلاة فيها، ولو في جزءٍ منها، تصرّفٌ غير مأذونٍ فيه، مورثٌ لمنقصة فيها، بلحاظ الجهة الملحوظة للواقف في وقفيّتها، لأنّه يوجبُ صيرورة الصَّلاة الواقعة فيها ذات منقصة، فهو مضرٌّ بحال الوقف والموقوف عليهم، وبما تعلّق به غرض الواقف، فلا يجوز.

أقول: وفي الكلّ نظر:

أمّا الأوّل: فلما تقدّم آنفاً.

وأمّا الثاني: فلأنّه ضعيف السند، مع أنّه لا يدلّ على الحرمة، مضافاً إلى أنّه متعرّض لحال الصَّلاة لا التصوير.

وأمّا الثالث: - فمضافاً إلى أخصيّته عن المدّعى كما لا يخفى - لازمه حُرمة إضرام النّار في المسجد، ووقوفه قبال المُصلّين، وغيرهما ممّا يوجبُ كراهة الصَّلاة، مع أنّ تصوير المسجد لا يوجب نقصاً في الصَّلاة من حيث وقوعها في المسجد، وإنّما يكون موجباً للنقص من جهة اُخرى ، فلا ينافي ذلك مع ماتعلّق به غرض الواقف.

أقول: ولكن بما أنّ كثيراً من الأساطين أفتوا بالحرمة، وفيهم من لا يَعمل إلّا بالقطعيّات، ومَنْ يُعلم شدّة اهتمامه في «مدارك الأحكام»(1) كالشهيد(2)، ومن يكون فتاويه متون الأخبار غالباً كالشيخ في «النهاية»(3)، فالاحتياط بتركه ممّا لاينبغي تركه.9.

ص: 246


1- مدارك الأحكام: ج 4/398.
2- روض الجنان: ص 237.
3- النهاية: ص 109.

وأخذها أو بعضها في مِلْكٍ أو طريق، وإدخال النجاسة إليها، وإخراج الحَصى منها، ويعادُ لو أُخرج.

(و) كذا يحرم (أخذها أو بعضها في مِلْكٍ أو طريق) بحيث ينمحي آثار المسجديّة، أو لايمكن استعمالها فيما اُعدّت له، لمنافاته لمقتضى الوقفيّة على الجهة الخاصّة.

(و) لا يجوز (إدخال النجاسة إليها) وقد تقدّم تفصيل ذلك في أبواب النجاسات من هذا الشرح.

حكم إخراج الحَصى منها

(و) قد ذكر جماعة من الأساطين(1)، منهم المصنّف رحمه الله أنّ من جُملة المحرّمات (إخراج الحصى منها) أي أخذه بحيث ينقطع علاقة اختصاصه بالمسجد، (ويعاد لو أُخرج).

وذهب جماعةٌ اُخرى إلى القول بالكراهة(2)، منهم المصنّف رحمه الله(3) في عدة من كتبه على ما حُكي.

أقول: وقد استدلّ للحرمة:

1 - بكونه من أجزاء الوقف، ومقتضاه حُرمة إتلافه، ووجوب إعادته إليه قضاءً للوقفيّة.

ص: 247


1- الألفية والنفليّة: ص 143، مدارك الأحكام: ج 4/339، الحدائق الناضرة: ج 7/280، جواهر الكلام: ج 14/104.
2- المبسوط: ج 1/161 (ويكره إخراج الحصى)، المعتبر: ج 2/452.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/428.

2 - وبخبر وهب، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «إذا أخرج أحدكم الحَصاة من المسجد، فليردّها مكانها أو في مسجدٍ آخر، فإنّها تُسبِّح»(1).

إذ لو لم يحرم الإخراج، لم يجب الرّد، كما هو مقتضى الأمر به.

3 - وبما رواه الشيخ بإسناده عن زيد الشّحام، قال:

قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أخرجُ من المسجد حصاة ؟ قال: فردّها أو اطرحها في مسجد»(2).

4 - وبخبر معاوية بن عمّار، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي أخذتُ سكاً من سكّ المقام، وتراباً من تراب البيت، وسبع حصيّات ؟ فقال: بئسَ ما صنعت، أمّا التراب والحصى فردّه»(3).

ولكن قد يُشكل في الوجه الأوّل: بأنّ ما ذُكر من اقتضاء الوقفيّة ذلك ممنوعٌ ، إذ أخذ ما لا يعتدّ به عرفاً، الملحق بعد الانفصال بالقمامة إذا كان من توابع الانتفاع به كالطين المتلاصق بباطن الرِّجل من أرض المسجد في أيّام المطر، والحَصاة التي تدخل في ثياب من يُصلّي فيها، أو تنفصل عن أرض المسجد بكنسها، ممّا لا ينبغي الارتياب في عدم منافاته للوقف، كما يشهد لذلك السيرة القطعيّة.

وأمّا أخذ هذه الأجزاء استقلالاً لا تبعاً، كأخذ مقدارٍ يسيرٍ من تراب الأرض الموقوفة للتبرّك، أو للتيمّم به، أو استعماله في غَسل الإناء، فالظاهر عدم منافاته لمقتضى الوقفيّة أيضاً، لأنّ الظاهر من وقف شيء خاصٍ إنّما هو إرادة حبس مسمّاه الذي لا يقدح فيه الاختلافات اليسيرة العارضة عليه، ولعلّ عليه السيرة المستمرّة.6.

ص: 248


1- تهذيب الأحكام: ج 3/256 ح 31، وسائل الشيعة: ج 5/232 ح 6418.
2- الكافي: ج 4/229 ح 4، وسائل الشيعة: ج 5/232 ح 6417.
3- الكافي: ج 4/229 ح 2، وسائل الشيعة: ج 5/232 ح 6416.

ويَكره تعليتها، والشُّرف

ويرد على الرواية الاُولى: بضعف السند، وباشتمالها على التعليل بالتسبيح الملائم للكراهة، ولذا استدلّ لها للقول بالكراهة.

وعلى الثانية: بأنّ موردها الحصاة الداخلة في الثوب - على ما في «الكافي» - وقد عرفت أنّ وجوب ردّ تلك الحصاة ممّا يخالف السيرة القطعيّة، بل وما ثبت من جواز إزالتها بالكنس، مع أنّه لا يدلّ على الوجوب، لتضمّنه التخيير بين ردّها وطرحها في مسجدٍ آخر.

ويرد على الثالثة: أنّها مشتملة على التفصيل بين السكَّ الذي هو المسمار، وبين تراب البيت والحَصاة، مع أنّ ردّه أولى من ردّهما، فلا تصلح هي أيضاً للحكم بالحرمة.

مكروهات المساجد

(ويكره تعليتها) كما نصّ عليه كثيرٌ من الأصحاب(1)، واستدلّ له:

1 - بأنّ حائط مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان قامة.

2 - وبكونها معرضاً للاطّلاع على عورات النّاس. وهما كما ترى .

(و) كذا يَكره أن يُعمل لها (الشُّرف) وهو ما يبنى في أعلى الجدران، لقول علي عليه السلام في خبر طلحة: «إنّ المساجد تُبنى جُمَّاً لا تُشرف»(2).

ص: 249


1- جواهر الكلام: ج 14/107: (نص عليه غير واحد من الأصحاب)، مصباح الفقيه: ج 2/706 ق 2: (نص عليه كثيرٌ من الأصحاب).
2- تهذيب الأحكام: ج 3/253 ح 17، وسائل الشيعة: ج 5/215 ح 6366.

والمحاريب في حائطها، وجعلها طريقاً،

(و) ذكروا أيضاً أنّه يكره جعل (المحاريب في حائطها)، واستدلّ له بخبر طلحة، عن عليّ عليه السلام: «أنّه كان يكسر المحاريب إذا رآها في المساجد، ويقول:

كأنّها مذابح اليهود»(1).

وفيه: إنّ التعبير بالكسر قرينة لإرادة المحاريب المتّخذة مستقلّةً في المساجد، لا الداخلة في حائطها مثلاً، لأنّها القابلة للكسر دونها، ولعلّ المراد منهاالمقاصير التي أحدثها الجبّارون، فالخبر أجنبيٌّ عن المُدّعى. وعليه، فالقول بالكراهة لاوجه له.

(و) يُكره أيضاً (جعلها طريقاً) أي استطراقها مع بقاء هيئة المسجديّة، لا أخذها طريقاً، فإنّه حرامٌ كما عرفت، ويدلّ على الكراهة قول النبيّ صلى الله عليه و آله في خبر المناهي(2):

«لا تجعلوا المساجد طُرقاً حتّى تصلّوا فيها ركعتين».

وظاهره ارتفاع الكراهة بالصلاة.

وأشكل عليه صاحب «الجواهر» رحمه الله:(3) بعدم ثبوت اعتبار الخبر، وكون الكراهة قابلة للمسامحة غير مقتضٍ للمسامحة في رافعها.

وفيه: إنّ الدليل على رفع الكراهة لو كان منفصلاً عمّا دلّ على الكراهة، كان هذا الكلام متيناً، وأمّا حيث أنّهما ذكرا في رواية واحدة متّصلين، فهي لاتدلّ على الكراهة في صورة صلاة ركعتين، بل على الكراهة مع عدمها، فلا وجه للقول بالكراهة حتّى مع الصَّلاة.1.

ص: 250


1- تهذيب الأحكام: ج 3/253 ح 16، وسائل الشيعة: ج 5/237 ح 6436.
2- وسائل الشيعة: ج 5/293 ح 6580.
3- جواهر الكلام: ج 14/111.

والبيع فيها والشراء، والتعريف، وإقامة الحدود، وإنشاد الشعر، وعمل الصَّنائع، والنوم،

(و) يُكره (البيع فيها والشراء، والتعريف، وإقامة الحدود، وإنشاد الشعر)، لخبر عليّ بن أسباط، عن بعض رجاله، قال:

«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: جنّبوا مساجدكم البيع، والشراء، والمجانين، والصبيان، والأحكام، والضّالة، والحدود، ورفع الصوت»(1).

وخبر عبد الحميد، عن أبي إبراهيم عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: جنّبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم»(2) ونحوهما غيرهما.

وظاهرها مع أنّها بلسان الأمر، هو الكراهة لأنّها المنساق إلى الذهن من الأمر بالاجتناب عن شيءٍ ، كما لا يخفى .

(و) يكره أيضاً (عمل الصنائع) لصحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام:

«نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن سَلّ السيف في المسجد، وعن بَرْي النَّبل في المسجد، وقال:

إنّما بُني لغير ذلك»(3).

فإنّ مقتضى التعليل هو الكراهة مطلقاً.

(و) نُسِب إلى المشهور(4) كراهة (النوم) فيها، واستدلّ لها بوجوه بيّنة الضعف،

ص: 251


1- تهذيب الأحكام: ج 3/249 ح 2، وسائل الشيعة: ج 5/233 ح 6419.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/254 ح 22، وسائل الشيعة: ج 5/233 ح 6420.
3- تهذيب الأحكام: ج 3/258-259 ح 44، وسائل الشيعة: ج 5/217 ح 6372.
4- الحدائق الناضرة: ج 7/293 (على المشهور في كلام المتقدّمين)، جواهر الكلام: ج 122/14 نسب إلى حاشية المدارك القول (بالمشهور)، مدارك الأحكام ويستحبّ أن تجنّب... قوله: (والنوم) هذا الحكم مقطوع به في كلام أكثر الأصحاب.

والبُصاق، وتمكين المجانين،

بل جملةٍ من النصوص الواردة في النوم في المسجدين تدلّ على عدم الكراهة، لاحظ صحيح زرارة، قال:

«قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: ما تقول في النوم في المساجد؟ فقال: لا بأس به إلّافي المسجدين: مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله والمسجد الحرام. قال: وكان يأخذ بيدي في بعض اللّيل فيتنحّى ناحية، ثمّ يجلس فيتحدّث في المسجد الحرام، فربّما نام هو ونُمت، فقلت له في ذلك، فقال: إنّما يكره أن ينام في المسجد الذي كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فأمّا النوم في هذا الموضع فليس به بأس»(1). وقريبٌ منه غيره.

(و) يُكره (البصاق) فيها، وإنْ فعله سَتَره بالتراب، لخبر غياث، عن جعفر، عن أبيه: «أنّ عليّاً عليه السلام قال: البزاق في المسجد خطيئة، وكفّارته دفنه»(2).

ولا ينافيه خبر ابن سنان ونحوه ممّا يدلّ على الجواز، كما لا يخفى .

(و) كذا يُكره (تمكين المجانين) لمرسل ابن أسباط، وخبر عبدالحميد المتقدّمين.

***7.

ص: 252


1- الكافي: ج 3/370 ح 11، وسائل الشيعة: ج 5/219 ح 6378.
2- تهذيب الأحكام: ج 3/256 ح 32، وسائل الشيعة: ج 5/222 ح 6387.

وإنفاذ الأحكام.

مستحبّات المساجد

(و) قد اختلفت كلماتهم في خصوص (إنفاذ الأحكام):

فعن جمعٍ كراهته(1)، وعن جماعةٍ من القدماء استحبابه(2).

واستدلّ للأوّل:

1 - بعموم العلّة في صحيح ابن مسلم المتقدّم، من أنّها بُنيت لغير مثل هذه الاُمور.

2 - وبالمرسل المتقدّم.

3 - وبأنّ الترافع يُفضي إلى التشاجر ورفع الأصوات والخوض بالباطل، وقد نُهي عن جميع ذلك بالخصوص.

ولكن ذكر الشيخ رحمه الله(3): (أنّه لا خلاف في أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يقضي في المسجد، ولو كان مكروهاً لما فعله، وكذلك كان عليٌّ عليه السلام يقضي في الكوفة في الجامع، ودكّة القضاء معروفة إلى يومنا هذا، وهو إجماع الصحابة) انتهى.

وفي «كشف اللّثام»(4) عن بعض الكتب مرسلاً:

«أنّه بَلَغ أمير المؤمنين عليه السلام أنّ شريحاً يقضي في بيته، فقال: يا شُريح اجلس في المسجد فإنّه أعدل بين النّاس، وأنّه وهنٌ بالقاضي أن يجلس في بيته».

ص: 253


1- حكاه عن جملة من كتب الأصحاب صاحب الجواهر: ج 14/111 وج 40/81.
2- كما عليه الشهيد في روض الجنان: ج 630/2 (ط. ج)، وحكاه فى مفتاح الكرامة عن المراسم وغيره: ج 2/235.
3- الخلاف: ج 6/211.
4- كشف اللّثام: ج 3/330.

ويستحبُّ تقديم الرِّجل اليمنى دخولاً، واليُسرى خروجاً، والدّعاء فيهما

مضافاً إلى أنّ المرسل ضعيفُ السند، وعموم العلّة لا يشمل مثل هذا الحكم الذي هو من الطاعات والعبادات التي محلّها المساجد، وتشاجر المتحاكمين، ورفع أصواتهم ونحو ذلك، مع نهيهم وتكليفهم بتركها، لا تَقتضي مرجوحيّة إنفاذ الحكم في نفسه الذي هو مستحبٌّ أو واجب.

وعليه، فالقول بجوازه بل استحبابه في المسجد - كما هو ظاهر المحكيّ عن الشيخين وسلّار وغيرهم من القدماء(1) - هو الأقوى .

وأيضاً: (ويُستحبّ تقديم الرِّجل اليمنى دخولاً واليسرى خروجاً) لخبر يونس عنهم عليهم السلام «الفضل في دخول المسجد أن تبدأ برِجْلِك الُيمنى إذا دَخلت، وباليسرى إذا خرجت»(2).

أقول: (و) كذا يستحبُّ (الدّعاء فيهما):

1 - لخبر عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا دَخَلت المسجد فصلِّ على النبيّ صلى الله عليه و آله، وإذا خَرَجت فافعل ذلك»(3).

2 - وللتأسّي بفعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله، المحكيّ في خبر عبد اللّه بن الحسن(4).0.

ص: 254


1- كما عن ابن أبي عقيل في مجموعة فتاوى ابن أبي عقيل: 169، وقد حكاه عنه في المختلف: ج 5/222، قوله: (ولا تقام الحدود في المساجد، ولا في مشاهد الأئمّة عليهم السلام، ومن فعل في المساجد أو المشاهد ما يوجب إقامة الحَدّ عليه، أقيم عليه الحَدّ خارجاً منها، ولم تقم عليه الحدود فيها إن شاء اللّه).
2- الكافي: ج 3/308 ح 1، وسائل الشيعة: ج 5/246 ح 6458.
3- الكافي: ج 3/309 ح 2، وسائل الشيعة: ج 5/246 ح 6457.
4- تهذيب الأحكام: ج 3/263 ح 65، وسائل الشيعة: ج 5/247 ح 6460.

وكنسها.

3 - ولموثّق سماعة(1).

وأيضاً: (و) يستحبّ (كنسها)، وهو جمع القمامة وإخراجها من المسجد:

1 - لما فيه من تعظيم الشعائر، وترغيب المتردّدين، الموجب لحفظها عن الاندراس.

2 - ولخبر سلام بن غانم: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: مَنْ قمَّ مسجداً كتب اللّه له عتق رقبة، ومن أخرج منه ما يقذي عيناً، كتب اللّه عزّ وجلّ له كِفْلين من رحمته»(2).

***8.

ص: 255


1- تهذيب الأحكام: ج 3/263 ح 64، وسائل الشيعة: ج 5/245 ح 6454.
2- وسائل الشيعة: ج 5/238-239 ح 6438.

الباب السابع: في صلاة الخوف.

وهي مقصورة سَفَراً وحَضراً، جماعةً وفُرادى

الباب السابع في صلاة الخوف والمطاردة

اشارة

أمّا الاُولى : فهي ثابتة بالكتاب والسُنّة والإجماع، وهي غير مختصّة بالنبيّ صلى الله عليه و آله ومن كان معه حال الخوف، لظاهر الآية الشريفة، وبعض النصوص، والإجماع.

(وهي مقصورة) في الكمّ (سفراً وحضراً، جماعةً وفرادى) كما عن الأكثر، بل المشهور(1).

وعن جماعة منهم الشيخ في «المبسوط»(2): أنّها إنّما تُقصر في السّفر وفي الحضر إذا صُلّيت جماعةً ، وإذا صُلّيت فرادى لا تقصر.

وعن «المعتبر»(3) أنّه نقل عن بعض الأصحاب أنّهما إنّما تُقصر فى السَّفر خاصّة.

أقول: والأوّل أظهر، ويشهد له:

من الكتاب: قوله تعالى: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا) (4)، وذلك، لأنّ الشرطين

ص: 256


1- مدارك الأحكام: ج 4/410، المعتبر: ج 2/454 (وهو قول أكثر الأصحاب)، الوسيلة: ص 110، مختلف الشيعة: ج 3/36.
2- المبسوط: ج 1/163.
3- المعتبر: ج 2/454.
4- سورة النساء: الآية 101.

المذكورين في الآية - أعني السَّفر والخوف -:

1 - إمّا أن يكون كلٌّ منهما شرطاً مستقلّاً، فأيّهما حَصَل وجب القصر.

2 - أو يكونا معاً شرطاً، أي مجموع الأمرين.

3 - وإمّا أن يكون السّفر شرطاً وإنّما ذُكر الخوف للجري مجرى الغالب، فإنّهم كانوا يخافون الأعداء في عامّة أسفارهم.

4 - وإمّا أن يكون الخوف شرطاً، وذِكْر السّفر إنّما يكون للجري مجرى الغالب، إذ الغالب عدم حصول الخوف الموجب لقصر الصَّلاة ما داموا مستقرّين في أوطانهم.

لا سبيل إلى الالتزام بالثاني، فإنّ لازمه الإتمام لو فُقد أحدهما، وهو باطلٌ بالإجماع وغيره من الأدلّة.

وأيضاً لا وجه للالتزام بالثالث، لقوله تعالى في الآية التالية لهذه الآية: (وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ) (1) فإنّها على الظاهر مسوقة لبيان كيفيّة صلاة الخوف، مع عدم التعرّض فيها له، وإنّما فُهم ذلك من إرجاع الضمير إلى المذكورين في الآية الاُولى ، فيُستكشف من ذلك أنّ موضوع الحكم لشرعيّة القصر في الآية الاُولى ، من يخاف من العدوّ، وأنّ ذكر الخوف ليس للجري مجرى الغالب، فيدور الأمر بين الأوّل والرابع، وعلى كلا التقديرين تدلّ الآية الشريفة على المطلوب كما لا يخفى ، ومقتضى إطلاق الآية عدم الفرق بين السّفر والحضر، والإفراد والجماعة.2.

ص: 257


1- سورة النساء: الآية 102.

ومن السُنّة:

1 - صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال:

«قلتُ له: صلاة الخوف وصلاة السّفر تقصران جميعاً؟ قال عليه السلام: نعم، وصلاة الخوف أحقّ أن تُقصّر من صلاة السّفر، لأنّ فيها خوفاً»(1).

ودعوى(2): احتمال إرادة القصر في الكيفيّة منه واهية جدّاً.

ومقتضى إطلاقه، وعموم العلّة المذكورة فيه، عدم الفرق بين السّفر والحضر والإفراد والجماعة.

2 - وحَسَن محمّد بن عذافر، من الإمام الصادق عليه السلام:

«إذا جالت الخيل تضطرب السيوف أجزاه تكبيرتان»(3).

ومن المعلوم أنّ التكبيرة بدلٌ عن الرّكعة، وهو وارد في خصوص صلاة الإفراد كما لا يخفى .

3 - وخبر ابن المُغيرة، عنه عليه السلام: «أقلّ ما يجزي عن حَدّ المسايفة من التكبير، تكبيرتان لكلّ صلاةٍ إلّاالمغرب فإنّ لها ثلاثاً»(4).

أقول: والمتبادر إلى الذهن من الأدلّة، مشروعيّة التقصير في المواضع التي يكون الخوف فيها مقتضياً للتخفيف، فلو كان في محلّ الخوف من غير أن يقتضي ذلك تخفيف الصَّلاة، كما لو التجأ إلى البقاء في منزل الأعداء، ولم يتفاوت حاله بين اشتغاله بالصلاة وعدمه، فلا يشرع له التقصير، والظاهر أنّ المراد من القصر هو الذي يُراد منه في حقّ المسافر، فلا يقصر في الثنائيّة والثلاثية.0.

ص: 258


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/464 ح 1339، وسائل الشيعة: ج 8/433 ح 11094.
2- الحدائق: ج 11/266.
3- الكافي: ج 3/457 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/445 ح 11124.
4- الكافي: ج 3/458 ح 3، وسائل الشيعة: ج 8/444 ح 11120.

وشروطها ثلاثة: أن يكون في المسلمين كثرةً يمكّنهم الإفتراق إلى قسمين؛ يقاومُ كلّ قسمٍ منهم العدوّ،

ويشهد له:

1 - الأخبار الواردة في كيفيّة الإتيان بها جماعة الآتية.

2 - وخبر ابن المغيرة المتقدّم.

3 - وما يظهر من صحيح حَريز، عن الصادق عليه السلام من القصر في الثنائيّة أيضاً، لكن لإعراض الأصحاب عنه، ومعارضته بما هو أشهر منه، لابدّ من طرحه أو تأويله.

شروط صلاة الخوف وكيفيّتها

أقول: أمّا كيفيّة صلاة الخوف فرادى فظاهرة.

وأمّا كيفيّتها جماعةً ، فهي ثلاثة مأثورة: صلاة بطن النخل، وصلاة عَسفان، وصلاة ذات الرّقاع، والمصنّف رحمه الله لم يتعرّض إلّاللثالثة، ولعلّه لضعف مستند الأولين.

(و) تنقيح القول في المقام يقتضي التكلّم في مواضع ثلاثة:

الموضع الأوّل: في (شروطها)، وهي (ثلاثة):

الشرط الأوّل: (أن يكون في المسلمين كَثرةً يمكّنهم الإفتراق إلى قسمين؛ يقاوم كلّ قسمٍ منهم العدوّ)، إذ مع قصورهم عن ذلك، لا يجوز لهم الجماعة كذلك، لاستلزامها الإخلال بالحراسة.

ص: 259

وأنْ يكون في العدوّ كَثرةً يحصل معها الخوف، وأن يكون العدوّ بخلاف جهة القبلة.

وكيفيّتها: أن يُصلّي الإمام بالأوليركعةً ، ويقف في الثانية حتّييُتمّوا ويُسلِّموا، فيجيء الباقون، فيُصلّي بهم الثانية، ويقف في التشهّد حتّى يلحقوه فيُسلِّم بهم،

(و) الشرط الثاني: (أن يكون في العدوّ كَثرةً يحصل معها الخوف)، وإلّا انتفى المسوّغ للكيفيّة المزبورة، بناءً على عدم جوازها اختياراً.

(و) الشرط الثالث: (أن يكون العدوّ بخلاف جهة القبلة).

وفي «المدارك»(1): هذا الشرط مقطوعٌ به في كلام أكثر الأصحاب، واستدلّوا له بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله إنّما صلّاها كذلك، فيجبُ متابعته.

أقول: لكن الأقوى تبعاً للمصنّف رحمه الله في «التذكرة»(2)، عدم اعتبار هذا الشرط، لأنّ فعل النبيّ صلى الله عليه و آله وقع اتّفاقاً، لا أنّه شرط، ولا مانع من فعلها بدونه، فلا وجه لتقييد الأدلّة.

(و) الثاني من المواضع: في (كيفيّتها):

وهي إنْ كانت ثنائيّة (أن يُصلّي الإمام بالأولى ركعةً ) ويقوم إلى الثانية، ويُتمّ مَنْ خلفه الصَّلاة فرادى ، رعايةً لحقّ الآخرين، ويشهد به الأخبار، (و) الإمام (يقفُ في الثانية حتّى يُتمّوا ويُسلّموا) ويستقبلوا العدوّ، (فيجيء الباقون فيُصلّي بهم الثانية، ويقف في التشهّد) ويطيله (حتّى يَلحقوه فيُسلّم بهم).5.

ص: 260


1- مدارك الأحكام: ج 4/414.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/195.

وإنْ كانت ثُلاثيّة، صلّى بالأولى ركعةً ، وبالثانية ركعتين أو بالعكس.

أقول: الظاهر أنّ هذه الكيفيّة متّفقٌ عليها بين الأصحاب(1).

ويشهد بها: النصوص كصحيح(2) الحلبي أو حسنه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن صلاة الخوف ؟ قال: يقوم الإمام، ويجيء طائفة من أصحابه فيُقيمون خلفه، وطائفة بإزاء العدوّ، فيُصلّي بهم الإمام ركعةً ، ثمّ يقوم ويقومون معه فيمثل قائماً ويُصلّون هم الرّكعة الثانية، ثمّ يُسلِّم بعضهم على بعض، ثمّ ينصرفون فيقومون في مقام أصحابهم، ويَجيءُ الآخرون فيقومون خلف الإمام، فيُصلّي بهم الرّكعة الثانية، ثمّ يجلس الإمام فيقومون هم فيصلّون ركعةً اُخرى ، ثمّ يسلّم عليه فينصرفون بتسليمه» ونحوه غيره.

ثمّ أنّ الظاهر منه أنّ الإمام لا ينتظر الطائفة الثانية إلّابالتسليم، إلّاأنّ الظاهر جواز انتظارهم في التشهّد، كما يشهد له خبر(3) الحميري المرويّ في «قرب الإسناد»، كما أنّ الظاهر عدم وجوب الانتظار، وجواز مفارقتهم إيّاه، لصحيح(4)عبدالرحمن.

(وإنْ كانت) الصَّلاة (ثلاثيّة)، فهو بالخيار (صَلّى بالأولى ركعةً وبالثانية ركعتين أو بالعكس) كما صرّح به غير واحدٍ(5).4.

ص: 261


1- مدارك الأحكام: ج 4/415.
2- وسائل الشيعة: ج 8/436-437 ح 11101.
3- وسائل الشيعة: ج 8/437 ح 11103.
4- وسائل الشيعة: ج 8/435 ح 11098.
5- مجمع الفائدة: ج 3/346، رسائل الكركي: ج 1/124.

وعن «المنتهى»(1) نسبته إلى علمائنا، لورود الأخبار بكلٍّ من الكيفيّتين، والجمع بينها يقتضي القول بالتخيير.

فممّا يدلّ على الاُولى : صحيح زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«صلاة الخوف المغرب يُصلّي بالأولين ركعة، ويقضون ركعتين، ويُصلّي بالآخرين ركعتين، ويقضون ركعة»(2). ونحوه غيره(3).

وممّا يدلّ على الثانية: صحيح الفضلاء، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«إذا كانت صلاة المغرب في الخوف فرّقهم فِرقتين، فيُصلّي بفرقةٍ ركعتين، ثّمّ جَلس بهم، ثمّ أشار إليهم بيده، فقام كلّ إنسانٍ منهم فصلّى ركعةً ، ثمّ سلّموا وقاموا مقام أصحابهم، وجاءت الطائفة الاُخرى فكبّروا ودَخَلوا في الصَّلاة، وقام الإمام فصلّى بهم ركعة، ثمّ سلّم، ثمّ قام كلّ رجلٍ منهم فَصَلّى ... فصار للأوّلين التكبير وافتتاح الصَّلاة، وللآخرين التسليم»(4).

أقول: والأفضل اختيار الكيفيّة الاُولى ، لكثرة الروايات الواردة فيها، والتأسّي بفعل أمير المؤمنين عليه السلام ليلة الهرير.

***9.

ص: 262


1- منتهى المطلب: ج 1/402 (ط. ق).
2- وسائل الشيعة: ج 8/436 ح 11100.
3- وسائل الشيعة: ج 8/435 (باب: استحباب الجماعة في الخوف وكيفيّتها).
4- التهذيب: ج 3/301 ح 8، وسائل الشيعة: ج 8/436 ح 11099.

ويجبُ أخذ السِّلاح مالم يَمنعُ شيئاً من الواجبات، فيؤخذ مع الضّرورة،

في بيان أحكامها

الثالث من المواضع: في بيان أحكامها.

والمهمّ منها واحد (و) وهو أنّه (يجبُ أخذ السِّلاح) كالخنجر والسيف من آلات الدفع، كما هو المنسوب إلى الأكثر(1)، لظاهر الآية الشريفة: (وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ ) (2).

هذا في (ما لم يمنع شيئاً من الواجبات) وإلّا فإنْ أمِنَ من الضّرر، لا يجوز أخذه، لانصراف الآية الشريفة الى الغالب المتعارف، حيث كانوا يتمكّنون مع أخذه من الإتيان بجميع واجبات الصَّلاة، فلا مجوّز للإخلال بذلك الواجب.

وإنْ لم يأمن من الضّرر، جاز للمقاتل أخذ السّلاح تحرّزاً عنه، ولا بأس حينئذٍ بترك ما يمنع عنه أخذ السّلاح من واجبات الصَّلاة، كما لا يخفى وجهه، وهذا هو مراد المصنّف رحمه الله بقوله: (فيؤخذ مع الضرورة).

***

ص: 263


1- ذخيرة المعاد: ج 2/404: (على المشهور بين الأصحاب)، مدارك الأحكام: ج 4/419: (هذا قول الشيخ وأكثر الأصحاب).
2- سورة النساء: الآية 102.

وصلاةُ شدّة الخوف بحسب الإمكان واقفاً أو ماشياً أو راكباً، يسجد على قربوس سَرْجه، وإلّا أومأ ويستقبل القبلة ما أمكن.

صلاة المطاردة

وأمّا صلاة المطاردة (و) هي الّتي تسمّى (صلاة شدّة الخوف)، مثل أن ينتهي الحال إلى المتلاحم والمراماة والمسايفة ونحو ذلك، فهي مشاركة مع صلاة الخوف في قِصر الكم، لكونها من أفراد الخوف، إلّاأنّها يخالفها في الكيفيّة، لأنّه إذا لم يسع المكلّف أن يأتي بالصلاة على حسب ما تقدّم، صلّى (بحسب الإمكان واقفا أو ماشياً أو راكباً)، لما عرفت من أنّ اعتبار هذه الاُمور إنّما يكون في صورة التمكّن، وإلّا فالصلاة لا تَدَعُ بحال.

(و) لو صلّى راكباً ولم يتمكّن من النزول للسجود (يسجد عليقربوس سرجه).

وفي «الجواهر»(1) هو معقد إجماع «المنتهى »، بل و «الغُنية» على الظاهر.

وما في نصوص الباب من إطلاق الأمر بالإيماء جار مجرى الغالب من تعسّر السّجود عليه، وهو بهذه الحال، وعليه مراعاة ما يصحّ السّجود عليه مع الإمكان.

هذا مع التمكّن، (وإلّا أومأ) إيماءً ، لقوله في صحيح الفضلاء: «يُصلّي كلّ إنسان منهم بالإيماء»(2).

ص: 264


1- جواهر الكلام: ج 14/182.
2- الكافي: ج 3/457 ح 2، وسائل الشيعة: ج 8/445 ح 11125.

ولقول الصادق عليه السلام في خبر سماعة: «وإذا كانوا وقوفاً لايقدرون على الجماعة، فالصلاة إيماء»(1)، ونحوهما غيرهما(2).

(ويستقبل القبلة ما أمكن) وصَلّى مع التعذّر للاستقبال بل حتّى التكبيرة إلى أيّ الجهات أمكن، لصحيح زرارة ومحمّد بن مسلم وفضيل، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «في صلاة الخوف عند المطاردة والمناوشة وتلاحم القتال يُصلّي كلّ إنسانٍ منهم بالإيماء حيث كان وجهه، فإذا كانت المسايفة والمعانقة وتلاحم القتال، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام ليلة صفّين - وهي ليلة الهرير - لم يكن صلاتهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء عند وقت كلّ صلاةٍ إلّابالتكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والدّعاء، فكانت تلك صلاتهم، ولم يأمرهم بإعادة الصَّلاة»(3)، المعتَضد بالاتّفاق(4)، وبالتدبّر في باقي روايات الباب.

وعليه، فاحتمال وجوب الاستقبال في التكبيرة فيما لو خاف، لظاهر صحيح زرارة عن الباقر عليه السلام وفيه: «لا يدور إلى القبلة، ولكن أينما دارت به دابّته، غير أنّه يستقبل القبلة بأوّل تكبيرة حين يتوجّه.

ضعيفٌ ، لوجوب حمله على صورة التمكّن من الاستقبال فيها، وإلّا فيسقط اعتباره مع التعذّر بلا ريب.5.

ص: 265


1- الكافي: ج 5/458 ح 5، وسائل الشيعة: ج 8/444 ح 11121.
2- وسائل الشيعة: ج 8/443 باب: كيفيّة صلاة المطاردة والمسايفة وجملة من أحكامها.
3- الكافي: ج 3/457 ح 2، وسائل الشيعة: ج 8/445 ح 11125.
4- الخلاف: ج 1/645.

ولو لم يتمكّن من الإيماء، صَلّى بالتسبيح عِوض كلّ ركعة: سُبحان اللّه والحمدُ للّه ولا إله إلّااللّه واللّه أكبر، والمتوحِّل والغَريق يُصلّيان إيماءً ولا يقصران، إلّامع

وأيضاً: (ولو لم يتمكّن من الإيماء صَلّى بالتسبيح) ويسقط عنه الركوع والسّجود، ويقول (عِوض كلّ ركعةٍ : سُبحان اللّه والحمدُ للّه ولا إله إلّااللّه واللّه أكبر) لصحيح الفضلاء المتقدّم، وظاهره وإنْ كان اعتبار الدّعاء أيضاً، إلّاأنّه لا خلاف في عدم وجوبه، بل ادّعى غير واحد الإجماع(1) على كفاية الإتيان بالصيغة المذكورة، بدلاً عن كلّ ركعة، وإنّما الإشكال في الإجزاء بأقلّ منها.

والظاهر من خبر البصري كفاية التكبير والتهليل، كما أنّ المستفاد من مرسل ابن المغيرة، وحسن ابن عذافر المتقدّمين كفاية التكبير.

ولكن بما أنّ الفتاوى على ما قيل - متظافرة بتعيّنها، ويمكن حمل التكبير على إرادة جنسه، الشامل للتسبيحات الأربع، فالأحوط عدم الاجتزاء بأقلّ منها، والأولى إضافة الدّعاء إليها تأسّياً بالمحكي(2) من فعل أمير المؤمنين عليه السلام.

تتمة: (والمتوحِّل والغَريق يُصلّيان) بحسب الإمكان، إذ الصَّلاة لا تَدَعُ بحال، يؤميان للركوع والسّجود (إيماءً ) كما تقدّم في مبحث القيام،(3)(ولا يقصران إلّامع4.

ص: 266


1- مدارك الأحكام: ج 4/422 (مجمعٌ عليه بين الأصحاب)، ذخيرة المعاد: ج 2/404 (مجمعٌ عليه بين الأصحاب على ما نقله جماعةٌ منهم)، مصباح الفقيه: ج 2/718 ق 2: (الظاهر لا خلاف فيه، بل ادّعى غير واحدٍ في كلماتهم الإجماع عليه).
2- راجع جواهر الكلام: ج 14/183.
3- فقه الصادق: ج 7/74.

السّفر أو الخوف.

السَّفر أو الخوف) بلا خلافٍ كما عن «الرياض»(1)، لأنّ الأصل في الصَّلاة التمام.

ولو خاف من استيلاء الغرق لو أتمّ صلاته، وكان ذلك في ضيق الوقت، جاز له ترك الصَّلاة.

وقد يقال: بوجوب القصر عليه، واستدلّ له:

1 - بعموم الخوف الموجب للقصر لمثله.

2 - وباستفادة حكمه منه بتنقيح المناط.

ولكن يرد على الأوّل: أنّه لو سُلّم التعميم في الخوف، والبناء على أنّ ما في النصوص من التعبير باللّص والسَّبع من قبيل التمثيل لا لخصوصيّةٍ فيهما، فإنّما هو بالنسبة إلى ما كان من هذا القبيل، لا مثل خوف فوات الوقت، أو وقوع حائطٍ، ونحو ذلك كما لا يخفى .

ويرد على الثاني: عدم القطع بالمناط في مثل هذا الحكم التعبّدي.

***).

ص: 267


1- رياض المسائل: ج 1/248 (ط. ق).

البابُ الثّامن: في صَلاة المُسافر:

يسقطُ في السَّفر مِنْ كلّ رباعيّةٍ ركعتان بشروطٍ

الباب الثامن في صلاة المسافر

اشارة

أقول: لا إشكال ولا خلاف في أنّه (يسقط في السَّفر من كلّ رباعيّةٍ ركعتان، بشروطٍ) تأتي، كما لا خلاف في أنّ السقوط عزيمة لا رخصة(1).

ويشهد لهما: - مضافاً إلى الإجماع(2) - جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم: «قلنا لأبي جعفر عليه السلام: ما تقول في الصَّلاة في السَّفر، كيف هي وكم هي ؟

فقال عليه السلام: إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ ) (3) فصار التقصير في السَّفر واجباً، كوجوب التمام في الحضر.

قالا: قلنا: قال اللّه عزّ وجلّ (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) ولم يقل افعلوا، فكيف أوجب ذلك ؟

فقال عليه السلام: أو ليس قد قال اللّه عزّ وجلّ في الصَّفا والمروّة: (فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (4) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروضٌ ،

ص: 268


1- مدارك الأحكام: ج 4/466 (إجماع منصوص).
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/194 (وهو قول علمائنا أجمع) (وأكثر أهل العلم في السَّفر الجامع للشرائط)، الحدائق الناضرة: ج 11/296.
3- سورة النساء: الآية 101.
4- سورة البقرة: الآية 158.

خمسة: أحدها:

لأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه، وصنعه نبيه صلى الله عليه و آله، وكذلك التقصير في السّفر شيءٌ صنعه النبيّ صلى الله عليه و آله.... والصَّلاة في السّفر الفريضة ركعتان إلّاالمغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير، الحديث»(1). ونحوه غيره(2).

فلا وجه للتكلّم في تفسير الآية الشريفة وشرح معنى كلمة (جناح) المذكورة فيها.

أقول: وتنقيح الكلام في هذا الباب، إنّما هو بالتكلّم في فصول:

الأوّل: في الشروط.

الثاني: في أحكام صلاة المسافر.

الثالث: في قواطع السّفر.

الفصل الأوّل: شروط قصر الصلاة ستة

اشارة

أمّا الفصل الأوّل: فشروطه ستّة، وما في المتن من أنّها (خَمسة) ستعرف وجهه عند ذكر الشرط الثاني، الذي هو الأوّل في المتن.

(أحدها): المسافة بلا خلافٍ فيه، بل عليه إجماع علماء الإسلام كافّة(3)، بل هو ضروري.

***

ص: 269


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/434 ح 1265، وسائل الشيعة: ج 8/517 ح 11327.
2- وسائل الشيعة: ج 8/517 باب أنّ القصر في السّفر فرض واجب لا رخصة.
3- مدارك الأحكام: ج 4/428 (أجمع العلماء كافّة) الحدائق الناضرة: ج 11/298 (أجمع العلماء من الخاصّة والعامّة).
حَدّ المسافة
اشارة

أقول: وهي ثمانية فراسخ بلا خلافٍ فيه بيننا(1).

وعن داود الظاهري(2): الاكتفاء بمجرّد الضَّرب في الأرض.

وعن بعض العامّة(3): اعتبار ضرب ثلاثة أيّام.

ويشهد للمختار: جملةٌ كثيرة من النصوص:

منها: موثّق سماعة: «في كم يُقصّر الصَّلاة ؟ قال عليه السلام: في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ»(4).

ومنها: صحيح أبي أيّوب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن التقصير؟ فقال: في بريدين أو بياض يوم»(5).

ومنها: صحيح الكاهلي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «التقصير في الصَّلاة بريدٌ في بريد أربعة وعشرون ميلاً»(6).

ونحوها غيرها الآتي بعضه.

ولا يعارضها ما تضمّن تحديدها بمسيرة يومٍ وليلة:

1 - مثل صحيح زكريّا بن آدم، عن أبي الحسن عليه السلام: «التقصير في مسيرة يوم وليلة»(7).

ص: 270


1- المعتبر: ج 2/465 (ذهب علمائنا أجمع).
2- المعتبر: ج 2/465: (وقال داود يلحق الحكم بالسّفر القصير كالطويل).
3- راجع الحدائق الناضرة: ج 11/300.
4- التهذيب: ج 3/207 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/452 ح 11146.
5- التهذيب: ج 3/210 ح 15، وسائل الشيعة: ج 453 ح 11145.
6- من لا يحضره الفقيه: ج 1/436 ح 1268، وسائل الشيعة: ج 8/452 ح 11141.
7- من لا يحضره الفقيه: ج 1/450 ح 1304، وسائل الشيعة: ج 8/452 ح 11143.

2 - ومثل صحيح البزنطي، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن الرّجل يريدُ السّفر في كم يقصّر؟ قال عليه السلام: في ثلاثة بُرد»(1).

3 - ومثل خبر أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس للمسافر أن يتمّ الصَّلاة في سفره مسيرة يومين»(2).

لقصورها عن المكافئة معها من وجوهٍ لا تخفى ، فتُحمل على التقيّة، أو تطرح، أو تؤوّل بحملها على ما لا ينافي الفرض الأوّل.

أقول: الكلام في المقام يقع في موارد:
حدّدت المسافة بمسيرة يومٍ

المورد الأوّل: حدّدت المسافة في بعض نصوص الباب بمسيرة يومٍ ، فهل:

1 - يكون التحديد بذلك بثمانية فراسخ في عرضٍ واحد، بحيث إذا حصل كلّ واحدٍ منهما تحصل المسافة، ولو مع عدم حصول الآخر؟

2 - أو أنّ أحدهما في طول الآخر، وأنّ المدار عليه والآخر طريقٌ إليه ؟

3 - أو أنّ المدار عليهما معاً ويعتبر تحقّقهما؟

أقول: نصوص الباب على طوائف:

منها: ماتضمّن التحديد بالثمانية، كصحيح الكاهلي وغيره.

ومنها: ماتضمّن التحديد بمسيرة يومٍ ، كصحيح علي بن يقطين(3).

ومنها: ما ظاهره كفاية أحدهما، كصحيح أبي أيّوب المتقدّم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن التقصير؟ فقال: في بريدين أو بياض يومٍ ».

ص: 271


1- التهذيب: ج 3/209 ح 13، وسائل الشيعة: ج 8/454 ح 11148.
2- التهذيب: ج 3/209 ح 14، وسائل الشيعة: ج 8/453 ح 11147.
3- وسائل الشيعة: ج 8/455 ح 11154.

ونحوه غيره، فإنّها من جهة التعبير فيها ب (أو) العاطفة ظاهرة في ذلك.

ومنها: ما هو مفسّر لجميع ذلك، ويدلّ على أنّ المدار على الثمانية خاصّة، وإنّما حدّدت بمسيرة يومٍ من جهة كونها طريقاً إليها، وأنّ السير الذي عُلّق عليه الحكم يوافق دائماً مع الثمانية، كخبر الفضل بن شاذان، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«وإنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ أقلّ من ذلك ولا أكثر، لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامّة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم»(1).

وموثّق سماعة: «عن المسافر في كم يقصّر الصَّلاة ؟ قال: في مسير يومٍ ، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ»(2).

وصحيح زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّم: «سافر رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى ذي خُشُب وهي مسيرة يومٍ إلى المدينة يكون إليها بريدان: أربعة وعشرون ميلاً فقصر وأفطر، فصارت سُنّة»(3).

وخبر عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلت له: كم أدنى ما يقصّر فيه الصَّلاة ؟ فقال: جَرت السُنّة ببياض يوم.

فقلت له: إنّ بياض اليوم يختلفُ ، يسيرُ الرّجل خَمسة عشر فرسخاً في يوم، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة فراسخ في يوم ؟!

فقال: إنّه ليس إلى ذلك ينظر، أما رأيت سير هذه الأميال بين مكّة والمدينة، ثمّ أوما بيده أربعة وعشرين ميلاً يكون ثمانية فراسخ»(4). ونحوها غيرها.3.

ص: 272


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/454 ح 1318، وسائل الشيعة: ج 8/451 ح 11139.
2- التهذيب: ج 3/207 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/453 ح 11146.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 1/434 ح 1265، وسائل الشيعة: ج 8/452 ح 11142.
4- وسائل الشيعة: ج 8/455 ح 11153.

فإنّ المستفاد من هذه النصوص أنّ التحديد بمسيرة يوم، ليس لاعتبار تحقّقها بالفعل، بل إنّما هو لأجل كون ذلك حَدّاً لمقدارٍ من البُعد والمسافة الموجبة للقصر، وأنّ المسافة - التي هي ثمانية فراسخ - إنْ وقعت في يومٍ واحدٍ بالسَّير المتعارف توجبُ شُغل يومه.

فتحصّل: أنّ المدار على الثمانية.

المراد من الميل

المورد الثاني: لا كلام في أنّ مسافة البريد أربعة فراسخ(1)، والفرسخ ثلاثة أميال، كما صرّح بهما في النصوص، إنّما الكلام في تحديد الميل:

فالمشهور بين الأصحاب(2): أنّه أربعة آلاف ذراع، وعن «المدارك»(3) أنّه ممّا قطع به الأصحاب، ويشهد له أنّه المعروف بين اللّغويّين والعرف والفقهاء، ولا ينافيه ما عن القدماء(4) من أهل الهيئة من أنّه ثلاثة آلاف ذراع، لأنّ الذراع في كلماتهم اُريد به اثنتان وثلاثون اصبعاً، وما هو في العرف واللّغة أربعٌ وعشرون اصبعاً، فثلاثة آلاف ذراع في كلمات القدماء هي أربعة آلاف في كلمات القوم.

كما أنّه لا يعارضه قول الإمام الصادق عليه السلام في مرسل الخزّاز من أنّ كلّ ميلٍ ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع(5)، لإرساله وهجره بين الأصحاب.

وأمّا ما في كلام اللّغويّين(6) من أنّ الميل هو مَدُّ البَصر من الأرض، فلعدم

ص: 273


1- مدارك الأحكام: ج 4/429 واتّفق العلماء كافّة.
2- جواهر الكلام: ج 14/198 (على المشهور)، منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/390 (فالمشهور)، غنية النزوع: ص 73 (والميل ثلاثة الآف ذراع.. كلّ ذلك بالإجماع).
3- مدارك الأحكام: ج 4/430.
4- جواهر الكلام: ج 14/199، غنية النزوع: ص 73 (والميل ثلاثة الآف ذراع.. كلّ ذلك بالإجماع).
5- الكافي: ج 3/432 ح 3، وسائل الشيعة: ج 8/460 ح 11169.
6- مجمع البحرين: ج 5/476، لسان العرب: ج 11/632، العين: ج 8/345.

انضباطه لا يُعتمد عليه.

وبالجملة: بما ذكرناه ظهر حَدّ الذراع، فلا مورد لتطويل الكلام فيه.

حكم المسافة الملفّقة

المورد الثالث: لا إشكال في وجوب القصر في الثمانية الامتداديّة، بأنْ كان من مبدأ سيره إلى مقصده ثمانية فراسخ، كما لا إشكال في تعيّن التمام إذا كان أقلّ من الثمانية الملفّقة.

إنّما الكلام فيما إذا كان أربعة فراسخ، أو أزيد، إلى ما دون الثمانية، حيث اختلف الفقهاء في حكمه على أقوال:

القول الأوّل: ما عن ظاهر الكليني، وهو وجوب القصر وإنْ لم يرد الرجوع مطلقاً، ومنشأ هذا الاستظهار نقله الروايات الواردة في الأربعة فقط.

القول الثاني: ما عن ابن زُهرة(1) وأبي الصلاح(2) وهو تعيّن التمام مطلقاً.

القول الثالث: ما هو المشهور بين الأصحاب(3) - على ما نُسب إليهم - وهو تعيّن القصر إذا أراد الرجوع ليومه، والتخيير بين القصر والتمام إذا لم يرد الرجوع ليومه(4).

ص: 274


1- غنية النزوع: ص 73 (.. إجماع الطائفة).
2- غنية النزوع: ص 75-76.
3- مصباح الفقيه: ج 2/725 ق 2 (بلا خلاف معتدٍّ به)، جواهر الكلام: ج 14/206 (بلا خلاف أجده، بل عن الأمالي من دين الإماميّة، بل نصّ عليه أكثر الأعيان من الأصحاب إنْ لم يكن جميعهم، بل هو ظاهر الجميع عدا الشيخ).
4- جواهر الكلام: ج 14/216 (المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً، بل عن الأمالي من دين الإماميّة).

القول الرابع: ما عن جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله في بعض كتبه(1)، وهو تعيّن التمام إذا لم يرد الرجوع ليومه، وتعيّن القصر إذا أراد ذلك.

القول الخامس: ما عن الشيخ(2) وجماعة من المتأخّرين(3) وهو التخيير بين القصر والتمام مطلقاً.

وهناك أقوالٌ اُخر يقف عليها المتتبّع.

أقول: ومنشأ تشتّت الأقوال هو اختلاف الأخبار، فلابدّ أوّلاً من نقل جملة منها، ثمّ بيان ما يستفاد منها، وهي على طوائف:

الطائفة الاُولى: ما تقدّم ممّا يدلّ على اعتبار الثمانية، الظاهرة في الامتداديّة.

الطائفة الثانية: ما دلَّ على تحديد المسافة بأربعة فراسخ:

منها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «التقصير في بريد، والبريد أربعة فراسخ»(4).

ومنها: صحيح زيد الشّحام، عن الإمام الصادق عليه السلام: «يقصر الرّجل الصَّلاة في مسيرة اثني عشر ميلاً».(5) ونحوهما غيرهما(6).

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على اعتبار الأربعة مقيّدة بضمّ الإياب إلى الذهابخ.

ص: 275


1- ذخيرة المعاد: ج 2/405 (فذهب جمعٌ من الأصحاب منهم المرتضى وابن إدريس وكثير من المتأخّرين)، مختلف الشيعة: ج 3/101
2- المبسوط: ج 1/141، النهاية: ص 122 (وإنْ لم يرد الرجوع من يومه كان مخيّراً بين القصر والتمام)، راجع ص 354 من الكتاب.
3- راجع رياض المسائل: ج 4/410.
4- الكافي: ج 3/432 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/456 ح 11157.
5- التهذيب: ج 3/208 ح 7، وسائل الشيعة: ج 8/457 ح 11159.
6- وسائل الشيعة: ج 8/451 باب وجوب القصر في بريدين في ثمانية فراسخ.

مطلقاً، من دون تقييد بكون ذلك ليومه:

منها: صحيح معاوية، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أدنى ما يقصّر فيه المسافر؟ فقال عليه السلام: بريدٌ ذاهباً وبريدٌ جائياً»(1).

ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «سألته عن التقصير؟ فقال:

بريدٌ ذاهب وبريدٌ جائي.

قال: وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا أتى ذُباباً قصّر، وذُباب على بريد، وإنّما فعل ذلك لأنّه إذا رجع كان سفره بريدين، ثمانية فراسخ»(2)، ونحوهما غيرهما(3).

الطائفة الرابعة: ما يدلّ على ضمّ الإياب إلى الذهاب في غير يومه:

منها: صحيح معاوية بن عمّار: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ أهل مكّة يتمّون الصَّلاة بعرفات. قال عليه السلام: ويلهم - أو ويحهم - وأيُّ سفرٍ أشدّ منه، لا يتمّ أو لا يتمّوا»(4).

وموثّق معاوية بن عمّار: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: في كم أُقصّر الصَّلاة ؟ فقال:

في بريدٍ، ألا ترى أنّ أهل مكّة إذا خرجوا إلى عرفة كان عليهم التقصير»(5).

ونحوهما غيرهما ممّا ورد في وجوب التقصير على أهل مكّة حين خروجهم إلى عرفات.

ومنها: خبر إسحاق المرويّ في «العلّل» وغيرها، عن أبي الحسن عليه السلام عن قومٍ 0.

ص: 276


1- التهذيب: ج 3/208 ح 5، وسائل الشيعة: ج 8/456 ح 11158.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/450 ح 1303، وسائل الشيعة: ج 8/461 ح 11171.
3- وسائل الشيعة: ج 8/451 باب وجوب القصر في بريدين في ثمانية فراسخ.
4- الكافي: ج 4/519 ح 5، وسائل الشيعة: ج 8/463 ح 11176.
5- التهذيب: ج 3/208 ح 8، وسائل الشيعة: ج 8/464 ح 11180.

خرجوا في سفر، وتخلّف عنهم رجلٌ ، وبقوا ينتظرونه، فقال عليه السلام:

إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ، فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أم انصرفوا، وإنْ كانوا ساروا أقلّ من أربعة فراسخ، فليتمّوا الصَّلاة أقاموا أو انصرفوا، فإذا مضوا فليقصّروا»(1).

وفي خبر آخر رواه الصدوق في «العلل»: «ثمّ قال عليه السلام: هل تدري كيف صار هكذا؟ قلت: لا، قال: لأنّ التقصير في بريدين، ولا يكون التقصير في أقلّ من ذلك، فإذا كانوا قد ساروا بريداً وأرادوا أن ينصرفوا، كانوا قد سافروا سفر التقصير، الحديث»(2).

الطائفة الخامسة: ما يدلّ على ضمّ الإياب إلى الذهاب ليومه، كموثّق ابن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام في حديثٍ : «إنّه ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شغل يومه»(1).

الطائفة السادسة: ما يدلّ على تعيّن التمام، مع طيّ ما دون الثمانية:

منها: صحيح عمران بن محمّد: «قلتُ لأبي جعفر الثاني: جُعلتُ فداك إنّ لي ضيعةً على خمسة عشر ميلاً خمسة فراسخ، فربما خرجتُ إليها فاُقيم فيها ثلاثة أيّام أو خمسه أيّام أو سبعة أيّام، فأتمّ الصَّلاة أم أقصّر؟ قال عليه السلام: قصّر في الطريق وأتمّ في الضيعة»(2).

ومنها: صحيح ابن الحجّاج، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن التقصير في الصَّلاة ؟9.

ص: 277


1- التهذيب: ج 4/224 ح 33، وسائل الشيعة: ج 8/459 ح 11165.
2- التهذيب: ج 3/210 ح 18، وسائل الشيعة: ج 8/496 ح 11269.

فقلت له: إنّ لي ضيعةً قريبة من الكوفة، هي بمنزلة القادسيّة من الكوفة، فربما عرضتْ لي حاجة انتفع بها أو يضرّني القعود عنها في رمضان، فأكره الخروج إليها، لأنّي لا أدري أصوم أو أفطر؟ فقال عليه السلام لي: فاخرج وأتمّ الصَّلاة وصُمّ ، فإنّي قد رأيتُ القادسيّة»(1). ونحوهما غيرهما(2).

أقول: هذه هي النصوص الواردة في المقام، فيقع الكلام في موردين:

الأوّل: فيما يستفاد من هذه الأخبار.

الثاني: في مستند سائر الأقوال.

أمّا المورد الأوّل: فلا ينبغي التوقّف في أنّ الطائفة الثانية يقيّد إطلاقها بالطائفة الثالثة والرابعة والخامسة، وتلك الطوائف الثلاث لا تَعارض بينها، إذ الطائفة الثالثة تدلّ على القصر في الثمانية الملفّقة مطلقاً، سواءٌ أكان الإياب ليومه أو لغير يومه، وكل من الطائفة الرابعة والخامسة متضمّنة لحكم قسمٍ من إطلاق هذه الطائفة، فلا تعارض بينها.

وأمّا الطائفة السادسة، فجملةٌ منها قاصرة سنداً، وجملةٌ اُخرى منها قاصرة دلالة، إذ الأمر بالإتمام في خبر ابن الحجّاج يُحتمل أن يكون لأجل كون ضيعته بحكم الوطن، أو لعلّه كان عازماً على الإقامة فيها.

مضافاً إلى معارضته في مورده لمرسل ابن بُكير الآمر بالتقصير لمن خرج من الكوفة إلى القادسيّة، والأمر بالإتمام في صحيح ابن عمران لأجل الأمر فيه بالقصر في الطريق، وهما لا يجتمعان على جميع الأقوال، فيُحمل على التقيّة لموافقته لمذهبم.

ص: 278


1- التهذيب: ج 4/222 ح 24، وسائل الشيعة: ج 8/492 ح 11259.
2- وسائل الشيعة: ج 8/492 باب أنّ من وصل إلى منزل له قد استوطنه ستّة أشهر فصاعداً أو ملك كذلك ولو نخلة واحدة وجب عليه التمام.

العامّة، فيكون هو من أدلّة القول بتعيّن القصر، وبذلك يظهر الخدشة في سائر الروايات التي قريبة من هذه المضامين.

أقول: بقي الكلام في النسبة بين الطائفة الاُولى والطوائف الثلاث، أي الثالثة والرابعة والخامسة، والظاهر أنّ النسبة هي حكومة الطوائف على الاُولى، لاحظ التعليل في خبر إسحاق، الصريح في تفسير الثمانية، وقوله عليه السلام في موثّق ابن مسلم:

(إذا ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شغل يومه) في مقام دفع تعجّب الراوي، من كون البريد موجباً للقصر، الدالّ على أنّ العبرة في الثمانية ليست بخصوص الامتداديّة، بل الأعمّ منها ومن التلفيقيّة، وكذا غيرهما من النصوص.

وبهذا البيان يندفع ما ذكره جدّنا(1) العلّامة المعظّم رحمه الله، من الإشكال على الحكومة، بأنّ : (اعتبار التلفيق في أخبار الثمانيه ممّا لا وجه له، وإنْ أمكن فرض ذلك في أخبار مسيرة يوم، لأنّ مسافة ثمانية فراسخ عبارة عن البُعد الخاص، وهي غير قابلة لأن تكون أربعة، فإنّ الثمانية لا تصير أربعة على أيّ وجه اعتبرت، ضرورة أنّ البُعد المقدّر المحدود بالثمانية من مكانٍ خاص إلى منتهى الحَدّ، لا يعقل أن يكون أربعة، فإذا ذهب إلى أربعة ورجع يكون البُعد أربعة لا ثمانية، فاعتبار التعميم في الثمانية بالممتدّة والملفّقة ممّا لايتصوّر له وجهٌ معقول) انتهى.

وجه الاندفاع: أنّه وإنْ كان ظاهر أخبار الثمانية اعتبار البُعد الخاص إلى منتهى الحَدّ، إلّاأنّه يرفع اليد عن هذا الظهور بواسطة تلك الطوائف المفسّرة لها، وتُحمل على معنى يشمل الثمانية الملفّقة أيضاً.

ثمّ إنّه قدس سره جمع بين النصوص بنحوٍ آخر، لا يخلو إيراده عن فائدة، وهو أنّ ة.

ص: 279


1- ممّا يؤسف له أنّ مخطوطات جدّ الشارح قد تلفت، ولم يصل منها إلّابعضها مبتورة ناقصة.

التعارض الثابت بين أخبار الثمانية والأربعة مع الانضمام، إنّما هو باعتبار المفهوم المستفاد من سياق التحديد، حيث أنّ ظاهر الاُولى قاضٍ بانحصار سبب القصر في الثمانية، وظاهر الثانية في الأربعة مع ضَمّ الإياب الى الذهاب دون غيرها، ومع اعتبار الانضمام تخرج النسبة بين السببين عن الأقلّ والأكثر، بل تكون النسبة بينهما التباين، فعلى هذا يقيّد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر على ماتقتضيه القاعدة، فيكون كل واحدة منهما سبباً مستقلّاً كسائر موارد تعدّد الأسباب، وهو حسن ودقيق لو لم يتمّ ما ذكرناه من الحكومة.

وبالجملة: فالمتحصّل من النصوص تعيّن التقصير مع تحقّق المسافة بالثمانية التلفيقيّة، سواءٌ أراد الرجوع ليومه أم لم يرد ذلك.

وأمّا المورد الثاني: فقد استدلّ لما ذهب إليه الكليني بالطائفة الثانية من النصوص، وقد عرفت أنّ إطلاقها يُقيّد بغيرها من الطوائف.

واستدلّ للقول الثاني: بالطائفة الاُولى من النصوص، بدعوى معارضتها مع الطوائف الاُخرى وتقدّمها عليها، وبالطائفة السادسة من الأخبار.

أقول: هذا الاستدلال ممنوع لأنّه:

يرد على الأوّل: ما تقدّم من حكومة الطوائف الاُخرى على الاُولى ، مضافاً إلى ما ذكره جدّنا العلّامة رحمه الله على فرض تسليم التعارض.

ويرد على الثاني: ما ذكرناه من أنّها ما بين ضعيف السند وقاصرة الدلالة.

واستدلّ للقول الثالث: - المنسوب إلى المشهور، فيما إذا أراد الرجوع ليومه - بما أسلفناه، وفيما إذا لم يرد الرجوع ليومه، بأنّ في المسألة روايتين، والجمعُ بينهما يقتضي القول بالتخيير، كما في محكي «الدروس».

ص: 280

وفيه: إنّه قد تقدّم ما يقتضيه الجمع بين الأخبار.

واستدلّ للقول الرابع: الذي اختاره جماعة من الأساطين كالمرتضى(1)والحِلّي(2)، وجدّنا رحمه الله(3)، والشيخ الأعظم(4) - فيما إذا أراد الرجوع ليومه - بما تقدّم، وفيما لم يرد الرجوع ليومه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره جدّي العلّامة رحمه الله، وهو أنّ إعراض الأصحاب عن أخبار القصر - التي قويّة سنداً ودلالة، بحيث لم يُنقل القول بمضمونها عن أحدٍ إلى زمان العُمّاني، مع أنّها كانت نصب أعينهم - كاشفٌ عن ريبٍ فيها، وموجبٌ لوهنها، وعدم صحّة الاستدلال بها.

وتوهّم: أنّهم ذهبوا إلى التخيير، بل ربما قيل هو المشهور بين القدماء(5)، وهذا عملٌ منهم بتلك الأخبار، فلا إعراض من الجميع.

فاسد: إذ المتدبّر فيها يرى أنّ جملةً منها آبية عن هذا الحمل، فالقول بالتخيير أيضاً طرحٌ لها.

وفيه: أنّ إفتاء المشهور بالتخيير عملٌ بها، والقول بإبائها عن هذا الجمع، إيرادٌ عليهم بعدم كون ذلك جمعاً عرفيّاً، لا أنّه دليلٌ لطرحهم الأخبار وإعراضهم عنها.

مع أنّ الأخبار الآمرة بالتقصير، لتظافرها، وتكاثرها لا يتطرّق إليها بالنظر إلى مجموعها احتمال عدم الصدور، فلا يجوز طرح جميعها.6.

ص: 281


1- رسائل المرتضى: ج 3/47.
2- مختلف الشيعة: ج 3/101.
3- نقله سماحة المؤلّف دام ظلّه عن بعض المخطوطات الناقصة لجدّه التي وصلت إليه.
4- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 390.
5- جواهر الكلام: ج 14/206.

مع أنّه لو سُلّم ذلك فيما هو صريحٌ في وجوب القصر على غير مريد الرجوع ليومه، لا يتمّ فيما يدلّ بإطلاقه عليه، كما لا يخفى .

الوجه الثاني: ما أفاده جدي رحمه الله أيضاً، وهو أنّ هذه الأخبار معارضة بروايات دالّة على تعيّن التمام، والترجيح مع هذه الروايات وهي الشهرة، وعلى تقدير تسليم التكافؤ، فالمرجع هو العام الفوق، وهو ما يقضي بالتمام لما دون الثمانية، دون مايقضي بالقصر مطلقاً، فإنّه مقيّد بما يدلّ على وجوبه لمريد الرجوع ليومه.

وفيه: ما تقدّم من أنّ تلك النصوص ما بين ضعيف السَّند، وقاصرة الدلالة، مع أنّ المشهور بين الأصحاب ليس هو تعيّن التمام.

الوجه الثالث: ما عن الشيخ الأعظم رحمه الله(1) وهو أنّ الأمر فيما كان الإياب لغير يومه يدور بين تعيّن التمام، أو التخيير بينه وبين القصر، فيكون التمام هو القدر المتيقّن، فيجب الأخذ به، كما في كلّ موردٍ يدور الأمر بين التعيين والتخيير.

وفيه أوّلاً: أنّ هناك شقّاً ثالثاً، وهو الأقوى بحسب الأدلّة، وهو تعيّن القصر، فلا قدر متيقّن في البين.

وثانياً: أنّ الرجوع إلى أصالة التعين لو تمّ ، فإنّما هو فيما لو يكن دليلٌ ، وقد عرفت وجوده.

الوجه الرابع: التعليل الوارد في ذيل موثّق سماعة للقصر في البريد بأنّه (إذا رجع بريداً فقد شغل يومه)، فإنّه يدلّ على اعتبار شُغل اليوم بالفعل في القصر، ومع عدمه يجب التمام.

وفيه: أنّ الظاهر من التعليل، كونه في مقام مجرّد التقدير، فإنّه واردٌ في مقام رفع7.

ص: 282


1- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 417.

تعجّب السائل من تحديد القصر بالبريد، وأنّه مع الرجوع يكون صغرى الكبرى المرتكزة في ذهن السائل، من اعتبار ثمانية فراسخ، المعبّر عنها في بعض النصوص بمسيرة يوم، فالتعليل المزبور ظاهرٌ في عدم دخل لشغل اليوم في هذا الحكم.

ويشهد له: - مضافاً إليه - التعليل للقصر في المورد الوارد في صحيح زرارة بأنّه (إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ)، فإنّ المراد منهما واحدٌ، وسيأتي زيادة توضيح لذلك في بعض المسائل الآتية.

واستدلّ للقول الخامس: بأنّه مقتضى الجمع بين النصوص الآمرة بالقصر، ونصوص الثمانية.

وفيه: أنّه إنْ قصد بذلك التخيير في المسألة الفرعيّة.

فيرد عليه: أنّ هذا جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، بل بعض أخبار التقصير الوارد في خروج أهل مكّة إلى عرفات، يأبى عن هذا الحمل، لاشتماله على التوبيخ والإنكار بالويل والويح على ترك التقصير.

وحمل التوبيخ فيها على الالتزام بالإتمام، وعدم مشروعيّة التقصير - ردّاً على أهل مكّة، حيث أنّهم كانوا ملتزمين به لما سنّه عثمان وتبعه الأمراء من بعده كما نطق به صحيح زرارة - خلافُ ظاهرها، كما يظهر لمَن راجعها.

وإنْ اُريد به التخيير في المسألة الاُصوليّة:

فيرد عليه: أنّ الالتزام بذلك فرعُ التعارض، وعدم إمكان الجمع بوجه، وعدم وجود المرجّح لشيء من المتعارضين، وقد عرفت ما في جميع هذه المباني.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر هو تعيّن القصر في الثمانية الملفّقة، سواءٌ أكان الإياب ليومه أم لم يكن.

ص: 283

هذا كلّه فيما إذا كان كلٍّ من الذهاب والإياب أربعة فراسخ.

أمّا لو كان الذهاب أقلّ من تلك، مع كون الجميع ثمانية فراسخ، كما إذا كان الذهاب فرسخين، والإياب ستّة:

فالمنسوبُ إلى المشهور تعيّن التمام.

وعن الشيخ الأعظم(1): أنّ حكم ذلك حكمُ ما لو كان كلٍّ منهما أربعة، لو لم يقم إجماعٌ على خلافه.

وقد استدلّ له: بالتعليل في موثّق ابن مسلم المتقدّم، فإنّ العبرة بعموم العلّة المنصوصة، وقد عَلّل عليه السلام وجوب القصر في بريدٍ جائياً وبريدٍ ذاهباً بأنّه: (إذا ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شَغل يومه)(2) فكلّ ما كان شاغلاً لليوم من المسير ثمانية فراسخ، يثبت فيه التقصير، سواءٌ أكان التلفيق من أربعة من الطرفين، أو من ثلاثة ذاهباً وخمسة عائداً.

أقول: لا ينبغي التوقّف في كونه من قبيل الحكمة لا العلّة التي يدور الحكم مدارها، وإلّا لزم الاكتفاء في القصر بالتردّد ميلاً ذاهباً وراجعاً أربعة وعشرين مرة، وهذا ممّا لم يلتزم به متّفقهٌ فضلاً عن فقيه، فيعلم من ذلك أنّه يعتبر في القصر - مضافاً إلى ذلك - البُعد عن الوطن المحدود بحدٍّ خاص، وقد عيّنه الشارع الأقدس في النصوص وهو الثمانية الامتداديّة، والأربعة إذا رجع، فثبوت القصر في الأقلّ من الأربعة مخالفٌ لتلك النصوص، بل لو ثبت عموم العلّة لابدّ من تخصيصه بنصوص الأربعة المصرّح فيها بأنّ الأربعة أدنى ما يقصر فيها، وفي خبر «العلّل» المتقدّم5.

ص: 284


1- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 416.
2- التهذيب: ج 4/224 ح 33، وسائل الشيعة: ج 8/459 ح 11165.

التصريح بوجوب التمام، إذا كان الذهاب أقلّ من أربعة.

وعليه، فالأظهر ماهو المشهور بين الأصحاب.

وأيضاً: إنْ كان الذهاب أكثر من الأربعة، والعود أقلّ منها، كما إذا ذهب ستّة فراسخ ورجع فرسخين، فهل يقصّر أم لا؟

وجهان، أقواهما الثاني، من جهة أنّ مقتضى نصوص الثمانية، عدم كفاية أقلّ منها، وقد خرجنا عن حكمها لحكومة نصوص التلفيق عليها، فلابدّ من الاقتصار على مقدار مدلول دليل الحاكم، وهو إنّما يكون في الملفّقة من الذهاب أربعة فراسخ والإياب كذلك، والمرجع في غير هذا المورد إلى مفهوم نصوص الثمانية.

مع أنّه قد ورد التصريح في بعض نصوص التلفيق، بأنّ أدنى ما يقصّر فيه المسافر: (بريدٌ ذاهباً وبريدٌ جائياً)، كصحيح معاوية المتقدّم(1).

وأمّا عموم التعلّل فقد عرفت ما فيه.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم جواز القصر إذا كان الذهاب أو الإياب أقلّ من أربعة فراسخ، وإنْ كان المجموع ثمانية فراسخ.

في تعيين مبدأ المسافة

المورد الرابع: اختلفت كلماتهم في تعيين مبدأ المسافة:

فعن جماعةٍ ، بل المشهور(2): أنّ مبدأها سور البلد، أو آخر البيوت فيما لا سور

ص: 285


1- التهذيب: ج 3/208 ح 5، وسائل الشيعة: ج 8/456 ح 11158.
2- الحدائق الناضرة: ج 1/405 (المشهور بين الأصحاب سيّما بين المتقدّمين، إلّاأنّهم عبّروا هنا بخفاء جدران البلد، بمعنى أنّه لا يجب عليه التقصير حتّى يتوارى عنه جدران البلد الذي خرج منه أو يخفى عليه أذانها)، مدارك الأحكام: ج 4/407 (قول أكثر الأصحاب)، كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 388 للشيخ الأنصاري (مبدؤها من آخر البلدة.. على ما صرّح غير واحد).

له في البلدان الصغيرة والمتوسّطة، وآخر المحلّة في المدن الكبيرة مترامية الأطراف.

وعن الصدوق(1): أنّ مبدأها الدار والمنزل.

وعن ظاهر الشهيد رحمه الله(2): أنّ مبدأها الخروج عن حَدّ الترخّص.

أقول: الظاهر أنّ المبدأ آخر البلد مطلقاً، ويشهد له أمران:

الأوّل: أنّ الإنسان إذا خرج من منزله، ولم يخرج من بلده، لا يصدق عليه اسم المسافر المعتبر في المسافة.

الثاني: أنّه من جهة خلوّ الأخبار والنصوص الواردة في تحديد المسافة عن الإشارة إلى المبدأ، لا مناص عن البناء على أنّ العبرة بنظر العرف، ولا شكّ في أنّ المبدا عندهم آخر البلد، ولذا ترى أنّه عند السؤال عنهم عن حَدّ المسافة إلى مكانٍ خاص، يُجيبون بالجواب الذي يذكرونه عند السؤال عن المسافة بين البلد وذلك المكان، وهذه علامةٌ على أنّ العبرة عندهم بآخر البلد، وما ذكرناه لا فرق فيه بين المدن الكبيرة وغيرها.

ودعوى(3): أنّ المسافة الواقعة في البلدان الكبيرة بنفسها ملحوظة لدى العرف، ويكون كلّ محلّةٍ من محلّاتها ملحوظة على سبيل الاستقلال في تحديداتهم، فالعبرة إنّما تكون بالخروج عن المحلّة.2.

ص: 286


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/436.
2- الذكرى: ص 59-261 راجع ص 363.
3- مصباح الفقيه (ط. ق): ج 2/724 ق 2.

ممنوعة: وأظنّ أنّ الذي أفتى به قدماء الأصحاب، من أنّ العبرة في البلاد العظيمة بآخر المحلّة، لا ينطبق على فتوى المتأخّرين، والتي نسبناها إلى المشهور، لأنّ جمعاً منهم حدّدوا البلد العظيم بما إذا كان بين محلّاته انفصالاً، بأن لا تكون المحلّات متّصلاً بعضها ببعض، وترى أنّ هذا الضابط لا ينطبق على كثيرٍ من البلاد التي يعدّونها من البلاد العظيمة مثل طهران وبغداد ونحوهما.

واستدلّ لما عن الصدوق: بالنصوص المتضمّنة لذكر (المنزل):

منها: موثّق عمّار: «لايكون مسافراً حتّي يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ»(1).

ومنها: خبر المروزي: «فإذا خرج الرّجل من منزله أو قريته ثمانية فراسخ»(2)ونحوهما غيرهما.

وفيه: - مضافاً إلى أنّه لا إطلاق لها من هذه الجهة، لورودها مورد حكمٍ آخر أنّه من المحتمل أن يكون المراد من (المنزل) محلّ الإقامة.

وبعبارة اُخرى : يحتمل أن يكون المراد من (المنزل) ما هو أوسع من البيت، ويشهد له عطف الضيعة والقرية عليه في بعض النصوص.

واستدلّ لما عن ظاهر الشهيد: بأنّ الشخص إنّما يعدّ مسافراً شرعاً، بالخروج عن حَدّ الترخّص، وقبل الخروج لا يصدق عليه ذلك، ولذا لا يقصّر.

وفيه: أنّه مبدأ لحكم السّفر لا لموضوعه.

فتحصّل: أنّ العبرة بآخر البلد مطلقاً.

***0.

ص: 287


1- تهذيب الأحكام: ج 4/225 ح 36، وسائل الشيعة: ج 8/469 ح 11192.
2- تهذيب الأحكام: ج 4/226 ح 39، وسائل الشيعة: ج 8/457 ح 11160.
في المسافة المستديرة

المورد الخامس: إذا كانت المسافة مستديرة:

فتارةً : ليس له مقصدٌ في البين.

واُخرى : يكون له مقصد في البين.

أمّا في الصورة الاُولى : فالكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في أنّ هذه المسافة هل هي ملفّقة من الذهاب والإياب، أم تكون امتداديّة ؟

الثاني: في أنّ القوس المطوي يُحسب من الثمانية أم لا؟

أمّا المقام الأوّل: فالظاهر أنّها مسافة ملفّقة لا امتداديّة، وذلك لأنّ المعيار في الذهاب التباعد عن مبدأ السير، والوصول إلى حَدٍّ معيّن، وفي الإياب الحركة من ذلك الموضع إلى مبدأ السير، وهذان العنوانان يصدقان على المسافة المستديرة، ويكون مبدأ الذهاب الخروج من البلد ومنتهاه النقطة المسامتة لمبدأ الحركة، ومبدأ الإياب تلك النقطة، ومنتهاه مبدأ الحركة.

أقول: وبهذا البيان يندفع ما قيل(1) من إنّ كلّ جزءٍ من أجزاء المسافة المستديرة على حَدٍّ سواء، في كونه مقصوداً بالسير إليه والتعدّي منه تبعاً لمقصده الأصلي، وهي الإحاطة بمجموعها في السير، فتكون هذه ملحقة بالمسافة الامتداديّة.

وأمّا المقام الثاني: فالأظهر احتساب القوس منها، فلو كان مجموع الدائرة تسعة فراسخ، يكون ذهابه أربعة فراسخ ونصفاً وكذلك إيابه، لا ثلاثة فراسخ، كما

ص: 288


1- مصباح الفقيه: ج 2/730 ق 2.

هو كذلك على المسلك الآخر، إذ المعيار في القصر ليس هو البُعد عن المنزل، كي يُقال إنّه في الفرض يكون من منزله إلى النقطة المسامتة بمقدار ثلاثة فراسخ، بل المعيار مقدار السير، ولذا لا شكّ في أنّه إذا كان للبلد طريقان، أحدهما أبعد من الآخر، فسلك الأبعد عليه أن يقصّر، مع أنّه لا يصدق أنّه قد ابتعد عن محلّه هذا المقدار.

وعلى ذلك، فمن مشى من منزله إلى النقطة المسامتة له في الفرض، فقد سار من منزله أربعة فراسخ ونصفاً، وإيابه أيضاً يكون بهذا المقدار، وإذا انضمّ الإياب إليه تمَّ ملاك القصر.

وأمّا في الصورة الثانية: فإنْ كان ذلك على نصف الدائرة فلا كلام، وكذلك إنْ كان على قوسٍ أقلّ من النصف، وكان بالغاً أربعة فراسخ. وأمّا إنْ كان على قوسٍ أقلّ من أربعة، فبناءً على المختار من اعتبار كون الذهاب أربعة فراسخ:

فهل يكون الذهاب في الفرض منتهاه المقصد، والإياب منه إلى البلد فلا يقصّر؟

أو يكون منتهى الذهاب النقطة المسامتة لمبدأ الحركة فيقصّر؟

وجهان، لا يخلو ثانيهما عن قوّة، إذ المعيار في الذهاب، هو التباعد عن مبدأ السير، وهذا متحقّقٌ فيما بين المنزل والنقطة المسامتة لمبدأ الحركة، ولا يصدق الشروع في الإياب إلّامع التجاوز عن تلك النقطة.

ولكن مع ذلك كلّه، ربما يُدّعى في الفرض وسابقه انصراف النصوص عن مثل هذه المسافة، فلا ينبغي ترك الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام.

***

ص: 289

طرق ثبوت المسافة

المورد السادس: تثبت المسافة باُمور عديدة:

1 - بالعلم، لأنّ حجّيته ذاتيّة.

2 - وبالبيّنة، لما دلّ على حجيّتها في الموضوعات مطلقاً.

3 - وبخبر الواحد على الأظهر، لما حقّقنا في «حاشيتنا على الكفاية»(1) من حجّيته في الموضوعات كالأحكام.

4 - وفي ثبوتها بالشياع غير المفيد للعلم، قولان:

أظهرهما العدم؛ لعدم الدليل على حجّيته.

أقول: ونُسب إلى المحقّق النائيني رحمه الله، القول بالثبوت، واستدلّ له بأنّ المسافة تقريبيّة لا تحقيقيّة، فيُكتفى فيها بالشياع الظنّي والشهرة في حصول التقريب بهما.

وفيه: إنْ اُريد بهما ما يفيد العلم بالمسافة التقريبيّة، وإنْ أفاد الظنّ بالتحقيقيّة فهو متينٌ ، إلّاأنّه خارجٌ عن محلّ البحث.

وإنْ اُريد بهما ما يفيد الظنّ بالتقريبيّة، فالحقّ عدم الثبوت، لعدم الدليل على حجيّتهما.

ثمّ إنّه لو فقد المكلّف جميع الأمارات المثبتة للمسافة، وشكّ فيها، وكانت الحالة السابقة العلم بعدم المسافة، فهل يجب عليه حينئذٍ الجمع بين القصر والتمام، أم يجب التمام ؟ وجهان.

قد استدلّ للأوّل: بالعلم الإجمالي بوجوب أحدهما، وهو يقتضي الجمع بينهما.

وفيه: إنّ مقتضى استصحاب عدم تحقّق المسافة، وعدم كونه مسافراًشرعيّاً، البقاء على التمام.

ص: 290


1- لم تُطبع هذه الحاشية للمؤلّف.

ودعوى:(1) أنّ موضوع التمام إنّما هو الحاضر والمُقيم، وإثبات أحد هذين العنوانين بالأصل من قبيل الأصل المثبت.

مندفعة: بأنّ الموضوع ليس خصوص مَنْ ذُكر، كيف وقد ثبت وجوب التمام على كثير من أفراد المسافرين، مع أنّ ذلك العنوان الوجودي المفروض - أي الحاضر - بنفسه مسبوقٌ بالوجود، فيستصحب ذلك، ولا حاجة إلى إثباته باستصحاب عدم المسافة والسّفر.

وعليه، فالأظهر البقاء على التمام حتّى تثبت المسافة.

وأمّا الاستدلال له: بأنّه في مورد تعليق حكمٍ على أمرٍ وجودي - كالترخيص في التصرّف الثابت لمال الغير عند طيب نفسه - نفس الدليل المثبت له بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة، يدلّ على ثبوته في مرحلة إحراز موضوعه، وعليه ففي المقام بما أنّ وجوب القصر مرتّب على السّفر الذي هو أمرٌ وجودي، فيستكشف من دليله دخل إحراز السّفر في ثبوته، فمع عدم الإحراز والشكّ يُبنى على التمام.

فيرد عليه: ما ذكرناه في هذا الشرح غير مرّة، من عدم تماميّة هذه الكبرى الكليّة، بل المستفاد من الدليل ليس إلّاترتّب الحكم على الموضوع النفس الأمري الواقعي، بلا دخلٍ للإحراز فيه.

مع أنّها لو تمّت فإنّما هي في الأحكام الترخيصيّة المعلّقة على الاُمور الوجوديّة لا غيرها، ووجوب القصر ليس منها، فالصحيح ما ذكرناه.

وأيضاً: إنّه إذا شُكّ في المسافة، فهل يجب الفحص عنها، إذا لم يكن عسراً، أم يجوز الرجوع الأصل بدونه ؟7.

ص: 291


1- مستمسك العروة: ج 8/17.

وجهان، اختار الشيخ الأعظم رحمه الله الأوّل(1)، وتبعه المحقّق النائيني رحمه الله، واستدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: ما عن الشيخ رحمه الله وهو أنّ وجوب القصر عُلّق على المسافة النفس الأمريّة، فيجبُ مع الشكّ رعايةً لتحصيل الواقع إمّا الجمع أو الفحص، والأوّل منتفٍ هنا إجماعاً، فيتعيّن الثاني.

وفيه: أنّ المنتفي بالإجماع تعيّن الجمع لا التخيير بينه وبين الفحص، فلا يتعيّن الفحص، مع أنّه قد عرفت أنّه يمكن عن طريق الاستصحاب إحراز عدم تحقّق المسافة، ويترتّب عليه وجوب التمام.

الوجه الثاني: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ الفحص المتوقّف على الاستعلام والسؤال، بحيث يتبيّن ظنّاً أو علماً بسبب السؤال، ليس من قبيل الفحص القائم على عدم وجوبه الإجماع، لأنّه عبارة عن تحصيل مقدّماتٍ غير حاصلة لكي يحصل منها العلم، والسؤال ليس من هذا القبيل.

وفيه: إنّ مدرك عدم وجوب الفحص ليس هو الإجماع، بل إطلاق أدلّة الاُصول الشامل لما قبل الفحص، نعم خرج عنه بعض الموارد الذي يلزم من العمل بالأصل المخالفة القطعيّة الكثيرة، المعلوم عدم جوازها شرعاً، المستكشف منه وجوب الاحتياط، كالاستطاعة والنصاب في الزكاة، وليس المورد من قبيل تلك الموارد.

وعليه، فالأظهر عدم وجوب الفحص.

***0.

ص: 292


1- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 390.

قَصْدُ المسافة، وهي ثمانية فراسخ أو أربعة، مع قصد العود في يومه

اعتبار قصد المسافة
اشارة

الشرط الثاني: هو الأوّل في المتن (قصد المسافة، وهي ثمانية فراسخ) كما مرّ، (أو أربعة مع قصد العود في يومه) أو غير يومه.

واعتبار هذا القيد ممّا لا خلاف فيه، بل عليه الإجماع بقسميه، كما عن «الجواهر»(1) وغيرها.

بل قيل: إنّ هذا هو معنى اعتبار المسافة، إذ لايعتبر قطعها أجمع نصّاً وفتوى في صحّة التقصير، فالمدار على قصدها، ولعلّه لذا لم يُذكر في «القواعد»(2) وفي المتن المسافة شرطاً في قبال قصدها، وإنّما ذُكر قصد المسافة المحدودة.

أقول: وكيف كان، فيدلّ على اعتباره - مضافاً إلى ما تقدّم -:

1 - خبر صفوان، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن رجلٍ خرج من بغداد يريدُ أن يلحق رجلاً على رأس ميل، فلم يزل يتبعه حتّى بلغ النهروان، وهي أربعة فراسخ من بغداد أيفطر إذا أراد الرجوع ويقصّر؟

قال عليه السلام: لا يقصّر ولا يفطر، لأنّه خرج من منزله، وليس يريدُ السّفر ثمانية فراسخ، وإنّما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق، فتمادى به السير إلى

ص: 293


1- جواهر الكلام: ج 14/231.
2- قواعد الأحكام: ج 1/323.

الموضع الذي بلغه»(1) الحديث.

2 - وموثّق عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يخرج في حاجةٍ فيسير خمسة أو ستّة، فيأتي قرية فينزل فيها، ثمّ يخرج منها فيسير خمسة فراسخ أو ستّة فراسخ، ويأتي قريةٍ فينزل فيها، ثمّ يخرج منها فيسير خمسة فراسخ اُخرى أو ستّة فراسخ، لا يجوز ذلك، ثمّ ينزل في ذلك الموضع، قال عليه السلام: لا يكون مسافراً حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ، فليتمّ الصَّلاة»(2).

فإنّ الظاهر بقرينة السؤال اعتبار قصد السير ثمانية فراسخ، فهذا الحكم ممّا لا كلام فيه،

إنّما الكلام وقع في اُمور:
حكم الإياب إلى منزله

الأمر الأوّل: أنّ ما ذكرناه من أنّه لا يقصّر فيما إذا سار ثمانية فراسخ، مع عدم القصد، إنّما هو في الذهاب، وأمّا في الإياب إلى منزله إذا كان ثمانية فراسخ، فيقصّر لتحقّق شرائط القصر.

ودعوى:(3) انصراف النصوص إلى المسافة الذهابيّة، غير مسموعة.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - موثّق عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يخرجُ في حاجةٍ ، وهو لا يريد السّفر، فيمضي في ذلك فيتمادى به المُضيّ حتّى تمضى به ثمانية فراسخ، كيف يصنع في صلاته ؟ قال عليه السلام: يقصّر ولا يتمّ الصَّلاة حتّى يرجع إلى منزله»(4).

ص: 294


1- التهذيب: ج 4/225 ح 37، وسائل الشيعة: ج 8/468 ح 11190.
2- التهذيب: ج 4/225 ح 36، وسائل الشيعة: ج 8/469 ح 11192.
3- راجع مصباح الفقيه (ط. ق): ج 2/730 ق 2.
4- وسائل الشيعة: ج 8/469 ح 11191.
لو أُخرج إلى المسافة

الأمر الثاني: أنّه لا إشكال في وجوب القصر، إذا كان مكرهاً على السّفر أو مضطرّاً إليه، لتحقّق القصد المعتبر في السّفر الموجب للقصر.

ويدلّ عليه: النص، والإجماع، وفعل المعصومين عليهم السلام في بعض اسفارهم مع كونهم مُكرهين فيه.

ودعوى:(1) أنّ مقتضى حديث الرفع الحاكم على جميع الأدلّة، هو عدم وجوب القصر، ووجوب التمام.

مندفعة أوّلاً: بأنّ ما اُشير إليه من الأدلّة على وجوب القصر، لأخصيّتها تُقدَّم على الحديث.

وثانياً: بأنّ الحديث لا يشمل الأحكام المجعولة إرفاقاً وامتناناً على الاُمّة، كوجوب القصر على المسافر، كما حُقّق في محلّه.

وأمّا إذا أُخرج إلى المسافة، بأنْ اُلقي في السفينة دون اختياره، وسار به مع علمه بأنّه يُسار به إلى آخر المسافة، فهل يقصّر أم لا؟

وجهان:

قد استدلّ للثاني: بأنّه يعتبر في الحكم بالقصر، قصد المسافة كما تقدّم، وهو مفقودٌ في المقام.

وفيه: إنّ مدرك هذا الشرط:

1 - إنْ كان هو الإجماع والأخبار المتقدّمة، فهي لا تدلّ على اعتبار أزيد من

ص: 295


1- كتاب الصَّلاة (ط. ق) ص 406.

العلم، وتوطين النفس على قطع المسافة، وكذا إنْ كان هو النصوص التي عبّر فيها بلفظ (الفعل) مثل قوله عليه السلام: (إذا ذهبَ بريداً وجاء بريداً) لما حقّقناه في محلّه من أنّ مادّة الفعل لا تكون منصرفة إلى الفعل الاختياري، كما أنّ هيئته غير منصرفة إليه، فمع عدم دخل الإرادة في موضوعٍ له شيءٌ منهما، لا وجه لدعوى ظهورها في ذلك.

2 - وإنْ كان المدرك هو ما دلَّ على اعتبار التبييت بالسّفر، كذيل خبر صفوان المتقدّم.

فيرد عليه: أنّه كما يمكن أن يكون اعتبار القصد من حيث كونه فعلاً للنفس، ولازم ذلك ما ذكر، يمكن أن يكون اعتباره من حيث أنّه يترتّب عليه الانفعال، وهو توطين النفس، ولازمه القصر في الفرض كما لا يخفى ، وحيث أنّه في نفسه غيرُ ظاهرٍ في شيء منهما، فلابدّ في تقييد إطلاق دليل القصر من الاقتصار على المتيقّن، فاعتبار شيءٍ زائداً على العلم كتوطين النفس لا شاهد له، بل الإطلاقات تدلّ على العدم.

أقول: ويشهد لوجوب القصر في الفرض - مضافاً إلى ذلك -:

1 - ما ذكره جدّنا العلّامة - أعلى اللّه مقامه - وهو أنّه بعد التأمّل في كلمات الأصحاب، وفحوى الأخبار، يظهر أنّ المراد من القصد في المقام، هو مجرّد الاعتقادات، سواءٌ أكان باختيار منه أم لم يكن.

وبعبارة اُخرى : الموضوع لوجوب القصر، هو البُعد الخاص، مع اعتقاده بتحقّق ذلك، سواءٌ أكان باختياره أم لا، ولذا ترى تصريح الجُلّ بل الكُلّ بأنّ الخارج من هذا القيد هو المتحيّر ونحوه، ممّن ليس له علمٌ بتحقّق البُعد الخاص منه، ويشهد له أنّهم لم يذكروا اعتبار العلم شرطاً آخر، بل اقتصروا بذكر القصد.

ص: 296

2 - وخبر إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام الوارد في قوم خرجوا في السّفر وتخلّف منهم واحد، قال عليه السلام: «بلى إنّما قصّروا في ذلك الموضع لأنّهم لم يشكّوا في مسيرهم، وأنّ السير يجد بهم. الحديث»(1).

ودعوى:(2) ضعف سنده فاسدة، لأنّه معمولٌ به في غير هذا الفرع.

وبالجملة: فالأظهر - كما هو المشهور بل مجمعٌ عليه كما قيل - وجوب القصر، لكن الاحتياط طريق النجاة.

عدم اعتبار قصد المسافة الشخصيّة

الأمر الثالث: هل يعتبر قصد شخص مسافةٍ معيّنة، أم يكفي قصد القدر المشترك المنطبق على المسافات ؟

وجهان، نُسب إلى الشهيد رحمه الله(3) اختياره الأوّل.

أقول: وحق القول يقتضي التكلّم في صورتين:

الصورة الاُولى: ما إذا كان ناوياً قطع المسافة الشخصيّة المعيّنة، ثمّ بعد سير مقدارٍ منها عدل إلى مسافة اُخرى تبلغ بانضمام ما مضى مقدار المسافة.

والأظهر في هذه الصورة وجوب القصر، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ ما دلَّ على اعتبار قصد المسافة المتقدّم، وما دلّ على أنّه بالعدول عن القصد لا يقصّر - كالإجماع(4) وخبر إسحاق المتقدّم - لا يدلّان على

ص: 297


1- وسائل الشيعة: ج 8/466 ح 11186.
2- مستمسك العروة: ج 8/35.
3- رسائل الشهيد الثاني (ط. ق): ص 193.
4- مصباح الفقيه: ج 2/731 ق 2.

أزيد من اعتبار قصد القدر المشترك، وأنّه لو عدل عن قصد المسافة بالمرّة لايقصّر، وفي غير ذلك لابدّ من الرجوع الى إطلاق أدلّة القصر في المسافة.

أقول: وبهذا البيان ظهر:

1 - اندفاع ما قيل من أنّ المقدار من المسافة المعدول إليه لم يكن مقصوداً من الأوّل، وإنّما قصده ثانياً بعد العدول عن الأوّل، مع أنّ ظاهر الأدلّة اعتبار كون الجميع بقصد واحد.

2 - كما أنّه ظهر اندفاع ما قيل من إنّ المسافة الاُولى بالرجوع عنها بطلت، والمقصد الثاني لم يبلغ المسافة.

الوجه الثاني: دلالة جملةٍ من النصوص عليه:

منها: صحيح أبي ولّاد، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي كنتُ خرجتُ من الكوفة في سفينةٍ إلى قصر ابن أبي هبيرة، وهو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخاً في الماء، فسرتُ يومي ذلك أُقصّر الصَّلاة، ثمّ بدا لي في اللّيل الرجوع إلى الكوفة، فلم أدر اُصلّي في رجوعي بتقصيرٍ أم بتمام، وكيف كان ينبغي أن أصنع ؟

فقال: إنْ كنت سرتَ في يومك الذي خرجتَ فيه بريداً، فكان عليك حين رجعت أن تُصلّي بالتقصير، لأنّك كنتَ مسافراً إلى أن تصير إلى منزلك»(1)الحديث، ونحوه غيره.

وهي وإنْ وردت في العدول من المسافة الامتداديّة إلى الملفّقة، إلّاأنّه يثبت3.

ص: 298


1- التهذيب: ج 3/298 ح 17، وسائل الشيعة: ج 8/469 ح 11193.

في غيره، فإنّه يستفاد منها أنّ العدول من المسافة المعيّنة إلى غيرها لا يضرّ.

والغريب أنّ المقدّس البغدادي(1) في خصوص مورد النصوص حكم بوجوب التمام على ما نُسب إليه.

الصورة الثانية: ما لو كان من الأولى ناوياً القدر المشترك من الأوّل، كما إذا قصد أحد المكانين المشتركين في بعض الطريق، وأوكل التعيين إلى الوصول إلى آخر الحَدّ المشترك، فإنّ الأظهر فيها التقصير، ولم يُنقل عن أحدٍ القول بالتمام فيها، ويشهد له إطلاق أدلّة القصر.

لو تردّد في الأثناء

الأمر الرابع: لو قصد مسافةً ثمّ تردّد في أثنائها فعاد إلى الجَزم:

1 - فإنْ كان ما بقي مسافةً ولو ملفّقه، فلا إشكال، وإلّا فإنْ لم يقطع شيئاً من الطريق في حال التردّد يقصّر، لأنّ مقتضى إطلاق أدلّة القصر، عدم قدح التردّد في الأثناء، بمعنى عدم اقتضائه ارتفاع أثر السّفر بمجرّد حدوثه، لأنّ ما دلَّ على قدح التردّد إنّما يدلّ على قدحه حال وجوده.

ودعوى:(2) أنّ المرجع بعد زوال التردّد إنّما هو استصحاب حكم الخاص، لا الرجوع إلى العام.

مندفعة: بما حقّقناه في محلّه، من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، بل

ص: 299


1- راجع جواهر الكلام: ج 14/247.
2- راجع مستمسك العروة: ج 8/39.

المرجع هو عموم العام مطلقاً، لا سيّما وأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ ثبوت كلٍّ من القصر والتمام في مورديهما إنّما هو في كلّ زمانٍ مع قطع النطر عن ثبوته فيما قبله، كما يظهر لمن تدبّر في الروايات.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - خبر إسحاق بن عمّار: «وإنْ كانوا ساروا أقلّ من أربعة فراسخ، فليتمّوا الصَّلاة ما أقاموا، فإذا مضوا فليقصّروا»(1).

2 - وأمّا إن عاد إلى الجزم بعد قطع شيءٍ من الطريق:

فإنْ لم يكن مابقي بعد العود إلى الجزم مع ما قطعه حال الجزم أوّلاً بمقدار المسافة لم يقصّر، لأنّ الظاهر من الأدلّة اعتبار كون مجموع المسافة صادرة عن قصد قطعها.

وإنْ كان بمقدار المسافة، كما إذا كان سفره عشرين فرسخاً، فسار في حال الجزم أوّلاً أربعة فراسخ، فتردّد وسار في تلك الحال اثنى عشر فرسخاً، ثمّ عاد إلى الجزم فسار أربعة فراسخ، فالظاهر أنّه يقصّر، لأنّه يصدق أنّه قطع ثمانية فراسخ عن قصد.

ودعوى:(2) ظهور الأخبار - كخبري صفوان وعمّار - في أنّ الموضوع هي الثمانية المتّصلة.

مندفعة: بعدم كونها مسوقة إلّالبيان أنّه لا يعتدّ بقطع المسافة الواقعة عن غير قصدٍ أو عن قصدين مستقلّين، ولا تدلّ على اعتبار الاتّصال زائداً على ذلك، هذا، مضافاً إلى خبر إسحاق المتقدّم.2.

ص: 300


1- راجع مستمسك العروة: ج 8/39.
2- مصباح الفقيه: ج 2/732 ق 2.
حكم التابع في السّفر

الأمر الخامس: لا إشكال ولا كلام في أنّ التابع لغيره في السّفر كالمستقلّ فيه إذا قصد المسافة، إنّما الكلام في هذا الأمر وقع في فروع:

منها: أنّه إذا شكّ التابع، ولم يعلم أنّ المتبوع في سفره قاصدٌ للمسافة أم لا، فهل يجب عليه السؤال أم يتمّ صلاته ؟ وجهان:

من إطلاق الأدلّة الدالّة على عدم القصر، مع عدم قصد المسافة.

ومن دعوى انصراف النصوص عن مثل هذا الجهل الذي يرتفع مع السؤال.

وعليه، فيجب عليه الجمع بين القصر والتمام، أو السؤال ثمّ العمل بوظيفته.

ومنها: أنّه هل يجبُ على المتبوع إخبار التابع بقصده المسافة، أو غيرها، أم لا؟ وجهان، أقواهما الثاني، لعدم الدليل على الوجوب.

ومنها: أنّه لو اعتقد التابع عدم قصد المتبوع المسافة، أو شكّ فيه، ثمّ بعد قطع مقدارٍ من المسافة علم أنّه قاصدٌ لها، وإنْ كان الباقي مسافةً ، فلا إشكال، وإنْ لم يكن كذلك فهل يقصر أم لا؟

وجهان مبنيّان على أنّ المقام من قبيل قصد مكانٍ معيّن، الذي هو مسافة، وهو لايعلم به، أم من قبيل قصد مكان غريمه، المردّد بين كونه مسافة أو أقلّ منها:

إذ على الأوّل: يكون المكان المعيّن الذي يكون مسافة مقصوداً، فهو قاصدٌ للمسافة.

وعلى الثاني: يكون كلّ واحدٍ من الأمكنة معلوماً من حيث المسافة وعدمها، والترديد إنّما هو في المقصد، فهو غير قاصدٍ للمسافة فلا يقصّر.

ص: 301

أقول: والظاهر هو الثاني، فإنّ التابع وإنْ قصد السير إلى ما قصده المتبوع، إلّا أنّه من جهة جهله بالمقصد، وتردّده بين الأمكنة المعلوم كون أيّها مسافة، لا محالة يكون غير قاصد للمسافة، وعليه فما ذكره صاحب «العروة»(1) من الحكم بوجوب القصر، غير تامّ .

ومنها: أنّه إذا لم يكن التابع مطاوعاً لقصد المتبوع:

فتارةً : يعلم بوجود مقتضي التبعيّة، وإنّما يعلم أو يشكّ فيها من جهة العلم بوجود المانع من دوام السّفر، أو يشكّ فيه.

واُخرى : لا يعلم بوجوده كالزّوجة تعزم على الرجوع لو طلقت قبل المسافة، وهي تعلم بذلك أو يشكّ .

أقول: الظاهر عدم وجوب القصر في الصورتين، لعدم قصد المسافة.

ودعوى: أنّ كلّ قاصدٍ لأمرٍ تدريجي، كالإقامة وقطع المسافة والصَّلاة ونحوها، لا يكاد يقطع بانتهائه إلى آخره، لتطرّق احتمال طروّ العجز من المرض والموت ونحوهما، ومع ذلك نرى بالوجدان أنّ احتمال هذه الاُمور لايمنع عن تمشّي القصد على فعلٍ من أحدٍ أصلاً، فيُستكشف من ذلك أنّ احتمال وجود المانع، لاينافي مع القصد، ففي الصورة الاُولى ما لم يقطع بطروّ المانع لا يتمّ ، بل يبني على القصر، ولعلّه لذلك أفتى صاحب «العروة»(2) بالقصر في هذه الصورة.

مندفعة: بأنّ احتمال طروّ المانع ربما يكون احتمالاً عقلائيّاً منشؤه حضور مبادئ تحقّق ذلك الأمر لديه، بحيث يحتمل احتمالاً عاديّاً بتحقّقه، وربما يكون الاحتمال غير7.

ص: 302


1- العروة الوثقى (ط. ق): ج 2/119 و 117.
2- العروة الوثقى (ط. ق): ج 2/119 و 117.

عقلائي، ولا يكون مبادئ تحقّقه حاضراً لديه، ففي المورد الأوّل لا يتحقّق القصد، وفي الثاني يتحقّق، لأنّه لايعتبر في تحقّق القصد سوى الاطمئنان، وعلى ذلك ففي الصورتين إذا كان احتمال طروّ المانع أو عدم المقتضي، احتمالاً عقلائيّاً يتمّ ، لعدم تمشّي القصد، وإنْ كان احتمالاً غير عقلائي يقصّر.

وبالجملة: فالتفصيل بين الصورتين ضعيفٌ ، وأضعف منه البناء على القصر في الصورتين مطلقاً.

إذا صلّى قصراً ثمّ عدل عن القصد

الأمر السادس: إذا صَلّى قصراً قبل العدول عن قصد المسافة، ثمّ عدل عنه، فهل تجبُ الإعادة مطلقاً؟

أم لا تجب كذلك، كما هو المشهور(1) بين الأصحاب شهرةً عظيمة ؟

أم يعيدُ في الوقت دون خارجه، كما عن الشيخ في الاستبصار؟(2).

وجوهٌ ، أقواها الثاني، لصحيح زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن الرّجل يخرجُ مع القوم في السّفر يريده، فدخل عليه الوقت، وقد خرج من القرية على فرسخين فصلّوا وانصرف بعضهم في حاجةٍ ، فلم يقضِ له الخروج، ما يصنع بالصلاة التي كان صلّاها ركعتين ؟

قال عليه السلام: تمّت صلاته ولا يعيد»(3).

واستدلّ للقول الأوّل:

ص: 303


1- مصباح الفقيه: ج 2/769 ق 2: (على المشهور).
2- الاستبصار: ج 1/228، ذيل حديث رقم 2809.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 1/438 ح 1271، وسائل الشيعة: ج 8/521 ح 11339.

1 - بخبر المروزي: «وإنْ كان قصّر ثمّ رَجَع عن نيّته أعاد الصَّلاة»(1).

2 - وصحيح أبي ولّاد المتقدّم: «وإنْ كنتَ لم تَسر في يومك الذي خرجتَ بريداً، فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاةٍ صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل أن تؤمّ من مكانك»(2).

وفيه: أنّه لإعراض المشهور عن ظاهرهما لا يعتمد عليهما، مضافاً إلى معارضتهما بما هو صريحٌ في عدم وجوب الإعادة.

واستدلّ للقول الثالث: بأنّه مقتضى الجمع بين الطائفتين.

وفيه: - مضافاً إلى أنّه جمعٌ تبرّعيٌ لا شاهد له - أنّ صحيح أبي ولّاد ظاهرٌ في وجوب القضاء، ولا يمكن حمله على خصوص الإعادة، ولو أغمضنا عمّا ذكرناه من إعراض الأصحاب عن الطائفة الثانية، فإنْ أمكن الجمع عرفاً بحمل الثانية على الاستحباب فهو، وإلّا فلابدّ من ترجيح الأولى للشهرة، ولعلّ الثاني أقوى ، فإنّ قوله عليه السلام في صحيح زرارة: (لا يعيد) مع قوله عليه السلام في خبر المروزي: (أعاد الصَّلاة)، يعدّان بنظر العرف من المتعارضين، ولا يرى أهل العرف أحدهما قرينةً على الآخر.

وعليه، فالأظهر عدم وجوب الإعادة والقضاء، وعدم استحبابهما.

***3.

ص: 304


1- التهذيب: ج 4/226 ح 39، وسائل الشيعة: ج 8/457 ح 11160.
2- التهذيب: ج 3/298 ح 17، وسائل الشيعة: ج 8/469 ح 11193.

الثاني: أنْ لا ينقطع سفره ببلدٍ له فيه مِلْكٌ قد استوطنه ستّة أشهر فصاعداً، أو عزم على إقامة عشرة أيّام.

الوصول إلى الوطن قاطع للسَّفر
اشارة

الشرط الثالث: وهو (الثاني) في المتن: (أنْ لا) يكون مِنْ قصده في بداية السير أو في أثنائه أن (ينقطع سفره) قبل بلوغ الثمانية بالمرور على وطنه، أو (ببلدٍ له فيه مِلْكٌ قد استوطنه ستّة أشهر فصاعداً)، بناءً على تحقّق التوطّن بذلك - كما هو المشهور(1)، وسيأتي تحقيقه في فصل القواطع إنْ شاء اللّه تعالى - وإقامة عشرة أيّام، فلو كان من قصده المرور على وطنه (أو عَزَم على إقامة عشرة أيّام) أتمّ بلا خلافٍ معتدّ به(2).

فها هنا مسألتان:

إذا انقطع سفره بالمرور على الوطن أتمّ

المسألة الاُولى: إذا انقطع سفره بالمرور على الوطن أتمّ ، كما هو المشهور شهرة عظيمة(3)، والشاهد عليه أنّ بالمرور عليه يخرج عن عنوان المسافر، إذ المأخوذ في مفهوم السّفر الغيبوبة عن الوطن، فالحاضر فيه لا يعدّ مسافراً، فمن قَصَد من حين الشروع في السّفر أن يمرّ قبل الثمانية بوطنه، لا يكون قاصداً للمسافة، وكون مجموع المسافة ما قبل الوطن وما بعده لا يُجدي بعد تخلّله بقصده أن يصير حاضراً فيما بينهما.

فما عن «المستند»(4) من أنّ العرف لا يفرّقون بين ما إذا مرّ بمنزله الذي يتوطّنه،

ص: 305


1- كتاب الصَّلاة (ط. ق) ص 393 (أكثر الأصحاب)، مصباح الفقيه: ج 2/734 ق 2.
2- مدارك الأحكام: ج 4/442.
3- روض الجنان: ص 386 للإجماع.
4- مستند الشيعة: ج 8/224.

سيّما إذا مرّ راكباً، سيّما عن حواليه، وبين ما إذا لم يمرّ، ضعيفٌ .

وبالجملة: وبما ذكرناه ظهر أنّ المدرك لوجوب الإتمام، هي الأدلّة الدالّة على وجوبه لكلّ مكلّفٍ غير مسافر الخاص، ومعه لا حاجة إلى التمسّك باستصحاب التمام، بل هو غير جارٍ في نفسه، بناءً على عدم حجّيته في الأحكام، كما حقّق في محلّه.

الإقامة قاطعة للسفر

المسألة الثانية: إذا كان من قصده الإقامة عشرة أيّام قبل بلوغ الثمانية، يُتمّ في الطريق أيضاً، والوجه في ذلك ما تقدّم في المسألة السابقة، بضميمة أنّ الإقامة تقطع السّفر شرعاً دون أحكامه.

ويشهد لذلك: - أي كون الإقامة قاطعة للسفر - صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «من قَدِم قبل التروية بعشرة أيّام، وجب عليه إتمام الصَّلاة، وهو بمنزلة أهل مكّة، فإذا خرج إلى منى وَجَب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتمّ الصَّلاة، وعليه إتمام الصَّلاة إذا رجع إلى منى حتّى ينفر»(1) لعموم المنزلة.

أقول: وأورد عليه بوجوه:

الوجه الأوّل: مافي «الجواهر»(2) وهو انصراف إرادة خصوص التمام من المنزلة فيه.

وفيه أوّلاً: أنّ الانصراف غير ظاهر.

وثانياً: أنّ عطف ذلك على قوله عليه السلام: (وجب عليه إتمام الصَّلاة) يشهد بإرادة العموم، وإلّا لزم البناء على كونه تأكيداً لما قبله، وهو خلاف الظاهر، بل الظاهر

ص: 306


1- التهذيب: ج 5/488 ح 388، وسائل الشيعة: ج 8/464 ح 11178.
2- جواهر الكلام: ج 14/311.

سوقه لبيان حكم آخر.

وثالثاً: أنّ تفريع وجوب القصر عليه بالخروج إلى منى، على قوله: (بمنزلة أهلُ مكّة) ظاهرٌ في إرادة انقطاع السّفر، وأنّ القصر يحتاج الى سفر جديد.

الوجه الثاني: أنّ لازم عموم المنزلة، وجوب الإتمام عليه لو مرّ على المحلّ الذي أقام فيه دفعة واحدة، وهذا ما لم يلتزم به فقيه، وهو دليلٌ عدم إرادة العموم منه.

وفيه أوّلاً: أنّ المذكور في الصحيح إنزال المقيم منزلة الأهل، لا فرض محلّ الإقامة منزلة الوطن، ومن الواضح أنّ الحكم يدور مدار العنوان والموضوع المأخوذ في الدليل حدوثاً وبقاءً ، وهو في المقام المقيم، فإذا خرج وسافر زال منه هذا العنوان، فلو رجع إليه لا يصدق عليه عنوان المقيم، ما لم يقصد إقامة عشرة أيّام، فلا وجه للحكم بوجوب الإتمام عليه.

وثانياً: أنّه لو كان المنزّل والمنزّل عليه محلّ الإقامة والوطن، أمكن الجواب عنه بأنّه كالوطن يسقط حكمه بالإعراض، وسيأتي لذلك زيادة توضيح إنْ شاء اللّه تعالى .

الوجه الثالث: ما أفاده بعض المعاصرين(1) وهو أنّ الصحيح المذكور صريحٌ في أنّ محلّ الإقامة بمنزلة الوطن وأنّه لو سافر عنه قصّر، وإذا رجع إليه أتمّ ، وهذا ما لم يلتزم به أحدٌ، وما يوهن دلالته، ويوجب ترك العمل به وردّ علمه إلى أهله.

أمّا دعوى التفكيك في الحجية بين دلالاته بحيث ينفع فيما نحن فيه، فبعيدةٌ عن المذاق العرفي.

وفيه: إنّ معنى الصحيح - واللّه أعلم، ولا أقلّ من المحتمل - إرادة ما ذكره2.

ص: 307


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 8/42.

صاحب «الوافي»، ومحصّله:

أنّه إنّما وجب التمام إنْ قدم إلى مكّة قاصداً الإقامة فيها عشرة أيّام، وإنّما وجب عليه التقصير إذا خرج إلى منى، لأنّه يذهب إلى عرفات، وإنّما أتمّ الصَّلاة إذا زار البيت، لأنّ الإتمام بمكّة أحبّ من التقصير، وإنّما عليه الإتمام إذا رجع إلى منى، لأنّه قدم إلى مكّة لطواف الزيارة، وكان عازماً على الإقامة فيها بعد الفراغ من مناسك الحجّ ، كما هو المتعارف عند أكثر الحجّاج، وتبعد منى من مكّة بأقلّ من بريد، فيدلّ الصحيح على أنّ إرادة ما دون المسافة لا تنافي قصد الإقامة، فالحقّ دلالة الصحيح على ذلك.

وقد استدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله:(1) بصحيح أبي ولّاد، المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام فيمن قصد الإقامة وصَلّى صلاةً تامّة، ثمّ عدل عن قصد الإقامة، حيث قال له: (إنْ كنتَ دخلت المدينة وحين صلّيت بها صلاةَ فريضةٍ واحدة بتمام، فليس لك أن تقصّر حتّى تخرج منها»(2) بدعوى ظهوره في إرادة الخروج إلى وطنه.

أقول: هذا لا بأس به، لكن الأولى في تقريب دلالته أن يقال بظهوره في إرادة الارتحال والمسافرة في مقابل الإقامة، وسيأتي لذلك زيادة توضيح.

ويمكن أن يستدلّ له أيضاً: بصحيح صفوان، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن أهل مكّة إذا زاروا عليهم إتمام الصَّلاة ؟

قال عليه السلام: المقيم بمكّة إلى شهر بمنزلتهم»(3).9.

ص: 308


1- كتاب الصَّلاة للشيخ الأنصاري قدس سره (ط. ق): ص 438.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/437 ح 1270، وسائل الشيعة: ج 8/508 ح 11305.
3- التهذيب: ج 5/487 ح 387، وسائل الشيعة: ج 8/472 ح 11199.

فإنّه وإن ورد في من يقيم إلى شهرٍ متردّداً، إلّاأنّه إذا ثبت كون ذلك قاطعاً للسفر - بالتقريب المتقدّم في الصحيح الأوّل - ثبت في من قصد إقامة عشرة أيّام، لعدم الفصل.

أقول: وقد استدلّ له بعض المعاصرين(1) بصحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام:

«عن الرّجل يُدركه شهر رمضان في السّفر، فيقيم الأيّام في المكان، عليه صومٌ؟ قال عليه السلام: لا، حتّى يجمع على مقام عشرة أيّام، وإذا أجمع على مقام عشرة أيّام صام وأتمّ الصَّلاة.

قال: وسألته عن الرّجل يكون عليه أيّام من شهر رمضان وهو مسافر، يقضي إذا أقام في المكان ؟ قال عليه السلام: لا حتّى يجمع على مقام عشرة أيّام»(2).

بدعوى أنّ ظاهر السؤال في الموردين، كون مُنشئه تخيّل أنّ المراد من (المسافر) ما يقابل المُقيم والحاضر معاً، لا ما يقابل الحاضر فقط، ولأجل ذلك سأل عن جواز الصوم في حال الإقامة، فيكون جوابه عليه السلام ظاهراً في الإقرار على ذلك إذا كانت مدّة الإقامة عشرة أيّام.

أقول: ذِكْر ذلك بعنوان التأييد لا بأس به، وأمّا الدلالة فلا.

ويؤيّده أيضاً: أدلّة وجوب التمام عليه، بقرينة مناسبة الحكم والموضوع، فإنّها مُشعرة بثبوت التمام، بعناية خروجه بالإقامة عن عنوان المسافر، وتسالم الأصحاب على ذلك، فقاطعيّة الإقامة للسفر نفسه لا لحُكمه ممّا لا ينكر.

أقول: بقي في المقام فرعان:5.

ص: 309


1- مستمسك العروة: ج 8/42.
2- الكافي: ج 4/133 ح 2، وسائل الشيعة: ج 8/498 ح 11275.

ولو قَصَد المسافة وله على رأسها منزل، قصَّر في طريقه خاصّة.

الفرع الأوّل: أنّه لو كان متردّدٌ من حين تلبّسه بالسير في المرور بوطنه، أو إقامة عشرة أيّام في أثناء المسافة، لم يقصّر، لعدم قصد المسافة الواحدة المتّصلة.

وما أفاده المحقّق الهمداني رحمه الله:(1) من أنّ المانع عن التقصير إنّما هو الجزم بإقامة العشرة، والتردّد فيها لا أثر له شرعاً، فمن خَرَج من منزله وهو يريدُ أن يسير ثمانية فراسخ، فقد وجب عليه التقصير، ما لم يجمع على أن يُقيم عشرة أيّام، فالمدار في التقصير على قصد المسافة مجرّداً عن العزم على الإقامة في أثنائها، لا بالعزم على عدمها، كي يكون التردّد في الإقامة منافياً لتحقّق شرط التقصير.

ضعيفٌ : إذ مانعيّة الجزم بإقامة العشرة، إنّما تكون لأجل اعتبار قصد المسافة المعيّنة المنافي مع الجزم بالإقامة في أثناء السّفر، وهذا الملاك موجودٌ بعينه في ما لو تردّد في الإقامة في أثنائها أيضاً كما لا يخفى .

وعليه، فما نفى عنه البُعد في «الجواهر»(2) من عدم الترخّص، هو القويّ .

الفرع الثاني: (لو قَصَد المسافة وله على رأسها منزل) ويكون ذلك وطنه، أو يريد الإقامة فيه عشرة أيّام (قصّر في طريقه خاصّة) وقد ظهر وجهه ممّا سبق.

ويشهد له: - مضافاً إليه - موثّق ابن بُكير، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في الرّجل يخرج من منزله يريدُ منزلاً له آخر، أو ضيعة له اُخرى؟

قال عليه السلام: إنْ كان بينه وبين منزله أو ضيعته التي يؤمّ بريدان قصّر، وإنْ كان دون ذلك أتمّ »(3).

***8.

ص: 310


1- مصباح الفقيه: ج 2/736 ق 2.
2- قد يظهر ذلك ممّا أفاده في الجواهر: ج 14/304.
3- التهذيب: ج 4/221 ح 23، وسائل الشيعة: ج 8/492 ح 11258.

الثالث: إباحة السَّفر، فلو كان عاصياً بسفره لم يُقصِّر

اعتبار إباحة السّفر
اشارة

الرابع من الشروط: وهو (الثالث) في المتن (إباحة السَّفر، فلو كان عاصياً بسفره لم يقصّر) بلا خلافٍ فيه في الجملة، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(1) ويشهد له جملة من النصوص الآتية.

أقول: وحقّ القول في المقام، أنّ السّفر الذي يُعصى فيه على أقسام خمسة:

1 - أن يكون السّفر بنفسه، وبما أنّه قطعٌ للمسافة حراماً، كالفرار من الزّحف، واباق العبد، وسفر الزوجة بدون إذن الزوج، وسفر الولد مع نهي الوالد، ونحو ذلك.

2 - أن يكون السّفر حراماً، لكن لا من حيث أنّه قطعٌ للمسافة، بل من جهة انطباق عنوانٍ آخر عليه، كالسفر مع الركوب على الدابّة المغصوبة، فإنّ السّفر حرامٌ من جهة كونه تصرّفاً في مال الغير، لا بما أنّه قطعٌ للمسافة.

3 - أن يكون غاية السّفر أمراً محرّماً، كما إذا سافر لقتل نفسٍ محترمة، أو للسرقة، أو للزِّنا أو نحو ذلك.

4 - أن يكون السّفر مستلزماً للمعصية وترك الواجب، كما إذا كان مديوناً وسافر برغم مطالبة الدَّيّان له، وإمكان الأداء في الحضر دون السّفر، ونحو ذلك.

ص: 311


1- جواهر الكلام: ج 14/257 (بل محمع عليه تحصيلاً ونقلاً مستفيضاً)، كفاية الأحكام: ص 33 (ولا خلاف بين الأصحاب)، تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/191.

5 - أن يكون السّفر ملازماً اتّفاقيّاً للمعصية، مثل الغيبة، وشُرب الخمر وغيرهما من المعاصي الواقعة حال السّفر، دون أن يكون السّفر لأجلها.

أمّا القسم الأوّل: فظاهر المشهور(1) إنّه يتمّ فيه، وعن الشهيد رحمه الله التنظّر فيه(2).

ويشهد للمشهور:

1 - صحيح عمّار بن مروان، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«من سافر قصّر وأفطر، إلّاأن يكون رجلاً سفره إلى صيدٍ أو في معصية اللّه تعالى ، أو رسولاً لمن يَعصي اللّه، أو في طلب عدوٍّ أو شحناءٍ أو سعايةٍ أو ضرر على قومٍ من المسلمين»(3).

فإنّ ظاهر قوله: (في معصية اللّه) أن يكون السّفر بنفسه حراماً.

مضافاً إلى أنّ عطف قوله عليه السلام: (أو رسولاً.. إلى آخره) على ما سبق قرينة لإرادة السّفر الذي يكون معصية بنفسه من تلك الفقرة.

أقول: واحتمال أن يكون كلمة (في) بمعنى (إلى) أو اللّام أو السببيّة فيكون المراد منها ما كان لغايةٍ محرّمة.

خلاف الظاهر، لا يُصار إليه إلّامع القرينة.

ودعوى : أنّ الظاهر من قوله عليه السلام: (في معصية اللّه) كونه عطفاً على قوله: (إلى صيدٍ) فيكون المراد سفره في معصية، وظاهره كون المعصية غير السّفر، فإنّ سفر المعصية غير السّفر في المعصية الذي هو من قبيل السعي في الحاجة.2.

ص: 312


1- جواهر الكلام: ج 14/257 (ولا فرق من المستفاد من النصوص ومعاقد الإجماعات التي يشهد لها ظاهر الفتاوى بين العصيان بنفس السّفر كالفرار من الزحف)، كفاية الأحكام: ص 33 (ولا خلاف بين الأصحاب).
2- الذكرى : ص 260.
3- الكافي: ج 4/129 ح 3، وسائل الشيعة: ج 8/476 ح 11212.

مندفعة: بأنّ إرادة السّفر الذي يكون غايته المعصية من هذه الفقرة خلاف الظاهر، لأنّ مثله يعدّ سفراً في طريق المعصية لا في المعصية، والفرق بين التعبيرين واضح.

2 - وموثّق سماعة: «ومن سافر قصّر الصَّلاة وأفطر، إلّاأن يكون رجلاً مشيّعاً لسلطانٍ جائرٍ، أو خرج إلى صيد»(1).

فإنّ السّفر الذي يتحقّق به الرفقة والمتابعة مع السلطان الجائر ويكون بهذا القصد حرامٌ بنفسه.

وقد استدلّ له بأخبار اُخر.

أحدها: مرسل ابن أبي عُمير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا يفطر الرّجل في شهر رمضان إلّافي سبيل حقّ »(2).

وأشكل عليه جدّنا العلّامة رحمه الله: بأنّ الظاهر من كلمة (سبيل حقٍّ ) ما يكون ذو السبيل وذو الطريق حقّاً دون نفس السبيل، فلا ينافيه حرمته النفسيّة.

الثاني: ما ورد في المتصيّد، المتضمّن أنّه يجب عليه التمام، معلّلاً بأنّ المسير إلى التصيّد مسير باطل.

وفيه: إنّه لعدم إمكان الأخذ بإطلاقه، يُحمل على حكمة للتشريع، فلا يجوز التعدّي عن مورده، مع أنّ المسير الباطل ما كان غاية المسير باطلة لا نفسه.

الثالث: موثّق عُبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يخرج إلى الصيد أيقصّر أو يُتمّ؟ قال عليه السلام: يُتمّ لأنّه ليس بمسير حقّ »(3).9.

ص: 313


1- الاستبصار: ج 1/222 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/477 ح 11213.
2- الكافي: ج 4/128 ح 2، وسائل الشيعة: ج 8/476 ح 11210.
3- الكافي: ج 3/438 ح 8، وسائل الشيعة: ج 8/479 ح 11219.

بدعوى: أنّه بعموم علّته يدلّ على أنّه كلّ ما ليس بمسيرٍ حقٍّ ، يجبُ فيه التمام، سواءٌ لم يكن بنفسه سائغاً أو كان لغاية محرّمة.

أقول: والجواب عنه ما تقدّم في الأوّل.

وأمّا القسم الثاني: فالأظهر وجوب التمام فيه أيضاً، للأدلّة المتقدّمة في القسم الأوّل، فإنّها بإطلاقها تدلّ على وجوب التمام في كلّ سفرٍ كان حراماً، سواءٌ أكانت حرمته بما أنّه قطعٌ للمسافة، أو من جهة انطباق عنوانٍ آخر عليه الموجود بوجوده لا بوجودٍ آخر، فلو ركب دابّة مغصوبة وسافر أتمّ في سفره.

ودعوى: اختصاص النصوص بما إذا كان السّفر حراماً بما هو سفر، فلا تشمل ما حَرُم لعنوانٍ آخر منطبق عليه كما عن المحقّقين النائيني(1) واليزدي(2) رحمهما الله.

ممنوعة: سيّما مع أنّ جملة من الموارد التي التزموا فيها بوجوب التمام - وكونها مشمولة للنصوص، بل فيها التصريح بوجوب التمام في بعضها - من قبيل الثاني كالسّفر المُضرّ للجسم، فإنّ حرمته إنّما تكون من جهة كونه مضرّاً، وسفر الولد مع نهي الوالد، وسفر الزوجة دون إذن زوجها، بل أغلب الموارد التي التزموا فيها بوجوب التمام من قبيل الثاني.

وعليه، فالأظهر وجوب التمام فيه أيضاً.

وأمّا القسم الثالث: وهو ما إذا كانت غاية السّفر - التي هي فعل اختياري بالمباشرة - محرّمة، كما إذا سافر لقتل نفسٍ محترمة أو للسرقة، فالظاهر أنّ وجوب).

ص: 314


1- النجم الزاهر في صلاة المسافر: ص 35، في: الشرط الرابع أن يكون السّفر سائغاً.
2- كتاب الصَّلاة للحائري اليزدي: ص 605-606، قوله: (ثمّ أنّ الظاهر من الأدلّة أنّ السّفر الحرام الذي يوجب التمام ما يكون محرّماً بعنوان أنّه السّفر).

التمام فيه اتّفاقي، ويشهد له جملةٌ من النصوص المتقدّم بعضها في القسم الأوّل.

وأمّا القسم الرابع: ففيه وجوهٌ وأقوال:

ثالثها: ما في «العروة»، وهو التفصيل بين ما إذا كان السّفر لأجل التوصّل إلى ترك الواجب، فيجب التمام، وبين ما إذا لم يكن كذلك فيقصّر.

رابعها: التفصيل بين ما إذا كان السّفر علّة تامّة لتركه، مثل ما إذا كان ترك الواجب متوقّفاً على السّفر، بحيث لو ترك السّفر لتحقّق منه الواجب قهراً، وبين ما لم يكن كذلك، بل كان بحيث لو ترك السّفر أمكن ترك الواجب، فيجبُ التمام في الأوّل دون الثاني، وهو مختار المحقّق النائيني رحمه الله على ما نُسب إليه(1).

واستدلّ للقول بوجوب التمام مطلقاً: بأنّ هذا السّفر حرامٌ ، فيشمله ما دلّ على لزوم التمام في السّفر المحرّم، والوجه في حرمته اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ ترك السّفر مقدّمة للواجب، ومقدّمة الواجب واجبة، فالسفر المستلزم لترك الواجب معصية للّه تعالى ، فيجب التمام فيه.

وفيه: إنّ ترك أحد الضدّين ليس مقدّمةً للضدّ الآخر.

الأمر الثاني: ما عن الحِلّي رحمه الله من الإجماع على أنّ مستلزم المحرّم محرّم، فالسفر المستلزم لترك الواجب محرّمٌ .

وفيه: إنّه إجماعٌ منقول فلا يكون حجّة.

الأمر الثالث: ما عن «قواعد» الشهيد رحمه الله(2) من أنّ قوله تعالى : (وَ لا تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ فَيَسُبُّوا اَللّهَ ...) (3) يدلّ على حرمة ما يكون سبباً لفعل8.

ص: 315


1- راجع شرح العروة الوثقى: ج 3/437.
2- القواعد والفوائد: ج 1/63.
3- سورة الأنعام: الآية 108.

الحرام، فالسفر المزبور حرامٌ .

وفيه أوّلاً: أنّه يحتمل اختصاص الآية الشريفة بموردها، كما لا يخفى .

وثانياً: أنّه يدلّ على حرمة التسبيب لفعل الغير الحرام، ولا ربط له بالتسبيب لفعل الإنسان نفسه.

واستدلّ للثالث: بأنّ فعل شيءٍ للتوصّل إلى ترك الواجب معصية للّه تعالى ، فالسفر المستلزم لترك الواجب سفرُ معصيةٍ ، فيجب التمام فيه.

وفيه: إنّه لو تمّ فإنّما هو فيما إذا كان ذلك الفعل علّة تامّة لترك الواجب لا مطلقاً، مع أنّه لا يتمّ ، إذ الفعل المزبور وإنْ كان يُعاقب عليه بملاك العقاب على المقدّمات المفوّتة، كما حُقّق في محلّه، إلّاأنّه لا يكون حراماً، كي يكون السّفر معصية للّه تعالى .

وبذلك ظهر مدرك القول الرابع، فالأظهر وجوب القصر فيه.

وأمّا القسم الخامس: فالظاهر أنّ وجوب القصر فيه ممّا لا خلاف فيه، لإطلاق أدلّة التقصير، بعد عدم شمول دليل المقيّد لمثله، كما هو واضح.

***

ص: 316

فروع:
حكم الرجوع من سفر المعصية

فروع:

الفرع الأوّل: المشهور بين الأصحاب(1) - على ما نُسب إليهم - أنّ العود عن سفر المعصية إذا كان بنفسه مسافةً لا يكون بحكم سفر المعصية، بل يقصّر فيه، بمعنى أنّه يلحقه حكم نفسه إنْ طاعةً فطاعة، وإنْ معصيةً فمعصية.

وعن المحقّق القُمّي(2) وبعض الأعيان(3): أنّه يكون بحكم سفر المعصية.

وفي «العروة» لم يستبعد ذلك مع عدم التوبة(4).

أقول: إنّ العودة على قسمين:

تارةً : تكون العودة غير ملحوظة مستقلّة عرفاً، بل يعدّ رجوعه من تتمّة سفره الذي يكون معصية أو لغاية كذلك، كما إذا رجع مع عدم البقاء في المقصد مدّة ولم يَتُب.

واُخرى : تكون عودته ملحوظة بالاستقلال كما إذا تاب ورجع، أو بقي مدّة في المقصد.

ففي الأوّل: لا يبعد القول بالتمام، لأنّ العود يعدّ جزء من سفر المعصية، ويؤيّده:

1 - ما ورد من الأخبار الدالّة على لعن الزوجة الناشزة الخارجة من بيتها دون إذن زوجها ذهاباً وإياباً(5)، مع أنّها في الرجوع تكون في طريق الطاعة لا المعصية.

ص: 317


1- راجع مصباح الفقيه (ط. ق): ج 2/742 ق 2.
2- كتاب الصَّلاة: ج 3/134.
3- كتاب الصَّلاة: ج 3/134.
4- العروة الوثقى (ط. ق): ج 2/124.
5- وسائل الشيعة: ج 20/160 باب: أنّه لا يجوز للمرأة أن تسخط زوجها ولا تتطيّب ولا تتزيّن لغيره.

2 - وما ورد من الأخبار المستفيضة في أجر الزائرين لقبورهم عليهم السلام ذهاباً وإياباً(1)، فإنّهما يُشعران بتبعيّة الإياب للذهاب، وعدم لحاظ الإياب مستقلّاً.

وفي الثاني: يقصّر بلا كلام، من جهة أنّ رجوعه مسافة مستقلّة لدى العرف غير محرّمة، فلابدّ من القصر فيه.

أقول: والأحوط في الموردين الجمع، بل لا يُترك في المورد الأوّل أيضاً.

اعتبار إباحة السّفر ابتداءً واستدامةً
اشارة

الفرع الثاني: إنّ إباحة السّفر كما تكون شرطاً في الابتداء، هل تكون شرطاً في الاستدامة أم لا؟

أقول: وتفصيل القول في المقام:

حكم الصَّلاة حال العزم على المعصية

تارةً : يقع الكلام في حكم الصَّلاة حال العزم على المعصية.

واُخرى : في حكمها بعد الرجوع إلى الطاعة.

أمّا المقام الأوّل: فالكلام فيه يقع في موضعين:

الأوّل: فيما إذا عزم على المعصية، وقَطَع الطريق بهذا العزم.

الثاني: فيما إذا عزم عليها، ولكن لم يتلبّس بعدُ بالضرب في الأرض.

أمّا الموضع الأوّل: فالظاهر أنّه لا خلاف ولا كلام في أنّه يتمّ في تلك الحال، وإنْ كان ما قطعه من دون قصد المعصية مسافات، لأنّ ذلك مقتضى دليل وجوب التمام في سفر المعصية، سواءٌ أكان ذلك مقيّداً لإطلاق حكم الترخّص بخصوص حال غير المعصية، أم كان مخصّصاً لأدلّة الترخّص بخصوص غير سفر المعصية.

ص: 318


1- راجع وسائل الشيعة: ج 14/319 باب المزار.

أمّا على الأوّل: فواضح.

وأمّا على الثاني: فلأنّ المراد من تقييد الموضوع، ليس تقييد إطلاق خصوص المسافة الموجبة لوجوب القصر، بل المراد تقييد السّفر الذي يقصّر فيه، ولو بعد قطع المسافة، وبعد تقييد الموضوع كذلك، لا وجه لتوهّم وجوب القصر عليه، كما لا يخفى .

وأمّا الموضع الثاني: ففيه وجوهٌ وأقوال:

1 - أنّه يُتمّ في تلك الحال مطلقاً، اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله(1).

2 - أنّه يقصّر فيها ما دام لم يتلبّس بالضَّرب في الأرض مطلقاً.

3 - التفصيل بين قبل قطع المسافة فيجب التمام حين العزم، وبين بعد قطعها فلايتمّ ، اختاره المحقّق النائيني رحمه الله على ما نُسبَ إليه.

واستدلّ للأوّل: الشيخ الأعظم رحمه الله بأمرين:

الأمر الأوّل: أنّه يعتبر في الترخّص في السّفر، كون المُصلّي متلبّساً بالسفر المباح، وإنْ كان في حال الوقوف والبيتوتة، لأنّ هذا هو المستفاد من النصوص بعد ضمّ بعضها ببعض، ومَنْ قَطَع الطريق على الإباحة، وعَدَل إلى المعصية، يصدق عليه أنّه متلبّس بالسفر الذي ليس بحقّ ، لأنّ السابق وإنْ كان سفراً مستقلّاً مباحاً، إلّاأنّه قد انقضى التلبّس به مع فرض اعتباره مستقلّاً، كما أنّ المقدار الباقي لم يتحقّق التلبّس به، فالذي يصحّ دعوى التلبّس به فعلاً هو المجموع من الماضي والباقي الملحوظ سفراً واحداً، ولا يخفى بطلان سفره.4.

ص: 319


1- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 433، وفي الطبعة الجديدة: ج 3/134.

الأمر الثاني: المستفاد من رواية الفضل(1) الواردة في علّة التقصير، هو: أنّ تقصير الصَّلاة في المنزل لأجل الجُزء المتأخّر من السّفر لا المتقدّم، فإذا عزم على العصيان، فحيثُ أنّ السير الواقع بعد هذا الحين يقصّر فيه، فكذلك في هذه الحال.

أقول: في كلا الوجهين نظر.

أمّا الأوّل: فلأنّ لازم هذا الوجه أنّه مَنْ عَلم بأنّ سفره المتلبّس به قطعة منه مباحة، وقطعةٌ اُخرى منه تقع على وجه الحرام، والقطعة المباحة منه تبلغ المسافة لا يقصر في القطعة المباحة، لأنّه متلبّس بالسفر الذي ليس بحقّ .

والحَلّ : أنّ الجمع بين الأدلّة يقتضي القول بأنّ المسافر يقصّر ما لم يتلبّس بسفر المعصية، ففي حال التلبّس بسفر المباح يقصّر، وإنْ كان يعلم بانقلاب سفره الى الحرام، ففي المقام ما لم يتلبّس بسفر الحرام يقصّر، والعزم على سفر المعصية لايعدّ سفر المعصية.

وأمّا الثاني: فلأنّ الرواية المشار إليها لا تدلّ على ذلك، وعلى فرض الدلالة لا يمكن الالتزام به، كيف وإلّا لزم البناء على وجوب القصر على من خرج عن حَدّ الترخّص لابعزم السّفر، ثمّ عزم عليه وإنْ لم يتلبّس بعدُ بالضرب في الأرض، مع أنّه لا يقول به أحدٌ، كما أنّه يلزم منه البناء على وجوب القصر أو التمام في مواضع لم يفتِ به أحد.

فالحقّ أن يُقال: إنّه إذا كان ما قطعه قبل العزم على المعصية مسافة، وجب عليه القصر في حال العزم على العصيان، لما تقدّم من أنّ المستفاد من النصوص أنّ المسافر يقصّر ما لم يتلبّس بسفر المعصية، والعزم على سفر المعصية لا يعدّ سفر المعصية.

وأمّا إنْ كان ما قطعه قبل العزم لا تبلغ مسافة لا يقصّر، بل يُتمّ ، لأنّ الموجب4.

ص: 320


1- وسائل الشيعة: ج 8/462 ح 11174.

للقصر هو نيّة السّفر السائغ، ومَنْ عَزم على العصيان فهو غير ناوٍ للسفر الموجب للقصر، فيكون هذا الشخص من قبيل من عزم في أثناء المسافة على عدم السّفر، فالوجه في وجوب التمام عليه حينئذٍ عدم المقتضي، وانتفاء ما يوجبُ القصر.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو القول الثالث.

لو رجع إلى الطاعة بعد قصد المعصية

وأمّا المقام الثاني: فيدور البحث فيه عن حكم من عزم على المعصية في الأثناء، ثمّ رجع إلى الطاعة، ففي هذه الصورة:

إنْ كان مابقي من سفره بمقدار المسافة ولو ملفّقة، فلا كلام في وجوب القصر عليه.

وإنْ لم يكن الباقي بنفسه مسافة، ولكن كان بضميمة ما مضى من السير مسافة، فهل يجب عليه فيه القصر أو التمام ؟ وجهان:

أقول: وتفصيل القول في المقام يقتضي التكلّم في صور:

الصورة الاُولى: ما إذا لم يكن سيره الواقع علي الإباحة بمقدار المسافة، ولكن كان مجموع ذلك وما قطعه على الحرام بمقدارها، كما إذا سافر من منزله بقصد الطاعة، وسار بهذا القصد ثلاثة فراسخ، ثمّ عدل إلى قصد المعصية، فقطع ثلاثة فراسخ اُخرى بهذا القصد، ثمّ رجع إلى الطاعة، فسار فرسخين، فإنّ الأظهر في هذه الصورة عدم وجوب القصر عليه؛ وذلك لأنّ القطعة المتلبّسة بالمعصية خارجة عن موضوع السّفر الذي يقصّر فيه، لا عن حكم السّفر، كي لا يضرّ خروجها بتحقّق المسافة الموجبة للقصر في القطعة المتلبسة بالطاعة، فالسفر الذي يقصّر فيه هو

ص: 321

السّفر غير الباطل البالغ حَدّ المسافة، والوجه في ذلك أنّه ممّا يقتضيه الجمع بين ما دلَّ علي أنّه يقصّر في البريدين، وما دلّ على اشتراط الطاعة في السّفر الذي يقصّر فيه، كقوله عليه السلام في صحيح عمّار المتقدّم: «من سافر قصّر وأفطر، إلّاأن يكون رجلاً سفره إلى صيد»(1) ونحوه غيره(2)، وعليه فلا يقصّر، لعدم تحقّق موضوع القصر في هذه الصورة.

وربما يقال: بوجوب القصر في الفرض، وأنّ القطعة المتلبّسة بالمعصية خارجة عن حكم السّفر، لخبر أحمد بن محمّد السياري، عن بعض أهل العسكر، قال:

«خرج عن أبي الحسن عليه السلام: أنّ صاحب الصيد يُقصّر ما دام على الجادّة، فإذا عدل عن الجادّة أتمّ ، فإذا رجع إليها قصّر»(3).

بدعوى: أنّ المراد من العدول عن الطريق، هو العدول عن طريق الطاعة، ومن الرجوع إليها، هو العود إلى الطاعة بعد الخروج عنها.

وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السند، لأنّ السياري ضعيفُ الحديث فاسدُ المذهب، كما عن النجاشي(4) وغيره، مضافاً إلى جهالة من روى عنه.

وثانياً: أنّه يحتمل أن يكون المراد به بيان حكم من سافر بغير قصد الصيد، ثمّ عدل عن الطريق يمنةً أو يسره للصيد، كما ذكره الشيخ رحمه الله(5)، فيدلّ الخبر حينئذٍ على أنّ الخارج عن الطريق بعنوان المعصية لا يُحتسب مقدار سيره في الخارج عن3.

ص: 322


1- من لا يحضره الفقيه: ج 2/142 ح 1979، وسائل الشيعة: ج 8/476 ح 11212.
2- وسائل الشيعة: ج 8/476 باب اشتراط عدم كون السّفر معصية في وجوب القصر.
3- التهذيب: ج 3/218 ح 52، وسائل الشيعة: ج 8/480 ح 11221.
4- رجال النجاشي: ص 80.
5- الاستبصار: ج 1/273.

المسافة، وعليه فهو أجنبيٌ عن المقام.

الصورة الثانية: ما إذا كان مابقي من المسير على الإباحة بضميمة ما مضى من المسير قبل العزم على المعصية بقدر المسافة أو أكثر، وكان رجوعه إلى الطاعة قبل التلبّس بالمعصية، والأظهر في هذه الصورة وجوب القصر.

وذلك فيما إذا كان ما مضى من مسيره بقدر المسافة واضحٌ ، لما عرفت من أنّه يقصّر حتّى في حال العزم على المعصية.

وأمّا إذا كان ما مضى أقلّ من المسافة، فلأنّ عدم ضمّ ما بقي إلى ما مضى ، لابدّ وأن يكون لأحد اُمور:

إمّا من جهة قاطعيّة نيّة المعصية والعزم عليها.

أو من جهة اعتبار عدم تخلّل العزم المذكور.

أو من جهة اعتبار بقاء شخص القصد.

وشيءٌ منها لم يدلّ عليه دليل، فهو مسافرٌ يقصّر في سفره، ويكون حاله حال من عزم على قطع المسافة، ثمّ في الأثناء عَزَم على الرجوع عن قصده والرجوع إلى قصده الأوّل، فكما أنّ هناك يقصّر كذلك في المقام.

الصورة الثالثة: ما إذا عزم على المعصية في الأثناء، وقطع شيئاً من المسافة، ثمّ رجع إلى الطاعة، وكان ما بقي من مسيره مع ما مضى من سفره على الإباحة والطاعة أوّلاً بمقدار المسافة، فهل يقصّر كما عن الصدوقين(1) والشيخ(2) والمحقّق(3)2.

ص: 323


1- الصدوق في الفقيه: ج 1/288 نقلاً عن المستند: ج 4/271، وفي المعتبر: ج 2/472 (قال ابن بابويه يتمّحاله ويقصّر عند عوده إلى الطريق).
2- المبسوط: ج 1/142.
3- المعتبر: ج 2/472.

وجماعة آخرين ؟

أم لا يقصّر، ولا ينضمّ ما بقي بما مضى من جهة تخلّل سفر المعصية بينهما، كما هو المنسوب إلى المشهور(1)؟

وجهان، أقواهما الأوّل، لما عرفت في الشرط الثالث من أنّه لا يعتبر الاتّصال في المسافة.

واستدلّ للثاني بوجهين:

الوجه الأوّل: انصراف مطلقات أدلّة القصر إلى ما كانت المسافة غير متخلّلة بالقطعة التي يجب التمام فيها.

وفيه: إنّه لو سُلّم هذا الانصراف، فهو بدويٌ لا يُعتمد عليه.

الوجه الثاني: أنّ القطعة التي طواها مع العزم على المعصية، تعدّ من قبيل الإقامة، والعبور على الوطن قاطعة للسفر.

وفيه: إنّ قاطعيّتها تحتاج إلى دليل مفقود، والأصل عدمها، فالأظهر أنّه يقصر.

أقول: وبما ذكرناه ظهر أنّ إيراد بعض المعاصرين(2) على المشهور من أنّ فتواهم فيما لو عدل إلى المعصية من وجوب التمام، وأنّ قطع مسافات لا تلائم مع فتواهم فيما لو عدل إلى الطاعة، ولا تبتنيان على مبنى واحد. غير واردٍ، لأنّه يمكن أن يكون مبنى فتواهم في مسألة العدول إلى المعصية ما اخترناه من كون سفر المعصية خارجاً عن موضوع وجوب القصر، وفي هذه المسألة يكون مبناهم عدم اعتبار الاتّصال في المسافة بحيث ينافيها التخلّل المزبور، فلا تنافي بين الحكمين.7.

ص: 324


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 8/57.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 8/57.
حكم الغاية الملفّقة من الطاعة والمعصية

الفرع الثالث: لو كانت غاية السّفر ملفّقة من الطاعة والمعصية:

فتارةً : يقصد مسافة معيّنة لغاية مباحة، ومسافة اُخرى لغاية محرّمة، كما إذا سافر من النجف إلى كربلاء للزيارة، ومن كربلاء إلى بغداد لغاية محرّمة.

واُخرى : يقصد مسافة معيّنة للغايتين.

أمّا الصورة الاُولى: فالظاهر أنّه لا ينبغي التأمّل في وجوب القصر في المسافة الاُولى ، والتمام في الثانية، إلّاإذا كان قصده من الأوّل أن يسافر إلى بغداد من طريق كربلاء، فإنّه يكون حينئذٍ سيره ما بين النجف وكربلاء لغايتين: أحدهما مباحة، والاُخرى محرّمة، فيلحقه حكم الصورة الثانية.

وأمّا الصور الثانية: فلا يبعد القول بأنّ عليه أن يقصّر فيه، سواءٌ أكان كلا الداعيين مستقلّين، بحيث لو لم يكن أحدهما كان الآخر كافياً في الباعثيّة، أم كان كلٌّ منهما جزءٌ للباعث، بحيث لو لم يكن الآخر لما كان باعثاً، أم كان داعي المعصية مستقلّاً وداعي المباح تبعاً، والوجه في ذلك أنّ المتيقّن من النصوص الموجبة لتقييد إطلاق أدلّة القصر، كون السّفر سفر المعصية، أي ممحّضاً فيها، وفي غير هذا المورد لابدّ من الرجوع إلى إطلاق أدلّة الترخّص.

أقول: استدلّ لوجوب التمام في هذه الصورة بوجوه:

منها: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله(1) وحاصله: أنّ حرمة السّفر مقتضية لوجوب التمام، وإباحته لا تقتضي وجوب القصر، بل تكون لا اقتضاء، ومن المعلوم أنّه في

ص: 325


1- شرح العروة الوثقى: ج 3/441.

موارد اجتماع المقتضي مع اللّامقتضي يكون الحكم مع المقتضي.

وفيه: أنّه إنْ ثبت كون الحرمة حتّى في مثل المقام مقتضية لوجوب التمام تمّ ما ذكر، لكنّه أوّل الدعوى، والمدّعى أنّ المستفاد من النصوص كون الحرمة مقتضية فيما إذا كان السّفر ممحّضاً في سفر المعصية لا مطلقاً.

ومنها: ما عن المحقّق اليزدي(1) وهو أنّ المعيار في لزوم التمام - على ما يُستفاد من تعليله في بعض النصوص بأنّه مسيرٌ باطل(2)، ومن الخبر الوارد في السّفر بقصد الصيد، الدالّ على أنّ من خرج لطلب الفضول لا يقصّر، ولا كرامة(3)، بضميمة مناسبة الحكم والموضوع - كون المسير مسيراً باطلاً، وأنّه على خلاف رضا اللّه جلّ جلاله، وهذا يصدق في المقام.

وفيه: أنّ المراد بالباطل:

إنْ كان هو الباطل العرفي، فلا ريب في أنّ السّفر لغاية مباحة مقصودة للعقلاء لا يعدّ سفراً باطلاً، وإنْ ضُمّ إليه داعي المعصية.

وإنْ كان المراد الباطل الشرعي، فسبيل هذه النصوص سبيلُ غيرها، وقد تقدّم حاله.

ومنها: ما أفاده الاُستاذ الأعظم في حاشيته على «العروة»(4)، وهو أنّ السّفر للغايتين ليس بمسير حقّ ، فلا يقصّر فيه.3.

ص: 326


1- العروة الوثقى: ج 3/436.
2- الكافي: ج 3/437 ح 4، وسائل الشيعة: ج 8/480 ح 11222.
3- الكافي: ج 3/438 ح 10، وسائل الشيعة: ج 8/480 ح 11220.
4- العروة الوثقى: ج 3/443.

وفيه: أنّ المراد من مسير حقّ ليس إلّاما لا يكون سفر المعصية، وإلّا فلا ريب في عدم اعتبار أزيد من ذلك، فحال ما تضمّن هذه الجملة، حال غيره من النصوص، فالأظهر بحسب النصوص أنّه يقصّر فيه، ولكن الأحوط، احتياط عدم ترك الجمع بين القصر والتمام.

هذا كله فيما إذا لم يكن داعي الطاعة ضعيفاً جدّاً، بحيث لا يستند السّفر عرفاً إلّا إلى المعصية، وإلّا فلا ريب في أنّه يتمّ فيه، ولا يخفى وجهه.

حكم الصَّلاة في سفر الصيد

الفرع الرابع: المحكيّ عن جماعةٍ (1) إدخال سفر الصيد لغير التجارة، ولغير قوته وقوت عياله في سفر المعصية.

وعن المقدّس البغدادي(2) القول بإباحته، وإنكار حرمته أشدّ الإنكار.

أقول: يقع الكلام في موردين:

الأوّل: حرمته.

الثاني: في حكم الصَّلاة فيه.

أمّا المورد الأوّل: فالظاهر عدم الدليل على حرمته، لأنّ النصوص(3) التي استدلّ بها على الحرمة، بعضها ضعيفُ السند، وبعضها الآخر لا يدلّ على الحرمة،

ص: 327


1- الخلاف: ج 1/567 (وأمّا اللّهو فلا تقصير فيه عندنا... إجماع الفرقة)، مدارك الأحكام: ج 4/554: (ولو كان معصية لم يقصّر، كاتباع الجائر وصيد اللّهو، وهذا الشرط مجمعٌ عليه بين الأصحاب كما نقله جماعة منهم)، جواهر الكلام: ج 14/262.
2- كما حكاه في مصباح الفقيه: ج 2/743 ق 2.
3- بعض هذه الروايات ما ورد في من لا يحضره الفقيه: ج 1/452 ح 1312، ووسائل الشيعة: ج 8/479 ح 11217، وغيرهما من نفس الباب وغيره.

فإنّه وإنْ تضمّن أنّه من اللّهو والباطل، وما شابه ذلك، إلّاأنّه قد حقّقنا في الجزء الأوّل من حاشيتنا على المكاسب(1) عدم حرمة كلّ لهوٍ وباطل، وتمام الكلام في محلٍّ آخر.

وأمّا المورد الثاني: فلا خلاف في أنّه يتمّ الصَّلاة فيه في الجملة.

وملخّص القول فيه: إنّ النصوص الواردة في المقام على طوائف:

الطائفة الاُولى: ما دلَّ على وجوب القصر في سفر الصيد مطلقاً، كصحيح العيص، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يتصيّد؟ فقال: إنْ كان يدور حوله فلا يقصّر، وإنْ كان تجاوز الوقت فليقصّر»(2).

ونحوه صحيح صفوان(3)، فإنّ الظاهر أنّ المراد بالدوران حوله، عدم الخروج إلى حَدّ المسافة، ومن (تجاوز الوقت) البُعد عن منزله بقدر المسافة.

الطائفة الثانية: ما دلَّ على وجوب التمام فيه مطلقاً، كصحيح عمّار المتقدّم: «من سافر قصّر وأفطر، إلّاأن يكون سفره إلى صيدٍ». ونحوه غيره.

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على اختصاص وجوب التمام بالصيد اللّهوي:

1 - صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: في حديثٍ : «إنّما خرج في لهوٍ، لا يقصّر»(4).

2 - موثّق ابن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يتصيّد اليوم واليومين والثلاثة، أيقصّر الصَّلاة ؟ قال عليه السلام: لا، إلّاأن يشيّع الرّجل أخاه في الدِّين، فإنّ الصيد6.

ص: 328


1- منهاج الفقاهة: ج 1/180.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/452 ح 1312، وسائل الشيعة: ج 8/481 ح 11223.
3- وسائل الشيعة: ج 8/479 ح 11217.
4- التهذيب: ج 3/218 ح 49، وسائل الشيعة: ج 8/478 ح 11216.

مسيرٌ باطل، لا تقصّر الصَّلاة فيه»(1).

ونحوهما غيرهما(2).

الطائفة الرابعة: ما دلَّ على لزوم القصر في الصيد لقوته وقوت عياله، كمرسل محمّد بن عمران القُمّي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلتُ له: الرّجل يخرج إلى الصيد مسيرة يومٍ أو يومين أو ثلاثة يقصّر أو يُتمّ؟ فقال: إنْ خرج لقوته وقوت عياله فليفطر أو ليقصّر، وإنْ خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة»(3).

الطائفة الخامسة: ما دلَّ على أنّه لا يقصّر في الصيد للتجارة:

1 - ما في «فقه الرِّضا»: «وإذا كان صيده للتجارة، فعليه التمام في الصَّلاة، والقصر في الصوم»(4).

2 - المرسل الذي رواه الشيخ والحِلّي(5): «وإنْ كان التجارة دون الحاجة، روى أصحابنا بأجمعهم أنّه يتمّ الصَّلاة ويفطر الصوم، وكلّ سفر وجب التقصير في الصوم، وجب تقصير الصَّلاة فيه، إلّاهذه المسألة فحسب، للإجماع عليه».

الطائفة السادسة: ما دلَّ على أنّه يقصّر في سفر الصيد إذا استمرّ ثلاثة أيّام، ويُتمّ إذا لم يكن كذلك، كخبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«ليس على صاحب الصيد تقصير ثلاثة أيّام، وإذا جاوز الثلاثة لزمه»(6).8.

ص: 329


1- الكافي: ج 3/437 ح 4، وسائل الشيعة: ج 8/480 ح 11222.
2- وسائل الشيعة: ج 8/478 باب أنّ من خرج إلى الصيد للّهو أو الفضول وجب عليه التمام.
3- الكافي: ج 3/438 ح 10، وسائل الشيعة: ج 8/480 ح 11220.
4- المستدرك: ج 6/533 ح 7442، فقه الرّضا: ص 208.
5- المبسوط: ج 1/136، السرائر: ج 1/372.
6- من لا يحضره الفقيه: ج 1/452 ح 1311، وسائل الشيعة: ج 8/479 ح 11218.

أقول: هذه هي جميع نصوص الباب، فينبغي ملاحظتها:

أمّا الطائفة الأخيرة: فلإعراض الأصحاب عنها، وعدم إفتاء أحدٍ بمضمونها سوى الإسكافي(1) لابدَّ من طرحها.

وأمّا الخامسة: فهي ضعيفة السند.

أمّا خبر «فقه الرّضا»، فلعدم ثبوت كونه كتاب روايةٍ - كما أشبعنا الكلام فيه في بدايات «حاشيتنا على المكاسب»(2) - لا يُعتمد عليه، مع أنّ المحكيّ عن كتاب صومه أنّه قال: (إذا كان صيده للتجارة فعليه التمام).

وأمّا المرسل: فحاله ظاهرٌ، مضافاً إلى أنّ الظاهر منه كونه نقلاً للفتوى دون أن يكون رواية، لقوله في ذيله: (للإجماع عليه)، إذ لو كان المنقول روايةً كان الاُولى التعليل بورود النص به، ولذلك لا يُعتمد عليه.

وأمّا الطائفتان الثالثة والرابعة: اللّتان لا تعارض بينهما بأنفسهما، كما لا يخفى ، فهما تقيّدان إطلاق الطائفة الاُولى ، وتقيّدانها بالسّفر للصيد غير اللّهوي، كما تقيّدان إطلاق الطائفة الثانية، وتقيّدانها بالصيد اللّهوي، فيكون المستفاد من النصوص - بعد ضَمّ بعضها إلى بعض - أنّه يجب التمام في سفر الصيد اللّهوي، والقصر في الصيد للتجارة أو لتحصيل القوت.

ولكن بما أنّ المشهور بين المتقدّمين من الأصحاب(3) أنّه لا يقصّر في سفر الصيد للتجارة، وإنْ كان يفطر الصوم فيه، مع أنّه لا دليل لهذه الفتوى، بل النصوص كما عرفت تدلّ على خلافها، لا سيّما وفي النصوص الصحيحة التلازم بين).

ص: 330


1- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 14/267.
2- منهاج الفقاهة: ج 1/15.
3- جواهر الكلام: ج 14/264 (بل قيل إنّه مذهب القدماء، بل لعلّه لا خلاف فيه بينهم).

الإفطار والقصر، ومعلومٌ أنّ الفقيه لا يفتي إلّامع قيام الدليل، فيعلم من ذلك وجود رواية دالّة على هذه الفتوى لم تصل إلينا، فالاحتياط بالجمع بين القصر والتمام في سفر الصيد للتجارة ممّا لا ينبغي تركه، واللّه تعالى أعلم بحقائق الاُمور.

لو نذر الإتمام في يوم فسافر فيه

الفرع الخامس: إذا نذر أن يُتمّ الصَّلاة في يومٍ معيّن، أو يصوم يوماً معيّناً، وجب عليه الإقامة والوفاء بالنذر، ولو خالف وسافر، فهل يقصّر فيه أو يُتمّ؟ وجهان:

استدلّ المحقّق اليزدي(1) على القصر: بأنّ الموضوع في أدلّة لزوم القصر على المسافر، السّفر المباح، مع قطع النظر عمّا يطرأ عليه من جهة الحكم، والحرمة الطارئة على مثل هذا السّفر، إنّما جاءت من قِبل حكم السّفر، وهو لزوم القصر، فعدم إجراء عموم دليل القصر في الموضوع، تخصيصٌ بلا وجهٍ ، وإذا وجب القصر بمقتضى العمومات، أصبح السّفر محرّماً لكونه مفوّتاً للواجب المطلق، ولكن لا مجال لجريان دليل لزوم التمام في مثل هذا السّفر المحرّم، لأنّ حرمته إنّما جاءت من قبل لزوم القصر، فلا يمكن أن يكون مثل هذه الحرمة موجباً للزوم التمام.

أقول: بما أنّ عدم السّفر معتبرٌ شرعاً في إتمام الصَّلاة والصوم، فالناذر لأجل أن تتمّ صلاته، أو يصحّ صومه في يوم معيّن، لا محالة ينحلّ نذره إلى نذر شرطه أيضاً، وهو ترك السّفر، وإلّا كان النذر باطلاً لعدم مشروعيّة المنذور، ومع نذر ترك السّفر، يكون سفره سفر معصيةٍ ، وقد عرفت لزوم التمام في سفر المعصية.

وبهذا البيان ينحلّ الإشكال المعروف في المقام، وهو أنّه إذا وجب التمام في

ص: 331


1- العروة الوثقى: ج 3/446.

هذا السّفر، لا يكون حراماً، إذ لا منشأ لحرمته سوى كونه موجباً لفوات الواجب وهو التمام، ومع عدم حرمته يجب فيه القصر، فيلزم من حرمة هذا السّفر عدم حرمته، ومن إباحته عدم إباحته، وهكذا تنحلّ المشكلة لأنّ حرمة السّفر ليست لأجل وجوب الإتمام، بل إنّما هي لأجل نذر تركه.

أقول: ولكن الأقوى وجوب القصر في هذا السّفر، وذلك لأنّ شرط إتمام الصَّلاة والصوم، ليس هو ترك السّفر، بل هو الإقامة المضادّة للسفر، فحرمة السّفر تبتني على أن يكون ما يستلزم ترك الواجب حراماً، وقد عرفت ضعف المبنى.

مع أنّه يدلّ على لزوم القصر خبر عبد اللّه بن جُندَب، قال:

«سمعتُ من زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، أنّه سأله عن رجلٍ جعل على نفسه نذر صومٍ ، فحَضَرته نيّةٌ في زيارة أبي عبد اللّه عليه السلام ؟

قال عليه السلام: يخرج ولا يصوم في الطريق، فإذا رجع قَضى ذلك»(1).

وقريبٌ منه غيره.

***4.

ص: 332


1- الكافي: ج 7/457 ح 16، وسائل الشيعة: ج 23/313 ح 29634.

الرابع: أن لا يكون سفره أكثر من حضره كالملّاح، والمُكاري، والراعي، والبدوي، والذي يدور في تجارته.

حكم كثير السّفر
اشارة

الخامس من الشروط: وهو (الرابع) في المتن: (أن لا يكون) السّفر عَمله، بلا خلافٍ في هذا الشرط في الجملة، وإنْ اختلفت تعابير القوم عن هذا الشرط:

فقد عبّر المُعظم: بأنْ لا يكون(1)(سفره أكثر من حضره).

وعبّر آخرين: بأن لا يكون كثير السّفر(2).

وعبّر جماعةٌ ثالثة بما عبّرناه، إلى غير ذلك من التعابير، ولكن الموجود في النصوص إنّما هو عنوانان:

أحدهما: عدم كون السّفر عَملاً له (كالملّاح، والمُكاري، والرّاعي، والبدوي، والذي يدور في تجارته).

وثانيهما: أن لا يكون ممّن بيته معه.

1 - ففي صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «أربعة قد يجب عليهم التمام في السّفر كانوا أو حضر: المُكاري والكرى والراعي والأشتقان، لأنّه عملهم»(3).

ومثله خبر ابن أبي عُمير بزيادة: (الملّاح)(4).

ص: 333


1- الدروس: ج 1/211.
2- الذكرى: ص 260.
3- الكافي: ج 3/436 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/485 ح 11234.
4- وسائل الشيعة: ج 8/487 ح 11244.

ومقتضى تعليل الحكم بأنّه عملهم، عدم اختصاص الحكم بالمذكورين في الحديث، بل دوران الحكم مدار صدق عنوان كون السّفر عَملاً له.

2 - وفي مضمر إسحاق بعد السؤال عن الملّاحين والأعراب، وأنّه هل عليهم تقصيرٌ؟ قال عليه السلام: «لا، بيوتهم معهم»(1).

3 - ومرسل سليمان بن جعفر الجعفري، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«الأعراب لا يقصّرون، وذلك أنّ منازلهم معهم»(2).

وقريبٌ من هذه النصوص غيرها.

أقول: والمستفاد من هذه النصوص، دوران وجوب التمام مدار أحد العناوين:

إمّا كون السّفر عملاً له، أو كونه ممّن بيته معه، والنسبة بين العنوانين عموم من وجه، لتصادقهما على البدوي الذي له وطنٌ يستقرّ فيه في فصل الشتاء ثمّ يسافر عنه في بقية السنة مع بيته، وافتراق الأوّل في التاجر الذي يدور بتجارته، والجابي الذي يدور لجمع جبايته وغيرهما، وافتراق الثاني في البدوي الذي ليس له وطن يستقرّ فيه، وليس في النصوص لفظ (كثير السّفر) وما شابهه، وعليه فلو صدق على شخصٍ كثير السّفر، كما لو صدر منه اسفار متعدّدة متوالية من باب الاتّفاق، ولكن لم يكن السّفر عمله ولم يكن بيته معه وجب عليه القصر دون التمام.

وبالجملة: الموضوع هو أحد الأمرين المتقدّمين.

التنبيه على اُمور
حكم السّفر الأوّل لمن اتّخذ السّفر عملاً له

أقول: بقي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل: من اتّخذ السّفر عملاً، كما لو اشترى دوابّاً واستعملها في نقل

ص: 334


1- الكافي: ج 3/438 ح 9، وسائل الشيعة: ج 8/485 ح 11237.
2- الكافي: ج 3/437 ح 5، وسائل الشيعة: ج 8/486 ح 11238.

الأمتعة جاعلاً حرفته ذلك، هل يتمّ صلاته في سفرته الاُولى أم لا؟ وجهان:

مقتضى إطلاق النصوص الأوّل، لأنّه يصدق عليه في ذلك السّفر أيضاً أنّه عمله، كما هو الشأن في سائر المبادئ، مثلاً البقّال يصدق على من اتّخذه حرفته مع شروعه فيه، وهكذا غيره.

وبالجملة: صدق هذا العنوان بمجرّد الشروع ممّا لا ينبغي إنكاره، وعليه فمقتضى إطلاق الأخبار، لزوم التمام في السّفر الأوّل.

أقول: استدلّ للقول بوجوب القصر فيه بوجوه:

الأوّل: الإجماع، باعتبار عدم صدق الكثرة على السّفر الأوّل.

وفيه: أنّه غير ثابت.

الثاني: اعتبار التكرّر في صدق الاتّخاذ، وقد عرفت آنفاً ما فيه.

الثالث: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله من أنّه سيأتي أنّ الإقامة عشرة أيّام في وطنه مطلقاً أو في غير وطنه مع قصد الإقامة في أثناء تلبّسه بعمل السّفر، قاطعةٌ لحكم الإتمام، وموجبة لوجوب القصر عليه بعد شروعه في السّفر الذي يُنشأه بعد الإقامة، فإذا كان هذا حال السّفر بعد الإقامة، فثبوت ذلك في السّفر الأوّل بعد الشروع في عمل السّفر أولى .

وفيه أوّلاً: لو كانت أولويّة فإنّما هي فيما لو شَرع في عمل السّفر وهو في بلده ومحلّ إقامته، ولا تكون فيما لو شرع فيه وهو في السّفر، كما لو سافر إلى خراسان زائراً، وهيّأ الأسباب هناك وأصبح مكارياً ثمّ سافر.

وثانياً: أنّها لا تتمّ ، فإنّ عدم الإقامة عشرة أيّام في محلٍّ في الأثناء شرطٌ في التمام، تضمنه النصوص، وملاكه غير معلوم، كي يثبت هذا الحكم في ماقبل

ص: 335

الشروع أيضاً، فتأمّل.

الرابع: أنّ في جملةٍ (1) من النصوص قيد الموضوع بالاختلاف، وهو لا يتحقّق بالسفر الأوّل.

وفيه: الظاهر منه بقرينة التعبير بلفظة (يختلف) بصيغة المضارع، إرادة الحرفة المأخوذة في مفهوم المكاري ونحوه، وإنْ أبيت عن ذلك فتُحمل عليها لأجل التعليل بأنّه عملهم.

وعليه، فالأظهر وجوب التمام في السّفر الأوّل.

أقول: ثمّ على فرض اعتبار التكرّر، هل يجب التكرار مرّات ليتمّ في السّفر الثالث، أم يتمّ في السّفر الثاني ؟

وجهان، مبنيّان على صدق الاختلاف بالتكرّر مرّتين، أم يعتبر في صدقه التكرّر مرّات، لا يبعد أظهريّة الأوّل.

وأيضاً: على فرض اعتبار التكرّر في صدق الاختلاف:

هل يعتبر في صدقه الرجوع في كلّ سفرٍ إلى المبدأ الذي سافر منه كوطنه أو مقرّه ؟

أم يصدق مع انقطاع السّفر بما يوجب تمام الصَّلاة ؟

أم يصدق حتّى مع عدم الرجوع إلى وطنه ومحلّ سكناه، وعدم حدوث ما يوجب إتمام الصَّلاة، كما إذا سافر من النجف إلى كربلاء، ثم آجر دابّته إلى بغداد وهكذا؟

وجوهٌ ، أقواها الأوّل، لأنّه لا يصدق الاختلاف الذي هو بمعنى التردّد أو ما يُعبّر عنه بالفارسيّة (آمَد وشُد) إلّابذلك، كما لا يخفى .3.

ص: 336


1- وسائل الشيعة: ج 8/484 ح 11233.

أقول: ولكن الذي يُسهّل الخَطب، عدم اعتبار التكرّر في صدقه أصلاً.

عدم الفرق بين مَن جَدَّ في سفره وغيره

الأمر الثاني: أنّ في جملةٍ من النصوص أنّ المكاري إذا جَدَّ به السّير يُقصّر، كصحيح ابن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام: «المُكاري والجمّال إذا جَدَّ بهما السير فليقصر»(1) ونحوه غيره(2).

وعن ظاهر الكليني(3) والشيخ في «التهذيب»(4): الإفتاء بمضمونها.

ولكن المشهور بين الأصحاب(5) شهرةً عظيمة، عدم الفرق بين مَن جَدَّ في سفره وغيره، حتّى أنّ الشيخ رحمه الله في كتبه الفتوائيّة وافقهم في ذلك، ولأجل ذلك لايُعتمد عليها.

أقول: اختلف الفقهاء في المراد من (جدَّ به السّير) على أقوال:

1 - ما عن الكليني رحمه الله(6) والشيخ في «التهذيب»(7): من جَعَل لسرعة سيره المنزلين منزلاً واحداً.

2 - ما عن «المدارك»(8) و «الذخيرة»(9) و «الحدائق»(10): زيادة السير على القَدَر المتعارف، بنحو يحصل منه جُهدٌ ومشقّة، وإنْ لم يبلغ جعل المنزلين منزلاً.

ص: 337


1- الكافي: ج 3/437 ح 2، وسائل الشيعة: ج 8/490 ح 11251.
2- وسائل الشيعة: ج 8/290 باب: وجوب القصر على المكاري والجمّال إذا جَدَّ بهما السّير.
3- الكافي: ج 3/437.
4- تهذيب الأحكام: ج 3/215.
5- مستمسك العروة: ج 8/71.
6- الكافي: ج 3/437.
7- تهذيب الأحكام: ج 3/215.
8- مدارك الأحكام: ج 4/456.
9- ذخيرة المعاد: ج 2/410.
10- الحدائق الناضرة: ج 11/393.

3 - ما عن «الذكرى»(1): وهو إنشاء سفر غير صنعته.

4 - ما عن «المختلف»(2): وهو السّفر بعد إقامة عشرة أيّام.

5 - ما عن «الرياض»(3): وهو قصد المسافة قبل تحقّق الكثرة.

6 - ما عن بعض المتأخّرين(4): وهو قصد المسافة لمن كان شُغله في السّفر دون المسافة.

أقول: جميع هذه المعاني خلاف الظاهر، لا يصار إلى شيءٍ منها، مع عدم الدليل إلّا الثاني، فإنّه الظاهر منه بحسب المتفاهم العرفي، وعليه فهو المتعيّن.

واستدلّ للأوّل: بمرسل عمران بن محمّد: «والجمّال والمُكاري إذا جَدَّ بهما السير، فليقصرا فيما بين المنزلين، ويُتمّا في المنزل»(5).

ولكن لإرساله لا يعتمد عليه.

حكم من أنشأ سفراً آخر غير ما هو عمله

الأمر الثالث: مَنْ كان السّفر عمله، إذا أنشأ سفراً آخر غير ما هو عمله:

فتارةً : يكون سفره سفر الشُّغل، إمّا بتبديل نوع السّفر الذي عمله بسفرٍ آخر مثل صيرورة المُكاري ملّاحاً، أو بتغيير صنفه، كما لو كان شغله كراء الدابّة في سفر غير الزيارة، ثمّ كراها في سفر الزيارة.

واُخرى : يكون غير سفر الشُّغل.

ص: 338


1- الذكرى: ص 260.
2- مختلف الشيعة: ج 3/107.
3- رياض المسائل (ط. ق): ج 1/254.
4- الذكرى: ص 260: (ويحتمل أنّ المكاريين يتمّون ما داموا يتردّدون في أقلّ المسافة أو في المسافة غير مقصودة).
5- وسائل الشيعة: ج 8/491 ح 11253.

ففي الصورة الاُولى : يُتمّ في سفره، لما عرفت من وجوب التمام في سفر الشُّغل مطلقاً.

وفي الصورة الثانية: يقصّر، لأنّ المستفاد من الأخبار، لا سيّما بملاحظة ما فيها من التعليل بأنّ السّفر عملهم، اختصاص الحكم بالسفر الذي يكون عملاً للمسافر، فلو سافر غير ذلك السّفر، وجب عليه القصر، ويشير إليه صحيح ابن مسلم: «ليس على الملّاحين في سفينتهم تقصير»(1) حيث خصَّ الحكم بالسفينة.

من كان شغله التردّد إلى ما دون المسافة

الأمر الرابع: من كان شغله التردّد إلى ما دون المسافة، كالحطّاب لو سافر إلى المسافة ولو للاحتطاب يقصّر، لأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ الموضوع في هذا الحكم كون السّفر الموجب للقصر الذي هو سفر شرعي عملاً له، وهذا الشخص لا يكون عمله السَّفر، بل غيره، وعليه فما عن «الموجز الحاوي»(2) من وجوب التمام، وفي «العروة»(3) الميل إليه في بعض الفروض، ضعيفٌ .

ما يعتبر في وجوب التمام على المسافر

الأمر الخامس: يعتبر في وجوب التمام على المسافر اُمور:

1 - صدق كون السّفر عملاً له.

2 - البناء على المزاولة مرّةً بعد اُخرى ، لأنّه مضافاً إلى دخل ذلك في عمليّة السّفر، يشهد لاعتباره التقييد ب (الاختلاف) في النصوص.

3 - عدم الإقامة عشرة أيّام في أثناء سفره، وإلّا فلا يتمّ في السّفر الأوّل، كما ستعرف.

ص: 339


1- الكافي: ج 3/437 ح 2، وسائل الشيعة: ج 8/485 ح 11236.
2- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 3/595 (ط. ق).
3- العروة الوثقى (ط. ق): ج 2/132.

أقول: ولا يعتبر شيءٌ زائداً على هذه المذكورات، وعليه فلا فرق بين من اتّخذ السّفر حرفةً له في تمام السنة، وبين اتّخاذه حرفةً في بعضها، كمن كان عمله الإكراء في الشتاء خاصّة، وعليه فما عن «الجواهر»(1) من احتمال وجوب القصر في الثاني، لأنّ المتيقّن الاُولى ، فيبقى غيره على أدلّة القصر، غير تامٍّ ، إذ بعد إطلاق الدليل لا وجه للاقتصار على المتيقّن.

ويشيرُ إلى ما اخترناه، ما ورد من لزوم التمام على الجابي والأشتقان، بناءً على أنّه أمين البيدر، فإنّ أسفارهما إنّما تكون في أوقات معيّنة ومخصوصة من السنة لا في طولها.

فرع: هل يجب القصر على الحملداريّة، الذين يقومون بالسفر في خصوص أشهر الحجّ ، كما عن «الجواهر»(2)، وفي «العروة»(3) وغيرهما؟

أم يجب عليهم التمام ؟ وجهان:

استدلّ للأوّل:

1 - بعدم صدق عمليّة السّفر المبنيّ صدقها على المزاولة مرّةً بعد اُخرى على نحوٍ لا يكون له فترة طويلة غير معتادة لمن يزاول تلك الحرفة أو الصنعة.

2 - وبصحيح هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام: «المُكاري والجمّال الذي يختلف وليس له مقامٌ يُتمّ الصَّلاة. الحديث»(4).

فإنّه ظاهرٌ في خروج الجَمّال الذي ليس له إلّاسفرٌ واحد في طول السنة عن3.

ص: 340


1- جواهر الكلام: ج 14/274.
2- نسبه إلى الجواهر وغيره صاحب مستمسك العروة الوثقى: ج 8/75.
3- العروة الوثقى (ط. ق): ج 2/132.
4- الكافي: ج 4/128 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/484 ح 11233.

موضوع النصوص.

3 - وبمكاتبة محمّد بن جزك، إلى أبي الحسن عليه السلام:

«إنّ لي جِمالاً ولي قوّامٌ عليها، ولستُ أخرج فيها إلّافي طريق مكّة، لرغبتي في الحجّ أو في الندرة إلى بعض المواضع، فما يجبُ عليَّ إذا أنا خرجتُ معهم أن أعملَ ، أيجبُ عَليّ التقصير في الصَّلاة والصيام في السّفر أو التمام ؟

فوقّع عليه السلام: إذا كنتَ لا تلزمها، ولا تخرج معها في كلّ سفرٍ إلّاإلى مكّة، فعليك تقصيرٌ وإفطار»(1).

أقول: وفي الكلّ نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه وإنْ اعتُبر في صدق عمليّة السّفر، المزاولة مرّةً بعد اُخرى ، ولكن لا يعتبر هذا الأمر أن تكون في سنةٍ واحدة، فمن شُغله ذلك في السنوات العديدة، سيّما من هو بعيد عن مكّة، حيث يستغرق سفره عدّة أشهر من السنة، يصدق عليه هذا العنوان.

وأمّا الثاني: فلما سيأتي في الأمر الآتي.

وأمّا الثالث: فلأنّ مورده مَنْ ليس شُغله السَّفر، وهذا غير الحملداريّة كما لايخفى ، فالحملداريّة يتمّون صلاتهم في السّفر إذا لم يكن سفرهم ذلك بعد إقامة عشرة أيّام، كما هو الغالب فيهم، وإلّا فيقصّرون.

إقامة عشرة أيّام قاطعة لعمليّة السّفر

الأمر السادس: يعتبر في استمرار من شُغله التمام أن لا يُقيم في بلده أو غيره عشرة أيّام، والظاهر أنّ إلى هذا نظر المصنّف رحمه الله في قوله:

ص: 341


1- الكافي: ج 3/438 ح 11، وسائل الشيعة: ج 8/489 ح 11248.

والضابط: من لا يُقيم في بلده عشرة أيّام، ولو أقام أحدٌ هؤلاء في بلده أو بلد غيره عشرة أيّام، قصّر إذا خرج.

(والضابط مَنْ لا يقيم في بلده عشرة أيّام ولو أقام أحد هؤلاء) أي الأفراد الذين عملهم السّفر (في بلده أو بلد غيره عشرة أيّام قصّر إذا خرج) بلا خلافٍ فيه في الجملة(1).

وعن «المدارك» هذا الشرط مقطوعٌ به في كلمات الأصحاب(2)، ويشهد له مرسل يونس بن عبد الرحمن، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن حَدّ المُكاري الذي يصوم ويُتمّ؟ قال عليه السلام: أيّما مكارٍ أقام في منزله أو في البلد الذي يَدخله أقلّ من عشرة أيّام، وَجَب عليه الصيام والتمام أبداً، وإنْ كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشره أيّام فعليه التقصير والإفطار»(3).

أقول: وأورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّه ضعيفُ السَّند للإرسال.

وفيه أوّلاً: أنّ المُرسِل يونس، وهو على ما قيل من أصحاب الإجماع(4).

وثانياً: أنّ الشيخ رحمه الله(5) روى هذا الخبر عن كتاب «نوادر الحكمة» ولم يستثن9.

ص: 342


1- مستند الشيعة: ج 8/279 و 280: (على المعروف من مذهب الأصحاب، بل هو مقطوع به).
2- مدارك الأحكام: ج 4/452 (ظاهر الأصحاب الاتّفاق على أنّ إقامة العشرة أيّام في البلد قاطعة لكثرة السّفروموجبة للقصر).
3- التهذيب: ج 4/219 ح 14، وسائل الشيعة: ج 8/488 ح 11245.
4- مصباح الفقيه: ج 1/266 ق 1، مستمسك العروة الوثقى: ج 1/55.
5- تهذيب الأحكام: ج 4/219.

القمّيون من رواياته مثله، فهذا يدلّ على اعتمادهم عليه.

وثالثاً: إنّ الأصحاب اعتمدوا عليه واستندوا إليه وعَملوا به، فلو كان هناك ضعفٌ فهو منجبرٌ بالعمل.

وبذلك يظهر دفع الإشكال الثاني - وهو ضعف سنده بإسماعيل بن مرار - مضافاً إلى أنّه محلّ وثوق.

الثالث: أنّ ظاهره عدم اعتبار النيّة في الإقامة في غير بلده، وهو مخالفٌ للمشهور.

وفيه: أنّه لو سُلّم ذلك، فإنْ كان لفتوى المشهور باعتبارها دليلٌ ، فهو المقيّد لإطلاقه،، وإلّا فلا، وسيأتي الكلام في ذلك.

الرابع: أنّه يدلّ على اعتبار أكثر من عشرة أيّام، وهو ينافي المُدّعى.

وفيه: أنّ الظاهر منه بقرينة قوله: (أقلّ من عشرة أيّام) إرادة العشرة أو أكثر، نظير قوله تعالى: (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ ) (1) وهذا التعبير شائعٌ في الآثار والأخبار.

أقول: وقد استدلّ له بروايتين اُخريين:

الخبر الأوّل: صحيح هشام بن الحكم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «المُكاري والجمّال الذي يختلف، وليس له مقام، يُتمّ الصَّلاة ويصوم شهر رمضان»(2).

بتقريب: أنّه يدلّ على أنّ من له المقام لا يُتمّ الصَّلاة، والظاهر من المقام الذي3.

ص: 343


1- سورة النساء: الآية 11.
2- الكافي: ج 4/128 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/484 ح 11233.

هو ضدّ السّفر، هو مايوجب التمام من حيث كونه ضدّ السّفر، وهو في غير البلد إنّما يكون بإقامة عشرة أيّام، وفي البلد وإنْ كان مطلقاً، إلّاأنّه يُراد به في المقام إقامة العشرة:

إمّا لأنّها المتبادرة منه عند الإطلاق في النص والفتوى .

أو للإجماع على عدم التقصير بإقامة ما دونها.

أو لأنّ البناء على إطلاقه يوجبُ التقصير لكلّ مكارٍ غالباً، لتحقّق الإقامة في الجملة ولو بعض يوم، وذلك ممّا لا يمكن الالتزام به.

أو لأنّه يقيّد إطلاقه بما في خبر يونس المتقدّم بإقامة العشرة، فيكون المستفاد منه حينئذٍ أنّ إقامة العشرة قاطعةٌ لعمليّة السّفر.

وفيه: إنّه يُحتمل في الصحيح معنيان آخران:

الأوّل: أنّ المراد به ما ينافي مفهوم المكاري عرفاً، والشاهد على هذا الاحتمال عطفه على الاختلاف.

الثاني: أنّ المراد به أنّ المكاري والجمّال ليسا كسائر المسافرين يقصّران مع عدم إقامة العشرة، بل هما يُتمّان صلاتهما، وإنْ لم يُقيما عشرة أيّام.

وعلى هذين الاحتمالين فإنّ الخبر أجنبيٌ عن المقام.

الخبر الثاني: رواية عبد اللّه بن سنان الّتي رواها الشيخ بسندٍ غير صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام: «المُكاري إذا لم يستقرّ في منزله إلّاخمسة أيّام أو أقلّ ، قصّر في سفره بالنهار وأتمّ صلاة اللّيل، وعليه صيام شهر رمضان، فإنْ كان له مقامٌ في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيّام أو أكثر قصّر في سفره وأفطر»(1).9.

ص: 344


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/439 ح 1277، وسائل الشيعة: ج 8/489 ح 11249.

وقد رواه الشيخ الصدوق في «الفقيه»(1) بسندٍ صحيح هكذا:

«فإنْ كان له مقامٌ في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيّام أو أكثر، وينصرف إلى منزله، ويكون له مقام عشرة أيّام أو أكثر قصّر في سفره وأفطر».

أقول: هذا الخبر - على رواية الشيخ - ذيله وإنْ كان يدلّ على المطلوب، إلّاأنّه لضعف سنده واشتمال صدره على ما لا يقول به الأصحاب - وهو التفصيل بين الصّلوات النهاريّة والليليّة - لا يُعتمد عليه.

وأمّا على رواية الصدوق، فمن حيثُ السّند لا كلام فيه، وأمّا من حيث الدلالة، فصدره غير معمول به لما تقدّم، وذيله لم يعمل به من جهة ظهوره في اشتراط الإقامة في البلد أيضاً في وجوب القصر، بحيث تكون الإقامة في البلد الذي يذهب إليه، وفي بلده بعد الانصراف إليه معاً دخيلتين في وجوب القصر، وهذا ممّا لم يلتزم به أحد، فلابدّ من ردّ علمها إلى قائلها صلوات اللّه عليه.

وعليه، فالعُمدة مرسل يونس المتقدّم.

بقي في المقام اُمور:
القاطع نفس الإقامة وإنْ لم تكن عن قصد

بقي في المقام اُمور:

الأمر الأوّل: هل القاطع نفس الإقامة الخارجيّة مطلقاً، وإنْ لم تكن عن قصد، كما عن «النافع»(2)، وظاهر من تقدّم عن الفاضلين، حيث نُسب إلحاق العشرة

ص: 345


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/439 ح 1277.
2- المختصر النافع: ص 51.

المنويّة بالعشرة البلدية إلى الفاضلين(1) ومن تأخّر عنهما، المُشعِر بعدم ذكر لها فيمن تقدّم عليهم ؟

أم تكون العبرة بتحقّق إقامة العشرة الموجبة لإتمام الصَّلاة معها، وهي إقامة العشرة في البلد مطلقاً، وفي غير البلد إذا كانت مع القصد أو بعد الثلاثين، كما هو المنسوب إلى المشهور(2)؟ وجهان.

يشهد للأوّل: إطلاق مرسل يونس المتقدّم.

واستدلّ للثاني بوجوه:

الوجه الأوّل: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله، وهو أنّ الإقامة لمّا كانت مصدر المزيد اُدخل في مفهومها القيام عن قصدٍ، وعليه فالمرسل يدلّ على أنّ القاطع هي الإقامة المنويّة مطلقاً، وإنْ كانت في البلد وإنّما تُلحق بها الإقامة غير المنويّة في البلد بالإجماع أو بتنقيح المناط.

وفيه: أنّ إقامة العشرة عن قصدٍ في قبال القيام لا عن اختيار، غير الإقامة عن علم بالقيام عشرة أيّام، والدليل المزبور لو تمّ فإنّما يدلّ على الأوّل، والمدّعى هو الثاني.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق اليزدي(3) وهو أنّ الكلام مسوقٌ لبيان الإقامة التي تكون مانعة لتحقّق وصف العمليّة، وتحديدها بعشرة أيّام، فيفهم بواسطة تلك6.

ص: 346


1- حكى النسبة في مستند الشيعة: ج 8/283، والظاهر أنّ الناسب المحقّق السبزواري، في الذخيرة ص 410، وصاحب الحدائق: ج 11/395.
2- كما في المهذّب البارع: ج 1/486، وحكاه النراقي في مستند الشيعة: ج 8/283.
3- كتاب الصَّلاة للحائري اليزدي: ص 616.

المناسبة أنّ الإقامة في تلك المدّة في غير منزله مشروطة بما إذا كان مثل وطنه، حتى تكون إقامته في تلك المدّة موجبة لتلبّسه بما يُنافي السّفر، إذ لا يمكن أن تكون الإقامة غير المخرجة عن كونه مسافراً، مانعة عن تحقّق الكثرة، فيعتبر فيها النيّة والقصد، وإلى ذلك يرجع ما عن الشهيد والمجلسي رحمهما الله.

وفيه: أنّ الظاهر منه كون الإقامة قاطعة لحكم عمليّة السّفر في السّفر بعد الإقامة لا للموضوع، وذلك لجعل المَقسم في الخبر المكاري، وعليه فلا يُعلم أنّ القاطع هي الإقامة مطلقاً، أو الإقامة المخرجة عن كونه مسافراً، فلابدَّ من اتّباع ظاهر الدليل، وقد عرفتَ أنّه يقتضي البناء على الأوّل.

الوجه الثالث: ما عن الشهيد الثاني في «الروض»(1)، والُمحدّث المجلسي(2) من الإجماع على عدم اعتبار العشرة المتردّد فيها في غير البلد.

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لم يُعلم مِنْ حال من تقدّم على الفاضلين الإفتاء بذلك، وهذا إجماعٌ منقول لا يُعتمد عليه - أنّه يمكن أن يكون مستند المُجمعين ما تقدّم ذكره، فلا يكون إجماعاً تعبّديّاً.

وبالجملة: فالأظهر كون المدار على إقامة العشرة مطلقاً.

عدم اختصاص الحكم بالمكاري

الأمر الثاني: أنّه في المرسل وإنْ ذُكر المكاري خاصّة، إلّاأنّ الظاهر - كما هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة - عدم اختصاص الحكم به، وثبوته في كلّ مَنْ شُغله السّفر من الأصناف المزبورة.

ص: 347


1- روض الجنان (ط. ق): ص 392.
2- السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 10/523 (ط. ج) حكاه عن الشهيد في الروض.

قال صاحب «الجواهر»(1) - بعد أن صرّح بعدم الاختصاص -: (بلا خلافٍ محقّق أجده فيه، وإنْ اختصّ النّص بالأوّل، لعموم معقد الإجماع، والقطع بعدم الفرق بعد إنْ كان المناط عمليّة السّفر المنقطع حكمها بإقامة العشرة، وهو حسن).

كثيرُ السّفر يُتمّ في السّفر الثاني بعد الإقامة

الأمر الثالث: إذا انقطع حكم من كان السّفر عمله بالإقامة، لا كلام في أنّه يقصّر في السّفر الأوّل. إنّما الكلام في السّفر الثاني، وفيه قولان:

1 - ذهب جماعةٌ منهم الحِلّي(2)، وسيّد «المدارك»(3)، وصاحب «الرياض»(4)، وصاحب «الجواهر»(5)، وفي «العروة»(6) وغيرها، إلى أنّه يُتمّ في الثاني.

2 - وعن الشهيدين(7) والمحقّق الثاني(8) وغيرهم، العود إلى التمام في السّفر الثالث.

أقول: استدلّ للثاني بوجوه:

منها: أنّه بالإقامة يخرج عن موضوع وجوب التمام، فبعد العود إلى السّفر، يكون كالمبتدئ بشغل السّفر، وحيث أنّ المعتبر في وجوب التمام على المبتدئ

ص: 348


1- جواهر الكلام: ج 14/283.
2- السرائر: ج 1/339.
3- مدارك الأحكام: ج 5/453.
4- رياض المسائل (ط. ق): ج 1/253.
5- جواهر الكلام: ج 14/281.
6- العروة الوثقى: ج 3/453.
7- روض الجنان: ص 389، الذكرى : ص 260.
8- رسائل الكركي: ج 3/253.

التكرّر، فيجب أن يتكرّر منه السّفر ثانياً حتّى يصبح موضوعاً لوجوب التمام.

وغاية ماقيل في وجه خروجه بالإقامة عن موضوع وجوب التمام، أنّ الظاهر من مرسل يونس، كون السؤال عن حَدّ الموضوع، فقوله عليه السلام في مقام الجواب: (أيّما مكارٍ أقام في منزله... إلى آخره)، ظاهرٌ في أنّ الموضوع لوجب الإتمام مقيّدٌ بعدم الإقامة في أثناء السّفر فيها، وبها يخرج عن الموضوع.

وفيه: أنّه لا كلام في أنّ موضوع وجوب التمام مقيّدٌ بعدم الإقامة، سواءٌ أكان عدم الإقامة في ظاهر الدليل مأخوذاً جزءً للموضوع أو شرطاً للحكم، لأنّ قيود الحكم في القضايا الحقيقيّة ترجعُ إلى الموضوع لا محالة، وإنّما الكلام في أنّه هل يخرج بالإقامة عن كونه ممّن شُغله السّفر أم لا؟ فإنّ المرسل لا يدلّ على ذلك، إذ السؤال إنّما يكون عن حَدّ المُكاري الذي يُتمّ ويصوم، لا عن حَدّ المُكاري مطلقاً، بل جوابه عليه السلام المفروض فيه صدق المكاري على المقيم وغيره، يدلّ على عدم خروجه بالإقامة عن هذا العنوان.

مع أنّه لو فرض إجماله من هذه الجهة، يكفي في الحكم بوجوب التمام، إطلاق ما دلَّ على وجوب التمام على من عمله السّفر الشامل له، فإنّه إذا كان المخصّص مُجملاً، لابدَّ من الرجوع إلى إطلاق العام في غير مورد المتيقّن، مضافاً إلى ما عرفت من عدم اعتبار التكرّر في المبتدئ.

ومنها: صحيح هشام المتقدّم، حيث أنّه يتضمّن لاعتبار الاختلاف مع عدم المقام، ولا يصدق ذلك إلّافي السّفر الثالث.

وفيه: ما عرفت من أنّه أجنبيٌ عن المقام، مع أنّه قد مرّ أنّ الاختلاف ليس

ص: 349

هو تكرّر السّفر، بل هو عبارة عن الحِرفة المأخوذة في مفهوم المُكاري والجمّال وغيرهما من العناوين.

ومنها: استصحاب القصر الثابت في حقّه بعد الإقامة الحاكم على استصحاب التمام الثابت له حال كونه في منزله أو ما هو في حكمه.

وفيه: إنّه لايجري لتبدّل الموضوع، فإنّ المتيقّن هو القصر في السّفر الأوّل، والمشكوك فيه القصر في السّفر.

مضافاً إلى ما أشرنا إليه في هذا الشرح مراراً من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة.

فتحصّل: أنّ الأظهر وجوب التمام في السّفر الثاني بعد الإقامة، والدليل عليه المرسل بالتقريب المتقدّم.

أقول: ويمكن أنْ يذكر وجهٌ آخر لدلالته عليه، وهو:

أنّه إنّما يدلّ على وجوب القصر على من سافر عن الإقامة المذكورة، والتمام على من سافر لا عنها، وإطلاق ما دلَّ على وجوب التمام على من شغله السّفر.

***

ص: 350

الخامس: أنْ يتوارى عنه جُدران بلده، أو يخفى أذان مِصره، فلا يترخّص قبل ذلك.

اعتبار الوصول إلى حَدّ الترخّص
اشارة

الشَّرط السادس: - وهو (الخامس) في الكتاب - الوصول إلى حَدّ الترخّص ب (أن) يصل إلى مكانٍ (يتوارى عنه جُدران بلده أو يخفى أذان مِصره، فلا يترخّص قبل ذلك) بلا خلافٍ معتدٍّ به فيه في الجملة(1).

ويشهد له: جملةٌ من النصوص:

1 - صحيح محمّد بن مسلم، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجلٌ يريد السّفر متى يقصّر؟ قال عليه السلام إذا توارى من البيوت»(2).

2 - وصحيح ابن سنان، عنه عليه السلام: «عن التقصير؟ قال عليه السلام: إذا كنتَ في الموضع الذي تسمعُ فيه الأذان فأتمّ ، وإذا كنتَ في الموضع الذي لا تسمعُ فيه الأذان فيه فقصّر، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك»(3).

ونحوهما غيرهما(4) من النصوص المعتبرة.

وعن عليّ بن بابويه(5): أنّه يُقصّر بمجرّد الخروج عن المنزل، واستدلّ له:

ص: 351


1- رياض المسائل (ط. ق): ج 1/254.
2- الكافي: ج 3/434 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/470 ح 11194.
3- الاستبصار: ج 1/242 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/472 ح 11196.
4- وسائل الشيعة: ج 8/470 باب اشتراط وجوب القصر بخفاء الجدران والأذان خروجاً وعوداً.
5- فقه الرّضا: ص 162.

1 - بمرسل ابنه، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا خرجتَ من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه»(1).

2 - وخبر عليّ بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام: «في الرّجل يُسافر في شهر رمضان ؟ قال عليه السلام: إذا حَدّث نفسه في اللّيل بالسّفر أفطر إذا خرج من منزله»(2).

وفيهما: الخبرين لشذوذهما وعدم عمل الأصحاب بهما - حتّى ابن بابويه لعدم صحّة النسبة كما قيل - يُطرحان إنْ لم يمكن تقييد إطلاقهما بالنصوص المتقدّم، وإلّا فالأمر واضح.

وتنقيح البحث في اُمور:
اشارة

أقول: وتنقيح البحث في المقام يقتضي التكلّم في اُمور:

ما العبرة في حَدّ الترخّص

الأمر الأوّل: أنّ العبرة في حَدّ الترخّص:

1 - هل هو بتواري الجدران وخفاء الأذان معاً، كما هو الظاهر من المشهور بين القدماء(3).

2 - أم يكتفي بأحد الأمرين، كما عن المشهور بين المتأخّرين(4).

3 - أم يتعيّن الأوّل، كما عن الصدوق في «المُقنع»(5).

4 - أم يتعيّن الثاني، كما عن المفيد(6)؟ وجوه.

أقول: يقع البحث في المقام:

ص: 352


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/436 ح 1267، وسائل الشيعة: ج 8/475 ح 11208.
2- التهذيب: ج 4/228 ح 44، وسائل الشيعة: ج 10/187 ح 13182.
3- الحدائق: ج 11/405 (وهو المشهور بين الأصحاب سيّما المتقدّمين إلّاأنّهم عبّروا هنا بخفاء جدران البلد بمعنى أنّه لا يجب عليه التقصير حتّى يتوارى عنه جدران البلد الذي خرج منه أو يخفى عنه أذانها).
4- ذخيرة المعاد (ط. ق): ج 1/411 ق 2.
5- المقنع: ص 125.
6- نقله عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 3/110.

تارةً : على القول بشرطيّة خفاء الأذان وتواري البيوت من حيث هما، كما هو مقتضى الجمود على ظواهر النصوص.

واُخرى : يقع الكلام على القول بأنّ الشرط هو البُعد الخاص، ولوحظ خفاء الأذان وتواري البيوت معرّفين له، وأمارتين لذلك الحَدّ من البُعد.

أمّا على الأوّل: فحيثُ أنّ النصوص على قسمين:

قسمٌ تضمّن أنّ العبرة بخفاء الأذان، ومفهومه أنّه مع عدم الخفاء يُتمّ .

وقسمٌ تضمّن أنّ العبرة بتواري البيوت، ومفهومه أنّه يُتمّ مع عدم تواري البيوت، وذلك بناءً على ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم كما هو الحقّ ، فلا محالة يقع التنافي بين النصوص، وفي رفع التنافي في أمثال المقام ذكروا وجوهاً:

1 - رفع اليد عن المفهوم فيهما، ونتيجته الاكتفاء بأحد الأمرين.

2 - أنْ يُقيّد إطلاق مفهوم كلٍّ منهما بمنطوق الآخر.

3 - أنْ يقيّد إطلاق كلٍّ من الشرطين المذكورين في القضيّتين بإثبات العدل له، فيكون وجود أحدهما كافياً في ثبوت الجزاء.

4 - أنْ يُقيّد إطلاق كلّ من الشرطين بانضمامه إلى الشرط الآخر، فيكون الشرط مجموع الأمرين، أي خفاء الأذان وخفاء الجدران، فإذا خَفيا وجَبَ القصر وإلّا فلا وإنْ خفي أحدهما.

5 - أنْ يكون الشرط هو الجامع بين الأمرين، فكلّ واحدٍ من الشرطين المذكورين في القضيّتين محقّق له.

6 - رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحدهما، وإبقاء الآخر على مفهومه.

أمّا الوجه الأوّل: فقد استدلّ له بأنّ ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة تابعٌ لثبوت

ص: 353

الخصوصيّة المستتبعة له، وهي إفادة الكلام للحصر، وحيث أنّ الفهوم بنفسه ليس مدلولاً للكلام حتّى يتصرف فيه، بل لابدّ من التصرّف في المنطوق بدلالته على تلك الخصوصيّة، فلا محالة يقع التعارض بين دلالة كلّ منطوقٍ على الثبوت عند الثبوت، ودلالة الآخر على الحصر، وبما أنّ دلالة المنطوقين على الثبوت عند الثبوت أقوى من دلالتهما على تلك الخصوصيّة، فتسقط دلالة كلٍّ منهما على تلك الخصوصيّة، فلا يثبت المفهوم لهما.

لا يُقال: إنّه يرفع اليد عن دلالتهما على تلك الخصوصيّة في بعض المدلول لا في جميعه.

فإنّه يُقال: إنّ تلك الخصوصيّة بسيطة، فإمّا أن تؤخذ في المنطوق أوّلاً، فالتبعيض بأخذها فيه في الجملة ممّا لا يُعقل.

وفيه: التقييد إنْ كان مستلزماً للتصرّف في الاستعمال أصبح هذا الوجه متعيّناً، ولكن بما أنّ التقييد لايستلزم التصرّف فيه، بل يوجبُ التصرّف في المراد الجدّي، مثلاً لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم زيداً) يكون المستعمل فيه في الأوّل الجميع لا العلماء غير زيد، والخاص إنّما يوجبُ التصرّف في المراد الجدّي، وبسببه يُحكم بعدم إرادة تمام المدلول في العام بالإرادة الجديّة.

وفي المقام كلٍّ من المنطوقين استعمل فيما وضع له، ويدلّ على الثبوت عند الثبوت مع الحصر، إلّاأنّه لابدّ من التصرّف في مدلوله الثاني، والالتزام بعدم كونه بتمامه مراداً جدّياً، والتبعيض في ذلك المقام بالالتزام بإرادة الحصر بالنسبة إلى غير هذا الفرد ممّا لا محذور فيه، فتدبّر فإنّه دقيق.

وأمّا الوجه الثاني: فيدفعه أنّ المفهوم من المداليل الالتزاميّة، والدلالة عليه

ص: 354

دلالة عقليّة، والتخصيص في الدلالة العقليّة غير معقول، إذ الحكم العقلي غير قابل لذلك.

وأمّا الوجه الخامس: فقد استدلّ له المحقّق الخراساني رحمه الله(1) بأنّ الاُمور المتعدّدة بما هي مختلفة، لا يمكن أن يكون كلّ منها مؤثّراً في الواحد، للزوم الربط الخاص بين العلّة والمعلول، ولا يكاد يكون الواحد بما هو واحدٌ مرتبطاً بالإثنين بما هما اثنان، فلابدّ من المصير الي أنّ الشرط في الحقيقة واحد وهو المشترك بين الشرطين.

وفيه: أنّه في باب الأحكام الشرعيّة ليس تأثيرٌ وتأثرٌ وعليّةٌ حتّى يجري ذلك، مع أنّه لو التزمنا بالوجه الثالث، وهو كون المجموع شرطاً لا مجال لهذا الوجه.

وأمّا الوجه السادس: فيرد عليه أنّ به لايرتفع التنافي، إذ هو إنّما يكون بين مفهوم كلّ منهما مع منطوق الآخر، لأنّ مفهوم كلّ منهما انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط المأخوذ فيه، وهذا ينافي ثبوته عند ثبوت الشرط الآخر، وعليه فلو رفع اليد عن الفهوم في أحدهما يبقى التنافي بين مفهوم الآخر ومنطوق هذا.

وعليه، فيدور الأمر بين الوجه الثالث - وهو تقييد إطلاق كلٍّ من الشرطين بإثبات العِدْل له - وبين الوجه الرابع وهو تقييد إطلاق كلٍّ منهما بانضمامه إلى الشرط الآخر.

وبعبارة اُخرى : يدور الأمر بين تقييد الإطلاق المقابل للعطف بكلمة (أو)، وبين تقييد الإطلاق المقابل للعطف بكلمة (وأو).

أقول: والأظهر هو الأوّل، والوجه فيه يبتني على بيان مقدّمة تنفع في كثير من1.

ص: 355


1- كفاية الاُصول: ص 201.

المقامات، وهي:

أنّ الميزان الكلّي الذي يُعمل به في موارد المعارضة، هو أنّه إذا كان للمتعارضين ظهورات عديدة، لابدَّ من ملاحظة أنّ أيّاً منها طرفٌ للمعارضة، ثمّ العلاج برفع اليد عنه أو عن طرفه، وأمّا رفع اليد عن الظهور الآخر الذي ليس طرفاً للمعارضة، فمّما لا وجه له وإنْ ارتفعت المعارضة به، مثلاً إذا ورد: (أكرم العلماء) ثمّ ورد: (لا يجبُ إكرام زيدٍ العالم) فحيثُ أنّ طرف المعارضة هو ظهور الأوّل في العموم، فالمتعيّن هو رفع اليد عنه خاصّة، وإنْ ترتفع المعارضة برفع اليد عن ظهوره في الوجوب، وحمله على إرادة الاستحباب.

إذا عرفت هذه المقدّمة، فاعلم أنّه في المقام بما أنّ التعارض إنّما يكون بين مفهوم كلٍّ من القضيّتين، وبين منطوق الاُخرى ، وكلّ من المنطوقين أخصّ من مفهوم الاُخرى ، فيتعيّن تقييده، ولكن حيث أنّه لا يُعقل التصرّف في المفهوم نفسه لما تقدّم، فلابدّ من رفع اليد عن ملزوم المفهوم، بمقدارٍ يرتفع به التعارض، إذ الضرورات تتقدّر بقدرها، وهو إنّما يكون بتقييد إطلاق المنطوق المقابل للتقييد، بكلمة (أو)، وأمّا رفع اليد عن إطلاق المنطوق المقابل للعطف بكلمة (وأو)، وهو وإنْ كان يرتفع به التعارض، إلّاأنّه لا موجب لهذا التصرّف.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ التعارض إنّما يكون بين دلالة كلٍّ من القضيّتين على الثبوت عند الثبوت، وبين إطلاق دلالة الاُخرى على الحصر بالنسبة إلى جميع الاُمور، فلابدّ من تقييد إطلاق دلالة كلٍّ منهما على الحصر بدلالة الاُخرى على الثبوت عند الثبوت، فتكون النتيجة أنّ الشرط هو أحد الأمرين، وهذا معنى تقييد الإطلاق المقابل للعطف بكلمة (أو)، والتعارض وإنْ كان يرتفع بجعل المجموع شرطاً واحداً،

ص: 356

وتقييد الإطلاق المقابل للعطف بكلمة (واو)، إلّاأنّه لعدم كونه طرفاً للمعارضة، لا وجه لرفع التعارض به.

فتحصّل: أنّ اللّازم على هذا القول، هو الاكتفاء بأحدهما في ثبوت وجوب القصر، ولكن ستعرف تطابق الأمرين دائماً.

وأمّا على الثاني: فحقّ القول فيه يتوقّف على بيان اُمور:

الأمر الأوّل: أنّه في نصوص الباب جعل الميزان تواري الشخص وخفائه عن البيوت، والأصحاب إنّما عبّروا عنه بتواري البيوت، ومن الواضح الفرق بينهما، فإنّ الشخص لصغر جثّته يكون أسرع خفاءً من البيوت.

ووجه تعبيرهم بذلك - على ما في بعض كلماتهم -: أنّ الأوّل يحتاج إلى تقدير الإبصار للبيوت، مع أنّه لا يناسب جعله حينئذٍ أمارة للمسافر يعمل على طبقها.

ولكن الحق إبقاء النصوص على ماهي عليه من الظهور، والمراد بها تواري الشخص عن أهل البيوت، الملازم لتواري أهلها عنه.

الأمر الثاني: إنّ سماع الأذان له مراتب: الاُولى منها سماع الأذان بحيث يتميّز فصوله وحروفه، والأخيرة سماع الهمهمة، وما بينها مراتب.

والظاهر أنّ المراد به هو سماعه بحيث يمتاز الصوت الأذاني عن غيره، لأنّه المنساق إلى الذهن منه، فلا يعتبر تمييز فصوله، فضلاً عن حروفه، ولا يكفي سماع صوت مابحيث لا يمتاز أذانيّته، لأنّ المتبادر إلى الذهن منه سماع الأذان بما هو أذان.

أمّا تواري الشخص، فله أيضاً مراتب، لا أنّ الظاهر منه تواري أهل البيوت عن الشخص بما هم أهل، فلا يعتبر تواري الشخص بما هو جسم، ولا يكفي تواريه بحيث لايمتاز الرّجل عن المرأة.

ص: 357

الأمر الثالث: إنّ هاتين الأمارتين في المقام، ليستا بحيث تتطابقا تارةً وتختلفان اُخرى ، بل لو كانت مسافة إحداهما أنقص من الاُخرى ، فهي كذلك أبداً، ولو كانتا متطابقتين فكذلك.

الأمر الرابع: أنّ المدار على عين الرائي واُذُن السامع المتوسّط في الرؤية والسّماع، لأنّه المعتاد المنصرف إليه التقدير.

الأمر الخامس: أنّ المعتبر في الأذان كونه على مرتفعٍ معتاد في أذان ذلك البلد، فإنّ التقدير إذا كان بأمرٍ مختلف الأفراد، يكون مقتضى إطلاقه تعيّن المعتاد.

الأمر السادس: يعتبر كون الأذان في آخر البلد من ناحية المسافر، إذ ليس للأذان محلٌّ معيّن كي ينصرف الإطلاق إليه، وعليه فالمعتبر ما ذكرناه.

أقول: إذا عرفت هذه الاُمور، تعرف أنّه لا اختلاف بين الأمارتين، بل هما متطابقتان دائماً، وإنّما جُعلتا معاً تسهيلاً للمكلّف، فلا وجه لملاحظة المعارضة بينهما، وأنّه هل يعتبر اجتماعهما أم يكفي وجود إحداهما، فلو تحقّقت إحداهما كفت في الحكم بالقصر، وإنْ لم يُحرز الاُخرى .

فتحصّل: أنّ الأظهر الاكتفاء بأحد الأمرين على المسلكين.

حكم القصر ينقطع بالرّجوع إلى حَدّ الترخّص

الأمر الثاني: المشهور بين الأصحاب(1) شُهرة عظيمة، أنّه عند العود عن السّفر ينقطع حكم السّفر بالوصول إلى حَدّ الترخّص.

ص: 358


1- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/391: (الشهرة بين الأصحاب)، الذكرى ص 260: (هو المشهور بل كاد أن يكون إجماعاً).

وعن علي بن بابويه(1)، والسيّد المرتضى(2)، وأبي عليّ (3): أنّه يُقصّر في العود ما لم يدخل منزله، واعتبره صاحب «الحدائق» هو الأظهر(4).

وعن «المدارك»(5)، و «الذخيرة»(6): التخيير بين القصر والتمام بعد الوصول إلى حَدّ الترخّص، قبل دخول منزله، وقال المحقّق الأردبيلي(7): إنّه حسن لو وجد القائل به.

أقول: وأمّا النصوص الواردة في المقام، فهي على طائفتين:

الطائفة الاُولى : ما يدلّ على القول الأوّل:

1 - صحيح ابن سنان المتقدّم: «إذا كنتَ في الموضع الذي تَسمع فيه الأذان فأتمّ ، وإذا كنتَ في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك».

2 - وصحيح حمّاد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا سمع الأذان أتمَّ المسافر»(8).

الطائفة الثانية: ما يدلّ على القول الثاني:

1 - صحيح العيص، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا يزال المسافر مقصّراً حتّى يدخل بيته»(9).7.

ص: 359


1- فقه الرِّضا: ص 162.
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/391.
3- نسبه إليه في المهذّب البارع: ج 1/486.
4- الحدائق الناضرة: ج 11/378.
5- مدارك الأحكام: ج 4/459.
6- ذخيرة المعاد: ج 2/411.
7- مجمع الفائدة: ج 3/401 قوله: (لو وجد القائل بالجواز والاستحباب فهو حسن).
8- وسائل الشيعة: ج 8/473 ح 11200.
9- التهذيب: ج 3/222 ح 65، وسائل الشيعة: ج 8/475 ح 11207.

2 - وموثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «عن الرّجل يكون مسافراً ثمّ يدخل ويُقدم، ويدخل بيوت الكوفة، أيتمّ الصَّلاة، أم يكون مقصّراً حتّى يدخل أهله ؟

قال عليه السلام: بل يكون مقصّراً حتّى يدخل أهله»(1).

ونحوهما غيرهما(2).

أقول: وقد ذكروا في وجه الجمع بينهما أمرين:

الأوّل: أنّ الجمع يقتضي البناء على التخيير(3).

وفيه: إنّ هذا ليس جمعاً عرفيّاً.

الثاني: ما عن الشيخ رحمه الله(4) من توجيه الثانية بنحوٍ لا تُنافي الاُولى ، بأنْ يكون المراد من الوصول إلى البيت، الوصول إلى محلّ الترخّص.

وفيه: إنّ موثّق إسحاق غير قابل لهذا الحمل، فالأولى أن يُقال إنّ الطائفة الثانية لا يمكن الاعتماد عليها لإعراض الأصحاب عنها.

لا يُقال: إنّ جماعة أفتوا على طبقها.

فإنّه يُقال: إنّ أكثرهم من المتأخّرين(5)، والعبرة في الوهن والجبر بإعراض القدماء وعملهم، فالمعتمد هي الطائفة الاُولى .

وعليه، فالأظهر أنّ عليه الإتمام إذا وصل إلى حَدّ الترخّص.).

ص: 360


1- الكافي: ج 3/434 ح 5، وسائل الشيعة: ج 8/474 ح 11206.
2- وسائل الشيعة: ج 8/474 باب حكم المسافر إذا دخل بلده ولم يدخل منزله.
3- ذخيرة المعاد: ج 2/411.
4- الاستبصار: ج 1/242.
5- جواهر الكلام: ج 14/302 قوله: (ما مال إليه بعض متأخّري المتأخّرين من التخيير لمن بلغ إلى محلّ الترخّص في إيابه بيت القصر والإتمام عملاً بالدليلين، بل هو أضعف من الأوّل بوجوه، بل يمكن دعوى الإجماع المركّب على خلافه).
عدم اختصاص اعتبار حَدّ الترخّص بالوطن

الأمر الثالث: في اعتبار الوصول إلى حَدّ الترخّص بالنسبة إلى محلّ الإقامة المنويّة، والمحلّ الذي بقي فيه متردّداً ثلاثين يوماً دخولاً وخروجاً، وجوه وأقوال:

أقول: تنقيح القول بالتكلّم في موارد أربعة:

المورد الأوّل: في اعتباره بالنسبة إلى محلّ الإقامة خروجاً، والمنسوب إلى الأكثر أنّه يُتمّ ما لم يصل إلى ذلك الحَدّ، وهو الأظهر، لإطلاق صحيح ابن سنان المتقدّم آنفاً.

ودعوى:(1) انصرافه إلى خصوص الوطن، لا تسمع، لأنّه لا وجه له.

ودعوى: (2) أنّ إطلاق هذا الصحيح، لا يصلح أنْ يكون مخصِّصاً لعموم أدلّة وجوب القصر على المسافر، لأنّ ملاك تقديم الخاص على العام هو أظهريّته منه، فإذا كان ظهور العام في فردٍ أقوى من ظهور الخاص فيه، يقدّم العام، والمقام كذلك، فإنّ ظهور أدلّة القصر في وجوبه على المقيم الخارج للسفر، غير الواصل إلى حَدّ الترخّص، أقوى من ظهور دليل اعتبار حَدّ الترخّص، فلا محالة تقدّم تلك الأدلّة.

مندفعة: بأنّ إطلاق دليل المقيّد مقدّمٌ على إطلاق دليل المطلق مطلقاً.

وإنْ شئت قلتَ : إنّ دلالة الصحيح على اعتبار حَدّ الترخّص في الفردين - أي المتوطّن المُقيم - إنّما تكون على حَدٍّ سواء، فلا وجه للقول بتقديم الخاص على العام في أحدهما دون الآخر.

وبالجملة: لو سُلّم شمول أدلّة اعتبار حَدّ الترخّص للمقيم أيضاً، لا وجه لتقديم

ص: 361


1- كتاب الصَّلاة للحائري اليزدي: ص 624-625.
2- كتاب الصَّلاة للحائري اليزدي: ص 624-625.

أدلّة القصر عليها.

ويمكن أن يستدلّ له: - مضافاً إلى ذلك - بما دلّ على أنّ الإقامة قاطعة للسفر لا لحكمه، إذ عليه مقتضى عموم التنزيل مساواته لأهل البلد في جميع الأحكام، منها اعتبار حَدّ الترخّص في وجوب القصر.

المورد الثاني: في اعتباره بالنسبة إلى المتردّد ثلاثين يوماً خروجاً، والأظهر أيضاً اعتباره، لإطلاق الصحيح المتقدّم.

المورد الثالث: في اعتباره بالنسبة إلى محلّ الإقامة دخولاً.

وفيه إشكالٌ : ينشأ من إطلاق قوله عليه السلام في صحيح ابن سنان: (وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك)(1)، ومن دعوى اختصاصه بالمتوطّن، من جهة أنّ القدوم من السّفر لا يتحقّق إلّابالوصول إلى الوطن، أو بالدخول في محلّ الإقامة وقصدها، فما لم يدخل البلد، ولم يقصد الإقامة، يكون مسافراً لا قادماً من السّفر.

المورد الرابع: في اعتباره بالنسبة إلى المتردّد ثلاثين يوماً دخولاً، والأظهر عدم الاعتبار، لأنّه يجب القصر بعد مقامه في البلد، فضلاً عن أنّ عليه ذلك قبل وصوله.

هذا تمام الكلام في شرائط القصر.

***6.

ص: 362


1- الاستبصار: ج 1/242 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/472 ح 11196.

ومع حصول الشرائط يجبُ التقصير، إلّافي حَرم اللّه، وحَرم رسوله صلى الله عليه و آله، ومسجد الكوفة، والحائر على ساكنه السَّلام، فإنّه يتخيَّر

التخيير في الأماكن الأربعة

الفصل الثاني: في أحكام صلاة المسافر:

اشارة

فإنّ هنا أحكاماً تختصّ بها فضلاً عمّا سبق ذكره، (و) هي اُمور:

التخيير في الأماكن الأربعة
اشارة

الأمر الأوّل: أنّه (مع حصول الشرائط) الستّة (يجبُ التقصير) معيّناً كما عرفت، (إلّا) أن يكون المسافر (في) أحد المواطن الأربعة، وهي:

(حَرم اللّه) تعالى (وحرم رسوله صلى الله عليه و آله، ومسجد الكوفة، والحائر) الحُسيني (على ساكنه السَّلام) والتحيّة، (فإنّه يتخيّر) في هذه المواطن بين القصر والتمام، كما هو المشهور شهرة عظيمة(1).

وعن الصدوق(2) وجماعة من المتأخّرين، منهم صاحب «المصابيح»(3)تعيّن القصر.

وعن الشيخ المفيد(4) والسيّد المرتضى(5) 0 تعيّن التمام.

ص: 363


1- رياض المسائل (ط. ق): ج 1/255 قوله: (بلا خلاف يظهر إلّامن صريح الصدوق)، مدارك الأحكام: ج 4/466 (الأكثر)، جواهر الكلام: ج 14/329.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/442.
3- مصابيح الظلام: ج 2/193.
4- المقنعة: ص 363، باب الاعتكاف.
5- رسائل المرتضى: ج 3/47.

ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار، فإنّها على طوائف:

الطائفة الاُولى: ما تضمّن الأمر بالإتمام كصحيح ابن الحجّاج عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن التمام بمكّة والمدينة ؟ فقال عليه السلام: أتمّ وإنْ لم تُصلِّ فيهما إلّاصلاة واحدة»(1). ونحوه غيره(2).

الطائفة الثانية: ما تضمّن أنّ التمام في تلك المواطن من مخزون علم اللّه تعالى ، كصحيح حمّاد بن عيسى ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من مخزون علم اللّه الإتمام في أربعة مواطن»(3). ونحوه غيره(4).

الطائفة الثالثة: ما تضمّن الأمر بالقصر:

1 - صحيح ابن بزيع، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن الصَّلاة بمكّة والمدينة تقصير أو تمام ؟ فقال عليه السلام: قصر ما لم تعزم على مقام عشرة أيّام»(5).

2 - وصحيح معاوية بن وهب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن التقصير في الحرمين والتمام ؟ قال عليه السلام: لا تتمّ حتّى تجمع على مقام عشرة أيّام.

فقلت: إنّ أصحابنا رووا عنك أنّك أمرتهم بالتمام.

فقال: إنّ أصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلّون، ويأخذون نعالهم فيخرجون والنّاس يستقبلونهم يدخلون المسجد، فأمرتهم بالتمام»(6). ونحوهما غيرهما(7).ة.

ص: 364


1- التهذيب: ج 5/426 ح 127، وسائل الشيعة: ج 8/525 ح 11347.
2- الاستبصار: ج 2/334 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/524 ح 11343.
3- التهذيب: ج 5/430 ح 140، وسائل الشيعة: ج 8/524 ح 11343.
4- وسائل الشيعة: ج 8/524 باب: تخير المسافر في مكّة والمدينة والكوفة والحائر مع عدم نيّة الإقامة.
5- من لا يحضره الفقيه: ج 1/442 ح 1284، وسائل الشيعة: ج 8/533 ح 11374.
6- التهذيب: ج 5/428 ح 131، وسائل الشيعة: ج 8/534 ح 11376.
7- وسائل الشيعة: ج 8/525 باب: تخيّر المسافر في مكّة والمدينة والكوفة والحائر مع عدم نيّة الإقامة.

الطائفة الرابعة: ما دلَّ على التخيير بين القصر والتمام، وأفضليّة التمام:

1 - صحيح عليّ بن يقطين، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «عن التقصير بمكّة ؟ فقال عليه السلام:

أتمّ وليس بواجب إلّاأنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي»(1).

2 - وخبر عمران بن حمران: «قلت لأبي الحسن عليه السلام: أُقصّر في المسجد الحرام أو أتمّ؟ قال عليه السلام: إنْ قصّرت فلك، وإنْ أتممتَ فخير، وزيادة الخير خير»(2).

ونحوهما غيرهما.

أقول: ثمّ إنّ جملة من نصوص الباب وإنْ وردت في الحرمين أو في خصوص مكّة، إلّاأنّه لعدم القول بالفصل يكون الحكم في الجميع واحد.

أمّا الطائفه الاُولى : فهي غير قابلة للحمل على إرادة التمام بعد الإقامة، فيكون الأمر به أمراً بها لتضمّنها الأمر به (لو صَلّى صلاة واحدة) أو (مارّاً) أو (حين يدخل) إلى غير ذلك من الألفاظ التي تكون فيها، وتجعلها نصّاً في إرادة العموم، ولكن لا يستفاد منها أزيد من أفضليّة التمام، لورود الأمر فيها مورد توهم الحظر، وكذلك لا يستفاد من الثانية أزيد من أفضليّة التمام، فتنطبق مفادهما على الطائفة الرابعة.

ولو سُلّم ظهورهما في الوجوب، يرفع اليد عنه لصراحة الطائفة الرابعة في عدم الوجوب، ولأجلها يرفع اليد عن ظهور الأمر بالقصر في الطائفة الثالثة، ويُحمل على إرادة الجواز، أو على إرادة بيان الحكم للمخاطبين المبتلين بمخالطة3.

ص: 365


1- الكافي: ج 4/524 ح 3، وسائل الشيعة: ج 8/529 ح 11361.
2- التهذيب: ج 5/430 ح 139، وسائل الشيعة: ج 8/526 ح 11353.

المخالفين، الّذين لا يرون خصوصيّة لهذه الأماكن.

وبعبارة اُخرى : يكون الأمر بالقصر لأجل انطباق عنوان آخر عليه، وهو خوف الوقوع في خلاف التقيّة، كما يؤمئ إليه قوله عليه السلام في حسن ابن الحجّاج، عن أبي الحسن عليه السلام: «كنتُ أنا ومن مضى من آبائي إذا وردنا مكّة أتممنا الصَّلاة واستترنا من النّاس»(1).

ولو سُلّمت المعارضة بين النصوص الآمرة بالقصر، ونصوص التمام بنحوٍ لايمكن الجمع بينهما، تقدّم الثانية الموافقة للمشهور والمخالفة للعامّة.

ومن الغريب ما أفاده العلّامة الطباطبائي رحمه الله في محكي «مصابيحه»(2) بعد اختياره تعيّن القصر، من أنّ نصوص التمام موافقة للعامّة، وصادرة تقيّة، والقصر مذهب أكثر الفقهاء المتقدّمين.

واستدلّ لدعواه الاُولى : بصحيح معاوية المتقدّم، المتضمّن أنّ الأمر بالتمام كان لأجل حملهم على التقيّة.

واستدلّ لدعواه الثانية: بخبري عليّ بن مهزيار، وأيّوب بن نوح المتضمّن أوّلهما لإشارة فقهاء الأصحاب عليه بالتقصير، والمتضمّن ثانيهما أنّ صفوان وابن أبي عُمير وجميع الأصحاب كانوا يقصرون.

أقول: يرد على ما ذكره أوّلاً أنّ نصوص التمام كالصريحة في كونها على خلاف التقيّة، لاحظ الطائفة الثانية، وقوله عليه السلام في صحيح ابن الحجّاج المتقدّم(3): (كنتُ أناة.

ص: 366


1- التهذيب: ج 5/428 ح 132، وسائل الشيعة: ج 8/526 ح 11348.
2- مصابيح الظلام: ج 2/193.
3- تقدّم في الصفحة السابقة.

وآبائي إذا وردنا مكّة أتممنا الصّلاة، واستترنا من النّاس).

ويرد على خبر ابن مهزيار: أنّ ذيله صريحٌ في أفضليّة التمام، وعلى خبر أيّوب أنّه متضمّنٌ لكون عملهم على القصر لا مذهبهم، فالحقّ في المقام ما ذكرناه.

***

المراد من الأماكن الأربعة

ثمّ إنّه يقع الكلام في تحديد الأماكن الأربعة الّتي يُتخيّر فيها المسافر بين القصر والتمام.

أقول: أمّا الحرمان، أي حرم اللّه وحرم رسوله صلى الله عليه و آله، فعن المشهور(1) إرادة البلدين منهما أي مكّة والمدينة.

وعن الحِلّي:(2) اختصاص الحكم بالمسجدين.

وعن الشيخ: ثبوت الحكم(3) في المكانين المقدّسين، المحدود كلٌّ منهما بخمسة فراسخ.

ومنشأ الخلاف: اختلاف النصوص، فبعضها قد عبّر بالحرمين، وبعضها بمكّة والمدينة، وبعضها بالمسجدين، ومقتضى القاعدة في مقام الجمع بين المطلق والمقيّد المثبتين، والأخذ بالمطلق وحمل المقيّد على بيان أفضل الأفراد، إذا لم يكن المقيّد

ص: 367


1- ذخيرة المعاد: ج 2/413 (جواز الإتمام في مكّة والمدينة وإنْ وقعت خارج المسجدين، وهو المشهوربين الأصحاب).
2- السرائر: ج 1/342 (ويستحبّ الإتمام في أربعة مواطن في السّفر في نفس المسجد الحرام وفي نفس مسجد المدينة).
3- الذكرى: ص 257 نقل عن الشيخ نجيب الدِّين يحيى بن سعيد.

وارداً في مقام التحديد.

وعليه، ففي المقام بما أنّ الأخبار التي تتحدّث عن حكم المسجدين ليست في مقام التحديد، فلا مانع من الأخذ بإطلاق ما تضمّن البلدين. وأمّا ما تضمّن الحرمين، فمضافاً إلى ضعفه في نفسه، وإعراض الأصحاب عنه، لو سُلّم أعميّة الحرم من البلد، أنّه مجملٌ في نفسه، يُحمل على المبيّن وهو البلد، مع أنّه قد فسّر الحرمين بالبلدين، لاحظ صحيح علي بن مهزيار، فإنّه بعد حكمه عليه السلام بالإتمام في الحرمين، قال:

«فقلت: أيّ شيءٍ تعني بالحرمين ؟ فقال عليه السلام: مكّة والمدينة».

فتحصّل: أنّ الأظهر ما هو المشهور بين الأصحاب.

وأمّا الموضع الثالث: فمقتضى كثيرٍ من الروايات، اختصاص الحكم بمسجد الكوفة، ولكن عن جماعةٍ ، منهم المحقّق(1) في كتاب له في السّفر، ثبوت الحكم في الكوفة من غير اختصاص بالمسجد.

واستدلّ لهم بوجهين:

الوجه الأوّل: خبر زياد القندي، عن أبي الحسن عليه السلام: «أتمّ الصَّلاة في الحرمين وبالكوفة، وعند قبر الحسين»(2).

وفيه: إنّه ضعيف السند لمحمّد بن عمران المدائني، وزياد القندي، على تأمّل في الثاني.5.

ص: 368


1- راجع الحدائق الناضرة: ج 11/459.
2- التهذيب: ج 5/430 ح 141، وسائل الشيعة: ج 8/527 ح 11355.

الوجه الثاني: إنّ بعض النصوص تضمّن التعبير بحرم أمير المؤمنين عليه السلام كمصحّح حمّاد بن عيسى ، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من مخزون علم اللّه الإتمام في أربعة مواطن: حرم اللّه، وحرم رسوله صلى الله عليه و آله، وحرم أمير المؤمنين عليه السلام، وحرم الحُسين ابن عليّ عليه السلام»(1).

ونحوه مرسل المصباح، وقد دلّت جملة من النصوص على أنّ الكوفة هي حرم أمير المؤمنين عليه السلام(2).

وفيه: إنّ هذه النصوص إنّما تضمّنت تطبيق حَرَمه على الكوفة لا تفسيره بها، وفي بعض النصوص جعل مكّة حرمه عليه السلام، وأيضاً ومن مصاديق الحرم البقعة المباركة الواقعة فيها ضريحه الطاهر، وحيث أنّ الحرم بما له من المعنى العام لم يؤخذ في موضوع الحكم قطعاً، وإنّما الموضوع فردٌ منه ولا معيّن له، فلابدّ من الاقتصار على المتيقّن أو الرجوع إلى سائر النصوص المبيّنة المتضمّنة للمسجد.

ودعوى: عدم القول بالفصل بين كون المدار في الأولين على البلدين، وبين كونه المدار في المقام، كما ترى .

وعليه، فالأقوى الاقتصار على خصوص المسجد.

وأمّا الرابع: فالروايات المتعرّضة للحكم فيه مختلفة من حيث التعبير، ففي بعضها عبر ب (حرم الحُسين عليه السلام)(3)، وفي آخر ب (عند قبر الحسين عليه السلام)(4)، وفي ثالث5.

ص: 369


1- التهذيب: ج 5/430 ح 140، وسائل الشيعة: ج 8/524 ح 11343.
2- الكافي: ج 4/563 ح 1، وسائل الشيعة: ج 14/360 ح 19386.
3- وسائل الشيعة: ج 8/528 ح 11356.
4- وسائل الشيعة: ج 8/527 ح 11355.

ب (حائر الحسين)(1).

أمّا الأوّل: فقد مرَّ أنّه مجملٌ غير ظاهر المراد، ومرفوع ابن العبّاس المحدّد له بخمسة فراسخ، ومرسل البصري المحدّد له بفرسخ في فرسخ من أربع جوانب القبر، لضعف(2) سنديهما لا يُعتمد عليهما.

وأمّا صحيح إسحاق بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام:

«إنّ لموضع قبر الحسين عليه السلام حُرمة معروفة، من عرفها واستجار بها اُجر.

قلت: صِف لي موضعها؟ قال عليه السلام: امسح من موضع قبره اليوم خمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رأسه، وخمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رجليه(3)...

إلى آخره»، فلا تعلّق له بالمقام كي يستدلّ به، وعلى ذلك فلابدّ من الاقتصار في الأخذ على المتيقّن، وهو أطراف ضريحه المطهّر.

وبه يظهر الحال في الثاني.

وأمّا الحائر: فهو أيضاً كلمةٌ مجملة، فعن المفيد رحمه الله(4) أنّ الحائر محيطٌ بهم إلّا العبّاس عليه السلام.

وعن «السرائر»:(5) «ما دار سور المسجد والمشهد عليه دون ما دار سور البلد عليه».

ص: 370


1- وسائل الشيعة: ج 8/531 ح 11369.
2- وسائل الشيعة: ج 14/510 باب حَدّ حرم الحسين عليه السلام الذي يستحبّ التبرّك به.
3- الكافي: ج 4/588 ح 6، وسائل الشيعة: ج 14/511 ح 19713.
4- الإرشاد: ج 2/126.
5- السرائر: ج 1/342.

وعن بعض:(1) أنّه مجموع الصحن الشريف.

وعن بعض:(2) أنّه القبة السامية.

وعن بعض:(3) أنّه الروضة المقدّسة.

وعن المجلسي:(4) أنّه مجموع الصحن القديم.

نعم، يمكن أن يستفاد من خبر حسين بن ثوير الوارد في آداب الزيارة -:

«وعليك بالتكبير - إلى أنْ قال: حتّى تصير إلى باب الحائر - إلى أنْ قال - ثمّ اخطُ عشر خطوة ثمّ قف... إلى آخره» أنّ الحائر أكثر من عشر خطوات.

اللّهُمَّ إلّاأن يُقال: إنّه لا ظهور له في اتّصال باب الحائر به، فلا يستفاد منه إلّاأنّ الحائر ليس أزيد ما اشتمل على الحضرة الشريفة، وعلى ذلك فلابدّ من الاقتصار على المتيقّن، وهو ما يسمّى الآن حرماً، أعني الحضرة الشريفة.

***9.

ص: 371


1- حكاها صاحب البحار: ج 86/89.
2- حكاها صاحب البحار: ج 86/89.
3- حكاها صاحب البحار: ج 86/89.
4- حكاها صاحب البحار: ج 86/89.

ولو أتمّ في غيرها عمداً أعاد

لو أتمّ المسافر
اشارة

الأمر الثاني: (ولو أتمّ ) المُسافر مع استكمال الشرائط المتقدّمة للقصر (في غيرها)، أي غير المواطن الأربعة:

فإمّا أن يكون عن عمدٍ، أو عن جهلٍ ، أو عن نسيان.

فهاهنا مقامات:

ولو أتمّ في غيرها عمداً أعاد

المقام الأوّل: لو أتمّ في موضع القصر (عمداً) وعن علمٍ ، (أعاد) في الوقت وخارجه بلا خلافٍ فيه(1).

ويشهد له: - مضافاً إلى أنّ ذلك ممّا يقتضيه القاعدة، لمخالفة المأتي به للمأمور به، مع عدم الدليل على الإجزاء - جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح زرارة، ومحمّد بن مسلم، قالا: «قلنا لأبي جعفر عليه السلام: رجلٌ صَلّى في السّفر أربعاً أيعيدُ أم لا؟

قال عليه السلام: إنْ كان قرأت عليه آية التقصير،(2) وفُسّرت له، فصَلّى أربعاً أعاد، وإنْ لم يكن قُرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه»(3).

والمراد بقراءة آية التقصير(4) وتفسيرها له، بقرينة قوله عليه السلام في ذيله:

(ولم يعلمها) إرادة العلم بتحتّم القصر. ونحوه غيره.

ص: 372


1- الانتصار: ص 162، قوله: (وممّا يظنّ انفراد الإماميّة)، رياض المسائل (ط. ق): ج 1/257 إجماعاً، ذخيرة المعاد: ج 2/414 الظاهر متّفق عليه بين الأصحاب ونقل اتّفاقهم المصنّف في التذكرة.
2- سورة النساء: الآية 101.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 1/434 ح 1265، وسائل الشيعة: ج 8/506 ح 11300.
4- سورة النساء: الآية 101.

والجاهلُ لا يُعيد

وأمّا النصوص المفصّلة بين الوقت وخارجه(1)، فهي ظاهرة في غير العالم العامد، كما ستقف عليه.

لو أتمّ في موضع القصر جهلاً

المقام الثاني: لو أتمّ في موضع القصر جهلاً.

(و) ملخَّص القول فيه: إنّ (الجاهل):

1 - إمّا أن يكون جاهلاً بالحكم، بأنْ لم يلتفت أصلاً إلى أنّ المسافر يجب عليه القصر.

2 - وإمّا أن يكون متردّداً في ذلك.

3 - وإمّا أن يكون جاهلاً بالموضوع، مع علمه بالحكم، كما إذا اعتقد عدم كون مقصده مسافة.

4 - وإمّا أن يكون جاهلاً ببعض الخصوصيّات، مثل أنّ السّفر إلى أربعة فراسخ مع قصد الرجوع يوجب القصر.

أمّا الأوّل: فإنْ كان جاهلاً بالحكم (لا يُعيد) في الوقت، ولا في خارجه، كما هو المشهور شهرة عظيمة(2)، لصحيح زرارة ومحمّد المتقدّم، المخصّص لعموم ما دلّ على مبطليّة الزيادة.

أقول: وفي المقام قولان آخران:

ص: 373


1- وسائل الشيعة: ج 8/505 باب أنّ من أتمّ في السّفر عامداً وجب عليه الإعادة.
2- رياض المسائل (ط. ق): ج 1/257 (لم يعد مطلقاً على الأشهر الأقوى ، بل عليه إجماع في الجملة في ظاهربعض العبارات).

أحدهما: ما عن العُمّاني(1) وهو أنّه يُعيد مطلقاً، واستدلّ له:

1 - بعموم ما دلّ على مبطليّة الزيادة(2).

2 - وبالمروي عن «الخصال»: «ومن لم يُقصّر في السّفر، لم تَجُز صلاته، لأنّه قد زاد في فرض اللّه عزّ وجلّ »(3).

3 - وبصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «قلتُ له: صلّيت الظهر أربع ركعات، وأنا في سفر، قال عليه السلام: أعد»(4).

أقول: ولكن يرد على الكلّ بأنّ الصحيح المتقدّم أخصّ منها فيقدّم عليها.

ودعوى: أنّ النسبة بينه وبين صحيح الحلبي عمومٌ من وجه، لاختصاص صحيح الحلبي بصلاة الظهر، فيتساقطان.

مندفعة: بأنّ الظاهر عدم الخصوصيّة للظهر، وأنّ التعبير بها من جهة وقوع الابتلاء بها أو من باب المثال، والمراد إتيان الصَّلاة الرباعيّة تماماً في السّفر.

مع أنّه لو سُلّم الاختصاص، لا ريب في أظهريّة الصحيح في دلالته على عدم وجوب الإعادة على الجاهل.

ثانيهما: ما عن الحلبي(5)، والإسكافي(6)، وهو أنّه يعيدُ في الوقت دون خارجه، واستدلّ له بصحيح العيص، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:5.

ص: 374


1- فقه ابن أبي عقيل العُمّاني: ص 233، مختلف الشيعة: ج 3/116.
2- وسائل الشيعة: ج 8/231 ح 10509.
3- وسائل الشيعة: ج 8/508 ح 11304.
4- التهذيب: ج 2/14 ح 7، وسائل الشيعة: ج 8/507 ح 11302.
5- الكافي في الفقه: ص 116.
6- مختلف الشيعة: ج 3/115.

«عن رجلٍ صَلّى وهو مسافر، فأتمّ الصَّلاة ؟ قال عليه السلام: إنْ كان في وقتٍ فليعد، وإنْ كان الوقت قد مضى فلا»(1).

وفيه: إنّه لو سُلّم كون النسبة بين هذا الصحيح وبين صحيح زرارة ومحمّد المتقدّم عموماً من وجه، وأغمضنا النظر عمّا قيل من ظهوره في الناسي، لا ينبغي التأمّل في تقديم صحيح زرارة، لأنّ حمله على إرادة عدم وجوب الإعادة في خارج الوقت، أبعد من حمل هذا الصحيح على غير الجاهل أي الناسي، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ لازمه كونه متعرّضاً لخصوص حكم خارج الوقت، دون داخله، وهو كما ترى .

الوجه الثاني: أنّ إطلاق لفظة (الإعادة) على القضاء خاصّة خلافُ المتعارف.

وبعبارة اُخرى : أنّها ظاهرة في الأداء، وإنْ كانت تطلق على القضاء أيضاً، وعليه فيقدّم صحيح زرارة، ويُحمل صحيح العيص على خصوص الناسي.

أمّا الثاني: وهو فيما لو كان متردّداً، فحكمه حكم العالم، لعدم شمول ما دلَّ على عدم إعادة الجاهل له.

أمّا الثالث: وهو أن يكون الجاهل جاهلاً بالموضوع، ففي وجوب الإعادة أو القضاء عليه، وعدمه وجهان، أقواهما الأوّل، كما هو مقتضى القاعدة، وإطلاق صحيح الحلبي المتقدّم، وصدر صحيح زرارة.

وقد استدلّ للثاني بوجوه:

1 - أنّ إطلاق ذيل صحيح زرارة ومحمّد يشمله.

وفيه: إنّ قوله عليه السلام فيه: (وإنْ لم يكن قُرأت عليه، ولم يَعلمها) ظاهرٌ في الجهل7.

ص: 375


1- الكافي: ج 3/435 ح 6، وسائل الشيعة: ج 8/505 ح 11297.

بأصل الحكم، كما لا يخفى .

2 - أنّ مناط الإجزاء في مورد الجهل بالحكم، الذي يدور ذلك مداره، هو الجهل الموجود في المقام.

وفيه: أنّ هذا غير ثابت.

3 - أنّ إحراز الموضوع في أمثال المقام، الذي فوّض الأمر فيه إلى المكلّف موضوعيٌ لا طريقي، وعليه فلابدّ من البناء على الصحّة في المقام.

وفيه: أنّ الظاهر كون الإحراز طريقاً محضاً لا موضوعاً.

4 - إنّ موافقة الأمر الظاهري تقتضي الإجزاء.

وفيه: ما حُقّق في محلّه من عدم إجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي.

فتحصّل: أنّ الأظهر لزوم الإعادة أو القضاء.

أقول: وبذلك كلّه ظهر حكم ما لو كان جاهلاً ببعض خصوصيّات حكم القصر، فإن الظاهر من صحيح زرار المتقدّم، إرادة العلم بأصل وجوب القصر، لا العلم بجميع خصوصيّات أحكامه.

فإنْ قلت: إنّ مقتضى إطلاق صحيح العيص المتقدّم، الشامل للموردين الأخيرين، عدم وجوب القضاء لو علم بعد مُضيّ الوقت.

قلت: مضافاً إلى ما قيل من اختصاصه بالنّاسي، وقوّيناه سابقاً، أنّه لو سُلّم عمومه لغير الناسي، تكون النسبة بينه وبين صحيح زرارة عموماً من وجه، فيتساقط إطلاقهما، والمرجع إلى ما تقتضيه القاعدة (و) قد عرفت أنّه الإعادة أو القضاء.

ص: 376

والنّاسي يعيدُ في الوقت لا خارجه.

لو أتمّ المسافر نسياناً

المقام الثالث: في (النّاسي)، فلو صَلّى تماماً ناسياً أنّه مسافر (يعيدُ في الوقت) و (لا) يجبُ عليه القضاء إذا كان التذكّر في (خارجه)، كما هو المشهور(1)، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(2).

ويشهد له: جملةٌ من النصوص:

1 - صحيح العيص المتقدّم، الذي ثبت اختصاصه بالناسي.

2 - وخبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يَنسى فيُصلّي بالسفر أربع ركعات ؟ قال عليه السلام: إنْ ذكر في ذلك اليوم فليُعد، وإنْ لم يذكر حتّى يمضي ذلك اليوم، فلا إعادة عليه»(3).

وظاهر الجواب بنفسه وإنْ كان اختصاص الحكم بالظهرين، لإختصاص اليوم بالنهار، إلّاأنّه لعدم القول بالفصل، ولإطلاق السؤال، ولصحيح العيص، يُحمل (اليوم) على إرادة الوقت، فيشمل الحكم للعشاء أيضاً.

3 - وما دلّ على أنّ المسافر إذا أتمّ أعاد، الشامل بإطلاقه للناسي، كصحيح الحلبي المتقدّم، حيث يقيّد إطلاقه بهذه النصوص.

وقد وقع الخلاف في حكم ناسي الحكم، وأنّه:

ص: 377


1- المعتبر: ج 2/478 (قال الأصحاب)، ذخيرة المعاد: ج 2/414 (المشهور بين الأصحاب).
2- رياض المسائل (ط. ق): ج 1/258 (كما هو الأظهر الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر). وفي صريح الانتصار: 162، والخلاف: ج 1/586، والسرائر: ج 1/328، وظاهر التذكرة: ج 1/193: دعوى الإجماع.
3- التهذيب: ج 3/169 ح 34، وسائل الشيعة: ج 8/506 ح 11298.

1 - هل يكون كناسي السّفر ليعيد في الوقت دون خارجه.

2 - أم كالجاهل الحكم فلا يعيد مطلقاً.

3 - أم هو كالعالم فيعيد كذلك ؟

أقول: والأظهر الأوّل، لإطلاق السؤال والجواب في خبر أبي بصير.

ودعوى:(1) انصرافه إلى نسيان الموضوع ممنوعة، إذ لا منشأ له سوى الغلبة غير الموجبة للانصراف.

وأيضاً: وأضعف من ذلك دعوى(2) أنّ المتيقّن من النص والفتوى ، هو نسيان الموضوع.

أقول: بقي في المقام أمرٌ، وهو أنّه لو قصّر مَنْ وظيفته التمام، ففي غير صورة الجهل يعيدُ في الوقت وخارجه، كما هو مقتضى القاعده، ولا دليل على الخروج عنها.

وأمّا في صورة الجهل، فمقتضى بعض النصوص عدم وجوب الإعادة أو القضاء عليه، وهو صحيح منصور، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«إذا أتيتَ بلدةٍ فأزمعتَ المقام عشرة أيّام، فأتمّ الصَّلاة، وإنْ تركه رجلٌ جاهلاً فليس عليه إعادة»(3).

وأورد عليه: بإعراض المشهور عنه، ولكن لم يثبت ذلك، لأنّ مجرّد عدم التعرّض لمضمونه لا يدلّ على الإعراض الموهن، والاحتياط سبيل النجاة.

***8.

ص: 378


1- كتاب الصَّلاة للحائري: ص 316.
2- العروة الوثقى: ج 3/214 في الحاشية للسيّد البروجردي الاستثناء مقصورٌ على ناسي الموضوع على الأقوى .
3- التهذيب: ج 3/221 ح 61، وسائل الشيعة: ج 8/499 ح 11278.

ولو سافر بعد دخول الوقت، قصّر مع بقاء الوقت،

العبرة بحال الأداء لا حال الوجوب

الأمر الثالث: (ولو سافر بعد دخول الوقت، قصّر مع بقاء الوقت) اعتباراً بحال الأداء، كما عن المفيد(1)، وابن إدريس(2)، والسيّد(3) وابن بابويه(4)، وكثيرٌ من المتأخّرين، بل هو المنسوب إلى المشهور(5)، وعن «السرائر» الإجماع عليه(6).

وعن الصدوق(7)، والعُمّاني(8)، وجماعةٌ ممّن تأخّر عنهما، أنّه يتمّ اعتباراً بحال الوجوب.

وعن الشيخ في «الخلاف»(9) أنّه يتخيّر بينهما.

وعن الشيخ في «النهاية»(10)، والصدوق في «الفقيه»(11)، أنّه يُتمّ في السعة، ويقصّر في الضيق.

ص: 379


1- حكاه عنه في السرائر: ج 1/332.
2- السرائر: ج 1/332.
3- نسبه إليه في منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/395.
4- فقه الرِّضا: ص 162.
5- السرائر: ج 1/332.
6- السرائر: ج 1/333 و 334 (والإجماع حاصلٌ على وجوب القصر للمسافر).
7- من لا يحضره الفقيه: ج 1/444.
8- مختلف الشيعة: ج 3/117.
9- الخلاف: ج 1/577.
10- النهاية: ص 123.
11- من لا يحضره الفقيه: ج 1/444 لاحظ الحاشية 5.

ومنشأ الاختلاف: اختلاف النصوص، واختلاف الأنظار في الجمع بينها.

أمّا حال الأداء: فيدلّ على اعتباره جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح إسماعيل بن جابر، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: يدخلُ عليَّ وقت الصَّلاة، وأنا في السّفر، فلا اُصلّي حتّى أدخل أهلي ؟

فقال عليه السلام: صَلِّ وأتمّ الصَّلاة.

فقلت: فدخل عَليَّ وقت الصَّلاة وأنا في أهلي، اُريد السّفر، فلا اُصلّي حتّى أخرج ؟ فقال عليه السلام: فصلِّ وقصّر، فإنْ لم تفعل فقد خالفت واللّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(1).

ونحوه غيره(2).

أمّا حال الوجوب: فيدلّ على اعتباره جملةٌ اُخرى من الأخبار:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يدخلُ من سفره، وقد دخل وقت الصَّلاة، وهو في الطريق ؟ فقال عليه السلام: يُصلّي ركعتين، وإنْ خرج إلى سفره، وقد دخل وقت الصَّلاة فليصلِّ أربعاً»(3).

ومنها: صحيح زرارة، عن أحدهما عليهما السلام: «إذا دخل على الرّجل وقت صلاةٍ وهو مُقيم، ثمّ سافر، صَلّى تلك الصَّلاة التي دخل وقتها عليه، وهو مقيمٌ ، أربع ركعات في سفره»(4) ونحوهما غيرهما(5).

أقول: وقد ذكروا في مقام الجمع بينهما وجوهاً:س.

ص: 380


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/443 ح 1287، وسائل الشيعة: ج 8/512 ح 11313.
2- وسائل الشيعة: ج 8/512 باب من دخل عليه الوقت وهو حاضر فسافر أو بالعكس.
3- الكافي: ج 3/434 ح 4، وسائل الشيعة: ج 8/513 ح 11316.
4- وسائل الشيعة: ج 8/516 ح 11325.
5- وسائل الشيعة: ج 8/512 باب حكم من دخل عليه الوقت وهو حاضر فسافر أو بالعكس.

1 - ما عن المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(1) من حمل الأولى على ما لو خرج بعد الزوال قبل مُضيّ زمانٍ يسعُ الطهارة والصَّلاة تامّة.

وفيه: إنّ قوله عليه السلام في صحيح ابن جابر: (فلا اُصلّي حتّى أخرج) ظاهرٌ في صورة تمكّنه من الإتيان بها تماماً، مع أنّه تصرّفٌ في الطائفتين بلا شاهد.

2 - ما عن الشيخ(2) من حمل الاُولى على الاستحباب، والثانية على الإجزاء، والظاهر أنّ مراده ما ذكره في محكيّ «الخلاف»(3) من الالتزام بالتخيير مع أفضليّة القصر.

وفيه: - مضافاً إلى كونه جمعاً تبرّعيّاً - يأباه صحيح إسماعيل المتضمّن أنّه لو لم يقصّر، فقد خالف رسول اللّه صلى الله عليه و آله مؤكّداً ذلك بالقَسَم.

3 - ما عن الصدوق(4) والشيخ في «النهاية»(5)، من حمل الأولى على صوره سعة الوقت، والثانية على ضيقه.

وفيه: - مضافاً إلى كونه جمعاً غير عرفي - يأبى عنه كثيرٌ من أخبار الباب، كما يظهر لمن لاحظها.

وبالجملة: فالأظهر أنّهما متعارضتان، لا يمكن الجمع بينهما، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، وهي تقتضي تقديم الأولى لأشهريّتها، وموافقتها لعموم ما دلّ على وجوب القصر على المسافر، ومخالفتها للعامّة، وعلى هذا فلا تصل النوبة إلى ما قيل من البناء على التخيير، بمعنى التخيير في المسألة الاُصوليّة، فإنّه إنّما يكون عن عدم المرجّح لأحد المتعارضين، فالأقوى تعيّن القصر عليه.3.

ص: 381


1- تذكرة الفقهاء: ج 4/353.
2- الخلاف: ج 1/578 (حملنا الاُولى على الإجزاء وهذا الاستحباب).
3- الخلاف: ج 1/577 (ويستحبّ له الإتمام).
4- من لا يحضره الفقيه: ج 1/444 ح 1289.
5- النهاية: ص 123.

ولو دَخَل من السّفر بعد دخول الوقت أتمَّ .

أقول: (و) ممّا ذكرناه ظهر أنّه (لو دَخَل من السّفر بعد دخول الوقت أتمَّ ) لما تقدّم من تعارض النصوص، وأنّ الترجيح مع ما دلّ على أنّ العبرة بحال الأداء، وقد استشهد للتخيير في هذا الفرع - مضافاً إلى ما تقدّم - بصحيح منصور بن حازم، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«إذا كان في سفرٍ، فدخل عليه وقت الصَّلاة، قبل أن يدخل أهله، فسار حتّى يدخل أهله، فإنْ شاء قصّر وإنْ شاء أتمّ ، والإتمام أحبُّ إليَّ »(1).

وفيه: مضافاً إلى عدم عمل الأصحاب به في مورده، ومعارضته بصحيح إسماعيل المتقدّم، الذي عرفت صراحته في تحتّم الإتمام في هذا الفرع - أنّه يحتمل أن يكون المراد التخيير بين أن يُصلّي في الطريق قصراً، وبين أن يدخل أهله فيُصلّي تماماً، كما هو صريح صحيح محمّد بن مسلم.

وأيضاً: استدلّ للقول بالتفصيل: المتقدّم في الفرع السابق، بموثّق إسحاق، عن أبي الحسن عليه السلام: «في الرّجل يَقدم من سفره في وقت الصَّلاة ؟ فقال: إنْ كان لا يخاف فوت الوقت فليتمّ ، وإنْ كان يخاف فوت الوقت فليقصّر»(2).

وفيه: - مضافاً إلى إباء جملةٍ من النصوص عن هذا الحمل، كما تقدّم - يحتمل أن يكون المراد به إنْ كان في سعةٍ فليدخل وليُتمّ ، وإنْ كان يخاف الضيق، فليقصر في الطريق.

فتحصّل: أنّ الأظهر العبرة بحال الأداء مطلقاً.

***7.

ص: 382


1- التهذيب: ج 3/223 ح 70، وسائل الشيعة: ج 8/515 ح 11320.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/444 ح 1289، وسائل الشيعة: ج 8/514، ح 11317.

الفصل الثالث: في قواطع السّفر

اشارة

الفصل الثالث: في قواطع السّفر موضوعاً أو حكماً، وهي اُمور:

الوطن
اشارة

أحدها: الوطن، فإنّ المرور عليه قاطعٌ للسفر، وموجبٌ للتمام ما دام فيه، ويحتاج في العود الى القصر قصد مسافةٍ جديدة، كما تقدّم تفصيله في الفصل الأوّل.

ويقتضي المقام البحث عن أقسام الوطن، فإنّ الأصحاب - رضوان اللّه عليهم - قسّموه إلى ثلاثة أقسام: اُصلّي، واتّخاذي، وشرعي، فلابدَّ من التكلّم في مواضع ثلاثة:

الوطن الأصلي

الموضع الأوّل: الوطن الأصلي، والمراد به المحلّ الذي يعدّ محلّه ومحلّ آبائه وقرارهم بحيث يُنسب إليه، وصدق الوطن على هذا ممّا لا ريب فيه.

الوطن العُرفي

الموضع الثاني: الوطن الاتّخاذي، والمراد به المحلّ الذي أخذه وطناً لنفسه، ووجوب التمام في هذا الموضع - كسابقه - إنّما هو:

1 - لصدق الحاضر عليه، وهو مقابلٌ للمسافر المأخوذ في أدلّة القصر، فيكون باقياً تحت ما دلَّ على وجوب التمام.

2 - وللنصوص الخاصّة الدالّة علي أنّ المدار في التمام على الاستيطان:

منها: صحيح الحلبي، عن مولانا الصادق عليه السلام: «في الرّجل يسافر فيمرّ بالمنزل له في الطريق يُتمّ الصَّلاة أو يقصر؟ قال عليه السلام: يقصّر، إنّما هو المنزل الذي توطّنه»(1).

ص: 383


1- التهذيب: ج 3/212 ح 26، وسائل الشيعة: ج 8/493 ح 11263.

ومنها: صحيح عليّبن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام: في من له ضياعٌ ومنازل، «قال: كلّ منزلٍ من منازلك لاتستوطنه فعليك فيه التقصير»(1) ونحوهما غيرهما(2).

ولما دلّ من الأخبار على أنّ الواجب على أهل كلّ بلدٍ التمام فيه، كموثّق إسحاق: «عن أهل مكّة إذا زاروا أعليهم إتمام الصَّلاة ؟ قال عليه السلام: نعم»(3).

ونحوه غيره، إذ من أخذ محلّاً وطناً له، صدق عليه عرفاً أنّه من أهل ذلك المحلّ .

وقد استدلّ لوجوب التمام بوجهين آخرين:

الوجه الأوّل: طوائف من النصوص:

منها: ما دلّ على أنّ من دخل أهله يُتمّ ، كصحيح إسماعيل المتقدّم: «يدخل عَليَّ وقت الصَّلاة، وأنا في السّفر، فلا اُصلّي حتّى أدخل على أهلي ؟ فقال: صَلِّ وأتمّ الصَّلاة». ونحوه غيره.

ومنها: ما ورد في حَدّ الترخّص، من اعتبار البيت والأهل، وما ماثل ذلك(4).

ومنها: ما ورد في من سافر بعد دخول الوقت، وهو عند أهله، ولم يُصلِّ (5).

ومنها: ما ورد في علّة القصر(6).ك.

ص: 384


1- التهذيب: ج 3/213 ح 28، وسائل الشيعة: ج 8/494 ح 11265.
2- وسائل الشيعة: ج 8/492 باب أنّ من وصل إلى منزل له قد استوطنه ستّة أشهر فصاعداً، أو ملك كذلك ولو نخلة واحدة وجبَ عليه التمام.
3- التهذيب: ج 5/487 ح 387، وسائل الشيعة: ج 8/472 ح 11199.
4- وسائل الشيعة: ج 8/470 باب اشتراط وجوب القصر بخفاء الجدران والأذان خروجاً وعَوداً.
5- وسائل الشيعة: ج 8/512 باب حكم من دخل عليه الوقت وهو حاضر فسافر أو بالعكس.
6- وسائل الشيعة: ج 2/456 باب وجوب القصر على من قصد ثمانية فراسخ أربعة ذهاباً وأربعة إياباً مطلقاً لا أقلّ من ذلك.

أقول: ولكن يرد على الجميع باعتبار أنّها واردة في مقام بيان أحكامٌ اُخر من وظيفة الداخل في الوطن، بعد دخول الوقت، ووظيفة الخارج عنه بعده، وحَدّ الترخّص، فلا وجه للتمسّك بإطلاقاتها في المقام.

الوجه الثاني: إنّه لو لم يكن الوطن العرفي معتبراً، لزم أن يكون غالب النّاس مسافرين مقصّرين في جميع أوقاتهم، من يوم ولادتهم إلى حين الممات، وهو بديهي البطلان.

وفيه: أنّه إنْ اُريد به لزومه للقصر على الخارج عن الوطن العرفي المارّ عليه، من دون قصد إقامة عشرة أيّام، فمن الضروري أنّ هذا قليل المصداق، لا يترتّب محذورٌ على الالتزام بوجوب القصر عليه.

وإنْ اُريد به استلزامه للقصر على من أقام فيه، فالملازمة فاسدة، فإنّ الغالب قاصدون للإقامة عشرة أيّام في أوطانهم العرفيّة.

وبالجملة: فالصحيح ما ذكرناه.

أقول: يقتضي المقام البحث عن جهات:

الجهة الاُولى: أنّه - بعدما لا ريب في أنّه لا يعتبر في الوطن الأصلي، حصول مِلك له فيه، وإلّا لزم القصر على كثير من المتوطّنين الّذين لا مِلْك لهم في أوطانهم، وهو بديهي البطلان - هل يعتبر ذلك في الوطن الاتّخاذي، أم يعتبر وجود منزلٍ مختصّ به، ولو بغير اختصاص الملكيّة، أم لا يعتبر شيء منهما؟

وجوهٌ ، ثالثها المشهور بين الأصحاب(1)، بل عن «الجواهر» نفي الخلاف فيه(2)، ويشهد له إطلاق الأدلّة.3.

ص: 385


1- جواهر الكلام: ج 14/253.
2- جواهر الكلام: ج 14/253.

أقول: واستدلّ لاعتبار حصول الملك له بصحيح ابن بزيع، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«عن الرّجل يقصّر في ضيعته ؟ فقال عليه السلام: لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيّام، إلّاأن يكون له فيها منزلٌ يستوطنه.

فقلت: ما الاستيطان ؟ فقال عليه السلام: أنْ يكون له فيه منزلٌ يُقيم فيه ستّة أشهر، فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى دخلها»(1).

وفيه: إنّ المنزل أوّلاً وصف بالاستيطان، فيكون هذا آية أن ذكر المنزل في تفسير الاستيطان، إنّما هو لتمهيد ذكر الإقامة، فيكون حاصل الجواب: أنّ استيطان المنزل إنّما هو الإقامة فيه ستّة أشهر.

الجهة الثانية: هل يعتبر الإقامة ستّة أشهر، كما عن ظاهر المحقّق في كتابيه(2)، والشهيدين في «الذكرى»(3) و «الروضة»(4)، وأكثر من تأخّر عنهما؟

أم لا يعتبر ذلك، وإنّما يعتبر الإقامة فيه بمقدارٍ يصدق أنّه وطنه عرفاً كما في «العروة»(5) وغيرها؟

أم يكفي مجرّد النيَّة كما عن الشيخ الأكبر في «بغية الطالب»(6)، وعن «الجواهر»(7) أنّه لا يخلو عن قوّة ؟ وجوهٌ :5.

ص: 386


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/451 ح 1308، وسائل الشيعة: ج 8/494 ح 11266.
2- المعتبر: ج 2/469، المختصر النافع ص 51، الرسائل التسع ص 263.
3- الذكرى: ص 259.
4- شرح اللّمعة: ج 1/781.
5- العروة الوثقى (ط. ق): ج 2/140.
6- حكاه عنه في مستمسك العروة ة الوثقى .
7- جواهر الكلام: ج 14/253 وأيضاً: ج 8/105.

قد استدلّ للأوّل:

1 - بصحيح ابن بزيع المتقدّم(1)، بتقريب أنّه فَسّر عليه السلام فيه مطلق الاستيطان الوارد في الروايات بإقامة المدّة.

2 - وبما عن «الذكرى»(2)، من أنّ الأقرب الاشتراط ليتحقّق الاستيطان الشرعي مع العرفي.

3 - وبما عن «المدارك»(3) من أنّ الاستيطان على هذا الوجه إذا كان معتبراً مع الملك، فمع عدمه أولى .

أقول: وفي الكلّ نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الاستدلال به يتوقّف على أن يكون (يقيم) بمعنى الماضي، وستعرف ما في ذلك فانتظر.

وأمّا الثاني: فلأنّه لا ملزم لتحقّق أحدهما مع الآخر.

وأمّا الثالث: فلمنع الأولويّة، واعتباره في الشرعي للدليل، لا يلازم مع اعتباره في العرفي.

والأظهر هو الثاني، إذ مجرّد النيّة إنّما يكون نيّة الاستيطان، ولا يصدق عليه الاستيطان.

الجهة الثالثة: لا إشكال في إمكان تعدّد الوطن العرفي، وإنّما الكلام في أنّه هل يعتبر إقامة ستّة أشهر في كلّ سنة، فليس له اتّخاذ أزيد من وطنين، أم لا يعتبر ذلك ؟5.

ص: 387


1- تقدّم في الصفحة السابقة.
2- الذكرى: ص 259.
3- مدارك الأحكام: ج 4/445.

وقد يقال: بالأوّل، لصحيح ابن بزيع المتقدّم.

ولكن يرد عليه: أنّ التقييد بستّة أشهر فيه، إنّما هو منزّل على الغالب، فإنّ الغالب في ذي منزلين الذي هو مورد الصحيح، أن يقيم في كلّ منهما ستّة أشهر.

ويؤيّده: أنّه لولا سؤال الراوي ثانياً عن معنى الاستيطان، لكان مكتفياً في الجواب بما ذكره أوّلاً من إطلاق الاستيطان، فيُستكشف من ذلك أنّ المناط صدق هذا العنوان.

أقول: ولكن الإنصاف أنّ صدق الوطن على ذي أوطان ثلاثة فما فوق، لا يخلو عن إشكال، فاللّازم الأخذ بالمتيقّن، وهو ذو منزلين غير الوطن الأصلي، نعم لا يعتبر تساوي الإقامة في المنزلين، كما لا يخفى وجهه.

الجهة الرابعة: لا يعتبر في صدق الاستيطان والوطن، قصد البقاء في محلٍّ ما دام العمر، بل لو كان من قصده البقاء فيه مدّة طويلة كعشرين سنة مثلاً صدق الاستيطان، فإنّ المكان الذي استوطنه عبارة عن المكان الذي أعدّه لأن يحلّ فيه لا على سبيل السفر، بل من جهة حلول الشخص في مستقرّه ومحلّه، وعلى ذلك فالطلّاب المجتمعون في النجف الأشرف أو قُمّ قاصدين تحصيل العلم ماداموا لم يهاجروا عن تلك البلدة لا يصدق علهيم عنوان المسافر، بل ذلك المكان يكون وطناً لهم فيتمّون فيه مطلقاً، ولكن الاحتياط سبيل النجاة.

الجهة الخامسة: إذا أعرض عن وطنه الأصلي أو الاتّخاذي انقطع حكمه، سواءٌ أكان له ملك فيه أم لم يكن.

أمّا في الصورة الثانية: فالظاهر أنّه لا كلام فيه، ويشهد له:

1 - عموم ما دلّ على أنّ المسافر يقصّر صلاته.

ص: 388

2 - وحسن زرارة بابن هاشم(1) المتضمّن أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله والخلفاء بعده أقاموا ثلاثة أيّام بمنى وقصّروا الصَّلاة.

وأمّا في الصورة الاُولى : فلأنّ غاية ماقيل في وجه عدم الانقطاع، هو ما في صلاة الشيخ الأعظم رحمه الله(2)، وهو فحوى ماسيجيء من الحكم في الوطن الشرعي، فإنّ استيطان ستّة أشهر في سنة واحدة إذا كان موجباً لصيرورة المحلّ وطناً ما دام الملك، فالوطن الأصلي مع بقاء الملك بقاء حكمه كذلك بالأولويّة القطعيّة.

ولكن يرد عليه: - على فرض ثبوته في الأصل - إنّه قياسٌ مع الفارق، فإنّ الوطن الشرعي لمّا كان قوامه بالملك، اتّجه القول ببقائه ولو مع الهجرة، وأمّا الوطن الأصلي أو الاتّخاذي، فلا يعتبر فيه الملك، ووجوده وعدمه بالإضافة إليه على حَدٍّ سواء، فجهة الوطنيّة فيهما مختلفة، ولا مانع من أن يكون الهجرة في الأوّل غير مانعٍ عن ثبوت الوطنيّة الشرعيّة، لتحقّق مقومها أعني المِلْك، ومانعاً عنه في الوطن الأصلي أو الاتّخاذي، لعدم دخل الملك فيه، ولعلّه لذلك أمر بالتامل.

الوطن الشرعي
اشارة

الموضع الثالث: الوطن الشرعي، وهو عند المشهور بين المتأخّرين(3): كلّ منزل أقام فيه ستّة أشهر، مع ثبوت مِلْك له فيه، كذا في «صلاة» الشيخ الأعظم رحمه الله(4).

ص: 389


1- وسائل الشيعة: ج 8/465 ح 11184.
2- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 419.
3- جواهر الكلام: ج 14/247 (كما هو المشهور نقلاً وتحصيلاً، بل لا خلاف فيه إلّامن نادر، بل في الروض وعن التذكرة الإجماع عليه).
4- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 393.

وربما يُنسب إلى المشهور اعتبار كون ذلك المحلّ وطناً اتّخاذياً له أعرض عنه.

وعن بعضم مطلق الوطن المُعرَض عنه.

أقول: وقد استدلّ لثبوت الوطن الشرعي، باُمور:

الأمر الأوّل: وهو عمدتها، صحيح ابن بزيع، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن الرّجل يقصّر في ضيعته ؟ قال عليه السلام: لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيّام، إلّاأن يكون له فيها منزل يستوطنه. قلت: وما الاستيطان ؟ قال عليه السلام: أن يكون له منزلٌ يُقيم فيه ستّة أشهر، فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى دخلها»(1).

تقريب الاستدلال: أنّ كلمة (يُقيم) وإنْ كان بصيغة المضارع، إلّاأنّه بمعنى الماضي، فيكون المراد من قوله: (يُقيم فيه ستّة أشهر) أي متى أقام فيه هذه المدّة، فيدلّ الخبر على تحقّق الوطن بذلك.

وأورد عليه:(2) بأنّ هذا خلاف الظاهر، فإنّ حمل المضارع على إرادة الماضي خلاف الظاهر، فالمراد منه اعتبار كونه ممّا بنى على الإقامة فيه دائماً في كلّ سنة، وهذا المعنى هو الذي حُكي عن الصدوق(3)، واستظهره جماعة من متأخّري المتأخّرين(4).

أقول: واُجيب عنه تأييداً للمشهور بوجوه:

الوجه الأوّل: كما في «صلاة» الشيخ الأعظم رحمه الله(5) وحاصله: أنّ اتّخاذ منزلٍ وطناً ليس أمراً تدريجي الوجود، بل هو آني فلا يتصوّر فيه سوى الماضي0.

ص: 390


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/451 ح 1308، وسائل الشيعة: ج 8/8 ص 494 ح 11266.
2- غنائم الأيّام: ج 2/111.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 1/452.
4- نسبه إليهم في كتاب الطهارة (ط. ق): ص 420.
5- كتاب الصَّلاة (ط. ق) ص 420.

والاستقبال، إذ بعد الاتّخاذ لا يصدق إلّاأنّه اتّخذه، وقبله لا يصدق إلّاأنّه سيتّخذ، والمفروض أنّه آني، فلا يصدق التلبّس بانقضاء شيءٍ منه، وبقاء شيء آخر منه، وحيث لم يرد منه الاستقبال، فلا محالة يكون المراد منه الماضي، وبعد حمل (يستوطن) على معنى استوطن، لزم حمل (يقيم) الذي فُسّر الاستيطان به، على معنى أقام إذ الاستيطان في الماضي لا يُعقل أن يكون بالإقامة في المستقبل، فيكون مفاد الرواية: أنّ الاستيطان عبارة عن إقامة ستّة أشهرٍ في مكان له ملك، وهذا هو المراد من الوطن الشرعي.

وفيه: إنّ قوله عليه السلام: (أنْ يكون له منزلٌ يُقيم فيه... إلى آخره)، من جهة توصيف المنزل بالإقامة، ظاهرٌ في الاعداد والتجدّد والفعليّة في كلّ سنة، وكونه تفسيراً لاتّخاذ الوطن لاينافي ذلك، إذ هو وإنْ كان أمراً قصديّاً، وبهذا الاعتبار لا يتصوّر فيه سوى الماضي والاستقبال، إلّاأنّ الذي وقع في تفسيره إنّما هو القصد على المقام فيه في كلّ سنةٍ فترة ستّة أشهر، لا الإقامة فيما بعد، فيكون مفاد الرواية: أنّ أخذ محلٍّ وطناً إنّما يكون بالقصد، على أن يقيم فيه كلّ سنةٍ فترة ستّة أشهر، وهذا هو الوطن العرفي المتقدّم.

الوجه الثاني: إنّ حمل الصحيح على إرادة الوطن العرفي بالتقريب المتقدّم لا يصحّ ، فإنّ الوطن بذلك المعنى أمرٌ معلوم لدى العرف، فكيف يسأل السائل مع جلالة شأنه عنه، فيستكشف من ذلك أنّ للاستيطان معنى آخر مراداً للشارع، ويكون السؤال والجواب واردين لبيانه وهو الوطن الشرعي.

وفيه: إنّه لما كان المفروض في الصحيح أنّ للسائل وطناً آخر غير الضيعة، وأنّها لم تكن مقرّاً دائميّاً له، وبرغم ذلك حكم الإمام عليه السلام بالتمام على فرض

ص: 391

الاستيطان، سأل السائل عن الاستيطان في الضيعة التي ليست مقرّه الدائمي، فأجابه عليه السلام بأنّه يكفي في صدق الوطن البناء على الإقامة ستّة أشهر من كلّ سنة فيه. مع أنّ السؤال عن الاُمور الواضحة ليس بعزيز في الأخبار.

الوجه الثالث: أنّ ظاهر الصحيح اعتبار الملك والمنزل، فلو حُمل الاستيطان على الفعلي المساوق للعرفي، لزم مخالفة الإجماع، إذ لا يعتبر في الوطن العرفي المِلْك إجماعاً، فلابدّ وأنْ يُحمل على الماضي، فيثبت مطلوب المشهور.

وفيه: ما تقدّم في الموضع الأوّل في الجهة الاُولى، مع أنّ الإجماع على عدم اعتبار المنزل لا يصلح قرينةً لرفع اليد عن ظهور الاستيطان في الفعلي، وإنّما يوجبُ رفع اليد عن ظهور الخبر في اعتباره لو كان ظاهراً فيه.

الأمر الثاني: ما ذكره جدّنا العلّامة رحمه الله(1)، وإنْ استشكل فيه قدس سره وهو أنّ النصوص المتضمّنة للوطن قسمان:

القسم الأوّل: ما دلَّ على لزوم التمام في الضيعة مطلقاً، كصحيح إسماعيل بن الفضل، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يُسافر من أرضٍ إلى أرض، وإنّما ينزل قراه وضيعته ؟ قال: إذا نزلت قراك وأرضك فأتمّ الصَّلاة، وإذا كنت في غير أرضك فقصّر»(2) ونحوه غيره(3).

القسم الثاني: ما دلَّ على لزوم القصر فيها مطلقاً كخبر عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «من أتى ضيعةً له، ثمّ لم يرد المقام عشرة أيّام قصّر، وإنْ أراد المقام عشرةم.

ص: 392


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/451 ح 1307، وسائل الشيعة: ج 8/492 ح 11257.
2- وسائل الشيعة: ج 8/492 ح 11257.
3- وسائل الشيعة: ج 8/492 باب: أنّ من وصل إلى منزل له قد استوطنه ستّة أشهر فصاعداً أو ملك كذلك ولو نخلة واحدة وجب عليه التمام.

أيّام أتمَّ الصَّلاة»(1). ونحوه غيره.

أقول: والتعارض بين القسمين إنّما هو فيما إذا اتّخذ الضيعة وطناً عرفيّاً شرعيّاً، إذ لا إشكال ولا كلام - نصّاً وفتوى - في خروج ما إذا اتّخذها وطناً عرفيّاً عن الثاني، ودخوله في الأوّل، كما لا كلام في خروج ما إذا مرّ بالضيعة من دون أن يأخذها وطناً عرفيّاً أو شرعيّاً عن الأوّل ودخوله في الثاني، ويرتفع التعارض بدخول مورد التعارض في أحد القسمين، لكن لو قلنا بدخوله تحت القسم الثاني - أعني ما دلَّ على القصر - لزم حمل الإطلاقات الكثيرة الدالّة على التمام على الفرد النادر، وهو أخذُ الضيعة وطناً عرفيّاً دائميّاً لنفسه، وهذا بخلاف ما لو قلنا بدخوله تحت القسم الأوّل، فإنّه يوجب حمل كلٍّ من القسمين على الفرد المتعارف الشائع، فيتعيّن ذلك، لأنّه يوجب أقوائيّة الأوّل في مورد التعارض.

وفيه: أنّ مجرّد الأقوائيّة لا يصلح شاهدا للجمع، بل الجمع المقبول هو الجمع العرفي، ومن الواضح أنّ هذين القسمين لو اُلقيا إلى العرف لا يرى العرف أحدهما قرينةً على الآخر، بل يرونهما متعارضين.

والظاهر أنّ في المقام قسماً ثالثاً يشهد للجمع بينهما، وهو ما دلَّ على حصر التمام في المنزل الذي توطّنه، وأنّ المناط الاستيطان، كصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرّجل يُسافر فيمرّ بالمنزل له في الطريق يتمّ الصَّلاة أم يقصر؟ قال عليه السلام: يقصّر، إنّما هو المنزل الذي توطّنه»(2).

ونحوه غيره، وهذا القسم يوجبُ حمل القسم الأوّل على المنزل الذي اتّخذه وطناً عرفيّاً.3.

ص: 393


1- الاستبصار: ج 1/229 ح 6، وسائل الشيعة: ج 8/499 ح 11280.
2- التهذيب: ج 3/212 ح 26، وسائل الشيعة: ج 8/493 ح 11263.

أقول: وفي المقام اُمورٌ اُخر استندوا إليها في إثبات الوطن الشرعي، لكن لأجل وضوح فسادها أغمضنا عن ذكرها.

فتحصّل: أنّ الوطن الشرعي غير ثابتٍ ، وأنّ المدار في التمام على تحقّق مفهوم الاستيطان عرفاً.

ما يعتبر في الوطن الشرعي على القول به

ثمّ إنّ هاهنا اُموراً لابدَّ من التنبيه عليها، على القول بثبوت الوطن الشرعي:

الأمر الأوّل: أنّه هل تكفي الإقامة ستّة أشهر على أيّ وجه اتّفقت، أم يعتبر فيها كونها عن قصد التوطّن، فيعتبر في الوطن الشرعي استيطانه الدائمي أوّلاً، ثمّ مُضيّ ستّة أشهر مقارناً لاستمرار ذلك القصد، ثمّ الإعراض عن ذلك المكان ؟

وجهان، بل قولان: ومنهما يحدث وجهٌ ثالث، وهو اعتبار الاستيطان الدائمي أوّلاً، ثمّ إقامة ستّة أشهر على أيّ وجهٍ اتّفقت.

ومنشأ الخلاف: الاختلاف في أنّ الستّة في قوله عليه السلام في صحيح ابن بزيع في جواب السؤال عن الاستيطان: (أنْ يكون له منزلٌ يُقيم فيه ستّة أشهر)(1) قيد للوطن المأخوذ في الاستيطان، أو للاتّخاذ المأخوذ فيه بمقتضى صيغة الاستفعال، إذ على الأوّل يكون المراد اتّخاذ المنزل مقراً لمدّة ستّة أشهر، وعلى الثاني يكون المراد اتّخاذ المنزل في ستّة أشهر وطناً ومقرّاً دائميّاً له.

أقول: والأظهر هو الأوّل، فإنّ القيد في الصحيح إنّما يرجع الى الإقامة لا

ص: 394


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/451 ح 1308، وسائل الشيعة: ج 8/494 ح 11266.

الوطن، وقد فُسّر فيه الاستيطان بالإقامة ستّة أشهر.

اللّهُمَّ إلّاأن يُقال: إنّ ظاهره اعتبار كون الإقامة ستّة أشهر في منزل له، والظاهر من كون مكانٍ منزلاً له، كونه مقرّه المأخوذ وطناً له، وقد صرّح بذلك في صحيح علي بن يقطين: «كلّ منزلٍ لا تستوطنه، فليس لك بمنزل»(1)، فالأظهر اعتبار كونها عن قصد التوطّن.

الأمر الثاني: أنّه هل يعتبر في الوطن الشرعي أن يكون له فيه ملكٌ عين، أم يكفي إقامة ستّة أشهر في منزلٍ له، ولو كان على نحو الاختصاص ؟ قولان:

قد استدلّ للأوّل: بقوله عليه السلام في صحيح ابن بزيع: (إلّا أن يكون له منزلٌ يُقيم فيه)(2).

وتقريب الاستدلال به وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ اللّام إذا كان متعلّقها قابلاً للجِدة الاعتباريّة، تكون ظاهرة في الملك.

الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله(3)، وهو أنّه لو لم يرد منها ملكيّة المنزل، لم يكن وجهٌ في اعتبار المنزل في الاستيطان في الضيعة، لأنّ الاستيطان فيها لا يكون إلّافي منزل، فكان يكفي قوله: (إلّا أن يستوطنه).

أقول: وفيهما نظر:0.

ص: 395


1- التهذيب: ج 3/212 ح 24، وسائل الشيعة: ج 8/493 ح 11261.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/451 ح 1308، وسائل الشيعة: ج 8/494 ح 11266.
3- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 420.

أمّا الأوّل: فلأنّ اللّام لا تفيد إلّاالاختصاص، خصوصاً بالنسبة إلى المنازل، فإنّها تفيد الاختصاص من حيث النزول.

وأمّا الثاني: فلما مرّ في الجهة الاُولى من الموضع الأوّل.

وقد يستدلّ له بموثّق عمّار، عن مولاناالصادق عليه السلام: «في الرّجل يخرج في سفرٍ فيمرّ بقريةٍ له أو دار، فينزل فيها؟

قال عليه السلام: يُتمّ الصَّلاة، ولو لم يكن له إلّانخلة واحدة، ولا يقصّر، وليصم إذا حضره الصوم وهو فيها»(1).

أقول: والصحيح أن يُستدلّ له بالنصوص المتضمّنة، لأنّ المدار على الملك(2)بالتقريب المتقدّم في الجواب عمّا استدلّ به جدّنا العلّامة للوطن الشرعي، فالأظهر اعتباره.

الأمر الثالث: يعتبر في إقامة ستّة أشهر، أن تكون متوالية، لأنّ الظاهر من تقدير شيءٍ قابل للاستمرار والدوام، بجعل مقدارٍ من الزمان ظرفاً له، هو اعتبار وحدته، وعدم انفصال بعض أجزائه عن بعض، ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بالجلوس ثلاث ساعات في المسجد، لا يشكّ أحدٌ في ظهوره في إرادة الجلوس مستمرّاً، فلو جلس ساعة في أوّل النهار، وساعة في وسطه، وساعة في آخره، لايكون ممتثلاً له.

أقول: بقي اُمور، لأجل وضوحها أغمضنا عن بيانها.م.

ص: 396


1- التهذيب: ج 3/211 ح 21، وسائل الشيعة: ج 8/493 ح 11260.
2- وسائل الشيعة: ج 8/492 باب: أنّ من وصل إلى منزل له قد استوطنه ستّة أشهر فصاعداً أو ملك كذلك ولونخلة واحدة وجب عليه التمام.

ولو نَوى المسافر إقامة عشرة أيّام أتمّ .

قاطعيّة الإقامة لعشرة أيّام
اشارة

الثاني من قواطع السّفر: العزم على إقامة عشرة أيّام متواليات في مكانٍ واحد، وقد تقدّم تنقيح القول فيه في شروط القصر، وعرفت أنّه قاطعٌ للسفر لا لحكمه، وقد تقدّم أيضاً أنّه لا كلام (و) لا إشكال في أنّه (لو نوى المسافر إقامة عشرة أيّام) في مكانٍ (أتمّ ) صلاته.

ويشهد له: النصوص البالغة حَدّ التواتر(1) فلا مورد لإطالة الكلام في أصل المسألة، وإنّما يقع البحث في المقام عن اُمور:

لا دَخَل في ذكر البلد والضيعة في الحكم

الأمر الأوّل: أنّ ما في جملة من النصوص من تخصيص البلد والضيعة بالذكر، إنّما يكون من باب التمثيل، ولا دَخَل لهما في الحكم، لإطلاق بعض النصوص الاُخر كصحيح زرارة: «إذا دخلتَ أرضاً فأيقنتَ أنّ لك بها مقام عشرة أيّام فأتمّ الصَّلاة»(2).

المراد بنيّة الإقامة هو الجزم بالبقاء

الأمر الثاني: أنّ المراد بنيّة الإقامة في كلمات الفقهاء، ليس هو القصد الخاص المعبّر عنه في كلماتهم بالنيّة، المعتبر في تحقّقها الاختيار، بل المراد بها الجزم بالبقاء ولو بأسباب قهريّة، لأنّه - مضافاً إلى وضوحه - يشهد له صحيح زرارة المتقدّم وغيره، والمراد بالجزم هو ما لا ينافيه الاحتمالات البعيدة، التي لا ينظر اليها في

ص: 397


1- وسائل الشيعة: ج 8/498 باب أنّ المسافر إذا نوى الإقامة عشرة أيّام وجب عليه الإتمام.
2- الكافي: ج 3/435 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/500 ح 11283.

العرف والعادة.

يشترط وحدة محلّ الإقامة بلا خلافٍ

الأمر الثالث: يشترط وحدة محلّ الإقامة بلا خلافٍ ، لظهور الأدلّة في اعتبار الإقامة الواحدة المستمرّة، ومن عَزَم على إقامة عشرة أيّام في بلدين، بأنْ يُقيم في كلّ بلدٍ خمساً لا يقال عنه إنّه عازمٌ على إقامة عشرة أيّام في أرض معيّنة، ولا ينافيه ما ورد في موثّق عبد الرحمن بن الحجّاج، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرّجل تكون له الضياع بعضها قريبٌ من بعض، يخرج فيُقيم فيها، أيُتمّ أو يقصّر؟ قال عليه السلام: يُتمّ »(1).

وعن الشيخ(2) والصدوق(3) نحوه، إلّاأنّه قال: (يطوف) بدل (يُقيم).

لأنّه يحتمل أن يكون المراد منه، ما دلَّ عليه بعض النصوص من وجوب التمام في الضيعة، وقد تقدّم الكلام فيه، فيكون أجنبيّاً عمّا نحن فيه.

أقول: وقد وقع الكلام بين الأعلام في بيان المراد من الوحدة المعتبرة في محلّ الإقامة، إذ لا ريب في أنّ المراد ليس الوحدة الحقيقيّة، كي ينافيها تردّد المقيم في البلد من داره إلى المسجد، ولا الوحدة الاعتباريّة، لاختلافها جدّاً، مثلاً البلاد المتعدّدة الكثيرة تكون واحدة ببعض الاعتبارات كما هو الحال في إيران.

وما ذكره بعضٌ : من أنّ المراد(4) هو الوحدة الاعتباريّة، بلحاظ عنوان الإقامة، فإذا كانت الأمكنة المتعدّدة حقيقةً بنحوٍ لا يكون تعدّدها موجباً لتعدّد الإقامة عرفاً فيها، كانت مكاناً واحداً بذلك الاعتبار، وإنْ كانت موجبة لتعدّد الإقامة

ص: 398


1- الكافي: ج 3/438 ح 6، وسائل الشيعة: ج 8/498 ح 11276.
2- التهذيب: ج 3/213 ح 31.
3- من لايحضره الفقيه: ج 1/441.
4- مستمسك العروة: ج 8/118.

عرفاً كانت متعدّدة.

يرد عليه: أنّ وحدة الإقامة وتعدّدها تابعة لوحدة محلّها وتعدّده، فلا وجه لتعريفها بها.

وبعبارة اُخرى : إنّه تعريفٌ بأمر مجهول، لعدم وضوح ملاك وحدة الإقامة - وهي الكون في المحلّ - وتعدّدها.

وعليه، فالأولى هو الإيكال إلى العرف، أي أنّ المراد منها هو الوحدة الملحوظة في الوطن، بمعنى أنّه لو فرضنا كون ذلك المحلّ وطناً له، عُدّ بنظر العرف واحداً، وعلى هذا فلابدّ من ملاحظة خصوصيّات الأمكنة، مثلاً لا تلاحظ بلاد العراق بما هي وطناً للشخص، بل بلد منه فلا تكون بهذا اللّحاظ واحدة، بخلاف محلّات البلد، فإنّه بهذا اللّحاظ لا تعدّ كلّ محلّة بما هي في قبال الاُخرى ، بل المجموع يعدّ مكاناً واحداً، فالمعتبر في محلّ الإقامة هو الوحدة بهذا المعنى.

وإنْ شئت قلت: إنّ المراد منها هو المحلّ الذي لو اُضيفت إليه الإقامة وقيل إنّ فلاناً أقام في هذا المحلّ ، لا تكون النسبة مجملة بنظر العرف، بخلاف ما لو قيل إنّ زيداً أقام في إيران شهراً، كان ذلك مجملاً، ولا يصحّ عندهم السكوت عليه، بل يسألون عن أنّه ساكن في أيّ بلدٍ منه، وهذا بخلاف ما لو اُضيفت الإقامة إلى البلد.

***

ص: 399

قَصدُ الخروج عن السّور لا ينافي الإقامة
اشارة

الأمر الرابع: وقع الخلاف بين الأعلام في أنّ نيّة الخروج عن حدود سور البلد أو عن حَدّ الترخّص، هل تُنافي قصد إقامة العشرة ليعتبر عدمها، أم لا؟ فيقع البحث هنا عن مسألتين:

منافاة قصد الخروج لقصد إقامة العشرة في ابتداء الإقامة

المسألة الاُولى: منافاة قصد الخروج لقصد إقامة العشرة في ابتداء الإقامة.

المسألة الثانية: منافاته له في أثنائها.

أمّا المسألة الاُولى: ففيها أقوال:

القول الأوّل: اعتبار قصد عدم الخروج عن مدار سور البلد، ولو إلى ما دون حَدّ الترخّص، وقد نُسب ذلك إلى الفاضل التوني(1)، وظاهر «الحدائق»(1)، ممّا يدلّ على اشتهار هذا القول في عصرهما.

القول الثاني: اعتبار قصد عدم الخروج إلى ما زاد على حَدّ الترخّص، والظاهر أنّ هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل هو المتّفق عليه إلى زمان الفخر.

القول الثالث: عدم إضرار قصد الخروج إلى ما دون المسافة، وهو المنسوب إلى فخر المحقّقين، واختاره الكاشاني، ونُسب إلى الاُستاذ الأكبر(3)، واختاره جمعٌ من المتأخّرين(2) عنه، ولكنّهم اعتبروا الرجوع ليومه أو ليلته.

أقول: وأمّا نسبة هذا القول إلى المصنّف رحمه الله، فهي خطأٌ واشتباهٌ وخلط بين هذه

ص: 400


1- الحدائق الناضرة: ج 11/344 (وما اشتهر في هذه الأوقات المتأخّرة والأزمنة المتغيّرة، من أنّ من أقام في بلد مثلاً فلا يجوز له الخروج من سورها المحيط بها أم عن حدود بنيانها ودورها).
2- مصباح الفقيه: ج 2/754 ق 2. لا خلاف.

المسألة والمسألة الثانية، كما أنّ هذا الوهم أوجبَ الاستدلال ببعض ما لا ربط له بالمقام.

وكيف كان، فقد استدلّ للأوّل بأنّ هذا هو معنى الإقامة في البلد حقيقة، إذ البلد اسمٌ لمجتمع دورٍ، وما أحاط به سور، وعليه فلابدّ من الالتزام بمنافاة قصد الخروج عنه ولو إلى ما دون حَدّ الترخّص لقصد إقامة عشرة أيّام في البلد.

وفيه: إنّا لا ندّعي أنّ عنوان البلد له حقيقة شرعيّة، وحَدّه خفاء الأذان والجدران، كي يرد عليه ما في «الجواهر»(1) و «مصباح الفقيه»(2) من منع ذلك، بل ندَّعي أنّ ما دون حَدّ الترخّص من توابع البلد عرفاً، ولا يعدّ عند العرف مغايراً لمحلّ الإقامة، فإنّ من يسمع أذان البلد ويرى جدرانه لا يعدّ غائباً عن البلد، ومرتحلاً وذاهباً عنه، بل هو حاضر فيه. وعليه، فلا وجه للمنع عن قصد الخروج إلى ما دون حَدّ الترخّص، فهذا القول في غاية الضعف.

ولا فرق فيما ذكرناه بين المكث الطويل والقصير.

أقول: وبما ذكرناه ظهر مدرك القول الثاني المؤلّف من دعويين:

أحدهما: عدم إضرار قصد الخروج إلى ما دون حَدّ الترخّص.

الثانية: اعتبار قصد عدم الخروج عن حَدّ الترخّص إلى ما دون المسافة.

فإنّ الدعوى الاُولى تُثبت بما أُورد على الاستدلال للقول الأوّل، والدعوى الثانية تُثبت بذلك الدليل، من جهة أنّ ما فوق حَدّ الترخّص مغاير للبلد، فقصد الخروج إليه ينافي قصد الإقامة.2.

ص: 401


1- جواهر الكلام: ج 14/304.
2- مصباح الفقيه: ج 2/754 ق 2.

وإنْ شئت قلتَ : إنّ القول بعدم اعتبار قصد عدم التجاوز عن حَدّ الترخّص، يتوقّف على أحد اُمور:

إمّا القول بأنّ الإقامة عبارة عن كون المحلّ مقرّاً له ومحطّاً لرحله، كي لا ينافيه قصد الخروج.

وإمّا القول بعدم اعتبار التوالي في العشرة، فلا يضرّ قصد الخروج إذا قصد الإضافة إلى العشرة بمقدارٍ يقصد الخروج إلى الخارج.

وإمّا القول بعدم اعتبار وحدة محلّ الإقامة.

أقول: والكلّ فاسدٌ:

أمّا الأوّل: فلأنّ الإقامة في بلدٍ في مدّةٍ من الزمان، عبارة عن بقائه فيه متخليّاً عمّا هو شغل المسافرين في كلّ يوم من قطع مسافة قصيرة أو طويلة.

وبعبارة اُخرى : الإقامة عبارة عن الحضور الدائم في المحلّ دون أن يتركه ولو لفترةٍ قصيرة.

وأمّا الثاني: فلأنّه لا خلاف في اعتبار التوالي، والشاهد عليه نصوص التحديد بأجمعها، إذ الظاهر من تقدير شيء قابل للاستمرار والدوام بجعل مقدارٍ من الزمان ظرفاً له، هو اعتبار وحدته، وعدم انفصال بعض أجزائه عن بعض، ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بالجلوس ثلاث ساعات في محلٍّ خاصّ ، لا يشكّ أحدٌ في ظهوره في إرادة الجلوس مستمرّاً.

وأمّا الثالث: فلما عرفت من اعتبار وحدة محلّ الإقامة مفصّلاً في الأمرالثالث.

وقد استدلّ للقول الثالث: وهو فيما إذا رجع ليومه أو ليلته، بوجهين:

ص: 402

الوجه الأوّل: أنّ الموضوع هي الإقامة العرفيّة، وهي لا تنافي مع هذا المقدار من الخروج

وفيه: إنْ اُريد بالإقامة العرفيّة، كون العرف هو المرجع في تعيين مفهوم الإقامة فهذا ممّا لا ريب فيه، إلّاأنّ الإقامة عندهم ليست إلّاما ذكرناه آنفاً.

وإنْ اُريد بها الرجوع إليهم في تطبيق المفهوم على المصداق، وأنّه عادةً تُراعى المسامحات العرفيّة في هذا المقام، فهو فاسدٌ، إذ المسامحات العرفيّة في هذا المقام مرفوضة لا اعتبار بها.

الوجه الثاني: إنّ حقيقة الإقامة ليست إلّاكون المحلّ مقرّاً له، ومحطّاً لرحله، وبديهي أنّ هذا لاينافي مع الخروج المذكور.

وفيه: ما عرفت ما فيه آنفاً.

واستدلّ للقول الثالث: - وهو عدم الإضرار مطلقاً - بجملة من النصوص:

منها: خبر محمّد بن إبراهيم الحضيني، قال: «استأمرت أبا جعفر عليه السلام في الإتمام والتقصر؟ قال عليه السلام: إذا دخلتَ الحرمين فانو عشرة أيّام وأتمّ الصَّلاة. فقلت له:

إنّي أقدم مكّة قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة ؟ قال عليه السلام: انو مقام عشرة أيّام وأتمّ الصَّلاة»(1).

وتقريب الاستدلال: إنّه حين القصد في الفرض لا محالة يكون قاصداً الخروج إلى عرفات للحجّ قبل مُضيّ العشرة، فيدلّ الخبر على عدم إضراره.

وفيه أوّلاً: إنّ الخبر ضعيفُ السند، لعدم ثبوت وثاقة محمّد بن إبراهيم ولا حسنه.7.

ص: 403


1- التهذيب: ج 5/427 ح 130، وسائل الشيعة: ج 8/528 ح 11357.

وثانياً: إنّ تماميّة الاستدلال به تتوقّف على عدم كون عرفات مسافة ولو لمن لا يرجع من يومه، وإلّا فالخبر ممّا اتّفق الأصحاب على طرحه وعدم العمل به، والثابت خلافه.

وبعبارة اُخرى : الاستدلال به يتوقّف على عدم كون عرفات على أربعة فراسخ من مكّة، أو عدم كون الأربعة مع عدم الرجوع ليومه مسافة، وإلّا فالخبر لم يعمل به أحد.

اللّهُمَّ إلّاأن يُقال: إنّ الأصحاب إنّما أفتوا بمضرّية قصد الخروج إلى المسافة التي يتعيّن فيها القصر، ولم يتعرّضوا لقصد المسافة التي يصبح المكلّف فيها بالخيار بين القصر والتمام كما في الأربعة مع مبيت ليلة.

وثالثاً: يحتمل دخل خصوص مكّة في هذا الحكم، أي وجوب الإتمام لو نوى مثل هذه الإقامة المتخلّلة بقطع هذه المسافة، كما أنّ أصل جواز الإتمام أو رجحانه للمسافر مختصٌّ بها.

ولعلّه إلى هذا نظر الشيخ رحمه الله(1) - على مانقل عنه صاحب «الحدائق»(2) - حيث حكم باعتبار النيّة، مع علم عدم الإقامة في مكّة خاصّة.

ومنها: صحيح زرارة، عن الباقر عليه السلام: «مَنْ قَدِم قبل التروية بعشرة أيّام وجب عليه إتمام الصَّلاة، وهو بمنزلة أهل مكّة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتمّ الصَّلاة إذا رجع إلى منى حتّى ينفر»(3).8.

ص: 404


1- الا ستبصار: ج 2/332.
2- الحدائق الناضرة: ج 11/447.
3- وسائل الشيعة: ج 8/464 ح 11178.

تقريب الاستدلال - كما في «الوافي» -: أنّه لا يتمّ حكمه عليه السلام بوجوب الإتمام بعد قضائه نُسُك عرفات، ورجوعه لزيارة البيت، بعد فسخ إقامته الاُولى بخروجه إليها، إلّابأنْ يكون قد نوى الإقامة فيه بعد الحجّ ، كما هو المعتاد على ما قيل، ولذا تَرَك التقيّد به في النص وإتمامه حينئذٍ، بمعنى لا يتمّ إلّاإذا قلنا بعدم منافاة قصد مثل ذلك في ابتداء الإقامة لها.

وفيه: أنّه لو سُلّم هذا التأويل، مع أنّه لا شاهد له، فغاية ما يدلّ عليه الصحيح أنّ الخروج إلى ما دون المسافة بعد تحقّق الإقامة لا يضرّ، وهذا هو الفرع الآتي، ولا إشعار له بقصد ذلك من ابتداء الإقامة الذي هو محلّ الكلام، فتأمّل، فالعمدة أنّه تأويلٌ لا شاهد له.

ومنها: موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن أهل مكّة إذا زاروا عليهم إتمام الصَّلاة ؟ قال عليه السلام: نعم، المُقيم بمكّة إلى شهر بمنزلتهم»(1).

بتقريب: أنّه اُريد به ما لو نوى الإقامة قبل الخروج إلى عرفات وبعده، ويكون تخصيص الشهر بالذِّكر، لاشتماله على الإقامتين اللّتين يتمّ بهما التشبيه بأهله في وجوب الإتمام عليه.

وفيه: - مضافاً إلى أنّ هذا تأويلٌ لا شاهد له - أنّه لو تمّ لابدّ من طرح الموثّق؛ لاشتماله على عدم مضريّة قصد الخروج إلى عرفات، أو الالتزام باختصاصه بمكّة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه يعتبر في قصد الإقامة قصد عدم الخروج إلى ما فوق حَدّ الترخّص.

***9.

ص: 405


1- التهذيب: ج 5/487 ح 387، وسائل الشيعة: ج 8/472 ح 11199.
إذا بدا للمُقيم الخروج إلى ما دون المسافة

وأمّا المسألة الثانية: وهي ما إذا تحقّقت الإقامة وتمّت العشرة، أو صَلّى صلاةً رباعيّة تامّة، ثمّ بدا للمُقيم الخروج إلى ما دون المسافة، ولو ملفّقةً ، فلها صور:

الصورة الاُولى: ما إذا خرج إلى ما دون المسافة، مع العزم على العود إلى محلّ الإقامة، أو إلى محلٍّ آخر وإقامة عشرة مستأنفة، كما إذا خرج من النجف إلى الكوفة مع العزم على العود إليه وإقامة عشرة أيّام فيه، أو العزم على إقامة العشرة في محلّ آخر ممّا يكون بينه وبين النجف أقلّ من المسافة.

أقول: المشهور بين الأصحاب في هذه الصورة أنّه يُتمّ في الذهاب والمقصد والإياب، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه.

وعن صاحب «المحصول»(1) - من معاصري صاحب «الجواهر» - وبعض من تقدّم عليه، والشيخ محمّد طه نجف(2): أنّه يجب عليه القصر من حين الخروج إلى أن ينتهي إلى محلّ قصد الإقامة.

والأوّل أقوى ، لما عرفت من أنّ الإقامة قاطعة للسفر موضوعاً، فالقصر يحتاج إلى إنشاء سفرٍ جديد، وهو غير حاصل في الفرض.

أقول: واستدلّ للقول الآخر بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الإقامة قاطعة للسفر حكماً لا موضوعاً، فالمقيم في محلّ

ص: 406


1- حكاه عنه السيّد الإصفهاني في صلاة المسافر: 103.
2- حكاه عنه السيّد الإصفهاني في صلاة المسافر: 103-104، وأيضاً أشار إليه قوله في مستمسك العروة الوثقى : ج 8/132.

مسافر فيه، غاية الأمر يُتمّ ، فإذا خرج يكون مقتضى العمومات الدالّة على وجوب القصر على المسافر وجوبه عليه.

وبعبارة اُخرى : يتّصل السير الواقع بعد الإقامة بما قبلها، فيكون مسافراً يجب عليه القصر.

وفيه: ما عرفت في شرط القصر مفصّلاً من أنّ الإقامة قاطعةٌ للسفر موضوعاً لا حكماً.

وأمّا ما أجاب به بعض المعاصرين(1) - تبعاً للمحقّق النائيني رحمه الله(2) - من أنّه لو سُلّم كونها قاطعة لحكم السّفر، تعيّن أيضاً البناء على التمام، لأنّه إذا ورد عام وكان الزمان قيداً للحكم نفسه، وكان الحكم تحت الزمان، ولم يكن قيداً للمتعلّق - كما في المقام - فإنّ المستفاد من آية التقصير(3) بضميمة ما ورد(4) من الأخبار في تفسيرها، من أنّ الزمان ظرف للحكم، وخُصّص ذلك في زمان، ثمّ بعد مُضيّ ذلك الزمان شُكّ في بقاء حكم المخصّص وعدمه، يكون المرجع استصحاب حكم المخصّص لا عموم العام، وهكذا في المقام، فإنّه بعد خروج المقيم حال إقامته عن حكم المسافر، يشكّ في أنّه إذا خرج عنه إلى ما دون المسافة هل يكون حكم التمام باقياً أم لا؟ فالواجب حينئذٍ استصحاب حكم التمام، ولا مجال للرجوع إلى عموم أدلّة القصر.

ففاسدٌ: لما حقّقناه في محلّه في الاُصول،(5) من أنّ المرجع في جميع موارد هذه الكبرى الكليّة هو عموم العام، ولا مجال للرجوع في شيء من الموارد إلى6.

ص: 407


1- مستمسك العروة: ج 8/132.
2- منية الطالب: ج 3/171 تقرير بحث النائيني للخوانساري.
3- سورة النساء: الآية 101.
4- وسائل الشيعة: ج 8 باب 22، من أبواب صلاة المسافر.
5- زبدة الاصول: ج 6/46.

استصحاب حكم المخصّص، إذ المختار عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، لكونه محكوماً لاستصحاب عدم الجعل، فعلى القول بكون الإقامة قاطعة للسفر حكماً، لا مناص عن الرجوع إلى عموم أدلّة القصر، إذا خرج عن محلّ الإقامة.

وعليه، فالحقّ في الجواب ما ذكرناه.

الوجه الثاني: صحيح أبي ولّاد، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي كنتُ نويتُ حين دخلتُ المدينة أنْ اُقيم بها عشرة أيّام، وأتمّ الصَّلاة، ثمّ بدا لي بعدُ أن لا اُقيم بها، فما ترى لي، أتمّ أم أُقصّر؟

قال عليه السلام: إنْ كنتَ دخلت المدينة وصلّيت بها صلاة فريضةٍ واحدة بتمام، فليس لك أن تقصّر حتّى تخرج منها، وإنْ كنتَ حين دخلتها على نيّتك المُقام، فلم تصلِّ صلاةً فيها فريضة واحدة بتمام، حتّى بدا لك أن لا تُقيم، فأنت في تلك الحال بالخيار(1) الحديث». بدعوى أنّ مقتضى إطلاق الخروج ذلك.

وفيه: أنّ الخروج المجعول غايةً للحكم، ظاهرٌ بقرينة الصدر وذيل الخبر في إرادة السفر والمفارقة لا مطلق الخروج، وعليه فمقتضى إطلاق المنطوق عدم القصر ما لم ينشأ سفراً جديداً.

الصورة الثانية: أن يكون عازماً على عدم العود إلى محلّ الإقامة قبل أن يصل إلى مقصده.

أقول: وحكمه وجوب القصر بلا خلافٍ ، إذا كانت الفاصلة من محلّ إقامته إلى مقصده مسافة، أو كان مجموع ذلك والرجوع منه إلى محلّ الإقامة أو بلد آخر المسافة، لما دلّ على وجوب القصر على المسافر، إذ المفروض أنّه بخروجه عن5.

ص: 408


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/437 ح 1270، وسائل الشيعة: ج 8/508 ح 11305.

محلّ الإقامة قاصدٌ للسفر الجديد، غاية الأمر في الفرض الأوّل يكون السير ممتدّاً مستقيماً، وفي الثاني يكون ممتدّاً غير مستقيم، وفي الثالث يكون ملفّقاً كما لا يخفى .

الصورة الثالثة: أن يكون عازماً على العود إلى محلّ الإقامة من دون قصد إقامة مستأنفة، لكن من حيث إنّه منزلٌ من منازله في سفره الجديد.

أقول: اختلفت كلمات المتأخّرين في المقام، وأمّا القدماء منهم إلى زمان الشيخ رحمه الله فلم يتعرّضوا للمسألة:

فعن جماعةٍ - كالشيخ(1)، والمصنّف في كثيرٍ من كتبه وغيرهما، بل عن الشهيد نسبته إلى المتأخّرين(2) - أنّ حكمه وجوب القصر في الذهاب، والمقصد ومحلّ الإقامة، والإياب إليه.

وعن المصنّف في جواب «المسائل المهنائيّة»(3) وولده(4)، وجمعٌ من متأخّري المتأخّرين(5) أنّه يُتمّ في الجميع.

وعن جماعةٍ كالشهيد(6) في جملةٍ من كتبه، والمحقّق الثاني(7) وغيرهما، أنّه يُتمّ في الذهاب والمقصد، ويقصّر من حين الإياب، واختاره الاُستاذ الأعظم(8).

أقول: حقّ القول في المقام يقتضي التكلّم في موضعين:9.

ص: 409


1- المبسوط: ج 1/138.
2- رسائل الشهيد الثاني: ج 1/301.
3- كما يظهر من أجوبة المسائل المهنائيّة ص 131.
4- إيضاح الفوائد: ج 1/166.
5- مصباح الفقيه: ج 2/765 ق 2.
6- البيان: ص 266.
7- رسائل الكركي: ج 1/124.
8- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 409.

الأوّل: في الذهاب وبه يظهر حال المقصد.

الثاني: في الإياب ومحلّ الإقامة.

أمّا الموضع الأوّل: فقد استدلّ لوجوب القصر فيه بوجوه:

منها: أنّ الإقامة قاطعة لحكم السّفر لا لموضوعه، فبعد خروجه عن محلّ إقامته تبطل إقامته، فيتّصل سفره من حين الخروج عن ذلك المحلّ إلى ما قبل دخوله فيه ممّا يقتضي أن يقصّر.

وفيه: ما تقدّم من أنّ الإقامة قاطعة للسفر موضوعاً لا حكماً.

ومنها: أنّ المسافة الملفّقة وإنْ كان الذهاب أقلّ من أربعة فراسخ كافية في الحكم بالقصر، وفي المقام بما أنّ الخارج إلى ما دون المسافة يكون ابتداء سفره من حين خروجه عن محلّ إقامته، يكون بخروجه عنه محكوماً بوجوب القصر، وإنْ كان ذهابه أقلّ من أربعة فراسخ.

وفيه: ما تقدّم من اعتبار كون الذهاب أربعة وما فوقها، وعدم كفاية التلفيق فيما إذا كان الذهاب أقلّ من ذلك.

ودعوى(1): أنّ ذلك في غير ما إذا كان الذهاب بنفسه مسافة، ولكنّه انقطع لاحقه عن سابقه بإقامة ونحوها، وأمّا في هذه الصورة فتكفي.

مندفعة: بأنّ الإقامة بما أنّها قاطعة للسفر موضوعاً، فلا يكون الذهاب بنفسه مسافة كما هو واضح.

وتوهم: أنّ مدرك عدم كفاية التلفيق فيما إذا كان الذهاب أقلّ من الأربعة في مقابل المطلقات، إنّما هو الإجماع، والمتيقّن منه غير المورد.2.

ص: 410


1- مصباح الفقيه (ط. ق): ج 2/766 ق 2.

فاسد: فإنّ مدرك ذلك ظهور نصوص الأربعة فراجع،(1) وهي تقتضي عدم الاكتفاء بالتلفيق في هذا الفرض أيضاً.

ومنها: أنّ الذهاب الذي أقلّ من أربعة فراسخ، وإنْ لم يحتسب جزءٌ من المسافة الموجبة للقصر بمقتضى الأدلّة، إلّاأنّه إذا كان الإياب بنفسه بمقدار المسافة، فإنّه لا مانع من ثبوت حكم السّفر من أوّل الشروع في الذهاب، فإنّ موضوع القصر السّفر المشتمل على قطع الثمانية، وهو يثبتُ من أوّل الشروع فيه والتلبّس به، ففي المقام بما أنّ المفروض كون الإياب بنفسه بمقدار المسافة، فمن بداية الشروع في السّفر المشتمل عليه - أي من أوّل الخروج عن محلّ إقامته - يجب عليه القصر.

وفيه: أنّ الظاهر من الأدلّة إنّما هو وجوب القصر من حين الشروع في قطع المسافة الموجبة للقصر.

فتحصّل: أنّ القول بالقصر في الذهاب ضعيفٌ ، بل عليه أن يُتمّ فيه، وبه يظهر أنّه يُتمّ في المقصد أيضاً.

وأمّا الموضع الثاني: فمقتضى أدلّة القصر، لزوم التقصير عليه، لأنّه قاصدٌ للمسافة وسفر جديد، ومحلّ الإقامة كأحد منازله الواقعة في طريقه، فلا يكون العبور إليه قاطعاً لسفره.

أقول: وقد استدلّ لوجوب التمام عليه فيهما - أي في الإياب ومحلّ الإقامة - بوجهين:

أحدهما: أنّ الإقامة قاطعة للسفر موضوعاً، ففي ثبوت القصر لابدّ من قصد السّفر عن محلّ الإقامة، بحيث يكون الكون فيه خارجاً عنه، وهذا إنّما ينطبق علىد.

ص: 411


1- صفحة 298 و 299 من هذا المجلّد.

الخروج عن محلّ الإقامة كليّة، بعد العود إليه، ولا ينطبق على الإياب إليه، وإلّا لزم كون المرور بمحلّ الإقامة جزءً من السّفر عنه، وهو باطلٌ .

وفيه: الإقامة وإنْ تعدّ قاطعة للسفر موضوعاً لا حكماً، إلّاأنّ لازم ذلك ليس كون محلّ الإقامة ممّا يضرّ المرور إليه إلى الابدّ، بل مادام لم يرتحل عنه، ولم يبطل عنوان الإقامة عرفاً بالإعراض عن الإقامة فيه، وسلب العلاقة عنه.

وبعبارة اُخرى : يعدّ الموضع محلّ إقامته وعليه التمام فيه ما لم يسافر عنه، فعلى هذا بما أنّ الخارج عنه إلى ما دون المسافة في الفرض قاصدٌ للسفر الجديد، ومُنشأٌ له، فهو بخروجه يصبح متلبّساً بالسفر، وعوده إلى محلّ إقامته إنّما يكون من قبيل المرور على سائر منازله في سفره الجديد، فلا وجه لوجوب التمام عليه.

ثانيهما: أنّ مقتضى إطلاق قوله عليه السلام في صحيح أبي ولّاد المتقدّم: (فليس لك أن تقصر حتّى تخرج منها) هو تعيّن التمام ما لم يخرج عن محلّ الإقامة مسافراً، بحيث يكون خطّ السير خارجه.

وفيه: أنّ الصحيح إنّما يدلّ على لزوم التمام ما لم يخرج مسافراً، ولا يدلّ على اعتبار كون خطّ السير في خارجه، والمفروض أنّه بالخروج عن محلّ الإقامة إلى ما دون المسافة، يخرج عنه مسافراً ولا يعود إليه إلّاكمروره على سائر منازله، فالأظهر لزوم القصر عليه في الإياب ومحلّ الإقامة.

الصورة الرابعة: أن يكون عازماً على العود إليه، باعتبار أنّه محلّ إقامته، بأنْ لا يكون حين الخروج معرضاً عنه، بل قصد قضاء حاجته في خارجه ثمّ العود إليه، ثمّ إنشاء السّفر منه ولو بعد يومين أو يوم، بل أقلّ منهما.

أقول: اختلفت كلمات الأصحاب في هذه الصورة أيضاً، ولهم فيها أقوال ثلاثة،

ص: 412

وتنقيح القول في المقام أيضاً يقتضي التكلّم في موردين:

الأوّل: في الذهاب والمقصد.

الثاني: في الإياب ومحلّ الإقامة.

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ لوجوب القصر فيهما بما استدلّ به على وجوبه فيهما في الصورة السابقة.

والجواب عنه: - مضافاً إلى ما عرفت - ما ستعرف من عدم كونه بالخروج عن محلّ إقامته مسافراً ومتلبّساً بالسير الموجب للقصر، فلا ينبغي التوقّف في أنّ عليه أن يُتمّ .

وأمّا المورد الثاني: فالأظهر فيهما التمام أيضاً، لعدم كونه مسافراً ومتلبّساً بالسير السّفري الموجب للقصر بالإياب، بل مبدأ سفره إنّما هو الخروج ثانياً عن محلّ الإقامة، فلا قصر عليه في الإياب ومحلّ الإقامة.

ويشهد له: - مضافاً إلى العمومات(1) الدالّة على وجوب التمام على المقيم عشرة أيّام ما لم يسافر - إطلاق قوله عليه السلام في صحيح(2) زرارة: (حتّى ينفر).

أقول: وقد استدلّ لوجوب القصر عليه فيهما بوجهين:

الوجه الأوّل: ما عن الشيخ الأعظم رحمه الله(3) وهو أنّ مناط التقصير شرعاً ليس صدق السّفر إلى محلٍّ حتّى يُقال إنّه غير متلبّس بالسّفر الفلاني، بل العنوان المذكور في الأدلّة هو قصد قطع مسير ثمانية فراسخ غير ناوٍ لإقامة عشرة أيّام في أثنائه،0.

ص: 413


1- وسائل الشيعة: ج 8/498 باب: أنّ المسافر إذا نوى الإقامة عشرة أيّام وجب عليه الإتمام في الصَّلاة والصيام.
2- التهذيب: ج 5/488 ح 388، وسائل الشيعة: ج 8/464 ح 11178.
3- كتاب الصَّلاة (ط. ق): ص 440.

وتلبّس بجزء من تلك المسافة، ومن البيّن أنّ من يعود إلى محلّ إقامته في الفرض، يصدق عليه هذا العنوان، لكونه قاصداً الخروج عنه إلى بلدٍ يكون مسافة، وإنْ لم يصدق عليه المسافر إلى ذلك البلد.

وفيه: الموضوع في الأدلّة كما صرّح بذلك جماعة ليس مطلق السفر، بل السّفر البالغ حَدّ ثمانية فراسخ، ولذلك قال المحقّق الأردبيلي(1) في «مجمع البرهان» ذيل هذه المسألة: (وبالجملة: الحكم تابعٌ لقصده، فإنْ صدق عليه عرفاً أنّه مسافر تحقّقت شرائط القصر قصّر، وإلّا أتمّ )، ونحوه كلام غيره.

الوجه الثاني: ما ذكره بعض المعاصرين(2)، من أنّ عدم صدق السّفر إلى ذلك البلد الذي بينه وبين محلّ الإقامة مسافة من حين السير من المقصد، مبنيٌ على المسامحة، إذ لا ينبغي التأمّل في كون المسافر عند شروعه في الإياب قاصداً للسفر إلى ذلك البلد حقيقةً ، غاية الأمر أنّه بلحاظ كونه لما لم يقضّ وطره من محلّ الإقامة يقال بنحوٍ من العناية: إنّه ذاهبٌ إلى محلّ الإقامة لا الى بلده، وهذا المقدار لا يدور عليه الحكم، فلا يكون هذا المقام في هذا الموضع قاطعاً للسفر.

ثمّ تنظّر في المقام بما إذا خرج من وطنه لحاجة له في موضعٍ على رأس ثلاثة فراسخ، لكنّه عجز عن النزول فيه عند الوصول إليه لعدم وقوف القطار فيه مثلاً، بل كان محطّته على رأس أربعة فراسخ، فإنّه إذا وقف القطار على رأس الأربعة، فرجع إلى مقصده يقال عند شروعه في الرجوع إليه إنّه قاصدٌ السّفر إلى المقصد لا إلى بلده، مع أنّه لا يظنّ من أحدٍ التوقّف في وجوب القصر عليه في الذهاب4.

ص: 414


1- مجمع الفائدة: ج 3/442.
2- مستمسك العروة: ج 8/134.

والإياب، لما ذكرناه من كونه قاصداً الرجوع إلى بلده حقيقة، وإنْ كان يمرّ بمقصده.

واستشهد لما أفاده بأمرين:

أحدهما: اتّفاق النصّ والفتوى على انحصار قواطع السّفر بالمرور بالوطن، والإقامة عشراً، والتردّد ثلاثين يوماً.

الثاني: أنّ من ضروريّات نصوص الإقامة أنّ الإقامة دون العشرة في الضياع والقرى المملوكة لا تَقطع السّفر، ولا تَقدح في اتّصال السّفر ما قبلها بما بعدها على أيّ نحو كانت، فكيف يكون السكنى في موضع الإقامة قاطعاً في المقام.

يرد عليه: أنّ العرف يرى مثل هذا السير في المقام إلى ذلك البلد فردان، وحيث أنّ قطعة منه سيرٌ إلى محلّ الإقامة، وقطعةٌ منه إلى الخارج، فلا يكون واحداً، كي يكون له حكمٌ واحد.

وإنْ شئت قلتَ : إنّ الإياب بما أنّه عود إلى محلّ الإقامة لا يقصّر فيه.

وأمّا تنظّره فلا علاقة له بالمقام، إذ في المثال يجب القصر لكونه مسافراً ثمانية فراسخ غير قاصدٍ للإقامة في أثنائه، وفي المقام برغم أنّه يقطع ثمانية فراسخ، إلّا أنّه لا يقصّر في الإياب إلى محلّ الإقامة في أثنائه، من حيث أنّ هذا السير قد قُطع بالتوقّف في محلّ الإقامة الذي يعدّ المقام فيه قاطعاً للسفر.

ويرد على الوجه الأوّل: أنّ النصّ والفتوى وإنْ كانا متّفقين على انحصار القواطع بما ذكر، إلّاأنّ المدّعى أنّه بعد كون الإقامة قاطعة للسفر ما لم يقصد السير منه إلى ثمانية فراسخ، لا يبطل حكمها، ففي الحقيقة لا مقتضي لوجوب القصر.

وإنْ شئت قلتَ : إنّ من جملة القواطع الإقامة، وهي ما لم تُبطل، كما تكون قاطعة حدوثاً، تكون مانعة بقاء أيضاً.

ص: 415

أقول: وبذلك يظهر الجواب عن الوجه الثاني الذي ذكره، فإنّ السكنى في الضياع المملوكة دون العشره، مع عدم ثبوت وطنيّتها، لا يعدّ مانعاً عن إجراء حكم السّفر، لانحصار القواطع بما ذكر، وهذا بخلاف المقام في محلّ الإقامة.

فتحصّل: أنّ الأظهر وجوب التمام في الإياب أيضاً.

الصورة الخامسة: أن يكون عازماً على العود إلى محلّ الإقامة، لكن مع التردّد في الإقامة بعد العود وعدمها.

فعن جماعة كسيّد «المدارك»(1)، والمحقّق السبزواري(2)، والاُستاذ الأكبر البهبهاني رحمه الله(3) وغيرهم: أنّه يُتمّ في الذهاب والإياب.

وعن «الغرية»(4)، و «إرشاد الجعفريّة»(5)، و «فوائد الشرائع»(6)، وحاشية «الإرشاد»(5): أنّه يقصّر.

وعن المحقّق الثاني(6): أنّ فيه وجهين:

أقول: أمّا الذهاب، فوجوب التمام فيه بعد وجوبه فيه في الصورتين السابقتين واضحٌ .

وأمّا في الإياب، فعلى القول بوجوب التمام فيه في تينك الصورتين يتمّ ، وعلى القول بوجوب القصر يقصّر، كما لا يخفى .5.

ص: 416


1- مدارك الأحكام: ج 4/481.
2- ذخيرة المعاد: ج 2/415.
3- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 8/136.
4- جواهر الكلام: ج 14/371 (وعن الغرية والدرّة السنيَّة بالتقصير في الفرض في الذهاب والمقصد أيضاً). (5و6) نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 8/136.
5- حاشية الإرشاد: ج 1/225.
6- جامع المقاصد: ج 2/515.

وأمّا على المختار من وجوب القصر في الاُولى منهما، والتمام في الثانية، فيُتمّ فيه في هذه الصورة، إذ التردّد في الإقامة في محلّ الإقامة، تردّدٌ في السّفر الموجب للقصر، ومعه لابدَّ من التمام، إذ في ثبوت القصر لا بدَّ من العزم على السّفر، كما تقدّم في محلّه.

الصورة السادسة: أن يكون عازماً على العود مع الغفلة عن الإقامة وعدمها.

أقول: بناءً على القول بوجوب التمام في الصورتين الثالثة والرابعة، أو القصر فيهما، فإنّه لا كلام فيه في المقام.

وأمّا على المختار من التفصيل:

فإنْ كان مع غفلته عن الإقامة ذاهلاً عن السفر منه بعد العود أيضاً، فالحكم فيه هو التمام، لعدم كونه قاصداً للسفر الذي هو الموضوع لوجوب القصر.

وإنْ كان غير ذاهل عنه، إن أمكن تصوّر الغفلة عن الإقامة مع عدم الغفلة عن السفر، فالحكم هو القصر، لكونه قاصداً للسفر.

اللّهُمَّ إلّاأن يُقال: أنّه وإنْ كان قاصداً للسفر، إلّاأنّ موضوع القصر هو السّفر غير المنقطع بالإقامة في المحلّ ، وهذا غير مقصودٍ على كلّ تقدير.

وعليه، فالأظهر وجوب التمام على المختار مطلقاً.

الصورة السابعة: أن يكون متردّداً في العود وعدمه، أو غافلاً عنه، ففيها فروض:

1 - إذ ربما يكون على فرض عدم العود، قاصداً الإقامة في المقصد.

2 - وربما يكون قاصداً للسفر إلى أهله.

ص: 417

وعلى التقدير الثاني:

تارةً : يكون على تقدير العود قاصداً الإقامة في المحلّ .

واُخرى : يكون قاصداً السفر إلى أهله منه.

وثالثة: يكون متردّداً في ذلك.

أقول: والضابط الكلّي - الذي به يظهر الحكم في جميع الفروض على المختار الذي عرفته في الصورة الثالثة والرابعة - أنّه إنْ كان تردّده في العود وعدمه، أو غفلته عنه موجباً لتردّده في السّفر الموجب للقصر، أي غير المنقطع بالسكنى في محلّ الإقامة من حيث أنّه محلّ إقامته أتمَّ ، وإلّا فيقصّر.

ومنه يظهر أنّ الحكم في الفرض الثالث هو القصر، وفي سائر الفروض هو التمام.

***

ص: 418

المراد باليوم المقام

الأمر الخامس: هل المراد ب (اليوم) في المقام ما يشمل اللّيل، أم المراد به النهار، وعلى الثاني هل المعتبر فيه من طلوع الشمس، أم من طلوع الفجر؟ وجوه.

يندفع الوجه الأوّل: بأنّ (اليوم) اسمٌ للنهار لغةً وعرفاً، وغلبة استعماله فيما يشمل اللّيل لا تصلح أن تكون قرينة لإرادة الأعمّ منه.

ودعوى: أنّ المراد به في المقام مايدخل فيه اللّيل، لأنّه لازم اعتبارالاستمرار.

مندفعة: بأنّه إنّما يقتضي دخول اللّيالي المتوسّطة دون اللّيلة الاُولى والأخيرة.

ويندفع الوجه الثالث: بأنّ بين الطلوعين غير داخل في اليوم عرفاً، مضافاً إلى ما دلَّ على خروجه عن اللّيل والنهار، وأمّا دخوله فيه في موضوع الإعتكاف، فإنّما هو من جهة اعتبار الصوم فيه.

وعليه، فالأقوى هو الوجه الثاني.

أقول: ثمّ إنّه لا ينبغي التوقّف في كفاية التلفيق، وعدم اعتبار عشرة أيّام كاملة بلا تكسر، كما هو الأشهر، لأنّ الظاهر من التحديد ب (اليوم) أو (الشهر) أو ما ماثلهما، هو إرادة المقدار من الزمان، كما يظهر لمن راجع العرف في الموارد التي تقدّر بالأيّام والشهور.

لا يُقال: إنّ نصوص التحديد إنْ حُملت على محض المقدار، فلازمه الاكتفاء بالتلفيق ولو من اللّيل أيضاً، وإنْ حُملت على اليوم التامّ على نحو الموضوعيّة، فلازمه عدم الاكتفاء بالنهار الملفّق.

فإنّه يُقال: إنّ ظهور النصوص في موضوعيّة النهار لا تُنكر، إلّاأنّ الظاهر منها

ص: 419

إرادة اليوم التامّ على نحو الطريقيّة إلى الساعات النهاريّة، وعليه فلا يُجتزي باللّيل، بل يجتزي بالنهار الملفّق.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات القوم في المقام.

***

ص: 420

العدول عن قصد الإقامة بعد العزم عليها
اشارة

الأمر السادس: يدور البحث فيه عن أنّ المسافر إذا عزم على الإقامة، ثمّ عَدَل عن قصده قبل إتمام إقامة العشرة:

فإنْ كان صلّى مع العزم المذكور رباعيّة تامّة، بعد قصده الإقامة، بقي على التمام مادام في ذلك المحلّ ، وإلّا رجع إلى القصر، كما هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل بلا خلافٍ كما عن غير واحد(1).

ويشهد للحكمين: صحيح أبي ولّاد الحنّاط، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي كنتُ نويتُ حين دخلتُ المدينة أنْ اُقيم بها عشرة أيّام وأتمّ الصَّلاة، ثمّ بدا لي بعد أنْ لا اُقيم بها، فما ترى لي أتمُّ أم أُقصّر؟

قال عليه السلام: إنْ كنتَ دخلت المدينة، وحين صلّيت بها صلاة فريضة واحدة بتمام، فليس لك أن تُقصّر حتّى تخرج منها، وإنْ كنتَ حين دخلتها على نيّتك التمام، فلم تُصلِّ فيها صلاة فريضة واحدة بتمام، حتّى بدا لك أن لا تُقيم، فأنتَ في تلك الحال بالخيار، إنْ شئتَ فانو المُقام عشراً وأتمَّ ، وإنْ لم تنو المُقام عشراً فقصّر ما بينك وبين شهر، فإذا مضى لك شهرٌ فأتمّ الصَّلاة»(2).

أقول: ولا يعارضه خبر حمزة بن عبد اللّه الجعفري، قال:

«لمّا أن نفرتُ من منى نويتُ المُقام بمكّة، فأتممتُ الصَّلاة حتّى جاءني خبرٌ من المنزل، فلم أجدُ بُدّاً من المصير إلى المنزل، ولم أدر أتمُّ أم أُقصّر، وأبو الحسن عليه السلام

ص: 421


1- راجع الجامع للشرائع: ص 92، مستمسك العروة: ج 8/124.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/437 ح 1270، وسائل الشيعة: ج 8/508 ح 11305.

يومئذٍ بمكّة، فأتيته فقصصتُ عليه القصّة ؟ قال عليه السلام: ارجع إلى التقصير»(1).

لإعراض الأصحاب عنه.

وعليه، فأصل الحكم في الجملة ممّا لا ريب فيه.

انما الكلام يقع في مواضع:
عدم الفرق بين العزم على السّفر، وبين التردّد فيه

الموضع الأوّل: أنّه لا فرق في هذا الحكم بين العزم على السّفر، وبين التردّد فيه، لإطلاق الصحيح.

ودعوى: اختصاصه بالأولى والوجه فيه حينئذٍ كونه مسافراً بسفرٍ جديد، وهذا بخلاف صورة التردّد، من جهة كون أبي ولّاد عراقيّاً، وكونه عازماًعلى السّفر.

مندفعة: بأنّ جوابه عليه السلام مطلق، بل صريحٌ في ثبوت هذا الحكم لصورة التردّد، لقوله عليه السلام: (فقصّر ما بينك وبين شهر)، مع أنّ السّفر الجديد إنّما يوجب القصر لو تلبّس به لا ما لو عزم عليه، فالوجه في القصر يكون منحصراً في بطلان الإقامة، والرجوع إلى السّفر السابق.

وعليه، فلا فرق بين كون السير الواقع بعد ذلك بمقدار المسافة وعدمها.

فما عن الشهيدين(2) من احتمال اشتراط المسافة، معلّلاً بأنّ الإقامة تقطع السّفر، فيبطل حكم ما سبق، كما لو وصل إلى وطنه.

ضعيفٌ ، لأنّه يشبه الاجتهاد في مقابل النص الذي هو صحيح أبي ولّاد.

ص: 422


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/443 ح 1285، وسائل الشيعة: ج 8/509 ح 11306.
2- الدروس: ج 1/210، قوله: (ولو أُخرج بعد العزم الإقامة وقد صلّى تماماً اشترط مسافة اُخرى )، مسالك الأفهام: ج 1/351، روض الجنان: ص 394، قوله: (فيتوقّف القصر بعده على سفر جديد).
العبرة في البقاء على التمام بإتيان رباعيّة تامّة

الموضع الثاني: ظاهر الصحيح أنّ العبرة في البقاء على التمام بالإتيان بخصوص الفريضة الرباعيّة التامّة، ويترتّب على ذلك فروع:

الفرع الأوّل: أنّه لو شرع في الرباعيّة، ولكن لم يُتمّها فعَدَل عن قصد الإقامة، فإنّه يرجع إلى القصر، وإنْ دخل في ركوع الرّكعة الثالثة.

ودعوى(1): قوله عليه السلام: (وصلّى بها صلاة فريضه واحدة بتمام)، وإنْ هو ظاهرٌ في بادئ النظر في انقضاء الصَّلاة، والإتيان بها بتمامها، إلّاأنّه بعد التأمّل يظهر أنّه بدوي يزول، لأنّ استعمال الماضي في المعنى التلبّسي أمرٌ عرفي شائع، فالمراد هو التلبّس بصلاة رباعيّة.

مندفعة: بأنّ هذا خلاف الظاهر، لا يُصار إليه من دون قرينة.

ودعوى: أنّ الصحيح منصرفٌ عن الفرض، فيجب الرجوع فيه إلى ما دلَّ على وجوب التمام على من قَصَد الإقامة ولو حدوثاً، وهو ما تضمّن إناطة الحكم بوجوب التمام على العزم الظاهر في موضوعيّته لهذا الحكم، وكونه تمام الموضوع.

مندفعة: بمنع الانصراف، لعدم المنشأ له.

وقد يُقال: إنّه في خصوص صورة الدخول في ركوع الرّكعة الثالثة، يمكن أن يُستدلّ للبقاء على التمام بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه يلزم من وجوب القصر، إبطال ما بيده من الصَّلاة، وهو حرام.

وفيه: إنّ لازمه بطلان الصَّلاة من جهة تبدّل الحكم، ولا يكون ذلك إبطالاً منهيّاً عنه.

ص: 423


1- كتاب الصَّلاة للحائري: ص 636.

الوجه الثاني: أنّه غير مندرجٍ تحت قوله عليه السلام: (وإنْ شئت فانو المقام وأتمَّ )، لأنّه لا يتصوّر التخيير بين القصر والتمام في الفرض، فلا محالة يكون مشمولاً للشرطيّة الاُولى .

وفيه: إنّه يتمكّن من القصر بالاستيناف.

وبالجملة: فتحصّل أنّ الأظهر أنّه يلحقه حكم المسافر ما لم يُتمّ صلاته الرباعيّة، وأمّا الصَّلاة التي بيده؛ فإنْ دخل في ركوع الرّكعة الثالثة بطلت لعدم إمكان تصحيحها، وإنْ دخل في قيام الثالثة نقَضَ القيام، وإنْ كان قبله أتمّها ركعتين.

الفرع الثاني: لو قصد الإقامة وأتى بغير الفريضة الرباعيّة ممّا لا يجوز فعله للمسافر كالنوافل، فإنّ عليه الرجوع إلى القصر، لإختصاص الصحيح بالفريضة، والتعدّي عنها إلى غيرها يحتاج إلى العلم بعدم خصوصيّة الفريضة في الحكم، فيكون الموضوع (كلّ ما لايجوز له الدخول فيه للمسافر) أو (كون إرادة العام من الخاص أمراً عرفيّاً ارتكازيّاً)، وكلاهما كما ترى .

ودعوى(1): أنّه حيثُ لا سبيل إلى الحكم بفساد ماأتى به من النافلة للأمر بها، فلا محالة يُحكم بالصحّة، ولا وجه له سوى صحّة الإقامة والخروج عن كونه مسافراً، فيحتاج جواز التقصير إلى قطع مسافة جديدة، ولايكفي فيه العدول عن نيّة الإقامة.

مندفعة: بأنّ هذا اجتهادٌ في مقابل النص، إذ مقتضى الصحيح الرجوع إلى القصر.

الفرع الثالث: ما لو صام واجباً بعد قصد الإقامة، ثمّ عَدَل عنها، فإنّه يرجع إلى التقصير، لإطلاق الصحيح.2.

ص: 424


1- مصباح الفقيه (ط. ق): ج 2/757 ق 2.

وعن «الروض»(1): الاستدلال للبقاء على التمام فيما إذا عَدَل عن قصده بعد الزوال، بأنّ هذا الصائم إذا سافر لا يمكن الحكم ببطلان صومه ووجوب الإفطار عليه، للعمومات والإطلاقات الدالّة على أنّ الصائم إذا سافر بعد الزوال وجب عليه الإتمام، وعليه فإنْ قلنا ببطلان الإقامة، لزم وقوع الصوم الواجب سفراً بغير نيّة الإقامة، وهو لا يجوز إجماعاً، إلّاما استثني مثل النذر، فلا مناص عن البناء على بقاء الإقامة.

وفيه: إنّا نختار صحّة الصوم في الفرض، من جهة أنّ العدول عن الإقامة ناقلٌ من حين العدول، لا أنّه كاشفٌ عن عدم تحقّق الإقامة القاطعة للسفر من الأوّل، لأنّ ذلك مقتضى ما دلَّ على أنّ قصد الإقامة قاطع للسفر، إذ غاية ما ثبت تقييده بدليل منفصل - وهو صحيح أبي ولّاد - أنّ العدول عنه قبل الإتيان برباعيّة تامّة، يوجب تطبيق حكم المسافر عليه، وأمّا أنّ ذلك من جهة تقييد العزم القاطع للسفر بكونه متعقّباً بالصلاة التامّة، فلا يستفاد منه، ومن الممكن أن يكون العزم قاطعاً للسفر، والعدول موجباً للرجوع إلى حكم السّفر السابق، وعليه فلا وجه للبناء على الكشف، ولا يترتّب على صحّته محذور، إذ الصوم في الفرض لا يكون واقعاً بتمامه في السّفر، بل ماكان منه بعد الزوال، وهذا لا محذور فيه.

الفرع الرابع: ما لو عَدَل بعد الإتيان بفريضةٍ غير رباعيّة مثل الصبح، أو برباعيّة قضاءٍ لا أداء، فإنّ عليه الرجوع إلى القصر، وذلك لظهور الصحيح في إناطة البقاء على التمام بالإتيان برباعيّة تامّة، مترتّبة على الإقامة، ومعلومٌ أنّ فريضة من الفرائض غير الرباعيّة أو الرباعيّة القضائية لا تكون مترتّبة على الإقامة، ولا يؤتى بها بما هي وظيفة المقيم، فلا يشملها هذا الحكم.5.

ص: 425


1- روض الجنان: ص 395.
لو عدل عن الإقامة بعد استقرار التمام في الذمّة

الموضع الثالث: لو عَدَل عن الإقامة ولم يأتِ بالصلاة الرباعيّة التامّة، حتّى خرج الوقت، وحينئذٍ:

فهل يجب عليه البقاء على التمام كما عن جُلّ الفقهاء(1)؟

أم يكون في حكم من لم يُصلِّ فريضةً تامّة ؟ وجهان:

ظاهر الصحيح في بادئ النظر هو الثاني، فإنّه ظاهرٌ في كون الموضوع فعل الصَّلاة التامّة، والاكتفاء باستقرارها في الذمّة يحتاج إلى دليل آخر.

وغاية ما قيل في مقابل هذا الظهور، هو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله على ما نُسِب إليه من أنّ الخبر الصحيح مذيّلٌ بأنّه: (لو لم يَنو المُقام عشرة يقصّر بينه وبين شهر)، ولا شُبهة في أنّه إذا لم ينو المقام يجب عليه كلّ ما يجب على المسافر من غير اختصاصٍ بالقصر، فيكون ذكر القصر من باب المثال، وأنّ المراد ماهو وظيفة المسافر، فمن هذا يُستكشف أنّ المراد بالصلاة التامّة التي عُلّق عليها البقاء على التمام أيضاً، هو وظيفة الحاضر، وإنْ ذُكر الصَّلاة التامّة من باب المثال.

ولكن يرد عليه: أنّ مجرّد ذلك لا يصلح قرينةً لصرف ظهور صدر الصحيح.

وعليه، فالأظهر هو الرجوع إلى القصر.

***

ص: 426


1- راجع السرائر: ج 1/335.
لو عدل عن الإقامة وشكّ في الإتيان بالرباعيّة

الموضع الرابع: إذا عزم على الإقامة ثمّ عدل عنها، وشكّ في الإتيان بالصلاة التامّة قبل العدول، فلا محالة يحصل له العلم الإجمالي بوجوب القصر عليه أو التمام، ولازمه الجمع بينهما، إلّاأنّ الكلام في أنّه هل ينحلّ هذا العلم أم لا؟

أقول: وتنقيح البحث يقتضي ملاحظة صور المسألة:

الصورة الاُولى: أن يعلم بإتيان الصَّلاة الرباعيّة، ولكن شكّ في صحّتها وفسادها، وفي هذه الصوره لا ريب في الانحلال ولزوم التمام عليه، لأنّ مقتضى قاعدة(1) الفراغ الحكم بصحّة الصَّلاة، وترتيب آثار الصحّة عليها، ومنها وجوب التمام في الفرض.

الصورة الثانية: أن يشكّ في إتيان الصَّلاة بعد خروج الوقت.

أقول: والأظهر في هذه الصورة أيضاً البقاء على التمام، لأنّ مقتضى القاعدة(2)الدالّة على أنّ الوقت حائل، هو البناء على تحقّق الصَّلاة، فيترتّب عليه جميع الآثار منها هذا الأثر.

واستدلّ لعدم الانحلال، وعدم البقاء على التمام بوجهين:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق اليزدي(3) وهو أنّ مقتضى الشكّ بعد انقضاء الوقت، وإنْ كان الحكم بوقوعها شرعاً، لكن لا يثبت بذلك أنّ العدول المزبور واقعٌ

ص: 427


1- المستفادة من باب 23، و 27، من أبواب الخلل الواقع في الصَّلاة، وسائل الشيعة: ج 8.
2- المستفادة من أخبار باب 60 من كتاب وسائل الشيعة: ج 4/282.
3- العروة الوثقى: ج 3/513.

في حال ايجاد الرباعيّة.

وفيه: أنّ الموضوع لوجوب التمام، ليس هو العدول الواقع في تلك الحال، كي يُقال إنّه لا يثبت بإجراء قاعدة الوقت حائلٌ ، بل الموضوع مركّبٌ من العزم على الإقامة والإتيان بالصلاة التمام، وحيثُ أنّ أحد جزئي الموضوع محرزٌ بالوجدان، والآخر بالتعبّد، فلا مناص من ترتيب الأثر.

وبذلك يظهر أنّه لا فرق بين كون هذه القاعدة من الأمارات أو من الاُصول المحرِزة أو من الاُصول غير المحرِزة.

الوجه الثاني: يحتمل اختصاص قاعدة الشكّ بعد خروج الوقت بنفي الإعادة، للاقتصار في دليلها وهو صحيح زرارة والفضيل على ذلك.

وفيه: أنّ الظاهر من مثل هذه الجملة - أي المتضمّنة لنفي الإعادة - بحسب المتفاهم العرفي، هو البناء على الوجود، لاحظ نظائرها.

الصورة الثالثة: أن يعلم بالعدول عن الإقامة، والإتيان بصلاة رباعيّة، ولكن شكّ في المتقدّم منهما، وفي هذه الصورة يمكن البناء على وجوب التمام، لوجهين:

أحدهما: أنّ موضوع ذلك هو العزم على الإقامة، وإتيان الصَّلاة الرباعيّة الصحيحة، وحيثُ أنّ أحد جزئي الموضوع محرَزٌ بالوجدان - وهو العزم - والآخر محرزٌ بالتعبّد - وهو إتيان الصَّلاة، لأنّ مقتضى قاعدة الفراغ صحّتها - فيترتّب الأثر.

اللّهُمَّ إلّاأن يُقال: الجزء الثاني إنّما هو الإتيان بالرباعيّة حين العزم على الإقامة، وهذا القيد لا يُحرز بالتعبّد المزبور.

ص: 428

ثانيهما: العزم على الإقامة موجبٌ لانقطاع السّفر، وخروج المُقيم عن كونه مسافراً، ولكن العدول عنها قبل الإتيان بالرباعيّة يوجبُ انهدام أثر القاطع من حينه، وعليه فلا مانع من استصحاب عدم تحقّق موجب القصر، إذ يشكّ في أنّ العدول كان قبل الإتيان بالرباعيّة ليوجب القصر، أو كان بعده فلا يوجبه، ومقتضى الأصل عدم تحقّق الموجب.

أقول: ويمكن أن يورد على هذا الوجه:

بأنّ موضوع التمام، ليس هو العزم المجرّد، بل هو مع الإتيان برباعيّة في تلك الحال، وهذا لا يثبت بالأصل المزبور، إلّاعلى القول بالأصل المثبت، فإذاً لا دليل على انحلال العلم الإجمالي المتقدّم في هذه الصورة، ومقتضاه الجمع بين القصر والتمام.

***

ص: 429

ولو لم ينوِ قصَّر إلى ثلاثين يوماً ثمّ يُتِّم.

من القواطع التردّد ثلاثين يوماً

(و) الثالث من القواطع: الإقامة ثلاثين يوماً متردّداً، وعليه ف (لو) بقي المسافر في مكانٍ و (لم ينو) إقامة عشرة أيّام (قصّر إلى ثلاثين يوماً، ثمّ يُتمّ ) بعد ذلك ما دام في ذلك المكان، ولو كان ناوياً للخروج بعد ساعة، كما هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(1).

ويشهد له: نصوصٌ كثيرة مستفيضة - إنْ لم تكن متواترة - الصريحة في ذلك:

منها: صحيح(2) أبي ولّاد المتقدّم في المبحث السابق.

ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «وإنْ لم تدر ما مقامك بها تقول غداً أخرُج أو بعد غد، فقصّر ما بينك وبين أن يمضي شهر، فإذا تمَّ لك شهرٌ فأتمّ الصَّلاة، وإنْ أردت أن تخرج من ساعتك»(3).

ونحوهما غيرهما.

ولا يعارضها خبر حنّان عن أبيه، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إذا دخلتَ البلدة فقلت اليومُ أخرجُ أو غداً أخرج فاستتممت عشرا فأتمّ »(4)، لقصوره عن المكافئة

ص: 430


1- مدارك الأحكام: ج 4/463 (هذا الحكم مجمعٌ عليه بين الأصحاب)، رياض المسائل: ج 4/465 قوله: (بلا خلافاً أجده بل عليه الإجماع في عبائر جماعة).
2- وسائل الشيعة: ج 8/499 ح 11279.
3- الكافي: ج 3/435 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/500 ح 11283.
4- التهذيب: ج 3/219 ح 56، وسائل الشيعة: ج 8/502 ح 11288.

لها من وجوهٍ لا تخفى .

وعليه، فأصل الحكم ممّا لا كلام فيه، انما الكلام في اُمور:

الأمر الأوّل: هل الإقامة في محلٍّ ثلاثين يوماً متردّداً قاطعةٌ للسفر موضوعاً، ليترتّب عليها جميع أحكام الوطن، حتّى يحتاج القصر إلى إنشاء سفر جديد منه ؟ أو قاطعة له حكماً، فلا يترتّب عليها سوى وجوب التمام ما دام في ذلك المحلّ؟

وجهان، أقواهما الأوّل، لصحيح صفوان، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن أهل مكّة إذا زاروا عليهم إتمام الصَّلاة ؟ قال عليه السلام نعم، المقيم بمكّة إلى شهر بمنزلتهم»(1).

فإنّه ظاهرٌ في عموم المنزلة، بل لا يبعد دعوى استظهار ذلك من نصوص الباب أيضاً، بتقريب أنّه بعدما لا ريب في أنّ المُقيم في بلدٍ مدّةً طويلة لا يصدق عليه المسافر، فقد حَدّد الشارع ذلك فيما إذا كان المقام مع العزم بعشرة أيّام، وفي ما إذا كان مع التردّد بثلاثين يوماً، ويؤكّده وحدة لسان النصوص في الإقامة والبقاء ثلاثين يوماً متردّداً، فقد نُزّل فيها المقيم عشرة أيّام مع العزم، والمقيم ثلاثين يوماً مع التردّد، منزلة أهل البلد.

وعليه، فالأظهر - تبعاً للمشهور، بل عن الشهيد الثاني(2) مساواة الإقامة ثلاثين يوماً متردّداً للإقامة عشرة أيّام في حكاية الإجماعات على قاطعيّتها للسفر موضوعاً - كونها قاطعة لموضوع السّفر لا حكمه.1.

ص: 431


1- التهذيب: ج 5/487 ح 387، وسائل الشيعة: ج 8/472 ح 11199.
2- روض الجنان: ص 391.

الأمر الثاني: أنّ الموجود في أكثر النصوص، وفي عبارات الأكثر، هو تعليق الحكم المزبور على الشهر، وفي خصوص صحيح ابن أبي أيّوب، وأكثر(1) عبارات المتأخّرين ذكر الثلاثين، ولهذا وقع الكلام:

في أنّ المدار على إقامة الشهر الهلالي مطلقاً، أو على إقامة ثلاثين يوماًكذلك ؟

أو يفصّل بين ما إذا كان مبدأ الإقامة أوّل الشهر، فالمدار على الهلالي، وبين ما إذا كان مبدئها في أثناء الهلالي، المدار على إقامة الثلاثين ؟

المشهور بين الأصحاب هو الثاني، وعن «مجمع البرهان»(2) إختيار الثالث، وتبعه غير واحدٍ.

وحقّ القول في المقام: إنّه بعدما لا ريب ولا كلام في أنّه لا يعتبر الشهر بمعنى ما بين الهلالين - وإلّا لزم اختصاص النصوص والحكم بما إذا وقع التردّد في أوّل آنات الشهر، وهو بديهي البطلان، بل لو كان المدار على الشهر، كان اللّازم إرادة المقدار منه، بحيث يُكتفى بالملفّق - يدور الأمر في مقام الجمع بين النصوص:

بحمل خبر الثلاثين على ما إذا كان مبدأ الإقامة في أثناء الهلالي، ونصوص الشهر على ما إذا كان مبدؤها أوّل الشهر، فيثبت القول الثالث.

وبين حَمل الثلاثين على إرادة الشهر، من جهة أنّ الشهر الكامل هو ذلك، فيثبت القول الأوّل. وبين حمل الشهر على إرادة الثلاثين فيثبت الثاني.

أقول: والأظهر هو الأخير، وذلك لأنّه بعد وضوح فساد الأوّل - إذ مضافاً إلى6.

ص: 432


1- مدارك الأحكام: ج 4/463.
2- مجمع الفائدة: ج 3/406.

كونه جمعاً تبرّعيّاً لا شاهد له - أنّ حمل نصوص الشهر على إرادة ما بين الهلالين، لازمه اختصاصه بما إذا كان مبدأ الإقامة أوّل آنات الشهر، من دون تعرّض لكونه من ثاني آنات اليوم الأوّل من الشهر، وهو كما ترى ، يتعيّن حمل الشهر على إرادة المقدار منه.

وعليه، فمقتضى حمل المطلق على المقيّد، حمل الشهر على إرادة الثلاثين لأنّ للشهر الهلالي فردين:

أحدهما: ثلاثون يوماً.

ثانيهما: تسعة وعشرون، فكذلك للمقدار منه.

ومقتضى إطلاق الشهر الاكتفاء بكلّ منهما، ولكن خبر الثلاثين يقيّده بالفرد الكامل، وهو الثلاثون.

وعليه، فالأظهر هو القول الثاني.

الأمر الثالث: يعتبر الوحدة في محلّ الإقامة، والتوالي بين الأيّام التي يقيم فيها متردّداً، لما مرّ في المبحث السابق، فلو تردّدٍ في أمكنةٍ متعدّدة لا ينقطع به السّفر، كما أنّه لو توقّف متردّداً شهراً في ضمن شهرين لا ينقطع السّفر.

الأمر الرابع: ما ذكرناه من الصور والأحكام للخروج إلى ما دون المسافة، بعد العزم على الإقامة وتحقّقها، تجري في المقام بعد الإقامة ثلاثين يوماً، لأنّه بعد كونها قاطعة للسفر موضوعاً كما عرفت، لا فرق بينها وبين إقامة العشرة في تلك الأحكام.

***

ص: 433

هذا تمام الكلام في مباحث الصَّلاة، وقد وقع الفراغ منها في يوم الثامن عشر من شهر جُمادي الثانية، من شهور سنة الواحد والسبعين بعد الألف والثلاثمائة من الهجرة النبويّة، على مهاجرها أفضل الصَّلاة والسّلام، في البلدة الطيّبة قُمّ المشرّفة.

وقد كرّرتُ النظر في المباحث المندرجة في هذا الجزء من أوّله إلى آخره، وكان ختامه يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر رمضان المبارك من شهور سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبويّة، والحمد للّه أوّلاً وآخراً.

***

ص: 434

فهرس الموضوعات

تنبيهات: حول صلاة الجماعة... 5

في اعتبار عدم الحائل بين الإمام والمأموم... 8

فروع... 11

حكم جماعة من بجناحي من يكون بحيال الباب... 14

في اعتبار عدم العلوّ... 20

في اعتبار عدم التباعد... 25

يعتبر عدم تقدّم المأموم على الإمام... 31

الجماعة حول الكعبة... 36

فيما تُدْرَك به الرَّكعة... 40

تنبيهات... 45

لو ركع بتخيّل إدراك الإمام راكعاً... 49

لو شكّ في إدراك الإمام راكعاً... 52

فيما تُدرَك به الجماعة... 56

القراءة في الإخفاتيّة... 65

حكم القراءة في الأولتين من الجَهريّة... 68

حكم القراءة في الأخيرتين من الإخفاتيّة... 72

حكم القراءة في الأخيرتين من الجهريّة... 75

تنبيهات... 76

في القراءة خلف المخالف... 80

لا يجوز تقدّم المأموم في الأفعال... 83

ص: 435

حكم التأخّر في الأفعال... 88

وجوب المتابعة تعبّدي... 89

تغتفر زيادة الرّكن لأجل المتابعة... 92

الرجوع أو السجود قبل الإمام... 96

المتابعة في تكبيرة الإحرام... 98

المتابعة في سائر الأقوال... 100

في شرائط الإمام... 106

شرط العدالة... 109

مفهوم العدالة... 111

أدلّة كون العدالة هي حُسنُ الظاهر... 114

أدلّة كون العدالة هي مجرّد ترك المعاصي... 118

أدلّة اعتبار المَلَكة في العدالة والجواب عنها... 120

طرق معرفة العدالة... 129

طريقيّة حسن الظاهر... 133

طريقيّة الشهادة... 139

شهادة العَدل الواحد... 142

ثبوت العدالة بالشَّهادة الفعليّة... 143

الشّياع الظنّي... 144

الوثوق بالعدالة... 150

الظنّ بالعدالة... 151

تعديل الشخص بقيام الطريق إلى عدالته... 152

اعتبار المروّة في العدالة وعدمه... 155

كلام حول الكبيرة والصغيرة... 160

ص: 436

ما به تمتاز الكبيرة عن الصغيرة... 164

اشتراط العدالة باجتناب جميع المعاصي... 167

الإصرار على الصغائر... 171

موضوع الإصرار... 174

ختام البحث... 178

حكم التوبة... 180

اعتبار طهارة المولد... 183

في إمامة القاعدُ القائمَ ... 184

في إمامة الاُمّي... 187

في إمامة المرأة... 189

في مَن أولى بالإمامة... 192

مراتب الأئمّة... 195

مَنْ يُكره الإئتمام به... 196

العدول من إمامٍ إلى آخر... 201

إقامة الجماعة في أثناء الصَّلاة... 204

لو خاف فوات الرّكعة... 208

في المأموم المسبوق... 214

اختلاف الإمام والمأموم اجتهاداً أو تقليداً... 223

تبيّن بطلان الجماعة... 225

استحباب إعادة الصَّلاة جماعة... 229

في تبديل الامتثال... 232

القيد والدّاعي... 237

أحكام المساجد... 239

ص: 437

جواز استعمال آلات المساجد... 241

حكم زخرفة المساجد ونقشها بالصور... 243

حكم إخراج الحَصى منها... 247

مكروهات المساجد... 249

مستحبّات المساجد... 253

الباب السابع/ في صلاة الخوف والمطاردة... 256

شروط صلاة الخوف وكيفيّتها... 259

في بيان أحكامها... 263

صلاة المطاردة... 264

الباب الثامن/ في صلاة المسافر... 268

حَدّ المسافة... 270

حكم المسافة الملفّقة... 274

في تعيين مبدأ المسافة... 285

في المسافة المستديرة... 288

طرق ثبوت المسافة... 290

اعتبار قصد المسافة... 293

لو أخرج إلى المسافة... 295

عدم اعتبار قصد المسافة الشخصيّة... 297

لو تردّد في الأثناء... 299

حكم التابع في السّفر... 301

إذا صلّى قصراً ثمّ عدل عن القصد... 303

الوصول إلى الوطن قاطع للسَّفر... 305

الإقامة قاطعة للسفر... 306

ص: 438

اعتبار إباحة السّفر... 311

حكم الرجوع من سفر المعصية... 317

فروع... 317

اعتبار إباحة السّفر ابتداءً واستدامةً ... 318

لو رجع إلى الطاعة بعد قصد المعصية... 321

حكم الغاية الملفّقة من الطاعة والمعصية... 325

حكم الصَّلاة في سفر الصيد... 327

لو نذر الإتمام في يوم فسافر فيه... 331

حكم كثير السّفر... 333

حكم السّفر الأوّل لمن اتّخذ السّفر عملاً له... 334

ما يعتبر في وجوب التمام على المسافر... 339

إقامة عشرة أيّام قاطعة لعمليّة السّفر... 341

القاطع نفس الإقامة وإنْ لم تكن عن قصد... 345

كثيرُ السّفر يُتمّ في السّفر الثاني بعد الإقامة... 348

اعتبار الوصول إلى حَدّ الترخّص... 351

حكم القصر ينقطع بالرّجوع إلى حَدّ الترخّص... 358

عدم اختصاص اعتبار حَدّ الترخّص بالوطن... 361

التخيير في الأماكن الأربعة... 363

المراد من الأماكن الأربعة... 367

لو أتمّ المسافر... 372

لو أتمّ المسافر نسياناً... 377

العبرة بحال الأداء لا حال الوجوب... 379

في قواطع السّفر... 383

ص: 439

الوطن العُرفي... 383

الوطن الشرعي... 389

ما يعتبر في الوطن الشرعي على القول به... 394

قاطعيّة الإقامة لعشرة أيّام... 397

قَصدُ الخروج عن السّور لا ينافي الإقامة... 400

إذا بدا للمُقيم الخروج إلى ما دون المسافة... 406

المراد باليوم المقام... 419

العدول عن قصد الإقامة بعد العزم عليها... 421

العبرة في البقاء على التمام بإتيان رباعيّة تامّة... 423

لو عدل عن الإقامة بعد استقرار التمام في الذمّة... 426

لو عدل عن الإقامة وشكّ في الإتيان بالرباعيّة... 427

من القواطع التردّد ثلاثين يوماً... 430

فهرس الموضوعات... 435

ص: 440

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.