فقه الصادق المجلد 5

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

تتمة كتاب الطهارة

البابُ الخامس في النّجاسات وأحكامها

ص: 5

ص: 6

البابُ الخَامس: في النّجاسات.

البابُ الخَامس في النّجاسات وأحكامها و المطهّرات

فصل في النجاسات

اشارة

أقول: قبل الخَوض فيها لا بأس ببيان حقيقة النجاسة، فإنّ الأقوال فيها ثلاثة:

الأوّل: كونها من الاُمور الواقعيّة التي كشف عنها الشارع.

الثاني: كونها منتزعة من الحكم التكليفي، الذي يكون في موردها، وهو وجوب الاجتناب.

الثالث: كونها حكماً وضعيّاً مستقلّاً في الجعل، مقتضياً لإيجاب الهجر.

أمّا القول الأوّل: فتقريبه أنّها من مقولة الكيف، فيكون الخَبَثُ كيفاً قائماً بالجسم، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به:

أمّا المتنجّس فهو يُتّصف بالنجاسة بما له من الجواهر والإعراض، من دون أن يعرض عليه ما يكون مصداق وحقيقة النجاسة.

وأمّا النجس بالذّات كالكافر، فهو مثل ما يماثله من أفراد الإنسان حسّاً من دون اختصاصه بوصف من الأوصاف الحقيقيّة، مع أنّه لا سبيل إلى توهّم أنّ في بدن الكافر شيئاً موجوداً خارجيّاً، ينعدم بمجرّد إظهار الشهادتين، إذ بدنه حسّاً وعياناً قبل إظهارهما وبعده على حَدٍّ سَواء، فما ذلك الكيفُ القائم بجسمه في حال الكفر، الذي لا يُحسَّ بقوّة من القوي ؟!

وأمّا القول الثاني: فهو غيرُ تامٍّ ثبوتاً وإثباتاً.

ص: 7

أمّا الأوّل: فلأنّ الوجدان شاهدٌ على أنّ الناس يلاحظون النجاسة منفكّة عن الآثار، ولو كانت انتزاعيّة، لما كان يمكن الالتفات إليها، وتصوّرها بلا لحاظ الحكم التكليفي.

وأمّا الثاني: فلأنّ الأحكام التكليفيّة إنّما رُتّبت في الأدلّة على النجاسة، فكيف يمكن أن تكون هي منتزعة عنها؟!

فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول الثالث.

***

ص: 8

وهي عشرة: البول والغائط ممَّا لا يؤكل لحمه من ذي النفس السائلة.

أقسام النجاسات
اشارة

(وهي) على ما في المتن وغيره من جملةٍ من الكتب (عشرة) أنواع:

الأوّل والثاني: البول والغائط
اشارة

الأوّل والثاني: (البول والغائط ممّا لا يؤكل لحمه من ذي النفس السائلة) إجماعاً كما عن غير واحدٍ حكايته، ولعلّ نجاستهما من الإنسان وبعض أنواع الحيوانات كادت تكون ضروريّة.

وتشهد لها في البول: نصوصٌ مستفيضة:

منها: صحيح ابن سنان: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: اغسل ثوبك من أبوال ما لا يُؤكل لحمه»(1).

ومنها: في خبره الآخر: «اغسِل ثوبك من بول كلّ ما لا يؤكل لحمه»(2).

ونحوهما غيرهما.

وفي الغائط: يتمّبالإجماع على عدم الفصل، مضافاًإلى الإجماع عليه بالخصوص.

وإلى نصوص(3) مستفيضة دالّة على نجاسة العَذَرة، بناءً على شمولها لغائط غير الإنسان.

ودعوى : عدم دلالة الأمر بالغُسل على النجاسة لا يعتنى بها، لظهوره في كونه إرشاداً إليها.

ص: 9


1- الكافي: ج 3/57 ح 3، وسائل الشيعة: ج 3/405 ح 3988.
2- الكافي: ج 3/406 ح 12، وسائل الشيعة: ج 3/405 ح 3989.
3- وسائل الشيعة: ج 1/191 باب 20 من أبواب الماء المطلق.

أقول: ثمّ إنّ المشهور بين الأصحاب أنّه لا فرق في ذلك بين أنواع ما لا يؤكل لحمه، وهو الذي يقتضيه إطلاق النصوص.

وعن الإسكافي(1): القول بطهارة بول الصبي الذَّكر قبل أكل اللّحم أو الطعام، واستدلّ له:

1 - بخبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، وفيه: «ولبن الغلام لا يُغسل منه الثوب ولا بوله قبل أن يُطعم»(2).

2 - وبما(3) رواه في «البحار» عن الراوندي بإسناده عن موسى عن آبائه عليهم السلام، قال: قال عليّ عليه السلام: «بال الحَسَن والحُسين على ثوب رسول اللّه صلى الله عليه و آله قبل أن يُطعَما، فلم يَغسل بولهما من ثوبه».

وأورد عليهما تارةً : بضعف سندهما.

وفيه: أنّ خبر السكوني لا يكون ضعيفاً.

واُخرى : بأنّ انتفاء الغُسل لا يقتضي انتفاء الصَّب كي يدلّ على الطهارة.

وفيه: أنّ إنكار ظهورهما في الطهارة مكابرة واضحة.

والأولى في الجواب أن يقال: مضافاًإلى ضعف سند الثاني، ومعارضته في مورده بخبر يونس: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أتى بالحسن بن علي فَوُضِعَ في حِجْره فبالَ عليه، فقال: لا تزرموا(4) ابني، ثمّ دعا بماءٍ فصبّ عليه»(5).

واشتمال الأوّل على ما لا يقول به أحدٌ، وهو نجاسة لَبَن الجارية، أنّهما0.

ص: 10


1- نسبه إليه في مختلف الشيعة: ج 1/459.
2- الفقيه: ج 1/68 ح 157، وسائل الشيعة: ج 3/398 ح 3970.
3- بحار الأنوار: ج 77/104 ح 11.
4- قال الأصمعي: الإزرام: القطع، يقال للرجل إذا قطع بوله: قد أزرمتَ بولك.
5- وسائل الشيعة: ج 3/405 ح 3990.

معارضان برواياتٍ كصحيح الحلبي أو حسنه:

«سألتُ الصادق عليه السلام عن بول الصّبي ؟ قال: يُصبّ عليه الماء، فإنْ كان قد أكل فاغسله»(1).

ونحو غيره، ولذا يُحمل الخبران على إرادة نفي الغُسل خاصّة، فلا يدلّان على الطهارة.

ولو سُلّم التعارض، فلا ريب في تقديم تلك الروايات كما لا يخفى .

***8.

ص: 11


1- التهذيب: ج 1/249 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/397 ح 3968.
بولُ الطّير

نعم في الطيور المُحرّمة الأقوى عدم النجاسة، كما نُسب إلى الصدوق(1)، والعُمّاني(2)، والجُعفي(3)، والشيخ(4) في غير بول الخَشّاف(5) وجماعة من المتأخّرين.

وتدلّ عليه: مصحّحة أبي بصير، عن الصادق عليه السلام: «كلّ شيءٍ يطير، فلا بأس ببوله وخرئه»(6).

وقريب منها ما نُقل عن محمّد الجعفي، عن «جامع البزنطي» عنه.

وعن المصنّف في «المختلف»(7): أنّها مخصّصة بالخشّاف إجماعاً، فيُخصّص بما يشاركه في العلّة، وهو عدم كونه مأكولاً، وليس مراده قياس غير الخشّاف به، كي يرد عليه أنّه باطلٌ عندنا، بل الظاهر أنّ مراده تقديم ما يدلّ بعمومه على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه لتقويته بما يدلّ على نجاسة بول الخشّاف.

ويرد عليه: أنّه يتوقّف على عدم إمكان الجمع العرفي بينهما، وستعرف إمكانه.

وفي «التذكرة»(8): قول الشيخ رحمه الله بطهارة ذرق ما يؤكل لحمه من الطيور، لرواية أبي بصير ضعيفٌ ، لأنّ أحداً لم يعمل بها.

وفيه: مضافاً إلى ما عرفت من عمل جمعٍ من المتأخّرين والمتقدّمين بها، أنّ

ص: 12


1- المقنع: ص 5.
2- حكاه عنه في الذكرى: ص 13.
3- حكاه عنه الشهيد في الذكرى: ص 13.
4- المبسوط: ص 39.
5- الظاهر أنّ له أربعة أسماء كما حكاه العلّامة المجلسي في البحار: ج 61/327 عن البطليولسي: الخفاش له أربعة أسماء: خفاش وخشّاف وخطّاف ووطواط.
6- الكافي: ج 3/58 ح 9، وسائل الشيعة: ج 3/412 ح 4015.
7- مختلف الشيعة: ج 1/457.
8- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/6.

عدم عملهم بها يُحتمل أن يكون لأجل ترجيح غيرها عليها، لا لعدم الاعتماد.

وبذلك يظهر ضعف ما عن «السرائر»: رويتْ روايةً شاذّة لا يعوّل عليها:

(أنّ ذرق الطائر سواءٌ كان مأكول اللّحم أو غير مأكوله)، فالرواية لوثاقة رجالها، واعتماد الصدوق والشيخ عليها، وعدم ثبوت إعراض غيرهما عنها معتمدة وعليها العمل.

ودعوى(1): أنّ النسبة بينها، وبين حسنة ابن سنان المتقدّمة، عمومٌ من وجه، فتتعارضان ويرجع إلى عموم ما يدلّ على نجاسة البول والعَذَرة.

مندفعة: بأنّ الرجوع إلى حجّة اُخرى عند التعارض بين العامّين من وجه - مع أنّه في نفسه غير تامّ مطلقاً، لأنّ المحقّق ذكر في محلّه أنّه إذا كانت دلالة كلّ واحدٍ منهما بالعموم، يتعيّن الرجوع إلى المرجّحات السنديّة، وهي تقتضي تقديم الموثّقة لأوثقيّة رجالها، ولم يثبت اعتماد الأصحاب في الحكم بالنجاسة إلى الحَسَنة، حتّى يقال بترجيحها لكونها مشهورة، بل الظاهر أنّ الموثّقة من الروايات المشهورة - إنّما يتمّ لو لم يمكن الجمع العرفي بينهما، ولا يكون أحدهما أقوى دلالةً من الآخر في مورد التعارض، وفي ما نحن فيه يمكنُ ذلك، لأنّه لو قُدِّم الحسن لزم أن يكون تقييد الحكم في الموثّقة بالطيران، من دون مدخليّة له في إحراز موضوعه.

وكون المدار على حليّة أكل اللّحم وحرمته، وهو مستهجنٌ عرفاً، وهذا بخلاف تخصيص الحسنة بها، كما لا يخفى .

ولو سُلّم عدم الاستهجان، لكن لا شبهة في أقوائيّة دلالة الموثّقة لهذه الجهة، مضافاً إلى ندرة بول الطير المأكول اللّحم، بل عن المحقّق البغدادي رحمه الله(2): (العلم بعدم6.

ص: 13


1- حكاها السيّد قدس سره في مستمسك العروة: ج 1/275.
2- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 1/276.

البول لغير الخفّاش).

وعليه، فالموثّقة نصٌّ في بول الطير غير مأكول اللّحم، والحسنة ظاهرة فيه، فتُقدَّم الأُولى بلا كلام.

ودعوى: الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله(1)، أنّ العمل على المشهور، لموثّقة عمّار:

«خُرءُ الخطّاف لا بأس به، وهو ممّا يؤكل لحمه»(2). حيث علّل الطهارة بأكل اللّحم لا بالطيران.

مندفعة أوّلاً: بما عن الشيخ رحمه الله روايتها بإسقاط لفظ (الخُرء)(3).

وثانياً: أنّه يحتمل أن يكون الطيران مانعاً عن النجاسة، والتعليل به إنّما يصحّ مع وجود المقتضي لها، وهو حرمة أكل اللّحم، وأمّا مع عدمه فالمتعيّن أو الأولى التعليل به لا بوجود المانع، فالموثّقة جارية هذا المجرى .

فتحصّل: أنّ الأقوى أنّ البول والخُرء من الطيور المحرّمة، لا يُحكم عليهما بالنجاسة، وإنْ كان الأحوط الاجتناب. هذا في غير الخفّاش.

وأمّا في الخفّاش: فقد اختار الشيخ رحمه الله(4) نجاسة بوله، مع أنّه قائلٌ بعدم نجاسة بول غير المأكول من الطير.

وكيف كان، فقد ورد فيه روايتان: إحداهما ظاهرة في النجاسة، والاُخرى تدلّ على عدمها:

الأُولى : رواية داود الرِّقي، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن بول الخشاشيف،5.

ص: 14


1- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/337.
2- وسائل الشيعة: ج 3/411 ح 4013.
3- التهذيب: ج 9/21 ح 84.
4- النهاية: ص 55.

يصيبُ ثوبي فأطلبه ولا أجده ؟ قال عليه السلام: اغسل ثوبك»(1).

الثانية: رواية غياث، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام، قال: «لا بأس بدم البراغيث والبقّ وبول الخشاشيف»(2).

وقريب منها ما عن «الجعفريّات» و «نوادر الراوندي».

أقول: وما ذكره بعض الأعاظم من المعاصرين(3) من أنّ رواية داود ضعيفة السند، غير تامّ ، لأنّ الضعف المتوهّم:

إنْ كان لأجل اشتراك موسى بن عمر بين الثقة والمجهول، ولم يعلم أنّ في الطريق أيّاً منهما.

ففيه: أنّه بقرينة رواية محمّد بن أحمد بن يحيى عنه، لا يكون هو الحُضَيني، وغيره حسن أو ثقة.

وإنْ كان لأجل داود، فهو ثقة على الأقوى ، كما هو خيرة جمع من الأعاظم، وقد وردت في مدحه رواية عن الصادق عليه السلام.

كما أنّ رمي الشيخ رحمه الله(4) رواية غياث بالشِّذوذ، وحملها على التقيّة، لا يوجب وَهناً فيها، لأنّ الظاهر أنّه لأجل مخالفتها لما دلّ على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، كما استدلّ هو قدس سره بذلك، على ما في «الوسائل».

وإجماع الأصحاب على نجاسته، ليس إجماعاً تعبّديّاً، ولا إعراضاً عن رواية غياث، لأنّ أغلبهم إنّما ذهبوا إليها لذهابهم إلى نجاسة بول كلّ ما لا يؤكل لحمه، ولو كان طيراً، وغيرهم سوى الشيخ رحمه الله لم ينصّ على النجاسة.5.

ص: 15


1- التهذيب: ج 1/265 ح 64، وسائل الشيعة: ج 3/412 ح 4018.
2- التهذيب: ج 1/266 ح 65، وسائل الشيعة: ج 3/413 ح 4019.
3- مستمسك العروة: ج 1/277.
4- التهذيب: ج 1/266، ح 65.

وبالجملة: فكلّ واحدة من الروايتين معتبرة سنداً.

والجمع بينهم يقتضي حمل خبر داود على الكراهة، بل لو ثبت دعوى عدم البول للطيور غير الخفّاش، يقع التعارض بين موثّقة أبي بصير وخبر داود، وقد عرفت أنّ الجمع العرفي يقتضي حمل الخبر على الكراهة.

ويؤيّد الحكم بالطهارة أنّ الخفّاش على ما اختبره جماعة لا يكون له نفسٌ سائلة، وستعرف الإجماع على طهارة البول والخُرء ممّا لا نفس سائله له.

أقول: ثمّ إنّه لا فرق في غير المأكول:

1 - بين أن يكون أصليّاً كالسِّباع.

2 - أو عارضيّاً كالجلّال، وموطوء الإنسان.

3 - أو الغنم الذي شرب لبن خنزيرة، بناءً على حرمة أكل لحمها كما هي الأقوى .

إذ يشهد لحرمة الأوّل: صحيح(1) هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا تأكلوا من لحوم الجلّالات».

ولحرمة الثاني: خبر(2) مسمع عنه عليه السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام سُئل عن البهيمة التي تُنكَح ؟ فقال عليه السلام: حرامٌ لحمها».

ولحرمة الثالث: مرفوع(3) ابن سنان: «لا تأكل من لحم حَمْلٍ رَضَع من لبن خنزيرة».

وكيف كان؛ فعدم الفرق بين الأصلي والعارضي في نجاسة البول والغائط كما2.

ص: 16


1- الكافي: ج 6/250 ح 1، وسائل الشيعة: ج 24/164 ح 30245.
2- الكافي: ج 6/259 ح 1، وسائل الشيعة: ج 24/170 ح 30263.
3- الفقيه: ج 3/334 ح 4194، وسائل الشيعة: ج 24/162 ح 30242.

هو المشهور، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه، هو الأقوى .

ويدلّ عليه إطلاق النصوص الدالّة على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه، كحسنة ابن سنان المتقدّمة.

ودعوى(1): معارضتها بإطلاق ما دلّ على طهارة بول الغنم والبقر ونحوهما، الشامل لحالتي الجَلَل والوطء.

مندفعة أوّلاً: بما عرفت مراراً من أنّه(2) في العامين من وجه إذا كان شمول أحدهما لمورد المعارضة بالعموم، والآخر بالإطلاق، قُدِّم العام على المطلق، وفي المقام بما أنّ دلالة الحسنة ونحوها على نجاسة بول الجلّال ونحوه تكون بالعموم، ودلالة تلك الأدلّة بالإطلاق، كما هو واضح، قُدّمت الحسنة.

وثانياً: أنّه لا تعارض بين الطائفتين عرفاً، بل العرف يرون نصوص النجاسة قرينة لنصوص الطهارة، لأنّ موضوع الثانية من قبيل العنوان الأوّلي، وموضوع الأوّلي من قبيل العنوان الثانوي، والعرف يرون تقدّم الأُولى على الثانية في أمثال المقام، كما لا يخفى .

وأخيراً: الظاهر أنّ المراد من إطلاق (ما لا يؤكل لحمه) ما يحرم أكل لحمه بما أنّه حيوانٌ ، سواءٌ أكان بعنوانه الأوّلي كذلك، أو بالعنوان الطاري.

وأمّا ما يحرم لا بهذا العنوان، بل بعنوان كونه مغصوباً، مثلاً فلا يكون الإطلاق شاملاً له.

***).

ص: 17


1- نقلها في مستمسك العروة: ج 1/279.
2- الصحيح هو الرجوع إلى أخبار الترجيح في تعارض العامين من وجه مطلقاً، فيقدّم دليل النجاسة للأشهريّة. (من المؤلّف حفظه المولى ).
البول والغائط من حلال اللّحم

وأمّا البول والغائط من حلال اللّحم، فطاهران بلا خلافٍ في الطهارة في الجملة، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليها.

وتشهد لها: جملةٌ من النصوص: كمصحّح زرارة، أنّهما عليهما السلام قالا: «لا تغسل ثوبك من بول شيء يؤكل لحمه»(1). ونحوه غيره(2).

فالحكم في الجملة ممّا لا كلام فيه.

إنّما الكلام في خصوص الحمار والبَغَل والخيل.

أقول: القول بالطهارة فيها أيضاً هو المشهور بين الأصحاب، وعن الإسكافي(3)والشيخ(4) في بعض كتبه، وجماعةٌ من المتأخّرين كالمحقّق الأردبيلي(5)، وصاحب «المدارك»(6) وغيرهما: القول بالنجاسة، واستدلّ لها بجملةٍ من النصوص:

منها: مصحّح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«سألته عن أبوال الدّواب والبغال والحمير؟ فقال عليه السلام: اغسله، وإنْ لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كلّه، فإنْ شككت فانضحه»(7).

ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «لا بأس بروث الحمير، واغسل أبوالها»(8).

ومنها: مضمر سماعة، قال: «سألته عن بول السَّنور والكلب والحِمار والفَرَس ؟

ص: 18


1- التهذيب: ج 1/264 ح 56، وسائل الشيعة: ج 3/407 ح 3997.
2- راجع وسائل الشيعة: ج 3/406 باب 9 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.
3- نسبه إليه في الحبل المتين 95.
4- النهاية: ص 51.
5- مجمع الفائدة: ج 1/300.
6- مدارك الأحكام: ج 2/301-303.
7- الكافي: ج 3/57 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/403 ح 3982.
8- الكافي: ج 3/57 ح 6، وسائل الشيعة: ج 3/406 ح 3994.

فقال: كأبوال الإنسان»(1). ونحوها غيرها(2).

أقول: واُجيب عنها بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه لمعارضة هذه الروايات مع ما يدلّ على طهارة بول كلّ ما يؤكل لحمه، الشامل للدّواب الثلاث، تُحمل هذه النصوص على استحباب الغَسل والتجنّب.

وفيه أوّلاً: إنّ هذه الروايات أخصّ من تلك الأخبار، ولا ريب في تقدّم ظهور المقيّد على ظهور المطلق.

وثانياً: ما رواه زرارة عن أحدهما عليه السلام: «في أبوال الدّواب، تُصيب الثّوب، فكرهه. فقلت: أليسَ لحومهاحلالاً؟ قال: بلى ، ولكن ليس ممّا جعله اللّه للأكل»(3)، تكون شاهدة للجمع، وتبيّن أنّ المراد من (ما يؤكل لحمه) الذي جُعل موضوعاً في تلك الأخبار هو ما خُلِق للأكل، فلا تشمل الدّواب المعدّة للزينة والركوب.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق الهمداني رحمه الله(4) وهو:

أنّ ما ذُكر لا يتمّ في موثّق ابن(5) بكير، من أنّ ما (كان ممّا يؤكل لحمه، فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه، وكلّ شيء منه جائزة إذا علمتَ أنّه ذكّي وقد ذكّاه الذابح، وإنْ كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله، وحَرُم عليك أكله، فالصلاة في كلُّ شيءٍ منه فاسدة، ذكّاه الذابح أو لم يذكّه). لأنّ خبر زرارة لا يكون حاكماً عليه، إذ المراد من (ما يؤكل لحمه) بقرينة مقابلته بما حَرُم أكله، هو ما أُحلّ أكله لا4.

ص: 19


1- التهذيب: ج 1/422 ح 9، وسائل الشيعة: ج 3/406 ح 3993.
2- راجع وسائل الشيعة: ج 3/406 باب 9 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.
3- الكافي: ج 3/57 ح 4، وسائل الشيعة: ج 3/408 ح 4000.
4- مصباح الفقيه: ج 1/518 ق 2.
5- الكافي: ج 3/397 ح 1، الوسائل: ج 4/345 ح 5344.

ما خُلِق له، فالأمر يدور بين حمل أخبار النجاسة على استحباب التجنّب، وبين ارتكاب التخصيص بالنسبة إلى بول الدّواب في الموثّقة، المسوقة لإعطاء الضابط التي كادت تكون نصّاً في العموم، ولا ريب أنّ الأوّل أهون، لقوّة ظهور الموثّقة في العموم، ومضمونها بعمومه من القواعد المسلّمة بين الأصحاب.

وفيه: أنّ الإشكال الثاني على الجواب الأوّل وإنْ كان لا يرد عليه، إلّاأنّ الإشكال الأوّل واردٌ، إذ ظهور الموثّقة في العموم وإنْ كان قويّاً، إلّاأنّه لظهور تلك النصوص التي تكون أخصّ منها في النجاسة، ترفع اليد عنه.

الوجه الثالث: دلالة جملةٍ من النصوص على طهارة أبوالها بالخصوص:

منها: رواية أبي الأغرّ النخّاس: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي اُعالجُ الدّواب فربما خرجتُ باللّيل، وقد بالت وراثت، فيضرب أحدهما برجله أو يده، فينضح على ثيابي، فأصبحُ فأرى أثره فيه ؟ فقال عليه السلام: ليس عليك شيء»(1).

ومنها: رواية المُعلّى بن خُنيس وابن أبي يعفور، قالا:

«كُنّا في جنازةٍ وقُدّامنا حمارٌ، فجاءت الريح ببوله حتّى صكّت وجوهناوثيابنا، فدخلنا على أبي عبد اللّه عليه السلام فأخبرناه ؟ فقال: ليس عليكم بأس»(2).

فلأجل هذه الروايات تُحمل أخبار النجاسة على استحباب التجنّب.

وقد أجاب عن هذا صاحب «المدارك»(3): بضعف سند الروايتين، لأنّ الأُولى من رواتها أبو الأغرّ وهو مجهول، ومن جملة رجال الثانية الحَكَم بن مسكين وهو مجهولٌ ، وإسحاق بن عمّار الذي وصفه الشيخ: بأنّه فطحي.1.

ص: 20


1- الكافي: ج 3/58 ح 10، وسائل الشيعة: ج 3/407 ح 3995.
2- التهذيب: ج 1/425 ح 24، وسائل الشيعة: ج 3/410 ح 4007.
3- مدارك الأحكام: ج 2/301.

ويرد عليه: أنّ الأُولى رويت بطريقين: أحدهما ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي الأغرّ، وهذا السند معتبرٌ لما عنه في مشيخته(1): (كلّما كان فيه عن أبي الأغرّ النخّاس، فقد رويته عن محمّد بن يحيى العطّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن صفوان ابن يحيى ، ومحمّد بن أبي عمير، عن أبي الأغرّ)، ورواية الرجلين عنه مضافاً إلى أنّها نوع اعتمادٍ ووثوقٍ به، تجعل الرواية بحكم الصحيح، للإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهما.

وأمّا الثانية: فهي حسنة، لأنّ الظاهر أنّ الحَكَم حسنٌ ، لأنّ ظاهر كلام الشيخ والنجاشي أنّه إمامي، وإذا انضمّ إليه رواية ابن أبي عمير، والحسن بن محبوب من أصحاب الإجماع وغيرهما من الأجلّة عنه، وكونه كثير الرواية، وكونه صاحبُ كتبٍ متعدّدة، اندرج الخبرُ في الحسان.

وعن الشهيد رحمه الله(2): (أنّه لمّا كان كثير الرواية ولم يرد فيه طعنٌ فأنا أعمل على روايته).

فتحصّل: أنّ الأقوى كون الروايتين يُعتمد عليهما، وبهما تُرفع اليد عن ظهور أخبار النجاسة فيها، ويؤيّد الحكم بالطهارة.

ومنها: صحيح الحلبي، عن الصادق عليه السلام: «لابأس بروث الحمير، واغسل أبوالها»(3).0.

ص: 21


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4/429، وقد عبَّر عنه بالأعزّ بدل الأغرّ، ولعلّ الصواب أبو الأغرّ - بالغين المعجّمة والراء المهملة المشدّدة - لعدم كون الأعزّ في الأسماء، وفي اسمه نوع إبهام، ولكن رواية صفوان وابن أبي عمير عنه تفيد نوع اعتماد عليه لكونهما من أصحاب الإجماع.. وأيضاً المشكلة في: النخّاس أو النحّاس، والصواب النحّاس كما عن بعض.
2- حكاه عنه الوحيد البهبهاني في تعليقة على منهاج المقال: ص 155، وغيره.
3- الكافي: ج 3/57 ح 6، التهذيب: ج 1/265 ح 60.

وقريبٌ منه رواية أبي مريم(1)، ورواية عبد الأعلى (2) في الحمير والبغال، فإنّها

بضميمة الإجماع على عدم الفرق بين البول والرّوث، تدلّ على طهارة بولهاأيضاً.

والتفصيل بينهما فيها، محمولٌ على اختلاف مراتب الكراهة.

أقول: ثمّ إنّ المشهور بين الأصحاب - بل عن غير واحدٍ - دعوى نفي الخلاف في طهارة البول والغائط، من حرام اللّحم الّذي ليس له دمٌ سائل كالسمك المحرّم.

أمّا خُرئه: فيشهد بطهارته الأصل، وقصور دليل نجاسته من غير المأكول، وهو الإجماع عن الشمول له، وكذا بول ما لا لحم له، فإنّه لا يشمله عموم النجاسة، كما لا يخفى .

وأمّا بول ما له لحم: ففيه وجهان:

من ظهور كلمات جماعةٍ في عدم الخلاف في طهارته، ومن عموم حسنة ابن سنان.

ودعوى انصراف المأكول وغير المأكول عن ما لا نفس له سائلة، كما ترى ، والاحتياط في بوله لو كان لا يُترك.

***6.

ص: 22


1- وسائل الشيعة: ج 3/408 و 409، ح 4001 و 4006.
2- وسائل الشيعة: ج 3/408 و 409، ح 4001 و 4006.
فروع النجاسات
ملاقاة الغائط في الباطن هل توجب النجاسة أم لا؟

الفرع الأوّل: ملاقاة الغائط في الباطن هل توجب النجاسة أم لا؟

وجهان أقواهما الأخير، لأنّ ملاقاة النجاسة في الداخل على أنحاء:

تارةً : يكون المتلاقيان من الداخل، كملاقاة الأسنان مع الدّم الخارج من بينها.

واُخرى : تكون النجاسة من الداخل والملاقي من الخارج، كالماء الطاهر يتمضمض به مع وجود الدّم الخارج من بين الأسنان في الفم.

وثالثة: يكون الداخل النّجاسة، كماء النجس يتمضمض به.

ورابعة: يكون المتلاقيان من الخارج، والملاقاة تكون في الداخل، كالسِّن المعمول عند ملاقاته مع الماء النجس.

أمّا في الصورة الأُولى : فلا إشكال عندنا في الطهارة بعد الزوال، بلا احتياج إلى التطهير.

ويدلّ عليها: أنّه لم يدلّ دليلٌ على تأثير النجاسات ما لم تخرج، بل لا دليل على نجاستها، لأنّ ما دلّ على تأثيرها من النص والإجماع، إنّما يدلّ عليه إذا خرج كما لا يخفى ، وتؤيّدها الأخبار(1) الواردة في الاستنجاء، وفي دم الرّعاف التي وقع التصريح فيها بأنّه إنّما يغسل الظاهر دون الباطن، حيث أنّ الغسل إذا كان بالماء القليل لا يوجب الطهارة على فرض نجاسة ما في الداخل من الأعيان النجسة.

أمّا الصورة الثانية: لا إشكال فيها، ولا خلاف، لما عرفت من عدم الدليل على

ص: 23


1- وسائل الشيعة: ج 3/437 باب 24 من أبواب النجاسات والأواني والجلود: (أنّه إنّما يجب غسل ظاهر البدن من النجاسة دون البواطن).

تأثير النجاسات ما لم تخرج.

ودعوى: استكشاف الكبرى الكليّة، وهي تنجّس كلّ جسمٍ لاقى مع النجس من الأدلّة.

مندفعة: بأنّ المستند إنْ كان هو الأدلّة اللّفظيّة، فقد عرفت اختصاصها بما إذا خرج، فالتعدّي لا وجه له، وإنْ كان وقوع التعبير بها في كلمات الأصحاب ومعاقد إجماعاًتهم، فلا يعلم إرادتها من كلماتهم، وإنْ كان هو العلم بالمناط، فهو ينافي الترديد في المورد.

وبالجملة: لم نعرف مستنداً للكليّة المزبورة.

وتؤيّد الطهارة الروايات(1) الواردة في الاستنجاء، وفي دم الرِّعاف.

وأمّا الصور الثالثة: فقد قام الإجماع والسيرة القطعيّة على طهارة الباطن بمجرّد زوال العين.

ويدلّ عليها: - مضافاً إلى ذلك - عدم الدليل على تنجّس البواطن بملاقاة النجاسة، لاختصاص الأدلّة بالظواهر.

ودعوى : استفادة الكبرى الكليّة، وهي تنجّس كلّ جسمٍ بملاقاة النجاسة مِن تتبّع النصوص والفتاوى، قد عرفت ما فيها آنفاً.

ويشهد لها أوّلاً: ما دلّ على(2) طهارة بلل الفرج، مع كون المرأة جُنُباً، فإنّه شاملٌ لما إذا كانت جنابتها بإنزال الرَّجل في فرجها، بل هو الغالب.).

ص: 24


1- وسائل الشيعة: ج 3/437 باب 24 من أبواب النجاسات والأواني والجلود: (أنّه إنّما يجب غسل ظاهر البدن من النجاسة دون البواطن).
2- وسائل الشيعة: ج 3/498 باب 55 من أبواب النجاسات والأواني والجلود: (طهارة بلل الفرج والقيح).

وثانياً: الخبر الذي رواه عبد الحميد(1)، عن الإمام الصادق عليه السلام الدالّ على طهارة بصاق شارب الخمر، فإنّه بضميمة ما يدلّ على نجاسة الخمر، يدلّ على المختار.

أقول: وممّا ذكرناه في هاتين الصورتين، ظهر أنّ ملاقاة الغائط في الداخل لا توجب النجاسة، حتّى فيما لو أدخل من الخارج شيءٌ فلاقى الغائط في الداخل، كشيشة الاحتقان، وماء الحقنة الّذي يخرج ولا يصاحبه شيء من أجزاء الغائط.

وأمّا الصورة الرابعة: فلا ينبغي التشكيك في الحكم بالنجاسة فيها، لإطلاق الأدلّة كما هو واضح.

***4.

ص: 25


1- وسائل الشيعة: ج 3/473 باب 39 من أبواب النجاسات والأواني والجلود: (طهارة بصاق شارب الخمر مع خلوّه من النجاسة)، التهذيب: ج 1/282 ح 114.
بيع البول والغائط

الفرع الثاني: لا مانع من بيع الغائط من مأكول اللّحم، كما هو المشهور بين الأصحاب(1).

وعن «الخلاف»(2): نفي الخلاف فيه.

وعن المرتضى رحمه الله(3): الإجماع عليه.

ويدلّ عليه: عموم ما يدلّ على حليّة البيع - لكونه مالاً عرفاً - للانتفاع به في التسميد ونحوه من المنافع العامّة.

وكونه من الخبائث لا يوجبُ حرمة بيعه، لأنّ تحريم الخبائث إنّما يكون بالنسبة إلى الأكل خاصّة.

وقوله عليه السلام: «إنّ اللّه إذا حَرّم شيئاً حَرّم ثمنه»(4) ظاهره تحريم جميع منافعه، لأنّه الظاهر من تحريم عين الشيء، ومنفعة الروث لا تختصّ بالأكل، بل له منافعُ محلّلة اُخرى كما عرفت، فلا إشكال في جواز بيعه.

وأمّا بوله: فإنْ كانت له منفعة محلّلة مقصودة عُقلائيّة، موجبة لصيرورته مالاً، جاز بيعه، للعمومات الدالّة على صحّة البيع، وإنْ لم يكن له منفعة، كما هو الغالب لكونه مستقذراً عند العرف، فحيث لا يكون مالاً فلا يجوز بيعه، وجواز شربه اختياراً لا يكون ملاك جواز بيعه، كما عن الشيخ الأعظم رحمه الله(5)، لعدم صيرورته مالاً بمجرّد ذلك.

ص: 26


1- قال في مفتاح الكرامة: ج 12/68: (هو خيرة السرائر والتحرير ونهاية الإحكام والمختلف والدروس والتنقيح وحواشي الكتاب للشهيد وتعليق الإرشاد وجامع المقاصد والمسالك والروضة).
2- الخلاف: ج 3/185، مسألة 310.
3- حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 12/68 عن المرتضى نقلاً عن اُستاذه، ولم يجده.
4- عوالي الآلي: ج 2/110 ح 301.
5- المكاسب: ج 1/21.

ومنه يظهر عدم جواز بيع بول الإبل، إنْ لم يكن إجماعٌ على الجواز.

وأمّا بيعهما من غير المأكول: فلا يجوز بلا خلافٍ ، ويشهد لعدم جواز بيع بوله ما تقدّم، مضافاً إلى النهي عنه في رواية «تحف العقول».

وأمّا غائطه: فمقتضى القاعدة وإنْ كان جواز بيعه، إلّاأنّه يدلّ على عدم الجواز رواية يعقوب بن شُعيب: «ثمن العَذَرة من سحتٌ »(1).

وقيل: يجوز بيعه لرواية محمّد بن مضارب: «لا بأس ببيع العذرة»(2)، لكنّها تُطرح للإجماع على خلافها.

وحمل(3) الأُولى على عَذَرة الإنسان، والثانية على غيرها، حَملٌ تبرّعي، كما أنّ حمل الأُولى على الكراهة بعيدٌ جدّاً، فلا يُصار إليه، فلا مناص إلّاعن طرح الثانية.

نعم، يجوز الانتفاع بهما كما هو المشهور، بل بلا خلافٍ كما عن «المبسوط»(4)وغيره، ويشهد له - مضافاً إلى الأصل - خبر وهب عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أنّه كان لا يرى بأساً أن تُطرح في المزارع العذرة»(5).

وما عن فخر الدين(6) من دعوى الإجماع على حرمة الانتفاع بالنجس مطلقاً، غيرُ ثابتٍ ، بل عن غير واحدٍ خلافه، والنهي عن جميع التقلّبات في النجس في رواية «تحف العقول» يحتمل أن يكون المراد منه الانتفاع المحرّم، مضافاً إلى عدم الجابر لها.

***8.

ص: 27


1- التهذيب: ج 6/372 ح 201، وسائل الشيعة: ج 17/175 ح 22284.
2- الكافي: ج 5/226 ح 3، وسائل الشيعة: ج 17/175 ح 22286.
3- التهذيب: ج 6/372.
4- قد يظهر ذلك من المبسوط: ج 6/282-283.
5- قرب الإسناد: ص 68.
6- نسبه إليه السيّد في مستمسك العروة: ج 1/288.
الشكّ في التذكية

الفرع الثالث: إذا لم يُعلم كون الحيوان مأكول اللّحم أو غيره، لا يُحكم بنجاسة بوله وروثه لقاعدة الطهارة، من غير فرقٍ بين كون الشبهة موضوعيّة، أو حكميّة.

أمّا حرمة أكل لحمه: فالحقّ هو التفصيل في المسألة، وذلك لأنّ التردّد:

تارةً : يكون من جهة الشبهة الحكميّة.

واُخرى : يكون من جهة الشبهة الموضوعيّة.

1 - فإنْ كانت الشبهة موضوعيّة:

فإنْ عُلم قبوله للتذكية على كلّ حالٍ ، وشكّ في حليّته وحرمته، حكم بالحليّة لقاعدة الحلّ .

وإنْ شُكّ في قبوله للتذكية:

فإنْكان من جهة احتمال عروض المانع، كما إذا شكّ في حليّة الغنم المُذكّى لأجل احتمال صيرورته جلّالاً، فيحكم بالحليّة أيضاً، لاستصحاب عدم عروض المانع.

وأمّا إنْ كان الشكّ في قبوله التذكية، من جهة الشكّ في أنّه من القسم الذي يقبل التذكية كالغنم، أو من القسم الذي لا يقبل التذكية كالكلب، فبناءً على القول بوجود عمومٍ يدلّ على قبول كلّ حيوانٍ للتذكية، إلّاما خرج بالدليل، ولعلّه الصحيح كما ادّعاه صاحب «الجواهر» رحمه الله(1)، وبناءً على جريان استصحاب العدم الأزلي، كما هو الحقّ ، يحكم بالحليّة أيضاً، إذ استصحاب عدم تحقّق العنوان الذي خرج عن العموم يدخله في العموم، ويحكم بقبوله التذكية، فلا يجري استصحاب عدم التذكية.

ص: 28


1- جواهر الكلام: ج 8/67.

وأمّا لو أنكرنا أحد الأمرين:

فإنْ كانت التذكية عبارة عن الأفعال الخاصّة، بلا دخل لشيءٍ آخر فيه، فلا يبقى شكٌّ في التذكية، وفي حليّته وحرمته يرجع إلى قاعدة الحلّ .

وإنْ كانت عبارة عن الأفعال الخاصّة عن خصوصيّة في المحلّ بنحو الشرطيّة أو الشطريّة:

فبناءً على جريان استصحاب العدم الأزلي، يجري استصحاب عدم الخصوصيّة فيحكم بعدم تحقّق التذكية والحرمة.

وأمّا بناءً على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي، فلا يجري استصحاب عدم التذكية، فيحكم بالحليّة لأصالتها.

واستصحاب عدم تحقّق المجموع، لا يجري لعدم كونه أمراً آخر وراء الأجزاء، والموضوع إنّما هو ذوات الأجزاء بلا دخل لشيء آخر فيه، وإنْ كانت أمراً توليديّاً مسبّباً عن الذّبح بشرائطه كما هو الأظهر، فيستصحب عدمها ويحكم بالحرمة.

وأمّا إنْ كان الشكّ في وقوع التذكية على الحيوان بعد إحراز قبوله لها، فالمرجع هو أصالة عدمها على جميع التقادير، فيحكم بالحرمة.

قد يقال: في الموارد التي حكمنا فيها بالحليّة مستنداً إلى قاعدة الحِلّ ، بالحرمة مستنداً إلى استصحاب حرمة أكله الثابته قبل زهاق الروح.

وفيه أوّلاً: إنّ حرمة أكله حيّاً غير مسلّمة.

وثانياً: أنّها ثابتة له على الفرض بما أنّه حيوان، وهذا العنوان متقوّمٌ بالحياة، والمشكوك فيه إنّما هو حليّة اللّحم، وهما متغايران، فليس مورداً للاستصحاب.

وأمّا إذا كانت الشبهة حكميّة:

ص: 29

فإنْ كان الشكّ من غير جهة التذكية، فلا إشكال في أنّ المرجع أصالة الحِلّ ، واستصحاب الحرمة قد عرفت ما فيه.

وإنْ كان من جهة الجهل بقبوله للتذكية، كما في الحيوان المتولّد من حيوانين كالشّاة والكلب، ولا يشبه أحدهما:

فإنْ كان عمومٌ يدلّ على قبول كلّ حيوان للتذكية إلّاما خرج، فيتمسّك به ويحكم بالحليّة أيضاً.

وإلّا فإن كانت التذكية أمراً بسيطاً فالأصل عدمها، وإلّا فالمرجع أصالة الحِلّ .

هذا إذا لم يكن الشكّ من جهة احتمال طروّ المانع، وإلّا فيستصحب عدمه، كما لو شكّ في أنّ شرب لبن الخنزيرة مرّةً واحدة مانعٌ عن الحليّة أم لا، ولم يدلّ دليلٌ على مانعيّته.

وإنْ كان منشأ الشكّ أنّ الذبح الواقع بغير الحديد، مع التمكّن من الذبح به، يوجبُ التذكية أم لا، فالمرجع أصالة عدم تحقّق التذكية.

ثمّ إنّه قد يقال: بإنّه في الموارد التي يُحكم فيها بحرمة أكل لحم الحيوان، كيف يحكم بطهارة بوله وروثه، مع أنّ مقتضى الروايات نجاستهما من كلّ ما لا يؤكل لحمه ؟

وفيه: أنّ تلك الروايات إنّما تدلّ على نجاستهما من حيوانٍ كانت له خصوصيّة مقتضية للحرمة، والاستصحاب لا يثبت تلك الخصوصيّة.

وإنْ شئت قلت: إنّه بالاستصحاب تثبت الحرمة بعنوان أنّه ميتة، والملازمة إنّما تكون بين النجاسة والحرمة الثابتة للحيوان بما أنّه حيوان.

أقول: وكذا لا يُحكم بالنجاسة، إذا لم يُعلم أنّ له دماً سائلاً، لأصالة الطهارة.

ص: 30

نعم، بناءً على جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، لابدّ من الحكم بالنجاسة، لعموم ما يدلّ على نجاستهما من كلّ ما لا يؤكل لحمه، لأنّ الخارج هو ما ليس له دمٌ سائل المشكوك صدقه في الفرض.

ودعوى صاحب «الجواهر»(1): من الاستدلال لها بتوقّف امتثال الأمر بالاجتناب عن النجس على البناء على النجاسة، ولأنّه كسائر الموضوعات التي علق الشارع عليها أحكاماً كالصلاة للوقت.

ممنوعة: بأنّ الاجتناب عن مورد الشكّ ، ليس ممّا يتوقّف عليه الاجتناب عن النجس، وقياسه بمثل الوقت مع الفارق، لأنّه يكون الشكّ فيه شكّاً في الامتثال، وما نحن فيه شكّ في التكليف.

كما أنّ الاستدلال لها باستصحاب العدم الأزلي أيضاً غير صحيح؛ لأنّ عنوان المخصّص في المقام عدمي، فلا معني لاستصحاب عدمهُ .

***9.

ص: 31


1- جواهر الكلام: ج 5/289.
الثالث: المنيّ

والمَنيّ مِنْ ذي النفس السائلة مطلقاً.

نجاسة المَنيّ

(و) الثالث من النجاسات: (المنيّ مِنْ ذي النفس السائلة مطلقاً).

أقول: الكلام يقع في موارد ثلاثة:

الأوّل: في مني الإنسان.

الثاني: في مني الحيوان غير الإنسان ممّا له نفس سائلة.

الثالث: في مني ما ليس له دمٌ سائل.

أمّا الأوّل: فلا خلاف في نجاسته، بل تكون نجاسته من الضروريّات، وتدلّ عليها جملة كثيرة(1) من النصوص، وما توهم أن يكون معارضاً لها كلّه أجنبيٌ عن المقام، لأنّ :

بعضه واردٌ في مقام بيان عدم تنجّس ما لاقى مع ما فيه المني، فيدلّ على أنّ ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة.

وبعضه واردٌ في مقام بيان عدم تنجيس المتنجّس.

وإنْ أبيتَ عن ذلك فلا مناص عن طرحه كما لا يخفى .

وأمّا الثاني: فعن أعاظم متأخّري المتأخّرين، كصاحب «الجواهر»(2)، والشيخ الأعظم(3)، والمحقّق الهمداني(4): أنّ عمدة ما يدلّ على نجاسته الإجماع، وكون

ص: 32


1- وسائل الشيعة: ج 3/423-424 باب 16 من أبواب النجاسات والأواني والجلود: (نجاسة المني).
2- جواهر الكلام: ج 5/289.
3- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/338.
4- مصباح الفقيه: ج 1/521 ق 2.

المسألة من المسلّمات، وإلّا فالأخبار التي يستدلّ بها للعموم كصحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ذَكَر المني وشدّده، وجَعَله أشدّ من البول. ثمّ قال: إنْ رأيت المنيّ قبلُ أو بعدما تدخل في الصّلاة، فعليك إعادة الصّلاة... الخ»(1).

وصحيحه الآخر عن أحدهما عليهما السلام(2): «وقال في المنيّ يُصيب الثوب: إنْ عَرفتَ مكانه فاغسله، وإنْ خفي عليك فاغسله كلّه»(3).

ونحوه رواية(4) عنبسة.

ولأجل تعارف إصابة منيّ الإنسان ثوبه، وعدم تعارف إصابة غيره، بل ندرتها، ينصرف إطلاق لفظ (المنيّ ) فيها إليه.

مضافاً إلى أنّ قوله عليه السلام في موثّق(5) عمّار: «وكلّ ما أُكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه»، وقوله عليه السلام في موثّق(6) ابن بُكير: «وإنْ كان ممّا يُؤكل لحمه، فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه، وكلُّ شيءٍ منه جائز». يدلّان على طهارته من مأكول اللّحم.

أقول: ولكن يرد على دعوى الانصراف:

أوّلاً: أنّ ندرة الابتلاء بمنيّ غير الإنسان غير ثابتة، بل كثرة الابتلاء بالنسبة إلى بعضه كمنيّ الغنم والحمار والديك وأشباهها محقّقة، خصوصاً للمكاري وأمثاله.

وثانياً: ما مرّ منّا مراراً من أنّ ندرة الفرد، أو ندرة الابتلاء به، لا توجب9.

ص: 33


1- التهذيب: ج 1/252 ح 17، وسائل الشيعة: ج 3/424 ح 4055.
2- وسائل الشيعة: ج 3/423-424 ح 4054.
3- الكافي: ج 3/53 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/402 ح 3977.
4- التهذيب: ج 1/252 ح 16، وسائل الشيعة: ج 3/403 ح 3980.
5- التهذيب: ج 1/266 ح 68، وسائل الشيعة: ج 3/409 ح 4005.
6- الكافي: ج 3/397 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/408 ح 3999.

الانصراف المانع من التمسّك بالإطلاق، وإنّما هو بالنسبة إلى ما إذا كان صدق الطبيعي على فردٍ خفيّاً. وأمّا إذا كان صدقه عليه كصدقه على غيره كما في المقام، فلا وجه لدعوى الانصراف.

وعليه، فلا مانع من التمسّك بإطلاق الروايات.

وأمّا قوله عليه السلام في موثّق عمّار: «وكلّ ما أُكل لحمه... الخ» فلا يشمل المنيّ ، لأنّ العرف يفهمون من لفظ (ما يخرج) خصوص البول والغائط، ولذا ترى أنّ الفقهاء الذين هم أهل اللّسان، ذكروا الرواية في خصوص باب البول والغائط، واستدلّوا بها في ذلك الباب خاصّة.

وأمّا موثّق ابن بكير: فهو إنّما يكون في مقام بيان مانعيّة غير مأكول اللّحم ويدلّ على أنّ أجزاء مأكول اللّحم ليس كاجزاء غيره ممّا يكون بنفسه مانعاً عن الصّلاة، وكما أنّه لا ينافي مع مانعيّة الدّم لأجل نجاسته، كذلك لا ينافي مع مانعيّة المنيّ لأجلها.

وبالجملة: فهو ليس ناظراً إلى الجهات الاُخر، وإنّما يدلّ على أنّ أجزاء مأكول اللّحم بأنفسها ليست من الموانع.

فتحصّل ممّا ذكرناه تماميّة دلالة المطلقات على النجاسة، وعدم المعارض لها.

وأمّا المقام الثالث: فالمشهور بين الأصحاب - على ما نُسِب إليهم - طهارة مني ما لا نفس له سائلة.

وقد استدلّ عليها:

1 - بإطلاق رواية حفص بن غياث، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: «لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفسٌ سائلة»(1).4.

ص: 34


1- الكافي: ج 3/5 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/241 ح 624.

فإنّه كما عرفت سابقاً، يدلّ على عدم تنجّس الماء بواسطة ما ليس له دمٌ سائل، فلو كان منيه نجساً، كان يفسد الماء هو أيضاً.

2 - والإجماع المنقول، وعدم نجاسة بوله وروثه ودمه، بضميمة عدم الفصل بينها وبين منيّه فتدبّر.

أقول: كلّ واحدٍ من هذه الوجوه، لا يخلو عن الإشكال، وطريق الاحتياط لا يحتاج إلى البيان.

وأمّا المذي والوذي والودي: فطاهرة بلا خلافٍ معروفٍ ، إلّاعن ابن الجُنيد(1)، فقد نُسِب إليه القول بنجاسة المذي الخارج عقيب الشهوة، ولم يصل إلينا مستنده.

وحسن الحسين بن أبي العلاء، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المذي يصيبُ الثوب ؟ قال عليه السلام: إن عرفتَ مكانه فاغسله، وإنْ خفي عليكَ مكانه فاغسله كلّه»(2). وقريبٌ منه غيره.

فإنّه مضافاً إلى عدم اختصاصه بالشهوة، وإعراض الأصحاب عنه، تعارضه جملةٌ من النصوص؛ كصحيح زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنْ سالَ مِن ذَكَرك شيءٌ من مذي أو وذي، وأنتَ في الصّلاة فلا تغسله، ولا تقطع له الصّلاة، ولا تنقض له الوضوء، وإنْ بلغ عقبك، فإنّما ذلك بمنزلة النخامة»(3). ونحوه غيره.

وعليه، فلا لا مناص عن حمل ما ظاهره لزوم الاجتناب عنه على الاستحباب.

أمّا الودي: فيدلّ على طهارته الأصل والإجماع، وما ورد(4) في البلل المشتبه.).

ص: 35


1- راجع الحبل المتين: ص 31.
2- التهذيب: ج 1/253 ح 18، وسائل الشيعة: ج 3/426 ح 4063.
3- الكافي: ج 3/39 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/277 ح 727.
4- وسائل الشيعة: ج 1/282 باب 13 من أبواب نواقض الوضوء (باب حكم البلل المشتبه الخارج بعد البول والمني).

وأمّا رطوبات الفرج والدُّبر فكذلك بلا خلافٍ .

ويدلّ على طهارة الأُولى: صحيح إبراهيم بن أبي محمود: «سألتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام عن المرأة عليها قميصها أو إزارها، يصيبه من بلل الفرج، وهي جُنُبٌ أتُصلّي فيه ؟ قال عليه السلام: إذا اغتسلت صلّت فيه»(1).

وعلى طهارة الثانية: مصحّح زرارة المتقدّم، وفيه قوله عليه السلام: «وكلُّ شيءٍ خرج منك بعد الوضوء، فإنّه من الحبائل أو من البواسير، فلا تغسله من ثوبك إلّا أن تقذره».

***9.

ص: 36


1- التهذيب: ج 1/368 ح 15، وسائل الشيعة: ج 3/498 ح 4279.
الرابع: الميتة
اشارة

وكذا الميتة.

نجاسة الميتة

الرابع من النجاسات: الميتة من كلّ ما لَهُ دَمٌ سائل، وقد لاحظ المصنّف رحمه الله هذا العموم، حيث قال: (وكذا الميتة).

وعن جماعة كثيرة: دعوى الإجماع على نجاستها.

وتشهد لها:

1 - الآية الشريفة: إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ (1)، بناءً على عود الضمير إلى الطعام الذي حُكم بحليّته، واستَثنى منه هذه الثلاثة، فإنّها تدلّ على أنّ الطعام إذا كان من أحد هذه الثلاثة فهو رجس.

نعم، كون الرِّجس بمعنى النجاسة محلّ تأمّلٍ .

2 - وجملةٌ من النصوص:

منها: رواية جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «أتاه رجلٌ فقال له: وقعتْ فأرةٌ في خابيةٍ فيها سَمْنٌ أو زيتٌ فما ترى في أكله ؟ فقال له أبو جعفر: لا تأكله. فقال له الرّجل: الفأرةُ أهونُ عَليَّ من أنْ أترك طعامي من أجلها! فقال له أبو جعفر عليه السلام: إنّك لم تستخفّ بالميتة إنّما استخففتَ بدينك، إنّ اللّه حَرّم الميتة من كلّ شيء»(2).

فإنّ جوابه عليه السلام يدلّ على حرمة ما في الخابية لملاقاته للميتة، ولا منشأ له سوى نجاسته بها، بل لم يكن المغروس في ذهن السائل على ما يظهر من سؤاله، نجاسة

ص: 37


1- سورة الأنعام: الآية 145.
2- التهذيب: ج 1/420 ح 46، وسائل الشيعة: ج 1/206 ح 528.

الميتة ومنجّسيّها، وإنّما كان شكّه من جهة صغر حجم الفأرة وأنّ ما في الخابية ينجس لأجله، فأجابه عليه السلام بعدم الفرق في منجّسيّة الميتة بين الكبير والصغير.

ومنها: ما ورد من الأمر بالاجتناب عن السَّمن والعَسَل والطعام والشراب، الملاقية مع الميتة، بأن تموت فيها الفأرة أو الجُرذ، كصحيح معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في سَمْنٍ أو زيتٍ أو عسل مات فيه جرذٌ؟ فقال عليه السلام: أمّا السَّمن والعَسَل فيؤخذ الجُرذ وما حوله، وأمّا الزيت فيُستصبح به»(1).

وصحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إذا وقعت الفأرة في السَّمن فماتت فيه، فإنْ كان جامداً فألقها وما يليها، وكلّ ما بقي، وإنْ كان ذائباً فلا تأكله واستصبح به»(2) ونحوهما غيرهما.

ومنها: ما ورد في المَرَق مِن الأمر بإهراقه وغَسل اللّحم، كخبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سُئِلَ عن قِدْرٍ طُبخت، فإذا في القدر فأرة ؟ فقال عليه السلام: يُهراق مرقها ويُغسل اللّحم ويُؤكل»(3).

ومنها: ما تضمّن النهي عن الأكل في آنية أهل الكتاب، كصحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليه السلام: «سألته عن آنية أهل الذِّمّة ؟ فقال عليه السلام: لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة والدّم ولحم الخنزير»(4).

ومنها: ما ورد في(5) الماء القليل تكون فيه الفأرة الميتة، من الأمر بإعادة الوضوء وغَسل الثوب.).

ص: 38


1- عوالي اللآلي: ج 2/329 ح 37.
2- الكافي: ج 6/261 ح 1، الوسائل: ج 1/205 ح 527.
3- الكافي: ج 6/261 ح 3، وسائل الشيعة: ج 1/206 ح 529.
4- الفقيه: ج 3/348 ح 4223، وسائل الشيعة: ج 24/211 ح 30368.
5- وسائل الشيعة: ج 1/142 باب 4 من أبواب الماء المطلق (الحكم بطهارة الماء إلى أن يعلم ورود..).

إلى غير ذلك ممّا ورد في الأبواب المتفرّقة، الدالّة جميعها عليها منطوقاً أو مفهوماً.

وقد استدلّ لها بعض الأعاظم(1): بما ورد في نزح البئر لموت الدابّة والفأرة والطير ومطلق الميتة، وأشكل على نفسه من جهة ما دلّ على عدم انفعال ماء البئر(2)، وأجاب عنه بأنّ النصوص المذكورة تدلّ على نجاسة الميتة، وانفعال ماء البئر، فإذا دلَّ الدليل على عدم الانفعال تعيّن رفع اليد عن الدلالة الثانية، فتبقى الأُولى على حجّيّتها، إذ التلازم بين الدلالتين وجوداً لا يقتضي التلازم بينهما في الحجّية.

وفيه: أنّ دلالة تلك النصوص على النجاسة، إنّما تكون من جهة ظهور الأمر بالنزح في اللّزوم، ولو فُرض تعيّن حمل الأمر به على الاستحباب، لم يبق دلالة لها على النجاسة، حتّى يقال إنّ حجّيّتها لا تلازم حجيّة الدلالة الاُخرى .

فتحصّل ممّا ذكرناه: ضعف ما في «المدارك»(3) من الاستشكال في النجاسة، لعدم قيام دليل نصٍّ يعتدّ به.

أقول: وأمّا ما رواه الصدوق رحمه الله مُرسلاً في «الفقيه» عن الإمام الصادق عليه السلام:

«سُئل عن جلود الميتة، يجعل فيها اللّبن والسَّمن والماء؟ قال عليه السلام: لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت مِنْ ماءٍ أو لَبَن أو سَمْنٍ ، وتوضّأ منه وأشرب، ولكن لا تُصلِّ فيه»(4).

فإمّا أنْ يُحمل على طهارة الجلد بالدِّباغة، إذ غيره غير قابل لجعل الماء والسَّمن فيه، فيكون من النصوص الدالّة عليها المحمولة على التقيّة.2.

ص: 39


1- مستمسك العروة: ج 1/300.
2- وسائل الشيعة: ج 1/179 ب 15، ب 17 ص 182، ب 18 ص 186، ب 19 ص 187.
3- مدارك الأحكام: ج 2/268.
4- الفقيه: ج 1/11 ح 15، وسائل الشيعة: ج 3/463 ح 4182.

أو يُطرح؛ لشذوذه ومخالفته للمشهور، ومعارضته مع النصوص المتقدّمة.

هذا كلّه في ميتة غير الادمي.

وأمّا ميتة الآدمي: فعن غير واحدٍ دعوى الإجماع على نجاستها.

وعن ظاهر محكيّ «المفاتيح»(1): عدم النجاسة.

والقول الأوّل أقوى ، ويشهد له:

1 - صحيح ابن ميمون، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقع ثوبه على جسد الميّت ؟ قال عليه السلام: إنْ كان غُسّل الميّت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه، وإنْ كان لم يُغسّل فاغسل ما أصاب ثوبك منه»(2).

ونحوه صحيح الحلبي(3).

2 - والتوقيع الوارد عنه عليه السلام: «في إمامٍ حدثتْ عليه حادثة ؟ قال عليه السلام: ليس على مَن نحّاه إلّاغَسل اليد»(4).

واستدلّ صاحب «المفاتيح»(5) على ما اختاره: بأنّ الميّت لو كان نجسُ العين لم يطهر بالتغسيل.

وفيه: ما ذكره صاحب «الجواهر» رحمه الله(6) من أنّه اجتهادٌ في مقابل النص.

***6.

ص: 40


1- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 1/304.
2- الكافي: ج 3/61 ح 5، وسائل الشيعة: ج 3/457 ح 4166.
3- وسائل الشيعة: ج 3/458 ح 4168.
4- وسائل الشيعة: ج 3/296 ح 3694.
5- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 5/306.
6- جواهر الكلام: ج 5/306.
فروع:
الأجزاء المُبانة من الميتة
اشارة

الفرع الأوّل: الأجزاء المُبانة من الميتة نجسةٌ على المشهور شهرةً عظيمة.

وعن «المدارك»(1): أنّ النجاسة مقطوعٌ بها بين الأصحاب.

ويشهد لنجاستها:

1 - ما دلّ على نجاسة الميتة، إذ المستفاد منه بحسب المتفاهم العرفي، أنّ معروض النجاسة جَسدُ الميّت، بلا دخلٍ للاتّصال فيها.

2 - ومفهوم العلّة في خبر الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة إنّ الصّوف ليس فيه روح»(2).

3 - وفي خبر أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام - في حديثٍ طويل بعد نفي البأس عن الأنفحة -: «إنّ الأنفحة ليس فيها دمٌ ولا عِرْقٌ ، ولا بها عظم»(3).

ونحوهما غيرهما.

4 - ولو تنزّلنا عن ذلك، وفرضنا الشكّ في النجاسة، فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب النجاسة الثابتة حال الاتّصال.

ويُستثنى من ذلك ما لا تحلّه الحياة منها، كالصّوف والشَّعر بلا خلافٍ ، بل ادّعي الإجماع عليه، وتشهد له جملة من النصوص:

1 - صحيح حريز، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام لزرارة ومحمّد: اللّبن واللّباء والبيضة والشَّعر والصّوف والقرآن والناب والحافر، وكل شيء يفصل من الشاة

ص: 41


1- مدارك الأحكام: ج 2/271.
2- الفقيه: ج 1/265 ح 814، وسائل الشيعة: ج 3/513 ح 4325.
3- الكافي: ج 6/256 ح 1، وسائل الشيعة: ج 24/179 ح 30286.

والدابّة فهو ذكي، وإنْ أخذته بعدما يموت فاغسله وصَلِّ فيه»(1).

2 - وصحيح الحلبي وخبر الثمالي المتقدّمين ونحوها غيرها.

وهذا ممّا لا إشكال فيه، إنّما الكلام يقع في جهات:

الجهة الأُولى : إنّ الصّوف والوَبَر والشَّعر هل يعتبر في الصّلاة فيها الغَسل أم لا؟

واستدلّ للأوّل: بصحيح حريز المتقدّم.

وفيه: إنّ الأمر بالغَسل مقدّمةً للصّلاة ظاهرٌ في كونه لأجل النجاسة، وعليه فظاهره نجاسة موضع الاتّصال بالميتة، إذ النجاسة المتصوّرة فيها المرتفعة بالغُسل، ليست إلّاالحاصلة بالملاقاة، وعليه فتختصّ بما إذا أُخذ بغير الجزّ.

وعليه، فالأقوى عدم اعتبار الغَسل، سوى غَسل الموضع المتّصل بالميتة.

الجهة الثانية: هل تختصّ طهارة الصّوف والوَبَر والشَّعر، بما إذا أُخذ بالجزّ كما عن الشيخ رحمه الله في «النهاية»(2)، أم تعمّ ما يُؤخذ قلعاً؟ وجهان:

قد استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ أصل المأخوذ قَلْعاً لا محالة يكون معه جزءٌ من لحم الميتة.

2 - وبأنّ اُصولها من أجزاء الميتة وفيها روحٌ ، مع أنّها ليست داخلة تحت أحد العناوين المستثنيات.

3 - وبخبر الفتح بن يزيد الجرجاني(3): «وكلّما كان من السِّخال الصّوف إن جُزّ، والشّعر والوَبَر والأنفحة والقَرن ولا يتعدّى إلى غيرها».

أقول: وفي الجميع نظر:2.

ص: 42


1- التهذيب: ج 9/75 ح 56، وسائل الشيعة: ج 24/180 ح 30288.
2- النهاية: ص 585.
3- الكافي: ج 6/258 ح 6، وسائل الشيعة: ج 24/181 باب 33 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح 30292.

أمّا الأوّل: فممنوعٌ ، سيّما في الحيوانات التي لها جلدٌ غير رقيق كالحمار.

وأمّا الثاني: فلأنّ أصل الشَّعر مثلاً إنّما هو مادّته، فكيف يمكن أن يكون ممّا تحلّه الحياة. وعدم دخولها في أحد تلك العناوين، لا يضرّ، لعموم العلّة في صحيح الحلبي وغيره.

وأمّا الثالث: فلأنّه ضعيفُ السند ومضطرب المتن، حيث أنّ خبر قوله: (كلّ ما كان... الخ) غَير مذكور.

***

ص: 43

طهارة الأنفحة

أقول: ويُلْحقُ بالمذكورات اُمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: الأنفحة لا خلاف في طهارتها، وعن غير واحدٍ: دعوى الإجماع عليها، وتشهد لها جملةٌ من النصوص: كخبر أبي حمزة المتقدّم، وصحيح زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«سألته عن الأنفحة تخرج من الجَدْي الميّت ؟ قال عليه السلام: لا بأس به.

قلت: اللّبن يكون في ضَرْع الشّاة، وقد ماتت ؟ قال عليه السلام لا بأس به»(1).

ونحوهما غيرهما(2).

أقول: ثمّ إنّه قد اختلف كلمات الفقهاء واللّغويين في تحديد الأنفحة:

فعن جماعةٍ منهم المصنّف قدس سره(3): أنّها شيءٌ أصفرٌ مستحيل في جوف السَّخلة.

وعن «السرائر»(4) وغيرها: أنّها كِرش الحَمَل أو الجَدْي ما لم يأكل.

واختار بعض المحقّقين قدس سره(5): أنّها اسمٌ للظرف لا للمظروف.

وعلى جميع التقادير، لا ريب في طهارة المظروف:

أمّا على الأخير فواضح.

وأمّا على الأوّل فلدلالة النصوص على طهارة الأنفحة، الظاهرة في الطهارة الفعليّة، فلا يصحّ الحكم بتنجّسها بملاقاتها مع ظرفها.

ص: 44


1- الفقيه: ج 3/342 ح 4212، وسائل الشيعة: ج 24/182 ح 30295.
2- وسائل الشيعة: ج 24/179 باب 33 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
3- قواعد الأحكام: ج 1/192.
4- السرائر: ج 3/112.
5- مستمسك العروة: ج 1/308.

وأمّا على الثاني فلما دلَّ على طهارة أجزاء الميتة التي لا تحلّها الحياة.

وأمّا الظرف: فحيثُ لم يثبت كون الأنفحة إسماً له، فلا مخرج له عن عموم ما دلّ على نجاسة أجزاء الميتة، فيتعيّن الحكم بنجاسته.

فإنْ قلت: إنّه بعدما ثبت طهارة المظروف، يتحقّق علمٌ إجمالي بورود التخصيص.

أمّا على عموم ما دلّ أنّ النجس ينجّس، ويُحكم بنجاسة الظرف.

أو على عموم ما دلّ على نجاسة أجزاء الميتة.

ولازمه عدم جواز التمسّك بأصالة العموم في شيءٍ منهما، فالمرجع عند الشكّ في طهارة الظرف هو قاعدة الطهارة.

قلت: إنّ هذا العلم إجمالي يكون منحلّاً للعلم بأنّ عموم (النجس ينجس) لا يكونُ شاملاً للمقام، اما لعدم نجاسة ظرفه، أو لعدم منجّسيّه، فتبقى أصالة العموم في ما دلّ على نجاسة أجزاء الميتة بلا معارض.

فتحصّل: أنّ الأقوى أنّ المظروف محكومٌ بالطهارة، والظرف بالنجاسة.

أقول: ثمّ إنّ ظاهر النصوص اختصاص الطهارة بالمأكول، إذ بعضها واردٌ في خصوص الجَدْي، وفي جملةٍ منها التنصيص على جواز أكل الجُبّن الذي تُجعل فيه الأنفحة، المختصّ بمأكول اللّحم، ومرسل الصدوق وإنْ كانَ مطلقاً، لكنّه لإرساله لا يُعتمد عليه.

وعليه، فالأقوى هو الحكم بنجاسة الظروف والمظروف، أمّا الظرف فلكونه من أجزاء الميتة التي تحلّها الحياة، وأمّا المظروف فلملاقاته مع الظرف النجس.

اللَّبن في الضَّرع

الأمر الثاني: اللَّبن في الضَّرع، ولا ينجسُ بملاقاة الضَّرع كما هو المشهور، بل عن «الخلاف»(1): دعوى الإجماع عليه.

ص: 45


1- الخلاف: ج 1/520.

وتشهد له: جملة من النصوص، كصحيح زرارة المتقدّم في الأنفحة، ومصحّح حريز المتقدّم في الأجزاء المُبانة ونحوهما غيرهما.

وعن جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله القول بالنجاسة(1).

وعن «المنتهى »(2): أنّه المشهور.

واستدلّ له: بخبر وهب بن وهب، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام:

«إنّ عليّاً عليه السلام سُئِل عن شاةٍ ماتتْ فحلب منهالَبَن ؟ فقال عليه السلام: ذلك الحرام محضاً»(3).

وأيّده الشيخ الأعظم قدس سره(4): بأنّ الرواية وإنْ كانت ضعيفة السند بمن قيل في حقّه: (إنّه أكذب البريّة)، وموافقة لمذهب العامّة، إلّاأنّها منجبرة بالقاعدة المُجمع عليها، وهي قاعدة نجاسة ملاقي النجس.

ونصوص الطهارة وإنْ كانت صحيحة إلّاأنّها مخالفة للقاعدة، فتطرح هذه النصوص ويُعمل بتلك الرواية.

وفيه: أنّ الخبر الضعيف لا ريب في أنّه يُنجبَر بالعمل، وأمّا مطابقته للقاعدة، فلا أرى وجهاً في إنجباره بها.

مع أنّه لو سُلّم ذلك، فلا وجه لكونها من مرجّحات ذلك الخبر على النصوص الصحيحة، مع كونها مخالفة للعامّة، ولا تكون القاعدة من القواعد العقليّة غير القابلة للتخصيص، حتّى يطرح لأجلها النصوص المعتبرة.

أقول: والأقوى هي الطهارة، وبما أنّ بعض نصوصها مطلقٌ غير مقيّد بالمأكول،3.

ص: 46


1- نهاية الإحكام: ج 1/270.
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/165.
3- التهذيب: ج 9/76 ح 60، وسائل الشيعة: ج 24/183 ح 30296.
4- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/343.

فالأظهر شمول الحكم لغير المأكول، وانصرافها إلى المأكول بدويٌ لا يوجب تقييد الإطلاق، فتأمّل.

البيض

الأمر الثالث: البيض، لا شُبهة ولا خلاف في طهارته في الجملة، وتشهد لها جملة من النصوص.

ولكن عن جماعةٍ : تقييدها بما إذا اكتست القشر الأعلى .

وعن آخرين: بالقشر الصّلب أو بالجلد الغليظ، أو بالجلد الفوقاني.

واستدلّ له: بخبر غياث، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في بيضةٍ خرجت من إسْتِ دجاجة ميّتة ؟ قال عليه السلام: إنْ كانت اكتست البيضة الجلد الغليظ فلا بأس بها».

وبه يقيّد إطلاق غيره(1).

وفيه: أنّ الخبر واردٌ في مقام بيان الحليّة والحرمة، ويدلّ على أنّ الحليّة معلّقة على اكتساء الجلد الغليظ، وأمّا الطهارة والنجاسة، فهو ساكتٌ عن بيانهما، فيرجع فيهما إلى ما تقتضيه القاعدة، وهي الطهارة، لكونه من الأجزاء التي لا تحلّها الحياة، مضافاً إلى إطلاق نصوصها.

أقول: وبذلك ظهر ضعف ما عن المصنّف رحمه الله(2) من الإفتاء بنجاسة بيض ما لا يؤكل لحمه، نظراً إلى ما في جملةٍ من النصوص من التصريح بجواز الأكل، المختصّ بالمأكول، فيُحمل غيرها عليه.

***

ص: 47


1- الكافي: ج 6/258 ح 5، وسائل الشيعة: ج 24/181 ح 30291.
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/166.
الأجزاء المُبانة من الحَيّ

الفرع الثاني: المشهور بين الأصحاب أنّ الأجزاء المُبانة من الحَيّ ممّا تحلّه الحياة، كالمُبانة من الميّت، عدا الأجزاء الصغار.

أقول: يقع الكلامُ في مقامين:

الأوّل: في أصل الحكم.

الثاني: فيما استثنى من طهارة الأجزاء الصغار.

أمّا المقام الأوّل: فالظاهر أنّه لا خلاف فيه، وتشهد له طوائف من النصوص:

منها: ما دلّ على نجاسة الميتة، فان المفهوم منه عرفاً نجاسة كلّ ما فيه الروح بخروجه، سواءٌ صدق عليه الميتة أو لم يصدق، ولذا لو قطع الحمار مثلاً بقطعاتٍ ، فخرج عنها الروح، لا يتوقّف العرف في الحكم بنجاسة كلّ قطعةٍ منها.

ومنها: ما ورد في الصيد، المتضمّن لأنّ ما قُطّعت الحبالة فهو ميتة، كخبر عبداللّه بن سليمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«ما أخذت الحبالة وانقطع منه شيءٌ أو مات فهو ميتة»(1).

وصحيح ابن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«قال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أخذت الحَبالة من صيدٍ فقُطّعت منه يداً أو رِجلاً فذروه فإنّه ميّت»(2).

ونحوهما غيرهما.

وأورد عليه بعض أعاظم المحقّقين رحمه الله(3): بأنّ المراد بكونه ميتة:

ص: 48


1- الكافي: ج 6/214 ح 4، وسائل الشيعة: ج 23/377 ح 29791.
2- الكافي: ج 6/214 ح 1، وسائل الشيعة: ج 23/376 ح 29789.
3- مستمسك العروة: ج 1/312.

إنْ كان كونه ميتةً حُكماً، فالمتبادر منه حينئذٍ إرادة حُرمة الأكل لا النجاسة.

وإنْ كان كونه ميتة حقيقةً ، فيحتاج الحكم بالنجاسة إلى ورود دليلٍ عام يدلّ على نجاسة الميتة بحيث يعمّ الفرض، وحيث ليس، فلا دليل على النجاسة.

وفيه: إنّ هذه النصوص تدلّ على النجاسة على كلا التقديرين:

أمّا على الأوّل: فلإطلاق دليل التنزيل.

وأمّا على الثاني: فلأنّ بيان الشارع للفرد الحقيقي الخفيّ لا مُحالة يكون بلحاظ ثبوت الحكم الثابت للفرد الجَليّ له، وإلّا فليس بيان ذلك وظيفته.

وبما ذكرناه ظهر دلالة النصوص الواردة في إليات الغَنَم، كخبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّه قال في إليات الغنم تقطع وهي أحياء، إنّها ميتة»(1). ونحوه غيره على النجاسة(2).

ومنها: خبر قتيبة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، الوارد في لبأس الخزّ، وفيه علّل عليه السلام طهارة الصّوف الذي لا روح فيه، بأنّه: «ألا ترى أنّه يُجزّ ويُباع وهو حَيّ »(3)، فإنّه يدلّ على الملازمة بين طهارة الجزء المُبان من الحَيّ مع طهارته إذا بانَ من الميّت، وحيثُ عرفت نجاسة الأجزاء المُبانة من الميتة، فالمُبانة من الحَيّ أيضاً كذلك.

وأمّا المقام الثاني: فعن «الحدائق»(4): الظاهر أنّه لا خلاف في طهارة الأجزاء2.

ص: 49


1- الكافي: ج 6/255 ح 2 (باب ما يُقطع من إليات الضأن)، وسائل الشيعة: ج 3/504 ح 4295 وج 24/72 ح 30026.
2- الكافي: ج 6/254 ح 1، وسائل الشيعة: ج 24/71 باب 30 من أبواب الذبائح ح 30024... الخ.
3- وسائل الشيعة: ج 3/514 ح 4331.
4- الحدائق الناضرة: ج 5/72.

الصغار، وعن غير واحد دعوى الإجماع عليها.

ويشهد لها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام، قال:

«سألته عن الرجل يكون به الثالول والجراح، هل يصلح له أن يقطع الثالول وهو في صلاته، أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه ؟

قال عليه السلام: إنْ لم يتخوّف أن يسيل الدّم فلا بأس، وإنْ تخوّف أن يسيل الدّم فلا يفعل»(1).

حيث أنّه - بقرينة التفصيل بين سيلان الدّم وعدمه - ظاهرٌ في كونه وارداً لبيان الرّخصة الفعليّة من جميع الجهات، لا لبيان عدم قادحيّة هذا الفعل من حيث هو.

فحينئذ لأجل عدم التفصيل فيه مسّه بالرطوبة وعدمه، ولا التفصيل بين كونه بالحَكّ أو بغيره، المستلزم لحمله في الصّلاة آناً مّا، بل الظاهر من قوله: (يطرحه) هو الثاني، فيدلّ الخبر على عدم النجاسة.

وبهذا التقريب يندفع جميع ما أُورد على الاستدلال به.

***7.

ص: 50


1- الفقيه: ج 1/253 ح 776، وسائل الشيعة: ج 3/504 ح 4297.
طهارة فأرة المسك

الفرع الثالث: فأرة المِسْك المُبانة من الحَيّ طاهرة، وكذا المِسْك.

أقول: فالكلام في هذا الفرع يقع في مقامين:

الأوّل: في المِسْك.

الثاني: في جلده.

أمّا المقام الأوّل: فعن «التحفة»(1): إنّ للمِسْك أقساماً أربعة:

القسم الأوّل: المِسْك التُّركي، وهو دمٌ يقذفه الظبي بطريق الحيض أو البواسير، فينجمد على الأحجار.

القسم الثاني: الهندي، وهو دمُ ذَبح الظبي المعجون مع روثه وكبده.

واختار شيخنا الأنصاري رحمه الله(2) نجاسة هذين القسمين، وقال: (هذان ممّا لا إشكال في نجاستهما).

وأورد عليه المحقّق الهمداني رحمه الله(3): بأنّ الظاهر حصول الاستحالة المانعة من إطلاق اسم الدّم عليه، بعد صيرورته مصداقاً للمِسْك، فمقتضى القاعدة طهارتهما.

وفيه: أنّ الاختلاط والانجماد لا يوجبان الإستحالة، ولعلّ إطلاق المِسْك عليهما لأجل ما فيهما من أجزاء مِسْكيّة موجبة لكون رائحتهما رائحة المِسْك، وعليه فلا وجه للحكم بالطهارة، بل مقتضى عموم ما دلّ على نجاسة الدّم نجاستهما.

أقول: وبذلك اندفع ما أُورد على الشيخ الأعظم رحمه الله(4): بأنّ الإجماع قام على طهارة المسك، فاللّازم هو الحكم بطهارتهما.

ص: 51


1- نسبه إليه في كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/341.
2- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/341.
3- مصباح الفقيه (ط. ق): ج 1/529.
4- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/341.

وجه الاندفاع: أنّا لو سلّمنا ثبوته، وكونه من قبيل الإجماع على القاعدة الموجب للتمسّك بمقعده، ولكن لأجل عدم صدق المِسْك على مجموع أجزائهما، لا يصحّ التمسّك بإطلاقه لإثبات طهارتهما، إذ المِسْك مفهومٌ غير مفهوم الدّم.

القسم الثالث: وممّا ذكرنا آنفاً ظهر حكم هذا القسم من المِسْك، وهو دمٌ يجتمع في سُرّة الظَبْي بعد صيده، يحصل من شَقّ موضع الفأره، وتغميز أطراف السُّرة، حتّى يجتمع فيجمد، ولونه أسود.

وقد اختار الشيخ رحمه الله طهارته مع تذكية الظبي، ولعلّ وجهه تخيّل كونه من الدّم المتخلّف في الذبيحة.

وفيه: أنّ الدّم المتخلّف في الذبيحة بنفسه طاهرٌ، لا الدّم الذي يبقى فيها مع تسبيب الأسباب، فالأقوى نجاسته أيضاً.

القسم الرابع: مِسْك الفأرة، وهو دمٌ يجتمع في أطراف سُرّته في الفأرة، ثمّ بعدما تمتلي الفأرة من المِسْك، يعرض للموضع حكّة يسقط بسببها المِسْك مع جلده.

ولا إشكال في طهارة هذا القسم للإجماع والنصوص، ولما قيل من أنّ المِسْك مفهومٌ مباينٌ للدّم.

وأمّا المقام الثاني: فلجلده أيضاً أقسام أربعة:

الأوّل: المأخوذ من الميّت.

الثاني: ما يُجزُّ من الحَيّ .

الثالث: ما يُؤخذ منه بعد التذكية.

الرابع: ما ينفصل عن الحَيّ بنفسه.

ولا إشكال في طهارة ما يُؤخذ من المذكّى ، وأمّا غيره فالمشهور بين الأصحاب طهارته أيضاً.

ص: 52

وعن «كشف اللّثام»(1): النجاسة مطلقاً.

وعن «المنتهى »(2): الطهارة إذا انفصل من الحَيّ ، والنجاسة إذا انفصل من الميّت.

وقد استدلّ للمشهور:

1 و 2 - بالإجماع، والنص على طهارة المِسْك الدالّان على طهارة الفأرة بالالتزام.

3 - وبأنّها ليست جزءً للظبي.

4 - وبعدم كونها ممّا تحلّه الحياة.

5 - وبالإجماع المُدّعى على طهارتها.

6 - وبصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «سألته عن فأرة المِسْك تكون مع من يُصلّي وهي في جيبه أو ثيابه ؟ قال عليه السلام: لا بأس بذلك»(3).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لا إطلاق لما دلّ على طهارة المِسْك من هذه الجهة، كي يُتمسّك بإطلاقه. مع أنّه لو سُلّم إطلاقه، فإنّما يدلّ على عدم تنجّسه بملاقاة الفأرة، فيمكن أن يكون مخصّصاً لما دلّ على منجّسيّة النجس.

وأمّا الثاني: فلا وجه لادّعائه مع اتّصالها بالبدن.

وأمّا الثالث: فلأنّها من جنس الجلود، غاية الأمر عند انفصالها يخرج عنها الروح.1.

ص: 53


1- كشف اللّثام: ج 1/423 (ط. ج).
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/165.
3- الفقيه: ج 1/254 ح 778، وسائل الشيعة:: ج 4/443 ح 5631.

وأمّا الرابع: - فمضافاً إلى أنّ الصّلاة مع شيءٍ غير ساتر أعمّ من طهارته - أنّه لو سُلّم تماميّة دلالته، لابدّ من تقييده بمكاتبة عبد اللّه بن جعفر إلى أبي محمّد عليه السلام:

«هل يجوز للرّجل أن يُصلّي ومعه فأرة مِسك ؟ قال عليه السلام: لا بأس بذلك إذا كان ذكّيّاً»(1).

إذ الضمير المقدّر في (كان) لا يرجع إلى الظَبْي، لعدم ذكره سابقاً كي يرجع الضمير إليه، ولا إلى المِسْك، إذ يكون الجواب غير تامٍّ حينئذٍ، لأنّ السؤال كان عن الفأرة، بل يرجع إلى الفأرة بتقدير ما مع المصلّي، ومعنى الذكي الطهارة الذاتيّة، لا المُذكّى، لعدم إطلاق المُذكّى إلّاعلى الحيوان، فالفأرة من المذكّي لا أنّه مذكّي، ولا الطهارة في مقابل النجاسة العَرَضيّة، إذ السؤال إنّما يكون عن خصوص الفأرة لا عن الجهات الاُخر.

وعليه، فالمكاتبة تدلّ على أنّ للفأرة قسمين: طاهرٌ، ونجس، فيقيّد بها إطلاق الصحيح، وحيثُ لم يبيّن فيها القسمان. فلابدّ من الرجوع إلى القواعد الاُخر، وهي تقتضي طهارة ما أُخذ من المُذكّى.

وما انفصل عن الحَيّ ، ونجاسة ما أُخذ منه بالجَزّ:

أمّا الأوّل والثالث: فواضح.

وأمّا الثاني: فلأنّ حمل نصوص طهارة المِسْك على خصوص القسم الأوّل، حملٌ لها على الفرد النادر، مضافاً إلى أنّ طهارة ذلك القسم غير محتاجة إلى البيان، فيتعيّن أن يقال إنّه اُريد من مورد الإجماع والأخبار القسم الثاني الذي هو الفرد المتعارف الغالب.

***2.

ص: 54


1- التهذيب: ج 2/362 ح 32، وسائل الشيعة:: ج 4/443 ح 5632.
ميتة ما لا نَفس له

الفرع الرابع: ميتة ما لا نفس له طاهرةٌ بلا خلاف، بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع على الطهارة.

ويشهد لها:

1 - موثّق حَفص، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «لا يفسد الماء إلّاما كانت له نفس سائلة»(1).

والإيراد عليه: بأنّه لم يصرّح فيه بالميتة.

مندفعٌ : بأنّ الظاهر من إسناد الإفساد وعدمه إلى ما له نفس وما ليست له منجّسيّةٌ وعدمها، لا منجّسيّة بوله وروثه ونحوهما، مع أنّ إطلاقه على فرض التنزّل يشمل ميتته.

وأضعف منه دعوى اختصاصه بالماء.

2 - وموثّق عمّار، عنه عليه السلام: «سُئل عن الخُنفساء والذُّباب والجَراد والَّنملة وما أشبه ذلك، يموتُ في البئر والزّيت والسَّمن وشبهه ؟

قال عليه السلام: كلّ ما ليس له دمٌ فلا بأس»(2).

بضميمة عدم الفصل بين ما ليس لم دم وما له دمٌ غير سائل.

وعن «المهذّب»(3): نجاسة ميتة العقرب، واستدلّ له بموثّق سماعة:

ص: 55


1- الكافي: ج 3/5 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/241 ح 624.
2- التهذيب: ج 1/230 ح 48، وسائل الشيعة: ج 1/241 ح 623.
3- المهذّب: ج 1/26.

«قال: سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن جَرّةٍ وجد فيها خنفساء قد ماتت ؟

قال عليه السلام: إلقها وتوضّأ منها، وإنْ كان عقرباً فأرق الماء وتوضّأ من ماءٍ غيره»(1).

وفيه: أنّه يتعيّن حمل الأمر بالإراقة على أولويّة الاجتناب عنه، لخبر عليّبن جعفر، عن أخيه عليهما السلام: «سألتُه عن العقرب والخُنفساء وأشبهاههنّ تموتُ في الجَرّة أو الدِّن يتوضّأ منه للصّلاة ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(2).

***7.

ص: 56


1- الكافي: ج 3/10 ح 6، وسائل الشيعة: ج 1/240 ح 620.
2- وسائل الشيعة: ج 1/242 ح 627.
الشَّك في التذكية

الفرع الخامس: لا إشكال في أنّ ما لم يُذكّ ذكاةً شرعيّة بحكم الميتة، إجماعاً ونصوصاً، بل لا يبعد دعوى أنّ المراد من الميتة ذلك.

ويشهد له: موثّق سماعة: «إذا رميتَ وسمّيت فانتفع بجلده، وأمّا الميتة فلا»(1).

والنصوص(2) الواردة في باب الأطعمة في إليات الغنم، المتضمّنة أنّ ما يُقطع منها وهي أحياء ميتة. فإنّه إذا كان المراد من الميتة ما يصدق على الإليات، فلا محالة يصدق على كلّ ما خرج روحه بغير وجهٍ شرعي.

أقول: ثمّ إنّه لو علم بعدم التذكية فلا إشكال، وأمّا إذا شكّ ولم تكن أمارةٌ عليها، فقد عرفت في بحث البول والغائط موارد جريان أصالة عدم التذكية، والموارد التي لا تجري فيها.

وإنّما الكلام في المقام يقع في أنّه هل تترتّب النجاسة على أصالة عدم التذكية أم لا؟

وقد استدلّ لعدم ترتّبها عليها بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه لكون الاستصحاب من الأدلّة الظنيّة، لا تثبت به النجاسة، لأنّها لا تثبت إلّاباليقين.

وفيه: أنّه مع تعبّد الشارع بموضوع النجاسة، لا محالة تترتّب عليه، ولا شكّ فيها حتّى تجري قاعدة الطهارة.

ودعوى: أخذ اليقين بأحد العناوين النّجسة في الحكم بالنجاسة.

مضافاً إلى فسادها، لا تمنع من ترتّبها على الاستصحاب، لما حقّقناه في محلّه

ص: 57


1- وسائل الشيعة: ج 3/489 ح 4259.
2- وسائل الشيعة: ج 24/71 باب 30 من أبواب الذبائح (أنّ ما يقطع من الحيوانات قبل الذكاة فهو ميتة...).

من أنّ الاستصحاب يقومُ مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة.

الوجه الثاني: أنّ عدم جواز الصّلاة في الجلود والخِفاف عُلّق على العلم بأنّه ميتة في خبرين:

أحدهما: صحيح الحلبي، وفيه: «قال عليه السلام: صَلِّ فيه حتّي تعلم أنّه ميّتٌ بعينه»(1).

ثانيهما: خبر علي بن حمزة، وفيه: «ما علمت أنّه ميتة فلا تُصلِّ فيه»(2).

فمع الشكّ يجوز الصّلاة فيه، وهو أخصّ من الطهارة.

وفيه: إنّ الخبرين واردان في مقام بيان الحكم الظاهري، ويدلّان على أنّه في مورد الشكّ ووجود الأمارة على التذكية، تترتّب آثار التذكية، إلّامع العلم بعدمها، والشاهد على ذلك ما ورد في صحيح الحلبي، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخِفاف التي تُباع في السوق ؟ فقال: اشتر وصلِّ حتّى تعلم أنّه ميّت»(3).

حيث أنّ الظاهر من السوق فيه سوق المسلمين الذي هومن الأمارات المعتبرة.

وفي خبر ابن حمزة: «أنّ رجلاً سأل أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده عن الرّجل يتقلّد السيف، ويُصلّي فيه ؟ قال عليه السلام: نعم، فقال الرّجل: إنّ فيه الكيمخت! قال: وما الكيمخت ؟ قلت: جلودُ دوابٍ ، منه ما يكون ذكّيّاً، ومنه ما يكون ميتة. فقال: ما عَلِمتَ أنّه ميته فلا تُصلِّ فيه»(4).

حيث أنّ الظاهر من الخبر تلقي السيف من يد المسلم.

مع أنّه لو سُلّم دلالتهما على ما ادُّعي، يتعيّن حملهما على ما ذكرناه جمعاً بينهما3.

ص: 58


1- التهذيب: ج 2/234 ح 128، وسائل الشيعة: ج 3/490 ح 4261.
2- التهذيب: ج 2/368 ح 62، وسائل الشيعة: ج 3/491 ح 4263.
3- الكافي: ج 3/403 ح 28، وسائل الشيعة: ج 3/490 ح 4261.
4- وسائل الشيعة: ج 3/491 ح 4263.

وبين ما دلّ على ترتيب آثار الميتة، إلّامع العلم بأنّه مذكّى، بقرينة ما دلّ على جواز ترتيب الآثار في موارد خاصّة.

فالصحيح أن يستدلّ له: بأنّه يترتّب على أصالة عدم التذكية، حُرمة أكل لحمه، وعدم جواز الصّلاة فيه. لأنّ الحليّة وجواز الصّلاة رُتّبا على المذكّي.

ولا يترتّب عليها النجاسة، لأنّها مترتّبة على عنوان الميتة، والموتُ وإنْ لم يكن مختصّاً بما ماتَ حَتف أنفه، بل أعمّ منه ومِنْ كلّ ما زُهِق روحه بغير وجه شرعي، إلّاأنّ الظاهر - ولا أقلّ من المحتمل - أنّ الموت هو زهاق الروح المستند إلى سببٍ غير شرعي، لا ما لم يُستند إلى سببٍ شرعيّ ، كما صرّح به في محكيّ «مجمع البحرين».

وعليه، فلا يثبت باستصحاب عدم التذكية موضوع النجاسة، إلّابناءً على حجيّة الأصل المثبت.

ودعوى: أنّه في مكاتبة الصيقل إلى الإمام الرضا عليه السلام -: «إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحُمُر الميتة، فيُصيب ثيابي، أفأُصلي فيها؟

فكتب عليه السلام إلىَّ : اتّخذ ثوباً لصلاتك.

فكتبتُ إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: إنّي كتبتُ إلى أبيك بكذا وكذا، فصَعُب عَليَّ ذلك، فصرتُ أعملها من جلود الحُمُر الوحشيّة الذكّية ؟

فكتب عليه السلام إليَّ : كلّ أعمال البرّ بالصّبر - يرحمك اللّه - فإنْ كان ما تعمل وحشيّاً ذكّيّاً فلا بأس»(1).

رتّبت النجاسة بمقتضى مفهوم الشرط على كلّ ما لم يُذكَّ ، فترتّب على أصالة عدم التذكية.1.

ص: 59


1- الكافي: ج 3/407 ح 16، وسائل الشيعة: ج 3/462 ح 4181.

مندفعة: بأنّ السائل فرض في سؤاله أنّه كان يعمل أوّلاً من جلود الحُمُر الميتة، ثمّ بعده كان يعمل من جلود الحُمُر الوحشيّة الذكيّة، فجوابه عليه السلام ناظرٌ إلى ذلك، وإنْ لا بأس بما يستعمله من جلود الحُمُر الوحشيّة الذكيّة. ومفهومٌ حينئذٍ ثبوت البأس في خصوص القسم الأوّل، لا كلّ ما لم يُذكَّ . والشاهد عليه مضافاً إلى أنّه الظاهر منه تقييد الحُمُر بالوحشيّة، مع أنّ كونها وحشيّة، لا دخلَ له في الطهارة.

فتحصّل: أنّ الأقوى هي الطهارة في صورة الشكّ ، وإنْ كان لايجوز الصّلاة فيه.

***

ص: 60

حكم الجلد في سوق المسلمين
اشارة

الفرع السادس: ما يؤخذ من يد المسلم من اللّحم أو الشَّحم أو الجلد محكومٌ بالطهارة، وإنْ لم يعلم تذكيته، وكذا ما يوجد في سوق المسلمين، أو يوجد مطروحاً في أرضهم.

ويشهد للأوّل: - مضافاً إلى عدم الخلاف فيه، والنصوص الآتية في السوق الدالّة عليكونه أمارة، يُستكشَف بهاكون البائع مسلماً - خبرإسماعيل بن عيسى ، قال:

«سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفِراء، يشتريها الرجل في سوقٍ من أسواق الجَبَل، يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف ؟

قال عليه السلام: عليكم أنتم أنْ تَسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يُصلّون فيه فلا تسألوا عنه»(1).

ويشهد للثاني:

1 - صحيح الحلبي، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخِفاف الّتي تُباع في السوق ؟ فقال عليه السلام: اشتر وصَلِّ فيها حتّى تعلم أنّه ميتة بعينه»(2).

2 - وصحيح أحمد بن محمّد بن أبي نصر: «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جُبّة فراءٍ لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة، أيُصلّي فيها؟

قال عليه السلام: نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر عليه السلام كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدِّين أوسع من ذلك»(3).

3 - وخبر الحسن بن الجهم: «قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: أعتَرض السوق

ص: 61


1- التهذيب: ج 2/371 ح 76، وسائل الشيعة: ج 3/492 ح 4266.
2- التهذيب: ج 2/234 ح 128، وسائل الشيعة: ج 3/490 ح 4261.
3- الفقيه: ج 1/257 ح 791، وسائل الشيعة: ج 3/491 ح 4262.

فأشتري خُفّاً لا أدري أذكيٌّ هو أم لا؟ قال عليه السلام: صَلِّ فيه. قلتُ : فالنعل ؟ قال عليه السلام:

مثل ذلك. قلتُ : إنّي أضيقُ من هذا. قال عليه السلام: أترغبُ عمّا كان أبو الحسن يفعله»(1).

ونحوها غيرها(2).

ويشهد للثالث:

1 - مصحّح إسحاق بن عمّار، عن العبد الصالح عليه السلام:

«أنّه لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني، وفيما صُنع في أرض الإسلام.

قلت: فإنْ كان فيها غير أهل الإسلام ؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس»(3).

2 - وخبرالسكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سُئل عن سُفرةٍ وجدت في الطريق مطروحة، يكثُر لحمها وخُبزها وجُبُنّها وبيضها وفيها سكّين ؟ فقال أمير المؤمنين: يقوّم ما فيها، ثُمّ يؤكل، لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غَرموا له الثمن.

قيل له: يا أمير المؤمنين لا يُدرى أسُفرةُ مسلمٍ أم سُفرة مجوسي ؟

فقال: هم في سعةٍ حتّى يعلموا»(4).

وهو وإنْ لم يقيّد بالمطروحة في أرض المسلمين، إلّاأنّه مختصٌّ بها:

إمّا لانصراف السؤال اليها، أو لكونها القَدَر المتيقّن منه، أو يقيّد بها بشهادة الخبر السابق.0.

ص: 62


1- الكافي: ج 3/404 ح 31، وسائل الشيعة: ج 3/493 ح 4268.
2- راجع وسائل الشيعة: ج 3/490 باب 50 من أبواب النجاسات والأواني والجلود: (طهارة ما يشترى من مسلم ومن سوق المسلمين، والحكم بذكاته ما لم يعلم أنّه ميتة...).
3- وسائل الشيعة: ج 3/491 ح 4264.
4- الكافي: ج 6/297 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/493 ح 4270.

وبالجملة: فاعتبار يد المسلم، وسوق المسلمين، وأرض الإسلام في الجملة ممّا لا ينبغي التوقّف فيه.

أقول: إنّما الكلام في موردين:

اعتبار السوق أو الأرض نفسي أو من باب الأمارة

المورد الأوّل: أنّ اعتبار السوق أو الأرض، هل يكون لكونهما بأنفسهما من الأمارات للتذكية، فمع الشكّ فيها يكونان أمارتين عليها حتّى مع العلم بكفر من يؤخذ من يده كما قيل، أو لأجل كونهما أمارتين يستكشف بهما كون البائع مسلماً، فهما طريقان إلى الحجّة، فلو شُكّ في كون البائع في سوق المسلمين أو أرضهم مسلماً يعامل معه معاملة المسلم ؟ وجهان، أقواهما الثاني.

ويشهد له: خبر إسحاق المتقدّم، إذ قوله عليه السلام: (إذا كان الغالب... الخ)(1)، مع فرض كون ما يؤخذ ما صُنع في أرض الإسلام، ظاهرٌ في إرادة أنّ أرض الإسلام من حيث هي لا تكون أمارة للتذكية.

وخبر إسماعيل المتقدّم أيضاً، فإنّ قوله عليه السلام: (عليكم أن تسألوا... الخ) مع فرض كون السوق سوق المسلمين، إذ الجَبل كان من بلاد الإسلام حين السؤال، صريحٌ فيما ادّعيناه.

وبالجملة: فالأقوى عدم البناء على تذكية ما في سوق المسلمين، إذا كان مَنْ يؤخذ منه كافراً، أمّا إذا كان مجهول الحال فيُبنى عليها.

وأمّا ما ذكره بعض الأجلّة(2): من أنّ المنصرف من لفظ (السوق) في النصوص، من فيه من المسلمين، فالمراد من (السوق) فيها الإشارة إلى تصرّف المسلم، وعليه فيُشكل البناء على تذكية ما في سوق المسلمين، إنْ كان مَنْ يؤخذ منه مجهولُ الحال،

ص: 63


1- وسائل الشيعة: ج 3/491، ح 4264.
2- مستمسك العروة: ج 1/327.

فضلاً عمّا إذا كان كافراً.

فغير سديد: إذ ظاهر النصوص تعليق الحكم على سوق المسلمين وأرضهم، وحملها على ما ذُكر، يحتاج إلى قرينةٍ مفقودة، مع أنّ قوله عليه السلام في خبر إسحاق: (إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس)، صريحٌ في ما اخترناه، إذ لو كان المدار على يد المسلمين لا سوق المسلمين، لما كان لإعتبار الغلبة وجهٌ كما لا يخفى على المتدبّر.

***

ص: 64

حكم ما في يد المُستَحلّ للميتة

المورد الثاني: هل يختصّ الحكم المزبور بما في يد غير المُستَحلّ للميتة، كما عن «التذكرة»(1)، و «المنتهى »(2)، و «النهاية»(3)؟

أو يعمّ ما في يد المستحلّ لها إذا أخبر بالتذكية، كماعن «الذكرى »(4) و «البيان»(5).

أو يعمّه مطلقاً، كما لعلّه المشهور؟ وجوه:

قد استدلّ للأوّل:

1 - بعدم حصول الظنّ بتذكية ما في يد المستحلّ للميتة.

2 - وبخبر أبي بصير، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصّلاة في الفراء؟

فقال عليه السلام: كان عليّ بن الحسين رجلاً صَرْداً لا يُدفئه فِراء الحجاز، لأنّ دباغها بالقرظ، فكان يبعثُ إلى العراق فيؤتى ممّا قِبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حَضَرت الصّلاة ألقاه، وألقى القميص الذي تحته، وكان يُسئَل عن ذلك، قيقول: إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة، ويزعمون أنّ دباغه ذكاته»(6).

3 - وخبر ابن الحجّاج: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي أدخلُ السوق - أعني هذا الخلق الذين يدّعون الإسلام - فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها:

أليس هي ذكية ؟ فيقول: بلى، فهل يَصلَحُ لي أن أبيعها على أنّها ذكية ؟ فقال عليه السلام: لا، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول: قد شَرَط لي الذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة. قلت:

ص: 65


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/464 مسألة 117.
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/226.
3- نهاية الاحكام: ج 1/528.
4- الذكرى: ص 143.
5- قد يظهر ذلك من البيان للشهيد الأوّل في معرض الحديث عن الخلل في صورة العمد ص 145 (ط. ق).
6- الكافي: ج 3/397 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/502 ح 4292.

ما أفسد ذلك ؟ قال: استحلالُ أهل العراق للميتة»(1).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلعدم اعتبار الظنّ الفعلي في حجيّة الأمارات، فمع فرض شمول المطلقات لا حاجة إلى حصوله، ومع عدمه لا يفيد حصول الظنّ .

وأمّا الثاني: فلأنّ المسؤول عنه حكم الصّلاة في الفراء، فجوابه بحكاية فعل الإمام عليه السلام كما يمكن أن يكون المراد منه المنع، يمكن أن يكون الكراهة والاحتياط الاستحبابي.

وأمّا الثالث: فلأنّ الظاهر منه المنع عن الشهادة، إلّامع العلم أو الإطمئنان.

واستدلّ للقول الثاني: بخبر محمّد بن الحسين الأشعري، قال:

«كتبَ بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني: ما تقول في الفرو يُشترى من السوق ؟ فقال عليه السلام: إذا كان مضموناً فلا بأس»(2).

وفيه: أنّه لابدَّ من حمله على الاستحباب، أو على عدم كون البائع مسلماً لوجهين:

الأوّل: عدم اختصاصه بالمستحلّ .

الثاني: دلالة صحيح أحمد بن محمّد بن أبي نصر المتقدّم، وفيه: (ليس عليكم المسألة) على عدم الوجوب.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول الأخير لإطلاق النصوص.

***9.

ص: 66


1- الكافي: ج 3/398 ح 5، وسائل الشيعة: ج 3/503 ح 4293.
2- الكافي: ج 3/398 ح 7، وسائل الشيعة: ج 3/493 ح 4269.
حكم دباغة جلد الميتة

الفرع السابع: جلد الميتة لا يطهر بالدبغ كما هو المشهور(1)، وعن ابن الجُنيد طهارته به(2)، ومالَ إليها الكاشاني(3)، واستدلّ لها:

1 - بمرسل الصدوق، عن الإمام الصادق عليه السلام: «سُئل عن جلود الميتة يُجعل فيها اللّبن والسَّمن والماء، ما ترى فيه ؟

قال عليه السلام: لا بأس... إلخ»(4) المحمول على ما بعد الدّبغ، لأنّ الجلد قبله غير قابل لاستعماله في المذكورات.

2 - وبخبر الحسين بن زرارة: «عن جلد شاة ميتة يُدبغ فيُصبّ فيه اللّبن والماء أفأشربُ منه واتوضّأ؟ قال: نعم، وقد يدبغ فينتفع به ولا يُصلّى فيه»(5).

3 - وبقصور ما دلّ على النجاسة عن الشمول لما بعد الدّبغ.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلإرساله.

وأمّا الثاني: فلأنّه مُعرَضٌ عنه عند الأصحاب، مع أنّه لو تمَّ سندهما فهما ساقطان لمعارضتهما مع خبر أبي بصير المتقدّم المتضمّن لإلقاء السجّاد عليه السلام الفرو المشترى من العراق، والقميص الذي يليه، مستدلّاً عليه بأنّ أهل العراق يزعمون

ص: 67


1- أشار إلى قول المشهور المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1/523 القسم 2، وفي ص 652 اعتبر أنّ القول بالطهارة هو قول العامّة وما حُكي عن ابن الجُنيد.
2- حكاه عنه الشهيد الأوّل في البيان: ص 63، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة: ج 1/501-502، فتاوى ابن الجنيد: ص 44-45 مسألة 3 من الأواني والجلود (عن المختلف أيضاً).
3- راجع مستمسك العروة: ج 1/332.
4- الفقيه: ج 1/11 ح 15، وسائل الشيعة: ج 3/463 ح 4182.
5- التهذيب: ج 9/78 ح 67، وسائل الشيعة: ج 24/186 ح 30305.

أنّ ذكاة الميتة دباغها، وخبر «الدعائم»(1) المروي عن الإمام الصادق، عن آبائه عليهم السلام، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «الميتة نجسة وإنْ دَبُغت، يتعيّن طرحهما».

وبذلك ظهر ما في الثالث، مع أنّ الاستصحاب يكفي للحكم بالنجاسة.

وأمّا النصوص الدالّة على أنّه لا تُلبس الميتة وإنْ دبغت في الصّلاة، فهي أجنبيّة عن المُدّعى، إذ لا منافاة بين طهارة شيءٍ وعدم جواز الصّلاة فيه.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى عدم طهارة جلد الميتة بالدّبغ.

***8.

ص: 68


1- تأويل الدعائم، ج 1/158.
حكم السِّقط

الفرع الثامن: المشهور بين الأصحاب أنّ السّقط قبل ولوج الروح فيه نجسٌ ، بل لا خلاف فيه، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(1).

أقول: والوجه في نجاسته، صدق الميتة عليه، لأنّ الموت هو ما يقابل الحياة تقابل العدم والمَلَكة، فهو عدمُ الحياة عمّا من شأنه تلك، وهذا يصدق على الجنين والفرخ في البيض، إذ لا يعتبر في صدق العدم في مقابل الملكة القابليّة الفعليّة، بل تكفي القابليّة النوعيّة، مثلاً الأعمييُطلق على الإنسان غيرالبصير باعتبار قابليّة نوع الإنسان لكونه ذا بصر، وإنْ كان بالنسبة إلى هذا الشخص لم يُحرز القابليّة الفعليّة.

ودعوى عدم الإطلاق لأدلّة نجاسة الميتة، كما ترى .

ودعوى: جملةٌ من المحقّقين رحمه الله منهم صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) بأنّه على هذا لابدَّ من الالتزام بوجوب الغُسل على مَن مسَّ السّقط.

غير تامّة: إذ السِّقط قبل ولوج الروح فيه، لا عظم له، فلا يجب الغُسل على مَن مسّه لذلك، مع أنّ الالتزام به لا يترتّب عليه محذور.

ولكن مع ذلك كلّه، دعوى عدم صدق الميتة عليه - لأنّ الموت يعتبر في صدقه سبق الحياة - غَير بعيدة، وعليه فالقول بالنجاسة لا يخلو عن إشكال، إذ الدليل عليها حينئذٍ:

ص: 69


1- حكى دعوى الإجماع على ذلك كاشف الغطاء في حاشيته على العروة الوثقى مسألة 173 (العروة الوثقى : ج 1/132)، وأيضاً مستمسك العروة الوثقى: ج 1/333، قوله: (اتّفاقاً كما عن شرح المفاتيح، وبلا خلاف كما عن جوامع النراقي.. الخ).
2- قد يظهر ذلك من جواهر الكلام: ج 4/114-115، في معرض حديثه عن حكم السّقط.

1 - إمّا قوله عليه السلام: «ذكاة الجنين ذكاة اُمّه»(1). بدعوى أنّه يدلّ على أنّ مطلق الجنين ولو قبل ولوج الروح فيه يحتاج إلى التذكية، وتذكيته تحصل بتذكية اُمّه، فإذا لم يُذكّ كان محكوماً بأحكامها منها النجاسة.

2 - أو لأنّه قبل ولوج الروح فيه تحلّ فيه حياة اُمّه، فهو كباقي ما في أحشائها، فلو انفصل عنها، يصدق عليه الميتة، فيحكم عليه بحكمها.

3 - أو لأنّه من أجزاء اُمّه، فيشمله عموم ما دلّ على نجاسة الأجزاء المنفصلة من الحَيّ .

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه ليس في مقام بيان ما يقبل التذكية حتّى يتمسّك بإطلاقه، وإنّما ورد لبيان أنّ ما يحتاج إلى التذكية من الجنين تكون تذكيته بذكاة اُمّه.

وأمّا الثاني: فلأنّ دعوى حلول حياة اُمّه فيه بلا بيّنة.

وأمّا الثالث: فلأنّ ذلك الدليل مختصٌّ بالاجزاء، فلا يشمل ما لا يعدّ من أجزاء الحيوان كالحمل.

ودعوى: الإجماع على النجاسة، مع عدم تعرّض الأكثر لهذا الحكم، واحتمال استناد القائلين بها إلى بعض ما تقدّم، لا تُفيد في إثبات الحكم المذكور.

***4.

ص: 70


1- وسائل الشيعة: ج 24/36 ح 29924.
حكم ملاقاة الميتة

الفرع التاسع: ملاقاة الميتة بلا رطوبة مُسرية لاتوجب النجاسة، كماهوالمشهور.

وعن جماعةٍ منهم العلّامة(1) والشهيدان(2) تنجّس ملاقيها حتّى مع اليبوسة.

واستدلّ له: بإطلاق النصوص، كالتوقيع الخارج في أجوبة مسائل الحميري، المرويّ عن «الاحتجاج»(3)، وكتاب «الغيبة»(4) للشيخ رحمه الله، حيث كتب إليه عليه السلام:

«رُوي لنا عن العالم أنّه سُئل: إمام قومٍ صَلّى بهم بعض صلاته، وحدثت عليه حادثة، كيف يعمل من خلفه ؟

قال: يؤخّر ويتقدّم بعضهم، ويتمّ صلاتهم، ويغتسل من مسّه(5).

والتوقيع(6): ليس على من نحّاه إلّاغَسل اليد».

وفيه: أنّ الظاهر أنّ عدم التعرّض لاعتبار الرطوبة، إنّما يكون لأجل كونه من المرتكزات التي تصلح لأنْ تكون صارفة عن الإطلاقات.

مع أنّ قوله عليه السلام في موثّق ابن بكير(7): «كلّ يابس ذكّي» حاكمٌ على مثل هذه الإطلاقات، ولا أقلّ من أظهريّته.

ص: 71


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/9.
2- روض الجنان: ص 114 قوله: (.. إنّ نجاسة الميّت تتعدّى مع رطوبته ويبوسته، للحكم بها من غير استفصال... الخ) وقد حكاه عنه المحدّث البحراني في الحدائق الناضرة: ج 3/335، وأيضاً تعرّض لذلك مرّة اُخرى في: ج 5/238-239.
3- الإحتجاج: ج 2/481.
4- غيبة الطوسي: ص 374.
5- وسائل الشيعة: ج 3/296 ح 3694.
6- وسائل الشيعة: ج 3/296 ح 3694.
7- التهذيب: ج 1/49 ح 80، وسائل الشيعة: ج 1/351 ح 930.

مع أنّه لو سُلّم التعارض، فإنّ النسبة بينه وبين إطلاقات المقام عمومٌ من وجه، والمختار في مثل هذا التعارض، تقدّم ما له العموم على ما له الإطلاق، فيقدّم الموثّق.

وبالجملة: فالأقوى هو ما اختاره المشهور.

***

ص: 72

عدم جواز بيع الميتة

الفرع العاشر: المشهور بين الأصحاب حرمة بيع الميتة، بل عن «التذكرة»(1)، و «المنتهى »(2)، و «المفاتيح»(3) دعوى الإجماع عليها.

وتشهد لها: جملةٌ من النصوص:

1 - ففي خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «السّحتُ ثمن الميتة»(4).

2 - وفي خبر حمّاد بن عمرو، وأنس بن محمّد، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه عليهم السلام في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: يا عليّ من السُّحت ثمن الميتة»(5).

3 - وفي مرسل ابن بابويه: «وثمن الميتة سحتٌ »(6).

4 - وعن «جامع البزنطي» عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن الغنم يقطع إلياتها وهي أحياء، أيصلح له أن ينتفع بما قطع ؟ قال: نعم يُذيبها ويُسرجها ويأكلها، ولا يبيعها»(7).

ونحوه خبر ابن جعفر عن أخيه عليه السلام(8).

وعن المجلسي جوازه، واستدلّ له بخبر الصيقل وولده:

«كتبوا إلى الرجل: جَعَلنا اللّه فداك! إنّا قومٌ نعمل السيوف، ليست لنا معيشة

ص: 73


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/464.
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 2/1008.
3- حكاه عن المفاتيح السيّد الجزائري في التحفة السنيّة ص 231 باب البيع (مخطوط) قوله:...
4- الكافي: ج 5/126 ح 2، وسائل الشيعة: ج 17/93 ح 22061.
5- وسائل الشيعة: ج 17/94 ح 22065.
6- الفقيه: ج 3/171 ح 3648، وسائل الشيعة: ج 17/94 ح 22064. (7و8) وسائل الشيعة: ج 17/98 ح 22079.

ولا تجارة غيرها، ونحن مضطرّون إليها، وإنّما غلافها جلود الميتة والبغال والحُمُر الأهليّة، لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها وشرائها وبيعها ومسّها بأيدينا وثيابنا، ونحن نُصلّي في ثيابنا؟ ونحن محتاجونَ إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا؟ فكتب عليه السلام: اجعلوا ثوباً للصّلاة»(1).

وفيه: إنّ صيقل لم يفهم جواب مسألته من هذا الجواب، ولذا سأل ثانياً عن الرضا عليه السلام، قال: «كتبتُ إلى الرضا عليه السلام: إنّي أعمل أغماد السيوف عن جلود الحُمُر الميتة، فتُصيب ثيابي فاُصلّي فيها؟ فكتب إليّ : اتّخذ ثوباً لصلاتك»(2).

وحيثُ أنّ هذا الجواب أيضاً كان مجملاً لم يصل إلى مراده فكتب مرّةً اُخرى إلى التقي عليه السلام وسأله السؤال بعينه، قال:

«كتبتُ إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: إنّي كتبتُ إلى أبيك بكذا وكذا، فصعب عليَّ ذلك، فصرتُ أعملها من جلود الحُمُر الوحشيّة الذكيّة ؟ فكتب عليه السلام: كلّ أعمال البِرّ بالصبر يرحمك اللّه، فإنْ كان ما تعمل وحشيّاً ذكّيّاً فلا بأس»(3).

أقول: ويظهر من هذه المكاتبة الأخيرة أنّ صيقل لم يفهم من جواب الإمام الكاظم عليه السلام والإمام الرضا عليه السلام جواب مسألته، من جواز بيع ما كان يعمل، ولذا ترك استعماله حتّى سأل عن الإمام الجواد عليه السلام، فبيّن الحقّ من غير إجمالٍ وتقيّة، وجوابه ظاهرٌ في عدم جواز البيع.

مع أنّه لو سُلّم دلالة هذا الخبر على الجواز، لتعيّن طرحه لمعارضته مع النصوص المتقدّمة عليه لوجوه لا تخفى ، فالأقوى عدم جواز بيعها.8.

ص: 74


1- التهذيب: ج 6/376 ح 221، وسائل الشيعة: ج 17/173 ح 22281.
2- الكافي: ج 3/407 ح 16، وسائل الشيعة: ج 3/462 ح 4181.
3- وسائل الشيعة: ج 3/462 ح 4181 وص 489 ح 4258.

وأمّا الانتفاع بها: في غير ما يشترط فيه الطهارة:

فعن جماعةٍ منهم المصنّف(1) والشهيدان(2) الجواز، ويشهد له:

1 - خبر البزنطي، وعلي بن جعفر المتقدّمان.

2 - وخبر زرارة، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن جلد الخنزير يُجعل دلواً يستقي به الماء؟ قال: لا بأس»(3).

واستدلّ لعدم الجواز:

1 - بما دلّ على عدم جواز الانتفاع بالأعيان النجسة.

2 - وبما دلّ على أنّه لا ينتفع بالميتة، كصحيح الكاهلي في قطع إليات الغَنَم:

«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: إنّ في كتاب عليّ أنّ ما قطع منها ميّتٌ لا ينتفع به»(4).

وموثّق سماعة: «سألته عن جلود السِّباع ينتفع بها؟ قال عليه السلام: إذا رميتَ وسمّيتَ فانتفع بلجده، وأمّا الميتة فلا»(5). ونحوهما غيرهما.

3 - وبخبر عليّبن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن الماشية تكون للرّجل، فيموت بعضها، أيصلحُ له بيع جلودها ودباغها ولبسها؟ قال عليه السلام: لا، ولو لبسها فلايُصلِّ فيها»(6).

4 - وبإعراض الأصحاب عن نصوص الجواز.

أقول: وفي الجميع نظر:3.

ص: 75


1- مختلف الشيعة: ج 8/325.
2- الدروس: ج 3/13 قوله: (وجوّز الشيخ في النهاية عمل جلد الميتة دلواً يُستقى به الماء لغير الوضوء والصّلاة والشرب، وإن كان تجنّبه أفضل.. الخ).
3- الفقيه: ج 1/10 ح 14، وسائل الشيعة: ج 1/175 ح 437.
4- الكافي: ج 6/254 ح 1، وسائل الشيعة: ج 24/71 ح 30024.
5- وسائل الشيعة: ج 3/489 ح 4259.
6- وسائل الشيعة: ج 17/96 ح 22073.

أمّا الأوّل: فلأنّه ولو تمّت دلالة ما استدلّ به على ذلك، لوجب تقييد إطلاقه بالنصوص المتقدّمة، مع أنّ للمنع عن دلالته مجالاً واسعاً، قد أشبعنا الكلام في محلّه.

وأمّا الثاني: فلو سُلّم كون المراد بتلك النصوص عدم الانتفاع مطلقاً لا الإرشاد إلى النجاسة، ولم يصحّ تقييد إطلاقها بما دلّ على جواز بعض الانتفاعات، وهو ما لم يشترط فيه الطهارة، تعيّن حملها على الكراهة، جمعاً بينها وبين ما دلّ على الجواز.

وأمّا الثالث: فلأنّ الظاهر منه السؤال عن اللّبس على أنّها طاهرة، فيدلّ جوابه عليه السلام على عدم مطهّريّة الدّبغ، ويشهد له - مضافاً إلى أنّه هو الظاهر - قوله عليه السلام: (ولو لبسها فلا يُصلِّ فيها).

وأمّا الرابع: فلأنّ الإعراض لم يثبت، لاحتمال أن يكون حكمهم بعدم جواز الانتفاع مستنداً إلى بعض ما ذكر.

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز الانتفاع بها.

***

ص: 76

الخامس: الدّم
اشارة

والدّم منه.

نجاسة الدّم

(و) الخامس من النجاسات: (الدّم منه) أي الدّم من كلّ ما لَهُ نفسٌ سائلة، بلا خلافٍ فيه في الجملة.

وعن «المعتبر»(1): دعوى إجماع العلماء عليه.

بل عن «المنتهى »(2)، و «الغُنية»(3)، و «التذكرة»(4) وغيرها(5): دعوى اتّفاق المسلمين عليه.

واستدلّ له:

1 - مضافاً إلى ذلك - بالآية الشريفة: إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ (6)، بناءً على عود الضمير إلى كلّ واحدٍ من المذكورات، أو إلى الطعام.

2 - وبالنصوص الكثيرة الواردة في دم الرعاف، وما يوجد في الأنف، وعند حكّ الجلد، وقلع السِّن، ودم الجروح والقروح والحيض والاستحاضة والنفاس، وغير ذلك من الموارد، بدعوى أنّه يفهم منها نجاسة دم ذي النفس مطلقاً.

ص: 77


1- المعتبر: ج 1/420.
2- منتهى المطلب: ج 3/188 (ط. ج)، وقد نسبه إلى علمائنا، ثمّ إلى علماء الإسلام.
3- غنية النزوع: ص 41، قوله: (وكذا الدّم المسفوح من غير هذه الدِّماء).
4- تذكرة الفقهاء: ج 1/56 مسألة 18، وقد نفى فيه الخلاف.
5- نهاية الاحكام: ج 1/268 حيث ادّعى الإجماع على نجاسته.
6- سورة الأنعام: الآية 145.

3 - وبموثّق عمّار: «كلّ شيء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه، إلّاأن ترى في منقاره دماً، فإنْ رأيتَ في منقاره دماً، فلا تتوضّأ ولا تشرب منه»(1).

4 - وبما في نزح البئر لوقوع الدّم فيها، كصحيح(2) ابن بزيع:

«عن البئر تكون في المنزل للوضوء، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم - إلى أن قال - فوقّع عليه السلام بخطّه: ينزح منها دلاء».

5 - وبالنبوي المرويّ عن «الذكرى»: «إنّمايُغسَل الثوب من البول والدّم والمني»(3).

6 - وبما في خبر زكريّا بن آدم، عن أبي الحسن عليه السلام: «قلتُ : فخمرٌ أو نبيذٌ قطر في عجين أو دم ؟ قال عليه السلام: فسد»(4).

أقول: دلالة ما ذكر على نجاسة الدّم في الجملة لا شكّ فيها، وأمّا دلالته على نجاسة الدّم مطلقاً، أو دم ذي النفس السائلة كذلك، فلا تخلو عن إشكال.

أمّا الإجماع: فلأنّ بعضهم ذكر أنّ معقد الإجماع دم ذي العِرْق، وبعضهم ذكر أنّه الدّم المسفوح، وهو الدّم المصبوب.

وأمّا الآية الشريفة: فلأنّ كون المراد من (الرِّجس) فيها هو النجاسة غير معلوم.

وأمّا النصوص الواردة: في الرعاف وغيره، فلأنّها تدلّ على نجاسة الدّم الخارج من البدن، ولا تشمل غيره.

وأمّا الموثّق: فلأنّه واردٌ لبيان جعل الطهارة الظاهريّة عند الشكّ في وجود الدّم المفروض نجاسته، لا في مقام بيان جعل النجاسة للدّم.4.

ص: 78


1- التهذيب: ج 1/228 ح 43، وسائل الشيعة: ج 1/230 ح 590.
2- التهذيب: ج 1/244 ح 36، وسائل الشيعة: ج 1/176 ح 442.
3- نسبه السيّد المرتضى في الانتصار ص 426-427 إلى المخالفين، الناصريّات: ص 88، واحتجّ به عليهم ابن زُهرة الحلبي في غنية النزوع: ص 42، المعتبر: ج 1/417 وغيرهم.
4- الكافي: ج 6/422 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/470 ح 4204.

وأمّا نصوص نزح البئر: فلأنّها تدلّ على تأثّر البئر بملاقاة الدّم الذي كان يعلم السائل نجاسته.

وأمّا النبوي: فلأنّه ضعيف السند لم يثبت استناد الأصحاب إليه.

وأمّا خبر زكريّا: فلأنّه واردٌ في مقام بيان حال ملاقيه، والتفصيل بين أفراده، حيث أنّه عليه السلام حكم في صدر الخبر بعدم تأثيره في القِدْر الذي فيه لحمٌ كثيرٌ ومَرَق كثير، وفي ذيله حكم بتأثيره في العجين.

فتحصّل: أنّه لا دليل على نجاسة كلّ دم، ولا على نجاسة دم ذي النفس مطلقاً، فالمرجع في موارد الشكّ كدم الجنين الذي يخرجُ من بطن المذبوح ونحوه إلى قاعدة الطهارة.

وأيضاً: لا فرق في نجاسته بين كونه قليلاً أو كثيراً.

وعن الشيخ رحمه الله(1) طهارة ما لايُدركه الطرف، وقد تقدّم الكلام فيه في بحث المياه.

وعن الصدوق رحمه الله(2): طهارة ما دون الحُمّصة، واستدلّ له بخبر المُثنّى بن عبدالسلام، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّي حككتُ جِلدي فخرج منه دمٌ؟ فقال: إذا اجتمع قَدَر الحُمّصة فاغسله وإلّا فلا»(3).

وفيه: أنّه الإعراض الأصحاب عنه لابدّ من طرحه أو تأويله، وحمله على إرادة العفو.

***5.

ص: 79


1- المبسوط: ج 1/7.
2- الفقيه: ج 1/72.
3- التهذيب: ج 1/255 ح 28، وسائل الشيعة: ج 3/430 ح 4075.
دَمُ ما لا نفس له

وأمّا دم ما لا نفس له، فطاهرٌ بلا خلافٍ .

وعن السيّدين(1)، والحِلّي(2)، والمحقّق(3)، والعلّامة(4)، والشهيدين(5) وغيرهم:

دعوى الإجماع عليه(6).

وتشهد له:

1 - قاعدة الطهارة، بعد ما عرفت من عدم الدليل على نجاسة كلّ دم.

2 - وخبر غياث، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف».(7)

ونحوه صحيح ابن أبي يعفور.

3 - وموثّق حفص بن غياث: «لا يفسدُ الماء إلّاما كانت له نفس سائلة»(8).

بناءً على شموله لكلّ جزءٍ من أجزائه، حتّى بوله ودمه ونحوهما.

4 - ونصوص طهارة ميتته، فإنّها تدلّ على طهارة دمه كلحمه وسائر أجزائه، وإذا ثبت ذلك في حال موته فيثبت في حال حياته بالأولويّة.

ص: 80


1- الناصريّات: ص 217، غنية النزوع: ص 488.
2- السرائر: ج 1/174.
3- المعتبر: ج 1/421.
4- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/163.
5- الذكرى: ص 13، روض الجنان: ص 163.
6- حكى السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/12 دعوى الإجماع من الأعلام بقوله: (وأمّا دم غير ذي النفس السائلة فيتعرّض له المصنّف. وقد نقل على طهارته الإجماع في: الناصريّات، والغُنية، والسرائر، والمعتبر، والمنتهى، والمختلف، والتذكرة، والذكرى، والروض، والمدارك.. الخ).
7- التهذيب: ج 1/266 ح 65، وسائل الشيعة: ج 3/413 ح 4019.
8- التهذيب: ج 1/231 ح 52، وسائل الشيعة: ج 1/241 ح 624.

وعليه، فما يوهمه ظاهر ما عن «المبسوط»(1)، و «الجُمل»(2)، و «المراسم»(3)، و «الوسيلة»(4) من نجاسة دمه، والعفو عنه.

ضعيفٌ غايته، ويتعيّن حمله على الطهارة، ويشهد لهذا الحمل ما عن «الخلاف»(5) من التصريح بطهارة دم السمك.

أقول: وكذا الدّم المتخلّف في الذبيحة بعد خروج المتعارف، سواءٌ أكان في العروق أو في اللّحم أو في غيرهما إجماعاً حكاه جماعة(6).

وتشهد للطهارة:

1 - أصالتها بعدما عرفت من عدم الدليل على نجاسة دم ذي النفس مطلقاً.

2 - وما دلّ على حليّة الذبيحة، لأنّها لا تنفكّ عن اشتمالها على الدّم، بحيث يتعذّر تخليصها منه غالباً.

3 - والسيرة.

ومن ما ذكرناه ظهر ضعف ما عن «المسالك»(7) من التردّد في إلحاق ما

ص: 81


1- المبسوط: ج 1/7.
2- جمل العلم والعمل (الينابيع الفقهيّة: ج 1/99) قوله: (وموت ما لا نفس له كالذُّباب والجراد وما أشبههما في الماء قليلاً كان أو كثيراً لا ينجسه).
3- المراسم العلويّة: ص 36، قوله: (فأمّا ما لا نفس له سائلة كالجراد والذُّباب، فإنّه لا ينجس الماء بوقوعه فيه ولا بموته).
4- الوسيلة لابن حمزة الطوسي: ص 77 حيث عبّر عنه بالدّم الذي يستحبّ إزالته.
5- الخلاف: ج 1/188، قوله: مسألة 145: (ما لا نفس له سائلة، كالذُّباب، والخنفساء، والزنابير وغير ذلك، لا ينجس بالموت، ولا ينجس الماء، ولا المائع الذي يموت فيه).
6- ادّعى الإجماع العلّامة الحِلّي في مختلف الشيعة: ج 1/474، وقد حكاه عنه غير واحدٍ من الأعلام منهم المحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد: ج 1/149 ق 1.
7- مسالك الأفهام: ج 12/78 (الدّم المسفوح من الحيوان) قوله: (وظاهرهم الاتّفاق على حلّه [أي المتخلّف]. وفي إلحاق ما يتخلّف في القلب والكبد به وجهان، من مساواته له في المعنى، وعدم كونه مسفوحاً، ومن الاقتصار بالرخصة المخالفة للأصل على موردها... الخ).

يتخلّف في القلب والكبد.

ثمّ إنّ المشهور على نجاسة دم المذبوح إذا رجع إلى الجوف، لردّ النَفَس أو لكون رأس الذبيحة في علوّ، بل بلا خلافٍ يُعرف إلّاعن شارح «الدروس»(1)حيث قال: (إذا خرج منه دمٌ يحكم بنجاسته، وإذا لم يخرج ولم يظهر، فهو طاهر، وإنْ كان في اللّحم).

أقول: والأقوى ما اختاره المشهور، ويشهد له صحيح(2) الشحّام:

«إذا قطع الحلقوم، وخرج الدّم، فلا بأس».

إذ الظاهر منه اعتبار خروجه على النحو المتعارف.

هذا في صورة عدم الخروج.

وأمّا لو خرج ورجع، فلا ينبغي الشكّ في نجاسته، للأدلّة المتقدّمة في نجاسة الدّم.

***2.

ص: 82


1- نسبه في مصباح الفقيه (ط. ق): ج 1/541.
2- الكافي: ج 6/228 ح 3، وسائل الشيعة: ج 24/9 ح 29852.
فروع:
حُكم العَلَقة

الفرع الأوّل: العَلَقة المستحيلة من المنيّ نجسة، من غير خلافٍ يُعرف، إلّاعن صاحب «الحدائق» رحمه الله(1) حيث جَزم بالطهارة.

وعن الشهيد في «الذكرى»(2)، والمقدّس الأردبيلي(3) وكاشف اللّثام(4): التردّد في النجاسة.

واستدلّ للنجاسة:

1 - بالإجماع الذي ادّعاه الشيخ رحمه الله في «الخلاف»(5).

2 - وبأنّ العلقة دمُ حيوانٍ له نفس.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الإجماع: فلأنّ المحصّل منه في أمثال المقام - ممّا يحتمل، بل يُظنّ أن يكون مدرك المجمعين ما بأيدينا ممّا استدلّ به على نجاسة دم ذي النفس مطلقاً - غير حاصلٍ ، والمنقول منه ليس بحجّة.

وأمّا الثاني: فقد عرفت أنّه لا دليل على عموم ثبوت النجاسة لدم ذي النفس السائلة.

مع أنّه لو سُلّم دلالة تلك الأدلّة على ذلك، فإنّ شمولها للدّم المتكون في الحيوان الذي لا يعدّ جزءً من أجزائه محلّ إشكال.

ص: 83


1- الحدائق الناضرة: ج 5/51.
2- الذكرى: ص 13.
3- مجمع الفائدة والبرهان: ج 1/303، قوله: (قال في المنتهى: بنجاسة العلقة والمضغة والبيضة إذا صارت دماً، ودليله غير واضح فتأمّل..) ثمّ ناقش الشيخ في دعواه الإجماع على النجاسة ص 315.
4- كشف اللّثام (ط. ق): ج 1/421.
5- الخلاف: ج 1/491.

وبالجملة: فالحكم بالنجاسة غير ظاهر، وعلى فرض التنزّل وتسليم ثبوت عموم النجاسة لدم ذي النفس، وشموله لما يكون في الحيوان، لا وجه للحكم بنجاسة الدّم الذي يوجد في البيض، كما عن جماعةٍ الالتزام به، لأنّه وإنْ كان مبدأ نشوء الحيوان، لكنّه لا يعدّ من أجزائه.

***

ص: 84

الدَّم المشكوك فيه

الفرع الثاني: الدّم المشكوك فيه، محكومٌ بالطهارة على المشهور.

أقول: تارةً : يُشكّ في كون الدّم من الحيوان أو لا.

واُخرى : يعلم أنّه من الحيوان، ولكن يُشكّ في أنّه ممّا له نفس سائلة أم لا:

1 - أمّا من جهة عدم العلم بحال الحيوان كدم الحيَّة.

2 - أو من جهة عدم العلم بكون الدّم من أيّ الحيوانين، المعلوم كون أحدهما ممّا له نفسٌ ، والآخر ممّا لا نفس له.

3 - يُشكّ في كونه الدّم المتخلّف المحكوم عليه بالطهارة، أو الدّم المحكوم عليه بالنجاسة.

أمّا في القسم الأوّل والثاني: فمقتضى أصالة الطهارة طهارته، وعن بعضٍ القول بالنجاسة في القسم الثاني، واستدلّ لها:

1 - بأنّ مقتضى عموم الدليل، نجاسة كلّ دمٍ خرج عنه دم حيوان ليست له نفس، فلو شُكّ في دخول دم في المخصّص، المرجع هو العموم.

2 - وبأنّ الأصل فيما أحرز أُنّه دم النجاسة لموثّق عمّار المتقدّم(1)، وفيه: «فإنْ رأيتَ في منقاره دماً فلا تشرب ولا تتوضّأ».

3 - وبأنّ دم الحيوان مقتضٍ للنجاسة، وكونه ممّا ليست له نفس مانعٌ عنها، فمع إحراز المقتضي والشكّ في وجود المانع، يبنى على تحقّق المقتضى (بالفتح).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلما عرفت من عدم الدليل على عموم نجاسة الدّم، مع أنّ التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة لا يجوز.

ص: 85


1- وسائل الشيعة: ج 1/230، ح 590.

وأمّا الثاني: فلما مرّ من أنّ الموثّق واردٌ في مقام بيان جعل الحكم الظاهري، لما شُكّ في ملاقاته للدّم المفروض نجاسته، ويدلّ على أنّه يُبنى على الطهارة، ما لم يُرَ ملاقاته له، ولو رأى ذلك فحيثُ يرتفع موضوع الحكم الظاهري بالضرورة، فيبني على النجاسة.

والتعبير بالدم إنّما يكون للغَلَبة، مع أنّ المرويّ عن الشيخ رحمه الله(1) في ماء شَربتْ منه دجاجة:

(إنْ كان في منقارها قذرٌ لم يتوضّأ ولم يشرب، وإنْ لم يعلم أنّ في منقارها قذراً توضّأ منه واشرب).

فعلى فرض التنزّل وتسليم دلالة الموثّق على نجاسة الدّم المشكوك فيه، يقع التعارض بينه وبين المرويّ عن الشيخ، وبما أنّ النسبة بينهما عموم من وجه، ودلالة كلّ منهما إنّما تكون بالإطلاق، فيتعارضان ويتساقطان، والمرجع إلى الأصل وهو يقتضي الطهارة.

وأمّا الثالث: فعلدم حجيّة قاعدة المقتضي والمانع، كما حُقّق في محلّه، مضافاً إلى عدم إحراز اقتضاء دم الحيوان مطلقاً للنجاسة.

وأمّا القسم الثالث: فإنْ كان الشكّ من جهة احتمال كون رأس الحيوان على عُلوّ، فيحكم بالنجاسة، لاستصحاب عدم خروج المقدار المتعارف.

ودعوى: أنّ الخروج لم يُذكر في القضيّة الشرعيّة شرطاً للطهارة، إذ القدر المتيقّن من الأدلّة، طهارة المتخلّف بعد خروج المتعارف، أمّا كون الخروج شرطاً شرعيّاً، أو أنّه ملازمٌ للشرط فغير معلوم.

مندفعة: بأنّ صحيح الشحّام المتقدّم: «إذا قُطِع الحلقوم، وخرج الدّم فلابأس»،0.

ص: 86


1- التهذيب: ج 1/284 ح 119، وسائل الشيعة: ج 1/153 ح 380.

يدلّ على أنّه شرط.

مع أنّ عدم معلوميّة كونه شرطاً أو ملازماً له لا يضرّ بجريان الاستصحاب، إذ على كلا التقديرين يُستصحب عدم تحقّق ما هو شرط.

وأمّا إنْ كان الشكّ من جهة احتمال ردّ النفس:

1 - فبناءً على نجاسة دم الحيوان، وصيرورته المتخلّف طاهراً بخروج المتعارف، كما هو الأظهر، يُحكم بنجاسته، لاستصحاب نجاسة الدّم المعيّن.

وأصالة عدم الرّد، لا تُثبت كون الدّم المعيّن هو الدّم المتخلّف، إلّابناءً على الأصل المثبت الذي لا نقول به.

هذا بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي، إذا لم يلزم المخالفة العمليّة، كما هو الحقّ ، وإلّا فالمرجع إلي قاعدة الطهارة.

2 - وأمّا بناءً علي طهارة المتخلّف من الأوّل، فيتعيّن الرجوع إلى أصالة الطهارة.

***

ص: 87

الدّم المُراق في الأمراق

الفرع الثالث: الدّم المراق في الأمراق حال غليانها نجسٌ منجّس، كما هو المشهور بين الأصحاب(1).

وعن المفيد(2) والديلمي(3): القول بالطهارة.

وعن الشيخ رحمه الله في «النهاية»(4)، والقاضي(5): موافقتهما إذا كان الدّم قليلاً.

واستدلّ للمفيد والديلمي:

1 - بصحيح سعيد الأعرج، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن قِدْرٍ فيه جَزور وقع فيها أوقية من دمٍ ، أيؤكل ؟ قال عليه السلام: نعم، فإنّ النار تأكل الدّم»(6).

2 - وخبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «سألته عن قِدْرٍ فيه ألف رطل ماءٍ ، يُطبخ فيها لحمٌ ، وقع فيها أوقية دم ؟ فقال عليه السلام: إذا طُبخ فكُل فلا بأس»(7).

وأورد العلّامة(8) على الأوّل: بأنّ سعيد الأعرج مجهولٌ لا يُعرَف حاله، فلا حجّة في روايته.

ص: 88


1- راجع مختلف الشيعة: ج 8/329، قوله: (وما عهدنا ولا ذهب أحدٌ من أصحابنا إلى أنّ المائع النجس بالغليان يطهر، إلّاما خرج بالدليل من العصير.. الخ).
2- المقنعة: ص 582، قوله: (إن وقع دمٌ في قِدر تغلي على النار جاز أكل ما فيها بعد زوال عين الدّم وتفريقها بالنار.. الخ).
3- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 36/381.
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 8/328.
5- المهذّب للقاضي ابن البرّاج: ج 2/431-432، قوله: (إن وقع فيها دمٌ ، وكان قليلاً وغلى جاز أكل ما فيها بعد أن تغلي، وإن كان كثيراً لم يجز أكل شيء منها، وقيل إنّ هذا إنّما جاز في الدّم بغير غسل اللّحم، لأنّ النار تحمل الدّم، ولأنّ اللّحم لا يكاد يعرى منه، وقد جاز أكله بعد الغسل مع إنّه كذلك).
6- الكافي: ج 6/235 ح 1، وسائل الشيعة: ج 24/196 ح 30331.
7- وسائل الشيعة: ج 24/197 ح 30332.
8- مختلف الشيعة: ج 8/330.

وفيه: الظاهر اتّحاد سعيد الأعرج مع سعيد بن عبد الرحمن الأعرج، لاتّحاد الراوي عنهما والمرويّ عنه، فإنّ الراوي عنهما صفوان، وهما يرويان عن أبي عبداللّه عليه السلام، ولأنّ الشيخ رحمه الله في فهرسته اقتصر على ذكر سعيد الأعرج، وفي رجاله المتأخّر على سعيد بن عبد الرحمن الأعرج، ولو كانا متغايرين، لكان المتعيّن ذكرهما في كلٍّ منهما، ولغير ذلك من القرائن الموجبة للاطمئنان بوحدتهما.

أقول: الحقّ أنّه يتعيّن طرح الخبرين لإعراض الأصحاب عنهما.

واستدلّ للشيخ والقاضي: بما رواه الشيخ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن يعقوب بن يزيد، عن الحسن بن المبارك، عن زكريّا بن آدم، قال:

«سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمرٍ أو نبيذٍ مُسْكر قطرتْ في قِدْرٍ فيه لحمٌ كثيرٌ ومرق كثير؟

قال عليه السلام: يُهراق المرق أو يُطعمه أهل الذمّة أو الكلب، واللّحم اغسله وكُلْه.

قلت: فإنْ قطر فيه الدّم ؟ قال عليه السلام: الدّم تأكله النار إنْ شاء اللّه»(1).

فإنّ قوله: (فإن قطر) لا يشمل الدّم الكثير.

وفيه: - مضافاً إلى إعراض الأصحاب عنه - إنّه ضعيف، لأنّ ابن المبارك مجهول الحال، فتأمّل.

***4.

ص: 89


1- الكافي: ج 6/422 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/470 ح 4204.
السادس و السابع: الكلب والخنزير البريّان
اشارة

والكَلْب والخنزير.

الكَلْب والخنزير

السادس (و) السابع من النجاسات: (الكلب والخنزير) البريّان، إجماعاً محصّلاً ومنقولاً عن جماعة كثيرة(1).

وتشهد له: نصوصٌ مستفيضة أو متواترة:

1 - ففي رواية ابن شريح، عن الإمام الصادق عليه السلام الواردة في سؤر الكلب: «لا واللّه إنّه نجس»(2).

2 - وفي رواية(3) البقباق: «إنّه رِجْسٌ نجس».

3 - وفي خبر أبي سهل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «هو نجس - يقولها ثلاثاً -»(4).

4 - وفي خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «في خنزيرٍ يشربُ من إناء، قال:

يُغسّل سبع مرّات»(5).

5 - وفي خبر الإسكاف: «في شعر الخنزير: يُخرز به لكن يَغسل يده إذا أراد أن يُصلّي»(6). ونحوها غيرها(7).

أقول: وأمّا صحيح ابن مسكان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

ص: 90


1- راجع الخلاف: ج 1/177.
2- التهذيب: ج 1/225 ح 30، وسائل الشيعة: ج 1/226 ح 576.
3- التهذيب: ج 1/225 ح 29، وسائل الشيعة: ج 1/226 ح 574.
4- الكافي: ج 6/245 ح 6، وسائل الشيعة: ج 3/416 ح 4034.
5- التهذيب: ج 1/261 ح 47، وسائل الشيعة: ج 1/225 ح 572.
6- التهذيب: ج 9/85 ح 92، وسائل الشيعة: ج 3/418 ح 4038.
7- راجع وسائل الشيعة: ج 3/417 باب 13 من أبواب النجاسات والأواني والجلود: (باب نجاسة الخنزير).

«سألته عن الوضوء بما ولغ فيه الكلب والسّنور، أو شرب منه جَمَلٌ أو دابّة أو غير ذلك، أيتوضّأ ويغتسل ؟ قال عليه السلام: نعم»(1).

فيُحمل على الماء البالغ مقدار الكر، ويشهد له ما في خبر أبي بصير: «ولا تشرب سؤر الكلب، إلّاأن يكون حوضاً كبيراً يُستقى منه»(2).

وأمّا خبر زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير، يُستقى به الماء من البئر، هل يتوضّأ من ذلك الماء؟

قال عليه السلام: لا بأس»(3).

فالظاهر أنّ الوجه في عدم البأس، الشكّ في ملاقاة ما في الدلو مع الحبل.

وحمله على إرادة نفي البأس عن الماء الذي يكون في البئر بعيدٌ.

وأبعد منه حمله على ما إذا كان ما في الدّلو كُرّاً.

وأمّا خبره الآخر: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن جلد الخنزير يُجعل دلواً يُستقى به ؟ قال: لا بأس».(4)

فالمراد منه نفي البأس عن استعمال جلد الميتة من حيث هو.

وأمّا خبر ابن زرارة، عن الصادق عليه السلام: «قلتُ له: شعر الخنزير يُجعل حبلاً ويُستقى به من البئر التي يشرب منها ويتوضّأ منها؟ فقال عليه السلام: لا بأس»(5).

فالظاهر منه نفي البأس عن البئر كما لا يخفى .

مع أنّه لو سَلّمنا ظهور بعض ما تقدّم في الطهارة، فإنّه لابدّ من تأويله أو4.

ص: 91


1- الكافي: ج 3/6 ح 10، وسائل الشيعة: ج 1/228 ح 584.
2- وسائل الشيعة: ج 1/158 ح 393.
3- الفقيه: ج 1/10 ح 14، وسائل الشيعة: ج 1/170 ح 423.
4- التهذيب: ج 1/413 ح 20، وسائل الشيعة: ج 1/175 ح 437.
5- الكافي: ج 6/258 ح 3، وسائل الشيعة: ج 1/171 ح 424.

طرحه، لمخالفته لإجماع الاُمّة.

أمّا الكلب: فإنّه لا فرق في هذا الحكم بين كلب الصيد وغيره.

وعن الصدوق التفصيل بينهما، فيجبُ غَسل الملاقي في الثاني، ورشه بالماء في الأوّل، ولم يُعلم مستنده.

ويردّه: - مضافاً إلى إطلاق الأدلّة - حسن(1) ابن مسلم، عن الصادق عليه السلام: «عن الكلب السلوقي، قال عليه السلام: إذا مسسته فاغسل يدك».

وأمّا البحري منهما، فطاهرٌ كما هو المشهور.

وعن الحِلّي: عموم النجاسة للبحري، واستدلّ له بإطلاق الأدلّة.

وفيه: إنّ الكلب والخنزير لو لم يكونا حقيقةً في البري منهما، كما عن جماعةٍ ، فلا أقلّ من الانصراف إليه.

مع أنّ صحيح ابن الحجّاج، قال: «سأل أبا عبد اللّه عليه السلام رجلٌ وأنا عنده عن جلود الخزّ؟ فقال: ليس بها بأس. فقال له الرّجل: جُعِلت فداك إنّها في بلادي، وإنّما هي كلابٌ تخرج من الماء؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: إذا خَرَجَتْ من الماء تعيشُ خارجةً من الماء؟ فقال الرّجل: لا، قال: لا بأس»(2).

يدلّ على الاختصاص، وهو وإنْ كان مورده الكلب، إلّاأنّه يثبت الحكم في الخنزير للتعليل وعدم الفصل.

أقول: ثمّ إنّ الأقوى نجاسة رطوبتهما وأجزائهما، وهذا القول هو المشهور،

وعن السيّد(3) وجدّه: طهارة أجزائهما الّتي لا تحلّها الحياة، وتبعهماذا

ص: 92


1- الكافي: ج 6/553 ح 12، وسائل الشيعة: ج 1/274 ح 720.
2- الكافي: ج 6/451 ح 3، وسائل الشيعة:: ج 4/362 ح 5395.
3- الناصريّات: ص 100 المسألة التاسعة عشرة، قوله: (شعر الميتة طاهر، وكذلك شعر الكلب والخنزير. هذا صحيح، وهو مذهب أصحابنا وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه... دليلنا علي صحّة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتكرّر، قوله تعالى: «وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا...».

صاحب «البحار»(1).

واستدلّ لهذا القول:

1 - بصحيح زرارة الوارد في الحبل يكون من شعر الخنزير(2)، وموثّق ابنه المتقدّمين.

2 - وبعموم ما دلّ على طهارتها من الميتة، حيث أنّه يشملها منهما، فتثبت طهارتها في حال الحياة بعدم الفصل.

3 - وبنفي جزئيّتها.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الخبران: فلما عرفت آنفاً.

وما دلَّ على طهارتها من الميتة، إنّما يدلّ على أنّ النجاسة المسبّبة عن الموت لا تثبت في الأجزاء الّتي لا تحلّها الحياة، ولا تدلّ على عدم نجاستها حتّى مع انطباق عنوان نجس عليها.

ونفي الجزئيّة كما ترى .

وبالجملة: فالأقوى هو ما اختاره المشهور، ويشهد له مضافاً إلى إطلاق نصوص النجاسة، خبر سليمان الإسكاف، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن شعر الخنزير يخزز به ؟ قال عليه السلام: لا بأس به، لكن يغسل يده إذا أراد أن يُصلّي»(3).

ص: 93


1- قد يظهر ذلك من تعليقاته على روايات الباب 13 من تتمّة أبواب الصيد والذبائح (حكم ما لا تحلّه الحياة من الميتة وممّا لا يؤكل) ج 63/48.
2- الكافي: ج 3/6 ح 10، وسائل الشيعة: ج 1/170 ح 423.
3- التهذيب: ج 9/85 ح 92، وسائل الشيعة: ج 3/418 ح 4038.
حكم المتولّد منهما

فرع: لو تولّد منهما، أو من أحدهما ولدٌ:

فتارةً : يجتمع أحدهما مع الآخر.

واُخرى : يجتمع أحدهما مع طاهر.

وعلى الثاني، فتارةً : تكون الاُمّ طاهرة والأب نجساً، واُخرى: يكون بالعكس.

أمّا الصورة الأُولى : فعن جماعةٍ منهم الشهيدان(1) والمحقّق الثاني(2): نجاسة المتولّد منهما مطلقاً، ومالَ إليها الشيخ رحمه الله في طهارته(3).

وعن «المنتهى »(4) و «النهاية»(5) و «المعالم»(6) و «المدارك»(7): إنْ صدق عليه اسم حيوان طاهر، فيشكل الحكم بالنجاسة.

واستدلّ للأوّل:

1 - بالقطع بعدم خروجه عن أحدهما وإنْ باينهما صورةً ، وعليه فلا يضرّ عدم صدق الاسم، لأنّ الاعتبار وإنْ كان به، إلّاأنّه لكشفه من حقيقة المسمّى، لا

ص: 94


1- الذكرى: ص 14، مسالك الأفهام: ج 1/17.
2- جامع المقاصد: ج 1/124.
3- كتاب الطهارة: ج 2/347 (ط. ق) إلى أن قال: (وإطلاقهما يشمل ما لو فرض صدق اسم حيوان طاهر عليه وهو مشكل كما عن المنتهى... والمدارك بل الإشكال في غيره أيضاً من حيث عدم الدليل على النجاسة، ومجرّد كونه جزء منهما في زمان لا يسوغ استصحاب نجاسته لانتفاء الموضوع... الخ).
4- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/166.
5- حكاه عنه الشيخ الأعظم في كتاب الطهارة: ج 2/347 (ط. ق)
6- حكاه أيضاً الشيخ (المصدر السابق).
7- مدارك الأحكام: ج 2/286.

لدخله في الحكم من الحيث هو.

2 - وبتنقيح المناط، إذ المتشرّعة لا يفرّقون بين المتولّد من كلبين أو خنزيرين، وبين المتولّد من كلبٍ وخنزير.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الأحكام وإنْ كانت لا تدور مدار التسمية من حيث هي، بل تدور مدارها من حيث الكشف عن المسمّيات، ولكن لا حقيقتها في نظر العقل، بل في نظر العُرف، وعلى ذلك فإنْ لم يصدق عليه اسم أحدهما عرفاً، فلا وجه للحكم بنجاسته.

وأمّا الثاني: فلأنّ مناط نجاسة الكلب والخنزير لم يظهر لنا حتّى ندّعي وجوده في المتولّد منهما مطلقاً.

واستدلّ للثاني: بأنّ مقتضى استصحاب نجاسته، الثابتة له حال كونه جنيناً في بطن اُمّه قبل ولوج الروح فيه، لكونه من أجزاء اُمّه؛ نجاسته بعد ولوج الروح فيه وانفصاله عن اُمّه، فإنّ ولوج الروح فيه وخروجه لا يوجب تبدّل الموضوع، ولكن إنْ صدق عليه اسم حيوانٍ طاهر، فمقتضى إطلاق دليل طهارته المقدّم على الاستصحاب طهارته، وأمّا إذا لم يصدق عليه ذلك، فمقتضى ذلك نجاسته.

وفيه: ما تقدّم في العَلَقة من منع صدق الجزئيّة عليه، لكونه متكوّناً فيها لا جزء منها.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى طهارته ما لم يصدق عليه اسم أحدهما.

ومنه يظهر أنّ الأقوى طهارته في الصورتين الأخيرتين أيضاً، كماعن المشهور.

واستدلّ للنجاسة في الصورة الثانية: باستصحاب نجاسته حال كونه نطفة أو

ص: 95

علقة، ولا يخفى أنّه لتبدّل الموضوع لا يجري.

كما أنّه استدلّ للنجاسة في الصورة الثالثة باستصحاب نجاسته حال كونه جنيناً، وقد مرّ ما في هذا الاستصحاب.

وأخيراً: ممّا ذكرناه ظهر أنّ القول بنجاسة المتولّد منهما، إذا لم يصدق عليه اسم حيوانٍ طاهر، يستلزم القول بالنجاسة، إذا كانت الاُمّ نجسة، وعليه فالتفصيل بين الصورتين لا وجه له.

***

ص: 96

الثامن: الكافر
اشارة

والكافر.

نجاسة الكافر

(و) الثامن من النجاسات: (الكافر) على المشهور شهرة عظيمة، بل إجماعاً(1)إذ لم يُنقل الخلاف إلّاعن الشيخ رحمه الله(2) حيث قال: (يُكره للانسان أن يدعو أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل معه، فإنْ دعاه فليأمر بغَسل يده)، والعُمّاني(3) حيث حكم بطهارة سؤر الذمّي، والإسكافي(4).

أمّا الشيخ رحمه الله فقد ذكر قبل هذا الكلام على المحكيّ بأسطر: (لا يجوز مؤاكلة الكفّار على اختلاف مللهم، ولا استعمال أوانيهم إلّابعد غسلها بالماء، وكلّ طعامٍ تولّاه بعض الكفّار بأيديهم وباشروه بنفوسهم، لم يجز أكله، لأنّهم أنجاس ينجّسون الطعام بمباشرتهم إيّاه).

وعليه، فلا محيص عن حمل كلامه الأوّل على ما حمله المحقّق قدس سره(5) عليه، وهو الحمل على المؤاكلة في اليابس.

وبعبارة اُخرى: مجرّد المؤاكلة لا المساورة.

ص: 97


1- حكى السيّد العاملي في مفاتيح الكرامة: ج 2/35، الإجماع عن: الناصريّات، والانتصار، والغنية، والسرائر، والمعتبر، والمنتهى، والبحار، وشرح الفضل، وظاهر التذكرة، ونهاية الاحكام، وفي التهذيب إجماع المسلمين، وفي حاشية المدارك أنّه شعار الشيعة.. الخ.
2- النهاية: ص 589.
3- حكاه عنه الشيخ الأعظم في كتاب الطهارة: ج 2/349 (ط. ق).
4- نقله المحدّث البحراني في الحدائق الناضرة: ج 5/164، قوله: (وأمّا عبارة ابن الجنيد فظاهرها القول بطهارة أهل الكتاب وله في بحث الأسئار عبارة اُخرى تقرُب من هذه حكيناها هناك).
5- نسبه إليه في الحدائق الناضرة: ج 5/163.

والأمر بغسل اليد لزوال الاستقذار النفساني الذي يحصل من ملاقاة النجاسات، أو لكونه من آداب الأكل في الإسلام.

وأمّا العُمّاني: فيمكن أن يكون حكمه بطهارة السؤر، لأجل ما يراه من عدم تنجّس الماء القليل.

وأمّا الإسكافي: فقد ذكر في ترجمته(1): (أنّه لا يُعتنى بخلافه، لقوله بالقياس، ومطابقة فتواه لفتاوى العامّة).

وعلى ذلك فدعوى الإجماع على النجاسة، كما عن جماعةٍ كثيرة كالسيّد(2)والشيخ(3) والحِلّي(4) والمحقّق(5) والشهيد(6) وغيرهم في محلّها.

واستدلّ لها: بالآية الشريفة:

إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ (7) .

أقول: وأورد على الاستدلال بها بإيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّ النجس مصدرٌ ولا يصحّ حمله على الأعيان الخارجيّة، إلّا بتقدير (ذو)، ويكفي في الإضافة المحكية بها أدنى ملابسة، ولو من جهة النجاسة العَرَضيّة الحاصلة من النجاسات، فلا تدلّ على النجاسة الذاتيّة.

وفيه: أنّه لا مانع من حمل المصدر على العين الخارجيّة نحو زيدٌ عَدْل، مع أنّ مقتضى إطلاقه النجاسة، حتّى في صورة عدم الملاقاة مع الأعيان النجسة، وهو لا8.

ص: 98


1- راجع كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/349.
2- الإنتصار: ص 89.
3- التهذيب: ج 1/223، قوله: (وأيضاً أجمع المسلمون على نجاسة المشركون والكفّار إطلاقاً).
4- منتهى المطلب: ج 1/168 (ط. ق)، قوله: (الكفّار أنجاس وهو مذهب علماؤنا أجمع سواء كانوا أهل الكتاب أو حربيّين أو مرتدّين).
5- المعتبر: ج 1/440.
6- ذكرى الشيعة: ج 1/115 حيث عدَّ من النجاسات الكافر أصليّاً أو مرتدّاً.
7- سورة التوبة: الآية 28.

يتمّ إلّامع النجاسة الذاتيّة، فعلى فرض تسليم التقدير، أيضاً يدلّ على المطلوب.

واُجيب عنه أيضاً: بأنّ النجس صفةٌ مرادفة للنجس بالكسر، كما عن جماعة من اللّغويين التصريح به(1).

وأورد عليه: بأنّ لازم ذلك عدم إفراد الخبر لكونه وصفاً.

وفيه: أنّ الإفراد يمكن أن يكون لحاظ أنّهم نوع نجس.

الإيراد الثاني: ما عن المقدّس الأردبيلي(2) وتلميذه صاحب «المدارك»(3)، وتلميذه صاحب «الذخيرة»(4) وهو: أنّه لعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في النجس، يمكن أن يكون المراد به النجس العرفي، ويمكن أن يكون الخباثة النفسانيّة كالحَدَث.

وفيه: - مضافاً إلى النجاسة الشرعيّة، ليست إلّاالقذارة الثابتة للأشياء في نظر الشارع - أنّ المراد به النجاسة الشرعيّة لا العرفيّة، بقرينة أنّ القذارة العرفيّة لا تُناسب الحكم المفرع عليه، مع أنّها غير مطابقة للواقع في كثيرٍ منهم.

وأمّا إرادة الخباثة النفسانيّة، فهي خلاف الظاهر، لا يُصار إليها بلا قرينة.

وأمّا ما أورد عليها بعض الأعاظم(5): من أنّها قائمة بالنفس، وظاهر الآية نجاسة البدن.

فيرد عليه: أنّه لم يظهر وجه هذا الاستظهار، فلاحظ.

الإيراد الثالث: أنّها أخصّ من المدّعى، لاختصاصها بالمشرك.

واُجيب عنه: بأنّ المشرك يُطلق على كلّ كافرٍ من الوثني والثنوي واليهودي8.

ص: 99


1- حكاه السيّد الحكيم قدس سره عن بعض اللّغويين في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/368.
2- حكاه السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/368 عن شرح الإرشاد.
3- مدارك الأحكام: ج 2/294.
4- حكاه في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/368.
5- مستمسك العروة: ج 1/368.

والنصراني و المجوسى وغيرهم، كما صرّح به النووى علي ما عن «التحرير» حكايته(1).

ويشهد له: نسبة الإشراك إلى اليهود والنصارى في الآية الشريفة: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اَللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (2).

وفيه: إنّ ذلك خلاف ما يستفاد من النصوص الكثيرة، والمتفاهم منه عند المتشرّعة، فتنزّل هذه الآية الشريفة على ما تتنزّل عليه جملةٌ من النصوص الدالّة على حصول الشرك بفعل بعض المعاصي، وترك بعض الواجبات، وهو الالتزام بأنّ للشرك مراتباً، والمرتبة العُليا منها وهي القول بتعدّد الإله هي موضوع النجاسة، وعليه فليست الآية الشريفة في مقام تنزيل اليهود والنصارى منزلة المشركين، كي يؤخذ بإطلاق التنزيل، فيثبت لهم حكم المشركين.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الآية وإنْ دلّت على نجاسة المشركين، إلّاأنّها تختصّ بهم، ولا تشمل أهل الكتاب.

أقول: ولكن يدلّ على نجاستهم - مضافاً إلى الإجماع المتقدّم - جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام: «سألته عن رجلٍ صافح مجوسيّاً؟ قال: يغسل يده ولا يتوضّأ»(3).1.

ص: 100


1- راجع كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/348.
2- سورة التوبة: الآية 30-31.
3- الكافي: ج 2/650 ح 12، وسائل الشيعة: ج 1/275 ح 721.

ودعوى: حمل الأمر بالغَسل على التعبّد لا الإرشاد إلى النجاسة.

مندفعة: بمخالفته لفتوى الأصحاب، وبعيدٌ عمّا يفهم من الأمر بالغُسل في أمثال المورد.

وأيضاً دعوى: حمله على الاستحباب، لأنّ حمله على الوجوب يستلزم تقييده بما إذا كانت الملاقاة برطوبةٍ مُسرية.

مندفعة: بأنّ هذا التقييد إنّما يستفاد من الأدلّة الاُخر مثل ما دلّ على أنّ كلّ يابسٍ ذكي، فحمل الأمر على الاستحباب يبقى بلا مجوّز، لظهور الأمر في نفسه في الوجوب.

واحتمال أن يكون الأمر بغَسل اليد ناشئاً من نجاستهم العَرَضيّة، يدفعه الإطلاق.

ومنها: موثّق سعيد، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام: عن سؤر اليهودي والنصراني أيؤكل أو يُشرب ؟ قال عليه السلام: لا»(1).

ومنها: خبر أبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السلام: «في مصافحة اليهودي والنصراني ؟ قال عليه السلام: من وراء الثياب، فإنْ صافحك بيده فاغسل يدك»(2).

وأورد عليهما: بما أُورد على ما قبلهما، وقد عرفت ما فيه.

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن آنية أهل الذمّة والمجوس ؟ فقال عليه السلام: لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر»(3).

وأورد عليه بعض المحقّقين قدس سره(4): بأنّه على خلاف المطلوب أدلّ ، إذ ظاهره9.

ص: 101


1- الكافي: ج 3/11 ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/229 ح 586.
2- التهذيب: ج 1/262 ح 51، وسائل الشيعة: ج 3/420 ح 4044.
3- الكافي: ج 6/264 ح 5، وسائل الشيعة: ج 3/419 ح 4040.
4- مصباح الفقيه (ط. ق): ج 1/559.

انحصار المنع بالأكل من الآنية التي يُشرب فيها الخمر، دون ما يشرب فيه الماء ونحوه. وأمّا المنع عن أكل طعامهم الذي يطبخون، فيحتمل قويّاً أنْ يكون من جهة عدم تجنّبهم عن مزجه بالأشياء المحرّمة من الميتة وغير ذلك من المحرّمات كلحم الخنزير، ولا أقلّ من كون أوانيهم المعدّة للطبخ متنجّسة بمثل هذه الأشياء.

وفيه أوّلاً: أنّ النهي عن الأكل في آنيتهم في صدر الحديث مطلق، وذِكْره في الذيل ثانياً مقيّداً إنّما يكون بحسب الظاهر لبيان حكمٍ آخر غير ما استُفيد من الصّدر، فصدره سيق لبيان نجاستهم الذاتيّة، وذيله لبيان نجاسة الخمر، فلاحظ.

وثانياً: أنّ المنع عن الأكل من طعامهم الذي يطبخون بما أنّه مطلقٌ شاملٌ لما لم يمزج بما ذكر، ولا طبخ في الآنية المتنجّسة به، فلا محالة يستفاد منه أنّ المنع إنّما يكون لأجل مباشرتهم برطوبة مُسرية، فيستفاد منه نجاستهم، وبذلك تظهر دلالة سائر الأخبار الناهية عن أكل طعامهم كأخبار هارون بن خارجة، وسماعة، ومحمّد بن مسلم وغيرها على هذا القول.

ومنها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام، قال: «سألته عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمّام ؟

فقال: إذا علم أنّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمّام، إلّاأن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل.

وسألته عن اليهودي والنصراني يُدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصّلاة ؟

قال عليه السلام: لا، إلّاأن يضطرّ إليه»(1).

وأورد عليه: بأنّ مفاده جواز الوضوء بالماء الذي أدخل اليهوديّ أو النصرانيّ يده فيه لدى الضرورة، وهو ينافي نجاسته، ولا يستفاد من صدره لإجمال وجه المنع8.

ص: 102


1- التهذيب: ج 1/223 ح 23، وسائل الشيعة: ج 3/421 ح 4048.

عن الاغتسال بما اغتسل به النصراني نجاسة النصرانيّ من حيث هو.

وفيه أوّلاً: أنّ الظاهر كون المراد من الاضطرار التقيّة، إذ لا يصحّ التعبير عن عدم وجود ماء غيره بالاضطرار إلى الوضوء منه.

وأمّا صدره فلا وجه للمنع عنه بقول مطلق، والأمر بغسل الحوض الذي اغتسل فيه، ثمّ الاغتسال منه كذلك سوى نجاسته الذاتيّة.

ومنها: خبر زرارة، عن الصادق عليه السلام: «في آنية المجوس ؟ قال عليه السلام: إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء»(1). ونحوها غيرها(2).

واستدلّوا على الطهارة:

1 - بعموم قوله تعالى : وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ (3).

وفيه: أنّه فُسّر في جملةٍ من النصوص المعتبرة بالحبوب وأشباهها.

2 - وبطوائف من النصوص:

الطائفة الأُولى : ما دلّ على جواز الصّلاة في الثوب الذي يعمله أهل الكتاب والمجوس أو يُشترى منهم:

1 - صحيح معاوية: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الثياب السابريّة يعملها المجوس، وهم أخباث، يشربون الخمر، ونسائهم على تلك الحالة، ألبسها ولا أغسلها واُصلّىُ فيها؟ قال عليه السلام: نعم... إلى آخره»(4).

2 - وخبر أبي علي البزّاز، عن أبيه: «سألتُ جعفر بن محمّد عليه السلام عن الثوب9.

ص: 103


1- الفقيه: ج 3/348 ح 4221، وسائل الشيعة: ج 3/422 ح 4051.
2- وسائل الشيعة: ج 3/419 وما بعدها باب 14 من أبواب النجاسات والأواني والجلود عدَّة روايات.
3- سورة المائدة: الآية 5.
4- التهذيب: ج 2/362 ح 29، وسائل الشيعة: ج 3/518 ح 4339.

يعمله أهل الكتاب، اُصلّي فيه قبل أن يُغسل ؟ قال: لا بأس»(1).

3 - وخبر أبى جميلة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه واُصلّي فيه ؟ قال: نعم. قلت: يشربون الخمر؟ قال: نعم، نحن نشتري الثياب السّابُريّة فنلبسها ولا نغلسها»(2). ونحوها غيرها.

ويرد على الاستدلال بهذه الأخبار: أنّ الظاهر منها بيان حكم صورة عدم العلم بتنجيسهم للثوب، كما يشهد له ذيل خبر أبي جميلة:

«قلت: يشربون الخمر؟ قال: نعم»(3)، مع أنّ الخمر نجسة بلا إشكال.

وصحيح ابن سنان، عن الصادق عليه السلام: «في الثوب الذي يُعار، مع العلم بأنّه يشرب الخمر، ويأكل لحم الخنزير؟ قال: صَلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تُصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجس»(2).

هذا مع أنّه في الصحيح فَرَض السائل كونهم أخباثاً، وقرّره الإمام على ذلك.

الطائفة الثانية: ما دلّ على جواز مؤاكلتهم:

منها: صحيح العيص، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن مؤاكلة اليهودي والنصرانى والمجوسي ؟ فقال عليه السلام: إنْ كان من طعامك، وتوضّأ فلا بأس»(3).

ونحوه غيره.

وفيه: إنّ المؤاكلة لا تلازم ملاقاة الطعام الذي يأكله المسلم مع بدن الكافر، كي يدلّ ما دلّ على جوازها على طهارته، والأمر بالوضوء يمكن أن يكون لأجل كونه8.

ص: 104


1- التهذيب: ج 2/219 ح 70، وسائل الشيعة: ج 3/519 ح 4343. (2و3) الفقيه: ج 1/259 ح 798، وسائل الشيعة: ج 3/520 ح 4345.
2- التهذيب: ج 2/361 ح 27، وسائل الشيعة: ج 3/521 ح 4348.
3- الفقيه: ج 3/348 ح 4222، وسائل الشيعة: ج 24/208 ح 30358.

من آداب الأكل، فمفاد هذه النصوص جواز مؤاكلة أهل الكتاب، وبها تُرفع اليد عن ظاهر ما دلّ على المنع عن مؤاكلتهم من حيث هي، الذي يحتمل أن يكون وجهه كونها نحواً من الموادّة التي يمقتها اللّه وأوليائه.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على جواز الأكل من طعامهم:

منها: صحيح إسماعيل بن جابر: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في طعام أهل الكتاب ؟ فقال: لا تأكله، ثمّ سكت هُنيئةً ثمّ قال: لا تأكله، ثمّ سكت هُنيئةً ثمّ قال: لا تأكله، ثمّ قال: لا تأكله ولا تتركه، تقول إنّه حرام، ولكن تتركه تنزّهاً عنه أنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير»(1).

ومنها: خبر زكريّا بن إبراهيم: «دخلتُ على أبي عبد اللّه عليه السلام فقلت: إنّي رجلٌ من أهل الكتاب، وإنّي أسلمتُ وبقي أهلي كلّهم على النصرانيّة، وأنا معهم في بيتٍ واحد، لم اُفارقهم بعدُ فآكل من طعامهم ؟ فقال عليه السلام لي: يأكلون الخنزير؟ فقلت: لا، ولكنّهم يشربون الخمر. فقال عليه السلام لي: كُل معهم واشرب»(2).

وفيه: أمّا الصحيح؛ فبما أنّ تكرار النهي والاهتمام به، لا يُلائم كونه تنزيهيّاً، لاسيّما مع تعليله بأنّ في آنيتهم الخمر والخنزير، الّذين هما نجسان بلا كلامٍ ، فلابدّ من حمله على التقيّة، كما أنّ التفصيل في الخبر بين كونهم آكلين لحم الخنزير، وشاربين الخمر، ممّا يشهد لعدم صدور الحكم لبيان الحكم الواقعي، مضافاً إلى أنّهما على فرض تماميّة دلالتهما، يعارضان مع النصوص الدالّة على عدم جواز أكل طعامهم من غير الحبوب وأشباهها، وهي تقدّم لكونها أخصّ .7.

ص: 105


1- الكافي: ج 6/264 ح 9، وسائل الشيعة: ج 24/210 ح 30366.
2- التهذيب: ج 9/87 ح 104، وسائل الشيعة: ج 24/211 ح 30367.

وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المحقّقين رحمه الله(1) من أنّ الصحيح يصلح قرينةً بمدلوله اللّفظي على صرف الأخبار الظاهرة في النجاسة عن ظاهرها.

الطائفة الرابعة: ما دلّ على جواز الأكل في آنيتهم:

منها: مصحّح ابن مسلم: «لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيها الميتة والدّم ولحم الخنزير»(2).

وفيه: أنّه لا مفهوم له كي يدلّ على جواز الأكل فيها في غير هذه الموارد.

الطائفة الخامسة: ما دلّ على جواز الوضوء عن سؤرهم:

منها: موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرجل هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه، على أنّه يهودي ؟ قال عليه السلام: نعم. قلت: فمن ذلك الماء الذي يشرب منه ؟ قال عليه السلام: نعم»(3).

وقد حمله الشيخ رحمه الله(4) على صورة عدم العلم بكونه يهوديّاً، وهو كما ترى ، ولكن يمكن أن يكون المراد به عدم نجاسة الماء القليل بملاقاة النجاسة، فلا يدلّ على عدم نجاستهم.

الطائفة السادسة: صحيح إبراهيم بن أبي محمود: «قلتُ للرّضا عليه السلام: الجارية النصرانيّة تخدمك، وأنتَ تعلم أنّها نصرانيّة لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة ؟ قال عليه السلام: لا بأس تغسل يديها»(5).

وفيه: السؤال فيه عن القضيّة المعيّنة الخارجيّة، وهي الجارية التي تخدمه عليه السلام،0.

ص: 106


1- كما هو ظاهر مصباح الفقيه: ج 1/560 ق 2 (ط. ق).
2- الفقيه: ج 3/348 ح 4223.
3- الإستبصار: ج 1/18 ح 3، وسائل الشيعة: ج 1/229 ح 588.
4- الإستبصار: ج 1/18.
5- التهذيب: ج 1/399 ح 68، وسائل الشيعة: ج 3/422 ح 4050.

وحيث أنّ حال هذا الاستخدام مجهولٌ من حيث أنّه كان باختياره أو باختيار السلطان الجائر، وكان مجبوراًعليذلك، فالواقعة مجملة لايمكن الاستدلال بها، فتأمّل.

الطائفة السابعة: ما دلّ على جواز تغسيل النصراني للمسلم:

منها: موثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ ، قال:

«قلت: فإن ماتَ رجلٌ مسلم، وليس معه رجلٌ مسلم ولا إمرأه مسلمة من ذوي قرابته، ومعه رجال نصارى ونساءٌ مسلمات، ليس بينه وبينهن قرابة ؟

قال: يغتسل النصارى ثمّ يغسلونه... إلى آخره»(1).

ونحوه خبر(2) ابن خالد، وقد عمل الأصحاب بهما.

ولكن يرد على الاستدلال بهما: أنّ نجاستهم لا تنافي صحّة الغُسل، إذ يمكن أن يكون الوجه في الصحّة العفو عن هذه النجاسة، أو عدم تنجّس الماء المستعمل في الغُسل، ولا بدن الميّت من مباشرته. وتمام الكلام في محلّه.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا دليل على طهارة الكافر، كي يُعارض ما دلّ على نجاسته، وعلى فرض التنزّل وتسليم الدلالة، فجميع الطوائف سوى الطائفة الأخيرة يمكن الالتزام بأنّها لإعراض الأصحاب عنها تُطرح أو تُحمل على التقيّة.

وأمّا تلك الطائفة، فلا يمكن فيها ذلك، لما عرفت من عمل الأصحاب بها.

ودعوى: أنّه يمكن أن يكون الوجه في عدم عملهم بنصوص الطهارة، تخيّلهم معارضتها مع نصوص النجاسة وترجيحها عليها.

مندفعة: بأنّ ذلك لا يحتمل في حقّهم، حيث يكون بنائهم على الجمع العرفي في جميع أبواب الفقه، وهو في المقام ممكن بحمل نصوص النجاسة على الكراهة.9.

ص: 107


1- التهذيب: ج 1/340 ح 165، وسائل الشيعة: ج 2/515 ح 2788.
2- وسائل الشيعة: ج 2/516 ح 2789.

وأمّا ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله(1): من لزوم حمل نصوص الطهارة على التقيّة لموافقتها للعامّة، إذ موافقة العامّة إنّما تكون مرجّحة لإحدى الحجّتين على الاُخرى ، بعد عدم إمكان الجمع بينهما، وفقد جملةٍ من المرجّحات، لا من مميّزات الحجّة عن اللّاحجّة.

وأيضاً: مقتضى إطلاق النصوص عدم الفرق بين المرتدّ وغيره.

أقول: ثمّ إنّه لا فرق في نجاسة أجزائه بين ماتحلّه الحياة وغيره، كماهو المشهور.

وعن السيّد(2) وجدّه، وصاحب «المعالم» عدم ثبوت نجاسة أجزائه التي لاتحلّها الحياة، وهو الأقوى في غير المشرك، وذلك لأنّ مقتضى الآية الشريفة المختصّة بالمشرك، المعلّق فيها الحكم على المُسمّى عموم الحكم لجميع أجزائه.

وأمّا أهل الكتاب: فبما أنّ النصوص الدالّة على نجاستهم، ليس لسانهانجاستهم، بل تكون دلالتها عليها من جهة دلالتها على لزوم الاجتناب عن مساورتهم ومخالطتهم، وغيرهما من العناوين، فلا دليل على ثبوتها في تلك الأجزاء.

وبذلك اندفع اعتراض صاحب «الحدائق»(3) على صاحب المعالم رحمه الله، بأنّ الأخبار التي تدلّ على نجاسة اليهود والنصارى ، قد عُلّق الحكم فيها على عنوان اليهود والنصارى ، وهو عبارةٌ عن مجموع أجزاء الشخص المنسوب إليهم، والشخص عبارةٌ عن مجموع الأجزاء، فتدبّر.

نعم، إنْ ثبت الإجماع على نجاسة تلك الأجزاء، ولم يُحتمل استناد المجمعين إلى ما ذكر فهو الحجّة في المقام، ولكن من أين له إثبات ذلك ؟!

***4.

ص: 108


1- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/349.
2- الناصريّات: 100.
3- الحدائق الناضرة: ج 5/174.
مسائل:
حكم مُنكِر الضروري

مسائل:

المسألة الأُولى : منكر الضروري كافرٌ بلا خلافٍ فيه في الجملة.

بل عن جماعةٍ (1): دعوى الإجماع عليه.

وتشهد له: النصوص الدالّة على أنّ الإسلام هو الشهادة بالوحدانيّة، والتصديق بجميع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله، ولكن حيث لم يثبت الإجماع على نجاسة كلّ كافر، والأدلّة إنّما دلّت على نجاسة أهل الكتاب، وتتعدّى إلى كلّ من لا يؤمن بالنبيّ صلى الله عليه و آله رأساً لا من آمن ببعضٍ وكفر ببعض، فلا دليل على نجاسة مُنكر الضروري.

وبما أنّ المنسوب إلى جملةٍ من الأساطين(2) هو النجاسة، وإنْ كان يحتمل أن يكون مدركهم صدق الكافر عليه، فالأحوط هو الاجتناب عنه.

أقول: ثمّ إنّه على فرض كونه نجساً:

هل يكون إنكار الضروري سبباً مستقلّاً للنجاسة، كماعن «مفتاح الكرامة»(3)نسبته إلى ظاهر الأصحاب ؟

أو أنّه يوجب النجاسة لرجوع إنكاره إلى إنكار النبوّة كما عن الأردبيلي(4)وصاحب «كشف اللّثام»(5) والخوانساري(6)؟ وجهان:

ص: 109


1- قال في مفتاح الكرامة: ج 2/37، (إنّ ظاهر نهاية الاحكام، والتذكرة، والروض، الإجماع على ذلك [إدخال منكر الضرورة في الكافر] بخصوصه).
2- راجع كشف اللّثام: ج 1/410.
3- مفتاح الكرامة: ج 38/2، قوله: (إنّ جحود الضرورى كفرٌ فى نفسه أو يكشف عن إنكار النبوّة مثلاً؟ ظاهرهم الأوّل).
4- مجمع الفائدة والبرهان: ج 3/199، حكم من ترك الصّلاة: (من استحل ترك الصّلاة يُقتل).
5- كشف اللّثام: ج 1/402، إلّاأنّه عطف مُنكر الضرورة على الكفّار والمشركين بقوله: (كلّ مَن أنكر ضروريّاً من ضروريّات الدِّين مع علمه بأنّه من ضروريّاته).
6- حكاه عنه الشيخ الأعظم في كتاب الطهارة: ج 2/354.

قد استدلّ للأوّل:

1 - بعطف مُنكر الضروري في كلامهم على الخارج عن الإسلام، وظاهر العطف المغايرة.

2 - وبأنّه لو كان سبباً لها لرجوعه إلى إنكار الرسالة، لم يكن وجهٌ لتقييدهم إيّاه بالضروري، بل كان المتعيّن تعليق الحكم على إنكار ما عُلم أنّه من الدِّين.

3 - وبجملةٍ من النصوص الدالّة على ثبوت الكفر بمجرّد إنكاره:

منها: مكاتبة عبد الرحيم القصير الصحيحة، وفيها:

«قال عليه السلام: ولا يخرجه إلى الكفر إلّاالجحود والإستحلال، بأن يقول للحلال هذا حرامٌ ، وللحرام هذا حلال»(1).

ومنها: صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال عليه السلام: من ارتكب كبيرةً من الكبائر، فزعم أنّها حلال، أخرجه ذلك عن الإسلام»(2).

ونحوهما غيرهما(3).

4 - وبتسالمهم عليكفر النواصب والخوارج، متمسّكين لذلك بإنكارهم للضروري.

5 - وبما ورد(2): «أنّ الإسلام بُنيَ على خمس».

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه يمكن أن يكون العطف باعتبار أنّ مُنكر الضروري مؤمنٌ ببعضٍ وكافرٌ ببعض، وهو غير الخارج عن الإسلام بالكليّة.0.

ص: 110


1- الكافي: ج 2/27 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/37 ح 57. (2و3) الكافي: ج 2/285 ح 23، وسائل الشيعة: ج 1/33 ح 49.
2- الكافي: ج 18/18 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/17 ح 10.

وأمّا الثاني: فلأنّ التقييد بالضروري، يمكن أن يكون لأجل أنّ مَنْ عاشر المسلمين يعلم بديهةً كونه من الدِّين، فإنكاره يرجع إلى إنكار النبوّة، ويؤيّد ذلك ما اشتهر من إخراج صورة الشُّبهة، واكتفاء القدماء بذكر الكفر عن ذكره.

وأمّا الثالث: فلأنّ النصوص المشتملة على الجُحُود والإنكار، اختصاصها بصورة العلم، الموجب إنكاره حينئذٍ إنكار الرسالة واضح، وما لم يشتمل عليهما مطلق، وحيثُ لا يمكن الالتزام بإطلاقه، كما هو واضح، فلابدّ من تقييده بالضروري، أو بصورة العلم، وليس الأوّل بأولى من الثاني.

وأمّا الرابع: فالتمسّك لنجاسة الطائفتين به إنّما يكون من بعضٍ لا من الجميع.

وأمّا الخامس: فلأنّ الظاهر منه بنائه على ذوات الخمس، لا من حيث صيرورتها ضروريّة، كي يتعدّى إلى كلّ ما أصبح ضروريّاً.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم سببيّة إنكار الضروري من حيثُ هو للنجاسة.

***

ص: 111

ولد الكافر تابعٌ للكافر

المسألة الثانية: المشهور بين الأصحاب(1): أنّ ولد الكافر يتبعه في النجاسة.

أقول: إنّ الولد يتصوّر على قسمين:

تارةً : يكون مميّزاً يمكن له الإسلام عن بصيرةٍ .

واُخرى : لا يكون كذلك.

أمّا الأوّل: فلو أسلم قُبل إسلامه، وحُكم بطهارته، لإطلاق ما يكون شارحاً للإسلام الشامل للصبي والبالغ، ولما حقّقناه في محلّه من شرعيّة عبادات الصبي المتوقّفة صحّتها على الإسلام.

أمّا حديث رفع القلم(2): لو سُلّم أنّ المراد منه رفع قلم التكليف لا المؤأخذة - مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً - غاية ما يدلّ عليه رفع التكليف عن الصبي.

وأمّا إذا كان فعل الصبي موضوعاً للحكم المتوجّه إلى البالغين، كإسلامه وكفره الموضوعين للزوم الاجتناب وعدمه على البالغين، فلا يدلّ الحديث على رفعه، فهو لا يدلّ إلّاعلى عدم وجوب الإسلام عليه لا على عدم قبوله، كما لا يخفى .

وأمّا روايات «عمد الصَّبي خَطأ»(3): فبعضها وإنْ كان مطلقاً غير مذيّلٍ بقوله:

(تحمله العاقلة)، وعليه فلا وجه لحمله على ما يكون مقيّداً به، كما لا يخفى ، إلّاأنّه أيضاً مختصّ بباب الضمانات، إذ تنزيل شيءٍ منزلة آخر يتوقّف على ثبوت المنزّل والمنزّل عليه، فمورد هذه الروايات ما يتصوّر فيه القسمان؛ أي العمد والخطأ، كالإتلاف ونحوه.

ص: 112


1- راجع الذكرى: ص 14، الحدائق: ج 5/200، مستند الشيعة: ج 1/208.
2- وسائل الشيعة: ج 28/23 ح 34121.
3- التهذيب: ج 10/233 ح 53 و 54، وسائل الشيعة: ج 29/400 ح 35859 و 35860.

وأمّا ما لا يتصوّر فيه إلّاقسمٌ واحد، ولا يتصوّر فيه الخطأ، كباب العقود والإيقاعات، المتوقّف تحقّقها على القصد والإنشاء، فلا يكون مشمولاً لهذه النصوص، والإسلامُ من هذا القبيل، لتوقّف تحقّقه على القصد، فهي أيضاً لا تدلّ على عدم قبول إسلام الصبي.

ومن ذلك كلّه ظهر أنّه لو لم يُسْلِم حُكم بكفره ونجاسته.

وأمّا الثاني: وهو الصبي غير المميّز، فالظاهر أنّه لا خلاف في كونه تابعاً للكافر في النجاسة.

وقد استدلّ له:

1 - باستصحاب النجاسة الثابتة له حال كونه جنيناً في بطن اُمّه، لأجل كونه جزءً منها.

2 - وبتنقيح المناط عند أهل الشّرع، حيث أنّهم يتعدّون من نجاسة الأبوين ذاتاً إلى المتولّد منهما، فهو شيءٌ مركوزٌ في أذهانهم، وإنْ لم يُعلم وجهه تفصيلاً.

3 - وبصحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث ؟ قال عليه السلام: كفّارٌ واللّه اعلم بما كانوا عاملين، يدخلون مداخل آبائهم»(1). ونحوه غيره(2).

4 - وبخبر حفص: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب، فظهر عليه المسلمون بعد ذلك ؟

فقال عليه السلام: إسلامه إسلامٌ لنفسه ولولده الصغار، وهم أحرار، وولده ومتاعه).

ص: 113


1- الفقيه: ج 3/491 ح 4740.
2- الفقيه: ج 3/491 باب (حال من يموت من أطفال المشركين والكفّار).

ورفيقه له، فأمّا الولد الكبار فهم فيءٌ للمسلمين إلّاأن يكونوا أسلموا قبل ذلك»(1).

5 - وبالسيرة القطعيّة على معاملتهم معاملة آبائهم.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلما عرفت من عدم كون الجنين جزء للاُمّ .

وأمّا الثاني: فلأنّه مع عدم المناط، كيف يُدّعى ثبوته في الولد.

وأمّا الثالث: فلأنّ الظاهر من تلك النصوص أنّ حكمهم في الآخرة حكم آبائهم، وهذا مع أنّه مخالفٌ لاُصول العدليّة غير مربوط بالنجاسة.

وأمّا الرابع: فلأنّه يدلّ على أنّ إسلام الأب إسلامٌ للولد، وأمّا كون كفره كفراً له فهو يتوقّف على ثبوت المفهوم للوصف، ولا نقول به. هذا مع أنّه لو سُلّم دلالته عليه، لكن لا دليل على نجاسة كلّ كافرٍ حتّى مثل هذا الكافر الذي لا شعور له، ويكون كافراً تعبّداً.

وأمّا الخامس: فلأنّ السيرة في هذه الأزمنة إنّما تكون لأجل فتاوى العلماء، وفي عصر الحضور لم تثبت.

فإذاً العمدة هو الإجماع إنْ لم يُحتمل كون مدرك الُمجمِعين بعض ما ذُكر.

أقول: ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين كونه من النكاح أو السِّفاح والزنا، كما هو مقتضى إطلاق معاقد الإجماعات.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ عدم استثناء ما يكون من الزنا، لعلّه يكون لأجل ما ذكروه في محلّه من نفي ولدية ولد الزنا.

ودعوى: أنّه لا دليل على نفي ولديته مطلقاً، وما ثبت إنّما هو في مواردخاصّة.

مندفعة: بأنّ هذا لا يوجب القطع بالإلحاق فيؤخذ بالمتيقّن.5.

ص: 114


1- التهذيب: ج 6/151 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/116 ح 20105.

ولكن دعوى القطع بعدم أسوئيّة حال ولد الحلال عن ولد الزنا قريبةٌ جدّاً.

فإذاً الأحوط الاجتناب عنه مطلقاً.

وأيضاً: لو كان أحد الأبوين مسلماً، فالولد تابعٌ له كما هو المشهور(1)، ويشهد لتبعيّته للأب خبر حفص المتقدّم، وللاُمّ عدم الدليل على نجاسته، إذ كما عرفت لا دليل على نجاسة ولد الكافر، سوى الإجماع، ولا إجماع على نجاسته في الفرض، لو لم يكن الإجماع على العدم.

***).

ص: 115


1- راجع تذكرة الفقهاء: ج 2/274 (ط. ق)، مجمع الفائدة والبرهان: ج 10/412، مصباح الفقيه: ج 1/562 (ط. ق).
طهارة ولد الزِّنا

المسألة الثالثة: الأقوى أنّ ولد الزّنا طاهرٌ كما هو المشهور شهرةً عظيمة(1).

وعن الصدوق(2) والحِلّي(3) والسيّد(4): القول بنجاسته وكفره.

وقد استدلّ للنجاسة:

1 - بالنصوص الدالّة على لزوم الاجتناب عن سؤره، وعلى المنع من الإغتسال من البئر التي يجتمع فيها ماءُ الحمّام، معلّلاً بأنّه يغتسل فيه ولد الزِّنا(5):

منها: مرسل الوشّاء، عن الإمام الصادق عليه السلام: «كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك، وكلّ مَنْ خالف الإسلام»(6).

ومنها: خبر بن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غُسالة الحمّام، فإنّ فيها غُسالة ولد الزنا، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء»(7).

ونحوه غيره(8).

2 - وبما تضمّن أنّه (رجسٌ ) وأنّه (لا خير فيه)، وأنّ (لبن اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة أحب من لبن الزانية)(9).

أقول: وفي الجميع نظر:

ص: 116


1- راجع الفقيه: ج 1/9، قوله: (ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا... الخ).
2- الفقيه: ج 1/8.
3- السرائر: ج 1/357.
4- الإنتصار: ص 273.
5- راجع الكافي: ج 3/14 ح 1، و ج 6/498 ح 10، وسائل الشيعة: ج 1/218 ح 556 و ح 558.
6- الكافي: ج 3/11 ح 6، وسائل الشيعة: ج 1/229 ح 587.
7- الكافي: ج 3/14 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/219 ح 559.
8- راجع وسائل الشيعة: ج 1/218 باب 11 من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
9- الكافي: ج 6/43 ح 5، وسائل الشيعة: ج 21/465 ح 27597.

أمّا مرسل الوشّاء: فلأنّ الكراهة أعمّ من المنع، فلا يدلّ على النجاسة، وعطف الإنجاس على ولد الزنا، لا يكون قرينةً على إرادة المنع منها.

أمّا الخبر الثاني: وهو ما دلّ على المنع عن الاغتسال؛ فلا يكون ظاهراً في كونه بلحاظ نجاسة ولد الزنا، لاشتماله على أنّه لا يطهر إلى سبعة آباء.

مع أنّه لا ريب في عدم تعدّي النجاسة منه على فرض القول بها، وما ورد من (أنّه شرٌّ وأنّ الناصب شرٌّ منه)، فإنّ الشرّية ظاهرة في الخباثة النفسانيّة، فلا يدلّ على نجاسته، وقد عرفت أنّ (الرِّجس) لم يثبت إرادة النجاسة منه.

وأمّا أحبيّة لبن الكافرة من لبن الزانية، فإنّها يمكن أن تكون للخباثة النفسانيّة لا النجاسة، ونفي الخير فيه لا يدلّ على النجاسة.

فتحصّل: أنّ الأقوى بمقتضى إطلاق ما دلّ على أنّ الإسلام هو الشهادة بالوحدانيّة، والرسالة، وأصالة الطهارة، هو طهارة ولد الزّنا.

***

ص: 117

الغُلاة والخَوارج والنّواصب

المسألة الرابعة: المشهور بين الأصحاب(1) نجاسة الغُلاة والخوارج والنّواصب، بلا خلافٍ في شيءٍ من ذلك في الجملة.

أمّا الطائفة الأُولى :

1 - فإنْ اُريد منهم من يعتقد ربوبيّة أميرالمؤمنين أو أحدٍ من الأئمّة عليهم السلام:

فتارةً : يعتقد أنّ الشخص المعيّن الخارجي الحادث ربٌّ ، فهو نجس، لإنكاره الضروري، وهو كونه تعالى قديماً.

واُخرى : يعتقد أنّ اللّه تعالى في كلّ زمانٍ متشكّلٌ بشكلٍ ، وفي عصر أمير المؤمنين عليه السلام ظهر على صورته وهيئته المعلومة، فنجاسته على هذا تتوقّف على نجاسة المجسّمة، والإجماع بما أنّه ليس تعبّديّاً كما لا يخفى ، لا يكون موجباً للحكم بها.

2 - وإنْ اُريد بالغلوّ تجاوز الحدّ في صفات المعصومين:

فتارةً : يكون اختصاص الصّفة به تعالى ضروريّاً من الدِّين كالخالقيّة.

واُخرى : لا يكون كذلك كعدم الغفلة.

ففي الأوّل: تبتني النجاسة على ثبوتها بإنكار الضروري.

وفي الثاني: لا وجه لها.

وما ورد في ابن حاتم الغالي، عن أبي الحسن عليه السلام أنّه قال: «توقّوامشاورته»(2)فإنّه مضافاً إلى عدم ثبوت كيفيّة غلوّه، يحتمل أن يكون الصحيح مشاورته بالشين لا بالسين، فيكون أجنبيّاً عن المقام.

ص: 118


1- راجع تحرير الأحكام: ج 1/24، كشف اللّثام: ج 1/471، مستند الشيعة: ج 1/204.
2- رجال الكشّي: ص 522.

وأمّا الطائفة الثانية: فالمراد بهم من يعتقد ما اعتقدته الطائفة التي خرجت في صفّين على أمير المؤمنين عليه السلام فاعتقدوا كفره عليه السلام.

والدليل على نجاسة هذه الطائفة، هو الدليل على نجاسة النّواصب، لأنّهم من أظهر أفرادهم.

ويؤيّده: ما عن الفضل، قال: «دخل على أبي جعفر عليه السلام رجلٌ محصورٌ عظيم البطن، فجلس معه على سريره، فحيّاه به ورحّب به، فلمّا قام، قال عليه السلام: هذا من الخوارج كما هو قال. قلت: مشركٌ؟ فقال: مشركٌ ، واللّه مشرك»(1).

لإطلاق التنزيل.

وأمّا الطائفة الثالثة: فعن غير واحدٍ دعوى الإجماع على نجاستهم.

ويشهد لها: خبر ابن أبي يعفور: «إنّ اللّه تعالى لم يخلق خَلْقاً أنجس من الكلب، وأنّ النّاصب لنا أهل البيت أنجسُ منه»(2).

وأورد عليه تارةً : بأنّ النجاسة القابلة للزيادة والنقيصة هي المعنويّة، وإلّا فالنجاسة الظاهريّة الّتي ليست حقيقتها سوى الاعتبار، لا تقبل الزيادة والنقيصة.

واُخرى : بأنّ طائفةً من النصوص تدلّ على أنّ غير الإثنا عشريّة من فرق المسلمين ممّن أزال الأئمة عن مراتبهم هم النّواصب:

منها: خبر محمّد بن علي بن عيسى : «كتبتُ إليه - أي إلى الهادي عليه السلام - أسأله عن النّاصب، هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت، واعتقاده بإمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب»(3). ونحوه غيره.9.

ص: 119


1- روى هذا الحديث الشهيد الأوّل في ذكرى الشيعة: ج 1/116 ونقله عنه غير واحد.
2- وسائل الشيعة: ج 1/220 ح 560.
3- وسائل الشيعة: ج 9/490 ح 12559.

وحيثُ لا يمكن الالتزام بنجاستهم، فيُحمل الخبر على ما لا ينافي الإسلام الظاهري، المترتّب عليه الطهارة، كسائر الأخبار الدالّة على كفرهم.

وثالثة: باختلاط أصحاب الأئمّة في دولة بني اُميّة مع الناصبين، مع عدم معروفية تجنّبهم عنهم، بل الظاهر أنّهم كانوا يعاملون معهم معاملة المسلمين.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ النجاسة الظاهريّة باعتبار آثارها قابلة للشدّة والضعف، ولذا ترى اشتهار أنّ نجاسة البول أشدّ من نجاسة الدّم.

وأمّا الثاني: فلأنّ موضوع الحكم بالنجاسة في الخبر، هو النّاصب لأهل البيت، لا مطلق النّاصب، فكون المخالف ناصبيّاً لا يلزم الاجتناب عنه، ولا ينافي نجاسة النّاصب بالمعني الأخصّ .

وأمّا الثالث: فلأنّ انتشار أكثر الأحكام إنّما يكون من زمان الصادقين عليهما السلام، فليكن هذا الحكم منها.

فتحصّل: أنّ الأقوى دلالة الخبر على النجاسة، ويؤيّدها خبر الفُضيل، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن المرأة العارفة اُزوّجها النّاصب ؟ قال عليه السلام: لا، لأنّ النّاصب كافر» الحديث(1).

وأمّاالمجسّمة: فعن الشيخ(2) والشهيد(3) و جماعةٌ ممّن تأخّرعنهما: القول بنجاستهم.).

ص: 120


1- التهذيب: ج 7/303 ح 21، وسائل الشيعة: ج 20/553 ح 26331.
2- المبسوط: ج 1/14.
3- البيان: ص 24 باب تغسيل الميّت قال: (ولو باشر المخالف تغسيل المؤمن فالأقرب الأجزاء، ولا تغسل الخوارج ولا الغُلاة وإنْ أظهروا الإسلام، والنّاصبي خارجي، وفي المجسّمة بالحقيقة نظر أقربه المنع، أمّا المجسّمة بالتسمية المجرّدة فلا منع).

وعن «البيان»(1) و «المسالك»(2) وغيرهما: التفصيل بين المجسّمة بالحقيقة، والمجسّمة بالتسمية.

واستدلّ للنجاسة:

1 - بالإجماع.

2 - وبأنّهم منكرون للضروري.

3 - وباستلزام التجسيم إنكار الضروري وهو القدم.

4 - وبنصوص التشبيه: كخبر داود بن القاسم، عن الإمام الرضا عليه السلام: «مَنْ شبّه اللّه بخلقه فهو مشرك، ومَن وَصَفه بالمكان فهو كافر، ومَنْ نَسَب إليه ما نهى عنه فهو كاذب»(3).

ونحوه غيره(4) بدعوى أنّ التجسيم نوعٌ من التشبيه.

5 - وبخبر الهروي، عنه عليه السلام: «مَن وَصَف الإله بوجهٍ كالوجوه فقد كَفَر»(5).

فإنّه بإطلاق التنزيل يدلّ على النجاسة.

أمّا الإجماع: فممنوعٌ ، لذهاب جماعة من الأساطين إلى الطهارة، كما عن «المنتهى »(6)، و «التذكرة»(7)، و «النهاية»(8) وغيرها.

وعدم التجسيم، ليس من الضروريّات، لإيهام جملةٍ من النصوص و الآيات به.).

ص: 121


1- البيان: ص 24.
2- مسالك الأفهام: ج 1/24.
3- التوحيد للشيخ الصدوق: ص 68-69 ح 25 (بيانه في معنى الإرادتين)، وسائل الشيعة: ج 28/339 ح 34904.
4- راجع وسائل الشيعة: ج 28/339 باب 10 من أبواب حَدّ المرتدّ (جملة ممّا يثبت به الكفر والارتداد).
5- وسائل الشيعة: ج 28/340 ح 34906.
6- منتهى المطلب: ج 3/225.
7- تذكرة الفقهاء: ج 1/68، قوله: (حكم الشيخ بنجاسة المجبّرة والمجسّمة... والأقرب طهارة غير النّاصب).
8- نهاية الاحكام: ج 1/239، قوله: (حكم الشيخ بنجاسة المجبّرة والمجسّمة.. والوجه عندي الطهارة).

واستلزامه لإنكار الضروري، لا يوجب النجاسة، مع عدم الالتفات إلى اللّازم، وأنّه من الدِّين.

وأمّا نصوص التشبيه: فقرينة التفصيل بينه وبين التوصيف بالمكان، يكون المراد منها التشبيه المطلق لا مطلق التشبيه.

وما دلّ على أنّ مَنْ وصفه تعالى بالمكان، أو بوجهٍ من الوجوه فقد كفر، لا يدلّ على النجاسة، لما عرفت مراراً من عدم كون الكفر من حيث هو موضوعاًللنجاسة.

وما ذكره بعض الأعاظم(1): من أنّ الظاهر من التنزيل في هذه النصوص، بقرينة التفصيل، كونه بلحاظ أحكامه الخاصّة لا المشتركة، لم يعلم وجهه.

هذا، مع أنّه لو سُلّم دلالة بعض ما تقدّم على النجاسة، لا يدلّ عليها إلّافي المجسّمة حقيقةً ، وأمّا من يقول إنّه تعالى (جسمٌ لا كالأجسام) كما نُسب إلى هِشام بن الحكم - الذي هو من أجلّة أصحابنا ومتكلّميهم - فلا يدلّ شيءٌ منها على نجاسته.

فتحصّل: أنّ الأقوى طهارة المجسّمة، لا سيّما المجسّمة بالتسمية.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر حال الُمجبّرة، إذ لا دليل على نجاستهم، لأنّ النصوص الدالّة على أنّ القائل بالجبر كافرٌ، قد عرفت عدم دلالتها على النجاسة، واستلزامه لإنكار الضروري وهو الثواب والعقاب قد تقدّم أنّه لا يدلّ على النجاسة من حيثُ هو.

***).

ص: 122


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 1/389 (الكلام في المجسّمة والمجبّرة والقائلين بوحدة الوجود).
طهارة المخالفين

المسألة الخامسة: غير الاثني عشريّة من فرق الشيعة، بل من فرق المسلمين طاهرون كما هو المشهور شهرةً عظيمة(1).

وعن السيّد(2): القول بنجاستهم، وتبعه صاحب «الحدائق»(3).

واستدلّ للنجاسة:

1 - بالإجماع الذي ادّعاه الحِلّي على أنّ المخالف للحقّ كافر.

2 - وبجملة من النصوص الدالّة على كفرهم: كخبر أبي حمزة: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّ عليّاً عليه السلام بابٌ فتحه اللّه تعالى ، مَنْ دخله كان مؤمناً، ومن خرج عنه كان كافراً»(4). ونحوه غيره(5).

3 - وبأنّهم مُنكرون للضروري وهو الولاية.

4 - وبالنصوص الدالّة على أنّهم من النّواصب، بضميمة مادلَّ على نجاسة النّواصب(6).

5 - وبقوله تعالى : كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (7).

أقول: وفي الجميع نظر:

ص: 123


1- الحدائق الناضرة: ج 5/175 في حكم المخالفين قال: (المشهور بين متأخِّري الأصحاب هو الحكم بإسلام المخالفين وطهارتهم وخصّوا الكفر والنجاسة بالنّاصب).
2- حكاه عنه صاحب الحدائق: ج 5/176.
3- الحدائق الناضرة: ج 5/177،... إلى أن قال: (والمفهوم من الأخبار المستفيضة هو كفر المخالف الغير المستضعف ونصبه ونجاسته).
4- الكافي: ج 1/437 ح 8، وسائل الشيعة: ج 28/354 ح 34952.
5- دلَّ على ذلك عدّة روايات راجع وسائل الشيعة: ج 28/339 باب 10 من أبواب حَدّ المرتدّ (باب جملة ممّا يثبت به الكفر والارتداد).
6- الأبواب في ذلك كثيرة منها ما ورد في وسائل الشيعة: ج 1/218 باب 11 من أبواب الماء المضاف والمستعمل، وفي رواياته (أنّ النّاصب لنا أهل البيت شرٌ من الكافر وولد الزّنا...).
7- سورة الأنعام: الآية 125.

أمّا الإجماع: فلأنّه ادُّعي على كفرهم لا على نجاستهم، والنصوص الدالّة على كفرهم لا تدلّ عليها، إذ (الإسلام) يُطلق على معان:

أحدها: إظهار الشهادتين، ويشهد له موثّق سماعة، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أخبرني عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان ؟

فقال عليه السلام: إنّ الإيمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الإيمان.

فقلت: فصِفهما لي. فقال عليه السلام: الإسلام شهادة أن لا إله إلّااللّه، والتصديق برسول اللّه، به حُقِنت الدّماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهدي ، ومايثبتُفي القلوب من صفة الإسلام، و ما ظهر من العمل به»(1).

وفي صحيح حمران، عن ابن جعفر عليه السلام: «والإسلام ما ظَهَر مِنْ قولٍ أو فعلٍ ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها»(2).

ونحوهما غيرهما(3).

ثانيها: الإيمان بالشهادتين، الذي يُطلق على مَن اعتقد به المؤمن.

ثالثها: القائل بالولاية.

ويقابل الإسلامُ الكفر في الثلاثة، والموضوع للنجاسة هو الكفر المقابل للإسلام بالمعنى الأوّل، وأمّا المقابل له في الأخيرين، فلادليل على كونه موضوعاً لها.

وكونهم منكرين للضروري ممنوعٌ ، لعدم كون الولاية من ضروريّات الدِّين، نعم من علم بأنّها من الدِّين وأنكرها يكون نجساً.

أمّا ما دلّ على أنّهم من النّواصب، لا يدلّ على النجاسة، لما عرفت من أنّ ).

ص: 124


1- الكافي: ج 2/25 ح 1.
2- الكافي: ج 2/26 ح 5، بحار الأنوار: ج 65/250 ح 12.
3- الكافي: ج 2/25 باب (أنّ الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان).

النّاصب بقولٍ مطلق لا يكون نجساً، بل النّاصب لأهل البيت عليهم السلام نجس.

وأمّا الآية الشريفة: - فمضافاً إلى أنّ (الرِّجس) لم يثبت كونه بمعنى النجاسة - أنّ المؤمن يُطلق على معنيين:

الأوّل: المُقرّ بالولاية.

الثاني: المصداق لغيرها، كما تشهد له الآية: قالَتِ اَلْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ اَلْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) فلا تدلّ على نجاسة غير المُقر بالولاية.

فتحصّل: أنّه لا دليل على نجاستهم، فالمرجع إلى ما تقتضيه أصالة الطهارة، والنصوص الشّارحة للإسلام، فيحكم بطهارتهم.

وتدلّ عليها: - مضافاً إلى ذلك - النصوص الآتية الواردة في طهارة ما يُؤخذ من أيديهم، ممّا يعلم مباشرتهم له كالعصير الذي ذهب ثُلثاه وغيره.

***4.

ص: 125


1- سورة الحجرات: الآية 14.
حكم المشكوك إسلامه أو كفره

المسألة السادسة: مَنْ شُكّ في إسلامه وكفره، لا يترتّب عليه أحكام المسلم، لأنّ مقتضى استصحاب عدم الإسلام - الثابت له، لكون الإسلام أمراً وجوديّاً مسبوقاً بالعدم - كونه كافراً.

ودعوى: أنّ ذلك العدم ليس كفراً، لكونه من قبيل عدم الملكة، والعدم عمّا من شانه أن يكون مسلماً، ليس له حالة سابقة حال الصِّغر.

مندفعة: بأنّ هذا لا يوجب تعدّد المشكوك فيه والمتيقّن، بل هما شيءٌ واحد، غاية الأمرالعدم حال كونه متيقّناً، لم يكن ينطبق عليه الكفر، وفي حال كونه مشكوكاً فيه ينطبق عليه ذلك، وهذا لايوجب تعدّد الموضوع كي لايكون إبقائه استصحاباً.

وقد استدلّ لأصالة الإسلام:

1 - بحديث(1) الفطرة.

2 - وبالمرسل عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «الإسلام يَعلو ولا يُعلى عليه»(2) بدعوى أنّ المراد منه أنّه في كلّ مورد احتُمل الإسلام والكفر قُدِّم الإسلام.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الحديث: فلضعف سنده، مضافاً إلى ما ادّعاه صاحب «الجواهر» رحمه الله(3) في كتاب اللّقطة من إعراض الأصحاب عنه، فيُحمل على ما حمله عليه بعض

ص: 126


1- الكافي: ج 2/12 ح 4، وفيه: (كلّ مولود يولد على الفطرة يعني المعرفة)، وفي آخر دلَّ على أنّ كلّ مولود يولد على الفطرة، وفيه: (فأبواه اللّذان يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه) كما في الفقيه: ج 2/49 ح 1668، وسائل الشيعة: ج 15/125 ح 20130.
2- الفقيه: ج 4/334 ح 5719، وسائل الشيعة: ج 26/14 ح 32383.
3- جواهر الكلام: ج 38/182، قوله: (بل أعرض عنه الأصحاب كالمرسل عنه كلّ مولودٍ يولد على الفطرة حتّييكون أبواه... إلى أن قال: مضافاً إلى إجمال دلالته).

الأصحاب من أنّ كلّ مولودٍ لو بقي وصار مميّزاً يصبح مسلماً بالطبع، إلّاأن يمنع عن ذلك مانعٌ .

والمرسل: مضافاً إلى إرساله، غيرُ ظاهرٍ فيما ذكر.

فتحصّل: أنّ الأصل يقتضى الكفر، إلّاإذا كانت أمارة على الإسلام كأرض المسلمين وسوقهم، اللّتين عرفت في محلّه كونهما أمارة لكون من فيهما مسلماً.

***

ص: 127

التاسع: المُسْكِر
اشارة

والمُسْكِر.

نجاسة الخمر

(و) التاسع من النجاسات: (المُسْكِر) كما هو المشهور شهرةً عظيمة(1).

وعن السيّدين(2)، والشيخ(3)، والمحقّق(4): دعوى الإجماع عليه.

وعن الصدوق(5) وأبيه، والجُعفي(6) والعُمّاني(7) والأردبيلي(8) وغيرهم: العدم.

وتشهد للنجاسة: جملةٌ من النصوص:

منها: موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «ولا تصلّ في ثوبٍ قد أصابه خمر أو مسكر حتّى يغسل»(9).

ومنها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في النبيذ ما يبلُّ المِيل ينجسُ حِبّاً

ص: 128


1- حكى المشهور المحدِّث البحراني في الحدائق: ج 5/98 (الفصل السادس).
2- الناصريّات: ص 95، المسألة السادسة عشرة، الانتصار: ص 418.
3- المبسوط: ج 1/36، قوله: (والخمر نجس بلا خلاف أو كلّ مسكر عندنا حكمه حكم الخمر، وألحق أصحابنا الفقاع).
4- المعتبر: ج 1/424.
5- الفقيه: ج 1/73 قوله: (ولا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر، لأنّ اللّه عزّ وجلّ حرّم شربها ولم يحرّم الصّلاة في ثوبٍ أصابته) إلّاأنّه في المقنع: ص 36-37، قال: (وإن قطر خمر أو نبيذ في عجين فقد فسد).
6- حكاه عنه الشهيد الأوّل في ذكرى الشيعة: ج 1/114-115 (في ذكر الأعيان النجسة) ثمّ نقل عن الجُعفي القول بحليّة بعض الفقاع.
7- حكاه عنه غير واحدٍ من الأعلام منهم الشهيد في ذكرى الشيعة: ج 1/114، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 5/99.
8- زبدة البيان: ص 42، قوله: (وفي هذه الآية دلالة على تحريم سائر التصرّفات في الخمر... ولا دلالة فيها على نجاسة الخمر).
9- التهذيب: ج 1/278 ح 104، وسائل الشيعة: ج 3/470 ح 4203.

من ماء، يقولها ثلاثاً»(1).

ومنها: خبر زكريّا بن آدم: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن قطرة خمرٍ أو نبيذٍ مُسكرٍ قطرتْ في قِدرٍ فيه لحمٌ كثيرٌ ومرق كثير؟ قال عليه السلام: يُهراق المرق أو يُطعمه أهل الذمّة أو الكلب، واللّحم اغسله وكُله»(2).

ومنها: موثّق السّاباطي، عن الصادق عليه السلام: «في الإبريق وغيره يكون فيه خمر أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال عليه السلام: إذا غُسّل فلا بأس.

وقال في قدحٍ أو إناء يُشرب فيه الخمر، قال: تغسله ثلاث مرّات.

وسأله: أيُجزيه أن يصبّ فيه الماء؟ قال عليه السلام: لا يجزيه حتّى يدلكه بيده ويغسل ثلاث مرّات»(3). ونحوها غيرها.

وقيل: إنّ مجموعها يقرُب من عشرين حديثاً.

أقول: وبإزائها جملةٌ من النصوص ظاهرة في الطهارة، قال الشيخ الأعظم قدس سره في طهارته(4): إنّها تبلغ اثنى عشر:

منها: صحيح علي بن رئاب: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخمر والنبيذ المسكر يُصيب ثوبي أغسله أو اُصلّي فيه ؟

قال عليه السلام: صَلِّ فيه إلّاأن تقذره فتغسل منه موضع الأثر، إنّ اللّه تعالى إنّما حَرّم شربها»(5).0.

ص: 129


1- الكافي: ج 6/413 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/470 ح 4202.
2- الكافي: ج 6/422 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/470 ح 4204.
3- الكافي: ج 6/427 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/494 ح 4272.
4- كتاب الطهارة: ج 2/360 (ط. ق)، ثمّ قال: (والأخبار محمولة على التقيّة من اُمراء الوقت والوزراء وجُهّال بني اُميّة وبني العبّاس كما عن حبل المتين... الخ).
5- وسائل الشيعة: ج 3/472 ح 4210.

ومنها: مصحّح ابن أبي سارة: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنْ أصابَ ثوبي شيءٌ من الخمر أُصلّي فيه قبل أن أغسله ؟ قال: لا بأس إنّ الثوب لا يُسكر»(1).

ومنها: خبر حفص الأعور: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام الدِّن يكون فيه الخمر، ثمّ يُجفّف ويُجعل فيه الخلّ؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

ونحوها غيره.

أقول: وذكروا في مقام العلاج وجوهاً:

الوجه الأوّل: أنّ الجمع العرفي يقتضي حَمل الأُولى على الاستحباب.

وفيه: إنّ هذا ليس جمعاً عرفيّاً، إذ نصوص النجاسة كالصريحة في النجاسة، لا يمكن حملها على الاستحباب، لاحظ خبري زكريّا وأبي بصير المتقدّمين.

الوجه الثاني: تقديم نصوص النجاسة، لموافقتها مع الكتاب، وهو قوله تعالى :

إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ (3) .

وقد ذكر العلّامة رحمه الله في «المختلف»(4) وجهين لدلالته على نجاسة الخمر: قوله تعالى : رِجْسٌ ، وقوله: فَاجْتَنِبُوهُ .

وفيه: أنّ (الرِّجس) لم يثبت كونه بمعنى النجس، كما مرّ غير مرّةٍ ، بل بما أنّه اُسند إلى شُرب الخمر، كما يشهد له عطف (الميسر) عليها، وقوله تعالى : مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ ، فلا محالة اُريد منه الحرمة لا النجاسة، كما لا يخفى ، فالآية الشريفة لا تدلّ على النجاسة.

الوجه الثالث: تقديم نصوص النجاسة لمخالفتها لعمل اُمراء ذلك الوقت،0.

ص: 130


1- التهذيب: ج 1/280 ح 109، وسائل الشيعة: ج 3/471 ح 4206.
2- الكافي: ج 6/427 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/495 ح 4273.
3- سورة المائدة: الآية 90.
4- مختلف الشيعة: ج 1/470.

ولمذهب ربيعة الرأي، الّذي هو من مشايخ مالك، وكان معاصراً للصادقين عليهما السلام.

وفيه: أنّ مخالفته العامّة الّتي هي من المرجّحات، هي مخالفة فتاوى علمائهم، لا عمل سلاطينهم، ومجرّد الموافقة لمذهب ربيعة مع المخالفة لمذهب غيره ليس من المرجّحات.

الوجه الرابع: ما قيل من تقديم نصوص الطهارة لمخالفتها لمذهب العامّة، ولكنّه ضعيفٌ لما مرّ.

الوجه الخامس: أنّه لأشهريّة نصوص النجاسة فتوى، تُقدّم علينصوص الطهارة.

وفيه: أنّها ليست من المرجّحات، فتأمّل.

والتحقيق: أنّه لو لم يكن في النصوص ما يكون دليلاً على تقديم نصوص النجاسة، كان المتعيّن أن يُقال: إنّه بما أنّ نصوص الطهارة على طائفتين:

الأُولى : ما دلّ على أنّ إناء الخمر لا ينجّس الماء وغيره، كخبر حفص المتقدّم.

الثانية: ما دلّ على صحّة الصّلاة مع الثوب الذي أصابه الخمر.

فالجمع بينهما وبين نصوص النجاسة يقتضي حمل الأُولى على إرادة بيان عدم تنجيس المتنجّس، والثانية على أنّ الخمر نجسة معفوّ عنها كالدّم الأقلّ من الدرهم، ودم القروح والنجاسات في حال الضرورة، ولا يلزم محذور، ويكون ذلك أخذاً بهما.

أقول: لكن صحيح علي بن مهزيار، قال:

«قرأتُ في كتاب عبد اللّه بن محمّد إلى أبي الحسن عليه السلام: جُعلتُ فداك! روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام في الخمر تُصيب ثوب الرّجل، أنّهما قالا: لا بأس بأن يُصلّي فيه، إنّما حَرُم شربها. وروى غَير زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: إذا أصاب ثوبك خمرٌ أو نبيذ - يعني المُسْكِر - فاغسله إنْ عرفتَ موضعه، وإنْ

ص: 131

لم تعرف موضعه، فاغسله كلّه، وإنْ صلّيت فيه فأعد صلاتك، فأعلمني ما آخذ به ؟

فوقّع عليه السلام بخطّه وقرأته: خُذ بقول أبي عبد اللّه عليه السلام»(1).

وخبر خيران الخادم، قال: «كتبتُ إلى الرّجل أسأله عن الثوب يُصيبه الخَمر ولحم الخنزير، أيُصلّى فيه أم لا؟ فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم صَلِّ فيه، فإنّ اللّه تعالى إنّما حَرّم شربها، وقال بعضهم لا تُصلِّ فيه ؟

فكتب عليه السلام: لا تُصلِّ فيه، فإنّه رجس»(2).

يدلّان على تحقّق المعارضة بين نصوص الطهارة، وطائفةٌ من نصوص النجاسة، وهي الناهية عن الصّلاة في الثوب الذي أصابته الخمر - وإنْ كان في دلالتها على النجاسة تأمّل - وتقديم تلك النصوص على نصوص الطهارة، وعليه فلا مجال للعمل بها.

أقول: وبما ذكرناه ظهر تماميّة ما ذكره بعض الأعاظم، من دلالة الروايتين على أنّ التعارض بين روايتي الطهارة والنجاسة مستحكمٌ ، على نحوٍ لا مجال للجمع العرفي بينهما، وأنّ الترجيح لرواية النجاسة.

فتحصّل: أنّ الأقوى نجاستها، وعدم صحّة الصّلاة في الثوب الذي أصابها، ومورد أغلب النصوص وإنْ كان هو الخمر والنبيذ، إلّاأنّه يثبت الحكم في كلّ مُسكرٍ:

1 - لإطلاق موثّق عمّار المتقدّم.

2 - ولصحيح ابن حنظلة: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما ترى في قدح من مُسكر يصبّ عليه الماء حتّى تذهب عاديته ؟7.

ص: 132


1- الكافي: ج 3/407 ح 14، وسائل الشيعة: ج 3/468 ح 4198.
2- الكافي: ج 3/405 ح 5، وسائل الشيعة: ج 3/418 ح 4037.

فقال: لا واللّه، ولا قطرة قطرت في حِبّ إلّااُهريق ذلك الحِب»(1).

فالأقوى ثبوت نجاسة كلّ مُسكر كما هو المشهور، بل لا خلافٍ فيه.

أقول: وبما ذكرناه ظهر أنّ مقتضى الأدلّة عدم الفرق بين المسكر المايع بالأصالة، والجامد، كالبنج لإطلاق الموثّق والصحيح، ولكن بما أنّ الإجماع قام على عدم نجاسة الثاني، يقيّد به إطلاق الخبرين، وهذا هو الوجه في الحكم بعدم نجاسته، لا ما ذكره بعض الأعاظم من المحقّقين(2) من عدم الدليل على نجاسة كلّ مُسكر، إذ ما يتوهّم إطلاقه:

إمّا أن يكون قوله عليه السلام في خبر علي بن يقطين: «فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر».

أو قوله عليه السلام في خبر عطاء: «كلّ مُسكرٍ خمر».

واختصاص الأوّل بإرادة التشبيه من حيث الحرمة واضحٌ .

وأمّا الثاني، فهو منصرفٌ إليها، لأنّ الحرمة من أظهر أوصاف الخمر دون النجاسة، ولذا وقع الاختلاف فيها.

إذ يرد عليه: - مضافاً إلى أنّ مقتضى إطلاق التنزيل، ثبوت النجاسة له - أنّه يكفي لثبوت النجاسة لكلّ مُسكرٍ الخبران المتقدّمان، فإذاً لا وجه للحكم بعدمها سوى الإجماع.

***).

ص: 133


1- الكافي: ج 6/410 ح 15، وسائل الشيعة: ج 25/341 ح 32074.
2- ذكر ذلك السيّد الخوئي قدس سره في معرض بيان دلالة خصوص الصحيحة كما في كتاب الطهارة: ج 2/97، بقوله: (وقد دلّت الصحيحة على نجاسة خصوص المسكر منه، ولا دلالة لها على المدّعى، وهو نجاسة كلّ مُسكر وإن لم يتعارف شربه).
في نجاسة العصير العنبي وعدمها
اشارة

ألحق المشهور بالخمر العصير العنبي إذا غَلى ، والكلامُ فيه يقع في مقامين:

في نجاسته

الأوّل: في نجاسته.

الثاني: في حرمته.

أمّا الأوّل: فعن محكيّ «المختلف»(1): ذهب أكثر العلماء إلى النجاسة مطلقاً، وعن المحقّق الثاني في «جامع المقاصد»(2) عن «المختلف»: نسبتها إلى المشهور.

وعن جماعةٍ : نفيها.

وعن أبي حمزة(3): التفصيل بين ما إذا غَلى بنفسه فنجسٌ ، وبين ما إذا غلى بالنّار فلا.

وعن ابن إدريس(4) والمحقّق(5) والمصنّف(6) والفاضل المقداد(7): إثباتها مع الاشتداد.

بل ظاهر كلامهم أنّها مع الاشتداد لا خلاف فيها ولا كلام.

أقول: ولكن الصحيح أنّ العصير إذا كان مُسكراً يكون نجساً وإلّا فلا، وأنّ هذا هو المعروف بين الأصحاب، بل لم يُعرف القائل بالنجاسة مع عدم الإسكار، لأنّ

ص: 134


1- مختلف الشيعة: ج 1/469.
2- جامع المقاصد: ج 1/162.
3- الوسيلة لابن حمزة الطوسي: ص 365 (فصل: في بيان أحكام الأشربة).
4- السرائر: ج 1/178-179.
5- المعتبر: ج 1/424.
6- التذكرة: ج 1/65 حيث استشكل بقوله: (وهل ينجس بالغليان أو يقف على الشدّة ؟ إشكال)، إرشاد الأذهان: ج 1/239، قوله: (والعصير إذا غَلى واشتدّ)، منتهى المطلب: ج 1/167، قوله: (حكم العصير إذا غَلى واشتدّ حكم الخمر ما لم يذهب ثُلثاه).
7- حكاه عنه السيّد الطباطبائي في رياض المسائل: ج 12/205.

الحلبيّين الأربعة القائلين بالنجاسة مع الإشتداد، أرادوا به الإسكار، وإرادته منه غير عزيزة.

قال صاحب «مجمع البيان»(1): في تفسير قوله تعالى : إِنَّمَا اَلْخَمْرُ :(2)

(اللّغة الخمر عصير العنب المشتدّة، وهو العصير الذي يُسكر كثيره...).

وعن العلّامة في رهن «التذكرة»(3): (الخمر قسمان: خمرٌ محترمة، وهي التي اتّخذ عصيرها ليصير خلّاً، وإنّما كانت محترمة لأنّ اتّخاذ الخَلّ جائزٌ إجماعاً، والعصيرُ لا ينقلب إلى الحموضة إلّابتوسّط الشدّة).

ونحوه ما عن «المسالك»(4).

وعن ابن إدريس في «السرائر»(5): (الخمرُ مجمعٌ على تحريمها، وهو عصيرُ العنب الذي اشتدّ وأسكر...

إلى أن قال: وإذا انقلب خلّاً، زالت الشدّة وعاد طاهراً).

ونحو هذه الكلمات غيرها.

وبالجملة: لا ينبغي الترديد في أنّ مراد هؤلاء العلماء الأعاظم، هو ما ذكرناه.

وبه يظهر ما في كلمات من تأخّر عنهم، الواردة في مقام تفسير كلامهم، وبيان الشدّة التي أخذوها قيداً للنجاسة:

1 - فعن جماعة منهم(6): أنّ المراد باشتداده أوّل أخذه في الثخانة، وهو لازم الغليان.).

ص: 135


1- مجمع البيان: ج 2/239.
2- سورة المائدة: الآية 90.
3- ذكر ذلك في موردين من تذكرة الفقهاء: ج 13/137 مسألة 17 وص 205 مسألة 151.
4- مسالك الأفهام: ج 12/63-74.
5- السرائر: ج 3/474.
6- كما في روض الجنان للشهيد الثاني: ص 164 (ط. ق).

ووجّه هذا التفسير في محكيّ «شرح الروضة»: (أنّه لما لم يكن قيد الاشتداد في شيءٍ من الأخبار، حُمل كلام الأصحاب على ما يوافقها، ولا يمكن إلّابحمل الاشتداد على ما يلازم الغليان).

وفيه: إنّ هذا التفسير مخالفٌ لصريح كلماتهم، لاحظ ما ذكره صاحب «كنز العرفان»(1)، بقوله: (العصيرُ من العنب قبل غليانه طاهرٌ حلالٌ ، وبعد غليانه واشتداده نجس حرام، وذلك إجماعُ فقهائنا، وأمّا بعد غليانه وقبل اشتداده فحرامٌ إجماعاً منّا).

ونحوه عن «المعتبر»(2)، و «التذكرة»(3)، و «السرائر»(4)، وعليه فلا يمكن حمل كلماتهم على ذلك.

2 - وعن جماعةٍ آخرين(5): أنّ المراد به الثخانة المحسوسة، المنفكّة عن الغليان.

أقول: وحيثُ أنّ هذا القيد لم يُذكر في الأخبار، ولا في كلمات علمائنا الأبرار، وهؤلاء الأعاظم بناؤهم على الاستدلال لكلّ ما يفتون به، ومع ذلك لم يذكروا دليلاً لأخذهم هذا القيد، فقد ذهب صاحب «المعالم» رحمه الله إلى أنّ ذكر هذا القيد غفلة منهم، وما المعصوم إلّامن عَصَمه اللّه، ولكنّك ترى بأنّ إضافة مثل هذا القيد مع هذه الخصوصيّات غفلة لا تُحتمل في حقّهم.

والشيخ الأعظم رحمه الله(6) استدلّ له: بأنّه لا دليل على نجاسة العصير سوى موثّق1.

ص: 136


1- نسبه إليه في مصباح الفقيه (ط. ق): ج 1/550.
2- المعتبر: ج 1/424.
3- تذكرة الفقهاء: ج 1/65.
4- السرائر: ج 3/129.
5- منهم الفاضل الهندي في كشف اللّثام (ط. ق): ج 1/47، جامع المقاصد: ج 1/162، مدارك الأحكام: ج 2/292.
6- تاب الطهارة (ط. ق): ج 2/361.

معاوية(1)، المتضمّن لجوابه عليه السلام بعد السؤال عن العصير الذي يشرب صاحبه على النصف بأنّه: (خمرٌ لا تشربه)، وهو مختصٌّ بما ثَخُن كما لا يخفى ، فيقتصر في الحكم بالنجاسة على ما دلَّ عليه الدليل، وهو النجاسة مع الثخانة والقوام.

أقول: ولكن الذي يرد على هذا التوجيه، ما عن «الحدائق»(2) وغيره، من أنّ أوّل من تمسّك بهذا الحديث هو الأمين الاسترابادي، وقبله لم يستدلّ أحدٌ به، فلا يحتمل اعتمادهم في اعتبار القيد المزبور إلى ذلك.

فتحصّل: أنّ الجمع بين كلماتهم يقتضي أن يُقال إنّ مرادهم بالاشتداد هو الإسكار، وعليه فيتمّ ما في كنز العرفان، من دعوى الإجماع على نجاسة العصير معه، إذ قد عرفت أنّه لا خلاف يعتدّ به في نجاسة الخمر والمسكر.

كما أنّه يكون أخذهم هذا القيد معتمداً على الدليل، والوجه الواضح الذي لا يحتاج إلى البيان.

أمّا النجاسة: فقد استدلّ لها بوجوه:

الوجه الأوّل: الشهرة المحكيّة عن جماعةٍ (3)، بل عن «كنز العرفان»(4): دعوى الإجماع عليها.

أمّا الإجماع: المدّعى في «كنز العرفان»، فقد عرفت ما فيه، وأنّه إنّما يدّعي الإجماع على النجاسة مع الإسكار لا مطلقاً، ونجاسته معه لا كلام فيها، ولا خلاف.

وأمّا الشهرة: فمضافاً إلى عدم حجّيّتها، قد عرفت أنّ أصلها ما ذكره المحقّق).

ص: 137


1- التهذيب: ج 9/122 ح 261.
2- الحدائق الناضرة: ج 5/123-124.
3- الحدائق الناضرة: ج 5/128، قوله: (ثمّ إنّ الظاهر من كلامهم أنّ القول بالنجاسة هو المشهور).
4- كنز العرفان: ج 1/53، قوله: (العصير من العنب قبل غليانه طاهرٌ حلال، وبعد غليانه واشتداده نجسٌ حرام وذلك إجماع من فقهائنا، أمّا بعد غليانه وقبل اشتداده فحرامٌ إجماعاً منّا).

الثاني(1) من حكاية نسبة القول بالنجاسة إلى المشهور عن «المختلف»(2)، مع أنّه ينسب إلى أكثر العلماء، مع أنّ ظاهر كلامه وإنْ كان نسبته إلى أكثر العلماء، إلّاأنّه بواسطة قرائن لا مناص على صرفه عن ظاهره حيث قال: (الخمر وكلّ مُسكر والفقّاع والعصير إذا غَلى قبل ذهاب ثُلثيه بالنّار أو بنفسه، نجسٌ ، ذهب إليه أكثر علمائنا، كالشيخ المفيد، والشيخ أبي جعفر، والسيّد المرتضى ، وأبي الصلاح، وسلّار وابن إدريس.

إلى أن قال: لنا وجوه: الأوّل الإجماع على ذلك، فإنّ السيّد المرتضى قال: لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر. وقال الشيخ: الخمر نجسة بلا خلاف، وكلّ مُسكرٍ عندنا حكمه حكم الخمر، وألحق أصحابنا بذلك الفقاع، وقول السيّد المرتضى والشيخ حجّة في ذلك.

إلى أن قال: الثاني قوله تعالى : إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ ...(3)

إلى أن قال: الثالث الروايات، مثل قول الصادق عليه السلام في رواية(4) عمّار الساباطي: «لا تُصلِّ في ثوبٍ أصابه خمرٌ أو مُسكر حتّى يُغسَل».

ثمّ ذكر احتجاج ابن عقيل والصدوق على طهارة الخمر.

أقول: ولا أظنّ أن يشكّ أحدٌ بعد التدبّر في هذا الكلام صدراً وذيلاً - بواسطة نسبة الخلاف إلى العَلَمين اللّذين هما مخالفان في نجاسة الخمر، واختصاص الوجوه الثلاثة المذكورة دليلاً لما حُكم به، ونسبته إلى أكثر الأصحاب، وأنّ الجماعة الذين نُسب إليهم لم يعهد منهم القول بنجاسة العصير، إذا لم يُسكر، ولم يفتوا به في كتبهم،3.

ص: 138


1- جامع المقاصد: ج 1/162.
2- مختلف الشيعة: ج 1/469-470.
3- سورة المائدة: الآية 90.
4- التهذيب: ج 1/278 ح 104، وسائل الشيعة: ج 3/470 ح 4203.

وغير ذلك من القرائن - في تعيّن التصرّف في كلامه قدس سره:

إمّا بأنْ يُقال: إنّ مراده ذهاب أكثر العلماء إلى نجاسة الخمر وغرضه إثباتها.

أو بأنْ يُقال: إنّ قوله: (بالنّار) أو بعد قوله: (ذهاب ثُلثيه) زائدٌ، فتدبّر.

فتحصّل: أنّه مضافاً إلى أنّه لا إجماع على النجاسة، لا قائل بها إلّاشاذٌّ لا يُعتنى به.

الوجه الثاني: إطلاق الخمر عليه في كلمات فقهاء الخاصّة والعامّة، بل عن «المهذّب البارع»(1): أنّ اسم الخمر حقيقةٌ في عصير العنب إجماعاً.

وتشهد له: بعض النصوص:

منها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: الخمر من خمسة: العصير من الكرم... إلى آخره»(2).

ونحوه غيره، وحيثُ أنّ نجاسة الخمر مطلقاً لا ريب فيها، فلابدَّ من الحكم بنجاسة العصير.

وفيه: أمّا كلمات الفقهاء فإنّما هي للإشارة إلى أنّ المختار عندهم في ما وقع الخلاف فيه من أنّ الخمر هل هي اسمٌ لخصوص مُسكر خاص، وهو العصير الذي صار مُسكراً، أو كلّ مسكرٍ هو الأوّل، كما أنّ الإجماع المُدّعى إشارة إلى أنّ العصير الذي أسكر خمرٌ على كلا القولين، ولا تدلّ هذه الكلمات والإجماع على أنّ العصير الذي لا يُسكر نجسٌ ، مع بداهة أخذ الإسكار في مفهوم الخمر.

وأمّا النصوص: فإنّمايدلّ على أنّ الخمر تُؤخذ من العصير، لا أنّ كلّ عصيرٍ خمر.

الوجه الثالث: تلازم غليان العصير للإسكار.7.

ص: 139


1- المهذّب البارع: ج 5/79.
2- الكافي: ج 6/392 ح 1، وسائل الشيعة: ج 25/279 ح 31907.

وفيه: أنّ ذلك منافٍ للحسّ .

الوجه الرابع: صحيح معاوية بن عمّار: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبُختَج، ويقول: قد طُبخ على الثُّلث، وأنا أعرف أنّه يشربُ على النصف، أفأشربه بقوله، وهو يشربه على النصف ؟

فقال عليه السلام: خمرٌ لا تشربه». الحديث، هكذا رُوي عن «التهذيب»(1).

ومقتضى إطلاق التنزيل، ثبوت النجاسة الّتي هي من أحكام الخمر للبُختَج الذي هو العصير المطبوخ.

وفيه أوّلاً: أنّ الحديث مرويٌّ عن جميع نسخ «الكافي»(2)، أمّا بعض نسخ «التهذيب» فخالية عن لفظة (خمر)، ولأجل كون الكليني أضبط، والمرويّ عن الشيخ مختلفٌ ، وكثرة الخلل في ضبط «التهذيب»، فإنّه لا مجال للاعتماد على أصالة عدم الزيادة المقدّمة على أصالة عدم النقيصة عند التعارض بينهما، كما لا يخفى .

وثانياً: أنّ الظاهر من التنزيل بقرينة السؤالين والجوابين المذكورين في الخبر، إرادة التنزيل من حيث الحرمة خاصّة.

وثالثاً: أنّه إنّما يكون في مقام جعل الحكم الظاهري، حيث أنّ ظاهره أنّ حرمة العصير قبل ذهاب الثلثين وحليّته بعده كانتا معلومتين عنده، والسؤال إنّما عن صورة الشكّ ، فليس في مقام بيان الحكم الواقعي، حتّى يتمسّك بإطلاقه.

ووجه التشبيه بالخمر، هو أنّ العصير المطبوخ قبل ذهاب ثُلثيه لو تُرك يَغلي بنفسه سريعاً ويُسكر، فيكون خمراً، وهو الذي يُسمّى بالباذق، وهو معرّب (باده) المعدود من أسماء الخمر، فتدبّر جيّداً.7.

ص: 140


1- التهذيب: ج 9/122 ح 261.
2- الكافي: ج 6/421 ح 7.

الوجه الخامس: النصوص الدالّة على أنّه لا خير في العصير:

منها: مرسل محمّد بن الهيثم، عن رجلٍ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

«سألته عن العصير يُطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته، أيشربه صاحبه ؟

فقال: إذا تغيّر عن حاله وغَلى، فلا خير فيه حتّى يذهب ثُلثاه ويبقى ثُلثه»(1).

ونحوه غيره، بدعوى أنّ نفي الخير فيه بقول مطلق يدلّ على نجاسته.

وفيه: إنّ قوله: (لا خير فيه) اُريد منه عدم ترتّب الأثر المترقّب منه، وهو الشرب عليه.

الوجه السادس: النصوص(2) المتضمّنة لنزاع آدم ونوح مع إبليس، وأنّ الثُّلث لآدم ونوح والثلثين لإبليس لعنه اللّه، الواردة في أصل تحريم الخمر، الدالّة على أنّ تلك الواقعة منشأتحريم الخمر، فإنّها تدلّ على أنّ العصير إذا غلى حُكمه حُكم الخمر.

وفيه: أنّ دلالة تلك النصوص على أنّ العصير إذا غَلى يُشارك الخمر في الحرمة، وأنّ حرمته حرمة خمريّة، وإنْ كانت لا تنكر، إلّاأنّ النجاسة التابعة لصدق اسم الخمر لا لحرمتها لا تثبت بها.

الوجه السابع: موثّق عمر بن يزيد، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يَهدي إلى البُختَج من غير أصحابنا؟ فقال عليه السلام: إنْ كان ممّن يستحلّ المُسكر فلا تشربه، وإنْ كان ممّن لا يستحلّ فاشربه»(3).

فإنّ التعبير عمّا لم يذهب ثُلثاه بكون من أهداه مستحلّاً للمُسكر، يدلّ على أنّه في حكم المُسكر، وإلّا لما صحّ هذا التعبير الكنائي.7.

ص: 141


1- الكافي: ج 6/419 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/285 ح 31919.
2- الكافي: ج 6/393 ح 1.
3- الكافي ج 6 ص 420 ح 4 / وسائل الشيعة: ج 25 ص 292 ح 31937.

وفيه: إنّ سرّ التعبير عنه بذلك، يمكن أن يكون لأجل أنّ العصير إذا لم يذهب ثُلثاه يتسارع إليه الإسكار، فيصير مُسكراً لا أنّه بحكمه.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا دليل على نجاسة العصير إذا غَلى، ما لم يصر مُسكراً، فالأقوى طهارته.

***

ص: 142

حُرمة العصير العنبي

وأمّا المقام الثاني: فلا ريب في حرمة العصير إذا غلى بنفسه أو بالنّار، ولا خلاف فيها.

وتشهد لها: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «العصير إذا طبخ حتّى يذهب ثُلثاه ويبقى ثُلثه فهو حلال»(1).

ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «كلّ عصيرٍ أصابته النّار فهو حرام، حتّى يذهب ثُلثاه ويبقى ثُلثه»(2).

ومنها: صحيح حمّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا يحرم العصير حتّى يغلي»(3).

ومنها: خبره الآخر: «سألته عن شُرب العصير؟ قال عليه السلام: يشرب ما لم يغل، وإذا غَلى فلا تشربه.

قلت: أيّ شيء الغليان ؟ قال عليه السلام: القلب»(4).

ومنها: موثّق ذريح، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا نشّ العصير وغَلى حَرُم»(5).

ونحوها غيرها.

أقول: إنّما الكلام يقع في حَدّ الحرمة:

1 - وأنّه هل يكون ذهاب الثُّلثين موجباً للحليّة مطلقاً سواءٌ أكان الغليان بنفسه أو بالنّار.

ص: 143


1- الكافي: ج 6/420 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/277 ح 31903.
2- الكافي: ج 6/419 ح 1، وسائل الشيعة: ج 25/282 ح 319113
3- الكافي: ج 6/419 ح 1، وسائل الشيعة: ج 25/277 ح 31902.
4- الكافي: ج 6/419 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/287 ح 31926.
5- الكافي: ج 6/419 ح 4، وسائل الشيعة: ج 25/287 ح 31927.

2 - أو يكون العصير الذي غَلى بنفسه حراماً إلى أن يعود خلّاً، والذي غَلى بالنار حراماً إلى أن يذهب ثُلثاه ؟

نُسب الأوّل إلى المشهور(1) والثاني إلى أبي حمزة(2)، ولكن القائل بالثاني لا ينحصر به، بل الشيخ رحمه الله في «النهاية»(3)، والحلّي في «السرائر»(4)، والقاضي نعمان المصري في «دعائم الإسلام»(5)، وابن البرّاج في «المهذّب»(6)، والشهيد في «الدروس»(7)، وابن بابويه والد الصدوق في «الرسالة»(8) جميعاً ذهبوا إلى هذا التفصيل، وهو الأقوى :

وذلك لأنّ النصوص المتضمّنة للتحديد، كلّها واردة في تحديدحُرمة المغليّ بالنار، ولم يرد شيءٌ منها في تحديد المغليّ بنفسه أو مطلق المغليّ ، والنصوص الدالّة على تحريم العصير بالغليان - الظاهرة باعتبار استناد الغليان إلى العَصير من دون ذكر السّبب في حدوثه فيه بنفسه - غير مغيّاة بذهاب الثُّلثين، ولعلّ السرّ فيه أنّ العصير إذا غَلى بنفسه أو بالشمس يصيرُ مُسكراً، لا سيّما إذا سكن كما صرّح بذلك جملةٌ من أئمّة اللّغة والفقه(9)، ويشير إليه ما دلّ من النصوص على أنّ النقيع إذا مضىفي

ص: 144


1- راجع مفتاح الكرامة: ج 2/30.
2- الوسيلة: ص 365.
3- النهاية: ص 591.
4- السرائر: ج 3/129.
5- دعائم الإسلام: ج 2/127-128 من كتاب الأشربة، فصل (ذكر ما يحلّ شربه وما لا يحلّ ).
6- المهذّب: ج 2/433.
7- الدروس: ج 3/16.
8- فقه الرضا: ص 280.
9- حكى غير واحد من الاعلام المتأخّرين عن شيخ الشريعة الأصفهاني قدس سره نسبة هذا القول إلى جملة من الفقهاءالمتقدّمين، وأنّ هذا كان مسلّماً عندهم. وبالتأمّل في كلمات القدماء فإنّ بعضهم صرّح بهذا الفرق كابن حمزة في الوسيلة: ص 365، وبعضهم يستظهر منه ذلك كما أشار إليه الشهيد الثاني في اللُّمعة ج 9 ص 197، وبعضهم الآخر صرّح بخلاف ذلك أي بعدم الفرق بين الغليان بنفسه أو بالنار كابن فهد الحلّي في المهذّب: ج 5/80 وغيره.

عليه ليلةً في الصيف يصبحُ مُسكراً، وهذا بخلاف ما إذا غَلى بالنّار، فإنّه لا يعرضه الإسكار بالغليان، ولا بعدما سكن إذا ذهب ثُلثاه.

وعليه، فلو غَلي بنفسه أو بالشمس بعد ذهاب ثلثيه يكون مُسكراً، فلا وجه لحلّيّته.

نعم، إذا عاد خلّاً يصيرُ حلالاً، لما دلّ من النصوص على أنّ الخمر أو المُسكر إذا صار خَلّاً يعود حلالاً، ويشير إلى ما ذكرناه خبر عمّار:

«وصف لي أبو عبد اللّه عليه السلام المطبوخ كيف يُطبخ، حتّى يصير حلالاً:

فقال: تأخذ رُبعاً من زبيبٍ ثمّ تصبّ عليه اثني عشر رِطْلاً من ماء، ثمّ تقنعه ليلةً ، فإذا كان أيّام الصيف وخشيتَ أن ينشّ ، فاجعله في تنورٍ مسجور قليلاً حتّى لا ينشّ ...

إلى أن قال: ثمّ تغليه بالنّار، فلاتزال تغليه حتّى يذهب الثُّلثان، ويبقى الثُّلث»(1).

فإنّه لو لم يكن العصير الّذي غَلى بنفسه ونشّ ، لا يُحلّله ذهاب ثُلثيه، لم يكن وجهٌ لما علّمه عليه السلام بجعله في التنور لئلّا ينشّ بنفسه، كما لا يخفى .

فإنْ قلت: إنّ ما ذكرت وإنْ كان تامّاً، ولكن ينافيه ويردّه خبر زيد النرسي الذي ذكره صاحب «الجواهر»(2)، والشيخ الأعظم(3) وهو أنّه:

روى زيدٌ عن الإمام الصادق عليه السلام في الزبيب: «يُدقّ ويُلقى في القدر، ويُصبّ عليه الماء؟

فقال عليه السلام: حرامٌ حتّى يذهب ثُلثاه.2.

ص: 145


1- وسائل الشيعة: ج 25/289 ح 31930.
2- جواهر الكلام: ج 6/34.
3- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/362.

قلت: الزبيب كما هو يُلقى في القِدر؟ قال عليه السلام: هو كذلك إذا أدّت الحلاوة إلى الماء، فقد فَسَد كلّ ما غَلى بنفسه أو بالنّار، فقد حَرُم حتّى يذهب ثُلثاه»(1).

ودعوى(2): أنّ زيد النرسي مجهولٌ ، لم يُنصَّ عليه بمدحٍ . وأمّا رواية ابن أبي عُمير عنه فلا تدلّ على وثاقته، لأنّ ما قيل إنّ لا يُنقل إلّاعن ثقة اُريد به الوثاقة في خصوص ذلك الخبر، ولو بواسطة القرائن.

مندفعة: بأنّ ابن الغضائري(3) وشيخ الطائفة نقلا أنّ كتاب زيد النرسي الذي نُقل عنه هذا الخبر، رواه بن أبي عُمير عنه، فعلى فرض تسليم أنّ المراد من أنّ ابن عمير (لا يَروي ولا يُرسل إلّاعن ثقة) هو الوثاقة في خصوص الخبر، لكن بما أنّ كتابه هذا رواه ابن أبي عمير، تكون جميع نصوصه موثّقات، ومنها هذا الخبر.

هذا فضلاً عن أنّ دعوى روايته عن الضعفاء ممنوعة جدّاً، فروايته عن النرسي مع اكثاره عنه تدلّ على وثاقته.

وبما ذكرناه اندفع إشكالٌ آخر(4)، وهو أنّ ابن الوليد كان يقول: (إنّ كتابَي زيد النرسي وزيد الزرّاد موضوعان، وكذلك كتاب خالد بن عبد اللّه بن سُدير، وكان يقول: وَضَع هذه الاُصول الهمداني المعروف بالسمّان.

قلت أوّلاً: إنّ زيداً وإنْ علمنا وثاقته واعتبار أصله، إلّاأنّ الكلام في أنّ النسخة العتيقة التي وجدت في زمن العلّامة المجلسي رحمه الله هل هي ذلك الكتاب، وهو محلّ إشكال، لا سيّما أنّه حُكي عن «البحار» أنّه كانت النسخة مصحّحة بخطّ الشيخ منصور بن الحسن الآبي، وهو نقله من خطّ محمّد بن الحسن القُمّي، وكان0.

ص: 146


1- المستدرك: ج 17/38 ح 20776.
2- الحدائق الناضرة: ج 5/148.
3- راجع رجال ابن الغضائري: ج 3/84.
4- مستند الشيعة: ج 15/220.

تاريخ كتابتها سنة أربع وسبعين وثلثمائة، ومنصور مجهولٌ ، إذ المنصور الذي وثّقه الرجاليّون هو من كانت ولادته في خمس وثمانين وثلاثمائة. مضافاً إلى أنّه منصور ابن الحسين لا منصور بن الحسن، ولعلّه لذلك لم يرو عنه شيخنا الحُرّ، برغم امتلاكه النسخة وكتابته لها بخطّه على ما حكى عنه السيّد صدر الدِّين العاملي.

وثانياً: إنّ الخبر على ما نقل عن صاحب «المستند»(1)، والعلّامة الطباطبائي(2)، والعلّامة المجلسي(3) في (أطعمة البحار) ليس كما نُقل، بل ضبطه عندهم أنّه:

«سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الزبيب يُدقّ ويُلقى في القِدر، ثمّ يصبّ عليه الماء ويُوقد تحته ؟ فقال: لا تأكله حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث، فإنّ النار قدأصابته.

قلت: فالزبيب كما هو يُلقى في القِدر ويصبّ عليه الماء ثمّ يُطبخ ويُصفّى عنه الماء؟ فقال: كذلك هو، سواءٌ إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصار حُلواً بمنزلة العصير، ثمّ نشّ من غير أن يصيبه النّار فقد حَرُم، وكذلك إذا أصابه النّار فأغلاه فقد فَسد»(4).

وعلى هذا، فلا ينافي ما اخترناه.

وبالجملة: فظهر أنّ الأظهر أنّ العصير العنبي إذا غَلى بنفسه لا يحلّ إلّابعد عوده خَلّاً، وإنْ غَلى بالنّار حلّ إذا ذهبَ ثُلثاه.

أقول: ثمّ إنّه هل يحرم العصير بمجرّد النشيش أم لا؟ وجهان، بل قولان:

استدلّ للأوّل:

1 - بموثّق ذريح المتقدّم: «إذا نشّ العصير أو غَلى حَرُم».

والظاهر أنّ المراد من النشيش هو الصوت المتصاعد قبل الغليان.ر.

ص: 147


1- مستند الشيعة: ج 5/220.
2- رياض المسائل (ط. ق): ج 2/293.
3- البحار: ج 63/506 ح 8، ج 76/177 ح 8، باب العصير من العنب والزبيب.
4- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/38 ح 20776 مع بعض الاختلافات اليسيرة عن البحار.

وفيه: إنّ الخبر مرويٌّ عن «الكافي» بالواو بدل أو، وهو أصحّ لأضبطيّة الكليني، ولأنّه لا وجه للمقابلة بينه وبين الغليان مع حصوله قبله دائماً.

2 - وبخبر عمّار المتقدّم وفيه: «وإذا كان أيّام الصيف وخشيتَ أن ينشّ ...» بدعوى أنّه لو لم يكن النشيش سبباً للحرمة، لما كان محذورٌ فيه، ولما احتاج الإمام عليه السلام إلى تعليم ما يداوى به هذا الداء.

وفيه: أنّ النشيش الحاصل بنفسه من علامات الإسكار، ولا خلاف في حرمته في هذه الصورة، وإنّما الكلام فيما إذا نشّ وهو على النّار، ولم يُسكر.

وبذلك ظهر عدم صحّة الاستدلال له بخبر زيد النّرسي المتقدّم آنفاً، فإذاً لا دليل على حرمته بمجرّد النشيش.

بل خبر حمّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن شرب العصير؟ قال عليه السلام:

تشرب ما لم يغل، فإذا غَلى فلا تشربه.

قلت: أيّ شيء الغليان ؟ قال عليه السلام: القلب»(1).

ونحوه غيره تدلّ على عدم الحرمة.

***

حكم غليان العنب

المشهور بين المتأخّرين أنّه لا فرق بين العصير ونفس العنب، فإذا غَلى نفس العنب من غير أن يُعصر كان حراماً.

أقول: لم يتعرّض قدماء أصحابنا لهذه المسألة، فإسناد القول بالحرمة إليهم غير صحيح.

ص: 148


1- الكافي: ج 6/419 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/287 ح 31926.

وعن المقدّس الأردبيلي(1)، والعلّامة المجلسي(2): الإشكال في الحرمة، لعدم صدق العصير عليه.

وعليه، فمقتضى العمومات وحصر المحرّمات حليّته.

واستدلّ للحرمة: بأنّ ما أُخذ في لسان الأدلّة وإنْ كان هو العصير، إلّاأنّه لوضوح كون موضوع الحكم هو ماء العنب، بلا دخلٍ للعصر فيه، ولذا لم يتوقّف أحدٌ في أنّه إذا خرج ماءُ العنب من غير عصرٍ وغَلي يُحرَم، وعليه فلو غَلى الماء وهو فيه حَرُم أيضاً.

وفيه: إنّ موضوع الحكم هو العصير، وهو ماء العنب الذي خرج بالعصر، والذي لابد من إلقائه هو القيد الثاني، إمّا للإجماع أو للنصوص الدالّة على حرمة البُختَج والطّلاء، حيث لم يُؤخذ في مفهوميهما عنوان العصر.

وأمّا القيد الأوّل، وهو خروج ماء العنب، فلا وجه لإلقائه، والتعدّي عنه إلى ما في العنب مع الفرق بينهما، إذ الماء الخارج إذا غَلى بنفسه، أو إذا غلي بالنار، ولم يذهب ثلثاه، وسكن يصبح مسكراً، وهذا بخلاف الماء الموجود داخل العنب فإنّه ما دام فيه، لا يعرض له الإسكار بوجهٍ ، ولذلك يعدّ قياسه بذلك قياساً مع الفارق.

فتحصّل: أنّ الأقوى أنّ العنب بنفسه إذ غَلى لا يصير حراماً.

***).

ص: 149


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 11/200.
2- بحار الأنوار: ج 63/517، الخامس: (ألحق جماعةٌ من الأصحاب بالعصير ماء العنب إذا غَلى في حِبّه وهو غير موجّه لعدم صدق العصير عليه).
حكم العصير من التمر

وأمّا عصير التمر فإن أسكر، فلا إشكال في نجاسته وحرمته، وإلّا فالظاهر الإجماع على طهارته(1).

وأمّا حرمته: فلم اجد القائل بها بين المتقدّمين، وقد ذكر صاحب «الحدائق» رحمه الله(2) أنّه حدث القول بالحرمة في الأعصار المتأخّرة.

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ للحرمة بطوائف من النصوص:

منها: ما دلّ بالعموم على أنّ كلّ عصيرٍ إذا غَلى فهو حرام، كصحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «كلّ عصيرٍ أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثُلثاه ويبقى ثُلثه»(3).

ونحوه غيره.

والمعتصر من التمر بعد نبذه في الماء عصيرٌ فيحرم بالغليان، إذ لا يفرق في صدق العصير بين استخراج الماء العارضي أو الأصلي، ابتدائيّاً كان الاستخراج أم مسبوقاً بعمل كالنبذ.

وفيه: أنّ العصير وإنْ كان بمقتضى وضعه عامّاً شاملاً لكلّ ما استُخرِج عن شيء بالعصر، وعليه:

ص: 150


1- حكى الحليّة الكثير من الاعلام، وفي مجمع الفائدة والبرهان: ج 11/200 عبّر بالشهرة، وكذلك في كفاية الأحكام للسبزواري: ج 2/613، نعم في الحدائق الناضرة حكى الإجماع عن شرح الرسالة على عدم إلحاق عصير التمر بالعنب، راجع الحدائق: ج 5/125.
2- الحدائق الناضرة: ج 5/124.
3- الكافي: ج 6/419 ح 1، وسائل الشيعة: ج 25/282 ح 31913.

فما ادّعاه صاحب «الحدائق» رحمه الله من اختصاص العصير لغةً وعرفاً وشرعاً بما اعتصر من العنب غير تامّ ، إذ العصير كغيره لهيئته وضع وكذلك لمادّته، وأمّا المجموع المركّب، فلم يثبت وضعه بالخصوص لمعنى خاص.

كما أنّ ما ذكره صاحب «المستند» رحمه الله من أنّ العصير بحسب وضعه لا يصدق على ماء العنب وغيره، إذ ليس عاصراً ولا معصوراً، بل يسمّى ذلك عصار أو عصارة، قال(1):

صرّح بذلك في «القاموس»، وعليه فاستعماله في ماء العنب وغيره لا يكون إلّا مجازيّاً، وحيثُ يُحتمل استعماله في خصوص ماء العنب، فلا يعلم بالعموم.

غير صحيح، إذ إطلاق الفعيل بمعنى المفعول لا يختصّ بالمفعول المطلق، بل يعمّ المفعول مع التقيّد بحرف (كفى) و (من)، ولذا ترى استعمال النبيذ في الماء المنبوذ فيه التمر، وعليه فالماء المستخرج من الشيء بالعصر، وإنْ لم يصدق عليه المعصور، إلّا أنّه يصدق عليه المعصور منه، ولهذه الجهة يصحّ استعمال العصير فيه بمقتضى وضعه الاشتقاقي.

أقول: ولكن الظاهر أنّ العصير في مواقع استعماله في هذه النصوص وغيرها، اُريد منه خصوص العصير العنبي، وهو الذي كان إطلاق العصير عليه شائعاً، ولذا لم يفهم الأصحاب من النصوص الحاكمة بنجاسة العصير إذا غَلى، نجاسة كلّ عصيرٍ حتّى عصير السّفرجل والتفّاح وغيرهما من الثمار والأدوية، بل والماء المعصور من الثوب ونحوه، وهو الذي كانوا يسألون عن بيعه ممّن يخمّره، وعن جواز شربه وعدمه في النصوص، ويشير إليه التعبير في النصوص عن عصير7.

ص: 151


1- مستند الشيعة: ج 1/217.

الزبيب ب (النقيع)، وعن عصير التمر ب (النبيذ).

وبالجملة: مَنْ تتبّع موارد استعمال هذا اللّفظ في النصوص وغيرها، لا يكاد يشكّ في أنّ المراد منه عند إطلاقه هو العصير العنبي.

ومنها: ما دلّ على حرمة كلّ شرابٍ غَلى ولم يذهب ثُلثاه، خرج ما خرج وبقي ما لم يعلم خروجه؛ كموثّق عمّار:

«عن الرجل يأتي بالشراب ويقول هذا مطبوخٌ على الثُّلث ؟

فقال: إنْ كان مسلماً ورِعاً مأموناً فلا بأس أنْ يشرب»(1).

ونحوه صحيح علي بن جعفر عليه السلام(2).

وفيه: - مضافاً إلى لزوم تخصيص الأكثر، وأنّهما يعارضان مع النصوص الكثيرة الدالّة على جواز الأخذ من سوق المسلمين، واستيمان الصانع في عمله - أنّهما مسوقان لبيان الحكم الظاهري، في ظرف الشكّ ، مع فرض العلم بما هو التكليف الواقعي، وعليه فهما أجنبيّان عمّا نحن فيه.

ومنها: ما يختصّ بالمقام، كموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«أنّه سأل عن النضوح المعتق، كيف يُصنع به حتّى يحل ؟ قال عليه السلام: خُذ ماء التمر فاغله حتّى يذهب ثُلثا ماء التمر»(3).

وموثّقه الآخر عنه عليه السلام: «سأله عن النضوح ؟ قال عليه السلام: يطبخ التمر حتّى يذهب ثُلثاه، ويبقى ثُلثه ثمّ يتمشطن»(4).4.

ص: 152


1- التهذيب: ج 9/116 ح 237، وسائل الشيعة: ج 25/294 ح 31942.
2- وسائل الشيعة: ج 25/292 ح 31936.
3- التهذيب: ج 9/116 ح 237، وسائل الشيعة: ج 2/154 ح 1788.
4- التهذيب: ج 9/123 ح 266، وسائل الشيعة: ج 25/379 ح 32174.

وفيه: إنّ الظاهر أنّ السؤال فيهما لم يكن عن الأكل، وعمّا يوجب الحليّة والحرمة، إذ النضوح على ما ذَكره بعض الأفاضل(1) طيب مائع يُنقع التمر والسكر والقرنفل والتفاح والزعفران وأشباه ذلك في قارورة فيها قدر مخصوص من الماء، ويُشدّ رأسها، ويصبر أيّاماً حتّى ينشّ ويختمر، وهو كان شائعاً بين نساء الحرمين، وعليه فالمفروض في السؤال صيرورته مُسكراً، وكان السؤال عن أنّه كيف نداوي هذا الدّاء، وهو صيرورته مُسكراً نجساً موجباً لفساد الصّلاة مع التطيّب به، فقوله عليه السلام: (خُذ ماء التمر...) بيان علاجٍ لذلك، وأنّه بعد ذهاب الثُلثين لا يعرضه الإسكار.

وبالجملة: فالنضوح ليس من المشروبات، وإنّما هو شيء يُتطيّب به، ومعلومٌ أنّ ما يحرم شربه يجوز التطيّب به، وعليه فالغرض من السؤال بيان ما يحلّ استعماله في التطيّب، لعلمه بأنّه لو بقى ماء التمر مدّةً بعد الغليان يصبح مسكراً ويعدّ حينئذٍ نجساً، ولذلك سأل عنه عليه السلام عمّا يعالج به ذلك.

فهذان الخبران أيضاً أجنبيّان عن حرمة العصير التمري إذا لم يُسكر.

فإذاً لا دليل على الحرمة، بل جملةٌ من النصوص تدلّ على حليّته:

1 - خبر محمّد بن جعفر، المرويّ عن «الكافي»: «في وفدٍ من اليمن قدموا على النبي صلى الله عليه و آله وسألوه عن النبيذ، وبعد توصيفهم له قال صلى الله عليه و آله: يا هذا قد أكثرتَ عَليَّ أفيُسكر؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه و آله: كلّ مُسكرٍ حرام»(2).

ودلالته على الحليّة مع عدم الإسكار ظاهرة.7.

ص: 153


1- راجع مجمع البحرين: مادّة (نضح).
2- الكافي: ج 6/417 ح 7.

2 - خبر الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر عليه السلام: «سألتُ عن النبيذ؟ فقال: حرّم اللّه الخمر بعينها، وحرّم النبيّ صلى الله عليه و آله من الأشربة كلّ مُسكرٍ، لم يفرّق بين أن يغلي النبيذ بالنّار ولم يذهب ثُلثاه، وبين أنْ لا يغلي»(1).

ونحوهما غيرهما.

وبذلك ظهر أنّه لو سُلّم شمول الطائفتين الأوليتين اللّتين استدلّ بهما على الحرمة لعصيرالتمر، لابدّ من تقييدهما بهذه النصوص الدالّة على حليّته بالخصوص.

فتحصّل: أنّ الأقوى حليّة العصير التمري إذا غلى ما لم يسكر.

***5.

ص: 154


1- الكافي: ج 6/408 ح 5.
حكم العصير الزبيبي

وأمّا عصير الزبيب، فالمشهور بين الأصحاب حليّته(1).

وأمّا نجاسته، فلم يُعرف الخلاف فيها، وإنّما حدثَ القول بتحريمه في العصور المتأخّرة، وذهب إليه جماعة من علمائنا الأخباريّين(2).

وما ذكره العلّامة الطباطبائي(3) وأتعب نفسه الزكيّة في إثباته من أنّ القول بتحريمه مشهورٌ بين المتأخّرين، لا يمكن المساعدة عليه، إذ ما ذكره من الوجوه غير تامّة.

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ لتحريمه بوجوه:

الوجه الأوّل: الاستصحاب، لأنّه حين ما كان عنباً كان يحرم لو غَلي، فهو باقٍ على ما كان.

وفيه: - مضافاً إلى ما حقّقناه، وأشبعنا الكلام فيه في حاشيتناعلى «الكفاية»(4)، من عدم حجيّة الاستصحاب التعليقي، وعدم جريان استصحاب ملازمة الغليان للحرمة - أنّه لو سُلّم جريان الاستصحاب على أحد النحوين، لا يجري في المقام، لتبدّل الموضوع، لا لما قيل من إنّ الزبيب غير العنب، لأنّه لا يخلو عن تأمّلٍ ، بل

ص: 155


1- الحدائق الناضرة: ج 5/144، الرسائل الفقهيّة للوحيد البهبهاني ص 55.
2- حكى القول بالحرمة الوحيد البهبهاني في الرسائل الفقهيّة: ص 59 عن العلّامة في جواب مسائل سادات آل زهرة... الخ، وقد حكي القول بالحرمة عن المُحدِّث البحراني ولكن لم يظهر منه تبنّي ذلك، بل الظاهر خلافه، نعم في: ج 5/141 حكى القول بالحرمة عن أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد اللّه البحراني والمُحدِّث الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي على ما يظهر من وسائل الشيعة، ثمّ اشتهر ذلك الآن بين جملة من الفضلاء المعاصرين، وقد استوجهه آل ياسين في تعليقه على العروة الوثقى: ج 1/149، واحتاط فيه الحكيم، وقوّاه الشيخ الحائري: ص 280، وكذلك الخوانساري.
3- راجع رياض المسائل: ج 12/205 وما فوق (حكم عصير التمر والزبيب والحصرم).
4- هذه الحاشية لم تُطبع لحدّ الآن، ولا زالت في مسودّات كتب المؤلّف (حفظه المولى ).

لأنّ موضوع الحكم في حال العنبيّة ليس هو العنب، بل ماء العنب كما عرفت في بحث العصير العنبي، والزبيب لا ماء له، وإنّما يُنقَع في الماء، ويكتسب من الزبيب الطعم والحلاوة، وهل يتوهّم اتّحاد الماء الخارجي مع ماء العنب حتّى يصحّ استصحاب حكمه لإثباته له ؟

ودعوى(1): أنّ الحرمة لا تختصّ بماء العنب، بل تكون ثابتة للماء الخارجي الممزوح به، فإنّه لو غَلى الجميع لا شكّ في حرمته.

مندفعة: بأنّ الحكم بالتحريم في الفرض إنّما يكون لأجل غليان ماء العنب في ضمن الجميع، فيتحقّق موضوع الحرمة.

الوجه الثاني: ما دلّ بعمومه على أنّ العصير إذا غَلي يحرم، فإنّه كما يشمل العصير العنبي، كذلك يشمل الزبيبي، وقد عرفت في بحث عصير التمر الجواب عن ذلك، وأنّ المراد منه خصوص الأوّل.

الوجه الثالث: ما دلّ على حرمة كلّ شرابٍ إذا غلي ولم يذهب ثُلثاه، وتقدّم الجواب عن ذلك أيضاً في ذلك المبحث، فراجع.(2)

الوجه الرابع: خبر زيد النرسي: «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الزبيب يُدقّ ويُلقى في القِدر ثمّ يصبّ عليه الماء، ويوقد تحته ؟ فقال عليه السلام: لا تأكله حتّى يذهب الثُلثان، ويبقى الثُلث، فإنّ النار قد أصابته.

قلت: فالزبيب كما هو يُلقى في القِدر، ويصبّ عليه الماء، ثمّ يطبخ ويُصفّى عنه الماء؟ فقال عليه السلام: كذلك هو، سواءٌ إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصار حُلواً بمنزلة العصير، ثمّ نشّ من غير أن تُصيبه النار فقد حَرُم، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاهد.

ص: 156


1- مصباح الفقيه (ط. ق): ج 1/553.
2- صفحة 143 من هذا المجلّد.

فقد فسد»(1).

وفيه: ما عرفت في بحث العصير العنبي من أنّ زيداً وإنْ كان في نفسه ثقة، وأصله معتبراً، إلّاأنّ كون النسخة العتيقة التي أخذ عنها هذا الحديث هي بعينها الكتاب المزبور، محلّ تأمّلٍ وإشكال.

هذا مضافاً إلى إعراض الأصحاب عنه.

الوجه الخامس: الروايات(2) المتضمّنة لنزاع إبليس مع آدم ونوح عليهما السلام، الدالّة على أنّ علّة تحريم الثُلثين وتحريم الخمر هو أنّ ثُلثي ما يحصل من الكَرْم عنباً كان أم زبيباً لإبليس.

وفيه: إنّ تلك النصوص واردة في بيان حكمة حرمة العصير إذا غَلي ولم يذهب ثُلثاه والخمر، فلا يمكن التمسّك بإطلاق ما رتّب عليها، لعدم ثبوته له، ولا بعموم العلّة لكونها حِكمةً لا علّة.

الوجه السادس: ما ورد في الزبيب بخصوصه، كموثّقي(3) عمّار الواردين في بيان كيفيّة الطبخ حتّى يصير حلالاً، المذكورين في «الوسائل» في باب (حُكم ماء الزبيب).

وخبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «سألته عن الزبيب، هل يصلح أن يطبخ حتّى يخرج طعمه، ثمّ يُؤخذ ذلك الماء فيُطبخ حتّى يذهب ثُلثاه، ويبقى الثلث، ثمّ يرفع ويشرب عنه السنة ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(4).

وفيه: أنّ الظاهر بقرينة الخصوصيّات المذكورة في الأوليين، والمقادير0.

ص: 157


1- المستدرك: ج 17/38 ح 20776.
2- الكافي: ج 6/393 باب أصل تحريم الخمر.
3- الكافي: ج 6/425 ح 2.
4- الكافي: ج 6/421 ح 10.

الملاحظة فيهما، وقوله عليه السلام في أحدهما: (فإذا أردتَ أن يطول مكثه عندك فروّقه)، وقوله في الأخير: (ويَشرب عنه السنة) أنّ السؤال إنّما يكون عن الحليّة المقابلة للحرمة العارضة للمطبوخ، الذي لم يذهب ثُلثاه إذا بقي مدّة، من جهة طروّ الإسكار عليه.

ويشهد له: ما في ذيل خبر(1) إسماعيل بن الفضل الهاشمي، من قوله عليه السلام: (وهو شرابٌ لا يتغيّر إذا بقي).

فتحصّل: أنّه لا دليل على حرمة العصير الزبيبي إذا غَلى ما لم يُسكر، فالأقوى حليّته وطهارته، ويؤيّد القول بالحليّة؛ النصوص الدالّة على إناطة حرمة النبيذ بالإسكار، بناءً على شموله لما ينبذ فيه الزبيب، وما دلّ على حليّة الطعام الزبيبيّة.

هذا كلّه فيما إذا لم يُسكر، وإلّا فلا شبهة في نجاسته وحرمته.

فرع: المشهور بين الأصحاب(2): عدم الفرق في حرمة المطبوخ ما لم يذهب ثُلثاه، بين صيرورته دبساً وعدمه.

وعن «اللّوامع»(3) و «الجامع»(4) و «الوسيلة»(3): الاكتفاء بالدبسيّة في حليّة العصير.

واستدلّ له:

1 - بإطلاق ما دلّ على أنّ الدبس حلال.

2 - وبأنّ الدليل يختصّ بما إذا كان عصيراً، أوإذا انتقل عنه وصار دبساً يرتفع حكمه.ة.

ص: 158


1- الكافي: ج 6/426 ح 3.
2- فقه الرّضا: ص 280، المقنع: ص 453، النهاية: ص 591. (3و4) حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 6/292.
3- الوسيلة: ص 365، فصل: في بيان أحكام الأشربة.

3 - وبصحيح(1) عمر بن يزيد: «إذا كان يخضب الإناء فاشربه».

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لا يدلّ على حليّته حتّى مع انطباق عنوانٍ محرمٍ آخر عليه، كما لا يخفى.

وأمّا الثاني: فلأنّ ثبوت الانتقال والاستحاله بتثخّن الشيء ممّا لا يحتمل.

وأمّا الثالث: فلأنّ الظاهر منه بقرينة صدره، وروده في مقام بيان حال الشكّ ، وجعله أمارةً لذهاب الثُلثين، بل عن الشهيد في «المسالك»: أنّ العصير لا يصير دبساً حتّى يذهب أربعة أخماسه.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم الاكتفاء في ارتفاع الحرمة بمجرّد صيرورته دِبْساً.

***8.

ص: 159


1- الكافي: ج 6/420 ح 5، وسائل الشيعة: ج 25/293 ح 31938.
العاشر: الفقّاع

والفُقّاع.

الفقاع

(و) العاشر من النجاسات: (الفقّاع) بلا خلافٍ في نجاسته إجمالاً.

بل عن جماعةٍ منهم السيّدان(1)، والشيخ(2)، والعلّامة(3)، والمقداد(4): دعوى الإجماع عليها.

أقول: وتشهد لها نصوصٌ مستفيضة:

1 - موثّق عمّار: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفقّاع ؟ فقال: هو خمر»(5).

2 - خبر هشام بن الحكم: «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام، فقال: لا تشربه فإنّه خمر مجهولٌ ، وإذا أصاب ثوبك فاغسله»(6).

3 - وخبر زاذان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لو أنّ لي سلطاناً على أسواق المسلمين، لرفعت عنهم هذه الخميرة - يعني الفقاع -»(7).

4 - وخبر الوشّا، عن أبي الحسن عليه السلام أنّه قال: «هي خمرة استصغرها الناس»(8).

ص: 160


1- رسائل المرتضى: ج 1/160، السرائر: ج 1/179 إلّاأنّه عبّر بقوله: (وألحق أصحابنا الفقاع بالخمر في جميع الأحكام).
2- المبسوط: ج 1/36.
3- مختلف الشيعة: ج 1/470.
4- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرمة: ج 2/34 (في حاشيته: التنقيح: ج 1/145).
5- الكافي: ج 6/422 ح 2، وسائل الشيعة: ج 17/226 ح 22391.
6- الكافي: ج 3/407 ح 15، وسائل الشيعة: ج 3/469 ح 4201.
7- الكافي: ج 6/423 ح 6، وسائل الشيعة: ج 25/361 ح 32129.
8- وسائل الشيعة: ج 25/365 ح 32136.

ونحوها غيرها(1).

أقول: فهذه في الجملة لا كلام فيها، وإنّما الكلام يقع في موردين:

المورد الأوّل: في تشخيص موضوعه:

فعن جماعةٍ منهم السيّد في «الانتصار»(2)، وأبو هاشم الواسطي(3) والطبرسي في «مجمع البيان»(4) وغيرهما(5): أنّه شرابٌ متّخذٌ من ماء الشعير فقط.

وعن جماعةٍ آخرين(6): أنّه أعمّ من ذلك وممّا يتّخذ من القمح والزبيب والذرّة.

بل عن بعضهم(7): أنّه يُصنع من أكثر الحبوب كالشعير والأرّز والدخن والتمر وغيرها.

وبما أنّ الوضع بشهادة جماعةٍ - لا سيّما مع معارضتها مع قول الأكثر - لايثبت، فلابدّ من الأخذ بالمتيقّن، وهو خصوص ما يتّخذ من الشعير.

المورد الثاني: هل يختصّ الحكم بما إذا غَلى بنفسه ونشّ وأسكر، أو أعمّ منه ومن غيره ؟ وجهان:

قد استدلّ للثاني بإطلاق الأدلّة، ولكن بما أنّ الظاهر من النصوص ورودها في6.

ص: 161


1- وسائل الشيعة: ج 25/365، باب 28 من أبواب الأشربة المحرّمة (باب: تحريم بيع الفقاع وكلّ مُسكر).
2- الإنتصار: ص 198-199.
3- حكاه الشريف المرتضى في الانتصار: ص 421 بقوله: (وقال أبو هاشم الواسطي: الفقاع نبيذ الشعير، فإذا نشّ فهو خمر)، والمحقّق في المعتبر: ج 1/424.
4- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج 2/81.
5- العروة الوثقى: ج 1/150 مسألة 205.
6- منهم الشيخ كاشف الغطاء في كتابه كشف الغطاء: ج 1/172 (ط. ق) السادس: (الفقاع كرمّان وهو شراب مخصوص غير مُسكر يتّخذ من الشعير غالباً وأدنى منه في الغلبة ما يكون من الحنطة ودونهما ما يكون من الزبيب ودونها ما يكون من غيره).
7- منهم الشيخ في الرسائل العشر: ص 265، الوسيلة: ص 415، شرح اللُّمعة: ج 1/286.

مقام بيان أنّه من الأفراد الحقيقيّة للخمر، لأنّ الناس لأجل ما رؤوا أنّ إسكاره ضعيف لا يبلغ حَدّ السُكر الحاصل من شرب سائر أفراد الخمرة، ولذا يعبّر عنه بالإنتشاء، توهّموا عدم كونه خمراً، وعاملوا معه معاملة غير الخمر، وهذه الروايات وردت لبيان ذلك، وأنّ موضوع الحكم كلّ ما يُسكر، سواءٌ أكان إسكاره بحدٍّ أخذ من عقله أو ما دون ذلك، لا أنّها في مقام بيان التنزيل بلحاظ الآثار، كما يظهر لمن تدبّر في قوله عليه السلام في خبر هشام (خَمرٌ مجهولٌ )، وفي خبر الوشّا: (خمرة استصغرها الناس)، وعبّر عليه السلام عنه في خبر زاذان (بالخميرة)، ومن الواضح أخذ الإسكار في مفهوم الخمر.

فالأقوى اختصاص الحكم بما إذا صار مُسكراً.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - صحيح(1) ابن أبي عُمير، عن مرازم:

«كان يُعمل لأبي الحسن عليه السلام الفقاع في منزلة، قال ابن أبي عمير: ولم يعمل فقاع يَغلي».

وقوله عليه السلام(2) في مكاتبة الرازي إلى أبي جعفر الثانى عليه السلام: «لا تقرب الفقاع إلّاما لم يضرّ أو كان جديداً».

وصحيح(3) علي بن يقطين، عن الإمام الكاظم عليه السلام:

«سألته عن شرب الفقّاع الذي يُعمل في السوق، ويُباع، وكيف عمل ومتى عمل، أيحلّ شربه ؟ قال عليه السلام: لا اُحبّه».

فإنّه يُشعر بكراهة المجهول، ويدلّ على أنّ للفقاع قسمين: حلالاً وحراماً.

فتحصّل: أنّ الأقوى اختصاص الحكم بما أسكر.2.

ص: 162


1- التهذيب: ج 9/126 ح 280، وسائل الشيعة: ج 25/381 ح 32180.
2- التهذيب: ج 9/126 ح 281، وسائل الشيعة: ج 25/381 ح 32181.
3- التهذيب: ج 9/126 ح 282، وسائل الشيعة: ج 25/382 ح 32182.
المشهور كون النجاسات اثنى عشرة
الحادي عشر عَرَق الجُنُب من الحرام
اشارة

المشهور كون النجاسات اثنى عشرة، وهي العشرة المتقدّمة، ويضاف إليها:

عَرَق الجُنُب من الحرام(1)، وعَرَق الإبل الجلّاله، بل مطلق الجلّال.

أمّا عَرَق الجُنُب: فعن «الرياض»(2): نسبة القول بنجاسته إلى الأشهر بين المتقدّمين تارةً ، والى الشهرة العظيمة بينهم اُخرى .

بل عن «الخلاف»(3): دعوى الإجماع عليها.

وعن الحِلّي(4)، والفاضلين(5)، وغيرهم: القول بالطهارة.

بل عن الحِلّي(6): دعوى الإجماع عليها.

وقد استدلّ للأوّل:

1 - بمرسل «المبسوط» حيث قال فيه(7): «وإنْ كانت الجنابة من حرامٍ ، وجب غَسل ما عَرَق فيه على ما رواه بعض أصحابنا»(8).

2 - وبما عن الشهيد في «الذكرى»(9): روى محمّد بن همام، بإسناده إلى إدريس بن زياد الكفرثوثي: «أنّه كان يقول بالوقف، فدخل سُرّ من رأى في عهد أبي

ص: 163


1- سيأتي في نهاية البحث أنّ المصنّف (حفظه المولى) قائلٌ بطهارة عَرَق الجُنُب من الحرام، نعم تكره الصّلاة فيه.
2- رياض المسائل (ط. ق): ج 2/365.
3- الخلاف: ج 1/483.
4- مختلف الشيعة: ج 1/461.
5- كشف الرموز: ج 1/107، كشف اللّثام (ط. ق): ج 1/50.
6- مختلف الشيعة: ج 1/461.
7- المبسوط: ج 1/38.
8- وسائل الشيعة: ج 3/447 ح 4133.
9- ذكرى الشيعة: ج 1/120.

الحسن عليه السلام وأراد أن يسأله عن الثوب الذي يَعرق فيه الجُنُب...

إلى أن قال: فقال عليه السلام: إنْ كان من حلال فصلِّ فيه، وإنْ كان من حرامٍ فلا تُصلِّ فيه»(1).

3 - وبما عن مناقب ابن شهر آشوب، نقلاً من كتاب «المعتمد في الاُصول»، عن عليّ بن مهزيار، وفيه قال عليه السلام: «إنْ كان عَرَق الجُنُب في الثوب وجنابته من حرام، لا تجوز الصّلاة فيه، وإنْ كانت جنابته من حلال فلا بأس به»(2).

ونحوهما ما عن «البحار»(2) عن كتاب يعتقده كونه من مؤلّفات قدماء أصحابنا، عن غازي بن محمّد الطرائفي، عن عليّ بن عبد اللّه الميموني، عن محمّد بن علي بن معمّر، عن عليّ بن مهزيار، عنه عليه السلام.

4 - وبما عن «الفقه الرضوي»: (إنْ عرقتَ في ثوبك وأنتَ جُنُبٌ وكانت الجنابة من حلال فتجوز الصّلاة فيه، وإنْ كانت حراماً فلا تجوز الصّلاة فيه حتّى يغسل»(4).

أقول: وأورد على الاستدلال بها بإيرادات:

الأوّل: اختفاء هذا الحكم إلى زمان الهادي عليه السلام.

الثاني: أنّ مرجعها إلى روايتين صادرتين عنه عليه السلام في مقام الإعجاز، الذي يحسن التفصيل فيه أدنى فرق بين الصورتين، وعليه فحملها على الكراهة أهون من تحكيمها على قاعدة الطهارة.

الثالث: خلوّ الأخبار الواردة في مقام بيان حكم عرق الجُنُب عنه.3.

ص: 164


1- المستدرك: ج 2/569 ح 2753. (2و4) فقه الرّضا: ص 84.
2- بحار الأنوار: ج 50/173.

الرابع: ضعف السند.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ عدم بيان حكمٍ في مدّةٍ لمانعٍ ، لا يكون دليلاً لعدم ثبوته، بحيث يعارض ما دلّ عليه، مع أنّ عدم الوصول إلينا لا يدلّ على عدم بيانه.

وأمّا الثاني: فلأنّ حمل النهي على الكراهة يحتاجُ إلى قرينة، وصدورها في مقام الإعجاز لا يكون قرينة عليه.

وأمّا الثالث: فلأنّ المطلق يتعيّن حمله على المقيّد مطلقاً.

وأمّا الرابع: فلأنّه منجبرٌ بعمل الأصحاب.

نعم، يرد عليها أنّها تدلّ على المنع عن الصّلاة لا النجاسة.

ودعوى: عدم القول بالفصل بين القول به والقول بالنجاسة.

مندفعة: بأنّ جماعة من القدماء لم تنقل فتاويهم في ذلك كالمرتضى وغيره، وجماعة آخرين(1) منهم حكموا بعدم جواز الصّلاة فيه.

فإنْ قلت: إنّ ظاهر النصوص المنع عن الصّلاة في الثّوب الذي أصابه العرق، وإن ذهبت عينه، ولازم ذلك المنع عن الصّلاة فيه حتّى بعد الغَسل، وحيث لا يمكن الالتزام به، فيدور الأمر بين حملها على صورة وجود العرق حال الصّلاة، وبين الحمل على ما إذا لم يغسل، والثاني أقرب، إذ الظاهر من السؤال فيها السؤال عن النجاسة والطهارة، كما يظهر من الأخبار الواردة في عرق الجُنُب مطلقاً.

قلت: إنّ النصوص في أنفسها ظاهرة في إرادة المنع في صورة وجود العرق، إذ ظاهر أخذ كلّ عنوان في موضوع الحكم دخله فيه، ودوران الحكم مداره وجوداً وعدماً، وحيث أنّ المأخوذ في هذا حكم عرق الجُنُب، فالمنع عن الصّلاة يدور مدار1.

ص: 165


1- الخلاف ج 1/483، الفقيه ج 1/51.

وجوده، فلا سبيل إلى القول بأنّ مقتضى الجمود على ظاهر النصوص المنع عن الصّلاة في الثوب الذي أصابه عَرَق الجُنُب، وإنّ ذهبت عينه، مع أنّ قوله عليه السلام في خبر ابن مهزيار: (إنْ كان عَرَق الجُنُب في الثوب، وكانت جنابته من حرامٍ ، فلا يجوز الصّلاة فيه) كالصريح فيما ذكرناه.

فإنْ قلت: إنّ ما ذكرت وإنْ تمّ في غير مرسل «المبسوط»، لكنّه لا يتمّ فيه، إذ قوله: (وجب غَسل ما عَرَق فيه) ظاهرٌ في كونه إرشاداً إلى النجاسة.

قلت: إنّ هذه العبارة عبارة الشيخ في «المبسوط»، وقوله في ذيلها على ما رواه أصحابنا لا يدلّ على أنّ هذه العبارة بعينها ألفاظ الرواية.

فتحصّل: أنّ هذه النصوص لا تدلّ على النجاسة.

وأخيراً: ما ورد في النهي عن غُسالة الحمّام معلّلاً بأنّه يغتسل فيه من الزّنا، كمرسل علي بن الحكم: «لا تغتسل من غُسالة الحمّام، فإنّه يغتسل فيه من الزّنا، ويغتسل فيه ولد الزنا والنّاصب لنا أهل البيت وهو شرّهم»(1)، ونحوه غيره(2)، فهي أجنبيّة عن المقام، إذ مفاد هذه النصوص - على فرض التسليم - نجاسة غسالته الملاقية لبدن الزاني لا عَرَقه.

فالأقوى هو القول بالطهارة والمنع عن الصّلاة فيه ما دام موجوداً(3).

***ط.

ص: 166


1- الكافي: ج 3/14 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/219 ح 559 و ح 560.
2- وسائل الشيعة: ج 1/218 باب 11 من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
3- بعد قيام الدليل على طهارة عَرَق الجُنُب من الحرام عند المؤلّف (حفظه المولى) وإفتائه بذلك سماعاً، وفي تعليقه على العروة الوثقى، عَدَل من المنع عن الصّلاة فيه إلى كراهة، فإنّه يجوز الصّلاة مع وجوده على كراهة فقط.
فروع عرق الجُنب

الفرع الأوّل: لا فرق في الوطء بين وقوعه على الإنسان من المرأة أو الغلام أو وقوعه على البهيمة، أمّا في الوطي في الحيض والصوم، ووطي المظاهرة، فهل يحكم بالطهارة أو النجاسة، أو يفصّل بين الأولين والأخير، فالطهارة فيهما والنجاسة، أو الإشكال في الأخير أو العكس ؟ وجوهٌ وأقوال:

قد استدلّ للطهارة: بأنّ المتبادر من الجنابة من الحرام، كون الحرمة من جهة الفاعل أو القابل، لا من جهة نفس الفعل.

وفيه: أنّ مقتضى إطلاق النصوص، عدم الفرق بين الحرمة من جهتهما ونفس الفعل، فالحكم الثابت لعرق الجُنُب من الحرام، يكون ثابتاً لعرق الجُنُب في جميع الموارد المذكورة.

الفرع الثاني: العرق الخارجُ منه حال الإغتسال، حكمه حكم الخارج منه قبله لأنّه جُنُب، وإنّما ترفع الجنابة بتمام الغسل.

الفرع الثالث: إذا أجنَبَ من حلالٍ ثمّ من حرام، فالظاهر عدم ثبوت حكم عرق الجُنُب من الحرام لعرقه، إذ الظاهر من الأدلّة أنّ النجاسة أو المانعيّة مترتّبة على الجنابة من حرام، لا على السبب المحرم، وحيثُ أنّ المجنب لا يُجنب ثانياً، لأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ الجنابة شيءٌ واحد تحصل عند تحقّق أحد أسبابها بنحو صرف الوجود، فلا تتحقّق الجنابة من حرام ليثبت الحكم لعرقه.

ودعوى: أنّ مقتضى إطلاق أدلّة السببيّة، مع الاختلاف في الآثار كما في المقام ثبوته له.

مندفعة: بأنّ موضوع هذا الحكم الجنابة الحاصلة من سببٍ حرام، ومع عدم حصولها منه، لا وجه للحكم بثبوته.

ص: 167

نعم إذا أجنَب من حرامٍ ، ثمّ من حلالٍ ، لا ينبغي التوقّف في ثبوت الحكم لعَرَقه.

الفرع الرابع: المُجنب من حرام إذا لم يتمكّن من الغُسل وتيمّم، فارتفاع حكم عرقه بالتيمّم، كان ذلك بناءً على كون التيمّم رافعاً، حيث أنّ مقتضى إطلاق دليل البدليّة ذلك.

وأمّا بناءً عليكونه مبيحاً، فإطلاق ذلك الدليل أجنبيٌ عن ارتفاع حكم عرقه.

الفرع الخامس: الصبي غير البالغ إذا أجنَب من حرام، لا يترتّب على عرقه حُكم عرق الجُنُب من الحرام، لأنّ ظاهر أخذ كلّ عنوانٍ في موضوع الحكم، دوران الحكم مداره، وحيثُ أنّ القلم مرفوعٌ عن الصبي، فجنابته وإنْ كانت عن أحد الأسباب المحرّمة، لكنّها لا تكون حراماً، فلا تكون جنابته عن حرام حتّى يترتّب عليها حكمها.

ودعوى: أنّ جنابته عن حرامٍ ذاتي، وموضوع الحكم هو الحرمة في حَدّ ذاتها.

غير سديدة: لأنّ الحرمة من الأحكام الشرعيّة، وليست قسمان ذاتيّة وعَرَضيّة.

وإرادة الحرمة مع وجود شرائط التكليف من الحرمة الذاتيّة، لا تفيد، إذ الظاهر من الدليل أنّ الموضوع هو الحرمة الفعليّة لا الشأنيّة، فلاحظ.

***

ص: 168

الثاني عشر عرق الإبل الجلّالة
حكم عرق الإبل الجلّالة

وأمّا عرق الإبل الجلّالة، فنجاسته منسوبة إلي جماعةٍ من القدماء والمتأخّرين، منهم: المفيد(1)، والشيخ(2)، والقاضي(3)، والمصنّف في «المنتهى »(4)، والمقدّس الأردبيلي(5)، وصاحبا «المدارك»(6) و «الذخيرة»(7)، وغيرهم.

ويشهد لها: حسن حفص البُختري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «لا تشرب من ألبان الإبل الجلّالة، وإنْ أصابك شيءٌ من عرقها فاغسله»(8).

وصحيح هشام، عنه عليه السلام: «لاتأكلوا لحوم الجلّالة، وإنْ أصابك من عرقها فاغسله»(9).

ومرسل الفقيه: «نهي عن ركوب الجلّالات وشُرب ألبانها، وإن أصابك من عرقها فاغسله»(10).

وأورد على الاستدلال بها: بأنّه حيثُ لا قائل بلزوم غَسل ما أصابه عرق الجلّالة غير الإبل، عدا ما عن شاذٍّ لا يُعبأ به، فيدور الأمر في الصحيح والمرسل بين حمل الأمر فيهما على الاستحباب، وبين حمل الألف واللّام اللّتين في صدر الجلّالة

ص: 169


1- المقنعة: ص 71.
2- النهاية: ص 53.
3- المهذّب: ج 1/21.
4- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/170.
5- مجمع الفائدة والبرهان: ج 1/322.
6- مدارك الأحكام: ج 2/300.
7- ذخيرة المعاد: ج 1/155.
8- الكافي: ج 6/251 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/423 ح 4053.
9- التهذيب: ج 1/263 ح 55، وسائل الشيعة: ج 1/233 ح 599.
10- الفقيه: ج 3/337 ح 4199، وسائل الشيعة: ج 1/233 ح 599 وج 3/423 ح 4052.

على العهد، والأوّل أولى لشيوع إرادة الاستحباب من الأمر، وبقرينتهما يُحمل الحسن أيضاً على الاستحباب.

وفيه أوّلاً: أنّه لو ثبت إجماعٌ على عدم شمول الحكم لغير الإبل، يقيّد إطلاق الصحيح والمرسل به، ويختصّان بالإبل، فلا وجه لحمل الأمر فيهما على الاستحباب.

ودعوى: أنّ الأصحاب أفتوا بحُسن الإجتناب عمّا أصابه عَرَق الجلّالة غير الإبل، فهذا قرينة على حمل الأمر فيهما على الاستحباب.

مندفعة: بأنّه لو سُلّم ذلك لا يصير قرينةً لما ذُكر، ولما حقّقناه في محلّه(1) من أنّ الوجوب والاستحباب خارجان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه في الأوامر، وإنّما ينتزعان من الترخيص في ترك المامور به وعدمه، وعليه فلو أمر باُمورٍ ورخّص في ترك بعضها، حُكم بوجوب ما لم يُرخّص في تركه، واستحباب ما رُخِّص فيه، بلا لزوم استعمال اللّفظ في المعنيين، أو في الجامع بين الشيئين.

ففيما نحن فيه فإنّ قوله عليه السلام: (اغسله) أمرٌ بالاجتناب عن كلّ ما أصابه عرق الجلّالة، ورخّص الشارع في ترك الاجتناب في غير الإبل، فيُحمل الأمر فيه على الاستحباب، ولم يرخّص في تركه في الإبل، فيبقى الأمر على ظاهره من الوجوب.

وثانياً: لو تنزّلنا عمّا ذكرناه، غاية ما يلزم من ما ذُكر، حمل الأمر في الصحيح والمرسل على الجامع بين الاستحباب والوجوب.

وعليه، فهما ليساقرينة لحمل الأمر فى الحَسَن الظاهر فى الوجوب على الاستحباب.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى نجاسة عرق الإبل الجلّالة، والأحوط الاجتناب عن عرق سائر الحيوانات الجلّالات.

***8.

ص: 170


1- راجع زبدة الاُصول: ج 1/250، وط. الجديدة: ج 1/451 و 458.
حكم المُسُوخات

وفي نجاسة الثَّعلب والأرنب والوَزَغ والعَقرب والفأرة، بل مطلق المسوخات، قولان:

1 - فعن الشيخ في «النهاية»(1): لزوم غَسل ما لاقى مع الثعلب أو الأرنب أو الفأرة أو الوزغة.

وعن المفيد في «المقنعة»(2): نجاسة الثعلب والأرنب.

وعن موضعٍ آخر منها(3): نجاسة الفأرة والوَزَغة.

وعن «الوسيلة»(4): نجاسة الأربعة.

وعن أبي الصّلاح(5) وابن زُهرة(6): نجاسة الثعلب والأرنب.

وعن «الخلاف»(7): نجاسة المسوخ كلّها.

2 - ونُسب إلى المشهور الطهارة في الجميع.

بل في «الجواهر»(8): شهرة كادت تكون إجماعاً، بل لعلّه الظاهر من المحكيّ عن «الناصريّات»(9).

أقول: وقد استدلّ للنجاسة في الأربعة، والعقرب وعامّة السّباع بجملةٍ

ص: 171


1- النهاية: ص 6.
2- المقنعة: ص 578.
3- المقنعة: ص 70.
4- الوسيلة: ص 75.
5- الكافي للحلبي: ص 131.
6- غنية النزوع: ص 49.
7- الخلاف: ج 3/184 مسألة 308 (حكم بيع شيء من المسوخ).
8- جواهر الكلام: ج 6/81 حكم المسوخ.
9- الناصريّات: ص 81، المسألة التاسعة.

من النصوص:

1 - مرسل يونس، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«سألته هل يحلّ أن يمسّ الثعلب أو الأرنب أو شيئاً من السّباع حيّاً أو ميّتاً؟

قال عليه السلام: لا يضرّه، ولكن يغسل يده»(1).

2 - صحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «في الفأرة تقع في الماء، وتمشي على الثياب ؟ قال عليه السلام: اغسل ما رأيت من أثرها»(2).

3 - وموثّق سماعة الوارد في الخُنفَساء تقع في الماء، قال عليه السلام: «وإنْ كان عقرباً فأرق الماء وتوضّأ من ماء غيره»(3).

4 - وخبر هارون بن حمزة الغَنَوي، الوارد في الوَزَغ والعَقرب وأشباههما تقع في الماء، وفيه قال عليه السلام: «غير الوزغ، فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه»(4).

ولم نجد ما يدلّ على نجاسة المسوخات غير ما ذكر.

أقول: ولكن الأظهر طهارة الجميع، إذ النصوص الواردة في غير الأرنب والثعلب يتعيّن حملها على الاستحباب، بشهادة ما هو صريح في الطهارة:

1 - صحيح البقباق: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسّباع، فلم أترك شيئاً إلّاسألته عنه ؟ فقال عليه السلام: لا بأس، حتّى انتهيت إلى الكلب، فقال عليه السلام: رِجْسٌ نجس»(5).

2 - وصحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «وسألته عن العظّاية والحيّة0.

ص: 172


1- الكافي: ج 3/60 ح 4، وسائل الشيعة: ج 3/300 ح 3705.
2- الكافي: ج 3/60 ح 3.
3- الكافي: ج 3/10 ح 6، وسائل الشيعة: ج 1/240 ح 620.
4- التهذيب: ج 1/238 ح 21، وسائل الشيعة: ج 1/188 ح 480.
5- وسائل الشيعة: ج 3/413 ح 4020.

والوزغ، يقع في الماء، فلا يموت فيه، أيتوضّأ منه للصّلاة ؟ فقال عليه السلام: لا بأس به.

وسألته عن فأرةٍ وقعتْ في حبّ دهنٍ فاُخرجت قبل أن تموت أيبيعه من مسلم ؟ قال عليه السلام: نعم ويتدهّن منه»(1).

3 - وصحيح سعيد الأعرج: «في الفأرة تقع في السَّمن والزيت، ثمّ تخرج منه حيّاً؟ فقال عليه السلام: لا بأس بأكله»(2).

4 - وخبر هارون بن حمزة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام: عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك، يقع في الماء، فيخرج حيّاً هل يشرب من ذلك الماء ويتوضّأ؟ قال عليه السلام: يسكب منه ثلاث مرّات، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة، ثمّ يشرب منه ويتوضّأ منه»(3).

ونحوها غيرها(4).

وأمّا الأرنب والثعلب: فلم يرد فيهما نصٌّ يدلّ على طهارتهما، فلا وجه لصرف المرسل عن ظاهره بالنسبة اليهما.

ودعوى: أنّه لاشتمال المرسل على السّباع، وأنّهما جُعلا فيه مشاركين معها في الحكم بغَسل اليد، وقد دلّ صحيح البقباق على طهارة السِّباع، فيتعيّن أن يكون الأمر بغسل اليد بالنسبة إليها وما يشاركها في هذا الحكم استحبابيّاً لا وجوبيّاً إرشاديّاً إلى النجاسة.

مندفعة: بأنّ الالتزام باستحباب الغَسل بالنسبة إلى السِّباع لدليلٍ آخر، لا يلازم حَمل الأمر بالنسبة إلى ما يشاركها، الذي لم يدلّ دليل على طهارته علىق.

ص: 173


1- الإستبصار: ج 1/24 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/238 ح 615.
2- التهذيب: ج 9/86 ح 97، وسائل الشيعة: ج 24/197 ح 30333.
3- التهذيب: ج 1/238 ح 21، وسائل الشيعة: ج 1/188 ح 480.
4- وسائل الشيعة: ج 1/187 باب 19 من أبواب الماء المطلق.

الاستحباب، كما عرفت في عرق الإبل الجلّالة.

أقول: ولكن المرسل لضعفه في نفسه، لا لمجهوليّة يونس، إذ هو عند الإطلاق يُراد منه ابن عبد الرحمن الثقة على ما هو الحقّ ، بل لإرساله ومجهوليّة حال الواسطة، لا يُعتمد عليه.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ إفتاء الشيخ والصدوق والحليّين بالنجاسة، مع عدم مدركٍ سواه، يوجبُ جبر ضعف السند.

وتؤيّد الطهارة النصوص الواردة في الصّلاة في جلودهما، منعاً وجوازاً، الدالّة على قبولهما للتذكية، إذ نجس العين لا يقبل التذكية.

فتحصّل: أنّ القول بنجاسة الأربعة المذكورة ضعيفٌ ، وأضعفُ منه القول بنجاسة المسوخات، وأضعفُ منه القول بنجاسة الدود.

وعن المحقّق التردّد في نجاسة الدود المتولّد من العَذَرة، واستدلّ لها باستصحاب النجاسة.

وفيه: أنّه لا يُعتمد عليه لتبدّل الموضوع.

هذا آخر الجزء الرابع، ويتلوه بعونه تعالى الجزء الخامس، وفيه مسائل تتعلّق بالمتنجّسات، ثمّ الصّلاة وأحكامها. والحمدُ للّه أوّلاً وآخراً.

***

ص: 174

المتنجّسات وأحكامها
مسائل:
في كيفيّة تنجّس المتنجّسات

المسألة الأُولى: في كيفيّة تنجّس المتنجّسات.

يُشترط في تنجّس الملاقي للنجس أو المتنجّس، أن يكون فيهما أو في أحدهما رطوبة مُسرية:

1 - فإنْ كانا يابسين لم ينجّس، كما هو المشهور، بل عن جماعةٍ كثيرة دعوى الإجماع عليه(1).

وتشهد له: جملة من النصوص:

منها: موثّق عبد اللّه بن بكير: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يبول ولا يكون عنده الماء، فيمسح ذكره بالحائط؟ قال عليه السلام: كلّ شيء يابس ذكي»(2).

ومنها: صحيح البقباق، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله، وإنْ مسّه جافّاً فاصبب عليه الماء».

ونحوهما غيرهما من النصوص الكثيرة الواردة في الأبواب المتفرّقة(3).

ثمّ إنّ الظاهر - بقرينة الارتكاز العرفي، والمناسبة بين الحكم والموضوع - أنّ المعتبر هو الرطوبة المسرية، ولا تكفي الرطوبة غير المسرية، مضافاً إلى صدق الجاف المذكور في الصحيح على المرطوب بها.

ص: 175


1- راجع غنائم الأيّام: ج 1/452.
2- التهذيب: ج 1/49 ح 80، وسائل الشيعة: ج 1/351 ح 930.
3- التهذيب: ج 1/261 ح 46، وسائل الشيعة: ج 1/225 ح 571.

نعم، وقع الخلاف في خصوص ملاقي الميتة، وقد تقدّم تنقيح القول فيه في ذلك المبحث، فراجع.(1)

ولو شكّ في رطوبة أحد المتلاقيين، أو علم وجودها وشكّ في سرايتها، لم يحكم بالنجاسة لإستصحاب الطهارة.

2 - وأمّا إذا عُلم سَبق وجود الرطوبة المسرية، وشكّ في بقائها:

ألف: فإنْ كان الشرط للنجاسة هو الملاقاة مع الرطوبة المسرية، كان المتعيّن الحكم بلزوم الإجتناب، إذ حينئذٍ يُستصحب الرطوبة الثابتة في السابق، وحيث أنّ الملاقاة وجدانيّة، فبضمّ الوجدان إلى الأصل، يثبت موضوع الحكم، فيحكم بالنجاسة كسائر الموارد التي يكون الموضوع مركّباً، ويكون أحد الجزئين وجدانيّاً والآخر ثابتاً بالأصل، كغَسل الشيء بالماء المستصحب الطهارة.

ب: وإنْ كان الشرط سراية الرطوبة من أحدهما إلى الآخر، فالمتعيّن الحكم بعدم لزوم الاجتناب، إذ استصحاب الرطوبة لا يثبت السراية، إلّابناءً على الأصل المثبت، فلا تثبت النجاسة، فيرجع إلى أصالة الطهارة.

وبالجملة: حيث أنّ الظاهر من الأدلّة - بقرينة الارتكاز العرفي - هو الثاني، فالأقوى عدم لزوم الاجتناب.

الذّباب الواقع على النّجس الرّطب

المسألة الثانية: الذّباب الواقع على النّجس الرّطب:

إذا وقع على ثوبٍ أو بدن شخصٍ ، وإنْ كان فيه رطوبة مسرية، لا يُحكم بنجاسته، بناءً على عدم تنجّس بدن الحيوانات، إذ حينئذٍ يُشكّ في ملاقاته للنجس، فيرجع إلى الاستصحاب.

وأمّا بناءً على القول بالتنجّس، وكون زوال العين من المطهّرات، فحيثُ أنّه حال وقوع الذباب على النّجس تكون نجاسة رجله معلومة، وبعدما يقع على

ص: 176


1- صفحة 71 من هذا المجلّد.

الثّوب أو البَدَن يُحتمل مصاحبته لعين النّجس، فارتفاع نجاسة رجله مشكوكٌ فيه، فيستصحب بقاء نجاسته، ومن آثارها نجاسة ملاقيه.

***

المتنجّس لا يتنجّس ثانياً

المسألة الثالثة: المتنجّس لا يتنجّس ثانياً، ولو بنجاسةٍ اُخرى إجماعاً، حكاه جماعة.

ولكن مقتضى القواعد تنجّس المتنجّس، إذ النجاسة سواءٌ أكانت من الأحكام الوضعيّة المستقلّة بالجعل، أم كانت منتزعة من الأحكام التكليفيّة، فهي قابلة للتعدّد، واجتماع فردين منها في شيءٍ واحد، وبما أنّ ظاهر الأدلّة تحقّق فردٍ من النجاسة عقيب تحقّق ملاقاة الشيء لكلّ واحدٍ من النجاسات العينيّة من غير فرق بين سبق ملاقاة اُخرى وعدمه، فيتعيّن الالتزام بتنجّس المتنجّس.

وقد استدلّ لعدم النجاسة بوجوه:

الوجه الأوّل: امتناع اجتماع نجاستين لشيءٍ واحد ومحلّ فارد، كما يمتنع اجتماع عَرَضين.

وفيه: ما عرفت من أنّ النجاسة سواءٌ أكانت من الاُمور الاعتباريّة أم الانتزاعيّة، فهي قابلة لاجتماع فردين منها في محلٍّ واحد، إذ الاعتبار خفيف المؤونة. وتوارد حكمين كوجوب الغَسل مرّتين على موضوعٍ واحد لا مانع عنه، من غير فرقٍ في ذلك بين النجاستين المحدودتين بحدّين، وبين المحدودتين بحدٍّواحد.

وعليه، فما عن بعض الأعاظم(1) من تسليم الامتناع في الأوّل، غير تامّ .

الوجه الثاني: أنّ الأسباب الشرعيّة، كما يمكن أن تكون مؤثّرات، كذلك يمكن

ص: 177


1- مستمسك العروة: ج 1/476.

أن تكون معرّفات، فيجوز تعدّدها على حكمٍ واحد شخصي، وبما أنّ ظاهر الدليل كون المسبّب واحداً، لتعلّق التكليف بصرف الوجود الممتنع أن يكون محكوماً بحكمين، فيتعيّن حمل السبب على المُعرّف.

وفيه: أنّ ظاهر الدليل دخل العنوان المأخوذ في لسان الدليل في المسبّب، لا كونه معرّفاً لشيءٍ آخر، وليس ظاهر الدليل وحدة المسبّب، إذ بعد فرض ظهور الدليل في استقلال كلّ فردٍ من الملاقاة، في ترتّب النجاسة، أو وجوب الغَسل على الملاقي، سواءٌ سبقه فرد آخر أم لا، فلا محالة يصبح الدليل ظاهراً في تعدّد المسبّب بتعدّد سببه.

الوجه الثالث: ما ذكره صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) وهو ظهور الدليل في الجنسيّة الصادقة على القليل والكثير، والواحد والمتعدّد، فلو دلّ الدليل على أنّ ملاقاة الدّم توجب النجاسة، وحيثُ أنّ الدّم ماهيّة صادقة على القليل والكثير، فإذا لاقى مرّةً يصدق عليه ملاقاة الدّم، وإنْ لاقى ذلك الشيء مع الدّم مرّةً ثانية انقلب الفرد الأوّل إلى الثاني، وأصبح مصداقاً واحداً للماهيّة، وهكذا كلّما يزداد ويدخل تحت قول (الدّمُ ينجّس).

وفيه: - مضافاً إلى اختصاص هذا الوجه بمتّحد الحقيقة - أنه لا يتمّ فيه أيضاً، إذ القضايا الشرطيّة والحقيقيّة ينحلّ الحكم فيها بانحلال موضوعها وشرطها إلى أحكام عديدة، كما حُقّق في محلّه، وعليه فكلّما تحقّق فردٌ من ملاقاة الدّم، تحقّق فردٌ واحد من الحكم المترتّب عليها، فإذا كانت الملاقاة متعدّدة، فلا محالة يكون الحكم أيضاً متعدّداً.

هذا في صورة اتّحاد الموضوع والشرط جنساً.1.

ص: 178


1- جواهر الكلام: ج 6/361.

وأمّا في صورة التعدّد: فاستفادة التعدّد إنّما تكون من ظهور كلٍّ من القضيّتين في أنّ كلّاً من السببين مستقلٌّ في ترتّب المسبّب عليه مطلقاً.

الوجه الرابع: أنّ اللّازم من تعدّد المسبّب، تعدّد الوجوب لا الواجب، لأنّه المسبّب دونه، وهو لا يقتضي تعدّد متعلّقه، إذ قد تجتمع الإيجابات المتعدّدة في فعلٍ واحدٍ للتاكيد.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم رحمه الله في طهارته(1): بأنّ المسبّب ليس هو الوجوب والطلب، لحصوله قبل وجود السبب بنفس الكلام الدالّ على السببيّة.

وفيه: إنّ إنشاء الوجوب وإنْ كان قبل وجود السبب، إلّاأنّ الوجوب - أي الوجوب الفعلي - لا محالة يوجد بعد وجود السبب.

فالصحيح أن يجاب عنه: بأنّ المسبّب ليس هو الوجوب من حيث هو، بل وجوب خاص، ومن المعلوم أنّ تعدّد ذلك مستلزمٌ لتعدّد الواجب.

الوجه الخامس: أنّ الفعل الواحد، يمكن أن يكون كافياً في تحقّق تكليفين وإنْ علم تعدّدهما كما في الأغسال.

وفيه: إنّ ذلك يحتاج إلى الدليل، لكونه خلاف الأصل.

فإذاً العمدة في عدم تنجّس المتنجّس الاتّفاق عليه، ومعقده التداخل في الأثر المشترك، لا فيما تمتاز به بعض النجاسات عن بعض، فلو لاقى الثّوب دمٍ ، ثمّ لاقاه البول يجبُ عليه غسله مرّتين.

***

لو علم تنجّس شيء بالأشدّ أو الأضعف

المسألة الرابعة: لو علم تنجّس الشيء إمّا بالبول أو الدّم، أو إمّا بالولوغ أو بغيره، فهل يجب إجراء حكم الأشدّ أو الأضعف ؟ وجهان:

ص: 179


1- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 1/251-252.

استدلّ للأوّل: باستصحاب بقاء النجاسة بعد إجراء حكم الأضعف، حتّى يعلم بارتفاع النجاسة بإجراء حكم الأشدّ.

وفيه: الحقّ عدم جريان هذا الاستصحاب:

لا لعدم جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي، إذ المختار جريانه.

ولا لما قيل من أنّ الأثر في المقام للفرد، إذ المختار جريانه في الفرد المردّد بين فردين أحدهما مقطوع الارتفاع والآخر مقطوع البقاء أو مشكوكه، كما حقّقناه في الاُصول(1).

بل لأنّ الاستصحاب في الكلّي إنّما يجري فيما إذا تعارض الأصل الجاري في كلٍّ من الفردين، مع الأصل الجاري في الآخر، أو كان المستصحب موضوعاً، وأمّا إذا كان المستصحب حكماً، ولم يكن الأصل جارياً في الفرد المقطوع الارتفاع، فتجري أصالة عدم حدوث الفرد، ويترتّب عليها عدم بقاء الكلّي، مثلاً لو علم بالطلب الجامع بين الاستحباب والوجوب، وعلم بارتفاع الاستحباب على تقدير تحقّقه، ولم يكن هو مورد الأصل، فيجري استصحاب عدم تحقّق الوجوب، وبما أنّ تحقّق الطلب إنّما يكون بتحقّق الوجوب حقيقة، فيترتّب على استصحاب عدم تحقّقه - مع العلم بارتفاع الاستحباب على تقدير تحقّقه - عدم بقاء الطلب.

أقول: وتمام الكلام في بيان ذلك، وبيان الفرق بين كون المستصحب حكماً، وبين ما إذا كان موضوعاً - حيث أنّه يترتّب على استصحاب عدم حدوث الفرد ارتفاع الكلّي في الأوّل، ولا يترتّب عليه في الثاني - موكولٌ إلى محلّه.

وفي المقام بما أنّ المستصحب من الأحكام الوضعيّة وهو النجاسة، ولا يجري).

ص: 180


1- راجع زبدة الاُصول، بحث (استصحاب الفرد المردد).

الأصل في الأضعف لعدم ترتّب الأثر عليه، فيجري استصحاب عدم حدوث النجاسة الشديدة، ويترتّب عليه ارتفاع النجاسة بعد إجراء حكم الأضعف.

فتحصّل: أنّ الأقوى لزوم إجراء حكم الأضعف، وإنْ كان الأحوط إجراء حكم الأشدّ.

المتنجّس منجّس

المسألة الخامسة: هل المتنجّس ينجس مطلقاً أو لا ينجس، أو يفصّل بين أقسامه ؟ وجوه:

القول الأوّل: هو المشهور بين الأصحاب(1). بل عن القاضي(2) والمحقّق(3)، والفاضل الهندي(4)، وصاحب «الجواهر»(5)، والشيخ الأعظم(6) وغيرهم: دعوى الإجماع عليه.

وعن الحِلّي(7)، والكاشاني(8)، والسيّد صدر الدِّين في حاشيته على

ص: 181


1- وقد ادّعى الميرزا القمّي في غنائم الأيّام: ج 1/452 أنّ مسألة نجاسة الملاقي مع الرطوبة للمتنجّس ينجس من الضروريّات فضلاً عن الإجماعات. وفي الجواهر: ج 1/134 ادّعى الإجماع على أنّ المتنجّس ينجس. وفي: ج 2/15 اعتبر أنّ قول الكاشاني بعدم النجاسة مخالفٌ لإجماع المسلمين وضرورة الدِّين.
2- القاضي ابن البرّاج في جواهر الفقه ص 14 مسألة 30، إلى أنْ قال: (وقد كان شيخنا المرتضى رحمه الله يذهب إلى جواز ذلك [طهارة الثّوب بمائع غير الماء]. وهذا غير صحيح، لأنّ إجماع الطائفة على خلافه في ذلك).
3- المعتبر: ج 1/83 كما هو الظاهر. وقد حكاه عنه أيضاً السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/479.
4- كما حكاه عنه السيّد في مستمسك العروة الوثق: ج 1/479، وهو ظاهر كلامه في شرطيّة الماء في الطهارة في أغلب الموارد التي منها المتنجّسات.
5- جواهر الكلام: ج 1/134 و 322.
6- كتاب الطهارة: ج 1/298 (ط. ج).
7- نقل الحكاية عنه في الحدائق: ج 5/275 عن الوافي للكاشاني بقوله: (ما استدلّ به الحبر العلّامة (طاب ثراه) من الأخبار على أنّ المتنجّس لا ينجس).
8- حكاه عنه المحدِّث البحراني في غير مورد من الحدائق الناضرة منها: ج 1/409 و: ج 5/266، (تنجيس المتنجّس وعدمه)، والجواهر: ج 2/15.

«المختلف»(1): عدم منجّسيّة المتنجّس.

وعن المحقّق الخوانساري(2)، التأمّل فيها.

وقد استدلّ للمنجّسيّة بوجوه:

الوجه الأوّل: إجماع الفرقة الناجية عليها، بل إجماع المسلمين، بل الضرورة من الدِّين.

وفيه: مضافاً إلى عدم تعرّض قدماء أصحابنا له، إنّه لمعلوميّة مستند المُجمعين لا يُعتمد عليه.

الوجه الثاني: معروفيّتها لدى المتشرّعة، ومغروسيّتها في أذهانهم، على وجهٍ يزعمونها من ضروريّات المذهب.

وفيه: إنّ هذه المعروفيّة إنّما نشأت من تسالم الفقهاء عليها في برهةٍ من الزمن، ولم يثبت كونها سيرة متّصلة بزمان المعصوم، لتكون كاشفة عن إمضائه عليه السلام لها.

الوجه الثالث: استفادتها ممّا دلّ على سراية نجاسة النجاسات إلى ملاقيها، فإنّه وإنْ ورد في خصوص الأعيان النجسة، إلّاأنّه بملاحظة ما هو المرتكز في أذهان العرف أنّ السراية من أحكام مطلق النجاسة، يدلّ على السراية في غيرها أيضاً.

والجواب: إنّ التعدّي عن مورد الأدلّة إنْ كان لأجل قياس النجاسات بالقذارات العرفيّة، ويكون هذا هو المراد من المرتكز في ذهن العرف.ع.

ص: 182


1- حكى المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1/577 القسم 2، القول استظهاراً عن السيّد والحِلّي، وأنّ الأجسام السقيلة تطهر بزوال العين معلّلاً لذلك بزال العلّة... ثمّ قال: (ثمّ إنّا وإنْ استظهرنا من الحِلّي والسيّد القول بمنع السراية، لكن القائل به صريحاً إنّما هو المحدِّث الكاشاني، ولذا جلّ من تأخّر عنه ممّن تعرّض لإبطال هذا المذهب جعلوه من متفرّداته وطعنوه بمخالفته للإجماع).
2- لم يظهر وجهه في مشارق الشموس: ج 1/257 وقد يكون منشأ التأمّل ما توقّف به في انتقال النجاسة في بحث: (حكم الماء المستعمل في إزالة النجاسات) ص 254... فراجع.

ففيه: أنّ القذارات العرفيّة ليست على نسق واحد، ففي بعضها وإنْ كان يرى العُرف سرايتها منها إلى ما لاقاها، إلّاأنّ في بعضها ليست كذلك، فلعلّه تكون النجاسات الشرعيّة من قبيل الثاني لا الأوّل.

وإنْ كان لأجل شيءٍ آخر، فعهدة إثباته على مدّعيه.

وبالجملة: النصوص مختصّة بالنجاسة الذاتيّة، فالتعدّي يحتاج إلى الدليل.

الوجه الرابع: جملة من النصوص، وهي على أقسام:

منها: ما لا يدلّ عليها.

ومنها: ما يكون ظاهراً فيها.

ومنها: ما يدلّ على عدمها.

أمّا الأوّل: فهو طائفتان:

الطائفة الأُولى : ما ورد في الاسئار:

1 - صحيح البقباق: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسّباع، فلم أترك شيئاً إلّاسألت عنه ؟

فقال: لا بأس به، حتّى انتهيت إلى الكلب ؟

فقال: رجس نجسٌ لا تتوضّأ بفضله، فاصبب ذلك الماء واغسله بالتّراب أوّل مرّة ثمّ بالماء»(1).

2 - خبر معاوية بن شريح: «سأل عذاقر أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسّباع، يشرب منه أو يتوضّأ منه ؟

فقال عليه السلام: نعم اشرب منه، وتوضّأ منه.4.

ص: 183


1- التهذيب: ج 1/225 ح 29، وسائل الشيعة: ج 1/226 ح 574.

قال: قلت له: الكلب ؟ قال: لا، قلتُ : أليسَ هو سبعٌ؟ قال: لا واللّه إنّه نجس، لا واللّه إنّه نجس»(1).

وتقريب الاستدلال بهما: انه علّل الحكم بعدم جواز الشرب والوضوء بكون الماء ملاقياً للنجس، فيدلّان بعموم العلّة على أنّ كلّ ما حُكم بنجاسته يوجبُ نجاسة ملاقيه، إذ عدم جواز الشرب والوضوء إرشادٌ إلى النجاسة.

وفيه أمّا الخبر الأوّل: فمضافاً إلى أنّ (الرِّجس) - الذي يُرادف هذه الكلمة في الفارسي (پليد) - لا يُستعمل في مطلق ما حُكم بنجاسته، بل يختصّ بالنجاسة الذاتيّة، أنّه لم يعلّل لزوم الاجتناب عن الماء بكونه ملاقياً للنجس، وإنّما حكم عليه السلام بحكمين: أحدهما نجاسة الكلب، والآخر لزوم الاجتناب عن ملاقيه.

وأمّا الخبر الثاني: فقوله عليه السلام (لا واللّه إنّه نجس)، ليس وارداً في مقام التعليل، بل في مقام بيان الفرق بين الكلب وسائر السّباع، فلا يستفاد منه أنّ تمام الموضوع لهذا الحكم هو النجاسة، ألا ترى أنّه لو قيل لمن اختار أحد الرمانين: لِمَ اخترت هذا؟ فأجاب: لأنّه أكبر، هل يستفاد منه أن تمام الموضوع هو الأكبريّة ؟ كلّا، مع أنّ النّجس لا يستعمل في المتنجّس، وإرادته منه تحتاج إلى القرينة.

الطائفة الثانية: ما دلّ على استحباب غَسل اليدين قبل الوضوء، معلّلاً بأنّه لا يدري أنّه لما نام أين باتت يداه، فإنّه يدلّ على أنّ استحباب الغَسل إنّما يكون لأجل احتمال ملاقاة اليد مع المتنجّس، فيستفاد منه أنّ ملاقاته توجب النجاسة.

وفيه: أنّ إشعاره بذلك لا يُنكر، إلّاأنّ في دلالته تأمّلاً واضحاً.

وأمّا القسم الثاني: فهو طوائف:

الطائفة الأُولى: النصوص الكثيرة المتقدّمة الدالّة على انفعال الماء القليل والأمر6.

ص: 184


1- التهذيب: ج 1/225 ح 30، وسائل الشيعة: ج 1/226 ح 576.

بصبّه، وكذلك الزيت النّجس وغيرهما من المائعات، إذ بما أنّه لا يُحتمل أن يكون الصَّب بنفسه من الواجبات، فلا محالة يكون لأجل أنّه نجسٌ يوجب نجاسة ملاقيه، فلا ينتفع به منفعة يعتدّ بها، وهذا بخلاف ما لو لم يكن المتنجّس منجّساً، فإنّه يمكن الانتفاع به بغسل الثياب والأواني به، وعليه لا وجه للأمر بالصَّب، فمنه يُستكشف منجّسيّته لملاقيه التي صرّح بها عليه السلام في موثّق عمّار، حيث قال:

«سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل يجد في إنائه الفأرة، وقد توضّأ من ذلك الماء مراراً واغتسل، أو غسل ثيابه، وقد كانت متسلّخة ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغتسل ثيابه، ثمّ يفعل ذلك بعدما رآها، فعليه أن يغسل ثيابه، ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء، ويُعيد الوضوء والصّلاة. الحديث»(1).

وهذه الطائفة من النصوص ظاهرة في منجّسيّة المتنجّس، إلّاأنّها مختصّة بالمتنجّسات المائعة.

الطائفة الثانية: الأخبار الدالّة(2) على وجوب غَسل الإناء والحِبّ والفرش والبسط ونحوها، فإنّها تدلّ على سراية النجاسة منها إلى ملاقيها، وإلّا لم يكن فائدة في التكليف بتطهيرها.

وأورد على الاستدلال بها المحقّق الهمداني قدس سره(3): بأنّ غاية ما يستفاد من الأمر بغسل الأواني ونحوهما، إنّما هي حرمة استعمالها حال كونها متنجّسة في المأكول والمشروب، المطلوب فيهما النظافة والطهارة، وأمّا تأثيرها في نجاسة ما فيها، على2.

ص: 185


1- وسائل الشيعة: ج 1/142 ح 350.
2- وسائل الشيعة: ج 3/395-397 باب 1 و 2 من أبواب النجاسات والأواني والجلود ابتداءً من رواية رقم 3959 وما بعدها.
3- مصباح الفقيه (ط. ق): ج 1/578 ق 2.

وجهٍ تبقى نجاسته بعد نقله إلى مكان آخر فلا.

وأمّا ما دلّ على لزوم غَسل الفُرُش والبُسط، فلا يدلّ على لزوم أزيد من إزالة العين، مع أنّه لا يستفاد منه لزوم التطهير، ويكفى في حُسن تشريعة استحباب التنزّه عن استعمالها.

أقول: الوجوه المحتملة في الأمر بغَسل هذه الأشياء ستّة:

الأوّل: الوجوب النفسي.

الثاني: حرمة استعمالها في المأكول والمشروب ما دامت متنجّسة، نظير حرمة استعمال أواني الذّهب والفضّة، فالمأكول ما دام فيها يُحرم أكله، ولو نُقل إلى مكانٍ آخر لا مانع من أكله.

الثالث: استحباب التنزّه عن استعمالها.

الرابع: كونه إرشاداً إلى نجاستها فقط لا نجاسة ملاقيها.

الخامس: كونه إرشاداً إلى أنّه ما دام لم يزل العين توجب نجاسة ملاقيها.

السادس: كونه إرشاداً إلى منجسيّتها لملاقيها.

أقول: والمتعيّن من هذه الوجوه هو الأخير، إذ الأمر بالغَسل عند الملاقاة مع النّجس، ظاهرٌ في الوجوب الغيري، ولم يحتمل أحدٌ حرمة أكل المأكول الذي في الإناء المتنجّس على فرض عدم منجسيّته، والأمر ظاهرٌ في الوجوب، وإرادة الاستحباب تحتاج إلى القرينة، والنجاسة من الأحكام الوضعيّة، وجعلها بلا ترتّب أثر عملي عليها لغو، فكون الأمر إرشاداً إلى نجاستها، مع عدم ترتّب أثر على نجاسة الحِبّ والفرش على هذا الوجه يعدّ لغواً، وهذا بخلاف القول بمنجّسيّة المتنجّس. والالتزام بلزوم الغَسل بمعنى لزوم إزالة العين خلاف ظاهر الأمر به، فيتعيّن الوجه السادس، فهذه النصوص أيضاً تكون ظاهرة في منجّسيّة المتنجّس.

ص: 186

الطائفة الثالثة: النصوص(1) الواردة في الجُنُب والمُحْدِث، الدالّة على أنّ اليد التي أصابها النّجس لا تدخل في الإناء، وفي بعضها عُلّق جواز الإدخال على كونها نظيفة، فإنّها ظاهرة في نجاسة ما في الإناء إذا أدخل يده التي ليست بطاهرة ونظيفة في الإناء. وبهذا التقريب يندفع ما قيل من اختصاص تلك النصوص بما إذا كانت النجاسة الذاتيّة موجودة في اليد.

الطائفة الرابعة:(2) موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام وفيها:

«وإن كانت رجلك رَطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر، فلا تصلِّ على ذلك الموضع حتّى ييبس».

فإنّها تدلّ على أنّ موضعاً من بدن المصلّي أو ثوبه إذا كان رطباً لا يصلّى على الموضع القذر، لصيرروته نجساً بالملاقاة، ولو لم يكن المتنجّس منجّساً لم يكن لذلك وجه.

واحتمال عود الضمير في (ييبس) إلى الموضع القذر، يدفعه استلزام ذلك للغوية الشرطيّة، فلاحظ.

فتحصّل ممّا ذكرناه: ظهور عدّة من النصوص في منجّسيّة المتنجّس.

وأمّا القسم الثالث: فهو عدّة من النصوص:

منها: صحيح عليّ بن مهزيار: «كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنّه بال في ظلمة من اللّيل، وأنّه أصاب كفّه برد نقطة من البول، لم يشكّ أنّه أصابه ولم يَره، وأنّه مسحه بخرقة، ثمّ نَسى أن يغسله، وتمسّح بدهنٍ فمسح به كفّيه ووجهه ورأسه، ثمّ توضّأ وضوء الصّلاة فصلّى ؟9.

ص: 187


1- وسائل الشيعة: ج 2/266 باب 45 من أبواب الجنابة ح 2119 وغيره.
2- التهذيب: ج 1/272 ح 89، وسائل الشيعة: ج 3/452 ح 4149.

فأجابه بجوابٍ قرأته بخطّه: أمّا ما توهّمت من ما أصاب يدك، فليس بشيءٍ إلّا ما تحقّق، فإنْ حقّقت ذلك كنتَ حقيقاً أن تعيد الصّلوات اللّواتي كنت صلّيتهنّ بذلك الوضوء بعينه، ما كان منهنّ في وقتها، وما فاتَ وقتها فلا إعادة عليك لها، من قِبل أنّ الرّجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصّلاة إلّاما كان في وقتٍ ، وإنْ كان جُنُباً أو صلّى على غير وضوء، فعليه إعادة الصّلوات المكتوبات اللّواتي فاتته، لأنّ الثّوب خلاف الجسد، فاعمل على ذلك إنْ شاء اللّه تعالى »(1).

واستدلّ به على القول بالتنجيس: بدعوى أنّ المستفاد منه صحّة الوضوء، ونجاسة موضع من البَدَن، كما لا يخفى ، وعليه فيتعيّن أن يقال إنّ المتنجّس ينجّس، ونجاسة اليد توجبُ نجاسة الدّهن وما لاقاة من وجهه ورأسه، ومواضع الوضوء - غير موضع المسح - تطهر بالغَسل، إذ المتعارف الغَسل مرّتين، وأمّا موضع المسح فلابدّ من فرض عدم مسحه بالدهن، بل الممسوح به بقيّة رأسه، وعليه فذلك الموضع محكومٌ بالنجاسة، ويُعيد الصّلاة في الوقت لذلك، ولو لم يكن المتنجّس منجساً لم يكن وجه للحكم بصحّة الوضوء ونجاسة موضع من البَدَن كما لا يخفى .

وفيه أوّلاً: أنّ المتعارف من الغَسل في الوضوء، الغَسل مرّة واحدة، والمفروض في مورد الرواية النجاسة البوليّة التي يعتبر في ارتفاعها التعدّد.

وثانياً: أنّ المتعارف في التدهين تدهين مقدّم الرأس، وعليه فلو كان المتنجّس منجّساً، لزم نجاسة موضع المسح، فيبطل الوضوء.

وثالثاً: أنّ لازم التقريب المزبور، فساد الصّلاة من ناحية نجاسة بقيّة الرأس، فلا فرق بين أن يتوضّأ ثانياً أم لا، مع أنّ ظاهر قوله عليه السلام: (كنت حقيقاً أن0.

ص: 188


1- التهذيب: ج 1/426 ح 28، وسائل الشيعة: ج 2/258 ح 2100.

تُعيد الصّلوات اللّواتي كنتَ صلّيتهن بذلك الوضوء)، بطلان الصّلاة من ناحية ذلك الوضوء.

والتحقيق يقتضي أن يقال: إنّ الخبر يدلّ على عدم تنجيس المتنجّس، إذ لا إشكال في أنّ الماء إذا كان نجساً يبطل الوضوء.

وأمّا اعتبار طهارة مواضع الوضوء، فمّما لم يدلّ عليه دليلٌ ، ولو تمّ ما استند إلى المشهور، من اعتبارها فإنّما هو لأجل بنائهم على تنجيس المتنجّس، وأنّ نجاسة تلك المواضع توجب نجاسة الماء، فتدبّر.

وعلى ذلك، فبناءً على عدم تنجيس المتنجّس، يكون الوضوء صحيحاً، وموضع إصابة البول الذي مسحه بخرقة يكون نجساً، وبقيّة مواضع البَدَن طاهرة، فلزوم إعادة الصّلاة إنّما يكون لذلك.

وأمّا تخصيص الحكم بما إذا صلّى مع ذلك الوضوء، فلأنّه بالوضوء الأوّل يَغسل ذلك الموضع مرّة واحدة، ولو توضّأ ثانياً يَغسل مرّة اُخرى فيطهر، فلا وجه معه للحكم بإعادة الصّلاة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الرواية تدلّ على عدم تنجيس المتنجّس، إذ بناءً على القول بالتنجيس، يكون الوجه واليد والرأس محكومة بالنجاسة، فلا يصحّ الوضوء، وأمّا بناءً على القول بالعدم، يصحّ الوضوء، فافهم واغتنم.

ومنها: خبر علي بن جعفر: «سألته عن جُنُب أصاب يده جنابة، فمسحها بخرقةٍ ثمّ أدخل يده في غَسله قبل أن يغسلها، هل يجزيه أن يغتسل من ذلك الماء؟

قال عليه السلام: إنْ وجد ماءً غيره، فلا يجزيه أن يغتسل، وإنْ لم يجد غيره أجزأه»(1).

بدعوى أنّ الجملة الأُولى ظاهرة في التنجيس، والجملة الثانية محمولة على التقيّة.1.

ص: 189


1- قرب الإسناد: ص 84، بحار الأنوار: ج 77/14 ح 1 وص 100 ح 1.

وفيه: أنّه ما دام يمكن حمل الخبر على بيان الحكم الواقعي، لا مجال لحمله على التقيّة، وفي المقام يمكن ذلك، إذ الجملة الأُولى وإن كانت ظاهرة فيما ذكر، إلّاأنّها تُصرف عن ظاهرها بقرينة الجملة الثانية الصريحة في العدم.

ومنها: صحيح العيص: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل بالَ في موضعٍ ليس فيه ماء، فمسح ذكره بحجر، وقد عرق ذكره وفخذاه ؟

قال عليه السلام: يغسل ذكره وفخذيه.

وسألته عمّن مسح ذكره بيده، ثمّ عرقت يده، فأصاب ثوبه يغسل ثوبه ؟ قال عليه السلام لا»(1). بدعوى أنّ صدره يدلّ على التنجيس، فذيله يُحمل على إرادة أحد معنيين:

الأوّل: أن يكون السؤال عن مسح الذكر من حيث هو، لا مسح البول الذي على ذَكره بيده.

الثاني: أن يكون السؤال عن حكم صورة الشكّ في إصابة المحلّ الذي مسح به ذكره للثوب.

وفيه: إنّ المعنى الأوّل بعيدٌ غايته، لا سيّما مع كون السائل هو العيص، والمعنى الثاني خلاف الظاهر، لا أقلّ من أنّه خلاف الإطلاق، بل الصحيح أن يقال إنّ في الصدر بما أنّه قد فرض فيه مسح البول الذي على الذَكر حين ما عرق، فلا محالة تبقي الرطوبة البوليّة التي على الحشفة، فتلاقي مع العرق وتجعل العرق متنجّساً، وهو يلاقي مع الفخذ، فينجس هو أيضاً، فالصدر يدلّ على التنجيس، ولكن في المائعات، وأمّا ذيله فهو يدلّ على العدم في الجوامد، فلا تنافي بينهما.6.

ص: 190


1- التهذيب: ج 1/421 ح 6، وسائل الشيعة: ج 3/401 ح 3976.

أقول: وبما ذكرناه ظهر ما في كلام بعض الأعاظم(1) حيث قال: (إنّ صدر الصحيحة ظاهرٌ في تنجيس المتنجّس، وذيلها ظاهرٌ في العدم، فالتنافي بين الصدر والذيل مانعٌ من الأخذ بالذيل، إذ قد عرفت عدم التنافي بينهما).

ومنها: موثّق حنان بن سُدَير: «سمعتُ رجلاً يسأل أبا عبد اللّه عليه السلام، فقال:

«إنّي ربما بلتُ فلا أقدر على الماء، ويشتدّ ذلك عَليّ؟

فقال عليه السلام: إذا بلتَ وتمسّحت، فامسح ذَكرك بريقك، فإنْ وجدتَ شيئاً فقُل هذا من ذاك»(2).

بدعوى أنّ الظاهر منه كون الوجه في الاشتداد، أنّه إذا خرج شيءٌ يتنجّس بملاقاته لمخرج البول، فلو لم يكن المتنجّس منجساً لما كان وجهٌ لتنجّسه.

وفيه: أنّ المراد من قوله عليه السلام: (امسح ذَكَرك بريقك):

إنْ كان مسح موضع البول بالرِّيق، فهو يدلّ على عدم التنجيس.

وإنْ كان مسح موضعٍ آخر منه، فهو لا يفيدُ لعلاج الاشتداد، مع أنّ الرطوبة الخارجة قبل الاستبراء محكومة بالنجاسة، سواءٌ كان موضع البول متنجّساً أم لم يكن، فلا يختصّ الاشتداد بصورة عدم وجود الماء.

والظاهر من الخبر هو مسح موضع البول بالرّيق، لئلّا يحصل العلم بخروج الرطوبة، إذ خروجها يكون غالباً بعد البول بفاصلةٍ ما، وحينئذٍ لو غَسل المحلّ لا يحصل العلم بخروجها، إذ كلّما يراه يحتمل أن يكون ماءً ، وأمّا في صورة المسح فإنّه يحصل له العلم به، ولذلك سأل عنه لعلاج ذلك، فعلّمه بمسح الذَكَر بالرِّيق.

فهذا الموثّق أيضاً يدلّ على عدم منجّسيّة المتنجّس.0.

ص: 191


1- مستمسك العروة: ج 1/482.
2- الكافي: ج 3/20 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/284 ح 750.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ بعض النصوص التي استدلّ بها على القول بالمنجسيّة تدلّ عليها، ولكن جملة منها تدلّ على العدم.

وتشهد له: مضافاً إليها طائفة اُخرى من النصوص:

منها: صحيح حكم بن حكيم، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أبول فلا اُصيبُ الماء، وقد أصابَ يدي شيءٌ من البول فأمسحه بالحائط وبالتّراب، ثمّ تعرق يدي فأمسح وجهي أو بعض جسدي، أو يصيب ثوبي ؟

فقال عليه السلام: لا بأس به»(1).

واحتمال كون المسح بالموضع الذي لم يصبه البول، خلاف الظاهر.

وأيضاً: دعوى احتمال إرادة مجرّد الجواز التكليفي من نفي البأس، كما ترى .

ومنها: خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام، قال:

«سألته عن الكنيف يصبّ فيه الماء، فينضح على الثياب ما حاله ؟

قال عليه السلام: إذا كان جافّاً فلا بأس»(2).

ودعوى(3): أنّه يحتمل أن يكون المراد من الماء المستعمل في الاستنجاء ونحوه، من المياه الطاهرة، مع أنّ الاستدلال به يتوقّف على القول بانفعال الماء الوارد على النجاسة غير المستقرّ معها.

مندفعة: بأنّه على هذا لا وجه لتعليق الحكم على الجفاف.

وأيضاً: لا فرق في ما ذكر من الاحتمالين بين الجفاف وعدمه، فمن تعليق الحكم على الجفاف يُستكشف أنّ المراد أنّه في صورة بقاء عين النجاسة ينجس الماء3.

ص: 192


1- الكافي: ج 3/55 ح 4، وسائل الشيعة: ج 3/401 ح 3975.
2- وسائل الشيعة: ج 3/501 ح 4289.
3- مستمسك العروة: ج 1/483.

الذي يصبّ فيه، فينتضح على الثياب بملاقاة النجاسة، وفي صورة الجفاف وزوال العين لا ينجس.

ومنها: خبر حفص الأعور، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الدِّن يكون فيه الخمر ثم يجفّف، فيجعل فيه الخَلّ؟ قال عليه السلام: نعم»(1).

فإنّ الظاهر منه عدم غسل الإناء، وجعل الخَلّ فيه بعد تفريغ الخمر بلا واسطة الغسل.

وما عن الشيخ رحمه الله(2) من حمله على التجفيف، بعد أن يَغسل ثلاثاً، يندفع بأنّه خلاف الظاهر من وجهين:

الأوّل: عدم التصريح بالغَسل.

الثاني: أنّه لا دخل على ذلك للتجفيف.

ومنها: حسن ابن ميسر، قال: «سألته عن الرجل الجُنُب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، ويريد أن يغتسل، وليس معه إناءٌ يغترف منه، ويداه قذرتان ؟

قال عليه السلام: يضع يده ثمّ يتوضّأ أي يتطهّر ثمّ يغتسل، هذا ممّا قال اللّه: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (3)»(4).

و (القليل) في النصوص، وإنْ لم يكن المراد به خصوص ما هو المصطلح وهو ما يقابل الكُرّ، ولكن مقتضى إطلاقه، وعدم الاستفصال، هو شمول الخبر له، بل لعلّ الاستدلال بالآية الشريفة يوجب ظهور الخبر في خصوص القليل، كما لا يخفى .9.

ص: 193


1- الكافي: ج 6/428 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/495 ح 4273.
2- التهذيب: ج 1/149 ح 116.
3- سورة الحجّ : الآية 78.
4- التهذيب: ج 1/149 ح 116 /، وسائل الشيعة: ج 1/152 ح 379.

ودعوى(1): أنّها ذُكرت تعليلاً لصحّة الغُسل.

مندفعة: بأنّ فساد الغُسل لا حرج فيه، إذ على فرض الفساد ينتقل الفرض إلى التيمّم الذي هو أسهل من الغُسل.

وبذلك يظهر وجه دلالة خبر عثمان بن زياد لهذا القول، حيث قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أكون في السّفر، فآتي الماء النقيع ويدي قذرة فأغمسها في الماء؟ قال عليه السلام: لا بأس»(2).

ومنها: رواية سماعة، قال: «قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام: إنّي أبول فأتمسّح بالأحجار، فيجيء منّي البَلَل ما يفسدُ سراويلي ؟ قال عليه السلام: لا بأس به»(3).

ومقتضى إطلاق نفي البأس نفي النجاسة، لا خصوص عدم انتقاض الوضوء به، بل ظاهره ذلك بقرينة السؤال، إذ لو كان محطّ السؤال والجواب انتقاض الوضوء وعدمه، لم يكن لقوله: أتمسّح بالأحجار) دخلٌ في ذلك.

ودعوى(4): أنّ ظاهره الإجتزاء بالأحجار في الاستنجاء من البول من دون ضرورة، فلابدَّ أن يُحمل على التقيّة.

مندفعة: بأنّ السؤال إنّما كان عن البَلَل الخارج لا عن طهارة المحلّ ، فحمل الجواب على إرادة حصول طهارته بالمسح بالأحجار خلاف الظاهر.

واحتمال خروج البَلل من دون أن يلاقي لحافّة الذَّكَر النجسة احتمالٌ غير عقلائي.

نعم، لابدَّ من حمل الخبر على ما بعد الاستبراء، وتقييد إطلاقه بما دلّ على2.

ص: 194


1- مستمسك العروة: ج 1/483.
2- التهذيب: ج 1/38 ح 43، وسائل الشيعة: ج 1/163 ح 406.
3- التهذيب: ج 1/51 ح 89، وسائل الشيعة: ج 1/283 ح 747.
4- مستمسك العروة: ج 1/482.

نجاسة البَلَل الخارج قبل الاستبراء.

ولعلّ المتتبّع في النصوص الواردة في الأبواب المتفرّقة، يعثر على غير ما ذكرناه من الروايات، الظاهرة في عدم تنجيس المتنجّس.

أقول: والجمع بين هذه النصوص، وبين النصوص الظاهرة في التنجيس، يقتضي أن يقال:

إنّ ما دلّ على التنجيس في المتنجّسات المائعة، لا صارف عن ظهوره، فيؤخذ به، وأمّا ما دلّ عليه في الجوامد، فيتعيّن حمل الأمر بالغَسل فيه على الاستحباب، بقرينة هذه النصوص الدالّة على العدم.

و ما ذكره بعض الأعاظم(1): من اختصاص ما دلّ على العدم بصحيح حكم، والخروج عن ظاهر تلك النصوص الكثيرة القريبة من التواتر، الواردة في الأبواب المتفرّقة.

بعيدٌ غير تامّ ، إذ يرد عليه:

مضافاً إلى أنّ النصوص الدالّة على التنجيس في الجوامدليس قريبة من التواتر.

أنّ ما دلّ على العدم كثيرٌ غير مختصّ بصحيح حكمٍ ، مع أنّ الصحيح الواحد يصلح أن يكون قرينةً لصرف ظهور الكتاب فضلاً عن السُنّة.

أقول: ومن مجموع ما ذكرناه، يظهر ضعف ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(2) من الالتزام بعدم تنجّس الماء القليل بالمتنجّس، مستنداً إلى خبري ابن ميسرة وعثمان ابن زياد المتقدّمين، بدعوى تقييد إطلاق ما دلّ على تنجيس المتنجّس بهما، إذ النصوص الدالّة على العدم لا تنحصر بهما، فلا وجه لتخصيص الحكم بالماء القليل.

فتحصّل: أنّ الجمع بين النصوص، يقتضي القول بعدم تنجيس المتنجّس في6.

ص: 195


1- مستمسك العروة: ج 1/483.
2- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 1/146.

المتنجّسات الجامدة، ولكن عدم إفتاء أساطين الفنّ ، والإجماعات المدّعاة في المقام، بل والضرورة، وكثرة عثرات من استبدّ برأيه ولم يعبأ بمخالفة القوم، توجبُ التوقّف في الإفتاء، واللّه أعلم.

فرع: ثمّ إنّه على القول بالتنجيس، هل يختصّ الحكم بالملاقي للنجس بلا واسطة ؟

أو يعمّ ما إذا لاقى مع ملاقيه، أو مع ملاقي ملاقيه وهكذا، وإنْ كانت الوسائط كثيرة ؟

وجهان، أقواهما الثاني، إذ بعدما استُفيد من الأدلّة أنّ المتنجّس ينجس، فإنّه لا فرق بين المتنجّسات.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ جملةً من النصوص دلّت على أنّ اليد المتقذّرة توجبُ تنجّس الماء، وهذه النصوص بإطلاقها تدلّ على التنجيس في غير الواسطة الأُولى .

وعليه، فالتفصيل بين الواسطة الأُولى وغيرها في غير محلّه.

***

ص: 196

ويَجبُ إزالتها عن الثّوب والبَدَن للصَّلاة، عدا.

اعتبار الطهارة في الصّلاة

فصل: (ويجبُ إزالتها) أي النجاسة (عن الثّوب) ساتراً كان أو غير ساتر (والبَدَن) حتّى الظفر والشَّعر (للصّلاة؛ عدا) موارد، إجماعاً منقولاً وتحصيلاً(1).

وتشهد له: النصوص المتجاوزة حَدّ التواتر، الواردة في الأبواب المتفرّقة:

منها: النصوص(2) الدالّة على أنّ الصّلاة تكون باطلة إذا كان في لباس المصلّي أو بدنه؛ بولٌ أو مَنيٌّ أو خمر أو نبيذ، أو دمٌ أو عَذَرة الإنسان والسّنور والكلب، فإنّ هذه النصوص وإنْ وردت في موارد خاصّة، إلّاأنّه لا شبهة في استفادة الكبرى الكليّة من مجموعها، وأنّ المانع هو النجاسة.

ومنها: النصوص(3) الدالّة على جواز الصّلاة فيما لا تتمّ فيه الصّلاة، حيث أنّه علّق فيها الجواز على كونه كذلك، فيستفاد منها عدم الجواز إذا لم تكن ممّا تتمّ الصّلاة فيه.

ومنها: صحيح علي بن مهزيار المتقدّم في المسألة السابقة، وفيه قوله عليه السلام: «مِنْ قِبل أنّ الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصّلاة إلّاما كان في وقتٍ ».

إلى غير ذلك من النصوص الواردة في الأبواب المتفرّقة.

ص: 197


1- المعتبر: ج 1/128.
2- وسائل الشيعة: ج 3/474 باب 40 من (أبواب النجاسات والأواني والجلود) ابتداء من ح 4214.
3- وسائل الشيعة: ج 3/455 باب 31 من (أبواب النجاسات والأواني والجلود) ابتداء من ح 4160.

ومقتضى إطلاقها عدم الفرق بين الصّلوات الواجبة والمندوبة، كما أنّ مقتضى إطلاقها اشتراط الطهارة في كلّ جزءٍ من أجزائها، وعليه فتعتبر في صلاة الاحتياط، وقضاء التشهّد، والسّجدة المنسيّين.

أمّا الأوّل: فواضح.

وأمّا الثاني: فلأنّ مقتضى الأدلّة أنّ ما يؤتى به بعد الصّلاة من أجزاء الصّلاة تبدّل مكانه، ولذا لو لم يأتِ بالسَّجدة المنسيّة أو التشهّد المنسيّ بعد الصّلاة تكون الصلاة باطلة.

وأمّا في سجدتي السهو: فلا دليل على اعتبار الطهارة.

وعن «السرائر»(1) و «النهاية»(2) و «الألفيّة»(3) وغيرها: اعتبارها فيهما، واستدلّ له:

بأنّها جابرة لما يعتبر فيه الطهارة، وبالانصراف، وبغيرهما من الوجوه التي ضعفها ظاهر.

وأمّا الأذان والإقامة: فمقتضى إطلاق أدلّتهما، وأصالة البراءة، عدم اعتبارها فيهما.

وقيل: باعتبارها في الإقامة، لإطلاق التنزيل في خبر أبي هارون:

«قال أبو عبداللّه عليه السلام: يا أبا هارون الإقامة من الصّلاة، فإذا أقمتَ فلاتتكلّم»(4).

واُجيب عنه: بمعارضته مع النصوص الدالّة على أنّ أوّلها التكبير المقدّمة عليه.

وفيه: أنّه لا تنافي بينهما، إذ يمكن أن يقال إنّ تلك النصوص واردة في مقام4.

ص: 198


1- السرائر: ج 1/259.
2- النهاية: ص 94.
3- الألفيّة والنفليّة: ص 70.
4- التهذيب: ج 2/54 ح 25، وسائل الشيعة: ج 5/396 ح 6904.

بيان حقيقة الصّلاة، وهذا الخبر يدلّ على أنّ الإقامة منها تعبّداً وتنزيلاً، أي يعتبر فيها ما يعتبر في الصّلاة.

فالصحيح أن يقال: إنّ الخبر لمعارضته في مورده مع النصوص الدالّة على جواز التكلّم، يتعيّن حمله على الكراهة.

وعليه، فلابدَّ من حمل قوله عليه السلام: (الإقامة من الصّلاة) على إرادة بيان كونها من أجزائها الكماليّة، أي تكون الصّلاة معها أفضل، وعليه، فلا يشملها ما دلّ على اعتبار الطهارة في الصّلاة، كما لا يخفى .

***

ص: 199

وجوب إزالة النجاسة عن المسجد
اشارة

وتجبُ إزالة النجاسة عن المساجد؛ داخلها وسقفها وسطحها، كما هو المشهور شهرة عظيمة.

بل عن جماعةٍ ، منهم الشيخ(1)، والحِلّي(2)، والفاضلان(3)، والشهيد(4): دعوى الإجماع عليه.

أقول: استدلّ لحرمة التنجيس حدوثاً وبقاءً بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع(5).

وفيه: ما تقدّم منّا مراراً من عدم حجّيّته، مع معلوميّة مدرك المُجمعين.

الوجه الثاني: الآية الشريفة: إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ (6)، بضميمة عدم الفصل بين المسجد الحرام وغيره.

وفيه: - مضافاً إلى ما ستعرف في مسألة إدخال النّجس في المسجد الآتية، أنّها مختصّة بالمشركين، ولا تعمّ سائر النجاسات - أنّه لو سُلّم شمولها بمقتضى تفريع الحكم على نجاستهم لسائر النجاسات، لكنّها لا تشمل تنجيس المسجد بالمتنجّس، مع أنّ إدخال النجاسة فيه غير تنجيسه، والذى تدلّ عليه الآية هو الأوّل، ومحلّ

ص: 200


1- الخلاف: ج 1/518.
2- السرائر: ج 1/163.
3- كشف اللّثام: ج 1/425، قال: (ولعلّه إجماعي كما قيل).
4- ذكرى الشيعة: ج 3/128-129، قوله: (والظاهر أنّ المسألة إجماعيّة).
5- ادّعى الإجماع المحقّق النراقي تحقيقاً وحكاية عن جمع من الأصحاب كما في مستند الشيعة: ج 1/232 (وجوب إزالة النجاسة عن المساجد).
6- سورة التوبة: الآية 28.

الكلام هو الثاني.

الوجه الثالث: قوله تعالى: طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ (1)، لأنّ الأمر ظاهرٌ في الوجوب، والتطهير ظاهرٌ في إزالة النجاسة، وبضميمة عدم القول بالفصل بين المسجد الحرام وغيره، يثبت الحكم في سائر المساجد.

وفيه: أنّ الظاهر منه - بواسطة عدم الأمر بالتطهير من حيث هو، بل أمر به للطائفين - هو إرادة التنظيف من القذارات الصوريّة.

الوجه الرابع: النبويّ (2): «جنّبوا مساجدكم النجاسة».

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سنده، وعدم انجباره بعمل الأصحاب به - أنّه مجملٌ تتطرّق فيه احتمالات، إذ كما يُحتمل أن يكون المراد ب (المساجد) الأماكن المعدّة للصَّلاة، يُحتمل أن يكون المواضع التي تقع عليها الأعضاء السَّبعة حال السجود، وأن يكون نفس تلك الأعضاء كما اُطلق عليها في رواية تحديد يد السارق التي يجب قطعها، وأن يكون خصوص موضع الجبهة.

الوجه الخامس: موثّق الحلبي، قال: «نزلنا في مكانٍ بيننا وبين المسجد زقاق قذر، فدخلتُ على أبي عبد اللّه عليه السلام: فقال: أينَ نزلتم ؟ فقلتُ في دار فلان. فقال: إنّ بينكم زُقاقاً قذراً - أو قلنا له إنّ بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً -.

فقال: لا بأس إنّ الأرض يطهِّر بعضها بعضاً»(3).

بدعوى أنّ تعليق نفي البأس على حصول الطهارة، يدلّ على أنّه مع النجاسة لا يجوز.8.

ص: 201


1- سورة الحجّ : الآية 26.
2- وسائل الشيعة: ج 5/229 ح 6410.
3- الكافي: ج 3/38 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/458 ح 4168.

وفيه: أنّ الظاهر منه بقرينتين إرادة نفي البأس من حيث الصّلاة:

الأُولى : تصريحه عليه السلام بذلك في ذيل خبره الآخر، وهو:

«قلت: فأطأ على الرّوث الرَّطِب ؟ فقال: لا بأس أنا واللّه ربما وطأتُ عليه ثمّ اُصلّي ولا أغسله»(1).

الثانية: أنّه لو كان محطّ النظر تنجيس المسجد، لم يكن وجهٌ للتعليق على حصول الطهارة، بل كان الأولى التعليق على الجفاف.

الوجه السادس: خبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام، قال: «سألته عن الدابّة تبول فيصيبُ بولها المسجد أو حائطه، أيُصلّي فيه قبل أن يُغسل ؟

قال عليه السلام: إذا جفَّ فلا بأس»(2).

بدعوى أنّ المراد من (البأس) فيه وإنْ كان مطلق المرجوحيّة، لعدم نجاسة بول الدابّة، لكن المستفاد منه سؤالاً وجواباً أنّه كانت حرمة تنجيس المسجد لديهم مفروغاً عنها، حيث تحيّر السائل من جهة زعم نجاسة بول الدابّة في مزاحمتها للصَّلاة، فسأل عن جواز الصّلاة قبل الإزالة.

وفيه: أنّه يحتمل أن يكون محطّ النظر في الخبر، مزاحمة لزوم تنظيف المسجد من القذارات الصوريّة للصَّلاة، كما قد يظهر ذلك من جوابه عليه السلام، إذ لو كان محطّ النظر في السؤال مزاحمة لزوم إزالة النجاسة الشرعيّة لها، لما كان جوابه عليه السلام مطابقاً للسؤال، وهذا بخلاف ما ذكرناه كما لا يخفى .

الوجه السابع: صحيح الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام: «أوحى اللّه إلى نبيّه أنْ طهِّر1.

ص: 202


1- وسائل الشيعة: ج 3/459 ح 4173.
2- وسائل الشيعة: ج 3/411 ح 4011.

مسجدك، وأخرج منه من يرقد باللّيل، ومُر بسدّ الأبواب»(1).

وفيه: أنّه من المحتمل اختصاص الأمر بالتطهير به عليه السلام، كما اختصّ به الأمر بالإخراج وسدّ الأبواب، فتأمّل.

وبالجملة: فالصحيح هو الاستدلال لها بالنصوص الكثيرة الواردة في اتّخاذ الكنيف مسجداً بعد تنظيفه أو طمّه:

منها: صحيح عبد اللّه بن سنان، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المكان يكون حُشّاً زماناً؛ فيُنظّف ويُتّخَذمسجداً؟

فقال عليه السلام: ألقِ عليه من التّراب حتّى يتوارى ، فإنّ ذلك يطهِّره إن شاء اللّه»(2).

ومنها: خبر مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمّد عليه السلام:

«أنّه سُئل أيصلحُ مكانٌ حُشّ أنْ يُتّخذ مسجداً؟

فقال عليه السلام: إذا اُلقي عليه من التّراب ما يواري ذلك، ويقطع ريحه فلا بأس، وذلك لأنّ التّراب يطهّره، وبه مضت السُنّة»(3).

ونحوهما غيرهما(4).

أقول: ولكن مقتضى هذه النصوص، عدم حرمة تنجيس باطن المسجد، كما لا يخفي ، وعن المحقّق الأردبيلي(5) الميل إليه، وعن «الجواهر»(6) اختياره في مورد الأخبار.0.

ص: 203


1- الكافي: ج 5/340 ح 1، وسائل الشيعة: ج 2/205 ح 1931.
2- التهذيب: ج 3/260 ح 50، وسائل الشيعة: ج 5/210 ح 6352.
3- التهذيب: ج 3/260 ح 49، وسائل الشيعة: ج 5/210 ح 6353.
4- وسائل الشيعة: ج 5/209 باب 11 من أبواب أحكام المساجد.
5- نسبه إليه في مصباح الفقيه: ج 1/586 ق 2.
6- جواهر الكلام: ج 14/100.

نعم، لا فرق بين سطح المسجد وحائطه من داخل المسجد.

واستدلّ لما مالَ إليه صاحب «المدارك»(1)، واختاره صاحب «الحدائق»(2)من جواز تنجيس باطن المسجد، بموثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«سألته عن الدماميل تكون بالرجل، فتنفتح وهو في الصّلاة ؟

قال عليه السلام: يمسحه ويمسح يده بالحائط والأرض، ولا يقطع الصّلاة»(3).

وأورد عليه: بأنّ انفتاحها غير ملازمٍ لخروج الدّم.

وفيه: أنّ مقتضى عدم الاستفصال شموله له، ولكن الموثّق غير وارد في مقام البيان من هذه الجهة كي يُتمسّك بإطلاقه.

***0.

ص: 204


1- مدارك الأحكام: ج 2/309.
2- نسبه إليه في مصباح الفقيه: ج 1/585 ق 2.
3- التهذيب: ج 1/349 ح 20.
فروع نجاسة المسجد
حرمة إدخال النجاسة في المسجد

الفرع الأوّل: نُسب إلى جماعةٍ ، منهم الحلبيّان(1)، بل إلى المشهور: حرمة إدخال النجاسة في المسجد، وإنْ لم تكن منجّسة.

بل عن الحِلّي(2): الإجماع على عموم الحكم للمتنجّس.

وعن الشهيدين(3) والمحقّق الثاني(4) وغيرهم، بل عن الأكثر: العدم.

واستدلّ للأوّل:

1 - بالنبويّ المتقدّم: «جنّبوا مساجدكم النجاسة»(5).

وفيه: ما تقدّم من ضعف سنده، وإجمال متنه.

2 - وبالآية الشريفة: إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ (6)، بضميمة عدم الفصل بين المسجد الحرام وغيره من المساجد، اذ الظاهر منها أنّ المنهيّ عنه دخولهم المسجد بما أنّهم نجس، لا لأجل ما يترتّب على دخولهم من تلويثهم المسجد.

وفيه: أنّ الآية الشريفة مختصّة بالمشرك، ولا تشمل سائر النجاسات فضلاً عن المتنجّسات، إذ الظاهر منها كون موضوع الحكم هو النَجَس (بالفتح) لا النجِس (بالكسر)، وحيث أنّه مصدرٌ لا يصحّ حمله على العين، فيتعيّن حمله على

ص: 205


1- حكاه في المستمسّك عن اللّوامع نسبته إليهما، مستسمك العروة الوثقى: ج 1/494.
2- المعتبر: ج 1/189.
3- الذكرى: ص 14.
4- جامع المقاصد: ج 1/187.
5- وسائل الشيعة: ج 5/229 ح 6410.
6- سورة التوبة: الآية 128.

المبالغة، ويكون الحمل كما في زيدٌ عَدْل، فيكون الموضوع النّجس على وجه المبالغة لا كلّ نجسٍ .

وعليه، فلا وجه لدعوى ثبوت الحكم لكلّ نجس.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم حرمة إدخال النجاسة في المسجد إذا لم تكن متعدّية.

***

وجوب الإزالة فوري

الفرع الثاني: وجوب الإزالة فوري، فلا يجوز التأخير بمقدارٍ ينافي الفوريّة العُرفيّة كما هو المشهور، بل عن «المدارك»(1) نسبته إلى الأصحاب.

ويشهد له: ما دلّ على حرمة التنجيس، إذ الظاهر من نصوص اتّخاذ الكنيف مسجداً وغيرها، النهي عن وجود النجاسة في المسجد في كلّ زمانٍ من الأزمنة، وعليه فلابدَّ من المبادرة إلى الإزالة، وإلّا لزم وجود النجاسة في زمانٍ من الأزمنة، وهو حرام.

***

وجوب إزالة النجاسة عن المساجد كفائي

الفرع الثالث: إنّ وجوب إزالة النجاسة عن المساجد كفائي، ولا اختصاص له بمن نجّسها كما هو المشهور شهرة عظيمة، إذ ظاهر الخطاب إلى الجميع مع كون الفعل واحداً غير قابلٍ للتكرار هو ذلك.

وعن «الذكرى»(2): الاختصاص بمن نجّسها، وتبعه بعض أعاظم العصر(1)، واستدلّ له:

بأنّ بقاء النجاسة بقاءٌ لعمله الذي كان محرّماً عليه حدوثاً وبقاءً ، فعليه اعدام عمله.

ص: 206


1- العروة الوثقى (ط. ق): ج 1/179.

وفيه: أنّ بقاء النجاسة إنّما يستندُ إليه، ويكون حراماً عليه، لكونه قادراً على إزالة النجاسة عنها، وهذا مشتركٌ فيه بينه وبين غيره، إذ غيره أيضاً له أن يُبقي النجاسة وأن يُعدمها، وعليه فلا فرق بينهما.

***

وجوب المبادرة إلى الإزالة مقدّمةً على الصّلاة

الفرع الرابع: إذا راى نجاسةً في المسجد، وقد دخل وقت الصّلاة:

فالمشهور على أنّه تجبُ المبادرة إلى الإزالة مقدّمةً على الصّلاة، لدليل فوريّة الإزالة، كما هو الشأن في جميع موارد تزاحم الموسّع مع المضيّق.

وعن «المستند»(1): العدم، بدعوى أنّ الفوريّة مستندة إلى الإجماع، ولم يثبت على الوجوب الفوري حين دخول واجبٍ موسّع.

وفيه: ما تقدّم من أنّ دليل الفوريّة، هو الدليل على وجوب الإزالة وحرمة التنجيس، لا الإجماع، فراجع.(2)

أقول: ثمّ إنّه على المشهور لو ترك الإزالة مع السِّعة، واشتغل بالصّلاة فهل تبطل صلاته أم لا؟ وجهان بل قولان:

قد استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، فالأمر بالإزالة نهيٌ عن الصّلاة، والنهي في العبادة موجبٌ لفسادها.

وفيه: ما حقّقناه في محلّه من عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه، مع أنّ النهي المانع عن التقرّب بالعبادة، إنّما هو النهي النفسي لا الغيري، لعدم كونه ناشئاً عن المفسدة.

2 - وبأنّ الأمر بالضدّين معاً غير ممكن، لكونه تكليفاً بالمُحال، فالأمر

ص: 207


1- مستند الشيعة: ج 1/233-234.
2- صفحة 200 من هذا المجلّد.

بالإزالة يكون مانعاً عن الأمر بالصّلاة، فتكون فاسدة لذلك.

وفيه: ما ذكرناه في محلّه(1) من صحّة تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتّب، مع أنّه يكفي قصد الملاك في صحّة العبادة.

وتمام الكلام في كلّ واحدٍ من هذه الاُمور موكولٌ إلى محلّه.

استدلّ صاحب «الحدائق»(2) على الصحّة:

1 - بأصالة البراءة، بدعوى أنّ الشكّ في الصحّة ناشيءٌ من الشكّ في مانعيّة وجوب الإزالة عن الصّلاة، وتقيّد الأمر بها على عدم وجوبها، وحيث أنّه تجري أصالة البراءة عن المانعيّة، فتثبت بها الصحّة.

2 - وبلزوم الحَرَج المنفيّ في الشريعة من عدم الصحّة، إذ غالب أفراد المكلّفين في أوقات الصّلاة مخاطبون بواجبٍ آخر، لا أقلّ من الخطاب بأداء الدين، وعليه فيلزم فساد صلاة الجميع، والالتزام بذلك كما ترى .

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ القائل بالفساد لا يقول به، لأجل أخذ عدم وجوب الإزالة قيداً شرعيّاً للصَّلاة، بل يقول به لأجل تزاحم الأمر بالإزالة مع الأمر بالصّلاة، وحيثُ أنّ الأمر بهما محالٌ ، لكونه طلباً للمحال، فلتضيّق الإزالة تكون هي المأمور بها دون الصّلاة، وعليه فتكون الصّلاة فاسدة: إمّا للنهي عنها أو لعدم الأمر بها، مع اعتبار قصد الأمر في صحّة العبادة.

وعليه، فالرجوع إلى أصالة البراءة في غير محلّه.).

ص: 208


1- راجع: زبدة الاُصول: (مسألة الترتّب).
2- الحدائق الناضرة: ج 5/294-295 (الأمر بالشيء هل يستلزم النهي عن ضدّه).

وأمّا الثاني: فلأنّ الخطاب الآخر الذي فرض توجّهه إلى من تجب عليه الصّلاة:

إنْ كان بواجبٍموسّع، فلايكون مانعاً عن الأمر بالصّلاة، لعدم التزاحم بينهما.

وإنْ كان متعلّقاً بالمضيّق، فمع أنّ ما ذكر من ابتلاء غالب المكلّفين به، غير تامّ ؛ لأنّه إنْ لم يكن قادراً على امتثاله، فلا يكون مانعاً عن الأمر بالصّلاة، وإنْ كان قادراً عليه، فهو يكون من صُغريات هذه المسألة، والالتزام بفساد الصّلاة ما لم يتضيّق وقتها في ذلك الفرض، لا يترتّب عليه حَرَجٌ ولا غيره من المحاذير.

***

وجوب قطع الصّلاة للإزالة

الفرع الخامس: إذا كان عالماً بالنجاسة، ثمّ غَفَل وصلّى ، ثمّ التفتَ إليها في أثناء الصّلاة، أو علم بها في أثنائها:

فهل يجب عليه إتمامها ثمّ الإزالة ؟

أو إبطالها والمبادرة إلى الإزالة ؟

أو يفصّل بين الصورتين، فيجب الإتمام في الأُولى ، والإبطال في الثانية ؟

أو يتخيّر بينهما في الصورتين ؟

وجوهٌ وأقوال، ولا يخفى أنّ مورد هذه الوجوه، هو ما إذا كان المضيّ في الصّلاة منافياً مع المبادرة إلى الإزالة، وإلّا كما لو أمكنت الإزالة من دون أن يبطلها، أو لم يناف الإتمام الفوريّة العرفيّة، فلا وجه لقطع الصّلاة وإبطالها كما لا يخفى .

وقد استدلّ للأوّل: بأنّ دليل الفوريّة هو الإجماع، والمتيقّن منه غير المقام، فدليل حرمة الإبطال بلا مزاحم.

وفيه: ما عرفت من عدم اختصاصه به، بل دليلها دليلُ وجوب الإزالة

ص: 209

فراجع.(1)

واستدلّ للثالث: الذي اختاره جملةٌ من المحقّقين، منهم المحقّق النائيني رحمه الله: بأنّه في الصورة الثانية يُستصحب وجوب الإتمام، وحرمة القطع، وعدم وجوب الإزالة الثابتة قبل العلم، وأمّا في الصورة الأُولى فللعلم بوجوب الإزالة قبل الصّلاة، لا علم بوجوب الإتمام في زمانٍ من الأزمنة حتّى يستصحب.

وفيه: أنّه كما لا يكون وجوب الإزالة - الثابت من حين حصول النجاسة، الذي لا يكون معلوماً - مانعاً عن الأمر بالصّلاة، ووجوب إتمامها في صورة الجهل، كذلك وجوب الإزالة الذي لا يكون منجّزاً للنسيان، لا يكون مانعاً عن وجوب الإتمام، فالإتمام يكون واجباً قبل العلم والالتفات في الصورتين، فالتفصيل في غير محلّه.

مع أنّ وجوب الإتمام في نفسه ممّا لا شكّ فيه حتّى يستصحب.

وإنّما الكلام في تقدّمه على وجوب الإزالة وعدمه، والاستصحاب لا يزيد على الدليل الاجتهادي، الدالّ على الوجوب، فكما أنّه مع الدليل الاجتهادي يقع التزاحم بينهما، كذلك مع الاستصحاب.

فإنْ قلت: إنّه يُستصحب وجوب الإتمام تعييناً الثابت قبل العلم.

قلت: إنّ تعيّنه كان بحكم العقل، لأجل عدم المزاحم، والكلام إنّما يكون في تعيّنه مع وجود المزاحم، والاستصحاب لا يجري في الفرض.

واستدلّ للأخير: بأنّه حيثُ لم يُحرز أهميّة شيءٍ من وجوب الإزالة ووجوب الإتمام، فلا محالة يتخيّر بينهما.

وفيه: إنّ ذلك فرع التزاحم المتوقّف على شمول دليل كلّ واحدٍ منهما لمثلد.

ص: 210


1- صفحة 200 و 207 من هذا المجلّد.

الفرض في نفسه، وحيثُ أنّ دليل حرمة القطع هو الإجماع، والمتيقّن منه غير المقام، فلا مزاحم لوجوب المبادرة إلى الإزالة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى وجوب الإبطال، والمبادرة إلى الإزالة.

***

هل يجوز تنجيس المسجد ثانيا

الفرع السادس: إذا كان موضعٌ من المسجد نجساً:

فهل يجوز تنجيسه ثانياً إذا لم يستلزم تنجيس ما يجاوره أم لا؟

أو يفصّل بين ما لو كانت الثانية أشدّ وأغلظ فلا يجوز، وبين ما لو لم تكن كذلك فيجوز؟ وجوهٌ وأقوال:

قد استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ المتنجّس يتنجّس ثانياً، غاية الأمر يكفي الغَسل الواحد للجميع، وعليه فالتنجيس الثاني أيضاً محكومٌ بالحرمة بمقتضى إطلاق الدليل.

2 - وبأنّ تنجيسه ثانياً ملازمٌ لإدخال النجاسة في المسجد، وهو حرام.

3 - وبأنّ التنجيس مهانةً له، وهي حرام.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلما تقدّم من عدم تنجّس المتنجّس ثانياً.

وأمّا الثاني: فلما عرفت من عدم حرمة إدخال النجاسة في المسجد من حيث هو، مع أنّه لا يشمل تنجيسه ثانياً بالمتنجّس لا بالنجس.

وأمّا الثالث: فلأنّ كون النجاسة اليسيرة موجبة لحصول المهانة محلُّ تأمّلٍ بل منع، مع أنّ حرمة المهانة بجميع مراتبها غير خالية عن الإشكال.

واستدلّ للأخير: بأنّ التنجيس المحرّم ملحوظ بنحو الطبيعة السارية في المراتب بقرينة الارتكاز العرفي.

ص: 211

وفيه: أنّه لو سُلّم ثبوت المراتب للنجاسة، لا نُسلّم كون التنجّس ملحوظاً بنحو الطبيعة السارية فيها، إذ ذلك فرع ثبوت الإطلاق لدليل حرمة التنجيس، المتوقّف على كونه في مقام البيان من هذه الجهة، وحيثُ إنّه ليس في مقام البيان من هذه الجهة كما لا يخفى ، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.

وأمّا التفصيل: بين ما لو أوجب التلويث فيحرم، وبين ما لو لم يوجب فلا يُحرَم، فلعلّ وجهه تلازم التلويث مع حصول الهتك فيحرم لذلك، وفيه منعٌ واضح.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى عدم حرمة التنجيس ثانياً إذا لم يستلزم تنجيس ما يجاوره، ولم يستلزم حصول الهتك.

***

لو توقّف تطهير المسجد علي تخريب شيء منه أو على تخريبه أجمع

الفرع السابع: لو توقّف تطهير المسجد علي تخريب شيء منه أو علي تخريبه أجمع:

فهل يجب التطهير، أو يحرُم التخريب، أم يفصّل بين الموردين فيحرم في الثاني، أم يتخيّر بينهما مطلقاً؟ وجوهٌ وأقوال:

قد استدلّ للأوّل: بأنّ ما دلّ على حرمة التخريب، لا يشمل المورد، لاختصاصه بما إذا لم يكن لمصلحة المسجد، وتطهير المسجد من هذا القبيل، وعليه فلا مزاحم لوجوب الإزالة.

وفيه: أنّ الموجب لجواز التخريب هو النفع العائد إلى المتردّدين، وليست الطهارة منه.

واستدلّ للأخير: بأنّ وجوب التطهير يزاحم حرمة التخريب، وحيثُ لم يُحرز الأهميّة، فمقتضى القاعدة هو التخيير.

وفيه: أنّه قد حقّقناه في محلّه أنّه لو توقّف فعل واجبٍ على فعل محرّم، ولم تحرز أهميّته، تعيّن البناء على بقاء الحرمة وعدم جواز ارتكابه، مثلاً لو توقّف إنقاذ

ص: 212

الغريق على قتل نفس محترمة، لا يجوز القتل للإنقاذ، وما نحن فيه من هذا القبيل، فلا يجوز التخريب.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى هو القول الثاني.

***

إذا توقّف التطهير على بذل مالٍ ، فهل يجب أم لا؟

الفرع الثامن: إذا توقّف التطهير على بذل مالٍ ، فهل يجب أم لا؟ وجهان بل قولان:

أقول: وتنقيح القول يتحقّق من خلال البحث في موردين:

الأوّل: فيما لو توقّف التطهير على بذل مالٍ بإزاء الماء ليشتري ويطهّره بنفسه.

الثاني: فيما لو كان من قبيل الاُجرة على التطهير.

أمّا المورد الأوّل: فلو كان التطهير ملازماً ولو غالباً لبذل المال، فإنّه لا إشكال في وجوبه، وأمّا بما أنّه ليس كذلك، فيتعيّن الرجوع في هذه الموارد إلى ما دلّ على نفي الضرر المقتضي لعدم وجوب البذل.

وأمّا المورد الثاني: فعدم وجوب البذل فيه أوضح، إذ مضافاً إلى ذلك يرد على القول بالوجوب:

أنّه إنْ اُريد أنّ الواجب عليه فعل الأجير، بدعوى كونه عملاً تسبيبيّاً له.

فيه: أنّه مع وساطة إرادة النائب، التي تكون إرادة مستقلّة، وليست تحت إرادته، لا تصحّ هذه الدعوى .

وإنْ اُريد أنّ الواجب عليه في الفرض الاستنابة، فهو يحتاج ثبوته إلى ورود دليلٍ آخر غير ما دلّ على لزوم الإزالة. ومع الشكّ فيه فيرجع إلى الأصل، وهو يقتضي العدم.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم وجوب البذل، وبذلك ظهر حكم فرعٍ آخر وهو أنّه

ص: 213

هل يجب إعلام الغير إذا لم يتمكّن من الإزالة أم لا، وأنّ الأظهر العدم.

ثمّ إنّه في المقام لو بذل لا يضمن مَنْ صار سبباً للتنجّس، إذ السبب يكون ضامناً فيما لو كان التلف مستنداً إليه عرفاً لا إلى المباشر بأنْ لم يكن صادراً عنه بالاختيار، وأمّا في مثل المقام، فلا دليل على الضمان. وتمام الكلام موكولٌ إلى محلّه.

حكم تنجيس المسجد الخراب وتطهيره

الفرع التاسع: إذا غُصِب المسجد وجُعل داراً أو طريقاً أو صار خراباً، بحيث لا يمكن تطهيره ولا الصّلاة فيه:

فهل يجوز تنجيسه ولا يجب تطهيره ؟

أم يُحرم الأوّل ولا يجب الثاني ؟

أم يُحرم الأوّل ويجب الثاني ؟ أقوال ووجوه:

قد استدلّ للأوّل: بأنّ المسجديّة وإنْ كانت من الاُمور الاعتباريّة، إلّاأنّ تحقّقها يتوقّف على الإعداد.

وفيه: أنّه لكونها من الاعتباريّات، والاعتبار خفيف المؤونة، فإنّه لا يعتبر في اعتبارها سوى ما يُخرجه عن اللّغويّة، فلا يتوقّف على الإعداد.

واستدلّ للثاني بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ مقتضى إطلاق دليل الحكمين، ثبوتهما في الفرض، إلّاأنّ وجوب الإزالة يكون حرجيّاً، فيرتفع بما دلّ على نفي الحَرج.

وفيه: - مضافاً إلى ما ستعرف من عدم شمول إطلاق دليلهما للمقام - إنّ عدم وجوب الإزالة حينئذٍ إنّما يدور مدار الحرج، فلو لم يلزم ذلك ولو في موردٍ واحد، لا وجه للحكم بارتفاع الوجوب، إذ الحرج كسائر ما يُؤخذ موضوعاً للحكم إنّما

ص: 214

يثبت له الحكم إذا تحقّق مصداقه في الخارج، ففي كلّ موردٍ لزم من وجوب الإزالة حرجٌ حُكم بعدمه، وأمّا إذا لم يلزم من جعله الحَرج في موردٍ، فلا وجه لارتفاع وجوبه.

الوجه الثاني: إنّ دليل الحكمين لا إطلاق له بحيث يشمل المقام، إذ نصوص اتّخاذ الكنيف مسجداً مختصّة بغير المقام، والمتيقّن من معقد الإجماع غيره، فيتعيّن الرجوع إلى الاُصول. ومقتضى الاستصحاب بقاء حرمة التنجيس، وأمّا وجوب الإزالة فحيثُ أنّ استصحابه من الاستصحاب التعليقي ولا نقول بحجيّته، فالمرجع إلى أصالة البراءة.

وفيه: أنّ ما ذُكر من عدم شمول الدليل للمقام، وإنْ كان متيناً، ومنه يظهر ضعف القول الأخير، إلّاأنّ ما ذكر من التفصيل من جريان الاُصول بين الحكمين في غير محلّه، إذ وجوب الإزالة وحرمة التنجيس ليسا حُكمين، بل حكم واحد، وهو حرمة وجود النجاسة في المسجد، ويعبّر عن حرمة إحداث النجاسة بحرمة التنجيس، وعن حرمة إبقائها بوجوب الإزالة، فعلى فرض جريان الاستصحاب يجري استصحاب حرمة وجود النجاسة في المسجد، وينتزع منها حكمان: حرمة التنجيس، ووجوب الإزالة.

أقول: ولكن الصحيح عدم جريان الاستصحاب، إذ الشكّ في بقاء الحرمة مسبّبٌ عن الشكّ في الجعل بنحو تكون باقية بعد الخراب، وحيث أنّ حرمة التنجيس لم تكن في أوّل الشريعة مجعولة قطعاً، فيشكّ في جعلها، فيستصحب عدم الجعل، ويثبت به عدم الحرمة، بناءً على ما حقّقناه في محلّه من أنّ استصحاب عدم الجعل يجري ويثبت به عدم المجعول.

ودعوى: أنّ جعل الحرمة لتنجيس المسجد معلومٌ إلى الأبد، أو ما دام لم يصبح

ص: 215

خراباً، وعليه فاستصحاب عدم جعلها إلى الأبد، يعارض استصحاب عدم جعلها في خصوص ما إذا لم يكن خراباً، فيتساقطان والمرجع إلى الأصل المحكوم، وهو استصحاب بقاء الحرمة.

مندفعة: بعدم جريان استصحاب عدم جعلها ما لم يصبح خراباً، لمعلوميّة حرمته في ذلك الزمان.

***

وجوب التيمّم لمكث الجُنُب في المسجد للإزالة

الفرع العاشر: إذا رأى الجُنُب نجاسة في المسجد، ولم يمكنه الإزالة بدون المكث، وكان تأخيرها إلى ما بعد الغُسل منافياً للفوريّة:

فهل يجب التأخير إلى ما بعد الغُسل ؟

أم يجب المكث جُنُباً؟

أم يجب مع التيمّم ؟

أو يتخيّر بينهما؟

وجوهٌ وأقوال، أقواها الثالث، إذ المكث لكونه مقدّمةٌ للإزالة يصير واجباً، وعليه فيشرع التيمّم له.

ودعوى(1): أنّ جميع غايات الوضوء والغُسل ليست غايات للتيمّم، لا سيّما

ص: 216


1- المشهور أنّ كلّ غايات الوضوء والغسل غايات للتيمّم، وقد حكى السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 4/456 عن عدّة من الأعلام تخصيص هذه القاعدة مع اختلافهم ببعض التفاصيل، حيث حصر بعضهم التيمّم بالصّلاة والخروج من المسجدين، وبعضهم صحّحه في الطواف مطلقاً، وآخر صحّحه بدلاً عن الحَدَث الأصغر دون الأكبر، وآخر منع من التيمّم لتصحيح صوم الجُنُب والحائض والمستحاضة، وآخرون غير ذلك من التفاصيل التي تعرّض لها السيّد في مستمسك العروة فراجع.

دخول المسجدين، واللّبث في المسجد، ومسّ كتابة القرآن، لقوله تعالى: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (1) حيث غيّت الآية الشريفة المكث في المساجد بالاغتسال، ولو أباحه التيمّم لكان أيضاً غايةً .

مندفعة: بأنّ إطلاق أدلّة البدليّة يوجبُ كون جميع غاياتهما غايته، وجعل الغُسل غايةً لحرمة المكث، لا ينافي ذلك، لحكومة أدلّة البدليّة عليه.

ودعوى(2): أنّه يعتبر في مشروعيّة التيمّم فقدان الماء، ومع وجدانه لايكون مشروعاً.

مندفعة: بأنّ وجوبه بما أنّه وجوب مضيّق يكون فاقداً بالنسبة إليه.

فإنْ قلت: إنّ جعل المكث غايةً للغُسل أو التيمّم، لا يمنع عن إشكال، إذ المتوقّف عليهما جواز المكث لا نفس المكث، فلا يكون الأمر بهما غيريّاً، بل يكون عقليّاً من باب لزوم الجمع بين غرضي الشارع، فوجوب المكث لا ينفع في تشريع الغُسل والتيمّم لعدم كونهما مقدّمتين له، بل هما من مقدّمات جوازه، وهو ليس من فعل المكلّف.

قلت: إنّ مطلق تحقّق المكث وإنْ لم يتوقّف على الغُسل والتيمّم، إلّاأنّ وجود المكث وتحقّقه الذي لا مفسدة ولا مبغوضيّة فيه يكون متوقّفاً عليهما، فكما يقال في قراءة القرآن من إنّ وجودها الكامل يتوقّف على الوضوء، وهي إحدى غاياته، كذلك في المقام.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى تعيّن التيمّم والإزالة، وعدم جواز تأخير الإزالة إلى ما بعد الغسل.2.

ص: 217


1- سورة النساء: الآية 43.
2- مستمسك العروة: ج 1/512.

وأيضاً: لو لم يمكن التطهير إلّابالمكث جُنُباً، فالأظهر عدم جواز المكث لا لأهميّة حرمة المكث، إذ لم يحرز ذلك، بل لما ذكرناه مراراً من أنّه لو توقّف فعلُ واجبٍ على محرّم، ولم يُحرز أهميّة الواجب، فإنّ مقتضى القاعدة عدم جواز ارتكاب الحرام مقدّمةً لامتثال الواجب.

نعم، إذا استلزم التأخير إلى ما بعد الغُسل هتك حرمته، وجب التطهير حينئذٍ لأهميّة وجوب الإزالة كما لا يخفى .

***

حكم تنجيس المشاهد المشرّفة

الفرع الحادي عشر: نُسب إلى جماعةٍ من الأصحاب كالشهيدين(1)، والمحقّق الثاني(2) وغيرهم(3): إلحاق المصاحف، والضرائح المقدّسة، والمشاهد المشرّفة، والتربة الحُسينيّة، بالمساجد، بل لعلّه لا خلاف فيه ظاهراً.

واستدلّ له:

1 - بأنّ المعلوم من الشريعة زيادة احترام هذه الاُمور على المساجد، وعليه فما دلّ على حرمة تنجيس المساجد، يدلّ بالفحوى على حرمة تنجيسها.

2 - وبلزوم تعظيمها واحترامها، والتنجيس منافٍ للتعظيم بجميع أفراده.

3 - وبما دلّ على حرمة المهانة لها، بدعوى أنّ التنجيس مهانة فيَحرُم.

أقول: وفي الجميع نظر إذ لم يُعلم كون حكمة حرمة تنجيس المساجد، مجرّد الاحترام وتعظيم المسجد، كما أنّ وجوب التعظيم ولو بعض أفراده، ممّا لم يدلّ

ص: 218


1- الدروس: ج 1/102، مسالك الأفهام: ج 1/124.
2- جامع المقاصد: ج 1/169.
3- راجع المقنعة: ص 350، شرائع الإسلام: ج 1/42، مجمع الفائدة: ج 1/324.

عليه دليل.

نعم، المهانة لها حرام، فكلّ موردٍ استلزم التنجيس مهانةً ، كان محرّماً، وأمّا إذا لم يستلزمها، فلا وجه للحرمة، إلّاإذا ثبت إجماعٌ تعبّدي عليها.

وفي طهارة الشيخ الأعظم(1): هذا في غير خطّ المصحف، وأمّا فيه فلا إشكال في وجوب الإزالة، لفحوى حرمة مسّ الُمحْدِث له.

وفيه: - مضافاً إلى ما أورده عليه المحقّق الهمداني رحمه الله(2) من أنّه تتمّ الفحوى لو قلنا بوجوب حفظ القرآن عن أنْ يمسّه غير المتطهِّر، وإنْ لم يكن مكلّفاً، بأنْ وجب منع غير المتطهّر من مسّ خطّه، وإلّا فلا تتمّ الفحوى إلّابالنسبة إلى حرمة التنجيس، لا وجوب الإزالة، كما لا يخفى - أنّه لعدم معلوميّة مناط الحكم، لا سبيل إلى دعوى الأولويّة.

***2.

ص: 219


1- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/369.
2- مصباح الفقيه: ج 1/586 ق 2.

ما نَقَص عن سِعة الدِّرهم البَغليّ من الدّم.

ما يُعفى عنه في الصَّلاة
اشارة

وأمّا الموارد المستثناة، فهي اُمور:

ما نقص عن سعة الدِّرهم
اشارة

الأمر الأوّل: (ما نقص عن سعة الدِّرهم) وقيّده بعضهم ب (البَغليّ )، وآخر ب (الوافي)، ولعلّهما شيءٌ واحد كما سيمرّ عليك (من الدّم) غير الدّماء الثلاثة:

الحيض، والاستحاضة، والنفاس، ودم نجس العين، والميتة، وما لا يؤكل لحمه.

فهاهنا مسائل:
عدم العفو عمّا يساوي الدِّرهم

المسألة الأُولى : لا خلاف ولا إشكال في العفو عن الدّم الأقلّ من الدِّرهم، إذا كان في الثّوب من نفسه، كما لا شُبهة في عدم العفو عمّا زاد عن الدِّرهم، إنّما الكلام يقع في مواضع:

الموضع الأوّل: المشهور بين الأصحاب(1) عدم العفو عمّا يساوي الدِّرهم.

وعن «الخلاف»(2): دعوى الإجماع عليه.

وعن «كشف الحقّ »(3): نسبته إلى الإماميّة.

وعن السيّد في «الإنتصار»(4)، وسلّار(5): ثبوت العفو عنه. وعن المصنّف في

ص: 220


1- راجع الهداية: ص 72، المقنعة: ص 69، رسائل المرتضى: ج 3/28.
2- الخلاف: ج 1/477.
3- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 6/110.
4- الإنتصار: ص 95.
5- المراسم العلويّة: ص 55، ونسبه إليه في كشف الرموز: ج 1/109.

«التذكرة»(1) والمحقّق في «النافع»(2): التوقّف فيه.

أقول: والأقوى هو الأوّل:

1 - لصحيح ابن أبي يعفور: «قلتُ للصادق عليه السلام: ما تقول في دم البراغيث ؟

قال: ليس به بأس.

قلت: إنّه يكثر ويتفاحش ؟ قال: وإنْ كَثُر وتفاحش.

قلت: فالرَّجل يكون في ثوبه نقط الدّم، لا يعلم ثُمّ يعلم فينسى أن يغسله فيُصلّي، ثمّ يذكر بعدما صَلّى أيُعيد صلاته ؟

قال عليه السلام: يغسله ولا يُعيد صلاته إلّاأن يكون مقدار الدِّرهم مجتمعاً، فيغسله ويُعيد الصّلاة»(3).

2 - ومرسل جميل، عن بعض أصحابنا، عن الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس بأنْ يُصلّي الرجل في الثّوب، وفيه الدّم متفرّقاً شبه النَّضح، وإنْ كان رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به، ما لم يكن مجتمعاً قَدْر الدِّرهم»(4).

واستدلّ للثاني:

1 - بصحيح إسماعيل الجُعفي، عن أبي جعفر عليه السلام: «في الدّم يكون في الثّوب ؟

قال: إنْ كان أقلّ من الدِّرهم، فلا يُعيد الصّلاة، وإنْ كان أكثر من الدِّرهم، وكان قد رآه ولم يغسله حتّى صَلّى، فليعد صلاته»(5).

فإنّ مقتضى الشرطيّة الثانية العفو عن مقدار الدِّرهم أيضاً.

2 - وحسن ابن مُسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام:2.

ص: 221


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/8.
2- المختصر النافع: ص 18.
3- التهذيب: ج 1/255 ح 27، الاستبصار: ج 1/176 ح 3.
4- التهذيب: ج 1/256 ح 29، وسائل الشيعة: ج 3/430 ح 4074.
5- التهذيب: ج 1/255 ح 26، وسائل الشيعة: ج 3/430 ح 4072.

«قلت له: الدّم يكونُ في الثّوب عَليَّ وأنا في الصّلاة ؟

قال عليه السلام: إنْ رأيته وعليك ثوبٌ غيره، فاطرحه وصلِّ في غيره، وإنْ لم يكن عليك ثوبٌ غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك، وما لم يزد على مقدار الدِّرهم فليس بشيءٍ ، رأيته قبلُ أو لم تره، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدِّرهم فضيّعت غَسله، وصلّيت فيه صلاة كثيرة، فأعد ما صلّيت فيه»(1).

فإنّه يدلّ بكلتا الجملتين عليه.

أقول: فيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لو لم يكن ظاهراً في القول الأوّل لأجل أنّ حكم المساوي إنّما يستفاد من مفهوم الشرطيّة الأُولى، لكان مجملاً من جهة دوران الأمر بين كون الشرطيّة الأُولى تصريحاً بمفهوم الثانية، وبين كون الثانية تصريحاً بمفهوم الأُولى ، وعليه فيتعيّن العمل بغير هذا النّص.

وأمّا الثاني: فلأنّ دلالته على العفو عن المساوي إنّما يكون بالإطلاق، فيقيّد بصحيح ابن أبي يعفور، ومرسل جميل، أو يحمل على أنّ المراد منه الدِّرهم فما زاد، وعلى فرض التنزّل وتسليم التعارض، فالترجيح معهما للأشهريّة.

الموضع الثاني: هل يختصّ الحكم باللّباس أو يعمّ البَدَن ؟ وجهان:

استدلّ للأوّل: باختصاص النصوص به.

أقول: لكن الأقوى ما ذهب إليه المشهور، من عموم الحكم للبدن، بل عن «التذكرة»(2) و «كشف الالتباس» وغيرهما: دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له:

1 - مضافاً إلى القطع بعدم الخصوصيّة للثّوب، ولذا لم يتوقّف فيه أحدٌ من العلماء.8.

ص: 222


1- الكافي: ج 3/59 ح 3، وسائل الشيعة: ج 3/431 ح 4076.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/8.

2 - خبر المثنّى بن عبد السلام، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«إنّي حككتُ جلدي فخرج منه دم ؟ قال عليه السلام: إن اجتمع قدر الحُمّصة فاغسله وإلّا فلا»(1).

فإنّه يدلّ على أنّ مقدار الحُمّصة في البَدَن يكون معفوّاً عنه.

3 - ضميمة عدم الفصل بينه وبين ما زاد عليه، ما لم يصل إلى مقدار الدِّرهم، فإنّه يثبت الحكم بإطلاقه.

الموضع الثالث: لا يختصّ الحكم بما إذا كان الدّم من نفسه، بل يعمّ ما إذا كان من غيره لإطلاق النصوص.

واختار صاحب «الحدائق» رحمه الله(2) الاختصاص، ونسبه إلى الأمين الاسترآبادي أيضاً.

واستدلّ له: بمرفوع البرقي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«دمك أنظف من دم غيرك إذا كان في ثوبك شبه النَّضح فلا بأس، وإنْ كان دم غيرك، قليلاً كان أو كثيراً فاغسله»(3).

وفيه: أنّه لا يدلّ على الفرق بينهما من حيث صحّة الصّلاة، وإنّما يكون ظاهره الفرق بنجاسة قليل دم الغير دون دم نفسه، وهو ممّا لم يلتزم به أحدٌ.

مع أنّه لو سُلّم دلالته على ما استدلّ به له، فإنّه لا يُعتمد عليه لإعراض الأصحاب عنه.

***7.

ص: 223


1- التهذيب: ج 1/255 ح 28.
2- الحدائق الناضرة: ج 5/328.
3- الكافي: ج 3/59 ح 7.

غَير الدِّماء الثلاثة.

في المستثنيات
اشارة

المسألة الثانية: ما ذكرناه إنّما هو في الدّم (غير الدِّماء الثلاثة).

وأمّا هي فمستثناةٌ ممّا ذكر، من غير خلافٍ يُعرف في الحيض، بل عن غير واحدٍ(1) دعوى الإجماع عليه.

واستدلّ له: بخبر أبي سعيد، عن أبي بصير، عن مولانا الباقر عليه السلام وسيّدنا الصادق عليه السلام: «لا تُعاد الصّلاة من دمٍ لم تبصره، إلّادم الحيض، فإنّ قليله وكثيره في الثّوب إنْ رآه وإنْ لم يره سواء»(2).

بدعوي ظهور القليل فيمادون الدِّرهم، بملاحظة ظهوره في خصوصيّة دم الحيض.

وفيه: إنّ ظهور الخبر في خصوصيّة دم الحيض وإنْ كان لا يُنكر، ولكن ظاهره خصوصيّته له في أنّ الصّلاة فيه باطلة حتّى مع الجهل، وعليه فهو مطلقٌ ، فيكون كسائر النصوص الدالّة على مانعيّة دمٍ خاص.

ودعوى(3): ظهور القليل في إرادة ما دون الدِّرهم، كما ترى .

وأيضاً دعوى (4) : أنّ النسبة بينه وبين إطلاق العفو عمّا دون الدِّرهم عمومٌ من وجه، وبعد التعارض والتساقط يرجع إلى عموم ما دلّ على مانعيّة النجاسة.

مندفعة: بأنّ نصوص العفو حاكمة عليه، كما أنّها حاكمة على نصوص

ص: 224


1- الخلاف: ج 1/477، غنية النزوع: ص 41.
2- الكافي: ج 3/405 ح 3. (3و4) مستمسك العروة: ج 1/565.

الرِّعاف وغيرها ممّا ورد في بعض أنواع الدّم، كما لا يخفى .

أقول: وبذلك يظهر الجواب عن الاستدلال له بإطلاق ما دلّ على وجوب غَسل دم الحيض، بدعوى أنّ النسبة بينه وبين أخبار العفو عمومٌ من وجه، وبعد التعارض يرجع إلى عموم المنع من الدّم.

وأيضاً: نظيرهما في الضعف، الاستدلال له بانصراف نصوص العفو عن دم الحيض إمّا لندرة ابتلاء الرجل الذي هو الموضوع في تلك الأخبار به، أو لأغلظيّة نجاسة دم الحيض، إذ ندرة الوجود لا توجبُ الإنصراف كما حُقّق في محلّه، كما أنّ أغلظيّة نجاسة دم الحيض غير ثابتة، مع قطع النظر عن ملاحظة هذا الحكم، لأنّ إيجابه الغَسل أعمٌّ من ذلك، مع أنّها أيضاً لا توجب الانصراف.

وبالجملة: فالعمدة في هذا الحكم الإجماع الذي حكاه غير واحدٍ.

وأمّا دم النفاس: فقد استدلّ له:

1 - بما ورد من أنّ النفاس حيضٌ محتبسٌ .

2 - وبأنّ أصل النفاس حيض.

3 - وبانصراف نصوص العفو عنه لأغلظية نجاسته من غيره من الدِّماء.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لم يرد في مقام بيان قضيّة شرعيّة تنزيليّة، بل هو في مقام بيان قضيّة خارجيّة، كما يشهد له توصيفه بالإحتباس، إذ لا أثر للحيض المُحتَبس.

وأمّا الثاني: فلأنّ كون أصل النفاس حيضاً، لا يوجبُ ترتّب جميع أحكامه عليه، بعد كونه عنواناً مستقلّاً في مقابله.

وأمّا الثالث: فقد عرفت ما فيه.

ص: 225

وبذلك كلّه ظهر ما في الاستدلال لاستثناء الاستحاضة، وحيثُ أنّ الإجماع فيهما غَير ثابت إذ المحكيّ عن المحقّق في «المعتبر»(1) و «النافع»(2) أنّ أوّل من ألحقهما بدم الحيض الشيخ قدس سره، فالحكم فيهما ليس من المسلّمات، فلا دليل على استثنائهما، ولكن الاحتياط فيهما لا يُترك، لإفتاء الأعاظم من المحقّقين الذين يُعتمد على فتاويهم بعدم العفو عنهما.

***8.

ص: 226


1- المعتبر: ج 1/429.
2- المختصر النافع: ص 18.

وَدَمُ نَجس العين.

دم نجس العين

(و) الحقّ بعض فقهاء قُمّ بدم الحيض (دم) الكلب والخنزير، بل مطلق (نجس العين)، واشتهرت حكاية هذا القول عن القُطب الراوندي(1) وابن حمزة(2). وعن الحِلّي في «السرائر»(3): إنّ القول بعدم العفو فيه خطأٌ عظيم وزَللٌ فاحش، لأنّ هذا هدمٌ وفرق لإجماع أصحابنا.

أقول: والأوّل أقوى، وذلك لأنّ دليل العفو إنّما دلّ على العفو عن النجاسة الدمويّة، لا النجاسة الاُخرى الثابتة له من حيث كونه جزءٌ من نجس العين.

ودعوى : عدم تنجّس النّجس والمتنجّس، قد عرفت ما فيها في بحث تنجّس المتنجّس.

ودعوى : بعض الأعاظم من المحقّقين في مصباحه(4) من أنّه لا شبهة في أنّ نصوص العفو مسوقة لبيان حكم أفراد الدّم، المتحقّقة في الخارج، لا في مقام بيان حكم الطبيعة من حيث هي دون أفرادها، وكونه دم كلب أو خنزير، ككونه دم رجل أو امرأة إنّما هو من مشخّصات الفرد، غيرُ خارجٍ من حقيقته، فأخبار الباب بظاهرها تعمّ دم الكلب والكافر أيضاً.

فممنوعة: إذ لا شبهة في أنّ النصوص واردة في مقام بيان أفراد الدّم، لا الطبيعة

ص: 227


1- نسبه إليه في السرائر: ج 1/177.
2- نسبه إليه في كشف اللّثام (ط. ق): ج 1/52.
3- السرائر: ج 1/177.
4- مصباح الفقيه: ج 1/593 ق 2.

من حيث هي، ولكن أفراده من حيث انطباق عنوان الدّم عليه لا من سائر الجهات. ومعنى الإطلاق عدم دخل الخصوصيّات المشخّصة في الحكم، لا دخل كل خصوصيّةٍ فيه، فلا يفيد ما ذكره رحمه الله من أنّه كونه دم كلبٍ ككونه دم رجلٍ من مشخّصات الفرد، فنصوص الباب لا تعمّ دم الكلب وغيره من نجس العين، من جهة كونه من أجزاء نجس العين، وبالتالي فيرجع من هذه الجهة إلى عموم المنع.

ولو تنزّلنا عن ذلك، وسلّمنا كون النصوص في مقام بيان العفو عن الدّم الأقلّ من الدِّرهم من جميع الجهات، حتّى من جهة كونه جزءٌ لنجس العين، وكونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فيقع التعارض بينها وبين موثّق ابن بكير: «إنّ الصّلاة في وَبَر كلّ شيءٍ حرامٌ أكله، فالصَّلاة في وَبَره وشعره وجلده وبوله وروثه، وكلّ شيءٍ منه فاسدة، لا تُقبل تلك الصّلاة حتّى يُصلّي في غيره ممّا أحلَّ اللّه أكله»(1).

والنسبة بينهما عمومٌ من وجه، وحيث أنّ دلالة الموثّق تكون بالعموم فيقدّم.

ودعوى(2): عدم شمول الموثّق للدّم، لأنّ المراد بعموم (كلّ شيء) هي الأشياء التي يكون المنع من الصّلاة فيها ناشئاً من حرمة الأكل، بحيث لو كان حلال الأكل لكانت الصّلاة فيه جائزة، فمثل الدّم والمَنيّ خارجٌ ممّا اُريد بهذا العام.

مندفعة: بأنّه لو سُلّم هذا الظهور، فإنّ الدّم الأقل من الدِّرهم يكون من جملة تلك الأشياء، إذ لو كان الحيوان محلّل الأكل لكانت الصّلاة في دمه الأقلّ من الدِّرهم جائزة.

فتحصّل: أنّ الأقوى إلحاق دم نجس العين بدم الحيض، وظهر أيضاً إلحاق دم الميتة وغير المأكول به، كما لا يخفى .

***2.

ص: 228


1- الكافي: ج 3/397 ح 1.
2- كتاب الطهارة للخوئي: ج 2/442.
المراد بالدّرهم

المسألة الثالثة: في المراد بالدّرهم في محلّ الكلام:

وهو على ما عن «السرائر»(1)، و «الفقيه»(2)، و «الهداية»(3)، و «المقنعة»(4)، و «الانتصار»(5)، و «الخلاف»(6) وغيرها: الدّرهم الوافي.

وعن المصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(7)، والمحقّق(8): هو الدّرهم البَغليّ .

بل عن «كشف الحقّ »(9): أنّه مذهب الإماميّة.

وبعض الأساطين في شرحه(10): أنّ كون الدِّرهم هو البَغليّ من العلميّات، والإجماعات عليه لا تُحصر، والظاهر اتّحاد المراد بالتفسيرين.

ويشهد له: - مضافاً إلى أنّه مقتضى الجمع بين الإجماع الذي ادّعاه في «الخلاف»، وبين ما ادّعاه في «كشف الحقّ »، وعدم تعرّضهم للخلاف في التفسير - تصريح غير واحدٍ كالمحقّق(11)، والشهيد(12)، وغيرهما بالاتّحاد، وعلى هذا، فالوجه

ص: 229


1- السرائر: ج 1/177.
2- الفقيه: ج 1/71-72 في تعليقه على الحديث 165.
3- الهداية: ص 72.
4- المقنعة: ص 69.
5- الإنتصار: ص 93.
6- الخلاف: ج 1/477.
7- قواعد الأحكام: ج 1/193.
8- شرائع الإسلام: ج 1/43.
9- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 6/113.
10- أشار إلى ذلك في مستمسك العروة: ج 1/567.
11- المعتبر: ج 1/429-430.
12- الذكرى: ص 16.

في حمل الدِّرهم المذكور في النصوص على البَغليّ ، هو الإجماع المحكيّ عن جماعة.

وعن «المدارك»(1): الاستشكال فيه بأنّ البَغليّ الذي وزنه ثمانية دوانيق، تُرِك في زمان عبد الملك، حيث أنّه اتّخذ الدِّرهم المتوسّط بين البَغليّ والطبري، الذي هو أربعة دوانيق، فجعل وزن ستّة دوانيق، واستقرار أمر تعامل المسلمين عليه، فيُشكل حَمل ما ورد منه عليه السلام عليه، بل يجبُ حمله على المتعارف الشائع في زمانه عليه السلام، وهو الدِّرهم الإسلامي بعد عدم إمكان كونه من المطلق الصالح للانطباق على القليل والكثير لوروده مورد التحديد.

واُجيب عنه تارةً : بأنّه لأجل كون أحكامهم متلقّاة عن النبيّ صلى الله عليه و آله، فيجب حمل كلامهم على ما يوافق زمانه صلى الله عليه و آله.

واُخرى : بأنّ ترك استعماله في زمان الصادق عليه السلام لا يُنافي بقاءه في أيديهم.

أقول: وفيهما نظر، إذ كون أحكامهم متلقّاة عنه صلى الله عليه و آله، لا يوجب جواز التعبير بغير اصطلاح زمانهم، وبقاؤه في أيدي الناس لو سُلّم تحقّقه مع ترك استعماله في مدّةٍ من الزمن، لا يوجب جواز إطلاق الدِّرهم، وإرادته مع كون الدِّرهم الآخر متعارفاً شائعاً.

فالصحيح في الجواب: أنّ اشتهار التفسير به بين العلماء، من الصدر الأوّل إلى زماننا، يوجب القطع بالمراد، ويكون ذلك كاشفاً قطعيّاً عن ثبوت قرينة قطعيّة معيّنة.

أقول: ثمّ إنّه بما أنّ الظاهر من التقدير بالدّرهم سعته لا وزنه، فالمهمّ في المقام معرفة سعة الدِّرهم البَغليّ . حيث اختلفت كلماتهم في تحديدها:

فعن جماعةٍ منهم(2): تحديدها بأخمص الرّاحة.7.

ص: 230


1- مدارك الأحكام: ج 2/315.
2- راجع ذخيرة المعاد: ج 1/158، السرائر: ج 1/177.

وعن «المناهج»(1): أنّه الأشهر.

وعن الإسكافي(2): تقدير الدِّرهم بعقد الإبهام الأعلى .

وعن بعضٍ آخر(3): تقديره بعقد الوسطى .

وقد استدلّ للأوّل: بشهادة ابن إدريس، حيث أنّه بعدما أفتى بالعفو عمّا دون الدِّرهم الوافي، الذي هو المضروب من درهمٍ وثلثٍ ، قال(4):

(وبعضهم يقول: دون الدِّرهم البَغليّ ، وهو منسوبٌ إلى مدينةً قديمة يُقال لها بَغْل، قريبة من بابل، بينها وبينها قريبٌ من فرسخ، متّصلة ببلدة الجامعين، تجد فيها الحَفَرة والغسّالون دراهم واسعة، شاهدت درهماً من تلك الدراهم، وهذا الدِّرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام المعتاد، تقرُب سعته من سعة أخمص الرّاحة).

وفيه: أنّه ليس في كلامه ما يدلّ على أنّ ما شاهده من الدِّرهم، هو الدِّرهم البَغليّ الّذي هو الموضوع في نصوص الباب، مع أنّه حيث لا يكون المُخبَر عنه من الحسيّات، فلا يكون خبره حجّة لإثباته.

فالصحيح أن يقال: إنّ اشتهار التحديد بذلك بين الأساطين، كاشفٌ قطعيٌ عن المراد، إذ لا يحتمل في حقّهم استنادهم في هذا التحديد إلى الاُمور الحدسيّة، والاجتهادات القابلة للخطأ.

ثمّ إنّه لو تمّ ما ذكرناه، وحصل الاطمئنان منه فلا كلام، وإلّا فالمتعيّن الاقتصار على الأقلّ الذي هو المتيقّن، ويرجع فيما زاد إلى عموم ما دلّ على مانعيّة الدّم.

***7.

ص: 231


1- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 1/569.
2- نسبه إليه في المعتبر: ج 1/420.
3- نسبه إليهم في مصباح الفقيه: ج 1/591 ق 2.
4- السرائر: ج 1/477.
حكم الدّم المتفرق

المسألة الرابعة: إذا كان الدّم متفرّقاً في البَدَن أو اللّباس أو فيهما، وكان المجموع بقدر الدِّرهم:

1 - فهل هو معفوّ فيلاحظ كلّ جزءٍ في حَدّ ذاته موضوعاً مستقلّاً للحكم، كما عن جماعةٍ من القدماء والمتأخّرين(1)، وعن «كشف الالتباس»(2) نسبته إلى المشهور.

2 - أو يجب إزالته كالمجتمع، كما عن جماعةٍ آخرين(3)، بل عن بعضٍ نسبته إلى الشهرة.

3 - أو يفصّل بين صورة التفاحش فيجب الإزالة، وعدمه فلا تجب، كما عن الشيخ في «النهاية»(4) والمحقّق في «المعتبر»(5)؟ وجوه:

قد استدلّ للأوّل: بقوله عليه السلام في صحيح ابن أبي يعفور المتقدّم:

(إلّا أن يكون مقدار الدِّرهم مجتمعاً فيغسله)(6)، بدعوى أنّ (مجتمعاً) يكون خبراً ثانياً، ليكون نظير قولنا: (هذا حلوٌ حامضٌ )، مع إرادة الاجتماع الفعلي منه، كما هو الظاهر منه، فيكون ظاهره اعتبار أمرين في عدم العفو: الاجتماع، وكونه مقدار الدِّرهم.

ص: 232


1- النهاية: ص 52، مختلف الشيعة: ج 1/480، مدارك الأحكام: ج 2/318.
2- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 1/567.
3- السرائر: ج 1/178، المراسم ص 55، شرح اللّمعة: ج 1/303.
4- النهاية: ص 52.
5- المعتبر: ج 1/430-431.
6- التهذيب: ج 1/255 ح 27، وسائل الشيعة: ج 3/429 ح 4071.

وفيه: أنّه لو سُلّم كون الظاهر من الاجتماع في نفسه ذلك، ولكنّه من جهة استثنائه من نُقط الدّم الّتي كانت في الثّوب، لا ينبغي التوقّف في ظهوره في إرادة الاجتماع التقديري، وإلّا لزم كون الاستثناء منقطعاً، مع أنّ للمنع عن ظهوره فيه في نفسه مجالاً واسعاً، إذ إرادة الاتّصال من الاجتماع كما ترى .

مضافاً إلى احتمال أن يكون قوله: (مجتمعاً) حالاً من الضمير في (يكون)، فيكون المعنى: إلّاأن يكون الدّم في حال الاجتماع مقدار الدِّرهم.

أقول: فانقدح بما ذكرناه أنّ الصحيح يدلّ على القول الثاني، ولو بُني على عدم ظهوره فيما ادّعيناه، فلا أقلّ من إجماله، فيرجع إلى عموم ما دلّ على مانعيّة الدّم.

ومنه ظهر عدم صحّة الاستدلال لهذا القول بمرسل جميل المتقدّم، أنّهما قالا:

«لا بأس بأن يُصلّي الرجل في الثّوب، وفيه الدّم متفرّقاً، شبه النَّضح، وإنْ كان قد رآه صاحبه قبل ذلك، فلا بأس به ما لم يكن مجتمعاً قدر الدِّرهم»(1). بل هو أيضاً يدلّ على القول الثاني.

ودعوى(2): أنّه ضعيفُ السّند، لكونه مرسلاً، وفي طريقه ابن حديد، وهو ضعيف.

مندفعة: بأنّه لا يقدح إرساله، لأنّ المرسل جميل، والراوي عن ابن حديد ابن عيسى، وهو كان يُخرِجُ من قُمّ مَن كان يروي عن الضعفاء، فكيف يُحتمل في حقّه روايته عن الضعيف، ما لم تكن عنده قرينة قطعيّة دالّة على صدقه.).

ص: 233


1- التهذيب: ج 1/256 ح 29، وسائل الشيعة: ج 3/430 ح 4074.
2- ضعّفه المحقّق الحِلّي في الرسائل التسع: ص 220، (المسألة الثالثة: في أنّ الماء القليل ينجس بالملاقاة) بقوله: (وعلي بن حديد ضعيفٌ جدّاً).

أقول: وقد استشهد بعض المحقّقين رحمه الله(1) له بخبر الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«أنّه سأل عن دم البراغيث يكون في الثّوب، هل يمنعه ذلك من الصّلاة ؟ قال: لا وإنْ كثر، ولا بأس أيضاً بشبهه من الرِّعاف ينضحه، ولا يغسله»(2) بدعوى أنّه يدلّ على أنّ دم الرِّعاف يكون كدم البراغيث في عدم المانعيّة، إذا كان شبيهاً به في كونه شبه النَّضح، وأنّ قوله عليه السلام: (ينضحه... إلى آخره) يرجع إلى دم البراغيث.

وفيه: أنّ الظاهر منه عدم نجاسة دم الرِّعاف في مثل الفرض، كما مالَ إليه صاحب «الحدائق»(3)، إذ رجوع (ينضحه) إلى (دم البراغيث) خلاف الظاهر، وهو خلافُ الإجماع والنصوص، مع أنّه مطلق قابل للتقييد، فيقيّد بما دلّ على مانعيّة الدّم إذا كان بقدر الدِّرهم. فتأمّل.

وقد استدلّ للقول الثالث: بالمرسل المحكيّ عن «دعائم الإسلام» عن الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام: «أنّهما قالا في الدّم يُصيب الثّوب: يُغسل كما تُغسل النجاسات. ورخّصا في النَّضح اليسير منه ومن سائر النجاسات، مثل دم البراغيث وأشباهه، قالا: فإذا تفاحش غُسل»(4).

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّم من أنّ ظاهره عدم وجوب الغَسل وطهارة الدّم، وغيره من النجاسات في الفرض، وهو كما ترى - أنّه مطلقٌ قابل للتقييد، فيقيّد بما دلّ على مانعيّة الدّم إذا كان بقدَر الدِّرهم.

***7.

ص: 234


1- مصباح الفقيه: ج 1/595 ق 2.
2- الكافي: ج 3/59 ح 8.
3- الحدائق الناضرة: ج 5/42.
4- دعائم الإسلام: ج 1/117.
الدَّم المشكوك فيه

المسألة الخامسة: إذا علم كون الدّم أقلّ من الدِّرهم، وشكّ في أنّه من المستثنيات:

فهل يَبني على العفو كما عن «الدروس»(1)، و «الموجز»(2) وغيرهما؟

أو على عدمه ؟ وجهان:

قد استدلّ للأوّل: بوجوه:

الوجه الأوّل: وهو يختصّ بالمشكوك كونه من نجس العين، أو من محرّم الأكل، وهو أصالة الحِلّ في لحم الحيوان الذي يكون هذا الدّم من أجزائه.

وأورد عليه بوجهين:

الأوّل: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله(3) من أنّها لا تجري فيما كان الحيوان مردّداً بين فردين: أحدهما معلوم الحرمة، والآخر معلوم الحليّة، فإنّه ليس هناك ما يشكّ في حليّته وحرمته، وإنّما الشكّ يكون في كون هذا الدّم من أجزاء محلّل الأكل أو محرّم الأكل.

وفيه: أنّ كون أحد الحيوانين معلوم الحليّة والآخر معلوم الحرمة، منشأ للشكّ الفعلي في أنّ ما يكون هذا الدّم من أجزائه، هل هو حلالٌ أم حرام ؟ ولا ريب في أنّ ما يصدق عليه هذا العنوان موجودٌ خارجي، فلا يرد ما قيل من أنّ هذا العنوان عنوان انتزاعي لا وجود له في الخارج.

ص: 235


1- الدروس: ج 1/124.
2- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 1/575.
3- أجود التقريرات: ج 4/262 (التنبيه الخامس).

الثاني: أنّ الحليّة المأخوذة شرطاً لجواز الصّلاة، هي الحليّة الواقعيّة، فلا يُجدي في إحرازها أصالة الحِلّ ، فإنّ مفادها جعل الحكم الظاهري لا الحليّة الواقعيّة.

وفيه: ما حقّقناه في محلّه من حكومة الاُصول العمليّة على الأدلّة الواقعيّة حكومةً ظاهريّة، فيترتّب عليها ما لم ينكشف الخلاف جميع الآثار المترتّبة على الواقع.

وأمّا ما أجاب به بعض الأعاظم(1): من أنّ ظاهر قوله عليه السلام: «كلّ شيء لك حلال» هو جعل الحليّة المقابلة للحرمة المحتملة، وما يقابلها ليس إلّاالحليّة الواقعيّة، فالمجعول هو الحليّة الواقعيّة.

فغريبٌ : إذ بما أنّ المأخوذ في موضوعها الشكّ ، فلا محالة يكون المجعول الحليّة الظاهرية لا الواقعيّة.

أقول: فالصحيح أن يُورد على الاستدلال بهذا الأصل، بما أورده المحقّق النائيني رحمه الله(2) من أنّ الموضوع لجواز الصّلاة ليس هو الحلال بما هو كذلك، بل الموضوع هو الأصناف الخاصّة، وأخذ هذا العنوان في الأدلّة معرّفاً لها، كما أنّ الموضوع لعدم جواز الصّلاة ذوات ما حَرّم اللّه أكله، ومن الضروري أنّ أصالة الحِلّ لا تثبت كون الحيوان من الأصناف الخاصّة.

وقد أورد عليه جملةٌ من المحقّقين: بأنّه خلاف ظواهر الأدلّة، فإنّ حمل العنوان المأخوذ في الموضوع على المعرفيّة والمرآتيّة خلاف الظاهر.

وفيه: أنّ كون ذلك خلاف الظاهر في نفسه لا يُنكر، إلّاأنّه في المقام لابدَّ من حمله عليذلك، إذ ما حُرّم أكل لحمه بهذا العنوان، لو كان موضوعاً لعدم الجواز،9.

ص: 236


1- مستمسك العروة: ج 1/576.
2- كتاب الصلاة: ج 1/308-309.

لكان اللّازم عدم جواز الصّلاة في ما يؤخذ من الغنم مثلاً في حال حياته أو بعد ممّاته، وحيثُ أنّه لا شبهة في جوازها فيه، فلابدَّ وأن يكون موضوع عدم الجواز هو ذوات الأنواع المحرّمة، وموضوع الجواز هو ذوات ما أحلّ اللّه أكله.

الثاني ممّا استدلّ به على العفو: عموم ما دلّ على العفو عمّا دون الدِّرهم، إذ مع الشكّ في كون الدّم من المستثنيات، يُشكّ في مصداق الخاصّ ، والعموم مرجعٌ في الشبهات المصداقيّة.

وفيه: أنّ المحقّق في محلّه أنّ العام لا يُرجع إليه في الشبهات المصداقيّة.

الوجه الثاني: أنّ المستفاد من النصوص، كون الدّم أقلّ من الدِّرهم مقتضياً للعفو، وانطباق أحد العناوين التي استثنيت عليه مانعاً عنه، فمع الشكّ في المانع يُبنى على تحقّق المقتضى (بالفتح).

وفيه: - مضافاً إلى عدم تماميّة قاعدة المقتضى والمانع، كما حُقّق في محلّه - لا مورد لها في الأحكام الشرعيّة، لعدم الطريق إلى إحراز المقتضي فيها.

الوجه الثالث: أصالة البراءة عن مانعيّة الدّم المشكوك المانعيّة.

الوجه الرابع: أنّ موضوع العفو حسب ما يقتضيه الجمع بين الأدلّة، هو الدّم الأقلّ الذي ليس بحيض مثلاً، فبناءً على جريان الأصل في العدم الأزلي، تجري أصالة عدم كون هذا الدّم دم حيض، فيثبت بها موضوع العفو.

هذا كلّه إذا اُحرز أنّ الدّم أقلّ من الدِّرهم.

وأمّا لو شُكّ في ذلك، لا لأجل عدم معلوميّة مقدار الدِّرهم الذي عرفت حكمه، بل لاُمورٍ خارجيّة، فبناءً على كون المرجع في الشبهات المصداقيّة العموم، يتعيّن الحكم في هذا الفرض بعدم العفو، إذ مقتضى العمومات مانعيّة كل دم، إلّا الأقلّ من الدِّرهم، فمع الشكّ في كون دم أقلّ من الدِّرهم، يُشكّ في مصداق الخاصّ .

ص: 237

كما أنّه بناءً على ما اختاره المحقّق النائيني رحمه الله(1) من أنّ إناطة الحكم الترخيصي - وضعيّاً كان أم تكليفيّاً - على أمرٍ وجودي، تدلّ بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة على أنّ موضوع الحكم إحراز ذلك الأمر، وانتفاء الرخصة بعدم إحرازه لابدَّ من البناء على عدم العفو.

أقول: ولكن بما أنّ شيئاً من المبنيين لا يكون تامّاً، فالأقوى هو البناء على العفو أيضاً:

إمّا لأصالة البراءة عن مانعيّة المشكوك فيه.

وإمّا لاستصحاب بقاء عدم وجود الدّم الأكثر من الدِّرهم في الثّوب أو البَدَن، الثابت قبل وجود هذا الدّم.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى هو العفو في الفرضين.

***7.

ص: 238


1- كتاب الطهارة: ج 1/307.
الدّم المتسرّي إلى الجانب الآخر

المسألة السادسة: إذا سرى الدّم من أحد طرفي الثّوب إلى الآخر:

فهل هو دمٌ واحدٌ كما هو الأشهر(1)؟

أو أنّه اثنان كما عن الشهيد(2)؟

أو يفصل بين الرقيق فالأوّل، والصفيق فالثاني ؟ وجوه:

أقول: أقواها الأخير، إذ المراد بالوحدة في كلامهم، ليس هو وحدة السطح، إذ لا مجال لتوهّم كون الدّم غير الساري إلى الجانب الآخر له سطحٌ واحد، ولو سرى يكون له سطحان، بل المراد وحدة الوجود.

وعليه، فيصحّ أن يقال إنّه إذا كان الثّوب صفيقاً كان الدّم الساري إلى الجانب الآخر بنظر العرف اثنين، بخلاف ما إذا كان رقيقاً.

وأيضاً: لا فرق فيما ذكرناه بين أنْ يكون وصول الدّم إلى الطرف الآخر بالسريان أو بغيره.

ودعوى(3): أنّه يحكم عليه بالتعدّد في الفرض الثاني مطلقاً، من جهة ظهور النّص في وجوب ملاحظة المجموع في مثله، لصدق أنّ فيه نقط الدّم المذكور في صحيح ابن أبي يعفور.

مندفعة: بأنّ هذا العنوان لا يصدق على ما إذا اتّحدت النقط، وصدق عليها عرفاً أنّها دمٌ واحد كما لا يخفى .

***

ص: 239


1- راجع الحدائق الناضرة: ج 5/321.
2- الذكرى: ص 16 (ط. ق).
3- مستمسك العروة: ج 1/573.

المسألة السابعة: الدّم الأقلّ إذا اُزيل عينه، فهل يبقى حكمه كما عن «النهاية»(1)، و «المدارك»(2) وغيرهما، أم لا؟ وجهان:

قد استدلّ للأوّل: باستصحاب العفو عنه، الثابت له حال وجود الدّم.

وفيه: ما حقّقناه في محلّه من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام مطلقاً(3)، لكونه محكوماً لاستصحاب عدم الجعل الثابت في أوّل الشريعة فإنّه يجري ويثبت به عدم المجعول، ففي المقام الشكّ في ثبوت العفو عنه بعد إزالة العين، مسبّبٌ عن الشكّ في الجعل بنحوٍ يكون باقياً بعدها، وحيثُ أنّ العفو بعد إزالة العين لم يكن في أوّل الشريعة قطعاً مجعولاً، فيشكّ في جعله، فيستصحب عدم الجعل، ويثبت به عدم العفو.

ودعوى: أنّ جعل العفو معلومٌ إمّا إلى الأبد أو ما دام وجود العين، وعليه فاستصحاب عدم جعله إلى الأبد، يعارض استصحاب عدم جعله في خصوص زمان وجود العين، فيتساقطان، والمرجع إلى الأصل المحكوم، وهو استصحاب بقاء العفو.

مندفعة: بعدم جريان الأصل الثاني، لأنّ ثبوت العفو في ذلك الوقت معلومٌ على كلّ حال.

أقول: وأمّا ما ذكره بعض المحقّقين في مقام الجواب عن الدليل المزبور، من أنّه من الاستصحاب التعليقي.).

ص: 240


1- النهاية: ص 52.
2- وهو ظاهر المدارك: ج 2/308-309 (العفو عن دم القروح والجروح).
3- راجع زبدة الاُصول للمصنّف، بحث: (تبعيّة القضاء للأداء).

غريب: إذ المستصحب هو العفو عن الثّوب المتنجّس بالدم الثابت له حال وجود الدّم.

وعلى ذلك، فالمرجع هو عموم ما دلّ على المنع عن الصّلاة في النّجس، بناءً على ما حقّقناه في محلّه من أنّ العام إذا خُصّص في زمانٍ ، يكون هو المرجع بعد ذلك الزمان مطلقاً، لا سيّما إذا كان التخصيص من الأوّل، كما في المقام.

اللّهُمَّ إلّاأن يُدّعى ثبوت العفو في المقام للأولويّة.

***

ص: 241

وعُفي عن دم القُروح والجُروح، مع السَّيلان ومشقّة الإزالة.

العفو عن دم الجروح والقروح.

الأمر الثاني: (وعُفي) في الثّوب والبَدَن (عن دم القروح والجروح) بلا خلافٍ فيه في الجملة، وإنْ اختلفت عباراتهم في الإطلاق والتقييد:

فبعضهم لم يقيّد القروح والجروح بشيء(1).

وجماعةٌ منهم قيّدوها باللّازمة أو الدّامية أو السائلة أو الّتي لا ترقى(2).

وتشهد له الأخبار المستفيضة الآتية.

وإنّما الكلام والإشكال في اعتبار القيدين الّذين ذكرهما المصنّف رحمه الله: بقوله (مع السَّيلان ومشقّة الإزالة)، فالمنسوب إلى الأكثر أو المشهور(3): اعتبار القيدين أو أحدهما.

وعن الصدوق(4) وجملة من المتأخّرين، بل أكثرهم: عدم اعتبار شيء منهما، وهو الأقوى ، لإطلاق جملة من النصوص:

منها: حسن ليث المرادي: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يكون به الدماميل والقروح، فجلده وثيابه مملوّة دماً وقيحاً؟ فقال عليه السلام: يُصلّي في ثيابه ولا يغسلها ولا شيء عليه».

فإنّ مقتضى إطلاقه جواز الصّلاة في دم الدماميل والقروح ما دام يصدق أحد

ص: 242


1- راجع شرائع الإسلام: ج 1/43، المختصر النافع ص 18، الدروس: ج 1/126.
2- المراسم العلويّة: ص 55، الخلاف: ج 1/252، غنية النزوع: ص 41.
3- السرائر: ج 1/177، قواعد الأحكام: ج 1/193، إيضاح الفوائد: ج 1/29.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 1/74-75.

هذين العنوانين، وبعبارة اُخرى ما لم تبرأ(1).

ومنها: مصحّح أبي بصير: «دخلتُ على أبي جعفر عليه السلام وهو يُصلّي، فقال لي قائدي: إنّ في ثوبه دماً، فلما انصرف عليه السلام قلت له: إنّ قائدي أخبرني أنّ بثوبك دماً؟ فقال عليه السلام: إنّ بي دماميل ولستُ أغسل ثوبي حتّى تبرأ»(2).

ومنها: موثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن الدُّمل يكون بالرجل فينفجر، وهو في الصّلاة ؟ قال عليه السلام: يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصّلاة»(3).

ونحوها غيرها(4).

واستدلّ لاعتبار القيد الأوّل:

1 - بصحيح ابن مسلم عن أحدهما عليه السلام:

«عن الرجل تخرج به القروح، فلا تزال تُدمى كيف يُصلّي ؟

فقال عليه السلام: يُصلّي وإنْ كانت الدِّماء تسيل»(5).

2 - وبموثّق سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا كان بالرجل جرحٌ سائلٌ فأصاب ثوبه من دمه، فلا يغسله حتّى يبرأ وينقطع الدّم»(6).

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ القيد مذكورٌ في كلام السائل لا الإمام عليه السلام، مع أنّ الوصف لا مفهوم له، مضافاً إلى أنّ قوله: (لا تزال تدمى) يمكن أن يكون باعتبار كون التلبّس7.

ص: 243


1- التهذيب: ج 1/258 ح 37.
2- الكافي: ج 3/58 ح 1.
3- التهذيب: ج 1/349 ح 20، وسائل الشيعة: ج 3/435 ح 4088 و ص 498 ح 4280.
4- التهذيب: ج 1/256 ح 31، وسائل الشيعة: ج 3/433 باب 22 من أبواب النجاسات والأواني.
5- التهذيب: ج 1/258 ح 38، وسائل الشيعة: ج 3/434 ح 4084.
6- تهذيب الاحكام: ج 1/259 ح 39، وسائل الشيعة: ج 3/435 ح 4087.

بالمبدء أكثريّاً، أو باعتبار التلبّس بالملكة في مقابل ما خَرج عنه هذا الوصف، وأشرف على الاندمال.

بل قوله عليه السلام في مقام الجواب: (وإن كانت الدِّماء تسيل) يدلّ على إطلاق الحكم لصورة عدم السَّيلان الفعلي، فإنّ مقتضى كلمة (إنْ ) الوصليّة كونه على تقدير عدم السَّيلان أولى بالعفو.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر من توصيف الجرح بالسَّيلان، بواسطة ترتّب إصابة الدّم للثوب الذي هو موضوع الحكم عليه، وقوله عليه السلام: (حتّى يبرأ وينقطع الدّم) هو إرادة السَّيلان بالمعنى الذي ذكرناه، وهو ما يقابل ما خرج عنه هذا الوصف، بأن جفّت رطوباته وبرأ.

ولعلّ القائل باعتبار هذا القيد أراد هذا المعنى، إذ لو كان المراد منه استمرار الدّم بنحوٍ لا تكون له فترة تسع الصّلاة، لم يحتج إلى اعتبار مشقّة الإزالة، لأن المشقّة حاصلة جزماً في الفرض.

أقول: وبذلك يظهر إمكان حمل الأوصاف المذكورة في كلمات الأعلام من الدامية والسائلة وغيرهما على إرادة عدم البُرء، لا عدم حصول الفترة في جريان الدّم، وعليه فلا ينافي هذا القول قول المختار.

واستدلّ لاعتبار القيد الثاني:

1 - بموثّق سماعة: سألته عن الرّجل به القرح والجرح، ولا يستطيع أن يربطه، ولا يغسل دمه ؟

قال عليه السلام: يُصلّي ولا يغسل ثوبه كلّ يوم إلّامرّة، فإنّه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كلّ ساعة»(1).2.

ص: 244


1- الكافي: ج 3/58 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/433 ح 4082.

2 - وخبر ابن مسلم: «إنّ صاحب القُرحة التي لا يستطيع ربطها، ولا حبس دمها، يُصلّي ولا يغسل ثوبه في اليوم لأكثر من مرّة»(1).

ويرد على الأوّل: أنّ السؤال فيه ليس عن حكم شخصٍ معيّنٍ خارجي، بل إنّما هو على الكلّي، وحيثُ أنّه لا ريب في اختلاف الأشخاص، فرُبَّ شخصٍ لا يستطيع على غَسل ثوبه في كلّ وقتٍ من أوقات الصّلاة، وآخر لا يستطيع غَسله في كلّ يومٍ ولو مرّة، وثالث يستطيع غَسله في كلّ ساعة، فلا محيص عن البناء على كون قوله عليه السلام: (فإنّه لا يستطيع... إلى آخره) من قبيل الحكمة لا تعليلاً للحكم بالعفو، حتّى يدور الحكم مداره.

وأمّا ما ذكره بعض الأعاظم(2): من أنّ قوله: (ولا يَغسل دمه) لأجل كونه معطوفاً على (ربطها) ينافيه الأمر بغَسل الثّوب في كلّ يومٍ مرّة، لامتناع التكليف بغير المستطاع، فلابدَّ من حمله على إرادة نفي الاستطاعة على غَسل الدّم في تمام المدّة، على نحو العموم المجموعي، وهذا أجنبيٌ عن اعتبار المشقّة في كلامهم، وهي المشقّة في كلّ وقتٍ من أوقات الابتلاء بالصّلاة.

فغير سديد: إذ الضمير في (ولا يغسل دمه) لا يرجع إلى الثّوب، بل إلى القُرح والجرح، فلا ينافيه الأمر بغَسل الثّوب في كلّ يوم مرّة.

ويرد على الثاني: أنّ الوصف لا مفهوم له، مع أنّه لو قيل بثبوت المفهوم له، لدلَّ على عدم العفو، مع إمكان ربط الجُرح وحَبس دمه، لا عدم العفو مع عدم المشقّة.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصوص، عدم الفرق بين كون الدّم قليلاً أو كثيراً، كما أنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين الجروح الجزئيّة وغيرها.

***7.

ص: 245


1- بحار الأنوار: ج 77/84، مستطرفات السرائر ص 558.
2- مستمسك العروة: ج 1/557.

فروع:

الفرع الأوّل: إذا كان الجرح في موضع يتعارف شدّه، فهل يجب شدّه أم لا؟ قولان، أقواهما الثاني لإطلاق النصوص.

واستدلّ للأوّل:

1 - بانصراف النصوص إلى المتعارف.

2 - وبأنّ المتيقّن منها صورة الشدّ.

3 - وبمفهوم خبر ابن مسلم المتقدّم.

4 - وبأنّ المستفاد من التعليل في موثّق سماعة المتقدّم أنّ العفو إنّما هو في فرض عدم الاستطاعة على الصّلاة مع عدمه.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الانصراف الموجب لتقييد الإطلاق ممنوع.

وأمّا الثاني: فلأنّه يتعيّن الاقتصار على القدر المتيقّن من مورد العفو، إذا لم يكن لنصوص العفو إطلاق. وقد عرفتَ ثبوته لها.

وأمّا الثالث: فلما مرَّ من أنّ الوصف لا مفهوم له.

وأمّا الرابع: فمضافاً إلى ما مرّ من أنّه من قبيل الحكمة لا العلّة.

يرد عليه: أنّه يدلّ على عدم العفو مع الاستطاعة على الغَسل، لا مع الاستطاعة على المنع عن السراية.

الفرع الثاني: يستحبّ لصاحب القروح والجروح أن يَغسل ثوبه كلّ يومٍ مرّة كما هو المشهور(1)، بل لم يُحكَ الخلاف إلّاعن صاحب «الحدائق»(2) حيثُ مالَ إلى2.

ص: 246


1- راجع منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/172، مجمع الفائدة: ج 1/330.
2- الحدائق الناضرة: ج 5/301-302.

الوجوب، واستدلّ له بظاهر الأمر به في موثّق سماعة، وخبر ابن مسلم المتقدّمين.

وفيه: أنّه يتعيّن حمل الأمر على الاستحباب، بقرينة ما دلّ من النصوص على عدم الوجوب، كمصحّح أبي بصير المتقدّم الذي لا يصحّ تقييده بالغسل أكثر من مرّة في اليوم.

الفرع الثالث: كما يُعفى عن دم الجروح، كذلك يُعفى عن القيح المتنجّس الخارج معه، لحَسَن ليث المتقدّم، والدواء المتنجّس الموضوع عليه، لعدم انفكاك غالب الجروح التي تسيل منها الدّم عنه، فلو لم يكن معفوّاً عنه لزم حمل النصوص على الفرد النادر جدّاً، وهو كما ترى .

ومنه يظهر وجه العفو عن العرق المتّصل به في المتعارف.

وأمّا الرطوبة الخارجيّة:

إذا وصلت إليه، ولم تتعدَّ إلى الأطراف، فالعفو عنها يبتني على القول بالعفو عن المحمول المتنجّس.

وإنْ تعدّت إلى الأطراف فمقتضى إطلاق ما دلّ على مانعيّة النجاسة عدم العفو عنها.

الفرع الرابع: إذا شكّ في دمٍ أنّه من الجروح أو القروح أم لا، فهل يكون معفوّاً عنه أم لا؟ وجهان بل قولان:

قد استدلّ للأوّل:

1 - بعموم ما دلّ على مانعيّة نجاسة الدّم، إذ مع الشكّ في كون الدّم الموجود دم القروح والجروح، يشكّ في مصداق الخاصّ ، والمرجع في الشبهات المصداقيّة هو العموم.

ص: 247

2 - وبقاعدة المقتضى والمانع، إذ المستفاد من النصوص أنّ الدّم مقتضٍ للمانعيّة، وأنّ كونه دم القروح والجروح مانعٌ عنها، فمع الشكّ في المانع يُبنى على تحقّق المقتضى (بالفتح).

3 - وبأنّ إناطة الحكم الترخيصي تكليفيّاً كان أم وضعيّاً على أمرٍ وجودي، تدلّ بالالتزام على أنّ موضوع الحكم إحراز ذلك الأمر، فالعفو بما أنّه اُنيط على كونه دم القروح والجروح، فمع عدم إحرازه ينتفي العفو.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا العام فلا يكون مرجعاً في الشبهات المصداقيّة.

وقاعدة المقتضي والمانع، قد حقّقنا في محلّه عدمها، مع أنّه على فرض وجودها لا تتمّ في الأحكام الشرعيّة إذ فيها لا يكون المقتضي معلوماً، لعدم العلم بمناطاة الأحكام.

وإناطة الرخصة على أمرٍ وجودي، كإناطة الحكم الإلزامي عليه لا تدلّ على أنّ الموضوع هو الإحراز، بل الظاهر منهاكون المقصود جعل الحكم لموضوعه الواقعي.

وبالجملة: فالصحيح الاستدلال له بأصالة عدم اتّصافه بالجرح أو القرح، إذ قبل خروجه لم يكن متّصفاً بأحدهما.

واستدلّ للثاني: بأصل البراءة من المانعيّة.

وفيه: أنّه يرجع إليه في الشبهات المصداقيّة، مع عدم أصلٍ حاكمٍ عليه.

***

ص: 248

وعن نجاسة ما لا تَتمُّ الصّلاة فيه منفرداً، كالتّكة، والجُورب، والقَلَنسوة.

ما لا يَتمُّ فيه الصّلاة
اشارة

(و) الثالث: ممّا عفي عنه: (عن نجاسة ما لا تتمّ الصّلاة فيه منفرداً، كالتّكة، والجُورب، والقَلَنسوة) والخاتم ونحوها، بلا خلافٍ فيه.

بل عن جماعةٍ كثيرة منهم السيّد في «الانتصار»(1)، والشيخ في «الخلاف»(2)، وابن إدريس(3)، والمصنّف رحمه الله في «التذكرة»(4)، وغيرهم في غيرها: دعوى الإجماع عليه.

وتشهد له: جملةٌ من النصوص:

منها: موثّق زرارة، عن أحدهما عليه السلام: «كلّ ما كان لا تجوز الصّلاة فيه وحده، فلا بأس بأن يكون عليه الشيء مثل القَلَنسوة والتّكة والجُورب»(5).

ومنها: مرسل عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال:

«كلّ ما كان على الإنسان أو معه ممّا لا تجوز الصّلاة فيه وحده، فلا بأس أن يُصلّي فيه وإنْ كان فيه قذرٌ، مثل القَلَنسوة والتّكة والكَمَرة والنَّعل والخُفّين وما أشبه ذلك»(6).

ص: 249


1- الإنتصار: ص 136.
2- الخلاف: ج 1/96.
3- السرائر: ج 1/263.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/96.
5- التهذيب: ج 2/358 ح 14، وسائل الشيعة: ج 3/455 ح 4160.
6- التهذيب: ج 1/275 ح 97، وسائل الشيعة: ج 3/456 ح 4164.

ومنها: مرسل حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في الرّجل يُصلّي في الخُفّ الذي قد أصابه القذر؟

فقال عليه السلام: إذا كان ممّا لا تتمّ فيه الصّلاة، فلا بأس»(1). ونحوها غيرها(2).

أقول: وما يوهمه ظاهر كلمات جملةٍ من القدماء، كالراوندي(3) وأبي الصّلاح(4)وسلّار(5) وغيرهم من عدم ثبوت الكليّة المذكورة عندهم، حيث اقتصروا على القَلَنسوة والتّكة والجُورب والخُفّ والنَّعل، لا يُعتنى به، إذ الظاهر أنّ مرادهم التمثيل ببعض ما مثّل به في النصوص، وإلّا فالتصريح ب (الكمرة) ولفظ (وما أشبه ذلك) في مرسل ابن سنان، ولفظة (كلّما) في الموثّق حجّة عليهم. فثبوت الكليّة المذكورة لا كلام فيها.

إنّما الكلام يكون في جهات:
هل الحكم يعمّ فضلات الميتة أو غير المأكول ؟

الجهة الأُولي : في أنّه هل الحكم مختصٌّ بالنجاسة، أو يعمّ ما إذا تنجّس ما لا تتمّ فيه الصّلاة بفضلات الميتة، أو غير المأكول ؟

ظاهر فتاوى غير واحد كصريح آخرين هو الثاني.

واستدلّ له: بإطلاق قوله عليه السلام في الموثّق، فلا بأس أن يكون عليه الشيء.

وفيه: إنّ مانعيّة الميتة ونجس العين، الّذي هو من أفراد غير المأكول، ليست باعتبار سرايتهما إلى اللّباس أو البَدَن، بل هما بأنفسهما تكونان من الموانع، وهذا بخلاف النجاسة، فإنّ مانعيّتها إنّما تكون باعتبار تنجّس الثّوب أو البَدَن بها،

ص: 250


1- التهذيب: ج 1/274 ح 94، وسائل الشيعة: ج 3/456 ح 4161.
2- وسائل الشيعة: ج 3/455 باب 31 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.
3- المختلف: ص 61.
4- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 6/130.
5- نسبه إليه في منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/174.

وظاهر الخبر العفو عن اللّباس الذي عليه الشيء، الذي لو لا هذا الخبر لكان موضوعاً للمانعيّة لا العفو عن ذلك الشيء الواقع على اللّباس. فتدبّر فإنّه دقيق.

نعم، لو اُزيلت الفضلة، وانحصرت جهة المنع بتنجّس اللّباس، كان ذلك مشمولاً للموثّق.

***

اذا كان اللّباس متّخذاً من النجاسات

الجهة الثانية: إذا كان اللّباس متّخذاً من أعيان النجاسات، كالقلنسوة المنسوجة من شعر الخنزير، والخُفّ المتّخذ من الميتة، فهل يكون معفوّاً عنه أم لا؟ وجهان:

قد استدلّ للأوّل:

1 - بخبر الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «كلّ ما لا تجوز الصّلاة فيه وحده فلا بأس بالصّلاة فيه، مثل التّكة الأبريسم والقَلَنسوة والخُفّ والزُّنار يكون في السراويل ويُصلّى فيه»(1).

2 - وموثّق إسماعيل بن الفضل: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن لباس الجلود والخِفاف والنّعال، والصّلاة فيها، إذا لم تكن من أرض المصلّين ؟

فقال عليه السلام: أمّا النّعال والخِفاف فلا بأس بها»(2).

3 - وبإطلاق النصوص المتقدّمة.

أقول: أمّا الخبر فمطلقٌ وشامل للمتنجّس والميتة ونجس العين، فيقيّد بما دلّ على المنع في الأخيرين، كصحيح ابن أبي عُمير، عن غير واحدٍ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

ص: 251


1- التهذيب: ج 2/357 ح 10، وسائل الشيعة: ج 4/376 ح 5440.
2- التهذيب: ج 2/234 ح 130، وسائل الشيعة: ج 4/427 ح 5613.

«في الميتة ؟ قال عليه السلام: لا تُصلِّ في شيءٍ منه ولا شِسْع»(1).

أمّا موثّق ابن بكير الوارد في غير المأكول، وفيه: «إنّ الصّلاة في وَبَر كلّ شيءٍ حرام أكله، فالصَّلاة في وَبَره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه، وكلّ شيءٍ منه فاسدة(2)...». إذ نجس العين يكون من أفراد غير المأكول.

ونحوهما غيرهما.

والموثّق وإنْ كان كالصريح في العفو عمّا اتّخذ من الميتة، ومقتضى الجمع بينه وبين ما دلّ على المنع، هو حمله على الكراهة، ولكن لإعراض الأصحاب عنه - بل في «الجواهر»(3): لم يوجد قائلٌ بالفرق بين ما تتمّ الصّلاة فيه وغيره في الميتة - لا يُعتمد عليه.

وأمّا إطلاق النصوص: فمضافاً إلى عدم ثبوته، لاختصاص موردهابالمتنجّس، فلا تشمل النّجس، فالحكم في عموم ما دلّ على المنع من الصّلاة في النّجس، أنّه لو ثبت يُقيّد بما دلّ على المنع في الميتة ونجس العين.

وعليه، فالأقوى هوالقول الثاني.

***

المناط فيما لا تتمّ فيه الصّلاة عدم إمكان الستر بلا علاج

الجهة الثالثة: المناط فيما لا تتمّ فيه الصّلاة عدم إمكان الستر بلا علاج، لا عدم الساتريّة الفعليّة، ولا خصوص ما لا يمكن السَّتر به حتّى بعلاج، إذ الظاهر من النصوص أنّ موضوع العفو هو الثّوب الذي لا تتمّ فيه الصّلاة من حيث هو.

وعليه، فالعمامة الملفوفة التي تَستر العورة إذا فَلَت لا تكون من مصاديق ما

ص: 252


1- التهذيب: ج 2/203 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/343 ح 5341 و ص 377 ح 5444.
2- الكافي: ج 3/397 ح 1، وسائل الشيعة: ج 4/345 ح 5344.
3- جواهر الكلام: ج 8/65-67.

عُفي عنه، لأنّها من حيث هي ثوبٌ قابلة لأن يُتستّر بها، وتكون من الأثواب التي تجوز الصّلاة فيها وحدها، فيتعيّن حمل العمامة في الوارد في «الرضوي»(1): «إنْ أصاب قلنسوتك أو عمامتك أو التّكة أو الجُورب أو الخُفّ ؛ مَنيٌّ أو بول أو دم أو غائط، فلا بأس بالصّلاة فيه. وذلك أنّ الصّلاة لا تتمّ في شيءٍ من هذه وحده» على العمامة الصغيرة، كما حُكي عن الراوندي(2) وغيره، مع أنّه لم يثبت حجّيّته.

أقول: وما عن «الذخيرة»(3) من الشكّ في صدق موضوع المنع، الذي هو الثّوب على العمامة بهيئتها الخاصّة، فلابدَّ فيها من الرجوع إلى الأصل، وهو يقتضي الجواز.

غير سديد: إذ الثّوب عرفاً كما يصدق على المنشور، يصدق على الملفوف والمطويّ أيضاً.

فتحصّل ممّا ذكرناه: ضعف ما عن الصدوقين(4) من عَدّ العمامة في جملة ما يُعفى عنه، وأنّ الأقوى عدم الفرق بينها وبين سائر الأثواب.

***3.

ص: 253


1- المستدرك: ج 2/575 ح 2767.
2- نقله عنه في المعتبر: ج 1/435.
3- ذخيرة المعاد: ج 1/160.
4- فقه الرّضا: ص 95، الهداية: ص 73.
المحمول المتنجّس

الجهة الرابعة: نُسب إلى الأشهر:(1) اختصاص العفو عن نجاسة ما لا تتمّ فيه الصّلاة، بما إذا كان ملبوساً، بل عن جماعةٍ منهم خصوص ما كان في محلّه.

وعن الشهيد(2) والمحقّق في «جامع المقاصد»(3)، وصاحب «المدارك»(4)وغيرهم: عدم وجوب الإزالة عن المحمول مطلقاً.

وعن بعضهم(5): التفصيل بين ما لا تتمّ الصّلاة فيه فالثاني، وبين غيره فالأوّل.

واستدلّ للأوّل: بعموم ما دلّ على المنع من الصّلاة في النّجس، بدعوى شموله للمحمول، لأن المراد من لفظ (في) هو المصاحبة والمعيّة، لامتناع حمله على الظرفيّة، إذ لا معنى لكون الثّوب ظرفاً للصَّلاة.

وفيه: أنّ امتناع ذلك لا يوجبُ حمل لفظ (في) على معنى (مع) بعد إمكان حمله على الظرفيّة، من جهة اشتمال الشيء على المصلّي، ولو لاشتماله على جزءٍ من أجزائه، فتلك النصوص لا تشمل المحمول المحض، مثل ما لو كان المتنجّس في جيبه أو قبضته أو نحوهما ممّا لا يكون مشتملاً على المصلّي ولو بعضه، فلابدَّ من الرجوع إلى أصالة البراءة.

مع أنّه لو سُلّم العموم، فيخصّص بنصوص استثناء ما لا تتمّ فيه الصّلاة.

ودعوى: انصرافها إلى خصوص الملبوس كما ترى ، لا سيّما وفيها مرسل ابن

ص: 254


1- راجع الإنتصار: ص 136، المراسم العلويّة: ص 55، السرائر: ج 1/347.
2- الذكرى: ص 17.
3- جامع المقاصد: ج 1/185، مدارك الأحكام: ج 4/420.
4- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 1/581.
5- منهم ابن فهد الحِلّي في الرسائل العشر: ص 61.

سنان المصرّح بثبوت العفو في محموله أيضاً. فلاحظ.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر أنّ الأقوى ثبوت العفو في المحمول المتنجّس، من غير فرقٍ بين كونه ممّا لا تتمّ فيه الصّلاة وبين غيره.

وأمّا المحمول النّجس: فعن «المبسوط»(1) وجملةٍ من كتب المصنّف(2)وغيرها: المنع.

ويشهد له: صحيح الحميري: «كتبتُ إليه - يعني أبا محمّد عليه السلام -: يجوز للرّجل أن يُصلّي ومعه فأرة المِسْك ؟ فكتب عليه السلام: لا بأس به إذا كان ذكّيّاً»(3).

لما عرفت في مبحث الميتة(4) أنّ ظاهره اعتبار كون ما معه من الفأرة ذكّيّاً - أي طاهراً - فمفهومة ثبوت المنع إذا كان نجساً، ونجاسته وإنْ كانت من جهة كونه ميتة، ولكن من تعليق الحكم منطوقاً ومفهوماً على الطهارة والنجاسة، يستفاد أنّ تمام الموضوع للمنع هو النجاسة.

ومنه يظهر ضعف ما عن جماعةٍ من اختصاصه بالميتة، وأنّه لا يشمل غيرها من النجاسات.

ولكن يتعيّن حمله على الكراهة جمعاً بينه وبين نصوص العفو عمّا لا تتمّ به الصّلاة، المشتملة على مثل قوله عليه السلام: (عليه الشيء) أو (فيه القذر) الظاهرة أو الصريحة في وجود عين النجاسة.

وأمّا خبر علي بن جعفر عليه السلام: «عن الرجل يمرّ بالمكان فيه العَذَرة فتهبّ الرِّيح1.

ص: 255


1- المبسوط: ج 1/38.
2- نهاية الإحكام: ج 3/128.
3- التهذيب: ج 2/362 ح 32، وسائل الشيعة: ج 4/433 ح 5632.
4- فقه الصادق: ج 5/51.

فتسفي عليه من العَذَرة، فيصيب ثوبه ورأسه، أيُصلّي فيه قبل أن يغسله ؟ قال عليه السلام:

نعم ينفضه، ويُصلّي فلا بأس»(1).

فأجنبيٌ عن المقام، لظهوره في كونه في مقام بيان عدم لزوم الغَسل إذا أصابه قذرٌ يابس.

مع أنّه لو سُلّم ظهوره في المنع عن حمل النّجس، يُحمل على الكراهة جمعاً بينه وبين نصوص العفو عمّا لا تتمّ به الصّلاة.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم المنع إذا كان المحمول من الأعيان النجسة.

نعم، لو كان من أجزاء الكلب والخنزير، لا يجوز الصّلاة معه، لكونهما من أفراد ما لا يؤكل لحمه. وسيأتي في محلّه أنّ المنع عن الصّلاة ومعه شيءٌ من أجزائه هو الأقوى .

***8.

ص: 256


1- وسائل الشيعة: ج 3/443 ح 4118.

ويكفي المُربيّة للصَّبي، إذا لم يكن لها إلّاثوبٌ واحدٌ، غَسله في اليوم واللّيلة مرّة واحدة.

ثوب المُربّية
اشارة

(و) الرابع: ممّا عُفي عنه: ثوب المربية بشرط غَسله في كلّ يومٍ مرّة، بلا خلاف فيه في الجملة، ف (يكفي المربيّة للصّبي إذا لم يكن لها إلّاثوبٌ واحد، غَسله في اليوم واللّيلة مرّةً واحدة).

ويشهد له: خبر أبي حفص، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سُئل عن امرأةٍ ليس لها إلّا قميصٌ واحدٌ، لها مولودٌ فيبول عليها، كيف تصنع ؟ قال عليه السلام: تَغسل القميص في اليوم مرّة»(1).

وعن جماعةٍ (2) منهم صاحب «المدارك»(3) الإستشكال في الحكم بضعف الخبر، لأنّ في سنده محمّد بن يحيى المعاذي الذي ضعّفه العلّامة رحمه الله.

وفيه: أنّه لإنجباره بعمل الأصحاب، يُعتمد عليه، ولا يَقدح ضعفه.

***

فروع:

الفرع الأوّل: ظاهر الفتاوي، عدم اختصاص الحكم بالاُمّ ، وعمومه لمطلق المُربّية اُمّاً كانت أو غيرها، متبرّعةً أو مُستأجرة.

ص: 257


1- الفقيه: ج 1/70 ح 161، وسائل الشيعة: ج 3/399 ح 3971.
2- منهم الطوسي في النهاية: ص 55، منتهى المطلب: ج 1/176، البيان ص 41.
3- مدارك الأحكام: ج 2/355.

ويشهد له: أنّ مورد السؤال في النّص هي المرأة التي لها مولودٌ، الظاهرة بقرينة لام الاختصاص في مطلق مَنْ للمولود نحو اختصاصٍ به، ولو بلحاظ التربية.

الفرع الثاني: نسب إلى الأكثر(1) الاقتصار على الذَكَر، وعن «الذخيرة»(2)نسبة عموم الحكم للاُنثى إلى أكثر المتأخّرين.

واستدلّ للأوّل: بالمنع من شمول لفظ (المولود) في الخبر للاُنثى، وبالفرق بين بول الذَكَر والاُنثى .

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه عامٌ يشمل الذَكَر والاُنثى ، كما صرّح به غير واحدٍ كالشهيدين(3) وأكثر المتأخّرين.

وأمّا الثاني: فلأنّ الفرق بينهما في النجاسة وعدمها في بعض الفروض، لا يوجب تقييد الإطلاق، بل أمره عليه السلام بالغَسل في كلّ يومٍ مرّة كالصريح في عموم الحكم لما إذا كان البول نجساً.

الفرع الثالث: حكي عن بعض المتأخّرين(4): إلحاق البَدَن بالثّوب، واستدلّ له صاحب «الجواهر»(5) بأنّ الغالب التعدّي إلى البَدَن، مع عدم الأمر بالتطهير في النّص لكلّ صلاة.

وفيه: إنّ عدم الأمر به يمكن أن يكون اتّكالاً على أدلّة المانعيّة، ولذا لم يأمر فيه بغَسله ولو مرّة، ولعلّه يكون التفصيل موافقاً للاعتبار أيضاً، لعدم المشقّة النوعيّة في8.

ص: 258


1- النهاية: ص 55، المعتبر: ج 1/444، المختصر النافع: ص 19.
2- ذخيرة المعاد: ج 1/165.
3- الدروس: ج 1/127، مسالك الأفهام: ج 1/127.
4- رسائل الكركي: ج 1/97.
5- جواهر الكلام: ج 6/167-168.

تطهير البَدَن لكلّ صلاةٍ بخلاف الثّوب.

الفرع الرابع: عن المصنّف رحمه الله(1) والشهيدين(2): إلحاق المربّي بالمربيّة لقاعدة الاشتراك، وللقطع بعدم الفرق، وللاشتراك في العلّة، وهي المشقّة المقتضية للعفو، ولكن القاعدة غير ثابتة في أمثال المقام ممّا يكون الخطاب موجّهاً إلى الإناث،، والقطع غير حاصل، والعلّة المذكورة ليست مذكورة في النّص، بل هي علّة مستنبطة، وعليه يكون قياساً.

فالأقوى ما اختاره المحقّق في كتبه، وصاحب «المدارك» من عدم الإلحاق.

الفرع الخامس: مورد النّص البول، وعن الشهيد الأوّل(3) إلحاق الغائط بالبول، واستدلّ له بأنّ البول يُكنّى به عنهما غالباً، وحيث أنّه عليه السلام لم يستفصل في الجواب، فيستفاد منه الإطلاق.

وفيه: أنّه مع وجود الفرق بينهما في كثرة الابتلاء بالبول الموجبة لمشقّة الإجتناب، وعدم القرينة على إرادة الكناية من البول، لا وجه للإلحاق، وأضعف من إلحاق سائر النجاسات به.

الفرع السادس: ألحق الشهيد في «الذكرى»(4) و «الدروس»(5) بالمولود، الواحد المتعدّد، للإشتراك في العلّة، وهي المشقّة وزيادة.

وأورد عليه صاحب «الحدائق»(6): بأنّه يحتمل أن يكون لأقلّيّة النجاسة دخلٌ 7.

ص: 259


1- قواعد الأحكام: ج 1/194.
2- الذكرى: ص 17 (ط. ق)، شرح اللّمعة: ج 1/526.
3- نسبه إليه في ذخيرة المعاد: ج 1/21.
4- الذكرى: ص 17.
5- الدروس: ج 1/127.
6- الحدائق الناضرة: ج 5/347.

في العفو، فلا وجه للتعدّي.

وفيه: إنّ إطلاق النّص يشمل المتعدّد أيضاً، إذ المولود كما يصدق على الواحد، يصدق على المتعدّد. فالإلحاق قويّ .

الفرع السابع: إذا لم ينحصر ثوبها في واحد، ولكن احتاجت إلى لبس جميع ما عندها، فالظاهر أنّ الجميع في حكم الثّوب الواحد، كما عن «الروض»(1) التصريح به، فإنّ الظاهر من النّص سؤالاً وجواباً وروده في مقام بيان حكم المرأة التي ليس لها ما يبدّل به ثوبها، بل بما أنّ المرأة غالباً تحتاج في صلاتها إلى أكثر من ثوبٍ واحدٍ، فلا يصحّ تخصيص الحكم بما إذا كان لها ثوبٌ واحد.

وأيضاً: لو تمكّنت ذات الثّوب الواحد من تحصيل غيره بشراءٍ أو استيجار أو استعارة، فهل يتعيّن عليها ذلك أم لا؟ وجهان، أقواهما الثاني؛ لإطلاق النّص.

ودعوى: الانصراف إلى صورة عدم التمكّن ممنوعة، لا سيّما مع غلبة إمكان الاستيجار ونحوه.

الفرع الثامن: مقتضى إطلاق النّص، التخيير بين ساعات اليوم في الغَسل.

واختار بعض الأعاظم(2): وجوب إيقاع الغَسل في النهار.

وعن المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(3): لزوم إيقاعه آخر النهار، لتُصلّي الظهرين والعشائين مع الطهارة، أو مع خفّة النجاسة.

وعن جماعةٍ : لزوم إيقاعه عند الصبح.

واستدلّ للأوّل: بأنّ اليوم إمّا ظاهرٌ في النهار، أو مجملٌ يتعيّن حمله عليه، لكونه).

ص: 260


1- روض الجنان: ص 167.
2- مستمسك العروة: ج 1/587.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/494، قوله: (تتخيّر في وقت غَسله، والأفضل أن تؤخّره إلى أن تجتمع الصّلوات الأربع عدا الصبح فيه).

القدر المتيقّن في وجوب الخروج عن القواعد العامّة، المقتضية لتكرار الغَسل.

وفيه: مضافاً إلى أنّ (اليوم) يشمل في نفسه اللّيل أيضاً، لإطلاقه لغةً على ما يعمّه، يتعيّن حمله في النّص على ذلك، إذ الظاهر منه كونه عليه السلام في مقام بيان وظيفة المرأة في جميع أوقات الصّلاة، وإلّا لو كان عليه السلام في مقام بيان وجوب الغَسل في النهار خاصّة، لزم لزوم غَسل ثوبها في اللّيل لصلاتها، وهو كما ترى ، وعلى هذا فلا مورد للنزاع في أنّ المراد من (اليوم) في الخبر هو يوم الصوم أو يوم الأجير.

واستدلّ للثاني: بأولويّة طهارة أربع على طهارةٍ واحدة.

وفيه: - مضافاً إلى أنّ الغَسل آخر النهار لا يستلزم دائماً، بل ولا غالباً طهارة أربع كما لا يخفى - أنّ الأمر بالغَسل في المقام ليس إرشاداً إلى شرطيّة الطهارة للصَّلاة، ولذا لو تنجّس بعد الغَسل قبل الصّلاة يحتزي به.

بل الظاهر أنّ المراد منه اعتبار الغَسل في نفسه للصَّلاة، بمعنى أنّه لو غَسل الثّوب في اليوم مرّةً ، يعفى عن نجاسته في ذلك اليوم.

وعليه، فلا فرق بين غَسله عند الصبح أو آخر النهار.

أقول: ومنه ظهر ضعف ما عن المحقّق(1) من اعتبار كون الغَسل في وقت الصّلاة، بدعوى أنّ الأمر بالغَسل للوجوب، ولا وجوبَ قبل الوقت، إذ الأمر به يكون للإرشاد إلى شرطيّته، فيكون أمراً غيريّاً.

واستدلّ للأخير: بأنّ مقتضى شرطيّة الغَسل لمطلق الصّلوات، لزوم إيقاعه في كلّ يومٍ مقدّمةً لمطلق الصّلوات الواقعة في ذلك اليوم، فيجبُ تقديمها على الجميع.

واُجيب عنه: بأنّ شرطيّته لجميع الصّلوات لا تنافي جواز التأخير، إذ يمكن أن يكون بالنسبة إلى الصّلوات المتقدّمة عليه من قبيل الشرط المتأخّر.4.

ص: 261


1- المعتبر: ج 1/444.

وفيه: أنّ الشرط المتأخّر على فرض معقوليّته، خلافُ الظاهر، لا يُصار إليه إلّا مع القرينة.

ولكن يرد على الاستدلال: أنّ الظاهر من الخبر، شرطيّة الغَسل لجميع الصّلوات المشروعة من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الثاني، فيتعيّن القول بالتخيير.

ودعوى(1): أنّ هذا خلاف ظاهر اليوم، فإنّه ظاهرٌ في غير الملفّق.

مندفعة: بأنّ المأمور به ليس أمراً مستوعباً لليوم، حتّى يصحّ ما ذكر، بل هو أمرٌ يتحقّق في مدّةٍ قليلة منه، فمقتضى إطلاق الأمر به فيه - بما أنّه أمرٌ بشيءٍ في زمان أوسع ممّا يفي بإتيان المأمور به - هو التخيير.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ القول بالتخيير بين آنات اليوم هو الأظهر.

***9.

ص: 262


1- مستمسك العروة: ج 1/589.
تَذنيبٌ :

نُسِب إلى جماعةٍ (1): العفو عن نجاسة ثوب من تواتر بوله إذا غسله في النهار مرّة.

واستدلّ له المصنّف رحمه الله(2) والشهيد(3): بقاعدة الحرج.

استدلّ غيرهما: بمكاتبة عبد الرحيم القصير، إلى أبي الحسن عليه السلام:

«يسأله عن خصيّ يبولُ فيلقى من ذلك شدّة، ويرى البَلَل بعد البَلَل ؟

فقال عليه السلام: يتوضّأ، وينضح ثيابه في النهار مرّة واحدة»(4).

أقول: ولكن القاعدة - مضافاً إلى أنّ الحرج لا يطرد في جميع الموارد - تدلّ على عدم وجوب الغَسل فيما إذا لزم منه الحرج.

وأمّا كون الوظيفة حينئذٍ الصّلاة عارياً، أو الصّلاة في الثّوب النّجس، أو التخيير بينهما، فهي ساكتة عنه، فيرجع فيه إلى ما تقتضيه القواعد الاُخر. وسيأتي الكلام فيه إنْ شاء اللّه تعالى .

وأمّا المكاتبة: فمضافاً إلى ضعف سندها بعبد الرحيم وسعدان بن مسلم الراوي عنه، لا يعتمد عليها لمخالفتها للقواعد الشرعيّة الاُخر، لعدم اشتمالها على الأمر بالغسل، ولا على كون الثّوب واحداً، كما هو مدّعى الجماعة.

***

ص: 263


1- راجع الدروس: ج 1/127، الذكرى: ص 17.
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 3/272.
3- الدروس: ج 1/127.
4- الكافي: ج 3/20 ح 6.

ويَجبُ إزالة النجاسة مَع عِلْم موضعها، فلو جَهِل غَسَل جميع الثّوب، ولو اشتَبه الثّوب بغيره، صَلّى في كلّ واحدٍ منهما مرّة.

الصّلاة في النّجس
اشارة

(ويَجبُ إزالة النجاسة مع علم موضعها) كما تقدّم، (فلو جَهِل غَسَل جميع الثّوب) أو صلّى في غيره بلا خلافٍ ، إذ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في منجّزية التكليف.

ويشهد له: مضافاً إلى ذلك، صحيح زرارة وفيه:

«قلت: فإنّي قد عَلِمتُ أنّه قد أصابه، ولم أدرِ أينَ هو فأغسله ؟

قال عليه السلام: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها، حتّى تكون على يقينٍ من طهارتك». الحديث(1).

(ولو اشتبه الثّوب) النّجس (بغيره، صلّى في كلّ واحدٍ منهما مرّةً ) كما هو المشهور(2)، إذ هو عالمٌ بطهارة أحدهما، فالتكليف بالصّلاة في الثّوب الطاهر فعليّ ومنجّزٌ، فمقتضى قاعدة الاحتياط هو تكرار الصّلاة.

ويشهد له: مضافاً إلى ذلك، صحيح صفوان:

«أنّه كتبَ إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله عن الرّجل معه ثوبان، فأصاب أحدهما بولٌ ، ولم يدر أيّهما هو، وحضرت الصّلاة، وخافَ فوتها، وليس عنده ماءٌ ، كيف يصنع ؟

ص: 264


1- التهذيب: ج 1/421 ح 8، وسائل الشيعة: ج 3/402 ح 3978.
2- راجع نهاية الإحكام: ج 1/281، كفاية الأحكام ص 13، الخلاف: ج 1/39.

قال عليه السلام: يُصلّي فيهما جميعاً»(1).

أقول: وبذلك يظهر ضعف ما عن ابني سعيد(2) وإدريس(3) من وجوب الصّلاة عارياً.

وأمّا مرسل «المبسوط»(2) الوارد فيه أنّه: «رُوي أنّه يتركهما، ويُصلّي عارياً»، فلإرساله، وإعراض الأصحاب عنه، ومعارضته مع الصحيح، لا يعتنى به.

هذا إذا لم يكن عنده مع الثوبين المشتبهين ثوبٌ طاهر، وإلّا ففيه أقوال:

ثالثها التفصيل بين ما لو كان له غَرَضٌ عقلائي في عدم الصّلاة في الثّوب الطاهر، وبين ما لم يكن، فيجوزُ في الأوّل دون الثاني.

واستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله: (3) لعدم الجواز - أي عدم جواز الامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي - بأنّ العقل الحاكم بوجوب الطاعة، يستقلّ بكون الانبعاث عن احتمال الأمر في طول الانبعاث عن بعث المولى، فلا يُجتزى بالتحرّك عن احتمال الأمر، مع إمكان التحرّك عن نفس التحريك.

وفيه: أنّه لا يعتبر عند العقل في حصول الطاعة، سوى إتيان المأمور به بجميع قيوده مضافاً إلى المولى، فاعتبار لزوم التحرّك عن تحريك المولى ممّا لم يدلّ عليه دليل.

وعلى فرض الشكّ في اعتبار ذلك، بما أنّه شكٌّ في التقييد الزائد، فالمرجع إلى البراءة. مع أنّه في الفرض يكون التحرّك عن التحريك الجزمي، للعلم بطهارة أحد).

ص: 265


1- الفقيه: ج 1/249 ح 756، وسائل الشيعة: ج 3/505 ح 4298. (2و3) نقل في مصباح الفقيه: ج 1/626 ق 2 حكاية هذا الرأي عنهما.
2- المبسوط: ج 1/39.
3- كما قد يظهر من أجود التقريرات: ج 2/45 (الأمر الرابع).

الثوبين، فيكون عالماً بكون الصّلاة في أحدهما مأموراً بها.

وتوهّم: اعتبار التمييز فاسدٌ لعدم الدليل عليه.

واستدلّ للقول بالتفصيل: بأنّ تكرار الصّلاة مع عدم الغرض العقلائي يكون لَعباً وعَبَثاً بأمر المولى .

وفيه: - مضافاً إلى أنّ اللّعب على فرض سرايته إلى الامتثال، لا يفيد عدمه بوجود غرضٍ عقلائي، لأنّ وجوده لا يكفي في صحّة العبادة لاعتبار صدورها عن قصد قربي - أنّه إنّما يكون في الإتيان بما ليس بمأمورٍ به في الواقع، لا في إتيان المأمور به، وضمّ اللّعب إلى الامتثال لا يوجب عدم تحقّقه.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو جواز تكرار الصّلاة في الثوبين مطلقاً.

***

ص: 266

ولو لم يتمكّن مِنْ غَسل الثّوب، صَلّى عُرياناً إذا لم يجد غيره.

انحصار الثّوب في النّجس

(ولو لم يتمكّن من غَسل الثّوب) وتمكّن من نزعه، (صَلّى عُرياناً إذا لم يجد غيره) كما عن «الخلاف»(1)، و «السرائر»(2)، و «الإرشاد»(3)، و «المبسوط»(4)، و «النهاية»(5)، و «الكامل»(6)، و «التحرير»(7)، و «الدروس»(8)، و «الروض»(9)، و «المسالك»(10)، و «المدارك»(11) وغيرها.

وعن «الرياض»(12): أنّه المشهور شهرةً عظيمة، بل عن «الخلاف»(13):

دعوى الإجماع عليه.

وعن «المعتبر»(14)، و «المنتهى»(15)، و «الدروس»(16)، و «جامع المقاصد»(17):

ص: 267


1- الخلاف: ج 1/398-399.
2- السرائر: ج 1/186.
3- إرشاد الأذهان: ج 1/240.
4- المبسوط ج 1/39.
5- النهاية: ص 55.
6- حكاع عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/194-195.
7- تحرير الأحكام (ط. ق): ج 1/23.
8- الدروس: ج 1/127.
9- روض الجنان: ص 269.
10- مسالك الأفهام: ج 1/128.
11- مدارك الأحكام: ج 2/359.
12- رياض المسائل (ط. ق): ج 1/94.
13- الخلاف: ج 1/398-399.
14- المعتبر: ج 1/445.
15- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/182.
16- الدروس: ص 127.
17- جامع المقاصد: ج 1/177.

القول بالتخيير.

وعن «كشف اللّثام»(1)، و «المعالم»(2)، وجماعةٌ من متأخّري المتأخّرين: القول بأنّه يُصلّي في الثّوب النّجس.

أقول: يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: فيما تقتضيه القواعد.

الثاني: في مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا المقام الأوّل: فعن الشيخ في «الخلاف»(3) أنّه الصّلاة عارياً، لإطلاق النهي عن الصّلاة في النّجس.

ونوقش فيه: بمعارضته مع إطلاق دليل الستر.

واُجيب عنه: بأنّ دليل الستر قُيِّد بالسّاتر الطاهر، وحيثُ أنّه غير متمكّن منه فيسقط.

وفيه: أنّ ذلك الدليل لم يقيّد بالسّاتر الطاهر، بل اعتبار الطهارة وعدم النجاسة إنّما يكون في الصّلاة في عرض اعتبار الستر، لا في الساتر بما هو ساتر.

وعليه، فبما أنّ المختار - كما حقّقناه في مبحث القبلة(4) من كتابنا هذا - خلافاً لقاطبة المحقّقين من المتأخّرين أنّ موارد التنافي بين الحكمين الضمنيين من موارد التعارض لا التزاحم، وأنّ مركز التنافي إطلاق دليل كلٍّ من المعتبرين في المركّب،5.

ص: 268


1- كشف اللّثام: ج 1/56 (ط. ق) وفي (ط. ج): ج 1/455 (حكم ملاقي النّجس).
2- حكاه عنه في الحدائق: ج 5/352-353، والجواهر: ج 6/250.
3- الخلاف: ج 1/475.
4- فقه الصادق: ج 6/155.

وأنّه لو كان بينهما عمومٌ من وجه يتساقط الإطلاقان، ويرجع إلى الأصل، ففي المقام يقع التعارض بين دليل اعتبار الستر، وإطلاق دليل اعتبار الطهارة، فيتساقطان، والمرجع إلى أصالة البراءة عن وجوب كلّ منهما بالخصوص، بناءً على ما هو الحقّ من جريانها عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فيثبت التخيير.

فتحصّل: أنّ الأقوى بحسب القواعد هو القول الثاني.

وأمّا المقام الثاني: فالأقوى بحسب النصوص الخاصّة هو القول الأوّل. لموثّق سماعة: «سألته عن رجلٍ يكون في فلاةٍ من الأرض، وليس عليه إلّاثوبٌ واحد، وأجنب فيه، وليس عنده ماءٌ كيف يصنع ؟

قال عليه السلام: يتيمّم ويُصلّي عرياناً قاعداً يؤمي إيماءً ».

هكذا رُوي عن «التهذيب»(1)، وعن «الاستبصار» روايته نحوه، إلّاأنّ فيه:

(يُصلّي عرياناً قائماً يؤمي إيماءً )(2).

ونحوه خبر الحلبي، المتعيّن ترجيحهما على معارضهما كصحيح الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السلام: «سألته عن رجلٍ أجنب في ثوبه، وليس معه ثوبٌ غيره ؟ قال عليه السلام: يُصلّي»(3).

ونحوه صحيحه(4) الآخر، وصحيح(5) عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه عليه السلام.

وصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «سألته عن رجلٍ عريان وحضرت الصّلاة، فأصاب ثوباً نصفه دم أو كلّه دم، يُصلّي فيه أو يُصلّي عرياناً؟3.

ص: 269


1- الكافي: ج 3/396 ح 15، التهذيب: ج 2/223 ح 89، وسائل الشيعة: ج 3/486 ح 4248.
2- الفقيه: ج 1/68 ح 155، الاستبصار: ج 1/168 ح 1.
3- التهذيب: ج 1/271 ح 86، وسائل الشيعة: ج 3/447 ح 4133 وص 484 ح 4240.
4- وسائل الشيعة: ج 3/484 ح 4242.
5- الكافي: ج 3/406 ح 11، وسائل الشيعة: ج 3/484 ح 4243.

قال عليه السلام: إنْ وجد ماءً غَسله، وإنْ لم يجد ماءً صَلّى فيه، ولم يُصلِّ عرياناً»(1).

لأنّهما أشهر فيقدّمان عليها.

ودعوى(2): إمكان الجمع بينها:

1 - إمّا بحمل الأخيرة على صلاة الجنازة.

2 - أو حملها على صورة الاضطرار، وحمل الأخبار الأول على غيرها، بشهادة ما رواه محمّد الحلبي: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرَّجل يُجنب في الثّوب أو يصيبه بول، وليس معه ثوبٌ غيره ؟ قال عليه السلام: يُصلّي فيه إذا اضطرّ إليه»(3).

3 - أو حمل النصوص على التخيير، بأن ترفع اليد عن ظهور كلٍّ من الطائفتين في الوجوب التعييني بقرينة الاُخرى .

مندفعة: بأنّ الجمع الأوّل مضافاً إلى أنّه تبرّعي، يأباه قوله في صحيح عليّ بن جعفر: (وحضرت الصّلاة).

والثاني يأباه فرض السائل في الصحيح المذكور، كون الرجل عرياناً، مع أنّ الاضطرار في خبر الحلبي لعلّه اُريد منه الاضطرار من جهة الصّلاة لا من جهة البَرد.

والجمع الثالث ليس جمعاً عرفيّاً، إذ النفي والإثبات في الطائفتين واردان على شيءٍ واحد، وهو الصّلاة عرياناً، وفي مثل هذا المورد لا يمكن الجمع العرفي بينهما، إذ العرف لا يرى إحداهما قرينةً على الاُخرى ، بل يرى بينهما التهافت.

والنتيجة: المتعيّن الرجوع إلى المرجّحات، وقدعرفت أنّ الترجيح لنصوص العريان.6.

ص: 270


1- الفقيه: ج 1/248 ح 755، وسائل الشيعة: ج 3/484 ح 4244.
2- مستمسك العروة: ج 1/545.
3- التهذيب: ج 2/224 ح 91، وسائل الشيعة: ج 3/485 ح 4246.

ولو خافَ البَرد صَلّى فيه ولا إعادة.

(ولو) كان ثوبه نجساً ولم يتمكّن من نزعه، بأن (خاف البَرد) أو نحوه، (صلّى فيه) قولاً واحداً، إذ الصّلاة لا تَدَعُ بحالٍ ، مضافاً إلى إطلاق جملةٍ من النصوص المتقدّمة، وهذا ممّا لا كلام فيه.

إنّما الخلاف فيما ذكره المصنّف رحمه الله (و) غيره، من أنّه (لا إعادة) عليه، بل هو المشهور شهرةً عظيمة(1).

وعن الشيخ(2) وابن الجُنيد(3) وغيرهما وجوب الإعادة.

واستدلّ للأوّل: بخلوّ النصوص عن الأمر بالإعادة، وبأنّه صَلّى صلاةً مأموراً بها، فيسقط الفرض، فلا إعادة عليه.

أقول: وفيهما نظر: إذ النصوص إنّما تدلّ على جواز الصّلاة في الثّوب النّجس إذا اضطرّ إلى الصّلاة المأمور بها فيه، ويتوقّف ذلك على عدم القدرة على الصّلاة في الثّوب الطاهر في مجموع الوقت، وإلّا فعدم القدرة عليها في زمانٍ ، كعدم القدرة عليها في مكانٍ خاص، غير مشمول للنصوص، فإذا انكشف ثبوت القدرة في أثناء الوقت، إنكشف عدم سقوط اعتبار الطهارة من أوّل الأمر.

وبذلك يظهر ما في الثاني، إذ كون ما أتى به مأموراً به، يتوقّف على جواز البدار لذي العذر واقعاً، وهو خلاف التحقيق كما عرفت.

نعم، لو استمرّ العجزُ إلى آخر الوقت، يكون ما أتى به مأموراً به، فيسقط9.

ص: 271


1- السرائر: ج 1/186، المعتبر: ج 1/445، تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/458.
2- المبسوط: ج 1/39.
3- نسبه إليه في المعتبر: ج 1/399.

الفرض، مضافاً إلى خلوّ النصوص الآمرة بالصّلاة فيه عن الأمر بالإعادة، مع أنّه أمر فيها بالغَسل بعد التمكّن.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو التفصيل:

بين التمكّن من التطهير، أو التبديل في أثناء الوقت، فيجبُ الإعادة.

وبين التمكّن منه في خارجة، فلا يجب القضاء.

وأمّا موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ ليس عليه إلّاثوبٌ واحد، ولا تحلّ الصّلاة فيه، وليس يجدُ ماءً لغسله، كيف يصنع ؟

قال عليه السلام: يتيمّم ويُصلّي، فإذا أصاب ماءً غسله وأعاد الصّلاة»(1).

فلأجل احتمال أن تكون الإعادة لأجل التيمّم، لابدَّ من حمل الأمر بها على الاستحباب، كما سيأتي في محلّه.

***7.

ص: 272


1- التهذيب: ج 1/407 ح 17، وسائل الشيعة: ج 3/392 ح 3957 وص 485 ح 4247.
فروع ثوب المصلّي

الفرع الأوّل: إذا كان عنده ثوبان، يعلم بنجاسة أحدهما، ولم يتمكّن إلّامن صلاةٍ واحدة، فهل يُصلّي في أحدهما، أو عارياً، أو يتخيّر بينهما؟ وجوهٌ وأقوال:

أقول: لا ريب في أنّه بناءً على وجوب الصّلاة في الثّوب النّجس، عند انحصار الثّوب لا عارياً، يتعيّن في المقام القول بوجوب الصّلاة في أحدهما للأولويّة.

وأمّا بناءً على وجوب الصّلاة عارياً مع الانحصار، كما هو الأقوى ، فبما أنّ نصوص تلك المسألة لا تشمل ما نحن فيه، لا بالمنطوق ولا بالمفهوم:

أمّا الأوّل: فلأنّ مورد تلك النصوص ما لم يكن عنده إلّاثوبٌ نجس.

وأمّا الثاني: فلأنّ تقديم مانعيّة النجاسة المتيقّنة على شرطيّة الستر، لا تلازم تقدّم المانعيّة المحتملة، فلابدَّ من الرجوع إلى القواعد، وما ذكرناه في تلك المسألة من ما تقتضيه القاعدة، لا يجري في المقام، لعدم الاضطرار إلى مخالفة شيءٍ من ما يعتبر في الصّلاة، غاية الأمر لا يحصل العلم بالإمتثال.

فالتحقيق في المقام يقتضي أن يقال: إنّ المخالفة القطعيّة لمانعيّة النجاسة لا تجوز قطعاً، إذ دليل المانعيّة يقتضي حرمتها، ودليل شرطيّة التستّر بالنسبة إليها يكون لا اقتضاء، لأنّه لا يقتضي أزيد من اعتبار لبس ثوبٍ واحد، فلا محالة يقع التنافي بين الموافقة القطية لمانعيّة النجاسة، والموافقة القطعيّة لشرطيّة التستّر. وحيثُ لم يرد عن الشارع ما يعيّن التكليف في الفرض، فالمرجع إلى ما يستقلّ به العقل، وليس هو إلّاالتخيير.

الفرع الثاني: إذا كان كلٌّ من بدنه وثوبه نجساً، ولم يكن له من الماء إلّاما يكفي أحدهما:

ص: 273

1 - فهل يجبُ عليه تطهير البَدَن مع الصّلاة في الثّوب النّجس، كما اختاره بعض الأعاظم(1).

2 - أو مع الصّلاة عارياً، كما هو المختار.

3 - أو يتخيّر بينه، وبين تطهير البَدَن والصّلاة في الثّوب النّجس ؟ وجوهٌ وأقوال:

أقول: إنْ قلنا بوجوب الصّلاة عارياً مع الانحصار، فالحكم واضحٌ ، وهو تعيّن تطهير البَدَن والصّلاة عارياً، وأمّا إنْ قلنا بوجوب الصّلاة في النّجس، فالأقوى هو القول بالتخيير، إذ النجاسة إنّما جُعلت موضوعاً للمانعيّة بنحو الطبيعة السارية، فكلٍّ من نجاسة البَدَن ونجاسة الثّوب فردٌ من المانع، يجبُ عند التمكّن إزالتها، ومع عدم التمكّن يتخيّر بينهما.

وأمّا ما ذكره بعض الأعاظم (2) : في وجه تعيّن تطهير البَدَن على هذا القول، بأنّ نجاسة البَدَن ممّا يحتمل أولويّتها في المانعيّة، فيدور الأمر:

بين التعيّن والتخيير، والأصل يقتضى التعيّن هنا.

وإنْ قلنا بالتخيير في ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير، إذ الشكّ في المقام يكون في السقوط بخلاف ذلك المقام، فإنّ الشكّ فيه في الثبوت، إذ الشكّ في المقام يكون سقوط مانعيّة نجاسة البَدَن بواسطة العجز بعد العلم بثبوتها.

فمندفعٌ : بأنّه إنْ صحّ دعوى احتمال أهميّة مانعيّة نجاسة البَدَن، فكذلك تصحّ دعوى احتمال أهميّة مانعيّة الثّوب، وإنْ كان الصحيح عدم صحّة كلتا الدعويين.

هذا مضافاً إلى أنّ احتمال الأهميّة، يوجب تقديم ما يحتمل فيه تلك في موارد التزاحم لا التعارض، والمقام من موارد الثاني لا الأوّل، لما أشرنا إليه مراراً من أنّ 2.

ص: 274


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 1/551-552.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 1/551-552.

موارد التنافي بين الحكمين الضمنيين من موارد التعارض لا التزاحم.

مع أنّ ما ذكره من الفرق بين هذا المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وسائر الموارد، بأنّه في المقام يكون الشكّ في السقوط لا في الثبوت.

غير تامٍّ ، إذ في المقام سواءٌ أكان من موارد التعارض أو التزاحم، يكون الشكّ في الثبوت أيضاً، إذ مع عدم إمكان امتثالهما، يكون أحدهما غير ثابتٍ ، لا أنّه يثبت ويسقط بالعجز، كما لا يخفى .

فتحصّل: أنّ الأقوى على القول بوجوب الصّلاة في النّجس، هوالقول بالتخيير، من غير فرقٍ بين كونهما متساويين، أو كون نجاسة أحدهما أشدّ.

نعم، لو كانت نجاسة أحدهما أكثر تعيّن ترجيحه، إذ الضرورات تتقدّر بقدرها، فبالمقدار الذي يَضطرّ المكلّف من الصّلاة فيه، وهو النجاسة بالمقدار الأقلّ ، يكون معفوّاً عنه، وأمّا الزائد عليه، فلا دليل على العفو عنه.

ودعوى: أنّه بعد الاضطرار إلى الصّلاة في النجاسة، لا فرق بين قليلهاوكثيرها.

مندفعة: بأنّ النجاسة التي أُخذت موضوعاً للمانعيّة، ملحوظة بنحو الطبيعة السارية، فيجبُ عليه إزالة أيّ مقدارٍ منها أمكن إزالته(1).

الفرع الثالث: إذا كان عنده مقدارٌ من الماء لايكفي إلّالرفع الحَدَث أو الخَبَث:

فهل يتعيّن رفع الخَبَث، ويتيمّم بدلاً عن الوضوء أو الغسل.

أو يتخيّر بين ذلك والوضوء أو الغسل والصّلاة في النّجس ؟ قولان:

أوّلهما هو المشهور بين المحقّقين، لكن الأقوى هو الثاني، ويبتني ما ذهب إليه المشهور في هذه المسألة أيضاً على ما بنوا عليه من أنّ موارد التنافي بين الحكمين).

ص: 275


1- وقد تنبّه لردّ هذه الدعوى السيّد الخوئي قدس سره في كتاب الطهارة: ج 2/408، (حكم ما إذا كانت نجاسة بدنه أو ثوبه أشدّ من نجاسة الآخر).

الضمنيين من موارد التزاحم.

وعليه، فبما أنّ من مرجّحات باب التزاحم، كون أحد الواجبين ممّا ليس له بدلٌ ، والآخر ممّا له بدل، والطهارة الحَدَثيّة المائيّة ممّا له بدل دون الطهارة الخَبَثيّة، فتقدّم الثانية، وينتقل الأولى إلى البدل، ولكن قد عرفت مراراً إجمالاً - ويأتي تفصيله في مبحث القبلة(1) - من أنّ هذه الموارد من موارد التعارض لا التزاحم، وأنّ مركز التنافي هو إطلاق دليل كلٍّ من الحكمين الضمنيين، وبما أنّ النسبة بينهما عموم من وجه، فيتساقطان والمرجع إلى الأصل، وهو يقتضي التخيير، ففي المقام يقع التعارض بين إطلاق دليل اعتبار الطهارة الحَدَثيّة المائيّة، وإطلاق دليل اعتبار الطهارة الخَبَثيّة، فيتساقطان، والمرجع إلى أصالة البراءة عن تعيّن كلٍّ منهما، فيثبت التخيير.

الفرع الرابع: إذا سَجَد على الموضع النّجس جهلاً بالنجاسة أو نسياناً، لا يجب عليه الإعادة إذا التفت بعد الصّلاة، ولا تُدارك السّجدة إذ التفت بعد رفع الرأس منها، لعموم حديث: «لا تعاد الصّلاة»(2) بناءً على ما هو الصحيح من أنّ المراد من (الطهور) في المستثنى الطهارة الحَدَثيّة، وأنّ الطهارة إنّما تكون شرطاً للصَّلاة في حال السجود لا من شرائط السجود.

***).

ص: 276


1- فقه الصادق: ج 6/155.
2- المستدرك: ج 4/429 (باب بطلان الصّلاة بترك الركوع عمداً).

ولو صَلّى في النَّجس مع العلم، أعاد في الوقت وخارجه، ولو نَسي في حال الصّلاة أعاد في الوقت لا خارجه.

الصَّلاة في النَّجس عالما
اشارة

(ولو صَلّى في النّجس مع العلم، أعاد في الوقت وخارجه) إجماعاً(1).

وتشهد له:

1 - النصوص الدالّة على لزوم إزالة النجاسة عن الثّوب والبَدَن المتقدّم بعضها، إذ بناءً على اعتبار الطهارة، يكون المأتي به غير مطابقٍ للمامور به، فيكون باطلاً.

2 - وجملة من النصوص الخاصّة:

منها: صحيح ابن سنان، عن الصادق عليه السلام: «سألته عن رجلٍ أصاب ثوبه جنابة أو دم ؟

قال عليه السلام: إنْ كان علم أنّه أصاب ثوبه جنابه قبل أن يُصلّي، ثمّ صَلّى فيه ولم يغسله، فعليه أن يُعيد ما صَلّى »(2). ونحوه غيره(3).

(ولو نسي في حال الصَّلاة، أعاد في الوقت لا خارجه)، كما عن الشيخ في «الاستبصار»(4)، والمصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(5)، بل المشهور بين المتأخّرين(6).

ص: 277


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/96.
2- الكافي: ج 3/406 ح 9، وسائل الشيعة: ج 3/475 ح 4216 وص 482 ح 4234.
3- راجع المصدر السابق من وسائل الشيعة: باب 40 و 43 من أبواب (النجاسات والأواني والجلود).
4- الإستبصار: ج 1/184.
5- مختلف الشيعة: ج 1/244.
6- مجمع الفائدة: ج 1/342.

وعن المشهور(1): لزوم الإعادة مطلقاً، بل عن «الغُنية»(2) و «شرح الجُمَل»(1):

دعوى الإجماع عليه.

وعن الشيخ(2) في بعض كتبه، وصاحب «المدارك»(3) وغيرهما: القول بالصحّة، ونفي الإعادة.

وعن «المعتبر»(4): الميل اليه.

واستدلّ للمشهور: بجملةٍ من النصوص:

منها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: إنْ أصاب ثوب الرّجل الدّم فصلّى فيه، وهو لا يعلم، فلا إعادة عليه، وإنْ هو علم قبل أن يُصلّي، فنسي وصلّى فيه، فعليه الإعادة»(5).

ومنها: صحيح ابن أبي يعفور: «في نقط الدّم يعلم به، ثمّ ينسى أنْ يغسله فيُصلّي فيه، ثمّ يذكر بعدما صلّى ، أيُعيد صلاته ؟

قال عليه السلام: يغسله ولا يُعيد صلاته، إلّاأن يكون مقدار الدِّرهم فيغسله ويُعيد الصّلاة»(6).

ومنها: صحيح زرارة، وفيه: «قلتُ له: أصاب ثوبي دَمُ رعافٍ أو غيره أو شيءٌ من المَني، فعلّمتُ أثره إلى أن اُصيب له الماء، وحَضَرتِ الصّلاة، ونسيتُ أنّ بثوبي شيئاً، وصلّيت ثمّ إنّي ذكرتُ بعد ذلك ؟1.

ص: 278


1- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 6/216.
2- الجواهر: ج 2/217.
3- مدارك الأحكام: ج 2/348.
4- المعتبر: ج 1/441.
5- الإستبصار: ج 1/182 ح 9، وسائل الشيعة: ج 3/476 ح 4220.
6- التهذيب: ج 1/255 ح 27، وسائل الشيعة: ج 3/429 ح 4071.

قال عليه السلام: تُعيد الصّلاة وتغسله»(1). ونحوها غيرها(2).

وفيه: إنّ دلالة هذه النصوص على وجوب القضاء، إنّما يكون بالإطلاق، فيقيّد بصحيح علي بن مهزيار، قال:

«كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنّه بال في ظُلمة من اللّيل، وأنّه أصاب كفّه برد نقطةٍ من البول، لم يشكّ أنّه أصابه ولم يره، وأنّه مسحه بخرقةٍ ثمّ نسى أن يغسله، وتمسّح بدهن فمَسَح به كفّيه ووجهه ورأسه، ثمّ توضّأ وضوء الصّلاة، فصلّى؟

فأجاب عليه السلام بجوابٍ قرأته بخطّه: أمّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك، فليس بشيءٍ إلّا ما تحقّق، فإنْ حقّقت ذلك كنتَ حقيقاً أن تُعيد الصّلوات اللّواتي كنت صلّيتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهنّ في وقت، وما فاتَ وقتها فلا إعادة عليك لها مِنْ قِبل أنّ الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يُعد الصّلاة إلّاما كان في وقتٍ ، وإذا كان جُنُباً أو صلّى على غير وضوء، فعليه إعادة الصّلوات المكتوبات اللّواتي فاتته، لأنّ الثّوب خلاف الجسد»(3).

أقول: وأورد عليه بإيرادات:

الأوّل: أنّ سليمان بن رشيد مجهولٌ .

الثاني: أنّه مضمر والمسؤول عنه غير معلوم.

الثالث: اضطراب المتن وإجماله، إذ الوضوء إنْ كان باطلاً فلا وجه للتفصيل بين الوقت وخارجه، لمنافاته مع ذيل الصحيح، وإنْ لم يكن باطلاً، فما الوجه في قوله عليه السلام: (بذلك الوضوء بعينه).8.

ص: 279


1- الإستبصار: ج 1/183 ح 13، وسائل الشيعة: ج 3/479 ح 4229.
2- وسائل الشيعة: ج 3/480 راجع روايات باب 42 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.
3- التهذيب: ج 1/426 ح 28، وسائل الشيعة: ج 3/479 ح 4228.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ علي بن مهزيار الثقة قرأ المكتوب ونقله.

وأمّا الثاني: فلأنّه مضافاً إلى أنّ ابن مهزيار من أجلّاء الأصحاب، وهو لا يروي عن غير المعصوم، فإنّ الكليني رحمه الله روى الصحيح، وقد ذكر في أوّل كتابه الجامع أنّه لا يروي رواية عن غير المعصوم في كتابه.

وأمّا الثالث: فلما عرفت في بحث تنجيس المتنجّس أنّه لا اضطراب في متن الحديث على القول بعدم التنجيس فراجع.(1)

مع أنّ إجمال صدرالحديث لايضرّبالاستدلال بذيله الصريح في التفصيل المزبور.

ودعوى:(2) أنّ ذيله وإنْ كان صريحاً في التفصيل المذكور، إلّاأنّه غير ظاهر في الناسي.

مندفعة: بأنّ مورد السؤال والجواب هو الناسي، فالكبرى الكليّة المذكورة في مقام التعليل لابدَّ وأن تشمله، وإلّا لم يصحّ الاستدلال بها.

فإنْ قلت: إنّ من جملة نصوص الباب روايتين غير قابلتين للحمل على الإعادة في الوقت، لصراحتهما في لزوم الإعادة خارجه، وهما:

1 - حسن محمّد بن مسلم، الوارد في الدّم وفيه:

«وإنْ كنتَ قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدِّرهم فضيّعت غَسله، وصلّيت فيه صلاةً كثيرة، فأعِد ما صلّيت فيه»(3).

2 - وصحيح علي بن جعفر عليه السلام: «في رجلٍ احتجَم فأصاب ثوبه دمٌ ، فلم يعلم به حتّى إذا كان من الغد؟6.

ص: 280


1- صفحة 187 من هذا المجلّد.
2- مستمسك العروة: ج 1/539.
3- الكافي: ج 3/59 ح 3، وسائل الشيعة: ج 3/431 ح 4076.

قال عليه السلام: إنْ كان رآه فلم يغسله، فليقضِ جميع مافاته على قَدْر ما كان يُصلّي، ولا ينقص منه شيء»(1).

قلت: إنّهما مطلقان من حيث العامد والناسي، بل قوله عليه السلام في الحسن: (فضيّعتَ غَسله) يؤيّد إرادة العامد المفرط في الغسل، فيقيّد إطلاقهما بصحيح علي بن مهزيار.

مع أنّ الحسن غير نصٍ في القضاء، إذ الصّلوات الكثيرة مطلقة من حيث الفريضة والنافلة.

واستدلّ للقول بالصحّة مطلقاً:

1 - بأنّه صلّى صلاةً مشروعة مأموراً بها، فيسقط الفرض بها.

2 - وبحديث رفع النسيان، وحديث «لا تُعاد الصّلاة»(2).

3 - وبجملةٍ من النصوص الخاصّة:

منها: صحيح العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن رجلٍ يُصيب ثوبه الشيء ينجسه فينسى أن يغسله فيُصلّي فيه، ثمّ يذكر أنّه لم يكن غَسَله، أيُعيد الصّلاة ؟

قال عليه السلام: لا يُعيدُ، قد مضت الصّلاة، وكُتِبت له»(3). ونحوه غيره(4).

4 - والمستفيضة النافية للإعادة عن ناسي الاستنجاء، كموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لو أنّ رجلاً نسي أن يستنجي من الغائط حتّى يُصلّي، لم يعُد الصّلاة»(5). ونحوه غيره(6).ء.

ص: 281


1- وسائل الشيعة: ج 3/477 ح 4223.
2- المستدرك: ج 4/429 ح 5081.
3- التهذيب: ج 1/423 ح 18، وسائل الشيعة: ج 3/480 ح 4230.
4- وسائل الشيعة: ج 3/479 راجع روايات الباب 42 من أبواب (النجاسات والأواني والجلود).
5- التهذيب: ج 1/49 ح 82، وسائل الشيعة: ج 1/318 ح 837.
6- وسائل الشيعة: ج 1/317 راجع روايات باب 10 من أبواب أحكام الاستنجاء.

بدعوى حمل الأخبار المتقدّمة بقرينة هذه النصوص على الاستحباب.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ مقتضى إطلاق دليل شرطيّة الطهارة، أنّه لم يُصلِّ صلاةً مأموراً بها، فلا يسقط الفرض بها.

وأمّا الثاني: فلما حقّقناه في محلّه من عدم شمول الحديث لصلاة ما لم يكن النسيان مستوعباً للوقت، إذ ما طرأ عليه النسيان وهو الفرد، لا يكون معلّقاً للتكليف، وما هو متعلّق التكليف وهو الطبيعي لم يطرأ عليه النسيان، وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه.

وعليه، فالحديث أيضاً يدلّ على القول المختار، كما لا يخفى .

وأمّا الثالث: فلأنّه وإنْ دلّ على الصحّة، وعدم لزوم الإعادة مطلقاً، إلّاأنّه لا بدَّ من تقييده بالنصوص المتقدّمة.

وأمّا النصوص: فلأنّ الجمع المذكور بين نصوص الإعادة وبين النافية لها، لا يُعدّ جمعاً عرفيّاً، لأنّ الراويتين المتنافيتين إذا كان النفي والإثبات فيهما واردين على شيءٍ واحد، بحيث ينفي أحدهما ما يُثبته الآخر، يكونان من المتعارضين، ولا يمكن الجمع بينهما، إذ العرف لا يرى إحداهما قرينةً على الاُخرى ، بل يرى بينهما التهافت، والمقام من هذا القبيل، كما هو الظاهر، فإذاً لابدَّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المعارضة، والترجيح مع نصوص الإعادة لوجوهٍ لا تخفى .

مع أنّ صحيح علي بن مهزيار كما يُقيّد إطلاق نصوص الإعادة يقيّد إطلاق هذه النصوص.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول بلزوم الإعادة في الوقت لا خارجه.

***

ص: 282

فرعان حول الصلاة في النجس
لو نسي النجاسة فذكرها في أثناء الصّلاة، فهل يجب الإعادة، أم لا؟

الفرع الأوّل: لو نسي النجاسة فذكرها في أثناء الصّلاة، فهل يجب الإعادة، أم لا؟ وجهان:

قد استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ ذلك ممّا يقتضيه إطلاق الأدلّة الدالّة على مانعيّة النجاسة.

2 - وبأنّه لا دليل على المعذوريّة بالنسبة إلى التذكّر.

أقول: وفيهما نظر، إذ حديث (لا تُعاد الصّلاة)(1) حاكمٌ على تلك الأدلّة، وأنّ التذكّر كما سيأتي في بحث الجاهل عدم اعتبار الطهارة فيه.

وعليه، فالصحيح الاستدلال له بصحيح ابن سنان في الدّم، الوارد فيه:

«وإنْ كنتَ رأيته قبل أن تُصلّي، فلم تغسله، ثمّ رأيته بعدُ وأنتَ في صلاتك، فانصرف فاغسله وأعِد صلاتك»(2).

ونحوه صحيح علي بن جعفر الوارد في ناسي الإستنجاء(3).

ناسي الحكم تكليفاً أو وضعاً، هل هو كناسي الموضوع

الفرع الثاني: ناسي الحكم تكليفاً أو وضعاً، هل هو كناسي الموضوع أو كجاهل الحكم، أم يجب عليه الإعادة والقضاء؟ وجوهٌ ، أقواها الأخير:

1 - لإطلاق الخبر المتقدّم الدالّ على لزوم الإعادة على العالم بالنجاسة، الذي نسى الغَسل، المقيّد في نسيان الموضوع بصحيح علي بن مهزيار.

اللّهُمَّ أن يقال: إنّ تلك النصوص ظاهرة في نسيان الموضوع، ولا تشمل ناسى

ص: 283


1- المستدرك: ج 4/429 ح 5081.
2- وسائل الشيعة: ج 3/483 ح 4238.
3- الفقيه: ج 1/248 ح 755، وسائل الشيعة: ج 3/484 ح 4244.

الحكم تكليفاً أو وضعاً.

2 - ولإطلاق أدلّة شرطيّة الطهارة، إذ هو المرجع بعد تعارض إطلاق ما دلّ على لزوم الإعادة على العالم بالنجاسة، كصحيح ابن سنان المتقدّم، الشامل لما نحن فيه، مع حديث (لا تعاد الصّلاة) الشامل له أيضاً، وتساقطهما لكون النسبة بينهما عموماً من وجه، لعموم الصحيح لغير الناسي، وعموم الحديث لغير الطهارة.

ودعوى:(1) حكومة الحديث على أدلّة الجزئيّة والشرطيّة، ومنها الصحيح.

مندفعة: بوحدة اللّسان فيهما.

***8.

ص: 284


1- مستمسك العروة: ج 1/528.

ولو لم يتقدّم العِلمُ حتّى فرغ فلا إعادة.

حكم الجاهل بالنّجاسة
اشارة

(ولو لم يتقدّم العلم حتّى فَرغ، فلا إعادة) مطلقاً.

وعن المشهور(1): التفصيل بين:

الجهل بالنجاسة من حيث الحكم بأنْ لم يعلم أنّ الشيء الفلاني - كعرق الجُنُب من الحرام - نجسٌ ، أو عن جهلٍ بشرطيّة الطهارة للصَّلاة فيعيد في الوقت وخارجه.

وبين ما إذا كان جاهلاً بالموضوع، بأنْ لم يعلم أنّ ثوبه لاقى الدّم مثلاً حتّى فرغ من صلاته، فلا يُعيد.

أقول: وتحقيق القول في المقام يقتضي التكلّم في مقامين:

الأوّل: في الجهل بالحكم.

الثاني: في الجهل بالموضوع.

الجهل بالحكم

أمّا المقام الأوّل: فقد عرفت أنّه نُسب إلى المشهور القول بالبطلان، وعن المحقّق الأردبيلي رحمه الله(2) وصاحب «المدارك»(3) وبعض من تأخّر عنهما: القول بوجوب الإعادة في الوقت، وعدم وجوب القضاء عليه.

والأقوى عدم وجوب الإعادة والقضاء، إلّاإذا كان جاهلاً، بسيطاً أو مركّباً، ولكنّه كان مقصّراً غير معذور، فيُعيد في الوقت ويقضي في خارجه.

ص: 285


1- راجع مجمع الفائدة: ج 1/342 حيث نسب إلى الشيخ في الإستبصار والسيّد وابن إدريس والعلّامة في المنتهى.
2- مجمع الفائدة: ج 1/344.
3- مدارك الأحكام: ج 2/349.

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ المشروط ينعدم بعدم شرطه، فالصّلاة الفاقدة للشرط باطلة غير مطابقة للمأمور بها، فيجب إتيانها في الوقت وخارجه:

أمّا في الوقت: فواضح.

وأمّا في خارجه: فلأدلّة وجوب القضاء على من فاتته الفريضة(1).

2 - وبصحيح ابن سنان: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ أصاب ثوبه جنابةٌ أو دم ؟ قال عليه السلام: إنْ كان علم أنّه أصاب ثوبه جنابة قبل أن يُصلّي، ثمّ صَلّى فيه ولم يغسله، فعليه أن يُعيد ما صَلّى ، وإنْ كان لم يعلم به، فليس عليه إعادة، وإنْ كان يرى أنّه أصابه شيءٌ فنظر فلم يرَ شيئاً أجزأه، أن ينضحه بالماء»(2).

فإنّه بإطلاقه يشمل الجاهل بالحكم، بل لعلّ الجاهل هو المتيقّن.

3 - وبمفهوم ما دلّ على عدم وجوب الإعادة على الجاهل بالموضوع، كصحيح عبد الرحمن: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يُصلّي وفي ثوبه عَذَرةٌ من إنسانٍ أو سنّور أو كلبٍ ، أيُعيد صلاته ؟

قال عليه السلام: إنْ كان لم يعلم فلا يُعيد»(3). ونحوه غيره(4).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة، وإنْ كان ما ذُكر، إلّاأنّه يدلّ على ).

ص: 286


1- وسائل الشيعة: ج 8/253 باب 1 من أبواب قضاء الصّلوات (باب وجوب قضاء الفريضة الفائتة بعمد أو نسيان أو نوم أو ترك طهارة..).
2- الكافي: ج 3/406 ح 9، وسائل الشيعة: ج 3/475 ح 4216.
3- الكافي: ج 3/406 ح 11، وسائل الشيعة: ج 3/475 ح 4218.
4- وسائل الشيعة: ج 3/474 باب (عدم وجوب الإعادة على من صلّى وثوبه أو بدنه نجس قبل العلم بالنجاسة).

عدم وجوب الإعادة حديث(1): (لا تُعاد الصّلاة....)، وهو حاكمٌ على أدلّة الجزئيّة والشرطيّة، بناءً على ما هو الحقّ من شموله للجاهل غير المقصّر، وأنّ المراد من (الطهور) فيه، الذي هو أحد ما استُثني، الطهارة من الحَدَث، كما ستعرف في الأجزاء القادمة من هذا الشرح إنْ شاء اللّه تعالى .

ودعوى: معارضته مع صحيح ابن سنان، والنسبة بينهما عموم مطلق، بناءً على شمول الحديث للعالم فيقدّم الصحيح عليه، وعموم من وجه بناءً على عدم شموله للعالم، لشمول الحديث لغير الطهارة من الخَبَث، وعموم الصحيح للعالم بالحكم فيتعارضان، وحيثُ أنّ دلالة كلٍّ منهما بالإطلاق، فيتساقطان فيرجع إلى أدلّة الشرطيّة، وقد مرّ أنّها تقتضي لزوم الإعادة.

مندفعة: بما سيمرّ عليك من عدم شمول الصحيح للجاهل بالحكم.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر من الصحيح - بقرينة السؤال على ما يظهر من الجواب - إرادة بيان حكم الصّلاة الواقعة في الثّوب الذي أصابه جنابة أو دم، بعد مفروغيّة نجاستهما، ومانعيّة النجاسة للصَّلاة، ويؤيّده قوله عليه السلام: (ولم يغسله)، ويشهد له قوله في ذيله: (وإنْ كان يرى أنّه أصابه شيءٌ فنَظَرَ فلم يرَ شيئاً).

وبالجملة: المتدبّر في الرواية يطمئن بأنّ مورد السؤال والجواب، هو العالم بالموضوع والحكم، وعليه فالمتيقّن منه حنيئذ هو العالم الناسي، فينطبق مفاده حينئذٍ مع جملة من النصوص الواردة في الناسي.

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) وتبعه بعض الأعاظم(3)7.

ص: 287


1- المستدرك: ج 4/429 ح 5081.
2- جواهر الكلام: ج 6/220.
3- مستمسك العروة ج 1/527.

من أنّ الجاهل هو المتيقّن، إذ من البعيد كون العالم موضوعاً للسؤال، لوضوح وجوب الإعادة عليه.

وأمّا الثالث: فلأنّ تلك النصوص ليست بمفهومها في مقام بيان حكمٍ آخر غير ما تقتضيه أدلّة شرطيّة الطهارة، بل تكون إرشاداً اليه، وقد مرّ أنّ الحديث حاكمٌ على أدلّة الشرطيّة، مع أنّ التمسّك بإطلاق مفهومها في غير محلّه، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة.

واستدلّ للثاني: بأنّ تكليف الجاهل بالطهارة قبيحٌ ، لكونه تكليفاً بما لا يُطاق، فالصَّلاة مع الطهارة في هذا الحال غير مأمورٍ بها، وعليه فإنْ صار عالماً في الوقت وجب عليه الإعادة كما لا يخفى ، وأمّا إنْ أصبح عالماً بعد الوقت، فحيثُ أنّ القضاء فرضٌ مستأنفٌ ، فثبوته يحتاج إلى الدليل، وبما أنّه لا دليل على وجوب قضاء ما لا أمر به في وقته، فهو غَير مكلّفٍ بالقضاء.

أقول: وبهذا البيان يظهر اندفاع ما أورده عليه المحقّق الهمداني رحمه الله(1) بأنّ عدم التكليف بالشرط لا ينفي الشرطيّة. إذ المراد منه:

إنْ كان أنّه مع عدم التكليف بالشرط، تكون الشرطيّة مجعولة، فهو غير صحيحٍ ، إذ منشأ انتزاع الشرطيّة هو الأمر بالشرط.

وإنْ كان أنّ المشروط بدون الشرط غير مأمورٍ به، فهو لا يكون ردّاً على ما ذكره من عدم وجوب القضاء في الفرض.

ولكن يرد عليه أوّلاً: أنّ الجهل والغفلة ليسا مانعين عن فعليّة التكليف، وإنّما يمنعان عن تنجّزه.2.

ص: 288


1- مصباح الفقيه: ج 1/616 ق 2.

وثانياً: إنّ القضاء بمقتضى الأدلّة يجبُ في كلّ موردٍ صدق فوت الفريضة فيه، ولا يتوقّف ذلك على كون مافات مأموراً به، بل يصدق الفوت فيما كان ذا ملاكٍ مُلزم، وإنْ لم يكن مأموراً به. وتمام الكلام في محلّه.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى عدم وجوب الإعادة والقضاء، فيما إذا لم يكن الجاهل مُقصّراً.

***

ص: 289

الجاهل بالموضوع

وأمّا المقام الثاني: فالمشهور بين الأصحاب(1) أنّ من التفت بعد الفراغ من الصّلاة أو لم يلتفت أصلاً صحّت الصّلاة، وانه لا يجب عليه الإعادة في الوقت، ولا القضاء في خارجه.

وعن «الخلاف»(2): قيل بالإعادة مطلقاً.

وعن جماعةٍ من القدماء والمتأخّرين، كالشيخ في «النهاية»(3) في باب المياه منها، وابن زُهرة في «الغُنية»(4)، والمحقّق في «جامع المقاصد»(5)، والمصنّف رحمه الله في «القواعد»(6) وغيرهم: وجوب الإعادة في الوقت لا في خارجه.

وعن الشهيد في «الذكرى»(7)، وصاحب «الحدائق»(8): التفصيل بين من شكّ فاجتهد في البحث عن الطهارة فلا يعيد، وغيره فيُعيد.

أقول: وما اختاره المشهور هو الأقوى ، وتشهد له جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح عبد الرحمن، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يُصلّي وفي ثوبه عَذَرة من إنسانٍ أو سنّور أو كلبٍ ، أيُعيد صلاته ؟

ص: 290


1- راجع الكافي في الفقه ص 140، النهاية: ص 114، شرائع الإسلام: ج 1/43.
2- الخلاف: ج 1/479.
3- النهاية: ص 8.
4- غنية النزوع: ص 66.
5- جامع المقاصد: ج 1/194.
6- قواعد الأحكام: ج 1/194.
7- الذكرى: ص 17.
8- الحدائق الناضرة: ج 5/414.

قال عليه السلام: إنْ كان لم يعلم فلا يُعيد»(1).

ومنها: صحيح زرارة المعلّل عدم وجوب الإعادة بأنّه: «كان علي يقينٍ فشكّ »(2).

ومنها: خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن الرّجل احتَجَم فأصاب ثوبه دمٌ ، فلم يعلم به حتّى إذا كان من الغد، كيف يصنع ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان رآه فلم يغسله، فليقضِ جميع مافاته على قَدْر ما كان يُصلّي، ولا ينقص منه شيءٌ ، وإنْ كان رآه وقد صلّى ، فليعتدّ بتلك الصّلاة ثمّ ليغسله»(3).

ومنها: خبر أبي بصير: «في مَن صَلّى في ثوبٍ فيه جنابة ركعتين، ثمّ عَلم ؟

قال عليه السلام: عليه أن يبتدأ الصّلاة.

قال: وسألته عن رجلٍ صلّى وفي ثوبه جنابةٌ أو دمٌ حتّى فرغ من صلاته، ثمّ علم ؟

قال عليه السلام: مضت صلاته»(4).

ومنها: صحيح ابن مسلم: «في من يرى في ثوب أخيه دماً وهو يُصلّي ؟

قال عليه السلام: لا يؤذنه حتّى ينصرف»(5). ونحوها غيرها(6).

ودعوى:(7) معارضة هذه النصوص مع صحيح وهب بن عبد ربّه:

«عن أبي عبد اللّه عليه السلام: في الجنابة تُصيب الثّوب، ولا يعلم بها صاحبه، فيُصلّي فيه ثمّ يعلم بعدُ؟1.

ص: 291


1- الكافي: ج 3/404 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/475 ح 4218.
2- وسائل الشيعة: ج 3/477 ح 4224.
3- وسائل الشيعة: ج 3/477 ح 4223.
4- الكافي: ج 3/405 ح 6، وسائل الشيعة: ج 3/474 ح 4215.
5- الكافي: ج 3/406 ح 8، وسائل الشيعة: ج 3/474 ح 4214.
6- وسائل الشيعة: ج 3/474 باب 40 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.
7- مستمسك العروة: ج 1/530-531.

قال عليه السلام: يعيدُ إذا لم يكن عَلم»(1).

وخبر أبي بصير، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ صلّى وفي ثوبه بولٌ أو جنابة ؟ فقال عليه السلام:

علم به أو لم يعلم فعليه الإعادة، إعادة الصّلاة إذا علم»(2).

وعليه فإمّا أن يُقدّم الخبران، فيثبت القول الثاني، أو تُحمل لأجلهما النصوص المتقدّمة على نفي القضاء، فيثبت القول الثالث.

مندفعة: بأنّ مقتضى الجمع بين النصوص، حمل الخبرين على الاستحباب، مع أنّه لو سُلّم عدم إمكان الجمع، يتعيّن طرح الخبرين، لأكثريّة تلك النصوص وأصحّيّتها وأشهريّتها.

أقول: والجمعُ بحمل نصوص نفي الإعادة على نفي القضاء، وحَمل الخبرين على الإعادة في الوقت، جمعٌ تبرّعي لا شاهد له.

كما أنّ تقييد الخبرين أوّلاً بما دلّ على نفي القضاء، ثمّ تقييد النصوص السابقة بهما، أيضاً غير صحيح، إذ لا دليل على نفي خصوص القضاء، بل نصوص النفي بين ما يكون مطلقاً، وما يكون نصّاً في نفي الإعادة في الوقت، فراجع.(3)

مع أنّ هذا النحو من الجمع والتقييد أيضاً لا يكون جمعاً عُرفيّاً، إذ لا وجه لتقييد أحد المتعارضين بما يكون أخصّ منه، ثمّ ملاحظة النسبة بينه وبين معارضه، كما حقّقناه في محلّه.

مع أنّ جملةً من نصوص نفي الإعادة آبية عن الحمل على نفي القضاء، لاحظ صحيح زاررة، وخبر أبي بصير، وصحيح ابن مسلم المتقدّمة.

وعليه، فيتعيّن حمل الخبرين على الاستحباب.د.

ص: 292


1- التهذيب: ج 2/360 ح 23، وسائل الشيعة: ج 3/476 ح 4221.
2- التهذيب: ج 2/202 ح 93، وسائل الشيعة: ج 3/476 ح 4222.
3- صفحة 278 من هذا المجلّد.

مع أنّ احتمال سقوط كلمة (لا) في صحيح وهب قويٌ ، إذ ذِكْر الشرطيّة مع عدم إرادة المفهوم، كما في الصحيح، حيث أنّ الإعادة مع العلم أولى لا يوافق القواعد.

كما أنّه يحتمل قويّاً كون قوله عليه السلام في خبر أبي بصير: (عَلِم به أو لم يَعلم) تشقيقاً لموضوع الحكم، وقوله: (فعليّة الإعادة) بياناً لأحد الشقّين بالمنطوق وللآخر بالمفهوم، وعليه فيوافق مفادهما مع مفاد النصوص المتقدّمة.

وقد استدلّ للقول الرابع: بجملةٍ من النصوص:

منها: خبر ميمون الصيقل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن رجلٍ أصابته جنابة باللّيل فاغتسل وصَلّى ، فلمّا أصبح نظرَ فإذا في ثوبه جنابة ؟

فقال عليه السلام: الحمدُ للّه الذي لم يَدَع شيئاً إلّاوقد جعل له حَدّاً، إنْ كان حين قام نَظَر فَلم يرَ شيئاً فلا إعادة عليه، وإنْ كان حينَ قام لم ينظر فعليّة الإعادة»(1).

ومنها: حسن ميسر: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: آمرُ الجاريةَ فتغسل ثوبي من المَنيّ ، فلا تبالغ في غَسله، فاُصلّي فيه، فإذا هو يابس ؟

قال عليه السلام: أعِد صلاتك، أمّا إنّك لو كنتَ غَسلت أنتَ لم يكُن عليك شيءٌ »(2).

ومنها: صحيح ابن مسلم، عن الصادق عليه السلام: «إنْ رأيت المَنيّ قبلُ أو بعدما تدخل في الصّلاة، فعليك الإعادة - إعادة الصّلاة - وإنْ أنتَ نظرتَ في ثوبك فلم تُصبه، ثمّ صلّيت فيه، ورأيته بعدُ فلا إعادة عليك»(3).

أقول: وفي الجميع نظر:5.

ص: 293


1- الكافي: ج 3/406 ح 7، وسائل الشيعة: ج 3/478 ح 4226.
2- الكافي: ج 3/53 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/428 ح 4067.
3- الفقيه: ج 1/249 ح 757، وسائل الشيعة: ج 3/478 ح 4225.

أمّا خبر ميمون: فإنّه مضافاً إلى ضعف سنده، لجهالة حال ميمون، يكون مورده من أطراف العلم الإجمالي، إذ الظاهر من السؤال كون مورده الجنابة غير العمديّة، وعليه فيدلّ على لزوم الفحص، الموجب لخروج الثّوب عن أطراف الشُّبهة المحصورة، فيكون أجنبيّاً عن المقام.

وأمّا حسن ميسر: فهو يدلّ على التفصيل - في مورد كشف الخلاف، فيما لو علم قبل الصّلاة بالنجاسة - بين ما لو غَسل بنفسه، وما لو غسله الغير، فلا ربط له بما إذا لم يعلم بها قبل الصّلاة.

وأمّا الصحيح: فهو وإنْ لا يُنكر ظهوره في ما استدلّ به له، إلّاأنّه يعارضه ما في صحيح زرارة: «قلتُ : فهل عَليَّ إنْ شككتُ أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟

قال عليه السلام: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الذي وقع في نفسك»(1).

الدالّ على انحصار ثمرة النظر في ذهاب الشكّ ، إذ لو كان عدم الإعادة مع انكشاف الحال مترتّباً على النظر، كان المتعيّن التنبيه عليه، بل كان الأولى الأمر به، إرشاداً إلى عدم الوقوع في كُلفة الإعادة، وما فيه من تعليل عدم الإعادة في صورة النظر بأنّه كان على يقينٍ فشكّ ، ولأجلهما ترفع اليد عن ظهور الشرطيّة الثانية في المفهوم. وعليه فيكون ذكر الشرط جارياً مجرى الغالب، حيثُ أنّ كلّ مَنْ شكّ في إصابة الجنابة إلى ثوبه ينظر إليه لتحقيق الحال.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم لزوم الإعادة في الوقت، ولا القضاء في خارجه. هذا كلّه فيما لو التفت بعد الصّلاة.

***2.

ص: 294


1- التهذيب: ج 1/421 ح 8، وسائل الشيعة: ج 3/466 ح 4192.
الإلتفات أثناء الصّلاة

التفات المصلّي أثناء الصّلاة، لها صورٌ:

الأُولى : ما لو علم سبقها على الصّلاة.

الثانية: ما لو علم حدوثها في الأثناء، وأنّ بعض ما أتى به من صلاته وقع مع النجاسة، كما لو كان في الركعة الثالثة، وعلم أنّ الثّوب الذي لبسه من الركعة الثانية نجس.

الثالثة: ما لو علم حدوثها في الأثناء، مع العلم بعدم إتيان شيء من أجزائها مع النجاسة، أو الشكّ في ذلك.

أمّا الصورة الاُولى : فمقتضى القاعدة وإنْ كان صحّة الصّلاة - ولا وجه لتوهّم البطلان، إذ الأجزاء السابقة الواقعة مع النجاسة لا تكون باطلة كما تشهد له النصوص المتقدّمة، الدالّة على عدم بطلان الصّلاة إذا وقعت مع النجاسة، والتفت لذلك بعد الفراغ - إمّا بالفحوى أو بالإطلاق، لشمولها لما وقع بعض تلك الصّلاة معها، كما لو لبس الثّوب النَّجس في وسط الصّلاة.

وأمّا الآنات المتخلّلة - فمضافاً إلى أنّه لا دليل على اعتبار الطهارة الخَبَثيّة فيها، إذ الدليل إنّما دلّ على اعتبارها في الصّلاة، وهي ليست منها - تدلّ على عدم اعتبارها نصوص الرِّعاف، وما دلّ على صحّة الصّلاة إذا علم حدوثها في الأثناء.

أقول: ولكن يدلّ على فساد الصّلاة في الفرض:

1 - صحيح ابن مسلم، عن الصادق عليه السلام: «إنْ رأيتَ المنيّ قبلُ أو بعدما تدخل في الصّلاة، فعليك إعادة الصّلاة»(1).

ص: 295


1- التهذيب: ج 1/252 ح 17، وسائل الشيعة: ج 3/478 ح 4225.

2 - وخبر أبي بصير: «في رجلٍ صَلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين، ثمّ علم به ؟

قال عليه السلام: عليه أن يبتدئ صلاته»(1).

3 - وصحيح زرارة، وفيه: «قلتُ : إنْ رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة ؟

قال عليه السلام: تنقض الصّلاة وتُعيد، إذا شككت في موضعٍ منه ثمّ رأيته»(2).

ونحوها غيرها.

ونُسب إلى المشهور(3) صحّة الصّلاة، وعدم وجوب الإعادة إلّاإذا لم يمكن النزع أو التطهير أو التبديل. واستدلّ له:

1 - بموثّق ابن سرحان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الرّجل يُصلّي فأبصرَ في ثوبه دماً؟ قال عليه السلام: يُتمّ »(4).

2 - وخبر عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «إنْ رأيتَ في ثوبك دماً وأنتَ تُصلّي، ولم تكن رأيته قبل ذلك فأتمّ صلاتك، فإذا انصرفتَ فاغسله»(5).

بدعوى(6) أنّ الجمع بينهما وبين النصوص المتقدّمة، يقتضي حملها على ما إذا لم يمكن نزع الثّوب أو تطهيره أو تبديله.

وحمل الخبرين على صورة إمكانه، بشهادة حسن ابن مسلم:

«قلتُ له: الدّم يكون في الثّوب عَليَّ وأنا في الصّلاة ؟

قال: إنْ رأيته وعليك ثوبٌ غيره، فاطرحه وصَلِّ في غيره، وإنْ لم يكن عليك3.

ص: 296


1- الكافي: ج 3/405 ح 6، وسائل الشيعة: ج 3/474 ح 4215 وص 483 ح 4239.
2- الإستبصار: ج 1/183 ح 13.
3- مستمسك العروة: ج 1/533.
4- التهذيب: ج 1/423 ح 17، وسائل الشيعة: ج 3/430 ح 4073 وص 483 ح 4237.
5- وسائل الشيعة: ج 3/483 ح 4238.
6- مستمسك العروة: ج 1/533.

ثوبٌ غيره، فامضِ في صلاتك، ولا إعادة عليك، وما لم يزد على مقدار الدِّرهم؛ فليس بشيء، رأيته قبل أو لم ترَه»(1).

فإنّه بمنطوق شرطيّة الأولى تقيّد تلك النصوص، وبمفهومها يقيّد الخبرين.

وفيه: إنّ ما دلّ على البطلان، أخصّ من هذه النصوص الثلاثة الأخيرة، ومقتضى الجمع بينها، حملها على صورة احتمال وقوع النجاسة في الأثناء.

هذا كلّه مع سعة الوقت للإعادة.

وأمّا عند ضيق الوقت: فمع عدم إدراك ركعةٍ لو قطعها وبدّل ثوبه، أو طَهّره، فإنّه لا شبهة في صحّة صلاته، إذ (الصَّلاة لا تَدَعُ بحالٍ ).

وأمّا مع إدراكها، فالمتعيّن القطع والتبديل أو التطهير.

ودعوى:(2) انصراف نصوص وجوب الإعادة عن مثل الفرض، عُهدة إثباتها على مدّعيها.

فإنْ قلت: إنّه لأهميّة الوقت من الطهارة الخَبَثيّة، يسقط اعتبار الطهارة إذا أدّت رعايتها إلى فوات الصّلاة في الوقت، كما في المقام.

قلت أوّلاً: ستعرف في الأبحاث اللّاحقة في كتابنا هذا؛ أنّ التنافي بين الأوامر الضمنيّة لا يكون من باب التزاحم، بل إنّما يرجع إلى التعارض، ويظهر إنْ شاء اللّه تعالى في محلّه أنّ مقتضى القاعدة سقوط إطلاق دليل كلٍّ من الجزئين أو الشرطين، لو كان لهما إطلاقٌ ، والرجوع إلى الأصل، وهو هاهنا التخيير كما لا يخفى .

وثانياً: أنّه قبل الإتيان بما وقع من الأجزاء لم يكن التنافي ثابتاً، لإمكان الصّلاة مع الثّوب الطاهر.3.

ص: 297


1- الكافي: ج 3/59 ح 3، وسائل الشيعة: ج 3/431 ح 4076.
2- مستمسك العروة: ج 1/533.

وعليه، فما أتى به محكومٌ بالبطلان بمقتضى الأدلّة.

وأمّا الصورة الثانية: فالأقوى فيها صحّة الصّلاة، لما عرفت من أنّ الصحّة في هذه الفروض ممّا تقتضيه القاعدة، ونصوص البطلان مختصّة بالصورة السابقة، وتشهد لها - مضافاً إلى ذلك - إطلاق نصوص الصحّة الآتية في الصورة الثالثة.

بل لايبعد دعوى أنّ تلك النصوص تختصّ بهذه الصورة، إذ لا يوجد موردٌ يشكّ في وقوع النجاسة في الأثناء، أو من الأوّل، ولا يعلم بوقوع بعض الأجزاء مع النجاسة.

وبذلك يظهر ضعف ما أفتى به فقيه عصره في عروته(1) وتبعه جملةٌ ممّن تأخّر عنه من البطلان في الفرض.

وأمّا الصورة الثالثة: فلا خلاف في الصحّة فيها، وتشهد لها نصوص الرِّعاف:

منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: سألته عن الرّجل يُصيبه الرِّعاف وهو في الصّلاة ؟

فقال عليه السلام: إنْ قدر على ماءٍ عنده يميناًوشمالاً أو بين يديه، وهو مستقبل القلبلة، فليغسله عنه، ثمّ ليصلِّ ما بقي من صلاته، وإنْ لم يقدر على ماءٍ حتّى ينصرف بوجهه، أو يتكلّم، فقد قَطَع صلاته»(2). ونحوه غيره(3).

ومنها: صحيح زرارة، وفيه: «قلتُ : إنْ رأيته في ثوبي وأنا في الصّلاة ؟

قال عليه السلام: تنقض وتُعيد إذا شككت في موضعٍ منه ثمّ رأيته، وإنْ لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصّلاة وغسلته، ثمّ بنيت على الصّلاة، لأنّك لا تدري لعلّها.

ص: 298


1- العروة الوثقى (ط. ق): ج 1/95.
2- الكافي: ج 3/364 ح 2، وسائل الشيعة: ج 7/239 ح 9217.
3- وسائل الشيعة: ج 7/238 باب 2 من أبواب قواطع الصّلاة وما يجوز فيها.

شيءٌ أوقع عليك»(1).

وحسن ابن مسلم المتقدّم، ونحوها غيرها(2).

وبالجملة: فإنْ أمكن التطهير أو التبديل يتمّها بعده، وإلّا يستأنف صلاته، إذ لا دليل على سقوط شرطيّة الطهارة بالنسبة إلى الأجزاء الباقية، بل يدلّ عليه الأمر بتطهير الثّوب في صحيح زرارة، لكونه ظاهراً في الإرشاد إلى اعتبار الطهارة فيها، والنصوص الواردة في الرِّعاف المتقدّم بعضها.

مسألة: لو غَسَل ثوبه النّجس، وعلم بطهارته، ثمّ صَلّى فيه، وبعد ذلك تبيّن له بقاء نجاسته، أو شكَّ فيها بعد العلم بها بنحو الشكّ الساري فصلّى ، فانكشف ثبوتها، أو أخبره الوكيل بطهارته، أو شهدت البيّنة بتطهيره ثمّ تبيّن الخلاف، فهل يُحكم بصحّة الصّلاة أو بطلانها، أو يفصّل بين الموارد؟

وجوهٌ وأقوالٌ ، أقواها الأخير، إذ مقتضى القاعدة وإنْ كان الصحّة مطلقاً، إمّا لصدق كونه غير عالم بالنجاسة قبل الصّلاة، الذي هو الموضوع لوجوب الإعادة، وعدم صدق العالم بها قبلها عليه، أو لصدقهما معاً، وسقوط ما دلَّ على وجوب الإعادة في الأوّل، وما دلَّ على عدم الوجوب في الثاني للتعارض بينهما، والرجوع إلى حديث (لا تعاد الصّلاة)(3)، بناءً على ما هو الحقّ من أنّ المراد من (الطهور) في المستثنى الطهارة الحَدَثيّة، إلّاأنّه يدلّ على التفصيل حَسَن ميسر، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام آمر الجارية فتغسل ثوبي من المَنيّ ، فلا تُبالغ في غَسله، فاُصلّي فيه، فإذا هو يابس ؟1.

ص: 299


1- التهذيب: ج 1/421 ح 8، وسائل الشيعة: ج 3/482 ح 4236.
2- وسائل الشيعة: ج 3/482 باب 44 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.
3- المستدرك: ج 4/429 ح 5081.

قال عليه السلام: أعِد صلاتك، أمّا إنّك لو كنتَ غَسَلت أنتَ لم يكن عليك شيءٌ »(1).

فإنّ مقتضى منطوق الجملة الثانية، الصحّة في الفرض الأوّل، ومقتضى مفهومها الفساد في الفرض الثالث والرابع، كما أنّ الجملة الأولى تدلّ عليه في الفرض الثالث.

وأمّا الثاني: فهو خارجٌ عن مورد الرواية، إذ الظاهر كون مورده ما لو كان الأمر بالغَسل منجّزاً قبل الصّلاة.

ودعوى(2): أنّ الرواية واردة للردع عن العمل بأصالة الصحّة، فلزوم الإعادة يكون لذلك.

مندفعة: بأنّ المورد إذا لم يكن مجرى لأصالة الصحّة، كان المتعيّن النهي عن الدخول في الصّلاة، والأمر بالإعادة حتّى مع عدم انكشاف الخلاف.

فإنْ قلت: إنّ الجملة الثانية مسوقةٌ لبيان أنّه لاينكشف الخلاف مع غَسله بنفسه، لا عدم لزوم الإعادة مع انكشافه، وعلى ذلك فمقتضى الجملة الأُولى لزوم الإعادة في جميع الفروض.

قلت: إنّ الظاهر منه التفصيل بين الموردين في مفروض السؤال، وهو انكشاف الخلاف، مع أنّه لا تلازم بين الغَسل بنفسه، وعدم انكشاف الخلاف، كي يصحّ التعبير عن أحدهما بالآخر.

فتحصّل: أنّ الأقوى هي الصحّة في الفرضين الأولين، والبطلان في الأخيرين.

***8.

ص: 300


1- الكافي: ج 3/53 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/428 ح 4067.
2- تعرّض لهذه الدعوى السيّد الخوئي قدس سره في كتاب الطهارة: ج 2/378.

فصل في المطهّرات

اشارة

وهي اُمور:

الأوّل: الماء،
اشارة

وقد تقدّم في أوّل هذا الكتاب ما يمكن أن يستدلّ به لمطهّريّة الماء، كما أنّه قد عرفت في مبحث المياه أنّه كما يُطهّر غيره، يُطهّر نفسه أيضاً مع الامتزاج، فراجع ما ذكرناه.(1)

ويشترط في التطهير به اُمورٌ؛ بعضها شرطٌ في كلٍّ من القليل والكثير، وبعضها مختصٌّ بالأوّل، وذهب جماعةٌ إلى اختصاصه به.

شرائط التطهير بالماء

أمّا الأوّل، فمنها: زوال العين بلا خلافٍ ، لأنّ ملاقاة العين كما توجب النجاسة حدوثاً، توجبها بقاءً ، بمعنى أنّها إذا كانت باقية تكون النجاسة باقية.

نعم، بقاء الأثر بمعنى اللّون والطّعم ونحوهما لا يضرّ إجماعاً، حكاه جماعة(2).

وعن «المنتهى»(3): وجوب إزالة اللّون دون الرائحة.

وعن «نهاية الأحكام»(4): وجوب إزالة الرائحة، وعدم وجوب إزالة اللّون إذا كان عَسُر الزّوال.

وعن «القواعد»(5): وجوب إزالتهما مع عدم العُسر فيها.

ص: 301


1- فقه الصادق: ج 1/8.
2- منهم المعتبر: ج 1/436.
3- منتهى المطلب: ج 1/171.
4- نهاية الاحكام: ج 1/279.
5- قواعد الأحكام: ج 1/195.

أقول: يظهر من التدبّر في كلمات هؤلاء الأساطين أنّهم لم يخالفوا المشهور، إذ الظاهر أنّ مرادهم أنّه في صورة بقاء أحد الوصفين بنحوٍ يُلازم بقاء النجاسة عرفاً، يحكم بالنجاسة، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

ويشهد للمشهو:

1 - مضافاً إلى أنّه المستفاد من النصوص الواردة في الموارد الخاصّة، مثل ما ورد في تطهير الثّوب من دم الحيض من الأمر بصبغ الثّوب بمشقٍ حتّى يختلط:

كخبر عليّ بن حمزة، عن العبد الصالح عليه السلام:

«سألته اُمّ ولدٍ لأبيه، فقالت: أصابَ ثوبي دمُ الحيض فغسلته فلم يذهب أثره ؟

فقال عليه السلام: اصبغيه بمشقٍ حتّى يختلط»(1). ونحوه غيره(2).

2 - وما ورد في الاستنجاء: كخبر ابن المُغيرة، عن الحسن، قال:

«قلتُ له: إنّ للاستنجاء حَداً؟ قال عليه السلام: لا حتّى ينقى ما ثمّة.

قلت: فإنّه ينقي ماثمّة وتبقى الرّيح ؟ قال عليه السلام: الرّيح لا يُنظر إليها»(3).

ومرسل الصدوق: «سُئل الرضا عليه السلام عن الرجل يطأ في الحمّام وفي رجله الشِّقاق - إلى أنْ قال - ويستنجي فيجد الريح من أظفاره، ولا يرى شيئاً؟

فقال عليه السلام: لا شيء عليه من الريح والشقاق بعد غسله»(4).

3 - ويشهد له أيضاً إطلاق أدلّة التطهير، الظاهرة في أنّه ليس للشارع في كيفيّة التطهير طريقٌ مخصوص، بل اعتمد على ما عليه بناءً العرف في التنظيف من6.

ص: 302


1- الكافي: ج 3/59 ح 6، وسائل الشيعة: ج 2/369 ح 2389 و: ج 3/439 ح 4101.
2- وسائل الشيعة: ج 2/369 باب 25 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.
3- الكافي: ج 3/17 ح 9، وسائل الشيعة: ج 3/439 ح 4102.
4- الفقيه: ج 1/71 ح 165، وسائل الشيعة: ج 3/440 ح 4106.

القذارات الصوريّة، والسيرة المستمرّة.

أقول: واستدلّ لعدم حصول الطهارة ما دام الأثر يكون موجوداً، بأنّه لاستحالة انتقال العَرَض من محلٍّ إلى محلٍّ آخر، يستكشف من بقاء الأثر من اللّون أو الريح أو الطعم بقاء عين النّجس.

وفيه: أنّ المدار في الأحكام الشرعيّة ليس على الدِّقة العقليّة، بل على رؤية أهل العرف، ولا شُبهة في أنّهم قد يرون بقاء الوصف مع زوال العين، وحيثُ أنّ الأوصاف بأنفسها ليست نجسة ولا منجّسة، فلا محالة يبني على ارتفاع النجاسة في الفرض.

ومنها: طهارة الماء بلا خلافٍ ، وتشهد له:

1 - النصوص الكثيرة الواردة في الأبواب المتفرّقة، منها الواردة في الماء القليل الملاقي للنجس، المتضمّنة للأمر بإراقته، وعدم استعماله والتطهير به. فراجع.(1)

2 - والقاعدة العقلائيّة المشهورة بأنّ (فاقد الشيء لا يكون مُعطياً له).

3 - وما دلّ على أنّ المتنجّس المائع يوجبُ تنجّس ملاقيه.

هذا كلّه مضافاً إلى عدم شمول نصوص التطهير بالماء له، إذ مضافاً إلى عدم الإطلاق لها من هذه الجهة، تكون مختصّة بالطاهر بقرينة الارتكاز العرفي.

ومنها: إطلاقه، لما عرفت من أنّ المضاف لا يكون مطهّراً، وقد تقدّم في ذلك المبحث(2) حُكم ما لو صار الماء مضافاً حين الغَسل فلا نُعيد.

وعن جماعةٍ : اعتبار عدم تغيّر الماء بعين النجاسة في أحد الأوصاف الثلاثة،6.

ص: 303


1- فقه الصادق: ج 1/88.
2- فقه الصادق: ج 1/166.

بل عن غير واحدٍ: دعوى الإجماع عليه.

واستدلّله: بأنّ الماءالمتغيّر نجسٌ كما مرّ وحُقّق في محلّه، والنَّجس لايكون مطهّراً.

وفيه: أنّ القادح هو النجاسة قبل الاستعمال، وأمّا النجاسة بعد الاستعمال الحاصلة به، فلا تكون مانعة عن التطهير، كما عرفت في مبحث المياه.

نعم، ما ذكرناه في وجه طهارة المتخلّف منه بعد الغَسلة الأخيرة في بحث الماء المستعمل،(1) لا يجري في المقام، إذ الماء المتغيّر محكومٌ بالنجاسة بنفسه، وعليه فيوجب تنجيس المحلّ ، فلا يوجب طهارته.

ولكن بناءً على أنّ المطهر هو الغَسل بعد زوال العين، فإنّ اعتبار هذا القيد يصبح في غير محلّه، إذ مع وجود عين النجاسة في المغسول، لا يكون غَسله مطهّراً له، إذ الغَسلة المُزيلة غير مُطهّرة، ومع عدم وجودها، لا يتصوّر تغيّر الماء بأوصاف عين النجاسة، والتغيّر بغير أوصافها لا يوجب النجاسة، كما عرفت في مبحث الماء المتغيّر.(2)

***6.

ص: 304


1- فقه الصادق: ج 1/22.
2- فقه الصادق: ج 1/26.
شرائط التطهير بالقليل
اشارة

وأمّا القسم الثاني: فهو اُمور:

ورود الماء على المتنجّس

الأمر الأوّل: ورود الماء على المتنجّس على المشهور(1).

بل عن «الجواهر»(2): لم أجد من جزمٌ بخلافه.

وعن الشهيد(3): عدم اعتباره.

بل عن «المفاتيح»(4): دعوى الشهرة عليه، وهو الأقوى .

ويشهد له:

1 - مضافاً إلى عدم الدليل على اعتباره، فيتعيّن الرجوع إلى إطلاق الأمر بالغَسل.

2 - صحيح ابن مسلم: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الثّوب يُصيبه البول ؟

قال عليه السلام: اغسله في المركن مرّتين، فإنْ غَسَلته في ماءٍ جارٍ فمرّة واحدة»(5).

ودعوى:(6) حمله على كون المركن كُرّاً كما ترى .

كما أنّ دعوى حمله على ما لو وضع الثّوب في المركن أوّلاً ثمّ أورد الماء عليه.

يدفعها: أنّ ذلك خلاف المتعارف في الغَسل في المركن، ويأباه سياق ذيله.

وأبعد منهما حمل الغَسل فيه على إرادة التنظيف لا التطهير.

واستدلّ للقول الأوّل:

1 - بانصراف نصوص التطهير إلى المتعارف من الغَسل بنحو الورود.

ص: 305


1- راجع السرائر: ج 1/181، قواعد الأحكام: ج 1/196، إيضاح الفوائد: ج 1/32.
2- جواهر الكلام: ج 6/156.
3- الذكرى: ص 15.
4- أشار السيّد الحكيم قدس سره إلى أنّه قائلٌ بذلك واستبعدهما، راجع مستمسك العروة الوثقى: ج 2/9.
5- التهذيب: ج 1/250 ح 4، وسائل الشيعة: ج 3/397 ح 3966.
6- ذكرها في مستمسك العروة: ج 2/9 وعبّر عنه بأنّه غريب.

2 - وبما تضمّن الأمر بالصَّب، الظاهر في الورود.

3 - وبأنّ أدلّة الغَسل بالماء القليل تُنافي مع ما دلّ على انفعال الماء القليل، بعد مفروغيّة أنّ النّجس لا يُطهِر، وهي بين مطلقٍ شاملٍ له وللكثير، وبين ما اختصّ به.

أمّا الأوّل: فالنسبة بينه وبين ما دلَّ على الانفعال عمومٌ من وجه، فيتساقطان بعد التعارض، ويرجع إلى استصحاب النجاسة.

وأمّا الثاني: وهو الإجماع والضرورة، فيقتصر فيه على المتيقّن، وهو صورة الورود - أي ورود الماء على المتنجّس - فلا دليل على حصول الطهارة في صورة كون الماء موروداً، والأصل يقتضي عدمه.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الانصراف: فلما عرفت مراراً من أنّ الشيوع والتعارف لا يوجبان الانصراف الذي يعوّل عليه في رفع اليد عن الإطلاق.

وأمّا ما تضمّن الأمر بالصَّب: فليس له مفهومٌ يوجبُ تقييد المطلقات، ومنطوقه لا ينافي الإطلاق حتّى يكون قرينةً على رفع اليد عنه، ولعلّه يكون الأمر به لكونه أسهل في مورده وهو الجسد، كما لا يخفى ، أو لحفظ الفضالة عن الانفعال أو غيرهما.

وأمّا الثالث: - فمضافاً إلى ما عرفت من أنّ النجاسة الحاصلة من الاستعمال، لا تكون مانعةً عن حصول الطهارة - فإنّ صحيح ابن مسلم يعدّ أخصّ من دليل انفعال القليل، وعدم مطهّريّة المتنجّس، لاختصاصه كما عرفت بالقليل، وحيثُ لا ريب في أنّ إطلاق الخاصّ يقدّم على عموم العام، وهو بإطلاقه يشمل صورة كون الماء موروداً، فيتعيّن البناء على تقييد إطلاق دليل إحدى تينك القاعدتين.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى عدم اعتبار الورود.

***

ص: 306

اعتبار تعدّد الغسل في المتنجّس بالبول
اشارة

الأمر الثاني: التعدّد في بعض المتنجّسات، كالمتنجّس بالبول، وكالظروف.

أمّا الظروف المتنجّسة: فسيأتي الكلام فيها عند تعرّض المصنّف رحمه الله لها.

وأمّا المتنجّس بالبول: فالمشهور بين المتأخّرين(1)، بل عن «المعتبر»(2) نسبته إلى علمائنا: لزوم غَسله مرّتين في تطهيره بالماء القليل، وعدم لزومه في تطهيره بالماء الكثير.

أقول: فالكلام يقع في مقامين:

في التطهير بالماء القليل
اشارة

المقام الأوّل: في التطهير بالماء القليل، وقد عرفت أنّ المشهور لزوم الغَسل مرّتين.

وعن «المبسوط»(3) و «المنتهى»(4) و «البيان»(5) وغيرها: الاكتفاء بالمرّة.

وعن «المدارك»(6) و «المعالم»(7): الاكتفاء بها في البَدَن.

أقول: والأوّل أقوى ، وتشهد له جملةٌ من النصوص:

ص: 307


1- ذخيرة المعاد: ج 1/161، مصباح الفقيه: ج 1/612 ق 2، العروة الوثقى (ط. ق): ج 1/81.
2- المعتبر: ج 1/435.
3- المبسوط: ج 1/17.
4- نسبه إليه في رياض المسائل: ج 2/388 (ط. ج).
5- نسبه إليه في رياض المسائل: ج 2/388 (ط. ج).
6- مدارك الأحكام: ج 1/164.
7- نقل القول عنه في الحدائق: ج 5/357 أنّه حكاه عن العلّامة بالاكتفاء بالمرّة، إنْ كان جافّاً، وأنّه يظهر من فحوى كلامه في جملة من كتبه الاكتفاء بها [للمرّة] مطلقاً، حيث قال: إنّ الواجب هو الغسل المُزيل للعين... إلى أن قال: ومسمّى الغسل يصدق بالمرّة.

منها: صحيح ابن مسلم المتقدّم.

ومنها: حسن الحُسين بن أبي العلاء: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن البول يُصيب الجسد؟ قال عليه السلام: صُبّ عليه الماء مرّتين، فإنّما هو ماءٌ .

وسألته عن الثّوب يُصيبه البول ؟ قال عليه السلام: اغسله مرّتين»(1).

ومنها: صحيح البزنطي: «سألته عن البول يُصيبُ الجسد؟ قال عليه السلام: صبّ عليه الماء مرّتين»(2). ونحوها غيرها(3).

واستدلّ للثاني:

1 - بإطلاق ما تضمّن الأمر بالغَسل.

2 - وبأصالة البراءة.

3 - وبالمرسل المروي: «أنّه يُجزي أن يَغسل بمثله من الماء، إذا كان على رأس الحشفة وغيره».

4 - وبخبر الحسين المتقدّم على ما رواه في «الذكرى»(4) بزيادة قوله عليه السلام:

(الأُولى للإزالة والثانية للإنقاء).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلتعين تقييده بما دلّ على لزوم غَسله مرّتين.

ومنه يظهر ما في أصالة البراءة، إذ الأصل لا يقاوم الدليل.5.

ص: 308


1- الكافي: ج 3/55 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/395 ح 3962.
2- الكافي: ج 3/20 ح 7، وسائل الشيعة: ج 3/396 ح 3965.
3- وسائل الشيعة: ج 3/396 باب 1 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.
4- الذكرى: ص 15.

والمرسل ضعيفٌ لا يُعتمد عليه.

والزيادة المرويّة عن «الذكرى» غير ثابتة، وعن «المعالم»(1): لم أرَ لهذه الزيادة أثراً في كتب الحديث الموجودة الآن بعد التصفّح بقدر الوسع.

وأمّا القول الأخير: فيدفعه صحيح البزنطي، وحسن الحسين المتقدّمان.

ودعوى:(2) عدم حجيّتهما، كما ترى .

أقول: ومقتضى إطلاق النصوص، عدم الفرق بين بول الآدمي وغيره.

ودعوى:(3) انصراف الإطلاق إلى بول الآدمي، لعدم تعارف وصول غيره إلى الثّوب والبَدَن.

ممنوعة: لما مرَّ مراراً من أنّ التعارف لا يوجب الانصراف الذي يعوّل عليه في رفع اليد عن الإطلاق، مع أنّ وصول بعض أقسامه ليس نادراً كبول الهرّة.

ومنه يظهر ضعف التمسّك بإطلاق قوله عليه السلام: (اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه)(4). لتعيّن تقييده بالنصوص المتقدّمة.

أقول: ثمّ إنّ مورد النصوص وإنْ كان الثّوب والبَدَن، إلّاأنّه لا ريب في التعدّي عنهما إلى غيرهما بقرينة الارتكاز العرفي.

فرع: ثمّ إنّه هل يُكتفى بالغَسلة المُزيلة، أم لابدَّ أن تكون الغسلتان غير الغسلة المزيلة للعين ؟9.

ص: 309


1- نسبه إليه في الحدائق: ج 5/360.
2- مستمسك العروة: ج 2/11.
3- ذكرها في مستمسك العروة: ج 2/11 وردّها.
4- الكافي: ج 3/57 ح 3، وسائل الشيعة: ج 3/405 ح 3988، وفي آخر (من بول كلّ ما لا يؤكل لحمه)، أيضاً وسائل الشيعة: ج 3/405 ح 3989.

وجهان، بل قولان، قد استدلّ للثاني:

1 - بانصراف النصوص إلى غيرها.

2 - وبقوله عليه السلام: «حتّيه ثمّ اغسليه»(1).

أقول: وفيهما نظر:

إذ الانصراف ممنوعٌ ، والأمر بالحَتّ محمولٌ على الاستحباب أو على الإرشاد إلى أنّ الحَتَّ قبل الغَسل أرفق في التطهير، لعدم وجوبه قطعاً.

ويشهد للقول الأوّل: - مضافاً إلى إطلاق النصوص - قوله عليه السلام في حسن الحسين المتقدّم: «صبَّ عليه الماء مرّتين، فإنّما هو ماء».

فإنّه يدلّ على كفاية المرّتين مع وجود عين البول.

وعليه، فالأقوى كفاية الغَسلة المُزيلة، واحتسابها من الغَسَلات المطهّرة، فلا فرق بين وجود العين وعدمها، بأن صار البول جافّاً في وجوب الغَسل مرّتين.

وما عن المصنّف رحمه الله من عدم وجوبه مرّتين في الثاني، يدفعه إطلاق النصوص.

ودعوى: أنّ المتبادر إلى الذهن من الأمر بصبّ الماء مرّتين، كون الأُولى للإزالة، بلا دخلٍ له في التطهير، كما يشهد له الزيادة المذكورة في «الذكرى»(2) في ذيل خبر الحسين المتقدّم.

مندفعة: بمنع التقييد بأمثال هذا التبادر، الناشئ عن الحدس، مضافاً إلى استلزامه حمل النصوص على صورة وجود العين، وهو خلاف الغالب.

وحمل الأمر بالصَّب في كلام الشّارع على الحكم العرفي، وهو كما ترى .5.

ص: 310


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 2/610 ح 2875 وفيه: (اقرصيه بدل اغسليه).
2- الذكرى: ص 15.

وقد يتوهّم: كفاية المرّتين، وإنْ تحقّقت الإزالة بالأخيرة، تمسّكاً بإطلاق النصوص.

وفيه: - مضافاً إلى عدم بقاء البول بعد الغَسلة الأُولى - أنّه لو سُلّم ذلك، بما أنّه تكون عين النّجس موجودة بعد الغَسلة الأُولى ، فمقتضى إطلاق النصوص غسل ملاقيها مرّتين.

هذا كلّه في بول غير الرضيع.

***

ص: 311

بول الرَّضيع

وأمّا بول الرضيع غير المتغذّي، فلا خلاف في أخفيّة نجاسته عن نجاسة بول غيره، وأنّ الأخبار تفرّق بين كيفيّة تطهير ملاقيه، وتطهير ملاقي سائر الأبوال، كما تشهد له جملة من النصوص:

منها: مصحّح الحلبي: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن بول الصَّبي ؟

قال عليه السلام: تصبّ عليه الماء، فإنْ كان قد أكل فاغسله بالماء غَسلاً، والغلام والجارية في ذلك شَرعٌ سَواء»(1).

ومنها: حسن الحسين بن أبي العلاء المتقدّم، وفيه: «وسألته عن الصَّبي يبولُ على الثّوب ؟

قال عليه السلام: تصبّ عليه الماء قليلاً ثمّ تعصره»(2).

ونحوهما غيرهما(3).

أقول: إنّما الكلام في أنّ الفرق بينهما:

1 - هل هو في اعتبار التعدّد في غيره، وعدم اعتباره فيه كما عن المحقّق(4)وجماعة من المتقدّمين ؟

2 - أو أنّه إنّما يكون في كفاية الرَّش والنَّضح فيه، ولزوم الغَسل في غيره كما عن جماعة(5)؟

ص: 312


1- الكافي: ج 3/56 ح 6، وسائل الشيعة: ج 3/397 ح 3968.
2- الكافي: ج 3/55 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/397 ح 3967.
3- وسائل الشيعة: ج 3/397 باب 3 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.
4- المعتبر: ج 1/436.
5- الناصريّات: ص 90، شرائع الإسلام: ج 1/43، فقه الرّضا: ص 19.

3 - أو أنّه إنّما يكون في عدم لزوم عصر الثياب، أو ما يفيد فائدته فيه، ولزومه في غيره كما عن آخرين ؟

أمّا عدم اعتبار التعدّد فيه: فهو وإنْ كان قويّاً، كما يشهد له الحسن إذ ذكر العَدَد في بول غيره، وعدم ذكره فيه، ظاهرٌ في عدم الاعتبار، وعليه فالنصوص المتضمّنة لذكر العدد غَير الحسن، إمّا لا تشمل بول الصَّبي، أو أنّه لأخصيّة الحسن عنها تقيّد به، وعليه فما عن «كشف الغطاء»(1) من تعيّن المرّتين فيه لتلك النصوص ضعيفٌ .

وأضعفُ منه التمسّك باستصحاب النجاسة، إذ الأصل لا يُعتمد عليه مع وجود الدليل.

إلّا أنّ الظاهر من المصحّح المتضمّن لإعتبار الغَسل في غيره، والصَّب فيه، ثبوت الفرق بينهما، من غير هذه الجهة أيضاً.

أقول: والذي يظهر لي بعد التدبّر في النصوص، ثبوت الفرق بينهما، باعتبار الجريان والانفصال والعصر في الغَسل، وعدمه في الصّب، إذ معنى (الصَّب) لغةً هو الإراقة والسَّكب، وعُرفاً هو الاستيلاء والغَلَبة، وهذا بخلاف الغَسل، فإنّ المأخوذ في مفهومه الانفصال والجريان والعصر، كما لا يخفى .

واعتبار الغَسل في بول الرَّجل، لا يوجبُ حمل الصَّب في هذه النصوص على الغَسل، من جهة تضمّن جملةٍ من الأخبار للأمر بالصَّب عليه مرّتين، لأنّ الصّب أعمٌّ من الغَسل.

وعليه، فاعتباره في موردٍ لأجل أدلّة اُخر، لا يستلزم اعتباره في جميع موارد اعتبار الصَّب.

وأمّا موثّق سماعة: «سألتهُ عن بول الصَّبي يُصيب الثّوب فقال: اِغسله.7.

ص: 313


1- كشف الغطاء: ج 1/177.

قلت: فإنْ لم أجد مكانه ؟ قال عليه السلام: اغسل الثّوب كلّه»(1).

فيتعيّن تقييد إطلاقه بمصحّح الحلبي المتقدّم، فيُحمل على المتغذّي، أو حمل الأمر بالغَسل على إرادة الإرشاد إلى النجاسة، بقرينة ما دلّ على كفاية الصَّب، وعدم لزوم الغسل.

وأمّا النبويّان العاميّان: الظاهران في كفاية النَّضح:

فبناءً على كون النَّضح والصَّب مترادفين، كما صرّح بذلك جماعة منهم صاحب «الحدائق»(2) لا كلام.

وأمّا بناءً على كونه أعمّ من الصَّب كما عن «المدارك»(3) التصريح به، فحيثُ أنّهما ضعيفان سنداً، والأصحاب أعرضوا عنهما، ولم يعملوا بهما، فلا يعتمد عليهما، ويتعيّن طرحهما.

***3.

ص: 314


1- التهذيب: ج 1/251 ح 10، وسائل الشيعة: ج 3/398 ح 3969 و ص 402 ح 3979.
2- الحدائق الناضرة: ج 5/388.
3- مدارك الأحكام: ج 2/333.
الاكتفاء بالمرّة في عامّة النّجاسات

أقول: يدور البحث في أنّ الحكم بلزوم التعدّد:

هل يختصّ بالمتنجّس بالبول، كما هو المنسوب إلى الأكثر.

أو يعمّ المتنجّس بسائر النجاسات مطلقاً، كما عن الشهيد(1) والمحقّق(2) و غيرهما؟

أم كما في طهارة الشيخ الأعظم(3): سواءٌ إذا كان له قوامٌ وثخنٌ كالمَنيّ كما عن المصنّف في «منتهى المطلب»(4)؟ وجوه:

أقواها الأوّل، لإطلاق الأمر بالغَسل في النجاسات، كقوله عليه السلام في المَنيّ : «إنْ عرفتَ مكانه فاغسله»(5)، وفي الدّم: «إنْ اجتمع قَدْرُ حُمّصةٍ فاغسله»(6)، ونحوهما ماورد في سائر النجاسات.

ودعوى:(7) أنّ الأمر بالغَسل في هذه النصوص، إنّما سيق لبيان أصل النجاسة، ويعدّ إرشاداً إليها، فلا تدلّ هذه النصوص على كفاية مطلق الغَسل في التطهير، لعدم كونها مسوقة لبيانها.

مندفعة: بأنّ الأمر بالغَسل وإنْ لم يكن نفسيّاً اسقلاليّاً، ولكن الظاهر كونه نفسيّاً شرطيّاً، لا إرشاديّاً إلى النجاسة، مع أنّ إرشاديّته إلى النجاسة على فرض

ص: 315


1- الدروس: ج 1/125.
2- المعتبر: ج 1/435 قوله: (وهل يُراعى العدد في غير البول، فيه تردد أشبهه يكفي المرّة بعد إزالة العين).
3- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 1/444.
4- منتهى المطلب: ج 1/175 (ط. ق).
5- الكافي: ج 3/53 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/402 ح 3977 و ح 3983.
6- التهذيب: ج 1/255 ح 28، وسائل الشيعة: ج 3/430 ح 4075.
7- نقلها في مصباح الفقيه: ج 1/612 ق 2.

تسليم كونه إرشاداً إليها، إنّما تستفاد من دلالته على وجوب الغَسل، لا أنّ المراد من قوله: (اغسله) أنّه نجسٌ كي لا يدلّ على مطهّريّة الماء، وأنّه المجزي في حصول الطهارة، كما لا يخفى .

وعليه، فلا مانع من التمسّك بإطلاقه.

وأضعف منها دعوى(1) إهمال هذه النصوص، إذ لو سُلّمت في بعضها، فلا نُسلّم في جميعها.

مع أنّ الشكّ في كونها في مقام البيان، يكفي في الحكم بثبوت الإطلاق، كما حقّقناه في محلّه.

أقول: هذا في المتنجّس بالنجاسة التي يكون لدليل التطهير منها إطلاقٌ .

وأمّا ما ليس لدليله ذلك، كالمتنجّس بالمتنجّس بالبول، فيثبت فيه عدم لزوم التعدّد:

1 - بعدم القول بالفصل.

2 - وبإطلاق ما ورد في التطهير عن مطلق النجاسات، وهي الروايتان المتقدمتان في مبحث تنجيس المتنجّس.(2)

3 - وموثّق(3) عمّار عن الصلاة في المكان القذر، فقال عليه السلام: «لا تصلِّ فيه حتّى تغسله».

إذ الظاهر من تعليق جواز الصّلاة على عنوان الغَسل، الذي هو من المفاهيم المبيّنة عند العرف، الرجوع إليهم في كيفيّة التطهير، ولا ريب في أنّهم يكتفون بالمرّة في إزالة القذارات مطلقاً.9.

ص: 316


1- مصباح الفقيه: ج 1/612 ق 2.
2- صفحة 181 من هذا المجلّد.
3- وسائل الشيعة: ج 3/452 ح 4149.

واستدلّ للقول الثاني:

1 - باستصحاب النجاسة بعد الغَسل مرّة.

2 - وبفحوى قوله في حَسَن أبي العلاء المتقدّم: «فإنّما هو ماءٌ » فإنّه يدلّ على أنّ الاكتفاء بالصَّب إنّما يكون لرقّة البول، فغيره يحتاج - مضافاً إلى الصَّب مرّتين - الدّلك.

وبعباره اُخرى: يدلّ على أهونيّة النجاسة البوليّة عن سائر النجاسات، فيكون غيرها أولى بالتعدّد.

3 - وبجعله المَنيّ أشدّ من البول في صحيح ابن مسلم.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لا مورد للتمسّك به مع وجود الإطلاق.

مضافاً إلى ما عرفت غير مرّةٍ في هذا الشرح، من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، لكونه محكوماً لأصالة عدم الجعل، الثابت في أوّل الشريعة، المترتّب عليه عدم المجعول.

وما ذكره بعض الأعاظم(1): بأنّ الظاهر من النصوص، كون النجاسة أثراً عينيّاً حقيقيّاً يحصل من ملاقات النّجس أو المتنجّس.

يرد عليه: أنّه إنْ اُريد بذلك كونها من الاُمورات الواقعيّة، الّتي كشف عنها الشارع، فقد عرفت في أوّل هذا الباب فساد ذلك، فراجع.(2)

وإنْ اُريد به عدم كونها منتزعةً من الحكم بوجوب الغَسل، بل بنفسها من الاعتباريّات الشرعيّة، وتكون موضوعاً لوجوب الغَسل، فهو وإنْ كان تامّاً، إلّاد.

ص: 317


1- مستمسك العروة: ج 2/19.
2- صفحة 7 من هذا المجلّد.

أنّه يجري فيها ما ذكرناه من محكوميّة استصحاب بقائها، لإستصحاب عدم الجعل.

وأمّا الثاني: فلأنّ مفهوم قوله: (إنّما هو ماءٌ ) الوارد في مقام بيان عدم وجوب الدّلك، عدم كفاية الصَّب في سائر النجاسات، ممّا له قوامٌ وثخنٌ ، لعدم زوال العين به، فلا يدلّ على لزوم التعدّد فيها.

وأمّا الثالث: فلأنّ كون المَنيّ أشدّ من البول، لا يلازم كونه في مقام التطهير كذلك، وإلّا لزم تعيّن الغَسل ثلاث مرّات مثلاً في التطهير عنه، كما لا يخفى .

وممّا ذكرناه ظهر ضعف القول الأخير.

***

ص: 318

كفاية المرّة في الكُرّ والجاري

المقام الثاني: في غَسل المتنجّس بالبول في الكثير.

المشهور بين الأصحاب(1) على ما نُسِبَ إليهم - كفاية المرّة في غَسله في الكُرّ والجاري، بل بلا خلاف في الثاني.

وتنقيح القول في المقام: إنّه لا ريب في الاكتفاء بها في الجاري، لصحيح ابن مسلم المتقدّم، الوارد في الثّوب الذي أصابه البول، حيث قال عليه السلام: «فإنْ غَسَلته في ماءٍ جارٍ فمرّة واحدة»(2).

وأمّا في الكُرّ:

1 - فإنْ كان المتنجّس غير الثّوب ممّا لا ينفذُ فيه الماء فكذلك، إذ نصوص التعدّد على طائفتين:

الأُولى : هي الآمرة بصبّ الماء عليه مرّتين، وعدم شمول هذه النصوص لغَسله في الكُرّ واضح.

الثانية: هي المتضمّنة للأمر بغَسله مرّتين.

وحيث أنّ مورد هذه النصوص هو الثّوب، ويحتمل قويّاً اختصاص هذا الحكم بإطلاقه بالثوب ونحوه ممّا تنفذ فيه النجاسة، ولا يشمل البَدَن وشبهه، فلا وجه للتعدّي عن موردها، فإذاً المُعتمد فيه هو إطلاق ما تضمّن الأمر بغَسل ملاقي البول، ولا ريب في أنّه يقتضي الاكتفاء بالمرّة كما عرفت.

2 - وأمّا إنْ كان المتنجّس به هو الثّوب، فيمكن الاستدلال لكفايتها

ص: 319


1- الهداية: ص 71، التذكرة: ج 1/9، روض الجنان: ص 167.
2- التهذيب: ج 1/250 ح 4، وسائل الشيعة: ج 3/397 ح 3966.

بصحيح ابن سرحان:

«ما تقول في ماء الحمّام ؟ فقال عليه السلام: هو بمنزلة الماء الجاري»(1).

فإنّ مقتضى إطلاق التنزيل، ترتّب جميع أحكام الجاري عليه، منها الإكتفاء بالمرّة، فإذا ثبت ذلك في ماء الحمّام، يثبت في غيره، لما عرفت في مبحث ماء الحمّام(2)من أنّه لا خصوصيّة لماء الحمّام، وأنّ سبيله سبيل سائر أفراد الكُرّ، ويؤيّده:

المُرسل المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام مشيراً إلى غدير ماءٍ : «إنّ هذا لا يصيبُ شيئاً إلّا وطَهّره»(3).

فإنّ النسبة بينه وبين نصوص التعدّد، وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّاأنّه بما أنّ دلالته على حكم المورد إنّما تكون بالعموم، ودلالة تلك النصوص بالإطلاق، فيُقدَّم عليها. وأمّا الاستدلال به مع إرساله فغيرُ سديدٍ.

ودعوى: أنّ ضعفه مجبورٌ بالعمل ضعيفة، إذ الضعف لا يُجبر بمجرّد موافقة العمل لمضمون الخبر، بل يتوقّف على الإستناد غير المحرز في المقام.

وأضعف منه: الاستدلال له بصحيح ابن مسلم المتقدّم، بدعوى أنّ المنساق إلى الذهن كون هذه الشرطيّة تصريحاً بمفهوم الشرطيّة الأُولى ، وهي: (اِغسله في المَركن مرّتين). وحيثُ أنّ الظاهر منها لزوم الغَسل مرّتين عند الغَسل بالماء القليل، فمفهومها كفاية المرّة عند غَسله بغير القليل، كُرّاً كان أم جارياً.

إذ يرد عليه: أنّ هذا ليس بأولى من العكس.

وعليه، فإمّا أن يكون الصحيح ساكتاً عن بيان حكم الكُرّ، أو يكون مجملاً.3.

ص: 320


1- التهذيب: ج 1/378 ح 28، وسائل الشيعة: ج 1/148 ح 367.
2- فقه الصادق: ج 1/45.
3- المستدرك: ج 1/198 ح 343.

ودعوى شمول الجاري للكُرّ ولو بعض أفراده، يدفعها ما ذكرناه في مبحث الماء الجاري(1) من أنّه النابع السائل.

وأضعف منه: دعوى انصراف نصوص التعدّد عن الغَسل في الكُرّ، لأنّه كان نادراً حين صدور هذه النصوص.

إذ يرد عليه: مضافاً إلى أنّ الندرة وعدم التعارف، لا يوجبان الإنصراف؛ أنّه لم يكن نادراً.

أقول: ومن ما ذكرناه ظهر ضعف ما عن المحقّق، وظاهر الصدوق، وصريح «الرياض» من لزوم التعدّد عند الغَسل في الكُرّ أيضاً، كما أنّه ظهر وجه ما أفتى به الاُستاذ من كفاية المرّة في البَدَن وشبهه، وعدم الإكتفاء بها في الثّوب ونحوه وضعفه.

***2.

ص: 321


1- فقه الصادق: ج 1/12.
عصر الثياب

الأمر الثالث: المشهور بين الأصحاب على ما نُسب إليهم: اعتبار العصر في تطهير مثل الثياب ممّا ينفذ فيه الماء، بل في «الحدائق»: المعروف من كلام الأصحاب من غير خلافٍ يُعرف، وجوب العصر في الثّوب ونحوه.

واستدلّ له:

1 - بأنّه لا يتيقّن بخروج النجاسة إلّابه.

2 - وبالإجماع.

3 - وبدخوله في مفهوم الغَسل.

4 - وبأنّ الغُسالة نجسة، فيجبُ إخراجها.

5 - وبالأمر به في «الرضوي» وخبر «الدعائم».

6 - وبقوله في حَسن الحُسين المتقدّم في بول الرضيع: (ثمّ تعصره قليلاً).

7 - وبأنّ النجاسة لا تزول إلّابه.

أقول: وفي الجميع نظر: إذ بعد ثبوت الإطلاق لدليل الغَسل، وعدم الدليل على اعتبار العصر، لا يشكّ في عدم اعتباره.

والإجماعُ ليس تعبّديّاً، إذ لعلّه يكون مستنداً إلى أحد الوجوه المذكورة، مع عدم ثبوته.

ودخول العصر في مفهوم (الغسل) ممنوعٌ ، كما يظهر لمن راجع العرف عند إطلاقه في القذارات العرفيّة.

ونجاسة الغُسالة على فرض القول بها، لا توجبُ تنجّس المحلّ ، مع أنّه يمكن

ص: 322

انفصال الغُسالة بغير العصر، مع أنّ لازم هذا الوجه اعتباره بعد تماميّة الغَسَلات.

مضافاً إلى أنّ الرطوبة الباقية في المغسول ليست غُسالة، بل هي تتبع المحلّ في الحكم، كما عرفت في مبحث الغُسالة.(1)

و «الرضوي» على فرض كونه رواية ضعيفٌ ، وكذلك مُرسل «الدعائم»، وقد عرفت مراراً أنّ موافقة عمل الأصحاب مع مضمون الخبر، لا تكون جابرة لضعفه، والحسن مجملٌ لذكره في بول الصَّبي، الذي لا يُعتبر فيه العصر قطعاً، وعدم ذكره فيما قبله الذي هو محلّ الكلام.

وأمّا الأخير: فقد وجّهه بعض أعاظم المحقّقين(2)، بأنّ حصول غَسل الثّوب واتّصافه بالنظافة، بانتقال وسخه إلى الماء، إنّما هو فيما إذا لم يستقذر الماء المستولي عليه بما انتقل اليه، وإلّا فإنّ تغيّر الماء لا يحصّل غَسل الثّوب وتنظيفه إلّابعد تخليصه من تلك الغُسالة بالعصر وشبهه، وحيثُ علمنا بما دلّ على انفعال الماء القليل بملاقاة النّجس، أنّه كالماء الوسخ الذي اكتسب القذارة من الثّوب في المانعيّة من اتّصاف الثّوب بالنظافة، فلا يتحقّق الغَسل ولا تحصل النظافة إلّابعد إخراجه بالعصر ونحوه، لا بتجفيفه بالهواء ونحوه.

وفيه: أنّ لازم هذا الوجه أيضاً التخصيص بما بعد الغَسلة الأخيرة، مع أنّه يبتني على القول بنجاسة الغُسالة، بل بنجاسة ما يبقى من الماء في المحلّ بعد الغَسل، مضافاً إلى أنّ ذلك في النجاسات العينيّة إذا أوجبت تغيّر الماء تامٌّ ، وأمّا في النجاسات الحكميّة فلا يتمّ ، إذ لابدَّ في كيفيّة إزالتها من الرجوع إلى الشارع، فإذا فرضنا أنّ مقتضى إطلاق ما ورد من الشارع كفاية تحقّق مفهوم الغَسل، من دونف.

ص: 323


1- فقه الصادق: ج 1/193.
2- مصباح الفقيه: ج 1/600 ق 2، بتصرّف.

حاجةٍ إلى شيءٍ آخر في إزالتها، فلا وجه للتوقّف في عدم اعتباره.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم اعتبار العصر من حيث هو في التطهير، بل يكفي مجرّد تحقّق الغسل.

نعم، بما أنّه يعتبر في صدقه جريان الماء على المحلّ ، وخروجه منه، ففي مثل الثّوب ممّا لا يخرج الماء عنه، لا يكفي مجرّد الصَّب، بخلاف البَدَن ونحوه، ولذا ترى أنّه في النصوص الواردة في مثل البَدَن ونحوه الأمر بصبّ الماء عليه، بخلاف الثّوب، فإنّه لا يوجد موردٌ حكم فيه عليه السلام بكفاية الصَّب.

وعليه، فيعتبر إخراج الماء عنه بأيّ نحوٍ كان، بالعصر أو بالفرك أو بالغمز بالكفّ ونحو ذلك، أو تحريكه في الماء حركة عنيفة، أو بإيراد الماء عليه بنحو يوجب خروج الغُسالة.

وأمّا خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «سألته عن الفراش يكون كثير الصوف، فيُصيبه البول، كيف يُغسل ؟

قال عليه السلام: يَغسل الظاهر، ثمّ يصبّ عليه الماء في المكان الذي أصابه البول، حتّى يخرج من جانب الفراش الآخر»(1).

فلا ينافي ما ذكرناه، إذ الظاهر أنّ مورده هو الفراش المحشوّ بالصّوف الذي لا تستقرّ غسالته فيه، وتخرج منه من دون الحاجة إلى إحدى المعالجات المتقدّمة.

***4.

ص: 324


1- وسائل الشيعة: ج 3/400 ح 3974.
ما ينفذ فيه الماء ولا يمكن عَصْره

أقول: بقي الكلام في الأشياء التي يرسب فيها الماء، وينفذ في أعماقها، ولايمكن عصرها.

فعن جملةٍ من الأصحاب(1): أنّ ما جرى هذا المجرى كالصابون والفواكه والحبوب وغيرها، لا يَطهر إلّابالماء الكثير إذا نفذت النجاسة فيه.

وعن جماعةٍ آخرين منهم الشيخ الأعظم رحمه الله(2): التردّد في قبول هذه الأشياء للتطهير حتّى بالكثير.

وعن آخرين كالمصنّف(3) والشيخ(4) وغيرهما: حصول الطهارة لها إذا غُسِلت بالقليل أو بالكثير.

واستدلّ للقول الأوّل:

1 - بأنّه يعتبر في الغَسل بالماء القليل جريان الماء على النّجس وانفصاله عنه، وحيث أنّهما لا يتحقّقان في الفرض، فلا وجه للحكم بحصول الطهارة.

2 - وبأنّه لا دليل على قبول كلّ شيءٍ للطهارة بالماء القليل.

3 - وببقاء الغُسالة النجسة المانعة عن التطهير.

أقول: وفي الجميع نظر:

ص: 325


1- كالشهيد في الدروس: ج 1/124 درس 19، ذكرى الشيعة: ج 1/123-124 (ط. ج)، روض الجنان: ص 167.
2- كتاب الطهارة: ج 2/378-379، وقد يظهر ذلك منه أيضاً في: ج 1/67، (حكم الماء المطلق) بقوله: (وأمّاطهارة المائعات النجسة بالاستهلاك فيه ففي عدّه تطهيراً في العرف تأمّل).
3- قد يظهر ذلك منه في نهاية الاحكام: ج 1/281 بقوله: (أمّا السمسم والحنطة إذا انتقعا في الماء النّجس، فالأقوى قبولهما للطهارة، وهكذا اللّحم إذا نجست مرقته).
4- قد يظهر ذلك من الشيخ في النهاية: ص 588 في غسل اللّحم الذي وقع فيها شيء من الخمر وهي تغلي بالقدر.

أمّا الأوّل: فلأنّ لازمه عدم طهارته بالغَسل بالماء الكثير أيضاً، إذ يعتبر فيه كالغَسل بالماء القليل صدق مفهوم الغَسل، المتوقّف على جريان الماء على النّجس، وانفصاله عنه، الممتنعين في الفرض.

ودعوى بعض الأعاظم من المحقّقين رحمه الله(1): ردّاً على شيخنا الأعظم رحمه الله بأنّه ليس المدار في باب التطهير على صدق الماء المطلق على ما نفذ في أعماق المتنجّس، بل المدار على صدق نفوذ الكُرّ فيه، ووصول الماء إلى باطنه، وإصابة الماء إلى الأجزاء، وهذه العناوين صادقة في ما إذا غسلت هذه الأشياء بالماء الكثير.

ممنوعة: بأنّ ما ذكره قدس سره يتمّ في المطر الذي ورد فيه أنّه ما أصاب هذا شيئاً إلّا وقد طهّره، وأمّا في غيره فبما أنّه يعتبر في التطهير به الغَسل كما عرفت، إذ لا دليل على كفاية مجرّد الإصابة، لضعف مرسل «المختلف» المتقدّم، فحكم التطهير به حكم التطهير بالقليل.

وأضعف من ذلك: ما ذكره(2) ردّاً على المستدلّين بهذا الوجه، بأنّ الحاكم باعتبار هذه الأشياء في تحقّق مفهوم الغَسل، إنّما هو العرف، وهم لا يحكمون باعتبارها بالنسبة إلى كلّ جزءٍ من أجزاء المغسول، إلّاأن يتعلّق الغَسل بنفس الجُزء على سبيل الاستقلال، إذ الظاهر من الأدلّة أنّ كلّ جزءٍ من أجزاء النّجس، ما لم يُغسل يكون باقياً على نجاسته، وحيثُ إنّه في الفرض لا يُغسل الباطن، فلا وجه للحكم بطهارته بغَسل الظاهر.

فتحصّل: أنّه بناءً على اعتبار الغَسل في التطهير، كما هو كذلك في غير ماء المطر، مقتضى القاعدة هو عدم حصول الطهارة للباطن، إذ ما ينفذ فيه ليس هو الماء، بل هو رطوبة محضة، فلا يصلح للمطهريّة، ولكن ستعرف أنّ مقتضى2.

ص: 326


1- وهو المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1/602 و 603 ق 2.
2- وهو المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1/602 و 603 ق 2.

النصوص الخاصّة مطهّريّته.

وأمّا الوجه الثاني: الذي نُسب إلى «الذخيرة» ففيه ما أورد عليه كلّ من تأخّر عنه، وتعرّض لقوله بأنّ تطهّر كلّ متنجّس إذا غُسل بالماء، قاعدة كليّة مستفادة من استقراء الموارد الخاصّة.

وأمّا الثالث: فلأنّ الغُسالة التي أمرنا باجتنابها، إنّما هي ما انفصل لا ما بقي في المغسول.

وبالجملة: فظهر من مجموع ما ذكرناه أنّ الأقوى بحسب القواعد، هو القول الثاني، أي القول بعدم قبول هذه الأشياء التطهّر حتّى بالكثير.

أقول: ولكن تشهد لإمكان تطهيرها جملةٌ من النصوص:

منها: ما ورد في تطهير الأواني(1) على اختلاف أقسامها، فإنّ مقتضى إطلاقه طهارتها بالغَسل، سواءٌ كان الإناء هو الكوز أو الدِّن أو الظرف، أو كان الظرف من خزفٍ ونحوه، أو من غيره.

ومنها: ما ورد في النجاسة الواقعة في قِدْرٍ فيه لحمٌ ومرق: كخبر السكوني عن أمير المؤمنين عليه السلام: «سُئل عن قدرٍ طُبخت وإذا في القِدر فأرة ؟ فقال عليه السلام: يُهراق مرقها، ويُغسل اللّحم ويُؤكَل»(2). ونحوه خبر زكريّا(3).

ومنها: ما ورد في الخِفاف(4) تنقع في البول، حيث حكم فيه بأنّه إذا غُسلت بالماء فلا بأس.

أقول: أُورد عليها بإيرادات:5.

ص: 327


1- وسائل الشيعة: ج 3/494 باب وجوب غسل الإناء من الخمر ثلاثاً.
2- الكافي: ج 6/261 ح 3، وسائل الشيعة: ج 1/206 ح 529 وج 24/196 ح 30330.
3- الكافي: ج 6/422 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/470 ح 4204 و ج 25 أيضاً / 358 ح 32119.
4- وسائل الشيعة: ج 3/517 ح 4335.

الأوّل: ضعف السند.

وفيه: أنّه لا يتمّ في جميعها، لو تمّ في بعضها، مضافاً إلى عمل الأصحاب بها في مواردها.

الثاني: عدم دلالتها على طهارة الباطن.

وفيه: أنّه يستفاد طهارته من حكمه عليه السلام بجواز أكل اللّحم، وجواز الصّلاة في النّعال، فتأمّل.

كما يستفاد ذلك من عدم التنبيه على لزوم غَسل باطن الإناء إذا شقّ .

الثالث: أنّها غير ظاهرة في تنجّس باطن ما في موردها.

وفيه: أنّها لو لم تكن مختصّة به، فلا أقلّ من الإطلاق.

فتحصّل: أنّ مقتضى النصوص الخاصّة، طهارة الباطن في هذه الأشياء بالتبعيّة لطهارة الظاهر، وعليه فيكفي في الحكم بها غَسل ظاهرها.

فروع:

الفرع الأوّل: ما اعتبرناه في الغَسل في المتنجّس الذي يرسبُ فيه الماء، ويمكن عصره، من إخراج الماء عنه بالعصر أو بغيره، لا يختصّ بالغَسل بالماء القليل، بل يعتبر في الغَسل بالكُرّ والجاري أيضاً، إذ يعتبر في حصول الطهارة بهما صدق عنوان الغَسل، ولا يكفي مجرّد الإصابة، كما هو كذلك في المطر. وقد عرفت من أنّ ذلك داخلٌ في مفهوم الغسل.

ومنه يظهر أنّه لا يختصّ اعتبار ذلك بما بعد الغَسلات، بل يعتبر عقيب كلّ غسلةٍ فيما يعتبر فيه التعدّد.

الفرع الثاني: قال المصنّف في محكي «التذكرة»(1): لو طرح الدّهن في ماءٍ كثير،9.

ص: 328


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/9.

وحرّكه حتّى تخلّل الماء أجزاء الدّهن بأسرها، طَهُر.

وعن «الجواهر»(1): الإيراد عليه بأنّه يعتبر في حصول الطهارة، وصول الماء إلى جميع أجزاء النّجس، وهو في الفرض ممتنع.

ويرد عليه: - مضافاً إلى ذلك، ولا أقلّ من الشكّ في الوصول الموجب للبناء على النجاسة استصحابا لها - أنّ ما تضمّن من النصوص الأمر بإلقاء السَّمن والزيت إذا ماتت فيهما الفأرة، يدلّ على عدم إمكان تطهيرهما، وإلّا كان الأولى التنبيه عليه، فتأمّل.

نعم، لو خُلِط مع الطحين، وجُعِل خبزاً ثمّ غُسل، لا يبعد دعوى وصول الماء إلى جميع أجزائه.

الفرع الثالث: لا يلحق بالصبي الصبيّة في كفاية الصَّب على ما تنجّس ببوله، كما هو المشهور(2) بل بلا خلافٍ كما عن «الجواهر»(3)، لإختصاص النصوص به.

وقوله في ذيل حسن الحلبي: «والغلام والجارية في ذلك شَرْعٌ سَواء»(4)، لا يدلّ على مساواتهما في هذا الحكم، بل لعلّه بقرينة التعبير عنهما ب (الغلام) و (الجارية) اللّذين لا يطلقان عُرفاً على الرضيع والرضيعة، إلّامع القرينة، يكون ظاهراً في إرادة تساويهما في الحكم المجعول في ذيله، وهو وجوب الغَسل بعد الأكل.

ولخبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام قال: لبن الجارية وبولها يُغسل منه الثّوب قبل أن تُطعم»(5).

***0.

ص: 329


1- جواهر الكلام: ج 6/147.
2- النهاية: ص 55، السرائر: ج 1/187.
3- جواهر الكلام: ج 1/249.
4- الكافي: ج 3/56 ح 6، وسائل الشيعة: ج 3/397 ح 3968.
5- الفقيه: ج 1/68 ح 157، وسائل الشيعة: ج 3/398 ح 3970.
الثاني: الشّمس
اشارة

وتُطهِّر الشمس ما تجفّفه من البول وغيره، على الأرض والأبنية والحُصُر والبَواري.

مطهّريّة الشّمس

(و) الثاني: (تُطهِّر الشّمس ما تُجفّفه من البول وغيره، على الأرض والأبنية والحُصُر والبَواري) على المشهور(1)، بل بلا خلافٍ في تأثير الشّمس في ارتفاع حكم النّجس في الجملة، وإنّما الخلاف وقع في مواضع ثلاثة:

الموضع الأوّل: في أنّ الشّمس هل هي كالماء من المُطهّرات كما هو المشهور؟ أو أنّها لا تؤثّر إلّافي العفو عن التيمّم والسجود على الموضع الذي جُفّف بالشّمس، كما هو المنسوب إلى المفيد(2)، والمحدّث الكاشاني(3)، وجماعة من المتقدّمين والمتأخّرين ؟ وجهان:

وتشهد للأوّل: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح زرارة: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يُصلّى فيه ؟ فقال عليه السلام: إذا جفّفته الشّمس فصلِّ عليه، فهو طاهر»(4).

ومنها: خبر أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر عليه السلام: «يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشّمس فقد طَهُر»، أو «كلّ ما أشرقت عليه الشّمس فهو طاهر»(5).

ص: 330


1- المقنعة: ص 71، الخلاف: ج 1/495، السرائر: ج 1/182.
2- المقنعة: ص 71.
3- نسبه إليه في الحدائق: ج 5/443.
4- الفقيه: ج 1/244 ح 732، وسائل الشيعة: ج 3/451 ح 4146.
5- التهذيب: ج 1/273 ح 91، وسائل الشيعة: ج 3/452 ح 4150.

وهذا الخبر وإنْ كان ضعيف السند، إلّاأنّ الظاهر - بقرينة أنّ الأصحاب اعتبروا في التطهير بالشّمس جفاف المتنجّس بها، وإشراقها عليه، ولا دليل على اعتبار الثاني إلّاهذا الخبر - اعتماد القوم عليه واستنادهم اليه، فيكون ذلك جابراً لوهنه.

مع أنّ للمنع عن ضعف سنده مجالاً، إذ لا وجه له سوى إهمال عثمان، وعدم توثيق أبي بكر، ولكن بما أنّه يروي عن الأعاظم كالمفيد، ومحمّدبن يحيى ، وأحمد بن محمّد - الذي أخرج البرقي من قم لأنّه أكثر الرواية عن الضعفاء - والشيخ، واعتمد عليه الأساطين من المتأخّرين كالمصنّف والمحقّق، يكون الخبر موثّقاً ومعتبراً.

ومنها: موثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الشّمس هل تُطهّر الأرض ؟

قال عليه السلام: إذا كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك، فأصابته الشّمس، ثمّ يبس الموضع، فالصَّلاة على الموضع جائزة، وإنْ أصابته الشّمس ولم ييبس الموضع القذر، وكان رَطباً، فلا تجوز الصّلاة حتّى ييبس، وإن كانت رجلك رَطبةً أو جبهتك رَطبةً أو غير ذلك منك ما يُصيب ذلك الموضع القذر، فلا تصلِّ على ذلك الموضع حتّى ييبس، وإنْ كان غير الشّمس أصابه حتّى يبس فإنّه لا يجوز ذلك»(1).

فإنّ قوله عليه السلام: (فالصَّلاة على الموضع جائزة) في مقام الجواب عن السؤال عن الطهارة والنجاسة، ظاهرٌ في إرادة الطهارة عنه، وكذلك حكمه عليه السلام بطهارة ملاقيه.

واستدلّ للقول بعدم الطهارة:

1 - بالأصل.

2 - وبصحيح ابن بزيع: «سألته عن الأرض أو السطح يُصيبه البول وما9.

ص: 331


1- التهذيب: ج 1/272 ح 89، وسائل الشيعة: ج 3/452 ح 4149.

أشبهه، هل تطهره الشّمس من غير ماء؟ قال عليه السلام: كيف يُطهَّر من غير ماء؟!»(1).

3 - وبموثّق عمّار المتقدّم، بدعوى أنّ الموجود في النسخة الموثوق بها بدل قوله: (وإنْ كان غير الشّمس)، (وإنْ كان عين الشّمس)، فتكون (إنْ ) وصليّة، وقوله عليه السلام يعدُّ تأكيداً لما قبل (إنْ ) لا جواباً لها، وتُحمل الطهارة في النصوص المتقدّمة بقرينة هذين الخبرين على إرادة المعنى اللّغوي منها.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لا مجال لجريان الأصل مع وجود الدليل.

وأمّا الثاني: فلأنّه يدلّ على اعتبار وجودالماء في الموضع الذي يطهر بالشّمس.

وبعبارة اُخرى: اعتبار الرطوبة لأجل تجفيفه بها، ولا يدلّ على عدم مطهّريّة الشّمس كما لا يخفى .

وأمّا الثالث: فلأنّه لا يُعتمد عليه في قِبال النسخ المتعارفة، لا سيّما مع اعتماد الشيخ على تلك النسخ. مع أنّ المتعيّن حينئذٍ هو تأنيث الضمير في (أصابه)، مضافاً إلى معارضة صدره مع ذيله على ذلك، كما لا يخفى .

الموضع الثاني: المشهور بين الأصحاب عدم اختصاص الحكم بنجاسة البول، وعمومه لسائر النجاسات والمتنجّسات.

وعن «المنتهى »(2)، و «المقنعة»(3)، و «الخلاف»(4)، و «المراسم»(5) وغيرها:

الاقتصار على البول.5.

ص: 332


1- الاستبصار: ج 1/193 ح 4، وسائل الشيعة: ج 3/453 ح 4152.
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/178.
3- المقنعة: ص 71.
4- الخلاف: ج 1/495.
5- المراسم العلويّة: ص 55.

واستدلّ له: بأنّ مورد النصوص - عدا خبر عمّار - هو خصوص البول، أمّا هو فضعيف السند لا يعتمد عليه، وصحيح ابن بزيع المتقدّم الوارد في البول وما أشبهه، لكون جوابه عليه السلام فيه مسوقاً لبيان حكمٍ آخر لا يستفاد منه المطهّريّة مطلقاً.

وفيه: أنّه يكفي لثبوت العموم الموثّق، فإنّه حجّة على الصحيح المحقّق في محلّه، بل الصحيح أيضاً كذلك، لأنّ عدم ردعه عليه السلام عمّا تخيّله السائل من كون مطهّريّة الشّمس شاملة لجميع النجاسات، دليلٌ على العموم.

ويشهد للعموم مضافاً إلى ذلك، خبر أبي بكر الحضرمي المتقدّم، فإذاً لا يبقى مورد للترديد في العموم.

الموضع الثالث: المشهور بين المتأخّرين، بل وبين المتقدّمين - على ما نُسب إليهم - أنّ موضوع هذا الحكم ليس خصوص الأرض، بل كلّ ما لا ينقل كالأبنية والحيطان وما يتّصل بها.

وعن «المهذّب»(1)، و «المختلف»(2)، و «المقنعة»(3)، وسلّار(4)، والراوندي(5)، وصاحب «الوسيلة»(6): الاختصاص بالأرض، وألحقوا بها الحُصُر والبَواري.

أقول: والأوّل أقوى ، لعموم خبر الحضرمي المتقدّم.

ودعوى:(7) أنّه لعدم عمل الأصحاب به لعدم القول بعمومه.

مندفعة: بأنّه لأجل الأدلّة الاُخر يقيّد بغير المنقول.ا.

ص: 333


1- المهذّب: ج 1/52.
2- مختلف الشيعة: ج 1/482.
3- المقنعة: ص 71.
4- نسبه إليه في المعتبر: ج 1/446.
5- حكاه عنه في كشف اللّثام (ط. ج): ج 1/461.
6- حكاه عنه في كشف الرموز: ج 1/117.
7- ذكرها في مصباح الفقيه: ج 1/630 ق 2 وردّها.

و لا تطهر من المنقولات شيئاً إلّا الحُصُر والبَواري، كما هو المشهور شهرةً عظيمة.

وعن جماعة(1) الاستشكال في استثناء الحُصُر والبَواري.

وعن الشيخ في «المبسوط»(2)، وابن سعيد(3): طهارة ما عُمل من نبات الأرض بها.

وعن الفخر(4): عموم الحكم لما لا يُنقل، وإنْ عرضه النقل، كالنباتات المنفصلة من الخشب.

وعليه، فالكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في أصل الحكم.

الثاني: في الإستثناء المزبور.

أمّا المقام الأوّل: فقد استدلّ لعدم الاختصاص:

1 - بعموم خبر أبي بكر المتقدّم.

2 - وبأنّه يستفاد من استثناء الحُصُر والبَواري ثبوت الحكم في كلّ ما يُعمل من النبات.

وأورد على الأوّل: بأنّه بعد الإجماع على عدم تماميّة عموم الخبر، يتعيّن حمله على ما لا يُنقل.

وفيه: بما أنّ المقيّد هو الإجماع، يتعيّن الاقتصار على المتيقّن، وهو غير المذكورات في كلمات الأساطين المتقدّمة، فإذاً ما ذكره الشيخ رحمه الله من طهارة ما عمل من نبات الأرض بها هو الأقوى .3.

ص: 334


1- نسب في كشف اللّثام (ط. ق): ج 1/57 هذا القول إلى صاحب «النزهة».
2- المبسوط: ج 1/90.
3- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 2/79.
4- نسبه إليه في الجواهر: ج 6/263.

ومنه ظهر حكم الحُصُر والبَواري.

وأمّا الاستدلال له بصحيح ابن جعفر عليه السلام: «عن البَواري يُصيبها البول، هل تصلح الصّلاة عليها إذا جفّت من غير أن تُغسل ؟ قال عليه السلام: نعم»(1).

ونحوه صحيحه(2) الآخر، وموثّق عمّار المتقدّم، بدعوى أنّه يقيّد الجفاف فيها بالجفاف بالشّمس، للإجماع على عدم الطهارة بدونها.

فغير سديد، إذ غاية ما تدلّ عليه هذه النصوص، جواز الصّلاة عليها، وهو أعمّ من الطهارة.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ مقتضى إطلاقها جواز السجود عليها، فهي بضميمة ما دلّ على عدم جواز السجود على النّجس، تدلّ على الطهارة.

ومنه يظهر أنّ ما أورد على الاستدلال بهذه النصوص، من أنّه قد ورد نفي البأس عن الصّلاة في الموضع النّجس في صحيحٍ آخر له عن أخيه عليه السلام: «عن البيت والدّار لا تصيبهما الشّمس، ويصيبهما البول، ويغتسل فيهما من الجنابة، أيُصلّي فيهما إذا جَفّا؟ قال: نعم»(3).

فكلّما يقال في توجيه هذا الصحيح، يقال في توجيه تلك النصوص.

غير وارد، إذ فرقٌ بين الصّلاة على مكانٍ والصّلاة فيه، ونصوص المقام واردة في مقام بيان حكم الأُولى ، وهذا الصحيح في مقام بيان حكم الثانية، ويدلّ على أنّ المكان الذي أصابه البول أو غيره من القذارات إذا جفّ لا بأس بالصّلاة فيه، ولا تكون مكروهة.

***2.

ص: 335


1- التهذيب: ج 1/273 ح 90.
2- وسائل الشيعة: ج 3/453 ح 4154.
3- بحار الأنوار: ج 80/285 ح 2.
فروع مطهّرية الشمس

الفرع الأوّل: المشهور بين الأصحاب(1): أنّها كما تُطهِّر ظاهر الأرض، كذلك تُطهِّر باطنها المتّصل بظاهرها، بإشراقها عليه، وجفافه بذلك.

وعن ظاهر «البحار»(2): الإجماع عليه.

وعن «المنتهى»(3): اختصاص الحكم بالظاهر.

ويشهد للأوّل: مضافاً إلى إمكان دعوى أنّ ظاهر النصوص سؤالاً وجواباً طهارة تمام الموضع النّجس الذي جفّفته الشّمس - كما يُشير إليه قوله عليه السلام: في صحيح زرارة(4) مُشيراً إلى المكان الذي أصابه البول: (فهو طاهر) - أنّ الصّلاة على مكانٍ ، لا سيّما إذا كان مفروشاً بالرّمل، تستلزم تبدّل أجزائه، وصيرورة ما كان ظاهراً باطناً وبالعكس، ولو لم يكن الباطن طاهراً لما كان يجوز الصّلاة.

واستدلّ للثاني: بأنّ الظاهر من خبر أبي بكر الحضرمي اعتبار إشراق الشّمس على الموضع النّجس، وجفافه بإشراقها في الطهارة، وحيث أنّ الشّمس لا تشرق على الباطن، فلا يصير طاهراً.

وفيه: أنّه إذا جفّ الباطن بإشراق الشّمس على الظاهر، صدق عرفاً على مجموع ذلك المكان أنّه جفّ بإشراق الشّمس.

نعم، لو كان الباطن نجساً دون الظاهر، لا يطهُر إلّابأن تشرق الشّمس عليه، لاعتبار الإشراق على النّجس، كما أنّه لو كان الباطنُ غير متّصلٍ بالظاهر، بأن كان

ص: 336


1- راجع تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/8.
2- بحار الأنوار: ج 77/151-152 باب تطهير الأرض والشّمس....
3- منتهى المطلب (ط. ج): ج 3/279.
4- وسائل الشيعة: ج 3/451 ح 4146.

بينهما فصلٌ بهواءٍ أو بمقدارٍ طاهر، لا يطهر بإشراق الشّمس على الظاهر، لأنّ الباطن في هذه الصور يكون بنظر العرف موضوعاً مستقلّاً.

الفرع الثاني: يشترط في طهارة الشيء بالشّمس:

1 - أن تكون فيه رطوبة مسرية، لتوقّف الجفاف المعلّق عليه الحكم في صحيح زرارة على وجودها.

2 - ولصحيح ابن بزيع المتقدّم الوارد فيه قوله عليه السلام مستنكراً: «كيف يَطهُر مِنْ غير ماءٍ؟!».

وتعليق الحكم في الموثّق على اليبوسة، لا ينافي ذلك، إذ لو سُلّم كون الجفاف غير اليبس، مع أنّه محلّ منع، مقتضى الجمع بين الأدلّة اعتبار كلٍّ منهما في الحكم، فتعتبر وجود الرطوبة المسرية، وصيرورة المحلّ يابساً بإشراق الشّمس عليه.

الفرع الثالث: يعتبر في حصول الطهارة بها صيرورة الأرض جافّة بإشراق الشّمس عليها، فلو كانت الحرارة المستندة إليها موجبة للجفاف من دون إشراقها عليها، لا تطهر، لخبر الحضرمي المتقدّم، ولعلّه الظاهر من موثّق عمّار وصحيح زرارة، فلاحظ.

كما أنّه لو جفّت بإشراقها، ولكن بمعونة الريح، لم تطهُر.

وعن جماعةٍ منهم صاحب «المدارك» رحمه الله(1)، والمحقّق الهمداني رحمه الله(2): البناء على الطهارة في الفرض.

واستدلّ له:

1 - بأنّ مشاركة الريح غير مانعة عرفاً من استناد الجفاف إلى الشّمس.1.

ص: 337


1- مدارك الأحكام: ج 2/367.
2- مصباح الفقيه ج 1 ق 2 ص 631.

2 - وبصحيح زرارة وحديد قالا: «قلنا لأبي عبد اللّه عليه السلام: السّطح يصيبه البول، أو يُبال عليه، أيُصلّى في ذلك المكان ؟ فقال عليه السلام: إنْ كان تصيبه الشّمس والريح، وكان جافّاً فلا بأس به، إلّاأن يُتّخذ مبالاً»(1).

فإنّه ظاهرٌ في كفاية حصول الجفاف بها وبالريح، على وجهٍ يستند التأثير إليهما على وجه المشاركة.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر من الأدلّة، اعتبار استناد الجفاف إلى خصوص الشّمس، والأثر المستند إليها وإلى شيءٍ آخر لا يكون أثراً لها وحدها.

ودعوى:(2) أنّ الظاهر من الأدلّة كفاية مثل هذا الجفاف، لكون الغالب فيما يجفّف بالشّمس ذلك ممنوعة.

وأمّا الثاني: فلأنّه إنّما يكون مسوقاً لبيان عدم كراهة الصّلاة في المكان الذي يُبال عليه إذا جفّ ، ما لم يتّخذ ذلك المكان مبالاً - فلاحظ وتدبّر - ولذلك يكون أجنبيّاً عن المقام.

وعن الشيخ رحمه الله(3): حصول الطهارة بالجفاف الحاصل بالريح، واستدلّ له:

1 - بصحيح زرارة المتقدّم، بناءً على حمل الواو في (والريح) على معنى (أو) كما هو الظاهر، لكفاية حصول الجفاف بالشّمس وحدها، بلا إشكال ولا خلاف.

2 - وبإطلاق موثّق عمّار وصحيحي ابن جعفر المتقدّمة في الحُصُر والبَواري.

أقول: وفيهما نظر:8.

ص: 338


1- الكافي: ج 3/392 ح 23، وسائل الشيعة: ج 3/451 ح 4147.
2- مصباح الفقيه: ج 1/631 ق 2.
3- الخلاف: ج 1/218.

أمّا الأوّل: فلما عرفت آنفاً من أنّه مسوقٌ لبيان حكمٍ آخر.

وأمّا الثاني: فلأنّه يقيّد بما دلّ على اعتبار حصول الجفاف بالشّمس.

فتحصّل: أنّ الأقوى اشتراط تطهيرها، بأن يكون بإشراقها على المحلّوحدها.

نعم، لا يقدح الريح الضعيف الذي يكون دخله في حصول الجفاف ضعيفاً، بحيث لا يُستند الأثر عرفاً إليه، ولو على سبيل المشاركة.

الفرع الرابع: الأظهر عدم كفاية إشراقها على المرآة، مع وقوع عكسه على الأرض، إذ الظاهر من الإشراق مباشرة وقوع الضوء بنفسه على الأرض.

وبعبارة اُخرى: لا يصدق إشراق شيءٍ على الآخر إلّامع المقابلة بينهما.

الفرع الخامس: إذا كانت النجاسة ذات جِرْمٍ ، يعتبر في التطهير بالشّمس كغيرها زوال جِرْمها إجماعاً(1).

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - أنّه مانع من إشراق الشّمس على المحلّ ، ولأنّ الظاهر من الأدلّة بقرينة الارتكاز العرفي، أنّها تطهر بعد زوال العين.

وعليه، فإنْ زال جرمها قبل الجفاف فلا كلام، وإلّا فيُصبّ عليه الماء بعد الزّوال، ويجفّف بالشّمس ويطهر، لما عرفت من عدم اختصاص هذا الحكم بالبول، فلا مورد للنزاع في أنّ المتنجّس بالبول هل يكون مُلحقاً به أو بسائر النجاسات.

***0.

ص: 339


1- نسب في الجواهر إلى الحدائق أنّه قائل بعدم الخلاف، جواهر الكلام: ج 6/260.
الثالث: الأرض
اشارة

والأرض، وباطن الخُفّ وأسفل القَدَم.

مطهّريّة الأرض

(و) الثالث: من المطهّرات: (الأرض) وهي تُطهِّر (باطن الخُفّ وأسفل القَدَم) بلا خلافٍ في مطهّريّتها في الجملة.

بل عن المحقّق(1)، وصاحبي «المدارك»(2)، و «الدلائل»(3) وغيرهم: دعوى الإجماع عليها.

وتشهد لها: جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح زرارة: «قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: رجلٌ وطأ على عَذَرةٍ فساخت رجله فيها، أينقض ذلك وضوءه، وهل يجب عليه غسلها؟

فقال عليه السلام: لا يغسلها إلّا أن يقذرها، ولكنّه يمسحها حتّي يذهب أثرهاويُصلّي»(4).

ومنها: حسن محمّد الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّ طريقي إلى المسجد في زقاقٍ يُبال فيه، فربما مررتُ فيه، وليس عَليَّ حذاءٌ فيلصق برجلي من نداوته ؟

فقال عليه السلام: أليس تمشي بعد ذلك في أرضٍ يابسة ؟ قلت: بلى.

قال عليه السلام: فلا بأس، إنّ الأرض يُطهِّر بعضها بعضاً»(5).

ومنها: صحيح الأحول، عن أبي عبدللّه عليه السلام: «في الرجل يطأ على الموضع الذي

ص: 340


1- المعتبر: ج 1/447.
2- مدارك الأحكام: ج 2/372.
3- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/214.
4- التهذيب: ج 1/275 ح 96، وسائل الشيعة: ج 3/458 ح 4171.
5- وسائل الشيعة: ج 3/459 ح 4173.

ليس بنظيفٍ ، ثمّ يطأ بعده مكاناً نظيفاً؟

قال عليه السلام: لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعاً أو نحو ذلك»(1).

ومنها: حسن المُعلّى، عنه عليه السلام: «سألته عن الخنزير يخرجُ من الماء فيمرّ على الطريق، فيسيل منه الماء، أمرُّ عليه حافياً؟

فقال عليه السلام: أليس وراءه شيءٌ جاف ؟ قلت: بلى.

فقال عليه السلام: لا بأس، إنّ الأرض يطهِّر بعضها بعضاً»(2).

أقول: وإنّما الكلام وقع في موارد:

المورد الأوّل: لا ريب في كونها مطهّرة لباطن القدم، كما يشهد له صحيح زرارة، وحسن المعلّى المتقدّمان وغيرهما، لكن هل تكون مطهّرة لباطن الخُفّ والنَّعل أم لا؟ وجهان:

أوّلهما: المشهور بين الأصحاب، بل عن «جامع المقاصد»(3) دعوى الإجماع عليه.

واستدلّ له:

1 - بخبر حفص: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي وطئتُ على عَذَرةٍ بخُفي، ومسحته حتّى لم أرَ فيه شيئاً، ما تقول في الصّلاة فيه ؟

قال: لا بأس»(4).

وفيه: إنّه يدلّ على نفي البأس عن الصّلاة في الخُفّ الذي لايشترط فيه الطهارة.

وما ذكره بعض الأعاظم رحمه الله(5): من أنّ محطّ نظر السائل بحسب الظاهر هو2.

ص: 341


1- الكافي: ج 3/38 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/457 ح 4165.
2- الكافي: ج 3/39 ح 5، وسائل الشيعة: ج 3/458 ح 4167.
3- جامع المقاصد: ج 1/179.
4- التهذيب: ج 1/274 ح 95، وسائل الشيعة: ج 3/458 ح 4170.
5- مصباح الفقيه: ج 1/642 ق 2.

السؤال عنه، من حيثُ حصول الطهارة بالمسح، فالمراد بقوله: (لا بأس) هو صيرورته طاهراً، وعدم الحاجة إلى غَسله.

غير تامّ : إذ لو كان محطّ نظر السائل طهارته، كان يسأل عنها لا عن الصّلاة فيه.

2 - وبإطلاق العلّة المنصوصة في حسن المُعلّى وغيره، من (أنّ الأرض يُطهِّر بعضها بعضاً).

وتقريب الاستدلال بها: أنّه اُريد بها أحد المعاني الأربعة:

الأوّل: ما ذكره بعض أعاظم المحقّقين(1) من أنّ المراد بالبعض الثاني هو الرِّجْل والخُفّ ، ونزّلا منزلة الأرض بعلاقة المجاورة والمشاركة في الحكم.

الثاني: أنْ يكون المراد به الأجزاء الأرضيّة التي تكون مصاحبة مع الرِّجل والخُفّ ، وعليه فيستفاد منها طهارتهما بالتبع.

الثالث: أنّ المراد به النجاسة الواصلة إلى الرِّجل والخُفّ ، وسِرّ التعبير عنها ب (الأرض) تبعيّتها لها في الاسم في مفروض النصوص.

الرابع: أنّ المراد به أنّ الأرض يُطهِّر بعضها ما ينجس بملاقاة بعضٍ آخر منها.

وفيه: أنّه لا يتعيّن إرادة أحد هذه المعاني منها، بل ولا تكون ظاهرة فيها، لاحتمال إرادة البعض المبهم من البعض الثاني، كما عن الوحيد(2)، فتدلّ على أنّ الأرض تُطهِّر بعض الأشياء، ومن جملته مورد السؤال.

3 - وبالنبويّين:

أحدهما: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفّيه فطَهُورهما التّراب».3.

ص: 342


1- مصباح الفقيه: ج 1/642 ق 2.
2- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 2/63.

والآخر: «إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه، فإنّ التّراب له طهور»(1).

وفيه: أنّهما لضعفهما لا يُعتمد عليهما(2).

4 - وبإطلاق صحيح الحلبي: «دخلتُ على أبي عبد اللّه عليه السلام، فقال: أينَ نزلتُم ؟ فقلت: نزلنا في دار فلان. فقال: إنّ بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً، أو قلنا له إنّ بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً. فقال عليه السلام: لا بأس، إنّ الأرض يُطهِّر بعضها بعضاً»(3).

وفيه: إنّه معارضٌ بحسنه المرويّ عن «مستطرفات السرائر»(4) المصرّح فيه بالرِّجْل، لأنّ الظاهر وحدة الواقعة.

والجمع بينهما يقتضي أن يُقال إنّ الحسن يُبيّن إجمال الصحيح، لكن يدلّ على عموم الحكم، إطلاق صحيح الأحول المتقدّم، إذ الوطئ كما يصدق في القدم يصدق في الخُفّ والنَّعل.

ودعوى:(5) أنّه لإعراض المشهور عنه، لتضمّنه اعتبار خَمَسة عشر ذراعاً لايُعتمد عليه.

مندفعة: بأنّ المشهور لم يعتمدوا على إطلاق مفهومه، وهذا لا يقدح في حجّيّته بالنسبة إلى المنطوق والمفهوم في الجملة.

فتحصّل: أنّ الأقوى أنّه لا فرق بين القَدَم والنَّعل، بل كلّ ما يُلبس بالقَدَم ممّا يصدق الوطئ به.

أقول: ومن ما ذكرناه ظهر أنّ الأقوى عدم إلحاق الركبتين واليدين بالنسبة إلىا.

ص: 343


1- راجع مستدرك وسائل الشيعة: ج 2/576 ح 2771 وما بعده، مع اختلاف يسير في الألفاظ.
2- فهما مرسلان، وقد أرسلهما عوالي اللآلي: ج 4/50 ح 177-179.
3- الكافي: ج 3/38 ح 3، وسائل الشيعة: ج 3/458 ح 4168.
4- في الخبر (أنّ طريقي إلى المسجد)، راجع وسائل الشيعة: ج 3/459 ح 4173.
5- ذكرها في مستمسك العروة: ج 2/64 وأشكل عليها.

من يمشي عليهما، وكذا كَعب عصا الأعرج، وخَشَبة الأقطع، ونعل الدابّة، لما عرفت من انحصار دليل التعدّي عن القدم بصحيح الأحول، وهو لا يشمل المذكورات، لعدم صدق الوطئ المأخوذ موضوعاً فيه على المشي على هذه الاُمور.

المورد الثاني: هل يعتبر في المُطهّر كونه أرضاً، كما هو المشهور شهرةً عظيمة ؟

أم يكفي المسح بكلّ جسمٍ قالعٍ ، كما عن ابن الجُنيد(1)، واختاره في «المستند»(2)، وعن «نهاية الاحكام»(3) احتماله ؟ وجهان:

قد استدلّ للثاني: بإطلاق الأمر ب (المسح) في صحيح زرارة، وإطلاق (المكان النظيف) في صحيح الأحول.

وفيه: أنّهما لو لم يكونا منصرفين إلى الأرض، تعيّن حملها عليها، إذ ظاهر قوله عليه السلام في صحيح الحلبي أو حسنه: (أليس تمشي بعد ذلك في أرضٍ يابسة) تعيّن الأرض في الرافعيّة، فيقيّد به الإطلاقان المزبوران.

وعليه، فلا يكفي المطلي بالقير أو المفروش باللّوح من الخشب، لعدم صدق الأرض عليه.

واحتمال إرادة ما يقابل الفراش منها خلاف الظاهر.

أقول: ثمّ إنّه على المشهور، هل يقتصر على التّراب كما هو ظاهر «الشرائع»(4)وعن غيرها؟

أو يعمّ الرّمل والحَجَر الأصلي، كما هو المشهور؟

أو يعمّ المفروشة بالحَجَر والآجر والجِصّ والنُّورة ؟ وجوه:4.

ص: 344


1- نسبه إليه في مصباح الفقيه: ج 1/644 ق 2.
2- مستند الشيعة: ج 1/338.
3- نسبه إليه في مصباح الفقيه: ج 1/644 ق 2، وراجع: نهاية الاحكام للعلّامة: ج 1/291 (أنواع المطهّرات).
4- شرائع الإسلام: ج 1/44.

أقواها الأخير، لصدق الأرض على الجميع إمّا حقيقةً أو تعبّداً باستصحاب أرضيّتها.

ودعوى:(1) أنّه من استصحاب المفهوم المردد لا تقدح لما حقّقناه في الاُصول من جريانه.(2)

المورد الثالث: هل يختصّ الحكم بالمشي، أم يعمّ المسح، كما هو المشهور؟

أم يكفي مجرّد المماسّة من دون مسحٍ أو مشي ؟ وجوهٌ وأقوال:

أقواها الثاني لحسن الحلبي، وصحيح زرارة المتقدّمين، لأنّ ظاهر الأوّل اعتبار المشي، وظاهر الثاني اعتبار المسح، والجمع بينهما يقتضي البناء على كفاية أحدهما، وعدم كفاية غيرهما.

واستدلّ للأخير: بإطلاق العلّة المنصوصة.

وفيه: مضافاً إلى ما عرفت من إجمالها في نفسها، أنّه لو سُلّم ظهورها في أحد المعاني المتقدّمة، لا إطلاق لها من جهة الكيفيّة، كي يُتمسّك به، فلاحظ.

نعم، يمكن أن يقال إنّ ضمّ المشي إلى المسح، يوجبُ القطع بكفاية مطلق المماسّة، إذ بقرينة الارتكاز العرفي لا يُحتمل مدخليّة انتقال البَدَن من محلٍّ إلى محلٍّ آخر في حصول الطهارة.

أقول: ثمّ إنّه على المشهور:

هل يكفي مُسمّى المسح، أو المشي كما هو المشهور شهرة عظيمة ؟

أم يعتبر المشي خَمَسة عشر ذراعاً كما عن ابن الجُنيد(3)؟ وجهان:

قد استدلّ للثاني: بصحيح الأحول المتقدّم.3.

ص: 345


1- مستمسك العروة: ج 4/378.
2- فقه الصادق: ج 5/390.
3- نسبه إليه في ذخيرة المعاد: ج 1/173.

وفيه: إنّه لو سُلّم ظهوره في ذلك، مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً، إذ الظاهر منه بقرينة قوله عليه السلام: (أو نحو ذلك) أنّ هذا المقدار من المشي يوجبُ زوال عين النجاسة، تعيّن حمله على ذلك أو الاستحباب لقوّة ظهور صحيح زرارة في كفاية مسمّى المسح. لاحظ قوله عليه السلام: (ولكنّه يمسحها حتّى يذهب أثرها).

وعليه، فإنْ كان للنجاسة جِرْمٌ يعتبر المسح أو المشي حتّى يذهب الأثر - أي العين - وإلّا كفى مجرّد المسح بل المماسّة.

المورد الرابع: الأقوى عدم كفاية مسح الأجزاء الأرضيّة، إذا انفصلت عنها، كما لو أخذ حَجَراً ومسح به رجله، لأنّ :

ظاهر قوله عليه السلام في صحيح زرارة: (لكنّه يمسحها) اعتبار مسح الرِّجل بالأرض، وعدم كفاية مسح الأرض بالرِّجل.

ولأنّ ظاهر قوله عليه السلام في حسن الحلبي: (أليس تمشي بعد ذلك في أرضٍ يابسة) اعتبار أمرين: المشي، وكونه على الأرض.

ولأجل الأدلّة الاُخر صرفناه عن ظاهره بالنسبة إلى القيد الأوّل، وحيثُ لا صارف له عن ظهوره بالنسبة إلى الثاني، فلا وجه لرفع اليد عنه.

وعليه، فما عن ظاهر «كاشف الغطاء»(1) وغيره من كفاية مسح الأرض بالرِّجل، ضعيفٌ .

المورد الخامس: هل يعتبر جفاف الأرض التي يمشي عليها، كما عن ابن الجُنيد(2) والمحقّق(3) وجماعة من متأخّري الأصحاب.8.

ص: 346


1- كشف الغطاء: ج 1/181 (ط. ق)، قوله: (ماسحاً أو ممسوحاً أو متماسحين).
2- نسبه إليه في الحدائق: ج 5/458.
3- المعتبر: ج 1/448.

أم لا يعتبر ذلك، كما عن المصنّف رحمه الله في «النهاية»(1)، والشهيد في «الروضة»(2)، وغيرهما؟

وعلى الثاني: فهل يعتبر أن لا تكون ذات رطوبة مسرية، كما عن «الروض»(3) أم لا؟

وعلى الثاني: فهل يشترط عدم بلوغها مرتبة الوَحَل، كما عن المصنّف رحمه الله أم لا؟ وجوهٌ وأقوال:

أقول: أقواها الثاني؛ للتنصيص على اعتبار الجفاف واليبوسة في حسني المُعلّى والحَلَبي المتقدّمين.

ودعوى:(4) قُرب كون المراد بالجاف ما يقابل المبتل بما يسيل من الخنزير، وباليابسة ما يقابل الندية بالبول.

ممنوعة: إذ لا وجه للاعتناء بهذه الاحتمالات، في مقابل ظواهر النصوص، فبما أنّ ظاهرهما اعتبار اليبوسة والجفاف، فيقيّد بهما النصوص الاُخر المطلقة.

نعم، لا يبعد دعوى أنّ الظاهر من اعتبار اليبوسة أو الجفاف في الأرض ان الرطوبة اليسيرة غير المسرية، لا تضرّ كما يشير إليه ذكر الجفاف في أحدهما، واليبوسة في الآخر.

***0.

ص: 347


1- نهاية الاحكام: ج 1/291.
2- شرح اللّمعة: ج 1/312.
3- روض الجنان: ص 170، قوله: (واشترط بعض الأصحاب طهارتها لأنّ النّجس لا يطهّر غيره وجفافها... وهو حسن، نعم لا يقدح الرطوبة اليسيرة).
4- مستمسك العروة: ج 2/70.
اشتراط طهارة الأرض

المورد السادس: في اشتراط طهارة الأرض المطهّرة وجهان، بل قولان:

اختار أوّلهما الشهيد(1)، والإسكافي(2)، والكَرَكي(3).

واختار ثانيهما الشهيد الثاني رحمه الله(4)، بل ادّعى أنّ مقتضى إطلاق النّص والفتوى عدم الفرق بين الأرض الطاهرة وغيرها.

واستدلّ للأوّل بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره صاحب «الحدائق» رحمه الله(5) وهو قوله عليه السلام المرويّ بعدّة طرق، فيها الصحيح وغيره: «جُعِلَتْ ليَ الأرض مسجداً وطهوراً»(6).

بدعوى أنّ (الطهور) لغةً هو الطاهر المطهّر من الحَدَث والخَبَث.

وفيه: أنّه لايدلّ إلّاعلى ثبوت هذين الحكمين له، وأمّا كون أحدهما شرطاً للآخر فهو أجنبيٌ عن بيانه، مع أنّ كون (الطهور) بمعنى الطاهر المُطهّر، محلّ تأمّل ومنعٍ ، كما عرفت في أوّل الكتاب.

الوجه الثاني: القاعدة المتّفق عليها الفقهاء ظاهراً، وهي اعتبار سبق الطهارة في المطهّر.

ص: 348


1- الذكرى: ص 15 (ط. ق).
2- نسبه إليه في مستند الشيعة: ج 1/338.
3- جامع المقاصد: ج 1/179.
4- شرح اللّمعة: ج 1/312.
5- الحدائق: ج 5/457.
6- الفقيه: ج 240/1 ح 724، وسائل الشيعة: ج 350/3 ح 3839 و 3840 و 3841 و: ج 117/5 ح 6083 و 6086.

وفيه: إنّ دعوى الاتّفاق على هذه القاعدة، مع ذهاب جماعةٍ ، منهم الشهيد رحمه الله إلى خلافها لا تُسمع.

الوجه الثالث: قاعدة (الفاقد لا يُعطي)، بدعوى أنّها كما توجب دلالة ما دلَّ على مطهّريّة شيءٍ على اعتبار الطهارة في المُطهّر، كذلك توجب دلالته على نجاسة المنجّس، ولذلك استدلّ الفقهاء على نجاسة الأشياء بما دلَّ على نجاسة ملاقيها.

وفيه: إنّ الرجوع إلى المرتكزات العرفيّة في مثل هذا الحكم التعبّدي المحض، الذي لا سبيل للعرف إلى فهم ملاكه وحكمته، وليس ممّا عليه بنائهم، في غير محلّه، وقياس المقام باستفادة النجاسة من ما دلّ على نجاسة الملاقي مع الفارق، إذ في ذلك الباب إنّما تستفاد النجاسة بواسطة ما عُلم من الخارج أنّ غير النّجس لا ينجس، مضافاً إلى أنّ سراية النجاسة من الأعيان النجسة إلى ما يلاقيها من المرتكزات العرفيّة، فالرجوع إليهم في محلّه.

الوجه الرابع: صحيح الأحول المتقدّم، حيث أنّ الطهارة مذكورة في السؤال، فقوله عليه السلام: (لا بأس إذا كان خَمْسَة عَشَر ذراعاً) من جهة رجوع الضمير في (كان) إلى ما فرضه السائل، يستفاد منه اشتراط القيد المزبور.

وفيه: أنّ مجرّد عود الضمير إلى ما فرضه السائل، لا يدلّ على اعتبار جميع الخصوصيّات المذكورة في السؤال في الحكم.

الوجه الخامس: الإستقراء، فإنّ في جميع موارد التطهير بالماء وغيره اعتُبر طهارة المُطهّر.

وفيه: أنّ ذلك وإنْ كان يوجب الظنّ باعتبارها في المقام، إلّاأنّه لا يوجب القطع كي يصحّ الاعتماد عليه.

ص: 349

الوجه السادس: استصحاب النجاسة بعد المشي على الأرض النجسة.

وفيه: أنّه لا يرجع إليه مع وجود الإطلاق المقتضي لعدم الاعتبار.

فتحصّل: من مجموع ما ذكرناه أنّ الأقوى عدم اشتراطها.

المورد السابع: هل يقتصر في هذا الحكم على النجاسة الحاصلة بالمشي على الأرض النجسة ؟ أم يتعدّى إلى ما حصل من الخارج ؟ وجهان:

أقواهما الأوّل، لورود النصوص كلّها في النجاسة الحاصلة من المشي، فالتعدّي يحتاج إلى الدليل، وهو مفقودٌ.

وقوله عليه السلام في صحيح زرارة: «جَرَت السُنّة في أثر الغائط بثلاثة أحجار، أن يمسح العِجان ولا يَغسله، ويجوزُ أن يمسح رجليه، ولا يغسلهما»(1).

لو سُلّم وروده فيما نحن فيه - مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً، إذ يحتمل إرادة المسح في باب الوضوء منه - لا إطلاق له من هذه الجهة كي يُتمسّك به.

المورد الثامن: الأقوى طهارة الأجزاء الأرضيّة اللّاصقة بالنّعل والقَدَم بتبعهما، وكذلك كل ما يكون وصول النجاسة إليه غالبيّاً كحواشيهما، لإطلاق الأدلّة، لأنّها بالالتزام العرفي تدلّ على طهارتها.

بل مقتضى صحيح زرارة(2) الوارد في الرِّجل التي تسيخُ في العَذَرة، طهارة ما بين أصابع الرِّجل، لوصولها إليه غالباً، وهو ظاهرٌ في طهارة الجميع بالمشي.

***1.

ص: 350


1- التهذيب: ج 1/46 ح 68، وسائل الشيعة: ج 1/348 ح 924.
2- وسائل الشيعة: ج 3/458 ح 4171.
عَدّ اُمور اُخر في عِداد المطهّرات عند المشهور
الأوّل الإستحالة
اشارة

المشهور بين الأصحاب عَدّ اُمور اُخر في عِداد المطهّرات، فلابدَّ من التنبيه عليها، ولم يذكرها المصنّف من جهة أنّها ليست بأنفسها رافعة للنجاسة، كما ستعرف. وكيف كان فهي اُمور:

الأمر الأوّل: الاستحالة.

أقول: والكلام فيها يتمّ برسم اُمور:

الأوّل: لا خلاف في أنّ الموضوع للنجاسة إذا استحال إلى مغايره عرفاً، يحكم بطهارته، وما وقع فيه الخلاف بين العلماء في بعض الموارد، إنّما هو في استحالة الموضوع وعدمها، ولذا ترى اتّفاق الفقهاء على طهارة العلقة بصيرورتها حيواناً، والماء النّجس بصيرورته نباتاً، والنجاسات بصيرورتها دخاناً أو رماداً، فإنّ الظاهر تسالمهم - ولو بواسطة ما دلّ على طهارة الاُمور المذكورة - على استحالة الموضوع في هذه الموارد.

وهذا هو ملاك تفصيل المصنّف رحمه الله(1) بين صيرورة الخنزير مِلْحاً، والعَذَرة تراباً، حيث حكم بنجاسة الأوّل، وطهارة الثاني، بدعوى أنّ النجاسة في الأوّل قائمة بالأجزاء، فلا تزول بتغيّر الصّفات، وأمّا في الثاني فيستفاد من قوله عليه السلام:

(جُعِلت لي الأرضُ مسجداً وترابها طهوراً) أنّ موضوع النجاسة عنوان العَذَرة، فمحلّ الخلاف بين الأعلام ينحصر في تعيين موضوع النجاسة.

الثاني: نُسب إلى الأُصوليّين(2) تعريف الاستحالة: ب (تبدّل حقيقة الشيء وصورته النوعيّة إلى صورةٍ اُخرى )، ونُسب إلى الفقهاء(3) تفسيرها: ب (تغيّر

ص: 351


1- إرشاد الأذهان: ج 2/87.
2- مستمسك العروة: ج 2/87 ونسبه إلى الشهيد في محكي حواشيه على القواعد.
3- العروة الوثقى (ط. ق): ج 1/132.

الأجزاء وانقلابها من حالٍ إلى حال)، وربما فُسِّرت بتفاسيرٍ اُخر، وحيثُ أنّ الاستحالة لم تؤخذ في الدليل موضوعة للحكم، فلا وجه لإطالة الكلام في بيان حقيقتها، ووقوعها في بعض معاقد الإجماعات المعتدّ بها، لا يوجب صيرورتها موضوعة للحكم، بعد عدم كون الإجماع إجماعاً تعبّديّاً. ولكنّك ستعرف أنّ ما دلّ الدليل على مطهّريّته، هو ما ينطبق عليه ما عرفه الأُصوليّون.

الثالث: الظاهر أنّه لا خلاف في أنّ الاستحالة بالنّار رماداً أو دخاناً مطهّرة، بل عن الشيخ في «الخلاف»(1) و «المبسوط»، والحِلّي(2)، والمحقّق(3)، والمصنّف في جملةٍ من كتبه(3) وغيرهم دعوى الإجماع على مطهّريّتها.

واستدلّ الشيخ لها(4): بالإجماع، وبصحيح ابن محبوب، قال:

«سأل أبا الحسن عليه السلام عن الجِصّ يُوقد عليه بالعَذَرة، وعظام الموتى ، ويُجصّص به المسجد، أيسجد عليه ؟

فكتب إليه بخطّه: إنّ الماء والنّار قد طهّراه»(5).

وأورد المحقّق(7) على الاستدلال به: بأنّ الماء الذي يُمازج الجِصّ هو ما يبتلّ به، وذلك لا يطهر إجماعاً، والنّار لم تصيّره رماداً.

وفيه: إنّ العلّة المذكورة وإنْ كانت مجملة، إلّاأنّ دلالة الصحيح على طهارة الرّماد والدخان لا تُنكر، إذ الجِصّ الذي يوقد عليه بالعَذَرة وعظام الموتى ، لا ينفكّ من أن يتخلّف فيه شيءٌ من الرّماد، ومن أن يصيبه الدخان حال الإيقاد، فلو لم6.

ص: 352


1- الخلاف: ج 1/499.
2- السرائر: ج 1/89. (3و7) المعتبر: ج 1/451 و 452.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/8.
4- الخلاف: ج 1/500.
5- الكافي: ج 3/330 ح 3، وسائل الشيعة: ج 3/527 ح 4366.

يكن الرّماد أو الدُخَان طاهرين، لزم نجاسة الجِصّ بوصول الماء إليه، فالحكم بطهارته دليلٌ على مطهّريّة الاستحالة.

ويشهد لها: - مضافاً إلى ذلك - ما دلّ على طهارة المستحال إليه، بعد عدم شمول ما دلّ على نجاسة الأعيان النجسة له، لأنّه بنظر العرف غير ما حكم بنجاسته، وهو قد انعدم، وهذا شيءٌ آخر.

وعلى فرض التنزّل، وتسليم الشكّ في شمول ما حُكم بنجاسته له، من جهة احتمال كون معروض النجاسة، هو ما يشمل المستحال اليه، يتعيّن الرجوع إلى قاعدة الطهارة.

أمّا استصحاب النجاسة فلا مجال لجريانه لوجهين:

الأوّل: تعدّد الموضوع عرفاً.

الثاني: عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة، لكونه محكوماً لاستصحاب عدم الجَعل، كما أشرنا إليه في هذا الشرح غير مرّة.

وبالجملة: بما ذكرناه ظهر أنّ الاستحالة موجبة لحصول الطهارة، ولو كانت بغير النّار. فما عن المصنّف رحمه الله(1) والمحقّق(2) وغيرهما من نجاسة الخنزير إذا صار مِلْحاً، بوقوعه في المملحة ضعيفٌ ، إذ لا وجه لها سوى الاستصحاب الذي عرفت حاله. ونظيره في الضعف ما عن «المبسوط»(3) من نجاسة العَذَرة إذا صارت تراباً.

***0.

ص: 353


1- قواعد الأحكام: ج 1/195.
2- المعتبر: ج 1/451.
3- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 6/280.
استحالة المتنجّس

الأمر الرابع: نسب إلى جماعة من المتأخّرين تبعاً للفاضل الهندي(1) التفصيل بين استحالة نجس العين والمتنجّس، فحكموا بطهارة الأوّل، وبقاء نجاسة الثاني.

واستدلّوا له:

1 - بأنّ موضوع النجاسة في المتنجّس هو الملاقي للنجس، وهو الجسم بلا دخل للصّور النوعيّة فيها، وبعد الاستحالة يكون الموضوع باقياً، فدعواهم في الحقيقة هي أنّه لم يستحل الموضوع وإنّما المستحال هو ما لا يكون دخيلاً في الموضوع.

2 - وباستصحاب النجاسة.

وقد أجاب عن الأوّل: الشيخ الأعظم رحمه الله(2) بأنّه وإنْ اشتهر في الفتاوي أنّ كلّ جسمٍ لاقى نجساً مع رطوبة أحدهما فهو نجسٌ ، إلّاأنّ الظاهر أنّ التعبير بالجسم إنما يكون لبيان شمول الحكم لجميع الأجسام الملاقية، لا لبيان معروض النجاسة، فإذا لا يُعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة، مع أنّه لو سُلّم ظهور معقد الإجماع في تقوم النجاسة بالجسم، فحيثُ أنّ مستند هذا العموم، هو الأدلّة الخاصّة الواردة في الأشخاص الخاصّة كالثوب ونحوه، فاستفادة الكبرى الكليّة منها ليست إلّامن حيث عنوان حدوث النجاسة لا ما يتقوّم به.

وفيه: أنّ المستفاد من النصوص الخاصّة الواردة في الأنواع على اختلافها، ثبوت الحكم لجميع الأنواع، للعلم بعدم الخصوصيّة للموارد المذكورة في الأدلّة، ولذا لا يتوقّف في الحكم بنجاسة ما لاقى نجساً ولم يُذكر في الأدلّة، ولازم ذلك عدم

ص: 354


1- ذكره في مصباح الفقيه ج 1 ق 2 ص 633.
2- نسبه إليه في مصباح الفقيه: ج 1/633 ق 2.

دخل شيءٍ من الخصوصيّات في الحكم، لا دخل كلّ خصوصيّةٍ فيه، مع أنّه وإنْ لم يرد في النصوص (كلّ جسمٍ لاقى مع النّجس ينجس)، إلّاأنّه ورد فيها ما يرادف هذه الجملة، وهو قوله عليه السلام في موثّق عمّار:

«في الرَّجل يجدُ في إنائه فأرة ؟ قال: إنْ كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه، ثمّ يفعل ذلك بعدما رآها، فعليه أن يغسل ثيابه، ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء»(1). ونحوه غيره.

فالصحيح في الجواب عنه أن يقال: إنّ موضوع الحكم هو الفرد الخارجي، أي ما يُحمل عليه اسم الجسم بالحمل الشائع، وعليه فإذا حكم بنجاسة فردٍ ثمّ استحال ذلك الفرد إلى فردٍ آخر.

وبعبارة اُخرى: إذا انعدم ذلك الفرد ووُجِد فردٌ آخر بنظر العرف، فإنّه لا وجه للحكم بنجاسة المستحال إليه، لعدم الدليل على نجاسته، إذ ما لاقى نجساً قد انعدم، وهذا الموجود لم يلاق مع النّجس.

وأمّا الوجه الثاني فيرد عليه: أنّ المعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع بنظر العرف، لا بحسب لسان الدليل، كما حُقّق في محلّه، وحيث أنّ الاستحالة توجب تعدّد الموضوع، بحيث لو حكم بطهارة المستحال إليه لا يراه العرف نقضاً لليقين، فلا يجري الاستصحاب.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم الفرق بين النّجس والمتنجّس، في أنّ الاستحالة توجب طهارتهما.

وأخيراً: ظهر ممّا ذكرناه أنّ المراد من مطهّريّة الإستحالة، ليس كونها من المطهّرات الحقيقيّة، بل المراد كونها موجبة لارتفاع موضوع النجاسة.

***0.

ص: 355


1- الفقيه: ج 1/20 ح 26، وسائل الشيعة: ج 1/142 ح 350.
العجين المعجون بالماء النّجس

الأمر الخامس: العجين المعجون بالماء النّجس لو خُبز لا يطهر، كما هو المشهور شهرة عظيمة(1).

بل يمكن دعوى الإجماع عليه، إذ لم يُنقل الخلاف إلّاعن الشيخ في «النهاية»(2) و «الاستبصار»(3)، وعن ظاهر «الفقيه»(4) و «المقنع»(5).

أقول: أمّا «النهاية» فليست من الكتب المعدّة للفتوى ، بل هي متون أخبار، مع أنّ المحكي عن أطعمتها الجزم أوّلاً بعدم جواز أكل الخُبز المعجون بالماء النّجس. ثمّ قال: (وقد رُويت رخصة جواز أكله، وذلك أنّ النّار قد طهّرته، والأحوط ما قدّمناه)(6).

وأمّا المذكور في «الاستبصار»(7): فقد احتمل قدس سره اختصاص ذلك بالمعجون بماء البئر المتنجّس لا بالتغيّر، ومراد الأخيرين أيضاً ذلك، إذ ليس فيهما إلّاجواز أكل الخبز ممّا عُجن من ماء بئر وقع فيه شيءٌ من الدّواب فماتت، فإذاً دعوى الإجماع

ص: 356


1- راجع المعتبر: ج 1/453، قواعد الأحكام: ج 1/190، إيضاح الفوائد: ج 1/25.
2- النهاية: ص 8.
3- الاستبصار: ج 1/29 باب 15 من أبواب المياه وأحكامها ح 1 وفيه: (إذا أصابته النّار فلا باس بأكله)، و ح 2 وفيه: (لا بأس أكلت النّار ما فيه).
4- من لا يحضره الفقيه: ج 1/14، قوله: (فلا بأس بأكل ذلك الخبز إذا أصابته النّار)، ثمّ قال: (وقال الصادق عليه السلام أكلت النّار ما فيه).
5- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 2/94.
6- النهاية: ص 59.
7- الاستبصار: ج 1/29 باب 15 من أبواب المياه وأحكامها ح 1-2.

على النجاسة في محلّها.

ويشهد لها: - مضافاً إلى ذلك - صحيح ابن أبي عُمير عن بعض أصحابه - بل قال: ما أحسبه إلّاحفص بن البُختري - عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في العجين يُعجن من الماء النّجس، كيف يُصنع به ؟ قال عليه السلام: يُباع ممّن يستحلّ الميتة»(1).

وفي مرسله(2) الآخر، عنه عليه السلام: «إنّه يُدفن ولا يُباع».

وخبر زكريّا: «قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: فخمرٌ أو نبيذ قطرَ في عجينٍ أو دم ؟ فقال: فَسَد»(1).

أقول: والمناقشة في سندها في غير محلّها، لحجيّة المرسل، إذا كان المرسل من مثل ابن أبي عُمير الذي مراسيله كالمسانيد، بل هو على ما قيل: (ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه)، وأنّه (لا يروي إلّاعن ثقة).

وأضعف منها المناقشة في دلالتها، إذ مضافاً إلى أنّ الظاهر منها إرادة البيع بعدما صار خُبزاً، أنّه لو كان يطهر بالخبز كان له عليه السلام بيان ذلك.

نعم، يعارضها صحيحٌ آخر رواه ابن أبي عُمير أيضاً عنه عليه السلام:

«في عجينٍ عُجن وخُبز ثمّ عُلم أنّ الماء كان فيه الميته ؟

قال عليه السلام: لا بأس أكلت النّار ما فيه»(2).

وخبر الزبيري: «عن البئر تقع فيها الفأرة أو غيرها من الدّواب فتموت،9.

ص: 357


1- الكافي: ج 6/422 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/470 ح 4204.
2- التهذيب: ج 1/414 ح 23، وسائل الشيعة: ج 1/175 ح 439.

فيُعجن من مائها، أيُؤكل ذلك الخبز؟ قال عليه السلام: إذا أصابته النّار فلا بأس بأكله»(1).

أقول: ولكن الثاني منهما أجنبيٌ عن المقام، بناءً على المختار من عدم نجاسة البئر بملاقاتها مع النجاسة، وإنّما تحدث فيها مرتبة من القذارة، فإنّه حينئذٍ يدلّ على أنّ إصابة النّار تكون كنزحِ مقدارٍ معيّن من مائها، رافعة لتلك المرتبة من القذارة.

وأمّا الأوّل فلإعراض الأصحاب عنه، ومعارضته مع صحيحيه المتقدّمين، غير القابلين للحمل على الكراهة، يتعيّن طرحه، أو حمله على إرادة ماء البئر منه أيضاً.

***8.

ص: 358


1- التهذيب: ج 1/413 ح 22، وسائل الشيعة: ج 1/175 ح 438.
صيرورة الطين آجراً

الأمر السادس: الطين النّجس إذا صار آجراً أو خزفاً:

فهل يصبح طاهراً كما عن الشيخ في «الخلاف»(1)، والمصنّف في بعض كتبه(2)، والشهيد(3)، وصاحب «المعالم»(4)؟

أم يكون باقياً على نجاسته، كما عن «المسالك»(5) و «الروضة»(6)و «الإيضاح»(7)؟

أم يتوقّف في الحكم، كما عن المحقّق في «المعتبر»(8)، والمصنّف في موضعٍ من «المنتهى»(9)؟ وجوه:

قد استدلّ للأوّل:

1 - بالإجماع.

2 - وبصحيح الحسن بن محبوب المتقدّم.

3 - وبأصالة الطهارة.

أقول: وفي الجميع نظر:

ص: 359


1- الخلاف: ج 1/499.
2- نهاية الاحكام: ج 1/291.
3- البيان ص 92.
4- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/212.
5- مسالك الأفهام: ج 1/130، قوله: (وتطهّر النّار ما أحالته رماداً أو دخاناً، لا فحماً وآجراً وخزفاً).
6- شرح اللّمعة: ج 1/67.
7- إيضاح الفوائد: ج 1/31-32.
8- المعتبر: ج 1/452.
9- مننتهى المطلب: ج 1/179 (ط. ق).

أمّا الأوّل: فواضحٌ .

وأمّا الصحيح: فقد مرّ أنّه يدلّ على طهارة العَذَرة المستحالة إلى الرّماد أو الدخان.

وأمّا الأصل: فلكونه محكوماً لاستصحاب النجاسة، لبقاء الموضوع عرفاً.

ودعوى:(1) عدم جريانه إمّا لأنّ عمدة المستند للحكم بالنجاسة بعد زوال العين هو الإجماع، والاستصحاب لايجري في مثل المقام، أو لكون الشكّ في بقاء النجاسة من قبيل الشكّ في المقتضى.

مندفعة: بأنّ الاستصحاب يجري حتّى فيما كان الدليل المُثبت للمستصحب هو الإجماع، كما حُقّق في محلّه.

وأيضاً: لا فرق في جريانه بين موارد الشكّ في المقتضي، والشكّ في الرافع.

نعم، بناءً على ما هو الحقّ من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة، لكونه محكوماً لاستصحاب عدم الجعل، لا يجري في المقام استصحاب النجاسة، فمع الشكّ في بقائها يتعيّن الرجوع إلى قاعدة الطهارة.

وما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله(2): من أنّ الطهارة الخَبَثيّة وما يقابلها من الاُمور التي إذا وجدت بأسبابها، لا يشكّ في بقائها، إلّامن قبل الشكّ في الرافع، لا من قِبل الشكّ في مقدار تأثير أسبابها، فلا أصل، لأصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد صيرورة الطين آجراً مثلاً.

غير تامّ : إذ النجاسة والطهارة من الأحكام الشرعيّة، كما عرفت في أوّل هذ0.

ص: 360


1- مستمسك العروة: ج 2/88.
2- لعلّ المراد به السبزواري الخراساني في «ذخيرة المعاد» كما قد يظهر من الحدائق الناضرة: ج 5/440.

الباب، فتكونان ممّا أمره بيد الشارع، فإذا لم يُعلم جَعل النجاسة بعد صيرورة الطين آجراً، فلا محالة يكون المرجع أصالة عدم الجعل.

وبعبارة اُخرى: لو كانت النجاسة من الاُمور الواقعيّة الّتي كشف عنها الشارع، كان ما ذكره قدس سره وجيهاً، ولكن بما أنّها من الاُمور الإعتباريّة، فلا محالة تكون نسبتها إلى أسبابها، نسبة الحكم إلى الموضوع، لا نسبة الأثر إلى المؤثّر حتّى تكون مؤثّرة في بقائها أيضاً.

وعليه، فيكون الشكّ في بقاء النجاسة مسبّباً عن الشكّ في كيفيّة الجعل، وحيثُ أنّ الجعل بنحوٍ يكون باقياً بعد صيرورته آجراً مسبوقٌ بالعدم، فيجري استصحاب عدم الجعل، ويترتّب عليه عدم النجاسة.

فإنْ قلت: إنّ ما ذُكر متين، فيما إذا كان الشكّ في بقاء النجاسة مسبّباً عن الشكّ في كيفيّة الجعل، وأمّا إذا كان الجعل معلوماً، فلا مورد لجريان أصالة العدم، والمقام كذلك، إذ المعلوم من الشريعة أنّ كلّ جسمٍ لاقى نجساً ينجس، وأنّه لا يطهر إلّا بمطهّرٍ أو بارتفاع موضوع النجاسة.

قلت: إنّ لازم ذلك عدم الشكّ في الحكم في المقام، لعدم الشكّ في الموضوع، لا من ناحية المفهوم ولا من ناحية الاُمور الخارجيّة، وعلى ذلك فالشّك في بقاء النجاسة لو كان، لا منشأ له سوى عدم معلوميّة كيفيّة الجعل، فتدبّر فإنّه دقيق.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول بالطهارة.

***

الأمر السابع: إذا شُكّ في الإستحالة، يحكم بالطهارة لقاعدتها، لعدم جريان الاستصحاب لا في الحكم - للشكّ في بقاء موضوعه - ولا في الموضوع، أي نفس العنوان الذي رتب عليه الحكم، مثل كونه كلباً، لأنّه على فرض الاستحالة يكون

ص: 361

ما اُحيل إليه غير ما اُحيل منه.

وما كان متّصفاً بهذا العنوان سابقاً هو الثاني، وما اُريد إثباته له في الزمان اللّاحق هو الأوّل.

وبالجملة: احتمال تحقّق الاستحالة الموجبة لتبدّل الموضوع، مانعٌ عن جريان الاستصحاب.

نعم، استصحاب بقاء ذلك العنوان بنحو مفاد كان التامّة، يجري إذا ترتّب عليه الأثر، لكنّه لا يثبت اتّصاف الموجود الخارجي به.

***

ص: 362

الثاني: مطهّريّة الانقلاب

المطهّر الثاني: الانقلاب، فإذا انقلب الخَمُر خلّاً، فلا خلاف في طهارته في الجملة.

بل عن «المنتهى»(1) نسبة القول بها إلى علماء الإسلام.

وتشهد لها: جملةٌ من النصوص:

منها: مصحّح عبد العزيز بن المُهتَدي، قال:

«كتبتُ إلى الرضا عليه السلام: جُعلت فداك، العصير يصيرُ خمراً فيصبّ عليه الخَلّ وشيءٌ يغيّره حتّى يصير خَلّاً؟ قال عليه السلام: لا بأس»(2).

ومنها: موثّق عبيد بن زرارة: «في الرجل إذا باع عصيراً فحبسه السلطان حتّى صار خمراً، فجعله صاحبه خَلّاً؟ فقال: إذا تحوّل عن اسم الخمر فلا بأس»(3).

ومنها: مصحّح زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الخمر العتيقة تُجعل خلّاً؟

قال عليه السلام: لا بأس»(4). ونحوها غيرها(5).

أقول: وإنّما الكلام يقع في مواضع:

الموضع الأوّل: هل هذا الحكم يختصُّ بما إذا انقلبَ الخَمرُ خلّاً بنفسه، أم يعمّ ما إذا كان ذلك بعلاج ؟

ص: 363


1- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/167.
2- التهذيب: ج 9/118 ح 244، وسائل الشيعة: ج 25/372 ح 32155.
3- التهذيب: ج 9/117 ح 242، وسائل الشيعة: ج 25/371 ح 32152.
4- الكافي: ج 6/428 ح 2 / وسائل الشيعة: ج 3/524 ح 4359 و ج 25/277 ح 31904.
5- وسائل الشيعة: ج 3/524 باب 77 وج 25/277 باب 33 وص 370 أيضاً باب 31.

وجهان، ثانيهما المشهور بين الأصحاب(1)، بل عن «المنتهى»(2): نسبته إلى علمائنا.

ويشهد له: - مضافاً إلى إطلاق جملةٍ من النصوص كموثّق عبيد ومصحّح زرارة المتقدّمين - مصحّح ابن المهتدي المتقدّم.

وما عن «مستطرفات السرائر»، عن «جامع البزنطي»، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الخمر يُعالج بالملح وغيره ليحوّل خَلّاً؟ قال عليه السلام: لا بأس»(3).

ونحوهما غيرهما(4).

نعم، هنا أخبارٌ تدلّ على المنع:

منها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الخمر يُجعل فيها الخَلّ؟ فقال عليه السلام: لا، إلّاما جاء من قبل نفسه»(5).

ومنها: خبره الآخر عنه عليه السلام: «عن الخمر يُجعل خَلّاً؟ قال عليه السلام: لا بأس إذا لم يجعل فيها ما يقلبها»(6).

ومنها: ما عن «العيون» عن عليّ عليه السلام: «كلوا من الخَمر ما انفسد، ولا تأكلوا ما أفسدتموه أنتم»(7).).

ص: 364


1- راجع المقنعة: ص 581، الإنتصار: ص 422.
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/167.
3- بحار الأنوار: ج 63/524 ح 4، وج 76/179 ح 4.
4- بحار الأنوار: ج 63/524 باب انقلاب الخمر خَلّاً، و ج 76/178 باب أحكام الخمر وانقلابها.
5- التهذيب: ج 9/118 ح 245، وسائل الشيعة: ج 25/371 ح 32154.
6- الكافي: ج 6/428 ح 4، وسائل الشيعة: ج 3/525 ح 4361 و ج 25/271 ح 32151.
7- عيون أخبار الرضا: ج 2/40 ح 127، وسائل الشيعة: ج 25/25 ح 31058 وفيه: (كلوا خَلّ الخمر ما فسد، ولا تأكلوا ما أفسدتموه أنتم).

ولكن يتعيّن حملها على الكراهة، جمعاً بينها وبين ما تقدّم، ممّا هو صريحٌ في الجواز.

الموضع الثاني: نُسب إلى المشهور(1): عدم الفرق في العلاج بين أن يكون بما يستهلك في الخمر قبل التخليل، وبين ما يبقى بعده.

وعن «المجمع»(2) و «الكفاية»(3) نسبة المنع إلى القيل، والظاهر أنّ المراد منه ابن إدريس.

وعن المقدّس الأردبيلي(4) والمحقّق السبزواري(5) وشارح «الروضة»(6):

التردّد فيه.

واستدلّ للمنع: بأنّ المعالج به يتنجّس بالخمر، ولا دليل على طهارته بالانقلاب، لإختصاص الدليل بالخمر نفسها.

وفيه: إنّ مقتضى إطلاق النصوص الدالّة على طهارة الخمر بالانقلاب إذا كان بعلاجٍ ، هو الطهارة حتّى فيما إذا لم يستهلك.

والتفصيل: بين ما إذا كان الباقي بعد الانقلاب من الجوامد، وبين ما إذا كان من المائعات، والقول بالطهارة في الأوّل وعدمها في الثاني، كما اختاره بعض أعاظم المحقّقين(5) مستدلّاً بأنّ الباقي إذا كان من الجوامد، يكون بنظر العرف نجاسته تابعة لنجاستها، ولا يرون له أثراً خاصّاً، وأمّا إذا كان من المائعات، فيرونه بعد الاتّصال2.

ص: 365


1- جواهر الكلام: ج 6/286.
2- مجمع الفائدة: ج 11/294.
3- كفاية الأحكام: ص 253.
4- مجمع الفائدة: ج 11/294. (5و6) نسبه إليه الشيخ في كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/386.
5- مصباح الفقيه: ج 1/636 ق 2.

بالنجس كعين النّجس مستقلّاً بالأثر، فالحكم بالتبعيّة لا يخلو عن إشكال.

في غير محلّه: لأنّ مقتضى إطلاق النصوص - لا سيّما خبر أبي بصير المتقدّم - هو الطهارة في الثاني أيضاً.

ودعوى: انصرافها إلى ما إذا استهلك المعالج به، كما ترى .

الموضع الثالث: إذا لاقى الخمر نجاسة خارجيّة:

فعن جماعةٍ (1): عدم طهارتها بالانقلاب.

وعن آخرين(2): طهارتها به، ومبنى هذا الحكم - على ما عن «المنتهى»(3) - قبول النجاسة للمضاعفة وعدمه، إذ على الأوّل يتعيّن القول بالعدم، لأنّه لا دليل على ارتفاع النجاسة الخارجيّة بالانقلاب، لاختصاص النصوص بالنجاسة الخمريّة، وقد تقدّم تنقيح المبنى في مبحث تنجّس المتنجّس، فراجع.(4)

الموضع الرابع: إذا تنجّس العصير بملاقاة الخمر، ثمّ انقلب خمراً، ثمّ انقلب خَلّاً، فقد استشكل الشيخ الأعظم رحمه الله في طهارته(5) بدعوى أنّه لا مانع من قيام التنجّس بجسم الخمر من حيث هو جسم، والنجاسة بالنوع من حيث أنّه نوع.

وفيه: بما أنّ النجاسة كسائر الأحكام الشرعيّة يكون موضوعها الأفراد الخارجيّة لا الطبيعيّة من حيث هي، وما تنطبق عليه الطبيعة الجنسيّة، والطبيعة النوعيّة في المقام هو موجودٌ واحدٌ، وشيءٌ فارد، فيلزم من ذلك اجتماع حكمين مثليين في محلٍّ واحد.

فالصحيح أن يقال: إنّ الأقوى هو الحكم بالطهارة، وذلك لأنّ ما دلّ على6.

ص: 366


1- قواعد الأحكام: ج 1/195، إيضاح الفوائد: ج 1/30، المهذّب البارع: ج 4/240.
2- مجمع الفائدة: ج 11/295، كشف اللّثام (ط. ق): ج 1/58.
3- منتهى المطلب (ط. ق): ج 3/219-221.
4- صفحة 177 من هذا المجلّد.
5- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/386.

طهارة الخمر بالانقلاب، يدلّ بإطلاقه على أنّ النجاسة الخمريّة ترتفع به، من غير فرقٍ بين العَرَضيّة والذاتيّة.

هذا فضلاً عن أنّ دعوى(1) صيرورة العَرَضيّة ذاتيّة بصيرورته خمراً قريبة جدّاً، إذ لا سبيل إلى القول بأنّه حين ما صار خمراً لم ينجّس، لتنجّسه قبله بملاقاة الخمر، ولا إلى القول بتكرّر النجاسة فيه ولو بنحو التأكّد، إذ النجاسة الواحدة بالصنف لا تقبل التكرّر، فيتعيّن القول بالتبدّل.

الموضع الخامس: إذا صبّ في الخمر ما أوجب انقلابها إلى غيرالخَلّ ، بأن زال سكرها ولم تصبح خَلّاً فهل تطهر أم لا؟ وجهان:

يشهد للأوّل:

1 - إطلاق خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «الخمر يكون أوّله خمراً ثمّ يصير خَلّاً؟

قال عليه السلام: إذا ذهب سُكره فلا بأس»(2).

2 - وإطلاق قوله عليه السلام في موثّق عبيد المتقدّم: «إذا تحوّل عن اسم الخمر، فلا بأس».

أقول: ولكن الذي يوجب التوقّف في الإفتاء، عدم إفتاء الأساطين بذلك.

الموضع السادس: إذا وقع شيءٌ من الخمر في الخَلّ ، واستهلكت فيه، أو صار الخمر خَلّاً:

فهل يطهر الجميع كما عن الشيخ في «النهاية»(3)؟3.

ص: 367


1- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/386.
2- وسائل الشيعة: ج 25/372 ح 32156.
3- النهاية: ص 592-593.

أم لا كما عن الحِلّي(1) دعوى الإجماع عليه ؟ وجهان:

أقول: أمّا في صورة الاستهلاك، فلا وجه للطهارة، لأنّ الخَلّ بعد وقوع الخمر فيه صار نجساً، ولا دليل على الطهارة بعد ذلك.

ودعوى:(2) أنّه يدلّ عليها ما دلّ على طهارة الخمر بالانقلاب، وعلامة صيرروته خَلّاً صيرورة الخمر الخارجيّة الباقية بعد صبّ مقدارٍ منها في الخَلّ خلّاً.

مندفعة: بأنّه على فرض الاستهلاك لا تكون الخمر باقيةً حتّى يصحّ أن يقال إنّها طهرت بصيرورتها خَلّاً وبتبعها طهر الخَلّ .

وأمّا في صورة عدم الاستهلاك، وانقلاب الخمر، فلا يبعد القول بالطهارة، إذ الخمر تطهر بانقلابها خَلّاً، والخَلّ المتنجّس حكمه حكم المعالج به، الذي عرفت أنّه يطهر بتبع طهارة الخمر، من غير فرقٍ بين كونه من الجوامد أو المائعات.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ ما دلّ على طهارة المعالج به أيضاً إنّما يدلّ عليها إذا عُدَّ ذلك من توابع المستحيل، لافي مثل المقام.

وعليه، فالأقوى عدم الطهارة مطلقاً.

***1.

ص: 368


1- السرائر: ج 3/133.
2- مستمسك العروة: ج 2/101.
الثالث: ذهاب الثُّلثين

المطهّر الثالث: ذهاب الثلثين في العصير العنبي.

أقول: قد عرفت في ذلك المبحث أنّ العصير العنبي ما لَم يَغل بنفسه لاينجس، ولو غَلى بنفسه ينجس، ولا يطهر بذهاب الثلثين، وإنّما ينحصر مطهره بالانقلاب.

فراجع ما ذكرناه.(1)

***

ص: 369


1- فقه الصادق: ج 5/134.
الرابع: الإنتقال

المطهّر الرابع: الانتقال؛ كانتقال دم الإنسان أو غيره ممّا له نفسٌ إلى جوف ما لا نفس له، بلا خلافٍ في مطهّريّته في الجملة.

وعن غير واحدٍ(1): دعوى الإجماع عليها.

وتنقيح القول فيه: إنّه إنْ كان الانتقال بنحوٍ يوجب استحالة المنتقل عنه، فلا ريب في مطهّريّته، لما تقدّم في الاستحالة، وإلّا كما لو تغذّى البقّ بدم إنسانٍ واستقرّ في جوفه قبل أن تحيله معدته إلى أجزائه:

فتارةً : لا يوجب الانتقال سلب إضافته إلى المنتقل عنه.

واُخرى : يوجب ذلك.

فعلى الأوّل:

1 - فإنْ كان لما دلّ على نجاسة دم الإنسان إطلاقٌ ، يكون هو المرجع، من غير فرقٍ بين صحّة إضافته إلى المنتقل إليه وعدمها.

ودعوى: أنّه إذا صحّت إضافته إلى المنتَقل إليه، يقع التعارض بين إطلاق ما دلّ على طهارة دم ذلك الحيوان، وبين إطلاق ما دلّ على نجاسة دم الإنسان، فيتساقطان، والمرجع إلى أصالة الطهارة.

مندفعة: بأنّه لا تعارض بينهما، إذ ما دلّ على طهارة دم البقّ مثلاً لا يدلّ على طهارته حتّى مع انطباق عنوانٍ آخرٍ عليه موجبٌ لنجاسته، إلّاأن يكون في مقام بيان الطهارة الفعليّة من جميع الجهات.

ص: 370


1- راجع المستند: ج 1/331.

2 - وإنْ لم يكن لما دلّ على نجاسة دم الإنسان إطلاقٌ ، واحتمل صيرورة الدّم طاهراً بمجرّد انتقال محلّه ومكانه، واستقراره في جوف ما لا نفس له، فيتعيّن الرجوع إلى قاعدة الطهارة، بناءً على ما هو الحقّ من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، حتّى في مثل الطهارة والنجاسة، كما أشرنا إليه في مبحث الاستحالة.(1)

ومن ذلك يظهر لزوم البناء على الطهارة، فيما إذا أوجب الانتقال سلب إضافته إلى المنتَقل عنه، من غير فرقٍ بين ثبوت الإطلاق لدليل نجاسة ما اُضيف إليه وعدمه، إذ إطلاق ذلك الدليل لا يشمله بعد سلب الإضافة، كما لا يخفى .

مع أنّ دعوى تبدّل الموضوع عرفاً في مثل الفرض قريبة.

وحكم ما لو شكّ في صحّة الإضافة، حكم ما لو علم بالصحّة، لاستصحاب بقاء الإضافة.

نعم، ورد نفي البأس بقولٍ مطلق في دم البقّ والبراغيث، في عددٍ من الأخبار:

منها: صحيح ابن أبي يعفور: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما تقول في دم البراغيث ؟ قال عليه السلام: ليس به بأس. قلت: إنّه يكثر ويتفاحش ؟ قال: وإنْ كثر»(2).

ومنها: مكاتبة محمّد بن الريّان، قال: «كتبتُ إلى الرجل: هل يجري دم البقّ مجرى دم البراغيث ؟ وهل يجوز لأحدٍ أن يقيس دم البق على دم البراغيث، فيُصلّي فيه، وأن يقيس على نحو هذا فيعمل به ؟

فوقّع عليه السلام: يجوز الصّلاة والطهر أفضل»(3)، ونحوهما غيرهما(4).د.

ص: 371


1- صفحة 351 من هذا المجلّد.
2- التهذيب: ج 1/255 ح 27، وسائل الشيعة: ج 3/435 ح 4089.
3- الكافي: ج 3/60 ح 9، وسائل الشيعة: ج 3/436 ح 4091.
4- وسائل الشيعة: ج 3/435 باب 23 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.

واحتمال عدم شمولها للدّم المجتمع في جوفها من تغذّيها بدم الإنسان كما ترى ، إذ هو المتيقّن إرادته من هذه النصوص.

هذا مضافاً إلى استقرار السيرة على عدم التجنّب عن مااستقرّ في جوفها من دم الإنسان، وعلى ذلك، فلا مورد للرجوع إلى عموم ما دلّ على نجاسة دم الإنسان أو غيره.

***

ص: 372

الخامس: مطهّريّة الإسلام

المطهّر الخامس: الإسلام: وهو مطهّرٌ لبدن الكافر، بلا خلافٍ ، بل إجماعاً كما عن «المنتهى»(1)، و «الذكرى»(2)، وغيرهما.

بل عن «المستند»(3)، و «الجواهر»(4): دعوى الضرورة على مطهّريّته في الجملة.

إنّما الكلام يقع في مواضع:

الموضع الأوّل: هل تطهر به رطوباته المتّصلة به، من بصاقه وعرقه وغيرهما من الرطوبات الكائنة على بدنه، كما هو المشهور، بل في «طهارة» شيخنا الأعظم رحمه الله(5): بغير إشكالٍ في الحكم المذكور، أم لا؟ وجهان:

أقواهما الأوّل، إذ لم يعهد أمرهم عليهم السلام بإزالة تلك الاُمور عن بدن مَن أسلم، مع أنّه لا يخلو بدنه عنها، بل المعهود عدمه، مع أنّ نجاستها حال الكفر كانت من جهة كونها أجزاء للكافر، وبعد الإسلام وتبدّل الموضوع، يتبدّل إضافتها أيضاً، وتصبح من أجزاء المسلم، فيحكم بطهارتها، فتأمّل.

نعم، المايعات النجسة أو المتنجّسة به لا تطهر به.

ص: 373


1- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 6/293.
2- ذكرى الشيعة: ج 1/131 قوله: (الحادي عشر: يطهر الكافر بإسلامه إجماعاً، ولو كان عن ردّة فطريّة على الأشبه)، وفي البيان ص 39 قوله: (والإسلام بدن الكافر).
3- مستند الشيعة: ج 1/341 قوله: (الفصل الخامس في سائر المطهّرات، وهي اُمور: منها: الإسلام وهو مطهّر لنجاسة الكافر ضرورة).
4- جواهر الكلام: ج 6/293.
5- كتاب الطهارة (ط. ق): ج 2/388.

الموضع الثاني: عن «التحرير»(1)، و «الذكرى»(2)، و «المهذّب»(3)، و «الروضة»(4)، والعلّامة الطباطبائي(5)، والمحقّق القمّي(6)، وغيرهم: مطهّريّة إسلام المرتدّ الفطري أيضاً.

وعن جماعةٍ : بل المشهور(7) العدم، واستدلّ له بالنصوص الدالّة على عدم قبول توبته، وأنّه يُقتل ولا يُستتاب:

منها: صحيح ابن مسلم، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن المرتدّ؟

فقال عليه السلام: من رغب عن الإسلام، وكفَر بما اُنزل على محمّد صلى الله عليه و آله بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانَت منه امرأته، ويقسّم ما ترك على ولده»(8).

المختصّ به بقرينة ما دلّ على قبول توبة المرتدّ المِلّي، كصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «سألته عن مسلمٍ تنصّر؟ قال عليه السلام: يُقتل ولا يُستتاب.

قلت: فنصرانيٌّ أسلم ثمّ ارتدّ؟ قال عليه السلام: يستتاب، فإن رجع وإلّا قُتل»(9).

ومنها: خبر الحسين بن سعيد: «قرأتُ بخطّ رجلٍ إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام:7.

ص: 374


1- تحرير الأحكام (ط. ق): ج 1/25.
2- ذكرى الشيعة: ج 1/131 (ط. ج) قوله: (الحادي عشر: يطهر الكافر بإسلامه إجماعاً، ولو كان عن ردّة فطريّة على الأشبه).
3- كما قد يظهر من المهذّب للقاضي ابن البرّاج: ج 1/52.
4- شرح اللّمعة: ج 1/315، قوله: (والإسلام مطهّر لبدن المسلم من نجاسة الكفر وما يتّصل به من شعر ونحوه لالغيره كثيابه).
5- رياض المسائل: ج 2/357 (الكافر ومن بحكمه).
6- غنائم الأيّام: ج 1/495 قوله: (الثاني عشر من جملة المطهّرات الإسلام... إلى أن قال: وأمّا عن ردة فطريّة ففيه إشكال، والأظهر الطهارة للزوم التكليف بما لا يُطاق لولاه).
7- نسبه إلى المشهور المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1/638 ق 2.
8- الكافي: ج 6/174 ح 2، وسائل الشيعة: ج 22/168 ح 28301.
9- الكافي: ج 7/257 ح 10، وسائل الشيعة: ج 28/325 ح 34867.

رجلٌ وُلِد على الإسلام، ثمّ كفر وأشرك، وخرج عن الإسلام، هل يُستتاب أو يُقتل ولا يستتاب ؟ فكتب عليه السلام: يُقتل»(1).

واُجيب عن الاستدلال بها: بأنّ إطلاق ما دلّ على عدم قبول التوبة، يحمل على إرادة عدمه بالنسبة إلى وجوب قتله، وبينونة زوجته، وانتقال أمواله لا مطلقاً، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: اقتران عدم قبول التوبة بها في النصوص، الموجب لإقتران الكلام بما يصلح للقرينيّة، الموجب لسقوطه عن الحجيّة.

الوجه الثاني: انصراف النصوص إليها، لكونها أظهر الآثار.

الوجه الثالث: ما دلّ على صحّة عباداته حتّى المتوقّفة على الطهارة، ولولا طهارة بدنه بالإسلام، لكان تكليفه بها تكليفاً بما لا يطاق.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ كون شيءٍ قرينةً لصرف ظهور الآخر، إنّما يكون فيما إذا كان الظهوران متنافيين، لا فيما كان بينهما كمال الملائمة، كما في المقام.

وأمّا الثاني: فلمنع كونها أظهر الأحكام، مع أنّ الأظهريّة لا توجب الانصراف الموجب لتقييد الإطلاق.

وأمّا الثالث: فلأنّ صحّة عباداته كما يمكن أن تكون لطهارة بدنه، يمكن أن تكون لسقوط شرطيّة الطهارة.

فالصحيح في الجواب عنه: أنّ هذه النصوص إنّما تدلّ على عدم قبول توبته، وهو أعمّ من عدم قبول إسلامه، فيرجع فيه إلى عموم ما ورد في بيان الإسلام، وأنّه الإقرار بالشهادتين، ولازمه الحكم بكونه مسلماً.8.

ص: 375


1- التهذيب: ج 10/139 ح 10، وسائل الشيعة: ج 28/325 ح 34868.

ودعوى:(1) أنّه لا دليل عليطهارة كلّ مسلمٍ ، فالمرجع استصحاب بقاء نجاسته.

مندفعة: بأنّ دعوى القطع بهذه الكليّة قريبةً جدّاً، مع أنّه على فرض عدم ثبوتها، لا مجال للرجوع إلى الاستصحاب لوجهين:

الأوّل: تبدّل الموضوع، إذ الموضوع بنظر العرف هو الكافر بما أنّه كافر.

الثاني: ما حقّقناه في محلّه وأشرنا إليه في هذا الشرح غير مرّة، من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، لكونه محكوماً لاستصحاب عدم الجَعل، فيتعيّن الرجوع إلى قاعدة الطهارة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى قبول إسلامه وطهارة بدنه به.

كما أنّ الأقوى قبول توبته باطناً، وصيرورتها موجبةً لدخول الجنّة، إذ ظاهر نصوص نفي التوبة، إرادة الأحكام العمليّة، لا الاُمور الاُخرويّة، فالمرجع فيها هو عمومات قبول التوبة.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - خبر زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«فيمن كان مؤمناً فحجّ وعمل في إيمانه، ثمّ أصابته في إيمانه فتنة، فكفر ثمّ تاب وآمن ؟

قال عليه السلام: يُحسب له كلّ عملٍ صالح في إيمانه، ولا يبطل منه شيء»(2).

نعم، يجب قتله، وتبين زوجته، وتعتدّ عِدّة الوفاة، وتنتقل أمواله الموجودة حال الارتداد إلى ورثته، ولا يسقط شيءٌ منها بالتوبة، كما هو المشهور شهرة عظيمة، بل لم يُنقل الخلاف إلّاعن ابن الجُنيد(3).9.

ص: 376


1- مستمسك العروة: ج 2/119.
2- الكافي: ج 2/461 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/125 ح 316.
3- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 2/119.

وتشهد له: جملة من النصوص:

منها: موثّق عمّار، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: كلّ مسلمٍ بين المسلمين ارتدّ عن الإسلام، وجَحَد محمّداً صلى الله عليه و آله نبوّته وكذَّبه، فإنّ دمه مُباح لمن سمع ذلك منه، وامرأته بائنة منه يوم ارتدّ، ويُقسّم ماله على ورثته، وتعتدّ امرأته عِدّة المتوفّي عنها زوجها، وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه»(1). ونحوه غيره(2).

وأيضاً: هل يملك ما اكتسبه بعد التوبة، بل وقبلها، ولا ينتقل إلى ورثته ؟ وجهان بل قولان: ذهب إلى كلٍّ منهما جماعةٌ من المحقّقين.

أقواهما الأوّل، إذ ما دلّ على انتقال ماله إلى ورثته، إنّما يدلّ عليه فيما كان مِلْكاً له قبل الارتداد، ولا يدلّ عليه فيما يملكه بعد الإرتداد، كما أنّه لا يدلّ على عدم قابليّته للتملّك، لأنّ انتقال ماله عنه أعمٌّ من ذلك، فيرجع إلى عموم دليل السبب المملّك، وعلى فرض عدم وجوده إلى استصحاب بقاء القابليّة الثابتة قبل الارتداد.

أقول: ومن ما ذكرناه ظهر حكم الرجوع إلى زوجته بعقدٍ جديد، وأنّ الأقوى صحّته.

ودعوى:(3) دلالة النصوص المتضمّنة للبينونة، على الحرمة الأبديّة.

مندفعة: بأنّها تدلّ على ارتفاع العلاقة الزوجيّة الموجودة.

الموضع الثالث: هل يطهر بدن الكافر من النجاسات الخارجيّة التى زالت عينها أم لا؟1.

ص: 377


1- الكافي: ج 6/174 ح 1، وسائل الشيعة: ج 28/324 ح 34865.
2- وسائل الشيعة: ج 28/323 باب 1 من أبواب حَدّ المرتدّ.
3- نسبها الحكيم إلى صاحب الجواهر، راجع مستمسك العروة: ج 2/121.

أم يفصّل بين كون تلك النجاسة أشدّ فالثاني، وبين غيره فالأوّل ؟ وجوه:

أقواها الأخير، لما تقدّم في مبحث تنجّس المتنجّس(1) من أنّ النّجس أو المتنجّس لا يتنجّس ثانياً، إلّامع كون النجاسة الثانية أشدّ.

ودعوى: أنّ مقتضى إطلاق حديث الجُبّ (2) طهارته منها مطلقاً، لأنّه لا يختصّ بارتفاع العقاب، كما يشهد له استدلاله عليه السلام به لعدم وجوب قضاء الصّلاة والصوم عليه.

مندفعة: باختصاصه بحسب ظاهره بما يستتبع عدم العمل بوظيفته الفعليّة، من الفعل أو الترك، كقضاء الصّلاة والصوم والكفّارة للإفطار في شهر رمضان، ونحوها.

وأمّا غيرها كوجوب الصّلاة عليه إنْ أسلم في وسط الوقت، ولزوم غُسل الجنابة عليه لكونه جُنُباً، ولزوم تطهير بدنه لكونه ملاقياً للنجس ونحوها، فالحديث غير مربوطٍ بها، كما لا يخفى على المتدبّر، ولذا ترى أنّ أحداً من الفقهاء لم يستدلّ به في المثالين الأولين، لعدم الوجوب.

اللّهُمَّ إلّاأن يستدلّ لها بالسيرة، وعدم معهوديّة أمره بتطهيره منها، كما عن «الجواهر»(3) وغيرها.

أقول: ومن ما ذكرناه ظهر أنّ الأقوى عدم طهارة ثيابه التي لاقاها حال الكفر مع الرطوبة، من غير فرقٍ بين ما كان على بدنه فعلاً وما لم يكن.

وأمّا إسلام الصبيّ : فقد تقدّم في مبحث نجاسة الكافر،(4) فلا نُعيد.د.

ص: 378


1- صفحة 181 من هذا المجلّد.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 7/448 ح 8625.
3- جواهر الكلام: ج 6/299.
4- صفحة 112 من هذا المجلّد.
السادس: زوال النجاسة

المطهّر السادس: زوال عين النجاسة أو المتنجّس عن جسد الحيوان، بأيّ وجهٍ كان، وعن بواطن الإنسان.

أمّا الأوّل: فهو المشهور في خصوص الهرّة، بل عن «الخلاف»(1): ودعوى الإجماع عليه.

وعن جملةٍ من المتأخّرين(2): إلحاق كلّ حيوانٍ غير آدمي بها.

وعن «نهاية الأحكام»(3): اختصاص الحكم بالطهارة بصورة غيبة الحيوان، بنحوٍ يُحتمل ورود المطهّر عليه.

وعن «الموجز»(4): الحكم بالنجاسة حتّى يعلم بورود المطهر عليه، اعتماداً على الاستصحاب.

وعن المرتضى رحمه الله(5) وجماعة: عدم تنجّس بدن الحيوان.

أقول: أمّا القول الثالث فتدفعه:

1 - السيرة القطعيّة على عدم التجنّب عن ما لاقى مع الحيوانات، المعلوم تلوّثها بالنّجاسة، كدم الولادة، والبول والمَنيّ الخارجين منها، والمواضع القذرة عند

ص: 379


1- الخلاف: ج 1/204.
2- العروة الوثقى: ج 1/287، قوله: (العاشر [من المطهّرات]: زوال عين النجاسة أو المتنجّس عن جسد الحيوان غير الإنسان، بأيّ وجهٍ كان).
3- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 6/301، وهو الظاهر من نهاية الأحكام: ج 1/239 في فصل الاسئار.
4- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/229.
5- راجع رسائل المرتضى: ج 4/328-329 (الفرق بين نجس العين ونجس الحكم) قوله: (الأعيان لا تكون نجسة لأنّها عبارة عن الأجسام.. الخ).

النوم عليها، وغير ذلك من الموارد التي هي كثيرة، ولا يُعلم، بل لا يُحتمل ورود المطهّر عليها.

2 - والنصوص(1) الدالّة على طهارة سؤر الهرّة والوحش والسّباع وغيرها مع تلوّثها بالنجاسة.

3 - وصحيح عليّ بن جعفر عليه السلام: «عن فأرةٍ وقعت في حبّ دهن، واُخرجت قبل أن تموت، أيبيعه من مسلم ؟

قال عليه السلام: نعم ويدهن منه»(2).

فإنّه يدلّ على طهارة موضع البول.

وبذلك كلّه ظهر ضعف القول الثاني.

نعم، لا يصحّ الإستدلال بهذه الأدلّة على أحد القولين الأوّل والرابع، بناءً على أنّ المتنجّس الجامد لا ينجس، فلتكن هذه الأدلّة بضميمة ما دلّ على تنجّس كلّ جسمٍ بملاقاة النجاسة، وبقاء النجاسة إلى أن يرد عليه مطهّرٌ من جملة ما يدلّ عليه.

اللّهُمَّ إلّاأن يستدلّ عليه بالسيرة القطعيّة، على اتّخاذ جلد الحيوان وصوفه ثوباً للمصلّي، مع عدم غسلهما، فيدورالأمر بين القول الأوّل والرابع، والأقوى هو الأوّل، لعموم ما دلَّ على تنجّس كلّ جسمٍ بالملاقاة، كموثّق عمّار المتقدّم في مبحث تنجيس المتنجّس.(3) ومنه يظهر ضعف ما ذكرناه في مبحث البول والغائط من عدم الدليل على هذه الكليّة.(4)د.

ص: 380


1- وسائل الشيعة: ج 1/238 باب 9.
2- وسائل الشيعة: ج 1/238 ح 615.
3- صفحة 177 و 181 من هذا المجلّد.
4- صفحة 24 من هذا المجلّد.

وتظهر الثمرة بين القولين: فيما لو شكّ في زوال العين:

فإنّه على المختار، لو لاقى بدنه مع شيءٍ ، وكانت فيه رطوبة مسرية، يحكم بنجاسته للاستصحاب - أي استصحاب بقاء النجاسة - ومن آثارها نجاسة ملاقيه.

وأمّا على القول بعدم التنجّس، فلا يحكم بها، للشكّ في ملاقاته للنجس، فيرجع إلى استصحاب الطهارة.

أقول: ومن ما ذكرناه في المقام، وفي مسألة ملاقاة الغائط في الباطن، ظهر حكم ملاقاة النجاسة لبواطن الإنسان.

***

ص: 381

السابع: غيبة الإنسان

المطهّر السابع: غيبة الإنسان، بلا خلافٍ في مطهّريّتها في الجملة، وإنْ كان التعبير بكونها مطهّرة مسامحة، فإنّها أمارة للطهارة، ومن طرق إثباتها عند الشكّ فيها.

وكيف كان، فيشهد لمطهّريّتها بهذا المعنى:

استقرار السيرة القطعيّة(1) على ترتيب آثار الطهارة، إذ ما من أحدٍ إلّاوفي مدة قليلة من الزمان يمشي إلى الحمّام، ويتنجّس جميع بدنه، ويغسل ثيابه النّجسة، فينجس جميعها، ولا يحصل العلم ولا الاطمئنان بورود المطهّر عليها، فلولا الحكم بكون الغيبة من المطهّرات، لكان اللّازم ترتيب آثار النجاسة في هذه الفروض، مع أنّه كما ترى خلاف سيرة المسلمين بل الضرورة.

ويؤيّدها ظهور حال المسلم في التنزّه عن النجاسة، ولزوم الحرج، لو لا ترتيب آثار الطهارة، وما دلّ على كراهة سؤر الحائض المتهمة، وعدم البأس بسؤرها إذا كانت مأمونة.

وعليه، فأصل الحكم ممّا لا ينبغي التوقّف فيه، فما عن الأردبيلي(2)، وسيّد «المدارك»(3) من التردّد فيه، ضعيفٌ .

أقول: ثمّ إنّ الظاهر عموم الحكم لبدنه ولباسه وفرشه وظرفه، وغيره ذلك ممّا في يده لعموم السيرة.

ص: 382


1- قال في مفتاح الكرامة: ج 2/227: (وهو ظاهر مذهب الأصحاب).
2- مجمع الفائدة والبرهان: ج 1/247 (الأسآر).
3- مدارك الأحكام: ج 1/134.

وعليه، فما عن «الموجز»(1)، و «المستند»(2) من الاختصاص بالبدن ضعيفٌ .

إنّما الكلام فيما ذكره جملةٌ من الفقهاء، من أنّه مشروط بشروط:

الأوّل: أن يكون عالماً بملاقاة ما يتعلّق به من بدنه وغيره للنجس.

الثاني: علمه بكون ذلك الشيء نجساً.

الثالث: استعماله لذلك الشيء فيما تشترط فيه الطهارة.

الرابع: علمه باشتراط الطهارة في الاستعمال المفروض.

الخامس: احتمال تطهيره لذلك الشيء.

السادس: التكليف.

السابع: حصول الظنّ الحاصل من شهادة حاله أو مقاله بزوال النجاسة.

أقول: والظاهر أنّه لا خلاف بينهم في اشتراط الشرط الخامس، وأمّا غيره فقد اختلفت كلماتهم فيه غاية الاختلاف:

فعن العلّامة الطباطبائي(3)، وكاشف الغطاء(4): عدم اعتبار شيء من تلك

الاُمور، وهو الأقوى لعموم السيرة كما عن «المنظومة» وغيرها.

وأخيراً: الكلام في غير ما ذُكر، من ما ذكروه في عِداد المطهّرات من:

1 - نزح المقادير المنصوصة، لوقوع النجاسات المخصوصة في البئر.

2 - والاستبراء بالخَرَطات بعد البول.

3 - وبالبول بعد خروج المَنيّ .

4 - وزوال التغيّر في البئر والجاري.8.

ص: 383


1- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 2/138، ومفتاح الكرامة: ج 2/227 وفصل ص 228.
2- مستند الشيعة: ج 1/344 قوله: (والحكم مختصّ بالبدن دون غيره من الثياب وأمثالها). (3و4) نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 2/138.

5 - وحَجَر الاستنجاء.

6 - وخروج الدّم من الذبيحة بالمقدار المتعارف.

7 - وتيمّم الميّت بدلاً عن الأغسال عند فقد الماء.

8 - واستبراء الحيوان الجلّال.

9 - والتبعيّة.

موكولٌ إلى محلّه، حيث تقدّم الكلام في جملة منها وسيأتي في غيرها.

***

ص: 384

ولو نَجَس الإناء وَجَب غَسله، فيُغسَل مِنْ ولُوغ الكَلب ثلاثاً.

فصلٌ في أحكام الأواني

و فيه مسائل:
اشارة

(و) فيه مسائل:

لو نَجَس الإناءُ وَجَب غَسله
اشارة

المسألة الأُولى: (لو نَجَس الإناءُ وَجَب غَسله) كغيره من المتنجّسات، (فيُغسَل من ولُوغ الكلب ثلاثاً) إجماعاً، حكاه جماعة منهم السيّد في «الانتصار»(1)، والشيخ في «الخلاف»(2)، والمصنّف في «المنتهى»(3).

وعن ابن الجُنيد(4): إيجاب سبع غسلات.

وعن صاحب «المدارك»(5)، وشيخه الأردبيلي(6): تقوية الإكتفاء بغَسْلَةٍ واحدة بعد التعفير، لولا الإجماع على اعتبار التعدّد.

واستدلّ له في «المدارك»(7): بإطلاق الأمر بالغسل في صحيح البقباق، قال فيه:

«حتّى انتهيت إلى الكلب ؟ فقال عليه السلام: رِجْسٌ نجسٌ لا يتوضّأ بفضله، فاصببْ ذلك الماء واغسله بالتّراب أوّل مرّة ثمّ بالماء»(8).

ص: 385


1- الإنتصار: ص 86.
2- الخلاف: ج 1/175.
3- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/187.
4- نسبه إليه في منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/188.
5- مدارك الأحكام: ج 2/391.
6- مجمع الفائدة: ج 1/367.
7- مدارك الأحكام: ج 2/390.
8- التهذيب: ج 1/225 ح 29، وسائل الشيعة: ج 1/226 ح 574 و: ج 3/415 ح 4026.

ثمّ قال: (كذا وجدته في ما وقفتُ عليه من كتب الأحاديث).

ونقله كذلك الشيخ في مواضعَ من «الخلاف»(1)، والعلّامة في «المختَلف»(2).

إلّا أنّ المحقّق نقله في «المعتبر»(3) بزيادة لفظ (مرّتين) بعد قوله: (ثمّ بالماء)، وقلّده في ذلك مَن تأخّر عنه، ولا يبعدُ أن يكون ذلك من قلم الناسخ.

واُجيب عنه: بأنّ استدلال المحقّق وغيره به مع الزيادة، ممّا يمنع من احتمال سهو القلم، مع أنّ المحقَّق في محلّه أنّ القاعدة عند دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة تقتضي البناء على كون الإختلال في طرف النقيصة.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ استدلاله قدس سره به لا يدلّ على كونه كذلك، بعد كونه مرويّاً في كتب الحديث مع النقيصة، إلّامن جهة كون الرواية كذلك في أصلٍ معتبر لم يصل إلينا، وهو لا يدلّ عليه لضعف احتماله، لأنّه لو كان كذلك، كان عليه التنبيه على ذلك، كما لا يخفى .

وأمّا الثاني: فلأنّ القاعدة في نفسها وإنْ كانت تامّة، إلّاأنّه في المقام من جهة أنّ النقص إنّما يكون في أغلب كتب الحديث، والزيادة في جملةٍ من الكتب الاستدلاليّة لا تتمّ القاعدة، ولا توجب الوثوق بالنقص، بل معروفيّة الفتوى بذلك في جميع الأعصار، الموجبة لأُنس الذهن بالزيادة، تشهد بالنقص، لأنّها موجبة للجريان على القلم مع عدم الالتفات.

ولكن يرد على ما أفاده في «المدارك»: أنّه يتعيّن تقييد إطلاقه لو كان في مقام8.

ص: 386


1- الخلاف: ج 1/176.
2- مختلف الشيعة: ج 1/230.
3- المعتبر: ج 1/458.

البيان من هذه الجهة - مع أنّه محلّ تأمّل - بموثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سُئل عن الكوز والإناء يكون قذراً، كيف يُغسل، وكم مرّة يُغسل ؟

قال عليه السلام: يُغسل ثلاث مرّات، يصبّ فيه الماء فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ منه، الحديث»(1).

بل يمكن أن يقال: إنّ الصحيح إنّما يكون في مقام بيان ما يعتبر في الغَسَلات المعتبرة بالموثّق، ويدلّ على أنّه يعتبر أن يكون أولاهنّ بالتّراب.

وبهما ترفع اليد عن ظهور موثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في الإناء يُشرب فيه النبيذ؟ قال: يغسله سبع مرّات، وكذا الكلب»(2).

ونحوه النبويّ العامّي في الوجوب، ويُحملان على الاستحباب.

أقول: ومنه يظهر ضعف ما اختاره ابن الجُنيد.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى وجوب الغَسل ثلاثاً، ولكن ستعرف تعيّن حمل الموثّق على الاستحباب، وعليه فالقول بوجوب الثلاث لا مدرك له سوى الإجماع.

أقول: ثمّ إنّه لا ريب ولا خلاف في لزوم كون إحدى الغَسَلات بالتّراب، كما تشهد له نصوص الباب المتقدّم بعضها، لكن البحث عن أنّه:

هل يعتبر أن يكون غسلة التّراب أولاهنّ ، كما هو المشهور؟

أم وسطاهن، كما عن المفيد في «المقنعة»(3)؟

أم لا يعتبر سوى كون إحداهنّ بالتّراب، كما عن ظاهر «الخلاف»(4)7.

ص: 387


1- التهذيب: ج 1/284 ح 119، وسائل الشيعة: ج 3/496 ح 4276.
2- التهذيب: ج 9/116 ح 237، وسائل الشيعة: ج 25/368 ح 32143 وص 377 ح 32169.
3- المقنعة: ص 65.
4- الخلاف: ج 1/177.

و «الاستبصار»(1)؟ وجوه:

أقواها الأوّل، ويشهد له صحيح البقباق المتقدّم.

وأمّا الأخير: فلا مستند له بحسب الظاهر سوى «الرضوي»:

«إنْ وقع الكلب في الماء، أو شرب منه، اُهريق الماء، وغُسل الإناء ثلاث مرّات؛ مرّة بالتّراب، ومرّتين بالماء، ثمّ يُجفّف»(2).

ولكنّه لعدم حجيّة «الرضوي» في نفسه لا يعتمد عليه، وعلى فرض الحجيّة يقيّد إطلاقه بالصحيح المتقدّم.

وأمّا قول المفيد رحمه الله فلم يُعرف مستنده، كما صرّح به جماعةٌ على ما حُكي، فما في المتن من قوله: (أولاهنّ بالتّراب) أظهر.

***8.

ص: 388


1- راجع الاستبصار: ج 1/18 باب (حكم الماء إذا ولغ فيه الكلب).
2- المستدرك: ج 2/612 ح 2878.
تنبيهات أحكام الأواني
الظاهر من الأمر بالغَسل بالتّراب، استعمال التّراب أوّلاً، ثمّ إزالته بالماء

التنبيه الأوّل: الظاهر من الأمر بالغَسل بالتّراب، استعمال التّراب أوّلاً، ثمّ إزالته بالماء، نظير غَسل الرأس بالسِّدر، لأنّه لازم الأخذ بظهور (الغَسل) و (التّراب).

وأمّا ما اختاره المصنّف في «المنتهى»(1)، والحِلّي(2) والراوندي(3) من أنّ المراد به مزج التّراب بالماء ثمّ استعماله، تحفّظاً على ظهور الغَسل في إجراء المائع.

فيرد عليه أوّلاً: أنّه يستلزم صرف التّراب عن ظاهره.

وثانياً: ان المزج لا يوجب صدق الغَسل، لأنّه عبارة عن استعمال الماء المطلق دون مطلق المائع كالوَحَل والدِّبس ونحوهما.

كما أنّ ما نُسب إلى المشهور(4): من عدم اعتبار المزج، وكفاية التعفير بالتّراب، من جهة أنّه بعدما لا يمكن الأخذ بظاهر (الغَسل)، لا وجه لرفع اليد عن ظاهر (التّراب)، فيتعيّن حمل (الغَسل) على الدّلك.

ضعيفٌ : إذ لا وجه لرفع اليد عن ظاهر (الغَسل) بعد إمكان الأخذ بظاهرهما، فإذاً يتعيّن حمل قوله عليه السلام: (اِغسلْهُ بالتّراب) على إرادة استعمال التّراب مع المزج بالماء، أو بدونه، ثمّ إزالته بالماء المطلق.

والأحوط التعفير بالتّراب، واستعمال الممتزج، ثمّ الإزالة بالماء، وعلى ذلك فيعتبر الغَسل بالماء بعد التعفير ثلاث مرّات.

***

ص: 389


1- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/188.
2- السرائر: ج 1/91.
3- نسبه إليه في الحبل المتين ص 98.
4- المهذّب البارع: ج 1/266.
لا يكتفى عن التّراب بغيره كالرّماد

التنبيه الثاني: المشهور شهرةً عظيمة(1): أنّه لا يكتفى عن التّراب بغيره كالرّماد ونحوه.

وعن ابن الجُنيد(2) وأبي العبّاس(3): كفايته مطلقاً.

وعن «المختلف»(2)، و «القواعد»(3)، و «الذكرى»(4): الاكتفاء به في حال الضرورة. واستدلّ له بمساواة غير التّراب للتّراب في قالعيّة النجاسة، لو لم يكن أولى منه.

وفيه: - مضافاً إلى أنّ لازم ذلك هو الاكتفاء به مطلقاً، كما اختاره ابن الجُنيد، واستدلّ له بذلك - أنّه لعدم معلوميّة المناط، لا تكون هذه الأولويّة قطعيّة، فلا يعتمد عليها.

ص: 390


1- المبسوط: ج 1/14. (2و3) نسبه إليه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 1/419.
2- مختلف الشيعة: ج 1/497.
3- راجع قواعد الأحكام: ج 1/237-238، الفصل الثاني: (فيما يتيمّم به).
4- الذكرى: ص 15.
لزوم التعفير في الغَسل بالكثير

التنبيه الثالث: بناءً على المختار في وجه وجوب الغَسل ثلاثاً، من الاعتماد على الإجماع، فإنّه لا دليل على وجوبه ثلاثاً في غير القليل، لإختصاصه به.

وكذلك بناءً على الاعتماد على موثّق عمّار:

فهل يجبُ في غيره التعفير، لإطلاق صحيح البقباق أم لا؟

أم يفصّل بين التطهير بماء المطر فلا يعتبر، وبين التطهير بغيره كالجاري والكُرّ فيعتبر؟ وجوه:

استدلّ بعض أعاظم المحقّقين رحمهم الله(1) للأوّل: بأنّ ما دلّ على اعتبار التعفير، كقوله عليه السلام: (إغسله بالتّراب أوّل مرّة) له قوّة ظهورٍ في إرادة الإطّراد، بحيث لا يعارضه عموم: (كلّ شيء يراه ماء المطر فقد طهُر)، بل له نوع حكومة على هذا العموم بنظر العرف، حيث يرونه بمنزلة الأمر بإزالة العين.

وفيه: أمّا دعوى الحكومة، فممنوعةٌ جدّاً كما لا يخفى ، وأمّا قوّة الظهور فقد ذكرنا في محلّه من أنّ العامّين من وجه إذا كانت دلالة أحدهما بالعموم، ودلالة الآخر بالإطلاق، يُقدَّم الأوّل.

وعليه، فيتعيّن في المقام تقديم عموم: (كلّ شيءٍ يراه... الخ) على إطلاق قوله عليه السلام: (إغسله بالتّراب أوّل مرّة)، فالأقوى عدم اعتبار التعفير في التطهير بماء المطر.

وأمّا لو طهُر الإناء بالجاري والكُرّ، فبما أنّه يعتبر في حصول الطهارة بهما الغَسل، ولا يُجزي مجرّد الإصابة، كما عرفت في أوّل هذا المبحث، فيعتبر التعفير، لأنّ دليل التعفير إنّما يدلّ على اعتبار شيء زائد في الغَسل، فلا تعارض بين ما دلّ

ص: 391


1- مصباح الفقيه: ج 1/661 ق 2.

على اعتبار التعفير، وما دلّ على كفاية الغَسل، فيؤخذ بهما معاً، كما لا يخفى .

نعم، لو تمّ سند ما في «المختلف»(1) من ذكر بعض علماء الشيعة:

«أنّه كان بالمدينة رجلٌ يدخل على أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام، وكان في طريقه ماءٌ فيه العَذَرة والجيفة، وكان يأمر الغلام أن يحمل كوزاً من ماء يغسل به رجله إذا خاضه، قال: فأبصرني يوماً أبو جعفر عليه السلام فقال: إنّ هذا لا يُصيب شيئاً إلّا طهّره، فلا تعد للّه منه غسلاً».

كان حكم الكُرّ حكم ماء المطر في عدم وجوب التعفير، لكن قد عرفت أنّه لإرساله لا يُعتمد عليه.

***8.

ص: 392


1- مختلف الشيعة: ج 1/178.
لزوم أن يكون التّراب قبل الاستعمال طاهراً

التنبيه الرابع: نُسب إلى المشهور(1): لزوم أن يكون التّراب قبل الاستعمال طاهراً، بل لم يُحكَ الخلاف إلّاعن جماعةٍ من متأخّري المتأخّرين.

واستدلّ له:

1 - بالقاعدة الإرتكازيّة: (الفاقد لا يُعطي).

2 - وبانصراف النّص إليه.

3 - وبأصالة بقاء النجاسة.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ مطهّريّة التّراب تعبّديّة محضة، ولا يكون للعرف ارتكازٌ في التطهير به، فلا مورد لإعمال مرتكزاتهم فيه.

وأمّا الثاني: فقد عرفت مراراً أنّه لا يُعتمد على مثل هذا الانصراف، ولا يوجب ذلك تقييد المطلقات.

وأمّا استصحاب بقاء نجاسة الإناء، فهو محكومٌ لإستصحاب بقاء مطهّريّة التّراب، الثابتة له قبل عروض النجاسة.

ودعوى:(2) كونه من الاستصحاب التعليقي، كما ترى ، مع أنّه لا وجه للرجوع إليه مع إطلاق النّص.

أقول: وبما ذكرناه في الإيراد على الوجه الأوّل، ظهر ضعف ما ذكره بعض الأعاظم(3) من أنّ هذا كلّه مبنيٌ على اعتبار عدم المزج بالماء، أمّا بناءً على اعتباره، فلابدَّ من طهارة التّراب، لأنّه مع نجاسته ينجس الماء الممزوج به، مع أنّه لا شبهة

ص: 393


1- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/189.
2- مستمسك العروة: ج 2/29.
3- مستمسك العروة: ج 2/30.

في اعتبار طهارة الماء.

وجه الضعف: أنّه ليس للعرف ارتكازٌ في التطهير بالماء الممزوج بالتّراب، حتّى يرجع إلى مرتكزاتهم فيه.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم اعتبار الطهارة.

***

ص: 394

اختصاص الحكم بالولوغ

التنبيه الخامس: المشهور بين الأصحاب(1): اختصاص الحكم بالولوغ، وما في معناه وهو اللّطع، الذي لا يفقد شيئاً ممّا تضمّنه الولوغ، ممّا يناسب للتنجيس، وعدم شموله لمباشرة باقي أعضائه.

وعن الصدوق(2) والمفيد(3): إجراء الحكم المذكور في مطلق مباشرته.

وعن المصنّف في «النهاية»(4): أنّه أقرب.

واستدلّ له:

1 - بإطلاق قوله: (رِجْسٌ نجس) في الصحيح، بدعوى ظهوره في أنّه لا خصوصيّة للولوغ.

2 - وبأنّ فمه أنظف من غيره.

ولكن قوله عليه السلام: (رِجْسٌ نجس) لا ظهور له في كونه موضوعاً لما ذُكر بعده من جميع الأحكام، وإلّا كان اللّازم التعدّي إلى غيره من النجاسات، فلهذا يُحمل على كونه موضوعاً لخصوص قوله عليه السلام: (لا يتوضّأ بفضله)(5)، فلاحظ.

وأنظفيّة فمه غير ثابتة، مع أنّه يرد عليه ما أورده هو قدس سره في محكي «المنتهى»(6)بأنّه تكليفٌ غير معقول، فيقف على النّص، وعلى ذلك فبما أنّ المذكور في النّص الفضل، فلا وجه للتعدّي.

ص: 395


1- الخلاف: ج 1/186، السرائر: ج 1/92.
2- نسبه إليه في منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/9.
3- المقنعة: ص 68.
4- النهاية: ص 5.
5- وسائل الشيعة: ج 3/415 ح 4026 و ص 516 ح 4333.
6- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/188.

ومنه يظهر وجه عدم اختصاص الحكم بالولوغ، وشموله للّطع ونحوه، مع أنّ احتمال اختصاص الحكم بما إذا سَرَت النجاسة إلى الإناء بواسطة الماء كما ترى ، ولذا ترى أنّ جملة من أعاظم المحقّقين ادّعوا الجزم بالأولويّة، وهي في محلّها.

ثمّ إنّ مورد النّص وإنْ كان هو الماء، إلّاأنّ التعدّي إلى سائر المائعات في محلّه، للقطع بعدم الفرق، كما عن «الجواهر» وغيرها.

هل يجري حكم التعفير في غير الإناء ممّا تنجّس بالولوغ

التنبيه السادس: هل يجري حكم التعفير في غير الإناء ممّا تنجّس بولوغ الكلب أو لطعه أم لا؟ وجهان بل قولان:

أقول: أقواهما الأوّل، لعدم اختصاص الدليل بالظروف، لأنّ موضوع الحكم المأخوذ في النّص هو (فضل الكلب) الصادق في غيرها أيضاً، فلا وجه للتخصيص.

لو خيف فَساد المحلّ باستعمال التّراب، سقط اعتبار التعفير

التنبيه السابع: عن «المنتهى»(1)، و «التذكرة»(2)، و «التحرير»(3)، وجماعة(4):

أنّه لو خيف فَساد المحلّ باستعمال التّراب، سقط اعتبار التعفير.

واستدلّ له:

1 - بانصراف النصوص عنه.

2 - وبأنّ لازم عدم السقوط، تعطيل الإناء.

أقول: وفيهما نظر:

إذ يرد على الأوّل: - مضافاً إلى النقض بالثوب المتنجّس، الذي لا يكون قابلاً للغسل، فإنّه لم يتوهّم أحدٌ حصول الطهارة له بذلك، وعدم لزوم الغسل - أنّ الأمر

ص: 396


1- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/188.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/9.
3- تحرير الأحكام (ط. ق): ج 1/26.
4- إيضاح الفوائد: ج 1/33، رسائل الكركي: ج 3/227.

بالتعفير إرشادٌ إلى مطهّريّته واعتباره في حصول الطهارة، ولا يكون تكليفاً إلزاميّاً كي يمتنع شموله لصورة العجز.

وعلى الثاني: أنّ لزوم التعطيل لا يكون مثبتاً، لبدليّة الماء عن التّراب، وحيثُ أنّ المشروط لا يتحقّق بتعذّر شرطه، فالأقوى بقاء النجاسة.

ومنه يظهر حكم ما لو لم يمكن جعل التّراب في الإناء، لو فرض إمكان الولوغ في المورد، وأمّا إذا أمكن ذلك، ولم يمكن مسحه بالتّراب، لضيق فمه، فهل يكفي جعل التّراب فيه وتحريكه إلى أن يصل إلى جميع أطرافه، أم لا؟

وجهان بل قولان، أقواهما الأوّل، إذ لا دليل على لزوم المسح.

***

ص: 397

ومِنَ الخنزير سَبْعاً.

ولوغ الخنزير

(و) يجبُ الغَسل (مِنْ ) ولوغ (الخنزير سَبْعاً) على المشهور بين المتأخّرين(1)على ما نُسب إليهم، وهو اختيار المصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(2).

وعن «الكفاية»(3): أنّه المشهور.

وعن الشيخ في «الخلاف»(4) و «المبسوط»(5): إلحاقة بالكلب.

أقول: والأوّل أقوى ، لصحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام، قال:

«سألته عن خنزيرٍشرب من إناءٍ ، كيف يُصنع به ؟ قال عليه السلام: يُغسل سبع مرّات»(6).

وعن المحقّق(7): حمله على الاستحباب، لإعراض أكثر القدماء عن ظاهره.

وفيه: أنّ الظاهر أو المحتمل أنّ عدم عملهم به ليس إعراضاً، بل يكون من جهة ما ذكره بعضهم من أنّ هذا الحكم بعيدٌ، إذا الكلب الذي هو أنجس من كلّ نجسٍ ، لا يجبُ غَسل ملاقيه أكثر من ثلاث غسلات، فكيف يجبُ الغَسل سَبعاً من الخنزير؟

ومعلومٌ أنّ مثل ذلك لا يوجبُ التصرّف في ظاهر النّص، ما لم يوجب الاطمئنان بارادة خلاف ظاهره.

ص: 398


1- إرشاد الأذهان: ج 1/240، إيضاح الفوائد: ج 1/33، الرسائل العشر ص 148.
2- تحرير الأحكام (ط. ق): ج 1/168، إرشاد الأذهان: ج 1/240، قواعد الأحكام: ج 1/197.
3- كفاية الأحكام ص 14.
4- الخلاف: ج 1/186.
5- المبسوط: ج 1/15.
6- التهذيب: ج 1/261 ح 47.
7- المعتبر: ج 1/460.

وعليه، فالأقوى هو الأخذ بظاهره، وهو الوجوب.

واستدلّ للثاني: بتسمية الخنزير كلباً لغةً ، فتشمله نصوص الكلب.

وفيه أوّلاً: إنّ تسميته به مجازٌ، فلا يحمل اللّفظ عليه، ما لم يدلّ عليه قرينة.

وثانياً: أنّه لو سُلّم شموله له، لاريب في انصراف لفظ (الكلب) عنه.

وبذلك ظهر وجه لزوم التعفير وعدمه.

***

ص: 399

ومِنَ الخَمر.

المتنجّس بالخَمر

(و) يُغسل الإناء (مِنَ الخَمر) ثلاثاً، لموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن قدحٍ أو إناءٍ يُشرب فيه الخمر؟ قال عليه السلام: تغسله ثلاث مرّات. وسُئل أيجزيه أن يصبّ فيه الماء؟ قال عليه السلام: لا يجزيه حتّى يدلكه بيده، ويغسله ثلاث مرّات»(1)، به يقيّد إطلاق ما تضمّن الأمر بالغَسل.

فما عن المحقّق في «المعتبر» والمصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(2) وغيرهما، من الاكتفاء بالمرّة، ضعيفٌ .

وترفع اليد عن ظهور ما دلّ على وجوب الغسل سبعاً، كموثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الإناء يُشرب فيه النبيذ؟ فقال عليه السلام تغسله سبع مرّات»(3).

ودعوى:(4) أنّ الجمع بينهما يمكن بتقيّيد الأوّل بالثاني، لأنّ ظهوره مستندٌ إلى مفهوم العدد.

مندفعة: بما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله من أنّ دلالته إنّما تكون بمنطوق التحديد.

ص: 400


1- الكافي: ج 6/427 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/494 ح 4272.
2- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/189، تحرير الأحكام (ط. ق): ج 1/26.
3- وسائل الشيعة: ج 25/377 ح 32169.
4- حكاها السيّد الحكيم في مستمسك العروة: ج 2/29.

فما عن المفيد(1)، والشيخ في «الجُمل»(2) والشهيد(3)، والمحقّق من وجوب السَّبع ضعيفٌ .

فتحصّل: أنّ الأقوى ما اختاره المصنّف رحمه الله في المقام، والمحقّق في «الشرائع»(4)، والشيخ في «الخلاف»(5) من وجوب الثلاث.

أقول: ثمّ إنّ الأظهر عدم الفرق بين الغسل بالقليل أو الكثير، الجاري أو الكُرّ، للإطلاق.

ودعوى:(6) أنّ النسبة بينه وبين إطلاق مطهّريّة الكثير، عمومٌ من وجه، فلا مورد للتمسّك به، لسقوطه بالمعارضة، وعليه فبما أنّ الأقوى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، لكونه محكوماً لاستصحاب عدم الجعل، فيرجع إلى قاعدة الطهارة بعد الغَسل مرّة.

مندفعة: بأنّ مورد نصوص الكثير غير الإناء، ولا إطلاق لشيء منها يشمله، بناءً على عدم حجيّة مرسل «المختلف»، والتعدّي إليه يحتاج إلى عدم الفصل، غير الثابت في المقام.

وعليه فلا معارض لإطلاق نصوص المقام.

وأمّا دليل مطهّريّة الماء، فقد عرفت في أوّل الكتاب أنّه لا إطلاق له.2.

ص: 401


1- المقنعة: ص 73.
2- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/252.
3- الذكرى: ص 15.
4- شرائع الإسلام: ج 1/45.
5- الخلاف: ج 1/183.
6- مستمسك العروة: ج 2/32.

وأمّا لو طهر بالمطر، فالأظهر كفاية مجرّد الرؤية، لعموم مرسل الكاهلي المقدّم على إطلاق النصوص، لأنّ دلالته بالعموم.

***

ص: 402

والفأرة ثلاثاً، والسَبْع أفضل،

الإناء الملاقي للجرذ

(و) يُغسل الإناء من موت الجرذ سبعاً على المشهور، والجُرذ ضربٌ من (الفأرة) كما عن «المُغرِب» و «الصِّحاح»(1).

وعن الجاحظ(2): (أنّ الفرق بينه وبين الفأر، كالفرق بين الجواميس، والبقر البخاتي والعرب).

وعن «المجمع»(3): أنّه الذَّكَر من الفئران، أعظم من اليربوع، أكدر في ذنبه سوادٌ).

وقيل (ثلاثاً، والسَّبْعُ أفضل) كما في المتن(4) و «الشرائع»(5)، وعن «القواعد»(6) وغيرها.

واستدلّ له: بموثّق عمّار الآتي في مطلق النجاسات، ولعلّه المراد من ما حُكي عن بعضٍ أنّ عليه رواية.

وفيه: أنّه يتعيّن تقييده بموثّقه الآخر، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«اغسل الإناء الذي يصيبُ فيه الجُرذ ميّتاً سبع مرّات»(7).

فتحصّل: أنّ لزوم السَبْع هو الأقوى .

ص: 403


1- الصحاح: ج 2/561.
2- حكاه عنه في مجمع البحرين: ج 1/361.
3- مجمع البحرين: ج 1/361.
4- تبصرة المتعلِّمين ص 35.
5- شرائع الإسلام: ج 1/44.
6- قواعد الأحكام: ج 1/197.
7- التهذيب: ج 1/284 ح 119، وسائل الشيعة: ج 3/496 ح 4276.

ومن غير ذلك مرّة والثلاث أفضل.

(و) قيل يُغسل الإناء (من غير ذلك)، أي ما ذكر من النجاسات الخاصّة (مرّة، والثّلاثُ أفضل).

وعن الحِلّي(1): دعوى الإجماع عليه.

وعن جماعةٍ ، منهم الشيخ في «الخلاف»(2)، وابن الجُنيد في مختصره(3)، والشهيد في «الذكرى»(4)، والمحقّق الثاني في «جامع المقاصد»(5): وجوب الثلاث.

وعن «الألفيّة»(6) و «اللّمعة»(7): اعتبار المرّتين.

ويشهد للقول الثاني: موثّق عمّار، عن الصادق عليه السلام:

«سُئل عن الكوز أو الإناء يكون قذراً، كيف يُغسل، وكم مرّة يُغسل ؟

قال عليه السلام: يُغسل ثلاث مرّات، يصبّ فيه الماء، فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ منه»(8).

واستضعافه في غير محلّه، لما حقّقناه في محلّه من حجيّة الموثّق، وعدم عمل جماعةٍ من الأصحاب به، لا يكون إعراضاً عنه، موجباً لوهنه.

وعليه، فالرجوع إلى أصالة البراءة، أو إطلاق ما دلّ على كفاية مطلق الغَسل في إزالة النجاسات، والبناء على كفاية المرّة في غير محلّه.6.

ص: 404


1- نسب المحقّق دعوى الإجماع إلى الشيخ، راجع المعتبر: ج 1/461.
2- الخلاف: ج 1/182.
3- نسبه إليه في المعتبر: ج 1/461.
4- الذكرى: ص 15.
5- جامع المقاصد: ج 1/192.
6- الألفيّة والنفليّة: ص 49 (المقدّمة الثانية: في إزالة النجاسات).
7- شرح اللّمعة: ج 1/306.
8- التهذيب: ج 1/284 ح 119، وسائل الشيعة: ج 3/496 ح 4276.

أقول: وحمله على الاستحباب، بقرينة المرسل المروي في «المبسوط»، بأنّه:

(غَسلة واحدة)، ولعلّه مدرك فتوى المصنّف رحمه الله في المقام، غير تامّ ، لعدم حجّيّته.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ إفتاء الأساطين بكفاية المرّة مع وجود هذا الموثّق، وكونه بمرأى ومسمعٍ منهم، لا وجه له سوى الاعتماد على المرسل، فضعفُ سنده مجبورٌ بعمل الأصحاب.

فالأقوى ما اختاره الماتن والشيخ في كتبه غير «الخلاف»، بل قد عرفت أنّه المشهور على ما نُسب إليهم من كفاية المرّة.

نعم، ذلك في غير ما إذا تنجّس بالبول، وإلّا فلو تنجّس به، واُريد غَسله بالقليل، فللقطع بأنّه على فرض وجوب الغسل في غيره مرّتين، يجبُ ذلك فيه، فلا يكتفي بالمرّة.

أقول: ثمّ إنّه على فرض عدم الاعتماد على المرسل، بما أنّ الموثّق مختصٌّ بحسب ظاهره بالقليل، فيرجع في الكثير إلى إطلاقات الأدلّة لو ثبتت، وإلّا فإلى قاعدة الطهارة بعد الغَسل به مرّة واحدة، بناءً على عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، كما هو الحقّ .

وعليه، فلو شكّ في متنجّسٍ أنّه من الظروف أو غيرها، فالأقوى عدم ترتّب حكم الإناء عليه، لاستصحاب عدم كونه من الظروف، لأنّ كلّ ما يحتمل فيه ذلك، لا محالة لم يكن من أوّل وجوده كذلك، بل كان غير ظرف، بل بناءً على جريان استصحاب العدم الأزلي - كما هو الأظهر - يجري هذا الأصل حتّى مع احتمال كونه من أوّل تحقّقه كذلك.

***

ص: 405

ويَحْرُم استعمالُ أواني الذّهب والفضّة في الأكل وغيره.

حُرمة استعمال أواني الذّهب والفضّة
اشارة

المسألة الثانية: (ويحرم استعمال أواني الذّهب والفضّة في الأكل وغيره) بلا خلافٍ .

بل إجماعاً، كما عن غير واحدٍ حكايته(1).

وعن جملةٍ من الأصحاب: التصريح باتّفاق المسلمين على حُرمة الأكل والشرب فيها.

وعن «الجواهر»(2) فيهما إجماعاً منّا، ومِنْ كلّ من يُحفظ عنه العلم، عدا داود فحَرّم الشرب خاصّة، محصّلاً ومنقولاً مستفيضاً، إنْ لم يكن متواتراً.

وكلام الشيخ رحمه الله في «الخلاف»(3): (يُكره استعمال أواني الذّهب والفضّة)، وإنْ كان ظاهراً في نفسه في إرادة الكراهة المصطلحة، إلّاأنّه يتعيّن حمله على إرادة الحرمة، لتصريحه بها في زكاة «الخلاف» على المحكيّ (4).

أقول: وكيف كان، فيشهد لحرمة الاستعمال مطلقاً:

1 - صحيح محمّدبن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «أنّه نهى عن آنية الذّهب والفضّة»(5).

فإنّ حذف المتعلّق دليل العموم.

ص: 406


1- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/186.
2- جواهر الكلام: ج 6/69.
3- الخلاف: ج 1/69.
4- الخلاف: ج 2/90.
5- الكافي: ج 6/267 ح 4، وسائل الشيعة: ج 3/506 ح 4302 و ج 24/231 ح 30413.

2 - وموثّق موسى بن بكر، عن أبي الحسن عليه السلام: «آنية الذّهب والفضّة متاعُ اللّذين لا يوقنون»(1).

3 - ولحرمة الأكل خاصّة في جملةٍ من النصوص، كصحيح ابن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «لا تأكل في آنية ذهبٍ ولا فضّة»(2). ونحوه غيره(3).

فالنصوص المتضمّنة للفظ الكراهة، كصحيح ابن بزيع، قال:

«سألتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام عن آنية الذّهب والفضّة فكرههما»(4)، ونحوه غيره(5)، يتعيّن حملها على التحريم، لعدم ظهور الكراهة في الكراهة المصطلحة، والنهي ظاهرٌ في التحريم.

نعم، موثّق سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا ينبغي الشرب في آنية الذّهب والفضّة»(6)، ظاهرٌ في الكراهة، ورفع اليد عن ظهوره مشكلٌ ، لكن لعدم اعتماد الأصحاب عليه يتعيّن طرحه.

يقع الكلام في جهات
اشارة

وبالجملة: فأصل الحكم ممّا لا إشكال فيه ولا كلام، وإنّما الكلام يقع في جهات:

هل المحرّم هو خصوص الإستعمال أم مطلق الانتفاع

الجهة الأُولى : هل المحرّم هو خصوص الإستعمال، فلا يَحرُم وضعها على الرفوف للتزيين مثلاً، أم مطلق الانتفاع بها فيحرم ؟ وجهان:

أقواهما الثاني، لظهور النصوص - بقرينة حذف المتعلّق في بعضها، وفهم الأصحاب - فيه، وعليه فيحرم.

ص: 407


1- الكافي: ج 6/268 ح 7، وسائل الشيعة: ج 3/507 ح 4303 و ج 24/231 ح 30414.
2- الكافي: ج 6/267 ح 1، وسائل الشيعة: ج 3/506 ح 4301 وص 509 ح 4311 وج 24/231 ح 30411 و 30412.
3- وسائل الشيعة: ج 24/231 باب 61 من أبواب الأطعمة المحرّمة.
4- الكافي: ج 6/267 ح 2، وسائل الشيعة: ج 3/505 ح 4300.
5- وسائل الشيعة: ج 3/505 باب 65 من أبواب النجاسات والأواني والجلود.
6- الكافي: ج 2/385 ح 3، وسائل الشيعة: ج 3/507 ح 4304.

ولو بنينا على عدم حرمة الإقتناء، فما عن المصنّف رحمه الله من ابتناء حرمة ذلك على حرمة الإقتناء، غير تامّ .

المشهور بين الأصحاب حرمة اقتنائها
اشارة

الجهة الثانية: المشهور بين الأصحاب(1) حرمة اقتنائها. وعن المصنّف رحمه الله في «المختلف»(2) وجملةٍ ممّن تأخّر عنه: العدم.

واستدلّ للمشهور:

1 - بأنّ الإقتناء تضييعٌ للمال كما عن الشيخ(3).

2 - وبأنّه تعطيلٌ له، فيكون سرفاً لعدم الانتفاع كما عن المحقّق في «المعتبر»(4).

3 - وبأنّ حرمة الاستعمال تستلزم حرمة اتّخاذها بهيئة الاستعمال، كما عن المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(5).

4 - وبخبر موسى بن بكر المتقدّم، بدعوى دخوله في المتاع.

5 - وبأنّ المستفاد من النصوص، أنّ مراد الشارع النهي عن أصل وجودها في الخارج.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّلان: فلأنّ اتّخاذها إظهاراً للثروة والتذاذاً بوجدانها، لا يكون تضييعاً للمال، ولا تعطيلاً له.

واستلزام حرمة الاستعمال لحرمة اتّخاذها بهيئة الاستعمال، محلّ منعٍ واضح.

ودخوله في المتاع مشكلٌ ، كما يشير إليه جعل المتاع مقابل التحلّي في الآية

ص: 408


1- الخلاف: ج 2/90، السرائر: ج 2/487.
2- مختلف الشيعة: ج 1/495.
3- المبسوط: ج 1/13.
4- المعتبر: ج 1/456.
5- منتهى المطلب (ط. ق): ج 1/186.

الشريفة: اِبْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ (1).

والنهي عن الشيء الموجود الخارجي غير معقولٍ ، إلّابتقدير ما يتعلّق به من الأفعال.

وعليه، فالمقدّر إمّا خصوص الاستعمال، أو مطلق الانتفاع، كما عرفت آنفاً، وإرادة ما يشمل إبقاء ذلك الشيء في الخارج، كي يجب اعدامه، خلاف الظاهر، كما لا يخفى .

وأمّا ما ذكره بعض الأعاظم(2): من أنّ المحرّم لو كان ذات الآنية، لم يبق دليلٌ على حرمة الاستعمال، سوى الإجماع.

فغير سديد: لأنّه لو قُدّر ما يعمّ إبقائها لم يبق موردٌ لهذا الإيراد.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم حرمة اقتنائها.ب.

ص: 409


1- سورة الرعد: الآية 17.
2- مصباح الفقيه: ج 1/649 ق 2، حيث نقل عن صاحب الحدائق أنّ جماعة من الأصحاب قائلين بحرمة الأكل والشرب.
التناول من الإناء

الجهة الثالثة: نُسب إلى جملةٍ من الأصحاب، بل إلى المشهور(1) حُرمة نفس الأكل والشّرب، لا مجرّد التناول من الإناء، من غير فرقٍ بين مباشرة الفم للآنية، أو أخذ اللُّقمة منها ووضعها في الفم.

وتنقيح القول في المقام: إنّ النصوص الواردة في المقام طائفتان:

الأُولى : ما دلّ على تحريم مطلق الاستعمال، وهو ما تضمّن النهي عن الآنية.

الثانية: ما دلّ على تحريم الأكل والشُّرب.

ومقتضى الطائفة الأُولى تحريم الأكل والشُّرب بجميع أقسامهما، وإنْ لم يصدق عليهما استعمال الآنية دون مقدّماتهما.

ومقتضى الطائفة الثانية حُرمة كلّ ما يكون استعمالاً لها، كان في الأكل والشّرب أو في غيرهما، ولو كان هو التناول منها، فلو تناول الطعام من آنية الذّهب وأكله. عَصى في كلٍّ مِنَ التّناول والأكل، وعلى ذلك، فلو تناول الماء من آنية الذّهب والفضّة وتوضّأ به، صحَّ وضوئه، وإنْ عَصى بالتناول، لأنّ الوضوء بنفسه ليس استعمالاً للآنية، ولم يدلّ دليلٌ على حرمة الوضوء منها بنفسه من حيث هو، فلا يتّحد المأمور به والمحرّم.

وعليه، فما عن المشهور من صحّة الوضوء من آنية الذّهب والفضّة، هو الأقوي .

والإيراد عليهم: بأنّه بناءً على حُرمة الأكل والشّرب، لا وجه للحكم بصحّة

ص: 410


1- جواهر الكلام: ج 6/330، مستمسك العروة الوثقى: ج 2/176، قوله: (لذلك حكموا بصحّة الوضوء من آنية الذّهب والفضّة من غير خلافٍ يُعرف فيه بينهم).

الوضوء، لعدم الفرق بينهما وبين غيرهما من أنواع الاستعمال، كما عن «الجواهر»(1)، في غير محلّه، لما عرفت من ثبوت الفرق.

نعم، الوضوء منها بالارتماس فيها لا يصحّ ، لأنّ الوضوء في هذا الفرض مصداقٌ للاستعمال المحرّم. وعليه، فما عن «كشف اللّثام»(2) من التصريح بصحّة الوضوء في صورة الارتماس أيضاً غير سديد.

***

المراد من الأواني

الجهة الرابعة: اختلفت كلمات القوم في تعيين مفهوم الإناء:

فعن جملةٍ من كتب اللّغة مثل «الصّحاح»(3) و «القاموس» و «مجمع البحرين»(4) وغيرها: أنّه معروف.

وبما أنّه لا استعمال له في عرفنا اليوم، فلا يفيد ذلك.

وعن «المصباح»(5) تفسيره بالوعاء.

وفيه: أنّه لو لم يكن تفسيراً بالمباين، من جهة أنّ إطلاق (الوعاء) إنّما يكون بالإضافة إلى ما يُوضع فيه فعلاً، وأمّا (الإناء) فإنّما يُطلق بلحاظ الظرف في حَدّ ذاته، فلا ينبغي التأمّل في كونه تفسيراً بالأعمّ ، لعدم صدق (الإناء) على الصندوق،

ص: 411


1- جواهر الكلام: ج 6/332، قوله: (ضرورة عدم الفرق بينهما [الأكل والشرب] وبين غيرهما من أنواع الاستعمال... الخ).
2- كشف اللّثام: ج 1/494 (ط. ج).
3- الصحاح للجوهري: ج 6/227، قوله: (والإناء معروفٌ ، وجمعه آنية، وجمع الآنية الأواني).
4- مجمع البحرين: ج 1/127.
5- المصباح المنير: ج 1/28، قوله: (الإناء والآنية: الوعاء والأوعية).

وعُلبة العِطر ونحوهما، وصدق (الوعاء) عليها.

ومنه يظهر ضعف ما عن «مفردات الرّاغب»(1) من تفسيره بما يُوضع فيه الشيء، وما عن غير واحد من تفسيره بالظرف، ويؤيّد ذلك مصحّح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «سألته عن التعويذ يُعلّق على الحائض ؟ فقال: نعم، إذا كان في جلدٍ أو فضّةٍ أو قصبة حديد»(2).

والظاهر أنّه عبارة عن متاع البيت الذي يُستعمل في الأكل أو الشرب أو مقدّماتهما كالسّماور ونحوه، أو مؤخّراتهما كالإبريق ونحوه.

وأمّا صحيح(3) ابن بزيع، المشتمل على مبالغة الإمام عليه السلام في تنزيه فعل أبي الحسن عليه السلام عن إمساك المرآة الملبّسة بالفضّة، الموهم لأعمّيّة الإناء من ذلك، فلا يُعتنى به؛ لعدم ظهور جوابه عليه السلام فيها، كما لا يخفى .

***0.

ص: 412


1- مفردات غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 29، قوله: (والإناء ما يوضع فيه الشيء، وجمعه آنية نحو كساءوأكسية، والأواني جمع الجمع).
2- الكافي: ج 3/106 ح 4، وسائل الشيعة: ج 2/342 ح 2315 و: ج 3/511 ح 4318.
3- وسائل الشيعة: ج 3/505 ح 4300.

ويُكَره المُفضَّفض.

الإناء المُفضّض

الجهة الخامسة: (ويكره) الأكل والشُّرب في الإناء (المُفضَّض)، بل مطلق استعماله على المشهور.

وعن «الذخيرة»(1)، و «الرياض»(2): نسبته إلى عامّة المتأخّرين.

بل عن «الجواهر»(3): لا أجد فيه خلافاً، إلّاما يُحكى عن «الخلاف» حيث سوّى بينه وبين الذّهب والفضّة.

واستدلّ له:(4) بصحيح الحلبيّ المرويّ عن «المحاسن»، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«أنّه كره آنية الذّهب والفضّة، والآنية المُفضّضة».

ونحوه موثّق(5) بُريد عنه عليه السلام.

ومصحّح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا تأكل في آنيةٍ من فضّةٍ ولا في آنيةٍ مفضّضة»(6).

وفيه: أنّ ظهور هذه النصوص في المنع، وإنْ كان لا يُنكر، إلّاأنّه يتعيّن صرفها

ص: 413


1- ذخيرة المعاد: ج 1/173 ق 1، (حرمة استعمال أواني الذّهب والفضّة للأكل).
2- رياض المسائل (ط. ج): ج 2/421.
3- جواهر الكلام: ج 6/340.
4- وسائل الشيعة: ج 3/508 ح 4309.
5- عوالي اللآلي: ج 3/62 ح 184.
6- الكافي: ج 6/267 ح 3، وسائل الشيعة: ج 24/231 ح 30411.

عن ظاهرها، وحملها على الكراهة، لا لصحيح معاوية(1): «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الشُّرب في القَدَح فيه ضبّةٌ من فضّة ؟ قال: لا بأس، إلّاأن يَكره الفضّة فينزعها».

اذ الظاهر أنّ (الضبّة) هي الحلقة، ولا ريب في عدم صدق المُفضّض على الإناء الذي تكون حلقته من فضّة.

بل لصحيح(2) ابن سنان، عن الصادق عليه السلام: «لا بأس أنْ يشرب الرَّجل في القَدَح المُفضّض، واعزل فاكَ عن موضع الفضّة».

أقول: ثمّ إنّ ظاهر «شرح الإرشاد» ثبوت الكراهة في المذهَّبِ أيضاً، واستدلّ له بأنّ الذّهب لا ينزل عن درجة الفضّة.

وفيه: أنّه حكم بالكراهة مع عدم الدليل، ومناطها في الفضّة غير معلوم حتّى يتعدّى عنها.

وأيضاً: لا ينبغي التوقّف في عدم شمول المُفضّض للمطليّ بماء الفضّة، إذ الظاهر منه هو ما كانت الفضّة فيه جِرْماً عرفاً لا لوناً.

وعليه، فما عن المصنّف رحمه الله و «كشف الغطاء»(3) من شموله له ضعيف.

كما أنّ الظاهر عدم شموله لما فيه حلقةٌ من فضّة كما تقدّم، وعدم شموله للممتزج من الفضّة، وغيرها، إذ مع استهلاك أحدهما، يكون من مصاديق الآخر عرفاً، وإلّا فهو مغشوشٌ لا مُفضّض.

ثمّ إنّه نُسب إلى المشهور: لزوم اجتناب موضع الفضّة.).

ص: 414


1- التهذيب: ج 9/91 ح 126.
2- التهذيب: ج 9/91 ح 127، وسائل الشيعة: ج 3/510 ح 4315.
3- كشف الغطاء ج 1/183-184، (المطلب الخامس: الأواني).

وعن المحقّق في «المعتبر»(1)، والعلّامة الطباطبائي رحمه الله(2)، وصاحبي «المدارك»(3) و «الذخيرة»(4): الإستحباب.

ويشهد للأوّل: صحيح ابن سنان المتقدّم، وفيه:

«واعزل فاكَ عن موضع الفضّة».

واستدلّ للجواز: بصحيح معاوية المتقدّم، ولأجله تُرفع اليد عن ظاهر الأمر في صحيح ابن سنان.

وفيه: ما تقدّم من أنّ المُفضّض غير ما فيه حلقة من فضّة، والصحيح يدلّ على الجواز في الثاني دون الأوّل، مع أنّ دلالته على الجواز في المقام إنّما تكون بالإطلاق، فيقيّد بصحيح ابن سنان.

***1.

ص: 415


1- المعتبر: ج 1/455، (في أواني الذّهب والفضّة).
2- رياض المسائل: ج 2/422-423.
3- مدارك الأحكام: ج 2/383.
4- ذخيرة المعاد: ج 1/174 ق 1.

وأواني المشركين طاهرةٌ ما لم يُعْلَم مُباشَرتهم لها برطوبة.

أواني المشركين

المسألة الثالثة: (وأواني المُشركين) وسائر الكفّار (طاهرةٌ ، ما لم يُعلَم مباشرتهم لها برطوبة) كما هو المشهور(1).

بل عن «كشف اللّثام»(2): الإجماع عليه.

وعن الشيخ في «الخلاف»(3): عدم جواز استعمالها.

وتشهد للأوّل: قاعدة الطهارة واستصحابها، ويؤيّدهما ما دلّ (4) على طهارة الثّوب الذي يعمله أهل الكتاب.

وأمّا التعليل في صحيح(5) ابن سنان بقوله عليه السلام: «فإنّك أعرتهُ إيّاه وهو طاهرٌ ولم تستيقن أنّه نجّسه» فمضافاً إلى أنّ مورده الثّوب الذي أعاره للذمّي، انه لا يزيد مفاده عن الاستصحاب.

واستدلّ الشيخ لما اختاره:

1 - بآية(6) نجاسة المشركين.

ص: 416


1- اعتبر المحقّق السبزواري في كفاية الأحكام: ج 1/72 أنّ الطهارة هي الأشهر.
2- كشف اللّثام: ج 1/486.
3- الخلاف: ج 1/70، قال: (لا يجوز استعمال أواني المشركين من أهل الذمّة وغيرهم... وعليه إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط تقتضي تنجيسها).
4- التهذيب: ج 2/219 ح 70، وسائل الشيعة: ج 3/519 ح 4343، وفيه: (سألت جعفر بن محمّد عليه السلام عن الثّوب يعمله أهل الكتاب، اُصلّي فيه قبل أن يُغسل ؟ قال: لا بأس، وأن يُغسل أحبُّ إليّ ).
5- التهذيب: ج 2/361 ح 27، وسائل الشيعة: ج 3/521 ح 4348.
6- سورة التوبة: الآية 28، قوله تعالى : «إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ».

2 - وبالإجماع.

3 - وبما دلّ على المنع عن الأكل من الآنية التي يشربون فيها الخمر(1).

وفيه: إنّ الآية والرواية لا تدلّان على النجاسة في صورة الشكّ في ملاقاة المشرك لها مع الرطوبة، وعدم ثبوت الإجماع غنيٌ عن البيان.

وعلى ذلك فيتعيّن حمل كلامه رحمه الله على إرادة النجاسة في صورة المباشرة لها مع الرطوبة، وأمّا ما تضمّن النهي عن الأكل في آنية أهل الكتاب، فيتعيّن حمله على صورة العلم بمباشرتهم لها مع الرطوبة، كما تقدّم في مبحث نجاسة الكافر.(2)

***

تمَّ الجزء الخامس من موسوعة «فقه الصادق» بقلم مؤلّفه الأحقر،

محمّد صادق الحسيني الروحاني عفى اللّه عنه،

ويتلوه الجزء السادس إنْ شاء اللّه تعالى.

وما توفيقي إلّاباللّه، والحمدُ للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.د.

ص: 417


1- الكافي: ج 6/264 ح 5، وسائل الشيعة: ج 3/517 ح 4337، وفيه: فقال: (لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذين يطبخون، ولا في آنيتهم الذين يشربون فيها الخمر).
2- صفحة 112 من هذا المجلّد.

ص: 418

فهرس الموضوعات

في النّجاسات وأحكامها... 7

أقسام النجاسات... 9

بولُ الطّير... 12

البول والغائط من حلال اللّحم... 18

فروع النجاسات... 23

بيع البول والغائط... 26

الشكّ في التذكية... 28

نجاسة المَنيّ ... 32

نجاسة الميتة... 37

الأجزاء المُبانة من الميتة... 41

طهارة الأنفحة... 44

الأجزاء المُبانة من الحَيّ ... 48

طهارة فأرة المسك... 51

ميتة ما لا نَفس له... 55

الشَّك في التذكية... 57

حكم الجلد في سوق المسلمين... 61

حكم ما في يد المُستَحلّ للميتة... 65

حكم دباغة جلد الميتة... 67

حكم السِّقط... 69

حكم ملاقاة الميتة... 71

عدم جواز بيع الميتة... 73

نجاسة الدّم... 77

ص: 419

دَمُ ما لا نفس له... 80

حُكم العَلَقة... 83

الدَّم المشكوك فيه... 85

الدّم المُراق في الأمراق... 88

الكَلْب والخنزير... 90

حكم المتولّد منهما... 94

نجاسة الكافر... 97

حكم مُنكِر الضروري... 109

ولد الكافر تابعٌ للكافر... 112

طهارة ولد الزِّنا... 116

الغُلاة والخَوارج والنّواصب... 118

طهارة المخالفين... 123

حكم المشكوك إسلامه أو كفره... 126

نجاسة الخمر... 128

في نجاسة العصير العنبي وعدمها... 134

حُرمة العصير العنبي... 143

حكم غليان العنب... 148

حكم العصير من التمر... 150

حكم العصير الزبيبي... 155

الفقاع... 160

عَرَق الجُنُب من الحرام... 163

فروع عرق الجُنب... 167

حكم عرق الإبل الجلّالة... 169

حكم المُسُوخات... 171

المتنجّسات وأحكامها... 175

ص: 420

المتنجّس لا يتنجّس ثانياً... 177

لو علم تنجّس شيء بالأشدّ أو الأضعف... 179

المتنجّس منجّس... 181

اعتبار الطهارة في الصّلاة... 197

وجوب إزالة النجاسة عن المسجد... 200

فروع نجاسة المسجد... 205

وجوب قطع الصّلاة للإزالة... 209

حكم تنجيس المسجد الخراب وتطهيره... 214

وجوب التيمّم لمكث الجُنُب في المسجد للإزالة... 216

حكم تنجيس المشاهد المشرّفة... 218

ما يُعفى عنه في الصَّلاة... 220

في المستثنيات... 224

دم نجس العين... 227

المراد بالدّرهم... 229

حكم الدّم المتفرق... 232

الدَّم المشكوك فيه... 235

الدّم المتسرّي إلى الجانب الآخر... 239

العفو عن دم الجروح والقروح.... 242

فروع:... 246

ما لا يَتمُّ فيه الصّلاة... 249

اذا كان اللّباس متّخذاً من النجاسات... 251

المحمول المتنجّس... 254

ثوب المُربّية... 257

فروع... 257

تَذنيبٌ ... 263

ص: 421

الصّلاة في النّجس... 264

انحصار الثّوب في النّجس... 267

فروع ثوب المصلّي... 273

الصَّلاة في النَّجس... 277

فرعان حول الصلاة في النجس... 283

حكم الجاهل بالنّجاسة... 285

الجاهل بالموضوع... 290

الإلتفات أثناء الصّلاة... 295

فصل في المطهّرات... 301

شرائط التطهير بالماء... 301

شرائط التطهير بالقليل... 305

اعتبار تعدّد الغسل في المتنجّس بالبول... 307

بول الرَّضيع... 312

الاكتفاء بالمرّة في عامّة النّجاسات... 315

كفاية المرّة في الكُرّ والجاري... 319

عصر الثياب... 322

ما ينفذ فيه الماء ولا يمكن عَصْره... 325

فروع... 328

مطهّريّة الشّمس... 330

فروع مطهّرية الشمس... 336

مطهّريّة الأرض... 340

اشتراط طهارة الأرض... 348

الإستحالة... 351

استحالة المتنجّس... 354

العجين المعجون بالماء النّجس... 356

ص: 422

صيرورة الطين آجراً... 359

مطهّريّة الانقلاب... 363

ذهاب الثُّلثين... 369

الإنتقال... 370

مطهّريّة الإسلام... 373

زوال النجاسة... 379

غيبة الإنسان... 382

فصلٌ / في أحكام الأواني... 385

تنبيهات أحكام الأواني... 389

لزوم التعفير في الغَسل بالكثير... 391

اختصاص الحكم بالولوغ... 395

ولوغ الخنزير... 398

المتنجّس بالخَمر... 400

الإناء الملاقي للجرذ... 403

حُرمة استعمال أواني الذّهب والفضّة... 406

التناول من الإناء... 410

المراد من الأواني... 411

الإناء المُفضّض... 413

أواني المشركين... 416

فهرس الموضوعات... 419

ص: 423

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.