فقه الصادق المجلد 6

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

كتابُ الصَّلاة

ص: 5

ص: 6

كتابُ الصَّلاة:

كتاب الصَّلاة

اشارة

(كتابُ الصّلاة) وهي أفضلُ العبادات وأهمّها، وما ورد من النصوص في فضلها أكثر من أنْ تُحصى(1):

ففي الصحيح، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «ما أعلمُ شيئاً بعد المعرفة، أفضل من هذه الصّلاة»(2).

وروى الشيخ في حديثٍ عنه عليه السلام: «وحجّةٌ أفضل من الدُّنيا وما فيها، وصلاةُ فريضةٍ أفضلُ من ألف حَجّة»(3).

وفي الصحيح، عن أبي جعفر عليه السلام: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ما بين المسلم وبين أن يكفر إلّاأن يترك الصّلاة الفريضة متعمّداً، يتهاون بها، فلا يُصلّيها»(4).

وفي حديثٍ ، قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ شفاعتنا لا تنال مُستخفّاً بالصّلاة»(5).

***

ص: 7


1- راجع الكافي: ج 3/264 كتاب الصّلاة، باب فضل الصّلاة. وسائل الشيعة: ج 4، ص 45.
2- الكافي: ج 3/264 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/38 باب 10 من أبواب أعداد الفرائض ح 4453.
3- التهذيب: ج 2/240 ح 22، وسائل الشيعة: ج 4/40 باب 10 من أبواب أعداد الفرائض ح 4460.
4- المحاسن: ج 1/80 ح 8، وسائل الشيعة: ج 4/42 باب 10 من أبواب أعداد الفرائض ح 4467.
5- الفقيه: ج 1/206 ح 618، وسائل الشيعة: ج 4/25 باب 10 من أبواب أعداد الفرائض ح 4418.

وفيه أبواب: الباب الأوّل: في المقدّمات، وفيه فصول:

الفَصل الأوّل: في أعدادها: الصّلاة الواجبة في كلّ يومٍ وليلة خمس.

(وفيه) أي في كتاب الصَّلاة (أبوابٌ ):

الباب الأوّل: في المقدّمات

اشارة

الباب (الأوّل: في المقدّمات): وهي الاُمور التي تشترط الصّلاة بها، أو تكون من مكمّلاتها السابقة عليها، أو يتوقّف تصوّرها عليها.

(وفيه) أي في الباب الأوّل (فصول):

الفصل الأوّل في أعداد الفرائض

اشارة

الصّلوات الواجبة: وهي سبعٌ :

اليوميّة ومنها الجمعة والعيدان والآيات، والطواف الواجب، والملتزم بنذرٍ أو عهد أو يمين أو إجارة، وصلاة الوالدين على الولد الأكبر، وصلاة الأموات.

وعدّها بعضهم تِسْعاً كما عن «المعتبر» و «القواعد» و «كشف اللّثام»، وبعضهم عدّها ستّاً.

أقول: والاختلاف في ذلك إنّما نشأ من إدخال بعضها في بعضٍ وإخراجه، ولا يهمّنا البحث في ذلك.

ثمّ إنّ الدليل عليوجوب كلّ واحدةٍ من الصّلوات المذكورات موكولٌ إلى محلّه.

أمّا اليوميّة: وهي (الصّلاة الواجبة في كلّ يومٍ وليلة خَمْس) فرائض إجماعاً، بل هي من ضروريّات الدين، والروايات الدالّة عليها متواترة(1).

ص: 8


1- وسائل الشيعة: ج 4/10 باب 10: (باب وجوب الصّلوات الخمس، وعدم وجوب صلاة سادسة في كلّ يوم)، الفقيه: ج 1/211 باب (علّة وجوب خمس صلوات في خمس مواقيت).

الظهر أربعُ ركعاتٍ في الحَضَر، وفي السَّفر ركعتان، والعَصرُ كذلك، والمغربُ ثلاث فيهما، والعشاء كالظهر، والصبح ركعتان فيهما.

وكذا من ضروريّاته أنّ (الظهر أربع ركعاتٍ في الحَضَر، وفي السَّفر ركعتان) بلا خلافٍ ، بل ضرورةً عندنا، (والعَصرُ كذلك) إجماعاً، (والمغربُ ثلاثٌ فيهما) إجماعاً، بل ضرورةً من الدِّين، (و) كذا من ضروريّاته أنّ (العشاء كالظهر والصبح ركعتان فيهما) وآكدها بنصّ الكتاب(1) الوسطى، وهي الظهر كما هو المشهور، بل عن الشيخ الإجماع عليه(2)، وتشهدُ به طائفة من الروايات:

منها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، وفيه قال عليه السلام:

«وقال تعالى: حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى (3) هي صلاة الظهر»(4). ونحوه غيره.

وعن السيّد المرتضى رحمه الله: أنّها العصر، وادّعى الإجماع عليه(5)، وتشهد له مرسلة الصدوق، عن الحسن بن علي عليهما السلام، قال:

«وأمّا صلاة العصر - إلى أنْ قال - وأوصاني أن أحفظها من بين الصّلوات»(6).

أقول: أمّا الإجماع فممنوعٌ جدّاً، كما لا يخفى ، والمرسل لا يقاوم ما سبق، وهنا أقوالٌ اُخر كأنّها للعامّة، ومستندها اعتبارات لا تستحقّ التعرّض لها(7).0.

ص: 9


1- سورة البقرة: الآية 238.
2- الخلاف: ج 1/295.
3- سورة البقرة: الآية 238.
4- الكافي: ج 3/271 باب فرض الصّلاة ح 1، وسائل الشيعة: ج ص باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ح 4407.
5- رسائل المرتضى: ج 1/275.
6- الفقيه: ج 1/211 ح 643.
7- المجموع: ج 3/60.

والنّوافل اليوميّة أربعٌ وثلاثون في الحَضَر:

ثمانُ ركعاتٍ قبل الظُّهر، وثمانٌ بعدها للعصر، وأربعُ ركعاتٍ بعد المغرب، وركعتان مِنْ جلوسٍ بعد العشاء الآخرة تعدّان بركعة، وثمانُ ركعاتٍ صلاة اللّيل، وركعتا الشَّفع، وركعة الوِتر، وركعتا الفَجر.

(و) أمّا النّوافل: فكثيرة آكدها (النّوافل اليوميّة)، كما صرّح به جماعة، وفي كلام بعض أنّه من المسلّمات، ويشهد له ما ورد(1) من النصوص في كثرة الحَثّ على فعلها، ومزيد الاهتمام بها، وما ورد في بعضها أنّها واجبة، وهي:

(أربعٌ وثلاثون رَكعة في الحَضَر) على الأشهر نصّاً(2) وفتوىً ، بل المشهور، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(3).

وتفصيلها: (ثمانُ ركعاتٍ قبل الظهر، وثمانٌ بعدها للعَصر، وأربعُ ركعاتٍ بعد المغرب، وركعتان من جلوسٍ بعد العشاء الآخرة تعدّان بركعة، وثمانُ ركعاتٍ صلاة اللّيل، وركعتا الشّفع، وركعة الوِتر، وركعتا الفجر) إجماعاً ادّعاه جماعة.

واستفاضت النصوص بهذا الترتيب:

منها: ما عن الكليني رحمه الله، والشيخ في الصحيح عن الحارث بن المُغيرة النصري، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: صلاة النهار ستُّ عَشَرة ركعة: ثمانٌ إذا زالت الشّمس، وثمانٌ بعد الظهر، وأربعُ ركعاتٍ بعد المغرب، يا حارث لا تَدَعها في سفرٍ ولا حَضَر، وركعتان بعد العشاء كان أبي يُصلّيهما وهو قاعدٌ وأنا اُصلّيهما وأنا قائم،6.

ص: 10


1- الكافي: ج 3/442، وسائل الشيعة: ج 4، باب 13 من أبواب أعداد الفرائض.
2- الكافي: ج 3/446 ح 15 وص 444 ح 8.
3- مدارك الأحكام: ج 3/9 وما بعدها، وادّعى الإجماع الشيخ في المبسوط: ج 1/526.

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يُصلّي ثلاث عَشرة ركعة من اللّيل»(1).

ومنها: موثّق سليمان، عنه عليه السلام: «صلاة النافلة ثمان ركعات حين تزول الشّمس قبل الظهر، وستُّ ركعاتٍ بعد الظهر، وركعتان قبل العصر، وأربعُ ركعاتٍ بعد المغرب، و ركعتان بعد العشاء الآخرة، تقرأ فيها مائة آية قائماً أو قاعداً، والقيام أفضل، ولايعدّهما من الخمسين، وثمانُ ركعاتٍ من آخر اللّيل.

إلى أنْ قال: ثمّ الوِتر ثلاثُ ركعاتٍ تقرأ فيها جميعاً قُلْ هُوَ اَللّهُ أَحَدٌ ، وتفصّل بينهن بتسليمٍ ، ثمّ الركعتان اللّتان قبل الفجر»(2).

ونحوهما غيرهما(3).

نعم، في بعضها أنّها ثلاثٌ وثلاثون بإسقاط الوتيرة، كموثّق حنّان، قال الإمام الصادق عليه السلام: «كان النبيّ صلى الله عليه و آله يُصلّي ثمان ركعات الزّوال، وأربعاً الأُولى ، وثمانياً بعدها، وأربعاً العصر، وثلاثاً المغرب، وأربعاً بعد المغرب، والعشاء الآخرة أربعاً، وثماني صلاة اللّيل... الخ»(4).

ويوافقه خبر محمّد بن أبي حمزة(5).

وفي بعضها إسقاط أربع من نافلة العصر، وركعتين من نافلة المغرب مع الوتيرة، كصحيح زرارة: «قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: إنّي رجلٌ تاجرٌ أختلف وأتّجر، فكيف لي بالزّوال والمحافظة على صلاة الزّوال، وكم نُصلّي ؟).

ص: 11


1- الكافي: ج 3/446 ح 15، وسائل الشيعة: ج 4/48 باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ح 4481.
2- التهذيب: ج 2/5 ح 8، وسائل الشيعة: ج 4/51 باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ح 4488.
3- انظر وسائل الشيعة: ج 4، ص 45 باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وما يناسبها، التهذيب ج 2 باب المسنون من الصّلوات ص 3.
4- الكافي: ج 3/443 ح 5، وسائل الشيعة: ج 4/47 باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ح 4478.
5- الكافي: ج 3/443 ح 3 وفيه: محمّد بن أبي عُمير بدل محمّد بن أبي حمزة، وكذلك في التهذيب: ج 2/5 ح 3، وسائل الشيعة: (المصدر السابق).

قال عليه السلام: تُصلّي ثمان ركعاتٍ إذا زالت الشّمس، وركعتين بعد الظهر، وركعتين قبل العصر، فهذه اثنتا عشرة ركعة، وتُصلّي بعد المغرب ركعتين، وبعدما ينتصف اللّيل ثلاث عشرة ركعة»(1).

أقول: ولكن للنصوص المتقدّمة المعمول بها عند الأصحاب، لابدَّ من حمل هذه الأخبار على ما لا ينافيها:

إمّا بالحمل على اختلاف مراتب الفضل، كما يشير إليه خبر أبي بصير، قال عليه السلام:

«الذي يستحبُّ أن لا يقصر عنه ثمان ركعات عند زوال الشّمس، وبعد الظهر ركعتان، وقبل العصر ركعتان، وبعد المغرب ركعتان»(2).

أو على الجعل الأوّلي والثانوي، كما يُشير إليه موثّق سليمان المتقدّم، أو على غير ذلك.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ عدد مجموع الفرائض والنّوافل إحدى وخمسون، كما يشهد له صحيح فضل أو حسنه، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«قال: الفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة»(3). ونحوه غيره.

وما يظهر من بعض الأخبار أنّ المعروف في الصَّدر الأوّل لدى أصحاب الأئمّة عليهم السلام فيما جرت به السُنّة في عدد الركعات خمسون، قد عرفت أنّه لابدّ من حمله على الجعل الأوّلي والثانوي.

***4.

ص: 12


1- التهذيب: ج 2/7 ح 13، وسائل الشيعة: ج 4/59 باب 14 من أبواب الفرائض ح 4502.
2- التهذيب: ج 2/6 ح 11، وسائل الشيعة: ج 4/59 باب 14 من أبواب الفرائض ح 4503.
3- الكافي: ج 266/1 ح 4، وفيه الفضيل بدل الفضل. وسائل الشيعة: ج 4/45 باب 14 من أبواب الفرائض ح 4474.
تنبيهات الفرائض
نافلة العصر ثمان ركعات قبلها

التنبيه الأوّل: المشهور بين الأصحاب أنّ نافلة العصر(1)، ثمان ركعات قبلها(2).

وعن ابن الجُنيد(3): أنّ ركعتين من تلك الثمانية نافلة العصر، والظاهر أنّ مستنده موثّق سليمان المتقدّم.

وحيثُ لا يترتّب على هذا الخلاف ثمرة، إذ على القولين محلّها بعد الظهر قبل العصر، ويمتدّ وقتها إلى أربعة أقدام أو المثلين، فالصفح عن البحث فيه أولى .

كما أنّ النزاع في أنّ التكليف بالنوافل تكليف مستقلٌّ ، أو أنّها شرعت لتكميل الفرائض لا فائدة فيه.

ظاهرُ جماعةٍ تعيّن الجلوس في الركعتين بعد العشاء

التنبيه الثاني: ظاهرُ جماعةٍ (4) منهم المصنّف رحمه الله تعيّن الجلوس في الركعتين بعد العشاء، ويشهد به ظاهر عدّة من النصوص(5).

أقول: ولكن الأقوى تبعاً لجملةٍ من المحقّقين، كالشهيدين(6)، والمحقّق الثاني(7)، والأردبيلي(8) جواز القيام فيهما، لموثّق سليمان، وصحيح حارث المتقدّمين(9)، بل ظاهر الموثّق أفضليّة القيام، ولا ينافيهما مواظبة أبي جعفر عليه السلام على الجلوس، لقُرب حمله على العُذر، كما يشير إليه قوله عليه السلام في خبر سُدير:

ص: 13


1- كما في المهذّب البارع: ج 1/280.
2- مدارك الأحكام: ج 3/13.
3- حكاه عنه في الجواهر: ج 7/20.
4- منهم المحقّق في المعتبر: ج 2/15، والعلّامة في المنتهى: ج 4/15، وابن فهد الحِلّي في المهذّب البارع 278.
5- الكافي: ج 3/443 ح 2، وسائل الشيعة: ج 4/45 ح 4474.
6- الشهيد الأوّل في اللّمعة ص 24، والشهيد الثاني في الروضة: ج 1/470.
7- جامع المقاصد: ج 2/9.
8- مجمع الفائدة والبرهان: ج 2/6.
9- تقدّم آنفاً.

«ما اُصلّيهما إلّاوأنا قاعد عندما حَمَلتُ هذا اللّحم، وبلغتُ هذا السِّن»(1).

القنوت في الشَّفع في الرّكعة الثانية

التنبيه الثالث: المشهور بين الأصحاب استحباب القنوت في الشَّفع في الرّكعة الثانية كسائر الصّلوات، بل عن بعضٍ (2) نفي الخلاف فيه، إلّامن شيخنا البهائي رحمه الله(3).

أقول: والأوّل أقوى، لعموم النصوص الدالّة على مشروعيّته في كلّ صلاة، وخصوص خبر رجاء في حكاية فعل الإمام الرضا عليه السلام، قال:

«ثمّ يقوم فيُصلّي ركعتي الشّفع، يقرأ في كلّ ركعةٍ منها الحمد مرّة، وقل هو اللّه أحد ثلاث مرّات، ويقنتُ في الثانية قبل الركوع»(4).

إلّا أنّه ينافي ذلك صحيح ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«القنوتُ في المغرب في الركعة الثانية، وفي الغَداة والعشاء مثل ذلك، وفي الوِتْر في الركعة الثالثة»(5).

وحيث أنّه أخصّ من العمومات، فيُقدَّم عليها، كما أنّه لأصحيّة سنده يُقدَّم على خبر رجاء، ولكن لإعراض الأصحاب عنه، وتسالمهم على ثبوت القنوت في الشّفع، لابدَّ من طرح الصحيح، أو حمله على ما لا ينافي العمومات.

لا شبهة في استحباب القنوت في مفردة الوتر قبل الركوع

التنبيه الرابع: لا شبهة في استحباب القنوت في مفردة الوتر قبل الركوع، للأخبار(6) الكثيرة، وأمّا القنوت فيها بعده، فلا مستند له إنْ اُريد به الكيفيّة المعهودة، وإنْ اُريد به الدّعاء، فيدلّ عليه الخبر المرويّ عن الكليني رحمه الله(7).

***

ص: 14


1- الكافي: ج 3/410 ح 1، وسائل الشيعة: ج 5/491 باب 4 من أبواب القيام ح 7142.
2- مفتاح الكرامة: ج 5/30.
3- في حاشيته على مفتاح الفلاح كما حكاه عنه المحدّث البحراني في الحدائق: ج 6/39.
4- وسائل الشيعة: ج 4/55 باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ح 4496، عيون أخبار الرضا: ج 2/180.
5- تهذيب الأحكام: ج 2/89 ح 100، وسائل الشيعة: ج 6/267 باب 4 من أبواب القنوت ح 7924.
6- الإستبصار: ج 1 أبواب القنوت وأحكامه ص 336، وسائل الشيعة: ج 6/266 باب 3 من أبواب القنوت.
7- الكافي: ج 3/325 ح 16، المستدرك: ج 4/414 ح 5045.

صَلاة الغُفيلة وصلاة الوصيّة

صَلاة الغُفيلة

التنبيه الخامس: ربما يظهر من جملة من النصوص، استحباب نافلتين خاصّتين بين المغرب والعشاء، وهما (صلاة الغُفَيلة وصلاة الوصيّة).

أمّا الأُولى : فيدلّ على استحبابها نصوصٌ مستفيضة:

منها: ما عن الشيخ في «المصباح»، وعن ابن طاووس في «فلاح السائل»، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

«مَنْ صلّى بين العشائين ركعتين؛ يَقرأ في الأُولى : الحمد، وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً إلى قوله وَ كَذلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ ،(1) وفي الثانية: الحمد، وقوله تعالى :

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ (2) إلى آخر الآية، وإذا فرغ من القراءة رفع يديه، وقال: اللّهُمَّ إنّي اسألك بمفاتح الغيب التي لا يَعْلَمها إلّاأنت، أنْ تُصلّي على محمّدٍ وآل محمّد، وأن تفعل بي كذا وكذا. ويقول: اللّهُمَّ أنتَ وليّ نعمتي، والقادرُ على طَلِبتي، تعلمُ حَاجتي، فأسألُكَ بحقِّ مُحمّدٍ وآل محمّد لما قضيتها لي، ويسأل اللّه تعالى حاجته، أعطاه اللّه ما سأل»(3). وزاد في الثاني: «فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: لا تتركوا ركعتي الغفلة، وهما ما بين العشائين».

ومنها: ما عن الشيخ في «التهذيب» بسنده عن وهب، والسَّكوني، عن جعفرٍ،

ص: 15


1- سورة الانبياء: الآية 87.
2- سورة الانعام: الآية 59.
3- مصباح المتهجّد ص 106، فلاح السائل ص 245، وسائل الشيعة: ج 8/121 باب 20 من أبواب بقيّة الصّلوات ح 10217.

عن أبيه عليه السلام: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: تنفّلوا ساعةَ الغفلة ولو بركعتين خفيفتين، فإنّهما تورثان دار الكرامة.

قيل: يا رسول اللّه، وما ساعة الغفلة ؟ قال ما بين المغرب والعشاء»(1).

ورواه ابن طاووس وزاد: «قيل يا رسول اللّه: وما معنى خفيفتين ؟ قال: يقرأ فيهما الحمد وحدها»(2).

وعن الشهيد رحمه الله في «الذكرى»(3): أنّ ركعتي ساعة الغَفلة غَير صلاة الغُفيلة، وكأنّه لاختلافهما باشتمال الثانية على الآيتين وخُلوّ الأُولى عنهما.

وفيه: أنّ الظاهر عدم اعتبار الخفة في ركعتي الغفلة، كما تشهد به (لو) الوصيلة، لظهورها في أنّه الفرد الأدنى ، فيكون الاختلاف بينهما من قبيل الاختلاف بين المطلق والمقيّد، فتكون ركعتا الغفلة بمقتضى إطلاق دليلها عين صلاة الغُفيلة، ومنطبقة عليها قهراً، وتشهد به الزيادة المرويّة في محكي «فلاح السائل» المتقدّم(4).

***ة.

ص: 16


1- التهذيب: ج 2/243 ح 32، المستدرك: ج 6/302 باب 15 من أبواب بقيّة الصّلوات ح 6874، وفيهما (أو عن السّكوني).
2- فلاح السائل: ص 248، المستدرك: ج 6/303 باب 15 من أبواب بقيّة الصوات ح 6874.
3- الذكرى : ص 116، وعبارته خالية من التفريق، وما ذكر في المتن محصّل كلامه قدس سره.
4- فلاح السائل: ص 245، وقد تقدّم في الصفحة السابقة.
صلاة الوصيّة

وأمّا صلاة الوصيّة: فيدلّ على استحبابها ما عن الشيخ في «المصباح»، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن آبائه، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، قال:

«أوصيكم بركعتين بين العشائين، يقرأ في الأُولى الحمد، و إِذا زُلْزِلَتِ اَلْأَرْضُ ثلاث عشرة مرّة، وفي الثانية الحمد، و قُلْ هُوَ اَللّهُ أَحَدٌ خمس عشرة مرّة»(1).

ثمّ إنّ ظاهر جماعة(2) كونهما غير نافلة المغرب مباينتين لها خارجاً، ولازمه استحباب الإتيان بهما وبالنافلة قبل الأُولى أو الثانية، وعن بعضٍ (3) إنكار ذلك.

ودعوى: أنّ الروايات المشتملة على الكيفيّة المخصوصة في الصلاتين، واردة لتشريع خصوصيّة في نافلة المغرب، ولازم هذه الدعوى عدم جواز فعلهما معاً مطلقاً كما هو واضح.

ويضعف القول الثاني ظهور الروايات في تشريع الصّلاة الخاصّة، وهي المقيّدة بالخصوصيّة، لا تشريع الكيفيّة فقط في الصّلاة المشروعة.

ويضعف الأوّل أنّ الروايات لا تدلّ على مشروعيّة نافلة مغايرة لنافلة المغرب، بل المستفاد منها استحباب النافلتين بالكيفيّتين المخصوصتين بين العشائين.

وأمّا دليل نافلة المغرب، فلا يدلّ على اعتبار خلوّها عن الخصوصيّتين، بل هي مطلقة غير مقيّدة بشيء، فعلى هذا لو أتى بهما يسقط الأمر بهما، والأمر بالنافلة، لتحقّق مصداق متعلّقيهما.

ص: 17


1- مصباح المتهجّد ص 76، وسائل الشيعة: ج 8/18 باب 17 من أبواب بقيّة الصّلوات المندوبة ح 10213.
2- منهم المحدّث البحراني في الحدائق الناضرة: ج 6/72، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان: ج 3/38.
3- المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 2/11 ق 1.

وبعبارة اُخرى: بإتيانهما يستوفي كلتا المصلحتين، أي المصلحة الموجبة للأمر بنافلة المغرب، والمصلحة الموجبة للأمر بهما، فيسقط كلا الأمرين، نظير مالو أمر المولى عبده بإكرام العالم، ثمّ أمره بإكرام العالم العادل، فإنّه لو أكرم العبدُ العالِم العادل، فقد استوفى كلتا المصلحتين، لاجتماع كلا العنوانين فيه، فيسقط الأمران، فلا وجه بعد الإتيان بهما لإتيان نافلة المغرب حتّى مع قصد أمرهما لا غير، إذ الواجب سقط أمره بإتيانه حتّى مع عدم الالتفات إلى أمره وعدم قصده، ولو كان الواجب تعبّديّاً، إذ سقوط الأمر فيه إنّما يكون بإتيانه متقرّباً إلى اللّه تعالى، ولا يعتبر في سقوطه زائداً على ذلك قصده.

أمّا لو أتى بنافلة المغرب ابتداءً ، فله الإتيان بهما بعدها، إذ مقتضى إطلاق النصوص استحبابهما مطلقاً حتّى بعد الإتيان بنافلة المغرب، ولا وجه لسقوط الأمر بهما بإتيانها، لعدم تحقّق متعلّق الأمر، وعدم استيفاء المصحلتين الموجبتين للأمر بهما، كما أنّه في المثال لو أكرم الفاسق لا يسقط الأمر بإكرام العالم العادل.

ودعوى: أنّ مقتضى عموم ما دلّ على عدم جواز التطوّع في وقت الفريضه(1)، عدم جواز الإتيان بالصلاتين بعد الإتيان بالنافلة الخارجة عن العموم.

مندفعة أوّلاً: بما سيأتي في محلّه إنْ شاء اللّه تعالى من جواز التطوّع في وقت الفريضة.

وثانياً: بأنّ النسبة بين ما دلّ على مشروعيّتهما، وبين ما دلّ على عدم جواز التطوّع(2)، عمومٌ مطلق، ولا شبهة في تقدّم إطلاق دليل المقيّد على إطلاق دليل المطلق. فتدبّر فيما ذكرناه حتّى لا تبادر بالإشكال.

***ت.

ص: 18


1- الكافي: ج 3/288، وسائل الشيعة: ج 4/226 باب 35 من أبواب المواقيت.
2- الكافي: ج 3/288، وسائل الشيعة: ج 4/226 باب 35 من أبواب المواقيت.

ويسقط في السَّفر نوافل النهار، والوتيرة خاصّة.

سقوط نوافل الظهرين في السَّفر

(ويسقطُ في السَّفر نوافل النهار) أي نوافل الظُّهر والعَصر إجماعاً، حكاه غير واحدٍ(1)، وتدلّ عليه نصوص مستفيضة:

منها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الصّلاة في السّفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شيء إلّاالمغرب، فإنّ بعدها أربع ركعات، لا تدعهنّ في سفرٍ ولا حَضَر»(2).

ومنها: موثّق أبي بصير، عنه عليه السلام: «الصّلاة في السّفر ركعتان، ليس قبلهما ولا بعدهما شيءٌ إلّاالمغرب، فإنّ بعدها أربع ركعات، لا تَدَعهنّ في سفرٍ ولا حَضَر»(3).

ونحوهما غيرهما.

أمّا نافلة المغرب: فلا تسقط في السَّفر بلا خلاف، وتدلّ على ذلك الروايتان المتقدّمتان(4).

وأمّا نافلة الفجر: فهي أيضاً لا تسقط، وتدلّ عليه - مضافاً إلى عدم الخلاف فيه - عدّة من النصوص:

ص: 19


1- كالشيخ في الخلاف: ج 1/587، وحكاه المحقّق النجفي في الجواهر: ج 7/44.
2- التهذيب: ج 2/13 ح 5، وسائل الشيعة: ج 4/82 باب 21 من أبواب أعداد الفرائض ح 4567، إلّاأنّه في الصحيح (ثلاث) بدل أربع ركعات.
3- الكافي: ج 3/439 ح 3، وسائل الشيعة: ج 4/83 باب 21 من أبواب أعداد الفرائض ح 4571.
4- صحيحة عبد اللّه بن سنان وموثّق أبي بصير في الصفحة السابقة.

منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، أنّه قال:

«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يُصلّي من اللّيل ثلاث عشرة ركعة، منه الوِتر وركعتا الفجر في السّفر والحَضَر»(1). ونحوه غيره.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر عدم سقوط النّوافل اللّيليّة غير الوتيرة، ولا خلاف فيه، (و) إنّما الخلاف وقع في (الوتيرة خاصّة):

فعن المشهور(2): سقوطها.

بل عن «السرائر»: الإجماع عليه(3)، لإطلاق صحيح ابن سنان، وموثّق أبي بصير المتقدّمين.

ودعوى:(4) عدم شمول الخبرين لها، لإختصاصهما بنوافل الصّلاة، والظاهر من بعض النصوص الدالّة على مشروعيّة الوتيرة أنّها صلاة مستقلّة، ولها نحو ارتباطٍ بنافلة اللّيل، ولا ربط لها بصلاة العشاء، فلا وجه لسقوطها.

مندفعة: بأنّ الروايتين إنّما تدلّان على سقوط النّوافل المشروعة قبل الفريضة وبعدها، سواءٌ أكانت مكمّلة لها أم كانت مستقلّة، ومحلّها قبلها أو بعدها، وبما أنّ الوتيرة ولو كانت نافلة مستقلّة إنّما شُرِّعت بعد صلاة العشاء، فتكون مشمولةً لهما.

وعن بعض أعاظم المحقّقين(5) رحمهم الله: أنّ الأخبار الدالّة على سقوط النّوافل في السّفر، وإنْ كانت شاملة للوتيرة، إلّاأنّه تعارضها النصوص الواردة فيها1.

ص: 20


1- الكافي: ج 3/446 ح 14، وسائل الشيعة: ج 4/91 باب 25 من أبواب أعداد الفرائض ح 6.
2- مفتاح الكرامة: ج 5/33.
3- السرائر: ج 1/194.
4- المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 2/11 ق 1.
5- المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 2/12 ق 1، وفي ط. المؤسّسة الجعفريّة ص 61.

بالخصوص، كصحيح زرارة:

«قال أبو جعفر عليه السلام: مَنْ كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يبيتنَّ إلّابوِتر»(1).

وليس ظهور تلك الأخبار في إرادة الإطلاق بالنسبة إلى نافلة العشاء، بأقوى من ظهور هذه الروايات.

وفيه أوّلاً: إنّ تلك الأخبار إنّما يكون لها نحو حكومةٍ على هذه الأخبار، لأنّ هذه النصوص إنّما تدلّ على مشروعيّتها، وأخبار السقوط إنّما تدلّ على أنّ ماشُرّع يختصّ بالحضر، ولا يكون مشروعاً في السّفر.

وببيان آخر: إنّ تلك الأخبار معارضة مع جميع الأدلّة الدالّة على مشروعيّة النّوافل، وحيثُ لا وجه لتقديمها على بعض تلك الأدلّة دون بعض - كما لا يصحّ تقديم تلك الأدلّة بأجمعها - فلا محيص عن تقديم نصوص السقوط على تلك الأدلّة، وإنْ كانت النسبة بينها وبين ما دلّ على مشروعيّة كلّ واحدةٍ من النّوافل عموماً من وجه.

وثانياً: إنّ التعارض بين إطلاق دليل السقوط، وبين إطلاق ما دلّ على مشروعيّة الوتيرة، بما أنّه بالعموم من وجه، فلا محالة يسقط كلا الإطلاقين(2)، لما حقّقناه في محلّه، من أنّ التعارض بالعموم من وجه بين الإطلاقين، موجبٌ لسقوطهما، وليس كالتعارض بين العامّين اللّفظيّين، حيثُ أنّ مقتضى القاعدة فيه هو الرجوع إلى مرجّحات باب المعارضة مطلقاً، ولبيان التفرقة بين موارد).

ص: 21


1- تهذيب الأحكام: ج 2/341 ح 268، وسائل الشيعة: ج 4/95 باب 29 من أبواب أعداد الفرائض ح 4603 وح 4604 وح 4606.
2- قد تقدّم أنّ العامّين من وجه لا يتساقطان، بل يرجع فيهما إلى أخبار الترجيح والتخيير، والترجيح مع أدلّة السقوط لكونها أشهر، وما ذكرناه أوّلاً يرد عليه أنّه لا محذور في تقديم جميع تلك الأدلّة إذا كان الدليل مقتضياً لذلك (منه دام ظلّه).

التعارض بالعموم من وجه، بين كونهما عامّين وكونهما مطلقين، حيثُ أنّ مقتضى القاعدة في الأوّل الرجوع إلى المرجّحات، وفي الثاني التساقط والرجوع إلى الأصل، أو العموم، أو الإطلاق السابقة، وستأتي الإشارة إليه في مبحثٍ آتٍ إنْ شاء اللّه، ففي المقام يسقط كلا الإطلاقين، والمرجع إلى أصالة عدم المشروعيّة.

أقول: ولكن مع ذلك كلّه، فإنّ الأقوى - تبعاً للشيخ في «النهاية»(1) وجماعة آخرين(2) - جواز فعلهما في السّفر، لخبر الفضل، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«إنّما صارت العُتَمة مقصورة ليس يُترك ركعتاها، لأنّ الركعتين ليستا من الخمسين، وإنّما هي زيادة في الخمسين تطوّعاً، يتمّ بها بدل كلّ ركعةٍ من الفريضة ركعتين من التطوّع»(3).

ودعوى: ضعف سنده، لأنّ في الطريق عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس، وعلي ابن محمّد بن قتيبة، ولم تثبت وثاقتهما.

مندفعة: بأنّ الأوّل من مشايخ الصدوق(4) الذين أخذ عنهم الحديث، والثاني من مشايخ الكشّي(5) وعليه اعتمد في رجاله، فالرواية معتبرة، وإعراض المشهور عنها مع وضوح دلالتها لا يقدح، لعمل الشيخ(6) بها، وتقوية الشهيد إيّاها(7)، واعتماد جملةٍ من المتأخّرين عليها. مضافاً إلى إحتمال بنائهم على كون المورد من).

ص: 22


1- النهاية: ج 1/276، وحكاه العلّامة في المختلف: ج 2/226.
2- منهم أبو العبّاس الحِلّي في المهذّب البارع: ج 1/283، والشهيد الأوّل في الذكرى : 113، والشهيد الثاني في الروضة البهيّة: ج 1/474 وغيرهم.
3- الفقيه: ج 1/454 ح 1318، وسائل الشيعة: ج 4/95 باب 29 من أبواب أعداد الفرائض ح 4605.
4- الفقيه: ج 4/419.
5- رجال النجاشي: ص 259 رقم 687.
6- النهاية: ج 1/276.
7- الشهيد الأوّل في الذكرى : ص 113، قوله: (قلت هذا قوي).

التعارض بين الرواية وغيرها، وأنّ الترجيح مع الثاني.

ويدلّ عليه أيضاً: خبر رجاء ابن أبي الضحّاك، في حكاية فعل الإمام الرضا عليه السلام: «كان يُصلّي الوتيرة في السّفر»(1).

أقول: ثمّ إنّ مقتضى إطلاق كلام المصنّف رحمه الله وغيره، سقوط النّوافل اليوميّة عن المسافر في الأماكن الأربعة، وهو الأقوى ، إذ مقتضى إطلاق النصوص تعيّن القصر في السّفر، وسقوط النّوافل اليوميّة فيه، والأخبار الدالّة على جواز الإتمام في الأماكن الأربعة(2) توجبُ تقييد إطلاقها من حيث الحكم الأوّل، وأمّا من حيث الحكم الثاني، فلا دليل على تقييدها. والروايات(3) الدالّة على محبوبيّة اكثار الصّلاة في الأماكن الأربعة، واستحباب التطوّع فيها، لا تدلّ على مشروعيّة نوافل النهار كي تقيّد بها المستفيضة المتقدّمة.

***ر.

ص: 23


1- مفتاح الكرامة: ج 5/36. (2و3) الفقيه: ج 1/435 باب الصّلاة في السّفر، وسائل الشيعة: ج 8/524 باب 25 من أبواب صلاة المسافر.

ومِنَ الصّلوات الواجبة: الجُمعة، والعيدان، والكسوف، والزّلزلة، والآيات، والطّواف، والجنائز، والمنذور، وشبهه. وما عدا ذلك مسنونٌ .

ثمّ إنّه قد عرفت في أوّل كتاب الصّلاة، أنّ الصّلوات الواجبة سبع، وقد عدّها المصنّف ثمانياً، حيثُ قال بعد ذكر الصّلاة اليوميّة:

(ومن الصّلوات الواجبة: الجمعة، والعيدان، والكُسُوف) الشامل للخسوف، (والزّلزلة، والآيات، والطواف، والجنائز، والمنذور وشبهه. وما عدا ذلك مسنونٌ ).

وقد عرفت أنّ الاختلاف إنّما نشأ من اختلاف الأنظار في دخول بعضٍ وخروجه، وإدراج بعضها في بعضٍ وإخراجه.

وكيف كان، فسنذكر تفصيل كلّ واحدة منها في مواضعها إنْ شاء اللّه تعالى .

***

ص: 24

الفصل الثاني: في أوقاتها

اشارة

الفصل الثاني: في أوقاتها: إذا زالت الشَّمس دَخَل وقت الظُّهر.

الفصل الثاني وقت الظهرين

(في أوقاتها): والنظر في مقاديرها، وأحكامها:

مقاديرها
وقت الظهرين
اشارة

أمّا الأوّل: ف (إذا زالت الشّمس دَخَل وقت الظهر) والعصر، ويمتدّ وقتهما إلى أنْ تغرب الشَّمس، بلا خلافٍ فيه في الجملة(1).

وتحقيق القول فيه: إنّ الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في المبدأ.

الثاني: في المنتهى .

في المبدإ
اشارة

أمّا المقام الأوّل: فتدلّ على دخول وقت الظهرين بالزّوال، علي سبيل الترتيب أو التشريك على الخلاف الآتي، مضافاً إلى الإجماع، والآية الشريفة: أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ (2)، و (الدلوك) هو الزّوال كما عن جماعةٍ من اللّغويين(3).

وتدلّ عليه بعض الأخبار الآتية، والنصوص المستفيضة:

منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «إذا زالت الشَّمس دَخَل

ص: 25


1- نفى الخلاف في ذلك السيّد المرتضى في الناصريات ص 189، وحكاه عنهم السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 5/129.
2- سورة الإسراء: الآية 78.
3- كتاب العين باب الكاف والدالّ واللّام معهما: ص 329.

الوقتان الظهر والعصر»(1).

ومنها: صحيح عبيد بن زرارة: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن وقت الظهر والعصر؟ فقال: إذا زالت الشّمس دَخَل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلّاأنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنتَ في وقتٍ منهما جميعاً حتّى تغيب الشّمس»(2).

إلى غير ذلك من الروايات الصريحة في ذلك.

أقول: وما توهّم أن يُعارض هذه الأخبار، إنّما هي طائفتان من النصوص:

الأُولى : ما تدلّ بظاهرها على أنّ وقت الظهر بعد الزّوال بقدمٍ ، كصحيح إسماعيل ابن عبد الخالق: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن وقت الظهر؟ قال: بعد الزّوال بقدمٍ أو نحو ذلك، إلّافي يوم الجمعة، أو في السّفر، فإن وقتها حين تزول الشّمس»(3).

ونحوه موثّق سعيد الأعرج(4).

الثانية: ما تدلّ على أنّ وقت الظهر يدخل بعد الزّوال بقدمين، على ما في روايةٍ ، وبذراع على ما في اُخرى ، وهما واحدٌ كما صرّح به في بعض النصوص، وهذه الطائفة تدلّ على أنّ وقت العصر بعد الزّوال بذراعين وأربعة أقدام، كصحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام:

«سألته عن وقت الظهر؟ فقال: ذراعٌ من الشّمس، ووقت العصر ذراعٌ من وقت الظهر، فذلك أربعة أقدام من زوال الشّمس»(5). ونحوها غيرها.4.

ص: 26


1- الفقيه: ج 1/216 ح 648، وسائل الشيعة: ج 4/125 باب 4 من أبواب المواقيت ح 4692.
2- الفقيه: ج 1/216 ح 647، وسائل الشيعة: ج 4/125 باب 4 من أبواب المواقيت ح 4696.
3- التهذيب: ج 2/244 ح 8، وسائل الشيعة: ج 7/317 باب 4 من أبواب المواقيت ح 9455.
4- التهذيب: ج 2/244 ح 7، وسائل الشيعة: ج 4/145 باب 4 من أبواب المواقيت ح 4757.
5- الفقيه: ج 1/217 ح 653، وسائل الشيعة: ج 4/141 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4743 وح 4744.

ولكن هاتين الطائفتين لا تصلحان لمعارضة النصوص الكثيرة، الصريحة في دخول الوقت بالزّوال، المعتضدة بقول المسلمين وعملهم(1)، مع قابليّتهما للحمل على ما لا ينافي تلك النصوص، كما ستمرّ عليك، فلا شبهة في الحكم.

أقول: إنّما الكلام في تعيين ما اُريد من هاتين الطائفتين:

والذي يقوى في النظر أنّ المراد من الطائفة الأُولى بيان أولى وقت فعلها مترتّبة على النافلة الّتي يقرب زمان فعلها بعد الوضوء من قدم، فكأنّه عليه السلام نبّه بذلك على أنّ مقدار قدمٍ ممّا ينبغي الاشتغال فيه بالنافلة، فالتحديد به لا يكون إلّا من حيث أنّ هذا المقدار من الوقت هو الذي يسع فعل النافلة، وتشهد به النصوص الدالّة على أنّ العبرة بالفراغ من النافلة، كصحيح الحارث بن المغيرة، وابن حَنظلة، وابن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«إذا زالت الشّمس فقد دخل وقت الظهر، إلّاأنّ بين يديها سبحة، وذلك إليك إنْ شئتَ طوّلت وإنْ شئتَ قصّرت»(2). ونحوه غيره.

وبالجملة: مقتضى الجمع بين ما دلّ على أنّ وقت الظهر من أوّل الزّوال، وما دلّ على أنّ وقتها بعد الزّوال بقَدَمٍ ، وما دلّ على أنّ العبرة بالفراغ من النافلة؛ أنّ وقت الظهر يدخل بالزّوال، إلّاأنّه لأجل مزاحمتها لفعل النافلة، تأخّر زمان أداء الفريضة عن أوّل الوقت بمقدار زمان فعل النافلة، وحيثُ أنّ فعل النافلة مستحبٌّ ، فيجوز تقديم الظهر والإتيان بها أوّل الزّوال.

وأمّا الطائفة الثانية: فالظاهر أنّ المراد منها بيان الوقت الذي يختصّ بالفريضة،5.

ص: 27


1- راجع مفتاح الكرامة: ج 5/50.
2- الكافي: ج 3/276 ح 4، وسائل الشيعة: ج 4/131 باب 5 من أبواب المواقيت ح 4715.

ولا تجوز فيه النافلة، وهو إنّما يكون بعد القَدَمين، وأمّا قبل ذلك، فالوقتُ مشتركٌ بينهما، ويشير إلى ذلك ما في بعض أخبار الباب من أنّ جعل الذّراع إنّما يكون لمكان الفريضة(1)، ويؤيّده ما في بعضها الآخر من أنّ وقت الظهر في الجمعة وفي السّفر إنّما هو بعد الزّوال بلا فصل(2).

وبالجملة: من تأمّل في أخبار الباب، يظهر له أنّ هذا المقدار من الوقت إنّما جُعل للنافلة، لدفع مرجوحيّة التطوّع في وقت الفريضة، لا أنّه لا يجوز إتيان الظهر قبله.

***1.

ص: 28


1- التهذيب: ج 2/251 ح 33، وسائل الشيعة: ج 4/145 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4758.
2- التهذيب: ج 2/21 ح 10، وسائل الشيعة: ج 4/144 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4751.

حتّى يمضي مقدار أربع ركعات ثُمّ يشترك الوقت بينها وبين العصر.

اختصاص أوّل الوقت بالظهر

ثمّ إنّ المشهور بين الأصحاب أنّ أوّل الوقت يختصُّ بالظهر(1)(حتّى يمضي مقدار أربع ركعاتٍ ، ثمّ يشتركُ الوقت بينها وبين العصر).

وعليه، فلو أتى بالعصر فيه نسياناً أو غفلةً قبل الظهر، أو أنّه دخل في الظهر قبل الزّوال، بتخيّل دخول الوقت، وصلّى العصر بعدها، ثمّ تبيّن أنّه زالت الشّمس بعد الظهر قبل العصر تبطل، ولا يمكن تصحيحها بحديث (لا تُعاد)(2) كما لا يخفى .

وخالف في ذلك الصدوقان، وجماعة غيرهما من الفقهاء(3)، وذهبوا إلى أنّه إذا زالت الشّمس دَخَل وقت الظهر والعصر، إلّاأنّ هذه قبل هذه، فلا محالة العالم الملتفت ليس له تقديم العصر، وأمّا لو قدّمها نسياناً أو غفلةً فتصحّ صلاته لحديث (لا تُعاد).

وعن «المعتبر»: شيوع القول بذلك بين القدماء(4)، وهو الأقوى .

وقد استدلّ للمشهور باُمور:

الأمر الأوّل: ما ذكره صاحب «المدارك»(5): من أنّ إيقاع العصر في أوّل الزّوال ممتنعٌ للعامد والناسي، لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه، وانتفاء ما يدلّ على

ص: 29


1- مفتاح الكرامة: ج 5/130.
2- وسائل الشيعة: ج 5/470 ح 7090، الفقيه: ج 1/339 ح 992.
3- راجع مفتاح الكرامة: ج 5/130 وما بعد، والمختلف: ج 2/8.
4- المعتبر: ج 2/34.
5- مدارك الأحكام: ج 3/36.

صحّته مع المخالفة، وإذا امتنع وقوع العصر عند الزّوال، انتفى كون ذلك وقتاً لها، إذ لا معنى لوقت الفريضة إلّاما جاز إيقاعها فيه، ولو على بعض الوجوه.

وفيه: إنّ هذا دورٌ واضح، إذ بطلان العصر للنّاسي يتوقّف على القول بالاختصاص، وإلّا فمقتضى حديث (لا تُعاد) صحّتها، فإثبات الاختصاص به دوريٌّ .

الأمر الثاني: ما ذكره صاحب «الحدائق»(1) حكايةً عن «المُختَلف»(2)ملخّصاً له، فقال: (وملخّصه أنّ القول باشتراك الوقت حين الزّوال بين الصلاتين، مستلزمٌ لأحد الباطلين: إمّا تكليفُ ما لا يُطاق، أو خرق الإجماع، فيكون باطلاً.

بيان الاستلزام: إنّ التكليف حين الزّوال: إمّا أن يقع حينئذٍ بالعبادتين معاً أو بإحداهما لا بعينها، أو بواحدةٍ معيّنة، والثالثُ خلاف فرض الاشتراك، فيتعيّن أحد الأوّلين.

على أنّ المعيّنة إن كانت هي الظهر يثبت المطلوب، وإنْ كان هي العصر، لزم خَرق الإجماع.

وعلى الاحتمال الأوّل يلزم تكليفُ ما لا يطاق، وعلى الثاني يلزم خَرق الإجماع، إذ لا خلاف في أنّ الظهر مرادة بعينها حين الزّوال، لا لأنّها أحد الفعلين).

انتهى .

وفيه: إنّ التكليف بهما معاً لا يكون مُحالاً، لأنّ الوقت يسع الجميع، فاللّازم على المكلّف في الفرض الإتيان بهما جميعاً، مخيّراً في البدئة بأيّتهما شاء، لكن لا يجوز7.

ص: 30


1- الحدائق: ج 6/103.
2- مختلف الشيعة: ج 2/7.

ذلك فيما نحن فيه، لقوله عليه السلام: «إنّ هذه قبل هذه»(1)، وحيثُ أنّه مختصٌّ بحال التذكّر، ففي حال النسيان نلتزم بأنّ المأمور به في أوّل الوقت ليس الظهر بعينها.

ودعوى: مخالفته للإجماع، مندفعة: بأنّه إنّما هو بالنسبة إلى الملتفت المتذكّر، وهو غير مستلزمٍ للاختصاص، إذ القائلون بالاشتراك لا ينكرون لزوم الإتيان بالظهر تعييناً في أوّل الزّوال للمتذكّر، ومحلّ الخلاف إنّما هو في صورة النسيان، ولا إجماع على عدم الأمر بهما مخيّراً في البدئة بأيّتهما شاء فيها.

فإنْ قلت: إنّ تكليف الناسي بخصوصه في أوّل الوقت بالعصر غير معقول، إذ الناسي إنْ التفتَ إلى نسيانه إنقلب إلى الذاكر، وإلّا فلا يمكن انبعاثه عنه.

قلت: إنّ التكليف بالعصر متوجّهٌ إلى عامّة المكلّفين، إلّاأنّه يشترط ترتّبها على الظهر، لقوله عليه السلام: «إلّا أنّ هذه قبل هذه»(2). وشرطيّة الترتيب بمقتضى حديث (لا تُعاد) مختصّة بحال الذُّكر، وعليه فالناسي وإنْ كان غير ملتفتٍ إلى نسيانه، إلّا أنّه ملتفتٌ إلى أنّ ما يأتي به، إنّما يأتي به بما هو مأمورٌ به، وهذا المقدار كافٍ في صحّة العمل، وإنْ لم يكن الآتي ملتفتاً إلى كيفيّة الأمر.

هذا، مضافاً إلى أنّه لو سُلّم عدم معقوليّة تكليف الناسي والغافل بإيقاع العصر في أوّل الوقت، لكن يكفي في صحّة العبادة إتيانها بداعي المحبوبيّة.

الأمر الثالث: الاستثناء الوارد في جملةٍ من الروايات، وهو قوله عليه السلام: «إلّا أنّ هذه قبل هذه». بدعوى أنّه استثناءٌ من قوله عليه السلام: «إذا زالت الشّمس فقد دَخَل الوقتان». وحيثُ أنّ الظاهر من الاستثناء كونه متّصلاً لا منقطعاً، فيدلّ على أنّ دخول الوقتين بالزّوال إنّما يكون على سبيل الترتيب، وأنّ ما ذُكر من دخولهما به إنّما6.

ص: 31


1- وسائل الشيعة: ج 4/125، ح 4696.
2- وسائل الشيعة: ج 4/125، ح 4696.

هو باعتبار المجموع، فبمقدار أداء الظهر يكون الوقت مختصّاً بها، وبعده يدخل وقت العصر.

وفيه: أنّ الاستثناء لا يكون متّصلاً، وإلّا كان الأولى أن يُقال: (إلّا أنّ وقت هذه قبل وقت هذه)، بل الظاهر منه مجرّد الترتيب، فتكون هذه الجملة مسوقة لدفع توهّم جواز البدئة بكلٍّ من الصلاتين، بمقتضى قوله عليه السلام: «دخل الوقتان».

فهذه النصوص تدلّ على الاشتراك، لا سيّما مع اشتمال بعضها على ما لا يمكن حمله على ما ذُكر، كمصحّح عُبيد بن زرارة: «إذا زالت الشّمس دَخَل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلّاأنّ هذه قبل هذه»(1). فإنّ قوله عليه السلام (جميعاً) يجعل هذا الخبر وما ضاهاه كالنصّ في إرادة دخول وقت العصر أيضاً بالزّوال. وأنّ الاستثناء إنّما يكون مسوقاً لدفع توهّم جواز البدئة بكلٍّ من الصلاتين.

الأمر الرابع: مرسل داود بن فرقد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللّه عليه السلام:

«قال: إذا زالت الشّمس فَقَد دَخَل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يُصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا مضى مقدار ذلك، فقد دَخَل وقت الظهر والعصر، حتّى يبقى من الشّمس مقدار ما يُصلّي أربع ركعات، فإذا بقي مقدار ذلك، فقد خرج وقت الظهر، وبقي وقت العصر، حتّى تغيب الشّمس»(2).

فهو لظهوره في مدّعى المشهور، قد اشتهر الاستدلال به، وبه يقيّد إطلاق الأخبار المتقدّمة.

واُجيب عمّا أُورد عليه: بضعف السند، بأنّ سنده صحيحٌ إلى الحسن بن فضّال،1.

ص: 32


1- وسائل الشيعة: ج 4/126 باب 4 من أبواب المواقيت ح 4696، الفقيه: ج 1/216 ح 647.
2- وسائل الشيعة: ج 4/127 باب 4 من أبواب المواقيت ح 4698، التهذيب: ج 2/25 ح 21.

وبنو فضّال ممّن اُمرنا بأخذ رواياتهم.

وفيه: إنّ الأمر بأخذ الرواية منهم إنّما يدلّ على أنّ إعوجاج مذهبهم لا يضرّ بوثاقتهم في النقل، وأمّا أنّ من ينقلون عنه الذي هو مجهولٌ عندنا فلايدلّ عليتوثيقه.

فالحقّ في الجواب أن يقال: إنّ ضعف السند مجبورٌ بعمل الأصحاب، واشتهار التمسّك به، لا سيّما بما في ذيله من اختصاص مقدار أربع ركعات قبل انتصاف اللّيل بالعشاء الآخرة، حيثُ أنّ الأصحاب أفتوا على طبقه، ولا مدرك لهم سوى هذا المرسل، فهو من حيث السند خالٍ عن الإشكال.

وأمّا من حيث الدلالة، فلا ريب أيضاً في ظهوره في الاختصاص، ولا كلام فيه.

أقول: إنّما الكلام في الجمع بينه وبين النصوص المتقدّمة، التي عرفت أنّها صريحة في دخول وقت العصر أيضاً بالزّوال، وعدم اختصاص أوّل الوقت بالظهر، وما ذكر من تقييدها بالمرسل غير صحيحٍ ، كما هو واضح.

وبالجملة: الذي يقوى في النظر في مقام الجمع، أنّ المرسل وإنْ كان ظاهراً في الاختصاص، إلّاأنّه لأظهريّة تلك النصوص - بل صراحتها - في الاشتراك، يُحمل على دخول الوقت الفعلي، بملاحظة اعتبار الترتيب بين الصلاتين، بمعنى أنّ مقدار أربع ركعات من أوّل الزّوال مختصٌّ بالظهر من حيث الخروج عن عهدتها، وأمّا بعده فالوقتُ مشتركٌ ، ويجوز للمكلّف الخروج عن عهدة الظهر بتأخيرها إلى ذلك الوقت وإتيانها فيه، وله تقديمها عليه، وإيقاع العصر فيه، وهذا المعنى لا ينافي صلاحيّة أوّل الوقت لوقوع العصر فيه في بعض الفروض النادرة، مثل صورة النسيان والغفلة، وبذلك يرتفع التعارض بين الأخبار، ويثبت القول بالاشتراك.

وإنْ أبيتَ عمّا ذكرناه، وقلت: إنّه ليس جمعاً عرفيّاً، فحيثُ لا يمكن الجمع بنحوٍ

ص: 33

آخر، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، والترجيح مع تلك النصوص لوجوه لا تخفى .

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ القول بالاختصاص - بمعنى أنّه لو وقع العصر في ذلك الوقت على وجهٍ كانت شرطيّة الترتيب بين الصلاتين ساقطة، كما في صورة النسيان، تقع باطلة - لا دليل عليه، بل قد عرفت أنّ مقتضى الأخبار صلاحيّة أوّل الوقت لوقوع العصر فيه، وأنّ اعتبار الترتيب مانعٌ عن الفعليّة، ففي الفروض التي يسقط الترتيب بمقتضى حديث (لا تُعاد)، تصحّ صلاة العصر الواقعة في أوّل الوقت.

هذا كّله من حيث المبدأ.

***

ص: 34

إلى أنْ يبقى لغروبِ الشّمس مقدارُ أربع ركعاتٍ ، فيختصّ بالعصر.

آخر وقت الظُّهرين
اشارة

وأمّا المقام الثاني: فيمتدّ وقتهما (إلى أنْ يبقى لغروب الشَّمس مقدارُ أربع ركعاتٍ فيختصّ بالعصر).

بمعنى أنّ التكليف بها يصيرُ فعليّاً ومنجّزاً فيه، ولو لم يأتِ بالظهر.

ولا يجوز الإتيان بالظهر فيه في حال الذُّكر، لا أنّ الوقت غير صالحٍ لوقوعها فيه، خلافاً لما عن المشهور من عدم قابليّة الوقت لوقوعها فيه ولو في حال النسيان.

أقول: الكلام يقع في موردين:

امتداد وقت الظهرين إلى الغروب

المورد الأوّل: المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة(1) هو امتداد وقت الظهرين إلى الغروب، الذي هو أوّل وقت العشائين.

وعن «المبسوط»(2): انتهاء وقت الظهر للمختار، بصيرورة الظِّل مثل الشاخص، والعصر بصيرورته مثليه، والمضطرّ وذو الأعذار يمتدّ الوقت لهما إلى الغروب.

ونحوه ما عن(3) «الخلاف»(4)، و «الجمل»(5)، وسلّار، وابن حمزة(6).

ص: 35


1- كما عن الحدائق: ج 3/253.
2- المبسوط: ج 1/72.
3- حكاه عنهم السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 5/74-75.
4- الخلاف: ج 1/259-260 المسألة الخامسة.
5- الجمل والعقود: ص 59 في ذكر المواقيت.
6- الوسيلة: ص 82.

وعن ابن أبي عَقيل(1): انتهاء وقت الظهر للمختار بالذّراع، وانتهاء وقت العصر بذراعين.

وعن أبي الصّلاح(2): انتهاء وقته بأربعة أسباع.

ومنشأ الاختلاف اختلاف ظواهر الأخبار.

أقول: وتدلّ على مذهب المشهور نصوصٌ مستفيضة:

منها: مرسل داود(3) المتقدّم.

ومنها: مصحّح عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا زالت الشّمس دَخَل وقت الصلاتين الظهر والعصر جميعاً، إلّاأنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنتَ في وقتٍ منهما جميعاً حتّى تغيب الشّمس»(4).

ومنها: خبره الآخر، عنه عليه السلام: «في قوله تعالى : أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ (5)، قال: إنّ اللّه تعالى افترض أربع صلواتٍ أوّل وقتها من زوال الشّمس إلى انتصاف اللّيل، منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشّمس إلى غروب الشّمس»(6).

ونحوها خبر زرارة وغيره(7).

واستدلّ للقول الثاني: بصحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لكلّ صلاةٍ 4.

ص: 36


1- حكاه في المختلف: ج 2/19.
2- الكافي في الفقه للحلبي: ص 137.
3- تقدّم آنفاً.
4- وسائل الشيعة: ج 4/126 باب 4 من أبواب المواقيت ح 4696، الفقيه: ج 1/216 ج 647.
5- سورة الإسراء: الآية 78.
6- وسائل الشيعة: ج 4/157 باب 10 من أبواب المواقيت ح 4793، التهذيب: ج 2/25 ح 23.
7- وسائل الشيعة: ج 4/156 باب 10 من أبواب المواقيت ح 4792، الاستبصار: ج 1/269 ح 34.

وقتان، وأوّل الوقتين أفضلهما، ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً، ولكنّه وقت من شُغل أو نسى أو سهى أو نام، وليس لأحدٍ أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلّامن عذر أو علّة»(1).

والمرويّ عن «تفسير القمّي» رحمه الله مرسلاً عنه عليه السلام، في قوله تعالى : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (2)«تأخير الصّلاة عن أوّل الوقت لغير عُذرٍ»(3).

أقول: ودلالة الخبرين على هذا القول، تتوقّف على أن يكون المراد من (أوّل الوقت) الوقت الأوّل، كما هو الظاهر منهما، وأنْ يكون هو للظهر صيرورة ظِلّ كلّ شيء مثله، وللعصر صيرورته مثليه، وهو كذلك كما تدلّ عليه جملة من النصوص، كصحيح أحمد بن محمّد، قال:

«سألته عن وقت صلاة الظهر والعصر؟ فكتب: قامة للظهر، وقامة للعصر»(4).

ونحوه غيره، وستعرف أنّ المراد من (القامة) قامة الشاخص.

ويرد عليه: - مضافاً إلى قصور الصحيح دلالةً ، والمرسل سنداً، إذ قوله عليه السلام في الصحيح(5): (وليس لأحدٍ... الخ) وإنْ كان ظاهراً في عدم جواز التأخير، لكن ظاهر قوله: (أوّل الوقتين أفضلهما) خلافه، فإنّ مقتضى ذلك مشاركة الوقت الثاني له في أصل الفضيلة، وكذا قوله عليه السلام: (ولا ينبغي تأخير ذلك عَمداً). ظاهرٌ في عدم حرمة التأخير -: أنّ الأخبار المتقدّمة الدالّة على مذهب المشهور، صريحة في امتدادً.

ص: 37


1- وسائل الشيعة: ج 4/119 باب 3 من أبواب المواقيت ح 4675، التهذيب: ج 2/39 ح 74.
2- سورة الماعون: الآية 4.
3- وسائل الشيعة: ج 4/124 باب 3 من أبواب المواقيت ح 4691، تفسير القمّي: ج 2/444.
4- وسائل الشيعة: ج 4/124 باب 3 من أبواب المواقيت ح 4752، التهذيب: ج 2/21 ح 12.
5- صحيح ابن سنان المذكور آنفاً.

الوقت للمختار إلى الغروب، ولا يمكن حملها على المضطرّ وذي العذر، إذ المتبادر من تحديد وقت الواجبات، ليس إلّاالوقت الذي يجوز الإتيان فيه إختياراً.

وبعبارة اُخرى: المنسبق إلى الذهن منه، كون الوقت وقتاً للعمل من حيث هو، لا بشرط الاضطرار والعُذر، وهذا بخلاف ما استدلّ به لهذا القول، فإنّه يمكن حمله على وقت الفضيلة.

مع أنّه لو سُلّم التعارض، وعدم إمكان الجمع بينهما بما ذكرناه، فإنّه لابدَّ من الرجوع إلى المرجّحات، والترجيح مع تلك النصوص لوجوه غير خفيّة.

أقول: وبما ذكرناه ظهر الجواب عمّا استدلّ به للقول بانتهاء وقت الظهر بأربعة أسباع، وهو خبر إبراهيم الكرخي، قال:

«سألتُ أباالحسن موسى عليه السلام: متى يدخل وقت الظهر؟ قال: إذا زالت الشّمس.

قلت: متى يخرج وقتها؟ فقال: من بعدما يمضي أربعة أقدام»(1).

فإنّه لابدَّ من حمله على وقت الفضيلة، والاختلاف بين الطائفتين محمولٌ على اختلاف مراتب الفضل.

وأمّا ما استدلّ به للقول بانتهاء وقتها بالذّراع: فالظاهر من بعضه دخول الوقت بعده، لا كونه وقتاً، كصحيح زرارة: «وقت الظهر على الذّراع»(2)، ونحوه غيره.

وبعضه محمولٌ على ذلك بقرينة ما فيه من التعليل بقوله عليه السلام: «لئلّا يكون تطوّعٌ في وقت فريضة»(3).0.

ص: 38


1- وسائل الشيعة: ج 4/149 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4772، التهذيب: ج 2/26 ح 25.
2- وسائل الشيعة: ج 4/145 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4759، التهذيب: ج 2/245 ح 10.
3- وسائل الشيعة: ج 4/147 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4768، التهذيب: ج 2/250 ح 30.

فتحصّل من ما ذكرناه: أنّ وقت الظهرين للمختار يمتدّ إلى الغروب، وأنّ انتهاء الوقت الأوّل - وهو وقت الفضيلة - للظهر ببلوغ الظلّ مثل الشاخص، وللعصر بالمثلين.

***

اختصاص آخر الوقت بالعَصر

المورد الثاني: في اختصاص آخر النهار بالعصر بمقدار أدائها، ويدلّ عليه مرسل داود المتقدّم(1)، وصحيح الحلبي - في حديثٍ - قال:

«سألته عن رجلٍ نَسي الأُولى والعصر، ثمّ ذكر عند غروب الشّمس ؟

قال عليه السلام: إنْ كان في وقتٍ لا يخاف فوت إحداهما، فليصلِّ الظهر، ثمّ ليصلِّ العصر، وإنْ هو خاف أن يفوته، فليبدأ بالعصر، ولا يؤخّرها فيكون قد فاتتاه جميعاً، ولكن يُصلّي العصر فيما قد بقى من وقتها، ثمّ ليصلِّ الأُولى بعد ذلك على أثرها»(2).

أقول: ولكن غاية ما يدلّ عليه الصحيح، عدم كون آخر الوقت وقتاً للظهر لدى المزاحمة، وفي حال الذُّكر والالتفات، وعدم الإتيان بالعصر، وأمّا عدم صلاحيّته رأساً لفعلها حتّى على تقدير البراءة من العصر، كما لو أتى بها في الوقت المشترك على وجهٍ صحيح، أو تخيّل الإتيان بها، أو نسى عنها فلا.

وأمّا المرسل، وإنْ كان ظاهره الاختصاص بالمعنى المنسوب إلى المشهور، إلّا أنّه لابدّ من حمله على ما ذكرناه، لصحيح عبيد المتقدّم(3): «إذا زالَت الشّمس فَقَد

ص: 39


1- تقدّم آنفاً.
2- وسائل الشيعة: ج 4/129 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4709، التهذيب: ج 2/269 ح 111.
3- وسائل الشيعة: ج 4/125، ح 4696.

دَخَل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلّاأنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنتَ في وقتٍ منهما جميعاً حتّى تغيب الشّمس».

فإنّه صريحٌ في بقاء وقت الظهر إلى الغروب، وأنّ نسبة جميع أجزاء الوقت إلى كلّ واحدة من الصلاتين نسبة واحدة بلا فرق بينهما.

وأيضاً: قد استدلّ بعض أعاظم المحقّقين(1) للزوم إتيان العصر، إذا بقي مقدار أدائها قبل مغيب الشّمس، بقوله عليه السلام في الأخبار المتقدّمة(2): (إلّا أنّ هذه قبل هذه) بدعوى أنّه كما يدلّ بالالتزام العقلي على امتناع تعلّق الأمر بفعل العصر في أوّل الوقت، مع كونه مكلّفاً بإيقاع الظهر قبلها، كذلك يدلّ على امتناع تعلّقه بفعل الظهر في آخر الوقت، مع كونه مكلّفاً بإيقاع العصر بعدها، فلو تعلّق أمرٌ مطلقٌ مثلاً بصلاة الظهر من الزّوال إلى الغروب على سبيل التوسعة، ثمّ وَرَد أمرٌ آخر بإيقاع العصر بعدها، لوجب تقييد كلّ من الأمرين بالآخر، وجعلهما بمنزلة أمرٍ واحد متعلّق بكلا الفعلين على سبيل الترتيب، فلو تركهما حتّى لم يبق من الوقت إلّامقدار أداء أحدهما، فقد فاتت الظهر، إذ لا يعقل بقاء أمرها مع الأمر بإيقاع العصر بعدها قبل أن تغيب الشّمس، فلابدّ من الإتيان بالعصر لبقاء وقتها.

وفيه: أنّ النصوص إنّما تدلّ على اشتراط العصر بوقوع الظهر قبلها، لا اشتراط الظهر بوقوع العصر بعدها، ولذا لو أتى بالظهر خاصّة، فإنّه لا شبهة في سقوط أمرها، فحينئذٍ لو لم يبق من الوقت إلّابمقدار أداء إحدى الصلاتين، فلا6.

ص: 40


1- آغا رضا الهمداني في مصباح الفقيه: ج 2/22، وفي الطبعة الجديدة: ج 9/115 من طبع المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث.
2- وسائل الشيعة: ج 4 / ص 125، ح 4696.

محالة يسقط الأمر بإحداهما، وحيثُ أنّ أمر الظهر مطلق غير مشروط بشيء، والوقت صالحٌ لوقوعها فيه، والعصر مشروطة بوقوع الظهر قبلها، ولا يمكن تحصيل الشرط، فيكون الساقط هو الأمر بالعصر، فالصحيح هو التمسّك بصحيح الحلبي ومرسل ابن فرقد(1).

أقول: ثمّ إنّكَ قد عرفت أنّه على القول بالاختصاص بالمعنى المختار، لو أتى بالعصر في الوقت المشترك، على وجهٍ صحيح، بأن نَسى الأُولى أو صلّاها ثمّ انكشف فسادها، جاز له الإتيان بالظهر فيه وتقع أداءً ، بل يصحّ الإتيان بالظهر فيه، وتقع أداءً حتّى مع تنجّز التكليف بالعصر:

أمّا بناءً على القول بصحّة الترتّب فواضح.

وأمّا بناءً على عدمه، فلكفاية الإتيان بها بداعي المحبوبيّة، بل بناءً على القول بالاختصاص بمعنى خروج وقت الظهر رأساً، يمكن تصحيح الظهر الواقعة فيه قضاءً ، إمّا بالترتّب أو بالملاك.

ودعوى: أنّ مايدلّ على الاختصاص، يدلّ علي عدم صحّة الشريكة فيه أداءً وقضاءً .

مندفعة: بأنّه إنّما يدلّ على كونه وقتاً للعصر كسائر أدلّة التوقيت، ولا نظر له إلى بطلان الشريكة، وعدم صحّتها بوجهٍ .

فرعٌ : إذا ارتفع العُذر المانع من الصّلاة في أثناء الوقت المشترك بمقدار صلاة واحدة، ثمّ حَدَث ثانياً:

فهل يجبُ الإتيان بالاُولى كما قيل، لأنّ ذلك الوقت أوّل وقتٍ يكون مأموراً بالصّلاة، فيختصّ بالاُولى؟ن.

ص: 41


1- المتقدّمان في الصفحتين السابقتين.

أو يجبُ الإتيان بالثانية، لأنّه آخر وقتٍ يمكنه إيقاع الصّلاة فيه ؟

أو يكون مخيّراً بينهما؟ وجوه:

أقواها الأوّل، لا لما ذُكر، لأنّه يرد عليه أنّ ما دلّ على الاختصاص دلّ على اختصاص أوّل الوقت، الذي جُعل في أصل الشرع وهو الزّوال، لا أوّل الوقت بالنسبة إلى تكليف هذا الشخص، وبهذا يظهر الجواب عمّا استدلّ به للقول الثاني.

بل لأنّ الوقت صالحٌ لوقوع كلّ منهما فيه، ولكن الظهر مطلقة والعصر مشروطة بوقوع الظهر قبلها، فلا محالة ينجّز الأمر بالظهر، ويسقط الأمربالعصر.

ودعوى: انصراف أدلّة الترتيب عن مثل الفرض كما ترى .

***

ص: 42

وإذا غَرُبتِ الشّمس، وحَدّه غَيبوبة الحُمرة المشرقيّة، دَخَل وقت المغرب إلى أن يمضي مقدار أدائها، ثمّ يشتركُ الوقت بينها وبين العشاء، إلى أن يبقى لإنتصاف اللّيل مقدارُ أربعٍ ، فيختصُّ بالعشاء.

أوّل وقت المغرب والعشاء
اشارة

(وإذا غربت الشّمس) و (الغروبُ حَدّه غَيبوبة الحُمرة المشرقيّة) على الأشهر، واستتار القرص على الأقوى ، (دَخَل وقت المغرب، إلى أن يمضي مقدار أدائها، ثمّ يشتركُ الوقت بينها وبين العشاء إلى أن يبقى لإنتصاف اللّيل مقدار أربع) ركعاتٍ (فيختصُّ بالعشاء) هذا للمختار.

وأمّا المضطرّ وذو العذر: فيمتدُّ وقتهما لهما إلى طلوع الفجر.

أمور:
اشارة

أقول: ها هنا اُمور ينبغي التعرّض لها:

لا ريب في دخول وقتهما بالغروب في الجملة

الأمر الأوّل: لا ريب في دخول وقتهما بالغروب في الجملة. وفي «الجواهر»(1):

هو من ضروريّات الدِّين.

وتدلّ عليه: الأخبار المتواترة، كصحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إذا غابتِ الشّمس دَخَل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة»(2).

وهذا ممّا لا كلام فيه، وإنّما الخلاف في تحديد الغروب.

أقول: والأشهر(3) تحديده بذهاب الحُمرة المشرقيّة عن سمت الرأس، والظاهر

ص: 43


1- جواهر الكلام: ج 7/106.
2- وسائل الشيعة: ج 4/125 باب 4 من أبواب المواقيت ح 4692، الفقيه: ج 1/216 ح 648.
3- حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 5/87 عن كثير من علمائنا.

أنّه ليس مرادهم بذلك كون المراد من غروب الشّمس غروبها عن اُفق المصلّي، ويكون زوال الحُمرة علامةً له، ليكون مرجعاً عند الشكّ ، بل مرادهم تحديد الغروب بذهاب الحُمرة، فيكون المراد من (الغروب) وصول الشّمس تحت الاُفق إلى حَدٍّ يقارن ذهاب الحُمرة.

وعن جماعةٍ من القدماء، كالصدوق في «العلل»(1)، والشيخ في «المبسوط»(2)و «الاستبصار»(3)، وابن أبي عقيل(4)، والمرتضى(5)، وجماعةٍ من المتأخّرين(6): أنّه يُعلم بإستتار القرص وغيبته.

ونُسب هذا القول إلى أكثر الطبقة الثالثة(7).

وعلى هذا، فلا وجه لطرح الأخبار الظاهرة في هذا القول، أو حملها على التقيّة أو نحوها، بل لابدّ من ملاحظة الروايات والجمع بينها.

استدلّ للقول الأوّل: بأخبار كثيرة:

منها: مصحّح بُريد بن معاوية، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«إذا غابت الحُمرة من هذا الجانب - يعني من المشرق - فقد غابت الشّمس من شرق الأرض وغربها»(8).

لأنّه يدلّ على أنّ غيبوبة الشّمس التي جُعلت موضوعاً للحكم، هي ما7.

ص: 44


1- علل الشرائع: ج 2/350.
2- المبسوط: ج 1/74.
3- الاستبصار: ج 1/265.
4- نقله في المختلف: ج 2/21.
5- رسائل المرتضى: ج 1/274.
6- راجع مفتاح الكرامة: ج 5/80.
7- المراد منهم متأخّري المتأخّرين، راجع مفتاح الكرامة: ج 5/80.
8- وسائل الشيعة: ج 4/172 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4827.

يلازم زوال الحُمرة من ناحية المشرق.

وفيه: أنّه عليه السلام فسّر الجانب بقوله (من المشرق) ولا ريب في أنّ المشرق هو خصوص المحلّ الذي تطلع منه الشّمس، وهو الاُفق، لأربع الفلك، ومعلومٌ أنّ زوال الحُمرة عن الاُفق إنّما يكون في أوّل استتار القرص.

ويؤيّد ما ذكرناه، قوله عليه السلام: (فقد غابَتْ ) لأنّه كما ستعرف ليست غيبوبة الشّمس بنفسها مجملة، بل هي واضحة مبيّنة، وعبارة عن استتار القرص في الاُفق.

ومنها: مرسل علي بن أحمد بن أشيم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«وقت المغرب إذا ذهبت الحُمرة من المشرق، وتدري كيف ذلك ؟ قلت: لا، قال عليه السلام:

لأنّ المشرق مُطلٌّ على المغرب هكذا (ورفع يمينه فوق يساره) فإذا غابَتْ هنا ذهبت الحُمرة من هاهنا»(1).

لظهور صدره في إرادة الغروب بالمرتبة المقارنة لذهاب الحُمرة، وكذلك التعليل.

وفيه: إنّ هذا المرسل أظهر من ما قبله في المعنى الذي ذكرناه، لأنّه عليه السلام بيّن فيه ما قلناه بالتعليل، كما يظهر لمَن تدبّر فيه.

ومنها: خبر محمّد بن شُريح، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«سألته عن وقت المغرب ؟ فقال عليه السلام: إذا تغيّرت الحُمرة في الاُفق، وذهبت الصُّفرة، وقبل أن تشتبك النجوم»(2).

وأنتَ بعدما أحطت خُبراً بما ذكرناه في الخبرين المتقدّمين، تعرف عدم دلالته على هذا القول، بل هو ظاهرٌ في القول الآخر، لملازمة تغيّر الحُمرة في الاُفق مع استتار القرص.1.

ص: 45


1- وسائل الشيعة: ج 4/173 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4829، الاستبصار: ج 1/265 ح 20.
2- وسائل الشيعة: ج 4/176 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4838، التهذيب: ج 2/257 ح 61.

أقول: وبما ذكرناه يظهر عدم دلالة موثّق عمّار، عنه عليه السلام: «إنّما أمرتُ أبا الخطّاب أن يُصلّي المغرب حين زالت الحُمرة من مطلع الشّمس، فجعل هو الحُمرة التي من قبل المغرب»(1) على هذا القول، بل هو أيضاً يدلّ على الثاني.

وأيضاً: انقدح عدم صحّة الاستدلال لهذا القول، بالنصوص الواردة في الإفاضة من عرفات، المحدودة بغروب الشّمس، كموثّق يونس:

«قلت للصادق عليه السلام: متى الإفاضة من عرفات ؟

قال: إذا ذهبتِ الحُمرة، يعني من الجانب الشرقي».

ورواه الشيخ في «التهذيب» مذيّلاً بقوله: (أشار بيده إلى المشرق وإلى مطلع الشّمس)(2).

ونحوه غيره، لما عرفت من أنّ ذهاب الحُمرة من المشرق، ومن مَطْلَع الشّمس، ملازمٌ لإستتار القرص.

كما أنّه ظهر عدم دلالة خبر محمّد بن علي، قال: «صحبتُ الرِّضا عليه السلام فرأيته يُصلّي المغرب إذا أقبلت الفحمة من المشرق - يعني السواد»(3). لهذا القول.

ومنها: الأخبار الدالّة على دخول الوقت ببدوّ الأنجم، كصحيح زرارة: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن وقت إفطار الصائم ؟ فقال: حين تبدو ثلاثة أنجم»(4). ونحوه غيره.

وفيه: أنّ ظهور الأنجم أيضاً ملازمٌ للإستتار، كما يشهد له خبر زرارة الصريح في ذلك.6.

ص: 46


1- وسائل الشيعة: ج 4/175 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4836، التهذيب: ج 2/259 ح 70.
2- وسائل الشيعة: ج 557/13 باب 22 من أبواب إحرام الحجّ من كتاب الحجّ : ح 18435، التهذيب: ج 5/186 ح 1.
3- وسائل الشيعة: ج 4/175 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4834، التهذيب: ج 2/29 ح 37.
4- وسائل الشيعة: ج 10/124 باب 52 من أبواب ما يمسك عنه الصائم من كتاب الصوم ح 13016، التهذيب: ج 4/318 ح 36.

ومنها: خبر أبان: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام أيُّ ساعةٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يوتر؟

قال: مثل مغيب الشّمس إلى صلاة المغرب»(1).

فإنّه يدلّ على انفصال وقت الصّلاة عن مغيب الشّمس بمقدارٍ يسَع الوتر.

وفيه: أنّه عليه السلام قال: (صلاة المغرب)، ولم يقل (وقت المغرب)، وحيثُ أنّه يمكن أن يكون الفصل لأجل السعي إلى المسجد والأذان والإقامة، فلا يدلّ الخبر على تأخّر وقتها عن المغيب.

ومنها: مكاتبة عبد اللّه بن وضّاح، إلى العبد الصالح عليه السلام:

«يتوارى القرص، ويُقبل اللّيل، ثمّ يزيد اللّيل ارتفاعاً وتستر عنّا الشّمس، وترتفع فوق الجبل حُمرة، ويؤذّن عندنا المؤذِّن، أفاُصلي وأفطر إنْ كنت صائماً، أو أنتظر حتّى تذهب الحُمرة التي فوق الجبل ؟

فكتب عليه السلام: أرى لك أن تنتظر حتّي تذهب الحُمرة، و تأخذ بالحائطة لدينك»(2).

وفيه: عدم ظهور الحُمرة الّتي ترتفع فوق الجبل، في الحُمرة المشرقيّة، إذ يحتمل أن يكون المراد منها الصّفرة الحاصلة في الأماكن العالية عند اشراف الغروب، أو الحُمرة العارضة الموجبة للشكّ في استتار القرص في الاُفق، فيكون الأمر بالاحتياط لأجل كون الشُّبهة موضوعيّة، كما يشهد له التعبير بالاحتياط، إذ لو كانت الشُّبهة حكميّة كان عليه بيان الحكم لا الأمر بالاحتياط.

ودعوى: أنّ التعبير عن وجوب التأخير واقعاً تعبّداً، بقوله: (أرى لك أن تأخذ بالحائطة) لأجل التقيّة.

مندفعة: بأنّه لا شاهد عليها، مع أنّ الأمر بالاحتياط أيضاً مخالف للتقيّة.8.

ص: 47


1- وسائل الشيعة: ج 4/174 باب 54 من أبواب المواقيت ح 4831، الكافي: ج 3/428 ح 24.
2- وسائل الشيعة: ج 4/176 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4840، التهذيب: ج 2/259 ح 68.

ومنها: صحيح يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«قال لي: مسّوا(1) بالمغرب قليلاً، فإنّ الشّمس تغيبُ من عندكم قبل أن تغيب من عندنا»(2).

وفيه: أنّه لا يكون المراد من قوله عليه السلام: (فإنّ الشّمس تغيب... الخ) أنّها تغيبُ حقيقةً قبل أن تغيب من عندهم، إذ لا يعتبر غيابها عن جميع الآفاق بالضرورة، بل كلّ واحدٍ من أفراد المصلّي يكون تكليفه منوطاً بغيبوبتها في بلده، ففي رواية عبيداللّه بن زرارة، قال الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ :

«فقلتُ : إنّما علينا أن نُصلّي إذا وجبت الشّمس عنّا، وإذا طلع الفجر عندنا، وليس علينا إلّاذلك، وعلى اُولئك أن يُصلّوا إذا غربت عنهم»(3).

فلا محالة يكون المراد منه أنّها تغيب بالنظرة الخاطئة، لوجود سحابٍ أو جبلٍ أو ضبابٍ أو غير ذلك، وعليه فالأمر بالانتظار لا يدلّ على المشهور.

أقول: ويؤيّد ما ذكرناه، بل تشهد به اُمور:

1 - عدم تحديد المسّ بذهاب الحُمرة المشرقيّة.

2 - خبر جارود، قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: يا جارود ينصحون فلا يقبلون، وإذا سمعوا بشيءٍ أذاعوه، قلتُ لهم: مسّوا بالمغرب قليلاً، فتركوها حتّى اشتبكت النجوم، فأنا الآن اُصلّيها إذا سقط القرص»(4).

3 - أنّه عليه السلام أمر بالانتظار بعد المغرب، والكلام إنّما هو في أنّ المغرب بماذا9.

ص: 48


1- أي أخّروها وأدخلوها في المساء، وفي الحديث: (أصحاب أبي الخّطاب يمسون بالمغرب)، أي يؤخّرونها حتّيتشتبك النجوم (مجمع البحرين مادّة م س و: ج 4/204).
2- وسائل الشيعة: ج 4/176 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4841، التهذيب: ج 2/258 ح 67.
3- وسائل الشيعة: ج 4/179 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4848، أمالي الصدوق ص 81 ح 15.
4- وسائل الشيعة: ج 4/177 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4841، التهذيب: ج 2/259 ح 69.

يُعرف، وهذا الخبر لا يدلّ على أنّه يُعرف بذهاب الحُمرة، بل قوله عليه السلام في الخبر:

(فأنا الآن اُصلّيها) يدلّ على أنّه يعلم بإستتار القرص.

ومنها: مرسل ابن أبي عُمير، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«وقت سقوط القرص ووجوب الإفطار من الصيام، أن تقوم بحذاء القبلة، وتنفقّد الحُمرة الّتي ترتفع من المشرق، فإذا جازت قمّة الرأس إلى ناحية المغرب، فقد وجب الإفطار وسقط القرص»(1).

وفيه: أنّه لابدَّ من طرح المرسل، أو حمله على ما سنذكره، لوجهين: قوله عليه السلام:

(فإذا جازت قمّة الرأس إلى ناحية المغرب) فإنّ الحُمرة المشرقيّة تزول قبل أن تصل إلى قمّة الرأس، لا أنّها تجوز إلى ناحية المغرب.

4 - قوله عليه السلام: (سقط القرص)، لأنّه ليس أمراً مجهولاً مجملاً لا يفهمه العرف، بل هو من الاُمور الواضحة عندهم، وهو استتاره في الاُفق، وغيبته عن العين، وهذا لا يكون ملازماً لزوال الحُمرة المشرقيّة، وعلى هذا فلابدّ من طرحه، وردّ علمه إلى أهله، أو حمله إمّا على بيان العلّامة لغروب الشّمس في موارد احتمال حجبها بجبلٍ ونحوه، أو التجاوز عن المشرق ومطلع الشّمس بمقدار قمة الرأس، وهذا ملازمٌ للاستتار.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لم يبق ما يصلح دليلاً للمشهور، بل بعض ما استدلّ به لما اختاروه يدلّ على القول الآخر.

فإنْ قلت: إنّ المراد من زوال الحُمرة في هذه النصوص، لو كان زوالها من الاُفق، الملازم لاستتار القرص في مقابله، لكان جعل هذه العلّامة لغواً، إذ الاستتار أوضح من مثل هذه العلّامة.4.

ص: 49


1- وسائل الشيعة: ج 4/173 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4830، الكافي: ج 3/279 ح 4.

قلت: إنّه يفيد في البلاد التي تكون الجبال في ناحية مغربها، وتكون مانعة عن العلم بإستتار القرص في الاُفق.

أقول: وعلى هذا، فالأقوى هو القول الثاني، وتدلّ عليه:

مضافاً إلى ما تقدّم، نصوصٌ أُخر:

منها: صحيح زرارة: «قال أبو جعفر عليه السلام: وقتُ المغرب إذا غاب القرص، فإنْ رأيتَ بعد ذلك وقد صلّيت أعدتَ الصّلاة»(1).

ومنها: صحيح ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «وقتُ المغرب إذا غَرُبَت الشّمس، فغاب قرصها»(2).

ومنها: خبر جابر، عن أبي جعفر عليه السلام: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إذا غابَ القُرص أفطر الصائم، ودخل وقت الصّلاة»(3).

ومنها: صحيح داود بن فرقد: «سمعتُ أبي يسأل أبا عبد اللّه عليه السلام: متى يدخل وقت المغرب ؟ فقال عليه السلام: إذا غاب كرسيها.

قلت: وما كرسيها؟ قال عليه السلام: قرصها.

قلت: متى تغيب ؟ قال عليه السلام: إذا نظرتَ إليه فلم تَره».

ونحوه صحيح علي بن حكم(4).

ومنها: خبر عمر بن أبي نصر: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول في المغرب: إذا0.

ص: 50


1- وسائل الشيعة: ج 4/167 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4813، الاستبصار: ج 2/115 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 4/178 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4842، الكافي: ج 3/279 ح 7.
3- وسائل الشيعة: ج 4/179 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4846، الفقيه: ج 2/129 ح 1932.
4- وسائل الشيعة: ج 4/181 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4851، أمالي الصدوق ص 79 ح 10، التهذيب: ج 2/27 ح 30.

توارى القُرص، كان وقت الصّلاة وأفطر»(1).

إلى غير ذلك من النصوص المستفيضة الصريحة في هذا القول، وحيثُ لا معارض لها فعليها الاعتماد.

وأمّا ما ذكره بعض الأكابر من المحقّقين(2): من أنّ الأخبار الموافقة للعامّة في مثل هذه الموارد، في أنفسها بمنزلة الكلام المحفوف بما يصلح أن يكون قرينةً لإرادة خلاف ظاهره، في عدم استكشاف الحكم الواقعي منها، فينبغي أن يعدّ من سهو القلم، إذ الموافقة للعامّة ليست مميّزة لغير الحجّة عنها، بل تكون مرجّحة لإحدى الحجّتين على الاُخرى ، بعد فقد جملة من المرجّحات.

ولو أغمضنا النظر عمّا ذكرناه، وسَلّمنا ظهور الطائفة الأُولى فيما استُدلّ بها له:

فلا نُسلّم ترجيحها على الثانية بحكومتها عليها، بدعوى أنّها تفسّر الغروب وسقوط القرص بإستتاره، بنحوٍ لا يبقى له أثرٌ في ناحية المشرق، أو أنّهما من قبيل المطلق والمقيّد، أو المجمل والمبيّن، وبأنّها أشهر فتوىً بين الأصحاب، وبموافقة الثانية للتقيّة.

إذ الحكومة إنّما تكون فيما إذا كان أحد الدليلين موجباً للتصرّف في عقد وضع الآخر بإثباتٍ أو نفي، أو التصرّف في عقد حَمله، بإعطائه ما يوجب تضييقه، مثل قوله عليه السلام: «لا ضَرر ولا ضِرار في الإسلام»(3)، فإنّه يدلّ على أنّ الأحكام الشرعيّة غير ضرريّة، فيوجب اختصاص الأحكام في الشريعة بغير موارد الضرر.

وعدم كون المورد من صُغريات هذا الضابط، لا يحتاج إلى بيانٍ .2.

ص: 51


1- وسائل الشيعة: ج 4/183 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4856، التهذيب: ج 2/27 ح 28.
2- آقا رضا الهمداني قدس سره في مصباح الفقيه: ج 2/29، وفي طبعة المؤسّسة الجعفريّة: ج 9/157.
3- وسائل الشيعة: ج 26/14 باب 1 من أبواب موانع الإرث، ح 32382.

والأخبار الثانية ليست من قبيل المطلق أو المجمل، لما عرفت من أنّ بعضها نصٌّ في أنّ أوّل الوقت، هو أوّل وجود الغياب، والأولى وإنْ كانت أشهر من حيث الفتوى ، إلّاأنّ الثانية أصحّ سنداً، وأشهر من حيث الرواية، فلا يصل الدور إلى الترجيح بمخالفة العامّة، فتُقدّم الثانية لأصحّية السند وأشهريّة الرواية.

وأيضاً: يمكن حمل الأولى على الاستحباب، لكونه أوفق بالاحتياط، لاحتمال حيلولة الجبل وغيره، كما تُشير إليه ملاحظة التعليلات الواردة فيها.

وقد خرجنا في هذه المسألة عمّا يقتضيه وضع الكتاب من الإيجاز، وأطلنا الكلام فيها، لأنّها أصبحت مطمحاً لأنظار الفحول، فأحببتُ أن أنقّح القول فيها بما يسعه المجال.

***

ص: 52

آخر وقت العشائين

الأمر الثاني: المشهور(1) أنّ آخر وقتهما نصف اللّيل مطلقاً.

وعن جماعةٍ من الأساطين(2) ذلك للمختار، وأمّا للمضطرّ وذي العُذر، فطلوع الفجر.

وقيل(3): آخره طلوع الفجر مطلقاً.

وعن بعضٍ (4): انتهاء وقت المغرب بذهاب الشّفق، والعشاء يمتدّ وقتها إلى ثُلث اللّيل.

أقول: والأقوى هو القول الثاني.

وتشهد لكون آخر وقتهما للمختار نصف اللّيل، جملةٌ من النصوص:

منها: المعتبرة المستفيضة الواردة في تفسير قوله تعالى : أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ (5) الدالّة على أنّ ما بعد غسق اللّيل - وهو انتصاف اللّيل كما فُسِّر به - خارجٌ عن الوقت، كرواية عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«ومنها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشّمس إلى انتصاف اللّيل»(6).

ونحوها غيرها.

ومنها: مرسل داود بن فرقد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

ص: 53


1- نسبه المحدّث البحراني للمشهور في الحدائق الناضرة: ج 6/175، وراجع مفتاح الكرامة: ج 5/89.
2- المحقّق في المعتبر: ج 2/40، ونسبه العلّامة إلى بعض علمائنا في المنتهى: ج 4/68، وقال به صاحب المدارك: ج 3/56.
3- نقله العلّامة في التذكرة عن أبي حنيفة: ج 2/315.
4- العلّامة في النهاية: ص 59، والصدوق في الهداية ص 130، والشيخ في النهاية: ص 59.
5- سورة الإسراء: الآية 78.
6- وسائل الشيعة: ج 4/157 باب 1016 من أبواب المواقيت ح 4793، الإستبصار: ج 1/261 ح 13.

«إذا غابت الشّمس، فقد دَخَل وقت المغرب حتّى يمضي مقدار ما يُصلّي المصلّي ثلاث ركعات، فإذا مضى ذلك، فقد دَخَل وقت المغرب والعشاء الآخرة، حتّى يبقى من انتصاف اللّيل مقدار ما يُصلّي المصلّي أربع ركعات، وإذا بقي مقدار ذلك، فقد خَرَج وقت المغرب، وبقي وقت العشاء إلى انتصاف اللّيل»(1).

وقريبٌ منه غيره.

أقول: وتشهد لامتداد وقتهما للمضطرّ وذي العذر إلى طلوع الفجر، عدّة من الروايات:

منها: صحيح ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنْ نام رجلٌ أو نَسي أن يُصلّي المغرب والعشاء الآخرة، فإنْ استيقظ قبل الفجر قَدَر ما يصلّيهما كلتيهما فليُصلّهما، وإنْ خشي أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة، وإنْ استيقظ بعد الفجر، فليصلِّ الصبح، ثمّ المغرب، ثمّ العشاء قبل طلوع الشّمس»(2).

ونحوه موثّق أبي بصير(3).

ومنها: صحيح ابن سنان في الحائض: «وإنْ طَهُرت في آخر اللّيل، فلتصلِّ المغرب والعشاء»(4).

وقريبٌ منه خبر داود الدجاجي(5)، وخبر ابن حنظلة(6).

وفيه: إنّ غاية ما تدلّ عليه هذه النصوص، إنّما هو وجوبها على الحائض، ولا9.

ص: 54


1- وسائل الشيعة: ج 4/184 باب 17 من أبواب المواقيت ح 4860، التهذيب: ج 2/28 ح 33.
2- وسائل الشيعة: ج 4/288 باب 62 من أبواب المواقيت ح 5182، التهذيب: ج 2/270 ح 113.
3- وسائل الشيعة: ج 4/288 باب 62 من أبواب المواقيت ح 5181، التهذيب: ج 2/271 ح 114.
4- وسائل الشيعة: ج 2/364 باب 46 من أبواب الحيض ح 2375، التهذيب: ج 1/390-391 ح 27.
5- وسائل الشيعة: ج 2/364 باب 46 من أبواب الحيض ح 2376، التهذيب: ج 1/390-391 ح 28.
6- وسائل الشيعة: ج 2/364 باب 46 من أبواب الحيض ح 2377، التهذيب: ج 1/390-391 ح 29.

تدلّ على وقوعها في الوقت.

والتمسّك بأصالة عدم التخصيص في العمومات، الدالّة على أنّها لو طَهُرت بعد الوقت لا يجب عليها الصّلاة، لإثبات امتداد الوقت لها إلى طلوع الفجر.

غير صحيحٍ ، فإنّ مورد التمسّك بها، هو ما كان فرديّة شيء للعام معلومة، وشمول الحكم له مجهولاً، مثل المقام ممّا يكون الحكم معلوماً، والفرديّة مشكوكاً فيها، فتأمّل.

وأمّا الإشكال: على الروايات في النائم والساهي، بأنّها تعارض ما ورد في تفسير الآية الشريفة، وأنّها مخالفة لما دلّ على ذمّ النائم عن الصّلاة، والأمر بالقضاء بعد الانتصاف، وإعراض المشهور عنها.

فمندفع: بأنّهذه النصوص أخصّ ممّا ورد في تفسير الآية الشريفة، فتقدّم عليه.

وذمّ النّائم إنّما يدلّ على معصيته في التأخير، فلا ينافي مع بقاء الوقت، والتعبير بالقضاء أيضاً لا ينافي ذلك، لعدم ظهوره في القضاء المصطلح، وعدم عمل الأصحاب بها يمكن أن يكون لبعض ما تقدّم.

ثمّ إنّها وإنْ وردت في النّائم والساهي، إلّاأنّ الظاهر هو التعدّي إلى مطلق المعذور.

نعم، لا يجوز التعدّي إلى غير المعذور لأنّه - مضافاً إلى أنّه بلا وجهٍ - يلزم معارضة هذه الأخبار مع النصوص المتقدّمة، ولا ريب في تقدّمها عليها.

ومنه يظهر الجواب عمّا استدلّ به للقول الثالث، وهي رواية عبيد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا تفوت الصّلاة من أراد الصّلاة، لا تفوت صلاة النهار حتّى تغيب الشّمس، ولا صلاة اللّيل حتّى يطلع الفجر...»(1). مضافاً إلى ضعف سندها.8.

ص: 55


1- وسائل الشيعة: ج 4/159 باب 10 من أبواب المواقيت ح 4798، الإستبصار: ج 1/260 ح 8.

أقول: وقد استدلّ للقول بأنّ آخر وقت المغرب سقوط الشّفق، بطائفتين من الأخبار:

الطائفة الأُولى : ما تدلّ بظاهرها على ذلك:

منها: موثّق إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن وقت المغرب ؟ قال: ما بين غروب الشّمس إلى سقوط الشّفق»(1).

ومنها: رواية زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «وآخر وقت المغرب اياب الشّفق، فإذا آبَ الشّفق دَخَل وقت العشاء الآخرة»(2). إلى غير ذلك من النصوص.

الطائفة الثانية: ما تدلّ على أنّ لكلّ صلاةٍ وقتين إلّاالمغرب:

منها: صحيح زرارة والفضيل، قالا: «قال أبوجعفر عليه السلام: إنّ لكلّ صلاةٍ وقتين، غير المغرب، فإنّ وقتها واحد، ووقتها وجوبها»(3). ونحوه غيره.

وعن جماعةٍ (4): أنّ ذلك للحاضر، وأمّا المسافر فيجوز التأخير لها إلى ربع اللّيل، لجملةٍ من النصوص، كصحيح عمر بن يزيد، قال:

«وقت المغرب في السّفر إلى ربع اللّيل»(5).

واستدلّ لأنّ آخر وقت العشاء ثلث اللّيل، بجملةٍ من الأخبار، كخبر معاوية ابن عمّار: «وقت العشاء الآخرة إلى ثلث اللّيل»(6). ونحوه غيره.

ولكن لصراحة الروايات المتقدّمة في جواز التأخير إلى نصف اللّيل، لابدَّ من8.

ص: 56


1- وسائل الشيعة: ج 4/182 باب 18 من أبواب المواقيت ح 4855، التهذيب: ج 2/258 ح 66.
2- وسائل الشيعة: ج 4/156 باب 1 من أبواب المواقيت ح 4792، التهذيب: ج 2/262 ح 82.
3- وسائل الشيعة: ج 4/187 باب 18 من أبواب المواقيت ح 4872، التهذيب: ج 2/260 ح 73.
4- الشيخ المفيد في المقنعة: ص 95، والحلبي في الكافي ص 137، والقاضي في المهذّب ص 69، والشيخ في النهاية: ص 59.
5- وسائل الشيعة: ج 4/194 باب 19 من أبواب المواقيت ح 4896، التهذيب: ج 3/233 ح 119.
6- وسائل الشيعة: ج 4/200 باب 21 من أبواب المواقيت ح 4916، الفقيه: ج 1/219 ح 658.

صرف هذه النصوص عن ظاهرها.

ودعوى: أنّه يمكن الجمع بحمل تلك النصوص على المضطرّ وذي العُذر.

مندفعة: بأنّه - مضافاً إلى ما عرفت في الظهرين، من عدم إمكانه - يأبي عن هذا الحمل ما تقدّم من النصوص الدالّة(1) على أنّ وقتهما لها يمتدّ إلى طلوع الفجر، فلا مناص عن الجمع بحمل هذه الروايات على الفضيلة، أو كراهة التأخير عن الشّفق في المغرب، وعن ثُلث اللّيل في العشاء.

أقول: وبما ذكرناه ظهر:

1 - أنّه لابدَّ من حمل الاختلاف بين الأخبار في العشاء، على اختلاف مراتب الفضل.

2 - وظهر أيضاً أنّ الأخبار الدالّة على تضيّق وقت المغرب محمولة على الوقت الفُضلى.

3 - كما ظهر أنّ ما دلّ على أنّ وقت المغرب إلى ثُلث اللّيل أو ربعه، محمولٌ على التوسعة في الوقت الأوّل لاُولي الأعذار.

أقول: بقي الكلام في بيان المراد من النصوص الدالّة على أنّ (لكلّ صلاةٍ وقتين إلّا المغرب).

فقد ذكر بعض الأعاظم من المحقّقين(2): أنّ المراد بالوقتين فيها، الوقتان اللّذان أتى بهما جبرائيل، أو وَضَعهما النبيّ صلى الله عليه و آله لكلّ صلاةٍ بأمره(3)، فيكون استثناء المغرب حينئذٍ في محلّه، فإنّه عليه السلام لم يأتِ لها إلّابوقتٍ واحد.8.

ص: 57


1- تقدمت النصوص في بداية هذا المبحث.
2- آقا رضا الهمداني في مصباح الفقيه: ج 2/30، وفي طبعة المؤسّسة الجعفريّة: ج 9/159.
3- وسائل الشيعة: ج 4/187 باب 18 من أبواب المواقيت ح 4871، الكافي: ج 3/280 ح 8.

وفيه: أنّ الظاهر منها فعليّة الوقتين لكلّ صلاة إلّاالمغرب، لا أنّها إشارة إلى إتيان جبرائيل بوقتين، وإنْ كان فعلاً واحداً.

فالظاهر أنّ المراد (بالوقتين) الوقت المزاحم بوقت النافلة، والوقت غير المزاحم، فحينئذٍ يكون الاستثناء في محلّه، إذ ليس قبلها نافلة حتّى يكون أوّل وقتها مزاحماً بوقت النافلة.

ويشهد لذلك أمران:

الأوّل: استثناء الجمعة أيضاً في بعض الأخبار.

الثاني: قوله عليه السلام في صحيح زيد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «فإنّ وقتها واحد ووقتها وجوبها»(1) أي سقوط الشّمس.

***8.

ص: 58


1- وسائل الشيعة: ج 4/188 باب 18 من أبواب المواقيت ح 4871، الكافي: ج 3/280 ح 8.
اختصاص أوّل الوقت بالمغرب وآخره بالعشاء

الأمرالثالث: يدورالبحث فيه عن اختصاص أوّل الوقت بالمغرب، وآخره بالعشاء.

أقول: قد يتوهّم كما عن «المبسوط»(1) و «الخلاف»(2) و «المقنعة»(3): أنّ أوّل الوقت إلى ذهاب الحُمرة المغربيّة مختصٌّ بالمغرب، لجملةٍ من النصوص:

منها: صحيحة بكر بن محمّد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«وأوّل وقت العشاء ذهاب الحُمرة، وآخر وقتها إلى غَسَق اللّيل»(4).

ومنها: صحيحة الحلبي: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام: متى تجبُ العُتمَة ؟ قال عليه السلام: إذا غاب الشّفق والشّفق الحُمرة»(5). ونحوهما غيرهما.

ولكن لابدّ من حملها على الفضيلة، للأخبار الصريحة في جواز تقديمها على سقوط الشّفق:

منها: موثّق زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «صَلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالناس المغرب والعشاء الآخرة قبل الشّفق، من غير علّةٍ في جماعةٍ ، وإنّما فعل ذلك ليتّسع الوقت على اُمّته»(6).

ومنها: خبره الآخر: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام وأبا عبد اللّه عن الرّجل يُصلّي العشاء الآخرة قبل سقوط الشّفق ؟ فقالا عليهما السلام: لا بأس به»(7).

ص: 59


1- المبسوط: ج 1/74.
2- الخلاف: ج 1/261.
3- المقنعة: ص 93.
4- وسائل الشيعة: ج 4/185 باب 17 من أبواب المواقيت ح 4862، التهذيب: ج 2/30 ج 39.
5- وسائل الشيعة: ج 4/204 باب 33 من أبواب المواقيت ح 4928، الكافي: ج 3/280 ح 11.
6- وسائل الشيعة: ج 4/202 باب 32 من أبواب المواقيت ح 4921.
7- وسائل الشيعة: ج 4/203 باب 32 من أبواب المواقيت ح 4924، التهذيب: ج 2/34 ح 55.

ومنها: رواية إسحاق: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يجمع بين المغرب والعشاء في الحضر، قبل أن تغيب الشّفق من غير علّةٍ؟ قال: لا بأس»(1).

أقول: وأمّا اختصاص أوّل الوقت بمقدار أداء المغرب بها، فالكلام فيه بعينه الكلام في اختصاص أوّل وقت الظهرين بالظهر، والأدلّة مشتركة، والمختار واحدٌ، فلا حاجة إلى الإعادة.

وأمّا اختصاص آخر الوقت بمقدار أداء العشاء بها، فيدلّ عليه مرسل داود، وصحيح ابن سنان المتقدّمان(2)، وظهورهما في الاختصاص، بمعنى خروج وقت المغرب وإنْ كان لا يُنكر، إلّاأنّه لابدّ من حملهما على الاختصاص، بمعنى كونه وقتاً فعليّاً لدى المزاحمة، أي الوقت الذي يكون المكلّف مأموراً بإيقاع العشاء فيه، لا الوقت الشأني، بحيث لا يصلح لوقوع المغرب فيه صحيحة، ولو في بعض الفروض النادرة، لأجل رواية عبيد وغيرها، كما عرفت في الظهرين.

فرع: الظاهر أنّ حَدّ وقت الاختصاص، مقدار أداء الصّلاة على حسب ما تقتضيه وظيفة المصلّي، لا خصوص أربع ركعات كما عن جماعةٍ (3) التعبير بمقدار الأداء، وعليه فيختصّ آخر الوقت بالعشاء في السّفر بمقدار ركعتين، فعلى هذا لو كان المصلّي مسافراً ولم يصلِّ ، حتّى بقي من الوقت مقدار أداء ثلاث ركعات، فالأمر يدور بين اُمور ثلاثة:

1 - الإتيان بالمغرب فتفوت العشاء.0.

ص: 60


1- وسائل الشيعة: ج 4/204 باب 32 من أبواب المواقيت ح 4927، التهذيب: ج 2/263 ح 84.
2- وسائل الشيعة: ج 4/184، ح 4860، و: ج 4/288 ح 5182.
3- منهم الشهيد الثاني في الروضة: ج 1/487، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 2/20، والأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 2/20.

2 - أن يصبر حتّى يمضي مقدار ركعةٍ ، ثمّ يأتي بالعشاء، فتفوت المغرب.

3 - أن يأتي أوّلاً بالعشاء، ثمّ يأتي بالمغرب، فتقع ركعةً منها في الوقت والباقي خارجة فتصحّ ، لقاعدة (مَنْ أدرك) وإن يلزم منه فوت الترتيب.

أقول: الأقوى هو الأخير، لأنّ المستفاد من الأدلّة أنّه لو دار الأمر بين عدم الإتيان بالصّلاة في الوقت، والإتيان بها خارجه جامعة للأجزاء والشرائط، وبين الإتيان بها في الوقت فاقدة لبعض الأجزاء والشرائط، يتعيّن الثاني، إذ الشارع لا يرضى بترك الصّلاة، وهي لا تسقط بحال، فلابدّ في الفرض من الإتيان بهما بتقديم العشاء.

هذا مضافاً إلى صحيح ابن سنان المتقدّم(1): «إنْ خاف أنْ تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء»، وفي المقام لو شرع في المغرب تفوت العشاء، فلا مناص عن البدأة بها.

هذا كلّه بناءً على عدم جواز إقحام الصّلاة في الصّلاة، كما هو الحقّ ، وإلّا فلابدّ من الشروع في المغرب، وبعد الإتيان بركعةٍ منها يشرع في العشاء ويتمّها، ثمّ يأتي بما بقي من المغرب.

***2.

ص: 61


1- وسائل الشيعة: ج 4/288، ح 5182.

وإذا طَلَع الفجرُ الثّاني، دَخَل وقتُ الصّبح.

أوّل وقت الصُّبح

(وإذا طَلَع الفجرُ الثاني) المسمّى بالصُّبح الصادق، الذي يُعرف باعتراض البياض الحادث في الاُفق المتصاعد في السماء، الذي يكون كالقبطيّة البيضاء (دَخَل وقت الصُّبح).

أمّا كون أوّل الوقت طلوع الفجر، فلا خلاف فيه، وتشهد له كثيرٌ من الأخبار، كخبر زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «وقت صلاة الغداة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس»(1). ونحوه غيره.

وأمّا كونه هو الفجر الثاني، فتشهد له جملةٌ من النصوص:

منها: مكاتبة عليّ بن مهزيار إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام:

«جُعلتُ فداك، قد اختلف موالوك في صلاة الفجر، - إلى أنْ قال - فكتب بخطّه وقرأته: الفجر يرحمك اللّه هو الخيط الأبيض المعترض، وليس هو الأبيض صعداء، فلا تُصلِّ في سفرٍ ولا حَضَرٍ حتّى تبيّنه، فإنّ اللّه تعالى ... الخ»(2).

ومنها: خبر علي بن عطيّة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الصبح هو الذي إذا رأيته كان معترضاً كأنّه بياضُ نهر سوراء»(3). وغيرهما من الأخبار.

ودعوى: معارضة هذه النصوص، مع خبر زريق، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

ص: 62


1- وسائل الشيعة: ج 4/208 باب 26 من أبواب المواقيت ح 4938، التهذيب: ج 2/36 ح 65.
2- وسائل الشيعة: ج 4/210 باب 27 من أبواب المواقيت ح 4944، الكافي: ج 3/282 ح 1.
3- وسائل الشيعة: ج 4/210 باب 27 من أبواب المواقيت ح 4942، الفقيه: ج 1/500 ح 1436، وفيه نهر سُوَري.

«إنّه كان يُصلّي الغداة بَغَلسٍ عند طلوع الفجر الصادق أوّل ما يبدو، قبل أن يستعرض»(1).

مندفعة: بأنّ الفجر الصادق أوّل ما يبدو إنّما يكون كالخيط الأبيض في عرض الاُفق، ثمّ بعد ذلك يصبح عريضاً من فوق، وعليه فهذا الخبر لا ينافي النصوص المتقدّمة، إذ المراد من (يستعرض) فيه صيرورته منتشراً في جهة المشرق، لا الاعتراض في الاُفق المعتبر في تحقّق الطلوع بمقتضى تلك الأخبار.

أقول: ثمّ إنّه يقع البحث في أنّه هل يكفي التبيّن التقديري ؟

أو يعتبر التبيّن الفعلي ؟

أو يفصّل بين أن يكون المانع عن التبيّن هو الغيم ونحوه، فيكفي التقديري، وبين أن يكون ضوء القمر، فلا يكفي ؟

وجوهٌ ، اختار بعض أكابر المحقّقين(2) رحمهم الله الوجه الثالث، بدعوى أنّ ضوء القمر مانعٌ عن تحقّق البياض ما لم يقهره ضوء الفجر، والغيم مانعٌ عن الرؤية لا عن التحقّق.

وفيه: أنّ الثابت في محلّه، كون الاُفق وراء القمر، وأبعد منه، فضوء القمر لا يُعقل أن يكون مانعاً عن التحقّق، بل يكون مانعاً عن الرؤية كالغيم.

وعليه، فالأقوى هو الأوّل، لما أثبتناه في محلّه من أنّ الظاهر من العناوين التي لها طريقية كاليقين والتبيّن ونحوهما، المأخوذة في الموضوع، كونها ملحوظة بعنوان الطريقيّة لا الموضوعيّة، فالعبرة بتحقّق البياض في الاُفق، ولو لم يتبيّن لمانعٍ ، ولا يعتبر التبيّن الفعلي.4.

ص: 63


1- وسائل الشيعة: ج 4/213 باب 28 من أبواب المواقيت ح 4949، الأمالي للطوسي ص 495 المجلس 39.
2- آقا رضا الهمداني في مصباح الفقيه: ج 2/25، وفي طبعة المؤسّسة الجعفريّة: ج 9/134.

إلى أنْ تَطلَع الشَّمس

آخر وقت الصّبح

ويمتدُّ وقت الصبح (إلى أن تطلع الشّمس)، كما هو المشهور بين الأصحاب(1)، بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(2). ويشهد له خبر زرارة المتقدّم وغيره(3).

وعن الشيخ(4): إنّ هذا للمضطرّ، وأمّا المختار فوقته إلى طلوع الحُمرة، واسفرار الصبح، لصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«وقت الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أنْ يتجلّل الصبح السماء، ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً، ولكنّه وقتٌ لمن شَغَل أو نسى أو نام»(5).

ونحوه صحيح عبد اللّه بن سنان(6).

وفيه: مضافاً إلى عدم ظهورهما في انتهاء الوقت مطلقاً بطلوع الحُمرة كما لا يخفى ، لابدّ من حملهما على وقت الفضيلة، لخبر زرارة وغيره، مثل ما ذكرناه في الظهرين والعشائين.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأخبار التي هي مستند التفصيل بين المختار والمعذور في أوقات الفرائض، إنّما تكون في مقام بيان تحديد وقت الفضيلة والأجزاء، وأنّ ما فيها من الاختلاف محمولٌ على مراتب الفضل.

هذا تمام الكلام في أوقات الفرائض.

***

ص: 64


1- كمافي المسالك: ج 142/1، ومجمع الفائدة: ج 24/2، ومحكي حاشية المدارك كمافي مفتاح الكرامة: ج 103/5.
2- كما في الغنية كتاب الصّلاة: ص 70، والسرائر: ج 1/196.
3- تقدّم الخبر في ص 321، وراجع وسائل الشيعة: ج 4/207 باب 26 من أبواب المواقيت.
4- المبسوط: ج 1/75.
5- وسائل الشيعة: ج 4/207 باب 26 من أبواب المواقيت ح 4933، الكافي: ج 3/283 ح 5.
6- وسائل الشيعة: ج 4/208 باب 26 من أبواب المواقيت ح 4937، التهذيب: ج 2/39 ح 74.

وأمّا النّوافل: فوقتُ نافلة الظّهر، إذا زالتِ الشَّمسُ إلى أنْ يصير ظِلّ كلّ شيءٍ مثله.

وقت نافلة الظهرين

(وأمّا) أوقات (النّوافل، فوقت نافلة الظهر إذا زالت الشَّمس) إلى أن يبلغ زيادة الفيء سُبعي الشاخص، كما هو المشهور(1).

وعن جماعةٍ من الأساطين، كالشيخ في «الخلاف»(2)، والمحقّق(3)، والشهيد الثاني(4)، والمصنّف (إلى أنْ يصير ظِلّ كلّ شيءٍ مثله).

وقيل(5): يمتدّ وقتها بامتداد وقت الفريضة.

أقول: والأقوى ما هو المشهور، لما في صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام:

«أتدري لِمَ جُعل الذّراع والذّراعان ؟ قلتُ : لِمَ جُعل ذلك ؟

قال: لمكان النافلة، لكَ أن تتنفّل مِنْ زوال الشّمس إلى أنْ يمضي ذراع، فإذا بَلَغ فيؤكَ ذراعاً بدأتَ بالفريضة وتركتَ النافلة، وإذا بلغ فيئُكَ ذراعين بدأتَ بالفريضة وتركت النافلة»(6).

ولما في رواية إسماعيل، عنه عليه السلام: «أتدري لِمَ جُعل الذّراع والذّراعان ؟ قال:

ص: 65


1- حكاه العاملي عن جامع المقاصد، راجع مفتاح الكرامة: ج 5/105.
2- الخلاف: ج 1/257.
3- جامع المقاصد: ج 2/20.
4- الروضة: ج 1/488.
5- عن الشيخ في المبسوط: ج 1/76.
6- وسائل الشيعة: ج 4/141 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4743، الفقيه: ج 1/217 ح 653.

قلتُ : لِمَ؟ قال عليه السلام: لمكان الفريضة، لئلّا يؤخذ من وقت هذه ويدخل في وقت هذه»(1). ونحوهما غيرهما(2).

واستدلّ للقول الثاني: بصحيح زرارة المتقدّم(3) بدعوى أنّ التقدير أنّ الحائط ذراع، فحينئذٍ ما روي من القامة والقامتين جارٍ هذا المجرى، لقول الصادق عليه السلام: «في كتاب عَليٍّ القامة ذراع»(4).

وفيه: أنّ من تدبّر في النصوص، يظهر له أنّ المراد من (القامة) قامة الإنسان كما هو المتبادر منها، وما في «كتاب عليٍّ عليه السلام» من تفسير القامة بالذراع اُريد بها العهد، فلا ينزل عليها إطلاق القامة.

هذا مضافاً إلى أنّ (القامة) في الصحيح لم يرد منها الذّراع قطعاً، لقوله عليه السلام:

«فإذا بَلَغ فيؤكَ ذراعاً».

واستدلّ للقول الثالث:

1 - بالنصوص الدالّة على استحباب هذه النّوافل قبل الفريضة، بقول مطلق، كقوله عليه السلام عند تعداد النّوافل: «ثمان ركعات قبل الظهر، وثمانٍ بعدها»(5).

2 - وبما دلّ على أنّ النافلة بمنزلة الهديّة متى أتى بها قُبِلَتْ (6).

ويرد على الأُولى : أنّ النصوص إنّما تكون في مقام بيان محلّ النافلة أو غيره من الخصوصيّات، وليست مسوقةً لبيان امتداد الوقت كي يُتمسّك بإطلاقها.7.

ص: 66


1- وسائل الشيعة: ج 4/146 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4761، التهذيب: ج 2/245 ح 12.
2- وسائل الشيعة: باب 8 من أبواب المواقيت، والتهذيب: ج 2/245 باب 13 المواقيت.
3- وفي صدر الصحيحة: إنّ حائط مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان قامة، وكان إذا مضى من فيئه ذراع صلّى الظهر، وإذامضى من فيئه ذراعان صلّى العصر....
4- في خبر علي بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: وسائل الشيعة: ج 4/147 ح 4766، التهذيب: ج 2/251 ح 32.
5- وسائل الشيعة: ج 4/57 باب 13 من أبواب أعداد الفراض ونوافلها ح 4487، التهذيب: ج 2/5 ح 7.
6- وسائل الشيعة: ج 4/233 باب 37 من أبواب المواقيت ح 5012، الإستبصار: ج 1/278 ح 7.

فإذا صارتْ كذلك، ولم يُصلّ شيئاً من النافلة، اشتغل بالفريضة، ولو تلبّس بركعةٍ من النافلة زاحم بها الفريضة.

ولو سُلّم إطلاقها، لابدّ من تقييده بالاخبار المتقدّمة.

ودعوى: عدم حمل المطلق على المقيّد في المستحبّات.

مندفعة: بما حقّقناه في محلّه من أنّ ذلك يتمّ إذا لم يكن دليلُ المقيّد متضمِّناً لحكمٍ إلزامي نفسي أو إرشادي، وإلّا فيحمل المطلق على المقيّد، ودليل المقيّد في المقام بما أنّه متضمّنٌ لبيان الشرطيّة، فلا محالة يُحمل عليه المطلق.

ويرد على الثانية: مضافاً إلى ما أُورد على الأُولى أنّها إنّما تدلّ على صحّتها، ولا تدلّ على كونها أداءً ، بل يظهر من بعضها صحّتها قضاءً ، كرواية القاسم، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«ستّ عَشَرة ركعة في أي ساعات النهار شئتَ أن تُصلّيها صلّيتها، إلّاأنّك إذا صلّيتها في مواقيتها أفضل»(1).

(ف) الأقوى امتداد وقتها إلى أن يبلغ الفيء سُبعي الشاخص، و (إذا صارت كذلك، ولم يُصلّ شيئاً من النافلة، اشتغل بالفريضة، ولو تلبّس بركعةٍ من النافلة زاحم بها الفريضة) لموثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «للرّجل أن يُصلّي الزّوال ما بين زوال الشّمس إلى أن يمضي قَدَمان، فإنْ كان قد بقيَ من الزّوال ركعة واحدة، أو قبل أنْ يمضي قَدَمان، أتمَّ الصّلاة حتّى يُصلّي تمام الركعات، وإنْ مضي قَدَمان قبل أنْ يُصلّي ركعةً ، بدأ بالاُولى ولم يُصلِّ الزّوال إلّابعد ذلك، وللرَّجل أنْ يُصلّي من نوافل العصر4.

ص: 67


1- وسائل الشيعة: ج 4/233 باب 37 من أبواب المواقيت ح 5009، الإستبصار: ج 1/277 ح 4.

ووقت نافلة العصر: بعد الظهر إلى أنْ يصير ظِلّ كلّ شيءٍ مثليه، ولو خرج وقد تلبّس بركعةٍ زاحم بها وإلّا فلا.

ما بين الاُولى إلى أن يمضي أربعة أقدام، فإنْ مضتْ أربعة أقدام ولم يُصلّ من النّوافل شيئاً فلم يُصلِّ النّوافل، وإنْ كان قد صَلّى ركعة، فليتمّ النّوافل حتّى يفرغ منها ثمّ يُصلّي العصر»(1).

أقول: (و) ممّا ذكرناه ظهر أنّ (وقت نافلة العصر بعد الظهر) إلى أن يبلغ زيادة الفيء أربعة أقدام، ولا يمتدّ وقتها (إلى أن يصير ظِلّ كلّ شيءٍ مثليه) كما اختاره المصنّف رحمه الله (و) جماعةٌ من الأساطين(2).

كما انقدح من موثّق عمّار المتقدّم أنّه (لو خرج) الوقتُ (وقد تلبّس بركعةٍ زاحم بها) الفريضة (وإلّا فلا) بل يشتغل بالفريضة.

***ً.

ص: 68


1- وسائل الشيعة: ج 4/245 باب 40 من أبواب المواقيت ح 5049، التهذيب: ج 2/273 ح 123.
2- تقدّم ذكرهم آنفاً.

ووقتُ نافلة المغرب بعدها إلى أن تذهب الحُمرة المغربيّة.

وقتُ نافلة المغرب

(و) عن المشهور(1) أنّ (وقت نافلة المغرب بعدها إلى أنْتذهب الحُمرة المغربيّة).

وعن «المعتبر»(2): نسبته إلى علمائنا.

وعن الشهيد في «الذكرى» و «الدروس»(3): اختيار امتداد وقتها بامتداد وقت المغرب، أو الميل إليه، وتبعه بعض المتأخّرين(4)، وهو متّجهٌ لإطلاق ما دلّ على الأمر بفعلها بعد المغرب، وفي جملةٍ منها:

«الاهتمام بعدم تركها في سَفَرٍ ولا حَضَر»(5).

واستدلّ للأوّل(6):

1 - بأنّه المعهود من فعل النبيّ صلى الله عليه و آله، كما تدلّ عليه النصوص(7).

2 - وبما دلّ على النهي عن التطوّع في وقت الفريضة(8) بناءً على أنّ المراد من وقت الفريضة وقت الفضيلة.

ص: 69


1- كما عن الشهيد الثاني في الروضة: ج 1/492، والشهيد الأوّل في الدروس: ج 1/141.
2- المعتبر: ج 2/53.
3- ذكرى الشيعة: ص 124، الدروس الشرعيّة: ج 1/141.
4- منهم صاحب المدارك في مدارك الأحكام: ج 3/74، والفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 3/57.
5- وسائل الشيعة: ج 4/86 ب 24 أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ح 4578، الكافي: ج 3/439 ح 2.
6- استدلّ له صاحب الجواهر في الجواهر: ج 7/186.
7- وسائل الشيعة: ج 4/47 باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ح 4478، الكافي: ج 3/443 ح 5.
8- وسائل الشيعة: ج 4/227 باب 35 من أبواب المواقيت ح 4989، التهذيب: ج 2/167 ح 119.

ولو ذَهَبت ولَم يكمِلْها اشتغل بالعشاء.

3 - وبالأخبار الدالّة على أنّ المُفِيض من عرفات إذا صَلّى العشاءبالمُزدلفة، يؤخّر النافلة إلى ما بعد العشاء(1).

2 - وبأنّه المنساق من النصوص الواردة فيه.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الفعل أعمٌّ من التوقيت، مع أنّه لم يثبت أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يكن يأتي بها قبل العشاء، لو كان يؤخّر المغرب.

وأمّا الثاني: فلما سيأتي في محلّه من جواز التطوّع في وقت الفريضة، مع أنّه لا يدلّ على التوقيت، كما لا يخفى .

وأمّا الثالث: فلأنّه يمكن أن يكون الأمر بتأخير النافلة، لأجل استحباب الجمع بين الصلاتين.

وأمّا الرابع: فلأنّه غير ظاهر الوجه، إذ ليس في النصوص إلّاالأمر بها بعد المغرب.

(و) على القول الأوّل (لو ذهبتِ ) الحُمرة (ولم يُكْمِلها اشتَغَل بالعشاء) كما عن جماعةٍ (2) منهم المصنّف في جملةٍ من كتبه(3).6.

ص: 70


1- وسائل الشيعة: ج 18/15 باب 6 من أبواب الوقوف بالمشعر من كتاب الحجّ ح 18472، التهذيب: ج 5/190 ح 9.
2- منهم من ذكرنا في الصفحة السابقة، ومنهم ابن فهد الحِلّي في المهذّب البارع: ج 1/280، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 2/167.
3- كالإرشاد: ج 1/243، وقواعد الأحكام: ج 1/249، ومنتهى المطلب: ج 4/96.

واستدلّ له(1): بأنّ النافلة لا تُزاحم غير فريضتها، لأنّه لا تطوّع في وقت فريضة. ولكن سيمرّ عليك ضعف المبنى .

وقيل(2): لو شرع فيها ثمّ زالت الحُمرة يتمّها:

1 - لموثّق عمّار المتقدّم في نافلة الظهرين(3)، بضميمة الغاء الخصوصيّة.

2 - وعموم: «مَن أدركَ ركعةً من الوقت فقد أدرَكَ الوقت كلّه»(4)، لأنّ نافلة المغرب مجموعها بمنزلة صلاةٍ واحدة، فلو أدرك منها ركعة في الوقت يُتمّها.

3 - ولما دلّ على النهي عن إبطال العمل.

4 - ولأنّ (الصّلاة على ما افتُتِحتْ ).

أقول: والجميع كما ترى :

إذ الأوّل مختصٌّ بنافلة الظهرين، والتعدّي لا وجه له، والثاني مختصٌّ بالفريضة، لأنّه لا إطلاق لدليله من هذه الجهة، كما أنّ النهي عن إبطال العمل لا يشمل النافلة، وليس معنى : (الصَّلاة على ما افتُتحت) المُضيّ فيما شرع فيه حتّى مع اختلال الشرائط.

وعليه، فالأقوى بناءً على المنع من التطوّع في وقت الفريضة القول الأوّل.

***).

ص: 71


1- المحقّق في المعتبر: ج 2/59، والعلّامة في التحرير: ج 1/183.
2- قاله ابن إدريس في السرائر: ج 1/202.
3- تقدّم آنفاً.
4- وسائل الشيعة: ج 4/218 ح 4962، وقد ورد هكذا: (مَن أدركَ ركعةً من الصّلاة فقد أدرك الصّلاة).

ووقتُ الوُتَيرة بعد العشاء، وتمتدّ بامتداد وقتها،

وقت نافلة الوتيرة

(ووقت الوُتيرة بعد العشاء، وتمتدّ بامتداد وقتها) كما هو المشهور.

وعن غير واحدٍ(1): دعوى الإجماع عليه، لإطلاق أدلّتها، السليمة عن المعارض. وحيثُ أنّ فعلها في خارج الوقت مشروعٌ ، فالنزاع في امتداد وقتها إلى طلوع الفجر كي يكون وقتها أطول من وقت الفريضة، لا تترتّب عليه ثمرة.

***

ص: 72


1- كالعلّامة في المنتهى: ج 4/97، وظاهر المحقّق في المعتبر: ج 2/54.

ووقتُ نافلة اللّيل بعد انتصافه، وكُلّما قَرُبَ من الفَجر كان أفضل،

وقتُ نافلة اللّيل

(ووقتُ نافلة اللّيل بعد انتصافه) بلا خلافٍ ، وإجماعاً كما عن «المعتبر»(1)، و «المنتهى»(2)، و «الخلاف»(3)، لمرسلة الصدوق:

«قال أبو جعفر عليه السلام: وقت صلاة اللّيل ما بين نصف اللّيل إلى آخره»(4).

وتؤيّده النصوص المتضمّنة لحكاية فعل النبيّ صلى الله عليه و آله، الوارد بعضها في مقام بيان النّوافل على حسب ما جرت به السُنّة(5).

وما دلّ على نفي البأس عن الإتيان بها في أوّل اللّيل(6)، محمولٌ على العذر، للإجماع على خلافه.

(وكُلّما قَرُب من الفجر كان أفضل) إجماعاً، كما عن «المعتبر»(7)، وظاهر «التذكرة»(8)، للنصوص الدالّة على أنّ وقتها آخر اللّيل، كموثّق سليمان، عن الإمام

ص: 73


1- المعتبر: ج 2/54.
2- المنتهى : ج 4/97.
3- الخلاف: ج 1/533.
4- وسائل الشيعة: ج 4/248 باب 43 من أبواب المواقيت ح 5055، الفقيه: ج 1/477 ح 1376.
5- وسائل الشيعة: ج 4/61 باب 14 من أبواب أعداد الفرائض ح 4507، الفقيه: ج 1/227 ح 679.
6- وسائل الشيعة: ج 4/249 باب 43 من أبواب المواقيت ح 5059، الفقيه: ج 1/478 ح 1379.
7- المعتبر: ج 2/54.
8- تذكرة الفقهاء: ج 2/318.

ولو طَلَع وقد تلبّس بأربعٍ زاحم بها الصُّبح. وإلّا قضاها.

الصادق عليه السلام: «وثمان ركعاتٍ من آخر اللّيل»(1).

ونحوه غيره المحمول كلّها على الفضل، للنصوص المتقدّمة الدالّة على أنّ أوّل وقتها انتصاف اللّيل، فإنّها بمساعدة الفهم العرفي - لا سيّما بعد ملاحظة ما في هذه النصوص من الاختلاف، وكون آخر اللّيل مقولاً بالتشكيك - تدلّ عليه، كما لا يخفى .

(ولو طَلَع) الفجر (وقد تَلبّس بأربعٍ ، زاحم بها الصُّبح) بلا خلافٍ ، لما رواه الشيخ في «التهذيب» عن مؤمن الطّاق، قال:

«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: إذا كنتَ صلّيت أربع ركعاتٍ من صلاة اللّيل قبل طلوع الفجر، فأتمّ الصّلاة، طَلَع أو لم يَطلع»(2).

(وإلّا) أي وإنْ طَلَع الفجر، ولم يتلبّس بشيءٍ منها، أو تلبّس بأقلّ من أربع ركعاتٍ (قضاها) لمضيّ وقتها.

وأمّا جواز الإتيان بها حينئذٍ قضاءً قبل صلاة الصبح، أو أنّه لابدَّ من تأخيرها عنها؟ فوجهان:

تدلّ على الأوّل جملةٌ من النصوص، وعلى الثاني مفهوم خبر مؤمن الطاق، وقول الصادق عليه السلام في خبر المفضّل:).

ص: 74


1- وسائل الشيعة: ج 4/50 باب 13 من أبواب أعداد الفرائض ح 4488، التهذيب: ج 2/5 ح 8.
2- وسائل الشيعة: ج 4/260 باب 47 من أبواب المواقيت ح 5097، التهذيب: ج 2/125 ح 243، وفي المصدر (من آخر اللّيل).

«وإذا أنتَ قمتَ وقد طَلَع الفجر فابدأ بالفريضة ولا تُصلِّ غيرها»(1).

وحيثُ أنّ النصوص متعارضة، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، والترجيح مع الثانية للأشهريّة ومخالفة العامّة.

***8.

ص: 75


1- وسائل الشيعة: ج 4/262 باب 48 من أبواب المواقيت ح 5102، التهذيب: ج 2/339 ح 258.

ووقت ركعتي الفجر بعد الفراغ من صلاة اللّيل.

وقت نافلة الصّبح

(ووقت ركعتي الفجر بعد الفراغ من صلاة اللّيل) كما هو المشهور، وتدلّ عليه جملةٌ من الروايات:

منها: صحيح أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال:

«قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: وركعتي الفجر اُصلّيهما قبل الفجر أو بعد الفجر؟

فقال عليه السلام: احش بهما صلاة اللّيل، وصلّهما قبل الفجر»(1).

ومنها: موثّق زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن ركعتي الفجر؟ فقال عليه السلام: قبل الفجر، إنّهما من صلاة اللّيل ثلاث عشرة ركعة»(2).

هذا فيما إذا دسّهما في صلاة اللّيل، وأمّا إذا لم يأتِ بصلاة اللّيل، فلا إشكال أيضاً في جواز تقديمهما على الفجر، لدلالة جملةٍ من النصوص عليه، كصحيحة زرارة، قال:

«قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: الركعتان اللّتان قبل الغداة أين موضعهما؟ فقال عليه السلام: قبل طلوع الفجر»(3).

إلّا أنّ في دلالتها على جواز تقديمهما من انتصاف اللّيل إشكالاً، إذ دعوى انصرافها إلى ما يقرب الفجر غير بعيدة، مع أنّه لو سُلّم إطلاقها فتقيّد بخبر ابن مسلم: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن أوّل وقت ركعتي الفجر؟ فقال: سُدس

ص: 76


1- وسائل الشيعة: ج 4/265 باب 51 من أبواب المواقيت ح 5112، التهذيب: ج 2/133 ح 284.
2- وسائل الشيعة: ج 4/264 باب 51 من أبواب المواقيت ح 5109، التهذيب: ج 2/133 ح 281.
3- وسائل الشيعة: ج 4/265 باب 51 من أبواب المواقيت ح 5113، التهذيب: ج 2/132.

اللّيل الباقي»(1).

ولعلّ هذا هو مدرك من قال: إنّ المبدأ الفجر الأوّل(2)، بناءً على أنّ أوّل السُّدس هو الفجر الأوّل، ويؤيّده خبر إسحاق، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن ركعتي الفجر؟ قال: قبل الفجر ومعه وبعده»(3).

وأمّا الإتيان بها بعد الفجر الثاني، فتدلّ عليه جملةٍ من النصوص:

منها: صحيح محمّد بن مسلم: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: صَلِّ ركعتي الفجر قبل الفجر وبعده وعنده»(4). ونحوه غيره.

أقول: قوله عليه السلام في خبر المفضّل: «وإذا أنتَ قمتَ وقد طَلَع الفجر، فابدأ بالفريضة ولا تُصلِّ غيرها»(5)، لا ينافي هذه النصوص، إذ الظاهر منه إرادة البدئة بالفريضة، في مقابل نافلة اللّيل، لا ركعتي الفجر.

ويشهد له: قوله عليه السلام فيه قبل هذه الجملة: (فإذا طَلَع الفجر، فأوتر وصَلِّ الركعتين). ومقتضى إطلاقها - سواءٌ اُريد بالفجر فيها الأوّل أو الثاني - جواز الإتيان بها حتّى بعد طلوع الحُمرة المشرقيّة، إلّاأنّه لابدّ من تقييده بصحيح عليّبن يقطين:

«سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن الرَّجل لا يُصلّي الغداة حتّى يسفر وتظهرالحُمرة، ولم يركع ركعتي الفجر، أيركعهما أو يؤخّرهما؟ قال: يؤخّرهما»(6).5.

ص: 77


1- وسائل الشيعة: ج 4/265 باب 51 من أبواب المواقيت ح 5111، التهذيب: ج 2/133 ح 283.
2- كالشيخ المفيد في المقنعة: ص 91، والشيخ في المبسوط: ج 1/76، وسلّار في المراسم ص 80 وغيرهم.
3- وسائل الشيعة: ج 4/268 باب 52 من أبواب المواقيت ح 5125، التهذيب: ج 2/133 ح 286.
4- وسائل الشيعة: ج 4/269 باب 52 من أبواب المواقيت ح 5130، التهذيب: ج 2/340 ح 264.
5- وسائل الشيعة: ج 4/262 باب 48 من أبواب المواقيت ح 5102، التهذيب: ج 2/339 ح 258.
6- وسائل الشيعة: ج 4/266 باب 51 من أبواب المواقيت ح 5115، التهذيب: ج 2/340 ح 265.

وتأخيرها إلى طلوعه أفضل، ولو طَلَع الفَجرُ زاحم بها إلى أنْ تَطلع الحُمرة المشرقيّة.

(وتأخيرها إلى طلوعه) أي الفجر الأوّل (أفضل) كما عن غير واحدٍ التصريح به(1)، لما دلّ على أنّ وقتها قبل الفجر، أو السّدس الباقي.

كما أنّ تقديمها على الفجر الثاني أفضل، لخبر زرارة المتقدّم، الدالّ على أنّ وقتها قبل الفجر، المحمول على الفضل، بقرينة الروايات الصريحة في جواز تأخيرها عن الفجر.

(و) أخيراً: قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه (لو طَلَع الفجر زاحم بها) الفريضة (إلى أن تطلع الحُمرة المشرقيّة).

هذا تمام الكلام في أوقات الصّلوات.

***م.

ص: 78


1- صرّح به المحقّق في المعتبر: ج 2/55، والعلّامة في المنتهى: ج 4/100، والشهيد الأوّل في الدروس: 141، وغيرهم.
مسائل:
اشارة

مسائل: الأولى: تُصلّى الفرائض في كلّ وقتٍ أداءً وقضاءً ، ما لم يتضيّق الحاضرة. والنّوافل ما لم يَدخُل وقت الفريضة.

تُصلّى الفريضة في كلّ وقت
اشارة

وأمّا أحكامها: ففيها (مسائل) قد تعرّض المصنّف لجملةٍ منها، وأهمل ذكر اُخرى ، ونحن نذكر في المقام المسائل المهمّة:

المسألة (الأُولى : تُصلّى الفرائض) الخمس وغيرها (في كلّ وقت أداءً ) إنْ كان في وقتها المضروبة لها (وقضاءً ) إنْ لم يكن وقتها (ما لم يتضيّق) وقت (الحاضرة).

أمّا جواز قضاء الفرائض الخمس في كلّ وقتٍ ، فيدلّ عليه - مضافاً إلى الإجماع(1) - جملةٌ من النصوص، منها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال:

«أربعُ صلواتٍ يُصلّيها الرّجل في كلّ ساعةٍ : صلاةٌ فاتتكَ فمتى ذكرتها»(2).

وأمّا جواز الإتيان بباقي الصّلوات في كلّ وقتٍ ، فلوجود المقتضي، وعدم المانع.

(و) يُصلّي (النّوافل ما لم يدخل وقت الفريضة)، ولم يكن على المصلّي فائتة، بلا خلافٍ في ذلك، ولا إشكال.

أقول: إنّما الكلام يقع في مسالتين:

الأُولى : في جواز التطوّع في وقت الفريضة.

الثانية: في إتيان النافلة لمَن عليه فائتة.

ص: 79


1- كما في المعتبر: ج 2/60، والخلاف: ج 1/385، والغنية ص 98.
2- وسائل الشيعة: ج 4/240 باب 39 من أبواب المواقيت ح 5030، الفقيه: ج 1/434 ح 1264.
التطوّع في وقت الفريضة

أمّا الأُولى : فعن جماعةٍ كالشيخين(1) وأتباعهما: المنع.

وعن الشهيد(2): أنّه المشهور بين المتأخّرين.

وعن «المعتبر»(3): أنّه مذهب علمائنا.

وعن «الذكرى»(4)، و «المسالك»(5)، و «الروض»(6)، و «المدارك»(7)، و «الذخيرة»(8)، و «المفاتيح»(9) وغيرها: جواز الإتيان بالنافلة في وقت الفريضة.

وعن «الدروس»(10): أنّه الأشهر.

واستدلّ للأوّل: بجملةٍ من النصوص:

منها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«سألته عن ركعتي الفجر قبل الفجر أو بعد الفجر؟ فقال عليه السلام: قبل الفجر، إنّهما من صلاة اللّيل، ثلاث عشرة ركعة صلاة اللّيل، أتُريد أن تقايس ؟ لو كان عليكَ من شهر رمضان أكنتَ تطوّع إذا دخل عليك الفريضة ؟! فابدأ بالفريضة»(11).

ص: 80


1- المفيد في المقنعة: ص 212، والشيخ في النهاية: ص 62.
2- في الدروس: ج 1/142.
3- المعتبر: ج 2/60.
4- ذكرى الشيعة: ص 114.
5- مسالك الأفهام: ج 1/145.
6- روض الجنان: ص 183.
7- مدارك الأحكام: ج 3/89.
8- ذخيرة المعاد: ج 2/199.
9- مفاتيح الشرايع: ج 1/97.
10- الدروس الشرعيّة: ج 1/142.
11- وسائل الشيعة: ج 4/264 باب 50 من أبواب المواقيت ح 5109، التهذيب: ج 2/133 ح 281.

وفيه: - مضافاً إلى أنّها لم يعمل بظاهرها في موردها، لجواز الإتيان بركعتي الفجر بعد الفجر، بل يستحبّ إعادتهما بعده لمن قدّمهما عليه، كما هو المشهور، فتأمّل - أنّه عليه السلام أمر بالبدأة بالفريضة، ولم ينهَ عن النافلة، فكما يمكن أن يكون الأمر بها لعدم جواز النافلة، كذلك يمكن أن يكون لأهميّة الفريضة، وعدم إمكان الأمر بهما في زمانٍ واحد، وعليه فلا تدلّ على عدم صحّة التطوّع حتّى بناءً على صحّة الترتّب، أو كفاية الملاك.

ومنها: صحيحته الاُخرى ، عنه عليه السلام المرويّة عن «الروض» و «المدارك»:

«قلت له: اُصلّي النافلة وعَليَّ فريضة، أو في وقت فريضة ؟

قال عليه السلام: لا، إنّه لا يُصلّى نافلةٌ في وقت فريضةٍ ، أرايتَ لو كان عليك من شهر رمضان أكان لك أن تطوّع حتّى تقضيه ؟ قال: قلت: لا، قال: فكذلك الصّلاة»(1).

وفيه: - مضافاً إلى قرب احتمال كونها عين الأُولى - أنّ الأمر فيها يدور:

بين إرادة الراتبة من النافلة أو العموم، وحمل وقت الفريضة على الوقت المختصّ بها.

وبين الأخذ بعموم وقت الفريضة، وتخصيص النافلة بالمبتدأة.

وحيثُ أنّ الراتبة من أظهر مصاديق النافلة، وإرادة الوقت المختصّ من الوقت شائعة في كلمات الأئمّة عليهم السلام، فالأوّل أظهر.

أقول: ومنه ظهر الجواب عن الاستدلال بصحيحته الثالثة، المحكيّة عن «السرائر» عن «كتاب حريز»، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام:

«لا تُصلِّ من النافلة شيئاً في وقت الفريضة، فإنّه لاتقضى نافلة في وقت4.

ص: 81


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 3/160 باب 46 من أبواب المواقيت ح 3266، روض الجنان: ص 184، ومدارك الأحكام: ج 3/90، وذكره الشهيد الأوّل في الذكرى : ص 134.

فريضة، فإذا دخل وقت الفريضة فابدأ بالفريضة»(1).

كما ظهر الإشكال في صحيحته الرابعة، وفيها:

«إذا دخل وقت صلاةٍ مكتوبةٍ ، فلا صلاة نافلة حتّى يبدأ بالمكتوبة»(2).

ومنها: موثّق ابن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«قال لي رجلٌ من أهل المدينة: يا أبا جعفر ما لي لا أراك تتطوّع بين الأذان والإقامة، كما يصنع الناس ؟

فقلت: إنّا إذا أردنا أن نتطوّع، كان تطوّعنا في غير وقت الفريضة، فإذا دخلت الفريضة فلا تطوّع»(3).

وفيه: أنّه يمكن أن يكون المراد فلا تطوّع منّا، وعليه فالخبر ليس ظاهراً في المنع، كما لا يخفى .

ومنها: رواية إسماعيل، عن أبي جعفر عليه السلام: «إنّما جُعل الذّراع والذّراعان لئلّا يكون تطوّعٌ في وقت فريضة»(4).

وفيه: أنّه يكفي لحكمة التشريع، كراهة التطوّع، وأفضليّة الفريضة عن النافلة، فلا تدلّ على المنع.

وبالجملة: وممّا ذكرناه في هذه الأخبار يظهر عدم دلالة سائر ما استدلّ به للمنع، فلا حاجة إلى ذكرها وبيان ما فيها.

ولو سُلّم ظهور بعض ما مرّ في المنع، لابدّ من صرفه عن ظاهره للأخبار الدالّة على الجواز، كموثّق سماعة الذي رواه المشايخ الثلاثة، فعن «الكافي»، قال: «سألته0.

ص: 82


1- وسائل الشيعة: ج 4/228 باب 35 من أبواب المواقيت ح 4994، مستطرفات السرائر ح 587.
2- وسائل الشيعة: ج 4/285 باب 61 من أبواب المواقيت ح 5175، الذكرى : ص 134.
3- وسائل الشيعة: ج 4/227 باب 35 من أبواب المواقيت ح 4989.
4- وسائل الشيعة: ج 4/147 باب 8 من أبواب المواقيت ح 4768، التهذيب: ج 2/251 ح 30.

عن الرجل يأتي المسجد، وقد صَلّى أهله ايبتدأ بالمكتوبة، أو يتطوّع ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان في وقتٍ حَسَن فلا بأس بالتطوّع قبل الفريضة، وإنْ كان خاف الفوت من أجل ما مضى من الوقت، فليبدأ بالفريضة، وهو حقّ اللّه، ثمّ ليتطوّع ما شاء، والأمر موسّعٌ أن يُصلّي الإنسان في أوّل دخول وقت الفريضة النّوافل، إلّاأن يخاف فوت الفريضة، والفضل إذا صَلّى الإنسان وحده أن يبدأ بالفريضة إذا دخل وقتها، ليكون فضل أوّل الوقت للفريضة، وليس بمحظورٍ عليه أنْ يُصلّي النّوافل من أوّل وقتٍ إلى قريبٍ من آخر الوقت»(1).

وهذا الخبر - مضافاً إلى صراحته في الجواز - يدلّ على أنّ النهي عن التطوّع إنّما يكون لأجل أهميّة الفريضة، فلذا تُحمل النّواهي المذكورة على أنّها إرشادٌ إلى وجود مطلوب أهمّ في نظر الشارع، وهذا لا يستلزم حزازة في النافلة.

ودعوى: اختصاصه بالرواتب.

مندفعة: بأنّ قوله عليه السلام (والفضل) يأبى عن ذلك.

وحسنة محمّد بن مسلم، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إذا دَخَل وقت الفريضة أتنفّل أو أبدأ بالفريضة ؟

قال عليه السلام: إنّ الفضل أن تبدأ بالفريضة»(2).

والمراد ب (الوقت) فيها الوقت المختصّ بالفريضة، كما لا يخفى وجهه، فتدلّ على جواز النافلة حتّى في الوقت المختصّ ، وقريبٌ منهما غيرهما.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ التطوّع في وقت الفريضة جائزٌ بلا حزازة فيه.

***6.

ص: 83


1- وسائل الشيعة: ج 4/226 باب 35 من أبواب المواقيت ح 4987، الكافي: ج 3/288 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 4/230 باب 36 من أبواب المواقيت ح 4999، الكافي: ج 3/289 ح 5 و 6.
التطوّعُ لمن عليه فائتة

وأمّا المسألة الثانية: وهو التطوّع لمن عليه فائتة:

فعن جماعةٍ كالصدوقين(1) والشهيدين(2) والأردبيلي(3) وصاحب «المدارك»(4) وغيرهم: جوازه.

ونُسب(5) المنع إلى الأكثر.

وعن «الرياض»(6): أنّه الأشهر الأقوى .

واستدلّ للمنع(7):

1 - بالنصوص(8) الدالّة على وجوب ترتيب الحاضرة على الفائتة، ما لم يتضيّق وقتها، بدعوى أنّه إذا وجب ذلك في الفريضة الّتي هي صاحبة الوقت، ففي نافلتها بطريقٍ أولى ، وأولى منه في غير نافلتها.

2 - وبأنّ القضاء مضيّق، فلا يجوز فعل شيء ما دامت الذمّة مشغولة بها.

3 - وبصحيحة زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سُئل عن رجلٍ صَلّى بغير طهورٍ، أو نَسى صلوات لم يُصلّها، أو نام عنها؟

فقال عليه السلام: يقضيها إذا ذكرها - إلى أنْ قال - ولا يتطوّع بركعةٍ حتّى يقضي

ص: 84


1- الفقيه: ج 1/223.
2- الذكرى : ج 2/402، والمسالك: ج 1/145.
3- مجمع الفائدة والبرهان: ج 2/42، (حكم التطوّع في وقت الفريضة).
4- مدارك الأحكام: ج 3/87.
5- الناسب هو صاحب كشف اللّثام: ج 3/68.
6- كالعلّامة في نهاية الاحكام: ج 1/325، وصاحب الحدائق: ج 6/368.
7- ذكر هذا الاستدلال المحدّث البحراني في الحدائق الناضرة: ج 6/268-269.
8- راجع وسائل الشيعة: ج 4 الباب 62 من أبواب المواقيت ص 287، الإستبصار: ج 1/289.

الفريضة كلّها»(1).

وصحيحة زرارة الثانية المتقدّمة في المسألة السابقة.

وصحيحة يعقوب بن شُعيب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«سألته عن الرّجل ينام عن الغداة، حتّى تبزغ الشّمس، أيُصلّي حين يستيقظ، أو ينتظر حتّى تنبسط الشّمس ؟

فقال عليه السلام: يُصلّي حين يستيقظ.

قلت: أيوتر أو يُصلّي ركعتين ؟ قال عليه السلام: بل يبدأ بالفريضة»(2).

والنبويّ المرويّ عن «الخلاف»: «لا صَلاة لمن عليه صلاة»(3).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ المانع عن فعل الحاضرة في هذه النصوص:

1 - إمّا أن يكون لزوم الترتيب بين الصّلوات.

2 - أو يكون تضيّق وقت الفائتة.

وعلى كلا التقديرين أجنبيّة عن المقام:

أمّا على الأوّل: فلأنّ اعتبار الترتيب بين صلاتين كالظهر والعصر، لا يدلّ على اعتبار الترتيب بين الظهر وسائر الصّلوات، كما لا يخفى .

وأمّا على الثاني: فمضافاً إلى كون المضايقة في نفسها محلّ إشكالٍ ، أنّ لازم ذلك ليس فساد النافلة، بل تكون النافلة مع القضاء كسائر المتزاحمين الذين يكون6.

ص: 85


1- وسائل الشيعة: ج 8/206 باب 61 من أبواب المواقيت ح 10576، الكافي: ج 3/293 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 4/284 باب 61 من أبواب المواقيت ح 5173، التهذيب: ج 2/265 ح 93.
3- مستدرك الوسائل: ج 3/160 باب 46 من أبواب المواقيت ح 3265، الخلاف: ج 1/286.

أحدهما أهمّ ، فإنّه يصحّ الإتيان بالآخر؛ إمّا بقصد الأمر بناءً على صحّة الترتّب، أو بقصد الملاك.

ومنه يظهر الإشكال في الثاني.

أمّا صحيح زرارة الأوّل: فتعارضه النصوص(1) الدالّة على قضاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله ركعتي الفجر قبل صلاته(2).

ودعوى: اختصاصها بالراتبة، فلا تعمّ غيرها.

مندفعة: بأنّه لا فرق بينهما بعد مضيّ وقت الراتبة.

وأيضاً: يعارضه صحيح زرارة المرويّ عن ابن طاووس، قال:

«قلتُ له: رجلٌ عليه دَينٌ من صلاةٍ ، قام يقضيه، فخاف أن يُدركه الصبح، ولم يُصلِّ صلاة ليلته تلك ؟

قال عليه السلام: يؤخّر القضاء، ويُصلّي صلاة ليلته تلك»(3).

هذا مضافاً إلى أنّ النهي فيه لا يكون ظاهراً في المنع، لظهوره في أنّه إنّما يكون لمراعاة حفظ الواجب، ولا أقلّ من احتماله.

وأمّا صحيحه الثاني: فقد عرفت ما فيه في المسألة السابقة.

ودعوى: أنّ ذلك الإشكال إنّما كان في قوله عليه السلام أنّه: (لا يُصلّي نافلة في وقت الفريضة)، لا في قوله عليه السلام (لا) الذي هو الجواب عن كلا السؤالين.1.

ص: 86


1- الوسائل: ج 4/283 باب 61 من أبواب المواقيت ح 5170، التهذيب: ج 2/265 ح 95.
2- قال الشهيد في الذكرى: (لم أقف على رادٍّ لهذا الخبر من حيث توهّم القدح في العصمة) (الذكرى : ص 134)، وفي المستمسك: (أنّ التحقيق وجوب قبولها في الدلالة على جواز التنفّل لمَن عليه فريضة، وإنْ لم يجز قبولها في الدلالة على نومه صلى الله عليه و آله عن الصّلاة المخالف لاُصول المذهب، وأنّ نومه من الشيطان الذي دلّ على فساده العقل والكتاب والأخبار كما عن الوحيد رحمه الله) (المستمسك: ج 5/138)، وقد تعرّض واستوفى الكلام الشيخ الأنصاري رحمه الله في رسائل فقهيّة ص 319، وراجع الحدائق: ج 6/273.
3- وسائل الشيعة: ج 4/286 باب 61 من أبواب المواقيت ح 5178، غياث سلطان الورى لابن طاووس ص 11.

مندفعة: بأنّ التفكيك بين الموردين فيه لا يمكن عرفاً.

أقول: وبذلك يظهر أنّ ما اُجيب به عنه بأنّ الجواب فيه مختصّ بالسؤال الثاني، وهو التطوّع في وقت الفريضة، وعليه فعدم التعرّض للجواب عن الأوّل مع كونه عليه السلام في مقام البيان، يدلّ على الجواز غير صحيحٍ .

كما أنّ الإشكال عليه، بأنّ المراد بوقت الفريضة، هو الوقت الذي تنجّز في حقّه التكليف بفريضة، أداءً كان أم قضاءً ، فيكون الجواب عامّاً، غير تامّ ، إذ القضاء لا يكون موقّتاً.

وأمّا صحيحة ابن شعيب: - فمضافاً إلى معارضتها في موردها مع النصوص الدالّة على جواز الإتيان بركعتي الفجر قبل صلاته - أنّه عليه السلام فيها لم ينهَ عن النافلة، بل أمر بالبدأة بالفريضة.

ومن الممكن أن يكون ذلك لأجل أهميّة البدأة بالفريضة، فلا تدلّ على عدم صحّة النافلة.

وأمّا النبويّ : فمضافاً إلى ضعف سنده، غير ظاهر المراد.

فتحصّل ممّا ذكرناه:

1 - أنّه لا دليل على عدم جواز التطوّع لمن عليه فائتة.

2 - وعليه، فالمعتمد هو ما دلّ على شرعيّة النّوافل، وأنّها بمنزلة الهديّة متى أتى بها قُبِلت.

3 - وإطلاق مادلّ على استحباب الصّلوات الخاصّة من ذوات الأسباب وغيرها.

4 - مضافاً إلى ما ورد في الموارد المخصوصة الدالّ على الجواز.

وبالجملة: فالأقوى تبعاً لجملةٍ من الأساطين(1)، جواز التطوّع لمن عليه فائتة.

***ة.

ص: 87


1- تقدّم ذكر بعضهم في أوّل هذه المسألة.

الثانية: يُكره ابتداء النّوافل عند طلوع الشّمس وغروبها،

كراهة النّوافل في خمسة أوقات

المسألة (الثانية): المشهور بين الأصحاب أنّه (يُكره ابتداء النّوافل) المبتدأة في خمسة أوقات:

أحدها: (عند طلوع الشّمس) حتّى يذهب شعاعها (و) يصفو.

الثاني: عند (غروبها).

واستدلّ للكراهة فيهما(1):

1 - برواية الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا صلاة بعد الفجر حين تطلع الشّمس، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال إنّ الشّمس تطلع بين قرني الشيطان، وتغرب بين قرني الشيطان، وقال لا صلاة بعد العصر حتّى تُصلّي المغرب»(2).

2 - وصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «وإنّما تكره الصّلاة عند طلوع الشّمس وعند غروبها الّتي فيها الخشوع والركوع والسجود، لأنّها تغرب بين قرني الشيطان، وتطلع بين قرني الشيطان»(3).

3 - وخبر معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا صلاة بعد العصر حتّى تُصلّي المغرب، ولا صلاة بعد الفجر حتّى تطلع الشّمس»(4).

ص: 88


1- لاحظ ما حكاه السيّد العاملي عن جماعة من علمائنا (مفتاح الكرامة: ج 5/169).
2- وسائل الشيعة: ج 4/234 باب 38 من أبواب المواقيت ح 5016، التهذيب: ج 2/234 ح 152.
3- وسائل الشيعة: ج 3/108 باب 20 من أبواب صلاة الجنازة ح 3154 كتاب الطهارة، الكافي: ج 3/180 ح 2.
4- وسائل الشيعة: ج 4/235 باب 38 من أبواب المواقيت ح 5017، التهذيب: ج 2/174 ح 153.

وقريبٌ منها غيرها.

4 - وبما في حديث المناهي(1): «نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الصّلاة عند طلوع الشّمس وعند غروبها وعند استوائها».

أقول: ويجمع بينها وبين ما دلَّ على الجواز، كقوله عليه السلام في مكاتبة محمّد بن فرج، إلى العبد الصالح عليه السلام: «سأله عن مسائل، فكتب إليه: وصَلِّ بعد العصر ما شئتَ من النّوافل، وصَلِّ بعد الغداة من النّوافل ما شئتَ »(2) بحمل النهي على الكراهة.

ولكن يرد على الأخير: إنّه ضعيف السند، وأدلّة التسامح إنّما تدلّ على استحباب ما بلغ عليه الثواب، ولا تثبت بها الكراهة، فلا وجه للرجوع إليها.

ويرد على ما قبله: أنّه يلزم حمل تلك الروايات بأجمعها على التقيّة، وذلك لوجهين:

الأوّل: لا ريب في كرويّة الأرض، ولا شبهة في أنّها تقتضي أن يكون كلّ آنٍ مطلعاً للشمس ومغرباً لها، فلابدّ وأن تكون الشّمس بين قرني الشيطان دائماً.

الثاني: التوقيع المرويّ في «إكمال الدِّين» وغيره، عن الحُجّة عليه السلام:

«وأمّا ما سألتَ عن الصّلاة عند طلوع الشّمس وعند غروبها، فلأنْ كان كما يقول الناس إنّ الشّمس تطلع بين قرني الشيطان، وتغرُب بين قرني الشيطان، فما أرغمَ أنفَ الشيطان بشيءٍ أفضل من الصّلاة، فصَلّها وأرغم أنف الشيطان»(3).0.

ص: 89


1- وسائل الشيعة: ج 4/236 باب 38 من أبواب المواقيت ح 5021، الفقيه: ج 4/3، ح 4968.
2- وسائل الشيعة: ج 4/235 باب 38 من أبواب المواقيت ح 5020، التهذيب: ج 2/173 ح 146.
3- وسائل الشيعة: ج 4/236 باب 38 من أبواب المواقيت ح 5023، إكمال الدِّين ص 520.

وعند قيامها نصف النهار، إلى أن تزول، إلّافي يوم الجمعة،

(و) الثالث: (عند قيامها نصف النهار إلى أن تزول، إلّافي يوم الجمعة).

واستدلّ للكراهة فيه:

1 - بموثّق سليمان بن جعفر، قال: «سمعتُ الرضا عليه السلام يقول: لا ينبغي لأحدٍ أن يُصلّي إذا طلعت.

- إلى أنْ قال عليه السلام -: فإذا انتصف النهار قارنها، فلا ينبغي لأحدٍ أن يُصلّي في ذلك الوقت»(1).

2 - وبحديث المناهي المتقدّم(2).

3 - وبصحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا صلاة نصف النهار إلّا يوم الجمعة»(3). ونحوه غيره.

أقول: والجميع كما ترى .

أمّا الموثّق والحديث: فلما مرّ آنفاً.

وأمّا الصحيح: فلأنّ الظاهر من الصّلاة فيه الفريضة، وقد تقدّم التصريح بذلك في جملةٍ من الروايات، وعرفت مقتضى الجمع بينها، وبين ما دلّ على جواز إتيان الفريضة من أوّل الزّوال. ويشهد لذلك أمران:

الأوّل: أنّ نصف النهار إنّما يكون بزوال الشّمس بتمامها، ولا شكّ في الأمر بالنافلة في هذا الوقت.

الثاني: جعل السّفر عديلاً للجمعة في جملةٍ من النصوص.4.

ص: 90


1- وسائل الشيعة: ج 4/237 باب 38 من أبواب المواقيت ح 5024، علل الشرائع: ج 2/343 ح 1.
2- تقدّم آنفاً.
3- وسائل الشيعة: ج 7/317 باب 8 من أبواب صلاة الجمعة ح 9454، التهذيب: ج 3/13 ح 44.

وبعد الصّبح والعصر، عدا ذي السبب.

(و) الرابع: (بعد الصّبح).

(و) الخامس: بعد (العصر).

واستدلّ لهما: بجملةٍ من النصوص: كخبري معاوية، والحلبي المتقدّمين.

ونحوهما غيرهما.

وفيه: إنّ هذه النصوص معارضة بما هو أقوى منها سنداً، وأكثر عدداً، الدالّ على عدم الكراهة، وفي بعضه: (إنّ عدم إيقاع الصّلاة في الوقتين من شعار المخالفين).

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا كراهة للصَّلاة بجميع أقسامها في هذه الأوقات، وأنّ الأصحاب القائلين بالكراهة فيها في الجملة قد اختلفوا في تشخيص موضوعها:

فمنهم من خصّها بالمبتدأة، وقال: تكره الصّلاة فيها (عدا ذي السبب) كما في المتن.

وعن بعضهم(1): كراهتها مطلقاً.

وعن بعضهم(2): التفصيل بين الأوقات.

وحيثُ أنّ المختار عدم الكراهة مطلقاً، فلا وجه لإطالة الكلام في هذه الجهة.

***3.

ص: 91


1- كالشيخ في النهاية: ص 61.
2- كالشيخ المفيد في المقنعة: ص 143.
تقديم كلّ صلاةٍ في أوّل وقتها أفضل

الثالثة: تقديم كلّ صلاةٍ في أوّل وقتها أفضل، إلّافي مواضع. ولا يجوز تأخير الصّلاة عن وقتها ولا تقديمها عليه.

المسألة (الثالثة: تقديم كلّ صلاةٍ في أوّل وقتها أفضل) بلا خلافٍ ولا إشكال.

وتدلّ عليه: جملةٌ من النصوص المتقدّمة.

(إلّا في مواضع) كالمغرب والعشاء الآخرة، لمن أفاض من عرفات، فإنّ تأخيرها إلى المزدلفة أولى ، ولو صار إلى ثلثه، كما يدلّ عليه صحيح ابن مسلم(1).

والعشاء الآخرة مطلقاً، فإنّ الأولى أن يؤخّر حتّى يسقط الشّفق.

والمتنفّل فإنّ الأفضل له تأخير الظهرين والإتيان بهما بعد النافلة.

والمستحاضة المعتبر في صحّة صلاتها الغُسل، فإنّها تؤخِّر الظهر والمغرب إلى آخر وقت الفضيلة.

وألحقوا بهذه المواضع مواضع كثيرة لايهمّنا التعرّض لها.

(ولا يجوزُ تأخير الصّلاة عن وقتها، ولا تقديمها عليه) لأنّه مقتضى شرطيّة الوقت.

***

ص: 92


1- وسائل الشيعة: ج 14/12 باب 5 من أبواب الوقوف بالمشعر ح 18462، التهذيب: ج 5/188 ح 2.
قاعدة مَنْ أدركَ

المسألة الرابعة: من أدرك ركعةً من الوقت بمقدار أداء ركعةٍ من الفريضة، لزمه أدائها، ويكون بذلك مؤدّياً بلا خلافٍ في الأوّل، بل في «المدارك»(1) أنّه مجمعٌ عليه بين الأصحاب.

والدليل عليه: ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ أدرك ركعةً من الصّلاة فقد أدرك الصّلاة»(2).

وعنه صلى الله عليه و آله: «مَنْ أدرك ركعةً من العصر، قبل أنْ تغرب الشّمس، فقد أدرك العصر»(3).

ومن طريق الأصحاب، ما رواه الشيخ عن الأصبغ بن نُباتة، قال:

«قال أمير المؤمنين عليه السلام: مَنْ أدرك من الغداة ركعةً قبل طلوع الشّمس، فقد أدرك الغداة تامّة»(4).

وموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «فإنْ صَلّى ركعةً من الغداة، ثمّ طلعت الشّمس، فليتمّ الصّلاة، وقد جازت صلاته»(5).

ودعوى: أخصيّة الخبرين الأخيرين من المدّعي، والنبويّان وإنْ عَمّ أوّلهما لكلّ صلاةٍ ، إلّاأنّه من حيث كونه عاميّاً لا يُعتمد عليه، فالحكم محلّ إشكال.

مندفعة: بأنّ المناقشة في مثل هذا الخبر المشهور، المعمول به لدى الأصحاب،

ص: 93


1- مدارك الأحكام: ج 3/92.
2- وسائل الشيعة: ج 4/218 باب 3 من أبواب المواقيت ح 4963، الذكرى : ص 122 وفيه: (فقد أدرك العصر).
3- وسائل الشيعة: ج 4/218 باب 30 من أبواب المواقيت ح 4963، الذكرى : ص 122.
4- وسائل الشيعة: ج 4/217 باب 30 من أبواب المواقيت ح 4960، التهذيب: ج 2/38 ح 70.
5- وسائل الشيعة: ج 4/217 باب 30 من أبواب المواقيت ح 4961، التهذيب: ج 2/262 ح 81.

المعتضد بالأخبار الخاصّة، ليس في محلّها.

وعليه، فالمستند من حيث السند لا إشكال فيه.

أقول: وأمّا من حيث المدلول، فملخَّص القول فيه يقع في مواضع:

الموضع الأوّل: قد أُشكل لدلالته على الحكم بوجهين:

1 - إنّ الحكم في النصوص المذكورة معلّقٌ على مضيّ الركعة، فيختصّ بمن دخل في الصّلاة معتقداً إدراك التمام أو غافلاً عنه، ثمّ انقضى الوقت بعد إدراك الركعة، ولا يشمل مَن علم مِن أوّل الأمر عدم سِعة الوقت إلّالا دراك ركعة.

2 - إنّه يمكن أن يكون المراد من النبويّ : «إنْ إدراك ركعةً من الصّلاة مع الإمام بمنزلة إدراك الجميع»، إذ ليس فيه ما يدلّ على أنّ التنزيل المذكور بملاحظة الوقت.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ المعلّق عليه الحكم، لو كان المُصلّي كما هو كذلك في الرواية الأخيرة، كان لهذا الإيراد مجالٌ ، ولكنّه في سائر الروايات هو المُدْرِك ركعةً ، وهذا العنوان يصدقُ حتّى مع عدم الإتيان بشيءٍ من الصّلاة، كما لا يخفى .

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر من النبويّ وغيره، أنّ الحكم معلّقٌ على إدراك ركعة من طبيعي الصّلاة المأمور بها، لعدم تقييد الحكم بشيء، فلا وجه لاحتمال اختصاصها بإدراك ركعة مع الإمام، فالتمسّك بالنبويّ لوجوب المبادرة إلى الصّلاة لو اتّسع الوقت لركعةٍ منها، ممّا لا ينبغي الإشكال فيه.

الموضع الثاني: المشهور بين الأصحاب - على ما نُسِب إليهم(1) - أنّ الفريضة المأتي بها في الصورة المفروضة تكون أداءً .7.

ص: 94


1- كما في مفتاح الكرامة: ج 5/153 و: ج 3/307.

وعن السيّد رحمه الله(1): القول بكونها قضاءً .

وحُكي عن بعضٍ (2): كونها ملفّقة.

أقول: والأقوى هو الأوّل، لشهادة النبويّ وغيره بأنّ «مَنْ أدركَ ركعةً من الصّلاة فقد أدرك الصّلاة».

واستدلّ السيّد رحمه الله(3): بأنّ خروج الجزء يوجب خروج المجموع، وبأنّ الركعة المُدْرِكة وقعت في وقت الركعة الأخيرة.

وفيه: أنّه لا يعتنى بهذه الوجوه الإعتباريّة في مقابل النصوص.

ومنه يظهر ضعف القول الثالث أيضاً.

الموضع الثالث: لا إشكال في التمسّك بهذه النصوص لوجوب المبادرة إلى صلاة لا يزاحمها واجبٌ مضيّق، كصلاة الغداة والعصر والعشاء، وأمّا لو زاحمها ذلك، كما في الظهرين إذا أدرك خمس ركعات قبل الغروب، فمحلّ إشكال، إذ مجرّد جعل وقتٍ بمنزلة وقت الظهر مثلاً، لا يقتضي وجوب الإتيان بها قبل العصر، وإيقاع ثلاث ركعات منها في الوقت المختصّ بها.

ولكن الأقوى لزوم الفريضتين في الصورة المفروضة، لما عرفت من أنّ دليل الإختصاص لا يدلّ على بطلان الشريكة الواقعة في الوقت المختصّ .

وعليه، فحيثُ أنّ الترتيب معتبرٌ بين الظهرين عند التمكّن من الإتيان بالظهر في وقتها، والمُدْرِك لخمس ركعاتٍ لأجل هذه النصوص متمكّنٌ من الإتيان بها في وقتها، فيجبُ عليه ذلك، فلا يكون تأخير الثانية حينئذٍ عمديّاً اختياريّاً حتّى لاه.

ص: 95


1- رسائل المرتضى: ج 2/350.
2- حكاه المحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 2/30، والشيخ في المبسوط: ج 1/72.
3- حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف: ج 1/268 وغيره.

يجوز، بل يكون بحكم الشارع.

وبالجملة: بما أنّه يكون الإتيان بالظهر من قبيل الشروط المعتبرة في صحّة العصر، فلا محالة تزاحمها عند إدراك ركعة منها.

أقول: وبهذا التقريب يندفع ما قيل من إنّه لو شملت النصوص للظهر، يتمّ القول بلزوم الفريضتين، إلّاأنّ الكلام في شمولها لها، إذ لقائلٍ أن يقول: إنّ ما دلّ على الاختصاص، بضميمة ما دلّ على عدم جواز تأخير الصّلاة عن وقتها، ولو بإتيان جزءٍ منها في خارج الوقت، يمنعان عن شمول الأخبار لها.

الموضع الرابع: أنّ الموضوع هو الركعة الإختياريّة بحسب حال المُدْرِك، مع قطع النظر عن ضيق الوقت، فإذا كانت وظيفته الصّلاة مع الطهارة المائيّة، ولم يُدْرِك ركعةً مع الوضوء - وإنْ كان مُدرِكاً لها مع التيمّم - لا يجبُ عليه المبادرة إليها، لأنّ شمول النصوص للركعة مع التيمّم في الفرض، لا يكون إلّاعلى وجهٍ دائر، إذ شمولها لكلّ موردٍ متوقّفٌ على صدق المُدْرِك للركعة. وفي الفرض صدقه متوقّفٌ على مشروعيّة التيمّم، وهي متوقّفة على فقدان الماء، وحيثُ أنّه واجدٌ له وجداناً، فصدقه متوقّفٌ على ثبوت الأمر بالصّلاة، كي يقال إنّه غير متمكّن منها مع الوضوء، فهو فاقدٌ للماء تعبّداً، فينتقل التكليف إلى التيمّم، وثبوت الأمر بالصّلاة متوقّفٌ على شمول الأخبار، وإلّا فمقتضى القاعدة عدم الأمر بها في الفرض، لعدم التمكّن من إيقاعها في الوقت، والأمر بالقضاء يتوقّف على خروج الوقت.

وبالجملة: شمول النصوص للصورة المفروضة، متوقّفٌ على ثبوت الأمر بالتيمّم، وهو متوقّفٌ على ثبوت الأمر بالصّلاة المتوقّف على شمول الأخبار، وهذا دورٌ واضح.

ودعوى: ثبوت الأمر بالصّلاة بقاعدة اُخرى ، وهي عدم سقوط الصّلاة بحالٍ .

ص: 96

مندفعة: بأنّ شمول هذه القاعدة أيضاً متوقّفٌ على شمول اخبار (مَنْ أدرك) لها، وإلّا فقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة عدم وجوبها في الفرض، فيعود المحذور.

الموضع الخامس: لو كان المكلّف متمكِّناً من إيقاع الصّلاة بتمامها في الوقت، وأخّر عالماً عامداً ملتفتاً، حتّى بقي مقدار أداء الركعة، فإنّه يعدّ عاصياً، ولا تصحّ صلاته، لأنّ الظاهر من النصوص أنّ الموضوع هو: (المُدْرِك للركعة غير المدرك لجميع الصّلاة) مشروطاً بكون ذلك طبعيّاً لا بالإختيار.

الموضع السادس: لو تمكّن المكلّف من أداء أربع ركعات في الوقت مع الطهارة الترابيّة، أو ركعةً واحدة مع الطهارة المائيّة، فالظاهر هو التخيير بينهما، خلافاً لأكثر المحقّقين، وذلك لما سيأتي في مبحث القبلة(1) من أنّ التنافي بين الأوامر الضمنيّة لا يكون من باب التزاحم، بل إنّما يرجع إلى التعارض، ويتبيّن إنْ شاء اللّه تعالى في محلّه أنّ مركز التنافي إنّما هو إطلاق دليل كلٍّ من الجزئين أو الشرطين، ويظهر لك في محلّه من أنّه لو كان لكلٍّ من الدليلين إطلاقٌ ، فمقتضى القاعدة(2) تساقطهما، والرجوع إلى الأصل.

ففيما نحن فيه، بعد العلم بسقوط الأمر المتعلّق بالصّلاة مع الطهارة المائيّة في الوقت، وحدوث أمرٍ بالخالي عن أحدهما، يقع التعارض بين إطلاق دليل اعتبار الطهارة، وإطلاق دليل لزوم إيقاع تمام الصّلاة في الوقت، فيتساقطان والمرجع إلى الأصل، وهو ها هنا التخيير، كما لا يخفى .

وسيأتي لذلك زيادة توضيح إنْ شاء اللّه تعالى .).

ص: 97


1- فقه الصادق: ج 6/155.
2- مقتضى القاعدة في تعارض العامين من وجه هو الرجوع إلى أخبار الترجيح والتخيير، وفي المقام حيثُ لامرجّح لأحدهما فيحكم بالتخيير (منه حفظه المولى).

الموضع السابع: الظاهر أنّه لا تتحقّق الركعة إلّابرفع الرأس من السّجدة الثانية، كما نُسب إلى المشهور(1).

وعن المحقّق في «المسائل البغداديّة»(2): تحقّقها بالركوع، واحتمله الشهيد في «الذكرى»(3).

وعن بعضٍ (4): تحقّقها بالدخول في السّجدة الثانية.

ويشهد لما اخترناه: أنّه المتبادر من لفظ (الركعة)، وهو المراد منها في النصوص(5) الدالّة على أنّ الصّلاة التي فرضها اللّه في أصل الشرع عشر ركعات، ليس فيهنّ وهمٌ .

وإطلاق (الركعة) في صلاة الآيات على خصوص الركوع، لا يوجب صرف هذا الظهور.

وما قيل: من إكمال الركعة إنّما يكون بالدخول في السّجدة الثانية، لأنّ ترك الذكر نسياناً يغتفر.

ضعيفٌ : لأنّ السّجدة الواجبة في حال الالتفات هي المشتملة على الذكر.

ولو أبيتَ عمّا ذكرناه، فلا أقلّ من إجمال لفظ (الركعة)، وحيثُ أنّ الحكم الثابت بأخبار (مَنْ أدرك) إنّما يكون على خلاف القاعدة، فلابدّ من الاقتصار على المتيقّن، وهو إدراك الركعة برفع الرأس من السّجدة الثانية.

***ة.

ص: 98


1- كما في الحدائق: ج 9/227.
2- المسائل البغداديّة (الرسائل التسع): ص 251.
3- الذكرى : ص 122.
4- منهم الشهيد في الذكرى : ص 227.
5- وسائل الشيعة: ج 8/187 باب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة.
حكم الصَّبي المتطوّع

المسألة الخامسة: الصَّبي المتطوّع بوظيفة الوقت، بناءً على شرعيّة صلاته كما هو الحقّ - للنصوص(1) المتضمّنة لأمر الأولياء بأمر الصبيان بالصّلاة - فإنّه بعد العلم بعدم ترتّب الغَرض على الأمر، وحصول المصلحة، ولو لم ياتِ الصَّبي بها، بل إنّما يكون الأمر لأجل المصلحة الكامنة في صلاتهم، فلا محالة يكون الأمر بالأمر بالصّلاة، أمراً بها، لما حقّقناه في محلّه(2) من أنّ الأمر بالأمر بشيءٍ في أمثال المورد - ممّا يكون المصلحة في نفس الفعل - أمرٌ به.

لو بلغ في أثناء الصّلاة بما لا يبطل الطهارة، أو بَلَغ بعد الصّلاة والوقتُ باقٍ ، فإنّه لا يجب عليه الإستئناف والإعادة، لأنّه بعدما وقعت صحيحةً ، لا مقتضي للإعادة.

وعن الأكثر(3): لزوم الإعادة والإستئناف.

واستدلّ له بوجوه:

1 - ما عن «الخلاف»(4) من أنّه بعد البلوغ مخاطبٌ بالصّلاة، والوقت باقٍ ، فيجبُ عليه الإتيان بها، وما فعله أوّلاً لم يكن واجباً، فلا يحصل به الامتثال.

2 - ما في «الجواهر»(5)، من أنّه في الفرض قد توارد على الصَّبي أمران:

أحدهما وجوبي والآخر ندبي، ومن المعلوم عدم إجزاء الأوّل عن الثاني، بل لو كان

ص: 99


1- وسائل الشيعة: ج 4/17 باب 3 من أبواب أعداد الفرائض.
2- راجع زبدة الاُصول: ج 2/406.
3- منهم الشيخ في الخلاف: ج 1/306، والمحقّق في الشرائع: ج 1/49، والعلّامة في التذكرة: ج 2/332، وغيرهم.
4- الخلاف: ج 1/306.
5- جواهر الكلام: ج 7/261.

حتماً كان كذلك لأصالة تعدّد المسبّب بتعدّد السبب، خصوصاً في مثل المقام الذي منشأ التعدّد فيه اختلاف موضوعين، كلُّ منهما تعلّق به أمرٌ وهو الصَّبي والبالغ.

3 - كون عبادات الصَّبي تمرينيّة(1).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر أنّ ما أُمر به الصبيان، هو الصّلاة المعهودة التي أوجبها اللّه على البالغين، لا شيءٌ مغاير لها، وعليه فالصبي مكلّفٌ بالطبيعة الواحدة، بلغ أم لم يبلغ، غاية الأمر ما لم يبلغ يكون مرخّصاً في تركها، وإذا بلغ لا يكون مرخّصاً في الترك، فإذا أتى الصَّبي بتلك الطبيعة صحيحة، سقط عنه التكليف، وإنْ بلغ بعد ذلك فلا شيء عليه.

وبهذا يندفع الثاني، إذ وحدة المأمور به، تمنعُ من تعلّق أمرٍ آخر في الأثناء أو بعد الفراغ بالفعل الواقع صحيحاً؛ ولعلّ هذا هو مراد بعض المحقّقين رحمه الله(2) حيث ذكر في مقام الجواب عنه: أنّ إطلاق الأمر المتوجّه إلى البالغين منصرفٌ عمّن صلّى صلاةً صحيحة في وقتها.

وأمّا الثالث: فلما عرفت آنفاً من شرعيّة عبادات الصَّبي.

***).

ص: 100


1- كما في جامع المقاصد: ج 2/47.
2- آقا رضا الهمداني في مصباح الفقيه: ج 2/67 ق 1 (ط. ق).
في أمارات الوقت
اشارة

المسألة السادسة: في أمارات الوقت.

إذا كان للمكلّف طريقٌ إلى العلم، فإنّه لا يجوز له التعويل على الظنّ ، لأنّه:

1 - إنّ الظنّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً.

2 - الأصل عدم حجّيّته.

3 - لاستصحاب عدم دخول الوقت.

4 - للروايات الخاصّة الدالّة عليه، كخبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام:

«في الرجل يسمع الأذان فيُصلّي الفجر، ولا يدري أطلع الفجر أم لا، غير أنّه يظنّ لمكان الأذان أنّه طلع ؟

قال: لا يُجزيه حتّى يعلم أنّه طلع»(1). ونحوه غيره(2).

وعن صاحب «الحدائق»: استظهار الجواز عن «المقنعة» و «المبسوط» و «النهاية» و «الخلاف»، وهو مختاره(3)، واستدلّ له:

1 - بالنصوص الدالّة على جواز التعويل على أذان الثقة، وإنْ لم يفد الاطمئنان(4).

2 - وخبر إسماعيل بن رياح، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا صلّيت وأنتَ ترى أنّك في وقتٍ ، ولم يدخل الوقت، ودخل الوقت وأنتَ في الصّلاة، فقد أجزأت عنك»(5).

بدعوى أنّ قوله: (أنتَ ترى ) بمعنى تظنّ .

ص: 101


1- وسائل الشيعة: ج 4/280 باب 58 من أبواب المواقيت ح 5165، مسائل علي بن جعفر ص 161.
2- وسائل الشيعة: ج 4/279 باب 58 من أبواب المواقيت.
3- الحدائق الناظرة: ج 6/295.
4- وسائل الشيعة: ج 5/378 باب 3 من أبواب الأذان والإقامة، التهذيب: ج 2/277 باب 14 (الأذان والإقامة).
5- وسائل الشيعة: ج 4/206 باب 25 من أبواب المواقيت ح 4932، التهذيب: ج 2/35 ح 61.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ حجيّة الظنّ الخاصّ ، لا تستلزم حجيّة مطلق الظنّ ، ولذا لم يتوهّم أحدٌ حجيّة الظنّ مطلقاً في الأحكام، لما دلّ على حجيّة الظنّ الحاصل من الخبر الواحد.

وأمّا الثاني: فلأنّ كون (ترى) بمعنى (تظنّ ) ممنوعٌ ، بل الظاهر أنّه بمعنى (تعتقد)، ولا أقلّ من الإجمال، فلا يصحّ الاستدلال به.

مضافاً إلى أنّه مسوقٌ لبيان حكمٍ آخر، وهو الإجزاء إذا وقع جزءٌ من الصّلاة في الوقت، وليس في مقام بيان جواز الشروع فيها تعويلاً على الظنّ ، حتّى يتمسّك بإطلاقه لحجيّة الظنّ مطلقاً، ولو مع التمكّن من العلم، فعدم حجيّة مطلق الظنّ لا ينبغي الإشكال فيه.

الظنون الخاصّة

إنّما الكلام فيما دلّ دليلٌ على الإكتفاء به من الظنون الخاصّة، وهو اُمور:

1 - البيّنة: وقد نُسب إلى الأكثر(1) جواز التعويل عليها في دخول الوقت، ويدلّ عليه ما دلّ على عموم حجيّتها في الموضوعات الخارجيّة، وهو موثّق مسعدة بن صدقة:

«كلّ شيءٍ حلالٌ حتّى تعلم أنّه حرامٌ بعينه فتَدَعه مِنْ قِبل نفسك، وذلك مثل الثّوب يكون عليك ولعلّه سرقة، أو العبد يكون عندك ولعلّه حُرٌّ قد باعَ نفسه، أو قُهر فبيع، أو خُدِع فبيع، أو أمرأةٌ تحتك وهي اُختكَ أو رضيعتكَ ، والأشياء كلّها على

ص: 102


1- الناسب هو السبزواري في ذخيرة المعاد: ج 2/209.

هذا حتّى يستبين لك غير هذا، أو تقوم به البيّنة»(1).

إذ لو لم تكن البيّنة حجّة، لم يكن وجهٌ لتقديمها على اليد والاستصحاب المقتضيين للحليّة في الأمثلة(2).

هذا مضافاً إلى أنّ التتبّع في الموارد التي حكم الشارع باعتبارها فيها، يوجبُ الاطمئنان بأنّها طريقٌ شرعي لإحراز الموضوعات الخارجيّة مطلقاً.

2 - خبر الواحد: وقد اختاره صاحب «الجواهر» رحمه الله(3) وغيره، وقد أثبتنا في محلّه(4) حجّيّته مطلقاً، حتّى في الموضوعات، ويؤيّده ما دلّ على اعتبار أذان الثقة العارف بالوقت(5).

3 - أذان الثقة: وتشهد له - مضافاً إلى أنّ أذانه إخبارٌ عن دخول الوقت بالملازمة، فيدلّ على حجّيّته ما دلّ على حجيّة خبره - نصوصٌ كثيرة، كصحيح ذَريح المحاربي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«صلِّ الجمعة بأذان هؤلاء، فإنّهم أشدُّ شيء مواظبةً على الوقت»(6). ونحوه غيره.

أقول: ولا يعارضها خبر علي بن جعفر عليه السلام المتقدّم(7)، لأنّه مطلقٌ تقيّد بهذه النصوص الدالّة على حجيّة أذان الثقة خاصّة.1.

ص: 103


1- وسائل الشيعة: ج 89/17 باب 4 من أبواب مايكتسب به من كتاب التجارة ح 22053، الكافي: ج 313/5 ح 40.
2- يرد عليه ما ذكرناه في كتاب الطهارة من عدم دلالة الموثّق على ذلك، فراجع - نعم الوجه الثاني تامّ - (منه حفظه المولى ).
3- الجواهر: ج 14/204.
4- راجع زبدة الاُصول: ج 4/129 بحث: (حجيّة خبر الواحد).
5- تقدّم في بداية هذه المسألة.
6- وسائل الشيعة: ج 5/378 باب 3 من أبواب الأذان والإقامة ح 6841، التهذيب: ج 2/284 ح 38.
7- تقدّم في بداية هذه المسألة، ص 101.

وعدم عمل الأصحاب بهذه النصوص، يحتمل أن يكون لبنائهم على معارضتها بخبر علي بن جعفر، المعتضد بما دلّ على اعتبار العلم، فلا يكون إعراضاً موجباً لوهنها.

وقد تستظهر حجيّة الأذان مطلقاً من عدّة من النصوص(1)، ولكن لو تمّ وثبت إطلاقها لتعيّن صرفه لى ما ذكرناه، جمعاً بينها وبين خبر علي بن جعفر، وصحيح ذَريح المتقدّم، الدالّ بمقتضى التعليل على عدم حجيّة أذان غير الثقة، مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً، كما يظهر لمن تدبّر في النصوص.

تذنيب: لا يخفى أنّ ما ذكرناه من حجيّة البيّنة وخبر الثقة وأذانه، إنّما تكون فيما كان الإخبار عن حسٍّ أو كان مستنداً إلى مقدّمات حسيّة، وأمّا إذا كان عن اجتهادٍ وحدسٍ فلا يُعتمد على شيء منها.

أمّا البيّنة وخبر الثقة: فلما حقّقناه في الاُصول(2) من أنّ ما يدلّ على حجيّتهما، إنّما يدلّ عليها فيما إذا كان احتمال الاشتباه مورداً للأصل العقلائي، وإلّا فلاحجيّة لهما.

وأمّا أذان الثقة: فالنصوص الدالّة على اعتباره وإن كانت مطلقة، إلّاأنّ الظاهر كونها إشارة إلى أنّ أذانه بمنزلة إخباره، ويكون طريقاً عقلائيّاً ممضياً لدى الشارع، وأنّ اعتباره شرعاً إنّما يكون بهذه الملاحظة لا من باب التعبّد، كما يظهر لمن تأمّل في صحيح ذريح المتقدّم، فيختصّ اعتباره بما إذا لم يكن عن اجتهاد.

هذا كلّه إذا تمكّن من تحصيل العلم.).

ص: 104


1- وسائل الشيعة: ج 5/378 باب 3 من أبواب الأذان والإقامة، التهذيب: ج 2/277 باب 14: الأذان والإقامة.
2- راجع زبدة الاُصول: ج 4/129، بحث (حجيّة خبر الواحد).
الظنّ بالوقت

وإنْ لم يتمكّن منه لمانعٍ في السماء، مِنْ غيمٍ أو غبارٍ، أو لمانعٍ في نفسه:

فإنْ اطمأنّ بدخول الوقت صلّى ، بلا خلافٍ ، لأنّ الاطمئنان حجّة عقلائيّة، لم يردع الشارع عن العمل به.

وإنْ لم يطمئن:

فإنْ لم يحصل له الظنّ به، وجب تأخيرالصّلاة للاستصحاب وقاعدة الاشتغال.

ودعوى: أنّ مقتضى أصالة البراءة عن حدوث التكليف بعد إتيان الصّلاة في حال الشكّ ، بل واستصحاب عدم الحدوث، عدم وجوب الإتيان بها بعد ذلك.

مندفعة: بأنّ الشكّ إنّما يكون في سقوط التكليف الحادث في أوّل الوقت يقيناً، لا في حدوث التكليف، كي يكون مورد البراءة والاستصحاب المزبورين.

وإنْ حصل له الظنّ ، صَلّى على المشهور.

وعن ابن الجُنيد(1): خلافه، وإليه مالَ في «المدارك»(2).

واستدلّ لما ذهب إليه المشهور(3):

1 - بنفي الحَرَج.

2 - وبتعذّر اليقين.

3 - وبنصوص الديكة، كصحيح الفرّاء، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

ص: 105


1- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 2/47.
2- مدارك الأحكام: ج 3/98.
3- لاحظ مفتاح الكرامة: ج 5/146.

«قال له رجلٌ من أصحابنا: ربما اشتبه الوقتُ علينا في يوم غيمٍ؟

فقال: أتعرف هذه الطيور التي تكون عندكم بالعراق يُقال له الديكة ؟

فقلت: نعم.

فقال: إذا ارتفعت أصواتها وتجاوبت، فقد زالت الشّمس، أو قال: فصلّه»(1).

4 - وبموثّق سماعة: «سألته عن الصّلاة باللّيل والنهار، إذا لم يُر الشّمس، ولا القمر، ولا النجوم ؟ قال: اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جُهدَك»(2).

5 - وبصحيح زرارة، قال: «قال أبوجعفر عليه السلام: وقتُ المغرب إذا غاب القرص، فإنْ رأيته بعد ذلك وقد صلّيت أعدتَ الصّلاة، ومضى صومك»(3).

بدعوى بُعد الخطأ مع العلم، فيدلّ على أنّ الشروع في الصّلاة مع الظنّ يكون جائزاً، ولذا علّق وجوب الإعادة على الرؤية.

6 - وبصحيح آخر له عنه عليه السلام: «إنّه قال لرجلٍ ظنَّ أنّ الشّمس قد غابت فأفطر، ثمّ أبصر الشّمس بعد ذلك. فقال: ليس عليه قضاء»(4).

7 - وبخبر الكناني: «عن رجلٍ صام ثمّ ظنَّ أنّ الشّمس قد غابت، وفي السماء غيم، فأفطر ثمّ إنّ السحاب انجلى، فإذا الشّمس لم تغب ؟

فقال: قد تمَّ صومه ولا يقضيه»(5).9.

ص: 106


1- وسائل الشيعة: ج 4/171 باب 14 من أبواب المواقيت ح 4825، الكافي: ج 3/284 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 4/308 باب 6 من أبواب القبلة ح 5228، الكافي: ج 3/284 ح 1.
3- وسائل الشيعة: ج 4/178 باب 16 من أبواب المواقيت ح 4843، الكافي: ج 3/279 ح 5.
4- وسائل الشيعة: ج 10/123 باب 52 من أبواب ما يمسك عنه الصائم من كتاب الصوم، ح 13011. التهذيب: ج 4/318 ح 36.
5- وسائل الشيعة: ج 10/123 باب 52 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 13012، التهذيب: ج 4/270 ح 9.

وقريبٌ منه خبر الشحّام(1).

8 - وبموثّق ابن بكير: «إني صلّيتُ الظهر في يوم غيم، فانجلت فوجدتني صلّيتُ حين زال النهار؟ فقال عليه السلام: لا تعد ولا تعد»(2).

9 - وبخبر إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، عن آبائه عن عليّ عليه السلام في حديثٍ : «إنّ اللّه تعالى إذا حَجَب عن عباده عين الشّمس التي جعلها دليلاً على أوقات الصّلاة، فموسّع عليهم تأخير الصّلاة، ليتبيّن لهم الوقت»(3).

بدعوى أنّه يدلّ على جواز التقديم.

أقول: وفي الجميع نظر:

إذ لا حرج في المقام، لإمكان الانتظار إلى أنْ يعلم الوقت، ومجرّد تعذّر اليقين لا يوجب الانتقال إلى الظنّ .

ونصوص الديكة لو عُمِل بها لإختصّت بموردها كسائر الظنون الخاصّة.

وموثّق سماعة ظاهرٌ، ولا أقلّ من الاحتمال في أنّه مسوقٌ لبيان كفاية الاجتهاد بالنسبة إلى القبلة عند عدم التمكّن من العلم بها، ويشهد له السؤال، لأنّ عدم رؤية القمر والنجوم أجنبيٌ عن عدم وجود الأمارة للوقت.

وصحيح زرارة واردٌ لبيان حكمٍ آخر، فلا إطلاق له من هذه الجهة ليتمسّك به، مضافاً إلى أنّ دعوى بُعد الخطأ مع العلم ممنوعة.

وصحيحه الثاني أيضاً لا إطلاق له يشمل كلّ ظنٍّ ، لاحتمال أن يكون المراد منه1.

ص: 107


1- وسائل الشيعة: ج 10/123 باب 52 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 13013، التهذيب: ج 4/271 ح 10.
2- وسائل الشيعة: ج 4/129 باب 4 من أبواب المواقيت ح 4707، التهذيب: ج 2/246 ح 16.
3- وسائل الشيعة: ج 4/279 باب 58 من أبواب المواقيت ح 5163، رسالة المحكم والمتشابه ص 21.

ظنّاً خاصّاً ثبت حجّيّته عنده، ولو سُلّم ثبوت الإطلاق له، فهو بإطلاقه يدلّ على حجيّة الظنّ حتّى مع التمكّن من تحصيل العلم، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، فلابدّ من التصرّف فيه:

إمّا بحمله على صورة عدم التمكّن من تحصيل العلم.

أو بحمل الظنّ على الاطمئنان.

ولا مرجّح للأوّل بعد استعمال الظنّ في الاطمئنان كثيراً.

وبذلك ظهر الإشكال في خبر الكناني، ورواية الشحّام، مضافاً إلى ضعف سنديهما.

والنهي عن العود في موثّق ابن بكير، يدلّ على عدم جواز التعويل على الظنّ .

وأمّا نفي الإعادة، فيمكن أن يكون لأجل وقوع جزءٍ منها في الوقت، فتدبّر.

وأمّا خبر إسماعيل لا يدلّ على جواز التقديم، وإنّما يكون مسوقاً للحثّ على التأخير.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا دليل على حجيّة الظنّ مع إمكان الصبر حتّى يستيقن بدخول الوقت، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة والنصوص عدم جواز التعويل عليه.

***

ص: 108

لو شكّ بعد الصّلاة في وقوعها في الوقت

المسألة السابعة: من دخل في الصّلاة بالأمارة المعتبرة الدالّة على دخول الوقت:

1 - فإمّا أن ينكشف له وقوعها بتمامها قبل الوقت.

2 - أو ينكشف له وقوعها بتمامها أو بعضها في الوقت.

3 - أو لا ينكشف له شيءٌ من ذلك.

أمّا إذا تبيّن وقوعها قبل الوقت، بطلت بلا خلافٍ . ويدلّ عليه - مضافاً إلى أنّه ممّا يقتضيه دليل اعتبار الوقت، وحديث (لا تُعاد)(1) - صحيح زرارة المتقدّم(2).

وإن انكشفَ وقوعها بتمامها أو بعضها في الوقت، صحّت صلاته:

أمّا عند انكشاف وقوع جميعها في الوقت فواضح.

وأمّا لو انكشف وقوع بعضها فيه، فلصحيح ابن أبي عُمير، عن إسماعيل بن رياح المتقدّم(3): «إذا صلّيت وأنتَ ترى أنّكَ في وقتٍ ، ولم يدخل الوقت، فدخل الوقت وأنتَ في الصّلاة، فقد أجزأتْ عنك».

والمناقشة بجهالة إسماعيل في غير محلّها، لعمل الأصحاب به، كون الراوي عنه ابن أبي عُمير الذي هو من أصحاب الإجماع.

أقول: وإنْ لم ينكشف له شيءٌ من ذلك، ففيه صور:

الصورة الأُولى : أن يكون دخوله في الصّلاة اعتماداً على ما كان يراه حجّة، ثمّ

ص: 109


1- وسائل الشيعة: ج 5/470 ح 7090، الفقيه: ج 1/339 ح 991، وقد تقدّم مراراً.
2- وسائل الشيعة: ج 4/178، ح 4843.
3- وسائل الشيعة: ج 4/206، ح 4932.

انكشف عدم حجّيّته، ولا شبهة في البطلان في هذه الصورة.

الصورة الثانية: أن يكون دخوله فيها اعتماداً على الحجّة الشرعيّة، وهذا على قسمين: إذ الحجّة المجوّزة للدخول قد تكون باقية، واُخرى تكون زائلة:

1 - فإنْ كانت باقية، فلا ريب في الصحّة، إذ الحجّة على الحدوث حجّة على البقاء.

2 - وإن كانت زائلة، فالحكم فيه هو الحكم في الصورة الثالثة، وهي أن يكون دخوله فيها عن علم وجداني، ثمّ يزول علمه، ويتبدّل إلى الشكّ ، فإنْ صار كذلك وهو في الصّلاة، بطلت صلاته، لإستصحاب عدم دخول الوقت، المقتضي لعدم جواز المضيّ فيها.

وبذلك يظهر أنّه لا ينفع لإثبات الصحّة قاعدة التجاوز، على فرض جريانها في الأجزاء السابقة.

وأمّا إنْ تبدّل العلم إلى الشكّ بعد الفراغ من الصّلاة:

1 - فإنْ كان منشأ الشكّ ، الشكّ في زمان الوقوع، تجري قاعدة الفراغ ويُحكم بصحّتها.

2 - وإنْ كان الشكّ في تقدّم دخول الوقت عليه، مع معلوميّة زمان الوقوع، فلا تجري القاعدة، لما بيّنا في محلّه من عدم جريانها فيما كانت صورة العمل محفوظة، ويكون الشكّ في المصادفة الواقعيّة وعدمها، فلا محالة يحكم عليها بالبطلان.

***

ص: 110

الفصل الثالث: في القبلة، وهي الكعبة،

الفصل الثالث في القبلة

اشارة

والبحث فيها يقع في مواضع:

في بيان ماهيّة القبلة
اشارة

الموضع الأوّل: في بيان ماهيّة القبلة.

(وهي) عين (الكعبة) المعظّمة من تخوم الأرض إلى عنان السماء، بلاخلافٍ فيه في الجملة.

بل عن «كشف اللّثام»: أنّه إجماعٌ من المسلمين(1).

وتشهد له:

1 - موثّقة ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سأله رجلٌ ، قال: صلّيتُ فوق أبي قُبيس العصر، فهل يجزي ذلك والكعبة تحتي ؟

قال: نعم، إنّها قبلة من موضعها إلى السماء»(2).

2 - ومرسلة الصدوق، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أساسُ البيت من الأرض السابعة السُّفلى إلى الأرض السابعة العُليا»(3).

ولكن وقع الخلاف بين الأصحاب بالنسبة إلى الذي هو خارج المسجد، وبعيداً عنها:

فعن جماعةٍ من القدماء والمتأخّرين(4): أنّها عين الكعبة مطلقاً.

ص: 111


1- كشف اللّثام: ج 3/128.
2- وسائل الشيعة: ج 4/339 باب 18 من أبواب القبلة ح 1 (5335)، التهذيب: ج 2/383 ح 7، الفقيه: ج 2/246 ح 2317.
3- الفقيه: ج 2/246 ح 2317، وسائل الشيعة: ج 4/339 ح 5337.
4- وهو الظاهر من عبارة ابن زُهرة في الغنية ص 68، والشيخ المفيد في المقنعة: ص 95، والمحكيّ عن شرح الشيخ نجيب الدِّين، وحاشية المدارك في مفتاح الكرامة: ج 5/256.

مع القُدرة، وجِهتها مع البُعد.

وعن جماعةٍ آخرين كالسيّد(1)، وأبي الصّلاح(2)، وابن الجُنيد(3)، وابن إدريس(4)، والمحقّق(5)، والمصنّف رحمه الله: أنّها عين الكعبة (مع القدرة، وجهتها مع الُبعد).

أقول: ويمكن أن يكون مرادهم من الجهة، ما سنذكره، فيرجع هذا القول إلى القول الأوّل.

وعن الشيخين(6) وجماعةٌ من القدماء والمتأخّرين(7): أنّ الكعبة قبلةٌ لمَن في المسجد، والمسجد قبلةٌ لمن في الحرم، وهو قبلةٌ لمن خرج عنه.

والأقوى هو الأوّل، وتشهد له النصوص المستفيضة:

منها: ما دلّ على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله استقبل بيت المقدس تسعة عشر شهراً، ثمّ صُرِف إلى الكعبة(8).

ومنها: ما دلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قَبّل الكعبة وقال: «هذه القبلة»(9).

ومنها: خبر عبد اللّه بن سنان، المرويّ عن «أمالي الصدوق» عن الإمام4.

ص: 112


1- الجمل والعقود: ص 61.
2- الكافي في الفقه: ص 138.
3- نسبه له العلّامة في المختلف: ج 2/61.
4- السرائر: ج 1/204.
5- المعتبر: ج 2/65.
6- الطوسي في الخلاف: ج 1/295، والمفيد في المقنعة: ص 95.
7- كالصدوق في الفقيه: ج 1/272 ح 844، وأبي الفتوح الرازي في تفسير روح الجنان: ج 1/309، والعلّامة في الخلاف: ج 1/295، والشهيد في الذكرى : ص 162.
8- وسائل الشيعة: ج 4/297 باب من أبواب القبلة، الفقيه: ج 1/272 باب القبلة.
9- وسائل الشيعة: ج 4/295 أبواب القبلة، عوالي اللآلي: ج 2/27 ح 64.

الصادق عليه السلام: «إنّ للّه عزّ و جلّ حرمات ثلاثاً، ليس مثلهنّ شيءٌ : كتابه هو حكمة ونور، وبيته الذي جعله قياماً للنّاس، لا يُقبل من أحدٍ توجّهاً إلى غيره، وعترة نبيّكم»(1). ونحوها غيرها.

ولا تعارضها الأخبار الدالّة على أنّ البعيد يتوجّه نحوها(2)، بدعوى أنّ الظاهر منها إرادة الجهة، فإنّ الظاهر من هذه الأخبار - بقرينة النصوص المقدّمة - إرادة اتّساع المحاذاة مع البُعد، كما سنبيّنه لاحقاً.

أقول: ومنه يظهر أنّ قوله تعالى : وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (3)لا تنافي المختار، كما أنّ قوله عليه السلام في صحيح زرارة: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه»(4)، وقريبٌ منه ما في صحيح معاوية(5)، لا ينافي النصوص الدالّة على المختار، فإنّه لعدم القائل باتّساع الجهة بهذا المقدار، لا محيص عن حمله على أنّه قبلةٌ لمَن أخطأ في تشخيص القبلة.

ويشهد لهذا الحمل، ما دلَّ على أنّ المصلّي إنْ التفت في أثناء الصّلاة أنّه منحرفٌ عن القبلة يميناً أو يساراً وجب استقبالها، وإنْ التفت إليه بعد الصّلاة صحّت، معلّلاً بأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة(6). وعليه، فالقول الثاني - إنْ لم يرجع إلى الأوّل - لا دليل عليه.

واستدلّ للقول الثالث: بمرسل الفقيه، عن مولانا الصادق عليه السلام:ة.

ص: 113


1- وسائل الشيعة: ج 4/300 باب من أبواب القبلة ح 5208، أمالي الصدوق ص 366 ح 456.
2- وسائل الشيعة: ج 4 باب 2 من أبواب القبلة، الفقيه: ج 1/272 باب القبلة.
3- سورة البقرة: الآية 144.
4- وسائل الشيعة: ج 4/300 باب 10 من أبواب القبلة ح 5207، الفقيه: ج 1/278 ح 855.
5- وسائل الشيعة: ج 4، ص 295 باب 10 من أبواب القبلة ح 5199، التهذيب: ج 2/43 ح 3.
6- وسائل الشيعة: ج 4/314 باب 10 من أبواب القبلة.

«إنّ اللّه تبارك وتعالى جَعل الكعبة قبلةً لأهل المسجد، وجعل المسجد قبلةً لأهل الحَرَم، وجعل الحَرَم قبلةً لأهل الدُّنيا»(1).

ونحوه خبر بشر بن جعفر الجُعفي(2)، ومرسل عبد اللّه بن محمّد الحجّال(3).

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سندها، وعدم القائل بمضمونها، لأنّ مقتضاها كفاية توجّه من خرج عن المسجد إليه، مع العلم بعدم التوجّه إلى الكعبة - معارضتها مع النصوص المتقدّمة التي هي أكثر عدداً وأصحّ سنداً من هذه الأخبار، ولذلك تُحمل على إرادة بيان اتّساع الجهة.

فتحصّل: أنّ المتعيّن كون الكعبة قبلة مطلقاً.

مواجهة البعيد نفس الكعبة

وقد أُورد على هذا القول: بأنّه يستلزم العلم ببطلان صلاة المأموم، إذا كان الفصل بينه وبين إمام الجماعة أزيد من مقدار الكعبة، لعلمه حينئذٍ بعدم توجّه نفسه أو إمامه إلى الكعبة، وعلى هذا فلابدّ من الالتزام باتّساع القبلة للبعيد، إذ لا ريب في صحّة صلاة الماموم في الفرض.

أقول: وحقّ الجواب عن ذلك، ما أسّسه المحقّق النائيني رحمه الله(4)، ومن بعده أوضحه الاُستاذ(5) بأحسن بيان، وشيّد أركانه بقوله:

والجواب عن ذلك بوجهين:

ص: 114


1- وسائل الشيعة: ج 4/303 باب 3 من أبواب القبلة ح 5216، الفقيه: ج 1/272 ح 844.
2- وسائل الشيعة: ج 4/303 باب 3 من أبواب القبلة ح 5215، التهذيب: ج 2/44 ح 8.
3- وسائل الشيعة: ج 4/303 باب 3 من أبواب القبلة ح 5216، التهذيب: ج 2/44 ح 7.
4- تقريرات النائيني للكاظمي: ج 1/143.
5- الظاهر أنّه يقصد به المحقّق السيِّد الخوئي قدس سره.

الوجه الأوّل: أنّ استطالة الصف في البعيد، لا تستلزم خروج بعضهم عن استقبال نفس الكعبة.

وتوضيح ذلك إنّما يكون بتقريبين:

التقريب الأوّل: أن يفرض جماعةً واحدة حول الكعبة مستديرة، وتكبر تلك الدائرة شيئاً فشيئاً إلى أن تصل إلى دائرة كبيرة منصّفة لكرة الأرض، على أن يكون أحد قطبيها نفس الكعبة، وقطبها الآخر النقطة المقابلة لها من الجهة الاُخرى، فكلّ قوسٍ من هذه الدائرة وإنْ كان مستقيماً في نفسه، إلّاأنّ كلّ جزءٍ منه مواجه لنفس الكعبة، فلو فرض جماعة واحدة تكون استطالة صفوفهم بمقدار سعة الأرض، كان كلّ واحدٍ من أهل تلك الصفوف مستقبلاً حقيقةً ، وهكذا الكلام في الجماعة الواقعة على الدوائر المتوسّطة بين تلك الدائرة وقطبيها، فإنّ كبر الدائرة يوجبُ قلّة تقوّس كلّ قوسٍ مفروض فيها، بحيثُ لا ينافي كونه خطّاً مستقيماً في حسّ البصر، فالجماعة الذين يكونون بعيدين عن الكعبة بألف فرسخٍ مثلاً، إذا توجّهوا إلى الكعبة في خطٍّ مستقيم محسوسٍ لا يُعلم عدم مواجهة أحدٍ منهم لعين الكعبة، لاحتمال انحراف الخطّ ولو بمقدار شعرة، فيكون الخطّ حينئذٍ خطّاً منحنياً لا خطّاً مستقيماً هندسيّاً.

التقريب الثاني: أن يُقال إنّ كلّ دائرةٍ صغيرة تُفرض في وسط الدائرة الكبيرة، بحيث تكون مركزاً لها، تكون مواجهة للدائرة الكبيرة بأجمعها، ونصفٌ منها يكون مواجهاً لنصفها، وربعها لربعها، وهكذا، وعليه فرأس الإنسان الذي هو شبيهٌ بالكرة يكون مواجهاً لدائرة الاُفق بتمامها، والجبهة التي هي سُبع الرأس تقريباً مواجهة لسُبع دائرة الاُفق، ولسُبع جميع الدوائر المفروضة بين المُصلّى ودائرة الاُفق تحقيقاً، فجميع ما يُفرض من الموجودات الواقعة في هذه الأقواس، مواجهة لجبهة المصلّى، فإذا فرض أنّ الكعبة واقعة في هذا السُبع، فكلّ من الإمام والماموم

ص: 115

مواجه لها حقيقةً .

وبالجملة: الإيراد المزبور إنّما نشأ من فرض الخطوط متوازية، مع أنّ ذلك غير معتبر في المواجهة قطعاً، أفلا ترى إلى كُرة الشّمس أنّها بجميع أجزائها مواجهة لك، مع أنّها أكبر من كرة الأرض بآلاف المرّات!

الوجه الثاني: أنّ الإيراد المزبور على تقدير وروده، إنّما يرد على تقدير كون الواجب على المكلّف، هو الاستقبال الحقيقي، وأمّا إذا كان الواجبُ هو الاستقبال العرفي، أعني به كون المكلّف بحيث لو اُزيلت الموانع من أمامه لرأى نفس الكعبة، فلا إشكال أصلاً، ضرورة أنّ استطالة الصفّ الواحد لا تكون مانعة من ذلك قطعاً.

ويترتّب على ذلك دفع إشكال آخر، ربما يورد في المقام، وحاصله: إنّ كرويّة الأرض مانعة عن استقبال نفس الكعبة، ولو كان المراد بها هو الفضاء، من تخوم الأرض إلى عنان السماء، فإنّ من بَعُدَ عن الكعبة بمقدار ألفٍ وخمسمائة فرسخ - الذي هو بمقدار رُبع الكرة - فالخطّ الخارج من جبهته موازٍ للفضاء المقابل للكعبة لا محالة، ولا يتّصل أحدُ الخطّين بالآخر أبداً، فلا يُعقل استقبال نفس الكعبة.

والجواب عن ذلك: أنّ اتّساع الجهة حقيقةً أو عرفاً، كما يكون في عرض القبلة، كذلك يكون في عمقها، فإنّ الخطّ الخارج من جبهة المصلّي إنّما يخرج مخروطيّاً، فالمصلّي على رُبع الكرة مواجهٌ لنفس الكعبة تحقيقاً أو عرفاً، بمعنى أنّه لو ارتفعت كرويّة الأرض، وانعدم الجزء الواقع بين المصلّى والكعبة، لرأى المُصلّي نفس الكعبة لا محالة فلا إشكال. انتهى .

أقول: ولعمري إنّه قويٌ متين، بل جوهرٌ ثمين، فتدبّر جيّداً.

هذا في المصلّي خارج الكعبة.

***

ص: 116

والمُصلّي في الكعبة يستقبل أيّ جُدرانها شاء،

حكم المُصلّي في الكعبة

(و) أمّا (المُصلّي في) جوف (الكعبة)، فلا يجبُ عليه التوجّه إلي جهةٍ خاصّة، بلا خلاف، لعدم الدليل على التعيين، بل (يستقبل أيّ جُدرانها شاء) وتصحّ صلاته على كراهةٍ في الفريضة، كما هو المشهور، لأنّه مقتضى الجمع بين صحيح معاوية - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا تُصلِّ المكتوبة في جوف الكعبة»(1). ونحوه صحيح ابن مسلم(2) - وبين موثّق يونس بن يعقوب، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إذا حضرت الصّلاة المكتوبة وأنا في الكعبة، أفاُصلّي فيها؟ قال: نعم»(3).

وعن الشيخ في «الخلاف»(4)، والقاضي في «المهذّب»(5): المنع عنها اختياراً.

واستدلّ له(6):

1 - بإجماع الفرقة.

2 - وبأنّ القبلة هي الكعبة لمن شاهدها فتكون قبلةٌ جملتها، والمصلّي في جوفها غير مستقبل الجملة.

ص: 117


1- وسائل الشيعة: ج 4/337 باب 17 من أبواب القبلة ح 5328، التهذيب: ج 2/382 ح 5.
2- وسائل الشيعة: ج 4/336 باب 17 من أبواب القبلة ح 5326، الكافي: ج 3/391 ح 18.
3- وسائل الشيعة: ج 4/337 باب 17 من أبواب القبلة ح 5331، الاستبصار: ج 1/298 ح 3.
4- الخلاف: ج 1/439.
5- المهذّب: ج 1/76.
6- كما في الخلاف: ج 1/439، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة: ج 5/274.

3 - وبإطلاق الأمر بالاستقبال، الظاهر في إرادته من الخارج.

4 - وبالصحيحين المتقدّمين، بعد حمل الموثّق على صورة الاضطرار، لإختصاص الصحيحين بالمختار إجماعاً.

أقول: ولكن الجميع كما ترى :

إذ دعوى الإجماع موهونة مع ظهور الخلاف.

والكعبة بجملتها لا تكون قبلة، بل يكون كلّ جزءٍ من أجزائها قبلة، إذ هي اسمٌ للفضاء من تخوم الأرض إلى عنان السماء، ولا يمكن محاذاة المُصلّي ببدنه لجملتها.

وإطلاق الأمر بالاستقبال لو سُلّم ظهوره في إرادته من الخارج، لابدَّ من رفع اليد عنه، لما دلّ على جواز الصّلاة في الكعبة(1)، وقد عرفت أنّه لابدَّ من حمل الصحيحين على الكراهة، لموثّق يونس الصريح في الجواز.

والإجماع على اختصاص الصحيحين بالمختار، لا يوجبُ أخصّيّتهما من الموثّق، كي يقيّد بهما إطلاقه، ويحمل على صورة الاضطرار، مضافاً إلى أنّ ظاهر السؤال فيه هو السؤال عن اختيار إيقاع الصّلاة فيها، في مقابل الصّلاة في خارجها، فلا يصحّ حمل إطلاق الجواب على الضرورة، مع أنّه حملٌ له على الفرد النادر في نفسه.

أقول: وبما ذكرناه ظهر أنّ دعوى معارضة الصحيحين مع الموثّق - وتقديمهما عليه لأقوائيّة السند فاسدة، إذ مع إمكان الجمع بينهما، لا وجه لطرح الموثّق،).

ص: 118


1- وسائل الشيعة: ج 4/337 ح 5330، التهذيب: ج 2/383 ح 5 وفيه (لا تصلح).

وتاييد المنع لا لضرورةٍ بخبر ابن مروان، عن أبي الحسن عليه السلام: «في الرّجل حضرته الصّلاة وهو في الكعبة، لا يمكنه الخروج منها؛ استلقى على قفاه ويُصلّي إيماء»(1).

في غير محلّه، لإعراض الأصحاب عنه، بل الإجماع بقسميه على استقبال أي جدرانها شاء حيث يُصلّي فيها.

ومنه ظهر أنّ مرسل «الكافي»: «يُصلّي في جوانبها إذا اضطرّ إلى ذلك»(2). لا يعتمد عليه، مضافاً إلى ضعف سنده، مع احتمال إرادة الصّلاة إلى أيّ جانبٍ من جوانبها الأربعة.

فتحصّل: أنّ الأقوى جواز الفريضة في الكعبة على كراهية، وأمّا النافلة فيها فحيثُ أنّ دليل المنع - المحمول على الكراهة - مختصٌّ بالفريضة، فتجوز بلا كراهة.

***7.

ص: 119


1- وسائل الشيعة: ج 4/338 باب 17 من أبواب القبلة ح 5332، التهذيب: ج 5/453 ح 229.
2- وسائل الشيعة: ج 4/336 باب 17 من أبواب القبلة ح 5327.

وعلى سَطحها يبرزُ بين يديه بعضها

الصّلاة على سطح الكعبة

(و) المصلّي (على سطحها يبرزُ بين يديه بعضها) كما هو المشهور.

وعن الصدوق(1) والشيخ في «الخلاف»(2)، والقاضي(3): يستلقي على ظهره ويُصلّي إلى البيت المعمور.

واحتج الشيخ رحمه الله عليه:

1 - بالإجماع.

2 - وبخبر عبد السّلام، عن الإمام الرضا عليه السلام: «قال في الذي تُدركه الصّلاة وهو فوق الكعبة، فقال: إنْ قام لم يكن له قبلة، ولكن يستلقي على قفاه، ويفتح عينيه إلى السّماء، ويعقد بقلبه القبلة الّتي في السّماء؛ البيت المعمور»(4).

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الإجماع: فلوهنه بظهور الخلاف.

وأمّا الخبر: فلضعف سنده، مضافاً إلى إعراض المشهور عنه، فلا يصحّ الاعتماد عليه في رفع اليد عن أدلّة وجوب الركوع والسجود والقيام.

وعليه، فالأقوى ما هو المشهور.

ثمّ إنّه هل تجوز الصّلاة على سطح الكعبة إختياراً أم لا تجوز؟ قولان:

ص: 120


1- الفقيه: ج 1/275 ح 845.
2- الخلاف: ج 1/441.
3- المهذّب: ج 1/85.
4- وسائل الشيعة: ج 4/340 باب 19 من أبواب القبلة ح 5339، الكافي: ج 3/392 ح 21.

قد استدلّ للثاني(1):

1 - بأنّ الواجب في الصّلاة هو التوجّه إلى الكعبة، وجعلها بتمامها قباله، ولا يصدق ذلك على المصلّي على سطحها.

2 - وبما في حديث المناهي: «نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الصّلاة على ظهرالكعبة»(2).

أقول: وكلاهما كما ترى :

أمّا الأوّل: فلما عرفت في المسألة السابقة، من عدم كون الكعبة بتمامها قبلة، لعدم إمكان محاذاتها كذلك، بل كلّ جزءٍ من أجزائها قبلة.

وأمّا الثاني: فلضعف سنده، وإعراض الأصحاب عنه، فلا يُعتمد عليه.

فتحصّل: أنّ الأقوى جواز الصّلاة على ظهر الكعبة اختياراً.

***8.

ص: 121


1- حكاه العلّامة في التذكرة: ج 2/414 عن الشافعي وأحمد.
2- وسائل الشيعة: ج 4/340 باب 19 من أبواب القبلة ح 5338، الفقيه: ج 4/9 ح 4968.

وكلّ قومٍ يتوجّهون إلى ركنهم: فالعراقي لأهل العراق، واليماني لأهل اليمن، والمغربي لأهل المغرب، والشّامي لأهل الشام. وعلامة العراق:

كيفيّة اتجاه المصلّي

(وكلّ قومٍ يتوجّهون إلى ركنهم) لعدم تحقّق المحاذاة بينهم وبين الكعبة إلّابذلك.

(فالعراقي) وهو الذي فيه الحَجَر (لأهل العراق)، كما هو المشهور.

ولكن الظاهر أنّ الرّكن الذي يكون متّصلاً بحِجْر إسماعيل، وهو في حِذاء الرّكن الذي فيه الحَجَر، هو الذي يتوجّه إليه العراقي.

(واليمانيّ لأهل اليمن، والمغربيّ لأهل المغرب، والشّامي لأهل الشّام).

***

أمارات القبلة
اشارة

الموضع الثاني: في أحكام المستقبل:

يجبُ - مع الإمكان - تحصيل العلم بالتوجّه إلى الكعبة، أو ما يكون بحكم العلم كالبيّنة، بل قد عرفت في بحث المواقيت أنّ الأقوى حجيّة خبر الثقة أيضاً إنْ كان الإخبار عن حسٍّ .

ومن جملة الأمارات المحصّلة للعلم، هي العلائم التي ذكرها الأصحاب لتشخيص قبلة البلاد، المستنبطة من قواعد الهيئة وغيرها.

(وعلامة) أهل (العراق) عليماذكره المصنّف رحمه الله وغيره من الأصحاب(1)، اُمور:

ص: 122


1- حكاها العاملي في منهاج الكرامة: ج 5/297 عن جملة من علمائنا نسبوها إلى الأصحاب والمشهور.

جَعلُ الفَجر محاذياً لمنكبه الأيسر، والشَّفق لمنكبه الأيمن، وعين الشّمس عند الزّوال على طرف الحاجب الأيمن ممّا يلي الأنف، والجَدْي خلف المِنكب الأيمن.

الأوّل: (جعل الفجر) أي المشرق (محاذياً لمنكبه الأيسر، والشّفق) أي المغرب محاذياً (لمنكبه الأيمن).

(و) الثاني: جعل (عين الشّمس عند الزّوال) والميل عن دائرة نصف النهار (على طرف الحاجب الأيمن، ممّا يلي الأنف).

(و) الثالث: جعل (الجَدْي خلف المنكب الأيمن).

واعترض غير واحدٍعلى من ذكر هذه العلائم لأهل العراق، بعدم المناسبة بينها:

إذ لازم الأوّل: أن يتوجّه المصلّي إلى نقطة الجنوب من غير فرقٍ بين المشرق والمغرب الاعتداليين وغيرهما.

ولازم الثاني: الإنحراف عن نقطة الجنوب إلى طرف المشرق بمقدارٍ قليل.

ولازم الثالث: الانحراف عنها إلى طرف المغرب بمقدارٍ معتدٍّ به، فإنّ التوجّه إلى نقطة الجنوب يوجبُ وقوع الجَدْي محاذياً لما بين الكتفين، فجعله خَلْف المنكب الأيمن يلازم الانحراف المزبور.

أقول: بعدما عرفت من أنّ التوجّه إلى الكعبة إنّما يتحقّق بكون الكعبة واقعة في سُبع الدائرة الاُفقيّة، المحاذية للجبهة، تعرف عدم ورود هذا الاعتراض، إذ الانحراف عن نقطة الجنوب إلى الطرفين يسيراً لا يوجبُ الخروج عن محاذاة جبهة المصلّي، كما يظهر لمن تدبّر فيما ذكرناه.

أقول: ثمّ إنّه لو كان مدرك العلّامة الثالثة كالأولين قواعد الهيئة، فلا كلام.

وأمّا لو كان هو الأخبار، كما ذكره غير واحدٍ، فلا يخلو عن الإشكال، إذ

ص: 123

الأخبار الواردة في الجَدْي كموثّقة محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليه السلام قال:

«سألته عن القبلة ؟ قال: ضَع الجَدي في قفاك وصَلِّ »(1).

ومرسلة الصدوق: «قال رجلٌ للصادق عليه السلام: إنّي أكون في السّفر، ولا أهتدي إلى القبلة باللّيل ؟

فقال: أتعرف الكوكب الذي يُقال له الجَدْي ؟ قال: نعم. قال: اجعله على يمينك، وإذا كنتَ في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك»(2).

لا يمكن الأخذ بإطلاقها، لورودها في قضيّة شخصيّة، وكون محمّد بن مسلم كوفيّاً لا يكفي في القرينة على إرادة الكوفة بالخصوص.

نعم، يظهر من الخبرين، ومن خبر إسماعيل بن أبي زياد المرويّ عن «تفسير العيّاشي» عن جعفر بن محمّد، عن آبائه، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«في قوله تعالى : وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (3)، قال صلى الله عليه و آله: هو الجدي، لأنّه نجم لا يزول، وعليه بناءً القبلة، وبه يهتدي أهل البرّ والبحر»(4).

أنّه يعتمد على الجَدْي وسائر الكواكب في معرفة القبلة.

فظهر ممّا ذكرناه: أنّه لابدَّ في تشخيص قبلة البلاد من الرجوع إلى قواعد الهيئة الموجبة للعلم بجهتها.

***2.

ص: 124


1- وسائل الشيعة: ج 4/306 باب 5 من أبواب القبلة ح 5223، التهذيب: ج 2/45 ح 11.
2- وسائل الشيعة: ج 4/306 باب 5 من أبواب القبلة ح 5224، الفقيه: ج 1/280 ح 860.
3- سورة النحل: الآية 16.
4- وسائل الشيعة: ج 4/307 باب 5 من أبواب القبلة ح 5225، تفسير العيّاشي: ج 2/256 ح 12.
الظنّ بالقبلة حُجّة

وإنْ لم يتمكّن المُصلّي من تشخيص القبلة بشيءٍ ممّا يوجب القطع، عوّل على العلامات المفيدة للظنّ ، كما هو المشهور.

وعن ظاهر الشيخ في «التهذيب»(1)، و «الخلاف»(2)، وصريح ابن حمزة(3):

أنّه يجب الصّلاة إلى أربع جوانب مع الاختيار.

وتدلّ على المختار:

1 - صحيحة زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «يُجزي التحرّي أبداً إذا لم يعلم أينَ وجه القبلة»(4).

2 - وموثّقة سماعة - المتقدّمة -(5): «سألته عن الصّلاة باللّيل والنهار، إذا لم يرَ الشّمس والقمر ولا النجوم ؟

قال عليه السلام: اجتهد رأيك، وتعمّد القبلة جهدك».

واستدلّ للثاني: بمرسلة خراش، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلتُ : جُعلتُ فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون إذا أطبقت السّماء علينا، أو أظلمت فلم نعرف السّماء، كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد؟

فقال: ليس كما يقولون، إذا كان ذلك فليصلِّ لأربع وجوه»(6).

ص: 125


1- التهذيب: ج 2/46 ذيل حديث 15 (148).
2- الخلاف: ج 1/302.
3- الوسيلة: 86.
4- وسائل الشيعة: ج 4/307 باب 6 من أبواب القبلة ح 5227، الكافي: ج 3/285 ح 7.
5- وسائل الشيعة: ج 4/308، ح 5228.
6- وسائل الشيعة: ج 4/311 باب 8 من أبواب القبلة ح 5239، التهذيب: ج 2/45 ح 12.

وفيه: أنّها لإرسالها، وإعراض المشهور عنها، ومعارضتها بما هو أقوى سنداً منها، لا يُعتمد عليها.

ثمّ إنّ مقتضى الصحيح والموثّق، عدم جواز الاكتفاء بالظنّ الضعيف، مع التمكّن من تحصيل الظنّ القويّ ، كما لا يخفى وجهه، كما لا يجوز ترك التحرّي والصّلاة إلى أربع جوانب، لعدم إحراز التوجّه إلى الكعبة بذلك، لا وجداناً ولا تعبّداً.

نعم، يجوز ترك التحرّي، والصّلاة إلى سبع جهاتٍ متساوية، لجواز الإحتياط مع التمكّن من الامتثال التفصيلي، على ما حقّقناه في محلّه.

***

ص: 126

ومع فقدْ الأمارات يُصلّي إلى أربع جهات مع الاختيار،

في الجهل بالقبلة

(ومع فَقدْ الأمارات) المفيدة للعلم أو الظنّ ، فالمشهور أنّه (يُصلّي إلى أربع جهات مع الاختيار).

بل عن غير واحدٍ(1): نسبته إلى علمائنا.

ونُسب إلى العُمّاني(2) والصدوق ووالده(3)، وجماعةٌ من المتأخّرين كالمحقّق الأردبيلي(4) وصاحب «الحدائق»(5): الاكتفاء بالصّلاة لجهةٍ واحدة، ومالَ إليه الشهيد رحمه الله في «الذكرى»(6).

وعن «المختلف»(7): نفي البُعد عنه، وهو الأقوى .

واستدلّ للمشهور:

1 - بمرسلة خُراش المتقدّمة(8).

2 - ومرسلة الفقيه:

«رُوي فيمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أنّه يُصلّي إلى أربع جوانب»(9).

ص: 127


1- منهم المحقّق في المعتبر: ج 2/70، والعاملي في المدارك: ج 3/135.
2- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 2/67.
3- الفقيه: ج 1/276 ح 846.
4- مجمع الفائدة: ج 2/67.
5- الحدائق: ج 6/301.
6- الذكرى : ص 164.
7- مختلف الشيعة: ج 2/67.
8- وسائل الشيعة: ج 4/311، ح 5239.
9- وسائل الشيعة: ج 4/310 باب 8 من أبواب القبلة ح 5235.

3 - ومرسلة «الكافي»: «رُوي أنّ المتحيّر يُصلّي إلى أربع جوانب»(1). وضعفها منجبرٌ بعمل الأصحاب.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأُولى : فلأنّها بظاهرها تدلّ على عدم حجيّة الظنّ ، لورودها في مورد إمكان الاجتهاد، وتحصيل الظنّ ، وقد عرفت أنّ المشهور بين الأصحاب، عدم لزوم التكرار فيه، فهي مضافاً إلى ضعف سندها، معرَضٌ عنها عند الأصحاب.

وما ذكره بعض أعاظم المحقّقين(2): من أنّ عدم العمل بها في موردها، غَير قادحٍ في الاستشهاد بها، لوجوب الصّلاة إلى أربع جهات في الجملة عند اشتباه القبلة.

غير تامّ : إذ لو كان جوابه عليه السلام عامّاً شاملاً لصورة الظنّ وعدمه، كان لما ذكر وجه، وأمّا حيث أنّه مختصّ بمورد السؤال - وهو صورة إمكان الاجتهاد وتحصيل الظنّ - فنحتاج في اثبات الحكم لصورة التحيّر إلى ضمّ قاعدة الأولويّة وتنقيح المناط، أو عدم الفصل، ومعلومٌ أنّ التعدّي فرع الحجيّة في المورد، وحيثُ أنّ المرسلة في موردها لم يعمل بها، فلا وجه لدعوى الاعتماد عليها في غيره.

وأمّا ما ذكره قدس سره(3) من أنّ المراد من الاجتهاد فيها، الاجتهاد في الفتوى لا القبلة، فينبغي أن يُعدّ من سهو القلم، كما يظهر لمن تدبّر في الرواية.

وأمّا الأخيرتان: فلأنّه لم يثبت أن تكونا غير رواية خراش، مع عدم ثبوت اعتماد القائلين بوجوب التكرار عليهما، لينجبر به ضعف سنديهما على فرض كونهما غيرها.

وتدلّ على المختار: جملةٌ من النصوص:1.

ص: 128


1- وسائل الشيعة: ج 4/311 باب 8 من أبواب القبلة ح 5238، الكافي: ج 3/286 ح 10. (2و3) آقا رضا الهمداني في مصباح الفقيه: ج 2/97 ق 1.

منها: صحيح زرارة، ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «إنّه قال: يُجزي المتحيّر أبداً إذا لم يعلم أينَ وجه القبلة»(1).

2 - ومرسل ابن أبي عُمير، عن بعض أصحابنا، عن زرارة، قال:

«سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن قبلة المتحيّر؟ فقال عليه السلام: يُصلّي حيث يشاء»(2).

3 - وصحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلت له: الرّجل يقوم في الصّلاة، ثمّ ينظر بعدما فرغ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً وشمالاً؟

فقال: قد مضت صلاته، وما بين المشرق والمغرب قبلة»(3).

4 - ونزول قوله تعالى : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ (4) في قبلة المتحيّر.

أقول: ونوقش فيها:

أمّا في صحيح زرارة ومحمّد: فبجهالة طريق الصدوق إلى زرارة ومحمّد مجتمعين، وبعدم ذكره إلّافي «الفقيه» دون «الكافي» و «التهذيب» و «الاستبصار»، مع أنّ دأب الشيخ جارٍ على ذكر النصوص المتعارضة، فيستكشف من ذلك أنّ الخبر محرّف، وأنّ لفظ (المتحيّر) وقع بدل (التحرّي)، وعن المجلسي الجزم بذلك.

وأمّا في المرسل: فبالإرسال.

وأمّا في صحيح معاوية: فباحتمال كون قوله: (ونزلت... الخ)، الذي هو محلّ الاستشهاد من عبارة الصدوق لا من الرواية.5.

ص: 129


1- وسائل الشيعة: ج 4/311 باب 8 من أبواب القبلة ح 5236، الفقيه: ج 1/276 ح 847.
2- وسائل الشيعة: ج 4/311 باب 8 من أبواب القبلة ح 5237، الكافي: ج 3/286 ح 10.
3- وسائل الشيعة: ج 4/314 باب 10 من أبواب القبلة ح 5246، الفقيه: ج 1/276.
4- سورة البقرة: الآية 115.

مع أنّه معارض بجملةٍ من النصوص(1) الدالّة على نزول الآية الشريفة في النافلة.

وربما يناقش في الجميع بأنّها مُعرَضٌ عنها لدى المشهور، فتسقطعن الحجيّة.

والحقّ عدم تماميّة شيء من هذه المناقشات:

أمّا ما أورد على الأوّل: فلأنّ صحّة طريق الصدوق إلى كلٍّ منهما مع عدم تعرّضه لطريقه إليهما مجتمعين، المقتضي كون طريقه إليهما هو طريقه إلى كلٍّ منهما، موجبةٌ لصحّة طريقه إليهما، وعدم ذكره في «الكافي» لا يوجب وهناً فيه، إذ ليس كل خبر مذكورٍ في «الفقيه» ممّا لابدَّ وأن يكون مذكوراً فيه.

كما أنّ عدم ذكره في «التهذيب» و «الاستبصار» ولو مع تسليم أنّ دأب الشيخ جرى على ذكر الأخبار المتعارضة في جميع الموارد، لا يوجب وهناً فيه، لاحتمال الغفلة ونحوها.

وأمّا قوله عليه السلام: (أينَ ما توجّه) يدفع احتمال التحريف.

وأمّا ما أورد على الثاني: فلأنّ مرسل ابن أبي عُمير حجّة، لأنّه لا يُرسل إلّا عن ثقة.

وأمّا ما أورد على الثالث: فلأنّ ورودها في النافلة لا ينافي ورودها في المتحيّر أيضاً، وما يظهر من بعض تلك النصوص من الاختصاص بالنافلة يُرفع اليد عنه بواسطة هذا الخبر، ولا يحتمل إدراج الصدوق كلام نفسه في الرواية من دون أن ينبّه عليه.

وأمّا ما أورد على الجميع: فلأنّ عمل جماعة من القدماء كالعُمّاني بها يمنع عن تحقّق الإعراض، مضافاً إلى احتمال أن يكون إفتائهم بالصّلاة إلى أربع جهات؛ة.

ص: 130


1- وسائل الشيعة: ج 4/329 باب 15 من أبواب القبلة.

لأجل الجمع بين النصوص، وكون مرسلة خراش(1) أوفق بالاحتياط.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر أنّه على فرض حجيّة مرسلة خراش، لا تصلح هي لأنّ تعارض مع هذه النصوص.

ودعوى: أنّها مختصّة بالمتمكّن من الصّلاة إلى أربع جوانب، فتكون مخصّصة للنصوص، وموجبة لحملها على صورة الاضطرار.

مندفعة: بأنّ حمل تلك النصوص على صورة الاضطرار، حملٌ لها على الفرد النادر المستهجن، لا سيّما في مثل هذه الروايات التي يكون الإطلاق فيها قويّاً.

فروع بحث القبلة

الفرع الأوّل: إذا انحصر القبلة في جهتين، بأنْ علم أنّها لا تخرج عن أحدهما:

فهل يكتفي بالصّلاة إلى أيّ جهةٍ شاء؟

أو يجب عليه تكرار الصّلاة حتّى يستيقن بوقوعها إلى القبلة ؟ وجهان:

أقواهما الثاني، إذ النصوص الدالّة على كفاية صلاة واحدة حيثُ يشاء، مختصّة بالمتحيّر على الإطلاق، الذي يحتمل كون القبلة في كلّ واحدٍ من الأطراف والجهات، والتعدّي عن موردها يحتاج إلى دليلٍ مفقود.

وعليه، فلو تردّدت بين نقطتين معيّنتين، يكرّر الصّلاة مرّتين، ولو كانت مردّدة بين تمام نقاط الجهتين، فلابدّ من تكرار الصّلاة أزيد من مرّتين، كي يتيقّن بالصّلاة إلى القبلة.

والإكتفاء بصلاتين، لا يبعدُ أن يُستفاد من مرسلة خراش، كما لا يخفى وجهه.

الفرع الثاني: إذا لم يتمكّن المُصلّي من تحصيل العلم بالقبلة في أوّل الوقت:

فإنْ علم بعدم إمكانه إلى آخر الوقت، جاز له البدار إلى الصّلاة بالإتيان بها

ص: 131


1- وسائل الشيعة: ج 4/311، ح 5239.

إلى جهةٍ واحدة.

وإنْ علم بالتمكّن منه في آخر الوقت، لا يجوز له ذلك، لتمكّنه من الامتثال القطعي، فلا يجوز له الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي.

ودعوى: صدق المتحيّر عليه في أوّل الوقت فتشمله النصوص.

مندفعة: بأنّ التردّد في أوّل الوقت، كالتردّد في مكانٍ خاص غير مشمولٍ للنصوص، لعدم كونه بالخصوص ظرفاً للواجب، والموضوع بحسب ظاهر النصوص هو المتحيّر في مجموع الوقت.

وإنْ احتمل تمكّنه منه، فهل يجوز له البدار أم لا؟ وجهان:

أقواهما الأوّل بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الأمر الاستقبالي، وترتّب الأثر عليه بالفعل، فإنّه عليه يُستصحب بقاء المانع إلى آخر الوقت.

الفرع الثالث: هل يكون اشتراط الصّلاة بالقبلة ساقطاً، بناءً على المختار من الاكتفاء بالصّلاة إلى جهةٍ واحدة، أو أنّه إنّما يكون من باب الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي ؟

وجهان، أقواهما الثاني، لعدم ما يوجب تخصيص عموم دليل شرطيّة القبلة.

واستدلّ للأوّل(1): بأنّ التوجّه إلى الكعبة يقيناً غير واجب، واحتمالاً حاصلٌ ، فيلغى اعتبار الاستقبال.

وفيه: إنّه لا يكون شرطيّة القبلة لغواً حينئذٍ:

إذ بناءً عليها لا يجوز للمصلّي أن يُصلّي صلاة واحدة إلى جميع الجهات، بأنْ يوقع كلّ ركعةٍ منها إلى جهة.

وأمّا بناءً على سقوط الشرطيّة، فيجوز ذلك.).

ص: 132


1- مصباح الفقيه: ج 10/95 (ط. ج).

ففائدة الاشتراط لزوم إيقاع الصّلاة إلي جهةٍ واحدة تحصيلاً للموافقة الاحتماليّة.

ويترتّب على ما ذكرناه أنّه لابدَّ من إيقاع الثانية في المترتّبتين كالظهرين إلى الجهة الّتي وقعت الأُولى إليها، وإلّا بطلت:

إمّا لعدم كونها إلى القبلة، أو لعدم ترتّبها على الأولى.

وأمّا بناءً على سقوط الشرطيّة، فيجوز الإتيان بها، ولو بإيقاعها إلى الجهة المقابلة لتلك الجهة.

الفرع الرابع: بناءً على لزوم التكرار إلى أربع جوانب، لو لم يكن له من الوقت ما يسع مقدار ثمان صلوات، بل كان مقدار خمس مثلاً، وكان عليه صلاتان كالظهرين:

فهل يجبُ إتمام جهات الأُولى ، وإتيان الثانية إلى جهةٍ واحدة ؟

أو يجبُ إيراد النقص على الأُولى وإتمام جهات الثانية ؟

وجهان، أقواهما الثاني، لصحيح الحلبي، في حديثٍ قال:

«وسألته عن رجلٍ نَسي الأُولى والعصر، ثمّ ذكر عند غروب الشّمس ؟

قال عليه السلام: إنْ كان في وقتٍ لا يخاف فوت إحداهما، فليصلِّ الظهر ثمّ يُصلّي العصر، وإنْ هو خاف أن تفوته، فليبدأ بالعصر ولا يؤخّرها فتفوته... الخ»(1).

إذ مع عدم الإتيان بالعصر إلى بعض الجهات، يتحقّق خوف الفوت، فلا يصحّ الإتيان بالظهر.

أقول: وبما ذكرناه يظهر أنّ ما ذكر في بعض الكلمات(2) من الإستدلال لكلّ واحدٍ من القولين بالوجوه الاعتباريّة، يشبه الاجتهاد في مقابل النّص.

الفرع الخامس: لا ريب في اختصاص لزوم التكرار إلى أربع جوانب، بناءً على القول به بصورة التمكّن.4.

ص: 133


1- وسائل الشيعة: ج 4/129 باب 4 من أبواب المواقيت ح 4709، الاستبصار: ج 1/287 ح 3.
2- لاحظ روض الجنان: 194.

ومع الضّرورة إلى أيّ جهةٍ شاء.

(و) أمّا (مع الضرورة):

1 - فيُصلّي (إلى أي جهةٍ شاء)، أي ما يتمكّن من الجوانب إنْ كان مضطرّاً إلى ترك الصّلاة إلى بعضٍ غير معيّن، لما حقّقناه في الاُصول(1) من أنّ الاضطرار إلى ترك بعضٍ غير معيّن من الأطراف - كما إذا علم بوجوب إحدى الصلاتين الظهر أو الجمعة، واضطرّ إلى ترك إحداهما - لا يوجب رفع التكليف المعلوم، لعدم تعلّق الاضطرار بترك الواجب، وعليه فليس للشارع الترخيص في تركهما معاً لكونه ترخيصاً في المخالفة القطعيّة، فلا محالة يكون المرخّص فيه، هو ترك إحدى الصلاتين الّذي به يرفع الاضطرار، وأمّا الاُخرى فيجبُ الإتيان بها، وبمقتضى العلم الإجمالي، من غير فرقٍ في ذلك بين كون التكليف المعلوم ضمنيّاً كما في ما نحن فيه، أو نفسيّاً كما في المثال.

2 - وأمّا إنْ كان مضطرّاً إلى ترك الصّلاة إلى جهةٍ معيّنة:

فإنْ كان ذلك بعد حدوث التكليف بالصّلاة مستقبلاً، وتنجّزه بالعلم، وجب الاحتياط بالصّلاة إلى الجوانب الممكنة، إذ الإضطرار الحادث بعد العلم بالتكليف، لا يوجبُ رفع أثر العلم بالنسبة إلى ما لا يكون مضطرّاً إليه.

وأمّا إنْ كان الاضطرار قبل حدوث التكليف، أو قبل العلم به، جاز الاكتفاء بصلاةٍ واحدة إلى أيّ جهةٍ شاء، إذ العلم الحادث بعد الاضطرار، لا تتعارض الاُصول في أطرافه، فلا يكون منجّزاً.8.

ص: 134


1- زبدة الاصول: ج 5/18.

وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه.(1)

وبما ذكرناه ظهر ضعف ما عن «المجمل»(2)، و «المبسوط»(3)، و «المقنعة»(4)، و «السرائر»(5) والمصنّف من الاكتفاء بصلاةٍ واحدة مطلقاً.

اللّهُمَّ إلّاأن يكون اعتمادهم في ذلك على النصوص(6) الدالّة على الاكتفاء بواحدة مطلقاً، مقتصراً في الخروج عنها على صورة التمكّن من الأربع.

ويرد عليه: ماتقدّم من عدم إمكان حمل النصوص عليصورة الاضطرار، فراجع.

3 - وإنْ لم يتمكّن إلّامن الصّلاة إلى جهةٍ واحدة، صلّاها إلى أيّ جهةٍ شاء، لأنّ الصّلاة لا تَدَع بحال، ولا يجوز له إيقاع الصّلاة إلى جميع الجهات، بأن يوقع كلّ ركعةٍ منها إلى جهة، كما عرفت آنفاً.

***ة.

ص: 135


1- زبدة الاصول: ج 5/14.
2- جمل العلم والعمل: ج 3/29 (رسائل السيّد المرتضى).
3- المبسوط: ج 1/79.
4- المقنعة: ص 96.
5- السرائر: ج 1/205.
6- وسائل الشيعة: ج 4/310 باب 8 من أبواب القبلة، الإستبصار: ج 1/295 باب 160 من أبواب القبلة.

ولو ترك الاستقبال عمداً أعاد، ولو كان ظانّاً أو ناسياً، وكان بين المشرق والمغرب، فلا إعادة.

في أحكام الخلل
اشارة

الموضع الثالث: البحث عن أحكام الخَلل، (و) فيه مسائل:

مسائل:
لو ترك الاستقبال عمداً أعاد

المسألة الأُولى : (لو ترك الاستقبال عمداً أعاد) في الوقت وخارجه إجماعاً، من غير فرقٍ بين أن يكون منحرفاً عنها إلى ما بين اليمين واليسار، وبين أن يكون إلى الإستدبار، لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه، وعدم كون المأتي به منطبقاً على المأمور به، فيجب الإتيان به ثانياً.

ولو كان ظانّاً أو ناسياً، وكان بين المشرق والمغرب، فلا إعادة
اشارة

المسألة الثانية: (ولو كان) المُصلّي إلى جهةٍ (ظانّاً) بكون القبلة فيها، (أو ناسياً)، أو غافلاً، أو صلّى إليها لضيق الوقت، (وكان) منحرفاً عنها إلى ما (بين المشرق والمغرب، فلا إعادة) عليه، ومضت صلاته، كما هو المشهور.

بل عن غير واحدٍ(1): دعوى الإجماع عليه.

وعن «المبسوط»(2) و «النهاية»(3)، و «الخلاف»(4)، و «المقنعة»(5)، و «السرائر»(6)،

ص: 136


1- منهم المحقّق في المعتبر: ج 2/72، والعلّامة في المنتهى: ج 4/195، والسيّد العاملي في المدارك: ج 3/151.
2- المبسوط: ج 1/79.
3- النهاية: 64.
4- الخلاف: ج 1/303.
5- المقنعة: 97.
6- السرائر: ج 1/205.

و «الغُنية»(1): إطلاق وجوب الإعادة في الوقت إذا صلّى إلى غير القبلة.

أقول: والأقوى هو التفصيل بين كونه متحرِّياً فلا إعادة عليه مطلقاً، وبين كونه مُصلّياً من غير تحرٍّ، فيُعيد في الوقت وخارجه.

أمّا الأوّل: فتدلّ عليه جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلت له: الرجل يقوم في الصّلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالاً؟

فقال: قد مضت صلاته، وما بين المشرق والمغرب قبلة»(2).

ومنها: خبر الحسين بن علوان، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام، أنّه كان يقول:

«من صَلّى على غير القبلة، وهو يرى أنّه على القبلة، ثمّ عرف بعد ذلك، فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب»(3).

ويعضدهما صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «لا صلاة إلّاإلى القبلة.

قلت: أين حَدّ القبلة ؟ قال عليه السلام: ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه»(4).

واستدلّ صاحب «الحدائق» رحمه الله(5): لوجوب الإعادة في الوقت، بإطلاق جملةٍ من النصوص:8.

ص: 137


1- الغنية: 69.
2- وسائل الشيعة: ج 4/314 باب 10 من أبواب القبلة ح 5246، الفقيه: ج 1/276 ح 848.
3- وسائل الشيعة: ج 4/315 باب 10 من أبواب القبلة ح 5250، قرب الإسناد 54.
4- وسائل الشيعة: ج 4/314 باب 10 من أبواب القبلة ح 5247، الفقيه: ج 1/278 ح 855.
5- الحدائق: ج 6/438.

منها: صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه البصري الآتي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«إذا صلّيت وأنتَ على غير القبلة، واستبان لك أنّك صلّيت وأنتَ على غيرالقبلة، وأنتَ في وقتٍ فأعِد، وإنْ فاتك الوقت، فلا تعِد»(1). ونحوه غيره.

والنسبة بين هذه النصوص وما قبلها، وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّاأنّه لأجل تعاض وجوه الجمع - إذ كما يمكن حمل هذه النصوص على غير ما بين المشرق والمغرب، كذلك يمكن حمل تلك على عدم الإعادة في خارج الوقت - يتساقط الإطلاقان، والمرجع إلى عموم ما دلّ على اعتبار القبلة، وأنّه يجب الإعادة بترك الاستقبال.

وفيه: إنّ تلك النصوص مقدّمة على هذه، لحكومة قوله عليه السلام فيها: (وما بين المشرق والمغرب قبلة) على هذه الأخبار، ويدلّ على اختصاص موضوعها بما إذا صَلّى منحرفاً إليهما، أو إلى الاستدبار، مع أنّ بعض تلك النصوص كرواية القاسم ابن الوليد، قال:

«سألته عن رجلٍ تبيّن له وهو في الصّلاة أنّه على غير القبلة ؟

قال: يستقبلها إذا ثبت ذلك، وإنْ كان قد فرغ منها فلا يُعيدها»(2).

آبٍ عن الحمل على خارج الوقت، فتأمّل.

هذا مضافاً إلى أنّ الجمع الثاني موجبٌ لعدم كون مابين المشرق والمغرب ذا خصوصيّة يمتاز بها عن غيره، وهذا منافٍ لصراحة تلك النصوص، بخلاف الجمع الأوّل فإنّه لا يترتّب عليه محذور، فهو المتعيّن.6.

ص: 138


1- وسائل الشيعة: ج 4/315 باب 11 من أبواب القبلة ح 5251، الكافي: ج 3/284 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 4/314 باب 10 من أبواب القبلة ح 5248، التهذيب: ج 2/48 ح 26.

وأمّا الثاني: وهو لزوم الإعادة لو صَلّى من غير أن يتحرّى ، كما هو المنسوب إلى الأصحاب في بعض الكلمات(1)، فلأنّه مقتضى إطلاق ما دلّ على اعتبار القبلة، و النصوص الدالّة على صحّة الصّلاة الواقعة إلى ما بين المشرق والمغرب منصرفة إلى صورة التحرّي كما لا يخفى ، ويدلّ عليه مفهوم خبر الحسين المتقدّم(2)، وصحيح الحلبي - أو حسنه - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الأعمى يؤمّ القوم، وهو على غير القبلة ؟

قال عليه السلام: يعيد ولا يعيدون، لأنّهم قد تحرّوا»(3).

فإنّه يدلّ على بطلان صلاة الإمام بخصوصه، لعدم كونه متحرِّياً.

ومن ذلك يُستكشف أنّ مفروض السؤال، وقوع الصّلاة إلى ما بين المشرق والمغرب، وإلّا بطلت صلاة المأمومين المتحرّين أيضاً. فتأمّل.

هذا إذا كان منحرفاً إلى ما بين المشرق والمغرب.

***2.

ص: 139


1- كما في كلمات السيّد المرتضى في الناصريّات 203، ورسائله: ج 3/29، ونسبه إلى الأصحاب السيّدالطباطبائي في الرياض: ج 3/129.
2- وسائل الشيعة: ج 4/315، ح 5250.
3- وسائل الشيعة: ج 4/317 باب 11 من أبواب القبلة ح 5257، الكافي: ج 3/378 ح 2.

ولو كان إليهما أعاد في الوقت، ولو كان مستدبر القبلة أعاد مطلقاً.

الانحراف إلى الاستدبار

(ولو كان) منحرفاً (إليهما) دون الإستدبار (أعاد في الوقت) دون خارجه، كما هو المشهور.

وعن الشيخين(1)، وابن زُهرة(2)، وسلّار(3)، والصدوق في جملةٍ من كتبه(4)، (و) المصنّف رحمه الله: أنّه (لو كان مستدبر القبلة أعاد مطلقاً).

أقول: أمّا الإعادة في الوقت، فمّما لا إشكال فيه ولا خلاف، لأنّه تدلّ عليه - مضافاً إلى أنّه مقتضى دليل اعتبار القبلة - نصوصٌ كثيرة:

منها: صحيح عبد الرحمن(5)، وصحيح يعقوب بن يقطين:

«سألتُ عبداً صالحاً عليه السلام: عن رجلٍ صَلّى في يوم سحابٍ ، على غير القبلة، ثمّ طلعت الشّمس، وهو في وقتٍ ، أيُعيد الصّلاة إذا كان قد صَلّى على غير القبلة، وإنْ كان قد تحرّى القبلة بجهده، أتجزيه صلاته ؟

فقال عليه السلام: يُعيد ما كان في وقتٍ ، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه»(6).

ص: 140


1- المقنعة: 97، النهاية: 64.
2- الغنية: 69.
3- المراسم 61.
4- الفقيه: ج 1/276 و 278، وعيون أخبار الرضا: ج 1/255.
5- وسائل الشيعة: ج 4/316 باب 11 من أبواب القبلة ح 5252، الكافي: ج 3/284 ح 3.
6- وسائل الشيعة: ج 4/316 باب 11 من أبواب القبلة ح 5252، التهذيب: ج 2/48 ح 23.

ونحوهما غيرهما.

وأمّا عدم لزوم الإعادة في خارج الوقت، فيما إذا كان الإنحراف إلى اليمين واليسار، فهو المشهور، ويشهد له صحيحا عبد الرحمن ويعقوب المتقدّمان.

وأمّا الإعادة في خارج الوقت في الاستدبار: فهو الذي وقع فيه الخلاف، والأقوى هو العدم أيضاً، ويدلّ عليه إطلاق ما دلّ على نفي الإعادة في خارج الوقت.

واستدلّ للزومها:(1)

1 - بخبر معمّر بن يحيى ، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ صَلّى على غير القبلة، ثمّ تبيّن له القبلة، وقد دخل وقت صلاةٍ اُخرى؟

قال: يصلّيها قبل أن يُصلّي التي قد دخل وقتها، إلّاأن يخاف فوت التي قد دخل وقتها»(2).

فإنّه يدلّ على وجوب القضاء مطلقاً، خرج عنه بالإجماع ونحوه ما إذا كان الانحراف إلى خصوص المشرق، أو المغرب، أو كان إلى ما بينهما، فيختصّ بصورة الاستدبار، فيكون أخصّ من ما دلّ على عدم وجوب القضاء مطلقاً، فيُقدَّم عليه.

2 - وذيل موثّق عمّار: «وإنْ كان متوجّهاً إلى دُبُر القبلة، فليقطع الصّلاة، ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة، ثمّ يفتتح الصّلاة»(3).

بناءً على عدم الفصل بين الأثناء وما بعد الفراغ.8.

ص: 141


1- العلّامة في المختلف: ج 2/70.
2- وسائل الشيعة: ج 4/313 باب 9 من أبواب القبلة ح 5245، التهذيب: ج 2/46 ح 18.
3- وسائل الشيعة: ج 4/315 باب 10 من أبواب القبلة ح 5249، الكافي: ج 3/285 ح 8.

3 - وبمرسلة الشيخ في «النهاية»: «وردت روايةٌ بأنّه إذا صَلّى إلى استدبار القبلة، ثمّ علم بعد خروج الوقت، وجب إعادة الصّلاة»(1). ونحوها عن غيره(2).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه مضافاً إلى ضعف سنده، يكون معارضاً مع ما دلّ على عدم وجوب القضاء مطلقاً(3)، إذ ورود تخصيصٌ على أحد العامين بدليلٍ منفصل، لا يجعله بحكم الخاصّ المطلق، كما حقّقناه في محلّه، فلابدّ: إمّا من طرحه، أو حمله على الاستحباب.

هذا مع قُرب احتمال إرادة وقت الفضيلة من وقت الاُخرى .

ويؤيّده: عدم تصريح السائل بخروج وقت الأولى، وعدم وجوب ترتّب الحاضرة على الفائتة على الأقوى.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر منه هو التبيّن في الوقت، ولا أقلّ من إمكان أن يُحمل عليه بقرينة ما دلّ على عدم وجوب القضاء، فهو المتعيّن.

هذا، مضافاً إلى أنّ المراد من (دُبُر القبلة) فيه بقرينة المقابلة، ما يعمّ المشرق والمغرب، فلو كان له إطلاقٌ يشمل ما بعد الوقت، كان معارضاً مع تلك النصوص المتقدّمة المفصّلة بين التبيّن في الوقت وخارجه، المحمولة على غير ما بين المشرق والمغرب، وحيثُ أنّ تقديم الموثّق مستلزمٌ لطرح تلك النصوص بالمرّة - كما لايخفى - فيتعيّن التصرّف فيه بالحمل على الوقت.2.

ص: 142


1- النهاية: ص 64.
2- كما رواه السيّد في الناصريّات ص 202، وابن إدريس في السرائر: ج 1/205.
3- وسائل الشيعة: ج 4/315 باب 11 من أبواب القبلة، التهذيب: ج 2/42.

وأمّا الثالث: فلأنّه نقلٌ لرواية مجهولة العين، ويحتمل قويّاً أن يكون المراد منها رواية معمر، ولعلّه الظاهر من استدلاله في «الاستبصار» بها.

مع أنّه لو سُلّم كونها رواية اُخرى ، ولكن حيث لم يثبت استناد الأصحاب إليها، فلا يعتمد عليها.

هذا فيما إذا كان متحرِّياً.

وأمّا إذا كان جاهلاً، أو ناسياً، أو غافلاً، فالظاهر وجوب الإعادة مطلقاً، لصحيح الحلبي - أو حسنه - المتقدّم(1).

والنصوص الدالّة على نفي القضاء، منصرفة إلى المجتهد الُمخطي في اجتهاده، ويؤيّده قوله عليه السلام في صحيح سليمان بن خالد:

«وإنْ كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده»(2).

هذا كلّه فيما إذا تبيّن الخَلَل بعد الصّلاة.

وإنْ تبيّن وهو في الصّلاة:

فإنْ كان الإنحراف إلى اليمين أو اليسار، أو إلى الاستدبار أعاد، وإلّا فلا، وتدلّ عليه النصوص المتقدّمة(3) بالأولويّة، وموثّقة عمّار المتقدّمة(4).

***9.

ص: 143


1- وسائل الشيعة: ج 4/317، ح 5257.
2- وسائل الشيعة: ج 4/317 باب 11 من أبواب القبلة ح 5256، الكافي: ج 3/285 ح 9.
3- تقدّمت في بداية البحث عن الموضع الثالث.
4- وسائل الشيعة: ج 4/315، ح 5249.
زوال الظنّ بالقبلة بعد الصّلاة

المسألة الثالثة: إذا ظَنّ بعد الاجتهاد أنّ القبلة في جهةٍ فصلّى إليها، ثمّ زال ظنّه، فهل تجبُ الإعادة أم لا؟

والتحقيق: إنّ الظنّ إمّا أن يتبدّل إلى الظنّ بجهةٍ اُخرى ، أو يزول ويتردّد فيها، ولا يتمكّن من تحصيل الظنّ .

أمّا في الأوّل: فالأقوى وجوبها، إذا كان مقتضى الثاني وقوع الصّلاة إلى الإستدبار، أو إلى المشرق أو المغرب، وعدمه إذا كان مقتضاه وقوعها بين المشرق والمغرب.

هذا إذا كان زواله وتبدّله في الوقت، وإلّا فلا يجب مطلقاً، فهاهنا فروع:

الفرع الأوّل: إذا كان التبدّل في الوقت، وكان مقتضى الثاني وقوعها ما بين المشرق والمغرب، فلا تجب الإعادة، لما دلّ من النصوص المتقدّمة(1) على صحّة الصّلاة الواقعة فيما بينهما لو تبيّن ذلك.

الفرع الثاني: إذا كان التبدّل في الوقت، وكان مقتضى الثاني وقوعها إلى المشرق أو المغرب، أو إلى الاستدبار، فيُعيد لقاعدة الاشتغال.

ودعوى: أنّ مقتضى دليل الاجتهاد والتحرّي، الإجتزاء بما صَلّى .

فاسدة: إذ ما دلّ على إجزاء التحرّي إنّما يدلّ عليه إذا كان الاجتهاد والظنّ باقياً إلى آخر الوقت، لا إذا كان الظنّ في خصوص زمانٍ لا تكليف فيه بالخصوص، كما لا يخفى .

فإنْ قلت: مقتضى قاعدة الفراغ عدم وجوب الإعادة.

ص: 144


1- في بداية البحث عن الموضع الثالث.

قلت: إنّها لا تجري فيما تكون صورة العمل محفوظة، ويكون الشكّ في المصادفة الاتّفاقيّة وعدمها.

الفرع الثالث: إذا كان التبدّل في خارج الوقت، فلا يُعيد مطلقاً، لما دلّ على إجزاء التحرّي والاجتهاد، مضافاً إلى ما عرفت في المسألة الثانية من أنّه مع العلم بوقوعها إليهما، أو إلى الاستدبار، لا يجبُ الإعادة في خارج الوقت، فمع الظنّ به أولى بعدم الإعادة.

وأمّا في الثاني: فبناءً على المختار من كفاية الصّلاة إلى جهةٍ واحدة للمتحيّر، لا يجب الإعادة لتحقّقها، فتأمّل.

وأمّا بناءً على وجوب الصّلاة إلى أربع جوانب:

فإنْ كان ذلك في خارج الوقت، فلا يجبُ أيضاً، لما عرفت.

وإنْ كان في الوقت، فيجب تكرار الصّلاة إلى الجوانب الثلاثة الباقية، لقاعدة الاشتغال، وأدلّة الاجتهاد لا تقتضي الاكتفاء بها كما عرفت.

ولو تبدّل إلى الشكّ في وسط الصّلاة: فإنْ أمكنه التحرّي تَحرّى ، وإنْ توقّف على قطع الصّلاة، لما سيأتي في محلّه من أنّ حرمته إنّما تكون فيما جاز للمكلّف الاقتصار عليها في مقام الامتثال، فإنْ كان اجتهاده مطابقاً لإجتهاده الأوّل، استمرّ في صلاته، وإنْ كان مخالفاً بطلت مطلقاً:

أمّا فيما كان الانحراف بالغاً حَدّ المشرق والمغرب فواضح.

وأمّا إذا لم يكن بالغاً هذا الحَدّ، فلعدم تحقّق الاستقبال من زمان زوال الظنّ إلى زمان حصول الثاني، من دون أن يدلّ دليلٌ على سقوط شرطيّته، إذ ما دلّ على السقوط إنّما يدلّ عليه بمقدار زمان الانحراف لا أزيد، فتدبّر.

***

ص: 145

فيما يُستقبل له
اشارة

الموضع الرابع: ويدور البحث فيه عمّا يجب الاستقبال له؛ فقد قام الإجماع على وجوبه في الصّلوات اليوميّة، وفي سائر الصّلوات الواجبة كالآيات، بل لعلّه من ضروريّات الدِّين.

ويدلّ عليه: الكتاب والسُنّة، كقوله تعالى : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ (1)، وصحيح زرارة: «لا صلاة إلّاإلى القبلة»(2)، وغيره من النصوص الكثيرة(3).

شرطيّة الاستقبال لصَّلاة النافلة

ويشترط الاستقبال في صلاة النافلة في حال الاستقرار أيضاً، كما نُسب إلى المشهور(4)، ويدلّ عليه صحيح زرارة المتقدّم(5).

وأورد عليه بإيرادين:

الإيراد الأوّل: أنّه مختصٌّ بالفريضة، بقرينة ذيله:

«قلتُ أين حَدّ القبلة ؟ قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه.

قلت: فمَن صَلّى لغير القبلة أو في يوم غيمٍ في غير الوقت ؟ قال عليه السلام: يعيد».

إذ وجوب الإعادة مختصٌّ بالفريضة، كما أنّ صاحبة الوقت هي الفريضة.

ص: 146


1- سورة البقرة: الآية 144.
2- وسائل الشيعة: ج 4/300 باب 2 من أبواب القبلة ح 5207، الفقيه: ج 1/378 ح 855.
3- وسائل الشيعة: ج 4/312 باب 9 من أبواب القبلة، الفقيه: ج 1/272.
4- نسبه الفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 2/150.
5- وسائل الشيعة: ج 4/314، ح 5247.

وفيه: أنّه لا يدلّ على وجوب الإعادة، لأنّ (يعيد) إرشادٌ إلى بطلان الصّلاة لا مولويّة فيه، وسؤال الراوي بعد قوله عليه السلام: (لا صلاة إلّاإلى القبلة) الذي هو عامٌ عن وقوع الصّلاة في غير الوقت، وضمّه إلى السؤال عن الصّلاة إلى غير القبلة، لا يصلح لأنْ يقيّد العموم، ويخصّصه بالفريضة.

الإيراد الثاني: انه يجوز النافلة اختياراً بلا استقبال في الجملة، كما ستعرف، وإيقاع الصّلاة مستقرّاً أو غير مستقرّ من احوال أفراد العام، لا من أفراده، فخروج بعض الأفراد في الجملة، كاشفٌ عن عدم اندراج هذا الفرد في موضوع حكم العام، أو كون الموضوع مقيّداً بغير هذه الحالة، فيُستكشف من جواز قراءة النافلة بغير القبلة ماشياً، كون المراد ب (لا صلاة)؛ إمّا الصّلاة الواجبة، أو الصّلاة المقيّدة بحال الاستقرار. وليس تقييدها بحال الاستقرار أولى من تقييدها بالفريضة، بل الثاني هو الأولى إنْ لم نقل بأنّه المتعيّن بمقتضى القرائن الداخليّة والخارجيّة.

وفيه: إنّ العام بما أنّه من الأفعال لا من الجواهر، ومن المعلوم أنّ كلّ فعلٍ صادر في كلّ حالٍ وزمان مغايرٌ لما صدر في حال آخر وزمان غيره، فصلاة النافلة حال السير فردٌ من العام مغايرٌ لصلاة النافلة في حال الإستقرار، ومقتضى العموم اعتبار القبلة في كلٍّ منهما، لكنّه خرجت النافلة في حال السير بخصوصها، فيبقى الثاني تحت العام.

واستدلّ عليه:(1) بصحيحة اُخرى لزرارة: «لا تُعادُ الصّلاة إلّامن خمسة:

الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود»(2).

فإنّها تدلّ على اعتبار القبلة في كلّ صلاة.7.

ص: 147


1- المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 10/147 (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 4/312 باب 9 من أبواب القبلة ح 5241، الفقيه: ج 1/279 ح 857.

وأورد عليها بعض الأعاظم(1) من المحقّقين بإيرادات:

قال قدس سره: (أمّا ثانيتهما: فمع ظهورها في الفريضة، التي من شأنها وجوب الإعادة عند الإخلال بشيءٍ من أجزائها وشرائطها، كما يؤيّد ذلك عَدّ الوقت من الخَمس، أنّ إطلاقها واردٌ مورد حكمٍ آخر، فلا يستفاد منها أنّ مطلق الصّلاة تُعاد لكلٍّ من هذه الخمس). انتهى .

أقول: ولكن هي لا تدلّ على وجوب الإعادة، بل على بطلان الصّلاة لكون الأمر بالإعادة إرشاديّاً لا مولويّاً. وبعد ثبوت الوقت للنوافل لا وجه لأنْ يقال إنّ ذكر الوقت دليلُ اختصاصها بالفريضة، مع أنّ قرينيّته للاختصاص غير ظاهرة.

نعم، الإيراد الثاني في محلّه، إذ هي واردة في مقام السقوط، ولا تكون واردة في مقام تشريع الاعتبار، كي يتمسّك بإطلاقها، فالعمدة فيه الصحيح الأوّل.

واستدلّ على القول بعدم الوجوب(2):

1 - بما عن «قُربُ الإسناد» عن أمير المؤمنين عليه السلام: «عن الرّجُل يلتفت في صلاته، هل يقطع ذلك صلاته ؟

فقال عليه السلام: إذا كانت الفريضة، والتفت إلى خلفه، فقد قطع صلاته، فيُعيد ما صَلّى، ولا يعتدّ به، وإنْ كانت نافلةً لم يقطع ذلك صلاته، ولكن لا يعود»(3).

2 - وبما في صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:

«استقبل القبلة بوجهك، ولا تقلّب بوجهك عن القبلة، فتفسد صلاتك، فإنّ 6.

ص: 148


1- آقا رضا الهمداني في مصباح الفقيه: ج 10/147 (ط المؤسّسة الجعفريّة).
2- الفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 3/152.
3- وسائل الشيعة: ج 7/244 باب 3 من أبواب قواطع الصّلاة ح 9231، قرب الإسناد ص 96.

اللّه عزّ و جلّ يقول لنبيّه في الفريضة: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ (1)»(2).

لظهوره في اختصاص الحكم بالفريضة لإختصاص دليله به.

3 - وخبره الآخر المرويّ عن «تفسير العيّاشي»: «الصّلاة في السَّفر في السفينة والمحمل سواء؟.... فأتوجّه نحوها في كلّ تكبيرة ؟

قال عليه السلام: أمّا في النافلة فلا، إنّما تُكبِّر على غير القبلة، (اللّه أكبر)، ثمّ قال: كلّ ذلك قبلة للمتنفِّل»(3).

4 - وصحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا التفتت في صلاة مكتوبة من غير فراغٍ ، فأعِد الصّلاة إذا كان الإلتفات فاحشاً»(4).

أقول: وفي الجميع نظر:

إذ ما عن «قُربُ الإسناد»، وما عن «تفسير العيّاشي» ضعيفاً السند.

وصحيح زرارة إنّما يدلّ على اختصاص الآية الشريفة بالفريضة، وحيث أنّ دليل اعتبار القبلة لا ينحصر بها، وقد عرفت إطلاق غيرها، فلا وجه لإختصاص الحكم بالفريضة.

وغاية ما يستفاد من صحيح الحلبي، عدم مبطليّة الالتفات الفاحش للنافلة، وهذا أعمٌّ من عدم اعتبار القبلة فيها، كما لا يخفى .

***0.

ص: 149


1- سورة البقرة: الآية 144.
2- وسائل الشيعة: ج 4/312 ح 5243، الفقيه: ج 1/278 ح 856.
3- وسائل الشيعة: ج 4/324 باب 13 من أبواب القبلة ح 5283، تفسير العيّاشي: ج 1/56 ح 81.
4- وسائل الشيعة: ج 6/424 باب 3 من أبواب قواطع الصّلاة ح 8343، الكافي: ج 3/365 ح 10.
لا يعتبر الإستقبال في حال المشي في النّافلة

ولا يشترط الاستقبال في النافلة في حال المشي والركوب، بلا خلافٍ فيه في السّفر، وتدلّ عليه جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح إبراهيم الكرخي، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إنّي أقدرُ أن أتوجّه نحو القبلة في المحمل ؟ فقال عليه السلام: هذا الضيّق، أما لَكُم في رسول اللّه اُسوة»(1).

ومنها: صحيح الحلبي: أنّه سال أبا عبد اللّه عليه السلام عن صلاة النافلة على البعير والدابّة ؟ فقال عليه السلام: نعم، حيث كان متوجِّهاً.

قال: فقلت: أستقبل القبلة إذا أردتُ التكبير؟ قال: لا، ولكن تكبّر حيثما كنتَ متوجِّهاً، وكذلك فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(2).

ومنها: حسن معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «لا بأس بأن يُصلّي الرّجل صلاة اللّيل في السّفر، وهو يمشي، ولا بأس إنْ فاتته صلاة اللّيل أنْ يُقضيها بالنهار وهو يمشي، يتوجّه إلى القبلة، ثمّ يمشي ويقرأ، فإذا أراد أن يركع حَوّل وجهه إلى القبلة وركع وسجد ثمّ مشى »(3). ونحوها غيرها.

وعن العُمّاني(4) وغيره(5): إنّ هذا مختصٌّ بالسفر، وأمّا في الحضر فيعتبر

ص: 150


1- وسائل الشيعة: ج 4/329 باب 15 من أبواب القبلة ح 5296، الفقيه: ج 1/446 ح 1294.
2- وسائل الشيعة: ج 4/329 باب 15 من أبواب القبلة ح 5301، الكافي: ج 3/440 ح 5.
3- وسائل الشيعة: ج 4/334 باب 16 من أبواب القبلة ح 5319، التهذيب: ج 3/229 ح 94.
4- حكاه العلّامة في المختلف: ج 2/73.
5- كالحِلّي في السرائر: ج 1/208.

الإستقبال مطلقاً.

والمشهور بين الأصحاب: التعميم، وهو الأقوى :

1 - لإطلاق بعض النصوص المتقدّمة.

2 - وصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي الحسن عليه السلام: «في الرجل يُصلّي النّوافل في الأمصار، وهو عليدابّته حيثُ ما وجّهت به ؟ قال عليه السلام: نعم، لابأس به»(1).

واستدلّ للأوّل: بحسن معاوية المتقدّم، وبالخبرين اللّذين رواهما الطبرسي والشيخ في تفسير قوله تعالى : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ (2) أنّها مختصّة بالنوافل في السّفر.(3)

أقول: ولكن الحسن لا مفهوم له، كي يدلّ على اعتبار الاستقبال في غير مورده، فيعارض مع صحيح ابن الحجّاج، والأخيران لضعف سنديهما لا يصلحان لتقييد الإطلاقات والمعارضة مع الصحيح، مع أنّ غاية ما يدلّان عليه اختصاص الآية بها، لا الحكم.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصوص، وخصوص صحيح الحلبي، عدم اعتبار الإستقبال في التكبيرة، فما في بعض الأخبار من الأمر به فيها، محمولٌ على الاستحباب، كما أنّ الأمر بتحويل الوجه إلى القبلة في الركوع و السجود في صحيح معاوية، محمولٌ عليه، لما دلّ من الصحاح على عدم اعتباره فيهما.4.

ص: 151


1- وسائل الشيعة: ج 4/328 باب 15 من أبواب القبلة ح 5295 / الكافي: ج 3/440 ح 8.
2- سورة البقرة: الآية 115.
3- وسائل الشيعة: ج 4/332 باب 15 من أبواب القبلة ح 18 (5312) و (5313)، مجمع البيان: ج 1/228، النهاية: ص 64.

ولا يُصلّي على الرّاحلة اختياراً إلّانافلة.

الصّلاة على الراحلة
اشارة

(ولا) يحوز أن (يُصلّي على الرّاحلة اختياراً إلّانافلةً )،

فهاهنا فروع:
في الفريضة على الراحلة في حال الاختيار

الفرع الأوّل: في الفريضة على الراحلة في حال الاختيار.

أقول: والأقوى فيها التفصيل:

بين ما لو كان ذلك مفوّتاً لشيءٍ ممّا يعتبر فيها كالاستقبال.

وبين ما لم يكن كذلك.

فتجوزُ في الثاني، كما هو المنسوب إلى المشهور(1) دون الأوّل.

أمّا عدم الجواز في الأوّل: فلأنّه مقتضى إطلاق أدلّة تلك الاُمور، مضافاً إلى النصوص الخاصّة، كموثّق عبد اللّه بن سنان، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أيُصلّي الرّجل شيئاً من المفروض راكباً؟

قال: لا، إلّامن ضرورة»(2). ونحوه غيره(3).

ومقتضى إطلاق هذه النصوص، عدم الفرق بين الصحيح والمريض، وما في بعضها من استثناءالمريض، محمولٌ على العاجز والمضطرّ لمناسبة الحكم والموضوع، ويؤيّده تقييد الجواز في الموثّق بحال الضروره.

أقول: ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد من الفريضة فيها، الصّلاة التي فَرَضها اللّه بعنوانها،

ص: 152


1- نسبها العلّامة في التذكرة إلى علمائنا: التذكرة: ج 4/194، وانظر الحدائق: ج 6/413، والمدارك: ج 3/143، ومفتاح الكرامة ج 5.
2- وسائل الشيعة: ج 4/326 باب 14 من أبواب القبلة ح 5287، التهذيب: ج 3/308 ح 32.
3- وسائل الشيعة: ج 4/326 باب 14 من أبواب القبلة، الإستبصار: ج 1/243 باب 144.

فلا تشمل النافلة المنذورة، ويدلّ عليه - مضافاً إلى ذلك - خبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام، قال: «سألته عن رجلٍ جَعل للّه عليه أن يُصلّي كذا وكذا، هل يُجزيه أنْ يُصلّي ذلك على دابّته وهو مسافر؟

قال: نعم»(1).

وظهور السؤال في كونه عن حال الاختيار، يأبى عن حمل الجواب على حال الضرورة.

والخدشة في سنده بأنّ محمّد بن أحمد العلوي، الذي هو في طريقه، لم يثبت وثاقته، كما في «المدارك»(2) مردودة، لأنّ العلّامة(3) صحّح الخبر، ووصفه الصدوق(4) بالصدق، واستظهر شارح «المفاتيح»(5) كونه من المشايخ. وهذا المقدار يكفي في كون الخبر موثّقاً.

ولو عرض للفريضة وصفُ النفل، كالمعادة والمأتي بها احتياطاً، فلا تجوز على الراحلة:

أمّا الأُولى : فلعدم صدق الإعادة إلّابإتيان الشيء ثانياً بنحوٍ كان مطلوباًأوّلاً.

وأمّا الثانية: فلأنّ الاحتياط لا يتحقّق إلّابإتيان ما يكون مسقطاً للأمر على تقدير بقائه، فلابدّ أن يراعى فيه جميع ما يعتبر في المأمور به.

وأمّا الجواز في الثاني، فلعدم الدليل على المنع، واستدلّ له بإطلاق ما دلّ على1.

ص: 153


1- وسائل الشيعة: ج 4/326 باب 14 من أبواب القبلة ح 5289، التهذيب: ج 3/231 ح 105.
2- مدارك الأحكام: ج 3/139.
3- منتهى المطلب: ج 1/408 قوله: (وهذه روايةٌ صحيحة)، مختلف الشيعة: ج 1/182 قوله: (الأوّل: رواية عليّبن جعفر).
4- كمال الدِّين وتمام النعمة: ص 239.
5- حكاه عنه صاحب الجواهر في الجواهر: ج 7/421.

المنع من الصّلاة على الراحلة.

وفيه: إنّ النهي عن شيءٍ في المركّب ظاهرٌ في مانعيّته بنفسه، إذا لم يكن وجوده ملازماً غالباً لفقدان شيء ممّا يعتبر فيه، وإلّا فلا ظهور له في ذلك، فيكون المرجع أصالة عدم مانعيّته.

وفي المقام بما أنّ الصّلاة على الراحلة ملازمة غالباً لفقدان شيءٍ ممّا يعتبرفيها، كالاستقبال والركوع والسجود والطمأنينة وغيرها، فلا ظهور للنهي عنها في المانعيّة مطلقاً، بل لا يبعد دعوى ظهوره في أنّه بلحاظ فقدان تلك الاُمور، كما يشهد له التعرّض لجملةٍ من الأحكام في النصوص، كالإيماء للركوع والسجود ونحوه.

تجوز الفريضة على الراحلة في حال الضرورة

الفرع الثاني: تجوز الفريضة على الراحلة في حال الضرورة، بلا خلافٍ يعتدّ به، إذ الصّلاة لا تَدَعُ بحال.

وتدلّ عليه أيضاً نصوصٌ كثيرة:

منها: صحيح جميل بن دُرّاج، قال:

«سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: صَلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله الفريضة في المحمل في يوم وَحَلٍ ومطر»(1).

وموثّق ابن سنان المتقدّم(2)، ونحوهما غيرهما(3).

وأمّا خبر منصور بن حازم، الدالّ على عدم جوازها على الراحلة، ولو مع المرض الشديد(4)، فلضعف سنده، وإعراض الأصحاب عنه، لا يَصلُح للمعارضة مع هذه النصوص.

ص: 154


1- وسائل الشيعة: ج 4/327 باب 14 من أبواب القبلة ح 5292، التهذيب: ج 3/232 ح 111.
2- وسائل الشيعة: ج 4/326، ح 5287.
3- وسائل الشيعة: ج 4/325 باب 14 من أبواب القبلة. التهذيب: ج 3/207 باب 23 الصّلاة في السّفر.
4- وسائل الشيعة: ج 4/327 باب 14 من أبواب القبلة ح 5293، التهذيب: ج 3/308 ح 31.
الاضطرار إلى ترك بعض الأجزاء والشرائط

الفرع الثالث: ثمّ إنّ المضطرّ إلى الصّلاة على الراحلة يجبُ عليه الإستقبال إنْ أمكن لدليل اعتباره، وإنْ لم يتمكّن من الاستقبال في جميع الصّلاة، بأنْ تمكّن منه في ركعةٍ منها مثلاً، استقبل بما أمكنه من صلاته، لأنّ سقوط اعتباره في بعض الأجزاء لا يوجب سقوطه في الجميع، وحينئذٍ:

فهل يتعيّن عليه الاستقبال في الركعة الأُولى؟

أو يتخيّر بينه وبين الاستقبال في ركعةٍ من سائر الركعات ؟

وجهان، اختار الأوّل جماعةٌ من المحقّقين، لبنائهم على إرجاع التنافي بين الحكمين الضمنيين - كوجوب القيام في الركعة الأُولى من الصّلاة، ووجوب التشهّد في الركعة الثانيه، لو دار الأمر بينهما - إلى التزاحم، ويترتّب عليه الترجيح بالأهميّة، وبسبق الوجود، وغيرهما من المرجّحات.

أقول: لكن الأقوى هو الثاني، إذ بعد التأمّل الدقيق، يظهر عدم تماميّة المبنى، وكون موارد التنافي بين الحكمين الضمنيّين من موارد التعارض، وذلك لأنّ المراد من الأمر الضمني:

1 - إنْ كان الأمر الذي يَنشأ بداعي الإعلام بالجُزئيّة أو الشرطيّة، فهو ليس بأمرٍ حقيقة ولا داعياً، كي يُبحث عن وقوع التنافي بين داعويّته وداعويّة غيره، ولذا نرى إنّهم يتمسّكون بإطلاق هذه الأوامر لغير القادر على إتيان متعلّقاتها، والسِّر فيه ماذكرناه من أنّه إرشادٌ إلى دخل متعلّقه في المأمور به.

2 - وإنْ كان المراد منه الحِصّة من الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب، فهو وإنْ كان أمراً حقيقةً ، أو داعياً إلى متعلّقه، إلّاأنّه لا يُعقل مزاحمته مع الأمر الضمني الآخر،

ص: 155

إذ معنى كونه ضمنيّاً تقيّد متعلّقه بوجود بقيّة الأجزاء والشرائط في ظرفها المقرّر لها، فكلّ أمرٍ ضمني كما يقتضي إتيان متعلّقه، كذلك يقضي إتيان متعلّق الأمر الآخر، فكيف يُعقل أن يكون مزاحماً معه، مع أنّ ملاك التزاحم التنافي في مقام الداعويّة.

وإنْ شئتَ قلتَ : إنّ التزاحم إنّما يكون فيما كان المكلّف قادراً على امتثال كلٍّ من الحكمين في نفسه، وليس كذلك في الأوامر الضمنيّة، لفرض تقييد متعلّقه بوجود متعلّق الآخر، فعدّ إمكان امتثالهما معاً، يوجبُ عدم إمكان امتثال كلّ واحدٍ منهما، فلا محالة يسقطان معاً.

وبالجملة: الأمر المتعلّق بالمركّب بما أنّه أمرٌ واحد، يكون كلّ جزءٍ منه المتعلّق لذلك الأمر مقيّداً بوجود بقيّة الأجزاء في ظرفها المقرّر لها.

وعليه، فلازم عدم القدرة على إتيان بعض الأجزاء، سقوط ذلك الأمر، إذ لا يُعقل أن يكون التكليف الواحد مزاحماً لنفسه، ولكن ما دلّ على أنّ : (الصّلاة لا تَدَعُ بحال)، وأنّه يجب الإتيان بما أمكن منها، يدلّ على حدوث أمرٍ آخر متعلّق بالمركّب من أحد الجزئين الّذين لا يمكن الجمع بينهما، وهذا الأمر في الفرض يدور أمره:

بين أن يكون متعلّقاً بالواجد للقيام في الركعة الأُولى .

أو يكون متعلّقاً بالواجد للتشهّد في الركعة الثانية.

أو يكون المأخوذ في المتعلّق أحدهما تخييراً.

فحينئذٍ يقع التنافي بين إطلاق دليل وجوب القيام في الأُولى ، الدالّ على دخله في الصّلاة بجمع مراتبها، وبين إطلاق ما دلّ على وجوب التشهّد في الثانية، الدالّ على دخله فيها كذلك، وحيثُ نعلم إجمالاً عدم ثبوت أحدهما، فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين.

ص: 156

وبعبارة اُخرى: بما أنّ التمانع بين الإطلاقين حينئذٍ يكون في مقام الجعل والإنشاء، فالإطلاقان متعارضان.

فتدبّر فيماذكرناه فإنّها لطيفةٌدقيقة، تفطّنتُ لها، وكتبتها إلى الاُستاذ فاستحسنها.

ثمّ إنّه ليست نتيجة هذا التعارض تقييد كلٍّ من الإطلاقين بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر، إذ لازمه جزئيّة كلٍّ منهما عند تركهما، ولازم ذلك إمّا سقوط الأمر بالمركّب، أو تعلّق الأمر بغير المقدور.

كما أنّه ليست نتيجته جزئيّة أحدهما تعييناً، بدعوى أنّ العجز عن الجمع بينهما يوجبُ سقوط التعيين في أحدهما، وأمّا سقوطه في الآخر فمشكوكٌ فيه، يستصحب بقاؤه. وحيثُ أنّه مردّدٌ بينهما، فيجبُ الاحتياط بتكرار الصّلاة، والشكّ في المقام بما أنّه ناشٍ من الشكّ في كيفيّة الجعل، فأصالة عدم جعل الجزئيّة التعيينيّة في هذا الحال، تكون حاكمة على الاستصحاب المزبور.

بل الحقّ في المقام: أنّه لو كان الدليلان مطلقين، فبما أنّ تعارضهما إنّما يكون بالعموم من وجه، فلا محالة يسقط كلا الإطلاقين، إذ الإطلاق إنّما يكون متوقّفاً على جريان مقدّمات الحكمة، وحيثُ أنّ جريانها فيهما لا يمكن، وفي أحدهما ترجيحٌ بلا مرجّح، فلا تجري في شيءٍ منهما، وبهذا يظهر(1) وجه عدم الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض، وبعد سقوطهما لا بدَّ من الانتهاء إلى الأصل العملي، وليس هو إلّاأصالة البراءة عن وجوب إتيان كلٍّ منهما بالخصوص، بناءً على ما هو الحقّ من جريانها في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وبالجملة: ظهر ذكرناه أنّه لو كان لأحد الدليلين عمومٌ لفظي دون الآخر،-.

ص: 157


1- قد مرَّ أنّ الأوجه هو الرجوع إلى المرجّحات في العامين من وجه مطلقاً، وفي المقام حيث أنّه ليس شيء من المرجّحات مع أحد الطرفين، فيحكم بالتخيير - منه حفظه المولى -.

يكون هو المتّبع.

نعم، لو فُرض العموم لكلٍّ من الدليلين، وجبَ الرّجوع إلى مرجّحات باب التعارض على ما حقّقناه في محلّه من شمول الأخبار العلاجيّة لما كان بين الدليلين عمومٌ من وجه.

هذا فيما إذا تمكّن من الاستقبال بمقدارٍ يُعتدُّ به، وإلّا استقبل القبلة بتكبيرة الإحرام دون غيرها من الأجزاء، لما في صحيح زرارة الوارد في الفرض: «ولا يدور إلى القبلة، ولكن أينما دارت به دابّته، غير أنّه يستقبل القبلة بأوّل تكبيرة حين يتوجّه»(1).

ثمّ إنّ جميع ما ذكرناه في الصّلاة على الرّاحلة جاريةٌ في الصّلاة ماشياً فلا نُعيد.

يجوز إيقاع النافلة على الرّاحلة

الفرع الرابع: يجوز إيقاع النافلة على الرّاحلة، للنصوص الكثيرة المتقدّمة جملةٌ منها.

***

ص: 158


1- وسائل الشيعة: ج 8 ص 441 باب 3 من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ح 11113 / الكافي: ج 3/459 ح 6.

الفصل الرابع: في اللّباس، يجب ستر العورة.

الفصل الرابع: في اللّباس ووجوبِ سَتر العورة

اشارة

(يجبُ سَتر العورة) في الصَّلاة مطلقاً، سواءٌ أكان هناك ناظرٌ أم لا إجماعاً، بل في «الجواهر»(1) إجماعاً بقسميه منّا ومن أكثر العامّة.

وتدلّ عليه: - مضافاً إليه - جملةٌ من النصوص تصريحاً وتلويحاً:

منها: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام، قال:

«سألته عن رجلٍ قطع عليه أو غرق متاعه، فبقي عرياناً، وحضرت الصَّلاة ؟

قال: إنْ أصاب حشيشاً يستر عورته أتمّ صلاته بالرّكوع والسّجود، وإنْ لم يُصب شيئاً يستر به عورته أومأ وهو قائم»(2).

ومنها: صحيح زرارة، قال: «قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: رجلٌ خرج من سفينة عرياناً، وسُلب ثيابه، ولم يجد شيئاً يُصلّي فيه ؟ فقال: يُصلّي إيماء»(3).

ونحوهما غيرهما من نصوص العاري(4).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم في حديثٍ : «قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: الرّجل يُصلّي

ص: 159


1- جواهر الكلام: ج 8/175.
2- التهذيب: ج 3/296 ح 8، وسائل الشيعة: ج 4/448 ح 5682.
3- الكافي: ج 3/396 ح 16، وسائل الشيعة: ج 4/449 ح 5687.
4- وسائل الشيعة: ج 4/448 باب 50 من أبواب لباس المُصلّي.

في قميصٍ واحد؟ فقال عليه السلام: إذا كان كثيفاً فلا بأس»(1).

نعم، بما أنّ هذه النصوص واردة في مقام بيان حكمٍ آخر، فإثبات عموم الحكم لصورة عدم وجود الناظر بها، لا يخلو من إشكال، والعمدة فيه هو الإجماع.

***

فروع:
اعتبار السَّتر في جميع الأكوان الصّلاتيّة

الفرع الأوّل: ظاهر كلمات المُجمعين اعتبار السَّتر في جميع الأكوان الصّلاتيّة، حتّى المتخلّلة منها، فلو صَلّى وعورته مستورة في جميع الأفعال الصلاتيّة، لكنّها كانت فيما بين الأفعال من الأكوان مكشوفة بَطَلَت صلاته، ومعه لا وجه لدعوى الصحّة لأصالة البراءة عن شرطيّة التستّر في الآنات المتخلّلة كما لا يخفى .

هل التستّر شَرطٌ ذُكْرِيّ

الفرع الثاني: هل التستّر شرطٌ ذُكْرِي، فتختصُّ شرطيّته بصورة العمد والالتفات، كما صرّح به جماعةٌ منهم المحقّق(2) والمصنّف رحمه الله(3)؟

أم شرطٌ مطلقاً، فلو صَلّى ناسياً أو معتقداً سترها أعاد.

أو يفصّل بين ما لو تذكّر في الأثناء، أو لم يتذكّر إلّابعد الفراغ، أو بعد حصول السّتر، فيعيد في الأوّل دون الثاني ؟ وجوهٌ وأقوال:

أقواها الأوّل، إذ ما دلّ على اعتبار السّتر، بما أنّه الإجماع والنصوص التي لا إطلاق لها، فلا شيء يُتمسّك بإطلاقه لإثبات الشرطيّة، حتّى في حال النسيان

ص: 160


1- الكافي: ج 3/394 ح 2، وسائل الشيعة: ج 4/387 ح 5474.
2- المعتبر: ج 2/102.
3- المختلف: ج 2/100.

والغفلة، فالمرجع إلى أصالة البراءة عن شرطيّة التستّر.

ودعوى: ثبوت الإطلاق لمعاقد الإجماعات.

مندفعة: بأنّه لو استكشفنا أنّهم تلقّوا اللّفظ المذكور من الإمام عليه السلام، كان للتمسّك به مجالٌ واسع، ولكن بما أنّه نحتمل أخذهم معنىً عبّروا عنه به، فلا وجه للمعاملة معه معاملة اللّفظ الصادر عن المعصوم، كي يُتمسّك بإطلاقه.

ولو سَلّمنا الإطلاق لدليل اعتبار السّتر، لوجب رفع اليد عنه:

1 - بعموم حديث (لا تُعاد)(1).

2 - وصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام، قال:

«سألته عن الرّجل يُصلّي وفرجه خارجٌ لا يعلم به، هل عليه إعادةٌ وما حاله ؟

قال عليه السلام: لا إعادة عليه، وقد تمّت صلاته»(2).

نعم، هما يختصّان بما لو لم يتذكّر إلّابعد الفراغ، أو بعد حصول السَّتر، فلو تذكّر في الأثناء قبل السَّتر، بطلت صلاته بمقتضى الإطلاق.

أمّا الأوّل: فلأنّه إنّما يدلّ على سقوط شرطيّة التستّر بالنسبة إلى الأجزاء السابقة التي أخلّ بالستر فيها سهواً. وأمّا في ما بقي، فلا دليل على سقوطها، فيجبُ عليه تحصيل السّتر حتّى بالنسبة إلى حين تذكّره.

ودعوى: سقوطها بالنسبة إلى خصوص ذلك الحين لعدم القدرة على السّتر فيه.

مندفعة: بأنّ عدم القدرة موجب للزوم الإستيناف، لا سقوط الشرطيّة.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر منه هو الحكم بالصحّة، فيما لو تذكّر بعد الفراغ من مجموع العمل.6.

ص: 161


1- الفقيه ج 1/339 ح 992، وسائل الشيعة: ج 6/91 ح 7427.
2- التهذيب: ج 2/216 ح 59، وسائل الشيعة: ج 4/404 ح 5536.
لا يجب سَتر الحجم

الفرع الثالث: الواجبُ سَتر لون البَشَرة، وأمّا الحجم فلا يعتبر حجبه وستره كما عن الفاضلين(1)، وصاحب «المدارك»(2) وغيرهم، لأنّ السّتر يحصل بذلك عرفاً، واعتبار استتار الحجم زائداً عليه مندفعٌ بالأصل.

ودعوى: أنّ الواجب بمقتضى النصّ والفتوى هو السّتر مطلقاً، لا السّتر في الجملة، وعند ظهور الحجم لا يقول العرف إنّه ستر عورته على الإطلاق.

مندفعة: بأنّ غاية ما تدلّ عليه الأدلّة، إنّما هو وجوب ستر العورة من حيث هي، لا من حيث أنّها ذا هيئةٍ خاصّة، ولا ريب في أنّ السّتر بهذا المعنى، يصدق على حصول السّتر المانع عن الاطّلاع على لون البشرة، ولذا ترى بأنّ من لَبِس قميصاً كثيفاً، ووقف في الشمس، وبدا للناظرين حجم عورته، لا يعدّ ذلك منافياً للستر.

وبالجملة: ستر الشيء بنظر العرف، عبارةٌ عن ستره بعنوانه الخاص، بحيث لا يتميّز ذلك الشيء عمّا يُشابهه في الحجم، ولا يُعلم أنّ المرئيّ لحمٌ أو خَشَبٌ مثلاً، وأمّا ستر حجمه فلا يكون دخيلاً في صدق ذلك.

وعلى هذا، فما دلَّ على وجوب السّتر، لو فرض كونه مطلقاً ومسوقاً لبيان هذا الحكم، لا يستفاد منه أزيد من لزوم استتار اللّون.

هذا مضافاً إلى عدم الإطلاق له، كما عرفت، والقدر المتيقّن لزوم ستر اللّون، فلزوم ستر الحجم يُدفع بالأصل.

ص: 162


1- نهاية الأحكام ج 1/382، المعتبر: ج 2/101.
2- مدارك الأحكام: ج 3/187.

وعن «جامع المقاصد»(1) وغيره: الوجوب:

1 - لتبادره من السَّتر الواجب.

2 - ولمرفوعة أحمد بن حمّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «لا تُصلِّ فيما شَفّ أو وصف»(2). بناءً على كونه بواوين كي يكون معناه حكاية الحجم.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلما عرفت آنفاً.

وأمّا المرفوعة: فمضافاً إلى ضعف سندها، لم يثبت كون (أو وصف) بواوين.

***).

ص: 163


1- جامع المقاصد: ج 2/93-95.
2- وسائل الشيعة: ج 4/388 باب 21 من أبواب لباس المُصلّي ح 4 (5477).
ما به يتحقّق السّتر

الفرع الرابع: لا فرق فيما يتحقّق به السّتر بين مصاديقه، بل يحصل بكلّ ما يمنع عن النظر، وهو المحكيّ عن الشيخ(1) والفاضلين(2) والشهيد في «البيان»(3)وغيرهم(4)، لأنّ الثابت بالأدلّة اعتبار السَّتر في الصَّلاة، ولا ريب في تحقّق ذلك بكلّ ما يمنع عن النظر، وأمّا اعتبار كونه بشيءٍ خاص، أو بكيفيّة مخصوصة، فلم يدلّ عليه دليل.

والشكّ فيه موردٌ لأصالة البراءة، لكونه شكّاً في الشرطيّة، الذي يكون المرجع فيه الأصل المزبور.

ودعوى:(5) أنّ المتبادر من الأمر بالسَّتر في الصَّلاة، إرادة الفرد الشائع المتعارف، وهو السّتر بالثوب.

مندفعة: بأنّ المتبادر منه إرادة ماهيّة السّتر من حيث هي، بلاخصوصيّة للساتر.

هذا مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لا إطلاق لأدلّة السَّتر، كي يُدّعى انصرافه إلى الفرد المتعارف و تبادره منه.

كما أنّ دعوى: كون المقام من قبيل الشكّ في التعيين والتخيير، ويكون المرجع

ص: 164


1- المبسوط ج 1/88.
2- المعتبر: ج 2/104، منتهى المطلب: ج 4/289.
3- البيان: ص 60.
4- كالشهيد الثاني في روض الجنان: ص 205، والأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان: ج 2/80، وابن إدريس في السرائر: ج 1/260.
5- السيّد العاملي في مدارك الأحكام: ج 4/354، والشهيد الثاني في روض الجنان: ص 215.

فيه أصالة الاحتياط.

مندفعة: بعدم كونه منه كما عرفت، مضافاً إلى أنّ المختار كون المرجع فيه أيضاً أصل البراءة.

وعن ظاهر جماعةٍ عدم جواز التستّر بالحشيش والطين، إلّاعند الضرورة، واستدلّ له(1):

1 - بالنصوص الدالّة على أنّ أدنى ما تُصلّي المرأة فيه، درعٌ ومَلْحَفة(2)، فإنّها ظاهرة في اعتبار تستّرها بالثوب، مع التمكّن، فيتمّ في غيرها بعدم القول بالفصل.

2 - وبصحيح عليّ بن جعفر عليهما السلام: «عن رجل قُطع عليه أو غَرق متاعه، فبقى عرياناً، وحضرت الصَّلاة، كيف يُصلّي ؟

قال عليه السلام: إنْ أصاب حشيشاً يستر به عورته أتمّ صلاته بركوع وسجود، وإنْ لم يُصِب شيئاً يستر به عورته أومأ وهو قائم»(3).

3 - وبأصالة الاحتياط.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأخير: فلما عرفت.

وأمّا الصحيح: فلأنّ فقد الثّوب مذكورٌ في السؤال، والإمام عليه السلام لم يقيّد جواز التستّر بالحشيش به.

وأمّا النصوص: المشتملة على الدرع والملحفة، فلأنّ الظاهر كون العنوانين2.

ص: 165


1- روض الجنان: ص 215، مدارك الأحكام: ج 3/190.
2- التهذيب: ج 2/217 ح 61، وسائل الشيعة: ج 4/407 ح 5545.
3- التهذيب: ج 2/365 ح 47، وسائل الشيعة: ج 4/448 ح 5682.

المذكورين فيها مثالاً لمطلق السّاتر، ولذا لم يَفهم الأصحاب منها اشتراط التعدّد.

وممّا ذكرناه ظهر أنّ النصوص المشتملة على عنواني (الثّوب) و (القميص)(1)لا تدلّ على هذا القول.

أقول: ولبعض المحقّقين(2) تفصيلٌ في المقام، وهو كفاية التستّر بالحشيش ونحوه، وعدم كفاية الطَلْي بالطين وأشباهه، لعدم الخروج بذلك عن اسم العاري، والمستفاد من النصوص اعتبار عدم كون المُصلّي عارياً في صحّة الصَّلاة، مضافاً إلى أنّ الطَلْي بالطين ونحوه لو كان من مصاديق السَّتر المعتبر في الصَّلاة، لزم تنزيل الأخبار الكثيرة الواردة في كيفيّة صلاة العاري على الفرد النادر، لتمكّنه غالباً من تحصيل ما يَطْلي على عورته من طينٍ ولو بمزج فضالة طهوره بالتّراب.

وفيه: أنّه لا ريب في اعتبار عدم كون المُصلّي عارياً، إلّاأنّ العاري هو من كانت عورته مكشوفة، فمقتضى الأخبار اعتبار ستر العورة.

ودعوى: عدم صدق هذا العنوان على من أخفى عورته بالطين، محلّ نظر بل منع، ولذا ترى التزام الفقهاء، حتّى هو قدس سره، بالاكتفاء بذلك في السّتر الذي قصد به حفظ الفرج عن النظر، مع أنّه لا فرق في ماهيّة السّتر بين المقامين.

وإنّما الفرق يكون من ناحية أنّ وجوب السّتر عن الناظر المحترم مشروطٌ بعدم الأمن منه، ووجوبه في الصَّلاة مطلق.

أقول: وأمّا ما ذكره من لزوم تنزيل الأخبار المستفيضة على الفرض النادر.).

ص: 166


1- الكافي: ج 3/393، التهذيب: ج 2/203، وسائل الشيعة: ج 4/389 باب 22 من أبواب لباس المُصلّي.
2- الهمداني في مصباح الفقيه: ج 10/411 (ط. ج).

إمّا بالقُطن أو الكتّان أو ما أنبتته الأرض من أنواع الحشيش.

أو بالخزّ الخالص.

فيرد عليه: أنّه لا محذور في ذلك، إذ فرقٌ بين حمل المطلق الذي له أفرادٌ كثيرة على الفرد النادر، وبين كون الرواية متكفّلة لبيان حكم الفرد النادر، وما فيه المحذور هو الأوّل دون الثاني.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الستر الصَّلاتي كالسَّتر الواجب في نفسه يحصل بكلّ ما يمنع عن النظر (إمّا بالقطن أو الكتّان أو ما أنبتته الأرض من أنواع الحشيش أو بالخزّ الخالص) أو بالطين ونحوه.

***

ص: 167

الصَّلاة في الخَزّ
اشارة

لا خلاف ولا إشكال في جواز الصَّلاة في وَبَر الخَزّ الخالص، من وَبَر الأرانب والثعالب.

بل عن غير واحدٍ(1): دعوى الإجماع عليه.

والمشهور في جلده أيضاً ذلك.

ونسب إلى ابن إدريس(2) والعلّامة في «المنتهى»(3) المنع.

أقول: وتنقيح القول يتحقّق بالتكلّم في موارد:

البحث عن موضوع الخزّ

المورد الأوّل: هو البحث عن موضوع الخزّ:

فقد وقع الخلاف فيه، ومنشأه اختلاف اللّغويّين والنصوص:

فقد فسّره جمعٌ منهم - كابن منظور في «لسان العرب»(4) وغيره -(5): بالذَّكر من الأرانب.

وفسّره آخرون: بأنّه ثيابٌ تُنسج من صوف وأبريسم، لاحظ كلام ابن الأثير(6).

وفسّره جمع آخرون(7): بأنّه حيوانٌ بحري يُخرج ويُصاد من الماء، وإذا فقد

ص: 168


1- منهم العلّامة في نهاية الاحكام: ج 1/374، والشهيد الثاني في الروضة: ج 1/527، والشهيد الأوّل في الذكرى : ص 144 (ط. ق).
2- السرائر: ج 1/261.
3- منتهى المطلب: ج 4/240.
4- لسان العرب: ج 5/345 و ج 6/320.
5- حكاه عن المنذري الشوكاني في نيل الأوطار: ج 2/82 (ط دار الجليل - بيروت).
6- النهاية: لابن الأثير: ج 2/28، لسان العرب: ج 5/345.
7- مجمع البحرين: ج 1/641.

الماء مات، وفي بعض النصوص: تفسيره بذلك، لاحظ خبر ابن أبي يعفورالآتي(1)، وفي بعض الأخبار التعبير عنه بكلب الماء، ففي الخبر:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن أكل لحم الخَزّ؟ قال عليه السلام: كلب الماء إنْ كان له نابٌ فلا تقربه وإلّا فاقربه»(2).

وفي بعض النصوص: التعبير عنه بسَمَك الماء(3).

والحقّ أنْ يُقال: إنّ ما فُسّر بالذَّكَر من الأرانب هو - الخَزَز، دون الخَزّ - لاحظ كلمات اللّغويين تراها متفقة على ذلك، وليس هو اسماً للثوب المعمول من وَبَرها ممزوجاً بالأبريسم، أو غير ممزوجٍ ، لمخالفته للنصوص، لاحظ صحيح عبد الرحمن ابن الحجّاج:

«سأل أبا عبد اللّه عليه السلام رجلٌ وأنا عنده عن جلود الخَزّ؟ فقال: ليس بها بأس.

فقال الرّجل: جُعِلتُ فداك، إنّها في بلادي، وإنّما هي كلابٌ تخرج من الماء.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: إذا خرجتْ من الماء تعيشُ خارجة من الماء؟

فقال الرّجل: لا. فقال عليه السلام: ليس به بأس»(4).

وخبر ابن أبي يعفور، قال: «كنتُ عند أبي عبد اللّه عليه السلام إذ دَخَل عليه رجلٌ من الخَزّازين، فقال له: جُعلت فداك ما تقولُ في الصَّلاة في الخَزّ؟ قال عليه السلام: لا بأس بالصَّلاة فيه.

فقال له الرّجل: جُعِلتُ فداك إنّه ميّت، وهو علاجي وأنا أعرفه.5.

ص: 169


1- الكافي: ج 3/399 ح 11، وسائل الشيعة: ج 4/309 ح 5390.
2- التهذيب: ج 9/49 ح 205، وسائل الشيعة: ج 24، ص 191 باب 39 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح 30318.
3- راجع الكافي: ج 3/399 ح 11، التهذيب: ج 2/211 ح 36، وسائل الشيعة: ج 4/359 ح 5390، وسيأتي الحديث.
4- الكافي: ج 6/451 ح 3، وسائل الشيعة: ج 4/362 ح 5395.

فقال له أبوعبد اللّه عليه السلام: أنا أعرَفُ به منك.

فقال له الرّجل: إنّه علاجي، وليس أجدُ أعرف به منّي.

فتبسّم أبو عبد اللّه عليه السلام، ثمّ قال له: أتقول إنّه دابّةٌ تخرج من الماء، أو تُصاد من الماء فتُخرج، فإذا فَقَدت الماء ماتت ؟

فقال الرّجل: صَدَقتَ جُعِلتُ فداك.

فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: فإنّك تقول إنّه دابّةٌ تمشي على أربع، وليس هو في حَدّ الحيتان، فتكون زكاته خروجه من الماء؟

فقال له الرّجل: أي واللّه هكذا أقول.

فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: فإنّ اللّه تعالى أحلّه، وجعل زكاته موته، كما أحلَّ الحيتان وجَعَل زكاتها موتها الحديث»(1).

وعليه، فلا ينبغي التوقّف في أنّه اسمٌ لحيوانٍ خاص من الحيوانات البحريّة، ولا منافاة بين ما يظهر منه أنّه كلب الماء وبين ما يظهر منه أنّه غنم البحر، أو وَبَر السّمك، إذ الظاهر أنّ مرجع الكلّ إلى شيءٍ واحد، غاية الأمر ثبوت الاختلاف في التشبيه.

وأمّا الخَزّ المتعارف في هذا الزمان، فهو غير ذلك الخَزّ، من جهة أنّ وَبَره قليلٌ لا يمكن أن يُنسج منه الثّوب، ولشهادة التجّار على ما حكاه العلّامة المجلسي رحمه الله بأنّها دابّة تعيش في البرّ ولا تموت بالخروج من الماء(2).

واحتمال كونه صنفاً من الخَزّ، وأنّه كان له صنفان في ذلك الزمان أيضاً، لا يفيد في ترتّب حكم الخَزّ، لأنّه متوقّفٌ على ثبوت الموضوع.9.

ص: 170


1- الكافي: ج 3/399 ح 11، التهذيب: ج 2/211 ح 36، وسائل الشيعة: ج 4/359 ح 5390.
2- مصباح الفقيه: ج 10/265 (ط. ج)، بحار الأنوار: ج 80/219.

ولا يصحّ التمسّك بأصالة عدم النقل، لإثبات كونه من مصاديق الخَزّ في ذلك الزمان، لأنّه إنّما يتمسّك بها فيما إذا أُحرز المعنى اللّغوي، ولم يُعلم المستعمل فيه، لا في مثل المقام ممّا يُشكّ في كون ما يُستعمل فيه في هذا الزمان من مصاديق المعنى الموضوع له، والمستعمل فيه في ذلك الزمان.

وأخبار التجّار الذي استند إليه المحقّق الهمداني رحمه الله(1)، برغم قيام السيرة على التعويل على قول الثقات من أرباب الصنائع وحجيّتها، إلّاأنّ المحكيّ عنهم أنّه غير الخَزّ الموجود في ذلك الزمان.

وإثبات استعمال الخَزّ في ذلك الزمان، فيما يستعمل فيه في هذا الزمان بالاستصحاب القهقري، غير صحيح لعدم حجيّته.

وعليه، فالحكم بجواز الصَّلاة فيه، استناداً إلى النصوص في غير محلّه.

حُكم الخَزّ الموجود في زمان الشارع

المورد الثاني: في حكم الخَزّ الموجود في ذلك الزمان.

فإنّه لا كلام نصّاً وفتويً في جوازالصَّلاة في وَبَره، وقد استفاضت النصوص به(2).

وأمّا جلده، فالمشهور فيه أيضاً الجواز، واستدلّ له(3) بنصوصٍ :

منها: ما هو من قبيل صحيح(4) سعد بن سعيد، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«عن جلود الخَزّ؟ فقال عليه السلام: هو ذا نحنُ نلبس. فقلت: ذاك الوَبَر جُعِلتُ فداك! فقال: هو ذا نحن نلبس».

ص: 171


1- الكافي: ج 3/399 ح 11، وسائل الشيعة: ج 4/359 ح 5390.
2- وسائل الشيعة: ج 4/362 باب 10 من أبواب لباس المُصلّي، والكافي: ج 6/450 باب لبس الخَزّ.
3- المحقّق في المعتبر: ج 2/85، والعلّامة في المختلف: ج 2/77، والفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 195/3.
4- التهذيب: ج 2/372 ح 79، ووسائل الشيعة: ج 4/366 باب 10 من أبواب لباس المُصلّي ح 14 (5408).

وصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج المتقدّم(1) وغيرهما(2).

وهذه النصوص إنّما تدلّ على جواز لبس الجلود، وليست في مقام بيان الصَّلاة فيها، كي يستدلّ بها لجوازها. ولعلّ منشأ السؤال احتمال المنع من جهة كون الخَزّ لباس المترفين والمتنعّمين، ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه و آله النهي عن الركوب والجلوس عليه(3).

ومنها: ما هو ضعيفُ السند كخبر ابن أبي يعفور المتقدّم(4)، الذي في سلسلة سنده: العلويّ المهمل، والديلمي الضعيف أو المجهول.

ومنها: ما هو(5) متضمّنٌ لحكاية فعل المعصوم عليه السلام، وهو من جهة عدم معلوميّته - ولعلّه كان ما يلبسونه من وَبَر الخَزّ دون جلده - لا يستدلّ به.

نعم، موثّق(6) معمّر بن خلّاد، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن الصَّلاة في الخَزّ؟ فقال عليه السلام: صَلِّ فيه»، يدلّ عليه، ومقتضى إطلاقه جواز الصَّلاة في جلده أيضاً.

أقول: وقد يتوهّم المنع:

1 - لخبر «العلل» عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «لا تُصلِّ في ثوب ما لا يؤكل لحمه ولا يُشرب لَبنه»(7).2.

ص: 172


1- الكافي ج 1/451 ح 3، وسائل الشيعة: ج 4/362 ح 5395.
2- راجع الكافي: ج 6/450 باب لبس الخَزّ، وسائل الشيعة: ج 4/359 باب 8 من أبواب لباس المُصلّي.
3- حكاه الطريحي رحمه الله عن الفقيه الحنفي ابن فرشته، راجع مجمع البحرين: ج 1/641، ورواه أحمد في مسنده عن معاوية: ج 4/93، وأبو داوود في سننه: ج 2/275.
4- تقدّم في الصفحة 169.
5- منها خبر البزنطي عن الرضا عليه السلام: (كان علي بن الحسين عليه السلام يلبس الجُبّة الخَزّ...) وغيره، راجع الكافي: ج 450/6 باب لبس الخَزّ. وسائل الشيعة: ج 4/364، باب 10 من أبواب لباس المُصلّي، الحديث 5 و 6 و 8 و 11 (5399 و 5400 و 5402 و 5405).
6- التهذيب: ج 2/212 ح 37، وسائل الشيعة: ج 4/360 أبواب لباس المُصلّي ب 8 ح 5 (5391).
7- نسبه إلى العلل المجلسي في البحار: ج 80/253 ح 32، والموجود في العلل: (لا يجوز الصَّلاة في شعر ووَبَر ما لا يؤكل لحمه لأنّ أكثرها مسوخ)، العلل: ج 2/342 ب 43 ح 1 و 2.

فهذه جملة كافية من قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: (ولا يُصلّي في الخَزّ).

2 - ولمكاتبة الحميري إلى الناحية المقدّسة: «رُوي عن صاحب العَسكر عليه السلام أنّه سُئل عن الصَّلاة في الخَزّ الذي تعيش بوبر الأرانب ؟ فوقّع عليه السلام: يجوز، ورُوي عنه أيضاً: أنّه لا يجوز، فأيّ الأمرين نعمل به ؟

فأجاب عليه السلام: إنّما حَرّم من هذه الأوبار والجلود، فأمّاالأوبار وحدهافحلال»(1).

ويرد على الأوّل: - مضافاً إلى ضعف سنده - أنّ الظاهر أنّ قوله: (ولا يُصلّى في الخَزّ) من قول الراوي استنبطه من قوله صلى الله عليه و آله، كما هو واضح لمَن تدبّر.

ويدفع الثاني: أنّه واردٌ في المغشوش، ومحلّ الكلام الخَزّ الخالص، فلا تصل النوبة إلى لحاظ المعارضة.

***

حُكم الخَزّ الموجود في عصرنا

المورد الثالث: في حكم الخَزّ الموجود في هذا الزمان، فإنْ ثبت أنّه غير مأكول اللّحم، لا يجوز الصَّلاة في شيء من أجزائه للعمومات، وطريق إثبات أنّه من ما لا يؤكل لحمه، ليس هو النصوص الخاصّة، لأنّ موضوعها الخَزّ، وقد عرفت التغاير بين الخَزّ المتعارف في هذا الزمان، والخَزّ المتعارف في ذلك الزمان، بل إنْ كان من السِّباع وكان له نابٌ ، حَرُم أكله لما دلَّ على حُرمة السِّباع وما له نابٌ ، وإلّا فمقتضى أصالة الحِلّ جواز أكله، ويترتّب عليها جواز الصَّلاة في أجزائه، لما ستعرف من أنّه إذا جرت أصالة الحِلّ فيما يُشكّ في كونه محرّم الأكل بالشّبهة الحكميّة، يثبت بها جواز الصَّلاة فيما يُتّخذ منه.

ثمّ إنّه فيما حكمنا فيه بالجواز، لابدّ من رعاية سائر القيود، منها أنّه لو أراد الصَّلاة في جلده، لابدَّ من تذكيته، لئلّا يُصلّي في جلد الميتة، وهو واضح.

ص: 173


1- الاحتجاج: ج 2/491، وسائل الشيعة: ج 4/366 أبواب لباس المُصلّي ب 10 ح 15 (5409).
حكم الصَّلاة في وَبَر الخَزّ المغشوش

المورد الرابع: أنّ في الصَّلاة في وَبَر الخَزّ المغشوش بوَبَر الأرانب والثعالب روايتين:

إحداهما: الجواز، كخبر داود الصَّرمي، عن بِشر بن يسار:

«عن الصَّلاة في الخَزّيُغش بوَبَرالأرانب ؟ فكتب عليه السلام: يجوز ذلك»(1). ونحوه غيره.

ثانيتهما: ما يدلّ على المنع، كمرفوع أحمد بن محمّد، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في الخَزّ الخالص أنّه لا بأس به، فأمّا الذي يختلط فيه وَبَر الأرانب، أو غير ذلك ممّا يشبه هذا، فلا تُصلِّ فيه». ونحوه غيره(2).

أقول: والجمع العرفي يقتضي البناء على الجواز على كراهة، ولكن لإعراض الأصحاب عن نصوص الجواز، لابدَّ من البناء على المنع.

ثمّ إنّ المراد بالخالص هو ما لم يختلطه وَبَر الأرانب، ولو كان يسيراً.

ودعوى: كفاية صدق الخالص عرفاً، غير المنافي مع خلط المقدار اليسير.

مندفعة: بأنّ التسامح العرفي قد يكون في مفهوم اللّفظ، وفي مثل ذلك حجيّته تكون ثابتة، فإنّ الخطابات الشرعيّة واردة على طبق المتفاهم عند العرف، وقد يكون في المصداق، كما في أسامي الأوزان، فإنّ (المّن) مثلاً موضوع للوزن المعيّن، والمفهوم منه عند العرف ذلك القدر المخصوص، إلّاأنّهم يتسامحون فيما كان أقلّ منه أو أزيد بيسيرٍ، فيطلقون عليه لفظ (المّن) من جهة أنّ هذا المقدار من التفاوت عندهم كالعدم، وفي هذا المورد لايكون تسامحهم معتبراً، ولا يعتنى به، والمقام من قبيل الثاني، فإنّ للخالص مفهوماً مبيّناً معلوماً.

***

ص: 174


1- الفقيه: ج 1/262 ح 809، وسائل الشيعة: ج 4/362 أبواب لباس المُصلّي ب 9 ح 2 (5394).
2- الكافي: ج 3/403 ح 26، وسائل الشيعة: ج 4/361 أبواب لباس المُصلّي ب 9 ح 1 (5393).

أو بالصُّوف والشّعر، والوَبَر والجلد ممّا يؤكل لحمه مع التذكية،

الصَّلاة في الصّوف والشعر

ثم إنّ السّتر كما يجوز بما تقدّم، كذلك يجوز (بالصُّوف والشّعر) والريش، ممّا يؤكل لحمه مطلقاً، من غير فرقٍ بين أن يُجزّ من حَيّ أو مُذكّى أو ميّت بلا خلاف فيه.

بل في «الجواهر»(1): الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منه مستفيضٌ .

وتدلّ عليه: النصوص المستفيضة:

منها: صحيح حريز، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام لزرارة ومحمّد بن مسلم: اللّبن واللّباء والبيضة والشعر والصّوف والقرن والنّاب، وكلّ شيءٍ ينفصل من الشاة والدابّة، فهو ذكي، وإنْ أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصَلِّ فيه»(2). ونحوه غيره.

(و) بالجملة: جواز الصَّلاة في أجزاء الحيوان الذي يؤكل لحمه إنْ كانت ممّا لا تحلّه الحياة، ممّا لا ريب فيه.

(و) كذلك يجوز الصّلاة في (الوَبَر والجلد ممّا يؤكل لحمه مع التذكية)، ولعلّه من البديهيّات.

***

ص: 175


1- الجواهر: ج 8/74.
2- الكافي: ج 6/258 ح 4، وسائل الشيعة: ج 24/180، أبواب الأطعمة المحرّمة ب 33 ح 3 (30288).

ولا يجوز الصَّلاة في جلد الميتة وإنْ دبغ.

الصَّلاة في جلد الميتة
اشارة

(ولا يجوز الصَّلاة في جلد الميتة) ولا في غيره ممّا تحلّه الحياة، لو جُعل لباساً أو جزءاً منه (وإنْ دَبُغ)، بلا خلافٍ .

وفي «الجواهر»(1): إجماعاً محصّلاً ومنقولاً مستفيضاً أو متواتراً.

وتشهد به جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «سألته عن جلد الميتة أيُلبس في الصَّلاة إذا دبغ ؟ فقال: لا ولو دبغ سبعين مرّة»(2). ونحوه غيره.

تنبيهات:
عدم الفرق بين كون جلد الميتة ممّا تتمّ الصَّلاة فيه، وما لا تتمّ

التنبيه الأوّل: مقتضى إطلاق المتن وغيره، عدم الفرق بين كون جلد الميتة ممّا تتمّ الصَّلاة فيه، وما لا تتمّ ، ويشهد به مرسل ابن أبي عمير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الميتة ؟ قال: لا تُصلِّ في شيءٍ منه ولا في شِسْع»(3). ونحوه غيره.

ودعوى: لزوم حمل هذه النصوص الواردة في ما لا تتمّ الصَّلاة فيه على الكراهة، جمعاً بينها وبين موثّق إسماعيل بن الفضل، قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن لباس الجلود والخفاف والنّعال، والصَّلاة فيها، إذا لم

ص: 176


1- الجواهر: ج 8/49.
2- الفقيه: ج 1/247 ح 749، وسائل الشيعة: ج 3/501 أبواب النجاسات ب 61 ح 1 (4290) بتفاوت يسير.
3- التهذيب: ج 2/203 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/343 أبواب لباس المُصلّي ب 1 ح 2 (5341).

يكن من أرض المصلّين ؟

فقال: أمّا النعل والخفاف فلا بأس بهما»(1).

وخبر الحلبي عنه عليه السلام، قال: «كلّ ما لا تجوز الصَّلاة فيه وحده، فلا بأس بالصّلاة فيه مثل التّكة الأبريسم والقلنسوة والخُفّ والزُّنار، يكون في السّراويل ويُصلّي فيه»(2).

مندفعة: بعدم الاعتماد على الخبرين في المورد:

أمّا الخبر: فلأنّ دلالته على الجواز في المقام إنّما تكون بالعموم، فترفع اليد عنه بصريح النصوص المتقدّمة.

وأمّا الموثّق: فلأنّه لإعراض المشهور عنه - بل في «الجواهر»(3): (لم يُوجد قائلٌ بالفرق بين ما تتمّ الصَّلاة فيه وغيره) - يسقط عن الحجيّة، فلا يصلح لصرف ظهور ما دلَّ على المنع.

عدم اختصاص المنع بميتة ذي النفس

التنبيه الثاني: مقتضى إطلاق كلمات الأصحاب في فتاويهم، ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة، وتصريح بعضهم، كالبهائي(4): عدم اختصاص المنع بميتة ذي النفس، ويدلّ عليه إطلاق النصوص.

ودعوى: عدم ثبوت هذا الإطلاق، لأنّها في مقام بيان حكمٍ آخر، إذ أكثرها واردة في مقام الحكم الظاهري في الشبهة الموضوعيّة، وأمّا صحيح ابن مسلم فورد للسؤال عن حال الدبغ، وهكذا صحيح ابن أبي عمير واردٌ في مقام تعميم الحكم

ص: 177


1- التهذيب: ج 2/234 ح 130، وسائل الشيعة: ج 4/427 أبواب لباس المُصلّي ب 38 ح 3 (5613).
2- التهذيب: ج 2/357 ح 10، وسائل الشيعة: ج 4/376 أبواب لباس المُصلّي ب 14 ح 2 (5440).
3- الجواهر: ج 8/61.
4- الحبل المتين: ص 180.

لأجزاء الميتة، ولم نعثر على رواية اُخرى ممّا هي مظنة الإطلاق.

مندفعة: بأنّ ثبوت الإطلاق في صحيح ابن أبي عمير المتقدّم واضحٌ ، ووروده في مقام تعميم الحكم لأجزاء الميتة، لا ينافي ذلك، لو لم يؤيّده كما لا يخفى، وعدم تعارف استعمال جلد غير ذي النفس، لا يوجب الانصراف، لما ذكرناه في محلّه من أنّ ندرة وجود فردٍ لا توجبه، كما أنّ معهوديّة نجاسة الميتة، ووضوح المناسبة بين النجاسة والمنع من الصَّلاة لا توجبان ظهور النصوص في اعتبار التذكية من حيث النجاسة، بل هي ظاهرة في اعتبارها من حيث هي، ولذا ترى أنّ القائلين بطهارة الجلد بالدبغ التزموا باعتبارها(1).

وأمّا السيرة القطعيّة في القُمّل والبرغوث والبَقّ ، فعلى فرض التعدّي عن موردها - مع أنّه لا يخلو عن إشكال - إنّما تدلّ على أنّ استصحاب غير المذكّى أو جزءٌ منه لا يوجب البطلان، إنْ لم يكن ملبوساً، وستعرف أنّا نلتزم به حتّى في ذي النفس.

الظاهر عدم شمول المنع للمحمول

التنبيه الثالث: الظاهر عدم شمول المنع للمحمول، فإنّ نصوص المنع من جهة اشتمالها على لفظ (في) ظاهرةٌ في المنع عن خصوص الملبوس، إلّاأنّ تعميم الحكم إلى ما لا تتمّ فيه الصَّلاة كالشِسْع يدلّ على إرادة الأعمّ من ذلك، ولكن ذلك لا يوجبُ حمل (في) على معنى، مع بُعد إمكان حمله على الظرفيّة، من جهة اشتمال الشيء على جزءٍ من أجزاء المُصلّي، فالنصوص لا تشمل المحمول، مثل ما لو كان

ص: 178


1- لاحظ ما ذكره المحقّق في المعتبر: ج 1/463، وهو مذهب الستّة من العامّة وأتباعهم وبه قال ابن الجنيد رحمه الله محتجّاً بما رواه الحسن بن زرارة عن الصادق عليه السلام: (في جلد شاة ميتة يدبغ ويُصبّ فيه اللّبن، أشرب وأتوضّأ؟ قال: نعم، وقال: يُدبغ وينتفع به ولا يُصلّي فيه). وسائل الشيعة: ج 24/185 أبواب الأطعمة المحرّمة باب 34 ح 7 (30305).

جزءٌ من الميتة في جيبه أو نحو ذلك ممّا لا يكون مشتملاً على بعض المُصلّى، فيرجع فيه إلى الأصل، وهو يقتضي الجواز.

***

الشكّ في التذكية

التنبيه الرابع: لو شكّ في لباس أنّه من مُذكّى أو ميتة:

فهل الأصل عدم التذكية لكونها أمراً وجوديّاً؟

أو أنّ الأصل عدم كونه ميتة، لأنّ الموت أمرٌ وجودي ؟ وجهان بل قولان:

وتحقيق القول في المقام: إنّ الشبهة:

تارةً : تكون موضوعيّة.

وأُخرى : تكون حكميّة.

أمّا الأُولى : ففيها صور:

الصورة الأُولى : أنْ يكون الشكّ في التذكية لأجل احتمال عروض المانع، بعد العلم بقابليّته لها، ولا شُبهة في هذه الصورة في أنّ المرجع أصالة عدم عروض المانع.

الصورة الثانية: أنْ يكون من جهة تردّد الحيوان المذبوح، بين ما يقبل التذكية كالشاة، وما لا يقبل كالكلب، أو من جهة تردّد الجلد بين أنْ يكون من الحيوان المذبوح في الخارج، المعلوم كونه كلباً، أو من الآخر الواقع عليه الذّبح، الجامع للشرائط، المعلوم كونه غَنَماً.

وفي هذه الصورة بناءً على وجود دليلٍ عام يدلّ على قابليّة كلّ حيوان للتذكية - كما هو الأظهر - وجريان استصحاب العدم الأزلي حتّى في العناوين الذاتيّة، يحكم

ص: 179

بحلية الصَّلاة، لأنّه يجري حينئذٍ استصحاب عدم تحقّق العنوان الذي أُخذ في المخصّص فيتمسّك بالعموم.

ودعوى: عدم تماميّة ذلك في القسم الثاني، لعدم كون الحيوان في الخارج مشكوك في كلبيّته، كي يجري الأصل فيه، ويُحكم بعدم كونه كلباً.

مندفعة: بأنّ ما يكون هذا جلده بهذا العنوان، يُشكّ في أنّه كلب أو غنم، ومقتضى الأصل عدم كونه كلباً.

وأمّا بناءً على عدم تسليم كلا الأمرين أو أحدهما، فحيثُ أنّ التذكية أمرٌ وجودي مسبّبٌ عن الذبح الشرعي، فيستصحب عدمها، ويُحكم بعدم جواز الصَّلاة فيه.

الصورة الثالثة: أنْ يكون الشكّ من جهة احتمال عدم وقوع التذكية عليه، أو قطعنا بكون الحيوان المعيّن الواقع عليه الذبح مُذكّى، والآخر المعيّن ميتة، وشُكّ في أنّ الجلد من أيّهما أُخذ، والمرجع فيهما أصالة عدم التذكية، ويترتّب عليها عدم حليّة الصَّلاة فيه.

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرناه حكم الشكّ في الحليّة، إذا كانت الشبهة حُكميّة:

1 - فإنّه إن كان الشكّ في الحليّة، للجهل بقابليّة الحيوان للتذكية، حُكم بها لعموم ما دلَّ على قابليّة كلّ حيوان لها إلّاما خرج.

2 - وإنْ كان من جهة احتمال مانعيّة الموجود عن القبول للتذكية، كما لو شكّ في أنّ شُرب لبن الخنزيرة مرّة واحدة مانعٌ عن قبوله للتذكية، فالمرجع إلى استصحاب بقاء القابليّة.

3 - وإنْ كان من جهة الشكّ في أنّ الذبح بغير الحديد مثلاً يوجبُ التذكية أم

ص: 180

لا، فالمرجع استصحاب عدم التذكية.

هذا كلّه ما يقتضيه القاعدة.

وأمّا أخبار الباب: فمحصّل القول فيها إنّها مختلفة:

1 - فبعضها يظهر منه المنع، كموثّق ابن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام الوارد في عدم جواز الصَّلاة في غير المأكول من قوله عليه السلام: «إذا علمت أنّه ذكّي وقد ذكّاه الذبح»(1).

2 - وبعضها يظهر منه الجواز، كموثّق سماعة عن تقليد السّيف في الصَّلاة فيه الفِراء والكيمخت ؟ فقال عليه السلام: لا بأس ما لم يُعلم أنّه ميتة»(2). ونحوه غيره.

3 - وبعضها يدلّ على الجواز فيما إذا اشترى من سوق المسلمين:

منها: مصحّح إسحاق: «لا بأس بالصَّلاة في الفِراء اليماني، وفيما صُنع في أرض الإسلام.

قلت: فإنْ كان فيها غير أهل الإسلام ؟ قال عليه السلام: إذا كان الغالب عليه المسلمين، فلا بأس»(3).

ومنها: صحيح الحلبي: «عن الخِفاف التي تُباع في السوق ؟ فقال عليه السلام: اشتر وصَلِّ فيها حتّى تعلم أنّه ميتة بعينه»(4). ونحوهما غيرهما(5).ي.

ص: 181


1- الكافي: ج 3/397 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/345 أبواب لباس المُصلّي باب 2 ح 1 (5344).
2- التهذيب: ج 2/205 ح 8، وسائل الشيعة: ج 3/493 أبواب النجاسات باب 50 ح 12 (4271).
3- التهذيب: ج 2/368 ح 64، وسائل الشيعة: ج 4/456 أبواب لباس المُصلّي باب 55 ح 3 (5708).
4- التهذيب: ج 2/234 ح 128، وسائل الشيعة: ج 4/427 أبواب لباس المُصلّي باب 38 ح 2 (5612).
5- راجع التهذيب: ج 2/232، وسائل الشيعة: ج 3/490، باب 50 من أبواب النجاسات و أيضاً الجزء 4 ص 455 باب 55 من أبواب لباس المُصلّي.

أقول: ومقتضى الجمع العرفي حمل الأُولى بقرينة الطائفة الثالثة على ما إذا لم تكن أمارة على التذكية، والثانية على ما إذا كانت أمارة عليها من سوق المسلمين ونحوه أو أصلٍ يحرزها.

***

ص: 182

ولا جلد ما لا يؤكل لحمه وإن ذكّى ودبغ ولا في صوفه وشعره ووَبَره.

الصَّلاة فيما لا يؤكل لحمه
اشارة

(ولا) تجوز الصَّلاة في (جِلْد ما لا يؤكل لحمه وإنْ ذُكّى ودُبِغ، ولا في صوفه وشعره ووَبَره) وريشه، ولا في شيءٍ من فضلاته، إجماعاً في الجملة.

ويدلّ عليه: موثّق ابن بكير:

«سأل زرارة أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصَّلاة في الثعالب والفَنَك والسّنجاب وغيره من الوَبَر؟ فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ الصَّلاة في وَبَر كلّ شيءٍ حرامٌ أكله، فالصَّلاة في وَبَره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه، وكلّ شيءٍ منه فاسدة، لا تُقبل تلك الصَّلاة حتّى يصلّى في غيره ممّا أحلَّ اللّه أكله.

ثمّ قال: يا زرارة هذا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فاحفظ ذلك يا زرارة، فإنْ كان ممّا يؤكل لحمه، فالصَّلاة في وَبَره وبوله وشعره وروثه وألبانه، وكلَّ شيءٍ منه جائزٌ إذا علمت أنّه ذَكّي قد ذكّاه الذبح، وإنْ كان غَير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحَرُم عليك أكله، فالصّلاة في كلّ شيءٍ منه فاسدة، ذكّاه الذبح أو لم يذكّه»(1).

ونحوه غيره(2).

أقول: وتنقيح القول فيه يتحقّق بالتكلّم في اُمور:
اشارة

ص: 183


1- الكافي: ج 3/397 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/345 أبواب لباس المُصلّي ب 2 ح 1 (5344).
2- لاحظ خبر أنس بن محمّد في الفقية: ج 4/365، ووسائل الشيعة: ج 4/346 من أبواب لباس المُصلّي ب 2 ح 6 (5349). ورواية علي بن حمزة الواردة في الكافي: ج 3/397 ح 3، ووسائل الشيعة: ج 4/345 من أبواب لباس المُصلّي ب 2 ح 2 (5345).
عدم اختصاص هذا الحكم بالسِّباع

الأمر الأوّل: قد يتوهّم اختصاص هذا الحكم بالسِّباع، واستدلّ له بما يكون مختصّاً بها:

منها: صحيح إسماعيل بن سعد، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن الصَّلاة في جلود السِّباع ؟ فقال عليه السلام: لا تُصلِّ فيها(1) الحديث».

ومنها: خبر قاسم الخيّاط، عن موسى بن جعفر عليهما السلام: «ما أكل الوَرَق والشَّجر فلا بأس بأن يُصلّى فيه، وما أكلَ الميتة فلا تُصلِّ فيه»(2).

فإنّ آكل اللّحم هو السّبع.

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي عبد اللّه وأبي الحسن عليهما السلام:

«عن لباس الفراء والصَّلاة فيها؟

قال عليه السلام: لا تُصلِّ فيها إلّافيما كان منه ذكياً.

قال: قلتُ : أوَليسَ الذكيّ ما ذُكّي بالحديد؟ فقال عليه السلام: بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه.

قلت: وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم ؟ قال عليه السلام: لا بأس بالسّنجاب، فإنّه دابّةٌ لا تأكل اللّحم، وليس ممّا نهى عنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله، إذ نهى عن كلّ ذي نابٍ ومِخْلَبٍ »(3).

إذ تعليل الجواز في السّنجاب بأنّه لا يأكل اللّحم، يدلّ على أنّ كلّ ما لا يأكل

ص: 184


1- الكافي: ج 3/400 ح 12، وسائل الشيعة: ج 4/354 أبواب لباس المُصلّي ب 6 ح 1 (5371).
2- الفقيه: ج 1/259 ح 794، وسائل الشيعة: ج 4/354 من أبواب لباس المُصلّي ب 6 ح 2 (5372).
3- الكافي: ج 3/397 ح 3، وسائل الشيعة: ج 4/348 أبواب لباس المُصلّي ب 3 ح 3 (5354).

اللّحم يجوز الصَّلاة فيه، مع أنّ قوله: (إذ نهى... الخ) أيضاً يدلّ على ذلك.

ومنها: خبر مقاتل بن مقاتل، عن أبي الحسن عليه السلام:

«عن الصَّلاة في السّمور والسّنجاب والثعلب ؟ فقال: لا خيرَ في ذلك كلّه ما خلا السّنجاب، فإنّه دابّةٌ لا تأكل اللّحم»(1).

يرد على الأوّل: أنّه لا يتنافى مع إطلاق ما دلَّ على مانعيّة غير المأكول، وإنْ لم يكن من السِّباع، فلا وجه لتقييده به، لأنّه فرع التنافي.

ويرد على الثاني: - مضافاً إلى ضعف سنده - أنّ النسبة بينه وبين موثّق ابن بكير عمومٌ من وجه، ويقدّم الموثّق لأنّ دلالته تكون بالوضع.

ويرد على الثالث: - مضافاً إلى ضعف سنده، لأنّ في طريقه عبد اللّه بن إسحاق العلوي وهو مهملٌ ، ومحمّد بن سليمان الديلمي وهو مجهولٌ موضوعاً وحكماً - أنّ الخبر يُروى عن «الكافي» و «التهذيب» و «الوافي» وبعض نسخ «الوسائل» مع إهمال كلمة (لا) في قوله: (وما لا يؤكل لحمه) فيكون السؤال عن المأكول حيث أجابه عليه السلام بعدم البأس بالسّنجاب، وعلّل حليّة أكل لحمه بأنّه ليس من السِّباع المتوهّم كونه منه، فيكون الخبر أجنبيّاً عن المقام.

مع أنّه لو سُلّم أنّه بإطلاقه يدلّ على جواز الصَّلاة في غير السِّباع، فيقيّد بما يدلّ على عدم الجواز في المسوخ(2).

وبما ذكرناه يظهر ما في الرابع، مضافاً إلى ضعف سنده.

وعليه، فالأظهر عدم الاختصاص بالسِّباع.

***).

ص: 185


1- الكافي: ج 3/401 ح 16، وسائل الشيعة: ج 4/348 أبواب لباس المُصلّي ب 3 ح 2 (5353).
2- كمرفوعة محمّد بن إسماعيل عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: (لا تجوز الصَّلاة في شعر ووَبَر ما لا يؤكل لحمه، لأنّ أكثرها مسوخ)، علل الشرائع: ج 2/342 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/347 أبواب لباس المُصلّي ب 2 ح 5 (5350).
عدم اختصاص الحكم بالملابس

الأمر الثاني: أنّ الحكم بالمنع لا يختصّ بالملابس، بل يشمل المحمول كما هو المشهور بين الأصحاب.

وعن جماعةٍمنهم الشهيدان(1) وصاحبا «المدارك»(2) و «الجواهر»(3): الإختصاص.

ويشهد للمشهور: موثّق ابن بكير المتقدّم(4)، إذ بعد ما لا يمكن إرادة الظرفيّة الحقيقيّة من كلمة (في) في الفقرات المتضمّنة للروث والبول وكلّ شيءٍ منه، الذي يكون المراد به العظم واللّحم، وإنْ أمكن في غيرها، لابدّ من التأويل وارتكاب خلاف الظاهر:

إمّا بالالتزام بإرادة معنى (مع) منها، وهو المصاحبة المجرّدة، وهو المنقول عن الوحيد البهبهاني(5)، ولازمه عدم جواز الصَّلاة مع الشعرات المُلقاة على الثّوب أو البدن، والمحمول مع الواسطة أيضاً.

أو بالالتزام بالإضمار في هذه الفقرات، بإرادة الثّوب المتلطّخ كما عن «الجواهر»(6)، فيجوز في المحمول.

أو بالالتزام بالاتّساع في الظرفيّة، وللظرفيّة الاتّساعيّة مراتب:

منها: أن يجعل الظرفيّة أعمّ من الأصليّة والتبعيّة، نظير تبعيّة توابع الدار لها في

ص: 186


1- الذكرى : 146 ط. ق، مسالك الأفهام: ج 1/162.
2- مدارك الأحكام: ج 3/165-166.
3- الجواهر: ج 8/77.
4- الكافي: ج 3/397 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/345 أبواب لباس المُصلّي باب 2 ح 1 (5344).
5- نقلها عنه صاحب المحقّق النجفي في جواهر الكلام: ج 8/77.
6- جواهر الكلام: ج 8/77.

البيع، فالشعرة المُلقاة على الثّوب ظرفٌ لوقوع الصَّلاة فيها، تبعاً لوقوعها في اللّباس، فتستند الظرفيّة إليها حقيقةً بتلك الإضافة الاتّساعيّة.

ومنها: أن تُجعل الظرفيّة بمعنى تشمل مطلق الملابسة، وتسند الظرفيّة بأدنى ملابسة، ولو بأنْ كان معه، فتعمّ الشعرة المُلقاة على البدن، والمحمول منها إذا كان بلا واسطة، ولا تشمل المحمول مع الواسطة، كما إذا وضعت في محفظةٍ ووضعها في جيبه.

ومنها: أن تجعل الظرفيّة أعمّ من ذلك أيضاً.

أقول: والأظهر هو الأوّل لضعف الأخيرين:

أمّا الأوّل: فلأنّ الإضمار بعيدٌ لا يصار إليه إلّامع القرينة القطعيّة، مع أنّه في ذيل الموثّق بعد ذكر عدّة أشياء قال عليه السلام: (وكلّ شيءٍ منه) المراد منه هو العظم واللّحم، ولا يلائم ذلك مع تقدير الثّوب المتلطّخ.

وأمّا الثاني: فلأنّه ليس معنى عرفيّاً وإنْ كان دقيقاً.

وعليه، فالمتعيّن هو الأوّل، ويؤيّده مكاتبة الهمداني الدالّة على عدم جواز الصَّلاة في الثّوب الملقى عليه الوَبَر والشّعر من غير المأكول(1).

أقول: أمّا صحيح محمّد بن عبد الجبّار، قال:

«كتبتُ إلى أبي محمّد عليه السلام: هل يُصلّى في قلنسوةٍ عليها وَبَرُ ما لا يُؤكل لحمه، أو تكّة حريرٍ، أو تكةٍ من وَبَر الأرانب ؟

فكتب عليه السلام: لا تَحلّ الصَّلاة في الحرير المحض، وإنْ كان الوَبَر ذكياً حَلّت الصَّلاة فيه»(2).).

ص: 187


1- التهذيب: ج 2/209 ح 27، وسائل الشيعة: ج 4/346 باب 2 من أبواب لباس المُصلّي ح 4 (5347).
2- التهذيب: ج 2/207 ح 18، وسائل الشيعة: ج 4/377 أبواب لباس المُصلّي ب 14 ح 4 (5442).

الذي استدلّ به للجواز في المحمول.

فيرد عليه: أنّ المراد ب (الذّكي) ليس هو ما يقابل النجس، إذ يصبح الجواب حينئذٍ غير مربوطاً بالسؤال، مضافاً إلى جواز الصَّلاة في المحمول المتنجّس.

ولا ما يقابل الميتة، فإنّ الصَّلاة في أجزائها التي لا تحلّها الحياة، جائزة قطعاً.

بل المراد به ما ذكره عليه السلام في خبر علي بن حمزة المتقدّم(1): «قلت: أوَليس الذّكي ما ذكي بالحديد؟ قال عليه السلام: بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه».

ولعلّ السِّر في هذا التعبير، كون الخبر مكاتبة، وصادراً في زمانٍ شاعت فيه التقيّة من أتباع أحمد بن حنبل، القائلين باعتبار التذكية في جواز الصَّلاة في الوَبَر أيضاً(2).

***5.

ص: 188


1- الكافي: ج 3/397 ح 3، وسائل الشيعة: ج 4/345 ح 5345 وص 348 ح 5354.
2- حكاه عنه صاحب الجواهر في الجواهر: ج 8/85.
حكم الصَّلاة فيما لا تتمّ فيه من غير المأكول

الأمر الثالث: المشهور بين الأصحاب، عدم الفرق في المنع عن الصَّلاة في غير المأكول: بين أنْ يكون ما يُصلّى فيه ممّا تتمّ فيه الصَّلاة وحده، وبين غيره.

وعن «المبسوط»(1)، و «المنتهى»(2)، و «الإصباح»(3): الجواز فيما لا تتمّ الصَّلاة فيه.

ويشهد للأوّل:

1 - إطلاق الموثّق(4) وغيره من النصوص(5)، بل الموثّق من جهة تضمّنه للبول والروث، كالصريح في المنع بالنسبة إلى ما لا تتمّ الصَّلاة فيه.

2 - وخبر عليّ بن مهزيار، قال: «كتب إليه إبراهيم بن عُقبة: عندنا جوارب وتِكَك تُعمَل من وَبَر الأرانب، فهل تجوز الصَّلاة في وَبَر الأرانب من غير ضرورةٍ ولا تقيّة ؟

فكتب عليه السلام: لا تجوز الصَّلاة فيها»(6).

ونحوه خبر أحمد بن إسحاق(7).

ص: 189


1- المبسوط: ج 1/83.
2- منتهى المطلب: ج 4/215.
3- حكاه الفاضل الهندي عن إصباح الشيعة في كشف اللّثام: ج 3/213، إصباح الشيعة (سلسلة الينابيع الفقهيّة) ج 4/612.
4- موثّق ابن بكير المتقدّم في ص 183.
5- التهذيب: ج 2/203 / باب 11 ما يجوز الصَّلاة فيه من اللّباس، وسائل الشيعة: ج 4/345 أبواب لباس المُصلّي ب 2.
6- الكافي: ج 3/399 ح 9، وسائل الشيعة: ج 4/377 أبواب لباس المُصلّي ب 14 ح 3 (5441).
7- التهذيب: ج 2/206 ح 13، وسائل الشيعة: ج 4/377 أبواب لباس المُصلّي ب 14 ذيل ح 3 (5441).

فإنّهما من جهة أنّ السائل فيهما كان من المسلّمات عنده، أنّ المنع يختصّ بما تتمّ الصَّلاة فيه - كما يشهد به - أنّه بعد فرضه عمل الجوارب والتكك من وَبَرالأرانب، سأل عن الصَّلاة في وَبَر الأرانب، والإمام عليه السلام قرّره على ذلك، وصرّح بعد الجواز يكونان كالصريحين في ما هو المشهور.

وإنْ شئتَ قلت: إنّهما وإن كانا مطلقين، إلّاأنّ موردهما حيث يكون ممّا لا تتمّ الصَّلاة فيه، يكونان كالصريحين فيه.

وقد استدلّ للإختصاص(1):

1 - بصحيح الحلبي، عن الصادق عليه السلام: «كلّ ما لا تجوز الصَّلاة فيه وحده، فلا بأس بالصَّلاة فيه، مثل التِّكة الأبريسم والقلنسوة والخُفّ والزُّنار، يكون في السّراويل، ويُصلّى فيه»(2).

والنسبة بينه وبين إطلاق دليل المنع، وإنْ كانت عموماً من وجه، لكن بما أنّه ناظر إلى أدلّة المنع، فيكون حاكماً عليها.

2 - وبصحيح محمّد بن عبد الجبّار المتقدّم(3) آنفاً، حيث حكم عليه السلام فيه بجواز الصَّلاة في التكة الّتي تكون من وَبَر الأرانب، وهي إنّما تكون ممّا لا تتمّ الصَّلاة فيه، وبضميمة عدم الفرق بين وَبَر الأرانب وغيره يتمّ المطلوب.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ موثّق ابن بكير كالصريح في المنع بالنسبة إلى ما لا تتمّ الصَّلاة فيه، وهو أخصّ مطلقاً من الصحيح، وكذلك خبر ابن مهزيار فيقدّمان عليه.).

ص: 190


1- مصباح الفقيه: ج 10/234 (ط. ج) كما هو الظاهر.
2- التهذيب: ج 2/357 ح 10، وسائل الشيعة: ج 4/376 أبواب لباس المُصلّي ب 14 ح 2 (5440).
3- التهذيب: ج 2/207 ح 18، وسائل الشيعة: ج 4/377 أبواب لباس المُصلّي ب 14 ح 4 (5442).

ويرد على الثاني: - مضافاً إلى ما تقدّم في التنبيه السابق - أنّ (الذّكي) إشارةٌ إلى ما في خبر علي بن حمزة(1).

وعليه، فيكون المراد ب (الوبر) مطلقه، لا خصوص وَبَر الأرانب، إذ ليس له قسمان: مأكول اللّحم وغيره، فيدلّ بالمفهوم على عدم جواز الصَّلاة إذا كان من غير المأكول.

هذا فضلاً عن أنّ الخبر لو تمّت دلالته يكون معارضاً مع ما دلَّ على المنع في وَبَر الأرانب، وسبيله حينئذٍ سبيل غيره ممّا دلَّ على الجواز فيه. وسيأتي التعرّض للجميع.

***4.

ص: 191


1- الكافي: ج 3/397 ح 3، وسائل الشيعة: ج 4/345 ح 5345 وص 348 ح 5354.
حكم الصَّلاة في أجزاء الإنسان

الأمر الرابع: هل الإنسان خارجٌ عن موضوع الحكم، ليجوز الصَّلاة في فضلاته الطاهرة، حتّى لو نُسِج ثوبٌ من شعر الإنسان جاز الصَّلاة فيه، كما لعلّه المشهور؟

أم داخلٌ فيه، ولم يخرج شيءٌ من أجزائه عن حكمه ؟

أم داخلٌ فيه ولكن خَرَج عنه المحمول، ويكون اللّباس باقياً؟ وجوه:

قد استدلّ للأوّل(1):

1 - بالانصراف، فإنّ المأخوذ في الموضوع هو الحيوان، وهو منصرفٌ عن الإنسان، ولا يشمله بحسب المتفاهم العرفي.

2 - وبما دلَّ على جواز وصل الشّعر بالشَّعر، المستلزم للصّلاة معه.

3 - وبما دلَّ على جواز أخذ السِّن من الميّت، وجعله مكان السِّن الأصلي(2).

4 - وبالصحيح: «هل تجوز الصَّلاة في ثوبٍ يكون فيه شعرٌ من شعرالإنسان، وأظفاره، من قبل أن ينفضه من ثوبه ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(3).

وقريبٌ منه ما في البزاق(4).

5 - وبموثّق الساباطي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا بأس أن تُحمل المرأة صبيّها

ص: 192


1- استدلّ به المحدِّث البحراني رحمه الله في الحدائق: ج 7/84، والميرزا القمّي في غنائم الأيّام: ج 2/308.
2- كرواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: (سأله أبي - وأنا حاضر - عن الرّجل يسقط سنّه فيأخذ سنّ إنسان ميّت فيجعله مكانه ؟ قال لا بأس)، التهذيب: ج 9/78 ح 67، وسائل الشيعة: ج 4/417 أبواب لباس المُصلّي ب 31 ح 4 (5579).
3- هو صحيح بن الريّان، الفقيه: ج 1/265/816، وسائل الشيعة: ج 4/382 أبواب لباس المُصلّي ب 18 ح 1 (5459).
4- كرواية الحسين بن علوان، عن الصادق، عن أبيه عليهما السلام قال: (سُئل عن البزاق يصيب الثّوب، قال: لا بأس به)، قرب الإسناد ص 42، وسائل الشيعة: ج 3/427 أبواب النجاسات ب 17 ح 6 (4066).

وهي تُصلّي أو ترضعه، وهي تتشهّد»(1). ونحوه غيره.

6 - وبالسيرة القطعيّة.

أقول: ولكن يمكن المناقشة في الجميع:

أمّا في الانصراف: فلأنّ المأخوذ في الموضوع ما لا يؤكل، لا حيوان لا يؤكل، وانصراف ما عنه ممنوعٌ .

وأمّا في الثاني: فلأنّه في مقام بيان الجواز من حيث الوصل نفسه، ولا نظر له إلى الصَّلاة معه.

وأمّا في الثالث: فلأنّ السّن من الباطن، والجواز فيه لا يلازم الجواز في الظاهر.

وأمّا في البقيّة: فلأنّها في المحمول، فحينئذٍ لو عمل من شَعر الإنسان ما يصدق عليه اللّباس عرفاً صدق وقوع الصَّلاة فيه.

وعليه، فالأظهر هو الثالث.

قال صاحب «الجواهر» رحمه الله: بعدما سَلّم الانصراف بأنّه يجب المنع من الصَّلاة في اللّباس من شعر الإنسان، نظراً إلى شرطيّة المأكوليّة فيما يُصلّي فيه، فخروج الإنسان ممّا لا يؤكل لا يقتضي تحقّق الشرط، فاللّباس يمنع من الصَّلاة فيه، لا لتحقّق المانع، بل لانتفاء الشرط. ثمّ تأمّل فيه(2).

وفيه أوّلاً: ستعرف أنّ المأكوليّة ليست شرطاً، بل غير المأكوليّة مانع.

وثانياً: أنّه لو سلّمت الشرطيّة المذكورة، فإنّما هي فيما كان اللّباس من الحيوان، فمع انصراف الحيوان عن الإنسان، يكون هو خارجاً عن موضوع الشرطيّة أيضاً، فالصحيح ما ذكرناه.

***0.

ص: 193


1- التهذيب: ج 2/330 ح 211، وسائل الشيعة: ج 7/280 ح 9338.
2- الجواهر: ج 8/70.
عدم اختصاص الحكم بما له نفسٌ سائلة

الأمر الخامس: الأظهر عدم اختصاص الحكم بما له نفسٌ سائِلة، بل يعمّ ما ليس له نفسٌ ، لإطلاق النصوص، وعموم الموثّق(1).

واستدلّ للاختصاص(2): بالموثّق، بدعوى أنّه متضمّنٌ لجملتين، وهما:

قوله عليه السلام: (فالصَّلاة في وَبَره وشعره... الخ)، وقوله عليه السلام في ذيله: (ذكّاه الذّبح أو لم يذكّه) وهما توجبان الاختصاص.

أمّا الأُولى: فلأنّ ما ليس له نفسٌ لا شعر له ولا وَبَر.

وأمّا الثانية: فلأنّ ما ليس له نفس لا يقبل التذكية بذبح الذابح.

ولكن يرد الأُولى: أنّ غاية ما هناك اختصاص الموثّق بما له نفس، وهذا لا يوجبُ تقييد سائر النصوص المطلقة، لعدم حمل المطلق على المقيّد في المثبتين.

مع أنّ الضمير في قوله: (وَبَره... الخ) يرجع إلى طبيعي غير المأكول، لا إلى شخصٍ خاص، فمفاده أنّ كلّ واحدٍ من هذه الاُمور، إذا كان مستنداً إلى غير المأكول، ومضافاً إليه لا تجوز الصَّلاة فيه، ولا يعتبر ثبوت جميع ما ذُكر لكلّ فردٍ بل كلّ قسمٍ ثابت له بعض المذكورات، مثلاً الألبان تختصّ بالاُنثى ؛ فهل يتوهّم اختصاص المنع بها؟! وعليه فيشمل ما ليس له نفس أيضاً.

ويرد على الثانية: - مضافاً إلى الوجه الأوّل الذي أوردناه على الأُولى - أنّ هذه الجملة واردة في كلام الإمام الصادق عليه السلام، فكيف يمكن أن تكون قرينةً على

ص: 194


1- الكافي: ج 3/397 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/345 أبواب لباس المُصلّي باب 2 ح 1 (5344).
2- إختار الاختصاص بميتة ذي النفس المحقّق في المعتبر: ج 2/77، والعلّامة في المنتهى: ج 4/202، والشهيدالأوّل في الذكرى : ص 142، والشهيد الثاني في روض الجنان: ص 212.

اختصاص كلام النبيّ صلى الله عليه و آله الذي ذكره الإمام عليه السلام أوّلاً بذي النفس ؟!

مع أنّ الإطلاق عبارةٌ عن رفض القيود، وعدم دخل شيءٍ منها في الحكم، فقوله عليه السلام: (ذكّاه... الخ) يدلّ على أنّ تمام الموضوع هو الحيوان الذي لا يؤكل، بلا دخلٍ للتذكية وعدمها فيه.

وعليه، فلا يوجب ذلك تقييد كلام الإمام عليه السلام أيضاً.

مع أنّه يمكن أن تكون هذه الجملة كناية عن المذكّى، ومعلومٌ أنّ ما لا نفس له يقبل التذكية.

وبالجملة: فالأظهر عدم الاختصاص.

أقول: ويؤيّده ما ورد في استثناء الخَزّ(1)، إذ إستثنائه بالخصوص - مع أنّ الحيوانات البحريّة على ما نُقل عن الشهيد الثاني(2) لا نفس سائلة لشيء منها كاشف عن عموم المنع لما لا يؤكل للحيوانات البحريّة الاُخر التي ليس لها نفس سائلة.

***4.

ص: 195


1- وسائل الشيعة: ج 4/359 أبواب لباس المُصلّي ب 8 (باب جواز الصَّلاة في جلد الخَزّ ووَبَره الخالص).
2- حكاه السيّد اليزدي عن الشهيد الثاني، قال: (حكي عن الشهيد أنّ جميع الحيوانات البحريّة ليس لها دمٌ سائل إلّا التمساح). العروة الوثقى: ج 1/125، مسألة 164.
عدم شمول الحكم ما لا لحم له

الأمر السادس: ما لا لحم له من الحيوانات كالبَقّ والبرغوث وغيرهما، لا ريب في جواز الصَّلاة فيها.

وليس الوجه فيه الانصراف أو خصوص السيرة، لأنّها مختصّة بالحيوانات غير المستحدثة، وعليه فما عن المحقّق الهمداني رحمه الله(1) من ثبوتها في المستحدثة أيضاً غريبٌ ، إذ السيرة غير المستمرة إلى زمان المعصوم عليه السلام لا تفيد.

بل لأنّ الموضوع هو ما حَرُم أكله بما هو حيوان، إذ بعدما لا يتصوّر حيوانٌ تكون جميع اجزائه محلّل الأكل، بل ولا معظمها، لا محالة يكون المراد من (محلّل الأكل ومحرّمه) ما ذكرناه، وما لا لحم له إنّما يحرم أكله لكونه من الخبائث، فيكون خارجاً عمّا أُخذ في الموضوع.

وتشهد به النصوص الدالّة على عدم البأس بالصَّلاة في دم البراغيث، كخبر الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن دم البراغيث، يكون في الثّوب، هل يمنعه ذلك من الصَّلاة ؟

قال عليه السلام: لا وإن كَثُر»(2).

ونحوه غيره.

وعلى أيّة حال فإنّ الحكم مورد التسالم.

***

ص: 196


1- مصباح الفقيه: ج 10/233.
2- الكافي: ج 3/59 ح 8، وسائل الشيعة: ج 3/431 أبواب النجاسات ب 20 ح 7 (4077).
المستثنيات عن الحكم

الأمر السابع: قد استثنى من عموم مانعيّة ما لا يؤكل لحمه اُمور:

أحدهما: الخَزّ الخالص، وقد تقدّم الكلام فيه مفصّلاً.

ثانيها: السَّنجاب كما نُسب إلى المشهور(1)، وهم بين قائلٍ بالكراهة(2)، وقائلٍ بعدمها(3).

وعن جماعةٍ كالصدوق ووالده(4)، والشيخ في «الخلاف»(5)، وابن إدريس(6):

المنع عن الصَّلاة فيه.

ويشهد للجواز: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام وقد سأله عن أشياء:

منها الفراء والسّنجاب ؟ فقال عليه السلام: لا بأس بالصَّلاة فيه(7).

ونحوه غيره(8).

ص: 197


1- كما عن ظاهر المحقّق في المعتبر: ج 2/86، وصريح نسبته إلى المتأخّرين عن المحقّق السبزواري في الذخيرة: ج 2/226.
2- إختار الكراهة الصدوق في المقنع: ص 79، وابن حمزة في الوسيلة: ص 87، والشهيد الثاني في المسالك: ج 1/163.
3- كما عن الشيخ في المبسوط: ج 1/82، والعلّامة في المنتهى: ج 4/218، والشهيد الأوّل في الدروس: ج 150/1 وغيرهم.
4- في رسالته لابنه، نقلها الصدوق في الفقيه: ج 1/262.
5- الخلاف: ج 1/63.
6- السرائر: ج 1/262.
7- الاستبصار: ج 1/384 ح 6، وسائل الشيعة: ج 4/347 أبواب لباس المُصلّي ب 3 ح 1 (5352).
8- الاستبصار: ج 1/383 باب الصَّلاة في الفَنَك والسّمور والسّنجاب، وسائل الشيعة: ج 4/347 أبواب لباس المُصلّي ب 3.

وبإزاء هذه النصوص موثّق ابن بكير(1) الدالّ على المنع، وهو مستندُ القول الثالث.

ومع ذلك أورد القائلون به على مستند القول بالجواز، بأنّها على كثرتها لا يوجد فيها خبرٌ يمكن الالتزام بظاهره، فإنّها في غاية الاختلاف، بحيث يعارض بعضها مع بعضٍ ، فلابدَّ من حملها على التقيّة، مع أنّه لو تمّت دلالتها تكون معارضة مع موثّق ابن بكير، الذي هو نصٌّ في المنع في السّنجاب لذكره في السؤال، والترجيح مع الموثّق كما لا يخفى .

ولكن يمكن دفع الإيراد الأوّل: لأنّ اشتمال جملة من النّصوص على ما لا يمكن الالتزام به، لأجل دليلٍ آخر، لا يوجب قدحاً في العمل بها في السّنجاب.

أضف إليه أنّ صحيح الحلبي المتقدّم لم يذكر فيه ما لا يمكن الالتزام به.

مع أنّ حمل هذه الأخبار على كثرتها بأجمعها على التقيّة - مع اشتمال كثيرٍ منها على التفاصيل المنافية للتقيّة كخبر بشير الذي فصل عليه السلام فيه بين السّنجاب والحواصل الخوارزميّة، وبين الثعالب والسّمور، وحكم في الأولين بالجواز، وفي الأخيرين بالمنع(2) - بعيدٌ جدّاً.

وأمّا الثاني: وإنْ كان لا يصحّ دفعه بأنّ مثله لا يقدح في التخصيص بالمتّصل، فكذلك في المنفصل كما في «الجواهر».

ولا بأنّ السؤال إذا كان عن متعدّدٍ كما في الموثّق يكون العام ظاهراً في كلّ ما سُئل عنه، لا نصّاً كما أفاده المحقّق الهمداني رحمه الله(3).2.

ص: 198


1- الكافي: ج 3/397 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/345 أبواب لباس المُصلّي باب 2 ح 1 (5344).
2- خبر بشير بن يسار (أو بشّار)، وفيه: (قال عليه السلام صَلِّ في السّنجاب والحواصل الخوارزميّة ولا تصلِّ في الثعالب ولا السّمور)، الاستبصار: ج 1/384 ح 5، وسائل الشيعة: ج 4/348 أبواب لباس المُصلّي ب 3 ح 4 (5355).
3- مصباح الفقيه: ج 10/272.

ولكنّه يمكن دفعه: بأنّ السؤال إنْ كان عن شيء خاصٍّ بما أنّه من مصاديق العام، كما في الموثّق، فإنّ الغرض هو السؤال عن الحيوانات التي لم يكن أخذ الثّوب منها متعارفاً، وإنّما ذكر عدّة اُمور للتمثيل لا يكون الجواب نصّاً في مورد السؤال.

وعليه، فحيثُ أنّ الموثّق أعمٌّ من نصوص الجواز، فيخصّص بها، فتكون النتيجة هي الجواز بلا كراهية.

ولو سُلّم كون الموثّق نصّاً في السّنجاب، فهو ظاهرٌ في المنع، فبقرينة نصوص الجواز الصريحة فيه، يُحمل الموثّق على الكراهة، فتكون النتيجة هي الجواز مع الكراهة.

ودعوى: أنّه لا يمكن حمل الموثّق على الكراهة(1) إذ حمله عليها في السّنجاب، وعلى الحرمة في غيره، مستلزمٌ لاستعمال اللّفظ في معنيين، وحمله على الجامع بعيدٌ، إذ هو عمدة ما يدلّ على المنع في غير المأكول.

مندفعة: بما حقّقناه في الاُصول، من أنّ الحرمة والكراهة خارجتان عن حريم المستعمل فيه، بل هو فيهما شيءٌ واحد، وهو إبراز اعتبار كون المنهيّ عنه بعيداً عن المكلّف، والإختلاف إنّما يكون من ناحية حكم العقل، إذ لو نهي المولى عن شيءٍ ورَخّص في فعله، يحكم العقل بأنّه مكروه، ولو لم يرخّص فيه يحكم بحرمته، ولزوم الاجتناب عنه قضاءً لحقّ المولويّة.

ففي المقام النهي في الموثّق استعمل في معنى واحد، ولكن بما أنّه ورد في السّنجاب ما دلَّ على الجواز، ولم يرد في غيره، فيحكم بأنّ الصَّلاة فيه مكروهة، وفي غيره فاسدة.8.

ص: 199


1- مصباح الفقيه: ج 10/278.

ثالثها: الثعالب، كما عن «المعتبر»(1) و «المدارك»(2).

وتدلّ عليه: جملةٌ من النصوص، كصحيح جميل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن جلود الثعالب إذا كانت ذكية يُصلّى فيها؟ قال عليه السلام: نعم»(3).

ونحوه غيره(4).

أقول: ولكن بإزائها رواياتٌ اُخرى تدلّ على المنع:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عنه عليه السلام: «عن جلود الثعالب أيُصلّى فيها؟ فقال عليه السلام: ما أحبُّ أن اُصلّي فيها»(5).

ومنها: صحيح أبي علي بن راشد في حديثٍ ، قال:

«قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: الثعالب يُصلّى فيها؟ قال: لا، ولكن تُلبس بعد الصَّلاة»(6).

ونحوهما غيرهما(7).

ومقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين، حمل نصوص المنع على الكراهة، إلّاأنّ إعراض الأصحاب عن نصوص الجواز، مع صحّة السند يسقطها عن الحجيّة.

أقول: وممّا ذكرناه في الثعالب، يظهر حكم الأرانب والسّمور والفَنَك، فإنّه وإنْ ي.

ص: 200


1- المعتبر: ج 2/87.
2- مدارك الأحكام: ج 3/173.
3- الاستبصار: ج 1/382 ح 6، وسائل الشيعة: ج 4/358 أبواب لباس المُصلّي ب 7 ح 10 (5384).
4- مثل صحيحة الحلبي المتقدّمة في نفي البأس عن الفراء، وراجع وسائل الشيعة: ج 4 أبواب لباس المُصلّي ب 5 ح 1، ب 7 ح 9 و 11.
5- التهذيب: ج 2/205 ح 11، وسائل الشيعة: ج 4/355 أبواب لباس المُصلّي ب 7 ح 1 (5375).
6- التهذيب: ج 2/210 ح 30، وسائل الشيعة: ج 4/356 أبواب لباس المُصلّي ب 7 ح 4.
7- مثل موثّقة ابن بكير المتقدّمة في الخَزّ والوَبَر ورواية بشير، وراجع وسائل الشيعة: ج 4 أبواب لباس المُصلّي.

ورد فيها ما دلَّ على الجواز، إلّاأنّه لأجل إعراض الأصحاب عنه، لا يصلح لمعارضة الموثّق، وغيره ممّا يدلّ على المنع.

رابعها: ومن جملة المستثنيات الحواصل(1)، كما عن «المبسوط»(2)، و «النهاية»(3)، و «الإصباح»(4)، بل عن «المبسوط»(5): لاخلاف في جوازالصَّلاة فيها.

ويدلّ عليه: - مضافاً إلى ما ادّعى من كونها من مأكول اللّحم(6) - صحيح الريّان، قال: «سألتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام عن لبس فَراء السّمور والسّنجاب والحواصل، وما أشبهها؟

قال عليه السلام: لا بأس بهذا كلّه إلّابالثعالب»(7).

ودعوى عدم ظهوره في الصَّلاة(8) يدفعها الاستثناء.

***4.

ص: 201


1- الحواصل: جمع حوصل، وهو طيرٌ كبير له حوصلة عظيمة، يتّخذ منها الفرو، قيل وهذا الطائر يكون بمصركثيراً، كما حكاه المحدِّث البحراني قدس سره عن حياة الحيوان في الحدائق: ج 7/74.
2- المبسوط: ج 1/82.
3- النهاية: ص 97.
4- حكاه عن الإصباح السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 5/466.
5- المبسوط ج 1/82.
6- كما يقتضيه إطلاق ما دلَّ على حليّة ما له حوصلة، كما عن سيِّد المستمسك قدس سره أورده احتمالا، مستمسك العروة: ج 5/326.
7- التهذيب: ج 2/369 ح 65، وسائل الشيعة: ج 4/352 أبواب لباس المُصلّي ب 5 ح 2 (5366).
8- كما عن المحقّق الهمداني قدس سره في مصباح الفقيه: ج 10/211 و 217، وكما استظهره السيّد الحكيم قدس سره في المستمسك: ج 5/324.
الصَّلاة في ما يشكّ أنّه مأكول اللّحم
اشارة

الأمر الثامن: لو شُكّ في أنّ الجلد أو الوَبَر الموجود في الخارج من مأكول اللّحم أو من غيره، فهل تجوز الصَّلاة فيه أم لا؟.

أقول: لا يخفى أنّ هذه المسألة من عويصات المسائل الفقهيّة، وقد اختلفت فيها الأنظار، وصنفت فيها رسائل(1)، وتفصيل القول فيها وإنْ كان لا يناسب وضع الكتاب، ولكن من جهة كونها من عويصات المسائل الفقهيّة، ومبتنية على قواعد ومبان مهمّة، والحاجة إليها مسيسة، كتبتُ فيها رسالة وهي تتضمّن مجموع الدروس الملقاة، ولا بأس بإدراجها في هذا الكتاب ليعمّ بها الانتفاع، فأقول مستمدّاً من اللّه تعالى ؛ إنّ المسألة ذات وجوه، و أقول:

1 - المنع مطلقاً(2)، وهو المشهور بين الأصحاب، وعن «المدارك» أنّه المقطوع به بينهم.

2 - الجواز واقعاً مطلقاً، وهو ما نُسب إلى المحقّق القمّي(3) والفاضل النراقي(4) وغيرهما.

3 - ما اختاره جمعٌ من محقّقي متأخّري المتأخّرين، وأساطينهم كالمحقّق الأردبيلي(5)، وسيِّد «المدارك»(6)، والاُستاذ الأكبر الشيرازي(7)، والمحقّق

ص: 202


1- منها ما ذكره الطهراني تحت عنوان (رسالة في اللّباس المشكوك) تحت الأرقام 167 إلى 182 وغيرها، الذريعة: ج 18/293.
2- مدارك الأحكام: ج 4/214.
3- غنائم الأيّام: ج 2/312.
4- مستند الشيعة: ج 4/316.
5- مجمع الفائدة: ج 2/95.
6- مدارك الأحكام: ج 3/167 و ج 4/214.
7- رسالة في اللّباس المشكوك، الملحقة بكتاب المكاسب والبيع للنائيني قدس سره: ج 2/502.

النائيني(1) رحمهم الله وغيرهم من الحكم بالجواز ظاهراً مطلقاً.

4 - ما اختاره صاحب «الجواهر» رحمه الله(2): من التفصيل بين اللّباس وما يقع عليه، أو على بدن المُصلّي، بعد الفراغ عن عموم المنع للجميع، فبني على المنع في الأوّل، والجواز في الثاني.

5 - ما ذهب إليه جمعٌ (3) ممّن عاصر المحقّق النائيني رحمه الله، وهو المنع فيما إذا علم أنّه من أجزاء الحيوان، وشكّ في مأكوليّته وعدمها، والجواز فيما إذا لم يعلم ذلك وكانت النباتيّة أيضاً محتملة.

6 - التفصيل بين ما يكون مع المُصلّي من افتتاح صلاته، وما يقع عليه أو يلبسه بعد الشروع فيها، فيجوز في الثاني ويُمنع في الأوّل.

7 - التفصيل بين السّاتر وغيره، فلا يجوز في الأوّل، ويجوز في الثاني(4)، ومبنى هذا القول هو التفصيل بين الشرطيّة والمانعيّة، واختيار المنع على الأُولى والجواز على الثانية، بدعوى الشرطيّة في السّاتر، والمانعيّة في غيره.

8 - المنع في اللّباس إذا أحرز كونه حيوانيّاً، والجواز فيه إذا لم يحرز ذلك، وفي غير اللّباس مطلقاً(5).

أقول: هذه هي جملة ما وقفنا عليه من الأقوال، والمختار عندنا هو الجواز6.

ص: 203


1- كتاب الصلاة للنائيني قدس سره (تقرير الكاظمي قدس سره): ج 1/300.
2- الجواهر: ج 8/82.
3- ممّن صحح الصَّلاة السيّد الحيدري في اُصول الاستنباط ص 257. وقد تعرّض لها مفصّلاً أيضاً السيّد الخوئي في المحاضرات: ج 4/135.. الخ.
4- يمكن استظهار ذلك من العلّامة في المنتهى: ج 4/236، الى أن قال: (لأنّها مشروطة بستر العورة بمايؤكل لحمه).
5- قد يستظهر ذلك من المحقّق العراقي في روائع الأمالي: ج 1/15-16.

مطلقاً. وتنقيح القول يتحقّق بالبحث عن مقدّمة، ومقاصد، وخاتمة:

أمّا المقدّمة: ففي بيان اُمور:
التلازم بين حرمة أكل اللّحم وعدم جواز الصَّلاة فيه

الأوّل: قد عرفت مفصّلاً ثبوت التلازم بين حرمة أكل اللّحم، وعدم جواز الصَّلاة فيه.

المراد من الجواز الشرعي هنا ما يقابل المنع وضعاً

الثاني: ان الجواز الشرعي يُطلق تارةً على ما يقابل المنع عن الشيء تكليفاً، واُخرى على ما يقابل المنع وضعاً، المساوق للنفوذ والصحّة، والمراد به في المقام هو الثاني.

ثمّ إنّ الجواز قد يكون واقعيّاً لا يؤثّر كشف الخلاف فيه، وقد يكون ظاهريّاً غير منافٍ للمنع الواقعي، وهو بكلا معنيّيه محلّ الكلام في المقام، وإنْ كان المختار هو عدم لزوم الإعادة مع انكشاف الخلاف، حتّى بناءً على كون المانعيّة مطلقة، لما حقّقناه في محلّه من كتابنا «فقه الصادق» من أنّ حديث (لا تُعاد الصَّلاة) حاكمٌ على جميع أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع، ولا تختصّ بصورة النسيان، وتعمّ جميع الصور عدا صورة العلم والجهل عن تقصير. وسيأتي الإشارة إليه.(1)

الملاك يعمّ كلّ مشتبهٍ

الثالث: أنّ النزاع في المقام وإنْ كان في خصوص الصَّلاة فيما يُشكّ في كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، إلّاأنّ ملاكه يعمّ كلّ مشتبهٍ من بقيّة الموانع، من غير فرقٍ بين المانع الشرعي والعقلي.

ودعوى : المحقّق الخراساني رحمه الله(2) من اختصاص المانعيّة العقليّة بصورة الإحراز، وإنْ كان يتمّ في مورد التزاحم، ولكن لا يتمّ في مورد التعارض، كما إذا حَرُم لبس المغصوب والتستّر به، ووجب التستّر في الصَّلاة، فوقع التعارض بين الدليلين، فقُيّد

ص: 204


1- فقه الصادق: ج 8/108.
2- كفاية الاُصول: ص 400-401.

السّاتر بغير المغصوب بحكم العقل، فإنّه إذا كان الغصب بوجوده الواقعي حراماً، والحرمة مضادّة للوجوب، كيف يمكن القول باختصاص المانعيّة بصورة العلم ؟

وتمام الكلام في مبحث اجتماع الأمر والنهي.(1)

يعم البحث ما إذا شكّ أنه محلّل الأكل أو محرّمه أيضا

الرابع: أنّه لا يختصّ محلّ البحث بما إذا شكّ في كون شيءٍ من أجزاء الحيوان المعيّن غير المأكول، أو من أجزاء الحيوان المعلوم كونه محلّل الأكل، بل يعمّ ما إذا شُكّ في كون الحيوان المعيّن المأخوذ منه ذلك محلّل الأكل أو محرّمه، بالشبهة الموضوعيّة أو الحكميّة، لما ستعرف من أنّ الحكم بحليّته بمقتضى أصالة الحِلّ لا يُجدي بالنسبة إلى جواز الصَّلاة.

المجعول هي الشرطيّة أو المانعيّة
اشارة

الخامس: هناك نقاش بين الأصحاب في أنّ المجعول:

هل هي المانعيّة، أي مانعيّة غير المأكول كما هو المشهور؟

أو الشرطيّة، أي شرطيّة الوقوع في المأكول، على تقدير كون اللّباس من الحيوان، كما ذهب إليه غير واحدٍ تبعاً لمحكيّ «المنتهى»(2).

أو هما معاً كما عن «الجواهر»(3)، لكن مع تعميم المانعيّة لجميع ما يُصلّى فيه من اللّباس وعوارضه، والشّعرات المُلقاة والمحمول، وتخصيص الشرطيّة باللّباس ؟ وجوه.

أقول: وتنقيح القول بالتكلّم في مقامين:

ص: 205


1- فقه الصادق: ج 6/278، و أيضاً راجع: زبدة الاصول: ج 2/422 مبحث (اجتماع الامر و النهى).
2- منتهى المطلب: ج 4/236.
3- الجواهر: ج 8/80.

الأوّل: في إمكان جعل الشرطيّة لأحد الضدّين، والمانعيّة للآخر واستحالته.

الثاني: فيما يستفاد من الأدلّة في مقام الإثبات.

قد يقال باستحالة ذلك ملاكاً وخطاباً

أمّا المقام الأوّل: فقد يقال - كما عن المحقّق النائيني رحمه الله - باستحالة ذلك ملاكاً وخطاباً(1)، واستند في استحالته ملاكاً إلى أنّ عدم المعلول، إنّما يكون بعدم علّته، وهو:

تارةً : يكون بعدم المقتضى.

واُخرى: بعدم الشرط.

وثالثة: بوجود المانع.

وحيث أنّ دخل كلٍّ منها يغاير دخل غيره من أجزاء العلّة، إذ المقتضي هو ما يترشّح منه المعلول كالنّار بالإضافة إلى الإحراق، والشرط هو ما يكون دخيلاً في فعليّة تأثير المقتضى أثره، وهو قد يكون بتصحيح فاعليّة الفاعل، وقد يكون بتتميم قابليّة القابل، وعدم المانع دخله إنّما يكون لمزاحمة وجوده تأثير المقتضى ، فاستناد عدم المعلول إلى المانع، إنّما يكون في ظرف تحقّق المقتضي والشرائط، إذ مع عدم المقتضي أو عدم الشرط لا يستند عدم المعلول إلى وجود المانع، مثلاً إذا لم تكن النّار موجودة، أو لم تكن ممّاسة للثوب، فهل يتوهّم أحدٌ صحّة أنْ يُقال: إنّ الثّوب لا يحترق فعلاً لرطوبته ؟ فالمانع إنّما يتّصف بالمانعيّة عند وجود المقتضي والشرائط وإلّا فلا.

وعليه، فلو كان الضدّ - الذي هو شرط - موجوداً لا يُعقل أن يوجد ضدّه الآخر، وإلّا لزم اجتماع الضدّين، فلا يتّصف بالمانعيّة، وإنْ لم يكن موجوداً، فإنّ عدم

ص: 206


1- أجود التقريرات: ج 1/255 (ط. ق).

المعلول يُستند إلى عدمه، لا إلى وجود الضدّ الآخر، ففي هذا الفرض أيضاً لا يتّصف بالمانعيّة. هذا في التكوينيّات.

وأمّا في التشريعيّات، فلأنّ دخل وجود الشرط وعدم المانع في متعلّق الحكم أو موضوعه، وإنْ كان ناشئاً عن تقييده بهما، لكن لما كان دخله في ملاك الحكم ناشئاً - على اُصول العدليّة - عن توقّفه على ذلك الوجود، وهذا العدم توقّف كلّ معلولٍ تكويني على وجود شرطه وعدم مانعه، وكانت الشرطيّة والمانعيّة التكوينيّة بالنسبة إلى الملاك، ملاك التقييد المنتزعة عنه الشرطيّة والمانعيّة التشريعيّة، فسبيلهما من هذه الجهة سبيل سائر التكوينيّات، ويستحيل اجتماع ملاكيهما في الضدّين.

وفيه: إنّ ما تقتضيه أصول العدليّة، هو لزوم كون الأمر بشيءٍ ناشئاً عن المصلحة، ودخل شيء في المأمور به من جهة دخله في تلك، وأمّا أنّ ما أُخذ عدمه دخيلاً لابدّ وأنْ يكون من جهة كونه مانعاً تكوينيّاً بالنسبة إلى المصلحة والملاك، فممّا لم يدلّ عليه دليل، ولعلّه مع وجود المانع الشرعي لا مصلحة أصلاً.

وبعبارة اُخرى: كيفيّة دخل الشرط والمانع الشرعيّين في الملاك غير معلومة، فلا يجري هذا البرهان في التشريعيّات، مع أنّ تماميّته في التكوينيّات مورد البحث والكلام.

واستدلّ قدس سره لامتناع تشريعهما خطاباً: بأنّ المتلازمين كما لا يمكن تعلّق الحكمين المتنافيين بهما، لا يصحّ تعلّق الحكمين المتوافقين بهما أيضاً لمكان اللّغوية، فإذا قُيّد الواجب بوجود أحد الضدّين، كان تقييده بعدم الآخر حاصلاً بالتبع قهراً، فيكون تقيّده به بتشريعٍ مستقلٍّ آخر من اللّغو المنزّه عنه مقام الشارعيّة.

ص: 207

وفيه: - مضافاً إلى أنّه لو تمّ ، لاقتضى لغويّة الثاني، كان هو تشريع الشرطيّة أو المانعيّة، ومضافاً إلى النقض بوجوب مقدّمة الواجب والنهي عن ضدّ المأمور به - إنّ أقلّ آثار التشريع الثاني هو التأكيد، وفيه الكفاية.

فتحصّل: أنّ الأظهر إمكان جعلهما معاً.

ما يستفاد من الأدلّة في مقام الإثبات

وأمّا المقام الثاني: فطوائف من النصوص تدلّ على المانعيّة:

الطائفة الاُولى: النصوص المتضمّنة لفساد الصَّلاة الواقعة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه:

منها: موثّق ابن بكير: «الصَّلاة في وَبَر كلّ شيءٍ حرامٌ أكله، فالصَّلاة في وَبَره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه، وكلّ شيء منه فاسدة، لا تُقبل تلك الصَّلاة حتّى يُصلّيها في غيره ممّا أحلَّ اللّه أكله»(1). ونحوه غيره.

وتقريب دلالتها: أنّ استناد الفساد إلى محرميّة الأكل، عبارة اُخرى عن جعل المانعيّة.

الطائفة الثانية: ما تضمّن عدم جواز الصَّلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه:

منها: خبر محمّد الهمداني، قال: «كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوَبَر والشّعر ممّا لا يؤكل لحمه، من غير تقيّةٍ ولا ضرورة ؟ فكتب عليه السلام: لا تجوز الصَّلاة فيه»(2).

ونحوه غيره.

ص: 208


1- الكافي: ج 3/397 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/345 أبواب لباس المُصلّي ب 2 ح 1 (5344).
2- التهذيب: ج 2/209 ح 27، وسائل الشيعة: ج 4/346 أبواب لباس المُصلّي ب 2 ح 4 (5347).

وتقريب دلالتها: إنّ عدم الجواز المساوق لعدم الصحّة، استند إلى الصَّلاة فيما لا يؤكل، وظاهر ذلك مانعيّته.

الطائفة الثالثة: ما تضمّن النهي عن الصَّلاة في مُحرّم الأكل:

منها: خبر أنس بن محمّد في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: «يا عليّ لا تُصلِّ فيما لا يشرَب لبنه»(1).

وتقريب دلالتها: أنّ الأوامر والنواهي وإنْ كانت ظاهرة في الحكم المولوي النفسي، إلّاأنّ ذلك في غير ما ورد في المركّبات الاعتباريّة.

وأمّا فيها فهي ظاهرة في كونها إرشاداً إلى الدخل في المركّب.

إمّا بنحو الجزئيّة أو ألشرطية كما في الأوامر.

أو المانعيّة كما في النواهي.

فالنهي عن الصَّلاة فيما لا يؤكل لحمه ظاهره الإرشاد إلى مانعيّته.

الطائفة الرابعة: ما تضمّن التعليل بأنّ أكثرها مسوخ:

منها: مرفوع محمّد بن إسماعيل، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«لا يجوز الصَّلاة في شعر ووَبَر ما لا يؤكل لحمه لأنّ أكثرها مسوخ»(2).

وقريب منه ما ورد في السِّباع.

إذ التعليل في قوّة التصريح بأنّ المسوخ من حيث أنفسها لا تصلح لوقوع الصَّلاة فيها.).

ص: 209


1- نسبه إلى «العلل» المجلسي في البحار: ج 80/253 ح 32، والموجود في «العلل»: (لا يجوز الصَّلاة في شعر ووَبَر ما لا يؤكل لحمه لأنّ أكثرها مسوخ)، العلل: ج 2/342 ب 43 ح 1 و 2، وسائل الشيعة: ج 4/346 أبواب لباس المُصلّي ب 2 ح 6 (5349).
2- علل الشرائع: ج 2/342، وسائل الشيعة: ج 4/347 أبواب لباس المُصلّي ب 2 ح 7 (5350).

وقد استدلّ للشرطيّة بوجوه:

أحدها: قوله عليه السلام في ذيل موثّق ابن بكير المتقدّم: (لا يقبل اللّه تلك الصَّلاة حتّى يُصلّيها في غيره ممّا أحلَّ اللّه أكله). بدعوى أنّه ظاهرٌ في إناطة القبول - الذي اُريد به في المقام الإجزاء بحليّة الأكل، وليست الشرطيّة إلّاذلك.

وفيه: أنّ قوله عليه السلام: (لا تُقبل) ليس جملةً ابتدائيّة مسوقة لبيان ما اعتبر فيما يُصلّى فيه، بل هو تتمّة للحكم السابق، وخبرٌ آخر عن المبتدأ الأوّل، وحُكمٌ عليه بعدم القبول بعد الحكم عليه بالفساد، لاشتمالها على تلك الخصوصيّة، ويؤكّده الإتيان بلفظ الإشارة، فلا يكون ظاهراً في الشرطيّة.

مع أنّه لو سُلّم هذا الظهور في نفسه، لكن بما أنّه لابدّ من التصرّف فيه من جهة أنّه لا تجب الصَّلاة في أجزاء ما يحلّ أكله من الحيوان قطعاً، بل إن كان شيءٌ شرطاً، فهو عنوانٌ جامع بين أجزاء ما يؤكل والنباتات، وليس ذلك أولى من حمل الأمر فيه على أنّه لأجل ارتفاع المانع، فليس شيءٌ في صدر الموثّق ظاهر في المانعيّة.

ثانيها: قوله عليه السلام في ذيل الموثّق: «فإنْ كان ممّا يؤكل لحمه، فالصَّلاة في وَبَره وشعره وكلّ شيء منه جائزة».

وفيه: أنّه لا ريب في جواز الصَّلاة في أجزاء ما يؤكل، ولكن ذلك لا يلازم مع شرطيّة متعلّقه، ويلائم مع مانعيّة ضدّه كما لا يخفى .

ثالثها: خبر علي بن حمزة، عن أبي عبد اللّه، وأبي الحسن عليهما السلام:

«عن لباس الفِراء والصَّلاة فيها؟ قال عليه السلام: لا تُقبل إلّافيما كان ذكياً.

قلت: أو ليس الذكي ما ذُكّي بالحديد؟ قال: بلى إذا كان ممّا يؤكل لحمه.

ص: 210

قلت: وما يؤكل لحمه من غير الغنم ؟

فقال: لا بأس بالسّنجاب، فإنّه دابّة لا تأكل اللّحم، وليس هو ممّا نهي عنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله، إذ نهى عن كلّ ذي نابٍ ومِخْلَب»(1).

وتقريب دلالته: إنّ قوله عليه السلام (إذا كان ممّا يؤكل) يرجع إلى صدر الكلام، أي الاستثناء المدلول عليه بقوله: (إلّا ما كان منه ذكيّاً) فيصبح حاصل المعنى: إلّاما كان ذكياً، وكان من المأكول، وهذا مساوقٌ للشرطيّة، فيكون قول الراوي: (أوليسَ الذَّكي... الخ)، وجواب الإمام عليه السلام بقوله: (بلى)، جملة معترضة بين الجواب عن السؤال الأوّل، وقد قطع كلام الإمام ولم يمهله إلى أن ينتهي إلى آخر الجواب، وبادر إلى السؤال الثاني.

وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السند، لأنّ في طريقه العلوي وهو مهمل، والديلمي المجهول حكماً وموضوعاً.

وثانياً: أنّ الظاهر من قوله: (إذا كان ممّا يؤكل) كونه مرتبطاً بالجواب عن السؤال الثاني، فيكون مفاد الخبر اختصاص التذكية بما يكون مأكول اللّحم، فيعارض مع النصوص الأخر فيطرح.

وثالثاً: لو أغمض عن ذلك، وسُلّم كونه راجعاً إلى صدر الكلام، بملاحظة ما في ذيله من التعليل بأنّه نهي عن كلّ ذي نابٍ ومِخْلَب، يوجبُ ظهوره في المانعيّة، ولا أقلّ من الإجمال.

فتحصّل: أنّ مقتضى الأدلّة مانعيّة ما لا يؤكل، لا شرطيّة ما يؤكل.).

ص: 211


1- الكافي: ج 3/397 ح 3، وسائل الشيعة: ج 4/348 أبواب لباس المُصلّي ب 3 ح 3 (5354).
أقسام النهي

السادس: إنّ النهي عن الصَّلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، بعد عدم كونه نهياً تحريميّاً تكليفيّاً، وكونه إرشاداً إلى المانعيّة، يدور أمر ما يستفاد منه من المانعيّة:

1 - بين أن تكون انحلاليّة، بأن يكون كلّ فردٍ من أفراد ما لا يؤكل متّصفاً بالمانعيّة استقلالاً.

2 - وبين أن تكون ثابتة، لصرف وجود الطبيعة المنطبق على أوّل الوجودات، فيكون المعتبر مجموع التروك الخارجيّة، فلو اضطرّ إلى لبس فردٍ من الأفراد، ساغ له لبس غيره.

3 - وبين أن تكون ثابتةً لمجموع الوجودات.

4 - وبين أن يكون المعتبر في الصَّلاة أمراً بسيطاً متحصّلاً من ترك الأفراد الخارجيّة.

أقول: لا سبيل إلى الأخيرين:

أمّا الأوّل منهما: فلأنّ لازمه صحّة الصَّلاة فيما وقعت في بعض الأفراد المعلومة، وهو بديهي البطلان.

وأمّا الثاني منهما: فلأنّه خلاف ظهور الأدلّة، فإنّ ظاهرها دخل ما تضمّنها بنفسه في المأمور به دون المتحصّل منه.

فيدور الأمر بين الأولين، والأظهر منهما هو الأوّل، لظهور القضيّة الحقيقيّة في نفسها في ذلك، فكما أنّ النواهي المولويّة ظاهرة فيه، كذلك النواهي الإرشاديّة، ولذا ترى تسالم الفقهاء على أنّه لو اضطرّ المُصلّي إلى لبس لباسٍ مصنوع ممّا لا يؤكل لحمه، لابدَّ من الاقتصار على مقدار الضرورة.

ص: 212

مركز القيد

السابع: إنّ جميع ما يعتبر في الصَّلاة من الشرائط والموانع، وإنْ كانت منسوبة إلى الصَّلاة، إلّاأنّ معروضها مختلف:

فقد يكون الشرط أو المانع وصفاً للمصلّي كالطهارة.

وقد يكون وصفاً للصَّلاة.

وقد يكون وصفاً لغيرهما ممّا يُصلّي فيه أو عليه، كاعتبار كون الوقت الواقعة فيه الصَّلاة بين الزوال إلى الغروب.

وعليه، فقد وقع الكلام في أنّ مركز القيد في المقام:

هل هو المُصلّي، بمعنى أنّه يعتبر أن لا يكون المُصلّي لابساً لما لا يؤكل ؟

أم مركزه الصَّلاة، بمعنى أنّه يعتبر في الصَّلاة أن لا تقع في أجزاء ما لايؤكل لحمه ؟

أم مركزه اللّباس، فيعتبر أن لا يكون لباس المُصلّي من جنس ما لا يؤكل ؟

أقول: والأظهر هو الثاني، فإنّ النصوص كموثّق ابن بكير المتقدّم وغيره متطابقة من جهة ما فيها من التعبير بالصَّلاة فيما لا يؤكل لحمه، وأنّه لا يُصلّى فيه على ذلك.

وما توهم: دلالته على كونه قيداً للمصلّي، هو موثّق سماعة: «ولا تلبسوا منها شيئاً تصلّون فيه»(1)، وهو لا يدلّ عليه، فإنّه غير متضمّن للنهي عن لبسه في حال الصَّلاة، بل متضمّن للنهي عن الصَّلاة في حال اللّبس، والفرق بين التعبيرين

ص: 213


1- التهذيب: ج 2/205 ح 10، وسائل الشيعة: ج 4/353 أبواب لباس المُصلّي ب 5 ح 3 (5367).

واضح، وهو أيضاً ظاهر في ذلك.

وعدم وقوع غير المأكول ظرفاً للصّلاة إلّاباعتبار كونه وصفاً للمصلّي، لا ينافي ذلك، فالأظهر كونه قيداً للصَّلاة وهي مركز القيد.

المانع هو عنوان محرّم الأكل أو معروضه

الثامن: هناك بحث بين الأصحاب من أنّ المانع:

1 - هل هو عنوان محرّم الأكل.

2 - أم معروضه من العناوين الخاصّة، كالأسد والأرنب وغيرهما.

3 - أم هما معاً بنحوٍ يكون كلُّ منهما جزء الموضوع.

4 - أم أنّ كلّاً منهما موضوعٌ مستقلّ؟ وجوه:

ظاهر طائفة من النصوص، كموثّق ابن بكير المتضمّن للحكم بفساد الصَّلاة الواقعة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه هو الأوّل، وهي المدرك له.

وظاهر طائفةٍ اُخرى ، وهي ما تتضمّن النهي عن الصَّلاة في العناوين الخاصّة هو الثاني، والثانية وإنْ كانت أخصّ من الأُولى ، إلّاأنّه حيث لا تنافي بينهما لأنهما متوافقان، ولا يحمل المطلق على المقيّد فيهما، فالمتعيّن هو القول الرابع، وبقيّة الأقوال ساقطة كما لا يخفى .

أقول: ويترتّب على ما اخترناه، أنّ الحيوان المحرّم بالعارض كالموطوء، وشارب لبن الخنزيرة، والجلّال، ما دام لم يستبرء، مشمولٌ لهذه الأدلّة، لإطلاق الطائفة الأُولى .

ص: 214

والغريبُ ما نُسِبَ إلى المحقّق النائيني رحمه الله(1) من التفصيل:

بين ما تكون حرمته العرضيّة دائميّة كالأولين.

وبين ما تكون قابلة للزوال كالأخير.

باختيار شمول الأدلّة للأوّل دون الثاني، نظراً إلى أنّ الجمع بين الطائفتين يقتضي الالتزام بكون الموضوع هو العنوان والمعنون.

فإنّه يرد عليه: - مضافاً إلى ما تقدّم - أنّ لازمه الجواز في الموردين، لعدم جزء الموضوع وهو المعنون.

نعم، ما حَرُم لا بما هو حيوانٌ بل بعنوان آخر، كما لو حلف على ترك أكل حيوانٍ خاص، أو كان مغصوباً، لا يكون مشمولاً لها، وهو واضح.

وما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(2): من أنّ الظاهر من الأدلّة الاختصاص بالمحرّم بالحرمة الذاتيّة، بدعوى أنّها ظاهرة في التفصيل القاطع للشركة، وأنّ ما يجوز الصَّلاة فيه يجوز أبداً، وما لا يجوز لا يجوز كذلك، من غير أن يكون الحيوان الواحد داخلاً في عنوان الجواز تارةً وفي عنوان المنع اُخرى .

يرد عليه: أنّ ظاهر هذه الأدلّة كسائر الأدلّة دوران الحكم مدار فعليّة موضوعه وجوداً وعدماً، فإذا كانت الحرمة متبدّلة، ويكون حيوانٌ واحدٌ محرّماً تارةً ومحلّلاً اُخرى، لا مانع من الالتزام بجواز الصَّلاة في أجزائه تارةً وعدمه اُخرى. والتفصيل إنّما يكون بين محرّم الأكل ومحلّله، لا بين المعنونات، فتدبّر.

***).

ص: 215


1- كما هو الظاهر من كلامه في فوائد الاُصول: ج 1/307-308 وقد أحال تفصيل ذلك على رسالته حول اللّباس المشكوك، وأشار إلى جملة منها في منية المريد: ج 2/347-348.
2- رسالة الصَّلاة في المشكوك للنائيني ص 99، قوله: (وأمّا الجلّال فللمنع عن شمول الأدلّة.. الخ).
المقصد الأوّل الاستدلال للجواز بالأدلّة الاجتهاديّة

المقصد الأوّل: فيما تقتضيه الأدلّة الاجتهاديّة.

أقول: استدلّ للجواز بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الألفاظ موضوعة أو مستعملة في المعاني المعلومة، فيراد من (ما لا يؤكل لحمه) ما عُلم أنّه من أجزائه، فيكون العلم دخيلاً في المانعيّة، ويكون المشتبه خارجاً عن موضوع المانعيّة واقعاً.

وفيه أوّلاً: أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمريّة الواقعيّة لا المعلومة كما حُقّق في الاُصول.(1)

وثانياً: أنّها لو كانت موضوعة للمعاني المعلومة، كانت موضوعة للمعلومة عند المتكلّم، لا المعلومة عند المخاطب.

الوجه الثاني: وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب، في النصوص المتضمّنة للنهي عن الصَّلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، وهي الأشياء المعلوم جزئيّتها له، فلا ينعقد لها إطلاق ليشمل الأفراد المشتبهة.

وفيه أوّلاً: أنّه لا قدر متيقّن في مقام التخاطب، لأنّ نسبة الطبيعة إلى أفرادها - أعمّ من المعلوم وغيره - نسبة واحدة، وعلمنا وجهلنا لا يجعلان بعضها متيقّناً بالإضافة إلى الآخر.

وثانياً: إنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب، لا يمنع عن انعقاد الإطلاق كما حقّقناه في «حاشيتنا على الكفاية».

الوجه الثالث: ما نُسِب إلى المحقّق القُمّي رحمه الله(2) من التمسّك بصحيح عبد الرحمن:

ص: 216


1- زبدة الاصول: ج 1/51، بحث بيان حقيقة الوضع.
2- نسبه إليه المحقّق النائيني قدس سره في كتاب الصَّلاة للكاظمي: ج 1/262.

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يُصلّي وفي ثوبه عَذَرة من إنسانٍ أو سنّور أو كلبٍ ، أيُعيدُ صلاته ؟ قال عليه السلام: إنْ كان لم يعلم فلا يُعيد»(1).

بتقريب أنّه لا يُعقل اجتماع المانعيّة المطلقة والإجزاء في صورة الجهل، إذ مقتضى الإطلاق الشامل لحال الجهل، هو عدم الإجزاء، فالصحيح المتضمّن للإجزاء في تلك الحالة يقيّد إطلاق دليل المانعيّة ويخصّصه بصورة العلم.

وفيه: إنّ المورد الذي حُكم عليه بالإجزاء، هو ما إذا أوقع الصَّلاة في أجزاء ما لا يؤكل جهلاً، فيعتبر فيه أمران:

أحدهما: وقوع الصَّلاة.

الثاني: كونه عن جهلٍ مركّب، أو بسيط مع الغفلة.

ومحلّ الكلام هو مورد الشكّ قبل الصَّلاة، فالصحيح أجنبيٌ عن المقام.

الوجه الرابع: ما نُسِب إليه أيضاً(2) وهو ظهور الأدلّة والإطلاقات الدالّة على المانعيّة بصورة العلم.

وقيل في توجيه ما أفاده: إنّ منشأ هذا الاستظهار إمّا الإنصراف، أو التقييد العقلي، من ناحية أنّ لسان دليل مانعيّته ليس لسان الوضع كي يصحّ دعوى إطلاقه لصورة العجز والجهل، بل لسان التكليف وهو كما يختصّ بمورد القدرة، لإمتناع الانبعاث والتحرّك في فرض العجز، كذلك يختصّ بصورة العلم، إذ في فرض الجهل لا يمكن الانبعاث والانزجار، فيلغى البعث والزجر، لأنّه لا يصدر من الحكيم.

وفيه: إنّ الانصراف ممنوعٌ ، والتقييد العقلي لا يتمّ في صورة الشكّ التي هي محلّ 2.

ص: 217


1- الكافي: ج 3/406 ح 11، وسائل الشيعة: ج 3/475 أبواب لباس المُصلّي ب 40 ح 5 (4218).
2- نسبه المحقّق النائيني قدس سره كتاب الصَّلاة للكاظمي: ج 1/262.

الكلام، فإنّه في تلك الصورة يمكن الإنبعاث والإنزجار بالاحتياط فيصحّ البعث والزجر.

مع أنّ دليل المانعيّة وإنْ كان بلسان التكليف، إلّاأنّه إرشادٌ إلى المانعيّة، فحاله حال ما يكون لسانه الوضع، فتدبّر.

الوجه الخامس: ما عن الفاضل النراقي رحمه الله(1) من أنّ الحرام الذي لايجوز الصَّلاة في أجزائه، مختصٌّ بالحرام المعلوم، إذ الظاهر من (الحرمة) هي الحرمة الفعليّة المنجّزة المتوقّفة على العلم.

وفيه أوّلاً: أنّ الظاهر من الحرمة، هي الحرمة الواقعيّة.

وثانياً: أنّه إذا علم كون حيوانٍ معيّنٍ حلالاً، والآخر حراماً، وشكّ في أنّ الشعر من أيّهما، تكون الحرمة حينئذٍ منجّزة كما هو واضح.

وثالثاً: قد تقدّم أنّ المأخوذ في الموضوع، هي العناوين الخاصّة أيضاً كالأرنب والأسد.

الوجه السادس: وهو للفاضل النراقي رحمه الله أيضاً(2) من أنّ إطلاق أدلّة السَّتر يدلّ علي كفاية السّتر بكلّ شيءٍ ، والمتيقّن خروجه ما عُلم أنّه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، والباقي باقٍ تحته.

وفيه أوّلاً: أنّه لا إطلاق لشيءٍ منها، لعدم ورود شيء منها في مقام بيان كيفيّة السّتر، بل هي في مقام بيان أصل وجوب السّتر، وما يجب أنْ يُستر.

وثانياً: أنّه قيّد بما دلَّ على مانعيّة غير المأكول.

وعليه، فالتمسّك بالإطلاق في مورد الشكّ ، يعدّ تمسّكاً بالعام في الشبهة6.

ص: 218


1- مستند الشيعة: ج 4/316-317.
2- مستند الشيعة: ج 4/316.

المصداقيّة، وهو لا يجوز كما حُقّق في محلّه.

الوجه السابع: ما عنه أيضاً(1): من التمسّك بإطلاق ما يدلّ على جوازها فيما أُخذ من يد المسلم وما يلحق به.

وفيه: إنّ ما ورد في يد المسلم وما يلحق به، إنّما يكون فيما شُكّ في ملكيّته أو تذكيته، ولا دليل على أماريّتها لغير ذلك، بعد فرض كون ما لا يؤكل لحمه، يجوز لبسه وسائر التصرّفات فيه، وما ورد في الموارد الخاصّة كالفراء، بما أنّه من قبيل القضيّة الخارجيّة لا الحقيقيّة، يتوقّف شموله للمقام على إحراز كون ما سأل عنه ولو في موردٍ مشكوكاً فيه من هذه الجهة أيضاً، وهو كما ترى .

الوجه الثامن: ما عنه أيضاً(2): وهو استلزام النزع حال الصَّلاة للحَرَج المنفي.

وهو واضح الدفع.

وأهون منه الوجه التاسع(3)، وهو دعوى قيام السيرة العمليّة على عدم التحرّز عن المشتبه.

وقد استدلّ ببعض وجوه أخر واضحة الدفع.

فالمتحصّل: أنّه ليس في الأدلّة الاجتهاديّة ما يمكن أن يُستدلّ به للجواز.

***7.

ص: 219


1- مستند الشيعة: ج 4/316. (2و3) مستند الشيعة: ج 4/317.
المقصد الثاني فيما تقتضيه الاُصول الموضوعيّة
اشارة

جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة

المقصد الثاني: فيما تقتضيه الاُصول الموضوعيّة:

أقول: قد استدلّ بها لجواز الصَّلاة في المشتبه بوجوه:

جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة

الوجه الأوّل: التمسّك باستصحاب عدم كون المشكوك فيه جزءً ممّا لا يؤكل، الثابت قبل وجوده، بتقريب أنّه قبل وجود الحيوان وأجزائه كانت هي واتّصافها بكونها أجزاء ممّا لا يؤكل معدومة في الخارج، وقد عُلم انقلاب أنفسها إلى الوجود، ويُشكّ في انقلاب عدم الاتّصاف، فيحكم ببقائه على ما كان، ويعبّر عن هذا باستصحاب العدم الأزلي.

وحيثُ أنّ تنقيح القول في أنّ هذا الأصل هل يجري مطلقاً كما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(1)؟

أم لا يجري كذلك، كما عن المحقّق النائيني رحمه الله(2)؟

أم هناك تفصيل كما ذهب إليه بعض الأساطين(3)؟ يترتّب عليه فوائد مهمة، فلا بأس بتنقيح القول فيه، وهو يتوقّف على بيان مقدّمتين:

المقدّمة الأُولى: إنّ الموضوع أو المتعلّق إذا كان مركّباً من اُمور متعدّدة له أقسام:

1 - ما يكون مركّباً من جوهرين، أو من عَرَضين، أو من جوهرٍ وعَرَضٍ ثابت، ولو في غير ذلك الجوهر.

ص: 220


1- كفاية الاُصول: ص 420 (ط. مؤسّسة أل البيت).
2- فوائد الاُصول: ج 4/507 (ط آل البيت).
3- كما هو ظاهر السيّد الخوئي قدس سره في دراسات في علم الاُصول: ج 2/265.

2 - ما يكون مركّباً من العرض ومحلّه.

3 - ما يكون مركّباً من المعروض وعدم العَرَض.

وفي القسم الأوّل: يكون الدخيل هو ذوات أجزاء المركّب، أي كلّ واحدٍ من تلك الاُمور المأخوذة فيها.

وبعبارة اُخرى: الوجودات التوأمة بلا دخلٍ لعنوان آخر، من قبيل عنوان اجتماعهما في الوجود أو غير ذلك في الموضوع أو المتعلّق، ولذا إذا كان بعضها محرزاً بالوجدان، والآخر مستصحباً، يترتّب عليه الأثر، كما لو فرضنا أنّ موضوع وجوب الإكرام هو العالم في يوم الجمعة، فلو اُحرز كون اليوم يوم الجمعة، واستصحب عالميّة زيد، التي هي متيقّنة سابقاً ومشكوكة لاحقاً، وترتّب عليه الأثر وهو وجوب الإكرام.

ولا يعارضه استصحاب عدم المركّب، لا لأنّ الشكّ في بقاء عدم المركّب مسبّبٌ عن الشكّ في وجود أجزائه، فإذا جرى الأصل فيها لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في المسبّب، كما عن المحقّق النائيني رحمه الله(1)، إذ السببيّة في المقام ليست شرعيّة، فلا يكون الأصل في السبب حاكماً على الأصل في المسبّب.

بل لأنّ المركّب من حيث أنّه مركّبٌ بوصف الاجتماع، لا يكون موضوعاً للحكم، وإنّما هو مترتّبٌ على ذوات الأجزاء المجتمعة، ولا شكّ فيها بعد ضمّ الوجدان إلى الأصل.

نعم، إذا كان وصف المقارنة أو غيره دخيلاً في الحكم، يجري استصحاب العدم، ويترتّب عليه عدم الحكم.س.

ص: 221


1- فوائد الاُصول للنائيني: ج 4/673، الأمر السادس.

ولا يعارَض باستصحاب وجود الجزء وضمّه إلى الوجدان، كما لا يخفى .

وفي القسم الثاني: لابدَّ وأن يؤخذ الموضوع هو المعروض المتّصف بذلك العرض، لا مجرّد وجود المعروض والعَرَض واجتماعهما في الوجود، وذلك لأنّ وجود العَرَض في نفسه وجودٌ في الغير، وعين وجوده لموضوعه، وعليه:

فإنْ أُخذ وجود العرض في الموضوع بما هو شيءٌ في نفسه، ولم يلاحظ كونه في الغير ووصفاً له، خرج عن هذا القسم ودخل في القسم الأوّل، ولابدّ من الالتزام بترتّب الأثر، وإنْ كان العرض موجوداً في غير هذا الموضوع، وهو خُلف الفرض.

وإنْ أُخذ بما هو قائمٌ بالذّات وعَرَضٌ ، فلا محالة يعتبر العَرَض نعتاً، ففي ترتّب الحكم لابدّ من إحراز اتّصاف الموضوع بالعرض، زائداً على إحراز وجود الوضوع ووجود العرض، وفي مثل ذلك لا يمكن إجراء الاستصحاب وإحراز الموضوع، إلّا إذا كان الوصف بوصف كونه نعتاً مسبوقاً بالحالة السابقة.

وفي القسم الثالث: يمكن أنْ يكون الحكم مترتّباً على عدم الوصف بنحو النعتيّة، وبنحو الموجبة المعدولة، ويكون العدم رابطيّاً، بمعنى أخذ الخصوصيّة فيه ملازمةً لعدم العَرَض، وإلّا فلا معنى لكون العدم نعتاً ومنتسباً ومرتبطاً بشيء، فإنّ الارتباط والنسبة من شؤون الوجود، وفي مثل ذلك لا مورد لجريان الاستصحاب في العدم، وإحراز الموضوع بضمّ الوجدان إلى الأصل ما لم يكن العدم بوصف النعتيّة مسبوقاً باليقين، إذ لا يثبت به العدم النعتي، لكون المستصحَب هو العَدمُ المحمولي، وإثبات العدم النعتي به يعدّ من قبيل الأصل المثبت.

مثلاً: لو كان موضوع الحكم بالتحيّض إلى خمسين عاماً هي المرأة المتّصفة بأنّها غير قرشيّة، لا يجدي استصحاب عدم القرشيّة المتحقّق قبل وجود المرأة،

ص: 222

لأنّه لا يُثبت به اتّصاف هذه المرأة بغير القرشيّة.

ويمكن أن يكون الدخيل في الموضوع هو العدم المحمولي، بل هذا النحو هو الظاهر من القضايا المتضمّنة لأخذ العدم في الموضوع، فإنّ وجود العَرَض في نفسه وإنْ كان عين وجوده لموضوعه، إلّاأنّ عدم العَرَض ليس كذلك، ولا يلزم أن يكون نعتاً، بل هو إنّما يكون بعدم نسبته إلى موضوعه، وعدم تحقّق العرض بنفسه، فلا يعتبر فيه ملاحظة النسبة بينه وبين الموضوع.

وبالجملة: الربط وإنْ كان مأخوذاً في طرف الوجود، إلّاأنّه لا يكون مأخوذاً في طرف العدم، وعلى ذلك فأخذ عدم العَرَض في الموضوع إنّما يكون بالطبع بأخذه على ما هو عليه من كونه عدماً محموليّاً لا عدماً نعتيّاً، وفي مثل ذلك يجري الاستصحاب في عدم الوصف، الثابت قبل وجود الموضوع والمعروض، ويُحرز الموضوع بضمّ الوجدان إلى الأصل، ويترتّب عليه الحكم، مثلاً إذا كان موضوع التحيّض إلى خمسين عاماً، المرأة التي لا تكون متّصفة بالقرشيّة، فباستصحاب عدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش المتحقّق قبل وجود المرأة، وضمّه إلى ما هو محرَزٌ بالوجدان، وهو وجود المرأة، يثبت الحكم ويترتّب عليه الآثار.

هذا فيما إذا أُحرز أحد الأمرين.

وأمّا لو شكّ في موردٍ أنّ المأخوذ في الموضوع هل هو العدم المحمولي أو العدم النعتي.

فقد يقال: كما عن المحقّق النائيني رحمه الله(1)، بأنّ الاعتبارين متباينان، فليس أحدهما متيقّناً والآخر مشكوكاً فيه، فلا يمكن ترتيب أثر أحدهما المعيّن.5.

ص: 223


1- أجود التقريرات: ج 1/465.

ويرد عليه: بأنّ اعتباره نعتاً يحتاج إلى عنايةٍ زائدة، بأن يؤخذ في الذّات خصوصيّة ملازمة لعدم الوصف، لما عرفت من أنّ العدم من حيثُ هو لا معنى لإنتسابه وارتباطه، فإنّهما من شؤون الوجود.

وعليه، فما لم يدلّ دليلٌ على أخذه كذلك، يتعيّن حمله على أنّ المأخوذ هو العدم المحمولي.

المقدّمة الثانية: إذا ورد عامٌ ، وورد خاص، وكان عنوان الخاص من قبيل الأوصاف، كما إذا ورد: (المرأةُ تحيضُ إلى خمسين عاماً)، ثمّ ورد: (أنّ القرشيّة تحيض إلى ستّين عاماً)، فهو يكون كاشفاً عن تقييد المراد الواقعي، وعدم جعل الحكم للخاص من أوّل الأمر واقعاً، ولازم ذلك أنّ ما ثبت له الحكم واقعاً هو المقيّد، وملحوظاً بنحو التقييد، إذ مع عدم الإهمال في الواقع وعدم الإطلاق، يتعيّن التقييد.

واستدلّ المحقّق العراقي رحمه الله(1): على ما ذهب إليه من عدم تعنون العام من جهة التخصيص، بأنّ خروج فرد كموته في الخارج، فكما أنّ الموت يوجبُ قصر الحكم على الأفراد الباقية، من دون أن يعنون عنوان العام بعنوان آخر زائداً على ما كان عليه، كذلك إذا خرج فردٌ عن تحت العام بدليلٍ خاص.

وفيه: إنّ دليل التخصيص إنّما يوجب تضييق الموضوع في مقام الجعل، وأنّه لم يُجعل إلّاعلى أفراد لا تكون داخلة تحت دليل الخاص، وهذا بخلاف الموت، فإنّه يوجبُ عدم فعليّة الحكم، من دون أن يوجب تصرّفاً في مقام الجعل، وهذا هو الفارق بينهما.

ولكن دليل الخاص لا يوجبُ تقييد العام بكونه متّصفاً بعدم ذلك الوصف،).

ص: 224


1- مقالات الاُصول: ج 1/440، قوله: (وتوهّم أنّ قصر الحكم على البقيّة بالتخصيص... الخ).

ليكون الموضوع مركّباً من الذّات وعدم الوصف بنحو العدم النعتي، كي لا يُجدي استصحاب عدمه الثابت قبل وجود الذّات، وذلك فإنّ غاية ما يلزم من التخصيص، وخروج عنوانٍ عن تحت دليل العام، كونه غير مطلق بالإضافة إلى وجود ذلك الوصف، ولا مقيّدٍ بوجوده ولا مهمل، بل مقيّداً بعدم اتّصافه بوجوده، وأمّا زائداً على ذلك بأن يعتبر النسبة بين الذّات والعدم بالنحو المعقول، فدليل التخصيص لا يدلّ عليه، فلا وجه لإعتباره، والبرهان المتقدّم على أنّ لازم أخذ عدم العَرَض في الموضوع أو المتعلّق دخله فيه على نحو العدم النعتي، قد عرفت ما فيه.

أقول: وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1) برهاناً عليه، بأنّه إذا كان دليل التخصيص كاشفاً عن تقييدٍ ما، ورافعاً لإطلاق العام، فلابدّ وأنْ يكون ذلك باعتبار أوصافه ونعوته التي يكون انقسام العام باعتبارها في مرتبةٍ سابقة على انقسامه باعتبار مقارناته، فيرجع التقييد إلى التقييد بالعدم النعتي، إذ لو كان راجعاً إلى التقييد بعدم المقارنة للوصف على نحو مفاد ليس التامّة:

فإمّا أنْ يكون ذلك مع بقاء الإطلاق بالنسبة إلى كون العدم نعتاً.

أو يكون ذلك مع التقييد بالإضافة إلى العدم النعتي.

وكلاهما باطلٌ :

أمّا الأوّل: فللزوم التدافع بين الإطلاق من جهة العدم النعتي، والتقييد بالعدم المحمولي.

وأمّا الثاني: فللزوم لغويّة التقييد بالعدم المحمولي، لكفاية التقييد بالعدم النعتي.7.

ص: 225


1- أجود التقريرات: ج 1/467.

ممنوعٌ ويرد عليه أوّلاً: أنّه مع تحقّق العام، يكون كلٍّ من العدمين ملازماً للآخر خارجاً، فلا يبقى مجالٌ مع التقييد بأحدهما للتقييد بالآخر أو الإطلاق بالإضافة إليه.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ انقسام العام بالإضافة إلى نعوته وأوصافه، وإنْ هو في مرتبة سابقة على انقسامه بالإضافة إلى مقارناته في طبعه، إلّاأنّ كونه كذلك في مقام الدخل في الغرض - ولو في لحاظ المولى وفي مقام جعل الحكم - ممنوعٌ ، وعليه فعين البرهان المتقدّم يجري لو قُيّد العام بالعدم النعتي، ويقال إنّ العام بالإضافة إلى العدم المحمولي مطلقٌ أو مقيّد، وكلاهما باطلٌ ، والحَلّ ما ذكرناه.

وثانياً: أنّه يمكن أن يختار الشقّ الأوّل، على فرض التنزّل، وهو كونه مطلقاً بالإضافة إلى العدم النعتي، وليس معنى الإطلاق دخل جميع القيود في الحكم حتّى يلزم التدافع، بل معناه رفض القيود، فلا تدافع.

أقول: وبعد تمهيد هاتين المقدّمتين، تعرف أنّ خروج الخارج عن تحت العام - وهو في المثال عنوان القَرَشيّة - يستلزمُ أخذ عدم ذلك العنوان في طرف العام على نحو التقييد بعدم اتّصاف المرأة بذلك الوصف، فيكون الباقي بعد التخصيص هي المرأة التي لا تكون متّصفة بالقَرَشيّة.

وعليه، فلو شُكّ في كون امرأة قرشيّة، لا مانع من التمسّك باستصحاب عدم القرشيّة المتحقّق قبل تولّد المرأة، بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، فيثبت الموضوع المركّب من وجود المرأة وعدم اتّصافها بالوصف، الذي هو الموضوع للعام بعد التخصيص.

ففي ما نحن فيه، إذا فرض وجود الصُّوف في الخارج، وشُكّ في كونه من غير

ص: 226

المأكول، فإنّ مقتضى الأصل عدم تحقّقه، فيثبت الموضوع المركّب من الذّات وعدم اتّصافه بالوصف.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه يتمّ بناءً على المانعيّة، بأنْ يكون الجمع بين الأدلّة مقتضياً، لأنّ المعتبر في الصَّلاة هو وجود السّاتر، وأنْ لايكون من غير المأكول، كما هو الحقّ على ما عرفت.

وأمّا بناءً على الشرطيّة، واعتبار كون السّاتر من ما يؤكل فلا يتمّ ، فإنّه لا يثبت به أنّه غير ما لايؤكل.

***

ص: 227

أصالة عدم لبس غير المأكول

الوجه الثاني: من الوجوه التي استدلّ بها للجواز؛ استصحاب عدم كون المُصلّي لابساً لغير المأكول، الثابت قبل لبسه للمشكوك فيه، فيترتّب عليه صحّة الصَّلاة.

وفيه: إنّه إنّما يجري هذا الأصل لو كان مركز القيد هو المُصلّي، ولكن قد عرفت في الأمر السابع من المقدّمة منعه، وأنّ مركزه الصَّلاة، وعليه فلا يجري هذا الأصل، لأنّه لا يثبت به وقوع الصَّلاة في غير ما لا يؤكل، وعدم اتّصافها بوقوعها فيما لا يؤكل إلّاعلى القول بالأصل المثبت، ولا نقول به.

نعم، على المسلك المختار إذا لبس المُصلّي أثناء صلاته ما يَشكّ في كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، جرى في حقّه استصحاب عدم اتّصاف الصَّلاة بوقوعها في غير المأكول ولزم الحكم بالصحّة.

قال الشيخ الأعظم(1): الفرق بين المانع والقاطع في جريان الاستصحاب في الثاني دون الأوّل.

وتوضيح ما أفاده كما عن المحقّق النائيني رحمه الله(2) يتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي:

إنّ المركّبات التكوينيّة على قسمين:

أحدهما: المركّب الحقيقي، وهو الذي يكون له وحدة حقيقيّة، وصورة نوعيّة واحدة، وتكون أجزاءه باقية في الخارج بموادها لا بصورها النوعيّة كالياقوت، فالمركّب منها واحدٌ حقيقي في الخارج، متكثّر بالتحليل العقلي.

ص: 228


1- يظهر ذلك من حاشيته على الاستصحاب: ص 80.
2- فوائد الاُصول للنائيني: ج 4/233.

ثانيهما: المركّب الاعتباري، وهو الذي تكون أجزاءه محفوظة بصورها النوعيّة، ولا تكون له الوحدة إلّابالاعتبار، كالعسكر المركّب من جماعة مجتمعة، فهو متكثّرٌ حقيقي وواحدٌ بالاعتبار.

وهكذا الكلام في المركّبات الشرعيّة:

فمنها: ما يسمّى بالمركّب الحقيقي، وهو الذي اعتبر فيه جزءٌ صوري محيط بأجزائه التدريجيّة المنصرمة، يوجد ذلك الجزء الصوري شيئاً فشيئاً بابتداء أوّل جزءٍ من المركّب، وينتهي بانتهاء آخر أجزائه، وذلك كالصّلاة.

ومنها: ما يسمّى بالمركّب الاعتباري، وهو الذي لم يعتبر فيه جزءٌ صوري، ويكون هو نفس الأجزاء المتكثّرة الخارجيّة، وذلك كالوضوء.

ففي القسم الأوّل: تارةً يُؤخذ أمرٌ عدمي قيداً للأجزاء المادّيّة، فهو المانع.

واُخرى يؤخذ قيداً للجزء الصوري، وهو المعبّر عنه بالقاطع.

فالمانع ما يوجب الإخلال بالأجزاء المادّيّة، والقاطع ما يوجب الإخلال بالجزء الصوري.

إذا عرفت ذلك، فإذا شُكّ في وجود المانع أو مانعيّة الموجود لا مجال لجريان الاستصحاب لعدم بقاء الموضوع، لأنّ الأجزاء المتغايرة المتباينة إذا كانت السابقة منها غير مقترنة بالمانع يقيناً فشكّ بعد لبس ما يُشكّ في كونه من غير المأكول من اقتران الأجزاء اللّاحقة به، يكون المتيقّن غير المشكوك فيه، فلا يجري الاستصحاب لتغاير الموضوع.

وأمّا القاطع، فمع الشكّ في حدوثه، يصحّ استصحاب بقاء الجزء الصوري، لكونه أمراً واحداً ممتدّاً من أوّل الصَّلاة إلى آخرها، نظير استصحاب الطهارة عند

ص: 229

الشكّ في ناقضيّة المذي لها.

أقول: بعد توجيه ما أفاده من اعتبار الجزء الصوري - بأنّ للصَّلاة التي تكون مركّبة من أجزاء متغايرة، وحدة اعتباريّة، وهي موجودة بوجودٍ واحد اعتباري افتتاحها التكبير واختتامها التسليم - أنّ ظاهر دليل مانعيّة غير المأكول، اعتبار عدم وقوع هذا الواحد في ذلك المانع أو معه، لا اعتبار عدمه في كلّ جزءٍ بما هو جزء، ولذا لو وقع المانع في الآنات المتخلّلة بطل العمل. وعليه فصحّ أنْ يُقال هذا الواحد أوّل وجوده لم يكن متّصفاً بوقوعه في غير المأكول، والآن كما كان.

***

ص: 230

الاستصحاب التعليقي

الوجه الثالث: الاستصحاب التعليقي:

بأنْ يُقال إنّ الصَّلاة قبل لبس المُصلّي للمشكوك فيه، لو كانت موجودة لم تكن واقعة فيما لا يؤكل لحمه، فالآن كما كانت.

أقول: ويمكن أن يورد على هذا الاستصحاب باُمور:

الأمر الأوّل: أنّ الاستصحاب التعليقي لا يجري مطلقاً، حتّى في الأحكام، إذ القيود المأخوذة في الحكم - أي المعلّق عليها الحكم - ترجع إلى الموضوع، فمرجع قولنا: (العنب إذا غلي يحرم) إلى أنّ العنب المغليّ حرامٌ ، وعليه فالحكم الكلّي المُنشَأ لا شكّ في بقائه، إذ لا يحتمل عدمه إلّاعلى وجه النسخ.

والحكم الفعلي لترتّبه على الموضوع المركّب، إنّما يكون وجوده بعد تحقّق كلا جُزئي الموضوع، ولا يكون قبل تحقّق الجزئين كي يستصحب.

والحكم الفرضي التقديري لا يُستصحب، لعدم كونه مجعولاً شرعيّاً، بل هو عقليٌ لازمٌ لجعل الحكم على الموضوع المركّب، الذي وُجِد أحد جزئيه.

كما أنّ الملازمة بين الغليان والحرمة - التي توهم أنّها فعليّة قبل الغليان، من دون تعليقٍ ، من جهة أنّ صدق القضيّة الشرطيّة لا يتوقّف على صدق طرفيها أيضاً لا مجال لاستصحابها؛ لأنّ الملازمة:

إنْ لم تكن جعليّة لايجري فيها الاستصحاب، لعدم كونها أثراً شرعيّاً، ولا موضوعاً له أثرٌ شرعي.

وإنْ كانت مجعولة، فلها كسائر الأحكام مقام الإنشاء والفعليّة.

ص: 231

وبالنسبة إلى المقام الأوّل، لا شكّ في البقاء، وبالنسبة إلى المقام الثاني لا يقين بالثبوت، إذ فعليّتها تتوقّف على فعليّة موضوعها، وهو مركّب من جزئين: أحدهما العنب مثلاً، والآخر الغليان، والمفروض عدم تحقّق الثاني، فلا تكون فعليّة.

وتمام الكلام في محلّه.

الأمر الثاني: أنّه لو جرى الاستصحاب التعليقي، فإنّما هو في الأحكام، ولا سبيل إلى توهّم جريانه في الموضوعات، إذ الموضوع أو المتعلّق إنّما يكون مترتّباً عليه الأثر إذا وجد في الخارج، وأمّا وجوده التقديري، فلا يكون موضوع الأثر، مثلاً إذا شُكّ في بقاء الماء في الحوض، لا يصحّ أنْ يُقال إنّ الثّوب لو كان واقعاً قبل ذلك في الحوض كان مغسولاً والآن كما كان.

والمقام من قبيل الثاني، فإنّ متعلّق التكليف هي الصَّلاة الخارجيّة دون التقديريّة، واستصحاب الصَّلاة التقديريّة لترتيب آثار الفعليّة، من الأصل المثبت الذي لا نقول به.

الأمر الثالث: أنّ الاستصحاب التعليقي لو جرى، فإنّما هو فيما إذا كان الرّكن الركين في القضيّة باقياً في ظرف الشكّ ، ولذا منعنا عن جريان استصحاب الحرمة التعليقيّة الثابتة للعنب للزبيب، حتّى بناءً على جريانه، من جهة أنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة ماء العنب، وفي القضيّة المشكوكة الماء الخارجي المُلقى على الزبيب.

والمقام من هذا القبيل، إذ موضوع الصحّة هي الصَّلاة، وهي لم تكن موجودة سابقاً.

ودعوى: أنّ الموضوع المستَصحب في المقام، هو نفس طبيعة الصَّلاة، فموضوع القضيّتين واحد.

مندفعة: بأنّ الطبيعة من حيث هي ليست شيئاً، وموضوع الأثر وجودها.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم جريان هذا الأصل.

***

ص: 232

استصحاب عدم الحرمة

الوجه الرابع من ما استدلّ به للجواز: استصحاب عدم الحرمة في اللّحم، الثابت لعامّة المكلّفين قبل البلوغ، أو عدم الحرمة الثابت قبل الشرع، فيثبت به عدم كون الحيوان المشكوك فيه من غير المأكول، فيجوز الصَّلاة في أجزائه.

وفيه: أنّ ذلك لو تمّ ، فإنّما هو لو قلنا بأنّ الموضوع لعدم الجواز الحرمة الفعليّة، وأمّا لو التزمنا بأنّ الموضوع هي العناوين الذاتيّة لما لا يؤكل لحمه، فلا يتمّ ذلك لعدم الحالة السابقة له قبل البلوغ، ولا قبل الشرع أصلاً.

مع أنّه يرد على التقريب الأوّل: أنّ الصبي والمجنون ونحوهما يعدّ من العناوين المقوّمة للموضوع، فإذا بلغ الصبي يكون الموضوع متبدّلاً بنطر العرف، فلايجري الاستصحاب.

وأمّا الإيراد عليه: بأنّ المتيقّن هو العدم المحمولي، غير المنتسب إلى الشارع، والعدم بعد البلوغ لو كان، فهو عدمٌ منتسب إليه، واستصحاب العدم المحمولي لإثبات العدم النعتي من الأصل المثبت، كما عن المحقّق النائيني رحمه الله.

فيرد عليه: أنّ العدم في حال التمييز مستندٌ إلى الشارع، مع أنّ الانتساب إليه إنّما يكون بنفس الاستصحاب، وذكرنا في محلّه أنّ المثبت إنّما هو في لوازم المستصحب دون الاستصحاب.

أقول: وبعين هذا الإيراد أُورد على التقريب الثاني، وجوابه ما عرفت، وقد أورد عليه بإيرادات اُخر:

منها: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله، من أنّ مورد الأثر هو التكليف الفعلي

ص: 233

دون الإنشائي، واستصحاب عدم الجعل لإثبات عدم المجعول من أوضح أنحاء الاُصول المثبتة.

وفيه: أنّه لا تعدّد للاعتبار والمعتبر والإنشاء والمُنشَأ، وإنّما لا يجبُ امتثال الحكم قبل وجود الموضوع، من جهة تعلّقه به على نحو القضيّة الحقيقيّة، فمع عدم الموضوع، لا حكم في حقّ المكلّف من الأوّل، ولذا لم يستشكل أحدٌ في استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل، ويحكم بفعليّة الحكم لأجله.

ومنها: معارضته باستصحاب عدم جعل الإباحة، للعلم بجعل أحدهما.

وفيه: أنّه لا مانع من إجرائهما، بعد فرض عدم لزوم المخالفة العمليّة من جريانهما معاً.

ومنها: غير ذلك ممّا هو بيِّن الدفع.

***

ص: 234

استصحاب العدم النعتي

الوجه الخامس: ما أفاده بعض المحقّقين(1) من إجراء استصحاب العدم النعتي ببيان دقيق، وهو:

أنّ أجزاء الحيوان كلّها متبدّلة، من الأجزاء النباتيّة والجماديّة إلى الصورة الحيوانيّة، وعليه فالمادّة المشتركة بين الحيوان والنبات مثلاً قبل تبدّلها بصورة حيوانيّة، لم تكن من أجزاء ما لا يؤكل، فيُستصحب ذلك عند الشكّ والعلم بتبدّلها بصورة حيوانيّة.

ولا يتوهّم - كما ورد في تقريرات بعض أكابر تلامذته - معارضة هذا الاستصحاب، باستصحاب عدم انقلاب المادّة إلى الصورة الاُخرى، إذ لا أثر شرعي له.

***

ص: 235


1- السيّد الخوئي قدس سره في دراسات في علم الاُصول: ج 3/322.
أصالة الإباحة

الوجه السادس: أصل الحِلّ في الحيوان المأخوذ منه اللّباس، فإنّ مقتضاه صحّة الصَّلاة فيه، سواءٌ اُستفيد من النصوص الشرطيّة أو المانعيّة.

أمّا على الأوّل: فواضح، إذ الأصل المذكور يُثبت الشرط.

وأمّا على الثاني: فلأنّ الظاهر من دليله مثل صحيح ابن سنان: «كلّ شيءٍ فيه حلالٌ وحرام، فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتَدَعه»(1)، ومثله موثّق مسعدة(2)، جعل الحِلّ بلحاظ كلٍّ من أثر الحِلّ وأثر الحرمة، فيقتضي نفي أثر الحرمة، كما يقتضي ثبوت أثر الحِلّ ، وإذا انتفى المنع الذي هو أثر الحرمة صحّت الصَّلاة.

أقول: وأورد عليه بإيرادات:

منها: أنّ موضوع الجواز الحليّة الواقعيّة، والثابت بأصالة الحِلّ ، الحليّة الظاهريّة، فلا يترتّب جواز الصَّلاة على ذلك الأصل.

وفيه: أنّ موضوع الجواز وإنْ كان الحليّة الواقعيّة، إلّاأنّ لسان دليل أصالة الحِلّ جعل فردٍ من أفراد الموضوع في الظاهر، ولذا يكون دليل الأصل حاكماً على دليل الواقع بالحكومة الظاهريّة، ألا ترى أنّه يترتّب على أصالة طهارة الماء، جواز شربه والوضوء به، مع أنّهما مترتّبان على الطهارة الواقعيّة، ولو انكشف الخلاف وجب إعادة الوضوء.

ص: 236


1- الكافي: ج 5/313 ح 39، وسائل الشيعة: ج 17/87 أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 1 (22050).
2- الكافي: ج 5/313 ح 40، وسائل الشيعة: ج 17/89 أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 (22053).

وبالجملة: يترتّب على أصالة الحِلّ جميع الآثار المترتّبة على الحليّة الواقعيّة، ما لم ينكشف الخلاف.

ومنها: أنّ أصالة الإباحة من الاُصول العمليّة، ويتوقّف جريانها على ترتّب أثر عملي عليها، فإذا فرضنا أنّ الحيوان المتّخذ منه هذا الصُّوف معدومٌ وخارجٌ عن محلّ الابتلاء، لا معنى لجريان أصالة الإباحة فيه.

وفيه: أنّ توقّف جريان أصالة الإباحة، على ترتّب أثر عملي عليها ممّا لا يُنكر، وإلّا لزم اللّغوية، ولكن يكفي في الخروج عن ذلك، جواز الصَّلاة في الصُّوف المتّخذ منه.

ومنها: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله(1) من أنّه لا تجري أصالة الإباحة فيما إذا عُلم بحليّة أكل لحم حيوانٍ معيّن، وحرمة أكل لحم الآخر، المتميّز في الخارج عن المحلّل، فإنّه ليس هناك ما يُشكّ في كونه محلّل الأكل أو محرّمه، ويكون الشكّ راجعاً إلى أخذ الصُّوف من المحلّل أو المحرّم.

وفيه: إنّه يكفي في جريان الأصل الشكّ من جهة واحدة، ولا يعتبر كونه مشكوكاً فيه من جميع الجهات، وعليه فاللّحم الخارجي وإنْ كان من حيثُ هو حكمه معلوماً، إلّاأنّ حليّة لحم ما أُخذ منه الصُّوف بهذا العنوان مشكوكٌ فيها، فيجري فيه الأصل.

ومنها: ما عنه أيضاً(2)، وهو أنّ موضوع الجواز ليس هو الحليّة الفعليّة، فإنّ الغنم الميّت حرامٌ أكل لحمه، ولم يكن حلالاً ولو في آنٍ واحد، مع أنّه يجوز الصَّلاة0.

ص: 237


1- أجود التقريرات: ج 2/193 (ط. ق) يظهر ذلك من قوله: (إنّ جريان أصالة الإباحة في مشتبه الحكم، يتوقّف على عدم وجود أصل موضوعي حاكم عليه فلو شكّ في حليّة أكل حيوان.. الخ).
2- كتاب الصَّلاة للكاظمي: ج 1/310.

في صوفه، فيعلم أنّ الحرمة الفعليّة لا تكون مانعة، والحليّة الفعليّة ليست موضوعاً للجواز، بل الموضوع هو الحرمة الفرضيّة التقديريّة، والحليّة كذلك، أي حليّة الأكل على تقدير التذكية، وحرمته على تقدير عدمها لا تثبتها أصالة الإباحة.

أقول: إنّ ما أفاده رحمه الله يتمّ على مسلكه من رجوع الشرط إلى الموضوع، وكونه من قيوده، وأمّا بناءً على عدمه، وكون الموضوع في المثال الحيوان، والتذكية شرطاً للحكم، لا جزءً للموضوع فلا يتمّ ما ذكره، إذ قبل تحقّق الشرط وإنْ لم يكن الحكم فعليّاً، إلّاأنّه يكون الحكم الإنشائي الجزئي المنطبق على هذا الموضوع الخارجي الجزئي موجوداً، ولا مانع من إجراء أصالة الحِلّ وإثبات الحليّة بهذا المعنى بها، ويترتّب عليها جواز الصَّلاة فيما اتّخذ منه.

ومنها: ما عنه رحمه الله(1) أيضاً: وهو أنّ موضوع المنع ليس هو الحرمة بهذا العنوان، بل العناوين الخاصّة الذاتيّة، كالثعلب والأرنب وماشابههما، كما أنّ موضوع الجواز هي ذوات ما أحلَّ اللّه أكله، ومعلومٌ أنّ أصالة الحِلّ لا تثبت كون الحيوان من الأنواع المحلّلة، أو عدم كونه من الأنواع المحرّمة.

وأورد عليه المحقّق الإيرواني رحمه الله(2) بما حاصله: إنّه لو سُلّم كون عنوان محرّم الأكل معرّفاً ومشيراً إلى العناوين الذاتيّة الخارجيّة، لا أنّه موضوع الحكم بنفسه، ولكن دليل الأصل كما يكون حاكماً وناظراً إلى الموضوع الواقعي، يكون حاكماً وناظراً إلى الموضوع الدليلي، فدليل أصالة الحِلّ كما يوجب رفع موضوع ما أُخذ الحرمة بعنوانها في الموضوع، كذلك يوجبُ رفع الحرمة المأخوذة مرآتاً ومشيراً إلى المعنونات.9.

ص: 238


1- كتاب الصَّلاة للكاظمي: ج 1/311.
2- فقه الشيعة: ج 2/289.

وبعبارة اُخرى: الحرمة ترتفع به سواءٌ أكانت بنفسها موضوعاً أو معرّفاً لما هو الموضوع الواقعي.

وفيه: إنّ هذا لو تمّ ، فإنّما هو بالنسبة إلى الدليل الذي أُخذ في موضوعه الحرمة، وأمّا ما أُخذ فيه نفس العناوين الخاصّة من الأسد والثعلب والأرنب ونحوها فلا يتمّ ، إذ لا يرتفع بأصالة الإباحة احتمال كون المأخوذ منه أسداً مثلاً، مع أنّ الحكومة إنّما تكون بالإضافة إلى المراد لا اللّفظ، لعدم ترتّب الحكم الشرعي على اللّفظ، فلا معنى متصوّر لحكومة دليل الأصل على ما أُخذ الحرمة فيه مرآتاً لمعنونها، فهذا الوجه متينٌ لا يرد عليه شيء، فلا يصحّ التمسّك بأصالة الحِلّ .

ثمّ إنّه لو قلنا بصحّة التمسّك بها، فهل يتوقّف جريانها على كون اللّحم في محلّ الابتلاء، نظراً إلى أنّ أصالة الحِلّ من الاُصول الحكميّة، فمع فرض خروجه عن محلّ الابتلاء، لا معنى للحكم عليه بالحلّ والإباحة حتّى يترتّب عليها جواز الصَّلاة، كما عن المحقّق الإيرواني، أم لا؟

وجهان، أقواهما الثاني، فإنّ المجعول بهذا الأصل هو الحكم، وهي الإباحة، فيكفي في صحّة جعله ترتّب أثر عملي عليه، ليخرج بذلك عن اللّغوية، وحيث أنّه يترتّب جواز الصَّلاة عليها في المقام، فلا يلزم اللّغوية من جريانها، فلا يعتبر في جريانها الدخول في محلّ الابتلاء.

وستأتي تقاريب اُخر لأصالة الحِلّ لاحقاً.

***

ص: 239

قاعدة الطهارة

الوجه السابع: ممّا استدلّ به على جواز الصَّلاة في المقام هو قاعدة الطهارة.

أقول: لو دار الأمر بين أنْ يكون اللّباس من الغنم أو الكلب، فإنّه إذا جرت القاعدة، وحُكم بطهارة المأخوذ منه، جاز الصَّلاة فيه، فإذا جاز الصَّلاة مع احتمال كونه كلباً، جازت مع سائر الشبهات لعدم الفصل.

وفيه: إنّ غاية ما يثبت بقاعدة الطهارة، هي الطهارة والآثار الشرعيّة المترتّبة عليها خاصّة، وأمّا الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها مع شيءٍ آخر، فلا يترتّب عليها، ما لم يثبت ذلك الشيء بطريقٍ آخر، لعدم حجيّتها في مثبتاتها، فلا يثبت بها ذلك الشيء.

والمقام من قبيل الثاني، فإنّ جواز الصَّلاة مترتّبٌ على الطهارة والحليّة.

***

ص: 240

المقصد الثالث: فيما تقتضيه الاُصول الحُكميّة
اشارة

أصالة الحِلّ في الصَّلاة

المقصد الثالث: فيما تقتضيه الاُصول الحُكميّة.

أقول: وتقريب الاستدلال بها من وجوه:

أصالة الحِلّ في الصَّلاة

الوجه الأوّل: ما عن جماعة منهم سيِّد «المدارك»(1)، وصاحب «الحدائق»(2)، والمحقّق القمّي(3)، والمحقّق اليزدي(4)، وغيرهم: من إجراء أصالة الحِلّ في نفس الصَّلاة، بتقريب أنّ الصَّلاة في اللّباس المشكوك فيه يُشكّ في أنّها جائزة ومحلّلة أم لا؟ فمقتضى أدلّة القاعدة هو الجواز والحليّة.

أقول: وتقريب ذلك بنحوٍ يندفع جميع ما أورده عليه المحقّق النائيني رحمه الله(5)ومحصّله يبتني على مقدّمات نشير إليها.

المقدّمة الأُولى: ينحلّ التكليف الواحد المتعلّق بمركّبٍ اعتباري من اُمور وجوديّة وعدميّة، إلى تكاليف ضمنيّة متعدّدة من أوامر ونواه، فكون غير المأكول مانعاً يعني تعلّق النهي بذلك الأمر الوجودي، ولذلك ترى أنّ موانع الصلاة من الحرير وغير المأكول وغيرهما، قد تعلّق النهي بها في الأدلّة كما في قوله: (لا تُصلِّ في شيءٍ من أجزاء ما لا يؤكل لحمه)، أو قوله: (لا تُصلِّ في الحرير المحض) وما شاكل، فالمستفاد من الأدلّة أنّ كون اللّباس من أجزاء غير المأكول منهيٌّ عنه، ومبغوض

ص: 241


1- مدارك الأحكام: ج 4/214.
2- الحدائق: ج 7/86.
3- غنائم الأيّام: ج 2/313.
4- ظاهر العروة الوثقى: ج 2/340 مسألة 18.
5- كما قد يظهر من فوائد الاُصول: ج 1-2/582.

للشارع، غاية الأمر بالنهي الغيري الضمني لا الاستقلالي.

المقدّمة الثانية: أنّ موضوع المانعيّة ملحوظٌ بنحو الطبيعة السّارية، بحيث يكون كلّ ما يفرض من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه، مانعاً مستقلّاً في قِبال غيره من الأفراد.

المقدّمة الثالثة: أنّه لا تختصّ أدلّة اعتبار قاعدة الحِلّ بما إذا كانت الحرمة المشكوك فيها استقلالية، بل تعمّ الحرمة الضمنيّة لإطلاق لفظ (الحرام) على جميع ذلك على حدٍّ سواء، لغةً وعرفاً وشرعاً.

أمّا لغةً : فلأنّه مأخوذ من الحرمان، ولا فرق في الحرمان عن الشيء، بين أنْ يكون من جهة مبغوضيّته في نفسه، أو لكونه موجباً لتفويت مطلوبٍ كالصّلاة.

وأمّا عرفاً: فواضح.

وأمّا شرعاً: فلاستعمال الحرام والحلال في ذلك في الأخبار، وهي ما بين ما أُطلق فيه الحرام على خصوص الحرام الغيري، كما في باب الموانع، وبين ما أُطلق فيه على الأعمّ منه ومن النفسي.

فمن الطائفة الأُولى:

1 - قوله عليه السلام في صحيح عبد الجبّار: «لا تُحلّ الصَّلاة في حريرٍ محض»(1).

وفي آخر: «لا تحلّ الصَّلاة في الحرير المحض، وإنْ كان الوَبَر ذَكّياً حَلّت الصَّلاة فيه»(2).

2 - وقوله عليه السلام في الجواب عن سؤال الروايتين الواردتين عن الإمام).

ص: 242


1- الكافي: ج 3/399 ح 10، وسائل الشيعة: ج 4/368 أبواب لباس المُصلّي ب 11 ح 2 (5412).
2- التهذيب: ج 2/207 ح 18، وسائل الشيعة: ج 4/377 أبواب لباس المُصلّي ب 14 ح 4 (5442).

العسكري عليه السلام، المتعارضتين، في الصَّلاة في الخَزّ المغشوش:

«إنّما حَرُم في هذه الأوبار والجلود، وأمّا الأوبار وحدها فكلّها حلال»(1).

3 - والتوقيع الاخر منه: «لا يجوز الصَّلاة فيها»(2).

4 - وقوله عليه السلام في خبر عبد اللّه بن سنان: «كلّما كان على الإنسان أو معه ممّا لا تجوز الصَّلاة وحده... الخ»(3).

5 - وقوله عليه السلام: «لا تجوزُ الصَّلاة في شيءٍ من الحديد»(4). ونحوها غيرها.

ومن الطائفة الثانية:

1 - ما عن «الفقيه» في الثّوب المُشترى المُصاب به الخمر وودك الخنزير:

«إنّ اللّه حرّم أكله وشربه، ولم يُحرّم لبسه ومسّه والصَّلاة فيه»(5).

2 - وما عن «الخصال» في حديثٍ : «ويجوزُ أن تتختَّم (أي المرأة) بالذّهب وتُصلّي فيه، وحَرُم ذلك على الرِّجال»(6).

3 - وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «وجَعَل اللّه تعالى الذهب في الدُّنيا زينةً للنساء، وحَرّم على الرِّجال لبسه والصَّلاة فيه»(7). إلى غير ذلك من الأخبار.

المقدّمة الرابعة: أنّ الحلال هو ما يقابل الحرام، وهو عبارة عن ترك العبد).

ص: 243


1- الاحتجاج: ج 2/491، وسائل الشيعة: ج 4/366 أبواب لباس المُصلّي ب 10 ح 15 (5409).
2- الكافي: ج 3/399 ح 9، وسائل الشيعة: ج 4/356 أبواب لباس المُصلّي ح 5 (5377).
3- التهذيب: ج 1/275 ح 97، وسائل الشيعة: ج 3/456 أبواب النجاسات ب 31 ح 5 (4164).
4- التهذيب: ج 2/227 ح 102، وسائل الشيعة: ج 4/419 أبواب لباس المُصلّي ب 32 ح 6 (5586).
5- الفقيه: ج 1/248 ح 751، وسائل الشيعة: ج 3/472 أبواب النجاسات ب 38 ح 13 (4209).
6- الخصال: ج 2/585، وسائل الشيعة: ج 4/380 أبواب لباس المُصلّي ب 16 ح 6 (5453).
7- التهذيب: ج 2/227 ح 102، وسائل الشيعة: ج 4/414 أبواب لباس المُصلّي ب 30 ح 5 (5569).

ليفعل ما يشاء من الفعل أو الترك بإرادته واختياره وميله.

المقدّمة الخامسة: أنّ الشيء قد يكون حراماً، بمعنى ثبوت المنع الشرعي عن جميع تقلّباته، بحيث لا يكون له منفعة محلّلة مقصودة عند العقلاء.

وقد يكون حراماً باعتبار المنع عن بعض منافعه المقصودة.

والأمر في الحلال كذلك، فإذا اشتبه الصُّوف بين أنْ يكون ممّا يجوز الصَّلاة فيه وما لا تجوز فالصَّلاة فيه، من المنافع الشائعة له، بحيث لو كان حراماً واقعاً لصدق عليه التحريم الشرعي حقيقة، ولو كان حلالاً لصدق عليه التحليل.

المقدّمة السادسة: إنّ مفاد قاعدة الحِلّ في الصَّلاة، نفي التقييد رأساً في مرحلة الظاهر، والترخيص في الصَّلاة مع المشكوك فيه، فيكون المأمور به مطلقاً غير مقيّدٍ بعدم الوقوع في المشكوك فيه، وترتفع بذلك المانعيّة.

أقول: إذا ثبتت هذه الأُمور، يظهر أنّ قاعدة الحِلّ تجري في الصَّلاة، إذ يشكّ المكلّف في حرمة الصَّلاة في اللّباس المشكوك فيه بالحرمة الضمنيّة وعدمها، فيبني بمقتضى القاعدة على حليّتها.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الشكّ في اللّباس أنّه من المأكول أو من غيره، موجبٌ للشكّ في تعلّق نهي بهذا الفرد المشكوك فيه، فيشك في أنّ الصَّلاة فيه حرامٌ أو حلال، وتشمله قاعدة الحِلّ ، فيقال إنّ الصَّلاة في هذا الفرد المشكوك فيه حلال.

وبهذا التقريب يندفع جميع ما أُورد على جريان قاعدة الحِلّ فيها، كما يندفع ما أورده بعض المحقّقين من أنّه لو قيل بجريان القاعدة فيها لزم منه القول بجريانها في الشكّ في إتيان الشرائط والأجزاء، فيقال إنّ الأصل حليّة الصَّلاة مع الشكّ في فقد جزئها أو شرطها، وهو مستلزمٌ لتأسيس فقه جديد.

ص: 244

فإنّه يُجاب عنه: بأنّ الثابت في الموانع هو التكليف التحريمي، وفي الشرائط والأجزاء هو التكليف الوجوبي، والقاعدة مختصّة بالشبهة التحريمية.

فإنْ قيل: إنّه يلزم من التقريب المذكور البناء على صحّة كلّ عقدٍ أو إيقاع يشكّ في ترتّب الأثر عليه عند الشارع، لأنّ الشكّ في محروميّة المكلّف منه وعدمها، ممّا لا يمكن الالتزام به.

أجبنا عنه: بأنّ الظاهر أنّ المراد من الشيء المشكوك حليّته وحرمته، والمأخوذ في أدلّة أصالة الحِلّ ، هو الأعيان الخارجيّة مثل الماء والجُبُنّ واللّباس، فيكون المراد من الحِلّ والحرمة المتعلّقة بها، هي الحليّة والحرمة الوضعيّة العارضة لنفس الموضوعات الخارجيّة، باعتبار تعلّق الأفعال بها، فلا تشمل الأفعال غير المتعلّقة بالموضوعات الخارجيّة كالقراءة والجهر والإخفات، والعقد والايقاع.

وأيضاً: قد يقرّب أصل الحِلّ في المقام بأنّ الشكّ في اللّباس يستلزم الشكّ في مشروعيّة التعبّد بالصَّلاة فيه وحليّته، فإذا جرت القاعدة، وثبتت الحليّة، ثبت ظاهراً أنّه ليس بمانع.

ويردّه: - مضافاً إلى أنّه لا يثبت به أجزاء الصَّلاة، وكونها فرداً من المأمور به، لعدم كونه من الآثار الشرعيّة لحليّة التعبّد، كي يترتّب بإثباتها بالأصل، بل هو من اللّوازم الخارجيّة - أنّ الصَّلاة بلا قصد الأمر الجزئي لا يحتمل حرمتها، ومعه يكون تشريعاً محرّماً قطعاً، ما لم يثبت عدم تقييد الصَّلاة بأن لا تقع في المشكوك فيه.

وعليه، فالعمدة من تقريبات أصالة الحِلّ ما ذكرناه تبعاً للأساطين.

***

ص: 245

الاستدلال للجواز بالبراءة
اشارة

الوجه الثاني: من الاُصول الحكميّة التي استدلّ بها لجواز الصَّلاة في اللّباس المشكوك فيه، هو أصالة البراءة، حيث استند إليه جمعٌ من الأساطين(1)، بتقريب أنّها تجري ويرفع بها قيديّة عدم ما شُكّ في كونه من غير المأكول في الصَّلاة، فتصحّ معه.

وأورد عليه: بأنّه شكٌّ في الامتثال، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

جريان البراءة في المقام يتوقّف على اُمور ثلاثة
اشارة

أقول: إنّ جريان البراءة في المقام يتوقّف على اُمور ثلاثة:

1 - جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة.

2 - جريانها في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

3 - كون الشبهة المصداقيّة في المقام غير راجعة إلى الشكّ في الامتثال - بأنْ يكون المعتبر في الصَّلاة أمراً وجوديّاً أو عدميّاً متحصّلاً من ترك لبس الأفراد الخارجيّة، من ألبسة غير المأكول، أو غير ذلك ممّا سيمرّ عليك، الموجب لكون الشكّ في الامتثال - بل راجعاً إلى الشكّ في التكليف.

والأظهر تماميّة هذه الاُمور:

ص: 246


1- راجع كتاب الصَّلاة للكاظمي (تقريرات النائيني): ج 1/297 قوله: (فالشبهة أيضاً مندرجة في مجاري البراءة، ضرورة أنّه بناءً على السلب الكلّي وإنْ كان النهي واحداً والقيد فارداً، إلّاأنّه لا إشكال في اتّساع دائرة متعلّق النهي والقيد حسب سعة ما يوجد من أفراد غير المأكول... الى أنْ قال: وهذا المقدار يكفي في اندراج الشبهة في مجاري البراءة).
جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة

أمّا الأوّل: فلأنّ البراءة العقليّة، أي حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ودركه ذلك، وإنْ كان لا يجري فيها، إذ عمدة ما قيل في وجه جريانها فيها بعد النقض والإبرام أمران:

الأمر الأوّل: أنّ العقاب إنّما يكون مترتّباً على مخالفة التكليف الواصل، ووصول التكليف الفعلي، إنّما يكون متوقّفاً على وصول الكبرى الكليّة، وثبوت الموضوع، كي يتشكّل قياس، مثل: هذا خمرٌ، وكلّ خمرٍ يجب الاجتناب عنه، ويستنتج أنّ هذا يجبُ الاجتناب عنه، ويعلم بذلك، ومجرّد العلم بجعل الكبرى لا يفيد، فكما أنّه لو كانت الكبرى مشكوكاً فيها، يكون الحكم الفعلي مشكوكاً فيه، ويقبح العقل العقاب على مخالفته، كذلك إذا كانت الصغرى مشكوكاً فيها أيضاً.

وبالجملة: الميزان هو العلم بالحكم الفعلي وعدم العلم به، سواءٌ أكان منشأ عدم العلم الجهل بالكبرى أو الجهل بالصغرى.

وفيه: إنّ التكليف الفعلي إذا لم يكن معلوماً، إنّما يَحكُم العقل بقبح العقاب على مخالفته، إذا كان ذلك عن قصورٍ من ناحية المولى في مقام الجعل أو الإيصال، أي الجعل في معرض الوصول، وأمّا إذا فرضنا أنّ المولى عمل بما هو وظيفته، وبيّن الحكم، وجَعَله في معرض الوصول إلى المكلّف ووصل، وكان منشأ الشكّ اشتباه الاُمور الخارجيّة، فلا يقبح من المولى العقاب على مخالفته، إذ ليس بيان المصاديق وتعيين الجزئيّات وظيفة المولى، ولا يقبح منه ترك هذا البيان، فإذا تمّ ما هو مِنْ قِبله من البيان انقطع حكم العقل بالبراءة.

ص: 247

الأمر الثاني: أنّ المحرّك للعبد إنّما هو الوجود العلمي لا الواقعي، فقد يموت الإنسان عَطَشاً والماء في رحله لجهله بذلك، فالحكم ما لم يصل إلى المكلّف، لا يمكنه التحرّك نحوه، ومعه كان العقاب على مخالفته عقاباً بلا مقتضى، كما إذا لم يكن حكم من المولى أصلاً.

وفيه: إنّ احتمال وجود التكليف يصلح للمحرّكيّة، ومعه يتمكّن العبد من الامتثال.

وعليه، فالأظهر عدم جريانها.

ثمّ إنّه قد يذكر وجهٌ آخر لعدم الجريان، إلّاأنّ بيانه وما يرد وأُورد عليه موكولان إلى محلّه.

أقول: ولكن لا مانع من جريان البراءة الشرعيّة فيها الثابتة بحديث الرفع، والمرويّ بسند صحيح عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «رُفع عن اُمّتي تسعة أشياء، وعَدَّ منها: ما لا يعلمون»(1).

وموثّق مسعدة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «كلّ شيءٍ هو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتَدَعه مِنْ قِبل نفسك الحديث»(2).

وقريب منه غيره.

وتقريب دلالة الأوّل إجمالاً: أنّ المراد من كلمة (ما) في ما لا يعلمون التي هي من الموصولات، وموضوعة لمفهومٍ جامعٍ بين جميع الأشياء، أعمّ من الفعل والحكم، فيدلّ الحديث على رفع الحكم غير المعلوم، والفعل كذلك، وحيثُ أنّ ).

ص: 248


1- الفقيه: ج 1/59 ح 132، وسائل الشيعة: ج 7/293 أبواب قواطع الصَّلاة ب 37 ح 2 (9380).
2- الكافي: ج 5/313 ح 40، وسائل الشيعة: ج 17/89 أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 (22053).

المراد ب (الرفع) الرفع التشريعي لا التكويني، فلا يلزم الجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي، فيعمّ الشبهة الموضوعيّة، وتمام الكلام في محلّه.

ودلالة الثاني عليه واضحة، بل عن جمعٍ اختصاصه بالشبهة الموضوعيّة.

***

جريان البراءة في الأقلّ والأكثر

وأمّا الثاني: فلأنّه في مورد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، يكون وجوب الأقلّ النفسي معلوماً - كان هو الواجب أو الأكثر - بناءً على ما هو الحقّ من أنّ الأمر بالمركّب وإنْ كان واحداً، إلّاأنّ له أبعاضاً يتعلّق بكلّ واحد من أجزاء ذلك المركّب بعض من ذلك الأمر، وتعلّق الأمر الضمني بالقيد المشكوك مشكوكٌ فيه، فتجري فيه البراءة، ويقال إنّ ترك المأمور به إذا كان بترك الاُمور المعلوم دخلها فيه، صحَّ صدور العقاب من المولى عليه، وإذا كان بترك المشكوك فيه، يقبح العقل العقاب عليه، وعلى هذا لافرق في جريان البراءة بين العقلي منها والشرعي.

أقول: وأورد عليه بإيرادات، عمدتها ثلاثة:

الإيراد الأوّل: ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(1) وحاصله:

إنّه يلزم من وجود الانحلال عدمه، فإنّ لازم الانحلال عدم تنجّز التكليف على تقدير تعلّقه بالأكثر، وهو مستلزمٌ لعدم العلم بوجوب الأقلّ على كلّ تقدير، إذ من جملة تقاديره وجوبه في ضمن وجوب الأكثر، ولازم ذلك عدم الانحلال، فيلزم من فرض الانحلال عدمه.

وفيه: إنّ لازم الانحلال، عدم تنجّز التكليف بالزائد لا عدم وجوبه، فلا يلزم

ص: 249


1- كفاية الاُصول: ص 364 المقام الثاني في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين.

منه عدم العلم بوجوب الأقلّ .

الإيراد الثاني: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله(1): وهو أنّ العلم بوجوب الأقلّ لا يكون إلّاعلماً بوجوب الطبيعة المهملة المردّدة بين كونها مطلقة بالإضافة إلى ما شكّ في جزئيّته أو شرطيّته، أو مقيّدة به، وهو عبارةٌ اُخرى عن نفس العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، فلازم الانحلال عقلاً هو أنْ يكون العلم الإجمالي موجباً لانحلال نفسه، وهو مُحالٌ .

وفيه: إنّ العلم بوجوب الطبيعة المهملة، مع الشكّ في كلّ واحدةٍ من خصوصيّتي الإطلاق والتقييد، يترتّب عليه العلم بترتّب العقاب على ترك الأقلّ ، ولا بدِّية الإتيان به على التقديرين.

وأمّا الزائد عليه، فلا علم بوجوبه، ولا العقاب على تركه، فيجري فيه قبح العقاب بلا بيان، فالموجب لانحلال العلم بوجوب المطلق أو المقيّد، هو العلم بوجوب الأقلّ خاصّة بنحو الاهمال.

الإيراد الثالث: إنّ ترتّب المصلحة والغرض على المأمور به، ليس من قبيل تعلّق الحكم كي يستوفي كلّ مقدار منها بإتيان جزءٍ من أجزاء المأمور به، بل هي واحدة مترتّبة على المجموع، فمع إتيان الأقلّ وترك الجزء المشكوك فيه، يشكّ في حصول الغرض الملزم المعلوم، فتجري قاعدة الاشتغال من هذه الناحية.

وفيه: إنّ الغرض إذا لم يتعلّق به التكليف، ولم يكن ممّا يفهمه العُرف، لابدَّ للمولى من بيان محصّله، والعقل لا يستقلّ بلزوم تحصيله، بل يحكم بلزوم متابعةي.

ص: 250


1- راجع منتهى الاُصول: ج 2/311-312، الثالث: (في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء في متعلّق التكليف) للسيّد البجنوردي وهو مستفاد من العلمين المحقّق العراقي والعلّامة النائيني.

المولى وإتيان ما بينه، وعليه فالمقدار الواصل من المحصّل - وهو الأقلّ يجبُ إتيانه بحكم العقل، ويحسن العقاب على مخالفته، وأمّا المقدار الذي لم يصل - وهو الجزء المشكوك فيه - فالعقلُ لا يُلزم بإتيانه، ويقبّح العقاب على تركه.

وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه، والغرض في المقام هو الإشارة إلى المبنى.

***

تميّيز موارد البراءة والإشتغال في الشبهة الموضوعيّة

وأمّا الثالث: فتفصيل القول فيه يتوقّف على بسطٍ في الكلام.

وحاصله: أنّه إذا تعلّق التكليف بشيءٍ ، لا خفاء في لزوم كونه عنواناً اختياريّاً يصلح لأنّ تتعلّق به الإرادة، وذلك العنوان له أقسام:

1 - أنْ يكون اختياريّاً كلّه، ولا تعلّق له بموضوعٍ خارج عنه كالتكلّم.

2 - أنْ يكون له تعلّقٌ بموضوع متحقّق خارجي، كاستقبال القبلة.

3 - أنْ يكون له تعلّقٌ بعنوان كلّي ذي أفراد، مع أخذ الموضوع صرف وجود الطبيعة كالوضوء بالماء.

4 - أنْ يكون له تعلّقٌ بعنوانٍ كلّي، مع أخذ الموضوع جميع الوجودات بنحو العموم الاستغراقي، كالوفاء بالعقد.

5 - أنْ يكون له تعلّقٌ بكلّي، مع أخذ الموضوع جميع الوجودات بنحو المعلوم المجموعي.

أمّا القسم الأوّل: فعن المحقّق النائيني رحمه الله(1): أنّ المرجع في جميع موارد الشبهة الموضوعيّة في هذا القسم، هو الاشتغال، من جهة أنّ عنوان الفعل الاختياري لا

ص: 251


1- أجود التقريرات: ج 2/46، الأمر الرابع من مباحث العلم الإجمالي.

يكون مشكوكاً فيه حال صدوره الإرادي، بعد تبيّن مفهومه، إذ يستحيل أن يشكّ من أراد شيئاً عند إرادته له في هويّة ما أراده، وإنّما يعقل الشكّ فيه إذا كان من المسبّبات التوليديّة المقدورة بواسطة أسبابها، واشتبه المسبّب المحصّل له، ومعلومٌ أنّه متى رجعت الشبهة المصداقيّة إلى مرحلة المحصّل كان مرجعها إلى الشكّ في الإمتثال، فيكون مورداً لقاعدة الاشتغال.

وفيه: إنّ الفعل الإرادي لابدَّ وأنْ يكون معلوماً من الجهة التي تعلّقت به الإرادة، لا من جميع الجهات والعناوين المنطبقة عليه، مثلاً لو تكلّم في الصَّلاة بكلامٍ إراديّ ، فإنّه يمكن أن يُشكّ في انطباق عنوان الذكر عليه الذي هو متعلّق الحكم وعدمه.

وعليه، ففي هذا الفرض:

1 - إنْ كان التكليف إيجابيّاً، وكان المطلوب صِرْف وجود الطبيعة، فإنّه لا إشكال في لزوم إحرازه في الخارج، ومع الشكّ في الانطباق لا مجال للاكتفاء به في مقام الامتثال، فلا معنى للبراءة، بل المرجع هو قاعدة الاشتغال.

وإنْ كان المطلوب جميع الوجودات، يكون وجوب الأفراد المعلومة معلوماً، ووجوب هذا المشكوك انطباق الطبيعيّة المأمور بها عليه مشكوكاً فيه، فتجري البراءة عنه.

2 - وإنْ كان تحريميّاً: فإنْ كان متعلّق الزجر جميع الوجودات، فالكلام فيه هو الكلام فيما إذا كان التكليف إيجابيّاً، من حيث جريان البراءة في المشكوك انطباق الطبيعة عليه.

وإنْ كان صرف الوجود، بمعنى أنّ ما فيه المفسدة ومبغوض المولى أوّل

ص: 252

الوجودات، ولا يبعد أنْ يكون النهي عن بعض أنواع المفطرات في بعض أقسام الصوم من هذا القبيل، ومثاله العرفي ما لو نام المولى ونهى عن تكلّم عبيده، من جهة أنّ أوّل وجود التكلّم يوقظه من النوم، ولا مفسدة بعده في سائر الأفراد، وفي مثل ذلك يكون متعلّق النهي صرف وجود الطبيعة المنهيّ عنها.

فدعوى: عدم معقوليّة ذلك، من جهة أنّ الحكم التحريمي لا ينشأ إلّاعن مفسدة في متعلّقه، فتلك المفسدة:

إنْ كانت في الطبيعة السارية، فلابدَّ من تعلّق الحكم بكلّ وجودٍ بنحو الاستغراق.

وإنْ كانت في مجموع الوجودات، فلا مناص عن تعلّق حكمٍ شخصي بالمجموع، كما عن بعض المحقّقين.

ممنوعة كما عرفت.

وفي هذا الفرض لو أراد المكلّف ارتكاب المشكوك فيه، لا محالة يشكّ في صدق أوّل الوجود عليه، ليكون حراماً، فيرجع فيه إلى البراءة.

وأمّا القسم الثاني: وهو ما لو كان الحكم له تعلّقٌ بموضوع شخصي خارجي، كما في وجوب الصَّلاة إلى القبلة، وحرمة الإفاضة من عرفات قبل الغروب يوم عرفة:

فإنْ كان الحكم إيجابيّاً متعلّقاً بجميع الوجودات - أو مجموعها - فالحكم فيه هو البراءة كما تقدّم.

وإنْ كان تحريميّاً متعلّقاً بصرف وجود الطبيعة، كان الحكم فيه هو البراءة، وكذلك إنْ كان متعلّقاً بجميع الوجودات، لمعلوميّة مبغوضيّة سائر الأفراد، والشكّ

ص: 253

في مبغوضيّة هذا الفرد وإنْ كان متعلّقاً بمجموع الوجودات، لكن برغم ذلك لا إشكال في جواز إيجاد بعض الأفراد المتيقّنة فرديّتها للطبيعة مع ترك غيره، فضلاً عمّا هو مشكوك الفرديّة.

وهل يجوز ارتكاب جميع الأفراد المعلومة، وترك خصوص الفرد المشكوك فيه ؟

أقول: الظاهر هو ذلك، لأنّ مرجع الشكّ إلى الأقلّ والأكثر في المحرّمات على العكس في الواجبات، ويكون تعلّق التكليف بالأكثر ومبغوضيّته معلوماً، إمّا لأنّه المبغوض، أو لاشتماله عليه وتعلّقه بالأقلّ مشكوكاً فيه، فيرجع فيه إلى البراءة، وقد أشار الشيخ الأعظم رحمه الله(1) إلى ذلك في أواخر بحث الأقلّ والأكثر.

وأمّا القسم الثالث: وهو ما كان الحكم فيه متعلّقاً بما هو متعلّق بصرف وجود الطبيعة، كما في الوضوء بالماء، فإنّه متقوّمٌ بوجود الماء في الخارج بمقدار ما يمكن أن يتوضّأ به، من غير فرقٍ بين قلّته وكثرته، إلّامن ناحية التوسعة والتضييق في مقام الامتثال، ولا يتصوّر ذلك في التحريميّات، إذ ما فيه المفسدة والمبغوضيّة:

إمّا أن تكون جميع الوجودات أو مجموعها، أو وجود واحدٍ من الوجودات.

وعلى الأولين: كيفيّة ورود الحكم معلومة.

وعلى الأخير: لابدَّ وأن ينهي عن جميع الوجودات، لئلّا يوجد الطبيعة في الخارج، فإنّ الإنزجار عن الطبيعة، لا يكون إلّابالانزجار عن كلّ فردٍ وترك جميع الأفراد.

فتدبّر حتّى لا تُخطئ وتقيس المقام بما ذكرناه في القسم الأوّل.

وفي هذا الفرض إن شكّ في وجود الموضوع، يكون المرجع هو أصالة البراءة،2.

ص: 254


1- فرائد الاُصول: ج 2/462.

وإنْ شكّ في انطباق الموضوع الموجود حتماً على فردٍ، كما لو علم بوجود الماء وشكّ في أنّ المائع الخارجي المعيّن هل هو ماء أم لا، يكون المرجع قاعدة الاشتغال.

هذا في كبرى المسألة.

وأمّا الصغرى : فإنّ في المثال خصوصيّة لا تجري البراءة فيه بمجرّد الشكّ في الموضوع خارجاً، وهي أنّ للوضوء بدلاً وهو التيمّم، وقد أوجب اللّه تعالى الوضوء لواجد الماء، والتيمّم لفاقده، فلو شكّ في وجود الماء فلا محالة يحصل له العلم الإجمالي بوجوب الوضوء أو التيمّم، وهذا العلم الإجمالي مانعٌ عن جريان البراءة.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يُقال: إنّ موضوع وجوب الوضوء، هو الوجود الخاص للماء، أي الوجود المقدور، وهذا مسبوقٌ بالعدم، فيجري استصحاب العدم، ويحكم ببقائه، ويترتّب عليه عدم وجوب الوضوء، ووجوب التيمّم، وقد أشبعنا الكلام في ذلك، وفي النصوص الخاصّة الواردة في هذا الفرع في بحث التيمّم من كتابنا هذا.

وأمّا القسم الرابع: وهو ما كان متعلّق ما تعلّق به الحكم مأخوذاً بنحو العموم الاستغراقي، بحيث كان الحكم ثابتاً لكلّ فردٍ من أفراد الطبيعة.

فلا إشكال في أنّ المرجع في هذا القسم، فيما شكّ في انطباقه على موجود خارجي، كما لو شكّ في عالميّة زيد بعد ورود: (أكرم العلماء)، أو خمريّة مائعٍ خاص بعد ورود: (لا تشرب الخمر)، هو البراءة كما تقدّم.

أقول: والكلام في أنّ منشأ ذلك هو أنّ انطباق متعلّق التكليف لابدَّ وأنْ يكون متحقّقاً في مرتبة سابقة على تعلّق الحكم به، فإذا وجب إكرام العالم، لابدَّ في الحكم بالوجوب، من كون الإكرام مصداقاً لطبيعي إكرام العالم في الرتبة السابقة،

ص: 255

فلو شُكّ في عالميّة زيدٍ، لا محالة يُشكّ في كون إكرامه إكراماً للعالم وعدمه، ومعه يُشكّ في تعلّق الوجوب به، فيرجع إلى البراءة، أو أنّ فعليّة الحكم متوقّفة على فعليّة موضوعه، ووجود الموضوع شرط لفعليّة الحكم، على ما هو الشأن في القضيّة الحقيقيّة.

وعليه، فالشكّ في وجود الموضوع، يعود إلى الشكّ في وجود شرط فعليّة الحكم، الموجب لكون الشكّ شكّاً في التكليف، أو هما معاً، والبحث عن تفصيله موكولٌ إلى محلّه.

وأمّا القسم الخامس: وهو ما لو كان الحكم متعلّقاً بما له تعلّقٌ بالطبيعة السارية بنحو العموم المجموعي.

أقول: يظهر حكمه ممّا ذكرناه في تعلّق الحكم بمجموع الأفراد من المتعلّق، وقد عرفت أنّه في التكاليف الوجوبيّة يكون لزوم الإتيان بالأفراد المعلومة معلوماً، ولزوم إتيان المشكوك فيه غير معلوم، فتجري فيه البراءة.

وفي التحريميّات يكون الإتيان بغير المشكوك فيه مشكوك المبغوضيّة، فتجري فيه البراءة.

ثمّ إنّ هذه الأقسام التي ذكرناها كما تكون جارية في التكاليف النفسيّة، كذلك تكون جارية في التكاليف الضمنيّة أيضاً.

***

ص: 256

تقريب جريان البراءة

أقول: إذا عرفت هذه الاُمور، فاعلم:

إنّ النهي عن الصَّلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه:

إمّا أن يبقى على ظاهره من مبغوضيّة الفعل.

أو يُحمل على الإرشاد إلى مطلوبيّة العدم، ودخله في غرض المولى.

أمّا على الأوّل: فحيثُ أنّ متعلّق النهي له متعلّقٌ خارجي كلّي، فيدور أمر النهي عن الصَّلاة فيما لا يؤكل بين أمرين:

1 - إمّا مانعيّة وقوعها في كلّ فردٍ، بحيث يكون كلّ فردٍ مانعاً مستقلّاً.

2 - أو مانعيّة وقوعها في مجموع الوجودات.

وعلى التقديرين، تجري البراءة كما عرفت في القسم الرابع والخامس، وإنْ كان الأظهر هو الأوّل كما تقدّم في المقدّمة السادسة.

وأمّا على الثاني: ومرجعه إلى مطلوبيّة كلّ عدمٍ إمّا مستقلّاً أو في ضمن مطلوبيّة البقيّة كلّها، فيرجع في عدم ما شُكّ في أنّه من أفراد غير المأكول إلى البراءة على ما عرفت.

نعم، إذا كان النهي عن الصَّلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه إرشاداً إلى أخذ عنوان في المأمور به، يتحقّق ذلك بمجرّد عدم وقوعها في غير المأكول أو ما هو ملازم له، سواءٌ أكان أمراً وجوديّاً أو عدميّاً، والمرجع حينئذٍ هو قاعدة الاشتغال من جهة رجوع الشكّ حينئذٍ إلى الشكّ في الامتثال وعدمه.

ولكن قد عرفت في المقدّمة السادسة أنّه خلاف ظاهر الأدلّة، فراجع.(1)

ص: 257


1- صفحة 244 من هذا المجلّد.

أقول: وبما ذكرنا يندفع تعجب المحقّق النائيني رحمه الله من ذهاب المشهور إلى البراءة في الشبهات الموضوعيّة، وفي موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين، وإلى عدم الجواز في المقام، ويمكن أنْ يكون وجه ذهابهم إلى عدم الجواز في المقام، بنائهم على اشتراط أن يكون لباس المصلّي من غير المأكول، كما هو صريح عبارة العلّامة قدس سره في السّاتر، إذ عليه أيضاً لا تكفي البراءة، لأنّه لا مجال لإحراز تحقّق الشرط بها.

ولكن قد عرفت أنّ ظاهر الأدلّة مانعيّة غير المأكول، وعليه فتجري البراءة، ويكتفى بها من غير فرقٍ بين السّاتر وغيره، وبين ما عُلم كون الملبوس حيواناً أو غيره، وبين ما يكون مع المُصلّي من افتتاح الصَّلاة وغيره، وبين ما يكون من قبيل اللّباس وغيره، فإنّ الشكّ في جميع ذلك يرجع إلى الشكّ في المانعيّة، والمرجع فيه أصالة البراءة.

وبالجملة: ظهر من مجموع ما ذكرناه أنّ الأظهر جواز الصَّلاة في المشكوك كونه من غير المأكول.

***

ص: 258

الخاتمة
مدارك سائر الأقوال والجواب عنها

وأمّا الخاتمة: ففي بيان أمرين:

الأوّل: أنّه قد ظهر من مطاوي ما حقّقناه مدارك سائر الأقوال وضعفها، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إليها:

أمّا مدرك القول الأوّل: وهو المنع مطلقاً، فوجهه عدم تماميّة الأدلّة الاجتهاديّة، وعدم جريان الاُصول الموضوعيّة والحكميّة أو عدم فائدتها، وقد عرفت الجواب عن ذلك.

وأمّا مدرك القول الثاني: فهو الأدلّة الاجتهاديّة، وقد مرَّ عدم تماميّتها.

وأمّا مدرك القول الثالث: فمن الاُصول الموضوعيّة، استصحاب العدم الأزلي، ومن الاُصول الحُكميّة أصالة البراءة، وأمّا سائر الوجوه فلا تخلو عن المناقشة، وقد عرفت أنّهما يتّمان على القول بالمانعيّة، الذي هو المختار، دون الشرطيّة.

وأمّا مدرك القول الرابع: فهو أنّه يعتبر في اللّباس - زائداً على مانعيّة غير المأكول - وقوعها في غير ما لايؤكل، أي أنّ المستفاد من الأدلّة الشرطيّة في اللّباس، والمانعيّة في غيره، وعليه فالاُصول تكفي للقول بالجواز في غير اللّباس دونه.

ولكن قد عرفت فساد المبنى ، وأنّ الأظهر هو المانعيّة مطلقاً.

وأمّا مدرك القول الخامس: فهو أنّ المستفاد من موثّق ابن بكير المتقدّم، شرطيّة المأكوليّة على تقدير كونه حيوانيّاً، وقد تقدّم أنّ المستفاد منه أيضاً المانعيّة.

وأمّا مدرك القول السادس: فهو استصحاب عدم كون الصَّلاة في غير المأكول، وقد عرفت اختصاصه بما يلبسه أو يقع عليه بعد الشروع في الصَّلاة.

ص: 259

وأمّا مدرك القول السابع: فقد أشرنا إليه عند نقله.

وأمّا مدرك القول الثامن: فهو البناء على الشرطيّة في خصوص اللّباس إذا أُحرز كونه حيوانيّاً، وقد مر في مطاوي كلماتنا تفصيل ذلك كلّه وضعفها.

***

ص: 260

وقوع الصَّلاة في غير المأكول جهلاً أو نسياناً

الأمر الثاني: بعد ما عرفت من أنّ جواز الصَّلاة في اللّباس المشكوك فيه إنّما يكون جوازاً ظاهريّاً، تعرف أنّه لو انكشف الخلاف، ووقعت الصَّلاة فيما لايؤكل، فإنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة لزوم الإعادة، وكذا الحال لو صَلّى فيه نسياناً، ولكن مقتضى حديث (لا تُعاد الصَّلاة إلّامن خمسة)(1) صحّة الصَّلاة في الموردين، لما حقّقناه سابقاً من كتابنا هذا، أنّ الحديث كما يشمل الأجزاء والشرائط، كذلك يشمل الموانع، وأنّه لا يختصّ بالنّاسي، بل يشمل الجاهل غير المقصّر أيضاً:

أمّا الأوّل: فلأنّ (لا تُعاد) استند إلى الصَّلاة المركّبة من الاُمور الوجوديّة والعدميّة، ولم تقيّد بنقص شيءٍ خاص منها، بل حُذف المتعلّق، وهو دليل العموم، واستثناء الوجوديّات لا يوجب الاختصاص.

ودعوى: أنّ أوّل ما يلاحظ من المركّب المقيّد بالاُمور الوجوديّة والعدميّة، هو نفس الاُمور التي يلتئم منها الكلّ ، وهو الأجزاء، ثمّ يلاحظ تقيّدها بالاُمور الوجوديّة، ثمّ بالاُمور العدميّة، فمرتبة الموانع متأخّرة عن مرتبة الأجزاء والشرائط، وعليه فبما أنّ المستثنى منه لا يكون في نفسه ظاهراً في العموم، والمتيقّن إرادة غير الموانع، فيقتصر على غيرها.

مندفعة: بأنّ حذف المتعلّق دليلُ العموم، وتقدّم رتبة الأجزاء والشرائط على الموانع في مرتبة الجعل والاعتبار، لا علاقة له بما تضمّنه الحديث من عدم البطلان، وهي في هذا الحكم جميعها في مرتبة واحدة.

وأمّا الثاني: فلأنّ عمدة ما قيل في وجه عدم شمول الحديث للجاهل أمران:

أحدهما: أنّ ظاهر الصحيح الحكم بالصحّة الواقعيّة، ومقتضاها عدم كون المتروك معتبراً، ولا يعقل تقيّد ما اعتبر في المأمور به بصورة العلم.

ص: 261


1- الفقيه: ج 1/279 ح 857، وسائل الشيعة: ج 4/312 أبواب القبلة باب 9 ح 1 (5241).

وفيه: إنّ الظاهر من الحديث ان ترك غير الخمسة لا يوجب البطلان، ولاينافي ذلك كونه حين العمل مأموراً بإتيان التامّ .

ثانيهما: إنّ مورد الحديث ما إذا صحَّ الأمر بالصّلاة الواجدة للمتروك، وهو إنّما يكون فيما إذا لم يكن الأمر الأوّل باقياً، فلا يشمل الجاهل.

وفيه: إنّ مورد نفي الإعادة، وإنْ كان فيما إذا أمكن الأمر بالإعادة، ولكن لا ينحصر بما إذا أمكن الأمر بها مولويّاً نفسيّاً، بل يصحّ فيما إذا أمكن الأمر بها ولو إرشاديّاً إلى بقاء الأمر الأوّل، كما هو الشأن في أغلب موارد الأمر بالإعادة، بل الظاهر اختصاصه بالفرض الأخير، وعليه فيشمل الحديث صورة الجهل. وتمام الكلام في محلّه.

أقول: ويشهد للصحّة في صورة الجهل - مضافاً إلى ذلك - صحيح عبدالرحمن، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن الرّجل يُصلّي وفي ثوبه عَذَرة من إنسانٍ أو سنّور أو كلبٍ ، أيُعيد صلاته ؟

قال عليه السلام: إنْ كان لم يعلم فلا يُعيد»(1).

وقال المحقّق النائيني رحمه الله(2): يجب الإعادة على الناسي، واستدلّ له بقوله عليه السلام في ذيل موثّق ابن بكير:

«لا تُقبل تلك الصَّلاة حتّى يُصلّيها في غيره ممّا أحلَّ اللّه أكله»(3).

بدعوى أنّه بعد الحكم بفساد الصَّلاة الواقعة في غير المأكول، لا محالة يكون في مقام جعل حكمٍ ثانوي للمصلّي في غير المأكول ناسياً كان أو جاهلاً، فإنّ حمله على التأكيد خلاف الأصل، فتقع المعارضة بينه وبين حديث (لا تُعاد) في خصوص).

ص: 262


1- الكافي: ج 3/406 ح 11، وسائل الشيعة: ج 3/475 أبواب لباس المُصلّي ب 40 ح 5 (4218).
2- كتاب الصَّلاة للكاظمي: ج 1/259.
3- الكافي: ج 3/397 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/345 أبواب لباس المُصلّي ب 2 ح 1 (5344).

النّاسي، بالعموم من وجه، إذ الحديث مختصٌّ بالناسي، وعامٌ بالقياس إلى خصوص الوقوع في غير المأكول، والموثّق بالعكس، ولكن صحيح عبد الرحمن الدالّ على عدم وجوب الإعادة إذا وقعت الصَّلاة في غير المأكول جهلاً، يوجب اختصاص الموثّق بالناسي، فيُخصّص حديث (لا تُعاد) به، وتكون النتيجة لزوم الإعادة لو صَلّى في غير المأكول نسياناً.

ويرد عليه أوّلاً: أنّه لو تمّ كون الموثّق في مقام جعل حكمٍ ثانوي، يكون أخصّ مطلقاً من الحديث، بناءً على ما عرفت من شمول الحديث للجاهل فيُقدَّم عليه، وصحيح عبد الرحمن أخصّ من الموثّق فيُقدَّم عليه.

وثانياً: لو سُلّم كون النسبة عموماً من وجه، فإنّه لا وجه لتخصيص الموثّق أوّلاً بالصحيح، ثم ملاحظة النسبة بينه وبين الحديث إلّاعلى القول بانقلاب النسبة، ولا نقول به.

وثالثاً: إنّ كون الحمل على التأكيد خلاف الأصل، إنّما هو فيما إذا كان في نفسه ظاهراً في التأسيس، وفي المقام ليس كذلك، فإنّ قوله عليه السلام (لا تُقبل تلك...) لا يصحّ أنْ يكون إشارة إلى الصَّلاة الواقعة، لاستحالة انقلاب الشيء عمّا وقع عليه، بل الظاهر منه كونه إشارةً إلى الصَّلاة بما أنّها واقعة في أجزاء الحيوان، فلا محالة لا يكون ظاهراً في كونه إنشاءً لحكمٍ ثانوي، بل لابدَّ وأن يُحمل على التأكيد.

فتحصّل: أنّ الأظهر صحّة الصَّلاة إذا وقعت في غير المأكول نسياناً أو جهلاً.

هذا آخر ما أردنا إيراده في المقام.(1)

***ب.

ص: 263


1- هنا نهاية (رسالةٌ في اللباس المشكوك) و هي رسالة منفصلة عن كتاب «فقه الصادق» فرغ منها المصنّف دام ظله سنة 1383، ثم ادرجها في هذا الكتاب لعلاقتها بموضوع الكتاب.

ولا الحَرير المحض للرِّجال مع الاختيار.

الصَّلاة في الحَرير
اشارة

(ولا) تجوزُ الصَّلاة في (الحَرير المحض للرِّجال مع الإختيار) ويُحرَم لبسه لهم.

أمّا الثاني: ففي «المعتبر»(1): عليه علماء الإسلام، وفي «الجواهر»(2): عليه إجماع المسلمين.

ويدلّ عليه: - مضافاً إلى ذلك - جملةٌ من النصوص:

منها: مرسلة ابن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

«لا يلبس الرجل الحرير والدّيباج إلّافي الحرب»(3).

ومنها: موثّق سماعة، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن لباس الحرير والدّيباج ؟ فقال: أمّا في الحرب فلا بأس»(4).

ونحوهما غيرهما(5).

وأمّا الأوّل: فعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(6)، وتدلّ عليه جملة

ص: 264


1- المعتبر: ج 2/87.
2- الجواهر: ج 4/118.
3- الكافي: ج 6/453 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/372، أبواب لباس المُصلّي ب 12 ح 2 (5424).
4- الكافي: ج 6/453 ح 3، وسائل الشيعة: ج 4/372، أبواب لباس المُصلّي ب 11 ح 3 (5425).
5- مثل ما رواه الصدوق عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام: (ولا تلبس الحرير فيحرق اللّه جلدك يوم تلقاه)، الفقية: ج 1/253 ح 775، وسائل الشيعة: ج 4/368 أبواب لباس المُصلّي ب 11 ح 5 (5415).
6- كظاهر المحقّق في المعتبر: ج 2/87، وصريح العلّامة في التحرير: ج 1/195، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 2/83.

من النصوص:

منها: صحيحة محمّد بن عبد الجبّار، قال: «كتبتُ إلى أبي محمّد عليه السلام أسأله: هل يصلّى في قلنسوةٍ عليها وَبَر ما لا يؤكل لحمه، أو تكّة حريرٍ محض، أو تكّة من وَبَر الأرانب ؟

فكتب: لا تَحلّ الصَّلاة في الحرير المحض... الخ»(1).

ومنها: مكاتبته الاُخرى إليه عليه السلام، قال: «كتبتُ إليه أسأله: هل يُصلّى في قلنسوة حرير محض، أو قلنسوة ديباج ؟

فكتب: لا تَحلّ الصَّلاة في حرير محض»(2).

ومنها: مصحّح إسماعيل بن سعد، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام: هل يُصلّي الرّجل في ثوب أبريسم ؟ فقال: لا»(3). ونحوها غيرها.

أقول: ولا يعارضها صحيح ابن بزيع الوارد فيه قوله:

«سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن الصَّلاة في ثوب ديباج ؟ فقال: ما لم يكن فيه التماثيل فلا بأس»(4).

إذ المراد من (الدّيباج) فيه الحرير الممزوج بغيره، ويشهد له ذِكْر الدّيباج في قبال الحرير في مكاتبة محمّد، ومرسلة ابن بكير، وموثّقة سماعة المتقدّمة.

ولو سُلّم أنّ المراد منه الحرير المحض، لابدَّ من طرحه، أو حمله على ما لا ينافي النصوص المتقدّمة؛ لإعراض الأصحاب عنه وموافقته للعامّة.).

ص: 265


1- التهذيب: ج 2/207 ح 18، وسائل الشيعة: ج 4/377 أبواب لباس المُصلّي ب 14 ح 4 (5442).
2- الكافي: ج 3/399 ح 10، وسائل الشيعة: ج 4/368 أبواب لباس المُصلّي ب 11 ح 2 (5412).
3- الكافي: ج 3/400 ح 12، وسائل الشيعة: ج 4/367 أبواب لباس المُصلّي ب 11 ح 1 (5411).
4- التهذيب: ج 2/208 ح 23، وسائل الشيعة: ج 4/370 أبواب لباس المُصلّي ب 11 ح 10 (5420).

ولا يخفى أنّ مقتضى إطلاق النصوص، عدم الفرق بين كون الحرير ساتراً للعورة، وكون السّاتر غيره، فإنّها ظاهرة في مانعيّة لبس الحرير للصّلاة مطلقاً.

ودعوى:(1) أنّ حرمة لبس الحرير في نفسه مانعة من أن يُفهم من النصوص الناهية عن الصَّلاة في الحرير، منعٌ مغايرٌ للمنع الناشئ من حرمة اللّبس من حيث هو، فتكون الصَّلاة في الحرير كالصّلاة في الثّوب المغصوب، فكما يفصّل فيه بين السّاتر وغيره، فيحكم في الأوّل بالبطلان دون الثاني، فكذلك لابدّ من التفصيل في الحرير.

مندفعة: بأنّ النهي في هذه النصوص بما أنّه تعلّق بالصَّلاة في الحرير على الإطلاق، فيستكشف منه أنّه ليس من جهة حرمة لبسه، بل يكون إرشاداً إلى مانعيّة لبسه.

أقول: ثمّ إنّ الأظهر اختصاص المنع بما تتمّ فيه الصَّلاة، كما هو المنسوب إلى المشهور(2).

وعن جماعةٍ كالمفيد(3) والصدوق(4) وابن الجنيد وغيرهم(5) عمومه لما لا تتمّ فيه الصَّلاة منفرداً.

واستدلّ له: بمكاتبتي محمّد بن عبد الجبّار المتقدّمتين، وجوابه عليه السلام فيهما وإنْ كان عامّاً، إلّاأنّه لوقوعه عن السؤال عن خصوص ما لا تتمّ فيه الصَّلاة، يصبح نصّاًم.

ص: 266


1- دعوى المحقّق الهمداني قدس سره في مصباح الفقيه: ج 10/308 (ط. المؤسّسة الجعفريّة).
2- نسبه إلى المشهور المحدِّث المجلسي في البحار: ج 83/241، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/97.
3- المقنعة: ص 150.
4- المقنع: ص 80.
5- كابن الجنيد، حكاه العلّامة في المختلف: ج 2/82، وأبو الصّلاح في الكافي في الفقه: ص 140، وسيِّد المدارك فيها: ج 3/179، 227، والمحدِّث المجلسي في البحار: ج 83/241، وغيرهم.

فيه. ونحوهما موثّق الساباطي:

«سألته عن الثّوب يكون عَلَمُهُ ديباجاً؟ قال عليه السلام: لا يُصلّي فيه»(1).

ولكن لابدَّ من حمل هذه النصوص على الكراهة، جمعاً بينها وبين الخبر الذي رواه الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«كلّ ما لا تجوز الصَّلاة فيه وحده، فلا بأس بالصَّلاة فيه، مثل التكّة الأبريسم، والقلنسوة والخُفّ والزّنار(2) يكون في السّراويل ويُصلّى فيه»(3).

والإشكال فيه: بأنّ في طريقه أحمد بن هلال وهو ضعيفٌ ، في غير محلّه، لاعتماد الأصحاب عليه، مضافاً إلى ما عن ابن الغضائري من أنّه لم يتوقّف في ما يرويه عن ابن أبي عمير، والحسن بن محبوب، لأنّه قد اعتمد على كتابيهما جُلّ أصحاب الحديث.

ودعوى: أنّ نصوص المنع ليست متعرّضة لخصوص ما لا تتمّ فيه الصَّلاة، كي يمكن حملها على الكراهة، بل جوابه عليه السلام فيها عامٌ ويكون بياناً لمانعيّة لبس الحرير على الإطلاق، فلا يصحّ حمله على الكراهة.

مندفعة أوّلاً: بما تقدّم في بعض المباحث السابقة من أنّ الحرمة والكراهة خارجتان عن حريم المستعمل فيه، وإنّما هما تنتزعان من ترخيص المولى في فعل ما نَهى عنه وعدمه، ففي المقام النهي في نصوص المنع استُعمل في معنى واحد، ولكن بما أنّه ورد في خصوص ما لا تتمّ فيه الصَّلاة، دلَّ على الجواز، ولم يرد في غيره،).

ص: 267


1- التهذيب: ج 2/372 ح 80، وسائل الشيعة: ج 4/369 أبواب لباس المُصلّي ب 11 ح 8 (5418).
2- قال المحدِّث المجلسي في البحار: ج 72/429: (الزنار) وزان التفاح، وهو ما على وسط النصارى والمجوس، وتزنّروا شدّوا الزّنار على وسطهم.
3- التهذيب: ج 2/357 ح 10، وسائل الشيعة: ج 4/376 أبواب لباس المُصلّي ب 14 ح 2 (5440).

فيحكم بأنّ الصَّلاة فيه مكروهة وفي غيره فاسدة.

وثانياً: بأنّه يمكن حمل النهي في هذه النصوص على مطلق المرجوحيّة، غير المنافي لكراهة بعض أفراد العام، وعدم جواز الآخر. غاية الأمر عدم الجواز في ذلك الفرد، لا يستفاد من هذه النصوص، وإنّما يستفاد من الروايات الدالّة على عدم جواز الصَّلاة في الثّوب الحرير، وهي وإنْ كانت مطلقة شاملة لما لا تتمّ فيه الصَّلاة، إلّا أنّه بما أنّ شمولها له إنّما يكون بنحو الإطلاق، وليست كهذه النصوص نصّاً فيه، فتقيّد برواية الحلبي.

***

ص: 268

ويجوزُ في الحرب.

لبس الحَرير في حال الضّرورة

(ويجوز) لبسُ الحَرير (في الحرب) وعند الضرورة.

أمّا الأوّل: فتدلّ عليه - مضافاً إلى عدم الخلاف فيه، بل عن غير واحدٍ(1)دعوى الإجماع عليه - جملةٌ من النصوص كمرسل ابن بُكير، وموثّق سماعة يالمتقدّمين، ونحوهما غيرهما(2).

وعن المشهور: جواز الصَّلاة فيه حينئذٍ اختياراً، ولعلّه لدعوى التلازم بين الجوازين، أو أنّ حرمة لبسه ذاتاً مانعة عن استفادة منعٍ مغايرٍ للمنع الناشئ من حرمة اللّبس من حيث هو. فعلى تقدير حليّته لا دليل على المنع عن الصَّلاة فيه، ومقتضى الأصل جوازه.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الثاني: فلما عرفت آنفاً.

وأمّا الأوّل: فلأنّه دعوى بلا بيّنة ولا برهان.

وإطلاق دليل الجواز، الشامل لحال الصَّلاة، لا ينافي مانعيّته، فلا وجه للاستدلال به للصحّة، فالأقوى هو المنع لإطلاق النصوص.

وأمّا جواز لبسه في حال الضرورة: فيدلّ عليه - مضافاً إلى الإجماع المحكيّ عن

ص: 269


1- كالشهيد في الذكرى: ص 145، وظاهر السيِّد العاملي في المدارك: ج 3/174، وصريح المحقق في المعتبرج 2/88.
2- مثل رواية إسماعيل بن الفضل عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: (لا يصلح للرجل أن يلبس الحرير إلّافي الحرب)، الكافي: ج 6/453 ح 4، وسائل الشيعة: ج 4/371، أبواب لباس المُصلّي ب 12 ح 1 (5423).

جماعة(1) - النصوص المشتملة على قولهم عليهم السلام: «كلّ ما غَلَب اللّه عليه فهو أولى بالعُذر»(2)، وأنّه «ما حَرّم اللّه شيئاً إلّاوقد أحلّه في حال الاضطرار»(3).

أقول: وأمّا الصَّلاة فيه في هذه الحالة، فإنْ لم تكن الضرورة متحقّقة في حال الصَّلاة، بأن تمكّن من نزعه مقدار أن يُصلّي ثمّ يلبسه، وكان له غيره ممّا يستر به عورته، فلا شبهة في المنع، وإلّا فإنْ كانت الضرورة مستوعبة للوقت، صحّتْ صلاته معه، لأنّها لا تدع بحال، وإنْ لم تكن مستوعبة للوقت، ولكنّه لم يتمكّن من نزعه مقدار أنْ يُصلّي في أوّل الوقت، فالأقوى عدم الصحّة، لأنّه لا منشأ لتوهّم الصحّة، سوى حديث الرفع(4).

ودعوى:(5) قيام التلازم بين جواز لبسه، وجواز الصَّلاة فيه.

فاسدان: أمّا الثاني فلما عرفت آنفاً، وأمّا الأوّل فلعدم تعلّق الاضطرار بمتعلّق التكليف، لأنّ متعلّقه الطبيعي على نحو صرف الوجود، وما تعلّق به الاضطرار، وهو إيجاد المانع في الصَّلاة في بعضٍ من الوقت، لا يكون متعلّقاً للتكليف.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر حكم ما لو أُكره على لبسه. فلو صَلّى فيه نسياناً، صحّت صلاته، لحديث (لا تُعاد الصَّلاة)(6).).

ص: 270


1- كالمحقّق في المعتبر: ج 2/88، والعلّامة في التذكرة: ج 2/471، والمنتهى: ج 1/228، والشهيد الأوّل في الذكرى : ص 145، والشهيد الثاني في الروض: ص 207.
2- الكافي: ج 3/412 ح 1، وسائل الشيعة: ج 8/259 أبواب قضاء الصلوات ب 3 ح 3 و 7 و 8 و 13 و 16 (10583-10584-10585-10593-10596).
3- السرائر: ص 550، وسائل الشيعة: ج 2/210 أبواب الجنابة ب 15 ح 17-18(1948-1949).
4- الفقيه: ج 1/59 ح 132، وسائل الشيعة: ج 7/293 أبواب قواطع الصَّلاة ب 37 ح 2 (9380).
5- صاحب الدعوى هو المحدِّث البحراني قدس سره في الحدائق: ج 7/91.
6- الفقيه: ج 1/279 ح 857، وسائل الشيعة: ج 4/312 أبواب القبلة ب 9 ح 1 (5241).

وللنّساء.

(و) يجوز لبسه (للنِّساء) بلا خلافٍ .

وعن غير واحدٍ(1): دعوى الإجماع عليه.

وفي «الجواهر»(2): إجماعاً أو ضرورة من المذهب، بل الدِّين.

وتشهد له جملةٌ من النصوص(3)، هذا في غير الصَّلاة.

وأمّا فيها، فنُسب إلى المشهور(4) الجواز أيضاً، وعن الصدوق(5) وأبي الصّلاح(6) المنع، وتبعهما بعض متأخّري المتأخّرين(7)، وعن جماعة(8): التوقّف.

واستدلّ للمنع(9):

1 - بإطلاق بعض أدلّة المانعيّة، كمكاتبتي ابن عبد الجبّار المتقدّمتين. وكون مورد السؤال فيهما القلنسوة الّتي هي من مختصّات الرّجل، لا يوجبُ تقييد الجواب واختصاصه به.

2 - وخبر الجُعفي عن أبي جعفر عليه السلام في حديثٍ قال:5.

ص: 271


1- كالمحقّق في المعتبر: ج 2/89، والعلّامة في المنتهى: ج 1/228.
2- جواهر الكلام: ج 8/119.
3- مثل رواية ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: (النساء يلبسن الحرير والدّيباج إلّافي الإحرام)، وسائل الشيعة: ج 4/379 أبواب لباس المُصلّي ب 16 ح 3 (5450).
4- نسبه العلّامة في المنتهى: ج 4/224، والشهيد الأوّل في الذكرى : ص 145 (ط. ق)، والفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 3/219.
5- الفقيه: ج 1/263، ذيل الخبر 811.
6- حكاه الفاضل الآبي في كشف الرموز 1 ص 138.
7- كالأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 2/82، والبهائي في الحبل المتين ص 185.
8- المتوقّف هو العلّامة في المنتهى: ج 4/224.
9- المحدِّث البحراني قدس سره في الحدائق: ج 7/95.

«يجوز للمرأة لبس الدّيباج والحرير في غير الصَّلاة والإحرام»(1).

3 - وبمرسلة ابن بُكير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «النساء تلبس الحرير والدّيباج إلّا في الإحرام»(2).

فإنّها بضميمة ما دلَّ على أنّ ما تجوز الصَّلاة فيه يجوز الإحرام فيه، تدلّ على عدم الجواز.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا إطلاق الأدلّة: فلأنّه تعارضه مرسلة ابن بكير، حيث أنّ استثناء الإحرام فيها قرينة على إرادة الأعمّ من التكليف، والوضع في المستثنى منه والنسبة بينها وبين تلك النصوص عمومٌ من وجه، وحيثُ أنّ دلالة كلّ منهما تكون بالإطلاق فيتساقطان(3) معاً والمرجع إلى أصالة عدم المانعيّة.

ودعوى: أنّ مقتضى التلازم بين الجواز في الصَّلاة وفي الإحرام، بطلان الصَّلاة، فلا دليل على الجواز كي يعارض ما دلَّ على المنع.

مندفعة أوّلاً: بأنّ النهي عن الإحرام محمولٌ على الكراهة، بقرينة ما دلَّ على الجواز فيه.

وثانياً: بأنّ الدليل دلَّ على أنّ ما تجوزُ الصَّلاة فيه، يجوز فيه الإحرام، لا على أنّ ما لا يجوز فيه الإحرام لا تجوز فيه الصَّلاة، فليكن هذا المورد بواسطة الدليل خارجاً عن تحت ذلك العموم.

وأمّا خبر الجُعفي: فضعيفُ السند.

وأمّا المرسل: فقد عرفت ما فيه.

وبالجملة: فظهر أنّ الأقوى هو الجواز.).

ص: 272


1- الخصال: ج 2/585، وسائل الشيعة: ج 4/380 أبواب لباس المُصلّي ب 16 ح 6 (5453).
2- الكافي: ج 6/454 ح 8، وسائل الشيعة: ج 4/379 أبواب لباس المُصلّي ب 16 ح 3 (5450).
3- بل يرجع إلى أخبار الترجيح وهي تقتضي تقديم تلك النصوص للأشهريّة (من المؤلِّف).

وللركوب عليه، والافتراش له.

تنبيهات قماش الحرير

التنبيه الأوّل: (و) يجوز (للرّكوب عليه والإفتراش له) ونحوهما من سائر التصرّفات عدا اللّبس كما هو المشهور.

وعن المحقّق في «المعتبر»(1): التردّد فيه.

ويدلّ على الجواز:

1 - الأصل بعد كون الأخبار الدالّة على الحرمة مختصّة باللّبس.

2 - هذا مضافاً إلى صحيح علي بن جعفر، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن الفراش الحرير، ومثله من الدّيباج، والمصلّى الحرير، هل يصلح للرّجل النوم عليه، والتكأة والصَّلاة ؟

قال عليه السلام: يفترشه ويقوم عليه ولا يسجد عليه»(2).

التنبيه الثاني: لا بأس بالمحمول من الحرير في الصَّلاة وغيرها؛ لاختصاص أدلّة المنع بالملبوس.

ودعوى:(3) عدم جواز الصَّلاة معه بناءً على عدم جوازها، مع حمل ما لا يؤكل لحمه، لأنّه من فضلاته.

ص: 273


1- المعتبر: ج 2/89.
2- مسائل علي بن جعفر ص 180، الكافي: ج 6/477 ح 8، وسائل الشيعة: ج 4/378 أبواب لباس المُصلّي ب 15 ح 1 (5445).
3- نسبها السيّد الحكيم قدس سره في المستمك (للبعض)، المستمسك: ج 5/378.

مندفعة: بأنّ ما دلَّ على جواز الصَّلاة في الثّوب المكفوف بالحرير، يدلّ على عدم البأس بحمله.

التنبيه الثالث: لا بأس بالصَّلاة في الحرير الممتزج بغيره، بلا خلافٍ فيه في الجملة، بل عن غير واحدٍ(1) دعوى الإجماع عليه.

وتدلّ عليه: - مضافاً إلى قرب دعوى عدم شمول الأدلّة له، للخروج بالمزج عن الخلوص - جملةٌ من النصوص:

منها: صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: «سأل ابن قياما أبا الحسن عليه السلام عن الثّوب المُلحم بالقزّ والقطن، والقزّ أكثر من النصف، أيصلّى فيه ؟ قال عليه السلام: لا بأس به قد كان لأبي الحسن جُبّات»(2).

ومنها: رواية إسماعيل بن الفضل، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الثّوب يكون فيه الحرير؟ فقال عليه السلام: إنْ كان فيه خلط فلا بأس»(3).

ونحوهما غيرهما.

ومقتضى إطلاق خبر إسماعيل، عدم الفرق في الخليط بين أنْ يكون قُطناً أو كتّاناً أو يكون غيرهما، وما يظهر من بعض النصوص من الاختصاص بهما، كخبر عبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«لا بأس بلباس القزّ إذا كان سُداه أو لُحمته من قطنٍ أو كتّان»(4).

ونحوه غيره، يُحمل على إرادة المثال، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة،).

ص: 274


1- كالمحقّق في المعتبر: ج 2/90، والعلّامة في التذكرة: ج 2/474، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد 83.
2- الكافي: ج 6/455 ح 11، وسائل الشيعة: ج 4/373 أبواب لباس المُصلّي ب 13 ح 1 (5431).
3- الكافي: ج 6/455 ح 14، وسائل الشيعة: ج 4/374 أبواب لباس المُصلّي ب 13 ح 4 (5434).
4- الكافي: ج 6/454 ح 10، وسائل الشيعة: ج 4/374 أبواب لباس المُصلّي ب 13 ح 2 (5432).

وإنّما هي في مقام بيان التفصيل بين الحرير المحض وغيره، كما يظهر لمن تدبّر فيها.

التنبيه الرابع: لا بأس بالصّلاة في الثّوب المكفوف بالحرير. كما نُسب إلى المشهور(1).

ويشهد به:

1 - مضافاً إلى أنّ تقييد الموضوع بالخلوص مانعٌ عن شمول الحكم لما نحن فيه.

2 - خبر يوسف بن إبراهيم، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «لا بأس بالثوب أنْ يكون سُداه وزرّه وعلمه حريراً، وإنّما كَرُه الحرير المبهم للرِّجال»(2).

3 - وخبره الآخر عنه عليه السلام: في حديثٍ : «لا يكره أنْ يكون سُدا الثّوب إبريسم، ولا زرّه ولا عَلَمه، وإنّما يكره المصمّت من الأبريسم للرِّجال، ولا يكره للنساء»(3).

ودعوى: عدم ظهورهما في الصَّلاة.

مندفعة أوّلاً: بأنّ مقتضى إطلاق نفي البأس فيهما شمولهما لها.

وثانياً: بأنّهما يفسّران الحرير المحض الذي علقت عليه حُرمة اللّبس والصَّلاة فيه في النصوص، فلا سبيل إلى توهّم اختصاصهما بغير الصَّلاة.

والخدشة في سندهما بجهالة أبي داود، في غير محلّها، بعد كون الرّاوي عنه فيهما صفوان، وهو من أصحاب الإجماع.

واستدلّ للمنع(4):2.

ص: 275


1- كما عن المحقّق النراقى فى المستند: ج 350/4، وحكاه صاحب الجواهر عن جماعة، لاحظ الجواهر: ج 8/128.
2- الفقيه: ج 1/264 ح 812، وسائل الشيعة: ج 4/375 أبواب لباس المُصلّي ب 13 ح 6 (5436).
3- الكافي: ج 6/451 ح 5، وسائل الشيعة: ج 4/379 أبواب لباس المُصلّي ب 16 ح 1 (5448).
4- استدلّ بالإطلاق السيّد العاملي في المدارك: ج 3/181، واستدلّ بخبر عمّار الفاضل الهندي في كشف اللّثام ج 3/222.

1 - بإطلاق النصوص.

2 - وبموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «سألته عن الثّوب يكون عَلَمه ديباجاً؟ قال: لا تُصلِّ فيه»(1).

أقول: ولكن الأوّل قد عرفت ما فيه، والثاني وإنْ كان ظاهراً في المنع إلّاأنّه يُحمل على الكراهة، جمعاً بينه وبين ما دلَّ على الجواز.

والجمع بينهما بحمل ما دلَّ على الجواز على غير حال الصَّلاة، خلاف المشهور، بل لعلّه يلزم منه خرق الإجماع المركّب، مع أنّه حينئذٍ لا يمكن الاعتماد عليه، لإعراض المشهور عنه، وعليه فالأقوى هو الجواز.

***).

ص: 276


1- التهذيب: ج 2/372 ح 80، وسائل الشيعة: ج 4/369 أبواب لباس المُصلّي ب 11 ح 8 (5418).

ولا في المغصوب.

الصَّلاة في المغصوب

(ولا) تجوزُ الصَّلاة (في) الثّوب (المغصوب)، بلا خلافٍ فيه في الجملة، بل عن غير واحدٍ(1) دعوى الإجماع عليه.

وحُكي عن الفضل بن شاذان(2): القول بالجواز.

وعن المحقّق رحمه الله في «المعتبر»(3): التفصيل بين السّاتر وغيره، قال: (والأقرب أنّه إنْ كان سُتر به العورة أو سُجد عليه، أو قام فوقه، كانت الصَّلاة باطلة، لأنّ جزء الصَّلاة يكون منهيّاً عنه، وتبطل الصَّلاة بفواته، أمّا إذا لم يكن كذلك لم تبطل، وكان كلبس خاتم مغصوب)، انتهى .

وعن «الذكرى»(4)، و «جامع المقاصد»(5)، و «الروض»(6): أنّه قويّ .

وعن «المدارك»(7): أنّه معتمد. وهو الأقوى عندنا.

ص: 277


1- كالسيّد المرتضى في الناصريّات: ص 205، والعلّامة في المنتهى: ج 4/229، والتحرير: ج 1/196، والحلبي في الغُنية: ص 66.
2- الحاكي هو المحدِّث المجلسي رحمه الله في البحار: ج 80/279، وأصل النسبة ما نقله الكليني رحمه الله عن الفضل بن شاذان في مقام الرّد على المخالفين في جواب من قاس صحّة الطلاق في الحيض بصحّة العدّة مع خروج المعتدّة أو إخراجها من بيت زوجها، اُنظر الكافي: ج 6/93.
3- المعتبر: ج 2/92.
4- الذكرى : ص 146.
5- جامع المقاصد: ج 2/87.
6- الروض: ص 204.
7- مدارك الأحكام: ج 3/181.

أقول: لنا في المقام دعويان:

الأُولى: أنّه لا تصحّ الصَّلاة في السّاتر المغصوب.

الثانية: صحّتها في الثّوب المغصوب غير السّاتر.

أمّا الدعوى الأُولى: فالوجه فيها ما حقّقناه في الاُصول(1) من أنّه في موارد اجتماع الأمر والنهي:

إنْ كان المأمور به والمنهيّ عنه عنوانين منطبقين على شيءٍ واحد ووجود فارد، وكان التركيب بينهما اتّحاديّاً، فلا مناص عن القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي، من غير فرقٍ بين أنْ يكون كلّ من متعلّقي الأمر والنهي عنواناً انتزاعيّاً، وكان منشأ انتزاعهما شيءٌ واحد، أو يكون أحدهما انتزاعيّاً والآخر من العناوين المتأصّلة، وكان هو منشأ انتزاع ذلك الأمر الانتزاعي، فحينئذٍ يقع التعارض بين إطلاقي دليلي الأمر والنهي، ولابدَّ من تقديم أحدهما، فلو قُدِّم الإطلاق في طرف النهي، خرج المجمع عن حيّز الأمر واقعاً، وأصبح متمحّضاً في الحرمة، فلا يقع صحيحاً.

وأمّا لو كان لكلّ منهما وجودٌ مستقلٌّ منحازٌ عن الآخر، وكان التركيب بينهما استقلاليّاً، فلابدَّ من القول بالجواز، بناءً على ما هو الصحيح من أنّ الحكم لا يسري عن متعلّقه إلى مقارناته، من غير فرقٍ بين أنْ يكون كلٍّ من متعلّقيهما من العناوين الذاتيّة، أو يكون أحدهما منها والآخر انتزاعيّاً، وكان منشأ انتزاعه غير ذلك العنوان الذّاتي الذي هو متعلّق الآخر، فلا يكون حينئذٍ تعارضٌ بين دليلي الأمر والنهي، إذ لا مانع من كون أحدهما مأموراً به والآخر منهيّاً عنه.).

ص: 278


1- زبدة الاُصول: ج 2/422: مبحث (جريان النزاع في جميع أنواع الأمر والنهي).

وتفصيل الكلام في كلّ واحدة من هذه الجهات موكولٌ إلى محلّه.

وعلى هذا، فنقول في المقام: إنّ السّاتر إذا كان مغصوباً، فبما أنّ التستّر شرطٌ للصَّلاة، فإنّ من الواضح أنّ التستّر بثوب الغير ولبسه تصرّفٌ فيه، فينطبق عليه عنوان الغصبيّة، فيتّحد المأمور به والمنهيّ عنه وجوداً، وحيثُ أنّ الإطلاق في طرف النهي شمولي، وفي طرف الأمر بدلي، فيُقدَّم إطلاق دليل النهي بناءً على ما هو الحقّ من تقدّم الشمولي على البدلي، فالصَّلاة مع السّاتر المغصوب لا تنطبق عليها الطبيعة المأمور بها، فتقع فاسدة.

فإنْ قلت: إنّ المأمور به يُغاير المنهيّ عنه في المقام، إذ الشرط هو المعنى المعبّر عنه باسم المصدر، والمنهيّ عنه المعنى المعبّر عنه بالمصدر، فتكون حال الصَّلاة في السّاتر المغصوب، حال الصَّلاة مع النظر إلى الأجنبيّة في أثنائها.

قلت: إنّ المعنى المعبّر عنه باسم المصدر، إنّما يكون متّحداً مع المعبّر عنه بالمصدر وجوداً وخارجاً، والفرق بينهما إنّما يكون بالاعتبار، وعليه فلا يعقل كون أحدهما مأموراً به والآخر منهيّاً عنه.

ولا فرق فيما ذكرناه بين كون السّتر شرطاً عباديّاً وكونه غير عبادي.

وبالجملة: فما عن جملة من الفقهاء والمحقّقين(1) من الحكم بالصحّة في المقام، معلّلاً بأنّ السّتر لا يكون معتبراً في الصَّلاة عبادة، فلا ينافي تحقّقه بالفعل المحرّم، وغايته حصول الإثم، ضعيفٌ .

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّه إذا كان الثّوب غير السّاتر مغصوباً، لا يلزم اتّحاد3.

ص: 279


1- كالسيّد العاملي في المدارك: ج 3/182، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/106، والمحقّق السبزواري في الذخيرة: ج 2/224، والفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 3/225، والسيّد الطباطبائي في الرياض: ج 192/3.

المأمور به والمنهيّ عنه، إذ ما تعلّق به النهي إنّما هو لبس الثّوب، وعدم كونه معتبراً في الصَّلاة لا يحتاج إلى بيان، فلا يعقل أنْ يكون موجباً لبطلانها، لأنّ متعلّقه مغايرٌ لها، فيكون حاله حال النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصَّلاة.

واستدلّ للبطلان في هذه الصورة أيضاً:

1 - بأنّ الحركات المعتبرة في الصَّلاة، كالنهوض إلى القيام، والهويّ إلى الركوع والسّجود، تتّحد مع المنهيّ عنه، لانطباق عنوان الغصب عليها، فتبطل الصَّلاة من هذه الجهة(1).

2 - وبأنّه مأمورٌ بردّ المغصوب إلى مالكه، وهو مضادٌّ للصّلاة فيه، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه(2).

3 - وبخبر الجُعفيّ - بل صحيحه - عن مولانا الصادق عليه السلام:

«لو أنّ الناس أخذوا ما أمرهم اللّه به، فأنفقوه فيما نَهاهم عنه ما قبله، ولو أخذوا ما نَهاهم اللّه عنه، فأنفقوه فيما أمرهم اللّه تعالى به ما قَبله منهم، حتّى يأخذوه من حقٍّ وينفقوه في حقّ »(3).

4 - وبالخبر المروي في «تحف العقول» عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته لكميل:

«يا كميل اُنظر فيما تُصلّي، وعلى ما تُصلّي، إنْ لم يكن من وجهه وحِلّه فلا قبول»(4).).

ص: 280


1- استدلّ به السيّد المرتضى في الناصريّات ص 206، والشيخ في الخلاف: ج 1/510، والمحقّق في المعتبر: ج 2/92، والعلّامة في المنتهى: ج 1/229، والتذكرة: ج 1/96.
2- استدلّ به العلّامة في التحرير: ج 1/196، والتذكرة: ج 2/477، ونهاية الإحكام: ج 1/378، والأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 2/78 و 10/521، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 2/90، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 5/532، والفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 3/223.
3- الفقيه: ج 2/57 ح 1694، وسائل الشيعة: ج 5/119 أبواب مكان المُصلّي ب 2 ح 1 (6087).
4- تحف العقول ص 174، وسائل الشيعة: ج 5/119 أبواب مكان المُصلّي ب 2 ح 2 (6088).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ هذه الحركات ليست معتبرة في الصَّلاة، إذ كلٍّ من الركوع والسّجود والقيام اسمٌ لهيئة خاصّة حاصلة للجسم، باعتبار إضافة بعض أجزائه إلى بعض، فأدلّة وجوب الركوع والسّجود والقيام لا تدلّ على اعتبارها فيها، ولم يدلّ دليلٌ على اعتبارها بأنفسها في الصَّلاة، فما هو مأمورٌ به غير ما نُهي عنه.

نعم، يكون المنهيّ عنه مقدّمةً لإيجاد المأمور به، ولكن حرمة المقدّمة لا تُنافي وجوب ذي المقدّمة، وحصول الامتثال بإتيانه، كما حُقّق في محلّه(1).

هذا مضافاً إلى أنّه لو سُلّم كون الحركات المزبورة من أجزاء الصَّلاة، فلا وجه للالتزام باتّحاد المأمور به والمنهيّ عنه، إذ بها أنّ بدن المُصلّي يُباين الثّوب المغصوب، والحركة التي تكون من أجزاء الصَّلاة هي القائمة بالبدن، والتي تكون غصباً هي القائمة بالمغصوب، فلا يُعقل أن تكون إحداهما عين الاُخرى.

فإنْ قلت: إنّه ولو سُلّم كون الحركة الصلاتيّة غير الحركة الغصبيّة، إلّاأنّه لا ريب في أنّ الأُولى علّة للثانية، وحيثُ أنّ علّة الحرام حرامٌ ، فتكون الحركة الصلاتيّة أيضاً حراماً، فعاد المحذور.

قلت: إنّ مخالفة التكليف الغيري، بما أنّها لا تُوجب البُعد عن المولى، فلا مانع من التقرّب بما هو متعلّق له، إلّابناءً على اعتبار الأمر في صحّة العبادة، فتدبّر.

وأمّا الثاني: فلما حقّقناه في محلّه(2) من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه.).

ص: 281


1- زبدة الاُصول: ج 2/240.
2- زبدة الاُصول: ج 2/258، بحث: (اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ العام).

وأمّا خبر إسماعيل: فلأنّ غاية ما يدلّ عليه، اعتبار الإباحة في القبول، لا في الأجزاء، هذا مضافاً إلى أنّ إنفاق المنهيّ عنه في المأمور به لا يشمل لبس الثّوب المغصوب في الصَّلاة.

وأمّا خبر «تحف العقول»: فلأنّه ضعيفُ السند، مضافاً إلى أنّه يدلّ على اعتبار الإباحة في القبول لا في الصحّة.

وبالجملة: وبما ذكرناه ظهر أنّ الأقوى صحّة الصَّلاة في المحمول المغصوب.

ثمّ إنّ ما اخترناه من البطلان، فيما إذا كان السّاتر مغصوباً، لا يختصّ بالعالِم، بل يشملُ أيضاً الجاهل حكماً أو موضوعاً، إذ على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي، وتقديم جانب النهي، يخرج المجمع عن حيّز الأمر، ويكون متمحّضاً في الحرمة، ومعه لا وجه للإجتزاء به.

وبذلك يندفع ماقيل(1) من إنّه لايعتبر في صحّة العبادة إلّاصدورهاعن داع القُربة، وهو حاصلٌ في الجاهل، إذ قصد القُربة بإتيان المحرّم، لايوجب اتّصافه بالعباديّة.

نعم، لو نَسي غصبيّة الثّوب، فصلّى فيه مضت صلاته، وكذا لو اُكره على التصرّف في المغصوب، أو اضطرّ إليه.

أمّا مع النسيان: فلعموم حديث (لا تُعاد الصَّلاة)(2).

واستدلّ جماعةٌ من المحقّقين(3) عليه بحديث (الرفع)(4).).

ص: 282


1- قد يظهر أنّ القائل هو الشيخ صاحب الجواهر، في الجواهر: ج 8/294، وحكى القول السيّد الحكيم رحمه الله في المستمسك بلفظ (قيل)، المستمسك: ج 5/284.
2- الفقيه: ج 1/279 ح 857، وسائل الشيعة: ج 4/312 أبواب القبلة ب 9 ح 1 (5241).
3- كابن إدريس في السرائر: ج 1/271، والسيّد العاملي في المدارك: ج 3/119.
4- الفقيه: ج 1/59 ح 132، وسائل الشيعة: ج 7/293 أبواب قواطع الصَّلاة ب 37 ح 2 (9380).

وفيه: إنّ النسيان إذا لم يكن مستوعباً للوقت، فطروّه لا يوجب ارتفاع الحكم عن متعلّقه، إذا ما طرأ عليه النسيان وهو الفرد لا حكم له، وما هو متعلّق الحكم وهو الطبيعي، لم يطرأ عليه النسيان.

وأمّا لو كان مستوعباً للوقت، فغاية ما يدلّ عليه الحديث، رفع الحكم المتعلّق بالمركّب لا المانعيّة خاصّة، فوجوب الإتيان ببقيّة الأجزاء والشرائط يحتاجُ إلى دليلٍ آخر، فالحديث لا يدلّ على صحّة الصَّلاة مع النسيان.

صورة الإكراه: أمّا لو اُكره المصلّي على لبس الثّوب المغصوب:

1 - فإنْ كان الإكراه مستوعباً لتمام الوقت، فمقتضى حديث الرفع عدم وجوب الصَّلاة المقيّدة بعدم وقوعها في السّاتر المغصوب، ولا يدلّ على الأمر بالفاقدة لهذا القيد، لكنّه يدلّ عليه قوله عليه السلام: «الصَّلاة لا تسقط بحال»(1).

2 - وإنْ لم يكن الإكراه مستوعباً للوقت، فلا ريب في ارتفاع حرمته النفسيّة، فحينئذٍ لا يبعدُ الحكم بالصحّة أيضاً، إذ اعتبار عدم كون السّاتر مغصوباً، ليس للنهي الإرشادي، بل إنّما يكون الموجب له الحرمة، بناءً على أنّ المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي، فإذا ارتفعت الحرمة بالإكراه، ارتفع اعتباره، وإلّا كان التقييد بلا موجب.

فإنْ قلت: إنّ الإكراه إنّما يوجبُ سقوط الحرمة، وأمّا الملاك المقتضي للنهي،).

ص: 283


1- الظاهر أنّ أوّل من ذكر هذا الحديث بهذا اللّفظ صاحب الجواهر (الجواهر: ج 7/429)، ويشبهه تعبير الشيخ (في مصباح المتهجّد ص 4): ولا يسقط عن هؤلاء الصَّلاة بحال، وهو مستفادٌ بحسب الظاهر ممّا رواه زرارة - في الحائض - مضمراً: (أنّها لا تدع الصَّلاة على حال)، لاحظ الكافي: ج 3/99 ح 4، وعن أبي عبد اللّه عليه السلام في وسائل الشيعة: ج 2/373 أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5 (2394).

فهو باقٍ على حاله، فلا محالة يقع التزاحم بينه وبين ملاك الأمر، وحيث أنّ المفروض غلبة ملاك النهي، فلا يمكن التقرّب بما يشتمل عليه.

قلت: إنّ الملاك الذي لا يؤثّر في المبغوضيّة الفعليّة، ومعه يكون الفعل مورداً للترخيص، لا يمكن أنْ يكون مانعاً عن تعلّق الأمر بالفعل، بعد فرض اشتماله في نفسه على الملاك المُلْزَم، فلا مانع من التقرّب بذلك الفعل.

هذا، مضافاً إلى ما ذكرناه في محلّه من أنّه بعد سقوط التكليف، لا طريق لنا إلى كشف وجود الملاك.

أقول: وبهذا ظهر وجهٌ آخر للحكم بصحّة الصَّلاة مع نسيان غصبيّة الثّوب، ولو لم يكن النسيان مستوعباً للوقت، إذ مقتضى حديث الرفع حينئذٍ رفع الحرمة، فيسقط اعتبار التقييد، ويصحّ وقوع الفعل عبادة.

وممّا ذكرناه انقدح صحّة الصَّلاة مع الاضطرار إلى التصرّف في المغصوب، فلا نعيد ما ذكرناه.

***

ص: 284

ولا في ما يستر ظَهر القدم، إذا لم يكن له ساق.

الصَّلاة في ما يستر ظَهر القدم

(و) نُسب إلى المشهور(1): أنّه (لا) تجوز الصَّلاة (في ما يَستُر ظهر القَدَم إذا لم يكن له ساق) كالشمشك.

وعن المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(2)، والمحقّق والشهيد الثانيّين(3) وغيرهم من أكابر الأصحاب(4): القول بالكراهة.

وعن «البحار»(5): أنّه الأشهر.

واستدلّ للمنع(6):

1 - بفعل النبيّ صلى الله عليه و آله وعمل الصحابة والتابعين، فإنّهم لم يصلّوا في هذا النوع.

2 - وبما روي عن عليّ بن حمزة(7)، من أنّ الصَّلاة محظورة في النعل السِّندي والشمشك(8).

ص: 285


1- نسبه إلى المشهور الشهيد الثاني في المسالك: ج 1/165، ونسبه المحقّق الكركي إلى (كبراء الأصحاب) في جامع المقاصد: ج 2/106.
2- المنتهى: ج 4/232.
3- جامع المقاصد: ج 2/106، مسالك الأفهام: ج 1/166.
4- منهم الشيخ في المبسوط: ج 1/83، وابن حمزة في الوسيلة: ص 88، ونسبه لأكثر المتأخّرين المحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/160.
5- بحار الأنوار: ج 80/274.
6- استدلّ به المحقّق في المعتبر: ج 2/93.
7- راوي الحديث علي بن حمزة الطوسي قدس سره، كما في وسائل الشيعة: ج 4/428، ذيل حديث (5616) هو (وبماعن العلّامة في المختلف وغيره عن ابن حمزة أنّه روي أنّ الصَّلاة...).
8- الوسيلة: ص 88، وسائل الشيعة: ج 4/428 أبواب لباس المُصلّي ب 38 ح 7 (5617).

3 - وبخبر سيف بن عُميرة: «لا يُصلّى على جنازةٍ بحذاء، فإنّ صلاة الجنازة أوسع من غيرها»(1).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا عدم فعل النبيّ صلى الله عليه و آله والصحابة فلو سُلّم، فلعلّه لعدم تعارفه عندهم، مضافاً إلى أنّه لا دليل على عدم جواز الصَّلاة فيما لم يُصلّ النبيّ صلى الله عليه و آله فيه.

والنبويّ : «صَلّوا كما رأيتموني اُصلّي»(2) لا يشمل المورد، ما لم يُحرز كون تركه له إنّما كان لأجل كونه دخيلاً في الصَّلاة.

والمرسلة: مضافاً إلى ضعف سندها، يُحتمل أنْ يكون المنع فيها لخصوصيّةٍ فيما ذكر في موردها، وهي عدم التمكّن من وضع الإبهامين على الأرض أو غيره.

وخبر سيف: مضافاً إلى ضعف سنده، لم يُعمل به في مورده، فلا وجه للتعدّي عنه، مع أنّ الحذاء على ما عن «مجمع البحرين» هو النعل، الذي دلّت على جواز الصَّلاة فيه نصوصٌ مستفيضة، بل يظهر من بعضها استحباب الصَّلاة فيه: كصحيح معاوية، قال:

«رأيتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يُصلّي في نعليه غير مرّةٍ ولم أره ينزعها قط»(3).

وصحيح عبد الرحمن، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا صلّيت فصلِّ في نعليك إذا كانت طاهرة، فإنّ ذلك من السُنّة»(4). ونحوهما غيرهما(5).

ص: 286


1- الكافي: ج 3/176 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/118 أبواب لباس المُصلّي ب 26 ح 1 (3183).
2- عوالي اللآلي: ج 1/197 ح 8، و 3/85 ح 76، وسنن الدارقطني: ج 1/280.
3- التهذيب: ج 2/233 ح 124، وسائل الشيعة: ج 4/425 أبواب لباس المُصلّي ب 37 ح 4 (5605).
4- الفقيه: ج 1/568 ح 1569، وسائل الشيعة: ج 4/424 أبواب لباس المُصلّي ب 37 ح 1 (5602).
5- كصحيحة علي بن مهزيار، قال: (رأيت أبا جعفر عليه السلام صَلّى حين زالت الشمس يوم التروية ست ركعات خلف المقام، وعليه نعلاه لم ينزعهما)، التهذيب: ج 2/233 ح 126، ووسائل الشيعة: 4 ص 426 أبواب لباس المُصلّي ب 37 ح 6 (5607) وغيرها في نفس الباب.

فتحصّل: أنّه لا دليل على المنع، ومقتضى الأصل هو الجواز، ويؤيّده التوقيع المرويّ عن «الاحتجاج»: «أنّ محمّد بن عبد اللّه كتب إليه عليه السلام يسأله هل يجوز للرّجل أن يُصلّي وفي رجليه بطيط لا يُغطّي الكعبين أم لا يجوز؟ فكتب عليه السلام في الجواب: جائز»(1).

والبطيط على ما فُسِّر: رأس الخُفّ بلا ساق(2).

والنتيجة: بما ذكرناه ظهر أنّه لا دليل على الكراهة أيضاً كما لا يخفى .

***ر.

ص: 287


1- الاحتجاج: ج 2/483، وسائل الشيعة: ج 4/427 أبواب لباس المُصلّي ب 38 ح 4 (5614).
2- ذكر تفسيره الشيخ الحُرّ رحمه الله في ذيل نفس الخبر المزبور.

ويكره في الثياب السُّود، إلّاالعِمامة والخُفّ .

ما يُكره من الثياب

(ويُكره) الصَّلاة (في الثياب السُّود إلّاالعمامة والخُفّ ) والكساء، ومنه العباء كما هو المشهور.

وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(1).

وتشهد به:

1 - مرسلة الكليني رحمه الله روى: «لا تُصلِّ في ثوبٍ أسود، فأمّا الكساء أو الخُفّ أو العمامة فلا بأس»(2).

2 - ومفهوم التعليل الوارد في القلنسوة، فيما رواه في «الكافي» عن محسن، عن من ذكره، عن الصادق عليه السلام:

«قال: قلتُ له: اُصلّي في القلنسوة السوداء؟ فقال عليه السلام: لا تُصلِّ فيها فإنّها لباس أهل النّار»(3).

إذ الثياب السود من لبّاس أهل النّار كما تشهد به جملةٌ من النصوص.

ص: 288


1- كالشيخ في الخلاف: ج 1/506، وظاهر المحقّق في المعتبر: ج 2/94، والعلّامة في المنتهى: ج 4/243.
2- الكافي: ج 3/403 ح 24، وسائل الشيعة: ج 4/383 أبواب لباس المُصلّي ب 19 ح 2 (5464).
3- الكافي: ج 3/403 ح 30، وسائل الشيعة: ج 4/386 أبواب لباس المُصلّي ب 20 ح 1 (5471).

وأن يأتزر فوق القميص، وأنْ يستصحب الحديد ظاهراً.

(و) كذا يُكره (أن يأتزر فوق القميص) كما عن المشهور(1) لموثّق أبي بصير المرويّ عن «الكافي»، عن الصادق عليه السلام:

«لا ينبغي ان تتوشّح بإزار فوق القميص، وأنتَ تُصلّي، ولا تتّزر بإزارٍ فوق القميص إذا أنتَ صلّيت، فإنّه من زيّ الجاهليّة»(2).

وظاهره وإنْ كان المنع، إلّاأنّه يحمل على الكراهة جمعاً بينه وبين ما دلَّ على الجواز، كصحيح ابن بزيع:

«قلت للرضا عليه السلام: أشدّ الإزار والمنديل فوق قميصي في الصَّلاة ؟ قال:

لابأس به»(3).

(و) كذا يُكره (أن يَستصحب الحديد ظاهراً) كما عن المشهور(4).

وعن ظاهر الكليني(5)، والصدوق(6)، والشيخ في «النهاية»(7)، وابن البرّاج(8): المنع.

وتشهد به: جملةٌ من النصوص:4.

ص: 289


1- نسبه إلى المشهور المحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/119.
2- الكافي: ج 3/395 ح 7، وسائل الشيعة: ج 4/395 أبواب لباس المُصلّي ب 24 ح 1 (5504).
3- التهذيب: ج 2/214 ح 50، وسائل الشيعة: ج 4/397 أبواب لباس المُصلّي ب 24 ح 5 (5508).
4- نسبه المحدِّث البحراني إلى المشهور، الحدائق: ج 7/144.
5- الكافي: ج 3/400.
6- المقنع: ص 83.
7- النهاية: 98.
8- المهذّب: ج 1/74.

منها: خبر موسى بن أكيل النميري، عن الصادق عليه السلام في الحديد: «أنّه حُليّة أهل النّار، قال: وجُعِل الحديد في الدُّنيا زينة الجنّ والشياطين، فيُحرَم على الرّجل المسلم أن يلبسه في الصَّلاة...

إلى أنْ قال: لا بأس بالسكين والمنطقة للمسافر في وقت ضرورة، وكذلك المفتاح إذا خاف الضيعة والنسيان، ولا بأس بالسّيف وكلّ آلة السلاح في الحرب، وفي غير ذلك لا يجوز الصَّلاة في شيء من الحديد، لأنّه نجس ممسوخ»(1).

وقريب منه غيره(2).

أقول: لكن لابدَّ من حمل هذه النصوص على الكراهة، للأخبارالدالّة على الجواز:

منها: صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «وإنْ كان معه سيف وليس معه ثوب، فليتقلّد السيف ويُصلّي قائماً»(3).

ومنها: خبر وهب، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام قال: السيف بمنزلة الرداء، تُصلّي فيه ما لم ترَ فيه دماً»(4).

ومنها: مكاتبة الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام، وفيها:

«وسأله عن الرّجل يُصلّي وفي كُمّه أو سراويله سكّين أو مفتاح حديد، هل يجوز ذلك ؟ فكتب في الجواب: جائز»(5).).

ص: 290


1- التهذيب: ج 2/227 ح 102، وسائل الشيعة: ج 4/419 أبواب لباس المُصلّي ب 32 ح 6 (5586).
2- كموثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: (في الرّجل يُصلّي وعليه خاتم من حديد؟ قال: لا، ولا يتختّم به الرّجل، لأنّه من لباس أهل النّار)، التهذيب: ج 2/372 ح 80، وسائل الشيعة: ج 4/418 أبواب لباس المُصلّي ب 32 ح 5 (5585) وغيره من نفس الباب.
3- التهذيب: ج 2/366 ح 51، وسائل الشيعة: ج 4/452 أبواب لباس المُصلّي ب 53 ح 3 (5694).
4- الفقيه: ج 1/249 ح 758، وسائل الشيعة: ج 4/458 أبواب لباس المُصلّي ب 57 ح 2 (5716).
5- الاحتجاج: ج 2/483 ح 17، وسائل الشيعة: ج 4/420 أبواب لباس المُصلّي ب 32 ح 11 (5591).

ونحوها غيرها(1).

ودعوى(2): أنّ الجمع بين الطائفتن، يقتضي حمل نصوص المنع على الحديد البارز، ونصوص الجواز على غيره، كما يشهد به مرسل الكليني رحمه الله: «روي إذا كان المفتاح في غلافٍ فلا بأس».

وما سبق ذكره عن «التهذيب»: من الخبر المرويّ عن عمّار:

«إنّ الحديد إذا كان في غلافٍ فلا بأس»(3).

مندفعة: بأنّه لا يمكن حمل اخبار الجواز كخبر وهب على ما إذا كان الحديد مستوراً، إذ تغميد السيف لا يوجبُ ستر ما على الغَمد، وعلى قائمة السّيف من الحديد.

هذا مضافاً إلى إباء أخبار المنع عن هذا الحمل، إذ الغالب في السكّين والمفتاح ونحوهما كونها مستورة، ولا أقلّ من كون السَّتر سهلاً.

وعليه، فلو كان السَّتر موجباً لرفع المنع، لم يكن وجه لقصر الجواز في خبر موسى على وقت الضرورة.ً.

ص: 291


1- كخبر علي بن أبي حمزة عن أبي عبد اللّه عليه السلام، الوارد في التهذيب: ج 2/368 ح 62، ووسائل الشيعة: ج 4/456 أبواب لباس المُصلّي ب 55 ح 2 (5707).
2- قال السيّد العاملي قدس سره في المدارك: ج 3/210: (وكراهة استصحاب الحديد البارز في الصَّلاة، قول أكثرالأصحاب، وقال الشيخ قدس سره في النهاية: ولا يجوز الصَّلاة إذا كان مع الإنسان شيءٌ من الحديد مشتهر مثل السكّين والسيف، وإن كان في غمد فلا بأس بذلك)، (النهاية: ص 98).
3- التهذيب: ج 2/227، ذيل حديث النميري المتقدّم آنفاً.

واللِّثام.

(و) كذا يكرَهُ للرّجل (اللِّثام) وهو يُصلّي كما هو المشهور(1).

وعن «الخلاف»(2): دعوى الإجماع عليه.

ويشهد به: صحيح ابن مسلم: «قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: أيُصلّي الرّجل وهو متلثّم ؟ فقال: أمّا على الأرض فلا، وأمّا على الدابّة فلا بأس»(3).

أقول: وظاهره وإنْ كان المنع، إلّاأنّه يُحمل على الكراهة، لموثّق سماعة:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يُصلّي ويقرأ القرآن وهو متلثّم ؟ فقال:

لا بأس»(4).

ونحوه غيره(5).ب.

ص: 292


1- نسبه إلى المشهور الفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 3/260، والشهيد الثاني في الروض: ج 2/564، والعاملي في المدارك: ج 3/207.
2- الخلاف: ج 1/508.
3- الكافي: ج 3/408 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/422، أبواب لباس المُصلّي ب 35 ح 1 (5595).
4- التهذيب: ج 2/229 ح 109، وسائل الشيعة: ج 4/423، أبواب لباس العرب ب 35 ح 5 (5599).
5- كصحيحة الحلبي، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام: هل يقرأ الرّجل في صلاته وثوبه على فيه ؟ فقال: لا بأس بذلك إذا سمع الهمهمة»، التهذيب: ج 2/229 ح 111، وسائل الشيعة: ج 4/423 أبواب لباس المُصلّي ب 35 ح 3 (5596)، وغيرها في نفس الباب.

وفي القباء المشدودة في غير الحَرب، واشتمال الصَّماء.

(و) نُسب إلى المشهور(1): القول بكراهة الصَّلاة (في القباء المشدود في غير الحرب) ولم نجد له مستنداً.

قال المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(2): (قال الشيخ: ذكره عليّ بن الحسين بن بابويه، وسمعناه من الشيوخ مذاكرةً ، ولم أجد به خبراً مسنداً)(3).

(و) كذا يُكرَه (اشتمال الصَّماء) في الصَّلاة، بلا خلافٍ ظاهر، بل عن غير واحدٍ(4) دعوى الإجماع عليه.

واستدلّ له: بصحيح زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام: «إيّاك والتحاف الصَّماء. قلت:

وما التحاف الصّماء؟ قال: أن تُدخل الثّوب من تحت جناحك، فتجعله على منكبٍ واحد»(5).

ونحوه مرفوع قاسم بن سلام(6).

ولكن غاية ما يدلّان عليه، كراهة الصَّماء في نفسه، لا كراهته في الصَّلاة.).

ص: 293


1- نسبه إلى المشهور الشهيد الأوّل في البيان ص 123، والشهيد الثاني في الروضة: ج 1/532، والسيّد العاملي في المدارك: ج 3/208.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/507.
3- التهذيب: ج 2/232، ذيل ح 121. وقد ذكر المحدِّث المجلسي بعد نقله لكلام الشيخ: (قلت: قد روى العامّة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: (لا يُصلّي أحدكم وهو محزّم)، وهو كناية عن شدّ الوسط)، فراجع البحار: ج 80/208.
4- كالمحقّق في المعتبر: ج 2/96، والعلّامة في التذكرة: ج 2/502، ونهاية الإحكام: ج 1/387، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 2/108، والشهيد الثاني في الروض: ج 2/561.
5- الكافي: ج 3/394 ح 4، وسائل الشيعة: ج 4/399 أبواب لباس المُصلّي ب 25 ح 1 (5516).
6- الصدوق في معاني الأخبار عن محمّد بن هارون الزنجاني، عن علي بن عبد العزيز، عن القاسم بن سلام، رفعه عن النبيّ صلى الله عليه و آله: (أنّه نهى عن لبستين: اشتمال الصّماء، وأن يحتبي الرّجل بثوب ليس بين فرجه وبين السماء شيء. قال: وقال الصادق عليه السلام: التحاف الصّماء هو أن يُدخل الرّجل رداءه تحت إبطه، ثمّ يجعل طرفيه على منكبٍ واحد). معاني الأخبار ص 281، وسائل الشيعة: ج 4/400 أبواب لباس المُصلّي ب 25 ح 5 و 6 (5520 و 5521).

ويُشترط في الثّوب الطهارة، إلّاما عُفي عنه ممّا تقدّم، والمِلْك أو حكمه.

(ويشترط في الثّوب) أي مطلق ما يُصلّى فيه، لا خصوص السّاتر (الطهارة، إلّا ما عُفي عنه ممّا تقدّم) في كتاب الطهارة، وقد تقدّم فيه تفصيل ذلك.

(و) أيضاً يُشترط في السّاتر (المِلك أو) ما في (حكمه) وهو الإذن في التصرّف فيه، ولو في خصوص الصَّلاة ممّن بيده ذلك، وهو:

تارةً : يكون بعوضٍ كالإجارة.

واُخرى: يكون بالإباحة، صريحه أو بالفحوى أو بشاهد الحال.

والوجه في اعتبار هذا القيد، ما ذكرناه من فساد الصَّلاة في السّاتر المغصوب(1). ومنه تظهر المسامحة في التعبير عن اعتبار هذا القيد باشتراط المِلْك أو ما في حكمه، إذ مقتضى الدليل مانعيّة وقوع الصَّلاة في السّاتر المغصوب، لا شرطيّة وقوعها في غيره.

***).

ص: 294


1- تقدّم الحديث عن السّاتر المغصوب، راجع بحث (الصَّلاة في المغصوب).

وعورة الرّجل قُبله ودُبُره.

تحديد العورة

ثمّ إنّه بعد ما عرفت من وجوب ستر العورة في الصَّلاة، يقع الكلام في بيان حدّها.

فأقول: الأقوى تبعاً لأكابر المحقّقين من الفقهاء(1): أنّ (عورة الرَّجل قُبُله ودُبُره)، ويشهد به:

1 - مرسل الواسطي، عن أبي الحسن عليه السلام: «العورة عورتان: القُبُل والدُّبُر، والدُّبر مستورٌ بالإليتين، فإذا سَتَرتَ القضيب والبيضتين، فقد سَتَرت العورة»(2).

2 - ومرسلة «الكافي»: «فأمّا الدُّبر فقد سَتَره الإليتان، وأمّا القُبُل فاستره بيدك»(3).

3 - وخبر الميثمي، عن محمّد بن حكيم، قال: «لا أعلمه إلّاقال: رأيتُ أبا عبداللّه عليه السلام - أو من رآه متجرّداً وعلى عورته ثوب، وقال: إنّ الفخذ ليست من العورة»(4).

4 - ومرسل «الفقيه»: «إنّه عليه السلام كان يَطلي عانته وما يليها، ثمّ يلفّ إزاره على طرف إحليله، ويدعو قيّم الحمّام فيطلي سائر جسده»(5).

ص: 295


1- إختاره الشيخ في الخلاف: ج 1/398، والحِلّي في السرائر: ج 1/260، والمحقّق في المعتبر: ج 2/99، والعلّامة في المنتهى: ج 4/240.
2- الكافي: ج 6/501 ح 26، وسائل الشيعة: ج 2/34 أبواب آداب الحمّام ب 4 ح 2 (1401).
3- الكافي: ج 6/501 ح 26، وسائل الشيعة: ج 2/34 أبواب آداب الحمّام ب 4 ح 3 (1402).
4- التهذيب: ج 1/374 ح 8، وسائل الشيعة: ج 2/34 أبواب آداب الحمّام ب 4 ح 1 (1400).
5- الفقيه: ج 1/117 ح 250، وسائل الشيعة: ج 2/68 أبواب آداب الحمّام ب 31 ح 2 (1504).

وقريب منها غيرها(1).

وعن المحقّق الكَركي(2): إلحاق العِجان بهما، ولكن لا دليل له.

وقال القاضي(3): إنّ العورة من السُّرة إلى الرُّكبة.

واستدلّ له:

1 - بخبر بشير النبّال، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن الحمّام ؟

قال: تريد الحمّام ؟ قلت: نعم، فأمر بإسخان الماء، ثمّ دخل فاتّزر بإزارٍ وغَطّى ركبتيه وسُرّته، ثمّ أمر صاحب الحمّام فَطَلى ما كان خارجه من الإزار، ثمّ قال:

اُخرج عنّي، ثمّ طَلى هو ما تحته بيده، ثمّ قال: هكذا فافعل»(4).

2 - وخبر الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام:

«إذا زوّج الرّجل أمَتَهُ فلاينظرنّ إلى عورتها، والعورة ما بين السُّرة والرُّكبة»(5).

3 - وخبر «الخصال» عن أمير المؤمنين عليه السلام: «ليس للرجل أن يكشف ثيابه عن فخذه ويجلس بين قوم»(6).

أقول: ولكن خبر بشير لعدم دلالته على تحديد العورة، لا ينافي النصوص المتقدّمة، وعليه فالأمر فيه يُحمل على الاستحباب، للإجماع على عدم وجوب ستر شيءٍ زائداً على العورة، وبذلك يظهر ما في خبر «الخصال»، مضافاً إلى إشعاره بنفسه بإرادة الكراهة.).

ص: 296


1- كخبر بشير النبّال عن الإمام أبي جعفر عليه السلام، راجع الكافي: ج 6/501 ح 22، ووسائل الشيعة: ج 2/35، أبواب آداب الحمّام ح 1 (1404).
2- حكاه صاحب الجواهر عن حاشية الإرشاد للكركي، الجواهر: ج 8/183.
3- المهذّب: ج 1/83.
4- الكافي: ج 6/501 ح 22، وسائل الشيعة: ج 2/35، أبواب آداب الحمّام ح 1 (1404).
5- قرب الإسناد: ص 49، وسائل الشيعة: ج 21/148 أبواب نكاح العبيد والإماء ب 44 ح 7 (26755).
6- الخصال: ج 2/630، وسائل الشيعة: ج 5/23 أبواب أحكام الملابس ب 10 ح 3 (5787).

وأمّا خبر الحسين وإنْ كان ظاهراً فيما ادّعاه القاضي، إلّاأنّه لإعراض المشهور عنه - مضافاً إلى ضعف سنده، لكون ابن عُلوان على ما قيل عاميّاً(1) - لا يُعتمد عليه، ولو سُلّم حجيّته في نفسه، لابدّ من طرحه لمعارضته بما هو أقوى منه سنداً.

قال أبو الصّلاح الحلبي رحمه الله(2): إنّها من السُّرة إلى نصف الساق.

أقول: الظاهر أنّه لا دليل له، والاستدلال له بالنصوص الدالّة على أنّ الرّجل يُصلّي في سراويل واحدة، كصحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليه السلام، قال:

«سألته عن الرّجل يُصلّي في قميصٍ واحدٍ أو في قباء طاق، أو قباءٍ محشوّ، وليس عليه إزار؟

فقال: إذا كان عليه قميصٌ صفيق، أو قباءٌ ليس بطويل الفرج فلا بأس، والثّوب الواحد يتوشّح به، والسّراويل كلّ ذلك لا بأس به»(3). ونحوه غيره.

إذ المتبادر منها لبسها على حسب ما هو المتعارف فيه، وهو من السُّرة إلى نصف الساق أو ما دونه.

في غير محلّه؛ لأنّها ليست مسوقة لبيان هذا الحكم، ولا تدلّ على وجوب ستر ما يستره السّراويل.

فتحصّل: أنّ العورة هي القُبُل والدُّبر، واحتمال الالتزام بوجوب السَّتر من السُّرة إلى الرُّكبة أو إلى نصف الساق في باب الصَّلاة من باب التعبّد لا لأجل أنّ المجموع عورة يُدفع بالأصل، فيجوز للرجل أن يُصلّي عرياناً إذا سَتَر قُبُله ودُبُره.).

ص: 297


1- قاله النجاشي في رجاله 52، رقم 116.
2- الكافي في الفقه: ص 139.
3- الكافي: ج 3/393 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/390(5480).

وجَسَدُ المرأة عورة، وسُوّغ لها كشف الوجه واليدين والقدمين.

أقول: ثمّ إنّ المراد بالقُبُل في الرَّجل كما صرّح به غير واحد(1): الذَّكر والبيضتان، وبالدُّبر حلقته التي هي نفس المخرج.

ويشهد به: مضافاً إلى أنّها المتبادر منهما، بعض نصوص الباب.

وأمّا المرأة: فإنّ المشهور بين الأصحاب أنّ (جَسَد المرأة عورة) فيجبُ عليها سَتر جميع بدنها في الصَّلاة، (وسُوّغ لها كشفُ الوَجه واليدين والقدمين).

أقول: هاهنا أمران:

أحدهما: وجوب ستر المرأة بدنها ورأسها حتّى الشعر في الصَّلاة.

ثانيهما: عدم وجوب ستر المستثنيات.

أمّا الأوّل: فاستدلّ له الشيخ(2) بما دلَّ على أنّ بدن المرأة كلّه عورةٍ (3)، وقد شيّد بعضٌ (4) هذا الوجه بصحّة إطلاق العورة عليها حقيقةً ، لغةً وعرفاً، وقد ثبت بالنّص والإجماع وجوب ستر العورة في الصَّلاة.

وأورد عليه بعض المحقّقين(5): بأنّ ما دلَّ على وجوب سَتر العورة في الصَّلاة، منصرفٌ إلى العورة بالمعنى الأخصّ .

أقول: إنّ كانت العورة إسماً لفرج المرأة خاصّة، كما هو المتبادرة منها عند).

ص: 298


1- كالشهيد في الذكرى : ص 139، والبيان ص 60، الكركي في جامع المقاصد: ج 2/93، والشهيد الثاني في روض الجنان: ج 2/576، والعاملي في المدارك: ج 3/191.
2- الخلاف: ج 1/393، والاقتصاد: ص 258.
3- مثل ما روي في أمّالي الطوسي النبيّ صلى الله عليه و آله: (النساء عيّ وعورات)، الأمالي ص 584 و 662، وسائل الشيعة: ج 20/66 أبواب مقدّمات النكاح ب 24 ح 6 (25053).
4- حكاه صاحب الجواهر: ج 8/163.
5- هو المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 10/382 (ط. المؤسّسة الجعفريّة).

العرف، فحينئذٍ يكون ما دلَّ على أنّ (بدن المرأة عورة) في مقام تنزيل بدنها منزلة العورة، وحيثُ أنّ التنزيل لابدَّ وأنْ يكون بلحاظ الآثار، وأثر العورة أمران:

1 - لزوم حفظها عن الناظر المحترم.

2 - ووجوب سَترها في الصَّلاة.

فمقتضى الإطلاق ثبوت كليهما لبدنها.

وأمّا إنْ كانت العورة إسماً لما يستحيى منه الإنسان إذا ظهر، وكلّ مكمنٍ للسِّتر، وكلّ شيء يستره الإنسان من أعضائه حياءً كما ذكره اللّغويّون، فالدليل المزبور ظاهرٌ في وجوب السّتر عن الناظر المحترم، وأمّا لزوم السّتر في الصَّلاة فهو ساكت عنه، وما دلَّ على وجوب ستر العورة في الصَّلاة، قد عرفت انصرافه إلى العورة بالمعنى الأخصّ .

وكيف كان، فلا إشكال ولا خلاف في وجوب ستر بدن المرأة في الجملة، وعدم كونها كالرّجل في الاكتفاء بسَتر ما هو عورة عرفيّة.

وتدلّ عليه: - مضافاً إلى الإجماع - جملةٌ من النصوص:

منها: ما تضمّن الأمر بلبس ثوبين وما زاد: كصحيح زرارة، قال:

«سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن أدنى ما تُصلّي فيه المرأة ؟ قال عليه السلام: درع وملحفة فتنشرها على رأسها وتجلّل بها»(1).

ونحوه غيره(2)، فإنّ الدرع هو ما تلبسه النساء ويَسترُ جميع جسدها.

ومنها: صحيح علي بن جعفر: أنّه سأل أخاه موسى عليه السلام عن المرأة ليس لها إلّا).

ص: 299


1- التهذيب: ج 2/217 ح 61، وسائل الشيعة: ج 4/407 أبواب لباس المُصلّي ب 28 ح 9 (5545).
2- مثل صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال في حديثٍ : (والمرأة تُصلّي في الدرع والمقنعة إذا كان الدرع كثيفاً)، الكافي: ج 3/394 ح 2، وسائل الشيعة: ج 4/387 أبواب لباس المُصلّي ب 21 ح 1 (5474).

ملحفة واحدة، كيف تُصلّي ؟

قال عليه السلام: تلتف فيها وتغطّي رأسها وتُصلّي، فإنْ خرجت رجلها، وليس تقدر على غير ذلك فلا بأس»(1).

فإنّه يدلّ على عدم جواز خروج رجلها أيضاً على تقدير القدرة، وقريبٌ منه غيره.

أقول: ما ذكر ثابت لا نقاش فيه عند الأصحاب، إنّما الخلاف في مواضع:

منها: (الرأس) فعن ابن الجُنيد(2): عدم وجوب ستره، والمختار وجوبه.

وتدلّ عليه: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح عليّ بن جعفر، المتقدّم.

ومنها: ما تضمّن الأمر بلبس الملحفة في الصَّلاة كصحيح زرارة المتقدّم.

ومنها: ما دلَّ على لزوم لبس الخِمار، كخبر أبي البختري، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عليّ عليهم السلام: «إذا حاضت الجارية فلا تُصلّي إلّابخمارٍ»(3).

واستدلّ (4) لما اختاره ابن الجنيد، بخبر ابن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«لا بأس بالمرأة المسلمة الحُرّة أن تُصلّي وهي مكشوفة الرأس»(5).

وفيه: أنّ إعراض الأصحاب عنه يمنع عن العمل به، مضافاً إلى أنّه لو ثبتت حجيّته يكون معارضاً مع النصوص المتقدّمة، لعدم إمكان الجمع بحمل تلك على الاستحباب كما لا يخفى، ولا ريب في أنّ الترجيح مع الأخبار المتقدّمة.).

ص: 300


1- الفقيه: ج 1/373 ح 1083، وسائل الشيعة: ج 4/405 أبواب لباس المُصلّي ب 28 ح 2 (5538).
2- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 2/96.
3- قرب الإسناد: ص 66، وسائل الشيعة: ج 4/408 أبواب لباس المُصلّي ب 28 ح 13 (5549).
4- مختلف الشيعة: ج 2/97.
5- التهذيب: ج 2/218 ح 65، وسائل الشيعة: ج 4/410 أبواب لباس المُصلّي ب 29 ح 5 (5558).

ومنها: (الشَّعر) فقد نُسب إلى ظاهر عبارات أكثر الأصحاب(1) أنّه لايجبُ سَتره.

وعن جماعةٍ من الأكابر(2): التوقّف فيه.

ويدلّ على وجوب ستره: خبر الفُضيل، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«صلّت فاطمة عليها السلام في درعٍ وخمارها على رأسها، ليس عليها أكثر ممّا وارت به شعرها واُذنيها»(3).

فإنّه ظاهر في أنّ هذا هو الواجب.

ومنها: (العُنُق) ويدلّ على لزوم ستره ما دلَّ على لزوم حمل الخِمار(4)، فإنّ الظاهر من (الخمار) ما يستُر الرأس والشَّعر والعُنُق.

***).

ص: 301


1- نسبه إلى ظاهر الأصحاب السيّد العاملي في المدارك: ج 3/189.
2- قد يظهر ذلك من الشهيد في الذكرى : ص 140 (ط. ق) وفي الطبعة الجديدة: ج 3/11 قوله: (والأقرب وجوب ستر الاُذنين والشَّعر من المرأة)، والألفيّة ص 50، حيث اعتبر ستر الشَّعر للخُنثى أولى .
3- الفقيه: ج 1/257 ح 789، وسائل الشيعة: ج 4/405 أبواب لباس المُصلّي ب 28 ح 1 (5537).
4- كخبر أبي البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن عليّ عليه السلام: (إذا حاضت الجارية فلا تُصلّي إلّابخمار)، قرب الإسناد: ص 66، وسائل الشيعة: ج 4/408 أبواب لباس المُصلّي ب 28 ح 13 (5549).
المستثنيات من وجوب السَّتر

أقول: أمّا عدم وجوب ستر ما ذكرناه من الاُمور، فالوجه منها ظاهرٌ لا شبهة فيه، وعن غير واحدٍ(1) دعوى الإجماع عليه، وتشهد به:

1 - النصوص الدالّة على الاكتفاء بالدِّرع والمقنعة، فإنّ الوجه خارجٌ عادة عمّا يستر بالمقنعة.

2 - ومضمر سماعة، قال: «سألته عن المرأة تُصلّي متنقّبة ؟

قال: إذا كشفت عن موضع السّجود فلا بأس، وإنْ أسفرت فهو أفضل»(2).

وهل المدار في معرفة حدود الوجه، على ما دارت عليه الإبهام والوسطى ، فلا يعمّ الصُّدغين، أو أعمّ من ذلك فيشملهما؟ قولان.

استدلّ بعض المحقّقين(3) للأوّل: بأنّ الأحكام الشرعيّة الثابتة للوجه، تُنزل على إرادة الوجه المحدود شرعاً، وهو ما حُدّد في باب الوضوء، مضافاً إلى أنّ الخبر الوارد في تحديده المنساق منه، كونه كاشفاً عن معناه العرفي، ومبيّناً لما في حدوده من الإجمال لدى العرف.

وفيه: إنّه لم يذكر عنوان الوجه في النصوص، كي يتمّ ما ذكر، ودعوى كونه معقداً لإجماع، مندفعة بأنّ الدليل في الباب ليس هو الإجماع، لأنّ مدرك المجمعين معلوم.

ص: 302


1- المحقّق الحِلّي في المعتبر: ج 2/101، والعلّامة في التذكرة: ج 2/446، والشهيد في الذكرى : ص 139.
2- التهذيب: ج 2/230 ح 112، وسائل الشيعة: ج 4/421 أبواب لباس المُصلّي ب 33 ح 1 (5592).
3- المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 10/389.

أقول: والأقوى هو الثاني، وتدلّ عليه:

1 - النصوص الدالّة على الاكتفاء بدرعٍ ومقنعة أو خمار، حيث أنّهما لا يستران الصُّدغين بحسب المتعارف.

2 - ومصحّح الفضيل(1) المتقدّم، المتضمّن لحكاية صلاة فاطمة عليها السلام، والظاهر في عدم وجوب ستر غير الشَّعر والاُذن.

3 - هذا مضافاً إلى أنّه يكفي في الحكم بعدم وجوب ستر الصُّدغين ونحوهما للمرأة، الأصل بعد عدم الدليل على اللّزوم.

وأمّا اليدان إلى الزندين، والقَدَمان إلى الساقين، فالمشهور عدم وجوب سترها، وعن غير واحدٍ(2) دعوى الإجماع عليه، وعن بعضٍ (3) القول بالوجوب.

ويدلّ على المختار: ما دلَّ على الاكتفاء بدِرْعٍ وملحفة، إذ الدِرع لا يستُر اليدين والقدمين بحسب المتعارف.

وما في «الحدائق»(4): أنّ من الجائز كون دروعهنّ في تلك الأزمنة واسعة الأكمام طويلة الذيل، وفي مثلها يَحصُلُ سَترُ الكفّين والقدمين.

ضعيفٌ ، إذ الظاهر كون دروعهنّ في تلك الأزمنة التي تلبس في البيت - خصوصاً غير المجلّلات منهنّ - كانت غير ساترة للكفّين والقدمين، كما يشهد له9.

ص: 303


1- الفقيه: ج 1/257 ح 789، وسائل الشيعة: ج 4/405 أبواب لباس المُصلّي ب 28 ح 1 (5537).
2- كالعلّامة في المختلف: ج 2/94، والشهيد الأوّل في الذكرى : ص 139، والمحقّق القمّي في غنائم الأيّام 254، والنراقي في مستند الشيعة: ج 4/242.
3- كظاهر الشيخ في الاقتصاد: ص 258، وظاهر أبو الصّلاح في الكافي في الفقه: ص 98، والمحقّق في المعتبر: ج 2/101، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/8-9.
4- الحدائق الناضرة: ج 7/9.

تفسير ابن عباس لقوله تعالى : وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها (1) بالوجه والكفّين، فإنّ تفسيره شهادة بأنّ الدروع في تلك الأزمنة لم تكن ساترة للكفّين.

هذا كلّه مضافاً إلى الأصل بعد عدم الدليل على لزوم السّتر.

وأمّا صحيح ابن جعفر المتقدّم(2)، فإنّه لا يدلّ على لزوم ستر القدمين، إذ مفهومه وإنْ كان وجوب ستر الرِّجل عند القدرة، إلّاأنّه لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، يؤخذ بالمتيقّن منه وهو غير القدمين.

أقول: ثمّ إنّه ربما يظهر من بعضهم(3) لزوم ستر باطن القدمين، والذي يمكن أنْ يكون مستنده أنّ باطنهما في حال القيام والركوع مستورٌ بالأرض، وفي حال السّجود يُستر بالدرع، فما دلَّ على الاكتفاء بالدرع والخمار لا يدلّ على عدم لزوم ستره، فيرجع إلى ما دلَّ على أنّ (بدن المرأة عورة) يجب ستره في الصَّلاة.

وفيه: ما عرفت من الخدشة في دلالة ما دلَّ على أنّ (بدن المرأة عورة) على وجوب ستره في الصَّلاة، وعليه فبما أنّه في حال السّجود تارةً يكون باطن القدمين مستوراً بالدِّرع، واُخرى لا يكون كذلك، فما دلَّ على الاكتفاء بالدرع لا يدلّ على لزوم ستره، وحيثُ لا دليل غيره عليه، فالمرجع إلى ما يقتضيه الأصل وهو العدم.7.

ص: 304


1- سورة النور: الآية 31.
2- مسائل علي بن جعفر: ص 180، الكافي: ج 6/477 ح 8، وسائل الشيعة: ج 4/378 أبواب لباس المُصلّي ب 15 ح 1 (5445).
3- كالشيخ في المبسوط: ج 1/87، والنهاية: ص 98، والمحقّق في المعتبر: ج 2/101، والعلّامة في قواعدالأحكام: ج 1/257.

وللأمَة والصبيّة كشف الرأس.

(وللأمة والصبيّة كشف الرأس) والصَّلاة بلا خمارٍ، بلا خلافٍ ظاهرٍ فيهما.

وفي «الجواهر»(1): إجماعاً محصّلاً ومنقولاً عنّا وعن غيرنا من علماء الإسلام، عدا الحسن البصري.

ويدلّ عليه في الأمَة: صحيح محمّد بن مسلم، قال: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول:

ليس على الأمَة قناعٌ في الصَّلاة، ولا على المدبرة قناعٌ في الصَّلاة، ولا على المكاتبة إذا شرط عليها مولاها قناعٌ في الصَّلاة، وهي مملوكة حتّى تؤدّي جميع مكاتبتها»(2)ونحوه غيره(3).

وفي الصبيّة: صحيح يونس بن يعقوب: «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يُصلّي في ثوبٍ واحد؟ قال: نعم.

قلت: فالمرأة ؟ قال عليه السلام: لا، ولا يَصلُح للحُرّة إذا حاضت إلّاالخمار».(4)

وخبر أبي البُختري المتقدّم: «إذا حاضتِ المرأة فلا تُصلّي إلّابخمار». ونحوهما غيرهما، بناءً على إرادة البلوغ من (الحيض) كما هو الظاهر منه.

ثمّ إنّه بما أنّ ستر الرقبة بحسب المتعارف يكون بالخمار لا بالدِّرع، فهذه النصوص تدلّ على عدم وجوب سترها.).

ص: 305


1- الجواهر: ج 8/221، وعن المحقّق مثله في المعتبر: ج 2/103.
2- الكافي: ج 5/525 ح 2، وسائل الشيعة: ج 4/411 أبواب لباس المُصلّي ب 29 ح 7 (5560).
3- كرواية عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن عليه السلام، قال: (ليس على الإماء أن يتقنّعن في الصَّلاة، ولا ينبغي للمراة أن تُصلّي إلّافي ثوبين)، التهذيب: ج 2/217 ح 62، وسائل الشيعة: ج 4/409 أبواب لباس المُصلّي ب 29 ح 2 (5555)، وغيره في نفس الباب.
4- الفقيه: ج 1/373 ح 1082، وسائل الشيعة: ج 4/405 أبواب لباس المُصلّي ب 28 ح 4 (5540).

وأمّا في ما عدا الرأس والرقبة، فالأمَة والصبيّة، كالحُرّة البالغة في جميع ما ذُكر من المستثنى والمستثنى منه، لإطلاق الأدلّة.

ودعوى:(1) عدم شمولها للصبيّة، لأنّ موضوعها المرأة وهي لا تصدق عليها.

مندفعة: بأنّه يكفي في ثبوت الحكم للصبيّة قاعدة الإلحاق.

فرع: لو اُعتقت الأمَة في أثناء الصَّلاة:

1 - فإنْ لم يتخلّل زمانٌ بين عتقها وستر رأسها بأن سَترت ثمّ اُعتقت، فصحّة صلاتها تبتني على شمول ما دلَّ على صحّة صلاة الأمَة مكشوفة الرأس لبعض الصَّلاة، وهو محلّ تأمّل.

2 - وإنْ تخلّل زمانٌ بينهما إلّاأنّها بادرت إلى السّتر في الباقي من صلاتها، فالكلام فيه هو الكلام فيمن صَلّى وعورته مكشوفة ناسياً، والتفت في الأثناء، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو بطلان الصَّلاة، فراجع ما ذكرناه.(2)

ومنه يظهر حكم ما لو بلغت الصبيّة في أثناء الصَّلاة بما لا يبطلها.

***د.

ص: 306


1- كما عن المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان: ج 2/106، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/16، ونسبه لغير واحد.
2- صفحة 161 من هذا المجلّد.

ويستحبّ للرَّجل سَتر جميع جسده، والرِّداء أفضل.

(ويستحبُّ للرَّجل سَترُ جميع جَسَده)، والدليل:

1 - النبويّ : «إذا صَلّى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإنّ اللّه تعالى أحقّ أن يُزيّن له»(1).

2 - خبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام، في حديثٍ ، قال:

«سألته عن الرّجل هل يصلح له أن يُصلّي في سروالٍ واحد، وهو يُصيب ثوباً؟

قال: لا يصلح(2)، ولو صَلّى في ثوبٍ واحد فالأفضل أن يعقده على عنقه».

(والرِّداءُ أفضل) للإمام وغيره.

أمّا كونه أفضل للإمام، فتدلّ عليه نصوص:

منها: صحيح سليمان بن خالد، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ أَمَّ قوماً في قميص واحد، ليس عليه رداء؟

قال: لا ينبغي إلّاأن يكون عليه رداء أو عمامة يرتدي بها»(3). ونحوه غيره.

وأمّا لغيره: فيشهد به ما دلَّ على أنّ من صَلّى في سراويل أو في إزار مؤتزراً به، يجعل على رقبته ما يتردّى به:

منها: مرفوع علي بن محمّد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجلٍ صَلّى في سراويل ليس معه غيره ؟ قال: يجعل التّكة على عاتقه»(4).

ومنها: خبر جميل، عنه عليه السلام في رجلٍ صَلّى في إزار، قال: «يجعل على رقبته منديلاً أو عمامة يتردّى به»(5).).

ص: 307


1- السنن الكبرى للبيهقي: ج 2/236، كنز العمّال: ج 7/331 ح 19120.
2- قرب الإسناد: ص 89، وسائل الشيعة: ج 4/453 أبواب لباس المُصلّي ب 53 ح 7 (5698).
3- الكافي: ج 3/394 ح 3، وسائل الشيعة: ج 4/452 أبواب لباس المُصلّي ب 53 ح 1 (5692).
4- الكافي: ج 3/395 ح 5، وسائل الشيعة: ج 4/453 أبواب لباس المُصلّي ب 53 ح 5 (5696).
5- الكافي: ج 3/395 ح 6، وسائل الشيعة: ج 4/453 أبواب لباس المُصلّي ب 53 ح 4 (5695).

وللمرأة ثلاثة أثواب: قميصٌ ودِرْعٌ وخِمار. ولو لم يجد ساتراً صَلّى قائماً بالإيماء إنْ أمِنَ مِن اطّلاع غيره عليه، وإلّا قاعداً مومياً.

(و) يستحبّ (للمرأة ثلاثة أثواب: قميصٌ ودِرْعٌ وخِمار) لموثّق ابن أبي يعفور، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «تُصلّي المرأة في ثلاثة أثواب: إزارٌ ودِرعٌ وخمار، ولا يضرّها أن تقنّع بالخمار، فإنْ لم يجد فثوبين تتّزر بأحدهما وتقنّع بالآخر»(1).

والأمر فيه يُحمل على الاستحباب، لما دلَّ على الاكتفاء بالدرع والخمار.

***

في صلاة العاري
اشارة

(ولو لم يجد ساتراً صَلّى) عرياناً قولاً واحداً، وأمّا كيفيّة صلاته ففيها خلافٌ ، والمشهور بين الأصحاب: أنّه يُصلّي (قائماً بالإيماء إن أمِنَ من اطّلاع غيره عليه، وإلّا قاعداً مومياً).

وعن السيّد المرتضى رحمه الله(2): إنّه يُصلّي جالساً مومياً، وإنْ أمِن من المطّلع.

وعن ابن إدريس(3): إنّه يُصلّي قائماً مومياً في الحالين.

وذهب المحقّقان(4) إلى التفصيل بين المأموم وغيره، واختارا مسلك المشهور في غير المأموم، واختارا فيه أنّه إن أمِنَ من اطّلاع غيره عليه، يُصلّي مع الركوع والسّجود.

ص: 308


1- الكافي: ج 3/395 ح 11، وسائل الشيعة: ج 4/406 أبواب لباس المُصلّي ب 28 ح 8 (5544).
2- رسائل السيّد المرتضى (جمل العلم والعمل): ج 3/49.
3- السرائر: ج 1/260.
4- المحقّق الحِلّي في المعتبر: ج 2/105-107، والمختصر النافع ص 25، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 2/101.

واختار صاحب «الجواهر» رحمه الله(1):

1 - أنّه إنْ أمِن من المُطّلع في جميع حالات الصَّلاة، يُصلّي قائماً بالركوع والسّجود.

2 - وإنْ لم يؤمن، صَلّى جالساً مومياً.

3 - وإنْ أمِنَ في الركوع والسّجود دون القيام، صَلّى جالساً بالركوع والسّجود.

3 - وإنْ عكس، صَلّى قائماً مومياً.

من غير فرقٍ في جميع ذلك بين المأموم وغيره، ولعلّ هذا هو الأقوى ، على ما سيظهر لك ان شاء اللّه.

أقول: والأصل في الخلاف إختلاف الأخبار، وهي على طوائف:

1 - ما يدلّ على أنّه يُصلّي قائماً مطلقاً: كصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام: «وإنْ لم يصب شيئاً يستر به عورته أومأ وهو قائم»(2).

2 - ما يدلّ على أنّه يُصلّي جالساً على الإطلاق: كخبر محمّد بن علي الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة، وليس عليه إلّاثوب واحد، وأصاب ثوبه مني ؟

قال: يتيمّم ويطرح ثوبه، فيجلس مجتمعاً، فيُصلّي فيومى إيماءً »(3).

3 - ما يدلّ على التفصيل بين الأمن من المُطّلع فيُصلّي قائماً، وعدمه فيُصلّي جالساً: كخبر ابن مسكان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في الرّجل يخرج عرياناً فتدركه الصَّلاة ؟ قال: يُصلّي عرياناً قائماً إنْ لم يره).

ص: 309


1- الجواهر: ج 8/198.
2- التهذيب: ج 2/365 ح 47، وسائل الشيعة: ج 4/448 أبواب لباس المُصلّي ب 50 ح 1 (5682).
3- التهذيب: ج 2/223 ح 90، وسائل الشيعة: ج 3/486 أبواب النجاسات ب 46 ح 4 (4251).

أحد، فإنْ رآه أحدٌ صَلّى جالساً»(1).

وصحيحة عبد اللّه ابن مسكان، عن أبي جعفر عليه السلام: «في رجل عريان ليس معه ثوب ؟ قال: إذا كان حيثُ لا يراه أحد فليصلِّ قائماً»(2).

4 - ما ورد في جماعة العُراة: وهي موثّقة إسحاق بن عمّار، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: قومٌ قطع عليهم الطريق، وأُخذت ثيابهم، فبقوا عُراة وحضرت الصَّلاة، كيف يصنعون ؟ قال: يتقدّمهم إمامهم فيجلس ويجلسون خلفه، فيؤمى إيماءً بالركوع والسّجود وهم يركعون ويسجدون خلفه على وجوههم»(3).

***).

ص: 310


1- الفقيه: ج 1/259 ح 797، وسائل الشيعة: ج 4/449 أبواب لباس المُصلّي ب 50 ح 3 (5684).
2- المحاسن: ج 2/372، وسائل الشيعة: ج 4/450 أبواب لباس المُصلّي ب 50 ح 7 (5688)
3- التهذيب: ج 2/365 ح 46، وسائل الشيعة: ج 4/451 أبواب لباس المُصلّي ب 51 ح 2 (5690).
صفة صلاة العاري

أقول: والكلام عنها يقع في مقامين:

الأوّل: في القيام.

الثاني: في الركوع والسّجود.

أمّا المقام الأوّل: فمقتضى الجمع بين الروايات، تقييد الطائفتين الأوليين بالثالثة الدالّة على التفصيل بين وجود الناظر المحترم، فيُصلّي قائماً، وعدمه فيُصلّي جالساً.

والإشكال فيها: بأنّ غير خبر مسكان ظاهر الضعف، وأمّا هو فمرسلٌ لا يُعتمد عليه، إذ هو من أصحاب الكاظم عليه السلام، وقليل الرواية عن الصادق عليه السلام، فكيف يمكن روايته عن أبي جعفر عليه السلام.

ضعيفٌ : لكونه من أجلّ الثقات، فهو لا يروي عن المجاهيل، مضافاً إلى كونه من أصحاب الإجماع، فضلاً عن عمل الأصحاب بخبره.

ولا تنافيها الطائفة الرابعة، فإنّ الأمر بجلوس المأمومين في الفرض إنّما يكون لعدم أمِن كلّ واحدٍ منهم عن اطّلاع صاحبه.

وأيضاً: بما ذكرناه ظهر ضعف القول بتعيّن القيام مطلقاً، ترجيحاً لنصوصه كما عن «السرائر»(1)، كما انقدح ضعف القول بتعيّن الجلوس لما ذُكر، كما عن السيّد(2) والشيخين(3).

أقول: ثمّ إنّ الظاهر من النصوص أنّ سقوط وجوب القيام في الصَّلاة إنّما يكون

ص: 311


1- السرائر: ج 1/260.
2- السيِّد المرتضى في رسائله (جمل العلم والعمل): ج 3/49.
3- الفقيه: ج 1/468 (ذيل ح 1349)، المقنعة: ص 216.

لأجل ملاحظة الواجب الآخر الذي هو أهمّ من ذلك، وهو حفظ الفَرج عن الناظر، وعليه فالتفصيل بين الأمن من المُطّلع وعدمه، كما هو المشهور هو الصحيح، وإنْ كان ظاهر خبر ابن مسكان التفصيل بين وجود الرائي وعدمه، فلو لم يوجد الناظر فعلاً، ولكن لم يؤمَن مِنْ حضوره تعيّن الجلوس.

وأمّا المقام الثاني - وهو بيان كيفيّة الركوع والسّجود:

فمع قطع النظر عن موثّقة إسحاق الواردة في صلاة جماعة العراة، فإنّ مقتضى الروايات وجوب الإيماء في الحالين، أي مع الأمن من المُطَّلع وعدمه، وحال القيام والجلوس، كما يظهر لمن لاحظ الروايات المتقدّمة.

وأمّا موثّقة إسحاق: فهي تدلّ على أنّ المأمومين بما أنّهم في حال الركوع والسّجود مأمونون من المُطَّلع، لالتصاق بعضهم ببعض، واعتدال صفهم، ومقارنتهم في الأفعال، فيجبُ عليهم الركوع والسّجود بخلاف الإمام، لأنّه من جهة تقدّمه في المكان والأفعال، لا يأمن من اطّلاع المأمومين على عورته، فيجبُ عليه الإيماء.

لا يقال: إنّ المأمومين إنْ أمنوا من المُطَّلع، وجبَ عليهم القيام، وإلّا لم يجز لهم الركوع والسّجود.

فإنّه يُقال: إنّهم في حال القيام كلّ واحدٍ منهم غير مأمونٍ من اطّلاع صاحبه، بخلاف حال الركوع والسّجود كما لا يخفى، فيجبُ عليهم الركوع والسّجود دون القيام.

فإنْ قلت: الأخبار الدالّة على وجوب القيام مع الإيماء في صورة الأمن من المُطَّلع، تعارضها وتقدّم عليها، لوجوه غير خفيّة.

قلت أوّلاً: إنّ الموثّقة مختصّة بالمأموم، فتكون أخصّ منها.

ص: 312

وثانياً: إنّ تلك الروايات وإنْ كانت مختصّة بحال الأمن من المُطَّلع في حال القيام، إلّاأنّها أعمّ منها بالنسبة إلى حال الركوع والسّجود، وقابلة للتقييد بما إذا لم يؤمَن في الركوع والسّجود من بروز وظهور مقعده ودُبُره للناظر، فعلى فرض عدم اختصاص الموثّقة بالمأموم، تكون أيضاً أخصّ منها فيقدّم عليها.

فإنْ قلت: إنّ الرواية ضعيفة السند، لأنّ في طريقها ابن جَبَلة الواقفي، وإسحاق ابن عمّار الفطحي، الذي ادّعى غير واحدٍ الإجماع على خلافها.

قلت: إنّ ما حقّقناه في محلّه(1) إنّما هو حجيّة خبر الثقة، ولو لم يكن الراوي إماميّاً، وهذه الرواية موثّقة، وقد وصفها المحقّق رحمه الله(2): (بأنّها حسنة، ومعمولٌ بها عند جماعةٍ ، فلا يُلتفت إلى دعوى الإجماع على خلافها).

فإنْ قلت: إنّ المراد بقوله: وهم يركعون، ويسجُدُون خلفه على وجوههم الإيماء بوجوههم.

قلت: إنّ هذا خلاف الظاهر، لا يُصار إليه، خصوصاً مع التفصيل بين المأموم والإمام.

فإنْ قلت: يعارضه عموم التعليل في حسنة زرارة، وهو قوله عليه السلام بعد الأمر بالإيماء:

(ولا يسجُدان ولا يركعان فيبدو ما خلفهما).

قلت: إنّها تقدّم عليه لأخصيّتها، وهو لا يكون علّة عقليّة غير قابلة للتخصيص، هذا مضافاً إلى احتمال أنْ يكون المراد البدوّ للناظر، فلا يشمل مورد الرواية.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ شيئاً ممّا أورد على الموثّقة ليس بتام، فهي المعتمدة في المقام، ولا وجه لطرحها أصلاً، فعلى هذا إنْ احتملنا خصوصيّة المأموم في هذا7.

ص: 313


1- زبدة الاُصول: ج 4/185، بحث: (تقرير بناء العقلاء على حجيّة خبر الواحد).
2- المعتبر: ج 2/107.

الحكم، فتختصّ الرواية به، وإنْ لم نحتمل ذلك - كما هو الحقّ - فتكون نتيجة ضمّ الروايات بعضها إلى بعض، سقوط شرطيّة السّتر للصّلاة من حيث هو في حقّ العريان، وأنّه لا يجب عليه رعايته إلّامن جهة الحفظ عن النظر، وهو مخصوصٌ بصورة عدم الأمن، فيجبُ عليه الجلوس والإيماء للركوع والسّجود في حال عدم الأمن لذلك، أمّا مع الأمن في حال الركوع والسّجود دون القيام، عليه أن يجلس ويركع ويسجد، ولا مقتضي لترك الركوع والسّجود.

هذا، ولكن مع ذلك بما أنّ حمل النصوص الدالّة على أنْ (من لم يره أحدٌ يُصلّي قائماً مؤمياً) على مورد الأمن من المُطَّلع في حال القيام دون الركوع والسّجود، لا يخلو عن بُعدٍ، وتخصيص الموثّقة بالمأموم أبعد، فالأحوط تكرار الصَّلاة، بأنْ يُصلّي تارةً مع الإيماء، واُخرى مع الركوع والسّجود.

***

ص: 314

فروع:
صفة جماعة العُراة

فروع:

الفرع الأوّل: لا شبهة في مشروعيّة الجماعة للعُراة:

1 - لأدلّة الجماعة.

2 - وللموثّقة المتقدّمة.

3 - ولصحيحة ابن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «سألته عن قومٍ صلّوا جماعة وهم عُراة ؟ قال: يتقدّمهم الإمام بركبتيه ويُصلّي بهم جلوساًوهو جالس»(1).

فما في خبر أبي البُختري: «فإنْ كانوا جماعةً تباعدوا في المجالس، ثمّ صَلّوا كذلك فُرادى»(2) لابدَّ من حمله على ما لا ينافي مشروعيّة الجماعة، لعدم عمل الأصحاب به، فلا يصلح لمعارضة ما تقدّم.

ظاهر كثير من الفتاوى أنّ الواجب على المأمومين وقوفهم في صفٍّ واحد

الفرع الثاني: ظاهر كثير من الفتاوى أنّ الواجب على المأمومين وقوفهم في صفٍّ واحد، وهو الأظهر، لأنّهم لو وقفوا في صفٍّ واحد أمنوا جميعاً من المُطَّلع، فيجب عليهم الركوع والسّجود، وإنْ وقفوا في صفّين، فمَنْ في الصفّ المتقدّم بالنسبة إلى المتأخّر كالإمام بالنسبة إليهم، فلابدَّ وأن ينتقلوا إلى الإيماء لعدم الأمن من المُطَّلع.

وحيثُ أنّ الإيماء بدلٌ اضطراري، لا ينتقل إليه مع إمكان الركوع والسّجود، فلا يجوز الوقوف في الصفّ المتقدّم.

لا يجبُ على مَن صَلّى قائماً أن يجلس للإيماء للسجود

الفرع الثالث: لا يجبُ على مَن صَلّى قائماً أن يجلس للإيماء للسجود، كما عن

ص: 315


1- التهذيب: ج 3/178 ح 2، وسائل الشيعة: ج 4/450 أبواب لباس المُصلّي ب 51 ح 1 (5689).
2- قرب الإسناد: ص 66، وسائل الشيعة: ج 4/451 أبواب لباس المُصلّي ب 52 ح 1 (5691).

السيّد عميد الدين(1)، لأنّه ظاهر صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة، إنْ لم يكن صريحها.

وقد استدلّ للسيّد:

1 - بأنّه أقرب إلى هيئة السّجود.

2 - وبقوله عليه السلام: «إذا أمرتُكُم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم».

3 - وباستصحاب وجوب الجلوس للسجود.

وفيه: إنّ كلّ ذلك اجتهادٌ في مقابل النّص.

عدم وجوب جعل الإيماء إلى السّجود أخفض منه إلى الركوع

الفرع الرابع: مقتضى إطلاق الأخبار، عدم وجوب جعل الإيماء إلى السّجود أخفض منه إلى الركوع، إلّاأنّ ظاهر الخبر المرويّ عن «قُرب الإسناد» وجوب ذلك، فالاحتياط لا يترك، وليكن الإيماء برأسه، فإنّه المتبادر من الأمر به بدلاً عن الركوع والسّجود، مضافاً إلى أنّه المصرّح به في حسنة زرارة.

نعم، مقتضى الإطلاقات الواردة في مقام البيان، عدم وجوب الانحناء فيهما بقدر الإمكان، مع عدم بدوّ العورة.

وعليه، فما عن الشهيد في «الذكرى»(2) من وجوب ذلك مستدلّاً له بقاعدة الميسور والاستصحاب غير تامّ .

وفيه: إنّه لا مجال لرفع اليد بواسطة هذه القواعد عن ما تقتضيه إطلاقات الأدلّة، مضافاً إلى أنّ المعتبر في الصَّلاة الهيئة المخصوصة، وقد انتقل الفرض منها إلى الإيماء، والإنحناءُ إنّما كان واجباً في السابق مقدّمةً لها لا مستقلّاً.

نعم، لو كان الانحناء بنفسه واجباً وجزءً للصّلاة، أمكن التشبّث لإثبات ما تيسّر منه بقاعدة (ما لا يُدرك) فتأمّل، لولا ظهور الأخبار في خلافه.

ص: 316


1- حكاه عنه الشهيد في الذكرى : ص 142.
2- الذكرى : ص 142.
صلاة العاري في سعة الوقت

الفرع الخامس: يدور البحث فيه عن أنّه:

هل يجوز البدار إلى فعل الصَّلاة عارياً في سعة الوقت ؟

أم لا يجوز؟

أو يجب التفصيل بين العلم بتجدّد القدرة قلا يجوز، وعدمه فيجوز؟

أو يفصّل بين العلم بعدم تجدّد القدرة فيجوز، وعدمه فلا يجوز؟

وجوهٌ وأقوال:

أقول: استدلّ بعض الأكابر(1) على الأوّل بوجوهٍ :

1 - التمسّك بإطلاق أدلّة الصَّلاة، وأنّها واجبة فعلاً، فيلزم سقوط السّتر، وإلّا لزم التكليف بما لا يُطاق.

2 - التمسّك بإطلاق أدلّة صلاه العاري، بدعوى أنّها تدلّ على صحّة الصَّلاة في كلّ زمانٍ حَضَرت الصَّلاة، ولم يكن عنده ما يستر به عورته.

3 - إنّ أدلّة السّتر لم يعلم منها شرطيّته بالنسبة إلى العاجز الفعلي، وإنْ كان قادراً بملاحظة مجموع الوقت.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الصَّلاة بعدما قُيّدت بالسَّتر، فالمأمور به هو الصَّلاة متستّراً، ولازم عدم التمكّن منه في جزءٍ من الوقت، عدم وجوبها في ذلك الحين كسائر

ص: 317


1- المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 10/423 (ط. المؤسّسة الجعفريّة).

الشرائط والأجزاء، إذا لم يتمكّن منها في جزء من الوقت.

وأمّا الثاني: فلأنّ النصوص الدالّة على صحّة الصَّلاة عارياً، مع عدم التمكّن من السّتر، ليس لها إطلاق يمكن التمسّك به لإثبات الصحّة حتّى في حال عدم التمكّن منه في جزءٍ من الوقت، لورودها في مقام بيان حكم آخر كما لا يخفى .

وأمّا الثالث: فلأنّ المستفاد من أدلّة اعتبار السَّتر، اعتباره في الطبيعي المأمور به، وهو الصَّلاة الواقعة في الوقت المضروب لها، وليس المأمور به خصوص فردٍ منها حتّى يقال بأنّه لم يعلم شرطيّة السّتر بالنسبة إلى العاجز الفعلي.

وبالجملة: فالأقوى أنّه لا تجوز الصَّلاة عارياً إلّامع عدم التمكّن من السّتر في مجموع الوقت، لأنّه تكليفٌ عُذري يتوقّف على استيعاب العذر للوقت، كما هو الشأن في جميع التكاليف العُذريّة الّتي لم يرد فيها نصٌّ خاصّ على كفاية الاضطرار حال الفعل في مشروعيّته.

نعم، هذا لا يوجب القول بعدم جواز البدار مطلقاً، بل يجوز مع العلم بعدم تجدّد القدرة.

وأمّا مع الشكّ في تجدّدها، فمقتضى الأصل جوازه جوازاً ظاهريّاً، كما حقّقناه في المواقيت، وحاصله:

جريان الاستصحاب في الحالة المتيقّنة الموجودة، وهي عدم التمكّن، فتستصحب هذه الحالة إلى آخر الوقت، لأنّ الاستصحاب في الاُمور الاستقباليّة يجري إذا كان لبقاء المستصحب في المستقبل أثرٌ فعلي، فيجري استصحاب عدم التمكّن إلى آخر الوقت، فيحكم بجواز البدار في صورة الشكّ أيضاً.

فتحصّل ممّا ذكرناه: إنّ الأقوى هو القول الثالث.

ص: 318

لو وجد السّاتر في أثناء الصَّلاة

الفرع السادس: لو وجد السّاتر في أثناء العمل:

1 - فإمّا أنْ يكون ذلك في سعة الوقت، بحيث لو تركها أدرك الصَّلاة كلّها في الوقت.

2 - وإمّا أنْ يكون في ضيق الوقت، بحيث لو ترك ما بيده من الصَّلاة المشتغل بها، لم يدرك ولو ركعة.

3 - وإمّا أنْ يكون بحيث لو رَفَع اليد عنها أدرك ركعة منها مع السّتر في الوقت.

أمّا القسم الأوّل: فمقتضى ما عرفت في الفرع السابق، بطلان ما بيده، ووجوب استئناف الصَّلاة مع السَّتر، لما عرفت من أنّ جواز الصَّلاة عارياً يتوقّف على كونه غير متمكّن في مجموع الوقت، فالتمكّن في الأثناء كاشفٌ عن عدم صحّة الصَّلاة الّتي اشتغل بها، والإستصحاب إنّما أوجب جواز الدخول ظاهراً، لا الإجزاء ولو مع انكشاف الخلاف.

فإنْ قلت: إنّه بناءً على ما هو الحقّ من شمول حديث (لا تُعاد)(1) لأمثال المقام، وعدم اختصاصه بالنّاسي، فالأجزاء السابقة محكومة بالصحّة بمقتضى حديث (لا تُعاد)، فحينئذٍ:

إنْ توقّف السَّتر على فعل المنافي، بطلت صلاته من ناحية الأجزاء اللّاحقة، لأنّ إتيانها عارياً مع التمكّن من السّتر لا دليل عليه، بل أدلّة اعتبار السّتر مع التمكّن تدلّ على فسادها، وتحصيل السّتر بفعل المنافي موجبٌ للبطلان.

وأمّا إنْ لم يتوقّف السّتر على فعل المنافي، فيأتي بالأجزاء اللّاحقة مع السّتر،

ص: 319


1- الفقيه: ج 1/279 ح 857، وسائل الشيعة: ج 4/312 أبواب القبلة ب 9 ح 1 (5241).

فتكون صحيحة.

قلت: إنّ واجد السّتر في الصَّلاة تكون صلاته هذه مشتملة عليثلاث قطعات:

الأُولى : الأجزاء الواقعة في حال عدم وجدان السّتر.

الثانية: الأجزاء اللّاحقة التي يأتي بها مع السّتر.

الثالثة: زمان التشاغل فعل السّتر.

والأُولى تقع صحيحة بمقتضى حديث (لا تُعاد)، وكذلك الثانية لواجديّة الشرط، وأمّا الثالثة فلا دليل يدلّ على صحّتها، وسقوط شرطيّة السّتر بالنسبة إليها.

ودعوى: أنّه لو فرض شمول إطلاق حديث (لا تُعاد) للأجزاء السابقة، لزم منه الحكم بالصحّة، وسقوط شرطيّة السّتر بالنسبة إلى حال التشاغل بفعل السّتر، وإلّا لزم أنْ يكون الحكم بصحّة الأجزاء السابقة لغواً.

مندفعة: بأنّ هذا يوجبُ عدم شمول الإطلاق، لعدم ترتّب الأثر عليه، كما لا يخفى .

وبالجملة: فالأقوى في هذا القسم بطلان الصَّلاة، ولزوم الاستئناف، سواءٌ أمكن السّتر بغير فعل المنافي أو توقّف عليه.

وأمّا القسم الثاني: فلا إشكال في وجوب المضيّ ، وعدم جواز رفع اليد عن الصَّلاة التي هو فيها، كما لا يخفى ، غاية الأمر إنْ تمكّن من السّتر عليه المبادرة إليه، وإلّا يتمّ عارياً.

وأمّا القسم الثالث: فالأظهر هو التخيير بين إتمام ما بيده، وبين إبطاله والاستئناف، وذلك لما ذكرناه مراراً من أنّ التنافي بين الأوامر الضمنيّة إنّما يرجع إلى

ص: 320

باب التعارض، وعرفت أنّ مركز التنافي إنّما هو إطلاق دليل كلّ من المتنافيين، وعرفت أيضاً أنّ مقتضى القاعدة سقوط الإطلاقين.

ففي المقام يقع التعارض بين إطلاق دليل اعتبار السَّتر، وبين إطلاق دليل اعتبار إيقاع تمام الصَّلاة في الوقت فيتساقطان(1) والمرجع إلى الأصل، وهو هاهنا التخيير، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير، فتدبّر.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بمهمّات مباحث اللّباس، والحمد للّه أوّلاً وآخراً.

***).

ص: 321


1- بل المرجع إلى أخبار الترجيح والتخيير وحيث لا مرجّح لشيء منهما يحكم بالتخيير (منه دام ظلّه).

الفصل الخامس: في المكان.

كلّ مكانٍ مملوكٍ أو مأذونٍ فيه، يجوزُ فيه الصَّلاة.

الفصل الخامس البحث عن مكان المصلّي

اشارة

وهو عرفاً المحلّ الذي يستقرّ عليه المُصلّي ويشغله من الفضاء، وفي اصطلاح الفقهاء فُسِّر بتفاسير(1)، وحيث أنّ هذا اللّفظ لم يرد له ذكرٌ في شيءٍ من الأدلّة، فلا حاجة إلى تحقيق مفهومه، بل المهمّ تشخيص مصاديق ما عُلّق عليه الأحكام اللّاحقة له، كالإباحة والطهارة.

أقول: ومن جملة تلك الأحكام ما ذكره المصنّف رحمه الله:

(كلُّ مكانٍ مملوكٍ أو مأذونٍ فيه تجوزُ فيه الصَّلاة) بلا خلافٍ فيه.

وتشهد به النصوص الدالّة على عموم مسجديّة الأرض، كخبر عبيد بن زرارة، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: الأرض كلّها مسجد، إلّابئرُ غائطٍ، أو مقبرة أو حمّام»(2). ونحوه غيره.

ثمّ إنّ الوجه في اعتبار كون المكان مملوكاً أو مأذوناً فيه، ولو في خصوص

ص: 322


1- عرّفه فخر المحقّقين في الإيضاح: بأنّه (ما يستقرّ عليه المُصلّي ولو بوسائط، وما يلاقي بدنه وثيابه، ومايتخلّل بين مواضع الملاقاة من موضع الصَّلاة كما يلاقي مساجده ويحاذي بطنه وصدره) إيضاح الفوائد: ج 1/87. وفسّره المحقّق الكركي في جامع المقاصد: (بأنّه الفراغ الذي يشغله بدن المُصلّي أو يستقرّ عليه ولو بوسائط) جامع المقاصد: ج 2/114.
2- التهذيب: ج 3/259 ح 48، وسائل الشيعة: ج 5/118 أبواب مكان المُصلّي ب 1 ح 4 (6085).

الصَّلاة، بطلان الصَّلاة في المكان المغصوب على ما ستعرف.

وعليه، فإذا كان مِلْكاً للغير، فبما أنّه يخرج التصرّف فيه عن كونه غصباً برضاه بالتصرف فيه، فالمعتبر هو الرِّضا لا الإذن.

وظاهر التوقيع المرويّ عن «الاحتجاج»(1) وإنْ كان اعتبار الإذن في التصرّف، إلّاأنّه لابدّ من حمله على الحكم الطريقي الظاهري، جمعاً بينه وبين موثّق سماعة(2)، الدالّ على اعتبار الرِّضا النفسي.

بل الأظهر كفاية الرضا الشأني، إذا لم تقارنه كراهةٌ فعليّة في حِليّة التصرّف، وعدم انطباق عنوان الغصب عليه، لاستقرار سيرة العقلاء على الاكتفاء به، هذا كلّه ممّا لا كلام فيه.

***).

ص: 323


1- وهو ما روي عن صاحب الأمر عليه السلام أنّه قال: (لا يَحلّ لأحدٍ أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه)، إكمال الدِّين: ج 2/520 ح 49، الاحتجاج: ج 2/479، وسائل الشيعة: ج 9/540 أبواب الأنفال ب 3 ح 7 (12670).
2- وهو خبره عن أبي عبد اللّه عليه السلام: (إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: من كانت عنده أمّانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم إمرئٍ مسلم ولا ماله إلّابطيبة نفسه)، الفقيه: ج 4/66 ح 195، وسائل الشيعة: ج 5/120 أبواب مكان المُصلّي ب 3 ح 1 (6089).

وتبطل في المغصوب مع العلم بالغصب.

الصَّلاة في المكان المغصوب
اشارة

وإنّما الكلام في الصَّلاة في المغصوب:

(و) المشهور بين الأصحاب أنّه (تبطل) الصَّلاة (في المغصوب مع العِلم بالغصب)، بل ادّعى في «الجواهر»(1): أنّ عليه الإجماع بقسميه.

واستدلّ له:

1 - بالإجماع.

2 - وبأنّ الغاصب مأمورٌ بردّ المغصوب إلى مالكه، وهو مضادّ للصَّلاة، لإفتقاره إلى فعل كثير، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، والنهي يقتضي الفساد.

3 - وبالمرسل المرويّ عن «غوالي اللّئالي» عن الصادق عليه السلام: «ما أنصفناهم إنْ وأخذناهم، ولا أحببناهم إنْ عاقبناهم، بل نُبيح لهم المساكن لتصحّ عباداتهم»(2).

4 - وبما عن «تُحف العقول» عن عليّ عليه السلام: «يا كُميل انظر فيما تُصلّي، وعلى ما تُصلّي، إنْ لم يكن من وجهه وحِلّه فلا قبول»(3).

5 - وبخبر الصدوق، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لو أنّ الناس أخذوا ما أمرهم اللّه به، فأنفقوه فيما نهاهم عنه ما قبله منهم، ولو أخذوا ما نهاهم اللّه تعالى عنه

ص: 324


1- جواهر الكلام: ج 8/284.
2- غوالي اللّئالي: ج 4/5 ح 2، مستدرك وسائل الشيعة: ج 7/303 أبواب الأنفال ب 4 ح 3 (8272).
3- تحف العقول: ص 174، وسائل الشيعة: ج 5/119 أبواب مكان المُصلّي ب 2 ح 2 (6088).

فأنفقوه فيما أمرهم اللّه تعالى به ما قبله منهم»(1).

6 - وبامتناع اجتماع الأمر والنهي.

أقول: وفي الجميع غير الأخير نظرٌ:

إذ الإجماع ليس بحجّة، مع كون مدرك المجمعين معلوماً.

والأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، كما حقّقناه في محلّه(2).

والمُرسل ضعيف السّند لا يعتمد عليه، وموافقة المشهور من دون ثبوت اعتمادهم عليه، لا تكون جابرة.

و ما عن «تُحف العقول»، و خبر الجُعفي(3) قد تقدّم ما فيهما فى بحث لباس المُصلّي(4).

وأمّا امتناع اجتماع الأمر والنهي: فهو وإنْ كان كافياً في بطلان الصَّلاة، من غير فرقٍ بين كون ما يتّحد من أجزائها مع المنهيّ عنه عباديّاً، وكونه غير عبادي كما عرفت في المبحث المتقدّم، إلّاأنّ الكلام في اتّحاد شيء ما يعتبر في الصَّلاة مع الغصب خارجاً، كي يكون المورد من موارد الامتناع، وإلّا فقد عرفت أنّه لابدَّ من القول بالجواز.

والتحقيق في هذه الجهة أنْ يُقال:

لا ريب في عدم صدق الغصب على بعض أجزاء الصَّلاة، كالتكبيرة والقراءة وغيرهما من الأذكار، لعدم كونها تصرّفاً في المغصوب.

وأمّا الأفعال المعتبرة فيها كالقيام والجلوس والركوع، فحيثُ إنّها من مقولة0.

ص: 325


1- عن الجُعفي، الفقيه: ج 2/57 ح 1694، وسائل الشيعة: ج 5/119 أبواب مكان المُصلّي ب 2 ح 1 (6087).
2- زبدة الاُصول: ج 2/234، الفصل الخامس: في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه وعدمه.
3- وهو ما تقدّم برواية الصدوق في آخر صفحة السابقة.
4- تحت عنوان الصَّلاة في المغصوب: ص 280.

الوضع، لكونها هيئات قائمة بالبدن، والغصب منتزعٌ من الكون في الدار الذي هو من مقولة الأين، فلا يصدق الغصب على شيءٍ منها.

وبعبارة اُخرى: بما أنّ أفعال الصَّلاة تكون من مقولة الوضع، والغصب من مقولة الأين، فلا محالة يكون لكلٍّ منهما وجودٌ منحازٌ عن الآخر مستقلّ ، وأمّا الهوي إلى الرّكوع والسّجود، والنهوض إليهما، فلو سُلّم كونهما من أفراد التصرّف في مِلْك الغير، لكن بما أنّهما لا يكونان من أجزاء الصَّلاة بل من المقدّمات، فلا يلزم اتّحاد المأمور به والمنهيّ عنه.

واعتبار كون الركوع عن قيامٍ ، لا يقتضي كون الهوي داخلاً في حقيقة الركوع، كما أنّ اعتبار الوضع في السّجود، لا يقتضي كون الهويّ داخلاً في حقيقته، لعدم اعتبار سبق الرفع في صدق الوضع.

نعم، بما أنّ السّجود يعتبر فيه اعتماد الجبهة على الأرض، كما أنّه لا يبعد اعتبار الاعتماد عليها في القيام، والاعتماد على المكان المغصوب من أظهر أفراد التصرّف في مِلْك الغير، فيتّحد المأمور به والمنهيّ عنه.

فتحصّل ممّا ذكرناه: إنّ الصَّلاة في الدار المغصوبة، بناءً على عدم اعتبار الاعتماد على الأرض، والقرار عليها في القيام، تصحّ لو سجد في خارج الدار، وأمّا بناءً على اعتبار الاعتماد فيه تبطل مطلقاً، ولا فرق في البطلان بين صورتي العلم والجهل، كما عرفت في مبحث الصلاة في المغصوب.(1)

ثمّ إنّك بعد ما عرفت من إنّ الملاك في بطلان الصَّلاة في الدار المغصوبة، ليس اتّحاد الأكوان الصلاتيّة مع الغصب، بل إنّما يكون اتّحاد الاعتماد على الأرض، المعتبر في السّجود والقيام معه، يظهر لك أنّ الصَّلاة تحت الخيمة الغصبيّة، أو سقف1.

ص: 326


1- فقه الصادق: ج 6/281.

مغصوب لا تكون باطلة، ولو قلنا بأنّ التصرّف في الخيمة إنّما يكون عبارة عن الاستقرار تحت فيئها.

ولو صَلّى فيها ناسياً، صحّت صلاته، لعموم حديث (لا تُعاد الصَّلاة)(1)، وكذا لو اُكره على المكث فيها، لما عرفت في المبحث المتقدّم من أنّ الإكراه يوجبُ ارتفاع الحرمة النفسيّة، ومعه لا موجب للبطلان، فراجع ما ذكرناه هناك.(2)

نعم، يمكن أنْ يُقال في المقام إنّ الاعتماد على الأرض، المعتبر في السّجود، بما أنّه تصرّفٌ زائد عمّا اُكره عليه فلا يجوز.

وعليه، فإنْ كان في سعة الوقت لا تصحّ الصَّلاة، كما لا يخفى وجهه، وأمّا مع الضيق فيُصلّي بما أمكن من غير استلزام تصرّفٍ زائد.

بل يمكن أنْ يُقال: إنّ المكرَه على التصرّف في الدار المغصوبة - وإنْ كان بالإضافة إلى الفضاء - لا يكون سجوده من غير جهة الاعتماد تصرّفاً زائداً، وأمّا بالإضافة إلى الأرض، فلأجل اعتبار وضع المساجد السبعة عليها، يكون تصرّفه بالسجود أزيد فلا يجوز.

وممّا ذكرناه ظهر حكم ما لو اضطرّ إلى التصرّف فيها بالبقاء، فإنّه يجري فيه جميع ما ذكرناه في الإكراه، فلا حاجة إلى الإعادة.

ثمّ إنّه لا فرق في بطلان الصَّلاة بين تعلّق الغصب بالعين أو بالمنفعة، كما لو صَلّى في الدار من غير إذن المستأجر، وإنْ أذن له المالك، لأنّ الملاك واحد وهو حرمة التصرّف في المغصوب، وكذا لو كان المكان متعلّقاً لحقٍّ كحقّ الرهن. وهذا كلّه ممّا لا كلام فيه.د.

ص: 327


1- الفقيه: ج 1/279 ح 857، وسائل الشيعة: ج 4/312 أبواب القبلة ب 9 ح 1 (5241).
2- صفحة 283 من هذا المجلّد.
حَقّ السَّبق في المسجد

إنّما الكلام في حَقّ السَّبق، كما سبق إلى المسجد أم غيره، فمنعه آخرُ من ذلك المكان، لكنّه دافعه وصلّى فيه.

أقول: لا خلاف في أنّ مَنْ سبق إلى مكانٍ من المشتركات كالمسجد فهو أحقّ به ما دام جالساً.

وعن غير واحدٍ(1): دعوى الإجماع عليه.

بل عن بعضهم(2): كاد يكون ضروريّاً.

كما لا خلاف في سقوط حقّه لو قام مفارقاً، رافعاً يده عنه، بل حتّى لو نوى العود، ولكن قام مع عدم الرَّحل.

ومنه يظهر عدم حجيّة مرسل محمّد بن إسماعيل، عن الإمام الصادق عليه السلام، قلت له: «نكون بمكّة أو بالمدينة أو الحيرة أو المواضع التي يُرجى فيها الفضل، فربما خرج الرَّجل يتوضّأ فيجىء آخر فيصير مكانه ؟

قال عليه السلام: مَن سَبِق إلى موضعٍ فهو أحقّ به يومه وليلته»(3).

ص: 328


1- يظهر ذلك من الشيخ في المبسوط: ج 3/276 حيث قال بعد الحديث عن أحقّيّة من سبق إلى مكان من غيره: (لأنّ ذلك جرت به عادة أهل الأعصار، يفعلون ذلك ولا ينكره أحد، وغيره على ذلك) فهو وإنْ لم يصرّح بالإجماع، إلّاأنّ الأغلب أرسله إرسال المسلّمات، مع الاختلاف ببعض التفاصيل، وبعضهم عبّر بالمشهور كصاحب الحدائق: ج 7/306.
2- جواهر الكلام: ج 38/88 قوله: (لا إشكال ولا خلاف في أنّ من سبق إلى مكانٍ منه [المسجد] فهو أحقّ به ما دام جالساً فيه، بل يمكن تحصيل الإجماع أو الضرورة عليه..)، وحكاه صاحب المستمسك: ج 5/423، ونسب إلى مفتاح الكرامة الإجماع المحصّل على ذلك بل كاد أنْ يكون ضروريّاً.
3- الكافي: ج 4/546 ح 33، وسائل الشيعة: ج 5/278 أبواب أحكام المساجد ب 56 ح 1 (6541).

وخبر طلحة عن أمير المؤمنين عليه السلام: «سوق المسلمين كمسجدهم، فمن سَبق إلى مكانٍ فهو أحقّ به إلى اللّيل»(1).

لعدم العمل بإطلاقهما، وبالتحديد المذكور فيهما، مضافاً إلى تعارضهما فيه.

أقول: وبذلك يظهر تماميّة ما ذكره المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(2)، بقوله:

(لو دفعه عن مكانه أثم، وحَلّ له مكثه فيه، وصار أحقّ به من غيره، إذ بعدما صار الحيّز فارغاً، لكلّ أحدٍ التصرّف فيه، سواءٌ كان هو الدافع الظالم أم غيره).

وعليه، فالأقوى ما في «الجواهر» وهو عدم بطلان الصَّلاة في الفرض.

***9.

ص: 329


1- الكافي: ج 5/155 ح 1، وسائل الشيعة: ج 5/278 أبواب أحكام المساجد ب 56 ح 2 (6542).
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/405 (ط. ق) قوله: (ولو أزعجه أحد وقعد مكانه فعل حراماً، وصار به أولى من الأوّل) هذا نصّه، وقريبٌ منه في الصفحة التالية. وما ذكره المؤلّف هو ما حكاه صاحب الجواهر: 38/79.
الصَّلاة حال الخروج

بقي الكلام في الصَّلاة حال الخروج من المكان المغصوب.

أقول: حيث أنّه لا يمكن أنْ يكون الخروج محكوماً بالحرمة، ولو كان الاضطرار إليه بسوء الاختيار، ولم يكن الخروج عن توبةٍ وندم، لعدم اجتماعه مع حرمة التصرّف بغير الخروج، لإستلزامه التكليف بما لا يُطاق، فلا مانع من صحّة الصَّلاة من جهة المكان، وحينئذٍ:

1 - إنْ كان في سعة الوقت، وجب عليه الخروج، والصَّلاة خارج الدار، وليس له الصَّلاة حال الخروج، لاستلزام التشاغل بها فوت الاستقرار والسّجود ونحو ذلك، مع عدم الدليل على سقوطها.

2 - وإنْ كان في ضيق الوقت، وجب عليه الاشتغال بها حال الخروج، كما هو المشهور، بل عن بعضٍ (1) بلا خلاف، ويؤمئ للسجود، لاستلزامه مزيد البقاء في المغصوب المحرّم، المقدّم دليله على دليل السّجود، فينتقل الفرض إلى الإيماء.

وأمّا الركوع: فحيثُ أنّه لا يستلزم مزيد المكث فيه، لعدم احتياجه إلى الاستقرار، فلا وجه لتبديله بالإيماء، ويراعي باقي الشرائط من الاستقبال وغيره بقدر المكنة، على وجهٍ لا يستلزم المكث، والدّليل على وجوب الصَّلاة في هذه الحال، قوله عليه السلام: «فإنّها لا تَدَع الصَّلاة بحال»(2).

وعليه، فما عن ابن سعيد، والعلّامة الطباطبائي رحمه الله(3) من التوقّف في صحّة هذه

ص: 330


1- كالعلّامة في المنتهى: ج 4/300.
2- الكافي: ج 3/99 ح 4، وسائل الشيعة: ج 2/373 أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5 (2394).
3- حكاه عنهما صاحب الجواهر: ج 8/296.

الصَّلاة، ضعيفٌ .

ودعوى: أنّ التشاغل بها في هذه الحال مستلزمٌ لفوت الاستقرار والسّجود، ونحو ذلك، مع عدم الدليل على سقوطها هنا.

مندفعة: بأنّ سقوطها إنّما يكون لأجل حرمة البقاء المقدّم دليلها على ما دلَّ على اعتبار تلك الاُمور، ولا يجب حينئذٍ القضاء، إذ بعد إتيان الصَّلاة صحيحة لا فوت حتّى يجب القضاء.

وقد يقال: إنّه في الفرض في سعة الوقت وضيقه، لو تشاغل بالصَّلاة، وهو مستقرٌّ في المكان المغصوب، أمكن القول بصحّتها، إذا كان زمانها مساوياً لزمان الخروج أو أقلّ ، لأنّ هذا المقدار من التصرّف مضطرٌّ إليه، فلا يكون حراماً.

وفيه: إنّه لا يكون الخروج حراماً، لأنّه المضطرّ إليه لا ذلك المقدار من التصرّف، فلو صَلّى كذلك، يكون توقّفه بخصوصه تصرّفاً زائداً على ما اضطرّ إليه، فلا يجوز، فتدبّر حتّى لا تُبادر بالإشكال.

وعليه، فلو دار الأمر بين الصَّلاة حال الخروج من المكان الغصبي بتمامها في الوقت، أو الصَّلاة بعد الخروج، وإدراك ركعةٍ أو أزيد، فالظاهر هو التخيير بينهما، لما عرفت غير مرّةٍ من أنّ التنافي بين الأوامر الضمنيّة إنّما يكون من باب التعارض، وعليه فيقع التعارض في المقام بين إطلاق ما دلَّ على وجوب إيقاع تمام الصَّلاة في الوقت، وإطلاق دليل الاستقرار والسّجود ونحوهما، فلا محالة يتساقطان، والمرجع إلى الأصل، وهو يقتضي التخيير، كما عرفت في مبحث القبلة.(1)

ودعوى: إنّ المستفاد من الأدلّة الواردة في الموارد المتفرّقة، أنّ مراعاة الوقت أولى من مراعاة غيره من ما يعتبر في الصَّلاة، وعليه فتتعيّن الصَّلاة حال الخروج.5.

ص: 331


1- فقه الصادق: ج 6/155.

مندفعة: بأنّ ذلك فيما دار الأمر بين الصَّلاة خارج الوقت بتمامها، أو إتيانها فيه، لا في مثل المقام ممّا يدور الأمر بين إدراك ركعة منها في الوقت تامّة الأجزاء والشرائط، وإتيانها بتمامها فيه فاقدة لبعض ما يعتبر فيها، كما لا يخفى وجهه.

***

ص: 332

ويشترط طهارة موضع الجَبهة.

طهارة محلّ وضع الجبهة
اشارة

(ويشترط) في الصَّلاة أو السّجدة (طهارة موضع الجبهة) بلا خلافٍ ، بل عن جماعه كثيرة(1): دعوى الإجماع عليه.

ويشهد به: - مضافاً إلى الإجماع - صحيح ابن محبوب، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«إنّه كتب إليه يسأله عن الجِصّ يوقَدُ عليه بالعَذَرة وعظام الموتى، يُجصّص به المسجد، أيُسجد عليه ؟

فكتب عليه السلام إليه: إنّ الماء والنّار قد طهّراه»(2).

حيث أنّ ظاهر السؤال، كون عدم جواز السّجود على النجس كان عندهم أمراً مفروغاً عنه، كما أنّ ظاهر الجواب هو ذلك كما لا يخفى .

أقول: والمناقشة في الإجماع، بما نقله المحقّق رحمه الله(3) عن الراوندي وصاحب «الوسيلة»، من أنّهما ذهبا إلى أنّ الأرض والبواري والحُصُر إذا أصابها البول، وجفّفتها الشمس، لا تطهر بذلك، لكن يجوز السّجود عليها، واستجوده هو قدس سره.

في غير محلّها، لعدم كون ذلك خلافاً في الكبرى المتقدّمة، بل إنّما يكون التزاماً بتأثير الشمس في جواز السّجود، وعدم تأثيرها في الطهارة، فهو لو لم يكن مؤكّداً

ص: 333


1- العلّامة في المختلف: ج 2/114، والكركي في جامع المقاصد: ج 2/126، والسيّد العاملي في المدارك: ج 3/225، والسبزواري في الذخيرة: ج 2/239، قال: (أمّا اعتبار طهارة موضع الجبهة فللإجماع، فإنّ كلّ من اعتبر الطهارة في الصَّلاة اعتبر طهارة موضع الجبهة)، وعن النراقي (إجماعاً محقّقاً) في المستند: ج 4/426.
2- الكافي: ج 3/330 ح 3، وسائل الشيعة: ج 5/358 أبواب ما يسجد عليه ب 10 ح 1 (6788).
3- المعتبر: ج 1/446.

للإجماع لا ينافيه.

ودعوى: معارضة الصحيح بما ذكره في «البحار»(1) من أنّ المشهور بين الأصحاب عدم اشتراط طهارة غير موضع الجبهة، كما تدلّ عليه أخبار كثيرة، بل يظهر من بعضها عدم اشتراط طهارة موضع الجبهة أيضاً.

مندفعة: بأنّه إنْ كان مراده من بعض تلك الأخبار، ما يدلّ عليه بالإطلاق، فلابدّ من تقييده بالصحيح والإجماع، وإنْ كان مراده ما يدلّ عليه بالخصوص، فلم يصل إلينا مثل هذا الخبر.

واستدلّ له بعضهم(2): بأنّ القول باعتبار طهارة خصوص موضع الجبهة، هو ما يقتضيه الجمع:

بين ما دلَّ على المنع عن الصَّلاة على الموضع النجس، كموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«سُئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره، فلا تصيبه الشمس، ولكنّه قد يبس الموضع القذر؟

قال: لا يُصلّى عليه، وأعلِم موضعه حتّى تغسله»(3).

وموثّق ابن بكير عنه عليه السلام: «في الشاذكونة(4) يُصيبها الاحتلام أيُصلّى عليها؟ قال عليه السلام: لا»(5). وقريبٌ منهما غيرهما.).

ص: 334


1- البحار: ج 80/285.
2- المحقّق الهمداني: ج 11/91.
3- التهذيب: ج 2/372/80، وسائل الشيعة: ج 3/452 أبواب النجاسات ب 29 ح 4 (4149).
4- الشاذكونة: بفتح الذال، ثياب غلاظ مضربة تعمل باليمن، القاموس المحيط للفيروز آبادي: ج 4/239، وحكي صاحب الحدائق (في الحدائق: ج 7/195) عن الكاشاني في الوافي: الشاذكونة بالفارسيّة: الفراش الذي ينام عليه. وعن آخرين أنّها حصيرٌ صغير.
5- التهذيب: ج 2/369 ح 68، وسائل الشيعة: ج 3/455 أبواب النجاسات ب 30 ح 6 (4158).

وبين ما دلَّ على الجواز، كصحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام قال:

«سألته عن الشاذكونة عليها جنابة أيُصلّى عليها في المحمل ؟ قال: لا بأس»(1).

وصحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن البيت والدار لا تصيبهماالشمس، ويصيبهما البول، ويغتسل فيهما من الجنابة، أيصلّى فيهما إذا جَفّا؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

ونحوهما غيرهما.

وفيه: إنّ هذا جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، ولا وجه لتخصيص ما دلَّ على الجواز أوّلاً بما دلَّ على المنع في خصوص موضع الجبهة، ثم تخصيص ما دلَّ على المنع مطلقاً به، كما لا يخفى ، بل الأولى في مقام الجمع بين هاتين الطائفتين، حمل ما ظاهره المنع على الكراهة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى لزوم طهارة ما يُسجد عليه، وعدم لزوم طهارة المكان الذي يُصلّى فيه، وإنْ كان الأولى طهارته أيضاً.

أقول: ومنه يظهر ضعف ما عن السيّد رحمه الله(3) من وجوب طهارة مكان المُصلّي، والنهي عن الصَّلاة في المجزرة - وهي المواضع التي تُذبح فيها الأنعام - والمزبلة، والحمّامات إذ الدليل لا يدلّ عليه، لأنّ الظاهر منه كونه لأجل الاستقذار والاستخباث، فالنهي عنها يكون تنزيهيّاً، مضافاً إلى ما عرفت من تعيّن حمله على الكراهة على فرض تسليم ظهوره في المنع، جمعاً بينه وبين ما يكون صريحاً في الجواز.

***1.

ص: 335


1- التهذيب: ج 2/369 ح 69، وسائل الشيعة: ج 3/454 أبواب النجاسات ب 30 ح 3 (4155).
2- الفقيه: ج 1/245 ح 736، مسائل علي بن جعفر عليه السلام ص 221، وسائل الشيعة: ج 3/453 أبواب النجاسات ب 30 ح 1 (4153).
3- حكاه المحقّق في المعتبر: ج 1/431.
فروع:
اعتبار عدم نجاسة المحل إذا كانت النجاسة مُسريةً

الفرع الأوّل: أنّ ما ذكرناه من عدم اشتراط طهارة ما عدا موضع الجبهة، إنّما هو فيما إذا لم تكن النجاسة مُسريةً إلى البدن أو الثّوب، وإلّا فلا ريب في اعتبار عدم النجاسة، كما لا خلاف فيه.

وتدلّ عليه: - مضافاً إلى ما دلّ على اعتبار طهارة بدن المُصلّي وثوبه - طائفة من النصوص: كصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام، قال:

«سألته عن البواري يُبلّ قصبها بماءٍ قذر، أيُصلّى عليها؟ قال: إذا يبست فلا بأس»(1). ونحوه غيره.

والأخبار المطلقة الدالّة على الجواز بلا تقييدٍ بيبوسة المحلّ ، لا تنافي ما دلَّ على اعتبار طهارة بدن المُصلّي وثوبه، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، بل مسوقة لبيان حكم الموضع.

أقول: ولكن ليس في النصوص المتضمّنة للقيد، ما يدلّ على اعتباره في المكان من حيث هو، كي يُحكم بأنّه إذا كانت الأرض النجسة رطبة غير مسرية، أو كانت نجاستها معفوّاً عنها، كالدم الأقلّ من الدرهم، أو كان الثّوب الذي تصل إليه النجاسة ممّا لا تتمّ فيه الصَّلاة، لا تجوز الصَّلاة عليها، إذ - مضافاً إلى عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، فلا إطلاق لها ليتمسّك به - ارتكاز اعتبار طهارة بدن المُصلّي وثوبه في الأذهان، يكون مانعاً عن استفادة شرطيّة يبوسة المكان من حيث

ص: 336


1- مسائل علي بن جعفر عليه السلام ص 132 و 227 ح 552، التهذيب: ج 2/373 ح 85، وسائل الشيعة: ج 3/453 أبواب النجاسات ب 30 ح 2 (4154).

هي، مع أنّ القيد المزبور لو سُلّم عدم ظهوره فيما ذكرناه، بما أنّه يصلح لأنْ يكون بياناً لاعتبار طهارة بدن المُصلّي ولباسه، وأنْ يكون بياناً لاعتبار يبوسة المكان، فلا يستفاد منه شيءٌ زائداً عمّا ثبت بالأدلّة الاُخر من اعتبار طهارتهما.

هل المعتبر طهارة تمام موضع الجبهة

الفرع الثاني: هل المعتبر طهارة تمام موضع الجبهة، أو يكفي طهارة مقدار ما يجبُ السّجود عليه ؟ وجهان، بل قولان:

استدلّ للثاني: بأنّ المدرك في المقام منحصرٌ بالإجماع وصحيح ابن محبوب، وحيث أنّ شيئاً منهما لا إطلاق له كما هو واضح، فيؤخذ بالقدر المتيقّن، وهو اعتبار الطهارة في المقدار المعتبر في السّجود.

وفيه: إنّ الظاهر كون اجماعهم في المقام، كالإجماع على بعض القواعد التي يُعامل معها معاملة متون النصوص.

وبعبارة اُخرى : إنّ الظاهر كون معقد الإجماع صادراً عن المعصوم عليه السلام، وحيث أنّ ظاهره اعتبار الطهارة في تمام ما توضع عليه الجبهة، فلا يُعتنى إلى مخالفة بعضهم في ذلك.

وما ذكره بعض المحقّقين رحمه الله(1): من إنّ حقيقة السّجدة إنّما تكون من الاُمور المتحصّلة بالقصد، فلو وَضع جبهته على أرضٍ يكون بعضها طاهراً بقصد السّجود على الجزء الطاهر، يصدق أنّه سَجَد على أرضٍ طاهرة، وأمّا ممّاسة جبهته للمحلّ النجس، فليست داخلة في السّجود.

ممنوع: إذ مع الالتفات إلى كون بعض المسجد نجساً، لا محالة يشمل قصده السّجدة عليه أيضاً، فيصدق أنّه سجد على الموضع الذي بعضه نجس وبعضه

ص: 337


1- وهو المحقّق الشيخ عبد الكريم الحائري في كتاب الصَّلاة ص 93 (في مكان المُصلّي).

طاهر، وحيثُ أنّ المستفاد من الدليل اعتبار طهارة المسجد مطلقاً، فلا يصحّ هذا السّجود.

وأيضاً: كما أنّ ما ذكره بعض الأساطين(1): من أنّه لو كان مقتضى الدليل شرطيّة الطهارة، فلا يعتبر طهارة تمام موضع الجبهة، إذ لو كان مقدار الواجب طاهراً يتحقّق الشرط، والوضع على النجس أمرٌ أجنبي مقارنٌ للعمل، بخلاف ما لو كان مقتضاه مانعيّة النجاسة، فإنّ السّجدة تبطل في الفرض لاقترانها بالمانع، وحيثُ أنّ الدليل من هذه الجهة مجملٌ ، فإنّ المرجع إلى الأصل، وهو يقتضي الصحّة في الفرض.

ضعيفٌ ، إذ على المانعيّة يمكن أنْ يكون المانع نجاسة المقدار المعتبر في السّجود، كما أنّه على الشرطيّة يمكن أن تكون طهارة موضع تمام الجبهة شرطاً، فالتفصيل لا وجه له.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى اعتبار طهارة تمام محلّ وضع الجبهة.

***).

ص: 338


1- وهو المحقّق الشيخ عبدالكريم الحائري في كتاب الصَّلاة: ص 93 (في مكان المُصلّي).
لو تعذّر تحصيل الأرض الطاهرة

الفرع الثالث: لو تعذّر تحصيل الأرض الطاهرة:

فهل تسقط شرطيّة الطهارة ؟

أو يسقط نفس السّجود؟ وجهان، بل قولان.

استدلّ للأوّل(1):

1 - بقاعدة الميسور الدالّة عدم سقوط المقيّد بسقوط قيده.

2 - وبأنّ فوات الوصف أولى من فوات الموصوف رأساً.

3 - وبأنّ المتيقّن من المثبت لهذا القيد حال التمكّن، ولا دليل على اعتباره في حال عدمه، فالمرجع فيه إلى إطلاق دليل جُزئيّة السّجدة.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا قاعدة الميسور: فلما ذكرناه في محلّه من عدم دلالة شيءٍ ممّا استدلّ به على لزوم إتيان الميسور من الأجزاء عند تعذّر بعضها عليه.

وأمّا أولويّة فوات الوصف: فبما أنّه لم يدلّ عليها دليل، فلا يمكن أن تكون دليلاً للحكم.

وأمّا الأخذ بالمتيقّن: فقد عرفت أنّه لا مجال له، لأنّ مقتضى إطلاق دليل شرطيّتها، ثبوتها في حال عدم التمكّن أيضاً.

والأولى أنْ يُقال: إنّ هذا الشرط أمره يدور بين أنْ يكون شرطاً للصَّلاة، وأنْ يكون شرطاً للسجدة، ولا دليل على أحدهما.

ص: 339


1- صاحب الجواهر في الجواهر: ج 8/438، والمحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 11/94.

وعلى الأوّل: تكون الشرطيّة ساقطة قطعاً، حال عدم التمكّن، وإلّا لزم سقوط الصَّلاة.

وعلى الثاني: لا مانع من بقائها، فإنّ لازمه سقوط السّجدة، وحيثُ أنّ تقيّد الصَّلاة به على كلّ تقدير معلومٌ ، ويكون الشكّ في تقيّد السّجدة به أيضاً، فيجري الأصل فيه بلا معارض.

وإنْ شئتَ قلتَ : إنّ الأصل بالنسبة إلى تقيّد الصَّلاة به لا يجري في حال التمكّن، ولا في حال عدمه، كما هو واضح، فيجري الأصل في تقيّد السّجدة به بلا معارض.

هذا، مضافاً إلى أنّ المستفاد من النصوص الدالّة على أنّه لو لم يتمكّن المُصلّي من السّجود على ما يصحّ عليه صَلّى على طرف ثوبه، وإنْ لم يتمكّن منه فعلى ظهر كفّه، وستمرّ عليك جملةٌ ؛ منها عدم انتقال الفرض إلى الإيماء في هذه الموارد.

وعليه، فلو ثبت بالدليل شرطيّة الطهارة للسجدة، فلابدّ في الفرض من السّجدة على الثّوب أو على ظهر الكفّ .

وكيف كان، فسقوط نفس السّجود لا وجه له.

***

ص: 340

ويُستحبُّ الفريضة في المسجد، والنافلة في المنزل.

استحباب أداء الفرائض في المسجد

(ويستحبّ ) أداء (الفريضة في المسجد) للرِّجال إجماعاً، بل في «الجواهر»(1):

لعلّه من ضروريّات الدِّين.

وتشهد به جملةٌ من النصوص:

منها: خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه عليه السلام، عن عليّ عليه السلام، قال:

«صلاة في بيت المقدس بألف صلاة، وفي المسجد الأعظم بمائة صلاة، وفي مسجد القبيلة خمس وعشرون صلاة، وفي السوق اثنتي عشرة صلاة، وصلاة الرّجل في بيته صلاة واحدة»(2).

إلى غير ذلك من ما دلَّ عليه الذي هو فوق حَدّ الإحصاء.

(و) أداءُ (النافلة في المنزل) أفضل، كما هو المشهور.

وفي «المعتبر»(3): هو فتوى علمائنا، لأنّ العبادة في السرّ أبلغ في الإخلاص.

وللنبويّ : «أفضل الصَّلاة صلاة المَرْء في بيته إلّاالمكتوبة»(4).

***

ص: 341


1- جواهر الكلام: ج 14/137.
2- التهذيب: ج 3/253 ح 18، وسائل الشيعة: ج 5/289 ح 6573.
3- المعتبر: ج 2/112.
4- البخاري: ج 1/179، ومسلم: ج 2/188.

وتُكره الصَّلاة في الحمّام.

الأمكنة المكروهة
الحمّام

(وتُكره الصَّلاة في الحمّام) كما هو المشهور(1). وعن «الغُنية»(2) و «الخلاف»(3)دعوى الإجماع عليه.

وعن أبي الصّلاح(4) المنع:

1 - لمرسل عبد اللّه بن الفضل، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عشرة مواضع لا يُصلّى فيها: الطين، والماء، والحمّام، والقبور، ومسان الطريق، وقُرى الَّنمل، ومعاطن الإبل، ومجرى الماء، والسَّبخ، والثلج»(5).

ونحوه مرسل ابن أبي عمير(6).

2 - وخبر عبيد بن زرارة، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: الأرض كلّها مسجد إلّابئر غائط أو مقبرة أو حمّام»(7).

وقريبٌ منه خبر النوفلي(8).

ص: 342


1- نسبه العلّامة في المختلف: ج 3/119، والمحقّق السبزواري في الذخيرة ص 244، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/199.
2- الغنية: ص 67.
3- الخلاف: ج 1/498.
4- الكافي في الفقه: ص 141.
5- الكافي: ج 3/390، وسائل الشيعة: ج 5/142 أبواب مكان المُصلّي ب 15 ح 6 (6160).
6- وسائل الشيعة: ج 5/142 أبواب مكان المُصلّي ب 15 ح 6 (6160-6161).
7- وسائل الشيعة: ج 5/169 أبواب مكان المُصلّي ب 31 ح 2 (6242)، التهذيب: ج 3/259 ح 48.
8- المحاسن: ج 2/365 ح 110، وسائل الشيعة: ج 5/160 أبواب مكان المُصلّي ب 25 ح 7 (6218).

وفيه: إنّه لابدَّ من حمل هذه النصوص على الكراهة، جمعاً بينها وبين ما دلَّ على الجواز، كصحيح علي بن جعفر:

«سأل أخاه عن الصَّلاة في بيت الحمّام ؟ فقال: إذا كان الموضع نظيفاً فلابأس»(1).

ونحوه موثّق عمّار(2).

والجمع بين الطائفتين وإنْ كان يمكن بتقييد الأُولى بالثانية، إلّاأنّ حملها على الكراهة أولى .

ويؤيّده فهم الأصحاب، واشتمالها على عدّة من المكروهات.

مع أنّه لو قُيّدت الأُولى بالثانية، كفى للحكم بالكراهة مطلقاً، الشهرة المعتضدة بالإجماعين المنقولين، ولا يخفى أنّ شمول الحكم للمسلخ، يتوقّف على عدم خروجه عن مُسمّى الحمّام أو منصرفه، كما ليس ببعيد.

أقول: ثمّ إنّ المراد من كراهة الصَّلاة فيه، وفي سائر الأماكن المكروهة، إنّما هو أقليّة الثواب، بمعنى أنّ للصَّلاة بما هي تتضمّن مقداراً من المصلحة اللّزوميّة، فكما أنّه قد يكون للخصوصيّة التي يتحقّق الطبيعي في ضمنها مقدارٌ من المصلحة أيضاً كالصلاة في المسجد، كذلك قد يكون لها مقدار من المفسدة، ولكنّها لا تكون ملزمة كي توجب تقيّد المأمور به، وعليه فالصَّلاة في الحمّام وإنْ كان لها وجودٌ واحد، إلّا أنّه بما أنّه وجودٌ للطبيعي يكون مأموراً به، ومعه لا يمكن أن يتّصف بحكمٍ آخر كما هو واضح، وبما أنّه وجود للخصوصيّة يكرهه المولى، من دون أن يوجب ذلك نقصاً في مصلحة الصَّلاة. وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه.).

ص: 343


1- مسائل علي بن جعفر: ص 222، الفقيه: ج 1/242 ح 727، وسائل الشيعة: ج 5/176 أبواب مكان المُصلّي ب 34 ح 1 (6263).
2- التهذيب: ج 2/374 ح 86، وسائل الشيعة: ج 5/177 أبواب لباس المُصلّي ب 34 ح 2 (6264).

ووادي ضَجنان، والشقرة، والبيداء، وذات الصلاصل.

وأيضاً: تكره الصَّلاة في أربعة مواضع من طريق مكّة: (و) هي:

(وادي ضجنان، والشقرة، والبيداء، وذات الصلاصل).

ويشهد به: - فيما عدا الثاني - صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«الصَّلاة تُكره في ثلاثة مواطن من الطريق: البيداء، وهي ذات الجيش، وذات الصّلاصل، وضجنان، الحديث»(1)، ونحوه غيره.

ويدلّ عليه في الثاني:

1 - مرسل ابن فضّال، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا تُصلِّ في وادي الشقرة»(2).

2 - وخبر الساباطي عنه عليه السلام: «لا تُصلِّ في وادي الشقرة، فإنّ فيه منازل الجنّ »(3).

وظاهر النصوص بقرينة التعليلات الواقعة في بعضها، والروايات الصريحة في الجواز في بعض تلك الأمكنة، وفهم الأصحاب، هو الكراهة، فلا وجه لتوهّم المنع.

***).

ص: 344


1- الكافي: ج 3/389 ح 10، وسائل الشيعة: ج 5/155 أبواب لباس المُصلّي ب 23 ح 2 (6200).
2- الكافي: ج 3/390 ح 11، وسائل الشيعة: ج 5/157 أبواب لباس المُصلّي ب 24 ح 1 (6210).
3- المحاسن: ج 2/366 ح 115، وسائل الشيعة: ج 5/158 أبواب لباس المُصلّي ب 24 ح 2 (6211).

وبين المقابر.

كراه الصَّلاة بين المقابر
اشارة

(و) كذا تُكره الصَّلاة (بين المقابر)، وعلى القبر وإليه على المشهور في الجميع.

أمّا الأوّل: فعن الديلمي(1) الحرمة، لموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ ، قال: «سألته عن الرّجل يُصلّي بين القبور؟

قال: لا يجوز ذلك إلّاأنّ يجعل بينه وبين القبور إذا صَلّى عشرة أذرع من بين يديه، وعشرة أذرع من خلفه، وعشرة أذرع عن يمينه، وعشرة أذرع عن يساره، ثمّ يُصلّي إن شاء»(2)، وقريب منه غيره.

ولكن لابدَّ من حمل هذه النصوص على الكراهة، جمعاً بينها وبين ما هو نصٌّ في الجواز:

منها: صحيح علي بن جعفر، سأل أخاه عليه السلام: «عن الصَّلاة بين القبور؟ فقال:

لا بأس به»(3).

ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال:

«قلتُ له: الصَّلاة بين القبور؟ قال: بين خللها، ولا تتّخذ شيئاً منها قبلة، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهي عن ذلك، وقال: لا تتّخذوا قبري قبلةً ولا مسجداً»(4)ونحوهما غيرهما.

ص: 345


1- المراسم: ص 65.
2- الكافي: ج 3/390 ح 13، وسائل الشيعة: ج 5/159 أبواب مكان المُصلّي ب 25 ح 5 (6216).
3- مسائل علي بن جعفر ص 221، الفقيه: ج 1/245 ح 736، وسائل الشيعة: ج 5/158 أبواب مكان المُصلّي ب 25 ح 1 (6212).
4- علل الشرائع: ج 2/358، وسائل الشيعة: ج 5/161 أبواب مكان المُصلّي ب 26 ح 5 (6224).

ودعوى: أنّه يكمن الجمع بتقييد هذه النصوص بالطائفة الأُولى .

مندفعة: بأنّ ذلك طرحٌ لها كما لا يخفى على مَن تدبّر في الأخبار، خصوصاً صحيح زرارة، فتدبّر.

وأمّا الثاني: فيدلّ عليه:

1 - قوله صلى الله عليه و آله في خبر النوفلي، قال:

«قال رسول صلى الله عليه و آله: الأرض كلّها مسجد إلّاالحمّام والمقبرة»(1).

ونحوه خبر عبيد المتقدّم.

2 - ورواية يونس، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى أن يُصلّى على قبرٍ أو يُقعد عليه أو يُبنى عليه»(2).

وهذه الأخبار بواسطة القرائن الموجودة فيها ظاهرة في الكراهة.

وأمّا الثالث: فعن الصدوق(3)، والحلبي(4)، والمفيد(5): القول بالحرمة لصحيح زرارة والمتقدّم، وصحيح معمّر بن خَلّاد، عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: «لا بأس بالصَّلاة بين المقابر ما لم تتّخذ القبر قبلة»(6).

وفيه: إنّه لو سُلّم ظهورهما في هذا القول، يتعيّن حملهما على الكراهة، للنصوص النافية للبأس عن الصَّلاة بين القبور المتقدّم بعضها، والتي لا يمكن أن تقيّد بهذين الخبرين، لاستلزامه حملها على الفرد النادر.).

ص: 346


1- المحاسن: ج 2/365 ح 110، وسائل الشيعة: ج 5/160 أبواب مكان المُصلّي ب 25 ح 7 (6218).
2- التهذيب: ج 1/461 ح 149، وسائل الشيعة: ج 5/160 أبواب مكان المُصلّي ب 25 ح 8 (6219).
3- الفقيه: ج 1/242، ذيل حديث 272.
4- الكافي في الفقه: ص 141، بعد قوله: (وعلى جوادّ الطريق...)، والعبارة ساقطة من النسخ الموجودة، حكاها العلّامة في المختلف: ج 2/103.
5- المقنعة: ص 151.
6- التهذيب: ج 2/228 ح 105، وسائل الشيعة: ج 5/159 أبواب مكان المُصلّي ب 25 ح 5 (6214).

هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر من الصحيحين، النهي عن اتّخاذ القبر قبلة، والمعاملة معه معاملة الكعبة، ولا ريب في عدم جواز ذلك.

ولو تنزّلنا عن ذلك، وسلّمنا عدم ظهورهما فيه، لابدّ من حملهما عليه، للنصوص المستفيضة الآمرة بالصَّلاة خلف قبور الأئمّة عليهم السلام، كصحيح الحميري:

«كتبتُ إلى الفقيه أسأله عن الرّجل يزور قبور الأئمّة عليهم السلام، هل يجوز ان يسجد على القبر أم لا؟

وهل يجوز لمن صَلّى عند قبورهم أن يقوم وراء القبر، ويجعل القبر قبلةً ، ويقوم عند رأسه ورجليه ؟

وهل يجوز ان يتقدّم القبر ويُصلّي ويجعله خلفه ؟

فأجاب وقرأتُ التوقيع ومنه نسختُ :

أمّا السّجود على القبر، فلا يجوز في نافلةٍ ولا فريضة ولا زيارة، بل يضع خدّه الأيمن على القبر.

وأمّا الصَّلاة فإنّها خلفه ويجعله الإمام، ولا يجوز أن يُصلّي بين يديه، لأنّ الإمام لا يتقدّم، ويُصلّي عن يمينه وشماله»(1). وقريب منه غيره.

بل قوله عليه السلام في الصحيح، في الجواب عن السؤال عن جعله قبلةً (يجعله الإمام) كالصريح فيما ذكرناه، كما لا يخفى، وتقييد الصحيحين بهذه النصوص، يستلزم التفصيل بين قبور الأئمّة، وقبر النبيّ صلى الله عليه و آله، وهذا ممّا يقطع بعدمه.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا دليل على كراهة الصَّلاة إلى القبر.

***).

ص: 347


1- التهذيب: ج 2/228 ح 106، وسائل الشيعة: ج 5/160 أبواب لباس المُصلّي ب 26 ح 1 (6220).
الصَّلاة قُدّام قبر المعصوم

ثمّ إنّه لا ريب في جواز الصَّلاة قُدّام قبر غير المعصوم عليه السلام.

وأمّا الصَّلاة قُدّام قبره عليه السلام:

فالمشهور بين الأصحاب أنّها مكروهة.

وعن المجلسي(1) والكاشاني(2) والبهائي(3): المنع من التقدّم على قبر أحدٍ من الأئمّة عليهم السلام.

واستدلّ له:

1 - بمكاتبة الحميري المتقدّمة.

2 - ورواية هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «أتاه رجلٌ فقال له: يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله هل يُزار والدك ؟ قال: نعم ويُصلّى عنده، وقال يُصلّى خلفه ولا يتقدّم عليه»(4).

ولكن المراد من (الإمام) في قوله عليه السلام: (يجعله الإمام) في المكاتبة، هو الإمام المعصوم، وذلك لوجهين:

الأوّل: كونه مورد السؤال.

الثاني: أنّه لا يصحّ إرادة إمام الجماعة منه:

إذ لو اُريد من تنزيل القبر منزلة إمام الجماعة، يكون حينئذٍ قد فرض نفسه

ص: 348


1- بحار الأنوار: ج 80/315.
2- حكاه عن مفاتيح الكاشاني المحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/219، والسيّد الحكيم قدس سره في المستمسك: ج 5/462.
3- الحبل المتين: ص 159.
4- كامل الزيارات: ص 123 باب 44 ح 2، وسائل الشيعة: ج 5/162 أبواب مكان المُصلّي ب 26 ح 7 (6226).

مؤتمّاً به في صلاته، وهو غير معتبر قطعاً.

وإنْ اُريد منه التأخّر عنه من غير قصد الإئتمام، فلا يناسبه التعليل المذكور فيها كما لا يخفى .

وعليه، فالمراد من (الإمام) في قوله عليه السلام (لأنّ الإمام لا يُتقدّم) هو المعصوم عليه السلام، وحيثُ أنّ التقدّم عليه في غير حال الصَّلاة لا يكون حراماً قطعاً، بل يكون منافياً للأدب، فالتعليل قرينة على الكراهة.

فإنْ قلت: إنّ التقدّم في حال الصَّلاة على القبر، لم يُعلم عدم كونه حراماً، فالتعليل يُحمل عليه.

قلت: - مضافاً إلى أنّ الظاهر من التعليل مطلق التقدّم، لا خصوص حال الصَّلاة - إنّه عليه يلزم اتّحاد العلّة والمعلول، وهو خلاف الظاهر.

وأمّا رواية هشام فهي محمولة على الفضل، لورودها مورد آداب الزيارة.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول بالكراهة.

وأمّا الصَّلاة محاذياً للقبر: فعن بعض متأخّري المتأخّرين(1) المنع عنها:

1 - لقوله في الصحيح: «وأمّا الصَّلاة فإنّها خلفه» لظهوره في الحصر.

2 - ولأنّ المكاتبة مرويّة في «الاحتجاج»(2) هكذا: «ولا يجوز أن يُصلّي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن شماله، لأنّ الإمام لا يتقدّم ولا يساوى».

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الحصر إضافي في مقابل التقدّم، كما يشهد به ذيله الصريح في1.

ص: 349


1- نسبه للبعض دون تسميته صاحب الحدائق قدس سره في الحدائق: ج 7/222.
2- الاحتجاج: ج 2/490، وفيه بدّل: شماله «يساره»، ورواه عنه في وسائل الشيعة: ج 5/161 بعد الحديث رقم 6221.

جواز الصَّلاة عن يمينه ويساره.

وأمّا رواية الاحتجاج: فمضافاً إلى ضعف سندها، لمعارضتها بالصحيح المقدّم عليها، لا يُعتمد عليها.

وبالجملة: فالأظهر هو الجواز بلا كراهة، كما تشهد به - مضافاً إلى ما عرفت - النصوص الدالّة على استحباب الصَّلاة عند الرأس، لأنّ أظهر مصاديقها صورة المحاذاة.

***

ص: 350

وأرض الرَّمل والسَّبخة.

جملة من الأمكنة الّتي تُكره فيها الصَّلاة

(و) تُكره الصَّلاة في (أرض الرَّمل والسَّبخة) كما هو المشهور، بل عن «الغُنية»(1) و «الخلاف»(2) دعوى الإجماع عليه.

أقول: والأصل فيه النصوص المستفيضة الواردة في السَّبخة:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «كره الصَّلاة في السَّبخة إلّاأنْ يكون مكاناً ليّناً يقع الجبهة مستوية»(3).

ومنها: موثّق أبي بصير، عنه عليه السلام: «سألته عن الصَّلاة في السَّبخة لِمَ تكرهه ؟

قال: لأنّ الجبهة لا تقع مستوية.

فقلت: إنْ كان فيها أرضٌ مستوية ؟ فقال: لا بأس»(4)، ونحوهما غيرهما.

وظاهرها وإنْ كان المنع، إلّاأنّه لابدَّ من حملها على الكراهة؛ جمعاً بينها وبين مضمرة سماعة، قال:

«سألته عن الصَّلاة في السّباخ ؟ قال: لا بأس»(5).

ومن العلّة المذكورة في هذه النصوص، يستفاد كراهة الصَّلاة في أرض الرَّمل كما لا يخفى .

ص: 351


1- غنية النزوع: ص 67.
2- الخلاف: ج 1/506.
3- الكافي: ج 3/388 ح 5، وسائل الشيعة: ج 5/150 أبواب مكان المُصلّي ب 20 ح 1 (6183).
4- التهذيب: ج 2/221 ح 81، وسائل الشيعة: ج 5/151 أبواب لباس المُصلّي ب 20 ح 7 (6189).
5- التهذيب: ج 2/221 ح 80، وسائل الشيعة: ج 5/152 أبواب لباس المُصلّي ب 20 ح 8 (6190).

ومعاطن الإبل.

(و) تُكره الصَّلاة أيضاً في (معاطن الإبل) كما هو المشهور.

وهي في اللّغة: مبارِك الإبل، كما صرّح به جملة من اللّغويين(1).

وفي عُرف الفقهاء: مطلق المبارك(2).

وعن المفيد(3) والحلبي(4) المنع.

واستدلّ له: بجملةٍ من النصوص:

منها: موثّق سماعة، قال: سألته عن الصَّلاة في اعطان الإبل، وفي مرابض الغنم والبقر؟

فقال: إذا نضحته بالماء، وقد كان يابساً فلا بأس بالصَّلاة فيها»(5).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصَّلاة في اعطان الإبل ؟

فقال: إنْ تخوّفت الضيعة على متاعك، فاكنسه وانضحه وصَلِّ ، ولا بأس بالصَّلاة في مرابض الغنم»(6). ونحوهما غيرهما.

وفيه: إنّ الظاهر منها - بقرينة نفي البأس عند الخوف على المتاع، من دون الأمر بنقله مع التمكّن، والتعبير بلفظ (لايصلح)، و (كرهه) في بعضها - هو الكراهة لا الحرمة.).

ص: 352


1- الطريحي رحمه الله في مجمع البحرين: ج 3/203 مادّة «عطن»، والزبيدي في تاج العروس: ج 9/279.
2- كما ذكره الحِلّي في السرائر: ج 1/266، والعلّامة في المنتهى: ج 4/321.
3- المقنعة: ص 151.
4- الكافي في الفقه: ص 141.
5- التهذيب: ج 2/220 ح 75، وسائل الشيعة: ج 5/145 أبواب مكان المُصلّي ب 17 ح 4 (6168).
6- الكافي: ج 3/387 ح 2، وسائل الشيعة: ج 5/145 أبواب مكان المُصلّي ب 17 ح 1 (6165).

وقُرى النَّمل، وجَوف الوادي، وجَواد الطُّرق.

(و) تُكره الصَّلاة أيضاً في (قُرى النَّمل) أي مأوى النمل، كما عن جملة من اللّغويين(1)، وعن القاموس(2) أنّها مجمع ترابها.

ويشهد به: مرسل عبد اللّه بن الفضل المتقدّم وغيره، كما أنّه يدلّ على كراهة الصَّلاة في (جوف الوادي، وجواد الطرق)، بل الظاهر من بعض النصوص كراهة الصَّلاة في مطلق الطرق، كخبر محمّد بن الفضيل، قال:

قال الرضا عليه السلام: «كلّ طريق يوطأ ويتطرّق، كانت فيه جادّة أم لم تكن، لاينبغي الصَّلاة فيه»(3).).

ص: 353


1- مثل الطريحي رحمه الله في مجمع البحرين: ج 3/500، وحكى نفس المعنى - عن الثعالبي في فقه اللّغة، وعن الميداني النيسابوري في السامي في الأسامي - الفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 3/297.
2- القاموس المحيط: ج 4/377، وفيه: (مجتمع ترابها).
3- الكافي: ج 3/389 ح 8، وسائل الشيعة: ج 5/147 أبواب مكان المُصلّي ب 19 ح 3 (6175).

والفريضة جوفَ الكعبة، وبيوت المجوس والنيران.

(و) تُكره (الفريضة) في (جوف الكعبة) كما عرفته في مبحث القبلة.(1)

(و) من الأمكنة الّتي تُكره فيها الصَّلاة (بيوت المجوس) كما هو المشهور، وتدلّ عليه جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «سألته عن الصَّلاة في البِيَع والكنائس وبيوت المجوس ؟ فقال: رش وصَلِّ »(2). ونحوه خبر أبي بصير(3).

وظاهرهما مقدّميّة الرّش للصَّلاة، وكونه شرطاً لها، فالصَّلاة بدونه ناقصة، لاشتمالها على المنقصة من حيث الخصوصيّة.

وليس معنى الكراهة في أمثال المقام إلّاذلك كما عرفت، فما عن كاشف اللّثام(4) من التوقّف فيه لأجل أنّ ظاهرالأخبار استحباب الرّش لا الكراهة، ضعيف.

(و) بيوت (النيران) على المشهور بين الأصحاب، بل عن «الغُنية»(5) دعوى الإجماع عليه.

واستدلّ له المصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(6): بأنّ في الصَّلاة فيها تشبّهاًبعبادتها.

وعن «المدارك»(7): تعليله بأنّها ليست موضع رحمة اللّه تعالى، فلا تصلح لعبادة اللّه.

أقول: العمدة في المقام الشهرة المعتضدة بالإجماع المنقول، وإلّا فشيءٌ من هذه المناسبات لا يعتنى به في الأحكام التعبّديّة.2.

ص: 354


1- فقه الصادق: ج 6/119.
2- الكافي: ج 3/387 ح 1، وسائل الشيعة: ج 5/140 أبواب مكان المُصلّي ب 14 ح 2 (6153).
3- التهذيب: ج 2/222 ح 85، وسائل الشيعة: ج 5/140 أبواب مكان المُصلّي ب 14 ح 3 (6154).
4- هذا ظاهر عبارة كشف اللّثام: ج 3/293.
5- غنية النزوع: ص 67.
6- منتهى المطلب: ج 4/328، تذكرة الفقهاء: ج 2/407، ونهاية الإحكام: ج 1/346.
7- قال قدس سره: «والأصحّ اختصاص الكراهة بمواضع عبادة النيران، لأنّها ليست...»، مدارك الأحكام: ج 3/232.

وأنْ يكونَ بين يديه أو أحدِ جانبيه إمرأةً تُصلّي.

محاذاة المرأة للرجل أو تقدّمها عليه
اشارة

(و) كذا تكره الصَّلاة (أنْ يكون بين يديه أو إلى أحد جانبيه امرأة تُصلّي) عند السيّد(1)، والحِلّي(2)، وأكثر المتأخّرين(3)، بل عامّتهم إلّاالنادر(4).

وعن الشيخين(5)، والحلبي(6)، وابن حمزة(7)، وأكثر المتقدّمين(8)، المنع.

بل عن «الغُنية»(9) و «الخلاف»(10) دعوى الإجماع عليه.

وعن الجُعفي(11) المنع إلّامع الفصل بقدر عظم ذراع.

وعن جماعة(12) التوقّف في الحكم.

أقول: ومنشأ الاختلاف اختلاف النصوص، وهي على طوائف:

ص: 355


1- حكاه عن السيّد المرتضى قدس سره الشيخ قدس سره في الخلاف: ج 1/423.
2- السرائر: ج 1/267.
3- كالمحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 2/120، والشهيد الثاني في روض الجنان: ص 225، والسيّد العاملي في مدارك الأحكام: ج 3/221.
4- كالمحدِّث البحراني قدس سره في الحدائق الناضرة: ج 7/177.
5- المفيد في المقنعة: ص 152، والشيخ في النهاية: ص 100.
6- الكافي في الفقه: ص 120.
7- الوسيلة: ص 89.
8- حكاه المحدِّث البحراني قدس سره في الحدائق: ج 7/177.
9- غنية النزوع: ص 82.
10- الخلاف: ج 1/424.
11- حكاه الشهيد الأوّل في الذكرى (ط. ق): ص 150.
12- مثل المحقّق الحِلّي في المختصر النافع ص 26، ونسبه إلى الصيمري - في غاية المراد -، والفاضل المقداد - في التنقيح - السيّد الطباطبائي في الرياض: ج 3/259.

الطائفة الأُولى: ما تدلّ على المنع مطلقاً:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليه السلام، قال: «سألته عن المرأة تزامل الرّجل في المحمل، يصلّيان جميعاً؟ قال عليه السلام: لا، ولكن يُصلّي الرّجل، فإذا فرغ صَلّت المرأة»(1).

ومنها: صحيح إدريس بن عبد اللّه القمّي، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يُصلّي وبحياله إمرأة قائمة على فراشها أجنبيّة ؟

فقال: إنْ كانت قاعدة فلا يضرّك، وإنْ كانت تُصلّي فلا»(2).

ومنها: موثّق عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «أنّه سُئِلَ عن الرّجل يستقيم له أن يُصلّي وبين يديه إمرأة تُصلّي ؟

قال عليه السلام: إنْ كانت تُصلّي خلفه فلا بأس، وإنْ كانت تصيب ثوبه»(3) ونحوها غيرها.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على الجواز مطلقاً:

منها: صحيح جميل، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس أن تُصلّي المرأة بحذاء الرّجل وهو يُصلّي، فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يُصلّي وعائشة مضطجعة بين يديه، وهي حائض، وكان إذا أراد أن يسجد غَمَز رجلها، فرفعت رجلها حتّى يسجد»(4).

ودعوى:(5) إنّه لابدَّ من طرحه؛ لعدم المناسبة بين العلّة والحكم، إذ لا ريب في جواز الصَّلاة وبين يدي الرّجل امرأة غير مُصلّية، فلا محالة يكون قد وقع فيه تصحيف، فلا يُعتمد عليه.8.

ص: 356


1- التهذيب: ج 2/231 ح 115، وسائل الشيعة: ج 5/124 أبواب مكان المُصلّي ب 5 ح 2 (6101).
2- التهذيب: ج 2/231 ح 118، وسائل الشيعة: ج 5/121 أبواب مكان المُصلّي ب 4 ح 1 (6093).
3- التهذيب: ج 2/231 ح 119، وسائل الشيعة: ج 5/127 أبواب مكان المُصلّي ب 6 ح 4 (6116).
4- الفقيه: ج 1/247 ح 748، وسائل الشيعة: ج 5/122 أبواب مكان المُصلّي ب 4 ح 4 (6096).
5- دعوى المحدِّث البحراني رحمه الله في الحدائق: ج 7/178.

مندفعة: بأنّه مع احتمال عدم الفصل واقعاً بين كون المرأة مُصلّية وعدمه، لا يعتنى بهذه المناقشات، مع أنّ عدم فهم المناسبة بين الحكم والعلّة، لا يوجب رفع اليد عمّا يكون الخبر نصّاً فيه، وهو الجواز.

ومنها: خبر الحسن بن علي بن فضّال، عمّن أخبره، عن جميل بن درّاج، عنه عليه السلام: «في الرّجل يُصلّي والمرأة تُصلّي بحذاه ؟ فقال: لا بأس»(1).

وإرساله مع كون الخبر من أخبار بني فضّال لا يقدح في حجيّته.

ومنها: صحيح الفضيل، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إنّما سُمّيت مكّة بكّة، لأنّه تبكّ فيها الرِّجال والنساء، والمرأة تُصلّي بين يديك وعن يمينك وعن يسارك ومعك، ولا بأس بذلك، وإنّما يُكره في سائر البلدان»(2).

بناءً على عدم الفرق بين مكّة وغيرها في الحرمة، أو ظهور (يكره) في الكراهة المصطلحة.

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على التفصيل بين ما إذا كان بينهما حاجزٌ أو مقدار عشرة أذرع وعدمه، في الجواز في الأوّل وعدمه في الثاني:

منها: موثّقة عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّه سُئل عن الرّجل يستقيم له أن يُصلّي وبين يديه امرأةٌ تُصلّي ؟

قال: لا يُصلّي حتّى يجعل بينه وبينها أكثر من عشرة أذرع، وإنْ كانت عن يمينه وعن يساره جعل بينه وبينها مثل ذلك، وإنْ كانت تُصلّي خلفه فلا بأس»(3).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «في المرأة تُصلّي عند).

ص: 357


1- التهذيب: ج 2/232 ح 120، وسائل الشيعة: ج 5/125 أبواب مكان المُصلّي ب 5 ح 6 (6105).
2- علل الشرائع: ج 2/397 ح 4، وسائل الشيعة: ج 5/126 أبواب مكان المُصلّي ب 5 ح 10 (6109)
3- التهذيب: ج 2/231 ح 119، وسائل الشيعة: ج 5/128 أبواب مكان المُصلّي ب 7 ح 1 (6118).

الرّجل ؟ قال: إذا كان بينهما حاجزٌ فلا بأس»(1).

ومنها: خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن الرّجل هل يصلح له أن يُصلّي في مسجدٍ قصير الحائط، وامرأة قائمة تُصلّي بحياله، وهو يراها وتراه ؟

قال عليه السلام: إنْ كان بينهما حائط طويل أو قصير فلا بأس»(2). ونحوها غيرها.

الطائفة الرابعة: ما تدلّ على المنع، إلّامع الفصل بقدر شبر:

منها: صحيح معاوية بن وهب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّه سُئل عن الرّجل والمرأة يصلّيان في بيتٍ واحد؟

قال عليه السلام: إذا كان بينهما قدر شبر صلّت بحذاه وحدها، وهو وحده، ولابأس»(3).

ومنها: خبر أبي بصير، عنه عليه السلام، قال: «سألته عن الرّجل والمرأة يصلّيان في بيت واحد، المرأة عن يمين الرّجل بحذاه ؟

قال عليه السلام: لا، إلّايكون بينهما شبرٌ أو ذراع.

ثمّ قال: كان طول رحل رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذراعاً، وكان يضعه بين يديه إذا صَلّى يستره ممّن يمرّ بين يديه»(4).

ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إذا كان بينها وبينه ما لا يتخطّى أو قدر عظم الذّراع فصاعداً فلا بأس»(5).

ومنها: صحيحه الآخر، قلت له: «المرأة تُصلّي بحيال زوجها؟ قال: تُصلّي بإزاء).

ص: 358


1- التهذيب: ج 2/379 ح 112، وسائل الشيعة: ج 5/129 أبواب مكان المُصلّي ب 8 ح 2 (6121).
2- مسائل علي بن جعفر: ص 224، قرب الإسناد: ص 95، وسائل الشيعة: ج 5/130 أبواب مكان المُصلّي ب 8 ح 4 (6123).
3- الفقيه: ج 1/247 ح 746، وسائل الشيعة: ج 5/125 أبواب مكان المُصلّي ب 5 ح 7 (6106).
4- التهذيب: ج 2/230 ح 114، وسائل الشيعة: ج 5/124 أبواب مكان المُصلّي ب 5 ح 3 (6102).
5- الفقيه: ج 1/247 ح 747، وسائل الشيعة: ج 5/125 أبواب مكان المُصلّي ب 5 ح 8 (6107).

الرّجل إذا كان بينها وبينه قدر ما لا يتخطّى، أو قدر عظم الذراع فصاعداً»(1).

ونحوها غيرها.

أقول: الأظهر حمل نصوص المنع كلّها على الكراهة:

أمّا الطائفة الأُولى والثالثة: فلوجهين:

الوجه الأوّل: لأجل الطائفة الثانية الدالّة على الجواز، إذ تقيّيدها بما إذا كان الفصل بأكثر من عشرة أذرع، جمعاً بينها وبين موثّقة عمّار بعيدٌ، بل ادّعى بعضهم القطع بعدم إرادته من تلك النصوص، فلا محيص عن حملها على الكراهة.

الوجه الثاني: صراحة نصوص الشبر في عدم المنع في الزائد عليه، فبالنسبة إلى الزائد من مقدار الشبر، لا ينبغي التأمّل في عدم الحرمة.

وأمّا الطائفة الرابعة: وهي نصوص الشبر، فللإجماع على عدم الاكتفاء بهذا المقدار من الفصل في رفع المنع، هذا مضافاً إلى ما فيها من اختلاف التحديدات، إذ مقدار الشبر أقلّ من عظم الذراع، وهو أقلّ من قدر ما لا يتخطّى، وهو قرينة الكراهة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى حمل نصوص المنع على الكراهة، بعد تقييد الأُولى بالثالثة، والاختلاف بينها على مراتب الكراهة.

وعن بعض المانعين(2): حمل الطائفة الرابعة على صورة تقدّم الرّجل على المرأة، بقرينة جملة من النصوص:

منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «سألته عن المرأة تُصلّي عند الرّجل ؟ قال: لا تُصلّي المرأة بحيال الرّجل، إلّاأنْ يكون قدّامها ولو بصدره».2.

ص: 359


1- مستطرفات السرائر: ص 587، وسائل الشيعة: ج 5/126 أبواب مكان المُصلّي ب 5 ح 13 (6112).
2- كالشيخ الطوسي في التهذيب: ج 2/230، ذيل ح 113، وحكاه عنه سيِّد المدارك فيها: ج 3/222.

وفيه: إنّ هذا الحمل بعيدٌ لا سيّما في صحيح معاوية، وخبر أبي بصير المتقدّمين، فلاحظ.

أقول: وأبعد منه ما عن بعضهم(1) من حملها على إرادة ما لو كان بينهما حاجبٌ بهذا المقدار، بقرينة رواية علي بن جعفر المتقدّمة، إذ - مضافاً إلى أنّ الالتزام بكفاية هذا المقدار من الحائل في رفع المنع، مخالفٌ لظاهر كلمات الأصحاب - أنّه خلاف ظاهر تلك النصوص، لا سيّما صحيح زرارة المتقدّم.

***7.

ص: 360


1- المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه: ج 11/57.
تنبيهات:
اشارة

التنبيه الأوّل: لا فرق في هذا الحكم كراهةً أو منعاً، بين الرّجل والمرأة، كما هو ظاهر كلمات الأصحاب(1)، وصريح غير واحد منهم(2).

ويدلّ عليه: صحيح ابن مسلم، وخبر أبي بصير المتقدّمان، فإنّ ظاهرهما بيان حكم كلّ منهما، فلاحظ.

التنبيه الثاني: يزول الحكم منعاً أو كراهةً إذا كان بينهما حاجزٌ، أو مقدار عشرة أذرع، بلا خلافٍ فيه، بل عن غير واحدٍ(3) دعوى الإجماع عليه، وتشهد به الطائفة الثالثة من النصوص المتقدّمة.

أقول: ثمّ الظاهر أنّ المراد من (الحاجز) هو الحائل المانع عن الرؤية، ولكن قد ينافيه صحيح علي بن جعفر المتقدّم، عن أخيه عليه السلام:

«سألته عن الرّجل هل يصلح له أن يُصلّي في مسجدٍ قصير الحائط، وامرأة قائمة تُصلّي بحياله، وهو يراها وتراه ؟

قال: إذا كان بينهما حائطٌ طويل أو قصير فلا بأس»(4).

وعليه، فبناءً على القول بالمنع، يُجمع بين النصوص بتعميم الحائل، بحيث يشمل مورد الخبرين، وعلى القول بالكراهة يُجمع بحمل الخبرين على خفّة الكراهة.

ص: 361


1- كظاهر المحقّق في الشرائع: ج 1/57 (ط. انتشارات الاستقلال)، والعلّامة في قواعد الأحكام: ج 1/258.
2- كصريح الشيخ المفيد في المقنعة: ص 152، والشيخ في النهاية: ص 100، وابن حمزة في الوسيلة: ص 89.
3- كالمحقّق في المعتبر: ج 2/111، والعلّامة في المنتهى: ج 4/307، وقال الفقيه النجفي قدس سره في الجواهر: ج 8/319: (ومنه وغيره يعلم أنّ ترك ذكره في النهاية والخلاف والوسيلة والغنية والسرائر وكذا المقنعة والمبسوط على ما حكي عن البعض ليس للخلاف).
4- مسائل علي بن جعفر: ص 224، قرب الإسناد: ص 95، وسائل الشيعة: ج 5/130 أبواب مكان المُصلّي ب 8 ح 4 (6123).

وأيضاً: الظاهر عدم رفع الحكم في صورة تقدّم المرأة، بما إذا كان بين موقفها وموقفه مقدار عشرة أذرع، إذ الظاهر من الأخبار اعتبار هذا المقدار من الفصل بين جسديهما في حال الصَّلاة.

التنبيه الثالث: على القول بالمنع، لو صَلّى ثمّ التفت بعد الفراغ أنّه كان محاذياً لإمرأةٍ كانت تُصلّي، كانت صلاته صحيحة، لعموم حيث (لا تُعاد الصَّلاة)(1).

وكذا لو صَلّى مع الجهل بالموضوع أو بحكمه، مع عدم التقصير، بناءً على ما هو الحقّ من عدم اختصاص الحديث بالنسيان.

وأمّا لو اُكره على ذلك أو اضطرّ إليه:

فقد نُسِب إلى الأكثر(2) أنّه لا منع في الصورتين، واستدلّ بعض المتأخّرين(3)له بقاعدة الميسور.

وفيه: ما عرف في بعض المباحث المتقدّمة(4) من عدم ثبوت القاعدة في موارد تعذّر بعض ما يعتبر في المركّب.

والأولى أنْ يُقال: إنْ كان الإكراه والاضطرار مستوعبين للوقت، فيرتفع المنع، إذ الصَّلاة لا تدع بحال.

وإنْ لم يكونا مستوعبين له، فلا وجه لارتفاعه، وحديث الرفع لا يدلّ عليه، لما عرفت من أنّه إنّما يرفع حكم ما طرأ عليه أحد العناوين المذكورة فيه، إذا كان هو متعلّق الحكم في نفسه، وفي المقام بما أنّ ماطرأ عليه الإكراه أو الاضطرار لات.

ص: 362


1- الفقيه: ج 1/279 ح 857، وسائل الشيعة: ج 4/312 أبواب القبلة ب 9 ح 1 (5241).
2- ظاهر المحقّق النراقي قدس سره في مستند الشيعة: ج 4/420، ونسبه صريحاً للأكثر صاحب الجواهر في الجواهر: ج 8/328.
3- السيّد الحكيم قدس سره في المستمسك: ج 5/481.
4- تقدّم تحت عنوان: (لو تعذّر تحصيل الأرض الطاهرة) قبل صفحات.

حكم له، وما هو متعلّقٌ للحكم وهو الطبيعي، لم يتعلّق أحدهما به، فلا محالة لا يدلّ الحديث على ارتفاع المنع.

التنبيه الرابع: إذا صلّت وراءه:

فلو كان موضع سجودها وراء قدمه، سقط الحكم كراهةً أو حرمةً بلا ريب ولا كلام، لعدم شمول النصوص لصورة التأخّر، بل الأظهر بناءً على القول بالمنع، سقوطه بما إذا كان التأخّر بأقلّ من ذلك، لقوله عليه السلام في صحيح زرارة المتقدّم: «لا يُصلّي الرّجل بحيال المرأة إلّاأنْ يكون قُدّامها ولو بصدره»(1)، إذ الظاهر إرادة تقدّمه عليها بمقدارٍ يكون مسجدها محاذياً لصدره حال السّجود، وقد حُكي القولُ به عن بعض القدماء وجماعةٍ من المتأخّرين.

وأمّا على القول بالكراهة، فيتعيّن القول بخفّة الكراهة بما في الصحيح.

التنبيه الخامس: هل الحكم المذكور آنفاً:

مختصٌّ بما إذا كانت صلاة كلٍّ منهما صحيحة من غير ناحية المحاذاة ؟

أو يعمّ صورة فساد أحداهما، فلو علم بأنّ صلاة صاحبه فاسدة صحّت صلاته في صورة المحاذاة والتقدّم بلا كراهةٍ؟

وجهان مبنيّان على أنّ أسامي العبادات أسامٍ للصحيح أو الأعمّ ، وحيثُ إنّ المختار هو الثاني على ما حقّقناه في محلّه(2)، فالأقوى هو التعميم، إلّافيما كان الفساد من جهة الإخلال بما يكون دخيلاً في المسمّى، فتدبّر إذ دعوى انصراف النصوص إلى الصحيحة المبرئة للذمّة، ليست ببعيدة.).

ص: 363


1- التهذيب: ج 2/379 ح 114، وسائل الشيعة: ج 5/127 ح 6114.
2- زبدة الاُصول: ج 1/151 و 172، مبحث: (وجه القول للوضع بالأعمّ ).
إذا تعاقبت الصَّلاتان

التنبيه السادس: على القول بالمنع:

1 - لو اقترنت الصَّلاتان، بطلتا جميعاً، كما عرفت.

2 - ولو تعاقبتا:

فهل يختصّ البطلان باللّاحقة كما عن جماعةٍ التصريح به كالشهيدين(1)، والمحقّق الثاني(2)، وكاشف اللّثام(3)؟

أو يعمّها والسابقة كماعن آخرين(4)، وعن بعض نسبته إلى المشهور(5)؟ وجهان:

أقول: قد استدلّ للأوّل بوجوه:

الوجه الأوّل: ما عن «جامع المقاصد»(6) من إنّ المتأخّرة مختصّة بالنهي الموجب لفسادها، ومع عدم انعقادها لا يمكن أن تكون موجبة لبطلان صلاة انعقدت.

وفيه: أنّ النهي لا يختصُّ باللّاحقة، إذ المراد من النصوص مانعيّة المحاذاة في الصَّلاة الصحيحة، من غير ناحيتها، على فرض اعتبار صحّة صلاة كلٍّ منهما، وإلّا لم يتحقّق موضوع النهي في صورة الاقتران، بل ولا بالنسبة إلى السابق في صورة

ص: 364


1- الشهيد الأوّل في الذكرى : ص 150-151، والشهيد الثاني في روض الجنان: ص 226.
2- جامع المقاصد: ج 2/121.
3- كشف اللّثام: ج 3/279.
4- كالشيخ المفيد في المقنعة: ص 152، وظاهر الشيخ الطوسي في النهاية: ص 100، ومحكي تلخيص المرام كما في كشف اللّثام: ج 3/279.
5- حكاه المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 11/69 «عن بعضهم»، والظاهر أنّه الصيمري في كشف الالتباس
6- جامع المقاصد: ج 2/121.

التعاقب، لتحقّق المحاذاة المانعة في حقّ كلٍّ منهما، غاية الأمر للسابق في الأثناء، واللّاحق في أوّل الصَّلاة.

وعليه، فلا فرق بين صورتي الإقتران والتعاقب، في بطلان صلاة كلٍّ منهما.

الوجه الثاني: ما في «مصباح الفقيه»(1) وهو أنّ المتأخّرة باطلة، فلا تكون بصلاةٍ كي تصلح مانعةً عن صحّة السابقة، بخلاف السابقة فإنّها صحيحة حين انعقاد الثانية.

لا يقال: الفساد الناشئ من قبل هذا الحكم لا يُعقل أنْ يكون مانعاً عن تحقّق موضوعه، وإلّا امتنع البطلان في صورة الاقتران.

فإنّه يُقال: إنّ ظاهر النصوص اشتراط صحّة صلاة كلٍّ منهما، بأنْ لا يُصلّي الآخر بحياله صلاةً صحيحة مبرئة للذمّة من جميع الجهات، وإنّما يرفع اليد عنه ويقال إنّ المراد صحّة صلاة كلٍّ منهما، مع قطع النظر عن المحاذاة في صورة الاقتران بقرينة عقليّة، وهي عدم إمكان اتّصافهما بالصحّة لمنافاته للشرط، واتّصاف إحداهما بها ترجيحٌ بلا مرجّح، فلا محالة لابدَّ من الحكم بفسادهما، وليست هذه القرينة موجودة في حقّ اللّاحقة كما لا يخفى .

وفيه: إنّ دعوى إرادة المحاذاة في الصَّلاة الصحيحة من جيمع الجهات في صورة التعاقب، والمحاذاة في الصحيحة من غير ناحية المحاذاة في صورة الاقتران من دليل المانعيّة فاسدة، فيتردّد الأمر بين إرادة المحاذاة في الصحيحة من جميع الجهات، ومن غير جهة المحاذاة، وحيثُ عرفت عدم إمكان الأولى فيتعيّن الثانية.

الوجه الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم(2) من أنّ ظاهر الأخبار المنع عن صلاة7.

ص: 365


1- مصباح الفقيه: ج 11/69.
2- وهو ظاهر كلام المحقّق النجفي في جواهر الكلام: ج 8/315، والسيّد الحكيم في المستمسك: ج 5/477.

من تتحقّق بصلاته المحاذاة، وتكون المحاذاة مستندةً إليه، ومتحقّقة بفعله، فحينئذٍ لو اقترنا فهما سواءٌ في تحقّق المحاذاة، ولو كان أحدهما لاحقاً فالمحاذاة جاءت من فعله، فيختصّ البطلان بصلاته.

وفيه: إنّ المحاذاة في صورة التعاقب أيضاً مستندة إليهما، إذ السابق لو رفع اليد عن صلاته، لا تتحقّق المحاذاة، فاستمراره فيها محقّقٌ لها.

فتحصّل ممّا ذكرناه: إنّ الأقوى هو القول الثاني.

التنبيه السابع: لو شكّ في وجود من يُصلّي بحذاه، فالأصل يقتضي عدمه.

ولو شكّ في أنّ المُصلّي الواقف بحذاه امرأة أو رجل:

فإنْ كان اعتبار عدم المحاذاة قيداً للمصلّي، بأنْ يكون المعتبر في الصَّلاة أنْ لا يكون المُصلّي محاذياً للمرأة المصليّة، فيجري استصحاب عدم تحقّق المحاذاة مع المرأة.

ودعوى: معارضته باستصحاب عدم المحاذاة مع الرّجل.

مندفعة: بأنّه لعدم ترتّب الأثر عليه لا يجرى.

وإنْ كان قيداً للصَّلاة، فلا يجري الأصل، إلّابناءً على جريانه في العدم الأزلي، فتدبّر.

أقول: ولكن الظاهر من النصوص هو الأوّل، كما لا يخفى .

التنبيه الثامن: المشهور بين الأصحاب ارتفاع المنع على القول به، بتقديم أحدهما صلاته، من غير فرقٍ بين تقديم المرأة أو الرّجل.

وعن الشيخ(1): وجوب تأخير المرأة صلاتها، وهو ظاهرُ جماعةٍ من الأصحاب كالمحقّق في «الشرائع»(2).7.

ص: 366


1- النهاية: ص 101.
2- شرائع الإسلام: ج 1/57.

واستدلّ له: بصحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليه السلام:

«عن المرأة تُزامل الرّجل في المحمل، يصلّيان جميعاً؟ فقال عليه السلام: لا ولكن يُصلّي الرّجل، فإذا فرغ صلّت المرأة»(1). ونحوه غيره.

وفيه: إنّه لابدَّ من حمل هذه النصوص على الفضل والأولويّة، جمعاً بينها وبين صحيح ابن أبي يعفور:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: اُصلّي والمرأة إلى جنبي وهي تُصلّي ؟ قال عليه السلام: لا، إلّاأن تتقدّم هي أو أنتَ »(2).

إذ الظاهر منه التقدّم في الزمان لا المكان، كما لا يخفى .

وعليه، فالأظهر عدم وجوب تأخير المرأة صلاتها وإنْ كان أولى .

التنبيه التاسع: على القول بالمنع، لو دخل فى الصَّلاة غفلةً ، ثمّ رأى امرأةً تُصلّى بحياله:

فإنْ تمكّن من التقدّم أو التباعد، بلا فعلٍ منافٍ ، سكتَ وتقدَّم أو تباعد، ومضى في صلاته، فإنّ الأجزاء الصادرة حين الغفلة صحيحة بمقتضى حديث (لا تُعاد)(3) بناءً على ما هو الحقّ من شموله لبعض الصَّلاة أيضاً على ما ستعرف، والأجزاء الباقية يأتي بها واجدةً لشرطها، والأكوان المتخلّلة ليست من أجزاء الصَّلاة، كي يعتبر فيها عدم المحاذاة.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يُقال: إنّ المستفاد من النصوص مانعيّة المحاذاة مطلقاً، ولو كانت في الأكوان المتخلّلة، وعليه فحكمه حكم من لا يتمكّن من التباعد أو التقدّم من البطلان، ولا يخفى وجهه.

***).

ص: 367


1- التهذيب: ج 2/231 ح 115، وسائل الشيعة: ج 5/124 أبواب مكان المُصلّي ب 5 ح 2 (6101).
2- التهذيب: ج 2/231 ح 117، وسائل الشيعة: ج 5/124 أبواب مكان المُصلّي ب 5 ح 5 (6104).
3- الفقيه: ج 1/279 ح 857، الوسائل: ج 4/312 أبواب القبلة ب 9 ح 1 (5241).

وإلى بابٍ مفتوح.

الصَّلاة إلى باب مفتوح أو إلى نار مُضرَمة

قال أبو الصّلاح(1): (و) تُكره الصَّلاة (إلى بابٍ مفتوح)، وتبعه جماعة(2)معترفون بعدم الدليل عليه، وإنّما أفتوا به لفتوى الحلبي به من باب المسامحة.

واستدلّ المصنّف رحمه الله عليه في «التذكرة»(3)، بما دلَّ على استحباب السَّتر بينه وبين ممرّ الطريق.

وفيه: إنّ الصَّلاة إلى الطريق أعمٌّ منه إلى الباب من وجه.

(أو) إلى (إنسانٍ مواجهٍ )، واستدلّ له بالنصوص الدالّة على أنّه يُكره للمصلّي أن يمرّ بين يديه إنسانٌ :

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل هل يقطع صلاته شيءٌ ممّا يمرّ بين يديه ؟ فقال عليه السلام: لا يقطع صلاة المسلم شيء، ولكن إدرأ ما استطعت»(4)، ونحوه غيره.

بدعوى أنّ الأمر بالدَّرء إنّما يكون لدفع المنقصة عن الصَّلاة التي تحصل من المرور بين يدي المُصلّي، وليس معنى الكراهة إلّاذلك، كما عرفت. وهذه النصوص وإنْ لم يكن موردها الإنسان المواجه، إلّاأنّها تدلّ على كراهة الصَّلاة إليه

ص: 368


1- الكافي في الفقه: ص 141.
2- كالمحقّق في المعتبر: ج 2/116، والفاضل الآبي في كشف الرموز: ج 1/144، والعلّامة في التذكرة: ج 2/411، والشهيد الأوّل في الذكرى ص 152.
3- التذكرة: ج 2/411.
4- التهذيب: ج 2/323 ح 178، وسائل الشيعة: ج 5/134 أبواب مكان المُصلّي ب 11 ح 8 (6134).

بالأولويّة القطعيّة.

وفيه أوّلاً: إنّه لم يثبت لنا الأولويّة.

وثانياً: إنّه يمكن أنْ يكون الأمر بالدرء رعايةً لحرمة الصَّلاة، فيكون الدَّرء مستحبّاً كما هو ظاهره، لا أنّ الصَّلاة بدونه مكروهة.

أقول: قد طفحت كلمات القوم بأنّه تُكره الصَّلاة إلى إنسانٍ مواجه (أو) بين يديه (نارٌ مضرمة).

وعن أبي الصّلاح(1): المنع.

واستدلّ له:

1 - بصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «سألته عمّن يُصلّي والسّراج بين يديه في القبلة ؟ قال: لا يصلح له أن يستقبل النّار»(2).

2 - وموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا يُصلّي الرّجل وفي قبلته نارٌ أو حديد»(3).

وفيه: إنّه لو سُلّم ظهورهما في الحرمة، فلابدّ من حملهما على الكراهة، جمعاً بينهما وبين مرفوع عمرو بن إبراهيم الهمداني، عنه عليه السلام:

«لا بأس أن يُصلّي الرّجل والنّار والسّراج والصورة بين يديه، إنّ الذي يُصلّي له أقرب إليه من الذي بين يديه»(4).).

ص: 369


1- الكافي لأبي الصّلاح الحلبي: ص 141 (مكان المُصلّي: الشرط العاشر) حيث جعل بيوت النّار من الأماكن التي لا يجوز الصَّلاة فيها. وحكاه عنه العلّامة في التحرير: ج 1/215.
2- مسائل علي بن جعفر: 226 ح 517، الكافي: ج 3/391 ح 16، قرب الإسناد ص 87، وسائل الشيعة: ج 5/166 أبواب مكان المُصلّي ب 30 ح 1 (6235).
3- الكافي: ج 3/390 ح 15، وسائل الشيعة: ج 5/166 أبواب مكان المُصلّي ب 30 ح 2 (6236).
4- التهذيب: ج 2/226 ح 98، وسائل الشيعة: ج 5/167 أبواب مكان المُصلّي ب 30 ح 4 (6238).

و حائطٌ ينزُّ من بالوعة، ولا يجوزُ السّجود إلّاعلى الأرض ممّا لا يؤكل ولا يُلبس.

وأمّا ما في التوقيع الشريف: «وأمّا ما سألت عنه من أمر المُصلّي والنّار والصورة والسّراج بين يديه، هل تجوز صلاته، فإنّ الناس قد اختلفوا في ذلك قبلك ؟ فإنّه جائزٌ لمن لم يكن من أولاد عَبَدة الأوثان والنيران، ولا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عَبَدة الأوثان»(1)، وإنْ كان أخصّ من جميع روايات الباب، ومقتضى القاعدة تخصيصها به، إلّاأنّه لم ينقل القول بهذا التفصيل عن أحدٍ، فيُحمل على شدّة الكراهة.

(و) يُكره أيضاً أنْ يكون في حال صلاته بين يديه (حائطٌ ينزُّ من بالوعة)، ويدلّ عليه ما رواه البزنطي، عمّن سأل أبا عبد اللّه عليه السلام:

«عن المسجد ينزّ حائط قبلته من بالوعةٍ يُبال فيها؟

فقال: إنْ كان نزّه من البالوعة فلا تُصلِّ فيه، وإنْ كان نزّه من غير ذلك فلا بأس»(2) وقريب منه غيره.

***).

ص: 370


1- إكمال الدِّين: ج 2/520 ح 49، وسائل الشيعة: ج 5/168 أبواب مكان المُصلّي ب 30 ح 5 (6239).
2- الكافي: ج 3/388 ح 4، وسائل الشيعة: ج 5/146 أبواب مكان المُصلّي ب 18 ح 2 (6172).

ولا يجوزُ السّجود إلّاعلى الأرض ممّا لا يؤكل ولا يُلبس.

مسجد الجبهة
اشارة

(ولا يجوزُ السّجود إلّاعلى الأرض) أو ما أنبتته الأرض بلا خلافٍ .

وعن جماعةٍ (1) دعوى الإجماع عليه.

وتدلّ عليه نصوص كثيرة:

منها: صحيحة هشام بن الحكم، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال له:

«أخبرني عمّا يجوز السّجود عليه وعمّا لا يجوز؟

قال عليه السلام: السّجود لا يجوز إلّاعلى الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلّاما أُكل أو لبس.

فقال له: جُعِلتُ فِداك ما العلّة في ذلك ؟

قال عليه السلام: لأنّ السّجود خضوعٌ للّه عزّ وجلّ ، فلا ينبغي أنْ يكون على ما يُؤكل ويُلبس، لأنّ أبناء الدُّنيا عبيدُ ما يأكلون ويلبسون، والسّاجد في سجوده في عبادة اللّه عزّ وجلّ ، فلا ينبغي ان يضع جبهته في سجوده على معبود أبناءِ الدُّنيا الّذين اغترّوا بغرورها»(2).

ومنها: صحيحة حمّاد بن عثمان، عنه عليه السلام: إنّه قال: «السّجود على ما أنبتت الأرض إلّاما أكل أو لُبس»(3).

ص: 371


1- كالسيّد المرتضى في رسائله: ج 1/220، والشيخ في الخلاف: ج 1/357، وابن زُهرة الحلبي في الغنية ص 66، والعلّامة في التحرير: ج 1/217.
2- الفقيه: ج 1/272 ح 843، وسائل الشيعة: ج 5/343 أبواب ما يسجد عليه ب 1 ح 1 (6740).
3- الفقيه: ج 1/268 ح 830، وسائل الشيعة: ج 5/344 أبواب ما يسجد عليه ب 1 ح 2 (6741).

ومنها: خبر الأعمش، عن جعفر بن محمّد عليه السلام: «لا يسجدُ إلّاعلى الأرض أو ما أنبتت الأرض، إلّاالمأكول والقطن والكتّان»(1) ونحوها غيرها.

أقول: وهذه النصوص صريحة في أنّه يعتبر في مسجد الجبهة، أنْ يكون أرضاً أو نباتاً.

ويشترط في الثاني: أنْ يكون (ممّا لا يُؤكل ولا يُلبس) بلا خلافٍ .

وعن غير واحدٍ(2) دعوى الإجماع عليه.

وتدلّ عليه النصوص المتقدّمة، وبها يقيّد ما بإطلاقه يدلّ على جواز السّجود على مطلق ما أنبتت الأرض، كخبر الفضل بن عبد الملك، قال أبو عبد اللّه عليه السلام:

«لا يُسجَد إلّاعلى الأرض أو ما أنبتت الأرض، إلّاالقطن والكتّان»(3).

نعم، في خصوص القطن والكتّان ورد ما يدلّ على جواز السّجود عليهما:

منها: خبر حسين بن علي بن كيسان الصنعاني، قال:

«كتبتُ إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام: أسأله عن السّجود على القطن والكتّان، من غير تقيّةٍ ولا ضرورة ؟ فكتب عليه السلام إليّ : ذلك جائز»(4).

ومنها: خبر داود الصَّرمي: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام هل يجوز السّجود على القطن والكتّان من غير تقيّة ؟ فقال عليه السلام: جائز»(5).

وأمّا خبر ياسر الخادم: «مَرَّ بي أبو الحسن عليه السلام وأنا اُصلّي على الطبري، وقد ألقيتُ عليه شيئاً أسجدُ عليه، فقال لي عليه السلام: ما لكَ لا تسجدُ عليه ؟ أليسَ هو من).

ص: 372


1- الخصال: ج 2/603، وسائل الشيعة: ج 5/344 أبواب ما يُسجد عليه ب 1 ح 3 (6742).
2- كالشيخ في الخلاف ج 1/357، وابن زُهرة في الغنية ص 66، والشهيد الثاني في الروض: ص 221.
3- الكافي: ج 3/330 ح 1، وسائل الشيعة: ج 5/344 أبواب ما يسجد عليه ب 1 ح 6 (6745).
4- التهذيب: ج 2/308 ح 104، وسائل الشيعة: ج 5/348 أبواب ما يسجد عليه ب 2 ح 7 (6757).
5- التهذيب: ج 2/307 ح 102، وسائل الشيعة: ج 5/344 أبواب ما يسجد عليه ب 2 ح 6 (6756).

نبات الأرض ؟!»(1)، فلا يدلّ عليه، لأنّ الطبري مجملٌ ، يحتمل أنْ يكون هو الحصير الذي يعمله أهل طبرستان كما قيل(2).

كما أنّه لا يدلّ عليه خبر منصور بن حازم، عن غير واحدٍ من أصحابنا، قال:

«قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: إنّا نكون بأرضٍ باردة، يكون فيها الثلج، أفنسجدُ عليه ؟ قال عليه السلام: لا، ولكن اِجعل بينك وبينه شيئاً قطناً أو كتّاناً»(3) لاختصاصه بحال الضرورة.

ودعوى:(4) عدم الملازمة بين كونه في أرضٍ باردة، وعدم تمكّنه حال الصَّلاة من تحصيل ما يصحّ السّجود عليه، فلا يتنزّل عليه إطلاق الجواب.

مندفعة: بأنّ قوله: (يكون فيها الثّلج) قرينةٌ على إرادة عدم التمكّن من السّجدة على الأرض.

وحيثُ إنّ خبري الحسين وداود الصرمي ضعيفاً السند، لأنّ الصنعاني مهملٌ ، وداود الصّرمي لم تثبت وثاقته، فلا يُعتمد عليهما.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسَلّمنا تماميّة الخبرين سنداً، لابدَّ من طرحهما أو حملها على ما قبل النسج، لمعارضتهما مع ما هو أقوى منهما سنداً، الذي يدلّ على المنع، كالنصوص المانعة عن السّجود على الملبوس، الصريحة في القطن والكتّان، لندرة غيرهما في ذلك الزمان، وخبري الفضل والأعمش المتقدّمين.7.

ص: 373


1- الفقيه: ج 1/268 ح 831، وسائل الشيعة: ج 5/348 أبواب ما يسجد عليه ب 2 ح 5 (6755).
2- قال صاحب الجواهر (في الجواهر: ج 8/424): (في كشف اللّثام أنّ المقنع صريح في كون الطبري ممّا لا يلبس، وعن مولانا مراده أنّ الطبري هو الحصير الذي يصنعه أهل طبرستان)، راجع المقنع: ص 26، وكشف اللّثام: 3/342.
3- التهذيب: ج 2/308 ح 103، وسائل الشيعة: ج 5/351 أبواب ما يسجد عليه ب 4 ح 7 (6767).
4- دعوى المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 11/187.

ودعوى:(1) إنّ الجمع بينهما يقتضي حمل نصوص المنع على الكراهة.

مندفعة: بأنّها غير قابلة للحمل على الكراهة، لورودها في مقام بيان ما يصحّ السّجود عليه وما لا يصحّ .

كما أنّ الجمع بحمل نصوص الجواز على حال الضرورة غير تامّ ، لأنّه لا يلائمه تقييد السائل في الخبرين بعدم الضرورة والتقيّة.

أقول: ومنه يظهر عدم صحّة حمل نصوص الجواز على حال التقيّة، وعلى هذا فيتعيّن طرحها أو حملها على ما قبل النسج، كما يشهد له المرسل المرويّ عن «تحف العقول» عن الإمام الصادق عليه السلام:

«إنّه كلّ شيءٍ يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه أو ملبسه، فلا تجوز الصَّلاة عليه، ولا السّجود إلّاما كان من نباتِ الأرض، من غير ثمر قبل أن يصير مغزولاً، فإذا صار مغزولاً فلا يجوز السّجود عليه إلّافي حال الضرورة»(2).

***).

ص: 374


1- دعوى المحقّق الحِلّي في المعتبر: ج 2/119.
2- تحف العقول: ص 338، وسائل الشيعة: ج 5/346 أبواب مايسجد عليه ب 1 ح 11 (6750).
فروع:
السّجود على الثمار غير المأكولة

فروع:

الفرع الأوّل: يجوزُ السّجود على الثمار غير المأكولة كالحنظل، للنصوص المتقدّمة الدالّة على جواز السّجود على نبات الأرض غير المأكول والملبوس.

نعم، طائفة من النصوص اشتملت على استثناء مطلق الثمرة، كصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «لا بأس بالصَّلاة على البوريا والخَصَفة وكلّ نباتٍ إلّا الثمرة»(1). ونحوه غيره.

والنسبة بينها وبين النصوص المتقدّمة، المشتملة على استثناء المأكول، عمومٌ من وجه، لصدق (الثمرة) على (الحنظل) وهو ممّا لا يؤكل، وصدق (المأكول) على (الخَسّ )، من دون صدق الثمرة عليه، وكلّ من الطائفتين تنحلّ إلى عقدٍ سلبي وإيجابي، ولا منافاة بين الإيجابيين ولا بين السلبيّين، وإنّما التنافي يكون بين الإيجابي من كلّ منهما مع السلبي من الآخر، فلابدَّ من رفع التنافي:

1 - إمّا من تقييد العقد السلبي من كلّ منهما بالإيجابي من الآخر، فتصير النتيجة إنّ المأكول من غير الثمرة والثمرة غير القابلة للأكل داخلان في المستثنى منه.

2 - وإمّا من تقييد العقد الإيجابي من كلّ منهما بالسّلبي من الآخر، فيكون المستثنى منه ما لا يكون مأكولاً ولا ثمرة.

3 - وإمّا من حمل (الثمرة) على مطلق المأكول، والسرّ في التعبير عنه بها هو الغلبة.

4 - وإمّا من حمل المأكول على مطلق الثمرة.

ص: 375


1- الفقيه: ج 1/261 ح 804، وسائل الشيعة: ج 5/345 أبواب ما يسجد عليه ب 1 ح 9 (6748).

أقول: ولا يبعد دعوى أظهريّة الثالث، إذ الأوّل والثاني خاليان عن الشاهد، فيدور الأمر بين إلغاء الثمرة عن الموضوعيّة، وإلغاء المأكول عنها، والأوّل أظهر، لفتاوى الأصحاب المعتضدة بصحيح هشام، المشتمل على العلّة، القاضية بأنّ المنع منوطٌ بالمأكوليّة لا بكونه ثمرة.

والنتيجة: ظهر ممّا ذكرناه إنّه لا يجوز السّجود على المأكول غير الثمرة.

جواز السّجود على المعدن
اشارة

الفرع الثاني: مقتضى النصوص جواز السّجود على كلّ ما يصدق عليه الأرض، وإنْ صدق عليه المعدن.

والمعيار في صدق الأرض هو العرف، فإنْ تيقّن بذلك فهو، وان شكّ فيه:

فإنْ كان في السابق أرضاً جرى استصحاب الموضوع، بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الشبهة المفهوميّة.

وإنْ لم يُعلم حالته السابقة، فمقتضى الأصل هو الاحتياط، وعدم الاكتفاء بالصَّلاة مع السّجدة عليه، لرجوع الشكّ إلى الامتثال بعد اليقين بالتكليف، ومن الواضح أنّه ليس مورداً لأصالة البراءة حتّى بناءً على جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين.

ولو خرجت الأرض عن حقيقتها، لا يجوز السّجود عليها، لدوران الحكم مدار صدق عنوان الأرض، فلا يجوز السّجود على الذهب والفضّة ونحوهما.

ومن جملة ما انقلب ممّا كان أرضاً عرفاً الزّجاج، فلا يجوز السّجود عليه.

ويدلّ عليه: - مضافاً إلى ذلك - صحيح محمّد بن الحسين:

«إنّه كتبَ بعض أصحابنا إلى أبي الحسن الماضي عليه السلام يسأله عن الصَّلاة على الزجاج ؟

قال: فلمّا نَفَذ كتابي إليه تفكّرت، وقلتُ : هو ممّا أنبتتِ الأرض، وما كان لي أن

ص: 376

أسأل عنه، فكتب عليه السلام إليَّ : لا تُصلِّ على الزجاج وإن حَدَّثتك نفسك أنّه ممّا أنبتتِ الأرض، ولكنّه من الملح والرَّمل، وهما ممسوخان»(1).

والظاهر أنّ لفظة (من) نَشْويّة لا بيانيّة، والمراد إنّ ما حَدَّثتك نفسك من كونه من نبات الأرض غير صحيح بل هو إنّما نشأ وتكوّن من الملح والرّمل، وكيفيّة تكوّنه إنّهما مسخا فصارا زجاجاً، لا أنّ الرّمل في نفسه ممسوخ.

أقول: وبما ذكرناه يندفع ما أُورد على الصحيح:

1 - من أنّ السائل تخيّل كونه من نبات الأرض، والإمام عليه السلام قرّره، مع أنّه ليس كذلك.

2 - ومن أنّه يدلّ على أنّ الرّمل ممسوخٌ لا يجوز السّجود عليه، وهو غير تامّ .

***).

ص: 377


1- الكافي: ج 3/332 ح 14، وسائل الشيعة: ج 5/360 أبواب ما يسجد عليه ب 12 ح 1 (6792).
السّجود على القير والجِصّ وما شاكل

ومنها: القير.

ويدلّ على عدم جواز السّجدة عليه، مضافاً إلى ذلك، صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «قلتُ له: أسجدُ على الزِّفت - يعني القير -؟

فقال: لا».

ونحوه، وخبر محمّد بن عمرو بن سعيد عن أبي الحسن عليه السلام(1).

نعم، يدلّ على الجواز صحيح منصور بن حازم، عن الإمام الصادق عليه السلام إنّه قال: «القير من نبات الأرض»(2).

ونحوه في الدلالة على الجواز، صحيح ابن عمّار(3)، وخبر ابن ميمون(4).

أقول: والجمع بين النصوص، يقتضي الحكم بكراهة السّجود عليه، إلّاأنّ إعراض المشهور عن نصوص الجواز، وإفتائهم بالمنع، بل عن «المدارك»(5)الإجماع على المنع، يوجب وهنها، فلا يُعتمد عليها.

وأمّا السّاروج: وهو الممزوج من النُّورة والرّماد، فلا يجوز السّجود عليه، لاشتماله على ما ليس بأرضٍ ولا نباتها، وأجزاؤه الأرضيّة لا تمتاز عن غيرها، كي يصدق السّجدة على الأرض.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - خبر محمّد بن عمرو بن سعيد، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: «لا تسجُد على القفر، ولا على القير، ولا على السّاروج»(6).

ص: 378


1- الكافي: ج 3/331 ح 6، وسائل الشيعة: ج 5/353 أبواب ما يسجد عليه ب 6 ح 1 (6773).
2- الفقيه: ج 1/457 ح 1323، وسائل الشيعة: ج 5/355 أبواب ما يسجد عليه ب 6 ح 8 (6780).
3- التهذيب: ج 3/295 ح 3، وسائل الشيعة: ج 5/354 أبواب ما يسجد عليه ب 6 ح 6 (6778).
4- الفقيه: ج 1/457 ح 1322، وسائل الشيعة: ج 5/355 أبواب ما يسجد عليه ب 6 ح 7 (6779).
5- مدارك الأحكام: ج 3/244.
6- الكافي: ج 331/3 ح 6، وسائل الشيعة: ج 5/353 أبواب مايسجد عليه ب 6 ح 1 (6773)، وفيهما (الصاروج).

وأمّا الجِصّ والنُّورة والخَزَف والآجر: فالأظهر جواز السّجود عليها كما نُسب إلى المشهور(1)، لصدق الأرض عليها عرفاً، إذ الشيء لا يوجبُ خروج الأرض عن حقيقتها، وإنْ شئت فاختبر ذلك من اللّحم المشويّ .

ولو تنزّلنا عن ذلك، فلا أقلّ من الشكّ فيه، فقد عرفت أنّه لا مانع من جريان استصحاب مفهوم الأرض.

وعليه، فما عن «الذكرى »(2) من المنع من السّجدة على النورة، بدعوى أنّ خبر محمّد المتقدّم يدلّ على المنع من السّجود على الساروج، هو يستلزمُ المنع من النورة بطريق أولى .

ضعيفٌ ، لما عرفت من أنّ من جملة أجزاء الساروج الرماد، وهو ليس بأرض.

أقول: ويدلّ على الجواز في خصوص الجِصّ ، صحيح ابن محبوب، قال:

«سألت أبا الحسن عليه السلام عن الجِصّ يوقدُ عليه بالعَذَرة وعظام الموتى ، ثمّ يُجصّص به المسجد، أيُسجَدُ عليه ؟

فكتب لي بخطّه: إنّ الماء والنّار قد طهّراه»(3).

فإنّ جوابه عليه السلام ظاهرٌ في تقريره عليه السلام ما اعتقده السائل من جواز السّجدة عليه في نفسه.

والمناقشة فيه: بأنّ الجِصّ لا يطهر بالماء والنّار قطعاً، فكيف حكم عليه السلام بأنّهما قد طهّراه ؟ قد تقدّم الجواب عنها في كتاب الطهارة(4).

***ة.

ص: 379


1- نسبه إلى المشهور المحدِّث البحراني قدس سره في الحدائق الناضرة: ج 7/262.
2- الذكرى : ص 161 (ط. ق).
3- الكافي: ج 3/330 ح 3، وسائل الشيعة: ج 3/527 أبواب النجاسات ب 81 ح 1 (4366).
4- فقه الصادق: ج 5/351، مبحث الاستحالة.
السّجود على القرطاس

الفرع الثالث: يجوزُ السّجود على القرطاس بلا خلافٍ . بل عن «التذكرة»(1)و «المدارك»(2) وغيرهما(3) دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له:

1 - صحيح علي بن مهزيار، قال: «سأل داود بن فرقد أبا الحسن عليه السلام عن القراطيس والكواغذ المكتوبة، هل يجوز السّجود عليها أم لا؟ فكتب عليه السلام: يجوز»(4).

2 - وصحيح صفوان، قال: «رأيتُ أبا عبد اللّه عليه السلام في المحمل يَسجدُ على القرطاس، وأكثر ذلك يومئ إيماءً »(5).

3 - وصحيح ابن درّاج، عنه عليه السلام: «إنّه عليه السلام كره أن يُسجَد على قرطاسٍ عليه كتابة»(6).

فهذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف.

أقول: وإنّما الكلام في القرطاس المتّخذ من غير ما يصحّ السّجود عليه:

فقد حكم جماعة(7) بجواز السّجود عليه.

ص: 380


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/437.
2- مدارك الأحكام: ج 3/249.
3- كالمحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 2/165، والشهيد الثاني في المسالك: ج 1/179.
4- الفقيه: ج 1/270 ح 834، وسائل الشيعة: ج 5/355 أبواب ما يسجد عليه ب 7 ح 2 (6782).
5- التهذيب: ج 2/309 ح 107، وسائل الشيعة: ج 5/355 أبواب ما يسجد عليه ب 7 ح 1 (6781).
6- الكافي: ج 3/332 ح 12، وسائل الشيعة: ج 5/355 أبواب ما يسجد عليه ب 7 ح 3 (6783).
7- قال الفقيه النجفي قدس سره في الجواهر: ج 8/430 (والنصوص والفتاوى مطلقة لا تقييد في شيءٍ منها بالمتّخذ من النبات).

ولكن عن «الجعفريّة»(1) وإرشادها(2) وغيرهما(3): التقييد بما إذا كان متّخذاً من ما يُسجَد عليه.

وعن «القواعد»(4) و «اللُّمعة»(5) و «التذكرة»(6) و غيرها(7): التقييد بما إذا كان متّخذاً من النبات.

والظاهر أنّ المراد من النبات هو ممّا لا يؤكل ولا يلبس، كما لا يخفى .

وعليه، ففي المسألة قولان، أقواهما الثاني، لا لما قيل من إنّ عدم التقييد يستلزم تخصيصاً فيما دلَّ على عدم جواز السّجود على غير الأرض ونباتها الذي يُؤكل أو يُلبس، إذ يرد عليه أنّه لا محذور في ذلك بعد دلالة الدليل عليه، وهو إطلاق النصوص لو ثبت.

ودعوى: إنّ النسبة بين النصوص حينئذٍ وما دلَّ على المنع عن السّجود على غير الأرض ونباتها، عمومٌ من وجه فيتعارضان، وحيثُ لا مرجّح فيتساقطان، والمرجع إلى الأصل، وهو الاحتياط كما مرّ.

مندفعة: بأنّ الترجيح لنصوص الباب، لظهورها في ثبوت الخصوصيّة).

ص: 381


1- الجعفريّة (رسائل الكركي): ج 1/103، قوله: (ويجوز السّجود على القرطاس إذا اتّخذ من جنس ما يجوزالسّجود عليه).
2- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 6/358، (وفي حاشيته: إرشاد الجعفريّة: مكان المُصلّي ص 76 س 17، مخطوط، مكتبة المرعشي رقم 2776).
3- مثل حاشية الإرشاد والعزية، كما حكاه العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/250 (ط. دار إحياء التراث العربي) وط. الجديدة: ج 6/358.
4- قواعد الأحكام: ج 1/263.
5- اللّمعة الدمشقيّة: ص 27.
6- تذكرة الفقهاء: ج 2/437.
7- كما في البيان: ص 67، وكشف اللّثام: ج 3/347. بل في التذكرة: ج 2/437: (إنّ إطلاق علمائنا محمولٌ على ذلك).

للقرطاس، الموجبة لجواز السّجود عليه، بل لعدم ثبوت إطلاق النصوص، إذ صحيح ابن مهزيار واردٌ في مقام بيان عدم مانعيّة الكتابة عن الجواز، لا في مقام تشريع الجواز كي يُتمسّك بإطلاقه.

ونحوه صحيح جميل، وصحيح صفوان حكاية لفعلٍ مجمل، إذ لعلّه كان ما يُسجد عليه متّخذاً من ما يُسجد عليه.

وعلى هذا، فغاية ما يثبت بهذه النصوص والإجماع، هو جواز السّجدة على القرطاس، إذا كان من جنس ما يُسجد عليه.

***

ص: 382

إذا كان مملوكاً أو في حكمه خالياً من النجاسة، ولا يجوزُ على المَغصوب مع العلم، ولا على النجاسة، ولا يُشترط طهارة مساقط بقيّة أعضاء السّجود.

البحث عن شروط المسجد
اشارة

ثمّ إنّك قد عرفت(1) أنّه يجوز السّجود (إذا كان) المسجد (مملوكاً أو في حكمه) وكان (خالياً من النجاسة)، وعرفت أيضاً أنّه (لا يجوز السّجود على المغصوب مع العلم)، بل مع الجهل أيضاً (ولا على النجاسة).

هذا، (ولا يشترط طهارة مساقط بقيّة أعضاء السّجود) كما هو المشهور، بل لم يُعرف الخلاف إلّاعن أبي الصّلاح(2)، للأصل.

واستدلّ لوجوب طهارة مواضع المساجد السبعة:

1 - بالنبويّ : «جنّبوا مساجدكم النجاسة»(3).

2 - وإطلاق النَّص المانع من السّجود على الموضع النجس.

3 - وإطلاق معاقد الإجماعات على اعتبار طهارة المسجد.

أقول: وفي الجميع نظر:

إذ النبويّ ضعيفُ السند والدّلالة، لاحتمال أنْ يكون المراد بالمساجد الأماكن المعدّة للصَّلاة، فيكون أجنبيّاً عن المقام، وقد عرفت أنّه لا دليل على اعتبار طهارة موضع السّجود، سوى الإجماع وصحيح ابن محبوب، وهما مختصّان بمسجدالجبهة، كما تقدّم.

وأمّا الإجماع: فقد مَرَّ أنّه على العدم.

ص: 383


1- تحت عنوان (الفصل الخامس: في المكان) في هذا المجلّد.
2- الكافي في الفقه: ص 141.
3- وسائل الشيعة: ج 5/229 أبواب أحكام المساجد ب 24 ح 2 (6410) نقلاً عن سنن ابن ماجة: ج 1/247 (ط. دار الفكر).

ولا يجوزُ السّجود على ما ليسَ بأرضٍ كالجلود، أو ما خَرَج عنها بالإستحالة كالمعادن.

(و) قد انقدح ممّا ذكرناه أنّه (لا يجوز السّجود على ما ليس بأرضٍ كالجلود، أو ما خرج عنها بالاستحالة كالمعادن) إذا صحَّ سلب اسم الأرض عنه كالملح.

وإنّما قيّدنا بصحّة سلب اسم الأرض عنه، للتنبيه على أنّ مناط المنع ذلك، لا صدق اسم المعدن، فلا يهمّنا البحث عن تحقيق معنى المعدن.

اُمورٌ لابدَّ من التنبيه عليها
اشارة

أقول: بقي في المقام اُمورٌ لابدَّ من التنبيه عليها:

ص: 384

ويَجوزُ مع عدم الأرض على الثَّلج والقير وغيرهما، ومع الحَرّ على الثوب، وإنْ فُقِد فعلى اليد.

ما يُسجَد عليه عند الاضطرار

الأمر الأوّل: يجوزُ السّجود مع عدم الأرض وعدم نباتها - الذي يجوزُ السّجود عليهما - على غيرهما ممّا لا يُسجد عليه عند الاختيار، وهذا في الجملة ممّا لا خلاف فيه، بل عليه الإجماع.

وإنّما الكلام في وجود بدلٍ شرعي اضطراري مطلقاً، كما هو المشهور، أو مع الحَرّ كما ذكره المصنّف رحمه الله، حيث قال:

(ويجوزُ) السّجود (مع عدم الأرض على الثّلج والقير، وغيرهما، ومع الحَرّ على الثّوب، وإنْ فُقِد فعلى اليد)، أو عدمه مطلقاً، فيكفي وضع جبهته على أيّ شيءٍ يكون كما اختاره بعض(1).

أقول: وتحقيق القول في ذلك يحتاج إلى ذكر النصوص الواردة في المقام:

فمنها: صحيح منصور، عن غير واحدٍ من أصحابنا، قلت لأبي جعفر عليه السلام: «إنّا نكون بأرض باردة يكون فيها الثّلج أفنسجُد عليه ؟

قال عليه السلام: لا، ولكن اجعل بينك وبينه شيئاً قطناً أو كتّاناً»(2).

ودعوى: أنّ ظاهره جواز السّجود على القطن والكتّان اختياراً، قد عرفت دفعها.

ص: 385


1- كصاحب الجواهر: ج 8/438.
2- التهذيب: ج 2/308 ح 103، وسائل الشيعة: ج 5/351 أبواب ما يسجد عليه ب 4 ح 7 (6767).

ومنها: خبر أبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السلام، قلت له:

«أكون في السّفر فتحضر الصَّلاة، وأخاف الرَّمضاء على وجهي، كيف أصنع ؟

قال عليه السلام: تسجدُ على بعض ثوبك.

فقلت: ليس عَليَّ ثوب يمكنني أن أسجد على طرفه، ولا ذيله ؟

قال عليه السلام: اسجد على ظهر كفّك، فإنّها إحدى المساجد»(1).

ومنها: خبره الآخر المرويّ عن «الفقيه»:

«أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يُصلّي في حَرٍّ شديد، فيخاف على جبهته من الأرض ؟ قال عليه السلام: يضع ثوبه تحت جبهته»(2).

ومنها: خبره الثالث المرويّ عن «العِلل»، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: جُعِلتُ فداك! الرّجل يكون في السفر، فيقطع عليه الطريق، فيبقى عرياناً في سراويل، ولا يجد ما يسجدُ عليه، يخاف إن سجد على الرّمضاء أحرقت وجهه ؟

قال عليه السلام: يسجد على ظهر كفّه فإنّها إحدى المساجد»(3).

ومنها: خبر أحمد بن عمر، قال: «قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: جُعِلتُ فداك الرّجل يسجدُ على كُمّ قميصه من أذى الحَرّ والبرد، وعلى ردائه إذا كان تحته مسحٌ أو غيره ممّا لا يسجد عليه ؟

فقال عليه السلام: لا بأس به»(4).

أقول: وهذه النصوص هي العمدة في إثبات البدل الاضطراري، وأمّا).

ص: 386


1- التهذيب: ج 2/306 ح 96، وسائل الشيعة: ج 5/351 أبواب ما يسجد عليه ب 4 ح 5 (6765).
2- الفقيه: ج 1/261 ح 801، وسائل الشيعة: ج 5/352 أبواب ما يسجد عليه ب 4 ح 8 (6768).
3- علل الشرائع: ج 2/340 ح 1، وسائل الشيعة: ج 5/351 أبواب ما يسجد عليه ب 4 ح 6 (6766)
4- التهذيب: ج 2/307 ح 98، وسائل الشيعة: ج 5/350 أبواب ما يسجد عليه ب 4 ح 3 (6763).

النصوص النافية للبأس عن السّجود على الثّوب عند الاضطرار، فلا تدلّ عليه، إذ نفي البأس أعمّ من التعيين، ومنه يظهر عدم دلالة الخبر الأخير على هذا القول.

ودعوى:(1) ظهوره في مفروغيّة السائل عن عدم جواز السّجود على المسح وغيره ممّا لا يُسجد عليه، فقوله عليه السلام: (لا بأس) مقتصراً عليه تقريرٌ للسائل على ما في ذهنه من عدم جواز السّجود على المسح في هذا الحال.

مندفعة: بعدم ظهوره فيما ذُكر؛ إذ قول السائل: (إذا كان تحته مسحٌ أو غيره ممّا لا يُسجد عليه) ظاهرٌ في إرادته ما لا يُسجد عليه في حال الاختيار، فتدبّر.

وأمّا غيره من الأخبار، فدلالته على وجود البدل الاضطراري، وهو الثّوب ثمّ ظهر الكفّ واضحة، وهذه النصوص وإنْ كانت واردة في مورد الحَرّ والبرد، إلّا أنّه يتعدّى عن موردها إلى ما لو لم يتمكّن من السّجود على ما يصحّ عليه لتقيّةٍ أو غيرها، للقطع بعدم الخصوصيّة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: إنّ الأقوى هو القول الأوّل، وتخصيص المصنّف رحمه الله البدل الاضطراري بمورد الحَرّ لعلّه من جهة اعتقاده عدم دلالة صحيح منصور لهذا القول، وغيره مختصٌّ بمورد الحَرّ، والتعدّي يحتاج إلى الدليل وهو مفقودٌ.

ثمّ إنّ جماعة من القائلين بالبدل الاضطراري - برغم مخالفة دعواهم للمشهور - اختاروا أنّ المراتب في البدليّة ثلاث:

الأُولى: الثّوب الذي يكون من القطن أو الكتّان.

الثانية: الثّوب من غيرهما.

الثالثة: ظهر الكفّ .6.

ص: 387


1- دعوى السيّد الحكيم قدس سره في المستمسك: ج 5/506.

أقول: مقتضى النصوص المتقدّمة، أنّ الثّوب مطلقاً هو البدل الأوّل، من غير فرقٍ بين كونه من القطن أو الكتّان أو غيرهما.

ودعوى:(1) تقييدها بصحيح منصور.

مندفعة: بأنّه لا مفهوم له كي يقيّد به النصوص، ومنطوقه لا ينافيها، فلا وجه للتقييد.

وعليه، فالأظهر أنّه لو لم يكن عنده ما يصحّ السّجود عليه، أو كان ولم يتمكّن من السّجود عليه سجد على ثوبه، وإنْ لم يكن سجد عليه ظهر كفّه.

***7.

ص: 388


1- دعوى المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 11/202، وتبعه السيّد الحكيم قدس سره في المستمسك: ج 5/507.
السّجود على ما لا تتمكّن الجبهة عليه

الأمر الثاني: يشترط أنْ يكون ما يسجد عليه ممّا تستقرّ الجبهة عليه، فلا يجوز على الطين الذي لا تستقرّ الجبهة عليه، ومع استقراره لا بأس بالسجود عليه، بلا خلافٍ فيهما.

ويشهد لهما: موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«سألته عن حَدّ الطين الذي لا يُسجد عليه ما هو؟ فقال عليه السلام: إذا غرقت الجبهة، ولم تثبت على الأرض»(1).

وموثّقه الآخر، عنه عليه السلام: في الرّجل يصيبه المطر، وهو في موضعٍ لا يقدر أن يسجد فيه من الطين، ولا يجدُ موضعا جافّاً؟

قال عليه السلام: يفتتح الصَّلاة، فإذا ركع فليركع كما يركع إذا صَلّى ، فإذا رفع رأسه من الركوع فليؤمّ بالسجود إيماءً وهو قائمٌ يفعل ذلك حتّى يفرغ من الصَّلاة ويتشهّد وهو قائم»(2).

ومثله صحيح هشام(3).

وعليه، فلو لم يوجد إلّاالطين الذي لا يتمكّن الجبهة عليه، أومأ كما ذكره غير واحدٍ(4) لبدليّة الإيماء عن السّجود في كلّ مقامٍ يتعذّر فيه، وقد استدلّ له بالخبرين المتقدّمين.

ص: 389


1- الكافي: ج 3/390 ح 13، وسائل الشيعة: ج 5/143 أبواب مكان المُصلّي ب 15 ح 9 (6163).
2- التهذيب: ج 3/175 ح 3، وسائل الشيعة: ج 5/142 أبواب مكان المُصلّي ب 15 ح 4 (6158).
3- التهذيب: ج 2/312 ح 122، وسائل الشيعة: ج 5/142 أبواب مكان المُصلّي ب 15 ح 5 (6159).
4- المحقّق في الشرائع: ج 1/58، والشهيد الثاني في المسالك: ج 1/178، ونسبه الميرزا القمّي في غنائمه إلى المشهور، غنائم الأيّام: ج 2/617.

وفيه: إنّ موردهما ما إذا كان المُصلّي في الأرض ذات الطين، بحيث تتلطّخ به ثيابه في حال الجلوس للسجود والتشهّد، ولذا حكم عليه السلام بأنّه يتشهّد وهو قائم، ولا ربط لهما بما إذا كان مكانه جافّاً، وكان الطين في مسجد الجبهة.

وعن بعض الأعاظم رحمه الله(1): لزوم السّجدة في الفرض من غير اعتمادٍ، واستدلّ له بقاعدة الميسور.

وفيه: ما عرفت مراراً من أنّه لا يُعمل بها في أمثال المقام، ممّا يكون المعسور بعض ما يعتبر في الواجب.

***9.

ص: 390


1- ذكره الشيخ صاحب الجواهر في رسائله (مخطوط) ص 85، والسيّد اليزدي في العروة الوثقى: ج 2/396، مسألة 24 من فصل (مسجد الجبهة)، واستدلّ بقاعدة الميسور السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى 509.
في مراتب فضل السجود

الأمر الثالث: السّجود على الأرض أفضل منه على النبات والقرطاس لصحيح هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«السّجود على الأرض أفضل، لأنّه أبلغ في التواضع والخضوع للّه عزّ و جلّ »(1).

والتراب أفضل من الحَجَر، لما في خبر «دعائم الإسلام»:

«ينبغي للمُصلّي أن يُباشر بجبهته الأرض، ويعفّر وجهه في التراب، لأنّه من التذلّل للّه عزّ وجلّ »(2).

أقول: وأفضل ما يُسجد عليه التربة الحسينيّة، لخبر معاوية بن عمّار، قال:

«كان لأبي عبد اللّه عليه السلام خريطة ديباجٍ صَفراء فيها تربة أبي عبد اللّه عليه السلام، فكان إذا حضرته الصَّلاة صبّه على سجّادته وسجد عليه.

ثمّ قال عليه السلام: إنّ السّجود على تربة أبي عبد اللّه عليه السلام تخرق الحُجُب السّبع»(3).

وعن «إرشاد» الديلمي، قال: «كان الصادق عليه السلام لا يسجدُ إلّاعلى تربة الحسين عليه السلام تذلّلاً له واستكانةً إليه»(4).

ومرسل «الفقيه»، عن الإمام الصادق عليه السلام: «السّجود على طين قبر الحسين عليه السلام ينوّر إلى الأرضين السّبع»(5).

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة عليه.

***

ص: 391


1- الفقيه: ج 1/272 ح 843، وسائل الشيعة: ج 5/367 أبواب مكان المُصلّي ب 17 ح 1 (6810).
2- دعائم الإسلام: ج 1/178، مستدرك وسائل الشيعة: ج 4/14 أبواب ما يسجد عليه ب 10 ح 1 (4059).
3- مصباح المتهجّد ص 733، وسائل الشيعة: ج 5/366 أبواب ما يسجد عليه ب 16 ح 3 (6808).
4- إرشاد القلوب: ج 1/115، وسائل الشيعة: ج 5/366 أبواب مكان المُصلّي ب 16 ح 4 (6809).
5- الفقيه: ج 1/268 ح 829، وسائل الشيعة: ج 5/365 أبواب مكان المُصلّي ب 16 ح 1 (6806).

الفصل السادس: في الأذان والإقامة:

وهما مستحبّان في الصلوات الخمس، أداءً وقضاءً ، للمنفرد والجامع، رجلاً كان أو امرأة.

الفصل السادس في الأذان والإقامة

اشارة

وهما يُطلقان في عرف الشارع والمتشرّعة، على الأذكار الخاصّة التي شُرِّعت أمام الصَّلاة.

أقول: والنظر فيهما يقع في مواضع:

فيما يؤذّن له ويقام
اشارة

الموضع الأوّل: فيما يؤذّن له ويقام، (وهما مستحبّان في الصلوات الخمس أداءً وقضاءً ، للمنفرد والجامع، رجلاً كان أو امرأة) كما هو المنسوب إلى المشهور(1).

وعن الشيخين(2) وابن حمزة(3) وابن البرّاج(4): أنّهما واجبان في صلاة الجماعة.

وعن السيّد(5): القول بوجوب الإقامة في كلّ فريضةٍ على الرِّجال، والأذان والإقامة على الرِّجال والنساء في الصبح والمغرب والجمعة، وعلى الرِّجال خاصّة في الجماعة.

ص: 392


1- نسبه إلى المشهور المحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 2/167، والبهائي في الحبل المتين ص 207، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 2/163، والمحقّق النراقي في مستند الشيعة: ج 4/516.
2- المقنعة: ص 97، والنهاية: ص 64.
3- الوسيلة: ص 91.
4- المهذّب: ج 1/88.
5- رسائل المرتضى (جمل العلم والعمل): ج 3/30.

وعن ابن أبي عَقيل(1): يجبُ الأذان في الصبح والمغرب، والإقامة في جميع الصّلوات.

وعن ابن الجُنيد(2): أنّهما واجبان مطلقاً في الصبح والمغرب والجمعة، وتجبُ الإقامة في باقي الصلوات.

ومنشأ الاختلاف بينهم في الحكم اختلاف الأخبار، وقبل الشروع في بيان ما يُستفاد منها بعد الجمع، ينبغي تأسيس الأصل في المقام، ليكون هو المرجع عند فقد الدليل، فنقول:

تارةً : يشكّ في الوجوب.

واُخرى: يكون أصل الوجوب معلوماً، ويكون الشكّ في كونه شرطيّاً أو نفسيّاً.

أمّا الأوّل: فالأصل فيه هو البراءة، من غير فرقٍ بين أن يشكّ في الوجوب الشرطي أو النفسي، بناءً على ما هو الحقّ من جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين.

وأمّا الثاني: فقد يقال إنّ مقتضى الأصل عدم الاكتفاء بالصَّلاة بدونهما، لأنّ العلم الإجمالي أوجب تنجّز الواقع على ما هو عليه.

وفيه: إنّ العلم الإجمالي بأحد الوجوبين، ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب الإتيان بهما، والشكّ في تقيّد الصَّلاة بهما، فتجري البراءة عن ذلك.

وبعبارة اُخرى: الوجوبان يشتركان في الآثار، إلّاأنّ الوجوب الشرطي يختصّ بأثرٍ زائد، وهو عدم الاكتفاء بالصَّلاة بدونها، وتقيّد الصَّلاة بهما، فتجري البراءة عن هذا الأثر الزائد المشكوك فيه، وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إليمحلّه.5.

ص: 393


1- حكاه عنه العلّامة الحِلّي في المختلف: ج 2/136 و 135.
2- حكاه عنه العلّامة الحِلّي في المختلف: ج 2/136 و 135.

فانقدح بما ذكرناه أنّه يكفي للحكم بعدم الوجوب، وعدم تقيّد الصَّلاة بهما، مجرّد عدم الدليل.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّه يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في الأذان.

الثاني: في الإقامة.

***

ص: 394

استحباب الأذان مطلقاً
اشارة

المقام الأوّل: الأقوى استحباب الأذان مطلقاً كما هو المشهور، وتشهد له النصوص الدالّة على أنّ من صَلّى بأذانٍ وإقامةٍ صَلّى خلفه صفّان من الملائكة، ومن صَلّى بإقامة بلا أذانٍ صَلّى خلفه صفٌّ واحد(1)، فإنّها صريحة في أنّ ترك الأذان، إنّما يوجب فوات بعض مراتب كمال الصَّلاة، دون الصحّة.

أقول: واستدلّ للقول بوجوبه مطلقاً بموثّق عمّار، قال:

«سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لابدَّ للمريض أن يُؤذِّن ويُقيم، لأنّه لا صلاة إلّا بأذانٍ وإقامة»(2). وقريب منه غيره.

وفيه: إنّه لابدّ من رفع اليد عن ظهور هذه النصوص، وحملها على الاستحباب لما تقدّم، وللنصوص المرخّصة في تركه، كصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل هل يُجزيه في السفر والحضر إقامةٌ ليس معها أذان ؟ قال عليه السلام: نعم لا بأس به»(3).

واستدلّ الشيخ في «التهذيب»(4) على وجوبه في الجماعة، بخبر أبي بصير، عن أحدهما عليه السلام، قال:

«سألته أيجزي أذانٌ واحد؟

ص: 395


1- كصحيحة محمّد بن مسلم، قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: «إذا أنت أذّنت وأقمت صَلّى خلفك صفّان من الملائكة، وإن أقمت إقامة بغير أذان صَلّى خلفك صفٌّ واحد»، التهذيب: ج 2/52 ح 14، وسائل الشيعة: ج 5/371، أبواب الأذان والإقامة ب 4 ح 2 (6850).
2- التهذيب: ج 2/282 ح 25، وسائل الشيعة: ج 5/444 أبواب الأذان ولإقامة ب 35 ح 2 (7044).
3- التهذيب: ج 2/51 ح 11، وسائل الشيعة: ج 5/384 أبواب الأذان والإقامة ب 5 ح 3 (6861).
4- التهذيب: ج 2/50، ذيل ح 3.

قال: إنْ صلّيت جماعةً لم يجز إلّاأذان وإقامة، وإنْ كنتَ وحدك تبادر أمراً تخاف أن يفوتك، يُجزئك إقامة إلّاالفجر والمغرب، فإنّه ينبغي أن تؤذّن فيها وتُقيم من أجل أنّه لا يقصر فيهما كما يقصر في سائر الصلوات»(1).

وأورد عليه صاحب «المدارك» رحمه الله(2): بضعف السند، وقصور الدلالة؛ لأنّ الإجزاء كما يجوز أن يُراد به الإجزاء في الصحّة، كذلك يجوز أن يكون المراد الإجزاء في الفضيلة.

وفيه: إنّ تضعيف السند، مع كون الخبر ممّا رواه الكليني رحمه الله في «الكافي»(3)، واستدلّ الشيخ رحمه الله به، في غير محلّه.

كما أنّ حمل الإجزاء على الإجزاء في الفضيلة وإنْ كان ممكناً، إلّاأنّه خلاف الظاهر، لا يُصار إليه إلّامع القرينة.

فالأولى أن يُجاب عنه: بأنّ الخبر معارَضٌ بصحيح علي بن رئاب:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام قلتُ : تحضر الصَّلاة ونحنُ مجتمعون في مكانٍ واحد، أتجزءنا إقامة بغير أذان ؟ قال عليه السلام: نعم»(4).

وخبر الحسن بن زياد، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: إذا كان القوم لا ينتظرون أحداً اكتفوا بإقامةٍ واحدة»(5).

أقول: والجمع بينهما وبين الخبر، يقتضي حمله على تأكّد الاستحباب.

وممّا ذكرناه ظهر أنّه لا يصحّ الاستدلال لهذا القول بما في صحيح عبد اللّه بن).

ص: 396


1- التهذيب: ج 2/50 ح 3، وسائل الشيعة: ج 5/388 أبواب الأذان والإقامة ب 7 ح 1 (6876).
2- مدارك الأحكام: ج 3/259.
3- الكافي: ج 3/303 ح 9.
4- قرب الإسناد ص 76، وسائل الشيعة: ج 5/385 أبواب الأذان والإقامة ب 5 ح 10 (6868).
5- التهذيب: ج 2/50 ح 4، وسائل الشيعة: ج 5/385 أبواب الأذان والإقامة ب 5 ح 8 (6866).

سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«يجزؤك إذا خلوت في بيتك إقامة واحدة بغير أذان»(1).

لتعيّن حمله على الإجزاء في الفضيلة للخبرين المتقدّمين

وأمّا ما في صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه عليهما السلام: «أنّه كان إذا صَلّى وحده في البيت أقام إقامةً ولم يؤذِّن»(2).

فغير ظاهر فيه في نفسه، لإجماله من حيث الوجوب والاستحباب.

وأمّا موثّق عمّار، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يؤذّن ويُقيم ليُصلّي وحده، فيجيءُ رجلٌ فيقول له: نُصلّي جماعةً ، هل يجوزُ أن يُصلّيا بذلك الإذن والإقامة ؟

فقال عليه السلام: لا، ولكن يؤذِّن ويُقيم»(3).

فهو في مقام بيان الاكتفاء بما أتى به للصَّلاة سابقاً، عمّا يكون مشروعاً في الجماعة، ولو على سبيل الاستحباب، وليس في مقام جعل الوجوب لهما في الجماعة.

مع أنّه لو سُلّم ظهورهما في اعتباره فيها، تعيّن حملهما على الاستحباب، لصحيح ابن رئاب، وخبر الحسن المتقدّمين، وبهما تندفع دعوى(4) إنّ الجماعة عبادة توقيفيّة، ولم يثبُت جوازها بلا أذانٍ وإقامة، فيرجع إلى أصالة الاحتياط.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ القول بوجوبه في الجماعة مطلقاً لا وجه له. ومنه يظهر أنّ القول بوجوبه فيها لخصوص الرِّجال أيضاً غير تامّ ، إذ لا مدرك له سوى ما ذُكر، بضميمة ما دلَّ على عدم وجوبه على النساء.

أقول: وأمّا القائلون بوجوبه في المغرب والصبح(5) فاستدلّوا له بجملةٍ ث.

ص: 397


1- التهذيب: ج 2/50 ح 6، وسائل الشيعة: ج 5/384 أبواب الأذان والإقامة ب 5 ح 4 (6862).
2- التهذيب: ج 2/50 ح 5، وسائل الشيعة: ج 5/385 أبواب الأذان والإقامة ب 5 ح 6 (6864).
3- التهذيب: ج 2/277 ح 3، وسائل الشيعة: ج 5/432 أبواب الأذان والإقامة ب 27 ح 1 (7009).
4- جواهر الكلام: ج 13/174.
5- ابن عقيل العماني، وتقدّم تخريجه أوّل البحث.

من النصوص:

منها: صحيح صفوان بن مهران، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: الأذان مثنى مثنى، والإقامة مثنى مثنى، ولابدّ في الفجر والمغرب من أذانٍ وإقامة في الحَضَر والسَّفر، لأنّه لا يقصر فيهما في حَضَر ولا سَفر، وتجزؤك إقامةٌ بغير أذان في الظهر والعصر والعشاء الآخرة، والأذان والإقامة في جميع الصلوات أفضل»(1).

ومنها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «تُجزئك في الصَّلاة إقامةٌ واحدة، إلّا الغداة والمغرب»(2).

ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «أدنى ما يُجزي من الأذان أنْ تفتتح اللّيل بأذانٍ وإقامة، وتفتتح النّهار بأذانٍ وإقامة، ويُجزيك في سائر الصلوات إقامة بغير أذان»(3). ونحوها غيرها.

وظهور هذه النصوص في اعتبار الأذان في الصبح والمغرب، وإنْ كان لا يُنكر، إلّا أنّه لابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور، وحمل النصوص على تأكّد الاستحباب في المغرب، لمعارضتها فيها مع صحيح عمرو بن يزيد:

«قال: سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الإقامة بغير الأذان في المغرب ؟ فقال: ليس به بأس وما أحبّ أن يُعتاد»(4).

ولأجل اشتمال النصوص على تعليل الحكم في الصبح والمغرب بشيء واحد، يتعيّن حملها على الاستحباب في الصبح أيضاً، مضافاً إلى عدم القول بالفصل بينهما، مضافاً إلى أنّ بعض تلك النصوص ظاهرٌ في الاستحباب فيهما، كخبر أبي بصير المتقدّم، المشتمل على لفظ (ينبغي).).

ص: 398


1- علل الشرائع: ج 2/337 ح 1، وسائل الشيعة: ج 5/386 أبواب الأذان والإقامة ب 6 ح 2 (6870).
2- التهذيب: ج 2/51 ح 8، وسائل الشيعة: ج 5/387 أبواب الأذان والإقامة ب 6 ح 4 (6872).
3- الفقيه: ج 1/286 ح 885، وسائل الشيعة: ج 5/386 أبواب الأذان والإقامة ب 6 ح 1 (6869).
4- التهذيب: ج 2/51 ح 9، وسائل الشيعة: ج 5/387 أبواب الأذان والإقامة ب 6 ح 6 (6874).

مع أنّ النسبة بين هذه النصوص، وبين ما دلَّ على عدم وجوبه في جميع الصلوات للمنفرد، عمومٌ من وجه، وحيثُ إنّ حمل هذه على تأكّد الاستحباب أهون من حمل تلك النصوص على غير الفجر والمغرب، فيتعيّن التصرّف فيها.

ودعوى بعض المحقّقين رحمه الله(1): من إنّ هذه النصوص تعارض ما دلَّ على عدم وجوبه مطلقاً، وحملها على تأكّد الاستحباب أهون من حمل المطلقات على غير الفجر والمغرب.

مندفعٌ : بأنّ النسبة بين الطائفتين عموم مطلق، وظهور المقيّد مقدّمٌ على ظهور المطلق مطلقاً.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: إنّه لا دليل على وجوبه في شيء من الصلوات، وأنّ الأقوى استحبابه في جميعها للرِّجال والنساء، وما يكون ظاهراً في عدم مشروعيّته لهنّ كصحيح جميل بن درّاج، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة هل عليها أذان وإقامة ؟ فقال عليه السلام: لا»(2).

يُحمل على عدم تأكّد الاستحباب، لصحيح ابن سنان، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة تؤذّن للصّلاة ؟

فقال: حَسَنٌ إنْ فَعَلت، وإنْ لم تفعل أجزأها أن تُكبّر وتَشهد أنْ لا إله إلّااللّه، وأنّ محمّداً رسول اللّه»(3). ونحوه غيره.

هذا مضافاً إلى عدم الخلاف في مشروعيّته لهنّ جماعةً وفُرادى ، وعن غير واحدٍ(4) دعوى الإجماع عليه.1.

ص: 399


1- المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه: ج 11/216.
2- الكافي: ج 3/305 ح 18، وسائل الشيعة: ج 5/406 أبواب الأذان والإقامة ب 14 ح 3 (6939).
3- التهذيب: ج 2/58 ح 42، وسائل الشيعة: ج 5/405 أبواب الأذان والإقامة ب 14 ح 1 (6937).
4- كالمحقّق في المعتبر: ج 2/126، والعلّامة في المنتهى: ج 4/397، والشهيد الأوّل في الذكرى : ص 172، والفاضل الإصبهاني في كشف اللّثام: ج 3/352، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/361.

بشرط أن تستر.

أقول: بقي الكلام فيما صرّح به المصنّف رحمه الله في المقام، ونسبه في «التذكرة»(1) إلى علمائنا بقوله: (بشرط أن تستر) المرأة، والظاهر أنّ مراده به إخفاء صوتها عن الأجانب.

واستدلّ له في «المنتهى»(2): بأنّ صوتها عورة، فلو جَهَرت ارتكبت معصيةً ، فلذا لا يعتدّ الرِّجال بأذان النساء، لأنّها إنْ جَهَرت فَسَد الأذان؛ لأنّه معصية، والنهي يدلّ على الفساد، وإلّا لا يُجزء لعدم السماع.

والظاهر أنّه لا دليل لهم في هذا الشرط، سوى ذلك، وهو فاسدٌ؛ لعدم كون صوتها عورة، لما ورد من تكلّم النساء مع الرجال في مجالس المعصومين عليهم السلام، وتكلّم الصدِّيقة الطاهرة عليها السلام مع جملةٍ من الصحابة، وخروجها للمخاصمة في قضيّة فدك إلى المسجد وكان فيه من الصحابة جمعٌ غفير، وخطبتها الطويلة مشهورة عند الفريقين، وأيضاً تحيّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام للنساء وجوابهنّ لهما، فعلى هذا لا وجه لهذا الشرط.

وعليه، فما عن الشيخ في «المبسوط»(3): (إذا أذّنتِ المرأة للرِّجال جازَ لهم أن يعتدّوا ولا يُقيموا) هو الأقوى ، واعتراض المصنّف في «المنتهى»(4)، والمحقّق في «المعتبر»(5) عليه بأنّها إنْ أجهرت فهو منهيٌّ عنه، والنهيّ يدلّ على الفساد، ضعيفٌ .

***7.

ص: 400


1- تذكرة الفقهاء: ج 3/62 (مسألة 171).
2- منتهى المطلب: ج 4/398.
3- المبسوط: ج 1/97.
4- منتهى المطلب: ج 4/397.
5- المعتبر: ج 2/127.
الأذان لصلاة القضاء

ثمّ إنّه قد ذكرنا فيما سبق أنّه لا فرق في استحباب الأذان للفرائض اليوميّة، بين كونها أداءً أو قضاءً ، وهذا فيما لو أتى بكلّ صلاةٍ وحدها ممّا لا شبهة فيه ولا خلاف، ويشهد به صحيح زرارة المتضمّن حكاية الإمام الباقر عليه السلام نوم النبيّ صلى الله عليه و آله في بعض أسفاره في معرسه حتّى طلعت الشمس، حيث قال صلى الله عليه و آله: «يا بلال أذِّن، فأذَّن، وصَلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ركعتي الفجر وأمر الصحابة فصلّوا ركعتي الفجر، ثمّ قام فصلّى بهم الصبح»(1).

وقال الشهيد رحمه الله في محكي «الذكرى»(2) بعد نقل الخبر: إنّ فيه فوائد، وعَدَّ منها استحباب الأذان للفائتة.

أقول: ولا خلاف أيضاً في استحبابه للصَّلاة الأُولى، لمن قصد إتيان الفوائت مرّة واحدة، وتشهد له جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ صَلّى الصلوات وهو جنبٌ اليوم واليومين والثلاثة، ثمّ ذكر بعد ذلك ؟

قال عليه السلام: يتطهّر ويؤذّن ويُقيم في اُولاهن ثمّ يُصلّي ويُقيم بعد ذلك في كلّ صلاة، بغير أذان حتّى يقضي صلاته»(3).

ومنها: صحيحه الآخر، عن الإمام الباقر عليه السلام: «سألته عن الرّجل يُغمى عليه ثمّ يفيق ؟ قال عليه السلام: يقضي ما فاته، يؤذِّن في الأُولى ويُقيم في البقيّة»(4).

ص: 401


1- وسائل الشيعة: ج 4/285 ح 5175.
2- ذكرى الشيعة: ص 134 (ط. ق).
3- التهذيب: ج 3/159 ح 3، وسائل الشيعة: ج 8/254 أبواب قضاء الصلوات ب 1 ح 3 (10567).
4- التهذيب: ج 3/304 ح 14، وسائل الشيعة: ج 8/265 أبواب قضاء الصلوات ب 4 ح 2 (10606).

ومنها: صحيح زرارة، عنه عليه السلام، قال: «إذا نسيتَ صلاة أو صلّيتها بغير وضوء، كان عليك قضاء صلواتٍ ، فابدأ باُولاهنّ فأذّن لها وأقم، ثمّ صَلِّ ما بعدها بإقامةٍ لكلّ صلاة»(1).

وإنّما الخلاف في مشروعيّته مع الجمع لما عدا الصَّلاة الأُولى ، فالمنسوب إلى المشهور(2) استحبابه لكلّصلاة، وعن جماعةٍ - منهم صاحب «المدارك» رحمه الله(3) - العدم.

واستدلّ للمشهور:

1 - بقوله عليه السلام: «مَنْ فاتته فريضةٌ فليقضها كما فاتته»(4). وقد كان في حكم الفائتة استحباب تقديم الأذان والإقامة، فكذلك في القضاء.

2 - وبموثّق عمّار، قال: «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل إذا أعاد الصَّلاة، هل يعيد الأذان والإقامة ؟ قال: نعم»(5).

فإنّه بإطلاقه يدلّ على استحبابهما للمعادة، سواءٌ أكانت أداءً أو قضاءً ، وحدها أو مع غيرها.

3 - وبإطلاق ما دلَّ على مشروعيّته للفرائض.

4 - وبالإجماع.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الإجماع: فلما عرفت مراراً من عدم حجيّة المنقول منه، لا سيّما مع الخلاف،).

ص: 402


1- التهذيب: ج 3/158 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/290 أبواب المواقيت ب 63 ح 1 (5187).
2- الخلاف: ج 1/284، ونسبه إلى المشهور المحدِّث البحراني في الحدائق الناضرة: ج 7/372، والسيّد الطباطبائي في الرياض: ج 3/314.
3- مدارك الأحكام: ج 3/262.
4- أوردها بهذه الصيغة الشيخ الطوسي في التهذيب: ج 3/164، ذيل الحديث 14، والخبر هو خبر حريز كماأورده نفسه هكذا: (قلتُ له: رجلٌ فاتته صلاة من صلاة السَّفر فذكرها في الحَضَر، فقال: يقضي ما فاته كما فاته»، (التهذيب: ج 3/163 ذيل الحديث 14)، وأورده نبويّاً ابن أبي جمهور في غوالي اللآلي: ج 2/54 ح 143.
5- التهذيب: ج 3/167 ح 28، وسائل الشيعة: ج 8/270 أبواب قضاء الصلوات ب 8 ح 2 (10628).

خصوصاً مع وجود مدركٍ غيره.

وأمّا إطلاق ما دلَّ على المشروعيّة: فلعدم كون المطلقات في مقام البيان حتّى بالنسبة إلى القضاء.

مضافاً إلى أنّه لو سُلّم الإطلاق، لابدَّ من تقييدها بالنصوص المتقدّمة، الدالّة على سقوط الأذان عمّا عدا الأُولى .

ودعوى: ورودها مورد الرّخصة والتخفيف، ولا تنافي المشروعيّة.

مندفعة: بأنّه لو كان الأذان واجباً ولو في خصوص الأولى منها، كان ما ذكر متيناً، ولكن بما أنّه مستحبٌّ مطلقاً، ولا كُلفة فيه في نفسه، فمن الأمر بالصَّلاة بدونه يستفاد عدم الاستحباب.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر ما في الاستدلال بقوله عليه السلام: «من فاتته... إلى آخره»، فإنّه على فرض تماميّته سنداً ودلالةً ، لابدَّ من تقييده بالنصوص المتقدّمة.

ودعوى بعض أعاظم المحقّقين رحمه الله(1): من أنّ الظاهر منه إرادة المماثلة في الأجزاء والشرائط الداخلة في حقيقة الصَّلاة، لا الخارجة عنها كالأذان والإقامة.

مندفعة: بأنّ الظاهر منه إرادة المماثلة في كلّ ما يكون موجباً لصحّة الصَّلاة، أو كمالها، ومنه الأذان والإقامة.

وأمّا موثّق عمّار: فلعدم ظهوره في المتعدّد، مع أنّه لا إطلاق له من حيث القضاء والأداء كي يتمسّك به، لوروده في مقام بيان عدم إجزاء الأذان والإقامة المأتي بهما سابقاً عن الأذان والإقامة المشروعين للصَّلاة المُعادة.

فتحصّل: أنّ الأقوى ما ذكره صاحب «المدارك» من عدم مشروعيّة الأذان لغير الصَّلاة الأُولى .

***5.

ص: 403


1- المحقّق الهمداني رحمه الله في مصباح الفقيه: ج 11/235.
البحث عن الإقامة
اشارة

المقام الثاني: في الإقامة.

والأقوى استحبابها أيضاً كما هو المشهور.

ويشهد له: - مضافاً إلى الأصل، وما ادّعاه في «المختلف» من الإجماع المركّب، وعدم القول بالفصل، إذ كلّ مَن اختار استحباب الأذان مطلقاً اختار استحبابها، ومن ذهب إلى وجوبها اختار وجوب الأذان في الجملة، فالتفصيل خرقٌ للإجماع، وحيثُ أثبتنا استحباب الأذان، فالإقامة تكون كذلك -.

ما دلَّ من النصوص(1) على أنّ مَن صَلّى بإقامةٍ بلا أذانٍ صَلّى خلفه صفٌّ واحد أو ملكان أو ملكٌ ، إذ هذه النصوص ظاهرة في أنّ فائدة الإقامة صيرورة المُصلّي إماماً للملائكة، وأنّه بتركها تفوت منه هذه الفائدة العظمى ، فيستفاد منها كون الصَّلاة مع عدمها واجدة لجميع ما يعتبر في صحّتها.

وإنْ شئتَ قلت: إنّها بالمفهوم تدلّ على أنّ مَن صَلّى بلا إقامة صَلّى وحده، ولم يُصلِّ أحدٌ خلفه، فتدلّ على صحّة الصَّلاة بدونها مع اشتمالها على الترغيب من دون ترهيب، فيكون ظاهراً في الاستحباب.

واستدلّ له: بصحيح زرارة - أو حسنه - عن أبي جعفر عليه السلام: «عن رجلٍ نَسي الأذان والإقامة حتّى دخل في الصَّلاة ؟ قال عليه السلام: فليمضِ في صلاته، فإنّما الأذان سُنّة»(2) بناءً على أنّ المراد من الأذان ما يعمّ الإقامة بقرينة السؤال.

ص: 404


1- كصحيحة محمّد بن مسلم، قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: (إذا أنت أذّنت وأقمت صَلّى خلفك صفّان من الملائكة، وإنْ أقمتَ إقامة بغير أذان صَلّى خلفك صفٌّ واحد)، التهذيب: ج 2/52 ح 14، وسائل الشيعة: ج 1/37 أبواب الأذان والإقامة ب 4 ح 2 (6850).
2- التهذيب: ج 2/285 ح 41، وسائل الشيعة: ج 5/434 أبواب الأذان والإقامة ب 29 ح 1 (7013).

وفيه: عدم ظهور السُنّة في المندوب، لاحتمال كون المراد بها ما ثبت وجوبه بغير الكتاب، كما اُطلقت على (القراءة) بذلك المعنى .

ودعوى: أنّ إرادة الواجب من السُنّة إنْ كانت محتملة، فهي بالنسبة إلى الإقامة لا الأذان، للإجماع على عدم وجوبه في غير الفجر والمغرب للمنفرد، فلا محيص عن إرادة المندوب بها، إذ إرادة الواجب بالنسبة إلى الإقامة، والمندوب بالسُنّة إلى الأذان، مستلزمةٌ لاستعمال اللّفظ في معنيين، وإرادة القدر المشترك بها خلاف المتعارف.

مندفعة: بما ذكرناه مراراً من إنّ الوجوب والاستحباب خارجان عن حريم المستعمل فيه، وإنّما هما ينتزعان من ترخيص الشارع في ترك المأمور به وعدمه.

وعليه، فالمراد بالسُنّة ما ثبت مشروعيّته بغير الكتاب، وهذا المعنى يلائم مع استحباب الأذان ووجوب الإقامة، فهذا الخبر بنفسه لا يدلّ على عدم وجوب الإقامة.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يُقال: إنّ لازم ذلك حمل التعليل على التعبّد، وهو خلاف الظاهر، وهذا بخلاف ما لو اُريد بها المندوب، أي ما ثبت مشروعيّته مع الترخيص في تركه.

وعن الشيخ(1) والحِلّي(2): الاستدلال له بخبر أبي بصير:

«عن رجلٍ نَسى أن يُقيم للصَّلاة(3) حتّى انصرف ؟

قال عليه السلام: لا يُعيدها ولا يعود لمثلها»(4).

بدعوى حمل النسيان على الترك العمدي، بقرينة النهي عن العود لمثلها.

وفيه: إنّ عدم الإعادة لا يُلازم عدم الوجوب، لإمكان أنْ يكون واجباً نفسيّاً.).

ص: 405


1- الشيخ في التهذيب: ج 2/279.
2- المحقّق الحِلّي في المعتبر: ج 2/130.
3- في المصدر: «يُقيم الصَّلاة».
4- التهذيب: ج 2/279 ح 11، وسائل الشيعة: ج 5/433 أبواب الأذان والإقامة ب 28 ح 2 (7011).
أدلّة وجوب الإقامة

واستدلّ للقول بوجوبها: بطوائف من النصوص:

منها: ما دلَّ على إنّ الإقامة أدنى ما يُجزي(1)، وقد تقدّم بعضه.

وفيه: إنّ مفاد هذه النصوص عدم الاكتفاء عن المشروع بأقلّ من الإقامة، وأمّا كون المشروع واجباً أم مندوباً، فهذا التعبير أجنبيٌ عنه.

ودعوى: أنّ عدم إجزاء الصَّلاة بدون الإقامة في إسقاط التكليف المتعلّق بالصَّلاة، مستلزمٌ لوجوبها.

مندفعة: بأنّ مفاد الأخبار ليس عدم الإجتزاء بالصَّلاة بدونها، و إنّما مفادها عدم الإجتزاء بأقلّ منها في الخروج عن الأمر المتعلّق بالافعال المخصوصة قبل الصَّلاة.

وما قيل من إشعار هذا التعبير بالوجوب ضعيفٌ ، لكثرة استعمال هذه الكلمة في المستحبّات، حيث يظهر لمن تتبّع في الأخبار.

وقيل(2): يؤيّد ما ذكرناه، قوله عليه السلام في خبر سماعة: «ورَخَّص في سائر الصلوات بالإقامة، والأذانُ أفضل»(3) حيث أنّه يدلّ على إنّ الأصل الأذان معها، ومعلوم أنّ أصالته إنّما تكون في تمام الفضل لا في الوجوب، فتتبعه الرخصة حينئذٍ.

ومنها: النصوص المتضمّنة للأمر بقطع الصَّلاة عند نسيان الإقامة لتداركها(4)،

ص: 406


1- كصحيح زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام: (أدنى ما يجزي من الأذان أن تفتتح اللّيل بأذان وإقامة، وتفتتح النهار بأذان وإقامة، ويجزيك في سائر الصلوات إقامة بغير أذان)، الفقيه ج 1/286 ح 885، وسائل الشيعة: ج 5/386 أبواب الأذان والإقامة ب 6 ح 1 (6869).
2- قاله المحقّق الهمداني قدس سره في مصباح الفقيه: ج 11/224.
3- التهذيب: ج 2/51 ح 7، وسائل الشيعة: ج 5/384 أبواب الأذان والإقامة ب 5 ح 5 (6863).
4- كرواية زيد الشحّام أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام: (عن رجل نسي الأذان والإقامة حتّى دخل في الصَّلاة ؟ فقال: إن كان ذكر قبل أن يقرأ فليصلِّ على النبيّ وآله وليقم، وإنْ كان قد دخل في القراءة فليتمّ صلاته)، الفقيه: ج 1/289 ح 893، وسائل الشيعة: ج 5/436 أبواب الأذان والإقامة ب 29 ح 9 (7021).

ولولا وجوبها لما جاز قطعها - المحرّم في نفسه - لأجل تداركها.

وفيه: أنّه يمكن أنْ يكون قطع الصَّلاة لدرك فضيلة الإقامة جائزاً، كما يجوز لفائدةٍ دنيويّة، فجواز قطعها أو استحبابه لا يستلزم وجوبها، لئلّا ينافي مع القاعدة العقليّة الحاكمة بعدم جواز ارتكاب الحرام لدرك المستحبّ .

ودعوى: إنّ الأمر بالقطع ظاهرٌ فى وجوبه، ولولا وجوبها لما وجب القطع لتدراكها.

مندفعة: بأنّ هذا الأمر لوروده مورد توهّم المنع لا يكون ظاهراً في الوجوب.

ومنها: ما تضمّن الأمر بها، كموثّق عمّار: «إذا قُمتَ إلى صلاة فريضةٍ ، فأذّن وأقم، وأفصل بين الأذان والإقامة بقعود أو كلام أو تسبيح»(1).

وخبر سماعة: «لا تُصلِّ الغداة والمغرب إلّابأذانٍ وإقامة، ورَخّص في سائر الصلوات بالإقامة، والأذان أفضل»(2) ونحوهما غيرهما.

وأجاب بعض الأعاظم رحمه الله(3): عن هذه النصوص بأنّ هذا النوع من الأخبار بعد صرفها عن ظاهرها في الأذان، لا يبقى لها ظهورٌ في الوجوب بالنسبة إلى الإقامة.

وفيه: بما إنّ الوجوب والندب خارجان عن مدلول الأمر، بل الأمر فيهما يستعمل في معنى واحد، فلا مانع من التفكيك بينهما، لأجل الترخيص في ترك الأذان خاصّة.

والحقّ في الجواب: عن هذه النصوص، إنّها بالنسبة إلى الإقامة أيضاً محمولة على الاستحباب، لما عرفت من الدليل على عدم وجوبها، فيجمع بينهما بالحمل على الاستحباب.4.

ص: 407


1- التهذيب: ج 2/49 ح 2، وسائل الشيعة: ج 5/397 أبواب الأذان والإقامة ب 11 ح 4 (6909).
2- التهذيب: ج 2/51 ح 7، وسائل الشيعة: ج 5/387 أبواب الأذان والإقامة ب 6 ح 5 (6873).
3- هو المحقّق الهمداني قدس سره في مصباح الفقيه: ج 11/224.

ومنها: ما دلَّ على لزوم مراعاة الشرائط المعتبرة في الصَّلاة حال الإقامة(1).

وفيه: إنّ ذلك أعمٌّ من المدَّعى، إذ مفاد هذه النصوص اعتبار هذه الاُمور في الإقامة، وهو لا ينافي استحبابها.

ومنها: ما دلَّ على أنّه لا أذان ولا إقامة على النساء، كصحيح جميل المتقدّم(2)، المحمول على نفي اللّزوم لما دلَّ على مشروعيّتها لهنّ ، كقول الإمام الصادق عليه السلام في مرسل الصدوق: «ولكن إنْ أذَّنَتْ وأقامتْ فهو أفضل»(3) ى، فهذه النصوص تدلّ بالمفهوم على اللّزوم للرِّجال.

وفيه - مضافاً إلى عدم حجيّة مفهومها، لعدم كونه من مفهوم الشرط، بل هو مندرجٌ في مفهوم اللّقب - إنّ غاية ما يستفاد من هذه النصوص، اختلاف الرِّجال مع النساء في مرتبة المشروعيّة، وآكديّتها للرِّجال، وحينئذٍ فكما يمكن أنْ يكون ذلك بوجوبها لهم، واستحبابها لهنّ ، كذلك يمكن أنْ يكون بتأكّد استحبابها لهم وعدمه للنساء.

مع أنّه لو سُلّم ظهورها في الوجوب، لابدَّ من صرفها عن ظاهرها، لما دلَّ على عدم وجوبها.

ومنها: ما دلَّ على إنّ الإقامة من الصَّلاة، كخبر أبي هارون:

«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: يا أبا هارون الإقامة من الصَّلاة، فإذا أقمت فلا تتكلّم ولا تؤمئ بيدك»(4).).

ص: 408


1- كالطهارة مثلاً، ففي الخبر المرويّ عن قرب الإسناد: (عن المؤمن يَحْدُث في أذانه وفي إقامته ؟ فقال: إن كان الحَدَث في الأذان فلا بأس، وإنْ كان في إقامته فليتوضّأ وليقم إقامة)، وسائل الشيعة: ج 5/393 ح 6891.
2- تقدّم ص 248، راجع الكافي: ج 3/305 ح 18، وسائل الشيعة: ج 5/406 أبواب الأذان والإقامة ب 14 ح 3 (6939).
3- الفقيه: ج 1/298 ح 909، وسائل الشيعة: ج 5/406 أبواب الأذان والإقامة ب 14 ح 5 (6941).
4- الكافي: ج 3/305 ح 20، وسائل الشيعة: ج 5/396 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 12 (6904).

ونحوه خبر أبي يونس(1)، وسليمان بن صالح(2).

وفيه: مضافاً إلى ضعف سندها، إنّها لا تكون في مقام البيان من جهة الوجوب، كي يتمسّك بإطلاق التنزيل، والقدر المتيقّن غيره، كحرمة الكلام ونحوها، مع معارضتها بما دلَّ على أنّ افتتاحها التكبير.

ومنها: ما دلَّ على إنّه لا صلاة إلّابإقامة، كموثّق عمّار، قال:

«سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام: يقول لابدَّ للمريض أن يُؤذِّن ويُقيم إذا أراد الصَّلاة، ولو في نفسه، إنْ لم يقدر على أن يتكلّم.

سُئلَ : وإنْ كان شديد الوجع ؟ قال عليه السلام: لابدّ من أن يؤذِّن ويُقيم، لأنّه لا صلاة إلّا بأذانٍ وإقامة»(3).

وفيه: أنّه بعدما ثبت استحباب الأذان، لابدَّ من حمل النفي على نفي الكمال بالإضافة إليه، فبالإضافة إلى الإقامة أيضاً لا محيص عن ذلك، لاستلزام حمله على نفي الصحّة، استعماله في أكثر من معنى واحد.

مضافاً إلى أنّه لو سُلّم ظهور هذه النصوص في نفي الصحّة بالإضافة إليها، لابدَّ من صرف ظهورها، لما دلَّ على عدم وجوبها.

فتحصّل ممّا ذكرناه: استحباب الأذان والإقامة مطلقاً.).

ص: 409


1- الظاهر أنّ المراد هو خبر يونس الشيباني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: (إذا أقمت الصَّلاة فقم مترسّلاً فإنّك في الصَّلاة)، التهذيب: ج 2/282 ح 27، وسائل الشيعة: ج 5/403 أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 9 (6930).
2- عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: (لا يُقيم أحدكم الصَّلاة وهو ماش ولا راكب ولا مضطجع إلّاأن يكون مريضاً وليتمكّن في الإقامة كما يتمكّن في الصَّلاة، فإنّه إذا أخذ في الإقامة فهو في الصَّلاة)، الكافي: ج 3/306 ح 21، وسائل الشيعة: ج 5/404 أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 12 (6933).
3- التهذيب: ج 2/282 ح 25، وسائل الشيعة: ج 5/444 أبواب الأذان والإقامة ب 35 ح 2 (7044).

ويتأكّدان في الجهريّة خصوصاً في الغداة والمغرب.

قال المصنّف رحمه الله: (ويتأكّدان) استحباباً (في الجهريّة، خصوصاً في الغداة والمغرب) بلا خلافٍ ، بل عن «الغُنية»(1) دعوى الإجماع عليه.

وتشهد له في الأذان في الغداة والمغرب النصوص المتقدّمة.

وأمّا في الإقامة والأذان في العشاء، فلا مستند له سوى الإجماع المنقول.

***3.

ص: 410


1- الغنية: ج 2/72-73.
مسألتان:
موارد سقوط الأذان

مسألتان:

الأُولى : يسقط الأذان وحده في موارد:

المورد الأوّل: عصر يوم الجمعة إذا جُمعت مع الجمعة أو الظهر كما هو المشهور، بل نُسب إليهم(1) سقوطه في حال الجمع مطلقاً، وقيل(2) بسقوطه في حال الجمع المستحبّ .

وقوّى في «الجواهر»(3) تخصيص السقوط بيوم الجمعة، فيما لو جمعت مع الجمعة، وعن غير واحدٍ(4) دعوى الإجماع عليه في هذا المورد.

أقول: وما استدلّ به لهذا الحكم اُمور:

الدليل الأوّل: الإجماعات المنقولة: وهي على فرض حجيّتها مختصّة بعصر يوم الجمعة إذا جُمِعت مع الجمعة.

الدليل الثاني: رواية حفص بن غياث، عن جعفرٍ، عن أبيه عليه السلام: «الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة»(5) بناءً على أنّ المراد منه أذان العصر، لأنّه ثالث الأذانين للظهر والصبح.

وفيه: إنّ هذه الرواية - مضافاً إلى ضعف سندها - مجملة تتطرّق فيها احتمالات،

ص: 411


1- نسبه الشهيد في الذكرى : ص 174، والكركي في جامع المقاصد: ج 2/170، والشهيد الثاني في روض الجنان: ص 240.
2- كما هو ظاهر المحقّق الحِلّي في المعتبر: ج 2/136، والعلّامة في المنتهى: ج 4/418.
3- جواهر الكلام: ج 9/32-33.
4- كالحِلّي في السرائر: ج 1/304، والعلّامة في المنتهى: ج 1/261 (ط. ق)، والشهيد في الذكرى: ص 174 (ط. ق).
5- الكافي: ج 3/421 ح 5، وسائل الشيعة: ج 7/400 أبواب صلاة الجمعة ب 49 ح 1 (9687).

منها إرادة الأذان الثاني، الذي ابتدعه عثمان أو معاوية.

الدليل الثالث: ما رواه الشيخ في الصحيح، عن ابن اُذينة، عن رهطٍ منهم الفضيل وزرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله جمعَ بين الظهر والعصر بأذانٍ وإقامتين، وجمع بين المغرب والعشاء بأذانٍ وإقامتين»(1).

وفيه: - مضافاً إلى ما ذكره صاحب «المدارك» رحمه الله(2) من عدم اختصاصه بيوم الجمعة، وإنّما يدلّ على السقوط في موارد الجمع مطلقاً -: إنّ مجرّد تركه من النبيّ صلى الله عليه و آله لا يدلّ على سقوطه، إذ لعلّه يكون تركه كالجمع بين الصلاتين وترك النافلة لغرضٍ أهمّ كالتنبيه على جوازه ونحوه.

ويؤيّد ما ذكرناه: إنّ جملةً من الأخبار متضمّنة لحكاية جمعه صلى الله عليه و آله بين الصلاتين من دون تعرّض للأذان، كالخبر الذي رواه عبد الملك، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«أجمعُ بين الصلاتين من غير علّة ؟ قال عليه السلام: قد فعل ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله، أراد التخفيف عن اُمّته»(3). ونحوه غيره.

أقول: وممّا ذكرناه يظهر عدم تماميّة الاستدلال بصحيحي عبد اللّه بن سنان(4)وصفوان(5)، كما أنّه يظهر ضعف ما قيل(6) من أنّ حكاية الإمام له تدلّ عليه، بدعوى ظهورها في وقوع الأذان الأوّل للصلاتين اللّتين جمع بينهما، فيكون نظير4.

ص: 412


1- التهذيب: ج 3/18 ح 66، وسائل الشيعة: ج 4/223 أبواب الأذان والإقامة ب 36 ح 11 (4981).
2- مدارك الأحكام: ج 3/264.
3- علل الشرائع: ج 2/321 باب 11 ح 2، وسائل الشيعة: ج 4/221 أبواب المواقيت ب 32 ح 3 (4973).
4- عن الصادق عليه السلام: (إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين، وجمع بين المغرب والعشاء في الحَضَر من غير علّة بأذان وإقامتين)، الفقيه: ج 1/287 ح 886، وسائل الشيعة: ج 4/220 أبواب المواقيت ب 32 ح 1 (4971).
5- الكافي: ج 3/287 ح 5، وسائل الشيعة: ج 4/219 أبواب المواقيت ب 31 ح 2 (4965).
6- ظاهر ما استفاده السيّد العاملي في المدارك: ج 3/264.

اكتفاء جماعة المأمومين بأذانٍ واحد، من أحدهم أو من الإمام، إذ يمكن أن تكون حكايته عليه السلام أيضاً لذلك الغرض الأهمّ .

الدليل الرابع: استقرار سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام على ترك الأذان في الموارد التي جَمَعوا فيها بين الصلاتين، أو أمروا بالجمع.

أقول: إنّ هذا الوجه وإنْ كان متيناً، إلّاأنّ مقتضاه التفصيل بين مورد الجمع المستحبّ وغيره، والالتزام بالسقوط وعدم المشروعيّة في الأوّل دون الثاني؛ إذ في الأوّل لا محمل لاستقرار سيرتهم عليهم السلام على الترك إلّاعدم المشروعيّة.

ودعوى:(1) أنّه يمكن أنْ يكون التزامهم بالترك لأجل أرجحيّة الصَّلاة مع ترك الأذان، وهذا لا ينافي كون فعله أيضاً راجحاً في نفسه، نظير التطوّع في وقت الفريضة، حيثُ إنّ تركه والشروع في الفريضة أرجح، ويكون التطوّع أيضاً مشروعاً.

مندفعة: بأنّه فرق بين المقامين، إذ ما ذُكر يتمّ في مثل التطوّع الذي يكون مستحبّاً في نفسه، والأدلّة الدالّة على أفضليّة المبادرة إلى الصَّلاة، لا توجب تخصيص ما دلَّ على استحبابه، لعدم التنافي بينهما.

وأمّا الأذان، فحيثُ أنّ المستفاد من ما دلَّ على مشروعيّته، أفضليّة الصَّلاة معه عن الصَّلاة بدونه، لا استحبابه في نفسه، فلو دلَّ دليلٌ في موردٍ خاص على إنّ الصَّلاة بدونه أفضل كما في المقام، فلا محالة يقع التنافي بينهما، وحيثُ أنّ ما دلَّ على أفضليّة الصَّلاة الفاقدة له أخصّ من ما دلَّ على مشروعيّته، فيُخصّص به، فلا يبقى دليل للمشروعيّة.2.

ص: 413


1- دعوى السيّد الحكيم قدس سره في المستمك: ج 5/552.

أقول: وبذلك يظهر تماميّة ما ذكره صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) من إنّه في المورد الذي دلَّ الدليل على سقوط الأذان، يكون ذلك بنحو العزيمة لا الرخصة، إذ لا جهة للتمسّك بإطلاق أوامر الأذان فيه، وإلّا لإقتضى بقاء ندبه، فالمرجع أصالة عدم المشروعيّة المقتضية للحرمة.

وما أورده عليه بعض الأكابر(2): بأنّ ما دلَّ على مشروعيّته إنّما يدلّ على البعث إليه بالمطابقة، وعلى وجود المصلحة فيه بالالتزام، وانتفاء الأوّل للسيرة والإجماع، لا يقتضي البناء على عدم المصلحة المُصحّحة للتعبّد، لعدم التلازم بين الدلالتين في الحجيّة، فسقوط الأُولى عن الحجيّة لا يدلّ على سقوط الثانية عنها.

ضعيفٌ : لما ذكرناه مراراً في هذا الكتاب، من أنّه لا كاشف عن وجود المصلحة سوى الحكم، ومع فرض انتفائه من أينَ يُستكشف وجود المصلحة، وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه.

وأمّا في الثاني: وهو مورد الجمع المرجوح؛ فلأنّ جمعهم عليهم السلام في هذا المورد لما لم يكن إلّالأجل التنبيه على الجواز، أو لبعض الاُمور الاُخر، المقتضية له من الاستعجال ونحوه، فترك الأذان كترك النافلة في هذا المورد، لا ينافي مع مشروعيّته، لا مكان أنْ يكون لأحدِ تلك الاُمور.

فتحصّل ممّا ذكرناه: سقوط الأذان في موارد الجمع المستحبّ للصَّلاة الثانية، بلا خصوصيّةٍ لعصر يوم الجمعة.

أقول: ثمّ إنّ المراد بالجمع هو وصل الصَّلاة الثانية بالاُولى ، على نحوٍ يصدق9.

ص: 414


1- جواهر الكلام: ج 9/37.
2- هو السيّد محسن الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 5/559.

إيقاعهما في زمانٍ واحد، كما عن جماعةٍ من المحقّقين(1) التصريح به، لأنّه المفهوم منه عرفاً.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - ما دلَّ على حصول التفريق بفعل النافلة، كموثّق محمّد بن حكيم قال: «سمعتُ أبا الحسن عليه السلام يقول: الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوّع، فإذا كان بينهما تطوّع فلا جمع»(2).

ولا يخفى أنّ مفهوم الجملة الأُولى ليس إنّ المراد بالجمع عدم التطوّع، ولو مع الفصل الطويل كما قيل، بل مفهومها هو الجملة الثانية، فلاحظ.

نعم، الإشتغال بالتعقيب فضلاً عن ركعات الاحتياط، وسجدتي السهو، ونحوهما ممّا يكون مرتبطاً بالصَّلاة، لا ينافي الجمع الموجب للإكتفاء بأذان الأُولى ، ما لم يكن موجباً للفصل الطويل.

المورد الثاني: من موارد سقوط الأذان، هو عصر يوم عرفة، بلا خلافٍ ، بل عن غير واحدٍ(3) دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له: صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«السُنّة في الأذان يوم عرفة أن يؤذِّن ويُقيم للظهر ثُمّ يُصلّي ثمّ يقوم فيقيم للعصر بغير أذانٍ ، وكذلك المغرب والعشاء بالمُزدلفة»(4).

أقول: واختصاص الصحيح بصورة الجمع بين الصلاتين لا يُنكر، إلّاأنّ اختصاصه بعرفة غير ظاهر، وذكره في سياق المزدلفة، لا يصلُح للقرينيّة كي يكون المطلق من قبيل المقرون بما يصلح للقرينيّة، ليوجب سقوط إطلاقه كما قيل.).

ص: 415


1- مثل صاحب الجواهر في الجواهر: ج 9/40، وتبعه الهمداني في مصباح الفقيه: ج 11/243.
2- الكافي: ج 3/287 ح 4، وسائل الشيعة: ج 4/224 أبواب المواقيت ب 33 ح 3 (4984).
3- الشيخ في الخلاف: ج 2/335، والعلّامة في المنتهى: ج 4/419، وابن زُهرة في الغُنية ص 181.
4- التهذيب: ج 2/282 ح 24، وسائل الشيعة: ج 5/445 أبواب الأذان والإقامة ب 36 ح 1 (7045).

ثمّ إنّ ظاهر الصحيح، كون سقوط الأذان فيها بنحو العزيمة، لأنّ قوله عليه السلام:

«السُنّة في الأذان...» الدالّ على أفضليّة الصَّلاة بغير أذان من الصَّلاة معه، يوجب تخصيص عمومات المشروعيّة.

المورد الثالث: عشاء المزدلفة بلا خلافٍ فيه، ويشهد له صحيح ابن سنان المتقدّم ونحوه غيره.

المورد الرابع: العصر والعشاء للمسلوس الذي يجمعهما مع الظهر والمغرب.

ويشهد له: صحيح حريز، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا كان الرَّجل يقطر منه البول والدم، إذا كان حين الصَّلاة اتّخذ كيساً وجعل فيه قطناً، ثمّ علّقه عليه وأدخل ذكره فيه، ثمّ صَلّى ، يجمع بين صلاتين الظهر والعصر، يؤخّر الظهر ويعجّل العصر بأذانٍ وإقامتين، ويؤخّر المغرب ويعجِّل العشاء بأذانٍ وإقامتين»(1).

المورد الخامس: العصر والعشاء للمستحاضة الّتي تجمعهما مع الظهر والمغرب.

وتشهد له: النصوص الدالّة على أنّها تجمع بين الظهرين بغُسلٍ ، وبين العشائين بغُسل، بضميمة الكليّة التي أثبتناها وهي سقوط الأذان مع الجمع الرّاجح.

ولعلّ هذا هو مراد صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) حيث قال: (ورد السقوط في المستحاضة في النصوص)، فلا يرد عليه ما أورده من تأخّر عنه(3) من أنّا لم نقف عليها.

***6.

ص: 416


1- الفقيه: ج 1/64/146، وسائل الشيعة: ج 1/297 أبواب نواقض الوضوء ب 19 ح 1 (780).
2- جواهر الكلام: ج 9/34.
3- المورد هو السيّد الحكيم قدس سره في المستمسك: ج 5/556.
موارد سقوط الأذان والإقامة

المسألة الثانية: يسقط الأذان والإقامة في موارد:

المورد الأوّل: الداخل في الجماعة، وإنْ لم يكن حاضراً حينما أذّنوا للصَّلاة وأقاموا، بلا خلافٍ .

وتشهد له: - مضافاً إلى السيرة - جملةٌ من النصوص:

منها: خبر معاوية بن شريح، عن الإمام الصادق عليه السلام: «ومَنْ أدرك الإمام وهو في الرّكعة الأخيرة فقد أدرك فضل الجماعة، ومن أدركه وقد رفع رأسه من السّجدة الأخيرة وهو في التشهّد، فقد أدرك الجماعة، وليس عليه أذانٌ وإقامة، ومن أدركه وقد سَلّم، فعليه الأذان والإقامة»(1). ونحوه غيره.

وظهوره في عدم الأمر بهما لا يُنكر، فتخصّص به عمومات المشروعيّة، فيكون السقوط على وجه العزيمة دون الرخصة.

المورد الثاني: السامع أذان غيره وإقامته، بلا خلافٍ فيه.

ويشهد له:

1 - خبر أبي مريم: «صَلّى بنا أبو جعفر عليه السلام في قميصٍ بلا إزار ولا رداء، ولا أذان ولا إقامةٍ ، فلمّا انصرف، قلتُ له: عافاك اللّه صلّيت بنا بلا قيمصٍ ولا إزار ولا رداء ولا أذان ولا إقامة ؟

فقال عليه السلام: إنّ قميصي كثيفٌ فهو يجزي أنْ لا يكون عَليَّ إزارٌ ولا رداء، وإنّي مررتُ بجعفر وهو يؤذّن ويُقيم، فلم أتكلّم فأجزأني ذلك»(2).

ص: 417


1- الفقيه: ج 1/407 ح 1216، وسائل الشيعة: ج 8/393 أبواب قضاء الصلوات ب 49 ح 6 (10993).
2- التهذيب: ج 2/280 ح 15، وسائل الشيعة: ج 5/437 أبواب الأذان والإقامة ب 30 ح 2 (7023).

2 - وخبر ابن خالد، عن أبي جعفر عليه السلام: «كنّا معه فسمع إقامة جارٍ له بالصَّلاة، فقال عليه السلام: قوموا فقمنا فصلّينا معه بغير أذانٍ وإقامة، وقال عليه السلام: يُجزِءُكُم أذان جاركم»(1). ونحوهما غيرهما.

أقول: والظاهر - كما عن الشيخ في «المبسوط»(2)، وصاحب المستند(3) - كون السقوط بنحو العزيمة لا الرخصة، إذ الظاهر من النصوص المتضمّنة للتعبير بالإجزاء، كون سماع أذان الغير إقامته بمنزلة الأذان والإقامة، وموجباً لسقوط أمرهما، وعليه فلا يكونان مشروعين بعد السّماع.

ثمّ إنّ النصوص وإنْ كان موردها الجامع، إلّاأنّه يثبت الحكم للمنفرد بالأولويّة، ولو لم يسمع تمام الفصول، جاز له أن يُتمّ ما نقصه المؤذّن ويكتفي به، لصحيح عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«إذا أذّن مؤذّن فنَقَص الأذان وأنتَ تُريد أن تُصلّي بأذانه، فأتمّ ما نَقَص هو من أذانه»(4).

المورد الثالث: إذا صَلّى الإمام جماعة، ثمّ جاء آخرون، ما لم تتفرّق صفوفهم، بلا خلافٍ فيه في الجملة.

ويشهد له: جملةٌ من النصوص:

منها: خبر أبي علي: «كُنّا جلوساً عند أبي عبد اللّه عليه السلام فأتاه رجلٌ ، فقال:

جُعِلتُ فداك صلّينا في المسجد الفجر وانصرف بعضنا، وجلس بعض في التسبيح، فدخل علينا رجلٌ المسجد، فأذّن فمنعناه ودفعناه عن ذلك ؟).

ص: 418


1- التهذيب: ج 2/285 ح 43، وسائل الشيعة: ج 5/437 أبواب الأذان والإقامة ب 30 ح 2 (7024).
2- المستند: ج 4/528.
3- المحقّق النراقي في مستند الشيعة: ج 4/528.
4- التهذيب: ج 2/280 ح 14، وسائل الشيعة: ج 5/437 أبواب الأذان والإقامة ب 30 ح 2 (7022).

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: أحسنتَ ، ادفعه عن ذلك وامنعه أشدّ المنع.

فقلت: فإنْ دخلوا فأرادوا أن يُصلّوا فيه جماعة ؟ قال عليه السلام: يقومون في ناحية المسجد ولا يبدر بهم إمام»(1).

ومنها: موثّق أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«قلتُ له: الرّجل يدخل المسجد، وقد صَلّى القوم، أيؤذّن ويُقيم ؟

قال عليه السلام: إنْ كان دخل ولم يتفرّق الصفّ صَلّى بأذانهم وإقامتهم، وإنْ كان تفرّق الصفّ أذّن وأقام»(2).

ومنها: خبره الآخر: «سألته عن الرّجل ينتهي إلى الإمام حين يُسلِّم ؟

فقال عليه السلام: ليس عليه أن يُعيد الأذان، فيدخل معهم في أذانهم، فإنْ وجدهم قد تفرّقوا أعاد الأذان»(3).

ومنها: خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليٍّ عليه السلام، إنّه كان يقول:

«إذا دخل رجلٌ المسجد وقد صَلّى أهله فلا يؤذّنن ولا يقيمنّ »(4).

ومنها: خبر عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه عليهم السلام، قال:

«دخل رجلان المسجدَ وقد صَلّى عليٌّ عليه السلام بالناس، فقال عليه السلام لهما: إن شئتما فليؤمّ أحدكما صاحبه ولا يؤذّن ولا يُقيم»(5).

ومنها: عن «كتاب زيد النرسي» عن عُبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«إذا أدركتَ الجماعة وقد انصرف القوم، ووجدت الإمام مكانه، وأهل).

ص: 419


1- التهذيب: ج 3/55 ح 102، وسائل الشيعة: ج 8/415 أبواب صلاة الجماعة ب 65 ح 2 (11052).
2- التهذيب: ج 2/281 ح 22، وسائل الشيعة: ج 5/430 أبواب الأذان والإقامة ب 25 ح 2 (7004).
3- الكافي: ج 3/304 ح 12، وسائل الشيعة: ج 5/429 أبواب الأذان والإقامة ب 25 ح 1 (7003).
4- التهذيب: ج 3/56 ح 107، وسائل الشيعة: ج 5/431 أبواب الأذان والإقامة ب 25 ح 4 (7006).
5- التهذيب: ج 2/281 ح 21، وسائل الشيعة: ج 5/430 أبواب الأذان والإقامة ب 25 ح 3 (7005).

المسجد قبل أن يتفرّقوا، أجزأك أذانهم وإقامتهم، فاستفتح الصَّلاة لنفسك، وإذا وافيتهم وقد انصرفوا من صلاتهم، وهم جلوسٌ أجزأك إقامةٌ بغير أذان، وإن وجدتهم قد تفرّقوا، وخرج بعضهم من المسجد، فأذّن وأقم لنفسك»(1).

أقول: والمناقشة في حجيّة هذه النصوص بضعف سندها، في غير محلّها، إذ مضافاً إلى عمل الأصحاب بها، الموجب لجبر ضعف سندها، فإنّ موثّق أبي بصير، وخبر أبي علي، معتبران.

ودعوى: اشتراك أبي بصير بين الثقة والضعيف.

مندفعة: بما حُقّق في محلّه من أنّه مشترك بين ليث المرادي، ويحيى ، وكلٌّ منهما ثقة.

كما أنّ جهالة أبي علي غير مضرّة، إذ يعدّ ابن أبي عمير الراوي عنه من أصحاب الإجماع، الذي لا يروي إلّاعن ثقة.

لكن بإزاء هذه النصوص هناك خبر معاوية بن شريح المتقدّم في المورد الأوّل، وموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّه سُئل عن الرّجل أدرك الإمام حين سَلّم ؟ قال عليه السلام: عليه أن يؤذّن ويُقيم ويفتتح الصَّلاة»(2).

وقد حمل بعضٌ الخبرين على صورة التفرّق، جمعاً بينهما وبين الأخبار المتقدّمة، لكنّه بعيدٌ غايته، إذ كيف يمكن حمل قوله: (أدرك الإمام حين سَلّم) على ما بعد التفرّق.).

ص: 420


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 4/46 أبواب الأذان والإقامة ب 22 ح 1 (4144) و: ج 6/500 ح 7359، البحار ج 81/171.
2- الفقيه: ج 1/395 ح 1171، وسائل الشيعة: ج 5/431 أبواب الأذان والإقامة ب 25 ح 5 (7007).

وأيضاً: جمع بعض المحقّقين رحمه الله(1) بين الطائفتين، بحمل النصوص المتقدّمة على الكراهة، بالمعنى الذي لا ينافي استحبابهما، وهو المرجوحيّة بالإضافة إلى الصَّلاة بدونهما، لصراحة الخبرين في المشروعيّة.

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الكراهة بهذا المعنى في الأذان والإقامة تستلزمُ عدم مشروعيّتهما، وليسا كالتطوّع كي يمكن الالتزام بهذا المعنى فيهما مع بقاء مشروعيّتهما - إنّ معيار كون الجمع عرفيّاً، فرض المتنافيين في كلامٍ واحد صادر من شخص واحد، فإنْ كان أحدهما قرينةً على الآخر، والعرف لم يلاحظ تهافتاً في الكلام، فهو الجمع العرفي وإلّا فلا، وفي المقام إذا جمعنا قوله عليه السلام في خبر أبي علي: (امنعه أشدّ المنع)، مع قوله عليه السلام في موثّق عمّار: (عليه أنْ يُؤذّن ويُقيم)، لا شبهة في أنّ العرف يرى تهافتاً بينهما.

وبالجملة: فالصحيح هو الالتزام بعدم إمكان الجمع العرفي والتعارض بينهما، فلابدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المعارضة، والظاهر أنّ الترجيح مع النصوص الأوّل لأشهريّة مضمونها بين الفقهاء وأكثريتها.

هذا كلّه من حيث السند.

وأمّا من حيث المدلول: فملخّص القول فيه يقع في مواضع:

الموضع الأوّل: إنّه قد يتوهّم التعارض بين مدلول النصوص المتقدّمة، إذ سقوط الأذان والإقامة في خبري أبي بصير، عُلّق على عدم التفرّق، المتوقّف صدقه على بقاء الجميع، وفي خبر أبي علي عُلّق على بقاء بعضٍ من المأمومين.

ولكنّه توهّم فاسد: إذ لو سُلّم ظهور التفرّق فيهما، في تفرّق الهيئة الاجتماعيّة، الحاصل بذهاب البعض، ولو كان واحداً، لابدَّ من حملها على إرادة تفرّق الجميع5.

ص: 421


1- المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 11/255.

الحاصل بافتراق كلّ واحدٍ من المصلّين، لخبر أبي علي الصريح في بقاء السقوط بذهاب البعض، مع إنّ للمنع عن ظهور التفرّق فيه مجالاً واسعاً، إذ التفرّق لاستناده إلى المصلّين، وإلى الصفّ الذي اُريد منه المصطفّين، ظاهرٌ في المعنى الثاني، فلاحظ.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ المستفاد من النصوص سقوط الأذان والإقامة ما لم يتفرّق الجميع، ولو مع ذهاب الجميع إلّاالاثنين المشتغلين بأمرٍ مرتبط بالصّلاه.

الموضع الثاني: الظاهر كون السقوط على وجه العزيمة لا الرخصة، كما قوّاه في «الجواهر»(1) لقوله عليه السلام في خبر أبي علي: «ادفعه عن ذلك، وامنعه أشدّ المنع»، ومقتضى خبر معاوية وموثّق عمّار.

وإنْ كان عدم كون السقوط بنحو العزيمة، إلّاأنّه قد عرفت إنّه لابدَّ من طرحهما أو حملهما على ما لا ينافي النصوص الاُخر.

الموضع الثالث: الظاهر عدم اختصاص الحكم بالمسجد، إذ مورد أغلب النصوص وإنْ كان المسجد، إلّاأنّ خبر أبي بصير مطلق، وليس في النصوص الاُخر ما يوجب تقييده.

وغلبة انعقاد الجماعة في المسجد، لا توجبُ انصراف إطلاقه، فما عن «الذكرى»(2)، و «المدارك»(3) وغيرهما من الاختصاص، غير تامّ .

الموضع الرابع: نُسب إلى ظاهر المشهور اختصاص السقوط بالجامع، وعن بعضٍ : احتمال اختصاصه بالمنفرد.7.

ص: 422


1- جواهر الكلام: ج 9/44، قوله: (وكيف كان فقد يقوى كون هذا السقوط على الحرمة، وإن قلَّ القائل به صريحاً).
2- ذكرى الشيعة: ص 173 (ط. ق)، إلّاأنّه قال قدس سره: (فرع: لا فرق بين المسجد وغيره وذكره في الرواية بناءً على الأغلب).
3- مدارك الأحكام: ج 3/267.

أقول: لكن الأقوى - وفاقاً لجماعة من الأعاظم - سقوطهما من الجامع والمنفرد.

أمّا في الأوّل: فلروايتي زيد وأبي علي.

وأمّا في الثاني: فلغيرهما من النصوص.

ولا وجه لتخصيص الحكم في المنفرد بمن أراد الإئتمام لإطلاق النصوص.

ودعوى: تنزيل الإطلاق على المتعارف في ذلك الزمان، من الإئتمام عند إدراك الجماعة.

مندفعة: بأنّه لم يثبت لنا كون المتعارف في ذلك الزمان أنّ كلّ من دخل المسجد كان مريداً للجماعة، فضلاً عن أنّ الغلبة لا توجب الانصراف.

أقول أخيراً: إنّ هنا فروعاً اُخر، كشمول الحكم لصورة تعدّد المكان، وصورة إدراك جماعة القضاء وغيرهما، لكن لأجل وضوح حكمها ممّا ذكرناه، أغمضنا عن ذكرها.

***

ص: 423

وصورة الأذان: اللّه أكبر اللّه أكبر، اللّه أكبر اللّه أكبر، أشهدُ أنْ لا إله إلّااللّه، أشهدُ أنْ لا إله إلّااللّه، أشهدُ أنّ محمّداً رسول اللّه، أشهدُ أنّ محمّداً رسول اللّه، حَيَّ على الصَّلاة حَيّ على الصَّلاة، حَيّ على الفلاح حَيّ على الفلاح، حَيّ على خير العمل حَيّ على خير العمل، اللّه أكبر اللّه أكبر، لا إله إلّااللّه، لا إله إلّااللّه.

كيفيّة الأذان والإقامة

الموضع الثاني: في كيفيّة الأذان والإقامة.

أقول: المشهور بين الأصحاب (أنّ صورة الأذان: اللّه أكبر اللّه أكبر، اللّه أكبر اللّه أكبر، أشهدُ أنْ لا إله إلّااللّه، أشهدُ أنْ لا إله إلّااللّه، أشهدُ أنّ محمّداً رسول اللّه، أشهدُ أنّ محمّداً رسول اللّه، حَيّ على الصَّلاة حَيّ على الصَّلاة، حَيّ على الفلاح حَيّ على الفلاح، حَيّ على خير العمل حَيّ على خير العمل، اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلّااللّه، لا إله إلّااللّه).

بل إجماعاً، أو عليه عمل الأصحاب، أو نحو ذلك ممّا حُكي في المقام(1).

ويشهد له:

1 - خبر أبي بكر الحضرمي وكُليب الأسدي جميعاً عن الإمام الصادق عليه السلام:

«أنّه حكى لهما الأذان، فقال: اللّه أكبر(2) إلى آخر ما ذكر في المتن».

ص: 424


1- ادّعى الإجماع السيّد ابن زُهرة في الغنية ص 72، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/398، ونسبه إلى علمائنا العلّامة في التذكرة: ج 3/41، وإلى عمل الأصحاب الشهيد في الذكرى على ما حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/280.
2- الفقيه: ج 1/289 ح 897، وسائل الشيعة: ج 5/416 أبواب الأذان والإقامة ب 19 ح 9 (6970).

ونحوه خبر المعلّى بن خنيس(1).

2 - وصحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «يا زرارة تفتتح الأذان بأربع تكبيرات، وتختمه بتكبيرتين وتهليلتين»(2). وقريب منها غيرها.

أقول: ولكن تعارضها جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح ابن سنان: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الأذان ؟ فقال عليه السلام: تقول:

اللّه أكبر، اللّه أكبر... إلى آخر ما ذُكر في الأخبار المتقدّمة»(3).

ومنها: صحيح صفوان: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: الأذان مثنى مثنى، والإقامة مثنى مثنى»(4)، ونحوهما غيرهما.

ولولا إعراض الأصحاب عن هذه النصوص، وعدم عملهم بها، لكان مقتضى الجمع بين الطائفتين، الالتزام بأنّ الأقلّ يكون مجزياً، وأنّ الأولى والأفضل الإتيان بالأكثر، لكنّه لأجل الإعراض لابدَّ من طرحها.

ومنه يظهر إنّ القول بكفاية التهليل في آخره مرّة واحدة لا يُعتنى به، وإنْ دلَّ عليه خبر البزنطي.

هذا في الأذان.).

ص: 425


1- التهذيب: ج 2/61 ح 5، وسائل الشيعة: ج 5/415 أبواب الأذان والإقامة ب 19 ح 6 (6967).
2- الكافي: ج 3/303 ح 5، وسائل الشيعة: ج 5/413 أبواب الأذان والإقامة ب 19 ح 2 (6963).
3- التهذيب: ج 2/59 ح 2، وسائل الشيعة: ج 5/414 أبواب الأذان والإقامة ب 19 ح 5 (6966).
4- الكافي: ج 3/303 ح 4، وسائل الشيعة: ج 5/414 أبواب الأذان والإقامة ب 19 ح 4 (6965).

والإقامة مثله إلّاالتكبير، فإنّه يسقط منه مرّتان في أوّله، والتهليل يسقط منه مرّة في آخره، ويزيدُ: (قد قامت الصَّلاة) مرّتين بعد (حَيّ على خَير العمل).

(و) أمّا (الإقامة) فهي: (مثله إلّا) من ناحية (التكبير، فإنّه يسقط منه مرّتان في أوّله) كما (و) أنّ (التهليل يسقط منه مرّة في آخره، ويزيد: «قد قامت الصَّلاة» مرّتين بعد «حَيّ على خير العمل») وقبل التكبير عندنا كما في «التذكرة».

ويشهد له: - مضافاً إلى معروفيّة كونها كذلك لدى الشيعة، المعتضدة بالاجماعات المنقولة - خبر إسماعيل الجُعفي، المرويّ عن «الكافي»، قال:

«سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: الأذان والإقامة خمسة وثلاثون حرفاً، فعدَّ ذلك بيده واحداً واحداً، والأذان ثمانية عَشَر حرفاً، والإقامة سبعة عشر حرفاً»(1).

وهذا لا ينطبق إلّاعلى ما عرفت من كون التهليل في آخر الإقامة مرّة، والتكبير في أوّلها مرّتين، وزيادة: (قد قامتِ الصَّلاة).

والنصوص الاُخر الواردة في المقام غير منطبقة على ما ذكر:

ففي صحيح صفوان: «الإقامة مثنى مثنى»(2).

وفي صحيح معاوية: «الإقامة واحدة واحدة»(3).

وفي صحيح زرارة والفضيل: «الإقامة كالأذان(4) إلّافي زيادة قد قامت الصَّلاة»(5)، بعد بيان كون التهليل في آخره مرّتين.

ولكن لإعراض الأصحاب عنها يتعيّن طرحها.).

ص: 426


1- الكافي: ج 3/302 ح 3، وسائل الشيعة: ج 5/413 أبواب الأذان والإقامة ب 19 ح 1 (6962).
2- المتقدّمة آنفاً.
3- التهذيب: ج 2/61 ح 7، وسائل الشيعة: ج 5/415 أبواب الأذان والإقامة ب 19 ح 7 (6968).
4- في وسائل الشيعة: «والإقامة مثلها».
5- التهذيب: ج 2/60 ح 3، وسائل الشيعة: ج 5/416 أبواب الأذان والإقامة ب 19 ح 8 (6969).

فجميع فصولهما خمسة وثلاثون فصلاً.

فتحصّل ممّا ذكرناه: إنّ (جميع فصولهما خمسة وثلاثون فصلاً).

ثمّ إنّه يجوز للمسافر والمستعجل الإقتصار فيهما على كلّ فصلٍ مرّة، كما عن غير واحدٍ من الأصحاب(1) التصريح به.

وتشهد له: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح أبي عُبيدة، قال: «رأيت أبا جعفر عليه السلام يُكبّر واحدةً واحدة في الأذان، فقلت له: لِمَ تُكبّر واحدة واحدة ؟ فقال: لا بأس إذا كنتَ مستعجلاً»(2).

ومنها: خبر يزيد بن معاوية، عن الإمام الباقر عليه السلام: «الأذان يقصر في السّفر كما تقصر الصَّلاة، الأذان واحداً واحداً، والإقامة واحدة واحدة»(3).

ومنها: خبر نعمان الرّازي: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: يُجزيك من الإقامة طاق طاق في السفر»(4).

فائدة: لا خلاف ولا إشكال في أنّ الشهادة لعليّ عليه السلام بإمْرَة المؤمنين والولاية ليست من أجزائهما.

وعن المجلسي رحمه الله في «البحار»: لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبّة للأذان، لشهادة الشيخ والعلّامة والشهيد وغيرهم بورود الأخبار به(5).1.

ص: 427


1- حكاه المحدِّث البحراني عن (جملةٍ من الأصحاب) وعن ابن الجُنيد، راجع الحدائق الناضرة: ج 7/404، ونسبه السبزواري إلى المشهور في الذخيرة: ج 2/254.
2- التهذيب: ج 2/62 ح 9، وسائل الشيعة: ج 5/425 أبواب الأذان والإقامة ب 21 ح 4 (6992).
3- التهذيب: ج 2/62 ح 12، وسائل الشيعة: ج 5/424 أبواب الأذان والإقامة ب 21 ح 2 (6990).
4- التهذيب: ج 2/62 ح 13، وسائل الشيعة: ج 5/425 أبواب الأذان والإقامة ب 21 ح 5 (6993).
5- بحار الأنوار: ج 81/111.

وفيه: إنّ كلّ من شهد بورود الخبر به، شَهد بأنّه لا يُعمل به، وإنّه موضوع أو ضعيفٌ ، فعن الشيخ في «النهاية»(1): (فأمّا ما رُوي في شواذ الأخبار من قول (إنّ عليّاً وليّ اللّه، وآل محمّد خَير البريّة) فممّا لا يُعمل عليه في الأذان والإقامة، فمَن عمل به كان مُخطئاً)، ونحوه كلامٌ غيره(2)، وظاهر كلماتهم نفي المشروعيّة.

ودعوى:(3) إنّ هذا المقدار لا يمنعُ من الالتزام بكونها من الأجزاء المستحبّة لهما، لأنّه لا يوجبُ العلم بالكذب، ومع احتمال الصدق مقتضى قاعدة التسامح كونها جزءٌ منهما.

مندفعة: بأنّه وإنْ لم يوجب العلم الوجداني، إلّاأنّه علمٌ تعبّدي، ومعه لا مجال لجريان قاعدة التسامح.

ومن ذلك يظهر وجه ما في «الجواهر»(4) بعد نقل كلام المجلسي رحمه الله: (إنّه كما ترى ). نعم، يستحبّ الشهادة له عليه السلام بالولاية وإمرة المؤمنين بعد الشهادتين لا بقصد الجزئيّة، بل قاصداً بها امتثال ما دلَّ على استحبابها بعدهما مطلقاً، كخبر القاسم بن معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا قال أحدكم لا إله إلّااللّه محمّد رسول اللّه، فليقل عليّ أمير المؤمنين»(5). ونحوه غيره.

***8.

ص: 428


1- النهاية: ص 69.
2- كالصدوق في الفقيه: ج 1/290 ذيل ح 897، وابن سعيد في الجامع للشرائع: ص 73، والعلّامة في نهاية الإحكام: ج 1/412، والشهيدالثاني في روض الجنان: ص 242، والأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 2/181.
3- هي دعوى السيّد الحكيم في المستمسك: ج 5/545.
4- جواهر الكلام: ج 9/86-87.
5- الاحتجاج: ج 1/158.
شرائط الأذان والإقامة
اشارة

الموضع الثالث: في شرائط الأذان والإقامة، حيث يشترط فيها اُمور:

الأمر الأوّل: قصد القربة، لكونهما من العباديّات، لا لأن الأصل في الواجبات كونها تعبديّة - لما حقّقناه في محلّه(1) من أنّ الأصل كونها توصّليّة، بل للإجماع على عباديّتهما، مضافاً إلى كونها المرتكزة في أذهان المتشرّعة.

الأمر الثاني: تعيين الصَّلاة التي يأتي بهما لها مع الاشتراك، كما عن غير واحدٍ التصريح به.

وليس الوجه فيه ما في «الجواهر»(2) من إنّ عباديّة كلّ منهما إنّما تكون بقصد الأمر النفسي المتعلّق بالصَّلاة المقيّدة بهما، وتعيين ذلك الأمر إنّما يكون بتعيين الصَّلاة، لاختلاف الأمر باختلاف موضوعه، إذ يمكن أنْ يُقال - كما قيل - إنّ الأمر بهما نفسي لا غيري.

بل الوجه فيه إنّهما مع عدم التعيين، يصلحان لوقوعهما لكلٍّ من الصلاتين، وحيثُ إنّ وقوعهما لهما معاً لا يمكن، ولإحداهما دون الاُخرى ترجيحٌ بلا مرجّح، فلا محالة لا يقعان لشيءٍ منهما، فلابدّ من تعيينهما بتعيين الصَّلاة التي يأتي بهما لها.

الأمر الثالث: العقل، ويدلّ عليه الإجماع.

الأمر الرابع: الإيمان، كما عن غير واحدٍ من الأصحاب(3) التصريح به.

ص: 429


1- زبدة الاُصول: ج 1/432، بحث: (ما يقتضيه الأصل اللّفظي) من بحث التعبّدي والتوصّلي: (أمّا المقام الأوّل: فالمختار فيه أنّ الأصل يقتضي كون الواجب توصّليّاً).
2- جواهر الكلام: ج 9/77.
3- كما عن الشهيد الأوّل في الدروس: ج 1/164، والشهيد الثاني في الروض: ص 243، والسيّد العاملي في المدارك: ج 3/269، والفاضل الاصبهاني في كشف اللّثام: ج 3/364.

وعن غيرهم(1): الاقتصار على اعتبار الإسلام.

ويشهد له: موثّق عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام: «سُئل عن الأذان هل يجوز أن يكون عن غير عارف ؟

قال عليه السلام: لا يستقيم الأذان ولا يجوز أن يؤذّن به إلّارجلٌ مسلم عارف، فإنْ علم الأذان وأذّن به، ولم يكن عارفاً لم يجز أذانه ولا إقامته ولا يقتدى به»(2).

إذ المراد من (العارف) هو المؤمن، لأنّه المراد منه في موارد استعماله في النصوص، ويؤيّده ذيل الموثّق، فلاحظ.

وأمّا البلوغ والذكوريّة: فلا يعتبران فيهما.

أمّا الأوّل: فعدم اعتباره في الإقامة، إنّما يكون لما عرفت في محلّه(3) من مشروعيّة عباداته.

وأمّا في أذانه فيشهد له - مضافاً إلى ما في «الجواهر»(4) من الإجماع عليه - صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس أن يؤذّن الغلام الذي لم يحتلم»(5). ونحوه غيره.

وأمّا الذكوريّة: فقد تقدّم الكلام فيها مفصّلاً، فراجع.(6)د.

ص: 430


1- كالمحقّق في المعتبر: ج 2/125، والعلّامة في المنتهى: ج 4/394، والكركي في جامع المقاصد: ج 2/174.
2- الكافي: ج 3/304 ح 13، وسائل الشيعة: ج 5/431 أبواب الأذان والإقامة ب 26 ح 1 (7008).
3- فقه الصادق: ج 6/99.
4- جواهر الكلام: ج 9/54.
5- التهذيب: ج 2/280 ح 14، وسائل الشيعة: ج 5/440 أبواب الأذان والإقامة ب 32 ح 1 (7031).
6- صفحة 392 من هذا المجلّد.

ولا يؤذّن قبل دخول الوقت إلّافي الصبح.

(و) الأمر الخامس: دخول الوقت: ف (لا يؤذّن) ولا يُقيم (قبل دخول الوقت) بلا خلافٍ فيه في غير أذان الصُّبح.

وعن غير واحدٍ(1): دعوى الإجماع عليه.

وتشهد له: - مضافاً إليه - جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح معاوية بن وهب، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ ، قال:

«لا تنتظر بأذانك وإقامتك إلّادخول وقت الصَّلاة»(2). ونحوه غيره.

(إلّا في الصبح) حيث رُخّص في تقديم الأذان فيه على الوقت، كما هو المشهور، وعن غير واحدٍ(3) دعوى الإجماع عليه.

وتشهد له: جملةٌ من النصوص:

منها: النصوص الدالّة على أنّه كان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله مؤذِّنان أحدهما ابن أُمّ مكتوم، والآخر بلال، وكان ابن أُمّ مكتوم أعمى، وكان يؤذِّن قبل الفجر(4).

ومنها: صحيح ابن سنان، عن مولانا الصادق عليه السلام، قال:

«قلت له: إنّ لنا مؤذّناً يؤذِّن بليل ؟

فقال عليه السلام: أمّا إنّ ذلك ينفع الجيران لقيامهم إلى الصَّلاة، وأمّا السُنّة فإنّما يتأدّى).

ص: 431


1- كما عن المحقّق في المعتبر: ج 2/138، والعلّامة في التحرير: ج 1/36، والكركي في جامع المقاصد: ج 2/174، والعاملي في المدارك: ج 3/277، والجواهري في الجواهر: ج 9/77.
2- الفقيه: ج 1/284 ح 876 / وسائل الشيعة: ج 5/388 أبواب الأذان والإقامة ب 8 ح 1 (6877).
3- كما عن المحقّق في المعتبر: ج 2/138، والعلّامة في المختلف: ج 2/146، والعاملي في المدارك: ج 3/277، والجواهري في الجواهر: ج 9/77.
4- الفقيه: ج 1/297 ح 906، وفيه: (وكان ابن أُمّ مكتوم يؤذّن باللّيل).

مع طلوع الفجر، ولا يكون بين الأذان والإقامة إلّاالركعتان»(1)، وقريب منه غيره.

نعم، الظاهر من النصوص عدم كون الأذان المتقدّم على الفجر، هو الأذان المشروع لصلاة الصبح، وإنّما هو مستحبٌّ مستقلٌّ ، كما يظهر لمن لاحظ النصوص، وعليه فيمكن أنْ يُقال إنّ النزاع في المسألة لفظي، إذ مَنْ ذَهب إلى المنع أراد أذان الصَّلاة، ومن اختار الجواز أراد استحبابه في نفسه.).

ص: 432


1- التهذيب: ج 2/53 ح 17، وسائل الشيعة: ج 5/390 أبواب الأذان والإقامة ب 8 ح 2 (6883).

ويُستحبّ إعادته بعد دخوله، ويشترط فيهما الترتيب.

(ويستحبّ إعادته بعد دخوله):

إمّا على ما ذكرناه من عدم الإتيان بالسُنّة.

وإمّا بناءً على أنّه أذان الفجر، فلما روي: «إنّ بلالاً أذّن قبل طلوع الفجر فأمره النبيّ صلى الله عليه و آله أن يُعيد الأذان»(1).

الأمر السادس: الترتيب بينهما، بتقديم الأذان على الإقامة، بلا خلافٍ فيه، وعن بعضهم(2) دعوى الإجماع عليه.

واستدلّ له في «الجواهر»(3): بالأصل والتأسّي، إذ هو الثابت من النصوص، وإمكان دعوى القطع باستفادته مَنْ تصفّح النصوص.

(و) كذا (يشترط فيهما الترتيب) بين فصول كلّ منهما إجماعاً.

ويشهد له: - مضافاً إليه - مرسل «الفقيه»، قال:

«قال أبو جعفر عليه السلام: تابع بين الوضوء - إلى أنْ قال - وكذلك الأذان والإقامة، فابدأ بالأوّل فالأوّل، فإنْ قلت حَيّ على الصَّلاة قبل الشهادة، شهدت ثمّ قلت حَيّ على الصَّلاة»(4).).

ص: 433


1- احتجّ به السيّد في الناصريّات ص 182، وحكاه النوري - عن ابن أبي جمهور في غوالي اللآلي - في مستدرك وسائل الشيعة: ج 4/26 أبواب الأذان والإقامة ب 7 ح 3 (4091).
2- كما عن النراقي في مستند الشيعة: ج 4/487، والجواهري في الجواهر: ج 9/90.
3- جواهر الكلام: ج 9/91.
4- الفقيه: ج 1/46 ح 89، وسائل الشيعة: ج 5/442 أبواب الأذان والإقامة ب 33 ح 3 (7037).
حكم المخالف للترتيب

لو خالف المصلّي الترتيب بأن قدَّم الإقامة على الأذان، أعادها بعد الأذان ليحصل الترتيب.

وما ذكره بعض المحقّقين(1): من أنّه في الفرض:

إمّا لا يكون الإتيان بالأذان بعد الإقامة مشروعاً.

أو لا يلزم إعادة الإقامة، وذلك لأنّه حين الإتيان بالإقامة كان مكلّفاً بها، لجواز الاقتصار عليها، وقد أتى بها عليوجه الصحيح، فسقط التكليف بها، والأذان اللّاحق لا يُعقل أن يؤثّر في الإقامة السابقة، بأنْ يقلبها عمّا وقعت عليه، فحينئذٍ:

إنْ دلَّ الدليل على مشروعيّة الأذان بعدها، فمقتضاه انتفاء شرطيّة الترتيب، فلا يلزم إعادة الإقامة.

وإنْ دلَّ الدليل على بقاء الشرطيّة، فهو يقتضي عدم مشروعيّة الأذان ولا ثالثٌ لهما.

ضعيفٌ : إذ مع فرض دلالة الدليل على اعتبار الترتيب بين الأذان والإقامة في حال الجمع، تكون صحّة الإقامة الموجبة لسقوط أمرها، متوقّفة على عدم إتيان الأذان بعدها، الموجب لمخالفة الشرط.

وبعبارة اُخرى: مقتضى اعتبار الترتيب أنْ يكون الأذان قبل الإقامة، وتكون الإقامة بعد الأذان، وعليه فلو أتى بالأذان بعدها، لا تكون الإقامة صحيحة، لا لأنّ الأذان أوجب انقلابها عمّا وقعت عليه، بل لكشف ذلك عن عدم وقوعها صحيحةً من الأوّل.

ص: 434


1- السيّد الحكيم قدس سره في المستمسك: ج 5/588.

فإنْ قلت: لم تلتزم في الفرض بعدم مشروعيّة الأذان بعد الإقامة ؟

قلت: لإصالة بقاء مشروعيّته بعد الإقامة، المقتضية لجواز تداركه، وما في خبر السّاباطي(1) من جواز الاقتصار على إعادة الأذان وحده، دون الإقامة، لا ينافي ما ذكرناه حتّى يلزم طرحه كما في «الجواهر»(2)؛ لإمكان حمله على أنّ استحباب الأذان ليس ارتباطيّاً بالإضافة إلى الإقامة، ويجوز الاقتصار عليه، الذي يكون مفروغاً عنه عندهم.

ومنه يظهر ضعف ما أفاده بعض الأعاظم(3) من إنّ الاقتصار على الأذان لم أقف على دليله من النصوص.

وأيضاً: ولو خالف الترتيب فيما بين فصولهما، فيرجع إلى موضع المخالفة ويأتي إلى الآخر، ويشهد له مرسل «الفقيه» المتقدّم.

ثمّ إنّه قد نصَّ بعضهم(4) على اعتبار الموالاة بين الفصول من كلّ منهما، ولم أقف على دليله.

نعم، الفصل بما يوجبُ محو الصورة، والإخلال بالهيئة الكلاميّة المعتبرة في صحّة كونه كلاماً، يكون قادحاً، ولا يخفى وجهه.

***5.

ص: 435


1- سئل أبو عبد اللّه عليه السلام: (عن الرّجل نسي من الأذان حرفاً فذكره حين فرغ من الأذان والإقامة ؟ قال: يرجع الى الحرف الذي نسيه فليقله، وليقل من ذلك الحرف الى آخره، ولا يعيد الأذان كلّه ولا الإقامة)، الفقيه: ج 1/289 ح 894، وسائل الشيعة: ج 5/442 أبواب الأذان والإقامة ب 33 ح 4 (7038).
2- راجع جواهر الكلام: ج 9/91.
3- المحقّق السيّد الحكيم قدس سره في المستمسك: ج 5/587.
4- نصَّ عليه العلّامة في نهاية الإحكام: ج 1/415، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 2/189، والشهيدالثاني في شرح اللّمعة: ج 1/585، والسيّد اليزدي في العروة الوثقى: ج 2/425.

ويستحبّ كون المؤذّن عَدْلاً، صَيّتاً، بصيراً بالأوقات،

ما يستحبُّ في الأذان والإقامة
اشارة

(ويستحبُّ ) فيهما اُمور:

كون المؤذّن عَدْلاً

الأمر الأوّل: (كون المؤذّن عَدْلاً)، والمراد منه أنّه يستحبّ للحاكم أو المكلّفين اختيار المؤذّن العادل، كما هو المشهور.

وعن ابن الجُنيد(1): اشتراطه في صحّة الأذان.

ويشهد له: ما رواه الصدوق مرسلاً، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: يؤمّكم أقرأكم، ويؤذّن لكم خِياركم»(2).

و صَيّتاً

الأمر الثاني: أنْ يكون (صَيّتاً) أي رفيع الصوت، ويشهد له - مضافاً إلى فتوى الأصحاب - قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «ألقه على بلال فإنّه أندى منك صوتاً»(3).

و بصيراً بالأوقات

الأمر الثالث: أنْ يكون المؤذّن (بصيراً بالأوقات).

واستدلّ له(4): بالأمن من الغلط، وبفتوى الأصحاب من باب المسامحة، وهما كما ترى .

ص: 436


1- حكاه عن ابن الجنيد العلّامة في مختلف الشيعة: ج 2/150.
2- الفقيه: ج 1/285 ح 880، وسائل الشيعة: ج 5/410 أبواب الأذان والإقامة ب 16 ح 3 (6953).
3- مسند أحمد: ج 4/43، سنن البيهقي: ج 1/399، سنن الدارمي: ج 1/269.
4- علّل بالأمن من الغلط، وفي فتوى الأصحاب كالمحقّق في المعتبر: ج 2/127، وبالأوّل العلّامة في المنتهى 406، والشهيد في الذكرى : ص 172 (ط. ق)، والكركي في جامع المقاصد: ج 2/176، والسيّد العاملي في مدارك الأحكام: ج 3/271، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/338.

متطهّراً.

استحباب الطهارة في الأذان واعتبارها في الإقامة

الأمر الرابع: أنْ يكون (متطهّراً) إجماعاً، حكاه غير واحدٍ(1).

ويدلّ عليه: المرسل المرويّ عن كتب الفروع:

«لا تؤذّن إلّاوأنتَ متطهّر»(2).

وفي آخر: «حقّ وسنّةٌ أنْ لا يؤذّن أحدٌ إلّاوهو طاهر»(3).

وظاهرهما وإنْ كان اعتبار الطهارة فيه، إلّاأنّهما يُحملان على الاستحباب، للنصوص الآتية، الصريحة في جواز الأذان والمؤذّن على غير طهر.

ويشهد للإستحباب: - مضافاً إلى ذلك - خبر «الدعائم»:

«لا بأس أن يؤذّن الرّجل، وهو على غير طهر، وعلى طُهر أفضل»(4).

هذا في الأذان.

وأمّا الإقامة: فعن جماعةٍمن القدماء(5) والمتأخّرين(6) اعتبارها فيها، و هو الأقوي .

ص: 437


1- كالشيخ في الخلاف: ج 1/281، والعلّامة في التذكرة: ج 1/67، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 176/2.
2- في سنن البيهقي: ج 1/397 (لا تؤذّن إلّامتطهّراً)، وحكاه صاحب الجواهر عن كتب الفروع في الجواهر: ج 9/58.
3- سنن البيهقي: ج 1/397، كنز العمّال: ج 8/343 ح 33180.
4- دعائم الإسلام: ج 1/146، مستدرك وسائل الشيعة: ج 4/26 أبواب الأذان والإقامة ب 8 ح 2 (4094).
5- كالصدوق في المقنع: ص 91، والمفيد في المقنعة: ص 98، والسيّد المرتضى في رسائله (جمل العلم والعمل): ج 3/30، والشيخ في النهاية: ص 66، وابن البرّاج في المهذّب: ج 1/91.
6- كالعلّامة الحِلّي في منتهى المطلب: ج 4/400، والفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 3/367، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/340.

ونُسِب إلى المشهور(1) الاستحباب أيضاً.

وتشهد للمختار: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح ابن سنان، عن مولانا الصادق عليه السلام: «لا بأس أن تؤذّن وأنتَ على غير طهورٍ، ولا تُقيم إلّاوأنتَ على وضوء»(2).

ومنها: صحيح الحلبي - أو حسنه - عنه عليه السلام: «لا بأس أن يؤذّن الرّجل من غير وضوء، ولا يُقيم إلّاوهو على وضوء»(3) ونحوهما غيرهما.

فإنّ المستفاد من الأمر بالإقامة متطهِّراً، اعتبار الطهارة فيها، إذ ظاهر الأمر المتعلّق بكيفيّة العمل، الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة، و لا وجه لحمل النصوص على الاستحباب، سوى ما اشتهر بينهم من عدم حمل المطلق على المقيّد في المستحبّات.

وفيه: إنّ ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كان دليل المقيّد استحبابيّاً، وأمّا إذا كان دليل المقيّد إلزاميّاً، مسوقاً لبيان اعتبار ما تعلّق الأمر به فيه فيما أمر به في دليل المطلق، فلا يتمّ فيه ذلك، إذ نتيجة الأمرين حينئذٍ انحصار الطلب الاستحبابي بالمقيّد، وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه.

***

استحباب القيام في الأذان، واعتباره في الإقامة

الأمر الخامس: أنْ يكون المؤذّن قائماً إجماعاً، حكاه جماعة(4).

ويشهد له: خبر حمران، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن الأذان جالساً؟

ص: 438


1- نسبه إلى المشهور المحدِّث البحراني: ج 7/340.
2- التهذيب: ج 2/53 ح 19، وسائل الشيعة: ج 5/392 أبواب الأذان والإقامة ب 9 ح 3 (6887).
3- الكافي: ج 3/304 ح 11، وسائل الشيعة: ج 5/391 أبواب الأذان والإقامة ب 9 ح 2 (6886).
4- المحقّق الحِلّي في المعتبر: ج 2/271، العلّامة الحِلّي في تذكرة الفقهاء: ج 3/70، والفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 4/502، والنراقي في المستند: ج 4/502.

قال عليه السلام: لا يؤذّن جالساً إلّاراكب أو مريض»(1).

ونحوه المرسل المرويّ عن كتاب «دعائم الإسلام»(2)، المحمولان على الاستحباب، للنصوص الصريحة في عدم اعتباره فيه، كصحيح محمّد بن مسلم:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أيؤذّن(3) الرّجل وهو قاعد؟ قال: نعم، ولا يُقيم إلّا وهو قائم»(4). ونحوه غيره.

وظاهر هذه النصوص اعتبار القيام في الإقامة، فتقيّد المطلقات بها.

أقول: ولبعض الأعاظم رحمه الله(5) في المقام كلام لا يخلو إيراده عن فائدة، وإليك خلاصته:

(أنّ استفادة التقييد بالنسبة إلى أصل الطبيعة من مثل هذه النصوص مشكلة، إذ نصوص الباب على قسمين:

الأوّل: ما تضمّن الأمر بالإقامة قائماً.

الثاني: ما تضمّن النهي عن الفاقدة للخصوصيّة.

أمّا القسم الأوّل: فلعدم حمل المطلق على المقيّد في المستحبّات، إلّاأنْ يكون دليل المقيّد إلزاميّاً نفسيّاً.

وأمّا القسم الثاني: فلأنّ المتبادر من النهي وإنْ كان إرادة الحكم الوضعي، إلّا أنّه كما يمكن أنْ يكون النهي إرشاداً إلى عدم حصول ذاتها إلّابهذا، كذلك يمكن أنْ يكون إرشاداً إلى عدم حصول الفرد الكامل إلّابه.7.

ص: 439


1- التهذيب: ج 2/57 ح 39، وسائل الشيعة: ج 5/404 أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 11 (6932).
2- دعائم الإسلام: ج 1/146، مستدرك وسائل الشيعة: ج 4/33 أبواب الأذان والإقامة ب 12 ح 2 (4112).
3- في وسائل الشيعة: «يؤذّن الرّجل».
4- التهذيب: ج 2/56 ح 34، وسائل الشيعة: ج 5/402، أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 5 (6926).
5- المحقّق الهمداني: ج 11/277.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّ المتبادر منه هو الأوّل، ولذا نلتزم به في الواجبات.

وأجاب عنه: بأنّه فرقٌ بين الواجبات والمستحبّات، فإنّ الأوامر الإرشاديّة المتعلّقة بكيفيّة العمل في الأُولى ، يمكن إبقاءها على ظاهرها من الوجوب، فتدلّ على كون متعلّقها معتبراً في قوام ذات المأمور به.

وأمّا في الثانية، فلا يعقل أنْ يكون الطلب المتعلّق بكيفيّة العمل إلزاميّاً، إلّاأن يُقصد به تكليفاً نفسيّاً، وهو خلاف الظاهر، فيُشكل حينئذٍ استفادة كون متعلّقه معتبراً في قوام ذات المأمور به)، انتهى ملخّصاً.

وفيه: ما عرفت من أنّه يُحمل المطلق على المقيّد في المستحبّات إذا كان دليل المقيّد إلزاميّاً إرشاديّاً.

ودعوى: عدم معقوليّة كون الأمر المتعلّق بكيفيّة العمل المستحبّ إلزاميّاً.

واضحة الفساد: لأنّ مرجع كونه إلزاميّاً إلى أنّ الطلب الاستحبابي متعلّق بالحصّة الخاصّة، لا الطبيعة مطلقاً، وهذا مضافاً إلى معقوليّته، ظاهرٌ من الأمر المتعلّق بالكيفيّة.

ومنه: يظهر أنّ استفادة التقييد بالنسبة إلى أصل الطبيعة من القسم الثاني من النصوص أيضاً واضحة لا إشكال فيها.

ص: 440

قائماً على مرتفعٍ ، مستقبلاً للقبلة،

قائماً على مرتفع

الأمر السادس: أنْ يكون (قائماً على مرتفع).

ويدلّ عليه: خبر ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «كان طول حائط مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله قامة، فكان يقول لبلال إذا أذَّن: يا بلال اُعلُ فوق الجدار وارفع صوتك بالأذان»(1).

بقيّة ما يستحبّ فيهما
اشارة

الأمر السابع: أنْ يكون (مستقبلاً للقبلة) في الأذان والإقامة.

أمّا في الأوّل: فيشهد له - مضافاً إلى عدم الخلاف فيه - خبر «دعائم الإسلام» عن عليّ عليه السلام: «يستقبل المؤذّن القبلة في الأذان والإقامة»(2).

وكفى به دليلاً للاستحباب، لقاعدة التسامح.

وأمّا في الإقامة: فتشهد له النصوص الدالّة على أنّ الإقامة من الصَّلاة:

منها: خبر يونس الشيباني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أقمتَ الصَّلاة، فأقم مترسّلاً فإنّك في الصَّلاة»(3).

ونحوه خبر سليمان بن صالح(4) وغيره، فإنّها بمقتضى إطلاق التنزيل ظاهرة في اعتبار الاستقبال فيها، ولكنّه لابدَّ من حملها على الاستحباب بقرينة خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «أنّه سُئل عن الرّجل يفتتح الأذان والإقامة، وهو على غير

ص: 441


1- الكافي: ج 3/307/31، وسائل الشيعة: ج 5/411، أبواب الأذان والإقامة ب 16 ح 7 (6957).
2- دعائم الإسلام: ج 1/144، وعنه البحار: ج 81/157.
3- التهذيب: ج 2/282 ح 27، وسائل الشيعة: ج 5/403 أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 9 (6930).
4- التهذيب: ج 2/56 ح 37، وسائل الشيعة: ج 5/404 أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 12 (6933).

رافعاً صوته، مرتّلاً للأذان، ومحدّراً للإقامة.

القبلة، ثمّ استقبل القبلة ؟ قال: لا بأس»(1).

مع إنّ نصوص التنزيل ضعيفة السند، وفتوى الأصحاب بالاستحباب يمكن أن تكون لقاعدة التسامح، لا للاعتماد عليها، كي يُجبر به ضعف السند.

فتحصّل: إنّ الأقوى استحباب الإقامة مطلقاً، إلّاأنّ الأولى أنْ يكون في حال الإقامة مستقبل القبلة، فما عن السيّد وجماعة منهم صاحب «الحدائق» رحمه الله من القول بوجوبه فيها ضعيفٌ .

رافعاً صوته

الأمر الثامن: أنْ يكون (رافعاً صوته) في الأذان والإقامة:

لصحيح معاوية، عن مولانا الصادق عليه السلام: «عن الأذان ؟ فقال عليه السلام: اِجهر به، وارفع به صوتك، وإذا أقمتَ فدون ذلك»(2).

وصحيح زرارة، عن مولانا الباقر عليه السلام: «وكلمّا اشتدّ صوتك من غير أن تجهد نفسك، كان من يسمع أكثر، وكان أجرك في ذلك أعظم»(3).

مرتّلاً للأذان ومحدّراً للإقامة

الأمر التاسع: أنْ يكون (مرتّلاً للأذان ومحدّراً للإقامة).

ويشهد له: خبر الحسن به السّري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«الأذان ترتيلٌ والإقامة حَدرٌ»(4).

وصحيح معاوية عنه عليه السلام: «واحدِرْ إقامتك حَدْراً»(5).

والمراد من الحدر الإسراع، فلا ينافي الجزم في أواخر الفصول.

ص: 442


1- مسائل علي بن جعفر: ص 232، قرب الإسناد: ص 86، وسائل الشيعة: ج 5/457 أبواب الأذان والإقامة ب 47 ح 2 (7076).
2- الفقيه: ج 1/284 ح 876، وسائل الشيعة: ج 5/409 أبواب الأذان والإقامة ب 16 ح 1 (6951).
3- الفقيه: ج 1/284 ح 875، وسائل الشيعة: ج 5/410 أبواب الأذان والإقامة ب 16 ح 2 (6952).
4- الكافي: ج 3/306 ح 26، وسائل الشيعة: ج 5/429 أبواب الأذان والإقامة ب 24 ح 3 (7002).
5- الفقيه: ج 1/284 ح 876، وسائل الشيعة: ج 5/388 أبواب الأذان والإقامة ب 8 ح 1 (6877).

فاصلاً بينهما بجلسةٍ ، أو سجدةٍ ، أو خطوة.

فاصِلاً بينهما بِجلْسةٍ أو سَجْدةٍ أو خطوة

الأمر العاشر: أنْ يكون (فاصِلاً بينهما بِجلْسةٍ أو سَجْدةٍ أو خطوة) أو صلاة ركعتين، أو تسبيحةٍ ، أو غيرها في غير المغرب، وأمّا فيها فالأولى الفصل بجلسةٍ خفيفة أو نحوها كما هو المشهور.

وتشهد له: جملة من النصوص:

منها: صحيح سليمان بن جعفر الجعفري: «سمعته يقول: افرق بين الأذان والإقامة بجلوسٍ أو بركعتين»(1).

ومنها: خبر الحسن بن شهاب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لابدّ من قعودٍ بين الأذان والإقامة»(2).

ومنها: موثّق عمّار، عنه عليه السلام: «وافصل بين الأذان والإقامة بقعود، أو بكلام، أو بتسبيح»(3).

ومنها: خبر ابن أبي عُمير، عن أبيه، عنه عليه السلام قال: «رأيته أذّن ثمّ أهوى للسجود، ثمّ سجد سجدةً بين الأذان والإقامة، فلما رفع رأسه، قال: يا أبا عُمير من فعل مثل فِعلي غَفَرَ اللّه له»(4).

وفي مرسل ابن فرقد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «بين كلّ إذانين قعدة إلّاالمغرب فإنّ بينها نَفَساً»(5). ونحوها غيرها.

ص: 443


1- التهذيب: ج 2/64 ح 20، وسائل الشيعة: ج 5/397 أبواب الأذان والإقامة ب 11 ح 2 (6907).
2- التهذيب: ج 2/64 ح 19، وسائل الشيعة: ج 5/397 أبواب الأذان والإقامة ب 11 ح 1 (6906).
3- الفقيه: ج 1/285 ح 877، وسائل الشيعة: ج 5/397 أبواب الأذان والإقامة ب 11 ح 4 (6909).
4- فلاح السائل ص 152، وسائل الشيعة: ج 5/400 أبواب الأذان والإقامة ب 11 ح 15 (6920).
5- التهذيب: ج 2/64/22، وسائل الشيعة: ج 5/398 أبواب الأذان والإقامة ب 11 ح 7 (6912).

أقول: الظاهر من هذه النصوص، أنّ الفصل في نفسه مستحبٌّ ، وما جرى ذكره إنّما هو من باب التمثيل، وعليه فما ذكره بعض الأعاظم(1) من إنّ الخطوة لم يُعرف لها دليلٌ إلّا «الرضوي»(2)، وهو كما ترى ليس في محلّه.

ثمّ إنّ ظاهر جملةٍ من هذه النصوص، وإنْ كان وجوب الفصل، إلّاأنّها محمولة على الاستحباب، لعدم القول بالوجوب من أحدٍ، مع أنّه المستفاد من مجموعها بعد التدبّر، فلاحظ.

وأيضاً: قد يتوهّم اختصاص استحباب الفصل بصلاة ركعتين بالظُّهرين، لخبر زُريق، عن الصادق عليه السلام: «من السُنّة الجِلْسة بين الأذان والإقامة في صلاة الغداة، وصلاة المغرب، وصلاة العشاء، ليس بين الأذان والإقامة سبحة، ومن السُنّة أن يتنفّل بين الأذان والإقامة في صلاة الظهر والعصر»(3).

لكنّه توهّمٌ فاسد، إذ الظاهر منه أنّه لا يستحبّ إتيان شيء من نوافل الصَّلاة بين الاذانين بعنوان التوظيف إلّافي الظهرين، وهذا لا ينافي استحباب الفصل بينهما في غيرهما بالنافلة.

وعليه، فلا ينافي هذا الخبر صحيح سليمان المتقدّم، الدالّ بإطلاقه على استحباب الفصل بصلاةٍ من ركعتين في صلاة العشاء والغداة.

وأيضاً: ما توهمه بعضٌ (4) من عدم استحباب الفصل بينهما في المغرب بجلسةٍ 2.

ص: 444


1- السيّد الحكيم قدس سره في المستمسك: ج 5/601.
2- قال عليه السلام: (وأمّا المنفرد فيخطو اتّجاه القبلة خطوة برجله اليمنى)، فقه الرضا: ص 97، المستدرك: ج 4/30 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 2 (4103).
3- الأمالي للطوسي: ص 695، وسائل الشيعة: ج 5/400 أبواب الأذان والإقامة ب 11 ح 13 (6918).
4- السيّد الحكيم في المستمسك: ج 5/602.

أو نحوها لمرسل ابن فرقد المتقدّم.

فاسدٌ: لخبر زريق المتقدّم، الدالّ على استحباب الفصل بها في المغرب، وخبر إسحاق الجريري، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«من جَلَس فيما بين أذان المغرب والإقامة، كان كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه»(1). ونحوهما غيرهما.

أقول: ولأجل هذه النصوص يُحمل النَّفَسُ في المرسل على فصلٍ مّا، غير المنافي مع الجلسة الخفيفة أو نحوها، ويشهد لهذا الحمل خبر «الدعائم» عن جعفر بن محمّد، في حديث: «وأقلّ ما يجزي في صلاة المغرب الّتي لا صلاة قبلها، أن يجلس بعد الأذان جِلْسة يمسّ فيه الأرض بيده»(2).

فظهر أنّ السُنّة في المغرب الفصل بجِلْسةٍ خفيفة أو خطوة أو نحوهما.

***).

ص: 445


1- التهذيب: ج 2/64 ح 24، وسائل الشيعة: ج 5/399 أبواب الأذان والإقامة ب 11 ح 10 (6915).
2- دعائم الإسلام: ج 1/145 ح 58، المستدرك: ج 4/30 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 1 (4102).

ويُكره أنْ يكون ماشياً أو راكباً مع القدرة.

ما يُكره في الأذان ويعتبر في الإقامة

(ويُكره) في الأذان اُمورٌ، وبعضها يعتبر في الإقامة:

الأمر الأوّل: (أنْ يكون) المؤذّن حين الأذان (ماشياً أو راكباً مع القدرة).

ويُستفاد ذلك من النصوص الدالّة على رجحان القيام في الأذان، إذ المتبادر إلى الذهن من القيام، الوقوف على الأرض في حال السكون، فتأمّل.

وأمّا في الإقامة: فالظاهر اعتبار عدم الركوب والمشي فيها، لما عرفت من اعتبار القيام فيها.

وتشهد له: - مضافاً إليه - جملةٌ من النصوص:

منها: موثّق أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «ولا تُقيم وأنتَ راكبٌ أو جالس»(1).

ومنها: خبر سليمان بن صالح، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا يُقيم أحدكم للصَّلاة(2)وهو ماشٍ ولا راكبٍ ، ولا مضطجع، إلّاأنْ يكون مريضاً»(3).

ونحوهما غيرهما.

نعم، لابأس بالإقامة في حال المشي إلى الصَّلاة، لخبر يونس الشيباني، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «قلت: فاُقيمُ وأنا ماشٍ؟ قال: نعم ماشٍ إلى الصَّلاة»(4).

ص: 446


1- التهذيب: ج 2/56 ح 32، وسائل الشيعة: ج 5/403 أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 8 (6929).
2- في المصدر «الصَّلاة».
3- التهذيب: ج 2/56 ح 37، وسائل الشيعة: ج 5/404 أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 12 (6933).
4- التهذيب: ج 2/57 ح 38، وسائل الشيعة: ج 5/403 أبواب الأذان والإقامة ب 13 ح 9 (6930).

والإعراب في آخر الفصول، والكلام في خلالهما.

(و) الأمر الثاني: (الإعراب في أواخر الفصول)، لخبر خالد بن نُجيح، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الأذان والإقامة مجزومان»(1).

وفي حديثٍ آخر: «موقوفان»(2).

ودعوى: التنافي بينهما وبين الخبر الصحيح - أو الحسن - الذي رواه زرارة، إنّه قال أبوجعفر عليه السلام: «الأذان جزم بإفصاح الألف والهاء، والإقامة حدر»(3).

إذ مقابلة الحدر بالجزم تدلّ على أنّ المراد به الوصل الموجب لظهور الإعراب.

مندفعة: باحتمال أنْ يكون المراد من الجزم فيه طول الوقف.

(و) الأمر الثالث: (الكلام في خلالهما) كما هو المشهور، بل عن «الغُنية»(4):

دعوى الإجماع على أنّ ترك الكلام أفضل.

ويشهد له في الأذان: مضمر سماعة، قال: سألته عن المؤذّن أيتكلّم وهو يؤذّن ؟ قال عليه السلام: لا بأس حين يفرغ من أذانه»(5).

وظاهره وإنْ كان اعتبار عَدَمه فيه، إلّاأنّه يُحمل على الكراهة، لما دلَّ من النصوص الآتي بعضها على الجواز.

وتشهد له في الإقامة: جملةٌ من الأخبار:).

ص: 447


1- الفقيه: ج 1/284 ح 874، وسائل الشيعة: ج 5/409 أبواب الأذان والإقامة ب 15 ح 4 (6948).
2- الفقيه: ج 1/284 ح 874، وسائل الشيعة: ج 5/409 أبواب الأذان والإقامة ب 15 ح 5 (6949).
3- التهذيب: ج 2/58 ح 43، وسائل الشيعة: ج 5/408 أبواب الأذان والإقامة ب 15 ح 2 (6946).
4- غنية النزوع: ص 73.
5- التهذيب: ج 2/54 ح 23، وسائل الشيعة: ج 5/394 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 6 (6898).

منها: صحيح عمرو بن أبي نصر، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أيتكلّم الرّجل في الأذان ؟ قال: لا بأس.

قلت: في الإقامة ؟ قال عليه السلام: لا»(1).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: لا تتكلّم إذا أقمتَ الصَّلاة، فإنّك إن تكلّمت أعدت الإقامة»(2).

أقول: أمّا خبر أبي هارون: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: يا أبا هارون الإقامة من الصَّلاة، فإذا أقمتَ فلا تتكلّم ولا تؤمّ بيدك»(3)، فهو محمول على الكراهة بقرينة ما دلَّ على الجواز، كصحيح الحلبي، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يتكلّم في أذانه وفي إقامته ؟

فقال عليه السلام: لابأس»(4). ونحوه غيره.

وربما يُجمع بين الطائفتين، بحمل الأُولى على الكلام الخارج عن الصَّلاة، غير المتعلّق بها، وحمل الثانية على ما تعلّق بها، بشهادة موثّق سماعة:

«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: إذا أقام المؤذّن الصَّلاة، فقد حَرُم الكلام، إلّاأنْ يكون القوم ليس يُعرف لهم إمام»(5). ونحوه صحيح زرارة(6).

وفيه: إنّ بعض اخبار الجواز يأبى هذا الحمل، لكونه نصّاً في المنفرد، فلاحظ وتدبّر.).

ص: 448


1- الكافي: ج 3/304 ح 10، وسائل الشيعة: ج 5/394 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 4 (6896).
2- التهذيب: ج 2/55 ح 31، وسائل الشيعة: ج 5/394 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 3 (6895).
3- الكافي: ج 3/305 ح 20، وسائل الشيعة: ج 5/396 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 12 (6904).
4- التهذيب: ج 2/54 ح 26، وسائل الشيعة: ج 5/395 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 9 (6900).
5- التهذيب: ج 2/55 ح 30، وسائل الشيعة: ج 5/394 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 5 (6897).
6- الفقيه: ج 1/285 ح 879، وسائل الشيعة: ج 5/393 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 1 (6893).

وأضعف منه: الجمع بحمل الأُولى على ما بعد قوله: (قَد قامت الصَّلاة) بشهادة صحيح ابن أبي عمير، قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يتكلّم في الإقامة ؟ قال عليه السلام: نعم، فإذا قال المؤذّن: (قد قامت الصَّلاة) فقد حَرُم الكلام على أهل المسجد، إلّاأن يكونوا قد اجتمعوا من شتّى، وليس لهم إمام، فلا بأس أن يقول بعضهم لبعض: تقدَّم يا فلان»(1).

وجه الضعف: إباء بعض أخبار الجواز، الصريح في جواز التكلّم بعد الإقامة عن ذلك، مع أنّه لا وجه لهذا الحمل سوى شهادة الصحيح، وهو قاصرٌ عن ذلك، لأنّه اُريد من قوله عليه السلام: (فقد حَرُم الكلام) الكراهة قطعاً، إذ لا ريب في عدم حرمة الكلام على المأمومين بعد قول المؤذّن: (قد قامت الصَّلاة).

فتحصّل: أنّ الأقوى كراهته فيها، وتأكّدها بعد قول (قد قامت الصَّلاة)، وعليه فما عن غير واحدٍ من القدماء(2) من الحكم بعدم الجواز ضعيفٌ .

***2.

ص: 449


1- التهذيب: ج 2/55 ح 29، وسائل الشيعة: ج 5/394 أبواب الأذان والإقامة ب 10 ح 7 (6899).
2- مثل الشيخ في النهاية: ص 66، وابن حمزة في الوسيلة: ص 92.

والترجيع لغير الإشعار، ويَحرُم قول: الصَّلاة خَيرٌ من النّوم.

(و) الأمر الرابع: (الترجيع) في الأذان (لغير الإشعار) كما هو المشهور، بل في «التذكرة»(1): عند علمائنا.

وهو تكرار التكبير والشهادتين من أوّل الأذان، كما عن الشيخ في «المبسوط»(2) تفسيره به.

أقول: ولا وجه للكراهة، سوى فتوى الأصحاب، وهو كما ترى .

نعم، لو كان بقصد الجزئيّة، فهو تشريعٌ محرّم.

هذا فيما إذا لم يقصد به الإشعار، وإلّا فلا ريب في جوازه، بل يكون راجحاً لخبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«لو أنّ مؤذّناً أعاد في الشهادة أو في حَيّ على الصَّلاة أو حَيّ على الفلاح مرّتين أو الثلاث أو أكثر من ذلك، إذا كان إماماً يريد به جماعة القوم ليجمعهم، لم يكن به بأس»(3).

الأمر الخامس: قول الصَّلاة خَيرٌ من النوم، كما عن الشيخ في «المبسوط»(4)، وعن المرتضى في «الانتصار»(5).

(و) عن جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله، والشيخ في «النهاية»(6)، وابن إدريس(7)،2.

ص: 450


1- تذكرة الفقهاء: ج 3/45.
2- المبسوط: ج 1/95.
3- الكافي: ج 3/308 ح 34، وسائل الشيعة: ج 5/428 أبواب الأذان والإقامة ب 23 ح 1 (6999).
4- المبسوط: ج 1/95.
5- الإنتصار: ص 137.
6- نهاية الإحكام: ج 1/415، قوله: (التثويب عندنا بدعة، وهو قول الصَّلاة خَيرٌ من النوم).
7- السرائر: ج 1/212.

وابن حمزة(1): (يحرم قول: الصَّلاة خَيرٌ من النوم).

أقول: إنْ كان هذا القول بعنوان التوظيف والجزئيّة، فهو تشريعٌ مُحرّم، وإلّا فلا، ويشهد له خبر زيد، عن أبي الحسن عليه السلام: «الصَّلاة خيرٌ من النّوم بدعة بني اُميّة، وليس ذلك من أصل الأذان، فلا بأس إذا أراد أن يُنبّه الناس للصَّلاة أن يُنادي بذلك، ولا يجعله من أصل الأذان، فإنّا لا نراه أذاناً»(2).

ويؤيّد عدم كراهته إذا لم يقصد به الجزئيّة، خبر محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «كان أبي يُنادي في بيته بالصَّلاة(3) خَيرٌ من النوم»(4).

واستدلّ لكراهته بصحيح معاوية بن وهب، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن التثويب الذي يكون بين الأذان والإقامة ؟ فقال عليه السلام: ما نعرفه»(5).

وفيه: - مضافاً إلى أنّ قوله عليه السلام: (ما نعرفه) يدلّ على عدم كونه من الأذان لا كراهته، ولو لم يأتِ به بعنوان الجزئيّة - أنّ الظاهر كونه إشارةً إلى ردّ ما عن أبي حنيفة من استحباب قول: (حَيّ على الصَّلاة حَيّ على الفلاح) بين الأذان والإقامة.

وأمّا خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «النداء والتثويب في الإقامة من السُنّة»(6)، فمجملٌ ، ويحتمل أنْ يكون المراد بالتثويب فيه، تكرار الفصول زيادةً على الموظّف بقصد الإشعار.

وأمّا خبر ابن سنان عنه عليه السلام: «إذا كنتَ في أذان الفجر فقُل: (الصَّلاة خَيرٌ من6)

ص: 451


1- الوسيلة: ص 92.
2- الاُصول الستّة عشر (أصل زيد النرسي): ص 54، المستدرك: ج 4/44 ح (4140).
3- في المصدر: «بالصَّلاة».
4- التهذيب: ج 2/63 ح 15، وسائل الشيعة: ج 5/427 أبواب الأذان والإقامة ب 22 ح 4 (6997).
5- الكافي: ج 3/303 ح 6، وسائل الشيعة: ج 5/425 أبواب الأذان والإقامة ب 22 ح 1 (6994).
6- التهذيب: ج 2/62 ح 14، وسائل الشيعة: ج 5/426 أبواب الأذان والإقامة ب 22 ح 3 (6996)

النوم) بعد حَيّ على خير العمل، وقُل بعد اللّه أكبر: (لا إله إلّااللّه) ولا تَقُل في الإقامة: (الصَّلاة خَيرٌ من النوم) إنّما هو في الأذان»(1)، فمحمولٌ على التقيّة، كما عن الشيخ رحمه الله التصريح به، أو مطروحٌ لإجماع الطائفة على ترك العمل به.

ويؤيّد الحمل على التقيّة، اشتماله على التهليل في آخر الأذان مرّة واحدة.

ودعوى:(2) إنّه لاشتماله على قوله: (حَيّ على خَير العمل) غيرُ قابلٍ للحمل على التقيّة.

مندفعة: بما ذكره غير واحدٍ(3) من أنّه يحتمل قويّاً معهوديّة الإتيان به لدى الشيعة سرّاً من باب التقيّة.

***1.

ص: 452


1- أورده المحقّق في المعتبر: ج 2/145، وعنه وسائل الشيعة: ج 5/427 أبواب الأذان والإقامة ب 22 ح 5 (6998).
2- ادّعاه المحقّق في المعتبر: ج 2/145.
3- كالسيّد العاملي في المدارك: ج 3/292، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 7/421.
أحكام الأذان والإقامة
اشارة

ترك الأذان والإقامة نسياناً

الموضع الرابع: من المواضع التي يقع النظر فيها في أحكام الأذان والإقامة، وفيه مسائل وقد تقدّم بعضها.

ترك الأذان والإقامة نسياناً

ومنها: مَنْ تَرَك الأذان والإقامة نسياناً حتّى أحرم للصَّلاة، جاز له القطع ما لم يركع، كما هو المشهور على ما نُسِب إليهم(1).

ويشهد له: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا افتتحت الصَّلاة فنسيتَ أن تؤذّن وتُقيم، ثمّ ذكرت قبل أن تركع، فانصرف وأذّن وأقِم واستفتح الصَّلاة، وإنْ كنت قد رَكَعتَ فأتمّ على صلاتك»(2).

أقول: نعم، تعارضه طوائف من النصوص:

الطائفة الأُولى : صحيح زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«قلتُ له: رجلٌ ينسى الأذان والإقامة حتّى يُكبِّر؟ قال عليه السلام: يمضي على صلاته ولا يُعيد»(3).

وصحيح داود، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ نسي الأذان والإقامة حتّى دخل في الصَّلاة ؟ قال عليه السلام: ليس عليه شيء»(4).

ونحوهما غيرهما.

ومقتضى إطلاقها، عدم جواز الرجوع من أوّل الدخول في الصَّلاة، لكنّها تقيّد بالصحيح، وتُحمل على ما بعد الركوع.

ص: 453


1- نسبه صاحب الجواهر: ج 9/64.
2- التهذيب: ج 2/278 ح 5، وسائل الشيعة: ج 5/434 أبواب الأذان والإقامة ب 29 ح 3 (7015).
3- التهذيب: ج 2/279 ح 8، وسائل الشيعة: ج 5/436 ح 7 (7019).
4- التهذيب: ج 2/285 ح 42، وسائل الشيعة: ج 5/434 ح 2 (7014).

الطائفة الثانية: ما يظهر منها جواز الرجوع مطلقاً: كصحيح علي بن يقطين، قال: «سألتُ أباالحسن عليه السلام عن الرّجل ينسى أن يُقيم الصَّلاة، وقد افتتح الصَّلاة ؟ قال:

إنْكان قد فرغ من صلاته فقد تمّت صلاته، وإنْ لم يكن قد فرغ من صلاته فليعد»(1).

أقول: والجمع بينه وبين الصحيح، بتقييد إطلاقه بما قبل الركوع، غير تامّ ، كما لايخفى على من لاحظ وتدبّر.

ورفع التعارض بالالتزام باختلاف مراتب الاستحباب، كما عن الشيخ رحمه الله(2)وإنْ كان متيناً، إلّاأنّه لإعراض الأصحاب عن صحيح ابن يقطين، لعدم القائل بالإعادة بعد الركوع، لا يمكن الالتزام به.

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على أنّه لو تذكّر قبل أنْ يقرأ رجع، وإلّا مضى في صلاته: كصحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن الرّجل ينسى الأذان والإقامة حتّى يدخل في الصَّلاة ؟

قال عليه السلام: إنْ كان ذكر قبل أنْ يقرأ فليصلِّ على النبيّ صلى الله عليه و آله وليُقم، وإنْ كان قد قرأ فليتمّ على صلاته»(3).

والجمع بينها وبين الصحيح، بحملها على ما بعد الركوع، أو الجمع بحمل الصحيح على ما قبل القراءة، ليس من الجمع المرضيّ عند العرف، كما لا يخفى ، فلابدّ من حملها على جواز المُضيّ ، لصراحة الصحيح في جواز الرجوع بعد الدخول في القراءة.

الطائفة الرابعة: ما تدلّ على أنّ من كان من نيّته أن يُؤذِّن ويُقيم فنسي، يَمضي في).

ص: 454


1- التهذيب: ج 2/279 ح 12، وسائل الشيعة: ج 5/433 أبواب الأذان والإقامة ب 28 ح 3 (7012).
2- تهذيب الأحكام: ج 2/278، ذيل ح 7.
3- الكافي: ج 3/305 ح 14، وسائل الشيعة: ج 5/434 أبواب الأذان والإقامة ب 29 ح 4 (7016).

صلاته: كخبر نعمان الرّازي، قال:

«سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام وسأله أبو عُبيدة الحَذّاء عن رجلٍ نَسي أن يؤذّن ويُقيم، حتّى كبّر ودخَل الصَّلاة ؟

قال عليه السلام: إنْ كان دخل المسجد ومن نيّته أن يؤذّن ويُقيم، فليمض في صلاته ولا ينصرف»(1).

وهذا الخبر وإنْ كان أخصّ من الصحيح، إلّاأنّه لا يصلح لتقييده، لأنّه يلزم حمله وحمل سائر أخبار الجواز على فردٍ نادر، وهو ما إذا لم يسبقه العزم على الفعل، فيتعيّن طرحه، أو تنزيل ما فيه من التفصيل على اختلاف مراتب الفضل.

الطائفة الخامسة: ما دلّت على كفاية قول: (قَد قامتِ الصَّلاة)، كخبر زكريّا بن آدم، قال:

«قلتُ لأبي الحسن الرضا عليه السلام: جُعِلتُ فداك كنتُ في صلاتي فذكرتُ في الركعة الثانية وأنا في القراءة إنّي لم أقم، فكيف أصنع ؟

فقال عليه السلام: اسكت موضع قراءتك، وقُل: (قد قامتِ الصَّلاة، قد قامتِ الصَّلاة) ثمّ امضِ في قراءتك وصلاتك، قد تمّت صلاتك»(2).

ولكنّه لا ينافي الصحيح، لإختصاصه بما قبل ركوع الركعة الأولى، وهذا الخبر مختصٌّ بالركعة الثانية، ويدلّ على حصول الفضل بالقول المزبور في مورده، ولا يدلّ على حصوله به حتّى في موردٍ يجوز القطع للإتيان بالأذان والإقامة، إلّاأنّ الخبر في نفسه قاصرٌ عن إثبات الحكم المذكور، لضعف سنده، وعدم العمل به.

أقول: ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الصحيح والفتاوى، عدم الفرق في جواز القطع بين).

ص: 455


1- التهذيب: ج 2/279 ح 9، وسائل الشيعة: ج 5/436 أبواب الأذان والإقامة ب 29 ح 8 (7020).
2- التهذيب: ج 2/278 ح 6، وسائل الشيعة: ج 5/435 أبواب الأذان والإقامة ب 29 ح 6 (7018).

المنفرد وغيره، وما عن المحقّق رحمه الله(1) والشيخ(2) وغيرهما(3) من التقييد بالمنفرد، غيرُ ظاهر الوجه.

كما أنّ مقتضى الإطلاق عدم الفرق بين ما إذا عَزَم على الترك زماناً معتدّاً به، ثمّ أراد الرجوع، وبين غيره.

وعليه، فما عن «الجواهر»(4) من التخصيص بالثاني، ضعيفٌ .

فرع: لو كان المنسي أحدهما، فهل يجوز القطع والإتيان به، أو لا يجوز؟

أو يفصّل بين الأذان والإقامة، فلا يجوز في الأوّل ؟ وجوهٌ وأقوال:

أقواها الأوّل، لما سيأتي في محلّه من إنّ عمدة المستند لحرمة قطع الصَّلاة الإجماع، والقدر المتيقّن منه غير المقام، ومقتضى الأصل الجواز.

هذا مضافاً إلى ما دلَّ على الجواز في الإقامة، وهو حسن حسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«سألته عن الرّجل يستفتح صلاته المكتوبة، ثمّ يذكر إنّه لم يقم ؟

قال عليه السلام: إن ذكر إنّه لم يُقم قبل أنْ يقرأ، فليُسلِّم على النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ يُقيم ويُصلّي، وإنْ ذكر بعدما قرأ بعض السّورة، فليتمّ على صلاته»(5).

وهو وإنْ اختصّ بما قبل ما قرأ، إلّاإنّه لعدم الفصل يجوز بعد القراءة قبل الركوع.

***).

ص: 456


1- المعتبر: ج 2/129، والشرائع: ج 1/59.
2- المبسوط: ج 1/95.
3- كالعلّامة في تحرير الأحكام: ج 1/229.
4- جواهر الكلام: ج 9/68.
5- الاستبصار: ج 1/304 ح 9، وسائل الشيعة: ج 5/435 أبواب الأذان والإقامة ب 29 ح 5 (7017).
استحباب حكاية الأذان عند سماعه

ومنها: يستحبُّ حكاية الأذان عند سماعه، بلا خلافٍ ، بل عن جماعة كثيرة(1)دعوى الإجماع عليه.

وتشهد له: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا سمع المؤذّن يؤذِّن، قال مثل ما يقول في كلّ شيء»(2).

ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «يا محمّد بن مسلم لا تَدَعنَّ ذكر اللّه عَزّ وجَلّ على كلّ حال، ولو سمعت المنادي ينادي بالأذان، وأنتَ على الخلاء فاذكر اللّه عزّ وجلّ ، وقُل كما يقول المؤذّن»(3).

ومنها: خبر سليمان بن مقاتل، قال: «قلتُ لموسى بن جعفر عليه السلام: لأيّ علّةٍ يستحبّ للإنسان إذا سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذّن، وإنْ كان على البول والغائط؟

قال عليه السلام: إنّ ذلك يزيدُ في الرزق»(4).

ونحوها غيرها.

ص: 457


1- مثل الشيخ في الخلاف: ج 1/286، والعلّامة في المنتهى: ج 4/432، والكركي في جامع المقاصد: ج 2/191، والشهيد الثاني في روض الجنان ص 245، والسيّد العاملي في المدارك: ج 3/293، وغيرهم.
2- الكافي: ج 3/307 ح 29، وسائل الشيعة: ج 5/453 أبواب الأذان والإقامة ب 45 ح 1 (7066).
3- الفقيه: ج 1/288 ح 892، وسائل الشيعة: ج 5/454 أبواب الأذان والإقامة ب 45 ح 2 (7067).
4- علل الشرائع: ج 1/284 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/314 أبواب الخلوة ب 8 ح 3 (828).

أقول: والمراد بالحكاية أن يقول مثل ما يقول المؤذّن، كما صرّح به في هذه النصوص.

وعليه، فمضافاً إلى عدم اعتبار الإسرار، يستحبُّ رفع صوته كالمؤذّن، فما عن جماعةٍ من المحقّقين(1) من أنّه يستحبّ ان يحكيه مع نفسه، ضعيفٌ .

كما إنّ ما عن المحقّق الكركي(2) من تفسير الحكاية بأنْ لا يرفع صوته كالمؤذن، غيرُ ظاهر الوجه.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصوص، استحباب الحكاية وهو في الصَّلاة، ولكن ذلك لا يقتضي عدم بطلان الصَّلاة بها.

ودعوى: عدم بطلان الصَّلاة بالأذان، لأنّه من الذِّكر، كما يُشير إليه النصوص.

مندفعة: بأنّه لاشتماله على الحيّعلات الّتي هي من كلام الآدميين المُبطل، يوجب بطلانه.

فإنْ قلت: إنّ النسبة بين ما دلَّ على استحباب الحكاية، وما دلَّ على كون كلام الآدميين مبطلاً، عمومٌ من وجه، فيتعارضان ويتساقطان، والمرجع هو الأصل، وهو يقتضي عدم البطلان.

قلت: إنّه لا تنافي ولا تعارض بينهما، كي يتساقطان، إذ كلٌّ منهما متكفّلٌ لجهةٍ لاربط لها بما يكون الآخر متضمّناًله، فلاحظ وتدبّر، بل هذه النصوص لا تُعارض مادلَّ على حرمة الإبطال، بل تُقدَّم عليها ذلك، لكونه متعرّضاً للحكم1.

ص: 458


1- مثل المحقّق الحِلّي في شرائع الإسلام: ج 1/61، والشهيد الثاني في المسالك ج 1/191، والسيّد العاملي في المدارك: ج 3/293، والمحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 11/254.
2- حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/291.

بالعنوان الثانوي.

وعليه، فلا تجوز الحكاية في مورد حرمة الإبطال، وأمّا في غيره فتستحب، ولكنّه لابدَّ من إعادة الصَّلاة بعدها.

***

ص: 459

أخذ الاُجرة على الأذان

ومنها: لا يجوز أخذ الاُجرة على أذان الصَّلاة، كما هو المنسوب إلى المشهور(1)، بل هو مذهب الأصحاب إلّامن شَذَّ كما عن «جامع المقاصد»(2)، وقيل(3) يجوز.

ويشهد للمنع: خبر السكوني، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «آخر ما فارقتُ عليه حبيب قلبي أنْ قال: يا عليّ إذا صلّيتَ فصلِّ صلاة أضعف مِنْ خلفك، ولا تتّخذن مؤذّناً يأخذ على أذانه أجراً»(4).

ودعوى: إنّ المنع عن اتّخاذ المؤذّن الذي يأخذ الاُجرة أعمٌّ من حرمته.

مندفعة: بأنّه لو كان جائزاً، لما كان وجهٌ للمنع عن اتّخاذ ذلك المؤذّن.

وخبر حمران الوارد في فساد الدُّنيا، واضمحلال الدين، وفيه قوله عليه السلام:

«ورأيتَ الأذان بالاُجرة(5)، والصَّلاة بالأجر»(6)، وظهوره في الحرمة، لا يُنكر، وسنده لا يكون ضعيفاً، إذا الظاهر إنّه حسنٌ بأبي هاشم.

والصحيح المرويّ في كتاب الشهادات، وفيه قال عليه السلام: «لا تُصلِّ خَلف من

ص: 460


1- نسبه ألى المشهور الشهيد الثاني في المسالك: ج 3/131.
2- جامع المقاصد: ج 2/177.
3- ذهب إلى الجواز على كراهة السيّد المرتضى حكاه عنه المحقّق، وذهب إليه في المعتبر: ج 2/134، والشهيد في الذاكرى ص 173 (ط. ق)، وصاحب المدارك في المدارك: ج 3/276.
4- التهذيب: ج 2/283 ح 31، وسائل الشيعة: ج 5/447 أبواب الأذان والإقامة ب 38 ح 1 (7050).
5- في المصدر: «بالأجر».
6- الكافي: ج 8/41 ح 7، وسائل الشيعة: ج 16 ص 279 أبواب الأمر والنهي ب 41 ح 9 (21554).

يبتغي على الأذان والصَّلاة بالناس أجراً، ولا تُقبل شهادته»(1).

وما روي عن «الدعائم» عن أمير المؤمنين عليه السلام إنّه قال: «مِنَ السُّحت أجر المؤذّن»(2).

ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين أذان الإعلام، وأذان الصَّلاة، لو ثبت القسمان في الأذان، كما هو المشهور، وإنْ كان الصحيح ما عن «الروضة»(3) ضعيف التقسيم غايته.

وأمّا الإقامة: فيثبت الحكم فيها بعدم الفصل، والأولويّة القطعيّة.

أقول: واستدلّ للمنع بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ أذان الصَّلاة، وكذا إقامتها ممّا يتوقّف فائدته للغير على وقوعه طاعةً للّه، فينا في مع إيقاعه للغير عوضاً عمّا يأخذه من الأجر.

وفيه: إنّه لا يعتبر في وقوع الفعل عبادةً كون قصد القربة غاية الغايات، بل يكفي كون الدّاعي إلى الفعل ذلك، ولو كان داعي الدّاعي غيره، بل الغالب في عبادات أكثر الناس، كون الدّاعي إلى قصد القربة، دخول الجنة ونحوه، وعليه فلو كان أخذ الاُجرة في طول قصد الأمر، لم ينافِ عباديّة العبادة.

الوجه الثاني: ما ذكره بعض أعاظم العصر(4) وهو أنّه كما لا يمكن اجتماع المِلْكين واجتماع الطلبين، كذلك يمتنع اجتماع طلبٍ مع الملكيّة، فإذا فرضنا تعلّق الطلب الشرعي بشيءٍ كالأذان، فلا يجوز صيرورته مِلْكاً للغير.5.

ص: 461


1- التهذيب: ج 6/243 ح 11، وسائل الشيعة: ج 27/377 أبواب الشهادات ب 32 ح 2 (33994).
2- دعائم الإسلام: ج 1/147، مستدرك وسائل الشيعة: ج 4/51 أبواب الأذان والإقامة ب 30 ح 2 (4161).
3- الروضة: ج 1/580.
4- راجع مستمسك العروة الوثقى للسيّد الحكيم قدس سره: ج 5/615.

وفيه: إنّ ذلك يتمّ فيما إذا كانا في عرض واحد، وأمّا إذا كانا طوليين، فلا محذور في الاجتماع حتّى في الطلبين، كأن يأمر الوالد بشيءٍ ويأمر الوالدة بإطاعة أمره، فتأمّل.

وفي المقام بما إنّ ملكيّة المستأجر وتسلّطه عليه إنّما تكون في طول الطلب الشرعي، فلا محذور فيه.

الوجه الثالث: ما ذكره بعض مشايخنا قدس سره في «حاشيته على المتاجر»(1) من عدم إمكان تعلّق الأمر الاجاري بما يعتبر فيه الخلوص، إذ تعلّقه يقتضي إمكان جعله داعياً، ولا يمكن ذلك مع التحفّظ على الإخلاص المعتبر في متعلّقه، ومع عدم إمكان تعلّق الأمر المعاملي، لا معنى لصحّة المعاملة، وعليه فاعتبار قصد الخلوص في متعلّق الإجارة، مانعٌ بنفسه من صحّتها، لصيرورة متعلّقها ممتنعاً، وعليه فأخذ الاُجرة على الأذان الصلاتي لاعتبار القربة فيه، لا ينبغي الإشكال في عدم جوازه.

وفيه: إنّ المنافي للخلوص هو أن تكون الاُجرة داعي العمل، وهو لا يكون معتبراً في صحّة الإجارة، إذ المعتبر في تعلّق الأمر الإجاري كسائر الأوامر، إمكان جعل الأمر داعياً، وهو لا ينافي الخلوص.

ودعوى: إنّ الأمر بالإجارة توصّلي، فلا يكون قصده موجباً لإتّصاف العمل بالعبادة.

مندفعة: بأنّ الأمر التوصّلي لا يتوقّف سقوطه على إتيان العمل بقصد الامتثال، ولكن لو أتى به بقصد الامتثال، فإنّه لا شبهة في وقوعه عبادة، مع أنّ كون).

ص: 462


1- الظاهر أنّه السيّد محمّد بحر العلوم في بلغة الفقيه: ج 2/17، حيث قال: (إنّ الأمر الإجاري... يتنافى مع كونه عبادة يعتبر فيه الخلوص والتقرّب إلى اللّه...).

الأمر بالوفاء بالإجارة توصّليّاً مطلقاً ممنوع، بل الظاهر إنّه تابعٌ لمتعلّقه.

الوجه الرابع: ما ذكره صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) من أنّ الظاهر من أدلّته اعتبار المباشرة فيه، كسائر الأجزاء الصلاتيّة، فلا تصحّ الإجارة فيه.

وفيه: إنّ ذلك لو تمّ فإنّما يقتضي عدم جريان النيابة فيه، وأمّا وقوع الإجارة على الأذان الذي يأتي به المكلّف لصلاة نفسه، لغرضٍ مترتّبٍ عليه كالاكتفاء بأذانه ونحوه، فلا يدلّ ذلك على المنع عنه.

فتحصّل: إنّ شيئاً ممّا ذُكر في وجه المنع عن أخذ الاُجرة عليه لا يتمّ ، فالعمدة ما ذكرناه.

ثمّ إنّ ظاهر الأصحاب في المقام، جواز إعطاء الاُجرة على الأذان من بيت المال المُعدّ لمصالح المسلمين، والظاهر أنّ مرادهم ليس أخذ الاُجرة والعوض، إذ ما دلَّ على المنع من أخذ الاُجرة عليه، لا يختصّ بأخذه من غير بيت المال، بل المراد الارتزاق من بيت المال، والدليل عليه حينئذٍ أنّ بيت المال معدّ لمصالح المسلمين، ومنها الأذان، فالمؤذِّن كالقاضي ونحوه ممّن وظّفتهم الدولة لتمشية مصالح المسلمين، فله أن يرتزق منه.

والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

***

تمَّ الجزء السادس من موسوعة «فقه الصادق» بقلم مؤلّفه الأحقر،

محمّد صادق الحسيني الروحاني عفى اللّه عنه،

ويتلوه الجزء السابع إنْ شاء اللّه تعالى.

وما توفيقي إلّاباللّه، والحمدُ للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.3.

ص: 463


1- جواهر الكلام: ج 9/73.

ص: 464

فهرس الموضوعات

كتاب الصَّلاة... 7

في أعداد الفرائض... 8

تنبيهات الفرائض... 13

صَلاة الغُفيلة... 15

صلاة الوصيّة... 17

سقوط نوافل الظهرين في السَّفر... 19

وقت الظهرين... 25

اختصاص أوّل الوقت بالظهر... 29

آخر وقت الظُّهرين... 35

اختصاص آخر الوقت بالعَصر... 39

أوّل وقت المغرب والعشاء... 43

آخر وقت العشائين... 53

اختصاص أوّل الوقت بالمغرب وآخره بالعشاء... 59

أوّل وقت الصُّبح... 62

آخر وقت الصّبح... 64

وقت نافلة الظهرين... 65

وقتُ نافلة المغرب... 69

وقت نافلة الوتيرة... 72

ص: 465

وقتُ نافلة اللّيل... 73

وقت نافلة الصّبح... 76

تُصلّى الفريضة في كلّ وقت... 79

التطوّع في وقت الفريضة... 80

التطوّعُ لمن عليه فائتة... 84

كراهة النّوافل في خمسة أوقات... 88

قاعدة مَنْ أدركَ ... 93

حكم الصَّبي المتطوّع... 99

في أمارات الوقت... 101

الظنون الخاصّة... 102

الظنّ بالوقت... 105

لو شكّ بعد الصّلاة في وقوعها في الوقت... 109

في القبلة... 111

مواجهة البعيد نفس الكعبة... 114

حكم المُصلّي في الكعبة... 117

الصّلاة على سطح الكعبة... 120

كيفيّة اتجاه المصلّي... 122

أمارات القبلة... 122

الظنّ بالقبلة حُجّة... 125

في الجهل بالقبلة... 127

فروع بحث القبلة... 131

في أحكام الخلل... 136

ص: 466

الانحراف إلى الاستدبار... 140

زوال الظنّ بالقبلة بعد الصّلاة... 144

فيما يُستقبل له... 146

شرطيّة الاستقبال لصَّلاة النافلة... 146

لا يعتبر الإستقبال في حال المشي في النّافلة... 150

الصّلاة على الراحلة... 152

الاضطرار إلى ترك بعض الأجزاء والشرائط... 155

الفصل الرابع / في اللّباس... 159

ووجوبِ سَتر العورة... 159

فروع... 160

هل التستّر شَرطٌ ذُكْرِيّ ... 160

لا يجب سَتر الحجم... 162

ما به يتحقّق السّتر... 164

الصَّلاة في الخَزّ... 168

حُكم الخَزّ الموجود في زمان الشارع... 171

حُكم الخَزّ الموجود في عصرنا... 173

حكم الصَّلاة في وَبَر الخَزّ المغشوش... 174

الصَّلاة في الصّوف والشعر... 175

الصَّلاة في جلد الميتة... 176

الشكّ في التذكية... 179

الصَّلاة فيما لا يؤكل لحمه... 183

عدم اختصاص هذا الحكم بالسِّباع... 184

ص: 467

عدم اختصاص الحكم بالملابس... 186

حكم الصَّلاة فيما لا تتمّ فيه من غير المأكول... 189

حكم الصَّلاة في أجزاء الإنسان... 192

عدم اختصاص الحكم بما له نفسٌ سائلة... 194

عدم شمول الحكم ما لا لحم له... 196

المستثنيات عن الحكم... 197

الصَّلاة في ما يشكّ أنّه مأكول اللّحم... 202

المجعول هي الشرطيّة أو المانعيّة... 205

ما يستفاد من الأدلّة في مقام الإثبات... 208

أقسام النهي... 212

مركز القيد... 213

المانع هو عنوان محرّم الأكل أو معروضه... 214

الاستدلال للجواز بالأدلّة الاجتهاديّة... 216

جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة... 220

أصالة عدم لبس غير المأكول... 228

الاستصحاب التعليقي... 231

استصحاب عدم الحرمة... 233

استصحاب العدم النعتي... 235

أصالة الإباحة... 236

قاعدة الطهارة... 240

أصالة الحِلّ في الصَّلاة... 241

الاستدلال للجواز بالبراءة... 246

ص: 468

جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة... 247

جريان البراءة في الأقلّ والأكثر... 249

تميّيز موارد البراءة والإشتغال في الشبهة الموضوعيّة... 251

تقريب جريان البراءة... 257

مدارك سائر الأقوال والجواب عنها... 259

وقوع الصَّلاة في غير المأكول جهلاً أو نسياناً... 261

الصَّلاة في الحَرير... 264

لبس الحَرير في حال الضّرورة... 269

تنبيهات قماش الحرير... 273

الصَّلاة في المغصوب... 277

الصَّلاة في ما يستر ظَهر القدم... 285

ما يُكره من الثياب... 288

تحديد العورة... 295

المستثنيات من وجوب السَّتر... 302

في صلاة العاري... 308

صفة صلاة العاري... 311

صفة جماعة العُراة... 315

صلاة العاري في سعة الوقت... 317

لو وجد السّاتر في أثناء الصَّلاة... 319

البحث عن مكان المصلّي... 322

الصَّلاة في المكان المغصوب... 324

حَقّ السَّبق في المسجد... 328

ص: 469

الصَّلاة حال الخروج... 330

طهارة محلّ وضع الجبهة... 333

لو تعذّر تحصيل الأرض الطاهرة... 339

استحباب أداء الفرائض في المسجد... 341

الأمكنة المكروهة... 342

كراه الصَّلاة بين المقابر... 345

الصَّلاة قُدّام قبر المعصوم... 348

جملة من الأمكنة الّتي تُكره فيها الصَّلاة... 351

محاذاة المرأة للرجل أو تقدّمها عليه... 355

إذا تعاقبت الصَّلاتان... 364

الصَّلاة إلى باب مفتوح أو إلى نار مُضرَمة... 368

مسجد الجبهة... 371

السّجود على الثمار غير المأكولة... 375

فروع... 375

السّجود على القير والجِصّ وما شاكل... 378

السّجود على القرطاس... 380

البحث عن شروط المسجد... 383

ما يُسجَد عليه عند الاضطرار... 385

السّجود على ما لا تتمكّن الجبهة عليه... 389

في مراتب فضل السجود... 391

الفصل السادس / في الأذان والإقامة... 392

استحباب الأذان مطلقاً... 395

ص: 470

الأذان لصلاة القضاء... 401

البحث عن الإقامة... 404

أدلّة وجوب الإقامة... 406

موارد سقوط الأذان... 411

موارد سقوط الأذان والإقامة... 417

كيفيّة الأذان والإقامة... 424

شرائط الأذان والإقامة... 429

حكم المخالف للترتيب... 434

ما يستحبُّ في الأذان والإقامة... 436

استحباب الطهارة في الأذان واعتبارها في الإقامة... 437

استحباب القيام في الأذان، واعتباره في الإقامة... 438

بقيّة ما يستحبّ فيهما... 441

ما يُكره في الأذان ويعتبر في الإقامة... 446

ترك الأذان والإقامة نسياناً... 453

استحباب حكاية الأذان عند سماعه... 457

أخذ الاُجرة على الأذان... 460

فهرس الموضوعات... 463

ص: 471

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.