فقه الصادق المجلد 1

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی

باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

كتاب الطهارة

الباب الأوّل: في المياه

الماء على ضربين: مطلق ومضاف. فالمطلق ما يستحقّ إطلاق اسم الماء عليه، ولا يمكن سَلبه عنه.

كتاب الطهارة

الباب الأوّل: في المياه

المطلق والمضاف

اشارة

وهو في اصطلاح الفقهاء(1) يُطلق على المسائل المدَّونة لمعرفة الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بضدّ النجاسة بمعناها المعروف عند المتشرّعة، والنظافة المعنويّة الموجبة لإباحة الصلاة، وفيه أبواب:

(الباب الأوّل: في المياه: الماء على ضربين: مطلقٌ ومضاف:

فالمطلق: ما يستحقّ إطلاق اسم الماء عليه) من دون إضافةٍ، (ولا يمكن سلبه عنه).

وبعبارة أُخرى: هو ما يصحّ إطلاق الماء عليه بلا عناية.

ص: 7


1- اصطلاح الفقهاء في مقابل المعنى اللّغوي للكلمة. حيث يقال في التعريف اللّغوي للكلمة (الطهارة لغةً النظافة) كما في نهاية الاحكام: ج 1/19. للعلّامة، والمحقّق البحراني في الحدائق الناضرة: ج 2/194، وقيل (النظافة والنزاهة عن الأدناس) كما في المهذّب البارع: ج 1/75 لابن فهد الحلّي، وقال ابن نجيم المصري الحنفي في البحر الرائق: ج 1/21 (الطهارة لغةً وشرعاً هي النظافة). وينبغي الإشارة إلى أنّ كلام السيّد دام ظلّه ناظرٌ إلى الأوّل دون الثاني.

والمضاف بخلافه، فالمطلق طاهرٌ ومطهّر.

(والمضاف: بخلافه) أي ما لا يطلق عليه حقيقةً، إلّامع الإضافة، كماء الرُّمان، فإنّ إطلاق لفظ الماء عليه مجازٌ، وإنّما يطلق عليه حقيقةً ماء الرُّمان.

(فالمطلق: طاهرٌ ومطَّهر) بلا خلافٍ، بل عليه إجماع الأُمّة. بل هو من ضروريّات الدِّين، ولم يخالف فيه إلّاسعيد بن المُسيّب(1) وعبد اللّه بن عمرو(2).

ويدلّ على المختار من الكتاب، قوله تعالى: (أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً طَهُوراً) (3) لأنّ أحد معاني الطهور - على ما يستفاد من موارد استعمال هذا اللّفظ في الروايات وغيرها - هو ما يتطهّر به كالسّحور والفطور، فيدلّ بالمطابقة على مطهريّته، وبالالتزام على طهارته في نفسه.

فما في «الجواهر»(4): من أنّ المراد منه هنا المُطهّر لاستعماله فيه في جملةٍ من الروايات المعتبرة.

مخدوشٌ: إذ لم يثبت كونه أحد معانيه، وما في الروايات كما يصلح لأن يكون هو المستعمل فيه والمراد منه كذلك يصلح لأن يكون المراد منه ما ذكرناه، كما لايخفى.

ولكن بما أنّه يحتمل أن يكون المراد منه المبالغة، فإنّ (فعول) من صيغ المبالغة لا يصحّ الاستدلال به.ف.

ص: 8


1- حكاه عنه المحقّق في المعتبر: ج 1/37، وسعيد بن المُسيّب بن حزن، هو أبو محمّد المخزومي من الصدر الأوّل، ربّاه أمير المؤمنين عليه السلام. رجال ابن داود الحلّي: ص 103.
2- حكاه عنه العلّامة في التذكرة: ج 1/9، وقال في مسألة رقم 1 بعد ذكر الماء المطلق: وهو في الأصل طاهر ومطهّر إجماعاً من الخبث والحدث، إلّاما روي عن ابن عمر، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص...
3- سورة الفرقان: الآية 48.
4- جواهر الكلام: ج 1/62 بتصرّف.

وما ذكره شيخ الطائفة رحمه الله(1): وتبعه جماعةٌ من الفحول؛ من أنّ صيغة المبالغة لا تُستعمل إلّافيما تكرّر فيه الشيء الذي اشتقّ الاسم منه، وحيثُ أنّ كونه طاهراً ممّا يتزايد، فلابدَّ وأن يكون استعمال هذا اللّفظ فيه باعتبار أنّه طاهرٌ في نفسه، ومطهّرٌ من الخبث والحدث.

مندفعٌ: بأنّه يتصوّر فيه ذلك باعتبار أنّ الماء ممّا لا يتنجّس بملاقاة النجاسة، بخلاف غيره ممّا يكون طاهراً، فتكون طهارته أزيد من طهارة غيره.

ويؤيّد ذلك: ما رواه فِي «الْمُعْتَبَرِ» قَالَ: قَالَ عليه السلام: «خَلَقَ اللّهُ الْمَاءَ طَهُوراً لا يُنَجِّسُهُ شَيْ ءٌ.... الخ»(2).

أقول: إنّه قد أورد على الاستدلال بها بإيرادين:

الأوّل: اختصاصها بماء المطر.

الثاني: إنّ كلمة (ماء) نكرة في سياق الإثبات، وهي لا تفيد العموم.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ جميع المياه إنّما نزلت من السماء، كما تدلّ عليه الآيات والروايات.

وعلى الثاني: أنّ الآية لورودها مورد الامتنان تدلّ على العموم.

واستدلّ له: بقوله تعالى: (يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (3)، ودلالة هذه الآية على المدَّعى وإنْ كانت سليمة عن الإشكال المتقدّم، لكنّها وردت في واقعةٍ خاصّة، إلّاأن يستدلّ بها على الحكم مع ضميمة الإجماع على عدم الفرق.

وأمّا السُنّة: فلا تخلو من الدلالة على طهارته ومطهريّته، ففي صحيح ابن فرقد1.

ص: 9


1- الخلاف: ج 1/50، مسألة 1 بتصرّف.
2- المعتبر: ج 1/44، وسائل الشيعة: ج 1/135، ح 330.
3- سورة الأنفال: الآية 11.

عن الصادق عليه السلام: «كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إذا أَصَابَ أَحَدَهُمْ قَطْرَةُ بَوْلٍ قَرَضُوا لُحُومَهُمْ بِالْمَقَارِيضِ، وقَدْ وَسَّعَ اللّهُ عَلَيْكُمْ بِأَوْسَعِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، وجَعَلَ لَكُمُ الْمَاءَ طَهُوراً»(1).

وفي صحيح جميل عنه عليه السلام: «إِنَّ اللّهَ جَعَلَ التُّرَابَ طَهُوراً كَمَا جَعَلَ الْمَاءَ طَهُوراً»(2).

ورد في الخبر الذي رواه السكوني عن الإمام علي عليه السلام: «الْمَاءُ يُطَهِّرُ ولا يُطَهَّرُ»(3).

هذا مضافاً إلى الأخبار الواردة في تطهير النجاسات والوضوء والغُسل، المصرّحة بحصول الطهارة به، ومع هذه الروايات لا حاجة إلى إطالة الكلام في الاستدلال على المطلوب.

أمّا ما رُوي عن عبد اللّه بن عَمْرو(4) من عدم جواز التوضوء بماء البحر.

فيدفعه: ما يدلّ على مطهّريّة الماء مطلقاً، مضافاً إلى الروايات الدالّة على: «أنّ البحر تَحِلُّ ميتته وطهورٌ مائه»(5).

***».

ص: 10


1- وسائل الشيعة: ج 1/133 ح 325، الفقيه: ج 1/10، التهذيب: ج 1/365 ح 1064.
2- الكافي: ج 3/1 ح 1، الفقيه: ج 1/5 ح 2، وسائل الشيعة: ج 1/133 ح 322.
3- الكافي: ج 3/1 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/134 ح 327، إلّاأنّ الحديث الذي رواه السكوني مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام فهو عن مسعدة بن اليسع كما في المحاسن: ج 2/570 ح 4، ووسائل الشيعة: ج 1/135 ح 328.
4- توقّف جماعة في ماء البحر، لأنّه ليس بمنزل من السماء، حتّى رووا عن عبد اللّه بن عمرو وابن عُمر معاً أنّه لا يتوضّأ به لأنّه نار ولأنّه طبق جهنم. راجع: تفسير القرطبي: ص 53.
5- الكافي: ج 3/1، وسائل الشيعة: ج 1/136 ح 335. قوله عليه السلام: عندما سئل عن ماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحِلّ ميتته».

باعتبار وقوع النجاسة فيه ينقسم أقساماً.

أقول: ثمّ إنّ الماء (باعتبار وقوع النجاسة فيه ينقسم أقساماً)، وهي:

الجاري، والنّابع غير الجاري، وماءُ الغيث، والرّاكد المنقسم إلى: الكر، والقليل، والبئر.

وما عن جماعةٍ: من عدم ذكر ماء الغيث والنّابع في الأقسام، لعلّه يكون من جهة كون المقسم ماءُ الأرض، ودخول النّابع في الجاري أو في البئر. كما صَرّح به المحقّق البهبهاني رحمه الله(1).

***0.

ص: 11


1- حكاه عنه الشيخ الأعظم في كتاب الطهارة: ج 1/71 نقلاً عن مفتاح الكرامة، قوله: (النّابع الرّاكد عند الفقهاء في حكم البئر)، وحكاه عنه أيضاً السيّد في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/110.
المطلق
اشارة

الأوّل: الجاري كمياه الأنهار. ولا يَنجسُ بما يَقعُ من النجاسة، ما لم يتغيّر لونه أو طَعمه أو ريحه بها.

القسم الأوّل: الماء الجاري
اشارة

أمّا (الأوّل): أي (الجاري) فهو النّابع السائل (كمياه الأنهار)، كما هو المشهور شهرةً عظيمة، تكاد تبلغ الإجماع، ويساعده العرف واللّغة(1).

وعن ابن أبي عقيل(2): عدم اعتبار النبع في صدقه.

وفيه: أنّ الظاهر مدخليّة الاستعداد للجريان في صدق الجاري.

وبعبارة أُخرى: صدق الماء الجاري على ماءٍ بقول مطلق، إنّما يتوقّف على كونه عن نبع، ولذا ترى عدم صدقه على الماء المُنصَّب من الإبريق.

وعن «المسالك»(3): المراد بالجاري النّابع غير البئر، سواءٌ جرى أم لا.

وفيه: أنّه لا شاهد له، مع كونه مخالفاً للعرف واللّغة والإصطلاح.

أقول: (و) كيف كان، ف (لا ينجس بما يقع من النجاسة، ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بها) على المشهور، بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه.

وبهذه الإجماعات المنقولة استدلّ المحقّق الهمداني(4) رحمه الله على أصل الحكم،

ص: 12


1- لغةً الماء موضع تفجّره، وجاء بمعنى النّابع، قال صاحب تاج العروس: ج 5/518، وهو الماء الثجاج، وهو السائل. (غريب الحديث: ج 1/279). والمعين: الماء السائل، وقيل الجاري على وجه الأرض (لسان العرب: ج 410/13).
2- حكاه عنه المحقّق الخوئي في كتاب الطهارة: ج 1/113 نقلاً عن جامع المقاصد: ج 1/110.
3- مسالك الافهام: ج 1/12.
4- مصباح الفقيه: ص 7 الطبعة الحجريّة.

بدعوى أنّها موجبة للحدس القطعي بكون الحكم معروفاً عند أصحاب الأئمّة، مغروساً في أذهانهم، ولولا أنّ فتاوى الأصحاب في مثل هذا الفرع مورثة لإستكشاف رأي المعصوم، لتعذّر استفادة موافقته في شيءٍ من المسائل الفرعيّة من فتاوى العلماء.

وفيه: أنّ هذا الاتّفاق - بما أنّ مدرك القوم في فتاواهم معلومٌ، وهي الروايات التي ستمرّ عليك - لا يكون بنفسه كاشفاً عن رأي الإمام عليه السلام.

وكيف كان، فيشهد للحكم:

التعليل، وهو قوله عليه السلام: (لأنّ له مادّة) في صحيح ابن بزيع الآتي، لأنّه بعمومه يدلّ على عدم إنفعال كلّ ما له مادّة.

وصحيح ابن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الثّوب الذي يصيبه البول قال:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الثَّوْبِ يُصِيبُهُ الْبَوْلُ؟ قَالَ: اغْسِلْهُ فِي الْمَرْكَنِ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ غَسَلْتَهُ فِي مَاءٍ جَارٍ فَمَرَّةً وَاحِدَةً»(1).

حيث أنّه عليه السلام حكم بكفاية الغَسل مرّةً واحدة في الجاري، والظاهر منه وضع الثوب فيه لا صبّه عليه، ولولا عدم انفعاله لما كان يطهر الثوب بذلك، لأنّه بمجرّد الوضع ينجس الماء، فلا تحصل طهارة الثوب به. مضافاً إلى أنّه من الفرق بين الغَسل في الجاري وفي غيره، والاكتفاء بالمرّة فيه خاصّة، يستفاد عدم انفعاله بالملازمة العرفيّة، فتدبّر.

ويمكن الاستدلال له: بصحيح داود بن سرحان: «قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: مَا تَقُولُ فِي مَاءِ الْحَمَّامِ؟ قَالَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي»(2).7.

ص: 13


1- تهذيب الأحكام: ج 1/250 ح 4، وسائل الشيعة: ج 3/397 ح 3966.
2- تهذيب الأحكام: ج 1/378 ح 1170، وسائل الشيعة: ج 1/148 ح 367.

حيث أنّ السؤال على ما يظهر من سائر الروايات إنّما كان عن الحمّامات المتعارفة في ذلك الزمان، التي لم يكن ماءها كراً وكانت متّصلة به، فقوله عليه السلام (بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي) أقوى شاهدٍ على عدم إنفعال الجاري، وإلّا لم يكن وجهٌ لتنزيل ماء الحمّام منزلته.

وبالجملة: الرواية ظاهرة سؤالاً وجواباً في أنّ التنزيل إنّما يكون في عدم الانفعال.

أقول: وبهذا البيان يندفع ما أشكل بعض الأعاظم(1) من إجمال الحكم الملحوظ في التنزيل.

ودعوى(2): أنّ مقتضى التنزيل مساواة الشيئين في الحكم، وحيث يُعلم من الخارج اشتراط بلوغ المادّة ولو مع ما في الحياض كُراً، فيدلّ هذا الخبر على اعتبار الكريَّة في الجاري أيضاً، فهو على خلاف المطلوب أدلّ.

مندفعة: بأنّ التنزيل إنّما يقتضي ثبوت حكم المنزّل عليه وهو الجاري، للمنزّل وهو ماء الحمّام، لا حكم المنزّل للمنزّل عليه. فالتنزيلُ لا يقتضي اعتبار الكريَّة في الجاري، لاعتباره في ماء الحمّام أيضاً.

مضافاً إلى أنّه لو لم يكن للجاري خصوصيّة، لم يكن وجهٌ لذكره بالخصوص، وكان الأولى تنزيل ماء الحمّام منزلة ماء البحر، مع أنّ تنزيل كُرٍّ منزلة آخر بديهي البطلان.

وأيضاً: يمكن الاستدلال له ببعض الروايات الواردة في البول في الماء الجاري، وهو ما سئل فيه عن الماء، مثل خبر سماعة، قال:ق.

ص: 14


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 1/131.
2- الظاهر أنّ الدعوى من السيّد الحكيم، راجع المصدر السابق.

«سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَاءِ الْجَارِي يُبَالُ فِيهِ؟ قَالَ: لا بَأْسَ بِهِ»(1).

فإنّ ظاهره السؤال عن الماء بعد البول، لا عن حكم البول.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى عدم إنفعال الجاري، سواءٌ أكان بمقدار الكُرّ أو أقلّ.

وعن المصنّف رحمه الله(2) والشهيد الثاني رحمه الله(3): اعتبار الكريَّة فيه، مستنداً إلى عموم ما يدلّ على إنفعال الماء القليل.

وفيه: أنّه مخصّصٌ بالأدلّة المذكورة.

ودعوى: أنّ النسبة بين الطائفتين عموم من وجه فيتساقطان، والمرجع عموم ما يدلّ على إنفعال الأشياء بالملاقاة، بناءً على ضعف سند النبويّ(4) الدالّ على اعتصام الماء مطلقاً كما هو الحقّ.

مندفعة: بأنّه لا شبهة في أظهريّة التعليل في اعتصام الجاري مطلقاً عمَّا يدلّ على إنفعال القليل، كما لا يخفى.

مع أنّه لو حملنا أخبار الانفعال على القليل غير الجاري، لا يلزم محذورٌ، بخلاف حمل نصوص الاعتصام على الجاري غير القليل، إذ يلزم حينئذٍ لغويّة قوله عليه السلام: (لأنّ له مادّة)، إذ حينئذٍ لا خصوصيّة للمادّة، فيصبح ذكره لغواً، فقوله:

(لأنّ له مادّة) الظاهر في أنّ لكونه ذا مادّة خصوصيّة في الاعتصام، توجب تقدّم هذه النصوص على أخبار الانفعال.ه.

ص: 15


1- الاستبصار: ج 1/13، التهذيب: ج 1/34، وسائل الشيعة: ج 1/143 ح 355.
2- كما في منتهى المطلب: ج 1/29. والمعتبر: ج 1/42.
3- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 1/252.
4- القائل: (خَلق اللّه الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلّاما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه)، رواه ابن إدريس في السرائر: ج 1/6 مرسلاً، وقال إنّه متّفقٌ على روايته.

والنتيجة: ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا ينجس كلّ ما له مادّة بالملاقاة مع النجس، سواءٌ أكان خروج الماء عنه بالفوران، أو بنحو الرّشح، ولو لم يصدق النبع على الخارج بنحو الرشح، لعموم مايدلّ على عاصميَّة المادّة، ومثله كلّنابعٍ ولو كان راكداً.

***

الشكّ في وجود المادّة وعدمه

فروع:

الفرع الأوّل: إذا شُكّ في أنّ له مادّة، وكان قليلاً ينجس بالملاقاة، كما صرّح به غير واحدٍ(1)، وما يمكن أن يكون مدركاً لهذا الحكم، واستدلّ له باُمور:

الأمر الأوّل: أنّ المستفاد من النصوص اقتضاء الملاقاة للانفعال، والمادّة مانعة عنه، فمع الشكّ في المانع يكون المرجع أصالة عدمه.

وفيه: مضافاً إلى عدم تماميّة قاعدة المقتضي والمانع في نفسه، كما حُقّق في محلّه، فهي غير جارية في المقام، لعدم إمكان تمييزالمقتضي عن المانع و الشرطفي الشرعيّات.

الأمر الثاني: ما عن المحقّق النائيني قدس سره: من أنّ إناطة الحكم غير الإلزامي، أو ما هو موضوعٌ له على أمر وجودي، تدلّ بالالتزام العرفي على إناطة الحكم بإحراز ذلك الأمر، وانتفائه عند عدم إحرازه، فما لم يُحرز كونه ذا مادّةٍ يُحكم بالنجاسة.

وفيه: أنّ الظاهر من إناطة الحكم الإباحي على أمرٍ، كإناطة المنع عليه، أنّ المقصود ليس إلّاجعل حكم واقعي لموضوعه الواقعي، ولم يثبت لنا وجود قاعدة عقلائيّة ظاهريّة مقتضية لذلك.

الأمر الثالث: عموم ما يدلّ على نجاسة الماء القليل بالملاقاة، خرج عنه ما له مادّة، ومع الشكّ في ذلك يتمسّك بالعموم.

ص: 16


1- كما في العروة الوثقى المسألة 92/76، والسيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/135، والسيّد الخوئي في مستند العروة الوثقى: ج 1/128.

وفيه: أنّه يُبنى على جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، والتحقيق خلافه كما ثبت في محلّه.

الأمر الرابع: استصحاب العدم الأزلي، الذي قد ثبت في محلّه جريانه، لأنّ هذا الماء قبل وجوده لم يكن له مادّة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، وبعد تحقّقه يُشكّ في ثبوت هذا العنوان له، فيستصحب عدمه.

بل لا يبعد دعوى جريان استصحاب العدم النعتي أيضاً، إذ هذا الماء إن لم يكن نابعاً عن مادّةٍ فلا كلام.

وإنْ كان نابعاً عنها، فقبل خروجه عن منبعه لم يكن ماءٌ له مادّة، بل كان مادّة، وبعد خروجه يشكّ في ثبوت هذا العنوان له، فيستصحب عدمه.

***

الفرع الثاني: لو كانت المادّة من الأعلى، فإنْ كانت تترشّح وتتقاطر دون الكُرّ ينجس لعدم صدق الجاري عليه كما هو واضح، وليس من أفراد ما له المادّة، لأنّها إذا كانت منفصلة عن الماء تكون غيره، فلا يصدق عليه أنّ له مادّة.

***

الفرع الثالث: يعتبر في المادّة الدوام، فلو اجتمع ماء المطر أو غيره تحت الأرض، وترشّح إذا حفرت، لا يكون حكمه حكم الجاري، إذ من المستبعد جدّاً أن يكون الماء قبل أن يجتمع تحت الأرض غير عاصم، ويصبح عاصماً بذلك، فلذا تكون دعوى انصراف ذي المادّة عن مثله قريبة.

فما في «الجواهر»(1) من التشكيك في شمول ذي المادّة له أوّلاً، ثمّ تقوية شموله له ضعيفٌ.

***3.

ص: 17


1- جواهر الكلام: ج 1/73.

الفرع الرابع: الرّاكد المتّصل بالجاري كالجاري في عدم انفعاله بملاقاة النجاسة، لأنّه يصدق عليه أنّ له مادّة، وأمّا سائر أحكام الجاري المختَّصة به، أي ما يترتّب على عنوان الجاري، فالظاهر عدم ترتبه عليه لعدم كونه جارياً.

***

الفرع الخامس: العيون التي تنبع في فصلٍ كالشتاء وتجفّ في فصلٍ آخر كالصيف، يلحقها حكم الجاري في فصل نبعها.

ونُسب إلى الشهيد رحمه الله(1) - المُصرِّح باعتبار الدوام في النبع في اعتصام الجاري عدم اللّحوق.

وفيه: أنّه تقييدٌ لإطلاق قوله عليه السلام: «لأنّ له مادّة» من غير أن يدلّ عليه دليل، كما صرّح به المحقّق رحمه الله(2). والظاهر أنّ مراد الشهيد الأوّل؛ من كلامه المتقدّم ليس ما توهّم، لأنّه منزّه عن أن يذهب إلى مثله، بل مراده - بحسب الظاهر - التحرّز عن العيون التي تنبع آناً وتقف آناً، لضعف الاستعداد في نبعها، وعليه فالمراد من عدم اعتصامه حينئذٍ أنّه لا اعتصام له دائماً.

***).

ص: 18


1- الشهيد الأوّل في الدروس: ج 1/119.
2- العروة الوثقى: ج 1/78 مسألة (7) أو 97 من (ط. ج).

فإن تغيّر، نَجَّس المتغيّر خاصّة دون ما قبله وما بعده.

الماء المُتغيّر

(فإن تغيّر) الماء بأقسامه بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة من الطعم والرائحة واللّون (نجَّس المتغيّر خاصّة، دون ما قبله وما بعده) بلا خلافٍ، بل في «الجواهر»(1)إجماعاً محصّلاً ومنقولاً كاد يكون متواتراً.

واستدلّ له: بالنبويّ عن جَعْفَرُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ الُْمحَقِّقُ فِي «الْمُعْتَبَرِ»، قَالَ:

قَالَ عليه السلام: «خَلَقَ اللّهُ الْمَاءَ طَهُوراً لا يُنَجِّسُهُ شَيْ ءٌ إلّامَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ»(2).

وفي «السرائر»(3): أنّ النبويّ من المتّفق على روايته.

وعن ابن أبي عقيل(4): أنّه متواترٌ عن الصادق عليه السلام عن آبائه.

وفي «الذخيرة»(5): أنّه عمل الأُمَّة بمدلوله وقبوله.

وعن المصنّف رحمه الله في المسائل المدنيّة: إنّ الرواية صحيحة السند.

أقول: ولكن الأقوى عدم صحّة الاعتماد عليه في الفتوى، لأنّ المحقّق ردّ في(6)«المسائل المصريّة» العُمّاني - حيث احتجّ به - بأنّه مرويّ من طريق الجمهور، وأكثرهم طعن في سنده، وهو ادّعى تواتره عن الأئمّة عليهم السلام، ونحن ما رأينا له سنداً في

ص: 19


1- جواهر الكلام: ج 1/75.
2- وسائل الشيعة: ج 1/135 ح 330.
3- السرائر: ج 1/64.
4- نقل ذلك عن الحسن ابن أبي عقيل العُمّاني في مختلف الشيعة: ج 1/177.
5- ذخيرة المعاد: ج 1/116 طبعة حجريّة، وعبارته (وهو مذهب العلماء كافّة).
6- ورد هذا الكلام أيضاً للمحقّق في الرسائل التسع: 68.

كتب الأصحاب آحاداً فكيف تواتراً؟

وعن الشهيد رحمه الله: الاستدلال لنجاسة الماء المتغيَّر بحديث: «خَلَق اللّه الماءَ طهوراً...» من دون ذكر اللّون(1)، ثمّ قال في ردّ العُماني: وقد رواه قوم - إلى أن قال - وهذا أقوى شاهد على أنّه من طريق الجمهور.

وعن «المختلف»(2): نوع إشارة إليه.

وعن كثيرٍ من المتأخّرين: أنّه عاميّ مرسل، كصاحب «المدارك»(3)وصاحب «الحبل المتين»(4) وصاحب «المشارق»، حيث أنّهم طعنوا فيه بعدم ذكره في أخبارنا صريحاً، وأنّه عاميّ مرسل.

هذا كلّه مع احتمال أن يكون مراد العَمّاني ومَنْ ادّعى تواتر الرواية، ثبوت مضمونها ولو بطريق آخر، كما يكشف عن ذلك نقل النبويّ بألسنةٍ متفاوتة، فلا يبقى وثوقٌ بصدور هذه العبارة عن النبيّ صلى الله عليه و آله، فلا وجه لأن يعامل معه معاملة الرواية الصحيحة.

نعم، ذكره في مقام التأييد لا بأس به، ولكن الحكم المذكور ممّا لا إشكال فيه للأخبار الكثيرة، ولا بأس بالإشارة إلى بعضها:

منها: ما ورد في الريح، مثل ما رواه الشيخ في الموثّق عَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالْمَاءِ وفِيهِ دَابَّةٌ مَيْتَةٌ قَدْ أَنْتَنَتْ؟ قَالَ: إذا كَانَ النَّتْنُ الْغَالِبَ عَلَى الْمَاءِ فَلا يَتَوَضَّأْ ولا يَشْرَبْ»(5).1.

ص: 20


1- الذكرى: ص 8، وقال بعد ذكر الحديث: وفي بعضها لونه.
2- مختلف الشيعة: ج 1/177.
3- مدارك الأحكام: ج 1/57.
4- الحبل المتين: ص 106.
5- الاستبصار: ج 1/12 ح 1، التهذيب: ج 1/216 ح 7، وسائل الشيعة: ج 1/139 ح 341.

والمراد به الجاري وغيره ممّا لا يتنجّس بالملاقاة، ونحوه غيره.

ومنها: ما ورد في الرِّيح والطعم؛ مثل صحيح ابن بزيع، عَنِ الرِّضَا عليه السلام، قَالَ:

«مَاءُ الْبِئْرِ وَاسِعٌ لا يُفْسِدُهُ شَيْ ءٌ، إِلّا أَنْ يَتَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ فَيُنْزَحُ حَتَّى يَذْهَبَ الرِّيحُ وَيَطِيبَ طَعْمُهُ، لأنَّ لَهُ مَادَّةً»(1).

وهو وإنْ كان وارداً في البئر، لكن بما أنّه فُرض فيه عاصميّة ماء البئر، وعدم تنجّسه بالملاقاة، فيثبت في غيره بعدم الفصل، كما يثبُت في غير الميتة من النجاسات بعدم الفصل، ونحوه غيره.

ومنها: ما ورد في الريح واللّون، مثل صحيح شهاب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«وَجِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْمَاءِ الرَّاكِد - كما في بعض النُسخ أو الكُرّ كما في آخر - قال عليه السلام: فما لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغَيُّرٌ أَوْ رِيحٌ غَالِبَةٌ. قُلْتُ: فَمَا التَّغَيُّرُ؟ قَالَ عليه السلام: الصُّفْرَةُ فَتَوَضَّأْ مِنْهُ، وكُلُّ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ»(2) ونحوه غيره.

أقول: والجمع بين الروايات يقتضي الحكم بثبوت النجاسة إذا تغيّر بأحد الأوصاف الثلاثة، كما لا يخفى، ويؤيّد ذلك النبويّ المتقدّم(3)، وما عن «الدعائم» عن الإمام الصادق عليه السلام أَنَّهُ قَالَ:

«إذا مَرَّ الْجُنُبُ بِالْمَاءِ وفِيهِ الْجِيفَةُ أَوِ الْمَيْتَةُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَغَيَّرَ لِذَلِكَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَوْنُهُ، فَلا يَشْرَبُ مِنْهُ، ولا يَتَوَضَّأُ، ولا يَتَطَهَّرُ مِنْهُ»(4).

***2.

ص: 21


1- الاستبصار: ج 1/33 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/141 ح 347.
2- وسائل الشيعة: ج 1/162 ح 401. الخرائج والجرائح للقطب الراوندي: ج 2/645. بصائر الدرجات: 258.
3- وسائل الشيعة: ج 1/135 ح 330.
4- مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/188، دعائم الإسلام: ج 1/112.
ما يعتبر في النجاسة

يعتبر فيها اُمور:

الأمر الأوّل: أن يكون التغيّر بملاقاة النجاسة، فلا يتنجّس إذا كان بالمجاورة، بلا خلافٍ فيه، لخروجه عن مورد النصوص.

مضافاً إلى أنّه لو سُلّم شمول بعض النصوص له - كالنبويّ المتقدّم(1) - فحيث أنّ الظاهر منه كونه في مقام بيان اعتبار شيءٍ في تنجّس الماء الكثير زائداً على ما يعتبر في تنجّس سائر الأشياء، فملاقاته للنجس المعتبرة في سائر الأشياء تكون معتبرة فيه أيضاً، فلا ينجس إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة إلّابالملاقاة.

وإنْ شئت قلت: إنّ الظاهر من الحديث أنّ كلّ شيءٍ يوجبُ تنجّس الماء القليل وغيره من الأشياء، ينجّسُ الماء الكثير في صورة التغيّر، ولا شبهة في أنّ المجاورة غير موجبةٍ لنجاسة غيره، بل تعتبر الملاقاة، فلابدَّ في صورة تغيّر الكثير أيضاً أن يكون بالملاقاة.

الأمر الثاني: أنْ يكون التغيّر بأوصاف النجاسة دون المتنجّس، فلو وقع فيه دبسٌ نجسٌ فصارا خمراً لا ينجس كما هو المشهور بين الأصحاب.

والدليل عليه: - مضافاً إلى أنّ الأخبار الدالّة على تنجّس الماء الكثير إذا تغيّر إنّما يكون موردها التغيّر بأوصاف النجاسة، فلا وجه للتعدّي عنه - أنّه لو سُلّم كون بعض النصوص شاملاً للمتنجّس كالنبويّ، يكون منصرفاً إلى خصوص ما لو تغيّر بأوصاف النجاسة بقرينة الارتكاز العرفي.

ولو وقع فيه متنجّسٌ حاملٌ لأوصاف النجس وغيره بوصف النجس،

ص: 22


1- وسائل الشيعة: ج 1/135 ح 330.

تنجّس أيضاً كما عن جماعة(1) التصريح به، لأنّ المستفاد من الأدلّة بعد ردِّ بعضها إلى بعض، أنّه يعتبر في تنجّس الماء الكثير أمران:

الملاقاة مع ما يوجب التنجّس.

والتغيّر بأوصاف النجس.

وكلاهما موجودان في الفرض.

أقول: وبهذا البيان يظهر اندفاع ما أشكل على الحكم بالنجاسة، بأنّ المعيار في التنجّس:

إنْ كان ظهور أثر النجاسة في الماء - ولو لم تكن ملاقاة لها - فاللّازم الإكتفاء بذلك ولو مع المجاورة.

وإنْ كان بشرط الملاقاة، فالتغيّر بالمتنجّس الحامل لصفات عين النجس، لا يوجبُ النجاسة لعدم الملاقاة.

ويؤيّد ما ذكرناه: أنّ الغالب في التغيّر بالميتة ونحوها، سراية التغيّر عن ما حول الجثة إلى سائر أجزاء الماء، بلا ملاقاة لها معها، كما لا يخفى.

الأمر الثالث: أن يكون التغيّر حسيّاً، ولذلك لا يعدّ التغيّر التقديري مضرّاً، كما هو المشهور بين الأصحاب على ما نُسب إليهم.

أقول: اضطربت كلمات القوم حول هذا الأمر، والذي يمكن أن يُقال في المقام:

إنّ عدم حصول التغيّر الحسّي يتصوّر على وجوه أربعة:

الوجه الأوّل: ما إذا لم يكن النجس بذاته مقتضياً للتغيير، كالبول الأبيض إذا وقع في الماء، فالتقديري بمعنى أنّه لو كان له لونٌ لكان موجباً لتغيّره.

الوجه الثاني: ما استند العدم إلى عدم المقتضي لعارض، كما لو كان الدمء.

ص: 23


1- في العروة الوثقى: ج 1/6، وفي التعليقة عدّة آراء.

مسلوبُ الصفة، ولم يكن له لونٌ أحمر موجبٌ للتغيّر، فوقع مقداراً منه في الماء، لو كان أحمراً لغيّره.

الوجه الثالث: ما استند إلى عدم الشرط، كما لو وقعت الميتة في الماء، ولم يكن الماء حارّاً موجباً لتغيّر طعمه أو رائحته، فعدم التغيّر في هذه الصورة مستندٌ إلى فقدان الحرارة.

الوجه الرابع: ما استند إلى وجود المانع، كما لو كان الماء أحمر، فوقع فيه مقداراً من الدم كان يغيّره لو لم يكن كذلك.

والظاهر: أنّ محلّ الكلام بين الأعلام ليس الصورة الاُولى والثالثة، بل لعلّ عدم التنجّس فيهما من المتّفق عليه بينهم، وإنّما هو الصورة الثانية والرابعة.

استدلّ على التنجّس في الصورة الرابعة بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ لون الماء لو لم يكن موجباً لضعف الماء، لا يكون موجباً لقوته، وعليه فمن الغريب الحكم بأنّه لو لم يكن أحمراً كان ينجّسه مقدار من الدم، ولكن بما أنّه أحمرٌ لا ينجّسه ذلك المقدار، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

وفيه: أنّه بعد ما ثبت بالأدلّة أنّه لا ينجّس الماء شيء إلّافي صورة التغيّر، الظاهر في الحسّي منه، وهو من الموجودات التي له المقتضي والشرط والمانع، فلو لم يتحقّق المانع لا وجه للحكم بالنجاسة، لعدم تحقّق شرطها وهو التغيّر لوجود المانع، ولا مانع من الالتزام بذلك، لأنّا لا ندَّعي كون ذلك اللّون عاصماً، فتأمّل.

الوجه الثاني: أنّه لو فرضنا صبّ مقدارٍ من الدّم في الماء الذي قابلٌ لأن يغيّر لون الماء، ولكن مقارناً للصبّ اُلقي فيه شيءٌ طاهر له لونٌ، فإنّه لا سبيل إلى الحكم بالطهارة، مع أنّه لا يكون الدم سبباً للتغيّر.

وفيه: أنّه في الفرض لو قلنا بأنّ التغيّر مستندٌ عرفاً إلى كلّ واحد منهما،

ص: 24

فالحكم بالنجاسة إنّما يكون لحصول شرطه، ولا يكون مربوطاً بمسألتنا، وإنْ لم يستند إلى كلّ واحدٍ منهما، فلا يحكم بالنجاسة في الفرض أيضاً.

الوجه الثالث: لو اُلقي الدم في الماء المتغيّر بطين أحمر، ولم يؤثّر فيه بالتغيّر حسّاً، ثمّ صفى الماء فظهر لون الماء، فإنّه لا سبيل إلى الحكم بطهارة هذا الماء، كما هو واضح، ولا سبيل أيضاً إلى الحكم بالنجاسة من حين ظهور التغيّر، لعدم انفكاك النجاسة عن وقوعها، فلابدَّ من الحكم بالنجاسة من أوّل وقوعه، ولا وجه له سوى التغيّر التقديري.

وفيه أوّلاً: النقض بما لو وقع النجس في الماء، ولكن تغيَّر أحد أوصافه الثلاثة بعد ساعة، فهل يحكم بنجاسة الماء من حين ملاقاة النجاسة، أو من حين التغيّر؟

لا سبيل إلى الأوّل، وعليه فلا محيص عن الالتزام بالثاني، فلا مانع في المقام أيضاً من الحكم بالنجاسة من حين ظهور التغيّر.

وثانياً: بالحَلّ، وهو أنّ الموجب للتنجّس بالنسبة إلى الماء الكُرّ، ليس مطلق الملاقاة، بل مشروطة بالتغيّر، وبما أنّه مادام لم يصفُ الماء لم يتحقّق التغيّر، فلا يحكم بالنجاسة، بخلافه بعدما أصبح صافياً.

وما عن «جامع المقاصد»(1): من أنّ التغيّر في هذه الصورة حقيقي مستورٌ عنَّا.

عجيبٌ، لأنّ الماء إذا كان متلوّناً بلون، مثل لون النجاسة، كيف يتلوّن بلونها مع امتناع اجتماع المثلين.

وإنْ شئت قلت: إنّ اللّون من الكيف المبصر، فلايتصوّر وجوده مع عدم رؤيته.).

ص: 25


1- جامع المقاصد: ج 1/113 قوله: (لأنّ التغيّر هنا على تقدير حصوله حقيقي، غاية ما في الباب أنّه مستور على الحس).

واستدلّ للنجاسة في الصورة الثانية بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ التغيّر إنّما لوحظ طريقاً إلى مقدار النجاسة.

وبعبارة أُخرى: لوحظ طريقاً إلى غلبتها على الماء، لا موضوعاً ليدور الحكم مداره.

وفيه: أنّ الظاهر من كلّ عنوان أُخذ في الدليل، دخله بنفسه فيه، لا كونه طريقاً إلى شيء آخر. مضافاً إلى أنّ لازمه أنّه لو وجد فردٌ من النجاسة، كان كمّها قليلاً، ووصفها شديداً، لا يحكم بنجاسة المتغيّر بها، مع أنّه لا يلتزم به أحد.

الوجه الثاني: أنّه لو لم يحكم بكفاية التغيّر التقديري، لزم الحكم بعدم النجاسة فيما لو ألقي في الماء من النجاسة أضعاف مضاعفة منه، إذا لم يغيِّره، مع أنّه لا يمكن الإلتزام به.

وفيه: أنّ الكلام إنّما هو فيما لم يصر الماء مضافاً، وفي الفرض يحكم بالنجاسة لا لكفاية التغيّر التقديري، بل للإضافة.

أقول: وربما يستدلّ للنجاسة بوجوه اُخر ضعيفة غايتها، ويظهر ضعفها ممّا حقّقناه، فلا حاجة إلى تطويل الكلام بذكرها، وما يرد عليها.

فالأقوى طهارة الماء مطلقاً في جميع الصور، إلّاأن يحصل له تغيّر حِسّي.

***

فروع:

الفرع الأوّل: لو تغيَّر الماء بما عدا الأوصاف المذكورة، كالحرارة والبرودة ونحوهما، لم ينجس ما لم يصر مضافاً.

والوجه في ذلك: - مع أنّ بعض الروايات بإطلاقها تدلّ على النجاسة مع

ص: 26

كلّ تغيُّر - حصر النجاسة في بعض الروايات في الأوصاف الثلاثة، وهو يوجب تقيّد المطلقات.

هذا مضافاً إلى تفسير (التغيُّر) المأخوذ موضوعاً للنجاسة في صحيح ابن بزيع(1) بالصُّفرة، أي التغيّر باللون، فيكون ذلك حاكماً على المطلقات، فتأمّل.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ الظاهر من المطلقات التي عُلّق الحكم فيها على (التغيّر) هو التغيّر بما للماء من الصفات الذاتيّة دون العَرَضيّة كما لا يخفى وجهه، والصفات الذاتيّة له ليست إلّاالثلاثة المزبورة، فتدبّر.

***

الفرع الثاني: لا يعتبر في تنجّسه أن يكون التغيّر بوصف النجس بعينه، بل يكفي تغيّر أحد الأوصاف المذكورة بسبب النجاسة، من غير فرق بين أن يكون التغيّر بسنخ وصف النجاسة قبل الملاقاة، أو التغيّر بما يكون وصفاً لها بعد ملاقاة الماء، والتغيّر بوصف أجنبي عن وصفها، والوجه في ذلك إطلاق الأدلّة.

وما في صحيحة شهاب المتقدّمة(2): «إلّا أنْ يغلب الماءُ الرّيح فينتن»، وقوله فيها: «قلتُ: فما التغيّر؟ قال: الصفرة».

وفي موثّق سماعة المتقدّم(3): «قَالَ: إذا كَانَ النَّتْنُ الْغَالِبَ عَلَى الْمَاءِ فَلا يَتَوَضَّأْ».

وفي صحيحة ابن بزيع(4) المتقدّمة: «فَيُنْزَحُ حَتَّى يَذْهَبَ الرِّيحُ وَيَطِيبَ طَعْمُهُ».

لا توجب تخصيص الحكم بالصورتين الأوليين، وعدم شمول الأدلّة للثالثة كما توهّمه بعض الأكابر، لأنّ هذه التعابير إنّما تكون بلحاظ ما فرض في موارد7.

ص: 27


1- وسائل الشيعة: ج 1/141 ح 347 وقد مرَّ تخريجه.
2- وسائل الشيعة: ج 1/161 ح 401.
3- الاستبصار: ج 1/12 ح 1، التهذيب: ج 1/216 ح 7، وسائل الشيعة: ج 1/139 ح 341.
4- الاستبصار: ج 1/33 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/141 ح 347.

الروايات من وقوع الميتة والدم في الماء، كما لا يخفى.

ودعوى: تبادر التغيّر بوصف النجس أو بسنخه من الروايات، أو كونهما المتيقّن منها، كما ترى، فما يظهر من «الجواهر»(1) من عدم شمول الروايات للصورتين الأخيرتين، غير تامّ.

***

الفرع الثالث: إذا تغيَّر طرفٌ من الحوض وصار نجساً، وكان الباقي بقدر الكرّ، ثم زال تغيُّر ذلك البعض، طَهُر الجميع، ولو لم يحصل الإمتزاج، كما هو المنسوب إلى الأكثر، ونُسب إلى كثيرٍ ممّن تقدّموا على الشهيد رحمه الله القول باعتبار الامتزاج(2).

أقول: سيظهر لك تحقيق القول في ذلك في مبحث كيفيّة تطهير الماء الكرّ،(3)والمقصود من التعرّض لهذه المسألة في المقام، إنّما هو لأجل ما قيل من إنّه وإنْ قلنا باعتبار الإمتزاج في تلك المسألة، فإنّه لا نلتزم به هنا، لصحيح ابن بزيع(4) عن الإمام الرضا عليه السلام، قَالَ: «مَاءُ الْبِئْرِ وَاسِعٌ لا يُفْسِدُهُ شَيْ ءٌ إِلّا أَنْ يَتَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ فَيُنْزَحُ حَتَّى يَذْهَبَ الرِّيحُ وَيَطِيبَ طَعْمُهُ لأنَّ لَهُ مَادَّةً».

أقول: ومحصّل ما قيل أو يمكن أن يُقال في تقريب الاستدلال به وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ ذهاب الريح والطعم علَّة غائيّة للنزح، لكون (حتّى) تعليليّة أو للإنتهاء، مع استظهار كون مدخوله علَّة غائيّة، فتدلّ على أنّ المقصود من النزح ليس إلّازوال التغيّر، وإذا تعدّينا عن البئر إلى كلّ عاصم إمّا لعدم الفصل أو لعموم7.

ص: 28


1- جواهر الكلام: ج 1/79.
2- حكى السيّد في المستمسك أقوال العلماء في ذلك راجع: ج 1/125 مسألة 13، وسيأتي مزيداً من التفصيل وبيان الأقوال في مبحث كيفيّة تطهير الماء.
3- فقه الصادق: ج 1/81.
4- الاستبصار: ج 1/33 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/141 ح 347.

العلّة، مع إلغاء الخصوصيّة، دلَّ على أنّ كلّ ماءٍ نجس يطهر بزوال تغيّره واتّصاله بالماء العاصم.

وفيه: أنّ الظاهر من الحديث ليس كون (حتّى) تعليليّة أو داخلة على العلّة الغائيّة، بل الظاهر منه مدخليّة النزح - الموجب لتدافع الماء من المادّة، الموجب للامتزاج - في الحكم بالطهارة.

الوجه الثاني: إنّ التعليل إنّما يكون راجعاً إلى الحكم المستفاد من الفقرة الثانية - أعني حدوث الطهارة بعد زوال التغيّر - وعليه فيكون الحديث ظاهراً في أنّ علَّة هذا الحكم وجود المادّة بلا دخل للامتزاج.

ولا يرد على ذلك: ما أورده المحقّق الهمداني رحمه الله(1) من عدم عوده إليه، بل العلّة تكون راجعةً إلى الفقرة الاُولى، لأنّ الجملة السابقة عليها مشتملة على حكمين:

دافعية المادّة للنجاسة، ورافعيّتها لها، والثانية أقرب، ومع ذلك تعليل الدفع بها الذي هو أبعد يوهم خلاف المقصود.

وبالجملة: رجوع العلّة إلى الرافعيّة متيقّنٌ.

وإن شئت قلت: إنّ تخصيص العلّة بإحداهما، مع احتياج كلتيهما إليها بلا مخصّص، فهو خلاف الظاهر، فالأظهر رجوعها إليهما معاً.

فما عن الشيخ البهائي قدس سره(2): من إجمال التعليل، لاحتمال رجوعه إلى ترتّب ذهاب الريح وطيب الطعم على النزح.

مندفع: بأنّه أمرٌ عرفي واضح، ليس شأن الشارع تعليل ذلك كما هو واضح، مضافاً إلى عدم ترتّب ذهاب الريح على مجرّد وجود المادّة كما لا يخفى.7.

ص: 29


1- مصباح الفقيه، الطبعة الحجريّة: ج 1/20.
2- الحبل المتين: ص 117.

ويرد على الاستدلال: أنّ موردالتعليل صورة امتزاج الماء المتغيّر بما في المادّة، على نحوٍ يزول تغيّره بالنزح، فالحكم المعلّل إنّما هو مطهّريّة زوال التغيّر بالنزح، وهو إنّما يكون مع الامتزاج، فلا يستفاد من التعليل مطهّريّة الاتّصال مطلقاً.

ودعوى: أنّ خصوصيّة النزح ليست معتبرة، للإجماع على كفاية الامتزاج ولو لم يكن نزح.

مندفعة: بأنّ هذا لا ينافي ما ذكرناه، لأنا لا ندَّعي دخل النزح بما هو فيه، بل إنّما هو لأجل ملازمته مع الامتزاج، فهو الدخيل في الحكم دون النزح.

أقول: وبهذا يظهر دفع مناقشة أُخرى، وهي أنّ البناء على اعتبار النزح تعبّداً، يوجب حمل التعليل على التعبّدي، لعدم دخل النزح في الطهارة في مرتكز العرف.

فتحصّل ممّا ذكرناه: عدم دلالة الحديث على عدم اعتبار الامتزاج في ارتفاع النجاسة.

***

الفرع الرابع: إذا وقع النجس في الماء ولم يتغيَّر، ثمّ تغيَّر بعد مدَّة، فإن عُلم استناده إلى ذلك النجس فهل ينجس مطلقاً أم لا، أم يفصّل بين ما لو كان عين النجس في الماء حين التغيّر فينجس، وبين ما لو لم تكن باقية كما لو ألقيت الميتة في الماء وأخرجت، ثمّ بعد ذلك تغيّر، وعلم استناده إلى تلك الميتة، فلا يحكم بالنجاسة؟

وجوه: أقواها الأخير:

إذ المستفاد من الأدلّة أنّهما معاً يوجبان النجاسة، ففي الفرض بما أنّه حين الملاقاة لا يكون متغيِّراً، وحين التغيّر لا يكون ملاقياً، فلا موجب لها.

***

ص: 30

الفرع الخامس: إذا وقعت الميتة خارج الماء، ووقع جزءٌ منها في الماء وتغيّر(1):

فهل ينجس مطلقاً، كما اختاره بعض(2).

أو إذا لم يُستند إلى ما هو خارجٌ فقط، كما نُسب إلى الشيخ الأعظم رحمه الله.

أو إذا كان مستنداً إلى ما هو في الماء، ولو بتأثير الخارج بواسطة ما هو داخل؟

وجوه، أقواها الأخير؛ إذ الظاهر من الأدلّة أنّ الموجب للنجاسة هو تغيّر الماء بسبب الملاقاة للنجاسة.

ومنه يظهر ضعف الاستدلال للوجهين الأولين بإطلاق النصوص، وبأنّ الغالب في الجيفة التي تكون في الماء بروز بعضها، حيث أنّ التفكيك بينه وبين فرض المسألة في الحكم بعيدٌ، فيتعيّن الحكم بالنجاسة في المقام.

***

زوال التغيّر بنفسه

الفرع السادس: الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه، لم يطهر إجماعاً في القليل، وعلى المشهور في الكثير، لأنّ المستفاد من الأدلّة الواردة في باب النجاسات والمطهّرات أنّ النجاسة إذا عرضت على شيء لا تزول إلّابشيء آخر رافعٍ لها.

وعن يحيى بن سعيد(3): القول بالطهارة في الكثير، واستدلّ له:

1 - بأصالة الطهارة.

2 - وبالروايات الظاهرة(4) في إناطة النجاسة بالتغيّر وجوداً وعدماً.

ص: 31


1- المسألة 15 من العروة الوثقى وتتمّتها (بسبب المجموع من الداخل والخارج). العروة الوثقى: ج 1/73.
2- صاحب العروة الوثفى، المصدر السابق.
3- الحلّي «أبو زكريا» في كتابه الجامع للشرائع: ص 18، ويُقال له جامع الشرائع.
4- عدّة روايات في ذلك: وسائل الشيعة: ج 1/169 الباب 14 من أبواب الماء المطلق.

3 - وبقول أبي الحسن عليه السلام في صحيحة ابن بزيع المتقدّمة:(1) «حَتَّى يَذْهَبَ الرِّيحُ وَيَطِيبَ طَعْمُهُ»، ف (حتّى) تعليليّة، مع رجوع التعليل - أي لأنّ له مادّة - إلى ترتّب ذهاب الريح والطعم على النزح.

4 - وبالخبر: «الماء إذا بَلَغ قدر كُرٍ لم يَحمل خبثاً»(2).

أقول: وفي الجميع نظر؛ لمحكوميّة أصالة الطهارة بالقاعدة المستفادة من النصوص، وباستصحاب النجاسة.

ودعوى: عدم جريانه استناداً إلى أحد سببين:

الأوّل: أنّ المورد من موارد الشكّ في المقتضي، لأنّ الشكّ في النجاسة مُسبّبٌ عن الشكّ في اقتضاء التغيّر للتأثير.

الثاني: تبدّل الموضوع، لأنّ موضوع اليقين فيه هو المتغيّر، وموضوع الشكّ غير المتغيّر.

ضعيفة، أمّا الأوّل: وهو كونه من الشكّ في المقتضي، فلأنّ المستفاد من الأدلّة أنّ النجاسة الحاصلة بأسبابها لا تزول إلّابرافع، وفي المقام يحتمل قابليّة الكريَّة لذلك - أي الرفع - مع أنّ مقتضى التحقيق حجيّة الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي.

وأمّا الثاني: وهو دعوى تبدّل الموضوع فمندفعة، بأنّ التغيّر من حالات الموضوع، لأنّ الموضوع بحسب ما ارتكز في ذهن العرف من المناسبة بين الحكم وموضوعه، هو ذات الماء، والتغيّر واسطة في ثبوت النجاسة، لا أنّها من عوارض الماء، والتغيّر وإنْ كان بحسب لسان الدليل هو الماء المتغيّر بما هو متغيّر، لكن لا مجال1.

ص: 32


1- الاستبصار: ج 1/33 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/141 ح 347.
2- عوالئ اللئالي: ج 1/76 وفيه: إذا بلغ الماء كُرّاً لم يحمل خبثاً. مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/198 ح 341.

لجريان الاستصحاب فيه بناءً على ما اخترناه من عدم جريانه في الأحكام.

وأمّا الروايات: فهي لا تدلّ على ارتفاع النجاسة بارتفاع التغيّر، إذ أخذه في موضوعها أعمّ من ذلك، لاحتمال أن يكون أخذه لأجل كونه واسطة في حدوث النجاسة، ولا يكون واسطة لها بقاء.

وأمّا صحيح ابن بزيع(1): فقد عرفت سابقاً عدم الدليل على كون لفظة (حتّى) فيه تعليليّة، أو كون مدخولها علّة غائيّة، فراجع.(2)

وأمّا الخبر: فقد أجابَ عنه بعض الأعاظم(3) بأنّ مفاده مفاد قوله عليه السلام: (الماء إذا بلغ قَدْرَ كُرٍّ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْ ءٌ) في أنّه يدلّ على عدم حدوث النجاسة في الماء، ولا نظر له إلى البقاء، ومع فرض حدوثها بواسطة التغيّر لا سبيل إلى الحكم بطهارته.

وفيه: أنّ الخبث اسم للأثر الحاصل بالملاقاة، فمعنى (لم يحمل خَبَثاً) أنّه في جميع أحواله محكومٌ بالطهارة، ولا يكون نجساً، ولكنّه خرج الماء في حال التغيّر، فيبقى الماء بعد زوال التغيّر تحت العام، بناءً على ما حقّقناه من أنّ المرجع بعد مضيّ القدر المتيقّن من زمان الخروج، هو عموم العام مطلقاً، لا استصحاب حكم المخصّص.

فالتحقيق في الجواب عنه: ضعف سند الحديث، وإعراض المشهور عنه.

***2.

ص: 33


1- وقد مرَّ عدّة مرّات: الاستبصار: ج 1/33 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/141 ح 347.
2- صفحة 28 من هذا المجلّد.
3- مستمسك العروة الوثقى: ج 1/172.

وحُكم ماء الغيث حال نزوله.

ماء المطر

(وحكمُ ماء الغيث حال نزوله) حُكمُ الجاري، وقد استفاض نقل الإجماع(1)على ذلك، ويشهد له:

مرسل الكاهلي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، فِي حَدِيثٍ، قَالَ:

«قُلْتُ: يَسِيلُ عَلَيَّ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ أَرَى فِيهِ التَّغَيُّرَ، وأَرَى فِيهِ آثَارَ الْقَذَرِ، فَتَقْطُرُ الْقَطَرَاتُ عَلَيَّ ويَنْتَضِحُ عَلَيَّ مِنْهُ، والْبَيْتُ يُتَوَضَّأُ عَلَى سَطْحِهِ، فَيَكِفُ عَلَى ثِيَابِنَا؟ قَالَ مَا بِذَا بَأْسٌ، لا تَغْسِلْهُ كُلُّ شَيْ ءٍ يَرَاهُ مَاءُ الْمَطَرِ فَقَدْ طَهُرَ»(2).

وصحيحة هشام بن سالم، سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: «عَنِ السَّطْحِ يُبَالُ عَلَيْهِ، فَتُصِيبُهُ السَّمَاءُ، فَيَكِفُ فَيُصِيبُ الثَّوْبَ؟ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ، مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَاءِ أَكْثَرُ مِنْهُ»(3).

والتقييد بالأكثرية إنّما هو لأجل أنّه لو لم يكن أكثر يصير متغيّراً.

وهما بإطلاقهما يدلّان على أنّ ماء المطر مطلقاً لا ينجس، ويطهّر كلّ ما أصابه، فإنّ موردهما وإنْ كان صورة جريان ماء المطر كما لا يخفى، إلّاأنّ التعليل في الثاني بقوله: (ما أصابه.. الخ)، وذكر قوله عليه السلام: (كلّ شيء يراه... الخ)، كبرى كليّة لقوله: (ما بذا بأس)، ظاهران في الاكتفاء بالمسمّى، وإنْ لم يكن جارياً.

ونحوهما غيرهما.

ص: 34


1- حكى الإجماع على ذلك السيّد في الرياض: ج 1/140، وبعضهم حكى المشهور على ذلك كالمحقّق السبزواري في كفاية الأحكام: ص 10، وكذلك الخونساري في مشارق الشموس: ج 1/211.
2- الكافي: ج 3/13 ح 3، وسائل الشيعة: ج 1/146 ح 362.
3- وسائل الشيعة: ج 1/145 ح 358، الفقيه: ج 1/8 ح 4، مستند الشيعة: ج 2/54.

أقول: ونُسِب إلى ابن حمزة(1) اشتراط اعتصام ماء المطر، وكونه كالجاري بجريانه بالفعل، وإلى الشيخ ابن سعيد(2) اعتبار جريانه من الميزاب.

والظاهر أنّ ذكر الميزاب في كليهما من باب المثال، فيرجع إلى الأوّل.

وعن المحقّق الأردبيلي(3): اعتبار الجريان بالقوّة.

وقد استدلّ للقول الأوّل:

1 - بالخبر الصحيح الذي رواه الشيخ الطوسي بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى عليه السلام، قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الْبَيْتِ يُبَالُ عَلَى ظَهْرِهِ ويُغْتَسَلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ يُصِيبُهُ الْمَطَرُ، أَيُؤْخَذُ مِنْ مَائِهِ فَيُتَوَضَّأُ بِهِ لِلصَّلاةِ؟ فَقَالَ: إذا جَرَى فَلا بَأْسَ بِهِ»(4).

2 - وخبره المرويّ عن «قرب الإسناد» وفيه:

«وسَأَلْتُهُ عَنِ الْكَنِيفِ يَكُونُ فَوْقَ الْبَيْتِ فَيُصِيبُهُ الْمَطَرُ، فَيَكِفُ فَيُصِيبُ الثِّيَابَ، أَيُصَلَّى فِيهَا قَبْلَ أَنْ تُغْسَلَ؟ قَالَ: إذا جَرَى مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ فَلا بَأْسَ»(5).

3 - وخبره الآخر في كتابه: عَنْ أَخِيهِ مُوسَى عليه السلام، قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَطَرِ يَجْرِي فِي الْمَكَانِ فِيهِ الْعَذِرَةُ فَيُصِيبُ الثَّوْبَ أَيُصَلِّي فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُغْسَلَ؟ قَالَ: إذا جَرَى بِهِ الْمَطَرُ فَلا بَأْسَ»(6).0.

ص: 35


1- الوسيلة: ص 73 لمحمّد بن علي بن حمزة الطوسي في قوله: (وما يكون في حكم الجاري وهو ماء الحمّام مادامت له مادّة من المجرى، فإذا انقطعت المادّة ارتفع عنه هذا الحكم، وحكم الماء الجاري من المثعب (الميزاب) من ماء المطر كذلك).
2- الجامع للشرائع: ص 20، قوله: والمياه الجارية من الميازيب من المطر كالمياه الجارية.
3- مجمع الفائدة: ج 1/256 قوله: والذي يستفاد من الأخبار الصحيحة السابقة وأنّه على تقدير جريان المطر لا شكّ في تطهيره النجس مطلقاً، وكذا مع أكثريّته من النجاسة، فينبغي حمل مذهب الشيخ في تطهير النجس بالغيث باشتراط جريه من الميزاب على الجريان، أو الكثرة، وكون الجريان حقيقةً، أو حكماً.
4- وسائل الشيعة: ج 1/145 ح 359، التهذيب: ج 1/411 ح 16، الفقيه: ج 1/8 ح 6.
5- وسائل الشيعة: ج 1/145 ح 360، قرب الإسناد: ص 192، مستند الشيعة: ج 1/26.
6- وسائل الشيعة: ج 1/148 ح 366، مسائل علي بن جعفر: ص 130، بحار الأنوار: ج 10/260.

بدعوى أنّ ظاهرها اعتبار الجريان.

وفيه: أنّ الظاهر كون المراد بجريان المطر تقاطره، لا جريان الماء على وجه الأرض، واعتباره إنّما يكون لأجل أنّ المفروض في موردها كون المحلّ معدّاً للبول أو فيه العذرة، فتكون عين النجس باقية، فلا محالة ينجس الماء مع عدم التقاطر، لأنّه قليل ملاقٍ للنجس، فالمراد من جريان المطر تقاطره من السماء.

مضافاً إلى أنّ الروايات لا يمكن العمل بظاهرها، إذ لازمة القول بعدم اعتصام المطر الواقع على الأرض الرمليّة، وفي البحر وما شابههما ممّا لا يمكن فيه الجريان.

وحمل الروايات على الجريان بالقوة لا شاهد له، وحملها عليه ليس بأولى من حمل الجريان فيها على الغلبة والأكثريّة، مضافاً إلى معارضتها مع التعليل في صحيح هشام المتقدّم(1).

وبالجملة: فلا مناص عن حملها على المعنى المزبور، على فرض تسليم ظهورها في اعتبار الجريان.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ مفاد الرواية الاُولى التي هي عمدة المستند، إنّما هو ثبوت البأس في الوضوء في صورة عدم الجريان، وهو أعمّ من النجاسة.

ولذا حُكي عن غير واحدٍ(2) دعوى الإجماع على أنّ ما يزال به الخبث لا يكون رافعاً للحدث، وحمله على هذا المعنى لا ينافي منطوقه، إذ في صورة الجريان بما أنّ ما يؤخذ منه للوضوء هو الجاري، وهو غير ما اُزيل به الخبث، كما لا يخفى، فلا محذور فيه.ً.

ص: 36


1- وسائل الشيعة: ج 1/145 ح 358، الفقيه: ج 1/8 ح 4، مستند الشيعة: ج 2/54.
2- المعتبر: ج 1/90 حيث ذكر المحقّق في المعتبر قوله: إمّا رفع الحدث به أو بغيره ممّا يزال به النجاسة فلا، إجماعاً. وقال النراقي في مستند الشيعة ج 1/27: ادّعى في المعتبر والمنتهى الإجماع على أنّ ما يزال به الخبث لا يرفع الحدث، وهو الحقّ أيضاً.

فتحصّل ممّا ذكرناه: عدم اعتبار الجريان في اعتصام المطر، بل الظاهر عدم اعتبار شيء فيه سوى صدق ماء المطر عليه.

***

ماء المطر المجتمع

إذا اجتمع في مكانٍ وغُسل فيه النجس، طَهُر في صورة التقاطر عليه، بلا خلافٍ فيه ولا كلام، وتشهد له جملة من النصوص:

1 - صحيح علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام، قَالَ: «وسَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَمُرُّ فِي مَاءِ الْمَطَرِ، وقَدْ صُبَّ فِيهِ خَمْرٌ، فَأَصَابَ ثَوْبَهُ هَلْ يُصَلِّي فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهُ؟ فَقَالَ:

لا يَغْسِلُ ثَوْبَهُ ولا رِجْلَهُ، ويُصَلِّي فِيهِ ولا بَأْسَ بِهِ»(1).

2 - وصحيح هشام بن الحكم، عن أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «لَوْ أَنَّ مِيزَابَيْنِ سَالا أَحَدُهُمَا مِيزَابُ بَوْلٍ والآخَرُ مِيزَابُ مَاءٍ فَاخْتَلَطَا ثُمَّ أَصَابَكَ مَا كَانَ بِهِ بَأْسٌ»(2).

وإطلاقه جار مجرى الغالب من أكثريّة الماء، وغلبته الموجبة لعدم تغيّر الماء بالاختلاط مع البول، ودلالتهما على المدّعى واضحة. ونحوهما غيرهما.

أمّا اعتبار التقاطر في الجملة في الاعتصام، فالظاهر أنّه لا خلاف فيه، فلو وضع الماء في خابيةٍ وتُرك في بيت مثلاً، لم يجر الحكم المذكور عليه.

وأمّا اعتبار كون التقاطر عليه، ففي «الجواهر»(3) أنّه صريح الطباطبائي في

ص: 37


1- وسائل الشيعة: ج 1/145 ح 359، من لا يحضره الفقيه: ج 1/8.
2- وسائل الشيعة: ج 1/144 ح 357. الكافي ج 3/12.
3- الجواهر: ج 6/321 قوله: (ماء المطر له حكم الجاري حال تقاطره قبل ملاقاته جسماً من الأجسام، وبعده أيضاً، لكن بشرط عدم إنقطاع التقاطر من السماء، وعدم صيرورته في مكان يصدق عليه اسم الانقطاع عن المطر عرفاً، كما لو وضع في خابية وترك في بيت مثلاً، بل كان متعرّضاً ومتهيّئاً لوقوع التقاطر عليه، فإنّ الظاهر جريان حكم الجاري عليه بنفسه، كما كان حال تقاطره قبل استقراره، لا لاتّصاله بالجاري، أي القطرات الواقعة، وإلّا فهو في حكم المنقطع كما صرّح به الطباطبائي في مصابيحه).

مصابيحه، بل ظاهره فيها أنّه من المسلّمات.

ومالَ صاحب «الجواهر» قدس سره إلى كفاية التقاطر من السماء، وإنْ لم يكن عليه، وجَعَله ظاهر جميع روايات الباب، بدعوى أنّ ماء المطر كما يصدق على النازل حال نزوله، كذلك يصدق عليه بعد استقراره في الأرض، بشرط أنْ يكون مهيّئاً للتقاطر عليه(1).

أقول: الظاهر كون المراد من ماء المطر - الذي هو موضوع النصوص والفتاوى - إنّما هو النازل من السماء، لا ما كان أصله كذلك، ولذا ترى أنّه لم يتوهّم أحدٌ التعارض بين هذه الروايات، وبين الروايات الدالّة على إنفعال القليل، التي تكون موردها الغدران، وهي تكون أصلها من المطر.

نعم، لو كان جارياً، أو كان مستقرّاً في مكانٍ مع توالي القطرات عليه، فبما أنّهما يعدّان بنظر العرف واحداً، فيطلق عليه المطر أيضاً.

ولو حمل ماء المطر على ما كان أصله كذلك، لابدَّ من الحكم بعدم الانفعال حتّى في صورة إنقطاع التقاطر بالمرّة، وهو كما ترى.

فإن قلت: إنّ ما يدلّ على اعتصام ماء المطر، وإنْ كان لا يشمل الصورة المفروضة، إلّاأنّه ما المانع من التمسّك بإطلاق صحيح علي بن جعفر، وصحيح هشام المتقدّمين؟

قلت: إنّه من جهة أنّ مورد السؤال هو ماء المطر، فالجواب فيهما لا يكون له إطلاق، وإنّما يكون محمولاً على المورد الذي يصدق هذا العنوان، وهو إنّما يكون فيما إذا تقاطر من السماء على الماء الذي صُبَّ فيه الخمر، أو كان جارياً من الميزاب، مع أنّ جريانه من الميزاب ملازمٌ غالباً مع التقاطر على أصله المعتصم به.1.

ص: 38


1- الجواهر: ج 6/321.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّه يدلّ على عدم اعتصامه في صورة إنقطاع التقاطر، ما يدلّ على إنفعال القليل الذي مورد بعضه مفروض الكلام، وبها يخرج عن أخبار الباب، لو سُلّم شمولها له.

***

فروع:

الفرع الأوّل: الثوب النجس إذا تقاطر عليه المطر، ونفذ في جميعه طَهُر، ولا يحتاج إلى العصر أو التعدّد، إذا لم يكن فيه عين النجاسة، لعموم مرسلة الكاهلي المتقدّمة(1).

والنسبة بينها وبين ما دلّ على اعتبار العصر أو التعدّد، وإنْ كانت عموماً من وجه، ولكنّهما لا يتساقطان، حتّى يرجع إلى أصالة النجاسة، بل تُقدَّم المرسلة لوجهين:

الوجه الأوّل(2): إنّ شمول المرسلة للمقام إنّما يكون بالعموم، وشمول تلك الأدلّة يكون بالإطلاق، وعند التعارض يُقدّم ما يكون دلالتها بالعموم كما حُقّق في محلّه.

الوجه الثاني: أنّ تقييد المرسلة موجبٌ لإلغاء خصوصيّة المطر، وهو خلاف نصّ الرواية، وهذا بخلاف العكس، بل ظاهر المرسلة عدم اعتبار الغَسل في مطهّريّة المطر، وكفاية مجرّد الرؤية.

مع أنّ في شمول دليل اعتبار العصر مع اعتصام الماء إشكالاً سيأتي في محلّه.

وعليه، فالأقوى ما ذكره الأصحاب، من عدم اعتبار العصر أو التعدّد.ه.

ص: 39


1- الكافي: ج 3/13 ح 3، وسائل الشيعة: ج 1/146 ح 362.
2- ولا يخفى أنّ المختار عندنا أخيراً أنّه في تعارض العامين من وجه المرجع هي المرجّحات، وفي المقام المرجّح الأوّل وهو الشهرة مع المرسل منه.

أقول: ثمّ الظاهر أنّ مقتضى مرسلة الكاهلي(1) وصحيحة هشام(2) المتقدّمين، كفاية غلبة المطر على النجاسة وزوالها به، فلا يحتاج إلى التقاطر عليه بعد الزوال، بل تكفي القطرات المزيلة في حصول الطهارة.

***

الفرع الثاني: الإناء المملوء كالحِبّ(3) والشربة(4) ونحوهما إذا تقاطر عليه المطر، طَهُر ماؤه بلا خلاف، وقد استدلّ عليه بوجوه:

الوجه الأوّل: صدق الرؤية الواردة في المرسلة بمجرّد التقاطر عليه، لأنّه بنظر العرف شيء واحد، فكما يفهم العرف من قول الشارع: (الماءُ ينجَس بالبول نجاسة مجموعه)، كذلك يفهم من قوله: (إنّه يطهر بماء المطر طهارة مجموعه بوصوله إليه).

الوجه الثاني: أنّ المرسلة تدلّ على طهارة ما يلاقيه المطر، فهذا الجزء يصير جزءً من ماءٍ عاصمٍ، فيطهر ما يلاقيه، وهكذا فَيطهر الجميع في زمانٍ واحد، لأنّ الأجزاء كانت متّصلةً قبل إصابة العاصم، والتأخّر بينها إنّما يكون ذاتيّاً لا زمانيّاً.

الوجه الثالث: ما في «الجواهر»(5) بعد ابتنائه على صدق ماء المطر على الماء النازل من السماء، المستقرّ في مكانٍ، مع تقاطر السماء، وإنْ لم يكن عليه، أنّ حكم الجريان لا ينقطع عن القطرات الواقعة على الماء النجس، فالامتزاج يوجبُ طهارة الماء لملاقاتها مع الجميع.ً.

ص: 40


1- تقدّم آنفاً.
2- وسائل الشيعة: ج 1/144 ح 357. الكافي: ج 3/12.
3- الحِب بكسر الحاء، وهو وعاء من الخزف ذو شكل حلزوني يستعمل لتبريد الماء في الصيف في البلاد الحارّة، وكثيراً ما يُستعمل في العراق.
4- الشربة وعاء خزفي لحفظ الماء وتسمّى أيضاً (الجَرّة).
5- جواهر الكلام: ج 6/320. وقد اُشير إلى ذلك سابقاً.

أقول: وفي الكلّ نظر:

أمّا الوجه الأوّل: فلعدم صدق الرؤية إلّابالنسبة إلى السطح الملاقي للقطرات لا غير. ويؤيّده أنّه لم يفتِ أحدٌ صريحاً بطهارة المضاف بذلك، مع جريان هذا الوجه فيه.

وأمّا الوجه الثاني: فلعدم الدليل على أنّ الاتّصال بالماء العاصم موجبٌ للطهارة، وفي المقام الدليل إنّما يدلّ على أنّ رؤية ماء المطر لشيء توجبُ طهارته، ولا يدلّ على أنّ رؤية ملاقيه لشيء أيضاً توجب الطهارة.

وأمّا الوجه الثالث: فلما عرفتَ أيضاً من ضعف المبنى، وعليه فيشكل الحكم بالطهارة حتّى مع الامتزاج، لأنّ القطرات بعد الاستقرار - لفرض انفصال بعضها عن بعض - تصير منفعلة، وما ذكرناه من صدق ماء المطر في الماء المستقرّ مع التقاطر عليه، إنّما هو في غير الممتزج مع النجس.

وبالجملة: بما ذكرناه ظهر أنّه لا يصحّ الاستدلال على هذا القول بالإجماع، على أنّ ماء المطر بحكم الجاري، بعدما عرفت في محلّه من عدم كفاية اتّصاله بالماء النجس في طهارته، بل لابدَّ من الامتزاج، فتدبّر.

فالعمدة إذاً في طهارة الماء المتنجّس بتقاطر السماء عليه، الإجماعات المحكيّة على طهارته بوقوع المطر عليه.

وقد يستدلّ له: بما في مرسلة الكاهلي المتقدّمة، على ما في بعض نسخ «الكافي» ونسخة «الوافي» على ما قيل تصحيحها، هكذا: (يسيل على الماء المطر) بجرّ الماء ورفع المطر، ويكون الضمير في قول السائل: (أرى فيه) راجعاً إلى الماء لا إلى المطر.

والشاهد على هذا التصحيح، أنّ كون مجرور على ياء المتكلّم ينافي فرض السيلان عليه، مع فرض ورود القطرات عليه، وعلى رجوع الضمير في قول

ص: 41

السائل: (أرى فيه) إلى الماء، قوله عليه السلام: (كلّ شيء يراه ماء المطر... الخ) إذ لو كان راجعاً إلى المطر كان المراد من الجواب أنّه مطهِّر للقذر بنفسه، وهو كما ترى.

***

الفرع الثالث: إذا ترشّح المطر بعد الوقوع على مكانٍ فوصل مكاناً آخر، لا يطهر، لعدم صدق ماء المطر عليه بعد انفصاله، فمقتضى عموم إنفعال ماء القليل تنجّسه بالوصول إليه.

ودعوى: استصحاب حكم النازل الثابت له حال تقاطره.

مندفعة: بتقدّم ما يدلّ على إنفعال القليل عليه، الذي مورد بعضه ماء المطر بعد إنقطاع تقاطره عليه.

نعم، لو جرى على وجه الأرض، فوصل إلى مكانٍ مسقّفٍ، وكان يتقاطر عليه من السماء طَهُر؛ لإطلاق نصوص الباب الواردة في المطر الجاري.

***

الفرع الرابع: إذا وقع على عين النجس فترشّح منها على شيء آخر، ولم يكن معه عين النجاسة لم ينجس، بل الأقوى عدم تنجّسه إذا كان معه عين النجاسة مادام متّصلاً بماء السماء يتوالى تقاطره عليه، كما هو مورد خبر الكاهلي.

نعم، لو كان متغيّراً ينجس، كما يستفاد من التعليل في صحيح ابن سالم(1).

***

الفرع الخامس: التراب النجس يطهر بنزول المطر عليه، إذا وصل إلى أعماقه.

ويدلّ عليه أوّلاً: عموم مرسلة الكاهلي، الدالّة على مطهريّته لكلّ شيء.

الثاني: المرسل المروي بطرقٍ عن أبي الحسن عليه السلام، في طين المطر:4.

ص: 42


1- وسائل الشيعة: ج 1/145 ح 358، الفقيه: ج 1/8 ح 4، مستند الشيعة: ج 2/54.

«أنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيّام، إلّاأن يعلم أنّه قد نجّسه شيء بعد المطر»(1).

***

الفرع السادس: إذا كان الإناء نجساً بولوغ الكلب، فأصابه المطر، فهل يطهر أم لا؟ وجهان بل قولان:

استدلّ على لزوم التعفير وعدم حصول الطهارة بوصول المطر إليه بأمرين:

الأمر الأوّل: ما يدلّ على أنّ ماء الغيث كالجاري، فكما يعتبر في غَسل الإناء النجس بولوغ الكلب بالجاري التعفير، كذلك في المقام.

الأمر الثاني: ما عن بعض الأساطين رحمهم الله قال: (إنّ النسبة بين قوله عليه السلام: «كلّ شيء يراه... الخ»، وبين ما يدلّ على اعتبار التعفير في غَسل الإناء المزبور، وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّاأنّ الثاني يُقدّم للأظهريّة، إذ المتبادر من المرسلة كفاية إصابة المطر في طهارة ما من شأنه التطهير بالغَسل.

وبعبارة أُخرى: تدلّ على أنّ إصابة المطر إنّما تكون كالغَسل بسائر المياه، وعليه فكما أنّه لا يشمل النجاسات والمتنجّس الذي لا تزول عنه عين النجاسة، كذلك لا يعمّ ما يعتبر فيه التعفير، حتّى لا يجب ذلك، حيث أنّه بمنزلة إزالة العين.

وبتعبيرٍ آخر: على المعنى المزبور لا يدلّ المرسل على مطهّريّة المطر لما لا تطهّره سائر المياه.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ ما يدلّ على أنّ ماء الغيث كالجاري، ليس إلّاالإجماعات المحكيّة، وهي على فرض حجيّتها، غاية ما تدلّ عليه إنّما هو اعتصامه، وأمّا اعتبار3.

ص: 43


1- الكافي: ج 3/13، التهذيب: ج 1/267، وسائل الشيعة: ج 1/147 ح 363.

كلّ ما يعتبر في الغسل بالجاري فيه أيضاً، فلا دلالة فيها عليه، كما لايخفى.

وأمّا الأمر الثاني: فلأنّه على ما اخترناه في معنى التعفير يكون هو أيضاً غَسلاً حقيقة، وعليه فكما أنّه تدلّ المرسلة على كفاية إصابة المطر عن الغَسل بالماء، كذلك تدلّ على كفايته عن الغسل بالتراب أيضاً بلا فرق بينهما.

مضافاً إلى أنّ المرسل عام يدلّ على أنّ كلّ ما يقبل التطهير يطهر بإصابة المطر، ولا يحتاج إلى شيء آخر من التعفير والغَسل والتعدّد ونحوها، والنسبة بينه وبين ما يدلّ على لزوم التعفير وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّاأنّ المرسل بما أنّ دلالته تكون بالعموم، يقدَّم على ما يدلّ على لزوم التعفير، لكون دلالته بالإطلاق، ولولا ذلك لما كان وجه لعدم اعتبار التعدّد.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ دعوى عدم شمول ما يدلّ على لزوم التعفير لما إذا طهّر الإناء بالمطر غير بعيدة، لإختصاص دليله بموارد اعتبار الغَسل، وهي ما لو طهرت بسائر المياه، فتدبّر حتّى لا تبادر بالإشكال.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم الحاجة إلى التعفير، وإنْ كان الأحوط رعايته.

***

ص: 44

وماء الحمّام إذا كانت له مادّة حكمه.

ماء الحمّام

(و) حكم (ماء الحمّام إذا كانت له مادّة حكمه)، أي حكم الجاري، بلا خلافٍ فيه، ويشهد لكونه بمنزلة الجاري عدَّة من الروايات كصحيح داود:

«قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: مَا تَقُولُ فِي مَاءِ الْحَمَّامِ؟ قَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي»(1). وقريب منه غيره.

وأمّا شرطيّة الاتّصال فتدلّ عليها رواية بكر بن حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ:

«مَاءُ الْحَمَّامِ لا بَأْسَ بِهِ إذا كَانَتْ لَهُ مَادَّةٌ»(2).

وهي قويّة السند؛ لأنّ بكراً وإنْ كان مجهولاً، إلّاأنّ في سندها صفوان بن يحيى، وعن العدّة(3): أنّه لا يروي إلّاعن ثقة.

وقيل: إنّه ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، مضافاً إلى تلقّي الأصحاب إيّاها بالقبول.

ص: 45


1- التهذيب: ج 1/378، وسائل الشيعة: ج 1/148 ح 367.
2- الكافي: ج 3/14، وسائل الشيعة: ج 1/149 ح 370.
3- عدّة الاُصول: ج 1/154 قوله: (وإذا كان أحد الراويين مسنداً والآخر مرسلاً، نظر في حال المرسل فإنْ كان ممّن يعلم أنّه لا يرسل إلّاعن ثقة موثوق، فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين ما يرويه محمّد ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّاعمّن يوثق به، وبين ما أسنده غيرهم. ولذا انفردوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم).

والظاهر أنّ المراد من ماء الحمّام، هو ما في الحياض الصغار، لكونه مورد النصوص والفتوى، لقرينة قوله عليه السلام: (إذا كانت له مادّة) ولتشبيهه بالجاري.

ثمّ إنّه نُسب إلى جماعة(1): اعتبار كون ما في الخزانة وحده، أو مع ما في الحياض بقدر الكرّ.

وعن الأكثر(2): اعتبار بلوغ المادّة كُرّاً.

وعن جملةٍ من المتأخّرين(3): عدم اعتبار الكريَّة لا في المادّة ولا في مجموع ما فيها وما في الحياض.

وعن بعض(4): التفصيل بين تساوي السطوح واختلافها.

ففي الأوّل: يكفي بلوغ المجموع كُرّاً.

وفي الثاني: لابدَّ من بلوغ المادّة كُرّاً.

وتحقيق القول في المقام: إنّه لا ريب في أنّ نصوص الباب وإنْ كانت من قبيل القضيّة الحقيقيّة، الدالّة على ثبوت الحكم لكلّ ما كان من الحمّامات الموجودة في زمان صدورها، وما وجد ويوجد بعدها، ولا تكون من قبيل القضيّة الخارجيّة المختصّة بالأفراد الخارجيّة الموجودة في ذلك الزمان، إلّاأنّه ليس الموضوع هو كل ما يسمّى بهذا الاسم، ولو كان ما سُمّي بهذا الاسم بعد ذلك منافياً، لما كان مسمّاً به في زمان الصدور، كما هو الشأن في جميع العناوين المأخوذة في الأدلّة، كعنوان ماء8.

ص: 46


1- المحقّق اليزدي في العروة الوثقى: ج 1/94 قوله: (ماء الحمّام بمنزلة الجاري بشرط اتّصاله بالخزانة، فالحياض الصغار فيه إذا اتّصلت بالخزانة لا تنجّس بالملاقاة إذا كان ما في الخزانة وحده أو مع ما في الحياض بقدر الكرّ).
2- نقل ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/187.
3- منهم المحقّق البحراني في الحدائق الناضرة: ج 1/210 وعبارته هي: (الثالث من التنبيهات: عدم اعتبارالكريَّة، ولو نقصت هي مع ما في الحوض عن الكرّ، وهو ظاهر المحقّق، والمؤيّد بظواهر الأخبار).
4- نقل ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/188.

المطر، بل الموضوع هو كلّ ما ينطبق عليه هذا العنوان بما كان له من المعنون في تلك الأزمنة. فدعوى عدم اختصاص الأحكام بالهيئة السابقة الموجودة في ذلك الزمان، ضعيفة غايتها.

ولكن هذا لا يوجب عدم شمول الأدلّة لما إذا كان المجموع أقلّ من الكرّ، إذ الظاهر أنّه موضوعٌ للقدر المشترك، وهو الهيئة الخاصّة المعلومة عند العرف، فلا يضرّ النقيصة والزيادة في الأفراد.

فعلى هذا مقتضى إطلاق الأدلّة، عدم اختصاص أحكامه بما إذا كان ما في الخزانة، أو هو مع ما في الحياض بقدر الكرّ، بل يشمل ما لو كان أقلّ منه.

ودعوى: قضاء العادة باستحالة وجود حمّامٍ لا يكون الماء الموجود في خزانته في أزمنة تعارف استعماله مقدار الكرّ.

مندفعة: بعدم تماميّة ذلك فيه، بعد الأخذفي الاستعمال، لاسيّما في الحمّامات الصغار.

ودعوى: غلبة كون مادّة الحمّام كُرّاً، فينزّل الإطلاق عليه.

مندفعة: بأنّ ندرة الوجود لا توجب عدم شمول الإطلاق أو الانصراف.

أقول: ولكن مع ذلك كلّه، لابدَّ من اعتبار كريَّة المادّة، أو كون مجموع ما في الخزانة مع ما في الحياض كُرّاً، في ما يترتّب على ماء الحمّام، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الظاهر أنّ روايات الباب إنّما سيقت لرفع استبعاد السائلين، حيث توهّموا إنفعال ماء الحمّام لأجل توارد النجاسات عليه، وأراد عليه السلام بقوله:

«قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: مَا تَقُولُ فِي مَاءِ الْحَمَّامِ؟ قَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْجَارِي»(1). دفع ما اختلج في أذهانهم من الريبة في خصوص الحمّام، ولا يستفاد7.

ص: 47


1- التهذيب: ج 1/378، وسائل الشيعة: ج 1/148 ح 367.

منه مدخليّة الحمّام من حيث هو في هذا الحكم تعبّداً.

ويؤيّده: قوله عليه السلام: (يُطَهِّرُ بَعْضُهُ بَعْضاً)(1). حيث أنّه كالصريح في أنّ علَّة الاعتصام، إنّما هي اتّصال بعضه ببعض، لا مدخليّة الحمّام في هذا الحكم.

كما يؤيّده: قوله عليه السلام في خبر بكر بن حبيب: (إذا كَانَتْ لَهُ مَادَّةٌ)(2). حيث أنّه ظاهر في أنّ السبب في عدم الانفعال وجود المادّة له.

مضافاً إلى أنّ العرف يرون أنّ خصوصيّة الحمّام كخصوصيّة الدار والغدير، غير دخيلةٍ في الحكم، كيف ولازم دخل العنوان المذكور فيه، هو انفعال ماء الحمّام إذا لم يكن له مادّة، ولو كان كثيراً، وعدم انفعاله لو أُخذ منه مقدارٌ وجعل مادّة، وذلك كلّه خلاف المرتكز العقلائي.

وبالجملة: التدبُّر في الروايات، والقرائن المحفوفة بها - الخارجيّة والداخليّة - يوجب القطع بعدم دخل الحمّام من حيث هو في هذا الحكم، وعليه فلابدَّ من ملاحظة القواعد العامّة، وستعرف ما تقتضيه.

الوجه الثاني: أنّه لو سُلّم إطلاق روايات الباب، فتعارض هي مع ما يدلّ على إنفعال الماء القليل، والنسبة بينهما بما أنّه عموم من وجه، ودلالة كلّ منهما إنّما تكون بالإطلاق(3) فيتساقطان، فيرجع إلى عموم ما يدلّ على إنفعال كلّ شيء بالملاقاة،ه.

ص: 48


1- الكافي: ج 3/14، وسائل الشيعة: ج 1/150 ح 373 عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: قَالَ: (قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ مَاءِ الْحَمَّامِ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْجُنُبُ والصَّبِيُّ والْيَهُودِيُّ والنَّصْرَانِيُّ والْمَجُوسِيُّ؟ فَقَالَ: إِنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ كَمَاءِ النَّهَرِ يُطَهِّرُ بَعْضُهُ بَعْضاً).
2- عن بكر بن حبيب عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: (مَاءُ الْحَمَّامِ لا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَتْ لَهُ مَادَّةٌ). كما في التهذيب: ج 1/378، وسائل الشيعة: ج 1/149 ح 370.
3- لا يخفى أنّه عند تعارض العامين من وجه يرجع إلى أخبار الترجيح، وهي تقتضي تقديم ما دلّ على إنفعال الماء القليل لأنّه أشهر منه.

ولا يرجع إلى عموم قوله عليه السلام: «خَلَقَ اللّهُ الْمَاءَ طَهُوراً لا يُنَجِّسُهُ شَيْ ءٌ..»(1)، لضعف سنده كما عرفت سابقاً. هذا ما يستفاد من الأخبار.

وأمّا القواعد العامّة: فلا شبهة في أنّه لو كان ما في الخزانة بقدر الكُرّ، لا ينفعل ما في الحياض المتّصلة به، ولو مع اختلاف السطوح، لعدم معروفيّة الخلاف في تقوّي السّافل بالعالي الكُرّ:

فعن غير واحدٍ دعوى الاتّفاق عليه، بل عن بعضٍ دعوى كونه من المسلّمات.

وتدلّ عليه: أخبار الحمّام، لأنّه القدر المتيقّن من موردها، وحيث عرفت عدم الخصوصيّة له فيتعدّى منه إلى غيره.

ويشهد له أيضاً: صحيح ابن بزيع(2) لاسيّما بناءً على ما هو الحقّ من رجوع التعليل إلى قوله: (لا يفسده شيء)، كما أنّه لا ريب في إنفعال ما في الحياض بملاقاة النجاسة، إذا كان مجموع ما في الخزانة وما في الحياض أقلّ من الكُرّ.

وإنْ كان ما في الخزانة وحده أقلّ من الكُرّ، ولكنّه مع ما في الحياض بالغاً قدره، فمع تساوي سطح ما في الخزانة وما في الحياض، لا شبهة في عدم الانفعال، لعموم ما يدلّ على عدم إنفعال البالغ قدر الكُرّ.

***

تقوّي السّافل بالعالي

وأمّا مع اختلاف السطحين - فهي المسألة المعنونة في كلام الأصحاب - فقد اختلفت كلماتهم فيها:

ص: 49


1- وسائل الشيعة: ج 1/135 ح 330.
2- الكافي: ج 3/5، الاستبصار: ج 1/33، وسائل الشيعة: ج 1/141 ح 347.

فعن جماعةٍ من المتأخّرين(1): تقوّي كلٍّ من السّافل والعالي بالآخر.

وعن المصنّف رحمه الله في «القواعد»(2) وغيرها(3): اعتبار الكريَّة في مادّة الحمّام، ومقتضاه عدم تقوّي السّافل بالعالي.

وظاهر كلامه قدس سره في «التذكرة»(4) فيما لو وصل بين الغديرين بساقيةٍ: تقوّي السّافل بالعالي دون العكس.

ومثله ما حُكي من كلام غيره.

وتحقيق القول في المسألة: إنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ المناط في عدم الانفعال هو كون الماء الواحد المتّصل كُرّاً، ولا يكون شيء آخر دخيلاً في هذا الحكم.

كما يدلّ على ذلك: إطلاق ما يدلّ على اعتصام الكُرّ.

فما عن صاحب «المعالم»(5) من الإشكال في عدم إنفعال الكُرّ مع تساوي السطوح، إذا لم يكن مجتمعاً متقارب الأجزاء، خلاف الإطلاق.

وعلى هذا، فلو كان الماء ساكناً، كما لو عمل ظرف من فضّة على هيئة المنبر، فالظاهر أنّه لا ينبغي الريب في تقوّي كلٍّ من الأعلى والأسفل بالآخر.

ودعوى: اختصاص(6) مورد أدلّة اعتصام الكُرّ بالحياض والغدران ونحوهما ممّا يتساوى السطوح.ه.

ص: 50


1- ذكر ذلك السيّد العاملي صاحب مفتاح الكرامة في: ج 1/283 نقلاً عن اُستاذه صاحب مصابيح الأحكام في كتاب الطهارة: ص 19 مخطوط رقم 642.
2- قواعد الأحكام: ج 1/183 قوله: (وماء الحمّام كالجاري إنْ كان له مادّة).
3- منتهى المطلب: ج 1/30 قوله: (ماء الحمّام في حياضه الصغار كالجاري إذا كان له مادّة تجري إليها).
4- تذكرة الفقهاء: ج 1/23 قوله: (الفرع الثاني: لو وصل بين الغديرين بساقية اتّحدا إن اعتدل الماء، وإلّا في حقّ السّافل، فلو نقص الأعلى عن كرّ انفعل بالملاقاة).
5- معالم الدِّين: ص 105 و 106.
6- ذكر هذا الاحتمال السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/190 وأجاب عنه.

مندفعة: بأنّه - مضافاً إلى أنّ المورد لا يكون مخصّصاً لبعض تلك الأدلّة - لا مورد له.

ودعوى: انصرافه إلى خصوص متساوي السطوح(1)، واضحة الدفع، لأنّه بدوي ناشيء من اُنس الذهن بذلك.

وأمّا إنْ كان جارياً: فنذكر في المقام ثلاث إشكالات:

الإشكال الأوّل: يستشكل في شمول الأدلّة له، بأنّه مع اختلاف السطوح يتعدّد وجود الماء.

وفيه: أنّه يتوقّف على تخلّل العدم والانفصال، وهو خُلف الفرض.

الإشكال الثاني: يستشكل فيه بأنّ ما دلّ على اعتبار المادّة في الحمّام، المنصرف إطلاقها إلى الكُرّ، يقيّد هذه المطلقات، بناءً على إلغاء الخصوصيّة.

وفيه: ما عرفت آنفاً من أنّ ندرة الوجود ليست صالحة للانصراف المُقيِّد للإطلاق.

الإشكال الثالث: يقال - كما ذكره بعض أعاظم المعاصرين -(2): (بأنّ المرتكز العرفي عدم تقوّي كلّ من العالي والسّافل بالآخر، وهذا الارتكاز موجبٌ لانصراف المطلقات)، هو ليس من الانصرافات البدويّة التي لا يعوّل عليها في رفع اليد عن الإطلاق.

وفيه: أنّ تقوّي بعض أجزاء الماء بالآخر، لا يتوقّف على شيء سوى صدق الماء الواحد على مجموعها، وهو يصدق على المورد، وقد عرفت الاتّفاق والدليل1.

ص: 51


1- تقدّم آنفاً.
2- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/191.

على تقوّي السّافل بالعالي الكثير، مع أنّه بديهي عدم دخالة الكثرة في التقوّي، بل نفس تلك الأدلّة تدلّ على المورد، كما لا يخفى، فتدبّر.

ولبعض المحقّقين(1) كلام في المقام، وحاصله: أنا إذا راجعنا وجداننا لا نستبعد إطلاق الكريَّة على الماء السّافل المتّصل بالعالي، بل ارتباط العالي بالسّافل أشدّ من ارتباط بعض الماء الواقف ببعض، وهذا بخلاف العالي فإنّ الماء النازل منه يضعف ارتباطه به، فكأنّه ينفصل عنه، فلا يساعد أذهاننا على إطلاق الكريَّة عليه.

وعليه فيستفاد من قوله عليه السلام: (إذا كانَ الماءُ قدر كُرٍّ لم ينجّسه شيء)(2)، أنّ السّافل يتقوّى بالعالي، وأمّا العالي فلا يفهم منه تقوّيه بالسّافل، ولعلّ هذا هو مدرك القول بالتفصيل الموجود في المسألة.

وفيه: أنّ ذلك لو تمّ، فلازمه عدم تقوّي السّافل بالعالي أيضاً، إذ مع فرض ضعف الارتباط، وصدق الانفصال، فما الوجه في تقوّيه به؟!

أقول: الحقّ أنّه يصدق على مجموعها أنّه ماءٌ واحد متّصل بعضه ببعض، ويكون كُرّاً، ولازم ذلك هو الالتزام بتقوّي كلّ منهما بالآخر.

فتحصّل من مجموع ما ذكرناه: أنّ ما ذكره بعض الفقهاء - بقوله: (فالحياض الصغار إذا اتّصلت بالخزانة لا تنجّس بالملاقاة، إذا كان ما في الخزانة وحده، أو مع ما في الحياض بقدر الكُرّ، من غير فرق بين تساوي سطحها مع الخزانة؟.

ص: 52


1- آغا رضا الهمداني في كتابه مصباح الفقيه: ج 1/24 و 25 ط حجريّة.
2- هذا النصّ فى النصوص المشهورة التى استشهد بها كثيرٌ من الفقهاء، و قد تصرّف فيه بعضهم و جعله: (اذا كان الماء كرّاً لا ينجّسه شيء)، و أصل الخبر مروي عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قوله: (إِذَا كَانَ الْمَاءُ قَدْرَ كُرٍّ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْ ءٌ) وسائل الشيعة: ج 1/158 ح 392، التهذيب: ج 1/40. وأيضاً رواه إسماعيل بن جابر بلفظ آخر، قال: (سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الماء الذي لا ينجّسه شيء؟ فقال: كُرّ. قلت: وما الكُرّ؟ قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار). وسائل الشيعة: ج 1/159 ح 397. وفي عبارة التهذيب ج 1/37: وكم الكُرّ؟.

وعدمه)(1) - هو القول الصحيح، وعليه العمل.

وأخيراً: إذا تنجّس ما فيها، طَهُر بالاتّصال بالخزانة، بلا خلافٍ فيه في الجملة، وحينئذٍ:

بناءً على طهارة المتمّم كُرّاً بطاهر، لا يعتبر كُرّية خصوص ما في الخزانة في رفع نجاسة ما في الحياض المتّصلة بها، بل يكفي كون المجموع كُرّاً.

وأمّا بناءً على عدم القول بها، فيعتبر كون خصوص ما في الخزانة كُرّاً.

ويدلّ على طهارة ما في الحياض إذا اتّصلت بها، صحيح ابن بزيع، بناءً على ما تقدّم من رجوع العلّة التي فيه إلى الغاية، فيعمّ الحكم كلّ ما له مادّة.

ولكن حيث عرفت في مبحث الماء الجاري،(2) أنّ الحديث لا يدلّ على كفاية مجرّد الاتّصال، فالأحوط رعاية الامتزاج مع ما يجري عليه من الخزانة.

***9.

ص: 53


1- كما ذكره السيّد اليزدي في العروة الوثقى: ج 1/94.
2- فقه الصادق: ج 1/28-29.

الثاني: الواقف كمياه الحياض والأواني، إنْ كان مقداره كُرّاً. وحَدّه ألفٌ ومائتا رطلٍ بالعراقي

القسم الثاني: الماء الرّاكد
اشارة

(الثاني) من الأقسام (الواقف، كمياه الحياض والأواني، إنْ كان مقداره كُرّاً) فإنّه لم ينجس بوقوع النجاسة فيه بلا خلافٍ، بل هو من الضروريّات.

وتشهد له جملةٌ من النصوص، منها المتضمّنة قولهم عليهم السلام: (إذا بَلَغ الماء قدر كُرّ لايُنجِّسه شيء)(1)، الوارد بعضها جواباً عن السؤال عن الماء الذي تلغُ فيه الكلاب، ويَغتَسل فيه الجنب، وتبول فيه الدواب، وتدخله الدجاجة التي وطئت العذرة.

(وحَدّه) أي حَدّ الكُرّ بحسب الوزن (ألف ومائتا رطلٍ بالعراقي) على المشهور.

وعن جماعة(2): دعوى الإجماع عليه، لأنّ مقتضى الجمع بين مرسلة ابن أبي عُمير، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«الْكُرُّ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي لا يُنَجِّسُهُ شَيْ ءٌ أَلْفٌ ومِائَتَا رِطْلٍ»(3).

وبين صحيحة محمّد بن مسلم، عن أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: فِي حَدِيثٍ، قَالَ:

«والْكُرُّ سِتُِّمائَةِ رِطْلٍ»(4).

حَملُ الرّطل في المرسلة على العراقي، وحَمله في الصحيحة على المكّي الذي هو

ص: 54


1- الاستبصار: ج 1/6، من لا يحضره الفقيه: ج 1/9، وسائل الشيعة: ج 1/158 ح 391.
2- مدارك الأحكام: ج 1/47، قوله: بعد نقله لكلام المحقّق الحلّي بأنّ (ظاهره اتّفاق الأصحاب على العمل بمضمونها، فيكون الإجماع جابراً لإرسالها).
3- التهذيب: ج 1/41، وسائل الشيعة: ج 1/167 ح 416.
4- وسائل الشيعة: ج 1/168 ح 418، الذكرى: ص 8.

ضِعفُ العراقي، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ كلّاً منهما في نفسه مجملٌ، محتمل لإرادة كلّ واحدٍ من الأرطال العراقي والمكّي والمدني منه، لما يستفاد من تتبع الأخبار والآثار، من شيوع العراقي في المدينة.

بل يظهر من حديث الكلبي النسَّابة سؤالاً وجواباً: أنّ الاستعمال في العراقي أشيع، وكذلك المكّي.

مضافاً إلى أنّه يحتمل كون الإمام في زمان صدور الحديث في مكّة.

وعلى ذلك، فضمّ كلٍّ منهما إلى الآخر قرينة معيّنة للمراد من الآخر.

وإن شئت فاختبر ذلك فيما إذا قال القائل: (أعط زيداً منَّاً من الشعير)، ثمّ قال:

(أعطه منّين)، وعُلم أنّ القائل حين ما يقول: (أعطه منّين) ملتفتٌ إلى ما قاله أوّلاً، ولم يرفع اليد عنه، وكان المَنّ مشتركاً بين مقدارٍ ونصفه، فإنّه لا يشكّ أحدٌ في أنّ كلّ واحدٍ منهما يرفع الإجمال عن الآخر.

الوجه الثاني: أنّ المسلَّم بين الأصحاب - إلّاما شذ - أنّ الكُرّ لا يزيد بحسب المساحة عن ثلاثة وأربعين شبراً إلّاثُمن شِبْر، ولا ينقص عن سبعة وعشرين شبراً، وألف ومأتا رطلٍ بالعراقي على ما ستعرف يقارب سبعة وعشرين شبراً.

وعليه، فإن قلنا: بأنّ المراد من الرّطل في الصحيح هو العراقي، لزم أنْ يكون بحسب المساحة ثلاثة عشر شبراً ونصف شبر، وإنْ حملناه على المدني يكون عشرين شبراً ورُبع شبر، فلا محيص عن حمله على المكّي، وهو حينئذٍ يكون قرينة على إرادة العراقي من المرسلة.

الوجه الثالث: أنّه لو لم يتمّ ما ذكرناه، وسلّمنا إجمال الروايتين، نقول:

إنّ لكلّ منهما صريحاً يوضح إجمال الآخر، وذلك لأنّ الصحيح على أيّ معنى

ص: 55

حُمل الرّطل فيه، يدلّ على أنّ ألفا ومائتي رطل بالعراقي يكون كُرّاً، إذ أيّ المعاني أريد منه لا يزيد على ذلك، وهذا يدلّ أنّ هذا الحدّ وما زاد عليه كرّ لا ينفعل، فهو قرينة معينة لإرادة العراقي من المرسلة.

والمرسل على أيّ معنى حُمل الرّطل فيه، يدلّ على أنّ الأقلّ من ألف ومائتي رطل بالعراقي ليس بكُرّ وينفعل، فهو أيضاً قرينة على إرادة المكّي من الصحيح كما لا يخفى.

وإنْ شئت قلت: إنّ المرسل يدلّ على أنّ ألفا ومائتي رطل بالعراقي كُرّ، والصحيح يدلّ على أنّ الأقلّ منه ليس بكُرّ.

فبكلٍّ من الخبرين يتمسّك لإثبات جزء من المطلوب، فتدبّر في ذلك فإنّه دقيق.

هذا كلّه في وزن الكُرّ.

***

ص: 56

أو كان كلّ واحدٍ من طوله وعَرْضِه وعُمقه ثلاثة أشبارٍ ونصفاً، بشبر مستوى الخلقة.

مساحة الكُرّ

(أو كان كلّ واحدٍ من طوله وعرضه وعُمقه ثلاثة أشبار ونصفاً بشبر مستوى الخلقة) فيكون بالمساحة ثلاثة وأربعين شبراً إلّاثُمن شبرٍ، وهو المشهور بين الأصحاب.

وعن القُميّين وجماعةٍ من المتأخّرين كالمصنّف رحمه الله في «المختلف»(1)، والشهيد الثاني(2)، والأردبيلي(3) وغيرهم: أنّه سبعة وعشرون شبراً.

وعن المحقّق(4) وصاحب «المدارك»(5): أنّه ما بلغ إلى ستّة وثلاثين شبراً(6).

هذه هي عُمدة الأقوال في المسألة، وهناك أقوال آخر ضعيفة سيظهر وجه

ص: 57


1- مختلف الشيعة: ج 1/183 قوله بعد أن ذكر قول ابن الجنيد بأنّ تكسيره بالذراع نحو مائة شبر: (وهو قول غريب لأنّ اعتبار الأرطال يقارب قول القميّين، ويكون مجموع أشباره تكسيراً عندهم سبعة وعشرين شبراً).
2- شرح اللّمعة: ج 1/257 قوله: (وفي الاكتفاء بسبعة وعشرين قولٌ قويّ).
3- مجمع الفائدة: ج 1/261 قال: (لابدَّ من سبعة وعشرين شبراً في حَدّ الكُرّ).
4- بالرغم من أنّ المحقق رحمه الله لم يصرّح بهذا القول، لكنه اعتبر أنّ الاعتماد على رواية إسماعيل بن جابر أمرٌ حسن، وهي: (قلت: الماء الذي لا ينجّسه شيء؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع، وشبر سعته) راجع المعتبر: ج 46/1.
5- بعد أن ذكر في «المدارك» الأقوال أشار إلى كلام المحقّق في المعتبر، وقال: (ويظهر من المصنّف رحمه الله في المعتبر الميل إلى العمل بهذه الرواية وهو متّجه). مدارك الأحكام: ج 1/51.
6- نسب هذا القول إلى المحقّق وصاحب «المدارك» المحقّق البحراني في الحدائق الناضرة: ج 1/261 حيث قال: (وقيل ما بلغ تكسيره ستّة وثلاثين شبراً وهو ظاهر المحقّق في المعتبر، وإليه مالَ السيّد في المدارك).

ضعفها، ممّا سنبينه إنْ شاء اللّه تعالى.

وقد استدلّ للمشهور: برواية الثّوري، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«إذا كَانَ الْمَاءُ فِي الرَّكِيِّ(1) كُرّاً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْ ءٌ. قُلْتُ: وَكَمِ الْكُرُّ؟ قَالَ ثَلاثَةُ أَشْبَارٍ ونِصْفٌ عُمْقُهَا، فِي ثَلاثَةِ أَشْبَارٍ ونِصْفٍ عَرْضِهَا كُرّاً»(2).

وروي هذا الخبر عن «الاستبصار»(3) مع زيادة: (ثلاثة أشبارٍ ونصفٌ طولها).

وتقريب الاستدلال بها على ما في «الاستبصار» واضحٌ، وأمّا على ما في «الكافي»(4) فبدعوى الاكتفاء بذكر بعض الأبعاد عن الاُخر.

أقول: لا إشكال في أنّ الحديث موثّق معتبر، ولكن المعتمد هو ما في «الكافي»، لأنّه وإنْ كان مقتضى القاعدة عند دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة، هو الحكم بالثانية، إذ احتمال السقط أقوى من احتمال الزيادة، فلا يتكافئان، إلّاأنّه فيما نحن فيه بما أنّ الكليني أضبط من الشيخ، وصاحب «الاستبصار» كثيراً ما يذكر ما أدّى إليه نظره وفهمه من الأخبار في ضمن الخبر، والأعلام إنّما استدلّوا بهذا الخبر على ما في «الكافي»؛ فيكون احتمال السقط من «الكافي» أضعف من احتمال الزيادة من «الاستبصار». وعليه، فالعبرة بما في «الكافي».

ثمّ إنّه بما أنّ مورده الرَّكي، وهو مدورٌ بحسب الغالب، فالعَرْض في الحديث ليس هو ما يقابل الطول، لأنّ المدوّر لا يكون له خطوط متساوية، بل هو بمعنى السِّعة، فيكون المراد من عرضها قطر الدائرة.4.

ص: 58


1- الركية: البئر وجمعها ركي وركايا (صحاح الجوهري ج 6 ص 2363). والركية بئر تحضر (العين: ص 402).
2- التهذيب: ج 1/408، وسائل الشيعة: ج 1/160 ح 398.
3- الاستبصار: ج 1/33.
4- الكافي: ج 3/2 ح 4.

وما في «الجواهر»(1) من أنّ الحمل على المدوّر حملٌ على ما لا يعرفه إلّا الخواص من علماء الهيئة فيمتنع.

غريبٌ غايته، إذ لو كان جوابه عليه السلام بما يكون نتيجته ضرب الأبعاد بعضها في بعض، كان لما أفاده وجه.

وأمّا بما أنّ الجواب إنّما يكون بتعيين القطر والعمق - وهما ممّا يعرفه كلّ أحدٍ - فلا محذور فيه.

ودعوى: أنّ مقتضى الإطلاق أن يكون سعته على الإطلاق ثلاثة أشبار ونصفاً من أي ناحية تفرض، والمدوّر ليس كذلك، إذ ليس ماعدا البُعد المفروض في وسطه، كذلك فمن الإطلاق يستكشف عدم كونه مستديراً.

مندفعة: بأنّ مقتضى الإطلاق الحمل على المدوّر، لأنّه الذي تستوي فيه الخطوط من أيّ ناحية فرض الخطّ، بخلاف غيره من المضلّعات، فإنّ ما بين زواياه أطول من ما بين الأضلاع، فمقتضى إطلاق الاقتصار على بيان بُعدٍ واحد هو الحمل على المدوّر.

وبالجملة: تساوي الخطوط في المدوّر من جميع النقاط، وكونه ممّا له بُعدٌ واحدٌ في نظر العرف، وكون مورد الخبر الركيَّة التي تكون مستديرة غالباً، تقتضي حمل الخبر المتضمّن لبيان بُعد واحدٍ على المدوّر.

أقول: وبما ذكرناه يظهر لزوم حمل موثّق أبي بصير المذكور فيه:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْكُرِّ مِنَ الْمَاءِ كَمْ يَكُونُ قَدْرُهُ؟ قَالَ: إذا كَانَ الْمَاءُ ثَلاثَةَ أَشْبَارٍ ونِصْفٍ (نِصْفاً) فِي مِثْلِهِ، ثَلاثَةُ أَشْبَارٍ ونِصْفٌ فِي عُمْقِهِ فِي الأرْضِ،).

ص: 59


1- جواهر الكلام: ج 1/173، قوله: (ويكون ظاهراً في الدوري).

فَذَلِكَ الْكُرُّ مِنَ الْمَاءِ»(1).

والذي استدلّ به على مذهب المشهور على المدوّر.

ودعوى: أنّ قوله ثانياً (ثلاثة أشبار) ليس بدلاً من قوله (مثله)، بل هو معطوفٌ على (مثله)، وقدر العاطف كما ترى.

ممنوعة: لأنّ التقدير خلاف الأصل.

وأيضاً: دعوى صاحب «الجواهر»(2) من أنّي عثرتُ على نسخةٍ مقروءة على المجلسي الكبير مصحّحة وفيها: (في ثلاثة أشبار ونصف في عمقه) ممنوعة، لا يُعتمد عليها في قبال النسخ المتعارفة.

كما أنّ دعوى حذفه من العمق، لدلالة ما قبله عليه كما ترى، بل الظاهر منه كون قوله عليه السلام ثانياً: (ثلاثة أشبار)، بدلاً من قوله عليه السلام: (مثله)، فيُحمل على المدوّر بالتقريب المتقدّم.

وعلى هذا، فظاهر الروايتين كون الكُرّ ثلاثة وثلاثين شبراً وخمسة أثمان الشبر ونصف ثمنه، إذ مقتضى ضرب نصف القطر - وهو شبران إلّاربع شبر - في نصف المحيط - وهو خمسة أشبار ونصف، على ما هو الثابت في محلّه من أنّ المحيط ثلاثة أمثال القطر وسبعه - ثمّ ضرب الحاصل في العمق، كون الحاصل ما ذكرناه.

فتحصّل: أنّ هذين الخبرين(3) الذين هما مدرك المشهور، لا يدلّان على ما ذهبوا إليه، ولا على ما اختاره المحقّق، فالأمر يدور بين طرحهما، أو الالتزام بأنّ المراد بهما أنّ الكُرّ هو سبعة وعشرون.ق.

ص: 60


1- الاستبصار: ج 1/10، وسائل الشيعة: ج 1/166 ح 413.
2- جواهر الكلام: ج 1/174.
3- وهما رواية الحسن بن صالح، وموثّقة أبي بصير. راجع المصدر السابق.

أقول: وتعيين هذا المقدار، إنّما يكون لأجل الاحتياط، من جهة أنّ وسط البئر غالباً يكون عمقه أقلّ من أطرافه كما لا يخفى.

ولايبعد دعوى أرجحيّة الثاني، وعلى كلّ حال لا يدلّان على ما استدلّوا بهما له.

وأيضاً: من روايات الباب، ما رواه الشيخ في الصحيح، قَالَ:

«قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: الْمَاءُ الَّذِي لا يُنَجِّسُهُ شَيٌْ؟ قَالَ: ذِرَاعَانِ عُمْقُهُ فِي ذِرَاعٍ وشِبْرٍ سَعَتِه»(1).

وقد توهم دلالته على مذهب المشهور، بدعوى أنّ ظاهر اعتبار الذراع والشبر في السعة اعتبارهما في كلّ من البعدين، والذراع إنّما يكون أطول من الشبرين بمقدارٍ يسير، فيبلغ مجموع مساحته ما يقرب من المساحة المشهورة.

وفيه أوّلاً: أنّ الذراع لا يزيد على الشبرين، كما يساعده الإختبار، فعلى ما ذكر يكون مجموع مساحته ستّة وثلاثين شبراً.

وثانياً: عرفت سابقاً من ظهور مثل هذا التحديد المعيّن لبُعدٍ واحد في قبال العمق في الشكل المدوّر، فيبلغ مجموع مساحته ما يقرب سبعة وعشرين شبراً كما لا يخفى.

أقول: وتدلّ على هذا القول رواية إسماعيل بن جابر، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: عَنِ الْمَاءِ الَّذِي لا يُنَجِّسُهُ شَيْ ءٌ؟ فَقَالَ: كُرٌّ، قُلتُ: ومَا الْكُرُّ؟ قَالَ: ثَلاثَةُ أَشْبَارٍ فِي ثَلاثَةِ أَشْبَارٍ»(2).

وعن البهائي رحمه الله(3): أنّ الرواية من زمن العلّامة رحمه الله إلى زماننا هذا موصوفة9.

ص: 61


1- الاستبصار: ج 1/10، وسائل الشيعة: ج 1/165 ح 408.
2- وسائل الشيعة: ج 1/160 ح 397. الكافي: ج 3/3.
3- وعبارته هي: (وأمّا هذا السند فقد أطبق علمائنا من زمن العلّامة طاب ثراه إلى زماننا هذا على صحّته... الخ) مشرق الشمسين: ص 349.

بالصحّة، فالرواية من حيث السند لا إشكال فيها.

وأمّا من حيث الدلالة، فحيث أنّه لم ينصّ على بُعدٍ بعينه، ليجري فيها ما ذكرناه في الروايات المتقدّمة، بل نُسب التحديد إلى نفس الماء لا إلى أبعاده، فظهور هذه الجملة في جميع أبعاده لا ينكر.

مضافاً إلى اعتضاده بالإجماع، على أنّ الكُرّ لا ينقص عن سبعة وعشرين، فلو فرض مورد الرواية المدوّر، لزم أن يكون أقلّ، فلابدَّ من فرضه مربّعاً.

ويؤيّده ما عن «المجالس»(1) و «الأمالي»(2) أنّه: (ثَلاثَةَ أَشْبَارٍ طُولا فِي ثَلاثَةِ أَشْبَارٍ عَرْضاً فِي ثَلاثَةِ أَشْبَارٍ عُمْقاً)(3).

وعليه يكون مفاد هذا الحديث كون الكُرّ سبعة وعشرين شبراً.

واحتمال سقوط النصف من الحديث لا يُعتنى به، كما أنّ دعوى وهنه لإعراض الأصحاب عنه، مندفعة باحتمال أن يكون إعراضهم لبعض الوجوه المرجّحة لغيره عليه، مع إفتاء جماعةٍ بمضمونه.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى - بحسب الأدلّة - كون الكُرّ بحسب الوزن ألفاً ومائتي رطلٍ بالعراقي، وبحسب المساحة سبعة وعشرين شبراً.

أقول: ثمّ إنّه يقع الكلام في الجواب عن الإشكال الذي طرح في المقام، وهو أنّ التحديد بالمساحة والوزن يختلفان، فكيف التوفيق بين التحديدين؟

وبعبارة أُخرى: المحكيّ عن المجلسي رحمه الله(4): أنّ ألفاً ومائتي رطل من ماء المدينةي.

ص: 62


1- نقل ذلك الحرّ العاملي في وسائل الشيعة: ج 1/165 ح 409.
2- الأمالي: ص 744.
3- وسائل الشيعة: ج 1/165 ح 409.
4- حكاه في الجواهر في: ج 1/174 عن المجلسي، ونقل ذلك السيّد الخوئي في الاجتهاد والتقليد، وذكر أنّنسبة هذا القول للعلّامة المجلسي هي من السيّد إسماعيل الطبرسي، شارح نجاة العباد، راجع المصدر الآتي.

يساوي ثلاثة وثلاثين شبراً تقريباً.

وعن جماعة: أنّ هذا المقدار من ماء النجف يساوي ثمانية وعشرين شبراً.

وذكر الاُستاذ دام بقاؤه(1): أنّه يساوي سبعة وعشرين شبراً، وهذه الأوزان لا توافق المشهور في المساحة، وربما تزيد على المساحة التي اخترناه، وربما تنقص.

وتحقيق القول في الجواب عنه يقتضي أن يُقال: بما إنّ الأشبار في حَدّ ذاتها لا انضباط لها حتّى في المتعارف منها، سيما مع كون المتعارف منها في الأزمنة السابقة أطول من المتعارف في زماننا، ومعه لا مجال لجعلها حدّاً واقعيّاً، فلا محيص عن حملها على كونها كاشفة عن تحقّق الموضوع الواقعي.

وأمّا الوزن: فيما أنّ المياه تختلف خفّةً وثقلاً، ومن المستبعد جدّاً دخل الخفّة والثقل في الاعتصام، بل المرتكز عند العرف العاصم هو الكمّ الخاص، فلابدَّ من الإلتزام بأنّه أيضاً علامة على وجود الكُرّ، فهما ليسا حَدّين، بل هما علامتان لوجود الكُرّ، ولا مانع من جعل علامتين لشيءٍ، مع كون النسبة بينهما عموماً من وجه، أو عموم مطلق.

وعليه، فنلتزم بكفاية تحقّق أحدهما، ولو لم يتحقّق الآخر، إذ وجود كلّ منهما أمارة على وجود الحدّ، وأمّا عدمه فلا يكون أمارة على عدم وجوده ليقع التعارض بين الدليلين ويُحكم بتساقطهما، كما لا يخفى.

فتدبّر في أطراف ما ذكرناه، فإنّه أحسن ما قيل في هذا المقام. ومنه يظهر ما في كثير من الكلمات في المقام.

***7.

ص: 63


1- السيّد الخوئي قدس سره في الاجتهاد والتقليد: ص 277.

فروع:

الفرع الأوّل: المشهور أنّ الرّطل العراقي مائة وثلاثون درهماً، وتدلّ عليه مكاتبة(1) إبراهيم بن محمّد الهمداني، قال:

«كتبتُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام عَلَى يَدَيْ أَبِي: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِي الصَّاعِ؛ بَعْضُهُمْ يَقُولُ الْفِطْرَةُ بِصَاعِ الْمَدَنِيِّ، وبَعْضُهُمْ يَقُولُ بِصَاعِ الْعِرَاقِيِّ؟

قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيَّ الصَّاعُ بِسِتَّةِ أَرْطَالٍ بِالْمَدَنِيِّ، وتِسْعَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ... وقَالَ:

وأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يَكُونُ بِالْوَزْنِ أَلْفاً ومِائَةً وسَبْعِينَ وَزْنَةً».

والوزنة بالكسر مفسّرة بالدرهم، فيكون الرّطل العراقي وهو تسع المجموع مائة وثلاثين درهماً، مضافاً إلى أنّ الرّطل المدني مائة وخمسة وتسعون درهماً بلا خلاف، فالرطل العراقي الذي هو ثلثاه يكون ما ذكرناه.

وبالجملة: ثبت ممّا ذكرنا أنّ ما ورد في «التحرير»(2) و «المنتهى»(3) من أنّه مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع، ليس له مستند.

ثمّ إنّ الدرهم نصف المثقال الشرعي وخُمْسه، فكلّ عشرة دراهم حينئذٍ سبعة مثاقيل، والمثقال الشرعي ثلاثة أرباع الصيرفي كما عن جماعة(4) التصريح بجميع ذلك، وبهذا الحساب يمكن الوقوف على مقدار الكُرّ بجميع الأوزان.

***6.

ص: 64


1- الكافي: ج 4/172 ح 12179، الفقيه: ج 2/176، وسائل الشيعة: ج 9/340.
2- تحرير الأحكام: ج 1/374.
3- منتهى المطلب: ج 1/497 (ط. ق).
4- ورد ذلك في جواهر الكلام: ج 4/186.

الفرع الثاني: الماء المشكوك كرّيته، مع عدم العلم بحالته السابقة، في حكم القليل، وليس الوجه فيه:

أنّ المستفاد من النصوص اقتضاء الملاقاة للنجاسة ومانعيّة الكُرّيَّة، إذ المرجع عند الشكّ في المانع هو أصالة العدم.

أو أنّ إناطة الرخصة بأمرٍ وجودي تدلّ بالالتزام العرفي على أنّ الموضوع إنّما هو إحراز ذلك الأمر.

أو أنّ مقتضى العمومات إنفعال الماء كسائر الأشياء خرج عنه الكُرّ، فمع الشكّ فيه بما أنّه شكّ في مصداق الخاص، يكون المرجع هو العموم.

إذ يرد على الأوّل: عدم تماميّة قاعدة المقتضي والمانع، كما حُقّق في محلّه.

ويرد على الثاني: أنّ إناطة الرخصة بأمرٍ وجودي كإناطة المنع به من غير فرقٍ بينهما، ليس المقصود منها إلّاجعل حكم واقعي لموضوع واقعي.

ويرد على الثالث: عدم مرجعيّة العام عند الشكّ في الخاص، مضافاً إلى أنّ مقتضى عموم قوله عليه السلام: (خَلَقَ اللّهُ الْمَاءَ طَهُوراً لا يُنَجِّسُهُ شَيْ ءٌ)(1) عدم تنجّس مطلق المياه، خرج عنه القليل.

فمع الشكّ في الخاص، لو كان المرجع هو العموم، لابدَّ وأن يرجع إليه، ويُحكم بعدم التنجّس كما حَكم به بعض، فتأمّل.

بل لأصالة عدم الكريَّة الأزلي، إذ الكريَّة وصفٌ زائدٌ على وجود الماء، والثابت في محلّه(2) جريان استصحاب العدم الأزلي في أمثال المقام.7.

ص: 65


1- وسائل الشيعة: ج 1/135 ح 330.
2- مرَّ الحديث عن ذلك في الأمر الرابع من هذا الجزء ص 17.

أقول: أشكل على هذا الوجه بعض الأعاظم(1) بأنّ الكريَّة ليست من عوارض وجود الماء عرفاً، كي تصدق في الأزل السالبة بانتفاء الموضوع، بل هي نحو سعةٍ في مرتبة الطبيعة، فلا يصحّ أن نشير إلى كُرٍّ من الماء، ونقول هذا قبل وجودة ليس بكر، وعليه فليس المقام من موارد جريان الأصل في العدم الأزلي.

وفيه: أنّه لا شبهة في أنّ الماء الكُرّ من حيث هو، ليس موضوعاً للحكم، حتّى في صورة التفرّق، إذ لا ريب في دخل اجتماع ذلك المقدار من الماء في الحكم، وهذا وصفٌ عنواني زائدٌ على صرف وجود الماء، ويستصحب عدم ذلك، ويقال إنّه في الأزل لم يكن هذا الوصف متحقّقاً، فيستصحب عدمه.

بحث: ثمّ إنّه بناءً على عدم جريانه، والبناء على عدم التنجّس بمقتضى أصالة الطهارة، هل يحكم بطهارة متنجّسٍ غسل فيه أم لا؟ وجهان:

استدلّ للوجه للأوّل: بأنّ المعتبر في التطهير بالقليل عُلوّ المطهر ووروده، على النجس، وحيث أنّه يحتمل أن يكون قليلاً، فيشكّ في حصول شرائط التطهير، فإنّ المرجع إلى استصحاب النجاسة.

وفيه: أنّ اعتباره في التطهير بالقليل إنّما يكون لأجل أن لا يصير الماء نجساً بالملاقاة، فإذا فرضنا عدم نجاسة الماء - ولو غسل فيه المتنجّس، وكان هو وارداً على الماء - فلا مانع من الحكم بحصول الطهارة.

وبالجملة: لا يعتبر في حصول الطهارة سوى الغَسل بماءٍ طاهر مرّةً أو أكثر، فإذا غسل المتنجّس في مشكوك الكريَّة، وبنينا على عدم تنجّسه بالملاقاة، فقد تحقّق الغسل بماء طاهر، فتحصل الطهارة.

***5.

ص: 66


1- وهو السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/165.
مشكوك الكريَّة مع سبق القلّة

الفرع الثالث: الكُرّ المسبوق بالقلّة إذا عُلم ملاقاته للنجاسة، ولم يُعلم السابق من الملاقاة والكريَّة؛ حكم بطهارته:

1 - أمّا في صورة الجهل بالتاريخيين، فلتعارض أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريَّة المقتضية للطهارة، مع أصالة عدم الكريَّة إلى زمان الملاقاة المقتضية للنجاسة، فتتساقطان، والمرجع إلى أصالة الطهارة.

وما عن المحقّق النائيني قدس سره(1): من عدم جريان استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريَّة، لعدم ترتّب الطهارة عليه، بل هي مترتّبة على كون الملاقاة في حال الكريَّة، والأصل المزبور لا يُثبت ذلك.

مخدوش: إذ النجاسة مترتّبة على الملاقاة في حال القلّة، فيكفي في الحكم بعدم النجاسة استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريَّة.

2 - وأمّا إنْ عُلم تاريخ الكريَّة دون الملاقاة:

فعلى الحقّ من جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ أيضاً، فلأصالة الطهارة التي هي المرجع بعد تعارض أصالة عدم الكريَّة إلى زمان الملاقاة، مع أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريَّة.

وأمّا بناءً على عدم جريانه فيه، فلأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكريَّة.

وأمّا إنْ علم تاريخ الملاقاة:

فقيل: إنّه يحكم بنجاسته، إمّا لاستصحاب عدم الكريَّة إلى زمان الملاقاة فيثبت موضوع النجاسة، وهو ملاقاة ما ليس بكُرٍّ مع النجاسة، بناءً على عدم

ص: 67


1- حكاه السيّد الخوئي قدس سره في معرض بيانه للمسألة عن أستاذه النائيني في كتاب الطهارة: ج 1/238، عنه إلى أن قال: (... وهذا هو المنشأ لحكم سيّدنا الأستاذ.. الخ).

جريان الأصل في معلوم التاريخ.

أو لأصالة تأخّر الحادث المجهول، بناءً على أنّها أصلٌ برأسها.

أقول: ولكن حيث أنّها ليست أصلاً مستقلّاً غير الاستصحاب، وهو كما يجري في مجهول التاريخ يجري في معلومه، إذ وإنْ لم يكن شكّ في الملاقاة بالنسبة إلى الأزمنة التفصيليّة، إلّاأنّها مشكوكة بالنسبة إلى الزمان الإجمالي.

ودعوى: عدم كونه شكّاً في البقاء كما ترى، فيتعارضان، ويرجع إلى أصالة الطهارة، فيحكم في هذه الصورة أيضاً بالطهارة.

وهكذا يحكم بالطهارة في القليل المسبوق بالكريَّة الملاقي للنجاسة.

أمّا إذا جهل التاريخان: فلقاعدة الطهارة بناءً على عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ، واستصحاب الكريَّة إلى زمان الملاقاة المقتضي للطهارة، بناءً على جريانه فيه.

ولا يعارضه استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان القلّة، إذ النجاسة تترتّب على الملاقاة في حال كونه قليلاً، لا على عدم الملاقاة في حال كونه كُرّاً كي يجري الأصل المزبور.

وبالجملة: ظهر من ذلك حكم ما لو عُلم تاريخ الملاقاة، فإنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان القلّة لا يجري، حتّى بناءً على ما هو الحقّ من جريان الأصل في معلوم التاريخ، لعدم ترتّب الأثر عليه، فيجري الأصل في مجهول التاريخ بلا معارض، ونتيجته الطهارة. هذا بناءً على المسلك الحقّ.

وأمّا بناءً على عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ أيضاً، فالحكم بالطهارة إنّما يكون لأجل قاعدتها، وإنْ علم تاريخ القلّة، فتوهّم أنّ الحكم فيه هو النجاسة

ص: 68

لأصالة تأخّر الحادث المجهول.

ولكن بناءً على ما هو الحقّ من عدم كونها أصلاً مستقلّاً غير الاستصحاب، فالحكم في هذه الصورة أيضاً الطهارة، لأصالة عدم الكريَّة إلى زمان الملاقاة.

ولا يعارضها أصالة عدم الملاقاة إلى زمان القلّة كما عرفت آنفاً.

هذا بناءً على الحقّ من جريان الأصل في مجهول التاريخ.

وأمّا بناءً على عدم جريانه فيه فلقاعدة الطهارة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى هو الحكم بالطهارة في جميع الفروض الستّة.

***

ص: 69

حدوث الكريَّة والملاقاة في آنٍ واحد

الفرع الرابع: إذا حدثت الكريَّة والملاقاة في آن واحد، حُكم بطهارته، كما عن جماعةٍ(1).

وقد استدلّ له بعض المعاصرين(2): بإطلاق قوله عليه السلام: «إذا كَانَ الْمَاءُ قَدْرَ كُرٍّ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْ ءٌ»(3). الشامل للملاقاة المقارنة واللّاحقة، وأيّد هذا الإطلاق بالارتكاز العقلائي في المانع، فإنّه يكفي عندهم في مانعيّة المانع عن أثر المقتضي، مقارنته للمقتضى حدوثاً.

ثمّ قال: إنّه لو حُمل الدليل المذكور على الكريَّة السابقة على الملاقاة، لزم اعتبار اللّحوق في الملاقاة، وتقييد الجزاء بالملاقاة اللّاحقة، يستلزم تقييد المفهوم بها.

فيكون مفهوم القضيّة: (إذا لم يكن الماء قدر كُرٍّ ينجّسه الشيء الملاقي له بعد ذلك) فتكون صورة المقارنة خارجة عن كلٍّ من المنطوق والمفهوم، والمرجع فيها أمّا عموم طهارة الماء أو استصحاب الطهارة. فتأمّل(4).

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

أوّلاً: أمّا ما ذكره من الإطلاق، فيرد عليه أنّ ظهور القضيّة المزبورة - بعد ملاحظة رجوع ضمير (لا ينجّسه) إلى الكُرّ، وتقييد الشيء بصورة الملاقاة، في اعتبار تقدّم الكريَّة على الملاقاة في الاعتصام - لا يُنكر، وما ذكره من المؤيّد غير مربوطٍ بباب التشريعيّات التي لا يكون المقتضي معلوماً، إذ لعلّه لا يكون للملاقاة

ص: 70


1- السيّد اليزدي، والسيّد الحكيم، والسيّد البروجردي، والسيّد الخوئي وغيرهم في العروة الوثقى: ج 1/85. المسألة 108 (رقم متسلسل).
2- السيّد الحكيم قدس سره، في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/168.
3- التهذيب: ج 1/40 ح 46 و 47 و 48، وسائل الشيعة: ج 1/158 ح 392.
4- مستمسك العروة الوثقى: ج 1/168.

مع الكُرّ اقتضاء للنجاسة، مضافاً إلى أنّها من الأحكام الشرعيّة، والمقتضي لها إنّما هو إرادة الشارع.

ثانياً: وأمّا ما ذكره من أنّ تقييد المنطوق بالملاقاة اللّاحقة، يستلزم تقييد المفهوم بها، ولازمه خروج صورة المقارنة عن كلّ منهما، فيرد عليه:

أنّ المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط، فمفهوم القضيّة المزبورة أنّ الماء الذي لا يكون كُرّاً قبل الملاقاة، ينجّسه شيءٌ، فشموله لصورة المقارنة في غاية الوضوح.

مضافاً إلى أنّه على فرض عدم شمول القضيّة المزبورة لهذه الصورة منطوقاً ومفهوماً، لا تصل النوبة إلى الرجوع إلى ما دلّ على الطهارة، إذ لابدَّ من الرجوع إلى ما يدلّ على إنفعال الماء بالملاقاة، لأنّ الخارج عنه هو الكرّ بالأدلّة المزبورة، ومع فرض عدم شمولها لموردٍ يتمسّك بالعام فيحكم بالنجاسة.

فالأقوى: هو الحكم بالنجاسة في صورة تقارن الملاقاة والكريَّة.

***

ص: 71

الفرع الخامس: إذا كان هناك ماءان أحدهما كُرٌّ والآخر قليل، ولم يُعلم أيّهما كرٌ، فوقعت النجاسة في أحدهما، لم يحكم بالنجاسة، لاستصحاب الطهارة، سواء كانت الملاقاة لمعين أو غير معين، ومن غير فرقٍ بين الجهل بالحالة السابقة، وبين العلم بكونها فيهما الكريَّة أو القلّة.

أمّا في صورة الجهل بها: فلعدم جريان استصحاب الكريَّة أو القلّة أو عدمهما، كما هو واضح.

أقول: والوجوه التي استدلّ بها للنجاسة: من قاعدة المقتضي والمانع وغيرها، قد عرفت ما فيها في المسألة الثالثة، وما اعتمدنا عليه في تلك المسألة - من استصحاب العدم الأزلي - لا يجري في المقام، لمعارضته باستصحاب عدم الكريَّة في الآخر، فلا محالة يكون المرجع استصحاب الطهارة.

وبذلك ظهر حكم الصورتين الأخيرتين:

1 - إذ في صورة كون الحالة السابقة فيهما الكريَّة، فإنّ استصحاب كرّية الملاقي مع النجس معارضٌ باستصحاب الكريَّة في الآخر.

2 - وفي صورة كون الحالة السابقة فيهما القلّة، فأصالة عدم الكريَّة في الملاقي معارضة بأصالة عدم كرّية الآخر، فتتعارضان وتتساقطان، فيحكم بطهارة الماء لاستصحابها.

***

ص: 72

الفرع السادس: إذا كان هناك ماءان أحدهما المعيّن نجس، فوقعت نجاسة لم يُعلم وقوعها في النجس أو الطاهر، لم يحكم بنجاسة الطاهر، لا لإنحلال العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما بالعلم التفصيلي بنجاسة المعيّن كما ذكره بعض الأعاظم(1)، بل الوجه فيه عدم العلم بحدوث النجاسة، إذ لو وقعت في النجس لم يحدث شيءٌ بواسطتها.

ولكن لابدَّ من تقييد الحكم، بما إذا لم تكن النجاسة الثانية موجبة لحدوث أثرٍ زائد، وإلّا فالعلم الإجمالي يكون مؤثّراً في لزوم الاجتناب عن كليهما.

فلو كان ماءان أحدهما متنجّسٌ بالدم، فوقعت قطرة بول في أحدهما، يحكم بنجاسة الطاهر، أي بلزوم الاجتناب عنه عقلاً.

***9.

ص: 73


1- السيّد الحكيم رحمه الله في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/169.

الفرع السابع: إذا كان كُرٌّ لم يُعلم أنّه مطلق أو مضاف، فوقعت فيه نجاسة، يحكم بنجاسته بناءً على جريان الأصل في العدم الأزلي، إذ عليه يُستصحب عدم مائيّة هذا المائع المتحقّق قبل وجوده.

ولا يعارض باستصحاب عدم إضافته، لعدم ترتّب الطهارة عليه، لأنّها مترتّبة على الماء، واستصحاب عدم أحد الضدّين لا يُثبت وجود الآخر، فتدبّر.

أقول: ثمّ إنّ بعض الوجوه المتقدّمة في المسألة الثالثة للقول بالنجاسة، لها مقتضٍ هنا كما لا يخفى لمن تدبّر. هذا فيما إذا لم تكن حالته السابقة هي الإطلاق، وإلّا وجب الحكم بعدم التنجّس، كما لا يخفى وجهه.

وأيضاً: وإذا كان كُرّان أحدهما مطلق والآخر مضاف، ولم يُعلم وقوع النجاسة في الماء أو المضاف:

فإنْ كان المطلق ممتازاً عن المضاف، فالحكم بالطهارة واضحٌ، لعدم العلم بحدوث النجاسة بوقوعها في أحدهما، فالمطلق طاهرٌ وهو معلوم، والمضاف يُحكم بطهارته، لاستصحاب الطهارة.

وإنْ لم يكن المطلق مميّزاً عن المضاف، فصور المسألة وحكمها بعينها صور المسألة الخامسة، فلا نعيد.

***

ص: 74

المتمّم كراً بطاهر أو نجس

الفرع الثامن: القليل النجس المتمّم كُرّاً بطاهرٍ أو نجس، نجسٌ كما هو المشهور على ما نُسب إليهم(1).

وعن السيّد(2)، والحلّي(3)، وجماعة(4) من المحقّقين: هو الحكم بالطهارة.

وعن بعضهم(5): التصريح بعدم الفرق بين أن يكون المتمّم طاهراً أو نجساً.

وعن آخر(6): اشتراط طهارته.

أقول: والأقوى هو ما نُسب إلى المشهور.

ويدلّ عليه: الاستصحاب، ومفهوم قوله عليه السلام: (إذا بَلَغ الماء قدر كُرّ لا ينجّسه شيء)(7).

أمّا الأوّل: ففيما إذا كان المتمّم نجساً فواضح.

وأمّا إنْ كان المتمّم طاهراً، فلأنّه يجري في النجس، وتثبت به نجاسة المتمّم أيضاً، لعموم ما دلّ على إنفعال القليل.

ص: 75


1- وردت نسبة هذا القول إلى المشهور في العديد من الكتب الفقهيّة، ومنها ما ذكره السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/170.
2- السيّد المرتضى في المسائل الرسية الاُولى، المجلّد الثاني ص 361. والسيّد الخوئي نسب إلى السيّد القول باشتراط الطهارة كما هو قول ابن حمزة. (كتاب الطهارة: ج 1/247).
3- ابن إدريس الحلّي في السرائر: ج 1/63.
4- منهم يحيى ابن سعيد في الجامع للشرائع: ص 18، والقاضي بن البرّاج في المهذّب: ج 1/23، وفي جواهر الفقه: ص 5.
5- ابن إدريس الحلّي في السرائر: ج 1/63.
6- ابن حمزة في الوسيلة إلى نيل الفضيلة: ص 68.
7- الاستبصار: ج 1/6، من لا يحضره الفقيه: ج 1/9، وسائل الشيعة: ج 1/158 ح 391.

ولا يعارض ذلك باستصحاب طهارة المتمّم، لأنّه ليس من آثارها طهارة ملاقيه، كما لا يخفى.

وعليه فيكون استصحاب نجاسته المتمّم (بالفتح) حاكماً على استصحاب طهارة المتمِّم (بالكسر).

وأمّا الثاني: فلأنّ مفهومه إذا لم يكن الماء قبل الملاقاة كُرّاً ينجّسه النجس، وأنّه في المقام قبل الملاقاة لا يكون كُرّاً، فيتنجّس بمقتضى المفهوم.

ويمكن الاستدلال به بوجهٍ آخر، وهو: أنّ الظاهر من الحديث فرض كُرٍّ طاهرٍ في الموضوع، بقرينة قوله: (لا يُنجّسه شيء)، وإذا كان بعضه نَجساً فلا يشمله المنطوق.

وبعبارة أُخرى: الظاهر عدم حدوث النجاسة فيه بعد صيرورته كُرّاً، وأمّا ارتفاع النجاسة الثابتة له أو لبعض أجزائه، فلا يدلّ الحديث عليه.

وفي المقام بما أنّ بعضه نجسٌ قبل الملاقاة، فنجاسته باقية، وبعضه الآخر بما أنّه غير كُرٍ، فمقتضى المفهوم نجاسته.

وأيضاً: ممّا يدلّ على نجاسة ما يجتمع في الحمّام من المياه النجسة، موثّقة ابن أبي يعفور، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي حَدِيثٍ، قَالَ:

«وإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ غُسَالَةِ الْحَمَّامِ، فَفِيهَا تَجْتَمِعُ غُسَالَةُ الْيَهُودِيِّ والنَّصْرَانِيِّ والَْمجُوسِيِّ، والنَّاصِبِ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وهُوَ شَرُّهُمْ، فَإِنَّ اللّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً أَنْجَسَ مِنَ الْكَلْبِ، وإِنَّ النَّاصِبَ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ لأنْجَسُ مِنْهُ»(1).

فإنّها بإطلاقها تشمل ما لو كانت المياه المجتمعة بمقدار الكُرّ، وأيضاً تشمل بإطلاقها ما لو كان متمّمه طاهراً، كما لا يخفى.2.

ص: 76


1- وسائل الشيعة: ج 1/220 ح 560، بحار الأنوار: ج 73/72.

وقد استدلّ القائلون بالطهارة(1):

1 - بأنّ البلوغ يستهلك النجاسة، فيستوي ملاقاتها قبل الكثرة وبعدها.

2 - وبأنّه لولا الحكم بالطهارة مع البلوغ، لما حُكم بطهارة الماء الكثير إذا وجد فيه نجاسة، لإمكان سبقها على الكثرة(2).

3 - وبأنّ استصحاب نجاسة المتمَّم (بالفتح) معارضٌ باستصحاب طهارة المتمِّم، المستلزمة لطهارة المتمّم أيضاً، للإجماع على اتّحاد حكم المائين، فيرجع إلى أصالة الطهارة.

4 - وبما اشتهر - حتّى اُدّعي الإجماع عليه - من قوله عليه السلام: «إذا بَلَغ الماءُ كرّاً لم يَحمل خبثاً»(3).

أقول: وفي الكلّ نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ التسوية بين الأمرين، مع كون الماء قبل البلوغ ضعيفاً وبعده قويّاً قياسٌ مع الفرق.

وأمّا الثاني: فلأنّه لو دلَّ الدليل على الطهارة في تلك المسألة طهارة واقعيّة، كان ما ذكر صحيحاً، ولكن قد عرفت في تلك المسألة أنّه إنّما يُحكم بطهارته لظاهر قاعدة الطهارة على التفصيل المتقدّم، وحيث أنّها لا تجري في المقام، فلا وجه للحكم بالطهارة.0.

ص: 77


1- السيّد المرتضى وعبارته هي: (اعلم أنّ الصحيح...).
2- نسب هذا القول إلى السيّد المرتضى في مدارك الأحكام: ج 1/42.
3- لم يرد هذا الحديث في الكتب الأربعة أو وسائل الشيعة: حسب الظاهر، نعم نسبه الشيخ في الخلاف: ج 1/174 إلى قول الأئمّة عليهم السلام، إلّاأنّ السيّد المرتضى في الانتصار ص 85 حكاه عن كتب العامّة وأنّهم رووه عن النبيّ صلى الله عليه و آله، وفي الناصريّات ص 70 قال: (روى أصحاب الحديث عن النبيّ صلى الله عليه و آله) وذكر الحديث. إلّاأنّه غير واحد من الأعلام في كتبهم الفقهيّة أرسلوه إرسال المسلّمات عنهم: مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/198 ح 341 و 342، عوالي اللآلي: ج 1/76 ح 156 و ج 2/16 ح 30.

وأمّا الثالث: فلأنّ الرجوع إلى الأصل إنّما يكون مع عدم الدليل، وقد عرفت دلالة الدليل على النجاسة، مع أنّ الإجماع على اتّحاد حكم المائين - لا سيّما في الظاهري منه - غيرُ ثابتٍ، ولذا ترى أنّ الفقهاء حكموا في الجاري والكثير المتغيّر بعضه، بنجاسة المتغيّر فقط.

مضافاً إلى ما تقدّم من حكومة استصحاب النجاسة في المتمَّم (بالفتح)، المقتضي لنجاسة المتمِّم الملاقي له على استصحاب طهارته.

وأمّا الرابع: فلأنّه مرسلٌ، ولم يثبت اعتماد الأصحاب عليه، وهذا يمنع عن العمل به.

ودعوى: ابن إدريس الحِلّي رحمه الله(1) من إجماع المؤالف والمخالف عليه مخدوش.

مخدوشة: بما ذكره المحقّق(2):

1 - من عدم ذكره من الخاصّة، إلّاالسيّد(3) والشيخ(4)، وآحادٌ ممّن جاء بعدهما مرسلين له.

وأمّا المخالفون: فلم يعملوا به إلّاابن حَيّ(5)، كما وصفه الشهيد رحمه الله في «الذكرى»(6) بأنّه عامّيٌ لم يعمل به إلّاابن حَيّ، والعلّامة رحمه الله(7) بأنّ الخبر لم يثبت عندنا.4.

ص: 78


1- السرائر: ج 1/63.
2- في المعتبر: ج 1/52.
3- كما مرَّ في الانتصار ص 85، قوله: (وذكرنا ما هو موجود في كتبهم وأحاديثهم عن النبيّ صلى الله عليه و آله) وذكر الحديث. وفي الناصريّات ص 70 قوله: (وقد روى أصحاب الحديث عن النبيّ صلى الله عليه و آله.. الخ).
4- الطوسي في الخلاف: ج 1/174.
5- المعتبر: ج 1/53 وقد ذكر عنه: (أنّه زيدي منقطع المذهب).
6- الذكرى: ج 1/9.
7- تذكرة الفقهاء: ج 1/24.

2 - مضافاً إلى عدم تماميّة دلالته على هذا القول، إذ الظاهر منه اعتصام الكُرّ من حدوث الخباثة فيه، لعدم كونه حاملاً لها، نظير قول القائل: (الثوب إذا كان وسخاً قذراً لم يحمل لوناً)، فإنّ المتبادر منه أنّ هذا الوصف مانعٌ من حدوث اللّون فيه، لا أنّه يدفع اللّون الموجود في الثوب قبله، فحينئذ يتّحد معنى المرسل مع الروايات المعتبرة المشهورة المتقدّمة الدالّة على أنّه (إذا بَلَغ الماء قدر كُرٍ لم ينجّسه شيء)(1)، ولذا فسّر الشيخ في بعض كتبه(2) - على المحكيّ - قوله عليه السلام: (إذا كان الماء أكثر من راويةٍ لم يُنجّسه شيء)، بأنّه: لم يحمل خَبَثاً.

أقول: ولا يخفى ان مقتضى بعض الوجوه المتقدّمة، التفصيل بين كون المتمّم طاهراً، أو نجساً، والحكم بالطهارة في الأوّل دون الثاني، كما أنّ مقتضى الحديث - لو تمّت دلالته - عدم الفرق بينهما، فتفصيل جماعةٍ(3) بينهما معتمداً على الخبر غير صحيح، إلّا أنْ يُتمسّك في الحكم بالنجاسة - إذا كان المتمّم نجساً - بالإجماع، فتأمّل.

وأخيراً: أجاب الشيخ الأعظم عن المرسل بوجه آخر؛ وهو معارضته مع ما دلَّ على تنجّس القليل بملاقاة النجاسة الشامل للقليل المتمّم(4).

وفيه: أنّه لا تعارض بينهما، إذ ما دلَّ على انفعال القليل، يدلّ على كونه بنفسه قابلاً للانفعال، والمرسل يدلّ على رافعيّة الكريَّة للنجاسة، فضمّ كلٍّ منهما للآخر ينتج حَمل ما دلَّ على الانفعال على مجرّد الاقتضاء، كما لا يخفى.

والنتيجة: بما ذكرناه يظهر ما في كلمات جملةٍ من الأكابر من الجمع بينهما بوجهٍ آخر.6.

ص: 79


1- الاستبصار: ج 1/6، من لا يحضره الفقيه: ج 1/9، وسائل الشيعة: ج 1/158 ح 391.
2- كما في الاستبصار: ج 1/7 بعد ح 4، التهذيب: ج 1/42 في تعليقه على ح 56.
3- إشارة إلى ما ذكره ابن حمزة في الوسيلة إلى نيل الفضيلة: ص 68.
4- كتاب الطهارة: ج 1/156.

نعم المرسل على فرض تماميّة دلالته، يعارض مع ما دلّ على نجاسة ما يجتمع في الحمّام من المياه النجسة، وحيث أنّ النسبة بينهما عموم من وجه، ودلالة كلّ منهما على حكم المورد إنّما تكون بالإطلاق، فيتساقطان والمرجع حينئذٍ إلى ما يدلّ على الانفعال.

***

ص: 80

لم يَنجُس بوقوع النجاسة فيه، ما لم يتغيّر أحد أوصافه، فإن غيّرته نجس، ويَطهُر بإلقاء كُرٍّ دفعةً عليه حتّى يزول تغيّره.

اعتبار الامتزاج

ثمّ إنّ ما ذكرناه في أوّل المبحث أنّه إنْ كان كُرّاً (لم ينجس بوقوع النجاسة فيه) إنّما هو في (ما لم يتغيّر أحد أوصافه، فإنْ غيّرته نجس، ويَطهُر بإلقاء كُرٍّ دفعةً عليه حتّى يزول تغيّره) أو باتّصاله بالكُرّ أو الجاري، وإنْ لم يحصل الامتزاج كما نُسب إلى جملة من المحقّقين(1).

ونُسب إلى الأشهر، والمحقّق(2)، والمصنّف رحمه الله(3)، والشهيد(4): اعتبار الامتزاج.

وعن جملةٍ من الأساطين: اعتبار اُمورٍ ثلاثة غير الامتزاج، وهي: الكريَّة، وعلوّ المطهِّر، والدفعة.

أقول: كلمات القوم في المقام مشوّشة، وتحقيق القول في المقام يقتضي التكلّم في مقامات:

ص: 81


1- ذكر المحقّق الكركي (أنّ الأصح أنّ الامتزاج غير شرط للأصل) جامع المقاصد: ج 1/135. والسيّد اليزدي قال به (على الأقوى) العروة الوثقى: ج 1/72. والسيّد الحكيم نسبه (إلى الأكثر) مستمسك العروة الوثقى: ج 1/125.
2- لم يصرّح بلزوم الامتزاج، ولكنّه قد يظهر ذلك من كلامه في الشرائع: ج 1/9-10 (كتاب الطهارة في المياه) قوله: ويطهر بإلقاء كُرٍّ عليه فكرّ، حتّى يزول التغيّر. ولا يطهر بزواله من نفسه، ولا بتصفيق الرِّياح، ولا بوقوع أجسام طاهرة فيه تُزيل عنه التغيّر.
3- لم يصرّح بلزوم الامتزاج، ولكنّه قد يظهر ذلك من كلامه في غير موضع، راجع منتهى المطلب: ج 1/64، نهاية الأحكام: ج 1/258.
4- الدروس: ج 1/120 قوله: وكذا بالكثير مع الامتزاج. الذكرى: ص 9 قال: ويشترط المكث فيتحقّق الامتزاج.

المقام الأوّل: لا ريب ولا خلاف في أنّ الماء المتنجّس قابلٌ للتطهير، ويشهد له:

- مضافاً إلى العمومات - صحيح ابن بزيع الآتي، الدالّ على طهارة ماء البئر بعد زوال تغيّره.

والقاعدة المجمع عليها من أنّ الماء الواحد لا يختلف حكم أبعاضه، وحيث أنّ نجاسة المعتصم مع الامتزاج مستلزمة لمخالفة دليل الاعتصام، فلا محيص عن البناء على طهارة المتنجّس.

المقام الثاني: قد استدلّ لعدم اعتبار الامتزاج في حصول التطهير باُمور:

الأمر الأوّل: الأصل، وهو كما ترى.

الأمر الثاني: عموم مطهّريّة، الماء أو خصوص المعتصم، من قوله عليه السلام: في المرسل المعتبر: «خَلَقَ اللّهُ الْمَاءَ طَهُوراً لا يُنَجِّسُهُ شَيْ ءٌ»(1).

وقوله عليه السلام في خبر مسعدة: (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ عليه السلام الْمَاءُ يُطَهِّرُ ولا يُطَهَّرُ)(2).

وقوله عليه السلام مشيراً إلى غدير ماءٍ: (إِنَّ هَذَا لا يُصِيبُ شَيئاً إِلّا طَهَّرَهُ)(3).

وقوله في مرسل الكاهلي: (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: كُلُّ شَيْ ءٍ يَرَاهُ مَاءُ الْمَطَرِ فَقَدْ طَهُرَ)(4).

وقوله عليه السلام في خبر ابن أبي يعفور: (قَالَ: إِنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ كَمَاءِ النَّهَرِ يُطَهِّرُ بَعْضُهُ بَعْضاً)(5).3.

ص: 82


1- وسائل الشيعة: ج 1/135 ح 330. الخلاف: ج 1/173. السرائر: ج 1/64.
2- وسائل الشيعة: ج 1/135 ح 328. المحاسن: ج 2/570.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/199.
4- وسائل الشيعة: ج 1/146 ح 362.
5- وسائل الشيعة: ج 1/150 ح 373.

وفيه: أنّ عموم الأوّل لو تمّ وسُلّم، أنّ المراد منه طهارة الماء ومطهريّته، مع أنّه محلّ المنع كما عرفت في أوّل الكتاب، فلا إطلاق له في كيفيّة التطهير، بل ظاهره مطهريّته لكلّ ما يلاقيه، لا ما يلاقي مع جزءٍ منه، فلا يدلّ على كفاية مجرّد الاتّصال.

ومنه ظهر الإشكال في الثاني، مضافاً إلى إجماله من حيث المتعلّق، لأنّها قضيّة مهملة في مقابل (ولا يطهر)، أي لا يطهر بغيره، وإصابة الماء إلى كلّ جزءٍ توجب طهارته لا طهارة سائر الأجزاء.

وصدق إصابة المجموع بمجرّد إصابة جزءٍ منه، محلّ منع كما لا يخفى.

مع أنّه لم سُلّم صدقه، لكان معارضاً بأنّه يصدق على الجزء الآخر أنّه لم يصبه الكُرّ، فلم يطهر.

ومن ذلك ظهر الإشكال في الرابع.

وأمّا الأخير: فمضافاً إلى ضعف سنده جدّاً، فإنّ ظاهره الدفع لا الرفع.

واستدلّ له بعض المعاصرين(1): بالتعليل في صحيح ابن بزيع(2)، بدعوى أنّه يجب التعدّي عن مورده إلى المقام، وكذا اعتضاده بأخبار ماء الحمّام.

وفيه: ما عرفت آنفاً من أنّ الصحيح لا يدلّ على عدم اعتبار الامتزاج، وأخبار الحمّام مختصّة بحالة الدفع.

الأمر الثالث: - من أدلّة عدم اعتبار الامتزاج -: أنّ الاتّصال مقتضي للاتّحاد، والماء الواحد بالإجماع لا يختلف حكمه.

وفيه: أنّ الواحد الذي هو مورد للإجماع إنّما هو الواحد في الإشارة، لا في الوجود، وهو لا يحصل إلّامع الامتزاج.5.

ص: 83


1- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/198.
2- التهذيب: ج 1/234 ح 7، وسائل الشيعة: ج 1/140 ح 345.

الأمر الرابع: أنّ الجزء الملاقي للكرّ أو غيره ممّا يكون معتصماً يطهر بمقتضى الأدلّة، فهو يصير جزءً من الماء العاصم فيُطهّر ما يلاقيه، وهكذا فيطهر الجميع بلا احتياج إلى الامتزاج، وبلا احتياج إلى تخلّل زمان، إذ الاتّصال بين أجزاء الماء النجس كان حاصلاً قبل إصابة الماء العاصم.

وفيه: ما عرفت من عدم كفاية مجرّد الاتّصال في الحكم بالطهارة.

وإنْ شئت قلت: إنّه مضافاً إلى ما في «الجواهر»(1): من أنّه حكمٌ خيالي لا يصلح أن يكون مستنداً للحكم الشرعي من غير دليل.

أنّه غير صحيحٍ على ذلك المبنى أيضاً، إذ المتّصل بالمعتصم إنّما هو السطح الملاقي له من الجزء المتّصل به، وأمّا الطرف الآخر المتّصل بالجزء المنفصل فلا، وإلّا لزم اتّحاد الأطراف، فالجزء المنفصل لا يكون متّصلاً بالعاصم.

فتحصّل ممّا ذكرناه: عدم تماميّة شيء ممّا استدلّ به على كفاية الاتّصال في الطهارة.

أقول: والأقوى هو اعتبار الامتزاج، للشكّ في حصولها بدونه، فيرجع إلى استصحاب النجاسة، وقد عرفت أنّه معه لا مجال للشكّ في الطهارة.

المقام الثالث: في اعتبار علوّ المطهِّر.

والظاهر أنّ المراد من اعتباره الاحتراز عمّا لو كان الماء الطاهر أسفل، إذ إيصال النجس بكُرٍّ طاهرٍ مساوٍ له، يوجب الطهارة في الجملة، بلا خلاف فيه.

وعلى كلّ حال، فعلى القول باعتبار الامتزاج، لا وجه لاعتباره، إذ المناط في التطهير ملاقاة الطاهر للنجس على وجه لا ينفعل الطاهر، كما عرفت. وعليه:

فإنْ اُريد اعتبار العلوّ أو التساوي في زمانٍ متّصلٍ بالملاقاة، فمن الضروري5.

ص: 84


1- جواهر الكلام: ج 1/145.

عدم اعتباره، لعدم دخله في ما ذكر.

وإن اُريد اعتبار أحدهما حين الملاقاة، فهو متحقّقٌ على كلّ حال كما لا يخفى.

وأمّا بناءً على كفاية الاتّصال، وعدم اعتبار الامتزاج في البئر والجاري قد تقدّم الكلام فيهما(1).

وأمّا الكُرّ: كما إذا كان الكُرّ الطاهر أسفل، والماء النجس يجري عليه من فوق:

فعلى القول باعتبار صدق الاتّحاد العرفي على مجموع النجس والطاهر، كما هو ظاهر «الروضة» لا يطهر، لعدم صدق الاتّحاد بهذا الاتّصال.

وعلى القول بكفاية مجرّد الملاقاة - كما هو ظاهر «اللّمعة»(2) - فيطهر كما لايخفى.

اللّهُمَّ إلّاأن يُقال: إنّ حصول الطهارة على هذا القول أيضاً يتوقّف على كون الماء بنحوٍ لو فرض طهارة المجموع، كان متقوّياً بما في الأعلى، وإلّا فحيث أنّ الدفع أهون من الرفع، والمفروض أنّه في الفرض لا يدفع السّافل النجاسة عن العالي، فلا محالة لا يرفع نجاسة ما في الأعلى أيضاً.

***

اعتبار الدفعة

المقام الرابع: نسب إلى المشهور(3) اعتبار الدفعة، والمراد منها:

إنْ كان ما يقابل الدفعات، بأن يلقى عليه الماء القليل دفعات إلى أن يبلغ المجموع كُرّاً، فاعتبارها واضح، على القول بعدم طهارة الماء النجس المتمّم كُرّاً.

وإنْ كان المراد منها ما يقابل وقوع الكُرّ المتّصل الواحد فيه تدريجاً، فاعتبارها

ص: 85


1- مرَّ الكلام في الماء الجاري في ص 44، وسيأتي أيضاً مفصّلاً ماء البئر.
2- الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 1/253، قوله: (ويطهر بزواله إنْ كان جارياً أو لاقى كُرّاً).
3- حكاه في رياض المسائل في ج 1/139، والمحقّق البحراني في الحدائق الناضرة: ج 1/337 نسبته إلى ظاهر المتأخّرين حيث قال: (الظاهر أنّه بين مشهور المتأخّرين).

يمكن أن يكون لأجل تحقّق الامتزاج المعتبر عندهم.

ويشهد له: اقتصار القائلين بالامتزاج - كالمحقّق(1) والعلّامة والشهيد رحمهم الله - عليها، وعليه فلا كلام.

كما يحتمل أنْ يكون لأجل أنّ عدم الإلقاء دفعةً يوجب انقسام الماء إلى قسمين: عالٍ وسافل، ولا يتقوّى أحدهما بالآخر، فالجزء الذي يُلاقي النجس ينجس، ولا يوجب طهارة الماء، من غير فرقٍ بين كفاية الاتّصال واعتبار الامتزاج.

وحيثُ عرفت في بحث ماء الحمّام ضعف المبنى، تعرف ضعف ما بُني عليه.

وما عن المحقّق رحمه الله(2): من ورود النصّ بها.

يرد عليه: ما عن «المدارك» من أنّا لم نقف عليه في كتب الحديث، ولا نَقَله ناقلٌ في كتب الاستدلال(3)، وما في «الجواهر»(4): من أنّ شهادة المحقّق بوروده في قوّة إرساله، ونسبة المحقّق رحمه الله إلى تصريح الأصحاب.

وما في الحدائق(5): من أنّ نسبته إلى المشهور بين المتأخّرين، جابرتان لهذا المرسل.

يرد عليه: أنّ دعوى ورود النصّ ليس في قوّة إيراد نصّ مرسلاً، مضافاً إلى أنّ مطابقة فتاوي الأصحاب لمضمون الخبر دون اتّكالهم عليه، غير جابرةٍ لضعف السند.

فتحصّل: أنّ اعتبار الدفعة - زائداً على اعتبار الامتزاج - لا دليل عليه.7.

ص: 86


1- المعتبر: ج 1/50 حيث يفهم قوله بالامتزاج من مسألة ذكرها وهي: (الثالث: لو نقص الغدير عن كُرٍّ فنجس، فوصل بغديرٍ فيه كُرّ، ففي طهارته تردّد.. الخ).
2- جامع المقاصد: ج 1/133.
3- مدارك الأحكام: ج 1/40.
4- ورد هذا الكلام في مصباح الفقيه للهمداني حيث قال: (وقد ظهر لك ضعف ما قد يتوهّم من أنّ شهادة المحقّق بورود النصّ في قوّة إرساله، فينجبر ضعفه بفتوى الأصحاب) مصباح الفقيه: ج 1/22 (ط. حجريّة).
5- قال: (الظاهر أنّه المشهور بين المتأخّرين). الحدائق الناضرة: ج 1/327.

ودعوى: أنّ حصول الطهارة مع عدمها مشكوكٌ يرجع إلى أصالة النجاسة.

مندفعة: بما عرفت من أنّ طهارة الماء النجس على تقدير امتزاجه بالماء العاصم، ممّا لا خلاف فيه ظاهراً.

المقام الخامس: الظاهر أنّ اعتبار الكريَّة - وبعبارة أُخرى الاعتصام في المطهر موضع وفاق، وقد عرفت في محلّه أنّ النجس المتمّم كراً بطاهرٍ لايطهر، فراجع.(1)

***

فرع: الماء المتغيّر إذا ألقي عليه الكُرّ فزال تغيّره به يطهر كما هو المشهور، ولكن الصور المتصوّرة في المقام ثلاثة:

الصورة الاُولى: أنْ يتغيّر الكُرّ الطاهر أيضاً بأحد الأوصاف الثلاثة.

وفي هذه الصورة يحكم بنجاسة مجموع الماء، لما عرفت في محلّه من أنّ الماء المتغيّر بأحد أوصاف النجس - ولو كان بواسطة ملاقاته لما هو حاملٌ لها - ينجس.

الصورة الثانية: أنْ يتغيّر بعض الكُرّ الطاهر به.

فالحكم فيه أيضاً النجاسة، لتنجّس المتغيّر منه به وغيره بملاقاته مع الماء النجس، لفرض قلّته حينئذٍ.

الصورة الثالثة: أنْ لا يتغيّر شيءٌ منه.

فحينئذٍ إنْ بقي الكُرّ الملقى على حاله من اتّصال أجزائه، فحيثُ أنّ المفروض زوال تغيّر الماءالنجس، وبعد ذلك أيضاً تكون الملاقاة موجودة، يطهرالنجس أيضاً.

ودعوى اعتبار حدوث الملاقاة بعد زوال التغيّر، كما ترى.

وأمّا إنْ لم يبق مقدار الكُرّ متّصلاً باقياً على حاله، فيتنجّس المجموع، إذ بعد انقسام الكُرّ إلى قسمين - ولم يكونا متّصلين - فكلّ منهما قليلٌ ملاقٍ للنجس، فلا محالة ينجس.

***د.

ص: 87


1- صفحة 75 من هذا المجلّد.

وإنْ كان أقلّ من كُرٍّ نجس بوقوع النجاسة فيه، وإنْ لم تتغيّر أوصافه.

الماء القليل

(وإنْ كان) الماء الرّاكد (أقلّ من كُرّ نجس بوقوع النجاسة فيه، وإنْ لم تتغيّر أوصافه) بلا خلاف، بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه، إلّاعن العُمّاني(1)، وعن الكاشاني موافقته، وتدلّ على المشهور روايات كثيرة.

وعن الرياض(2): جَمَع منها بعض الأصحاب مائتي حديث.

وفي «طهارة» شيخنا العلّامة الأنصاري: قيل إنّها تبلغ ثلاثمائة حديث(3).

منها: الطائفة الدالّة على أنّ الماء البالغ حَدّ الكُرّ لا ينجّسه شيء:

مثل الخبر الصحيح الذي رواه إسماعيل بن جابر، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْمَاءِ الَّذِي لا يُنَجِّسُهُ شَيْ ءٌ؟ فَقَالَ: كُرٌّ، قُلتُ: ومَا الْكُرُّ؟ قَالَ: ثَلاثَةُ أَشْبَارٍ فِي ثَلاثَةِ أَشْبَارٍ»(4).

ونحوه غيره، فإنّها بمفهومها تدلّ على إنفعال الماء القليل بالملاقاة.

ومنها: ما ورد في سؤر الكلب والخنزير:

مثل صحيح ابن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «قَالَ: وسَأَلْتُهُ عَنْ خِنْزِيرٍ شَرِبَ مِنْ إِنَاءٍ

ص: 88


1- الحسن بن أبي عقيل العُمّاني من كبار علماء الطائفة، ولكن كتبه لم تصل إلينا، وما وصل من أقواله هو في طيّات الكتب المختلفة، وقد نقل هذا عنه المحقّق الحلّي في المعتبر: ج 1/47.
2- رياض المسائل: ج 1/144.
3- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: ج 1/107، وفي هامش مفتاح الكرامة: ج 1/307.
4- الكافي: ج 3/3 ح 7، التهذيب: ج 1/41 ح 54، وسائل الشيعة: ج 1/159 ح 397.

كَيْفَ يُصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: يُغْسَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ»(1). ونحوه غيره، فإنّها وإنْ وردت في خصوص الكلب والخنزير، إلّاأنّها تتعدّى عنهما إلى سائر النجاسات للعلم بعدم الخصوصيّة، وللتعليل في بعض الروايات بأنّه رجسٌ نجس.

ومنها: ما ورد في الإنائين المشتبهين:

مثل الخبر الموثّق الذي رواه سماعة، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ مَعَهُ إِنَاءَ انِ فِيهِمَا مَاءٌ وَقَعَ فِي أَحَدِهِمَا قَذَرٌ لا يَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ، ولَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى مَاءٍ غَيْرِهِ؟ قَالَ: يُهَرِيقُهُمَا جَمِيعاً ويَتَيَمَّمُ»(2).

ونحوها غيرها.

ومنها: الروايات الواردة في اليد القذرة بالبول أو المني، إذا اُدخلت في الماء، الدالّة على أنّه يُراق الماء، وهي كثيرة:

مثل الخبر الموثّق الذي رواه أبو بصير عَنْهُمْ، قَالَ:

«إذا أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي الإنَاءِ قَبْلَ أَنْ تَغْسِلَهَا فَلا بَأْسَ، إِلّا أَنْ يَكُونَ أَصَابَهَا قَذَرٌ، بَوْلٌ، أَوْ جَنَابَةٌ، فَإِنْ أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي الْمَاءِ وفِيهَا شَيْ ءٌ مِنْ ذَلِكَ فَأَهْرِقْ ذَلِكَ الْمَاءَ»(3).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة.

أقول: واستدلّ لما ذهب إليه العماني(4) ومن تبعه:

بأصالة الطهارة واستصحابها.

وعموم (خَلَق اللّه الماء طهوراً لا ينجّسه شيءٍ).).

ص: 89


1- وسائل الشيعة: ج 1/225 ح 572، مسائل علي بن جعفر: ص 213 ح 461.
2- الكافي: ج 3/10 ح 6، التهذيب: ج 1/248 ح 43، وسائل الشيعة: ج 1/151 ح 376.
3- الكافي: ج 3/11 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/152 ح 378.
4- ابن أبي عقيل العماني من عدم نجاسة القليل بدون التغيّر (المصدر السابق).

وبما ورد في الغدير الواقعة فيه الجيفة(1)، حيث أنّه في جميع تلك الروايات حكم عليه السلام بأنّه لا بأس به إذا غلب الماء ريح الجيفة.

وبما يدلّ على أنّ اليهود والنصارى إذا لاقى شيء من بدنهم الماء لا بأس بشربه والتوضّي منه(2).

وبما يدلّ على أنّ الشيء المتنجّس إذا لاقى مع الماء لا ينجس كخبر ابن ميسر الآتي(3) ونحوه غيره.

وفي الجميع نظر: أمّا الأصل والاستصحاب والعموم، فواضح.

وأمّا ما ورد في الغدير: فلو لم ندّع ظهوره في الكثير، فلا أقلّ من الإطلاق، فيقيّد بالأدلّة المتقدّمة الدالّة على الانفعال.

وأمّا ما ورد في سؤر اليهود والنصارى(4): - فمضافاً إلى معارضته بما يدلّ على إنفعال الماء بسؤرهم - لا يدلّ على عدم إنفعال الماء، وإنّما يدلّ على طهارة أهل الكتاب.

وأمّا خبر محمّد بن ميسر، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ الْجُنُبِ يَنْتَهِي إِلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ فِي الطَّرِيقِ، ويُرِيدُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهُ، ولَيْسَ مَعَهُ إِنَاءٌ يَغْرِفُ بِهِ، ويَدَاهُ قَذِرَتَانِ؟ قَالَ: يَضَعُ يَدَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ، هَذَا مِمَّا قَالَ اللّهُ عَزَّوجَلَّ: (ما6.

ص: 90


1- وسائل الشيعة: ج 1/137 ح 336، عن حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: «كُلَّمَا غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى رِيحِ الْجِيفَةِ فَتَوَضَّأْ مِنَ الْمَاءِ واشْرَبْ فَإِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ وتَغَيَّرَ الطَّعْمُ فَلا تَوَضَّأْ مِنْهُ ولا تَشْرَبْ».
2- كما في رواية عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام «قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ هَلْ يَتَوَضَّأُ مِنْ كُوزِ أَوْ إِنَاءِ غَيْرِهِ إِذَا شَرِبَ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ يَهُودِيٌّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» وسائل الشيعة: ج 1/230 ح 588. وفي رواية الاستبصار: ج 1/18 (شرب فيه). وفي رواية التهذيب: ج 1/224 بدون: فيه ومنه.
3- الكافي: ج 3/4، التهذيب: ج 1/149، وسائل الشيعة: ج 1/152 ح 379.
4- الاستبصار: ج 1/18، التهذيب: ج 1/223، وسائل الشيعة: ج 1/229 ح 586.

جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) »(1).

فالاستدلال به غير تامّ، إذ هو غير ظاهرٍ في القليل المصطلح، ومن المحتمل أنْ يكون بمعنى ما لا يمكن الارتماس فيه.

وما ذكره المحقّق الهمداني رحمه الله: من أنّه بنفسه وإنْ لم يكن ظاهراً فيه، إلّا أنّه بملاحظة الاستدلال بآية نفي الحرج يصير ظاهراً فيه، إذ لو كان مورد السؤال هو الكُرّ، لم يكن الحكم بوضع اليد فيه والاغتسال منه ممّا قال اللّه تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2)، بل كان ممّا ورد فيه (الماءُ إذا بَلَغ قدر كُرٍّ لا ينجّسه شيء).

مندفع: بأنّ الظاهر أنّ الاستدلال بالآية الشريفة إنّما يكون لاقتضائها اعتصام الكرّ بمراتبه، فإنّ لزوم الحرج من عدمه واضح، وهذا بخلاف فرض مورد السؤال، فإنّه لا يلزم من عدم استعمال الماء حرج، كما لا يخفى.

فالرواية لو لم تكن ظاهرة في الكُرّ، فلا أقلّ من الإطلاق، فتقيّد بالأدلّة المتقدّمة.

وما ذكره بعض الأعاظم من أنّ ذكر الوضوء مع الغُسل خلاف المذهب، يندفع بأنّ المراد منه إنّما هو التنظيف لا الوضوء المصطلح.

أقول: ثمّ إنّ الأظهر من هذا الخبر في ما ذكر، ما ورد في كتاب «المسائل» لعليّ بن جعفر عليه السلام قال:

«سألته عن جُنُبٍ أصابَ يَدَه جنابة فمسحها بخرقة، ثمّ أدخل يده في غُسله، هل يُجزيه أنْ يغتسل من ذلك الماء؟ قال: إنْ وَجَد ماءً غيره فلا يُجزيه أنْ يغتسل،8.

ص: 91


1- الكافي: ج 3/4 ح 2، التهذيب: ج 1/149 ح 116، وسائل الشيعة: ج 1/152 ح 379.
2- سورة الحجّ: الآية 78.

وإنْ لم يجد غيره أجزأه»(1).

إذ ظهوره في الماء القليل لا يُنكر، لأنّ الغُسل بحسب العادة يكون أقلّ من كُرّ، ولكن التفصيل المذكور فيه لم يقُل به أحد، فالرواية معرضٌ عنها.

مضافاً إلى أنّ موردها المتنجّس.

وبهذا يظهر أنّ الروايات(2) الدالّة على عدم تنجّس الماء الملاقي للنجس، لا تدلّ على هذا القول، مع أنّه معارض في مورده بروايات(3) كثيرة معتبرة دالّة على عدم جواز الاغتسال إذا أدخل الجُنُب يده القذرة في الإناء.

وأيضاً: قد يستدلّ لهذا القول بصحيح زرارة، عن أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنِ الْحَبْلِ يَكُونُ مِنْ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ، يُسْتَقَى بِهِ الْمَاءُ مِنَ الْبِئْرِ، هَلْ يُتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ؟ قَالَ: لا بَأْسَ»(4).

وفيه: أنّ المسؤول عنه غير معلوم، إذ كما يحتمل أن يكون هو ماء الدلو لأجل تقاطر الماء من الشعر في الدلو، يمكن أنْ يكون ذلك لأجل الشكّ في التقاطر، ومع هذا الاحتمال لا وجه للاستدلال به.

وأمّا خبره الآخر الوارد في جلد الخنزير، قَالَ:3.

ص: 92


1- وردت هذه الرواية في عدّة مصادر، مع اختلافات يسيرة في بعض الكلمات، فقد ورد في مسائل علي بن جعفر ص 209: (وسألته عن جنب أصابت يده جنابة من جنابته فمسحه بخرقة ثمّ أدخل يده في غُسله قبل أن يغسلها، هل يُجزيه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال: إن وجد ماء غيره فلا تجزيه أن يغسل به، وإنْ لم يجد غيره أجزأه). وأمّا رواية قُرب الاسناد ص 180 ففيها (... عن جنب أصابت يده من جنابته... قال: إن وجد ماء غيره فلا يجزؤه أن يغتسل به...). وأمّا ما ورد في بحار الأنوار فهو يوافق ما ورد في مسائل علي بن جعفر في صيغة السؤال، ويوافق في الجواب ما ورد في الاسناد (بحار الأنوار: ج 77/14).
2- وسائل الشيعة: ج 1/137 ح 336.
3- التهذيب: ج 1/149، وسائل الشيعة: ج 1/152 ح 379.
4- الكافي: ج 3/6 ح 10، التهذيب: ج 1/409 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/170 ح 423.

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ يُجْعَلُ دَلْواً يُسْتَقَى بِهِ الْمَاءُ؟ قَالَ:

لا بَأْسَ»(1).

فأجنبيٌ عن المقام بالمرّة، لأنّ الظاهر منه أنّ السؤال إنّما يكون عن الاستقاء به لتخيّل حرمة استعماله.

أقول: نعم، خبر زرارة المرويّ عن الإمام الباقر عليه السلام في الدلو وأشباه ذلك من أوعية الماء:

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: رَاوِيَةٌ مِنْ مَاءٍ سَقَطَتْ فِيهَا فَأْرَةٌ أَوْ جُرَذٌ أَوْ صَعْوَةٌ مَيْتَةٌ؟ قَالَ: إذا تَفَسَّخَ فِيهَا فَلا تَشْرَبْ مِنْ مَائِهَا، ولا تَتَوَضَّأْ، وصُبَّهَا، وإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَفَسِّخٍ فَاشْرَبْ مِنْهُ وتَوَضَّأْ، واطْرَحِ الْمَيْتَةَ إذا أَخْرَجْتَهَا طَرِيَّةً، وكَذَلِكَ الْجَرَّةُ وحِبُّ الْمَاءِ(2) والْقِرْبَةُ وأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْمَاء.

قَالَ: وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: إذا كَانَ الْمَاءُ أَكْثَرَ مِنْ رَاوِيَةٍ، لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْ ءٌ، تَفَسَّخَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَفَسَّخْ، إِلّا أَنْ يَجِيءَ لَهُ رِيحٌ تَغْلِبُ عَلَى رِيحِ المَاءِ»(3).

يدلّ على اعتصام الماء القليل، لعدم إمكان حمله على الكُرّ، لعدم كون الراوية كُرّاً غالباً، مضافاً إلى سريان الحكم إلى الحُبّ والقِربة.

ولكن يرد عليه أوّلاً: ضعف السند، بل هو في غاية الضعف كما قيل.

ثانياً: أنّه لابدَّ من طرحه لعدم القائل بالتفصيل بين التفسّخ وعدمه، وحمل التفسّخ على التغيّر يأباه ذيل الخبر.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّه لو سُلّم تماميّة هذه الروايات سنداً ودلالة، لا يجوز7.

ص: 93


1- الفقيه: ج 1/10 ح 14، التهذيب: ج 1/413 ح 20، وسائل الشيعة: ج 1/175 ح 437.
2- حِبُ الماء هو وعاء ذو شكل مخروطي يوضع فيه الماء للتبريد، وهو أكبر من الجرّة.
3- وسائل الشيعة: ج 1/140 ح 343، الكافي: ج 3/2، الاستبصار: ج 1/7.

الاعتماد عليها، لإعراض الأصحاب عنها، وإفتائهم بالانفعال.

مع أنّه على فرض تسليم التعارض، تُقدَّم الروايات الدالّة على الانفعال لوجوه لا تخفى، ولا وجه لحمل نصوص الانفعال على الكراهة، لإبائها عن ذلك، كما يظهر لمن تدبّر.

***

فروع:

الفرع الأوّل: لا فرق في تنجّس القليل بالملاقاة، بين النجاسات، حتّى رأس إبرة من الدم الذي لا يُدركه الطّرف على المشهور.

وفي «الاستبصار»(1): طهارة الماء القليل، عند ملاقاة ما لا يُدركه الطّرف من الدّم.

وعن بعضٍ(2): نسبته إلى جماعة، واستدلّ له بصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام، قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ رَعَفَ فَامْتَخَطَ فَصَارَ بَعْضُ ذَلِكَ الدَّمِ قَطْراً صِغَاراً فَأَصَابَ إِنَاءَهُ، هَلْ يَصْلُحُ لَهُ الْوُضُوءُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ شيئاً يَسْتَبِينُ فِي الْمَاءِ فَلا بَأْسَ، وإِنْ كَانَ شيئاً بَيِّناً فَلا تَتَوَضَّأْ مِنْهُ، قَالَ: وسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ رَعَفَ وهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَتَقْطُرُ َقطْرَةٌ فِي إِنَائِهِ هَلْ يَصْلُحُ الْوُضُوءُ مِنْه؟ ُ قَالَ: لا»(3).

بدعوى أنّ الظاهر منه إصابة الدم نفس الماء، كما يشهد بذلك لسان الجواب.9.

ص: 94


1- نقل ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/148. وأمّا ما ذكره في الاستبصار في (باب الماءالقليل يحصل فيه شيء من النجاسة) حيث ذكر الشيخ تعقيباً على صحيحة علي بن جعفر الآتي ذكرها: (إنّ الوجه في هذا الخبر أن نحمله على أنّه إذا كان الدم مثل رأس الابرة التي لا تحس ولا تدرك، فإن ذلك معفوّ عنه). (الاستبصار: ج 1/23).
2- نقل هذه النسبة السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/148 عن غاية المراد للشهيد الأوّل حيث نسب هذا القول إلى كثير من الناس.
3- الكافي: ج 3/74، وسائل الشيعة: ج 1/150 ح 375، مسائل علي بن جعفر: ص 119.

وفيه: أنّ الظاهر من الحديث - لا سيما بملاحظة ذيله - إصابة الدم الإناء، والشكّ في إصابة الماء، ومفاد جوابه عليه السلام حينئذٍ مفاد قوله عليه السلام: (كلّ شيء طاهرٍ حتّى تعلم أنّه قذر).

أقول: وبذلك يظهر أنّ ما حمله الشيخ الأعظم(1) عليه، من العلم بإصابة الماء أو الإناء، وقال: (وهذا العلم الإجمالي بما أنّ أحد أطرافه - وهو الإناء - خارجٌ عن محلّ الابتلاء، لا يكون منجزاً.

غير صحيحٍ، لأنّه مضافاً إلى مخالفته للظهور، أنّه في مثل الفرض لا يكون الإناء خارجاً عن محلّ الابتلاء، إذ ليس معنى الخروج عن محلّ الابتلاء خروجه عن مورد الاحتياج، بل المراد منه ما لا يصحّ التكليف به لعدم القدرة عليه عرفاً.

الفرع الثاني: لا فرق في تنجّس القليل بين أن يكون وارداً على النجاسة أو موروداً.

وعن السيّد المرتضى رحمه الله في «الناصريّات»(2)، والحلّي في «السرائر»(3): عدم نجاسته إذا كان وارداً.).

ص: 95


1- فرائد الاُصول: 421.
2- الناصريّات ص 74 قال في معرض تعقيبه على المسألة الثالثة: (ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة، وبين ورود النجاسة على الماء)، وقال: (هذه المسألة لا أعرف فيها نصّاً لأصحابنا، ولا قولاً صريحاً، والشافعي يفرّق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه، فيعتبر القلتين في ورود النجاسة على الماء، ولا يعتبر في ورود الماء على النجاسة، وخالفه سائر الفقهاء في المسألة، ويقوى في نفسي عاجلاً - إلى أن يقع التأمّل في ذلك - صحّة ما ذهب إليه الشافعي).
3- لم يرد له تصريح بذلك، ولكنّه ذكر في السرائر: ج 1/63 في تطهير الماء القليل: (أن يزاد زيادة تبلغه الكُرّ أو أكثر... لأنّ بلوغ الماء عند أصحابنا هذا المبلغ مزيل لحكم النجاسة التي تكون فيه وهو مستهلك بكثرته لها... فلا فرق بين وقوعها فيه بعد تكامل كونه كُرّاً، وبين حصولها في بعضه قبل التكامل، وليس في هذا ما يدلّ على نسبة هذا القول إليه). نعم، ورد منه تعقيب على كلام السيّد المرتضى (المذكور في الهامش السابق) قوله: (وما قوي في نفس السيّد صحيحٌ مستمرّ على أصل المذهب وفتاوى الأصحاب) (السرائر: ج 1/181).

واستدلّ له: بأنّا لو حكمنا بنجاسته، لأدّى ذلك إلى أنّ الشيء لا يطهر إلّابإيراد كُرّ من الماء عليه، وذلك يشقّ.

وبأنّ نصوص الانفعال - عدا المفهوم منها - موردها الماء المورود، ولايشمل الوارد.

وأمّا المفهوم، فبما أنّ نقيض السالبة الكليّة، الموجبة الجزئيّة، فغاية ما يدلّ عليه تنجّس الماء ببعض النجاسات في الجملة، والقدر المتيقّن منه غير مثل الفرض، وفيه يُرجع إلى عموم قوله عليه السلام: (خَلَق اللّهُ الماءَ طَهُوراً لا ينجّسه شيء).

ويرد على الأوّل: أنّ لازم ذلك الحكم بطهارة الغُسالة خاصّة، لا مطلق الوارد، مع أنّ النجس الذي لا يكون مطهّراً هو ما كان كذلك قبل الغَسل، وأمّا النجاسة الحاصلة، فلا دليل على مانعيّتها عن التطهير.

وعلى الثاني: أنّه وإنْ كان منع عموم المفهوم في محلّه، ولذا لو قال القائل: (لو حَمَلت سيفي لا يغلبُ على أحدٍ) لا يفهم العرف منه أنّه لو لم يحمل السيف لا يغلب على أحد. إلّاأنّه لا يُجدي لهذا القول، لا لما أفاده المحقّق الهمداني رحمه الله(1) من أنّ كون الماء وارداً أو موروداً من أحوال الفرد لا من أفراد العام.

فإنّه يرد عليه: أنّ المنطوق كما له عمومٌ بالنسبة إلى الأفراد، كذلك له إطلاقٌ بالنسبة إلى حالاتها، فالمفهوم هو الموجبة الجزئيّة بالنسبة إلى كلتيهما، بل لأنّ ما ذكر من (أنّ نقيض السالبة الكليّة الموجبة الجزئيّة) إنّما هو بالنسبة إلى المتنجّس الذي ورد عليه السلب، وأمّا الإطلاق الوارد على الحكم، وما رتّب عليه عدم التنجّس - وهو الماء - فهو على حاله في المفهوم أيضاً، كما يظهر وجهه لمن تدبّر.

وكون الماء وارداً أم موروداً ليس من حالات المتنجّس، كما لا يخفى، فتدبّر فإنّه دقيق.ة.

ص: 96


1- مصباح الفقيه: ج 1/18 طبعة حجريّة.

ويطهر بإلقاء الكُرّ دفعة عليه.

أقول: فهذه الروايات بإطلاقها تدلّ على نجاسة الماء الملاقي مع النجس، وإنْ كان وارداً، مع أنّ كيفيّة الانفعال موكولة إلى نظر العرف، وما هو المغروس في أذهان المتشرّعة، ومن الضروري أنّ العرف - لو لأجل تشبيه النجاسات بالقذارات العرفيّة - يرون أنّ الموجب للتنجّس ملاقاة الشيء مع النجس برطوبة مُسرية، من دون أن يكون لكيفيّة الملاقاة دخل في الحكم.

وإنْ شئتَ فاختبر ذلك من حال المقلّد لو قيل له: (الماء القليل يتنجّس بالدم)، فإنّه لا يتوقّف في شمول الحكم للماء الوارد والمورود.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - خبر ابن حنظلة قَالَ:

«قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: مَا تَرَى فِي قَدَحٍ مِنْ مُسْكِرٍ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ حَتَّى تَذْهَبَ عَادِيَتُهُ ويَذْهَبَ سُكْرُهُ؟ فَقَالَ: لا واللّهِ ولا قَطْرَةٌ قَطَرَتْ فِي حُبٍّ إِلّا أُهْرِيقَ ذَلِكَ الْحُبُّ»(1).

إذ لو لم يكن حكم الماء الوارد على المسكر والمورود له واحداً، لم يكن وقعٌ لهذا الجواب.

مع أنّه لو سُلّم عدم دلالة النصوص على إنفعال الوارد، تعيَّن الرجوع إلى عموم ما دلَّ على نجاسة كلّ شيء بالملاقاة مع النجس، ولا وجه للرجوع إلى النبويّ، لما عرفت أنّه ضعيف السند.

***

(و) الفرع الثالث: أنّ القليل النَّجس (يطهُر بإلقاء الكُرّ دفعةً عليه)، على ما عرفت تفصيله آنفاً، فراجع.4.

ص: 97


1- الكافي: ج 6/410 ح 15، بإبدال كلمة: قطرت ب «تقطر منه». وسائل الشيعة: ج 25/341 ح 32074.

الثالث: ماء البئر إنْ تغيّر بوقوع النجاسة فيه؛ تنجّس، وطَهُر بزوال التغيّر بالنزح، وإلّا فهو على أصل الطهارة،

القسم الثالث ماء البئر

القسم الثالث: ماء البئر
اشارة

(الثالث) من أقسام الماء (ماءُ البئر) وهو (إنْ تغيّر بوقوع النجاسة فيه تنجّس) إجماعاً.

وتشهد له: مضافاً إلى ذلك، جملة من النصوص:

منها: صحيح ابن بزيع، عن الإمام الرضا عليه السلام، قَالَ: «مَاءُ الْبِئْرِ وَاسِعٌ لا يُفْسِدُهُ شَيْ ءٌ، إِلّا أَنْ يَتَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ فَيُنْزَحُ حَتَّى يَذْهَبَ الرِّيحُ وَيَطِيبَ طَعْمُهُ، لأنَّ لَهُ مَادَّةً»(1). ونحوه غيره.

(وطَهُر بزوال التغيّر بالنزح)، بلا خلاف، ويدلّ عليه الصحيح المتقدّم أعلاه.

(وإلّا) أي وإنْ لم يتغيّر بوقوع النجاسة فيه (فهو على أصل الطهارة)، كما هو المشهور بين المتأخّرين، والمنسوب إلى العُمّاني(2) وابن الغضائري(3) ومحمّد بن الجهم(4)،

ص: 98


1- التهذيب: ج 1/234 ح 7، وسائل الشيعة: ج 1/172 ح 428.
2- نسبه إليه العلّامة في مختلف الشيعة ص 187، والشهيد الثاني في روض الجنان ص 144، والبصروي وهو أبوالحسن محمّد بن محمّد البصروي، تلميذ السيّد المرتضى، ونقل ذلك عنه الشهيد الأوّل في الذكرى ص 10 (طبعة حجريّة) وذكر التفصيل المحقّق البحراني في الحدائق الناضرة: ج 1/350.
3- نسب إليه ذلك صاحب المدارك في: ج 1/53.
4- نسب إليه ذلك الشهيد الثاني في روض الجنان ص 144 (وهو مفيد الدين محمّد بن جهم). وذكره السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/193.

وجماعةٌ من أصحابنا حكموا بنجاستها بوقوع النجاسة فيها وإنْ لم يتغيّر ماؤها.

(وجماعةٌ من أصحابنا حَكموا بنجاستها، بوقوع النجاسة فيها، وإنْ لم يتغيّر ماؤها) وهذا القول هو المشهور بين القدماء(1)، وجمعٌ من المتأخّرين(2).

وعن جماعة من القائلين بالطهارة(3): وجوب النزح تعبّداً.

وعن آخرين: استحبابه.

وعن البصروي: التفصيل بين الكُرّ وغيره، في عدم الانفعال.

وعن الجُعفي: اعتبار الذراعين في الأبعاد الثلاثة في الاعتصام.

أقول: أمّا قول الجُعفي فدليله غير ظاهرٍ.

وأمّا ما عن البصروي(4): فقد استدلّ له:

أوّلاً: بأنّ نصوص الطهارة تحمل على ما إذا بلغ كُرّاً عند الجمع بينها، وبين عموم ما دلّ على انفعال الماء القليل، لغَلَبة الكريَّة في البئر.

وثانياً: بقوله عليه السلام في صحيح ابن بزيع(5) (وَاسِعٌ) بناءً على ظهوره في أنّه كثير.

وثالثاً: بموثّق عمّار، قَالَ: «سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْبِئْرِ يَقَعُ فِيهَا زِنْبِيلُ عَذِرَةٍ يَابِسَةٍ أَوْ رَطْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا بَأْسَ إذا كَانَ فِيهَا مَاءٌ كَثِير»(6).5.

ص: 99


1- ذكره العلّامة الحلّي في منتهى المطلب: ج 1/10.
2- نسبه المحقّق البحراني في الحدائق الناضرة: ج 1/350 إلى جمع المتأخّرين.
3- نسب ذلك المحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 1/121 للشيخ الطوسي. راجع التهذيب: ج 1/232، وعبارة الشيخ الطوسي في صفحة 409 غير واضحة، وله كلام في الاستبصار وغيره.
4- وهو الشيخ أبو الحسن محمّد بن محمّد بن أحمد البصروي، تلميذ السيّد المرتضى وزميل الشيخ الطوسي.
5- وسائل الشيعة: ج 1/172.
6- التهذيب: ج 1/416، وسائل الشيعة: ج 1/192، ح 495.

ورابعاً: بخبر الحسن بن صالح الثوري المتقدّم في بحث الكُرّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «إذا كَانَ الْمَاءُ فِي الرَّكِيِّ(1) كُرّاً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْ ءٌ، قُلْتُ: وكَمِ الْكُرُّ؟ قَالَ:

ثَلاثَةُ أَشْبَارٍ ونِصْفٌ عُمْقُهَا، فِي ثَلاثَةِ أَشْبَارٍ ونِصْفٍ عَرْضِهَا»(2).

وخامساً: بما ورد في «الفقه الرضوي»: (كُلُّ بِئْرٍ عُمْقُ مَائِهَا ثَلاثَةُ أَشْبَارٍ ونِصْفٌ فِي مِثْلِهَا، فَسَبِيلُهَا سَبِيلُ الْمَاءِ الْجَارِي، إِلّا أَنْ يَتَغَيَّرَ لَوْنُهَا وطَعْمُهَا ورَائِحَتُهَا)(3).

وفي الجميع نظر: إذ الجمع بين نصوص طهارة البئر وأخبار إنفعال الماء القليل، إنّما يكون بحمل الثانية على غير البئر، لأظهريّة الاُولى عنها، لظهورها في خصوصيّة ماء البئر، بل صحيح ابن بزيع(4) صريحٌ في ذلك، بناءً على ما تقدّم في بحث الجاري من رجوع التعليل إلى الجملة الاُولى.

ولو حُملت الاُولى على غير القليل، لزم عدم خصوصيّةٍ لماء البئر، مضافاً إلى أنّه لا نُسلّم غلبة الكريَّة في ماء البئر.

وحمل السِّعة على الكريَّة، ستَعرف أنّه خلاف الظاهر، مع أنّه لا يُجدي لهذا القول، إذ لم يثبت للشارع اصطلاحٌ في الكثرة، فيكون معناها الكريَّة.

وأيضاً: منه ظهر عدم دلالة موثّق عمّار لهذا القول، إذ ظاهر الكثرة فيه هي الكثرة العرفيّة، واعتبارها فيه إنّما يكون لأجل أنْ لا يحصل التغيّر من وقوع الزنبيل، وعليه فالمراد منها هي الكثرة الخاصّة التي تزيد على الكُرّ.

وأمّا خبر الحسن: وإنْ كان لا يرد عليه ضعفُ السند، لأنّه معتبر كما لا يخفى،8.

ص: 100


1- الركي جمع ركية وهي البئر. الركيَّة بئر تُحفر (العين: ج 5/402).
2- الكافي: ج 3/2 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/160 ح 398.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/201، والعبارة: (كلّ بئر عمق ماؤها ثلاثة أشبار ونصف في مثلها، فسبيلها سبيل الجاري). وأمّا عبارة كتاب «فقه الرضا» في ص 91 فهي: (كلّ بئر عميق...) وتتمّة الرواية: (إلّا أن يتغيّر لونها أو طعمها أو رائحتها)، وفي نسخة أُخرى: (وطعمها ورائحتها، فإن تغيّرت نزحت حتّى تطيب).
4- وسائل الشيعة: ج 1/172، ح 428.

إلّا أنّه يرد عليه أنّه يقع التعارض بينه وبين ما يدلّ من الروايات على أنّ مناط اعتصامها إنّما هو كونها ذات مادّة باعتبار مفهومها.

وبعبارة أُخرى: يقع التعارض بين مفهوم كلّ منهما ومنطوق الآخر، فيقيّد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر، لأنّه أخصّ منه، وحيث لا يعقل التصرّف في المفهوم نفسه، فلابدَّ من رفع اليد عن ملزومه بمقدارٍ يرتفع به التعارض، ويكون ذلك بتقييد المنطوق، ورفع اليد عن إطلاقه المقابل للتقييد بكلمة (أو)، وتمام الكلام في محلّه.

ولازم ذلك في المقام الاكتفاء بأحد الأمرين: من الكريَّة، وكونها ذا مادّة في الحكم بعدم الانفعال.

وأمّا ما ورد في الفقه الرضوي: فلم يثبت لنا كونه كتاب روايةٍ، وعلى فرض تسليمه فهو ضعيف.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ القول باعتبار الكريَّة في اعتصامها ضعيفٌ، فما ذكره الشيخ الأجلّ من أنّه - لولا إعراض الأصحاب عن هذا القول أمكن المصير إليه(1) - غير تامّ.

وأمّا القول الثالث: وهو وجوب النَّزح تعبّداً الذي نُسب إلى الشيخ في «التهذيب»(2) والعلّامة في «المنتهى»(3)، فقد استدلّ له:).

ص: 101


1- الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة: ج 1/206.
2- وهو ظاهر كلامه في التهذيب: ج 1/232 حيث قال: (وبقي أن ندلّ على وجوب تطهير مياه الآبار، فإنّ من استعملها قبل تطهيره يجب عليه إعادة ما استعمله فيه إن وضوءاً فوضوء، وإن غُسلاً فغُسل، وإنْ كان غَسل الثياب فكذلك. قال محمّد بن الحسن: عندي أنّ هذا إذا كان قد غير ما وقع فيه من النجاسة أحد أوصاف الماء، إمّا ريحه أو طعمه أو لونه، فأمّا إذا لم يغيّر شيئاً من ذلك فلا يجب إعادة شيء من ذلك، وإنْ كان لا يجوز استعماله إلّابعد تطهيره).
3- قال العلّامة في المنتهى: ج 1/68: (الأقوى عندنا عدم تنجّس البئر بالملاقاة، فالنزح الوارد عن الأئمّة عليهم السلام إنّما كان تعبّداً).

بأنّه ممّا يقتضيه الأخذ بظاهر الدليلين، فإنّ ظاهر الأمر هو الوجوب.

وفيه: أنّه لا ريب في ظهور الأمر بالنزح في المقام - كالأمر بغَسل ملاقي البول مثلاً - في الإرشاد إلى النجاسة في نفسه، ولكن بما أنّه لابدَّ من رفع اليد عن هذا الظهور على الفرض، فيدور الأمر:

بين إرادة الوجوب النفسي التعبّدي منه.

أو إرادة الوجوب الشرطي أو الاستحباب.

ويدفع الاحتمال الأوّل: عدم بيان متعلّق الوجوب، من أنّه يجب على المالك أو المكلّفين قاطبةً كفايةً.

ويدفع الاحتمال الثاني: صحيح ابن بزيع(1) الدالّ على أنّه لا يُفسِدُ البئر شيء، إذ ليس معنى (الإفساد) هو التنجّس خاصّة، فالقول بأنّه لا يجوز استعمال ماء البئر بعد وقوع النجاسة فيه ما لم ينزح، ينافي عدم فساده، كما لا يخفى.

مضافاً إلى التصريح في جملةٍ من الروايات بنفي البأس عن الوضوء منها، أو عدم وجوب إعادته.

أقول: ويعيّن الاحتمال الثالث - مضافاً إلى ذلك - نفس الأمر، حيث أنّه يحمل في أمثال المقام - ممّا لا يمكن الأخذ بظاهره من الإرشاد إلى النجاسة - على الإرشاد إلى مرتبة ضعيفةٍ منها، لا تثبت لها أحكام النجاسة، لأنّه ممّا يقتضيه الفهم العرفي، واستقرّ عليه ديدنهم في أمثال المقام، ولذا ترى أنّه لم يحمل أحدٌ الأمر بالقنوت مثلاً - الذي لا يمكن الأخذ بظاهره من الجزئيّة، بقرينة ما دلَّ على الصحّة بدونه - على الوجوب المولوي، بل يُحمل على أنّه جزءٌ مستحبّي.

***7.

ص: 102


1- الاستبصار: ج 1/33، وسائل الشيعة: ج 1/172 ح 427.
عدم تنجّس ماء البئر

ثمّ إنّه يقع الكلام في أنّه هل ينجس ماء البئر بملاقاة النجاسة ما لم يتغيّر، أم لا؟

أقول: الأقوى هو الثاني، وتشهد له جملة من النصوص:

منها: الخبر الصحيح الذي رواه ابن بزيعَ عَنِ الرِّضَا عليه السلام، قَالَ:

«مَاءُ الْبِئْرِ وَاسِعٌ لا يُفْسِدُهُ شَيْ ءٌ، إِلّا أَنْ يَتَغَيَّرَ رِيحُهُ أَوْ طَعْمُهُ فَيُنْزَحُ حَتَّى يَذْهَبَ الرِّيحُ ويَطِيبَ طَعْمُهُ، لأنّ لَهُ مَادَّةً»(1).

وهذه الرواية مع اشتمالها على المؤكّدات الكثيرة الّتي لا تخفى، لا يبقى موردٌ للمناقشة في دلالتها.

ومنها: صحيح عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنْ بِئْرِ مَاءٍ وَقَعَ فِيهَا زِنْبِيلٌ مِنْ عَذِرَةٍ رَطْبَةٍ أَوْ يَابِسَةٍ أَوْ زِنْبِيلٌ مِنْ سِرْقِينٍ(2)، أَيَصْلُحُ الْوُضُوءُ مِنْهَا؟ فَقَالَ: لا بَأْسَ»(3).

ومنها: صحيح معاوية، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لا يُغْسَلُ الثَّوْبُ ولا تُعَادُ الصَّلاةُ مِمَّا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ، إِلّا أَنْ يُنْتِنَ، فَإِنْ أَنْتَنَ غُسِلَ الثَّوْبُ، وأَعَادَ الصَّلاةَ ونُزِحَتِ الْبِئْرُ»(4).

ومنها: صحيحه الآخر المروي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ الصادق عليه السلام:

ص: 103


1- التهذيب: ج 1/234، الاستبصار: ج 1/33، وسائل الشيعة: ج 1/172 ح 427.
2- سرقين. ويقال سرجين، وهو الزّبل معرّباً. وذكر في مجمع البحرين السرجين بالكسر: الزّبل، كلمة أعجمية، أصلها سركين بالكاف فعربت إلى الجيم والقاف فقالوا: سرقين. (مجمع البحرين: ج 2/358).
3- وسائل الشيعة: ج 1/192 ح 496، مسائل علي بن جعفر: ص 205.
4- وسائل الشيعة: ج 1/173 ح 431، الاستبصار: ج 1/31.

«فِي الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي الْبِئْرِ، فَيَتَوَضَّأُ الرَّجُلُ مِنْهَا ويُصَلِّي، وهُوَ لا يَعْلَمُ، أَ يُعِيدُ الصَّلاةَ ويَغْسِلُ ثَوْبَهُ؟ فَقَالَ: لا يُعِيدُ الصَّلاةَ، ولا يَغْسِلُ ثَوْبَهُ»(1).

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على ذلك.

والخدشة فيها: بإعراض القدماء عنها، وعدم اعتمادهم عليها.

في غير محلّها، إذ لم يثبت كونه إعراضاً موهناً، لاحتمال أن يكون ذلك لبنائهم على أنّه لا يمكن الجمع بين هذه الأخبار، وبين ما يدلّ بظاهره على النجاسة مع ترجّح الثاني.

وقد استدلّ للقول بالنجاسة: بطائفتين من النصوص:

الطائفة الاُولى: الروايات الآمرة بالنزح بملاقاة النجاسة، الظاهرة في كونه مطهراً له.

الطائفة الثانية: الروايات المصرّحة بحصول الطهارة بالنزح، كصحيحي ابن يقطين وابن بزيع الآتيين.

والجواب عن الجميع: أنّها لا تصلح للمعارضة، مع ما مرّ من الروايات الصريحة في عدم النجاسة، التي هي أقوى دلالةً من هذه الأخبار، حيثُ أنّ غاية الأمر ظهورها في وجوب النزح والنجاسة، فيجمع بينها بالحمل على الاستحباب.

ويؤيّد ذلك: الاختلاف الكثير الواقع في النصوص الآمرة بالنزح على وجه يتعذّر الجمع بينها إلّابالحمل على مراتب الاستحباب.

ويشهد له أيضاً: أنّه لو انفعلت البئر مع كرّية مائها، لزم دوران الانفعال مدار المادّة، وصيرورتها سبباً للانفعال، وهو غريبٌ، مع أنّ صحيح ابن يقطين عَنْ أَبِي3.

ص: 104


1- وسائل الشيعة: ج 1/173 ح 430، التهذيب: ج 1/233.

الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنِ الْبِئْرِ تَقَعُ فِيهَا الحَمَامَةُ والدَّجَاجَةُ والْفَأْرَةُ َوالْكَلْبُ(1) والْهِرَّةُ؟ فَقَالَ:

يُجْزِيكَ أَنْ تَنْزَحَ مِنْهَا دِلاءً، فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَهِّرُهَا إِنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَىْ»(2).

غير ظاهر في النجاسة، إذ حمل الجملة الخبريّة على الوجوب، ينافي مع ظاهره من التخيير بين الدلاء في النجاسات المذكورة إجماعاً.

والإلتزام بإجمال الرواية لا يمكن، لكونه عليه السلام في مقام البيان، فلا محالةٍ تُحمل الجملة الخبريّة على الاستحباب، فيكون نزح مقدارٍ من الدلاء مستحبّاً لكلّواحد.

والأفضل ما ورد من المقدار المعيّن، فيكون المراد من الطهارة النظافة، لا ما يقابل النجاسة.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر عدم دلالة صحيح محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قَالَ:

«كَتَبْتُ إِلَى رَجُلٍ أَسْأَلُهُ أَنْ يَسْأَلَ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام عَنِ الْبِئْرِ تَكُونُ فِي الْمَنْزِلِ، لِلْوُضُوءِ فَيَقْطُرُ فِيهَا قَطَرَاتٌ مِنْ بَوْلٍ أَوْ دَمٍ، أَوْ يَسْقُطُ فِيهَا شَيْ ءٌ مِنْ عَذِرَةٍ كَالْبَعْرَةِ ونَحْوِهَا، مَا الَّذِي يُطَهِّرُهَا حَتَّى يَحِلَّ الْوُضُوءُ مِنْهَا لِلصَّلاةِ؟ فَوَقَّعَ عليه السلام بِخَطِّهِ فِي كِتَابِي: يُنْزَحُ دِلاءٌ مِنْهاَ»(3).

على هذا القول، لأنّ إطلاق الدلاء مع كونه عليه السلام في مقام بيان الحكم، كما هو واضح، دليلٌ على كون الحكم تنزيهيّاً، فجوابه عليه السلام إنّما يكون ردعاً عن ما تخيّله السائل من نجاسة البئر بملاقاتها للمذكورات فيه، لاتقريراً له كما هو2.

ص: 105


1- في رواية وسائل الشيعة: (والفأرة أو الكلب أو الهرة)، وفي رواية التهذيب (أو.. الخ).
2- التهذيب: ج 1/237 ح 17، الاستبصار: ج 1/37، وسائل الشيعة: ج 1/183 ح 458.
3- الكافي: ج 3/5، وسائل الشيعة: ج 1/176 ح 442.

مبنى الاستدلال.

مضافاً إلى أنّ لزوم الردع في أمثال المقام، ممّا لا يترتّب على جهل السائل مفسدة في الغالب غير مُسلّم، خصوصاً مع أنّ وقوع النجاسة في البئر يكون مؤثّراً في حدوث مرتبة من القذارة يكره لأجلها الاستعمال.

وأمّا صحيحة ابن أبي يعفور عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ:

«إذا أَتَيْتَ الْبِئْرَ وأَنْتَ جُنُبٌ ولَمْ تَجِدْ دَلْواً ولا شيءً تَغْتَرِفُ منه(1) فَتَيَمَّمْ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَاءِ رَبَّ الصَّعِيدِ(2)، ولا تَقَعْ فِي الْبِئْرِ ولا تُفْسِدْ عَلَى الْقَوْمِ مَاءَهُمْ»(3).

فيُحمل الإفساد فيها على القذارة العرفيّة، إذ لو كان المراد منه النجاسة كان المتعيّن أن يعبّر بأن لا يفسد الماء، فلا يمكن الاغتسال منه، وينجس جميع البدن، ويؤيّده عدم التعرّض فيه لنجاسة البدن.

وأمّا ما ورد في تقارب البئر والبالوعة(4)، فلا يأبى عن الحمل على صورة التغيّر.

وبالجملة: ليس في الروايات الظاهرة في النجاسة، ما يأبى عن الحمل على).

ص: 106


1- في نسختي وسائل الشيعة: والاستبصار (تغرف به).
2- في نسخة الكافي (ربّ الماء وربّ الصعيد واحد).
3- الكافي: ج 3/65 ح 9، وسائل الشيعة: ج 1/177 ح 443 وج 3 ص 344 ح 3820.
4- ذكر في وسائل الشيعة: ج 1/197 ثمان روايات حول تقارب البئر والبالوعة بصيغ مختلفة، وقد علّق الحرالعاملي على بعضها الدالّ على النجاسة بالتقارب من أنّه على تقدير ثبوتها لابدّ من تأويلها لأنّ العلّامة قال في المنتهى: (إنّ القائلين بانفعال البئر بالملاقاة متّفقون على عدم حصول التنجّس بمجرّد التقارب، فلا بد من تأويله عندهم لمخالفته لإجماعهم). وذكر صاحب المنتقى: (أنّه محمولٌ على التغيّر، أو على الاستقذار وأنّ التنجيس والنهي محمولان على غير الحقيقة لضرورة الجمع).

غيرها، ويكون صالحاً لأن يكون مستنداً لرفع اليد عن نصوص الطهارة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى أنّ البئر لا تنجّس بالملاقاة، ويستحبّ النزح عندها.

***

ص: 107

وأوجبوا نزح الجميع بوقوع المُسكر أو الفقّاع أو المنيّ،

مقدار النزح

ثمّ إنّه بعدما عرفت من عدم وجوب النزح، (و) أنّه مستحبٌّ، يقع الكلام في مقدار النزح المستحبّ:

أقول: إنّ القائلين بالنجاسة (أوجبوا نزح الجميع بوقوع المسكر) فيها، ويشهد له صحيح معاوية، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام:

«فِي الْبِئْرِ يَبُولُ فِيهَا الصَّبِيُّ أَوْ يُصَبُّ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ خَمْرٌ؟ فَقَاَل: يُنْزَحُ الْمَاءُ كُلُّهُ»(1).

ونحوه غيره.

(أو) وقوع (الفقّاع) فيها، والدليل عليه ما دلّ على أنّها خمرة(2) استصغرها الناس، (أو المنيّ) للإجماع المحكي عن «السرائر»(3) و «الغنية»(4).

***

ص: 108


1- الاستبصار: ج 1/35، وسائل الشيعة: ج 1/179 ح 447، بحار الأنوار: ج 77/30.
2- الكافي: ج 6/423 عن الإمام الرضا عليه السلام قوله: (عن الفقاع هي خميرة استصغرها الناس)، وفي وسائل الشيعة: ج 25/365 ح 32136: (هي خمرة.. الخ) والتهذيب: ج 9/125.
3- قال في السرائر بوجوب نزح الجميع من المني (السرائر: ج 1/69).
4- غنية النزوع لابن زهرة الحلبي: ص 47.

أو دم الحيض، أو الاستحاضة، أو النفاس فيها، أو موت بعير فيها، فإن تعذّر تراوَحَ أربعة رجال عليها مثنى يوماً. ونزح كُرٌّ لموت الجمل والبقرة وشبههما.

(أو) بوقوع (دم الحيض أو الاستحاضة أو النفاس فيها)، ولم يذكروا له مستنداً سوى الشهرة والإجماع المنقول (أو موت بعير فيها).

ويشهد له: صحيح ابن سنان، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«إِنْ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ دَابَّةٌ صَغِيرَةٌ، أَوْ نَزَلَ فِيهَا جُنُبٌ، نُزِحَ مِنْهَا سَبْعُ دِلاءٍ، فَإِنْ مَاتَ فِيهَا ثَوْرٌ أَوْ صُبَّ فِيهَا خَمْرٌ نُزِحَ الْمَاءُ كُلُّهُ»(1).

(فإن تعذّر) استيعاب مائها (تراوح أربعة رجال عليها مثنى يوماً).

ويشهد له: موثّق عمّار، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سُئِلَ عَنِ الْكُوزِ... - الحديث طويل(2) - وقال في آخره: وسُئِلَ عَنْ بِئْرٍ يَقَعُ فِيهَا كَلْبٌ أَوْ فَأْرَةٌ أَوْ خِنْزِيرٌ قَالَ تُنْزَفُ كُلُّهَا جقال الشيخ: يعني إذا تغيّر الماءج فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَلْتُنْزَفْ يَوْماً إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ يُقَامُ عَلَيْهَا قَوْمٌ يَتَرَاوَحُونَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فَيَنْزِفُونَ يَوْماً إِلَى اللَّيْلِ وقَدْ طَهُرَتْ»(3).

(و) أوجبوا (نزح كُرٍّ لموت الحمار والبقرة وشبههما)، لخبرعمروبن سعيد، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَمَّا يَقَعُ فِي الْبِئْرِ مَا بَيْنَ الْفَأْرَةِ والسِّنَّوْرِ إِلَى الشَّاةِ؟ فَقَالَ كُلَّ ذَلِكَ نَقُولُ سَبْعُ دِلاءٍ. قَالَ: حَتَّى بَلَغْتُ الْحِمَارَ والْجَمَلَ (والبغل) فَقَالَ كُرٌّ9.

ص: 109


1- التهذيب: ج 1/241، وسائل الشيعة: ج 1/179 ح 444.
2- وقد ذكر في التهذيب كاملاً في: ج 1/284.
3- وسائل الشيعة: ج 1/196 ح 509.

ونزح سبعين لموت الإنسان، وخمسين للعذرة الذائبة. والدّم الكثير غير الدّماء الثلاثة.

مِنْ مَاء...»(1).

وحيث أنّ الظاهر من سوقه كونه وارداً في مقام بيان أصناف الحيوانات، فيستفاد منه حكم كلّ حيوانٍ هو شبه الحمار والبغل، من حيث الجثّة مثل الفرس والثور ونحوهما.

(و) حكموا بلزوم (نزح سبعين لموت الإنسان) لموثّق عمّار الساباطي، قَالَ:

«سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ ذَبَحَ طَيْراً فَوَقَعَ بِدَمِهِ فِي الْبِئْرِ؟ فَقَالَ: يُنْزَحُ مِنْهَا دِلاءٌ، هَذَا إذا كَانَ ذَكِيّاً فَهُوَ هَكَذَا، ومَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ فِي بِئْرِ الْمَاءِ فَيَمُوتُ فِيهِ فَأَكْثَرُهُ الانْسَانُ يُنْزَحُ مِنْهَا سَبْعُونَ دَلْواً، وأَقَلُّهُ الْعُصْفُورُ يُنْزَحُ مِنْهَا دَلْوٌ وَاحِدٌ، ومَا سِوَى ذَلِكَ فِي مَا بَيْنَ هَذَيْنِ»(2).

(وخمسين للعذرة الذائبة) لخبر أبي بصير، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْعَذِرَةِ تَقَعُ فِي الْبِئْرِ؟ فَقَالَ: يُنْزَحُ مِنْهَا عَشْرُ دِلاءٍ، فَإِنْ ذَابَتْ فَأَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ دَلْواً»(3).

بناءً على كون الترديد من الراوي.

(والدّم الكثير غير الدّماء الثلاثة)، ولم يظهر مستنده، بل يدلّ على عدم لزومه..

ص: 110


1- وسائل الشيعة: ج 1/180 ح 448، ولم ترد فيها كلمة (والبغل) إلّافي عوالي اللئالي. الاستبصار: ج 1/34.
2- التهذيب: ج 1/234، وسائل الشيعة: ج 1/194 ح 498..
3- الاستبصار: ج 1/42، وسائل الشيعة: ج 1/191 ح 491..

وأربعين لموت الكَلْب والسَّنور والخنزير والثعلب والأرنب وبول الرجل.

ونَزحُ عشرةً للعذرة اليابسة

صحيح عليّ بن جعفر عليه السلام:

«وسَأَلَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ أَخَاهُ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ ذَبَحَ شَاةً فَاضْطَرَبَتْ فَوَقَعَتْ فِي بِئْرِ مَاءٍ، وأَوْدَاجُهَا تَشْخُبُ دَماً، هَلْ يُتَوَضَّأُ مِنْ تِلْكَ الْبِئْر؟ ِ قَالَ: يُنْزَحُ مِنْهَا مَا بَيْنَ ثَلاثِينَ دَلْواً إِلَى أَرْبَعِينَ دَلْواً ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهَا»(1).

(و) أوجبوا نزح (أربعين لموت الكلب والسَّنور والخنزير والثَّعلب والأرنب).

لخبر القاسم، عن علي، المروي عن كتاب الحسين بن سعيد، قَالَ:

«وَسَأَلْتُهُ عَنِ... والسِّنَّوْرِ... أَرْبَعُونَ دَلْواً والْكَلْبُ وشِبْهُهُ»(2).

ورَوَاهُ الُْمحَقِّقُ فِي «الْمُعْتَبَرِ» نَقْلاً مِنْ كِتَابِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ مِثْلَهُ(3).

(وبول الرجل) لخبر علي بن حمزة، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ الْفَطِيمِ يَقَعُ فِي الْبِئْرِ؟ فَقَالَ: دَلْوٌ وَاحِدٌ. قُلْتُ: بَوْلُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْواً»(4).

(و) حَكموا بأنّه يطهر ب (نزح عشرة للعذَرَة اليابسة) لخبر أبي بصير1.

ص: 111


1- الفقيه: ج 1/20، وسائل الشيعة: ج 1/193 ح 497، مسائل علي بن جعفر: ص 203.
2- وسائل الشيعة: ج 1/183 ح 459 وفيها: (.. والسّنور عشرون أو ثلاثون أو أربعون دلواً والكلب وشبهه». وقد وقع الكثيرون في شبهة نقلها مجتزأة بدون ذكر عشرون أو ثلاثون.
3- المعتبر: ج 1/66، بحار الأنوار: ج 77 ص 29.
4- الاستبصار: ج 1/34، وسائل الشيعة: ج 1/181 ح 451.

وللدّم القليل، وسبعٌ لموتِ الطير والفأرة إذا تفسّخت أو انتفخت، وبول الصبي.

واغتسالُ الجُنُب، وخروج الكلب منها حيّاً،

المتقدّم(1) (وللدم القليل) لما عن الحلّي رحمه الله من نسبته إلى رواية أصحابنا.

(و) بنزح (سبع لموت الطير) لمضمر سماعة، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي الْبِئْرِ أَوِ الطَّيْرِ؟ قَالَ إِنْ أَدْرَكْتَهُ قَبْلَ أَنْ يُنْتِنَ نَزَحْتَ مِنْهَا سَبْعَ دِلاءٍ..»(2).

ولموت (الفأرة إذا تفسّخت أو انتفخت) لخبر المكاري، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «إذا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي الْبِئْرِ فَتَسَلَّخَتْ فَانْزَحْ مِنْهَا سَبْعَ دِلاءٍ».

وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «فَتَفَسَّخَتْ»(3).

(وبول الصبي) لخبر منصور بن حازم، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«يُنْزَحُ مِنْهَا سَبْعُ دِلاءٍ إذا بَالَ فِيهَا الصَّبِيُّ أَوْ وَقَعَتْ فِيهَا فَأْرَةٌ أَوْ نَحْوُهَا»(4).

(واغتسال الجنب) الخالي بدنه عن النجاسة في ماء البئر، لخبر أبي بصير، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْجُنُبِ يَدْخُلُ الْبِئْرَ فَيَغْتَسِلُ مِنْهَا؟ قَالَ: يُنْزَحُ مِنْهَا سَبْعُ دِلاءٍ»(5).

(وخروج الكلب منها حيّاً) لخبر أبي مريم:5.

ص: 112


1- الاستبصار: ج 1/42، وسائل الشيعة: ج 1/191 ح 491.
2- الاستبصار: ج 1/36، التهذيب: ج 1/236، وسائل الشيعة: ج 1/183 ح 460.
3- الاستبصار: ج 1/39، التهذيب: ج 1/239، وسائل الشيعة: ج 1/187 ح 476.
4- الاستبصار: ج 1/34، التهذيب: ج 1/243، وسائل الشيعة: ج 1/181 ح 450.
5- وسائل الشيعة: ج 1/195 ح 505.

وخَمسُ دلاءٍ لذرق الدجاج. وثلاثة لموت الفأرة والحيَّة،

«كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: إذا مَاتَ الْكَلْبُ فِي الْبِئْرِ نُزِحَتْ. وقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام:

إذا وَقَعَ فِيهَا ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهَا حَيّاً نُزِحَ مِنْهَا سَبْعُ دِلاء»(1).

(و) أوجبوا نزح (خمس دلاءٍ لذرق الدجاج)(2)، ولم يصل إلينا مستندهم(3).

(و) نزح (ثلاثةٍ لموت الفأرة) إذا لم تفسخ، لصحيح ابن عمّار، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْفَأْرَةِ والْوَزَغَةِ تَقَعُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ: يُنْزَحُ مِنْهَا ثَلاثُ دِلاءٍ»(4).

(و) لموت (الحيَّة) للخبر المروي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:7.

ص: 113


1- وسائل الشيعة: ج 1/182 ح 457. المعتبر: ج 1/71.
2- قال الشيخ المفيد في المقنعة ص 68: (ولا ينجس به الثوب والجسد بملاقاته، إلّاذرق الدجاج خاصّة، فإنّه إن وقع في الماء القليل نزح منه خمس دلاء). وقد أوجب الشيخ الطوسي نزح خمس دلاء كما في النهاية ص 7، والمبسوط: ج 1/12.
3- ذكر المحقّق الحلّي: (أنّ في ذرق الدجاج روايتان إحداهما: التنجيس وهو مذهب الشيخين في المقنعة و الخلاف والنهاية، وبه قال أبو حنيفة. والثانية: الطهارة ما لم يكن جلّالاً، وهو مذهب الشيخ في التهذيب وهو الحقّ). أمّا الروايتان فضعيفتان: إحداهما: عن فارس قال: َ عَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ فَارِسٍ، قَالَ: «كَتَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَرْقِ الدَّجَاجِ تَجُوزُ الصَّلاةُ فِيهِ فَكَتَبَ لا» (وسائل الشيعة: ج 3 ص 412 ح 4017). قال الشيخ في كتاب الرجال: فارس بن حاتم غال ملعون. والاُخرى: عن وهب بن وهب: بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: «لا بَأْسَ بِخُرْءِ الدَّجَاجِ والْحَمَامِ يُصِيبُ الثَّوْبَ». (وسائل الشيعة: ج 3/412 ح 4016). وهو ضعيف جدّاً مطعون فيه بالكذب. (المعتبر: ج 1/412).
4- التهذيب: ج 1/238، وسائل الشيعة: ج 1/187 ح 477.

ودلو للعصفور وشبهه وبول الرضيع.

وعندي أنّ ذلك كلّه مستحبٌّ.

«إذا سَقَطَ فِي الْبِئْرِ شَيْ ءٌ صَغِيرٌ فَمَاتَ فيهَا فَانْزَحْ مِنْهَا دِلاءً...»(1).

(و) نزح (دلوٍ للعصفور وشبهه) لقول الإمام الصادق عليه السلام في خبر عمّار المتقدّم(2): «... وأَقَلُّهُ الْعُصْفُورُ يُنْزَحُ مِنْهَا دَلْوٌ وَاحِد».

وحيث أنّ الظاهر كونه في مقام بيان أصناف الحيوانات، فيستفاد منه حكم كلّ حيوان يشبه العصفور في الجثّة.

(وبول الرضيع) لخبر علي بن أبي حمزة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ الْفَطِيمِ يَقَعُ فِي الْبِئْر؟ ِ فَقَالَ دَلْوٌ وَاحِدٌ»(3).

وحيث أنّك عرفت في صدر المبحث عدم صحّة الأخذ بظاهر هذه النصوص، للنصوص الصريحة في عدم تنجّس البئر، ولما في نصوص النزح من الاختلاف الكثير، على وجهٍ يتعذّر الجمع بينها، إلّابالحمل على مراتب الاستحباب، وأصبح ما ذكره المصنّف رحمه الله بقوله: (وعندي أنّ ذلك كلّه مستحبٌّ) هو الأقوى، ولأجل ذلك أغمضنا عن ذكر النصوص المعارضة، وبيان حكم ما لا نصّ فيه، والأحكام المترتّبة على القول بالنجاسة.

***1.

ص: 114


1- المعتبر: ج 1/75، وسائل الشيعة: ج 1/180 ح 449، وفيها: إذا سقط في البئر شيء صغير فمات فيها فانزح منها دلاء.
2- التهذيب: ج 1/234، وسائل الشيعة: ج 1/194 ح 498.
3- التهذيب: ج 1/243، الاستبصار: ج 1/34، وسائل الشيعة: ج 1/181 ح 451.

الرابع: اسئار الحيوان كلّها طاهرة إلّاالكلب والخنزير والكافر.

القسم الرابع الأسئار

القسم الرابع: الأسئار
اشارة

(الرابع): في (اسئار الحيوان) وهي جمع السؤر، وكلمات اللّغويين فيه مختلفة(1).

أقول: الظاهر أنّه يعمّ مطلق الملاقي لجسم الحيوان، كما يشهد له خبر العيص، عن الإمام الصادق عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ سُؤْرِ الْحَائِضِ؟ فَقَالَ: لا تَوَضَّأْ مِنْهُ وتَوَضَّأْ مِنْ سُؤْرِ الْجُنُبِ إذا كَانَتْ مَأْمُونَةً ثُمَّ تَغْسِلُ يَدَيْهَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلَهُمَا الانَاءَ»(2).

ويعمّ الطعام أيضاً، كما يشهد له ما في صحيح زرارة، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عليه السلام: إِنَّ الْهِرَّ سَبُعٌ، ولا بَأْسَ بِسُؤْرِهِ، وإِنِّي لاسْتَحْيِي مِنَ اللّهِ أَنْ أَدَعَ طَعَاماً لأنَّ الْهِرَّ أَكَلَ مِنْهُ»(3).

ويختصّ بالقليل، لإنصراف الأخبار عن الكثير، بعد ملاحظة أنّ الكثير ممّا لا يؤثّر فيه أقوى النجاسات.

و (كلّها طاهرة إلّا) سؤر نجس العين ك (الكلب والخنزير والكافر)، فها

ص: 115


1- قال في العين: بقيّة كلّ شيء سؤره (العين: ج 7/292). وفي لسان العرب: السؤر بقيّة الشيء (لسان العرب: ج 4/339). وفي القاموس: السؤر: البقيّة والفضلة (القاموس: ج 2/43). وفي مجمع البحرين: السؤر هو مايبقى بعد الشراب.. وقد يقال في تعريفه: السؤر ما باشره جسم حيوان (مجمع البحرين: ج 2/314). وفي تاج العروس ذكر كلّ الأقوال (تاج العروس: ج 3/251).
2- الكافي: ج 3/10، وسائل الشيعة: ج 1/234 ح 600.
3- وسائل الشيعة: ج 1/227 ح 580.

هنا مقامان:

المقام الأوّل: سؤر نجس العين نجسٌ، والوجه فيه ما سيأتي في محلّه من نجاسة هذه المذكورات، ودليلها:

1 - ما يدلّ على سراية النجاسة إلى الملاقي، يدلّ على نجاسة سؤرها.

2 - خبر معاوية بن شريح، قَالَ:

«سَأَلَ عُذَافِرٌ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وأَنَا عِنْدَهُ عَنْ سُؤْرِ السِّنَّوْرِ والشَّاةِ والْبَقَرَةِ والْبَعِيرِ والْحِمَارِ والْفَرَسِ والْبَغْلِ والسِّبَاعِ يُشْرَبُ مِنْهُ أَوْ يُتَوَضَّأُ مِنْه؟ ُ فَقَالَ: نَعَمِ اشْرَبْ مِنْهُ وتَوَضَّأْ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: الْكَلْبُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: ألَيْسَ هُوَ سَبُعٌ؟ قَالَ: لا واللّهِ إِنَّهُ نَجَسٌ، لا واللّهِ إِنَّهُ نَجَسٌ»(1).

3 - وصحيح أبي العبّاس، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ فَضْلِ الْهِرَّةِ والشَّاةِ والْبَقَرَةِ والإبِلِ والْحِمَارِ والْخَيْلِ والْبِغَالِ والْوَحْشِ والسِّبَاعِ، فَلَمْ أَتْرُكْ شيءاً إِلّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ؟ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْكَلْبِ؟ فَقَالَ: رِجْسٌ نِجْسٌ لا تَتَوَضَّأْ بِفَضْلِهِ، واصْبُبْ ذَلِكَ الْمَاءَ، واغْسِلْهُ بِالتُّرَابِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ بِالْمَاءِ»(2).

وهما صريحان في نجاسة سؤر الكلب، وكلّ نجس العين.4.

ص: 116


1- التهذيب: ج 1/225، وسائل الشيعة: ج 1/226 ح 576..
2- التهذيب: ج 1/225، الاستبصار: ج 1/19، وسائل الشيعة: ج 1/226 ح 574.

المقام الثاني: سؤر طاهر العين طاهر، كما هو المشهور، وتدلّ عليه:

أصالة الطهارة، والروايات الواردة في عدّة من الموارد، وخبر معاوية وصحيح أبي العبّاس المتقدّمان يُشعران، بل يشهدان بذلك، فإنّ ظاهرهما دوران النجاسة مدار نجاسة ذي السؤر.

وعن المبسوط(1) والسرائر(2) والمهذّب(3): المنع من استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه، من حيوان الحضر غير الآدمي والطيور، إلّاما لا يمكن التحرّز عنه.

بل عن السرائر: التصريح بنجاسته(4).

ومستندهم في المنع على ما نُسب إليهم موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام، قَالَ:

«سُئِلَ عَمَّا تَشْرَبُ مِنْهُ الْحَمَامَةُ؟ فَقَالَ كُلُّ مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَتَوَضَّأْ مِنْ سُؤْرِهِ واشْرَبَ... الخ»(5).

ومرسل الوشّاء عنه عليه السلام: «أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ سُؤْرَ كُلِّ شَيْ ءٍ لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ»(6).

وموثّق سماعة، قَالَ: «سَأَلْتُهُ هَلْ يُشْرَبُ سُؤْرُ شَيْ ءٍ مِنَ الدَّوَابِّ ويُتَوَضَّأُ مِنْهُ؟ قَالَ: أَمَّا الابِلُ والْبَقَرُ والْغَنَمُ فَلا بَأْس»(7).

أقول: ولكن يرد على الجميع:5.

ص: 117


1- المبسوط: ج 1/10.
2- السرائر: ج 1/85.
3- المهذّب: ج 1/25.
4- المصدر السابق قوله: (وغير مأكول اللّحم فما أمكن التحرّز منه سؤره نجس).
5- الكافي: ج 3/9، وسائل الشيعة: ج 1/230 ح 590.
6- الكافي: ج 3/10، وسائل الشيعة: ج 1/232 ح 594.
7- الكافي: ج 3/9، التهذيب: ج 1/227، ولم يذكر فيها الغنم. وسائل الشيعة: ج 1/232 ح 595.

أوّلاً: أنّ الأوّل(1) دلالته تتوقّف على حجيّة مفهوم الوصف، ولا نقول بها، وتصدر الخبر بالفاء لا يجعله كالشرط، فإنّه إنّما يدلّ على كونه معلولاً لما قبله، بخلاف بقيّة الجمل الخبريّة الخالية عنها، حيث أنّها تدلّ على أنّ الخبر عارض لمبتدأه.

وأمّا كلمة (يكره) في الخبر الثاني(2) أعمٌّ من الحرمة.

كما أنّ الحصر في الخبر الثالث(3) لا يمكن الأخذ به، للزوم تخصيص الأكثر، فلابدَّ من حمله على الإضافي، مع أنّ ثبوت البأس أعمّ من الحرمة.

ثانياً: أنّه لو سُلّم دلالتها، فهي معارضة بصحيح أبي العبّاس المتقدّم، وهو مقدّمٌ لوجوه لا تخفى.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرناه من طهارة سؤر طاهر العين بين الجلّال وغيره كما هو المشهور لعموم نصوص الطهارة.

وعن جماعة(4) منهم الشيخ قدس سره(5): المنع من سؤره.

واستدلّ له: بعدم خلوّ لعابه عن النجاسة، وبأنّه إنّما نشأ من النجاسة.

ويرد على الأوّل: أنّ الكلام إنّما هو في صورة الخلوّ.

ويرد على الثاني: أنّه لا يحكم بنجاسة ما يكون منها بعد الاستحالة.0.

ص: 118


1- وهو موثّقة عمّار السابقة.
2- مرسل الوشّاء.
3- موثّق سماعة.
4- نسب العلّامة هذا القول - المنع من سؤر الجلّال - في المختلف: ج 1/229 إلى ابن الجنيد.
5- المبسوط: ج 1/10.
سؤر حرام اللَّحم

مسألة: يُكره سؤر حرام اللّحم لمرسل الوشّاء، وموثّق سماعة المتقدّمين، عدا سؤر الإنسان المؤمن والهرَّة.

أمّا الأوّل: فتشهد له نصوص كثيرة، ففي بعضها:

«إنّ سؤره شفاءٌ من سبعين داء»(1).

وفي آخر: «يستحبّ التبرّك به»(2).

وأمّا الثاني: فيدلّ عليه صحيح زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عليه السلام إِنَّ الْهِرَّ سَبُعٌ ولا بَأْسَ بِسُؤْرِهِ، وإِنِّي لاسْتَحْيِي مِنَ اللّهِ أَنْ أَدَعَ طَعَاماً لأنَّ الْهِرَّ أَكَلَ مِنْهُ»(3).

وهذا صريحٌ في عدم الكراهة، إذ لو كان مكروهاً لم يكن مجالٌ لقوله عليه السلام: (وإِنِّي لاسْتَحْيِي... الخ)، كما لا يخفى، وبه يُقيّد إطلاق ما يدلّ على كراهة سؤر محرّم الأكل.

أمّا مكروه اللّحم كالخيل: فإنّ المشهور(4) كراهة سؤر البغال والحمير.

وعن المدارك(5): ألحق بهما الدّواب، لكراهة لحم الجميع، ونحن نطالبهم بإثبات الكبرى.

ص: 119


1- وسائل الشيعة: ج 25/263 ح 31867، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: «فِي سُؤْرِ الْمُؤْمِنِ شِفَاءٌ مِنْ سَبْعِينَ دَاءً» ثواب الأعمال: ص 151.
2- ورد ما يشير إلى ذلك في رواية من كتب العامّة في صحيح ابن حبان: ج 2/317.
3- الكافي: ج 3/9 وعبارته: (فلا بأس بسؤره) وسائل الشيعة: ج 1/227 ح 580.
4- المبسوط: ج 1/10، كفاية الطالب ص 11، جواهر الكلام: ج 1/381.
5- مدارك الأحكام: ج 1/136.

أقول: يمكن الاستدلال له بموثّق سماعة المتقدّم كما لا يخفى.

واستدلّ له أيضاً: بمرسل الوشّاء المتقدّم، بدعوى إرادة الأعمّ ممّا لايتعارف أكله.

وفيه: أنّ الظاهر ممّا لا يؤكل لحمه في لسان الشارع، هو ما يَحرم أكل لحمه كما يظهر لمن راجع موارد استعمال هذه الجملة.

وكذا يكره سؤر الحائض المتّهمة، كما عن الأكثر(1).

وعن بعضهم(2): تقييدها بالّتي لا تؤمَن على المحافظة عن مباشرة النجاسة.

أقول: والظاهر أنّ مراد الجميع واحد، إذ مرادهم ليس غير المأمونة والمتّهمة عند غيرها، بل المراد به المرأة التي تكون كذلك في الواقع.

وعليه، فغير المأمونة واقعاً، هي المتّهمة كذلك، فإحداهما مرادفة للاُخرى، وبذلك يندفع الاعتراض بأنّ المتّهمة أخصّ من التي لا تؤمَن، لشمول الثانية للمجهول حالها دون الأوّل.

وعن الشيخ(3)، والسيّد المرتضى: كراهة سؤر الحائض مطلقاً(4).

والتحقيق: الأخبار الواردة في الباب طوائف ثلاث:

الطائفة الاُولى: ما تدلّ على كراهة سؤرها مطلقاً، كرواية عنبسة، عَنْ أَبِيح.

ص: 120


1- كابن حمزة في الوسيلة ص 76، والعلّامة في التذكرة: ج 1/43، وابنه في الإيضاح: ج 1/18، والشهيد الأوّل في الألفيّة والنفليّة ص 100، والمحقّق الثاني في رسائل الكركي: ج 2/237.
2- كما في جواهر الكلام: ج 1/377، ونسبه إلى الظاهر من عبارة السرائر.
3- المبسوط: ج 1/10 قال: (ويكره سؤر الحائض)، ولكنّه في النهاية ص 4 قيّدها بقوله: (إن كانت متّهمة).
4- نسبه إليه المحقّق الحلّي في المعتبر: ج 1/99 حيث قال: (الفرع الخامس: قال في المبسوط: يكره سؤر الحائض وأطلق)، وكذا قال علم الهدى رضى الله عنه في المصباح.

عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «اشْرَبْ مِنْ سُؤْرِ الْحَائِضِ ولا تَتَوَضّأ مِنْهُ»(1).

الطائفة الثانية: ما تدلّ على كراهته مقيّداً بما إذا لم تكن مأمونة، كموثّق ابن يقطين، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام:

«فِي الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِ الْحَائِضِ؟ قَالَ: إذا كَانَتْ مَأْمُونَةً فَلا بَأْسَ»(2).

ونحوه غيره.

ومقتضى الجمع بينهما، تقييد إطلاق الأُولى بمفهوم الثانية، والجمع بحمل الثانية على الكراهة الشديدة، وإبقاء إطلاق الاُولى ينافي ظهور الثانية في إرادة نفي البأس بقول مطلق.

الطائفة الثالثة: ما تكون كالصريح في الإطلاق: كصحيحة العيص، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ سُؤْرِ الْحَائِضِ؟ فَقَالَ: لا تَتَوَضَّأْ مِنْهُ وتَوَضَّأْ مِنْ سُؤْرِ الْجُنُبِ إذا كَانَتْ مَأْمُونَةً...»(3).

فإنّ التفصيل بين الحائض والجُنُب، وتقييد الجُنُب بما إذا كانت مأمونة، قاطعٌ للشركة، فهي آبية عن التقييد.

وما عن «التهذيب»(4) و «الاستبصار»(5) من إسقاط كلمة (لا) من صدر الجواب، فيكون قوله عليه السلام: «إذا كَانَتْ مَأْمُونَةً» قيداً للجنب والحائض.خ.

ص: 121


1- الكافي: ج 3/10، وسائل الشيعة: ج 1/236 ح 606.
2- الاستبصار: ج 1/17، وسائل الشيعة: ج 1/237 ح 610.
3- الكافي: ج 3/10، وسائل الشيعة: ج 1/234 ح 600.
4- التهذيب: ج 1/222، عن عِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ سُؤْرِ الْحَائِضِ؟ قَالَ: يُتَوَضَّأُ مِنْهُوتَوَضَّأْ مِنْ سُؤْرِ الْجُنُبِ إِذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً وتَغْسِلُ يَدَهَا قَبْلَ أَنْ تُدْخِلَهَا الإنَاءَ..» الخ.
5- الاستبصار: ج 1/17، «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ سُؤْرِ الْحَائِضِ؟ قَالَ: تَوَضَّأْ بِهِ...» الخ.

لا يعارضها، إذ مضافاً إلى أنّه لو دار الأمر بين الزيادة والنقيصة، يتعيّن الالتزام بالثانية، ومضافاً إلى أنّ الكليني رحمه الله أضبط من الشيخ، فإسقاطها لا يناسب أفراد القيد.

وعلى هذا، فلا يمكن الجمع بين هذه الطوائف، إلّابإرجاع القيد إلى الكراهة الشديدة، والالتزام بأنّ حدث الحيض في نفسه موجبٌ لمرتبة من الكراهة، وكونها غير مأمونة موجبٌ آخر، فإذا اجتمعا تشتدّ الكراهة، وعليه فيعمّ الحكم لمطلق المتّهم.

ويؤيّده: الأمر بالاجتناب عن سؤر الجنب، إذا لم تكن مأمونة.

والنتيجة: ما التزم به الشيخ رحمه الله والسيّد من كراهة سؤر الحائض مطلقاً هو الصحيح.

أقول: ثمّ إنّ ظاهر النهي وإنْ كان هو الحرمة، إلّاأنّه في المقام يُحمل على الكراهة، لأنّ الموجب للنهي:

إنْ كان هو الحدث، فلمفهوم موثّق ابن يقطين(1) الدالّ على جواز الوضوء به.

وإنْ كان هو كونها غير مأمونة ومتّهمة؛ فلأنّه لو كان سؤرها لهذه الجهة حراماً، يكون لأجل النجاسة.

ومِنْ أمره عليه السلام بالشرب منه في الأخبار، يستفاد عدم نجاسته، ولعلّه لذلك لم يتوقّف فقيهٌ في حمل النهي في المقام على الكراهة.

وأخيراً: إنّ مقتضى خبر عنبسة المتقدّم وغيره، عدم كراهة شرب سؤرها،0.

ص: 122


1- الاستبصار: ج 1/17، وسائل الشيعة: ج 1/237 ح 610.

فالتعميم لغير الوضوء محلّ إشكال.

نعم، عن الوحيد البهبهاني(1): أنّ الاقتصار على الوضوء لم يقل به فقيه، ولهذا الإجماع المنقول، وتعليق الحكم على الأمانة التي يستفاد منها التعميم، فلابأس بالالتزام به، لاسيّما بناءً على قاعدة التسامح، فتأمّل فإنّ القاعدة مختصّة بالمستحبّات.

***).

ص: 123


1- نسب هذا القول إلى الوحيد البهبهاني السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 1/346 حيث قال: (وقال الاُستاذ: إنّ الاقتصار على الوضوء لم يقُل به فقيه).
بحث عن حجيّة البيِّنة

تذنيبان:

التذنيب الأوّل: في بيان ما تثبت به النجاسة، وهي اُمور:

الأمر الأوّل: العلم، والوجه في ثبوتها به واضح لا يحتاج إلى بيان.

الأمر الثاني: البيِّنة، وثبوتها بها هو المشهور بين الأصحاب، وعن «الجواهر»(1): ينبغي القطع به.

ويدلّ عليه: عموم ما دلّ على حجيّة البيِّنة، وخصوص خبر ابن سليمان(2).

أمّا الدليل الأوّل: فهو الإجماع المنقول، والاستقراء، وموثّقة مَسْعَدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«سمعته يقول: كلّ شَيء هُو لَكَ حلالٌ حَتّى تَعلَم أنّه حرام بعينه فتدَعَه مِنْ قِبل نفسك، وذلك مثّل الثّوب يكونُ عَلَيك قد اشتريَتَه وهو سرقة، والمَمْلُوك عندك ولعلّه حُرٌّ قد باع نفسه، أو خُدِعَ فبيع قهراً، أو امرأةٌ تَحتَك وهي أُختُك أو رضيعتُك، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيِّنة»(3).

أقول: وذكر البيِّنة عِدْلاً للاستبانة، شاهدٌ على أنّ المراد منها معناها المصطلح لا اللّغوي، وحيث أنّها جُعلت في الحديث غايةً لحليّة كلّ شيء - ولو كانت فيه مستندة إلى اليد أو الاستصحاب - فلا محالة يدلّ الحديث على حجيّتها بقول مطلق.

ودعوى: أنّها إنّما جُعلت حجّةً على الحرمة، وهو لا يقتضي حجيّتها على الموضوع، فضلاً عن عموم الحجيّة، لما لم يكن مورداً للحِلّ والحرمة من موضوعات سائر الأحكام.

ص: 124


1- جواهر الكلام ج 6 ص 172 قوله: (وينبغي القطع بقبول البيِّنة).
2- كما سيأتي قريباً.
3- الكافي: ج 5/313، التهذيب: ج 7/226، وسائل الشيعة: ج 17 ص 89 ح 22053.

مندفعة: بأنّه بما أنّ مورد الحديث هو الشبهات الموضوعيّة، فيكون المجعول هو حجيّة البيِّنة على الموضوع.

مضافاً إلى أنّه لو سُلّم أنّه يدلّ على كونها حجّة على الحرمة، يكون مقتضى إطلاقه حجيّتها أعمّ من قيامها عليها بالمطابقة أو بالالتزام بشهادتها بالموضوع الخارجي اللّازمة له الحرمة، فلا يختصّ بما إذا شهدت البيِّنة بالحرمة لا غير.

فإن قلت: إنّ مقتضى الحديث حجيّة البيِّنة عند قيامها بموضوعٍ يترتّب عليه الحرمة، ولا يدلّ على حجيّتها حتّى فيما إذا قامت على موضوعٍ لا يترتّب عليه الحرمة.

قلت: يتعدّى عنه إليه، لعدم التفكيك عرفاً بين الموردين، ولعدم الفصل القطعي كما هو واضح، إذ لا يحتمل كونها حجّة فيما إذا كان موردها ممّا ترتّب عليه الحرمة، ولا يكون حجّة في غير ذلك، مع ندرته جدّاً كما لا يخفى.

وأمّا الدليل الثاني: فهو خبر عبد اللّه بن سليمان، المرويّ عن «الكافي» و «التهذيب» عن الإمام الصادق عليه السلام:

«فِي الْجُبُنِّ، قَالَ: كُلُّ شَيْ ءٍ لَكَ حَلالٌ حَتَّى يَجِيئَكَ شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عِنْدَكَ أَنَّ فِيهِ مَيْتَةً»(1).

وتقريب الاستدلال به: أنّه وإنْ كان مورده ثبوت النجاسة بتبع ثبوت الحرمة، إلّاأنّه يتعدّى عنه من جهة ظهوره في أنّ ذكر الميتة فيه من باب المثال.

وما عن ابن البرّاج(2) من إنكار ثبوت النجاسة بالبيِّنة، محتجّاً بأنّ البيِّنة).

ص: 125


1- الكافي: ج 6/339، وسائل الشيعة: ج 25 ص 118 ح 31377 وفيها: (.. يشهدان أنّ فيه ميتة).
2- المهذّب: ج 1/30 قوله: (وإذا وجد ماء فأعلمه غيره بأنّه نجس، لم يلزمه القبول منه، وجاز استعماله، لأنّ الماءعلى أصل الطهارة ما لم يعلم ملاقاة شيء من النجاسات له).

لاتفيد إلّاالظنّ، والطهارة معلومة بالأصل، فلا يترك المعلوم لأجل المظنون.

ضعيفٌ، لأنّ البيِّنة إذا كانت حجّة تقدّم على الأصل، كما حُقّق في محلّه.

والروايات(1) الدالّة على أنّ: (كلّ شيء طاهرٌ حتّى يُعلم قذارته)، لا تدلّ على عدم حجيّتها، لما حقّقناه في محلّه من قيام الطرق والأمارات مقام القطع ولو كان مأخوذاً في الموضوع.

خبر الواحد

الأمر الثالث: خبر العدل الواحد، بل الثقة، كما نُسب إلى جملةٍ من المحقّقين(2)، وعن المشهور(3): عدم ثبوت النجاسة به.

ويشهد للمختار(4): عموم مفهوم آية النبأ(5)، واستقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على أخبار الثقات فيما يتعلّق بمعاشهم ومعادهم، والمتشرّعة على أخذ معالم دينهم عن الثقات، ولم يرد من الشارع رَدعٌ عن ذلك.

وما ذكره بعض الأعاظم من المعاصرين(6): (من أنّ مفهوم آية النبأ لو سُلّم،

ص: 126


1- يوجد عدد من الروايات في وسائل الشيعة: ج 3/465.
2- منهم السيّد الخوئي في تعليقته على العروة الوثقى حيث قال: (الأظهر ثبوتها به، بل لا يبعد ثبوتها بمطلق قول الثقة وإنْ لم يكن عدلاً) العروة الوثقى: ج 1/98، وذكر أيضاً: (الأظهر ثبوت النجاسة بقول العدل الواحد بل بمطلق الثقة). وكذلك كاشف الغطاء حيث قال: (الأقوى الاكتفاء). والفيروزآبادي قال: (الأقوى الثبوت به). والخوانساري، قال: (الظاهر عدم الإشكال فيه مع حصول الوثوق والاطمئنان) نفس المصدر: ج 1/155.
3- قال السيّد اليزدي: (في كفاية العدل الواحد إشكال). وقال السيّد الحكيم: (إشكالٌ قويّ). والجواهري، قال: (الأقوى عدم الثبوت به). والميرزا الشيرازي: (بل الأقوى عدم ثبوت النجاسة بقوله) (العروة الوثقى: ج 1/155).
4- وهو ثبوت النجاسة بخبر العدل الواحد، بل وحتّى الثقة.
5- سورة الحجرات: الآية 6.
6- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/206.

فيتعارض مع الحصر في رواية مسعدة(1)، ورفع اليد عن المفهوم أولى من تخصيص الرواية، كما لا يخفى، وهي بالنسبة إلى بناء العقلاء رادعة واردة لا معارضة).

ضعيفٌ: إذ عدم حجيّة خبر الواحد في مورد الموثّقة، ممّا تكون الحليّة فيه مستندة إلى اليد أو الاستصحاب، لا يلازم عدم حجّيته فيما لا معارض له.

وبعبارة أُخرى: أنّه في أمثال مورد الرواية ممّا كان ظاهر قول أو فعل مستلزماً للطهارة، نلتزم بعدم حجّيته في نفسه، مع قطع النظر عن هذا الخبر، لأنّه فيه يكون من قبيل الشهادة، فيعتبر فيه التعدّد، وهذا بخلاف ما هو محلّ الكلام، وهو ما لا يعارضه ذلك.

وجملة من الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة:

مثل ما ورد في خبر هشام من ثبوت عزل الوكالة به(2).

وخبر إسحاق(3) الدالّ على ثبوت الوصيّة بخبر الثقة.

وأيضاً ما دلّ على جواز وطي الأمَة، إذا كان البائع عادلاً، قد أخبر بالاستبراء(4). فتأمّل.

ص: 127


1- الكافي: ج 5/313، التهذيب: ج 7/226، وسائل الشيعة: ج 17/89 ح 22053.
2- التهذيب: ج 6/213، الفقيه: ج 3/86، وسائل الشيعة: ج 19/162 ح 24368، ونصّ الرواية: عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: «فِي رَجُلٍ وَكَّلَ آخَرَ عَلَى وَكَالَةٍ فِي أَمْرٍ مِنَ الاُمُورِ، وأَشْهَدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدَيْنِ، فَقَامَ الْوَكِيلُ فَخَرَجَ لامْضَاءِ الامْر، ِ فَقَالَ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ عَزَلْتُ فُلاناً عَنِ الْوَكَالَةِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْوَكِيلُ أَمْضَى الامْرَ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ قَبْلَ الْعَزْلِ، فَإِنَّ الامْرَ وَاقِعٌ مَاضٍ عَلَى مَا أَمْضَاهُ الْوَكِيلُ، كَرِهَ الْمُوَكِّلُ أَمْ رَضِيَ، قُلْتُ: فَإِنَّ الْوَكِيلَ أَمْضَى الامْرَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَزْلَ أَوْ يَبْلُغَهُ أَنَّهُ قَدْ عُزِلَ عَنِ الْوَكَالَةِ، فَالامْرُ عَلَى مَا أَمْضَاهُ؟ قَالَ نَعَمْ، قُلْتُ لَهُ: فَإِنْ بَلَغَهُ الْعَزْلُ قَبْلَ أَنْ يُمْضِيَ الامْرَ ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى أَمْضَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِشَيْ ءٍ؟ قَالَ نَعَمْ، إِنَّ الْوَكِيلَ إِذَا وُكِّلَ ثُمَّ قَامَ عَنِ الْمَجْلِسِ فَأَمْرُهُ مَاضٍ أَبَداً، والْوَكَالَةُ ثَابِتَةٌ حَتَّى يَبْلُغَهُ الْعَزْلُ عَنِ الْوَكَالَةِ بِثَِقةٍ يُبَلِّغُهُ أَوْ يُشَافَهُ بِالْعَزْلِ عَنِ الْوَكَالَةِ».
3- الكافي ج 7 ص 64 / التهذيب ج 9 ص 237 / وسائل الشيعة: ج 19 ص 433 ح 24894.
4- كما في حديث حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: «فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الأمَةَ مِنْ رَجُلٍ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَطَأْهَا؟ فَقَالَ: إِنْ وَثِقَ بِهِ فَلا بَأْسَ بِأَنْ يَأْتِيَهَا» الكافي: ج 5/472، وسائل الشيعة: ج 18/260.

وكذلك الأخبار(1) الدالّة على ثبوت الوقت بأذان الثقة العارف بالوقت، إلى غير ذلك ممّا ورد في الأبواب المتفرّقة، إذ يستفاد منها أنّ العمل به كان مغروساً في الأذهان ماضياً في الدين.

***

إخبار ذي اليد

الأمر الرابع: قول ذي اليد كما هو المنسوب إلى المشهور(2)، وعن «الحدائق»(3):

أنّ ظاهر الأصحاب الاتّفاق عليه.

ويشهد له: السيرة القطعيّة، واستقراء موارد قبول أخبار ذي اليد بما هو أعظم من ذلك، فإنّه يستفاد منها أنّ حجّيته كانت أمراً مفروغاً عنه، مسلّماً عندهم، ففي صحيح معاوية بن عمّار، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ يَأْتِينِي بِالْبُخْتُجِ(4)ويَقُولُ قَدْ طُبِخَ عَلَى الثُّلُثِ، وأَنَا أَعْرِفُ أَنَّهُ يَشْرَبُهُ عَلَى النِّصْفِ، أفَأَشْرَبُهُ بِقَوْلِهِ، وهُوَ يَشْرَبُهُ عَلَى النِّصْفِ؟ فَقَالَ: لا تَشْرَبْهُ، قُلْتُ: فَرَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مِمَّنْ لا نعْرِفُهُ يَشْرَبُهُ عَلَى الثُّلُثِ ولا يَسْتَحِلُّهُ عَلَى النِّصْفِ، يُخْبِرُنَا أَنَّ عِنْدَهُ بُخْتُجاً عَلَى الثُّلُثِ، قَدْ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وبَقِيَ ثُلُثُهُ يَشْرَبُ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ»(5).

ص: 128


1- الكافي: ج 3/284، الفقيه: ج 1/223، وسائل الشيعة: ج 4/171.
2- نسبه إلى المشهور المحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد: ج 1/138.
3- الحدائق الناضرة: ج 5/250 قوله: (ظاهر الأصحاب الاتّفاق على قبول قول المالك في طهارة ثوبه وإناءه ونحوهما ونجاستهما).
4- البُختَج: العصيرالمطبوخ، وأصله بالفارسيّة (مي پُخته) أي عصير مطبوخ (لسان العرب، مادّة بختج: ج 2/211).
5- الكافي: ج 6/421 ح 7، وسائل الشيعة: ج 25/293 ح 31940.

وصريحه عدم اعتبار الورع والايمان، وحيث أنّ التفكيك بينهما وبين الإسلام بعيدٌ، فهو أيضاً لا يعتبر.

وما في بعض أخبار الجُبنّ(1) من نهيه عليه السلام خادمه عند شرائه جُبنّاً عن السؤال، إذ لولا قبول أخباره لم يكن وجه للنهي.

وخبر عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ أَعَارَ رَجُلا ثَوْباً فَصَلَّى فِيهِ، وهُوَ لا يُصَلَّى فِيهِ؟ قَالَ لا يُعْلِمُهُ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ أَعْلَمَهُ؟ قَالَ: يُعِيدُ»(2).

وممّا يستدلّ له أيضاً الموارد التالية:

1 - الروايات الواردة في القصّارين والجزّارين.

2 - الأخبار الواردة في الجارية المأمورة بتطهير ثوب سيّدها(3).

3 - ما ورد في أنّ الحجّام(4) مؤتمنٌ في تطهيره موضع الحجامة.

4 - والمستفيضة(5) الواردة في أنّ من أقرّ بعينٍ في يده لغيره فهي له، وليس ذلك إلّالحجيّة قوله لا من باب حجيّة الإقرار، لأنّه يختصّ بما إذا كان على نفسه فلا تثبت ملكيّة غيره..

والإنصاف: أنّ التتبّع في الأبواب المتفرّقة يوجب القطع بحجيّة قول ذي اليد، فما8.

ص: 129


1- كما في رواية بَكْرِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: «سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْجُبُنِّ وأَنَّهُ تُوضَعُ فِيهِ الانْفَحَةُ مِنَ الْمَيْتَةِ؟ قَالَ: لاتَصْلُحُ ثُمَّ أَرْسَلَ بِدِرهَمٍ فَقَالَ: اشْتَرِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ولا تَسْأَلْهُ عَنْ شَيْ ءٍْ». (وسائل الشيعة: ج 25/118 ح 31379)، وفي المحاسن: ج 2/495 بزيادة: اشتر (بدرهم) من رجلٍ مسلم... الخ.
2- وسائل الشيعة: ج 3/488 ح 4254، قرب الاسناد ص 169 وفيه قوله عليه السلام: (فلا يعلمه) بدل (لا يعلمه ذلك).
3- ونص الرواية كما في الكافي: ج 3/53: عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُيَسِّرٍ، قَالَ: «قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: آمُرُ الْجَارِيَةَ فَتَغْسِلُ ثَوْبِي مِنَ الْمَنِيِّ، فَلا تُبَالِغُ فِي غَسْلِهِ، فَأُصَلِّي فِيهِ، فَإِذَا هُوَ يَابِسٌ؟ قَالَ: أَعِدْ صَلاتَكَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ غَسَلْتَ أَنْتَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْ ءٌ»، التهذيب: ج 1/252، وسائل الشيعة: ج 3/428 ح 4067.
4- وسائل الشيعة: ج 3/499 ح 4282.
5- اُشير إلى ذلك في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/208.

عن بعضٍ(1) التشكيك فيه في غير محلّه.

***0.

ص: 130


1- ذكر السيّد الحكيم أنّه: (لا يبعد كون المستفاد من هذه النصوص حجيّة قول ذي اليد إذا لم يكن ما يوجب اتّهامه، ولكن موردها خصوص الإخبار بالتطهير) مستمسك العروة الوثقى: ج 1/280.
البحث عن حكم الظنون

فروع:

الفرع الأوّل

لا تثبت النجاسة بالظنّ كما هو المشهور(1)، وعن ظاهر النهاية وصريح الحلبي(2): الاكتفاء به.

أقول: واستدلّ له بثلاث أدلّة:

الدليل الأوّل: ابتناء أكثر الأحكام الشرعيّة على الظنون.

الدليل الثاني: عدم جواز ترجيح المرجوح على الراجح.

الدليل الثالث: ما ورد من غَسل الثوب المأخوذ من يد الكافر.

وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلمنعه، لأنّ أكثر الأحكام مبنيّة على الظنون الخاصّة، لا مطلق الظنّ.

وأمّا الثاني: فلأنّ الحكم بالطهارة لحجّةٍ شرعيّة من أصلٍ أو استصحاب لا يكون ترجيحاً للمرجوح.

وأمّا الثالث: فلمعارضته بما يدلّ على جواز الصلاة فيما يكون عمل الكافر.

ويشهد لعدم حجّيته - مضافاً إلى أنّه ممّا يقتضيه الأصل - الروايات الواردة

ص: 131


1- نقل المحقّق الكركي عن ابن البرّاج أنّه قال: (لا تثبت النجاسة بالظنّ مطلقاً) (جامع المقاصد: ج 1/153). ولكن لم نقف على هذا النصّ في كتابه «جواهر الفقه» المطبوع.
2- أبو الصلاح الحلبي، تقيّ بن نجم، وقد نقل عنه في جامع المقاصد أنّه قال: (تثبت النجاسة بكلّ ظنٍّ لأنّ الظنّ مناط الشرعيّات). (جامع المقاصد: ج 1/153).

في إعارة الثوب لليهودي والنصراني(1)، وما ورد في الجُبُنّ والفأرة المتسلّخة في الماء(2) وغير ذلك من الموارد المتفرّقة.

***

الفرع الثاني: إذا أخبر ذو اليد بنجاسته، وقامت البيِّنة على الطهارة، قُدِّمت البيِّنة على الإخبار، وذلك:

أوّلاً: لموثّقة مسعدة المتقدّمة، الدالّة على حجيّة البيِّنة في مقابل اليد، وما دلَّ على القضاء بالبيِّنة في مقابل دعوى ذي اليد الملكيّة.

وثانياً: قصور دليل حجيّة قوله عن شمول مورد التعارض، كما لا يخفى.

نعم، لو كانت البيِّنة مستندة إلى الأصل، يُقدَّم قول ذي اليد لتقدّمه على الأصل.

***».

ص: 132


1- وسائل الشيعة: ج 3/521 ح 4348: «عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَأَلَ أَبِي أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وأَنَا حَاضِرٌ، إِنِّي أُعِيرُالذِّمِّيَّ ثَوْبِي وأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ويَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، فَيَرُدُّهُ عَلَيَّ فَأَغْسِلُهُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِاللّهِ عليه السلام: صَلِّ فِيهِ ولا تَغْسِلْهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ أَعَرْتَهُ إِيَّاهُ وهُوَ طَاهِرٌ، ولَمْ تَسْتَيْقِنْ أَنَّهُ نَجَّسَهُ، فَلا بَأْسَ أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ حَتَّى تَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ نَجَّسَهُ..».
2- وسائل الشيعة: ج 1/142 ح 350: «سأل اباعبدالله عَنْ رَجُلٍ يَجِدُ فِي إِنَائِهِ فَأْرَةً وقَدْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الانَاءِ مِرَاراً أَوِ اغْتَسَلَ مِنْهُ أَوْ غَسَلَ ثِيَابَهُ، وقَدْ كَانَتِ الْفَأْرَةُ مُتَسَلِّخَةً؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَآهَا فِي الانَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَوْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا رَآهَا فِي الانَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ ويَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ ويُعِيدَ الْوُضُوءَ والصَّلاةَ...».
تعارض البيّنتين

الفرع الثالث: إذا تعارضت البيّنتان تساقطتا، لأنّه الأصل في تعارض الأمارتين فيما لا يمكن التخيير في المسألة الفرعيّة، كما في المقام.

وما دلّ على الترجيح أو التخيير، يختصّ بالأخبار الدالّة على الأحكام، ولا يعمّ الحاكية عن الموضوعات الخارجيّة.

وما دلّ على الترجيح في البيّنتين المتعارضتين(1) من الأكثريّة و غيرها، إنّما يختصّ بالمعارضة عند القاضي في مقام المرافعة، والتعدّي يحتاج إلى دليل، والدليل مفقودٌ.

هذا فيما إذا كان مستند كلتا البيّنتين العلم.

وإنْ كان مستند إحداهما العلم والاُخرى الاستصحاب:

فإنْ كانت كلّ واحدةٍ منهما مكذّبة للاُخرى - كما إذا كانت بيّنة الطهارة المستندة إلى العلم مثلاً حاكية عن عدم تحقّق النجاسة ولو سابقاً - فتتساقطان.

وإلّا فيؤخذ بما تكون مستندةً إلى العلم، كما لو أخبرت بيّنة الطهارة في الفرض بحصول الطهارة بعد تحقّق النجاسة، ولو على فرض تحقّقها، فإنّها تقدّم على بيّنة النجاسة المستندة إلى الاستصحاب، لأنّه لا تعارض بينهما فيعمل بهما معاً.

أقول: وبذلك ظهر ضعف ما ذكره بعض أعاظم العصر(2) من تقديم البيِّنة المستندة إلى العلم مطلقاً، مستدلّاً له بأنّها تقدّم على الأصل الذي هو مستند الاُخرى، فتبطل هي لبطلان مستندها.

***

ص: 133


1- وسائل الشيعة: ج 27 ص 249 باب حكم تعارض البيّنتين وما ترجّح به إحداهما وما يحكم به عندفقد الترجيح.
2- كما هو الظاهر من مستمسك العروة الوثقى: ج 14/426.
في اعتبار علم الوسواسي وعدمه

الفرع الرابع: لا اعتبار بعلم الوسواسي في الطهارة والنجاسة كما هو المشهور، والمراد من عدم اعتبار علمه بالطهارة، ليس أنّه لو حصل له العلم بها لا يعتني به، بل المراد أنّه لا يجب تحصيله فيما يشترط فيه الطهارة.

ويشهد لعدم اعتباره: - مضافاً إلى عدم الخلاف فيه - جملة من النصوص:

كصحيح ابن سنان، قَالَ: «ذَكَرْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام رَجُلا مُبْتَلًى بِالْوُضُوءِ والصَّلاةِ، وقُلْتُ هُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: وأَيُّ عَقْلٍ لَهُ وهُوَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ!.

فَقُلْتُ لَهُ: وكَيْفَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ؟ فَقَالَ: سَلْهُ هَذَا الَّذِي يَأْتِيهِ مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ هُوَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان»(1). ونحوه غيره.

وأمّا علمه بالنجاسة: فبالنسبة إلى عمل غيره لا يكون حجّة، لإنصراف أدلّة حجيّة خبر الواحد أو البيِّنة عن مثل ذلك.

وأمّا بالنسبة إلى عمل نفسه، فيمكن أنْ يستدلّ لعدم الاعتبار به بالصحيح المتقدّم، فتأمّل فإنّ الظاهر منه إرادة صورة الشكّ لا العلم.

واستدلّ له: بقوله عليه السلام: «... ثُمَّ قَالَ لا تُعَوِّدُوا الْخَبِيثَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ نَقْضَ الصَّلاةِ فَتُطْمِعُوهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ خَبِيثٌ مُعْتَادٌ لِمَا عُوِّدَ، فَلْيَمْضِ أَحَدُكُمْ فِي الْوَهْمِ ولا يُكْثِرَنَّ نَقْضَ الصَّلاةِ...»(2).

وفيه: أنّه وارد في مورد عدم الاعتناء بالشكّ، لاحظ خبري زرارة وأبي

ص: 134


1- الكافي: ج 1/12، وسائل الشيعة: ج 1/63 ح 137.
2- التهذيب: ج 2/188، وسائل الشيعة: ج 8/228 ح 10496.

بصير(1) وغيرهما، فإذاً العمدة فيه ظهور الإجماع.

ودعوى: أنّ العلم حجّة عقلاً، لا يمكن الردع عنه.

مندفعة: بأنّه على فرض دلالة الدليل على عدم الاعتبار بعلمه، نلتزم بتبدّل الواقع عن حكمه، فلا يكون الواقع موضوعاً في حال الوسواس للحكم الذي يكون موضوعاً له في غير هذه الحال.

***6.

ص: 135


1- التهذيب: ج 2/188، وسائل الشيعة: ج 8/228 ح 10496.
ذكر السبب في الشهادة

الفرع الخامس: لا يعتبر في البيِّنة ذكر مستند الشهادة(1) كما هو المشهور.

وعن المصنّف في «التذكرة»(2) وأبي العبّاس(3) والصيمري(4): إنّها لا تُقبل إلّا بالسبب.

واستدلّ له المصنّف: بجواز أن يعتقد أنّ سؤر المسوخ نجس(5).

وأورد عليه بعض المعاصرين(6): بأنّ احتمال الخطأ في المستند ملغى بأصالة عدم الخطأ.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّ أصالة عدم الخطأ في الحدسيّات لا يعوّل عليها.

وأجاب: بأنّ أصالة عدم الخطأ في الحدس:

تارةً: يُرجع إليها لإثبات الواقع المجهول.

وأُخرى: يُرجع إليها بعد العلم بالواقع لإثبات أنّ ما يعتقده المُخبِر هو الواقع.

وهي لا تكون حجّة في الأوّل، وأمّا في الثاني فهي حجّة مطلقاً.

وفيه: أنّ بناء العقلاء على إتّباع شيء، لابدَّ وأن يكون لأجل كاشفيّته النوعيّة، وعليه التزموا بحجيّة الخبر إذا كان الإخبارُ عن حسٍّ، وعدمها إذا كان عن حدس، فإنّ الخبر الحسّي إذا صدر ممّن يوثق بقوله، ولم تكن آفة في حاسّته، يكون كاشفاً

ص: 136


1- العروة الوثقى: ج 1/157.
2- تذكرة الفقهاء: ج 1/93 قوله: (ولو شهدا بنجاسته لن يقبل إلّابالسبب).
3- هو الشيخ أبي العبّاس أحمد بن فهد الحلّي صاحب «المهذّب البارع».
4- هو الشيخ مفلح بن الحسن الصيمري تلميذ أبي العبّاس، وله «كتاب كشف الالتباس عن موجز أبي العبّاس». (الرسائل العشر لابن فهد الحلّي: ص 21).
5- المصدر السابق (تذكرة الفقهاء).
6- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/454.

نوعيّاً عن الواقع، فيكون بناء العقلاء على إتّباع خبره، وعدم الاعتناء باحتمال خطائه الواقعي في إحساسه، وأمّا إذا كان عن حدسٍ، فلا يكون لخبره كاشفيّة نوعيّة، لتوقّفها على تصويب حدسه ونظره، فلا يكون بناء العقلاء على إتّباع خبره.

أقول: وهذا هو المراد من حجيّة أصالة عدم الخطأ في الحسّ دون الحدس، ولا يفرّق في ذلك بين الموردين المذكورين في كلامه، إذ أنّ علم الشخص بالواقع لا يوجب كاشفيّة خبر غيره عن الواقع، فتدبّر فإنّه دقيق.

فالأقوى: ما اختاره المصنّف رحمه الله وهو أنّه لو احتمل أن يكون مستند المخبر بالنجاسة ما لا يكون سبباً لا يقبل خبره، ويكون حكمه حكم ما لو ذكر مستندها وعلم عدم صحّته.

***

الفرع السادس: إذا لم يشهدا بالنجاسة بل بموجبها كفى، إذ لا يعتبر في العمل بالحجّة كون مؤدّاها أثراً شرعيّاً، بل يكفي كونه ذا أثرٍ شرعي عند من قامت عنده الحجّة، فإذا شهدا بأنّ هذا الشيء لاقى عرق الجنب من الحرام، وكان المشهود عنده يرى نجاسة العرق، تكفي هذه الشهادة في الحكم في النجاسة.

***

ص: 137

ذكر الموجب في الشهادة
اشارة

الفرع السابع: إذا شهدا بالنجاسة و اختلف مستندهما، كفى في ثبوتها عند جماعة(1).

أقول: هنا صورتان:

الصورة الاُولى: يشهدان بواقعةٍ واحدةٍ شخصيّة، ويكون الاختلاف بينهما في الخصوصيّات والعناوين المنطبقة على ذلك الوجود الخاص، كما إذا اتّفقا على وقوع قطرة من ماء في الإناء الخاص أو في الإناء المعيّن، واختلفا في كونه البول أو الدم.

الصورة الثانية: يشهدان بواقعتين.

أمّا في الصورة الاُولى: فالصحيح ثبوت النجاسة بشهادتهما، إذ كلّ من الشاهدين يشهد بما يشهد به الآخر، ولا يعتبر في حجيّة البيِّنة غير ذلك.

وأمّا في الصورة الثانية: فلا تثبت، إذ كلّ من الشاهدين يشهد بغير ما يشهد به الآخر، وترتّب أثرٍ واحدٍ على تينك الواقعتين - وهو النجاسة - غير مفيدٍ، لعدم تعلّق الشهادة بها، هذا بناءً على عدم حجيّة الخبر الواحد، وإلّا فتثبت النجاسة في كلتا الصورتين كما لا يخفى(2)، من غير فرقٍ في ذلك بين نفي كلٍّ منهما قول الآخر وعدمه، لأنّه لو كان ما يشهد به كلٌّ منهما عين ما يشهد به الآخر، وكان الاختلاف في العناوين المنطبقة عليه، فتثبت النجاسة حتّى مع نفي كلٍّ منهما قول الآخر في انطباق ما يراه منطبقاً عليه، وإلّا فلا تثبت النجاسة حتّى في صورة عدم النفي، هذا بناءً على عدم حجيّة الخبر الواحد.

وأمّا بناءً عليها، فتثبت النجاسة في كلتا الصورتين، كما مرّ.

***

ص: 138


1- العروة الوثقى: ج 1/157.
2- إذ مع القول بحجيّة خبر الواحد تكون شهادة كلّ منهما تامّة فيحكم بالنجاسة.
القسم الأوّل من اختلاف شهادة الشاهدين

الفرع الثامن: لو شهد أحدهما بالإجمال، والآخر بالتعيين، كما إذا قال أحدهما:

(أحد هذين نجس)، وقال الآخر: (هذا معيناً نجس)، ففي المسألة وجوه:

الوجه الأوّل: وجوب الاجتناب عنهما(1).

واستدلّ له: بأنّ خصوصيّة التعيين لم تقم عليها البيِّنة، بخلاف ملاقاة أحدهما للنجس، فيثبت نجاسة أحدهما لا على التعيين، فيجب الاحتياط بالاجتناب عنهما.

الوجه الثاني: وجوب الاجتناب عن المعيّن(2).

واستدلّ له: بأنّ طرفه لم يقم حجّة على نجاسته، إذ الشهادة بالمردّد وإنْ كان لازمها الاجتناب عنه، إلّاأنّها واحدة، والشهادة بالمعين لا تقتضيه.

الوجه الثالث: عدم لزوم الاجتناب(3) عنهما، لعدم قيام البيِّنة لا على المعيّن، ولا على المردّد.

الوجه الرابع: ما اختاره بعض المعاصرين(4) وهو التفصيل:

بين أن تكون الشهادتان حاكيتين عن واقعتين.

وبين أن تكونا حاكيتين عن واقعة واحدة، ويكون أحد الشاهدين جاهلاً بالتعيين والآخر عالماً به.

واختار لزوم الاجتناب عنهما في الثاني، وعدم لزومه عن شيء منهما في الأوّل،

أقول: ولكن هذه الأقوال والوجوه كلّها ضعيفة.

ص: 139


1- قال به البروجردي والحائري. كما في العروة الوثقى: ج 1/159.
2- قال به النائيني في العروة الوثقى: ج 1/160.
3- قال به المحقّق العراقي والجواهري والشيرازي كما في العروة الوثقى: ج 1/161.
4- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/458.

وتحقيق القول في المقام: يقتضي أن يُقال إنّ هناك مبنيان:

المبنى الأوّل: أن نلتزم بحجيّة خبر العدل الواحد.

المبنى الثاني: أن نلتزم بعدمها.

أمّا على المبنى الأوّل(1): ففيه صورتان:

الصورة الاُولى: فيما إذا كانت الشهادتان حاكيتين عن واقعتين، فيتفرّع عن ذلك حالتان:

الحالة الاُولى: أن تكون الواقعتان متقارنتين.

الحالة الثانية: أن تكون إحداهما مقدّمة على الاُخرى.

والحالة الثانية(2): لها نموذجان:

النموذج الأوّل: أن تكون الواقعة التي يحكيها من يشهد بالمعيّن مقدّمة.

النموذج الثاني: عكس النموذج الأوّل، أي أن تكون الواقعة التي يحكيها من يشهد بالمعيّن مؤخّرة.

فتحصّل من ذلك: أنّ لدينا أربع صور في المقام، ولكلّ منها حكمه:

ففي الصورتين الأوليّتين:(3) يجب الاجتناب عن المعيّن دون طرفه، إذ الخبر الواحد لا يزيد على العلم، فكما أنّ العلم الإجمالي لا يوجب التنجّز إذا تنجّز التكليف في أحد طرفيه بمنجّزٍ آخر قبل العلم أو معه - كما حُقّق في محلّه -، فكذلك الخبر الواحد.

وأمّا في الصورة الثالثة(4): فيجب الاجتناب عنهما، إذ قيام المنجّز علىة.

ص: 140


1- الالتزام بحجيّة خبر العدل.
2- وهي فيما إذا كانت الشهادتان حاكيتين عن واقعتين إحداهما مقدّمة على الاُخرى.
3- أي إذا كانت الواقعتان مقارنتين، أو أنّ إحدى الواقعتين مقدّمة وهي المعيَّنة.
4- وهي كون الواقعة المشهود بها بالتعيين مؤخّرة.

خصوص أحد الطرفين، لا يوجب انحلال المنجّز السابق عليه، القائم على أحدهما لا بعينه، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محلّه.

وأمّا في الصورة الرابعة: أي إنْ كانت الشهادتان حاكيتين عن واقعةٍ واحدة، فيجب الاجتناب عن المعيّن فقط مطلقاً، ولا يخفى وجهه.

وأمّا على المبنى الثاني: وهو عدم حجيّة الخبر الواحد، ففيه صورتان:

الصورة الاُولى: إذا كانت الشهادتان حاكيتين عن واقعتين، فلا يجب الاجتناب عن شيء منهما، لعدم قيام الحجّة على شيء من الواقعتين.

الصورة الثانية: إنْ كانت الشهادتان حاكيتين عن واقعة واحدة، فيجب الاجتناب عنهما، لقيام الحجّة على إحداهما لا بعينها، ولم يثبت تعيّنها.

***

ص: 141

القسم الثاني من اختلاف شهادة الشاهدين

الفرع التاسع: لو شهد أحدهما بنجاسة الشيء فعلاً، والآخر بنجاسته سابقاً مع الجهل بحاله فعلاً:

أقول: لا إشكال في وجوب الاجتناب، بناءً على اعتبار قول العدل الواحد، كما لا يخفى.

وأمّا بناءً على الاحتياج إلى شهادة العدلين:

1 - فإنْ كانت الشهادتان حاكيتين عن واقعتين، فلا تثبت النجاسة، لأنّ كلّ واقعة لم تقم عليها حجّة.

2 - وإنْ كانتا حاكيتين عن واقعة واحدة، فتلك الواقعة قامت الحجّة عليها، فيترتّب عليها أثرها وهو النجاسة، وحيث أنّ في زمان تلك الواقعة يكون بين الشاهدين اختلافٌ، فلا تثبت في شيء من الزمانين بالخصوص، وإنّما تثبت النجاسة إمّا سابقاً أو فعلاً، وحيث أنّ من قامت عنده البيِّنة يحتمل ثبوت النجاسة سابقاً وارتفاعها، فيجري في حقه الاستصحاب ويحكم بالنجاسة فعلاً.

وتوهّم: عدم اليقين بالثبوت سابقاً، فلا يجري الاستصحاب.

ضعيفٌ: لكفاية اليقين الإجمالي.

ودعوى: أنّ اليقين الإجمالي لا يُصحّح الاستصحاب بالنسبة إلى أحد الاحتمالات بعينه، لعدم اليقين بالإضافة إليه، وإنّما يصحّح إذا كان الأمر الإجمالي مشكوك البقاء على كلّ من احتمالاته.

مندفعة: بأنّه إنْ كان الأمر الإجمالي متيقّن البقاء على بعض احتمالاته، ومشكوك البقاء على بعضها الآخر، يجري فيه الاستصحاب، إذ ذلك يوجب الشكّ

ص: 142

في بقاء نفس ما علم به.

وكذا إذا شهدا معاً بالنجاسة السابقة، لجريان الاستصحاب، لأنّ مقتضى دليل البيِّنة - كأدلّة سائر الأمارات - جعلها بمنزلة العلم واليقين.

وبعبارة أُخرى: معنى جعل الحجيِّة لما ليس بحجّة ذاتاً، ولا يكون طريقاً تامّاً، جعل صفة المحرزيّة والطريقيّة التامّة له، كما حُقّق في محلّه، ولذلك اخترنا في محلّه(1)قيام الأمارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة، ففي نصوص الاستصحاب وإنْ اُخذ اليقين موضوعاً، ولكنّه أُخذ بما أنّه طريق إلى الواقع، فيقوم مقامه سائر الأمارات والطرق المعتبرة.

أقول: وقد استدلّ لجريان الاستصحاب في أمثال المقام، بوجهين آخرين:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله(2) وحاصله: أنّ مفاد دليل الاستصحاب، هو جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء، ويكون التعبّد بالبقاء لا بالحدوث، فيكفي الشكّ في البقاء على تقدير الحدوث، فلو قامت البيِّنة على الحدوث، فلأجل ثبوت هذه الملازمة تدلّ بالإلتزام على النجاسة في حال الشكّ.

وفيه: مضافاً إلى أنّ لازم ذلك كون الاستصحاب حكماً واقعيّاً معلّقاً على ثبوت موضوعه، أنّ الإلتزام بذلك مخالفٌ لظاهر النصوص، إذ ظاهرها اعتبار اليقين بالحدوث، والشكّ في البقاء في جريان الاستصحاب.

الوجه الثاني: أنّ مقتضى أدلّة حجيّة الأمارات، جعل أحكام ظاهريّة في مواردها، وعليه فلو قامت البيِّنة على النجاسة السابقة، فثبوتها - أي النجاسة الظاهريّة - معلوم، فإذا شُكّ بعده في البقاء، يجري الاستصحاب ويحكم ببقائها.6.

ص: 143


1- في زبدة الاُصول: ج 4/62 قيام الأمارات والاُصول مقام القطع (ط. ج).
2- كفاية الأُصول: ص 406.

وفيه: مضافاً إلى ما حقّقناه في محلّه من أنّ مفاد أدلّة الأمارات ليس ذلك، إذ الالتزام به لا يُصحّح الاستصحاب، وذلك لأنّه بعد ما يشكّ في بقاء ما قامت البيِّنة عليه، فالحكم الظاهري الثابت بها يكون مرتفعاً، لدوران ثبوته مدار موضوعه، وهو إخبار الشاهدين المعدوم في الزمان اللّاحق، فالمشكوك فيه إنّما هو بقاء الواقع، فالمتيَّقن غير المشكوك فيه.

وبعبارة أُخرى: لا مجال لاستصحاب الحكم الظاهري، لليقين بارتفاعه لعدم قيام البيِّنة في الزمان اللّاحق، بل هي متضمّنة للثبوت سابقاً، واستصحاب الحكم الواقعي ممتنعٌ، لعدم اليقين بالثبوت، فتدبّر، فالصحيح ما ذكرناه.

***

ص: 144

القسم الثالث من اختلاف شهادة الشاهدين

الفرع العاشر: لو قال أحدهما: إنّه نجس، وقال الآخر: إنّه كان نجساً والآن طاهر.

أقول: تارةً يخبران عن واقع واحد، وأُخرى عن واقعين.

وعلى كلا التقديرين، تارةً يكون مستند من يخبر بنجاسته فعلاً استصحاب النجاسة، وأُخرى العلم بها.

ألف: أمّا مع فرض اتّحاد المشهود به، وكون مستند المخبر بالنجاسة العلم:

1 - فبناءً على اعتبار قول العدل الواحد، يتعارض الخبران - أي إخبار أحدهما بالنجاسة الفعليّة والآخر بالطهارة - ويتساقطان، والمرجع استصحاب النجاسة السابقة الثابتة بإخبار كلّ منهما.

2 - أمّا بناءً على الاحتياج إلى شهادة العدلين، فإخبار من يخبر بالطهارة لايُعتنى به، لكونه واحداً، وتكون شهادتهما حجّة على ثبوت النجاسة في أحد الزمانين، فيكون حكمه حكم المسألة السابقة، فيجري فيه ما ذكرناه فيها.

ب: وأمّا مع فرض اتّحاد المشهود به، وكون مستند من يخبر بالنجاسة الاستصحاب:

1 - فبناءً على اعتبار قول العدل الواحد، يكون إخبار من يشهد بالطهارة حجّة، ومقدماً على إخبار من يخبر بالنجاسة، لحكومته على مستنده.

2 - أمّا بناءً على الاحتياج إلى شهادة العدلين، لا تثبت الطهارة، لعدم قيام البيِّنة عليها، ويحكم بالنجاسة، لأنّ شهادتهما حجّة على ثبوتها.

ج: وأمّا مع فرض تعدّد الواقعة:

ص: 145

1 - فبناءً على الاحتياج إلى شهادة العدلين، لا تثبت النجاسة، لأنّ ما تحكيه شهادة أحدهما غير ما تحكيه شهادة الآخر، فشيءٌ من الواقعتين لم تقم البيِّنة عليه.

2 - وأمّا بناءً على اعتبار قول العدل الواحد، فالكلام فيه هو الكلام في سابقه، كما لا يخفى.

***

تفريعٌ في المسألة: إذا شهد اثنان بأحد الأمرين، وشهد أربعة بالآخر.

فهل يتساقط الاثنان بالاثنين، ويبقى الآخران كما أفتى به بعض الأساطين رحمهم الله.

أو يتساقط الطرفان مطلقاً.

أو مع عدم وجود مرجّحٍ من الأعدليّة والأكثريّة وغيرهما؟ وجوه:

أقول: أقواها الثاني(1)، لأنّ دليل حجيّة البيِّنة كدليل حجيّة الخبر الواحد، نسبته إلى الواحد والمتعدّد نسبة واحدة، فكما أنّه لو قام خبرٌ واحدٌ على شيء وعارضه خبران أو أكثر يتساقط الطرفان، ولم يتوهّم أحدٌ تعارض الواحد بالواحد، وبقاء الآخر كذلك في المقام.

ومنه: يظهر ضعف القول الأوّل(2).

واستدلّ للقول الأخير: بالنصوص الواردة في تعارض البيّنتين عند القاضي في مقام المرافعة إليه.

وفيه: أنّ التعدّي عن موردها يحتاج إلى دليل وهو مفقود في المقام.

***ن.

ص: 146


1- وهو تساقط الطرفين مطلقاً.
2- وهو تساقط الاثنين بالاثنين وبقاء الاثنين.
الماء المشكوك فيه

وفيه مسائل:

المسألة الاُولى: الماء المشكوك نجاسته طاهرٌ، لقاعدة الطهارة المستفادة من خبر عمّار الذي رواه بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، فِي حَدِيثٍ، قَالَ:

«كُلُّ شَيْ ءٍ نَظِيفٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ قَذِرٌ، فَِإذَا عَلِمْتَ فَقَدْ قَذِرَ، ومَا لَمْ تَعْلَمْ فَلَيْسَ عَلَيْكَ»(1).

وخبر حَمَّادِ بْنِ عُثَْمانَ، المرويّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «الْمَاءُ كُلُّهُ طَاهِرٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ قَذِرٌ»(2).

هذا فيما لم يعلم نجاسته سابقاً، وإلّا فمقتضى استصحاب النجاسة المقدَّم على قاعدة الطهارة نجاسته.

المسألة الثانية: الماء المشكوك إباحته، له ثلاث صور:

الصورة الاُولى: أن يعلم بعدم كونه ملكاً له.

الصورة الثانية: أن يشكّ في كونه ملكاً له.

أمّا الصورة الاُولى: فإنْ علم بأنّه ملك الغير، وشكّ في إذنه في تصرّفاته، يستصحب عدمه، فيحكم بعدم الإباحة.

وإنْ لم يعلم بذلك، واحتمل أن يكون من المباحات الأصليّة، فمقتضى قاعدة الحِلّ إباحة التصرّفات.

وقد استدلّ على عدم الجواز بوجهين:

ص: 147


1- التهذيب: ج 1/285 / وسائل الشيعة: ج 3/467 ح 4195.
2- وسائل الشيعة: ج 1/142 ح 351.

الوجه الأوّل: قول أبي الحسن الرضا عليه السلام في المكاتبة المرويّة في «الوسائل» في باب وجوب إيصال حصّة الإمام من الخمس إليه، وهي:

«قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ مِنْ تُجَّارِ فَارِسَ مِنْ بَعْضِ مَوَالِي أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام يَسْأَلُهُ الاذْنَ فِي الْخُمُسِ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ كَرِيمٌ، ضَمِنَ عَلَى الْعَمَلِ الثَّوَابَ، وعَلَى الضِّيقِ الْهَمَّ، لا يَحِلُّ مَالٌ إِلّا مِنْ وَجْهٍ أَحَلَّهُ اللّهُ... الخ والسَّلامُ»(1).

بدعوى أنّ مقتضاه أصالة الحرمة في الأموال، إلّامع العلم بوجود السبب المحلل، لأنّه مع الشكّ فيه يرجع إلى أصالة العدم.

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سندها، لأنّ في الطريق محمّد بن زيد الطبري، وهو مجهول(2) - أنّها لا تدلّ على المدّعى، إذ الحكم بالحليّة مستنداً إلى قاعدة الحِلّ، حكمٌ به من وجه أحلّه اللّه، فتدبّر فإنّه لا يخلو عن الإشكال.

الوجه الثاني: ما اشتهر من أصالة الاحتياط في الأبواب الثلاثة، التي منها الأموال.

وفيه: أنّها لم تثبت بنحو الكليّة الشاملة، فيما إذا لم يكن هناك أصلٌ موضوعي مقتضٍ للحرمة وللاحتياط.

وأمّا الصورة الثانية: فلها وجهان:

الأوّل: إنْ علم بأنّه كان ملك الغير، وشكّ في انتقاله إليه، فمقتضى الأصل عدمه،د.

ص: 148


1- وسائل الشيعة: ج 9/538 ح 12665.
2- أصله كوفي كما عن الشيخ في رجاله ص 364 رقم 5403، ولم يذكر فيه مدحٌ ولا قدح، نعم عدّه غير واحد من الرّجاليّين من أصحاب الرضا عليه السلام، واحتمل السيّد الخوئي قدس سره اتّحاده مع محمّد بن زيد الرزامي كما في المعجم: ج 17/104 رقم 10815 عند ترجمته للرزامي الذي عبّر عنه بخادم الرضا عليه السلام، إلّاأنّه يبقى مجهول الحال لعدم ورود التوثيق به صريحاً سواء اتّحد أو تعدّد.

فلا يحل إلّابطيب نفس مالكه، وإنْ لم يعلم به.

الثاني: إنْ علم أنّه كان سابقاً من المباحات الأصليّة، واحتمل صيرورته مملوكاً لغيره، فلا يكون ملكاً له حينئذٍ بالحيازة، فهنا يستصحب عدم ملكيّة غيره له، المقتضي لحليته بالحيازة.

الصورة الثالثة: فيما إذا لم يعلم بذلك(1)، بأنْ كان أمره دائراً من أوّل وجوده: بين كونه ملكاً له، أو ملكاً لغيره، كالماء المشكوك في أنّه ماؤه المتولّد من بئره، أو المتولّد من بئر غيره، أو حيوانٍ أنّه متولّد من حيوانه، أو من حيوان غيره، فالحكم هو الحليّة لقاعدة الحلّ، وأصالة الحرمة في الأموال، والمكاتبة، وقد عرفت ما فيهما.

وبالجملة: يمكن تلخيص صور المسألة بأنّه:

ألف: ما شكّ في إباحته إنْ علم حالته السابقة تستصحب:

1 - فلو علم أنّه كان ملكاً لغيره، وشكّ في انتقاله إليه، أو إعراضه عنه، يستصحب بقاء ملكيّته، فيحكم بعدم جواز التصرّف فيه.

2 - ولو علم بأنّه كان مِلْكاً له، وشكّ في انتقاله عنه، يستصحب بقاء ملكيّته، فيحكم بالإباحة.

3 - ولو علم بأنّه كان من المباحات الأصليّة، وشكّ في تملّك الغير إيّاه، يستصحب العدم، المقتضي لملكيّته له بالحيازة.

ب: وإنْ لم يعلم حالته السابقة:

1 - بأنْ كان أمره دائراً من أوّل وجوده بين كونه مملوكاً له أو لغيره.

2 - أو دائراً بين كونه من المباحات الأصليّة.

3 - أو كونه مملوكاً لغيره.

فيحكم بالإباحة لقاعدة الحلّ.ر.

ص: 149


1- بأنّه كان ملكاً للغير.

المسألة الثالثة: إذا اشتبه نجس أو مغصوب، فهنا صور:

تارةً: يكون في محصور، فحينئذٍ يجب الاجتناب عن الجميع، للعلم الإجمالي الذي حُقّق في محلّه أنّ الاُصول تتعارض في أطرافه فتتساقط، فيجب الاجتناب عن كلّ طرفٍ، لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

واُخرى: إن اشتُبه في غير المحصور:

فقد يُقال كما عن جماعةٍ(1) بعدم وجوب الاجتناب عن شيء من الأطراف.

أقول: المحقَق في محلّه أنّ غير المحصور بعنوانه، لا يوجبُ عدم تنجيز العلم الإجمالي، وكثرة الأطراف وقلّتها من حيث هما، ليستا ملاكاً للفرق في حجيّة العلم.

وما ذكر ضابطاً لغير المحصور ووجهاً لعدم منجّزيّة العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة، ليس بتامّ.

نعم، لو بلغت كثرة الأطراف حدّاً لا يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعيّة، لا يكون العلم منجّزاً، ولا يجبُ موافقته القطعيّة، لتبعيّتها لحرمة المخالفة القطعيّة التي لا تحرم في الفرض، لعدم التمكّن منها، لما حقّقناه في محلّه من أنّ عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي، إنّما يكون لأجل لزوم الترخيص في المعصية لو جرت في جميع الأطراف، ولا تجري في بعض الأطراف، لكونه ترجيحاً بلا مرجّح.

وفي الفرض بما أنّه لايلزم من جريانها في جميع الأطراف الترخيص في المعصية، لعدم التمكّن من الجمع في الارتكاب بين المحتملات، فلا محذور في جريانها.

وعليه، فما ذكره بعض الأعاظم رحمهم الله(2) ردّاً على شيخنا النائيني قدس سره من أنّ العجز عن المخالفة القطعيّة، لا يوجب سقوط العمل بالتكليف عن المنجّزيّة، ضعيف.7.

ص: 150


1- منهم السيّد اليزدي في العروة الوثقى: ج 1/109.
2- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/247.

المسألة الرابعة: لو اشتبه المضاف، فهنا صورتان:

الصورة الاُولى: إذا كان المضاف في محصور، جاز أن يكرّر الوضوء أو الغسل إلى أنْ يحصل له العلم باستعمال مطلق في ضمنه، بلا إشكال ولا خلاف مع الانحصار.

وأمّا مع عدمه، فقد يقال - مبتنياً على ما ذكره المحقّق النائيني قدس سره(1)، تبعاً لجماعة من الفحول، من تقدّم رتبة الامتثال التفصيلي مع الإمكان على الامتثال الإجمالي إنّه لا يجوز في الفرض، بل لابدَّ وأن يتوضّأ أو يغتسل بالماء الآخر.

ففيه: أنّ المحقَّق في محلّه ضعف المبنى، إذ العقل لا يحكم إلّابلزوم الاطاعة، وليست هي إلّاإتيان ذات المأمور به بجميع قيوده، مضافاً إلى المولى، وليس للعقل وراء ذلك حكمٌ بلزوم الانبعاث عن بعث المولى، وعدم كفاية التحرك عن احتمال البعث والتحريك، ولو شكّ في ذلك يكون المرجع إلى أصالة البراءة.

وعليه، فيجوز في الفرض أن يُكرّر الوضوء أو الغُسل إلى عددٍ يعلم استعمال ماءٍ مطلق في ضمنه - ولو مع وجود ماء آخر - وتمام الكلام في محلّه.

الصورة الثانية: إن اشتبه المضاف وكان في غير المحصور، جاز استعمال كلّ منها، بناءً على ما ذكره شيخ مشايخنا الأنصاري قدس سره في فرائده(2) - وجهاً لعدم منجزيّة العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة، وضابطاً لها - من أنّ كثرة الأطراف موجبة لبناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ واحدٍ من الأطراف.

وعليه، فكلّ طرفٍ وإنْ كان يحتمل كونه مضافاً، إلّاأنّه في نظر العقلاء يكون هذا الاحتمال بحكم العدم.4.

ص: 151


1- في كتاب الصلاة، تقرير بحث النائيني للكاظمي: ج 1/157.
2- فرائد الاُصول: ج 2/264.

أقول: ولكن قد حقّقنا في محلّه ضعف المبنى، وأنّه لو بلغت كثرة الأطراف حدّاً لا يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعيّة، لا يكون العلم منجّزاً.

وقد تقدّم آنفاً أنّه على هذا المبنى غاية ما يكون، كون العلم كلا علم، لا الشبهة كلا شبهة، فمقتضى استصحاب بقاء الحدث بعد التوضّي بأحدها، التكرار بما يزيد على المضاف المعلوم بينها بواحد.

ص: 152

الشكّ في إطلاق الماء وإضافته

المسألة الخامسة: إذا لم يكن عنده إلّاماءٌ وشكّ في إطلاقه وإضافته:

فأغلب المتأخّرين أفتوا بلزوم الجمع بين التيمّم والوضوء في الفرض، نظراً إلى العلم الإجمالي بوجوب أحدهما.

ولكن الأقوى عدم وجوب ضمّ الوضوء، بل يتيمّم خاصّة، وذلك:

فيما إذا كانت حالته السابقة الإضافة لاستصحابها.

وفيما إذا لم تكن حالته السابقة معلومة، لاستصحاب عدم مائيّة المائع الخارجي الأزلي.

ولايعارضه استصحاب عدم الإضافة، لأنّه لاتثبت به مائيّته ليجب الوضوء.

وعدم الإضافة ليس موضوعاً لوجوبه، وهذا بخلاف عدم المائيّة، فإنّه موضوع لوجوب التيمّم، مضافاً إلى أنّ مقتضى استصحاب عدم وجدان الماء، فيما إذا علم بفقد الماء قبل الابتلاء بالمشكوك فيه، وجوب التيمّم خاصّة.

وبه ينحلّ العلم الإجمالي، وتجري أصالة البراءة عن وجوب الوضوء بلا معارض.

ودعوى: أنّه إذا كان قبل الابتلاء بالمشكوك فيه واجدا للماء يجري استصحاب وجود الماء، وهذا الأصل يكون مقدّماً على استصحاب العدم الأزلي.

مندفعة: بأنّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي، و المختار عدم جريانه.

***

ص: 153

حكم العلم إجمالاً بنجاسة الماء أو إضافته

المسألة السادسة: إذا علم إجمالاً أنّ هذا الماء إمّا نجسٌ أو مضاف، يجوز شربه، لأصالة الطهارة والحليَّة، ولايجوز الوضوء به للعلم بفساده: إمّا لإضافته أو لنجاسته.

أقول: وقد حقّقنا في محلّه أنّ مثل هذا العلم الإجمالي الذي يكون المترتّب على أحد طرفيه عين ما يترتّب على الآخر، وشيئاً زائداً، ولا يكون للآخر أثرٌ مختصٌّ، ويكون الموضوع واحداً، لا يكون منجّزاً بالنسبة إلى الزائد.

مثلاً لو علم بأنّه مديون لزيد إمّا بدرهم أو بدرهمين، فإنّه تجري البراءة عن وجوب أداء الدرهم الثاني.

وكذا إذا علم بأنّه إمّا مضافٌ أو مغصوبٌ، يعني في فساد الوضوء.

وأمّا في جواز الشرب، فليس كذلك على الإطلاق، إذ لكلّ من طرفي العلم الإجمالي أثرٌ يخصّه، لأنّه لو كان مغصوباً لا يجوز شربه، ولو كان مضافاً لا يكون رافعاً للخبث، وعليه:

1 - فإنْ كانت الحالة السابقة على فرض إضافته فعلاً هي الإطلاق، فاستصحاب إطلاقه المقتضي لرافعيته للخَبَث، يعارض مع الأصل المقتضي لجواز الشرب، فيتساقطان، فمقتضى العلم الإجمالي عدم جواز شربه.

2 - وأمّا لو لم تكن الحالة السابقة هي الإطلاق، فبما أنّ الأصل الجاري في رافعيّته للخَبَث هو استصحاب بقاء النجاسة، فينحلّ بذلك العلم الإجمالي، وتجري أصالة الطهارة والحليَّة بلا معارض.

هذا كلّه إذا كان الشكّ في الغصبيّة مورداً لقاعدة الحِلّ.

وإلّا كما لو علم بأنّ حالته السابقة هي مملوكيّته للغير فلا يجوز الشرب مطلقاً.

ص: 154

المسألة السابعة: لو اُريق أحد المشتبهين من حيث النجاسة أو الغصبيّة، لايجوز التوضّي بالآخر، لعدم خروجه عن طرف العلم بإراقة الآخر، ومقتضى تنجّز العلم الإجمالي عدم جريان الأصل فيه.

وما ذكره بعض الأعاظم(1): من أنّه بناءً على أنّ المانع عن جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي، هو المعارضة، يُشكل وجوب الاجتناب عن الباقي، لعدم المعارضة بعد الإراقة، فضلاً عن جعل المرتكز العقلائي في مثل هذا المورد الذي هو وجوب الاجتناب دليلاً على ضعف المبنى.

ضعيفٌ: لما حقّقناه في محلّه في الاُصول من أنّه حتّى على هذا المسلك لا يجري الأصل.

وإجمال ما ذكرناه: أنّه يستصحب لزوم الاجتناب شرعاً الثابت قبل الإراقة عن أحدهما، وبما أنّه يكون المستصحب حكماً شرعيّاً لا يحتاج في جريان الاستصحاب إلى شيء سوى عدم اللّغويّة وهو محقّقٌ، لأنّه بعد جريان الاستصحاب المذكور يحكم العقل بلزوم الاجتناب عن الباقي، وتمام الكلام في محلّه.

وأيضاً: لو أريق أحد المشتبهين من حيث الإضافة، لا يكفي الوضوء بالآخر، بل الأحوط الجمع بينه وبين التيمّم، فيما إذا لم يجد ماءً سواه، للعلم الإجمالي بوجوب الوضوء بالباقي أو وجوب التيمّم.

وما ذكرناه في الفرع الثالث من المسألة الخامسة، من عدم وجوب الوضوء لا يجري في المقام، لأنّ مقتضى استصحاب وجوب الوضوء، أو استصحاب وجدان الماء، الثابتين قبل الإراقة، لزوم الوضوء بالباقي.2.

ص: 155


1- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/252.

ودعوى: أنّه على هذا لا وجه لوجوب التيمّم.

مندفعة: بأنّه لا يثبت بهما كون الباقي ماءً، أو وجوب الوضوء بالباقي شرعاً، كما لا يخفى.

وعليه، فلا يُحرز به الطهارة المعتبرة ما لم ينضمّ إليه التيمّم.

وأيضاً دعوى: صدق عدم الوجدان في هذا الحال، فيقتصر على التيمّم، لأنّ المراد منه عدم العلم لا عدم الوجود.

مندفعة أيضاً: بأنّ المراد من عدم الوجدان ما يساوق الفقدان، ومع احتمال مائيّته لم يحرز الفقدان.

وبالجملة: فالأقوى هو الجمع بين الوضوء بالباقي والتيمّم.

***

ص: 156

الملاقي لطرف الشبهة

المسألة الثامنة: ملاقي الشبهة المحصورة لا يُحكم عليه بالنجاسة، لأصالة الطهارة، إذ أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي من باب المقدّمة العلميّة، لا يوجب نجاسة ملاقيه، ولا لزوم الاجتناب عنه، مع عدم كونه طرفاً لذلك العلم الإجمالي.

والعلم إجمالاً بنجاسته أو نجاسة الطرف الآخر، لا يوجب عدم جريان الأصل فيه، إذ بعد فرض عدم جريان الأصل في الطرف الآخر بمنجّزٍ آخر موجودٍ قبله يجري الأصل فيه بلا معارض.

هنا عدّة صور:

1 - لو لاقى مع كلّ واحدٍ من الأطراف شيءٌ يحكم بلزوم الاجتناب عن الجميع، للعلم بنجاسة أحدهما.

2 - وكذا لو لاقى مع أحد الطرفين شيء، ولكن كان الطرف الآخر ممّا يجري فيه أصلٌ آخر محكوم، لما سقط بالمعارضة، ولا يكون من الاُصول الطوليّة التي تسقط أيضاً بالمعارضة مع الأصل الواحد في الطرف الآخر، كما لو علم بنجاسة التراب أو الماء، فإنّ أصالة الطهارة في كلّ منهما تعارض مع الأصل الجاري في الآخر ويتساقطان، والمرجع حينئذٍ وعند الشكّ في الحرمة في الماء إلى قاعدة الحِلّ، فلو لاقى في الفرض شيءٌ مع التراب يجب الاجتناب عن الجميع للعلم بنجاسته أو حرمة الماء.

3 - وكذا يجب الاجتناب عن الملاقى، إذا كانت الحالة السابقة في المشتبهين النجاسة، فإنّه يجري استصحاب النجاسة في الملاقى، ويحكم بنجاسة ملاقيه.

ص: 157

4 - وكذا يجب الاجتناب عنه فيما لو حصل العلم بالنجاسة بعد الملاقاة أو حينها، فإنّه يحصل العلمان في زمان واحد، وهما العلم بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو طرفه، والعلم بنجاسة الملاقي (بالكسر) أو طرف الملاقي، ولا ينحلّ أحدهما بالآخر.

ودعوى: أنّ الأصل في الملاقي متأخّرٌ رتبةً عن الأصل فيما لاقاه، ففي المرتبة السابقة يعارض ذلك الأصل مع الأصل الجاري في الطرف فيتساقطان، وفي المرتبة الثانية يجري الأصل في الملاقي بلا معارض.

مندفعة أوّلاً: بأنّ هذه الأحكام أحكام للزمان لا للرتبة، وحيث أنّ الأصل في الملاقي والملاقى متّحدان زماناً، فكلاهما طرف للمعارضة.

وثانياً: لو سلّمنا تأخّر الثاني، لكن لا يكون متأخّراً عن الأصل الجاري في الطرف الآخر، بل هما في رتبة واحدة.

ولا وجه لتوهم التأخّر، إلّاأنّ ما هو متأخّرٌ عن شيء رتبةً، متأخّرٌ عمّا يكون في رتبته أيضاً، وإنْ لم يكن بينهما ملاك التأخّر الرتبي، وهو فاسد كما حُقّق في محلّه.

وأخيراً: ظهر بما ذكرنا أنّه قد يجب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) دون الملاقى، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين، ثمّ علم أنّ نجاسة أحدهما المعيّن إنْ كانت فهي ناشئة عن ملاقاته لإناءٍ ثالث.

وتفصيل الكلام في كلّ واحد من هذه الفروض موكولٌ إلى محلّه.

***

ص: 158

انحصار الماء في المشتبهين

المسألة التاسعة: إذا انحصر الماء في المشتبهين، تعيّن التيمّم بلا خلاف.

ويدلّ عليه: موثّق سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام:

«فِي رَجُلٍ مَعَهُ إِنَاءَ انِ، وَقَعَ فِي أَحَدِهِمَا قَذَرٌ ولا يَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ، ولَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى مَاءٍ غَيْرِهِمَا؟ قَالَ يُهَرِيقُهُمَا ويَتَيَمَّمُ»(1).

ومثله حديث عمّار(2) المعوّل بهما عند الأصحاب كما عن «المعتبر»(3).

ثمّ إنّ ظاهرهما الاختصاص بالقليل، فإنّ لفظ الإناء لو سُلّم شموله للكُرّ - مع أنّ للمنع عنه مجالاً - ولكن قوله: (وقع في أحدهما قذرٌ) الذي يكون دالّاً على نجاسته بمجرّد الملاقاة، ظاهر في الاختصاص بالقليل، ففي الكُرّ لابدَّ من الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة.

وقد يقال: - كما عن المحقّق الخراساني رحمه الله - أنّها تقتضي التفصيل بين الكرّ والقليل:

ففي الأوّل: (الكُرّ) مقتضاها صحّة الوضوء أو الغُسل لو توضّأ بأحدهما أو اغتسل، وصحّة الصلاة بعدهما.

وفي الثاني: (القليل) مقتضاها العدم، بل مقتضى القاعدة كالنص تعيّن التيمّم.

أمّا في الثاني: فللإبتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب، للقطع

ص: 159


1- التهذيب: ج 1/229، وسائل الشيعة: ج 1/169 ح 419.
2- التهذيب: ج 1/407 / وسائل الشيعة: ج 3 ص 345 ح 3823.
3- المعتبر: ج 1/103.

بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضّأ من الإناء الثاني، إمّا بملاقاته أو بملاقاة الأوّل، ولأجل ذلك أمر بالتيمّم، لأنّ النجاسة الخَبَثيّة - ولو ظاهريّة - أهمٌّ من الطهارة المائيّة، ولا يعارضه استصحاب الطهارة للجهل بتاريخها.

وأمّا في الأوّل: فلأنّه من جهة عدم الحاجة في حصول الطهارة به إلى التعدّد أو انفصال الغسالة، لا يعلم تفصيلاً بنجاسة شيء من الأعضاء، وإنْ علم بنجاسته إجمالاً حين ملاقاة الأوّل أو الثاني، فلا مجال لاستصحابها، فيرجع إلى قاعدة الطهارة.

وفيه أوّلاً: أنّه بعد تطهير بعض الأعضاء بالثاني، يعلم إجمالاً بنجاسة أحد العضوين، أمّا العضو الذي طهر لنجاسة ما طهر به، أو الباقي لنجاسة الأوّل، فيستصحب النجاسة المعلوم تاريخها إلى ما بعد تطهير الباقي، فلا وجه للتفصيل.

وثانياً: أنّ المبنى ضعيف، إذ المختار جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ كما يجري في معلومه، فتتعارض أصالة الطهارة الثابتة بعد استعمال الطاهر منهما، المردّدة بين بقاء الطهارة قبل الاستعمال وحدوث غيرها، وهي معلومة الثبوت مشكوكة البقاء، مع استصحاب النجاسة في كلا الفرضين، فيتساقطان، فيرجع إلى قاعدة الطهارة، ففي كليهما لو توضّأ أو اغتسل بالنحو المزبور تحصل له الطهارة المائيّة مع عدم الابتلاء بالنجاسة الخبثيّة ظاهراً، فلا مجال معه للتيمّم.

مضافاً إلى أنّه لو كرّر الصلاة عقيب كلّ وضوء، أحرز أداءه الصلاة الصحيحة واجدة للطهارة الحدثيّة والخبثيّة، فالأمر بالإراقة والتيمّم إنّما يكون على خلاف القاعدة، وحيث أنّ النصّ مختصٌّ بالقليل، فلا يتعدّى عنه إلى الكُرّ.

ودعوى: عدم الفصل بينهما على ما ذكر.

ص: 160

مندفعة: باحتماله، إذ تطهير الأعضاء، وتطهير ما يترشّح عليه ماء الوضوء أو الغَسل من مواضع البدن والثوب بالقليل متعسر غالباً، بخلاف الكثير.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو التفصيل:

بين ما لو كانا قليلين، فيتعيّن التيمّم.

وبين ما لو كانا جميعاً أو أحدهما كُرّين، فالوضوء أو الغسل بالنحو المذكور.

والأحوط تكرار الصلاة عقيب كلّ وضوء أو غسل.

***

ص: 161

حكم الإناء المشكوك مالكه

المسألة العاشرة: إذا كان هناك إناء لا يعلم أنّه لزيد أو لعمرو، والمفروض أنّه مأذون من قبل زيد، لا يجوز استعماله، لاستصحاب عدم إذن مالك هذا الإناء، إذ الشكّ في كونه لزيد أو لعمرو يوجب الشكّ في إذن مالكه في التصرّف فيه، وبما أنّه مسبوق بالعدم يستصحب عدم إذنه.

أقول: وهذا الاستصحاب إنّما يكون جارياً في الفرد المعيّن في الواقع غير المعلوم عندنا، وليس من الأصل الجاري في الفرد المردّد الذي هو محلّ الإشكال.

المسألة الحادية عشر: إذا كان عنده مائان توضّأ بأحدهما، ثم بعد الفراغ حصل له العلم بأنّ أحدهما نجسٌ، فهل يصحّ الوضوء أم لا؟

وجهان: أقواهما عدم صحّة الوضوء، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: عدم جريان قاعدة الفراغ في أمثال المورد ممّا لا يكون المكلّف ملتفتاً حال العمل، لما ورد في موثّق ابن بكير، قَالَ:

«قُلْتُ لَهُ الرَّجُلُ يَشُكُّ بَعْدَ مَا يَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: هُوَ حِينَ يَتَوَضَّأُ أَذْكَرُ مِنْهُ حِينَ يَشُكُّ»(1).

ونحوه غيره، والارتكازات العقلائيّة تساعد ذلك.

بل قد ذكرنا في محلّه(2) أنّها ليست من الاُصول التعبّدية، وتكون من الأمارات النوعيّة، لوقوع المشكوك فيه في ظرفه، فإنّ المريد لشيء يكون التفاته إلى خصوصياته أقوى منه بعد الفراغ عنه، والروايات إنّما هي إشارة إلى ذلك، ومع عدم الأماريّة كما في الفرض لا معنى لجريانها.

ص: 162


1- التهذيب: ج 1/101، وسائل الشيعة: ج 1/471 ح 1249.
2- زبدة الأصول: ج 1/95.

وقد استدلّ بعض المعاصرين(1): تبعاً لبعض المحقّقين(2) على جريانها في أمثال الفرض بدليلين:

الأوّل: سائر الأخبار المطلقة الخالية عن ذكر هذا القيد.

الثاني: حَسَنة الحسين بن أبي العلاء، الظاهر في جواز المضيّ ولو مع النسيان، وهي الرواية المرويّة عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْخَاتَمِ إذا اغْتَسَلْتُ؟ قَالَ: حَوِّلْهُ مِنْ مَكَانِهِ. وقَالَ فِي الْوُضُوءِ تُدِيرُهُ فَإِنْ نَسِيتَ حَتَّى تَقُومَ فِي الصَّلاةِ، فَلا آمُرُكَ أَنْ تُعِيدَ الصَّلاةَ».

ولأجل ذلك يحمل ما في الموثّق ونحوه على الحكمة لا العلّة.

أقول: وفي كلا الوجهين نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ ذكر ما يوجب تقييد المطلقات منفصلاً عنها في الفقه غير عزيز، فليكن المورد من تلك الموارد.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر كون السؤال والجواب واردين على الخاتم الواسع الذي يصل الماء تحته، ويكون جوابه عليه السلام دالّاً على استحباب التحويل والإدارة في الفرض كما هو المشهور بين الأصحاب، وعن «المعتبر» هو مذهب فقهائنا، فنسيانهما في مثله لا يوجب الشكّ في وصول الماء بنفسه، فيكون الحديث أجنبيّاً عن المقام.

وإنْ أبيت عن ظهوره في ذلك فلا أقلّ من الإجمال.

مضافاً إلى أنّه لو سُلّم ظهوره فيما ادّعى، لكنّه لا يدلّ على صحّة الوضوء، وإنّما يدلّ على صحّة الصلاة، فيدلّ على أنّ الإخلال بالطهارة نسياناً كالإخلال6.

ص: 163


1- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/226.
2- صاحب جواهر الكلام، الجزء 2 ص 36.

بالقراءة لا يوجب البطلان، فيكون معارضاً لحديث (لا تُعَادُ)(1)، وهو مقدّمٌ لوجوه لاتخفى.

والعلم بأنّ الصلاة تعاد من ناحية الطهارة، لا يوجب ظهور الرواية في إرادة صحّة الوضوء كما لا يخفى.

الوجه الثاني: لعدم صحّة الوضوء والغُسل في الفرع، هو معارضة قاعدة الفراغ الحاكمة بصحّتهما - لو سُلّم جريانها في نفسها - مع أصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر لو كان موجوداً، وإلّا ففي ملاقيه للعلم بنجاسته أو وجوب الوضوء ثانياً.

نعم، هذا الوجه لا يتمّ مع فقد الطرف الآخر وعدم وجود الملاقي له.

***».

ص: 164


1- وسائل الشيعة: ج 1/372 ح 980. وج 4 ص 312 ح 5241، وفي: ج 5/471 ح 7090: عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَّهُ لا تُعَادُ الصَّلاةُ إِلّا مِنْ خَمْسَةٍ: الطَّهُورِ والْوَقْتِ والْقِبْلَةِ والرُّكُوعِ والسُّجُودِ، ثُمَّ قَالَ عليه السلام: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ والتَّشَهُّدُ سُنَّةٌ والتَّكْبِيرُ سُنَّةٌ ولا يَنْقُضُ السُّنَّةُ الْفَرِيضَةَ».
حكم استعمال المشتبه بالغصب

المسألة الثانية عشر: إذا استعمل أحد المشتبهين بالغصبيّة، فهل يحكم عليه بالضمان أم لا، أو يفصل بين الصور؟ وجوه:

أقول: صور المسألة ثلاث:

الصورة الاُولى: ما لو كان المستعمل غاصباً للماء قبل الاستعمال، ففي هذه الصورة وإنْ كان الاستعمال لا يوجب الضمان، إلّاأنّ الضمان الثابت بمقتضى على اليد متحقّق قبله، فهو محكوم عليه به.

الصورة الثانية: ما لو لم يكن غاصباً له قبله، ولم يعلم بكونه للغير مثلاً، فبعد الاستعمال حصل له العلم الاجمالى بكونه أو الباقي مِلْكاً لمن لا يكون راضياً بالاستعمال، ففي هذه الصورة أيضاً يحكم عليه بالضمان للعلم الإجمالي، إمّا به أو بعدم جواز التصرّف في الآخر، فلا تجري أصالة البراءة عنه.

الصورة الثالثة: ما إذا لم يكن هو الغاصب، ولكن قبل الاستعمال علم إجمالاً بكون أحدهما للغير، ففي هذه الصورة لا يُحكم على المستعمل لأحدهما بالضمان، لأنّ حكمه حكم الملاقى في عدم لزوم الاحتياط فيه.

فدعوى: أنّ مقتضى العلم الإجمالي إمّا بالضمان أو بحرمة التصرّف في الآخر، لزوم الاجتناب عنه.

مندفعة: بانحلاله بالعلم السابق عليه زماناً، وهو العلم بغصبيّة أحدهما وحرمة التصرّف فيه قبل الاستعمال.

وبذلك ظهر الفرق بين هذه الصورة وبين الصورة السابقة.

***

ص: 165

وأمّا المضاف فهو كالمعتصر من الأجسام الممتزجة بها مزجاً يسلبه الإطلاق، كماء الوَرد والمَرَق ونحوهما، وهو ينجسُ بكلّ ما يقع فيه النجاسة، سواءً كان الماء قليلاً أو كثيراً،

الماء المضاف
اشارة

(وأمّا المضاف؛ فهو كالمعتصر من الأجسام) أو (الممتزجة بها مزجاً يسلبه الإطلاق، كماء الورد والمرق ونحوهما، وهو ينجس بكلّ ما يقع فيه النجاسة، سواءً كان الماء قليلاً أو كثيراً) إجماعاً منقولاً من جماعةٍ(1): منهم المصنّف رحمه الله(2)، والشهيدان(3):

لعموم خبر السّاباطي(4) الآتي الدالّ على تنجّس كلّ شيء بملاقاة النجاسة.

وإطلاق النصوص الواردة(5) في نجاسة المرق ونحوه بملاقاة النجاسة، إذ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين القليل والكثير.

ص: 166


1- لقد أشار عدَّة من الأعلام إلى الإجماع، كصاحب مفتاح الكرامة: ج 1/259 بقوله: (لا يزيل المضاف الخبث إجماعاً)، وصاحب الجواهر: ج 1/326، والمحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد: ص 115، والشيخ الأنصاري في حاشيته على القوانين: ص 268.
2- ذكر ذلك في تحرير الأحكام: ج 1/50، وأشار إلى عدم رفع الطاهر منه للحدث إجماعا. وفي منتهى المطلب ج 1 ص 127 قال: (لا خلاف بيننا أنّ المضاف ينجس بالملاقاة).
3- قال الشهيد الأوّل في الذكرى ص 7: (ينجس المضاف بالملاقات إجماعاً)، وقال الشهيد الثاني في شرح اللّمعة: ج 1/278: (القول بنجاسته إجماعاً). وفي مسالك الافهام: ج 1/21 ذكر أنّه طاهر ولا يزيل حدثاً إجماعاً، وكذلك في روض الجنان: ص 133.
4- التهذيب: ج 1/284، وسائل الشيعة: ج 1/142 ح 350.
5- كما هو المستفادة من روايات وسائل الشيعة: ج 1/205 و 206، ح 527 و 528 و 529.

ولا يجوز رفع الحدث به.

أقول: ولكن الحكم بعدم تنجّس المضاف كلّه، إذا كان كثيراً، بأن كان مقدار ألف كُرٍّ مثلاً، ولاقى أحد أطرافه مع النجاسة، لا يخلو من قوّةٍ، لأنّ ثبوت الإجماع في الفرض ممنوعٌ. والخبر إنّما يدلّ على نجاسة خصوص موضع الملاقاة، وما تسري إليه النجاسة، والسراية في الفرض غير ظاهرة، بل عدمها ثابت عرفاً.

وما ورد(1) في المرق إذا وقعت فيها نجاسة كالفأرة، لا يشملُ الكثير الملاقي مع النجاسة بأحد أطرافه.

(ولا يجوز رفع الحدث به) كما هو المشهور، وتشهد له:

الآية الشريفة: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (2).

وجملةٍ من النصوص:

كخبر أبي بصير، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: «عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ مَعَهُ اللَّبَنُ أَيَتَوَضَّأُ مِنْهُ لِلصَّلاةِ؟ قَالَ: لا إِنَّمَا هُوَ الْمَاءُ والصَّعِيدُ»(3)، ونحوه غيره.

مضافاً إلى أنّه ممّا يقتضيه الأصل كما لا يخفى.

وعن الصدوق(4): جواز الوضوء والغُسل بماء الورد، واستدلّ له بخبر يونس:).

ص: 167


1- الكافي: ج 6/261، التهذيب: ج 9/87، الاستبصار: ج 1/25، وسائل الشيعة: ج 1/206 ح 529. وج 24 ص 196 ح 30330: عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عليهما السلام: «أَنَّ عَلِيّاً عليه السلام سُئِلَ عَنْ قِدْرٍ طُبِخَتْ وإِذَا فِي الْقِدْرِ فَأْرَةٌ؟ قَالَ: يُهَرَاقُ مَرَقُهَا ويُغْسَلُ اللَّحْمُ ويُؤْكَلُ».
2- سورة المائدة: الآية 6.
3- وسائل الشيعة: ج 1/201 ح 518. وج 3/351 ح 3843. التهذيب: ج 1/188.
4- في الفقيه: ج 1/6 قوله: (ولا بأس بالوضوء والغسل من الجنابة والاستياك بماء الورد).

عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام قَالَ:

«قُلْتُ لَهُ الرَّجُلُ يَغْتَسِلُ بِمَاءِ الْوَرْدِ ويَتَوَضَّأُ بِهِ لِلصَّلاةِ؟ قَالَ لا بَأْسَ بِذَلِكَ»(1).

ولكن يرد عليه: أنّ الخبر لو سُلّم صحّة سنده، لا يُعتمد عليه لإعراض الأصحاب عنه، وقد ادّعى الإجماع على خلافه جملةٌ من الأعاظم(2).

مضافاً إلى أنّه من المحتمل(3) أن يكون الوِرد (بكسر الواو) أي ما يورد منه الدواب، وعليه فهو أجنبي عن المقام.

وعن ابن أبي عقيل(4) مطهريّته من الحدث في حال الاضطرار.

أقول: والذي يمكن أن يستدلّ به له اُمور:

الأوّل: قاعدة الميسور.

وفيه: مضافاً إلى ما حقّقناه في محلّه من عدم جريانها في أمثال المقام، أنّها إنّما تكون حجّة إذا لم يعيّن الشارع الوظيفة عند عدم القدرة على إتيان المأمور به، وفي المقام بحسب تعيين الشارع تكون الوظيفة عند فقد الماء هو التيمّم.

الثاني: الرواية الآنفة الواردة في الورد تنزيلاً لها على صورة الاضطرار، وهو كما ترى.5.

ص: 168


1- الكافي: ج 3/73، الفقيه: ج 1/6، التهذيب: ج 1/218، وسائل الشيعة: ج 1/204 ح 523.
2- فقال العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة نقلاً عن الشيخ الطوسي: قال الشيخ رحمه الله (هذا خبرٌ شاذ شديد الشذوذ، وإن تكرّر في الكتب والاُصول، فإنّما أصله يونس عن أبي الحسن عليه السلام ولم يروه غيره، وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره) مختلف الشيعة: ج 1/227 وفي التهذيب: ج 1/219.
3- ذكر هذا الاحتمال صاحب الجواهر في: ج 1/314.
4- فقه ابن أبي عقيل العماني ص 55. وقد نقل الحكاية عن ابن أبي عقيل المحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد: ج 1/112. وكذلك المحقّق البحراني في الحدائق الناضرة: ج 1/395.

الثالث: ما في ذيل رواية ابن المغيرة، المرويّة عن بعض الصادقين عليهم السلام في التوضّي باللّبن: قَالَ:

«إذا كَانَ الرَّجُلُ لا يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى اللَّبَنِ، فَلا يَتَوَضَّأْ بِاللَّبَنِ إِنَّمَا هُوَ الْمَاءُ أَوِ التَّيَمُّمُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ وكَانَ نَبِيذاً، فَإِنِّي سَمِعْتُ حَرِيزاً يَذْكُرُ فِي حَدِيثٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قَدْ تَوَضَّأَ بِنَبِيذٍ ولَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ»(1).

وفيه: مضافاً إلى أنّ ظاهر نسبة المعصوم إلى حديثٍ ذكره حريز، أنّه عليه السلام لم يكن يراه جائزاً أو أنّه عليه السلام أشار بذلك إلى ما رواه بعض عنه عليه السلام، وإلى ما سيأتي في محلّه من نجاسة النبيذ.

أنّه يحتمل أن يكون المراد من النبيذ، الماء الذي نَبُذ فيه بعض التمرات، غير المغيّرة لاسمه، كما ورد في الحديث أنّه بهذا المعنى حلالٌ وطهور(2)، وهو الذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يتوضّأ منه(3).2.

ص: 169


1- التهذيب: ج 1/219 ح 11، وسائل الشيعة: ج 1/202 ح 520.
2- نص الحديث: عَنِ الْكَلْبِيِّ النَّسَّابَةِ: «أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ النَّبِيذِ؟ فَقَالَ: حَلالٌ! فَقَالَ إِنَّا نَنْبِذُهُ فَنَطْرَحُ فِيهِ الْعَكَرَ ومَا سِوَى ذَلِكَ، فَقَالَ شَهْ شَهْ جكلمة استقذار واستقباح: كما في مجمع البحرين ج 6 ص 351 ج تِلْكَ الْخَمْرَةُ الْمُنْتِنَةُ! قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأَيَّ نَبِيذٍ تَعْنِي؟ فَقَالَ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله تَغَيُّرَ الْمَاءِ وفَسَادَ طَبَائِعِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْمُرُ خَادِمَهُ أَنْ يَنْبِذَ لَهُ فَيَعْمِدُ إِلَى كَفٍّ مِنْ تَمْرٍ فَيَقْذِفُ بِهِ فِي الشَّنِّ ج القربة الخَلقة: كما في الصحاح: ج 5/2146 ج فَمِنْهُ شُرْبُهُ ومِنْهُ طَهُورُهُ، فَقُلْتُ: وكَمْ كَانَ عَدَدُ التَّمْرِ الَّذِي فِي الْكَفِّ؟ فَقَالَ: مَا حَمَلَ الْكَفُّ، فَقُلْتُ: وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ فَقَالَ رُبَّمَا كَانَتْ وَاحِدَةً ورُبَّمَا كَانَتِ اثْنَتَيْنِ، فَقُلْتُ: وكَمْ كَانَ يَسَعُ الشَّنُّ مَاءً؟ فَقَالَ: مَا بَيْنَ الأرْبَعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ إِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: بِأَيِّ الارْطَالِ قَالَ أَرْطَالِ مِكْيَالِ الْعِرَاقِ». وسائل الشيعة: ج 1/203 ح 521.
3- مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: (لا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قَدْ تَوَضَّأَ بِهِ، وكَانَ ذَلِكَ مَاءً قَدْ نُبِذَتْ فِيهِ تُمَيْرَاتٌ وكَانَ صَافِياً فَوْقَهَا فَتَوَضَّأَ بِهِ). وسائل الشيعة: ج 1/204 ح 522.

وأخيراً: ظهر بما ذكرناه فساد ما عن أبي حنيفة(1) من جواز الوضوء بنبيذ التمر عند عدم الماء، كما ظَهَر فساد ما عن الأوزاعي(2) من جواز التوضّي بسائر الأنبذة.

***9.

ص: 170


1- نقل عن أبي حنيفة أربع آراء في المسألة، ذكرها محي الدِّين النووي، حيث قال: (وعن أبي حنيفة أربع روايات: أحداهن: يجوز الوضوء بنبيذ التمر المطبوخ إذا كان في سفر وعدم الماء. والثانية: يجوز الجمع بينه وبين التيمّم. والثالثة: يستحبّ الجمع بينهما. والرابعة: أنّه رجع عن جواز الوضوء بنبيذ التمر. راجع المجموع في شرح المهذّب: ج 1/93.
2- ممّن نقل ذلك عن الأوزاعي "شمس الدين السرخسي في المبسوط، حيث قال: (أمّا سائر الأنبذة، فكان الأوزاعي يقول بجواز التوضّؤ بها بالقياس على نبيذ التمر) راجع المبسوط للسرخسي: ج 1/89.

ولا إزالة الخَبَث وإنْ كان طاهراً.

عدم مطهّريّة المضاف من الخبث

(ولا) يجوز إزالة (الخبث) به أيضاً (وإنْ كان طاهراً)، أمّا طهارته فللأصل. وأمّا عدم مطهريّته من الخبث، فهو المشهور بين الأصحاب(1).

ويدلّ عليه: - مضافاً إلى أنّه ممّا يقتضيه الأصل - النصوص الكثيرة الواردة في الموارد المتفرّقة، مثل ما عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ:

«يُجْزِي مِنَ الْغَائِطِ الْمَسْحُ بِالأحْجَارِ، ولا يُجْزِي مِنَ الْبَوْلِ إِلّا الْمَاءُ»(2).

ونحوه غيره.

وبالجملة: التتبّع في الأخبار يوجب القطع بأنّ الغَسل لابدَّ وأن يكون بالماء، وأنّ ذلك كان مغروساً في أذهان السائلين عنهم عليهم السلام، مفروغاً عنه عندهم، مضافاً إلى انصراف المطلقات الآمرة بالغَسل إليه كما لا يخفى.

وعن المفيد قدس سره(3) والمرتضى رحمه الله(4): جواز رفع الخبث به، واحتجّ السيّد على ما نقل عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الغرض من الطهارة، إزالة عين النجاسة، وهي تحصل بالمايعات.

ص: 171


1- قال العلّامة الحلّي في تحرير الأحكام: ج 1/50 (على الأصحّ)، وقال السبزواري كفاية الأحكام ص 10: (والمشهور أن لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث).
2- التهذيب: ج 1/51، وسائل الشيعة: ج 1/317 ح 834. و ص 348 ح 923.
3- نسب هذا القول إلى الشيخ المفيد المحقّق الحلّي في المعتبر: ج 1/82، وصاحب المدارك: ج 1/112. والمحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد: ج 1/112.
4- الناصريّات ص 105 وعبارته: (أنّه يجوز إزالة النجاسة بالمائع الطاهر وإنْ لم يكن ماء، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف.. الخ).

وفيه: أنّه بعد فرض تسليم تأثير النجاسة في الملاقي، وحصول الأثر فيه، سواءً كان واقعيّاً أو اعتباريّاً، بما أنّه لا يعلم أنّه بأيّ شيء يزول، فلابدَّ من إتباع الدليل، وقد عرفت أنّه لا دليل على زواله بغير الماء، بل الدليل يدلّ على عدمه.

وإنْ رجع كلامه قدس سره إلى عدم تأثير النجاسة في الملاقي فستعرف ما فيه.

الوجه الثاني: دعوى الإجماع، وهو كما ترى.

الوجه الثالث: خبر غياث الذي رواه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام قَالَ:

«لا بَأْسَ أَنْ يُغْسَلَ الدَّمُ بِالْبُصَاقِ»(1).

وفيه: - مضافاً إلى ما ذكره المحقّق رحمه الله في «المعتبر»(2) من أنّ غياثاً تِبرْيٌ ضعيفُ الرواية، ولا يعمل على ما يتفرّد به - أنّ الأصحاب أعرضوا عنه، ولم يعملوا به، مع أنّ مفاده أخصّ من المدّعى.

ودعوى: عدم الفصل.

مندفعة: بما رواه الشيخ الكليني مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ مرسلاً، قَالَ:

«رُوِيَ أَنَّهُ لا يُغْسَلُ بِالرِّيقِ شَيْ ءٌ إِلّا الدَّم»(3).

الوجه الرابع: خبر حكم بن حكيم الصيرفي، سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ:

«أَبُولُ فَلا أُصِيبُ الْمَاءَ، وقَدْ أَصَابَ يَدِي شَيْ ءٌ مِنَ الْبَوْلِ، فَأَمْسَحُهُ بِالْحَائِطِ وَبِالتُّرَابِ، ثُمَّ تَعْرَقُ يَدِي فَأَمْسَحُ وَجْهِي أَوْ بَعْضَ جَسَدِي، أَوْ يُصِيبُ ثَوْبِي؟ فَقَالَ لا بَأْسَ بِهِ»(4).5.

ص: 172


1- التهذيب: ج 1/425، وسائل الشيعة: ج 1/205 ح 525، بحار الأنوار: ج 77/40.
2- المعتبر: ج 1/84.
3- الكافي: ج 3/60، وسائل الشيعة: ج 1/205 ح 526.
4- الكافي: ج 3/55، الفقيه: ج 1/69، التهذيب: ج 1/250، وسائل الشيعة: ج 3/401 ح 3975.

وفيه أوّلاً: أنّه أجنبي عن المقام، لأنّ مورد السؤال والجواب فيه ليس هو موضع إصابة البول، بل ما لاقاه بعد إزالة العين، فهو ممّا يدلّ على عدم المتنجّس.

وثانياً: لو سُلّم أنّ السؤال إنّما يكون عن ذلك الموضع، فيتعيّن طرحه، لأنّ التراب لا يكون مطهِّراً باتّفاق منّا ومن الخصم.

الوجه الخامس: إطلاق الأمر بالغَسل من النجاسة في كثيرٍ من الأخبار.

وفيه أوّلاً: أنّه لو لم يكن الغَسل بالماء مأخوذاً في مفهوم الغسل، فلا ريب في انصرافه إليه.

وثانياً: أنّه لو سُلّم الإطلاق، فهو يقيّد بما عرفت من الأخبار الدالّة على اعتبار ذلك في حصول الطهارة، فتدبّر.

وعن صاحب «المفاتيح»(1): التفصيل بين الموارد التي فيها الأمر بالغَسل، فيعتبر أن يكون بالماء، وغيرها فيكفي زوال العين ولو بالغسل بالماء المضاف.

أقول: والذي يظهر من كلامه أنّ مراده عدم كون النجاسات منجّسة لجميع الأشياء، وأمّا على فرض التنجيس فيعترف بلزوم أن يكون بالماء.

وفيه: أنّ ذلك مخالفٌ للقاعدة المسلّمة المغروسة في أذهان المتشرّعة، وهي أنّ النجس يوجب تنجّس ملاقيه، الثابتة بالإجماع والأخبار، حيث أنّ المتتبّع للنصوص الواردة في الموارد الخاصّة كالبول والمني وغيرهما، لا يشكّ في أنّ نجاسة ملاقي النجاسات كانت من الاُمور المفروغ عنها عند السائلين والأئمّة عليهم السلام.

ويشهد لثبوتها: مضافاً إلى ذلك، خبر عمّار السّاباطي، سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام:

«عَنْ رَجُلٍ يَجِدُ فِي إِنَائِهِ فَأْرَةً وقَدْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الإنَاءِ مِرَاراً أَوِ اغْتَسَلَ مِنْهُ أَوْ6.

ص: 173


1- حكاه عن المفاتيح المحدِّث البحراني في الحدائق الناضرة: ج 1/406.

غَسَلَ ثِيَابَهُ وقَدْ كَانَتِ الْفَأْرَةُ مُتَسَلِّخَةً؟

فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَآهَا فِي الإنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَوْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا رَآهَا فِي الإنَاءِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ، ويَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ، ويُعِيدَ الْوُضُوءَ والصَّلاةَ، وإِنْ كَانَ إِنَّمَا رَآهَا بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ وفَعَلَهُ، فَلا يَمَسَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شيئاً ولَيْسَ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ، لأنَّهُ لا يَعْلَمُ مَتَى سَقَطَتْ فِيهِ.

ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا سَقَطَتْ فِيهِ تِلْكَ السَّاعَةَ الَّتِي رَآهَا»(1).

ودلالة قوله: (ويَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ) على تنجّس كلّ شيء بملاقاة النجاسة واضحة.

وما عن معاوية بن شريح، قَالَ: «سَأَلَ عُذَافِرٌ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وأَنَا عِنْدَهُ عَنْ سُؤْرِ السِّنَّوْرِ والشَّاةِ والْبَقَرَةِ والْبَعِيرِ والْحِمَارِ والْفَرَسِ والْبَغْلِ والسِّبَاعِ يُشْرَبُ مِنْهُ أَوْ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: نَعَمِ اشْرَبْ مِنْهُ وتَوَضَّأْ.

قَال: َ قُلْتُ لَهُ الْكَلْبُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: أَلَيْسَ هُوَ سَبُعٌ؟ قَالَ: لا واللّهِ إِنَّهُ نَجَسٌ لا واللّهِ إِنَّهُ نَجَسٌ»(2).

حيث أنّ تعليل الحكم بالاجتناب عن سؤر الكلب بأنّه نجس، يدلّ بعمومه على تنجّس كلّ شيء به كما لا يخفى.

***6.

ص: 174


1- وسائل الشيعة: ج 1/142 ح 350.
2- التهذيب: ج 1/225، وسائل الشيعة: ج 1/226 ح 576.
إذا شكّ في مائع أنّه مضافٌ أو مطلق

فروع:

الفرع الأوّل: إذا شكّ في مائع أنّه مضاف أو مطلق، ففيه صورتان:

فتارةً يعلم الحالة السابقة، وأُخرى لا يعلم.

الصورة الاُولى: فإن علم حالته السابقة أخذ بها للاستصحاب، سواءً أكانت الإطلاق أو الإضافة، من غير فرقٍ بين أن يكون الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة أو بنحو الشبهة المفهوميّة، فيما لو كان شكّ في حدود المفهوم، على نحو يوجب الشكّ في صدقه على المورد، بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الشبهات المفهوميّة، وأمّا بناءً على عدم جريانه فيها، فحكمه حكم ما لم يعلم حالته السابقة.

وما ذكره بعض الأعاظم(1): من جريان استصحاب الحكم السابق، كاستصحاب كونه مطهّراً إذا كان مطلقاً، أو استصحاب انفعاله بالملاقاة إذا علم أنّه كان مضافاً.

مخدوش: لعدم جريان استصحاب الحكم في مثله، للشكّ في بقاء الموضوع.

الصورة الثانية: وإنْ لم يعلم الحالة السابقة، لا يُحكم عليه بالإطلاق، فلا يرفع الحَدَث والخَبَث، لاستصحاب بقائها بعد استعماله.

إنّما البحث عن أنّه هل ينجس بملاقاة النجاسة إنْ كان بقدر الكُرّ أم لا؟

وجهان: أقواهما الأوّل لاستصحاب العدم الأزلي - أي أصالة عدم اتّصاف المايع الخارجي بالمائية - فإنّ الصحيح جريان هذا الأصل، فيترتّب عليه نجاسته بملاقاة النجس ولو كان بقدر الكُرّ.

ثم أنّه قد استدلّ للقول بالنجاسة: بوجوهٍ اُخر:

ص: 175


1- كما في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/116.

الوجه الأوّل: أنّ المستفاد من الأدلّة اقتضاء الملاقاة للانفعال، وأنّ الكُرّ من الماء مانعٌ عنه، فمع الشكّ في المانع يكون المرجع أصالة العدم.

وفيه: إنّ ذلك يتوقّف على تماميّة قاعدة المقتضي والمانع، ولا نقول بها، مضافاً إلى أنّه لو تمّت القاعدة، فإنّما هي فيما لو كان الشكّ في وجود المانع، لا في ما شكّ في مانعيّة الموجود كما في المقام.

الوجه الثاني: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله(1) من أنّ تعليق الحكم الترخيصي - سواءٌ أكان تكليفيّاً أو وضعيّاً - على أمرٍ وجودي بالالتزام العرفي، يدلّ على إناطته بإحراز ذلك الأمر، ودخالة الإحراز في الموضوع، فإذا لم يحرز المائيّة لا يشمله قوله عليه السلام: (الماءُ إذا بَلَغ قَدْرَ كُرّ لا ينجّسه شيء). فيكون مشمولاً لما دلّ على تنجّس كلّ شيء بالملاقاة.

وفيه: أنّه لم يثبت لنا أن تكون هناك قاعدة عقلائيّة ظاهريّة تقتضي ذلك، نعم قد يقتضي الأصل انتفاء الأمر المنوط به الجواز، وهذا غير ما ادّعاه رحمه الله.

وبالجملة: إذا لم يؤخذ العلم في لسان الدليل دخيلاً في الموضوع، لا يكون الحكم منوطاً به، من غير فرقٍ بين الحكم الترخيصي والإلزامي.

الوجه الثالث: أنّ مقتضى العمومات تنجّس كلّ شيء بالملاقاة إلّاالماء الكُرّ، فمع الشكّ في المائيّة، يشكّ في المصداق، والمرجع في الشبهة المصداقيّة هو العموم.

وفيه: أنّ المحقّق في محلّه(2) عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

نعم، من يقول بالجواز - كبعض الأساطين رحمه الله على ما يظهر من فتاويه - لابدَّ له من القول في المقام بالنجاسة، فحكمه قدس سره بالطهارة اشتباه منه.).

ص: 176


1- فوائد الاُصول للكاظمي: ج 3/386.
2- زبدة الاُصول ج 3/243، مبحث: (التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة).
حكم إلقاء الماء المضاف على الكُرّ

الفرع الثاني: إذا أُلقي المضاف في كُرٍّ فخرج من الإطلاق إلى الإضافة:

1 - تنجّس إن صار مضافاً قبل الاستهلاك، لأنّه يصير مضافاً ملاقياً للنجس في زمان، فينجس فيه، وبعد نجاسته لا يفيد الاستهلاك، بل يكون من قبيل إخراج النجس بعد تنجّسه.

2 - وأمّا إنْ حصل الاستهلاك والإضافة دفعةً - على فرض إمكانه - فلا يُحكم بنجاسته.

أقول: يقع الكلام في جهتين:

الجهة الاُولى: في بيان معقوليّة هذا الفرض.

الجهة الثانية: في بيان حكمه.

أمّا الجهة الاُولى: فعن جماعةٍ من المحقّقين(1): عدم معقوليته، إذ الاستهلاك ملازم لكونه مطلقاً، وانعدام الممزوج بالماء حينئذٍ، فلا يمكن أن يكون مع ذلك مضافاً، لأنّه ملازمٌ لبقائه بنحوٍ يوجب سلب اسم الماء، وهل هذا إلّا اجتماع النقيضين.

وبعبارة أُخرى: كونه مضافاً عبارةٌ عن غلبة المضاف، وهذا لا يجتمع مع مغلوبيته بنحوٍ يصدق الاستهلاك.

وفيه: أنّه يمكن أن يتصوّر تأثير شيء في الماء، بأن يخرجه عن المائيّة مع انعدام نفسه، كما يشاهد ذلك فيما يخالط الماء، ويوجب انجماده وصيرورته ثلجاً، فإنّه يؤثّر في الماء ويخرجه عن المائيّة، مع انعدام نفسه واستهلاكه.

ص: 177


1- منهم كاشف الغطاء والنائيني في العروة الوثقى: ج 1/67.

وعليه، فيمكن أنْ يخالط ذلك الشيء أوّلاً مع النجس، ثمّ يُلقى في الماء، فيوجب ذلك انجماد الماء مع استهلاكه. وبذلك ظهر معقوليّة أن يصبح الماء مضافاً بعد إلقاء المضاف النجس عليه، ثمّ يستهلك النجس فيه.

وأمّا الجهة الثانية: فالأقوى عدم تنجّسه، إلّاإذا تغيّر الماء بأحد الأوصاف الثلاثة.

1 - أمّا إذا تغيّر، فلما مرَّ من أنّ التغيّر يوجب النجاسة.

2 - وأمّا إذا لم يتغيّر، فللاستصحاب وقاعدة الطهارة، وذلك لأنّه بما أنّ إضافة الماء إنّما تكون متأخّرة عن الملاقاة، ففي ظرف الملاقاة لا يكون الماء مضافاً حتّى ينجس، وحينما يصبح مضافاً، بما أنّ النجس مستهلكٌ في ذلك الزمان، فالمضاف لا يلاقي مع النجس.

وبعبارة أُخرى: حين الملاقاة لا يكون مضافاً، وحين الإضافة لا يكون ملاقياً مع النجس، فلا وجه للحكم بنجاسته.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر حكم ما لو صار مستهلكاً، ثمّ صار مضافاً، فإنّ الحكم بطهارة الماء في هذا الفرض واضح.

***

ص: 178

في حكم الوضوء بهذا الماء المشكوك

الفرع الثالث: ففي ضيق الوقت يتيمّم بلا خلاف، بخلاف ما إذا كان في سعة الوقت فإنّه يجب عليه أن يصبر حتّى يصفى ثمّ يتوضّأ.

لا لما ذكره بعض الأساطين من صدق الوجدان مع السّعة دون الضيق، بل لصدق عدم الوجدان مع الضيق دون السّعة.

توضيح ذلك: إنّ الصلاة المأمور بها إنّما هي الكلّي الطبيعي على نحو صرف الوجود.

وبعبارة أُخرى: أنّ المأمور به هو طبيعي الصلاة في مجموع الوقت، والشارع إنّما جعل الطهارة المائيّة شرطاً لهذا المأمور به مع إمكانها، ومع عدمه جعل التيمّم بدلاً لها.

وعليه، فالمستفاد من الأدلّة أنّ الشرط هو الطهارة المائيّة مع الوجدان، ولو في جزءٍ من الوقت، ومع عدم الوجدان في مجموع الوقت ينتقل التكليف إلى التيمّم.

***

ص: 179

مسائل:
الأولى: الماءُ المُستَعمل في رفع الحَدَث طاهرٌ ومطهّرٌ
اشارة

مسائل: الأولى: الماءُ المُستَعمل في رفع الحَدَث طاهرٌ ومطهّرٌ.

الماء المستعمل في رفع الحدث

(المسألة الاُولى: الماء المستعمل في رفع الحدث طاهر ومطهّر):

أمّا المستعمل في الوضوء: فللأصل، وعموم ما دلَّ(1) على أنّ الماء طاهرٌ ومطهّر، وخصوص خبر ابن سنان الآتي.

وعن الشهيد(2) والمفيد(3): أنّه يستحبّ التنزّه عنه.

ولعلّ الوجه فيه: أنّ مورد الحكم - حرمةً أو كراهةً - ما هو المستعمل في رفع الحدث الأكبر، وحيث أنّ الحَدَث الأكبر في غير الجنابة - على قولٍ - يرتفع بمجموع الغُسل والوضوء، فحينئذٍ يشمل إطلاق بعض النصوص وضوء ذلك المُحدِث، فيثبت في غيره بعدم الفصل.

أقول: وهذا الوجه وإنْ لم يكن تامّاً، إلّاأنّه لا بأس بجعله مدركاً للاستحباب.

ومنه يظهر حكم المستعمل في الأغسال المندوبة.

وعن ظاهر «المقنعة»: استحباب التنزّه عنه.

وعن «الحبل المتين»(4): الاستدلال له بما في «الكافي»، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ

ص: 180


1- وردت عدّة روايات في وسائل الشيعة: ج 1/133.
2- عبارة الشهيد الأوّل هي: (الماء المستعمل في رفع الحدث طاهر إجماعاً سواء في ذلك الحدث الأصغر والأكبر، ومطهّر إنْ كان الحدث أصغر إجماعاً... وذهب الشيخان وجماعة إلى كونه غير مطهر استناداً إلى أخبار، لو لم تكن ضعيفة أمكن حملها على التنزيه...) روض الجنان ص 158.
3- المقنعة ص 42 باب 3 (آداب الأحداث الموجبة للطهارة) ظاهر قوله: (لم يضرّ بطهارته منه إلّاأنّه يكون بذلك تاركاً فضلاً، ومهملاً سُنّة).
4- الحبل المتين ص 118.

الرِّضَا عليه السلام، فِي حَدِيثٍ قَالَ:

«مَنِ اغْتَسَلَ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي قَدِ اغْتُسِلَ فِيهِ فَأَصَابَهُ الْجُذَامُ فَلا يَلُومَنَّ إِلّا نَفْسَهُ!

فَقُلْتُ لأبِي الْحَسَنِ عليه السلام: إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ إِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنَ الْعَيْنِ؟! فَقَالَ:

كَذَبُوا يَغْتَسِلُ فِيهِ الْجُنُبُ مِنَ الْحَرَامِ والزَّانِي والنَّاصِبُ الَّذِي هُوَ شَرُّهُمَا، وكُلٌّ مِنْ خَلْقِ اللّهِ، ثُمَّ يَكُونُ فِيهِ شِفَاءٌ مِنَ الْعَيْنِ!»(1).

بدعوى أنّ إطلاقه يشمل الواجب والمندوب.

ولكن ذيل الخبر ينفي هذا الإطلاق، وأظنّ أنّ نظر المفيد رحمه الله إلى إطلاق قوله عليه السلام في خبر ابن سنان الآتي وأشباهه، بناءً على عطفها على الضمير المجرور.

وأمّا المستعمل في رفع الحدث الأكبر: مع طهارة البدن، فالظاهر أنّ طهارته موضوع اتّفاق الأصحاب كالنصوص.

وأمّا رفعه للخبث: فهو المشهور، وعن ظاهر «المقنعة»(2) و «الوسيلة»(3)وموضع من «المبسوط»(4) و «التهذيب»(5): العدم.

أقول: والذي يمكن أن يستدلّ به لهذا القول، توهّم عموم التوضّي في خبر ابن سنان الآتي لمطلق التطهير، ولو من الخبث، إذ لم تثبت الحقيقة الشرعيّة في غير لفظ الوضوء من مشتقّات هذه المادّة.

ولكن الخبر لا يدلّ على المنع كما ستعرف، مع أنّه لو دلَّ لاختصّ بغير رفع0.

ص: 181


1- الكافي ج 6 ص 503، من لا يحضره الفقيه: ج 1/113، وسائل الشيعة: ج 1/219 ح 557.
2- بل صريح المقنعة ص 64 ما نصّه: (ولا يجوز الطهارة أيضاً بالمياه المستعملة في الغَسل من النجاسات كالحيض والاستحاضة والنفاس والجنابة وتغسيل الأموات).
3- الوسيلة ص 74 وعبارته: (المستعمل في إزالة النجاسة لا يجوز استعماله فيه ثانياً).
4- المبسوط: ج 1/11، وعبارته: (ما استعمل في غسل الجنابة والحيض فلا يجوز استعماله في رفع الأحداث وإنْ كان طاهراً).
5- التهذيب: ج 1/220.

الخبث، بقرينة صدره وذيله.

وأمّا جواز استعماله في رفع الحَدَث، فهو المشهور(1) بين المتأخّرين، على ما نُسب إليهم(2).

وعن المصنّف رحمه الله(3) والسيّدين(4) وغيرهم(5): أنّهم اختاروه.

وحُكي عن «المقنعة»(6) والصدوقين وابني حمزة(7) والبرّاج(8): العدم.

واستدلّ لعدم جواز الاستعمال بروايات عديدة منها:

الرواية الاُولى: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «لا بَأْسَ بِأَنْ يُتَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، فَقَالَ الْمَاءُ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ الثَّوْبُ أَوْ يَغْتَسِلُ بِهِ الرَّجُلُ مِنَ الْجَنَابَةِ لا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَضَّأَ مِنْهُ وأَشْبَاهِهِ، وأَمَّا الَّذِي يَتَوَضَّأُ الرَّجُلُ بِهِ فَيَغْسِلُ بِهِ وَجْهَهُ ويَدَهُ فِي شَيْ ءٍ نَظِيفٍ، فَلا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَهُ غَيْرُهُ ويَتَوَضَّأَ بِهِ»(9).1.

ص: 182


1- كما حكاه الشهيد الثاني في روض الجنان ص 158.
2- بحار الأنوار: ج 77/134 قوله: وادّعى المحقّق في «المعتبر» والعلّامة في «المنتهى» الإجماع على أن غسالة الخبث وإن قيل بطهارتها لا يرتفع بها الحدث، وظاهر كلام الشهيد في الدروس (أنّ بجواز رفع الحدث به قائلاً. والماء القليل المستعمل في رفع الحدث الأصغر طاهر مطهر بلا خلاف والمستعمل في رفع الحدث الأكبر طاهر إجماعاً وفي جواز رفع الحدث به ثانياً خلافٌ فذهب الصدوقان والشيخان وجماعة إلى العدم، وأكثر المتأخّرين على الجواز ونقلوا الإجماع على جواز إزالة الخبث به).
3- منتهى المطلب: ج 1/133 قوله: (والذي أذهب إليه أنّه طاهر مطهّر)، وفي نهاية الأحكام: ج 1/241 قال: (طاهر مطهّر).
4- المرتضى في جمل العلم والعمل ص 51. وابن زهرة الحلبي في غنية النزوع ص 48.
5- كابن إدريس في السرائر: ج 1/61.
6- فصل الشيخ المفيد بين الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر وبين المستعمل في الأصغر، فمنع في الأوّل، وأجاز في الثاني. المقنعة ص 64.
7- يفهم حكمه هذا من سياق مسألة وردت في المهذّب: ج 1/29 يقول فيها: (إنّه إذا اشتبه ماءان: أحدهما استعمل في رفع الحدث الأكبر، والآخر لم يستعمل، فالأحوط أن يستعمل الاثنين معاً).
8- المهذّب: ج 1/29.
9- التهذيب: ج 1/221 ح 13، وسائل الشيعة: ج 1/215 ح 551.

بدعوى أنّ الظاهر عطف (وأشباهه) على الضمير المجرور، فيدلّ على المنع من الوضوء بكلّ مستعمل في رفع الأكبر ولو كان غير الجنابة.

ونوقش فيها: بضعف السند، لاشتماله على أحمد بن هلال العَبَرْتائي الملعون المذموم كما عن الكشّي(1)، والذي رجع عن التشيّع(2) إلى النصب، كما عن سعد بن عبد اللّه الأشعري.

وبالجملة: قد أكثروا في الطعن عليه برميه بالغلوّ تارةً، وبالنَّصب أُخرى.

وفيه: أنّه بما أنّ الراوي عنه - بواسطة الحسن بن علي - سعد بن عبد اللّه، وهو ممّن طعن عليه، مع شدة اهتمامه بترك رواية المخالفين، وأنّ أحمد إنّما روى عن ابن محبوب، وعن ابن الغصائري، مع أنّه لم يتوقّف في روايته عن ابن أبي عمير وابن محبوب، فالخبر موثوق الصدور، ولا يعتبر في الحجيّة أزيد من ذلك.

هذا كلّه مضافاً إلى اعتماد القميّين والمشايخ الثلاثة عليه، فالرواية من حيث السند لا إشكال فيها.

وأمّا من حيث الدلالة: فنوقش فيها باحتمال إرادة إزالة الوسخ من غَسل الثوب لا النجاسة، فالنهيّ محمول على مطلق المرجوحيّة، فلا يدلّ على الحرمة.

وفيه: أنّ الظاهر إرادة الغَسل الشرعي، وليس هو إلّاالغَسل لإزالة النجاسة.

ولكن يرد على الاستدلال بها: أنّ الظاهر - بقرينة النصوص الواردة في كيفيّة غُسل الجنابة - ورود الخبر مورد الغالب، من اشتمال بدن الجُنُب على النجاسة، ويشهد له - مضافاً إلى ذلك - قوله عليه السلام في صدر الخبر: (لا بَأْسَ بِأَنْ يُتَوَضَّأَ بِالْمَاءِ).

ص: 183


1- رجال الكشّي ص 535.
2- ذكر السيّد الحكيم في مستمسك العروة: ج 1/220 خلاصة الأقوال فيه وهي: (الذي رجع عن التشيّع إلى النصب كما عن سعد بن عبد اللّه الأشعري، والملعون المذموم - كما عن الكشّي - والغالي المتّهم في دينه كما عن الفهرست، والذي لا يعمل بما يختصّ بروايته - كما عن التهذيب - وروايته غير مقبولة كما عن الخلاصة).

الْمُسْتَعْمَلِ)، وأيضاً قوله عليه السلام في ذيله: (فَيَغْسِلُ بِهِ وَجْهَهُ ويَدَهُ فِي شَيْ ءٍ نَظِيفٍ فَلا بَأْسَ).

وبالجملة: فالذي يظهر لي من هذه الرواية، بعد ملاحظة تلك القرائن، أنّه عليه السلام بيِّن في بداية الحديث أنّ الماء المستعمل من حيث أنّه مستعملٌ لا بأس باستعماله ثانياً في رفع الخَبَث والحَدَث، ما لم تضمّ إليه جهة أُخرى موجبة للنجاسة كغُسل الثوب النجس به، واغتسال الجُنُب منه، وإلّا فلا يجوز لذلك.

وأمّا ما لم تنضم إليه هذه الجهة، كما لو توضّأ مع طهارة الموضع في شيء نظيف فلا بأس به.

وتخصيص الوضوء بالذِّكر، لعلّه يكون لردّ المبتدعين القائلين بنجاسة مائه.

وعلى هذا، فالرواية من خلال إطلاق ما في صدرها تدلّ على جواز استعمال الماء المستعمل في رفع الأكبر، في رفع الحدث، ولا تدلّ على المنع.

والنتيجة: ظهر من ما ذكرناه أنّه لا يصحّ الاستدلال لهذا القول بما ورد من النهي عن الاغتسال بغُسالة الحمّام(1)، معلّلاً بأنّ فيها غسالة الجُنُب، فإنّ الظاهر منه أنّ المنع إنّما يكون لأجل النجاسة.

الرواية الثانية: صحيح محمّد بن مسلم، عَنْ أَحَدِهِمَا عليهما السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنْ مَاءِ الْحَمَّامِ؟ فَقَالَ: ادْخُلْهُ بِإِزَارٍ ولا تَغْتَسِلْ مِنْ مَاءٍ آخَرَ، إِلّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ جُنُبٌ أَوْ يَكْثُرَ أَهْلُهُ فَلا يُدْرَى فِيهِمْ جُنُبٌ أَمْ لا»(2).

بدعوى: أنّه يدلّ على عدم لزوم الاغتسال من ماء آخر، إلّامع وجود الجنب فيه واستعماله الماء، ولو كان رفع الحدث بالماء المستعمل جائزاً، لم يكن وجه للزوم1.

ص: 184


1- وسائل الشيعة: ج 1/218 و 219 ح 556 و 557.
2- التهذيب: ج 1/379، وسائل الشيعة: ج 1/149 ح 371.

الاغتسال من ماء آخر.

وفيه: أنّه لا يمكن حمل النهي في الخبر على الحرمة، من غير فرق بين إرادة ما في الخزانة من الماء، وبين إرادة ما في الحياض الصغار الذي هو بمنزلة الماء الجاري، لجواز الاغتسال منه إذا كان كُرّاً، كما هو الغالب باتّفاق النَّص والفتوى، على ما ستعرف.

مضافاً إلى أنّ المتعارف بين الناس الاغتسال حول الحياض الصغار لا فيه، والرشحات التي تنضح فيها حال الغسل لا تضرّ قطعاً كما سيمرّ عليك.

هذا فضلاً عن معارضته بروايات اُخر دالّة على جواز الاغتسال منه في الفرض، وأنّه لا يجب الاغتسال من ماء آخر.

مع أنّ مناط النهي لو كان استعماله في غُسل الجنابة، كان اللّازم تخصيصه بالعلم، لا تعميمه لما إذا احتمل ذلك أيضاً.

أقول: ولهذه الجهات لابدَّ من حمل الخبر على ماء الخزانة المتعارفة في زماننا، وحمل النهي على الكراهة، أو حمله على ما إذا كان الجُنُب في الحمّام مشغولاً بالاغتسال، ولأجل اشتمال بدنه على النجاسة، يوجب نجاسة من اجتمع معه حول الحوض الصغير الذي كان أخذ الماء منه متعارفاً في تلك الأزمنة، فيتعذّر أو يتعسّر حصول الغُسل الصحيح، فيتعيّن حمل النهي على الإرشاد.

الرواية الثالثة: صحيح ابن مسكان، سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ الصادق عليه السلام:

«عَنِ الرَّجُلِ يَنْتَهِي إِلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ فِي الطَّرِيقِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَغْتَسِلَ ولَيْسَ مَعَهُ إِنَاءٌ، والْمَاءُ فِي وَهْدَةٍ، فَإِنْ هُوَ اغْتَسَلَ رَجَعَ غُسْلُهُ فِي الْمَاءِ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: يَنْضِحُ بِكَفٍّ بَيْنَ يَدَيْهِ وكَفّاً مِنْ خَلْفِهِ وكَفّاً عَنْ يَمِينِهِ وكَفّاً عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ»(1).4.

ص: 185


1- التهذيب: ج 1/417، الاستبصار: ج 1/28، وسائل الشيعة: ج 1/217 ح 554.

بدعوى: أنّ ظاهره كون محذور رجوع الغَسل في الماء، عدم صحّة الغَسل به.

وفيه: أنّ المحذور الذي قرره عليه السلام يحتمل أن يكون كراهة الاستعمال لا الحرمة، مع أنّ نضح الأكفّ لا يمنع من رجوع الماء، فالأمر بالغُسل على الإطلاق يدلّ على الجواز وإنْ رجع إليه الماء، ولعلّ نضح الأكفّ بالكيفيّة الخاصّة، يكون من آداب الغُسل والوضوء من الماء القليل.

وكيف كان، فهذا الخبر أيضاً على خلاف مطلوبهم أدلّ.

الرواية الرابعة: وأشكل من الجميع الاستدلال لهذا القول بصحيح ابن مسلم:

«عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام وسُئِلَ عَنِ الْمَاءِ تَبُولُ فِيهِ الدَّوَابُّ وتَلَغُ فِيهِ الْكِلابُ، ويَغْتَسِلُ فِيهِ الْجُنُبُ؟ قَالَ: إذا كَانَ الْمَاءُ قَدْرَ كُرٍّ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْ ءٌ»(1).

إذ الظاهر منه نجاسة الماء القليل إذا اغتسل فيه الجُنُب، فلابدَّ من حمله على ما إذا كان بدنه نجساً.

فتحصّل ممّا ذكرناه: عدم تماميّة شيءٍ ممّا استدلّ به على المنع، بل بعض تلك الأدلّة يدلّ على الجواز.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك وإلى الأصل - صحيح ابن جعفر، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الاوَّلِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ الْمَاءَ فِي سَاقِيَةٍ أَوْ مُسْتَنْقِعٍ، أَ يَغْتَسِلُ مِنْهُ لِلْجَنَابَةِ أَوْ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ لِلصَّلاةِ، إذا كَانَ لا يَجِدُ غَيْرَه، ُ والْمَاءُ لا يَبْلُغُ صَاعاً لِلْجَنَابَةِ، ولا مُدّاً لِلْوُضُوءِ، وهُوَ مُتَفَرِّقٌ، فَكَيْفَ يَصْنَعُ وهُوَ يَتَخَوَّفُ أَنْ تَكُونَ السِّبَاعُ قَدْ شَرِبَتْ مِنْهُ؟

فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ يَدُهُ نَظِيفَةً فَلْيَأْخُذْ كَفّاً مِنَ الْمَاءِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، فَلْيَنْضِحْهُ خَلْفَهُ1.

ص: 186


1- التهذيب: ج 1/39، الاستبصار: ج 1/20، وسائل الشيعة: ج 1/158 ح 391.

وكَفّاً أَمَامَهُ وكَفّاً عَنْ يَمِينِهِ وكَفّاً عَنْ شِمَالِه، ِ فَإِنْ خَشِيَ أَنْ لا يَكْفِيَهُ غَسَلَ رَأْسَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَسَحَ جِلْدَهُ بِيَدِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ، وإِنْ كَانَ الْوُضُوءُ غَسَلَ وَجْهَهُ ومَسَحَ يَدَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ ورَأْسِهِ ورِجْلَيْهِ، وإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُتَفَرِّقاً فَقَدَرَ أَنْ يَجْمَعَهُ وإِلّا اغْتَسَلَ مِنْ هَذَا ومِنْ هَذَا، وإِنْ كَانَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وهُوَ قَلِيلٌ لا يَكْفِيهِ لِغُسْلِهِ، فَلا عَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ ويَرْجِعَ الْمَاءَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ»(1).

ودلالة هذه الرواية على الجواز في صورة عدم وجدان غيره واضحة.

أقول: والظاهر دلالتها على الجواز حتّى في صورة وجود غيره، لأنّ الماء الذي يغسل به الرأس ويرجع إلى الساقية، ممّايكفي في تحصيل مسمّى الغُسل لجميع البدن.

فالمراد من عدم الكفاية عدمها إذا اغتسل به على نحو الصبّ على الأعضاء على ما هو المتعارف، فيدلّ على جواز الاغتسال به حتّى بعد رجوع الماء إلى الساقية أو المستنقع، وبه ترفع اليد عن ظاهر ما استدلّ به على المنع على تقدير ظهوره فيه، فيُحمل على صورة نجاسة بدن الجُنُب، أو يُحمل على الكراهة.

وعليه، فالأقوى جواز استعماله في رفع الحدث.

***3.

ص: 187


1- مسائل علي بن جعفر: ص 207، التهذيب: ج 1/416، وسائل الشيعة: ج 1/216 ح 553.
الثانية: المستعمل في إزالة النجاسة نجس
الماءُ المستعمل في الاستنجاء

الثانية: المستعمل في إزالة النجاسة نجس سواء تغيّر بالنجاسة أو لم يتغيّر عدا ماء الاستنجاء

(الثانية): الماءُ (المستعمل في إزالة النجاسة نجسٌ، سواءٌ تغيّر بالنجاسة أو لم يتغيّر عدا ماء الاستنجاء).

أقول: فهاهنا مقامان:

المقام الأوّل: والظاهر أنّ مورد الكلام هو ما يشمل الاستنجاء من البول، ولا يختصّ بالاستنجاء من الغائط، كما صرّح به جماعة(1).

ويشهد له: تعميم الفقهاء الحكم له، وهو يشهد بعموم معناه، ويساعده العرف في زماننا، مضافاً إلى قضاء العادة بندرة انفراد الغائط عن البول، وعدم انفكاك ماء الاستنجاء من الغائط عن ماء الاستنجاء من البول إلّانادراً، فيكون الدليل المطلق الوارد في مقام بيان الحكم ظاهراً في طهارتهما، فتثبت طهارة ماء الاستنجاء من البول وحده بعدم الفصل القطعي.

وكيف كان، فهو مع الشروط الآتية طاهر كما صرّح به جماعة(2).

وعن بعض آخر: أنّه لا ينجس الثوب(3).

ص: 188


1- كمفتاح الكرامة: ج 1/381، والرياض حيث نقله عن الأكثر: ج 1/182، رسائل الكركي: ج 1/86، جامع المقاصد: ج 1/129، مسالك الافهام: ج 1/23، كشف اللّثام: ج 1/300.
2- كابن فهد الحلّي في المهذّب البارع: ج 1/117، والعلّامة في القواعد: ج 1/186، والتذكرة: ج 1/37، والمحقّق في الشرائع: ج 1/12، والفاضل الآبي في كشف الرموز ص 59.
3- الشيخ المفيد في المقنعة: ص 47 حيث قال: (... وكذلك ما يقع على الأرض الطاهرة من الماء الذي يستنجى به ثمّ يرجع عليه، لا يضرّه، ولا ينجس شيئاً من ثيابه).

وعن ثالث: أنّه معفوٌّ عنه(1).

وعن رابع: أنّه لا بأس به(2).

ونقل الإجماع على كلّ واحدٍ من التعبيرات إلّاالثالث(3).

والأقوى: أنّه لا يستفاد من النصوص أزيد من طهارة ملاقيه، وعدم تنجّسه به، وهذا مستفادٌ من ملاحظة مصحّحة محمّد بن نعمان، قَالَ:

«قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: أَخْرُجُ مِنَ الْخَلاءِ فَأَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ، فَيَقَعُ ثَوْبِي فِي ذَلِكَ الْمَاءِ الَّذِي اسْتَنْجَيْتُ بِهِ؟ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ»(4).

ونحوها المصحّحة الاُخرى التي رواها الشيخ المفيد مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بسنده، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«قُلْتُ لَهُ أَسْتَنْجِي ثُمَّ يَقَعُ ثَوْبِي فِيهِ وأَنَا جُنُبٌ؟ فَقَالَ لا بَأْسَ بِهِ»(5).

فإنّ الظاهر رجوع الضمير إلى الثوب ونفي البأس عنه بقول مطلق عبارة أُخرى عن طهارته.

أقول: وأصرح منهما صحيح عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يَقَعُ ثَوْبُهُ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي اسْتَنْجَى بِهِ أيُنَجِّسُ ذَلِكَ ثَوْبَهُ؟ قَالَ: لا»(6).9.

ص: 189


1- العلّامة في المنتهى: ج 1/281 حيث قال: (واتّفق الجميع على أنّ أثر النجاسة بعد الاستنجاء وزوال العين معفوٌّ عنه).
2- السيّد المرتضى في المصباح كما نسبه إليه في المعتبر حيث قال: (وقال علم الهدى رحمه الله في «المصباح» لا بأس بماينضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن). المعتبر: ج 1/91.
3- وهو أنّه معفوٌّ عنه.
4- وسائل الشيعة: ج 1/221 ح 565، الكافي ج 3 ص 13، التهذيب: ج 1/85.
5- وسائل الشيعة: ج 1/222 ح 568. التهذيب: ج 1/86.
6- الكافي: ج 3 ص 12، التهذيب: ج 1/86، وسائل الشيعة: ج 1/223 ح 569.

وأمّا رواية العلل التي رواها الشيخ الصَّدُوقُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي حَدِيثٍ:

«الرَّجُلُ يَسْتَنْجِي فَيَقَعُ ثَوْبُهُ فِي الْمَاءِ الَّذِي اسْتَنْجَى بِهِ؟

فَقَالَ: لا بَأْسَ، فَسَكَتَ فَقَالَ: أَوتَدْرِي لِمَ صَارَ لا بَأْسَ بِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا واللّهِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَاءَ أَكْثَرُ مِنَ الْقَذَر»(1).

الظاهرة بقرينة التعليل في طهارة الماء.

فيرد عليها أوّلاً: مضافاً إلى إرساله، وإنْ كان المرسل يونس بن عبد الرحمن، وإلى أنّ الغزار(2) مجهول.

ثانياً: أنّ التعدّي عن مورد التعليل لا يمكن، لما تقدّم من إنفعال الماء القليل، وعدم التعدّي يوجب البناء على إجمالها.

وبالجملة: ظهر أنّه لا يمكن الاستدلال بظاهرها، فلا يستفاد من النصوص طهارة الماء، ممّا يعني أنّ عموم ما دلّ على إنفعال الماء القليل هو المحكّم.

وبعض المعاصرين(3) بعد اعترافه بعدم دلالة النصوص على طهارة الماء استدلّ عليها: بأنّها تستفاد بالملازمة العرفيّة بين طهارة ملاقي الشيء وطهارته، كالملازمة بين نجاسة الملاقي ونجاسته، وبها يُخصّص ما يدلّ على إنفعال القليل.

وفيه: أنّ هذه القاعدة ساقطة في المقام قطعاً، لأنّ الأمر يدور بين كون الماء نجساً وملاقيه طاهراً، أو كون القذر المستنجأ منه كذلك، وليس الثاني أولى.6.

ص: 190


1- وسائل الشيعة: ج 1/222 ح 566، علل الشرائع: ج 1/287، البحار: ج 77/15 و 135.
2- ورد اسمه في علل الشرائع (العنزا)، وفي وسائل الشيعة: وبحار الأنوار (العيزار)، وذكر السيّد الحكيم في المستمسك: ج 1/226 أنّ اسمه (العنزار).
3- السيّد محسن الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/226.

وما ذكره المحقّق الهمداني رحمه الله(1): من أنّ الالتزام بنجاسة الماء، مستلزمٌ للتصرّف في جميع الأدلّة الدالّة على عدم جواز استعمال الماء النجس في المأكول والمشروب والوضوء والصلاة وغيرها، وهذا بخلاف الالتزام بطهارة الماء، فإنّه لا يستلزمُ إلّاالتصرّف في عموم إنفعال الماء القليل، ولا ريب في أنّ الثاني أهون.

غير سديد: لأنّه لم يدلّ دليل على جواز استعمال ماء الإستنجاء فيما تشترط فيه الطهارة، وعلى فرض ثبوته بما أنّ أصالة العموم في تلك العمومات ساقطة، لا يمكن الاستدلال بها، إمّا للتخصّص أو للتخصيص، فتبقى أصالة العموم في ما يدلّ على إنفعال القليل سليمة عن المعارض.

أقول: وبما ذكرناه ظهر الجواب عمّا أورد على ما ذكرناه بأنّه:

للعلم الإجمالي بسقوط قاعدة نجاسة ملاقي المتنجّس للعلم بتخصيصها، أمّا بالنسبة إلى ملاقي الماء بناءً على نجاسته، أو بالنسبة إلى نفس الماء الملاقي للنجس بناءً على طهارته، لا مورد للاستدلال بعموم ما دلَّ على إنفعال الماء القليل، فيرجع إلى أصالة الطهارة.

إذ يرد عليه: أنّ أصالة العموم في القاعدة بالنسبة إلى ملاقي ماء الاستنجاء ساقطة إمّا للتخصيص أو للتخصّص، فيكون الأصل بالنسبة إلى الماء الملاقي للنجس بلا معارض.

فتحصّل: أنّ الأقوى - بحسب الأدلّة - هو نجاسة ماء الإستنجاء، وعدم منجّسيّته لملاقيه.

ولعلّ هذا هو المراد من (العفو) في كلام بعضهم، والمراد من (لا بأس به) في).

ص: 191


1- مصباح الفقيه: ج 1/364 ق 1 (طبعة حجريّة).

كلام آخرين، واللّه العالم.

وبالجملة: وعلى ما ذكرناه فمقتضى القاعدة عدم جواز رفع الحَدَث والخَبَث به، وعدم جواز استعماله في الوضوء والغُسل المندوبين.

وأمّا بناءً على طهارة ماء الاستنجاء، فمقتضى القاعدة جواز الجميع، إلّاأن يثبت الإجماع على عدم جواز رفع الحدث بما تزال به النجاسة مطلقاً، كما اعترف به جماعة، أو يتعدّى عن مورد خبر ابن سنان(1) المتقدّم في المستعمل في رفع الحدث الأكبر، الدالّ على المنع، ولو بناءً على نجاسة الغسالة.

***1.

ص: 192


1- التهذيب: ج 1/221 ح 13، وسائل الشيعة: ج 1/215 ح 551.
الماء المستعمل في رفع الخبث

المقام الثاني: في الماء المستعمل في رفع الخبث - غير ماء الاستنجاء - وفي طهارته ونجاسته خلافٌ، وهو إنّما يكون بعد البناء على إنفعال الماء القليل.

أمّا بناءً على عدم الانفعال، فلا محيص عن القول بالطهارة، وبذلك يظهر أنّ نسبة «كاشف الالتباس»(1) القول بالطهارة إلى شيوخ المذهب كالسيّد والشيخ وابني إدريس وحمزة وابن أبي عقيل، في غير محلّها(2)، إذ العُمّاني لا يقول بانفعال القليل.

وعن السيّد وابن إدريس: عدم انفعاله، إذا كان وارداً مطلقاً.

وأمّاالشيخ قدس سره فقداختلفت كلماته المحكيّة في كتبه، فعن مبسوطه القول بالنجاسة.

وكيف كان، ففي المسألة أقوال متكثّرة باعتبار ظاهر كلمات العلماء، فالمهمّ تحقيق المطلب.

ص: 193


1- وردت هذه النسبة في مفتاح الكرامة: ج 1/373 عن «كشف الالتباس» وهو كتاب مخطوط للشيخ المفيد، واُشير إليه في بعض المصادر باسم كاشف الالتباس.
2- ناقش آقا رضا الهمداني في صحّة هذه النسبة الواردة في «كشف الالتباس» إلى شيوخ المذهب في كتابه (مصباح الفقيه) حيث قال: (وأمّا ما عن كشف الالتباس من نسبته إلى شيوخ المذهب كالسيّد والشيخ وابني إدريس وحمزة وابن أبي عقيل، فهو بظاهره تلبيس حيث أنّ ابن أبى عقيل لا يقول بنجاسة الماء القليل بملاقاة النجس، والمعروف عن السيّد وابن إدريس عدم إنفعال الماء الوارد مطلقاً غسالةً كان أم غيرها، كما هو ظاهر عبارتهما، فعدّ مثل هؤلاء الجماعة من أرباب هذا القول ليس على ما ينبغي، وكون دليل السيّد مقتضياً للقول بطهارة خصوص الغسالة كما عرفته فيما سبق، لا يقتضي عدّه من أرباب هذه القول، وأمّا الشيخ فعن خلافه وأوّل مبسوطة التفصيل بين إناء الولوغ وغيره مثل الثوب والبدن، فقال بالطهارة مطلقاً في الأوّل، وفي خصوص الغسلة المطهرة فيما عداه وربما يستظهر من بعض عباراته المحكيّة عن المبسوط القول بالنجاسة). مصباح الفقيه (ط. حجريّة) ق 1: ج 1/60.

أقول: الأقوى إنّه نجسٌ، إمّا نجاسة الغَسلة المزيلة فهو المشهور بين المتأخّرين(1)، ويدلّ عليه عموم ما دلَّ على إنفعال الماء القليل بالملاقاة من دون فرق بين ورود الماء على النجس أو العكس المتقدّم.

والمناقشة: في مثل قوله عليه السلام: «إذا كَانَ الْمَاءُ قَدْرَ كُرٍّ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْ ءٌ»(2)، الذي هو ممّا يدلّ على إنفعال القليل، بعدم العموم لمفهومه، بدعوى أنّ نقيض السالبة الكليّة الموجبة الجزئيّة، والمتيقّن منه غير الفرض في غير محلّها.

إذ هذه الدعوى وإنْ كانت تامّة كما عرفت، إلّاأنّها لا تقدح في الاستدلال به للمقام، إذ محلّ الحاجة في المقام ليس عموم لفظ (الشيء)، بل عموم الحكم لجميع أنحاء الملاقاة من ورود الماء على النجس، والعكس والوارد (المستعمل) في الإزالة وغيره، فإنا نأخذ بالنجاسة التي يعترف الخصم بانفعال القليل بملاقاتها.

فالمفهوم يدلّ على نجاسة ذلك الماء بالملاقاة معها، بأيّ كيفيّة كانت، إذ العرف لا يفهم من مثل هذا الدليل إلّاأنّ الملاقاة - من غير فرقٍ بين أنحائها - سببٌ للنجاسة.

ولذا لا يشكّ أحدٌ من المتشرّعة في أنّه لا يفرّق في حصولها بين أن تكون الملاقاة من فوقه أو تحته أو أحد جانبيه، وكذلك لا يشكّون في عدم الفرق فيه بين الدّواعي والأغراض في الملاقاة بأن يكون الغرض منها إزالة النجاسة أو عدمها.

وبالجملة: بعد التأمّل لا يبقى موردٌ للترديد في العموم المذكور.

وبما ذكرناه ظهر أنّه لا حاجة إلى التشبّث بعموم لفظ (الماء) بعد تسليم عدم2.

ص: 194


1- ذكر ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/229.
2- التهذيب: ج 1/40، وسائل الشيعة: ج 1/158 ح 392.

عموم (الشيء) في المفهوم، كما وقع من بعض الأكابر(1)، فإنّه وإنْ كان هذا تامّاً - لو كان اختلاف التلاقي موجباً لتعدّد أفراد الماء - إلّاأنّه ليس كذلك كما لا يخفى.

وبذلك يظهر صحّة الاستدلال للحكم في المقام بجميع ما دلّ على انفعال الماء القليل، كما لا يخفى.

وممّا يدلّ على النجاسة: رواية العيص بن القاسم، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَصَابَهُ قَطْرَةٌ مِنْ طَشْتٍ فِيهِ وَضُوءٌ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ بَوْلٍ أَوْ قَذَرٍ فَيَغْسِلُ مَا أَصَابَهُ»(2).

أقول: والطعن في السند في جهة أنّها مرسلة، ورويت في كتب الفقهاء عن العيص من دون ذكر الطريق، ولا تكون مذكورة في كتب الحديث.

في غير محلّه، لأنّ الظاهر من رواية الشيخ عن العيص وجدانها في كتابه، وطريق الشيخ إليه حَسَنٌ معتبر.

فإن قلت: إنّ هذا الظهور ليس على نحو يحصل الوثوق به، لاحتمال أن يكون الشيخ رواها من غير كتابه.

قلت: بما أنّ الشيخ ذكرها في مقام الاستدلال، واعتمد عليها، فهذا كاشفٌ عن صحّة سندها لديه، وهذا المقدار كافٍ في دخول الخبر في موضوع الحجيّة، كما لايخفى.

كما أنّ الطعن في الدلالة، بحملها على الطشت الذي يكون فيه عين البول والقذر، يدفعه الإطلاق.7.

ص: 195


1- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/146.
2- وسائل الشيعة: ج 1/215 ح 552، بحار الأنوار: ج 77/137.

وقد استدلّ لها أيضاً: برواية ابن سنان المتقدّمة(1) في بحث الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر، الدالّة على عدم جواز استعمال الغسالة في الوضوء والغسل.

وفيه: أنّ ذلك أعمّ من النجاسة، ولذا التزم به القائل بالطهارة.

ومثله في الإشكال، الاستدلال لها بموثّق عمّار، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام:

«قَالَ: سُئِلَ عَنِ الْكُوزِ والإنَاءِ يَكُونُ قَذِراً كَيْفَ يُغْسَلُ، وكَمْ مَرَّةً يُغْسَلُ؟

قَالَ: يُغْسَلُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، يُصَبُّ فِيهِ الْمَاءُ فَيُحَرَّكُ فِيهِ، ثُمَّ يُفْرَغُ مِنْهُ، ثُمَّ يُصَبُّ فِيهِ مَاءٌ آخَرُ فَيُحَرَّكُ فِيهِ، ثُمَّ يُفْرَغُ ذَلِكَ الْمَاءُ، ثُمَّ يُصَبُّ فِيهِ مَاءٌ آخَرُ فَيُحَرَّكُ فِيهِ ثُمَّ يُفْرَغُ مِنْهُ وقَدْ طَهُرَ.. الخ»(2).

إذ يرد عليه: أنّه يحتمل أن يكون الأمر بالإفراغ إرشاداً إلى اعتبار انفصال الغسالة في التطهير لأجل النجاسة.

أقول: ثمّ إنّ ما ذكرناه وإنْ كان في الغَسلة المزيلة، إلّاأنّه تدلّ تلك الأدلّة على نجاسة الغُسالة في غيرها أيضاً، بناءً على تنجيس المتنجّس.

وأيضاً: قد استدلّ على الطهارة:

بالأصل.

وبأنّ القول بالنجاسة يؤدّي إلى أنّ الثوب وغيره لا يطهر إلّابإيراد كُرّ عليه، وذلك يشقّ، وينافي ضرورة المذهب، فلابدَّ من القول بعدم انفعال الغُسالة.

وبخبر عمر بن يزيد، قَالَ:6.

ص: 196


1- التهذيب: ج 1/221 ح 13، وسائل الشيعة: ج 1/215 ح 551، قوله: (لا بأس أن يتوضّأ بالماء المستعمل، فقال: الماء الذي يغسل به الثوب، أو الذي يغتسل به الرجل من الجنابة، لا يجوز أن يتوضّأ منه وأشباهه، الحديث).
2- التهذيب: ج 1/284، وسائل الشيعة: ج 3 ص 496 ح 4276.

«قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: أَغْتَسِلُ فِي مُغْتَسَلٍ يُبَالُ فِيهِ ويُغْتَسَلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَيَقَعُ فِي الإنَاءِ مَا يَنْزُو مِنَ الأرْضِ؟ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ»(1).

وبما ورد في كتب العامّة بصيغ مختلفة(2)، منها ما ذكره البخاري في جامعه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله، قَالَ:

«سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ»(3).

وبالتعليل المتقدّم في ماء الاستنجاء.

وبما ورد في صحيح الأحول، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«قُلْتُ لَهُ: أَسْتَنْجِي ثُمَّ يَقَعُ ثَوْبِي فِيهِ وأَنَا جُنُبٌ؟ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ»(4).

بناءً على أنّه ظاهر في الاستنجاء من المني.

وبما ورد في غُسالة الحمّام التي لا تنفكّ غالباً عن الماء المستعمل في إزالة النجاسة من نفيه عليه السلام البأس عنها(5).

أقول: وفي الكلّ نظر:

أمّا الأصل: فلأنّه يرجع إليه مع عدم الدليل، وقد عرفت ما يدلّ على النجاسة.

وأمّا ما ذكر من أنّ النجس لا يطهر: فيرد عليه أنّه:

1 - إنْ اُريد بذلك أنّه تعتبر طهارة الماء المطهر قبل الغسل، فهو ممّا لا ريب فيه1.

ص: 197


1- الكافي: ج 3/14، وسائل الشيعة: ج 1/213 ح 545.
2- موطأ مالك: ج 1/65 ح 129، كتاب الاُمّ للشافعي: ج 1/69، مسند أحمد: ج 3/167.
3- صحيح البخاري: ج 1/62 ح 214.
4- وسائل الشيعة: ج 1/222 ح 568. التهذيب: ج 1/86.
5- ورد في ذلك ثلاثة عشر رواية في وسائل الشيعة: ج 1/211 إلى 215. من ح 539 إلى 551.

نصّاً وفتوى، إلّاأنّه لا ينافي تنجّسه بعد الملاقاة.

2 - وإنْ اُريد اعتبار طهارته حتّى بعد الغسل، فهو ممّا لم يدلّ عليه دليل.

ودعوى: الإجماع على اعتبارها، كما ترى.

والأخبار الدالّة على عدم جواز الانتفاع بالمايعات النجسة ونظائرها، إنّما تدلّ على عدم جواز الانتفاع بما يكون نجساً قبل الانتفاع، وأمّا ما يصير نجساً بعد الانتفاع، فتلك الأخبار لا تشمله.

فإن قلت: أنّه لا ريب في أنّ كلّ نجسٍ منجسٌ، فلا يكون مطهّراً.

قلت: هذه القاعدة مخصّصة في المقام قطعاً، سواءٌ التزمنا بعدم إنفعال القليل، أو انفعاله وعدم منجّسيّته للمحلّ.

والالتزام بالأوّل ليس بأولى من العكس، بل الثاني أولى، لأنّ ما تأثّر من شيء يمتنع تأثيره فيه بمثل الأثر الموجود، بل بحسب الاعتبار يؤثّر فيه خلافه بنقل ما فيه إلى نفسه.

مضافاً إلى أنّ أصالة العموم بالنسبة إلى الماء ساقطة: إمّا للتخصيص، أو للتخصّص، بخلاف قاعدة إنفعال القليل، فإنّه يشكّ في تخصيصها، فيرجع فيها إلى أصالة العموم وعدم التخصيص.

وأمّا خبر ابن يزيد: فقد طَعَن فيه بعض المعاصرين بضعف السند، ولم أرَ وجهاً له إلّاكون معلّى بن محمّد في الطريق، وهو ضعيف.

ولكنّه يرد عليه: أنّه لكونه من مشايخ الإجازة، تكون رواياته موثّقات، إلّا أنّه لا يدلّ على هذا القول إذ يحتمل أن يكون مورد السؤال صورة الشكّ في إصابة القطرة الموضع الذي أصابه البول لا صورة العلم بذلك.

ويؤيّده: ظهوره في نجاسة ما اغتسل به من الجنابة.

مضافاً إلى أنّه لو تمّت دلالته، لدلَّ على عدم نجاسة القطرة الملاقية مع النجس

ص: 198

غير المستقرّة معه، وهي غير ما نحن فيه.

وأمّا رواية الذَّنوب: فهي على ما عن «المعتبر»: رواية أبي هريرة، وهي عندنا ضعيفة الطريق.

وأمّا التعليل المتقدّم في الاستنجاء: فقد عرفت في محلّه(1) أنّه لا يمكن التعدّي عن مورده، فراجع.

وأمّا صحيح الأحول: فمضافاً إلى أنّه أخصّ من المدّعى، ظاهره الاستنجاء من البول والغائط في حال الجنابة، إذ الظاهر أنّ السائل تخيّل دخلها في اختلاف حكم الاستنجاء.

وأمّا رواية الغسالة: فلو حُملت على الغالب من عدم خلوّ الماء المجتمع عن وجود المستعمل في إزالة الاخباث فيه، لدلّت على طهارته مع ملاقاة نجس العين، فإنّ التعليل في كثيرٍ من الأخبار الناهية باغتسال أصناف الكفّار، ظاهرٌ في عدم الانفكاك، أو كون الغالب ذلك، وهو ممّا لا يلتزم به المستدلّ، لأنّ الكلام في المقام بعد الفراغ عن إنفعال الماء القليل، فلا محيص عن الحمل:

إمّا على الغُسالة التي وقع الخلاف في حكمها، وهي ما لم يعلم نجاسته.

أو على المياه المجتمعة المتّصلة بالمادّة، ولو بجريان الماء إليها من الحياض الصغار، كما تؤيّده طائفة من الأخبار.

ودعوى: العُسر والحَرَج من الحكم بنجاستها، كما ترى.

أقول: وقد استدلّ(2) لطهارة خصوص الغَسلة المطهّرة:

1 - بأنّ الماء الباقي بعد الانفصال طاهرٌ بلا كلام، فلو كان طاهراً قبل انفصال ما ينفصل، لزم اختلاف حكم الماء الواحد، وإلّا لزم طهارة الماء بدون مطهّر.3.

ص: 199


1- صفحة 190 من هذا المجلّد.
2- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/233.

2 - وبأنّ الماء في الغَسلة المطهّرة مزيلٌ للنجاسة وغالبٌ عليها، فلايكون مغلوباً.

وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ أصالة العموم في القاعدة المزبورة ساقطة عن الحجيّة:

إمّا للتخصيص أو للتخصّص، وإمّا لقاعدة إنفعال القليل، فيشكّ في تخصيصها، فيرجع فيه إلى أصالة العموم وعدم التخصيص.

ودعوى: استبعاد تخصيص القاعدة المذكورة.

كما ترى، إذ هو الموافق للمرتكز العرفي في قذاراتهم كما لا يخفى.

وثانياً: أنّ الباقي يخرج عن الجزئيّة بالانفصال، ويتبع المغسول في الحكم، كما يدلّ عليه الإجماع، ويساعده العرف والإعتبار.

وعليه، فما ذكره بعض الأعاظم(1) من أنّ التبعيّة ليست من المطهّرات ضعيف.

وأمّا الثاني: فيرد عليه مضافاً إلى ما أوردناه أوّلاً على الوجه الأوّل:

أنّ الماء في الغَسلة المطهرة يحمل القذارة عن المحلّ، وينقلها إلى نفسه، فهو يصير نجساً والمحلّ طاهراً، وهذا هو الموافق للمرتكز العرفي، وتدلّ عليه الأدلّة.

فظهر ممّا ذكرناه: أنّ القول بالنجاسة في جميع الغَسَلات أقوى بحسب الأدلّة، واللّه سبحانه أعلم.

أقول: ثمّ إنّ هناك نزاعين آخرين:

أحدهما: أنّه على القول بالطهارة، هل هي على سبيل العفو، بمعنى الطهارة دون الطهوريّة؟

أو تكون طاهرة ومطهرة من الحَدَث والخَبَث؟

أو تكون رافعة للخبث دون الحدث؟3.

ص: 200


1- السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/233.

وجوهٌ وأقوال:

أقواها الأوّل، إذ يدلّ على عدم رافعيّتها للحدث - مضافاً إلى الإجماع - خبر ابن سنان المتقدّم في ماء الاستنجاء.

وعلى عدم رافعيّتها للخبث - مضافاً إلى ما قيل من إنّ القول برفع الخَبَث بها دون الحَدَث خَرقٌ للإجماع المركّب - موثّق عمّار الوارد في كيفيّة تطهير الإناء والكوز، المتقدّم في صدر المسألة، فإنّ أمره عليه السلام بإفراغ الماء، وصبّ ماءٍ آخر فيه، يدلّ على أنّه لا يزيل الخبث، وإلّا لأمكن غسل الإناء ثلاث مرّات بماء واحد.

ثانيهما: أنّه على تقدير القول بالنجاسة:

فهل هي كالمحلّ قبل الغَسل، فيجب التعدّد فيما وجب فيه ذلك، ولو كانت من الأخيرة؟

أم هي كالمحلّ بعد تلك الغسلة، فتنقص كلّما ينقص؟

أم يكفي فيها مطلق الغسل؟

وجوهٌ وأقوال:

أقواها الثاني(1)، لأنّه وإنْ كان مقتضى القاعدة في نجاسة ما لم يرد من الشارع في إزالتها تحديد الغسل حتّى يتيقّن بالطهارة، للاستصحاب - فتأمّل كما سيمرّ عليك في محلّه - إلّاأنّه لا ريب في ضعف النجاسة في الغَسلة الثانية وما بعدها، إذ الفرع لا يزيد على الأصل.

ودعوى: كفاية مطلق الغَسل لإطلاق أمره عليه السلام بالغَسل في خبر العيص المتقدّم.

مندفعة: بأنّه لا يكون في مقام البيان من هذه الجهة، وإنّما هو في مقام بيان التفصيل بين الغُسالة والماء المستعمل في الوضوء.

***ص.

ص: 201


1- أي أنّها كالمحلّ بعد تلك الغسلة. وأنّها تنتقص كلّما ينقص.

فروع:

الفرع الأوّل: لا إشكال في طهارة القطرات التي تقع في الإناء عند الغسل، كما عن جماعة(1) التصريح به.

بل في كلّ يسير من الماء المستعمل الذي يمتزج بما يضمحلّ فيه، ولا يصدق عليه هذا العنوان عرفاً.

وليس المراد الاستهلاك حتّى يُقال إنّه غير معقول في المتجانسين، بل المراد ما ذكرناه.

والوجه في الجواز في الفرضين: عدم شمول أدلّة المانعين له.

وفي خصوص الأوّل: روايات عديدة، كصحيحة الفضيل، عَنْ أَبِي عَبْدِاللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«فِي الرَّجُلِ الْجُنُبِ يَغْتَسِلُ فَيَنْتَضِحُ مِنَ الْمَاءِ فِي الإنَاءِ؟ فَقَالَ: لا بَأْسَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(2). ونحوها غيرها.

ودعوى: أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه النصوص الطهارة.

مندفعة: بأنّ الظاهر من السؤال الإغتسال ممّا في الإناء.

مضافاً إلى أنّ الغالب في التقاطر كونه في أوّل الغسل، وعدم التنبيه على عدم جواز الاغتسال به، يدلّ على الجواز.

مضافاً إلى أنّ مقتضى إطلاق نفي البأس هي الطهارة والمطهريّة.3.

ص: 202


1- نقل ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/236 وقال: (كما نصّ على ذلك جماعة، وعن ظاهر المنتهى جريان الخلاف فيها، ولكنّه غير واضح).
2- الكافي: ج 3/13، التهذيب: ج 1/86، وسائل الشيعة: ج 1/212 ح 543.

وأمّا ما احتمله الشيخ الأعظم قدس سره: من الجواز، مع تساوي المستعمل وغيره، بدعوى ظهور الدليل في انحصار الغسل به.

فضعيفٌ: لأنّ الظاهر من الدليل النهي عن استعماله في الغَسل، فيشمل صورة ضميمة غيره معه.

***

ص: 203

شرائط طهارة ماء الاستنجاء

الفرع الثاني: يشترط في طهارة ماء الاستنجاء اُمور:

الأمر الأوّل: عدم تغيّره في أحد الأوصاف الثلاثة، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه، لما دلَّ على نجاسة المتغيّر، والنسبة بينه وبين ما دلَّ على طهارة ماء الاستنجاء وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّاأنّه يقدّم(1) لظهور ما دلَّ على الطهارة في طهارته من حيث الملاقاة لا مطلقاً.

مع أنّه لو سُلّم إطلاق حمله على ذلك - لا سيّما مع ملاحظة نجاسة الكرّ والجاري والمطر - فهو أسهل من حمل ما يدلّ على النجاسة على غيره.

مضافاً إلى أنّ التعليل في خبر الأحول المتقدّم كالنصّ في الاختصاص بغير المتغيّر، إذ المراد من أكثريّة الماء من القذر استهلاكه له، وعدم ظهور أثره فيه.

هذا كلّه بناءً على القول بنجاسته، وعدم منجّسيّته لملاقيه.

وحيث أنّ ما يدلّ على نجاسة ملاقي الماء المتغيّر، هو ما يدلّ بعمومه على نجاسة ملاقي كلّ نجسٍ، فالنسبة بينه وبين ما يدلّ على عدم البأس بماء الاستنجاء، عمومٌ مطلق.

ولكن مع ذلك اشتراط الشرط المزبور قويٌ، للتعليل، ولظهور نصوص المقام في عدم منجّسيّته من حيث الملاقاة لا مطلقاً.

الأمر الثاني: عدم وصول نجاسةٍ إليه من الخارج، لعدم تعرّض نصوص المقام لهذه الجهة، فيرجع إلى عموم دليل نجاسة ملاقي النجس، أو عموم ما دلَّ على

ص: 204


1- بل لأنّه يرجع إلى أخبار الترجيح، والمرجّح الأوّل وهو الشهرة.

إنفعال الماء القليل على اختلاف المسلكين.

ومنه يظهر وجه اعتبار الشرائط الثلاثة الآخر:

الأوّل: عدم التعدّي الفاحش.

الثاني: أنْ لا يخرج معه نجاسة أُخرى مثل الدم.

الثالث: أنْ لا يكون فيه أجزاء من الغائط بحيث تتميّز.

***

ص: 205

حكم خروج الدود مع الغائط

الفرع الثالث: إذا خرج مع الغائط دودٌ، أو جزء غير منهضم من الغذاء، ففي طهارته وعدمها قولان:

الأوّل: النجاسة، وهو ماقوّاه الشيخ الأعظم رحمه الله، وقوّاه أيضاً صاحب «الجواهر»(1).

الثاني: الطهارة، وهو ما قوّاه المحقّق الهمداني(2).

واستدلّ لها: بأنّ هذه الأشياء بنظر العرف لا يكون لها أثرٌ مستقلّ، مضافاً إلى غلبة حدوثها، وترك التفصيل في النصوص والفتاوى.

وفيه: منع الغلبة في الأمزجة الصحيحة.

وعدم ترتّب أثرٍ مستقلّ عليها بنظر العرف، و عدم كونها بنظرهم من الخصوصيّات المصنّفة لماء الاستنجاء، مع فرض دلالة الأدلّة الشرعيّة على النجاسة.

لايعتنى به؛ لعدم كون الأحكام الشرعيّة منوطة بنظرهم.

هذا بناءً على طهارة ماء الاستنجاء.

وأمّا بناءً على نجاسته وعدم منجّسيّته فكذلك، لاختصاص الأدلّة بالماء المتمحّض في الملاقاة مع النجاسة الخاصّة، والمتنجّس بها كالنجس الأجنبي لا يكون مشمولاً لهذه الأدلّة، وعدم التنبيه على حكمها في النصوص كعدم التنبيه على حكم الدم الخارج مع أحدهما.

فالأقوى اعتبار عدم خروج هذه الأشياء مع الغائط في الحكم المترتّب على ماء الاستنجاء.

***

ص: 206


1- حكاه عنهما السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/283. وهو الظاهر من الجواهر: ج 1/357-358.
2- مصباح الفقيه: ج 1/66 (ط. ق).
حكم خروج الغائط من المخرج غير الطبيعي

الفرع الرابع: إذا خرج الغائط من غير المخرج الطبيعي، ففيه وجوه:

الوجه الأوّل: كونه كالطبيعي مطلقاً، وكون حكمه حكم سائر النجاسات كذلك.

الوجه الثاني: التفصيل بين الاعتياد فكالطبيعي، وبين عدمه فحكمه حكم النجاسات الاُخر.

أقول: أقواها الأخير، إذا الاستنجاء بحسب المتفاهم العرفي، عبارة عن غسل موضع النجو، ولا يصدق هذا العنوان مع كون خروجه بمحض الاتّفاق، بل يعتبر كونه معدّاً لذلك.

نعم، لا يفرّق بين أن يكون الإعداد أصليّاً كالمخرج الطبيعي، وبين أن يكون عَرَضيّاً كغيره مع الاعتياد.

***

ص: 207

الشكّ في حقيقة ماء الغُسالة

الفرع الخامس: إذا شكّ في ماءٍ أنّه غسالة الاستنجاء، أو غسالة سائر النجاسات؟ فقد يتوهّم أنّه يحكم عليه بالطهارة للاستصحاب.

أقول: الأقوى لزوم الاجتناب، لأنّ الجمع بين ما دلَّ على إنفعال القليل مطلقاً، وبين ما دلَّ على طهارة ماء الاستنجاء أو عدم منجّسيّته، يقتضي أن يكون موضوع حكم العام القليل الملاقي للنجس الذي ليس بماء الإستنجاء، وحيثُ أنّ جزء من الموضوع وهو الملاقاة وجداني، والآخر وهو عدم كونه ماء الاستنجاء مورداً للاستصحاب، فمع ضمّ الوجدان بالأصل يُحرز موضوع الانفعال فيحكم به.

ويجب أيضاً الاجتناب على بعض المباني، كالبناء على أنّ إناطة الحكم الترخيصي على أمرٍ وجودي تقتضي إحرازه، ومع الشكّ فيه يبنى على عدمه، وكالبناء على التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، وتماميّة قاعدة المقتضي والمانع، ولكن عرفت عدم تماميّة شيء من هذه المباني فلا نعيد.

***

ص: 208

حُكم الغُسل في ماء الكُرّ

الفرع السادس: إذا اغتسل في كُرّ كخزانة الحمّام، أو استنجى فيه، لا يصدق عليه غُسالة الحَدَث الأكبر، أو غسالة الاستنجاء.

أمّا عدم صدق الاُولى: فممّا لا ريب فيه، وفي «الجواهر»(1): الظاهر أنّ النزاع مخصوص في المستعمل إذا كان قليلاً، وأمّا لو كان كثيراً فلا.

واستدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله(2) له: باختصاص خبر ابن سنان(3) الذي هو المستند للمنع بما يغتسل به - وهو القليل - لا فيه.

وفيه: أنّه على هذا لابدَّ من التفصيل بين ما لو كان الاغتسال بالصبّ على المحلّ، ولو كان كثيراً، وبين ما لو كان بالارتماس ولو كان قليلاً، فيمنع في الأوّل(3)دون الثاني(4). وهو ممّا لا يمكن الالتزام به. بل الظاهر شمول الرواية لهما، و (الباء) تكون للاستعانة.

ولكن على فرض تماميّة دلالة خبر ابن سنان(6) على المنع، لابدَّ من الخروج عنه في الكثير لصحيح صفوان، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْحِيَاضِ الَّتِي مَا بَيْنَ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، تَرِدُهَا السِّبَاعُ، وتَلَغُ فِيهَا الْكِلابُ، وتَشْرَبُ مِنْهَا الْحَمِيرُ، ويَغْتَسِلُ فِيهَا الْجُنُبُ ويُتَوَضَّأُ مِنْهُ؟

قَالَ: وكَمْ قَدْرُ الْمَاءِ؟ قَالَ: إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وإِلَى الرُّكْبَةِ، فَقَالَ: تَوَضَّأْ مِنْهُ»(5).

ص: 209


1- جواهر الكلام: ج 1/365.
2- كتاب الطهارة: ج 1/360. (3و6) التهذيب: ج 1/221 ح 13، الاستبصار: ج 1/27 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/215 ح 551.
3- فيما إذا كان الاغتسال بالصبّ على المحلّ ولو كان كثيراً.
4- فيما لو كان الاغتسال بالارتماس ولو كان قليلاً.
5- الكافي: ج 3/4، التهذيب: ج 1/417، الاستبصار: ج 1/22، وسائل الشيعة: ج 1/162 ح 402.
الثالثة: غُسالة الحمّام نجسة
اشارة

الثالثة: غُسالة الحمّام نجسة، ما لم يعلم خُلوّها من النجاسة.

غُسالة الحمّام

المسألة الثالثة: (غُسالة الحمّام) مع العلم بملاقاتها مع النجاسة (نجسة) إنْ لم تكن كُرّاً، بلا خلاف، كما أنّه لا كلام في الطهارة مع العلم بعدم الملاقاة.

إنّما الخلاف في (ما) إذا (لم يَعلم خُلوّها من النجاسة):

فعن جماعة منهم المصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(1): الحكم بالنجاسة.

وعن المحقّق الكركي(2): أنّه المشهور.

وعن جماعةٍ آخرين منهم الصدوقان(3) والمحقّق: المنع من جواز التطهير والغُسل بها.

وعن الشيخ في «النهاية»(4): المنع من استعمالها مطلقاً.

وعن المصنّف في «المنتهى»(5)، و «جامع المقاصد»(6) و «المعالم» وغيرها:

الطهارة والمطهريّة.

ص: 210


1- التذكرة: ج 1/38 قوله: (لا يجوز استعمالها لعدم انفكاكها من النجاسة إلّاأن يعلم خلوّها منها).
2- جامع المقاصد: ج 1/131-132، واليك نصّ كلامه رحمه الله حيث إنّه بعد أن تعرّض للمسألة و حكمها، احتاط أخيراً و قال: (والذي يقتضيه النظر، أنّه مع الشكّ في النجاسة يكون على حكمها الثابت لها قبل الاستعمال، وإنْ كان اجتنابها أحوط).
3- نقل المحقّق الحلّي في المعتبر: ج 1/92 عن أبي جعفر بن بابوية في كتابه قوله: (وغُسالة الحمّام لايجوز استعمالها على أيّ حال). وفي من لا يحضره الفقيه: ج 1/12 قال الشيخ الصدوق: (ولا يجوز التطهير بغسالة الحمّام).
4- النهاية: ص 5 قوله: (وغسالة الحمّام لا يجوز استعماله على حال).
5- منتهى المطلب: ج 1/146 قوله: (والأقوى عندي أنّه على أصل الطهارة).
6- جامع المقاصد: ج 1/132 قوله: (وقيل بنجاستها استناداً إلى هذا النهي، وضعفه ظاهر).

واستدلّ للقول الأوّل: بجملة من النصوص:

النصّ الأوّل: الخبر الذي رواه ابن أبي يعفور، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«لا تَغْتَسِلْ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا غُسَالَةُ الْحَمَّامِ، فَإِنَّ فِيهَا غُسَالَةَ وَلَدِ الزِّنَا، وهُوَ لا يَطْهُرُ إِلَى سَبْعَةِ آبَاء، ٍ وفِيهَا غُسَالَةُ النَّاصِبِ وهُوَ شَرُّهُمَا، إِنَّ اللّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً شَرّاً مِنَ الْكَلْبِ، وإِنَّ النَّاصِبَ أَهْوَنُ عَلَى اللّهِ مِنَ الْكَلْبِ»(1).

النصّ الثاني: موثّقة الآخر الذي رواه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، فِي حَدِيثٍ، قَالَ:

«وإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ غُسَالَةِ الْحَمَّامِ فَفِيهَا تَجْتَمِعُ غُسَالَةُ الْيَهُودِيِّ والنَّصْرَانِيِّ والَْمجُوسِيِّ والنَّاصِبِ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وهُوَ شَرُّهُمْ، فَإِنَّ اللّهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً أَنْجَسَ مِنَ الْكَلْبِ، وإِنَّ النَّاصِبَ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ لأنْجَسُ مِنْهُ»(2).

النصّ الثالث: خبر حمزة بن أحمد، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأوَّلِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ أَوْ سَأَلَهُ غَيْرِي عَنِ الْحَمَّامِ؟ قَالَ ادْخُلْهُ بِمِئْزَرٍ وغُضَّ بَصَرَكَ، ولا تَغْتَسِلْ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا مَاءُ الْحَمَّامِ، فَإِنَّهُ يَسِيلُ فِيهَا مَا يَغْتَسِلُ بِهِ الْجُنُبُ ووَلَدُ الزِّنَا والنَّاصِبُ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ وهُوَ شَرُّهُمْ»(3). ونحوها غيرها.

وفيه: أنّ النهي عن الاغتسال أعمّ من النجاسة، لاسيّما بملاحظة اشتمالها على التعليل بملاقاتها لما ليس ينجس كولد الزنا.

ودعوى: أنّه ينافيه ذكر الناصب واليهودي والنصراني والمجوسي فيها.

مندفعة: بأنّ المراد من التعليل ليس صورة العلم بوجود غسالتهم في البئر، فإنّه حينئذٍ لا شبهة في النجاسة، وقد عرفت خروج هذه الصورة عن مورد الكلام،6.

ص: 211


1- الكافي: ج 3/14، بحار الأنوار: ج 77/38، وسائل الشيعة: ج 1/219 ح 559.
2- الكافي: ج 3/14، بحار الأنوار: ج 77/36، وسائل الشيعة: ج 1/220 ح 560.
3- التهذيب: ج 1/373، وسائل الشيعة: ج 1/218 ح 556.

بل المراد احتمال وجودها أو الظنّ به، وعدم النجاسة في الفرض واضح.

وعليه، فلا ينافي حمل النهي على إرادة عدم جواز التطهير بها.

وأمّا ما ذكر بعض الأجلّة(1): في الجواب عن هذه الدعوى، من إمكان طهارة الماء المجتمع لاتّصاله بما يجري عليه من أرض الحمّام، المتّصل بما في الحياض المتّصل بالمادّة، فهو كما ترى.

أقول: هذا كلّه مضافاً إلى معارضتها بالنصوص الدالّة على الطهارة:

منها: المرسلة التي رواها أبي يحيى الواسطي، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاضِي عليه السلام، قَالَ:

«سُئِلَ عَنْ مُجْتَمَعِ الْمَاءِ فِي الْحَمَّامِ مِنْ غُسَالَةِ النَّاسِ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ قَالَ:

لا بَأْسَ»(2).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، قَالَ:

«قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: الْحَمَّامُ يَغْتَسِلُ فِيهِ الْجُنُبُ وغَيْرُهُ أَغْتَسِلُ مِنْ مَائِهِ؟

قَالَ: نَعَمْ لا بَأْسَ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهُ الْجُنُبُ، ولَقَدِ اغْتَسَلْتُ فِيهِ ثُمَّ جِئْتُ فَغَسَلْتُ رِجْلَيَّ ومَا غَسَلْتُهُمَا إِلّا مِمَّا لَزِقَ بِهِمَا مِنَ التُّرَابِ»(3).

ومنها: موثّقة محمّد بن مسلم التي قال فيها:

«رَأَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَخْرُجُ مِنَ الْحَمَّامِ فَيَمْضِي كَمَا هُوَ لا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ»(4).

ودعوى: أنّ مورد نصوص المسألة هو البئر الّتي يجتمع فيها ماء الحمّام، وإلحاق المياه المنحدرة في سطح الحمّام الّتي هي مورد الخبرين الأخيرين بها لا دليل عليه،0.

ص: 212


1- السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 1/444.
2- التهذيب: ج 1/379، وسائل الشيعة: ج 1/213 ح 547.
3- التهذيب: ج 1/378، وسائل الشيعة: ج 1/148 و 211 ح 368 و 541.
4- التهذيب: ج 1/379، وسائل الشيعة: ج 1/211 ح 540.

فالاستدلال بهما في المقام ممّا لا وجه له.

مندفعة: بأن تلك الآبار إنّما كانت معدَّة لاجتماع المياه التي تجري من أرض الحمّام التي يغتسل عليها، فحكم سطح الحمّام حكم تلك.

فإنْ قلت: لعلّ عدم غَسل رجله عليه السلام كان لأجل حصول الطهارة من المشي على الأرض.

قلت: ينافي ذلك قوله عليه السلام في الصحيح: (.. ومَا غَسَلْتُهُمَا إِلّا مِمَّا لَزِقَ بِهِمَا مِنَ التُّرَابِ)(1).

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى هو الطهارة وعدم صحّة الاغتسال منها.

***1.

ص: 213


1- التهذيب: ج 1/378، وسائل الشيعة: ج 1/148 و 211 ح 368 و 541.
الرابعة: الماءُ النجس لا يجوزُ استعماله في الطهارة
اشارة

الرابعة: الماءُ النجس لا يجوزُ استعماله في الطهارة، ولا إزالة النجاسة، ولا الشُّرب، إلّا مع الضرورة.

عدم جواز استعمال الماء النجس

المسألة الرابعة: (الماء النجس لا يجوز استعماله في الطهارة، ولا إزالة النجاسة) إجماعاً.

ويشهد له: ما دلَّ على اعتبار الطهارة في المطهِّر من الحَدَث والخَبَث.

(ولا الشرب) إجماعاً، نصّاً وفتوى، (إلّامع الضرورة) بلا خلافٍ في جوازه حينئذٍ.

ويشهد له: ما دلَّ على رفع ما اضطرّوا إليه(1)، وأدلّة نفي الضرر وغيرهما.

***

ص: 214


1- وهي عَّدة روايات منها: ما عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ الْخَطَأُ والنِّسْيَانُ ومَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ ومَا لا يَعْلَمُونَ ومَا لا يُطِيقُونَ ومَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ والْحَسَدُ والطِّيَرَةُ والتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الخلق مَا لَمْ يَنْطِقُوا بِشَفَةٍ». الفقيه: ج 1/59 ح 132، وسائل الشيعة: ج 15 ص 369 ح 20769.

فروع:

الفرع الأوّل: هل يجوز سقيه للحيوانات أم لا؟

وجهان: الجواز، وعدمه.

ما استدلّ به، أو يمكن أنْ يُستدلّ به على عدم جواز سقيه للحيوان أمران:

الأمر الأوّل: ما دلّ من الآيات والروايات على عدم جواز الانتفاع بالمتنجّس إلّا ما خرج بالدليل، وحيثُ لم يدلّ دليلٌ على الجواز في المقام، فمقتضى القاعدة هو العدم.

أمّا الآيات فمنها: الآية الاُولى: قوله تعالى: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (1) حيثُ دلَّ بمقتضى التفريع على لزوم اجتناب كلّ رجس.

وفيه: أنّه لو سُلّم كون المراد من الرِّجس هو القذر، فالظاهر منه ما كان كذلك في ذاته لا ما عَرَض له ذلك، فيختصُّ بالأعيان النجسة.

مع أنّه يمكن أن يكون المراد منه العمل القبيح، كما هو أحد معانيه، ويؤيّد إرادة هذا المعنى، قوله تعالى: (مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ) أي من مبتدعاته، إذ المايع المتنجّس إذا تنجّس، لا يكون من أعمال الشيطان.

أقول: وممّا ذكرناه ظَهَر الجواب عن الاستدلال بقوله تعالى: (وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (2)، بناءً على أنّ المراد بالرجز هو الرجس.

مع أنّه يحتمل أن يكون المراد منه عبادة الأوثان، كما هي إحدى معانيه.5.

ص: 215


1- سورة المائدة: الآية 90.
2- سورة المدّثر: الآية 5.

الآية الثانية: الاستدلال بآية تحريم الخبائث(1)، بدعوى كون كلّ متنجّس خبيثاً، والتحريم المطلق يدلّ على عموم الانتفاع.

وفيه: الاستدلال بها أضعف من الاُولى، إذ فيه أنّ الظاهر منها حرمة الأكل كما لا يخفى.

وأمّا الروايات: فهي عدد من الأخبار:

الرواية الاُولى: رواية «تحف العقول»(2) وفيها تعليل النهي عن بيع وجوه النجس بحرمة أكله وشربه وإمساكه وجميع التقلّب فيه.

وفيه: - بعد تسليم صحّة السند، مع أنّها محلّ إشكال - إنّ الظاهر كون المراد من (وجه النجس) هو العنوان، والشيء المتنجّس لا يكون عنواناً للنجاسة، وملاقي النجس ليس من عناوينها في مقابل سائر العناوين.

الرواية الثانية: ما دلَّ على الأمر بإهراق المايعات المتنجّسة(3).

وفيه: أنّ الأمر بطرحها إنّما يكون لأجل أنّ منفعتها المعتدّ بها عرفاً، والمطلوبة منها هو الأكل، فيكون هذا الأمر كناية عن عدم الانتفاع بها في الأكل خاصّة.

ويؤيّده: أنّ ممّا اُمرنا بطرحه الدهن والزيت، مع أنّه يجوز الاستصباح بهما بلا كلام، فالمراد طرحها من ظرفٍ اُعدَّ للأكل.8.

ص: 216


1- سورة الأعراف: الآية 157. «وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ».
2- تُحَفِ الْعُقُولِ: ص 332، عَنِ الإمام الصَّادِقِ عليه السلام فِي حَدِيثٍ إلى أن قَالَ: «والْبَيْعُ لِلْمَيْتَةِ أَوِ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوِالْخَمْرِ أَوْ شَيْ ءٍ مِنْ وُجُوهِ النَّجِسِ فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ ومُحَرَّمٌ لأنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَكْلِهِ وشُرْبِهِ ولُبْسِهِ ومِلْكِهِ وإِمْسَاكِهِ والتَّقَلُّبِ فِيهِ فَجَمِيعُ تَقَلُّبِهِ فِي ذَلِكَ حَرَامٌ». ورواه الحرّ في وسائل الشيعة: ج 24/238 ح 30430.
3- ورد أربع روايات فيها الإهراق في الباب 8 من أبواب الماء المطلق في وسائل الشيعة: ج 1/151 و 152 و 154. ومنها: عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْهُمْ عليهم السلام، قَالَ: «إِذَا أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي الإنَاءِ قَبْلَ أَنْ تَغْسِلَهَا فَلا بَأْسَ إِلّا أَنْ يَكُونَ أَصَابَهَا قَذَرٌ بَوْلٌ أَوْ جَنَابَةٌ فَإِنْ أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي الْمَاءِ وفِيهَا شَيْ ءٌ مِنْ ذَلِكَ فَأَهْرِقْ ذَلِكَ الْمَاءَ». ج 1/152 ح 378.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ ما ذهب إليه جماعة من القدماء - كالشيخين والسيّدين والحلّي وغيرهم - من عدم جواز الانتفاع بالمتنجّس مطلقاً، ضعيفٌ لا دليل عليه.

فالأقوى وفاقاً لأكثر المتأخّرين جوازه، إلّاما خرج بالدليل.

ومقتضى هذا جواز السقي للحيوانات.

الأمر الثاني: خبر أبي بصير، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنِ الْبَهِيمَةِ الْبَقَرَةِ وغَيْرِهَا تُسْقَى أَوْ تُطْعَمُ مَا لا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَكْلُهُ أَوْ شُرْبُهُ أيُكْرَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يُكْرَهُ ذَلِكَ»(1). ونحوه خبر غياث(2).

وفيه: أنّ ظاهره الجواز على كراهيّة، ويؤيّد الجواز ما دلّ على الأمر بإطعام المرق المتنجّس الكلب.

فتحصّل: أنّ الأقوى جواز سقيه للحيوانات.

***».

ص: 217


1- التهذيب: ج 9/114، وسائل الشيعة: ج 25/309 ح 31977.
2- الكافي: ج 6/430، التهذيب: ج 9/114، وسائل الشيعة: ج 25 ص 308 ح 31976: عَنْ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللّهِ عليه السلام «أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام كَرِهَ أَنْ تُسْقَى الدَّوَابُّ الْخَمْرَ».
حكم سقي الأطفال الماء النجس

الفرع الثاني: الأقوى جواز سقيه للأطفال للعموم والأصل.

واستدلّ للعدم بأمرين:

الأمر الأوّل: بما ورد من النهي عن سَقي المُسكر لهم(1).

الأمر الثاني: بأنّ ما دلَّ على حرمة شرب الماء النجس عامٌ للصبيّ، فيدلّ على وجود المفسدة فيه.

وحديث رفع القلم(2) نافٍ للإلزام والاستحقاق، ولا يكون مخصّصاً له، فسقيه إيقاعٌ له في المفسدة فيحرم.

ولكن يرد على الأوّل: أنّه حيثُ يحتمل خصوصيّة للمسكر، فلا يمكن استفادة حكم المقام منه.

وعلى الثاني: إنّ حديث الرفع إنّما يدلّ على رفع التكليف، فيكون مخصّصاً للعمومات، ومعه لا كاشف عن وجود المفسدة، مع أنّه لم يدلّ دليلٌ على حرمة إيقاع الصبي في مثل هذه المفسدة.

***

ص: 218


1- ورد عدد من الروايات في ذلك منها: ما عَنْ عَجْلانَ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: «قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: الْمَوْلُودُ يُولَدُ فَنَسْقِيهِ الْخَمْر؟ َ فَقَالَ: لا، مَنْ سَقَى مَوْلُوداً مُسْكِراً سَقَاهُ اللّهُ مِنَ الْحَمِيمِ وإِنْ غُفِرَ لَهُ». وسائل الشيعة: ج 25/308 ح 31974.
2- الفقيه: ج 1/59 ح 132، وسائل الشيعة: ج 15/369 ح 20769.
بيع الماء النجس

الفرع الثالث: الأقوى جواز بيعه، لأنّه إذا كان له منفعة محلّلة يدلّ على صحّة بيعه عموم أدلّة صحّة البيع، وما يدلّ على وجوب الوفاء بالعقود، واستصحاب الحكم قبل التنجّس، وقوله عليه السلام في رواية «تحف العقول» المتقدّمة(1):

«وكُلُّ شَيْ ءٍ يَكُونُ لَهُمْ فِيهِ الصَّلاحُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ، فَهَذَا كُلُّهُ حَلالٌ».

وأمّا قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوهُ) ،(2) وقوله: (وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ،(3)فقد عرفتَ أنّهما لا يدلّان على عدم جواز الانتفاع به، فضلاً عن حرمة بيعه.

ومنه يظهر عدم دلالة النهي في رواية «تحف العقول» عن بيع شيءٍ من وجوه النجس على هذا القول، لتعليله فيها بحرمة الانتفاع.

وأمّا النبويّ: «إذا حَرَّمَ اللّهُ شيئاً حَرَّم ثَمَنه»(4). فظاهره بقرينة حذف المتعلّق، الحرمة المؤدّية إلى سلب المنفعة لا مطلقاً.

أقول: ثمّ إنّه هل يجب الإعلام أم لا؟ وجهان: وجوب الإعلام، وعدمه.

أمّا الأوّل: فقد استدلّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره على وجوب الإعلام، بأنّ تركه تسبيب إلى فعل الحرام، كمن قدَّم إلى غيره طعاماً حراماً، فهو فاعلٌ للحرام، وفعل الحرام يستند إليه، لأنّ استناد الفعل إلى السبب أقوى، ولذا يستقرّ الضمان على السبب دون المباشر الجاهل.

ص: 219


1- تُحَفِ الْعُقُولِ: ص 332، وسائل الشيعة: ج 17/83 ح 22047، وسائل الشيعة: ج 24/238 ح 30430.
2- سورة المائدة: الآية 90.
3- سورة المدّثر: الآية 5.
4- بحار الأنوار: ج 100/55، وفيه: (بخطّه عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه و آله) النصّ. وأمّا في كتب العامّة فقد ورد في سنن الدارقطني: ج 3/7 ح 20، وفي مصادر أُخرى كمسند أحمد وغيره ورد: (إنّ اللّه إذا حَرّم على قومٍ أكل شيء حرَّمَ عليهم ثمنه).

وفيه: أنّه لم يدلّ دليلٌ على حرمة التسبيب بالكليّة، والفعل لا يستند إلى السبب حقيقة مع وساطة اختيار المختار.

لا يقال: إنّه شرب الماء النجس، وهو الفاعل له، واستقرار الضمان على السبب، ليس لأجل شمول قاعدة (من أتلف) له، بل إنّما يكون لأجل قاعدة الغرور.

أقول: فالأولى الاستدلال لوجوب الإعلام، بأنّ تركه مستلزمٌ للتسبيب إلى وجود مبغوض الشارع في الخارج إذا شربه، وهو قبيحٌ بحكم العقلاء.

ألا ترى أنّه لو نام المولى ونَهى عبيده عن الدخول في الدار، فكما أنّ دخول العبد قبيح، كذلك تسبيبه لدخول الآخر، وبالملازمة تستكشف الحرمة.

وكذا بقول الإمام الصادق عليه السلام، في صحيح معاوية، الوارد في الزيت:

«عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: فِي جُرَذٍ مَاتَ فِي زَيْتٍ مَا تَقُولُ فِي بَيْعِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: بِعْهُ وبَيِّنْهُ لِمَنِ اشْتَرَاهُ لِيَسْتَصْبِحَ بِهِ»(1).

حيث أمر عليه السلام بالإعلام، وبما أنّه لا ترتّب بينه وبين الاستصباح، مضافاً إلى عدم وجوبه يقيناً، فلا يكون غايةً للواجب، لأنّ غاية الواجب واجبة، وإلّا لم يكن الإعلام واجباً، بل الترتّب إنّما يكون بين الإعلام وترك الأكل، ولأجل انحصار الفائدة فيهما غالباً، كان تركه ملازماً للاستصباح.

فالتعليل به إنّما يكون عَرَضيّاً، والعلّة الحقيقيّة إنّما هي ترك الأكل، فتكون العلّة في وجوب الإعلام، عدم وقوع المشتري في المحرّم الواقعي جهلاً بتسليط المالك البايع إيّاه، وبما أنّ ظاهر الدليل التنبيه على أمرٍ عرفي، يتعدّى عن مورده إلى سائر الموارد.7.

ص: 220


1- التهذيب: ج 7/129، وسائل الشيعة: ج 17/98 ح 22077.

وبالجملة: على هذين الوجهين الذين ذكرناهما لوجوب الإعلام، فوجوبه إنّما يكون مولويّاً لا إرشاديّاً إلى شرطيّته للبيع، بل على الوجه الذي ذكره العلّامة الأكبر قدس سره يكون كذلك كما لا يخفى، فترك الإعلام مبغوض لا يوجب فساد البيع.

واستدلّ لشرطيّته لصحّة البيع بأمرين:

الأمر الأوّل: بأنّه لولاه لكان قصد المشتري الانتفاع بالمحرم، فيكون أكل الثمن بإزائه أكلاً للمال بالباطل.

الأمر الثاني: بقوله عليه السلام في خبر إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلَهُ سَعِيدٌ الاعْرَجُ السَّمَّانُ وأَنَا حَاضِرٌ، عَنِ الزَّيْتِ والسَّمْنِ والْعَسَلِ تَقَعُ فِيهِ الْفَأْرَةُ فَتَمُوتُ كَيْفَ يُصْنَعُ بِهِ؟

قَالَ: أَمَّا الزَّيْتُ فَلا تَبِعْهُ إِلّا لِمَنْ تُبَيِّنُ لَهُ فَيَبْتَاعُ لِلسِّرَاجِ، وأَمَّا الأكْلُ فَلا، وأَمَّا السَّمْنُ فَإِنْ كَانَ ذَائِباً فَهُوَ كَذَلِكَ، وإِنْ كَانَ جَامِداً والْفَأْرَةُ فِي أَعْلاهُ فَيُؤْخَذُ مَا تَحْتَهَا ومَا حَوْلَهَا ثُمَّ لا بَأْسَ بِهِ، والْعَسَلُ كَذَلِكَ إِنْ كَانَ جَامِداً»(1).

فإنّه ظاهرٌ في فساد البيع مع عدم الإعلام. ويتعدّى عن مورده إلى سائر الموارد لعدم الفصل.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الثمن في البيع إنّما يكون في مقابل العين لا المنفعة، ومع فرض وجود المنفعة المحلّلة يكون مالاً، ولا يكون أكل المال بإزائه أكلاً للمال بالباطل.

ولذا ذكرنا في محلّه أنّ اشتراط صرف المبيع في المنفعة المحرّمة بنفسه لا يكون4.

ص: 221


1- وسائل الشيعة: ج 17/98 ح 22078، بحار الأنوار: ج 77/74.

موجباً لفساد البيع على القاعدة.

أضف إليه أنّ قصد المشتري وحده لا يكفي في صدق الأكل بالباطل بالنسبة إلى البائع.

وأمّا الثاني: فظهوره البدوي وإنْ كان لا يُنكر، لظهور النهي عن المعاملة في الإرشاديّة، إلّاأنّه فيما لا تكون قرينة تصلح لصرف ظهوره وإرادة التحريم منه.

وما نحن فيه كذلك، إذ وجوب الإعلام على ما عرفت، يوجبُ عدم ظهور النهي عن البيع إلّامعه في الإرشاد إلى فساده بدونه.

فتحصّل: أنّ الأقوى أنّ وجوب الإعلام نفسي لا شرطي.

***

ص: 222

الباب الثاني: في الوضوء

اشارة

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في موجبه

اشارة

الفصل الأوّل: في موجبه: إنّما يجبُ بخروج البول والغائط.

(الباب الثاني في الوضوء)

(وفيه فصول: الفصل الأوّل: في موجبه) وناقضه.

(إنّما يجبُ) الوضوء باُمور:
الأوّل والثاني: البول والغائط.

(بخروج البول والغائط) بلا خلافٍ، بل إجماعاً كما عن جماعة كثيرة حكايته(1)، بل الظاهر أنّ عليه إجماع المسلمين(2).

وتشهد له: الآية الشريفة: (... أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ) (3).

والنصوص المتواترة: كخبر زكريّا بن آدم، قَالَ:

«سَأَلْتُ الرِّضَا عليه السلام عَنِ النَّاسُور(4) أيَنْقُضُ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: إِنَّمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ثَلاثٌ الْبَوْلُ والْغَائِطُ والرِّيحُ»(5).

ص: 223


1- نقل السيّد الحكيم ذلك في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/251 قائلاً: (كما عن المعتبر والمنتهى والدلائل و المدارك والذخيرة وغيرها).
2- حكاه المحقّق الحلّي في المعتبر: ج 1/105 بقوله (عليه اتّفاق المسلمين)، وفي التذكرة: ج 1/99 قال: (أجمع المسلمون).
3- سورة المائدة: الآية 6.
4- الناسور: العرق الغبر الذي لا ينقطع، وهو عرق في باطنه فساد فكلّما بدا أعلاه رجع غبراً فاسداً، ويقال: أصابه غبر في عرقه. (لسان العرب: ج 5/205)، وفي القاموس: الناسور: (العرق العسير الذي لا ينقطع من المآقي). (مجمع البحرين: ج 4/304).
5- الكافي: ج 3/36، بحار الأنوار: ج 77/216، وسائل الشيعة: ج 1/250 ح 646.

وصحيح زرارة، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«لا يُوجَبُ الْوُضُوءُ إِلّا مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ ضَرْطَةٍ تَسْمَعُ صَوْتَهَا أَوْ فَسْوَةٍ تَجِدُ رِيحَهَا»(1). ونحوهما غيرهما.

أقول: ثمّ إنّ خروجهما يتصوّر على أقسام:

القسم الأوّل: الخروج من الموضع الأصلي مع الاعتياد، وهذا القسم هو القدر المتيقّن إرادته من هذه النصوص.

القسم الثاني: الخروج منه مع عدم الاعتياد.

وعن جماعةٍ منهم الفاضلان(2) والنراقي(3): دعوى الإجماع على الناقضيّة في هذا القسم، ويشهد لها إطلاق النصوص والآية.

ودعوى: الانصراف إلى صورة الاعتياد.

مندفعة: بأنّ الإنصراف الناشيء عن ندرة الوجود لا يصحّ لرفع اليد عن الإطلاق.

نعم، من اعتبر الاعتياد الشخصي في غير المخرج الأصلي، ليس له التمسّك بالإطلاق، وينحصر مدركه حينئذٍ بالإجماع.

القسم الثالث: الخروج من غير الموضع الأصلي، والظاهر أنّه مع انسداده لا خلاف في النقض، وعن «المنتهى»(4) و «المدارك»(5): الإجماع عليه.4.

ص: 224


1- التهذيب: ج 1/346، وسائل الشيعة: ج 1/245 ح 632.
2- هما العلّامة الحلّي وابن داود الحلّي، وقد نسب السيّد الحكيم ذلك إليهما قائلاً: (وعن روض الجنان حكايته عن الفاضلين، وكأنّ الوجه في استفادة ذلك منهم سكوتهم عن التعرّض لاعتبار الاعتياد وعدمه فيه، وتعرّضهم لذلك في غيره). مستمسك العروة الوثقى: ج 2/251. والمذكور في روض الجنان قوله: (يجب الوضوء خاصّة من خروج البول والغائط والريح من الموضع المعتاد). روض الجنان ص 21.
3- مستند الشيعة: ج 2/7.
4- منتهى المطلب: ج 1/188.
5- مدارك الأحكام: ج 1/144.

وأمّا مع عدمه، فالمشهور بين الأصحاب التفصيل فيما يخرج بين صورة الاعتياد فينقض، وغيرها فلا.

وعن شارح «الدروس»(1): منع النقض مطلقاً، وقوّاه صاحب «الرياض»(2)، وإنّما التزم بالنقض في صورة الانسداد للإجماع.

وعن الحِلّي(3): القول بالنقض مطلقاً، وظاهر الشيخ(4) والقاضي(5): موافقته، حيث استندا في منع النقض بما يخرج ممّا فوق المعدة بعدم تسميته غائطاً.

ولعلّه الأقوى.

ويشهد له: إطلاق النصوص المتقدّم بعضها.

أقول: ونوقش فيها:

أوّلاً: بأنّها منصرفة إلى المعتاد، ولعلّ هذا هو مدرك المشهور في التفصيل.

ثانياً: بتعيّن تقييدها بالنصوص الكثيرة الحاصرة للناقض فيما يخرج من الطرفين، كصحيح زرارة، قَالَ:

«قُلْتُ لأبِي جَعْفَرٍ وأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليهما السلام: مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ؟ فَقَالا: مَا يَخْرُجُ مِنْ طَرَفَيْكَ الاسْفَلَيْنِ مِنَ الذَّكَرِ والدُّبُرِ مِنَ الْغَائِطِ والْبَوْلِ أَوْ مَنِيٍّ أَوْ رِيحٍ والنَّوْمُ حَتَّى يُذْهِبَ الْعَقْلَ»(6).ت.

ص: 225


1- مشارق الشموس في شرح الدروس: ج 1/53 قوله: (والذي يقتضيه النظر عدم النقض في غيرصورة الإجماع).
2- رياض المسائل: ج 1/195 قال: (والقول بالعدم مطلقاً قويّ، للأصل وفقد المانع، والاحتياط واضح).
3- السرائر: ج 1/106 قوله: (سواءٌ خرج من الموضع المعتاد أو خرج من غير ذلك الموضع.. الخ).
4- الأنصاري في كتاب الطهارة: ج 2/64 (ط. ق).
5- جواهر الفقه ص 12.
6- الكافي: ج 3/36، التهذيب: ج 1/8، من لا يحضره الفقيه: ج 1/61، وسائل الشيعة: ج 1/249 ح 642 باختلاف يسير في العبارات.

وصحيح ابن بزيع، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، قَالَ:

«قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: لا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِلّا مَا خَرَجَ مِنْ طَرَفَيْكَ اللَّذَيْنِ جَعَلَ اللّهُ لَكَ، أَوْ قَالَ اللَّذَيْنِ أَنْعَمَ اللّهُ بِهِمَا عَلَيْكَ»(1). ونحوهما غيرهما.

والظاهر أنّ شارح «الدورس» استند فيما اختاره إلى هذه النصوص.

ولكن يرد على الأوّل: ما عرفت مراراً من أنّ الانصراف الناشيء من غَلَبة وجود فردٍ وندرة آخر، لايصلُح لرفع اليد عن الإطلاق.

وعلى الثاني: أنّ ظاهر تلك النصوص وإنْ كان اختصاص الحكم بما يخرج من الموضع الأصلي، إذ دعوى صدق الطرفين الأسفلين على الحادثين ضعيفة، لأنّ الظاهر منهما الذَّكر والدُّبر، كما صرّح بذلك في صحيح زرارة(2).

كما أنّ دعوى: انحصار طريق البول والغائط في السبيلين عادة، يمنعُ من ظهور النصوص في إرادة التحرّز عن الأخبثين، على تقدير خروجهما من غير الموضع الأصلي.

ممنوعة: إذ لا وجه لها سوى دعوى الانصراف التي عرفت ما فيها مراراً.

ونظيرهما دعوى أنّ الالتزام بارادة الاختصاص منها، مستلزمٌ لتخصيص الأكثر، فلابدَّ وان تُحمل على إرادة أنّ الشيء الذي صفته أنّه يخرج من السبيلين بحسب العادة ناقضٌ، إذ ما يخرج من السبيلين غير الأخبثين أقلّ منهما كما لايخفى.

وبالجملة: ظهور النصوص المتقدّمة في الاختصاص ممّا لاينبغي إنكاره، إلّا أنّه لابدَّ من رفع اليد عنه لأجل ما يدلّ على عموم الحكم:ت.

ص: 226


1- وسائل الشيعة: ج 1/251 ح 649، عيون أخبار الرضا: ج 2/18، بحار الأنوار: ج 77/215.
2- الكافي: ج 3/36، التهذيب: ج 1/8، وسائل الشيعة: ج 1/249 ح 642 باختلاف يسير في العبارات.

1 - خبر فضل بن شاذان الذي رواه عَنِ الرِّضَا عليه السلام، قَالَ:

«إِنَّمَا وَجَبَ الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ خَاصَّةً، ومِنَ النَّوْمِ دُونَ سَائِرِ الأشْيَاءِ لأنَّ الطَّرَفَيْنِ هُمَا طَرِيقُ النَّجَاسَةِ، ولَيْسَ لِلانْسَانِ طَرِيقٌ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ مِنْ نَفْسِهِ إِلّا مِنْهُمَا، فَأُمِرُوا بِالطَّهَارَةِ عِنْدَمَا تُصِيبُهُمْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(1).

2 - وخبر ابن سنان الذي رواه الشيخ الصدوق بِأَسَانِيدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، فِي جَوَابِ الْعِلَلِ، عَنِ الرِّضَا عليه السلام، قَالَ:

«وعِلَّةُ التَّخْفِيفِ فِي الْبَوْلِ والْغَائِطِ، لأنَّهُ أَكْثَرُ وأَدْوَمُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَرَضِيَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ لِكَثْرَتِهِ ومَشَقَّتِهِ ومَجِيئِهِ بِغَيْرِ إِرَادَةٍ مِنْهُمْ ولا شَهْوَةٍ، والْجَنَابَةُ لا تَكُونُ إِلّا بِالاسْتِلْذَاذِ مِنْهُمْ والاكْرَاهِ لانْفُسِهِمْ(2).. الخ».

إذ ظاهرهما أنّ وجوب الوضوء ممّا يترتّب على البول والغائط من حيث هما، وأنّ التخصيص بما يخرج من السبيلين إنّما هو لأجل كون سبيلهما بمقتضى العادة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى هي الناقضيّة مطلقاً.

***8.

ص: 227


1- وسائل الشيعة: ج 1/251 ح 647، بحار الأنوار ج 77/234.
2- وسائل الشيعة: ج 1/251 ح 650 وج 2/178 ح 1866، من لا يحضره الفقيه: ج 1/76، علل الشرائع: ج 1/281، عيون أخبار الرضا: ج 2/88.

والريح من المعتاد.

الأمر الثالث: ناقضيّة الريح

(و) الثالث: (الريح) بلا خلافٍ في ناقضيّتها في الجملة، بل إجماعاً كما عن غير واحد(1) حكايته.

وتشهد لها: جملة من النصوص، منها صحيحا زرارة وخبر زكريّا المتقدّمان.

أقول: الكلام يقع في جهتين:

الجهة الاُولى: في اختصاص الحكم بما إذا خرجت (من المعتاد) أي الدُّبر وعدمه؟

فالمشهور بين الأصحاب هو ذلك.

وعن «المعتبر»(2) و «التذكرة»(3) و «شرح الموجز»(4): أنّ الريح الخارجة من قُبُل المرأة تنقض.

وعن بعضٍ(5): نقضُ الريح الخارجة عن ذَكر الرجل.

أقول: لا إشكال في أنّ مطلق الهواء الخارج من منفذٍ لا يكون ناقضاً، وإنْ سُلّم تسميته ريحاً، بل الظاهر من النصوص الاختصاص بما يخرج من الدُّبر إذا كان

ص: 228


1- في كشف اللّثام: ج 1/205، جواهر الكلام: ج 2/27، حكاه عن كشف اللّثام.
2- قال: (أمّا ما يخرج من قُبُل المرأة ففيه تردّد والأقرب النقض)، المعتبر: ج 1/108.
3- تذكرة الفقهاء: ج 1/101.
4- كشف الالتباس: كتاب الطهارة: ج 1/20 سطر 16 (مخطوط)، ونقله في هامش مفتاح الكرامة: ج 1/157.
5- ذكر ذلك الشهيد الأوّل في الدروس: ج 1/88، نقلاً عن بعضٍ دون أن يُسمّيه.

من المعدة، كما يشهد له - مضافاً إلى الفهم العرفي - صحيح زرارة، عَنْ أَبِي عَبْدِاللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«لا يُوجَبُ الْوُضُوءُ إِلّا مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ ضَرْطَةٍ تَسْمَعُ صَوْتَهَا، أَوْ فَسْوَةٍ تَجِدُ رِيحَهَا»(1).

إذ الخارج من غير المعدة والدُّبر لايُسمّى ضرطةً أو فسوةً.

وعليه، فما خرج من غير مخرج الغائط كالخارج من قُبُل المرأة، وإنْ كان من المعدة - بناءً على أنّ لقُبُل المرأة منفذاً إلى الجوف، فيمكن خروج الريح من المعدة إليه - لا يكون ناقضاً.

وبذلك ظهر أنّ ما خرج من مخرج الغائط غير الدُّبر، يكون ناقضاً، لصدق الضرطة أو الفسوة عليه.

الجهة الثانية: الظاهر من صحيح زرارة أنّ العبرة في الريح بسماع الصوت واستشمام الريح.

أقول: ليس الأمر كذلك، بل يتعيّن حمله على إرادة كونهما طريقاً عاديّاً للعلم بتحقّق ما هو موضوع الحكم وهو الريح الخارجة من المعدة، لا لمدخليّتهما في الموضوع، والشاهد على ذلك ما ورد في الخبر الذي رواه عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فِي «قُرْبِ الاسْنَادِ» عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى ابْنِ جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ:

«.. وسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي الصَّلاةِ فَيَعْلَمُ أَنَّ رِيحاً قَدْ خَرَجَتْ فَلا يَجِدُ رِيحَهَا ولا يَسْمَعُ صَوْتَهَا؟ قَالَ يُعِيدُ الْوُضُوءَ والصَّلاةَ ولا يَعْتَدُّ بِشَيْ ءٍ مِمَّا صَلَّى إذا2.

ص: 229


1- التهذيب: ج 1/346، وسائل الشيعة: ج 1/245 ح 632.

عَلِمَ ذَلِكَ يَقِيناً(1).

مع أنّ المتدبّر في جملة من النصوص المتضمّنة لهما، يقطع بأنّهما من طرق العلم بتحقّق موضوع الحكم، لا أنّهما دخيلان في الموضوع، لاحظ خبر ابن أبي عبد اللّه حيث قَالَ لِلصَّادِقِ عليه السلام:

«أَجِدُ الرِّيحَ فِي بَطْنِي حَتَّى أَظُنَّ أَنَّهَا قَدْ خَرَجَتْ؟ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ وُضُوءٌ حَتَّى تَسْمَعَ الصَّوْتَ أَوْ تَجِدَ الرِّيحَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ يَجْلِسُ بَيْنَ أَلْيَتَيِ الرَّجُلِ فَيُحْدِثُ لِيُشَكِّكَهُ»(2). ونحوه غيره.

***5.

ص: 230


1- وسائل الشيعة: ج 1/248 ح 639 وفي ج 7 ص 235 ح 9207 / قرب الإسناد 92. بحارالأنوار ج 77 ص 213.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/62، وسائل الشيعة: ج 1/246 ح 635.

والنَّوم الغالب على السَّمع والبَصَر.

الأمر الرابع: ناقضيّة النوم

(و) الرابع من النواقض: (النوم) مطلقاً، وتقييده في كلام المصنّف رحمه الله ب (الغالب على السّمع والبصر) لإيراد به تقسيمه إلى قسمين، إذ غير الغالب عليهما لايكون نوماً حقيقةً، كما تشهد له جملة من نصوص الباب، الدالّة على أنّ تمام الموضوع هو النوم من حيث هو، كصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْخَفْقَةِ(1) والْخَفْقَتَيْنِ؟

فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا الْخَفْقَةِ والْخَفْقَتَيْنِ، إِنَّ اللّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (بَلِ اَلْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (2) إِنَّ عَلِيّاً عليه السلام كَانَ يَقُولُ مَنْ وَجَدَ طَعْمَ النَّوْمِ، فَإِنَّمَا أُوجِبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ»(3). ونحوه غيره(4).

بل الظاهر أنّ ذكره في كلامه من باب متابعة النصّ، وذكره فيه إنّما يكون من باب المثال، ولذا ترى اختلاف النصوص في المقام، فإنّه أطلق (النوم) في بعضها(5)،

ص: 231


1- الخفقة كضربة: تحريك الرأس بسبب النعاس، يُقال خَفَقَ برأسه خفقةً أو خفقتين إذا أخذته سِنَةٌ من النعاس، فمالَ برأسه دون سائر جسده. العين: ج 4/154.
2- سورة القيامة: الآية 14.
3- التهذيب: ج 1/8، الاستبصار: ج 1/80، وسائل الشيعة: ج 1/254 ح 658.
4- كما في وسائل الشيعة: ج 1/254 ح 659 عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام.. إِلّا أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَجَدَ طَعْمَ النَّوْمِ قَائِماً أَوْ قَاعِداً فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ».
5- وفيه: «إِنَّ عَلِيّا عليه السلام كَانَ يَقُولُ مَنْ وَجَدَ طَعْمَ النَّوْمِ فَإِنَّمَا أُوجِبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ»، وسائل الشيعة: ج 1/254 ح 658.

وقيّده في صحيح زرارة (بنوم العين والاُذُن والقلب)، وفي صحيحٍ آخر له(1) وغيره، (بذهاب العقل)، وفي موثّق ابن بكير(2) (بعدم سماع الصوت).

وبالجملة: الظاهر من النصوص عدم اعتبار شيءٍ في موضوع الحكم بالنقض، سوى تحقّق حقيقة النوم.

بحث: هل يكون النوم ناقضاً مطلقاً، سواءً كان في حال الاضطجاع أو القعود أو القيام كما هو المشهور(3)؟ بل عن السيّد(4) والشيخ(5) والفاضلين: دعوى الإجماع عليه؟

أم لا يكون النوم قاعداً مع عدم الإنفراج ناقضاً؟ كما هو المنسوب إلى الصدوق رحمه الله(6)؟ وجهان:

أقواهما الأوّل، لإطلاق جملة من النصوص، وخصوص جملةٍ اُخرى، كصحيح ابن الحجّاج المتقدّم، وخبر عبد الحميد، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ نَامَ وهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ أَوْ مَاشٍ عَلَى أَيِّ الْحَالاتِه.

ص: 232


1- وفيه: «والنَّوْمُ حَتَّى يُذْهِبَ الْعَقْلَ»، وسائل الشيعة: ج 1/249 ح 642.
2- وفيه: «قُلْتُ يَنْقُضُ النَّوْمُ الْوُضُوء؟ َ فَقَالَ: نَعَمْ إِذَا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى السَّمْعِ ولا يُسْمَعُ الصَّوْتُ»، وسائل الشيعة: ج 1/253 ح 657.
3- ذكر ذلك السيّد العاملي في «المدارك» حيث قال: (والمشهور بين الأصحاب أنّ النقض بالنوم يعمّ الحالات، سواء كان النائم قاعداً أو قائماً أو راكعاً، منفرجاً أو منضمّاً)، مدارك الأحكام: ج 1/143.
4- قال: (إنّ النوم حدث ناقضٌ للطهارة على اختلاف حالات النائم... وإجماع الإماميّة أيضاً حجّة في هذه المسألة). الانتصار ص 118.
5- قال في الخلاف: (دليلنا إجماع الفرقة)، الخلاف: ج 1/107.
6- الظاهر أنّ هذه النسبة إلى الشيخ الصدوق مردّها ما ذكره في الفقيه: ج 1/63 من حديث عن الإمام الكاظم عليه السلام: «وسُئِلَ مُوسَى بْنُ جَعْفَر عليهما السلام عَنِ الرَّجُلِ يَرْقُدُ وهُوَ قَاعِدٌ هَلْ عَلَيْهِ وُضُوءٌ؟ فَقَالَ: لا وُضُوءَ عَلَيْهِ مَا دَامَ قَاعِداً إِنْ لَمْ يَنْفَرِجْ»، وقد ورد في هامش ص 64 أنّ الصدوق قد عمل بهذه الرواية على ما نُقل عنه.

فَعَلَيْهِ الْوُضُوء»(1).

أقول: واستدلّ لما نُسب إلى الصدوق رحمه الله، بما رواه في «الفقيه» الشيخ الصدوق مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ:

«سُئِلَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يَرْقُدُ وهُوَ قَاعِدٌ هَلْ عَلَيْهِ وُضُوءٌ؟ فَقَالَ: لا وُضُوءَ عَلَيْهِ مَا دَامَ قَاعِداً إِنْ لَمْ يَنْفَرِجْ»(2).

ونحوه خبر الحضرمي(3).

وفيه: أنّه يتعيّن طرحهما لإعراض الأصحاب عنهما، ومعارضتهما بما هو أقوى.

وبذلك ظهر ما في خبر عمران بن حمران حيث ورد فيه أنّه:

«سَمِعَ عَبْداً صَالِحاً عليه السلام يَقُولُ: مَنْ نَامَ وهُوَ جَالِسٌ لا يَتَعَمَّدُ النَّوْمَ فَلا وُضُوءَ عَلَيْهِ»(4).

وخبر ابن سنان، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام:

«فِي الرَّجُلِ هَلْ يُنْقَضُ وُضُوؤُهُ إذا نَامَ، وهُوَ جَالِسٌ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَلا وُضُوءَ عَلَيْهِ، وذَلِكَ أَنَّهُ فِي حَالِ ضَرُورَةٍ»(5).

فإنّه لم ينقل العمل بهما عن أحدٍ من فقهاء الإماميّة.

أقول: ثمّ هنا بحثٌ في أنّه هل يكون النوم بنفسه من النواقض؟ أم يكون6.

ص: 233


1- التهذيب: ج 1/6، الاستبصار: ج 1/79، وسائل الشيعة: ج 1/253 ح 653.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/63، وسائل الشيعة: ج 1/254 ح 661.
3- ونصه: عَنْ بَكْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام هَلْ يَنَامُ الرَّجُلُ وهُوَ جَالِسٌ؟ فَقَالَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ إِذَا نَامَ الرَّجُلُ وهُوَ جَالِسٌ مُجْتَمِعٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ وإِذَا نَامَ مُضْطَجِعاً فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ»، وسائل الشيعة: ج 1/256 ح 665.
4- الاستبصار: ج 1/80، التهذيب: ج 1/7، وسائل الشيعة: ج 1/256 ح 664.
5- الاستبصار: ج 1/81، التهذيب: ج 1/8، وسائل الشيعة: ج 1/256 ح 666.

طريقاً إلى تحقّق الناقض؟.

وتظهر الثمرة فيما لو علم بأنّه في حال النوم لم يخرج منه شيء.

فإنّه على الثاني لايجب عليه الوضوء، بخلافه على الأوّل، إذ فيه وجهان:

أقواهما الأوّل، وأنّ النوم يعدّ بنفسه من النواقض.

ويشهدله: ظاهرجملةٍ من النصوص، وصريحُ بعضها كصحيح ابن الحجّاج المتقدّم.

واستدلّ للثاني(1) أوّلاً: بخبر أبي الصباح الكناني، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَخْفِقُ وهُوَ فِي الصَّلاةِ؟

فَقَالَ: إِنْ كَانَ لا يَحْفَظُ حَدَثاً مِنْهُ إِنْ كَانَ، فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وإِعَادَةُ الصَّلاةِ، وإِنْ كَانَ يَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ ولا إِعَادَةٌ»(2).

وثانياً: وبما فِي «الْعِلَلِ» و «عُيُونِ أخْبَارِ الرضا عليه السلام» بِالسَّنَدِ الآتِي، عَنِ الْفَضْلِ، عَنِ الرِّضَا عليه السلام، قَالَ:

«إِنَّمَا وَجَبَ الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ خَاصَّةً، ومِنَ النَّوْمِ دُونَ سَائِرِ الأشْيَاءِ، لأنَّ الطَّرَفَيْنِ هُمَا طَرِيقُ النَّجَاسَةِ...

إِلَى أَنْ قَالَ: وأَمَّا النَّوْمُ فَإِنَّ النَّائِمَ إذا غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ، يُفْتَحُ كُلُّ شَيْ ءٍ مِنْهُ واسْتَرْخَى، فَكَانَ أَغْلَبُ الأشْيَاءِ عَلَيْهِ فِيَما يَخْرُجُ مِنْهُ الرِّيحَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِهَذِهِ الْعِلّةِ»(3).

ولكن الأوّل: إنّما يدلّ على أنّ الرجل في الفرض الذي لايعلم أنّه قد نام، إنْ3.

ص: 234


1- وهو كون النوم طريقاً إلى تحقّق الناقض.
2- الاستبصار: ج 1/80، التهذيب: ج 1/7، وسائل الشيعة: ج 1/253 ح 656.
3- عيون أخبار الرضا: ج 2/105، وسائل الشيعة: ج 1/255 ح 663.

كان حاله بحيث لو خَرَج الحدث لايلتفت، يجبُ عليه الوضوء، لأنّ ذلك أمارة حصول النوم الذي يوجب تعطيل الحواس، وإلّا فلا، لكونه أجنبيّاً عمّا استدلّ به عليه.

وأمّا الثاني: فهو إنّما يدلّ على أنّ حكمة جعل الناقضيّة للنوم هي ذلك، فلاحظ وتدبّر.

***

ص: 235

وما في معناه.

الأمر الخامس: الإغماء والسُّكر والجنون

أقول: لا خلاف في أنّه يلحق بالنّوم في الناقضيّة (وما في معناه) مثل الإغماء والسُّكر والجنون.

وعن «البحار»(1): أكثر الأصحاب نقلوا الإجماع عليه.

وعن «الخصال»(2): إنّه من دين الإماميّة.

وعن «التهذيب»(3): عليه إجماع المسلمين.

واستدلّ له أوّلاً: بصحيح معمّر بن خلّاد، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ بِهِ عِلَّةٌ لا يَقْدِرُ عَلَى الاضْطِجَاعِ والْوُضُوءُ، يَشْتَدُّ عَلَيْهِ وهُوَ قَاعِدٌ مُسْتَنِدٌ بِالْوَسَائِدِ، فَرُبَّمَا أَغْفَى وهُوَ قَاعِدٌ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ؟ قَالَ:

يَتَوَضَّأُ.

قُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْوُضُوءَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ لِحَالِ عِلَّتِهِ؟ فَقَالَ: إذا خَفِيَ عَلَيْهِ الصَّوْتُ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ.

وقَالَ: يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ ويُصَلِّيهَا مَعَ الْعَصْرِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ والْعِشَاءُ»(4).

ص: 236


1- بحار الأنوار: ج 77/215 حيث قال: (لكن أكثر الأصحاب نقلوا الإجماع أنّها ناقلة)، وذكر الإجماع في جامع المدارك: ج 1/29.
2- حكاه عنه في «مفتاح الكرامة»: ج 1/162، وذكره الشيخ الأنصاري في «كتاب الطهارة»: ج 1/408، وفي مصباح الفقيه: ج 1 ق 1 ص 78.
3- التهذيب: ج 1/5، حيث عدَّ من مُبطلات الوضوء الإغماء واستدلّ بإجماع المسلمين.
4- الكافي: ج 3/37، التهذيب: ج 1/9، وسائل الشيعة: ج 1/257 ح 667.

بدعوى أنّ الظاهر منه كون تمام الموضوع هو خفاء الصوت، مع أنّ الإغفاء وإنْ كان لغةً بمعنى النوم، إلّاأنّ الظاهر أنّ المراد منه في المقام هو الإغماء، لأنّه المناسب للمرض الشديد، فيدلّ على ناقضيّة الإغماء.

ويرد على ما ذكر أوّلاً: إنّه يدلّ على أنّ ناقضيّة النوم إنّما تكون في صورة خفاء الصوت الذي هو أمارة حصوله، لأنّ تمام الموضوع هو الخفاء.

وعلى ما ذكر ثانياً: أنّه أخصّ من المدّعي أوّلاً:

وثانياً: أنّ المراد منه في المقام - بمقتضى أصالة الحقيقة - هو النوم، والمناسبة المذكورة غير تامّة، إذ بما أنّه فَرَض أوّلاً كون الاضطجاع عَسِراً عليه سأل عن حكم النوم في حال القعود، فتدبّر.

وثانياً: بما في جملةٍ من نصوص الباب من تعليق ناقضيّة النوم على ذهاب العقل، فإنّه يستفاد من ذلك أنّ تمام الموضوع هو ذهاب العقل.

وفيه: ما تقدّم من أنّ ما ذكر في النصوص من ذهاب العقل والغَلَبة على السّمع والبصر ونحوهما، إنّما وقع على جهة التقدير للنوم الناقض.

وثالثاً: وبما عن «دَعَائِمُ الاسْلامِ»، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام

«أَنَّ الْوُضُوءَ لا يَجِبُ إِلّا مِنْ حَدَثٍ، وأَنَّ الْمَرْءَ إذا تَوَضَّأَ صَلَّى بِوُضُوئِهِ ذَلِكَ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلاةِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَنَمْ أَوْ يُجَامِعْ أَوْ يُغْمَ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُنْ مِنْهُ مَا يَجِبُ مِنْهُ إِعَادَةُ الْوُضُوء»(1).

وفيه: أنّه أخصّ من المدّعى.

وبالجملة: ثبت بعد سقوط الوجوه المذكورة، أنّ العمدة في ثبوت الحكم في المقام هو الإجماع.

***8.

ص: 237


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/229 و 294، دعائم الإسلام: ج 1/101، بحار الأنوار: ج 77/227 و 298.

والاستحاضة القليلة الدم.

الأمر السادس: الإستحاضة القليلة الدّم

(و) من الأحداث الموجبة للوضوء: (الاستحاضة القليلة الدم) كما هو المشهور(1).

وعن «المعتبر»(2): إجماعاً، إلّامن ابن أبي عقيل(3)، فلم يوجب وضوءً ولا غُسلاً، وابن الجنيد(4) فأوجب بها غُسلاً واحداً في اليوم والليلة.

وفي «الجواهر»(5) ومثله غيره في عدم نقل الخلاف عن غيرهما.

فلعلّ ما نُقل من بعض عبارات القدماء ك «الهداية» و «المقنع» الحاصر لنواقض الوضوء في غيرها لم يفهموا منه الخلاف(6).

واستدلّ لما اختاره العماني(7): بالأصل، وبالأخبار الحاصرة موجبات الوضوء في غيرها.

وفيه: أمّا الأصل فهو ساقط لا مجال للرجوع إليه، لقيام الدليل في مقابله وهو قول الصادق عليه السلام في ما رواه عنه معاوية بن عمّار:...

ص: 238


1- ذكر المحقّق السبزواري ذلك في ذخيرة المعاد: ج 1/14.
2- المعتبر: ج 1/111.
3- فقه ابن أبي عقيل ص 66.
4- فتاوى ابن الجنيد ص 34.
5- جواهر الكلام: ج 1/410.
6- ورد هذا النقل في جواهر الكلام: ج 1/410.
7- فقه ابن أبي عقيل العماني: ص 65.

«وإِنْ كَانَ الدَّمُ لا يَثْقُبُ الْكُرْسُفَ، تَوَضَّأَتْ ودَخَلَتِ الْمَسْجِدَ وصَلَّتْ كُلَّ صَلاةٍ بِوُضُوء...»(1).

ونحوه غيره من النصوص الآتية في محلّها.

وبها يقيّد إطلاق النصوص الحاصرة موجبات الوضوء في غيرها.

واستدلّ لما اختاره ابن الجنيد: بإطلاق النصوص الآمرة بالغُسل إنْ لم يجر الدّم الكُرُسف(2).

وفيه: أنّه سيأتي في محلّه أنّ تلك النصوص مختصّة بالمتوسّطة.

فتحصّل: أنّ الأقوى كونها من الأحداث الموجبة للوضوء.

***5.

ص: 239


1- الكافي: ج 3/88، التهذيب: ج 1/106 و 170، وسائل الشيعة: ج 2 ص 371 ح 2390.
2- الكرسف هو القطن، ويقال له الكرسوف، العين: ج 1/426، لسان العرب: ج 9/297، مجمع البحرين: ج 110/5.

ولا يجب بغير ذلك.

عدم انتقاض الوضوء بالمذي والودي

مسألة: (ولا يجب) الوضوء (بغير ذلك)، كما هو المشهور شهرةً عظيمة، وتشهد له الأخبار الحاصرة وغيرها.

نعم، يستحبّ الوضوء عقيب المذي، لأنّه مقتضى الجمع بين النصوص الآمرة به عقيب خروجه مطلقاً، أو إذا كان عن شهوة، كصحيح ابن يقطين، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يُمْذِي وهُوَ فِي الصَّلاةِ مِنْ شَهْوَةٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ؟ قَالَ: الْمَذْيُ مِنْهُ الْوُضُوءُ»(1).

وخبر أبي بصير، قَالَ: «قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام الْمَذْيُ يَخْرُجُ مِنَ الرَّجُلِ؟

قَالَ: أَحُدُّ لَكَ فِيهِ حَدّاً؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَالَ فَقَالَ: إِنْ خَرَجَ مِنْكَ عَلَى شَهْوَةٍ فَتَوَضَّأْ وإِنْ خَرَجَ مِنْكَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْكَ فِيهِ وُضُوءٌ»(2).

وبين النصوص النافية له، كمصحّح زرارة، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«إِنْ سَالَ مِنْ ذَكَرِكَ شَيْ ءٌ مِنْ مَذْيٍ أَوْ وَدْيٍ وأَنْتَ فِي الصَّلاةِ، فَلا تَغْسِلْهُ، ولا تَقْطَعْ لَهُ الصَّلاةَ، ولا تَنْقُضْ لَهُ الُْوضُوءَ، وإِنْ بَلَغَ عَقِبَيْكَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النُّخَامَةِ، وكُلُّ شَيْ ءٍ خَرَجَ مِنْكَ بَعْدَ الْوُضُوءِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْحَبَائِلِ أَوْ مِنَ الْبَوَاسِيرِ، ولَيْسَ بِشَيْ ءٍ، فَلا تَغْسِلْهُ مِنْ ثَوْبِكَ إِلّا أَنْ تُقْذِرَه»(3).

ص: 240


1- الاستبصار: ج 1/95، التهذيب: ج 1/21، وسائل الشيعة: ج 1/281 ح 740.
2- الاستبصار: ج 1/93، التهذيب: ج 1/19، وسائل الشيعة: ج 1/279 ح 734.
3- الكافي: ج 3/39، التهذيب: ج 1/21، وسائل الشيعة: ج 1/276 ح 726، علل الشرائع: ج 1/295.

وصحيح ابن أبي عمير، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«لَيْسَ فِي الْمَذْيِ مِنَ الشَّهْوَةِ ولا مِنَ الانْعَاظِ ولا مِنَ الْقُبْلَةِ ولا مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ ولا مِنَ الْمُضَاجَعَةِ، وُضُوءٌ، ولا يُغْسَلُ مِنْهُ الثَّوْبُ ولا الْجَسَدُ»(1).

ويشهد لهذا الجمع: مضافاً إلى أنّه جمعٌ عرفي، صحيح محمّد بن إسماعيل، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَذْيِ؟ فَأَمَرَنِي بِالْوُضُوءِ مِنْهُ، ثُمَّ أَعَدْتُ عَلَيْهِ سَنَةً أُخْرَى فَأَمَرَنِي بِالْوُضُوءِ مِنْهُ، وقَالَ: إِنَّ عَلِيّاً عليه السلام أَمَرَ الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله واسْتَحْيَا أَنْ يَسْأَلَهُ، فَقَالَ فِيهِ الْوُضُوءُ، قُلْتُ: وإِنْ لَمْ أَتَوَضَّأْ؟ قَالَ: لا بَأْسَ»(2).

ويستحبّ أيضاً عقيب الودي لصحيح ابن سنان، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«ثَلاثٌ يَخْرُجْنَ مِنَ الإحْلِيلِ: وهُنَّ الْمَنِيُّ وفِيهِ الْغُسْلُ، والْوَدْيُ فَمِنْهُ الْوُضُوءُ لأنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ دَرِيرَةِ الْبَوْلِ، قَالَ: والْمَذْيُ لَيْسَ فِيهِ وُضُوءٌ، إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأنْفِ»(3).

والحكم الوارد في هذا الخبر محمول على الاستحباب جمعاً بينه وبين مصحّح زرارة المتقدّم.

ما يستحبّ الوضوء منه

استحباب الوضوء بعد القيء والرعاف:

أوّلاً: يستحبّ الوضوء بعد القيء والرعاف، لصحيح أبي عُبيدة الحذّاء، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

ص: 241


1- التهذيب: ج 1/19 و 253، الاستبصار: ج 1/93 و 174، وسائل الشيعة: ج 1/270 ح 705، عوالئ اللالي: ج 3/23.
2- التهذيب: ج 1/18، الاستبصار: ج 1/92، وسائل الشيعة: ج 1/279 ح 733.
3- التهذيب: ج 1/20، الاستبصار: ج 1/94، وسائل الشيعة: ج 1/280 ح 738.

«الرُّعَافُ والْقَيْ ءُ والتَّخْلِيلُ يَسِيلُ الدَّمَ، إذا اسْتَكْرَهْتَ شَيْئاً يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وإِنْ لَمْ تَسْتَكْرِهْهُ لَمْ يَنْقُضِ الْوُضُوء»(1).

المحمول على الاستحباب، بقرينة خبر أبي هلال الوارد فيه قَوله:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَيَنْقُضُ الرُّعَافُ والْقَيْ ءُ ونَتْفُ الابْطِ الْوُضُوء؟ َ فَقَالَ وَمَا تَصْنَعُ بِهَذَا! هَذَا قَوْلُ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ لَعَنَ اللّهُ الْمُغِيرَةَ، يُجْزِيكَ مِنْ الرُّعَافِ والْقَيْ ءِ أَنْ تَغْسِلَهُ ولا تُعِيدُ الْوُضُوءَ»(2).

وخبر أبي بصير، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنِ الرُّعَافِ والْحِجَامَةِ وكُلِّ دَمٍ سَائِلٍ؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا وُضُوءٌ، إِنَّمَا الْوُضُوءُ مِنْ طَرَفَيْكَ اللَّذَيْنِ أَنْعَمَ اللّهُ بِهِمَا عَلَيْكَ»(3).

وبذلك ظهر استحبابه بعد التخليل إذا أدمى.

وثانياً: وكذا يستحبّ الوضوء عقيب التقبيل بشهوة، ومسّ الفرج، لصحيح أبي بصير، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«إذا قَبَّلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ مِنْ شَهْوَةٍ، أَوْ مَسَّ فَرْجَهَا أَعَادَ الْوُضُوءَ»(4).

المحمول على الاستحباب، بقرينة خبر عبد الرحمن، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ مَسَّ فَرْجَ امْرَأَتِهِ؟ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ وإِنْ شَاءَ غَسَلَ يَدَهُ، والْقُبْلَةُ لا يُتَوَضَّأُ مِنْها»(5). ونحوه غيره.9.

ص: 242


1- التهذيب: ج 1/13، الاستبصار: ج 1/83، وسائل الشيعة: ج 1/263 ح 685.
2- التهذيب: ج 1/349، وسائل الشيعة: ج 1/266 ح 694.
3- الكافي: ج 3/37، الاستبصار: ج 84/1، التهذيب: ج 1/15، وسائل الشيعة: ج 1/250 و 267 ح 645 و 696.
4- التهذيب: ج 1/22، الاستبصار: ج 1/88، وسائل الشيعة: ج 1/272 ح 712.
5- الاستبصار: ج 1/88، التهذيب: ج 1/22، وسائل الشيعة: ج 1/271 ح 709.

وثالثاً: ويستحبّ للمسّ باطن الدبر والإحليل على المشهور شهرةً عظيمة(1).

وفي «الجواهر»(2): كادت تكون إجماعاً بل هي إجماع.

وعن الصدوق(3): النقض بمسّ الرجل باطن دبره أو باطن إحليله أو فتح إحليله.

واستدلّ له: بموثّق عمّار، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَمَسُّ بَاطِنَ دُبُرِهِ؟ قَالَ: نَقَضَ وُضُوءَهُ، وإِنْ مَسَّ بَاطِنَ إِحْلِيلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ، وإِنْ كَانَ فِي الصَّلاةِ قَطَعَ الصَّلاةَ ويَتَوَضَّأُ ويُعِيدُ الصَّلاةَ، وإِنْ فَتَحَ إِحْلِيلَهُ أَعَادَ الْوُضُوءَ وأَعَادَ الصَّلاةَ»(4).

وفيه: أنّه لا مجال للعمل بظاهر هذا الخبر، بل يحمل على الاستحباب لإعراض الأصحاب عنه، ومعارضته بما دلّ على حَصر النواقض الوارد في مقام بيان عدم ناقضيّة ما اشتهر بين العامّة ناقضيته.

وبخبر سماعة، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ أَوْ فَرْجَهُ أَوْ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، وهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يُعِيدُ وُضُوءَهُ؟ فَقَالَ لا بَأْسَ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جَسَدِهِ»(5).

فإنّ مقتضى العلّة المنصوصة عدم الفرق بين ظاهره وباطنه.

ورابعاً: وكذا يستحبّ الوضوء مع نسيان الاستنجاء، لصحيح سليمان بن خالد، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام:1.

ص: 243


1- ورد القول بالاستحباب في الكثير من عبارات الفقهاء، كشف اللّثام: ج 1/128.
2- جواهر الكلام: ج 1/24 ذكر أنّه من المستحبّات.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 1/65.
4- الاستبصار ص 88، التهذيب: ج 1/45 و 348، وسائل الشيعة: ج 1/272 ح 713.
5- الاستبصار: ص 88، التهذيب: ج 1/346، وسائل الشيعة: ج 1/272 ح 711.

«فِي الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ فَيَنْسَى غَسْلَ ذَكَرِهِ؟ قَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ثُمَّ يُعِيدُ الْوُضُوءَ»(1).

المحمول على الاستحباب، لصحيح ابن يقطين، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام:

«فِي الرَّجُلِ يَبُولُ فَيَنْسَى غَسْلَ ذَكَرِهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ الصَّلاةِ؟ قَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ولا يُعِيدُ الْوُضُوءَ»(2).

وأخيراً: يستحبّ الوضوء أيضاً في مواضع اُخر، والتي لكثرتها وعدم الخلاف فيها أغمضنا عن ذكرها.

***).

ص: 244


1- الاستبصار: ص 54، التهذيب: ج 1/49، وسائل الشيعة: ج 1/296 ح 779.
2- وسائل الشيعة: ج 1/294 ح 771، الكافي: ج 3 ص 18، التهذيب: ج 1/48، الاستبصار: ج 1/53، باختلاف في سَنَدي التهذيب والاستبصار، وبقوله في آخر الحديث: (وضوءه) بدل (الوضوء).

الفصل الثاني: في آداب الخلوة:

اشارة

الفصل الثاني: في آداب الخلوة: ويجب ستر العورة على طالب الحدث.

في وجوب ستر العورة

(الفصل الثاني: في آداب الخلوة: ويجبُ سَتر العورة على طالب الحَدَث)، بل وعلى غيره عن الناظر المحترم إجماعاً(1) كما في «الجواهر»(2) وغيرها، بل فيها دعوى الضرورة عليه.

ويشهد له: مرسل الصدوق، قَالَ:

«وسُئِلَ الصَّادِقُ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) (3)؟ فَقَالَ:

كُلُّ مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللّهِ مِنْ ذِكْرِ حِفْظِ الْفَرْجِ فَهُوَ مِنَ الزِّنَا إِلّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ لِلْحِفْظِ مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ»(4).

وما عن «تفسير النعماني»، بِسَنَدِهِ الآتِي، عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام:

«فِي قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) مَعْنَاهُ لا يَنْظُرُ أَحَدُكُمْ إِلَى فَرْجِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، أَوْ يُمَكِّنُهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِهِ»(5).

وما في حديث المناهي، عَنِ الصَّادِقِ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فِي حَدِيثِ

ص: 245


1- الحدائق الناضرة: ج 2/2.
2- جواهر الكلام: ج 2/2.
3- سورة النور: الآية 30.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 1/114، وسائل الشيعة: ج 1/300 ح 787.
5- وسائل الشيعة: ج 1/300 ح 789.

الْمَنَاهِي، قَالَ:

«إذا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فِي فَضَاءٍ مِنَ الأرْضِ، فَلْيُحَاذِرْ عَلَى عَوْرَتِهِ...»(1).

وما عن «تحف العقول»، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أَنَّهُ قَالَ:

«يَا عَلِيُّ! إِيَّاكَ ودُخُولَ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ، مَلْعُونٌ (مَلْعُونٌ) النَّاظِرُ والْمَنْظُورُ إِلَيْهِ»(2). ونحوها غيرها(3).

أقول: ولا يعارضها موثّق ابن أبي يعفور، قَالَ:

سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَيَتَجَرَّدُ الرَّجُلُ عِنْدَ صَبِّ الْمَاءِ تُرَى عَوْرَتُهُ، أَوْ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ، أَوْ يَرَى هُوَ عَوْرَةَ النَّاسِ؟ قَالَ: كَانَ أَبِي يَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ»(4).

لعدم ظهور الكراهة في الكراهة المصطلحة. بل الظاهر أنّ المراد منها المبغوضيّة لما تقدّم.

في حرمة النظر إلى عورة الآخرين

ثمّ إنّه كما يجب ستر العورة، كذلك يحرم النظر إلى عورة الغير بلا خلاف.

ويشهد له: ما عن «تفسير النعماني»(5)، والنبويّ المروي عن «تحف العقول» (6) المتقدّمان، وصحيح حريز، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

ص: 246


1- وسائل الشيعة: ج 1/299 ح 786.
2- وسائل الشيعة: ج 2/33 ح 1399، تحف العقول ص 13.
3- عدّة أحاديث في هذا المعنى منها: ما في الكافي: ج 6/503، وفي وسائل الشيعة: ج 2/56 ح 1466، وفي مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/376.
4- الكافي: ج 6/501، بحار الأنوار: ج 73/78، مكارم الأخلاق ص 53، وسائل الشيعة: ج 2/33 ح 1397. (5و6) وسائل الشيعة: ج 1/300 ح 789.

«لا يَنْظُرِ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ أَخِيهِ»(1).

وفي حديث المناهي: «نَهَى أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وقَالَ: مَنْ تَأَمَّلَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لَعَنَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ونَهَى الْمَرْأَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ..»(2) ونحوها غيرها.

أقول: ولا يعارضها ما ورد في تفسير قوله عليه السلام: (عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ) من أنّ المراد إذاعة سِرّه كما ورد في صحيح ابن سنان، المروي عَنْ أَبِي عَبْدِاللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنْ عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَعْنِي سُفْلَيْهِ.

فَقَالَ: لَيْسَ حَيْثُ تَذْهَبُ إِنَّمَا هُوَ إِذَاعَةُ سِرِّهِ»(3).

ونحوه خبر حذيفة(4).

إذ هما إنّما يدلّان على أنّ المراد من هذه الجملة هو ذلك، ولايدلّان على عدم حرمة النظر.

وقد تقدّم أنّ ما اشتمل على لفظ الكراهة أيضاً لا ينافي ذلك؟

وعليه، فما عن بعض الأصحاب(5) من أنّه لو لم يكن مخافة خلاف الإجماع، لأمكن القول بكراهة النطر دون الحرمة، ضعيفٌ غايته.

***4.

ص: 247


1- التهذيب: ج 1/374، وسائل الشيعة: ج 1/299 ح 785 وج 2/32 ح 1395.
2- وسائل الشيعة: ج 1/299 ح 786.
3- الكافي: ج 2/358، التهذيب: ج 1/375، وسائل الشيعة: ج 2/37 ح 1410 وج 12/294 ح 16340.
4- التهذيب: ج 1/375، وسائل الشيعة: ج 2/37 ح 1409.
5- نقله المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1 / ص 81 ق 1، وأشار إليه السيّد الخوئي في كتاب الطهارة: ج 3/354.
حكم النظر إلى عورة الكافر

فروع:

الفرع الأوّل: مقتضى إطلاق جملةٍ من النصوص والفتاوي: عدم الفرق في الحرمة بين عورة المسلم والكافر.

وعن ظاهر الصدوق رحمه الله(1) وصاحب الوسائل قدس سره(2): جواز النظر إلى عورة غير المسلم بغير شهوة.

واستدلّ له أوّلاً: بما رواه في «الفقيه» عَنِ الصَّادِقِ عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ:

«إِنَّمَا أَكْرَهُ النَّظَرَ إِلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِ؛ فَأَمَّا النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ مِثْلُ النَّظَرِ إِلَى عَوْرَةِ الْحِمَارِ»(3).

وثانياً: بمصحّح ابن أبي عمير، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ مِثْلُ نَظَرِكَ إِلَى عَوْرَةِ الْحِمَارِ»(4).

وثالثاً: بالأصل، فإنّ جملة من نصوص المنع من جهة التقييد فيها (بالمؤمن) و (المسلم) و (الأخ) مختصّة بالمسلم.

أقول: وما يدلّ منها على العموم مثل النبويين المتقدّمين، وموثّق ابن أبي يعفور المتقدّم، معارض بالخبرين، ولكن إعراض الأصحاب عنهما، وإفتائهم بالمنع، يوجب سقوط الخبرين عن الحجيّة، فتأمّل.

ص: 248


1- استناداً إلى ما رواه في «من لا يحضره الفقيه» باعتبار أنّ عمله عليه، ويأتي الحديث.
2- وهو ما ذكره في وسائل الشيعة، وسيأتي نصّ الحديث.
3- الفقيه: ج 1/114، وسائل الشيعة: ج 2/36 ح 1406 وفيها (إنّما كره) بدل (أكره)، مكارم الأخلاق ص 56 ذكرت (أكره)، مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/378، بحار الأنوار: ج 101/42، نسب الحديث إلى مكارم الأخلاق بلفظ (كره).
4- الكافي: ج 6/501، وسائل الشيعة: ج 2/35 ح 1405.

هذا في النظر إلى عورة الكافر.

وأمّا حفظ العورة من أنْ ينظر الكافر إليها: فالظاهر أنّه لاخلاف في وجوبه، ويشهد له إطلاق النصّ والفتوى.

وبذلك يظهر وجوب الحفظ عن كلّ ناظرٍ عدا الطفل غير المميّز، ومَنْ استُثني من الزوج والزوجة ونحوهما.

***

ص: 249

حكم النظر إلى عورة الغير بالواسطة

الفرع الثاني: لا يجوز النظر إلى عورة الغير في المرآة، أو الماء الصافي، لإطلاق الأدلّة، بناءً على ما هو الحقّ من أنّ ما يُرى فيهما هو بعينه ذلك الموجود الخارجي، لا أنّه مثاله.

وأمّا ما ورد في الخنثى المُشكل من النظر في المرآة إلى عورتها عند بولها، كي يُميّز أنّها رجلٌ أو امرأة، فلا ينافي ذلك لوروده مورد الضرورة.

نعم، يستفاد منه أنّ النظر إليها في المرآة أهون من النظر إليها ابتداءً، وبذلك ظهر حرمة النظر إليها من وراء الزجاجة.

***

الفرع الثالث: لو شكّ في وجود الناظر أو كونه محترماً يجبُ الستر.

فإنّ أدلّة وجوبه إنّما تدلّ على لزوم المحافظة والمحاذرة، ومقتضى لزومهما الستر مع الشكّ في وجود الناظر المحترم، إذ معه لو لم يستر لايصدق أنّه حفظ العورة.

ولذا ترى بناء الفقهاء في الأمانة التي يجب حفظها، أنّه لو وضع الأمين المال في محل يشكّ في بقائه محفوظاً فيه فتلف يكون ضامناً له.

نعم، لو وقف في مكانٍ يشكّ في وقوع نظره على عورة الغير، لا يجبُ عليه الغضّ، أو التعدّي عن ذلك المكان، للأصل.

أقول: وبما ذكرناه ظهر الفرق بين المسألتين، فالإيراد على الفارقين بينهما، والحكم في الاُولى بوجوب الستر، وفي الثانية بعدم وجوب الغضّ، بأنّ مقتضى الاُصول فيهما عدم الوجوب، في غير محلّه.

***

ص: 250

ما شُكّ في حرمة النظر إليه

الفرع الرابع: لو رأى عورة مكشوفةً، وشكَّ في أنّها عورة حيوانٍ أو إنسان؟ فلا يجب عليه الغضّ للأصل.

وإنْ علم أنّها من إنسانٍ وشُكّ في أنّها من صبي غير مميّز أو من بالغ؟ ففي العروة(1): الأحوط ترك النظر.

أقول: والظاهر أنّه لا وجه له سوى التمسّك بعموم مادلّ على عدم جواز النظر.

وفيه: - مضافاً إلى أنّه تمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، كما هو واضح، وهو لايجوز - أنّه في المورد يجري استصحاب عدم البلوغ، ويترتّب عليه جواز النظر.

وإنْ شكّ في أنّها من زوجته، أو مملوكته، أو أجنبيّة؟ فعن جملةٍ من الفقهاء(2) عدم جواز النظر، ووجوب الغضّ عنها.

واستدلّ له بما يلي:

أوّلاً: بأنّ إناطة الجواز - وضعيّاً كان أم تكليفيّاً - على عنوان خاص وجودي تدلّ بالالتزام العرفي على أنّ الموضوع هو إحراز ذلك العنوان، فلابدَّ من اثباته.

ثانياً: بأنّ مقتضى العمومات حرمة النظر إلى عورة كلّ أحدٍ، خرجت عنها عورة الزوجة والمملوكة، فمع الشكّ في كونها من إحداهما بما أنّه شكّ في مصداق الخاص يكون المرجع هو العموم.

الثالث: بأنّ المقام من قبيل المقتضي والمانع.

الرابع: وبالأصل المتّفق عليه وهو أصالة الاحتياط في الفروج.

ص: 251


1- العروة الوثقى: ج 1/322.
2- السيّد الخوئي في كتاب الطهارة: ج 3/366، السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى ج 2/192.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فيرد عليه أنّ إناطة حكمٍ ترخيصي بأمرٍ وجودي، كإناطة المنع به، لا يُراد بها إلّاجعل حكمٍ واقعيٍ لموضوع واقعي.

وأمّا الثاني: فإنّ العام لا يكون مرجعاً عند الشكّ في الخاص، لاسيّما إذا كان المخصّص متّصلاً كما في المقام.

وأمّا الثالث: عدم تماميّة القاعدة أوّلاً، وعدم تمييز المقتضي عن المانع في التشريعات ثانياً.

وأمّا الرابع: أنّ أصالة الاحتياط في الفروج ليست أصلاً مستقلّاً غير الاستصحاب، وعلى فرض تسليم كونها أصلاً برأسها، فإنّما هي بالنسبة إلى الوطئ، لا النظر، فتدبّر.

فالصحيح أن يُقال: إنّه مع إحراز الحالة السابقة، يجري الاستصحاب:

1 - فلو كانت الحالة السابقة هي عدم كونها زوجته أو مملوكته، فيجري الاستصحاب ويُحكم بعدم جواز النظر.

2 - وأمّا لو كانت الحالة السابقة، هي كونها زوجته أو مملوكته، فمقتضى الاستصحاب جوازه.

ولو لم يعلم الحالة السابقة:

1 - إمّا لكونها على فرض مملوكيّتها من أوّل وجودها كذلك، بناءً على عدم جريان الأصل في العدم الأزلي.

2 - وإمّا في موارد توارد الحالتين مع الجهل بتقدّم إحداهما على الاُخرى.

فإنّه حينئذٍ لا مجال لجريان الاستصحاب، فالمحكّم حينئذ أصالة البراءة المقتضية للجواز.

***

ص: 252

النظر إلى عورة الخنثى

الفرع الخامس: لا إشكال في حرمة نظر كلٍّ من الرجل والأُنثى إلى دُبُر الخُنثى، لكونه عورة قطعاً.

وأمّا قُبُلها فلا يجوز لمحارمها النظر، للعلم الإجمالي بكون أحدهما عورة.

وأمّا الأجنبي: فلا يجوزُ له النظر إلى ما يماثل عورته للعلم بحرمته تفصيلاً: إمّا لكونه عورة، أو لأنّه جزء من بدن الأجنبي.

وأمّا الطرف الآخر المخالف لعورته، فحيثُ إنّه لم يَحرز كونه عورة، ولا كونه جزءٌ من بدن الأجنبي، فيشكّ في جواز النظر إليه وحرمته.

وبما أنّ العلم الإجمالي بكون أحدهما عورة ينحلّ بالعلم بحرمة النظر تفصيلاً إلى ما يماثل عورته، فتجري أصالة البراءة فيه بلا معارض، وهي تقتضي الجواز.

***

مصاديق عورة الرجل والمرأة

الفرع السادس: المشهور بين الأصحاب: أنّ العورة في الرجل: القُبُل والبيضتان والدُّبر، وفي المرأة: القُبُل والدُّبر.

وعن «الخلاف»(1): دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له: مرسل أبي يحيى الواسطي، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاضِي عليه السلام، قَالَ:

«الْعَوْرَةُ عَوْرَتَانِ الْقُبُلُ والدُّبُرُ، والدُّبُرُ مَسْتُورٌ بِالالْيَتَيْنِ، فَإِذَا سَتَرْتَ الْقَضِيبَ

ص: 253


1- ذكر ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/187.

والْبَيْضَتَيْنِ فَقَدْ سَتَرْتَ الْعَوْرَةَ»(1).

والخبر المرسل الذي رواه الشيخ الكليني:

«وأَمَّا الدُّبُرُ فَقَدْ سَتَرَتْهُ الالْيَتَانِ، وأَمَّا الْقُبُلُ فَاسْتُرْهُ بِيَدِكَ»(2).

وفي خبر الميثمي، قَالَ: «رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَوْ مَنْ رَآهُ مُتَجَرِّداً وعَلَى عَوْرَتِهِ ثَوْبٌ! فَقَالَ: إِنَّ الْفَخِذَ لَيْسَتْ مِنَ الْعَوْرَةِ»(1). ونحوها غيرها.

وقد تعرّضنا لهذه المسألة في كتاب الصلاة(2) مفصّلاً فمن أراد فليراجع.

***9.

ص: 254


1- التهذيب: ج 1/374 ح 8، وسائل الشيعة: ج 2/34 ح 1400.
2- فقه الصادق: ج 6/159.

ويحرم عليه استقبال القبلة واستدبارها.

الاستقبال والاستدبار في حال التخلّي

(ويَحرُمُ عليه) أي على طالب الحَدَث (استقبال القبلة واستدبارها)، على المشهور شهرةً عظيمة(1)، بل عن الشيخ في «الخلاف»(2) وابن زهرة(3) دعوى الإجماع عليه.

وتشهد له: نصوص مستفيضة:

منها: حديث المناهي، وفيه: عَنِ الصَّادِقِ، عَنْ آبَائِهِ عليه السلام، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله قَالَ فِي حَدِيثِ الْمَنَاهِي:

«إذا دَخَلْتُمُ الْغَائِطَ فَتَجَنَّبُوا الْقِبْلَةَ»(4).

ومنها: مرفوع عبد الحميد، قَالَ:

«سُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليهما السلام مَا حَدُّ الْغَائِطِ؟ قَالَ: لا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ ولا تَسْتَدْبِرْهَا، ولا تَسْتَقْبِلِ الرِّيحَ ولا تَسْتَدْبِرْهَا»(5).

ومنها: عن «الكافي»(6) و «التهذيب» و «الفقيه»(7) مثله مرسلاً عن أبي

ص: 255


1- ورد ذلك في أغلب كلمات الفقهاء، وقال العلّامة الحلّي في تحرير الأحكام: ج 1/62: خلافاً لابن الجنيدفيهما وللمفيد وسلّار في الأخير أي المراسم في الفقه الإمامي: ص 32.
2- الخلاف: ج 1/101 و 102.
3- غنية النزوع ص 35.
4- وسائل الشيعة: ج 302/1 ح 792، من لايحضره الفقيه: ج 3/4، مكارم الأخلاق ص 424، أمالي الصدوق ص 422.
5- وسائل الشيعة: ج 1/302 ح 795، الاستبصار: ج 1/47، التهذيب: ج 1/26 ص 33.
6- الكافي: ج 3/16.
7- التهذيب: ج 1/30، الفقيه: ج 1/26.

الحسن عليه السلام، وما رفعه القمّي: قَالَ:

«خَرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام - وأَبُو الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام قَائِمٌ وهُوَ غُلامٌ - فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: يَاغُلامُ أَيْنَ يَضَعُ الْغَرِيبُ بِبَلَدِكُمْ؟ فَقَالَ: اجْتَنِبْ أَفْنِيَةَ الْمَسَاجِدِ، وشُطُوطَ الأنْهَارِ، ومَسَاقِطَ الِّثمَارِ، ومَنَازِلَ النُّزَّالِ، ولا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ ولا بَوْلٍ وارْفَعْ ثَوْبَكَ وضَعْ حَيْثُ شِئْتَ»(1).

ونحوها غيرها.

والمناقشة فيها: بعد جبر سندها بعمل الأصحاب، بضعف السند في غير محلّها.

كما أنّ الإيراد عليها: بأنّ مساقها مساق الأدب، وهو يمنع من ظهورها في الوجوب.

غير تامّ: إذ مضافاً إلى أنّ ذلك في نفسه لا يصلح قرينةً لصرف الظهور، أنّ المنع عن الاستدبار غير مناسبٍ، لكون الحكم أدبيّاً كما لا يخفى.

واشتمال بعضها على بعض المكروهات، وما لم يلتزم به أحدٌ، لا يوجبُ رفع اليد عن ما لا محذور في الأخذ بظاهره. وعليه، فما عن «المدارك»(2) من تقوية القول بالكراهة، ضعيف.

أقول: ظاهر هذه النصوص حرمة الاستقبال والاستدبار في حال التخلّي بمقاديم بدنه، وإن أمال عورته إلى غيرهما، إذ المنهيّ عنه استقبال المتخلّي واستدباره،1.

ص: 256


1- وسائل الشيعة: ج 1/301 ح 790 و ص 324 ح 853، الكافي: ج 3/16، التهذيب: ج 1/30، تحف العقول: ص 411 باختلاف يسير.
2- وقد ذكر بعد استعراضه للروايات المذكورة: (وهذه الأخبار كلّها مشتركة في ضعف السند، فحملها على الكراهة متعين، لقصورها عن إثبات التحريم، وربما كان في الروايتين الأخيرتين إشعارٌ بذلك)، مدارك الأحكام: ج 156/1.

وهذان العنوانان يصدقان حتّى مع إمالة العورة.

فما عن بعض من أنّ المحرّم استقبال القبلة ببول أو غائط، وأنّه لو انحرف بعورته عن القبلة حين البول لم يضرّ الاستقبال بسائر بدنه، ضعيف.

فرع: لو لم يستقبل المتخلّي القبلة ولا استدبرها، فهل يجوز الاستقبال والاستدبار بطرف عورته فقط، أو لا يجوز؟ أم يفصل بين الأوّل فلا يجوز والثاني فيجوز؟ وجوه: أقواها الأخير.

ويشهد لعدم جواز الأوّل: مرفوع القمّي المتقدّم، وما في حديث المناهي، قَالَ:

«ونَهَى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ»(1).

وامتناع ذلك عادةً بالنسبة إلى الغائط في الجالس الذي هو الغالب، لا يوجب حمل الاستقبال به وبالبول على الاستقبال بالفرج حال البول والغائط، إذ اشتمال الدليل على بيان حكم فرد نادر لا محذور فيه، وليس نظير حمل المطلق على الفرد النادر، ولجواز الثاني، والأصل - بعد عدم الدليل - على حرمته.

***3.

ص: 257


1- وسائل الشيعة: ج 1/302 ح 793.

في الصَّحاري والبُنيان.

حكم التخلّي في الصحاري والبنيان

ويستوي (في) ممنوعيّة الاستقبال والاستدبار (الصحاري والبنيان).

وفي «الجواهر»(1)، كما هو خيرة «المبسوط»(2) و «الخلاف»(3) و «السرائر»(4)و «المعتبر»(5) و «النافع»(6) و «المنتهى»(7) و «الإرشاد»(8) و «القواعد»(9) و «جامع المقاصد»(10) وغيرها: بل هو المشهور نقلاً وتحصيلاً.

بل في «الخلاف»(11) - وعن «الغنية»(12) -: دعوى الإجماع عليه.

وعن ابن الجنيد(13) والمفيد(14) وسلّار(15): القول بعدم الحرمة في الثاني.

ص: 258


1- جواهر الكلام: ج 2/8.
2- المبسوط: ج 1/16.
3- الخلاف: ج 1/101.
4- السرائر: ج 1/95.
5- المعتبر: ج 1/122.
6- المختصر النافع: ص 8.
7- منتهى المطلب: ج 1/238.
8- إرشاد الأذهان: ج 1/221.
9- قواعد الأحكام: ج 1/180.
10- جامع المقاصد: ج 1/99.
11- قال في الخلاف: ج 1/102: (دليلنا: إجماع الفرقة).
12- غنية النزوع: ص 35 حيث قال: (بدليل الإجماع).
13- وقال ابن الجنيد: (يستحبّ إذا أراد التغوّط في الصحراء أن يتجنّب استقبال القبلة)، فتاوي ابن الجنيد ص 24، نقلاً عن المختلف: ج 1/265-266.
14- المقنعة ص 41.
15- وقد ذكر ذلك بقوله: (وقد رخّص ذلك في الدور وتجنّبه أفضل)، المراسم العلويّة ص 32.

والأوّل أقوى لإطلاق الأدلّة.

واستدلّ للثاني: بصحيح محمّد بن إسماعيل، قَالَ:

«دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام وفِي مَنْزِلِهِ كَنِيفٌ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ بَالَ حِذَاءَ الْقِبْلَةِ ثُمَّ ذَكَرَ فَانْحَرَفَ عَنْهَا إِجْلالا لِلْقِبْلَةِ وتَعْظِيماً لَهَا لَمْ يَقُمْ مِنْ مَقْعَدِهِ ذَلِكَ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ»(1).

وفيه: أنّ غاية ما يدلّ عليه الخبر، عدم وجوب تغيّر ما بني مستقبل القبلة، ولا يدلّ على جواز الاستقبال في حال التخلّي، بل ذيله يدلّ على عدم الجواز.

أقول: بعد وضوح أصل الحكم يقتضي المقام التعرّض لفروعه:

***6.

ص: 259


1- التهذيب: ج 1/352 ح 6، وسائل الشيعة: ج 1/303 ح 796.

الفرع الأوّل: عدم وجوب التشريق أو التغريب.

المشهور بين الأصحاب عدم وجوب التشريق أو التغريب، وأنّه يكتفى بما يتحقّق به ترك الاستقبال والاستدبار، وهو الميل إلى أحد الطرفين.

وأمّا الخبر الذي رواه عيسى الْهَاشميِّ، عن أَبيه، عن جدِّه، عَنْ عليٍّ عليه السلام، قَالَ:

«قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله: إذا دَخَلْتَ الَْمخْرَجَ فَلا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ ولا تَسْتَدْبِرْهَا، ولَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»(1).

فمضافاً إلى ضعف سنده في نفسه، وعدم عمل الأصحاب به، يمكن أنْ يُقال إنّه بقرينة المقابلة اُريد به الميل إلى جهتهما.

الفرع الثاني: في اختصاص الحكم حال البول والغائط

المشهور بين الأصحاب اختصاص الحكم بحالة البول والغائط.

وعن «الدلائل» و «الذخيرة»(2): شموله لحال الاستنجاء، ومال إليه العلّامة الأنصاري رحمه الله في طهارته(3).

واستدلّ له: بموثّق عمّار، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«قُلْتُ لَهُ: الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ كَيْفَ يَقْعُدُ؟ قَالَ: كَمَا يَقْعُدُ لِلْغَائِطِ، وقَالَ: إِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا ظَهَرَ مِنْهُ ولَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ بَاطِنَهُ»(4).

وبإطلاق النبويّ المتقدّم: «إذا دَخَلْتَ المَخْرَجَ فَلا تَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ ولا تَسْتَدبِرها».5.

ص: 260


1- وسائل الشيعة: ج 1/302 ح 794، الاستبصار: ج 1/47.
2- ذخيرة المعاد: ج 1/16.
3- كتاب الطهارة: ج 1/431.
4- الكافي: ج 3/18، التهذيب: ج 1/355، وسائل الشيعة: ج 1/360 ح 955.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر منه وروده - سؤالاً وجواباً - في مقام بيان كيفيّة الجلوس من حيث هو، والاستقبال والإستدبار ليسا من كيفيات الجلوس وحالاته، بل من الاُمور الخارجيّة المقارنة له، فما عن بعض الفحول - من ورود الموثّق ردّاً على العامّة، حيث يقعدون للاستنجاء نحواً آخر من زيادة التفريج وإدخال الأنملة - هو القوي، ويؤيّده ما ورد في ذيله من قوله: «وإنّما عَليه أَنْ يَغْسِل مَا ظَهرَ منه، ولَيسَ عَلَيه أنْ يَغْسِل باطنه».

وأمّا الثاني: - فمضافاً إلى ضعف سنده، وعدم معلوميّة العمل به - أنّ إطلاقه غير مرادٍ قطعاً، بل الظاهر إرادة خصوص حالة البول والغائط، فتأمّل.

وعليه، فالأقوى عدم شمول الحكم لحال الاستنجاء، كما يقتضيه الأصل.

وأمّا حالة الاستبراء: فعن «الدلائل» و «الذخيرة» أيضاً، شمول الحكم لها، واستدلّ له بإطلاق النبويّ المتقدّم، وقد عرفت ما فيه.

فالصحيح أن يُقال: إنّ مع العلم بخروج البول، لا ينبغي التوقّف في شمول المنع لها، لإطلاق ما دلَّ على حرمة الاستقبال والاستدبار في حال البول الشامل للقليل والكثير.

وأمّا مع الشكّ فيه:

1 - فإنْ علم بخروج البلل، أمكن القول بثبوت المنع فيها، لأنّ مقتضى ما دلّ على لزوم الاجتناب عنه أنّه يحكم عليه بالبوليّة، فيثبت له ما للبول من الحكم.

2 - وإنْ شكّ فيه أيضاً، فالأقوى هو العدم، لأصالة البراءة المقتضية للجواز.

***

ص: 261

الفرع الثالث: في اشتباه القبلة

ولو اشتبهت القبلة، ففيها أربع صور:

1 - إذ تارةً تتردّد بين جهات معيّنة.

2 - واُخرى بين الجهات مطلقاً.

3 - وثالثة يظنّ بكونها في إحداها.

4 - ورابعة تتردّد بين جهتين متقابلتين.

أمّا في الصورة الاُولى: فلا إشكال في عدم جواز التخلّي مستقبلاً لجهةٍ من تلك الجهات، بل يجب الميل عنها إلى الجهات الخارجة عن أطراف الشبهة، إذ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في منجّزيّته للتكليف.

وأمّا الصورة الثانية: فقد يقال - كما عن بعض أكابر المحقّقين رحمهم الله(1) -: كونها من الشبهة غير المحصورة، التي لا يجب الاحتياط فيها، وعليه فلا يجب الفحص عن القبلة عند إرادة التخلّي، ويرجع إلى عموم قوله عليه السلام: «كُلُّ شَيْ ءٍ هُوَ لَكَ حَلالٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِك»(2).

وفيه: ما حقّقناه في محلّه(3)، وأشرنا إليه في هذا الشرح غير مرّة؛ من أنّ الشبهة غير المحصورة من حيثُ هي ليست من موانع تنجّز التكليف، وأنّه في موارد العلم الإجمالي، حتّى ولو كانت أطراف الشبهة كثيرة، فإنّه إذا تمكّن من المخالفة والموافقة القطعيّتين، يكون العلم الإجمالي منجّزاً للتكليف. وفي المقام بما أنّه يتمكّن من عدم التخلّي إلى شيءٍ من الجهات، ومن التخلّي إلى جميع الجهات، بأن يدور ببوله إلى).

ص: 262


1- آقا رضا الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1 ق 1 ص 82.
2- الكافي: ج 5/313 ح 40، التهذيب: ج 7/226 ح 9، وسائل الشيعة: ج 17/89 ح 22053.
3- زبدة الاُصول: ج 5/40 مبحث: (الشبهة غير المحصورة).

جميع الأطراف، فلا محالة يكون العلم منجّزاً، فلا يجوز التخلّي إلى شيء من الأطراف.

هذا فيما لم يضطرّ إليه، بأن أمكن الانتظار إلى أن يحصل له العلم بالقبلة، وإلّا فإن اضطرّ إليه ففيه صورتان:

الاُولى: فيما إذا كان الاضطرار إلى التخلّي إلى جهةٍ معيّنة:

1 - فإنْ كان ذلك بعد حدوث التكليف بعدم التخلّي مستقبلاً ومستدبراً وجب الاحتياط بعد التخلّي إلى غير تلك الجهة، لأنّ الاضطرار الحادث بعد العلم بالتكليف، لا يوجب رفع أثر العلم بالنسبة إلى ما لا يكون مضطرّاً إليه.

2 - وأمّا إنْ كان الاضطرار قبل حدوث التكليف، أو قبل العلم به، جاز التخلّي إلى غير تلك الجهة أيضاً، إذ العلم الحادث بعد الاضطرار لا تتعارض الاُصول في أطرافه، فلا يكون منجّزاً.

والثانية: فيما إذا كان الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه.

فالأقوى لزوم الاقتصار على خصوص ما يرفع به الاضطرار، لما حقّقناه في الاُصول من أنّ الاضطرار إلى ارتكاب بعضٍ غير معيّن من الأطراف، كما إذا علم بخمرية ما في أحد الإنائين، واضطرّ إلى شُرب ما في أحدهما، لا يوجب رفع التكليف المعلوم، لعدم تعلّق الاضطرار بفعل الحرام.

وعليه، فليس للشارع الترخيص في ارتكابهما معاً، لكونه ترخيصاً في المخالفة القطعيّة، فلا محالة يكون المرخّص فيه هو شرب ما في أحد الإنائين الذي به يرفع الاضطرار، وأمّا ما في الإناء الآخر فيجب الاجتناب عنه بمقتضى العلم الإجمالي.

ففي المقام أيضاً يتعيّن الاقتصار على ما يرفع به الاضطرار، ولا يجوز له التخلّي إلى غيره للعلم الإجمالي.

ص: 263

وأمّا الصورة الثالثة: فعن جماعةٍ(1) العمل بالظنّ، واستدلّ له:

1 - باستصحاب بقاء التكليف المقتضي لقيام الظنّ مقام العلم، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق.

2 - وبإطلاق بعض النصوص الشامل للمقام كالصلاة. كصحيح زُرَارَةَ، قَالَ:

«قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: يُجْزِئُ التَّحَرِّي أَبَداً إذا لَمْ يُعْلَمْ أَيْنَ وَجْهُ الْقِبْلَةِ»(2).

ولكن يرد على الأوّل: أنّ بقاء التكليف لايستلزم قيام الظنّ مقام العلم، حتّى في صورة الاضطرار، لأنّه في الفرض يمنع الاضطرار من حكم العقل بلزوم العلم بامتثال التكليف.

وعلى الثاني: أنّ الظاهر من الأخذ بالأحرى إرادة الأعمال التي يعتبر فيها التوجّه إلى القبلة، ولايشمل الأعمال التي يعتبر فيها الميل عن القبلة، كما لايخفى.

وبالجملة: الأقوى كون حكم الطرف المظنون حكم سائر الأطراف.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر حكم الصورة الرابعة، وهو تعيّن اختيار الجهتين الاُخريين، للعلم بأنّ التوجّه إليهما ليس استقبال القبلة ولا استدبارها.

وأمّا الصورة الرابعة: فهل يكون حكمها حكم الصورة الثانية، أم يتعيّن في صورة الاضطرار اختيار الجهتين اللّتين في مقابل تلك الجهتين؟

وجهان: أقواهما الثاني(3)، بناءً على ما هو الأقوى، من أنّه إذا تزاحم الاستقبال والاستدبار قدم الاستدبار، لا لأنّ الاستقبال أعظم قبحاً وأشدّ في توهين القبلة، لأنّه يرد عليه عدم العلم بكون المناط هو تعظيم القبلة، بل لاحتمالن.

ص: 264


1- منهم السيّد الخوئي في كتاب الطهارة: ج 3/377.
2- الكافي: ج 3/285، التهذيب: ج 2/45، الاستبصار: ج 1/295، وسائل الشيعة: ج 4/307 ح 5227.
3- وهو اختيار الجهتين اللّتين في مقابل تلك الجهتين.

أهميّة الاستقبال من الاستدبار، إمّا لذلك، أو لتكثّر الأخبار الدالّة على حرمته من دون احتمال أهميّة الاستدبار منه، لأنّه في المتزاحمين الذين يحتمل أهميّة أحدهما ويقدّم لذلك، لا يفرّق بين أن يكون كلّ واحدٍ منهما معلوماً تفصيليّاً أم إجماليّاً، مثلاً لو اضطرّ المكلّف إلى الشرب إمّا من أحد الإنائين المعلوم خمريّة ما في أحدهما، أو من أحد الإنائين المعلوم نجاسة ما في أحدهما، فإنّه لا شكّ في أنّ العقل يحكم بتعيّن اختيار الشرب من ما علم نجاسته إجمالاً.

***

ص: 265

الفرع الرابع: في اشتباه القبلة مع الاضطرار إلى جهة.

عند اشتباه القبلة بين تمام الجهات، والاضطرار إلى استقبال جهةٍ منها، لا ريب في عدم جواز أن يدور ببوله إلى جميع الأطراف كما تقدّم.

لكن السؤال عن أنّه هل يجوز اختيار جهةٍ في كلّ مرّةٍ غير الجهة التي اختارها في غيرها إلى أن يحصل العلم باستقبال القبلة، ام لا يجوز؟ وجهان:

أقواهما الثاني، لما حقّقناه في الاُصول من تنجيز العلم الإجمالي في التدريجات، حتّى فيما كان الحكم المعلوم فعليّاً على تقدير دون تقديرٍ، ولم يكن ملاك الأمر المتأخّر تامّاً من الآن، إذ ترخيص المولى في ارتكاب الطرف المبتلى به فعلاً، وترخيصه في ارتكاب الطرف الآخر في ظرفه، ترخيصٌ في تفويت الملاك الملزم، وهو قبيح. وتمام الكلام في محلّه(1).

***

الفرع الخامس: في حكم الطفل.

لا يحرم إقعاد الطفل للتخلّي على وجهٍ يكون مستقبلاً أو مستدبراً، للأصل بعد عدم شمول النصوص له، لظهورها في إرادة الاستقبال ببدنه.

واستدلّ لحرمته: بأنّ التخلّي في هاتين الحالتين مبغوضٌ من كلّ أحدٍ وذو مفسدة، وإنّما لم ينه عنهما بالنسبة إلى الصبي للمانع من التكليف، فاستناد هذا الفعل المبغوض إلى البالغ قبيحٌ عقلاً وحرام شرعاً.

وبعبارة اُخرى: إنّ الإقعاد تسبيبٌ لحصول مبغوض المولى، وهو قبيحٌ بلا كلام.

وفيه: إنّه لاسبيل لنا إلى كشف المفسدة والمبغوضيّة سوى النهي، ومع عدمه لات.

ص: 266


1- راجع زبدة الاُصول: ج 5/5: البحث عن تنجّز العلم الإجمالي في التدريجيّات.

كاشف عن وجودهما، وحيثُ لا يكون الصبي مكلّفاً؛ فتخلّيه مستقبلاً أو مستدبراً لم يتعلّق به النهي، فلا مُثبت لكونه مبغوضاً.

أقول: وبما ذكرناه ظهر أنّه لايجب منع الصبي أو المجنون إذا استقبلا أو استدبرا عند التخلّي، بل لو تمّ ما ذكر وجهاً لحرمة الإقعاد، لا يجب المنع لعدم جريانه فيه، كما لايخفى.

***

ص: 267

ويُستحبُّ له تقديم الرِّجل اليُسرى عند دخول الخلاء، واليمنى عند الخروج، وتغطية الرأس.

مسنونات الخلوة
اشارة

(و) هي مستحبّات ومكروهات:

تقديم الرِّجل اليُسرى عند دخول الخلاء...

أمّا الأوّل: ف (يستحبُّ له تقديم الرِّجل اليُسرى عند دخول الخلاء، واليمنى عند الخروج) كما هو المشهور(1).

وعن «الغنية»(2): دعوى الإجماع عليه.

وعن المحقّق في «المعتبر»: لم أجد بهذا حجّةٍ، غير أنّ ما ذكره الشيخ وجماعة من الأصحاب حَسَن(3)، وكفى به مستنداً بناءً على التسامح في أدلّة السنن.

تغطية الرأس

(وتغطية الرأس) بلا خلافٍ، بل اتّفاقاً كما عن «المعتبر»(4) و «الذكرى»(5)وغيرهما، لخبر أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه و آله.

وعن المفيد(6): وليغطّ رأسه إنْ كان مكشوفاً، ليأمن بذلك من عَبَث الشيطان ومن وصول الرائحة الخبيثة إلى دماغه، وهو سُنّة من سنن النبيّ صلى الله عليه و آله(7).

ص: 268


1- ذكرت هذه الشهرة في ذخيرة المعاد: ج 1/20.
2- غنية النزوع ص 36.
3- المعتبر: ج 1/134.
4- المعتبر: ج 1/133.
5- الذكرى: ص 20.
6- المقنعة: ص 39.
7- نقله في وسائل الشيعة: ج 1/304 ح 797 وقال: (مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ الْمُفِيدُ فِي الْمُقْنِعَةِ: إِنَّ تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ إِنْ كَانَ مَكْشُوفاً عِنْدَ التَّخَلِّي سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله).

والتسمية والاستبراء.

التسمية

(والتسمية) في المواضع التالية:

1 - عند الدخول، لمرسل ابن اسباط المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُهُ إذا دَخَلَ الْكَنِيفَ يُقَنِّعُ رَأْسَهُ ويَقُولُ سِرّاً فِي نَفْسِهِ بِسْمِ اللّهِ وبِاللّهِ»(1).

2 - وعند كشف العورة، للمرسل المروي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:

«إذا انْكَشَفَ أَحَدُكُمْ لِبَوْلٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَغُضُّ بَصَرَهُ عَنْهُ حَتَّى يَفْرُغَ»(2).

3 - وعند الخروج، لصحيح معاوية بن عمّار، قَالَ:

«سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: إذا دَخَلْتَ الَْمخْرَجَ فَقُلْ بِسْمِ اللّهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخَبِيثِ الُْمخْبِثِ الرِّجْسِ النِّجْسِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِذَا خَرَجْتَ فَقُلْ بِسْمِ اللّهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِنَ الْخَبِيثِ الُْمخْبِثِ وأَمَاطَ عَنِّي الأذَى»(3).

الاستبراء
اشارة

(والاستبراء) من البول على المشهور(4).

وعن «الغنية»(5) و «الوسيلة»(6) وظاهر «الاستبصار»(7): الوجوب.

ص: 269


1- التهذيب: ج 1/24، وسائل الشيعة: ج 1/304 ح 798.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/25، وسائل الشيعة: ج 1/308 ح 813.
3- الكافي: ج 3/16، التهذيب: ج 1/25، وسائل الشيعة: ج 1/306 ح 805.
4- الحدائق الناضرة: ج 2/54، غنائم الأيّام: ج 1/113، كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: ج 1/475، مصباح الفقيه: ج 1/92 ق 1.
5- غنية النزوع: ص 36.
6- الوسيلة: ص 47.
7- الاستبصار: ج 1/49، حيث قال تعقيباً على رواية محمّد بن عيسى: فالوجه فيه أن نحمله على ضرب من الاستحباب دون الوجوب، أو نحمله على ضرب من التقيَّة لأنّه موافق لمذهب العامّة.

واستدلّ له: بصحيحي ابن مسلم، وحفص الآتيين المشتملين على الأمر بالنتر.

وفيه: مضافاً إلى عدم ظهورهما في وجوبه، لورودهما في مقام بيان ما يترتّب عليه من طهارة ما يخرج من البلل بعد الاستبراء.

أنّه لو سُلّم ظهورهما فيه، يتعيّن صرفه، وحملهما على الاستحباب، بقرينة صحيح جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «إذا انْقَطَعَتْ دِرَّةُ الْبَوْلِ فَصُبَّ الْمَاءَ»(1).

***6.

ص: 270


1- الكافي: ج 3/17، التهذيب: ج 1/356، وسائل الشيعة: ج 1/349 ح 926.
كيفيّة الاستبراء

أقول: اختلف فقهاءنا في كيفيّة الاستبراء:

فعن جماعة من الأساطين منهم الشيخ في «المبسوط»(1)، والمحقّق في «الشرايع»(2)، والشهيد في «الدروس»(3): أنّه يمسح من المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثاً، ومنه إلى رأس الحَشَفة ثلاثاً، وينتره ثلاثاً.

والنتر على ما عن «النهاية»(4): (جذبٌ فيه جَفوةٌ وقوّة).

وعن «الذكرى»(5)، و «المدارك»(6)، و «الذخيرة»(7): أنّ اعتبار التسع المذكورة هو المشهور بين الأصحاب.

وعن «الفقيه»(8) و «الوسيلة»(9) و «الغنية»(10) و «السرائر»(11) و «النهاية»(12)وغيرها: الإكتفاء بالمسح من المقعدة إلى الأنثيين ثلاث مرّات، ثمّ ينتر ذَكَره ثلاثاً.

ص: 271


1- المبسوط: ج 1/17.
2- شرائع الإسلام: ج 1/15.
3- الدروس: ص 89.
4- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج 5/12.
5- الذكرى: ص 20.
6- مدارك الأحكام: ج 1/301.
7- ذخيرة المعاد: ج 1/20.
8- من لا يحضره الفقيه: ج 1/31.
9- الوسيلة: ص 47.
10- غنية النزوع: ص 36.
11- السرائر: ج 1/96.
12- النهاية: ص 10.

وعن علم الهدى(1)، وابن الجنيد(2): الإكتفاء بنتر الذَكَر من أصله إلى طرفه ثلاثاً.

وعن غيرهم غير ذلك.

وأمّا النصوص الواردة في المقام: فهي ثلاثة:

الرواية الاُولى: صحيح حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام:

«فِي الرَّجُلِ يَبُولُ؟ قَالَ: يَنْتُرُهُ ثَلاثاً ثُمَّ إِنْ سَالَ حَتَّى يَبْلُغَ السَّاقَ فَلا يُبَالِي»(3).

وقيل: إنّ هذا الخبر مستندُ السيّد وابن الجنيد، بدعوى أنّ الضمير في ينتره يرجع إلى الذَكَر.

وفيه: إنّه لم يذكر الذَكَر قبله كي يرجع إليه، بل الظاهر رجوعه إلى البول، فمفاده حينئذٍ اعتبار النتر ثلاثاً في كلّ ما يكون دخيلاً في خروج البول، ولا ريب في مدخليّة المسح من عند المقعدة إلى أصل الذَكَر، ومنه إلى رأسه في ذلك، كما يشهد له الخبران الآتيان. فالصحيح يدلّ على اعتبار الثلاث في كلّ ذلك.

الرواية الثانية: مصحّح عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام:

«فِي الرَّجُلِ يَبُولُ ثُمَّ يَسْتَنْجِي، ثُمَّ يَجِدُ بَعْدَ ذَلِكَ بَلَلا؟ قَالَ: إذا بَالَ فَخَرَطَ مَا بَيْنَ الْمَقْعَدَةِ والأُنْثَيَيْنِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وغَمَزَ مَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ اسْتَنْجَى، فَإِنْ سَالَ حَتَّى يَبْلُغَ السُّوقَ فَلا يُبَالِي»(4).

أقول: وحيث أنّ الضمير في (مَا بَيْنَهُمَا) راجعٌ بحسب الظاهر إلى (الانْثَيَيْنِ)، فالمراد من (مَا بَيْنَهُمَا) هو الذَكَر، فيدلّ هذا الخبر على مدخليّة غمز الذَكَر في5.

ص: 272


1- نقله عنه في منتهى المطلب: ج 1/254، وفي المعتبر: ج 1/134.
2- ذكر ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/227.
3- التهذيب: ج 1/27، الاستبصار: ج 1/48.
4- الاستبصار: ج 1/94، التهذيب: ج 1/20، وسائل الشيعة: ج 1/282 ح 745.

الاستبراء، وخروج البول زائداً على اعتبار الخرط من عند المقعدة إلى أصل الذَكَر.

فإذا انضمّ إليه الخبر المتقدّم، تكون النتيجة اعتبار الثلاث في الغمز أيضاً.

الرواية الثالثة: حسنة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ:

«قُلْتُ لأبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: رَجُلٌ بَالَ ولَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَاءٌ؟ قَالَ: يَعْصِرُ أَصْلَ ذَكَرِهِ إِلَى طَرَفِهِ ثَلاثَ عَصَرَاتٍ، ويَنْتُرُ طَرَفَهُ، فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْ ءٌ فَلَيْسَ مِنَ الْبَوْلِ، ولَكِنَّهُ مِنَ الْحَبَائِلِ»(1).

وحيث أنّ الظاهر منه كون الغاية غايةً للعصر، فهو يدلّ على اعتبار المسح من أصل الذَكَر إلى طرفه ثلاثاً وعصر رأسه.

والخبر الأوّل يدلّ على اعتبار كون ذلك أيضاً ثلاثاً.

أقول: الجمع بين هذه النصوص، يقتضي الحكم باعتبار تسع مَسَحات، وأمّا زائداً على ذلك بحيث يعتبر الترتيب بين المَسَحات بعضها مع بعض، وانفصال كلّ مسحةٍ عن الاُخرى، والموالات بينهما أو غيرها من القيود، فلا دليل عليه. ومقتضى الأصل والإطلاقات عدم اعتبار شيء منها.

وأمّا النبويّ المروي عن «نوادر» الراوندي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الأشْعَثِ، عَنْ الإمام مُوسَى عن الكاظم عليه السلام، عن آبائه قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: مَنْ بَالَ فَلْيَضَعْ إِصْبَعَهُ الْوُسْطَى فِي أَصْلِ الْعِجَانِ ثُمَّ يَسْلِتُهَا ثَلاثاً»(2).

الظاهر في اعتبار وضع الوسطى خاصّة، فلضعفه لا يعتمد عليه، مع أنّ دعوى كونه إرشاداً إلى أنّ ذلك أمكن في الاستبراء قريبة.

***9.

ص: 273


1- وسائل الشيعة: ج 1/320 ح 841، الكافي: ج 3 ص 19، التهذيب: ج 1/28 و 356، الاستبصار: ج 1/49.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/260، نوادر الراوندي ص 39.
فروع: في الاستبراء
الفرع الأوّل: في مقطوع الحَشَفة

من قُطع حَشَفته أو ذَكَره يصنع ما ذُكر فيما بقي، إذ الظاهر من النصوص بواسطة مناسبة الحكم والموضوع، والتصريح به فيها، أنّ هذا الحكم ليس تعبّديّاً محضاً، وإنّما هو لنقاء المحلّ، ومنه يظهر حكم ما لو علم بعدم بقاء شيء في المجرى، وما لو علم نقاء ما بين المقعدة والأنثيين.

***

الفرع الثاني: في فائدة الاستبراء

فائدة الاستبراء الحكم بطهارة الرطوبة المشتبهة، وعدم ناقضيّتها اتّفاقاً، كما عن الفاضل الهندي في «كشف اللّثام»(1).

والنصوص الواردة في المقام: على طوائف:

الطائفة الاُولى: ما دلَّ على الطهارة، وعدم الناقضيّة مطلقاً، كصحيح ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ رَجُلٍ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ ثُمَّ وَجَدَ بَلَلا؟

قَالَ: لا يَتَوَضَّأُ إِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الْحَبَائِلِ»(2).

الطائفة الثانية: ما دلَّ على الناقضيّة، كصحيح ابن مُسْلِمٍ، قَالَ:

«قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: مَنِ اغْتَسَلَ وهُوَ جُنُبٌ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ، ثُمَّ يَجِدُ بَلَلاً، فَقَدِ انْتَقَضَ غُسْلُهُ، وإِنْ كَانَ بَالَ ثُمَّ اغْتَسَلَ ثُمَّ وَجَدَ بَلَلاً فَلَيْسَ يَنْقُضُ غُسْلَهُ، ولَكِنْ

ص: 274


1- كشف اللّثام: ج 1/222.
2- الكافي: ج 3/19، وسائل الشيعة: ج 1/282 ح 744.

عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، لأنَّ الْبَوْلَ لَمْ يَدَعْ شَيْئاً»(1).

وبمضمونه خبر سماعة(2).

الطائفة الثالثة: النصوص المتقدّمة الدالّة على التفصيل بين ما لو استبرء، وما إذا لم يستبرء، والحكم بالطهارة وعدم الناقضيّة في الأوّل، والنجاسة والناقضيّة في الثاني.

أقول: والجمع بين النصوص يقتضي تقييد الطائفتين الأوليّتين بالثالثة، ولذلك يُحمل على الاستحباب ما رواه محمّد بن عيسى، قَالَ:

«كَتَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ هَلْ يَجِبُ الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ مِنَ الذَّكَرِ بَعْدَ الاسْتِبْرَاءِ؟ فَكَتَبَ:

نَعَمْ»(3) على الاستحباب.

***

الفرع الثالث: في استبراء المرأة

ليس على المرأة استبراءٌ، لاختصاص النصوص بالرَّجل، فالبَلَل الخارجُ منها المشتبه محكومٌ بالطهارة لأصالتها.

فما عن «المنتهى»(4): من أنّ الرّجل والمرأة سواء ضعيفٌ.

***

الفرع الرابع: في الرطوبة المردّدة قبل الاستبراء

1 - إذا بال ولم يستبرأ ثم خرجت منه رطوبة مردّدة بين البول والمني، يحكم عليها بأنّها بولٌ، لإطلاق النصوص.

ص: 275


1- وسائل الشيعة: ج 1/283 ح 748.
2- وسائل الشيعة: ج 1/283 ح 749.
3- التهذيب: ج 1/28، الاستبصار: ج 1/49، وسائل الشيعة: ج 1/285 ح 752.
4- منتهى المطلب: ج 1/256.

ودعوى: عدم شمولها للمقام، لأنّ ظاهر النصوص أنّ ما يحكم عليه بأنّه بولٌ لولا الاستبراء، محكومٌ عليه بأنّه من الحبائل بعد الاستبراء.

مندفعة: بعدم تعرّض النصوص لهذه الملازمة.

2 - ولو خرجت بعد الاستبراء، فمن حيث لزوم التعدّد وعدمه، بناءً على اعتبار التعدّد في الغَسل في البول وعدمه في المني، تقدّم الكلام فيه في مبحث النجاسات.

وأمّا من حيث لزوم الوضوء أو الغُسل، ففيها صورتان:

تارةً: تخرج منه قبل التوضّأ.

واُخرى: تخرج منه بعد البول.

ففي الصورة الاُولى: يجري استصحاب بقاء الحَدَث الأصغر، وعدم حدوث الحدث الأكبر، ويترتّب عليهما ارتفاع الحدث بالوضوء.

ودعوى: جريان استصحاب كلّي الحدث، المعلوم إجمالاً حال خروج البلل المشتبه، المردّد بين الأصغر والأكبر، لكونه من قبيل القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي، لتردّد الحَدَث المعلوم بالإجمال حينئذٍ بين وجودين يحتمل كلّ منهما بعينه دون الآخر، وهو يمنع عن الحكم بصحّة الصلاة مع ذلك الوضوء، إلّا أن يغتسل أيضاً.

مندفعة: بأنّ استصحاب عدم الأكبر في المقام يجري، ويترتّب عليه عدم بقاء الكلّي، وذلك لما حقّقناه في محلّه، وأشرنا إليه في مبحث النجاسات في المسألة الرابعة(1) من أنّ الاستصحاب في الكلّي إنّما يجري فيما إذا تعارض الأصل الجاري في9.

ص: 276


1- فقه الصادق: ج 5/179.

كلّ من الفردين، مع الأصل الجاري في الآخر، أو كان المستصحب موضوعاً.

وأمّا إذا كان المستصحب من الأحكام والاعتبارات الشرعيّة، ولم يكن الأصل جارياً في الفرد المقطوع الارتفاع، فتجري أصالة عدم حدوث الفرد الآخر، ويترتّب عليها عدم بقاء الكلّي. وتمام الكلام في محلّه.

وفي المقام بما أنّ المستصحب من الأحكام الوضعيّة وهو الحدث، فيترتّب على أصالة عدم حدوث الأكبر عدم بقاء الحدث بعد الوضوء.

وفي الصورة الثانية: أصالة عدم حدوث الأكبر تعارض أصالة عدم حدوث الأصغر، فتتساقطان.

ولازم العلم الإجمالي تحقّق أحدهما هو الاحتياط، والجمع بين الوضوء والغُسل.

***

ص: 277

والدّعاء عند الدخول والخروج والاستنجاء والفراغ،

استحباب الدّعاء

(و) يستحبّ أيضاً (الدّعاء عند الدخول والخروج) بما في صحيح معاوية المتقدّم، أو بما اشتملت عليه سائر النصوص.

منها: مرسل الصدوق، قَالَ: «وكَانَ عليه السلام إذا دَخَلَ الْخَلاءَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَافِظِ الْمُؤَدِّي، فَإِذَا خَرَجَ مَسَحَ بَطْنَهُ، وقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَ عَنِّي أَذَاهُ، وأَبْقَى فِيَّ قُوَّتَهُ فَيَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ لا يَقْدِرُ الْقَادِرُونَ قَدْرَها»(1).

(و) يستحبّ أيضاً الدّعاء بالمأثور عند (الاستنجاء)، بما رواه عبد الرحمن بن كثير، في حكاية وضوء أمير المؤمنين عليه السلام، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام قَاعِدٌ ومَعَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، إذ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ائْتِنِي بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَأَتَاهُ بِهِ، فَصَبَّهُ بِيَدِهِ الُْيمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْمَاءَ طَهُوراً ولَمْ يَجْعَلْهُ نَجِساً ثُمَّ اسْتَنْجَى، فَقَالَ اللَّهُمَّ حَصِّنْ فَرْجِي وأَعِفَّهُ واسْتُرْ عَوْرَتِي وحَرِّمْهَا»(2).

وأيضاً يستحبّ الدّعاء عند (الفراغ) من الاستنجاء، بما رواه أبو بَصِيرٍ، عَنْ أَحَدِهِمَا عليه السلام، قَالَ:

«إذا دَخَلْتَ الْغَائِطَ فَقُلْ أَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ الرِّجْسِ النِّجْسِ الْخَبِيثِ الُْمخْبِثِ

ص: 278


1- وسائل الشيعة: ج 1/308 ح 810، الفقيه: ج 1/24، مجموعة ورام: ج 2/26.
2- الكافي: ج 3/70، التهذيب: ج 1/53، وسائل الشيعة: ج 1/401 ح 1046.

الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وإِذَا فَرَغْتَ فَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِنَ الْبَلاءِ وأَمَاطَ عَنِّي الأذَى»(1).

أو بما رواه أبو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، فِي حَدِيثٍ:

«أَنَّهُ سُئِلَ وهُوَ عِنْدَهُ مَا السُّنَّةُ فِي دُخُولِ الْخَلاءِ؟ قَالَ يَذْكُرُ اللّهَ ويَتَعَوَّذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِذَا فَرَغْتَ قُلْتَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَخْرَجَ مِنِّي مِنَ الاذَى فِي يُسْرٍ وعَافِيَةٍ»(2).

***6.

ص: 279


1- التهذيب: ج 1/351، وسائل الشيعة: ج 1/307 ح 806.
2- الكافي: ج 3/69، وسائل الشيعة: ج 1/309 ح 814، علل الشرائع: ج 1/276.
الجمع بين الأحجار والماء
اشارة

والجمع بين الأحجار والماء.

حُكم الاستنجاء بالحَجر والماء

(والجمع بين الأحجار والماء) في الاستنجاء من الغائط كما عن غير واحد التصريح به(1)، بل عن «الخلاف»(2) و «المنتهى»(3): استظهار الإجماع عليه.

ويشهد له المرسل عن الصادق عليه السلام، قَالَ: «جَرَتِ السُّنَّةُ فِي الاسْتِنْجَاءِ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ أَبْكَارٍ ويُتْبَعُ بِالْمَاءِ»(4).

وما رواه الجمهور عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّكم كُنتُم تَعْبرُونَ بَعْراً واليومَ تَثْلِطُونَ ثَلْطاَ، فأتْبِعوا الماءَ الأحْجَار»(5).

***

ص: 280


1- المعتبر: ج 1/136، المختصر النافع ص 5، كشف الرموز: ج 1/64.
2- الخلاف: ج 1/103.
3- منتهى المطلب: ج 1/269.
4- التهذيب: ج 1/46 و 209، وسائل الشيعة: ج 1/349 ح 925.
5- السنن الكبرى للبيهقي: ج 1/106.

ويُكره الجلوس: في الشَّوارع، والمَشارع، ومَواضع اللّعن، وتَحت الأشجار المُثمرة، وفي النزّال،

مكروهات التخلّي

(ويكره) للمتخلّي (الجلوس في الشوارع)، وهو جمعُ شارع، وهو الطريق الأعظم، كما عن جملةٍ من اللّغويين(1).

(والمشارع) وهو جمع مشرعة، وهو مورد الماء(2).

(ومواضع اللَّعن، وتحت الأشجار المثمرة).

والدليل: ما ورد في صحيح عاصم بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام: أَيْنَ يَتَوَضَّأُ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: يَتَّقِي شُطُوطَ الانْهَارِ، والطُّرُقَ النَّافِذَةَ، وتَحْتَ الأشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، ومَوَاضِعَ اللَّعْنِ. فَقِيلَ لَهُ: وأَيْنَ مَوَاضِعُ اللَّعْنِ؟ قَالَ: أَبْوَابُ الدُّور»(3).

ولعلّ قوله عليه السلام: (أَبْوَابُ الدُّور) من باب المثال، ونحوه غيره.

(وفي النُزّال) لمرفوع علي بن إبراهيم، قَالَ: «خَرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ عِنْدِ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، وأَبُو الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام قَائِمٌ، وهُوَ غُلامٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: يَا غُلامُ أَيْنَ يَضَعُ الْغَرِيبُ بِبَلَدِكُمْ؟ فَقَالَ اجْتَنِبْ أَفْنِيَةَ الْمَسَاجِدِ، وشُطُوطَ الانْهَارِ، ومَسَاقِطَ الِّثمَارِ،

ص: 281


1- الشارِعُ: (الطريقُ الأعظم الذي يَشْرَعُ فيه الناس عامّة وهو على هذا المعنى ذُو شَرْعٍ من الخَلْق يَشْرَعُون فيه) لسان العرب: ج 8/177.
2- المشرعة بفتح الميم والراء: طريق الماء للواردة. مجمع البحرين: ج 4/352.
3- الكافي: ج 3/15، التهذيب: ج 1/30، وسائل الشيعة: ج 1/324 ح 852.

واستقبال الشمس والقمر.

ومَنَازِلَ النُّزَّالِ، ولا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ ولا بَوْلٍ، وارْفَعْ ثَوْبَكَ وضَعْ حَيْثُ شِئْتَ»(1).

(و) يكره أيضاً (استقبال الشمس والقمر) بفرجه.

وعن المفيد(2)، والصدوق في «الهداية»(3): القول بالحرمة.

واستدلّ له: بظاهر جملةٍ من النصوص، كخبر السكوني، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام، قَالَ:

«نَهَى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أَنْ يَسْتَقْبِلَ الرَّجُلُ الشَّمْسَ والْقَمَرَ بِفَرْجِهِ وهُوَ يَبُولُ»(4).

وخبر الكاهلي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله: لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ وفَرْجُهُ بَادٍ لِلْقَمَرِ يَسْتَقْبِلُ بِهِ»(5).

ونحوهما خبر المناهي(6)، ومرسل الكافي(7).

وفيه: أنّ كون هذا الحكم عام البلوى، وخلوّ النصوص الاُخر، لاسيّما ما سُئل فيه عن حَدّ الغائط، وأجاب عليه السلام بقوله: «لا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ ولا تَسْتَدْبِرْهَا»(8). ولم6.

ص: 282


1- وسائل الشيعة: ج 1/301 ح 790 وص 324 ح 853، الكافي: ج 3/16، التهذيب: ج 1/30.
2- المقنعة: ص 42.
3- ذكر أنّه لا يجوز أن يكون مستقبل الهلال أو مستدبره، ولم يذكر الشمس. الهداية ص 76.
4- وسائل الشيعة: ج 1/342 ح 902، التهذيب: ج 1/34.
5- وسائل الشيعة: ج 1/342 ح 903، التهذيب: ج 1/34.
6- وسائل الشيعة: ج 1/343 ح 905، من لا يحضره الفقيه: ج 4/3.
7- وسائل الشيعة: ج 1/343 ح 906، الكافي ج 3 ص 15.
8- وسائل الشيعة: ج 1/301 ح 791 وص 302 ح 795، الكافي: ج 3/15، من لا يحضره الفقيه: ج 1/26، التهذيب: ج 1/26.

والبول في الأرض الصلبة، ومواطن الهوام،

يذكر الشمس والقمر.

بل في مرفوع القمّي: «وارْفَعْ ثَوْبَكَ وضَعْ حَيْثُ شِئْتَ»(1).

وإعراض المشهور عن ظاهرها، تمنع من العمل بها.

نعم، لا بأس بجعلها سنداً للكراهة.

(و) يكره (البول في الأرض الصلبة) لخبر ابن مسكان، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أَشَدَّ النَّاسِ تَوَقِّياً عَنِ الْبَوْلِ، كَانَ إذا أَرَادَ الْبَوْلَ يَعْمِدُ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الأرْضِ، أَوْ إِلَى مَكَانٍ مِنَ الأمْكِنَةِ يَكُونُ فِيهِ التُّرَابُ الْكَثِيرُ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَنْضِحَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ»(2).

وفي بعض النصوص: «مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَرْتَادَ مَوْضِعاً لِبَوْلِهِ»(3).

(و) في (مواطن الهَوام)، لما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «أنّه نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الجُحر»(4).).

ص: 283


1- وسائل الشيعة: ج 1/301 ح 790 و ص 324 ح 853، الكافي: ج 3/16، التهذيب: ج 1/30.
2- وسائل الشيعة: ج 1/338 ح 890، التهذيب: ج 1/33، علل الشرائع: ج 1/278.
3- الكافي: ج 3/15 ح 1، التهذيب: ج 1/33، وسائل الشيعة: ج 1/338 ح 889.
4- ورد هذا الحديث في كتب العامّة باختلاف في عبارته بين الحجر والجحر وجحر: ففي سنن أبي داود: ج 1/15، قال: (أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ جوآله ج وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ)، وكذلك في السنن الكبرى للبيهقي: ج 1/99، وفي مستدرك الحاكم: ج 1/186: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ جوآله ج وَسَلَّمَ قَالَ: لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْجُحْرِ)، وكذا في مسند أحمد ح 19847، وفي طبعة أُخرى وردت بلفظ (الحجر) ج 5/82، وفي سنن النسائي: ج 1/33، وردت: (لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي جُحْرٍ).

وفي الماء، واستقبال الرِّيح به.

(وفي الماء) جارياً كان أو واقفاً.

ويشهد له في الأوّل: مرسل مَسْمع، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: إِنَّهُ نَهَى أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي إِلّا مِنْ ضَرُورَةٍ، وقَالَ إِنَّ لِلْمَاءِ أَهْلاً»(1).

ومرسل حَكَمٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، فِي حَدِيثٍ، قَالَ:

«قُلْتُ لَهُ: يَبُولُ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ؟ قَالَ، نَعَمْولَكِنْ يُتَخَوَّفُ عَلَيْهِمِنَ الشَّيْطَانِ»(2).

وصحيح الحلبي: «لا تَبُلْ فِي مَاءٍ نَقِيعٍ، فَإِنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَصَابَهُ شَيْ ءٌ فَلا يَلُومَنَّ إِلّا نَفْسَهُ»(3). ونحوها غيرها.

وتدلّ على الكراهة في الثاني(4): وأشدّيّة كراهته من الكراهة في الماء الجاري جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح الفضيل، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «لا بَأْسَ بِأَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، وكُرِهَ أَنْ يَبُولَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ»(5).

ونحوه غيره.

فإنّ الجمع بين النصوص، يقتضي حمل نفي البأس في هذه النصوص على خِفّة الكراهة.3.

ص: 284


1- وسائل الشيعة: ج 1/341 ح 898، التهذيب: ج 1/34، الاستبصار: ج 1/13.
2- وسائل الشيعة: ج 1/341 ح 897، التهذيب: ج 1/35.
3- وسائل الشيعة: ج 1/341 ح 901، وج 14/574 ح 19846، علل الشرائع: ج 1/283.
4- أي في الماء الواقف، هذا وينبغي الإشارة إلى أنّ المصنّف لم يتعرّض لكراهة استقبال الريح فقد أرسلها كسائرالفقهاء إرسال المسلّمات، فضلاً عن وجود بعض الروايات في ذلك؛ منها ما رواه الكافي: ج 3/15 ح 3، وفيه: (ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها)، وسائل الشيعة: ج 1/301 ح 791 و ح 795.
5- وسائل الشيعة: ج 1/143 ح 352، الاستبصار: ج 1/13، التهذيب: ج 1/31 و 43.

والأكل والشرب والسواك، والكلام

(و) يكره (الأكل والشُّرب) حال التخلّي، كما عن جماعةٍ(1)، أو في بيت الخلاء كما عن آخرين(2).

واستدلّ له: بالخبرين المشهورين(3): (من إعطاء الحسين بن علي، ومحمّد بن علي الباقر عليهما السلام اللّقمة النجسة بعد غسلها لعبديهما حتّى يَدخلا الخلاء ليحفظ لهما)، والمستفاد منهما ثبوت الكراهة في بيت الخلاء مطلقاً.

(والسواك) للمرسل عن الإمام الكاظم عليه السلام(4): «أَكْلُ الاشْنَانِ يُذِيبُ الْبَدَنَ، والتَّدَلُّكُ بِالْخَزَفِ يُبْلِي الْجَسَدَ، والسِّوَاكُ فِي الْخَلاءِ يُورِثُ الْبَخَرَ»(5).

(و) يكره (الكلام) لحسن صَفْوَانَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام:

«أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أَنْ يُجِيبَ الرَّجُلُ آخَرَ وهُوَ عَلَى الْغَائِطِ أَوْ يُكَلِّمَهُ حَتَّى يَفْرُغَ»(6).

وخبر أبي بصير، قَالَ: «قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: لا تَتَكَلَّمْ عَلَى الْخَلاءِ فَإِنَّهُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْخَلاءِ لَمْ تُقْضَ لَهُ حَاجَةٌ»(7).5.

ص: 285


1- الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1/93 ق 1.
2- الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة: ص 483، والسيّد الخوئي في كتاب الطهارة: ج 3/63.
3- في وسائل الشيعة: ج 1/361 ح 957 و ح 958.
4- وأيضاً للإمام الصادق عليه السلام كما في مكارم الأخلاق: ص 51.
5- الفقيه: ج 1/52، التهذيب: ج 1/32، وسائل الشيعة: ج 1/337 ح 888.
6- وسائل الشيعة: ج 1/309 ح 815، علل الشرائع: ج 1/283، عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 1/274، التهذيب: ج 1/27.
7- وسائل الشيعة: ج 1/310 ح 816، علل الشرائع: ج 1/283، بحار الأنوار: ج 77/175.

إلّا بذكر اللّه تعالى، و حكاية الأذان.

أقول: لا ينبغي إنكار ظهورهما في الكراهة، وعليه فما عن ظاهر «الفقيه»(1) من القول بالمنع ضعيف، فالأقوى كراهته مطلقاً.

(إلّا بذكر اللّه تعالى) لصحيح أبي حمزة، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ:

«مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي لَمْ تُغَيَّرْ أَنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ: إِلَهِي إِنَّهُ يَأْتِي عَلَيَّ مَجَالِسُ أُعِزُّكَ وأُجِلُّكَ أَنْ أَذْكُرَكَ فِيهَا! فَقَالَ: يَا مُوسَى إِنَّ ذِكْرِي حَسَنٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ»(2).

(وحكاية الأذان) لصحيح ابن مسلم، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ لَهُ:

«يَا مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ! لا تَدَعَنَّ ذِكْرَ اللّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، ولَوْ سَمِعْتَ الْمُنَادِيَ يُنَادِي بِالاذَانِ وأَنْتَ عَلَى الْخَلاءِ فَاذْكُرِ اللّهَ عَزَّ وجَلَّ وقُلْ كَمَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ»(3).

وأيضاً: يدلّ عليه ما رواه الصدوق بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُذَافِرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ:

«سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ التَّسْبِيحِ فِي الَْمخْرَجِ، وقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: لَمْ يُرَخَّصْ فِي الْكَنِيفِ فِي أَكْثَرَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، ويَحْمَدُ اللّهَ وآيَةٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»(4).7.

ص: 286


1- حيث قال: (ولا يَجُوزُ الْكَلامُ عَلَى الْخَلاءِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله عَنْ ذَلِكَ)، من لا يحضره الفقيه: ج 1/31.
2- وسائل الشيعة: ج 1/310 ح 817، الكافي: ج 2/497، عدّة الدّاعي: ص 254، بحار الأنوار: ج 77/190.
3- وسائل الشيعة: ج 1/314 ح 826، و ج 5/454 ح 7067، من لا يحضره الفقيه: ج 1/288.
4- وسائل الشيعة: ج 1/312 ح 823، من لا يحضره الفقيه: ج 1/28، التهذيب: ج 1/352، بحار الأنوار: ج 174/77.

أو الضرورة والاستنجاء باليمين وباليسار، وفيها خاتم فيه اسم اللّه تعالى.

(أو الضرورة) لما دلّ على نفي الحَرَج والضَرر، الحاكم على العمومات المثبتة للتكاليف.

(و) يكره (الإستنجاء باليمين):

لخبر السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «الاسْتِنْجَاءُ بِالَْيمِينِ مِنَ الْجَفَاء»(1).

أيضاً: ما ورد في مرسل يُونُسَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«نَهَى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أَنْ يَسْتَنْجِيَ الرَّجُلُ بِيَمِينِهِ»(2).

(وباليسار، وفيها خاتمٌ فيه اسم اللّه تعالى)، كما عن «المبسوط»(3)و «المهذّب»(4) و «الوسيلة»(5) و «التذكرة»(6) و «القواعد»(7) و «الدروس»(8)و «البيان»(9) وغيرها.

وتشهد له: جملة من النصوص، كخبر أبي بصير، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: مَنْ نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ اسْمَ اللّهِ فَلْيُحَوِّلْهُ عَنِ الْيَدِ الَّتِي7.

ص: 287


1- وسائل الشيعة: ج 1/321 ح 843، الكافي: ج 3/17، التهذيب: ج 1/28.
2- الكافي: ج 3/17، التهذيب: ج 1/28، وسائل الشيعة: ج 1/321 ح 842.
3- المبسوط: ج 1/18.
4- المهذّب: ج 1/41.
5- الوسيلة: ص 48.
6- تذكرة الفقهاء: ج 1/133.
7- قواعد الأحكام: ج 1/181.
8- الدروس: ج 1/89.
9- البيان: ص 7.

يَسْتَنْجِي بِهَا فِي الْمُتَوَضَّأ»(1).

ونحوه غيره.

أقول: ولا يعارضها خبر وهب بن وهب، عنه عليه السلام، قَالَ:

«كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ أَبِي «الْعِزَّةُ ِللّهِ جَمِيعاً»، وكَانَ فِي يَسَارِهِ يَسْتَنْجِي بِهَا، وكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام «الْمُلْكُ ِللّهِ»، وكَانَ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى، يَسْتَنْجِي بِها»(2).

لأنّ راويه من أكذب البريّة(3) على أهل البيت عليهم السلام.

وأمّا ما يظهر من جملةٍ من النصوص من كراهة استصحابه عند التخلّي، فلا يمكن العمل به، لمعارضة هذه النصوص مع ما اشتمل على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يستنجي وخاتمه في إصبعه(4)، وكذلك كان يفعل أمير المؤمنين عليه السلام، وكان نقش خاتم رسول اللّه «محمّد رسول اللّه»، لاسيّما وفيه التعليل بأنّ: (اُولئك كانوا يتختّمون في اليد اليمنى، وأنتم تتختّمون في اليد اليسرى).

ودعوى: أنّه لاتعارض بينهما، لإمكان كونه من الخصائص، وكون حِكمة الكراهة خوف التلويث سهواً أو خطأً أو مسامحةً، وهي غير مقتضية للكراهة في حقّهم.9.

ص: 288


1- وسائل الشيعة: ج 1/331 ح 870، الكافي: ج 6/474، بحار الأنوار: ج 77/197.
2- وسائل الشيعة: ج 1/332 ح 874، التهذيب: ج 1/31، الاستبصار: ج 1/48.
3- كما في رجال الكشّي: ص 309 في أبي البختري وهب بن وهب، رقم 558 قال: (ذكر أبو الحسن علي بن قتيبة ابن محمّد بن قتيبة القتيبي، عن علي بن سلمة الكوفي: أبو البختري اسمه وهب بن وهب بن كثير بن زمعة ابن الأسود صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله. وقال علي أيضاً: قال أبو محمّد الفضل بن شاذان كان أبو البختري من أكذب البريّة).
4- وَعَنْهُمْ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الثَّانِي عليه السلام قَالَ: «قُلْتُ لَهُ إِنَّا رُوِّينَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله كَانَ يَسْتَنْجِي وخَاتَمُهُ فِي إِصْبَعِهِ، وكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام، وكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ رَسُولِ اللّهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ؟ قَالَ: صَدَقُوا، قُلْتُ: فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَفْعَلَ؟ فَقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا يَتَخَتَّمُونَ فِي الْيَدِ الْيُمْنَى وإِنَّكُمْ أَنْتُمْ تَتَخَتَّمُونَ فِي الْيُسْرَى» الْحَدِيثَ. وسائل الشيعة: ج 1/331 ح 869.

مندفعة: بعدم احتمال كونه من الخصائص، إذ لو كان كذلك كان عليه السلام يعلّل بذلك، لا بأنّهم عليهم السلام كانوا يتختّمون في اليد اليمنى، وأنتم تتختّمون في اليد اليسرى.

وكون حكمتها ما ذُكر غير معلوم، بل معلوم العدم، لأنّ الخاتم إذا كان في اليد اليمنى أو الجيب لا يُحتمل فيه ذلك.

هذا فضلاً عن أنّ الحكم لا يدور مدار وجود الحكمة وعدمها، كما لايخفى.

أقول: وفي المتن، وعن «المقنعة»(1)، و «المبسوط»(2)، و «المهذّب»(3)، و «المراسم»(4)، و «القواعد»(5)، و «التحرير»(6)، و «التذكرة»(7)، و «الذكرى»(8)، و «الدروس»(9)، و «البيان»(10)، و «روض الجنان»(11) أنّه يكره أن يكون المتخلّي في6.

ص: 289


1- قال: (وإذا كان في يد الإنسان اليسرى خاتم على فصّه اسمٌ من أسماء اللّه تعالى، أو خاص أسماء أنبيائه أوالأئمّة عليهم السلام فلينزعه عند الاستنجاء)، المقنعة ص 41.
2- قال: (ولا باليسار وفيها خاتم عليه اسم من أسماء اللّه أو أسماء أنبيائه والأئمّة عليهم السلام) المبسوط: ج 1/18.
3- قال: (ولا يستنجي وفي يده خاتم قد نقش على فصّه اسمٌ من أسماء اللّه تعالى، أو أحد أنبيائه أو الأئمّة عليهم السلام)، المهذّب ج 1/41.
4- قال: (ومن كان في يده خاتم على فصّه اسمٌ من أسماء اللّه تعالى، أو من أسماء رسله عليهم السلام، أو الأئمّة الطاهرين، وكان في اليسرى فلا يتركه)، المراسم العلويّة ص 33.
5- قال: (والاستنجاء باليمين واليسار وفيها خاتم عليه اسم اللّه تعالى أو أنبيائه أو الأئمّة عليهم السلام)، قواعد الأحكام: ج 181/1.
6- قال: (وكذا باليسار إذا كان فيها خاتم عليه اسمٌ من أسماء اللّه تعالى أو أسماء أنبيائه أو أحد من الأئمّة عليهم السلام)، تحرير الأحكام: ج 1/63.
7- قال: (ويكره باليسار وفيها خاتم عليه اسمه تعالى أو اسم أحد أنبيائه أو أئمّته عليهم السلام)، تذكرة الفقهاء: ج 1/133.
8- قال: (وباليسار وفيها خاتم عليه اسم اللّه أو نبيّ أو إمام)، الذكرى ص 20.
9- قال: (وباليسار وفيها خاتم عليه اسم اللّه أو نبيّ أو إمام)، الدروس: ج 1/89.
10- قال: (عليه اسم اللّه تعالى أو أحد المعصومين عليهم السلام)، البيان ص 7.
11- روض الجنان ص 26.

أو أنبيائه عليهم السلام أو أحد الأئمّة عليهم السلام.

يده خاتم وعليه اسم أحد (أنبيائه عليهم السلام أو أحد الأئمّة عليهم السلام).

وعن «جامع المقاصد»(1): زيادة اسم فاطمة عليه السلام.

ولا بأس به لمناسبة التعظيم.

ولا ينافيه خبر مُعَاوِيَةَ بْنَ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«قُلْتُ لَهُ الرَّجُلُ يُرِيدُ الْخَلاءَ، وعَلَيْهِ خَاتَمٌ فِيهِ اسْمُ اللّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ: مَا أُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: فَيَكُونُ اسْمُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله؟ قَالَ: لا بَأْسَ»(2).

لإمكان حمله على ما حمله عليه الشيخ رحمه الله من إرادة نفي البأس من استصحابه، من غير أن يستنجي.

***2.

ص: 290


1- قال: (والظاهر أنّ اسم فاطمة: كأسماء الأئمّة عليهم السلام)، جامع المقاصد: ج 1/106.
2- وسائل الشيعة: ج 1/332 ح 872.

ويجب عليه الاستنجاء، وهو: غَسلُ مَخرج البول بالماء خاصّة.

في الاستنجاء
اشارة

(ويجب عليه) أي على المتخلّي (الاستنجاء) وجوباً غيريّاً، مقدّمةً لما يتوقّف صحّته على الطهارة الخَبَثيّة كالصلاة ونحوها، (وهو غَسل مخرج البول بالماء خاصّة)، مع القدرة، إجماعاً محصّلاً ومنقولاً كما في «الجواهر».

وتشهد له: عدَّة كثيرة من النصوص:

منها: الأخبار المصرّحة بأنّه لا يجزي غيره، كخبر بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ:

«يُجْزِي مِنَ الْغَائِطِ الْمَسْحُ بِالاحْجَارِ ولا يُجْزِي مِنَ الْبَوْلِ إِلّا الْمَاءُ»(1).

وصحيح زرارة، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ:

«لا صَلاةَ إِلّا بِطَهُورٍ، ويُجْزِيكَ مِنَ الاسْتِنْجَاءِ ثَلاثَةُ أَحْجَارٍ، بِذَلِكَ جَرَتِ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله، وأَمَّا الْبَوْلُ فَإِنَّهُ لا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ»(2).

وقريب منهما غيرهما.

أقول: ولا يعارضها الخبر المرويّ عن ابن بُكَيْرٍ، قَالَ:

«قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام الرَّجُلُ يَبُولُ ولا يَكُونُ عِنْدَهُ الْمَاءُ، فَيَمْسَحُ ذَكَرَهُ بِالْحَائِطِ؟ قَالَ: كُلُّ شَيْ ءٍ يَابِسٍ ذَكِيٌّ»(3).

ص: 291


1- التهذيب: ج 1/50، الاستبصار: ج 1/57، وسائل الشيعة: ج 1/316 ح 834 و ص 348 ح 923.
2- التهذيب: ج 1/49 و ص 209، الاستبصار: ج 1/55، وسائل الشيعة: ج 1/315 ح 829.
3- وسائل الشيعة: ج 1/351 ح 930، التهذيب: ج 1/49، الاستبصار: ج 1/57، وفي آخره كلمة (زكي) بدل (ذكي)، عوالي اللئالي: ج 4/47.

لما تقدّم من أنّ الظاهر من الجواب، إرادة عدم سراية النجاسة مع اليبوسة.

كما أنّه لا يعارضها موثّق حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ، قَالَ:

«سَمِعْتُ رَجُلا سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، فَقَالَ: إِنِّي رُبَّمَا بُلْتُ فَلا أَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، ويَشْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: إذا بُلْتَ وتَمَسَّحْتَ فَامْسَحْ ذَكَرَكَ بِرِيقِكَ، فَإِنْ وَجَدْتَ شَيْئاً فَقُلْ هَذَا مِنْ ذَاكَ»(1).

كما لا يعارضها أيضاً خبر سماعة، قَالَ:

«قُلْتُ لأبِي الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام: إِنِّي أَبُولُ ثُمَّ أَتَمَسَّحُ بِالاحْجَارِ فَيَجِيءُ منِّي الْبَلَلُ مَا يُفْسِدُ سَرَاوِيلِي؟ قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌِ»(2).

لما تقدّم في مبحث تنجيس المتنجّس(3) من أنّهما من جملة الأدلّة الدالّة على أنّ المتنجّس لا ينجّس، فراجع.

أمّا العاجز: فإنّ المنقول عن جماعة كالمحقّق(4) والمصنّف والشهيد(5)، وغيرهم(6) أنّه مع عدم القدرة يجب إزالة عين النجس وإنْ بقي الأثر، تخفيفاً للنجاسة.

واستدلّ له أوّلاً: بقاعدة الميسور المستفادة من المراسيل المعروفة(7).

وثانياً: بخبر ابن بُكير المتقدّم.

وثالثاً: بخبر زُرَارَةَ، ومُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ:8.

ص: 292


1- الكافي: ج 3/20، التهذيب: ج 1/348 و 353، من لا يحضره الفقيه: ج 1/69، وسائل الشيعة: ج 1/284 ح 750.
2- التهذيب: ج 1/51، الاستبصار: ج 1/56، وسائل الشيعة: ج 1/283 ح 747.
3- فقه الصادق: ج 5/191.
4- المعتبر: ج 1/126.
5- البيان: ص 7.
6- مصباح الفقيه: ج 1/84.
7- ما روي مرسلاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله: (لايترك الميسور بالمعسور)، عوالي اللئالي: ج 4/58.

«سَأَلْتُهُ عَنْ طَهُورِ الْمَرْأَةِ فِي النِّفَاسِ إذا طَهُرَتْ، وكَانَتْ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ، أَنَّهَا إِنِ اسْتَنْجَتْ اعْتَقَرَتْ، هَلْ لَهَا رُخْصَةٌ أَنْ تَتَوَضَّأَ مِنْ خَارِجٍ، وتُنَشِّفَهُ بِقُطْنٍ أَوْ خِرْقَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ لَتَتَّقِي مِنْ دَاخِلٍ بِقُطْنٍ أَوْ بِخِرْقَةٍ»(1).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا القاعدة: فلما ذكرناه مراراً من أنّ موردها ما إذا كان متعلّق التكليف له أفراد متعدّدة تعذّر الجمع بينها، لا المركّب من أجزاء مختلفة الحقيقة قد تعذّر بعضها.

فضلاً من مثل المقام، ممّا ليس للمأمور به أجزاء، بل يكون له مراتب بنظر العرف، إذ التطهير الذي هو شرط في الصلاة، ليس له أجزاء كما لايخفى.

وأمّا خبر ابن بكير: فلما عرفت آنفاً.

وأمّا خبر زرارة: فلأنّه يدلّ على لزوم تنشيف الباطن، والباطن لا يجبُ غسله في حال الاختيار، فضلاً عن حال الضرورة.

فالصحيح ان يستدلّ له: بأنّ الظاهر من أدلّة مانعيّة النجاسة، أنّها ملحوظة بنحو الطبيعة السارية، فكلّ ما يفرض من وجود النجاسة، يكون مانعاً مستقلّاً، فلو أمكن رفع البعض تعيّن.

ومنه يظهر وجه لزوم الغَسل مرّةً فيما لزم التعدّد ولم يمكن، ولعلّه إلى ما ذكرناه يرجع استدلال بعضهم بأنّ الواجب إزالة العين والأثر، وتعذّر أحدهما لا يُسقط الثاني.

***5.

ص: 293


1- وسائل الشيعة: ج 1/347 ح 921، التهذيب: ج 1/355.
المقدار المُجزي من ماء الاستنجاء

أقول: إنّه قد اختلفت كلمات الأصحاب في أقلّ ما يُجزي من الماء في تطهير مَخرج البول:

فعن الصدوق(1) والكَرَكي(2) والشهيدين(3) وغيرهم: لزوم غَسله مرّتين.

وعن صريح جماعةٍ، وظاهر آخرين كالسيّدين(4) والشيخ في «الجمل»(5)، والحلبي(6) والقاضي(7) والحلّي(8) وابن حمزة(9)، والمصنّف في «المنتهى»(10)و «المختلف»(11): كفاية المرّة المزيلة.

وعن «المبسوط»(12) و «النهاية»(13) و «الشرائع»(14) وغيرها: الاكتفاء بمثلي

ص: 294


1- الهداية: ص 77.
2- جامع المقاصد: ج 1/93.
3- الشهيد الأوّل في الدروس ص 125، وفي الذكرى ص 15، والشهيد الثاني في شرح اللّمعة: ج 1/337.
4- السيّد المرتضى في جُمل العلم والعمل (رسائل المرتضى: ج 3/23).
5- الشيخ الطوسي في كتابه الجمل والعقود.
6- أبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: ص 127.
7- المهذّب: ج 1/40، خلافاً لما ذكر في حاشية مفتاح الكرامة (مفتاح الكرامة: ج 1/182) من أنّ المنقول عن القاضي ابن البرّاج لا يوافق ما في كتابه المهذّب، وذلك لأنّ عبارته في المهذّب هي: (فأمّا مخرج البول فليس يجزي فيه إلّاالماء مع التمكّن منه).
8- ابن إدريس الحلّي في السرائر: ج 1/95.
9- ابن حمزة الطوسي في الوسيلة: ص 47.
10- منتهى المطلب: ج 1/272.
11- قال: (حتّى ينقى)، مختلف الشيعة: ج 1/273.
12- المبسوط: ص 17.
13- النهاية: ص 11.
14- شرائع الإسلام: ج 1/14.

البَلَل وإنْ لم يكن غَسلاً عرفاً.

وتنقيح القول في المقام: إنّه يدلّ على لزوم الغَسل مرّتين، إطلاق ما دلّ على اعتبار التعدّد في البول المتقدّم في مطهّريّة الماء.

ودعوى: انصرافه إلى غير المقام، لاشتمال تلك النصوص على لفظ (الإصابة) المنصرفة إلى إصابة البول، الكائن في غير الجسد للجسد، فلا تشمل البول الخارج من الجسد.

مندفعة: بأنّه ما الفرق بين حافّة الذَّكر وغيرها من مواضع الجسد، كي يصحّ دعوى أنّ تلك النصوص تختصّ بما إذا أصاب البول غيرها، ولاتشمل ما إذا أصابها؟

نعم، لو صحّ دعوى عدم ثبوت الإطلاق لتلك النصوص، لما بقي وجهٌ لذلك، إذ لاسبيل إلى دعوى لزوم الغَسل مرّتين، لإستصحاب بقاء النجاسة بعد الغَسل مرّةً، لما ذكرناه غير مرّةٍ من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام، لكونه محكوماً لاستصحاب عدم الجعل.

وأمّا خبر نَشِيطِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ كَمْ يُجْزِي مِنَ الْمَاءِ فِي الاسْتِنْجَاءِ مِنَ الْبَوْلِ؟ فَقَالَ: مِثْلا مَا عَلَى الْحَشَفَةِ مِنَ الْبَلَلِ»(1).

الذي استدلّ به جماعة منهم المحقّق(2) والشهيدان(3) بدعوى أنّ المراد منه الغَسلَتان، كلُّ غسلةٍ بمثلٍ.9.

ص: 295


1- وسائل الشيعة: ج 1/344 ح 911، التهذيب: ج 1/35، الاستبصار: ج 1/49.
2- الحلّي في شرائع الإسلام: ج 1/14.
3- الشهيد الأوّل في الذكرى: ج 1/21، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 1/29.

فمجملٌ لا يصحّ الاستدلال له.

أقول: بل لا يبعد دعوى ظهوره في كفاية الغَسل مرّةً واحدة بمثلي ما على الحَشَفة، وإلّاكان اللّازم التقييد بالغَسل مرّتين، مع أنّ مثل ما على الحَشَفة - سواءٌ اُريد به البلل الكائن على الحشفة، أو القطرة المتخلّفة في بعض الأوقات - لا تحصل معه الغلبة على النجاسة كي يصدق الغَسل.

وبما ذكرناه ظهر ضعف ما عن جماعةٍ(1) من الاكتفاء بمثلي ما على الحشفة، وإنْ لم يصدق عليه الغَسل عرفاً:

إذ لو اُريد به القطرة المتخلّفة، فالظاهر صدق الغسل دائماً.

ولو اُريد به البَلَل الكائن على الحشفة، فبما أنّه لايحصل بمثليه الاستيلاء، فلا يجزي قطعاً، ويتعيّن طرحه.

ولكن الظاهر إرادة الفطرة فتدبّر.

فتحصّل: أنّ العمدة في اعتبار التعدّد، إطلاق ما دلّ على اعتباره في البول، ولكن يتعيّن تقييده بخبر نشيط المتقدّم، وموثّق يونس بن يعقوب، قَالَ:

«قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام: الْوُضُوءُ الَّذِي افْتَرَضَهُ اللّهُ عَلَى الْعِبَادِ، لِمَنْ جَاءَ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ بَالَ؟ قَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ويُذْهِبُ الْغَائِطَ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ»(2).

فإنّه من جهة كونه في مقام بيان تمام ما يجب على المتوضّأ المزبور، وتقييد الوضوء بالمرتين، وعدم ذكرها في الوضوء، يكون في دلالته على كفاية مسمّى الغَسل أظهر من إطلاق تلك النصوص في اعتبار العدد.

وأمّا حَسَن ابن المغيرة المرويّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام، قَالَ:3.

ص: 296


1- سلّار في المراسم العلويّة: ص 33، والشيخ المفيد في المقنعة: ص 42.
2- التهذيب: ج 1/47، الاستبصار: ج 1/52، وسائل الشيعة: ج 1/316 ح 833.

«قُلْتُ لَهُ: لِلاسْتِنْجَاءِ حَدٌّ؟ قَالَ: لا يُنَقَّى مَا ثَمَّةَ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ يُنَقَّى مَا ثَمَّةَ ويَبْقَى الرِّيحُ؟ قَالَ: الرِّيحُ لا يُنْظَرُ إِلَيْهَا»(1).

والذي استدلّ به بعض الأعاظم لهذا القول، فغيرُ ظاهرٍ فيه، لكونه مذيّلاً بقوله: (قُلْتُ فَإِنَّهُ يُنَقَّى مَا ثَمَّةَ ويَبْقَى الرِّيحُ؟ قَالَ: الرِّيحُ لا يُنْظَرُ إِلَيْهَا).

مضافاً إلى ظهور الاستنجاء في نفسه في الاستنجاء من الغائط.

وأيضاً: لا يصحّ الاستدلال بصحيح جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«إذا انْقَطَعَتْ دِرَّةُ الْبَوْلِ فَصُبَّ الْمَاءَ»(2).

لكونه وارداً في مقام بيان عدم وجوب الصبر إلى أن يخرج جميع ما في المخرج والتنحنح والاستبراء، لا في مقام بيان عدد الغَسل.

أقول: أُورد على الاستدلال بخبر نشيط بايرادين:

الأوّل: أنّ في طريقه مَرْوَكِ بن عبيد، وهو مجهول الحال.

الثاني: معارضته بخبره الآخر: عَنْ مَرْوَكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ نَشِيطٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «يُجْزِي مِنَ الْبَوْلِ أَنْ يَغْسِلَهُ بِمِثْلِهِ»(3).

وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلاعتماد الأصحاب عليه، حتّى أنّهم نقلوه بمتنه في فتاويهم، وهو يوجب إنجباره.

مع أنّه نقل عن المصنّف في «الخلاصة» عن الكشّي(4)، عن محمّد بن مسعود قال:2.

ص: 297


1- الكافي: ج 3/17، التهذيب: ج 1/28، وسائل الشيعة: ج 1/322 ح 849 و ج 3/439 ح 4102.
2- الكافي: ج 3/17، التهذيب: ج 1/356، وسائل الشيعة: ج 1/349 ح 926.
3- وسائل الشيعة: ج 1/344 ح 913، التهذيب: ج 1/35، الاستبصار: ج 1/49: وفيه: (تغسله) بدل (يغسله).
4- رجال الكشّي: رقم 1063 ص 563، رجال العلّامة: ص 172.

«سألتُ عليّ بن الحسين عليه السلام عن مروك بن عُبيد بن سالم ابن أبي حفصة، فقال عليه السلام: ثقة، شيخ صدوق».

وأمّا الثاني: - فمضافاً إلى إرسال المعارض، وإعراض الأصحاب عنه، وما تقدّم من عدم تحقّق مفهوم الغَسل بالمِثْل، لعدم تحقّق الاستيلاء بذلك - غيرُ ظاهر المراد، إذ كما يمكن أن يكون المراد بالمماثلة، المماثلة في الكمّ، يمكن أن تكون المماثلة من جهاتٍ اُخر؛ ككون الغَسل بالماء، والمراد من الاجتزاء به حينئذٍ عدم لزوم الدلك ومثله، كما يشير إلى ذلك بعض النصوص الاُخر، كقوله عليه السلام:

«إنّه ماءٌ فلا يُزيلُ إلّابالماء»(1).

ويؤيّد هذا الاحتمال، عدم اختصاص المرسل بمخرج البول، وعمومه لكلّ ما أصابه البول.

فتحصّل ممّا حقّقناه: أنّ الأقوى كفاية الغَسل مرّةً، وإنْ كان الأحوط الغَسل مرّتين، والأفضل ثلاث مرّات، للخبر الصحيح الذي رواه زُرَارَةَ، قَالَ:

«كَانَ يَسْتَنْجِي مِنَ الْبَوْلِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ومِنَ الْغَائِطِ بِالْمَدَرِ والْخِرَقِ»(2).

فرع: هل يختصّ هذا الحكم بالرَّجل، أم يعمّ الاُنثى؟

وجهان، بل قولان: الأوّل أنّه يختصّ بالرجل، والثاني أنّه يعمّ الاُنثى.

وقد استدلّ للثاني بثلاث أدلّة:

الأوّل: عموم السؤال والجواب في النصوص.

الثاني: قاعدة الاشتراك.4.

ص: 298


1- هذا النصّ لم يرد في المجاميع الروائيّة بهذا اللّفظ، نعم أورده صاحب الجواهر كذلك في ج 2/19، أمّا ما دلّ على هذا المعنى فلفظه: (يجزي من الغائط المسح بالأحجار، ولا يجزي من البول إلّاالماء)، كما في وسائل الشيعة: ج 1/316-317 ح 834.
2- وسائل الشيعة: ج 1/344 ح 912 وص 357 ح 948، التهذيب: ج 1/209 و 354.

الثالث: بأنّه مقتضى الأصل، بعد عدم شمول المطلقات للمقام، بناءً على عدم جريان الاستصحاب في الاحكام.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ مورد السؤال والجواب في خبر نشيط وموثّق يونس - اللَّذين هما مستند القول بكفاية المرّة - هو الذَكَر والحَشَفة.

وأمّا الثاني: فلأنّ مجراها ما إذا ثبت الحكم لموضوعٍ، وكان المخاطب به الرَّجل، فإنّه يتعدّى بواسطتها إلى الاُنثى، وليس شأنها إسراء الحكم من موضوعٍ إلى موضوعٍ آخر. وبما أنّ موضوع الحكم هو الذَكَر والحَشَفة، فلا وجه للتعدّي وإثبات الحكم لقُبُل الاُنثى.

وأمّا الثالث: فقد عرفت أنّ الصحيح شمول المطلقات لمخرج البول.

والنتيجة: فإنّ الأقوى اختصاص هذا الحكم بالذَكَر، وفي الاُنثى يرجع إلى ما تقتضيه المطلقات. ومنه يظهر عدم ثبوت الحكم لغير المخرج الطبيعي.

***

ص: 299

وغسل مخرج الغائط مع التعدّي.

الاستنجاء من الغائط

(و) يجبُ (غَسل مخرج الغائط مع التعدّي) عنه، عند جماعةٍ كثيرة، بل ادّعى عليه الإجماع في محكي «المعتبر»(1) و «التذكرة»(2) و «الذكرى»(3).

أقول: والتعدّي على قسمين:

فإنّه تارةً: يتعدّى عن المحلّ المعتاد، ويصل إلى الإلية مثلاً.

واُخرى: يتعدّى عن المخرج ولا يتجاوز محلّ العادة.

أمّا في الصورة الاُولى: فالأقوى ما ذكر من وجوب الماء، إذ أدلّة إجزاء المسح بالأحجار وغيرها قاصرة عن الشمول لها، لعدم صدق الاستنجاء في الفرض، ولذا لايعامل مع الماء المستعمل فيه حينئذٍ معاملة ماء الاستنجاء، ولا يلحقه حُكمه.

ويؤيّده: ما رواه الجمهور عن أمير المؤمنين عليه السلام: «يكفي أحدكم ثلاثة أحجار إذا لم يتجاوز محلّ العادة»(4).

وأمّا في الصورة الثانية: فالأظهر عدم تعيّن الماء، إذ لا قصور في أدلّة إجزاء المسح بالأحجار وغيرها عن الشمول.

ص: 300


1- المعتبر: ج 1/128.
2- تذكرة الفقهاء: ج 1/125.
3- الذكرى: ص 21.
4- نسب هذا القول إلى العامّة المحقّق الحلّي في المعتبر: ج 1/128، وقد ورد في مصادر العامّة ما يُشير إلى اعتبار الأحجار الثلاثة في روايات مختلفة عن النبيّ صلى الله عليه و آله، كما هو الحال في العديد من الروايات في مصادرنا أيضاً.

وبدونه يُجزي ثلاثة أحجار طاهرة، أو ثلاثُ خرق.

ودعوى: الإجماع عليه إذا تعدّى عن المخرج.

مندفعة: بمعارضة هذه الدعوى مع المحكيّ عن «شرح المفاتيح»(1) من أنّ الفقهاء بأجمعهم صرّحوا بأنّ الاستنجاء من الغائط غير منحصرٍ بالماء، إلّاأن يتعدّى عن المحلّ المعتاد.

وعن «السرائر»(2): التصريح باعتبار تعدّي الشرج، وهو حَلَقة الدُّبر.

وعن جماعةٍ(3): اعتبار التعدّي عن حواشي الدُّبر.

إجزاء الأحجار ونحوها مع عدم التعدّي

(وبدونه) أي بدون التعدّي (يُجزي) عن الماء (ثلاثة أحجارٍ طاهرة، أو ثلاث خِرَق) بلا خلافٍ في ذلك في الجملة.

ويشهد لكفاية الأحجار أكثر نصوص الباب، ولكفاية الخرق جملةٌ منها:

ففي صحيح زُرَارَةَ، قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام يَتَمَسَّحُ مِنَ الْغَائِطِ بِالْكُرْسُفِ، ولا يَغْسِلُ»(4). ونحوه غيره.

***

ص: 301


1- نقل ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/212.
2- ذكر ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 2 ص 211.
3- مسالك الأفهام: ج 1/29، الحدائق الناضرة: ج 2/26.
4- وسائل الشيعة: ج 1/358 ح 949، التهذيب: ج 1/354، عوالي اللئالي: ج 1/358.
تنبيهات الاستنجاء من الغائط
التنبيه الأوّل: في كفاية كلّ قالع للنجاسة

المشهور بين الأصحاب(1) أنّه يكفي كلّ قالعٍ للنجاسة، عدا ما استثني، بل عن «الخلاف»(2) و «الغنية»(3): الإجماع عليه.

ويشهد له: موثّق ابن يعقوب المتقدّم، وفيه قال:

«قَالَ عليه السلام: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ويُذْهِبُ الْغَائِطَ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ»(4). بناءً على ما عرفت من أنّه في مقام بيان تمام ما يجب على المتوضّأ المزبور.

والخبر الحسن الذي رواه ابْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام، قَالَ:

«قُلْتُ لَهُ: لِلاسْتِنْجَاءِ حَدٌّ؟ قَالَ: لا يُنَقَّى مَا ثَمَّةَ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ يُنَقَّى مَا ثَمَّةَ ويَبْقَى الرِّيحُ؟ قَالَ: الرِّيحُ لا يُنْظَرُ إِلَيْهَا»(5).

ودعوى: عدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، لكونه مسوقاً لبيان حَدّ الاستنجاء، لا لبيان ما يُستنجى به.

مندفعة: بأنّ الحَدّ في اللّغة(6) بمعنى المنع، فمقتضى إطلاق الجواب حينئذٍ عدم المنع من جميع الجهات.

ويمكن الاستدلال له بالنصوص الواردة في المَدَر والخِرَق والكُرسف والعود

ص: 302


1- نقل ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/218.
2- الخلاف: ج 1/106.
3- غنية النزوع: ص 36.
4- وسائل الشيعة: ج 1/316 ح 833، التهذيب: ج 1/47، الاستبصار: ج 1/52.
5- وسائل الشيعة: ج 1/322 ح 849 و: ج 3/439 ح 4102، الكافي: ج 3/17، التهذيب: ج 1/28.
6- (حددته عن كذا: منعته) العين: ج 3/20، وفي لسان العرب: ج 3/140: (أصل الحدّ: المنع والفصل بين الشيئين).

ونحوها(1)، فإنّ المستفاد منها - لا سيما بملاحظة الشهرة والخبرين المتقدّمين - أنّ ذكر هذه الأشياء في النصوص ليس لأجل اعتبارها بالخصوص.

فتحصّل من ذلك: أنّ الأقوى الإجتزاء بكلّ قالع ولو من الأصابع.

***7.

ص: 303


1- هذه الروايات في الباب 35 من أحكام الخلوة في وسائل الشيعة: ج 1/357 وفيه ستّ روايات ابتداءً من الحديث رقم: 947.
التنبيه الثاني: في اعتبار التعدّد في الغَسل

أقول: لا يعتبر في الغَسل التعدّد، بل حدُّه النقاء بلا خلاف.

ويشهد له: موثّق يونس(1) وحسن ابن المغيرة(2) المتقدّمان.

وأمّا في المسح: فلابدَّ من الثلاث، وإنْ حصل النقاء بالأقلّ، وإنْ لم يحصل بالثلاث فإلى النقاء كما هو المنسوب إلى المشهور(3).

ويشهد لاعتبار الثلاث: صحيح زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ:

«لا صَلاةَ إِلّا بِطَهُورٍ، ويُجْزِيكَ مِنَ الاسْتِنْجَاءِ ثَلاثَةُ أَحْجَارٍ، بِذَلِكَ جَرَتِ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله، وأَمَّا الْبَوْلُ فَإِنَّهُ لا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ»(4).

والإيراد عليه: بأنّ اقترانه بالسُّنة المحتمل كون المراد منها الاستحباب، يمنع من الاستدلال به.

غير تامّ: إذ السُّنة في الخبر من جهة اسنادها إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله، تكون ظاهرة في إرادة ما فرضه النبيّ صلى الله عليه و آله، أي ما لم يثبت وجوبه بالكتاب، مع أنّ صدر الصحيح وهو قوله عليه السلام: (ويجزيك... الخ) يدلّ على المختار، لظهوره في أنّ الثلاث أقلّ المجزي.

ودعوى: ورود القيد مورد الغالب، من جهة أنّ النقاء لايحصل غالباً إلّا بالثلاث.

مندفعة: بأنّه لو سُلّم ذلك - مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً - لا يمنع من الاستدلال، إذ لا يكون ذلك قرينةً لرفع اليد عن ظهور القيد في الاحترازيّة.

وموثّق زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ:

ص: 304


1- التهذيب: ج 1/47، الاستبصار: ج 1/52، وسائل الشيعة: ج 1/316 ح 833.
2- الكافي: ج 3/17، التهذيب: ج 1/28، وسائل الشيعة: ج 1/322 ح 849 و ج 3/439 ح 4102.
3- الحبل المتين: ص 34.
4- وسائل الشيعة: ج 1/315 ح 829، الاستبصار: ج 1/55، التهذيب: ج 1/49 و 209.

«سَأَلْتُهُ عَنِ الَّتمَسُّحِ بِالأحْجَارِ؟ فَقَالَ: كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام يَمْسَحُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ».

فإنّ حكاية الإمام عليه السلام فعل جدّه عليه السلام في جواب السائل عن التمسح بالأحجار، ظاهرة في إرادة الوجوب.

ويؤيّدهما النبويّ الذي رواه الشَّهِيدُ فِي «الذِّكْرَى»، عَنْ سَلْمَانَ عليه السلام، قَالَ:

«نَهَانَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاثَةِ أَحْجَارٍ»(1).

وبمضمونه نبويّان آخران.

واستدلّ لعدم الوجوب: عددٌ من الأخبار:

منها: إطلاق الخبر الحسن الذي رواه ابن المغيرة، وموثّق يونس المتقدّمين.

ومنها: الخبر الذي رواه بريد بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ:

«يُجْزِي مِنَ الْغَائِطِ الْمَسْحُ بِالأحْجَارِ ولا يُجْزِي مِنَ الْبَوْلِ إِلّا الْمَاءُ»(2).

بدعوى: أنّ قوله بالأحجار بعد امتناع حمله على العموم، يجبُ حمله على النجس، لأنّه أقرب عرفاً.

ومنها: صحيح زرارة، وبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ حَرِيزٍ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ:

«كَانَ يَسْتَنْجِي مِنَ الْبَوْلِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ومِنَ الْغَائِطِ بِالْمَدَرِ والْخِرَقِ»(3).

ومنها: صحيحه الآخر، قَالَ:

«سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام يَتَمَسَّحُ مِنَ الْغَائِطِ4.

ص: 305


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/275.
2- وسائل الشيعة: ج 1/316 ح 834 وص 348 ح 923، التهذيب: ج 1/50، الاستبصار: ج 1/57.
3- وسائل الشيعة: ج 1/344 ح 912 وص 357 ح 948، التهذيب: ج 1/209 و ص 354.

بِالْكُرْسُفِ ولا يَغْسِلُ»(1).

وفي الجميع نظر:

أمّا الحَسَن: - فمضافاً إلى ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله: بأنّ الظاهر من الريح الباقية هي المعلومة بتوسّط استشمامها باليد، ولا يكون ذلك إلّابالاستنجاء بالماء - أنّ ما دلَّ على اعتبار الثلاث أخصّ منه، فيقيّد إطلاقه به، فالجمع بينهما يقتضي اعتبار كلا الأمرين.

ومنه يظهر الجواب عن الموثّق.

وأمّا خبر بريد: فالظاهر منه إرادة إجزاء الأحجار بنحو الموجبة الجزئيّة، في مقابل البول الذي لا يجزي فيه إلّاالماء، كما يشير ذلك قوله عليه السلام: (ولايجزي من البول إلّا الماء).

ومنه يظهر ما في صحيح زرارة الثاني.

وأمّا صحيحه الأوّل فلم يثبت كون الحكاية من الإمام عليه السلام كما لايخفى.

فتحصّل من ذلك كلّه: أنّ ما عن جماعة منهم ابنا حمزة(2) وزهرة(3)، والقاضي(4)، والمصنّف رحمه الله في «المختلف»(5)، والمقدّس الأردبيلي(6)، والسيّد في «المدارك»(7)، من8.

ص: 306


1- وسائل الشيعة: ج 1/358 ح 949، التهذيب: ج 1/354.
2- ابن حمزة الطوسي في الوسيلة: ص 47.
3- غنية النزوغ ص 36، حيث قال: ومن السُّنة أن تكون ثلاثة.
4- ما ذكره القاضي ابن البرّاج في المهذّب ما معناه: أنّه يلزم استعمال الأحجار الثلاثة، فإن لم يتمكّن اكتفى بحجر واحد من ثلاث جهات وإن حصل النقاء من حجر واحد فيستعمل الباقي سُنّة. المهذّب: ج 1/40.
5- مختلف الشيعة: ج 1/268.
6- مجمع الفائدة والبرهان: ج 1/90.
7- مدارك الأحكام: ج 1/168.

عدم اعتبار الثلاث مطلقاً، ضعيف.

وأضعف منه: دعوى عدم اعتبار الثلاث إذا حصل النقاء بأقلّ من ذلك، بدعوى أنّ الغرض من المسح هو النقاء، فمع حصوله أي فائدة تترتّب عليه؟

إذ يرد عليه أوّلاً: النقض بالغَسل بالماء، فإنّه يزول العين بالغَسلة الاُولى فما فائدة الثانيه؟.

وثانياً: بالحلّ، وهو أنّه بعد دلالة الدليل على اعتبار الثلاث، لا ترفع اليد عنه بواسطة هذه الوجوه الاعتباريّة.

ثمّ إنّه بناءً على اعتبار الثلاث:

هل يجزي ذو الجهات الثلاث من الحَجَر، وبثلاثة أجزاء من الخرقة الواحدة كما عن المصنّف(1) وجملةٌ ممّن تأخّر عنه؟

أم لا، كما عن ظاهر «الفقيه»(2) و «المبسوط»(3) و «جمل» السيّد(4)و «الكافي»(5) و «السرائر»(6)، والمحقّق(7) والشهيد الثاني(8) وغيرهم؟ وجهان.

أقول: استدلّ للأوّل بثلاث أدلّة:

الدليل الأوّل: القطع بعدم مدخليّة صفة الانفصال في التطهير.0.

ص: 307


1- قواعد الأحكام: ج 1/180، مختلف الشيعة: ج 1/267.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 1/29.
3- المبسوط: ج 1/17.
4- رسائل المرتضى: ج 3/23.
5- الكافي للحلبي: ص 127.
6- السرائر: ج 1/96.
7- في شرائع الإسلام: ج 1/14.
8- مسالك الأفهام: ج 1/30.

الدليل الثاني: بأنّ الظاهر من المسح بثلاثة أحجار إرادة ثلاث مسحات.

الدليل الثالث: بإطلاق النقاء، وإذهاب الغائط في الحسن والموثّق المتقدّمين.

وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ دعوى القطع في مثل هذا الحكم التعبّدي المحض في غير محلّها.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر من قوله: (بثلاثة أحجار)، لاسيّما مع وجود لفظ (الباء) تعدّد الأحجار لاتعدّد المسحات.

وأمّا الثالث: فقد عرفت تعيّن تقييد إطلاقهما بما دلّ على اعتبار الثلاث.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول الثاني.

***

ص: 308

التنبيه الثالث: في اعتبار الطهارة في الأحجار

لا خلاف ظاهراً في اعتبار الطهارة في الأحجار، ولعلّ الوجه في ذلك هو أنّه إذا كان الحجر نجساً يوجب تنجّس المحلّ بنجاسة اُخرى، لا يجزي في رفعها إلّاالماء.

ودعوى: أنّ المتنجّس لايتنجّس ثانياً، قد عرفت ما فيها في أمثال المقام، ممّا يكون للنجاسة الثانية أثر زائد.

وعلى هذا، فتعتبر الطهارة إذا كان الحجر أو مخرج الغائط رطباً.

أمّا مع يبوستهما فلا وجه له، إذا القاعدة الارتكازيّة (الفاقد لا يعطي)(1)لاتجري في المقام، لكون هذا الحكم تعبّديّاً محضاً، ولا وجه لإعمال المرتكزات العرفيّة فيه.

اللّهُمَّ إلّاأن يدّعي: أنّ الظاهر من قول الشارع: (الماء يُطهّر) أو (الحَجَر يُطهّر)، فيه تنظيراً له على المطهّرات العرفيّة، فتأمّل.

فإذاً العمدة فيه هو الإجماع إنْ تمّ.

وأمّا البكارة: فالظاهر عدم اعتبارها لعدم الدليل عليه.

وأمّا المرسلة التي تقول: «جرت السُنّة في الاستنجاء بثلاثه أحجار أبكار تتبع بالماء».

ضعيفة السند، مع أنّ في دلالته على الوجوب تأمّلاً، لأنّ الإتّباع بالماء مستحبٌّ، وهو يكون قرينة لإرادة الاستحباب من السُنّة.

فما عن جماعةٍ منهم المفيد(2) وابن حمزة(3): أنّه لا يُستعمل الحَجَر المستعمل سواءٌ انفعل أم لا، وسواءٌ طهر بعد الانفعال أم لا، ضعيف.

***

ص: 309


1- فاقد الشيء لا يُعطيه.
2- المقنعة: ص 62.
3- الوسيلة: ص 47.
التنبيه الرابع: في عدم اعتبار زوال الأثر

المشهور بين الأصحاب: أنّه يجب في الغَسل بالماء إزالة العين والأثر، وأنّه يكفي في المسح إزالة العين، ولا يضرّ بقاء الأثر.

وقد اختلفت كلمات الفقهاء في بيان المراد من الأثر:

فعن جماعةٍ منهم المحقّق الثاني(1): تفسيره بالأجزاء الصغار الّتي لا تُرى.

وعن بعضهم(2): تفسيره باللّون.

وعن «المنتهى»(3) و «النهاية»(4): هو اللّون الزائل بأدنى مبالغة في المسح.

وفسَّره المقدّس الأردبيلي(5) بالرائحة.

أقول: ومنشأ هذا الاختلاف الإشكالان المعروفان:

الأوّل: أنّ الأثر غير مذكور في شيء من أخبار الباب.

الثاني: أنّ عين النجاسة إنْ بقيت فلا يحكم بالطهارة، سواءٌ استنجى بالماء أو بالحجر، وإلّا فيحكم بها بلا فرق بينهما. فاعتبار زوال الأثر في الاستنجاء بالماء دون المسح بالحَجَر بلا وجه.

أقول: إنّ بقاء الأثر بمعنى اللّون والرائحة، لايمنع من الحكم بالطهارة، حتّى في الاستنجاء بالماء، لما تقدّم في مطهّريّة الماء من عدم اعتبار زوال الأثر بهذا المعنى في التطهير، فراجع.

ص: 310


1- المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان: ج 1/91.
2- نقل ذلك المحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد: ج 1/17.
3- منتهى المطلب: ج 3/243.
4- نسب ذلك الشيخ الأنصاري إلى النهاية في كتاب الطهارة: ج 1/447.
5- مجمع الفائدة والبرهان: ج 1/91.

وأمّا الأثر بمعنى الأجزاء الصغار الّتي لا تُرى، المعبّر عنها في بعض الكلمات (بالأجزاء اللّطيفة) التي لو لاحظناها بواسطة مكبّرةٍ لعرفنا أنّها عذرة، فيعتبر إزالتها في الغَسل بالماء، لأنّ تلك الأجزاء مصداقٌ عرفي للعذرة، فتجب إزالتها.

وأمّا في المسح، فبما أنّه يستحيل إزالة تلك الأجزاء عادةً إلّامع المبالغة الكثيرة الخارجة عن المتعارف، فمقتضى إطلاق أدلّته عدم اعتبار إزالتها.

والنتيجة: وبذلك ظهر الفرق بين الغَسل بالماء والمسح، كما أنّه ظهر أنّ الأولى تفسير الأثر في المقام بالأجزاء الصغار الّتي لا تزول عادةً بالمسح، وظهر أيضاً أنّ عدم ذكر الأثر في الأخبار لا ينافي ذلك كما لا يخفى.

***

ص: 311

التنبيه الخامس: في غَسل الظاهر من المخرج

إنّما يجب غَسل ما ظهر من مخرج الغائط إذا تلوّث بالنجاسة، ولا يجب غَسل الباطن بلا خلاف.

ويدلّ عليه أوّلاً: ما تقدّم من اعتبار غَسل البواطن.

وثانياً: صحيح إبراهيم بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ، قَالَ: «سَمِعْتُ الرِّضَا عليه السلام يَقُولُ: فِي الاسْتِنْجَاءِ يَغْسِلُ مَا ظَهَرَ مِنْهُ عَلَى الشَّرْجِ، ولا يُدْخِلُ فِيهِ الأنْمُلَةَ»(1).

وثالثاً: خبر عمّار، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ: «قُلْتُ لَهُ: الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ كَيْفَ يَقْعُدُ؟ قَالَ: كَمَا يَقْعُدُ لِلْغَائِطِ. وقَالَ: إِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا ظَهَرَ مِنْهُ، ولَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ بَاطِنَهُ»(2).

وكذا لا يجب غَسل الظاهر إذا كانت النجاسة غير مُسرية إلى المحلّ.

وعن المصنّف رحمه الله في «المنتهى»: الوجوب، واستدلّ له بإطلاق الأمر بالغسل.

وفيه: - مضافاً إلى ما في موثّق ابن عمّار وحَسَن ابن المُغيرة، من جعل النقاء وإذهاب الغائط حدّاً للاستنجاء، حيث أنّه يستفاد منهما أنّ لزوم الاستنجاء إنّما يكون في هذا المورد - أنّ المستفاد من المطلقات بضميمة المناسبة بين الحكم وموضوعه أيضاً هو ذلك.

***

ص: 312


1- وسائل الشيعة: ج 1/347 ح 919 و: ج 3/437 ح 4094، وفي الاستبصار: ج 1/51، التهذيب: ج 1/45، الكافي: ج 3/17، وفيها (تدخل) بدل (يدخل).
2- الكافي: ج 3/18، التهذيب: ج 1/355، وسائل الشيعة: ج 1/360 ح 955.
التنبيه السادس: في إمرار الحَجَر على موضعه النجاسة

نوقش في أنّه هل يجب إمرار كلّ حجرٍ على موضع النجاسة كما عن جماعة(1)، بل عن المفاتيح(2) أنّه المشهور؟

أم يجوز توزيع الأحجار الثلاثة على أجزاء الموضع، كما نُسب إلى الأكثر: منهم الشيخ(3) والفاضلان(4) والشهيدان(5)؟ وجهان: قولٌ بالاعتبار، وقولٌ بعدم الاعتبار.

وقد استدلّ للثاني(6): بإطلاق النصوص الدالّة على كفاية ثلاثة أحجار، لعدم الدليل على اعتبار مباشرة كلّ واحدٍ منها للمحلّ بمجموعه.

وفيه: أنّ الظاهر من الأمر بالمسح بثلاثة أحجار، كالأمر بالغسل مرّتين، إنّما هو إرادة الاستيعاب، وتكرار المسح على الموضع.

ويؤيّده: صحيح زرارة المتقدّم: «جَرَتِ السُّنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أنْ يَمسَّ العِجان».

والمراد بالعِجان الدُّبر، وهو ظاهرٌ في المجموع. فالأظهر هو الأوّل.

***

ص: 313


1- شرائع الإسلام: ج 1/14، مسالك الأفهام: ج 1/30.
2- نسب هذا القول إلى المفاتيح وشَرَحها الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة: ج 1/460، ولكن ذكر في هامش التحقيق أنّه لم يعثر على ذلك القول في كتاب المفاتيح، بل في الشرح. مصابيح الظلام (مخطوط) صفحة 251.
3- المبسوط: ج 1/17.
4- المحقّق الحلّي في المعتبر: ج 1/130، والعلّامة الحلّي في منتهى المطلب: ج 1/282.
5- الشهيد الأوّل في الذكرى: ص 21، وأمّا الشهيد الثاني فلم يعثر على كلام له حول ذلك.
6- وهو عدم اعتبار إمرار كلّ الأحجار على موضع النجاسة.
التنبيه السابع: الاستنجاء بالعظم والروث

لا يجوز الاستنجاء بالمحترمات، لمنافاته للواجب وهو احترامها.

وأمّا المطعوم: فإنْ كان الاستنجاء به منافياً لاحترامه الواجب، وموجباً للاستخفاف بنِعَم اللّه، فيدخل في المحترمات، وإلّا فلا دليل على عدم جواز الاستنجاء به.

اللّهُمَّ إلّاأن يُستدلّ له بالخبر الذي رواه القاضي النعمان في «دَعَائِمُ الاسْلامِ»:

«ونَهَوْا عليهم السلام عَنِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْعِظَامِ، والْبَعْرِ، وكُلِّ طَعَامٍ، وأَنَّهُ لا بَأْسَ بِالاسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ والْخِرَقِ والْقُطْنِ وأَشْبَاهِ ذَلِكَ»(1). المنجبر ضعفه بما عن «الغنية»(2) و «المنتهى»(2) من دعوى الإجماع عليه.

ويؤيّده فحوى النهي عن العَظْم والرُّوث اللّذين هما طعام الجنّ.

أقول: ولا يجوز الاستنجاء أيضاً بالعَظْم والرُّوث بلا خلافٍ، بل إجماعاً كما عن «الغنية»(4) و «الروض» (3) وغيرهما.

ويشهد له: مضافاً إلى ذلك، خبر ليث الْمُرَادِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام، قَالَ:

«سَأَلْتُهُ عَنِ اسْتِنْجَاءِ الرَّجُلِ بِالْعَظْمِ أَوِ الْبَعْرِ أَوِ الْعُودِ؟ قَالَ أَمَّا الْعَظْمُ والرَّوْثُ فَطَعَامُ الْجِنِّ، وذَلِكَ مِمَّا اشْتَرَطُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله، فَقَالَ: لا يَصْلُحُ بِشَيْ ءٍ مِنْ ذَلِكَ»(4).

وما عن «مجالس» الصدوق: (إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قَالَ: ونَهَى أَنْ يَسْتَنْجِيَ الرَّجُلُ

ص: 314


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/279 و 282، دعائم الإسلام: ج 1/105. (2و4) غنية النزوع: ص 36.
2- منتهى المطلب: ج 1/279.
3- روض الجنان: ص 24.
4- وسائل الشيعة: ج 1/357 ح 947، التهذيب: ج 1/354.

بِالرَّوْثِ والرِّمَّةِ»(1) وهي العظم البالي(2).

وخبر دعائم الإسلام المتقدّم.

والتعليل في خبر ليث، لا ظهور له في الكراهة، كي يوجب صرف ظهور غيره إلى الكراهة، وكذا قوله عليه السلام (لا يصلح).

وضعف هذه النصوص منجبرٌ بعمل الأصحاب.

وأخيراً: ومنه يظهر ضعف ما احتمله في محكي «التذكرة»(3)، وجَزَم به في محكي «الوسائل» من الكراهة.

بحث: في الاستنجاء بما لا يجوز:

لو استنجى المكلّف بما لا يجوز الاستنجاء به، هل يطهر المحلّ، كما عن جماعة كثيرة منهم المصنّف رحمه الله(4) وجمع ممّن تأخّر عنه؟

أم لا كما عن الشيخ في «المبسوط»(5) والمحقّق في «المعتبر»(6) وابن إدريس(7)وغيرهم؟

أم يفصّل بين الموارد؟ وجوهٌ وأقوال:

وتنقيح القول في المقام: إنّه لو كان دليل التعدّي عن الاُمور المنصوصة إلى غيرها هو الإجماع، كان الأقوى هو القول الثاني، ولكن عرفت أنّ المستند هي الأخبار.6.

ص: 315


1- وسائل الشيعة: ج 1/358 ح 951، الفقيه ج 4/3، مجموعة ورام: ج 2/256.
2- الرمة العظام البالية: العين: ج 8/260، مجمع البحرين: ج 6/75.
3- نقل ذلك السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/221.
4- تذكرة الفقهاء: ج 1/127.
5- المبسوط: ج 1/17.
6- المعتبر: ج 1/133.
7- السرائر: ج 1/96.

وعليه، فقد يتوهّم أظهريّة القول الأوّل:

أوّلاً: لإطلاق الأدلّة، وعدم دلالة النهي في مثل المقام على الفساد، لكونه من قبيل المعاملات.

وثانياً: لأنّ ظاهر خبر ليث المتقدّم إنّه لا مانع من الاستنجاء بالعَظْم والروث، إلّا ما يوجب الحرمة التكليفيّة.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ النهي النفسي عن المعاملات، وإنْ كان لا يدلّ على الفساد سواءٌ كان نهياً عن السبب أو المسبّب كما حقّقناه في محلّه، إلّاأنّ النهي عنها في نفسه يكون ظاهراً في الإرشاد إلى المانعيّة.

وأمّا الثاني: فلأنّ قوله عليه السلام فيه: (لايصلح... الخ)، ظاهرٌ في عدم ترتّب الأثر والإرشاد إلى الفساد.

وعلى ذلك، فالتفصيل بين ما نهي عن الاستنجاء به، وبين ما حَرّم ذلك لأجل انطباق عنوان محرّمٍ عليه، والالتزام بعدم المطهريّة في الأوّل، والمطهريّة في الثاني، هو الأقوى.

ولو شكّ في كون شيء ممّا لا يجوز الاستنجاء به، فالصحيح هو التفصيل:

بين ما لو شكّ في كونه ممّا يَحرُم الاستنجاء به تكليفاً فيجوز، لأصالة الحلّ.

وبين ما لو شكّ في كونه ممّا لا يجوز الاستنجاء به وضعاً، فلا يجوز لاستصحاب بقاء النجاسة.

نعم، بناءً على جريان استصحاب العدم الأزلي يجوز، لاستصحاب عدم اتّصافه بذلك العنوان المشكوك فيه، فيدخل بذلك في العمومات والإطلاقات، فتدبّر.

ص: 316

أقول: بل لا يبعد دعوى جريان الاستصحاب النعتي أيضاً، إذ كون ذلك الشيء عَظْماً أو روثاً مثلاً أمرٌ حادث، إذ هذه المادّة قبل صيرورتها كذلك كانت متصوّرة بصورة نوعيّة اُخرى، فيستصحب عدم اتّصافها وتعنونها بهذا العنوان.

***

ص: 317

التنبيه الثامن: لو شكّ في الاستنجاء

لو خرج من بيت الخلاء وشكّ في أنّه استنجى أم لا؟ أو صلّى وشكّ في ذلك؟ بنى على عدمه مطلقاً، لا لما قيل من إنّه لا عموم لأدلّة قاعدة الفراغ كي تشمل المقام، لما ستعرف من ضعفه، بل لما حقّقناه في محلّه، وسيأتي لاحقاً في كتابنا هذا من أنّه في موارد الشكّ في الوجود، يعتبر في جريان القاعدة التجاوز عن المحلّ الشرعي، ولايكفي التجاوز عن المحلّ العادي، شخصيّةً كانت العادة أم نوعيّة.

وحيث أنّه في كلّ من الموردين لم يتجاوز المحلّ الشرعي، فلا تجري القاعدة.

فإن قلت: في المورد الثاني تجري القاعدة، لأنّ محلّ الاستنجاء شرعاً قبل الصلاة، فبالدخول فيها يصدق التجاوز عن محلّه.

قلت: إنّ الصلاة مشروطة بالطهارة، والاستنجاء المحصّل لها ليس من شرائطها، وإنّما هو محقّق لما هو الشرط، فقبل الصلاة محلّه العقلي لا الشرعي. وتمام الكلام في محلّه.

***

التنبيه التاسع: في وجوب الدلك باليد

لا يجبُ الدَّلك باليد في مخرج البول، ما لم يشكّ في خروج المذي، لأنّ البول ماء كما هو المصرّح به في النصوص.

وإنْ شكّ في خروجه، فالأظهر لزوم الدّلك، إذ مع عدمه يشكّ في وصول الماء إلى البشرة، لاحتمال حيلولة المذي، فيجري استصحاب بقاء النجاسة وعدم الغَسل.

أمّا استصحاب عدم وجود المذي فإنّه لا يجري، لأنّه لا يثبت وصول الماء

ص: 318

إلى البشرة إلّاعلى القول بالأصل المثبت.

ودعوى: قيام السيرة على عدم الدّلك وهي حجّة على ذلك.

ممنوعة: إذ لو كان هذا الاحتمال نوعيّاً غالبيّاً كان لهذه الدعوى وجه، ولكن بما أنّه ليس كذلك فلا وجه لها.

***

ص: 319

الفصل الثالث: في كيفيّته

اشارة

الفصل الثالث: في كيفيّته

ويجب فيه سبعة أشياء: النيّة..

كيفيّة الوضوء

(الفصل الثالث: في كيفيّته) أي في كيفيّة الوضوء.

واجبات الوضوء
اشارة

(ويجب فيه سبعة اشياء):

النية
اشارة

الأوّل: (النيّة) ولم يعد منها المباشرة وغيرها من الشرائط، لأنّه ليس لها وجود منحازٌ في الخارج، ولا تكون معتبرة في الوضوء المركّب من عدَّة أفعال من حيث هي. بل يعدّ الترتيب والموالاة منها، لأجل أنّ ترك كلّ واحدٍ منهما يوجب انعدام صورة الوضوء، وعدم اتّصاف تلك الأفعال بالوضوئيّة، فتأمّل.

وكيف كان، فالأوّل من أفعال الوضوء النيّة بلا خلافٍ في وجوبها، وهو إجمالاً ممّا لا كلام فيه.

أقول: ولكن تحقيق القول في المقام يقتضي التكلّم في مقامات:

الوضوء مستحبٌّ نفسي

المقام الأوّل: هل الوضوء مستحبٌّ نفسي أم لا؟

الظاهر أنّ كونه كذلك، ممّا لا خلاف فيه، بل عليه الإجماع كما عن العلّامة الطباطبائي رحمه الله(1).

ص: 320


1- حكاه عنه السيّد الحكيم في مستمسك العروة: ج 2/269، واعتبر أنّ ما دلّ على استحباب الكون على الطهارة هو نفسه دليلٌ على الاستحباب النفسي. وفي مشارق الشموس: ج 1/35 (ط. ق) اعتبر المحقّق الخوانساري أنّ مستنده الشهرة. ونفى عنه الخلاف ظاهراً الشيخ الأعظم في كتاب الطهارة: ج 1/93 (ط. ق)، إلّاأنّه اعتبر في الحدائق: ج 2/126 أنّ المشهور كونه غيريّاً، ثمّ قال: (بل ادّعى الإجماع عليه جمعٌ منهم، لكنّه التزم باستحباب الوضوء للتجديد) كما في ص 145.

ويشهد له: قوله تعالى: (وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ) (1).

وخبر السكوني: «الوضوء شَطر الإيمان»(2).

والنبويّ: «يا أنَس أكثِر من الطهور، يَزد اللّه تعالى في عمرك، وإنْ استطعتَ أن تكون باللّيل والنهار على طهارة فافعل، فإنّك تكون إذا متَّ على طهارة شهيداً»(3).

ومرسل الفقيه: «الوضوء على الوضوء نُورٌ على نور»(4).

والنبويّ: «مَنْ أحدَثَ ولم يتوضّأ فَقَد جفاني»(5).

وما عن «نوادر الرواندي» عن أمير المؤمنين عليه السلام: «كان أصحابُ رَسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا بالوا توضّأوا أو تيمّموا مخافة أن تدركهم السّاعة»(6).

فهذا في الجملة ممّا لا ينبغي التوقّف فيه.

إنّما الكلام في أنّه فسَّر غير واحدٍ(7) الوضوء المستحبّ نفساً، بالوضوء للكون على الطهارة، الذي هو من المسبّبات التوليديّة، في مقابل ما يستحبّ لغيره من الأفعال الاختياريّة للمكلّف.9.

ص: 321


1- سورة البقرة: الآية 222.
2- الكافي: ج 3/72 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/366 ح 964.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/299 ح 673.
4- الفقيه: ج 1/41 ح 82، وسائل الشيعة: ج 1/377 ح 997.
5- وسائل الشيعة: ج 1/382 ح 1010، إرشاد القلوب: ج 1/94.
6- مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/298 ح 671، الجعفريّات ص 13 باب فضل الطهارة.
7- كالمحقّق الخوانساري في مشارق الشموس: ج 1 ص 35، وحكى هذا التفسير عن غير واحد السيّد الحكيم في المستمسك: ج 2/269.

وعن جماعةٍ آخرين(1): تفسيره بما استحبّ لنفسه من حيث هو.

أقول: ظاهر هذه النصوص - من جهة الأمر بالوضوء، والوعد على فعله، والوعيد على تركه - هو مطلوبيّته في نفسه.

والذي الجأ القوم إلى الالتزام باستحبابه للكون على الطهارة - الذي هو من الغايات التوليديّة على زعمهم، وعدم استحبابه في نفسه - إنّما هو ما دلَّ على مطلوبيّة كون المكلّف في جميع الأوقات على الوضوء:

كالصحيح بقرينة عدم الأمر بالغَسَلات والمَسَحات في كلّ حال، فلا محالة اُريد من الوضوء فيه الكون على الطهارة.

والنبويّ وغيره، ممّا دلَّ على أنّ المطلوب شيءٌ له دوام واستمرار ما لم يتحقّق الناقض.

وضروري أنّ الأفعال الخاصّة توجد وتنصرم، وليس لها بقاء ودوام، فيعلم من ذلك استحباب الكون على الطهارة، وهو يوجب انصرافُ ما ظاهره مطلوبيّة الوضوء في نفسه إلى استحبابه، لا استحباب الوضوء في مقابله، وهو توهّمٌ فاسد، إذ بعد ما لا ريب في أنّ الحَدَث والطهارة ليسا من الاُمور الواقعيّة، لأنّه لو كانا منها كانا من مقولة الكيف القائم بالنفس كما لا يخفى، والكيفيّات القائمة بالنفس إذا لم تكن من الصور العلميّة من الاعتقادات الصحيحة أو الفاسدة، ولم تكن من مبادي صدور الفعل الاختياري كما في المقام، يتعيّن أن تكون من الأخلاق الفاضلة أو الرذيلة. وبما أنّ الحَدَث ممّا يحصل للمعصومين عليهم السلام، ولا يمكن الالتزام باتّصاف نفوسهم بالأخلاق الرذيلة، فلابدَّ من الالتزام بعدم كونهما من الاُمور الواقعيّة، بل هما من الاُمور الاعتباريّة.).

ص: 322


1- كما هو المعروف في منهاج الصالحين للسيّد الخوئى رحمه الله أنّه المستحبّ لنفسه (ج 1 / مسألة 163).

وعليه، فكما أنّ للشارع اعتبار شيءٍ متولّد من تلك الأفعال له دوامٌ وبقاء في نفسه، كذلك له اعتبار تلك الأفعال وإنْ كانت منعدمة حقيقة، مادام لم يتحقّق الناقض لمصلحةٍ تدعو إلى اعتباره، نظير اعتبار الملكيّة لمصلحةٍ تدعو إلى اعتبارها.

أقول: إنّ الكلام في معنى كون الطهارة بهذا المعنى نوراً موكول إلى محلّه، كما أنّ الكلام في أنّ الطهارة والحدث أمران وجوديّان، أو أحدهما وجودي والآخر عدمي، خارجٌ عمّا هو محطّ النظر في هذا الشرح.

وحيث أنّ ظاهر جملةٍ من النصوص استحباب نفس الوضوء، وظاهرٌ جملةٍ اُخرى منها كون هذه الأفعال بأنفسها الطهارة التي اُمرنا بإيجادها والكون عليها، - لاحظ ما تضمّن أنّ البول وغيره من الأحداث تنقضُ الوضوء، حيث أنّه اُسند النقض إلى نفس الوضوء، وما تضمّن أنّ (الوضوء على وضوء نورٌ على نور)، حيث أنّه حَمَل النورانيّة على نفس هذه الأفعال وغيرهما من النصوص، ولا صارف لها عن ظهورها - يتعيّن الالتزام بالثاني.

ويؤيّده: التعبير عن (الوضوء) و (الغُسل) و (التيمّم) في الروايات وكلمات الفقهاء قدس اللّه أسرارهم، بالطهارات الثلاث، وما في الكتاب من الأمر بالطهارة تارةً، وبها اُخرى.

وبالجملة: المتتبّع في النصوص والآيات لا يكاد يرتاب في أنّ الوضوء بنفسه مستحبٌّ، وليس معنى الكون على الطهارة إلّاالكون على الوضوء، وأنّه ليست الطهارة إلّاهو.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الكون على الطهارة ليس من غايات الوضوء، بل الطهارة من العناوين المنطبقة عليه. فالأقوى أنّه مستحبّ نفساً.

***

ص: 323

غايات الوضوء

المقام الثاني: في بيان غايات الوضوء الواجب وغير الواجب.

أمّا الغايات للوضوء الواجب: فهي اُمورٌ:

منها: الصلاة الواجبة أداءً أو قضاءً إجماعاً، بل عن غير واحدٍ(1) دعوى الضرورة عليه.

وتشهد له: النصوص المتضمّنة لنفي حقيقة الصلاة مع عدم الطهارة، كصحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «لا صلاة إلّابطهور»(2) ونحوه غيره.

وحديث: «لا تعاد الصلاة...»(3)، وما بمضمونه كصحيح علي بن مهزيار، وفيه:

«وإنْ كان جُنُباً أو صَلّى عَلى غَير وضوءٍ، فَعَلَيه إعادة الصَّلوات المكتوبات اللّواتي فاتته»(4).

إلى غير ذلك من النصوص المتواترة الواردة في الأبواب المتفرّقة.

وبما أنّ الصلاة ليست شيئاً آخر وراء أجزائها، بل هي عينها، فهذه النصوص تدلّ على لزوم الوضوء، واعتباره في كلّ جزءٍ من أجزائها، وعليه فيجب الوضوء لأجزائها المنسيّة، لأنّ الظاهر من أدلّتها أنّ ما يؤتى به بعد الصلاة من أجزائها تبدّل مكانه، ولذا لو لم يأت بعد الصلاة بطلت.

وأمّا في سَجدتي السهو: فلا دليل على اعتبار الطهارة فيهما، لأنّهما ليستا من

ص: 324


1- كما حكاه السيّد في المستمسك: ج 2/266-267.
2- الفقيه: ج 1/33 ح 67، و ص 58 ح 129، التهذيب: ج 1/49 ح 8 و ص 209 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/315، ح 829، و ص 365 ح 960... وغيرهم.
3- الفقيه: ج 1/279 ح 857، وسائل الشيعة: ج 1/371 ح 980.
4- التهذيب: ج 1/426 ح 28، وسائل الشيعة: ج 1/370 ح 976 و ج 2/258 ح 2100.

أجزاء الصلاة، فالأقوى عدم لزوم الوضوء أو إبقائه لهما.

وعن غير واحدٍ لزومه(1)، واستدلّ له بانصراف دليلهما إلى ذلك، وبأنّها جابرة لما يعتبر فيه الطهارة، وبغيرهما من الوجوه التي ضعفها ظاهرٌ.

ومنها: الطواف الواجب، بلا خلافٍ، بل إجماعاً حكاه جماعة(2).

وتشهد له: نصوصٌ كثيرة، كصحيح علي بن جعفر عليه السلام، عن أخيه أبي الحسن عليه السلام، قال:

«سألته عن رجلٍ طاف بالبيت وهو جُنُبٌ، فذكر وهو في الطواف؟ فقال عليه السلام:

يقطع طوافه ولا يعتدّ بشيءٍ ممّا طاف.

وسألته عن رجلٍ طاف، ثمّ ذكر أنّه على غير وضوء؟ قال: يقطع طوافه ولا يعتدّ به»(3). ونحوه غيره.

مسّ كتابة القرآن

ومنها: مسّ كتابة القرآن إنْ وَجَب، كما لو وقع في موضعٍ يجب إخراجه منه، وتوقّف الإخراج على المسّ. أو كان متنجّساً وتوقّف تطهيره على مسّ كتابته، إذ المسّ بدون الوضوء حرامٌ كما هو المشهور.

ويشهد له أوّلاً: خبر إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن عليه السلام:

«المصحف لا تمسّه على غير طهر ولا جنباً ولا تمسّ خطّه ولا تعلّقه، إنّ اللّه

ص: 325


1- نقل السيّد في المستمسك: ج 1/488 في أحكام النجاسات القول عن عدّة من الأعلام كالسرائر و النهاية و الألفيّة أقوائيّة اعتبار الطهارة البدنيّة في سجدتي السهو، حيث احتاط في ذلك السيّد الطباطبائي في «العروة»، مستدلاًّ لهم بما حكاه السيّد المؤلّف (حفظه المولى) هنا، ولكنّه اعتبر أنّ ضعف هذا القول لا يخفى..
2- مفتاح الكرامة: ج 1/50، حيث حكاه عن النهاية والذخيرة، وحكاية عن الدلائل.
3- الكافي: ج 4/420 ح 4، التهذيب: ج 5/117 ح 53، وسائل الشيعة: ج 13 ص 375 ح 17995.

تعالى يقول: (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ) (1).

أقول: وعدم اعتبار الطهارة في جواز بعض ما ذكر في الخبر، لا يصلح قرينةً لصرف قوله عليه السلام: (لا تمسّ خطّه) عن ظاهره، وحمله على الكراهة.

كما أنّه لا يرد على الاستدلال به، اشتماله على التعليل بالآية الشريفة، بدعوى أنّ المراد من قوله: «اَلْمُطَهَّرُونَ) فيها الأئمّة عليهم السلام، ولا يشمل المُتَطهر، والضمير لا يرجع إلى ما بين الدفّتين، بل إلى الكتاب المكنون، فمفادها - واللّه العالم - أنّه لايدرك الكتاب المكنون إلّاقوم وردت في شأنهم آية التطهير،(2) وتتصل نفوسهم باللّوح المحفوظ، ويدركون ما فيه، فلا يكون التعليل مربوطاً بالحكم المذكور في الصدر، ولذلك لابدَّ من طرحه، إذ يمكن أن يكون المراد الاستدلال على تعظيم اللّه للقرآن.

وثانياً: مرسل حريز: «كان إسماعيل بن أبي عبد اللّه عليه السلام عنده، فقال عليه السلام: يا بُنيّ اقرأ المصحف، فقال: إنّي لستُ على وضوءٍ، فقال عليه السلام: لا تمسّ الكتابة ومسّ الورق واقرأ»(3).

وثالثاً: خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عمّن قرأ في المصحف وهو على غير وضوء؟ فقال عليه السلام: لا بأس ولا يمسّ الكتاب»(4).

وعليه، فما ذكره المقدّس الأردبيلي(5) من عدم نصٍّ صحيح صريح من الكتاب والسُنّة والإجماع فيه، ضعيفٌ، فلو وَجَب المسّ وجبَ الوضوء لا محالة.6.

ص: 326


1- الاستبصار: ج 1/113 ح 3. (الآية في سورة الواقعة: 79).
2- سورة الأحزاب: الآية 33.
3- التهذيب: ج 1/126 ح 33.
4- الكافي: ج 3/50 ح 5، التهذيب: ج 1/127 ح 34، وسائل الشيعة: ج 1/383 ح 1012.
5- مجمع الفائدة والبرهان: ج 1/66.

أقول: وما ذكره بعض المعاصرين(1) بقوله:

(إنّ جعل المسّ غاية للوضوء لايخلو من إشكال، لأنّ المتوقّف على الوضوء جواز المس لا نفس المسّ، فلا يكون الأمر بالوضوء غيريّاً، بل يكون عقليّاً من باب لزوم الجمع بين غرضي الشارع، فإذا وَجَب المسّ بالنذر أو بغيره، لم يكن ذلك الوجوب كافياً في تشريع الوضوء، لعدم كونه مقدّمةً له، بل هو مقدّمة لجوازه، والجواز ليس من فعل المكلّف، والوجوب الغيري إنّما يتعلّق بما هو مقدّمةً لفعل المكلّف إذا وجب).

غير سديد، إذ مطلق وجود المسّ وإنْ لم يتوقّف على الوضوء، إلّاأنّ وجود المسّ الذي لا مفسدة فيه ولا مبغوضيّة، يكون متوقّفاً عليه، فكما أنّ قراءة القرآن لا تتوقّف عليه، بل وجودها الكامل يتوقّف على الوضوء، فتكون إحدى غاياته كذلك في المقام.

***3.

ص: 327


1- مستمسك العروة الوثقى: ج 2/273.

فروع:

الفرع الأوّل: لا تختصّ حرمة المسّ بالكفّ، بل تعمّ المسّ بسائر أجزاء البدن، حتّى الأجزاء التي لا تحلّها الحياة، لإطلاق الأدلّة.

فما عن جماعةٍ(1) من التخصيص بالكفّ، وعن الشيخ الأعظم(2) التردّد في السِّن والظُّفر، في غير محلّه.

نعم، دعوى عدم صدق مسّ الإنسان إذا مسّه بالشعر الطويل، قريبة جدّاً.

الفرع الثاني: لا فرق في حرمة المسّ: بين أن يكون المكتوب عليه هو الكاغذ، أو الجدار، أو بدن الإنسان، لإطلاق النصوص والفتاوى، وعليه فلو كتب على بدنه آية من القرآن لا يجوز إبطال الوضوء قبل المحو، فلو بَطَل يجب المبادرة إلى المحو، لأنّ بدنه مماس لها، ولافرق بمقتضى إطلاق النصّ بين المسّ ابتداءً أو استدامة.

الفرع الثالث: المسّ الماحي للخط حرامٌ، لتحققه بعد المسّ المحرم.

وفي جواز كتابة المُحْدِث باصبعه على الأرض وجهان: أقواهما الحرمة، إذ وجود القرآن وإنْ كان معلولاً للمسّ، ومتأخّراً عنه، لكنّه تأخّر طبعي لا زماني، ففي زمان وجود القرآن وتحقّقه يكون المسّ موجوداً فيكون حراماً.

وأمّا الكتابة على بدن المُحْدِث:

1 - فإنْ كان المكتوب على بدنه مكلّفاً ملتفتاً، لا يجوز، لكون ذلك إعانة على الإثم، ولما سيأتي في الصورة الثانية.0.

ص: 328


1- ذهب في المهذّب البارع: ج 1/138 إلى أنّ الاختصاص بباطن الكفّ هو المعروف، وفي الشرح الكبير لابن قدامة: ج 1/195 قال: (وأباح الحكم حمّاد مسّه بظاهر الكفّ، لأنّ آلة اللّمس باطن اليد فينصرف إليه االنهي دون غيره).
2- كتاب الطهار للشيخ الأنصاري: ج 2/410.

2 - وإنْ كان غافلاً، فحرمته تتوقّف على ما ذكرناه مراراً من حرمة التسبيب إلى وجود مبغوض الشارع في الخارج - راجع ماذكرناه في مبحث بيع الماء النجس - وعليه فيحرم الكتابة في المقام، لكونه تسبيباً إلى مسّ المُحدِث للقرآن المبغوض.

3 - وإنْ كان غير مكلّفٍ، فيجوز، لأنّ مماسّة بدنه له لا تكون محرّمة ولا مبغوضة، فالتسبيب إليها جائز للأصل.

أقول: واحتمال كون المراد من النصوص، أعمّ من المسّ ببدن الغير كما ترى.

نعم، على فرض دلالة الآية الشريفة على ذلك، يكون المراد هو الأعمّ، ولكن عرفت أنّ مفادها أجنبيّ عن المقام.

ومنافاته للتعظيم لا توجب حرمته، لعدم الدليل على لزوم التعظيم، ولم يثبت كون علّة هذا الحكم هو التعظيم، كي يتعدّى عن مورد النصّ بعموم العلّة.

وبذلك يظهر عدم لزوم منع غير المكلّف - كالأطفال والمجانين - عن المسّ، مضافاً إلى قيام السيرة على الجواز.

الفرع الرابع: لا فرق بين كون الممسوس جزءً منضمّاً إلى سائر أجزاء القرآن التامّ، وبين عدمه، كما لو وجدت آيةً من القرآن أو أقلّ منها في كاغذ، لأنّ القرآن اسمٌ للطبيعة الصادقة على القليل والكثير.

نعم، يشترط أن يكون ذلك بمقدارٍ يكون مفهماً للمعنى، وإلّا فالأقوى جواز مسّه، حتّى فيما كان بناء كاتبه على أن ينضمّ إلى ذلك ما يمحّضه للقرآنيّة، لعدم صدق القرآن عليه، ولذا ترى أنّ الفقهاء يعتبرون فيما يقرأ من القرآن في الصلاة، أن يكون مُفهِماً للمعنى، مع أنّ الدليل دلَّ على جواز قراءة القرآن في الصلاة، وليس الوجه فيه إلّاعدم صدق القرآن على غير المُفهِم للمعنى، فمسّ ذلك - ولو مع قصد الانضمام -

ص: 329

جائزٌ، فضلاً عمّا إذا أعرض الكاتب عن قصده، أو الحقّ به ما يخرجه عن صلاحيّة الجزئيّة للقرآن.

وبالجملة: فما قوّاه بعض الأعاظم(1) من المحقّقين رحمهم الله من الحرمة في الصورة الاُولى كالتردّد في الصورة الثانية، في غير محلّه.

ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون الانفصال ابتدائيّاً، كما لو كتب ذلك في كاغذٍ، وبين أن يكون متّصلاً ثمّ انفصل.

ثمّ إنّه لا فرق فيما يحرم مسّه وهو ما يصدق عليه أنّه قرآن، وبين مسّ جميعه أو كلمةٍ منه، بل والحرف وإنْ كان يكتب ولا يُقرأ كالألف في «آمَنُوا»، بل كلّ ما يفصح عمّا نَزَّل اللّه تعالى على نبيّه، ولو كان مُفصِحاً عن هيئته كالإعراب والمدّ ونحوهما، لصدق مسّ القرآن على جميع ذلك.

***).

ص: 330


1- ظاهر هذا التفصيل للمحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1/193 (ط. ح) قوله: (وكون المنهي عنه في المواردالخاصّة جزء القرآن المكتوب لا يوجب تخصيص الحكم به، نعم صدق القرآن أو جزئه على الإطلاق على الكلمة التي وجدت... إلخ).
وجوب الوضوء بالنذر

ويجبُ الوضوء أيضاً بالنذر والعهد واليمين، ووجوبه بالنذر إنّما يكون على قسمين:

الأوّل: أن ينذر الإتيان بما يعتبر فيه الطهارة كالصلاة، أو الإتيان بالكامل ممّا يشترط في كماله الطهارة كقراءة القرآن.

الثاني: أن ينذر أن يتوضّأ كلّما أحدث، أو أن يتوضّأ في كلّ ساعةٍ مثلاً، ولو لم يكن مُحْدِثاً.

ودليل وجوبه في القسمين: ما دلَّ على وجوب الوفاء بالنذر.

1 - ولو نذر أن لا يقرأ القرآن مثلاً إلّامع الوضوء، لا ينعقد هذا النذر، لرجوعه إلى نذر عدم القراءة مع عدم الوضوء، فهو نذرٌ لترك الراجح، لأنّ القراءة بغير الوضوء أيضاً راجحة.

وعليه، فما ذكره بعض المحقّقين(1) في الفرض من وجوبه إذا أراد أن يقرأ القرآن، ضعيفٌ.

2 - لو نذر أن يتوضّأ لكلّ صلاةٍ وضوء رافعاً للحدث، فالأقوى صحّته في بعض الفروض، وعدمها في بعضها الآخر.

توضيح ذلك: إنّ حالة المكلّف على قسمين:

تارةً: يكون قبل الصلاة مُحْدِثاً.

واُخرى: يكون متوضأً.

ص: 331


1- كما عليه المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس: ج 1/6.

وعلى الثاني: فتارةً يكون نقض الوضوء راجحاً لكون حبس الحَدَث موجباً للضرر، واُخرى لا يكون كذلك.

ففي الفرضين الأوّلين يصحّ النّذر، لأنّ المنذور فيهما راجح بذاته ووصفه.

وفي الأخير: لا يصحّ، لأنّ المنذور فيه وإنْ كان راجحاً بذاته، لكنّه غير راجحٍ بوصفه، إذ وصف كونه رافعاً للحدث، متوقّفٌ على نقض الطهارة المرجوح، والثابت في محلّه اعتبار رجحان المنذور بوصفه وذاته.

***

ص: 332

غايات الوضوء المستحبّة

الوضوءات المستحبّة على أقسام:

القسم الأوّل: ما أُمر به في حال الحَدَث الأصغر، وغاياته قسمان:

أحدهما: ما تتوقّف صحّته عليه، وهو اُمور:

1 - الصلاة المندوبة: ويشهد له ما تقدّم من النصوص الكثيرة.

2 - مسّ كتابة القرآن في صورة عدم وجوبه واستحبابه، بناءً على ما عرفت من حرمة مسّ الكتاب من دون طهارة.

3 - التهيّؤ للصلاة في أوّل وقتها، كما عن جماعةٍ كثيرة(1)، منهم الشيخ في «النهاية»(2) والمصنّف(3) والشهيد(4).

ويشهد له: المرسل المروي عن «الذكرى»: «ما وقَّر الصلاة مَنْ أخَّر الطهارة لها حتّى يدخل وقتها»(5).

وضعف الخبر ينجبرُ باعتماد الأساطين عليه، اللّهُمَّ إلّاأن يكون إفتائهم بالاستحباب مبنيّاً على التسامح في أدلّة السنن.

وعليه، فالخبر وإنْ لم يكن معتبراً، إلّاأنّه يعدّ كافياً للحكم بالاستحباب.

وأمّا ما عن الشيخ في «النهاية»(6): من الاستدلال له بما دلَّ على محبوبيّة الإتيان

ص: 333


1- منهم ابن حمزة الطوسي في الوسيلة ص 49، والسيّد محمّد جواد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 2/342.
2- الظاهر أنّه العلّامة في نهاية الأحكام: ج 1/20.
3- منتهى المطلب: ج 1/77 (ط. ق) قوله: (وللتأهّب لصلاة الفرض قبل وقته... الخ).
4- حكاه عنه صاحب الحدائق الناضرة: ج 2/140.
5- وسائل الشيعة: ج 1/374 ح 985، الذكرى ص 119.
6- كما حكاه عنه السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/287.

بالصلاة في أوّل وقتها، أو أوّل زمان إمكانها من النصوص، وما دلَّ على استحباب المسارعة إلى فعل الخير.

فغير تامّ: إذ ما دلَّ على استحباب إيقاع الصلاة في أوّل وقتها، لا نظر له إلى الوضوء، وكيفيّة حصول الطهارة، وبما أنّه يمكن للمكلّف الوضوء قبل الوقت لكونه مستحبّاً نفسيّاً، أو لإحدى غاياته الاُخر، والدخول معه في الصلاة، فتلك النصوص لا تدلّ على مشروعيّة الوضوء للتهيّؤ من حيث هو.

أقول: ومنه يظهر ما في الاستدلال بنصوص المسارعة.

4 - الإقامة بناءً على عدم وجوبها كما سيأتي، وستعرف في محلّه شرطيّة الوضوء لصحّتها.

الثاني: ما يتوقّف فضله على الوضوء، وهو أيضاً اُمور:

الأمر الأوّل: الطواف المندوب، واستدلّ له بإطلاق خبر ابن الفضل:

«إذا طاف الرجل بالبيت، وهو على غير وضوء، فلا يعتدّ بذلك الطواف، وهو كمَن لم يطف»(1).

وفيه: أنّه يتعيّن تقييده بما دلَّ على عدم اعتباره في المندوب، كصحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في رجلٍ طاف تطوّعاً وصلّى ركعتين، وهو على غير وضوء؟ فقال عليه السلام: يُعيد الركعتين ولا يُعيد الطواف»(2).

وخبر ابن زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام، قلت:8.

ص: 334


1- وسائل الشيعة: ج 13 ص 377 ح 18002، قرب الاسناد ص 174.
2- التهذيب: ج 5/118 ح 57، وسائل الشيعة: ج 13/376 ح 17998.

«إنّي أطوف طواف النافلة، وأنا على غير وضوء؟ فقال: توضّأ وصلِّ وإنْ كنت متعمِّداً»(1).

فإذاً العمدة في استحباب الوضوء له، الإجماع المُدّعى في «المفتاح»(2).

الأمر الثاني: دخول المساجد: وتشهد له جملة من النصوص، كموثّق ابن حكيم، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«عليكم بإتيان المساجد، فإنّها بيوت اللّه تعالى في الأرض، مَنْ أتاها مُتطهّراً طهّره اللّه من ذنوبه»(3).

ونحوه غيره من النصوص الكثيرة.

الأمر الثالث: مناسك الحجّ: لصحيح معاوية بن عمّار، قال:

قال عليه السلام: «لا بأس أن تقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلّاالطواف بالبيت، فإنّ فيه صلاة، والوضوء أفضل»(4).

الأمر الرابع: صلاة الأموات: لخبر عبد الحميد، قال:

«قلت لأبي الحسن عليه السلام: الجنازة يخرج بها ولستُ على وضوء، فإن ذهبتُ أتوضّأ فاتتني الصلاة، أيجزيني أنْ اُصلّي وأنا على غير وضوء؟ قال عليه السلام: تكون على طَهُر أحبُّ إليَّ»(5).9.

ص: 335


1- التهذيب: ج 5/117 ح 55، وسائل الشيعة: ج 13/376 ح 18000.
2- مفتاح الكرامة: ج 1/40 قوله: (وأمّا استحبابه للطواف المندوب فمحلّ وفاق، وأمّا كونه على جهة الندب، فلا أجد فيه مخالفاً سوى.. الخ).
3- وسائل الشيعة: ج 1/380 ح 1005، أمالي الصدوق: ص 358 ح 8.
4- التهذيب: ج 5/154 ح 34، وسائل الشيعة: ج 1/374 ح 986.
5- الكافي: ج 3/178 ح 3، وسائل الشيعة: ج 3/110 ح 3159.
الوضوء لقراءة القرآن

الأمر الخامس: قراءة القرآن: ويشهد له خبر ابن فهد:

«إنّ قراءة المتطهّر خَمسٌ وعشرون حسنة، وغيره عشر حسنات»(1).

وفي حديث الاربعمائة: «لا يَقرأ العبد القرآن إذا كان على غَير طهورٍ حتّى يتطهّر»(2).

وخبر محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن عليه السلام:

«أقرأ المصحف، ثمّ يأخذني البول فأقوم فأبول وأستنجي وأغسل يدي وأعود إلى المصحف، فاقرأ فيه؟ فقال عليه السلام: لا، حتّى تتوضّأ للصلاة»(3).

وأورد على الاستدلال بالأولين: أنّهما إنّما يدلّان على كراهة القراءة على غير طهر، وعليه فيُشكل الإتيان بالوضوء بقصد القراءة الكاملة.

وأورد على الأخير: بأنّه يدلّ على أنّه يتوضّأ للصلاة لا للقراءة، فهو على خلاف المطلوب أدلّ.

ولكن يمكن دفع الأوّل: بأنّ كراهة القراءة في الفرض، كراهةٌ في العبادة الّتي هي بمعنى أكمليّة الفرد الآخر، وأقليّة ثواب هذا الفرد منه، فالفرد الأكمل هو القراءة على وضوء، مع أنّه يمكن جعل القراءة التي لا تكون مكروهةً غايةً للوضوء.

ودفع الثاني: بأنّ عدم دلالة هذا الخبر على المطلوب، لا يوجب عدم صحّة التمسّك بالأوّلين، فتدبّر.

ص: 336


1- وسائل الشيعة: ج 6/196 ح 7718.
2- وسائل الشيعة: ج 6/196 ح 7717، الخصال: ج 2/626.
3- وسائل الشيعة: ج 6/196 ح 7716، قرب الإسناد ص 175.

الأمر السادس: الأذان، كما سيأتي الكلام فيه في محلّه.

الأمر السابع: زيارة أهل القبور من المؤمنين، كما عن جماعةٍ(1)، وقد صرّح جماعة منهم بورود الخبر به(2).

الأمر الثامن: زيارة الأئمّة عليهم السلام، والنصوص الواردة في استحباب الوضوء لها كثيرة، وتظهر لمن راجع الكتب المؤلَّفة في ذلك.

الأمر التاسع: الدّعاء وطلب الحاجة من اللّه تعالى، ويشهد له صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من طلب حاجةً وهو على غير وضوء فلم تُقضَ، فلا يلومنَّ إلّانفسه»(3). الظاهر في إرادة الحثّ عليه.

الأمر العاشر: سجدة الشكر: ويشهد له خبر ابن الحجّاج:

«مَنْ سَجَد سجدةَ الشُّكر لنعمةٍ، وهو متوضّئ كَتَب اللّه له بها عشر صلوات، ومحى عنه عشر خطايا عظام»(4).

الحادي عشر: ورود المسافر على أهله، لما عن الإمام الصادق عليه السلام:

«مَن قدم من سفرٍ فدخل على أهله وهو على غير وضوء ورأى ما يكره فلا يلومنَّ إلّانفسه»(5).

الأمر الثاني عشر: دخول كلٍّ من الزوج والزوجة على الآخر ليلة الزفاف، لصحيح أبي بصير، قال:ة.

ص: 337


1- كالسيّد اليزدي في العروة الوثقى: ج 1/362 فصل (الوضوءات المستحبّة) مسألة 486.
2- حكاه السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/290 عن جماعةٍ، وقال: (ويظهر ممّا عن الذكرى والمدارك أنّ به رواية).
3- التهذيب: ج 1/359 ح 7، وسائل الشيعة: ج 1/374 ح 987.
4- وسائل الشيعة: ج 7/5 ح 8560.
5- نزهة الناظر: ص 10 فصل: في الوضوءات المستحبّة.

«سمعتُ رجلاً يقول لأبي جعفر عليه السلام: إنّي قد اسننتُ وقد تزوّجت امرأة بكراً صغيرة، ولم أدخل بها، وأنّي أخافُ إذا دَخَلتْ عليَّ فرأتني أنْ تكرهني لخضابي وكبري؟

فقال أبو جعفر عليه السلام: إذا دَخَلَتْ فمُرها قبل أن تصِل إليك أن تكون متوضّئة، ثمّ أنتَ لا تصِل إليها حتّى تتوضّأ وصلِّ ركعتين»(1).

الأمر الثالث عشر: النوم: لما عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَنْ تطهّر ثمّ آوى إلى فراشه باتَ وفراشه كمسجده»(2).

ونحوه غيره من الروايات الكثيرة.

الأمر الرابع عشر: مقاربة الحامل: لما عن «العلل» في وصيّته صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام:

«إذا حَمَلتْ امرأتك فلا تجامعها إلّاوأنتَ على وضوء»(3).

***7.

ص: 338


1- الكافي: ج 5/500 باب القول عند دخول الرجل بأهله.. ح 1.
2- الكافي: ج 3/468 ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/378 ح 1000 و 1001.
3- الفقيه: ج 3/553 باب النوادر ح 4899، وسائل الشيعة: ج 1/385 ح 1017.
استحباب الوضوء للتجديد

القسم الثاني من أقسام الوضوءات المستحبّة: ما أمر به في حال الطهارة، وهو الوضوء للتجديد، واستحبابه لذلك ممّا لا خلاف فيه ولا ريب.

وتشهد له: النصوص البالغة حَدّ التواتر، كخبر المفضّل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«مَنْ جدّد وضوءه لغير حدثٍ، جَدَّد اللّه توبته من غير استغفار»(1).

وخبر ابن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام: «الوضوء بعد الطُهر عَشرُ حَسَنات»(2).

وفي مرسل سعد: «إنّ الطهر على الطهر عَشرُ حَسَنات»(3).

ونحوها غيرها.

أقول: ثمّ إنّ مقتضى إطلاقها جواز التجديد ثالثاً ورابعاً فصاعداً.

نعم، يعتبر الفصل بين الوضوئين، فلو توضّأ فلمّا تمّ شرع فيه ثانياً فهكذا لايصحّ، إذ مضافاً إلى أنّ ذلك مخالفٌ لما عُلم من مذاق الشارع، لا تشمله النصوص، لعدم صدق التجديد في الفرض.

أمّا الغُسل: فإنّ المنسوب إلى المشهور، عدم استحباب الغُسل بعد غُسل الجنابة، ولا الوضوء بعده، ولكن مقتضى إطلاق المرسل استحبابهما، كما أنّ مقتضى إطلاق خبر ابن مسلم استحباب الثاني.

ص: 339


1- وسائل الشيعة: ج 1/377 ح 996.
2- ورد هذا الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام في تحف العقول ص 110، مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/295 ح 655، وورد عن أبي عبد اللّه عليه السلام في عوالي اللآلي: ج 2/170 ح 9.
3- الكافي: ج 3/72 ح 10، وسائل الشيعة: ج 1/376 ح 992.

ودعوى: أنّ عدم إفتاء الأصحاب يعدّ إعراضاً عن الخبرين، فيسقطان عن الحجيّة.

مندفعة: بأنّه يكفي في الحكم بالاستحباب وجود الرواية الضعيفة، بناءً على قاعدة التسامح كما هو الحقّ.

فإذاً الأظهر استحباب الغُسل بعد الغُسل، والوضوء بعده.

القسم الثالث: ما يستحبّ في حال الحَدَث الأكبر، وهو لاُمور:

أحدها: لدفن الميّت: ففي خبر ابن مسلم والحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«توضّأ إذا أدخلتَ الميّتَ القبر»(1).

ثانيها: لنوم الجُنُب: ويشهد له صحيح الحلبي:

«سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الرجل أينبغي له أن ينام وهو جنبٌ؟ فقال عليه السلام:

يُكره ذلك حتّى يتوضّأ»(2).

المحمول على الكراهة لو سُلّم ظهوره في الحرمة، مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً، بقرينة خبر سماعة:

«وإنْ هو نامَ ولم يتوضّأ ولم يَغتَسل، فليس عليه شيء»(3).

ثالثها: لأكله وشربه: لصحيح عبد الرحمن، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أيأكل الجُنُب قبل أن يتوضّأ؟ قال عليه السلام: إنّا لنكسل، ولكن ليغسل يده، فالوضوء أفضل»(4).1.

ص: 340


1- التهذيب: ج 1/321 ح 102، وسائل الشيعة: ج 3/193 ح 3382 و ص 204 ح 3412 و ص 221 ح 3460.
2- الفقيه: ج 1/83 ح 179، وسائل الشيعة: ج 1/382 ح 1009 و ج 2 ص 227 ح 2007.
3- الكافي: ج 3/51 ح 10، التهذيب: ج 1/370 ح 20، وسائل الشيعة: ج 2/228 ح 2012.
4- وسائل الشيعة: ج 2/220 ح 1981.

وصحيح الحلبي عنه، عن أبيه عليهما السلام: «إذا كان الرجل جُنُباً لم يأكل ولم يشرب حتّى يتوضّأ»(1).

رابعها: لجُمَاعه، ففي خبر الوشّاء، عن أبي الحسن الثاني عليه السلام:

«كان أبو عبد اللّه عليه السلام إذا جامع، وأراد أن يعاود توضّأ للصلاة، وإذا أراد أيضاً توضّأ للصلاة»(2).

***ث.

ص: 341


1- الفقيه: ج 1/83 ح 181، وسائل الشيعة: ج 2/219 ح 1978.
2- وسائل الشيعة: ج 1/385 ح 1018، كشف الغمّة: ج 2/302، جزء الحديث.
يباح بكلّ وضوء جميع الغايات

المقام الثالث: في مسائل:

المسألة الاُولى: هل تباح بكلّ وضوءٍ جميع الغايات المشروطة به، أم يجب التفصيل بين الأقسام الثلاثة المتقدّمة؟ وجوهٌ وأقوال:

وتنقيح القول في المقام يقتضي التكلّم في موارد:

المورد الأوّل: في الوضوء الواجب والمستحبّ نفساً.

الظاهر أنّ إباحة جميع الغايات بهما موضع وفاق، ويظهر وجهه ممّا سنذكره في المورد الثاني، وهو القسم الأوّل من المستحبّ.

والمشهور إباحة جميع الغايات به، بل عن «المدارك»(1): أنّها الظاهرة من مذهب الأصحاب.

أقول: بناءً على المختار من أنّ الطهارة من عناوين الوضوء، لا أنّها شيءٌ يحصل منه، فلا ينبغي التوقّف في الاكتفاء بما أتي به لغايةٍ في الغايات الاُخر، لأنّه بتحقّق الوضوء الصحيح الذي لا ينقض إلّابالحدث، يتحقّق ما هو شرطٌ في جميع الغايات، فلا موجب للتكرار.

وأمّا بناءً على مسلك المشهور: من أنّ الطهارة تترتّب على الوضوء، فلو توضّأ لغايةٍ صرّح في دليلها بأنّ الشرط في صحتها أو كمالها هو الطهارة فكذلك، إذ به تحصل الطهارة، فالغايات الاُخر بين ما يكون مشروطاً بالطهارة، وما يكون

ص: 342


1- مدارك الأحكام: ج 1/13 قوله: (واعلم أنّ الظاهر من مذهب الأصحاب جواز الدخول في العبادة الواجبة المشروطة بالطهارة بالوضوء المندوب).

مشروطاً بالكون على وضوء أو بالوضوء، وفي جميع الموارد لا موجب للتكرار لتحقّق الشرط، سواءً كان هو الكون على وضوء، أو الوضوء أو الطهارة.

ولو توضّأ لغايةٍ صرّح في دليلها بأنّ شرط الصحّة أو الكمال هو الكون على وضوءٍ أو الوضوء:

فقد يتوهّم: عدم الاكتفاء به للغايات المشروطة بالطهارة، لاحتمال عدم حصولها به.

ولكنّه توهّم فاسد: إذ مقتضى إطلاق نصوص النواقض - بناءً على مسلك القوم من جهة تضمّنها أنّ الحدث ينقض الوضوء - هو مطهّريّة كلّ وضوء ورفعه للحدث، وإلّا لم يكن وجهٌ لإطلاق ناقضيّة الحدث، كما لا يخفى.

مضافاً إلى تضمين جملةٍ منها، كون الوضوء مطهّراً من الحدث:

منها: الخبر الحسن كالصحيح الذي رواه الفضل بن شاذان في كتابه «العلل» عن الإمام الرضا عليه السلام:

«إنّما وجب الوضوء ممّا خرج من الطرفين خاصّة، ومن النوم دون سائر الأشياء، لأنّ الطرفين هما طريق النجاسة، وليس للإنسان طريق تصيبه النجاسة من نفسه إلّامنهما، فاُمروا بالطهارة عندما تصيبهم تلك النجاسة»(1).

فإنّ ظاهره وإنْ كان يشهد لما اخترناه، من أنّ الطهارة من عناوين الوضوء لا ممّا يتولّد منه، ولكن مع الإغماض عن ذلك، وتسليم كونها متولّدة منه، يشهد لحصولها من كلّ وضوءٍ بإطلاقه.).

ص: 343


1- وسائل الشيعة: ج 1/251 ح 647، علل الشرائع: ج 1/256 من ح 9، عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 2/105 من ح 1 (باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان في آخرها أنّه سمعها عن الرضا عليه السلام..).

ومنها: خبره الآخر المروي عنه عليه السلام: «إنّما أُمر بالوضوء وبدء به لأنْ يكون العبد طاهراً إذا قام»(1).

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى في هذين المقامين، إباحة جميع الغايات المشروطة بالوضوء أو بالطهارة بكلّ وضوء.

***ف.

ص: 344


1- علل الشرائع: ج 1/256 من ح 9، بتصرّف.
القيد والدّاعي

المورد الثاني: لا إشكال في أنّ القسم الثاني من المستحبّ، إنْ وقع على نحو ما قُصِد، لم يؤثّر إلّافيما قصد له، وكذلك في القسم الثالث، فإنّه لا يؤثّر إباحة ما اشترط بعدم الحَدَث والطهارة، وإنْ كان الاكتفاء به لغاياتٍ متعدّدة، ما لم يتحقّق الناقض، وهو الأقوى. فلو توضّأ الجُنُب للأكل، يكتفي به للجماع أيضاً.

ودعوى: أنّ مقتضى أصالة عدم التداخل، لزوم تعدّد الوضوء لتعدّد الغايات.

مندفعة: بأنّ الظاهر من النصوص مشروعيّته للغايات في حال الحَدَث الأكبر، أمّا اعتبار كونه على وضوءٍ كما هو الأظهر، أو ارتفاع مرتبةٍ من الحَدَث به، فإنّ الاكتفاء به في كلا التقديرين في غاية الوضوح ولا كلام فيه.

إنّما الكلام فيما لو انكشف الخطأ، بأن كان مُحْدِثاً بالأصغر، فلم يكن وضوؤه تجديديّاً ولا مجامعاً للأكبر:

1 - فصّل فقيه عصره في «العروة»(1) فقال: (قوي القول بالصحّة وإباحة جميع الغايات به، إذا كان قاصداً لامتثال الأمر الواقعي المتوجّه إليه في ذلك الحال بالوضوء، وإنْ اعتقد أنّه الأمر بالتجديدي منه مثلاً، فيكون من باب الخطأ في التطبيق، وتكون تلك الغاية مقصودة له على نحو الدّاعي لا التقييد بحيث لو كان الأمر الواقعي على خلاف ما اعتقده لم يتوضّأ، أمّا لو كان على نحو التقييد كذلك ففي صحّته حينئذٍ إشكال).

2 - وقوّي البطلان في هذه الصورة جمعٌ ممّن تأخّر عنه، منهم المحقّق النائيني رحمه الله(2).

ص: 345


1- العروة الوثقى: ج 1/364 مسألة 487.
2- في تعليقه على العروة الوثقى: ج 1/365 مسألة 487، ومثله السيّد الحكيم في تعليقته، وأيضاً في المستمسك: ج 2/304.

ومحصّل ما قيل في الفرق بين الصورتين: إنّه إذا كان قصده امتثال الأمر الفعلي المتوجّه إليه، فهو قاصدٌ لامتثال الأمر بالوضوء المطهر، ولا ينافيه اعتقاد كونه الأمر بالتجديدي، إذ الخطأ في اعتقاد الصفة، مع عدم أخذها قيداً في الموضوع، لا يمنع من قصد ذات الموصوف، وتحقّقه واتّصافه بوصفٍ يغاير ذلك الوصف، مثلاً لو علم بأنّ إكرام زيدٍ لازمٌ، وتخيّل أنّه لكونه جاراً واجب الإكرام، فأكرمه وقَصَد به الأمر الواقعي، فقد امتثل أمره، وإنْ كان لزومه من جهة كونه عالماً.

وأمّا إذا كان قَصْده امتثال الأمر بالوضوء التجديدي منه بنحو التقييد، فبما أنّه بانتفاء القيد ينتفي المقيّد، فلا يكون ممتثلاً للأمر الواقعي المتوجّه إليه.

وبعبارة اُخرى: ما قُصِد لا واقع له، وما له واقع لم يُقصَد، وهذا بخلاف الصورة الاُولى فإنّه على الفرض قاصدٌ لامتثال الأمر الواقعي.

أقول: الأقوى هو الصحّة في الصورتين، وذلك لأنّه لا ينبغي التوقّف في أنّ الميزان في صحّة العبادة الإتيان بذات المأمور به بجميع قيوده متقرّباً إلى اللّه تعالى، ولا يعتبر فيها شيء آخر، ولو نقصت عن ذلك لا تصحّ.

وعليه، فلو صلّى في أوّل الوقت بتخيّل أنّه آخر الوقت صحّت صلاته، إنْ كان ذلك بنحو التقييد، لأنّ قصده ذلك لا يكون أحد المبطلات، والمفروض إتيان الصلاة تامّةً متقرّباً بها إلى اللّه تعالى، ولو صلّى صلاة العصر بتخيّل أنّه صلّى الظهر لم تصحّ على القاعدة، وإنْ كان قصد الأمر بالعصر على نحو الدّاعي، لأنّ حقيقة صلاة الظهر تغاير حقيقة صلاة العصر، كما يكشف عن ذلك اختلاف أحكامهما، فإذا لم يقصد حقيقةً إحداهما، وقَصَد الاُخرى لا تقع عنها لعدم تحقّقها.

وبالجملة: الميزان في الصحّة هو ما ذكرناه، من غير فرقٍ بين الدّاعي والقيد، وعلى ذلك فبما أنّ المستفاد من النصوص أنّ الوضوء حقيقة واحدة، وأنّ اختلاف

ص: 346

الآثار إنّما يكون من جهة اختلاف حالات المتوضّئ - فمثلاً: تارةً يكون مُحْدِثاً بالحَدَث الأصغر، واُخرى يكون متطهّراً، وعلى الأوّل يكون وضوؤه رافعاً للحدث، وعلى الثاني يكون تجديديّاً - وهذا لا يوجب الاختلاف في الحقيقة.

ويؤيّده: ما عن ظاهر الأخبار والأصحاب، من أنّ حكمة تشريع الوضوء التجديدي، تدارك ما في الطهارة الاُولى من الخلل، وحينئذٍ فمَن قَصَد التجديدي وكان في الواقع مُحدثاً، فقد أتى بالوضوء مع جميع قيوده متقرّباً إلى اللّه تعالى، وحيث أنّه يكون مُحْدِثاً، فيترتّب على وضوئه رفع الحدث، وإنْ كان قَصْده الأمر بالتجديدي على وجه التقييد.

ودعوى: أنّه إذا قيد وضوءه بالتجديدي، وقصد الإتيان به كذلك، فإذا لم يكن تجديديّاً؛ فوضوؤه ذلك لا يكون مقصوداً.

مندفعة: بأنّه إذا لم يكن هذا العنوان دخيلاً في المأمور به كما عرفت، بل كان من العناوين المنطبقة عليه من جهة وقوعه بعد وضوءٍ آخر، فمَن قَصَد هذا العنوان، وتعلّقت إرادته بإيجاده، فقد انبعثت عنها إرادة اُخرى إلى معنونه، فذات الوضوء مقصودٌ بتبع إرادة التجديد. فتدبّر فإنّه دقيق.

مع أنّ هذا الوجه لا يختصُّ بصورة التقييد، بل يعمّ ما إذا كان ذلك على نحو الدّاعي، إذ مع اعتقاد أنّ وضوءه تجديدي، لا محالة يقصد ذلك الوضوء، فغيره غير مقصودٍ وإنْ كان لو اعتقد عدم كونه كذلك لقصد غيره.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ ما عن الشيخ(1) والمحقّق(2) وجماعة(3)، بل عن بعضٍعن

ص: 347


1- كتاب الطهارة: ج 2/123 قوله: (إذا اجتمعت في المكلّف أسباب للحدث الأصغر مختلفة... كفى وضوء واحدإجماعاً بل ضرورة عند العلماء).
2- شرائع الإسلام: ج 1/15 قوله: (تفريع: اذا اجتمعت أسباب مختلفة توجب الوضوء كفى وضوء واحد بنيّة التقرّب).
3- حكاه عنهم السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/304، بقوله: (كما هو مقتضى إطلاق ما عن الشيخ والمحقّق وجماعة)، وقد حكاه المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1/125 (ق.

دعوى الإجماع عليه(1) من الحكم بالصحّة في الصورتين هو الأقوى.

***

المسألة الثانية: لا يجب في الوضوء قصد الموجب، بأن يقصد الوضوء لأجل النوم، بلا خلافٍ.

وعن «المدارك»(2): دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له: الأصل بعد عدم الدليل على اعتباره.

وممّا ذكرناه في المسألة الاُولى يظهر أنّه لو قصد أحد الموجبات، وانكشف أنّ الواقع غيره، صحَّ الوضوء، وإنْ كان على وجه التقييد.

***4.

ص: 348


1- كما قد يظهر من الشيخ المفيد في كتابه المسح على الرِّجلين ص 6 في معرض الحديث عن المسح والغسل حيث اعتبر إجماع الأُمّة على أنّ الوضوء ماهيّة واحدة بقوله: (والدليل على صحّة هذا التأويل.. انعقاد إجماع الاُمّة على صحّة وضوء مَن أحدث إذا أتى به من لم يحدث، كالمتوضّئ تجديداً، وعلى أنّ مَن لم يحدث فليس له وضوء خاص).
2- مدارك الأحكام: ج 1/13-14.
كفاية الوضوء الواحد للأحداث المتعدّدة

المسألة الثالثة: يكفي الوضوء الواحد، إذا اجتمعت في المكلّف أسباب متعدّدة للحَدَث الأصغر، متّحدة بالنوع أو مختلفة، دفعةً أو مترتّبة، إجماعاً بل ضرورة عند العلماء كما في «طهارة» شيخنا الأعظم رحمه الله(1).

ويشهد له: أنّ النصوص(2) الواردة في الأحداث جُلّها تتضمّن ناقضيّة جملة من الاُمور للوضوء، وبديهي أنّ الشيء إذا انتقض وانعدم، لا معنى لناقضيّة شيء آخر له، ولازم ذلك هو الإتيان بالوضوء لكلّ ما اشترط به، أو بالطهارة مرّة واحدة. نعم بعضها يكون لسانه موجبيّة الحدث الخاص للوضوء، كقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خبر عبد الرحمن بن الحجّاج بقوله:

«مَن وَجَد طعم النوم قائماً أو قاعداً فقد وجب عليه الوضوء»(3).

ولكن الظاهر كونه وارداً في مقام بيان ناقضيّة النوم في حال القعود الّتي هي محلّ الكلام والخلاف، لا موجبيّة كلّ فردٍ من أفراد النوم للوضوء.

وبالجملة: فالمستفاد من مجموع النصوص، أنّ الوضوء إنّما يجب فيما إذا حصل للمكلّف صفة مخصوصة، وهي المعبَّر عنها بالحدث، ولتلك الصفة أسباب متعدّدة إنْ اقترنت ترتّب الحَدَث على مجموعها، وإنْ ترتّبت استند إلى المتقدّم دون المتأخّر.

وبذلك ظهر صحّة الوضوء والاكتفاء به، إذا اجتمعت الأسباب المتعدّدة، وإنْ قصدرفع أحدها، بل ولو قصد رفع أثر المتأخّر، لأنّ قصد هذه الاُمور أجنبيٌّ عن ما هو موضوع الحكم، نعم لو لزم من ذلك خلل في القُربة أم لزم التشريع المحرّم بطل.

***

ص: 349


1- كتاب الطهارة: ج 2/123. (المصدر السابق) كما في الصفحة السابقة.
2- لاحظ أبواب نواقض الوضوء سيّما الباب الثالث من أبوابها من وسائل الشيعة: ج 1/252.
3- الكافي: ج 3/37 ح 15، وسائل الشيعة: ج 1/254 ح 659.
إذا اجتمعت الغايات الواجبة والمستحبّة

المسألة الرابعة: لا كلام في صحّة الوضوء، إذا أتى به قبل دخول وقت الصلاة، أو غيرها من الواجبات المشروطة به، بداعي الأمر النفسي، كما أنّه لا إشكال في صحّته لو أتى به بعده بداعي الأمر الغيري الوجوبي المتعلّق به.

إنّما الكلام في صحّة الإتيان به بعد دخول الوقت، بداعي الأمر الاستحبابي النفسي المتعلّق به، أو بداعي الأمر الغيري الاستحبابي المتعلّق به، فيما إذا اجتمعت الغايات الواجبة والمستحبّة، كأن يتوضّأ بعد دخول وقت الصلاة لصلاة النافلة لا الفريضة؟

فعن ظاهر كثيرٍ(1): عدم جواز الوضوء بنيّة النَّدب، لمن عليه وضوءٌ واجب.

واستدلّ له: بأنّه بعد دخول الوقت يكون واجباً، وحيث أنّ اجتماع الوجوب والندب في متعلّقٍ واحد، ولو من جهتين طوليّتين أو عرضيّتين ممتنعٌ، لكونه من قبيل اجتماع الضدّين، فلا محالة يندك الأمر الاستحبابي، ومع عدمه يكون قصده غير موجبٍ للعباديّة.

أقول: وقد أجابوا عن ذلك بأجوبة غير تامّة، والصحيح في الجواب:

أنّه بناءً على ما اخترناه تبعاً لمشايخنا - من أنّ الفارق بين الندب والوجوب ليس اختلاف الطلب فيهما، بل يكون الاختلاف في الملاك، المستلزم لورود الترخيص في الترك وعدمه، من دون أن يختلف الطلب، ويكون في أحدهما أضعف من الآخر - لا معنى لإندكاك الأمر الاستحبابي وتبدّله بالأمر الوجوبي.

نعم، إذا عرض الوجوب، يتبدّل الترخيص في الترك الناشيء عن

ص: 350


1- كما حكاه عن كثير كلٌّ من الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة: ج 2/63، والسيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/308.

اللّااقتضائيّة، بعدم الترخيص من جهة حدوث الملاك الملزم، وعلى ذلك فلا تنافي بين استحبابه بنفسه أو لغاية مندوبة، وبين وجوبه لغايةٍ واجبة لا بمعنى كونه محكوماً بحكمين، بل بمعنى كونه محكوماً بحكم واحد، ويكون الوضوء حينئذٍ ذا ملاكين:

أحدهما: لايقتضي المنع من الترك.

والآخر: يقتضيه.

وبما أنّ المقرّب حال كونه ملحوظاً بنفسه، أو حال كونه مقدّمةً لغاية مندوبة لا غير، هو ذات الطلب لا بقيد أنّه ممّا رُخِّص في مخالفته، فيصحّ الإتيان به حال كونه مقدّمةً لغايةٍ مندوبةٍ وواجبة، إذا قصد التقرّب بالأمر الاستحبابي.

مع أنّه لو تنزّلنا عن ذلك، وسلّمنا أنّ الفارق بين الوجوب والندب، إنّما يكون اختلاف الطلب فيهما بالشدّة والضعف، فالأمر الاستحبابي وإنْ كان مندكّاً في ضمن الأمر الوجوبي، إلّاأنّ المعدوم حينئذٍ ليس هو ذات الطلب بل حدّه ومرتبته، وعليه فبما أنّ المقرّب هو ذات الطلب لا حيثيّة ضعفه، فيصحّ الإتيان به بداعي ذات الطلب الموجود في تلك المرتبة الاستحبابيّة، وإنْ كانت تلك المرتبة متبدّلة إلى مرتبة أقوى منها.

مضافاً إلى أنّه على فرض تسليم عدم بقاء الأمر الاستحبابي، لا بذاته ولا بقيده ومرتبته، فبما أنّ ملاكه موجود، صحَّ الإتيان به بداعي ملاكه.

مع أنّ دعوى بقاء الاستحباب النفسي بحدِّه ومرتبته بالفعل قويّة جدّاً، إذ الأمر الوجوبي الغيري لم يتعلّق بذات ما تعلّق به الأمر الاستحبابي حتّى يندك أحدهما في الآخر، بل تعلّق به بداعي الأمر الاستحبابي، فالموضوع متعدّدٌ، فلا مانع من الالتزام بأنّهما موجودان بالفعل.

فتحصّل: أنّ الأقوى صحّة الإتيان بالوضوء بعد دخول الوقت بداعي الاستحباب.

***

ص: 351

النيّة
اشارة

المقام الرابع: يدور البحث فيه عن النيّة وكيفيّة إيقاعها.

فنقول: لا إشكال في اعتبار النيّة، وهي الإرادة المحرّكة للعضلات نحو الفعل، أعمّ من أن تكون إرادة إجماليّة أو تفصيليّة في الوضوء، كما لا خلاف فيه، لأنّ الفعل غير الصادر عن الاختيار لا يُتّصف بالحُسن والقُبح، ولايتعلّق به الأمر.

وكذلك يعتبر بلا خلاف نيّة القربة، بل اعتبارها منسوبٌ إلى علمائنا في كلمات جماعةٍ(1) من الفحول، للإجماع على كونه من العبادات، واعتبارها فيها لعلّه من الضروريّات، وتُشير إليه نصوص كثيرة:

منها: خبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«سألته عن حَدّ العبادة التي إذا فَعَلها فاعلها كان مؤدّياً؟ قال عليه السلام: حُسن النيّة بالطاعة»(2).

نعم، هنا إشكال معروف، وهو أنّ منشأ عباديّته:

1 - إمّا أن يكون هو الأمر الغيري المتعلّق به.

أو يكون تعلّق الأمر النفسي بنفسه.

والأوّل مستلزمٌ للدور، إذ بما أنّ حاله ليس كحال بقيّة المقدّمات، ليكون مطلق وجوده مقدّمةً، بل المقدّمة هو ما أتى به عبادة، فالأمر الغيري يتوقّف على

ص: 352


1- قال فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد: ج 1/34: (النيّة شرطٌ في الوضوء بإجماع علمائنا، وإنّما اختلفوا في كيفيّتها). وقال العلّامة في المنتهى: ج 2/7 من المبحث الرابع في أفعال الوضوء وكيفيّته (ط. ج): (قال علماؤنا النيّة شرطٌ في الطهارة بنوعيها). وفي التذكرة: ج 1/139 المسألة 38 من الفصل الرابع، قال: (النيّة واجبة في الطهارات الثلاث، ذهب إليه علماؤنا أجمع).
2- الكافي: ج 2/85 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/49 ح 94.

عباديّته، فلو توقّفت عباديّته عليه لزم الدور الممنوع.

والثاني فاسدٌ لوجهين:

الأوّل: انعدامه عند عروض الوجوب الغيري.

الثاني: أنّه يصحّ الإتيان به بداعي أمره الغيري، من دون الالتفات إلى الأمر النفسي المتعلّق به.

واُجيب عنه بوجوه:

1 - ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله(1): بأنّ متعلّق الأمر الغيري بما أنّه الوضوء المأمور به بالأمر الاستحبابي، فقصد الأمر الغيري يكون قصداً لذلك الأمر النفسي، إذ الأمر لا يدعو إلّاإلى ما تعلّق به.

وفيه: أنّ قصد الأمر ليس له واقعٌ خارجي يلائم مع عدم الالتفات واعتقاد العدم، بل قوامه يكون بالالتفات، فمع عدمه لا قصد، فكيف يصحّ قصد الأمر الغيري بدونه؟!

2 - ما اختاره المحقّق النائيني رحمه الله(2) وهو: أنّ الموجب لعباديّته ليس هو الأمر النفسي المتعلّق بنفسه، ولا الأمر الغيري المتعلّق به، بل هناك أمرٌ ثالث وهو الموجب لكونه عبادة، لأنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصلاة مثلاً كما أنّ له تعلّقاً بالأجزاء، وهو موجب لكونها عبادة، فكذلك له تعلّق بالشرائط، فلها أيضاً حصّة من الأمر، وهي الموجبة لعباديّتها.

وفيه: أنّ الشرائط ليست ممّا ينبسط عليه الأمر النفسي، بل الأمر المتعلّق).

ص: 353


1- كفاية الاُصول ص 73، (توهّم إمكان دخل القربة في العبادة ودفعه) قوله: (ولا يكاد يدعو الأمر إلّاإلى ما تعلّق به، لا إلى غيره).
2- أجود التقريرات: ج 1/175 (الإشكال في عباديّة الطهارات الثلاث).

بالمقيّد يكون له تعلّق بالتقيّد لا بالقيد، وهذا هو الفارق بين الأجزاء والشرائط كما حقّقناه في محلّه.

3 - ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله(1) في كتاب «الطهارة»، وحاصله:

إنّ الوضوء في نفسه ليس رافعاً للحدث، بل ينطبق عليه عنوان واقعي راجحٌ في ذاته رافع للحدث، وتحقّق ذلك العنوان متوقّفٌ على القصد، ولمّا كان ذلك العنوان مجهولاً، وجب القصد إليه إجمالاً بإتيانه بقصد أمره من جهة أنّه لا يدعو إلّا إلى ما تعلّق به، فإتيانه بقصد الأمر والعبادة ليس لأجل كونه معتبراً فيه بذاته، بل من جهة أنّه طريقٌ إلى قصد عنوان المأمور به.

وفيه: أنّ قصد ذلك العنوان كما يمكن بذلك، يمكن بقصد الأمر بنحو التوصيف، وبقصد عنوان المقدّميّة، لأنّه من العناوين الطارئة على ذلك العنوان، فلازم ما ذكره قدس سره عدم اعتبار قصد الأمر فيه، وهو كما ترى.

والتحقيق في الجواب يقتضي أن يُقال: بعدما لا شبهة في أنّ كلّ مقدّمةٍ من مقدّمات الواجب النفسي إذا أتى بها بقصد التوصّل بها إلى ذيها تصير عبادة، إذ لايعتبر في الاتّصاف بالعباديّة، سوى الإتيان بما هو قابلٌ للإضافة إلى المولى مضافاً إليه، وبديهي أنّ المقدّمة كذلك.

إنّ الأمر الغيري المتعلّق بالوضوء، وإنْ كان يتوقّف على كونه عبادة، إلّاأنّ كونه عبادةً لا يتوقّف على تعلّق الأمر الغيري به، فلزوم الإتيان به عبادة ليس من جهة الأمر الغيري، بل من جهة كون المقدّمة عبادة مع قطع النظر عنه.

ولعلّه إلى ذلك يرجع ما ذكره من الوجه الثاني في «الكفاية»(2) نقلاً عن الشيخف.

ص: 354


1- كتاب الطهارة: ج 2/55 بتصرّف.
2- كفاية الاُصول ص 111، (كفاية عباديّة الطهارات الثلاث) بتصرّف.

الأعظم رحمه الله(1)، فتدبّر.

أقول: ثمّ إنّ في المقام فروعاً، وهي: عدم لزوم قصد الوجوب أو الندب لا وصفاً ولا غايةً، ولزوم التعيين، وانحصار الدّاعي القربي في الأمر والمحبوبيّة، واعتبار الخلوص في النيّة، وحكم الضميمة في النيّة بأقسامها الثلاثة، وأقسام الرياء، قد تعرّضنا لها في مبحث النيّة(2) من هذا الكتاب، فلا حاجة إلى التكرار، ومَن أراد الوقوف عليها فليراجعه.

نعم في المقام فروع لابدَّ من التعرّض لها:

***

في اعتبار نيّة الرفع والاستباحة وعدمه

الفرع الأوّل: لا يجب في الوضوء قصد رفع الحَدَث أو الاستباحة، كما نُسب إلى جماعةٍ من أعاظم المتأخّرين(3).

وعن بعض كتب الشيخ: لزوم نيّة رفع الحَدَث(4).

وعن السيّد رحمه الله: اعتبار نيّة الاستباحة(5).

ص: 355


1- كما هو الظاهر من مطارح الأنظار ص 71 (تنبيهات الهداية 12، في وجوب مقدّمة الواجب).
2- فقه الصادق: ج 7/8.
3- وهو اختيار السيّدالعاملي في «المدارك»: ج 179/1، واستحسن أيضاً قول السيّدالسعيد جمال الدِّين بن طاوس في «البشرى» حيث قال: (لم أعرف نقلاً متواتراً ولا آحاداً يقتضي القصد إلى رفع الحَدَث واستباحة الصلاة.. إلخ). وهو الظاهر من «الجواهر»: ج 2/111 حيث قال: (لا فرق بناءً على المختار من عدم وجوب قصد رفع الحدث.. إلخ). وعليه الشيخ الأعظم في «كتاب الطهارة»: ج 2/51، وحكاه أيضاً عن جماعة من متأخّري المتأخّرين وص 52 حيث قال: (فتحصّل ممّاذكرنا: أنّ الفعل المأمور به على جهة التعبّد لم يُؤخذ فيه رفع الحَدَث - إلى أن قال - ومن هنا ظهر ضعف ما استدلّ به في المعتبر والمنتهى وغيرهما على اعتبار الاستباحة.. إلخ).
4- الرسائل العشر: ص 142.
5- كما حكاه الشيخ الأعظم في «كتاب الطهارة»: ج 2/49 عن السيّد في «غاية المراد»، راجع غاية المراد: ج 1/32 نقلاً عن حاشية كتاب الطهارة لعدم توفّر المصدر.

وعن الحلبي(1) والقاضي(2) والراوندي(3)، وابني حمزة(4) وزُهرة(5): اعتبارهمامعاً.

وعن «المبسوط»(6) و «السرائر»(7) و «المعتبر»(8) وأكثر كتب المصنّف رحمه الله(9)والشهيد(10): اعتبار أحدهما تخييراً.

ويدلّ على المختار: الأصل، وإطلاق النصوص بعد عدم الدليل على الاعتبار، إذ لا شبهة في عدم مقدّميّة نيّة ذلك لذات الوضوء، كما تشهد له النصوص المتضمّنة لبيان الوضوء، كما لاينبغي التشكيك في عدم دخلها في العباديّة، لأنّها تتحقّق مع إضافة الفعل إلى المولى، بلا توقّفٍ على شيء آخر، وظهور الأدلّة في أنّ الوضوء الصحيح يكون مبيحاً ورافعاً للحدث غير قابلٍ للإنكار.

أقول: قد استدلّ لاعتبار قصدهما أو أحدهما باُمورٍ:

الأوّل: بقولهم عليهم السلام: «إذا زالت الشَّمس وَجَب الطهور والصلاة»(11).9.

ص: 356


1- الكافي في الفقه: ص 132.
2- المهذّب: ج 1/43.
3- في حاشية إرشاد الأذهان: ج 1/222 ح 3، إنّ الشهيد في «غاية المراد» نسبه إلى الراوندي.
4- الوسيلة: ص 51.
5- غنية النزوع: ص 53.
6- المبسوط: ج 1/19.
7- السرائر: ج 1/105، قوله: (وإجماعنا منعقد على أنّه لا تستباح الصلاة إلّابنيّة رفع الحَدَث أو نيّة استباحة الصلاة بالطهارة... إلخ).
8- المعتبر: ج 1/139.
9- مختلف الشيعة: ج 1/274 حيث اختار رأي المبسوط وهو قوله: (أن ينوي رفع الحدث أو الاستباحة)، وقواعد الأحكام: ج 1/199.
10- الدروس: ج 1/90، والبيان ص 7 حيث قال: (النيّة المشتملة على الوجوب والقُربة والاستباحة أو الرفع في موضع إمكانه على الأقوى).
11- الفقيه: ج 1/33 ح 67 وفيه: (إذا دخل الوقت وجب الطهور)، وسائل الشيعة: ج 1/372 ح 981 و: ج 2/203 ح 1929.

بدعوى أنّ المأمور به هو عنوان الطهور، فيجبُ قصده، وقصد رفع الحَدَث به.

الأمر الثاني: بقوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا...) (1) إذ الظاهر منه أنّ المأمور به هو الوضوء للصلاة، فلابدَّ من إيقاعه لأجل الصلاة أي إباحتها.

الأمر الثالث: بقوله صلى الله عليه و آله: «لكلّ امرءٍ ما نوى»(2)، فإذا لم ينوِ رفع الحَدَث لم يقع.

الأمر الرابع: وبأنّه إنّما شُرّع لذلك، فإن لم يقصد رفع الحَدَث لم يقصد الوضوء على الوجه المأمور به الذي شُرّع له.

الأمر الخامس: وبأنّ الوضوء مشتركٌ بين الرافع وغيره، فوجب تمييزه بالقصد.

الأمر السادس: وبأن صيرورته عباديّاً تتوقّف على ذلك، وإلّا فمجرّد قصد الأمر الغيري غير موجب لذلك.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ الطهور عنوانٌ منطبق على الوضوء بذاته، مع أنّ المأمور به لو كان هو ما يحصل من الأفعال الخاصّة، لا محالة يكون هذا - مقارنة لغَسل الوجه أو لغَسل اليدين المستحبّ - الأمر توصّليّاً لا يعتبر في سقوطه سوى حصول متعلّقه على أيّ وجه، وما يكون تعبّديّاً هو الأمر بالأفعال المحصّلة لذلك العنوان، فتدبّر.

وأمّا الثاني: فلأنّه يدلُّ على توقّف الصلاة على هذه الأفعال، لا على توقّف مقدّميّتها على قصد التوصّل.3.

ص: 357


1- سورة المائدة: الآية 6.
2- التهذيب: ج 4/286 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/48 ح 89 و ج 10/13 ح 12713.

وأمّا الثالث: فلأنّ العناوين المنطبقة على الأفعال، لابدَّ في تحقّقها من القصد والنيّة، وأمّا الآثار والفوائد المترتّبة عليها، فلا يتوقّف ترتّبها على النيّة، ألا ترى أنّه لو توضّأ للصلاة، يُباح له غيرها ممّا يشترط فيه الطهارة وإنْ لم ينوه.

وأمّا الرابع: فلأنّ مشروعيّة الوضوء لذلك، لا تقتضي توقّف تأثير الوضوء في حصول الطهارة على قصده، بل تأثير السبب لشيء فيه، لا يتوقّف على العلم بالسببيّة فضلاً عن قصده.

وأمّا الخامس: فلأنّ الوضوء بالنسبة إلى شخصٍ واحدٍ في حال واحدٍ لا يكون مشتركاً بين الرافع وغيره كي يلزم تمييزه بالقصد.

وأمّا السادس: فقد عرفت أنّ الوضوء مستحبٌّ في نفسه، فيمكن التعبّد به بلا نظر إلى غاياته.

فتحصّل: أنّ الأقوى على اعتبار قصد رفع الحَدَث أو الاستباحة.

***

ص: 358

مقارنةً لغَسل الوَجه، أو لغَسل اليدين المستحبّ، واستدامتها حكماً حتّى يفرغ.

وقت النيّة

الفرع الثاني: المشهور بين الأصحاب لزوم (مقارنة) النيَّة (لغَسل الوَجه أو لغسل اليدين المستحبّ)، بناءً على كون غَسل اليدين من الأجزاء المستحبّة.

أقول: بما أنّ المسألة خالية عن النصّ، فيتعيّن الرجوع إلى ما تقتضيه القواعد، وهي تقتضي عدم اعتبار المقارنة، إذ النيّة المعتبرة فيه كسائر العبادات، هي الموجبة لصيررة العمل اختياريّاً ومضافاً إلى المولى، لا خصوص الإرادة التفصيليّة، فكما أنّه لو نوى مقارناً لأوّل جزءٍ من أجزاء الوضوء، يقع الوضوء عبادةً وامتثالاً للأمر، كذلك لو نوى حال الأخذ بمقدّمات العمل، وكانت النيّة باقية في النفس إلى حين الوضوء.

الفرع الثالث: أنّ الأصحاب بعدما فسّروا النيّة بالإرادة التفصيليّة، (و) الصورة المخطرة، حكموا بلزوم (استدامتها حكماً حتّى يفرغ).

ولكن بناءً على تفسيره بما ذكرناه - أي الداعية إلى العمل - فيجب استدامتها حقيقةً.

والدليل على اعتبار الاستدامة واضح، لأنّ الوضوء ليس إلّامجموع الأجزاء، فما دلَّ على اعتبار النيّة فيه، يدلّ على اعتبارها في كلّ جزءٍ من أجزائه.

***

ص: 359

وغسل الوجه: مِنْ قِصاص شعر الرأس إلى محادر الذقن طولاً، وما اشتملت عليه الإبهام والوسطى.

غَسل الوجه
اشارة

(و) الثاني من فروض الوضوء: (غسل الوجه) إجماعاً، بل ضرورةً من الدِّين.

ويشهد له: مضافاً إلى ذلك:

من الكتاب: قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (1).

ومن السُّنة: نصوص متواترة سيمرّ عليك بعضها.

وهو هنا (مِنْ قصاص شعر الرأس إلى محادر الذّقن طولاً) بلا خلافٍ ولا إشكال.

بل نسبه في «المعتبر»(2) و «المنتهى»(3) إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام، كما في طهارة شيخنا الأعظم رحمه الله(4).

(وما اشتملت عليه الإبهام والوسطى) عَرْضاً، بلا خلاف كما عن غير واحد.

ويشهد لذلك: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، حيث قال له:

«أخبرني عن حدِّ الوجه الذي يَنبغي أنْ يوضّأ، الذي قال اللّه عزّ وجلّ؟ فقال عليه السلام: الوجه الذي أمر اللّه عزّ وجلّ بغَسله، الذي لا ينبغي لأحدٍ أنْ يزيد عليه ولا ينقص منه، إنْ زاد عليه لم يُؤجَر، وإنْ نقص منه أثم، ما دارت عليه الوسطى

ص: 360


1- سورة المائدة: الآية 6.
2- المعتبر: ج 1/141.
3- منتهى المطلب: ج 2/21.
4- كتاب الطهارة: ج 2/161.

والإبهام مِنْ قَصاص شعر الرأس إلى الذّقن، وما جَرَت عليه الإصبعان مستديراً فهو من الوجه، وما سوى ذلك ليس من الوجه.

فقال له: الصُّدغ من الوجه؟ فقال عليه السلام: لا»(1).

وفي رواية الكليني رحمه الله: «السَّبابة مع الوسطى والإبهام»(2).

وحيث أنّ حمل (الواو) على معنى (أو) خلاف الظاهر، ومستلزمٌ للتنافي بين التحديدين، فالخبران متّحدان مفاداً، فذكرها حينئذٍ إنّما يكون لورود الخبر مورد الغالب.

وقد بين عليه السلام حَدّ الوجه عَرضاً بقوله عليه السلام: (ما دارت... الخ)، وطولاً بقوله عليه السلام:

(مِنْ قصاص... الخ)، وقوله عليه السلام: (وما جَرَت عليه الإصبعان)، تاكيدٌ لبيان العرض.

كذا ذكره جماعة من الأصحاب.

وأورد عليهم بإيرادات:

الإيراد الأوّل: ما عن شيخنا البهائي(3): وهو أنّه بناءً على ذلك تدخل النَزعتان، وهما البياضان المكتنفان بالنّاصية والصُّدغان، والمعروف بين الأصحاب في تفسير الصُّدغ: أنّه الشعر الذي بعد انتهاء العِذار، المحاذي لرأس الاُذن، وينزل عن رأسها قليلاً، لأنّ الأوليين تحت القصاص، والأخيرين داخلان فيما حوته الإصبعان، مع أنّ خروج الأوليين إجماعي، والأخيران خارجان بنصّ الرواية، ولذلك حُمل الرواية على معنى آخر، وهو أنّ المراد من قوله عليه السلام: (ما دارت عليه... الخ) دوران الإصبعين من القصاص إلى الذّقن، لتشكيل شبه الدائرةف.

ص: 361


1- الفقيه: ج 1/44 ح 88، وسائل الشيعة: ج 1/403 ح 1048.
2- وسائل الشيعة: 1/403، ح 1048.
3- الحبل المتين: ص 14 بتصرّف.

الحقيقيّة، التي يكون قطرها ما بين الإصبعين، وقوله عليه السلام: (وما جَرَت عليه الإصبعان) تكرارٌ إيضاحي، حيث أنّه كالصريح في أنّ كلّاً من طول الوجه وعرضه شيءٌ واحد، وهو ما اشتمل عليه الإصبعان عند دورانهما.

وفيه: أنّ المراد من (القِصاص) - بقرينة أنّ النزعتين محاذيتان للناصية، التي هي من الرأس، وخارجتان عن التسطيح الذي ينفصل به الوجه عن الرأس - هو قصاص الناصية ومنتهاها، وما يحاذيه من جانبيه، وعلى ذلك فتكون النزعتان خارجتين على كلا التفسيرين.

وأمّا الصُّدغ: فإن فُسِّر بما ذكرناه، كما عن المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(1)، فهو خارج على كلا التفسيرين.

وإنْ فُسِّر بما بين العين والاُذن كما عن بعض(2)، أو بالشعر المتدلّي على هذا الموضع كما عن جماعةٍ(3)، فيدخل بعضه في الوجه على كلا التفسيرين.

فالتصريح بخروج الصُّدغ عن الوجه لا يكون معيّناً لإرادة ما ذكره رحمه الله، ولا يبعد دعوى أنّه يؤيّد كون المراد منه ما ذكرناه تبعاً للمصنّف رحمه الله.

مع أنّ مقتضى ما ذكره رحمه الله خروج مقدارٍ من أسفل الوجه أو أعلاه الذي هو داخلٌ فيه بالنصّ والإجماع، لأنّ ما بين الإصبعين أقلّ من ما بين القصاص والذّقن كما هو واضح، بل يخرج بعض طرفي الجبهة، وأغلب الجبينين أيضاً، مع أنّها من الوجه إجماعاً ونصّاً.غ.

ص: 362


1- منتهى المطلب: ج 2/24.
2- وهو ظاهر تفسير أهل اللّغة، وقد نسبه إليهم غير واحد من الفقهاء، راجع «العين»: ج 4/371 مادّة صدغ. مجمع البحرين: ج 4/439. النهاية: ج 3/17، وغيرهم.
3- مجمع البحرين: مادّة صدغ.

الإيراد الثاني: أنّ التحديد الأوّل للطول، لا يناسب التعبير بالدوران، إذ ليس هو من الدوران في شيء.

وفيه: أنّ الظاهر كون التعبير به بملاحظة أنّ الوجه مدوّر بتدوير الرأس، فوضع الإبهام والوسطى عليه، يوهم تحقّق الدائرة.

وإنْ شئت قلت: إنّ المراد به الجريان، والتعبير عنه بالدوران لأنّه يحصل منه شبه دائرة.

الإيراد الثالث: أنّ قوله عليه السلام في التحديد العرضي (مستديراً) ينافي ما ذكروه، إذ لا استدارة فيه، مع أنّه كان ينبغي أن يقول مستديرين لكونه حالاً من الإصبعين.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر ما ذكره المشهور في تفسير الصحيح.

***

ص: 363

حكم الخارج عن المتعارف

فروع:

الفرع الأوّل: من خرج وجهه أو يده عن المتعارف، ومن انحسر شعره عن الحدّ المتعارف، ومن نَبَت الشَّعر على جبهته، يرجع كل منهم إلى المتعارف، إذ لا ريب في أنّ التحديد الواقع في الأخبار إنّما اُريد به بيان ما هو الطريق لمعرفة حَدّ الوجه الذي أمر اللّه بغَسله، والوجه له مفهومٌ واحد ذو أفراد مختلفة، من حيث الصِّغر والكِبر، لا أنّ له مفاهيماً عديدة على حسب اختلاف خلقة المكلّفين، وعلى ذلك:

1 - فمن انحسر شعره عن المتعارف، وساوى بعض مقدّم رأسه جبهته، لا يجب عليه غَسل ذلك المقدار، لخروجه عن الوجه عرفاً.

2 - كما أنّ من نَبت الشعر على جبهته، بما أنّ القصاص الذي على الجبهة داخلٌ في الوجه عرفاً، يجب غَسله.

3 - ومن خرجت يده عن المتعارف، وكان وجهه متعارفاً:

فإنْ كانت أصابعه طويلة، فحيث لا يحتمل دخول اُذنيه في الوجه، فلابدَّ له من الرجوع إلى المتعارف.

كما أنّه إذا كانت أصابعه قصيرة لا يحتمل خروج خدّيه عن الوجه، يتعيّن عليه الرجوع إلى المتعارف.

4 - وأمّا من خرج وجهه عن المتعارف، فرجوعه إلى المتعارف لا يُراد به أنّه يغسل من الوجه العريض بمقدار أصابع المستوى، بل المراد منه أنّه يُفرض له أصابع مناسبة على نحو أصابع المستوى لوجهه، وبمعناه أنّه يقدّر المستوى، ويحدّ بحدودٍ يؤخذ على نسبة تلك الحدود من غيره، كما في «الجواهر»(1) وغيرها(2).

ص: 364


1- جواهر الكلام: ج 2/147.
2- كالمحقّق في الشرائع: ج 1/16 الفرض الثاني: غسل الوجه، وعلى أيّ حال فإنّ الرجوع إلى مستوى الخلقة قول أكثر أهل العلم كما في منتهى المطلب: ج 2/23.
لزوم إجراء الماء

الفرع الثاني: المشهور بين الأصحاب وجوب إجراء الماء(1).

وعن المجلسي رحمه الله(2): دعوى الاتّفاق عليه.

ويدلّ عليه: ما تضمّن الأمر بالغَسل لأخذ الجريان في مفهومه، كما عن «الانتصار»(3) و «السرائر»(4) و «المنتهى»(5) و «القواعد»(6) و «الذكرى»(7) وغيرها.

وعن كاشف اللّثام(8): إنّه يشهد به العرف واللّغة.

فما عن «الحدائق»(9) وبعض تحقيقات الشيهد الثاني رحمه الله(10) من الاستشكال في أخذه في مفهومه، في غير محلّه.

ص: 365


1- نسبه إلى المشهور صاحب الحدائق: ج 2/222.
2- الجواهر: ج 2/283 حيث نقل كلام العلّامة عن حاشية المجلسي على التهذيب وفيها: (أنّ ظاهر الأصحاب اتّفاقهم على لزوم الجريان في غير حال الضرورة، وأنّ الأصحاب حملوا أخبار الدهن على أقلّ مراتب الجريان مبالغة)، انتهى.
3- الانتصار: ص 99 مسألة 9.
4- السرائر: ج 1/99 قوله: (وفرض الوضوء غسل الوجه.. الخ).
5- منتهى المطلب: ج 2/15.
6- قواعد الأحكام: ج 1/201 قوله: (الثاني غسل الوجه بما يحصل به مسمّاه، وإنْ كان كالدهن مع الجريان).
7- الذكرى: ص 83.
8- كشف اللّثام: ج 1/524 قوله: (الثاني من فروض الوضوء غسل الوجه... وهو إجراء الماء عليه كما يشهد به العرف واللّغة).
9- الحدائق الناظرة: ج 2/222-225 قوله: (الركن الثاني: غَسل الوجه، وفيه مسائل: الاُولى: هل الواجب في الغسل ما يجري فيه جزء من الماء.. أو يرجع فيه إلى العرف، أو يكفي الدهن)، وبعد استعراض الأقوال والمناقشة استشكل في انحصاره في الجريان.
10- كما حكاه عنه صاحب الحدائق: ج 2/224.

ويشهد له أيضاً: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام:

«عن الرجل لا يكون على وضوء، فيصيبه المطر حتّى يبلّ رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه، هل يجزيه ذلك من الوضوء؟ قال عليه السلام: إنْ غسله فإنّ ذلك يجزيه»(1).

فإنّ جوابه عليه السلام يدلّ على اعتبار شيء آخر في الغسل غير وصول الماء.

وصحيح زرارة: «كلّ ما أحاط به الشّعر، فليس للعباد أنْ يطلبوه، ولا يبحثوا عنه، ولكن يجري عليه الماء»(2).

ونحوه ما ورد في الغَسل كصحيح محمّد الآتي: «ما جَرَى عليه الماء فَقد طَهُر».

لعدم الفصل بينه وبين الوضوء.

ودعوى: أنّه لا يمكن تقييد مطلقات الغَسل، بناءً على عدم أخذ الجريان في مفهومه بها، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، فيمكن أن يكون التعبير بالجريان جرياً على الغالب.

مندفعة: بأنّ حمل القيد على الغالب خلاف الظاهر، بل الظاهر من كلّ قيدٍ هو الاحترازيّة.

وعليه، فظاهر هذه النصوص اعتبار الجريان، وعدم كونه في مقام البيان يمنع من التمسّك بالإطلاق لا عن هذا الظهور.

ثمّ إنّه قد يتوهّم التنافي بين ذلك ونصوص التشبيه بالدّهن، كمصحّح زرارة ومحمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام:5.

ص: 366


1- التهذيب: ج 1/359 ح 12، وسائل الشيعة: ج 1/454 ح 1201.
2- الفقيه: ج 1/44 ح 88، التهذيب: ج 1/364 ح 36، وسائل الشيعة: ج 1/476 ح 1265.

«إنّما الوضوء حَدٌّ من حدود اللّه تعالى، ليعلم اللّه مَن يطيعه ومَن يعصيه، وأنّ المؤمن لا ينجّسه شيء إنّما يكفيه مثل الدهن»(1).

ونحوه غيره.

وفيه: إنّ هذه النصوص لا تنافي جريان الماء وحركته من محلّ إلى محلٍّ آخر، فالجمع بينهما وبين ما دلَّ على اعتبار الجريان، يقتضي أن يُقال: إنّها سيقت لبيان عدم اعتبار الماء الكثير، وأنّه يكفي ما يوجب جريان الماء.

وبعبارة اُخرى: إنّها سيقت لبيان أقلّ أفراد مسمّى الغسل.

ويشهد لذلك: موثّق إسحاق، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول:

الغُسل من الجنابة والوضوء يجزي من الماء ما أجرى من الدهن الذي يبلّ الجسد»(2).

***6.

ص: 367


1- الكافي: ج 3/21 ح 2، الفقيه: ج 1/38 ح 78، وسائل الشيعة: ج 1/484 ح 1282.
2- التهذيب: ج 1/183 ح 76، الاستبصار: ج 1/122 ح 7، وسائل الشيعة: ج 1/485 ح 1286.
وجوب الابتداء بالأعلى

الفرع الثالث: صرّح غير واحدٍ(1) بلزوم الابتداء بالأعلى.

وعن «المدارك»(2): نسبته إلى المشهور.

وعن بعض حواشي «الألفيّة»(3): دعوى الإجماع عليه.

أقول: وتنقيح القول في هذا الفرع يقتضي التكلّم في مقامات:

المقام الأوّل: هل يجب الابتداء بالأعلى أم لا؟ وجهان:

أظهرهما الأوّل، لحكاية الإمام الباقر عليه السلام وضوء النبيّ صلى الله عليه و آله في جملة من النصوص، ففي صحيح زرارة، قال:

«حكى أبو جعفر عليه السلام وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فدعا بقدحٍ من ماء فأدخل يده اليمنى فأخذ كفّاً من ماءٍ فأسدلها على وجهه من أعلى الوجه، ثمّ مَسَحَ بيده الجانبين جميعاً»(4). ونحوه غيره.

ودعوى: إجمال الفعل، لاحتمال أن يكون أحد أفراد الواجب.

مندفعة: بأنّه إنّما ورد في مقام البيان، فإنّ حكاية الباقر عليه السلام له إنّما تكون لذلك، ولذا ترى أنّ الظاهر منه أنّ زرارة فهم منه الخصوصيّة.

وأيضاً دعوى: أنّ الخبر غير ظاهر في كون المحكيّ هو خصوص الواجب، لأنّه من الجائز إرادة حكاية ما يشتمل على بعض المندوبات.

ص: 368


1- كما في العروة الوثقى: ج 1/373 مسألة 490، وحكاه في الجواهر: ج 2/148 صريحاً عن المبسوط والمعتبر والمنتهى والقواعد والتحرير والإرشاد وجامع المقاصد وظاهراً عن غيرهم.
2- مدارك الأحكام: ج 1/199، ونسبه أيضاً في «الحدائق» إلى المشهور: ج 2/230 المسالة الثالثة.
3- كما حكاه صاحب الجواهر: ج 2/148.
4- وسائل الشيعة: ج 1/392 ح 1029.

فاسدة: إذ بعد تسليم ظهور النقل في الرجحان، بما أنّه لم يرد في تركه الترخيص، يتعيّن حمله على إرادة الوجوب، كما هو الشأن في جميع الموارد، إذ الوجوب إنّما ينتزع من طلب الشيء مع عدم ورود الترخيص في الترك، كما أشرنا إليه في هذا الشرح مراراً.

واشتمال الخبر على بعض الخصوصيّات المستحبّة، لا يوجب ظهوره في إرادة الاستحباب، فإنّ رفع اليد عن ظاهر الطلب بالنسبة إلى بعض القيود بدليل آخر لا يصلح قرينةً لصرفه عن ظاهره بالنسبة إلى ما لم يرد فيه ذلك.

مع أنّ المحكي عن المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(1) والشهيد في «الذكرى»(2) أنّهما قالا بعد أحد تلك النصوص:

(روي أنّه قال بعدما توضّأ: «إنّ هذا وضوءٌ لا يقبل اللّه الصَّلاة إلّابه»(3).

وهو ظاهرٌ في أنّ المراد باسم الإشارة، الوضوء المذكور مع تمام الخصوصيّات، واستحباب بعضها بدليلٍ خارجي لا يكون قرينةً للحمل على إرادة صَرف ماهيّة الوضوء، ولا يقدح إرساله لانجباره بما عرفت، فتأمّل.

ويشهد للمختار أيضاً: ما عن «قرب الإسناد» عن أبي جُرير، عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «لا تعمق في الوضوء، ولا تلطم وجهك بالماء لطماً، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحاً»(4).

واستحباب المسح لدليلٍ خارجي، لا يصلح قرينة لصرف ظهور الأمر بالبِدْأة9.

ص: 369


1- منتهى المطلب: ج 1/65 (ط. ق) وفي الطبعة الجديدة: ج 2/79.
2- الذكرى: ص 83 رواه عن زرارة، وفي ص 85 قال: (وروي).
3- الفقيه: ج 1/38 ح 76، وسائل الشيعة: ج 1/438 ح 1151.
4- وسائل الشيعة: ج 1/398 ح 1041، قرب الإسناد ص 129.

بالأعلى في الوجوب.

ودعوى: حمل الغَسل على إرادة المسح، بقرينة قوله عليه السلام: (مسحاً) الظاهر في كونه مفعولاً مطلقاً.

مندفعة: بأنّه لا نُسلّم ظهوره في كونه مفعولاً، بل يصلح أن يكون حالاً، فيكون مفاده اغسله ماسحاً.

أقول: وبذلك كلّه ظهر ضعف ما عن السيّد(1) والشهيد(2) وابني إدريس(3)وسعيد(4) وصاحب المعالم(5) والشيخ البهائي(6) من جواز النكس تمسّكاً بإطلاق الغسل الوارد في الكتاب والسُنّة، لتعيّن تقييده بما تقدّم.

المقام الثاني: على القول بوجوب الابتداء بالأعلى من الوجه، هل يجوز النَّكس في الغَسل نفسه إن أمكن مع الابتداءبالأعلى، بأن يستقبل الشعر فيه مثلاً أم لا؟).

ص: 370


1- حكاه عنه العلّامة في المعتبر: ج 1/143، قوله: (ولو نكس غسل وجهه خالف النيّة، وفي إجزائه قولان: قال علم الهدى: يجزي لكن يُكره).
2- لم يظهر من كلامه في الذكرى ص 83 أنّه تبنّى النكس، وهذا نصّه: (يمتنع أن يكون البدأة فيه بغير الأعلى، وإلّا لما جازت البدأة بالأعلى، والمرتضى وابن إدريس يستحبّ فيصحّ النكس للعموم ولصحيح حمّاد.. قلنا العموم يخصّ بدليل والمسح غير الغسل).
3- السرائر: ج 1/100 قوله: (وكذلك لو غسل الوجه منكوساً يبدأ من المحادر إلى القصاص لأجزأه على الصحيح من المذهبين... الخ).
4- الجامع للشرائع ليحيى بن سعيد الحلّي ص 35 قوله: (فإن غسله [للوجه] منكوساً جاز لأنّه غاسل، وخالف السُّنة، وقيل: لا يجوز).
5- نسبه إليه في مفتاح الكرامة: ج 2/382 (مؤسسة النشر الإسلامي) في كتاب الإثنا عشريّة، وفي المخطوط (مكتبة المرعشي النجفي رقم 5112) في كيفيّة الوضوء ص 58 لم يظهر منه ذلك بل صرّح بالابتداء بالأعلى.
6- الحبل المتين ص 12 حيث اعتبر أنّ جمهور الأصحاب على الابتداء بالأعلى، ثمّ نقل قول المرتضى وابن إدريس في جواز الابتداء بغير الأعلى، وأيّد الإطلاق وبراءة الذمّة بأنّ الابتداء من الأعلى قد يكون للجبلّة، أو لكونه أحد جزئيّات المأمور به، وإنّ رواية التحديد بالأعلى مرسلة، وقال: (إنّ قول المرتضى غير بعيد عن الصواب، وإنْ كان العمل على المشهور بين الأصحاب... إلخ).

وجهان: أظهرهما الثاني للوضوءات البيانيّة.

المقام الثالث: بناءً على وجوب الابتداء بالأعلى، هل يجب غَسل الأعلى فالأعلى، أم يجوز غسل الأسفل قبل غَسل ما فوقه؟

أقول: لاسبيل إلى توهّم وجوب غَسل الأعلى فالأعلى بحسب الخطوط العرضيّة الذي استند القول به في «الجواهر»(1) إلى بعض القاصرين، لمنافاته مع النصوص المتضمّنة للوضوءات البيانيّة، لاحظ مصحّح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام في حديثٍ:

«ثمّ غرف فملأها ماءً فوضعها على جبينه، ثمّ قال: بسم اللّه وسَدَله على أطراف لحيته، ثم أمرَّ يده على وجهه وظاهر جبينه مرّةً واحدة»(2).

ولسيرة المتشرّعة، واستلزامه الحَرَج المنفيّ في الشريعة.

كما أنّ توهّم: الاكتفاء بالبدأة بالأعلى ولو يسيراً، وعدم الترتيب في الباقي.

فاسدٌ: لمنافاته لصريح خبر أبي جرير المتقدّم(3).

أقول: وأمّا وجوب غسل الأعلى فالأعلى مسامتاً حقيقةً، فتدفعه الوضوءات البيانيّة، واستلزامه العُسر والحرج، فإذاً يتعيّن القول بالاكتفاء بالغَسل من الأعلى فالأعلى مسامتاً عرفاً، الذي يكون الدليلان المتقدّمان ظاهرين فيه.

المقام الرابع: ظاهر ما دلَّ على وجوب الابتداء بالأعلى، عدم جواز المقارنة بين الأجزاء في الغَسل، ولكن الأصحاب إنّما يفرعون عليه عدم جواز النكس.

نعم، لا يعتبر أزيد من صدق البدأة بالأعلى عرفاً، فتدبّر.

***9.

ص: 371


1- جواهر الكلام: ج 2/151، وقد سبق الجواهر في نسبته إلى بعض القاصرين، صاحب المدارك: ج 1/201.
2- الكافي: ج 3/25 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/387 ح 1021.
3- وسائل الشيعة: ج 1/398 ح 1041، قرب الإسناد ص 129.
عدم وجوب التخليل

الفرع الرابع: لا خلاف في عدم وجوب غَسل ما تحت الشعر المحاط بالوجه.

بل عن «الخلاف»(1) و «الناصريّات»(2): دعوى الإجماع عليه.

وعن «التذكرة»(3): نسبته إلى علمائنا.

ويشهد له: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، قلت له:

«أرايت ما أحاط به الشعر؟ فقال عليه السلام: كلّ ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه، ولا يبحثوا عنه، ولكن يجري عليه الماء»(4).

وصحيح ابن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن الرجل يتوضّأ، أيبطن لحيته؟ قال عليه السلام: لا»(5).

والنصوص المتضمّنة للوضوءات البيانيّة، فإنّ إمرار اليد على الوجه مرّةً واحدة، يستلزم غَسل ظاهر الشعر المحيط دون البشرة المحاطة بالشعر.

أقول: الخلاف إنّما وقع بين الأعلام في تشخيص بعض مصاديقه:

والذي يصحّ أن يُقال: إنّ الميزان في ما تصدق به الإحاطة، هو ما لا يغسل بإمرار اليد مرّةً واحدة، بل يحتاج إلى بحث وطلب، والشاهد على ذلك النصوص البيانيّة، وذيل صحيح زرارة المتقدّم، فمنابت الشعر التي تُغسل بإمرار اليد مرّة

ص: 372


1- الخلاف: ج 1/75-76 مسألة 22.
2- الناصريّات: ص 114-115، بقيّة المسألة السادسة والعشرون.
3- تذكرة الفقهاء: ج 1/153 مسألة 43.
4- الفقيه: ج 1/44 ح 88، التهذيب: ج 1/364 ح 36، وسائل الشيعة: ج 1/476 ح 1264 و ح 1265.
5- الكافي: ج 3/28 ح 2، التهذيب: ج 1/360 ح 14، وسائل الشيعة: ج 1/476 ح 1263.

واحدة لا تكون داخلة في النصوص المتقدّمة، فلابدَّ فيها من الرجوع إلى إطلاق أدلّة وجوب غَسل الوجه.

ودعوى: أنّ الوجه اسمٌ لما يواجه به فلا يصدق على البشرة المستورة بالشعر.

مندفعة: بأنّ الظاهر أنّ الوجه الموضوع للعضو المخصوص ولو كان محاطاً بالشعر الكثيف، فكلّ ما لم يدلّ دليل على خروجه يجب غَسله بمقتضى الإطلاق.

بحث: ثمّ إنّه في الموارد التي يجب غَسل البشرة، هل يجب غَسل الشعر النابت فيها، أم لا؟ وجهان:

استدلّ للأوّل: بوجوه عديدة، وهي:

الأوّل: بأنّ أدلّة وجوب غَسل الوجه تدلّ على لزوم غَسله تبعاً.

الثاني: وبدخوله في مسمّى الوجه.

وثالثاً: وبأصالة الاشتغال، إذ المعتبر في الغايات هو أثر الوضوء وهو الطهارة، فالشكّ في وجوب غسل الشعر شكّ في المحصّل، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ التبعيّة في دلالة الأدلّة ممنوعة جدّاً، وفي غيرها لا تفيد.

وأمّا الثاني: فلما عرفت من أنّ الوجه اسمٌ لخصوص العضو الخاص.

وأمّا الثالث: فلما حقّقناه في محلّه من أنّه إذا كان بيان المحصّل من وظائف المولى - كما في المقام - يكون المرجع هو البراءة، إذ مقتضى العبوديّة هو الإتيان بجميع ما بيَّنه المولى وأمر به ولو لغيره.

وأمّا كون المأتي به المطابق للمأمور به محصّلاً للمطلوب النفسي والغرض، فهو من وظائف المولى، فمع الإخلال به يكون التفويت مستنداً إليه.

ص: 373

مع أنّه قد عرفت أنّ المعتبر في الغايات هو الوضوء نفسه، وأنّ الطهارة من العناوين المنطبقة عليه لا أنّها أثره، وعليه فالشكّ في المقام كسائر موارد الشكّ في الأقلّ والأكثر موردٌ للرجوع إلى البراءة.

فالأقوى عدم وجوب غَسله، إلّاأن يثبت الإجماع على وجوبه، وقد ادّعاه المحقّق الثاني رحمه الله في «جامع المقاصد»(1).

وعلى ذلك، فعدم وجوب غَسل مسترسل اللّحية واضح، لعدم دخوله في الوجه، بل لو ثبت الإجماع على وجوب غَسل الشعر النابت الداخل في حدّ الوجه، لا يجب غسله أيضاً، إذ المشهور بين الأصحاب عدم الوجوب، بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(2).

***ا.

ص: 374


1- راجع جامع المقاصد: ج 1/215 قوله: (وألزمه في الذكرى جحيث ذهب الشهيد إلى وجوب غَسل ما ناله الإصبعان من الشعر (الذكرى ص 84) ج بمخالفة المشهور عندهم وظاهر مذهب الأصحاب... الخ).
2- نهاية الأحكام: ج 1/37، كشف اللّثام: ج 1/529 (ط. ج)، رياض المسائل: ج 1/223، مستند الشيعة: ج 2/87، وفي جامع المقاصد: ج 1/214 ادّعى الاتّفاق عليه، قال في تعليقه على قوله: (ولا يجب غسل مسترسل اللّحية) فإنّه ليس من الوجه اتّفاقاً منّا.
عدم لزوم غَسل البواطن

الفرع الخامس: لا يجبُ غَسل باطن العين والأنف والفم اتّفاقاً.

وتشهد له: النصوص البيانيّة، فإنّ البواطن لا تُغسل بمجرّد صبّ الماء على الوجه مرّةً واحدة، وإمرار اليد كذلك.

وصحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«ليس المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سُنّة، إنّما عليك أنْ تغسل ما ظَهَر»(1).

نعم، يجبُ غَسل شيء منها من باب المقدّمة العلميّة عقلاً.

***

الفرع السادس: البشرة المحاطة بالشّعر لا يُجزي غَسلها عن غَسل الشعر المأمور بغسله، لأنّ في الأدلّة أمرٌ بغَسل الشّعر، فالاجتزاء بغيره عنه يحتاج إلى دليل، وهو مفقود.

ولم يثبت كون هذا الحكم رخصة، لو لم ندّع ظهور قوله عليه السلام: «ليس للعباد أن يطلبوه». في أنّه بنحو العزيمة، وأنّ الواجب غَسل الشّعر دون البشرة، لا بدليّة الشعر عن البشرة.

***

ص: 375


1- التهذيب: ج 1/78 ح 51، الاستبصار: ج 1/67 ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/431 ح 1129 و: ج 3/438 ح 4100.
في حكم الشكّ في مانعيّة المانع

الفرع السابع: إذا تيقّن وجود ما يشكّ في مانعيّته، يجبُ تحصيل اليقين بوصول الماء إلى البشرة، لأنّ الشكّ إنّما هو في الامتثال، وهو موردٌ لقاعدة الاشتغال.

وأصالة عدم الحاجب لا تُجدي في إثبات الوصول، إلّاعلى القول بالأصل المثبت.

وأمّا صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام:

«سألته عن المرأة عليها السِّوار والدُّملج في بعض ذراعها، لا تدري يجري الماء تحته أم لا، كيف تصنع إذا توضّأت أو اغتسلت؟

قال عليه السلام: تحرِّكه حتّى يدخل الماء تحته أو تنزعه»(1).

فيعارضه ما في ذيله:

«وعن الخاتم الضيِّق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضّأ أم لا، كيف يصنع؟

قال عليه السلام: إنْ علم أنّ الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضّأ»(2).

إذاً لا يمكن حمل أحدهما على الآخر بتخصيصه بغير مورد الشكّ، لأنّ كلّاً منهما إنّما سيق لبيان حكم صورة الشكّ، فإخراجها مستلزمٌ لإخراج المورد، فلا محالة يتعارضان ويتساقطان، فيرجع إلى ما تقتضيه القاعدة.

***

ص: 376


1- الكافي: ج 3/44 ح 6، التهذيب: ج 1/85 ح 71، وسائل الشيعة: ج 1/467 ح 1240.
2- الكافي: ج 3/44 ح 6، التهذيب: ج 1/85 ح 71، وسائل الشيعة: ج 1/467 ح 1240.
الشكّ في وجود الحاجب

الفرع الثامن: إذا شكّ في أصل وجود الحاجب، يجب الفحص، أو المبالغة حتّى يحصل الاطمئنان بوصول الماء إلى البشرة، لقاعدة الاشتغال.

وعن غير واحدٍ: عدم وجوب الفحص، وعدم الاعتناء بشكّه، بل يبني على عدمه.

واستدلّ له: بعدّة وجوه:

الأوّل: بقاعدة المقتضي والمانع.

ثانياً: باستصحاب عدم الوجود.

وثالثاً: بالإجماع.

رابعاً: باستمرار السيرة التي يقطع فيها برأي المعصوم على عدم الفحص عن الحواجب عند الوضوء والغَسل، مع قيام الاحتمال كما هو الغالب.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا القاعدة: فلما عرفت مراراً في هذا الشرح من عدم حجيّتها.

وأمّا الاستصحاب: فجريانه يتوقّف على القول بالأصل المثبت الذي لا نقول به.

وأمّا دعوى الإجماع: فموهونة، لعدم تعرّض جُلّ الأصحاب له.

وأمّا السيرة: فلم تثبت في الموارد التي لا يطمئنون بعدم وجود الحاجب، إذ في غالب الموارد التي لا يعتنون باحتمال وجوده يطمئنون بالعدم، ولذا ترى أنّهم يعتنون بالشكّ في وجود قلنسوة على الرأس، مع أنّ عدم اعتنائهم بالشكّ لو ثبت يمكن أن يكون من جهة إفتاء المقلّدين بعدم وجوب الفحص.

***

ص: 377

وغَسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع، ولو عَكَس لم يجزء.

غسل اليدين
اشارة

(و) الثالث من واجبات الوضوء: (غَسل اليدين) إجماعاً(1)، بل يعدّ ذلك من ضروريّات الدِّين.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - الكتاب والسُنّة، وهذا ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام وقع في موارد:

المورد الأوّل: المشهور بين الأصحاب تعيّن أن يكون الغَسل (من المرفقين إلى أطراف الأصابع، ولو عَكَس لم يُجزء).

وعن الشهيد(2)، وابن إدريس(3)، والسيّد(4) في أحد قوليه: جواز النكس، ووافقهم أو مالَ إليه جماعةٌ من المتأخّرين.

وتشهد للمشهور: النصوص(5) المتضمّنة للوضوءات البيانيّة، بالتقريب المتقدّم

ص: 378


1- حكاه الشهيد في الذكرى: ص 85 وغيره.
2- لم يظهر منه القول في الذكرى بجواز النكس راجع ص 85، وقد أحال ذلك على غَسل الوجه، وقد مرَّ في الذكرى ص 83 كما ذكرنا.
3- السرائر: ج 1/99 حيث اعتبر أنّ النكس شديد الكراهة.
4- الانتصار: ص 99 فإنّه بعد دعوى أنّ الغسل من المرافق إلى أطراف الأصابع ممّا انفردت به الإماميّة، قال: (وفي أصحابنا من يظنّ وجوب ذلك حتّى أنّه لا يجزي خلافه، ثمّ قال: وقد علمنا أنّه إذا غَسل من المرافق إلى الأصابع كان مزيلاً للحدث عن اليدين بالإجماع واليقين وليس كذلك إذا غسل من الأصابع، فالذي قلناه أحوط).
5- وسائل الشيعة: ج 1/387 الباب 15 من أبواب الوضوء (كيفيّة الوضوء وجملة من أحكامه).

في غَسل الوجه، لاسيّما وفي بعضها أنّه (أفرغ الماء على ذراعه مِنَ المرفق إلى الكفّ لا يردّها إلى المرفق).

وما عن العيّاشي في «تفسيره»، عن صفوان، عن أبي الحسن عليه السلام، عن قوله تعالى: «(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ) (1).... قلت: فإنّه قال:

اِغْسلوا «أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ) فكيفَ الغَسل؟ قال: هكذا أنْ يأخذ الماء بيده اليمنى فيصبّه في اليسرى، ثمّ يفيضه على المرفق، ثمّ يمسح إلى الكفّ....

إلى أن قال: قلت له: أيردّ الشّعر؟ قال: إذا كان عنده آخر فَعَل وإلّا فلا»(2).

والمناقشة فيه: باحتماله رفع الوجوب الثابت حال التقيَّة من الغير(3).

في غير محلّها: لأنّ هذه المناقشة تجري في قوله: (وإلّا فلا)، ولا تجري في صدر الحديث الظاهر في تعيّن الغَسل من الأعلى.

وأيضاً: خبر الهيثم بن عروة التميمي، قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ) (4) فقلت: هكذا، ومَسَحتُ من ظهر كفّي إلى المرفق؟

فقال: ليس هكذا تنزيلها، إنّما هي (فاغسلوا وجوهكم و أيديكم من المرافق)، ثم أمَرَّ يده من مرفقه إلى أصابعه»(5).

وأيضاً: ما عن «إرشاد» المفيد، بسنده عن علي بن يقطين:3.

ص: 379


1- سورة المائدة: الآية 6.
2- تفسير العيّاشي: ج 1/300 ح 54، مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/311 ح 698.
3- هذه المناقشة للسيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/345.
4- سورة المائدة: الآية 6.
5- الكافي: ج 3/28 ح 5، التهذيب: ج 1/57 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/405 ح 1053.

«أنّه عليه السلام كتب إليه بعد صلاح حاله عند السلطان، وارتفاع التّهمة عنه: يا عليّ ابن يقطين توضّأ كما أمرك اللّه تعالى، اِغسِلْ وَجهَك مرّةً فريضةً، واُخرى إسباغاً، واغسِل يديك من المرفقين كذلك»(1).

وأورد على الاستدلال بها: أنّها مخالفة لما ورد في قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ) (2) فيتعيّن الإعراض عنها لمخالفتها مع الكتاب.

وفيه: أنّه لكون اليد موضوعة للعضو المخصوص بتمامه، وعند الإطلاق تنصرف إليه، فلو اُريد منها مقدارٌ من ذلك العضو، لابدَّ من تحديده وتقييده، فلفظة (إلى) يمكن أن تكون تحديداً للمغسول لا للغسل.

فالآية الشريفة: إمّا مطلقة أو مجملة.

فعلى الاُولى: تقيّد بالنصوص المتقدّمة.

وعلى الثانية: تكون هي مبيِّنة لاجمالها.

***6.

ص: 380


1- الإرشاد: ج 2/227، وسائل الشيعة: ج 1/444 ح 1173.
2- سورة المائدة: الآية 6.
وجوب غسل المرفق

المورد الثاني: المشهور بين الأصحاب لزوم غَسل المرفق.

وعن «الخلاف»(1)، و «المعتبر»(2) و «التذكرة»(3) و «كشف اللّثام»(4) وغيرها:

دعوى الإجماع عليه.

وعن «الخلاف»: نسبته إلى جميع الفقهاء إلّازُفَر(5).

ويشهد له: ما قاله الشيخ الطوسي رحمه الله في «الخلاف»: (قد ثبت عن الأئمّة عليهم السلام أنّ (إلى) في الآية بمعنى (مع)(6).

ولنِعْمَ ما أفاد الشيخ الأعظم رحمه الله: من أنّ دعوى القطع بالثبوت كدعوى التواتر أو الإجماع، فلا يقصر هذا المرسل عن الصحيح(7).

ثمّ إنّ المراد من كون (إلى) بمعنى (مع)، ليس استعمالها فيها مجازاً، بل بمعنى أنّ لفظة (إلى) استعملت فيما وضعت له وهو الانتهاء، ولكن بما أنّ مدخولها إذا كان شيئاً ذا أجزاء لا يُعقل أن يكون بتمامه غاية حقيقة، والّتي هي الحَدّ المشترك بين المغيّى وما هو خارجٌ منه، كالنقطة الموهومة التي ينقسم بها الخط، فلابدَّ من تقدير كلمةٍ يقتضيها المقام، كلفظ الأوّل أو الآخر.

ص: 381


1- الخلاف: ج 1/78 مسألة 26.
2- المعتبر: ج 1/143.
3- تذكرة الفقهاء: ج 1/157، المبحث الثالث: في غسل اليدين.
4- كشف اللّثام: ج 1/533 (ط. ج) الثالث: غسل اليدين.
5- المصدر السابق / وقال قبله الشريف المرتضى في الناصريّات ص 116: (وعندنا أنّ المرافق يجب غسلها مع اليدين، وهو قول جميع الفقهاء إلّازُفَر بن هُذيل وحده).
6- الخلاف: ج 1/78 مسألة 26.
7- كتاب الطهارة: ج 2/190، الفرض الثالث من فروض الوضوء.

وعلى ذلك، فمعنى كونها بمعنى (مع)، أنّ المقدّر هو الآخر مثلاً، فتكون الغاية على هذا داخلة في المغيّى لا خارجة عنه.

ويشهد لوجوب غسله: - مضافاً إلى ذلك - الصحيح الحاكي لوضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «فوضَع الماء على مرفقه فأمرَّ كفَّه على ساعده»(1).

أقول: ثمّ المعروف بين الأصحاب أنّ لزوم غَسل المرفق يعدّ وجوباً نفسيّاً لا مقدّميّاً.

وعن جماعة: كون وجوبه مقدّميّاً(2).

والأوّل أقوى، لظهور الخبرين في ذلك، إذ - مضافاً إلى أنّ ظاهر الأمر بالشيء في نفسه ذلك - أنّه في المقام من جهة أنّ وجوبه لو كان مقدّميّاً لما كان وجهٌ لتخصيصه بالذِّكر، لا محيص عن الالتزام به كما لا يخفى.

وبما ذكرناه ظهر أنّ ما عن جماعةٍ من تفسير (المرفق) بالخط الموهوم المفروض على محلّ التواصل والتداخل.

في غير محلّه، إذ ليس هو شيئاً موجوداً خارجيّاً كي يجب غَسله، وقد عرفت أنّ المرفق شيءٌ يجب غسله.

ولعلّه يرجع إلى هذا المعنى ما عن المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(3): من أنّ المِرفق).

ص: 382


1- الفقيه: ج 1/36 ح 74، وسائل الشيعة: ج 1/387 ح 1021.
2- اعتبر في الحدائق: ج 2/246 أنّ كلام العلّامة في المنتهى مُشعرٌ بذلك بقوله بعد نقل كلامه: (وهذا الكلام يُشعر بأنّ وجوب غسل المرفق عنده إنّما هو من باب المقدّمة). وكذلك الأمر في الفوائد المليّة في شرح النفليّة ص 28، فقد صرّح الشهيد في النفليّة باستحباب غسل ما بقي من المرفق، فبنى الشارح على أنّ وجوب غسل المرفق عنده من باب المقدّمة.
3- لم يصرّح في المنتهى بذلك، ولكنّه نتيجة لما تبنّاه فيه كما قاله الشيخ الأعظم في كتاب الطهارة: ج 2/193 بقوله: (فتعيّن أن يكون مبناه هو جعل المرفق طرف الساعد وفاقاً للمنتهى... الخ) وهو ظاهر قوله في نهاية الأحكام ج 1/38 بقوله: (ولأنّ المرفق طرف عظم الساعد).

طرفُ الساعد خاصّة، بأن يكون مراده بذلك طرفه الحقيقي، وعن بعض: أنّه رأس عظم الذراع(1).

وفيه: مضافاً إلى أنّه لا يساعد هذا التفسير وضعه المادّي، أنّه مخالفٌ لكلمات جُلّ العلماء وكلّ اللّغويّين.

ومنه يظهر ضعف ما عن آخر: من أنّه رأسُ عَظم العَضُد.

فالأقوى: أنّ المراد منه ما هو المشهور، وهو مجمع العظمين المتداخلين، وعلى ذلك فشيءٌ منه داخلٌ في الذراع، وشيءٌ منه في العضد كما في «الحدائق»(2).

وبما أنّه لا يترتّب على النزاع في معنى (المرفق) ثمرة مهمّة، لأنّه:

في صورة عدم قطع اليد يجبُ غَسل تمام البشرة المستديرة على موضع التداخل، على جميع التفاسير، كما هو مقتضى أدلّة وجوب غَسل المرفق، ولعلّه ممّا لا خلاف فيه.

وفي صورة قطع اليد من المرفق، بمعنى اخراج عظم الذراع من العضد يجبُ غَسل ما بقي من العضد بأيّ معنى أُخذ المرفق، للخبر الصحيح الذي رواه عليّبن جعفر عن أخيه عليه السلام:

«عن الرَّجُل قطعت يده من المرفق، كيف يتوضّأ؟ قال عليه السلام: يغسل ما بقي من عضده»(3).

فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك.

***2.

ص: 383


1- أشار إلى هذا المعنى السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/346.
2- الحدائق: ج 2/246 إلّاأنّه حكاه عن العلّامة في التذكرة، وهو اختياره في التذكرة: ج 1/159، واختيار الشهيد في الذكرى أيضاً ص 85.
3- الكافي: ج 3/29 ح 9، الفقيه: ج 1/48 ح 99، وسائل الشيعة: ج 1/479 ح 1272.
في غَسل باقي اليد المقطوع بعضها

المورد الثالث: من قطعت يده على ثلاثة أقسام:

الأوّل: من قطعت ممّا دون المرفق، وجب عليه غَسل ما بقي بلا خلافٍ، وعن «المدارك»(1) دعوى الإجماع عليه، وعن «المنتهى»(2) نسبته إلى أهل العلم.

ويشهد له: الخبر الحسن الذي رواه محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«سألته عن الأقطع اليد والرجل؟ قال عليه السلام: يغسلهما»(3).

وصحيح رفاعة عن الإمام الصادق عليه السلام: «سألته عن الأقطع اليد والرجل؟ قال عليه السلام: يغسل ذلك المكان الذي قطع منه»(4).

ونحوهما غيرهما.

وأمّا قاعدة الميسور: فقد عرفت في هذا الشرح غير مرّةٍ، من ضعف النصوص الدالّة عليها، وعدم دلالة تلك النصوص على عدم سقوط الميسور من الأجزاء بالمعسور منها.

الثاني: مَن قُطعت يده من فوق المرفق، فإنّه لا يجب عليه غَسل العضد كما هو المشهور(5)، وعن «المنتهى»(6) دعوى الإجماع عليه لعدم الدليل عليه.

ص: 384


1- مدارك الأحكام: ج 1/206.
2- منتهى المطلب: ج 2/36.
3- الكافي: ج 3/29 ح 7، التهذيب: ج 1/360 ح 15، وسائل الشيعة: ج 1/480 ح 1273.
4- التهذيب: ج 1/359 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/480 ح 1274.
5- وممّن نسبه الى المشهور السيّد الخوئي قدس سره في كتاب الطهارة: ج 4/105.
6- منتهى المطلب: ج 2/37.

وأمّا النصوص المتقدّمة، فالظاهر منها بحكم الغلبة هو الأقطع ممّا دون المرفق.

وإنْ شئت قلت: إنّ المراد منها المعنى الاسمي، ويشهد لذلك الإجماع على عدم وجوب غَسل العضد، فتدبّر.

الثالث: وأمّا مَن قُطعت يده من المرفق، فقد عرفت أنّ مقتضى صحيح عليّبن جعفر لزوم غَسل ما كان من العضد جزءً من المرفق.

***

ص: 385

حكم الشَّعر النابت دون المرفق

المورد الرابع: المشهور بين الأصحاب(1):

1 - وجوب غَسل الشَّعر النابت فيما دون المرفق، بل عن غير واحدٍ، منهم الشيخ الأعظم(2): دعوى الاتّفاق عليه.

واستدلّ له: بأنّه من توابع اليد، فيفهم من الأمر بغَسل اليد لزوم غَسل ذلك.

وفيه: ما تقدّم من أنّ التبعيّة في الخارج لا توجب التبعيّة في الدلالة.

فإذاً المعتمد هو الإجماع إن ثبت.

2 - وهل يجب غَسل البشرة، أم يكتفي بغَسل الشَّعر إذا كان كثيفا عن غسلها؟ وجهان: قد ادّعي الاتّفاق على الأوّل.

واستدلّ له: بإطلاق الأمر بغَسل اليدين، وبالإجماع.

أقول: أمّا الإطلاق، فيجب تقييده:

بالنصوص البيانيّة، فإنّ مقتضى تلك النصوص عدم وجوب غَسل ما لا يُغسَل بصبّ الماء مرّةً، وإمرار اليد عليه مرّةً واحدة.

وبعموم قوله عليه السلام: «كلّ ما أحاط به الشَّعر فليس للعباد أن يطلبوه»(3).

ودعوى: أنّه مذيّل بقوله عليه السلام: «ولكن يجري عليه الماء»، فهو مانعٌ عن إرادة

ص: 386


1- قال المحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد: ج 1/56 بعد تصريحه بوجوب غسل شعر البدن في الوضوء وإن كثف لتوقّف غسل اليد عليه: (لم أرى مصرّحاً بخلافه...).
2- كتاب الطهارة: ج 2/203.
3- عوالي اللآلي: ج 2/191 ح 83، التهذيب: ج 1/364 ح 36، وسائل الشيعة: ج 1/476 ح 1264، إلّاأنّ المذكور في نسخة العوالي (فليس للعباد أن يطلبوه)، وفي التهذيب ووسائل الشيعة: (فليس للعباد أن يغسلوه).

العموم من الموصول، لعدم جريان هذا الحكم في الرأس والرِّجلين، فيدور الأمر بين إرادة خصوص ما أحاط بالوجه، وبين ما هو أعمٌّ منه ومن ما أحاط باليدين، ولا أولويّة للثاني بعد احتياجه إلى سبق الذكر.

مندفعة: بأنّ تخصيص العام لا يوجب عدم حجّيته في الباقي، كما هو المحقّق في محلّه. وعليه فظاهر قوله: «كلّ ما أحاط... الخ» إرادة العموم، ولكن لابدَّ من تخصيصه بما في ذيله: «ولكن يجري عليه الماء»، وذلك لا يوجب عدم حجّيته فيما عدا مورد التخصيص، أو إرادة العهد من الموصول كي يجري فيه ما ذكر.

فإن قلت: إنّه معلوم أنّ قول السائل: «أرأيت... الخ»، ليس سؤالاً ابتدائيّاً، بل هو سؤال عمّا أحاط بالوجه من الشَّعر، كما يظهر لمن لاحظ الرواية صدراً وذيلاً، فلا مجال للأخذ بعموم الجواب.

قلت: إنّ المورد لا يكون مخصِّصاً، كما هو ثابت في محلّه.

وأمّا الإجماع: فعلى فرض ثبوته، بما أنّه يحتمل أن يكون مدرك المجمعين ما ذُكر، فلا يعتمد عليه.

وبالجملة: فالأقوى ما اختاره كاشف الغطاء من أنّه: (لو تكاثف عليها الشّعر أجزأ غَسله عن غَسل البشرة، والأحوط غَسلها)(1).

***3.

ص: 387


1- كشف الغطاء: ج 1/83.
لزوم غَسل اليد الزائدة

المورد الخامس: من كانت له يدٌ زائدة دون المرفق، وجب عليه غَسلها بلا خلافٍ.

وعن «المستند»(1): دعوى الاتّفاق عليه.

وعن «المدارك»(2): إنّه لا ريب فيه.

وعن شارح «الدروس»(3): أنّ عليه الإجماع.

وتشهد له: - مضافاً إلى ذلك - النصوص الدالّة على أنّه يجب غَسل ما دون المرفق بتمامه.

ومنه يظهر حكم ما في الحَدّ من اللَّحم الزائد، والإصبع الزائدة، بل الحكم فيهما أظهر لأنّهما من أجزاء اليد عرفاً.

وأمّا من له لحمٌ زائد فوق المرفق:

فإنْ لم يصدق عليه اليد، بل كان لحماً زائداً، لا إشكال في عدم وجوب غَسله، لكونه فوق الحدّ.

وإنْ صدق عليه اليد:

فتارةً: تكون ذات مرفق.

واُخرى: لا تكون ذات مرفق.

ص: 388


1- مستند الشيعة: ج 2/105.
2- مدارك الأحكام: ج 1/206.
3- مشارق الشموس في شرح الدروس: ج 1/109، قوله بعد ذكر الحكم: (لم نقف على خلافٍ بين الأصحاب في هذا الحكم.. إلى أن قال: وإن أمكن المناقشة فيه، لكن التعويل على الشهرة بل الإجماع ظاهراً مع رعاية الاحتياط.. الخ).

وعلى الاُولى: فتارةً يعلم الزائدة عن الأصليّة، واُخرى لا يعلم.

وثالثة: تكونا أصليّتين، يعني متساويتين في الخِلقة من جميع الجهات واقعاً.

أقول: الأقوى لزوم الغَسل في جميع الصور لإطلاق الأدلّة.

ودعوى: أنّه لا يجب في الصورة الاُولى، لانصراف الإطلاقات إلى المتعارف في خلقة الإنسان، ولتثنية اليد في جملةٍ من النصوص، وهما وإنْ اقتضيا عدم وجوب غَسل الزائدة في الصورة الثانية، إلّاأنّه يجب فيها ذلك مقدّمةً لا أصالة، ويتخيّر في غَسل أيّتهما، ولا في الصورة الثالثة، لعدم وجوب غَسل أزيد من اليدين، كما تقتضيه جملةٍ من النصوص، وحيثُ لا امتياز لإحداهما على الاُخرى فيتخيّر.

وأمّا الصورة الرابعة فاليد الزائدة لا تكون مشمولة للنصوص الآمرة بالغَسل من المرفق، لعدم ثبوته لها.

مندفعة: بأنّ التعارف لا يوجب انصراف الإطلاق بنحوٍ يعتمد عليه، كما أشرنا إليه مراراً، بل هو انصرافٌ بدوي زائلٌ بأدنى تأمّل.

والنصوص المشتملة على تثنية اليد لا مفهوم لها كي تدلّ على عدم وجوب غَسل الزائدة، وتوجب تقييد إطلاق الأدلّة الاُخر.

وأمّا اليد الزائدة التي لا مرفق لها، فحكمها حكم اليد الأصليّة التي ليس لها مرفق.

فتحصّل: أنّ الأقوى لزوم غَسل اليد الزائدة مطلقاً أصالةً لا مقدّمةً، وعليه فيجوز مسح الرأس والرجل بها، لإطلاق ما دلَّ على أنّ المسح بما بقي من البلّة في اليد.

***

ص: 389

الوضوء الإرتماسي

المورد السادس: يصحّ الوضوء بالارتماس اتّفاقاً، كما عن ظاهر «الجواهر»، ويشهد له إطلاق أدلّة الغسل.

ودعوى: أنّه بناءً على اعتبار الجريان في مفهوم الغَسل، لابدَّ من عدم الاكتفاء بالارتماس، فهذا الاتّفاق كاشفٌ عن عدم أخذه في مفهومه.

مندفعة: بأنّ معقد هذا الاتّفاق عدم وجوب الصبّ والإكتفاء بالرمس، ولا يدلّ على عدم اعتبار شيءٌ آخر فيه.

أقول: ثمّ إنّه يعتبر في الارتماس أمران:

1 - قصد الوضوء بالغَسل حال الإخراج، بنحو يكون جريان الماء على الكفّ بعد الإخراج أيضاً جزءً من الوضوء، وبقاءً لغسله، لئلّا يلزم المسح بالماء الجديد.

2 - مراعاة الأعلى فالأعلى في الغَسل، لما تقدّم من اعتبارها في الوضوء، وعليه فلابدَّ من تحريك اليد في الماء تدريجاً، كي يتحقّق الأعلى فالأعلى تدريجاً.

ومنه يظهر صحّة الوضوء بماء المطر، بأن يقوم تحت السماء حال نزول المطر، فيقصد بنزوله الغَسل مع مراعاة الأعلى فالأعلى.

ويشهد له: مضافاً إلى ذلك صحيح ابن جعفر، عن أخيه عليه السلام:

«عن الرجل لا يكون على وضوءٍ فيصيبه المطر حتّى يبتلّ رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه، هل يُجزيه ذلك من الوضوء؟

قال عليه السلام: إنْ غَسَله فإنّ ذلك يُجزيه»(1).

***

ص: 390


1- التهذيب: ج 1/359 ح 12، الاستبصار: ج 1/75 ح 9، وسائل الشيعة: ج 1/454 ح 1201.

المورد السابع: إذا شكّ في شيء أنّه من الظاهر حتّى يجب غَسله، أو من الباطن فلا يجب؟

فإنْ كان سابقاً من الباطن، وشكّ في أنّه صار ظاهراً أم لا، كجوف الشقوق التي تحدث على ظهر الكفّ، فإنّه لا يجب غَسله، لاستصحاب كونه من الباطن، سواءٌ أكانت الشبهة مصداقيّة أم مفهوميّة بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات المفهوميّة.

ودعوى: أنّه لا يثبت به حصول الطهارة إلّابناءً على القول بالأصل المثبت.

مندفعة أوّلاً: بما تقدّم من أنّ الطهارة من عناوين الوضوء لا شيء يحصل منه.

وثانياً: بأنّ بيان المحصّل إذا كان من وظائف المولى، تجري الاُصول فيه، كما حقّقناه في محلّه.

وبذلك يظهر وجه آخر لعدم وجوب الغَسل وهو أصالة البراءة، وأنّه لا يجب الغَسل مع الجهل بالحالة السابقة.

نعم، إذا كان سابقاً من الظاهر، ثمّ شكّ في أنّه صار من الباطن أم لا؟ وجب غسله للاستصحاب.

***

ص: 391

مَسْحُ بَشَرة مقدّم الرأس أو شعره بالبَلَل، من غير استئناف ماءٍ جديد، بأقلّ ما يقع عليه اِسمُ المَسح.

مَسحُ الرأس
اشارة

الرابع من فروض الوضوء: مسحُ الرأس كتاباً وسُنّةً وإجماعاً بين المسلمين، كما في «الجواهر»(1).

(و) يعتبر فيه (مَسحُ بَشَرة مقدم الرأس، أو شعره بالبَلَل من غير استئناف ماءٍ جديد بأقلّ ما يقع عليه اسم المسح).

فهاهنا فروع:

الفرع الأوّل: الواجب هو مسح بعض الرأس لا تمامه إجماعاً، ويشهد له صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام المتضمّن لاستدلاله عليه السلام لهذا الحكم بالآية الشريفة:

(وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) (2) .

وفي الحديث: «ثم فصَّل بين الكلامين، فقال: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال «بِرُؤُسِكُمْ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء»(3).

وفي صحيح زرارة وبكير، عنه عليه السلام: «فإذا مَسَحت بشيءٍ من رأسك، أو بشيءٍ من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع، فقد أجزأك»(4).

ص: 392


1- جواهر الكلام: ج 2/170.
2- سورة المائدة: الآية 6.
3- الكافي: ج 3/30 ح 4، الفقيه: ج 1/103 ح 212، وسائل الشيعة: ج 3/364 ح 3878 وفيها: (ثمّ فصَّل بين الكلام) إلّانسخة التهذيب: (ثمّ فصَّل بين الكلامين): ج 1/61 ح 17، ومثله الاستبصار: ج 1/62 ح 5.
4- التهذيب: ج 1/90 ح 86، الاستبصار: ج 1/61 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/414 ح 1076.

ومقتضى إطلاقهما كفاية المسمّى عرضاً وطولاً، كما نسب إلى المشهور، بل عن بعضهم: إنّ نقل الإجماع عليه مستفيض.

ولا ينافي ذلك ما عن «المختلف»(1): (من أنّ المشهور بين الأصحاب أنّ المُجزي مسح مقدار عرض إصبع واحدة).

لأنّ الظاهر أنّ مرادهم هو الاكتفاء بالمسمّى، كما يشهد له الاستدلال لهم بنصوص كفاية المُسمّى.

قيل: كما عن الشيخ في «التهذيب»(2) والشهيد في «الذكرى»(3)و «الدورس»(4): عدم الاكتفاء بأقلّ من إصبع واحدة، واستدلّ له بمرسل حمّاد، عن أحدهما عليهما السلام:

«في الرجل يتوضّأ وعليه العمامة؟ قال عليه السلام: يرفع العمامة بقدر ما يُدخِل إصبعه فيمسح على مقدّم رأسه»(5).

وفي خبره الآخر عن الحسين، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قلت له:

«رجلٌ توضّأ وهو معتمٌّ فثقُل عليه نزع العمامة لمكان البرد؟ فقال:

ليدخل إصبعه»(6).

ولايبعد اتّحاد الخبرين.3.

ص: 393


1- مختلف الشيعة: ج 1/289 قوله: (المشهور بين علمائنا الاكتفاء في مسح الرأس والرِّجلين بإصبع واحد، اختاره الشيخ في أكثر كتبه... الخ).
2- التهذيب: ج 1/79، عقيب الرواية 85 من الباب الرابع من كتاب الطهارة.
3- الذكرى: ص 86.
4- الدروس: ج 1/92.
5- التهذيب: ج 1/90 ح 87، الاستبصار: ج 1/60 ح 3، وسائل الشيعة: ج 1/411 ح 1068 و ص 416 ح 1082.
6- الكافي: ج 3/30 ح 3، التهذيب: ج 1/90 ح 88، وسائل الشيعة: ج 1/416 ح 1083.

وفيه: أنّ الإصبع و الرأس غير مسطحين، فمسح الرأس بإصبع واحدة لا يوجب مَسح مقدار عرض إصبع واحدة، بل ما يمسح بها يكون أقلّ من ذلك، فهو أيضاً يدلّ على المختار.

مع أنّ الظاهر وروده في مقام بيان عدم وجوب رفع العمامة.

ودعوى: «الفقيه»(1) و «خلاف» السيّد(2) وكتاب «عمل يوم وليلة»(3): وجوب المسح بثلاث أصابع مضمومة، واستدلالهم له:

بخبر معمّر بن عمر، عن الإمام الباقر عليه السلام: «يجزي من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع وكذلك الرجل»(4).

ومصحّح زرارة، عنه عليه السلام: «المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع، ولا تُلقي عنها خمارها»(5). بناءً على عدم الفصل بين الرجل والمرأة.

وما عن محمّد بن عيسى، عن حريز: «فيما يُجزي مسحه من الرأس مقدار ثلاث أصابع، وأشار إلى السبابة والوسطى والثالثة»(6). بدعوى أنّ مثل حريز لا يفتي في الشرعيّات إلّابما سمعه(7).1.

ص: 394


1- الفقيه: ج 1/45، في تعليقه على الرواية 88 من باب حَدّ الوضوء وترتيبه وثوابه.
2- نقل الحكاية عنه في كشف اللّثام: ج 1/540 (ط. ج). وفي رسائل المرتضى: ج 3/24 اعتبر أنّ مَسح مقدّم الرأس بثلاث أصابع فرض، إلّاأنّه قال أيضاً: (ويجزي إصبع واحد).
3- الرسائل العشر للشيخ الطوسي (عمل يوم وليلة): ص 142.
4- الكافي: ج 3/29 ح 1، التهذيب: ج 1/60 ح 16، وسائل الشيعة: ج 1/417 ح 1086.
5- الكافي: ج 3/30 ح 5، التهذيب: ج 1/77 ح 44، وسائل الشيعة: ج 1/416 ح 1084.
6- رجال الكشّي: ص 336 ح 616، مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/316 ح 709، ونصّ الحديث: «قلت لحريزيوماً: يا عبد اللّه كم يُجزيك أن تمسح من شعر رأسك في وضوئك للصلاة؟ قال: مقدار ثلاث أصابع وأومأ إلى السبّابة والوسطى والثالثة، وكان يونس يذكر عنه فقهاً كثيراً».
7- هذه الدعوى استظهرها الشيخ الأعظم (الأنصاري) في كتاب الطهارة: ج 2/211.

ممنوعة أوّلاً: أنّ دلالتها على كون ذلك أقلّ المجزي محلّ تأمّل، لتوقّفها على حجيّة مفهوم العدد، ولا نقول بها، خبر معمّر ضعيف السند، وخبر زرارة أسند الإجزاء فيه إلى مجموع مسح ذلك المقدار وعدم إلقاء الخمار، ويحتمل أن يكون إطلاقه بلحاظ القيد الأخير.

وبذلك ظهر ضعف ما عن الإسكافي(1): من الفرق بين الرجل والمرأة، وأنّ الرجل يكتفي بإصبع واحدة، والمرأة لا يجزيها إلّاالثلاث.

أمّا خبر محمّد بن عيسى فإنّه يحتمل فيه تطرّق الاجتهاد فيما أفتى به حريز.

وأمّا صحيح الناصية الآتي الظاهر في تعيّن مسح تمام الناصية، فهو لا يدلّ على هذا القول، إذ ضلعها الفوقاني أعرض من ثلاث أصابع، والتحتاني أقلّ.

أقول: وبما ذكرناه ظهر ضعف ما عن الشيخ في «النهاية»(2)، حيث فصّل بين الضرورة فتكفي الإصبع، وبين الاختيار فلابدَّ من الثلاث، بدعوى أنّ خبر معمّر ومصحّح زرارة يدلّان على اعتبار الثلاث مطلقاً.

ولكن يقيّد إطلاقهما بمرسل حمّاد المتقدّم، المحمول على الضرورة، لما عرفت من عدم دلالتهما على اعتبار الثلاث، مع أنّ المتمكّن من إدخال إصبع واحدة، متمكّن من إدخال الثلاث غالباً، فلا وجه لدعوى حمل المرسل على الضرورة.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّه على فرض ظهور ما تقدّم في وجوب أنْ يكون الممسوح مقدار ثلاث أصابع، يتعيّن حمله على الاستحباب بقرينة مرسل حمّاد المتقدّم.4.

ص: 395


1- كما حكاه عنه الشهيد في الذكرى: ص 86 حيث قال: (وابن الجنيد يجزي في المقدّم إصبع والمرأة ثلاث أصابع).
2- النهاية: ص 14.

فتحصّل: أنّ الأقوى كفاية المسمّى عَرَضاً.

وأمّا بحسب الطول: فمقتضى إطلاق الصحيحين المتقدّمين، الاكتفاء بالمسمّى أيضاً.

وعن «اللّوامع» و «شرح الدروس»(1): دعوى الاتّفاق عليه، بدعوى أنّ من قال بوجوب الثلاث إنّما قال في عرض الرأس لا طوله.

وعن «المسالك»(2) و «جامع المقاصد»(3): وقوع الخلاف فيه.

وكيف كان، فالظاهر أنّ المستفاد من نصوص الثلاث هو التقدير العَرْضي، إذ خبر معمّر بقرينة عطف الرجل كالصريح في ذلك، وهو يكون قرينة لإرادة ذلك من مصحّح زرارة، وأمّا صحيح الناصية فقد عرفت ما فيه.

ودعوى: أنّ الظاهر من نصوص الثلاث، كون التحديد بثلاث أصابع تحديداً للعَرْض بعرضها وللطول بطولها، فتدلّ على اعتبار طول الإصبع في طرف الطول.

مندفعة: بأنّ خبر معمّر بقرينة عطف (الرَّجل) يأبى عن ذلك.

فتحصّل: أنّ الأقوى كفاية المسمّى طولاً أيضاً، وإنْ كان الأحوط أن يكون المسح بمقدار عرض ثلاث أصابع بطول إصبع.

***8.

ص: 396


1- مشارق الشموس في شرح الدروس: ج 1/114، حيث اختار في الطول المسمّى، ثمّ قال: (هذا، والاحتياط أن لا يترك المسح بثلاث أصابع عرضاً بل طولاً أيضاً).
2- راجع مسالك الأفهام: ج 1/38.
3- راجع جامع المقاصد: ج 1/218.
اختصاص المسح بمقدم الرأس

الفرع الثاني: المعروف بين الأصحاب والذي لا نقاش ولا كلام فيه أنّ موضع المسح، هو الرُّبع المقدّم من الرأس، فلا يجزي مسح المؤخّر، أو أحد الجانبين.

وفي «طهارة» الشيخ الأعظم رحمه الله(1): بلا خلافٍ.

وعن «الانتصار»(2): إنّه ممّا انفردت الإماميّة به.

وعن «الخلاف»(3) و «كاشف اللّثام»(4): دعوى الإجماع عليه.

وتشهد له: - مضافاً إلى ذلك - جملة من النصوص:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «مسح الرأس على مقدمه»(5).

ومنها: الحسن كالصحيح، المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام: «امسح على مقدم رأسك»(6).

ونحوهما غيرهما.

ولذلك يتعيّن طرح الخبر الذي رواه الحسين بن أبي العلاء، قال:

«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: امسح الرأس على مقدمه ومؤخّره»(7).

ص: 397


1- كتاب الطهارة: ج 2/221.
2- الانتصار: ص 103، (مسألة 11: حَدّ مسح الرأس).
3- الخلاف: ج 1/81-82، مسألة: 29.
4- كشف اللّثام: ج 1/542.
5- التهذيب: ج 1/62 ح 20 و ص 91 ح 90، وسائل الشيعة: ج 1/410 ح 1066.
6- الكافي: ج 3/29 ح 2، وسائل الشيعة: ج 1/418 ح 1088.
7- التهذيب: ج 1/62 ح 19، وسائل الشيعة: ج 1/412 ح 1071.

أقول: إنّما الكلام في الجمع بين هذه النصوص، وبين نصوص الناصية:

ففي مصحّح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، في حديث: «وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك»(1).

وفي خبر ابن زيد، عن الإمام الصادق عليه السلام الوارد في مسح المرأة: «وإذا كان الظهر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها»(2).

وأنّه هل يكون بحمل الناصية على المقدّم؟

أو بحمل المقدّم على الناصية؟

أو بتقييد نصوص المقدّم بنصوص الناصية؟

أو بحمل النصوص الأخيرة على الاستحباب؟

أقول: الأقوى من هذه الوجوه هو الأوّل، إذ المقدّم لا إجمال في مفهومه عرفاً، وهو ما يقابل المؤخّر والجانبين. وأمّا النّاصية فهي مجملة:

المحكيّ عن جماعة من اللّغويّين: (أنّها ما بين البياضين من الجانبين فوق الجبهة)(3).

وعن «المصباح»(4) والبيضاوي: (أنّ المراد بها مقدّم الرأس).

وعن جماعةٍ: تفسيرها بشعر مقدم الرأس(5).ه.

ص: 398


1- الكافي: ج 3/25 ح 4، التهذيب: ج 1/360 ح 13، وسائل الشيعة: ج 1/387 ح 1021 و ص 436 ح 1142.
2- التهذيب: ج 1/77 ح 43، وسائل الشيعة: ج 1/414 ح 1077.
3- اعتبر صاحب العروة الوثقى: ج 1/383: أنّ هذا التعريف للناصية هو الأولى والأحوط.
4- المصباح المنير: ج 2/609.
5- كتاب العين: ج 7/159 مادّة: نصو، قال: (الناصية قصاص من الشّعر في مقدم الرأس)، وقالها البغوي في تفسيره: ج 1/480، وغيره.

وهكذا يتبيّن أنّها ليست من المفاهيم المبيّنة عند العرف، وعلى ذلك فيتعيّن حمل الناصية على المقدّم حملاً للمجمل على المبين.

فإن قلت: إنّ المقدّم أيضاً مجملٌ لما عن «القاموس»(1) أنّ من معاني المقدّمة:

الجبهة والناصية.

قلت أوّلاً: إنّ مجرّد كون الناصية من معاني المقدم، لا يكون سبباً لكونه مجملاً بعد كونه في نفسه ظاهراً في الرُّبع المقدّم كما عرفت.

وثانياً: أنّ الناصية التي في كلام صاحب «القاموس» أيضاً مجملة، ولعلّه أراد بها الرّبع المقدّم.

وثالثاً: أنّ ما في «القاموس» أنّ الناصية أحدُ معاني المقدّمة، لا أحد معاني مقدم الرأس.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى حمل الناصية على المقدّم، فلا تنافي بين النصوص.

***).

ص: 399


1- القاموس المحيط: ج 1/1481 فصل القاف، قوله: (مقدمة الجيش... ومن كلّ شيء أوّله والناصية والجبهة).
لزوم كون المسح بنداوة الوضوء

الفرع الثالث: يجب أن يكون المسح بنداوة الوضوء، ولا يجوز استئناف ماءٍ جديدٍ، بلا خلاف بيننا(1)، بل عن الشيخ(2) والسيّدين(3): دعوى الإجماع عليه.

وتشهد له: جملةٌ من النصوص:

منها: مكاتبة أبي الحسن عليه السلام لعليّ بن يقطين بعد أمره بالوضوء على وجه التقيَّة، وفَعَل ابن يقطين، وصلاح حاله عند الخليفة، كتب إليه عليه السلام:

«يا علي! توضّأ كما أمر اللّه تعالى، اِغسل وجهك مرّة واحدة فريضةً، واُخرى إسباغاً، واغسل يديك من المرفقين، وامسح مقدّم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنّا نخاف عليك»(4).

ومنها: الصحيح المتضمّن لأمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالوضوء ليلة المعراج، وفيه:

«ثمّ امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء ورجليك إلى كعبيك»(5).

ودعوى: إجماله لأنّه من قضايا الأحوال.

مندفعة: بأنّه مشتملٌ لأمره صلى الله عليه و آله به، وهو ظاهرٌ في الوجوب، مضافاً إلى أنّ حكاية الإمام عليه السلام له تكون ظاهرة في ذلك.

ص: 400


1- قال السيّد العاملي في مدارك الأحكام: ج 1/210: (هذا ما استقرّ عليه مذهب الأصحاب بعد ابن الجنيد).
2- الخلاف: ج 1/81-82، مسألة 28 وبعد استدلاله بعموم الآية قال: (ونخصّها بدليل إجماع الفرقة).
3- الانتصار: ص 103-104، مسألة 12، ورسائل المرتضى أيضاً: ج 2/119-120، والسيّد ابن زُهرة في غنية النزوع: 58.
4- وسائل الشيعة: ج 1/444 ح 1173، كشف الغمّة: ج 2/225، ومثله ما في الصراط المستقيم: ج 2/192 ح 21 مع اختلافٍ يسير بينهما في الألفاظ.
5- وسائل الشيعة: ج 1/390 ح 1024.

ودعوى عدم ورودها في مقام البيان كما ترى.

ومنها: مصحّح زرارة المتقدّم: «فقد يُجزيك من الوضوء ثَلاث غَرَفات، واحدة للوجه، واثنتان للذراعين، وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك»(1).

ودعوى: أنّه يحتمل أن تكون كلمة (وتمسح) عطفاً على ثلاث غَرَفات، فلا يدلّ إلّاعلى الأجزاء وهو أعمّ من الوجوب.

مندفعة: بأنّه لأجل احتياج العطف إلى التقدير بالمصدر - وهو خلاف الظاهر - لايعتنى بهذا الاحتمال.

هذا كلّه، مضافاً إلى النصوص البيانيّة المتضمّنة لعدم استئناف الماء.

وأيضاً: يمكن الاستدلال له بمرسل خَلَف بن حمّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«الرجل ينسى مسح رأسه وهو في الصلاة؟ قال عليه السلام: إنْ كان في لحيته بلل فليمسح به.

قلت: فإنْ لم يكن له لحية؟ قال عليه السلام: يمسح من حاجبيه أو من أشفار عينيه»(2).

وأورد عليه بايرادين:

1 - إنّه ظاهر في صحّة الصلاة مع نقص الوضوء.

وفيه: أنّه غير متضمّن لحكم الصلاة سؤالاً وجواباً، وإنّما هو في مقام بيان حكم الوضوء، وأنّ الدخول في الصلاة لا يكون من موانع صحّة الوضوء، إذا كان في اللّحية أو الحاجبين أو أشفار العينين بلل.

2 - إنّه غير ظاهر في الوجوب، لاحتمال كون ما ذكر فيه من جهة كونه أقرب7.

ص: 401


1- الكافي: ج 3/25 ح 4، التهذيب: ج 1/360 ح 13، وسائل الشيعة: ج 1/387 ح 1021 وص 436 ح 1142.
2- الاستبصار: ج 1/59 ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/407 ح 1057.

إلى المحافظة على بقاء الهيئة الصلواتيّة وعدم حصول المنافي.

وفيه: أنّ هذه الاحتمالات لا يُعتنى بها في مقابل ظهور الجملة الخبريّة في الوجوب.

ومنها: خبر ابن أعين، عنه عليه السلام: «ومَنْ نَسي مسح رأسه ثمّ ذكر أنّه لم يمسح رأسه، فإنْ كان في لحيته بلل فليأخذ منه، وليمسح رأسه، وإنْ لم يكن في لحيته بللٌ فلينصرف وليعد الوضوء»(1).

ونحوه مرسل «الفقيه»(2).

أقول: وأمّا النصوص الظاهرة في تعيّن المسح بماءٍ جديد، كموثّق أبي بصير، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسح الرأس؟ قلت: امسَحُ بما على يديّ من النداوة؟ قال عليه السلام:

«لا بل تضع يدك في الماء ثمّ تمسح»(3).

ونحوه خبرا ابن عمارة(4) ومعمّر(5).

فيتعيّن حملها على التقيَّة لموافقتها لمذهب كثيرٍ من العامّة، ومخالفتها لمذهب الخاصّة، والنصوص المتقدّمة.

وأمّا ما يدلّ على جواز ذلك، كخبر أبي بصير عنه عليه السلام:1.

ص: 402


1- التهذيب: ج 2/201 ح 89، وسائل الشيعة: ج 1/409 ح 1063
2- الفقيه: ج 1/60 ح 135.
3- التهذيب: ج 1/59 ح 13، الاستبصار: ج 1/59 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/408 ح 1060.
4- التهذيب: ج 1/59 ح 15، وسائل الشيعة: ج 1/409 ح 1062.
5- التهذيب: ج 1/58 ح 12، الاستبصار: ج 1/58 ح 3، وسائل الشيعة: ج 1/409 ح 1061.

«إنْ كان قد استيقن ذلك انصرف ومَسحَ على رأسه ورجليه، واستقبل الصلاة، وإنْ شَكّ فَلم يدر مَسَح أو لم يمسح فليتناول من لحيته إنْ كانت مبتلّة وليمسح على رأسه، وإنْ كان أمامه ماءٌ فليتناول منه، فليمسح به رأسه»(1).

وبالجملة: فالجمع بينه وبين النصوص المتقدّمة، وإنْ كان يقتضي حملها على الاستحباب إلّاأنّه لإعراض الأصحاب عنه لا يُعتنى به.

***0.

ص: 403


1- التهذيب: ج 2/201 ح 88، وسائل الشيعة: ج 1/471 ح 1250.
لزوم كون المَسح بنداوة اليد

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الآية الشريفة، والنصوص الآمرة بالمسح، ومكاتبة ابن يقطين، وإنْ كان جواز المسح برطوبة الوضوء، وإنْ كانت من سائر الأعضاء غير اليد - وهو الذي يقتضيه إطلاق كلام كثير، وعن «المدارك»(1) والعلّامة الطباطبائي(2): اختياره - إلّاأنّه يتعيّن تقييده بمصحّحي زرارة وبكير المتقدّمين، والنصوص البيانيّة الظاهرة في تعيّن أن يكون بنداوة اليد، وبمرسل «الفقيه» الظاهر في الترتيب الشرعي بين المسح بما في اليد من النداوة، وبين الأخذ من اللّحية وغيرها من المواضع.

ودعوى: أنّ جري المقيّدات مجرى العادة يمنعُ من الظهور في الاشتراط، فهذه النصوص واردة في مقام بيان الأسهل فالأسهل.

مندفعة: بأنّ حمل النصوص الواردة عن المعصومين عليهم السلام على بيان غير الحكم الشرعي خلاف الظاهر.

وبالجملة: فالأقوى ما عن «المبسوط»(3) و «السرائر»(4) وكثير من كتب المصنّف رحمه الله(5) والشهيد(6) من عدم جواز أخذ البلل من غير اليد مع وجوده فيها.

ص: 404


1- مدارك الأحكام: ج 1/212-213، إلى أن قال: (ولا يختصّ الأخذ بهذه المواضع، بل يجوز من جميع محال الوضوء).
2- رياض المسائل: ج 1/231.
3- المبسوط: ج 1/21، وهو ظاهر قوله: (فإنْ لم يبقى معه نداوة أخذ من لحيته).
4- السرائر: ج 1/99، ثمّ تحدث عن الانتقال للأخذ من اللّحية والحاجب ص 103.
5- قواعد الأحكام: ج 1/203، الخامس: مسح الرِّجلين. مختلف الشيعة: ج 1/296-298، منتهى المطلب: ج 2/53، العاشر. تذكرة الفقهاء: ج 1/165 مسألة 49.
6- الدروس: ج 1/92، الذكرى ص 86، السادس يجب المسح بفضل نداوة الوضوء.

ثمّ إنّه بناءً على ذلك:

هل يجب الاقتصار على ما في الكفّ من البلل، على القول بلزوم أن يكون المسح بها؟

أم يجوز الأخذ من سائر أجزاء اليد؟ وجهان:

من إطلاق اليد في النصوص، ومن قوّة احتمال الانصراف إلى بلل ما يجبُ المسح به، كما في طهارة شيخنا الأعظم رحمه الله(1).

أقول: ويشهد لعدم جواز الأخذ من الذراع - مضافاً إلى الإنصراف - ما في بعض الأخبار البيانيّة، كصحيح زرارة وبكير، المتضمّن لحكاية أبي جعفر عليه السلام وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه لم يجدّد ماء»(2).

مضافاً إلى ما في «الجواهر» من: (أنّ المتبادر من إطلاق لفظ (اليد) في النصّ والفتوى الكفّ، فيكون حدّها الزند، كما أشار إلى ذلك الطباطبائي في منظومته)(3).

حكم فقدان البلّة

1 - ولو جفَّ ما على يده من الرطوبة، أخذ من سائر الأعضاء كما هو المشهور، ويشهد له مرسلا «الخلاف» و «الفقيه» المتقدّمان.

ولا يختصّ ذلك باللّحية والحاجبين وأشفار العينين، كما عن جماعةٍ من

ص: 405


1- كتاب الطهارة: ج 2/235، قوله - بعد ذكر إطلاق اليد وباطن أصابع الكفّ: - (وجهان: من الإطلاق، وقوة احتمال انصرافه إلى بلل ما يجب المسح به، وعليه فلا يجوز الأخذ من ظاهر اليد فضلاً عن الذراع مع وجود البلل من الباطن).
2- الاستبصار: ج 1/57 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/392 ح 1030.
3- جواهر الكلام: ج 2/185.

الأساطين التصريح به، ويشهد له ذيل مرسل «الفقيه» المتقدّم(1).

وظاهر المرسلين وإنْ كان هو الترتيب بين بلل اللّحية وبلل غيرها، إلّاأنّه لأجل ما ادّعى من الإجماع على انتفائه، ترفع اليد عنه.

2 - ثمّ إنّه هل يجوز الأخذ ممّا خرج من اللّحية عن حَدّ الوجه كالمسترسل منها، أم لا؟ وجهان:

استدلّ للأوّل: باستحباب غَسله جزء من الوضوء، فيصدق على ما فيه من الرطوبة أنّها نداوة الوضوء.

وبصدق الماء المستعمل في الوضوء، ما لم ينفصل من المحلّ العرفي للغسل على ما في المسترسل من الندواة وإنْ لم يكن غسله مستحبّاً.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لم يدلّ دليل على استحباب غَسله كذلك، مع أنّه لم يدلّ دليل على جواز الأخذ من بلّة الوضوء مطلقاً، حتّى من الأجزاء المستحبّة.

فتأمّل فإنّ مقتضى إطلاق ذيل مرسل «الفقيه» المتقدّم جواز ذلك مطلقاً.

وأمّا الثاني: فلأنّ ما يجوز الأخذ منه، ليس هو الماء المستعمل في الوضوء، ليدور الحكم مدار هذا العنوان، بل هو بلّة الوضوء.

وعدم صدق هذا العنوان، على الرطوبة الموجودة في المواضع التي لا يجب غسلها واضح.

فالأقوى عدم جواز الأخذ منه.

3 - وإنْ لم تبق نداوة في شيء من محالّ الوضوء، استأنف كما هو المشهور شهرة).

ص: 406


1- الفقيه: ج 1/60 ح 134، وسائل الشيعة: ج 1، ص 409، ح 1064، وفيه: (ترتيب في المسح بعد فقد نداوة اليد من الأخذ من اللّحية، وإلّا فالحاجب وأشفار العيون).

عظيمة، لتوقّف امتثال الأمر بالوضوء عليه، ولجملةٍ من النصوص:

كخبر مالك بن أعين، عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَنْ نَسي مسح رأسه ثمّ ذكر أنّه لم يمسح رأسه، فإنْ كان في لحيته بلل فليأخذ منه ويمسح رأسه، وإنْ لم يكن في لحيته بلل، فلينصرف وليعد الوضوء»(1).

ونحوه غيره.

هذا إذا أمكنه المسح بنداوة الوضوء بالاستئناف.

4 - وأمّا لو تعذّر ذلك، فهل يجب عليه المسح بلا رطوبة، أو بماء خارجي، أم يسقط عنه المسح أو الوضوء وينتقل فرضه إلى التيمّم؟

وجوه، وبعضها أقوال:

استدلّ(2) لعدم سقوط الوضوء والمسح:

أوّلاً: بقاعدة الميسور الدالّة على صحّة الوضوء الناقص، المقدّمة على أدلّة بدليّة التيمّم، لأنّها تدلّ على البدليّة في صورة العجز عن الوضوء الصحيح.

وثانياً: بخبر عبد الأعلى مولى آل سام، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: عثرتُ فانقطع ظُفري، فجعلتُ على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه، (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (3)أمسح عليه»(4).

وثالثاً: باستصحاب وجوب المسح، فإنّه يدلّ على لزوم الوضوء الناقص.

ورابعاً: بإطلاق أدلّة المسح، فإنّ ما دلّ على اعتبار كون المسح بنداوة الوضوء1.

ص: 407


1- التهذيب ج 2 ص 201 ح 89، وسائل الشيعة: ج 1/409 ح 1063.
2- أورد هذا الاستدلال السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/395 مسألة 31، ولكنّها لم يلتزم بها: لضعف دليلها بالإرسال وعدم ثبوت الجابر لها.. الخ.
3- سورة الحجّ: الآية 78.
4- الكافي: ج 3/33 ح 4، التهذيب: ج 1/363 ح 27، وسائل الشيعة: ج 1/464 ح 1231.

الموجب لتقييده، مختصٌّ بصورة الإمكان، فمع العجز يرجع إلى الإطلاق لعدم المقيّد.

وخامساً: بعدم ذكر الأصحاب من جملة مسوغات التيمّم، عدم التمكّن من المسح ببلل الوضوء.

5 - ثمّ إنّ مقتضى هذه الوجوه لزوم المسح، فهل يتعيّن المسح بنداوة خارجيّة، أم يجزيه المسح باليد الجافّة؟ وجهان:

أقواهما - بحسب القاعدة - هو الأوّل، فإنّ الواجب إيصال نداوة الوضوء بواسطة المسح، فإذا تعذّر القيد، وهو كون الندوة من الوضوء، مقتضى قاعدة الميسور المسح بما يكون ميسور ذلك، وهو إيصال البلّة، ولعلّه لذلك اختار في «المعتبر»(1) و «البيان»(2) و «المقاصد العلية»(3) وغيرها لزوم المسح بماء خارجي.

أقول: ولكن الأظهر عدم تماميّة شيء من هذه الوجوه:

أمّا القاعدة: فلما ذكرناه في هذا الشرح غير مرّة من أنّه - مضافاً إلى أنّ دليل القاعدة ضعيف السند - لا يدلّ على عدم سقوط الميسور من الأجزاء والشرائط، وإنّما يدلّ على عدم سقوط الميسور من الأفراد.

وأمّا الخبر: فقد أجاب عنه بعض الأعاظم(4): (بأنّه إنّما يدلّ على عدم وجوب رفع المرارة والمسح على البشرة، لأجل التمسّك بآية نفي الحرج(5) التي هي نافيه لا مثبتة، ولا يدلّ على وجوب الوضوء الناقص عند تعذّر التامّ).8.

ص: 408


1- المعتبر: ج 1/158، قوله: (لو جفّ ماء الوضوء من الحرّ المفرط، أو الهواء المحرق جاز البناء، واستئناف الماء الجديد والمسح دفعاً للحرج).
2- البيان للشهيد الأوّل: ص 9-10.
3- حكاه عنه السيّد في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/395، والمقاصد العلية للشهيد الثاني وهو شرح كبير على الألفيّة للشهيد الأوّل، ولا يزال مخطوط، وهو في المكتبة الرضويّة تحت رقم 8937.
4- وهو السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/395-396.
5- السورة الحج: الآية 78.

وفيه: أنّه على فرض تسليم دلالته على مشروعيّة الوضوء الناقص عند تعذّر التامّ، يكفي للقول بوجوبه، وعدم جواز التيمّم، لعدم القول بالفصل في هذه الموارد.

مع أنّه يدلّ على سقوط اعتبار مباشرة الماسح للممسوح، ويدلّ على وجوب الوضوء حينئذٍ مع المسح على المرارة ذيل الخبر.

فالصحيح أن يُجاب عنه: بأنّه لا يمكن التعدّي عن مورده، وإلّا فلو أُخذ بما هو ظاهره لم يبق موردٌ للتيمّم، إذ ما من أحدٍ إلّاوهو يقدر على الإتيان ببعض الوضوء.

مع أنّ استفادة الحكم المذكور من الآية الشريفة في غاية الإشكال، لأنّها تدلّ على عدم لزوم مباشرة الماسح للممسوح، ولازم ذلك سقوط الأمر بالوضوء، وليس شأن الآية إثبات الأمر، كي يستفاد منها مشروعيّة الوضوء الناقص.

وأمّا الاستصحاب: فحيثُ أنّ المتيقّن سابقاً وجوب المسح ببلل الوضوء، فمع تعذّره، والشكّ في وجوبه بماء خارجي أو جافّاً، لا يجري الاستصحاب، لعدم اتّحاد القضيّة المتيقنة مع القضيّة المشكوك فيها.

وأمّا إطلاق دليل المسح: فبعد تقييده بما دلَّ على لزوم كونه بنداوة الوضوء، لازم عدم إمكانه سقوط المسح والوضوء، لا المسح بالماء الجديد أو باليد اليابسة.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى سقوط الوضوء في الفرض، وانتقال الفرض إلى التيمّم، وإنْ لم نعرف القائل به بين علمائنا، ولذلك ينبغي الاحتياط بالمسح باليد اليابسة، ثمّ بالماء الجديد، ثمّ التيمّم لا ينبغي تركه.

***

ص: 409

جواز المسح على الشَّعر

الفرع الرابع: يجوز المسح على الشَّعر النابت في المقدَّم، ولا يجب أن يكون على البشرة إجماعاً(1).

وتشهد له: مضافاً إلى ذلك نصوصُ الناصية المتقدّمة، بناءً على أنّها هي الشَّعر النابت على المقدّم.

بل يمكن الاستشهاد له بأدلّة مسح الرأس، بدعوى أنّ المراد بالرأس ما يعمّ الشَّعر، فإنّ الغالب وجود الشَّعر المانع من مسح البشرة، وهو قرينة على إرادة الأعمّ.

وأمّا مرفوع محمّد بن يحيى، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في الذي يخضب رأسه بالحنّاء ثمّ يبدو له في الوضوء؟ قال: لا يجوز حتّى يصيب بشرة رأسه بالماء»(2).

فيُحمل على ما يعمّ الشَّعر، بقرينة ما ذكر، لاسيّما وأنّ الظاهر أنّ مورده صورة وجود الشَّعر، فتأمّل.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الناصية، جواز المسح على الشعر الخارج عن المقدّم، المتدلّي على الوجه مثلاً، إلّاأنّه يقيّد إطلاقها بما دلّ على لزوم كون المسح على

ص: 410


1- الناصريّات للشريف المرتضى: ص 119، الرسائل الصعديّة للعلّامة ص 96، مجمع الفائدة: ج 1/103، الحدائق الناضرة: ج 2/253، مفتاح الكرامة حيث حكاه عن غير واحد من الأعلام: ج 2/426، وغيرهم، إلّاأنّ أغلب الإجماعات على أنّ المسح على مقدم الرأس، والإطلاق يشمل الشّعر الذي هو في المقدم، بحيث لا يخرج من مدّه عن حدّه كما أشار إلى ذلك غير واحد من الأعلام، وعليه المؤلّف (حفظه المولى) كما ستعرف.
2- الكافي: ج 3/31 ح 12، وسائل الشيعة: ج 1/455 ح 1202.

المقدّم، فلا يجوز المسح عليه.

أمّا الحائل: كالعمامة وغيرها، فإنّه كذلك لا يجوز المسح عليه وإنْ كان شيئاً رقيقاً إجماعاً(1).

وتشهد له: مضافاً إلى النصوص الأمرة بمسح الرأس، جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام: عن المسح على الخفّين والعمامة؟

قال عليه السلام: «لا تمسح عليهما»(2).

ومنها: مرفوع ابن يحيى(3) المتقدّم. ونحوهما غيرهما.

وأمّا صحيح عمر بن يزيد، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يخضب رأسه بالحنّاء، ثمّ يبدو له في الوضوء؟ قال عليه السلام: يمسح فوق الحنّاء»(4).

ونحوه صحيح(5) ابن مسلم. فإعراض الأصحاب عنهما لا يعتمد عليهما، كي يجمع بينهما وبين ما تقدّم بحمله على المرجوحيّة، لصراحتهما في الجواز.

***).

ص: 411


1- حكاه في الجواهر: ج 2/204 إجماعاً محصّلاً ومنقولاً على لسان جملةٍ من الأساطين كالشيخ والمحقّق والعلّامة.
2- التهذيب: ج 1/361 ح 20، وسائل الشيعة: ج 1/459 ح 1214.
3- الكافي: ج 3/31 ح 12، وسائل الشيعة: ج 1/455 ح 1202.
4- التهذيب: ج 1/359 ح 9، الاستبصار: ج 1/75 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/455 ح 1204.
5- وسائل الشيعة: ج 1/456 ح 1205، وفيه: (لا بأس بأن يمسح رأسه والحنّاء عليه).
في حقيقة ما يُمسح به

الفرع الخامس: لا خلاف بين الأصحاب في لزوم كون المسح باليد.

وفي «الحدائق»(1): حكاية دعوى الاتّفاق عليه من جملةٍ من الأصحاب.

وتشهد له: النصوص البيانيّة المتضمّنة لذكر اليد، والأقوى تعيّن كونه بالكفّ، كما هو المشهور، لما في جملةٍ من تلك النصوص التصريح بالكفّ.

ويؤيّده: ما ادّعي في المقام؛ أنّه بقرينة مناسبة الحكم والموضوع، يستفاد ذلك من نصوص اليد، إذ الظاهر منها - إذ اُسند إليها ما يُناسب الكفّ كالأكل والمسح وغيرهما ممّا جرت العادة بحصوله من الكفّ - إرادتها دون السّاعد والعَضد.

وأمّا كونه بباطن الكفّ: فعن الشهيد في «الذكرى»(2) و «الغنية»(3): أفضليّة المسح بباطنها.

ولكن يمكن الاستشهاد لوجوبه بما ذكرناه تبعاً لجملةٍ من المحقّقين(4) من المناسبة المذكورة آنفاً.

أقول: ثمّ إنّه هل يجب أن يكون المسح باليمنى، كما عن الإسكافي(5) وجملةٍ من متأخّري المتأخّرين(6).

ص: 412


1- الحدائق الناضرة: ج 2/287، الثامن: (قد ذكر جملة من أصحابنا أنّه لا يجوز المسح بغير اليد اتّفاقاً).
2- الذكرى ص 87 قوله: (والظاهر أنّ باطن اليد أولى).
3- غنية النزوع ص 56 قوله: (والأفضل أن يكون ذلك بباطن الكفّين، ويجزي بإصبعين).
4- كجامع المقاصد: ج 1/219 قوله: (ويجب كون المسح بباطن اليد للتأسّي).
5- حكاه عنه العلّامة في: منتهى المطلب: ج 2/54 (ط. ج)، ومختلف الشيعة: ج 1/296، فتاوى ابن الجنيد: ص 28-29.
6- حكاه في الجواهر: ج 2/184 عن ظاهر المفيد في المقنعة والقاضي في المهذّب.

أم لا كما هو المشهور(1)، بل عن «الحدائق»(2) دعوى الاتّفاق عليه؟

وجهان: أقواهما الأوّل، لصحيح زرارة المتقدّم: «وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك»(3).

وأورد عليه: بعدم ظهوره في الوجوب، لاحتمال أن يكون عطفاً على فاعل (يجزيك) فلا يدلّ إلّاعلى الاجزاء، وهو أعمّ من الوجوب، وقد تقدّم الجواب عن ذلك في مبحث لزوم المسح بما بقي من البلّة في اليد،(4) وبعدم صلاحيّته لتقييد المطلقات الكثيرة الواردة في مقام البيان للحكم الذي يعمّ به البلوى.

وفيه: أنّ عدم الصلاحيّة إنْ كان لأجل كون المطلقات كثيرة.

فيرد عليه: أنّ الخبر الواحد يُخصّص الكتاب فضلاً عن السُّنة.

وإنْ كان لأجل كون الحكم ممّا يعمّ به البلوى.

فيرد عليه: أنّ ورود روايةٍ واحدةٍ معتبرة في المسائل التي يعمّ بها البلوى، غَير عزيز.

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرنا ضعف القول بالاستحباب مستنداً إلى إطلاق الأدلّة، وأنّ الأقوى لزومه.

***4.

ص: 413


1- كما في الجواهر: ج 2/184 حيث قال: (ثمّ إنّ قضيّة إطلاق الكتاب، والفقيه والجمل والعقود والإشارة والمراسم والسرائر والمعتبر والنافع والقواعد والتحرير والإرشاد والدروس واللّمعة وغيرها، عدم وجوب كون الماسح اليد اليمنى، كما هو صريح النفليّة وظاهر شرحها وصريح كشف الغطاء بل في الحدائق الظاهر الاتّفاق على الاستحباب، لكن قد عرفت أنّ حسنة زرارة ظاهرة في الوجوب.. الخ).
2- الحدائق الناضرة: ج 2/287، قوله: (وأنّ الأولى كونه ج أي المسح ج في الناصية باليد اليمنى... الخ).
3- الكافي: ج 3/25 ح 4، التهذيب: ج 1/360 ح 13، وسائل الشيعة: ج 1/387 ح 1021 و ص 436 ح 1142.
4- فقه الصادق: ج 1/404.
عدم لزوم كون مسح الرأس مقبلاً

الفرع السادس: المشهور بين الأصحاب - على ما نسب إليهم في «الحدائق»(1) - عدم اعتبار المسح مقبلاً وجواز النكس.

وعن الصدوق في «الفقيه»(2) والمرتضى في «الإنتصار»(3) والشيخين في «المقنعة»(4) و «الخلاف»(5) وغيرهم في غيرها: عدم جواز النكس.

وعن «الدروس»(6): أنّه المشهور بين الأصحاب.

وعن «الخلاف»(7): دعوى الإجماع عليه.

واستدلّ له: بأنّ مسح الرأس مستقبلاً رافعٌ للحدث إجماعاً، بخلاف مسح الرأس مستدبراً فيجب فعل المتيقّن(8).

وبأنّه الفرد الشائع الذي ينصرف الإطلاق إليه.

وبأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يمسح مُقبلاً بلا شبهة، لأنّ أرجحيّته لا خلاف فيها، فيجب التأسّي، مضافاً إلى قوله عليه السلام: «إنّ هذا وضوء لا يقبل اللّه الصلاة إلّابه»(9).

ص: 414


1- الحدائق الناضرة: ج 2/279.
2- الفقيه: ج 1/45 باب حَدّ الوضوء وترتيبه وثوابه، في تعليقه على الحديث 88، قوله: (ولا تردّ الشَّعر في غسل اليدين ولا في مسح الرأس والقدمين).
3- الانتصار: ص 103، مسألة: 11، حَدّ مسح الرأس.
4- المقنعة ص 48، قوله: (ويجزي الانسان في مسح رأسه أن يمسح من مقدمه مقدار اصبع يضعها عليه عرضاً من الشعر إلى قصاصه).
5- الخلاف: ج 1/83، المسألة 31.
6- الدروس: ج 1/92، قوله: (ولا يجوز استقبال الشَّعر فيه جمسح الرأس ج على المشهور).
7- الخلاف: ج 1/83، المسألة 31 فبعد ذكره المسألة قال: (دليلنا إجماع الفرقة).
8- حكاه المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه (ط. ح): ج 1/155 عن الشيخ في الخلاف والسيّد في الانتصار، وهو ظاهر كلام السيّد في الانتصار ص 103، م 11.
9- الفقيه: ج 1/38 ح 76، وسائل الشيعة: ج 1/438 ح 1151.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه مع وجود المطلقات، لا وجه للتمسّك بقاعدة الاشتغال.

مع أنّ المورد من موارد جريان البراءة، لكونه شكّاً في اعتبار قيدٍ في المأمور به، وهذا على المختار من كون الطهارة من العناوين المنطبقة على الوضوء واضح.

وأمّا على القول بأنّها تحصل منه؛ فلما حقّقناه في محلّه من أنّ الشكّ في دخل شيء في المحصّل، إذا كان بيانه وظيفة الشارع، فهو موردٌ لجريان البراءة.

وأمّا الثاني: فلأنّ وجوب التأسي حتّى في المستحبّات واضح المنع.

وقوله عليه السلام: «هذا وضوء... إلخ» إشارةٌ إلى المحكي من الوضوءات، وهي تشتمل على أنّه مسح برأسه، وليس فيها أنّه صلى الله عليه و آله مَسَح مُقبلاً.

فتحصّل: أنّ شيئاً ممّا استدلّ به على لزوم كونه مقبلاً، لا يدلّ عليه، فيتعيّن الرجوع إلى إطلاق الأدلّة.

فالأقوى هو جواز النكس، ويشهد له مضافاً إلى ذلك، صحيح حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا بأس بمسح الوضوء مقبلاً ومدبراً»(1).

والإيراد عليه: بأنّه وإنْ روي في موردٍ من «التهذيب» هكذا، إلّاأنّه روي في موضعٍ آخر منه: (لابأس بمسح القدمين مقبلاً و مدبراً)(2)، وبما أنّ الراوي واحد و كذلك المروي عنه، فاحتمال تعدّد الخبر بعيد، ولذا روى في «الوسائل» الثاني دون الأوّل.

غير تامّ: - لأنّه مضافاً إلى عدم الدليل للخروج عن أصالة التعدّد وأصالة عدم الخطأ - أنّ الخبر الأوّل مرويٌّ عن سعد بطريق ابن قولويه، والثاني عنه بطريق العطّار، مع أنّ عن بعض نسخ «التهذيب» رواية الثاني عن ابن عيسى.

***5.

ص: 415


1- التهذيب: ج 1/58 ح 10، الاستبصار: ج 1/57 ح 2، وسائل الشيعة: ج 1/406 ح 1054.
2- التهذيب: ج 1/83 ح 66، وسائل الشيعة: ج 1/406 ح 1055.
مسح الرِّجلين
اشارة

الخامس من فروض الوضوء: مسحُ الرِّجلين إجماعاً محصّلاً ومنقولاً، بل هو من ضروريّات المذهب، والنصوص به متواترة.

وعن المرتضى رحمه الله: أنّها أكثر من عدد الرّمل والحصى.

وظاهر الكتاب(1) يدلّ عليه، سواءٌ قرء بجرّ (أَرْجُلَكُمْ) كما عن ابن كثير وأبي عُمر وحمزة وعاصم، ويظهر من خبر ابن هذيل المرويّ عن «التهذيب» عن الإمام الباقر عليه السلام:

«عن قول اللّه: «وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ»، على الخفض هي أم على النصب؟ قال عليه السلام: بل هي على الخفض»(2).

أنّ قراءة أهل البيت عليهم السلام إنّما هي إمّا على الخفض وإمّا بالنصب، أمّا على الأوّل فواضح، وأمّا على الثاني فلكونه عطفاً على محلّ (بِرُؤُسِكُمْ) .

وأمّا موثّق عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرجل يتوضّأ الوضوء كلّه إلّا رجليه ثمّ يخوض بهما الماء خوضاً؟ قال عليه السلام: أجزأه ذلك»(3).

وصحيح أيّوب: «كتبتُ إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن المسح على القدمين؟ فقال: الوضوء بالمسح، ولا يجب فيه إلّاذلك، ومن غسل فلا بأس»(4).

فهما ظاهران في صورة التقيَّة:

فإنّ قوله في الأوّل: (يتوضّأ الوضوء كلّه إلّارجليه)، ظاهرٌ في أنّ وضوءه قبل

ص: 416


1- سورة المائدة: الآية 6.
2- التهذيب: ج 1/70 ح 37، وسائل الشيعة: ج 1/420 ح 1097.
3- وسائل الشيعة: ج 1/421 ح 1101.
4- التهذيب: ج 1/64 ح 29، الاستبصار: ج 1/65 ح 7، وسائل الشيعة: ج 1/421 ح 1100.

وَمَسحُ بَشَرة الرِّجلين، من رؤس الأصابع إلى الكعبين.

أن يأتي بوظيفة الرِّجلين كان على وفق المذهب، ثمّ خالفه فيهما.

وقوله عليه السلام في الثاني: (الوضوء بالمسح، ولا يجب فيه إلّاذلك)، قرينةٌ على إرادة صورة التقيَّة من ذيله.

مع أنّه لإعراض الأصحاب عنهما، وموافقتهما لمذهب بعض العامّة القائل بالتخيير، يحملان عليها.

(و) يجب فيه (مَسحُ بَشَرة الرِّجلين من رؤس الأصابع إلى الكعبين)

فها هنا مسائل:

المسألة الاُولى: لا ريب ولا كلام في عدم وجوب الاستيعاب في مسح الرِّجلين ظاهراً وباطناً، فتواً ونصّاً.

وما في بعض النصوص من مسح ظاهرهما وباطنهما، كمرفوع أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في مسح الرأس والقدمين ومسح القدمين ظاهرهما وباطنهما»(1). ونحوه خبر سماعة(2).

لا يُعتنى به، لضعف سند الخبرين، ومعارضتهما للنصوص المستفيضة، وموافقتهما لمذهب بعض مخالفينا، فالواجب إنّما هو مسح ظاهرهما.

وإنّما الكلام يقع في موردين:

الأوّل: في حدِّه طولاً.8.

ص: 417


1- التهذيب: ج 1/82 ح 64، الاستبصار: ج 1/61 ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/415 ح 1079.
2- التهذيب: ج 1/92 ح 94، الاستبصار: ج 1/62 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/415 ح 1078.

الثاني: في حدِّه عرضاً.

أمّا الأوّل: فالمشهور بين الأصحاب أنّه يجب المسح من رؤوس الأصابع إلى الكعبين.

وعن «الخلاف»(1) و «الانتصار»(2) و «الغنية»(3) وغيرها: دعوى الإجماع عليه.

وعن الشهيد(4): احتمال عدم وجوب الاستيعاب، وكفاية المسمّى.

وعن المحدِّث الكاشاني(5): الجزم به.

وعن «الرياض»(6): نفي البُعد عنه.

وفي «الحدائق»(7) تقويته.

والأوّل: أقوى، وتشهد له النصوص البيانيّة:

منها: خبر بُكير وزرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام في حكاية وضوئه صلى الله عليه و آله:

«ثمّ مَسَح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه، لم يجدّد ماء»(8)، ونحو غيره.

أقول: والإشكال في دلالتها على الوجوب، قد عرفت دفعه في مبحث مسح الرأس(9) فراجع.

ومنها: حديث المعراج: «ثمّ امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء5.

ص: 418


1- الخلاف: ج 1/92-93، مسألة 40.
2- الانتصار: ص 115: حَدّ مَسح الرِّجلين.
3- غنية النزوع: ص 56، الفرض السابع.
4- الدروس: ج 1/92، الألفيّة والنفليّة ص 44.
5- حكاه عنه في الحدائق: ج 2/291 عن المفاتيح.
6- رياض المسائل: ج 1/237.
7- الحدائق الناضرة: ج 2/303.
8- الاستبصار: ج 1/57 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/392 ح 1030.
9- فقه الصادق: ج 1/392-405.

ورجليك إلى كعبيك»(1).

وقد عرفت دلالته على الوجوب في ذلك المبحث، واندفاع ما أُورد عليه.

ومنها: صحيح زرارة وبكير: «وإذا مَسَحتَ بشيءٍ من رأسك أو بشيء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع، فقد أجزأك»(2).

لأنّ الظاهر كون قوله عليه السلام: (ما بين... الخ)، تفسيرٌ للشيء لا للقدمين.

ودعوى: أنّه على هذا بما أنّ المقدّر هو (الباء)، وهي تفيد التبعيض، فهو يدلّ على العدم.

مندفعة: بأنّه بما أنّ مدخول (الباء) هو الشيء، ولا معنى لبعض الشيء في مقابله، فلا محالة ليست للتبعيض.

ومنها: صحيح البزنطي، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ قال: فوضع كفّه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين»(3).

وظاهره لزوم الاستيعاب طولاً وعرضاً، ولكن قام الدليل على العدم في الثاني، فترفع اليد عن ظاهره بالنسبة إليه، وأمّا بالنسبة إلى الطول فلا صارف له عن ظهوره.

أقول: ومنه يظهر اندفاع ما أورده بعض الأعاظم عليه(4): (بأنّ التفكيك بين العرض والطول، وحمل الأوّل على الاستحباب والثاني على الوجوب)، خلاف المرتكز العرفي.3.

ص: 419


1- الكافي: ج 3/484 ح 1 من باب النوادر. وسائل الشيعة: ج 1/390 ح 1024.
2- التهذيب: ج 1/90 ح 86، وسائل الشيعة: ج 1/414 ح 1076.
3- الكافي: ج 3/30 ح 6، الاستبصار: ج 1/62 ح 3، وسائل الشيعة: ج 1/417 ح 1085.
4- مستمسك العروة الوثقى للسيّد الحكيم قدس سره: ج 2/373.

والآية الشريفة: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ) (1) .

وأُورد على الاستدلال بها تارةً: بأنّ الظاهر منها كون الكعب غاية للمسح، وحيث ثبت جواز النكس - كما سيجيء - فيتعيّن حملها على الاستحباب، أو على أنّ الغاية للممسوح، فلا يستفاد منها حَدّ المسح.

واُخرى: بأنّ (أَرْجُلَكُمْ) تكون عطفاً على لفظ (بِرُؤُسِكُمْ) كما عرفت، فتدلّ على عدم وجوب الاستيعاب لمكان (الباء) التي هي للتبعيض، كما يدلّ عليه الصحيح الوارد في تفسيرها.

وفيهما نظر: إذ الظاهر من الآية الشريفة - من جهة ظهور الغاية في كونها غاية للمسح، لأنّ الظاهر كون الظرف من متعلّقات الفعل، كما لا يخفى - وجوب أمرين:

الأوّل: الاستيعاب من حيث الطول.

الثاني: كون المبدأ رؤوس الأصابع والمنتهى الكعبين.

وقيام الدليل على عدم وجوب الثاني وجواز النكس، لا يوجب رفع اليد عن ظهورها في وجوب الأوّل، ولا التصرّف في الغاية بجعلها من متعلّقات الرجل، مع أنّ جعلها غايةً للممسوح، لا ينافي ما هو الظاهر من وجوب الاستيعاب، بل على هذا التقدير أيضاً تدلّ عليه.

وأمّا كون (الباء) للتبعيض، فلا ينافي ذلك، إذ يصير مفاد الآية على هذا التقدير: (فامسَحُوا بعض أرجلكم من رؤوس الأصابع إلى الكعبين)، وظهور ذلك في لزوم الاستيعاب لا ينكر.

وقد استدلّ للعدم: بصحيح زرارة المتقدّم الوارد في تفسير الآية الشريفة: (وإذا6.

ص: 420


1- سورة المائدة: الآية 6.

مسحت... الخ)، بالتقريب المتقدّم.

وبالآية الشريفة.

وبالنصوص(1) المستفيضة الدالّة على جواز المسح على النعل، من دون استبطان الشراك.

وبما دلَّ على الاكتفاء في مسح الرِّجل بإدخال اليد في الخُفّ المخرَّق(2).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّلان: فلما عرفت.

وأمّا ما دلَّ على جواز المسح من دون استبطان الشراك: فلأنّ عدم استبطانه أعمّ من ذلك، إذ الظاهر خروج ما يستره الشراك عن الموضع الواجب مسحه، لاسيّما بناءً على خروج الكعبين من الحدّ.

مع أنّ غاية ما يدلُّ عليه الشراك عن البشرة، هو إجزاء مَسحه عن مَسحها.

وأمّا ما دلَّ على إدخال اليد في الخُفّ: فلم يظهر لي وجه الاستدلال به، مع عدم ظهوره في ذلك.

فتحصّل: أنّ الأقوى وجوب الاستيعاب بحسب الطول.

***2.

ص: 421


1- راجع وسائل الشيعة: ج 1/412 باب 23 و 24 ص 416 و 38 ص 457 من أبواب الوضوء.
2- وسائل الشيعة: ج 1/461 ح 1222.
المراد من الكَعْبِين

لا خلاف بين علماء الإماميّة ولُغويّة الخاصّة في أنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في وسط القدم، وليسا العظمين الذين في جانبي الساق.

وعن «الانتصار»(1) و «الخلاف»(2) و «مجمع البيان»(3) وغيرهم: دعوى الإجماع عليه(4).

وإنّما الخلاف في مقام آخر، وهو أنّ المصنّف رحمه الله فهم من عبارات القوم - بعد اعترافه بصحّة ما ذكروه - أنّ (الكعب) هو العظم الناتئ الواقع في مجمع الساق والقدم.

وعن المفيد في «المقنعة»(5): أنّ الكعبين هما قبّتا القدم أمام الساقين، ما بين المفصل والمشط - إلى أن قال - إنّ الكعب في كلّ قدمٍ واحد، وهو ما على منه في وسط القدم على ما ذكرناه.

وادّعى الشيخ في «التهذيب»(6): الإجماع على هذا المعنى.

وقد استدلّ لهذا القول:

ص: 422


1- الانتصار: ص 115.
2- الخلاف: ج 1/92 مسألة 40 قوله: (الكعبان هما الناتئان في وسط القدم).
3- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج 3/289 قوله: (وأمّا الكعبان فقد اختلف في معناهما، فعند الإماميّة هما العظمان الناتئان في ظهر القدم عند مقعد الشراك).
4- كالشيخ الطوسي في التهذيب: ج 1/75، والشهيد في الذكرى ص 88 سطر 20.
5- المقنعة ص 44، قوله: (والكعبان هما قبّتا القدمين أمام الساقين ما بين المفصل والمشط، وليسا الأعظم التي عن اليمين والشمال من الساقين الخارجة عنهما كما يظنّ ذلك العامّة ويسمّونها الكعبين بل هذه عظام الساقين، والعرب تُسمّي كلّ واحد منهما ظنبوباً).
6- التهذيب: ج 1/75.

1 - بالإجماع المدّعى في جملةٍ من كتب الأصحاب، على أنّ الكعبين هما قبّتا القدم.

2 - وبقول أهل اللّغة، فإنّ المحكي عن «المدارك»(1) أنّ لغويّة الخاصّة متّفقون على أنّ (الكعب) هو الناشر في ظهر القدم.

3 - وبجملةٍ من النصوص:

منها: أخبار عدم استبطان الشراك(2).

ومنها: صحيح البزنطي، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم»(3).

فإنّ الظاهر أنّ الغاية الثانية تفسيرٌ للاُولى، فيكون الكعب متّحداً مع ظاهر القدم في المقدار.

ومنها: ما رواه الشيخ في الحسن والصحيح عن الإمام الباقر عليه السلام، قال:

«الوضوء واحدٌ...» وَوَصَفَ الكعب في ظهر القدم(4).

ومنها: حسن ميسر، عن أبي جعفر عليه السلام، في حكاية وضوء رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى قوله: «ثمّ وضع يده على ظهر القدم، ثمّ قال: هذا هو الكعب، قال: وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب، ثمّ قال: إنّ هذا هو الظنبوب»(5).8.

ص: 423


1- مدارك الأحكام: ج 1/217-218.
2- كرواية زرارة في الكافي: ج 3/25 ح 5 وص 31 ح 11، التهذيب: ج 1/90 ح 86، الاستبصار: ج 1/61 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/388 ح 1022 و ص 414 ح 1075 و 1076.
3- الكافي: ج 3/30 ح 6، الاستبصار: ج 1/62 ح 3، وسائل الشيعة: ج 1/417 ح 1085.
4- الكافي: ج 3/26 ح 7، التهذيب: ج 1/75 ح 38 و ص 80 ح 54، الاستبصار: ج 1/69 ح 2، وسائل الشيعة: ج 1/435 ح 1141، وفي بعضها (واحدة واحدة) بدل (واحد).
5- التهذيب: ج 1/75 ح 39، وسائل الشيعة: ج 1/391 ح 1028.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الإجماع: فلما مرَّ من أنّ العلّامة رحمه الله لم يخالف القوم، وإنّما يدَّعي ارادتهم من هذه العبارة ما ذكره رحمه الله، فلا وجه لأن يرد عليه بكلمات هؤلاء، ولم يذكر أحدٌ من القدماء ما يخالف تفسير العلّامة، مدَّعياً عليه الإجماع، سوى المفيد والشيخ رحمه الله وإنْ ادّعى في «التهذيب» الإجماع على ما فسّره المفيد بقوله: (هما قُبّتا القدم»(1)، ولكن في كتبه الاُخر(2) عبّر بما ذكره المصنّف رحمه الله، وهذا يدلّ على اتّحادهما عنده.

وأمّا قول أهل اللّغة: - فمضافاً إلى أنّه لا يخالف مختاره رحمه الله - فإنّ جماعة منهم صرّحوا بأنّ المراد ما فسّره العلّامة رحمه الله، لاحظ ما قاله صاحب «القاموس»(3):

(الكعب كلّ مفصلٍ للعضلات)، وما عن جملةٍ من العامّة كالرازي والنيشابوري من التصريح بأنّ الإماميّة وكل من أوجب المسح قالوا (إنّ الكعب عبارة عن عظمٍ مستدير موضوع تحت عظم الساق، حيث يكون منفصل الساق والقدم، كما في أرجل الحيوانات).

وعن الرازي: نسبته إلى محمّد بن حسن الشيباني، وأنّ الأصمعي(4) كان يختار هذا القول.

وعن «الكشّاف»(5) و «طراز اللّغة»: (أنّ كلّ من أوجب المسح، قال هوك.

ص: 424


1- كما في المقنعة: ص 44.
2- وسنورد قوله في بقيّة كتبه زيادة في الاستفادة: ففي النهاية: ص 13 قال: (وهما النابتان في وسط القدم)، ومثله في المبسوط: ج 1/22، وفي الخلاف: ج 1/92 (هما الناتئان في وسط القدم)، ومثله الاقتصاد ص 243، وفي الرسائل العشر ص 142 قال: (وهما موضع معقد الشراك من وسط القدم).
3- القاموس المحيط: ج 1/168 وفيه: (الكعب: كلّ مفصل للعظام).
4- قال في تحفة الأحوذي: ج 3/484، ونقل عن الأصمعي - وهو قول الإماميّة -: (أنّ الكعب عظمٌ مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم)، وكذلك قال ابن حجر في فتح الباري: ج 3/403.
5- راجع الكشاف: ج 1/304-305 فقد يظهر لك ذلك.

المفصل بين الساق والقدم).

وبما أنّ بعضهم متقدّمٌ على العلّامة، فلا يحتمل أن يكون منشأ النسبة انتشار ذلك من العلّامة، فزعموه مذهباً لكلّ الشيعة.

وأمّا أخبار عدم استبطان الشراك: فلأنّه رحمه الله أفتى في محكي «المنتهى»(1)و «التحرير»(2) و «التذكرة»(3) بعدم وجوب إدخال اليد تحت الشراكين في المسح على النعل العربيّة، وعلّله في الأوّل بأنّه لا يمنع مسح موضع الفرض، فهو ملتزم بمضمونها.

وأمّا صحيح البزنطي: فلأنّ ظاهر القدم مقابلٌ الباطن بما أنّه ذو أجزاء، لا يُعقل جعله غايةً، فلابدَّ من تقدير كلمة مناسبة، وهي في المقام (آخره)، وعليه فهو يدلّ على اتّحاد الكعب مع آخر ظاهر القدم، فيدلّ على ما اختاره المصنّف رحمه الله.

وأمّا حسنا ميسر: فلأنّهما إنّما يدلّان على أنّ الكعب في ظهر القدم، ردّاً على العامّة القائلين بأنّ الكعبين في جانبي القدم، ولا يدلّان على كونه في وسط ظهر القدم كي يكونان شاهدين للقول المشهور، ولنعم ما قال شيخنا البهائي:

(على أنّ قول ميسر في الحديث الثالث إنّ الباقر عليه السلام وصَفَ الكعب في ظهر القدم، يعطي أنّ الإمام عليه السلام ذكر للكعب أوصافاً ليعرّفه الراوي بها، ولو كان الكعب هذا الارتفاع المحسوس المشاهد، لم يحتج إلى الوصف، بل كان ينبغي أن يقول هو ذا، وقس عليه قوله عليه السلام في الحديث الأوّل هاهنا بالإشارة إلى مكانه دون الإشارة إليه)(4). انتهى.5.

ص: 425


1- منتهى المطلب: ج 2/77، الثامن: (لا بأس بالمسح على النعل العربي وإنْ لم يدخل يده تحت الشِّراك).
2- تحرير الأحكام: ج 1/81، السادس: (يجوز المسح على النعل العربيّة.. الخ).
3- تذكرة الفقهاء: ج 1/172، وأيضاً في نهاية الأحكام: ج 1/46.
4- الحبل المتين: ص 21، مشرق الشمسين: ص 285.

فتحصّل: أنّ شيئاً ممّا استدلّ به على القول المشهور لا يدلّ عليه، بل صحيح البزنطي يشهد لما اختاره العلّامة، وحسنا ميسر يُشعران به.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - صحيح زرارة وبكير، وقد جاء في آخره:

«قلنا: أصلحك اللّه فأين الكعبان؟ قال: ها هنا - يعني المفصل دون الساق - فقلنا له: هذا ما هو؟ فقال: هذا مِنْ عظم الساق والكعب أسفل من ذلك»(1).

وأورد عليه: بأنّ المراد من المفصل فيه، يحتمل أن يكون المفصل الذي في قُبّة القدم، الذي تسالموا على وجوده، بأن يكون دون عَظْم الساق من كلام الراوي قيداً للمفصل، فيكون مراد الراوي أنّه أشار بقوله (ها هنا) إلى المفصل الذي يكون دون عظم الساق، وليس هو مفصل الساق، ويشير إليه قوله عليه السلام: (والكعب أسفل من ذلك).

وفيه: أنّه يروي أنّه عليه السلام أشار إلى الفصل وقال: (إنّه الكعب). فهو خبر حسّي يكون حجّة، وحمل المفصل على الكائن في وسط القدم، الذي لا يعرفه أكثر الناس، بل لا يتبيّن للكثير من الخواص، بعيدٌ غايته لا يصار إليه مع عدم القرينة.

وقوله عليه السلام: (والكعب أسفل من ذلك)، معناه أنّ الكعب واقعٌ تحت الساق، إذ المشار إليه بذلك بقرينة قوله عليه السلام قبل ذلك: (هذا من عَظْم الساق)، إنّما هو شيءٌ يكون من عظم الساق، فلا يحتمل أن يكون المراد من المفصل هو ما في وسط القدم.

وصحيح زرارة(2)، وخبر ابن هلال(3) الواردان في حَدّ السارق، الدالّان على1.

ص: 426


1- الكافي: ج 3/25 ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/388 ح 1022، التهذيب: ج 1/76 ح 40، ولكن لا يوجد في نسخة التهذيب (والكعب أسفل من ذلك).
2- وسائل الشيعة: ج 28 ص 254 ح 34692 و ح 34693
3- وسائل الشيعة: ج 28 ص 257 ح 34701.

أنّه يقطع رجله اليسرى من الكعب، بضميمة ما دلَّ من الفتوى والنصوص على أنّه يقطع من المفصل كخبر معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«أنّه يُقطع من السارق أربع أصابع، ويترك الإبهام، وتُقطع الرِّجل من المفصل، ويُترك العقب يطأ عليه»(1).

فتحصّل من ما ذكرناه: أنّ الأقوى ما اختاره المصنّف رحمه الله، وتبعه جملةٌ من المتأخّرين عنه كالشهيد الأوّل في «الرسالة» وصاحب «الكنز»، وشيخنا البهائي، والمحدِّث الكاشاني، والمحدِّث الحرّ العاملي من أنّ (الكعب): هو المفصل بين الساق والقدم، أو العَظْم المائل إلى الاستدارة، الواقع في ملتقى الساق والقدم، وله زائدتان في أعلاه يدخلان في حُفرتي قَصَبة الساق، وزائدتان في أسفله يدخلان في حفرتي العقب، وهو ناتٍ في وسط ظهر القدم، ولكن نتوّه غَيرُ ظاهرٍ بحسّ البصر الذي يُعبّر عنه بالمفصل لمجاورته له، أو من قبيل تسمية الحال باسم المحلّ، كما صرّح بذلك البهائي رحمه الله(2)، ولا تخالفه كلمات قدماء أصحابنا.

***8.

ص: 427


1- نوادر الأشعري: ص 151 ح 388، وسائل الشيعة: ج 28/254 ح 34692.
2- الحبل المتين: ص 18.
في وجوب مسح الكعبين وعدمه

ثمّ إنّ في وجوب مسح الكعبين وعدمه قولين: اختار أوّلهما المصنّف رحمه الله(1)، والمحقّق الثاني قدس سره(2).

أقول: على القول بكون (الكعب) هو المفصل، لا يترتّب على هذا النزاع أثرٌ، إذ المفصل لا مسافة له حتّى ينازع في دخوله في الحَدّ أو خروجه عنه.

وأمّا على القول المشهور، والقول بأنّه العظم المائل إلى الاستدارة، الواقع في ملتقى الساق، فقد استدلّ للأوّل:

بأنّ كلمة (إلى) بمعنى (مع)، كما في قوله تعالى: (إِلَى اَلْمَرافِقِ) ،(3) وبأنّ الغاية داخلة في المغيّى، وبأنّ (الكعب) كما جُعل نهايةً للمسح، وقع بدايةً له في خبر يونس الآتي، فيدخل الكعب في المسافة.

وفي الجميع نظر: إذ كون (إلى) بمعنى (مع) خلاف الظاهر، لا يُصار إليه إلّامع القرينة، وكون الغاية داخلة في المغيي محلّ تأمّل، ووقوعه بداية للمسح لا يدلّ على دخوله في المسافة، إذ هذا النزاع كما يجري في الغاية، كذلك يجري فيما يجعل بدايةً ويكون له أجزاء، وعلى ذلك فيتعيّن الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب مسحه

ص: 428


1- منتهى المطلب: ج 2/75-76، (الخامس) قوله: (فالوجه عندي الدخول لقوله تعالى «إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ»... إلخ)، تحرير الأحكام: ج 1/80 قوله: (ويجب إدخالهما في المسح)، نعم في المعتبر: ج 1/152، اختار وجوب المسح ليبلغ الكعبين ولو لم يدخلا في المسح كما هو الظاهر، وقال: (وهل يجزي لو لم يبلغ الكعب؟ فيه تردّد أشبهه لا، ثمّ قال: وهل يجب إدخال الكعب في المسح الأشبه لا).
2- جامع المقاصد: ج 1/221، قوله: (ويجب إدخال الكعبين في المسح... الخ).
3- سورة المائدة: الآية 6.

بناءً على جريانها في الشكّ في المحصّل إذا كان بيانه وظيفة الشارع، أو كون الطهارة من عناوين الوضوء لا أنّها أثره كما هو الحقّ.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول الثاني.

***

ص: 429

كفاية المُسمّى في مسح الرِّجلين عَرْضاً

المورد الثاني: في بيان حدِّه عرضاً:

المشهور بين الأصحاب: أنّه يكفي المُسمّى عَرْضاً، ولو بعرض إصبع أو أقلّ.

وعن «المنتهى»(1): أنّه مذهب علمائنا.

وعن «التذكرة»(2): نسبته إلى فقهاء أهل البيت.

وعن «المعتبر»(3): دعوى الإجماع عليه.

وعن الشيخ(4): القول باعتبار الإصبع.

وعن «التذكرة»(5): عن بعض أصحابنا اعتبار أن يكون بثلاث أصابع.

وعن الحلبي(6) وظاهر «الغنية»(7): اعتبار الإصبعين.

وعن ظاهر الصدوق في «الفقيه»(8): وجوب المسح بمقدار الكفّ.

ص: 430


1- منتهى المطلب: ج 2/69، قوله: (بل الواجب من رؤس الأصابع إلى الكعبين ولو بإصبع واحد، وهو مذهب علمائنا أجمع).
2- تذكرة الفقهاء: ج 1/171 مسألة 52، (... ولو بإصبع واحد عند فقهاء أهل البيت عليهم السلام).
3- المعتبر: ج 1/150، قوله: (ولا يجب استيعاب الرِّجلين بالمسح، بل يكفي المسح من رؤس الأصابع إلى الكعبين ولو بإصبع واحد، وهو إجماع فقهاء أهل البيت عليهم السلام).
4- النهاية ص 14، (فإن اقتصر في المسح عليهما بإصبع واحد لم يكن به بأس).
5- تذكرة الفقهاء: ج 1/171 مسألة 52 قوله: (ويستحبّ أن يكون بثلاث أصابع مضمومة، وقال بعض علمائنا يجب).
6- والظاهر أنّه أبو المجد الحلبي في إشارة السبق ص 70، قوله: (ومسح ظاهر القدمين من رؤوس أصابعهما إلى موضع معقد الشراك أقلّه بإصبعين).
7- غنية النزوع: ص 56، قوله: (ويجزي بإصبعين منهما... الخ).
8- الفقيه: ج 1/45 في تعليقه على رواية زرارة ح 88.

وعن المحقّق الأردبيلي(1) وسيّد «المدارك»(2) و «الكفاية»(3): الميل إليه.

واستشهد للأوّل:

1 - بصحيح زرارة وبكير المتقدّم، حيث وردَ فيه بعد الاستشهاد لوجوب الاستيعاب في الغَسل بقوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ) بقوله: (وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ) (4) فإذا مسح بشيء من رأسه، أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه.

وفيه: ما تقدّم من أنّ الظاهر - ولا أقلّ من المحتمل - أن يكون قوله (ما بين...

إلخ). بياناً للشيء، وعليه فلا يصحّ جعل (الباء) للتبعيض، لكون مدخولها الشيء، ولا معنى لبعض الشيء في مقابله، فلايدلّ على الإجتزاء بمسح بعض ظاهر القدمين.

2 - وبصحيح زرارة الوارد في كيفيّة استفادة مسح بعض الرأس والرجل من الكتاب، حيث قال فيه:

«فعرفنا حين قال (بِرُؤُسِكُمْ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان (الباء)، ثمّ وصل الرِّجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فقال (وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما»(5).

وفيه: أنّه يمكن أن تكون البعضيّة بلحاظ مجموع الظاهر والباطن، وعليه فهو3.

ص: 431


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 1/106، حيث اعتبر أنّ القول بكفاية اصبع تبعاً لإجماع العلّامة جيّد، ثمّ قال: (والاحتياط معلوم). إشارة منه الى المسح بتمام الكفّ.
2- مدارك الأحكام: ج 1/221، قوله: (ولولا ذلك [أي الإجماع] لأمكن القول بوجوب المسح بالكفّ كلّها).
3- كفاية الأحكام للمحقّق السبزواري ص 2 قوله: (... والأولى أن يمسح بتمام كفّه).
4- سورة المائدة: الآية 6.
5- الكافي: ج 3/30 ح 4، الفقيه: ج 1/103 ح 212، وسائل الشيعة: ج 1/412 ح 1073.

وإنْ دلَّ بإطلاقه على كفاية مسح بعض الظاهر، ولكنّه قابل للتقييد بما يدلّ على لزوم الاستيعاب.

3 - وبمرسل الصدوق، وخبر جعفر بن سليمان(1) الواردين في إدخال اليد في الخفّ المخرّق.

وفيه: مضافاً إلى ضعف سندهما، أنّهما لا يدلّان إلّاعلى عدم وجوب نزع الخُفّ، وجواز المسح بإدخال اليد، وليسا في مقام بيان حدِّ المسح كما لا يخفى.

4 - وبالنصوص(2) الدالّة على أخذ البلل لمسح الرأس والرِّجلين من اللّحية والحاجبين وأشفار العينين، إذ البلّة المأخوذة من أشفار العينين والحاجبين، بل وكذا اللّحية، لا تكفي لمسح الرأس والرِّجلين بالكفّ.

وفيه أوّلاً: أنّها مختصّة بحال النسيان.

وثانياً: ان عدم كفاية البلّة المذكورة لمسح الرِّجلين بالكفّ لو سُلّم، لا يلازم الاكتفاء بالمسمّى، فلو دلَّ الدليل على لزوم مسح موضع ثلاث أصابع، فلا يعارضه هذه النصوص، إلّاأنْ يُدّعى عدم كفايتها لذلك أيضاً.

أقول: وقد استدلّ لاعتبار أن يكون بثلاث أصابع، بخبر معمّر، عن أبي جعفر عليه السلام: «يجزي من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع، وكذلك الرجل»(3).

وفيه: أنّ إجزاء الثلاث أعمّ من تعيّنها، ودلالته على أنّ ذلك أقلّ المجزي6.

ص: 432


1- الكافي: ج 3/31 ح 10، التهذيب: ج 1/65 ح 34، وسائل الشيعة: ج 1/414 ح 1074، ثمّ قال في وسائل الشيعة: (وراه الصدوق مرسلاً، والشيخ.. عن محمّد بن يعقوب مثله).
2- وسائل الشيعة: ج 1/407 الباب 21 من أبواب الوضوء.
3- الكافي: ج 3/29 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/417 ح 1086.

تتوقّف على القول بمفهوم العدد الذي لا نقول به، مع أنّه ضعيف السند.

وأمّا القول بأنّ الأقلّ إصبعان، والقول باعتبار الإصبع، فلا دليل على شيء منهما، ولعلّ القول بهما مستندٌ إلى عدم صدق المسمّى بأقلّ من الإصبع أو الإصبعين، وهو كما ترى.

وأمّا لزوم كونه بمقدار الكفّ: فيشهد له:

1 - صحيح البزنطي: «سألتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفّه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين. فقلت: جُعلت فداك! لو أنّ رجلاً قال بإصبعين من أصابعه؟ قال عليه السلام: لا، إلّابكفّه كلّها»(1).

2 - وخبر عبد الأعلى: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: عَثرتُ فانقطع ظُفري، فجعلتُ على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال عليه السلام: يُعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه عزّ وجلّ: (وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2) إمسح عليه»(3).

إذ لولا وجوب الاستيعاب، لم يكن للإستشهاد بالآية الشريفة والحكم بلزوم المسح عليه وجه.

ودعوى: حمله على إرادة ردعه عن توهّمه أنّه على تقدير وجوب المسح على تمام الأصابع، لابدَّ من رفع المرارة.

مندفعة: بأنّه عليه السلام في مقام بيان الوظيفة الفعليّة، لا في مقام بيان حكم1.

ص: 433


1- الكافي: ج 3/30 ح 6، وفيه (إلّا بكفّه) فقط دون (كلّها)، التهذيب: ج 1/64 ح 28 و ص 91 ح 92، وسائل الشيعة: ج 1/417 ح 1085.
2- سورة الحجّ: الآية 78.
3- الكافي: ج 3/33 ح 4، التهذيب: ج 1/363 ح 27، وسائل الشيعة: ج 1/464 ح 1231.

فرضي تقديري.

ودعوى: حمله على استيعاب المرارة الموضوعة.

مندفعة أيضاً: بأنّ قوله: (فجعلتُ على إصبعي)، صريحٌ في خلاف ذلك، فتأمّل.

3 - والمطلقات الآمرة بمسح ظاهر القدم.

أقول: دعوى حَمل الأوّلين على الاستحباب، وإرادة جريان قاعدة نفي الحرج في المستحبّات من الاستشهاد بالآية في الثاني، لنصوص أخذ البلل من اللّحية والحاجبين وأشفار العينين، وتقييد الأخيرة بها.

غير بعيدة، لأنّها وإنْ اختصّت بصورة النسيان، إلّاأنّه يتمّ في غيرها بضميمة عدم القول بالفصل. ويؤيّدها خبر معمّر هذا، مضافاً إلى ما عرفت من دعوى جماعةٍ الإجماع على كفاية المسمّى وعدم وجوب الاستيعاب.

فتحصّل: أنّ الأقوى كفاية المسمّى، والأحوط أن يكون بمقدار عرض ثلاث أصابع، وأحوط من ذلك مسح تمام ظهر القدم.

***

ص: 434

كفاية مسح القدمين منكوساً

المسألة الثانية: المشهور بين الأصحاب كما عن «الذكرى»(1) وفي «الحدائق»(2): جواز الابتداء بالكعبين.

وعن «الفقيه»(3) و «المقنعة»(4) و «الانتصار»(5) و «السرائر»(6): العدم.

واستدلّ له: بظاهر الآية الشريفة، لظهور (إلى) في الانتهاء، وبصحيح البزنطي المتقدّم في معنى الكعب، وفي لزوم الاستيعاب، وبالنصوص البيانيّة.

ويرد على الجميع: أنّ ظهورها في عدم جواز النكس، ولزوم الابتداء بالأصابع وإنْ كان لا يُنكر، إلّاأنّه يتعيّن حملها على الاستحباب، بقرينة ما يدلّ على جواز النكس، وهو صحيحا حمّاد المتقدّمان:

وفي أحدهما: (لا بأس بمسح الوضوء مقبلاً ومدبراً)(7).

وفي الآخر: (لا بأس بمسح القدمين مقبلاً ومدبراً)(8).

ص: 435


1- الذكرى: ص 89، قوله: (الرابعة: هل يجزي النكس؟ المشهور نعم لخبر... الخ، ثمّ اختار في نهاية المسألة: أنّ الأولى عدم النكس، لحصول اليقين بالخروج عن العُهدة بفعله).
2- الحدائق: ج 2/279، الرابع: (الظاهر جواز النكس هنا كالرأس وفاقاً للمشهور)، وإلى ذلك ذهب المحقّق الهمداني في مصباح الفقيه: ج 1 القسم الأوّل ص 161 قوله: (الأقوى أنّه يجوز المسح منكوساً... الخ).
3- الفقيه: ج 1/44 قوله: (أن تضع كفّيك على أطراف أصابع رجليك وتمدّها إلى الكعبين).
4- المقنعة: ص 48.
5- الانتصار: ص 115 (مسألة 16 حَدّ مسح الرِّجلين) قوله: (وممّا انفردت به الإماميّة: القول بأنّ مَسح الرِّجل هو من أطراف الأصابع إلى الكعبين).
6- السرائر: ج 1/99.
7- التهذيب: ج 1/58 ح 10، الاستبصار: ج 1/57 ح 2، وسائل الشيعة: ج 1/406 ح 1054.
8- التهذيب: ج 1/83 ح 66، وسائل الشيعة: ج 1/406 ح 1055.

ويجوز منكوساً.

وقد عرفت في مسح الرأس أنّهما خَبَران لا خبر واحد.

ومرسل يونس: «أخبرني مَن رأى أبا الحسن عليه السلام بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب، ومن الكعب إلى أعلى القدم، ويقول: الأمر في مسح الرِّجلين موسَّعٌ؛ مَنْ شاء مَسحَ مُقبلاً، ومَنْ شاء مَسَحَ مُدبِراً، فإنّه من الأمر الموسّع إنْ شاء تعالى»(1).

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما أفاده المصنّف بقوله (ويجوز منكوساً) أظهر.

***6.

ص: 436


1- الكافي: ج 3/31 ح 7، وسائل الشيعة: ج 1/407 ح 1056.
لزوم تقديم اليمنى

المسألة الثالثة: المشهور بين الأصحاب - على ما نُسب إليهم - جواز مَسح اليُسرى قبل اليُمنى، ومسحهما معاً.

وعن ابن إدريس(1): لا أظنّ مخالفاً منّا فيه.

وعن ظاهر «الغنية»(2): دعوى الإجماع عليه.

وعن «المراسم»(3) و «الفقيه»(4) و «جامع المقاصد»(5) و «اللّمعة»(6)و «المدارك»(7) و «الروضة»(8): لزوم تقديم اليمنى، وهو المحكيّ عن ابن الجنيد(9)، وابن أبي عقيل(10)، وابن بابويه(11)، وكاشف اللّثام(12).

ص: 437


1- حكاه عنه في الجواهر: ج 2/226.
2- غنية النزوع 58، حيث ادّعى الإجماع على الترتيب ولم يذكر منه تقديم اليمنى على اليسرى في المسح، ولهذا استظهر في الجواهر منه القول بعدم الترتيب (الجواهر: ج 2/226).
3- المراسم العلويّة في الأحكام النبويّة: ص 38، (والترتيب أيضاً واجب... الخ).
4- من لا يحضره الفقيه: ج 1/44 قوله: (فتبدأ بالرِّجل اليمنى في المسح قبل اليسرى).
5- جامع المقاصد: ج 1/224، في تعليقه على (ولا ترتيب فيهما) قال: (والأصحّ الوجوب لأنّ وجوب البيان إن وقع فيه الترتيب فوجوبه ظاهر... إلخ).
6- اللّمعة الدمشقيّة: ص 17.
7- مدارك الأحكام: ج 1/222، قوله: (والأظهر وجوب الترتيب لا لما ذكروه، بل لما رواه محمّد بن مسلم في الصحيح... وامسح على القدمين وابدأ بالشقّ الأيمن. والأمر للوجوب).
8- شرح اللّمعة: ج 1/326-327.
9- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 1/296 قوله: (ما ذكره ابن الجنيد هنا فإنّه قال:.. مسحَ بيمينه رأسه ورجله اليُمنى، وبيده اليسرى رجله اليسرى)، وفي ص 298 حكى عن ابن الجنيد أنّه لو عكس المسح لا يجزيه.
10- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 1/298.
11- وهو مختاره في من لا يحضره الفقيه: ج 1/44 كما مرّ.
12- كشف اللّثام: ج 1/552، السادس: (الترتيب وهو واجب بالإجماع والنصوص)، ولكن لم يظهر منه التزامه بوجوب الترتيب في المسح بين اليمنى واليسرى، فراجع.

وعن «الذكرى»(1): إنّ في المسألة قولاً لم نعرف قائله، وهو وجوب تقديم اليمنى أو مسحهما معاً، ولا يجوز تقديم اليسرى.

وقد مالَ إليه أو اختاره جملةٌ من متأخّري المتأخّرين.

واستدلّ للأوّل: بإطلاق الكتاب والسُنّة، والوضوءات البيانيّة، ونصوص الترتيب، إذ ليس في شيءٍ منها إشعارٌ ببيانه، مع تعرّضها للترتيب و سائر الخصوصيّات.

وفيه: أنّه يتعيّن تقييد الإطلاق بمصحّح ابن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام:

«وامسح على القدمين، وابدأ بالشَّق الأيمن»(2) وعدم التعرّض لمضمونه في الوضوءات البيانيّة. ونصوص الترتيب لا تكون كالنصّ في عدم الوجوب، كي توجب حمل الأمر بالبدئة بالأيمن على الاستحباب، كما لا يخفى.

ودعوى: إعراض المشهور عن المصحّح.

مندفعة: بما عرفت من إفتاء جملةٍ من الأصحاب بمضمونه، وباحتمال أن يكون عدم عملهم بظاهره من جهة الجمع بينه وبين النصوص البيانيّة، لا للإعراض عنه، وبما عن النجاشي، عن أبي رافع، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إذا توضّأ أحدكم فليبدأ باليمين قبل الشمال من جسده»(3).

أقول: ولكن لأخصّية التوقيع الشريف المرويّ عن «الاحتجاج» عن محمّد بن عبد اللّه الحميري، عن صاحب الزمان عليه السلام:4.

ص: 438


1- الذكرى ص 90، الخامس: (هل يجب البدأة باليمنى من الرِّجلين... الى أن قال: وفي كلام بعضهم يجوز مسحهمامعاً لا تقديم اليسرى، والعمل بالترتيب أحوط).
2- الكافي: ج 3/29 ح 2، وسائل الشيعة: ج 1/418 ح 1088 و ص 449 ح 1182.
3- رجال النجاشي: ص 6 ح 42، وسائل الشيعة: ج 1/449 ح 1184.

«كتب إليه يسأله عن المسح على الرِّجلين بأيّهما يبدأ باليمين أو يمسح عليهما جميعاً معاً؟ فأجاب عليه السلام: يمسح عليهما جميعاً معاً، فإنْ بدأ بإحداهما قبل الاُخرى فلا يبدأ إلّاباليُمنى»(1).

وخبر عبد الرحمن ابن كثير الهاشمي، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«بينما أمير المؤمنين جالسٌ مع محمّد بن الحنفيّة... والحديث طويل قد اشتمل على الدّعاء عند غسل كلّ عضو، إلى أن قال: ثمّ مسح رجليه، فقال: اللّهُمَّ ثبّت قدميّ على الصّراط يوم تزلُّ فيه الأقدام»(2).

الصريحين في جواز مسحهما معا عن المصحّح، وخبر أبي رافع يقيّد إطلاقهما بهما، ويُحملان على صورة عدم الجمع بينهما.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى هو القول بجواز مسحهما معاً، وعدم جواز تقديم اليسرى، والأحوط تقديم اليمنى.

***1.

ص: 439


1- وسائل الشيعة: ج 1/450 ح 1185.
2- الكافي: ج 3/70 ح 6، مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/308 ح 691.
في كيفيّة مسح الرِّجلين

المسألة الرابعة: هل يجبُ المسح باليدين أم يكفي يد واحدة؟

وعلى الأوّل هل يجب أن يكون مسح اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى، أم يجزي الاختلاف؟ وجوه:

المشهور بين الأصحاب هو القول بجواز المسح بيد واحدة، وجواز الاختلاف.

وعن «المناهل»(1): دعوى الاتّفاق عليه.

وفي «الجواهر»(2): إنّي لم أعثر على مَن نصَّ على وجوب اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى.

أقول: لولا الإجماع، كان القول بذلك متعيّناً، إذ يشهد لعدم الاكتفاء بيد واحدة ما في جملةٍ من النصوص البيانيّة، من أنّه صلى الله عليه و آله مَسَح بهما معاً، ويدلّ على لزوم كون مسح اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى، حسن زرارة، بإبراهيم بن هاشم، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك، وما بقي من بلّة يمينك ظَهْر قدمك اليمنى، وتمسحُ ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى»(3).

وبه يقيّد إطلاق الأدلّة.

***

ص: 440


1- حكاه عنه السيّد في مستمسك العروة الوثقى: ج 2/385.
2- جواهر الكلام: ج 2/227-230 فإنّه بعد استعراض المسألة والأقوال فيها قال ص 230: (نعم، من المحتمل قويّاً الجمع بين هذه الرواية وما تقدّم من الأخبار بالحكم باستحباب الجمع بينهما أو بالابتداء باليمين، لكن لم أعثر على مصرّح به).
3- الكافي: ج 3/25 ح 4، وسائل الشيعة: ج 1/387 ح 1021.
عدم جواز المسح على الحائل

المسألة الخامسة: يجب المسح على بَشَرة القدمين، ولا يجوز على حائلٍ خارجي من خُفٍّ أو غيره اختياراً بلا خلاف، بل إجماعاً منّا فتواً ورواية، كما في «الحدائق»(1).

بل لا يبعد عدّه من ضروريّات المذهب.

وتشهد له: الآية الشريفة، والنصوص البيانيّة، والنصوص المستفيضة الواردة في المسح على الخُفّين، الظاهرة في التعميم لكلّ حائلٍ لوقوع الاستدلال في بعضها بالآية الكتابيّة، وأنّه سبق الكتاب المسح على الخُفّين، بل بعضها ظاهرٌ فيه في نفسه.

كخبر الكلبي النسَّابة، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«قلت له: ما تقول في المسح على الخفّين؟ فتبسّم ثمّ قال عليه السلام: إذا كان يوم القيامة وردَّ اللّهُ كلّ شيء إلى شيئه وردَّ الجلد إلى الغنم، فترى أصحاب المسح أين يذهب وضوؤهم»(2).

فهذا ممّا لاينبغي الإشكال فيه.

أقول: إنّما الكلام يقع في موضعٍ آخر، وهو ما ذكره في «الحدائق» قال:

ومن الحائل؛ الشَّعر في الرجل على المعروف من مذهب الأصحاب(3).

وعن جماعةٍ منهم صاحب «المصباح» الاكتفاء بمسح الشَّعر النّابت على ظهر

ص: 441


1- الحدائق الناضرة: ج 2/309.
2- الكافي: ج 1/250 جزء من ح رقم 6، وسائل الشيعة: ج 1/458 ح 1210.
3- الحدائق الناضرة: ج 2/309.

القدم عن مسح البشرة.

واستدلّ له: بعدّة اُمور:

1 - بكونه عرفاً من توابع ما نبت عليه.

2 - وبانسباق الذّهن إلى مسحه من الأمر بمسح الرِّجل، ومراد الأصحاب من المسح على البشرة ما يقابل الحائل، كما يُشير إليه قولهم في مقام التفريع عليه: (ولا يجوز المسح على الحائل).

3 - وبلزوم الحرج من وجوب إزالته بالحَلْق ونحوه، وصعوبة التخليل بالمسح.

4 - وبالسيرة المستمرّة على عدم الحلق والتخليل.

5 - وبعموم: «كلّ ما أحاط به الشعر... الخ».

6 - وبخلوّ الأخبار عن التعرّض لمانعيّة الشَّعر، مع غَلَبة وجوده، وعموم الابتلاء به.

وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ التبعيّة الخارجيّة أعمّ من التبعيّة في الدلالة.

وأمّا الثاني: فلأنّ الشارع إنّما أمر بمسح الرِّجل، وخروج الشَّعر عن مسمّى الرِّجل واضح، فلا ينسبق إلى الذهن مسحه من الأمر بمسح الرِّجل.

وأمّا الثالث: فلأنّ الشَّعر النابت لا يكون مستوعباً للخط العَرْضي غالباً، فمع وجود الشَّعر يحصل المسح اللّازم.

مع أنّ لزوم الحرج بالنسبة إلى كلّ فردٍ ممنوعٌ، وبذلك يظهر ما في الرابع.

وأمّا الخامس: فقد مرَّ في مسح الرأس عدم شموله للممسوح.

ص: 442

وأمّا السادس: فلما عرفت آنفاً من عدم مانعيّته من مسّ المقدار الواجب.

ويشهد للقول الأوّل: ظاهر الكتاب والسُنّة، لعدم دخول الشَّعر في مسمّى الرجل.

ثمّ إنّ الكلام في وجوب مسح الشَّعر النابت، هو الكلام في الشعر النابت على اليدين، وقد عرفت أنّ الأقوى عدم الوجوب فراجع.(1)

***د.

ص: 443


1- صفحة 386 من هذا المجلّد.
المسح على الحائل عند الضَّرورة

أقول: إنّ ما ذكرناه من عدم جواز المسح على الحائل، إنّما هو في غير حال الضرورة والتقيّة، وأمّا فيهما فلا خلاف في جوازه.

فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في المسح على الحائل في حال الضرورة، من بردٍ يُخاف على رجله، أو لا يمكن معه نزع الخُفّ، أو نحو ذلك:

فعن غير واحد: دعوى الإجماع على جوازه(1). ويشهد له:

1 - خبر أبي الورد، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: إنّ أبا ظبيان حدّثني أنّه رأى عليّاً عليه السلام أراق الماء ثمّ مسح على الخفّين؟ فقال عليه السلام: كذب أبو ظبيان، أما بَلَغَكُم قولُ عليٍّ عليه السلام فيكم سَبَق الكتاب الخفّين؟ فقلت: هل فيهما رخصة؟ فقال عليه السلام: لا، إلّامن عدوٍّ تتّقيه، أو ثلجٍ تخاف على رجليك»(2).

فإنّ مورده وإنْ كان هو الخُفّ والثَّلج، إلّاأنّه يتعدّى إلى مطلق الحائل والضرورة، لعدم القول بالفصل، ولعلّ التعبير بالخوف يكون مُشعِراً بذلك.

ودعوى: عدم حجّيته، لأنّ أبا الورد لم يذكر في كتب الرِّجال بمدحٍ ولا قدح.

مندفعة: بأنّ العلّامة المجلسي في محكي وجيزته(3) عدَّه في الممدوحين، مع أنّ

ص: 444


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/163 مسألة 48، قوله: (ولا يجزي على حائل كالعمامة والمقنعة، ذهب إليه علماؤنا أجمع)، وفي تحرير الأحكام: ج 1/80 قال: (ويجب المسح على البشرة ويحرم على الحائل كالخُفّ وشبهه إلّامع الضَّرورة أو التقيَّة).
2- التهذيب: ج 1/362 ح 22، الاستبصار: ج 1/76 ح 1، وسائل الشيعة: ج 1/458 ح 1211.
3- كما حكاه المحدِّث البحراني في الحدائق: ج 2/310 عن المجلسي في وجيزته، وعن الشيخ أبو الحسن في بلغته.. إلخ، والسيّد في المستمسك: ج 2/398.

الراوي عنه في الخبر حمّاد بن عثمان، وهو من أصحاب الإجماع، مضافاً إلى ما عن «الكافي» ما يُشعر بمدحه(1).

وعليه، فالخبر قوي، مضافاً إلى عمل الأصحاب به.

2 - وخبر عبد الأعلى المتقدّم، الدالّ على المسح على المرارة، فإنّ مورده وإنْ كان هو المرارة إلّاأنّه يتعدّى إلى مطلق الحائل لما تقدّم.

3 - وفحوى أخبار الجبائر.

فما عن «المدارك»(2): من أنّ المسألة محلّ تردّد، واحتمال الانتقال إلى التيمّم، ضعيفٌ.

المقام الثاني: في المسح عليه في حال التقيَّة:

فالمشهور بين الأصحاب جوازه، بل لعلّه ممّا لا خلاف فيه، بل عن غير واحدٍ نفي الخلاف فيه.

وفي «الجواهر»: (وعن «المختلف»: دعوى الإجماع عليه).

ويشهد له: خبر أبي الورد المتقدّم، وعمومات أخبار التقيَّة(3) التي هي من ضروريّات المذهب، بناءً على دلالتها على الصحّة.

وأمّا أدلّة نفي الضَرَر والحَرَج(4)، فهي لا تدلّ على ذلك، لأنّها إنّما تدلّ على نفيب.

ص: 445


1- الكافي: ج 4/263-264 ح 46، فإنّه ظاهر في مدح أبي الورد بقوله عليه السلام: (أمّا أنتم فترجعون مغفوراً لكم) والمخاطب أبا الورد والموالين.
2- مدارك الأحكام: ج 1/224.
3- وسائل الشيعة: ج 16/203 باب 24 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبه، من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح 21356 وما بعده.
4- سورة الحجّ: الآية 78 «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، وسائل الشيعة: ج 25/427 باب 12 من أبواب كتاب إحياء الموات ح 32279 وما بعده، وغيره من الأبواب.

الحكم، ففي المقام تدلّ على نفي لزوم المسح على البشرة، ورفعه بما أنّه حكمٌ ضمني، إنّما يكون برفع الحكم المتعلّق بالمركّب. وأمّا وجوب الأجزاء الباقية فهي لا تدلّ عليه، ويحتاج إلى دليل آخر.

ولايعارضها ما في صحيح زرارة، «قلت له: هل في المسح على الخفّين تقيّة؟ فقال عليه السلام: ثلاثه لا أتّقي فيهنّ أحداً: شرب المسكر، والمَسح على الخفّين، ومُتعة الحجّ»(1).

وما في مصحّح هشام عن ابن أبي عمر الأعجمي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«والتقيّة في كلّ شيء إلّاشرب النبيذ، والمسح على الخفّين»(2).

ونحوهما خبر زرارة المتقدّم عن غير واحدٍ عن الإمام الباقر عليه السلام وغيره.

إذ مقتضى الجمع بينها وبين خبر أبي الورد، حملها على نفي الوجوب.

أقول: ذكروا في توجيه هذه النصوص وجوهاً مَن أراد الوقوف عليها فليراجع المطوّلات.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه من الجمع: - مضافاً إلى كونه جمعاً عرفيّاً - النصوص الآمرة بغسل الرِّجلين في حال التقيَّة.

***4.

ص: 446


1- الكافي: ج 3/32 ح 2 وج 6/415 ح 12، الفقيه: ج 1/48 ح 95، وسائل الشيعة: ج 1/457 ح 1207 وج 16/215 ح 21396.
2- الكافي: ج 2/217 ح 2، وسائل الشيعة: ج 16/215 ح 21394.
جواز التقيَّة مع المندوحة

ثمّ إنّه في الضرورات ما عدا التقيَّة؛ إنّما يجوز المسح على الحائل، إذا لم يمكن رفعها، ولم يكن بدٌّ من المسح على الحائل، ولو بالتأخير إلى آخر الوقت، لأنّ الظاهر ورود خبر أبي الورد لبيان جواز المسح على الحائل في حال الضرورة في الجملة، في مقابل الانتقال إلى التيمّم، فلا إطلاق له من هذه الجهة.

أمّا خبر عبد الأعلى من جهة التمسّك فيه بآية نفي الحرج(1) ظاهرٌ في ذلك، إذ مع وجود المندوحة لايكون الحرج طارئاً على متعلّق التكليف، فلا تشمله الآية الشريفة.

وأمّا في التقيَّة: ففيها قولان:

1 - المنسوب إلى المشهور جوازه مع وجود المندوحة.

2 - وعن الشيخ في «الخلاف»(2) والمحقّق(3) والمصنّف(4) وصاحب «المدارك»(5) وبعض متأخّري المتأخّرين: اعتبار عدم المندوحة.

ويشهد للأوّل: خبر أبي الورد، إذ الغالب في العدو عدم ملازمته لتمام الوقت، وإمكان التفصي عنه بخلاف الثّلج المانع، فعطف الثلج عليه لا يُشعر باتّحادهما في الحكم، والاختصاص بصورة عدم المندوحة.

وما عن العيّاشي بسنده، عن صفوان، عن أبي الحسن عليه السلام الوارد في غسل اليدين:

ص: 447


1- سورة الحج: الآية 78.
2- الخلاف: ج 1/211 مسألة 174، ومسألة 179 ص 213 المسح على الجوربين.
3- شرائع الإسلام: ج 1/17، الفرض الخامس.
4- منتهى المطلب: ج 2/84.
5- مدارك الأحكام: ج 1/223.

«قلت له: يردّ الشَّعر؟ قال: إنْ كان عنده آخر فعل وإلّا فلا»(1).

وأمّا القائلون باعتبار عدم المندوحة: فالظاهر أنّهم استندوا في مشروعيّة التقيَّة في المقام:

إمّا إلى نفي الضَرَر والحَرَج كما عن الفاضلين(2).

وإمّا إلى العمومات(3) الدالّة على مشروعيّة التقيَّة، مثل: «التقيَّة ديني ودين آبائي»، و «أنّ مَن لا تقيّة له لا دينَ له ولا إيمان له»، بناءً على ظهورها - بقرينة جعلها ديناً في الأجزاء - بدعوى أنْ يتعيّن تخصيصها بما ورد في مقام بيان ضابطها، كخبر معمّر بن يحيى:

«كلّ ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورةً فله فيه التقيَّة»(4).

وخبر البزنطي، عن إبراهيم بن شيبة:

«كتبتُ إلى إبي جعفر الثاني عليه السلام أسأله عن الصلاة خلف مَن يتولّى أمير المؤمنين عليه السلام وهو يمسح على الخُفّين؟ فكتب عليه السلام: لا تُصلِّ خلف مَن يَمسح على الخُفّين، فإن جامعك وإيّاهم موضعٌ لا تجدُ بُدّاً من الصلاة معهم فأذِّن لنفسك وأقم... إلخ»(5).

ونحوهما غيرهما.

ولكنّك عرفت أنّ مدرك مشروعيّة التقيَّة في المقام خبر أبي الورد، الظاهر فيف.

ص: 448


1- تفسير العيّاشي: ج 1/300 ح 54، مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/311 ح 698.
2- المحقّق في الشرائع: ج 1/17، الفرض الخامس. والعلّامة في المنتهى: ج 2/84.
3- وسائل الشيعة: ج 16/203 باب 24 من أبواب الأمر والنهي (باب وجوب التقيَّة مع الخوف إلى خروج صاحب الزمان عليه السلام) من كتاب الأمر بالمعروف ح 21356 وما بعده.
4- وسائل الشيعة: ج 23/227 ح 29440.
5- التهذيب: ج 3/276 ح 127، وسائل الشيعة: ج 8 ص 363 ص 10912، بتصرّف.

عدم اعتبار المندوحة، مع أنّه على فرض تسليم كونه هو ما دلَّ على مشروعيّة التقيَّة أيضاً، لا وجه لهذا القيد، لما دلَّ من النصوص على أنّ الأمر في التقيَّة واسعٌ كخبر مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام:

«وتفسير ما يُتَّقى، مثل أن يكون قومُ سوءٍ، ظاهرُ حُكمهم وفِعلهم على غير حكم الحقِ وفعله، فكلّ شيء يَعمل المؤمن بينهم لمكان التقيَّة ممّا لا يؤدّي إلى الفساد في الدِّين فإنّه جائز»(1).

ومصحّح أبي عمر، عنه عليه السلام: «لا دين لمَن لا تقيَّة له، والتقيَّة في كلّ شيءٍ إلّافي شُرب النبيذ، والمَسح على الخفّين، ومتعة الحجّ»(2).

وموثّق سماعة: «عن رجلٍ يُصلّي فخرج الإمام وقد صَلّى الرجل ركعةً من صلاة فريضة؟ قال عليه السلام: إنْ كان إماماً عدلاً فليصلِّ اُخرى، وينصرف، ويجعلها تطوّعاً، وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو، وإنْ لم يكن إمام عدلٍ فليبن على صلاته كما هو، ويصلّي ركعة اُخرى، ويجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّد عبده ورسوله، ثمّ ليتمّ صلاته معه على ما استطاع، فإنّ التقيَّة واسعة، وليس شيءٌ من التقيَّة إلّاوصاحبها مأجورٌ عليها إن شاء تعالى»(3).

وخبر هشام عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «صلّوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم،7.

ص: 449


1- الكافي: ج 2/168 ح 1، وسائل الشيعة: ج 16/216 ح 21397.
2- الكافي: ج 2/217 ح 2، وسائل الشيعة: ج 16/215 ح 21394، ولم يرد فيه ومتعة الحجّ، إلّاأنّها وردت في حديث زرارة المتقدّم كما في الكافي: ج 3/32 ح 2 وج 6/415 ح 12، والفقيه: ج 1/48 ح 95، ووسائل الشيعة: ج 1/457 ح 1207 و ج 16/215 ح 21396.
3- الكافي: ج 3/380 ح 7، التهذيب: ج 3/51 ح 89، وسائل الشيعة: ج 8/405 ح 11027.

واشهدوا جنائزهم.

وقال فيه: كونوا لمن انقطعتم إليه زَيناً، ولا تكونوا علينا شَيناً»(1).

ونحوها غيرها ممّا ورد في الحَثّ على الصلاة مع المخالفين وغيره، فإنّها ظاهرة في مشروعيّتها مع وجود المندوحة، بل بعضها متضمّنٌ للأمر بها مع عدم الخوف، بل لمجرّد مراعاة العلاقات العامّة وآداب الحياة المشتركة.

وعليه، فيتعيّن حمل ما ظاهره اعتبار عدم المندوحة العَرضيّة أو مطلقاً على خلاف ظاهره، جمعاً بين النصوص.

وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه.

***

تمَّ الجزء الأوّل من موسوعة «فقه الصادق» بقلم مؤلّفه الأحقر،

محمّد صادق الحسيني الروحاني عفى اللّه عنه،

ويتلوه الجزء الثاني إنْ شاء اللّه تعالى.

وما توفيقي إلّاباللّه، والحمدُ للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

***ث.

ص: 450


1- الكافي: ج 2/219 ح 11، وسائل الشيعة: ج 16/219 ح 21403، بتصرّف، فإنّ المقطع الأوّل هنا هو المقطع الثاني في الحديث.

فهرس الموضوعات

الباب الأوّل: في المياه 7

المطلق والمضاف 7

القسم الأوّل: الماء الجاري 12

الشكّ في وجود المادّة وعدمه 16

الماء المُتغيّر 19

ما يعتبر في النجاسة 22

زوال التغيّر بنفسه 31

ماء المطر 34

ماء المطر المجتمع 37

ماء الحمّام 45

تقوّي السّافل بالعالي 49

القسم الثاني: الماء الرّاكد 54

مساحة الكُرّ 57

مشكوك الكريَّة مع سبق القلّة 67

حدوث الكريَّة والملاقاة في آنٍ واحد 70

المتمّم كراً بطاهر أو نجس 75

اعتبار الامتزاج 81

اعتبار الدفعة 85

الماء القليل 88

القسم الثالث: ماء البئر 98

عدم تنجّس ماء البئر 103

مقدار النزح 108

القسم الرابع: الأسئار 115

ص: 451

سؤر حرام اللَّحم 119

بحث عن حجيّة البيِّنة 124

خبر الواحد 126

إخبار ذي اليد 128

البحث عن حكم الظنون 130

تعارض البيّنتين 133

في اعتبار علم الوسواسي وعدمه 134

ذكر السبب في الشهادة 136

ذكر الموجب في الشهادة 138

القسم الأوّل من اختلاف شهادة الشاهدين 139

القسم الثاني من اختلاف شهادة الشاهدين 142

القسم الثالث من اختلاف شهادة الشاهدين 145

الماء المشكوك فيه 147

الشكّ في إطلاق الماء وإضافته 153

حكم العلم إجمالاً بنجاسة الماء أو إضافته 154

الملاقي لطرف الشبهة 157

انحصار الماء في المشتبهين 159

حكم الإناء المشكوك مالكه 162

حكم استعمال المشتبه بالغصب 165

الماء المضاف 166

عدم مطهّريّة المضاف من الخبث 171

إذا شكّ في مائع أنّه مضافٌ أو مطلق 175

حكم إلقاء الماء المضاف على الكُرّ 177

في حكم الوضوء بهذا الماء المشكوك 179

الماء المستعمل في رفع الحدث 180

الماءُ المستعمل في الاستنجاء 188

الماء المستعمل في رفع الخبث 193

ص: 452

شرائط طهارة ماء الاستنجاء 204

حكم خروج الدود مع الغائط 206

حكم خروج الغائط من المخرج غير الطبيعي 207

الشكّ في حقيقة ماء الغُسالة 208

حكم الغُسل في ماء الكُرّ 209

غُسالة الحمّام 210

عدم جواز استعمال الماء النجس 214

حكم سقي الأطفال الماء النجس 218

بيع الماء النجس 219

الباب الثاني: في الوضوء 223

الأمر الثالث: ناقضيّة الريح 228

الأمر الرابع: ناقضيّة النوم 231

الأمر الخامس: الإغماء والسُّكر والجنون 236

الأمر السادس: الإستحاضة القليلة الدّم 238

عدم انتقاض الوضوء بالمذي والودي 240

ما يستحبّ الوضوء منه 241

في وجوب ستر العورة 245

في حرمة النظر إلى عورة الآخرين 246

حكم النظر إلى عورة الكافر 248

حكم النظر إلى عورة الغير بالواسطة 250

ما شُكّ في حرمة النظر إليه 251

النظر إلى عورة الخنثى 253

مصاديق عورة الرجل والمرأة 253

الاستقبال والاستدبار في حال التخلّي 255

حكم التخلّي في الصحاري والبنيان 258

مسنونات الخلوة 268

كيفيّة الاستبراء 271

ص: 453

فروع: في الاستبراء 274

استحباب الدّعاء 278

حُكم الاستنجاء بالحَجر والماء 280

مكروهات التخلّي 281

في الاستنجاء 291

المقدار الُمجزي من ماء الاستنجاء 294

الاستنجاء من الغائط 300

إجزاء الأحجار ونحوها مع عدم التعدّي 301

تنبيهات الاستنجاء من الغائط 302

كيفيّة الوضوء 320

الوضوء مستحبٌّ نفسي 320

غايات الوضوء 324

مسّ كتابة القرآن 325

وجوب الوضوء بالنذر 331

غايات الوضوء المستحبّة 333

الوضوء لقراءة القرآن 336

استحباب الوضوء للتجديد 339

يباح بكلّ وضوء جميع الغايات 342

القيد والدّاعي 345

كفاية الوضوء الواحد للأحداث المتعدّدة 349

إذا اجتمعت الغايات الواجبة والمستحبّة 350

النيّة 352

في اعتبار نيّة الرفع والاستباحة وعدمه 355

وقت النيّة 359

غَسل الوجه 360

حكم الخارج عن المتعارف 364

لزوم إجراء الماء 365

ص: 454

وجوب الابتداء بالأعلى 368

عدم وجوب التخليل 372

عدم لزوم غَسل البواطن 375

في حكم الشكّ في مانعيّة المانع 376

الشكّ في وجود الحاجب 377

غسل اليدين 378

وجوب غسل المرفق 381

في غَسل باقي اليد المقطوع بعضها 384

حكم الشَّعر النابت دون المرفق 386

لزوم غَسل اليد الزائدة 388

الوضوء الإرتماسي 390

مَسحُ الرأس 392

اختصاص المسح بمقدم الرأس 397

لزوم كون المسح بنداوة الوضوء 400

لزوم كون المَسح بنداوة اليد 404

حكم فقدان البلّة 405

جواز المسح على الشَّعر 410

في حقيقة ما يُمسح به 412

عدم لزوم كون مسح الرأس مقبلاً 414

مسح الرِّجلين 416

المراد من الكَعْبِين 422

في وجوب مسح الكعبين وعدمه 428

كفاية المُسمّى في مسح الرِّجلين عَرْضاً 430

كفاية مسح القدمين منكوساً 435

لزوم تقديم اليمنى 437

في كيفيّة مسح الرِّجلين 440

عدم جواز المسح على الحائل 441

ص: 455

المسح على الحائل عند الضَّرورة 444

جواز التقيَّة مع المندوحة 447

فهرس الموضوعات 451

ص: 456

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.