المحکم في اصول الفقه المجلد 1

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الطباطبایي الحکیم، محمدسعید، - 1935

عنوان المؤلف واسمه: المحکم في اصول الفقه/ تالیف السید محمدسعید الطباطبایي الحکیم

تفاصيل النشر: دارالهلال - قم - مکتبة آیة الله العظمی السید الحکیم، 1418ق. = 1997م. = - 1376.

رقم المجلدات 6ج

حالة الفهرسة: الفهرسة السابقة

لسان:العربية

ملحوظة:تم نشر هذا الكتاب من قبل ناشرين مختلفين في سنوات مختلفة

ملحوظة:فهرس

موضوع:أصول فقه الشيعة

تصنيف الكونجرس:BP159/8/ط2م3 1376

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:م 77-6154

ص: 1

اشارة

ص: 2

المحکم في اصول الفقه

ص: 3

المحکم في اصول الفقه

تالیف محمدسعید الطباطبایی الحکیم

دارالهلال - قم - مکتب آیت الله العظمی السید الحکیم

ص: 4

مقدمة الناشر:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

يعتبر علم أصول الفقه ركناً أساسياً في علمية استنباط الحكم الشرعي، وقد تبلورت معالمه تدريجياً خلال قرون متعاقبة، وتعمّقت بحوثه منذ عصر الوحيد البهبهاني قدس سره ومن بعده تلميذه الأصولي المجدّد الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره، وتلميذه المحقق الخراساني قدس سره، وازدادت بحوثه عمقاً وتشعباً علي أيدي المشايخ الثلاثة المحققين النائيني والعراقي والأصفهاني قدس سرهم، وتلامذتهم ومن بعدهم، حيث برزت عدة اتجاهات رئيسية، وأُلّفت عدّة دورات أصولية لكبار العلماء البارعين في هذا العلم.

ويمثل كتاب (المحكم في أصول الفقه) لمؤلفه المرجع الكبير السيد الحكيم (مدّ ظله) أحد أبرز الدورات الأصولية المعاصرة المعبّرة عمّا وصل إليه الفكر الأصولي المعاصر لمدرسة أهل البيت عليهم السلام.

وقد حظي هذا الكتاب - منذ صدوره - باهتمام الباحثين الأصوليين وإعجابهم، لما فيه من خصائص وامتيازات، وفي مقدمتها..

1 - كونه من تأليف صاحب البحوث نفسه وليس من تقريرات طلابه التي قد لا تفي ببيان خصوصيات البحوث والنكات العلمية المقصودة

ص: 5

لصاحبها.

2 - منهجيته الحديثة المبتكرة المتميزة عن المنهجيات الأخرى.

3 - اشتماله على أطروحات ورؤى مؤلفه المعظم المبتكرة، المعروف باستقلاليته الفكرية في بحوثه وآرائه.

4 - أنه بالرغم من اشتماله على بحوث عقلية معمّقة ومناقشات دقيقة إلاّ انه يتبنى الاتجاه العقلائي في هذا العلم، والذي يمثل معالم المدرسة الأصولية المعاصرة، خلافاً للاتجاه العقلي الصرف الذي أثقل علم الأصول ببحوث عقلية وفلسفية أبعدته عن دوره كعلم آلي لاستنباط الحكم الفقهي.

5 - تركيز مؤلفه على البحوث المهمة وذات الأثر العملي، وتجنب البحث أو الإطالة في ما لا فائدة علمية أو علمية مهمة فيه أو بحوث نسخت أو تجاوزها الزمن.

6 - كونه يجمع بين دقة التعبير والمحتوى، والوضوح النسبي البعيد عن الغموض والتعقيد.

7 - خلوّه من الإيجاز المخلّ والإطناب والتكرار المملّين اللذين لا ينسجمعان مع مستوى الكتب المتخصّصة.

وقد اقترنت هذه الطبعة بإكمال مؤلفه (مد ظله) بحث دورة أصولية جديدة، أضاف خلالها بعض البحوث العلمية والملاحظات الدقيقة التي لم تطرح في ما سبق، ومن بينها مبحث حجية الاطمئنان.

فضلاً عن حلّة جديدة، وفهارس وعناوين مفصّلة داخل الكتب امتازت بها هذه الطبعة عن سابقاتها. نقدّمها للعلماء الأعلام والفضلاء والباحثين الأكارم، وللمكتبة الاسلامية، آملين الإفادة والقبول، سائلين

ص: 6

الباري عزَّ وجلَّ الموفقية والسداد. إنه سميع مجيب.

الناشر

مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية

النجف الأشرف/ غرة رجب الحرام

1434 ه -

مقدمة الناشر

ص: 7

ص: 8

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، أبد الآبدين.

رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. وأعني على ما وليتني واسترعيتني، وأصلح لي نفسي، وطهر قلبي، وزك عملي، وتقبله مني، واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، أنت حسبي نعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بك، عليك توكلت، وإليك أنيب.

ص: 9

ص: 10

تمهيد

تمهيد فيه أمران:

فيه أمران:

الأول: في تعريف علم الأصول

الأمر الأول: وقع الكلام من جملة من أهل الفن في لزوم وحدة موضوع العلم - وهو الجامع بين موضوعات مسائله - وفي المعيار فيه، وفي تحديد موضوع علم الأصول، وتعريف العلم المذكور، والغرض منه، ورتبته... إلى غير ذلك.

وأكثر ذلك خال عن الفائدة المصححة لصرف الوقت، ولاسيما مع اتضاح الحال في كثير من تلك الجهات، بسبب إفاضتهم الكلام فيها، على ما يظهر بمراجعة كلماتهم.

ولعل أهم ذلك وأنفعه الكلام في تعريف علم الأصول، لما فيه من ضبط محل الكلام، وتمييز مقاصده الأصلية عما يبحث فيه استطرادا، وينظر فيه تبعا.

فلنقتصر على ذلك، ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق والتسديد.

وحيث كان الغرض من النظر في علم الأصول هو تيسير طريق استنباط الأحكام الشرعية مقدمة لامتثالها، والجري عليها. لحدوث أسباب اختفائها، ولاسيما مع البعد عن عصور المعصومين عليهم السلام.

ص: 11

وكان الغرض الأقصى من ذلك هو الخروج عن عهدة تلك الأحكام، وبراءة الذمة عقلاً عنها، والأمان من العقاب المحتمل على مخالفتها، ونيل الثواب المؤمل بموافقتها.

كان الأنسب أن يقال في تعريفه: هو القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، أو الوظائف العملية الشرعية أو العقلية في موارد الشبهات الحكمية.

ولابد من نظرة في عدة نقاط من هذا التعريف، يتضح المقصود به، والباعث لاختياره.

أُولاها: أن المراد من تمهيد القواعد للاستنباط هو كون الداعي لتحريرها، والنظر فيها الاستنباط، وبذلك تخرج القواعد المحررة في العلوم الأخرى، وإن كانت نافعة في الإستنباط، كبعض القواعد النحوية والصرفية والبلاغية، لأن الداعي لتحريرها أغراض تلك العلوم، لا الاستنباط، وإنما لم تحرر في الأصول استغناء بتحريرها في تلك العلوم إما لتيسر الرجوع إليها عند الحاجة، أو لغلبة الفراغ عن تلك العلوم قبل الشروع في علم الأصول أو لغير ذلك.

ولما كانت وحدة العلم اعتبارية بلحاظ الجهة الملحوظة لمحرره فالظاهر أن الجهة الملحوظة في المقام سد النقص بتحرير ما يحتاج إليه، لعدم تحريره في العلوم الأخرى التي يتيسر الرجوع إليها، لا مطلق الفائدة المذكورة.

نعم، قد تحرر بعض المسائل في أكثر من علم واحد، لاهتمام أهل كل علم من تلك العلوم بها، بلحاظ دخلها في غرضه وعدم الاستغناء بتحريرها

ص: 12

في العلم الاخر، إما لعدم الترتيب بين العلمين في التحصيل، أو لعدم تيسر الرجوع فيها لطالب أحد العلمين في العلم الآخر، أو لعدم استقصاء الكلام فيها في أحدهما بالنحو المناسب للآخر، أو لغير ذلك.

نعم، قد يستشكل في ذلك: بأن لازمه دخول مسائل علم الرجال والدراية في علم الأصول، لأن الغرض منها الاستنباط.

لكنه يندفع: بأن موضوعات مسائل علم الرجال لما كانت جزئية - وهي أفراد الرواة - لم تكن المسائل قواعد، لتدخل في التعريف السابق.

كما أنه لم يتضح توقف الاستنباط على علم الدراية، لأن مرجع أكثر مسائله إلى تفسير مصطلحات القوم، أو بيان حكم الحديث، أو نحو ذلك مما هو أجنبي عن مقام الحجية، وإنما يبحث عن الحجية في قليل من مسائله التي لا مانع من عدها من علم الأصول وإن لم تحرر فيه.

على أن علم الرجال وإن نفع في الاستنباط إلا أنه ليس غرضاً منه، بل الغرض منه معرفة حال الرجال، ليركن إلى أخبارهم وإن لم تكن حجة شرعاً، أو كانت في غير الأحكام الفرعية، ولذا لا تكون حجية خبر الواحد من المبادئ التصديقية للعلم المذكور بحيث يبتني النظر فيه على الفراغ عنها.

بل غرض متقدمي أصحابنا منه الاعتزاز بكثرة علماء الطائفة، وتوسعهم في التأليف في مقابل تشنيعات العامة، على ما تشهد به ديباجة كتبهم، وعلم الدراية ملحق به متمم له، فلاحظ.

ثانيها: المراد من كون الاستنباط غرضاً من تمهيد مسائل علم الأصول إنما هو بلحاظ كون العلم بها موجباً لتيسره - الذي عرفت أنه الغرض من

ص: 13

العلم المذكور - لوقوعها في مقدماته.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا(1) من أنه لابد في كون المسألة أصولية من استقلالها في الاستنباط، والاكتفاء بها فيه، بحيث لا يحتاج فيه إلى ضم مسألة أخرى، ولو في مسألة فقهية واحدة في مقابل المسائل اللغوية، ونحوها مما ينفع في الاستنباط ولا يستقل به، بل لابد فيه من ضم مسائل أخرى أصولية أو غيرها.

فهو مما لا مجال للبناء عليه..

أولاً: لعدم مناسبتة للغرض من علم الأصول، لعدم خصوصية استقلال المسألة في الاستنباط في تيسير طريقه.

وثانياً: لعدم انطباقه خارجاً على كثير من المسائل الأصولية إلا بمحض الفرض والتقدير، بأن يفرض كون ما عدا المسألة الأصولية الواحدة من مقدمات الاستنباط من البديهيات غير المحتاجة للبحث في علم.

وقد ذكر بعض ذلك بنحو يحتاج إلى بحث لا يسعه المقام.

وثالثاً: أنه إنما ذكر ذلك للفرق بين المسائل الأصولية ومسائل العلوم الأخرى مما يتوقف عليه الاستنباط، كالعلوم اللغوية، ويكفي في الفرق ما عرفت في الأمر السابق.

مضافاً إلى إمكان استقلال بعض مسائل تلك العلوم بالاستنباط، كما لو استفيد وجوب التيمم بالأرض من أدلة قطعية السند والدلالة، وشك في مفهوم الأرض، حيث لا يتوقف استنباط جواز التيمم ببعض الأفراد

ص: 14


1- السيد أبو القاسم الخوئي (منه)

المشكوكة منها إلا على تحديد مفهومها، وهو مما يتكلفه علم اللغة.

ومن الغريب أنه جعل المعيار المذكور منشأً لدخول مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب في علم الأصول، دون المسائل المبحوث فيها عن أدوات العموم ومسألة المشتق، مع وضوح أن الحكم الشرعي لما كان عبارة عن قضية مجعولة فهو كما يتوقف على معرفة الحكم - كالواجب المدلول للصيغة - يتوقف على معرفة موضوعه - كالعموم المدخول لأدواته، ومعنى المشتق - وكما يمكن القطع بالموضوع والشك في الحكم - ليحتاج فيه للمسألة المذكورة - يمكن العكس.

ثالثها: المراد باستنباط الأحكام الشرعية هو الوصول لها إما بالقطع، أو بقيام الحجة عليها، لأن مبنى الحجية على الكشف والإثبات، وترتب العمل على قيام الحجة إنما هو لكونه من شؤون الواقع المحكي بها الواصل بسببها، كما يتضح في محله إن شاء الله تعالى.

كما أن المراد من الوظيفة العملية ما تثبت ابتداءً من دون ثبوت للحكم الشرعي، بل مع فرض الجهل به وعدم قيام الحجة عليه، كما هو الحال في الأصول والقواعد الظاهرية الشرعية والعقلية.

هذا، وقد اقتصر المشهور - فيما حكي - على الشق الأول من التعريف ولما تنبه المتأخرون إلى قصوره عن الوظائف العملية، لعدم تضمنها الحكم الشرعي، خصوصاً العقلية منها، حاولوا تعميمه بالإضافة المذكورة أو نحوها، إذ هو أولى من الالتزام بخروجها عن علم الأصول وأن البحث عنها استطرادي، مع وضوح دخلها في الغرض الأقصى منه الذي تقدمت الإشارة إليه، وهو الخروج عن عهدة الأحكام الواقعية وبراءة الذمة عنها عقلاً.

ص: 15

بل اقتصر بعض مشايخنا في التعريف على: أنه العلم بالقواعد لتحصيل العلم بالوظيفة في مرحلة العمل.

ولابد أن يكون مراده بالوظيفة الأعم من الشرعية والعقلية.

وهو وإن كان أخصر، فيكون أنسب بالتعريف، إلا أن ما ذكرنا أولى، لما فيه من الإشارة الإجمالية لغرضي العلم ووظيفتي المجتهد، وهما استنباط الحكم الشرعي، وتعيين الوظيفة عند تعذره، بل المطلوب الأولي هو استنباط الحكم، لأنه مجهول مطلوب، والاكتفاء بالوظيفة العملية إنما هو لتعذره.

بل لما كانت الوظيفة في كلامه أعم من أن ترفع الشبهة الحكمية - كما في مورد استنباط الحكم الواقعي بالعلم، أو قيام الحجة - وأن تنقح في موردها - كما في موارد الأصول - فالتعريف المذكور بإطلاقه قد ينطبق على المسألة الفقهية، لأنها قاعدة تصلح لتحصيل العلم بالوظيفة العقلية، فإن تشخيص التكليف الشرعي لما كان مستتبعاً لحكم العقل بوجوب إطاعته، كانت القضية الشرعية التكليفية قاعدة يعلم بها لتحصيل الوظيفة العقلية في مقام العمل في الموارد الجزئية.

وهذا بخلاف ما ذكرناه من التعريف، لوضوح أن القضية الشرعية التكليفية عبارة عن حكم ترتفع باستنباطه الشبهة الحكمية، لا قاعدة ممهدة لاستنباط الحكم الشرعي، ولا لمعرفة الوظيفة العملية في مورد الشبهة الحكمية، فتأمل جيداً.

رابعها: المراد في التعريف من الشبهة الحكمية التي هي مجرى الوظيفة هي الشك في الحكم الشرعي، للشك في الجعل وجوداً وعدماً،

ص: 16

أو سعةً وضيقاً.

ويقابلها الشبهة الموضوعية، التي يكون الشك فيها بسبب اشتباه الأمور الخارجية مع العلم بالجعل الشرعي بحدوده.

وبذلك تخرج القواعد الفقهية الظاهرية الجارية في الشبهات الموضوعية، كقاعدتي اليد والصحة.

وأما القواعد الشرعية الواقعية كقاعدة (ما يُضمن بصحيحه يُضمن بفاسده) فهي مسألة فرعية، وقد عرفت خروجها، لأنها تتضمن حكماً شرعياً ترتفع باستنباطه الشبهة الحكمية، فلا يدخل في أحد شقي التعريف.

وقد اتضح بما ذكرنا في تعريف علم الأصول أنه لا جامع حقيقي بين المسائل الأصولية، وأن المعيار فيها أن تحرر لِتَيسُّرْ طريق الاستنباط، لصلوح نتيجتها لأن تكون مقدمة له، سواء كان البحث فيها عن الدليلية والحجية، أم عن الظهور العرفي، أم التعبد الظاهري الشرعي، أم الوظيفة الظاهرية العقلية، أم غير ذلك مما يأتي التعرض له..

وقد أطال غير واحد الكلام في ذلك، وذكر بعضهم وجوهاً أُخر قد يلزم منها خروج بعض المسائل عن علم الأصول، وكون البحث فيها استطرادياً.

ولا وجه له بعد دخلها في غرضه الذي أشرنا إليه آنفا.

ولا يسعنا تفصيل الكلام في ذلك.

الأمر الثاني: منهجية البحث

الأمر الثاني: حيث كانت المسائل الأصولية كبريات تنفع في الاستنباط وتشخيص الوظيفة، وتقع في مقدماتها، فالكبريات المذكورة على قسمين:

ص: 17

أولهما: ما يكون مضمونه أمراً واقعياً مدركاً، ولا يتضمن العمل بنفسه، ولا يتقوم به، وإنما يترتب عليه العمل لخصوصية موضوعه، أو بضميمة أمر خارج عنه.

وتنحصر في مباحث الألفاظ - التي يبحث فيها عن تشخيص الظهورات اللفظية، ومداليل المفردات، والهيئات التركيبية - والملازمات العقلية - التي يبحث فيها عن ملازمة أحد الأمرين للاخر أو لعدمه، وعدمها، كمبحث مقدمة الواجب، واجتماع الأمر والنهي - فان تشخيص الظهور تنقيح لأمرٍ واقعي لا يتقوم بالعمل، وإنما يترتب العمل على مفاد الظاهر إذا كان عملياً، كالأحكام التكليفية، وبضميمة ثبوت حجية الظهور.

كما أن الملازمات العقلية أمور واقعية ليس حكم العقل بها إلا نظرياً لا يبتني على العمل، وإنما قد يترتب العمل على اللازم إذا صار فعلياً تبعاً للملزوم.

ثانيهما: ما يكون مضمونه عملياً مبتنياً على التعذير والتنجيز اللذين يكون موضوعهما العمل، وهي مباحث الحجج، والأصول العملية، والتعارض، لوضوح أن العمل مقوم للحجية والوظيفة العملية، فيلغو جعلهما شرعاً بدونه، ويكون حكم العقل بهما عملياً. كما أن البحث في التعارض راجع إليهما.

ومن ثَمَّ يقع الكلام في كل من القسمين على حدة.

ولنطلق على الأول الأصول النظرية لابتنائه على تشخيص المدركات العرفية في مباحث الألفاظ، والعقلية في مباحث الملازمات.

وعلى الثاني الأصول المبتنية على العمل.

ص: 18

ولكل من القسمين المقاصد المستوفية لهما.

وربما كان لكل من تلك المقاصد أمور خارجة عنها نافعة فيها، تبحث مقدمةً لها، أو استطراداً فيها، على ما يأتي في محله، إن شاء الله تعالى.

كما ينبغي تقديم علم الأصول بقسميه بمقدمة يبحث فيها عن حقيقة الحكم الشرعي الذي يحتاج لعلم الأصول، لأجل معرفته أو معرفة الوظيفة عند الجهل به، فهو من مبادئه المهمة، التي قد تتوقف بعض مباحثه على معرفته.

وقد بحث الأصحاب ذلك في موارد متفرقة من المقاصد، إلا أن تقديمه أولى بعد ما ذكرنا.

وينبغي أيضاً إلحاق علم الأصول بقسميه بخاتمة في مباحث الاجتهاد والتقليد، يكون البحث فيها عن أقسام الاستنباط، وأحكامه، ولواحقه، كالبحث عن التجزي، وعن حجية الاجتهاد في حق المجتهد غيره...

وغير ذلك مما هو خارج عن علم الأصول المبحوث فيه عن مقدمات الاستنباط، وله نحو تعلق به.

ونسأله سبحانه أن يعيننا في الكلام على هذا المنهج واستيفائه، إنه وليّ التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 19

ص: 20

مقدمة في حقيقة الأحكام الشرعية

اشارة

الأحكام التي تضمنتها الشريعة المقدسة ويهتم الفقهاء باستنباطها، والمكلفون بمعرفتها، تنقسم إلى قسمين:

الأول: الأحكام التكليفية.

الثاني: الأحكام الوضيعة.

وقد وقع الكلام في حقيقة كل من القسمين، كما وقع في بعض أفراد كل منهما.

وحيث كانا مختلفي السنخ كان المناسب الكلام فيهما في مقامين..

المقام الأول في الأحكام التكليفية

اشارة

وموضوعها فعل المكلف، وهي نحو نسبة بين المولي والعبد وفعله تبتني على اقتضاء فعله، أو عدم فعله، أو عدم اقتضائهما، بل على السعة فيهما.

وهي تقتضي الجري عليها بنفسها والعمل بما يطابقها، بنحو يترتب

ص: 21

العمل عليها في فرض وجود الداعي لموافقتها - من حكم العقل أو غيره - بلا حاجة إلى توسط جعلٍ آخر، بخلاف الأحكام الوضعية، على ما يتضح في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

وهي - حسبما تضمنته الأدلة النقلية، وتطابق عليه المتشرعة، بل العقلاء - خمسة، لأنها إما أن تبتني على عدم اقتضاء الفعل ولا الترك، بل على محض السعة فيهما، أو تبتني على اقتضاء أحدهما، فالأول الإباحة، والثاني إما أن يبتني على الإلزام بمقتضاه، أو على عدم الإلزام به، فالأول ينحصر في الوجوب المبني على الإلزام بالفعل، والتحريم المبني على الإلزام بالترك، والثاني ينحصر في الاستحباب المبني على اقتضاء الفعل، والكراهة المبنية على اقتضاء الترك.

ومنه يظهر أن توصيفها بالتكليفية يبتني على التغليب، لأن التكليف مأخوذ من الكلفة الموقوفة على الإلزام، الذي يتضمنه الوجوب والتحريم، دون غيرهما.

وما ذكرناه ليس مورداً للإشكال، وإنما وقع الكلام في بعض ما يتعلق بذلك.

الكلام في ضمن أمور

وينبغي الكلام فيه في ضمن أمور..

الأمر الأول: حقيقة الإرادة التشريعية والإرادة التكوينية

الأمر الأول: تكرر في كلامهم انتزاع الوجوب والاستحباب أو تسببهما عن تعلق إرادة المولى بالفعل، كما أن التحريم والكراهية منتزعان أو مسببان عن تعلق كراهته به.

وقد استشكل في ذلك بما يرجع إلى أن القادر على تحقيق مراده ودفع ما يكرهه - سواء كان واجب القدرة ك - (الله تعالى)، أم ممكن القدرة

ص: 22

كالإنسان في بعض الأوقات - حيث لا يتخلف وجود مراده عن إرادته، ولا دفع ما يكرهه عن كراهته، لزم عدم عصيان أوامره ونواهيه، مع تحقق العصيان بالوجدان من العبيد لله تعالى الواجب القدرة ولغيره من الموالي العرفيين الذين قد يكونون قادرين على تحقيق مرادهم، وذلك كاشف عن عدم توقف التكاليف على الإرادة والكراهة، وأن منشأ التكليف أمر آخر، وإلا لزم كشف العصيان عن كون التكليف صورياً، لخلوه عن الإرادة فلا تكون مخالفته عصياناً.

وربما كان هذا أحد الوجوه الموجبة لدعوى مغايرة الطلب للإرادة، وأن منشأ التكليف هو الطلب - كما عن الأشاعرة - وأنه هو ما ادعوه من الكلام النفسي، أو غيره مما ذكره بعض أصحابنا.

وقد انجرّ الكلام بمشايخنا المتقدمين والمعاصرين إلى الكلام في ذلك، وفي مسألة الجبر والاختيار، وغير ذلك مما يناسبهما.

ولا يسعنا إطالة الكلام فيما ذكروه، لخروجه عن محل الكلام، بل ربما كان من التكليف المنهي عنه، والذي قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه، فلنقتصر على ما يخص المقام.

وقد حاول غير واحد دفع الإشكال المتقدم بأن عدم تخلف المراد عن الإرادة من القادر مختصٌ بالإرادة التكوينية، وليس التكليف مسبباً أو منتزعاً منها، بل من الإرادة التشريعية، والتخلف فيها غير عزيز، فمبني الإشكال على الخلط بين الإرادتين.

الفرق بين الإرادتين..

ومن هنا لابد من بيان الفرق بين الإرادتين، وقد ذكروا له وجوهاً:

الأول: ما يظهر من النائيني قدس سره

الأول: ما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من أنه لا فرق بينهما إلا في

ص: 23

اقتضاء الإرادة التكوينية للفعل بالمباشرة بحركة عضلات المريد، واقتضاء الإرادة التشريعية للفعل المنزل منزلة المباشرة، لابتنائها على تنزيل عضلات العبد وحركاته منزلة عضلات المولى وحركاته.

وفيه: أن التنزيل المذكور مما لا شاهد له، بل لا مجال للبناء عليه بعد الرجوع للمرتكزات العرفية، بل لعله ممتنع في التكاليف الشرعية.

على أن التنزيل إن كان تكوينياً راجعاً إلى تبعية حركات العبد وعضلاته لإرادة المولى - كحركات المولى وعضلاته - امتنع التخلف مطلقاً.

وإن كان ادعائياً فلا أثر له في تحقيق مراد المولى الذي هو أمر حقيقي خارجي، تابع لأسبابه التكوينية، فلا وجه لاجتزاء المولى به في فرض كونه مريداً.

وإن كان تشريعياً راجعاً إلى خطاب العبد بجعل عضلاته وحركاته بمنزلة عضلات المولى وحركاته في تحركها تبعاً لإرادته، رجع الكلام إليه، واحتاج إلى بيان الإرادة التشريعية التي اقتضت الخطاب به.

الثاني: ما يظهر من غير واحد

الثاني: ما يظهر من غير واحد من انحصار الفرق بينهما في المتعلق، فمتعلق الإرادة التكوينية هو فعل المريد نفسه، ومتعلق الإرادة التشريعية هو فعل المكلف، بلا فرق بين حقيقتيهما.

وفيه: أن لازم ذلك عدم تحقق الإرادة في ظرف علم المولى بعدم تحقق المراد، لأن فعلية الإرادة المستتبعة للسعي نحو المراد بتحريك العضلات نحوه، أو بطلبه من الغير مشروطة باحتمال تحققه.

بل يلزم عدم تخلف المراد في ظرف قدرة المريد عليه، بأن كان المولى قادراً على فعل العبد ولو بإجباره، كما هو المشاهد في مرادات

ص: 24

الموالي الحتمية، فالتخلف مع القدرة كاشف عن عدم الإرادة فلو كانت الإرادة منشأ للتكليف كشف التخلف عن كون التكليف صورياً لا معصية بمخالفته، لعدم الإرادة على طبقه.

وأما ما ذكره بعضهم: من أن متعلق الإرادة التشريعية ليس مطلق فعل العبد، بل خصوص الاختياري منه، والإرادة المذكورة لا تقتضي جبر العبد، للزوم الخلف.

فهو لا يدفع الإشكال، حيث يلزم مع علم المريد بعدم تحقق الفعل الاختياري عدم فعلية إرادته المستتبعة للسعي له بالتكليف.

كما يلزم عدم تخلفه مع قدرة المولى عليه، مع وضوح أنه قد يتخلف وإن كان قادراً، كما هو المشاهد في كثير من الموالي العرفيين، حيث يتسنى له إقناع العبد وإحداث الداعي له، بمثل الترهيب والترغيب والتذكير.

بل لا إشكال فيه في حق المولى الأعظم قدس سره عز وجل، إذ لو سلم ما ذكره بعضهم من عدم استناد اختيار العبد إليه تعالى، إلا أنه لا ريب في وقوعه تحت سلطانه، ولو بتهيئة أسباب الهداية والسعادة، أو الخذلان والشقاوة، قال تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا»(1) وقال عز وجل:

«قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» (2) وقال سبحانه:

«إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ» (3) .

مضافاً إلى أن أخذ الاختيار قيداً في المراد والمكلف به لو أمكن

ص: 25


1- سورة يونس: 99
2- سورة الأنعام: 149
3- سورة الشعراء: 26

- وغض النظر عما قيل من عدم كون الاختيار اختيارياً، فيمتنع أخذه في المكلف به الاختياري - كان لازمه عدم الاجزاء بالموافقة بوجه غير اختياري، ولا يمكن البناء عليه في غير العباديات. فلاحظ.

الثالث: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره

الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره(1) من أن الاختلاف بين الإرادتين إنما هو في كيفية التعلق بالمراد، مع وحدة حقيقتهما ومتعلقهما.

بدعوى: أنه إذا كان لوجود الفعل مقدمات عديدة كان لكل منها دخل في جهةٍ من جهاته، فهي تمنع العدم من جهتها، وحينئذٍ فالمصلحة الداعية للشيء والموجبة لإرادته قد تكون مقتضية لحفظه من جميع الجهات، وقد تكون مقتضية لحفظه من بعضها، فإن كانت على النحو الأول أوجبت إرادته من جميع الجهات، بنحو تنشأ منها إرادات غيرية بعدد جميع المقدمات، وإن كانت على النحو الثاني أوجبت إرادته من خصوص تلك الجهة، فتنشأ منها إرادة غيرية متعلقة بالمقدمة الحافظة لها دون غيرها.

وحيث كان صدور الفعل من المكلف في فرض عدم الداعي النفسي إليه يتوقف على تشريع التكليف به، وعلم المكلف بالتكليف الذي هو شرط في حدوث الداعي العقلي لفعله، وعدم مزاحمة الداعي العقلي بالدواعي الشهوية على خلافه، كان تشريع التكليف من مقدمات وجود فعل المكلف الحافظة لبعض جهات وجوده، وكانت إرادة الشارع المتعلقة بالفعل من هذه الجهة هي الإرادة التشريعية، وتقابلها الإرادة التكوينية، وهي المتعلقة بفعله من جميع جهات وجوده، المقتضية لحفظه بلحاظ جميع المقدمات، وهي التي يمتنع تخلف المراد عنها مع قدرة المريد، أما التشريعية فلا يمتنع

ص: 26


1- سيدنا الجد السيد محسن الطباطبائي الحكيم. (منه)

التخلف فيها، لغرض قصورها.

وعليه لا يكون العصيان كاشفاً عن عدم الإرادة، بل عن قصورها وأنها لم تبلغ مرتبة التكوينية، كما تكون التشريعية من مراتب التكوينية الموجودة في ضمنها.

وفيه: أن ملاك الإرادة الغيرية لما كان هو الوصول للمراد النفسي فلا مجال له إلا مع العلم بحصول المراد النفسي، للعلم بتحقق بقية المقدمات أو احتمال ذلك.

أما مع العلم بعدم تحقق المراد النفسي، للعلم بعدم تحقق بقية المقدمات، فيمتنع إرادة بقية المقدمات بإرادة غيريةٍ تابعةٍ لإرادة ذيها نفسياً.

نعم، قد تكون مرادةً بإرادةٍ نفسيةٍ غير تابعةٍ لإرادة ذيها، فيقتصر المريد على تحقيقها، وحيث ذكرنا أنه كثيراً ما يعلم المولى بعصيان المكلف للمزاحمات الشهوية أو نحوها للداعي العقلي، امتنع أن يكون تشريع التكليف مسبباً عن إرادة غيرية تابعةً لإرادة المكلف به نفسياً، بل ذلك يكشف عن عدم تعلق الإرادة النفسية به وكون منشأ التكليف أمراً آخر.

ما ذكره الاصفهاني قدس سره في حقيقة الفرق بين الإرادتين

أما بعض المحققين قدس سره فقد أنكر الإرادة التشريعية في موارد التكاليف الشرعية - مع تفسيره الإرادة التكوينية بما يتعلق بفعل المريد نفسه، والإرادة التشريعية بما يتعلق بفعل الغير - لدعوى: أن الإرادة التشريعية إنما تتعلق بفعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى المريد، لأن شوقه إلى الفائدة يستتبع شوقه لذيها، وهو فعل الغير الاختياري، وحيث لم يكن فعل الغير مقدوراً للمريد بلا واسطة، بل بتبع البعث والتحريك اللذين هما فعل المريد بالمباشرة، كانت إرادته سبباً في إرادتهما وفعلهما.

ص: 27

أما إذا لم يكن لفعل الغير فائدة عائدة للمريد فيمتنع تعلق الشوق به، لامتناع تحققه بلا داع، وحيث كان تعالى مستغنياً بذاته امتنع في حقه الإرادة التشريعية، لعدم كون متعلقها - وهو فعل الغير - مورداً للنفع له.

نعم، ربما يكون إيصال النفع إلى الغير بتحريكه - أمراً أو التماساً أو دعاءً - ذا فائدة عائدة إلى الشخص، فينبعث الشوق إلى إيصال النفع بالبعث والتحريك، الذي هو فعل المريد بالمباشرة.

ولا وجه لعد مثله إرادة تشريعية بعد كون المراد هو إيصال النفع إلى الغير بتحريكه، وهو فعل المريد نفسه. إلا أن يكون محض اصطلاح.

وقد أطال قدس سره في ذلك، ومرجع كلامه - على غموض فيه، وجرى على مسلك أهل المعقول - إلى عدم اشتمال موارد التكاليف الشرعية على إرادة أو كراهة تشريعيتين كي يمتنع تخلفها، بل ليس موضوع الإرادة والكراهة فيها إلا نفس البعث، والزجر.

إلا أن يكونا هما المرادين بالإرادة والكراهة التشريعيتين، فلا مشاحة في الاصطلاح.

وفيه: - مع ما سبق من عدم اختصاص الإشكال بالأحكام الشرعية، بل يجري في تكاليف الموالي العرفيين، الذين اعترف بإمكان الإرادة التشريعية في حقهم - أن توقف الإرادة التشريعية لفعل الغير على وصول نفع منه للمريد غير ظاهر الوجه، بل كما أمكن تعلق الإرادة التكوينية بفعل ما لا يصل نفعه إلى المريد - لفرض كماله - أمكن ذلك في الإرادة التشريعية.

المختار في الفرق بين الإرادتين

والتحقيق: أن منشأ التكليف من الشارع الأقدس وغيره ليس من سنخ الإرادة التكوينية، التي هي في الحيوان عبارة: عن الشوق المستتبع لتحريك

ص: 28

العضلات نحو المراد.

ومن الله تعالى ما يشارك ذلك في النتيجة، وهي: السعي لتحقيق المراد، التي يعبر عنها شرعاً وعرفاً بالمشيئة.

بل هو أمر آخر قد يطلق عليه الإرادة شرعاً وعرفاً، إما بنحو الاشتراك اللفظي، أو مجازاً بلحاظ مشاركته في الجملة للمعنى المتقدم في العلية للمراد، وإن لم تكن عليته تامة، بل بنحو الاقتضاء، وليكن هو المراد بالإرادة التشريعية.

ونظيره في ذلك الكراهة التشريعية.

وتوضيح ذلك: أنه لابد في انتزاع التكليف من نحو من العلاقة بين المكلَّف والمكلِّف تقتضي متابعة الثاني للأول وموافقته، سواءً كان اقتضاؤها بحكم العقل تبعاً لذاتيهما - كالمولى الحقيقي عز وجل مع عبيده - أم لأمرٍ خارجي، كقوة المكلِّف المستلزمة لخوف ضرره، أو وجوب طاعته شرعاً، أو دالة له على المكلف تقتضي موافقته.

وحينئذٍ فما ينتزع منه التكليف هو الخطاب والتشريع المبتنيان على الجهة المذكورة، وعلى جعل السبيل بلحاظها، سواءً كان الداعي لذلك هو إرادة حصول المكلف به تكويناً من جميع الجهات من كل مكلف، أو في الجملة ولو من بعضهم، أم إرادته من بعض الجهات - على ما تقدم توضيحه في كلام سيدنا الأعظم قدس سره - أم أمراً آخر كالملاك الواجب الحفظ تشريعاً على المكلِّف، أو امتحان المكلَّف وإظهار حاله في الطاعة والمعصية.

ومن هنا لا ينافيه تخلف المراد، وإن كان المكلِّف قادراً على تحقيقه من المكلَّف بالأختيار أو بدونه، كما لا يمنع من طلبه العلم بعدم تحققه من

ص: 29

المكلف.

نعم، لو كان الداعي له هو إرادة فعل المكلف تكويناً من جميع الجهات لم يتخلف مع قدرة المكلف، بإجبار المكلف، أو بإحداث الدواعي الموجبة لفعلية اختياره، ومع عجزه لا يصدر التكليف منه مع علمه بعدم تحقق المكلف به، كما لا يصدر معه التكليف منه - أيضاً - لو كان الداعي هو إرادته من بعض الجهات، وإن كان قادراً على تحقيقه.

كل ذلك لعدم فعلية إرادته التكوينية حينئذٍ، ولا داعي للتكليف غيرها، كما سبق توضيحه.

وهو الحال أيضاً لو كان الداعي هو الإرادة بأحد الوجهين، إذا لم يكن الطلب منشأ لانتزاع التكليف، لعدم العلاقة المقتضية لمتابعة المطلوب منه للطالب، وموافقته له.

وقد ظهر من ذلك أن الإرادة التشريعية مباينة للإرادة التكوينية خارجاً، وإن كان متعلقهما واحداً وهو فعل الغير، وأن بينهما عموماً من وجه موردياً في مورد الطلب، حيث يجتمعان فيما لو كان الداعي للتكليف هو تعلق الإرادة التكوينية بالمكلف به، وتنفرد الإرادة التشريعية فيما إذا كان الداعي أمراً آخر كالملاك والامتحان، تنفرد التكوينية فيما لو لم يكن بين الطالب والمطلوب ما يصحح انتزاع التكليف.

وأما امتناع التخلف مع قدرة المريد، وعدم فعلية الإرادة مع العلم بعدم حصول المراد، فهما تابعان للإرادة التكوينية.

كما أن الداعوية العقلية تابعة للإرادة التشريعية التي بها قوام التكليف دون التكوينية.

ص: 30

ولذا كان التكليف الامتحاني حقيقياً مقتضياً للإطاعة عقلاً حتى لو علم المكلف بحاله.

ولا يكون التكليف صورياً إلا بتخلف الإرادة التشريعية، بأن لم يكن الخطاب مبنياً على العلاقة المتقدمة التي يبتني عليها التكليف، ولا على جعل السبيل بلحاظها، كما لو كان الغرض منه الاعتذار للغير عن فعل العبد، لبيان عدم إطاعته للمولى، كي لا يؤاخذ بإساءته لذلك الغير، فلا تجب إطاعته على العبد لو اطلع على حاله.

تعقيب على ما ذكره السيد الخوئي قدس سره

هذا، وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن مفاد إنشاء الطلب هو إبراز كون الفعل على ذمة المكلف فلا يبعد رجوعه إلى ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن مفاد صيغة الطلب إيقاع المادة تشريعاً على المكلف، وكيف كان فلا مجال للالتزام به على ظاهره، لوضوح أنه - مع اختصاصه بالطلب ممن له التكليف، المبني على ملاحظة الجهة المقتضية لمتابعته - من سنخ الوضع، وهو مباين للتكليف المستفاد من إنشاء الطلب سنخاً، لتقوم التكليف بالعمل، ولذا كان مقتضياً له بنفسه، وموضوعاً للطاعة والمعصية بلا توسط أمر غير حكم العقل، ولا يعقل ثبوته مع عدم وجوب العمل، بخلاف الوضع ك (الدين والملك) فهو لا يقتضي العمل بنفسه، ولا يكون موضوعاً للطاعة والمعصية، وإنما يكون موضوعاً للحكم الشرعي المقتضي له والموضوع لهما، ولذا أمكن ثبوته مع عدم وجوبه لعجزٍ، أو عسرٍ، أو غيرهما.

نعم، لما كان البعث والتحريك في مورد التكليف مبنياً على ملاحظة العلاقة المقتضية لمتابعة المكلَّف للمكلِّف، وعلى جعل المسؤولية بلحاظها - كما سبق منّا - كان مستتبعاً للمسؤولية بالفعل المخاطب به، بحيث يصير

ص: 31

كأنه في ذمة المكلف، فكون المكلف مسؤولاً بالفعل وفي ذمته مسبَّب عن إنشاء الطلب في مورد التكليف ومتفرع على التكليف، لا أنه مفاد إنشاء الطلب الذي يكون منشأ لانتزاع التكليف، فضلاً عن أن يكون مفاد مطلق إنشاء الطلب ولو في غير مورد التكليف.

ولعله لذا ورد التعبير عن بعض الواجبات بالدَّين، مثل ما عن الصادق عليهم السلام في وصية لقمان: «وإذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء، صلّها، واسترح منها، فإنها دَين»(1).

ولا يبعد ابتناء ما ذكره على ما ذكرناه من الأمر الارتكازي، وإن لم يوضح في كلامه بالوجه المناسب له.

الأمر الثاني: الكلام في منشأ انتزاع الاستحباب والكراهة

الأمر الثاني: المتيقن مما تقدم منا ومنهم في منشأ انتزاع التكليف إنما هو في الحكمين الإلزاميين، وهما الوجوب والحرمة، وأما الحكمان الاقتضائيان غير الإلزاميين - وهما الاستحباب والكراهة - فالكلام في منشأ انتزاعهما يبتني على الكلام في الفرق بينهما وبين الحكمين الإلزاميين.

وقد يستفاد مذهبهم في ذلك تبعاً مما ذكروه في مباحث مادة الأمر والطلب وصيغتيهما عند الكلام في دلالتها على الوجوب وعدمها، وأنها لو دلت فهل تكون دلالتها بالوضع أو الإطلاق أو بأمر خارج من عقل أو عرف حيث كان الكلام هناك في مقام الإثبات المتفرع على حقيقة الفرق بينهما ثبوتاً.

أما نحن فحيث كنا هنا بصدد التعرض لحقيقة الأحكام كان البحث المذكور من البحوث الأصلية، الحقيقة بالذكر في المقام.

ص: 32


1- الوسائل ج 5، باب: 12 من أبواب قضاء الصلوات، حديث 25

الكلام في اشتراك الأحكام الإلزامية وغيرها في جهة

والمستفاد من كلماتهم المفروغية عن اشتراك الأحكام الاقتضائية غير الإلزامية، والإلزامية، في جهة تقتضي الطلب والبعث نحو المتعلق، أو النهي والزجر عنه، وإنما الكلام في الخصوصية الزائدة على ذلك التي يمتاز بها أحد الحكمين عن الآخر.

والكلام في ذلك يبتني..

ابتناء الكلام على الكلام في حقيقة الفرق بين الإرادتين

تارةً: على أن الإرادة التشريعية التي هي منشأ انتزاع التكليف متحدة في حقيقتها مع الإرادة التكوينية، وليس الفرق بينهما إلا في ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من ابتناء الثانية على تنزيل عضلات العبد وحركاته منزلة عضلات المولى وحركاته، أو في ما سبق عن غير واحد من اختلاف متعلقهما، فمتعلق الإرادة التكوينية فعل المريد نفسه، ومتعلق التشريعية فعل الغير.

وأخرى: على ما سبق من سيدنا الأعظم قدس سره من أن الإرادة التشريعية مرتبة من التكوينية، وأنها إرادة للفعل من حيثية تشريع التكليف وإيصاله فقط، لا من جميع الجهات كالتكوينية.

وثالثة: على ما سبق من بعض المحققين من عدم انتزاع التكليف الشرعي من الإرادة التشريعية لفعل الغير، بل من نفس البعث والزجر بداعي جعل الداعي، اللذين هما فعل المريد بالمباشرة، ومرادان له بإرادة تكوينية.

ورابعة: على ما سبق من بعض مشايخنا من أن حقيقة التكليف اعتبار المكلَّف به في ذمة المكلَّف.

وخامسة: على ما ذكرناه في حقيقة الإرادة التشريعية المقومة للتكليف.

ص: 33

الكلام على الأول

أما على الأول فقد ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سره(1): أن الفرق بين الحكم الإلزامي وغيره راجع إلى الفرق بين مرتبتي الإرادة الموجبة لهما تبعاً لاختلاف الملاك الموجب لهما، فإن كان إلزامياً كانت الإرادة شديدة ينتزع منها الحكم الإلزامي، وإلا كانت الإرادة ضعيفة ينتزع منها الحكم غير الإلزامي.

ويشكل: بأن الإرادة لما كانت هي الشوق المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد والسعي لتحصيله فهي وإن كانت قابلة للشدة والضعف، إلا أنها لا تنقسم إلى إلزامية وغيرها، بل عدم الإلزام مستلزم لعدم فعلية الإرادة، لمنافاته لفعلية السعي نحو المراد الذي هو لازم لها، ولذا لا تنقسم الإرادة التكوينية إلى لزومية وغيرها، تبعاً لاختلاف الملاك والغرض الموجب لها، بل مرجع عدم اللزوم في الشوق إلى محض الرغبة من دون أن تبلغ مرتبة الإرادة.

وأما ما ذكره من أن ذلك خلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية، فهو كما ترى! إذ لا وجه لاختلافهما في ذلك بعد الاعتراف باتحاد حقيقتهما، وبعد اشتراكهما في اختلاف الملاك الموجب لهما في الإلزام وعدمه، بل الأولى كون ذلك كاشفاً عن اختلاف حقيقتيهما.

أما بعض الأعاظم قدس سره(2) فقد صرح بما ذكرناه من أن الإرادة وإن كانت قابلة للشدة والضعف، إلا أنها ما لم تشتد بحيث يترتب عليها تحريك العضلات لا تكون إرادة.

ص: 34


1- الشيخ آغا ضياء الدين العراقي. (منه)
2- الشيخ الميرزا محمد حسين النائيني. (منه)

كما أن ظاهره اشتراك الوجوب والاستحباب في الإرادة، وفي ما يترتب عليها، وهو الخطاب المتضمن لإيقاع المادة تشريعاً على المكلف، وإنما يختلفان في المبادئ، حيث يكون إيقاع المادة على المكلف تشريعاً مسبباً تارةً: عن مصلحة لزومية وأخرى: عن مصلحة غير لزومية.

أما وجوب الفعل فهو بحكم العقل، تبعاً لصدق الإطاعة عليه، التي هي واجبة عقلاً بنفسها.

ويكفي في صدقها عليه صدور البعث من المولى من دون قرينة على كون مصلحته غير لزومية.

أما مع قيام القرينة على ذلك بترخيص المولى في الترك فلا يصدق عنوان الإطاعة، ولا يكون واجباً، بل يكون مستحباً.

ومرجع ذلك إلى أن الوجوب والاستحباب وإن اشتراكاً في الإرادة إلا أنهما يختلفان في الملاك الموجب لها، وفي منشأ الانتزاع المسبب عنهما، فالوجوب مسبب عن البعث من دون قرينة على كون الملاك غير لزومي، والاستحباب مسبب عن البعث مع القرينة على ذلك.

وقد قاربه في ذلك بعض من تأخر عنه.

ولابد أن يريد بالإطاعة ما يساوق عدم المعصية، لأنها الواجبة عقلاً والتي يختص بها الأمر الوجوبي، وإلا فالإطاعة بمعنى المتابعة للمولى تتحقق بموافقة الأمر الاستحبابي، ولا تتصف بالوجوب عقلاً، بل بمحض الحسن.

وحينئذٍ يشكل ما ذكره - مضافاً إلى ما أشرنا إليه آنفاً من منافاة الترخيص في الترك للإرادة - بأن التابع لصدق الإطاعة - بالمعنى المذكور

ص: 35

- هو الوجوب العقلي المختص بالتكاليف الشرعية، والكلام إنما هو في الوجوب المولوي الذي هو المنشأ لصدق الإطاعة، وهو الطلب اللزومي الذي لا يختص بأوامر الشارع الأقدس، بل يجري في الأوامر العرفية، ومن الظاهر أنه تابع للطلب الصادر من المولى تبعاً للملاك الداعي له، حيث يكون لزومياً تارة، وغير لزومي أخرى، ومع عدم المعين يكون محتملاً للوجهين، ودليل الترخيص كاشف عن حاله، لا مقوم ثبوتاً لعدم لزوميته، بحيث يكون عدم الدليل عليه مساوقاً للزوم الطلب واقعاً.

كيف، ولازم ذلك كون وصول دليل الترخيص موجباً لانقلاب الطلب من الوجوب إلى الاستحباب ثبوتاً؟! ولا يظن الالتزام به منه ولا من غيره، إلا في موارد النسخ، والانقلاب به - لو تم - مسبب حقيقة عن نفس الترخيص، لا عن وصول دليله.

نعم قد يكون عدم وصول الدليل على الترخيص منشأ للبناء على كون الطلب إلزامياً ظاهراً، لأنه الأصل في الطلب، أو لغير ذلك مما يرجع إلى مقام الإثبات - ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى - فيكون تبعاً لذلك موضوعاً للإطاعة ظاهراً، فيجب عقلاً وجوباً طريقياً في طول وجوب الإطاعة الواقعية، وإن كان مستحباً واقعاً.

فكأن ما ذكره مبتن على اختلاط مقام الثبوت بمقام الإثبات، ومقام الواقع بمقام الظاهر.

الكلام على الثاني

وأما على الثاني فتوجيه الفرق بين الحكمين غير عسير، لأنه إذا أمكن إرادة الشيء من بعض الجهات دون بعض بنحو يقتصر على المقدمات الحافظة لوجوده من تلك الجهات، فكما يمكن الاقتصار على الطلب

ص: 36

الإلزامي الذي يجب عقلاً إطاعته، يمكن الاقتصار على الطلب غير الإلزامي الذي يحسن عقلاً إطاعته، ولذا كان ظاهره انتزاع الوجوب من مقام إظهار الإرادة مع عدم الترخيص في الترك، والاستحباب من مقام إظهارها مع الترخيص فيه.

نعم، لا يبعد كون إلزامية الإرادة والطلب وعدمها راجعة إلى خصوصية في الإرادة والطلب، مستكشفة بالترخيص وعدمه لا متقومة بهما، وأن الترخيص لازم لعدم إلزاميتهما، وعدمه لازم لالزاميتهما، مع تقوم كل من الحكمين الإلزامي وعدمه بنفس الإرادة والطلب بإحدى خصوصيتيهما، من دون دخل للترخيص وعدمه فيه، وذلك لما أشار إليه بعض المحققين قدس سره، من أنه قد لا يخطر أحد الأمرين - من الترخيص وعدمه - على بال الحاكم عند جعل أحد الحكمين والخطاب به. وربما يرجع ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره إلى ذلك، والأمر سهل.

الكلام على الثالث

وأما على الثالث فقد ذكر المحقق المذكور أن الفرق بينهما ينحصر في تأكد البعث وعدمه، فالوجوب هو الإنشاء بداعي البعث الأكيد، والاستحباب هو الإنشاء بداعي البعث غير الأكيد، والبعث وإن كان اعتبارياً، والاعتبار بنفسه لا يقبل الشدة والضعف، إلا أن الشدة والضعف في نفس الأمر المعتبر - وهو البعث - لأن اعتبار أمر حقيقي بمرتبته الشديدة أو الضعيفة أمر ممكن، بلحاظ اختلاف الأثر المترتب عليه في مقام العمل.

والمصلحة اللزومية كما تناسب شدة الإرادة تناسب شدة البعث وتأكده، وغير اللزومية كما تناسب ضعف الإرادة تلازم ضعف البعث وعدم تأكده.

ص: 37

وأما الترخيص في الترك وعدمه فهما لازمان لمنشأ الاستحباب والوجوب، لا مقومان له، لما سبق منا التنبيه عليه تبعاً له.

لكن جعل الشدة والضعف في البعث الاعتباري معياراً في الفرق بين الحكمين لا يخلو عن إشكال، لأن اعتبار البعث إنما هو لأجل ترتب الانبعاث عليه عقلاً، كما يترتب خارجاً على البعث الحقيقي، وكما يترتب المراد على الإرادة في التكوينيات، ومن الظاهر ترتب الانبعاث الخارجي على البعث الحقيقي والمراد على الإرادة مطلقاً وإن كانا ضعيفين، وذلك لا يناسب دخل شدة البعث وضعفه في لزوم الانبعاث عقلاً وعدمه.

الكلام على الرابع

وأما على الرابع فقد ذكر بعض مشايخنا: أن الفرق بين الحكمين في مقام الثبوت من حيثية المبدأ.

وذلك بشدة الملاك وضعفه - بناءً على تبعية الأحكام للملاكات - وفي مقام الإثبات من حيثية مقارنة الحكم للترخيص وعدمه، إذ حيث كان الطلب عبارة عن إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف، فاللازم عقلاً بمقتضى قانون المولوية والعبودية لزوم الامتثال، وهو مرجع الوجوب. إلا أن يرد ترخيص من المولى نفسه، فيجوز ترك الامتثال عقلاً، وهو مرجع الاستحباب. وهو مقارب لما سبق من بعض الأعاظم قدس سره أو راجع إليه.

غايته أنه صرح بكون الترخيص وعدمه فرقاً بين الحكمين في مقام الإثبات لا الثبوت، وهو لا يناسب ما ذكره من كون الترخيص رافعاً لحكم العقل بوجوب الامتثال، فيكون الفعل به مستحباً، ولولاه لكان واجباً، حيث يناسب ذلك دخل الترخيص وعدمه في الحكمين ثبوتاً لا إثباتاً.

على أنه إذا كان مفاد الطلب إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف

ص: 38

فوجوب أداء ما في ذمة المكلف عليه لما كان عقلياً راجعاً إلى مقام الإطاعة امتنع ترخيص المولى في تركه، كما يمتنع ترخيصه في ترك الواجب.

إلا أن يرجع ترخيصه إلى رفعه عن ذمة المكلف، فيرتفع موضوع حكم العقل، لكن يكون نسخاً لمفاد الطلب، ولا يبقى معه وجه لبقاء الاستحباب.

أو يرجع إلى اختصاص وجوب الأداء عقلاً بنحو خاص من الجعل في الذمة، ولا يجب في غيره، وهو ما يستكشف بترخيص المولى، فيكون الترخيص كاشفاً عن حال الجعل، ولم ينهض الوجه المذكور لبيان الفارق بين الجعلين ثبوتا.

ولا مجال لقياسه على ترخيص الدائن في تأخير الدين، أو عدم أدائه الموجب لعدم وجوب الأداء مع بقاء انشغال الذمة بالدين.

للفرق بينهما بأن وجوب أداء حقوق الناس لما كان شرعياً كان للشارع التصرف فيه سعةً وضيقاً، فله إناطته بعدم ترخيص صاحب الحق في ترك الأداء، من دون أن ينافي بقاءه، أما أداء حقوق المولى فهو عقلي خارج عن وظيفة الشارع.

والظاهر توجه ذلك على ما سبق من بعض الأعاظم قدس سره، كما يتوجه ما سبق عليه هنا في الجملة، لرجوع أحدهما للاخر، فلاحظ.

وأما على الخامس - الذي عرفت منا تقريبه - فالحكم غير الإلزامي وإن كان الخطاب به مبنياً على ملاحظة الجهة المقتضية للموافقة بين الحاكم والمخاطب، إلا أنه يفترق عنه في عدم ابتنائه على جعل المسؤولية بلحاظ تلك الجهة، بحيث تكون المخالة خرقاً لها وخروجاً عليها، بل على محض

ص: 39

جعل مقتضى الخطاب على حساب الحاكم منتسباً إليه، بحيث يكون الإتيان به لأجله وعلى حسابه من حيثية واجديته لتلك الجهة المقتضية للمتابعة.

وبعبارة أخرى: الخطاب ممن ينبغي متابعته مبتنياً على ملاحظة الجهة المقتضية للمتابعة هو المصحح لانتزاع الحكم وإضافته إليه، بنحو يقتضي نسبة متعلقة له وصيرورته في حسابه حتى يكون الإتيان به لأجله إطاعةً له وقياماً بمقتضى تلك الجهة الملحوظة، كالعبودية للمولى الأعظم قدس سره، والسلطنة من الموالي العرفيين، والحق المتبادل بين المتناظرين.

وهذا ما تشترك فيه الأحكام المولوية الاقتضائية وبه تمتاز عن الأوامر والنواهي الإرشادية، فإنها لا تبتني على ملاحظة الجهة المذكورة، بل على نحو الإرشاد لواقع لا دخل للآمر والناهي به، ولا ينتسب إليه، ولا يكون منشأ لانتزاع الحكم منه، ولا يصح متابعتها لأجله.

نعم، الحكم المولوي تارة: يتمحض في ذلك، فلا يكون إلزاميا، بل يستلزم الترخيص في الترك مع التفات الحاكم.

وأخرى: يبتني مع ذلك على جعل المسؤولية بالإضافة لتلك الجهة، بحيث تكون مخالفته خرقاً لها وخروجاً عن مقتضاها، فيكون إلزامياً، ويلزمه عدم الترخيص في الترك.

فالفرق بينهما ثبوتاً راجع إلى ذاتي الحكمين، ولا ينحصر في مبادئهما، - وهي الملاكات التي تكون إلزامية تارة، وغير إلزامية أخرى - كما لا ينحصر بالفرق العرضي بالترخيص في الترك وعدمه.

وأولى من ذلك عدم تقومهما بالترخيص وعدمه، أو المنع من الترك، بنحو ينتزعان من الأمرين مع بساطتهما مفهوماً، أو بنحو التركيب في

ص: 40

مفهومهما، إذ اشتمال الخطاب على إحدى الخصوصيتين الذاتيتين المشار إليهما يكفي في انتزاع أحد الحكمين بلا حاجة للترخيص وعدمه، أو المنع.

ومما تقدم يظهر ضعف ما عن بعضهم: من إرجاع الأوامر الاستحبابية للأوامر الإرشادية، وأنها لا تتضمن إلا الإرشاد للمصلحة الراجحة.

وأما ما أشير إليه في وجه ذلك: من منافاة البعث للترخيص في الترك، فلا بد من اختصاصه بالوجوب وخلو الأمر الاستحبابي عنه، وتمحضه في الإرشاد.

فهو مدفوع: بأن المراد بالبعث إن كان هو الحث على الفعل المعبر عنه بالطلب، فهو لا ينافي الترخيص، بل قد لا يخلو منه الأمر الإرشادي أيضاً، كما لو كان الداعي له حب الخير للمخاطب.

وإن كان المراد منه ما يساوق جعل المسؤولية على المخاطب ولابدية الطلب منه فخلو الخطاب عنه لا يستلزم كونه إرشادياً، لما سبق.

كيف! والأوامر الإرشادية لا تصحح نسبة متعلقها للشارع والشريعة، بنحو يؤتى به لأجله، كما لا تقتضي موافقتها أهلية المخاطب بها للثواب منه، مع وضوح ثبوتهما في الأوامر الاستحبابية.

وبالجملة: وضوح الفرق بين الأوامر الاستحبابية والإرشادية بمقتضى المرتكزات المتشرعية والعرفية، وبملاحظة آثار كل منهما بحدٍ لا ينبغي معه خفاؤه وإرجاع أحدهما للآخر، بل اللازم لأجله البناء على خطأ التفسير المستلزم لذلك، ويكون كالشبهة في مقابل البديهة.

ص: 41

تنبيهان

تنبيهان:

الأول: جريان التفسير المتقدم في الحرمة والكراهة

أولهما: ما تقدم منا في تفسير الحكم الاقتضائي الإلزامي وغيره كما يجري في الوجوب والاستحباب يجري في الحرمة والكراهة، وإن اختلفا عنهما في كون الملاك فيهما راجعاً للمفسدة في الفعل المقتضية للزجر عنه، وللمصلحة المقتضية للبعث نحوه في الوجوب والاستحباب.

وأما على بقية المباني فحيث ذكرها أصحابها في مبحث الأوامر تبعاً لبيان مفاد صيغة الأمر ومادته، فقد اقتصر بعضهم على ما يناسبها وهما الوجوب والاستحباب، وربما يستفاد تفسير الحرمة والكراهة من مجموع كلماتهم ولو بلحاظ ملاك المبنى.

فالمناسب لانتزاع الوجوب والاستحباب من الإرادة ذات المرتبتين، أو مع الترخيص في الترك وعدمه انتزاع الحرمة والكراهة من الكراهة ذات المرتبتين، أو مع الترخيص في الفعل وعدمه.

والمناسب لانتزاع الوجوب والاستحباب من الطلب أو البعث انتزاع الحرمة والكراهة من النهي أو الزجر.

أما على ما سبق من بعض مشايخنا فالمناسب كون حقيقتهما اعتبار ترك المادة في ذمة المكلف، لكن لازمه عدم الفرق بين تحريم الشيء وإيجاب تركه، مع أنه صرح في مبحث النواهي - من حاشيته على تقريره لدرس شيخه - بالفرق بينهما، وأن المتعلق في الأول الفعل، ومعنى النهي عنه هو الزجر عنه الناشئ من اشتماله على المفسدة، والراجع لتحريمه، ومتعلق الثاني الترك لاشتماله على المصلحة الداعية لطلبه، فيرجع إلى إيجابه.

ص: 42

ومن هنا لا يبعد كون مفاد النهي عنده اعتبار حرمان المكلف من متعلقه أو ما يشبه ذلك، والأمر سهل.

الثاني: وجود الحكم الاقتضائي بذاته ضمن الإلزامي

ثانيهما: لما كان الفرق بين الحكم الإلزامي وغيره بزيادة حدٍ في الإلزامي يستتبع المسؤولية بالإضافة للجهة التي يبتني الخطاب عليها، مع اشتراكهما في أصل المشروعية، والانتساب للمولى التي هي ملاك اقتضائية الحكم، كان الحكم الاقتضائي غير الإلزامي موجوداً بذاته في ضمن الإلزامي، وإن لم يكن موجوداً بحده.

وحينئذٍ فالمرتكزات العقلانية قاضية بأنه كما يكون للحاكم رفع الحكم الإلزامي بكلا حديه، فلا تبقى معه المشروعية، له رفعه بحده المميز له عن الحكم غير الإلزامي، برفع المسؤولية المقتضية للإلزام مع بقاء المشروعية، ولازم ذلك أن يخلفه الحكم الاقتضائي غير الإلزامي، لتمامية حديه بذلك.

فرفع الإلزام والحكم بالاستحباب - مثلاً - لا يتوقف على رفع مشروعية الفعل المقارنة للإلزام، ثم تشريعه مرة أخرى، وتشخيص الرفع وأنه بأي من النحوين تابع لما يستفيده الفقيه من دليله.

الأمر الثالث: في الإباحة

الأمر الثالث: مما سبق يظهر أن الحكم غير الاقتضائي - وهو الإباحة التي هي أحد الحكام الخمسة - متقوم بعدم الجهة المقتضية لأحد الأحكام الأخرى، فمقتضاه مطابق لمقتضى الأصل الأولي الذي يكفي فيه عدم الخطاب المبتني على ملاحظة الجهة المقتضية للمتابعة، لا بالأمر ولا بالنهي.

والمصحح للحكم به، وجعله مع ذلك هو فتح الطريق للعبيد في

ص: 43

استناد عملهم في مقام السعة لتشريع المولى، فإن فعل الشيء أو تركه لإباحة المولى له أظهر في العبودية له تعالى، والفناء في سبيله من استناده لمجرد عدم منعه منه.

كما قد يشير إليه ما عن تفسير النعماني باسناده عن علي عليهم السلام: «قال رسول الله (ص): إن الله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه»(1).

بل لما كان استناد السعة لعدم التكليف من باب الاستناد لعدم المانع، واستنادها للتحليل من باب الاستناد لوجود المقتضي، كفى ذلك في صحة الجعل ارتكازاً، وكان أدعى للشكر على نعمة التخفيف والسعة.

اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يقتضي تشريع الحل بالمعنى الأعم، لكفايته في السعة عملاً، كما هو ظاهر الأدلة المتضمنة للرخصة والحل والإباحة ونحوها.

وأما خصوصية عدم الاقتضاء والإلزام فلا أثر لها فيها، ولعله لذا لم نعهد دليلاً يتضمن الإباحة بالمعنى الأخص، بل لا نعرف لفظاً مختصا بها لغة، وإنما هي اصطلاح للفقهاء في مقام تقسيم الأحكام.

وما تقدم من أن تقسيم الأحكام للخمسة عقلي إنما هو بلحاظ وجودها في الجملة، وإن كان انتزاعياً، على ما يأتي توضيحه.

ودعوى: أن الملاك لا يخلو عن إحدى الحالات الخمس، ولازمه جعل الأحكام على طبق كل منها، ومنها الإباحة بالمعنى الأخص.

ص: 44


1- الوسائل ج 1، باب: 25 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 1، و ج 11، باب: 29 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث: 20

مدفوعة: بأن اللازم عدم مخالفة التشريع للملاك، لا مطابقته له، ولذا لا يحسن التشريع في مورد عدم الأثر العملي له وإن كان ملاكه موجوداً، ويكفي في استيفاء الملاك بالتشريع في المورد المذكور تشريع الحل بالمعنى الأعم مع عدم تشريع حكم اقتضائي في مورده.

وأما تشريع الإباحة المذكورة فلا بد فيه ثبوتاً من غرض مصحح له، وإثباتاً من قيام الدليل عليه، وكلاهما غير ظاهر.

ومن هنا لا طريق لإحراز جعل الحكم المذكور بحده، بل غاية ما يدعى كونه منتزعاً من تشريع الحل بالمعنى الأعم، مع عدم تشريع حكم اقتضائي في مورده.

ثم إن الوجه المتقدم إنما ينهض بإمكان تشريع الحل وعدم لغويته، فلا يلزم رفع اليد عن ظاهر أدلته، وحملها على مجرد نفي التحريم.

أما لزوم جعله في مورد عدم التحريم، أو عدم الحكم الاقتضائي فلا طريق له، بل يمكن اكتفاء الشارع في كثير من الموارد بعدم تشريع الحكم الاقتضائي، لعدم تحقق ملاكه، لما سبق من عدم الأثر العملي له.

نعم، لو كان مرجع الحكم الاقتضائي الإرادة والكراهة الحقيقتين كان مرجع الحل بالمعنى الأعم الرضا بالفعل أو الترك، ومرجع الإباحة بالمعنى الأخص الرضا بهما معا، وحينئذٍ يمتنع خلو الواقعة عن أحد الأحكام الخمسة من مثل الشارع الأقدس الذي يستحيل في حقه الغفلة عن الواقعة، إذ الالتفات للشيء مستلزم لإرادته أو كراهته، أو محض الرضا به من دونهما، لكن سبق ضعف المبنى المذكور.

الأمر الرابع: في استناد الحكم الاقتضائي

الأمر الرابع: بناءً على ما تقدم منا في حقيقة الحكم الاقتضائي يكون

ص: 45

وجوده مستنداً للحاكم تبعاً لخطابه الخاص، من دون أن يكون مجعولاً له اعتباراً بما له من مفهوم اسمي، نظير الجعل في الوضعيات.

أما بناءً على إناطته بالإرادة والكراهة الحقيقتين، فإن كان متحداً معهما كان أمراً تكوينياً ليس من أفعال الحاكم، بل من الكيفيات النفسانية التابعة لأسبابها التكوينية، كالعلم بالمصلحة والمفسدة، ونحوه.

وإن كان منتزعاً منهما في ظرف إبرازهما بالإنشاء القولي أو الفعلي - كما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره - كان أمراً انتزاعياً غير مجعول بنفسه، ولا بمنشأ انتزاعه، وإنما يستند للمولى بلحاظ كون أحد جزئي منشأ انتزاعه - وهو إبراز الإرادة والكراهة - فعلاً اختيارياً له.

نعم، يكون أمراً جعلياً اعتبارياً بناءً على ما سبق من بعض الأعاظم قدس سره من كونه عبارة عن ما يتبع الإرادة، وهو إيقاع المادة على المخاطب تشريعاً.

ومثله ما سبق من بعض مشايخنا من تقومه بإبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف، حيث يكون كسائر الأمور الوضعية، له نحو من الوجود الاعتباري المقصود بالجعل ممن بيده الاعتبار.

الأمر الخامس: في موضوع الإطاعة والمعصية

الأمر الخامس: التكليف وإن كان تابعاً لفعلية الخطاب به تبعاً لفعلية موضوعه، إلا أن الظاهر بمقتضى المرتكزات العقلانية أن موضوع الإطاعة، والمعصية والتقرب هو فعلية الغرض بمعنى بلوغه مرتبة الداعوية، بحيث يهتم المولى بحفظه وإن لم يكن التكليف على طبقه فعلياً، لوجود المانع من فعلية الخطاب به كالعجز عن امتثاله.

ومن ثم ذكروا: عدم جواز تعجيز المكلف نفسه عن امتثال التكليف قبل دخول الوقت، فضلاً عما بعده.

ص: 46

كما ذكرنا في مبحث التزاحم: عدم جواز فعل ما يؤدي إلى تزاحم التكليفين، المؤدي لتعذر امتثال أحدهما وإن سقط به الخطاب به.

وذكروا في مسألة الضد: أن سقوط أمر المهم لمزاحمته بأمر الأهم - بناء على عدم الأمر الترتيبي بالمهم معه - لا يمنع من مشروعية التقرب به بلحاظ ملاكه.

وتترتب على ذلك ثمرات مهمة، أشير إليها في مباحث التزاحم، استوفينا الكلام في كثير منها في مبحث التعبدي والتوصلي، ومسألة الضد، واجتماع الأمر والنهي، ومبحث التعارض.

بل لا إشكال في حسن تحصيل الغرض المذكور مع غفلة المولى عنه - لو كان ممن يمكن منه الغفلة كما في الموالي العرفيين - وكفايته في التقرب إليه، بل لزوم تحصيله مع كونه لزومياً وعدم صحة الاعتذار بعدم فعلية الخطاب به.

نعم، لا مجال لذلك مع انحصار الغرض بالامتحان، وعدم رجوعه إلى ملاك في المتعلق من شأنه أن يستتبع الخطاب به، لأن غفلة المولى مساوقة لعدم فعلية غرضه المذكور، لأن الامتحان أمر قصدي، فلا موضوع للامتثال والتقرب حينئذٍ.

ص: 47

المقام الثاني في الأحكام الوضعية

اشارة

وهي مقابلة للأحكام التكليفية التي سبق أنها متعلقة بفعل المكلف بنحو تقتضيه وجوداً، أو عدماً، أو تبتني على محض السعة فيه، سواء لم تتعلق بفعل المكلف، كسببية موت الحيوان لنجاسته، أم تعلقت به لا على نحو الاقتضاء أو السعة، كسببية الظهار لوجوب الكفارة، فإن تعلق السببية بالظهار ليس بنحو يقتضي فعله أو تركه أو السعة فيه.

وينبغي تقديم أمور قبل الكلام في حقيقتها..

الأمر الأول: إطلاق الحكم على الأحكام الوضعية

الأمر الأول: إن إطلاق الحكم في المقام ليس باعتبار فرض الحكم به شرعا، لأن حكم الشارع به مساوق لجعله له، مع أن الكلام إنما هو في جعل الشارع للأحكام الوضعية.

بل يراد به ما وقع الحكم به في لسان أهل الاستدلال أو المتشرعة مما كان صدقه تابعاً في الجملة لجعل الشارع، سواء كان مجعولاً له، أم لازماً لجعله، أم نحو ذلك.

الأمر الثاني: في عدد الأحكام الوضعية

الأمر الثاني: ربما وقع الاختلاف في عدد الأحكام الوضعية..

فقيل: إنها ثلاثة: وهي السببية، والشرطية، والمانعية.

ص: 48

وقيل: إنها خمسة، بزيادة العلية، والعلامية.

وقيل: إنها تسعة، بإضافة الصحة، والفساد، والرخصة، والعزيمة.

وقيل: إنها غير محصورة، بل كل ما ليس بحكم تكليفي فهو وضعي.

ولا طريق لنا لتحديد المصطلح المذكور، بعد عدم الوقوف على مبدئه ومنشئه.

نعم، حيث كان سبب البحث فيها هنا هو الاختلاف في حقائقها، فالمناسب تعميم البحث لكل ما ليس بحكم تكليفي.

الأمرالثالث: في حقيقة الأحكام الوضعية

بل لا بأس بتعميم المصطلح فعلاً لذلك، تبعاً لعموم الغرض المصحح للاصطلاح، كما جرى عليه مشايخنا في العصور القريبة.

ولعل منشأ التخصيص بالبعض في كلام بعضهم عدم التوجه لعموم الغرض ولو بسبب عدم ظهور الخلاف في غيره. والأمر سهل.

الأمر الثالث: الكلام في حقيقة الأحكام الوضعية ليس في تحديد مفاهيمها تفصيلاً، لعدم تيسر ذلك بسبب كثرتها، وبساطة مفاهيمها، وارتكازية بعضها بالنحو غير القابل للشرح والتوضيح.

مع أنه لا أثر مهم لذلك، فلو أشير إلى ذلك في بعضها فهو استطراد خارج عن محل الكلام.

بل الكلام إنما هو في جعلها شرعاً، بحيث يكون لها بسبب الجعل الشرعي نحو من الوجود الصالح لترتب الأثر.

لما يترتب على ذلك من الثمرة المهمة، وهي إمكان التعبد بها ظاهراً عند الشك فيها.

ص: 49

بيان ذلك: أنه لا ريب في أن المصحح للتعبد الشرعي الظاهري بالشيء هو ترتب الأثر العملي عليه، بحيث يكون منشأً لحدوث الداعي العقلي للعمل، ويلغو بدون ذلك، إما لكونه أجنبياً عن مقام العمل - كطيران الطير في الجو - أو لمضي وقت العمل - كما لو شك بعد وطء المرأة في حيضها بعد الوطء - أو لتعذر العمل، كما لو شك في طهارة الماء الذي يتعذر استعماله.

كما أنه تقرر في مباحث الأصل المثبت أنه لابد في العمل الملحوظ في مقام التعبد الظاهري من كونه مترتباً بلحاظ القضايا الشرعية من دون توسط أمر خارج عنها، إما لكون الأمر المتعبد به ظاهراً مجعولاً للشارع ومنشأً لحدوث الداعي العقلي للعمل بلا واسطة - كالأحكام التكليفية - أو لكونه موضوعاً لحكم شرعي يترتب عليه العمل، وإن لم يكن في نفسه مجعولاً شرعياً، كالحيض الذي هو موضوع للأحكام التكليفية الخاصة.

وحينئذٍ يقع الكلام في المقام في أن الحكم الوضعي هل له نحو من الوجود مستند لجعل الشارع، ليمكن التعبد به ظاهراً، نفياً، أو إثباتاً، بلحاظ كل من العمل المترتب عليه بلا واسطه، والمترتب عليه بواسطة حكمه الشرعي أو أن له نحواً من الوجود لا يستند للشارع، فلا يمكن التعبد به إلا بلحاظ العمل المترتب عليه بواسطة حكمه الشرعي، دون المترتب عليه بلا واسطة أو [أنه ليس له نحو من الوجود أصلاً]، فلا يترتب عليه العمل بنفسه، كما لا يكون موضوعاً لحكم شرعي يترتب عليه العمل بواسطته، فلا يمكن التعبد به أصلاً؟

الأمر الرابع: حقيقة الأمر الاعتباري

الأمر الرابع: قد يعبر عن الموجود..

ص: 50

تارةً: بالأمر الحقيقي.

وأخرى: بالأمر الاعتباري.

وثالثة: بالأمر الانتزاعي.

ولا إشكال في المراد بالأمر الحقيقي، وأنه عبارة عما له ما بإزاء في الخارج التكويني، وأنه يستند في وجوده لأسبابه التكوينية من دون دخل فيه للتشريع. وإن كان ربما يقع الكلام في بعض مصاديقه. وهو غير مهم في المقام.

وإنما المهم تعيين الأمر الاعتباري والانتزاعي حيث وقع الكلام في حقيقتهما، وربما وقع الخلط بينهما للاشتباه في المفهوم أو المصداق.

والظاهر أن الأمر الاعتباري هو المفهوم المتقرر عند الشارع، أو العرف الذي له نحو من الوجود تابع ثبوتاً لجعله والبناء عليه، ممن بيده أمره من شرع أو عرف أو سلطان، ومسبب عن حكمه به، من دون أن يكون له ما بإزاء في الخارج.

وبذلك يكون متوسطاً بين الأمر الحقيقي والادعائي المحض، لأن الأول له ما بإزاء في الخارج مستند لسببه التكويني من دون دخل للجعل والبناء فيه، والثاني لا يكون له بنظر العرف وجود مسبب عن ادعائه والحكم به، بل ليس له وراءهما شئ، كما في موارد الإستعارات والمبالغات والتنزيلات الواردة في مقام الحكم، والتي تبتني على العلاقات المجازية ونحوها.

ولا معنى لمنع وجود الأمر الاعتباري بعد ما ذكرناه من فرض أن له وجوداً بنظر العرف من دون أن يكون له ما بإزاء في الخارج، لأن إنكار

ص: 51

وجوده في عالم الاعتبار خلاف الفرض، وإنكار وجوده في الخارج إنكار لأمرٍ خارج عن المدعى.

نعم، لابد من غرض عقلائي مصحح لانتزاع المفهوم الاعتباري والبناء عليه في عالم الاعتبار، بعد فرض عدم التقرر له في الخارج.

والظاهر أن الغرض منه تنظيم الأحكام والآثار العملية التابعة لمن بيده الاعتبار من شرع أو عرف، وكما كان له جعل الأحكام، كان له اختراع الموضوع فيها لتنظيمها.

لكن لا بمعنى تقوم مفهوم الأمر الاعتباري بخصوص بعض الأحكام، ليلزم ارتفاعه بارتفاعها، بل بمعنى كون اعتباره لأجل تحديد الموضوع الصالح لها، ليسهل تنظيمها، وإن لم تشرع في بعض موارده لفقده بعض شروطها.

ما ذكره النائيني قدس سره في حقيقة الأمر الاعتباري ومناقشته

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في بعض الأمور الاعتبارية من أنها من مراتب بعض الأمور الحقيقية، فإنه بعد أن ذكر أن الملكية من الأمور الاعتبارية ذكر أنه يمكن أن يقال: إنها من سنخ الملكية الحقيقية، فان حقيقة الملكية هي الواجدية، والسلطنة، والإحاطة على الشيء، وهي ذات مراتب أقواها واجديته تعالى لما خلقه، ثم واجدية أوليائه التي هي من مراتب واجديته، ثم واجدية المالك بالملكية الاعتبارية، ثم واجدية المحاط عليه بالمحيط خارجاً، كواجدية الإنسان لما يلبسه من ثيابه.

وجه الضعف: أن اختلاف الأمر الحقيقي والاعتباري سنخاً وأثراً، تبعاً لاختلاف سنخ علتيهما مانع من البناء على كون أحدهما من مراتب الآخر.

ص: 52

نعم، قد يتشابهان في بعض الآثار، فكما أن له تعالى التصرف في مخلوقاته فإن للمالك التصرف في مملوكاته.

لكن الأول عقلي، تبعاً لخصوصية ذاته تعالى وتأثيره في مخلوقاته، والثاني تابع لجعل الشارع إطلاقاً أو تقييداً.

ومثله ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره في جملة من عناوين الأمور الاعتبارية، من أن للعناوين المذكورة حقائق حقيقية،

تارةً: تنشأ تكويناً بفعلها في الخارج.

وأخرى: تنشأ تكويناً ادعاءً في مثل العقود والإيقاعات.

ولا تخرج بذلك عن كونها اعتبارية، لأن الوجود الادعائي نوع من الاعتبار، من دون أن تختلف حقائق الأمور الخارجية عن حقائق الأمور الاعتبارية.

وقد يظهر ذلك من بعض المحققين، بل صرح: بأن أسدية الشجاع اعتبارية للعرف كما أن ملكية الوارث اعتبارية لهم أو للشارع، خالطاً بين الاعتبار والادعاء، مدعياً أن المفهوم الواحد كما يكون له مطابق حقيقي يكون له مطابق اعتباري. فراجع كلامه على غموض فيه.

ويظهر وجه ضعفه مما سبق من أن الادعاء مباين للاعتبار، ولذا يتعلق بما لا يقبله من الأمور الحقيقية، وبما يقبله من دون أن يقتضي وجودهما، كادعاء أن الشجاع أسد، وادعاء أن المطلقة رجعياً زوجة، والمزوجة متعة مستأجرة.

ولذا لا يكون الوجود الادعائي فرداً حقيقياً للعنوان المدعى، بل يحتاج الحمل عليه إلى قرينة، بخلاف الوجود الاعتباري، حيث يكون فرداً

ص: 53

حقيقياً لعنوانه، كالوجود الخارجي لعنوانه.

كما يستغني كل منهما عن القرينة لو كان العنوان حقيقةً فيه أو منصرفاً إليه، ويحتاج إليها لو كان مشتركاً لفظياً بينهما.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في اختلاف حقيقتي كل من الأمر الحقيقي والاعتباري سنخاً وتباين مفهوميهما، كما صرح به المحقق الخراساني قدس سره، ومباينة الاعتبار للادعاء.

نعم، قد يكون تشابه الأمر الحقيقي والأمر الاعتباري ذهناً، أو في بعض الآثار المقصودة منهما منشأً لإطلاق عنوان الأمر الحقيقي على الأمر الاعتباري، من باب المجاز أو النقل للمناسبة، من دون أن يقتضي اتحاد حقيقتيهما ومفهوميهما.

ثم إن الظاهر أن الأمور الاعتبارية من سنخ الاعراض القائمة بموضوع واحد، كالحرية والمسجدية والطهارة والنجاسة، أو الإضافات القائمة بأكثر من موضوع واحد، كالزوجية والملكية والرقية وغيرها. وربما يأتي بعض الكلام فيها. ولا تكون من سنخ الموضوعات القائمة بأنفسها، حيث لا نعهد ذلك فيها. هذا كله في الأمر الاعتباري.

حقيقة الأمر الانتزاعي

وأما الأمر الانتزاعي فهو مأخوذ من الانتزاع، ويراد به في ألسنة أهل الاستدلال: استحصال العنوان من الجهة المقومة لمفهومه، فتشترك فيه جميع العناوين، فالعناوين الذاتية تنتزع من مقام الذات، والعرضية تنتزع منها بلحاظ طروء العرض عليها، على اختلاف الاعراض في كونها خارجية واعتبارية، والعناوين الإضافية تنتزع من نحو نسبة بين الذات وغيرها، كالفوقية والبنوة والعلية ونحوها.

ص: 54

إلا أن الظاهر عدم كون ذلك على إطلاقه مراداً لهم من الأمر الانتزاعي بل لهم مصطلح آخر.

وقد اختلفوا في تحديده وموارد إطلاقه، على ما ذكره غير واحد، والمهم هنا ما يناسب المقام، وهو ما يصلح أن يكون قسيماً للأمر الحقيقي والاعتباري.

ما ذكره النائيني قدس سره في حقيقته ومناقشته

وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره: أنه الذي لا يكون له نحو تقرر ووجود، لا في وعاء العين - كالخارجيات - ولا في وعاء الاعتبار - كالاعتباريات - بل يكون وجوده بانتزاعه عن منشأ الانتزاع الموجود في عالم العين، كالعلية المنتزعة من العلة والمعلول الخارجيين، أو الموجود في عالم الاعتبار، كالعقد الذي يكون سبباً للزوجية والملكية، إذ حيث كانت الزوجية والملكية اعتباريتين كان سببهما اعتبارياً لا محالة.

فالأمور الانتزاعية ليس لها ما بحذاء في الخارج، سواء كان انتزاعها من مقام الذات، كالامتناع والإمكان والعلية، أم من قيام أحد المقولات بمحله، كالفوقية والتحتية، والقبلية والبعدية الزمانية والمكانية، فان الفوقية ليست من مقتضيات ذات الفوق، بل لأجل خصوصية أوجبت انتزاع الفوقية منه، وكذا غيرها من المذكورات.

ولا يخفى ما فيه من الإشكال...

أما أولاً: فلأن لزوم كون الأمر الاعتباري اعتبارياً بلا ملزم، بل سببه الحقيقي وهو اعتبار من بيده الاعتبار أمر خارجي بلا ريب، وسببه الجعلي تابع له، فقد يأخذ في موضوعه أمر اعتبارياً، كملكية أحد العمودين الموجبة لانعتاقه، وقد يأخذ في موضوعه أمراً خارجياً، كموت الوارث الموجب

ص: 55

لملك الوارث، والعقد والإيقاع الموجبين لتحقق مضمونيهما، وغير ذلك، بل أكثر أسباب الاعتباريات أمور حقيقية تابعة لأسبابها التكوينية.

وأما ثانياً: فلأنه إذا كانت العلية منتزعة من العلة والمعلول معاً، فلا وجه لانتزاع السببية من خصوص العقد، بل يتعين انتزاعها منه ومن مسببه كالزوجية، كما لا وجه لانتزاع الفوقية من خصوصية في الفوق، بل من خصوصية فيه وفي التحت، لأنها بأجمعها من الإضافات القائمة بطرفين.

نعم، تختلف الإضافات، فقد يكون قيامها بأطرافها بنحو واحد، كالأخوة والتشابه، وقد يختلف نحو قيامها ببعض أطرافها عن نحو قيامها بغيره، كالعلية التي يكون قيامها بأحد طرفيها موجباً لصدق العلة عليه، وقيامها بالآخر موجباً لصدق المعلول عليه، كما أن قيام الإضافة الخاصة بالعالي والسافل يوجب انتزاع كل من الفوقية والتحية، وصدق الفوق على الأول والتحت على الثاني.

وكأن ما سبق منه ناشئ عن الاضطراب في بيان المطلب، وإلا فمن البعيد مخالفته فيما ذكرنا لوضوحه، ومن ثم لم يكن ذلك مهماً.

إنما المهم في المقام أن منشأ الانتزاع المفروض وجوده في عالم العين أو الاعتبار إن كان متضمناً لما يحكي عنه العنوان الانتزاعي كان الأمر الانتزاعي كالعرض موجوداً في عالم العين أو الاعتبار، ولم يكن قسيماً للأمر الخارجي والاعتباري، إذا لا يراد بوجودهما إلا وجود مطابق عناوينهما المحكي بها، لا وجود نفس العناوين.

وإن لم يكن متضمناً لما يحكي عنه العنوان، بحيث لا يحكي العنوان عن شيء متقرر، بل يتحقق المعنون بنفس الانتزاع في الذهن فقط، رجع

ص: 56

إلى ما ذكره غير واحد من أهل المعقول: من أن الإضافات ليست ثابتة في الأعيان، بل في الذهن فقط، وأنه لا وجود لها حقيقة.

وعمدة دليلهم على ذلك: أن وجودها يستلزم إضافة بينها وبين موضوعاتها، فيلزم وجود تلك الإضافة وقيام إضافة بينها وبين الموضوع، وهكذا إلى ما لا نهاية، مع بداهة بطلان ذلك.

مضافاً إلى لزوم وجود ما لا نهاية له من الإضافات، لأن لكل شيء نحواً من الإضافة لشيء مبايناً لنحو إضافته للأشياء الأخر، حتى غير الموجودات في الخارج كالكليات والذهنيات والإعدام.

وهذا بخلاف ما لو كانت الإضافات ذهنية، حيث لا توجد قبل ملاحظتها في الطرفين، كما أن النسبة بينهما وبين الموضوع لا توجد إلا بعد ملاحظتها، فتكون النسب الموجودة محدودة تبعاً لمحدودية اللحاظات والتصورات المتحققة وتناهيها.

وهذا المحذور وإن كان حقيقاً بالتأمل، إلا أن دعوى وجود الإضافات في قبال وجود موضوعاتها حقيقة بالتأمل أيضاً، لما يحس بالوجدان من عدم تمحض عناوين الإضافات في الوجود الذهني وانسلاخها عن الحكاية، بل هي حاكية عن جهات خاصة، كما تحكي عناوين أطرافها الذاتية والعرضية عن مطابقتها في الخارج، ولذا لا يكون الذهن مطلقاً في اختراع الإضافة - كما في التخييليات - أو في اعتبارها - كما في الجعليات - فلا يكون الفوق تحتاً، ولا العلة معلولاً، ولا المتقدم متأخراً، بل هي تابعة لواقع واحد، ليس للذهن التصرف فيه، بل إدراكه. ومن هنا لابد من الجمع بين الوجدان المذكور، والمحذور المزبور.

ص: 57

المختار في حقيقة الأمر الانتزاعي

ولعل الأولى أن يقال: إن كان المدعى وجود الإضافة بوجود زائد على وجود موضوعاتها بنحو تكون من الأمور التكوينية في الخارجيات أو الاعتبارية في الجعليات، فالوجدان المتقدم لا يقتضيه، لأن صدق القضية لا يتوقف على تحقق أطراف نسبتها التي تضمنتها خارجاً أو اعتباراً، فضلاً عن نفس النسبة، إذ كثيراً ما تكون أطراف نسب القضايا ذهنية صرفة، كالكليات والعدميات ونحوها، ويحكم عليها بما يناسب مفاهيمها من لوازم وخواص، فيقال: الإنسان نوع، وشريك الباري ممتنع، مع وضوح عدم كون النوعية والامتناع وموضوعيهما أموراً خارجية تكوينية أو اعتبارية جعلية، كما قد يكون أحد طرفي القضية خارجياً تكوينياً أو اعتبارياً جعلياً دون الآخر، فيقال: زيد ممكن بالذات واجب بالعرض، وعمل الأجير مملوك للمستأجر، مع وضوح أن الموجود خارجاً واعتباراً هو موضوع القضية الأولى ومحمول الثانية، دون محمول الأولى وموضوع الثانية، لأن الإمكان والوجوب كالامتناع لا مطابق لهما في الخارج زائداً على موضوعيهما.

كما أن الملكية إنما تتعلق بالعمل الكلي في حال عدم تحققه في الخارج، ولا يكون تحققه إلا وفاءً بالمملوك وأداءً له.

وهكذا كثير من المفاهيم المدركة للعقل، حيث قد أودع الله - جلت قدرته - في الإنسان قوة الإدراك والتصور، ومكنه من التصرف في البيان بصورة عجيبة تدعو للذهول والاعتبار، لا تقف عند حدود ما يدركه من الخارجيات والاعتباريات. فلتكن الإضافات كذلك وإن كانت أطرافها خارجية أو اعتبارية، من دونه أن ينافي ذلك الوجدان المشار إليه.

وإن كان المدعى تبعية الإضافات لواقع محفوظ يدركه الذهن من

ص: 58

دون أن يكون تابعاً لاختراعه كالتخييلات، ولا لاعتباره كالجعليات، بل ليس له الخروج عنه، فلا يظن من أحدٍ إنكار ذلك.

ما ذكره الأصفهاني قدس سره في حقيقة الإضافات

وما في كلام بعض المحققين قدس سره من تقوم الوجود الفعلي للإضافات بالاعتبار، وأن لها وجوداً اعتبارياً تابعاً للحاظ حيث قد يوهم كونها من الاعتباريات الجعلية كأنه ناشئ عن التوسع في مفهوم الاعتبار على خلاف ما سبق منا تحديده، كما قد يظهر بملاحظة تمام كلامه.

وإلا فبداهة تبعيتها لمنشأ الانتزاع وعدم خضوعها معه للجعل تغني عن إطالة الكلام فيه.

لكن ذلك لا يستلزم وجودها خارجاً أو اعتباراً بحيث يكون عنوانها حاكياً عن مطابق في عالم العين والخارج أو الاعتبار، كما يحكي العنوان العرضي عن أمرٍ في الذات زائد عليها موجود في الخارج أو بالاعتبار.

بل يمكن كون منشأ انتزاع الإضافة خصوصية خاصة في طرفيها أو أطرافها، تابعة لواقع محفوظ يدركه العقل، مصححة لانتزاع المفهوم الإضافي، من دون أن تكون متحدة معه ومحكية بعنوانه، فليس للمفهوم والعنوان الحاكي عنه مطابق في عالم الخارج أو الاعتبار، بل هو أمر متقوم باللحاظ لا يصح انتزاعه إلا من الخصوصية المذكورة، ويكون وجودها وعدمها مداراً في صدقه وعدمه.

فالتشابه - مثلاً - منتزع من كل من الطرفين بلحاظ اتصافهما بوجه الشبه، فإن كانا خارجيين - كالرجلين العالمين - أو اعتباريين - كالزوجية والملك الموجبين لجواز الاستمتاع - كان الوجود الخارجي المستند للسبب التكويني، أو الاعتباري المستند للجعل مختصا بهما، من دون أن

ص: 59

يكونا مطابقين لمفهوم التشابه أو متضمنين لما يطابقه، ولا محكيين بعنوانه إلا بلحاظ ملازمتهما لمفهومه المحكي به، لأنهما منشأ انتزاعه ومصححان له، مع كون مفهومه المطابق له والمحكي به أمراً انتزاعياً لا مطابق له لا في عالم العين والخارج، ولا في عالم الاعتبار.

ولذا لا يختلف سنخ الإضافة ارتكازاً باختلاف سنخ طرفيها، حيث يكونان خارجيين تارة، واعتباريين أخرى، ومختلفين ثالثة، كالتشابه الحاصل بين الرجلين العالمين، وبين الزوجية المنقطعة وملك اليمين في عدم استحقاق القسم، وبين التنكيل بالعبد وملك أحد عموديه له في كونه موجباً لانعتاقه، مع وضوح امتناع قيام الأمر الخارجي بالأمر الاعتباري، كما سبق وضوح عدم كون الإضافات من الاعتباريات الجعلية في ظرف تحقق منشأ انتزاعها، فلا بد من كونها سنخاً ثالثاً غير الأمر الخارجي والاعتباري صالحاً للقيام بكل منهما.

ما ذكره الأصفهاني في الوجود العرضي للإضافات

هذا، وقد ذكر بعض المحققين قدس سره أن الإضافات كما يكون لها وجود بالذات، وهو الوجود الفعلي التابع للاعتبار - كما سبق منه - كذلك لها وجود بالعرض تابع لمنشأ الانتزاع، وهو الوجود بالقوة.

قال قدس سره في تقريبه: «فالسقف لمكان كونه جسماً واقعاً في المكان له قابلية أن يضاف إلى ما فوقه فينتزع منه التحتية وله قابلية أن يضاف إلى ما دونه فينتزع منه الفوقية، فللتحتية والفوقية وجود بوجود السقف، بنحو وجود المقبول بوجود القابل، فوجود السقف الخاص خارجاً وجود بالذات للجسم، ووجود بالعرض لتلك المعاني القابلة للانتزاع منه.

وهذا معنى وجود الأمر الانتزاعي بوجود منشأ انتزاعه خارجاً مع

ص: 60

قطع النظر عن اعتبار كل معتبر كان، وبهذا الوجه داخل في المقولات، وبهذا الوجه يقال: إن للإضافات... وجوداً ضعيفاً، أي بنحو وجود المقبول بوجود القابل بالعرض، لا بالذات...».

لكن الظاهر أن وجود القابل خارجاً بالذات لا يستلزم وجود المقبول خارجاً بالعرض، وليس له أي نحو من الوجود الحقيقي، وإلا كان للاعراض - أيضاً - وجود بالعرض تبعاً لوجود موضوعاتها، فوجود الجسم مستتبع لوجود جميع الكيفيات والألوان القابل لها، وإن لم يكن متصفاً إلا بواحد منها.

بل كيف يمكن وجود الإضافة خارجاً مع ما ذكرناه من قابليتها للقيام بالموضوعين الخارجيين والاعتباريين والمختلفين؟! إلا أن يريد بالوجود الخارجي معنى آخر غير ما نفهمه، فيكون النزاع لفظياً لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

وكيف كان فالظاهر أنه ليس للإضافات وجود خارجي ولا اعتباري، بل هي أمور انتزاعية تابعة لتحقق منشأ انتزاعها في الصدق.

قبول بعض الإضافات للجعل

نعم، بعض الإضافات قابلة عرفاً للجعل المستتبع للوجود في عالم الاعتبار إذا لم يكن لها منشأ انتزاع متحقق في طرفيها خارجاً ولا اعتباراً، كالزوجية والملكية والرقية وغيرها، فإنه حيث لم يكن في أطراف هذه الإضافات - مع قطع النظر عن جعلها - ما يصحح انتزاعها من عرض خارجي أو اعتباري، وكانت بنظر العرف من الأمور التابعة لمن بيده الاعتبار، كان له جعلها ابتداءً، لابتناء الاعتبار على كثير من التوسعات، فلا تكون حينئذٍ من الأمور الانتزاعية التابعة لمنشأ الانتزاع، بل من الإضافات الاعتبارية

ص: 61

المجعولة بنفسها، والظاهر خروجها عن محل الكلام.

ثم إن الأمور الانتزاعية لا تختص بالإضافات، بل تكون غيرها مما يكون من سنخ الجواهر من المفاهيم القائمة بأنفسها، كالكليات المجردة، أو من سنخ الاعراض من المفاهيم القائمة بغيرها، كالامتناع والإمكان والنوعية والجنسية وغيرها، لوضوح أنه لا وجود لهذه الأمور، ولا تقرر لمعنوناتها لا في الخارج ولا في عالم الاعتبار، وإنما هي منتزعة من خصوصيات يدركها العقل في المفاهيم المذكورة ملازمة لصدقها.

بقي شيء

بقي شيء:

وهو أنه بناءً على ما سبق في الأمر الثالث من أن التعبد الظاهري إنما يكون بلحاظ العمل المترتب بالنظر للقضايا الشرعية، بلا توسط أمر خارجاً عنها - إما لكون الأمر المتعبد به مجعولاً للشارع يترتب عليه العمل بلا واسطة، أو لكونه موضوعاً لحكمٍ شرعي، وإن لم يكن بنفسه مجعولاً - للشارع فلا ينبغي التأمل في عدم إمكان التعبد الظاهري بالأمور الحقيقية التكوينية إلا إذا كانت موضوعاً للأحكام الشرعية، حيث يترتب عليها العمل بلحاظها، دون العمل المترتب عليها بلا واسطة، لعدم كونه مترتباً بلحاظ قضية شرعية.

كما لا ينبغي التأمل في شمولها للأمور الاعتبارية بلحاظ العمل المترتب عليها بلا واسطة، كالحجية - بناءً على جعلها شرعاً - حيث يجوز الاعتماد عليها عقلاً في مقام التعذير، وتجب متابعتها في مقام التنجيز، فضلاً عن العمل المترتب عليها بواسطة حكمها الشرعي، كالطهارة والنجاسة

ص: 62

- بناءً على جعلهما شرعاً - حيث يكونان موضوعاً لأحكام تكليفية تكون مورداً للعمل عقلاً.

صحة التعبد بالأمور الانتزاعية بلحاظ العمل المترتب على أحكامها

وأما الأمور الانتزاعية، فالظاهر أنها كالأمور الخارجية، فيصح التعبد بها بلحاظ العمل المترتب على أحكامها الشرعية، دون العمل المترتب عليها بلا واسطة.

أما الأول: فلأن لها نحواً من الوجود العرفي في عالمها عرفاً، وإن لم يكن خارجياً ولا اعتبارياً، فيصح عرفاً أخذ الشارع لها في موضوع أحكامه، وإذا كانت موضوعاً للأحكام الشرعية أمكن التعبد بها بلحاظها.

إن قلت: لما لم يكن لها تقرر في عالم الخارج ولا الاعتبار، وكانت متقومة باللحاظ من دون أن يكون لها مطابق وراء ذلك، امتنع أخذها في موضوع الأحكام الشرعية التي تتبع في فعليتها فعلية موضوعاتها، والتي لا إشكال في فعليتها مع عدم اللحاظ، فلا بد من كون الموضوع حقيقة هو منشأ الانتزاع، ويكون هو موضوع التعبد الظاهري إن تمت فيه شروطه.

قلت: الأمور الانتزاعية وإن لم يكن لها نحو من التقرر دقةً إلا أن لها نحواً من التقرر عرفاً، لغفلتهم عن مقتضى الدقة المذكورة، وقد تقرر في محله أن المعيار في تطبيق أدلة الأحكام الواقعية والتعبدات الظاهرية ليس هو الدقة العقلية المغفول عنها عرفاً، بل النظر العرفي، بحيث يكون التطبيق بنظرهم حقيقياً لا تسامحياً مجازياً، فلاحظ.

وأما الثاني: فلأنها غير مجعولة شرعاً حسب الفرض.

نعم، قد يصح نسبة جعلها للشارع الأقدس بلحاظ جعله لمنشأ انتزاعها لو كان أمراً جعلياً.

ص: 63

لكنه ليس بمعنى كونه مفاد القضية الشرعية التي هي المعيار في شمول أدلة التعبد الظاهري، بل بمعنى كونه مسبباً توليدياً عنها ملازماً في الخارج لها، ومثل هذا لا يكفي في شمول أدلة التعبد، بل هو نظير الأصل المثبت.

هذا كله في الأمر الانتزاعي المقابل للأمر الحقيقي والاعتباري، وربما يراد بالأمر الانتزاعي أو العنوان الانتزاعي ما يحكم به أو عليه في كلام الشارع أو المتشرعة، مع أنه ليس في الحقيقة محكوماً به ومجعولاً اعتباراً، ولا محكوماً عليه بما له من المفهوم.

إما لكونه منتزعاً في مرتبة متأخرة عن ورود الحكم، فلا يكون موضوعاً للحكم، لاستحالة أخذ المتأخر في المتقدم، كما لا يكون محكوماً به ولا مجعولاً، لصدقه بمجرد جعل الحكم بلا حاجة إلى جعلٍ آخر، وإنما يمكن الإخبار به الراجع إلى الإخبار عن الحكم.

وإما لكون المحكوم به أو عليه هو الواقع الخارجي المطابق له بعنوان آخر، فهو مسوق لمحض الحكاية عن الموضوع بما له من عنوان خاص.

فالغصب قد يحكم عليه بالحرمة، كما قد يحمل على بعض التصرفات، مع عدم أخذ عنوان الغصب في موضوع الحرمة بما هو أمر وجودي ذو مفهوم عرفي بسيط، بل ليس موضوعه إلا التصرف في حق المسلم ونحوه ممن يحترم ما له من دون إذن منه أو ممن يقوم مقامه، فهو مركب من التصرف في الحق، وإسلام صاحبه أو نحوه، وعدم الإذن.

وعنوان الغصب إما أن يراد به التصرف في حق الغير بالنحو المنافي لاحترامه شرعاً، أو هو منتزع من الموضوع المركب المذكور وحاكٍ عنه، من

ص: 64

دون أن يكون موضوعاً بمفهومه.

ولازم ذلك عدم جريان التعبد فيه بعنوانه، لعدم كونه مجعولاً شرعاً ولا موضوعاً للحكم الشرعي، بل فيما ينتزع منه، وهو الحكم المجعول شرعاً، أو موضوعه ذو العنوان الخاص.

والظاهر أن الأمر الانتزاعي قد يراد منه في المقام هذا المعنى، كما قد يراد منه المعنى السابق، كما يتضح عند الدخول في محل الكلام.

إذا عرفت هذا، فالكلام في حقيقة الأحكام الوضعية يكون في ضمن مسائل:

المسألة الأولى: في حقيقة الأحكام الوضعية

المسألة الأولى: الظاهر أن الأحكام الوضعية التي أخذت في موضوع الأحكام الشرعية الأخرى: كالحرية، والرقية، والزوجية، والرهنية، والملكية، والوقفية، وغيرها من الأمور الاعتبارية المجعولة للشارع الأقدس تأسيساً، أو إمضاءً لما عليه العرف، لظهور أدلتها في ذلك، ولاسيما ما كان ثبوته تبعاً لإنشائه ممن له السلطنة شرعاً في العقود والإيقاعات، لوضوح أن قصد المنشئ لها إيجادها اعتباراً، فيكون ذلك هو الظاهر من أدلة النفوذ والإمضاء الشرعية، وهو المطابق للمرتكزات المتشرعية، بل العرفية في كثير منها.

خلافاً لما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره(1) قال: - في تعقيب حجة القول السابع من أقوال الاستصحاب، عند الكلام في حقيقة الصحة والفساد، بعد أن ذكر أنهما في المعاملات عبارة عن ترتب الأثر وعدمه - «فإن لوحظت المعاملة سبباً لحكم تكليفي - كالبيع لإباحة التصرفات والنكاح لإباحة الاستمتاعات - فالكلام فيها يعرف مما سبق في السببية وأخواتها.

ص: 65


1- الشيخ مرتضى الأنصاري. (منه)

وإن لوحظت سبباً لأمرٍ آخر - كسببية البيع للملكية، والنكاح للزوجية والعتق للحرية، وسببية الغسل للطهارة - فهذه الأمور بنفسها ليست أحكاماً شرعية.

نعم، الحكم بثبوتها شرعي، وحقائقها إما أمور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية، كما يقال: الملكية كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه، والطهارة كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب، والطهارة نقيض النجاسة. وإما أمور واقعية كشف عنها الشارع».

ولا يخفى أن عدم كون هذه الأمور أحكامها شرعية لا يناسب كون الحكم بثبوتها شرعياً، إلا أن يراد بالحكم بثبوتها الإخبار عنه، كما أن التعبير عنها بالاعتبارية مبني التوسع في معنى الاعتبار، وتعميمه للانتزاع بالمعنى الأخير الذي أشرنا إليه في آخر الأمر الرابع، كما يتضح بملاحظته.

وكيف كان فلا مجال لما ذكره قدس سره بعد ما ذكرنا من ظهور أدلة هذه الأمور في جعلها اعتباراً.

على أن كونها أموراً انتزاعية من الأحكام التكليفية الثابتة في مواردها لا يناسب أخذها في أدلة تلك الأحكام موضوعاً لها.

لما ذكرناه آنفاً من امتناع موضوعية العنوان المنتزع من التكليف له.

ولا مجال لاحتمال الإشارة بها لما هو الموضوع بعنوان آخر، لأنه - مع مخالفته لظاهر أخذها في أدلة تلك الأحكام - موقوف على وجود عنوان صالح للموضوعية مطابق لها مدرك للعرف، وإلا لم يكن عملياً، لعدم إدراك موضوعه، ومن الظاهر أنه لا وجود للعنوان المذكور.

كما لا يناسب عدم اتفاق أفراد الحكم الوضعي وأحواله في الأحكام

ص: 66

التكليفية، واشتراك أكثر من حكم وضعي في بعض الأحكام التكليفية، فالزوجية لا تستلزم جواز الاستمتاع، بل يحرم الاستمتاع بالزوجة حال الإحرام، كما لا تختص به، بل يشاركها فيه ملك اليمين، وملك اليمين إنما يقتضي جواز الاستمتاع إذا كان المالك ذكراً والمملوك أنثى دون بقية الصور.

كما أن الملك لا يقتضي جواز التصرف دائماً، فيحرم التصرف في العين المرهونة، ولا يختص به، بل يشاركه فيه بعض أفراد الوقف، بل المباحات الأصلية التي لا تكون مورداً لحكم وضعي.

فلو كان عنوان الحكم الوضعي منتزعاً من الحكم التكليفي لزم اختلاف مفهومه وحقيقته باختلاف الأحكام التكليفية في مورده، كما يلزم صدقه في جميع موارد ثبوت الحكم التكليفي المنتزع منه، مع وضوح بطلان ذلك.

وقد اعترف قدس سره بذلك في النجاسة عند الكلام في حقيقتها من كتاب الطهارة، قال: «ويظهر من المحكي عن الشهيد في قواعده أن النجاسة حكم الشارع بوجوب الاجتناب استقذاراً و استنفارا، وظاهر هذا الكلام أن النجاسة عين الحكم بوجوب الاجتناب، وليس كذلك قطعاً، لأن النجاسة مما يتصف به الأجسام، فلا دخل له في الأحكام.

فالظاهر أن مراده أنها صفة انتزاعية من حكم الشارع بوجوب الاجتناب للاستقذار والاستنفار.

وفيه: أن المستفاد من الكتاب والسنة أن النجاسة صفة متأصلة يتفرغ عليها تلك الأحكام، وهي القذارة التي ذكرناها، لا أنها صفة منتزعة منها،

ص: 67

كالشرطية والسببية والمانعية».

دعوى كونها أموراً واقعية كشف الشارع عنها

وأما كونها أموراً واقعية كشف الشارع عنها فهو خلاف المقطوع به في أكثر تلك الأحكام، حيث لا يشك في تبعيتها حدوثاً وارتفاعاً للإنشاء والجعل ونحوهما، من دون أن يكون لها ما بإزاء في الخارج.

نعم، قد يعتد بالاحتمال المذكور في خصوص الطهارة والنجاسة، لعدم تبعيتهما للإنشاء ليدرك العرف اعتباريتهما، بل هما تابعان للأمور التكوينية الذاتية كالبولية، أو العرضية كالملاقاة للنجاسة، حيث يمكن دعوى تأثيرها لهما بلا توسط الجعل الشرعي.

ما ذكره النائيني قدس سره في ذلك ومناقشته

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من منع ذلك، لبداهة أن الطهارة والنجاسة بمعنى النظافة والقذارة من الأمور الاعتبارية العرفية، كما يشاهد أن العرف والعقلاء يستقذرون بعض الأشياء دون بعض، غايته أن الشارع قد أضاف بعض الأفراد لذلك مما لا يستقذره العرف، وهو ناشئ عن تخطئته للعرف، مع كون المفهوم عرفياً.

ففيه: أن نظافة الشيء وقذارته العرفيتين أمران واقعيان يدركهما العرف فيه فيميل إليه ويقبله، أو يتنفر عنه ويستقذره، وليسا من الأمور الجعلية التابعة لاعتبار من بيده اعتباره.

غايته أن تبعية الميل أو الاستقذار للأمر الواقعي المدرك ليس لكونه علة تامة لهما، بل قد يكون للعادة والتنفير دخل فيهما، ولذا قد يختلفان مورداً باختلاف المجتمعات والأشخاص، وذلك إنما يقتضي كونهما إضافتين لا اعتباريين.

كما أن عدم اختصاصهما بالشرع ووجودهما عند العرف لا يستلزم

ص: 68

كونهما اعتباريين، إذ قد يستقل العرف بإدراك الأمور الواقعية والتأثر بها.

بل ما ذكره قدس سره من فرض التخطئة لا يناسب الأمور الاعتبارية، لأن التخطئة إنما تكون في الأمور الواقعية التي لها واقع محفوظ ويختلف في تشخيصها وإدراكها، أما الأمور الاعتبارية فالاختلاف فيها لا يرجع للتخطئة، بل لمحض عدم اعتبار أحد الحاكمين لما إعتبره الآخر.

على أن المرتكزات الشرعية في النجاسة والطهارة، والعرفية في النظافة والقذارة قاضية باختلاف الأوليين عن الأُخريين سنخاً وتباينهما حقيقةً، لأنها وإن اشتركت في اقتضاء الاجتناب وعدمه عملاً، إلا أن ترتبهما على الأولين راجع إلى حسن الاجتناب بنحو يقتضي المدح ويبعد عن الذم، وعلى الأخيرين راجع لمحض ملائمة النفس من دون أن يستوجب مدحاً أو يدفع ذماً.

وقد يشعر باختلاف سنخهما وحقيقتهما ما في صحيح زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «إن سال من ذكرك شيء من مذي أو ودي وأنت في الصلاة فلا تغسله... فإنما ذلك بمنزلة النخامة. وكل شيء خرج منك بعد الوضوء فإنه من الحبائل أو من البواسير، وليس بشيء، فلا تغسله من ثوبك إلا أن تقذره»(1)، لظهوره في إقرار الغسل للاسقذار وعدم الردع عنه، لعدم قذارة الشيء واقعاً، المستلزم لعدم الموضوع له.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره في ذلك ومناقشته

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن كون الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية لو تم في الواقعيتين منهما لا يتم في الظاهريتين، بل لا إشكال في كونهما مجعولين للشارع الأقدس.

ص: 69


1- الوسائل ج 1، باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء، حديث: 2

لاندفاعه.. أولاً: بأن الحكم بالطهارة والنجاسة ظاهراً لا يرجع إلى جعلها في قبال الواقع، لينظر في حقيقتهما، بل إلى التعبد بهما في مقام الإثبات والعمل بما لهما من المعنى الواقعي، كالتعبد الظاهري بالموضوعات الخارجية من الحياة والموت وخروج المني وغيرها، على ما ذكرناه في حقيقة الحكم الظاهري، فليس في المقام إلا الأمور الواقعية - الخارجية أو الاعتبارية - التي تدرك بالوجدان تارةً، ويتعبد بها ظاهراً في مقام العمل أخرى.

و ثانياً: بأنه لو كان مرجع التعبد بالشيء ظاهراً إلى جعله فهو إنما يمكن في التعبد بالأحكام القابلة للجعل، أما الأمور الواقعية - كالخمرية والإسكار - فلا يرجع التعبد بها إلى جعلها، لتبعيتها لأسبابها التكوينية وعدم قابليتها للجعل التشريعي، بل لابد من رجوعه لجعل أحكامها، فلو تم كون الطهارة والنجاسة الواقعيتين من الأمور الخارجية غير الجعلية فاللازم رجوع التعبد بهما إلى جعل أحكامهما، لا جعلهما بأنفسهما.

ولعله لأجل ذلك حكي عن شيخنا الأعظم قدس سره الجزم بأن الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع.

وإن كان الظاهر خلوه عن الدليل، غاية الأمر التوقف والتردد في ذلك.

ولعله لذا كان الظاهر من كلامه الأول المتقدم التردد بين كونهما انتزاعيتين وكونهما واقعيتين، ومن كتاب الطهارة - قبل الكلام الثاني المتقدم - التردد بين كونهما حقيقتين وكونهما اعتباريتين.

بل الإنصاف أن البناء على كونهما اعتباريتين جعليتين هو الأنسب

ص: 70

بملاحظة الأدلة، كصحيح داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسع عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض، وجعل لكم الماء طهوراً، فانظروا كيف تكونون»(1).

لظهوره في كون طهورية الماء حكماً امتنانياً، فيلزم كون الطهارة المترتبة عليها كذلك، لامتناع ترتب الأمر التكويني على الأمر التشريعي.

وقريب منه في ذلك قوله عليه السلام: - في الصحيح - «ان الله جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً»(2)، حيث يلزم حمله على الجعل التشريعي دون التكويني بقرينة السياق، لأن طهورية التراب تشريعية حسبما يظهر من بعض النصوص(3). فتأمل.

وكذا ما ورد في انتضاح ماء غسل الجنابة في الإناء من نفي البأس به مع الاستشهاد بقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(4)، لوضوح أن الحرج لا دخل له في الأمور الخارجية.

وما في رواية جابر في الطعام الذي تقع فيه الفارة من النهي عن أكله حيث قال السائل: الفارة أهون من أن أترك طعامي لأجلها، فقال عليه السلام: «إنك لم تستخف بالفارة، وإنما استخففت بدينك، إن الله حرم الميتة من كل شيء»(5)، بناءً على أن المراد بالتحريم النجاسة لمناسبتها لمورد الرواية.

ص: 71


1- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، حديث: 4
2- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، حديث: 1
3- راجع الوسائل ج 2، باب: 7 من أبواب التيمم
4- الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب الماء المضاف، حديث: 1 و 5
5- الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب الماء المضاف، حديث: 2

على أن ملاحظة موارد ثبوتهما تبعد كونهما واقعيتين تكوينيتين لخصوصية في الجسم المعروض لهما، وتقرب كونهما اعتباريتين جعليتين تابعتين للملاكات المختلفة الملحوظة للشارع ولو كانت خارجة عن خصوصية الجسم، كالتنفير والحرج، فماء الاستنجاء طاهر أو لا ينجس من بين الغسالات، والدم المتخلف في الذبيحة طاهر من بين دمائها، وبعض الأمور تطهر بالتبعية، والكافر وما يلحق به قد اشتهر القول بنجاساتهم عينا، إلى غير ذلك.

هذا، وقد ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سره أن نجاسة ما يستقذر عرفاً حقيقية واقعية، بخلاف غيره، حيث لا تكون نجاسة إلا ادعائية تنزيلية.

وهو كما ترى - مع مخالفته لظاهر الأدلة - يبتني: أولاً: على مطابقة النجاسة للقذارة العرفية مفهوماً، وقد سبق المنع منه.

و ثانياً: على اطلاع العرف على جميع القذرات، بحيث يكشف عدم استقذارهم للشيء عن عدم قذارته، ولا مجال للبناء عليه، لإمكان اطلاع الشارع على ما يخفى على العرف من القذرات، ولاسيما مع اختلاف الأعراف فيها.

على أن لازمه البناء على نجاسة المستقذرات العرفية وترتب أحكام النجاسة عليها، عملاً بعموماتها، إلا ما دل الدليل على عدم ترتب الأحكام عليه، فيخرج عن العمومات تخصيصاً لا تخصصاً، ولا يظن من أحد البناء على ذلك.

مضافاً إلى أن بعض النجاسات غير المستقذرة لم تستفد نجاستها من الحكم بها بعنوانها، ليتعين حمله على الادعاء والتنزيل بلحاظ جميع

ص: 72

الأحكام بعد تعذر حملها على الحقيقة، لفرض عدم استقذارها عرفاً، بل مما تضمن بعض آثار النجاسة ولوازمها العرفية، كالأمر بالغسل والإهراق ونحوهما، فمع فرض عدم حملها على النجاسة لا وجه للتعدي إلى سائر الأحكام. فتأمل جيداً.

جريان ما ذكره في الطهارة والنجاسة الخبيثة في الحدث الأكبر والأصغر

ثم أن ما ذكرنا في وجه كون النجاسة والطهارة الخبثية اعتباريتين يجري نظيره في الحدث الأكبر والأصغر، والطهارة الحدثية المائية والترابية، فإن سبر النصوص قاضٍ بتبعيتهما للجعل الشرعي تبعاً للملاكات الخارجة عن خصوصية البدن، كما يظهر مما تضمن طهورية الماء والتراب(1)، وما تضمن تعليل تخفيف الوضوء بأن الفرائض إنما وضعت على قدر أقل الناس طاقة(2)، وتعليل غسل أعضاء الوضوء ومسحها بأن آدم عليه السلام قد باشر بها الخطيئة(3)، وتعليل عدم وجوب الغسل من البول والغائط بأنه شيء دائم لا يمكن الإغتسال منه كلما يُبتلى به، و «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(4)، وما تضمن أن الوضوء حد من حدود الله ليعلم من يطيعه، ومن يعصيه، وإن المؤمن لا ينجسه شيء(5)، وأن غسل الجنابة أمانة ائتمن الله عليها عبيده ليختبرهم بها(6).

بل هو المقطوع به بلحاظ الاكتفاء في أسباب الطهارة بالميسور من

ص: 73


1- راجع الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، و ج 2 باب: 7 من أبواب التيمم
2- الوسائل ج 1، باب: 15 من أبواب الوضوء، حديث: 13
3- الوسائل ج 1، باب: 15 من أبواب الوضوء، حديث: 16
4- الوسائل ج 1، باب: 3 من أبواب الجنابة، حديث: 4
5- الوسائل ج 1، باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 1
6- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الجنابة، حديث 14

ذي الجبيرة ونحوه، وبما تقتضيه التقية، والانتقال للطهارة الترابية عند تعذر المائية، وغير ذلك.

ونظيرهما - أيضاً - التذكية، للاكتفاء فيها بالميسور في كثير من الموارد واعتبار بعض ما يقطع بعدم دخله في خاصية الحيوان المذبوح كالتسمية والاستقبال، مع سقوطهما في بعض الحالات من نسيان أو ضرورة، أو نحوهما إلى غير ذلك.

المسألة الثانية: حقيقة الحجية

المسألة الثانية: الظاهر أن الحجية من الأمور الاعتبارية المجعولة بنفسها، كما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره.

ومرجعها إلى كون الشيء بنحو صالح لأن يعتمد عليه في إحراز الواقع والبناء عليه في مقام العمل، ويترتب عليها وجوب العمل بالحجة عقلاً.

لا أن المجعول للشارع هو وجوب العمل بالحجة، أو جوازه طريقاً للواقع الذي قامت عليه، مع كون الحجية منتزعة من ذلك من دون أن تكون مجعولة بنفسها.

ويشهد لما ذكرنا المرتكزات العقلائية، لارتكاز أن اعتماد العقلاء على الحجج التي عندهم في أعمالهم التابعة لأغراضهم الشخصية بعين ملاك اعتمادهم عليها في خروجهم عن تكاليفهم المولوية، الشرعية أو العرفية، مع وضوح عدم التكليف الطريقي في مورد الاغراض الشخصية.

بل قد لا يحرز في مورد التكاليف العرفية، كما لو احتمل غفلة المولى العرفي عن قيام الحجة على التكليف أو على موضوعه، ليلزم بالعمل بها تبعاً لما عليه العقلاء أو يردع عنها.

ص: 74

ويناسب ذلك التوقيع الشريف: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله»(1)، لظهوره في كون الحجية بنفسها وعنوانها من الأمور المتقررة الثابتة، كما هو الحال في سائر ما تضمن عنوان الحجية مما ورد في أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، وعبر عنها في الكتاب الشريف بالسلطان.

بل لو كان المراد بالرجوع لرواة الحديث تطبيق العمل على قولهم، لا سؤالهم مقدمة لذلك، كان التوقيع صريحاً في ترتب وجوب العمل على الحجية، لا انتزاعها منه.

هذا، وقد نوقش في ذلك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا بعد ما ذكرنا، وبعد ما يأتي في أول الكلام في مسألة قيام الطرق والأصول مقام القطع الموضوعي، حيث تعرضنا هناك لمفاد جميع الأحكام الظاهرية حسبما تقتضيه مناسبة ذلك المقام.

كما يأتي الكلام في حقيقة الحجية التخييرية عند الكلام في مقتضى الأصل في المتعارضين من مبحث التعارض، لمناسبة يقتضيها ذلك المقام، ولا مجال معه لإطالة الكلام في ذلك هنا.

بقي شيء

بقي شيء:

وهو أن احتياج الحجية للجعل إنما هو في غير الحجج الارتكازية، أما الحجج الارتكازية فهي بسبب الارتكاز المذكور الناشئ عن إدراك خصوصية فيها مقتضية للعمل بها لا تحتاج إلى جعل الحجية لها حتى

ص: 75


1- الوسائل ج 18، باب: 11 من صفات القاضي من كتاب القضاء، حديث: 9

إمضاءً، ولذا يصح الاعتماد عليها في مقام التعذير، ويجب العمل بها في مقام التنجيز، حتى مع احتمال غفلة المولى - لو كان ممن يمكن الغفلة في حقه - عن الحاجة إليها بنحو لا يحرز إمضاؤه لحجيتها.

نعم، للمولى الردع عنها، وبلحاظ ذلك كانت تابعة للمولى، لأنه إذا كان رفعها بيده كان بقاؤها تابعاً له، وبذلك فارقت العلم.

ويأتي تمام الكلام في ذلك عند الاستدلال بالسيرة على حجية خبر الواحد إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة: حقيقة السببية وأخواتها

المسألة الثالثة: وقع الكلام بينهم في حقيقة السببية، والشرطية، والمانعية، والرافعية، ونحوها مما يرجع إلى مقام العلية والتأثير في الشيء وجوداً وعدماً، وهل أنها من الأمور التكوينية أو المجعولة بالأصل أو التبع أو المنتزعة؟ ولا كلام فيما لا تعلق له منها بالحكم الشرعي ولا بمتعلقه، بل الأمور التكوينية، كسببية النار للإحراق، وشرطية الجفاف فيه، ومانعية الرطوبة منه، ورافعية الدواء للألم، إذ لا إشكال في عدم تبعيتها للجعل والتشريع الذي هو المهم في المقام، والذي هو المعيار في كون الشيء حكماً، بل هي من الأمور الانتزاعية، التي تقدم الكلام فيها في الأمر الرابع، وأن منشأ انتزاعها نحو الترتب بين طرفيها التابع لخصوصية ذاتيهما، من دون أن تستقل بالجعل التكويني، فضلاً عن التشريعي.

وكأن ذلك هو مراد بعض الأعيان المحققين من دعوى كونها من الأمور الحقيقية غير التابعة للجعل التكويني، فضلاً عن التشريعي.

وإنما الكلام فيما له نحو تعلق بالحكم، حيث يكون تابعاً للجعل في الجملة، وهو..

ص: 76

تارةً: يلحظ بالإضافة إلى نفس الحكم التكليفي أو الوضعي، كسببية الاستطاعة لوجوب الحج، والعقد للزوجية، وشرطية البلوغ لتكليف الإنسان أو لنفوذ عقده، ومانعية الحيض من وجوب الصلاة، والرهن من نفوذ العقد على العين المرهونة، ورافعية الاضطرار للحرمة، والإبراء لانشغال الذمة بالدين.

وأخرى: يلحظ بالإضافة إلى المكلف به، كسببية الوضوء والغسل للطهارة، وشرطية الستر للصلاة، ومانعية النجاسة منها، وقاطعية الكلام لها ونحو ذلك.

فالكلام في مقامين..

المقام الأول في ما يكون بالإضافة إلى نفس الحكم

وقد أصر شيخنا الأعظم قدس سره في تعقيب حجة القول السابع من أقوال الاستصحاب على كونه منتزعاً من جعل الحكم على النحو الخاص، من دون أن يكون مجعولاً مستقلاً في قباله، ولا تابعاً في الجعل له، فضلاً عن أن يكون هو المجعول الأصلي ويكون الحكم تابعاً له.

وحكى عن شرح الزبدة نسبة ذلك للمشهور، وعن شرح الوافية للسيد صدر الدين أنه الذي إستقر عليه رأي المحققين.

مستدلاً عليه بالوجدان، لأن الحاكم لا يجد من نفسه جعل أمر غير

ص: 77

الحكم، ولا يراد من بيان هذه الأمور لو وقعت في لسان الحاكم أو من يحكي عنه إلا بيان نحو جعل الحكم، من دون أن يقصد بيان جعلها.

نعم، لا يراد بذلك اتحادهما مفهوماً، إذ لا ريب في أنهما محمولان مختلفا الموضوع.

لكن حكي عن بعضهم البناء على كون السببية مجعولة، منهم المحقق الأعرجي في شرح الوافية، مدعياً بداهة اختلاف التكليف عن الوضع وعدم رجوع أحدهما للآخر، وإن كانا متلازمين في مقام الجعل فيكون جعل أحدهما مستلزماً لجعل الآخر، قال بعد بيان ذلك: «فقول الشارع: دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة، والحيض مانع منها، خطاب وضعي وإن استتبع تكليفاً، وهو إيجاب الصلاة عند الزوال، وتحريمها عند الحيض، كما أن قوله تعالى:

«أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» (1) و «دعي الصلاة أيام إقرائك» خطاب تكليفي وإن استتبع وضعاً، وهو كون الدلوك سبباً والأقراء مانعاً.

والحاصل: أن هناك أمرين متباينين كل منهما فرد للحكم، فلا يغني استتباع أحدهما للآخر عن مراعاته واحتسابه في عداد الأحكام».

وقد جرى على ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سره مدعياً أنه بعد انتزاع كل من السببية والحكم من الجعل المتضمن لإناطة الحكم بموضوعه لابد من البناء على جعلهما معاً بجعلٍ واحد، من دون وجه لدعوى انتزاعية أحدهما من الآخر الذي يختص بالجعل.

أقول: جعل التكليف والأمور الاعتبارية الوضعية إنما يصح بلحاظ الأثر والعمل المترتب عليها ولو في الجملة، وإلا كان جعلها لغواً غير

ص: 78


1- الاسراء: 78

مصحح لاعتبارها بنظر العقلاء.

ومن هنا لا مجال لدعوى اعتبار كل من الحكم والسببية وجعلهما في عرض واحد، لكفاية أحدهما في ترتب الآثار العملية المهمة بلا حاجة إلى انضمام جعل الآخر إليه.

بل لابد إما من جعل أحدهما في طول الآخر للترتب بينهما في الجعل، بأن يُدّعى - مثلاً - عدم جعل الحكم الذي هو مورد الآثار إلاّ في مرتبة متأخرة عن جعل السببية، فلا بد من جعلها مقدمة لجعله، وإما من الاقتصار في الجعل على السببية، لكونها مورد الآثار دون الحكم، بل يكون منتزعاً منها، من دون أن يكون له وجود اعتباري جعلي مباين لها، أو الاقتصار في الجعل على الحكم، لكونه مورد الآثار دون الحكم، بل يكون منتزعاً منها، من دون أن يكون له وجود اعتباري جعلي مباين لها، أو الا قتصار في الجعل على الحكم، لكونه مورد الآثار. دون السببية، بل تكون منتزعة منه، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره وغيره.

ولا مجال للأول، لعدم ترتب الحكم على السببية الجعلية لا تكويناً ولا تشريعاً.

أما الأول فلامتناع الترتب التكويني بين الجعليات، والالتزام بترتب التكليف عليها رأساً بلا توسط الجعل - مع كونه خروجاً عن المدعى من كونه جعلياً - مخالف للمرتكزات العقلائية في تبعية تكليف المولى لجعله.

وأما الثاني فلأن الترتب التشريعي بين الأمرين الجعليين فرع إمكان التفكيك بينهما، كالزوجية وجواز الاستمتاع، مع بداهة تعذر ذلك في المقام.

كما لا مجال للثاني، لظهور الأدلة طبقاً للمرتكزات العقلائية

ص: 79

والعرفية في جعل الحكم بنفسه، كما أن التكليفي منه هو الموضوع للإطاعة والمعصية بمقتضى المرتكزات العقلائية، والوضعي منه هو الموضوع للأحكام الشرعية في ظاهر الأدلة.

بل لا معنى لجعل السببية دون الحكم بعد كونها نحو نسبة قائمة به وبالسبب.

فالمتعين الثالث، وهو اختصاص الجعل الاعتباري بالحكم وكون السببية والشرطية ونحوهما أموراً انتزاعية، لكن لا بمعنى مطابقتها للحكم مفهوماً، لبداهة التباين المفهومي بينهما، كما سبق من شيخنا الأعظم قدس سره، ولا بمعنى كونها منتزعة من الحكم بنفسه، لأنها إضافة قائمة به وبالسبب أو نحوه.

بل هي منتزعة من خصوصية جعله المتضمن للترتب بينهما والمستفاد من الكبرى الشرعية، ومجرد انتزاعها من الخطاب به والجعل المتضمنين له - كما سبق من بعض الأعيان المحققين قدس سره - لا يقتضي جعلها اعتباراً مثله، لما تقدم في الأمر الرابع من أن الأمور الانتزاعية ليس لها وجود خارجي أو اعتباري في قبال منشأ انتزاعها، بل ليس الموجود في الخارج أو في عالم الاعتبار إلا منشأ انتزاعها، ومنه ينتزع ذهناً النسب المختلفة المتقابلة وغيرها، فكما تنتزع من جعل الحكم بالنحو الخاص السببية تنتزع المسببية، وكما تنتزع من نحو الترتب بين العلة والمعلول العلية تنتزع المعلولية، إلى غير ذلك مما تقدم.

وإنما يصح نسبتها للجاعل والحكم بتبعيتها للجعل بلحاظ جعله لمنشأ انتزاعها.

ص: 80

فلاحظ ما سبق في الأمر الرابع.

ما ذكره الخراساني قدس سره من منع انتزاع السببية من الحكم

أما المحقق الخراساني قدس سره فقد ذكر أنه لا مجال لانتزاع السببية ونحوها من الحكم لتأخره عن السبب فلا يكون منشأ لانتزاع السببية له، بل هي تابعة لخصوصية تكوينية في ذات السبب اقتضت دخله في الحكم بالنحو الخاص، من دون أن تكون تابعة للجعل.

وفيه: أن تأخر المسبب عن السبب إنما يقتضي امتناع كون المسبب منشأ لانتزاع ذات السبب، لا امتناع كونه منشأ لانتزاع عنوان السببية له التي هي كسائر الإضافات القائمة بالذات والمتأخرة عنها رتبةً.

على أن المدعى ليس هو انتزاع السببية من الحكم بما له من الوجود الخارجي الخاص، المتأخر عن السبب، بل من خصوصية جعله التي تضمنتها الكبرى الشرعية، كعنوان المسببية في التكليف، نظير انتزاع التقدم والتأخر للمتقدم والمتأخر من خصوصية وجودهما الزمانية أو المكانية، من دون أن ينافي ذلك ترتبهما.

وأما الخصوصية التكوينية التي أشار إليها فهي عبارة عن دخل السبب في ملاك الحكم الداعي لجعله، وتبعية السببية للخصوصية المذكورة كتبعية الحكم للملاك مما لا إشكال فيه في الجملة، إلا أنها ليست محلاً للكلام، لأنها من سنخ تبعية الشيء لعلته الإعدادية، ومحل الكلام التبعية التي هي من سنخ تبعية الشيء لعلته التامة.

ولا إشكال في تبعية الحكم والسببية - بالمعنى المذكور - للجعل، ولا يكفي فيهما الملاك ولا خصوصية السبب التكوينية.

غايته أن الجعل يتعلق بالحكم فيكون مجعولاً بنفسه، ولا يتعلق

ص: 81

بالسببية، بل يكون منشأ لتحقق منشأ انتزاعها من دون أن تكون مجعولة بنفسها، لما تقدم.

المقام الثاني فيما يكون بالإضافة إلى المكلف به

لا يخفى أن المكلف به وإن كان أمراً اختيارياً للمكلف، إلا أنه قد يكون فعلاً له بالمباشرة، كالصلاة والصوم، وقد يستند إليه بالتسبيب، بتوسط فعله لسببه التوليدي.

والثاني: إن كان أمراً خارجياً - كالإحراق - كان سببه خارجياً، كجعل الجسم في النار، والسببية بينهما تابعة لخصوصيتهما التكوينية، لا للجعل، فتخرج عن محل الكلام.

وإن كان أمراً جعلياً كالطهارة والتذكية - بناءً على ما سبق من أنهما من الأحكام المجعولة - كان فعله بفعل سببه الشرعي الذي هو الموضوع له في الحقيقة، وكانت السببية بينهما سببية للحكم الشرعي، فتدخل في ما سبق في المقام الأول، من دون خصوصية لهذا المقام، لأن التكليف بالمسبب لا يوجب اختلاف حقيقة السببية قطعاً.

ولعله لذا لم يذكروا فيما يتعلق بالمكلف به السببية بل الشرطية والمانعية ونحوهما، واقتصروا في السببية على السببية لنفس الحكم.

وكيف كان، فالوجه المتقدم في المقام الأول لكون السببية ونحوها

ص: 82

انتزاعية جارٍ هنا، فليس المجعول إلا التكليف بالفعل الخاص، وهو المقيد بالشرط أو عدم المانع أو نحوهما، لأنه مورد الملاك وموضوع الغرض والامتثال، وليست شرطية الشرط للمكلف به ومانعية المانع منه إلا من الإضافات المنتزعة من ذلك، التي يمتنع انفكاكها عنه، وليست مجعولة مثله، لعدم كونها مورداً للغرض ولا موضوعاً لما هو المهم من الأثر.

نعم، هي تابعة لخصوصية تكوينية في ذات الشرط والمانع ونحوهما اقتضت دخلها في ترتب الملاك على المكلف به.

إلا أن التبعية المذكورة كتبعية التكليف للملاك من سنخ تبعية المعلول لعلته الإعدادية، خارجة عن محل الكلام، على ما سبق توضيحه في تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره هناك.

لكنه قدس سره لم يذكر ذلك هنا، وبنى على ما ذكرنا من انتزاع الشرطية المذكورة ونحوها من التكليف، من دون أن يشير لوجه الفرق بين المقامين.

هذا وبعض الأعيان المحققين قدس سره مع أنه التزم بجعل السببية والشرطية للحكم كما سبق من جعل الشرطية للمكلف به ونحوها، كما منع من انتزاعها من التكليف.

بدعوى: أن لازمه عدم قيدية شيء لشيء لولا وجود حكم في البين، مع بداهة فساده، لأن الشيء قد يكون قيداً لشيء وطرفاً لإضافته ولو لم يكن في العالم حكم، كالرقبة المؤمنة وزيد العالم، فلا يكون التكليف دخيلاً إلا في إضافة الشرطية للواجب بما هو واجب، كدخله في سائر الإضافات له من مكانه وزمانه وغيرهما، حيث لا يصح إضافتها للواجب بما هو واجب إلا في رتبة متأخرة عن التكليف، من دون أن تعد من الأحكام الوضعية ولا

ص: 83

من الأمور المجعولة أو المنتزعة قطعاً.

أما أصل الإضافة فهي غير تابعة للتكليف، بل هي أمور واقعية منتزعة من الإضافة والربط بين الشيء وذات الواجب في المرتبة السابقة على وجوبه، مع قيام الوجوب بالربط المذكور، كقيامه بذات العمل، فهو متقدم على الوجوب كتقدم الموضوع على العرض، لا منتزع منه.

ويشكل: بأن الأمر الذي لا يتوقف على الحكم إنما هو مقارنة الحصة الخاصة من الذات للقيد في الخارج، أما التقييد فهو كالإطلاق لا موضوع له إلا في مقام الحكم الخبري أو الإنشائي على الماهية الكلية وإن لم توجد بعد في الخارج، فالرقبة وإن كانت قد تتصف في الخارج بالإيمان مع قطع النظر عن الحكم عليها، إلا أنه لا موضوع لإطلاقها أو تقييدها به إلا في مقام الحكم عليها بما هي أمر كلي قابل للوجود في الخارج.

نعم، التقييد المذكور في مرتبة سابقة على الحكم - وإن كان ملزوماً له - لأخذه في موضوعه الذي هو بمعنى معروضه.

أما الشرطية فهي منتزعة من نحو من الترتب بين الشيئين، بحيث يتوقف أحدهما على الآخر، لا من مجرد التقارن بينهما، فإن توقفت ذات الشيء على الشرط كان شرطاً لوجوده، كتوقف فعل المكلف على قدرته، وتوقف السفر على فتح باب المدينة، وإن توقفت خاصيته عليه كان شرطاً له بما هو ذو عنوان منتزع من الخاصية المذكورة، كتوقف نفع الغسل على حرارة الماء، وتوقف إضرار شرب الماء على برودته، حيث تكون حراره الماء وبرودته شرطاً للغسل والشرب بما أن الغسل نافع والشرب ضار، لا بذاتيهما.

ص: 84

وفي المقام حيث لا يراد بشرط المكلف به في كلماتهم شرط ذاته الذي تكون شرطيته تكوينية لا دخل للشارع بها، بل شرط دخوله في حيز التكليف الذي تكون شرطيته تابعة للجعل الشرعي في الجملة ومتفرعة على تقييده به في مقام التكليف به، فلا معنى لدعوى سبق الشرطية رتبة على التكليف، لأن التقييد من الخصوصيات المقومة لشخص التكليف.

كما لا مجال لدعوى جعلها في قباله، لاستحالة انفكاكها عنه، بل يتعين كونها منتزعة منه كسائر الإضافات اللاحقة له التابعة لخصوصيته، كالسببية والشرطية لنفس التكليف.

على أن ما ذكره قدس سره لو تم هنا جرى في الشرطية لنفس الحكم، التي سبق منه الالتزام بجعلها مع الحكم بجعل واحد، لوضوح رجوع شرط الحكم إلى كونه قيداً لسببه وشرطاً في سببيته له، فمعنى شرطية البلوغ لوجوب الحج أو لنفوذ العقد أنهما شرط للأستطاعة والعقد، وقيد فيما يكون منهما موضوعاً للوجوب والنفوذ، نظير شرطية الطهارة للصلاة.

المسألة الرابعة: حقيقة الجزئية

المسألة الرابعة: وقع الكلام بينهم في حقيقة الجزئية، وهل هي منتزعة أو مجعولة.

ولا يخفى أنها كما تتعلق بالمكلف به - كجزئية السورة من الصلاة - تتعلق بالأسباب ذات المسببات الشرعية - كجزئية القبول من العقد الذي هو سبب لترتب مضمونه، وجزئية ملك الزاد من الاستطاعة التي هي سبب وجوب الحج - ولا وجه لتخصيصها بالأول، كما قد توهمه كلمات بعضهم.

هذا، وقد صرح جماعة بانتزاع الجزئية من الأمر بالمركب أو جعله سبباً، من دون أن تكون مجعولة معه، لا استقلالاً ولا تبعاً.

ص: 85

خلافاً لما ذكره شيخنا الأستاذ من انتزاعها أو جعلها في رتبة سابقة على الحكم الوارد على المركب، ولما ذكره بعض مشايخنا من جعلها تبعاً لجعل الحكم المذكور على غرار ما ذكره في السببية. والظاهر الأول.

توضيح حقيقة الكلية والجزئية

وتوضيحه: أن الجزئية والكلية عنوانان متضايفان. ينتزعان من لحاظ الوحدة بين الأمور المتكثرة، حيث يكون كل منها بلحاظ الوحدة المذكورة جزءً ومجموعها كلاً، ولولا لحاظها لكانت أموراً متفرقة لا يصدق على كل منها الجزء ولا على مجموعها الكل.

وتلك الوحدة..

تارةً: تكون مقومة لمفهوم واحد ذي عنوان خاص، كما في الماهيات المخترعة للعرف العام - كالدار والمدينة والبستان - أو الخاص الشرعي - كالصلاة والحج - أو غيره - كالكلام بأصطلاح النحويين - فإن وحدتها مع تكثر أجزائها ليست حقيقية، بل لحاظية لمخترع عنوانها من أهل العرف.

وأخرى: تكون مسببة عن لحاظ اشتراك الأمور المتكثرة في جهة تجمعها من دون أن يكون لها عنوان خاص بها إلا العنوان الإضافي المنتزع من تلك الجهة، كعنوان النافع، وما في الصندوق، ومملوك زيد، وغيرها.

إذا عرفت هذا، فجزئية شيء لسبب الحكم - كالقبول الذي هو جزء للعقد - أو للمأمور به - كالسورة التي هي جزء من الصلاة - موقوفة.

أولاً: على دخل الجزء بنحو خاص في الغرض الداعي لجعل الحكم.

و ثانياً: على أخذه في موضوع الحكم في مقام جعله في مرتبة سابقة عليه، لما تقدم من سبق الموضوع على الحكم رتبة.

و ثالثاً: على ورود الحكم على الموضوع المركب من المجموع.

ص: 86

ولا يخفى أن لحاظ الأمر الأول منشأ لانتزاع جزئية الشيء من موضوع الغرض، ولحاظ الثاني منشأ لانتزاع جزئيته من الأمر الملحوظ موضوعاً للحكم، ولحاظ الثالث منشأ لانتزاع جزئيته من المأمور به بما هو مأمور به أو من السبب بما هو سبب.

وحيث كان هذا الأخير هو محل الكلام في المقام، لأنه القابل لاحتمال الجعل استقلالاً أو تبعاً لجعل الحكم، تعين البناء على انتزاع الجزئية من الأمر، وأنها من الإضافات التابعة لخصوصيته كالسببية.

ولا معنى لسبقها على الحكم - كما سبق من شيخنا الأستاذ قدس سره - إلا أن يراد بها أحد الأمرين الأولين، فيكون النزاع لفظياً، كما لا مجال لجعلها استقلالاً ولا تبعاً - كما سبق من بعض مشايخنا - لعدم الأثر لجعلها مع ذلك، نظير ما تقدم في السببية وأخواتها.

هذا، وربما يدعى أن الماهيات المخترعة للشارع الأقدس - كالصلاة والحج - مجعولة له في أنفسها بأختراعها مع قطع النظر عن تعلق الحكم بها، فتكون جزئيتها مجعولة تبعاً لجعلها في رتبة سابقة على الحكم لا تبعاً له.

لكنه ممنوع، لأن معنى اختراع الشارع للماهية تحديد مفهومها في عالم الذهن والتصور، لا جعلها اعتباراً كجعل الزوجية ونحوها، كيف وأجزاؤها أمور حقيقية غير قابلة للجعل التشريعي! ومن الظاهر أن التحديد المذكور لا يقتضي جعل جزئية الجزء، إذ ليس هو إلا تصور المجموع وفرضه أمراً واحداً من دون جعل للجزئية زائداً على ذلك.

غاية الأمر أن التصور المذكور مصحح لانتزاع الجزئية للجزء من الأمر المتصور بما هو متصور، لا بما هو مأمور به، مع توقف انتزاع جزئيته

ص: 87

من المأمور به أو موضوع الحكم على ورود الحكم على المجموع، كما ذكرنا. فلا مخرج عما سبق.

نعم، لو تم ما سبق من المحقق الخراساني قدس سره في وجه تبعية السببية لخصوصية السبب التكوينية جرى نظيره في المقام، لوضوح تبعية الجزئية - بالمعنى المذكور - لخصوصية تكوينية في الجزئية اقتضت دخله في الغرض الداعي لجعل الحكم.

لكنه قدس سره لم يذكر ذلك في المقام وبنى على انتزاع الجزئية من الأمر - كما ذكرنا - من دون أن يشير إلى وجه الفرق بين المقامين.

كما أنه لو تم ما سبق من بعض الأعيان المحققين في الشرطية للمكلف به من تبعيتها للتقييد وأنها من الأمور الواقعية غير الموقوفة على الأمر بالمقيد، جرى نظيره في المقام، لابتناء الجزئية من موضوع الحكم على نحوٍ من التقييد لمتعلق التكليف وقصوره على حال وجود الجزء.

لكنه قدس سره لم يذكر ذلك في المقام أيضاً، وبنى على ما ذكرنا من دون أن يشير إلى وجه الفرق.

المسألة الخامسة: حقيقة الصحة والفساد

المسألة الخامسة: تعرض غير واحدٍ في هذا المقام للصحة والفساد. وقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره وجملة ممن تأخر عنه أن الصحة هي التمامية، والفساد عدمها، فهما متقابلان تقابل العدم والملكة، وأرسل في كلامهم إرسال المسلمات، وقد يظهر منهم أن ذلك معناهما اللغوي أو العرفي، بل صرح بعض مشايخنا بأن معناهما لغةً تمامية الأجزاء والشرائط وعدمها.

لكنه يشكل: بأن التمامية لغةً وعرفاً تقابل النقص، أما الصحة فهي

ص: 88

تقابل المرض والسقم والعيب، والفساد يقابل الصلاح لا الصحة، كما يظهر بالرجوع لكلام اللغويين وملاحظة الاستعمالات.

كما أن الصحة والفساد في محل كلامهم مختصان بالأفعال الارتباطية ذات الأجزاء أو الشرائط، والتي تكون مورداً للأحكام الشرعية، دون الأعيان وإن كانت مورداً للأحكام الشرعية وأمكن اتصافها بالتمامية وعدمها.

وذلك كاشف عن أن المقابلة بين الصحة والفساد وإرادة التمامية وعدمها منهما ليستا جرياً على مقتضى اللغة، بل اصطلاح خاص بأهل الفن.

ولا يبعد كون إطلاقهم الصحة والفساد على التمامية وعدمها بلحاظ ملازمة التمامية في المركبات الارتباطية لترتب الأثر المقصود، الذي هو من لوازم الصحة، وملازمة عدم التمامية فيها لعدم ترتبه المشبه للفساد.

وكيف كان فالظاهر أن التمامية التي هي المعيار في الصحة والفساد عندهم إنما تكون بلحاظ الغرض المهم، لا بمعنى مطابقة الصحة لترتب الغرض مفهوماً، بل بمعنى كونه معياراً في صدقها ومصححاً لانتزاعها، فهي منتزعة من تمامية الأجزاء أو الشرائط الدخيلة في الغرض المذكور، فلو لم يكن هناك غرض مهم لم تنتزع الصحة والفساد وإن أمكن انتزاع التمامية وعدمها، التي هي إضافة خاصة يكفي فيها أي جهة لحظت في البين يعتبر فيها بعض الأجزاء أو الشرائط.

ومن هنا لا يتصف الإتلاف - مثلاً - بالصحة بلحاظ ترتب الضمان عليه، ولا يتصف الأكل نسياناً من الصائم بالفساد بلحاظ عدم ترتب الإفطار عليه، وإن أمكن اتصافهما بالتمامية وعدمها بلحاظ مطابقة الأول لموضوع الضمان وعدم مطابقة الثاني لموضوع الإفطار.

ص: 89

ومنه يظهر أن الصحة والفساد أمران إضافيان يختلف صدقهما بنظر الأشخاص تبعاً لاختلافهم في الغرض المهم من العمل، كما نبه له غير واحد.

ولعله لذا وقع الاختلاف في تعريفهما، فعن بعض المتكلمين تفسيرهما بموافقة الأمر الوارد في الشريعة وعدمها، وعن بعض الفقهاء تفسيرهما بموافقة الأمر الوارد في الشريعة، وعن بعض الفقهاء تفسيرهما.. بإسقاط الإعادة والقضاء وعدمه، من دون أن يرجع ذلك لاختلاف في مفهوم الصحة والفساد.

نعم، الظاهر عدم اختصاص الغرض المهم للفقيه بإسقاط الإعادة والقضاء، بل يعم غيره من الآثار المسببة عن الفعل المقصودة منه، كالتذكية في الذبح، والزوجية في العقد، والبينونة في الطلاق، والطهارة في الغسل، وغيرها.

في حقيقة المطابقة وعدمها في انتزاع الصحة

إذا عرفت أن الصحة والفساد أمران انتزاعيان، وأنهما عبارة عن تمامية العمل ومطابقته لموضوع الغرض المهم وعدمه، فمن الظاهر أن المطابقة وعدمها أمران واقعيان لا دخل للشارع بهما.

نعم، ترتب الغرض على موضوعه كبروياً.

تارة: لا يستند للشارع الأقدس، بل يكون عقلياً، كسقوط الإعادة والقضاء بالإتيان بالمأمور به الواقعي، حيث تقرر في محله أنه إجزاء عقلي لا دخل للشارع به، وليس المجعول للشارع إلا الأمر به.

وأخرى: يستند إليه، كسقوط الإعادة والقضاء واقعاً في مورد عدم مطابقة المأتي به للمأمور به - كما في موارد حديث لا تعاد ونحوها - أو

ص: 90

ظاهراً في موارد التعبد بصحة العمل، وكترتب مضامين العقود والإيقاعات عليها، فإن الآثار المذكورة موقوفة على حكم الشارع الأقدس بها تبعاً لموضوعاتها.

لكن هذا لا يستلزم كون صحة العمل الخارجي في الموارد المذكورة حكماً شرعياً بعدما عرفت في حقيقة الصحة.

نعم، لو كانت الصحة نفس ترتب الأثر دون التمامية الملازمة له اتجه استنادها للشارع في هذه الموارد. لكنه خلاف ظاهرهم. فتأمل جيداً.

هذا عمدة ما ينبغي التعرض له من الأحكام الوضيعة ولم يبق مما ذكر في كلماتهم منها إلا الإمامة، والولاية، والنيابة، والوكالة، والقضاوة، والرخصة، والعزيمة.

في القضاوة

والظاهر أن الأربعة الأول من الأحكام الوضعية داخلة في موضوع المسألة الأولى، لتبعيتها للجعل والاعتبار ممن بيده الاعتبار، وأخذها في موضوع الأحكام الشرعية، كوجوب الطاعة وجواز التصرف ونفوذه. كما أن القضاوة نحو من الولاية والنيابة.

في الإمامة

وما يظهر من غير واحد من المفروغية عن عدم كون الإمامة من الأحكام الوضعية وأنها كالنبوة.

كما ترى! إذ لا ينبغي التأمل في تبعية الإمامة للجعل بعد قوله تعالى:

«إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» (1) وما تضمنته جملة من النصوص من أنها تابعة لجعل الإمام ونصبه من قبله تعالى.

ص: 91


1- سورة البقرة: 124

فإن كانت النبوة كذلك فالالتزام بأنها من الأحكام الوضعية غير عزيز، وإن اعتبر فيها كالإمامة كمال النفس وصفاؤها بمرتبة خاصة، لأَنهما شرطان لأهلية المنصب لا مقومتان له، وإن كانت النبوة تابعة لسبب تكويني فلا وجه لقياس الإمامة عليها.

ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من منع كون الولاية والقضاوة من الأحكام الوضعية، مع المفروغية عن عدم كون الوكالة والنيابة منها، بدعوى: أنه لو بُنَى على هذا التعميم لزم عد النبوة والإمامة منها.

وأما الرخصة والعزيمة فهما من شؤون الحكم التكليفي، إذ المراد بهما أن سقوط الخطاب بالواجب أو المستحب إن كان مع بقاء مشروعيته فهو رخصة، وإن كان مع ارتفاعها فهو عزيمة، فيكون مرجع الرخصة إلى ثبوت الحكم الإقتضائي ببعض مراتبه من دون إلزام، ومرجع العزيمة إلى عدم ثبوته. ولا وجه لعدهما من الأحكام الوضعية.

تذنيب:

تذنيب في مراتب الحكم

نسب للمحقق الخراساني قدس سره أن للحكم مراتب أربعة:

الأولى: الاقتضاء.

الثانية: الإنشاء.

الثالثة: الفعلية.

الرابعة: التنجُّز.

والمستفاد منه قدس سره في المقدمة الثامنة والتاسعة لمبحث اجتماع الأمر

ص: 92

والنهي أن المراد بالحكم الاقتضائي هو الحكم الناشئ عن الملاك التام المقتضي له، وإن لم يكن فعلياً بسبب مزاحمة ملاك آخر له مساوٍ له أو أهم منه، فيمكن وجود حكمين إقتضائيين في موضوع واحد تبعاً لوجود الملاك التام لكل منهما فيه منهما، وإن كان الحكم الفعلي على طبق أحدهما أو مخالفاً لهما.

لكن ظاهر سيدنا الأعظم قدس سره في المقدمة الأولى من مقدمات الاستدلال على امتناع الاجتماع، أن الحكمين في الفرض المذكور إنشائيان لا اقتضائيان.

أما المحقق الخراساني قدس سره فالمستفاد من كلماته المتفرقة ومنها في مبحث الواجب المشروط، أن الحكم الإنشائي هو الحكم المنشأ تبعاً للملاك التام في المتعلق من المصلحة أو المفسدة غير المزاحمة، وإن لم يكن فعلياً لوجود المانع منه، الذي قد يلزم بتشريع حكم آخر يكون تابعاً لمصلحةٍ فيه لا في المتعلق.

وعليه حمل التكليف المشروط قبل تحقق شرطه، والأَحكام في أول البعثة، حيث ظهرت بالتدريج، والأحكام المودعة عند الحجة (عجل الله فرجه) التي يكون هو المظهر لها وغيرها.

وأما الحكم الفعلي فهو الحكم البالغ مرتبة البعث والزجر، الناشئ عن الأمر والنهي حقيقةً، المسبب عن الإرادة والكراهة، والمستتبع للعمل، والموضوع للتنجُّز والمعصية، سواءً كان ناشئاً عن مصلحةٍ في نفسه، أم عن مصلحة أو مفسدة في متعلقة غير مزاحمة بما يمنع من تشريع الحكم على طبقها.

ص: 93

وأما الحكم المنجز فهو الحكم الفعلي البالغ مرتبة الداعوية العقلية، الفعلية بسبب ارتفاع العذر عن مخالفته لوصوله وجداناً أو تعبداً أو لكونه موضوعاً للأصل التنجيزي.

هذا ما تيسر لنا الإطلاع عليه من كلماته المتفرقة في الكفاية.

ويشكل: بأن الملاكات الدخيلة في جعل الأَحكام وإن كانت مختلفة من حيثية قيامها بنفس جعل الحكم أو بمتعلقه بنحو الاقتضاء، مع وجود المزاحم فيه أو بدونه، ومع وجود المانع الخارجي من تشريع الحكم على طبقها - الذي قد يلزم بتشريع حكم آخر - أو بدونه، إلا أن الظاهر أنها لا تصلح لتشريع الأحكام وجعلها، إلا إذا كانت مورداً للغرض فعلاً بنحو يستتبع السعي نحوها بتشريع الحكم البالغ مرتبة البعث والزجر، والصالح لترتب العمل عليه، لعدم المزاحم لها في المتعلق وعدم المانع من تشريع الحكم على طبقها، أما بدون ذلك فلا جعل وجداناً، ولا حكم بأي مرتبة فرضت، لعدم الأثر المصحح لجعله بعد عدم ترتب العمل عليه، وعدم كونه موضوعاً للطاعة والمعصية والعقاب والثواب.

وأما ما تكرر في كلماتهم في مقام الجمع بين الأدلة من حمل الدليل على الحكم الإقتضائي في بعض الموارد، الراجع إلى ثبوت الحكم من حيثية العنوان المأخوذ فيه، وإن لم يكن فعلياً لوجود المانع، فهو لا يرجع إلى جعل حكم اقتضائي يعم حال وجود المانع ثبوتاً، بل إلى بيان حال العنوان إثباتاً وأن من شأنه أن يستتبع حكماً فعلياً لو لم يبتل بالمانع، فمع إبتلائه بالمانع لا حكم اقتضائي على طبقه، ولعل ذلك هو مراده من الحكم الاقتضائي، كما قد يناسبه ما يأتي منه في حاشية الرسائل.

ص: 94

نعم، الغرض الداعي لجعل الحكم..

تارة: يكون فعلياً، فيستلزم الخطاب بالحكم التنجيزي.

وأخرى: يكون منوطاً بأمر غير متحقق فعلاً فلا مجال للخطاب بالحكم إلا معلقاً على ما أنيط به الغرض، ويكون هو موضوع الحكم، كما في القضية الشرطية.

وقد وقع الكلام بينهم في أن الخطاب بالنحو الثاني هل يستتبع جعلاً ووجوداً فعلياً لحكم تعليقي يترتب العمل عليه بعد تحقق الشرط، بحيث يكون وجود الشرط ظرف العمل بالحكم الموجود سابقاً، من دون أن يكون سبباً لفعلية الحكم، أولا؟ بل لا يكون للحكم وجود فعلي جعلي إلا بتحقق ما علق عليه، وليس مفاد القضية الشرطية إلا الكشف عن ذلك.

ولا مجال للبناء على إستتباع الشرطية جعل حكمين تعليقي مقارن لإنشائها، وفعلي عند تحقق الشرط.

وقد أفضنا الكلام في ذلك عند الكلام في استصحاب الحكم عند الشك في نسخه.

وكيف كان، فليس في المقام إلا إنشاء الحكم معلقاً على موضوعه لو لمن يكن فعلياً، ثم فعليته بنحوٍ ما على تقدير فعلية موضوعة، والحكم المجعول واحد تابع لأحدهما، من دون أن يكون هناك حكم سابق على ذلك بالرتبة تابع لنحو خاص من الملاك يسمى بالحكم الإقتضائي أو الإنشائي.

وأما الملاك فهو من الأمور التكوينية التي لا دخل للحاكم بها ولا تكون من مراتب حكمه.

وأما الأحكام الشرعية في أول البعثة فليس لها أي نحو من الوجود

ص: 95

ولم يكن جعلها إلا تدريجياً حسب اختلاف أزمنة الخطاب بها.

كما أن الأحكام التي تظهر على يدي الحجة (عجل الله فرجه) إما أن تكون تعليقية على موضوعات خاصة لا تكون فعلية إلا بظهوره، أو أنها تشرع حينئذ، وإن كان عليه السلام عالماً من أول الأمر بتشريعها في وقتها آخذاً لها من آبائه عليهم السلام عن النبي (ص)، وبهذا يصح إسنادها للنبي (ص) ولا تنافي ما تضمن عدم نسخ شريعته، وأن حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

ومنه يظهر الإشكال في ما ذكره بعض الاعلام من محشي الكفاية من الاعتراف بمرتبتين للحكم - وهما الإنشاء والفعلية - بدعوى: كونهما مجعولين تشريعاً.

حيث ظهر مما سبق أن المجعول ليس إلا شيء واحد، وهو الحكم التعليقي الذي هو مفاد القضية الشرطية، أو الفعلي التابع لفعلية الموضوع، لا كلا الأمرين، وإن كان لهما نحو من الوجود. وأما التنجز فهو من لواحق الحكم المجهول الخارجة عنه، و المتأخرة عنه رتبة تأخر مقام الإثبات عن مقام الثبوت وليست من مراتبه في مقام جعله ووجوده.

هذا، وقد قال المحقق الخراساني قدس سره في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من حاشيته على الرسائل: «فاعلم أن الحكم بعد ما لم يكن شيئاً مذكوراً يكون له مراتب في الوجود:

أولها: أن يكون له شأنه، من دون أن يكون بالفعل بموجود أصلاً.

ثانيها: أن يكون له وجود إنشاء من دون أن يكون له بعثاً وزجراً وترخيصاً فعلا.

ص: 96

ثالثها: أن يكون له ذلك مع كونه كذلك فعلاً، من دون أن يكون منجزاً يعاقب عليه.

رابعها: أن يكون له ذلك كالسابقة مع تنجزه فعلاً.

وذلك لوضوح إمكان اجتماع المقتضي لإنشائه وجعله مع وجود مانع أو فقد شرط، كما لا يبعد أن يكون ذلك قبل بعثته (ص)، واجتماع العلة التامة له مع وجود المانع من أن ينقدح في نفسه البعث أو الزجر، لعدم استعداد الأنام لذلك، كما في صدر الإسلام بالنسبة إلى غالب الأحكام».

وقد ادعى بعد ذلك أن الحكم المشترك بين الكل ولا يختلف فيه العالم والجاهل بالإجماع والضرورة هو الحكم بالمرتبتين الأوليين، وأن الثالثة - كالرابعة - تختلف بحسب الأزمان والأحوال والأشخاص، مدعياً إمكان دعوى الإجماع والضرورة على ذلك.

والظاهر أن قوله: «إمكان اجتماع المتقضي لإنشائه...» بيان للمرتبة الأولى، وهي الشأنية، فيناسب ما تقدم في الحكم الاقتضائي من عدم وجود الحكم.

وقوله: «واجتماع العلة التامة...» بيان للمرتبة الثانية وهي الإنشائية، فيناسب ما تقدم في الحكم الإنشائي. من وجود الإنشاء تبعاً لتمامية علته.

ولا يخفى أن ما ذكره في المرتبة الأولى من أنه لا وجود للحكم فيها أصلاً لا يناسب جعلها من مراتب وجوده بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً.

كما أنه مما تقدم من عدم جعل حكمٍ آخر غير الحكم الفعلي يظهر أنه لا واقع للمرتبة الثانية.

وما ذكره من أنها هي المشتركة بين الكل دون الحكم الفعلي راجع

ص: 97

للتصويب الباطل بالإجماع والضرورة.

ولعل الملجئ له لذلك هو محاولة الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى مع ما قد ينفع في المقام.

وبهذا ينتهي الكلام في حقيقة الحكم الشرعي مقدمةً لعلم الأصول، ويقع الكلام في المباحث الأصولية بقسميها: النظرية المحضة، والناظرة لمقام العمل، ونستمد منه تعالى العون والتأييد، والتوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 98

القسم الأول

في الأصول النظرية

ص: 99

ص: 100

القسم الأول في الأصول النظرية

اشارة

وقد سبق أن البحث فيها عن مدركات واقعية لا تبتني بنفسها على العمل، وإن ترتب عليها بضميمة أمر خارج عنها. كما تقدم أنها تنحصر بمباحث الألفاظ ومباحث الملازمات العقلية.

وحيث كان البحث في الألفاظ مبايناً للبحث في الملازمات العقلية سنخاً ومخالفاً له في المباني، كان المناسب فصلهما وجعل كل منهما في مقام مختص به.

الباب الأول في مباحث الألفاظ

اشارة

وهي التي يبحث فيها عن تشخيص الظهورات الكلامية، لتنقيح صغريات كبرى حجية الظهور التي يأتي الكلام فيها في القسم الثاني من علم الأصول إن شاء الله تعالى، ولا يترتب عليها العمل إلا بضميمة الكبرى المذكورة.

ص: 101

مقدمة:

حيث كان تشخيص الظهورات متفرعاً على دلالة اللفظ على المعنى، كان المناسب التعرض لبعض المباحث اللغوية الدخيلة في الدلالة والمناسبة لها مقدمة للكلام في هذا المقام، لمسيس الحاجة لذلك، ولاسيما بعد عدم استيفاء البحث عنها في العلوم الأديبة، ليستغني به الباحث في الأصول عن ذكرها في المقام.

وقد بحثها الأصحاب في مقدمة علم الأصول من دون أن يقسموا مباحثه بالوجه الذي جرينا عليه.

وهي تكون في ضمن أمور:

الأمر الأول: في مباحث الوضع

الأمر الأول: من الظاهر أن دلالة اللفظ على المعنى

تارة: تبتني على أداء اللفظ له بنفسه بحيث يكون قالباً له.

وأخرى: تبتني على قرينة خارجة عنه لمناسبة صححت ذلك عرفاً.

والاستعمال في الثاني مجازي أو نحوه مما قد يجري عليه أهل الاستعمال، وليس هو فعلاً محل الكلام.

أما في الأول فهو حقيقي، وهو متفرع على علاقة خاصة بين اللفظ والمعنى ونحو من الملازمة الذهنية بينهما، بحيث يكون اللفظ قالباً للمعنى، ويكون سماعه موجباً للانتقال إليه، حتى يصح عرفاً أن ينسب أحدهما للآخر، فيقال: هذا معنى اللفظ، وهذا اللفظ لهذا المعنى.

ص: 102

ولا إشكال في عدم تبعية الملازمة المذكورة لخصوصية ذاتية في اللفظ والمعنى، وإن كان قد يوهمه المحكي عن بعضهم من أن دلالة اللفظ على المعنى طبعية، إذ لا يظن بأحد الالتزام بظاهر ذلك، مع ظهور وهنه باختلاف اللغات، وتوقف فعلية الدلالة على العلم بها.

منشأ ملازمة اللفظ للمعنى

بل الظاهر أن منشأ الملازمة المذكورة أمران:

أحدهما: الوضع التعييني

أحدهما: كثرة الاستعمال في المعنى بنحوٍ يكون للفظ نحو اختصاص به، حتى لا يحتاج معه للقرينة، وإن كان مبدأ الاستعمال مبنياً عليها، حيث قد يظهر من حال معه المستعملين اتكالهم على الاستعمالات المبنية على القرينة وجريهم على طبقها حتى يبلغ حداً يوجب الملازمة المذكورة والعلاقة الخاصة، فيستغنى عن القرينة.

ثانيهما: الوضع التعيني

ثانيهما: الوضع ممن يتعارف قيامه به، كولي الطفل، ومخترعي المفاهيم، كأصحاب الفنون في مصطلحاتهم المتعلقة بفنونهم.

وهو المسمى بالوضع التعييني، في قبال الأول الذي يطلق عليه الوضع التعيني، تغليباً، أو لمناسبته للوضع التعييني، لاشتراكهما في الفائدة. وإلا فالوضع الذي هو من مقولة الفعل مختص بالتعييني.

نعم، لو أريد من الوضع ما يعم فعل سبب الاختصاص بين اللفظ والمعنى - وهو الاستعمال - وإن لم يقصد حصوله به - كما قد يظهر من بعضهم - لا جعل نسبة الاختصاص المذكورة بالمباشرة صح إطلاقه على الأول، لكنه بعيد، والأمر سهل.

ثم إن الظاهر أن الوضع التعييني يتضمن جعل نسبة الاختصاص بين اللفظ والمعنى وإنشاءها المستلزم لاعتبارها عرفاً، وهي مسانخة للنسبة

ص: 103

الحاصلة عرفاً بسبب كثرة الاستعمال.

فكما يرى العرف صحة إضافة اللفظ للمعنى بسبب كثرة الاستعمال بالنحو الخاص يرى صحة إضافته بسبب جعلها ممن بيده جعلها، فيتابع عليها، ويكون البناء على إطلاق اللفظ من دون قرينة عند إرادة المعنى متفرعاً عليها، كما يكون الاستعمال نفسه جرياً على طبقها، لا مقوماً لها، كالتصرف المتفرع على الملكية.

وقد تقدم عند الكلام في حقيقة الأمر الانتزاعي من المقدمة أن الإضافة إذا كان منشأ انتزاعها موجوداً تكويناً لم يمكن جعلها اعتباراً، كالفوقية، أما إذا لم يكن منشأ انتزاعها موجوداً فقد تكون قابلة للجعل، كالملكية.

غايته أن الإضافة في المقام ليست على نهج واحد، بل تختلف باختلاف الموارد، فهي في موارد الوضع التعيني غير مجعولة، لتحقق منشأ انتزاعها تكويناً، وهو حضور المعنى عند سماع اللفظ بسبب شيوع استعماله فيه بالنحو الخاص، وفي موارد الوضع التعييني لا وجود لمنشأ انتزاعها، فيمكن جعلها اعتباراً بنحو تترتب عليها الآثار عرفاً، كما تترتب في الأول.

ولعل هذا هو مراد بعض الأعيان المحققين قدس سره، وإن لم يكن مجال للتعرض لكلامه وكلام غيره ممن ذكر وجوهاً أُخَرْ في حقيقة الوضع، لضيق المجال عن النقض والإبرام في ذلك بعد عدم ظهور الثمرة له، فراجع.

هذا والظاهر أن الوضع التعييني مختص بمثل الأعلام الشخصية والمفاهيم المخترعة المستحدثة، حيث يتدرج الابتلاء بها، ويلتفت من بيده أمرها إلى الحاجة لتعيين اللفظ الدال عليها، فيختار لها لفظاً خاصاً لمناسبة ما، ولو كانت مثل التبرك.

ص: 104

وأما المفاهيم العامة التي لا تخص طائفة مخصوصة والتي بها تقوم اللغة فمن البعيد جداً ابتناؤها على الوضع التعييني، لتعذره عادةً من شخص واحد أو أشخاص معدودين لكثرة المعاني الأفرادية والتركيبية وتشعبها، وعدم معروفية من له تلك الأهلية، ليوكل إليه ذلك ويتابعه فيه الكل.

ولذا لم ينقل ذلك في التواريخ مع أهميته جداً.

ومثله التصدي من كل من يبتلي بمعنى لوضع لفظ يخصه فيتابع فيه، حتى تكاملت اللغة تدريجاً.

فإن الالتفات للوضع ولفائدته بعيد عما عليه عامة الناس - في أول ابتلائهم بالمعنى - من سذاجة، وخصوصاً مع عدم مألوفية الوضع لهم سابقاً، حيث لا هم لهم إلا بيان المعنى بأي وجه أمكن من إشارة أو استعمال مجازي أو غيرهما.

على أنه لا يتيسر تبليغ الكل بالوضع الأول، وتعدده يستلزم كثرة الاشتراك بالنحو الموجب لإرتباك اللغة وعدم تحقق غرض الوضع.

ما قربه الشيخ الحلي قدس سره من كون جميع الأوضاع تعينيه

ومن هنا فقد قرب شيخنا الأستاذ قدس سره كون جميع تلك الأوضاع تعينية وأن مبدأها الاستعمال غير المسبوق بالوضع تبعاً للحاجة وإعمالاً لملكة البيان التي أودعها الله في الإنسان ولو مع الغفلة عن وجه مناسبة اللفظ للمعنى والجهة الموجبة لاختياره في أدائها، بل ولو مع عدم تحديد طبيعة استعمال اللفظ في المعنى جرياً من الإنسان على مقتضى غريزته بصورة بدائية، من دون تحديد تفصيلي للفظ ولا للمعنى، نظير تعابير الطفل في أول نطقه، ثم يتكامل بمرور الزمن ويتكامل الإنسان ويدخله التطوير والتحسين بعد التنبه لفائدته وتحسسها.

ص: 105

لكن ذلك وإن كان قريباً لمقتضى طبع الإنسان في التدرج، إلا أنه يحتاج لمدة طويلة، وهو لا يناسب ما تضمنته الآيات والأخبار المستفيضة من كلام آدم و حواء في مبدأ الخلقة مع الله تعالى، ومع الملائكة والشيطان، وكلامهم معهما، حيث يظهر منه التوجه في أول الأمر للبيان بصورة منظمة ووجود لغة كافية في أداء المقاصد وعملية التفاهم.

ومن هنا كان من القريب جداً أن الله تعالى قد ساعد الإنسان في مبدأ الخلقة فألهمه فعلية البيان كما أودع فيه ملكته، وهداه لمجموعة من الألفاظ تفي بأغراضه فتكلم بها بطبعه، من دون أن تكون مسبوقة بالوضع، وجرى عليها حتى تكونت اللغة الأولى، ثم خضعت بعد ذلك لنظام التطوير والتغيير والتبديل تبعاً لتجدد الحاجة وتشعبها، كما هو الحال في سائر شؤون حياته.

وربما تشعبت اللغات منها، كما ربما يكون تعدد اللغات بفيض منه تعالى دفعي إعجازي، كحدوث اللغة الأولى، كما قد يظهر من بعض الأخبار.

ولعل هذا مراد من يقول إن الواضع هو الله تعالى. وربما يكون مرادهم أمراً آخر. ولا مجال لإطالة الكلام فيه ولا في بقية المباني المذكورة في مبدأ الوضع بعد عدم ظهور الثمرة لذلك.

الأمر الثاني: تقسيم الوضع بلحاظ المتعلق

الأمر الثاني: ما سبق من تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني إنما هو بلحاظ اختلاف خصوصيته في نفسه، وقد قسموه تقسيمين آخرين بلحاظ متعلقه من دون أن يرجع إلى اختلاف فيه في نفسه.

التقسيم الأول: الوضع الشخصي والوضع النوعي

التقسيم الأول: تقسيمه إلى الوضع الشخصي والنوعي.

توضيحه

وتوضيحه: أن من الظاهر أن الموضوع ليس هو اللفظ الجزئي، وهو

ص: 106

شخص اللفظ الملفوظ للواضع - في الوضع التعييني - وللمستعمل - في التعييني - لتصرمه فلا فائدة في حدوث العلاقة بينه وبين المعنى الذي يحتاج لبيانه باستمرار، بل الموضوع هو الكلي منه المنطبق على ما لا نهاية له من الأفراد، وإرادته من اللفظ الملفوظ للواضع تبتني على استعماله في نوعه.

فلا بد من إبتناء هذا التقسيم على نحوٍ من التوسع.

والذي يظهر من المحقق الخراساني قدس سره عند الكلام في وضع المركبات أن الوضع النوعي هو وضع هيئات المركبات - كهيئات الجمل والإعراب والتأكيد والحصر والإضافة وغيرها - لخصوصيات النسب المحكية بها، والشخصي هو وضع مواد المركبات ومفرداتها.

وكانه بلحاظ أن هيئات المركبات لم تؤخذ فيها خصوصية مادة، بل تجري في سائر المواد المناسبة مع إنحفاظها، فهي تشبه النوع المحفوظ في أفراده الساري فيها.

لكن ذلك يقتضي تعميم الوضع النوعي لسائر الهيئات حتى هيئات المفردات الاشتقاقية، كهيئات الأفعال وأسماء الفاعلين والمفعولين.

لوضوح أنها - كهيئات المركبات - محفوظة في المواد المختلفة ولذا عممه له غير واحد، بل ذكر بعض المحققين أنه المعروف. وظاهر سيدنا الأعظم قدس سره المفروغية عنه حتى حمل كلام المحقق الخراساني قدس سره عليه فليكن هو المعول عليه تبعاً لهم.

بل عممه بعض الأعيان المحققين قدس سره لمواد المشتقات، لعدم أخذ هيئة خاصة فيها، بل تنحفظ في سائر الهيئات كأنحفاظ هيئات المشتقات في موادها.

ص: 107

لكن لما كان هذا التقسيم محض اصطلاح - لما ذكرنا من كون الموضوع كلياً دائماً - فلا ينبغي الخروج عما هو المعروف.

وقد تكون المناسبة المصححة له أن نسبة الهيئة للمادة - لفظاً ومعنىً - لما كانت نسبة العرض للموضوع كان المعيار في التعدد هو تعدد المادة عرفاً وكان تعددها في الهيئة موجباً لكون وضع الهيئة نوعياً، بخلاف تعدد الهيئات في المادة الواحدة، فلا يلتفت إليه، ليكون وضع المادة نوعياً، بل هو كتوارد الهيئات التركيبية على المفردات، حيث لا ينافي كون وضعها شخصياً، ولولا الفرق المذكور لكان نوعياً أيضا حتى في الجوامد والحروف.

وقد أجاب بعضهم بوجه آخر غير ظاهر في نفسه، ولا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا من كون التقسيم محض اصطلاح لا مشاحة فيه.

التقسيم الثاني: الوضع العام والوضع الخاص

التقسيم الثاني: تقسيمه بلحاظ عموم المعنى المتصور حين الوضع وخصوصه، وعموم المعنى الموضوع له وخصوصه، إلى أقسام ثلاثة: الوضع الخاص والموضوع له خاص، والوضع العام والموضوع له عام، والوضع العام والموضوع له خاص.

أقسام الوضع

وذلك أن الواضع لابد له من تصور المعنى الموضوع له، إما تفصيلاً بملاحظة ذاته بخصوصياتها، أو إجمالاً بملاحظة عنوان يخصه سيق لمحض الحكاية عنه، كما لو سمى ولده زيداً، ولا يعرفه إلّا بأنه أول مولود له.

وحينئذٍ فإن تصور معنىً خاصاً ووضع اللفظ له فالوضع خاص - لخصوص المعنى المتصور حينه - والموضوع له خاص، كوضع الأعلام الشخصية.

وإن تصور معنىً عاماً، فإن وضع اللفظ له على عمومه، فالوضع عام -

ص: 108

لعموم المعنى المتصور حينه - والموضوع له عام، كوضع أسماء الأجناس.

والأمر في هذين القسمين ظاهر.

وإن وضع اللفظ لإفراد المعنى المتصور بخصوصياتها المتباينة فالوضع عام والموضوع له خاص.

والفرق بينه وبين القسم الثاني: أن الموضوع له في القسم الثاني ليس إلا العام بما له من مفهوم جامع بين الخصوصيات من دون أن تكون الخصوصيات دخيلة في الموضوع له ولا محكية باللفظ حتى في مورد استعماله فيها، حيث لا يحكى عنها حينئذٍ إلّا من حيثية دخولها في القدر المشترك، لا بما به امتيازها، بل هو مقارن لا غير، بخلاف هذا القسم حيث يبتني على دخل كل خصوصية فردية في الموضوع له بنحو البدلية، بحيث يحكي اللفظ عنها بما به امتيازها عن غيرها، ولا يحكي عن القدر المشترك بنفسه مع قطع النظر عن خصوصيات أفراده، لعدم وضعه له، فهو يشارك القسم الثاني في سعة الموضوع له بنحو يصح استعمال اللفظ في جميع الأفراد بدلاً، كما يشارك القسم الأول في الحكاية عن خصوصية الفرد.

توضيح بعض الجهات بأمور

ثم إن توضيح بعض الجهات المتعلقة بهذا التقسيم يكون ببيان أمور:

أولها: القول بامتناع الوضع الخاص والموضوع له العام

أولها: أنه صرح غير واحد بامتناع الوضع الخاص والموضوع له العام الذي يكون بتصور المعنى الخاص عند الوضع مع عدم الوضع له بل للعام بما له من معنىً شائع واسع الانطباق.

وأن الفرق بينه وبين الوضع العام والموضوع له الخاص - الذي هو القسم الثالث المتقدم - هو أن العام وجه من وجوه الخاص، بخلاف الخاص، فإنه لا يكون وجهاً للعام، لأن العنوان العام كما قد يؤخذ بنفسه

ص: 109

موضوعاً للحكم، فيكون تقييدياً، كذلك قد يجعل عبرة لأفراده حاكياً عنها، بحيث يكون موضوع الحكم هو الأفراد بما لها من واقع.

أما الخاص فتصوره لا يكون إلاّ بتصور خصوصيته غير القابلة للسريان والشيوع، فلا يكون حاكياً عن العام الشامل له والساري في غيره.

نعم، قد يكون تصوره مقدمةً لتجريد جهة فيه منه تقبل السريان يكون الوضع لها بعد تجريدها.

لكنه راجع إلى تصورها تفصيلاً، كما لو مر به حيوان فأدرك ماهيته ووضع الاسم لها، أو إجمالاً، كما لو علم بوجود شيء في الصندوق فوضع اللفظ لماهيته المتصورة إجمالاً.

فيكون الوضع للعام بعد تصوره بنفسه بسبب تصور الخاص - كما في القسم الثاني - لا بمجرد تصور الخاص، ليكون من القسم الرابع.

ومنه يظهر اندفاع ما عن المحقق الرشتي من إمكان هذا القسم وأنه كمنصوص العلة، حيث يكون الحكم فيه شخصياً ومع ذلك يسري إلى كل ما فيه العلة.

كما ظهر أن الوضع العام والموضوع له خاص يبتني على الإشارة للخاص من طريق العام الراجعة لنحوٍ من التصور الإجمالي له، فيشبه الوضع الخاص والموضوع له خاص، وإن افترقا في وحدة الموضوع له في الوضع الخاص، وتعدده في العام بسبب كثرة الأفراد المحكية بالعنوان العام المتصور حين الوضع.

ثانيها: وجوه الوضع العام والموضوع له الخاص

ثانيها: أن الوضع العام والموضوع له الخاص

تارةً: يرجع إلى الوضع للخصوصيات بما هي مشتركة في مفهوم العام،

ص: 110

بحيث يكون العام مأخوذاً في الموضوع له مقيداً بإحدى الخصوصيات الفردية على البدل، فتكون الخصوصية قيداً في الموضوع له، لا تمامه، فدلالة اللفظ عليها نظير دلالة المعرف بلام العهد عليها.

وأخرى: يرجع إلى الوضع للخصوصيات بأنفسها من دون ملاحظة اشتراكهما في مفهوم العام، وليس لحاظ العام إلا لأجل حصر الخصوصيات المذكورة وتعيينها، فدلالة اللفظ على كل من الخصوصيات المتباينة كدلالة المشترك اللفظي عليها، وليس الخلاف بينهما إلا في وحدة الوضع في المقام وتعدده في المشترك.

وكلماتهم في المقام لا تخلو عن إجمال وتردد بين الوجهين، وإن لم يبعد كونها للأول أقرب.

ثالثها: جريان الأقسام المذكورة في الوضع التعيني

ثالثها: لا يخفى أن الجمود على ما تقدم في بيان الأقسام المذكورة يقضي باختصاصها بالوضع التعييني المبتني على وضع اللفظ للمعنى بعد تصور الواضع له، دون التعيني الذي عرفت خروجه عن حقيقة الوضع، إلا أنه يمكن جريان نظائرها فيه من حيثية خصوصية المعنى التي هي الغرض الملحوظ في التقسيم.

فإن المعنى الذي يختص به اللفظ ويكون قالباً له بسبب كثرة الاستعمال تارة: يكون جزئياً لا يصطلح اللفظ لنظائره مما يجمعه معه مفهوم واحد، كما في القسم الأول.

وأخرى: يكون كلياً مجرداً عن خصوصيات أفراده، كما في القسم الثاني.

وثالثة: يكون جزيئاً تتبادل فيه خصوصيات أفراد مفهوم واحد كلي،

ص: 111

بحيث يحكي عن الخصوصيات بأنفسها أو بما هي قيود بدلية في المفهوم الكلي المذكور، كما في القسم الثالث بأحد وجهيه المتقدمين آنفا.

الأمر الثالث: في القسم الثالث من أقسام الوضع

الأمر الثالث: بعد أن عرفت أنحاء الوضع الممكنة فلا إشكال في وقوع القسم الأول في الاعلام الشخصية، والثاني في أسماء الأجناس، وإنما الكلام في الثالث، حيث قد يُدّعى أنه عليه يبتني وضع الحروف وما أُلحِقَ بها من أسماء الإشارة والموصولات والضمائر والهيئات ونحوها، وليس التقسيم المذكور إلا مقدمةً لتحقيق الحال فيها.

المعنى الحرفي

وقد أطال أهل الفن في ذلك خصوصاً المتأخرين منهم، حيث كثرت أقوالهم وتشعبت وأبتنت على كثير من الدقة والتعمق، وأحتيج في توضيح كل منها أو في ردها إلى مقدمات كثيرة، مع إعتمادهم على البداهة فيما يذهبون إليه على اختلافهم.

ولعل ذلك ناشئ من أن استعمال الحروف ونحوها يجري على البديهة والفطرة حسبما أودعه الله تعالى في الإنسان من قوة البيان، كما أن ما يراد بها يدرك بالارتكاز بلا كلفة، وتوضيح البديهيات والارتكازيات وبيان حقائقها وتفاصيل معانيها من أشكل المشكلات، حيث يبتني على التعمق والتكلف والتعمّل التي لا يصل بها الإنسان غالباً كما يصل بفطرته وأرتكازه.

ومن هنا يضيق الوقت والصدر معاً من متابعتهم وتعقيب كلماتهم، بل قد تضعف الطاقة عن ذلك.

ولاسيما مع عدم وضوح ترتب ثمرة عملية مهمة عليه، وإن ادعى بعضهم ترتبها، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 112

كما أنه لا يحسن إهمال ذلك رأساً، لعدم خلوه عن الفائدة.

فلنقتصر على بيان ما يتضح لنا فعلاً بعد النظر في كلماتهم، مع التوكل على الله سبحانه وطلب العون والتسديد منه.

فنقول: الظاهر أن جملة من الحروف لم توضع للحكاية عن معان متقررة في عالم الخارج أو الاعتبار أو الانتزاع، ليقع الكلام في أن معانيه كلية أو جزئية، بل هي موضوعة لإيجاد معانيها في عالم الكلام والتلفظ، فمعانيها - كما قيل - إيجادية، لا إخطارية ذات وجود ذهني مطابق لوجودها الحقيقي في عالمه.

كما هو الحال في مثل أدوات التمني والترجي والنداء والاستفهام والطلب والنهي ونحوها، فكما يكون لهذه الأمور واقع نفسي في الجملة يكون لها وجود كلامي بأدواتها المعهودة.

وليس الواقع النفسي محكياً بهذه الأدوات على أن يكون هو المدلول المطابقي لها، بل هو داعٍ لإيجاد مضامينها في عالم اللفظ والكلام، كما قد يكون داعياً لوجودها بالإشارة، فكما يشير الإنسان بيده مستفهماً بداعي حث المخاطب على الإعلام والإفهام يتكلم بأدوات الاستفهام بالداعي المذكور.

ولذا لا يكون الإتيان بها من دون تحقق ما يناسبها في النفس كذباً وإن قصد إظهاره بها، بل لا يكون حينئذٍ إلا إيهاماً وتغريرا.

كما لا يكون الإتيان بها بداع آخر بقرينة مجازاً، لعدم انسلاخها عما سيقت له بحسب وضعهاً، وهو الوجود الكلامي للمعاني المذكورة، كما في الاستفهام بداعي الإنكار، والنداء بداعي التواجد.

ص: 113

نعم، قد تنسلخ عما وضعت له عرفاً، فتكون موجدةً لمعنىً آخر، كإنشاء التأسف بأداة النداء في قوله تعالى: «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزئُونَ»(1) حيث لا يتضمن جعل النداء عرفاً والحاصل أن هذه الحروف لم توضع للحاكية عن معنى له تقرر في واقعه بنحو تكون قالباً له، وإن كانت قد تكشف عن معنىً كذلك لملازمة ذهنية أو عرفية، وإنما وضعت لإيجاد معانيها إيجاداً كلامياً، فنسبة وضعها للمعاني المذكورة كنسبة وضع المطرقة للطرق والسكين للقطع، لا كنسبة وضع الأسماء للمعاني الذي يراد به وضعها لبيانها والحكاية عنها بنحو تكون قالباً لها. وكذا الحال في نسبة المعاني لها.

ويلحق بالحروف المذكورة في ذلك أسماء الإشارة والضمائر والموصولات ونحوها، فإنها أدوات لإحداث نحو من الإشارة للشيء - كلام التعريف - إما مطلقاً - كأسماء الإشارة - أو من حيثية معهوديته في الذهن - كضمائر الغيبة - أو من حيثية ما يتعلق به - كالأسماء الموصولة - فإن الإشارة في الجميع لا تقرر لها في نفسها مع قطع النظر عن الاستعمال، بل تتحقق به، كما هو الحال في الإشارة باليد التي تتحقق بالحركة الخاصة بقصدها.

نعم، لما كانت الإشارة تتعلق بمشار إليه له تقرر في نفسه مع قطع النظر عنها، وتبتني على التنبيه له، كان لهذه الأسماء نحو من الحكاية عنه وكانت مستلزمةً بطبعها لحضوره في الذهن.

دعوى إخطارية المعاني

وبهذا قد يدّعى أن لها معاني إخطارية، ولذا عُدَّت من الأسماء

ص: 114


1- سورة يس: 30

وشاركتها في وقوعها طرفاً للنسب المختلفة. فيتجه الكلام حينئذٍ في عمومها وخصوصها.

لكن الظاهر عدم كون المشار إليه معنىً مطابقاً وضعاً، ومحكياً بها حكاية المعنى باللفظ الموضوع له، بل هو يحضر بسببها في الذهن تبعاً لتحقق الإشارة بها، كما هو الحال في الإشارة الخارجية المبنية على مقتضى طبع الإنسان من دون وضع وتعيين، وبعد حضوره في الذهن يحسن جعله طرفاً للنسبة، كما يجعل المحكي باللفظ طرفاً لها.

ولذا لا يكون المشار إليه معنىً لها ولا مصداقاً لمعناها، مع قطع النظر عن مقام الاستعمال الخاص، كما تكون ذات زيد معنى للفظه ومصداقاً لمعنى لفظ (رجل) مع قطع النظر عن استعمالهما فيه.

وهذا نفسه يجري في الموصولات كما قد يظهر بالتأمل.

ومثلها في ذلك بعض الهيئات، كهيئة الأمر، فإنها مستعملة في إيجاد النسبة البعثية وإيجادها.

ودلالتها على الطلب النفسي الواقعي بالملازمة العرفية، لكونه الداعي لإنشاء النسبة المذكورة عرفاً.

وكذا أسماء الافعال، حيث كان الظاهر إبتناءها على إنشاء المعنى، فمفاد (هيهات) ليس هو الحكاية عن البعد، بل إدعاؤه وإنشاء الاستبعاد الذي لا وجود له إلا بالاستعمال.

كما أن مفاد (أف) إنشاء التضجر، لا الإخبار عن الضجر النفسي.

وبالجملة كون معاني جملة من الحروف والأسماء والهيئات الملحقة بها إيجادية أمر لا إشكال فيه.

ص: 115

وإنما الإشكال في ما يتضمن النسب التي لها ما بإزاء خارج عن الكلام، له نحو تقرر في نفسه مع قطع النظر عنه، يكون المعيار في صدق الكلام وكذبه مطابقته للخارج بتحققه في عالمه وعدمها، كأكثر حروف الجر وحروف الشرط والحصر ونحوها، والهيئات الكلامية الدالة على النسب التامة - كهيئة الجملة الاسمية والفعلية غير الطلبية - والناقصة - كالإضافة والحال والتمييز وغيرها - وهيئات المفردات الاشتقاقية، لأنها وإن لم تتصف بنفسها بالصدق والكذب، إلا أنها لما كانت قيوداً في النسب التامة المتصفة بهما، كان وجود المطابق الخارجي لها وعدمه دخيلين في مطابقة تلك النسب للخارج وعدمه وفي صدقها وكذبها، وهو يستلزم تقرر مفاد تلك النسب مع قطع النظر عن الكلام..

ومن ثم قد تتجه دعوى: إن معاني تلك الحروف والهيئات إخطارية.

الاستدلال على كلية المعاني الحرفية

ويقع الكلام حينئذٍ في أنها كلية أو جزئية، وأن وضعها من القسم الثاني أو الثالث، بعد معلومية عدم كونه من القسم الأول.

وقد يستدل على كليتها: بصلوحها للحكاية عما لم يقع من النسب في القضايا المستقبلة ونحوها مع وضوح انطباقه على أكثر من وجه واحد وعدم أخذ خصوصية فردية فيه، لتبعية التشخص للوجود، وذلك راجع إلى كلية مفاهيمها وانطباقها على كثيرين، فكما يكون السير في قولنا: سر من البصرة إلى الكوفة، كلياً فلتكن نسبته للبصرة المستفادة من (من) ونسبته لفاعله المستفادة من هيئة الفعل كليتين أيضا. وكذا الحال فيما إذا حكي بها عن أكثر من نسبة واحدة، كما في قولنا: «ساروا من البصرة، وكما في القضايا الحقيقية، كقولنا: من سار من البصرة ندم. فإنه يناسب الحكاية بها عن مفهوم

ص: 116

كلي ينطبق على كثيرين، لا عن مفهوم جزئي متشخص في واحد».

وتشخص مؤداها من النسب وجزئيته فيما لو كان موجوداً في القضايا الحالية والماضية الجزئية - كما في قولنا: سرت من البصرة - إنما هو لملازمة الوجود للتشخص، لا لأخذ الخصوصية الشخصية في المفهوم، لوضوح عدم اختلاف مفادها في القضايا المذكورة مع مفادها في القضايا المستقبلة ونحوها. فالخصوصية من مقارنات مفادها لا مقومة له.

كما هو الحال في المفاهيم الاسمية الكلية التي قد يراد المتشخص لقرينة مع أخذ الخصوصية في مفهومها.

وقد أصر غير واحد على جزئية المعنى مع بنائهم على كونه إخطارياً له نحو من التقرر مع قطع النظر عن الكلام، ولم يتضح لنا من كلماتهم ما يصلح للجواب عما سبق، فلا مجال لإطالة الكلام فيه.

كما لا مجال لإطالته في حقيقة المعنى الحرفي وأنه متحد مع المعنى الاسمي مفهوماً، أو مباين له حقيقةً، وإن أطالوا في ذلك، لعدم وضوح الثمرة لذلك.

والمهم إنما هو الكلام في كونه إيجادياً أو إخطارياً الذي يترتب عليه الكلام في كليته وجزئيته، ومقتضى ما سبق كونه إخطارياً كلياً.

توجيه عليه السلام إيجادية المعاني الحرفية

هذا، ولكن التأمل في حال بعض النسب الكلامية شاهد بأن انتزاع الصدق والكذب لا يتوقف على كون الحرف حاكياً عن واقع متقرر مع قطع النظر عنه، بل قد يكون مع حدوث نحو من النسبة به لا تقرر لها لولاه.

ولا وجود لها بدونه، فهي إيجادية لا إخطارية، كما هو الحال في نسبة الاستثناء، حيث لا تقرر لها في نفسها، بل هي محض اعتبار قائم

ص: 117

بالكلام متفرع على اعتبار عموم الحكم، فليس في الواقع مع قطع النظر عن الكلام إلا ثبوت الأمر المحكوم به لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه وانتفاؤه، عن المستثنى، ولا يختلف في واقعه، سواء كان بإثبات الحكم لموضوعه ونفيه عما عداه بأن يقال مثلا: تقبل شهادة العادل ولا تقبل شهادة غيره، أم بإثبات الحكم للكل ثم الاستثناء منه، بأن يقال: لا تقبل شهادة أحد إلا العادل.

فإن ذلك يكشف عن عدم المطابق للنسبة الاستثنائية المؤداة بأدواته وعدم التقرر لها بواقع محكي بالأداة حكاية المعنى باللفظ.

وإنما يكون الواقع معياراً في الصدق والكذب بلحاظ كونه مصححاً لاعتبار النسبة عند أهل اللسان في مقام البيان، بحيث تساق النسبة لبيانه ويكون بيانه داعياً لاعتبارها، لا أن الداعي مجرد وجوده، كما سبق في مثل الاستفهام النفسي مع الاستفهام اللفظي.

فليس الفرق بين أدوات الاستفهام - مثلا - وأدوات الاستثناء في أن الأولى موجدةً لمعانيها والثانية حاكيةً عنها، بل ينحصر الفرق بينهما - بعد اشتراكهما في كون معانيهما إيجادية - في أن الثانية موجدةً لمعانيها بداعي بيان أمر له نحو من التقرر مصحح لاعتبارها عرفاً، بخلاف الأولى حيث لا يكون هناك ما يصحح انتزاعها ويكون مقصوداً بها، وإن كان لابد من غرض مصحح لجعلها واعتبارها غير البيان، كرفع الجهل بالأمر المستفهم عنه وبهذا افترقا في قبول الاتصاف بالصدق والكذب وعدمه.

ولعل مثل أدوات الاستثناء في ذلك بعض أدوات العطف والاضراب فإن مفادها - وهو التشريك في الحكم أو التفريق فيه - نحو من النسبة القائمة

ص: 118

بالكلام، والتي هي من شؤون الكلام ولواحقه المتقومة به، من دون أن يكون له مطابق خارجي محكي عنه به حكاية المعنى بلفظه، بل ليس في الواقع إلا ثبوت الأمر المحكوم به أو عدمه في موردهما، وإن اتصف الكلام المشتمل عليهما بالصدق أو الكذب بلحاظ الواقع المذكور.

كما لعله الحال - أيضاً - في بعض الأدوات الأخرى المتضمنة للنسب الواقعة في الكلام القابل للاتصاف بالصدق والكذب، كما قد يظهر بمزيد من التأمل في موارد استعمالها، وإن ضاق الوقت عن استقصائها.

وإذا ثبت عدم ملازمة اتصاف الكلام بالصدق والكذب لكون معاني الأدوات إخطارية، بل يمكن مع كونها إيجادية، فلا طريق لإثبات إخطارية المعنى في جميع الحروف والهيئات، بل ربما تكون إيجادية، بأن تكون جميعاً أدوات لتحقيق نحو من النسبة الكلامية اعتباراً، وإيجاد الربط الكلامي في مقام البيان، وإن كان الغرض من بعضها هو بيان الواقع الخارجي، وحال أطراف القضية بعضها مع بعض في الخارج، الذي هو المصحح لاعتبار النسبة الكلامية المجعولة بأدواتها عند أهل البيان بمقتضى ارتكازياتهم، ومعياراً في الصدق والكذب بنظرهم.

وعلى هذا أصر بعض الأعاظم قدس سره.

تأييد التوجيه المذكور

ولعله الأقرب، كما يناسبه ما هو المعلوم من إمكان بيان الواقع الواحد بصور مختلفة، وبأكثر من نسبة واحدة مختلفة المفاد، من دون اختلاف فيما يبين بها من واقع، فكما يصح أن يقال: (سرت من البصرة) - مثلا - يصح أن يقال: (كان سيري من البصرة) و (مبدأ سيري البصرة) و (بدأت بالسير من البصرة)، وكما تقول: (سافر زيد)، تقول: (تحقق السفر من زيد) و (تحقق

ص: 119

سفر زيد).

فلولا أن النسب اعتبارات محضة لا تتقيد بواقعٍ واحد لكان المناسب عدم الحكاية عن الواقع الواحد إلا بنسبة واحدة، وإن اختلفت ألفاظها من باب الترادف، لا بنسب مختلفة، كما تقدم.

كما يناسب ما ذكرنا - أيضاً - ما هو المحسوس بالوجدان من عدم أداء الحروف والهيئات لمعانيها إلا في مقام استعمالها في تركيب كلامي، بخلاف الأسماء، فإنها لما كانت قالباً لمعانيها بما لها من واقع قائم بنفسه، متقرر في عالمه، أمكن تصور مسمياتها، وحكايتها عنها وإن لم تكن في ضمن تركيب كلامي.

فهي بملاحظة المرتكزات أدوات للبيان، يتحقق بها الربط البياني بين أطراف الكلام المتشتتة، يجري الإنسان فيها بمقتضى المرتكزات البيانية التي أودعها الله جلت قدرته فيه، فكما أدرك بهذه المرتكزات الجاجة في البيان للأسماء للحكاية بها عن مسمياتها المتقررة في عالمها، كذلك أدرك بها الحاجة للحروف لجعل النسب، لترتبط تلك المعاني بعد تفرقها وتنتظم بعد تشتتها، كي يتم بيان حال بعضها مع بعض، وإن لم تتمحض في بيان ذلك.

ولعل هذا هو منشأ الآلية التي تمتاز بها الحروف، وتسالموا عليها تبعاً للفارق الارتكازي بينها وبين الأسماء، لأنها آلات لإيجاد معانٍ لا استقلال لها بنفسها، بل هي قائمة بغيرها، فلا مجال لتصورها وإيجادها إلا في ظرف تصوره والحكاية عنه، حسبما يقتضيه تركيب الكلام، وإلا خفي وجه كون المعنى الذي له تقرر مفهومي وخارجي في نفسه آلياً، لا يتصور ولا يؤدى

ص: 120

إلا في ضمن الكلام، مع ما هو المعلوم من سعة الذهن، وإنطلاقه في مقام التصور والتعقل.

وقد قيل في الآلية غير ذلك، مما يضيق الوقت عن التعرض له، وتعقيبه.

وعلى هذا يتعين البناء على أن المعاني الحرفية التي كانت الحروف أدوات لإيجادها جزئية، لأن الأمر القابل للإيجاد هو الجزئي لا الكلي، وإن كان الكلي معياراً في تحديد تلك الجزئيات التي أعدت الحروف لإيجادها، نظير الوضع العام والموضوع له الخاص، وإن خالفه في كون الوضع هنا لإيجاد الخاص، لا للحكاية عنه.

ولا يفرق في جزئيته بين كون القضايا التي وردت فيها واقعة وكونها غير واقعة، حاكية عن نسبة واحدة أو متعددة ف (من) - مثلاً - في كل من قولنا: (سرت من البصرة) و (ساروا من البصرة) و (أسير من البصرة) و (سر من البصرة) و (من سار من البصرة ندم) لا تقتضي إلاّ جعل نسبة خاصة بين السير والبصرة، بداعي بيان حال السير والبصرة في الخارج، إلّا أنها في القضية الواقعة الحاكية عن نسبة واحدة حيث كانت حاكية عن حال واقع فلا بد من كونه جزئياً، متشخصاً، أما في الباقي فهي حاكية عن حال يقع ولم يتشخص بعد أو عن حال تشخص في أكثر من واحد، كلي قابل للانطباق على كثيرين، من دون أن يستلزم ذلك اختلافاً في معناها، بل هو جزئي لا غير.

وبهذا يمكن الجمع بين ما هو المرتكز من جزئية المعاني الحرفية، وورودها في ضمن قضايا غير واقعة، الذي سبق تعذره، بناءً على أن معانيها

ص: 121

إخطارية.

ومنه يظهر أن ذلك المعنى الجزئي الحاصل بها ليس مصداقاً للمفاهيم الكلية المذكورة في بيان معاني هذه الحروف، كالابتداء والانتهاء والظرفية ونحوها، لأن جزئيات تلك المفاهيم لها نحو من التقرر، من دون أن تكون تابعةً للكلام ولا مسببة عنه، وإنما هو المنشأ الخارجي المصحح لاعتبارها وجعلها في مقام البيان، والمقصود بالحكاية منها.

وأما ما اشتهر من تفسير معاني الحروف بالأمور المذكورة، فليس لكون هذه الأمور بمفاهيمها أو بمصاديقها مدلولة لها ومحكية بها حكاية المعنى بلفظه، بل لضيق التعبير، حيث يصعب بيان حقيقة الاعتباريات، مع عدم الغرض في معرفتها، بل المهم معرفة الخارج المستفاد منها الملازم لها، فعدل إلى بيانه.

ولعل في محكي كلام السكاكي في المفتاح إشارة إلى ما ذكرنا، قال: «المراد بمتعلقات معاني الحروف ما يعبر عنها عند تفسير معانيها، مثل قولنا: «من» معناها ابتداء الغاية، «وفي» معناها الظرفية، و «كي» معناها الغرض، فهذه ليست معاني الحروف، وإلاّ لما كانت حروفا، بل أسماء، لأن الاسمية والحرفية إنما هي باعتبار المعنى، وإنما هي متعلقات لمعانيها. أي: إذا أفادت هذه الحروف معاني ترجع تلك المعاني إلى هذه بنوع استلزام».

ولعل ما سبق في حقيقة المعنى الحرفي أقرب ما قيل فيه، وأنسب بملاحظة خصائصه ولوازمه. وإن كان للتأمل بعد مجال. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.

ص: 122

تنبيهان:

تنبيهان:

الأول: في ثمرة النزاع

الأول: ربما تجعل ثمرة النزاع في كلية المعنى الحرفي وجزئيته قبوله للتقييد لو كان كلياً وعدمه لو كان جزئياً، لأن التقييد والإطلاق متقابلان تقابل العدم والملكة، فلا يصح اعتبار كل منهما إلا في موضوع قابل لهما، وحيث لا يقبل الجزئي الإطلاق لا يقبل التقييد.

ويترتب على ذلك الكلام في رجوع القيد في الواجب المشروط للهيئة ذات المعنى الحرفي، أو للمادة ذات المعنى الاسمي.

ولذا تعرضوا لهذا الأمر هناك، إلا أن الأنسب ذكره في المقام، لأنه من ثمراته من دون خصوصية لتلك المسألة.

وكيف كان فقد استشكل في الثمرة المذكورة بوجوه.

الإشكال على الثمرة بوجوه الأول: ما ذكره الخراساني قدس سره ومناقشته

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في مبحث الواجب المشروط من أن جزئية الطلب المنشأ - لكونه معنىً حرفياً - إنما تمنع من تقييده بعد إنشائه، لا من إنشائه مقيداً من أول الأمر.

وكأن مراده بذلك أن التقييد المصطلح يبتني على كون المراد من موضوعه الذات القابلة للتقييد والإطلاق، وجعلها طرفاً لنسبة التقييد مع القيد، فيختص بالكلي الصالح في نفسه للسريان والشمول، دون الجزئي، إلا أنه يمكن قصر الجزئي وتضييقه بوجه آخر، بأن يراد منه - ابتداءً - واجد القيد، فلا يحتاج حينئذٍ للتقييد، ويكون الشرط - في المقام - متمحضاً في القرينية على إرادة واجد القيد من الطلب، من دون أن يرجع للتقييد.

ويشكل: - مضافاً إلى ما هو المرتكز من عدم اختلاف مفاد الهيئة حال

ص: 123

وجود القيد عن حال عدمه وعدم تمحض الشرط في القرينية المذكورة، بل هو مبتنٍ على نحو من التقييد، نظير القيود الواردة على الماهية القابلة لذلك - بأن امتناع تقييد الجزئي ليس من حيثية لحاظ التقييد، كي لا يلزم في الوجه الذي ذكره، بل لعدم شيوعه وسريانه، وهو يقتضي امتناع التضييق فيه مطلقاً، سواء كان بالتقييد أم بإرادة المقيد ابتداءً.

إلا أن يرجع ما ذكره إلى إرادة جزئي آخر مباين للجزئي الذي لم يتضيق مفهوماً وحقيقةً، يكون الاختلاف بينهما كالاختلاف بين الكبير والصغير. لكنه خروج عن مفروض الكلام من كون المقيد من سنخ المطلق، مؤدى بنفس أداته.

الثاني: ما ذكره العراقي قدس سره ومناقشته

الثاني: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الجزئي لا يقبل التقييد الأفرادي دون الأحوالي.

وفيه: أن الأحوال لما لم توجب تحصيص الجزئي وتفريده إمتنع كونها قيوداً له، وإنما تكون قيوداً للحكم الطارئ عليه، فنجاسة الماء الخاص المتغير بقيد بقاء تغيره لا ترجع إلى أخذ التغير قيداً في الماء النجس، بل إلى أخذه قيداً للحكم بنجاسته الذي هو مفاد الهيئة، فيدخل في محل الكلام من امتناع تقييد المعنى الحرفي.

نعم، لا بأس بتقييد الكلي بالأحوال، لأنها مخصصة ومفردة له، كتقييد الإنسان الذي تقبل شهادته بالعدالة.

الثالث: ما يظهر من السيد الحكيم ومناقشته

الثالث: ما يظهر من سيدنا الأعظم قدس سره في مبحث الواجب المشروط - توجيهاً لما سبق من المحقق الخراساني قدس سره - من أن المعنى الحرفي وإن كان جزئياً، ومنه النسبة الطلبية الخاصة، إلا أن تخصص النسب إنما هو

ص: 124

بتخصيص أطرافها، فيجوز تخصيصها بخصوصية الشرط.

وفيه: أنه إن أريد أن الشرط طرف للنسبة الطلبية، فمن الظاهر أن أطراف النسبة الطلبية في الواجب المشروط والمطلق ليس إلا الطالب والمطلوب منه والمطلوب، وليس الشرط طرفاً لها، بل هو خارج عنها، له نحو من الدخل فيها، وإنما يتجه ذلك في خصوص بعض النسب، التي تقوم بأطراف قليلة تارة وكثيرة أخرى، كنسبة التعاند التي تتضمنها القضية المنفصلة، فكما يقال: «إما أن يكون في الدار زيد أو عمرو»، يقال: «إما أن يكون في الدار زيد أو عمرو أو خالد»، من دون تبدل في حقيقة النسبة، ولا يكون الطرف الزائد قيداً فيها، بل مقوماً لها كسائر أطرافها، وليس هو كالشرط في النسبة الطلبية.

وإن أريد أن دخل الشرط في النسبة الطلبية موجب لنحو من التحديد لها فهو وإن كان مسلماً في الجملة، إلا أنه لابد من توجيه دخله فيها، بعد فرض عدم تقومها به، لخروجه عن أطرافها، لأن أخذه في النسبة نفسها راجع إلى نحو من التقييد للمعنى الحرفي، الذي هو محل الكلام، وأخذه في المطلوب اعتراف بما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره مستدلاً عليه بأمتناع تقييد المعنى الحرفي لكونه جزئياً، فلا يكون تخلصاً منه.

ما ينبغي أن يقال

والذي ينبغي أن يقال: إن جزئية المعنى الحرفي إنما تمنع من نحو خاص من التقييد، وهو الراجع إلى قصر المراد الجدي من الماهية على بعض أفرادها الخارجية ويقابله الإطلاق الراجع الى إرسال الماهية وسريانها في تمام أفرادها، وعدم خصوصية بعض الأفراد في المراد الجدي منها، وهو التقييد بمثل لسان التوصيف، لوضوح أن الجزئية وعدم تكثر

ص: 125

الأفراد لا تناسب التقييد المذكور.

أما ما لا يرجع إلى ذلك من التقييد، بل إلى نحو من التضييق الراجع إلى قصور في وجود ما يطابق المعنى فالجزئية لا تمنع منه، إذ كما تمكن السعة في الوجود الواحد يمكن فيه الضيق.

ومن الظاهر أن تقييد الهيئة بالشرط لا يرجع إلى الأول، فهو لا يقتضي كون المراد بالهيئة ماهية الوجوب المقصورة على خصوص الواجد للشرط من أفرادها، كما لا يقتضي إطلاقها ماهيته بتمام أفرادها، بل ليس مقتضاه إلا إناطة الوجوب الخاص المنشأ، وتعليقه على الشرط بنحو يقصر عن حال فقده، في قبال إطلاقها المقتضي لسعة الوجوب الواحد وسعة وجوده لكل حال، فالفراق بينهما نظير الفرق بين الزوجية الدائمة والزوجية المنقطعة الذي لا يرجع إلى كثرة الأفراد وقلتها، بل إلى سعة الوجود وضيقه.

ولعل هذا هو مراد بعض المحققين من دعوى الفرق بين التقييد بمعنى التعليق والتقييد بمعنى تضييق دائرة المعنى، وأن الممتنع هو الثاني واللازم في المقام الأول.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره من امتناع رجوع الشرط للهيئة

ومن الغريب ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من امتناع رجوع الشرط للهيئة لما تقدم من امتناع تقييد الجزئي، مع إعترافه بأنه مقتضى القواعد العربية، مع وضوح أن القواعد العربية ارتكازية يتبعها الظهور النوعي، فكيف يكون مقتضى الارتكاز والظهور النوعي ممتنعاً في نفسه؟! بل ينبغي جعل ذلك كاشفاً عن خلل في بعض مقدمات المدعى.

ما ذكره النائيني قدس سره من الامتناع المذكور ودفعه

ثم إن بعض الأعاظم قدس سره ذكر وجهاً آخر لمنع رجوع الشرط للهيئة، وهو: أن الإطلاق والتقيد إنما يعرضان على المفاهيم الاسمية الملحوظة

ص: 126

بالاستقلال دون المفاهيم الحرفية التي هي آلية يتعذر لحاظها استقلالاً.

لكنه يندفع: بأن آلية المعنى الحرفي وإن ذكرت في كلماتهم بنحو قد يظهر في التسالم عليها، إلا أن المراد بها لا يخلو عن غموض، والمتيقن منها ما سبق من عدم تقرر معنى الحرف في نفسه بنحو يستقل بالتصور، بل هو قائم بأطرافه فلا يؤدى به إلا عند إيجاده في ضمن الكلام في مقام الاستعمال، وذلك إنما يقتضي امتناع التقييد الراجع إلى قصر الماهية على بعض أفرادها، لأنه فرع تقرر المعنى في نفسه بنحو يوجد في ضمن أفراده، ولذا كان امتناع التقييد المذكور مقتضى المرتكزات الاستعمالية أما التقييد بالنحو الاخر الراجع إلى محض التضييق، كتضييق النسبة الطلبية بالشرط في المقام فالوجه المذكور لا ينهض بالمنع عنه، بل هو كتحديد النسبة بأطرافها، فلا مجال للمنع منه، ولاسيما مع ما عرفت من مطابقته للارتكاز، حيث يصلح ذلك بنفسه للكشف إجمالاً عن خلل في وجه المنع، وإن خَفِيَ تفصيلاً.

نعم، لا يراد بذلك كون الشرط مضيقاً للنسبة في الخارج، لما سبق من تقوم معاني الحروف، وهي النسب الخاصة بالاستعمال، وليس الخارج إلا مصححاً لاعتبارها.

بل المراد كونه موجباً لنحو من التضييق لها في مقام الاستعمال، ويكون أثره تضييق ما يطابقها في الخارج، بخلاف ما لو لم يذكر الشرط، فالوجوب الخارجي المصحح لاعتبار النسبة الطلبية، والمتحقق بسببها كما يكون له نحو من السعة مع عدم تقييدها بالشرط يكون مضيقاً ومختصاً بحال وجود الشرط في الخارج مع تقييدها به.

ص: 127

التنبيه الثاني في الخبر والإنشاء

التنبيه الثاني: سبق أن الحروف والهيئات..

تارة: تتمحض في كونها موجدةً لمعانيها من دون نظر للخارج، كحروف التمني، والاستفهام، وهيئة الأمر، وغيرها.

وأخرى: تكون مسوقةً لإيجاد نحو من الربط والنسب الكلامية بداعي الحكاية عما يكون مصححاً لاعتبارها في الخارج.

أما الأولى فهي متمحضة في الإنشاء، ولا تتصف بالصدق والكذب.

وأما الثانية فإن كانت نسباً ناقصة كانت قيوداً للنسب التامة أو لموضوعاتها، وإن كانت نسباً تامة صدق الخبر عليها، واتصفت بالصدق والكذب بلحاظ مطابقتها للخارج المحكي بها، وعدمها.

إلا أنها قد تخرج عن ذلك ويقصد بها الإنشاء وإيجاد مضمونها اعتباراً، كما في صيغ العقود والإيقاعات، وقد وقع الكلام في منشأ الفرق بين الأمرين.

ما ذكره الخراساني قدس سره من تعدد وضع الهيئة بلحاظ اختلاف الداعي والمناقشة فيه

وظاهر المحقق الخراساني قدس سره تعدد وضع الهيئة بلحاظ اختلاف الداعي للاستعمال، مع وحدة المعنى الموضوع له والمستعمل فيه، فالخبر موضوع للمعنى ليستعمل فيه بداعي الحكاية عنه، والإنشاء موضوع له ليستعمل بداعي تحققه وثبوته.

لكنه يشكل: - مضافاً إلى ما يأتي من اختلاف المعنى فيهما - بأن تعدد الوضع يقتضي الاشتراك واحتياج كل من الأمرين للقرينة، مع أن الظاهر استغناء الخبر عن القرينة وكونه الأصل في الكلام، وأن الإنشاء مبني على نحوٍ من العناية ومفتقر للقرينة.

ومن هنا قد يحمل كلامه قدس سره على أنه ليس بصدد بيان تعدد الوضع، بل

ص: 128

بصدد بيان أن الفرق بين الأمرين راجع إلى اختلاف الغرض من الاستعمال، من دون أن يرجع إلى اختلاف المعنى المستعمل فيه، بل هو واحد في كلا الحالين.

استعمال صيغة الماضي في الإنشاء

إلا أنه يشكل: - أيضاً - بما هو المعلوم من استعمال صيغة الماضي والجملة الاسمية في الإنشاء، مع تجرد الأولى عن الخصوصية الموجبة للدلالة على الماضي، والثانية عن الخصوصية الدالة على الحال، حيث لا يراد به إلا تحقق الأمر المنشأ بعد الكلام.

بل حتى استعمال صيغة المضارع لو لم يبتن على نحو من التصرف في معناها لم يقتض تحقق المنشأ متصلاً بالكلام والإنشاء، لصلوح الفعل المضارع للحال وتمام أزمنة الاستقبال، فإن ذلك كله كاشف عن اختلاف ما تستعمل فيه الهيئة حال الخبر عما تستعمل فيه حال الإنشاء.

ومن هنا لا يبعد البناء على اختصاص الهيئات المذكورة وضعاً بإيجاد النسب التامة بداعي الحكاية عما يصحح اعتبارها في الخارج، ويكون استعمالها في مقام الإنشاء مبنياً على نحو من التوسع أو الادعاء بالنحو المناسب له.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك فيما لا يراد به إنشاء المادة، بل بيان مطلوبيتها أو مبغوضيتها أو عدمها، كاستعمال مثل: «يعيد» و «يغتسل» لبيان مطلوبية الإعادة والغسل، ومثل: (لا يقضي) لبيان عدم وجوب القضاء، ومثل: (يأخذ الجنب من المسجد ولا يضع فيه) لبيان حرمة الوضع دون الأخذ.

وربما يأتي في مبحث دلالة الجملة الخبرية على الطلب توجيه مثل

ص: 129

هذه الاستعمالات، وبيان مباينها.

الأمر الرابع: الاستعمالات المبنية على مقتضى الطبع

الأمر الرابع: لما كان الجري على مقتضى الوضع التعييني والتعيني مقتضى سيرة أهل اللسان المتبعة في مقام البيان، التي جروا عليها بمقتضى ارتكازياتهم، كان المعيار في صحة الاستعمال سيرتهم الارتكازية في مقام التفهيم والتفاهم، وإن لم تستند للوضع، بل لمقتضى أذواقهم وطبائعهم، كما هو الظاهر في بعض الاستعمالات الشائعة بينهم، والمألوفة لهم.

موارد الاستعلامات المذكورة

منها: الاستعمالات المجازية، لو قلنا بأبتنائها على استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فإن الظاهر حينئذٍ ابتناؤها على إستحسان الطبع، لا على نقل اللفظ ووضعه وضعاً شخصياً لمعناه المجازي، ك (الأسد) للرجل الشجاع في طول وضعه لمعناه الحقيقي، بنحو بتني على ملاحظة العلاقة مع المعنى الحقيقي، ويحتاج استعماله فيه للقرينة، ولا على نقل الألفاظ ووضعها وضعاً نوعياً بلحاظ العلاقات المجازية المختلفة، كعلاقة المشابهة والملازمة وغيرهما، ولا على ترخيص الواضع في الاستعمال فيما يناسب المعنى من دون نظر إلى خصوصيات العلائق المجازية. فإن ذلك كله كالمقطوع بعدمه بالنظر لارتكازيات أهل البيان، وسيرة المستعملين.

حيث يبطل الأول تعذر حصر الموارد التي تصح الاستعمالات المجازية فيها عادةً، ليمكن الوضع لها تعييناً أو تعيناً.

والثاني عدم إطّراد استعمال كل لفظ بلحاظ كل علاقة مجازية.

ويبطلهما معاً ما هو المعلوم من عدم توقف اختيارهم للعلاقة المجازية أو موردها على سبق الاستعمال عند أهل اللسان بنحو يتحقق معه الوضع، بل كلما كانت المعاني مخترعة مبتدعة للمستعمل كان (مجلياً).

ص: 130

ويبطل الثالث ما سبق من عدم وجود واضع خاص في غالب الألفاظ، وعدم صدور الترخيص المذكور ممن يتصدى للوضع في مثل الأعلام الشخصية والماهيات المخترعة، بل ليس المدار إلا على مقتضى طبع المستعملين وأذواقهم. ولذا اشترك في كثير من العلاقات أهل اللغات المختلفة.

نعم، بناءً على ابتناء الاستعمالات المجازية على ادّعاء دخول المستعمل فيه في المعنى الموضوع له - كما عن السكاكي - تكون مبنيةً على الوضع للمعنى الحقيقي، لا خروجاً عليه، ويكون الطبع والذوق مصححاً للجري على الادّعاء المذكور، فيخرج عن محل الكلام.

ومنها: الاستعمالات التابعة لظروف خاصة بين بعض المتخاطبين، التي يخرجون فيها عن قانون أهل الكلام لدواعٍ تخصهم، وظروف تحيط بهم، حيث لا يعاب ذلك منهم بعد أن يتأدى به البيان، ويحصل به الغرض الأعم، وإن لم يجر على الوضع ولا على ملاحظة العلاقات المجازية.

ومنها: استعمال اللفظ وإرادة اللفظ دون المعنى في مثل قولنا: «ضَرَبَ» فعل ماض، و «مِنْ» حرف جر، فإنه لا يبتني على وضعها لذلك، ولا على استعمالها فيه مجازاً، لعدم العلاقة المصححة لذلك، بل على محض الجري على مقتضى طبع الإنسان في تأدية مقاصده بما يتيسر له من بيان. وإن كان الوقت يضيق عن تحقيق حاله وتفصيله.

وربما كانت هناك بعض الوجوه الأُخَرْ التي لا يبتني فيها الاستعمال على متابعة الوضع والجري عليه، بل على مقتضى الطبع.

نعم، لا ينبغي التأمل في أن الاستعمالات المذكورة على خلاف

ص: 131

مقتضى الأصل المعول عليه عند العقلاء وأهل اللسان، فيحتاج إلى قرينة، وبدونها يحمل استعمال اللفظ على إرادة معناه الموضوع له، لأن ذلك هو مقتضى الطبع الأولي الذي يجري عليه أهل اللسان في تفهيم المقاصد وفهمها، وإن أمكن الخروج عنه بالقرينة.

الأمر الخامس: علامات الحقيقة

الأمر الخامس: حيث عرفتَ حقيقة الوضع وأقسامه ثبوتاً يقع الكلام هنا في طريق إحرازه إثباتاً، ولا يراد بإحرازه إحرازه بالحجة الظنية التي تكفي في مقام العمل، لأن ذلك موكول لمباحث الحجج، حيث وقع الكلام هناك في حجية قول اللغويين، بل المراد هو العلم الوجداني بالنظر لبعض آثاره ولوازمه، وقد ذكروا لذلك أموراً:

الأول: التبادر

الأول: التبادر، وهو عبارة عن انسباق المعنى من اللفظ بنفسه، بحيث يكون اللفظ هو المؤدي له والموجب لحضوره في الذهن، لوضوح أن العلاقة المذكورة بين اللفظ والمعنى لا تستند لغير الوضع، فتدل عليه دلالة الأثر على المؤثر.

الإشكال في علاميته ودفعه

وقد يشكل: بأن مجرد الوضع لا يكفي في التبادر ما لم يكن معلوماً، فالتبادر موقوف على العلم بالوضع، فإن كان مع ذلك موجباً للعلم بالوضع الذي هو علته لزم الدور - كما قرر في كلام جماعة - وإن كان موجباً لفرد آخر من العلم بالوضع لزم اجتماع فردين من العلم بالوضع، لأن العلم الأول لا يزول بحصول التبادر، وهو - مع إستحالته في نفسه، لأمتناع اجتماع المثلين - موجب للغوية علامية التبادر على الوضع - كما نبّه له بعض الأعيان المحققين قدس سره - لكفاية العلم الأول بالوفاء بالغرض.

ويجاب عن ذلك بما في كلام جماعة: من أنه يكفي في حصول

ص: 132

التبادر العلم الارتكازي بالمعنى بسبب الإطلاع على استعمالات اللفظ المختلفة، وإن لم يلتفت إليه تفصيلاً بنحو يعمل عليه ويرتب عليه الأثر، ويتجلى مفاد الارتكاز المذكور بنحو يترتب عليه العلم بالتبادر، فما يترتب على التبادر نحو من العلم مخالف لنحو العلم الذي يتوقف عليه التبادر، لا عينه ولا مثله.

نعم لابد من العلم باستناد التبادر لحاق اللفظ من دون دخل قرينة عامة أو خاصة فيه، فلو لم يعلم بذلك لا مجال لاستكشاف الوضع منه.

ودعوى: أن الأصل عدم القرينة.

دعوى: أصالة عدم القرينة في إثبات التبادر ودفها

مدفوعةً - مضافاً إلى أن الكلام فيما يوجب العلم الوجداني بالوضع، ولا ينهض به الأصل المذكور، بل غايته لزوم العمل عليه تعبداً - بأن الأصل المذكور إن رجع إلى الاستصحاب فهو مثبت، لعدم كون الملازمة بين الأثر المطلوب - وهو حجية الكلام في المعنى المتبادر إليه - وعدم القرينة شرعية، بل خارجية بتوسط الملازمة بين عدم القرينة واستناد التبادر لحاق اللفظ، وبين استناده لحاق اللفظ وتحقق الوضع للمعنى، وبين الوضع للمعنى وظهور الكلام فيه، وبين ظهوره وحجيته فيه.

وإن كان أصلاً عقلائياً مستقلاً في نفسه مع قطع النظر عن الاستصحاب الشرعي فلم يثبت بناءً العقلاء عليه في تشخيص حال التبادر أو الاستعمال مع الشك في الوضع، بل غاية ما ثبت من أهل اللسان الاعتماد عليه في تشخيص حال الاستعمال مع العلم بالوضع لو احتمل خروج المستعمل عن المعنى الموضوع له اتكالاً على قرينة غفل عنها السامع.

ولعل وجه الفرق: أن هم أهل اللسان وعامة العقلاء معرفة مراد

ص: 133

المتكلم للعمل عليه، فلو بني على التوقف عن حمله على المعنى الموضوع له بمجرد احتمال قرينة مغفول عنها سقطت فائدة الكلام في كثير من الموارد، لعدم الإحاطة بمحتملات القرينة حتى يتسنى للمتكلم سدها بالطرق القطعية. ولعل غفلة المتكلم كثيراً عن الاحتمال المذكور، كيحاول التحرز عنه.

أما تحقيق كيفية التبادر أو الاستعمال بعد معرفة المعنى المتبادر إليه، أو المستعمل فيه، وأنه مستند لحاق اللفظ ليكشف عن الوضع أو للقرينة فلا يكشف عنه، فهو هم الخاصة ممن إستجدت لهم الحاجة لتحقيق المعنى الموضوع له، ولا غرض فيه لعامة العقلاء وأهل اللسان ليتضح موقفهم فيه بما لهم من مرتكزات بيانية وسيرة عملية، كي يعلم جري الشارع على سيرتهم.

ومنه يظهر عدم صحة الاستدلال على الوضع للمعنى باستعمال أهل اللغة فيه، تحكيماً لأصالة الحقيقة، ودفعاً لاحتمال المجاز والقرينة.

الثاني: صحة الحمل

الثاني: صحة الحمل وعدم صحة السلب. فقد ذكروا أن حمل اللفظ بما له من معنى على شيء، وعدم صحة سلبه عنه علامة كونه حقيقة فيه، كما أن عدم صحة حمله عليه، وصحة سلبه عنه علامة عدم كونه حقيقة فيه، كما أن عدم صحة حمله عليه، وصحة سلبه عنه علامة عدم كونه حقيقةً فيه، بل مجازاً لو كان مستعملاً فيه.

وتوضيح ذلك: أنهم ذكروا أنه لابد في حمل أحد الشيئين على الآخر من جهة اتحاد بينهما وجهة اختلاف، إذ لو اتحدا من جميع الجهات كانا شيئاً واحداً، ولا يحمل الشيء على نفسه، وإن كانا مختلفين من جميع

ص: 134

الجهات كانا متباينين، ولا يحمل أحد المتباينين على الآخر.

ومن هنا فالحمل عندهم قسمان:

أقسام الحمل أولهما: الحمل الأولي

أولهما: الحمل الأولي الذاتي، وهو الذي يكون ملاكه الاتحاد مفهوماً والتغاير بالاعتبار، كحمل أحد اللفظين المترادفين بما له من المعنى على الآخر(1)، في مثل قولنا: «الإنسان هو البشر»، وحمل الحد التام على الماهية كقولنا: «الإنسان حيوان ناطق»، أو العكس، كقولنا: «الحيوان الناطق هو الإنسان»، فإن صح الحمل المذكور بين الشيئين، ولم يصح سلبه علم وضع أحد اللفظين لمعنى الآخر، وكونه حقيقة فيه، وإن صح سلبه عنه، ولم يصح حمله عُلِمَ عدم وضعه له، وكونه مجازاً فيه لو استعمل فيه بما له من خصوصية مفهومية.

وقد استشكل في ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سره بأنه إنما يتم في المترادفين، دون الحمل في الحدود التامة، لأن اختلاف الحد عن المحدود بالإجمال والتفصيل مانع من كون أحدهما مفهوماً للآخر، لأن مفهوم كل لفظ مفرد بسيط مجمل.

ويندفع: بأن الإجمال والتفصيل لا يوجبان اختلاف المفهوم، بل اختلاف نحو الحكاية عنه، وهو لا يخل باتحاد المحكي مفهوماً.

نعم، لو أريد بشرح الحقيقة شرح الأجزاء الخارجية دون المفهومية، كشرح السيارة ببيان أجزائها، اتجه ما ذكره قدس سره لعدم التطابق المفهومي حينئذٍ

ص: 135


1- بناء على ما يظهر من بعضهم من كونه من أفراد الحمل الأولي الذاتي. وربما أنكره بعضهم مدعياً أنه نحو آخر من الحمل، وهو غير مهم بعد رجوعه لتحديد الاصطلاح، وشمول محل الكلام لواقع الحمل المذكور وإن لم يكن من القسم المزبور اصطلاحا. (منه)

بين طرفي الحمل، لكنه خارج عن محل الكلام، لعدم اختصاص الاختلاف بينهما بالإجمال والتفصيل.

كما استشكل فيه بعض مشايخنا: بأن مفاد الحمل الأولي هو اتحاد ذات المحمول مع ذات الموضوع، ولا نظر فيه إلى حال لفظ المحمول، وأنه موضوع لذات الموضوع وحقيقة فيها أو لا، لأن صحة الحمل من صفات المدلول والمنكشف، والحقيقة والمجاز من صفات الدال والكاشف، فلا يكون الأول دليلاً على الثاني، بل لابد فيه من التبادر لتعيين معنى لفظ المحمول.

ويندفع: - أيضاً - بأنه إذا كشف الحمل عن التطابق بين المعنيين كشف عن كون اللفظ المطابق لأحدهما والحاكي عنه مطابقاً للآخر وحاكياً عنه، للتلازم بين الأمرين.

نعم، لابد فيه من كون لفظ المحمول حقيقةً في معناه المراد به حين الحمل، ليستلزم كونه حقيقةً في مطابقه الذي صح حمله عليه.

وإليه يرجع ما سبق منا - تبعاً لغير واحدٍ - من تقييده بكون المحمول هو اللفظ بما له من المعنى، وهو معناه الذي ينسب له دائماً، لكونه الموضوع له، لا معناه المراد منه حين الحمل ولو كان مجازاً.

ثانيهما: الحمل الشائع الصناعي

ثانيهما: الحمل الشائع الصناعي، وملاكه الاتحاد خارجاً مع الاختلاف مفهوماً، إما لكون الموضوع من أفراد المحمول، لأن المحمول ذاتي له، كحمل الإنسان على زيد، أو عرضي كحمل الأبيض على الثوب، وإما لأتفاقهما في الأفراد، كحمل النوع على الخاصة أو بالعكس في مثل قولنا: «الضاحك إنسان»، أو «الإنسان ضاحك».

ص: 136

ولا يخفى أن الحمل المذكور لا يكشف عن معنى اللفظ الموضوع له، ولا ينهض بتحديده، بل عن سعة مفهوم اللفظ، وانطباقه على ما حمل عليه بنحو يكون استعماله فيه حقيقة، فهو لا يشرح المعنى إلا من الحيثية المذكورة.

نعم: لو كان المعنى معلوماً من سائر الجهات كان الحمل المذكور متمماً لمعرفته. كما أن عدم صحة حمله عليه وصحة سلبه عنه يكشف عن عدم سعة مفهوم اللفظ له وعدم انطباقه عليه، فلو صح استعماله فيه كان مجازاً.

دعوى العراقي قدس سره عدم دلالة صحة السلب على عدم الوضع والمناقشة فيه

لكن ادعى بعض الأعيان المحققين قدس سره أن صحة السلب بلحاظ الحمل الشايع الصناعي لا تدل على عدم الوضع، ولا على المجاز، ولذا يصح سلب أحد المترادفين عن الآخر مع وضعه له وكون استعماله فيه حقيقةً.

وكأنّ نظره في صحة السلب في المترادفين إلى أنه إذا كان مفاد الحمل المذكور هو الاتحاد خارجاً مع الاختلاف مفهوماً كفى في صحة السلب المقابل له عدم الاختلاف في المفهوم، بل الاتفاق فيه، كما في المترادفين.

ويشكل: بأن مفاد الحمل ليس إلا الاتحاد إما في المفهوم أو في الخارج، وليس اعتبار التغاير بين طرفي الحمل اعتباراً أو مفهوماً لكونه مفاداً للحمل كالاتحاد، بل لاستهجان حمل الشيء على نفسه، ولذا لا يكون حمل الشيء على نفسه كاذباً، وحيث كان مفاد السلب نقيضاً لمفاد الحمل إنحصر مفاده بعدم الاتحاد مفهوماً أو خارجاً، ولا يكون مفاده عدم التغاير، ليصح بين المترادفين بلحاظ عدم التغاير بينهما مفهوماً، ولذا لا يصح سلب

ص: 137

الشيء عن نفسه بلحاظ الحمل الأولي، لعدم التغاير بين الطرفين بالاعتبار.

فسلب أحد المترادفين عن الآخر ممتنع في نفسه، لا أنه يصح، كي لا تدل صحة السلب على عدم الحقيقة - كما ذكره - بل لا يصح السلب إلا بلحاظ عدم الاتحاد مفهوماً أو خارجاً، فيدل في الأول على عدم وضع لفظ أحد الطرفين للآخر، وفي الثاني على عدم سعة مفهومه له، وعدم اتحادهما خارجاً، المستلزم لكون استعماله فيه - حتى بنحو التطبيق لو صح - مجازاً.

أما بعض مشايخنا فقد استشكل بنظير ما سبق منه في الحمل الأولي الذاتي، وحاصله: أن الحمل الشايع الصناعي إنما يدل على الاتحاد خارجاً بين الموضوع والمحمول بما هما معنيان قائمان بأنفسهما مدلولان للفظ، ولا يدل على حال استعمال اللفظ.

ويظهر اندفاعه مما سبق، لأنه بعد فرض المحمول معنى حقيقياً للفظه يكون اتحاده خارجاً مع الموضوع المستكشف بالحمل راجعاً لاتحاد الموضوع خارجاً مع معنى اللفظ الحقيقي، فيكون استعمال اللفظ فيه حقيقياً لا محالة.

ومن هنا كان الظاهر تمامية ما ذكروه من استلزام الحمل بأحد وجهيه للحقيقة، إما لكون المحمول عليه عين معنى اللفظ، أو لكونه من مصاديقه المتحدة معه خارجاً. كما أن السلب مستلزم للمجاز بأحد الوجهين.

الكلام في علامية صحة الحمل

إلا أن الظاهر أنه لا يتجه جعلهما علامة في المقام، لتوقفهما على العلم بتحقق النسبة المصححة لهما بين الطرفين، ولا يكفي فيهما ثبوتها واقعاً مع الجهل بها، فلا يصح الحمل الأولي أو الشايع ممن لا يعلم بالاتحاد مفهوماً أو خارجاً بين الطرفين، كما لا يصح السلب ممن لا يعلم

ص: 138

بالتباين مفهوماً أو خارجاً بينهما، ومع توقفهما على العلم لا يكونان سبباً له، وإلّا لزم الدور أو اجتماع المثلين، نظير ما سبق في التبادر.

وما ذكره غير واحد: من اندفاع ذلك بالاكتفاء في حصولهما بالعلم الارتكازي، كما اكتفي به هناك.

غير متجه، للفرق بينهما وبين التبادر بأن التبادر من سنخ الإنفعال فتكفي فيه العلاقة الذهنية الارتكازية بين اللفظ والمعنى، كسائر الإنفعالات، بخلاف الحمل والسلب، لأنهما من سنخ الحكم ولا يتسنى صدور الحكم للحاكم بنحو يعلم بصحته ما لم يتوجه تفصيلاً لطرفيه، ولما يصححه ويطابقه من النسبة بينهما، ولا يكفي فيه الوجود الارتكازي الذهني من دون أن يتجلى ويتضح له.

الثالث: الاطِّراد

الثالث: الاطِّراد. فعن بعض المتأخرين عده من علامات الوضع. ويظهر من بعضهم أن المراد من ذلك: أن إطّراد استعمال اللفظ في المعنى كاشف عن وضعه له.

ما استشكله الخراساني قدس سره فيه

وقد استشكل فيه المحقق الخراساني قدس سره بأن المجاز وإن لم يطرد بلحاظ نوع العلاقة المجازية، كالمشابهة والملازمة ونحوهما، إلا أنه قد يطرد بلحاظ شخصها، كالمشابهة للأسد في الشجاعة، وللذئب في الخبث.

وتقييد الاستعمال الذي يكون اطراده علامة بما لا يكون بعناية مستلزم لابتناء علاميته على الدور أو اجتماع المثلين، نظير ما تقدم في صحة الحمل، إذ لابد من العلم بالعلامة تفصيلاً، ومع العلم التفصيلي بعدم العناية في الاستعمال يعلم بالوضع للمعنى المستعمل فيه في رتبة سابقة على العلم بتحقق العلامة.

ص: 139

وقد ظهر من جميع ما تقدم انحصار علامة الوضع بالتبادر، وأن صحة الحمل وعدم صحة السلب والإطراد لا تصلح لذلك.

نعم، سبق أن علامية التبادر مشروطة بإحراز استناده لحاق اللفظ، ولا يخلو إحراز ذلك عن صعوبةٍ، حيث قد يغفل عن دخل كثير من القرائن خصوصاً العامة، ككثرة الابتلاء بالمعنى الموجبة لاشتباه الانصراف بالتبادر، ومقدمات الحكمة الموجبة لاشتباه مقتضى الاطلاق به، وشيوع التلازم بين المعنيين الموجب لاشتباه معنى اللفظ بلازم معناه، ونحو ذلك مما يحتاج معه إلى كثير من التأمل والتروي.

ومن أهم ما يستعان به لتمييز حال الاطراد وصحة الحمل، حيث يظهر بالاطراد عدم دخل كثير من القرائن التي يحتمل دخلها ويطرد الاستعمال بدونها، وعدم دخل بعض الخصوصيات والقيود الزائدة على المعنى التي قد تنسبق من الاطلاق ويطرد الاستعمال بدونها، كما يظهر بعدمه عدم الوضع للمعنى على إطلاقه، أو عدم استناد التبادر لحاق اللفظ، بل للقرائن التي يتخلف بتخلفها.

كما يظهر بصحة الحمل وعدم صحة السلب سعة المفهوم، فلو تبادر لخصوص بعض أفراده انكشف دخل بعض القرائن في تبادره، و يظهر بصحة سلب اللفظ عن بعض أفراد المعنى المتبادر إليه وعدم صحة حمله وجود خلل في تبادره إليه على إطلاقه.

إلى غير ذلك مما يظهر بمزيد من التأمل في حدود المعنى وخصوصياته.

فالعلامات الثلاث كثيراً ما تشترك بمجموعها في تحديد معنى اللفظ

ص: 140

ويستعين بها الفاحص المتثبت في الوصول إلى ما خفي من جهاته، فلا ينبغي الاكتفاء بالتبادر والتسرع في الإستنتاج بسببه.

ولا يتضح حال التبادر غالباً بنحو لا يحتاج لغيره إلا في مورد وضوح الوضع، الذي لا يحتاج فيه للعلامة عليه.

تنبيه:

تنبيه: في العمل بأصالة اتحاد الأزمان وعدمه

لا يخفى أن ما ينكشف بالعلامات المذكورة هو معنى اللفظ الحالي عند حصولها، لا في عصر صدور الاستعمال الذي يراد تشخيص مفاده، كالاستعمال الوارد في الكتاب والسنة، فاللازم الفحص عما لو كان هناك بعض الاستعمالات أو الأَمارات الكاشفة عن تبدل المعنى، فإن أحرز ذلك لم يعمل على المعنى الحالي، بل على الأول لو أمكن تشخيصه باستقصاء الاستعمالات ومراجعة كلمات أهل اللغة ونحو ذلك.

وإن شك في ذلك، فقد صرحوا بأن اللازم العمل على المعنى الحالي، لأَصالة تشابه الأزمان، وعدم النقل المعول عليها عند العقلاء وأهل اللسان، حيث لا إشكال عندهم في حمل الاستعمالات القديمة في الكتاب والسنة وكلام العلماء والمؤلفين والخطباء والشعراء والأوراق القديمة ونحوها على ما يفهمونه منها حين الإطّلاع عليها، ولا يعتنون باحتمال تبدل المعنى بحيث يكون المعنى الفعلي حادثاً بعد الاستعمالات التي يراد تشخيص المراد منها.

نعم، لو علم بحصول النقل وتَبَدُّل المعنى وشك في سبقة على

ص: 141

الاستعمال الذي يراد تشخيص المراد منه أو تأخره عنه. فالظاهر التوقف، ولزوم الفحص عما يعين أحد المعنيين، من قرائن داخلية أو خارجية. بل قد يظهر من بعضهم لزوم البناء على مقتضى المعنى الأول، لأصالة تأخر النقل.

لكنه لا يخلو عن إشكال فيما لو علم بتاريخ الاستعمال وشك في تاريخ النقل، فضلاً عن غيره، لعدم رجوع أصالة تأخر النقل للاستصحاب الشرعي، لأنها تكون أصلاً مثبتاً، وعدم وضوح بناء العقلاء عليها، لقلة الابتلاء بذلك فيما هو مورد الآثار العملية، ليتضح قيام سيرة عملية لهم على ذلك، وعدم وضوح ارتكازياتهم فيه مع قطع النظر عن عملهم.

بل الظاهر أنه لنظير ذلك يلزم التوقف عن العمل بأصالة تشابه الأزمان، وعدم النقل عند الشك فيه، إذا كان هناك من الاستعمالات القديمة أو تصريحات اللغويين أو نحوها ما يثير احتماله بوجه معتد به، وإن لم يكن حجة عليه، لأن المتيقن عملهم بها في مقابل الاحتمالات المجردة التي لا مثير معتد به لها. فلاحظ.

الأمر السادس: استعمال اللفظ في أكثر من معنى

الأمر السادس: حيث لا إشكال في إمكان تعدد معاني اللفظ الواحد، إما بنحو الاشتراك - بناءً على ما هو الظاهر من إمكانه، بل وقوعه - أو مع كون بعضها أو تمامها مجازياً، فقد وقع الكلام بينهم في إمكان استعمال اللفظ باستعمال واحد في أكثر من معنى واحد على أقوال.

وجوه الاستعمال المذكور

ولا يخفى أن استعمال اللفظ في أكثر من معنى على وجوه:

أولها: أن يستعمل في المجموع المركب من المعنيين بفرض وحدة اعتبارية بينهما، ولا يكون لحاظ كل منهما بخصوصه استقلالياً، بل ضمنياً، كلحاظ سائر أجزاء المعنى المستعمل فيه، كما لو استعمل «القُرء» الذي قيل

ص: 142

بوضعه لكل من الحيض والطهر في تمام الدورة الشهرية المركبة منهما، نظير استعمال اليوم الموضوع للنهار في تمام الدورة اليومية المستوعبة له ولِلّيل.

ثانيها: أن يستعمل في القدر المشترك بينهما بإلغاء خصوصية كل منهما، ولا يلحظ إلا ما به الاشتراك بينهما، وهو الكلي الجامع، سواء كان مفهومياً مبنياً على تجريد كل منهما عن خصوصيته المميزة له عن الآخر، كما لو استعمل «القرء» في حالة المرأة من حيثية الدم المشتركة بين الحيض والطهر، أم منتزعاً من أمرٍ لاحقٍ للمفهومين، كما لو استعمل اللفظ في عنوان المسمى، لوضوح أن التسمية من لواحق كل من المفهومين الخارجة عنه.

ثالثها: أن يستعمل في كل منهما بخصوصه وبما له من جهة امتياز عن الآخر ويلحظ بحدود المفهومية مستقلاً عن الاخر لا منضمَّاً إليه، فتكون كل من الخصوصيتين محكية باللفظ، كما لو استعمل اللفظ فيها وحدها.

والظاهر عدم الإشكال في جواز الاستعمال بأحد الوجهين الأولين - كما صرح به غير واحد - وإن ابتنى على التصرف والخروج عن المعنى الموضوع له، فيكون مجازاً.

غاية الأمر أنه لا يحسن إلا مع عدم استبشاع التصرف في معنى اللفظ وإرادة أحد الوجهين به.

ما تصدى به غير واحد لبيان امتناعه

وليس الإشكال الاّ في الوجه الأخير، ولذا كان ظاهر المعالم، وصريح الفصول، والكفاية اختصاص النزاع به.

الأول ما ذكره الخراساني قدس سره والمناقشة فيه

وقد تصدى غير واحد لبيان وجه امتناعه. والمستفاد منهم في ذلك وجوه..

ص: 143

الأول: ما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من أن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامةً المعنى - كي يمكن كونه علامة على أكثر من واحد - بل جعله وجهاً وعنواناً له، بل بوجه نفسه كأنه الملقى، فيكون اللفظ فانياً في المعنى فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون، ويمتنع لحاظ ذلك في استعمال واحد بالإضافة إلى معنيين، لاستلزامه لحاظ اللفظ فانياً في كل من المعنيين.

لكن لم يتضح الوجه في امتناع ذلك، فإنه إن رجع إلى امتناع فناء اللفظ في كل من المعنيين، بل ليس له إلا فناء واحد، أشكل: بأن فناء الوجه في ذي الوجه ليس حقيقياً، بل راجعاً إلى طريقية الوجه لذي الوجه، بحيث يكون سبباً لحضوره ذهناً وعبرة له، ولا مانع من كون الشيء الواحد طريقاً لحضور شيئين في الذهن، وهو معنى فنائه فيهما.

إلا أن يراد بالفناء معنىً آخر لم يتضح لنا كي يتضح لازمه.

وإن رجع إلى أن اتحاد اللفظ بالمعنى في مقام الاستعمال يستحيل فرضه في معنيين، لامتناع فرض الوحدة بين شيء واحد وأمرين متباينين.

أشكل: بعدم ابتناء الاستعمال ولا الوضع على فرض الاتحاد بين اللفظ والمعنى، بل على مجرد طريقية اللفظ للمعنى، والتعبير عن ذلك بالاتحاد لا يراد منه حقيقته، كي يلتزم بلازمه.

وإن رجع إلى ما قد يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن استعمال اللفظ في معنيين وفنائه فيهما مستلزم للحاظه آلة مرتين تبعاً لكل منهما، ويمتنع لحاظ الشيء الواحد مرتين في آن واحد، لأن اللحاظ إضافة بين اللاحظ والملحوظ وتعدد الإضافة إنما يكون باختلاف أحد طرفيها،

ص: 144

أو باختلاف زمانها، ويمتنع تعددها من دون اختلاف في الطرفين ولا في الزمان.

أشكل: بأن الاستعمال وإن كان موقوفاً على نحوٍ من اللحاظ للفظ يسمى باللحاظ الآلي، إلا أنه لا ملزم بكون كل معنى محتاجاً إلى لحاظ للفظ خاص به، كي يكون الاستعمال في معنيين محتاجاً للحاظ اللفظ مرتين بل لا مانع من كون اللفظ ملحوظاً بلحاظ واحد طريقاً لكل من المعنيين حاكياً عنهما وفانياً فيهما، فلا يحتاج في الاستعمال الواحد إلا للحاظ واحد للفظ مهما تعددت المعاني التي يكون الاستعمال فيها.

الثاني: ما يظهر من العراقي قدس سره والمناقشة فيه

الثاني: ما يظهر من بعض المحققين قدس سره من أن حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ، لأن وجود اللفظ في الخارج وجود له بالذات، ووجود للمعنى بالجعل والمواضعة والتنزيل، وحيث كان الموجود الخارجي بالذات - وهو اللفظ - واحداً امتنع كون الوجود التنزيلي للمعنى متعدداً بتعدد المعنى، لأن وحدة الإيجاد تستلزم وحدة الوجود، لاتحاد الوجود والإيجاد بالذات.

وفيه: أولاً: أن المراد بكون الوجود اللفظي وجوداً تنزيلياً للمعنى إن كان هو اتحادهما خارجاً، بحيث يتطابقان، كي يستحيل اتحاد الشيء الواحد مع أمرين متباينين.

فهو من الوهن بمكان ظاهر، كيف؟! وهما مختلفان سنخاً وموضوعاً! فالأول حقيقي موضوعه اللفظ، والثاني تنزيلي موضوعه المعنى.

وإن كان المراد ترتبهما، بأن يكون إيجاد اللفظ سبباً لإيجاد المعنى، لأنه آلته.

ص: 145

فهو وإن أمكن عقلاً، إلا أنه لا تساعد عليه المرتكزات العرفية الاستعمالية، بل ليس اللفظ إلا حاكياً عن المعنى نعم هو آلة لإحضاره في الذهن، ولا مانع من حكاية الشيء الواحد عن أمرين وكونه آله لإحظارهما معاً في الذهن.

وثانياً: أنه لا مانع من كون الوجود الواحد للفظ وجوداً لكلا المعنيين تنزيلاً، وهو لا ينافي ما سبق منه من أن وحدة الإيجاد تستلزم وحدة الوجود، إذ يمكن الالتزام بأن التعدد في المقام ليس بالمعنى المتحد مع الإيجاد، بل للموجود، حيث لا ريب في عدم توقف تعدده على تعدد الإيجاد.

فهو نظير: ما لو قتل رجل شخصين بضربة واحدة، حيث لا ريب في تعدد القتلين مع وجودهما بإيجاد واحد.

ودعوى: أنه مع وحدة وجود المعنيين يلزم كون الاستعمال في مجموعهما الذي سبق خروجه عن محل الكلام، لا في كل منهما.

مدفوعة: بأن المعيار في الاستعمال في مجموع المعنيين هو ملاحظة الوحدة الاعتبارية بينهما بملاحظة كل منهما حين الاستعمال بما له من الخصوصيات المميزة عن الآخر ضمناً، ولا يكون الملحوظ الاستقلالي إلا مجموعهما بملاحظة ما به امتيازهما عن غيرهما، والمعيار في الاستعمال في كل منهما هو ملاحظة كل منهما استقلالاً بما له من الخصوصيات المميزة عن غيره حتى الآخر، من دون فرض وحدة اعتبارية بينهما، فمع كون الاستعمال على النحو الثاني يكون الاستعمال في معنيين الذي هو محل الكلام، وإن كان إيجادهما بإيجاد واحد المستلزم لوجودهما بوجود واحد بناءً على ما ذكره قدس سره.

ص: 146

وليس المراد من الاستعمال الذي هو محل الكلام هو الاستعمال في المعنى وحده بنحو لا يكون معه غيره، لوضوح أنه لا معنى معه للنزاع في إمكان الاستعمال في معنيين.

الثالث: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره ودفعه

الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن المفهوم المحكي باللفظ قد يكون واحداً كمفهوم النقطة، وقد يكون متعدداً كمفهوم العشرة الذي هو عبارة عن آحاد متكثرة، لكن تكثرها إنما هو قبل الاستعمال، أما بالاستعمال فهو مفهوم واحد، لوحدة الحكاية عنه في مقام استعمال اللفظ فيه.

وعليه إن أريد باستعمال اللفظ في معنيين تعددهما قبل الاستعمال مع وحدتهما به للاستعمال في تمامهما فيكون كل منهما مدلولاً تضمنياً للفظ فلا مانع منه عقلاً.

وإن أريد به استعماله في معنيين بلحاظ حال ما بعد الاستعمال، بحيث يكون كل منهما مدلولاً مطابقياً فهو غير معقول، لأن اثنينيتهما بالاستعمال تتوقف على تعدد الاستعمال، وهو خارج عن الفرض، ممتنع مع وحدة اللفظ.

ويندفع: بأن ما ذكره من تعدد المعنى قبل الاستعمال مع وحدته بعده راجع إلى تركب المفهوم الواحد، ومرجعه إلى الاستعمال في المجموع بعد اعتبار الوحدة بين أجزائه في رتبة سابقة على الاستعمال، وقد تقدم خروجه عن محل الكلام، وأن الكلام إنما هو في الاستعمال الواحد في كل من المعنيين مع لحاظه استقلالاً بتمام حدوده حتى ما يمتاز به عن الآخر، من دون فرض وحدة بينهما، ليكون كل منهما جزءاً لمدلول اللفظ، فإن كان المدّعى امتناع ذلك احتاج إلى دليل.

ص: 147

الرابع: ما ذكره النائيني قدس سره والمناقشة فيه

الرابع: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الاستعمال في كل من المعنيين استقلالاً مستلزم لتعدد اللحاظ في آن واحد، وهو ممتنع عقلاً.

وكأن مراده استحالة الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين - كما نسب إليه في بعض كلماتهم - وإلاّ فالجمع بين اللحاظين إذا كان أحدهما آلياً مما لا إشكال فيه، بل جميع الاستعمالات مبنية عليه، لأبتنائها على لحاظ اللفظ آلةً والمعنى استقلالاً. ومثله لحاظ الأمور المتعددة ضمناً في أمر واحد ملحوظ بلحاظ استقلالي، كالمفاهيم المركبة.

وكيف كان، فدعوى استحالة الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين مع تعدد الملحوظ خالية عن الشاهد، كما ذكره غير واحد ممن تصدى للجواب عن دليله.

نعم، لو أراد امتناعه عادةً لم يكن بعيداً، لابتناء استعمال اللفظ في المعنى عل نحو خاص من اللحاظ له حين أدائه والحكاية عنه باللفظ، وهو لا يتيسر بالإضافة إلى أكثر من معنى بمقتضى المرتكزات الاستعمالية، وليس هو كسائر التصورات المحضة، التي لا إشكال في إمكان اجتماعها في آن واحد في أفق النفس، بالإضافة إلى أمور متعددة لا ارتباط بينها.

ومنه يظهر أنه لا مجال للنقض على ذلك بأن الإنسان يقوم بأمور متعددة في آن واحد، فيأكل ويمشي ويتكلم ويكتب... إلى غير ذلك مما يتوقف على تصور الأمور المتعددة في زمان واحد.

لاندفاعه بأن تصور العمل الذي لابد منه حين القيام به ليس من سنخ التصور الاستعمالي، بل يكفي فيه التصور الارتكازي المستند لعادة ونحوها، من دون حاجة لتصوره تفصيلاً بحدوده المفهومية الذي لابد منه

ص: 148

حين استعمال اللفظ فيه.

ومثله النقض بأن المتصور حين إرادة بيان الجملة تمام أطرافها، ويبقى هذا التصور إلى إتمامها.

لاندفاعه: - أيضاً - بأن تصور تمام أطراف الجملة يبتني على تصورها ضمناً في ضمن تصور مجموعها ارتكازاً، وليس تصور كل منها استقلالاً تفصيلاً إلا حين النطق بلفظه الدال عليه.

وكذا الحال في اللوازم والملزومات التي قد تقصد بالبيان، لأنها ليست مقصودة بالاستعمال بنحو تكون ملحوظة استقلالاً، ويقصد أداؤها بالكلام وجعله بأزائها، بل هي من سنخ الدواعي له المركوزة في الذهن، فلا تخل بالمدعى.

وبالجملة: الرجوع للوجدان شاهد بتعذر الاستعمال في أكثر من معنى بنحو الاستقلال، لابتناء الاستعمال على نحو من التصور للمعنى حين أدائه باللفظ، لا يمكن تحققه باستعمال واحد بالإضافة إلى أكثر من معنى واحد. ويشاركه في ذلك الإشارة باليد ونحوها، لأنها من سنخه.

نعم، يتيسر سوق بعض الألفاظ أو الهيئات في الكلام لمحض العلامية على أمور أُخَر غير ما استعمل فيه، بالاتفاق مع بعض السامعين لها، أو بداعي التسبيب لتصورهم لها، للعلم بنحو من الملازمة الذهنية بينها وبينه في حقهم، من دون أن يكون مستعملاً فيها ولا مجعولاً بأزائها، بل لا يستعمل إلا في معنى واحد، لتعذر الاستعمال في أكثر من معنى، كما ذكرنا.

على أنه لو سلم عدم تعذره فلا إشكال في احتياجه إلى عناية خاصة تخرج عن الوضع الطبيعي للإنسان المتعارف.

ص: 149

وبسبب الامتناع المدعى أو الحاجة للعناية المذكورة جرت الاستعمالات والبيانات الكلامية من أهل اللسان على وحدة المعنى المستعمل فيه، بحيث لو تيسر للمتكلم لحاظ الأمور المتعددة استقلالاً وجعل اللفظ بإزاء كل منها باستعمال واحد - لخصوصية فيه يمتاز بها عن عامة أهل اللسان، أو بإعماله العناية المشار إليها - لم يكن مجال لحمل كلامه عليه ما دام جارياً على الطريقة العرفية، بل لابد في الحمل عليه من إتضاح خروجه عن الطريقة العرفية في بيانه.

ومنه يظهر أنه ليس كالاستعمال في المعنى المجازي، بحيث لو تردد الأمر بينهما كان مجملاً، فضلاً عن أن يكون أولى من المجاز بناءً على كونه حقيقياً.

بل يتعين الحمل على المجاز لو كان مقبولاً عرفاً بحيث يحمل عليه لو علم بالاستعمال في معنى واحد، لعدم خروجه عن الطريقة العرفية في الكلام، وإن كان محتاجاً للقرينة، عملاً بأصالة الظهور.

والحمل على الحقيقة مختص بما إذا كانت مقتضى أصالة الظهور في فرض جري المتكلم على الطريقة العرفية في البيان، لا مطلقاً، ولو مع استلزامها الخروج عنها.

وإن لم يكن المجاز مقبولاً كان الكلام مجملاً ولا يحمل على الاستعمال في أكثر من معنى، لأن خروج المتكلم عن الطريقة العرفية في كلامه محتاج إلى عناية ليس بناء العقلاء على الحمل عليها من دون بيان.

وعلى هذا لو علم باستعمال اللفظ في أكثر من معنى بأحد الوجوه الثلاثة السابقة، كان المتعين الحمل على أحد الوجهين الأولين مع مقبوليته

ص: 150

عرفاً، لأنهما يرجعان إلى التصرف في المعنى الذي يكون به الاستعمال مجازياً، ومع عدم مقبوليتهما عرفاً، لعدم المناسبة المصححة لهما، أو عدم الجامع العرفي بين المعنيين، أو نحو ذلك يتعين البناء على الإجمال.

ولا مجال لما يظهر من تقرير درس بعض مشايخنا من الإجمال مطلقاً، لعدم المرجّح، فضلاً عما يظهر منه في حاشيته على تقريره لدرس بعض الأعاظم قدس سره من ترجح الوجه الثالث بناءً على كونه حقيقياً، لترجح الحقيقة على المجاز اللازم من الوجهين الأولين.

بقي أمور:

بقي في المقام أمور..

الأول: منع الاستعمال بلحاظ قيد الوحدة فيه والمناقشة فيها

الأول: أنه قد يمنع استعمال اللفظ في أكثر من معنى مطلقاً أو بنحو الحقيقة لدعوى أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة، فاستعماله في أكثر من معنى - وإن كان ممكناً - خروج عن القيد المذكور، فلا يصح، أو يكون مجازاً، كما في المعالم.

فرض الوحدة الذاتية

لكن إن كان المراد بالوحدة التي يدعى التقييد بها هي الوحدة الذاتية المفهومية المتقومة بحدود المعنى المفهومية، فيرجع إلى دعوى: أن اللفظ موضوع للمعنى بحدوده المفهومية الخاصة به، من دون أن ينضم إليه غيره بحد يجمع بينهما.

فالوحدة المذكورة ليست قيداً زائداً على المعنى مأخوذاً فيه عند الوضع له، بل أخذها في المعنى الموضوع له عبارة أخرى عن الوضع للمعنى بنفسه، لتقوم المعنى الموضوع له بحدوده المفهومية، ولا يمكن فرض الوضع له إلا بأخذ تلك الحدود فيه.

ص: 151

ومنه يظهر عدم الخروج عن الوحدة المذكورة بالاستعمال في أكثر من معنى بالوجه الذي هو محل الكلام، وهو جعل اللفظ بإزاء كل من المعنيين بحدوده المفهومية الخاصة به من دون فرض وحدة اعتبارية بينهما، ليكون كل منهما جزء المعنى المستعمل فيه.

ولا يخرج عنها إلا بالاستعمال في تمام المعنيين الذي تقدم أنه في الحقيقة استعمال في معنى واحد يبتني على التصرف في المعنى الموضوع له، ويكون مجازاً، وأنه خارج عن محل الكلام.

وإن كان المراد بالوحدة الوحدة الاستعمالية، بأن يدعى أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الاستعمال فيه وحده.

أشكل أولاً: بعدم الدليل على تقييد الموضوع له بذلك، بل المشاهد من طريقة الواضعين خلافه، حيث يضع اللفظ بإزاء المعنى من دون التفات للقيد المذكور.

كما أن المتبادر من اللفظ في الأعلام الشخصية وغيرها هو معناه بحدوده المفهومية مجرداً عن القيد المذكور.

و ثانياً: بأنه يمتنع تقييد المعنى الموضوع له بذلك، لأن الوضع له إنما هو بلحاظ استعماله فيه، ويمتنع تقييد المعنى المستعمل فيه بالقيد المذكور، لأن القيد المذكور من شؤون الاستعمال المتأخرة عنه رتبة، فلا يمكن لحاظه حينه قيداً في المعنى المعروض للاستعمال والمتقدم عليه رتبةً.

مع أن الخصوصية الاستعمالية من طواريء المعنى بما له من تقرر مفهومي، لا سعة فيه كي يقبل التضييق بالتقييد به، لا من طوارئه بما له من وجود خارجي، كي يكون قابلاً له لو كان واسعاً، لكونه كلياً منطبقاً على

ص: 152

كثيرين.

اللهم إلا أن يدعى كون الاستعمال في المعنى وحده شرطاً للواضع، لا قيداً للمعنى الموضوع له.

لكن لا طريق لإحراز اشتراط الواضع، ولاسيما مع ما هو المعلوم من عدم تنبه الواضع لذلك في مثل الأعلام الشخصية، وعدم وجود واضع خاص في غيرها، على ما سبق.

إلا أن يرجع إلى خروجه عن طريقة أهل اللسان - كما ذكرناه آنفاً - فلا يصح الاستعمال مطلقاً حتى مجازاً.

فرض الوحدة الاستعمالية

وإن كان المراد بالوحدة الوحدة الشخصية، بمعنى أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد تشخصه خارجاً في فرد واحد، فيمتنع الاستعمال في معانٍ متعددة لأنه يتوقف على إرادة أفراد بعددها.

ولعل ذلك هو مراد صاحب المعالم، لأنه خص ذلك بالمفرد دون المثنى والجمع.

فهو غير بعيد في الجملة، لتبادر الوحدة عرفاً منه، ومن ثم كان المفرد مقابلاً للمثنى والجمع لا أعم منهما.

لكنه يختص ببعض الأسماء مما يختص بالواحد، كما يفرق فيه بين الجنس والواحد بالتاء، كتمرة وكمء، والمفرد النكرة في غيره، حيث يختص أو ينصرف للواحد، دون ما يراد منه الجنس الصادق على القليل والكثير، كأسم الجنس المعرف باللام، والمواد الاشتقاقية التي تقع مورداً للأحكام التكليفية، كمادة: «اضرب» و «صَل» وكذا الأعلام والحروف والهيئات ونحوها مما لا يدل إلا على المعاني بحدودها المفهومية.

ص: 153

مع أن الوحدة لما كانت قيداً في المعنى ومن شؤونه لا أمراً مقابلاً له فلا يخلّ بها الاستعمال في أكثر من معنى، حيث لا يراد بكل منهما إلا المقيد بها، فيكون المراد واحد من كل من المعنيين.

بل لا ينبغي التوقف في ذلك لو تصادق المعنيان في فرد واحد، كالسيد بالمعنى الأصلي اللغوي، وبمعنى الهاشمي الذي هو مشهور عرفاً.

ثم إن أخذ الوحدة المذكورة في المعنى لو منع من الاستعمال في أكثر من معنى منع منه حتى مجازاً، لاستهجان استعمال المفرد في المثنى أو الجمع عرفاً، إلا بعناية تنزيلهما منزلة المفرد، ولابد في المجاز من عدم الاستهجان.

الثاني: استعمال المثنى والجمع في أكثر من معنى

الثاني: ربما يدعى جواز استعمال المثنى والجمع في أكثر من معنى، بأن يراد منهما المتعدد من أفراد معان متعددة لا من أفراد معنى واحد، فيراد من مثل: (عينين) عين جارية وعين نابعة، بل ذهب في المعالم إلى أن الاستعمال المذكور حقيقي لا مجازي.

بدعوى: أنهما في قوة تكرار المفرد، فكما يجوز استعمال المفردات مع التكرار في المعاني المتعددة، كل منها في معنى واحد، يجوز فيما هو بقوتها.

وأستدل على ذلك في المعالم بتثنية الأعلام وجمعها، كالزيدين والهندات، مع وضوح تباين معاني الأعلام ومفاهيمها بنحو الاشتراك.

وتندفع بما أشير إليه في كلام غير واحد: من أن دلالتهما على التعدد إنما هو بهيئتهما، وشأن الهيئة إفادة معنى قائم بمدلول المادة لا في قباله، وحيث كان المراد بمادتهما معنىً واحداً، لوحدة الاستعمال الملزمة بوحدة

ص: 154

المعنى - كما سبق - كان التعدد المستفاد من الهيئة من شؤون ذلك المعنى، وهو تعدد فرده ووجوده، من دون أن يرجع إلى إرادة معنى آخر في قباله.

ولا وجه لقياسه بتعدد المفردات التي يكون التعدد فيها للمادة والتي يصلح كل منها لإرادة معنى في نفسه باستعمال مستقل به، ولا تستعمل بمجموعها باستعمال واحد، كما في المقام.

ولا يراد بكونهما في قوة تكرار المفرد إلا كونهما مثله في إفادة التعدد الشخصي، لا ما يعم تعدد المعنى.

وإنما جازت تثنية الأعلام وجمعها مع تباين معانيها لتأويلهما بالمسمى الذي هو معنى واحد جامع بين تلك المعاني، والذي لا إشكال في جواز الاستعمال في أكثر من معنى بلحاظه، كما تقدم في صدر المسألة.

ويشهد بالتأويل المذكور خروج الأعلام بالتثنية والجمع عن التعريف إلى التنكير والشيوع، فتجري عليها أحكام النكرات من قبول أدات التعريف والوصف بالنكرة وعدم جواز الابتداء بها إلا لمسوّغ، ولو بقيت على معانيها لبقيت على التعريف.

فهما نظير إضافة الأعلام التي لا تصح لولا تأويلها بما يوجب شيوعها، وهو المسمى.

ولذا كان ظاهر قولنا: «هذان زيدان» مثلاً - بيان اسمهما لا ذاتيهما، بخلاف قولنا: «هذا زيد».

الثالث: في اختلاف بعض المفاهيم الإضافية في الصدق

فلا وجه لما في المعالم من أن التأويل المذكور تعسف لا دليل عليه.

الثالث: أن بعض المفاهيم الإضافية أو نحوها قد يختلف صدقها باختلاف منشأ انتزاعها، كعنوان الكبير والأكبر اللذين يصدقان.. تارةً:

ص: 155

بلحاظ العمر.

وأخرى: بلحاظ الجسم والجثة. وثالثة: بلحاظ الشأن والشرف.

ومثل ذلك وإن لم يوجب الاختلاف في المفهوم، بل في معيار الصدق، الذي هو نحو من الاختلاف المصداقي، إلا أن الظاهر دخوله في محل الكلام، فيمتنع استعمال اللفظ في الإضافة بلحاظ أكثر من منشأ انتزاع واحد، لأن ما هو موضوع الأثر والغرض ليس هو الإضافة، بل منشأ انتزاعها، فلابد من ملاحظته في مقام استعمال اللفظ فيها عند الحكم عليها قيداً فيها، ويمتنع ملاحظة أكثر من منشأ واحد بخصوصيته وأخذه قيداً في الاستعمال الواحد، بعين امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

إلا أن يكون بين مناشئ الاستعمال المختلفة قدر جامع، فيمكن الاكتفاء بملاحظته، ويتجه عموم الحكم لها، لكنه ليس نظيراً لمحل الكلام، بل نظير الاستعمال في القدر المشترك بين المعاني الذي سبق خروجه عن محل الكلام.

هذا كله إذا كان استعمال اللفظ في الإضافة في مقامٍ يتعلق بمنشأ انتزاعها، كالأحكام العملية التابعة للغرض والأثر المتعلقين بمنشأ الانتزاع، والقضايا التي مواطنها الخارج ونحوها، أما لو لم يتعلق به فيمكن العموم تبعاً لوحدة المفهوم، كما في موارد شرح مفهوم الإضافة، حيث لا ملزم بالنظر للخارج المصحح لانتزاعها وأخذه قيداً فيها، بل لا ينظر إلا إليها، والمفروض وحدة مفهومها، وعدم اختلافه باختلاف منشأ الانتزاع.

الرابع: في الجمع بين المجاز والحقيقة في استعمال واحد

الرابع: بناءً على رجوع المجاز للتصرف في مفهوم اللفظ، يكون الجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي وبين المعنيين المجازيين في

ص: 156

استعمال واحد من صغريات الاستعمال في معنيين، ويلحقه ما سبق.

أما بناءً على رجوعه إلى ادعاء دخول الفرد المجازي في المعنى الموضوع له اللفظ فلا مانع من الجمع بين الأفراد الحقيقية والمجازية، لدخولها في المعنى الواحد الذي استعمل فيه اللفظ.

نعم، الظاهر أن مبنى هذا القول على التصرف في المعنى الموضوع له اللفظ بنحو يشمل الأفراد المجازية بادعاء كون ملاك المعنى الموضوع له جهة العلاقة المجازية، فاستعمال أسد في الرجل الشجاع بادعاء كونه أسداً إنما هو لادعاء أن أسدية الأسد بشجاعته الحاصلة في الرجل الشجاع.

وحينئذٍ يمتنع استعماله في مجازات متعددة بعلاقات مختلفة لا جامع عرفي بينها، لتوقف استعماله في كل منها على ادعاء كون الموضوع له شاملاً له، وأن ملاك التسمية هو جهة العلاقة المصححة له، فيلزم من الجمع بين المجازيين لحاظ كلتا الجهتين بخصوصيتهما ملاكاً للتسمية، ومناطاً للمعنى المستعمل، وهو راجع للاستعمال في المعنيين بخصوصيتهما.

وعليه لا يمكن الاستعمال إلا في مجازٍ واحد وحده أو مع المعنى الحقيقي.

الخامس: في بطون القرآن

الخامس: في بعض النصوص: أن للقران المجيد ظهراً وبطناً(1)، وفي آخر: أن له ظاهراً وباطناً(2)، وفي ثالث: أن له بطناً وللبطن ظهر(3)، وفي

ص: 157


1- الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي، حديث: 7 / تفسير العياشي 1:11
2- الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي، حديث: 39
3- تفسير العياشي ج 1، ص 12

رابع: أن له بطناً وظهراً وللظهر ظهر(1).

وحيث كان الاستعمال في أكثر من معنى ممتنعاً عند غير واحد فقد حاولوا توجيه النصوص المذكورة ونحوها بحملها.

تارةً: على ما يعم لوازم المعنى مما أريد بيانه بتبع الملزوم وإن لم يكن اللفظ مستعملاً فيه، نظير الكنايات.

وأخرى: بما يراد من اللفظ بمحض العلامية التي أشرنا إليها عند الكلام في المختار من وجه المنع، لا بنحو الإرادة الاستعمالية.

ولعله مراد المحقق الخراساني قدس سره من حمله على ما يراد بنفسه حين استعمال اللفظ في المعنى من دون أن يكون مراداً من اللفظ.

إذ لا وجه لنسبته للقرآن لو لم يكن مراداً بالبيان منه، بل لا معنى لتعلق الإرادة به بنفسه ما لم ترجع إلى إرادة بيانه ونحوها.

ولعل الأقرب الأول، وقد يناسبه مرسلة العيّاشي عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ظهر القران الذين نزل فيهم، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم»(2).

وما في مرسلته الأخرى عن الفضيل عنه عليه السلام قال: «ظهره وبطنه تأويله منه ما مضى، ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلما جاء منه شيء وقع...»(3).

هذا وحيث سبق أن وجه امتناع الاستعمال في أكثر من معنى تعذره

ص: 158


1- الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي، حديث: 41
2- تفسير العياشي ج 1، ص 11
3- تفسير العياشي ج 1، ص 11

عادةً لقصور في المستعمل كان قاصراً عن المنع في القران فلا ملزم بتأويل النصوص المذكورة لو كان ظاهرها الاستعمال في أكثر من معنى.

الأمر السابع: في الحقيقة الشرعية

الأمر السابع: لا ريب في أن الألفاظ التي يحكى بها عند المتشرعة عن الوظائف الشرعية كالصلاة والزكاة والحج والصوم والخمس والأذان وغيرها صارت حقائق فيها بنحو تتبادر منها من دون قرينة دون معانيها القديمة بحسب أصل اللغة، وإنما وقع الكلام بينهم في أن مبدأ صيرورتها كذلك في عصر النبي (ص) في كلامه وكلام تابعيه أو بعده، وهو المراد بالكلام في ثبوت الحقيقة الشرعية.

ثمرة النزاع

ولا يخفى أن الثمرة لذلك تعيين مداليل الألفاظ المذكورة لو وقعت في الكتاب العزيز أو في كلامه (ص) وكلام معاصريه مجردة عن القرينة، فبناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية تحمل على الوظائف الشرعية المذكورة، وبناءً على عدمه تحمل على المعاني اللغوية.

وتوهم أنه بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية يتعين الإجمال، لاشتراك الألفاظ المذكورة بين المعاني الجديدة والمعاني القديمة اللغوية.

مدفوع: بأن محل الكلام ليس هو مجرد الوضع للمعاني المذكورة، بل النقل لها بنحو يقتضي هجر المعنى القديم واحتياج إرادته للعناية والقرينة، ولو في عرف الشارع الأقدس في لسانه ولسان تابعيه، كما هو الحال في العصور المتأخرة، ونظير النقل في سائر الأعراف الخاصة للمعاني المستحدثة لهم، حيث يجب حمل الكلام الصادر من أهل عرف خاص من حيثية كونهم من أهل ذلك العرف على ما هو المعنى عندهم، لا بحسب أصل اللغة.

ص: 159

ومثله ما عن بعض الأعاظم قدس سره و أقره بعض مشايخنا من عدم فعلية الثمرة المذكورة، إذ لا مورد يشك في المراد الاستعمالي فيه، لأن هذه الألفاظ قد صارت في زمان الصادقين عليهما السلام حقائق في المعاني المستحدثة.

وما يرد عن النبي (ص) بحكم ما يرد منهم عليهم السلام إذا كان بطريقهم، وما كان بطريق غيرهم خارج عن الابتلاء.

لاندفاعه: بأن ما ينقل عن النبي (ص) من طريقهم عليهم السلام إنما يكون بحكم ما ينقل عنهم إذا نقلوه في مقام بيان التشريع، حيث يتعين تنبيههم عليهم السلام إلى اختلاف المعنى عما عليه في زمانهم لو كان، أما إذا كان نقلهم له لمحض بيان ألفاظه (ص) كما في موارد نقل الخطب ونحوها فلا يلزمهم التنبيه للاختلاف.

وما ينقل من طريق غيرهم إنما يخرج عن الابتلاء إذا لم يكن النقل موثوقاً به، والجزم بكون تمام ما نقل عنه (ص) من غير طريق الأئمة عليهم السلام غير موثوق بنقله محتاج إلى فحص.

على أنه يكفي نقل غير الثقة بناءً على قاعدة التسامح في أدلة السنن.

مع أنه يكفي في الثمرة ما ينقل عن الأئمة السابقين قبل الصادِقَين عليهما السلام فالجزم بعدم فعلية الثمرة غير حاصل.

وكذا ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن الثمرة المذكورة ليست عملية، وإلا فقد قيل: إن هذه المعاني يعلم بإرادة الشارع لها في جميع الاستعمالات، لشهادة التتبع بعدم الاستعمال في غيرها.

إذ فيه: أنه لا مجال لدعوى الاستقراء التام، ولاسيما مع صراحة

ص: 160

بعض نصوص الصلاة على المدفون بإرادة الدعاء منها(1).

وكذا دعوى: إحتفاف جميع الاستعمالات بالقرينة.

إلا أن يراد منها القرينة العامة، وهي مألوفية المعاني المستحدثة ذهنا، بسبب الابتلاء بها.

لكن يأتي أن ذلك شاهد بتحقق الوضع لها وسبب له.

ثم إنهم وإن خصوا الكلام في تحقق الوضع بعصر النبي (ص) إلا أن الثمرة لا تختص به، بل تجري في عصور الأئمة المعصومين عليهم السلام فكلما ثبت الوضع للمعنى الجديد في زمان إمام منهم عليهم السلام لزم الحمل عليه في الكلام الصادر منه وممن بعده من الأئمة ومن أتباعهم، وذلك مهمٌ أيضاً بناءً على ما عليه الإمامية من أن كلامهم عليهم السلام وفعلهم وتقريرهم سنة تتبع كسنة النبي (ص).

تحقق الوضع التعيني في ألفاظ العبادات

إذا عرفت هذا فالظاهر تحقق الوضع التعيني في غالب الألفاظ المذكورة، وأنها استعملت أولاً في المعاني الجديدة إما مجازاً لمناسبتهما للمعاني الأصلية، كالزكاة التي هي في الأصل النماء والطهارة وسمي الحق الخاص بها بلحاظ كون أدائه سبباً لها، أو لأنها من أفراد المعنى الأصلي، كالصوم والأذان، ثم اشتهرت فيها حتى إنصرفت إليها في زمن قريب في عرف الشارع وتابعيه، بسبب تتابع الاستعمال منهم، ولمألوفية المعاني الجديدة في أذهانهم بسبب الابتلاء بها والحاجة للحكاية عنها دون المعاني الأصلية، حتى يبعد مع ذلك عدم تحقق النقل للمعاني المذكورة، بحيث يحتاج للقرينة الخاصة على إرادتها من الألفاظ، كما هو المشاهد في جميع

ص: 161


1- الوسائل ج 2، باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة، حديث: 4

أهل الأعراف الخاصة بالإضافة إلى ما يختصون به من معاني.

غاية الأمر أن يبقى المعنى الأصلي معروفاً عند غيرهم ممن لا يبتلي بالمعاني الجديدة. بل ربما يسري ذلك للكل بسبب أهمية العرف الجديد، وإنتشاره، وكثرة أتباعه، خصوصاً فيما له أهمية من المعاني بين أهل ذلك العرف، حيث قد يكون له مزيد ظهور وإنتشار بين غيرهم بسببهم.

وأما الوضع التعييني، بتصريح الشارع بتعين هذه الألفاظ لهذه المعاني بنحو يتفرع عليه الاستعمال، فالظاهر أنه لا مجال لاحتماله في المقام، لما في ذلك من العناية والكلفة غير المألوفة في تلك العصور، لأن الغرض الفعلي تفهيم المعاني ولو بالاستعمال فيها مع القرينة التي يسهل إقامتها مع أنه لو صدر ذلك منه (ص) لظهر وبان، لأهميته جداً، وتوفر الدواعي لنقله، من دون موجب لاخفائه.

تقريب الخراساني قدس سره الوضع التعييني

نعم، قرب المحقق الخراساني قدس سره تحقق الوضع التعييني بنفس استعمال اللفظ في المعنى بنحو استعماله فيه لو كان موضوعاً له، ولو بضميمة القرينة الدالة على أن الغرض منه الحكاية عن المعنى، والدلالة عليه بنفس اللفظ على أنه معناه، لا بالقرينة.

وهو وإن كان ممكناً بناءً على أن الوضع عبارة عن الالتزام بتعيين اللفظ بإزاء المعنى، وإبراز الالتزام المذكور إما بإنشاء ذلك المضمون، أو بفعل ما هو من شؤونه وتوابعه وهو الاستعمال الخاص، نظير إبراز الالتزام العقدي بإنشاء مضمونه تارةً، وبالمعاطاة أخرى.

إلا أن الظاهر عدم وقوعه، لما فيه من العناية والخروج عن الوضع الطبيعي في الوضع، بل قصد ذلك وإقامة القرينة عليه أشد مؤنة من إنشاء

ص: 162

الوضع قبل الاستعمال صريحاً.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن ديدن العقلاء في العلوم والفنون التي يخترعونها ويدونونها والصناعات التي يزاولونها على تعيين الألفاظ المناسبة للمعاني المستحدثة ليسهل تفهيمها، وحيث إمتنع الوضع التعييني بالوجه الأول تعين هذا الوجه.

فهو ممنوع، بل تكون المصطلحات للعلوم والفنون والصناعات تدريجي، ولا هم للمؤسسين إلا تفهيم المعاني بالطرق غير المتكلفة بالاستعانة بالقرائن الميسورة، ثم تتكون المصطلحات بتكرر الاستعمال، ولا تدون وتضبط إلا بعد تكامل العلم أو الفن أو الصناعة وثبوت مصطلحاتها.

على أن الوجه الذي ذكره لامتناع الوضع التعييني بالوجه الأول، وهو أنه لو صدر من الشارع لظهر وبان، جارٍ في هذا الوجه أيضاً.

وما ذكره من أن كون الوضع فيه من توابع الاستعمال من دون تصريح به موجب لعدم الالتفات إليه، كي يهتم بنقله. كما ترى! لأن ترتب الغرض على الاستعمال بالنحو المذكور موقوف على إقامة القرينة على حاله، ومع قيام القرينة عليه يتوجه إليه، ويتعلق الغرض بنقله لما ذكرنا من توفر الدواعي لذلك.

فالعمدة ما عرفت من تقريب الوضع التعييني.

هذا، والظاهر أن تلك الألفاظ موضوعة للمعاني الشرعية بحسب أصل اللغة، كالحج والعمرة، لمعروفيتهما بأسميهما في الجاهلية على ما هو المعهود منهما في الإسلام، تبعاً لشريعة إبراهيم عليه السلام وليس الاختلاف بين ما عندهم وما في الإسلام إلا في بعض الخصوصيات من باب التخطئة

ص: 163

في المصداق، نظير الاختلاف بيننا وبين العامة، من دون أن يرجع للاختلاف في المفهوم أو التشريع.

بل ادعى المحقق الخراساني قدس سره ذلك في كثير من الوظائف الشرعية، كالصلاة والزكاة والصوم، وسبقه إلى ذلك في الفصول، لما تضمنته كثير من الآيات - وكذا النصوص - من تشريعها في الأديان السابقة.

لكن الظاهر أن ذلك إنما يشهد بثبوت الوظائف في تلك الأديان لا على تسميتها بالأسماء المخصوصة، بل هو مقطوع بعدمه بعد اختلاف اللغة.

نعم، لو ثبت بقاء معروفيتها بين أهل تلك الأديان حتى خالطهم العرب وألفوها بسببهم وعبروا عنها بالألفاظ المذكورة اتجه ذلك، إلا أنه لا طريق للجزم به وإن قربه في الفصول.

مع أن الاختلاف بين ما هو المشروع في الإسلام وما هو المشروع عندهم مستلزم لأخذ الخصوصيات المميزة جزءاً من المسمى في عرف المسلمين لأنه مورد حاجتهم، بحيث يتبادر إليها من الكلام المبتني على عرفهم.

وليس هو كالاختلاف بيننا وبين العامة راجعاً إلى التخطئة في المصداق، بل هو يبتني على اختلاف التشريع من دون تخطئة فيه.

ولا ينافي هذا كون الألفاظ بحسب أصل اللغة موضوعة للقدر الجامع بين الوظيفتين، وهو الوظيفة المشروعة. فلاحظ.

وكيف كان فثبوت كون الألفاظ المذكورة موضوعة للمعاني المعهودة لغة لا يمنع من البناء على الحقيقة الشرعية فيها، لما سبق عند

ص: 164

الكلام في الثمرة من أن محل الكلام هو اختصاص المعاني الشرعية بألفاظها المعهودة في عرف الشارع بنحو تكون هي المتبادرة منها، لهجر المعنى الآخر الموضوع له بحسب أصل اللغة وبمقتضى اشتقاق الكلمة في عرفه، لعدم تعلق غرضه به، لا مجرد وضعها لها شرعاً ولو بنحو الاشتراك، كما هو الحال في الوضع للمعنى اللغوي بناءً على القول المذكور، إذ لا إشكال في عدم اختصاصه بالمعاني الشرعية.

فالكلام في الحقيقة الشرعية إنما هو في اختصاص الألفاظ المذكورة بالمعاني الشرعية في عرف الشارع، إما بعد اختصاصها بالمعاني الأخرى، أو بعد اشتراكها بين المعنيين لغةً.

نعم، بناءً على سِبق الوضع للمعاني المذكورة لغةً لو قيل بعدم الحقيقة الشرعية لا يتعين حمل الألفاظ في كلام الشارع على المعنى الآخر غير الشرعي، بل يتردد الأمر بينه وبين المعنى الشرعي، كما هو الحال في جميع موارد الاشتراك.

بقي شيء:

بقي شيء:

وهو أنه قال في الفصول: «وربما عزي إلى الباقلاني القول: بأن هذه الألفاظ باقية في معانيها اللغوية، والزيادات شروط لقبولها وصحتها. وهو غير ثابت».

وعليه يكون إطلاقها على الوظائف الشرعية في لسان الشارع والمتشرعة من باب إطلاق لفظ الكلي على بعض أصنافه أو أفراده، كما قد يناسبه لزوم لام التعريف لها.

ص: 165

لكنه كما ترى! إذ لا ريب في عدم انطباق المعنى الموضوع له بحسب أصل اللغة على بعض تلك الوظائف، غاية الأمر أن تكون بينهما مناسبة مصححة للإطلاق مجازاً، كما في الزكاة على ما تقدم التنبيه عليه.

وإنما يمكن الكلام في ذلك في مثل الصوم مما كانت فيه الوظيفة الشرعية من أفراد المعنى الموضوع له في أصل اللغة: مضافاً إلى أنه أريد ببقاء تلك الألفاظ على معانيها اللغوية بقاؤها عليها حتى في العصور المتأخرة، فهو مخالف للوجدان، لعدم تبادر غير تلك الوظائف منها عند المتشرعة.

ولا ينافيه شيوع دخول لام التعريف عليها، لأنها قد تكون جنسية لا عهدية، نظير اللام في المنقول بالغلبة.

وإن أريد به بقاؤها عليه في عصر الشارع الأقدس فهو راجع إلى إنكار الحقيقة الشرعية، ولا مجال له بعد ما سبق في وجه الاستدلال عليها.

تنبيه:

تنبيه: لزوم التوقف مع عدم معرفة نوع الاستعمال

لو فرض عدم بلوغ ما سبق في تقريب الوضع التعيني مرتبة يصلح بها لليقين بالوضع إما مطلقاً أو في خصوص بعض الألفاظ التي لم يكثر تداولها في الصدر الأول، أو في خصوص بعض الأزمنة، كأوائل عصر النبي (ص) فحيث يعلم بالنقل بعد ذلك يكون استعمال الشارع الألفاظ المذكورة أو بعضها، أو في الزمن المذكور من مواردها إذا علم بتاريخ الاستعمال وشك في تقدم النقل عليه وتأخره عنه، الذي تقدم منا في آخر الكلام في علامات الحقيقة لزوم التوقف فيه والبناء على الإجمال، لا على الحمل على المعنى

ص: 166

القديم، وأظهر من ذلك ما لو علم بتاريخ النقل وشك في تاريخ الاستعمال أو جهل بالتاريخين معاً، فراجع.

الأمر الثامن: الصحيح الأعم

الأمر الثامن: اختلفوا في أن ألفاظ العبادات مختصة بالصحيح منها، أو تعمه والفاسد.

تمهيد وفيه مقدمات

وينبغي تمهيد الكلام في ذلك بذكر مقدمات يتضح بها محل الكلام أو يبتني عليها الاستدلال أو غير ذلك مما له دخل بالمقام.

الأولى: في اختصاص الألفاظ بأحد الأمرين وعصر الشارع

الأولى: لما كانت ثمرة البحث تتعلق بخطابات الشارع الأقدس ونحوها مما له دخل في الحكاية عن الشريعة - على ما يأتي - فالمهم هو اختصاص الألفاظ بأحد الأمرين في عصره.

وحينئذٍ لا ريب في جريان النزاع بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية وحمل الألفاظ المذكورة في استعمالات الشارع واستعمالات الحاكين عنه على الوظائف الشرعية، حيث يقع النزاع في حملها مع التجرد عن القرينة على خصوص الصحيح منها أو الأعم منه ومن الفاسد.

توجيه النزاع مع عدم ثبوت الحقيقة الشرعية بوجوه

أما بناءً على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فحيث لا تكون الوظائف المذكورة موضوعاً لها أشكل تحقق موضوع للنزاع المذكور، حيث لا مجال للحمل على كل من الأمرين بعد كون الاستعمال فيه مجازياً إلا بالقرينة المعينة له.

إلا أنه ربما يوجه النزاع حينئذٍ بوجوه:

الأول: ما أشار إليه الخراساني قدس سره

الأول: ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره من إمكان النزاع في أن أي الأمرين من الصحيح أو الأعم قد لحظت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي اللغوي ويكون الاستعمال في الآخر بتبعه وبمناسبته، بحيث يبتني على

ص: 167

ملاحظة علاقتين علاقته بالأول وعلاقة الأول بالمعنى الحقيقي، فأي منهما كانت العلاقة ملحوظة بينه وبين المعنى الحقيقي يكون مقتضى الأصل الحمل عليه مع القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، ولا يحمل على الآخر إلا مع القرينة المعينة له، لابتنائه على مزيد عناية.

لكنه يرجع إلى إبتناء الاستعمال في الآخر على سبك مجاز في مجاز، وهو في غاية الإشكال، لانحصار مصحح الاستعمال المجازي ارتكازاً في مناسبة المستعمل فيه للمعنى الحقيقي وعدم الاكتفاء بمناسبته لما يناسبه.

اللهم إلا أن الاستعمال فيه مبنياً على التوسع في المجاز الأول، بتنزيله منزلته في طول ملاحظة مناسبته للمعنى الحقيقي كما يظهر من التقريرات. فتأمل.

الثاني: إمكان النزاع في أقربية الأمرين عرفاً

الثاني: إمكان النزاع في أن أي الأمرين أقرب عرفاً، لشدة مناسبته للمعنى الحقيقي، وإن كان الآخر مناسباً له أيضاً، لأن المجازات قد تتفاوت في ذلك، فنفي الماهية - مثلاً - كما يستعمل مجازاً في نفي الصحة يستعمل في نفي الكمال، لمناسبتهما له معاً، وإن كان الأول أنسب، فيكون أقرب عرفاً، فيحمل عليه مع القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي إلا بقرينة معينة للثاني.

لكنه موقوف على كون المناسبة المصححة للاستعمال قابلة للشدة والضعف، وهو غير ظاهر في المقام.

مع أنه لو أمكن دعوى: أن الصحيح أقرب من الأعم لدخل الصحة في شدة المناسبة للمعنى الحقيقي، فلا مجال لدعوى العكس، لأن الصحيح من أفراد الأعم واجد لخصوصية زائدة عليه، فإن كان لتلك الخصوصية

ص: 168

دخل في المناسبة كان أقرب من الأعم، وإن كانت منافية لها كان الأقرب هو الفاسد لا الأعم، وإلا لم يصح الاستعمال في الخصوصية إلا بلحاظ أن واجدها من أفراد الأعم، الذي هو في الحقيقة استعمال في الأعم لا في الصحيح.

الثالث: ما قد يستفاد من كلمات الخراساني قدس سره

الثالث: ما قد يستفاد من بعض كلمات المحقق الخراساني قدس سره من أنه لو علم باستقرار بناء الشارع في محاوراته على التدرج في المجاز بالاكتفاء في أحد المجازين بالقرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، وعدم الاكتفاء في الآخر إلا بالقرينة المعيِّنة له، اتجه النزاع في أن أي الأمرين من الصحيح والأعم هو الذي يكتفى فيه بالقرينة الصارفة. لكن لا طريق لإثبات بناء الشارع على ذلك.

أقول: إن كان بناؤه عليه تبعاً للطريقة العرفية في البيان، لترجح أحد المعنيين في كونه هو الظاهر عرفاً، إما لاختصاصه بالمناسبة للمعنى الحقيقي، ولا يصح الاستعمال في الآخر إلا لمناسبته له أو لأقربيته للمعنى الحقيقي رجع إلى أحد الوجهين الأولين، فيلحقه ما تقدم فيهما.

وإن كان بناؤه عليه اعتباطاًً مع قطع النظر عن الطريقة العرفية في الاستعمال، فهو مما يقطع بعدمه، لاحتياجه إلى عناية خاصة وعدم ترتب الغرض عليه إلا ببيانه، ولو بين لوصل لنا، لتوفر الدواعي على نقله من دون غرض في إخفائه.

الرابع: ما أشار إليه السيد الحكيم قدس سره

مع أن لازمه التوقف لو احتمل ضياع القرينة على المعنى الآخر، لعدم وضوح بناء العقلاء على أصالة عدم القرينة إلا في تنقيح الظهور، دون تنقيح مقتضى طريقة الشارع الخاصة. إلا أن يثبت تعبد الشارع بها بالخصوص،

ص: 169

ودونه خرط القتاد.

الرابع: ما أشار إليه سيدنا الأعظم قدس سره من إمكان النزاع في أن أي الأمرين هو مقتضى القرينة النوعية العامة، حتى يتعين الحمل عليه بتعذر الحقيقة، ولا يحمل على الآخر إلا بقرينة خاصة، نظير النزاع في الأمر الواقع عقيب الخطر.

وهذا لا يخلو عن وجهٍ لو كان هناك ما يصلح لأن يكون قرينة عامة في جميع موارد الاستعمالات المتعلقة بالشارع الأقدس، بحيث يحتاج الخروج عن مقتضاها لقرينةٍ خاصة.

وبهذا وما قبله - لو تَمّا - يتجه النزاع - أيضاً - فيما لو كانت الوظيفة الشرعية من أفراد المعنى اللغوي بحيث لا يكون الاستعمال فيها مجازياً.

أما الوجهان الأولان فلا يجريان إلا فيما كان استعمال اللفظ فيها مجازياً يبتني على ملاحظة المناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.

هذا كله لو احتمل الاستعمال في كل من الصحيح والأعم، أما لو كان المدعى عدم صحة الاستعمال أو عدم وقوعه إلا في أحدهما، إما لانحصار العلاقة به، أو لوجود الجامع بين أفراده دون الآخر، أو لكونه محط الغرض دون غيره فلا إشكال في إمكان النزاع في تعيينه، فلاحظ.

الثانية: محل الكلام هو العبادات التي هي موضوعة - ولو في عرف المتشرعة - للخصوصيات الزائدة أو المباينة للمفاهيم اللغوية، كالصلاة والصوم والاعتكاف والحج وغيرها، دون ما لم يكن كذلك، بل بقي على مفهومه اللغوي وإن قيد في مقام الأمر به ببعض القيود الزائدة على ذلك، كقراءة القرآن والسجود والركوع والدعاء والزيارة، لأن القيود المذكورة لا

ص: 170

توجب تبدل مفاهيمها.

نعم يأتي الكلام إن شاء الله تعالى بعد الفراغ عن محل البحث في هذه المسألة الكلام في المعاملات ذات المضامين الإنشائية الاعتبارية، لأنها تتصف بالصحة والفساد بلحاظ ترتب الآثار المطلوبة عليها وعدمه، فيناسب إلحاقها بمحل الكلام.

الثالثة: المراد من الصحة والفساد

الثالثة: تقدم في المسألة الخامسة من مباحث الأحكام الوضعية أن الصحة والفساد منتزعان من التمامية وعدمها بلحاظ ترتب الأثر المهم، وإن تعريف الصحة تارةً بموافقة الأمر، وأخرى بإسقاط الإعادة والقضاء ليس للاختلاف في مفهومها، بل في معيار صدقها تبعاً للاختلاف في الغرض المهم.

ولا يخفى أن الموافقة والأمر في التعريف الأول يراد بهما

تارةً: خصوص الواقعيين.

وأخرى: ما يعم الظاهرين.

وعلى الأول تكون الموافقة للأمر أخص مورداً من إسقاط الإعادة والقضاء، لأنهما قد يسقطان بالناقص المأتي به غفلةً أو نسياناً أو خطأً أو جهلاً بسبب التعبد الظاهري، كالصلاة في موارد حديث: «لا تعاد...»، والصوم الذي يؤكل حينه نسياناً وغيرهما.

ولا مجال لدعوى: أن الإجزاء في موردٍ كاشف عن تحقق الغرض من الأمر المستلزم لشمول الأمر الواقعي له لباً، لتبعيته للغرض سعةً وضيقاً.

لاندفاعها بما يأتي في مبحث الإجزاء إن شاء الله تعالى.

ص: 171

أما على الثاني فتكون أعم من وجه مورداً من إسقاط الإعادة والقضاء، حيث قد لا يسقط القضاء في موارد موافقة الأمر ظاهراً، كما لو كان الإخلال بالأركان، وقد يسقط مع القطع بالموافقة خطأً من دون تعبد ظاهري في مورده، لامتناع جعل الحجية مع القطع.

هذا، ولم أعثر عاجلاً على تصريح بكلماتهم بتعيين معيار الصحة في المقام، وإن لم يبعد عن أكثر حجج القائلين بالصحيح إرادة الموافقة الواقعية للأمر الواقعي، على ما يتضح عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وهذا لا ينافي ما ذكرناه وأكدوا عليه من أن الاختلاف بين التعريفين لا يرجع للاختلاف في مفهوم الصحة، بل في معيار صدقها.

الرابعة: دخول الأجزاء في محل النزاع

لأنه لا يراد بالوضع لخصوص الصحيح الاكتفاء بوصف الصحة بلحاظ أي منشأ انتزاع فرض، بل بلحاظ منشأ انتزاع خاص يناسب غرض الشارع من التسمية، فلا بد من تعيين ذلك.

الرابعة: لا إشكال في دخول الأَجزاء في محل النزاع، بمعنى أنه على الصحيح تكون تمام الأجزاء مأخوذة في المسمى.

وأما الشروط فقد وقع الكلام بينهم في دخولها مطلقاً، أو عدمه كذلك، أو دخول خصوص الشروط التي يمكن التقييد بها، دون ما يمتنع التقييد به، كقصد امتثال الأمر، أو غير ذلك من التفصيلات التي أطالوا الكلام في الاستدلال لها.

الخامسة: في ثمرة النزاع

والمناسب إيكال ذلك للكلام في حجة القول بالصحيح حتى يتضح مفادها.

الخامسة: ذكروا في ثمرة النزاع أنه على الأعم يتجه الرجوع لإطلاقات

ص: 172

الخطابات المشتملة على عناوين العبادات المذكورة لنفي ما يحتمل اعتباره فيها من الأجزاء والشرائط التي لا يتوقف عليها صدق تلك العناوين عرفاً.

أما على الصحيح فلا مجال لذلك، لأن الشك في اعتبار شيء فيها مساوق للشك في صدق عناوينها بدونه، ولا يمكن الرجوع للمطلق مع عدم إحراز عنوانه.

نعم، بناءً على اختصاص النزاع بالأجزاء أو بها مع بعض الشرائط يمكن الرجوع في غيرها للإطلاق لو تم من جهته، لعين الوجه المذكور له على الأعم، بل هو راجع للأعم من حيثية الشروط المذكورة.

كما أنه لو كان هناك شرح للماهيات المذكورة، كالنصوص البيانية الواردة في الوضوء والصلاة ونحوهما أمكن التمسك بإطلاقه لنفي اعتبار أمرٍ آخر في صدق عناوينها ويرتفع به إجمالها.

دعوى عدم جواز الرجوع لإطلاق الخطاب لوجهين

لكنه خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في إطلاق أحكام هذه العناوين، لا في إطلاق شرحها. فما قد يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من إستثنائه من الثمرة المتقدمة في غير محله.

أولهما: ما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس سره

هذا، وقد يدعى أنه لا مجال للرجوع لإطلاق الخطابات مطلقاً حتى على القول بالأعم لوجهين:

أولهما: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من أنه حيث قام الإجماع بل الضرورة على أن الشارع لا يأمر بالفاسد، فقد ثبت تقييد المسميات المذكورة في أدلتها دفعةً واحدة بكونها صحيحة جامعة لتمام ما يعتبر فيها واقعاً، ولا مجال معه للتمسك بالإطلاق، لعدم الشك في التقييد، بل في تحقق القيد فلا بد من إحرازه.

ص: 173

ويندفع بما أشار إليه قدس سره من أن عنوان الصحيح لم يؤخذ قيداً زائداً في المأمور به، ليمنع من التمسك بإطلاقه، ويجب إحرازه، بل هو منتزع من مقام الأمر ومترتب عليه، لأن كل ما تعلق به الأمر فما يطابقه صحيح، فإذا كان مقتضى إطلاق الخطاب تعلق الأمر بالمسمى مجرداً عن كل قيد كان الصحيح تمام أفراد المسمى المفروض أنه الأعم.

ثانيهما: ما أصر عليه قدس سره في مبحث الأقل والأكثر

مضافاً إلى أن ذلك مختص بإطلاقات الأوامر بالعناوين المذكورة، دون إطلاقات بقية أحكامها، حيث لا ملزم بتقييدها بالصحيح.

إلا أن يدّعى العلم بذلك فيها أيضاً.

ثانيهما: ما أصر عليه قدس سره في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين من أن جميع الأوامر الواردة في الكتاب المجيد بالعبادات - كالصلاة والصوم والحج - ليست واردة في مقام بيان ما هو المشروع منها، بل في مقام الحث والتأكيد عليها، مع إهمال بيانه وإيكاله إلى الخطابات المتعرضة لذلك، الواردة قبله أو التي ترد بعده.

وعمم في التقريرات ذلك لخطابات السنة الشريفة أيضاً، وذكر أنها إما أن تكون في مقام الإهمال أو في مقام بيان خواص العبادات وآثارها من دون أن تكون في مقام بيان مقدار المراد منها، ولم يشذ عن ذلك إلا شاذ.

وما ذكره قدس سره قد يتم فيما ورد في مقام التأكيد على العمل والحث عليه كقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر»(1) وقوله عز اسمه:

«إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا» (2) لأن مقام الحث والتأكيد

ص: 174


1- سورة العنكبوت: 45
2- سورة النساء: 103

يناسب سبق التشريع لما هو المشروع والمفروغية عنه.

أما ما تضمن الأمر بالعمل وتشريعه، كقوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ»(1) وقوله عز وجل: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»(2) فمجرد تضمنه التشريع لا ينافي ثبوت الإطلاق له فيما هو المشروع، لأن مقام التشريع يناسب بيان المشروع، فالاكتفاء في بيانه بذكر العنوان ظاهر في الاكتفاء به على إطلاقه.

وأما ما نظر له به من قول الطبيب للمريض في غير وقت الحاجة: «لا بد لك من شرب الدواء أو المسهل» وقول المولى لعبده: «يجب عليك السفر غداً» حيث لا مجال للتمسك فيها بإطلاق الدواء والمسهل والسفر من دون شرحٍ لها وبيان خصوصياتها المطلوبة.

فهو إنما يسلم في مثل الدواء لقرينةٍ خاصةٍ مانعةٍ من احتمال تعلق الغرض بصرف ماهيته، كما يقتضيه الإطلاق، للعلم باختلاف أفراده في سنخ الأثر، وتضاد كثير من آثارها، وعدم مناسبة كل مرض إلا لبعضها، دون مثل المسهل مما له جهة خاصة يمكن تعلق الغرض بها من دون فرق بين خصوصياتها، وكذا السفر، حيث يمكن تعلق الغرض بمفارقة الوطن هرباً من ظالم أو تخلصاً من تكليف لازم أو نحوهما.

إلا أن يعلم بتعلق الغرض بخصوص بعض خصوصيات المسهل أو السفر، فيمتنع التمسك بالإطلاق، نظير ما ذكرناه في إطلاق الدواء.

لكنه راجع للمانع من الإطلاق، لا لما قد يظهر منه قدس سره من عدم انعقاده

ص: 175


1- سورة هود: 114
2- سورة البقرة: 183

مع ورود الكلام في مقام التشريع.

نعم، لا يبعد عروض الإجمال لأغلب المطلقات المذكورة، لنظير ما سبق، حيث يعلم بعدم إرادة الإطلاق منها، بنحو يكتفي بما ينطبق عليه العنوان بناءً على الأعم، لابتناء الأعم - كما سيأتي - على الاكتفاء في صدق العنوان على بعض الأجزاء المعينة - كالأركان - أو غير المعينة بنحو البدلية، ومن العلوم عدم إرادة الاكتفاء بذلك في شيء من أحكام هذه العناوين، بل لابد فيها من أجزاء خاصة لا يخلُّ تخلفها بالتسمية عرفاً، حيث يكشف ذلك عن ورود الإطلاقات لمحض التشريع مع إيكال - بيان حدود المشروع إلى غيرها - ولعل هذا هو مراد شيخنا الأعظم قدس سره.

هذا وقد حكى في الفصول عن جماعة جعل الثمرة هو الرجوع للإشتغال عند الشك في اعتبار شيء في العبادة بناءً على الصحيح دون الأعم.

وهو إنما يتجه بناءً على التفصيل في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين بين كونه مسبباً عن إجمال العنوان وعدمه، فيرجع في الأول للإشتغال وفي الثاني للبراءة.

إذ لو قلنا بعموم الرجوع فيه للاشتغال لم يفرق بين الصحيحين والأعم، إلا بناءً على تمامية الإطلاق على الأعم - على ما سبق الكلام فيه - فيرفع به اليد عن الأصل.

ولو قلنا بعموم الرجوع فيه للبراءة - كما هو الظاهر - لم يفرق بينهما أيضاً. إلا بناءً على بعض وجوه الجامع الصحيحي الآتية المستلزمة لرجوع الشك للشك في الامتثال الذي لا إشكال في الرجوع فيه للإشتغال

ص: 176

هذا، وربما تتضح بعض الثمرات عند الكلام في الجامع الصحيحي والأعمي، الذي يدعي أنه المسمى على كل من القولين.

السادسة: لابد من فرض الجامع

السادسة: الوضع لكل من الصحيح والأعم يبتني على فرض الجامع بين أفراد كل منهما يكون هو الموضوع له بعد وضوح كون الوضع في المقام من باب الوضع العام والموضوع له عام، لما هو المعلوم من إمكان الاستعمال في المفهوم الجامع مع قطع النظر عن الخصوصيات الفردية.

بل لو كان من باب الوضع العام والموضوع له خاص فقد سبق أنه لابد فيه من ملاحظة الجامع، إما لكونه دخيلاً في الموضوع له بنحو تكون الخصوصيات قيداً فيه على البدل، أو لكونه معياراً لتعين الخصوصيات الموضوع لها وضبطها.

ومن هنا يتعين الكلام في تعيين الجامع على كل من القولين، بل هو من أهم مباحث المسألة وعمدة ما يبتني الاستدلال عليه فيها.

والكلام فيه في مقامين:

ص: 177

المقام الأول في الجامع الصحيحي

المقام الأول في الجامع الصحيحي

وقد يشكل تصويره لوضوح اختلاف أفراد الصحيح في كثير من العبادات - كالوضوء والصلاة والحج - اختلافاً فاحشاً.

ما ذكره الخراساني قدس سره من فرض الجامع

وقد جزم المحقق الخراساني قدس سره بوجوده وإمكان الإشارة إليه بخواصه وآثاره.

قال: «فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذلك الجامع، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة - مثلاً - بالناهية عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن ونحوهما».

وقريب منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره.

ابتناء ما ذكره على أمور

وما ذكره قدس سره يبتني..

أولاً: على ما أشار إليه هنا وفى غير مقام من ملازمة وحدة الأثر لوحدة المؤثر، بنحو يكشف عن جهة مشتركة بين الأمور المؤثرة يستند إليها الأثر.

و ثانياً: على امتياز كل عبادة ذات عنوان خاص بأثر يخصها، لا يشاركها فيه غيرها، من العبادات أو غيرها.

و ثالثاً: على عموم الآثار المذكورة لتمام أفراد الصحيح وقصورها

ص: 178

عن تمام أفراد الناقص حتى المجزئ منها، بناءً على أن مرادهم بالصحيح - الذي يدّعى الوضع له - خصوص مطابق الأمر - كما سبق تقريبه - لا مطلق المجزئ.

أما الأخير فلا طريق لإثباته، لأن الآثار المذكورة سيقت في الأدلة لبيان الفائدة لا لبيان ملاك الأمر، كي يدور مدارها وجوداً وعدماً، فلا مانع من عمومها للناقص غير المأمور به، خصوصاً ما كان نقصه مجهولاً للمكلف عند إتيانه به.

كما لا مانع من قصورها عن بعض أفراد المأمور به، واختصاصها بالكامل منها المشتمل على شروط القبول أو بعضها، إذ لا طريق لإثبات عمومها لتمام أفراده إلا الإطلاق الذي يشكل الاستدلال به مع عدم وروده لبيان المأمور به، بل في مقام الحث والتأكيد على المأمور به بعد الفراغ عن مشروعيته.

ولاسيما مع ظهور بعض أدلة شروط القبول في عدم الإعتداد بالعمل بدونها، حيث يقرب جداً كون مصححه عدم ترتب مثل هذه الآثار المهمة بل هو صريح خبر يونس بن ظبيان «قال أبو عبد الله (ع): إعلم أن الصلاة حجزة الله في الأرض فمن أحب أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته فلينظر، فإن كانت صلاته حجزته عن الفواحش و المنكر فإنما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز»(1).

ومثله الثاني، لأن مجرد نسبة الأثر للماهية لا يقتضي اختصاصها بها، وليس في أدلته قرائن تقضي بالاختصاص، كما لعله لم يرد في بعض

ص: 179


1- وسائل الشيعة ج: 4 باب: 2 من أبواب أفعال الصلاة حديث: 8

الماهيات أدلة تشهد بثبوت آثار لها، ليقع الكلام في اختصاصها بها.

الكلام في ملازمة وحدة الأثر لوحدة المؤثر

وأما الأول فالكلام فيه..

تارةً: في انطباق الكبرى المذكورة على المقام.

وأخرى: في الدليل عليها.

وقد استشكل سيدنا الأعظم قدس سره في الأول بأنها إنما تلزم بفرض الجامع في المقام لو كانت أفراد العبادة علة حقيقية للأثر المذكور، أما لو كانت علة معدة له فلا ملزم بالجامع بينها، لأن كلاً من وجود الشرط وعدم المانع مؤثر في القابلية مع عدم الجامع بين الوجود والعدم.

ويندفع: بأن كونها معدات إنما يمنع من لزوم فرض الجامع بينها لو اختلف سنخ تأثيرها فيه، كالشرط وعدم المانع، لرجوعه إلى اختلاف الأثر حقيقةً، لأن أثر كل جزءٍ من أجزاء العلة جهة خاصة من جهات المعلول.

أما مع اتحاد جهة التأثير فاللازم البناء على وجود الجامع بين المؤثرات لو تمت الكبرى المذكورة، وظاهر نسبة الآثار في الأدلة للعبادات كونها - بتمام أفرادها - مقتضيات لها، لأن المقتضي هو الذي يصح نسبة الأثر له عرفاً، دون الشرط وعدم المانع.

بل ظاهرها فعلية ترتبها عليها، إما لكونها عللاً تامة، أو لتحقق بقية أجزاء العلة معها.

وأما الثاني، فالذي ذكره المحقق الخراساني قدس سره في مبحث الواجب التخييري في وجه الكبرى المذكورة: أنه لابد من نحو من السنخية بين العلة والمعلول.

ص: 180

فإن كان المراد بالسنخية كون الأثر من سنخ المؤثر كي يلزم اتحاد المؤثرات سنخاً بعد فرض أثرها، الذي هو عبارة أخرى عن لزوم الجامع بينها، فلا ملزم به، بل لا مجال له، لرجوعه إلى لزوم وجود الجامع الماهوي بين العلة والمعلول، ولا يظن من أحدٍ البناء عليه.

وإن كان المراد بها أن استناد الأثر للمؤثر ليس اعتباطياً بل هو تابع لخصوصية ذاتيهما، لما قيل: من أنه لولا ذلك لأثَّر كل شيء في كلِ شيءٍ، فهو لا يقتضي لزوم الجامع بين المؤثرات بحيث يستند له الأثر دون خصوصياتها، إذا لا استحالة في كون خصوصية ذات الأثر الواحد تناسب تحققه، بمؤثرات متعددة لا جامع بينها، ومن هنا لا مجال للبناء على الكبرى المذكورة.

وقد أصر ما ذكرنا بعض المحققين وغيره، مدعياً اختصاص الملازمة المذكورة بالواحد الشخصي، لاختصاص برهانها به، على ما أطال الكلام فيه بما لا يسعنا التعرض له، بل يظهر منه إنكار هذه الملازمة في الواحد النوعي من صدر المحققين، كما يظهر من غيره معروفية إنكارها فيه بين جماعة من أهل المعقول.

هذا كله بالنظر للمقدمات التي ابتنى عليها إستكشاف الجامع المذكورة، وأما بالنظر له في نفسه فيشكل من وجهين:

المناقشة فيما ذكره من وجهين

أولهما: أنه كيف يمكن فرض الجامع الماهوي الحقيقي بين أفراد الصحيح مع اختلافها في الخصوصيات المعتبرة في فردية الفرد له، فإنه وإن أمكن اختلاف أفراد الماهية الواحدة في الخصوصيات، بل هو مما لابد منه في تعددها، إلا أنه ليس بنحو تكون الخصوصيات دخيلة في فردية الفرد

ص: 181

للماهية، بل هي زائدة عليها لا يستلزم تخلفها خروج الفرد عن الفردية.

أما الخصوصيات المتباينة في المقام فقد تكون مقومة لفردية الفرد، لتوقف الصحة عليها فيه دون غيره من الأفراد، بل قد تكون مانعة عن فرديتها، كالركعة الرابعة المقومة لصلاة العشاء والمبطلة لصلاة المغرب.

نعم، لو لم يكن المؤثر المسمى متحداً مع الفعل ذي الأجزاء والشرائط بل مبايناً له مسبباً عنه ارتفع المحذور المذكور، لإمكان اختلاف أفراد السبب بهذا الوجه، كالبناء المؤثر للظل الذي يستعمل فيه مقدار خاص من الماء في حالة، وقد يخل به المقدار المذكور في حالة أخرى.

لكن لا مجال للالتزام بذلك في المقام، لما هو المعلوم من اتحاد المسمى مع الفعل بنحو يصح حمله عليه، وليس أحدهما مسبباً عن الآخر، ولذا كان المرجع مع الشك في الجزئية أو الشرطية هو البراءة عند المشهور، مع أن المسمى لو كان هو المسبب عن الأجزاء والشرائط رجع الشك للشك في المحصل الذي هو مجرى قاعدة الاشتغال بلا إشكال.

ثانيهما: أن وجود القدر المشترك واقعاً لا يكفي في التسمية ما لم يكن معلوماً ومحدوداً ولو إجمالاً، ليتصور عند الوضع في مقام تعيين اللفظ بأزائه، وعند جعل الحكم له في مقام التشريع وعند الاستعمال في مقام الحكاية عنه وأدائه باللفظ.

وحينئذٍ فالجامع الماهوي الحقيقي المذكور إن كان مدركاً بنفسه إستغني عن إستكشافه بالأثر وكان المناسب التنبيه على حدوده ولو بالرسم، وإن لم يكن مدركاً بنفسه لم يكف وجوده واقعاً في صحة الوضع له والاستعمال فيه.

ص: 182

دعوى تصور الجامع من طريق أثره ودفعها

ودعوى: أنه يكفي تصوره من طريق أثره إجمالاً، فالصلاة - مثلاً - هي الذات الناهية عن الفحشاء، بما لها من واقع متقرر في نفسه.

مدفوعةٌ: بأن اللازم عدم انفكاك تصور المسمى عند الاستعمال عن تصور الآثار المذكورة لانحصار طريق تصوره بتصورها، وهو مخالف للوجدان، بل قد يتصور معاني هذه الألفاظ في مقام الاستعمال وغيره من لا يعلم بثبوت الآثار المذكورة لها.

كيف ولازمه لغوية بيان ثبوت هذه الآثار لها في القضايا المتضمنة لذلك لرجوعه إلى قضية بديهية بشرط المحمول؟. على أن ذلك - لو تم. أغنى عن استكشاف الجامع الحقيقي بالملازمة المدعاة بين وحدة الأثر ووحدة المؤثر، حيث يكفي الجامع الانتزاعي بين الذوات المؤثرة للأثر المذكور وإن فرض عدم الجامع الحقيقي بينها.

وبالجملة: ما ذكره قدس سره في تصوير الجامع غير تام في نفسه، ولا خالٍ عن المحذور.

ومما ذكرناه أخيراً يظهر أنه لا مجال لدعوى: انتزاع الجامع المذكور من الآثار المذكورة، على أن تكون مقومةً له مفهوماً، بلحاظ أن الجهة العرضية المشتركة صالحة لانتزاع العنوان القابل للتسمية، بلا حاجة إلى الملازمة بين وحدة الأثر ووحدة المؤثر.

لاندفاعها: بأن لازمها عدم تصور معاني هذه الألفاظ إلا بتصور هذه الآثار، ولغوية بيان ثبوتها لها، نظير ما سبق، بل لا ريب في عدم التطابق المفهومي بين مثل الصلاة والناهي عن الفحشاء، ولا يكون الحمل بينهما أولياً ذاتياً.

ص: 183

على أن لازم ذلك الرجوع مع الشك في اعتبار شيء فيها للاشتغال للشك، في تحقق العنوان المكلف به الموجب للشك في الامتثال بدونه، لأن العنوان المذكور حيث كان منتزعاً من جهة زائدة على فعل المكلف وهي ترتب الأثر الخاص عليه كانت مصب التكليف عرفاً، وحيث كانت معلومة فلا إجمال في المكلف به، ليقتصر على المتيقن منه، بل يجب إحراز الفراغ عنها نظير الشك في المحصل.

وتردد الفعل الواجد لتلك الجهة بين الأقل والأكثر لا يوجب إجمال المكلف به، لأن التكليف به لا يرجع للتكليف بمقدار خاص منه يفرض فيه الإجمال، بل إلى التكليف بما يحصل الأثر منه مع إبهام مقداره وعدم النظر إليه.

نعم، لو لم يكن العنوان منتزعاً من جهة زائدة على فعل المكلف، بل حاكياً عن الفعل بنفسه كان تردد الفعل بين الأقل والأكثر مستلزماً لإجمال المكلف به، فيرجع فيه للبراءة.

وكذا لو كان منتزعاً من جهة زائدة على فعل المكلف إلا أنه لم يكن موضوعاً للتكليف بنفسه وبمنشأ انتزاعه، بل سبق لمحض الحكاية عن الفعل بذاته معرّىً عن كل جهةٍ خارجة عنه، كما ذكرناه أولا في ذيل تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره.

وقد أطلنا الكلام في ذلك في التنبيه الأول من تنبيهات أصل البراءة. فراجع.

ولعل المحقق الخراساني قدس سره إنما أصر على جريان البراءة لفرضه الجامع المتحد مع الأجزاء حاكياً عنها بذواتها لا بلحاظ ترتب الأثر عليها،

ص: 184

وإن كان مستكشفاً بالأثر بضميمة الملازمة التي ادعاها.

ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره

هذا وقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره أنه لا مجال لتقرير الجامع بنحو يشمل تمام أفراد الصحيح، إذ لا مجال لفرض الجامع المركب المبتني على ملاحظة الأجزاء والشرائط بخصوصياتها بعد اختلاف أفراده فيها اختلافاً فاحشاً، فكلما هو صحيح في حال فاسد في آخر، ولا الجامع البسيط المنتزع من جهة عرضية أو إضافية أو نحوهما خارجة عن الأجزاء والشرائط.

كالمنتزع من الأثر الخاص أو نحوه، لنظير ما سبق منا.

وحينئذٍ ذكر - كما في التقريرات - أن الوجه هو الالتزام بأن الموضوع له هو خصوص الأجزاء والشرائط الشخصية الثابتة في حق القادر المختار، العالم العامد، من دون حاجة إلى فرض جامع عنواني بسيط بينها، وليس ما ثبت في حق غيره من أفراد المسمى الحقيقية، بل هو بدل مسقط عنه.

نعم، قد تكون حقائق متشرعية ناشئة عن توسع المتشرعة في استعمال الألفاظ فيها بسبب ترتب الأثر المهم عليها، وكثر ذلك منهم حتى صارت حقائق عندهم، لكن لا بلحاظ انتزاعهم الجامع بينها وبين المعنى التام بل بلحاظ وضعهم لأفراد الناقص لمشاركتها للموضوع له الأصلي في مناط التسمية عندهم، نظير الوضع العام والموضوع له الخاص الذي لا يفرض فيه قدر جامع في مقام الاستعمال في الأفراد.

الإشكال عليه من وجوه

ويشكل ما ذكره من وجوه:

أولها: اختلاف الشرائط في نفسها

أولها: أن الأجزاء والشرائط الثابتة في حق القادر المختار العالم العامد مختلفة في أنفسها باختلاف الأوقات والحالات والأفراد فتختلف الصلاة اليومية في أفرادها وفي حالتي الحضر والسفر، كما تختلف عن بقية

ص: 185

الفرائض، وتختلف الفرائض عن النوافل، والنوافل فيما بينها، وتختلف أقسام الحج والعمرة، إلى غير ذلك، فلو أمكن فرض القدر الجامع بين الأفراد المختلفة أمكن فرضه بينها وبين ما ثبت في حق غير الشخص المذكور.

ثانيها:

ثانيها: أن دعوى كون الوضع أو الاستعمال في لسان المتشرعة بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص مخالفة للمرتكزات الاستعمالية القطعية، حيث لا إشكال في كثرة موارد ملاحظة القدر الجامع عند الاستعمال، كما في المثنى والجمع والاستعمال في الماهية.

بل دعوى ذلك في لسان الشارع الأقدس أهون من دعواه في لسان المتشرعة، لأن إدراك المستعمل فيه في لسانه بالتبادر بضميمة أصالة تشابه الأزمان، وفي لسانهم بالوجدان غير القابل للتشكيك.

ثالثها:

وثالثها: أن التزام عدم إطلاق العناوين المذكورة في لسان الشارع على ما ثبت في حق المضطر غريب جداً لا يناسب الآيات والنصوص، فقد صدرت آية التميم بقوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ...»(1)، وقال تعالى: - في صلاة الخوف - «وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ...»(2)، إلى غير ذلك مما يتضح بأدنى نظرة في الاستعمالات.

ومن الغريب جداً التزامه بأن ثبوت الأجزاء والشرائط غير المتعذرة في حق من يكتفى منه بالعمل الاضطراري من بعض الجهات ليس لإطلاق أدلتها - لأن موضوعها المسمى، وهو خصوص التام - بل للإجماع على

ص: 186


1- سورة المائدة: 5
2- سورة النساء: 102

ثبوت تلك الأجزاء في حق من لم تتعذر عليه.

ما ذكره قدس سره من امتناع فرض الجامع المركب

وأما ما ذكره من امتناع فرض الجامع المركب الحاكي عن الأجزاء والشرائط الشخصية، فقد أورد عليه سيدنا الأعظم قدس سره بإمكان كون الجامع مركباً ينطبق على القليل والكثير بأن يكون القليل في بعض الأحوال واجداً لجهاتٍ يكون بها مصداقاً للمفهوم المركب بعين مصداقية الكثير له، فكما جاز أن يكون التراب أحد الطهورين عند فقد الماء جاز أن يكون القليل قائماً مقام الكثير في فرديته للجامع بلا قصور فيه.

نعم، جعله مركباً من خصوص الأجزاء المعنونة في كلماتهم من التكبير والقراءة ونحوهما مانع من انضباطه بنحو يصدق على القليل والكثير صحيحين، لكن لا ملزم به في مقام تصوير الجامع ثبوتاً.

ويندفع: بأن ذلك راجع إلى عدم انطباق الجامع على الأجزاء بأنفسها وذواتها، بل بلحاظ خصوصية زائدة عليها، نظير عنوان الطهورية في التراب، وذلك هو المراد بالجامع البسيط، إذ لا يراد به في كلام شيخنا الأعظم قدس سره ما لا ينطبق على المركب الخارجي، بل ما لا يحكي عن خصوصيات أجزائه المتكثرة، وإنما يحكي عن جهة قائمة بتمام أجزائه على اختلافها مع النظر للأجزاء بنحو الإبهام من حيثية النوع والكم.

وحينئذٍ يجري فيه ما أورده شيخنا الأعظم قدس سره على الجامع البسيط، فلاحظ.

هذا، وربما يقرر الجامع الصحيحي بوجه لابد في توضيحه من مقدمة..

وهي: أنه لا إشكال في تعين الماهيات الحقيقة تبعاً لحدودها الواقعية.

فكل شيء يلحظ معها إما أن يكون دخيلاً فيها، فيتعذر صدقها بدونه،

ص: 187

أو غير دخيل فلا يتوقف صدقها عليه، بل لو قارنها في الفرد كان خارجاً عنها غير دخيل في فردية الفرد لها، ولا محكي باللفظ الدال عليها عند إطلاقه على ذلك الفرد، ولا يعقل الترديد فيها بالإضافة للشيء الواحد بنحو لا يتوقف صدقها عليه، لكن لو قارنها كان دخيلاً في فردية الفرد لها ومحكياً بلفظها إذا أطلق على ذلك الفرد، لتبعية حدود الماهية لواقعها غير القابل للترديد، وليست فردية الفرد إلا متفرعة على الواقع المذكور من دون أن تكون دخيلة فيه، ليمكن اختلافها باختلاف الأفراد.

ولذا سبق في تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره امتناع فرض الجامع الحقيقي الماهوي بين أفراد الصحيح مع اختلافها في الأجزاء المعتبرة فيها.

أما الماهيات الاعتبارية المخترعة فلا مانع من الترديد فيها، لتقومها بالاعتبار، ولا حرج على المعتبر في كيفية اعتبارها، بل له لحاظها بالإضافة لبعض الخصوصيات بنحو الترديد تبعاً لاختلاف الأفراد فيها سواء كانت تلك الخصوصيات من سنخ ما به الاشتراك بين الأفراد أم من سنخ آخر.

فمثلاً: مفهوم الدار لابد فيه من مكان مسور مشتمل على غرفة، إلا أنه قد أُخذ لا يشرط بالإضافة إلى عدد الغرف، وإلى بعض الكماليات، كالحمام والسرداب، فهي في ظرف عدمها في الفرد لا تخل بصدق الدار التامة عليه، وفي ظرف وجودها لا تكون زائدة عليها خارجة عنها، بخلاف مثل المحل التجاري، فإنه لو اتصل بالدار لم يدخل فيها، بل يكون المجموع أكثر من دار.

إذا عرفت هذا، فاختلاف أفراد الصحيح في الأجزاء والشرائط سنخاً

ص: 188

وكماً لا يمنع من فرض جامع اعتباري بينها قد أخذت فيه خصوصيات الأجزاء بنحو الترديد، تبعاً لاختلاف الأفراد فيها، إلا أنه لابد فيه من لحاظ جهة تجمع شتات أفراده المختلفة، وتقصر عن غيرها من أفراد الفاسد.

والإشكال إنما هو في تعيين تلك الجهة، بعدما عرفت من أنه لا مجال للبناء على لحاظ جهة عرضية أو انتزاعية خارجة عن حقيقة الأجزاء مختصة بالأفراد الصحيحة التي يبتني عليها الجامع البسيط، كما سبق، ومع ما هو المعلوم من أن أي مقدار فرض من الأجزاء والشرائط لا يطابق الأفراد الصحيحة، لأنه صحيح في حال دون آخر، ولذا منع غير واحد من وجود الجامع الصحيحي.

لكن الظاهر أن الإشكال المذكور مختص بما إذا كان الوضع تعيينياً من قبل الشارع الأقدس مع قطع النظر عن التشريع، حيث لا جهة تصلح للتعيين حينئذٍ وقد سبق في مبحث الحقيقة الشرعية أنه لا مجال للبناء عليه، بل الوضع تعيني مستند للاستعمالات المتكثرة من الشارع والمتشرعة في المعاني الشرعية بعد الابتلاء بها بسبب التشريع، إذ عليه يمكن كون التشريع معياراً عندهم في التسمية، لا بمعنى أن الوضع يكون للمشروع بما هو مشروع، ليرجع للجامع البسيط، الذي لا مجال للبناء عليه، بل بمعنى أن العرف الخاص بعد الالتفات لأفراد المشروع من كل حقيقة من هذه الحقائق، وإدراك نحو سنخية بينها، ينتزع منها جامعاً اعتبارياً صالحاً للانطباق عليها ويكون الوضع له.

ولا مانع من شمول الجامع المذكور لما شرع بعدها لتحقق ملاك التسمية فيه.

ص: 189

فالتشريع يكون طريقاً لتحديد المتشرعة الأفراد التي ينتزع الجامع منها بعد إدراك نحو من السنخية بينها، مع انطباق الجامع على كل فردٍ فرد بما له من أجزاء وشرائط إقتضاها التشريع بعناوينها الذاتية، وليست خصوصياتها ملحوظة إلا بنحو الترديد تبعاً لواقع الأفراد المشروعة المختلفة فيها.

ومثل هذا الجامع يمكن الوضع له ثبوتاً، وإن كان إحراز ذلك موقوفاً على النظر في حجة القول بالصحيح.

هذا، ولا يخفى أنه لا مجال لاستعمال الشارع في الجامع المذكور في مقام تشريع الماهية أو تشريع فرد منها، لتأخر صدق العنوان عن التشريع رتبة، بل لابد في بيان ما هو المشروع من الاستعمال بوجه آخر، ولو بالاستعمال في المعنى اللغوي مع تقييده ببعض القيود بنحو تعدد الدال والمدلول.

وحينئذٍ لو شك في اعتبار شيء فيه بنحو تتوقف صحته عليه ولا يكون مشروعاً بدونه لم يكن موضوع للثمرة المتقدمة، وهي إجمال الخطاب بسبب إجمال العنوان الصحيحي من حيثية الأمر المشكوك، لفرض عدم الاستعمال فيه، بل يتعين الرجوع لدليل التشريع فان نهض ببيان اعتباره أو عدمه، وإلا كان المرجع الأصل.

نعم، يمكن الاستعمال فيه من قبل الشارع أو المتشرعة بعد الفراغ عن التشريع..

تارةً: في مقام الإخبار عن التشريع في مثل قولنا: «الصلاة أو صلاة الظهر واجبة».

وأخرى: في مقام بيان أمر آخر، كقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ

ص: 190

الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» (1) وقولنا: «زيد كثير الصلاة».

وثالثةً: في مقام الحث على العمل كقوله تعالى: «حافظوا على الصلوات»(2).

ورابعةً: لبيان طلبه بعنوانه خاص زائداً على مطلوبيته الذاتية اللازمة لمشروعيته، كما قد يقال في مثل: لا تدع المسجد من دون صلاة.

أما في الأول فيمكن الشك في اعتبار شيء في العمل يبطل بدون.

والظاهر في مثله عدم التمسك بالإطلاق، لعدم إحراز صدق العنوان بدون المشكوك بعد احتمال عدم مشروعية العمل بدونه، ليدخل في ضابط أفراده.

بل يكون مجملاً من حيثية المشكوك، كما سبق عند بيان ثمرة النزاع.

وأما في بقية الصور فحيث لم يكن المقصود للمتكلم بيان المشروع، بل بيان بعض ما يتعلق به بعد الفراغ عن مشروعيته بحدود، فلا إطلاق من حيثية ما يعتبر فيه ليقع الكلام في التمسك به.

نعم، يمكن في الأخير الشك في اعتبار شيء في موضوع المطلوبية الزائدة من دون أن يخل تخلفه بصحة العمل ومشروعيته الذاتية، بل بخصوصيته، وحيث كان ظاهر المتكلم بيان موضوع المطلوبية الزائدة أمكن التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار ذلك، لصدق العنوان بدونه، بناءً على أن المراد به الجامع المذكور، وربما يأتي عند الاستدلال للصحيح والأعم بعض ما ينفع في المقام، ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

ص: 191


1- سورة العنكبوت: 45
2- سورة البقرة: 238

المقام الثاني في الجامع الأعمّي

وبما سبق منا في تقريب الجامع الصحيحي يتضح تقريب الجامع الأعمي، لأنه بعد ابتلاء أهل العرف الشرعي بالماهيات المخترعة الجديدة والنظر إلى أفرادها المختلفة، وإدراك نحو سنخية بينها، فكما يمكنهم انتزاع جامع اعتباري بين أفرادها المشروعة مع أخذ خصوصيات الأجزاء فيه بنحو الترديد حسب اختلاف الأفراد فيها، كذلك يمكنهم انتزاع جامع أوسع يشمل هذه الأفراد وما يشبهها عرفاً مما يسانخها في الأجزاء، وإن كان فاسداً لعدم مشروعيته.

وعليه في الجملة يبتني تقسيم العمل إلى التام والناقص والصحيح والفاسد، لأن التقسيم فرع ملاحظة جامع بين القسمين يكون مقسماً لهما.

ولعله إلى هذا يرجع تقرير الجامع بأنه: عبارة عن معظم الأجزاء التي تدور التسمية مدارها عرفاً، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى وعدمه عن عدمه، وفي التقريرات أنه نسب إلى جماعة من القائلين بالأعم، بل قيل: أنه المعروف بينهم.

حيث لا يبعد عدم إرادتهم الوضع لمفهوم المعظم، لعدم انسباقه من

ص: 192

هذه الألفاظ، بل لواقع الأجزاء التي يتحقق بها المعظم في الخارج. كما لا يبعد أن يراد بالمعظم الجملة المعتد بها التي يكتفي بها في صدق الاسم عرفاً بنحو البدلية، لا خصوص أجزاء معينة منها كالأركان، لوضوح صدق المسمى عرفاً مع الإخلال بأي جزء فرض.

وأيضاً لا يراد بالوضع لها الوضع لخصوصها بحيث يكون انضمام الباقي لها موجباً للزيادة على المسمى، للقطع ببطلانه، بل لزومها في تحقق المسمى.

وإن صدق المسمى على التام بمجموعه، بل على الزائد عليه أيضاً.

غاية الأمر أنه يلزم الترديد بالإضافة لخصوصيات الأجزاء المختلفة حسب اختلاف الأفراد فيها سنخاً وكماً، وقد سبق في تقريب الجامع الصحيحي أنه ليس محذوراً في المقام.

ومنه يظهر حال ما أورد عليه في التقريرات والكفاية مما يبتني على امتناع الترديد في المفهوم بالإضافة للخصوصيات التي تختلف الأفراد فيها.

ولعل هذا أحسن الوجوه المذكورة في المقام وأبعدها عن الإشكال، كما يظهر، بمراجعة تلك الوجوه في التقريرات والكفاية وغيرهما، ولا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ذلك.

الاستدلال على الصحيح بوجوه

إذا عرفت هذا، فقد استدل على الصحيح بوجوه:

أولها: التبادر

أولها: التبادر. وقد سبق في تقريب الجامع الصحيحي أنه لا إجمال في مفهومه كي يتعذر التبادر إليه، غاية الأمر أن تفرع فردية الفرد منه على تشريعه مانع من الحمل عليه في الخطابات المتكلفة للتشريع، وأنه لا مانع من إرادته في مقام الإخبار عنه أو غيره مما لا يرجع إلى مقام التشريع.

ص: 193

لكن قد يجاب عن التبادر: بإمكان استناده إلى كون الصحيح محط الأغراض والآثار، فإن ذلك كالقرينة العامة على إرادته عند الإطلاق، المانعة من القطع باستناد التبادر لحاق اللفظ.

ثانيها: صحة السلب

ثانيها: صحة السلب عن الفاسد، فقد أصر عليها المحقق الخراساني قدس سره مدعياً أن الإطلاق وإن صح تسامحاً وبالعناية إلا أن السلب يصح أيضاً بالمداقة، التي هي المعيار في الكشف عن قصور المعنى الموضوع له عن مورد السلب.

لكن المتيقن صحة السلب بلحاظ عدم ترتب الأثر المهم - كالأجزاء وفراغ الذمة - المصحح لتنزيل العمل منزلة العدم، أما صحته بلحاظ المعنى الارتكازي للمسميات التي هي علامة المجاز فهي لا تخلو عن إشكال، ولا يتسنى القطع بها.

ثالثها: ما تضمنته الآيات والروايات

ثالثها: ما تضمن من الآيات والروايات إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات، كقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ»(1).

وقوله (ص): «الصلاة عماد دينكم»(2)، وقوله عليه السلام: «الصلاة قربان كل تقي»(3)، وقوله عليه السلام: «الصوم جنة من النار»(4)، وقوله عليه السلام: «حجوا واعتمروا تصح أبدانكم، وتتسع أرزاقكم، وتكفون مؤنة عيالاتكم»(5).

بدعوى: أن مقتضى إثباتها للماهية ثبوتها لجميع أفرادها، وحيث لا

ص: 194


1- سورة العنكبوت: 45
2- الوسائل ج 2، باب: 1 من أبواب الاستحاضة، حديث: 5
3- الوسائل ج 4، باب: 12 من أبواب قواطع الصلاة، حديث: 6
4- الكافي كتاب الايمان والكفر، باب: دعائم الإسلام، حديث: 5، ج 2:19
5- الوسائل ج 8، باب: 1 من أبواب وجوب وشرائطه، حديث: 7

تثبت للفاسد لم يكن من الأفراد الداخلة في المسمى.

وكذا ما تضمن أخذ بعض الأجزاء والشرائط في الماهية كقوله عليه السلام:

«لا صلاة إلا بطهور»(1) وقوله عليه السلام: فيمن لا يقرء بفاتحة الكتاب في صلاته:

«لا صلاة له إلا أن يقرأ بها...»(2) وقوله عليه السلام: «فإن النبي (ص) قال: إن أصحاب الأراك لا حج لهم - يعني الذين يقفون عند الأراك»(3)، لظهوره في عدم صدق معاني هذه الألفاظ حقيقةً على الفاقد لهذه الأمور وإن صدقت عليها تسامحاً.

لكن سبق عند الكلام في تقريب المحقق الخراساني قدس سره للجامع الصحيحي أنه لا مجال لاستفادة اختصاص الآثار بالأفراد الصحيحة ولا عمومها لجميعها من الأدلة المثبتة لها.

على أنها لو إختصت بها فلعله ليس لانحصار أفراد المسمى بالصحيح، بل لورود أدلة هذه الآثار للحث على العمل تأكيداً لداعوية التشريع ودفعاً للعمل بمقتضاه، فيختص ما يقصد بيانه منها بمورده وإن كان المسمى أعم منه.

دعوى منع اعتماد المتكلم على القرينة ودفعها

ودعوى: أنَّ اعتماد المتكلم على القرينة المذكورة خلاف الأصل، وأن مقتضى الأصل جريه على مقتضى الوضع.

مدفوعة: بأنه لم يتضح بناء العقلاء على عدم اعتماد المتكلم على ما يحتف بالكلام مما هو صالح للقرينية مع الشك في المراد فضلاً عما لو علم

ص: 195


1- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 1
2- الوسائل ج 4، باب: 1 من أبواب القراءة في الصلاة، حديث: 1
3- الوسائل ج 9، باب: 19 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، حديث: 11

بالمراد وشك في كيفية الاستعمال، والمتيقن إنما هو بناؤهم على أصالة عدم القرينة عند الشك في وجودها مع الشك في المراد، كما أشار إليه في الجملة المحقق الخراساني قدس سره.

وأما ما تضمن نفي الماهية بانتفاء بعض الأجزاء والشرائط فالاستدلال به موقوف على إحراز كون النفي حقيقياً بلحاظ انتفاء المسمى لا ادعائياً بلحاظ عدم ترتب الأثر المهم، ولا تنهض أصالة الحقيقة بذلك، لأن المتيقن من بناء العقلاء عليها ما لو شك في المراد دون ما لو علم بالمراد وشك في كيفية الاستعمال.

ومن الظاهر أن ما سيق الكلام له وكان هو الغرض الأقصى للمتكلم ليس هو بيان سعة المفهوم وتحديد انطباقه، نظير كلام اللغويين، ليرجع الشك في كون النفي حقيقياً أو ادعائياً إلى الشك في المراد الذي هو مجرى أصالة الحقيقة، بل بيان عدم الاعتداد بالعمل في مقام الامتثال، لأن ذلك هو وظيفة الشارع الأقدس، ولذا لو دل على الاجتزاء بفاقد الجزء أو الشرط دليل كان معارضاً للأدلة المتقدمة، ولو كانت تلك الأدلة مسوقة لتحديد المفهوم لم يكن معارضاً لها، لأن عدم صدق المسمى على الفاقد لا ينافي الاجتزاء به بدلاً عنه.

فمع العلم بمراد المتكلم - وهو عدم الإعتداد بالفعل الناقص في مقام الامتثال - لا تنهض أصالة الحقيقة بإحراز كون النفي حقيقياً لا ادعائياً، لتنهض الأدلة المتقدمة بالمدعى، وإنما تنهض بأن عدم الاعتداد حقيقي لبطلان العمل، لا مجازي بلحاظ عدم كماله.

ومنه يظهر حال ما في التقريرات من دعوى: ظهور التركيب المذكور

ص: 196

في نفي الحقيقة، وأنه مندفع بأن الظهور المذكور موقوف على سوق الكلام لشرح المفهوم أما مع سوقه لبيان عدم الاعتداد بالناقص في مقام العمل، فلا يكون ظاهراً إلاّ في ذلك، فيحمل على عدم الاعتداد به حقيقةً لبطلانه.

رابعها: طريقة الواضعين الوضع لخصوص التام

رابعها: أن طريقة الواضعين وديدنهم في الوضع للماهيات المخترعة هو الوضع لخصوص التام منها، لأنه الذي تقتضيه حكمة الوضع وهي مساس الحاجة للتعبير عنها كثيراً، والحكم عليها بما هو من لوازمها وآثارها، وأما استعماله في الناقص الذي قد تدعوا الحاجة إليه فليس إلا تسامحياً تنزيلاً للمعدوم منزلة الموجود.

ومن الظاهر أن الشارع لا يتخطى عن الطريقة المذكورة لارتكازيتها.

وقد اعتمد شيخنا الأعظم قدس سره - كما في التقريرات - على هذا الوجه وأطال في تقريبه وتوضيحه.

تقريب منع هذا الوجه بوجهين

وذكره المحقق الخراساني قدس سره إلا أنه قال: «ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدةٍ إلا أنها قابلة للمنع»، والمذكور في تقريب المنع وجهان:

الأول ما ذكره العراقي قدس سره والمناقشة فيه

الأول: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن غرض الواضع لما كان هو تسهيل طريق التفهيم والتعبير عن المعنى الجديد فهو لا يختص بالصحيح التام، بل يعم الفساد الناقص أيضاً، حيث قد يتعلق الغرض بالتعبير عنه وبيانه، كما قد يتعلق بالتعبير عن الجامع بينه وبين الصحيح، ولا وجه مع ذلك لاختصاص الصحيح بالوضع، بل يتعين الوضع للأعم تبعاً لعموم الغرض، وعليه جرت سيرة العقلاء.

بل ذلك في أوضاع الشارع الأقدس أظهر، لأن غرضه في أكثر أحكامه وفي تشريعها هو تسهيل الأخذ بشريعته وتيسير طريق الوصول إليها

ص: 197

حيث كان الوضع للأعم مستلزماً لفتح باب الأخذ بالإطلاقات التي يتوصل بها لمعرفة الأحكام، كان المناسب منه أختياره، دون الوضع للصحيح الذي ينسد معه ذلك، كما سبق عند الكلام في ثمرة المسألة.

وفيه: أن تفهيم الأفراد الفاسدة أو الأعم والتعبير عنهما ليس داخلاً في الغرض النوعي من الوضع للمعنى الجديد، ولا في المقصود بالأصل منه، بل قد يتعلق به الغرض الشخصي لحاجة طارئة، كما يتعلق بتفهيم سائر المعاني من دون أن يكون منظوراً ولا ملتفتاً إليه حين الوضع، بل ليس المنظور والملتفت إليه إلا المعنى الجديد بما له من حدود مضبوطة بها يتقوم الصحيح التام منه، وبها يكون موضوعاً للآثار الداعية لاختراعه.

كما أن الرجوع للإطلاق على تقدير الوضع للأعم - لو تم - ليس من الأمور المقصودة من الوضع ولا الملتفت إليها حينه، وإن كان من توابعه المترتبة عليه بمقدمات الحكمة، بل ليس الملتفت إليه والمقصود منه إلا تفهيم المعنى.

ولو فرض الالتفات إليه، فرفع الإجمال ببيان حدود المسمى وتوضيحه الذي لا إشكال في الرجوع لإطلاقه - كما سبق - أولى من الوضع للأعم، المبني على الدوران مدار التسمية العرفية التي هي غير منضبطة والتي قد تستلزم ضياع كثير من الحدود المأخوذة في المطلوب، أو تكلف التقييد بها في كل حكم تؤخذ فيه.

الثاني: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره والمناقشة فيه

الثاني: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن التمام والنقصان - كالصحة والعيب - تطرآن على الماهيات المسميات، فيقال: سرير ناقص وسرير تام، وبيت ناقص وبيت تام، وثوب ناقص وثوب تام، كما يقال: أنه صحيح

ص: 198

ومعيب بلا تصرف ولا عناية، فلابد من الالتزام بكون المسميات بهذه الأسماء الأعم من التام والناقص الذي يطرأ عليه النقصان كما يطرأ عليه التمام، وكذا الحال فيما نحن فيه.

وفيه: أن فرض التمامية والنقص شاهد بكون المسمى هو إتمام، إذ لو عم الناقص كانت الماهية المسماة مشككة، والمشكك يصدق على المرتبة الدانية بعين صدقة على المرتبة العالية، من دون أن تكون الأولى ناقصة ولا الثانية زائدة، كالخط الموضوع للأعم من الطويل والقصير، والجماعة الموضوعة للأعم من الكبيرة والصغيرة، ولا يكون النقص إلا بفوت بعض المسمى الملازم لأخذ متممه فيه واختصاص التسمية بالتام.

ولذا كان التوصيف بالنقص من سنخ الاستدراك والاستثناء عرفاً، وبالتمامية من سنخ التأكيد الذي لا يختلف مفاده عن المؤكد ثبوتاً، وإن اختلفا إثباتاً.

كما لا إشكال ظاهراً في إنصراف الإطلاق إليه وإن لم يختص به الأثر، بل كان الناقص وافياً ببعض ما يترتب على التام، حتى إذا لم تكن قرينة على كون الغرض هو المرتبة العالية من الأثر.

ولا يتأتى هنا ما سبق في التبادر من احتمال استناده للقرينة العامة، وهي اختصاص الغرض بالتام، لفرض عدم اختصاص التام بالأثر، وعدم القرينة على كون الغرض هو المرتبة العالية من الأثر.

ولا مجال لقياس المقام بالصحة والعيب اللذين هما من الحالات الطارئة على الفرد من دون إخلال بشيء من مقومات ماهيته الدخيلة في المسمى، لعدم كون المعيار فيهما على تمامية الأجزاء وعدمها، بل على

ص: 199

عروض أمور خارجية تمنع من ترتب الغرض النوعي من الماهية على الفرد.

ومن هنا لابد من ابتناء التقسيم إلى التام والناقص على نحو من العناية، والخروج في لفظ المقسم عن معناه - وهو ما يطابق التام - واستعماله في الأعم منه ومن الناقص، نظير تقسيم الماء إلى المطلق والمضاف، والدينار إلى الصحيح والمزوّر، وبلحاظه قد يطلق على الناقص، ولا يبتني على الحقيقية.

ولذا لا إشكال في صحة التقسيم والاستعمال المذكورين فيما يعلم باختصاصه بالتام، كالقرآن المجيد، والكتب التي يسميها أصحابها، والتي لا إشكال في كون المسمى هو التام منها، مع أنه يصح تقسيم نسخها للتام والناقص.

نعم، حيث كان بين القسمين في موارد التقسيم المذكورة نحو من السنخية متقومة بالصورة أو غيرها كان انتزاع الجامع الأعم بينها ارتكازياً لا يحتاج لمزيد عناية، بل قد تخفى العناية فيه، وليس هو كالتقسيم في أسماء المقادير - كالأعداد والأوزان والمكاييل والمساحات - المتقومة بمحض الكم من دون أخذ نحو صورة فيها يسهل بملاحظتها انتزاع الجامع بين التام والناقص منها، ولذا يحتاج التقسيم فيها لمزيد عناية ظاهرة.

ومن هنا فقد يجعل التوصيف بالتمامية والنقص، والتقسيم للتام والناقص دليلاً آخر على الوضع للصحيح.

اللهم إلا أن يستشكل في صحة التوصيف والتقسيم بلحاظ نفس العناوين والمسميات، لاحتمال ابتنائه على ملاحظة ترتب الأثر وعدمه، فيراد التمامية والنقص بلحاظ الأجزاء التي يترتب عليها الأثر، لا الأجزاء

ص: 200

المقومة للماهية المسماة، فلا ينافي الوضع للأعم، بل يناسبه.

وكيف كان، فقد ظهر من جميع ما تقدم عدم نهوض الوجهين المتقدمين بدفع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من الاستدلال بطريقة الواضعين، وأن الظاهر تماميته في نفسه بناءً على كون الوضع في المقام تعيينياً مستنداً للشارع الأقدس أو غيره.

أما بناءً على ما سبق في مبحث الحقيقة الشرعية من كون الوضع تعينياً مستنداً للاستعمال في المعنى الجديد بعد تجدد الابتلاء به فكما يمكن اختصاصه بالصحيح لأنه مورد الغرض والأثر فتنصرف الاستعمالات إليه حتى يختص الوضع به كذلك يمكن عمومه للفاسد الذي هو مورد للابتلاء أيضاً بعد اختراع الماهية، فيكون الوضع للجامع المنتزع بملاحظة السنخية الذي تقدم تقريب الجامع الأعمي به، وتعيين أحد الأمرين محتاج إلى دليل.

نعم، لا يبعد كون الأول أنسب بلحاظ ما هو المرتكز من كون الصحيح هو المنظور بالأصل بسب كونه مورد الأثر وموطن الغرض والفاسد من توابعه من غير أن يكون مراداً بالاستقلال، لكن في بلوغ ذلك حداً صالحاً للاستدلال إشكال.

ويأتي ما يتضح به الحال عند بيان المختار إن شاء الله تعالى.

هذه عمدة الوجوه المستدل بها للصحيح، وهناك بعض الوجوه الأُخر ظاهرة الضعف خصوصاً بملاحظة ما تقدم، فلا مجال لإطالة الكلام فيها.

الاستدلال على الأعم بوجوه

وحيث انتهى الكلام في حجج الصحيح يقع الكلام فيما استدل أو يستدل به على الأعم، وهو وجوه:

أولها: التبادر

أولها: التبادر الذي هو ممكن بناءً على ما سبق من تصوير الجامع

ص: 201

الأعمي، لكن لا إشكال في التبادر لخصوص الصحيح، وإن سبق أنه لا مجال للاستدلال به على الوضع له لاحتمال عدم استناده لحاق اللفظ، بل للقرينة العامة، وهي اختصاص الأثر به، وعلى كل حال لا تبادر للأعم.

ثانيها: عدم صحة السلب

ثانيها: عدم صحة السلب عن الفاسد، الذي لا مجال للإشكال فيه بعدم تحصيل الجامع الأعمي، كما قد يظهر من غير واحد.

لما سبق من تقريبه، ولو غض النظر عنه فالجامع المذكور قد يكون ارتكازياً غير متحصل لنا تفصيلاً، إلا أنه يستكشف بصحة السلب وعدمها سعة انطباقه في الخارج، وهو نحو من المعرفة له، لأنه معرفة له بلازمه.

فالعمدة في رده: أن عدم صحة السلب وإن كان مسلماً في الجملة إلا أنه لم يتضح عدم صحته بملاحظة المسمى بما له من الحدود المفهومية، إذ قد يكون بلحاظ الجامع المتنزع ارتكازاً، المشار إليه عند الكلام في صحة التقسيم إلى التام والناقص، الذي سبق أن انتزاعه لا يحتاج إلى مزيد عناية بل قد تخفى العناية فيه لكونه ارتكازياً، ويأتي إن شاء الله تعالى ما يشهد بإبتناء صحة السلب على ذلك عند بيان المختار في المقام.

ثالثها: صحة التقسيم

ثالثها: صحة التقسيم إلى الصحيح والفاسد، حيث يدل على انطباق المسمى المقسم على كل منهما وكونه أعم منهما.

وما سبق من منع الاستدلال على الأعم بصحة التقسيم إنما هو في التقسيم للتام والناقص، لتوقف صدق التمامية والنقص على دخل الجزء الذي يدوران مداره في المسمى، بخلاف الصحة والفساد فان المعيار فيهما ترتب الغرض النوعي وعدمه وإن تحقق المسمى في الحالين، نظير ما تقدم في الصحة والعيب.

ص: 202

ويظهر الحال فيه مما تقدم في سابقه، لوضوح أن صحة التقسيم لا تكشف عن عموم المعنى الموضوع له، إلا إذا ثبت كون المراد بالمقسم في مقام التقسيم هو المعنى الموضوع له بما له من الحدود المفهومية، ولا طريق لإثبات ذلك في المقام بعدما سبق من أن الجامع بين التام والناقص ارتكازي تخفى فيه العناية، حيث قد يكون هو المراد في المقام وإن لم يكن موضوعاً له.

رابعها: جملة من النصوص الظاهرة في إطلاق العناوين على الفاسد

رابعها: جملة من النصوص الظاهرة، في إطلاق العناوين على الفاسد، كموثق فضيل - أو صحيحه - عن أبي جعفر عليه السلام: «قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم ينادَ بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني: الولاية»(1)، وفي صحيح زرارة عنه عليه السلام: «أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه...»(2).

فإن الأخذ بالأربع في الأول، وبالصوم والتصدق والحج في الثاني لا يكون إلا بإرادة الفاسد منها، بناءً على بطلان العبادة من غير ولاية، ونحوهما تضمن نهي الحائض ونحوها عن الصلاة مما هو كثير جداً، لتعذر الصحيح منها في حقها، فيمتنع نهيها عنه.

وفيه: أن الاستعمال أعم من الحقيقة، كما سبق في الاستدلال بنظير ذلك للصحيح.

على أن المراد من الأربع التي أُخذ بها في الأول هي التي بني عليها

ص: 203


1- الكافي كتاب الايمان والكفر، باب دعائم الإسلام، حديث: 3، ج 2:18
2- الوسائل ج 1، باب: 29 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 2

الإسلام، وهي خصوص الصحيحة، فلابد من كون الأخذ بها مجازياً، ولو لاعتقادهم صحتها، فلا يكشف عن صدق المسمى بفعلهم حقيقة: كما أن ما تضمن النهي عن الصلاة للمحدث - مثلاً - إن كان إرشادياً فكما يمكن أن يكون إرشاداً إلى بطلان العمل مع تحقق المسمى به - كما هو مقتضى الوضع للأعم - يمكن. أن يكون إرشاداً إلى عدم تحقق العمل ذي العنوان الخاص وهو المسمى كما هو مقتضى الوضع للصحيح.

وإن كان مولوياً راجعاً إلى تحريم الفعل - كما هو المدعى في وجه الاستدلال - فمن المعلوم أن المحرم ليس مطلق ما يصح إطلاق الاسم عليه عرفاً ليناسب الأعم، بل خصوص ما هو الصحيح لولا الجهة الموجبة للنهي عنه، فيناسب الصحيح.

وبعبارة أخرى، لابد من إبتناء الاستعمال المذكور على نحو من التصرف والخروج عن مقتضى الأصل، سواءً قلنا بالصحيح أم الأعم، إذ على الأعم يراد من الإطلاق بعض أفراد المسمى، وعلى الصحيح يراد بالعنوان ما يصدق عليه المسمى لولا الجهة الموجبة للنهي، ولا مرجح للأول ليصح الاستدلال بمثل هذا الاستعمال.

ومنه يظهر حال الاستدلال بإمكان نذر مثل ترك الصلاة في الحمام مع عدم إرادة خصوص الصحيح منها لتعذره بسبب النهي الحاصل من النذر، ولغير ذلك مما أطالوا في بيانه.

لاندفاعه: بما سبق من أن الاستعمال أعم من الحقيقة، ولزوم إبتناء الاستعمال على نحو من التصرف والخروج عن مقتضى الأصل بأحد الوجهين المتقدمين، وقد أطالوا في تقريب هذا الوجه والجواب عنه بما

ص: 204

يضيق الوقت عن متابعتهم فيه. كما يضيق عن التعرض للوجوه الأُخَرْ التي سطّرها في التقريرات، لظهور ضعفها، ولاسيما بملاحظة بعض ما سبق.

المختار في المقام

وقد ظهر من جميع ما تقدم عدم نهوض ما ذكروه بإثبات أحد الأمرين من الصحيح والأعم.

وحيث سبق في تقريب الثمرة عدم التمسك بالإطلاق على كل منهما يتضح عدم أهمية هذا الخلاف، لعدم ترتب الثمرة العملية عليه.

نعم، لا يبعد إمكان تقريب الوضع بنحو من التفصيل بين الوجهين الذي قد تترتب عليه نحو من الثمرة العملية، قد يلائم بعض الوجوه المتقدمة للصحيح، وعمدتها الوجه الرابع.

تفصيل بين الوجهين والكلام في الأجزاء

بيان ذلك: أن الظاهر من الأدلة الشارحة للعبادات بأنواعها، كالوضوء والصلاة والحج، وأصنافها، كصلاة العيدين وحج الأفراد كونها بصدد بيان أجزاء المسميات المعتبرة فيها التي يكون الإخلال بشيء منها موجباً لنقص العمل المسمى وعدم تماميته، لا بيان ما يجب فيها وإن لم تتوقف عليه تمامية المسمى، وإلا فلا طريق لمعرفة جزئية شيء منها، مع أنه لا إشكال في استفادة جزئيتها إما بمجموعها - كما هو الحال على الصحيح - أو في الجملة - كما هو الحال على الأعم.

ومن ثم كان ظاهر الأدلة المذكورة أن المسمى هو المركب من تمام الأجزاء - تبعاً لظهورها في لزومها بتمامها - لا المركب منها في الجملة.

واحتمال خروج المتشرعة بسبب كثرة الاستعمالات إلى تسمية الأعم من التام والناقص بعيد جداً لا يعتد به عرفاً.

سواء أريد به كون الأعم هو المسمى ابتداءً، بحيث لم يبلغ ما عيَّنه

ص: 205

الشارع حد التسمية، أم تجدد الوضع له بعد الوضع للتام بنحو النقل أو الاشتراك.

لمخالفة الأول لما هو المتعارف من أخذ الماهيات المخترعة من مخترعها، ولاسيما في حق أتباعه، بضميمة ظهور الأدلة الشارحة في كونها شرحاً للمسمى بعد الفراغ عن التسمية، خصوصاً بعد أن كان التام هو محط الغرض ومورد الأثر المهم.

والثاني إنما يتجه لو لم يبق لخصوصية التام خصوصية في الابتلاء تقتضي خصوصية في الحاجة للتفهيم، بحيث يكون الابتلاء به كالابتلاء بالناقص، ولا إشكال في عدم ذلك، بل الصحيح باقٍ على ما هو عليه من الخصوصية الموجبة للإهتمام بتفهيمه، والابتلاء بالفاسد إنما هو بتبعه.

بل بعضها يندر الابتلاء بالفاسد منه، كصلاة الآيات ونحوها، حيث لا موجب للخروج في تسميتها عما عيَّنه الشارع من أجزاء لها.

بل يشهد بمطابقة التسمية في عرف المتشرعة لذلك الرجوع إليهم في بيان أجزاء المسميات وشرحها، سواء أريد شرح الماهيات النوعية كالصلاة والصوم والحج، أم شرح أصنافها، كصلاة الظهر والعيدين، وحج التمتع، فإنهم يستوفون الأمور المعتبرة فيها على أنها بتمامها أجزاؤها المقومة لها والشارحة لها، التي تنقص بنقص بعضها، لا أنه لابد فيها من وجودها في الجملة، بحيث يتم المسمى مع نقص شيء منها، وإن لم تجزِ إلا بتماميتها.

وأما احتمال كون الشرح في الأدلة وبيانات المتشرعة ليس للماهيات المسميات على إطلاقها، بل لخصوص المطلوب منها لأنه موطن الغرض، فلا تنافي كون المسمى هو الأعم.

ص: 206

فهو لا يناسب البيانات المذكورة جداً، لعدم الإشعار في شيء منها بعموم المسمى وعدم أخذ خصوصيات الأجزاء فيه.

بل الذي يظهر من ذلك هو المفروغية عما سبق في تقريب الجامع الصحيحي من تفرع التسمية على التشريع، وعدم خروجهم فيها عنه للأعم من المشروع والناقص مما شاركه في السنخية الارتكازية العرفية، حيث لا يسأل عن المشروع إلا بالسؤال عن المسمى ولا يبين إلا ببيانه، من دون إشعار بكون السؤال والبيان لخصوص بعض أفراده.

وبذلك يستكشف أن إطلاقهم الأسماء بلحاظ الجامع - عند الاستعمال في الناقص، والحمل عليه وعدم صحة السلب عنه، أو في مقام التقسيم له وللتام - ليس لكونه موضوعاً له، بل لارتكازيته الموجبة لخفاء العناية في الاستعمال فيه والغفلة عنها، كما جرى العرف على ذلك في جميع الماهيات المخترعة وإن اختص الوضع بالتام، كما سبق، وبهذا يتمم ما سبق في الوجه الرابع من وجوه الأستدلال للصحيح.

نعم، لا يبعد البناء على أن الماهية الواحدة إذا اختلفت أصنافها كان المعيار في صدقها هو الأجزاء المعتبرة في جميع الأصناف مع الترديد فيها بالإضافة للخصوصيات الأُخَر حسب اختلاف تشريعها، لأن ذلك هو الأنسب بشرح الماهية وبيان أجزائها من قبل الشارع، فالصلاة - مثلاً - هي عبارة عن تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة والركوع والسجدتين بأذكارها والتشهد والتسليم، لأنها معتبرة في كل الصلوات، مع الترديد من حيثية مراتب الركوع والسجود والقراءة، ومن حيثية عدد الركعات والركوعات، ومن حيثية السورة والتسبيحات في الأخيرين، وغيرها مما يعتبر في أصنافها

ص: 207

المختلفة.

فلو تمت هذه الأمور تمت الماهية وصدقت الصلاة بإطلاقها وإن لم تكن مشروعة، والإخلال بالخصوصيات الزائدة إنما يوجب الإخلال بالأصناف المشروعة منها بخصوصياتها كالظهر والعيدين، ولا يخل بالماهية إلا نقص الأجزاء المقوِّمة لها، فإذا خلت الصلاة عن الركوع كانت صلاة ناقصة لا تامة، أما إذا كانت ركعة واحدة للأجزاء المذكورة فهي صلاة تامة مشروعة - كالوتر - أو غير مشروعة.

والظاهر أن ما تضمن تشريع بعض الصلوات الخالية عن الأجزاء المذكورة أو بعضها، إما أن يبتني على البدلية عن الصلاة، كصلاة المطاردة - كما يناسبه التعبير في بعض نصوصها بفوت الصلاة - أو على الاجتزاء بالصلاة الناقصة، كصلاة الأخرس الخالية عن القراءة وجميع موارد قاعدة الميسور. وإطلاق الاسم عليها توسع بلحاظ تحقق الغرض المهم به.

كما أن ما تضمن الاكتفاء بالناقص في موارد حديث: «لا تعاد الصلاة...»(1) ونحوها لا يستلزم كونها صلاةً تامةً، بل مقتضى الجمع بين الأدلة كونها ناقصة مجزئة. وهكذا الحال في تمام الماهيات كالحج والعمرة وغيرهما.

ولا يبعد مطابقة ما ذكرنا لمفهوم المسميات المذكورة عند المتشرعة، كما يستكشف بالرجوع إليهم في شرحها وبيان أجزائها، وإن كانوا قد يخطئون في بعض ذلك للجهل بالحكم الشرعي.

الكلام في الشروط

هذا كله في الأجزاء، وأما الشروط فهي مختلفة، إذ لا إشكال في

ص: 208


1- الوسائل ج 4، باب: 10 من أبواب الركوع، حديث: 5

دخل قصد عناوين الأفعال من صلاةٍ أو نحوها ولو إجمالاً، وفي دخل الترتيب بين الأجزاء المذكورة إشكال.

كما أن الظاهر عدم دخل بقية الشروط وإن إعتبرت في تمام أفراد الماهية، كالخلوص في جميع العبادات، والطهارة في الصلاة، كما هو الحال في الشروط الدخيلة في فعلية ترتب الأثر في الماهيات المخترعة عند العرف، لصحة الحمل على الفاقد لها ارتكازاً، ولو كانت دخيلة في التسمية لم يصح الحمل إلا بعناية المشابهة، كالحمل على صورة العمل من دون قصد عنوانه، مع أنه ليس كذلك قطعاً، وليس هو كالفاقد للجزء الذي يصح فيه الحمل بلحاظ الجامع الارتكازي بين التام والناقص، على ما تقدم، لأن الفاقد للجزء بعض العمل المسمى وفاقد الشرط مباين لواجده رأساً، فلا مجال فيه للجامع المذكور.

وأما ما تضمن أن إفتتاح الصلاة الوضوء(1)، وأنه والوقت من فرائض الصلاة(2)، فلابد من حمله على لزوم الإتيان بالوضوء لأجلها ولزوم إيقاعها في الوقت، لا أنهما مقومان لمفهومها، إذ لا ريب في مباينة الوضوء والوقت بنفسهما لها، وإنما الكلام في عدم صدقها على العمل إلا مع إيقاعه في الوقت وحال الطهارة المسببة عن الوضوء، ولا يشعر بذلك الألسنة المتقدمة.

ومثلها ما تضمن أن الطهور أحد أثلاث الصلاة(3)، سواء أريد به استعمال الطهور بالوضوء والغسل، أم أثر ذلك وهو الطهارة، للقطع بعدم

ص: 209


1- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 4 و 7
2- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 3
3- الوسائل ج 4، باب: 9 من أبواب الركوع، حديث: 1

كونهما جزءاً من المسمى، بنحو يكون أحدهما ثلثاً منه، وإنما الكلام في شرطيتها له، ولا يدل عليه اللسان المذكور.

ما ادعاه السيد الخوئي قدس سره من دوران التسمية مدار الأركان

ثم إن بعض مشايخنا ادعى دوران التسمية مدار الأركان من الأجزاء والشرائط. لا بمعنى كونها تمام المسمى بنحوٍ لو انضمَّ إليها غيرها مما يعتبر في المأمور به لكان زائداً على المسمى كالتعقيب، بل بمعنى توقف صدق الاسم عليها، مع كون المسمى مردداً بالإضافة إلى غيرها، حيث سبق إمكانه في الماهيات المخترعة، فتدخل في المسمى في ظرف وجودها، ويصدق بدونها في ظرف عدمها.

بدعوى: أن الماهيات المذكورة لما كانت مخترعة للشارع، متقومة باعتباره الوحدة بين أجزائها، فلابد من الرجوع إليه في مقوماتها، ومقتضى أدلة الأركان كونها مقومة للماهيات المذكورة لا تحقق بدونها، وأن ما زاد عليها غير مقوم لها ولا مأخوذ فيها، بل في المأمور به.

لكنه يشكل..

المناقشة فيه

أولاً: بأن التعبير بالأركان لم يرد في البيانات الشرعية، ليدعى ظهوره في تقوم المسمى بها، بل في ألسنة الفقهاء بالإضافة إلى بعض الأجزاء والشرائط بعد رجوعهم للأدلة، التي هي لم تتضمن إلا عدم أجزاء الفاقد لها ولو سهواً، وأجزاء الواجد لها الفاقد لغيرها من الأجزاء والشرائط سهواً.

والأول أعم من عدم تحقق المسمى بالفاقد، لإمكان تحققه به وعدم الاجتزاء به لعدم وفائه بالملاك إلا في ظرف انضمام المفقود له مع إمكان استيفاء الملاك بالإتيان به منضماً له، وهو راجع في الحقيقة إلى عدم تعلق الطلب بالمسمى على إطلاقه بل بالمقيد منه. كما هو الحال لو جيء بالفاقد

ص: 210

لغير الأركان عمداً حيث لا إشكال في عدم الاجتزاء به مع تحقق المسمى به عنده.

كما أن الثاني أعم من تحقق المسمى به، حيث يمكن الاجتزاء بالناقص، بل بالمباين، لعدم إمكان تدارك الملاك التام معه، أو لسقوط ملاكه بسببه.

وإما ما تضمن نفي الماهية بفقد بعض الأركان، مثل: «لا صلاة إلا بطهور»(1).

فهو - مع ورود نظيره في غير الأركان - لا ينهض بالاستدلال، لإمكان كون النفي ادعائياً، ولا تنهض أصالة الحقيقة بإحراز كونه حقيقياً، كما سبق في الوجه الثالث للاستدلال على القول بالصحيح.

كما أن ما تضمنته جملة من النصوص من الحكم بتمامية العمل أو صحته مع فقده لغير الأركان سهواً مسوق لبيان إجزائه الذي هو الأثر المهم المصحح لانتزاع الصحة والتمامية، لا لبيان تحقق المسمى به لينفع فيما نحن فيه.

على أنه قد ورد نقيض ذلك مع تركه عمداً الذي لا يخل بصدق المسمى عنده.

وثانياً: أن الأفراد مختلفة في قدر الأركان المعتبرة فيها، فالمعتبر - مثلاً - في صلاة الصبح ركوعان، وفي صلاة الظهر أربعة، وحينئذٍ إن كانت التسمية دائرة مدار صرف الوجود لكل منها - وهو المعتبر في ركعة واحدة - كما سبق منا - مع كونها مرددة بالإضافة للزائد عليه، فمن الظاهر أن أدلة

ص: 211


1- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 1

الأركان كما تقتضي اعتبار وجودها في الجملة تقتضي اعتبار المقادير الخاصة منها، المختلفة باختلاف الأفراد المشروعة، بنحو تخل الزيادة عليها والنقيصة عنها.

وإن كانت دائرة في مقدارها مدار التشريع - نظير ما سبق منا في تقريب الجامع الصحيحي - فهو لا يناسب ما صرح به من عدم معقولية الجامع الصحيحي لاختلاف أفراده في الأجزاء المعتبرة.

وأشكل من ذلك استدلاله للأعم بصحة إطلاق الاسم على الفاسد دون عناية.

إذ فيه: أنه لو غض النظر عما سبق في رد الاستدلال المذكور، فإن أراد به ما يعم الفاسد الفاقد لبعض الأركان كان منافياً لما سبق منه اختياره والاستدلال عليه من دوران الاسم مدار الأركان، وإن أراد به خصوص الفاسد الواجد لها فمن الظاهر عدم اختصاص صحة الإطلاق به.

ومن هنا فلا مخرج عما سبق تقريبه - تبعاً لظاهر الأدلة - من أن المعتبر في المسمى تمام الأجزاء المعتبرة في تمام أفراد الماهية، وبعض الشروط المعتبرة فيها دون غيرها ودون الأجزاء والشروط المعتبرة في خصوصيات الأصناف.

وهو في الحقيقة نحو من التفصيل بين الصحيح والأعم، فليست التسمية تابعة للصدق العرفي التسامحي الحاصل مع فقد بعض الأجزاء المعتبرة في تمام أفراد الماهية - كما هو مقتضى القول بالأعم - ولا مختصة بالصحيح الواجد لتمام ما يعتبر في المأمور به فعلاً من أجزاء وشرائط وإن لم تعتبر في بقية أفراد الماهية.

ص: 212

وعلى هذا يتجه التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار ما شك في اعتباره في خصوصية الصنف حتى لو كان وارداً في مقام التشريع، لعدم إجمال المسمى في نفسه - كما هو لازم القول بالصحيح - وعدم استلزام حمل الأمر عليه العلم بكثرة التخصيص - كما هو لازم القول بالأعم - لأن الإطلاق يقتضي مقداراً معيناً مضبوطاً لا يعلم بالزيادة عليه إلا في الشروط العامة التي يمكن الاتكال في بيان إرادتها على أدلتها المشهورة، وما زاد عليها من الأجزاء والشرائط لو فرض ثبوته بأدلة خاصة ليس من الكثرة بحد يستلزم استهجان الإطلاق، ليمنع من انعقاده والاستدلال به لنفي ما يشك في اعتباره، كما سبق منا في توجيه منع التمسك بالإطلاق على القول بالأعم.

نعم، لا مجال للتمسك بالإطلاق لنفي ما يشك في اعتباره في أصل الماهية، لإجمال العنوان بالإضافة إليه، وإن أمكن التمسك به لنفيه على القول بالأعم لو غض النظر عما سبق منا.

وهذه ثمرة معتدٌ بها للتفصيل الذي ذكرناه، وهي قريبة للمرتكزات في مقام الاستدلال. بل لعل سيرتهم الارتكازية عليها. فلاحظ

والله سبحانه وتعالى العالم. ومنه نستمد العصمة والسداد.

بقي أمران:

بقي في المقام أمران:

الأول: الكلام في الشروط

الأول: أشرنا آنفاً إلى الكلام في دخول الشروط في محل النزاع، وأحلناه على النظر في حجة القولين، فينبغي الكلام فيه هنا فنقول:

من الظاهر الفرق بين الأجزاء والشرائط، بأن الأجزاء هي المعروضة للأمر ويستند إليها الأثر، بحيث يصدق عنوان العمل المأمور به ذي الملاك

ص: 213

عليها.

أما الشروط فهي خارجة عنه، وإنما تكون مقارنته لها دخيلة في واجديته للخصوصية التي بها يكون واجداً لعنوانه ومورداً للأمر والأثر.

فمرجع الكلام في دخل الشروط في المسمى ليس إلى كونها بنفسها داخلة فيه، بل إلى توقف صدق الاسم على العمل على مقارنته لها، نظير توقف صدق عنوان الزبيب على الثمرة على جفافها، مع كون الجفاف عرضاً خارجاً عن الثمرة المسماة بالزبيب.

وقد سبق منّا حال الشروط على المختار، أما على الأعم فمقتضى مساق كلامهم عدم دخل الشروط في التسمية.

وإن كان وضوح دخل قصد عنوان العمل قد يقرب بناءَهم على دخله وأن الفاقد له صورة العمل، لا أنه فاسد منه عندهم، بخلاف بقية الشروط.

وأما على الصحيح فقد صرح غير واحدٍ بدخل الشروط، وهو ظاهر مساق كلماتهم، بل هو كالصريح من تعبيرهم بالصحيح، إذ حمله على الذات التي من شأنها أن تتصف بالصحة بعيدٌ جداً. وهو المناسب للوجه الثالث من وجوه الاستدلال المتقدمة للصحيح بل للوجهين الأولين منها أيضاً، لأن الظاهر أن منشأ دعوى التبادر للصحيح وصحة السلب عن الفاسد هو عدم ترتب الغرض المهم على الفاسد، ولا يفرق فيه بين فاقد الشرط وفاقد الجزء.

نعم، الوجه الرابع لا يلزم به، لعدم اختصاص سيرة الواضعين بأحد الأمرين، بل يضعون تارةً لما هو المؤثر فعلاً لتمامية الشرط، وأخرى لما هو المؤثر شأناً. لكن قصور أحد الأدلة عن عموم الدعوى لا ينافي عمومها.

ص: 214

وبذلك ظهر ضعف ما قد يظهر مما عن الوحيد قدس سره من خروج الشرط عن محل النزاع، حيث فسر الصحة بتمامية الأجزاء، فإنه خروج عن ظاهر كلماتهم واستدلالاتهم في المقام.

ودعوى: أن الشرطية إنما تستفاد من أدلة تقييد المسمى بالشرط، الظاهر في كونه أمراً زائداً، عليه، كقوله عليه السلام: «إذا حاضت الجارية فلا تصلي إلا بخمار»(1).

مدفوعةُ: بإمكان كون التقييد للإرشاد إلى عدم تحقق المسمى بدون الشرط. مع أن كثيراً من أدلة الشروط ليست باللسان المذكور، بل بنظير لسان أخذ الأجزاء، ومنه ما تضمن نفي المسمى بفقد الشرط، مثل: «لا صلاة إلا بطهور»(2).

على أن ذلك - لو تم - إنما يكشف عن عدم دخل الشرط في المسمى، لا عن عدم القول بدخله فيه من القائلين بالصحيح، ليتجه به الخروج عما سبق.

ما ذكره النائيني قدس سره من عدم شمول النزاع لقصد القربة

وبذلك يشكل ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من عدم شمول النزاع لقصد القربة، لأنه متأخر عن الأمر المتأخر عن المسمى، فلا يعقل أخذه فيه مع تأخره عنه بمرتبتين.

وكذا عدم التكليف المزاحم، أو عدم النهي الموجبين لبطلان العبادة، لتأخرهما عن المسمى بمرتبة، لأنهما في مرتبة الأمر به.

وجه الإشكال فيه

وجه الإشكال فيه: ما ذكرناه من أن ذلك إنما يمنع من أخذ الشروط

ص: 215


1- الوسائل ج 3، باب: 28 من أبواب لباس المصلي، حديث: 13
2- الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 1

المذكورة في المسمى لا من دخولها في محل النزاع.

مضافاً إلى أنه إنما يمنع من أخذ هذه الأمور بنحو التقييد لا بنتيجة التقييد، بأن يكون المسمى هو الحصة المقارنة لها لباً، كالمؤثر للأثر الخاص أو نحوه، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره. غايته أن يكون النهي موجباً لتعذر النهي عنه. فلا مجال للخروج بذلك عن ظاهر كلماتهم في الصحة الفعلية.

بل ما سبق من استدلال القائلين بالأعم بأنه لو كان المسمى هو الصحيح لامتنع النهي عن الصلاة أو نذر تركها، صريح في شمول النزاع لعدم النهي.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من اتفاقهم على تحقق المسمى مع المزاحم أو مع النهي فلم يتضح مأخذه بعد ما عرفت، إلا أن يكون مراده ما إذا صح العمل معهما، لإمكان التقرب مع المزاحم بالملاك أو بالأمر الترتبي، وكذا مع النهي للغفلة عنه مع تحقق ملاك الأمر في مورد النهي، فيخرج عن محل الكلام من كون هذه الأمور شروطاً تتوقف عليها صحة العمل.

الثاني: الكلام في العبادات

الثاني: سبق في المقدمة الثانية اختصاص محل الكلام بالعبادات التي ثبت استعمالها ولو عند المتشرعة في الخصوصيات الزائدة على معانيها اللغوية لتكون من الماهيات المخترعة، دون غيرها من العبادات كالركوع والسجود والدعاء، فضلاً عن غير العبادات، كالسفر والانفاق على الزوجة، حيث يكون المرجع في تحديده العرف.

بل غالب تلك الأمور لا يتصف بالصحة والفساد عرفاً، لما ذكرناه آنفاً

ص: 216

من انتزاعهما من التمامية وعدمها بلحاظ الأثر المهم، حيث لا يراد به إلا الأثر المطلوب من الماهية نوعاً بمقتضى طبعها.

والأمور المذكورة وإن كانت مورداً للتكاليف الشرعية التي قد تدعو لفعلها طلباً للفراغ عنها ولتكون مجزئة في مقام امتثالها، إلا أن ذلك أمر طاريء عليها خارج عن مقتضى طبعها بما لها من المعاني العرفية، فلا يكون منشأً لانتزاع الصحة والفساد لها، بخلاف الماهيات المخترعة التي أُخترعت بسبب وقوعها مورداً للتكاليف الشرعية، حيث يكون الأثر المذكور لازماً لمفاهيمها عرفاً وثابتاً لها بمقتضى طبعها.

نعم، لما كان مقتضى طبع المعاملات حتى عند العرف ترتب الآثار المرغوب فيها عليها كانت مورداً للصحة والفساد عرفاً بلحاظ ترتب تلك الآثار وعدمه.

ومن هنا ناسب الكلام فيها تبعاً للكلام في العبادات وإن كانت باقية على مفاهيمها العرفية، كما جرى عليه غير واحد في المقام، والمراد بها المضامين الإنشائية الاعتبارية التي تتكفلها العقود والإيقاعات.

إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بينهم..

الكلام في الوضع للمعاملات

تارةً: في أنها موضوعة للأسباب، وهي العقود والإيقاعات، أو للمسببات الحاصلة بها.

وأخرى: في أنها تختص بالصحيح أو تعم الفاسد.

وثالثة: في ثمرة البحث عن ذلك.

وقد أطالوا في تحقيق هذه الجهات بما لا مجال لتعقيب كلماتهم فيه.

ص: 217

فلنقتصر على بيان ما عندنا وإن كان قد يظهر به حال بعض ما ذكروه..

فنقول بعد الاتكال عليه تعالى وطلب العون منه والتسديد:

المختار في الوضع للمعاملات

لا ينبغي التأمل في أن مضامين المعاملات التي وضعت لها أسماؤها هي المضامين الاعتبارية التي تتضمن العقود والإيقاعات اللفظية إنشاءها، فهي كسائر الأمور الاعتبارية التي سبق الكلام في حقيقتها، وذكرنا أن لها نحواً من التقرر عند العرف أو الشرع، وأن وجودها في عالم الاعتبار تابع لاعتبار من بيده اعتبارها من شرع أو عرف أو سلطان، وليست العقود والإيقاعات اللفظية المتضمنة لانشائها أو غيرها مما يبرز التزام من له القيام بها إلا أسباباً لها على ما سيتضح.

ولذا كان مفاد أدلة جعلها من الحاكم إمضاء الالتزام المذكور، مع وضوح أن الإمضاء لا يكون إلا مع مطابقة ما حكم به الممضي لموضوع الالتزام الممضى مفهوماً، والعقود والإيقاعات ونحوها أمور حقيقية لها ما بإزاء في الخارج مباينة لمفاد الإمضاء، فهي غير قابلة للإنشاء والاعتبار والإمضاء.

مضامين المعاملات على نحوين

نعم، للمضامين المذكورة نحوان من الوجود:

الأول: نحو من الوجود الادعائي تابع للالتزام بها مع إبرازه بالعقود ونحوها من أي شخص فرض وإن لم يكن له السلطنة عليها بنظر من بيده اعتبارها.

الثاني: الوجود الاعتباري تابع لاعتبار من بيده الاعتبار من شرع أو عرف أو سلطان المتفرع على الوجود الأول إذا صدر ممن له السلطنة بنظره، كالمالك الكامل في المعاملات المالية، ومرجعه إلى إمضاء التزامه، لما

ص: 218

أشرنا إليه من أن الإمضاء لا يكون إلا مع تطابق حكم الممضي مع موضوع الالتزام الممضى مفهوماً.

اختلاف مضامين المعاملات عن باقي الأمور الاعتبارية

وبذلك تختلف مضامين المعاملات عن بقية الأمور الاعتبارية التي يكون الحكم بها تابعاً لتحقق موضوعها، من دون أن يبتني على الإمضاء، كالضمان بسبب الإتلاف، والميراث بسبب الموت، واستحقاق النفقة بسبب الزوجية، فإنه لا يكون لها إلا النحو الثاني من الوجود، وهو الوجود الاعتباري ممن بيده الاعتبار، لعدم رجوع موضوعاتها للنحو الأول منه، بل هي مباينة سِنخاً ومفهوماً لها.

وحيث كان الوجود الأول لمضامين المعاملات موضوعاً للوجود الثاني صح إطلاق السبب عليه عرفاً، كسائر الموضوعات بالإضافة لأحكامها، ولا يصح إطلاقه على العقد - مثلاً - إلا بلحاظ سببيته لذلك الوجود الادعائي، لكون آلة له، نظير نسبة سببية الضمان للإلقاء في النار، بتوسط سببيته للإتلاف الذي هو الموضوع حقيقةً.

هذا، ولا يخفى أن غالب أسماء المعاملات حاكٍ عن إيجاد مضامينها وإيقاعها على موضوعاتها كالبيع والإجارة والمزارعة والتزويج والطلاق والوقف وغيرها، فإنها مصادر لأفعال متعدية فاعلها موقع تلك المضامين على موضوعاتها، لا لأفعال لازمة فاعلها نفس الموضوعات.

وحينئذٍ إن كان المحكي بها الوجود الأول - الذي عرفتَ أنه السبب حقيقةً - صح نسبتها إلى موقع المعاملة، لأنه فعله بالمباشرة، دون الحاكم الذي يمضي المعاملة من شرع أو عرف أو سلطان، لعدم الدخل له بالوجود المذكور.

ص: 219

وإن كان المحكي بها الوجود الثاني - الذي هو المسبب - صح نسبتها للحاكم الممضي للمعاملة، لأنه فعله بالمباشرة، كما يصح نسبتها لموقع المعاملة ولو مجازاً بلحاظ فعله لموضوعه - وهو الوجود الأول - نظير نسبة التحليل والتحريم تارةً للشارع الأقدس، وأخرى لمحقق موضوعهما، كالذابح بالوجه الشرعي وبغيره.

وحيث يصح عرفاً نسبة هذه الأمور لموقع المعاملة دون الشارع الأقدس ونحوه ممن له إمضاؤها كشف ذلك عن الوجه الأول، وهو أنها موضوعة للأسباب دون المسببات.

لكن ذلك لخصوصية في الهيئة - وهي هيئة الفعل - دون المادة المشتركة بين الفعل والإنفعال، فإنها صالحة للوجهين، وبلحاظها كان دليل الثاني إمضاءً للأول، فالبيع - مثلاً - لما كان فعل البائع كان عبارة عن إنشاء المعاملة، ولم يكن المحكي به إلا الوجود الإنشائي المستند له دون الشارع، أما الإنبياع فله النحوان السابقان من الوجود، فوجوده الادعائي الإنشائي مستند للبائع، ووجوده الاعتباري الجعلي مستند للشارع مبتنٍ على إمضاء الأول مع تحقق شروطه. وكذا الحال في التزويج والإجارة والوقف ونحوها مما هو مصدر لفعلٍ متعدٍ يتضمن إيقاع المعاملة.

ومنه يظهر أن التطابق بين الوجودين المصحح لكون الثاني إمضاءً للأول إنما هو في نتيجة المعاملات ك (االإنبياع) لا في مضامينها الإيقاعية، بل ليس لها إلا الوجود الأول.

والاختلاف المذكور جارٍ في العناوين المنتزعة من أحد الأمرين، فعنوان المزوجة منتزع من التزويج الذي هو مصدر (زوج) المتعدي، والذي

ص: 220

هو فعل القائم بالعقد دون الشارع، وعنوان الزوج والزوجة منتزعان من نتيجة التزويج، التي لها وجود إنشائي إدِّعائي تابع للعقد، ووجود اعتباري تابع للإمضاء.

وحيث ظهر أن غالب عناوين المعاملات وأسمائها تحكي عن الوجود الإنشائي لموقعها، والذي هو الموضوع للوجود الاعتباري والسبب له بمعنى، وكان الوجود الاعتباري هو الداعي لفعلها والأثر المرغوب فيه منها، ظهر إمكان اتصافها بالصحة والفساد بلحاظ ترتب الأثر المذكور وعدمه.

وحينئذٍ يقع الكلام في الوضع لمطلق الوجود الإنشائي المذكور، أو لخصوص الصحيح منه الذي يمكن تحديد الجامع له بأثره المذكور.

منع اختصاص وضع المعاملات بالصحيح ودفعه

وقد يمنع اختصاص الوضع بالصحيح، بدعوى: أنه مستلزم لتصرف الشارع في معاني هذه الألفاظ، لتبعية الصحة لقيود شرعية، فلا يدركها العرف ليتسنى له أخذها في الموضوع له. ومن البعيد جداً تصرف الشارع في معاني ألفاظ المعاملات، لعدم الحاجة له بعد مسانخة موضوع الأثر الشرعي للمعنى العرفي، بل يكتفي بتقييده بما يراه من القيود عند إناطة أحكامه به، كسائر الموضوعات العرفية المأخوذة في موضوع الأحكام الشرعية.

بخلاف العبادات التي هي من سنخ الماهيات المخترعة للشارع، والتي خرج بها عن معانيها الأصلية، حيث يقع الكلام في وضعها جديداً للصحيح من تلك الماهيات أو للأعم منه ومن الفاسد.

لكنه يندفع: بإمكان إبتناء وضعها للصحيح على وضعها له عرفاً

ص: 221

ابتداءً، من دون حاجة إلى تصرف شرعي فيها، لا بمعنى وضعها عرفاً للصحيح الشرعي، لعدم إدراك العرف له، ولا للصحيح الواقعي وإن اختلف العرف والشرع في تشخيصه، لعدم انتزاع الصحة والفساد من أمر واقعي متقرر في نفسه، كالنفع والضرر الذي يرجع الاختلاف فيهما للتخطئة، بل حيث كانا منتزعين من ترتب الأثر وعدمه، وكان ترتبه تابعاً لاعتبار من بيده الاعتبار، كانا من الأمور الإضافية النسبية التي يكون اختلاف طرف الإضافة فيها موجباً للاختلاف في صدقها من دون أن يرجع للاختلاف في المفهوم، ولا إلى التخطئة في المصداق، نظير اختلاف الأذواق في اللذيذ والجميل. ومن ذلك اختلاف الشارع مع العرف في موارد الملكية ونحوها من الأمور الاعتبارية.

الإشكال على دعوى وضع المعاملات للصحيح

وبالجملة: لا مانع في المقام من دعوى أن الموضوع له لغةً وعرفاً هو الصحيح الذي يترتب عليه الأثر، فما ترتب عليه الأثر عرفاً بيع عرفاً، وما ترتب عليه الأثر شرعاً بيع شرعاً، من دون أن يرجع الاختلاف بين الشرع والعرف فيه للاختلاف في المفهوم، ولا للتخطئة في المصداق.

نعم، يشكل الدليل على ذلك، حيث لا موجب لدعواه ظاهراً إلا تبادر الصحيح من الإطلاق الذي قد يكون مسبباً عن كونه مورد الغرض والأثر، الذي هو قرينة عامة صالحة لأن تكون منشأً لانصراف الإطلاق، نظير ما تقدم في الاستدلال بالتبادر على الصحيح في العبادات.

بل لما كانت التسمية بلحاظ كون المسمى هو الوجود الإنشائي الادعائي للمفهوم فمن الظاهر أن المنشأ هو المفهوم المجرد. وليس ترتب الأثر إلا من لواحقه، فيبعد جداً أخذه في المسمى. ولاسيما بملاحظة

ص: 222

ورود بعض الأدلة في الإمضاء، مع وضوح أن القابل للإمضاء هو الوجود الإنشائي المطلق، ولا معنى لإمضاء خصوص الصحيح منه إلا بنحو القضية بشرط المحمول التي لا مجال لحمل الأدلة عليها.

نعم، لو كان المدعى الوضع لخصوص الصحيح العرفي لم ينهض ذلك بالمنع منه، لقابليته للإمضاء الشرعي، فينحصر رده بما سبق.

هذا كله في أسماء المعاملات التي هي عبارة عن مصادر الأفعال المتعدية وما ينتزع بلحاظها من عناوين، وأما العناوين المنتزعة من نتائجها، - كالزوج والزوجة والثمن -، فإن لحظ فيها الوجود الإنشائي الادعائي فهي قابلة للاتصاف بالصحة والفساد بلحاظ ترتب الوجود الاعتباري عليها وعدمه، وإن كان الظاهر صدقها مع الفساد وعدم توقفه على الوجود الاعتباري لما سبق. وإن لحظ فيها الوجود الاعتباري فهي غير قابلة للاتصاف بالصحة والفساد، بل إما أن توجد أو لا توجد.

في إمكان التمسك بالإطلاق مع الشك في بعض القيود

بقي الكلام في إمكان التمسك بالإطلاقات وعدمه مع الشك في اعتبار بعض القيود في صحة المعاملة.

والإطلاقات المذكورة:

تارة: تتكفل ببيان نفوذ المعاملة، كقوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يقفها أهلها»(1).

وأخرى: تتكفل ببيان أحكامها الأُخَرْ، كوجوب الإنفاق على الزوجة.

أما الأولى: فلا إشكال في إمكان التمسك بها، أما بناءً على ما عرفت

ص: 223


1- الوسائل ج 13، باب: 2 من كتاب الوقوف والصدقات، حديث 2

من وضعها للأعم فظاهر. وكذا بناءً على وضعها للصحيح العرفي. نعم، لابد عليه من إحراز صحة المعاملة عرفاً، لعدم تحقق عنوان المطلق بدونه.

وأما بناءً على وضعها للصحيح شرعاً، أو بما له من مفهوم إضافي صالح للانطباق على الصحيح الشرعي، فلما ذكرناه آنفاً من أن الصحيح الشرعي لا يقبل الإمضاء شرعاً، فلابد من تنزيل دليل الإمضاء على الاستعمال في الأعم، أو في الصحيح العرفي، فيلحقه ما سبق.

وأظهر من ذلك إطلاق نفوذ العقود، لانتزاع العقد من نفس الإيجاب والقبول، لا من نفس المضمون المعاملي المنشأ بهما، فلا مجال لاحتمال اختصاصه بالصحيح.

وأما الثانية: فما كان منها قد اخذ فيه عنوان منتزع من إيقاع المعاملة، كالمبيع والمستأجر والمزارع يصدق بمجرد إيقاعها وإن لم يحرز نفوذها، بناءً على ما سبق من وضعها للأعم، فيكون مقتضى الإطلاق ترتب الحكم بمجرد إيقاع المعاملة وإن لم يتحقق ما يحتمل اعتباره في نفوذها، ولازمه عدم توقف نفوذها عليه، لما هو المعلوم من عدم ترتب أحكامها مع بطلانها.

اللهم إلا أن يرجع ذلك إلى تقييد موضوع الأحكام بالصحيح إستغناءً عن التصريح به بالقرينة العامة القاضية بأن ترتب الحكم على المعاملة فرع نفوذها وصحتها.

وحينئذٍ لا ينهض الإطلاق بإثبات الحكم مع الشك في الصحة، لعدم إحراز قيد الموضوع، فضلاً عن أن ينهض بإثبات صحتها حينئذٍ.

ما إذا كان العنوان منتزعاً من نتيجة الإطلاق

وأشكل من ذلك ما لو كان العنوان المأخوذ في الإطلاق منتزعاً من نتيجة إطلاق المعاملة، كعنوان الزوجة، لما سبق من أن العنوان المذكور

ص: 224

كما يمكن انتزاعه من الوجود الإنشائي التابع لإيقاع المعاملة، يمكن أن يراد به الوجود الاعتباري التابع لإمضائها. بل لعل الثاني هو الظاهر من إطلاق العنوان في كلام الشارع وغيره ممن له الاعتبار، لظهور حاله في إرادة ثبوت العنوان بنظره واعتباره، بل حمل العنوان على الوجود الإنشائي بعيد جداً، لكونه بنظر العرف وجوداً ادعائياً لا حقيقياً، وإنما التزم بالحمل عليه في عناوين المعاملات لخصوصية في الهيئة، كما سبق.

ومن هنا لا ينهض الإطلاق بإثبات الحكم مع الشك في نفوذ المعاملة وصحتها، فضلاً عن أن ينهض بإثبات نفوذها وصحتها، لعدم إحراز عنوانه.

نعم، يمكن التمسك بالإطلاقات المقامية لأدلة الأحكام المذكورة، لأن خطاب الشارع للعرف بأحكام المضامين الاعتبارية من دون أن يتصدى لبيان مورد اعتباره لها ظاهر في الاكتفاء في بيانه على ما عند العرف وعدم خروجه عليهم فيه، كما هو الحال في خطابات الموالي العرفيين أيضاً، حيث لا إشكال في رجوع عبيدهم في معرفة مورد اعتبارهم إلى ما عليه العرف العام عند عدم تصديهم لبيان مورد الاعتبار مع وضوح إمكان خروجهم عما عليه العرف المذكور، كالشارع.

وبالجملة: لما كان الأثر أمراً اعتبارياً للشارع الأقدس، وكان ظاهر خطابه بحكمه لزوم تحققه بالإضافة لاعتباره، فلا مجال للتمسك بإطلاقه اللفظي مع عدم إحرازه، إلا أنه مع عدم تصديه لبيان مورد اعتباره يكون مقتضى الإطلاق المقامي لخطابه الإيكال إلى ما عليه العرف فيه، ومتابعته لهم، كسائر الموالي العرفيين. والظاهر أن ما ذكرنا مطابق لسيرة أهل الاستدلال، فلاحظ.

ص: 225

والله سبحانه وتعالى العالم، ومنه نستمد العون والتوفيق. والحمد له وحده، والصلاة على من لا نبي بعده محمد وآله الطاهرين.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في مقدمات مباحث الظهورات، وندخل فيما هو المقصود بالأصل من المباحث المذكورة.

والمراد به تشخيص الظهورات النوعية، سواء إستندت للوضع أم لقرائن عامة منضبطة المفاد، أما الظهورات المستندة لقرائن شخصية غير منضبطة فلا مجال للبحث عنها في علم الأصول، لعدم تيسر استقصائها، بل يوكل للفقيه عند الابتلاء بمواردها.

كما أن محل الكلام ظهور خصوص بعض الهيئات الأفرادية والتركيبية والحروف مما يكثر الابتلاء به ويظهر أثره في الأحكام الشرعية، ولم يبحث بالنحو الكافي في العلوم اللغوية الأخرى، كمعاني المفردات المبحوثة في معاجم اللغة، والهيئات الإعرابية المبحوثة في علم النحو وغير ذلك. والبحث فيها يتم في ضمن مقاصد..(1)

ص: 226


1- سورة البقرة: 124

المقصد الأول

في بحث المشتق

ص: 227

ص: 228

المقصد الأول في بحث المشتق

اشارة

وقد جرى غير واحد على بحثه في مقدمة علم الأصول. وأول من خرج عن ذلك بعض المعاصرين رحمة الله في أصوله، بلحاظ رجوع البحث فيه إلى تشخيص الظهور، وليس في مباديء الظهور.

وكيف كان، فقد وقع الكلام في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ في الحال أو فيما يعمه وما انقضى عنه، مع الاتفاق - كما قيل - على كونه مجازاً فيما لا تلبس به إلا في الاستقبال.

أمور لتوضيح محل النزاع

وينبغي تقديم أمور لها دخل بتوضيح محل النزاع، أو نافعة في مقام الاستدلال.

الأمر الأول: المشتق في اصطلاح النحاة

الأمر الأول: المشتق في اصطلاح النحويين ما كان لمادته معنى محفوظ في غيره مما شاركه فيها وفارقه في الهيئة، كالفعل واسمي الفاعل والمفعول وغيرها.

أما في محل النزاع فهو العنوان المنتزع عن الذات، الحاكي عنها بلحاظ جهة خارجة عنها لها نحو من النسبة إليها.

وبينه وبين المشتق بالمعنى الأول عموم من وجه، حيث يعم بعض

ص: 229

الجوامد باصطلاح النحويين كالأب والام والأخ والزوج والزوجة ونحوها مما يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عن عموم النزاع لها، كما يقصر عن الفعل والمصدر، حيث لا ينتزعان عن الذات، ولا يحكيان عنها، بل عن المادة المجردة أو مع نحو من النسبة.

نعم، ينبغي أن يكون النزاع في المشتقات راجعاً للنزاع في وضع هيئاتها النوعي، أما في الجوامد فهو راجع للنزاع في وضعها الشخصي، لعدم أمر مشترك يجمعها يكون النزاع فيما وضع له، وإنما تشترك في كونها عنواناً للذات بلحاظ جهة خارجة عنها، وذلك أشبه بالجهة التعليلية.

وأما ما يظهر من الفصول من اختصاص النزاع باسم الفاعل ونحوه دون باقي المشتقات، لعدم ملائمة جميع ما أوردوه في المقام لها. فهو كما ترى! لأن قصور الدليل عن بعض الدعوى لا يشهد بقصور الدعوى. ولاسيما مع ظهور عموم النزاع لأسم المفعول من تفريع جمع من المحققين - كما قيل - على المسألة كراهة الوضوء بالماء المسخن بالشمس بعد زوال حرارته.

نعم، لا يبعد انصراف بعض كلماتهم عن ذلك، إلا أنه لا يكفي في اختصاص النزاع، خصوصاً في العصور المتأخرة بعد الالتفات لهذه الجهات.

هذا، وقد يستشكل في عموم النزاع لاسم الزمان، لأن تصرم الزمان مستلزم لعدم بقاء الذات بعد ارتفاع الحدث، كي يقع الكلام في صحة إطلاق اسم الزمان عليها حقيقةً.

وهو مبني..

ص: 230

أولاً: على وضع الهيئة له بخصوصه ولو بنحو الاشتراك اللفظي بينه وبين المكان، إذ لو كان موضوعاً بوضعٍ واحد للجامع بين الزمان والمكان وهو الظرفية - كما قد يظهر من بعض المحققين وجرى عليه غير واحدٍ من تلامذته، ويناسبه إطّراد اسمَي الزمان والمكان في الهيئة وارتكازية الجامع بينهما - فلا موضوع للإشكال المذكور، لأن الظرفية قابلة للارتفاع عن الذات ولو في المكان، ولا أثر لعدم قبولها له في الزمان بعد عدم وضع الهيئة له بخصوصه.

وثانياً: على كون المحكي باسم الزمان خصوص ما يقارن الحدث من الأمد الموهوم. أما لو أمكن إطلاقه حقيقةً على ما هو أوسع مما يقع بين الحدين الاعتباريين، كالساعة واليوم والشهر - كما يظهر من غير واحدٍ - فيتجه فرض البقاء له بعد ارتفاع الحدث.

وما يظهر من بعض المحققين قدس سره من أن الحدث وإن ارتفع إلا أن التلبس المصحح لانتزاع الظرفية للزمان باقٍ، غير ظاهر فتأمل.

الأمر الثاني: المصحح لانتزاع العنوان الاشتقاقي

الأمر الثاني: حيث عرفت أن محل الكلام هو العنوان المنتزع عن الذات بلحاظ جهة خارجة عنها لها نحو من النسبة إليها، فالمصحح لانتزاع العنوان

تارةً: يكون فعلية اتصاف الذات بالعرض، كما في الماشي المنتزع من فعلية الاتصاف بالمشي.

وأخرى: يكون أمراً آخر، كوجود الملكة له، أو القابلية أو الحرفة أو الصنعة أو نحوها مما لا يلحظ فيه الفعلية، كما في عنوان المجتهد المنتزع من تحقق ملكة الاجتهاد في الشخص، والكاتب المنتزع من تحقق ملكة

ص: 231

الكتابة أو كونها وظيفة له وحرفة، والصائغ المنتزع من كون صنعته الصياغة، وأسماء الآلة المنتزعة من قابلية الشيء لأن يتحقق بواسطته الفعل، بحيث لا يحتاج صدوره إلا إلى إعماله فيه، كالفتح للمفتاح والسمر للمسمار.

والاكتفاء بما عدا الفعلية في الثاني إما أن يستند إلى المادة، بأن لا يراد منها الفعلية مع بقاء الهيئة على ما هي عليه من الدلالة على فعلية التلبس بما يراد من المادة، كما في الاجتهاد الذي يراد به اصطلاحاً وجود الملكة الخاصة ولو من دون مزاولة للعمل، والكتابة التي يراد بها تارةً الملكة وأخرى الوظيفة، ولذا تدل المادة على ذلك في غير الهيئة المذكورة، كالفعل والمصدر.

وإما أن يستند لخصوص الهيئة، مع بقاء المادة على ما هي عليه من الدلالة على الحدث الفعلي، كما في أسماء الآلة، حيث لا إشكال في كون المراد بموادها نفس الفعل الخارجي، وليس الاكتفاء بالقابلية المذكورة إلا مقتضى الهيئة الخاصة.

ومثل ذلك ما أفاد الصنعة أو الحرفة مما بني على (فعَّال) كالصرَّاف والنجَّار والوزَّان، حيث لا إشكال في استناد الدلالة على ذلك للهيئة، لا للتوسع في المادة، ولذا تدل على ذلك فيما ينتزع من الأعيان، كالحدَّاد والبزَّاز والجمَّال والورَّاق، مع وضوح عدم الخروج بموادها عن معانيها. فهو نظير هيئة النسبة التي قد يراد بها ذلك، كما في الجوهري.

وربما يتردد الأمر بين الوجهين، كما في الصائغ، الذي يكون المعيار في انتزاعه عرفاً اتخاذ الصياغة صنعةً، لا عمل الصياغة، حيث يحتمل إبتناؤه على التوسع في المادة بإرادة الأمر المذكور منها مع إرادة فعلية القيام به من

ص: 232

الهيئة، كما يحتمل إبتناؤه على التوسع في الهيئة بإرادة ذلك منها مع إرادة نفس العمل من المادة.

وكيف كان، فلا مجال بعد ما سبق لما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من رجوع جميع ذلك للتوسع في مفاد المادة من دون تصرف في الهيئة، بل المراد بها ما يراد في القسم الأول من الحكاية عن فعلية القيام بالمعنى الذي أريد من المادة.

ومثله ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من إبتناء ذلك على التوسع في التطبيق بإلغاء الفترات وادّعاء أن واجد ملكة الشيء أو القابلية له أو متخذه صنعةً أو حرفةً متلبس به دائماً، مع دلالة كل من المادة والهيئة على الفعلية في العمل أو في القيام به.

إذ لا شاهد على التوسع المذكور، بل هو محتاج إلى عناية غير حاصلة ارتكازاً.

بل لا ينبغي احتمالها فيما يطَّرد استعماله في غير الفعلية كأسماء الآلة ومثل الصرَّاف والنجَّار، إذ ليس من شأن التوسع والعناية الإطِّراد. ولاسيما في اسم الآلة الذي لا يستلزم الفعلية أصلاً، فإذا إستندت إفادة ذلك في بعض ما تقدم للهيئة أو المادة أمكن الاستناد في الباقي بلا ملزم لالتزام التوسع في التطبيق بإلغاء الفترات فيه.

ثم إنه لا إشكال في أن ما تستند الدلالة فيه على غير الفعلية للمادة من هذا القسم داخل في محل النزاع، حيث يقع الكلام في أن هيئته - كسائر هيئات المشتق - موضوعة للدلالة على خصوص حال التلبس أو على الأعم منه ومن حال الانقضاء لكن لا يراد بحال التلبس فيه حال التلبس بفعلية

ص: 233

العمل، بل حال التلبس بما يراد من المادة من ملكة أو حرفة أو غيرهما، ويقابله حال الانقضاء الذي يكون بارتفاع المعنى المذكور، لا بارتفاع التلبس بفعلية العمل.

وأما ما تستند فيه الدلالة على ذلك للهيئة فدخوله في محل النزاع لا يبتني على النزاع في وضع الهيئة للتلبس بما يراد بالمادة في خصوص الحال، أو في الأعم منه ومن حال الانقضاء، لفرض عدم وضعها لإفادة التلبس به مطلقاً، بل لإفادة معنى آخر قد لا يلازمه، بل لابد أن يبتني على النزاع في وضعها لذلك المعنى - من القابلية أو الحرفة أو غيرهما - بقيد فعلية تحققه في الحال، أو بنحو يعم حال إنقضائه، فكما أمكن النزاع في المشتقات التي تتضمن هيئاتها التلبس في عمومه وخصوصه أمكن النزاع في المشتقات التي تتضمن هيئاتها أمراً غير التلبس في عموم ذلك الأمر وخصوصه.

وبالجملة: النزاع في العموم والخصوص إنما هو بعد تعيين ما يراد بالمادة من الأمر الفعلي أو ملكته أو القابلية له أو غيرها، وتعيين ما يراد بالهيئة من التلبس بما يراد بالمادة أو ملكته أو القابلية له أو غيرها.

ومنه يظهر الحال في الجوامد التي تقع عنواناً للذات بلحاظ جهة خارجة عنها، حيث لا فرق بينها وبين المشتقات إلا في أن الكلام فيها في مقتضى وضعها الشخصي، وفي المشتقات في مقتضى وضع هيئاتها النوعي، كما تقدم في الأمر السابق.

ومن جميع ما سبق يظهر أنه لا مجال للاستدلال على عموم المشتق لحال الانقضاء، بصحة إطلاق القسم الثاني من المشتقات المتقدمة مع

ص: 234

انقضاء التلبس بالحدث، كإطلاق الصائغ على الشخص حال عدم انشغاله بعمل الصياغة. فإن ذلك خروج عن محل الكلام، إما لعدم كون المراد بالمادة الحدث، بل الصنعة ونحوها، أو لعدم دلالة الهيئة على التلبس. كيف ولازمه عدم اعتبار التلبس حتى في الحال الماضي، لصدق بعض ما سبق بلحاظ الشأنية من دون تلبس بالحدث أصلاً، كما في اسم الآلة!.

نعم، لو صدق مثل ذلك بعد انقضاء ما يراد بالهيئة والمادة اتجه الاستدلال به.

الأمر الثالث: إطلاق العنوان على الذات إنما يكون بلحاظ الاتحاد

الأمر الثالث: لا يخفى أن إطلاق العنوان الذاتي أو العرضي المشتق أو الجامد على الذات - حاكياً عنها أو صفة لها أو محمولاً عليها - إنما يكون بلحاظ اتحاده معها وانطباقه عليها، وظرف الاتحاد الملحوظ هو المعبر عنه في كلمات بعضهم بحال الجري، ومن الظاهر أنه..

تارةً: يكون في زمان النطق، كما في قولنا: «زيد عادلٌ الآن»، أو «أكرم غداً المسافر الآن».

وأخرى: في زمانٍ آخر، كما في قولنا «زيد مسافر أمس أو غداً»، أو: «أعن الآن المسافر أمس أو غداً».

نعم، مقتضى الإطلاق عرفاً هو تنزيل حال الجري على زمان النطق في القضايا الخارجية، وعدم احتياج إرادته إلى قرينة.

وكأنه لكونه محط الأغراض والآثار، فيكون هو الحقيق بالبيان، فعدم التصدي لبيانه ظاهر في الاتكال على ارتكاز أقربية زمان النطق في بيانه.

ولا يحمل على غيره إلا بقرينة خاصة - كما في الأمثلة المتقدمة - أو عامة، كما لو وقع المشتق طرفاً لنسبة غير حالية، حيث يحمل حال الجري

ص: 235

على حال النسبة، فلو قيل: «تصدق على فقير»، كان ظاهره إرادة الفقير حين التصدق، وإن قيل: «إن جاء زيد زاره العلماء»، كان ظاهره إرادة العلماء حين مجيئه الذي هو زمان لزوم الزيارة، إلى غير ذلك مما تناسبه خصوصيات النسب.

ثم إنه لا ينبغي التأمل في أن ما يحكي عنه المشتق وما أُلحق به من الجوامد - من التلبس بالجهة العرضية المصححة لانتزاع العنوان، أو نحو التلبس مما تقدم في الأمر السابق - لا يعتبر تحققه حال النطق، بل يكفي تحققه قبله أو بعده، لعدم العناية في الاستعمالات المذكورة، الكاشف عن كونها حقيقيةً، وعن عموم الوضع بالنحو المناسب لها.

فلابد من كون النزاع في اختصاص المشتق بالحال أو عمومه لحال الانقضاء إنما هو بلحاظ حال الجري، بمعنى: أن العنوان هل يدل على التلبس أو نحوه في خصوص حال الجري، فلا يصدق مع إنقضائه حاله، أو على الأعم منه ومن التلبس أو نحوه قبل حال الجري، فيصدق مع إنقضائه حاله.

ولعل التباس حال الجري بحال النطق بسبب كون التطابق بينهما مقتضى الإطلاق له دخل مهم في اشتباه مفهوم المشتق ولوقوع النزاع فيه، على ما قد يتضح عند بيان المختار والاستدلال له.

الأمر الرابع: اقتضاء النزاع للنزاع في سعة المفهوم

الأمر الرابع: ربما يدعى أن النزاع في المقام ليس في سعة مفهوم المشتق وضيقة، بل في حال صدقه مع وضوح مفهومه، وأن صدقه، على ما انقضى عنه التلبس هل هو لكونه من أفراده الحقيقية أو الادعائية؟ وأن تحرير النزاع في المفهوم خلط في محل الكلام.

ص: 236

لكن لا يخفى أن صدق المعنى على الفرد - المعلوم حاله - حقيقة وعدمه فرع سعة مفهومه له وضيقه عنه، ولا معنى لصدقه عليه مع ضيق مفهومه عنه، ولا لعدم صدقه عليه مع سعة مفهومه له.

بل سبق في استعمال اللفظ في أكثر من معنى أنه لابد من ذلك حتى في الاستعمال المجازي، بناء على إبتناء المجاز على ادّعاء دخول الفرد في معنى اللفظ وعدم الخروج باللفظ عن معناه، فلابد فيه من نحو من التصرف في المعنى الموضوع له بنحو يشمل الفرد ادّعاء.

وحينئذٍ لابد من رجوع النزاع في سعة صدق المشتق للنزاع في سعة مفهومه.

الأمر الخامس: الخلاف في صدق عنوان الموضوع على الذات بالإمكان أو بالفعل

الأمر الخامس: حكي عن الفارابي والشيخ الخلاف في أن صدق عنوان الموضوع على ذاته في القضايا المعتبرة في العلوم هل هو بالإمكان أو بالفعل الذي يكفي فيه الصدق في أحد الأزمنة الثلاثة، فإذا قيل: «كلُّ ماشٍ متحرك»، فالموضوع هو الماشي بالإمكان عند الفارابي، والماشي بالفعل عند الشيخ.

وقد استدل على الثاني بعضهم: بأن ذلك هو المتبادر في العرف واللغة.

وهذا قد لا يناسب ما سبق من الاتفاق على عدم صدق المشتق حقيقة مع التلبس في الاستقبال، فضلاً عما لم يتلبس حتى فيه، بل لم يكن تلبسه إلا إمكانياً.

كما قد لا يناسبه - أيضاً - ما ذكروه في وجه تسمية القضية الفعلية - وهي التي حكم فيها بتحقق النسبة في أحد الأزمنة الثلاثة - بالمطلقة، من

ص: 237

أن مفادها هو المفهوم من القضية عند إطلاقها، ضرورة أنه لو تم الاتفاق السابق في المشتق فلا يفهم من الإطلاق إلا التلبس في الحال، أو فيما يعمه والتلبس في الماضي، دون التلبس في الاستقبال.

ولم أعثر عاجلاً على من تعرض لذلك عدا بعض الأعاظم قدس سره فقد ذكر أن النزاع بين الفارابي والشيخ أجنبي عن محل الكلام، لأن محل الكلام هو المفاهيم الأفرادية، والنزاع المذكور في القضايا التركيبية، وأن المحمولات فيها هل هي ثابتة على الأفراد الممكنة أو خصوص الفعلية منها.

لكن من الظاهر أن الموضوع الذي هو جزء القضية التركيبية إذا فرض دلالته على معنى خاص بما هو مفهوم إفرادي لزم دلالته على ذلك في ضمن القضية، للقطع بعدم انسلاخه عن معناه الأفرادي عند صيرورته موضوعاً لها، إذ ليس مفاد التركيب إلاّ جعل النسب بين المعاني الأفرادية من دون تصرف فيها.

ولعل الأولى في تقريب خروج النزاع المذكور عن محل الكلام أن يقال: النزاع المذكور إنما هو فيما يعتبر من صدق عنوان الموضوع الذي هو مصحح للجري الذي تقدم الكلام فيه في الأمر السابق، فالفارابي لا يعتبر فعلية الصدق، بل يكتفي بإمكانه، والشيخ يعتبر فعليته ولو في الزمان المستقبل، أما النزاع في محل الكلام فهو في معيار الصدق، وأنه لابد فيه - ولو لم يكن فعلياً بل إمكانياً - من التلبس حينه أو يكفي التلبس فيما سبق عليه.

وكذا الحال فيما تقدم منهم في القضية الفعلية، فإنه راجع إلى أن المفهوم من القضية عند إطلاقها هو صدق المحمول على الموضوع في

ص: 238

الجملة ولو في الزمان اللاحق، وهو لا ينافي ما هو محل الكلام من أن معيار الصدق المصحح للجري هو التلبس حاله أو الأعم منه ومن التلبس فيما سبق.

نعم، بناءً على ما سبق من أن مقتضى الإطلاق كون حال الجري هو حال النطق يتجه عدم تمامية ما ذكروه في الموردين، لأن ذلك يستلزم ظهور الإطلاق في كون الصدق المصحح للجري في حال النطق أيضاً، لا مطلق فعليته ولو في الزمان المستقبل - كما هو مقتضى ما ذكره الشيخ في الموضوع وما ذكروه في القضية الفعلية - فضلاً عن الاكتفاء بالإمكان، كما ذكره الفارابي في الموضوع. لكنه أمر آخر غير مورد الكلام في المشتق.

الأمر السادس: في بساطة المشتق

الأمر السادس: وقع الكلام بينهم في بساطة مفهوم المشتق وتركيبه.

ومرادهم بالبساطة عدم تضمن المفهوم الذات المتلبسة بالمبدأ، بل هو متمحض في الدلالة على المبدأ المحكي بالمادة، وليس مفاد هيئته إلا نحو نسبة تقتضي لحاظه بنحو يكون عنواناً للذات متحداً معها يصح حمله عليها، في مقابل التركيب الراجع إلى أخذ الذات مع المبدأ في مفهوم المشتق بنحو يكون قيداً لها.

وقد أطالوا في ذلك بما لا يسعنا متابعتهم فيه لخروجه عما نحن بصدده من تعيين سعة مفهوم المشتق من حيثية التلبس وعدمها، وعدم الأثر له في الأستنباط بعد اتفاق القولين في الحكاية به عن الذات ذات المبدأ، وابتنائه على نحو من التدقيقات في المدعى والاستدلال، التي هي أنسب بالمعقولات منها بمبحث الظهورات، التي يكون الغرض منها تشخيص المفاهيم العرفية المدركة لعامة أهل اللسان بحسب سلائقهم وارتكازاتهم

ص: 239

الأولية، غير المبتنية على التكلف والتعمل.

وإنما أشرنا للنزاع المذكور هنا لأجل ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن النزاع في سعة مفهوم المشتق وضيقه في محل الكلام فرع وجود جامع عرفي بين حالي التلبس والانقضاء، كي يقع الكلام في الوضع له أو لخصوص حال التلبس، أما لو لم يكن هناك جامع بين الحالين فيمتنع الوضع لهما معاً إلا بنحو الاشتراك اللفظي الذي لا قائل به في المقام، بل يتعين الوضع لخصوص حال التلبس.

دعوى النائيني قدس سره امتناع تقريب الجامع على البساطة والتركيب

وقد ادعى قدس سره امتناع تقريب الجامع على كل من القول بالبساطة والقول بالتركيب.

أما على البساطة: فلأن مفهوم المشتق لما كان هو المبدأ المعرى عن الذات كان صدقه موقوفاً على صدق المبدأ، وإمتنع صدقه مع ارتفاعه، لأنه عبارة أخرى عن المبدأ الملحوظ محمولاً على الذات، ومن المعلوم توقف ذلك على وجود المبدأ، ولا معنى لصدقه مع عدمه، إذ لا جامع بين الوجود والعدم، وقد أقره على ذلك بعض مشايخنا.

وأما على القول بالتركيب: فلأنه لما كانت الذات هي الركن له، وكانت ذات حالين حال التلبس وحال الانقضاء، فلا جامع بينهما إلا بأخذ الزمان جزءاً من مدلول المشتق حتى يمكن بلحاظه فرض الجامع بين الحالين، وحيث لا إشكال في عدم أخذ الزمان في مفهومه فلا مجال لفرض الجامع كي يمكن دعوى الوضع له.

المناقشة فيه

وقد أطال قدس سره في تقريب ذلك على ما في تقريري درسه، كما أطال بعضهم في مناقشته وردِّه. ولا يسعنا استقصاء ما ذكر في المقام، وإنما نكتفي

ص: 240

ببيان عدم تمامية ما ذكره..

أما بناءً على البساطة: فلأن القول بالعموم لحال الانقضاء لا يتوقف على كون المراد بالمشتق الذي هو بمعنى المبدأ الجامع بين وجود المبدأ وعدمه، ليدفع بامتناع الجامع المذكور، بل يكفي حكايته عن المبدأ في ظرفه فانياً في الذات محمولاً عليها - كما هو مفاد الهيئة - مع دعوى الاكتفاء في صحة حمله عليها وحكايته عنها بتلبسها به في الجملة ولو مع انقضاء التلبس حال الحمل والحكاية.

وما ذكره من امتناع لحاظه محمولاً عليها مع انقضاء تلبسها به عين مدّعى القائل باختصاص المشتق بحال التلبس لا يسلم به القائل بالأعم، وليس هو من المباديء المسلمة عند الطرفين ليصح سوقه دليلاً على المدعى المذكور.

وأما بناءً على التركيب: فلأنه لا يتوقف فرض الجامع على أخذ الزمان في مفهوم المشتق، بل كما أمكن دعوى الاختصاص بحال التلبس من دون أخذ زمان الحال فيه، بل بأخذ نحو من النسبة بين الذات والحدث لا تصدق إلا فيه، يمكن دعوى العموم بأخذ نحو من النسبة بينهما تصدق في الحالين.

ولا ضابط للنسب ولا للمفاهيم الأفرادية أو التركيبية، بل هي تابعة لقوة التصور التي لا تقف عند حد محدود.

ولعل وضوح ما ذكرنا بعد التنبيه إليه مغنٍ عن إطالة الكلام فيه.

ومن هنا كان المتعين البناء على إمكان كلا القولين ثبوتاً، وإنما الكلام فيما هو الواقع منهما إثباتاً تبعاً لوجوه الاستدلال المذكورة لكلا الطرفين.

إذا عرفت ذلك فأعلم أن الأقوال في المسألة وإن كثرت، فقيل

ص: 241

باختصاص المشتق بحال التلبس مطلقاً وقيل: بعمومه لحال الانقضاء كذلك وقيل: بالتفصيل على وجوه لا مجال لاستقصائها.

المختار في المقام

إلاّ أن الحق هو اختصاص المشتق بحال التلبس ونحوه مما تقدم التعرض له في الأمر الثاني، من دون فرق بين أقسامه وحالاته، ككونه لازماً ومتعدياً، وكونه محكوماً عليه، ومحكوماً به.. قيل إلى غير ذلك.

لأنه هو المتبادر في الكل، ولصحة السلب عما انقضى عنه التلبس ونحوه بلا ريب.

ولذا كان المرتكز تضاد العناوين الاشتقاقية المأخوذة من المباديء المتضادة، كالحاضر والمسافر، والأسود والأبيض والأحمر، والغني والفقير، والجالس والقائم، وغيرها، فكما لا يجتمع الحدثان في ذات واحدة في وقت واحد، لا يجتمع العنوانان الاشتقاقيان منهما للذات كذلك، فلا يحمل على الرجل انه مسافر وحاضر بلحاظ حال واحد، وكذا غيرهما، وهو شاهد بتبعية صدق العنوان لفعلية الانتساب، وإلا كان حملهما كبيان انتساب الحدث بالفعل الماضي الذي يصدق مع ارتفاع النسبة. على ما ذكروه في المقام وأطالوا الكلام فيه بما لا مجال لمتابعتهم فيه بعد وضوحه.

وكأن التوقف فيه من بعضهم ناشئ من دلالة مادة المشتق على أمر غير الفعلية من ملكة أو شأنية أو حرفة أو غيرهما، أو دلالة الهيئة على أمر غير التلبس، على ما سبق التنبيه له في الأمر الثاني.

أو من اشتباه حال الجري في بعض الموارد، وتخيل كونه في زمان خاص متأخر عن التلبس، مع الغفلة عن القرينة الصارفة له إلى زمانه، فيتخيل بسببه كون منشأ الصدق عموم وضع المشتق لحال الانقضاء مطلقاً

ص: 242

أو في بعض الموارد التي تعرض لها بعض المفصلين.

كما هو الحال في المشتقات المأخوذة من المباديء التي لا بقاء معتدٌ به لها بنحو يتعارف الإخبار به أو ترتيب أحكامه حين وقوعه، بل لا يخبر به غالباً ولا يرتب حكمه إلا بعده، كالضارب في قولنا: «زيد ضارب»، و: «كلم الضارب»، حيث لا إشكال في أنه لا يفهم من الأول الإخبار عن ضربه حين تحققه، ومن الثاني إرادة تكليمه حين ضربه.

وكذا فيما إذا قضت المناسبات الارتكازية بكون المبدأ علة لثبوت الحكم وبقائه ولو بعد ارتفاعه، كما في مثل «يضمن المتلف» و «يجلد الزاني» و «يقطع السارق» و «يجزيء المحسن بإحسانه» حيث لا يفهم منها ثبوت هذه الأحكام لهم حين تلبسهم بالأحداث الخاصة لا غير.

ومثله ما لا يتعارف حمله على الذات حين التلبس، كالباني والحارث والنائح والمتكلم وغيرها مما يتعارف حمله على الذات بَعْدَ تلبسها به، وإذا أريد بيانه حين التلبس جيء بالفعل، فيقال،: «زيد يبني أو يحرث أو يتكلم».

فإن هذه الموارد ونحوها وإن أوهمت عموم المشتق لحال الانقضاء، إلا أن الظاهر عدم ابتنائها على ذلك، بل على عدم إرادة الجري حال الإخبار أو حال ترتيب الأحكام، بل المراد به ما يعم الجري فيما سبق مما يطابق حال التلبس، خروجاً فيها عما سبق في الأمر الثاني من أن مقتضى الإطلاق حمل الجري على حال النطق، وأن مقتضى القرينة العامة كونه حال النسبة وترتيب الأحكام، لأن الخصوصيات المشار إليها تكفي في الخروج عن ذلك.

ولذا لا يظن من أحد التوقف في تبادر حال التلبس ونحوه في المشتقات المذكورة وغيرها مع النص على حال الجري والنسبة، كما لو

ص: 243

قيل: «زيد ضارب أو زانٍ أو نجار أو صائغ اليوم»، حيث لا ريب في عدم صدق القضية مع صدور الضرب أو الزنا منه أمس، أو اتخاذه الصياغة أو النجارة صنعة قبل سنة ثم إعراضه عنها.

ومن الظاهر أن (اليوم) قيد للنسبة وظرف للجري الذي يصححه اتحاد العنوان مع الذات الحاصل على القول بالأعم بعد ارتفاع التلبس، وليس قيداً للحدث على أن يكون بمنزلة المفعول المطلق، بحيث يكون معنى قولنا: (زيد ضارب اليوم) - مثلاً - أنه ضارب ضرباً حاصلاً هذا اليوم، كي لا ينافي عدم صدقه لعدم تحقق الضرب منه هذا اليوم صدق الضارب المطلق عليه اليوم بلحاظ سبق الضرب منه. فلاحظ.

ومنه يظهر الحال فيما لا بقاء له بنفسه، بل البقاء لأثره، كالجرح والقتل والتسخين للماء والتنظيف للثوب وغيرها.

فإنه إن أريد من المبدأ فيه حقيقته، وهو المعنى الحدثي المصدري الذي لا بقاء له كان مما سبق، وابتنى الاستعمال فيه على ما سبق من أن الجري ليس بلحاظ حال النطق أو حال ترتيب الأحكام، بل بلحاظ ما سبقه مما يطابق حال التلبس. ولازم ذلك العموم لما لو ارتفع الأثر.

وإن أريد من المبدأ فيه تسامحاً ما يساوق الأثر ويبقى ببقائه - كما يكثر إرادة ذلك في اسم المفعول - خرج عما سبق، ولا ملزم بالخروج في حال الجري عن مقتضى الإطلاق أو القرينة العامة، بل يبنى فيه على مقتضاهما ويختص بحال التلبس الذي هو حال وجود الأثر، وإن ابتنى على نحوٍ من التسامح في المادة، لما سبق من أنه لا أثر لاختلاف المواد فيما نحن بصدده من معنى المشتق. ولذا لا يصح الإطلاق بعد ارتفاع الأثر.

ص: 244

ومنه الإثمار في الشجرة لو أريد منه فعليته، إذ الظاهر عدم إرادة المعنى الحدثي المصدري بل ما يساوق بقاء الثمرة.

نعم، لو أريد به شأنية الإثمار في مقابل ما لا يثمر اتجه صدقه مع قطف الثمرة، بل مع عدم ظهورها أيضاً، لفعلية الشأنية المذكورة.

هذا، وفي الفصول قد فصل بين المشتق المأخوذ من المباديء المتعدية كالضارب والمكرم، فيعم حال الانقضاء، والمأخوذ من المباديء اللازمة كالعالم والقائم، فيختص بحال التلبس، مستدلاً بالتبادر في المقامين.

وكأن منشأه كون الغالب في المتعدي عدم البقاء بالنحو المعتد به، وفي اللازم البقاء، ولعله لذا غفل فعد (المالك) من اللازم مع أنه متعد، ومثله في التبادر لخصوص حال التلبس من المتعديات «اللابس والساكن» وغيرهما، وعكسه في التبادر لما يعم حال الانقضاء من اللوازم «الزاني والجاني والمذنب» وغيرها مما لا بقاء له بنحو معتد به.

وقد سبق أن التبادر لما يعم حال الانقضاء فيما لا بقاء له ونحوه ليس لعموم المشتق له، بل لعدم كون الجري بلحاظ حال النطق، فلا ينافي عموم اختصاص المشتق بحال التلبس.

وإلا فمن البعيد جداً اختلاف مفاد الهيئة لغةً باختلاف المواد، بل لا مجال له بعد ما سبق من تبادر خصوص حال التلبس مع النص على حال الجري.

حجج القائلين بالعموم

بقي الكلام في حجج القائلين بالعموم..

وقد احتجوا بعلامتي الوضع المشهورتين، وهما التبادر وعدم صحة السلب.

ص: 245

ويظهر المنع منهما مما سبق في تقريب الاختصاص بحال التلبس.

كما احتجوا بجملة من الاستعمالات في حال الانقضاء، كآيتي السرقة والزنا وغيرهما، بل ربما يدعى كثرة ذلك بنحو لا يناسب كونه مجازاً.

ويندفع: بأن الاستعمال مع معرفة المراد أعم من الحقيقة.

وكثرة المجاز ليست عزيزة.

مع أنه لم يتضح كون الاستعمالات المذكورة بلحاظ حال الانقضاء، بل الظاهر كونها بلحاظ حال التلبس مع عدم كون الجري في حال النطق ولا حال النسبة، كما يظهر بملاحظة ما سبق، فلا نطيل.

الكلام في آية (لا ينال عهدي الظالمين)

نعم، لا بأس بإفاضة الكلام فيما ورد عن النبي (ص) والأئمة المعصومين عليهم السلام في تفسير قوله تعالى: «لا ينال عهدي الظالمين»(1) أن من عبد صنماً لا يكون إماماً.

فعن إبن المغازلي بسنده عن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله (ص): «أنا دعوة أبي إبراهيم».

قلت: يا رسول الله وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: «أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم أني جاعلك للناس إماماً فاستخف إبراهيم الفرح، قال: ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله عز وجل إليه: أن يا إبراهيم إني لا أعطيك عهداً لا أفي لك به، قال يا رب ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال: لا أعطيك لظالم من ذريتك عهداً.

قال: إبراهيم عندها: واجنبني وَبَنِيَّ أن نعبد الأصنام ربِّ إنهن أضللن

ص: 246


1- غاية المرام في حجة الخصام للبحراني: 270

كثيراً من الناس. فقال النبي (ص): «فأنتهت الدعوة إليَّ وإلى عليٍّ، لم يسجد أحدنا لصنم قط، فاتّخذني نبياً واتخذ علياً وصياً»(1).

وفي صحيح هشام بن سالم، قال أبو عبد الله عليه السلام: «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات، فنبيٌّ منبأ في نفسه لا يعدو غيرها. ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة، ولم يبعث إلى أحد، وعليه إمام، مثل ما كان إبراهيم على لوط. ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك، وقد أُرسل إلى طائفةٍ قلوا أو كثروا، كيونس... وعليه إمام. والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أُولي العزم. وقد كان إبراهيم عليه السلام نبياً وليس بإمام حتى قال الله: «إن جاعلك للناس إماماً قال ومِنْ ذريتي»، فقال الله: «لا ينال عهدي الظالمين»، إن عبد صنماً أو وثناً لا يكون أماماً»(2)، وقريب منهما غيرهما(3).

ما ذكر من أن الاستدلال بالآية بناء على عموم المشتق وأجيب بوجوه

وقد ذكروا أن الاستدلال بالآية الشريفة الذي تضمنته النصوص إنما يتم بناءً على عموم المشتق لحال انقضاء التلبس، لابتنائه على كون المراد بعدم إمامة الظالم في الآية الشريفة عدم إمامته ولو بعد ارتفاع ظلمه.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه:

الأول: ما ذكر الخراساني قدس سره والمناقشة فيه

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من احتمال كون الظلم بحدوثه مانعاً من الإمامة إلى الأبد، فيكفي في امتناع إمامة الشخص صدق الظالم

ص: 247


1- أصول الكافي 1:174، وغاية المرام في حجة الخصام للبحراني: 271 وقريب منه في أمالي الشيخ الطوسي ص: 388 طبع النجف الأشرف
2- راجع أصول الكافي 1:175، وغاية المرام في حجة الخصام للبحراني: 270-272
3- الكافي 1:377

عليه ولو سابقاً بلحاظ سبق التلبس، بلا حاجه إلى صدقه عليه فعلاً. بل هو المناسب لجلالة قدر الإمامة، ورفعة محلها وعظم خطرها.

ويشكل بمخالقة الاحتمال المذكور لظاهر جعل العنوان، لما سبق من أن حمل حال الجري على حال النسبة - وهي في المقام عدم نيل العهد - مقتضى القرينة العامة بلا ملزم بالخروج عنها، بعد كون الظلم مما له بقاء معتد به قابل عرفاً لأن يبين ثبوت الحكم حينه.

ومجرد كون عموم المانعية لحال عدم صدق العنوان أنسب برفعة مقام الإمامة، لا يقتضي تعيينه بعد كون تبعيتها لصدقه مناسباً لها أيضا، لأن رفعة المنصب بالمقدار الزائد - مع كونه عين الدعوى - لا قرينة على سَوق الآية الشريفة لبيانه.

الثاني: ما ذكره العراقي قدس سره والمناقشة فيه

الثاني: ما يستفاد مما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره، وهو أن الظلم لما كان له فردان: ما لا بقاء له كضرب اليتيم وما له بقاء كالغصب والكفر، إمتنع إناطة الحكم به بنحو يدور مداره وجوداً وعدماً، لعدم مناسبته لأحد فرديه، بل لابد من أن يناط بوجوده بنحو يبقى بعد ارتفاعه، ليناسب كلا فرديه.

وفيه - مضافاً إلى أن الظلم قد فسر في كثير من الروايات المذكورة بالشرك والكفر، وإلى أنه في مثل ضرب اليتيم قابل للبقاء بلحاظ عدم الاستيهاب أو عدم التوبة. فتأمل -: أنه يكفي في حمل العنوان على أنه مما يدور الحكم مداره وجوداً وعدماً قابلية بعض أفراده للبقاء، لكفاية ذلك في رفع لغوية الخطاب عرفاً. ولذا لا إشكال في فهم ذلك لو أُخذ عنوان الظالم موضوعاً للمانعية من غير الإمامة العامة، كإمامة الصلاة، وقبول الشهادة.

ص: 248

الثالث: ما ذكره الشيخ الطوسي قدس سره والمناقشة فيه

الثالث: ما ذكره الشيخ الطبرسي ويظهر من بعض الأعاظم قدس سره وغيره من إن الآية لما لم تكن واردة بنحو القضية الخارجية لتقصر عمن انقضى عنه الظلم حين صدروها، بل بنحو القضية الحقيقة كانت شاملة للظالم حين وجوده وتلبسه بالظلم، ومقتضى إطلاقها عدم نيله العهد أبداً، لأن قوله تعالى: «لا ينال» مضارع منفي غير محدود بوقت، وهو يقتضي التأبيد.

وفيه: أن مقتضى الإطلاق عدم ارتفاع الحكم عن موضوعه، لا عدم ارتفاعه بارتفاعه، فإذا أُخذ في موضوع امتناع الإمامة عنوان الظالم لزم دورانه مدار صدق العنوان المذكور، لا ثبوته للذات بعد ارتفاعه، كما هو الحال لو قيل: لا تصلِّ خلف الفاسق.

نعم، لو كان العنوان مسوقاً لمجرد الحكاية عن الذات مع كونها تمام الموضوع اتجه ما ذكره قدس سره. لكنه مخالف لظاهر أخذ العنوان، ولاسيما في القضايا الحقيقية، وفي مثل المقام مما كان دخل العنوان في الحكم ارتكازياً. بل لا يظن منه ولا من غيره البناء على ذلك.

الرابع: ما ذكر السيد الحكيم قدس سره والمناقشة فيه

الرابع: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من ظهور صدر الآية في سؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة لذريته، ويمتنع منه سؤالها لمن هو متلبس بالظلم حينها، بل المسؤول له مِنْ عداهم ممن لم يتلبس بالظلم أصلاً أو انقضى تلبسه به، فيكون ذيلها إخراجاً للقسم الثاني، دون من تلبس بالظلم حينها، لخروجه عن مورد السؤال.

وفيه - مع عدم ظهور صدر الآية ولا الروايات في سؤال إبراهيم وطلبه للإمامة، بل استفهامه عنها، فتأمل -: أن إبراهيم عليه السلام لم يطلب استيعاب ذريته بالإمامة، ليمنع عمومه للمتلبس بالظلم، بل جعلها فيهم في الجملة من دون

ص: 249

نظر لشروط المستحق لها، وبيان المستحق ابتداءً منه تعالى، فلا مانع من حمله على المتلبس فعلاً بالظلم.

الخامس: أن وضوح منافرة منصب الإمامة للتلبس بالظلم مانع من حمل الآية الشريفة عليه، لاستهجان بيانه حينئذٍ، بل لابد أن يحمل على ما يحتاج للبيان مما فيه نحو من الخفاء، وهو مانعية الظلم آناً ما من الإمامة ولو بعد ارتفاعه، فيكفي صدق العنوان سابقاً بلحاظ حال التلبس.

وفيه: أن وضوح ذلك بحسب المرتكزات العقلية والفطرة الأولية لا يمنع من بيانه بعد خروج الناس عن ذلك عملاً بسبب جور الظالمين، بل اعتقاد كثير من أهل الأديان بخلافه، لشبهات روجها الطواغيت، فقد اشتهر عن المسيحيين إيمانهم المطلق بالكنيسة، وكذا غيرهم من أهل الأديان حتى بعض فرق المسلمين.

ولولا ما من الله تعالى به من وضوح البيان ببقاء القرآن المجيد، وجهود أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم المخلصين، في التأكيد على ذلك، وفي كشف حال الظالمين وسلب الثقة بهم، لأتخذ عامة المسلمين طواغيتهم أئمة يتبعونهم في الأحكام، ويأخذون منهم الحلال والحرام، كما تبعوا بعض الأوائل في كثير من فروع الدين وأصوله، مع وضوح ظلمهم حين ادعاء المنصب، وإن حاول بعض الأتباع - بضلالهم - التلبيس والدفاع عن أئمتهم، وتنزيه سيرتهم عن الظلم، وسننهم في الدين عن الإبتداع، بعد وضوح مانعية التلبس بالظلم عن الإمامة بسبب الجهود المذكورة.

فكيفُ يستغنى مع ذلك عن إتمام الحجة ببيان صريح في القرآن المجيد الذي يُتلى آناء الليل وأطراف النهار، ولا يأتيه الباطل من بين يديه

ص: 250

ولا من خلفه! والحمد لله على هدايته لدينه. ونسأله العصمة والتوفيق.

المختار في المفهوم من الآية الشريفة

والذي ينبغي أن يقال: الاستدلال على عموم المشتق بهذه النصوص موقوف.. أولاً: على ورودها في مقام الإحتجاج بالآية الشريفة على عدم إمامة من عبد وثناً أو صنماً، كي يتعين كون استفادة ذلك منها بمقتضى الوضع أو الظهور العام، ليتسنى إلزام الخصم به في مقام الإحتجاج.

وثانياً: على أن المراد بالعهد في الآية الشريفة الإمامة التي لا تكون فعلية للشخص إلا بوجوده واجتماع الشرائط فيه، ومنها عدم كونه ظالماً، كي يدعى أن ظاهرها لزوم عدم كونه ظالماً حين انعقاد الإمامة له، فلا يشمل من خرج عن التلبس بالظلم إلا بناءً على عموم المشتق.

ولا طريق لإثبات الأمرين، لو لم يكن الظاهر خلافهما.

أما الأول: فلعدم ظهور النصوص في الإحتجاج بالآية والإلزام بمفادها لخصم منكر، بل في مجرد بيان المراد منها، ولا مانع من إبتناء إرادة ما تضمنته النصوص منها على خلاف ظهورها البدوي، لقرائن اطلع عليها من أُوتي علم الكتاب بنحو يرجع إلى استعمال المشتق مجازاً في حال انقضاء التلبس، أو إلى عدم كون الجري بلحاظ حال فعلية الإمامة، بل بلحاظ حال التلبس ولو كان سابقاً على ذلك الراجع إلى مانعية صدق العنوان من أهلية المتصف به للإمامة ولو بعد ارتفاعه.

وأما الثاني: فلاحتمال أن لا يكون المراد بالعهد في الآية العهد بالإمامة للإمام، بل العهد لإبراهيم عليه السلام بجعل الإمامة في ذريته بعد طلبه ذلك أو استفهامه عنه، بل لا يبعد كون ذلك هو الظاهر من الآية، بحمل العهد على الفعلي الشخصي، لا الكلي المنحل إلى أفراد تقديرية لا تكون

ص: 251

فعلية إلا بنصب الإمام في وقته. بل هو كالصريح من النبوي المتقدم وغيره.

وعليه: يكون مفاد الآية أن العهد الذي قطعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام بالإمامة لذريته قد جعل بنحوٍ لا يتناول الظالم منهم.

وليس المراد به الظالم حين قطع العهد، لعدم وجوده بعد، بل يتعين حمله على من يكون ظالماً حين وجوده، وإن اختص صدقه عليه بحال تلبسه بالظلم، فيعم بإطلاقه من يبقى عليه ومن يفارقه.

وذلك كما يقتضي عدم مقارنة الإمامة للتلبس بالظلم كذلك يقتضي عدم تأخرها عنه أو سبقها عليه واليه يرجع اعتبار العصمة في الإمامة.

أما لو كان المراد بالعهد العهد بالإمامة فلا تنهض الآية بالثاني إلا بناء على عموم المشتق لحال الانقضاء الذي هو محل الكلام، ولا بالثالث إلا بناء على عمومه للتلبس في الاستقبال، الذي لا مجال له بلا كلام.

بقي أمران

بقي في الكلام أمران:

أحدهما: جعل الإمامة ابتداءً

أحدهما: أن ظاهر الآية الشريفة كون الإمامة مجعولة منه تعالى للشخص ابتداءٍ، لعلمه بأهليته لها، كما هو مذهب الإمامية أعز الله دعوتهم، لا إمضاء لبيعة الناس بها، كما هو مذهب العامة، لعدم صحة النسبة له تعالى في الإمضائيات كما سبق عند الكلام في المعاملات من مبحث الصحيح والأعم. ولما هو المعلوم من عدم توقف إمامة إبراهيم عليه السلام على البيعة.

وهو المناسب لرفعة مقام الإمامة وجلالتها وأهمية الآثار المترتبة عليها.

ص: 252

ودعوى: أن ثبوت ذلك منه تعالى لا ينافي إمضاءه سبحانه لبيعة الناس بالإمامة.

مدفوعة: باحتياج الإمضاء للدليل. ولاسيما مع ظهور الآية في أن جعل الإمامة لإبراهيم عليه السلام بعد إبتلائه له بالكلمات وإتمامه لهن، حيث يظهر منه تبعيتها لأهلية الإمام التي تظهر باختباره وإمتحانه تعالى له.

وعليه يلزم تنزيل ما ورد في أحكام الإمامة - كالنبوي المشهور بين الفريقين: «من من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية»(1) - على ما تضمنته الآية الشريفة.

ثانيهما: ما ذكره الرازي من المراد بالإمامة ودفعه

ثانيهما: ذكر الرازي في تفسيره أن المراد بالإمامة في الآية الشريفة النبوة لا الخلافة لوجوه: الأول: ظهورها في كون الإمام إماماً لجميع الناس، وذلك لا يكون إلا الرسول المستقل بالشرع، إذ لو كان تابعاً لرسول آخر كان مأموماً لذلك الرسول.

الثاني: أن اللفظ يدل على أنه إمام في كل شيء ولا يكون كذلك إلا النبي.

الثالث: أن إمامة النبوة أعلى مراتب الإمامة، فيجب الحمل عليها، لذكرها في مقام الامتنان، فلا بد أن تكون تلك النعمة من أعظم النعم، ليحسن نسبة الامتنان. قال بعد ذلك: «فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة».

والكل كما ترى! لاندفاع الأول بأن غير النبي من الأئمة إمام لجميع الناس اللذين في عصره، وذلك هو المنساق من عموم الآية، ولذا لا يقدح في إمامة النبي المستقل بالشريعة عدم إمامته لمن سبق عصره أو تأخر عن شريعته، فلا يقدح في إمامة الإمام عدم إمامته لنبي شريعته غير الموجود

ص: 253


1- سورة البقرة: 124

حين إمامته، بل هو كسائر من سبق عصره من الناس.

نعم، لو تضمنت الآية أن الإمام لا يكون مأموماً ولو لغير أهل عصره اتجه قصورها عن الإمام التابع لنبي شريعته. لكن الآية لم تتضمن ذلك، بل تضمنت أنه إمام لجميع الناس، كما هو ظاهر الجمع المحلى باللام.

وأما الثاني فهو يبتني على مباينهم من اختصاص الإمامة بعد النبي (ص) بنظم أمر الدنيا، ولا يجري على مبانينا معشر الإمامية من عمومها لشؤون الدين والدنيا تبعاً لعموم الحاجة فيهما.

كما أن الثالث موهون بأن كون النبوة أعلى المراتب لا يقتضي إرادتها، لعدم اختصاص الامتنان بالمراتب العالية من النعم، فإن كل نعمةٍ مورد للامتنان.

بل لا امتنان في الاقتصار على المراتب العالية منها.

وإلا لزم الاختصاص بأعلى مراتب النبوة وأشرفها، كالنبوة الخاتمة.

هذا كله مع أن النبوة مباينة للإمامة مفهوماً، فإن الإمام هو الذي يجب على الناس متابعته والأخذ منه والإقتداء به، والنبوة لا تستلزم ذلك، إذ قد يختص النبي بأحكام من دون أن يجب الاخذ منه على الناس، بل قد يكون عليه إمام، كما تضمنه صحيح هشام بن سالم المتقدم وغيره.

بل سبق فيه أن إبراهيم عليه السلام كان نبياً وليس بإمام، كما هو ظاهر صدر الآية الشريفة أيضاً المتضمن أن جعله إماماً كان بعد إبتلائه بالكلمات، قال تعالى: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا

ص: 254

قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي... (1) . ولا إشكال ظاهراً في أنه إبتلي بالكلمات وهو نبي.

نعم، بناءً على ما حكاه من قراءة إبن عباس برفع (إبراهيم) ونصب (ربه) يكون المراد ظاهراً إختبار إبراهيم عليه السلام لله سبحانه في إجابة دعائه، إذ يمكن حينئذٍ أن يكون قد دعا الله قبل نبوته، وجُعِلَ نبياً حين جعله إماماً، لا قبل ذلك. لكنها شاذة والاستدلال إنما يكون بالقراءة المشهورة.

وقد خرجنا في الحديث عن الآية عما يقتضيه البحث رغبة في استكمال الفائدة.

وبذلك ينتهي الكلام في بحث المشتق، وإن أطال مشايخنا في بعض ما يتعلق به من المباحث مما لا دخل له بمحل الكلام، ولا يتضح ترتب فائدة معتد بها عليه ينبغي لأجلها صرف الوقت. ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق.

ص: 255


1- سورة النور: 63

ص: 256

المقصد الثاني في الأوامر والنواهي

ص: 257

ص: 258

المقصد الثاني في الأوامر والنواهي

المقصد الثاني في الأوامر والنواهي

اشارة

وقد جرى أهل الفن على التفريق بين الأوامر والنواهي وتخصيص كلٍ منهما بمقصد، مع أن النواهي تشارك الأوامر أو تناظرها في جُل المباحث المذكورة في مقصدها، كمباحث مفاد المادة والصيغة والجمل الخبرية، ومباحث تقسيمات الواجب إلى النفسي والغيري، والأصلي والتبعي، والمطلق والمشروط، والعيني والكفائي وغيرها، ومباحث المرة والتكرار والفور والتراخي وغيرهما، ولم يذكروا تلك المباحث في مقصد النواهي اكتفاءً بما ذكروه في مقصد الأوامر.

وأهم ما ذكروه في مقصد النواهي مسألتا اجتماع الأمر والنهي، واقتضاء النهي الفساد، اللذان هما من مباحث الملازمات العقلية حسب التبويب الذي جرينا عليه، مع أن نسبة الأولى لكل من المقصدين واحدة.

ومن هنا كان الأنسب جمعهما في مقصدٍ واحد، كما جرينا عليه هنا، مع تعميم موضوع البحث لهما في مورد الاشتراك، وتخصيصه بأحدهما في مورد الانفراد.

ص: 259

مقدمة:
مقابلة الأمر للنهي

الظاهر أن الأمر والنهي متقابلان مفهوماً واقتضاءً، فالأمر نحو نسبة بين الآمر والمأمور والماهية المأمور بها تقتضي تحقيق المأمور للماهية وإيجادها في الخارج، والنهي نحو نسبة بينهما وبين الماهية المنهي عنها تقتضي ترك المنهي للماهية وعدم إيجادها في الخارج.

فتقابلهما بلحاظ سنخهما وأثرهما، لا بلحاظ متعلقهما، نظير التقابل بين الإرادة والكراهة في حقيقتهما وإقتضائهما للمراد والمكروه.

وقد يظهر من بعض عباراتهم اتحاد نسبتيهما مفهوماً وأثراً وأن التقابل إنما هو في متعلقهما، فقد ذكر بعضهم في بيان مفاد النهي أنه لا فرق بينه وبين الأمر إلا في أن المطلوب في الأمر الوجود وفي النهي العدم، كما حكي عن آخرين في مسألة الضد أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام وهو الترك.

وذلك كله منافٍ للمرتكزات العقلائية والعرفية في حقيقة النسبتين ومفاد الدال عليهما: وكأنه يبتني على نحوٍ من التسامح أو الأشتباه في حقيقة كل من النسبتين بلازمها في مقام الامتثال أو العمل على طبقها. ولا معدل عما ذكرنا.

إذا عرفت هذا فالكلام يقع في فصول.

ص: 260

الفصل الأول في ما يتعلق بمادة الأمر والنهي

اشارة

ذكروا لمادة الأمر معاني كثيرة، كالطلب والشأن والحادث والشيء وغيرها.

والظاهر أنه مشترك لفظاً بين معنيين: نحو من الطلب أو ما يرجع إليه، ويأتي الكلام في بعض الخصوصيات المأخوذة فيه، والشأن أو ما يجري مجراه، وليطلق على الأول الأمر الطلبي، وعلى الثاني الأمر الشأني.

وهو الجامع بين بقية المعاني المذكورة له، فذكر كل من تلك المعاني بخصوصياتها يبتني على اشتباه المفهوم بالمصداق، حيث يبعد استقلال كل منها بالوضع مع تقاربها ذهنا بنحو يدرك العرف رجوعها لجامع واحد، بل لا ريب في عدم الوضع لبعضها، وأن الاستعمال فيه لاندراجه في مفهوم خاص جامع بينها.

وصعوبة تحديده تفصيلاً لا ينافي إداركه ارتكازاً، ككثير من المفاهيم العرفية.

هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره أنه عبارة عن الواقعة التي لها أهمية في الجملة، وأرجع الأمر الطلبي إليه، باعتباره من الأمور ذات الأهمية، فلا

ص: 261

يكون لمادة الأمر إلا معنى واحد، وليست مشتركة لفظاً بين معنيين. لقضاء الوجدان بأن الاستعمال في جميع الموارد في معنى واحد.

ويشكل ما ذكره: بأنه - مضافاً إلى عدم أخذ الأهمية في المعنى - لا مجال لإرجاع الأمر الطلبي للمعنى الآخر، وتخصيص المادة بمعنى واحد، لأن الأمر الطلبي مصدر اشتقاقي يجمع على أوامر، كما يجمع النهي على نواهي، والأمر الشأني جامد يجمع على أمور، حيث يكشف ذلك عن اشتراك اللفظ بين معنين متباينين مفهوماً، وإن كان الأمر الطلبي من مصاديق الأمر الشأني ببعض الاعتبارات كالنهي والاستفهام وغيرهما.

وأما ما في منتهى الأصول من إمكان اختلاف جمع المفهوم الواحد باختلاف مصاديقه، كما يمكن اختلافه بحسب الاشتقاق باختلاف نسبه حسب اختلاف الحاجة، فإذا كانت اختلافات النسب في معنى كثيرة كثرت اشتقاقاته، وإن كانت قليلة قلت.

ففيه: أن الجمع يرد على المفهوم باعتبار تعدد أفراده، لا على الأفراد ليختلف باختلافها. وكذا الحال في الاشتقاق، فمع وحدة المعنى لابد من كونه على وجه واحد، والاختلاف في مقدار الاشتقاق إنما يكون مع تعدده، كما يختلف اللازم مع المتعدي في بعض الاشتقاقات.

على أن الأمر ليس في قلة الاشتقاق وكثرته، بل في اشتقاق أحد المعنيين وجمود الآخر، ومباينة المعنى الاشتقاقي للجامد أوضح من أن تخفى.

وقابلية بعض أفراد المعنى الجامد للاشتقاق بلحاظ خصوصيته الفردية لا تصحح الاشتقاق من مادته الجامدة، ولذا لا يصح الاشتقاق من

ص: 262

الأمر الشأني لو أريد به النهي أو الاستفهام أو نحوهما مما يكون فرداً له بملاك فردية الأمر الطلبي له.

ولعله لذا اعترف بعدم خلو ما ذكره عن المناقشات.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في تباين المعنيين مفهوماً، واشتراك مادة الأمر بينهما اشتراكاً لفظياً. نعم قد يكون الأمر الطلبي مأخوذاً من الأمر الشاني بحسب الأصل، كما في كثير من المواد المشتركة، كمادة شجر التي يرجع إليها الشجر الجامد، والشجار المشتق.

والأمر ليس بمهم، إنما المهم تحقيق حال الأمر الطلبي وتحديد مفاده، والمنظور في ذلك إنما هو المفاد اللغوي والعرفي، الذي يحمل عليه في كلام الشارع الأقدس ونحوه مما له دخل في الإستنباط.

وإلا فقد ادُّعي أن المراد به اصطلاحاً القول المخصوص، وهو (افعل) أو ما بمعناه، وهو غير مهم لو تم.

هذا، وأما النهي فهو مختص ظاهراً بالمعنى المقابل للأمر، ويشاركه في أكثر الجهات المبحوث عنها فيه أو في جميعها.

الكلام في معنى المادة

إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم:

تارةً: في اتحاد الأمر مع الإرادة النفسية أو مباينته لها لتقومه بالإنشاء.

وأخرى: في أخذ علو الآمر أو استعلائه في مفهومه.

وثالثة: في دلالته وضعاً أو إطلاقاً على الإلزام.

ويجري نظير ذلك في النهي، حيث يقع الكلام في اتحاده مع الكراهة النفسية، وفي اعتبار علو الناهي أو استعلائه فيه، وفي دلالته على الإلزام.

ص: 263

مباينة الأمر والنهي للإرادة والكراهة

والذي ينبغي أن يقال: لا إشكال بعد النظر في المرتكزات العقلائية والعرفية في مباينة الأمر والنهي مفهوماً وخارجاً للإرادة والكراهة النفسيتين وتقومهما بالجعل والإنشاء الذي قد لا يكون مسبباً عن الإرادة والكراهة للمتعلق، بل يكون بداعي الامتحان أو غيره. نظير ما سبق عند الكلام في حقيقة الأحكام الإقتضائية - في مقدمة علم الأصول - من أن الإرادة والكراهة التشريعيتين اللذين هما منشأ انتزاع التكليف مباينتان سنخاً للإرادة والكراهة النفسيتين الحقيقيتين.

فليس الأمر والنهي إلا عبارة عن الخطاب بالحث نحو الشيء أو الزجر عنه من دون أن يستلزما إرادته أو كراهته فضلاً عن أن يتحدا معهما مفهوماً أو خارجاً، كما يظهر من بعضهم.

نعم الظاهر عدم الاكتفاء فيهما بمطلق الحث والزجر، بل يختصان بما يبتني منهما على فرض المخاطب نفسه بمرتبة من ينبغي متابعته وتنفيذ خطابه، إما لسلطان غالب، أو لقوة قاهرة، أو لحقٍ لازمٍ عرفاً أو شرعاً.

لكن لا بمعنى لزوم بلوغه لذلك حقيقة، بل يكفي تخيله ذلك أو إدعاؤه له، لأن المعيار على إبتناء الخطاب عليه.

ولذا لا يكفي وجوده الواقعي من دون أن يبتني عليه الخطاب. فلو وجب شرعاً إطاعة الأب فطلب طلب الراجي غافلاً عن ذلك لم يصدق على طلبه الأمر، كما لا يصدق على زجره النهي، وإن وجبت إطاعته.

كما أنه لو طلب طلب السلطان القاهر صدق الأمر والنهي وإن لم تجب إطاعته شرعاً ولم يخش سلطانه.

ومرجعه إلى اعتبار الاستعلاء دون العلو، خلافاً لما ذكره غير واحدٍ

ص: 264

من العكس.

بل يجري ذلك حتى في الأوامر والنواهي الإرشادية إذا ابتنت على ادعاء المرشد بلوغه أهلية الإرشاد لمعرفته بمرتبة تلزم بمتابعته.

أما لو ابتنت على محض معرفته بالواقع المرشد إليه ولو صدفة من دون ادعاء لذلك لم يصدق الأمر والنهي.

هذا هو الظاهر بحسب المرتكزات العرفية.

أخذ الإلزام في مفهوم الأمر والنهي

ومن هنا كان الظاهر أخذ الإلزام في مفهوم الأمر والنهي، كما هو المتبادر من إطلاقه، بل الظاهر صحة السلب عن الطلب غير الإلزامي، وإن صح إطلاقه على ما يعمه بنحو من العناية، كما في مقام التقسيم.

وقد يشهد بما ذكرنا جملة من الآيات التي تضمنت ترتب استنكار المخالفة والتحذير منها والذم عليها، بنحو يظهر منها كون هذه الأمور من لوازم المفهوم، كقوله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1) وقوله عز وجل: «مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ(2) وكقوله سبحانه: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»(3).

وكذا الروايات الظاهرة في المفروغية عن اقتضاء الأمر الإلزام، كقوله (ص): «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كل صلاة»(4) أو: «مع كل صلاة»(5) وما في حديث بريرة: فقال لها النبي (ص): «لو

ص: 265


1- سورة الأعراف: 12
2- سورة الرعد: 25
3- الوسائل ج 1، باب: 3 من أبواب السواك، حديث: 4
4- الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب السواك، حديث: 3
5- مستدرك الوسائل باب: 36 من أبواب نكاح العبيد والإماء، حديث: 3

راجعتيه فإنه أبو ولدك»، فقالت: «يا رسول الله أتأمرني؟» قال: «لا إنما أنا شفيع»، فقالت: «لا حاجة لي فيه»(1).

فإن الاستعمال وإن كان أعم من الحقيقة، إلا أن ابتناء الاستعمالات المذكورة في الخصوصية على القرينة دون حاق اللفظ بعيداً جداً، ولاسيما في النبويات. ولا أقل من كونها مؤيدة للمدعى، كما ساقها في الكفاية.

هذا، ولو فرض عدم تمامية ذلك كان ما يأتي في وجه استفادة الإلزام من الصيغة بالإطلاق ونحوه جارياً في المقام. كما أن الظاهر مشاركة النهي للأمر في جميع ما تقدم، للتقابل بينهما عرفاً.(2)

ص: 266


1- سورة الأعراف: 24
2- سورة الحج: 73

الفصل الثاني في ما يتعلق بمادة الطلب

اشارة

الطلب لغةً: السعي نحو الشيء لمحاولة تحصيله والوصول إليه. وهو المناسب لموارد إطلاقه في الكتاب المجيد والسنة الشريفة واستعمال أهل العرف، كقوله تعالى: «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا»(1) وقوله عز اسمه: «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ»(2) وقولهم عليهم السلام: «طلب العلم فريضة»(3) وما ورد من وجوب طلب الماء لمن يجده وعدم مشروعية التيمم بدونه(4)، وقول الشريف الرضي:

لو على قدر ما يحاول قلبي طلبي لم يقر في الغمد غضبي

إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة.

والظاهر عدم خروجه عن المعنى المذكور عند إطلاقه في مورد الحث على الشيء، لأن الحث على الشيء نحو من السعي لتحصيله. ومن هنا كان الظاهر اتحاده خارجاً مع الحث المذكور.

ص: 267


1- راجع الوسائل ج 18، باب: 4 من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء
2- راجع الوسائل ج 1، باب: 1 و 2 من أبواب التيمم
3- كتاب التوحيد للصدوق ص: 296، طبع النجف الأشرف سنة: 1386
4- سورة المائدة: 2
عدم اتحاده مع الإرادة النفسية

وليس هو متحداً مع الإرادة النفسية، لا مصداقاً ولا مفهوماً.

لكن في لسان العرب: «وطلب إلي طلباً: رغب» وقد يظهر منه اتحاد الطلب مع الرغبة التي هي أمر نفسي مباين للحث الإنشائي.

إلا أنه في غير محله، لوضوح أن مراده ليس مجرد الرغبة النفسية، بل إبداؤها للشخص المطلوب إليه في مقام حثه على تحيق المرغوب فيه، الذي يعبر عنه بقولنا: رغب إليه، ومن الظاهر أن الإبداء المذكور هو الحث الإنشائي، فيطابق ما ذكرنا.

بل لا يبعد صدق الطلب عرفاً على الحث المذكور وإن لم يكن بداعي السعي لتحصيل المطلوب، لعدم إرادته، بل بداعٍ آخر، كالامتحان.

ودعوى: أنه حينئذٍ طلب صوري لا حقيقي.

غير ظاهرة، وإنما يكون الخطاب طلباً صورياً لو أوهم الحث ولم يكن وارداً مورد الحث حقيقة، كما في موارد التقية ونحوها.

وكيف كان، فلا ينبغي التأمل في عدم اتحاده مفهوماً ولا خارجاً مع الإرادة، بل غاية الأمر كونه ملازماً لها لو غض النظر عما ذكرنا من صدقه في مورد الامتحان.

فما في كلام بعضهم من أنه عبارة عن الإرادة ومتحداً معها، في غير محله قطعاً.

ومثله في الضعف ما عن الأشاعرة من أنه أمر قائم بالنفس غير الإرادة، وهو المسمى عندهم بالكلام النفسي والمدلول بنظرهم للكلام اللفظي.

وقد ذكروا أنه هو المعيار في التكليف دون الإرادة، وبذلك وجهوا تخلف الامتثال عن التكليف مع امتناع تخلف مراده تعالى.

ص: 268

لاندفاعه: بأنه لا واقع للكلام النفسي ارتكازاً، فضلاً عن أن يكون هو الطلب والمعيار في التكليف.

وتخلف الامتثال عن التكليف ليس لأن الكلام النفسي هو المعيار في التكليف، بل لأن المعيار فيه هو الخطاب بداعي جعل السبيل، الذي فسرنا به الإرادة التشريعية، وذكرنا أنه غير مستلزم للإرادة، على ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية من مقدمة علم الأصول.

وبذلك نستغني عن البحث فيما أطالوا الكلام فيه هنا من إبطال كلام الأشاعرة، وفيما جر إليه ذلك من الكلام في شبهة الجبر، ولاسيما مع خروجه عما هو محل الكلام هنا من تشخيص الظهورات، ومع كون الشبهة المذكورة من مزال الأقدام، حتى ورد النهي عن الكلام في القدر، وأنه بحر عميق فلا تلجه، وطريق مظلم فلا تسلكه، وسرّ الله فلا تكلفه(1). فلا ينبغي الكلام في ذلك إلا لرفع الشبهة لو طرأت على بعض الناس، لا التنبيه إلى الشبهة ثم محاولة رفعها، حيث قد لا يوفق الإنسان لرفعها، فتبقى عليه تبعة التنبيه إليها. عصمنا الله من الزلل في القول والعمل.

ثم إن الظاهر أن مادة الطلب لا تقتضي العلو من الطالب ولا الاستعلاء، فيصدق الطلب على الدعاء والرجاء وغيرهما. كما لا تختص بالإلزام، ومن ثم كان الطلب أخص من الأمر.

نعم، ما يأتي في وجه استفادة الإلزام من الصيغة مع عدم اختصاصها به وضعاً لو تم جارٍ في مادة الطلب، لعدم الفرق بينهما في الجهة المقتضية له، على ما يتضح إن شاء الله تعالى.

ص: 269


1- سورة البقرة: 23

الفصل الثالث في ما يتعلق بصيغتي الأمر والنهي

اشارة

المراد بصيغة الأمر في كلماتهم هي هيئة فعل الأمر ثلاثياً كان أو غيره. وألحق بها لام الأمر الداخلة على الفعل المضارع، لاتحادهما فيما هو المهم من محل الكلام، وهو الدلالة على الطلب والإلزام، أما النهي فلا هيئة تخصه، وإنما يستفاد من (لا) الناهية، كما يستفاد الأمر من اللام.

معاني صيغة الأمر

وقد ذكروا لصيغة الأمر معاني متعددة، كالطلب - الذي هو الشائع من موارد استعمالها - والإباحة، كقوله تعالى: «وإذا حللتم فاصطادوا»(1)، والتمني، كقول الشاعر:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي..

والتعجيز، كقوله تعالى: «فأتوا بسورة من مثله»(2)، والتهديد، كقوله تعالى: «وانتظروا إنا منتظرون»(3)، والاحتقار، كقوله سبحانه: «فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»(4) وغيرها.

ص: 270


1- سورة هود: 122
2- سورة طه: 22
3- سورة المائدة: 2
4- سورة البقرة: 222

كما يجري نظيرها في لام الأمر. بل في (لا) الناهية، حيث تصلح للاستعمال في تلك المعاني، مع استبدال الطلب بالنهي.

هل الصيغة مشتركة أو مختصة بالأول؟

وقد وقع الكلام بينهم في اشتراكها بين المعاني لفظاً، أو اختصاصها بالأول مع كونها مجازاً في الباقي.

وإن كان الظاهر - تبعاً لجمع من المحققين - أنها موضوعة لنحو نسبة خاصة لا تخرج عنها إلى غيرها في مقام الاستعمال، لا حقيقةً ولا مجازاً، واختلاف المعاني المذكورة لها راجع لاختلاف دواعي الاستعمال، فكما أن القضية الحملية تستعمل تارةً بداعي الإخبار والحكاية، وأخرى بداعي الاستهزاء والسخرية، مع عدم خروج هيئتها عن معناها، كذلك الحال في المقام، وفي كثير من الهيئات والحروف، على ما يشهد به التدبر في المرتكزات الاستعمالية.

والنسبة المذكورة حيث كانت من المعاني الحرفية التي سبق اختلافها سنخاً مع المعاني الاسمية فلا يكون شرحها بالاسم، - كالطلب والبعث والزجر ونحوها - إلا لفظياً لضيق التعبير على ما سبق في مبحث المعنى الحرفي.

ولعل الأنسب التعبير عن النسبة التي تؤديها هيئة الأمر ولامه بالنسبة البعثية، دون الطلبية، لأنها أقرب ارتكازاً للبعث الصاد من الباعث والقائم بين المبعوث والمبعوث إليه منها إلى الطلب القائم بالطالب والأمر المطلوب، وليس المطلوب منه إلا آلة له من دون أن يكون طرفاً له.

وبهذا كانت مقابلة ل (لا) الناهية التي يكون الأنسب التعبير عن النسبة التي تؤديها بالنسبة الزجرية، لقيام الزجر بالمزجور والمزجور عنه، وليس

ص: 271

الزاجر إلا فاعل له.

نعم، الخطاب بالنسبة المذكورة والحث بها يصدق عليه الطلب، بلحاظ ما سبق من معناه، لأن الحث المذكور سعي نحو المطلوب، وإن لم تكن النسبة المؤداة طلبية.

ولا يهم تحقيق ذلك بعد عدم الريب ظاهراً في أن الأصل حمل هيئة الأمر وأداته على استعمالهما بداعي الحث على الفعل، وحمل أداة النهي على استعمالها بداعي الزجر عنه، دون بقية الدواعي المتقدمة من إباحة أو تهديد أو غيرهما، من دون فرق بين القول بوحدة معنى الصيغة وأداة الأمر والنهي مع اختلاف الدواعي والقول بتعدده.

في استفادة الإلزام من الصيغة

وإنما المهم استفادة الإلزام منها بالوضع أو الإطلاق أو غيرهما، بحيث يكون هو الأصل الذي يحمل عليه الكلام مع عدم القرينة الصارفة عنه، لأهميته في مقام العمل جداً. ومن ثم كان ذلك حقيقاً بالكلام في المقام، وبالنقض والإبرام.

والظاهر أن النزاع لا ينحصر بالإلزام المساوق لاستحقاق العقاب عقلاً، المتفرع على كون المخاطب بالصيغة ممن تجب إطاعته عقلاً، كالشارع الأقدس، بحيث لا موضوع له في خطاب غيره - كما قد يظهر من بعض الوجوه الآتية وقد يوهمه التعبير عنه بالوجوب - بل يجري في مطلق الإلزام ولو من الموالي العرفيين الذين لا تجب إطاعتهم، بل ولو من غير الموالي، كالداعي والملتمس والشافع.

توضيحه

وتوضيح ذلك.. أن الطلب

تارة: يبتني على نسبة المطلوب للطالب، بحيث يصحح إضافة

ص: 272

المطلوب إليه، فيؤتى به لأجله وعلى حسابه، ويكون الممتثل مستحقاً للشكر منه.

وأخرى: لا يبتني على ذلك، بل على محض الكشف عن واقع لا دخل للطالب له.

والثاني هو الطلب الإرشادي، أما الأول فهو الطلب المولوي إن صدر من المولى، بل قد يطلق على كل طلب صادر ممن يهتم بإطاعته ولو لخوف عقابه أو رجاء ثوابه - كالسلطان - بل من كل من كان مستعلياً وإن لم يكن عالياً في نفسه، وإن صدر من السافل للعالي كان دعاءً أو عرضاً، وإن صدر من النظير للنظير كان شفاعةً والتماساً ونحوهما.

ثم إن الإلزام في الطلب الإرشادي تابع ثبوتاً للواقع الذي يرشد إليه، حيث لابد فيه من الأهمية بمرتبة خاصة، مع عدم المزاحم، أما في المولوي وما يجري مجراه فهو تابع لخصوصية في الطلب الصادر من الطالب، بأن يبتني على نحو من الإصرار على المطلوب زائداً على إضافة المطلوب للطالب وجعله في حسابه، بحيث يكون عدم امتثاله مخالفة له ورداً على الطالب، وإن لم يوجب استحقاق العقاب عقلاً أو عرفاً، لعدم كون الطالب لازم الإطاعة.

ولذا يكون خروجاً عن مقتضى المولوية التي يبتني عليها الطلب المولوي، على ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية.

وأما خصوصية الملاك فهي علة لخصوصية الطلب المذكورة التي يتبعها الإلزام، لا أنها السبب المباشر له، كما في الطلب الإرشادي.

وتمام ما سبق جارٍ في النهي.

ص: 273

هذا كله في منشأ الإلزام في مقام الثبوت.

الكلام في استفادة الإلزام إثباتاً

وأما في مقام الإثبات فقد وقع الكلام في دلالة الصيغة على الإلزام وضعاً أو إطلاقاً، أو عدم دلالتها عليه.

قال في الكفاية: «في أن الصيغة حقيقةً في الوجوب، أو في الندب، أو فيهما، أو في المشترك بينهما، وجوه بل أقوال».

ولا ينبغي التأمل في عدم اختصاصها بالطلب غير الإلزامي بعد عدم تبادره منها وعدم العناية في استعمالها في الإلزامي.

كما أن الظاهر عدم اشتراكها لفظاً بين الطلب الإلزامي وغيره، لوجود القدر المشترك بينهما عرفاً، وهو مطلق الطلب الحاصل من النسبة البعثية، فلو أريد العموم لهما كان الظاهر الاكتفاء بالوضع للقدر المشترك المذكور، ولاسيما مع بعد الاشتراك اللفظي في نفسه، خصوصاً في الهيئات والحروف.

والمهم في المقام القولان الآخران..

القول بأنها حقيقة في الطلب الإلزامي

الأول: أنها حقيقة في الطلب الإلزامي، بمعنى أنها موضوعة لنحو من النسبة البعثية لا تلائم غيره، وإلا فالإلزام أو الوجوب بما هو معنى اسمي لا يكون مفاد الحرف.

القول بأنها حقيقة في مطلق الطلب

الثاني: أنها حقيقة في مطلق الطلب الحاصل مع الإلزام وغيره، بأن تكون موضوعة للنسبة البعثية المطلقة الملائمة لكل منهما.

ومرجع أدلة الأول وجهان:

الاستدلال على القول الأول

أولهما: التبادر للإلزامي مع عدم القرينة الحالية أو المقالية الصارفة

ص: 274

عنه. ولذا يصح في مورد الصيغة إطلاق الأمر الذي سبق أنه موضوع للإلزام، كما يصح الذم على المخالفة، وقد وردا في ترك إبليس السجود لآدم مع كون الخطاب به بالصيغة، كما لا يحسن عرفاً الاعتذار عن المخالفة باحتمال الندب.

ثانيهما: استعمالها في كثير من الآيات والروايات ولسان أهل العرف في مقام بيان الإلزام من دون حاجة إلى ضم القرينة بالوجدان.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن الاستعمال أعم من الحقيقة.

إذ هي إنما تتجه مع احتمال القرينة لا مع القطع بعدمها كما لا مجال لمعارضة ذلك باستعمالها في الندب، بعد عدم الإشكال ظاهراً في بناء العرف والمتشرعة على احتياجه للقرينة.

نعم، إنما ينهض هذان الوجهان بإثبات الوضع لخصوص ما يناسب الطلب الإلزامي لو لم يكن الطلب الإلزامي مقتضى الأصل في مفاد الصيغة أو القرينة العامة التي يلزم الحمل عليها مع عدم المخرج عنها حتى لو كانت موضوعة لما يناسب مطلق الطلب، حيث ينحصر منشؤهما حينئذٍ بالوضع، فيستدل بهما عليه.

أما إذا احتمل ذلك أو ثبت فلا ينهض هذان الوجهان بإثبات الوضع، لإمكان استنادهما للأصل أو القرينة المذكورين، بأن لا يكون فهم الإلزام من إطلاق الصيغة من باب تبادر معنى اللفظ الموضوع له منه، ولا الاكتفاء في بيانه بها لأدائها له بمقتضى وضعها له، بل هما مسببان عما ينضم إليها من الأصل أو القرينة المذكورين، مع وضعها لما يناسب مطلق الطلب، كما جرى عليه غير واحدٍ من محققي المتأخرين.

ص: 275

ويناسبه أن إرادة الطلب غير الإلزامي من الصيغة وإن احتاجت للقرينة إلا أنها لا تبتني ارتكازاً على العناية والخروج بها عن معناها، بل هي لا تدل بمقتضى المرتكزات الاستعمالية إلا على محض البعث القابل للأمرين.

وقد يناسبه ما هو ديدنهم فيما لو خوطب بجملة أمور قام الدليل على عدم الإلزام ببعضها من البناء على الإلزام في الباقي، مع أنه لو ابتنت إرادة الطلب الإلزامي من الصيغة على إفادتها له وضعاً وإرادة الطلب غير الإلزامي منها على الخروج بها عما وضعت له، لم يمكن استفادة الإلزام منها بالإضافة إلى ما لم تقم القرينة على عدم الإلزام به في الفرض، كما لعله ظاهر.

وجه الحمل على الإلزام مع وضع الصيغة للنسبة البعثية

ومن هنا كان الظاهر وضع الصيغة للنسبة البعثية المطلقة الملائمة لمطلق الطلب. ولزم الكلام في وجه الحمل على الإلزام مع عدم القرينة الصارفة عنه.

ولهم في ذلك طرق:

الأول: الانصراف لخصوص الإلزام

الأول: الانصراف لخصوص الإلزام لكثرة الاستعمال فيه، أو لغلبة وجوده، أو لأكمليته.

وفيه: أن معيار الانصراف لبعض الأفراد هو شدة أنس الذهن به، وهو لا يلازم شيئاً من هذه الأمور وإن كان قد يتحقق معها أو مع بعضها.

مع أن الاستعمال في الطلب غير الإلزامي ليس بأقل، بل هو في خطابات الشارع أكثر، فإن المندوبات والمكروهات وأدلتها أكثر من الواجبات والمحرمات وأدلتها.

وأما الأكملية فهي مبنية على كون المعيار في الإلزام شدة الإرادة أو

ص: 276

الطلب وتأكدهما وقد سبق عند الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية المنع من ذلك، وأن المعيار فيه أمر آخر ذكرناه هناك وهنا. فراجع.

الثاني: حكم العقل

الثاني: حكم العقل. وقد قرر بوجهين:

الثاني ما يظهر تقريره من النائيني قدس سره

أولهما: ما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره وربما يوجد في كلام غيره من أن الوجوب هو الثبوت، وهو يكون في التشريعيات عقلياً تبعاً لصدق عنوان الإطاعة على الفعل، فإذا صدر بعث من المولى نحو شيء ولم تقم قرينة على كون المصلحة غير لزومية انطبق عنوان الإطاعة على الانبعاث عن بعثه، فيجب عقلاً.

نعم، لو قامت قرنية على كون المصلحة غير لزومية لم يكن الانبعاث إطاعة فلا يجب عقلاً.

ولا يخفى أنه لابد من حمله على الإطاعة التي يصدق بعدمها العصيان، لأنها هي الواجبة عقلاً تبعاً لقبح المعصية، وهي التي لا تصدق في مورد عدم كون المصلحة لزومية، وإلا فمطلق الإطاعة تصدق على الانبعاث عن بعث المولى فيما إذا لم تكن المصلحة لزومية، وهي لا تتصف عقلاً بالوجوب، بل بمحض الحسن.

ولعله لذا قال بعض المعاصرين في أصوله: «فان العقل يستقل بلزوم الانبعاث عن بعث المولى والإنزجار عن زجره قضاء لحق المولوية والعبودية، فبمجرد بعث المولى يجد العقل أنه لابد للعبد من الطاعة والانبعاث ما لم يرخص في تركه ويأذن في مخالفته».

المناقشة فيه

وكيف كان، فيشكل ذلك بأن محل الكلام ليس هو الوجوب العقلي التابع لوجوب إطاعة الأمر، بل ما يساوق الإلزام التابع لواقع الخطاب ثبوتاً،

ص: 277

والذي لا يختص بالخطابات الشرعية، كما سبق.

على أن الوجوب العقلي تابع ثبوتاً للإلزام المذكور، فلابد من إحرازه، لا لعدم وصول الترخيص في الترك.

ولو فرض حكم العقل بوجوب الانبعاث مع الشك في الإلزام وعدم وصول الترخيص، فليس هو لتحقق موضوع وجوب الإطاعة واقعاً، بل هو حكم آخر ظاهري طريقي في طول الحكم بوجوب إطاعة البعث الإلزامي واقعاً، نظير الحكم بوجوب الاحتياط مع الشك في الامتثال، الذي هو في طول وجوب الامتثال الواقعي، ومن المعلوم من مذهبه عدم بنائه عليه بل المرجع عنده البراءة في مثل ذلك، كما لو تردد الدليل بين ما هو ظاهر في الوجوب وما هو ظاهر في الاستحباب، أو كان محتفاً بما يصلح قرينة على الترخيص من دون أن يكون ظاهراً فيه، حيث يعلم بصدور البعث من المولى ويشك في الترخيص في الترك.

مضافاً إلى أن مقتضى الوجه المذكور أن يكون ورود الترخيص بل وصوله رافعاً للوجوب، لا كاشفاً عن عدمه من أول الأمر، مع أنه لا يظن بهم البناء عليه في غير مورد النسخ المبتني على تبدل حال الطلب من الإلزام لغيره.

كما أن لازمه كون تصريح الشارع بالوجوب تنبيهاً على أمرٍ خارج عن حقيقة حكمه متمحض للإرشاد إلى حكم العقل، مع وضوح بطلان ذلك ومخالفته للنصوص والأدلة المتضمنة لبيان الفرائض، لصراحتها في كون الإفتراض أمراً تابعاً للشارع مجعولاً له.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره

ثانيهما: ما ذكره بعض مشايخنا من أن مفاد الصيغة إبراز جعل

ص: 278

المادة في عهدة المكلف واعتبارها في ذمته، فيجب عقلاً السعي لتحقيقها، والخروج عما انشغلت به ذمته ما لم يرخص المولى نفسه في الترك، فيكون الوجوب مستفاداً من حكم العقل لا من الصيغة، بل هي مطلقاً للإبراز المذكور. وليس الفرق بين الوجوب والاستحباب إلا في لزوم المصلحة وعدمه ثبوتاً، وفي الترخيص وعدمه إثباتاً.

المناقشة فيه

ويشكل: بأن ما ذكره - لو تم - إنما يصلح أن يكون بياناً لحقيقة الحكم الشرعي، ولا مجال لأنْ يكون مفاداً للصيغة، لوضوح عدم الفرق في مفهومها بين أن تقع في كلام الشارع وكلام غيره ممن لا يستتبع إنشاؤه التكليف، بل حتى في الخطابات الإرشادية، فلابد أن يكون مفادها المطابقي أمراً آخر مشتركاً بين جميع الموارد مصحح لانتزاع التكليف - بالمعنى المتقدم أو غيره - لو صدر من المولى الواجب الطاعة عقلاً، كالبعث أو نحوه، فيقع الكلام في وجه حمله على الإلزام مع صلوح مفاد الصيغة لغيره.

ولذا سبق أن محل الكلام لا يختص بالإلزام المساوق لاستحقاق العقاب، بل يجري في جميع الخطابات.

على أن ما ذكره يبتني على ما سبق منه في مقدمة الأصول في بيان حقيقة الأحكام التكليفية.

وقد سبق المنع من تفسير الحكم التكليفي بذلك ثبوتاً، وأن لازمه كون الفرق بين الاستحباب والوجوب بالترخيص وعدمه في مقام الثبوت، لا في مقام الإثبات، كما ادعاه.

كما أنه إذا كان وجوب أداء ما في الذمة عقلياً كان تنبيه الشارع على الوجوب بياناً لأمرٍ عقلي خارج عن حقيقة حكمه، كما يمتنع ترخيصه في

ص: 279

الترك إلا بنحو النسخ الذي لا وجه معه لبقاء الاستحباب، نظير ما تقدم في الوجه السابق.

إلا أن يرجع إلى اختصاص وجوب الأداء عقلاً بنحو خاص من الجعل دون غيره، وأنه بالترخيص وعدمه يستكشف نوع الجعل، وحينئذٍ يكون الفرق ثبوتاً بين الوجوب والاستحباب راجعاً إلى ذاتيهما ولا ينحصر بلزوم المصلحة وعدمه.

كما يقع الكلام في وجه حمل الجعل المدلول للصيغة على ما يجب معه الأداء عقلاً مع فرض صلوحه لغيره، ولا ينهض الوجه المذكور ببيان ذلك.

مضافاً إلى أنه إذا كان مفاد الصيغة اعتبار المادة في ذمة المكلف، وكان العقل حاكماً بوجوب الخروج عن ذلك ما لم يثبت الترخيص لزم البناء على الوجوب لو تردد الدليل بين ما هو ظاهر في الوجوب وما هو ظاهر في الاستحباب، أو احتف بما يصلح قرينة على الترخيص من دون أن يكون ظاهراً فيه، حيث يعلم باعتبار المولى المادة في ذمة المكلف، ويشك في ترخيصه في تركه، نظير ما سبق في الوجه الأول.

الثالث: أنه مقتضى الإطلاق

الثالث: أن الإلزام مقتضى الإطلاق فيما لو كان المتكلم في مقام البيان.

وجوه تقريب الإطلاق

وقد يقرب بوجوه:

أولها ما ذكره لخراساني قدس سره

أولها: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن الندب كأنه يحتاج إلى مؤنة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب، حين لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد.

ص: 280

المناقشة فيه

وفيه: أن عدم المنع من الترك في الندب ليس من سنخ القيد للطلب، لينفى بالإطلاق، بل هو أمر مقارن له خارج عنه مطابق للأصل، فلا ينهض الإطلاق بنفيه.

نعم، لو كان مرجع الندب إلى عدم الطلب مع عدم إرادة المخاطب الامتثال كان مستلزماً لتقييد الطلب، فينفى بالإطلاق. لكن لا مجال لتوهم ذلك.

ثانيها: أنه طلب تام وغيره مرتبة من الطلب

ثانيها: ما يظهر من غير واحدٍ من أن الطلب الإلزامي طلب تام لا حدَّ له وغيره مرتبة من الطلب محدودة بحدٍ من حدود النقص، فإذا كان المتكلم في مقام البيان لزم حمل ما يدل على الطلب في كلامه على الطلب التام الذي يكون ما به امتيازه من سنخ ما به الاشتراك، لصلوح الكلام لبيان كلا حديه، دون الطلب الناقص الذي يكون ما به امتيازه مبايناً لما به الاشتراك، لعدم صلوح الكلام إلا لبيان أحد حديه.

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أنه يبتني على كون الفرق بين الطلب الإلزامي وغيره بالشدة والضعف، وقد سبق المنع من ذلك.

و ثانياً: أن ذلك ليس بأولى من أن يقال: لما كان الشديد يبتني على تأكد وجود الماهية بما يزيد على ما يتوقف عليه صدقها ويدل عليه لفظها كان الاقتصار في مقام بيان إحدى الخصوصيتين على اللفظ الدال عليها والذي يكفي في صدقه صرف الوجود مناسباً لإرادة الضعيف الذي يتحقق به صرف الوجود وتحتاج المرتبة الزائدة عليه إلى مرتبة زائدة في البيان.

وإن كان كلا الوجهين غير خالٍ عن الإشكال بل المنع بعد صدق الماهية على كلا الفردين بنحوٍ واحد.

ص: 281

و ثالثاً: أن ذلك لو تم موقوف على إحراز كون المتكلم في مقام بيان إحدى الخصوصيتين، وعدم الاقتصار على بيان القدر المشترك بينهما، ولا طريق لإحراز ذلك بعد صلوح القدر المشترك لأن يترتب عليه العمل، لكفايته في الداعوية عقلاً وإن لم يحرز كونه إلزاميًا، غايته أن داعويته لا تكون إلزامية.

نعم، لو لم يكن القدر المشترك صالحاً لأن يترتب عليه العمل اتجه حمل الكلام على بيان إحدى الخصوصيتين مما يترتب عليه العمل.

ومن هنا ذكروا أن المطلق يحمل على الماهية المرسلة، لأن حمله على الماهية المبهمة من حيثية الإرسال والتقييد مستلزم لعدم صلوحه لترتب العمل عليه، وكذا الماهية المقيدة بعد عدم التعرض للقيد، فتتعين الماهية المرسلة الصالحة لأن يترتب عليها العمل.

ولذا كان تعيين أن الماهية المرسلة استغراقية أو بدلية محتاجاً إلى قرينة زائدة على كون المتكلم في مقام البيان، لصلوح القدر المشترك لأن يترتب عليه العمل.

وبالجملة: ليس بناء العرف على حمل الإطلاق على الفرد الأكمل بعد صدق عنوان المطلق بغيره، وصلوح القدر المشترك لأن يترتب عليه العمل، ولذا لا يضن بهم البناء في مثل المقام على الحمل على أعلى مراتب الوجوب وأشدها.

ثالثها: ما ذكره العراقي قدس سره

ثالثها: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن غرض الطالب إيجاد مطلوبه في الخارج، فلابد من وفاء الطلب بذلك، ويختص ذلك بالإلزامي، فيكون هو المستفاد بمقتضى إطلاق الطلب، ولو كان هناك مانع

ص: 282

من الإلزام لوجب بيانه، لكونه على خلاف مقتضى الأصل في الطلب.

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أن غرض الطالب المباشر ليس هو إيجاد مطلوبه في الخارج، بل إرشاد الطالب المخاطب لفائدة المطلوب في الطلب الإرشادي، وإضافة المطلوب للطالب بنحو يمكن الإتيان به لأجله وعلى حسابه بنحوٍ يستحق منه الشكر عليه في غيره من أنواع الطلب، على ما سبق.

نعم، قد يكون الغرض من الإرشاد أو الإضافة المذكورين هو إيجاد المطلوب في الخارج وقد يكون أمراً آخر كالامتحان، ولذا قد يطلب ممن يعلم بعد امتثاله.

ثم إن الغرض من الطلب الإلزامي في غير الإرشادي زائداً على ما سبق جعل المسؤولية من قبل الطالب، بنحو تكون عدم الامتثال رداً لطلبه.

لكن المفروض الشك في كونه غرضاً من الطلب بعد فرض الشك في كون الطلب إلزامياً، فلا يكون قرينة على كون الطلب إلزامياً.

و ثانياً: أنه لو سلم كون غرض الطالب إيجاد مطلوبه في الخارج، فليس الغرض دائماً إيجاده مطلقاً وإلا لم يكن الطلب إلا إلزامياً، بل الغرض من الطلب غير الإلزامي هو إيجاده من دون حرج على المطلوب منه، فحيث يفرض الشك في كون الطلب إلزامياً لزم الشك في كون الغرض هو إيجاد المطلوب مطلقاً، ليستكشف به كون الطلب إلزامياً.

وبالجملة: فرض كون الغرض من الطلب مطلقاً مناسباً للإلزام لا يناسب فرض انقسام الطلب إلى إلزامي وغيره، وفرضه في مورد الصيغة مناسباً له لا يناسب الإعتراف بدلالة الصيغة على أصل الطلب الصالح للأمرين.

ص: 283

المختار في المقام

ولعل الأولى أن يقال: لما كان المعيار في الظهور هو طريقة أهل اللسان في مقام التفاهم لم يهم معرفة منشئه بعد استيضاح طريقتهم.

ومن الظاهر من سيرتهم في المقام هو الاكتفاء في بيان الطلب الإلزامي بإطلاق ما يدل على الطلب والبعث من دون حاجة للتنبيه على الإلزام، وأنه لو بين كان من سنخ التأكيد المستغنى عنه، وليس المحتاج للبيان إلا عدم الإلزام.

وعليه يبتني ما تقدم من الاستدلال على الوضع لخصوص الإلزام، الذي تقدم التسليم به في نفسه، وأن الإشكال إنما هو في نهوضه بإثبات الوضع، الذي لو تم لا ينافي الظهور فيه بنحو يستفاد من الإطلاق.

وربما يكون الوجه في بنائهم على ذلك وجريهم عليه أن عدم الإلزام ناشئ عما هو من سنخ المانع عن تأثير الملاك في الإلزام، فلا يعتنى باحتماله مع إحراز المقتضي بنفس البعث.

أو أن البعث والطلب لما كان مقتضياً للانبعاث كان الاقتصار عليه من دون تنبيه على الترخيص الذي هو قد يمنع من فعليته ظاهراً في إرادة الإلزام المناسب لفعليته تبعاً للمقتضي، ولذا يكون الترخيص عرفاً من سنخ الاستدراك على خلاف مقتضى البعث والطلب، فلا يعتنى باحتماله مع المقتضي المذكور.

فالمورد من صغريات قاعدة المقتضي التي قد يجري عليها العقلاء في بعض الموارد.

لكن لا بأن تكون بنفسها دليلاً على الإلزام عند إحراز البعث، بل تكون من القرائن العامة التي يحتف بها الكلام المشتمل على الصيغة،

ص: 284

والتي توجب انعقاد الظهور في الإلزام، مع كون الدليل هو الظهور المنعقد للإطلاق على طبقها، فلو لم ينعقد الظهور لإحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على عدم الإلزام من دون أن يكون ظاهراً فيه، أو لم يحرز لتردد الكلام بين ما هو ظاهر في الإلزام وما هو ظاهر في عدمه، لا مجال للبناء على الإلزام، لعدم التعويل على قاعدة المقتضي بنفسها، ليستغنى بها عن الظهور الإطلاقي المذكور، بل الأصل عدم الإلزام.

كما أن جري أهل اللسان على ما يناسب القاعدة المذكورة في المقام لا يكون قرينة على استعمال الصيغة في الطلب الإلزامي، بل هو موجب لانعقاد الظهور الإطلاقي للكلام في الإلزام مع كونه خارجاً عن مفاد الصيغة، وليس مفادها إلا النسبة البعثية المناسبة للأمرين.

ويظهر أثر ذلك فيما لو تضمنت الصيغة البعث نحو جملة من الأمور قامت القرينة الخارجية على عدم الإلزام ببعضها، حيث لا مجال للبناء على الإلزام في الباقي بناءً على الأول، لامتناع استعمال الصيغة فيه في فرض عدم الإلزام ببعض ما تضمنت البعث له،

أما بناءً على ما ذكرنا فحيث لا تكون القرينة الخارجية رافعةً للظهور الإطلاقي تعين العمل عليه في غير مورد القرينة على خلافه، وعليه سيرتهم، على ما سبق.

نعم، لو كانت القرينة المذكورة متصلة مانعة من انعقاد الظهور الإطلاقي في الإلزام تعين التوقف عن استفادة الإلزام حتى في غير موردها.

ص: 285

تنبيهات

تنبيهات:

الأول جريان الكلام في النهي

الأول: ما تقدم كما يجري في صيغة الأمر وأداته يجري في أداة النهي، كما أشرنا إليه في بعض الموارد، حيث يظهر بالتأمل في الوجوه المذكورة مشاركتها لهما في تلك الجهات الموجبة للانصراف للإلزام أو استفادته من حكم العقل أو الإطلاق، أو في نظائرها.

فمثلاً: إذا كان الفرق بين الوجوب والاستحباب تأكد الإرادة أو البعث، كان الفرق بين الحرمة والكراهة تأكد الكراهة أو الزجر.

وإذا كان مفاد صيغة الأمر البعث نحو المادة، وكان منشأً لصدق الإطاعة الواجبة عقلاً عليها ما لم يرخص المولى في الترك، كما سبق من بعض الأعاظم قدس سره، كان مفاد أداة النهي الزجر عن المادة ويكون منشأ لصدق المعصية القبيحة أو المحرمة عقلاً عليها ما لم يرخص المولى فيها.

كما أنه إذا كان مفاد صيغة الأمر إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف، ويجب الخروج عما في الذمة عقلاً ما لم يرخص المولى في تركه - كما سبق من بعض مشايخنا - كان مفاد أداة النهي حرمان المكلف من المادة فيقبح عقلاً التلبس بها ما لم يرخص فيه المولى.

وهكذا الحال في بقية الوجوه وأجوبتها، وإنما لم يتعرضوا لذلك، لأنهم بصدد البحث في الأوامر.

الثاني: جريان الوجوه في مادة الطلب

الثاني: الظاهر أن الوجوه المذكورة تجري في مادة الطلب بعين التقريبات المتقدمة، وكذا في مادة الأمر والنهي بناءً على عدم اختصاصهما وضعاً بالإلزام، كما صرح به بعضهم في مادة الأمر، وأشرنا إليه آنفاً.

ص: 286

بل تجري في كل ما يشاركها في البعث نحو الفعل أو الزجر عنه.

الثالث: كلام صاحب المعالم في شيوع استعمال الصيغة في الندب

الثالث: بعد أن اختار في المعالم اختصاص الصيغة لغةً بالوجوب، واستدل على ذلك قال: «فائدة: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم السلام أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر (به) منهم عليهم السلام».

ولا يبعد تمامية ما ذكره بناءً على وضع الصيغة بحسب الأصل للإلزام، وأنه هو الوجه في حملها عليه مع التجرد عن القرينة، لأن كثرة الاستعمال بالنحو المذكور تناسب صيرورة الندب أو مطلق الطلب مجازاً مشهوراً، لو لم يحصل النقل لأحدهما بنحو الاشتراك اللفظي أو مع هجر المعنى الأول.

وما في الكفاية من أن الاستعمال فيه وإن كثر إلا أنه لما كان مع القرينة لم يوجب صيرورة المجاز مشهوراً مانعاً من انعقاد ظهور الكلام في المعنى الحقيقي عند التجرد منها، كما ترى! لأن لازمه امتناع المجاز المشهور، لتوقفه حينئذٍ على شيوع الاستعمال المجازي المجرد عن القرينة، ولا طريق لإحراز كون الاستعمال مجازياً مع التجرد عنها.

ومن هنا فالظاهر أن القرينة في المجاز لما لم تكن جزءً من الدال على المعنى المجازي والحاكي عنه، بل هي قرينة على سوق اللفظ ذي القرينة للدلالة عليه بنفسه خروجاً به عما وضع له، كانت كثرة استعماله فيه موجبة لتحقق العلاقة بينهما حتى يصير مجازاً مشهوراً له أو يتحقق النقل إليه، بخلاف ما لو فرض كون القرينة جزءاً من الدال على المعنى المجازي

ص: 287

الحاكي عنه، حيث تكون كالقيد الوارد على الماهية الذي يكون جزءاً من الدال على إرادة المقيد منها، الذي لا تكون كثرة الاستعمال معه بنفسها سبباً لتجدد العلاقة بين اللفظ الدال على الماهية مع تجرده عن القيد وبين المقيد، إلا بمقارنات أخر زائدة على كثرة الاستعمال.

نعم، بناءً على ما ذكرنا من عدم وضع الصيغة لخصوص الوجوب، بل لما يناسب مطلق الطلب، وأن الحمل على الوجوب لأنه مقتضى الإطلاق عند عندم القرينة، فكثرة الموارد التي تقوم فيها القرينة المتصلة أو المنفصلة على الاستحباب لا توجب تبدل مقتضى الإطلاق، لعدم منافاتها للجهة الموجبة لحمل المطلق على الوجوب، حيث لا موضوع للإطلاق معها، نظير ما ذكرناه في كثرة الاستعمال مع القيد.

ولذا كان ديدن الأصحاب على استفادة الوجوب عند التجرد عن القرينة في أخبار الأئمة عليهم السلام، كما هي سيرة جميع المسلمين على ذلك في النبويات مع شيوع إطلاق الصيغة فيها في مورد الاستحباب أيضاً، بل لعله كذلك في الكتاب المجيد أيضاً.

بل الإنصاف أن كثرة الاستعمال في موارد الندب مع السيرة المذكورة من أقوى الشواهد على ما ذكرناه من عدم اختصاص الصيغة بالوجوب وضعاً، وحملها عليه مع الإطلاق والتجرد عن القرينة، فلاحظ.

الرابع: وقوع الصيغة عقيب النهي

الرابع: الظاهر أن وقوع صيغة الأمر وأداته عقيب النهي أو في مورد توهمه مانع من ظهورها في البعث نحو الفعل، فضلاً عن الإلزام به.

كما أن وقوع أداة النهي عقيب الأمر أو في مورد توهمه مانع من ظهورها في الزجر عن الفعل، فضلاً عن كونه بنحو الإلزام.

ص: 288

لأنها وإن لم تخرج عما استعملت فيه من النسبة البعثية أو الزجرية، إلا أن ما سبق من أصالة كون الداعي للاستعمال هو البعث أو الزجر بمقتضى بناء أهل اللسان لا يجري في الموردين المذكورين، بل المتيقن لهم كون الداعي رفع النهي أو الأمر السابقين أو بيان عدمهما.

ولا مجال لما يحكى عن بعض العامة من عدم خروج صيغة الأمر في المورد المذكور عن الدلالة على الوجوب، فضلاً عن أصل الطلب.

ومثله ما عن المشهور من دلالتها على الإباحة لو أُريد بها الإباحة بالمعنى الأخص التي هي أحد الأحكام الخمسة، لعدم المنشأ لذلك.

وإن أُريد بها الإباحة بالمعنى الأعم، التي هي محض الإذن في الفعل وعدم النهي عنه طابق ما ذكرناه.

هذا، وعن بعضهم أن الأمر إن عُلِّق بزوال علة النهي كان ظاهراً في رجوع الحكم الثابت قبل النهي، كما في قوله تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا»(1) وكقوله سبحانه: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ»(2). ويجري نظيره في النهي، فهو لو عُلِّق بزوال علة الأمر كان ظاهراً في رجوع الحكم الثابت قبله.

وهو قد يتجه لو كانت علة النهي أو الأمر المرتفعين من سنخ العنوان الثانوي الطاريء على العنوان الأولي والمانع عن تأثير مقتضيه، كما في الآيتين المتقدمتين، لأن مقتضى إنتهاء أثر العنوان الثانوي المذكور بارتفاعه فعلية الحكم الأولي، لارتفاع المانع منه.

ص: 289


1- سورة البقرة: 197
2- سورة الإسراء: 78

ولا مجال له في غير ذلك بأن تكون علة النهي أو الأمر المرتفعين من سنخ العنوان المعاقب للعنوان الموجب للحكم الأول، لا طارئاً عليه مجتمعاً معه.

فمثلاً لو كان السلام على الصبية مستحباً، ونُهِيَ عن السلام على الشابة، ثم ورد: فإذا شابت المرأة فسلم عليها، لا مجال لدعوى ظهوره في عود استحباب السلام عليها الثابت حين صباها، لأن ارتفاع حكم الشابة عنها لا يستلزمه.

بل عود الحكم الأولي في الأول لا يستند لظهور الصيغة، بل لإطلاق دليله أو عمومه الأحوالي، حيث يقتصر في الخروج عنه على صورة ثبوت الحكم المنافي له بطروء العنوان الثانوي، وإلا فمجرد ارتفاع الحكم الثانوي تبعاً لارتفاع عنوانه لا ينافي ثبوت حكم ثانوي آخر تبعاً لطروء عنوان ثانوي آخر، مانع من فعلية الحكم الأولي، ولا دافع لاحتمال ذلك إلا الإطلاق أو العموم المذكور.

ومن هنا ليس مفاد الصيغة والأداة في جميع الموارد إلا رفع الحكم السابق، ويرجع في الحكم الجديد إلى قرائن أو أدلة أخر خارجة عنه.

نعم، لو كان النهي أو الأمر السابقين غير إلزاميين فكما يكون ظاهر صيغة الأمر وأداته وأداة النهي ارتفاعهما يكون ظاهرها عدم ثبوت الإلزامي منهما أيضاً. إذ لا يحسن الأمر مع الحرمة، ولا النهي مع الوجوب، بل يدور الأمر بين الأحكام الثلاثة الباقية، كما لعله ظاهر.

ص: 290

الفصل الرابع في الجمل الخبرية

لا إشكال في استعمال الجمل الخبرية في مقام بيان مطلوبية مضمونها من نسبة ثبوتية أو سلبية.

وقد وقع الكلام في ظهورها في اللزوم وعدمه، حيث صرح بعضهم بعدم ظهورها فيه، بل تحمل على مطلق الطلب، لدعوى: أنه بعد فرض الخروج بها عن معناها الذي وضعت له - وهو الإخبار -، فلا مرجح للوجوب من بين المجازات، والمتيقن إرادة أصل الطلب والبعث، لا بمعنى ظهورها فيه، ليتجه ما تقدم في تقريب استفادة الإلزام من الصيغة من أنه مقتضى إطلاق كل ما سبق لبيان البعث أو الزجر، جرياً على قاعدة المقتضي في المقام.

بل بمعنى ترددها بين الاستعمال فيه وفي كلٍ من الوجوب أو الاستحباب بخصوصيته، ومع إجمالها لا مجال للإطلاق المتقدم، لأنه فرع الظهور في مطلق الطلب. وليس الاقتصار على مطلق الطلب إلا لأنه المتيقن في البين.

لكن هذا الوجه يبتني على الخروج بالصيغة عن معناها، وقد أشهر

ص: 291

المنع منه في العصور المتأخرة.

توجيه الدلالة على الإلزام من وجوه

وقد ذكروا في توجيه المنع المذكور وتوجيه الدلالة على الإلزام معه وجوهاً..

الأول: ما ذكره الخراساني قدس سره

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أنها مستعملة في معناها لكن لابد اعي الإعلام بالأمر المخبر به - كما هو الأصل في الجمل الخبرية - ليلزم الكذب، بل بداعي البعث نحو المطلوب بوجهٍ آكدٍ من البعث بالصيغة، حيث أخبر المتكلم بوقوع مطلوبه في الخارج لبيان أنه لا يرضى إلا بوقوعه.

المناقشة فيه

ويشكل: بأن النكتة المذكورة غير ملتفت إليها، ولا مقصودة ارتكازاً، في غالب الاستعمالات، لا من المتكلم ولا من المخاطب، ولا من غيره ممن يطلع على الاستعمال المذكور.

بل ما ذكره من كونه آكد في البعث، وما يلزمه من عدم ملائمتها إلا للوجوب كالمقطوع بعدمه، حيث لا إشكال ظاهراً في قابليتها لأن يراد منها الاستحباب، كما تحمل عليه مع قيام الدليل على الترخيص في الترك كالصيغة، مع أن لازم ذلك التصادم مع الدليل المذكور والاستعمال المزبور وتعذر الجمع بينهما بالاستحباب.

نعم، ذكر قدس سره أن الجهة المذكورة إن لم توجب ظهورها في الوجوب فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين المحتملات عند الإطلاق بمقدمات الحكمة، لأن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع للوجوب توجب تعين إرادته إذا كان المتكلم بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره.

وكأنه راجع إلى أن الجهة المذكورة لو لم تكن هي المصححة للاستعمال في مقام البعث والطلب، بل كان المصحح له جهة أخرى تجتمع

ص: 292

مع مطلق البعث والطلب وإن لم يكن إلزامياً، إلا أن مقتضى الإطلاق بمقدمات الحكمة هو ملاحظة هذه الجهة - زائداً على الجهة المصححة لإرادة البعث والطلب - لكمال مناسبتها للإخبار، وعليه لو قامت القرينة على عدم ملاحظتها لزم الحمل على البعث والطلب غير الإلزامي، لوجود المصحح له غيرها.

لكنه يشكل: بأن ذلك قد يتم لو أُحرز كون المتكلم بصدد بيان إحدى الخصوصيتين، حيث يتعين إتكاله على المناسبة المذكورة - لو تمت - في بيان خصوصية الإلزام، ولا طريق لإحراز ذلك بعد كون أصل البعث والطلب مورداً للعمل.

ومجرد كون إحدى الخصوصيتين أنسب لا تقتضي حمل المطلق عليها بعد صلوح القدر الجامع لأن يترتب عليه العمل، نظير ما تقدم في الوجه الأول من وجوه تقريب كون الإلزام مقتضى إطلاق الصيغة. فراجع.

نعم، يتجه ذلك لو كان المدعى أن المصحح للاستعمال من سنخ المناسبة المذكورة إلا أنه ذو مراتب أدناها يجتمع مع عدم الإلزام وأقواها يناسب الإلزام، فيكون الإلزام أقرب للإخبار من غيره، فمع عدم القرينة المخرجة عنه يكون هو الظاهر في نفسه لا بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

نظير ظهور نفي الحقيقة في الشرعيات في نفي الأجزاء، لأنه أقرب إليه من نفي الكمال.

ولعله إليه يرجع ما قيل من أن الاستعمال في المقام من باب الإخبار بالشيء تعويلاً على وجود مقتضيه، وهو الإرادة نظير إخبار الطبيب بالموت تعويلاً على وجود مقتضيه، وهو المرض، وإلا لم يمكن الالتزام بظاهره،

ص: 293

لاستلزامه الكذب مع تخلف المقتضي عن التأثير بسبب المزاحمات، كما هو الحال في النظير.

وكيف كان، فلا مجال لدعوى ذلك أيضاً، لعين ما سبق من عدم لحاظ الجهة المذكورة في مقام الاستعمال، فإن الظاهر أنها كما لا تكون ملحوظة بنفسها لا يكون الملحوظ سنخها مما يناسب مطلق الطلب.

الثاني: ما ذكره النائيني قدس سره

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن هيئة الفعل الماضي موضوعة للنسبة التحققية التي تكون..

تارةً: في مقام الإخبار.

وأخرى: في مقام الإنشاء.

فتفيد في الأول وجود المادة خارجاً، وفي الثاني إما أن يراد منها إنشاء وجود المادة باللفظ اعتباراً، كما في صيغ العقود والإيقاعات أو يراد منها إنشاء تحقق المادة في عالم التشريع، فتفيد طلب المادة من المكلف.

وأما هيئة المضارع فهي موضوعة للنسبة التلبسية الراجعة لتلبس الفاعل بالمادة فعلاً، فتفيد في مقام الإخبار التلبس خارجاً، وفي مقام الإنشاء إما تلبس الفاعل بالمادة اعتباراً، كما في صيغ العقود والإيقاعات، أو في مقام التشريع، - كما في المقام -، فتفيد طلب المادة أيضاً.

وبالجملة: الماضي والمضارع موضوعان ومستعملان في النسبة التحققية أو التلبسية لا غير، إما في الخارج أو في عالم الاعتبار أو في عالم التشريع، والإخبار والإنشاء من المداليل السياقية لا اللفظية.

وحينئذٍ إذا أُفيد بهما الطلب كان محمولاً على الوجوب بحكم العقل بالتقريب المتقدم منه في حمل الصيغة عليه.

ص: 294

المناقشة فيه

ولايخلو ما ذكره عن غموض وإشكال، لابتنائه..

أولاً: على عدم الفرق في مدلول الكلام بين الخبر والإنشاء، وقد سبق في ذيل الكلام في المعنى الحرفي ثبوت الفرق بينهما فيه.

وثانياً: على ما سبق منه في توجيه حمل الصيغة على الوجوب، الذي سبق أيضاً المنع منه.

مضافاً إلى أن صلوح الكلام لمقام التشريع موقوف على كونه مبرزاً للإرادة أو نحوها مما هو مقوّم للتكليف، فلابد من بيان الوجه في صلوح الجملة الخبرية لذلك. فتأمل.

وإلى أن لازم ذلك صحة الطلب بالفعل الماضي مطلقاً كما يصح الإخبار وإنشاء المادة به كذلك، وقد اعترف بعدم العثور على ذلك في غير القضايا الشرطية، ومن الظاهر أن الفعل الماضي فيها ينسلخ عن الدلالة على الزمان الماضي، حيث يكشف ذلك عن عدم صلوح نسبته بنفسها لمقام التشريع.

الثالث: ما ذكره العراقي قدس سره

الثالث: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الجملة الخبرية الفعلية مستعملة تبعاً لوضعها في إيقاع النسبة، غايته أن الداعي لإيقاع النسبة إن كان هو الكشف عن وقوعها في الخارج تمحضت في الخبرية، وإن كان هو التوسل لوقوعها في الخارج قامت مقام الجملة الإنشائية في الطلب، لدلالتها عليه بالملازمة.

والطلب المذكور وإن أمكن كونه غير إلزامي إلا أنها ظاهرة عند الإطلاق بمقدمات الحكمة في كونه إلزامياً، للتقريب الثاني أو الثالث المتقدمين في وجه حمل إطلاق الصيغة عليه.

ص: 295

المناقشة فيه

ويشكل: بأنَّ التوسل إلى تحقق المضمون في الخارج ليس من دواعي الكلام عرفاً بمقتضى طبعه، بل ليس الداعي له طبعاً إلا الحكاية.

وأما إنشاء نفس النسبة وإيجادها اعتبارها بالكلام - كما في صيغ العقود والإيقاعات - فهو يبتني على نحو من التوسع والتصرف في مفاد الكلام على ما سبق في الفرق بين الخبر والإنشاء في ذيل الكلام في المعنى الحرفي.

كما أن التوسل بالوجه الذي ذكره من لوازم إبراز الإرادة أو نحوها مما يقوم التكليف بالكلام، فلابد من توجيه صلوح الكلام، للإبراز المذكور، ولم ينهض كلامه بذلك.

مضافاً إلى ما سبق من الإشكال في الوجهين السابقين لاستفادة الإلزام من إطلاق الصيغة.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره من اختلاف عين الاستعمال في الطلب

هذا، وقد جزم بعض مشايخنا باختلاف معنى الجملة الخبرية حين استعمالها في مقام بيان الطلب عما هي عليه حين استعمالها في مقام الإخبار، فهي في مقام الإخبار مستعملة في إبراز قصد الحكاية عن ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها جرياً على مقتضى وضعها، وفي مقام بيان الطلب مستعملة في إبراز الطلب النفسي واعتبار المادة على ذمة المكلف، وإنما تحمل على الوجوب للوجه المتقدم منه في الصيغة من لزوم امتثال ما أمر به المولى عقلاً ما لم يرخص فيه منه.

ويشكل: بما سبق من أنه ليس مفاد التكليف اعتبار المادة في ذمة المكلف، وأن ذلك - لو تم - إنما يصلح تفسيراً للتكليف المبرز بالجمل الخبرية، لا لمفاد الجمل الخبرية أو غيرها من مبرزات التكليف حين إبرازه

ص: 296

بها، كيف وإلا لزم ترادف جميع المبرزات للتكليف! فلابد من كون الإبراز المذكور مدلولاً التزامياً لها ومن سنخ الداعي منها، مع اختصاص كلٍ منها بمدلول لفظي يباين مدلول الآخر.

ومن ثم كان المناسب بيان مدلول الجمل الخبرية اللفظي أولاً، ثم بيان وجه صلوحه للإبراز المذكور.

مضافاً إلى ما سبق من الإشكال في الوجه العقلي المذكور لاستفادة الوجوب.

المختار في المسألة

ولعل الأولى أن يقال: إذا تم استعمال الجمل الخبرية في محل الكلام في إنشاء الطلب وخروجها عن مقام الإخبار فلا ينبغي التأمل في الخروج بها عن معانيها الموضوعة لها، لتبادر الحكاية بها عن النسب التامة الخارجية، دون طلب المادة والبعث إليها، فإرادة الطلب والبعث بها تبتني على عناية خارجة عما هي موضوعة له، ويكون متبادراً منها، كما أشرنا إليه عند الكلام في الفرق بين الخبر والإنشاء في لواحق المعنى الحرفي.

نعم لا يبعد عدم خروجها في المقام عن الخبرية، فهي مستعملة في مقام الحكاية والإخبار عن حال المطلوب منه أو المنهي بلحاظ ما ينبغي وقوعه منه بسبب الطلب أو النهي المتوجهين له، فكأن حضوره للامتثال وكونه في مقامه قد أُخذ مفروض الوجود، والإخبار بوقوع الفعل منه أو عدمه يبتني على المفروغية عن ذلك، إما لاعتقاد المتكلم ذلك فيه، أو لإدعائه له بسبب ظهور حاله فيه أو تشجيعاً أو ترغيباً أو تخويفاً.

أو أن الإخبار يكون تعليقياً لباً منوطاً بكونه في مقام الامتثال وعدم الخروج عما يراد منه.

ص: 297

وعلى كلا الوجهين يكشف عن ثبوت الطلب أو النهي، ويصلح لبيان أحدهما، لكونهما ملزومين للمدلول اللفظي للجملة، وهو وقوع الفعل أو عدمه من المكلف من حيثية كونه مطيعاً.

توجيه دلالتها على الطلب

وبهذا يمكن توجيه دلالة الجملة الاسمية على الطلب، وإن أُهمل التعرض لها في بعض الوجوه المتقدمة، كما في مثل قوله تعالى: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ»(1)، فيحمل على الإخبار بعدم وقوع هذه الأمور ممن فرض الحج للمفروغية عن كونه في مقام القيام بوظائف الحج وفروضه، فلاحظ.

وكيف كان، فبعد فرض ظهور الجمل المذكورة في بيان الطلب أو الزجر، إما لسوقها في مقام الإنشاء مجازاً، أو للإخبار بالوجه المتقدم فالظاهر من المرتكزات الاستعمالية سوقها لبيان أصل الطلب والزجر، لا خصوص الإلزامي أو غير الإلزامي منهما، ولا بنحو تكون مرددة بينهما فقط أو مع مطلق الطلب أو الزجر، لتكون مجملة، لعين ما سبق في الصيغة من صلوحها للإلزامي وغيره من دون تبدل في المعنى المسوقة له ارتكازاً.

وحينئذٍ يتجه حمل إطلاقها على خصوص الإلزامي منهما للوجه المتقدم في الصيغة من دون خصوصية لها في ذلك.

كما أنه يتجه حمل الجمل الإثباتية منها الواردة عقيب النهي أو في مورد توهمه على مجرد الترخيص في الفعل، وحمل الجمل السلبية منها الواردة عقيب الأمر أو في مورد توهمه على مجرد الترخيص في الترك، لأن المتيقن سوقها لبيان أحد الأمرين دون الطلب أو الزجر، لعدم ظهورها في

ص: 298


1- سورة آل عمران: 133

أحدهما.

فهي إما أن تكون مستعملة في إنشاء الإذن والسَعَة مجازاً، أو مسوقة للإخبار عن حال الفاعل في فرض تعلق إرادته بالفعل أو الترك جرياً على مقتضى السعة والإذن المقصود بيانهما بالجمل الذكورة.

ص: 299

الفصل الخامس في سعة كل من الأمر والنهي موضوعاً وحكماً

لا يخفى أن ورود الأمر أو النهي على الطبيعة يرجع إلى نحو نسبة بين الآمر والمأمور والمأمور به، أو بين الناهي والمنهي والمنهي عنه، وبتلك النسبة قوام الحكم الشرعي الذي هو محل الكلام في المقام.

ما يقبل السعة والضيق

ومن الظاهر أن كلاً من الآمر والناهي والمأمور والمنهي لا سعة فيه، بل هو شخصي لا ينطبق على كثيرين ولا يقبل الإطلاق والتقييد، والذي يقبل السعة والضيق أحد أمرين:

الأول: المأمور به والمنهي عنه

الأول: المأمور به والمنهي عنه، لأنهما عبارة عن الطبيعة الكلية القابلة للإطلاق والتقييد.

الثاني: نفس النسبة

الثاني: نفس النسبة التي يتقوم بها الحكم الشرعي، لأنها وإن كانت جزئية إلا أنها تقبل نحواً من السعة لإطلاقها أو الضيق لتقييدها بشرط أو غاية أو نحوهما، على ما سبق في ذيل الكلام في المعنى الحرفي. فراجع. والمتبع في تحديد سعة كل من الأمرين في مقام الإثبات ظاهر الدليل على ما يتضح المعيار فيه في محله.

ثم إنه بعد تحديد سعة كل منهما إطلاقاً أو تقييداً فالظاهر المصرح به

ص: 300

الفرق بين الأمر والنهي من جهتين

في كلام جماعة اختلاف الأمر والنهي في جهتين:

الأولى:

الأولى: أنه يكفي في موافقة الأمر والجري على مقتضاه تحقيق صرف الوجود للماهية المأمور بها مطلقة كانت أو مقيدة، ولا يعتبر استيعاب أفرادها بخلاف النهي، حيث لابد في موافقته، والجري على مقتضاه من استيعاب تمام أفراد الماهية المنهي عنها بالترك، ولا يكفي ترك بعضها مع فعل غيره.

الثانية:

الثانية: أن مقتضى الأمر الجري عليه وموافقته - بتحقيق صرف الوجود - في بعض أزمنة وجوده.

أما النهي فهو يقتضي الجري عليه - بترك تمام أفراد الطبيعة - في تمام أزمنة وجوده، ولا يكفي ترك تمام الأفراد في بعض أزمنة وجوده مع فعل شيء منها في بقيتها.

والظاهر أن الفرق المذكور ليس عقلياً ممتحضاً لمقام الطاعة ومن شؤون الامتثال، مع عدم اختلافها في مقام الجعل، بل هو متفرع ثبوتاً على الفرق بينهما في مقام الجعل تبعاً للفرق بينهما في الملاك، وإثباتاً على ظهور دليل كل منهما فيما يناسبه.

ومن هنا يقع الكلام في وجه الفرق بينهما من الجهتين المذكورتين وقد سبق في مقدمة الكلام في هذا المقصد أن الفرق بين الأمر والنهي ليس من جهة المتعلق، بل متعلقهما واحد، وهو الطبيعة، وليس الاختلاف بينهما إلا ذاتياً مستتبعاً للفرق بينهما في الاقتضاء، فالأمر يقتضي الفعل والنهي يقتضي الترك، فلابد من استناد الفرق بينهما لذلك.

وقد ذكروا في منشأ الفرق المذكور وجوها لا يخلو بعضها عن إشكال في نفسه، وبعضها وإن كان تاماً في نفسه إلا أن الفرق لا يستند إليه

ص: 301

ارتكازاً، للغفلة عنه، ولابد في القرينة من أن تلحظ ولو ارتكازاً في مقام الإفادة والاستفادة. ومن هنا لا مجال لإطالة الكلام فيما ذكروه.

ما ينبغي أن يقال في المقام

ولعل الأولى أن يقال: الطبيعة التي يتعلق بها الأمر والنهي لما لم تكن مقيدة بنحو خاص تعين حملها على الماهية الخارجية بما لها من حدود مفهومية تكون بها صالحة للانطباق على تمام أفرادها وعلى بعضها بنحو واحد، وهي المعبر عنها بالماهية المرسلة، لا خصوص الماهية المقيدة بالسريان أو بالبدلية، لأن السريان المتقوم باجتماع الأفراد، والبدلية المتقومة بالاكتفاء ببعضها، قيدان زائدان على الطبيعة خارجان عن مفهومها، لا قرينة على كلٍ منهما ولا مرجع لأحدهما، بل مقتضى الإطلاق عدم أخذهما في متعلق كل من الأمر والنهي.

نعم، حيث كان مقتضى الأمر إيجاد متعلقه، ومقتضى النهي تركه، فسعة انطباق الماهية مستلزمة للاكتفاء بصرف الوجود منها، الحاصل بالفرد والأفراد، وعدم الاكتفاء في امتثال النهي إلا بترك جميع الأفراد، لأن إيجاد أي فرد لها لا يجتمع مع ترك الماهية المذكورة، بل هو إيجاد لها.

ومن هنا يظهر أن حمل الأمر على البدلية، والنهي على السريان والاستغراق، ليس لأن متعلق الأول الماهية البدلية، ومتعلق الثاني الماهية السارية، كي يطالب بوجه الفرق بينهما، بل قد لا يناسب ما سبق من وحدة متعلقهما، بل لأن سعة الماهية التي هي المتعلق لهما مع اختلاف الأمر والنهي في الاقتضاء - لأن الأول يقتضي الفعل والثاني يقتضي الترك - مستلزمان للاختلاف بينهما في كيفية الامتثال، فيكفي في امتثال الأمر بتحقق صرف الوجود، ولا يكتفى في امتثال النهي إلا بترك تمام الأفراد.

ص: 302

ولذا كان التحقيق أن ما زاد على الفرد الواحد لا يكون خارجاً عن الامتثال، كما هو لازم كون متعلق الأمر الماهية البدلية.

ويؤكد الوجه الذي ذكرناه ويؤيده ما ذكره غير واحد من أن تعذر تحقيق جميع أفراد الطبيعة الطولية والعرضية بضميمة عدم التقييد في متعلق الأمر والنهي بأفراد معينة يمكن الجمع بينها، كاشف عن عدم كون الأمر بها بنحو الاستغراق، بل بنحو يكفي في امتثاله أي فرد، وعن عدم كون النهي عنها بنحو البدلية، لتحقق ترك بعض الأفراد قهراً، بل بنحو الاستغراق.

وإن كان الظاهر عدم كون ذلك منشأ للفرق لعدم دخله ارتكازاً في فهم الكلام، ولابد في القرينة من أن تلحظ في مقام الإفادة والاستفادة، كما سبق.

ومما ذكرنا يتضح توجه الفرق المذكور حتى بناءً على أن اختلاف الأمر والنهي إنما يكون في المتعلق، وأن الأمر عبارة عن طلب الفعل والنهي عبارة عن طلب الترك، إذ لما كان يكفي في فعل الطبيعة إيجاد بعض أفرادها تعين الاكتفاء به في امتثال طلب الفعل، ولما كان تركها لا يتحقق إلا بترك تمام أفرادها تعين توقف امتثال طلب تركها عليه.

لكن هذا الوجه - كأكثر الوجوه المذكورة في كلماتهم - إنما ينهض ببيان الفرق من الجهة الأولى دون الثانية، لوضوح أن توقف ترك الماهية على ترك تمام الأفراد إنما يقتضي توقف امتثال النهي على تركها، أما لزوم استمرار الترك المذكور في تمام أزمنه النهي فهو أمر آخر لا يقتضيه الوجه المتقدم.

دعوى: اقتضاء النهي استمرار الترك في تمام الأزمنة ودفعها

ودعوى: أن ترك الماهية كما يتوقف على ترك أفرادها العرضية يتوقف

ص: 303

على ترك أفرادها الطولية، وهو لا يكون إلا باستمرار الترك في تمام الأزمنة.

مدفوعة: بأن ترك تمام أفراد الماهية في بعض الأزمنة ترك لتمام أفرادها الطولية فيه وإن كان لتعذرها، ولا يعتبر في امتثال النهي كون تمام الأفراد المتروكة اختيارية مقدورة.

وليس منشأ الفرق من الجهة الثانية توقف ترك الماهية على ترك أفرادها الطولية والعرضية، بل اقتضاء النهي استمرار الترك في تمام أزمنة وجود موضوعه، بخلاف الأمر، حيث لا يقتضي إلاّ الفعل في بعض أزمنة وجود موضوعه.

ولا ينهض ببيان الفرق من هذه الجهة الوجه المتقدم ولا غيره مما سبق في مساقه، كما يظهر بالتأمل فيها، حتى المؤيد السابق، لوضوح أن تعذر استيعاب أفراد الماهية بالإيجاد إنما يقتضي امتناع الأمر بها بنحو يقتضي الجمع بينها ولغوية النهي عنها بنحو يقتضي الاكتفاء بترك بعضها، لا امتناع الأمر بنحو يقتضي الاشتغال في تمام أزمنته بإيجاد بعض الأفراد، ولا لغوية النهي بنحو يقتضي ترك الجميع في خصوص بعض أزمنته كما لعله يظهر بالتأمل.

وجه الفرق بينهما بلحاظ الأفراد الطولية

ولعل الأولى في وجه الفرق بينهما من الجهة الثانية ما نبّه له سيدنا الأعظم قدس سره وتوضيحه: أن مقتضى الأمر والنهي ليس هو الفعل والترك بمعناهما الاسمي، كي يكون مقتضى إطلاق النهي الاكتفاء بتحقق الترك - لتمام الأفراد - ولو في بعض الأزمنة، كما أن مقتضى إطلاق الأمر الاكتفاء بتحقق الفعل - لبعض الأفراد - في بعضها، لما هو الظاهر من عدم أخذ الفعل والترك بمعناهما الاسمي في متعلق الأمر والنهي، بل ليس متعلقهما إلا

ص: 304

الطبيعة، مع اختلاف نحو النسبة فيهما إليها بالنحو المقتضي ارتكازاً للفعل والترك بمعناهما الحرفي المطابق لنسبة القضية الحملية الموجبة أو السالبة، فيكون امتثال الأمر بتحقيق مفاد القضية الموجبة، وامتثال النهي بتحقيق مفاد القضية السالبة.

ولذا ناسب قيام الجملة الخبرية الحملية الموجبة أو السالبة مقام الجملة الطلبية المفيدة للأمر والنهي، خصوصاً بناءً على ما سبق في توجيه قيامها مقامها.

كما لم يكن الفرق ارتكازاً بين أداة النفي والنهي إلا في سوق الأولى في مقام الحكاية، والثانية في مقام الزجر، مع التطابق بينهما في سعة المفاد.

وحينئذٍ يتجه الفرق المذكور بين الأمر والنهي، لما هو المعلوم من أنه يكفي في صدق القضية الموجبة تحقق النسبة ولو في بعض أزمنتها، ولا يكفي في صدق السالبة إلا استمرار السلب في تمام أزمنتها، ولا يكفي تحققه في بعضها إلا مع تقييدها الذي هو خلاف الفرض.

ولذا كان التناقض ارتكازياً بين قولنا: ضرب زيد، وقولنا: لم يضرب زيد، وبين قولنا: يضرب زيد، وقولنا: لا يضرب زيد، بخلاف قولنا: فعل الضرب، و: تركه، و: يفعل الضرب، و: يتركه، لأن الترك فيهما مأخوذ بمعناه الاسمي، الذي هو مفاد الموجبة المعدولة المحمول، والذي يكتفى فيه بالترك في بعض الأزمنة ولو مع الفعل في بعضها.

ويؤيد هذا الوجه غلبة عدم استمرار المكلف في فعل المنهي عنه في تمام أزمنة النهي، فلو أريد من النهي ما يكتفى في امتثاله بالترك في بعض الأزمنة كان ترتب الأثر عليه نادراً.

ص: 305

ولعل ما ذكرنا هو الوجه في تبادر إرادة استمرار الترك من لفظ التحريم ومن مادة النهي ونحوهما مما يقتضي ترك الفعل، لظهور أن المراد بها ما يراد بأداة النهي.

بل لعله هو الوجه في انسباق ذلك من الأمر بالترك - مع أن الجمود على مدلوله اللفظي الحقيقي لا يقتضيه كما سبق - لأن المستفاد منه إرادة تحريم العمل لا وجوب تركه.

هذا حاصل ما تيسر لنا في وجه الفرق بين الأمر والنهي من الجهتين المذكورتين، الذي هو من الوضوح بحدٍ يستغني عن التوجيه لولا طروء بعض الشبه والمناقشات التي يكفي في دفعها ما سبق.

ومن هنا ينبغي الكلام فيما يتعلق بذلك ويترتب عليه مما وقع مورداً للبحث في كلامهم في مباحث الأوامر والنواهي.

واستيفاؤه يكون في ضمن مسائل..

المسألة الأولى: في المرة والتكرار

المسألة الأولى: في المرة والتكرار

اختلفوا في أن الأمر هل يقتضي المرة في الامتثال أو التكرار أو لا يقتضي شيئاً منهما.

والظاهر أن البحث راجع إلى مقام الجعل وتشخيص حال الأمر، الذي يتفرع عليه مقام الامتثال، لا إلى مقام الامتثال رأساً بعد الفراغ من عدم اقتضاء أحد الأمرين في مقام الجعل، لتكون من لواحق مسألة الأجزاء، لخروج ذلك عن ظاهر كلامهم ومساق حججهم.

ص: 306

هذا، وفي الفصول أن الأكثر حرروا النزاع في الصيغة، بل نص جماعة على اختصاصه بها، ولذلك عدها من مباحث الصيغة.

إلا أن بعض حججهم لا يناسب الاختصاص المذكور.

ولهذا ألحقناها بهذا الفصل الذي هو من مباحث الأوامر والنواهي مطلقاً مع قطع النظر عن الصيغة.

إذا عرفت هذا فالمرة والتكرار

وجوه المرة والتكرار

تارةً: يجعلان من شؤون المكلف به المستفاد من المادة أو نحوها.

وأخرى: يجعلان من شؤون التكليف المستفاد من الصيغة أو نحوها.

المرة والتكرار اللذان هما من شؤون المكلف به

أما على ا لأول الذي هو ظاهرهم فالظاهر - كما صرح به جماعة - عدم اقتضاء التكليف بنفسه المرة ولا التكرار.

إذ ما دل على التكليف - كالصيغة وغيرها - لا يتعرض له.

وما دل على المكلف به - كالمادة ونحوها - إنما يدل على الماهية من حيث هي، والمرة والتكرار خارجان عنها، فينهض الإطلاق بنفي اعتبار التكرار، كما ينهض بنفي اعتبار المرة لو أريد به ما يساوق مانعية التكرار.

وكذا لو أَريد به كون ما زاد على المرة خارجاً عن المكلف به وإن لم يكن مانعاً منه، لمنافاته لإطلاق الماهية المستلزم لصدقها على القليل والكثير.

نعم، لو لم يكن للتكليف إطلاق فالأصل إنما ينهض بنفي اعتبار التكرار ونفي مانعيته لا غير، من دون أن يتعرض لخروج ما زاد على المرة في المكلف به أو دخوله فيه في ضرف وجوده، لعدم اقتضاء كل منهما زيادة

ص: 307

كلفة في مقام العمل.

نعم، يأتي تقريب حكم العقل بالمرة في الجملة في مقام الفراغ والامتثال لا في مقام الجعل.

المرة والتكرار اللذان هما من شؤون التكليف

وأما على الثاني فلا إشكال في المرة بمعنى وحدة التكليف المجعول بعد ما سبق من كون المكلف به هو الطبيعة من حيث هي، لاستحالة اجتماع المثلين، ولابد في تعدده من تعدد متعلقه، لقيام القرينة على أن المكلف به ليس هو الطبيعة من حيث هي، بل بنحو الاستغراق لجملة من الأفراد، حيث يمكن حينئذٍ تعدد التكليف تبعاً لها، كما يمكن وحدته وتعلقه بها بنحو المجموعية، والمتبع في إثبات أحد الأمرين ظاهر الدليل.

وكذا لو ابتنى التكليف على الانحلال إلى تكاليف متعددة بتعدد الموضوعات المفروضة، كما في القضايا الحقيقية، كقوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ...»(1) حيث كان ظاهره تعدد الموضوع بتعدد أفراد الدلوك، فيتجدد التكليف بتجدده في كل يوم، المستلزم لتعدد الصلاة الواجبة تبعاً لتعدد التكليف، وعدم كون الواجب طبيعة الصلاة من حيث هي الصادقة بالفرد الواحد، لامتناع تعدد التكليف بها - كما ذكرنا - وتمام الكلام فيه في مبحث التداخل من مفهوم الشرط. فلاحظ.

ولعل ذلك هو منشأ القول بالتكرار، لأن الشائع في الأحكام الشرعية أن يكون تشريعها بنحو القضية الحقيقة.

وإلا فمن البعيد جداً البناء على لزوم التكرار من دون أن يتجدد موضوع التكليف، مع وضوح خروجه عن طريقة العقلاء في فهم دليل

ص: 308


1- سورة الحديد: 21

التكليف وامتثاله بنحو يلحق بالبديهيات.

عدم رجوع التكرار إلى تجدد موضوع التكليف

لكن البناء على التكرار لتجدد موضوع التكليف لا يرجع إلى إفادة الأمر التكرار، الذي هو ظاهر تحرير محل النزاع، بل إلى ظهور القضية في الحقيقية المنحلة إلى قضايا متعددة بتعدد الموضوعات المفروضة، وهو أجنبي عن محل الكلام جارٍ في غير الأمر أيضاً.

وكيف كان، فلا ينبغي التأمل فيما ذكرنا، وإن أطال غير واحد في استطراد حجج القولين بما لا مجال للتعرض له بعد ما سبق، لظهور ضعفها بأدنى تأمل.

ما يستدل به على التكرار مع قطع النظر عن مفاد الأمر

نعم، قد يستدل على التكرار مع قطع النظر عن مفاد الأمر..

تارة: بقوله (ص): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

وأخرى: باستصحاب وجوب الطبيعة بعد الإتيان بها مرة.

عدم إفادة التكرار من النبوي

ويظهر اندفاع الأول مما ذكرناه في تعقيب الاستدلال بالحديث على قاعدة الميسور من ضعفه في نفسه وظهوره في الاستحباب.

عدم اقتضاء الاستصحاب للزوم التكرار

وأما الثاني فهو - مع أنه لا يقتضي لزوم التكرار إلا بناءً على الفور، وإلا فلا يمنع من الاكتفاء بالمرة في آخر الوقت، كما لا يخفى - مندفع: بأن فرض تعلق الوجوب بالطبيعة على إطلاقها مستلزم للعلم بسقوطه بالمرة كما يأتي.

واحتمال بقاء الوجوب إنما يكون لاحتمال تعلقه بالطبيعة بقيد التكرار الذي سبق أنه مخالف للإطلاق والأصل.

ص: 309

تنبيهان..

تنبيهان:

الأول: تحقق الامتثال بفرد واحد لصدق الطبيعة به

الأول: بناءً على ما ذكرنا من تعلق الأمر بالطبيعة من حيث هي من دون تقييد بمرة أو تكرار، سواء أحرز عدم التقييد بالإطلاق أم بالأصل، فلا إشكال في تحقق الامتثال بفرد واحد، لصدق الطبيعة به.

وكذا بأفراد متعددة إذا كانت في دفعة واحدة - بأن يفرغ منها في زمان واحد - لصدق الطبيعة المرسلة عليها بعين صدقها على الفرد الواحد.

وإليه يرجع ما قيل من الاكتفاء في الامتثال بصرف الوجود الصادق على القليل والكثير.

وإن لم تكن في دفعة واحدة - بأن يفرغ من بعضها قبل الفراغ من الآخر - فلا إشكال في تحقق الامتثال بالفرد الذي يسبق الفراغ منه وإن تأخر الشروع فيه، لانطباق الطبيعة عليه الموجب لسقوط التكليف بتحقق مقتضاه.

ومعه يمتنع الامتثال بالفرد اللاحق، فلا يكون امتثالاً مستقلاً بعد الامتثال بالأول، ولا يكون دخيلاً في الامتثال الواحد، بحيث يكون الامتثال بكلا الفردين، كما لو كانا في دفعة واحدة، لأن سقوط الأمر وخروج المكلف عن عهدته أمر غير قابل للتعدد عقلاً، فإذا إستند للفرد السابق لانطباق الطبيعة عليه وتحقق مقتضى الأمر به يمتنع استناده للفرد اللاحق، على ما هو الحال في جميع موارد اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد، حيث يستند المعلول للجميع مع تقارنها وللأسبق مع ترتبها.

والتخيير بين الأقل والأكثر لو تم مبنيٌ على تقييد الطبيعة المأمور بها بنحو يمنع من انطباق المأمور به على الفرد الواحد في ظرف وجود فرد

ص: 310

بعده، وهو خلاف فرض إطلاق الطبيعة في المقام.

ما ذكره السيد الحكيم قدس سره في توجيه عدم صلوح الفرد الثاني للامتثال

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره في توجيه عدم صلوح الفرد الثاني للامتثال من أن إطلاق المادة يقتضي أن يراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير، وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق، لأنه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم.

المناقشة فيه

ففيه: أن المأمور به ليس هو صرف الوجود بالمعنى الذي ذكره، الذي لا ينطبق على الوجود اللاحق، لعدم أخذ مفهومه في المأمور به بل ليس المأمور به إلا الطبيعة بما لها من حدود مفهومية بعد لحاظها خارجية بنحو الإرسال، ولا إشكال في صدقها على الأفراد المتعاقبة، كما تصدق على الأفراد المقارنة وعلى الفرد الواحد.

وقد يراد بصرف الوجود ذلك.

وإن شئت قلت: عدم الامتثال بالفرد اللاحق ليس لعدم انطباق المأمور به في مقام الجعل عليه، بل لامتناع دخله في سقوط الأمر بعد استقلال الفرد السابق بالامتثال بسبب انطباق المأمور به عليه.

فهو أمر عقلي من شؤون مقام الامتثال، ولا يرجع إلى مقام الجعل.

المتحصل في المقام

وقد تحصَّل من جميع ما تقدم: أن الحق بلحاظ نفس التكليف هو المرة بمعنى الفرد، في مقام الجعل. وإما بلحاظ المكلف به فلا مجال للبناء على المرة أو التكرار في مقام الجعل، بل يتعين البناء على المرة بمعنى الدفعة - مع وحدة الفرد أو تعدده - في مقام الامتثال بحكم العقل. والمعيار في الدفعة مع تعدد الأفراد هو التقارن في الفراغ عنها ولو مع الترتب في الشروع فيها.

ص: 311

الثاني: عدم حمل الأوامر الندبية على الاستمرار

الثاني: مبنى الأصحاب في جملة من المقامات على حمل الأوامر الندبية على السريان والاستغراق فيسري الأمر إلى جميع الأفراد الطولية والعرضية، بنحو يقتضي التكرار دون صرف الوجود، لانحلال الأمر بالطبيعة إلى أوامر متعددة بعدد الأفراد، كما في الأمر بقراءة القرآن والصلاة والصدقة والبر والإحسان وغيرها، مع أن ما ذكرناه في الأوامر الوجوبية آت فيها.

توجيه العراقي قدس سره الحمل على الاستمرار

وقد وجهه بعض الأعيان المحققين قدس سره بناءً على ما ذكره في الأوامر، من أن مقتضى القاعدة حمل الإطلاق فيها على السريان لولا تعذر الجمع بين الأفراد الملزم بحمله على صرف الوجود. فإنه مختص بالأوامر الوجوبية، أما الندبية فلا محذور في حملها على السريان مع تعذر الجمع بين الأفراد، لأنها حيث لا تقتضي الإلزام بصرف القدرة لامتثالها لا تمنع من فعلية الأمر بما يزاحمها، فيتعين حمل إطلاقها على السريان بعد أن كان هو مقتضى القاعدة.

وقد يناسبه - أيضاً - الوجه المتقدم في تأييد الوجه المختار في الفرق بين الأمر والنهي.

لكن مما سبق يتضح أن القاعدة لا تقتضي حمل الإطلاق على السريان بعد أن كان أمراً زائداً على الماهية، بل يلزم الحمل على الماهية المرسلة، ولازمة الاكتفاء في امتثال الأمر بصرف الوجود مع قطع النظر عن قرينة تعذر الجمع بين الأفراد، فلا يختص بالأوامر الوجوبية، بل يجري في الندبية، كما ذكرنا.

ومن هنا كان الظاهر العمل بما يقتضيه الإطلاق المذكور في الأوامر الندبية كالوجوبية، والحمل فيها على السريان والاستغراق إنما يكون لقرينة

ص: 312

خاصة خارجية تقتضي ذلك، وهي كثيرة في مواردها، مثل ما تضمن أن الصلاة خير موضوع، وأن ذكر الله حسن على كل حال، أو المناسبات الارتكازية العرفية أو المتشرعية التي قد تقتضي ذلك فيها، كما قد تقتضيه في الأوامر الوجوبية، كما أنها قد تقتضي الاكتفاء بصرف الوجود، كما في مثل غسل اليدين قبل الطعام، لارتكاز أن المراد به التنظيف الذي يكفي فيه ذلك.

المسألة الثانية: الفور والتراخي

المسألة الثانية: في الفور والتراخي

مما وقع الكلام بينهم أن الأمر هل يقتضي الفور بمعنى المبادرة للامتثال في الزمن الثاني من الخطاب، أو في أول أزمنة الإمكان - كما عن الشيخ قدس سره وجماعة -، أو التراخي بمعنى جواز التأخير.

وأما بمعنى لزوم التأخير فلم أعثر عاجلاً على قائل به، وإنما يظهر من الفصول وجود متوقف فيه يرى أن التأخير هو المتيقن من الامتثال.

هذا وقد صرح في الفصول بأن النزاع إنما هو في استفادة أحد الأمرين من خصوص الصيغة، وهو المناسب لأخذ غير واحد لها في موضوع النزاع عند تحريره.

لكن ملاحظة مجموع كلماتهم وحججهم تشهد بعدم اختصاص النزاع بها، بل يعم استفادة أحد الأمرين من دليل خارجي شرعي أو عقلي يقتضي أحدهما بنحو وحدة المطلوب أو تعدده.

بل قد يعم لزوم الفور عقلاً في مقام الامتثال، لا شرعاً في مقام الجعل. ولذا ألحقنا هذه المسألة بهذا الفصل الذي هو من مباحث الأوامر

ص: 313

والنواهي مطلقاً، لا بالفصل الثالث الذي يبحث فيه عن الصيغة.

إذا عرفت هذا، فالحق ما ذكره جماعة من عدم لزوم الفور ولا التراخي، لا شرعاً في مقام الجعل، ولا عقلاً في مقام الامتثال.

عدم لزوم الفور أو التراخي في مقام الجعل

أما في مقام الجعل فلخروجهما عن مفاد المادة والهيئة ونحوهما مما يدل على المكلف به والتكليف، لعدم دلالة المادة ونحوها مما يدل على المكلف به إلا على الماهية الصادقة بنحو واحد على الأفراد الطولية والعرضية، ومقتضى إطلاقها الاجتزاء بكلٍ منها.

كما أن الهيئة ونحوهما مما يدل على التكليف لا تدل إلا على البعث نحو المكلف به وطلبه على ما هو عليه من السعة، فلا تقتضي وجوب خصوص فردها السابق زماناً بنحو وحدة المطلوب أو تعدده.

دعوى: استتباع البعث الاعتباري للانبعاث ودفعها

ودعوى: أن البعث الاعتباري يستتبع الانبعاث حين تحققه للتلازم بينهما عرفاً، كملازمة البعث الخارجي للانبعاث حقيقةً.

ممنوعةٌ، لأن البعث والانبعاث الخارجيين متلازمان تلازم المتضايفين، فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر عقلاً، أما البعث الاعتباري بالخطاب بالتكليف فهو غير ملازم للانبعاث بمعنى فعلية الإطاعة لا عقلاً ولا عرفاً، لوضوح تخلفها عنه كثيراً، وإنما يلازم الانبعاث بمعنى إحداث الموضوع للإطاعة بالنحو الصالح للداعوية للعمل، أما نحو العمل المدعو إليه فهو تابع للمأمور به سعة وضيقاً، فمع فرض ظهور إطلاقه في إرادة الطبيعة على سعتها لا وجه لكون البعث سبباً لإحداث الداعي نحو خصوص بعض أفراده بالنحو الملازم للبدار.

ولذا لا إشكال ظاهراً في عدم اقتضاء الأمر بنفسه البدار لو كان

ص: 314

الواجب موقتاً بوقت واسع - بناءً على ما هو المعروف من إمكانه - مع وضوح إمكان البدار للطبيعة المقيدة بالوقت المذكور كالطبيعة المطلقة.

نعم، لو كان المدعى ظهور الصيغة أو نحوها في البعث نحو العمل بنحو البدار كان راجعاً لتقييد المأمور به بالفرد السابق.

لكن لا طريق لإثبات ذلك، بل المرتكزات تقضي بتمحضها في البعث نحو الطبيعة.

فلا مجال لاستفادة الفور من نفس الخطاب.

فيما ذكر من الآيات الدلالة على الفور

كما لا مجال لاستفادته من الأمر بالمسارعة والاستباق في قوله تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»(1) وكقوله سبحانه: «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»(2) وقوله عز اسمه: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ...»(3).

بدعوى: أنه ليس المراد من المغفرة والجنة إلا سببهما ومنه فعل الواجبات، التي هي أيضاً من الخيرات.

لاندفاعها: بأن سببية فعل الواجبات للمغفرة والجنة وكونه من الخيرات - بناءً على أن المراد بها الأخروية، كما هو الظاهر، وعليه يبتني الاستدلال - في رتبة متأخرة عن تعلق الأمر بها، فلا يصلح الأمر بالمسارعة والاستباق إليها - الذي هو متأخر رتبةً عن سببيتها وعن صدق عنوان الخيرات عليها - لتقييد المأمور به منها شرعاً، بنحو يكون عدم المسارعة

ص: 315


1- سورة البقرة: 148
2-
3- راجع الوسائل ج 1، باب: 1 و 2 من أبواب الوضوء

والاستباق مخرجاً لها عن كونها سبباً للمغفرة والجنة ومن الخيرات، لعدم الأمر بها بدونهما.

مع أنها لو حملت على الإلزام المولوي لزم تخصيص الأكثر، لخروج الواجبات الموسعة والمستحبات، مع إباء عمومها ارتكازاً عن التخصيص، كما نبه له غير واحدٍ.

دعوى خروج الأكثر تخصصاً لا تخصيصاً ودفعها

ودعوى: أن خروجها تخصص لا تخصيص، لاستحالة وجوب المبادرة لما يجوز تركه، فلا يهم كثرته.

ممنوعة، لأن استحالة شمول الحكم لبعض أفراد العام لا يقتضي خروجه تخصصاً، بل هو تخصيص عقلي قد يستبشع إذا كثر أو كان العام آبياً عن التخصيص، فيكون قرينة على إرادة ما لا يلزم منه ذلك.

ومنه يظهر أنه لا مجال لحملها على وجوب الفور بنحو تعدد المطلوب - لا بنحو وحدة المطلوب الراجع إلى تقييد المأمور به - وإن لم ينهض بمنعه الوجه الأول. بل يتعين حملها على الإرشاد إلى ما يحكم به العقل من حسن البدار للطاعات مطلقاً وإنتهاز الفرصة في إكتساب الخيرات وإن لم تكن واجبات.

الاستدلال على الفور بحكم العقل

هذا، وربما يدعى استفادة التقييد بالفور من حكم العقل لبعض الوجوه التي أغنى ضعفها عن إطالة الكلام فيها، ولاسيما مع التصدي لدفعها في المعالم والفصول، فراجع.

الاستدلال على التراخي ودفعه

وأما الاستدلال للزوم التراخي بما قيل: من أن الواجب غالباً يحتاج إلى مقدمات مستلزمة للتراخي في امتثاله.

فهو كما ترى! لأن الاضطرار للتراخي غالباً لا يكشف عن مطلوبية

ص: 316

بنحو تعدد المطلوب فضلاً عن وحدته بنحو لا يجزي الفعل لو وقع في أول أزمنة التكليف، لعدم احتياجه إلى مقدمات تقتضي صرف الوقت أو لتحققها قبله.

ومن هنا كان الظاهر عدم لزوم الفور ولا التراخي.

إمكان استفادة الفور عرفاً من شاهد الحال

نعم، قد يستفاد الفور العرفي من شاهد الحال، كما يكثر في الخطابات الشخصية غير المبنية على القوانين العامة، حيث يغلب صدورها عند حضور وقت العمل وتحقق الحاجة للأمر المخاطب به، لا لمحض بيان تحقق موضوع التكليف، ولا يبعد كون الغلبة المذكورة قرينة عامة على حمل الخطابات المذكورة على ذلك عند الشك، سواءً كانت الخطابات تنجيزية، كما في قول القائل: ناولني ماء أو أغلق الباب، أم تعليقية، كما في قوله: إن جاء زيدٌ فأكرمه، وإن أحسن إليك فكافئه، وإن كانت المناسبات العامة الارتكازية والقرائن الخاصة قد تقتضي تعيين وقت خاص.

وهذا بخلاف الخطابات المتضمنة للقوانين العامة، كما في الأحكام الشرعية وغيرها، فإن الظاهر سوقها - تبعاً لمدلولها اللفظي - لمحض بيان تحقيق موضوع التكليف، من دون نظر لوقت العمل به، بل مقتضى الإطلاق المتقدم السعة فيه.

هذا كله لو كان للخطاب بالتكليف إطلاق، أما بدونه فلا ينبغي التأمل في أن مقتضى البراءة عدم وجوب الفور لو احتُمِل وجوبه بنحو تعدد المطلوب، بأن يكون تكليفاً زائداً على التكليف بالواجب.

وأما لو احتُمِلَ وجوبه قيداً في الواجب بنحو وحدة المطلوب فالكلام فيه هو الكلام في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين الذي كان

ص: 317

التحقيق فيه جريان البراءة.

وحينئذٍ لو لم يأت به فوراً يتجه استصحاب التكليف بالطبيعة في الآن الثاني وما بعده على ما هو عليه من التردد بين الفور وعدمه، لأنه صالح للداعوية عقلاً لأصل الطبيعة، نظير صلوح التكليف المردد بين الأقل والأكثر للداعوية نحو الأقل.

وبه ينحل العلم الإجمالي إما بوجوب الفعل فوراً أو بقاء التكليف به لو لم يأت به فوراً، المقتضي للاحتياط بالمبادرة ثم التدارك مع عدمها لولا الانحلال بالاستصحاب المذكور. فتأمل جيداً.

هذا كله في استفادة أحد الأمرين - من الفور أو التراخي - في مقام الجعل شرعاً.

استفادة أحد الأمرين في مقام الفراغ والامتثال ومناقشته

وأما في مقام الفراغ والامتثال فقد يدّعى حكم العقل بلزوم الفور ولو مع السعة في مقام الجعل، لأن الإطاعة من حقوق المولى، ويجب المبادرة بأداء الحق ولا يجوز المماطلة به.

وفيه: أن وجوب المبادرة بأداء الحق شرعي مختص بالاستحقاق المساوق للملكية الاعتبارية، كاستحقاق الدين في الذمة، لما في حبسه من التصرف في الملك بغير إذن صاحبه المنافي لسلطنته.

أما استحقاق الإطاعة عقلاً فهو نحو آخر من الاستحقاق تابع بنظر العقل لداعوية التكليف سعةً وضيقاً، فإذا كان الأمر يدعو للطبيعة على ما هي عليه من السعة بنحو تنطبق على الأفراد اللاحقة كالسابقة لا يحكم العقل بوجوب المبادرة والاقتصار في الإطاعة على الأفراد السابقة.

ولذا لا إشكال ظاهراً في عدم لزوم الفور في الموقتات الموسعة،

ص: 318

مع كون أدائها حقاً للمولى أيضاً، لعدم الفرق بينها وبين المطلقات إلا في استفادة السعة فيها في مقام الجعل من صريح الخطاب، وفي المطلقات من الإطلاق، ولا دخل لذلك بالفرق في مقام الفراغ والامتثال.

وبالجملة: لا مجال للبناء على لزوم الفور في مقام الامتثال مع فرض السعة في مقام الجعل.

نعم لو علم بالعجز عما عدا الفرد الأول لزمت المبادرة إليه بمقتضى لزوم الإطاعة، كما هو الحال في سائر موارد انحصار القدرة ببعض أفراد الواجب.

بل مقتضى لزوم إحراز الفراغ والامتثال لزوم المبادرة مع احتمال تجدد العجز عن الطبيعة في الزمن اللاحق، لولا أصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء في سائر الموارد، إلا أن يكون هناك مثير لاحتمال العجز بنحو يعتد به العقلاء، وعلى ذلك جرت سيرة المتشرعة وفتاوى الأصحاب بلزوم المبادرة لتفريغ الذمة مع ظهور أمارات الموت.

لكنه لا يرجع إلى وجوب المبادرة واقعاً في مقام الفراغ والامتثال، كما هو محل الكلام، بل ظاهراً عند الشك في القدرة على الامتثال بدونها.

المسألة الثالثة: فيما يتعلق بالنهي

المسألة الثالثة: فيما يتعلق بالنهي

حيث سبق أن امتثال النهي إنما يكون بترك تمام أفراد الطبيعة المنهي عنها في تمام أزمنة النهي كان مناسباً للفور والتكرار على خلاف ما سبق في الأمر، وليس هو مورداً للإشكال عندهم.

وإنما وقع الكلام في أمرين:

ص: 319

الأمر الأول: في كفاية امتثال النهي بمحض الترك

الأمر الأول: في أنه هل يُكتفَى في امتثال النهي وموافقته بمحض الترك ولو مع الغفلة عن العمل المنهي عنه أو تعذره، أو لابد فيه من كف النفس عنه الموقوف على الالتفات إليه ثم الإعراض عنه.

وقد يظهر منهم المفروغية عن أن مقتضى حاق اللفظ هو الاكتفاء بمحض الترك. وكأنه لما أشرنا إليه آنفاً من أن مقتضى النهي عرفاً هو مفاد القضية الحملية السالبة.

ودعوى: أن النهي لما كان مسوقاً لإحداث الداعي للترك كان مقتضاه صدور الترك بداعيه، المستلزم للكف، لابد اعٍ آخر ولا غفلة.

مدفوعةٌ: بأن مرجع ذلك إلى حمل النهي على التعبدي، فيجري فيه ما يجري في أصالة التعبدية في الأمر مما يأتي الكلام فيه، بل لا يظن ممن التزم بأصالة التعبدية في الأمر الالتزام بها في النهي.

على أن ذلك لا يقتضي لزوم الكف مطلقاً، بل في خصوص صورة الإطلاق، لما هو المعلوم من إمكان كون التكليف توصلياً، بل كثرته، وإنما الكلام في الحمل عليه مع الإطلاق. فتأمل.

وكيف كان، فالظاهر ما ذكرناه من المفروغية عن أن الاكتفاء بمحض الترك هو مقتضى الاقتصار على المدلول اللفظي للخطاب، وأن منشأ القول بلزوم الكف هو دعوى: أن محض الترك غير مقدور للمكلف، لأنه أمر أزلي سابق على القدرة فلا يستند إليها ليمكن التكليف به، بل يلزم حمل النهي على التكليف بالكف، الذي هو أمر وجودي مستند للمكلف مقدور له.

ولو تم ذلك فقد يجري فيما لو لم يكن الترك أزلياً، بل كان المكلف متلبساً بالفعل قبل النهي، لأن ذلك لما كان نادراً وكان الغالب ورود النهي

ص: 320

مورد أزلية الترك فقد تكون الغلبة المذكورة موجبة لظهور النهي في إرادة الكف مطلقاً، لعدم الفرق ارتكازاً في مفاده بين الموردين.

عدم تمامية الوجه المذكور في نفسه

لكن الوجه المذكور غير تام في نفسه، لما ذكره جماعة من أن أزلية الترك إنما تستلزم عدم كونه اختيارياً قبل حصول القدرة للمكلف، ولا تنافي تعلق الاختيار به بلحاظ حال استمراره الذي هو ظرف التكليف وتوجه النهي، لأن القدرة على الفعل تستلزم القدرة على الترك، وبدونها يكون الفعل واجباً أو ممتنعاً لا مقدوراً قابلاً لأن يُنهى عنه.

الأمر الثاني: هل يختص الترك المستفاد من الإطلاق بما إذا لم يخالف في بعض الأزمنة

الأمر الثاني: حيث سبق أن النهي مع إطلاقه يقتضي الترك في تمام الأزمنة، فهل يختص ذلك بما إذا لم يخالف في بعض الأزمنة، فإن خولف سقط رأساً ويحتاج بقاؤه إلى قرينة مخرجة عن الإطلاق، أو لا بل يبقى مع المخالفة بنحو يقتضي العود للترك، ما لم تقم قرينة مخرجة عن مقتضى الإطلاق؟

ما ذكره الخراساني قدس سره

صرح المحقق الخراساني قدس سره بعدم دلالته على أحد الأمرين في نفسه، قال: «بل لابد في تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة...» ولم يتعرض لبيان مقتضى الإطلاق ولا لتوجيهه.

ما ذكره السيد الحكيم قدس سره

لكن سيدنا الأعظم قدس سره ذكر أن مقتضى إطلاق المتعلق لحاظه بنحو صرف الوجود، نظير ما تقدم منه في التنبيه الأول لمسألة المرة والتكرار، قال «فكما أن إطلاق قوله: اضرب، يقتضي البعث إلى صرف الوجود ولا يقتضي التكرار كذلك إطلاق قوله: لا تضرب، يقتضي الزجر عن صرف الوجود، فإذا خولف بالوجود لم يقتضِ الزجر عن الوجود بعد ذلك، فإنه وجود بعد وجود، لا وجود بعد العدم الذي هو صِرف الوجود.

ص: 321

نعم الغالب في المفسدة أن تكون قائمة بكل حصة بحيالها، وفي المصلحة أن تكون قائمة بصرف الوجود، فلعل هذه الغلبة تقتضي كون مقتضى الإطلاق هو الثاني، لأن الأول حينئذٍ يحتاج إلى بيان. فتأمل».

ويظهر الإشكال فيما ذكره أولاً مما تقدم هناك من أن إطلاق المتعلق لا يقتضي الحمل على صرف الوجود، بل على الطبيعة بحدودها المفهومية، إلا أن سعة انطباقها تستلزم تحققها بصرف الوجود فيكون امتثالا للأمر بها وعدم تحقق تركها إلا بترك تمام أفرادها، فلا يكون امتثال النهي عنها إلا بذلك.

أما أن فعل بعض الأفراد في بعض الأزمنة يوجب سقوط النهي رأساً فهو أمر آخر يحتاج إلى دليل، ومجرد تعلق الأمر بالطبيعة لا يقتضيه.

وأما ما ذكره أخيراً من أن غلبة تعلق المفسدة بالأفراد بنحو الانحلال هو الذي قد يوجب الصرف عن مقتضى الإطلاق الأولي والبناء على بقاء النهي لو خُولِفَ.

فهو غير ظاهر، لعدم وضوح الغلبة المذكورة مع قطع النظر عن موارد الأحكام الشرعية، لتكون من القرائن العرفية العامة الصارفة عن مقتضى الإطلاق. وثبوتها في موارد الأحكام الشرعية لما كان بسبب قيام الأدلة الخاصة لم يكن من القرائن العامة التي يستند إليها الظهور، ويخرج بها عن مقتضى الإطلاق. فلاحظ.

ما ذكره النائيني قدس سره من التفصيل في وجوه ترك الطبيعة

هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره: أن ترك الطبيعة..

تارة: يكون مطلوباً استقلالاً وملحوظاً بنحو المعنى الاسمي، بأن يكون المطلوب خلو صفحة الوجود عن تلك الطبيعة، فيكون ترك الأفراد

ص: 322

حينئذٍ ملازماً للمطلوب لا نفسه.

وأخرى: يكون مرآةً وملحوظاً بنحو المعنى الحرفي توصلاً به إلى طلب ترك أفرادها، فالمطلوب حقيقة هو ترك نفس الأفراد المستلزم لخلو صحيفة الوجود عن الطبيعة.

وعلى الأول لو عُصِيَ النهي بإيجاد فرد من تلك الطبيعة سقط، إذ ليس هناك إلا نهي واحد متعلق بالطبيعة الواحدة، والمفروض عصيانه.

وعلى الثاني حيث كان النهي منحلاً إلى نواهٍ متعددة بعدد الأفراد فسقوط بعضها بالعصيان لا يقتضي سقوط غيره. وهذا القسم هو الغالب في موارد النهي، لأن منشأه غُالباً هو المفسدة في متعلقه، ولا محالة يشترك جميع الأفراد في تلك المفسدة، ومن ثم كان هذا هو ظاهر النهي دون الوجه الأول.

هذا كله بالإضافة إلى الأفراد العرضية.

وأما بالإضافة إلى الأفراد الطولية فبقاء النهي بعد مخالفته كما يمكن أن يكون لأخذ الزمان قيداً في الأفراد موجباً لتكثرها، يمكن أن يكون لاستمرار نفس النهي عن الطبيعة في جميع الأزمنة.

وحيث لا دليل على أخذ الزمان في المتعلق، ولا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آناً ما، كان دليل الحكمة مقتضياً لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة أيضاً.

هذا حاصل ما ذكره أثبتناه عن تقرير بعض مشايخنا لدرسه بأكثر ألفاظه.

وكأن مراده من الفرق بين لحاظ ترك الطبيعة بنحو المعنى الاسمي ولحاظه بنحو المعنى الحرفي ليس هو الفرق المذكور في محله بين المعنى

ص: 323

الاسمي والحرفي، لبداهة عدم خروج الطبيعة المتعلقة للنهي عن كونها معنىً اسمياً، بل مجرد لحاظ الطبيعة في الأول استقلالاً مورداً للنهي والغرض، وفي الثاني طريقاً لملاحظة الأفراد التي هي في الحقيقة مورداً لهما، والتعبير بالمعنى الاسمي والحرفي لمجرد المناسبة لما اشتهر من استقلالية الأول وآلية الثاني.

المناقشة فيه

وكيف كان فيرد على ما ذكره..

أولاً: أن تصور الطبيعة بالوجهين غير ظاهر، بل هي لا تلحظ إلا بحدودها المفهومية لكن بنحو تكون خارجية متحدة مع الأفراد، غايته أنها..

تارةً: تلحظ متحدة مع الأفراد بنحو المجموعية، فلا يكون النهي عنها إلا واحداً له طاعة واحدة ومعصية واحدة.

وأخرى: تلحظ متحدة مع الأفراد بنحو الانحلال، فيختص كل فرد منها بنهي له طاعته ومعصيته.

و ثانياً: أن غلبة صدور النهي عن مفسدة يشترك فيها جميع الأفراد لا يستلزم كون الغالب في النهي الانحلال، بل كما يمكن أن يكون لكل فرد مفسدته القائمة به المستلزمة للنهي عنه، فيكون النهي عن الطبيعة انحلالياً، كذلك يمكن أن تكون المفسدة واحدة تحصل بكل فرد ولا تستدفع إلا بترك تمام الأفراد، فيكون النهي عن الطبيعة واحداً وارداً على أفرادها بنحو المجموعية.

و ثالثاً: أن ما ذكره في وجه عدم تكثر الأفراد بلحاظ الزمان من عدم الدليل على أخذ الزمان في المتعلق يدفعه أن تكثر الأفراد الخارجية والفرضية التي يشملها الحكم تابع لاختلاف الخصوصيات واقعاً وإن لم

ص: 324

تلحظ تلك الخصوصيات ولم تؤخذ تفصيلاً أو إجمالاً في المتعلق، وإلا فالأفراد العرضية متقومة بخصوصيات لا دليل على أخذها في المتعلق أيضاً.

نعم، مجرد شمول الحكم للأفراد الطولية وتكثرها تبعاً لاختلاف الخصوصيات الزمانية لا يكفي في بقاء الحكم بعد مخالفته ما لم يكن بنحو الانحلال، بحيث يكون لكل فرد نهيه المختص به والذي لا يكون فعلياً إلا بالقدرة عليه، ولا ينهض كلامه بإثبات ذلك.

كما أن ما ذكره من أنه حيث لا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آناً ما كان دليل الحكمة مقتضياً لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة أيضاً، لا ينفع في إثبات عدم سقوط النهي بعد مخالفته، وذلك لأن مقدمات الحكمة وإن اقتضت مع عدم ذكر القيد بقاء المحكم في تمام الأزمنة اللاحقة، إلا أن بقاء النهي كما يكون لتجدد الغرض فيه في كل آن، بحيث يكون وجوده في كل آن لغرض مستقل قائم به، فلا يلزم من مخالفته في بعض الآنات سقوطه في بقيتها بعد استقلالها بغرضها، كذلك يكون مع وحدة الغرض منه بحيث لا يتحصل شيء من غرضه إلا بموافقته في جميع الآنات، فيلزم سقوطه بالمخالفة في بعضها، وكلامه قدس سره لا ينهض بإثبات أحد الوجهين.

نعم، الظاهر أن المفهوم عرفاً من الإطلاق هو الثاني، ولذا يعد التارك في الآن الأول مطيعاً عرفاً، لا أن إطاعته مراعاة باستمراره على الترك، كما تكون إطاعة من يشرع في امتثال الواجب الارتباطي مراعاة بإكماله.

وكأنه لابتناء الارتباطية على نحو من العناية الموجب لاحتياجها لمزيد بيان، وبدونه ينهض الإطلاق بدفع احتمالها.

ص: 325

ونظير ذلك يجري في المجموعية بين الأفراد الراجع للارتباطية بينها في مقام النهي، فإنها تبتني على نحو من العناية - أيضاً - التي يدفعها الإطلاق، ويترتب على ذلك زيادة المعصية بزيادة الأفراد المأتي بها من الطبيعة المنهي عنها ولو كانت في دفعة واحدة، فمن ينظر لامرأتين في آنٍ واحد أكثر معصية ممن ينظر لامرأة واحدة.

والرجوع للمرتكزات العرفية في فهم إطلاق النهي كافٍ في استيضاح الجهتين وإن فَرِضَ عدمُ وضوحِ وجهِهِما.

ص: 326

الفصل السادس في تقسيمات المأمور به والمنهي عنه

اشارة

قد ذكروا للواجب تقسيمات كثيرة، كتقسيمه إلى نفسي وغيري، وإلى مطلق ومشروط، وإلى تعييني وتخييري، وغير ذلك.

والبحث في كل تقسيم..

تارةً: في حقيقة الأقسام المتحصلة فيه.

وأخرى: فيما يقتضيه إطلاق الخطاب أو الأصل مع عدم القرينة على تعيين أحد الأقسام.

والظاهر أن تلك التقسيمات لا تختص بالواجب، بل تجري في المستحب، وإنما تعرضوا لها في الواجب لأهميته مع المفروغية عن كون المستحب على غراره.

بل أكثرها يجري في المنهي عنه أيضاً محرماً كان أو مكروهاً.

ولعلهم إنما لم يذكروها فيه لتقديم الكلام عندهم في الأوامر فأغنى الكلام فيها عن الكلام في النواهي، كما أغنى في كثير من المباحث السابقة واللاحقة مما سبق ويأتي عمومه للنواهي. ومن هنا عممنا عنوان البحث.

بل قد ينفع الكلام في بعض تلك الأقسام في غير التكليفيات، كما قد

ص: 327

يظهر عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فيقع الكلام في مباحث:

المبحث الأول في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى مطلق ومشروط
اشارة

لا إشكال في إمكان إطلاق المأمور به والمنهي عنه، بنحو يشمل تمام أفراد الماهية، كما يمكن تقييدهما بقيدٍ يرجع إلى تضييق الماهية وقصر مورد الأمر أو النهي منها على بعض الأفراد.

كما لا إشكال في وقوع كلا الأمرين، تبعاً لظاهر دليليهما أو صريحهما، وليس هو محل الكلام في المقام.

الكلام في تقييد التكليف

وإنما الكلام في إطلاق التكليف بالأمر والنهي بنحوٍ لا تتوقف فعليته وصلوحه للبعث والزجر على أمرٍ مفقود، وتقييده بنحوٍ لا يصلح للبعث والزجر إلا بعد وجود القيد من دون أن يؤخذ القيد في متعلقه.

فإن أمكن كل من الأمرين ثبوتاً تعين الرجوع في تعيين كل منهما إثباتاً لظاهر دليلهما، وإن إمتنع الاشتراط تعين رفع اليد عن ظهور الدليل فيه وتنزيله على تقييد نفس المأمور به مع فعلية الأمر بدون القيد.

فمحل الكلام في الحقيقة مختص بما إذا كان ظاهر الدليل اشتراط نفس الأمر أو النهي.

ص: 328

أما لو كان ظاهره تقييد نفس المأمور به أو المنهي عنه فهو خارج عن محل الكلام، حيث لا إشكال في العمل بالظهور المذكور بعد إمكان مؤداه.

هذا، ومن الظاهر أنه لا تكليف مطلق من جميع الجهات، إذ لا أقل اشتراطه بالشروط العامة.

ومن هنا اختلفت كلماتهم في تعريف الواجب المطلق الذي هو محل كلامهم، بنحو يظهر من بعضهم أن الكلام في خصوص بعض الشروط وخروج بعضها عن محل الكلام، كالشروط العامة.

معرفة حال الواجب المشروط

لكن حيث كان المهم من هذا التقسيم معرفة حال الواجب المشروط وكيفية النسبة بينه وبين الشرط في مقام الجعل في الكبريات الشرعية المستتبع لنحو النسبة بينهما في الخارج من دون فرق بين الشروط كان الأنسب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره واحتمله شيخنا الأعظم قدس سرهما من أن وصفي الإطلاق والاشتراط إضافيان.

فالواجب مع كل شيء..

تارةً: يكون له دخل فيه، فيكون مشروطاً بالإضافة إليه.

وأخرى: لا يكون له دخل فيه، فيكون مطلقاً بالإضافة إليه وإن كان مشروطاً بالإضافة إلى غيره.

ولا يهم تحديد الواجب المطلق بعد كون الغرض من التقسيم معرفة الواجب المشروط، بل مطلق الخطاب المشروط أمراً كان أو نهياً إلزامياً كان أو غيره، كما سبق، فاللازم صرف الكلام إليه.

وقد ذكرنا أن الكلام إنما هو في فرض ظهور الدليل في تقييد التكليف، كما في موارد القضية الشرطية، لأن مفاد أداة الشرط نحو نسبة - بين نسبة

ص: 329

جملة الشرط التي مطابقها في الخارج وجود الشرط، ونسبة جملة الجزاء التي مطابقها في الخارج الحكم الفعلي الصالح للبعث والزجر - تقتضي إناطة الثانية بالأولى، ولازم ذلك عدم فعلية الحكم إلا بفعلية الشرط.

وأظهر من ذلك ما لو كان الشرط عنواناً للموضوع في قضية حقيقية مرجعها إلى جعل الحكم على ما يعم الأفراد المقدرة للموضوع، كما في: يجب على المستطيع الحج، وعلى الزوج الإنفاق، لوضوح أن عنوان الموضوع مقوم للنسبة التي تتضمن الحكم، لا قيد زائد عليها كالشرط.

ورجوعها للقضية الشرطية لُباً لا ينافي كونها أظهر منها في كون الوصف دخيلاً في الحكم، لا في متعلقه.

المشهور رجوع الشرط للهيئة

ومن هنا كان المشهور رجوع الشرط للتكليف المستفاد من هيئة الأمر والنهي أخذاً منهم بظاهر الأدلة، بل ظاهر من سبق على شيخنا الأعظم قدس سره المفروغية عن ذلك، حيث لم يتصدوا لإثبات ذلك، بل لآثاره،

وقد جرى على ذلك جملة ممن تأخر عنه وتصدوا لإثباته، وإن اختلفوا في مفاد الشرطية وحقيقة الحكم المشروط وواقعه في مقام الجعل والخارج، وقد تعرضنا لذلك في مبحث استصحاب الحكم عند الشك في نسخه، ومبحث الاستصحاب التعليقي، لمسيس الحاجة إليه هناك، ولا مجال لإطالة الكلام فيه هنا بعد اتفاقهم على ما هو المهم هنا من عدم فعلية الحكم بنحو يصلح للداعوية والبعث والزجر مع عدم تحقق الشرط، بناءً على رجوعه للهيئة.

دعوى الشيخ الأعظم قدس سره رجوع الشرط للمادة

وخالف في ذلك شيخنا الأعظم قدس سره حيث حكي عنه دعوى رجوع الشرط للمكلف به الذي هو مفاد المادة في الخطاب، فيقتضي تقييده وقصره

ص: 330

على الماهية الواجدة للشرط، دون التكليف، بل هو فعلي صالح للداعوية والبعث حتى قبل وجود الشرط بعد الاعتراف بأن مقتضى القواعد العربية ما عليه المشهور، كما سبق توضيحه.

المستفاد من دليله وجهان

والمستفاد مما حكي عنه في التقريرات أن الملزم بالبناء على رجوع الشرط للمادة وجهان:

أحدهما: عدم إطلاق الفرد الموجود من الأمر

أحدهما: أنه لا إطلاق في الفرد الموجود من الأمر الذي هو مفاد الهيئة، ليقبل التقييد بالشرط، لما اختاره قدس سره من أن المعاني الحرفية جزئية، بخلاف الواجب الذي هو مفاد المادة، فإنه مفهوم كلي قابل للإطلاق والتقييد، فيتعين رجوع الشرط إليه وتقييده له.

المناقشة فيما ذكره قدس سره

لكن سبق في التنبيه الأول لمبحث المعنى الحرفي الكلام في امتناع تقييده، وذكرنا جملة من الوجوه المذكورة في كلماتهم لإمكان تقييده ودفع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره، وأن التحقيق اختلاف سنخ القيود، والذي يمتنع تقييد المعنى الحرفي به بعضها، دون مثل الشرط.

كما ذكرنا هناك أنه لا مجال لما ذكره بعض الأعاظم قدس سره هنا من أن كون المعنى الحرفي آلياً مانع من تقييده بالشرط أو غيره، فراجع.

على أن مانعية جزئية المعنى الحرفي وآليته من تقييده لو تمت إنما تمنع من رجوع الشرط للتكليف إذا كان التكليف مستفاداً من الهيئة أو الحرف، دون ما إذا كان مستفاداً من معنى اسمي، كالوجوب والفرض والتحريم، فإذا قيل: يجب عليك الحج إن إستطعت، فكما لا محذور في تقييد الحج بالاستطاعة، لكونه معنىً اسمياً، كذلك لا محذور من تقييد الوجوب بها، لأنه معنى اسمي أيضاً، اللهم إلا أن يقال: لا يراد برجوع القيد للتكليف

ص: 331

كونه قيداً لأحوط في النسبة، وهو التكليف الوارد على المكلف به، الذي قد يلحظ بما هو معنى اسمي ويؤدى بالاسم. بل كونه قيداً لورود التكليف على المكلف به، وانتسابه له، والانتساب المذكور لا يؤدى بالأسم، وإنما يؤدى بهيئة الجملة الحملية ونحوها مما يتضمن معنى حرفياً آلياً. فلاحظ.

نعم لا مجال لذلك فيما لو كان الشرط مأخوذاً عنواناً للموضوع في قضية حملية حقيقية، كما لو قيل: ليحج المستطيع، لوضوح أن عنوان الموضوع طرف النسبة التي هي معنى حرفي لا قيد زائد عليها، ليتجه دعوى امتناع تقييدها به مع جزئيتها أو آليتها.

ولعله لذا احتمل قدس سره عدم فعلية التكليف قبل تحقق العنوان، لعدم تحقق موضوعه.

فراجع ما ذكره في توجيه وجوب المقدمات قبل الوقت لو لزم من الإخلال بها فوت الواجب في وقته.

ثانيهما: وحدة الطلب المنكشف به ثبوتاً

ثانيهما: أن اختلاف ما يدل على الطلب إثباتاً وظهور بعضه في رجوع الشرط للتكليف - كالقضية الشرطية - وظهور بعضه في رجوعه للواجب - كهيئة التوصيف - لا أثر له في الفرق بعد كون الطلب المنكشف به على وجه واحد ثبوتاً لا اختلاف فيه وجداناً، سواء بُيِّنَ بدليل لفظي أو لبي أم بقي كامناً في النفس ولم يُبَيَّن أصلاً لمانع من بيانه.

فإن العاقل إذا توجه إلى أمرٍ فإما أن لا يتعلق به غرضه ولا يريده أصلاً وهو خارج عن محل الكلام، وإما أن يتعلق غرضه به فيطلبه فعلاً إما بلحاظ مصلحته - كما هو الحال بناءً على تبعية الأحكام للملاكات الواقعية - أو اعتباطاًً وليس هناك صورة أخرى يكون الطلب فيها بنفسه مشروطاً ليمكن

ص: 332

العمل بظاهر ما دل على ذلك.

نعم، إذا تعلق غرضه به فطلبه، فإما أن يكون ذلك الأمر مورداً لطلبه على جميع وجوهه وأحواله، فيكون مطلقاً، أو على تقدير خاص اختياري، للمكلف - كالسفر في القصر، والطهارة في الصلاة - أو غير اختياري، كالزمان.

فإن كان اختياريا.. فتا رةً: يتعلق الغرض بالتكليف به مطلقاً بنحو تكون الخصوصية مورداً للتكليف، فيجب تحصيلها مقدمةً له، فيكون واجباً مطلقاً، كالأول، وإن إفترق عنه بأخذ الخصوصية فيه دونه.

وأخرى: يتعلق الغرض بالتكليف به بنحو لا يجب تحصيل الخصوصية، بل يُكتفى بحصولها من باب الاتفاق، فيجب تحصيله على تقدير حصول الخصوصية، كما في القصر مع السفر، وهو الواجب المشروط.

وكذا الحال لو كانت الخصوصية غير اختيارية، لاستحالة التكليف بها حينئذٍ.

فالفرق بين الواجب المشروط والمطلق الذي تؤخذ الخصوصية فيه ليس بكون الخصوصية قيداً للتكليف في الأول وللمكلف به في الثاني، بل بكونها مورداً للتكليف في الثاني دون الأول، مع كونها قيداً في المكلف به في كليهما، سواء كان دليل الطلب ظاهراً في رجوع الخصوصية للتكليف أم للمكلف به، إذ ليس الموجود وجداناً إلا ما ذكرنا.

ثم إن هذا الوجه لو تم لم يفرق فيه بين استفادة التكليف من معنى حرفي، كمفاد الهيئة والحرف، واستفادته من معنى اسمي، كالوجوب

ص: 333

والتحريم.

كما لا يفرق فيه بين أخذ الخصوصية شرطاً للتكليف في قضية شرطية وأخذها عنواناً لموضوعه في قضية حقيقية، بخلاف الوجه السابق.

ومن هنا لا يتجه منه قدس سره ما سبق من احتمال عدم فعلية التكليف لو كانت الخصوصية عنواناً للموضوع إلا بعد حصولها، ويتجه ما ذكره مقرر درسه من إنكار الفرق وجداناً بينه وبين مفاد الشرطية.

المناقشة فيما ذكره قدس سره

هذا، ويشكل ما ذكره..

أولاً: بأن فرض أخذ الخصوصية المقدورة في المكلف به مع كون التكليف به بنحو لا يدعو إليها، بل يُكتفى بحصولها من باب الاتفاق غير ظاهر، وإن أقره عليه غيره، بل مع فرض تعلق الغرض بالمقيد وإمكان تحصيله بتحصيل قيده يتعين كون القيد مطلوباً بتبعه، وعدم تعلق الغرض بتحصيل الخصوصية ملازم لعدم تعلقه بتحصيل المقيد بها الذي لا يحصل بدونها، ولذا كانت داعوية التكليف بالشيء لتحصيل مقدماته عقلية، لا شرعية.

دعوى: عدم داعوية التكليف بذي الخصوصية لقصور في القيد ودفعها

نعم، قد يوجه عدم التكليف بالقيد، بأن ما هو المعتبر في المكلف به ليس هو مطلق وجود الخصوصية، ليتعين البعث إليها بتبعه، بل وجودها من باب الاتفاق الذي لا يتحقق مع البعث إليها، فعدم داعوية التكليف بذي الخصوصية إليها ليس لقصور في داعويته، بل لقصور في القيد، حيث لا يترتب الغرض عليه لو وجد بداعي التوصل للمكلف به.

لكنه يندفع: بأن لازم ذلك عدم ترتب الغرض على القيد لو أُتي به بداعي التوصل للمكلف به، فلا يكون من أفراد القيد، ولا يتحصل به

ص: 334

المكلف به المقيد، ولا يظن منهم الالتزام بذلك.

مضافاً إلى ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن لازمه كون الوجود من باب الاتفاق كسائر القيود واجداً لجميع مبادئ الإرادة وإن لم يصح البعث إليه، مع أنه قد يكون مبغوضاً، كما لو قيل: إن ظاهرتَ أو أفطرتَ أو قَتلت مؤمناً فكفِّر.

ومن هنا كان الظاهر كون الشروط التي لا يجب تحصيلها مع القدرة عليها شروطاً للتكليف لا للمكلف به، فلا يصلح التكليف للداعوية إليها، لعدم فعليته قبلها، ولأنه إنما يدعو إلى متعلقه لا إلى موضوعه.

ولذا كان عدم وجوب تحصيل الشرط تابعاً ثبوتاً لظهور الدليل في كونه قيداً لنفس التكليف، لأخذه عنواناً لموضوعه في قضية حقيقية أو شرطاً له في ضمن قضية شرطية أو نحوهما، مع وضوح أنه لو بُنِيَ على تنزيل ما ظاهره رجوع الشرط للتكليف على رجوعه للمكلف به لم يكن وجه لاستفادة عدم وجوب تحصيل الشرط منه، ولزم توقف البناء عليه على دليل خاص، وليس بناؤهم على ذلك.

ما ذكره يبتني على الخلط بين شروط التكليف وشروط المكلف به ثبوتاً

و ثانياً: أن ما ذكره قدس سره يبتني على الخلط بين شروط التكليف وشروط المكلف به ثبوتاً، مع وضوح الفرق بينهما بالتأمل في المرتكزات وفي الأمثلة العرفية، كما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره.

الفرق بين خصوصيات التكليف وخصوصيات الواجب

فإن الخصوصية..

تارةً: تكون دخيلة في تعلق الغرض بالماهية وفي الحاجة إليها بلحاظ أثرها وفائدتها، فبدونها لا يحتاج إليها ولا يرغب في أثرها، كالمرض بالإضافة إلى شرب الدواء، والجوع والعطش بالإضافة إلى تناول الطعام

ص: 335

والماء.

وأخرى: تكون دخيلة في ترتب أثرها وفائدتها في فرض تعلق الغرض بها والحاجة إليها وإلى أثرها، كالغليان للدواء والطهي للطعام والتبريد للماء.

فالأولى: تكون من قيود التكليف وشروطه، لتبعية التكليف بالشيء لتعلق الغرض به، والمفروض عدم تعلق الغرض بدونها ولذا لا يجب تحصيلها، لعدم فعلية التكليف قبل حصولها، ولأن التكليف لا يدعو إلى موضوعه، بل إلى متعلقه، بل قد يكون مبغوضاً للمولى، كالمحرمات التي تكون موضوعاً لبعض التكاليف، كوجوب الكفارة ونحوها.

والثانية: تكون من قيود الواجب، لتبعية المكلف به سعةً وضيقاً لمورد الغرض والفائدة والأثر المرغوب فيه، فيجب تحصيلها تبعاً للواجب المقيد بها في فرض فعلية التكليف بالواجب، لتمامية موضوعه.

إلا أن تكون خارجة عن الاختيار كالخصوصية الزمانية، حيث يأتي إن شاء الله تعالى في الواجب المعلَّق الكلام في فعلية التكليف بالمقيد قبل حصوله وعدمها.

وحيث اتضح الفرق بين شروط التكليف وشروط المكلف به يتضح حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن العاقل إذا توجه إلى شيءٍ فإما أن لا يتعلق به غرضه ولا يريده أصلاً، أو يتعلق به غرضه فيطلبه فعلاً.

إذ ظهر بذلك أن هناك صورة ثالثة يكون فيها الملتفت إليه مورداً للغرض تعليقاً، لتبعيته لأمرٍ قد لا يكون حاصلاً، فيتعين إناطة التكليف به تبعاً للغرض، ولا يكون التكليف بدونه فعلياً.

ص: 336

وعليه ينزل جميع ما هو ظاهر أو صريح في اشتراط نفس التكليف، كالشرط في القضية الشرطية وعنوان الموضوع في القضية الحقيقية، ولا ملزم بالخروج عن ظاهره.

على أن ما ذكره قدس سره لا يناسب ما اعترف به من أن مقتضى القواعد العربية رجوعه للتكليف.

لوضوح أن مقتضى القواعد المذكورة ظهورات نوعية ارتكازية، فكيف يمكن انعقادها على ما هو ممتنع عقلاً مخالف للوجدان! وليست هي كالظهورات الشخصية التي قد تنعقد على خلاف الواقع لخلل في البيان أو في فهمه.

بل الظهورات النوعية تكشف عن كون ما ينافيها كالشبهة في مقابل البديهة، لابد من ثبوت خلل في بعض مقدماته إجمالاً لو لم يعلم تفصيلاً.

بل ما ذكره قدس سره لا يناسب ما صرح به غير مرة من فرض مقدمة الوجوب، وأنها التي يتوقف عليها الوجوب دون الوجود، وأنه يمتنع ترشح الطلب عليها من الواجب لاستلزامه طلب الحاصل.

إلا أن يكون ذلك منه مماشاة للقوم مع كونها عنده مقدمة للوجود، لتوقف خصوصية الواجب عليها، كما ربما يظهر من بعض عباراته، غايته أن الخصوصية الموقوفة عليها قد أُخِذَت بنحو لا تكون مورداً للتكليف، على ما سبق منه التعرض له.

لكن لازم ذلك الاستدلال على عدم وجوبها بلزوم الخلف، لا بطلب الحاصل، كما سبق منه، الظاهر في المفروغية عن عدم وجوبها قبل وجودها، لعدم وجوب ذِيها.

ص: 337

ومن هنا كان كلامه قدس سره في غاية الاضطراب والإشكال، ولا معدل عما ذكرنا.

منع النائيني قدس سره من رجوع القيد للهيئة لآلية المعنى الحرفي

ثم إن بعض الأعاظم قدس سره منع من رجوع الشرط للهيئة، لما سبق في الوجه الأول من أن المعنى الحرفي آلي غير قابل للتقييد، كما منع من رجوعه للمادة بنفسها المستلزم لتقييد المكلف به مع فعلية التكليف قبل تحقق القيد، لما بنى عليه من إبتناء القضية الشرطية والحقيقية على أخذ الموضوع والشرط مفروض الوجود في فعلية الحكم المستلزم لعدم فعليته قبل تحقق الشرط والموضوع، على ما فصله وأطال الكلام فيه، ومن هنا ادعى رجوع الشرط للمادة المنتسبة.

قال بعض مشايخنا (دامت بركاته) في تقريره لدرسه: «المراد منه هو تقييد المادة المنتسبة فإن الشيء قد يكون متعلقاً للنسبة الطلبية مطلقاً من غير تقييد، وقد يكون متعلقاً حين اتصافه بقيد في الخارج.

حديث المادة المنتسبة

مثلاً: الحج المطلق لا يتصف بالوجوب، بل المتصف هو المتصف بالاستطاعة الخارجية، فما لم يوجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب الفعلي به وكونه طرفاً للنسبة الطلبية، فالقيد راجع إلى المادة بما هي منتسبة إلى الفاعل».

بل أنكر قدس سره كون مراد شيخنا الأعظم قدس سره ما هو ظاهر التقريرات من رجوع القيد للمادة، بنحو يكون من قيود الواجب مع إطلاق الوجوب وفعليته، حاكياً عن السيد الشيرازي قدس سره عدم صحة النسبة المذكورة.

لكنه لا يناسب تصدي شيخنا الأعظم قدس سره بما ذكره للرد على صاحب الفصول قدس سره الذي فرق بين المشروط والمعلق بأن القيد في الأول للتكليف

ص: 338

عدم مناسبة ما ذكره النائيني قدس سره لما تصدى به الشيخ الأعظم قدس سره

وفي الثاني للمكلف به مع إطلاق التكليف وفعليته قبل الشرط، فرد عليه بأن القيود وإن اختلفت لفظاً في مقام الإثبات، إلا أنها لا تختلف لباً في مقام الثبوت، بل هي راجعة للمكلف به مطلقاً مع فعلية التكليف على كل حال، وإنما تختلف في كونها مورداً للتكليف تارةً، وعدمه أخرى.... إلى آخر ما تقدم، بنحو يظهر للناظر فيه إنتظام المطلب وتناسقه، حيث يبعد معه اشتباه المقرر فيه جداً، بل يكاد يقطع بعدمه.

المناقشة فيما ذكره النائيني قدس سره

على أن ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره لا يخلو عن غموض وإشكال، إذ لحاظ المادة بما هي منتسبة راجع إلى تقييدها بالنسبة، وإذا كانت آلية المعنى الحرفي مانعة من تقييده كانت مانعة من التقييد به، إذ لابد من لحاظ كل من القيد والمقيد استقلالاً، لأن التقييد نحو من النسبة التي لا تقوم إلا بالمعاني الاسمية الاستقلالية.

نعم، حيث عبر هو قدس سره عن النسبة بمفاد الاسم ولحظها بما هي معنى اسمي أمكن التقييد بها كما يمكن تقييدها. وهو خارج عن مفروض الكلام من كون الدال على النسبة الهيئة أو الحرف وكونها معنى اسمياً آلياً.

وأما لو أراد أن القيد راجع إلى المادة في ظرف انتسابها، على نحو نتيجة التقييد.

أشكل: بأن ذلك جارٍ في قيود الواجب أيضاً، لوضوح أن التقييد لا يصح إلا في ضمن القضية المتضمنة للحكم ولانتساب المادة، ولا معنى لاعتباره مع قطع النظر عن ذلك، فلابد من بيان الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب من وجه آخر.

مضافاً إلى أن تقييده المادة المنتسبة لا يقتضي إناطة التكليف بالقيد،

ص: 339

لفرض كون نسبة الحكم للمادة سابقة رتبةً على التقييد.

كما أن ما ذكره من أن المتصف بالوجوب ليس هو الحج المطلق، بل المقيد بالاستطاعة الخارجية، راجع إلى تقييد الواجب كتقييد الصلاة بالطهارة، إذ لا يراد به إلا تقييدها بالطهارة الخارجية من دون أن يقتضي إناطة التكليف بها.

ودعوى: لزوم وجود الموضوع في رتبة سابقة على الحكم.

مدفوعة: بأن ذلك لا يتم في الموضوع الذي هو بمعنى متعلق التكليف ومعروضه وهو المكلف به وقيوده، لاستحالة بقاء التكليف مع وجوده، وإنما يتم فيما يناط به التكليف مما هو خارج عن المكلف به، كالمكلف وقيوده، وإرادته في المقام موقوفة على تقييد الهيئة المفيدة للتكليف على ما ذكرناه في القضية الشرطية.

إلا أن يراد برجوع القيد للمادة المنتسبة رجوع القيد لانتساب المادة، فلا تكون المادة منتسبة وطرفاً للطلب إلا بوجود القيد، ومن الظاهر أن الانتساب مستفاد من الهيئة فتقييده لا يكون إلا برجوع القيد إليها، كما ذكرنا.

نعم، لا يراد برجوع القيد إليها رجوعه لها بنفسها مع قطع النظر عن أطرافها، لوضوح عدم قيامها بنفسها لا لحاظاً ولا خارجاً، بل رجوعه لها بما هي قائمة بأطرافها من المكلف والمكلف به.

ولذا كان مفاد الشرطية تعليق جملة بجملة، في قبال رجوعه للمادة التي هي مفهوم إفرادي طرف للنسبة.

وبالجملة: كلامه قدس سره في غاية الغموض والإشكال، ولعله ناشئ عن ضيق التعبير واختلاط بعض أنحاء التقييد ببعض، على ما سبق الكلام فيه في

ص: 340

مبحث المعنى الحرفي.

والأمر لا يخرج عما ذكرنا من رجوع الشرط للهيئة المستلزم لكونه جزء من موضوع التكليف الذي يناط فعليته به. هذا و أما ما سبق في ذيل الكلام المتقدم من رجوع القيد للمادة بما هي منتسبة للفاعل، فلا يبعد كونه من سبق القلم وأن المراد بما هي منتسبة للمكلف كما يناسبه أصل المطلب وبعض فقرات كلامه، وما في فوائد الأصول في تقرير مراد بعض الأعاظم قدس سره في المقام.

ثم إنه كما يمكن تقييد الهيئة المفيدة للحكم بالشرط يمكن تقييدها بغيره، كالغاية التي يلزم من أخذها فيه ارتفاعه بحصولها، وكذا غيرها.

وربما يأتي في مبحث مفهوم الغاية ما ينفع في المقام.

ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق.

بقي شيء: حمل المأمور به على الإطلاق مع عدم القرينة

بقي شيء:

وهو أنه لا ريب ظاهراً في أنه إذا تمت مقدمات الحكمة في الخطاب لزم حمل المأمور به والمنهي عنه على الإطلاق، وأن الاشتراط يحتاج إلى قرينة خاصة وعناية في البيان مخرجة عن ذلك، كالتقييد في المفاهيم الاسمية الأفرادية. وكذا الحال في سائر قيود الهيئة من غاية أو نحوها.

وأما مع عدم تمامية مقدمات الحكمة وإجمال الخطاب أو الإهمال فيه، أو كون الدليل لُبياً، فمقتضى الأصل البراءة من التكليف مع فقد القيد المحتمل، بل مقتضى الاستصحاب عدمه، على ما أوضحناه في محله من مبحث البراءة.

ص: 341

نعم، مع الشك في التقييد بالغاية إذا أحرزت فعلية التكليف قبلها فمقتضى الاستصحاب بقاؤه بعدها بعد فرض عدم أخذه قيداً في متعلق الحكم، حيث يحرز حينئذٍ وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة، وعدم اختلاف موضوعيهما بالإطلاق والتقييد، على ما أوضحناه في محله من مبحث الاستصحاب.

ص: 342

المبحث الثاني في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى معلق ومنجز
اشارة

قسم صاحب الفصول قدس سره الواجب إلى معلق ومنجز، فالمنجز ما يكون زمانه متحداً مع زمان وجوبه، والمعلق ما يكون زمانه متأخراً عن زمان وجوبه، فيكون الوجوب فيه حالياً والواجب استقبالياً.

وقد ذكر قدس سره هذا التقسيم للتنبيه على الفرق بين المعلق والمشروط بأن التكليف في المشروط غير فعلي، بخلافه في الأول فإنه فعلي، فهو من أقسام المطلق المقابل للمشروط.

وغرضه بذلك التمهيد لما يأتي إن شاء الله تعالى من ظهور الثمرة بين القسمين في المقدمات المفوتة، وهي التي يتعذر حصول الواجب في وقته إذا لم تحصل قبل الوقت، كالغسل من الحدث الأكبر لمن عليه الصوم في النهار، حيث لا إشكال في وجوبها قبل الوقت تبعاً لوجوب ذيها لو كان من المعلق.

وإنما ينحصر الإشكال في وجوبها لو كان وجوب ذيها مشروطاً غير فعلي قبل الوقت.

ص: 343

ومن هنا لا مجال لما أورده عليه المحقق الخراساني قدس سره من عدم الثمرة لهذا التقسيم، لعدم الفرق بين المعلق والمنجز في الغرض المهم بعد كون التكليف في كليهما حالياً، لأن الثمرة المذكورة مترتبة على إطلاق التكليف وفعليته المشترك بين القسمين، ولا يصح التقسيم إلا بلحاظ ترتب الثمرة على الفرق بين القسمين، وإلا لكثرت التقسيمات.

لاندفاعه: بأنه يكفي في صحة هذا التقسيم بيان الفرق بين المشروط والمعلق، وظهور الثمرة بلحاظه بعد خفائها.

نعم، كان الأنسب بصاحب الفصول قدس سره أن يجعل هذا التقسيم من لواحق تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط، لأنه تقسيم لأحد قسميه، - وهو المطلق -، وليس تقسيماً في مقابله.

كما أن شيخنا الأعظم قدس سره حيث أنكر رجوع الشرط للهيئة في المشروط والتزم برجوع جميع الشروط للمادة، أنكر الفرق بين المشروط والمعلق.

ومرجع كلامه إلى إنكار المشروط بالمعنى المشهور، لا إلى إنكار المعلق وإنما أراد من المشروط المعلَّق.

إذا عرفت هذا، فيقع الكلام..

تارةً: في إمكان المعلق ثبوتاً.

وأخرى: في الدليل عليه إثباتاً.

ص: 344

المقام الأول: في إمكان المعلّق

المقام الأول: في إمكان المعلق

حيث سبق في الوجه الثاني لمناقشة شيخنا الأعظم قدس سره في إنكاره رجوع الشرط للهيئة تقريب الفرق الارتكازي بين شروط الوجوب وشروط الواجب، يتضح أن الخصوصية الزمانية ونحوها من الخصوصيات المستقبلة إذا كانت دخيلة في تعلق الغرض بالواجب، بحيث لا حاجة إليه قبلها، فهي خارجة عن محل الكلام، حيث لا إشكال في دخلها في التكليف حينئذٍ ويكون من المشروط بالمعنى المتقدم.

أقسام المعلّق

وإنما الكلام، فيما إذا لم تكن الخصوصية دخيلة في تعلق الغرض بالواجب لو توقف تحقق الواجب عليها.. تارةً: لكونها من قيوده الشرعية الدخيلة في ترتب مصلحته عليه كالطهارة من الحيض التي يتوقف عليها الصوم الواجب بكفارة قد تحقق سببها حال الحيض.

وأخرى: لكونها ظرفاً للقدرة عليه، لتوقفه تكويناً على أمر استقبالي خارج عن الاختيار.

وثالثة: لتوقفه على مقدمات اختيارية تحتاج إلى زمن.

هذا، وصريح الفصول تعميم المعلق للصورة الأخيرة، وظاهر غير واحد ممن وافقه في إمكان المعلق أو خالفه خروجها عنه، مع اتفاق الكل ومفروغيتهم عن إمكانها ووقوعها وشيوعها، لوضوح أن الانبعاث للمقدمات إنما هو بسبب فعلية التكليف لذيها فدخولها في المعلق محض اصطلاح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

فالعمدة الكلام في الصورتين الأوليين اللتين تشتركان في توقف

ص: 345

المكلف به على أمر غير اختياري مع فرض تجدد القدرة عليه بعد ذلك، لتحقق ما يتوقف عليه في الزمن المستقبل، حيث يقع الكلام في أن ذلك هل يمنع من فعلية التكليف أو لا؟

ومرجعه إلى أن القدرة المعتبرة في فعلية التكليف زائداً على فعلية الملاك والغرض هل هي القدرة على المكلف به في وقته ولو كان هو الزمن المستقبل أو خصوص القدرة الفعلية حين فعلية التكليف؟

ثم إنه لا إشكال في أن البعث نحو الأمر الاستقبالي الموقوف على أمر غير اختياري لا يصح على الإطلاق وبلحاظ جميع المقدمات، بنحو يقتضي الداعوية للانبعاث إليه من حيثيتها، حتى مع حيثية المقدمة غير الاختيارية، لاستحالة ذلك، والقائل بإمكان المعلق إنما يلتزم بإمكان البعث للأمر الاستقبالي من غير حيثية المقدمة غير الاختيارية، بنحو يقتضي الانبعاث إليه في وقته بعد تحققها لا مطلقاً، كما فيما تكون جميع مقدماته اختيارية.

وجوه المنع من المعلق

ومنه يظهر أنه لا مجال للمنع من المعلق..

تارةً: لقبح التكليف بما لا يطاق.

وأخرى: لأن الغرض من التكليف جعل الداعي العقلي لموافقته، ومع تعذر موافقته يمتنع تحقق الداعي إليها، فيلغو جعل التكليف والخطاب به، لتخلف غرضه.

لوضوح أن الوجهين المذكورين إنما يتوجهان لو كان المدعى فعلية التكليف في المقام بالنحو المقتضي للداعوية على الإطلاق حتى مع حيثية المقدمة المذكورة، حيث يقبح مع فرض تعذر الانبعاث، ويكون لاغياً لتخلف غرضه.

ص: 346

أما حيث كان المدعى أن فعلية التكليف إنما تقتضي الانبعاث للمكلف به في وقته الذي يقدر عليه فيه، لأن ذلك هو الغرض منه، فلا يلزم التكليف بما لا يطاق، ولا يكون لاغياً.

دعوى: عدم إمكان التفكيك بين مقدمات التكليف في الداعوية ودفعه

نعم، قد يدعى أن داعوية التكليف لتمام مقدماته ارتباطية، فلا يمكن التفكيك بينها في الداعوية. ولذا سبق منا في رد ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في الواجب المشروط امتناع تعلق التكليف بالمقيد من دون أن يقتضي التكليف بتحصيل القيد المقدور.

كما لا إشكال في أن تعذر بعض مقدمات الواجب رأساً مانع من التكليف به بنحو يقتضي تحصيل باقي المقدمات، بل يسقط رأساً.

لكنه يندفع: بأن المنشأ في الارتباطية المذكورة أن فعلية تعلق غرض المولى بالشيء المستتبعة لتحصيله بالتكليف به تقتضي الداعوية لتمام مقدماته التي يتوقف عليها حصوله.

وهو إنما يقتضي الداعوية لتمام مقدماته في ظرف القدرة عليها، ولا ينافي عدم الداعوية إليها في ظرف تعذرها، لأن ذلك لا يرجع لقصور في داعوية التكليف، بل للمانع من فعليتها.

وأما سقوط التكليف بتعذر بعض مقدماته فلأن تعذر المقدمة رأساً مستلزم لتعذر المكلف به فيمتنع التكليف به، لما سبق من قبح التكليف بما لا يطاق ولغويته، ولا معنى للتكليف به لأجل باقي مقدماته، لأن تعلق الغرض بالمقدمات وداعوية التكليف إليها في طول تعلق الغرض بذيها وداعوية التكليف، فمع امتناع داعوية التكليف إليه لتعذره لا موضوع للداعوية إليها، بل يتعين سقوط التكليف.

ص: 347

وهذا بخلاف المقام المفروض فيه تحقق المقدمة غير الاختيارية في المستقبل المستلزم للقدرة على المكلف به حينئذٍ، فلا يقبح التكليف به ولا يكون لاغياً، وإذا صدر التكليف كان صالحاً للداعوية للمكلف به في وقته، فيدعو في طول داعويته له إلى بقية المقدمات الدخيلة في ترتبه.

منافاة أخذ القدرة في التكليف للمعلق

هذا، وقد يستدل لامتناع المعلق بأن التكليف إنما ينتزع من الإرادة التشريعية، وهي لا تكون إلا مع فعلية القدرة على المكلف به، ليمكن معها السعي إليه بتهيئة المقدمات، نظير الإرادة التكوينية التي لا تكون فعلية القدرة على المراد، ولذا عرفت بأنها الشوق المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد.

المناقشة فيه

وفيه: - مضافاً إلى عدم وضوح توقف الإرادة التكوينية على فعلية القدرة، بحيث لا تتعلق بالأمر الاستقبالي، وإلى إمكان السعي نحو المعلق بتهيئة مقدماته الاختيارية - أنه لا مجال لقياس الإرادة التشريعية التي هي المعيار في التكليف بالإرادة التكوينية، حيث سبق في بيان حقيقة التكليف اختلافهما سنخاً، وأن الإرادة التشريعية متقومة بالخطاب بداعي جعل السبيل المستتبع لحدوث الداعي العقلي للإطاعة، وعدم صحة الخطاب في المقام بنحو يدعو للمكلف به من غير حيثية المقدمة غير الاختيارية أول الكلام.

ومن هنا لم يتضح بعد ملاحظة كلماتهم في المقام والتأمل فيما ذكرنا ما ينهض بإثبات امتناع المعلق عقلاً.

نعم، قد يدعى لغوية البعث بالتكليف الفعلي ارتكازاً في ظرف تعذر الواجب وامتناع السعي إليه ولو بالشروع في مقدماته، حيث لا يكفي في

ص: 348

فعلية التكليف بالشيء فعلية تعلق الغرض به، ما لم يكن للتكليف به بالبعث إليه دخل في إحداث الداعي للسعي له.

الفرق بين المعلق ذي المقدمات غير الاختيارية وذي المقدمات الاختيارية

وبذلك يظهر الفرق بين المعلق الذي يتوقف على أمر غير اختياري، وغيره مما كانت جميع مقدماته اختيارية تحتاج إلى زمن، فإنهما وإن اشتركا في كون الواجب استقبالياً يتعذر تحصيله فعلاً، إلا أن إمكان السعي للثاني بالشروع في مقدماته كافٍ في الفرق بينه وبين الأول ارتكازاً ورفع لغوية التكليف به.

لكنه لا يخلو عن إشكال، حيث لا يبعد الاكتفاء في رفع اللغوية بإحداث الداعي لفعل الواجب في وقته.

ولاسيما مع أن المعلق إنما يتعذر السعي إليه من حيثية مقدمته غير الاختيارية، دون بقية المقدمات، سواءً كانت موسعة يتأتى فعلها بعد وقت الواجب - كالوضوء والتستر للصلاة - أم لا، كالمقدمات المفوتة التي لا إشكال في صلوح التكليف للداعوية إليها وفي لزوم تحصيلها، ولا يتضح مع ذلك لغوية فعلية التكليف بالمعلق.

بل لو كان لزوم تحصيل المقدمات المفوتة قبل الوقت موقوفاً على فعلية التكليف لكان وضوح لزوم تحصيلها كافياً في استيضاح فعليته، وفي إمكان المعلق ووقوعه، بل شيوعه.

إلا أنه حيث يأتي - إن شاء الله تعالى - عدم توقفه على ذلك إفتقر إثبات فعلية التكليف بالمعلق وعدم لغويته للرجوع للوجدان فيها بنفسها.

ولا يبعد قضاء الوجدان بها، كما قد يوضحه قياس التعذر حين حدوث التكليف بالتعذر بعد حدوثه، كما لو تعذرت بعض مقدمات الصلاة

ص: 349

بعد دخول وقتها بنحو يستلزم تأخيرها مدة في ضمن الوقت، أو تعذر قضاء الصلاة والصوم الثابتين في الذمة في وقت خاص لطاريء من حيض أو نفاس أو نحوهما.

فإن الالتزام بعدم فعلية التكليف في ذلك وسقوطه بالتعذر وتجدده بتجدد القدرة بعيد جداً عن المرتكزات، والفرق بين الحدوث والبقاء أبعد عنها.

وبالجملة: بعد عدم نهوض ما ذكروه بالاستدلال على امتناع المعلق عقلاً وإمكانه، فمرجع حديث اللغوية وعدمها إلى الرجوع للوجدان والتأمل في المرتكزات العرفية، وهي لا تثمر إلا قناعات شخصية غير قابلة للاستدلال والإلزام، إلا بنحو من التقريب للوجدان وتنبيه بعض التنظيرات ونحوها.

والظاهر - بعد التأمل في ذلك - عدم لغوية التكليف بالمعلق وإمكانه ووقوعه، بل شيوعه، لما ذكرنا، فلاحظ.

تنبيهان:

تنبيهان:

الأول: كفاية إحراز القدرة بأصالة السلامة في المعلق

الأول: حيث سبق عدم الإشكال في اعتبار أصل القدرة في التكليف، وأن البناء على إمكان المعلق راجع للاكتفاء بالقدرة الاستقبالية، فلو قيل به في مورد كانت فعلية التكليف مع التعذر الفعلي منوطة ثبوتاً بتحقق القدرة عليه في المستقبل، وإثباتاً بإحرازها بالعلم أو بطريق معتبر، ومنه أصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء، فيبنى لأجلها على فعلية التكليف ظاهراً، فيجب ترتيب آثارها عقلاً.

ص: 350

الثاني: عدم اختصاص ما ذكر بالواجب

الثاني: لا يختص ما ذكر بالواجب وان اقتصروا عليه في عنوان محل كلامهم - على ما هو ديدنهم في كثير من مباحث المقام - بل يجري في المستحب أيضاً، لأنه يشارك الواجب في اعتبار القدرة عليه من حيثية لغوية البعث نحو ما يتعذر تحصيله ويمتنع إحداث الداعي العقلي له، وإن لم يشاركه فيه من حيثية قبح التكليف بما لا يطاق، لفرض عدم ابتنائه على الإلزام المستتبع للإلزام والمؤاخذة.

كما يجري في المنهي عنه أيضاً، أما بلحاظ تعذر ترك المنهي عنه فلعين ما سبق في الواجب والمستحب، وأما بلحاظ تعذر فعله فلأن تعذر فعل الشيء يستلزم لغوية النهي عنه، لامتناع حدوث الداعي العقلي معه، ومثله الحال في الواجب بالإضافة إلى تعذر الترك، كما لا يخفى.

وحينئذٍ يجري الكلام السابق في أن المعتبر هو القدرة الفعلية أو ما يعم القدرة في المستقبل.

هذا، وأما اشتراط نفس الحكم فعدم اختصاصه بالوجوب وجريانه في جميع الأحكام التكليفية بل الوضعية ظاهر لا يحتاج إلى بيان.

المقام الثاني: في إحراز المعلق إثباتاً

المقام الثاني: في إحراز المعلق

وحيث كان المعيار فيه فعلية التكليف مع تعذر الواجب فلابد فيه من إحراز فعلية التكليف، ولو بإطلاق دليل الخطاب به.

ولو كان مقتضى الإطلاق عدم تقييد التكليف ولا الواجب لكن علم بتقييد أحدهما فقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره أن اللازم البناء على رجوعه للواجب الذي هو مفاد المادة، دون الوجوب الذي هو مفاد الهيئة، واستدل

ص: 351

على ذلك بوجهين. والظاهر عدم تماميتهما، وإن لم يسع المقام إطالة الكلام فيهما.

بل يتعين التوقف للعلم الإجمالي بتقييد أحد الإطلاقين المانع من حجية كل منهما.

بل لو كان القيد مذكوراً في الكلام وتردد بين الأمرين كان مانعاً من انعقاد كلا الإطلاقين، لأن إحتفاف الكلام بما يصلح للقرينة مانع من انعقاد الإطلاق، كما يمنع من انعقاد سائر الظهورات الأولية، على ما يأتي إن شاء الله تعالى في مبحث المطلق والمقيد، ومبحث الظواهر.

ما ذكره في الفصول من رجوع ظرف الزمان للواجب

نعم، ذكر في الفصول أن مقتضى القواعد العربية رجوع ظرف الزمان للمادة دون الهيئة المستلزم لكون الواجب معلقاً، قياساً على ظرف المكان، فكما أنه إذا قيل: صلِّ في المسجد، أو فوق السطح، كان ظاهراً في رجوع القيد للواجب مع إطلاق الوجوب، فيجب تحصيله مقدمةً للامتثال، كذلك إذا قيل: صم غداً، أو سافر في شهر رجب، كان ظاهراً في إطلاق الوجوب وفعليته قبل تحقق الخصوصية الزمانية، وكون القيد راجعاً للواجب، وإن لم يجب تحصيله، لخروجه عن الاختيار وكأنه لاتحاد هيئة ظرفي الزمان والمكان ارتكازاً المقتضي لاتحاد مفادهما ومتعلقهما في الكلام.

وبهذا فرق قدس سره بين ما إذا كانت الخصوصية الزمانية أو غيرها مأخوذة بلسان الظرف، وما إذا كانت مأخوذة شرطاً في جملة شرطية، حيث يتعيَّن رجوعها في الثاني للتكليف الذي هو مفاد الهيئة بمقتضى القواعد العربية، على ما سبق توضيحه في الواجب المشروط.

المناقشة فيه

لكنه يشكل: بالفرق بين ظرف الزمان وظرف المكان، لا من جهة

ص: 352

اختلاف مفاد هيئتيهما وضعاً، فإنه بعيد جداً بعدما سبق، بل لأنه لا معنى لظرفية المكان للحكم بل لا تكون ظرفية المكان من شؤون الحكم إلا بتأويل القضية الظرفية بقضية شرطية يكون الشرط فيها ظرفية الظرف للمكلف، بأن يرجع قولنا: صلِّ في المسجد - مثلاً - إلى قولنا: صلِّ إن كنت في المسجد، وهو تكلُّف مستبعد، فكان الأولى صرف الظرفية للمكلف به، بأن يكون الظرف متعلقاً به وقيداً له، فمرجع قولنا: صلِّ في المسجد، إلى قولنا: صلِّ صلاة واقعة في المسجد.

أما ظرفية الزمان فكما يمكن رجوعها للمكلف به يمكن رجوعها للحكم، فيتعين البناء على رجوعها إليه لو كان هو مقتضى الظهور الأولي، كما هو الظاهر.

ولذا كان هو ظاهر التركيب لو كانت الخصوصية الزمانية اختيارية، كما لو قيل: صل حين دخولك المسجد، أو وقت سفرك.

ومن ثَمَّ لا يكون التكليف فعلياً قبل تحقق الخصوصية، ولا يجب تحصيلها مقدمة لامتثاله.

وبعبارة أخرى: مقتضى الظهور الأولي للكلام رجوع الظرف - مطلقاً زماناً كان أو مكاناً - للحكم، وحيث لا ملزم بالخروج عن ذلك في ظرف الزمان كان هو مقتضى الظهور الفعلي، ولذا لا يجب تحصيل الخصوصية الزمانية لو كانت اختيارية.

أما في ظرف المكان فلابد من الخروج عنه، لإمتناع ظرفية المكان للحكم، حيث يكون ذلك قرينة عامة على إرجاعها للمكلف به بعد كونه أقرب عرفاً من تنزيل مفاد القضية الظرفية على مفاد القضية الشرطية التي

ص: 353

يكون الشرط فيها ظرفية الظرف للمكلف.

ثم إن ما ذكره قدس سره من اقتضاء القواعد العربية رجوع ظرف الزمان للمكلف به - لو تم - لا يقتضي كون الواجب معلقاً إلا بضميمة إحراز فعلية الوجوب الذي لا دليل عليه إلا إطلاق الهيئة، والتمسك به فرع إمكان الواجب المعلَّق، كما جرى عليه هو قدس سره.

أما لو كان ممتنعاً لدعوى اللغوية أو غيرها من المحاذير العقلية الارتكازية، فيكون ذلك قرينة عامة صارفة عن مقتضى الإطلاق، ولا يصلح الإطلاق للدلالة على إمكانه، لتوقف الإطلاق على عدم القرينة العامة الصارفة عن مقتضاه.

بخلاف ما سبق من اقتضاء القواعد العربية رجوع الشرط في الشرطية للهيئة، فإنه ظهور نوعي ارتكازي مستند للوضع لا يمكن عادةً قيامه على ما هو ممتنع في نفسه.

ولذا سبق منا الاستدلال به على إمكان تقييد الهيئة، وأنه يكشف عن خلل في وجه المنع إجمالا لو لم يتضح تفصيلاً، فهو كالشبهة في مقابل البديهة، فلاحظ.

ص: 354

المبحث الثالث في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى نفسي وغيري
اشارة

قسم الأصوليون الواجب إلى القسمين المذكورين، بسبب تعرضهم لذلك في مباحث الأوامر، واهتمامهم بخصوص الوجوب منها.

مع أنه لا إشكال في جريانه في المستحب.

بل الظاهر جريانه في الجملة في المحرم والمكروه، على ما يتضح في مبحث مقدمة الواجب إن شاء الله تعالى.

وهم وإن اختلفوا في تعريف كل من القسمين، إلا أن خلافهم ليس للخلاف في مصاديق كل منهما، بل في التعريف المطابق لها.

ولعل الأولى أن يقال: الأمر بالشيء إن كان لمقدميته لمأمور به فهو غيري، وإلا فهو نفسي، سواءً كان مسبباً عن حسن ذلك الشيء ذاتاً أم عرضاً، بلحاظ المصالح المترتبة عليه التي لا تكون بنفسها مورداً للتكليف.

وكذا الحال في النهي، فهو إن تعلق بالشيء لمقدميته لمنهيٍ عنه كان غيرياً، وإلا كان نفسياً.

والأمر سهل بعدما ذكرنا من أن النزاع في التعريف لا في المعرف.

ص: 355

هذا، والأمر والنهي الغيريان إنما يكونان منشأً لانتزاع التكليف الغيري المولوي بناءً على ثبوت الملازمة بين التكليف بالشيء والتكليف بمقدمته الذي يأتي الكلام فيه في مباحث الملازمات العقلية إن شاء الله تعالى.

وحيث يأتي هناك عدم ثبوت الملازمات المذكورة وأن المقدمة إنما تجب أو تحرم عقلاً لا شرعاً فلا تكليف غيري.

وأمر المولى بمقدمة المأمور به ونهيه عن مقدمة المنهي عنه لو صدر لا يكون بداعي التكليف، بل بداع آخر، كالإرشاد للإطاعة، أو لبيان المقدمية.

هل ظاهر الأمر والنهي مع التجريد عن القرينة يحمل على النفسي أم لا؟

إذا عرفت هذا، فيقع الكلام في أن ظاهر الأمر والنهي لو جردا عن القرينة هل يقتضي الحمل على كونهما نفسيين أو لا بل لا دافع لاحتمال كونهما مقدميين، سواء قلنا بثبوت التكليف الغيري للبناء على الملازمة، أم لم نقل، على ما سبق.

ما ذكره الخراساني قدس سره

وقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره أن مقتضى إطلاق الصيغة كون التكليف نفسياً، لما هو المعلوم من توقف التكليف الغيري بالمقدمة على فعلية التكليف النفسي بذيها، فلا يصح البعث إليها إلا مقيداً بذلك، وهو خلاف إطلاق الصيغة.

ولا يخفى أن ذلك لا يتجه لو احتمل كون الأمر أو النهي لبيان المقدمية، لوضوح أن المقدميَّة لو كانت لا تختص بحال دون حال، فيصح إطلاق البعث الوارد لبيانها، ولا تنافي إطلاق الصيغة.

إلا أن يُدفع الاحتمال المذكور بأن سَوق الأمر والنهي لبيان المقدمية

ص: 356

من سنخ الكنايات التي لا يحمل الكلام عليها إلا بالقرينة، لما تقدم من وضع صيغة الأمر والنهي للنسبة البعثية أو الزجرية، أو يدّعى خروج الاحتمال المذكور عن محل الكلام، وأن الكلام في فرض صدور الأمر والنهي بداعي البعث والزجر، مع التردد في حالهما وأنهما نفسيان أو غيريان.

المناقشة فيما ذكره قدس سره

فالعمدة في المقام: أن الوجه المذكور إنما يتم لو كانت الغيرية مستلزمة لتقييد البعث أو الزجر، لكون التكليف النفسي الذي تحتمل المقدمية بالإضافة إليه مشروطاً بشرط غير حاصل ولا مذكور في الخطاب، كما لو أطلق طلب الوضوء - الذي يحتمل كونه غيرياً بالإضافة إلى طب الصلاة - بنحو يتناول ما قبل الوقت، دون ما لو كان مشروطاً بشرطٍ حاصلٍ أو مذكور في الخطاب، كما لو أُمِرَ بعد الوقت بالكون على طهارة، أو أُمِرَ به مشروطاً بالوقت، حيث لا ينفع الوجه المذكور، لعدم منافاة الغيرية لإطلاق البعث حينئذٍ، كما هو ظاهر.

المختار في المقام

فالأَولى أن يقال: إنه وإن لم يكن في ذلك مجال للإطلاق المقابل للتقييد، إلا أنه يمكن إثبات كون الأمر نفسياً بالإطلاق السياقي للأمر، فإن المستفاد عرفاً من إطلاق الأمر بالشيء كونه بنفسه مورداً للغرض، بحيث يدعو أمره له استقلالاً، ويحصل الغرض الأقصى من الأمر بالإتيان به، ويسقط التكليف به تبعاً لذلك بلا حاجة إلى ضم شيء إليه، كما هو الحال في المأمور به النفسي، بخلاف المأمور به الغيري، لوضوح أنه لا يدعو إلى متعلقه إلا في طول داعوية الأمر النفسي إلى متعلقه، لأن الغرض منه في طول الغرض من المأمور به النفسي، فما لم يحصل المأمور به النفسي لا يسقط الأمر الغيري، إما لأن الأمر الغيري متعلق بخصوص المقدمة الموصلة -

ص: 357

كما هو الظاهر - أو لتوقف حصول الغرض الأقصى منه على ذلك، بنحو يكون سقوط الأمر بامتثاله مراعىً بحصوله، وهو خلاف المنسبق من الأمر ارتكازاً.

نعم، هذا الوجه كسابقه إنما يحرز كون الأمر نفسياً، ولا ينفي احتمال كون متعلقه مأموراً به غيرياً أيضاً، لكونه قيداً في الواجب النفسي، لإمكان اجتماع الجهتين في أمرٍ واحدٍ كصلاة الظهر المطلوبة نفسياً، وغيرياً بالإضافة إلى العصر، لأنها من قيودها، لوجوب الترتيب بينهما، ولا دافع للاحتمال المذكور إلا إطلاق دليل ذلك الواجب لو كان.

هذا كله في غير المسببات التوليدية التي لا تنفك عن أسبابها، ولا تنفك أسبابها عنها، كالوضوء والطهارة، فلو ورد الأمر بالسبب، وتردد بين مطلوبيته لنفسه ومطلوبيته غيرياً لأجل مطلوبية مسببه، فلا أثر عملي للشك المذكور، لا في السبب، لفرض ترتب غرضه عليه مطلقاً بسبب عدم انفكاكه عن مسببه، ولا في المسبب، لفرض عدم انفكاكه عن سببه، ليحتاج إلى تقييده به، فلا ينهض إطلاق كل منهما بإثبات أحد الأمرين أو نفيه.

نعم، قد يشعر التعبير بالسبب بمطلوبيته بعنوانه الأولي، لا الثانوي المنتزع من ترتب مسببه عليه. لكنه لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة. ولعله خارج عن محل الكلام، فلاحظ.

الكلام مع عدم إطلاق دليل الخطاب وله صور ثلاث

هذا كله مع ثبوت إطلاق لدليل الخطاب بالشيء وبما يحتمل مقدميته له، أما مع عدمه فالصور مختلفة.

مثلاً: إذا علم بوجوب الوضوء إما نفسياً أو غيرياً لمقدميته لقراءة القرآن بسبب تقييد الواجب منها به.

ص: 358

فتارةً: يعلم بعدم وجوب القراءة فعلاً.

وأخرى: يعلم بوجوبها.

وثالثة: يشك فيه.

لا إشكال في جريان البراءة في الصورة الأولى من وجوب الوضوء، للعلم بعدم فعلية وجوبه غيرياً بسبب عدم وجوب القراءة، فالشك في وجوبه نفسياً متمحض في الشك في التكليف الاستقلالي الذي هو مجرى البراءة بلا إشكال.

نعم، لو علم بوجوب القراءة بعد ذلك جرى حكم الصورة الثانية على ما يأتي توضيحه.

وأما الصورة الثانية فمرجعها إلى العلم بوجوب القراءة في الجملة إما مطلقةً أو مقيدةً بالوضوء، مع العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسياً أو تقييد القراءة الواجبة به، وحيث كان في كلٍ منهما زيادة كلفة مقتضى البراءة عدمها كان العلم الإجمالي المذكور منجزاً لكلا طرفيه، فيجب الفراغ عنهما بتقديم الوضوء على القراءة والإتيان بها حاله، ولا يُكتفى بالوضوء الذي لا تتحقق به القراءة عن طهارة، كما لو وقع بعدها أو تخلل بينهما الحدث.

ودعوى: جواز الاقتصار على الوضوء من دون محافظة على قيديته للقراءة، لأن العلم الإجمالي المذكور يستلزم العلم بوجوب الوضوء تفصيلاً وإن تردد بين كونه نفسياً وغيرياً، فينحل به العلم الإجمالي، ولا يكون منجزاً لاحتمال قيديته للقراءة.

مدفوعة: بأن وجوب الوضوء غيرياً كما يتفرع ثبوتاً على وجوب القراءة المقيد به نفسياً يتفرع عليه في مقام التنجيز، لما أشرنا إليه آنفاً من

ص: 359

تفرع داعوية الأمر الغيري المتعلقة على داعوية الأمر النفسي إلى متعلقه، وأنها في طولها، فلا يتنجز وجوب الوضوء على كل حال إلا بتنجز احتمال وجوبه غيرياً الموقوف على تنجز احتمال وجوب القراءة المقيدة به بسبب العلم الإجمالي، فلا يكون مانعاً من تنجزه.

وبعبارة أخرى: العلم بوجوب الوضوء على كل حال لا يكون منجزاً له إلا بمنجزية كل من احتمالي وجوبه النفسي والغيري، وحيث كان تنجز احتمال وجوبه الغيري متفرعاً على تنجز احتمال الوجوب النفسي للقراءة المقيدة به لا يكون مانعاً منه.

ونظير المقام ما لو عُلِمَ إجمالاً بوجوب الوضوء نفسياً أو الصلاة المقيدة به، حيث لا مجال لدعوى انحلاله بالعلم التفصيلي بوجوب الوضوء على كل حال إما نفسياً أو غيرياً، فيجتزأ به ولا يؤتى بالصلاة لعين ما ذكر.

هذا، وحيث كان التحقيق منجزية العلم الإجمالي في التدريجات يظهر أنه لا يعتبر العلم بفعلية وجوب القراءة في الحال، بل يكفي العلم بفعلية وجوبها بعد ذلك، المستلزم للعلم الإجمالي بأحد الأمرين من وجوب الوضوء نفسياً في الحال، ووجوب القراءة المقيد به بعد ذلك، فيتنجز كل منهما، كما أشرنا إليه في الصورة الأولى.

وأما الصورة الثالثة فحيث لا يعلم فيها بوجوب نفسي في الحال، لا للوضوء، لاحتمال كون الأمر به غيرياً، ولا للقراءة بالفرض المستلزم لعدم العلم بفعلية وجوب الوضوء الغيري فلا مانع فيها من الرجوع للبراءة من كلٍ من التكليفين.

ومجرد العلم بأنه لو وجبت القراءة في الحال لكان الوضوء واجباً

ص: 360

فعلاً نفسياً أو غيرياً لا يكفي في تنجز شيء من الأمرين بعد فرض عدم العلم بوجوب القراءة.

نعم، لو علِمَ بوجوبها بعد ذلك دخلت في الصورة الثانية، كما سبق.

وربما كانت في المقام صور أُخرى يظهر الحال فيها مما تقدم، ولا مجال لاستقصائها.

تذنيب: في استحقاق الثواب على الوجوب الغيري وعدمه

تذنيب:

أشرنا آنفاً إلى أن داعوية الأمر الغيري في طول داعوية الأمر النفسي، فلا بد في مقربية موافقته وتحقق الإطاعة بها من وقوعها بداعي امتثال الأمر النفسي، فتكون مقربيته بلحاظ كونه شروعاً في امتثال الأمر النفسي واستحقاق الثواب به بلحاظ ذلك، لا لكونه موجباً للاستحقاق بنفسه، لعدم قيام غرض به في قبال غرض الأمر النفسي. فزيادة الثواب به ليس لكونها عوضاً عنه في قبال عوضية أصل الثواب لامتثال الأمر النفسي، بل لامتثال الأمر النفسي بلحاظ طول مدة الاشتغال به، لما هو المرتكز من أن أفضل الأعمال أشقها.

نعم، ليس معنى استحقاق الزيادة به لزومها عقلاً على المولى، بحيث يكون حبسها ظلماً منه، نظير استحقاق الأُجرة على المؤجر. بل كون العبد أهلاً لها لقيامه بما هو موضوع للتعويض، ولذا يصدق عليها الثواب والأجر والجزاء على العمل.

وليست هي ابتداءٌ تفضل من المولى كتفضله بنعمة الخلق والرزق ونحوهما مما لا يصدق عليه الجزاء بل الظاهر أن ذلك هو مرجع الاستحقاق

ص: 361

على امتثال التكليف النفسي أيضاً، وليس هو لازماً على المولى، لأن لزومه لا يناسب وجوب الإطاعة على العبد، ولا هو ابتداء تفضل.

وقد يشير إلى الفرق بين الاستحقاق بالنحو الذي ذكرنا وابتداء التفضل قوله في الدعاء: «اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهلٌ أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كلَّ شيء».

ثم إنه تعرض غير واحدٍ في المقام لتوجيه اعتبار التقرب في الطهارات الثلاث، واستحقاق الثواب عليها بما لا مجال لإطالة الكلام فيه، وربما يفي البحث في الفقه ببعض ذلك. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.

ص: 362

المبحث الرابع في تقسيم المأمور به إلى تعييني وتخييري
اشارة

وموضوع هذا التقسيم في كلماتهم وإن كان خصوص الوجوب، إلا أنه ناشئ عن إهتمامهم به، وإلا فوضوح عمومه للاستحباب مانع من احتمال بنائهم على تخصيصه بالوجوب.

نعم، الظاهر عدم جريانه في النهي وإن جرى نظيره فيه على ما نتعرض له في ذيل هذا المبحث إن شاء الله تعالى.

وكيف كان، فالمراد بالمأمور به التعييني ما يتعلق به الأمر على نحو يقتضي تحقيقه بعينه من دون أن يقوم مقامه فيه بشيء آخر، كالصلاة والصوم والحج، وبالتخييري ما يتعلق به الأمر بنحو يقتضي الاجتزاء عنه بعدل له يقوم مقامه في امتثاله، كما في خصال الكفارة.

هذا، وحيث كان متعلق التكليف مطلقاً فعل المكلف الذي هو كلي ذو أفراد كثيرة يتحقق امتثاله بأي فردٍ منها من دون مرجح لبعض الأصناف أو الأفراد على بعض كان التكليف مطلقاً مبنياً على التخيير، لكن التخيير المذكور عقلي، ومحل الكلام التخيير الشرعي.

الفرق بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي

ومحصل الفرق بينهما: أن الغرض الداعي للتكليف إن كان قائماً بما

ص: 363

به الاشتراك بين الأطراف، بحيث يكون وافياً به، من دون دخل لما به الامتياز بينها فيه، بل هي مقارنة لموضوع الغرض لا غير، كان التكليف متعلقاً بما به الاشتراك بعينه، - وهو الجامع -، وكان التخيير بين الأطراف عقلياً، بملاك تحقق الإطاعة مع كلٍ منها، وقبح الترجيح من غير مرجح، من دون أن يستند للمولى، لأنه ليس من شؤون تكليفه.

وإن كان قائماً بما به الامتياز بينها على البدل - ولو بضميمة ما به الاشتراك - بحيث يكون لكلٍ منها دخل فيه حين وجوده لزم تعلق التكليف بها على نحو وفائها بالغرض، ويكون التخيير بينها شرعياً، لتبعيته لنحو تكليفه بها. وهو محل الكلام في المقام.

ولو فرض تعذر الخطاب تعييناً بالجامع في الأول لعدم إدراك العرف له تعين الخطاب بأفراده تخييراً.

لكن لا يكون التخيير شرعياً وإن أصر عليه بعض الأعاظم قدس سره، بل هو عقلي، لتبعية الحكم للملاك والغرض ثبوتاً، بل يكون الخطاب بالأفراد عرضياً للوصول بها للجامع الذي هو المكلف به ثبوتاً، ويكون التخيير عقلياً.

ما ذكره الخراساني قدس سره من المعيار في التخيير العقلي

ومن هنا ذكر المحقق الخراساني قدس سره أن التكليف التخييري لو كان ناشئاً عن غرضٍ واحد يقوم به كل واحد من الأطراف لزم كون التخيير عقلياً، لأن امتناع صدور الواحد عن المتعدد ملزم بكون الغرض الواحد مستنداً للجامع بين الأطراف من دون دخل لخصوصياتها المتباينة فيه، فيكون هو المكلف به تعييناً تبعاً للغرض المذكور، وليس ذكر الأطراف بخصوصياتها إلا لتعيينه وحصره، لا لقيام التكليف بها، ليكون التخيير شرعياً.

ص: 364

المناقشة فيه وتوجيه ما ذكره

لكن ما ذكره مبني على ما سبق منه في مبحث الصحيح والأعم من ملازمة وحدة الأثر لوحدة المؤثر، وقد سبق هناك الإشكال في وجهه، وأنه قد أنكره غير واحدٍ.

مع أنه لا يتم لو اختلف نحو تأثير كلٍ منهما في الغرض الواحد، كما لو كان غرض المولى إعداد الطعام للأكل، ليرفع به الجوع، فأمر بشراء طعام مطبوخ أو طبخ طعام مملوك، فإن أثر الأول رفع المانع الشرعي من الانتفاع بالطعام، وأثر الثاني تحقيق شرطه الخارجي، وهما مختلفان ماهيةً، وإن اشتركا في الغرض الأقصى المذكور الذي هو الملاك الداعي لجعل الحكم، فلا مانع من اختلاف مؤثر كلٍ منهما من دون أن يستند لجامعٍ واحد.

وكالتأديب والردع الذي يكون بمثل الصوم الموجب للألم البدني، وبمثل الصدقة والعتق الموجبين للخسارة المالية، مع عدم الجامع الماهوي بين الأثرين المذكورين.

اللهم إلا أن يكون ذلك خارجاً عن فرض وحدة الغرض في كلامه وداخلاً في فرض تعدده، الذي يكون التخيير فيه شرعياً عنده، بأن يريد من الغرض الأثر المباشر لكلٍ منهما الذي يراد من كل منهما في طول الغرض الأقصى، والمفروض تعدده فيهما وإن اشتركا في الغرض الأقصى المترتب بالواسطة، ولا يدخل في وحدة الغرض في مفروض كلامه إلا ما إذا اشتركا حتى في الغرض المباشر، كما لو خير في الفرض بين شراء الطعام واستيهابه، حيث يكون الغرض منهما والأثر المباشر لهما رفع المانع الشرعي.

لكنه بعيد جداً عن ظاهر كلامه، حيث جعل مورد التخيير الشرعي ما إذا تعدد الغرض وإمتنع حصول غرض كلٍ منهما في ظرف حصول غرض

ص: 365

الآخر، مع وضوح عدم امتناع حصول كلا الغرضين المستندين لكلا الطرفين بالمباشرة في المثال المتقدم، فلو لم يدخل في صورة وحدة الغرض لكانت القسمة غير مستوعبة، وهو بعيد.

ومن هنا كان الظاهر أن مراده بالغرض هو الغرض الأقصى الذي هو الملاك الداعي لجعل الحكم، والذي قد يكون واحداً، كما في المثال السابق، وقد يكون متعدداً يمتنع حصول أكثر من واحد منه، كما لو احتاج إلى استعمال دواء ينفع بصره وآخر ينفع سمعه، وكان استعمال أحد الدوائين مانعاً من تأثير الآخر وإن أمكن استعماله معه، فيتعين عليه الأمر بالإتيان بأحدهما تخييراً.

ما استشكله العراقي قدس سره في التخيير الشرعي مع تعدد الغرض ودفعه

نعم، استشكل بعض المحققين قدس سره في كون التخيير شرعياً مع تعدد الغرض وتعذر استيفاء أكثر من غرض واحد، بأن مرجع ذلك إلى التزاحم الملاكي، والتخيير فيه عقلي كالتخيير في التزاحم بين التكليفين المتساويين في الأهمية في مسألة الضد.

لكنه يندفع: بأنه مرجع التخيير العقلي في التزاحم بين التكليفين والتزاحم الملاكي - لو تم - إما إلى حكم العقل بالتخيير في قبال لزوم الجمع أو ترجيح أحد المتزاحمين بعينه واكتفاء الشارع بذلك من دون أن يتصدى للتخيير في مقام الجعل، أو إلى إدراك العقل تخيير الشارع في مقام الجعل جمعاً بين قدرة المكلف وقبح الترجيح بلا مرجح، من دون حاجة إلى بيان شرعي.

أما مرجع التخيير العقلي في المقام فهو التخيير في مقام الامتثال للتكليف بالقدر الجامع الذي يفي بالغرض من دون دخل للخصوصيتين

ص: 366

في المكلف به والغرض، ولو بنحو البدلية، في قبال التخيير الشرعي التابع لدخل الخصوصيتين في المكلف به بنحو البدلية تبعاً لدخلهما في الغرض - كما سبق - وإن كان التخيير الشرعي بالمعنى المذكور عقلياً بالمعنى الأول الراجع لحكم العقل بالتخيير أو إدراكه تخيير الشارع، لأن ذلك لا يستلزم عدم دخل الخصوصيتين في الغرض والمكلف به، بل هو يبتني على ذلك.

ما استشكله السيد الخوئي قدس سره

كما استشكل فيه بعض مشايخنا..

تارةً: بما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره - أيضاً - من أن تعدد الغرض بالنحو المذكور مستلزم لتعدد العقاب في صورة العصيان وعدم استيفاء كلا الغرضين، لتفويت كل منهما في ظرف القدرة على تحصيله لعدم الانشغال بالآخر.

وأخرى: بأن التضاد بين الغرضين إن رجع إلى أن سبق تحصيل أحدهما مانع من تحصيل الآخر مع إمكان تحصيلهما معاً دفعةً واحدة لزم على المولى الأمر بالإتيان بالطرفين دفعةً واحدة محافظةً على كلا الغرضين الإلزاميين.

وإن رجع إلى تعذر الجمع بينهما مطلقاً ولو مع الإتيان بالطرفين دفعة واحدة لزم عدم الامتثال بالإتيان بالطرفين دفعة واحدة، لامتناع وجود أحد الغرضين معه، لأنه بلا مرجح.

المناقشة فيه

لكن الأول يبتني على أن المعيار في تعدد العقاب على تعدد الغرض الفائت لا على قدرة المكلف على الجمع بين الغرضين، ويأتي في بحث الترتب إن شاء الله تعالى أن الحق الثاني.

وأما الثاني فهو يندفع: بأنه لما كان مقتضى الإطلاق تحقق الامتثال

ص: 367

بالجمع بين الطرفين كشف عن مرجح لأحدهما يقتضي تحقق الامتثال به عند الإتيان بهما دفعة، لأنه أسبق تأثيراً في غرضه من الآخر، فيمنع من تأثير الآخر في غرضه.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من استبعاد التزاحم بين الغرضين مع القدرة على الجمع بين الفعلين، وأنه من باب فرض أنياب الأغوال.

فهو استبعاد خالٍ عن المنشأ، إذ لا إطلاع لنا على خصوصيات ملاكات الأحكام الشرعية، ولاسيما مع قرب وقوعه في الأمور العرفية.

نعم، لا ملزم في فرض تعدد الإغراض بالتزام تعذر تحصيل أكثر من غرض واحد، حيث قد يكون منشأ التخيير مع تعدد الغرض وإمكان تحصيل الجميع وجود المانع من الإلزام بالجمع بين الأغراض، كالحرج النوعي، ومصلحة الإرفاق بالمكلف ونحوهما مما لا يتوقف على تعذر الجمع وبه لا يبقى موضوع للاستبعاد، لشيوع ذلك كثيراً، ولا للإشكالين المتقدمين من بعض مشايخنا.

إذ لا يكون كل منهما بنفسه غرضاً مستقلاً، بل ليس هناك إلا غرض واحد متعلق بهما بدلاً، فلا يفوت بتركهما معاً إلا غرض واحد فليس عليه إلا عقاب واحد.

كما لا مانع حينئذٍ من ترتب غرض كل منهما عند الجمع بينهما دفعةً أو تدريجاً وإن لم يكن لازماً.

دعوى: رجوع الغرضين إلى غرض واحد ودفعها

ودعوى: أن ذلك راجع إلى وحدة الغرض، وهو أحد الأمرين، لأن المراد بالغرض ليس مجرد المقتضي للتكليف، المفروض تعدده في المقام، بل ما يبلغ مرتبة الفعلية بلحاظ سائر الجهات الدخيلة في الملاك، ومنها مثل

ص: 368

مصلحة الإرفاق، وبلحاظ ذلك لا يكون الملاك إلا أحد الأمرين.

مدفوعة: بأن أحد الأمرين ليس عنواناً جامعاً حقيقياً ماهوياً، لتكون وحدته مستلزمة لوحدة المؤثر - بناءً على ما سبق من المحقق الخراساني قدس سره وهو الجامع بين الأطراف، كي يكون هو المكلف به، ويكون التخيير عقلياً، بل هو جامع انتزاعي يحكي عن كل من الغرضين بخصوصيتيهما المتباينتين، فالغرض الفعلي هو أحدهما على البدل، فلا يستلزم وحدة المؤثر وهو الجامع بين طرفي التخيير، بل يكون التخيير شرعياً بين الطرفين بخصوصيتيهما المؤثرين للغرضين بخصوصيتيهما.

وقد تحصَّل من جميع ما تقدم: أن التخيير الشرعي بالمعنى المتقدم لا يتوقف على ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من تعذر الجمع بين الغرضين، بل يجري معه ومع إمكان الجمع بينهما. كما لا يتوقف على ما ذكره من تعدد الغرض، بل يجري مع وحدته أيضاً.

الكلام في حقيقة الوجوب الغيري على أقوال

إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم في حقيقة الوجوب التخييري على أقوال قد تظهر الثمرة بينها في فرض الشك في كون الوجوب تخييرياً، على ما تعرضنا له في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين.

ويجري نظيرها في الاستحباب التخييري وإن كان خارجاً عن عنوان كلامهم.

الأول: ما يظهر من الخراساني قدس سره

الأول: ما يظهر من من المحقق الخراساني قدس سره من أنه سنخ خاص من الوجوب مباين للوجوب التعييني سنخاً ثابت لجميع أطراف التخيير، فلكل منها وجوبه الخاص به، يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر، وترتب الثواب على فعل الواحد منها والعقاب بتركها بتمامها، لا أن

ص: 369

الوارد عليها بمجموعها وجوب واحد يقتضي التخيير بينها في مقام العمل.

ولعله راجع إلى ما أوضحه بعض الأعيان من المحققين قدس سره ونسبه المحقق القمي في حاشيته على المعالم من أن الوجوب التخييري طلب ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة لمتعلقه لا تقتضي وجوده إلا في ظرف عدم الآخر، بخلاف الطلب التعييني، فإنه طلب تام ناشئ عن إرادة تامة لمتعلقه تقتضي وجوده مطلقاً ومن جميع الجهات.

المناقشة فيه

ويشكل: بعدم وضوح الفرق بين التكليف التعييني والتخييري سنخاً، كعدم وضوح تعدد التكليف التخييري بعدد الأطراف، وعدم تعقل الطلب الناقص والإرادة الناقصة، بل الإرادة والطلب مطلقاً يقتضيان تحقيق متعلقهما، وهما على نحوٍ واحد في التعييني والتخييري وليس التخيير ناشئاً من اختلاف سنخ الطلب، بل من اختلاف نحو تعلقه بمتعلقه.

هذا ما تقتضيه المرتكزات العرفية في المقام التي ينحصر المرجع في أمثاله بها.

الثاني: رجوعه إلى وجوب كل طرف تعييناً مشروطاً بعدم الآخر

الثاني: أنه راجع إلى وجوب كل طرف تعييناً، لكن وجوب كل منها مشروط بعدم فعل الآخر.

والظاهر أنه لا يُفرَق في ذلك بين وحدة الغرض وتعدده مع عدم التكليف بما يحصل الغرضين لتعذر إستيفائهما، أو للمانع من التكليف بالجمع بينهما، على ما سبق في بيان مورد التخيير الشرعي.

إذ مع وحدة الغرض لا ينحصر تحصيله بكل طرف إلا في ظرف عدم غيره فلا يدعو الغرض للتكليف به إلا مشروطاً بعدم حصول غيره، ومع تعدده لا يكون كل غرض فعلياً قابلاً للتكليف بما يحصِّله تعييناً إلا في ظرف

ص: 370

عدم حصول غيره، لعدم تحقق ما يحصِّله، فلا يدعو كل غرض للتكليف بما يحصِّله إلا مشروطاً بذلك.

دعوى: لزوم الجمع بين طرفين دفعةً واحدةً ودفعها

وأما دعوى: أن لازمه كون الجمع بين طرفين دفعةً واحدةً لتكليفين، لتحقق شرط فعليتهما معاً في ظرف موافقتهما، فيتحقق امتثالهما، ولازمه استحقاق المكلف ثوابين ولا يظن من أحد الالتزام بذلك، بل هو ارتكازاً كالجمع بين فردين من الماهية المأمور بها تعييناً، لا يستحق به إلا ثواب واحد.

فقد تندفع: بأن تعدد الامتثال إنما يوجب تعدد الثواب مع تعدد الغرض الحاصل، أما مع وحدته، لوحدة الغرض الداعي للتكاليف أو لتعذر تحصيل أكثر من واحد منها، فلا مجال لتعدد الثواب، لتبعية الثواب للغرض لا للتكليف.

نعم، يشكل فيما إذا أمكن تحصيل جميع الأغراض وكان عدم الإلزام بالجمع بينها للمانع، لوضوح أنه مع فعلية التكليف بكل طرف لفعلية غرضه وحصوله بالامتثال لا وجه لوحدة الثواب.

الثالث: رجوعه إلى وجوب كل من الأطراف تعييناً مطلقاً

الثالث: أنه راجع إلى وجوب كل من الأطراف تعييناً مطلقاً، مع كون امتثال بعضها مسقطاً للتكليف بالباقي، حيث قد يسقط التكليف بغير الامتثال لارتفاع موضوعه ونحوه.

المناقشة فيه

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدم في سابقه من استلزامه تعدد الامتثال والثواب على ما فُصِّل - أنه مع إمكان استيفاء غرض الباقي وعدم المانع من بقاء التكليف به لا وجه لسقوطه، ومع تعذر استيفاء غرضه أو تحقق المانع من بقاء التكليف به - كالحرج النوعي - لا وجه لإطلاق التكليف به من أول

ص: 371

الأمر، بل لابد من تقييد التكليف به بالنحو المناسب لغرضه، نظير ما تقدم في الوجه الثاني، كما أورد به في الجملة المحقق الخراساني قدس سره.

هذا، مضافاً إلى أن ما يبتني عليه هذا الوجه وسابقه من تعدد التكليف المستلزم لتعدد الامتثال في ظرف الإتيان بالفعلين دفعةً واحدة - ولو مع وحدة الثواب - بعيد عن المرتكزات العرفية، تبعاً لظهور الأدلة اللفظية الظاهرة في وحدة التكليف مع التخيير في المكلف به، كما هو مفاد العطف ب (أو) أو نحوه، لا في تعدد التكليف، فلا مجال لارتكابه إلا مع امتناع الحمل على الظاهر المذكور. وربما يأتي لذلك توضيح في الوجه الخامس.

الرابع: أنه أحد الأطراف المعين عند الله تعالى

الرابع: أن المكلف به أحد الأطراف المعين عند الله تعالى، وهو الذي يأتي به المكلف في مقام الامتثال.

وهو وإن أمكن عقلاً لو أريد به ظاهره من تعين المكلف به ثبوتاً ابتداءً وليس إتيان المكلف بأحد الأطراف إلا كاشفاً عن كونه هو المكلف به في حقه والذي يفي بالغرض، حيث لا يلزم منه تبعية التكليف للامتثال، ولا عدم تعين المكلف به على تقدير عدم إتيان المكلف بشيءٍ من الأطراف أو جمعه بينها دفعة المستلزم لعدم التكليف.

وإنما يرد ذلك لو أريد استناد التعيين لفعل المكلف ثبوتاً، الذي هو خلاف ظاهر هذا القول.

المناقشة فيه

إلا أنه مخالف لظواهر الأدلة، ولما هو المقطوع به في حقيقة التكليف التخييري في العرفيات، فإن مقتضاهما عدم الفرق بين الأطراف في نسبة التكليف، وعدم الفرق بين أفراد المكلفين في المكلف به منها.

وكأن ذلك هو الذي أوجب وهن القول المذكور حتى قيل: إنه تبرأ

ص: 372

منه كل من المعتزلة والأشاعرة ونسبه إلى الآخر.

ومثله في ذلك ما قيل من أن الواجب أحد الأطراف المعين عند الله تعالى، ولا يتعين إثباتاً حتى بفعل المكلف، وإنما الآخر مسقِط له من دون أن يكون مكلفاً به في عرضه، نظير طلاق الزوجة المسقط لوجوب الإنفاق عليها.

مضافاً إلى ما يرد عليهما: من أن اللازم عدم وجوب الإتيان بالممكن منهما عند تعذر أحدهما، لعدم العلم بكونه مكلفاً به، وعدم وجوب فعل المسقِط عند تعذر المكلف به.

الخامس: رجوعه إلى التكليف بأحد الأمرين لا بعينه

الخامس: أن مرجعه إلى التكليف بأحد الأمرين لا بعينه من دون أن يكون لأحدهما اختصاص به في مقام الثبوت، خلافاً للوجه السابق، كما لا يختلف عن التعييني سنخاً، خلافاً للوجه الأول، ولا يكون متعدداً بعدد الأطراف، خلافاً للوجوه الثلاثة الأُوَلْ.

هذا وقد أشرنا إلى أن عنوان أحد الأمرين منتزع من الأمرين بخصوصيتيهما، ويحكى عنهما كذلك بنحو الترديد، من دون أن يحكي تعييناً عن جهة مشتركة بينهما، كما هو الحال في العناوين الذاتية - كالإنسان والحيوان - والعرضية الحقيقية - كالعالم - أو الاعتبارية - كالزوج - أو الانتزاعية - كالفوق - حيث تنتزع بأجمعها من جهة مشتركة بين الأفراد.

ومن هنا لا يكون عنوان أحد الأمرين بنفسه مورداً للغرض ولا للإرادة ولا للتكليف، بحيث يكون هو المكلف به تعييناً ويكون التخيير بين الأطراف عقلياً، كما قد يظهر من بعض كلماتهم.

وحينئذٍ لا مجال لإرجاع هذا الوجه إليه، المستلزم لعدم الفرق بين

ص: 373

التخييري والتعييني إلا في المتعلق، حيث يكون متعلق التعييني عنواناً منتزعاً من جهة مشتركة بين الأطراف، ومتعلق التخييري عنوان أحدها.

ما ذكره السيد االخوئي قدس سره والمناقشة فيه

وما ذكره بعض مشايخنا من إرجاع التكليف التخييري لذلك لدعوى أن الوجوب لما كان أمراً اعتبارياً أمكن تعلقه بالعناوين الانتزاعية، كما ترى! لأنه مع عدم وجود منشأ انتزاع للعنوان لا يكون موطناً للغرض، ليكون مورداً للتكليف.

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من إمكان التكليف بالمفهوم المذكور وإن لم يكن له منشأ انتزاع موجود في الخارج.

رجوع الوجه المذكور إلى تعلق التكليف بمصداق أحدهما

هذا مضافاً إلى أن عنوان أحد الأمور كثيراً ما لا يؤخذ في موضوع التكليف التخييري، بل يرد التكليف على الأطراف بخصوصياتها مع العطف بينها ب (أو) التي لا تفيد مفهوماً اسمياً صالحاً لأن يكون متعلق التكليف، مع وضوح عدم الفرق بين المفادين، الكاشف عن عدم كون المراد - في صورة أخذه - تعلق التكليف به، بل محض العبرة به لبيان التعلق بالأطراف بالنحو الذي يؤديه العطف ب (أو).

فلابد من رجوع هذا الوجه إلى تعلق التكليف بمصداق أحدهما - كما ذكره بعض الأعاظم قدس سره - بمعنى تعلقه بكل من الخصوصيتين بنحوٍ خاص من التعلق يقتضي التخيير بينهما في مقام العمل والاكتفاء بكل منهما بدلاً.

فالفرق بينه وبين التكليف التعييني في المتعلق وكيفية التعلق، فمتعلق التعييني واحد، ومتعلق التخييري متعدد، وتعلق التعييني بالواحد بنحو يصح نسبة التكليف إليه ويقتضي تحقيقه لا غير، وتعلق التخييري بالمتعدد بنحو يقتضي تحقيق طرف منه على البدل من دون أن يصح نسبته إليه إلا مع بقية

ص: 374

الأطراف بنحو البدلية.

وكأنه إليه يرجع ما قيل: من تعلقه بالواحد المردد، وإلا فالترديد، ظاهر في الإبهام، الممتنع ثبوتاً والممكن إثباتاً، وهو مباين للتخيير سنخاً.

ومن هنا لا مجال لرده بامتناع البعث نحو المردد كما لا تتعلق الإرادة به، إذ لو أريد بالبعث نحو المردد البعث نحو المبهم فليس منه المقام، وإن أريد به البعث التخييري فامتناعه أول الكلام.

نعم، يمتنع البعث الخارجي نحو المردد، لأنه إضافة شخصية متقومة بأطرافها من الباعث والمبعوث والمبعوث إليه، فمع عدم تشخص بعضها فلا تتشخص، فلا توجد. ولذا لا يتعلق بالجزئي، مع تعلق البعث الاعتباري بالكلي.

دعوى امتناع تعلق التكليف بأحد الأمرين بنحو الترديد

هذا، وقد يدعى امتناع تعلق التكليف بأحد الأمرين بنحو الترديد والتخيير، لأنه ناشئ عن الإرادة التشريعية، وهي لا تتعلق إلا بالمعين، فتقتضي تحقيقه تعييناً، قياساً على الإرادة التكوينية التي لا تتعلق إلا بالمعين القابل للإيجاد، فتقتضي إيجاده.

لكن بعض الأعاظم قدس سره منع من قياس الإرادة التشريعية بالتكوينية في ذلك، لأن الإرادة التكوينية لما كانت علة لإيجاد المراد لزم كون متعلقها معيناً قابلاً للإيجاد خارجاً، بخلاف التشريعية لتبعيتها للغرض سعةً وضيقاً، وبهذا اختلفا في تعلق الثانية بالكلي، دون الأولى.

المختار في المقام

والذي ينبغي أن يقال: الإرادة التكوينية في مرتبة الغرض تابعةً له سعةً وضيقاً وتعييناً وتخييراً، فكما تتعلق تعييناً بالكلي الواحد ذي الخصوصيات الفردية المتكثرة، لوفائه بالغرض، كذلك تتعلق بالأكثر بنحو التخيير والبدلية

ص: 375

تبعاً لنحو دخله في الغرض.

نعم، في مرتبة تحقيق المراد لا تكفي الإرادة المذكورة بأحد النحوين، بل لابد من أن ينضم إليها اختيار إحدى الخصوصيات تعييناً من الكلي الواحد الذي تعلق به الغرض والإرادة تعييناً، أو من أحد الكليات المتعددة التي تعلق بها الغرض والإرادة بنحو التخيير والبدلية.

لكن اختيار الخصوصية تعييناً في المقام المذكور ليس ناشئاً من الغرض الأول، بل من جهات خارجية زائدة عليه، ككون الخصوصية المذكورة أسهل أو أفضل أو غيرهما.

وهذا لا ينافي تحقق الإرادة التكوينية الناشئة عن الغرض وبقائها على سعتها بالنحو السابق، ولذا قد تتمحض في الداعوية للسعي نحو الامتثال بفعل المقدمات المشتركة قبل الاحتياج للتعيين.

مثلاً: لو أراد الشخص شراء الطعام تعييناً أو أراد شراء الفراش أو بيع الثياب بنحو التخيير والبدلية، لغرضٍ قائم بأحد النحوين، ولم يحدد ما ينبغي اختياره من الخصوصيات، فإنه قد يذهب للسوق الذي هو مقدمة مشتركة بين الخصوصيات مندفعاً عن الإرادة المفروضة بأحد النحوين محضاً، فإذا وصل إلى السوق وصار في مقام تحقيق ما أراده تبعاً لغرضه فلابد له من اختيار إحدى خصوصيات الطعام في الفرض الأول، أو اختيار إحدى الخصوصيات من أحد الأمرين من البيع والشراء في الفرض الثاني، لأمرٍ زائدٍ على الغرض الذي تسببت عنه الإرادة الأولى، ككون ما يختاره أسهل أو أنفع له أو لمن يهمه أمره أو نحو ذلك. هذا في الإرادة التكوينية.

أما الإرادة التشريعية فمن الظاهر أنها - بأي معنى فسرت - لما كانت

ص: 376

مسببة عن الغرض فهي نظير الإرادة التكوينية التي تكون في مرتبة تعلق الغرض، تابعة له سعةٍ وضيقاً وتعييناً وتخييراً، وليست نظير الإرادة التكوينية التي تكون في مرتبة تحقيق المراد، بل ليس النظير لها إلا الإرادة الحاصلة من المكلف حين الامتثال، والتي هي مسببة عن التكليف لا منشأ له.

ومما ذكرنا يظهر أن ما سبق من منع تعلق الإرادة التشريعية بالمتعدد بنحو الترديد، والتخيير، قياساً على الإرادة التكوينية، وما سبق من بعض الأعاظم قدس سره من الفرق بين الإرادتين، ناشئان عن الخلط بين الإرادة التكوينية التابعة للغرض، والإرادة الحاصلة حين تحقيق المراد.

ومن هنا لا مخرج عما هو ظاهر الأدلة من تعلق التكليف التخييري بالأطراف بخصوصياتها المتباينة بنحو البدلية والتخيير.

بل لما كان الظهور المذكور نوعياً ارتكازياً كان بنفسه صالحاً لدفع بعض التوهمات والشبه المنافية له والكشف عن خلل فيها إجمالاً، فلاحظ.

بقي أمور:

بقي في المقام أمور:

الأول: مقتضى الإطلاق كون الأمر تعيينياً

الأول: من الظاهر أن مقتضى الإطلاق البناء على كون الأمر بالشيء تعيينياً، سواء إسُتفيد الأمر من هيئة إفعل أو نحوها، أم من مادة الأمر أو الوجوب أو الأستحباب أو نحوها من المفاهيم الاسمية.

لكن لا بمعنى الإطلاق المقابل للتقييد كما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره وغيره، بل بمعنى ما يستفاد من الكلام مع التجرد عن القرينة، لما أشرنا إليه من أن نحو تعلق الأمر التخييري بمتعلقه يقتضي عدم نسبته لبعض الأطرف، بل لتمامها بنحو يفيد التخيير، فالاقتصار على نسبته للواحد

ص: 377

ظاهر في التعيينية.

وكذا الحال بناءً على الوجه الأول، لأن سنخ الوجوب التخييري الذي عَبَّر عنه بالطلب الناقص يبتني على نحو عنايةٍ لا يحمل عليها الكلام إلا بالقرينة.

نعم، بناءً على الوجه الثاني يكون ذلك مستفاداً من الإطلاق المقابل للتقييد، إذ لا يكون الأمر بالشيء تخييرياً إلا إذا كان مقيداً بعدم فعل بقية الأطراف، الذي هو خلاف مقتضى إطلاق الهيئة أو نحوها مما يدل على الأمر.

وكذا على الوجه الرابع المبتني على رجوع الأمر التخييري إلى وجوب المعين عند الله تعالى الذي يفعله المكلف لوضوح أنه عليه يلزم اختلاف أفراد المكلفين فيما هو الواجب من الأطراف، فإذا ورد الأمر بشيء كان مقتضى إطلاق الموضوع اشتراك جميع المكلفين في المأمور به.

أما بناءً على الوجه الثالث فلا ينهض الإطلاق ابتداءً بنفي كون الوجوب تخييرياً، لابتناء الوجوب التخييري عليه على كون وجوب كل طرفٍ مطلقاً، وأن سقوطه بالطرف الآخر ليس لكونه مقيداً بعدم فعله.

نعم، ينهض بنفي لازمه وهو السقوط بفعل الطرف الآخر، لأن مقتضى الإطلاق الأحوالي بقاء التكليف بعد فعل الطرف الآخر، المستلزم لعدم كونه تخييرياً.

مع أن سقوط الأمر بغير الامتثال مع فرض إطلاقه - لو أمكن - فهو خلاف الأصل فيه، لأن الأمر يدعو إلى متعلقه. فلاحظ.

هذا إذا كان الأمر وارداً لبيان الحكم الكلي بنحو القضية الحقيقية،

ص: 378

أما إذا كان وارداً لبيان الحكم الشخصي في قضية خارجية، وأحتمل كونه تخييرياً وإنما اقتصر على بعض الأطراف لتعذر غيره على الشخص المذكور، فلا مجال للتمسك بأحد الوجوه المتقدمة لإثبات كونه تعيينياً بحسب أصل الجعل، بعد فرض عدم تصدي المتكلم لبيان الحكم بحسب أصل الجعل.

لكن حمل الخطاب في القضايا الشرعية على القضية الشخصية الخارجية مخالف للظاهر، لأن الخطاب وإن كان كثيراً ما يوجّه لشخصٍ خاصٍ إلا أن المفهوم منه عدم خصوصيته في الحكم، بل يشاركه فيه كل واجدٍ للجهة المشار إليها في موضوع الحكم.

ثم إنه لو فقد الإطلاق فالكلام في أن مقتضى الأصل التعيين أو التخيير موكول إلى مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، لشدة ارتباطه بها، فلا مجال معه لإطالة الكلام فيها هنا.

الثاني: في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر وعدمه

الثاني: وقع الكلام بينهم في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر، وربما يمنع بأنه بعد وجود الأقل ووفائه بالغرض وسقوط الأمر به لا مجال لدخل الزائد في الامتثال.

ومنه يظهر اختصاص الكلام بما إذا كان الإتيان بالزيادة بعد تمامية الأقل، دون ما إذا كانت في أثنائه - كما في التخيير بين القصر والتمام، حيث يؤتى بالركعتين الأخيرتين قبل التسليم الذي تتم به الصلاة المقصورة - أو مصاحبةً له - كالتخيير بين كتابة القرآن فقط وكتابته مع قراءته دفعةً - لعدم تحقق الأقل الذي يسقط به الأمر إلا مع الزيادة، فلا محذور في استناد الامتثال إليهما في ظرف اجتماعهما، وإن كان الأقل وحده صالحاً لأن يتحقق به الامتثال، فيخير بينهما وبين الأقل وحده في مقام الأمر.

ص: 379

فما قد يظهر من بعض كلماتهم من عموم الكلام لذلك لعله في غير محله.

دعوى: عدم دخل الزيادة في الامتثال بعد وفاء الأقل

ودعوى: أنه لا مجال لدخل الزيادة في الامتثال بعد فرض وفاء الأقل به، لترتب الغرض عليه دونها، بل لابد من كونها خارجةً عنه مطلقاً ولو لم يكن الإتيان بها بعد الفراغ منه.

نعم، لو كانت الزيادة فرداً آخر من أفراد المأمور به صالحةً لأن يترتب عليها الغرض ويتحقق بها الامتثال - كما لو أمر بالضرب، فضرب شخصين دفعةً واحدةً - تعين استناد الامتثال للفردين في ظرف اجتماعهما، لعدم المرجح.

دفع الدعوى المذكورة

مدفوعة: بأن وفاء الأقل بالغرض وتحقق الامتثال به حين الإتيان به وحده لا ينافي عدم وفائه به حين الإتيان به مع الزيادة، بل يستند إليهما معاً حين اجتماعهما، ولا وجه مع ذلك لاستناد الامتثال لخصوص الأقل، بل يتعين استناده لهما، لابتناء الأمر على التخيير بينهما معاً وبين الأقل وحده، تبعاً لنحو ترتب الغرض عليهما.

وبالجملة: ما ينبغي الكلام فيه صورة الإتيان بالزيادة بعد تمامية الأقل الصالح لأن يفي بالغرض ويتحقق به الامتثال، كالتخيير بين صوم يوم واحد وصوم يومين، بلحاظ المحذور المتقدم.

والظاهر اندفاع المحذور المذكور: بأن الملاك الموجب للتكليف بالفعل لا يلزم أن يكون هو أثره المترتب عليه بالمباشرة والمسبب التوليدي له، كانكسار الزجاج المترتب على ضربه بالحجر، بل هو الغرض الأقصى الذي قد لا يترتب عليه إلا بوسائط ومقدمات متعددة، كالأكل المترتب

ص: 380

على شراء الطعام، وحينئذٍ يمكن أن يكون ترتب الغرض الأقصى على الأقل مشروطاً بعدم انضمام الزائد إليه، أما مع انضمامه إليه ولو بعد وجوده فالغرض الأقصى يستند إليهما معاً، ولا وجه مع ذلك لاختصاص التكليف بالأقل وحده وكونه تعيينياً، بل لابد من التخيير بينه وبين الأكثر، تبعاً لنحو ترتب الغرض عليهما.

ما ذكره السيد الخوئي قدس سره في ذلك

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من رجوع ذلك في الحقيقة إلى التخيير بين المتباينين، لأن الأقل حينئذٍ مقيد بعدم كونه في ضمن الأكثر، فيباين الأكثر.

المناقشة فيه

ففيه: أن دخوله في التخيير بين المتباينين لا ينافي امتناعه للوجه المذكور واحتياج إمكانه لدفعه بما تقدم، والمراد بالتخيير بين الأقل والأكثر ذلك، بل لا يكون إلا كذلك، وإلا فلو أُخذ الأقل لا بشرط، بحيث يترتب الغرض عليه وحده سواءً كانت الزيادة معه أم لم تكن، لم يكن من التخيير بين الأقل والأكثر، بل بين المطلق والمقيد الذي لا إشكال في امتناعه، لتحقق المطلق في ضمن الواجد للقيد، فمع وفائه بالغرض بنفسه يكون دخل القيد فيه خُلفاً.

وبعبارةٍ أخرى: المراد من الأقل والأكثر ما ينتزع من الأجزاء الخارجية في مقابل المتباينين بالإضافة إليها كالعتق والصدقة، لا ما ينتزع من الجزء التحليلي، - وهو التقييد -.

فما ذكره أشبه بالإشكال اللفظي.

وإن كان يحسن ملاحظة كلامه، حيث قد يظهر منه منع ما ذكرناه من التخيير بالنحو السابق واختصاص الممكن بمثل التخيير بين القصر والإتمام

ص: 381

الذي لا يمكن فيه إلحاق الزيادة بعد الفراغ من الأقل، فينهض ما سبق منا بدفعه، فتأمل جيداً.

لزوم القرينة على الحمل على التخيير المذكور

ثم إن التخيير المذكور لما كان على خلاف المتعارف ولم تأنس به أذهان العرف كان الحمل عليه محتاجاً إلى عناية وكان الأظهر عرفاً حمل دليل التخيير بين الأقل والأكثر على أفضلية الزيادة، سواءً كانت من سنخ الأقل كالصوم يوماً أو يومين، أم من غير سنخه كالصلاة مع التعقيب أو بدونه، فضلاً عما إذا لم يكن الدليل بلسان التخيير، بل كان الأمر بكلٍ منهما بلسان ظاهر في التعيين، حيث لا يجمع بينهما بالحمل على التخيير، بل على الأفضلية.

بل لعل ذلك يجري - أيضاً - فيما إذا كان الإتيان بالزيادة قبل الفراغ من الأقل الذي عرفت أنه خارج عن محل الكلام، حيث يكون الأقرب الحمل على أفضلية الأكثر وإن كان طرفاً للتخيير، لعدم سقوط الأمر إلا بإتمام العمل.

نعم، قد يشكل في مثل القصر والإتمام مما كان مقتضى الأصل أو الدليل مبطلية الزيادة، حيث يكون المتيقن من التخيير فيه بيان مشروعية الأكثر وإجزائه، ولا مجال لاستفادة أفضليته إلا بدليلٍ خاص.

إمكان التخيير بين الأقل والأكثر عقلياً

ثم إن التخيير بين الأقل والأكثر كما يكون شرعياً، لكون كل منهما دخيلاً بخصوصيته في ترتب الغرض الواحد أو المتعدد، يكون عقلياً، كما لو كان الأثر مستنداً لجهة مشتركة تصدق على الكثير بعين صدقها على القليل، كعنوان الجماعة والورد ونحوهما.

وقد سبق أن هذا هو المعيار في الفرق بين التخييرين، ولا يناط بما

ص: 382

ذكره المحقق الخراساني قدس سره من تعدد الغرض ووحدته.

الثالث: التخيير بين الأقل والأكثر في النهي

الثالث: من الظاهر أنه كما يمكن كون الملاك الموجب للأمر بنحو يقتضي الاكتفاء بأحد الأمرين، فيكون الأمر تخييرياً، كذلك يمكن كون الملاك الموجب للنهي مقتضياً للاكتفاء بترك أحد الأمرين، لكنه لا يوجب النهي التخييري، لعدم مناسبة التخيير للنهي عرفاً، بل يوجب النهي عن الجمع بين الأمرين.

نعم، يمكن كون الترخيص تخييرياً، كما فيما لو كان ناشئاً عن مصلحة مخرجة عن مقتضى الحكم الأولي، تقتضي الترخيص في فعل أحد الأمرين دون الجمع بينهما، ولا يكون الترخيص الناشئ عن عدم المقتضي.

والنهي عن الجمع والترخيص التخييري وإن كانا متفقين عملاً، إلا أنهما يختلفان منشأ ومورداً، فإن كان مقتضى الحكم الأولي الترخيص في الأطراف لولا المفسدة المانعة من الجمع بينها لزم الأول، كما في النهي عن الجمع بين الأختين في النكاح، وإن كان مقتضى الحكم الأولي المنع من الأطراف لولا المصلحة المقتضية للترخيص في أحدها لزم الثاني، كما في التخيير بين القصاص وأخذ الديَّة.

ص: 383

المبحث الخامس في تقسيم المأمور به إلى عيني وكفائي
اشارة

وهذا التقسيم كسابقه في عدم الاختصاص بالوجوب، بل يعم الاستحباب وإن قصرت عنه عناوينهم، كما لا يجري في النهي، بل يجري نظيره، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

وكيف كان، فالمراد بالعيني ما يطلب فعله من جميع المكلفين، بنحو لا يغني امتثال أحدهم عن امتثال غيره، بل لكل منهم امتثاله ومعصيته، كالصلاة والصوم، وبالكفائي ما يُكتفى فيه بامتثال بعض المكلفين، ولو تركه الكل لعوقبوا عليه، كالصلاة على الميت.

في حقيقة الوجوب الكفائي

وقد اختلفوا في حقيقة الوجوب الكفائي - الذي هو موضوع كلامهم - على أقوال يجري نظيرها في الاستحباب.

الأول ما يظهر من الخراساني قدس سره والمناقشة فيه

الأول: ما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من أنه سنخ خاص من الوجوب يعرف بآثاره، نظير ما سبق منه في الوجوب التخييري.

ويشكل بنظير ما سبق هناك من عدم وضوح الفرق بين الوجوب العيني والكفائي سنخاً.

الثاني: أنه عبارة عن تعدد الوجوبات بتعدد المكلفين

الثاني: أنه عبارة عن وجوبات عينية بعدد أفراد المكلفين يكون بقاء

ص: 384

كل منها مشروطاً بعدم امتثال غيره لتكليفه، فمع امتثال أحدها من أحدهم تسقط بقيتها عن غيره، نظير ما سبق في الواجب التخييري.

وبهذا البيان يتضح أنه لو انشغل به أكثر من واحد وفرغوا دفعة واحدة كان الكل ممتثلين، لعدم تحقق مسقط تكليف كل منهم إلا بعد امتثاله له.

ولا مجال للإشكال فيه بأن لازمه عدم تحقق الامتثال لو أتى به أكثر من واحد دفعةً، لعدم تحقق شرط تكليف كلٍ منهم.

نعم، يتجه الإشكال المذكور لو كان المراد بهذا الوجه كون عدم امتثال أحدهم في جميع الأزمنة شرطاً في أصل ثبوت التكليف، لا في بقائه.

حيث يكون امتثال كلٍ منهم مانعاً من ثبوت تكليف الآخرين المانع من صدق الامتثال على فعلهم المستلزم لعدم امتثال الكل، لعدم المرجح، فيبقى التكليف.

لكن يبعد جداً إرادتهم ذلك، كيف ولازمه كون امتثال أحدهم في بعض الأزمنة كاشفاً عن عدم ثبوت التكليف في حق الآخرين من أول الأمر، لا مسقطاً له بعد ثبوته!

المناقشة فيه

نعم، يشكل الوجه المذكور بأن الذي يكلف به كل مكلف إن كان هو الماهية على إطلاقها في مقابل العدم المحض والتي يكفي في تحققها فعل أحد المكلفين، فلا مجال لإرجاعه للتكاليف العينية في حق جميع المكلفين، لوضوح إبتناء التكاليف العينية في حقهم إلى تكليف كل منهم بفعله المباين لفعل غيره، والمقابل لعدم فعله، لا للعدم المحض.

كما لا يحتاج معه مسقطية امتثال أحدهم لتكاليف الباقين إلى تقييدها بعدمه، لعدم بقاء موضوعها معه.

ص: 385

وإن كان هو الماهية الصادرة منه في مقابل عدم فعله هو لها، بحيث يكلف كل فرد منهم بفرد من الماهية غير ما يكلف به الآخر، فمن الظاهر عدم تعلق الغرض الفعلي قبل فعل أحدهم إلا بفعل واحد منهم، إما لوحدة الغرض من الأمر ذاتاً وحصوله بفعل الواحد، أو تعدده بعدد أفعال المكلفين مع تعذر حصول أكثر من واحد الراجع إلى كون الغرض واحداً بنحو البدلية، مستتبعاً للاكتفاء بمطلق وجود الماهية في قبال عدمها المطلق.

لا أن الغرض من أول الأمر متعلق بفعل الكل بنحو يقتضي إتيان كل منهم بفرد غير ما يأتي به الآخر، غايته أنه يسقط بفعل بعضهم، نظير: ما لو أمر جماعة بأن يسقي كل منهم أرض الزرع دلواً من الماء، فسقاها المطر وأرواها.

كيف وقد لا يكون المكلف به قابلاً للتعدد، كتطهير المسجد وحفظ المال وكسر الإناء ونحوها!

دعوى: اقتضاء ذلك استحقاق ثواب واحد مع امتثال الكل ودفعها

وأما الإشكال على ذلك: بأن لازمه استحقاق ثواب واحد مع امتثال الكل دفعةً لوحدة الغرض الحاصل من فعلهم، لما سبق في نظير هذا الوجه من الواجب التخييري من أن تعدد الامتثال إنما يوجب تعدد الثواب مع تعدد الغرض الحاصل به، لا مع وحدته.

فهو مندفع: بالفرق ارتكازاً بين تعدد الامتثال مع وحدة الممتثل، كما في الواجب التخييري، وتعدده مع تعدد الممتثل، كما هنا، حيث يستحق كل منهم أجر عمله بعد فرض وقوعه في محله وكونه دخيلاً في حصول غرض المولى وإن كان واحداً.

وإلا فلو كان إتيان الكل به دفعةً موجباً لحصول أغراض بعددهم لزم

ص: 386

التكليف به محافظةً عليها.

وبالجملة: لا ريب بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية والنظر في الواجبات الكفائية العرفية في إبتناء الوجوب الكفائي على وحدة الغرض من فعل الكل المستلزم للاكتفاء بفعل أحدهم في مقابل العدم المحض، لا في مقابل عدم فعله بنفسه.

المناقشة فيه

كما يشكل هذا الوجه وما قبله: بأن الواجب الكفائي قد يتعذر قيام شخص واحد به دائماً أو في بعض الحالات، كالجهاد بالمقدار الذي يدفع به الخطر عن المسلمين، والحج بالمقدار الذي تتعطل بدونه المشاعر، فيمتنع رجوع التكليف به إلى تكاليف متعددة بعدد أفراد المكلفين، سواء كانت مباينة للتكليف العيني سنخاً - كما هو مقتضى الوجه الأول - أم من أفراده مع كونها مشروطة بعدم امتثال الآخرين - كما هو مقتضى الوجه الثاني - بل لابد من كونه بنحو خاص صالح لتكليف كل فرد بالقيام به استقلالاً أو مع غيره حسب اختلاف الأفراد والأحوال.

الثالث: ما ذكره النائيني قدس سره والمناقشة فيه

الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الوجوب الكفائي لما كان ناشئاً عن غرضٍ واحدٍ تعين كونه وجوباً واحداً متعلقاً بصرف وجود المكلف، نظير تعلقه بصرف وجود المكلف به، فبامتثال أحدهم يتحقق الفعل من صرف الوجود فيسقط الغرض ولا يبقى مجال لامتثال الباقين، كما أنهم بامتثالهم جميعاً يثابون جميعاً، لانطباق صرف الوجود عليهم بأجمعهم.

وفيه: أنه لا يُتعقل تكليف صرف الوجود، بل هو غير قابل للخطاب والتكليف، لأن التكليف من الإضافات الخارجية التي لا تتعلق إلا بالمكلف

ص: 387

الخارجي المعين، كما لا تصدر إلا من المكلف الخارجي المعين، وإنما أمكن تعلقه بالمكلف به على إطلاقه بنحو يُكتفى في امتثاله بصرف الوجود لأنه لا يتعلق به في ظرف وجوده، بل في ظرف عدمه بنحو يقتضي إيجاده، لأن وجوده ليس ظرفاً لثبوت التكليف، بل ظرف سقوطه بالامتثال، فلا وجه لقياس المكلف على المكلف به في إمكان كونه الطبيعة التي يُكتفى فيها بصرف الوجود.

الرابع: ما ذكره السيد الخوئي قدس سره والمناقشة فيه

الرابع: ما ذكره بعض مشايخنا من أنه وجوب واحد متعلق بأحدهم على تردده، نظير تعلق الوجوب التخييري بأحد الأطراف على تردده.

وفيه: أنه مرجع الترديد في الواجب التخييري إلى التخيير، وهو إنما يتعقل في المكلف به دون المكلف، نظير ما تقدم في الوجه الثالث.

على أن استحقاق العقاب والثواب فرع التكليف، فإذا كان المكلف هو أحدهم مردداً لزم كون الثواب أو العقاب واحداً ثابتاً لأحدهم كذلك حتى في فرض إطاعتهم أو عصيانهم جميعاً. وهو كما ترى! لا معنى له، بل لا يلتزم به هو ولا غيره.

هذا، مضافاً إلى الإشكال في جميع الوجوه المتقدمة: بأن لازمها أنه لو فرض عجز بعض المكلفين عن امتثال التكليف الكفائي بنفسه لم يجب عليه السعي في امتثال غيره بالنحو الذي يقدر عليه، لسقوط التكليف عنه بالتعذر لو كان له تكليف يخصه مباين للتكليف العيني سنخاً أو فرد منه مشروط بعدم امتثال الغير - كما هو مقتضى الوجهين الأولين - وخروجه عن موضوعه لو كان مشاركاً للغير في التكليف الواحد الثابت لصرف الوجود أو للمردد - كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين - لوضوح امتناع تكليفه بأي

ص: 388

وجه في ظرف عجزه.

ولا دليل على وجوب السعي لامتثال الغير لتكليفه، غاية الأمر أنه يجب إعلام الجاهل بتشريع التكليف به، كما يجب الأمر بالمعروف، وقد لا يتم موضوع كل منهما، كما قد لا ينفعان في ترتب امتثال الغير لتكليفه، ولا يجب غير ذلك من وجوه السعي في امتثاله، كإعلامه بتحقق موضوع التكليف، وإقناعه بوجهٍ آخر لا يقتضيه الأمر بالمعروف، وتهيئة مقدمات الامتثال له.

كما لا يجب السعي لتحقيق مسقط التكليف عند تعذر امتثاله، مثلاً: لو تعذر على أحد الزوجين القيام بحقوق الآخر في ظرف مطالبته لم يجب عليه السعي للطلاق لتسقط الحقوق المذكورة عنه، ولو وجب على زيد مشايعة صديقه إذا سافر لم يجب عليه عند تعذر مشايعته له إقناعه بالعدول عن السفر، وهكذا.

مع أنه لا إشكال ظاهراً في أن تعذر امتثال الواجب الكفائي على بعض أفراد المكلفين لا يسقطه عنه رأساً، بل يجب عليه السعي لقيام غيره من المكلفين به بأي وجهٍ أمكن، إلا بدليل مخرج عن ذلك.

وهذا كاشف عن عدم تمامية شيء من الوجوه المتقدمة في توجيهه، وأنه مجعول بنحوٍ خاص يقتضي وجوب السعي بالوجه المذكور وإن لم تقتضه الوجوه المذكورة.

المختار في الوجوب الكفائي

فلعل الأَولى أن يقال: إن التكليف الكفائي عبارة عن تكليف كل فرد بالماهية لا بنحو يقتضي تكليفه بفردٍ منها مباين لما كلف به غيره - كما في التكليف العيني - بل بنحوٍ يقتضي مطلق وجودها في مقابل عدمها المحض،

ص: 389

لوفاء ذلك بالغرض الداعي للتكليف، كما سبق توضيحه عند الكلام في الوجه الثاني.

الفرق بينه وبين التكليف العيني

فالفرق بينه وبين التكليف العيني ليس في السنخ - كما هو مقتضى الوجه الأول - ولا في إطلاق التكليف وتقييده - كما هو مقتضى الوجه الثاني - ولا في المكلف - كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين - بل في المكلف به، حيث يكون المكلف به في العيني في حق كل فرداً يخصه من الماهية مبايناً للفرد الذي يكلف به الآخر - يقوم به هو بالمباشرة أو يكتفي بقيام غيره مقامه فيه - وفي الكفائي أصل وجود الماهية الحاصل بفعل أيٍ منهم بانفراده أو بمشاركة غيره له.

ودعوى: امتناع ذلك، لأن وحدة المكلف به تمنع من تعدد التكليف، وتعدد المكلف يمنع من وحدة التكليف.

ممنوعة، بل يتعين تعدد التكليف في المقام، لأن التكليف، كما ذكرناه غير مرة - إضافة قائمة بين المكلِّف والمكلَّف والمكلف به، ومن الظاهر أنه لا يعتبر في تعدد الإضافة اختلاف تمام الأطراف، بل يكفي اختلاف بعضها.

ومن هنا يتجه تعدد الثواب أو العقاب مع امتثال الكل دفعة أو عصيانهم، لامتثال كل منهم لتكليفه الذي يخصه أو عصيانه له.

ومثلها دعوى: امتناع تكليف الإنسان بالقدر الجامع بين فعله وفعل غيره، لخروج فعل غيره عن قدرته، بل لابد من تقييد المأمور به بخصوص فعله المباين لفعل غيره، لأنه المقدور له.

لاندفاعها: بأنه لا يعتبر القدرة على تمام أفراد المأمور به، بل يكفي القدرة عليه بالقدرة على بعض أفراده.

ص: 390

على أن فعل الغير قد يكون مقدوراً للمكلف صالحاً لأن يخاطب به ويكلف بتحصيله فيما لو كان قادراً على إحداث الداعي له للفعل في ظرف قدرته عليه، أو إقداره عليه في ظرف تحقق الداعي له، أو كليهما.

ولذا يصح التكليف بما لا يقدر على مباشرته له إذا كان قادراً على تفريغ ذمته منه بالاستنابة فيه. وعليه تبتني صحة الإجارة على العمل بنحو تنشغل به ذمة الأجير من دون اعتبار مباشرته له، بل مع تعذرها عليه.

توجيه لزوم السعي لحصول الواجب الكفائي

وبهذا يتجه في المقام لزوم السعي لحصول الواجب الكفائي من الغير على العاجز عن القيام به، لأن عجزه عن فعله بالمباشرة لا ينافي قدرته على الوجود المطلق المتحقق بفعل غيره بالإعلام والإقناع وتهيئة المقدمات، وحيث كان الوجود المذكور هو المكلف به فلا وجه لسقوطه مع القدرة عليه بالنحو المذكور، وليس هو متمحضاً في السعي لامتثال الغير لتكليفه، كي لا يجب.

كما ظهر الوجه في لزوم استقلال شخص بالفعل تارةً، والاشتراك فيه أخرى، والتخيير بينهما ثالثة، لأن الوجود المطلق يتحقق بالوجهين، فيتخير بينهما مع القدرة عليهما معاً ويتعين أحدهما مع اختصاص القدرة به.

نعم، لا يبعد كون الاشتراك في الفعل الواحد موجباً للاشتراك في ثواب واحد، لوحدة الامتثال وإن تعددت التكاليف، ولا يستقل كل مشارك فيه بثواب الامتثال التام، للفرق الارتكازي في مقدار الثواب الذي يستحقه الشخص بين استقلاله بالفعل ومشاركة غيره له فيه.

بل لا يبعد ذلك مع استقلال كل منهم بفعل تام دفعة واحدة، لأن كلاً منها وإن كان امتثالاً تاماً لتكليفه، إلا أن وحدة الغرض واشتراكهم في

ص: 391

تحقيقه تناسب وحدة الثواب واشتراكهم فيه، بل قد يدعى ذلك في العقاب وإن كان لا يخلو عن إشكال، خصوصاً الثاني.

والأمر سهل، لعدم تعلق ذلك بمقام العمل، بل هو وظيفة المولى الحكيم الذي لا يخفى عليه مقدار الاستحقاق، ورحمته وسعت كل شيء.

بقي أمور:

بقي في المقام أمور:

الأول: وجوه الواجب الكفائي

الأول: أشرنا آنفاً إلى أن الوجوب الكفائي..

تارةً: يكون مع وحدة الغرض ذاتاً، فلابد من ترتبه على الوجود المطلق المكلف به من دون دخل لخصوصيات أفعال المكلفين، فيكون هو المكلف به.

وأخرى: يكون مع تعدده بعدد أفعال المكلفين مع تعذر استيفاء تمام الأغراض المستلزم لفعلية غرض واحد على البدل، والموجب للاكتفاء بفعل واحد من المكلفين على البدل.

لكن الثاني يختلف، لأن الغرض البدلي المذكور..

تارةً: يقتضي حفظه من كل أحدٍ، فيكلف الكل بتحصيله بتحقيق أحد أفعال المكلفين على البدل، والاكتفاء بالوجود المطلق لأنه لا ينفك عنه، لا لقيام الغرض به كما في الصورة الأولى.

وأخرى: يقتضي حفظ كل مكلف للغرض الحاصل بفعله على تقدير عدم حفظ الآخر لغرض فعله.

وعلى الأول يكون التكليف كفائياً يجري ما فيه ما تقدم.

ص: 392

أما على الثاني فيكون التكليف في حق كل واحد عينياً مقيداً بعدم امتثال غيره، ولازمه أنه مع تعذر الامتثال على أحدهم لا يجب عليه السعي لامتثال الآخرين إلا بدليلٍ خاص، فلاحظ.

الثاني: عدم جواز الامتثال بفرد ناقص مع إمكان الفرد التام من الغير

الثاني: أن المكلف به حيث كان هو الوجود المطلق تعين أنه مع تعذر القيام بالفرد التام على شخصٍ لا يشرع له الامتثال بالفرد الناقص الاضطراري مع قدرة غيره على الامتثال بالفرد التام وحضوره له، لعدم صدق الاضطرار مع ذلك للناقص، فلا يجزي.

وهذا بخلاف ما لو كان كل فرد مكلفاً بفعله، حيث يصدق الاضطرار في حقه، فيشرع له الفعل الناقص، وحينئذٍ يتجه سقوط التكليف عن الآخرين لو كان لدليل السقوط إطلاق يشمل الإتيان بكل مشروع وإن كان ناقصاً، فتأمل جيداً.

الثالث: في تنقيح مجرى الأصل مع فقد الإطلاق المستفاد منه الكفائي أو العيني

الثالث: حيث كان الفرق بين التكليف العيني والكفائي بإطلاق المكلف به في الكفائي بنحو يكتفي فيه بصرف الوجود الصادر من كل أحدٍ، وتقييده في العيني بفرد خاص يختص بالمكلف الواحد، أو أفراد متعددة يختص كل منها بفرد من المكلفين، فإن كان هناك إطلاق يقتضي الأول، كما لو كان الخطاب بالفعل المبني للمجهول - مثل: ليصلِّ في المسجد ويحج البيت - عمل به، وإلا فإن كان هناك ظهور يقتضي تكليف بعض المكلفين أو جميعهم بأفراد تخصهم، كما هو ظاهر الخطاب بالفعل المبني للفاعل - مثل: صَلَّوا في المسجد وحُجَّ البيت - عمل عليه أيضاً.

وإن فقد الأمران كان المرجع الأصول العملية، وهي تختلف باختلاف الموارد. فلو علم الشخص بتكليفه بالشيء في الجملة فحيث

ص: 393

كانت العينية مستلزمه لخصوصية زائدة في المكلف به، وهي الفرد المباين للفرد الذي كلف به أو يأتي به الغير، كان مقتضى الأصل عدمها والاجتزاء بالوجود المطلق الصادر من أي شخصٍ، بناءً على ما هو التحقيق من أن المرجع البراءة مع الشك في اعتبار الخصوصية في المأمور به، على ما يذكر في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين.

نعم، لو كان الفعل متعذراً عليه ودار الأمر بين كون التكليف عينياً يسقط بالتعذر المذكور وكونه كفائياً لا يسقط به، بل يجب عليه السعي لتحصيله من غيره كان مقتضى البراءة الأول، للشك في أصل التكليف.

وكذا لو علم الشخص بتكليف غيره بشيء ودار الأمر بين كونه عينياً مختصاً به وكونه كفائياً يشترك هو معه فيه، كما لو دار الأمر بين اختصاص أحكام الميت بالولي وعمومها لجميع المكلفين، فإن مقتضى الأصل براءة ذمة غير الولي من التكاليف المذكورة.

الرابع: جريان الكفائي في النهي

الرابع: كما أن الأمر بالطبيعة يقتضي تكليف كل فرد من أفراد الموضوع..

تارةً: بفرد منها يخصه.

وأخرى: بوجودها المطلق المقابل للعدم المحض من أي فردٍ فرض، فيكون في الأول عينياً وفي الثاني كفائياً.

كذلك النهي عن الطبيعة يقتضي نهي كل فرد..

تارةً: عن إيجاده هو لها.

وأخرى: عن أصل وجودها.

ص: 394

وعلى الأول يُكتفى في امتثال كل فرد بتركه هو، ولا يجب عليه منع غيره إلا بدليل خاص، كدليل الأمر بالمعروف.

أما على الثاني فكما يلزم كل مكلف ترك الطبيعة يلزمه منع الغير من القيام بها، تجنباً لأصل وجودها.

فهو نظير الوجوب الكفائي في نحو توجيه التكليف بالماهية، وإن افترقا في كيفية الامتثال، حيث يُكتفى في امتثال الوجوب الكفائي بفعل الواحد، ويعتبر في امتثال النهي المذكور ترك الكل.

لكن الفرق المذكور متفرع على الفرق بين الأمر والنهي مطلقاً في كيفية الامتثال، حيث يُكتفى في امتثال الأول بصرف الوجود، ويعتبر في امتثال الثاني ترك تمام الأفراد.

نعم، الغالب في موارد النهي المذكور ثبوت النهي عن الخصوصية أيضاً، وهي المباشرة في حق كل فرد. فمثلاً: النهي عن قتل المؤمن راجع إلى نهيين: نهي عن مباشرة قتله عيناً على كل أحد، يكفي في امتثاله من كل مكلف تجنبه له، ونهي للكل عن تحقق ذلك، بنحو يجب على الكل منع كل أحد منه، وهو راجع لوجوب حفظه عليهم، فمن لم يقتله ومنع من قتله امتثل النهيين، ومن لم يقتل ولم يمنع من قتله امتثل الأول دون الثاني، ومن قتله خالفهما معاً، ولذا يكون أشد معصية من الأول.

أما الوجوب الكفائي فكثيراً ما يصاحب استحباباً عينياً للمباشرة، كما في أحكام الميت، فلاحظ.

ص: 395

المبحث السادس في تقسيم المأمور به إلى مطلق وموقت
اشارة

وهذا التقسيم - كسابقه - وإن ذكر في الواجب إلا أنه لا يختص به، بل يعم المستحب، بل قد يجري في المنهي عنه، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

في أخذ الخصوصية الزمانية في المأمور به

إذا عرفت هذا، فمن الظاهر أن الزمان لابد منه في كل فعل حادث، ومنه الفعل المأمور به، فهو من لوازم المأمور به العقلية التي يمتنع أخذها فيه شرعاً للزوم اللغوية.

إلا أنه.. تارةً: لا تؤخذ فيه خصوصية زمانية، بل يكون مطلقاً من حيثية الزمان.

وأخرى: تؤخذ فيه خصوصية زمانية زائدة على ما يستلزمه عقلاً من أصل الزمان.

والأول هو المطلق، والثاني هو الموقت.

ولعل هذا هو المراد مما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن الزمان وإن كان مما لابد منه عقلاً في الواجب، إلا أنه تارةً يؤخذ فيه شرعاً، وأخرى لا يؤخذ.

ص: 396

وإلا فلا مجال لما يظهر من كلامه من أن الزمان الذي لابد منه عقلاً قد يؤخذ في الواجب، لما ذكرناه من أن ما لابد منه عقلاً - وهو أصل الزمان - يمتنع أخذه شرعاً، وما يمكن أخذه شرعاً - وهو الخصوصية الزمانية - لا يقتضيه العقل.

هذا، وقد تقدم في المسألة الثانية من الفصل الخامس ما يتعلق بالمطلق، وأن إطلاق الأمر هل يقتضي الفور في مقام الجعل أو الامتثال أو لا يقتضيه؟ ومن ثم كان المهم في المقام الكلام في الموقت.

في قسمي المؤقت

وقد قسموه إلى قسمين:

الأول: الموسع، وهو الذي يكون وقته أوسع منه، كالصلاة اليومية.

الثاني: المضيَّق، وهو الذي يكون وقته بقدره، كالصوم في نهار شهر رمضان.

ما أشكل على القسم الأول

وقد استشكل في الأول بما عن بعض القدماء من أنه يؤدي إلى جواز ترك الواجب، كما في المعالم.

فإن كان المراد به أنه يؤدي إلى جواز تركه في أول الوقت، وهو ينافي وجوبه فيه. فهو ليس محذوراً، لأن وجوبه لما كان مبنياً على السعة، تبعاً للغرض الداعي له، فجواز الترك عن أول الوقت لا ينافيه، نظير جواز ترك الواجب التخييري إلى بدله.

وإن كان المراد به أن سعة الوقت لما كانت تقتضي جواز التأخير عن أوله فقد يتعذر بعد ذلك، فيفوت الواجب رأساً فوتاً لا عقاب معه، وهو ينافي وجوبه، لفرض القدرة عليه في الجملة.

ص: 397

دفعه

فهو مندفع: بأن السعة إنما تقتضي جواز تأخيره عن أول الوقت مع القدرة عليه في آخره، لا مع العجز عنه.

نعم، يجوز تأخيره ظاهراً مع عدم ظهور أمارات العجز عنه في آخر الوقت لأصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء - كما سبق في مسألة الفور والتراخي - وتعذر الواجب بعد ذلك وإن استلزم فوت الواجب، إلا أنه يكشف عن عدم جواز تأخيره عن أول الوقت، فهو لا يرجع إلى جواز تفويته واقعاً، لينافي وجوبه، بل تفويته مستند إلى خطأ أصالة السلامة، كخطأ سائر الطرق الظاهرية الذي قد يستلزم فوت امتثال التكليف فوتاً لا عقاب معه من دون أن ينافي ثبوته.

رجوع الأمر بالموسع إلى الأمر بالطبيعة المقيدة

ثم إن الظاهر أن الأمر بالموسع راجع إلى الأمر بالطبيعة المقيدة بما في الوقت بما لها من أفراد متكثرة طولية وعرضية، وكما يكون التخيير بين أفرادها العرضية عقلياً بسبب عدم دخل خصوصياتها في الغرض، كذلك التخيير بين أفرادها الطولية.

وما قد ينسب إلى جماعة - منهم العلّامة - من كون التخيير بين الأفراد الطولية شرعياً في غير محله.

على إشكال في النسبة، لأن الذي حكاه في الفصول عنهم أن الواجب الموسع ينحل إلى واجبات تخييرية.

ولعل مرادهم بذلك مجرد بيان سعة المكلف به والاجتزاء بأي فردٍ منه في مقام العمل، لا التخيير الشرعي المقابل للتخيير العقلي. والأمر سهل.

ما ذكره النائيني قدس سره من الإشكال على القسم الثاني

كما استشكل في الثاني - وهو المضيق - بما أشار إليه بعض الأعاظم قدس سره وغيره من أنه لابد من تقدم البعث على الانبعاث ولو آناً ما، فإن كان حدوث

ص: 398

البعث والتكليف سابقاً على الوقت لزم تقدم المشروط على شرطه، وإن كان مقارناً لأوله لزم تأخر الانبعاث عنه، فيكون الوقت أوسع من الواجب لا بقدره.

ما دفع به الإشكال المذكور

وقد يدفع بوجهين:

الأول: ما ذكره النائيني قدس سره

الأول: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن لزوم تقدم البعث على الانبعاث وإن كان بديهياً، إلا أنه ليس تقدماً زمانياً، بل رتبياً، كما هو الحال في جميع العلل مع معلولاتها، وحينئذٍ لا مانع من كون أول الوقت زماناً لكلٍ من التكليف والانبعاث للمكلف به.

نعم، لابد من العلم قبل الوقت بحدوث التكليف عنده، ليتمكن من الانبعاث فيه، بخلاف العلم بالموضوع - وهو الوقت - فلا يعتبر تقدمه عليه.

بل أنكر بعض مشايخنا لزوم التقدم الزماني حتى للعلم بالتكليف، مدعياً أن العلم بالتكليف المستلزم للعلم بترتب العقاب متقدم على الامتثال والانبعاث طبعاً، لا زماناً.

لكنه يشكل: بأن الاندفاع لما كان مشروطاً بالعلم بالتكليف الفعلي فهو موقوف على العلم بجعل التكليف كبروياً، وبتحقق موضوعه، ومنه الوقت - بناءً على كونه شرطاً للتكليف أيضاً - فلا وجه لما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من الفرق بين العلم بالحكم والعلم بالموضوع.

كما أن الظاهر أنه لابد في تأثير العلم بالحكم الفعلي - المترتب على العلم بالأمرين - في النفس بنحو يستلزم فعلية الاندفاع من مضي زمان ما، كما هو الحال في سائر الدواعي للعمل، حيث لابد من مضي زمانٍ ما على الالتفات إليها، لتستحكم في النفس ويترتب عليها الاندفاع، كما قد يتضح

ص: 399

بالرجوع للمرتكزات.

الثاني: فيما لو كان الوقت قيداً للواجب

الثاني: أن الكلام فيما إذا كان الوقت قيداً للواجب، لا للوجوب، وحينئذٍ لا مانع من دعوى سبق الوجوب على الوقت بنحو الواجب المعلق.

اللهم إلا أن يكون مبنى الإشكال على امتناع الواجب المعلق، كما هو مختار بعض الأعاظم قدس سره.

لكن عمدة الإشكال في المعلق هو امتناع فعلية التكليف بالأمر المتأخر، لعدم كونه اختيارياً فلا يمكن الانبعاث نحوه، كي يمكن البعث إليه، وهو إنما يقتضي امتناع تأخر المكلف به عن التكليف مدة أطول مما يقتضيه الترتب بين البعث والانبعاث، أما مع فرض لزوم تأخر الانبعاث عن البعث آناً ما - كما هو مبنى الإشكال في المضيق - فلا محذور في تأخر زمان الواجب عن زمان الوجوب بقدر ذلك، بل لا فائدة حينئذٍ في سعة زمان الواجب بحيث يقارن الوجوب زماناً.

وعلى ذلك لا مانع من البناء على كون زمان الواجب بقدره، مع تقدم زمان الوجوب عليه بالقدر اللازم في الترتب بين العلم بالحكم الفعلي والانبعاث.

نعم، كثيراً ما لا يتيسر العلم بدخول الوقت وخروجه مقارناً لأوله وآخره، بل لا يعلم بدخوله إلا بعد مضي شيءٍ منه، ولا بخروجه إلا بعد مدة من مضيه، لعدم وضوح حدوده - كالفجر والظهر والمغرب - بنحو التدقيق.

كما أن الفعل المأمور به قلما يتيسر تهيئة جميع مقدماته، بحيث يشرع فيه بمجرد دخول وقته كالصوم، بل كثيراً ما يحتاج لبعض المقدمات القريبة التي تستغرق زمناً ولو قليلاً، كالتخطي لدخول المسجد.

ص: 400

ومن هنا كان الظاهر انحصار الواجب المضيق عادةً بما إذا كان أمراً استمرارياً يمكن الشروع فيه قبل الوقت والبقاء عليه بعده، لا بنية الوجوب في تمامه، بل ليقع ما يجب منه في تمام الوقت، كما في مثل الإمساك للصوم والكون في المسجد للاعتكاف، حيث يمكن الشروع فيهما قبل الفجر والبقاء عليهما لما بعد المغرب ليحصل المطلوب منهما في تمام وقته وبين الحدين، ويكون الطرفان المكتنفان له مقدمة علمية، ليتيسر بها إحراز الامتثال، وفي مثل ذلك لا يهم البناء على مقارنة البعث للانبعاث أو على الترتب بينهما.

وهذا بخلاف مثل الصلاة، حيث لا مجال لتوقيتها بوقتٍ خاص بنحوٍ يشرع بها في أوله، ويفرغ منها في آخره، وتطابقه دقةً، لتعسر امتثالها بالنحو المذكور، بل تعذره عادةً.

بقي أمور..

بقي في المقام أمور:

الأول: في لزوم تدارك المؤقت

الأمر الأول: لا ريب في عدم دلالة الأمر بالموقت بوجهٍ على وجوب تداركه بعد الوقت لو فات فيه، كما ذكره غير واحدٍ، لأن التوقيت من أنحاء التقييد وحيث كان تعذر القيد موجباً لتعذر المقيد تعين قصور دليل الأمر بالمقيد عن إثبات وجوب فاقد القيد عند تعذره، بل قد يكون ظاهراً في عدم وجوبه، كما لو كان مفاد التقييد حصر الفعل المشروع بالمقيد لا مجرد الأمر به، كما في مثل: «لا صلاة إلا بطهور»(1) فلابد في وجوب التدارك بعد الوقت من دليل آخر غير دليل الأمر بالموقت.

ص: 401


1- راجع الوسائل ج 1، باب: 1 و 2 من أبواب الوضوء

وتوضيح الكلام في ذلك يقتضي الكلام أولاً في أنحاء التقييد بالوقت الممكنة ثبوتاً، ثم في مفاد الأدلة إثباتاً.

المقام الأول في مقام الثبوت
المقام الأول في مقام الثبوت في وجوه أخذ القيد في الواجب

لما كان أخذ الوقت في الواجب عبارة عن تقييده به فأخذ القيد في الواجب يكون..

تارةً: لغرضٍ مستقلٍ عن غرضه موقوف على الإتيان بالواجب مقارناً للقيد، من دون أن يكون القيد دخيلاً في مصلحة الواجب، كما لو وجبت الصلاة في المسجد لمصلحة إشغال المسجد من دون دخل له بمصلحة الصلاة. وهو راجع إلى كون القيد واجباً في واجب.

وأخرى: لتوقف غرض الواجب عليه في ظرف التمكن منه، بنحو لو أخل به حينئذٍ فقد أخل بغرضه، لكنه مع تعذره يسقط دخله فيه رأساً، ويكون الفاقد للقيد حينئذٍ محصلاً لتمام الغرض.

وثالثة: كالثانية إلا أنه مع التعذر يسقط دخله بالإضافة إلى بعض مراتب الغرض، فيكون الفاقد في ظرف تعذر القيد محصلاً لبعض الغرض بالنحو اللازم الحفظ.

ورابعةً: يكون لتوقف غرض الواجب عليه مطلقاً حتى في ظرف تعذره، بحيث لا يكون الفاقد مع التعذر محصلاً لشيء من الغرض، لكن

ص: 402

يحدث بفوت الغرض غرض آخر مباين له يقتضي تكليفاً آخر مبايناً للتكليف بالمقيد من سنخ التدارك له، كالضمان بسبب الإتلاف، أو العقوبة عليه، كالحد والتعزير والكفارة.

وخامسةً: كالرابعة، لكن من دون أن يحدث غرض يقتضي تكليفاً آخر.

وربما كانت هناك بعض الصور الأخرى، إلا أنه لا أثر لها أو يظهر حكمها من الصور التي ذكرناها.

وهذه الصور تختلف من جهات..

جهات اختلاف الوجوه المذكورة

الأولى: أنه في الصورتين الأخيرتين لو تعذر القيد لا يجب الفاقد أصلاً، بخلاف الصور الثلاث الأول.

الثانية: أنه في الصورة الثانية يجوز تعجيز النفس عن القيد، لحصول تمام الغرض بالفاقد في ظرف العجز عنه، بخلاف بقية الصور.

الثالثة: أنه في الصور الأربع الأخيرة لو أُتِيَ بالفاقد للقيد في ظرف القدرة عليه لم يكن مشروعاً ولا امتثالاً، لعدم مطابقته للمأمور به، فلا يجتزأ به إلا بدليلٍ خاص من باب الاجتزاء بغير المأمور به عنه، بخلاف الصورة الأولى، لفرض عدم توقف غرض أصل الواجب على القيد، فيصح ويقع امتثالاً لأمره، وإن لم يمتثل أمر القيد.

وحينئذٍ إن كان موضوع الأمر بالقيد هو الإتيان بذات الواجب مقارناً له وجبت إعادته مع القيد وإن سقط أمره، تحصيلاً لمصلحة القيد، وإن كان موضوعه الإتيان بالواجب بما هو واجب مقارناً له تعين سقوط أمر القيد، لتعذر امتثاله بارتفاع موضوعه بعد فرض سقوط أمر المقيد بالامتثال.

وعليه يتجه عدم صحة الفاقد للقيد لو كان عبادةً مع الالتفات لذلك، لأن

ص: 403

استلزامه تفويت مصلحة القيد الواجب موجب لمبعديته، فيمتنع التقرب به.

الرابعة: أنه لو شك بعد تعذر القيد في الامتثال بالمقيد حين القدرة عليه كان مقتضى قاعدة الاشتغال في الصورة الأولى الإتيان بذات الواجب، لما عرفت من رجوعها إلى تكليفين أحدهما بالذات والآخر بالقيد، فسقوط الثاني بالامتثال أو التعذر لا ينافي بقاء الأول، وحيث كان الشك في امتثاله كان مقتضى قاعدة الاشتغال الإتيان به.

كما أنه في الصورة الرابعة والخامسة لا مجال لقاعدة الاشتغال، للعلم بسقوط التكليف المعلوم بالامتثال أو التعذر، غاية الأمر أنه يحتمل حدوث تكليف جديد في الصورة الرابعة، وهو أجنبي عن مفاد قاعدة الاشتغال.

بل قد يدعى ذلك أيضاً في الصورة الثانية والثالثة، للعلم سابقاً بالتكليف بالمقيد، والمفروض سقوطه بالامتثال أو التعذر، مع الشك في تجدد التكليف بالفاقد للقيد.

لكنه لا يخلو عن إشكالٍ، لأن اشتراك التكليف بالفاقد للقيد بعد تعذره مع التكليف بالواجد له حين القدرة عليه في تمام الغرض في الصورة الثانية مستلزم لرجوعهما إلى تكليفٍ واحد تخييري تابع لغرض واحد يشك في امتثاله.

ومرجع التكليف المذكور إلى التكليف بأحد أمرين: الإتيان بالواجد للقيد حين القدرة عليه، والإتيان بالفاقد له حين تعذره، ولذا لا يجب حفظ القدرة على القيد، نظير التخيير من أول الأمر بين الإتيان بالتمام حين الحضر، والإتيان بالقصر حين السفر، فتعذر القيد على تقدير عدم الامتثال لا يوجب تبدل التكليف، بل تبدل الامتثال لتبدل طرف التخيير المقدور، وحيث فرض

ص: 404

الشك في امتثال التكليف بالطرف الأول كان مقتضى قاعدة الاشتغال إحراز الفراغ عنه بامتثاله بالطرف الثاني، نظير ما لو شك المكلف بعد السفر في أنه صلى تماما قبله.

كما أن اشتراك التكليف بالفاقد للقيد بعد تعذره مع التكليف بالواجد له حين القدرة عليه في بعض الغرض في الصورة الثالثة مستلزم لانحلال التكليف - تبعاً للغرض - إلى تكليفين: تعييني بالواجد للقيد بلحاظ توقف بعض مراتب الغرض عليه، وتخييري بأحد أمرين: الإتيان بالواجد له في ظرف القدرة عليه، والإتيان بالفاقد له في ظرف العجز عنه، ومع الشك في الامتثال في ظرف القدرة على القيد وإن كان يعلم بسقوط الأول إما بالامتثال أو التعذر، إلا أنه لا يعلم بسقوط الثاني، بل يحتمل بقاؤه وعدم امتثاله، فيجب إحراز الفراغ عنه بالإتيان بالفاقد، نظير ما سبق في الصورة الثانية، فلاحظ.

المقام الثاني في مقام الإثبات
المقام الثاني: في مقام الإثبات

من الظاهر أنه لا مجال لحمل التقييد بالوقت على الصورة الثانية، لما سبق من أن لازمها جواز التعجيز عن القيد، مع وضوح لزوم المحافظة على الوقت في الموقت وعدم جواز تأخيره عنه.

فيدور أمره بين الصور الأربع الأخرى.

ص: 405

وحينئذٍ فتارةً: يكون لدليل الواجب الموقت إطلاق يقتضي وجوبه خارج الوقت، بأن استفيد التوقيت من دليلٍ منفصل.

وأخرى: لا يكون له إطلاق يقتضي ذلك.

كما أن دليل التوقيت..

تارةً: يكون ظاهراً في انحصار الواجب بالوقت، بحيث لا يجب بعده، نظير قوله عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور»(1) الظاهر في عدم مشروعيتها بدونه.

وأخرى: لا يكون ظاهراً في ذلك، بل في مجرد لزوم الإتيان به في الوقت.

فإن كان لدليل الواجب إطلاق يقتضي وجوبه خارج الوقت، ولم يكن لدليل التوقيت ظهور في انحصار الواجب بالوقت، لزم البناء على وجوبه بعد الوقت لو لم يؤتَ به فيه، عملاً بالإطلاق المذكور.

وأمكن حينئذٍ حمله على الصورة الأولى، وإن لم يظهر أثرها المتقدم، وهو صحة الفعل الفاقد للقيد مع التمكن منه، لامتناع فرض ذلك في الوقت، لاستحالة انفكاك الفعل عنه مع القدرة عليه، وليس هو كسائر القيود - كالطهارة - مما يمكن خلو الفعل عنه مع القدرة عليه، ليكون عدم صحته حينئذٍ مانعاً من حمل التقييد به على الصورة المذكورة.

كما يمكن حمله على الصورة الثالثة الراجعة لكونه قيداً حال القدرة عليه، دون حال تعذره.

ودعوى: أنه يلغو التقييد بالنحو المذكور في الوقت، لأنه في حال

ص: 406


1- سورة البقرة: 183-185

وجوده يمتنع انفكاك الفعل عنه، وليس هو كغيره من القيود التي يمكن انفكاك الفعل عنها حال القدرة عليها كي يمنع التقييد منه.

مدفوعة: بأنه يكفي في رفع لغوية التقييد بالوقت في خصوص حال القدرة عليه لزوم المحافظة عليه، الذي سبق أنه اللازم في هذه الصورة.

وإنما يتجه لزوم اللغوية في الصورة الثانية التي لا يجب فيها المحافظة على القيد، والتي سبق عدم احتمالها في المقام.

وإن كان لدليل التوقيت ظهور في الانحصار لزم البناء على عدم وجوبه بعد الوقت وإن كان لدليله إطلاق، لوجوب رفع اليد عن المطلق بالمقيد، ويتردد بين الصورة الرابعة والخامسة.

وأما لو لم يكن له ظهور في الانحصار ولا كان لدليل الواجب إطلاق، فلا طريق لإثبات وجوبه بعد الوقت ولا لنفيه، بل يتردد بين جميع الصور الأربع المذكورة.

وربما يدعى أن مقتضى قاعدة الميسور - بناءً على شمولها للشروط - وجوبه بعد الوقت، وان تعذر خصوصية الوقت حينئذٍ لا يوجب سقوط الواجب من أصله.

بل لو تمت كانت مقتضاها وجوبه بعده حتى لو كان لدليل التوقيت ظهور في الانحصار، لحكومتها على أدلة الأجزاء والشرائط الظاهرة في الارتباطية بينها مطلقاً، المستلزم لسقوط الواجب بتعذر بعضها.

لكن الظاهر عدم تمامية القاعدة من أصلها، على ما ذكرناه في التنبيه الخامس من مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، فراجع.

ومن هنا كان المرجع فيما لو لم يكن لدليل الواجب إطلاق ولا لدليل

ص: 407

التوقيت ظهور في الانحصار هو الأصول العملية. والظاهر أن المحكم أصل البراءة.

ولا مجال لاستصحاب وجوب الواجب بعد الوقت، لاحتمال كون الوقت قيداً في الواجب، لا واجباً فيه مستقلاً عنه - كما في الصورة الأولى - فيكون ما بعد الوقت مبايناً لما علم وجوبه سابقاً، ومع احتمال تعدد الموضوع لا يجري الاستصحاب، ولا عبرة بالتسامح العرفي في وحدة الموضوع، على ما ذكرناه في محله.

الأمر الثاني: في كون القضاء من سنخ الأداء وعدمه

الأمر الثاني: لو فرض قصور دليل الواجب عن إثبات وجوبه بعد الوقت، لعدم الإطلاق فيه، أو لظهور دليل التوقيت في الانحصار فقد ورد وجوب القضاء في كثير من الفرائض والنوافل، كالصلاة والصوم وغيرهما.

وحينئذٍ يقع الكلام في أن القضاء من سنخ الأداء، إما لوفائه بتمام غرضه مع كون مصلحة الوقت مباينة لمصلحة الواجب - كما هو مقتضى الصورة الأولى - أو لوفائه ببعض مصلحته، لكون الوقت دخيلاً في بعض مراتبها - كما هو مقتضى الصورة الثالثة - أو أنه من سنخ آخر لا يكون محصلاً لشيء من مصلحة الأداء، لفوتها بتمامها بفوت الوقت، وإنما هو تدارك لفوته، نظير تدارك فوت الصحة بالدواء، فيناسب الصورة الرابعة.

وقد سبق ظهور الفرق في جريان قاعدة الاشتغال عند الشك بعد الوقت في الامتثال فيه، حيث تجري في الصورة الأولى والثالثة، دون الرابعة.

ما ذكره النائيني قدس سره

إذا عرفت هذا فقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن الصورة الأولى والثالثة وإن كانتا ممكنتين ثبوتاً إلا أن ظاهر أدلة القضاء هو الصورة الرابعة، لأن ظاهر لفظ القضاء هو تدارك ما فات في وقته، ولا معنى للتدارك في

ص: 408

الصورتين المذكورتين، حيث يكون الفعل خارج الوقت مأموراً به بنفس الأمر الأول فيهما.

المناقشة فيه

وفيه: أنه إن أُريد بتدارك ما فات في وقته مجرد الإتيان بالواجب بعد وقته، فهو لا ينافي الصورتين المذكورتين، وإن أريد به تدارك النقص الحاصل بسبب فوت الواجب، بحيث يكون الفرق بين الأداء والقضاء هو الفرق بين حراسة المال المانعة من تلفه وضمانه بعد تلفه بسبب التفريط في الحراسة، فهو بعيد عن المرتكز عرفاً لمعنى القضاء، بل المرتكز عرفاً أن ما يُؤتى به قضاء لشيءٍ من سنخه لا مباين له، ولذا لا يصدق القضاء في المثال المذكور ونظائره من الأمثلة العرفية والشرعية، ويطلق عند العرف على مثل أداء الدين بعد وقته وعند المتشرعة على الصوم بعد شهر رمضان لمن تركه فيه لمرضٍ أو سفرٍ مع ظهور دليله في أنه من سنخه.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ... فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ...»(1) فإنه ظاهر في وحدة الأمر تبعاً لوحدة الغرض والملاك، وإن اختلف الزمان الواجب فيه الصوم باختلاف الأحوال، كما يناسبه صدره المتضمن فرض الصيام أياماً معدودات، وذيله المتضمن تعليل القضاء بقوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)، حيث لا يناسب اختصاص الفرض بصوم رمضان وأن صوم المسافر والمريض بعده

ص: 409


1- سورة القصص: 29

جبر لما حصل لهما من نقص بسبب الإفطار فيه، نظير الضمان في المثال المتقدم.

ويؤيد ما ذكرنا تفسير اللغويين للقضاء بالأداء والوفاء للدين أو للعهد أو نحوهما. وهو الظاهر من قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ» وقوله: «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ»(1) وقوله: «إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا»(2) وقوله: «فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ»(3) وقوله: «فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ»(4) وقوله (ص): «مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر»(5) إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة في الكتاب والسنة وغيرهما الظاهرة في أن قضاء الشيء هو أداؤه بنفسه، والظاهر عدم خروج المعنى المتشرعي الحادث عن ذلك، وإن إختص بما إذا كان بعد الوقت.

ما أيد به مطلبه قدس سره

هذا، وقد أيد قدس سره مدّعاه بثبوت القضاء في الحج والصوم المنذورين، مع أن الوجوب تابع لقصد الناذر، وهو في الفرض لم يتعلق إلا بالفعل المقيد بزمان خاص، فيستحيل بقاء الأمر التابع لقصده بعد فوت الوقت المقصود.

اندفاعه

ويندفع: بأن قضاء الحج المنذور ليس عليه دليل إلا الإجماع كما قيل، ولا يعلم من حال المجمِعِين إرادة المعنى الخاص من القضاء، بل لعلهم نَزَّلوا البدلية منزلة القضاء.

ص: 410


1- سورة الأحزاب: 23
2- سورة يوسف: 68
3- سورة البقرة: 200
4- سورة النساء: 103
5- راجع الوسائل ج 11، باب: 1 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه

وأما قضاء الصوم المنذور فأكثر نصوصه قد تضمنت وجوب يوم بدل يوم أو مكان يوم(1)، ولم أعثر على ما تضمن لفظ القضاء إلا خبر صالح بن عبد الله: قلت لأبي الحسن موسى عليه السلام: «إن أخي حبس فجعلت على نفسي صوم شهرٍ، فصمت. فربما أتاني بعض إخواني فأفطرت أياماً أفأقضيه؟» قال: «لا بأس»(2).

ومرسل عبد الله بن جندب عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه سأله عن رجل جعل على نفسه نذراً صوماً فحضرته نية في زيارة أبي عبد الله قال: «يخرج ولا يصوم في الطريق، فإذا رجع قضى ذلك»(3).

وهما - مع عدم صراحتهما في الصوم المعين - قد يحملان على نحوٍ من التسامح في الإطلاق.

هذا، مع قرب أن يكون تشريع القضاء مبنياً على لحاظ الشارع القيود المأخوذة في المنذور بنحو الانحلال تعبداً، وإن كانت مأخوذة في النذر بنحو الارتباطية، ولذا ورد وجوب أداء المنذور مع تعذر بعض قيوده الأُخَر غير الوقت(4).

فلا يخرج بذلك عما ذكرنا من كون القضاء ارتكازاً من سنخ الأداء ناشئ عن ملاكه وغرضه.

ص: 411


1- الوسائل ج 7، باب: 7 من أبواب بقية الصوم الواجب و ج 8 باب: 34 وباب 37 من أبواب وجوب الحج وشرائطه. و ج 16، باب: 10 من كتاب النذر والعهد
2- الوسائل ج 7، باب: 17 من أبواب بقية الصوم الواجب، حديث: 2
3- الوسائل ج 16، باب: 13 من أبواب كتاب النذر والعهد، حديث: 1
4- راجع الوسائل ج 7، باب: 13 و 16 من أبواب بقية الصوم الواجب، و ج 16، باب: 8 وباب: 20 من كتاب النذر والعهد وغيرهما
ما ذكره قدس سره ودفعه

وأما ما ذكره بعض أفاضل العصر رحمة الله من أن القضاء لما كان هو تدارك ما فات فهو مختص بالصورة الرابعة، لأن ما فات من مصلحة الوقت في الصورة الأولى والثالثة لا يقبل التدارك، وما يقبل التدارك - وهو أصل الواجب - لا فوت بالإضافة إليه، بل هو كالواجبات المطلقة متى ما أُتِيَ به يكون أداء.

ففيه: أن تفسير القضاء بذلك لم يرد في كلام الشارع أو نحوه ممن يؤمن عليه الخطأ في تحديد المفهوم، وإنما ورد في كلام بعضهم للتعبير عما إرتكز في معنى القضاء، فلا مجال للخروج به عما ذكرنا من المعنى الارتكازي له، بل لابد من كون ذكر الفوت مبتنياً على ملاحظة فوت الوقت من حيثية دخله في بعض مراتب ملاك الواجب، لا لتحقق الفوت بلحاظ أصل الواجب، وإلا لم يصدق معه القضاء لما سبق.

كون القضاء من سنخ الأداء

وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد الرجوع للمرتكزات العرفية والمتشرعية في كون القضاء من سنخ الأداء، وإن كان فاقداً لخصوصيته الدخيلة في بعض مراتب مصلحته.

ومن هنا كان المنصرف من إطلاق دليل القضاء أخذ جميع ما يعتبر في الأداء فيه لو فرض إجمال أمره من هذه الجهة.

نعم، اشتهر عند المتشرعة إطلاقه تبعاً لكثير من الاستعمالات الشرعية على خصوص ما إذا كان الفائت مصلحة الوقت، دون غيره من القيود الشرعية التي لا يكون تعذرها مسقطاً لأصل الواجب، حيث لا يصدق على فاقدها عند التعذر بالمعنى المذكور.

كما لابد من كون مصلحة الوقت من مراتب مصلحة الواجب، بحيث

ص: 412

يكون الوقت وقتاً للواجب، كما في الصورة الثالثة، فلو لم تكن من مراتبها وكانت مستقلة عنها لم يصدق القضاء، كما في الصورة الأولى.

فلو نذر المكلف أن يأتي بالصلاة في وقتها الفضيلي فلم يأت بها فيه لا يصدق على الإتيان بها بعد ذلك القضاء، كما لا يصدق الفوت بالإضافة إليها، لعدم كون النذر موجباً لتوقيتها.

ومنه يظهر عدم صدقه مع الإخلال بالفورية - بناءً على وجوبها - لو كانت واجبة بملاكٍ آخر، لا قيداً في الواجب.

ولذا لا يكون وفاء المماطل بالدين قضاءً، إلا إذا كان الدين موقتاً، وإن وجبت المبادرة في الوفاء مع إطلاق الدين - أيضاً - بملاك حرمة حبس الحق عن أهله.

كما ظهر بذلك - أيضاً - أنه لا بأس بإطلاق الفوت والقضاء فيما لو استفيد وجوب الواجب خارج الوقت من إطلاق دليل الواجب مع عدم ظهور دليل الوقت في الانحصار. ولا مجال لما يظهر من غير واحدٍ من الإشكال في ذلك.

نعم، لابد من كون المستفاد من دليل الوقت توقيت الواجب به، بحيث يكون دخيلاً في ملاكه، لا مجرد وجوب إيقاعه فيه بملاك آخر، من باب أنه واجب في واجب.

هذا كله لو كان الأمر بالفعل خارج الوقت متضمناً لعنوان القضاء، أما لو لم يكن كذلك، بل تضمن مجرد الأمر به بعنوانه فالظاهر أن المنصرف منه عرفاً كونه من سنخ ما وجب في الوقت لاتحاد سنخ الغرض منهما، لا مبايناً له، كما في الصورة الرابعة، فالوقت دخيل في بعض مصلحة الواجب، لا في

ص: 413

تمامها، ليكون الوجوب بعد الوقت بلحاظ مصلحة أخرى مباينة لمصلحة الواجب في الوقت. وعليه يكون قضاءً بالمعنى المتقدم وإن لم يصرح بلفظه.

كل ذلك بسبب مألوفية ذلك وشيوعه عند العرف والمتشرعة، واستبعاد اختلاف سنخ الغرض مع الاتفاق في الجنس.

وقد تحصل من جميع ما سبق: أنه مع إطلاق دليل الواجب وعدم ظهور دليل الوقت في الانحصار يكون وجوب الإتيان بالموقت بعد الوقت مستفاداً من نفس دليل الواجب بلا حاجة إلى دليلٍ آخر. وفي غير ذلك لابد فيه من دليل خاص، وهو دليل القضاء.

لكن الدليل المذكور لا يكشف عرفاً عن أمرٍ مباينٍ للأمر الأول، تبعاً لتباين متعلقيهما واختلاف سنخ الغرض منهما، بل عن حال الأمر الأول، وأنه بنحو يقتضي التكليف بالموقت بعد الوقت قضاءً له، لإمكان استيفاء بعض مصلحته، وأن المأتي به بعد الوقت من سنخ المأتي به قبله.

وعليه فما اشتهر من أن القضاء بأمرٍ جديد - في غير صورة الإطلاق المتقدمة - إنما يصح لو أريد به أنه محتاج للأمر في مقام الإثبات من دون تعدد فيه ثبوتاً، فتأمل جيداً.

والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الأمر الثالث: في إجزاء تقديم الموقت على الوقت ووجوهه

الأمر الثالث: كما يمكن أن يكون الموقت بنحو يجب قضاؤه بعد الوقت يمكن أن يكون بنحو يُجزئ تقديمه عليه.

وإجزاء ذلك..

تارةً: يكون لوفاء الفعل السابق بالغرض، فلا يجب الفعل في وقته لاستيفاء غرضه.

ص: 414

وأخرى: يكون لمانعيتة من تحصيل الغرض بنحو يتعذر استيفاؤه بالفعل في الوقت.

أما الأول فلابد فيه من كون الوقت شرطاً للتكليف، ليمتنع الامتثال بالفعل السابق عليه ويكون من تقديم الفعل على وقته، إذ لو لم يكن الوقت شرطاً له وكان التكليف فعلياً قبله فلا مجال لتوقيت نفس الواجب به بعد فرض وفاء الفعل السابق عليه بغرضه، ومع إطلاق التكليف والمكلف به معاً بالإضافة إلى الوقت لا يكون الفعل السابق عليه مقدماً على وقته، بل امتثالاً لتكليفه في وقته.

وأما الثاني فكما يمكن مع اشتراط التكليف بالوقت يمكن مع إطلاقه، حيث يكون الوقت شرطاً للواجب بسبب عدم ترتب غرضه عليه إلا فيه، فيكون تقديمه عليه تقديماً للواجب على وقته مطلقاً.

لكن لابد من النهي عنه لو كان التكليف فعلياً أو علم بتحقق شرط فعليته بعد ذلك، لما فيه من تفويت الغرض الفعلي في وقته، وإن كان مسقطاً للواجب في وقته لو جيء به وخولف النهي.

هذا، وحيث كان ظاهر الإجزاء هو الوفاء بالغرض كان ظاهر التعبير به في الأدلة إرادة الوجه الأول، لا الثاني.

الأمر الرابع: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره من استحالة كون الزمان أضيق وقاعدة من أدرك ركعة

الأمر الرابع: حيث سبق أن الموسع هو الذي يكون وقته أوسع منه، والمضيق هو الذي يكون وقته بقدره فقد قال سيدنا الأعظم قدس سره في حقائقه: «ويمتنع أن يكون الزمان أضيق، لأن التكليف بالفعل تكليف بالمحال. نعم، قد يكون الزمان وقتاً لبعضه، كما في من أدرك ركعة من الوقت، بناءً على كون خارج الوقت ليس وقتاً لباقي الفعل، كما هو الظاهر، لعدم التلازم بين

ص: 415

التنزيلين، كما ذكرناه في محله».

وكأنه أشار إلى ما ذَكَرَهُ في مستمسكه في شرح المسألة الحادية عشرة من فصل أوقات الفرائض التي تعرض فيها لذلك.

قال قدس سره: «ثم إن الظاهر من النص والفتوى تنزيل الصلاة الواقع منها في الوقت ركعة منزلة الصلاة الواقع تمامها فيه، ومقتضاه ترتيب أحكامها عليها، لا تنزيل خارج الوقت المساوي لثلاث ركعات - مثلاً - منزلة نفس الوقت، ليكون مفاده ترتيب أحكامه عليه، فلاحظ».

وما ذكره قدس سره في محله، لعدم تعرض الأدلة للوقت بنحوٍ تقتضي سعته، بل لنفس الصلاة بنحو تقتضي أجزاءها وتماميتها، ففي خبر الأَصبغ بن نُباته: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامة»(1). لكن لم يتضح عاجلاً الأثر العملي لذلك.

وقد يستفاد منه قدس سره هناك ظهور الأثر في وجوب المبادرة، إذ بناءً على استفادة سعة الوقت من النصوص يجوز تأخير الصلاة إليه اختياراً، حيث تقع في وقتها، وبناءً على دلالتها على كون الوقت لبعض الصلاة، لتمحضها في تنزيل الصلاة الواقع بعضها خارج الوقت منزلة الصلاة الواقع تمامها فيه، يجب المبادرة بالصلاة وإيقاعها بتمامها في الوقت، عملاً بمقتضى التوقيت.

ويشكل: بعدم الفرق بين الوجهين في ذلك، لأن مفاد دليل التوقيت تعيين الوقت ووجوب إيقاع الصلاة بتمامها فيه، فإن كان مفاد التنزيل توسيع الوقت كان حاكماً على دليل التوقيت بلحاظ مفاده الأول، وإن كان مفاده تنزيل الصلاة الواقع بعضها في الوقت منزلة الصلاة الواقعة فيه بتمامها كان

ص: 416


1- الوسائل ج 3، باب: 30 من أبواب المواقيت، حديث: 2

حاكماً عليه بلحاظ مفاده الثاني.

فالظاهر عدم تبعية وجوب المبادرة وعدمه لأحد الوجهين، بل إن كان للتنزيل المذكور إطلاق يشمل حال الاختيار - كما هو مقتضى الخبر المتقدم - لم تجب المبادرة، لما ذكرنا من حكومته على دليل التوقيت بلحاظ أحد مفاديه.

وإن لم يكن له إطلاق كذلك، بل كان مختصاً بحال الاضطرار، وجبت المبادرة مع التمكن، عملاً بدليل التوقيت، حيث لا يكون دليل التنزيل حاكماً عليه إلا في حال التعذر لضيق الوقت - ولو بسوء الاختيار - فتجب المبادرة معه إلى الصلاة ولا يجوز تأخيرها بعد الوقت محافظةً على الوقت الاضطراري بعد تعذر الاختياري.

الأمر الخامس: جريان التقسيم في المستحب

الأمر الخامس: أشرنا في أول الكلام في هذا التقسيم إلى عدم اختصاصه بالواجب، بل يجري في المستحب.

وأما المنهي عنه - من المكروه والمحرم - فالظاهر جريانه فيه أيضاً، لإمكان اختصاص الفعل المنهي عنه بزمانٍ خاص، تبعاً لاختصاص المفسدة به، ولا إشكال فيه مع كون الوقت مضيقاً، حيث يقتضي تركه في تمام الوقت.

وأما فرض كونه موسعاً بنحوٍ تكون المفسدة مقتضية لترك الفعل في بعض الوقت غير المعين لا في تمامه، فهو وإن كان ممكناً، إلا أنه لا يناسب النهي، لما سبق من ابتنائه على استيعاب أفراد المنهي عنه بالترك، لا البدلية فيها، فلابد من مطابقة التكليف للملاك من أن يكون بصورة الأمر بالترك مدة من الزمان في ضمن الوقت، كالأمر بترك الماء ساعةً من يوم خاص، أو ترك السفر يوماً من شهرٍ خاصٍ، فتكون السعة في المأمور به لا في المنهي عنه.

ص: 417

كما أنه يمكن فيه تشريع القضاء وأجزاء الترك قبل الوقت عن الترك فيه على النحو المتقدم في الواجب.

ص: 418

المبحث السابع في تقسيم المأمور به إلى تعبدي وتوصلي
اشارة

وينبغي تمهيد الكلام بذكر أمور:

الأمر الأول: تفسير التعبدي والتوصلي

الأمر الأول: المراد بالتعبدي في هذا التقسيم ما يتوقف سقوط أمره على موافقته بوجهٍ قربي من الأمر - على الكلام الآتي في تحديد الوجه القربي - والتوصلي بخلافه، فيسقط أمره بمجرد حصوله.

ولعله إلى ذلك ترجع عباراتهم على اختلافها الذي قد يكون ناشئاً من اختلافهم في كيفية أخذ الوجه القربي واعتباره، وهو أمر يأتي الكلام فيه، ولا ينبغي التعرض له هنا، بل يقتصر هنا على التعريف بالرسم بذكر الأثر المتفق عليه عند الكل.

وأما تفسير التوصلي بما يمكن الإتيان به لأجل فائدته للعلم بها، والتعبدي بما لا يمكن أن يؤتى به إلا للتعبد بأمر المولى من دون أن يعلم بالفائدة الموجبة للأمر به - كما قد ينسب للقدماء - فهو مصطلح آخر خارج عن محل الكلام في المقام.

الأمر الثاني: جريان التقسيم في المستحب

الأمر الثاني: هذا التقسيم - ككثير من التقسيمات السابقة - لا يختص بالواجب، بل يجري في المستحب بلا إشكال، وإن قصرت عنه بعض

ص: 419

كلماتهم.

جريان التقسيم في الحرام وعدمه

وأما جريانه في المنهي عنه فهو مبني على ما يأتي الكلام فيه من أن القصد القربي في التعبدي هل هو من شؤون المتعلق المأخوذة فيه، أو هو أمر خارج عنه يعتبر فيه شرعاً بأمر آخر، أو عقلاً في مقام الامتثال.

فعلى الثاني يجري التقسيم في النهي، حيث لا يقتضي النهي عن الماهية إلا محض الترك، وإن أمكن لزوم التقرب فيه لأمرٍ خارج عنه تارةً فيكون تعبدياً، وعدمه أخرى فيكون توصلياً.

أما على الأول - الذي هو الظاهر - فلا يجري في النهي، بل لا يكون النهي إلا توصلياً، ولا يكون التعبدي إلا أمراً، لأن قصد التقرب أمر وجودي ومقتضى الخطاب تحقيقه لا تركه، وما يقتضي فعل المتعلق هو الأمر لا النهي.

غايته أن المأمور به التعبدي..

تارةً: يكون هو الفعل المقيد بالقصد القربي، كالصلاة.

وأخرى: يكون هو الترك المقيد به، كالصوم. ولعل ارتكازية الأول هي المنشأ لعدهم الصوم مأموراً به تعبدياً من دون أن يبدلوا ذلك بعدِّ ما يمسك عنه الصائم محرمات تعبدية.

الأمر الثالث: وجوه المقربية

الأمر الثالث: ذكروا للمقربية وجوهاً كثيرة، كقصد الامتثال، وقصد المصلحة، وطلب الثواب وخوف العقاب - الأخرويين أو الدنيويين - وغيرها.

وفي الجواهر أنه لابد من الامتثال مع استظهار أن ذلك هو مراد الاصحاب من قصد القربة. وظاهر شيخنا الأستاذ قدس سره موافقته، كما قد يظهر

ص: 420

من غيره، وعن شيخنا الأعظم قدس سره موافقته فيما عدا قصد المصلحة وأنه في عرضه، وربما قيل: إنها جميعاً في عرضٍ واحد.

كما ربما يمنع من تحقق التقرب وصحة العبادة مع الأخيرين، بل نسب للمشهور، وعن السيد رضي الدين بن طاووس القطع به، وعن قواعد الشهيد نسبته إلى قطع الأصحاب أو أكثرهم، وعن الرازي اتفاق المتكلمين عليه، وعن العلامة في جواب المسائل المهنائية اتفاق العدلية على عدم استحقاق الثواب معهما.

هذا، ولا ينبغي التأمل في أن المعيار في المقربية عند العرف قصد ملاك المحبوبية للمتقرب منه بما هو كذلك، وهو عبارة عن الجهة الموجبة لمحبوبية الفعل أو الترك لمن يراد التقرب منه، وهي أسبق مرتبة من أمره وعلة له، وقد تستكشف تارةً به، وأخرى بغيره، كما لو تعذر الأمر منه لعجزٍ أو غفلةٍ أو غيرهما.

لكن لابد من فعلية الملاك بحيث يبلغ مرتبة إستتباع الإرادة والخطاب لولا المانع.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن جميع الدواعي القربية في عرضٍ واحدٍ، وأن الجامع بين الجميع كون العمل لله سبحانه، كما يستفاد من قوله عليه السلام: «وكان عمله بنيةٍ صالحةٍ يقصد بها ربه».

فيدفعه: أن إضافة العمل لله سبحانه بحيث يحسب عليه إنما تصح مع ملاحظة نحو علاقةٍ له به، والظاهر أن العلاقة المصححة له ما ذكرنا من كونه واجداً لملاك المحبوبية، فلابد من قصده.

إن قلت: هذا لا يناسب ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية من

ص: 421

انتزاع التكليف من الإرادة التشريعية التي هي منتزعة من الخطاب بداعي جعل السبيل وجعل مقتضاه في حساب المخاطب منتسباً إليه، والتي سبق أنها مباينة للإرادة التكوينية سنخاً وإن كانت في بعض الموارد مسببة عنها. إذ المحبوبية من شؤون الإرادة التكوينية، لا من شؤون الخطاب بالوجه المذكور، مع أنه لا إشكال في أنه يكفي في التقرب المعتبر في التعبدي قصد امتثال التكليف المنتزع من الإرادة التشريعية المذكورة.

قلت: المراد بملاك المحبوبية ما يعم ملاك التكليف الموجب للإرادة التشريعية، فكما أن قصد ملاك المحبوبية الموجب للإرادة التكوينية يكون مقرباً من باب تقرب المحسن بإحسانه لمن أحسن إليه، كذلك قصد ملاك الإرادة التشريعية يكون مقرباً من باب تقرب العبد للمولى والمكلَّف للمكلَّف، فإذا علم العبد بثبوت الملاك بالنحو المذكور وبلوغه مرتبة جعل التكليف كفى قصده في تقربه من المولى بما هو مولى، وإن لم يخاطبه المولى - تبعاً للملاك المذكور - لمانعٍ من غفلةٍ أو عجزٍ أو نحوهما - لو كان ممكناً في حقه - لأن ذلك كافٍ في حسن الطاعة أو وجوبها، ولا يتوقف وجوبها وحسنها على الخطاب فعلاً، كما يظهر بأدنى تدبر في المرتكزات العقلائية.

وعليه يبتني ما ذكروه في مسألة الضد من إمكان التقرب بالمهم بقصد الملاك، فيصح لو كان عبادةً، وإن قيل بعدم الأمر به بسبب المزاحمة للأهم وعدم ثبوت الأمر الترتبي على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

في مقربية قصد الامتثال

ومن هنا ظهر أن مقربية قصد الامتثال إنما هي لكونه في طول قصد ملاك المحبوبية، فهو راجع إليه. كما أن قصد المصلحة إن أريد به قصدها

ص: 422

بما هي هي فهو ليس مقرباً من المولى، لعدم دخله به، وإن أريد به قصدها بما أنها ملاك للتكليف المولوي فهو عبارة أخرى عما ذكرناه من قصد ملاك المحبوبية.

قصد تحصيل الثواب وموافقة ملاك المحبوبية

وأما قصد تحصيل الثواب ودفع العقاب فهما في طول قصد موافقة ملاك المحبوبية ومبنيان عليه لا في عرضه، وتوضيح ذلك: أن موافقة ملاك المحبوبية لما لم يكن داعياً ذاتياً للمكلف لم يصلح للداعوية إلا بلحاظ جهات خاصة تكون داعية في طول داعويته.

وتلك الجهات.. تارةً: ترجع إلى المولى نفسه، ككونه أهلاً للطاعة، أو لحب العبد له المقتضي لسعيه فيما يحبه، أو شكراً منه لنعمه، أو نحوها.

وأخرى: ترجع للعبد نفسه، كطلب الرفعة عند المولى، واستحقاق الشكر منه، ودفع المحذور وإستجلاب المحبوب الدنيويين أو الأخرويين.

والظاهر عدم منافاة شيءٍ منها للتقرب، فتصح العبادة مع الجميع إذا كان قصدها في طول قصد ملاك المحبوبية، بنحو داعي الداعي، كما هو محل الكلام.

دعوى: أنه من قبيل المعاوضات ودفعها

ودعوى: أن العمل برجاء المحبوب أو دفع المكروه الدنيويين أو الأُخرويين من قبيل المعاوضات التي لا تناسب مقام السيد المستحق للعبادة، ولا يتحقق بها التقرب، بل لا يكون التقرب إلا مع صدور العمل لأجله.

مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم إذا لم يلحظ رضا المولى ومحبوبيته داعياً للعمل، بل كان الداعي بالمباشرة هو دفع المكروه وجلب المحبوب على أنه أثر العمل، نظير اللوازم الخارجية الطبعية، أو عوضه، نظير أجرة الأجير،

ص: 423

حيث تكون داعويتها لعمله بالمباشرة، لا في طول محبوبية المستأجر لعمله.

بخلاف ما إذا كان جلب المحبوب ودفع المكروه ملحوظاً على أنه داعي الداعي مع كون الداعي بالمباشرة هو محبوبية المولى، بأن يأتي العبد بالعمل لأنه محبوب للمولى وطاعةً له، كي يَرضى عنه ويكون أهلاً لرحمته وبعيداً عن نقمته فإن ذلك لا يمنع من التقرب للمولى واستحقاق الشكر منه بالإحسان للعبد والإنعام عليه ودفع المكروه عنه.

نظير التحبب للعشيرة بالإحسان إليهم، لأنهم جناحه الذي به يطير ويده التي بها يصول، حيث لا إشكال في كونه مقرباً منهم ومستوجباً لشكرهم وامتنانهم واستحقاق الجزاء منهم.

إشكال مقربية تحصيل الثواب

إن قلت: قد تقرر في محله أن داعي الداعي هو الداعي الحقيقي، فإذا أمر زيد بإطاعة عمرو، فأمر عمرو بشيء، فمن أتى به إطاعةً له بداعي إطاعة زيد، كان الداعي الحقيقي له هو إطاعة زيد، فيكون متقرباً له لا لعمرو، فإذا كان الداعي لامتثال أمر المولى وإرضائه هو تحصيل ثوابه أو دفع عقابه، كان الداعي الحقيقي تحصيل الثواب أو دفع العقاب، ولا ينظر إلى داعوية إرضائه، ليكون مقرباً منه.

دفعه

قلت: هذا إنما يتم إذا كان الداعي الأول مجرد موافقة أمر الآمر، نظير موافقة أمر المستأجر، دون ما إذا كان هو موافقته من حيثية محبوبيته المستتبعة لرضاه والتحبب إليه، فإنها لا تنافي التقرب منه وإن كان الداعي الحقيقي هو ما وراء ذلك من موافقة أمر الغير أو تحصيل الثواب وتجنب العقاب.

ولذا كان الإحسان للمؤمنين رغبة في إرضائهم وتحصيل محبوبهم

ص: 424

بداعي أمر الشارع موجباً للتقرب منهم واستحقاق شكرهم والجزاء منهم بحسب المرتكزات العقلائية والمتشرعية، وإن كان الداعي الحقيقي هو أمر الشارع.

عدم منافاة داعوية تحصيل المحبوب

بل لا ينبغي التأمل في عدم منافاة داعوية تحصيل المحبوب ودفع المكروه الدنيويين والأُخرويين للتقرب والعبادية بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية، وسيرة المتشرعة، والآيات والروايات الحاثة على الطاعة والزاجرة عن المعصية ببيان ما يترتب على الأُولى من أنواع خير الدنيا وثواب الآخرة، وعلى الثانية من أنواع ضرر الدنيا وعذاب الآخرة. لوضوح أن بيانهما ليكونا داعيين للعمل، وكذا نصوص قاعدة التسامح في السنن(1) الظاهرة والصريحة في كون الداعي للعمل هو الثواب الموعود به، وما تضمن بيان مراتب العبادة(2) كالصحيح الآتي وغيره.

بل تضمن بعض النصوص الترغيب على العمل طلباً لما عند الله تعالى، ففي النبوي: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل إمرئٍ ما نوى، فمن غزا ابتغاءَ ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلا ما نوى»(3)، وفي صحيح الحسين بن أبي سارة: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول،: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو»(4).

نعم، العمل بقصد دفع المحذور وجلب المحبوب مرتبة دانية من

ص: 425


1- راجع الوسائل ج 1، باب: 18 من أبواب مقدمة العبادات
2- راجع الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب مقدمة العبادات
3- الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 10
4- الوسائل ج 11، باب: 13 من أبواب جهاد النفس، حديث: 5

الإطاعة، والتقرب بها دون التقرب بالوجوه الأخرى مما يعود للمولى - كأهليته والحب له - أو للعبد - كالتحبب للمولى وطلب الرفعة عنده - لأنها أظهر في تعظيمه وتقديسه، بل هي ملازمة لسمو نفس العبد المتقرب وعلو همته.

ففي صحيح هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه السلام: «قال: العبادة [إن العباد] ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفاً، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأُجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حباً له، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة»(1)، وقريب منه غيره، لكنه أمر آخر لا ينافي الأجزاء الذي نحن بصدده، بل يستلزمه.

هذا، وقد يستظهر من غير واحدٍ ممن منع من التقرب مع قصد جلب المحبوب ودفع المكروه إرادة قصده عوضاً بلا توسط قصد التحبب للمولى بفعل ما يحبه، بل هو صريح بعضهم.

كما أن من القريب أن يكون مراد من بنى على الصحة معه إرادة ما ذكرناه من كون قصده في طول قصد ملاك المحبوبية للتحبب للمولى، كما هو صريح بعضهم.

ومن ثم لا يبعد اختلاف موضوع النزاع، المستلزم لعدم كون النزاع حقيقياً، إلا أن يرجع للنزاع في إمكان اجتماع القصدين أو التنافي بينهما. ولا مجال لاستقصاء كلماتهم، والمهم ما ذكرناه من التفصيل.

ثم إن الظاهر إبتناء عمل المتشرعة مع قصد جلب الثواب ودفع العقاب الأُخرويين على الوجه الذي ذكرناه الراجع إلى كون ترتبهما فرع التحبب بالعمل للمولى، ليكون العبد أهلاً لرحمته وبعيداً عن نقمته، لأن

ص: 426


1- الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 1

ذلك هو الوجه في ترتبهما حسب ارتكازياتهم.

وكذا الحال في قصد دفع وجلب جملة من المضار والمنافع الدنيوية.

ولو فرض كون ترتب بعضها بنظرهم لا بالوجه المذكور، بل لأنه من سنخ اللوازم والآثار الطبيعية للعمل المترتبة عليه بنفسه، أو من سنخ الأجر المحض من دون توسط التحبب للمولى، فلابد في صحة العبادة مع قصده من ضم الداعي القربي بنحوٍ يستقل بالتأثير، بحمل النفس على ذلك، ولو بترويضها عليه لأجل الغرض الدنيوي المذكور، وإلا أشكل صحة العبادة، كما هو الحال في جميع الدواعي المباحة غير القربية، على ما يذكر في مباحث النية من الفقه.

الأمر الرابع: في العبادة الذاتية

الأمر الرابع: وقع الكلام بينهم في وجود العبادة الذاتية التي لا تناط بقصد التقرب للمعبود الذي سبق توقفه على محبوبية العمل له، بل تصدق على العمل ولو مع نهي المعبود عنه، المستلزم لمبعديته منه.

وهي وإن كانت خارجة عن محل الكلام، لما سبق من أن المراد بالتعبدي في هذا التقسيم ما يتوقف سقوط أمره على امتثاله بوجه قربي، إلا أن مناسبتها له تقتضي ذكرها في المقام استطراداً.

فاعلم أنه صرح بعضهم بوجود العبادة الذاتية، ومثَّل لها بالركوع والسجود ونحوهما.

ومنع منها آخرون، منهم سيدنا الأعظم قدس سره مدعياً أن المعيار في العبادية قصد ملاك المحبوبية للمولى، ولا تصدق بدونه. بل ذكر أن الالتزام بتحقق العبادة الذاتية له تعالى مانع من النهي عنها لحسنها ذاتاً.

ما ينبغي أن يقال في المقام

والذي ينبغي أن يقال: الظاهر أن العبادة متقومة عرفاً بخضوع العابد

ص: 427

للمعبود بمرتبة عالية بحيث يكون فانياً أمامه، ولا استقلال له معه.

ولعله إليه يرجع ما في مجمع البيان، قال في تفسير سورة الفاتحة: «والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه، لأنها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع مع التعظيم بأعلى مراتب التعظيم.

ولا يستحق إلا بأصول النعم التي هي خلق الحياة والقدرة والشهوة، ولا يقدر عليه غير الله تعالى، فلذلك إختص سبحانه بأن يعبد، ولا يستحق بعضنا على بعض العبادة، كما يستحق بعضنا على بعض الشكر، وتحسن الطاعة لغير الله تعالى ولا تحسن العبادة لغيره.

وقول من قال: إن العبادة هي الطاعة للمعبود، يفسد بأن الطاعة موافقة الأمر، وقد يكون موافقاً لأمره ولا يكون عابداً له، ألا ترى أن الابن يوافق أمر الأب ولا يكون عابداً له، وكذلك العبد يطيع مولاه ولا يكون عابداً له بطاعته إياه، والكفار يعبدون الأصنام، ولا يكونون مطيعين لهم، إذ لا يتصور من جهتهم الأمر».

مظهر العبادة الذاتية

ولذلك مظهران:

الأول: ذاتي

الأول: ذاتي، وهو إطاعة أمر المعبود ونهيه بنحو يبتني على الفناء فيه ومنتهى الخضوع له لاستحقاقه ذلك عليه لذاته متفرعاً على ملكيته بالذات لنفس المطيع، دون ما لو كان استحقاقه للإطاعة لأمرٍ خارج عن ذاته، كشكر إحسان سابق أو بجعله ممن يجب إطاعته، كإطاعة النبي والإمام والمولى والمستأجر بأمر الله تعالى، أو لاستحقاقٍ ذاتي لا يتفرع على استحقاق نفس المطيع، كاستحقاق الأب الإطاعة على الولد، فضلاً عما لو لم يبتن على الاستحقاق، كإطاعة شخصٍ لآخر برجاء إحسانه أو لدفع شره، أو تفضلاً

ص: 428

منه عليه.

الثاني: عرفي

الثاني: عرفي، وذلك بالإتيان بأمور تبانى العرف والعقلاء على كونها مظهراً للخضوع الخاص أزاء الطرف المقابل ومبرزة لذلك، كالركوع له والسجود وتقديسه وتمجيده بما يناسب بلوغه المقام المذكور.

ولا مجال لدعوى: أن عبادية هذه الأمور ذاتية. لاختلافها باختلاف الأعراف على حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهي كسائر الأمور العرفية التي تقبل إمضاء المعبود وردعه واختراعه، فله أن يردع عن طريق خاص، فلا يكون مظهراً لعبادته، كما أن له أن يخترع طريقاً خاصاً، فيكون مظهراً لها، لنفوذ جعله على من يعبده بعد فرض خضوعه له وفنائه فيه.

وهذا بخلاف الأول، حيث لا مجال للردع عنه، بحيث يخرج عن كونه عبادة بعد كون عباديته ذاتية.

هذا، وأما النهي عن العبادة تكليفاً أو لمبغوضيتها من دون ردعٍ عن كيفية أدائها، بل مع فرض كون العمل مؤدياً، فإن كان من المعبود مع عدم استحقاقه لذلك فلا مانع منه، بل هو في غاية الحسن، كنهي المعصومين عليهم السلام عن عبادة الناس لهم. من دون فرق بين نوعي العبادة الذاتية والعرفية.

ونهيه عن العبادة الذاتية التي هي الإطاعة بالنحو الخاص للأمر والنهي لا ينافي صدور الأمر والنهي منه، لأنهما إنما يقتضيان أصل الإطاعة، دون النحو الخاص منها، وإنما يحسن النحو الخاص تبعاً لاستحقاق الآمر والناهي العبادة، فمع فرض عدم استحقاقه لا مانع من نهيه عنه.

وكذا الحال في نهي غير المعبود، كنهيه تعالى عن عبادة غيره ونهي المعصومين عليهم السلام عن عبادة الملائكة والأصنام.

ص: 429

كما أن النهي المذكور لا يوجب انسلاخ عنوان العبادية عن العمل الذي تؤدى به العبادة وإن صدر من المعبود، خلافاً لما سبق من سيدنا الأعظم قدس سره، ولذا لا يكون نهي المعصومين عليهم السلام عن عبادتهم بالركوع والسجود ونحوهما مخرجاً لها عن كونها عبادةً لهم.

نعم، يكون مانعاً من التقرب بها للناهي، فهي عبادة مبعدة عن المعبود لو نهى عنها.

وإن كان مع استحقاق المعبود للعبادة كالنهي عن عبادته تعالى بنحوٍ من الأنحاء فحيث كانت عبادته حسنة ذاتاً فلا يحسن النهي عنها إلا مع مزاحمة جهة الحسن الذاتية بجهة قبح عرضية ترجح عليها، حيث لا مانع من مزاحمة الجهة الذاتية للحسن والقبح، إلا أن تكون علةً تامةً لأحدهما، وليس هو المدعى في المقام، بل المدعى كون عبادة المستحق مجرد مقتضٍ للحسن يقبل المزاحمة كالصدق. وحينئذٍ لا يخرج العمل عن كونه عبادة بالنهي المذكور.

غاية الأمر أنه يمتنع التقرب به من الناهي ويكون مبعداً عنه، وإن كان هو المعبود نفسه.

إذا عرفت هذا فالكلام في المقام..

تارةً: في الفرق بين التعبدي والتوصلي في مقام الثبوت بحسب حقيقتهما، وإلا فالفرق بينهما بحسب أثرهما وكيفية امتثالهما قد سبق في الأمر الأول.

وأخرى: فيما يقتضيه الإطلاق أو الأصل عند الدوران بينهما في مقام الإثبات.

ص: 430

المقام الأول في الفرق بينهما في مقام الثبوت

فحيث سبق توقف امتثال التعبدي وسقوطه على الإتيان به بوجهٍ قربي، بخلاف التوصلي، يقع الكلام في أن الفرق بينهما في ذلك هل يتفرع على الاختلاف بينهما في متعلق الأمر فهو مطلق في التوصلي ومقيد في التعبدي بنحوٍ يقتضي الإتيان بالوجه القربي، أو على الاختلاف بينهما في الماهية والسنخ، نظير الاختلاف بين الوجوب والاستحباب، فالأمر التوصلي نحو من الأمر يقتضي محض الموافقة، والتعبدي نحو آخر يقتضي المتابعة بالنحو القربي، من دون فرق بينهما في المتعلق، أو على الاختلاف بينهما في الغرض، فيتأدى الغرض من التوصلي بمجرد موافقته، ولا يتأدى الغرض من التعبدي إلا بالموافقة عن القصد القربي، من دون فرق بينهما في المتعلق ولا في السنخ. واللازم النظر في جميع هذه الوجوه.

الوجه الأول: الفرق من حيث إطلاق المتعلق وتقييده

الوجه الأول: في أن الفرق بينهما بإطلاق المتعلق وتقيده.

والظاهر أنه هو المرتكز بدواً والمتعين في نفسه لو أمكن، وليس البناء من بعضهم على أحد الوجهين الآخرين إلا للبناء على امتناعه.

وجوه امتناع التقييد

وما يظهر بعد التأمل في كلماتهم في وجه امتناعه: أن أخذ الدواعي القربية في المأمور به يشكل:

تارةً: في مقام فعلية الملاك والغرض والإرادة، السابقة على الأمر.

ص: 431

وأخرى: في مقام توجيه الخطاب وإنشاء الأمر.

وثالثةً: في مقام فعلية التكليف.

ورابعةً: في مقام الامتثال.

والبحث في ذلك يكون بالكلام في جهات.

الجهة الأولى: وجه الإشكال في مقام فعلية الملاك

الجهة الأولى: في وجه الإشكال في مقام فعلية الملاك والغرض والإرادة ونحوها مما يكون سابقاً على الأمر.

والظاهر أن عمدة الإشكال في هذا المقام: أن الداعي للفعل لما كان هو الأمر الذي يكون قصده علة في إرادة الفعل ووجوده في الخارج معلولاً للفعل، فداعوية الشيء للفعل في رتبةٍ متأخرةٍ عن فرض ترتبه عليه، فكيف تكون دخيلة في ترتبه عليه؟! فما لم يكن تطهير الثوب مترتباً على غسله لا يتأتى داعوية التطهير للغسل، وما لم يكن إحراق الورقة مترتباً على إلقائها في النار لا يكون الإحراق داعياً للإلقاء، ولازم ذلك ترتب الداعي على الفعل وإن لم يقصد منه ولم يكن داعياً له.

وحيث كانت الدواعي القربية المقصودة - كامتثال الأمر وموافقة ملاك المحبوبية ونحوهما - مستلزمة لفعلية الغرض والملاك والإرادة إمتنع دخل قصدها في فعلية هذه الأمور بحيث يختص متعلقها بما يكون مشتملاً على القصد المذكور.

لكن هذا إنما يلزم لو كان الداعي القربي هو كون الفعل بنفسه علةً تامةً لتحقق محبوب المولى وامتثال أمره أو نحوهما من الدواعي القريبة، كما هو الحال في التقرب بالمأمور به التوصلي.

أما لو كان الداعي كونه مقتضياً لذلك فلا محذور، لوضوح أن قصد

ص: 432

الداعي القربي لا يكون دخيلاً فيما هو المقصود، وهو كون العمل العبادي مقتضياً لمحبوبية المولى أو امتثال أمره، بل هو دخيل في فعلية محبوبيته وامتثال أمره، بناءً على ما هو الظاهر من كونه شرطاً في المأمور به.

وبهذا يتجه دخل قصد الأثر في ترتبه في الأمور العرفية، كترتب التعظيم على القيام المقصود منه التعظيم، والتأديب على الضرب المقصود به التأديب، حيث لا يراد به قصد كون القيام والضرب علةً تامةً للتعظيم والتأديب، وإلا إمتنع دخل قصدهما في ترتبهما على القيام والضرب، بل قصد كونهما مقتضيين لهما، مع كون القصد شرطاً ودخيلاً في فعليتهما، لا في مجرد اقتضاء القيام والضرب لهما.

هذا، وأما بناءً على أن القصد القربي جزء من المأمور به فهو دخيل في مقتضي المحبوبية والامتثال، ولابد حينئذٍ من كون الداعي القربي هو الإتيان بجزء المحبوب وما به الامتثال لا بتمامه، فيكون المقصود هو التقرب بالأمر الضمني الوارد عليه، لا بالأمر بالمركب التام، حيث لا يكون الداعي القربي دخيلاً في جزئية العمل من المحبوب والامتثال بل تماميتهما.

وبالجملة: ليس الداعي القربي المقصود حين العمل والدخيل في تمامية الغرض والمحبوب والامتثال هو تحقيق ما يكون القصد دخيلاً فيه، الذي هو تمام موضوع الغرض والمحبوبية والامتثال، بل ما يستقل العمل به مع قطع النظر عن الداعي القربي، وهو كونه مقتضياً لها أو جزءاً منها، فلا يتوجه المحذور المذكور.

إن قلت: التقرب من المولى إنما هو بتحقيق غرضه، وحيث لا يترتب شيء من غرض المأمور به الارتباطي إلا بتماميته بتمام أجزائه وشروطه فلا

ص: 433

مجال للتقرب بالجزء والمقتضي إلا في ضمن قصد التقرب بتمام المركب، ولا يكون قصد الجزء أو المقتضي بدونه مقرباً، لعدم وفائه بالغرض، كما أشار لذلك المحقق الخراساني قدس سره في بعض جهات الكلام في المقام.

قلت: هذا إنما يقتضي امتناع التقرب بالجزء والمقتضي في ظرف عدم تمامية المركب الارتباطي، لعدم ترتب شيء من الغرض عليه حينئذٍ، ولا يقتضي لزوم التقرب به في ضمن التقرب بتمام المركب، بل يكفي تمامية المركب ولو بوجه غير قربي، فإذا وجب غسل الثوب مرتين بنحو الارتباطية يمتنع التقرب بغسله مرةً واحدةً في ظرف غسله مرةً أخرى، أما مع غسله مرةً أخرى سابقاً أو لاحقاً بوجهٍ غير قربي فيمكن التقرب بغسلةٍ واحدةٍ، لكونها دخيلةً في ترتب غرض المولى وفعليته، وإن لم يستند ترتب الغرض إليه وحده.

وفي المقام حيث كان قصد التقرب بالجزء أو المقتضي متمماً للمطلوب لعلة الامتثال وموافقة ملاك المحبوبية أمكن التقرب بالجزء أو المقتضي، لكونه دخيلاً في فعلية الغرض وترتبه.

بل هو راجع حينئذٍ للتقرب بفعلية الغرض في طول التقرب بجزء علته، لأن تحقيق المقتضي أو جزء العلة وإن كان هو الداعي المباشر للعمل، إلا أن تحقيق الغرض المعلول وفعليته بإتمام علته يكون ملحوظاً من باب داعي الداعي، الذي تقدم أنه الداعي الحقيقي، وإن لم يتقرَّب ببقية إجزاء العلة، ولبعض مشايخنا كلام لا يبعد رجوعه لذلك.

الجهة الثانية: في تقييد الأمر بقصد الامتثال

الجهة الثانية: في وجه الإشكال في مقام توجه الخطاب وإنشاء الأمر.

والمذكور في كلماتهم وجهان يرجعان إلى امتناع تقييد الأمر بقصد

ص: 434

الامتثال.

أحدهما: ما ذكر الشيخ الأعظم قدس سره

أحدهما: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره - كما في التقريرات - وتبعه غير واحد على اختلاف عباراتهم، ومرجع الكل إلى أن قصد الامتثال لما كان من شؤون امتثال الأمر كان متأخراً رتبة، وحيث كان متعلق الأمر متقدماً على الأمر رتبةً تقدم الموضوع على عرضه، كان قصد الامتثال متأخراً عن متعلق الأمر بمرتبتين، فيمتنع أخذه فيه، لامتناع أخذ المتأخر في المتقدم.

ولا ينفع في دفع ذلك ما سبق في أن المأخوذ في المتعلق هو قصد امتثال الأمر الضمني الوارد على الجزء أو الذات، لا قصد امتثال الأمر الاستقلالي الوارد على المركب بتمامه بما فيه قصد الامتثال المذكور، والذي هو متأخر عن المتعلق رتبة تأخر العرض عن معروضه.

والوجه في عدم نفعه: أن الأمر الضمني ليس له تقرر في مرتبة الإنشاء، ليمكن لحاظه وأخذه في المتعلق، بل هو مستفاد بحسب التحليل العقلي في المرتبة المتأخرة عن الإنشاء، الذي لا يكون إلا للأمر الاستقلالي بالمركب التام، فأخذه في المتعلق يستلزم أخذ ما هو متأخر عنه في الرتبة.

ومثله ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن العارض على المتعلق المتأخر عنه رتبةً هو الحكم بوجوده الخارجي، والمدعى أخذه فيه ليس داعويته، لتكون من شؤونه المتوقفة عليه والمتأخرة عنه رتبةً، بل داعوية صورته الذهنية غير المتوقفة عليه، لأن الداعي هو الحكم بوجوده العلمي.

لاندفاعه: بأن الداعي ليس هو الصورة الذهنية للأمر بنفسها، بل بما هي عبرةً لوجوده الخارجي، وإن كان قد يختلف عنها، فلابد في أخذ داعوية الأمر في المتعلق من تصور الأمر له مفروض التقرر والوجود، وهو ممتنع

ص: 435

في مقام إنشائه، لعدم تقرره بشخصه إلا في رتبة متأخرة عن الإنشاء، كما يظهر بأدنى تأمل في المرتكزات العرفية.

وهناك بعض الوجوه الأخر مذكور في دفع الإشكال المذكور لا مجال لإطالة الكلام فيه مع تعقده وعدم وضوح نهوضه.

المناقشة فيما ذكره قدس سره

والذي ينبغي أن يقال: حيث لا يرجع هذا الإشكال إلى امتناع اختصاص متعلق الأمر بالواجد لقصد الامتثال، بل إلى امتناع لحاظ القصد المذكور قيداً في المتعلق حين الأمر، فالمتعين مع تعلق الغرض بخصوص الواجد للقيد عدم التكليف بالمطلق، بل بخصوص الواجد بنتيجة التقييد، لتبعية الأمر للغرض، غايته أنه لا يبين بلسان التقييد، بل بلسان آخر يكشف عن حال المتعلق من بيان لفظي أو لبي.

وكأن ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في التخلص عن الإشكال راجع إلى ذلك.

ثانيهما: ما ذكره النائيني قدس سره

ثانيهما: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره - كما في تقرير درسه لبعض مشايخنا - وحاصله: أنه لابد من أخذ موضوع التكليف مفروض الوجود في مقام الإنشاء، بحيث يجعل التكليف في فرض وجوده، ولذا لا يقتضي التكليف إيجاده، بل لا يثبت التكليف إلا في رتبةً متأخرة عنه، بخلاف متعلق التكليف، حيث يثبت التكليف بدونه ويقتضي إيجاده بماله من أجزاء وشرائط.

أما متعلق متعلق التكليف، كالزوجة التي هي متعلق الإنفاق الواجب والعقد الذي هو متعلق الوفاء الواجب ونحوهما، فلابد أن يكون جزءاً من موضوع التكليف ملحوظاً في مقام الإنشاء مفروض الوجود في رتبةٍ

ص: 436

سابقة عليه، ولذا لا يجب على المكلف الزواج ليمتثل التكليف بالإنفاق، ولا إيقاع العقد ليمتثل التكليف بالوفاء، بل يجب الإنفاق والوفاء في فرض تحقق الزوجية والعقد.

ومن الظاهر أن تقييد العمل بقصد امتثال الأمر راجع إلى كون الأمر متعلقاً لقصد الامتثال الذي هو معتبر في العمل المتعلق للتكليف، فيلزم أخذه موضوعاً للتكليف مفروض الوجود في مرحلة الإنشاء، وهو ممتنع، لاستلزامه تقدم الأمر على نفسه وكونه موضوعاً لنفسه.

وما ذكره قدس سره - لو تم - إمتنع اختصاص التكليف بالواجد لقصد الامتثال ثبوتاً، ولو بنحو نتيجة التقييد، لأن تقدم الأمر على نفسه وأخذه موضوعاً لها مفروض الوجود في رتبةٍ سابقةٍ عليها ممتنع ثبوتاً، بأي وجهٍ فرض بيانه.

المناقشة فيه

لكنه يشكل: بأن كون متعلق متعلق الحكم مأخوذاً موضوعاً فيه مفروض الوجود في مرتبةٍ سابقةٍ في مقام الإنشاء ليس لازماً عقلاً، ولذا لو وجب الغسل بالماء الطاهر أو التستر باللباس المنسوج أو التصدق بالخاتم المصوغ، فلا يراد وجوبها على تقدير وجود الأمور المذكورة، بل بنحو يقتضي إيجادها.

نعم، كثيراً ما يستفاد ذلك لبعض القرائن اللفظية أو العقلية أو الارتكازية.

ولعل تعريف المتعلق كثيراً ما يكون ظاهراً في أخذه مفروض الوجود، لما فيه من معنى العهد، ولذا كان الفرق ظاهراً بين قولنا: يجب على الرجل الإنفاق على زوجته، وقولنا: يجب عليه الإنفاق على زوجةٍ له.

كما قد يكون للحكم المجعول أو لكيفية جعله دخل في ذلك، كما في

ص: 437

وجوب الوفاء بالعقود، الظاهر في كونه إمضاءً للقضية الارتكازية العرفية، التي لا يراد بها إلا الوفاء بالعقد على تقدير وجوده، لا بنحو يقتضي إيجاده.

مع أنه حيث كان المراد به الوفاء بكل عقدٍ، لا الاكتفاء بالمسمى، ويعلم بعدم وجوب إيقاع جميع أفراد العقود، كان المتعين إرادة الاكتفاء بكل عقدٍ بعد فرض وقوعه.

ومن هنا لا مجال لإثبات لزوم ذلك في المقام، ليمتنع اختصاص التكليف ثبوتاً بالواجد لقصد الامتثال.

نعم، قد يكون منشأ ذلك ما أشير إليه في تقرير درسه للكاظمي من أن الأمر لما كان خارجاً عن اختيار المكلف كانت قدرته على قصد امتثاله مشروطةً بوجوده، فلابد من أخذه مفروض الوجود موضوعاً للأمر، إذ لابد في الأمر من قدرة المكلف في رتبةٍ سابقةٍ عليه.

لكنه - مع توقفه على امتناع الواجب المعلق - يندفع: بأن أخذ منشأ القدرة في موضوع التكليف ولحاظه مفروض الوجود في رتبةٍ سابقةٍ عليه لما لم يكن لدخله في ملاكه، بل لامتناع التكليف بما لا يطاق، فهو مختص بما إذا كان أمراً خارجاً عن التكليف وغير ملازم له، كالوقت، أما إذا كان هو التكليف بنفسه - كما في المقام - أو ملازماً له، فلا ملزم بأخذه في موضوعه، لملازمة جعل التكليف للقدرة حينئذٍ، فلا يلزم من عدم أخذه في موضوعه التكليف بما لا يطاق، كما نَبَّه لذلك في الجملة بعض الأعيان المحققين قدس سره.

ابتناء الوجهين على انحصار التعبد بقصد الامتثال

هذا، ولا يخفى أن الوجهين معاً مبنيان على انحصار الداعي القربي بقصد الامتثال.

أما بناءً على ما سبق منّا من أن المعيار فيه قصد ملاك المحبوبية فلا

ص: 438

يلزم من التقييد به شيء من المحذورين المذكورين، لأن الملاك المذكور سابق في الرتبة على الأمر، فلا محذور في أخذه في موضوعه، كما يلزم من أخذ قصده في متعلقه أخذ ما هو من شؤون الأمر في متعلقه، كما اعترف بذلك في الجملة غير واحدٍ.

الجهة الثالثة: في الإشكال في مقام فعلية الخطاب

الجهة الثالثة: في وجه الإشكال في مقام الفعلية.

وقد وجهه بعض الأعاظم قدس سره بناءً على ما سبق منه من الإشكال في مقام الخطاب وإنشاء الأمر بأنه إذا كان لازم التقييد المذكور أخذ الأمر في موضوع نفسه، يلزم فعليته في رتبةٍ سابقةٍ على فعلية نفسه، لما هو المعلوم من أن فعلية الموضوع بتمام أجزائه وشرائطه سابقةً رتبةً على فعلية حكمه.

هذا، وحيث سبق عدم تمامية المحذور المذكور في مقام الخطاب وإنشاء الأمر، خصوصاً بناءً على أن المعتبر قصد ملاك المحبوبية فلا موضوع له في هذا المقام.

الجهة الثالثة: في الإشكال في مقام الامتثال وتقريبه من وجوه

الجهة الرابعة: في وجه الإشكال في مقام الامتثال.

وقد يقرب بوجوه:

الأول: ما ذكره الخراساني قدس سره

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن قصد الامتثال خارج عن الاختيار، لما تقرر من خروج الإرادة عنه، وإلا لتسلسلت.

وهو لو تم جرى في قصد غير الامتثال أيضاً.

دفعه

لكنه يندفع بأن لزوم التسلسل إنما يكشف عن عدم لزوم كون كل إرادة اختيارية بنحو الإيجاب الكلي، ولا يقتضي امتناع تعلق الاختيار بالإرادة والقصد بنحو السلب الكلي، بل لا مانع من كون بعض الإرادات اختيارية، كالإرادة المتعلقة بالفعل الاختياري، بنحو يمكن كونها قيداً في

ص: 439

المطلوب أو جزءاً منه.

كيف ولولا ذلك لإمتنع ما اختاره من كون قصد الامتثال واجباً عقلاً في العبادة، لدخله في غرض المولى، لامتناع تحقق الدواعي العقلية نحو الأمور غير الاختيارية؟!

الثاني: ما ذكره النائيني قدس سره

الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن داعوية قصد امتثال الأمر للعمل فرع تحقق الامتثال به في مرتبة سابقة على داعويته، لكونه واجداً لتمام أجزاء المأمور به وشرائطه، فإذا كان قصد داعويته دخيلاً فيه جزءاً أو شرطاً لزم كون داعويته في مرتبةٍ متأخرةٍ عن قصدها.

وهو راجع إلى ما تقدم منّا من المحذور في مرتبة تعلق الغرض والملاك. والذي سبق عدم الفرق فيه بين الدواعي، كما نبّه له قدس سره في الجملة في هذا المقام.

دفعه

ومما سبق هناك يظهر اندفاعه: بأن المقصود في مقام الامتثال - تبعاً لما هو المعتبر في مقام الجعل - ليس هو قصد كون العمل علة تامة للجهة المقصودة في الداعوية، بل مجرد كونه مقتضياً لها أو جزءاً منها، وما يتوقف على القصد المذكور هو فعلية ترتب تلك الجهة عليه، فالقصد المذكور دخيل في تمامية العلة، لا في الاقتضاء أو الجزء المقصود من العمل.

ومنه يظهر أنه لا مجال للإشكال بالعجز عن الامتثال، بتقريب: أن الإتيان بالعمل بقصد امتثال أمره متوقف على كونه مأموراً به بنفسه، والمفروض عدم الأمر به بنفسه، بل مقيداً بالقصد المذكور.

لاندفاعه: بأنه إنما يتجه لو كان المعتبر قصد كونه علةً تامةً للامتثال، أما حيث كان المعتبر قصد كونه مقتضياً له فيكفي فيه الأمر به مقيداً بالقصد

ص: 440

المذكور.

الثالث: ما ذكره النائيني قدس سره أيضاً

الثالث: ما ذكره هو قدس سره - أيضاً - من أن قصد الداعي أياً ما فرض فهو في مرتبةً سابقةٍ على الإرادة، لأنه علة لها، فيمتنع كونه في عرض العمل المتعلق لها والمسبب عنها، بحيث يكون مراداً معه لأنه جزء منه أو قيد فيه.

ودفعه

وفيه: أنه إن كان المراد تعلق الإرادة بشخص الداعي الذي هو علة لها، فهو مسلّم، إلا أنه لا ينفع في المقام، لما تقدم من أن الداعي المعتبر هو قصد كون العمل جزءاً من الجهة الملحوظة - من الامتثال أو موافقة ملاك المحبوبية أو نحوهما - أو مقتضياً لها، وهو علة للإرادة المتعلقة بذات العمل، من دون أن يكون الداعي المذكور مراداً بالإرادة المذكورة ولا من شؤون متعلقها، وإنما هو مراد بالإرادة المتعلقة به، وهي غير مسببة عن الداعي المعتبر في العمل، وكلتا الإرادتين في طول إرادة المركب التام الذي هو علة تامة لتلك الجهة الملحوظة.

فمثلاً: الداعي لإرادة فعل الصلاة بذاتها هو كونها مقتضية للامتثال أو جزءاً، وهو المعتبر في متعلق الأمر - جزءاً أو شرطاً - وليس هو مراداً بالإرادة المذكورة، بل علة لها، وإنما هو معلول للإرادة المتعلقة به، التي هي إرادة فعل شرط الامتثال أو جزئه الآخر، وكلتا الإرادتين في طول إرادة المركب التام، والتي يكون الداعي لها قصد العلة التامة للامتثال، وقد سبق في الجهة الأولى أن قصد جزء العلة للامتثال كافٍ في المقربية في ظرف تمامية العلة.

وإن كان المراد امتناع تعلق الإرادة بالداعي وإن لم يكن علةً لها فالدليل المذكور لا ينهض به، بل هو مخالف للوجدان، حيث لا إشكال في أن الداعي قد يقصد ويراد بإرادةٍ مسببةٍ عن داعٍ آخر، كالإتيان بالمأمور به

ص: 441

التوصلي بقصد الامتثال لأجل تحصيل الثواب عليه.

بل لولا ذلك لإمتنع التعبدي مطلقاً حتى مع توجيهه بما سيأتي منه قدس سره من ابتنائه على تعدد الأمر، لأن امتناع تعلق الإرادة بالداعي القربي مانع من تعلق الأمر به، لأن الغرض من الأمر إحداث الداعي العقلي نحو المأمور به، ويمتنع حدوث الداعي العقلي نحو ما يمتنع تعلق الإرادة به.

على أن هذا الإيراد إنما يتوجه لو كان الداعي القربي جزءاً من العبادة المأمور بها، حيث يلزم كونه مراداً للمكلف كسائر أجزاء المأمور به.

أما بناءً على كونه شرطاً فيها فمن الظاهر أنه لا يعتبر تعلق الإرادة والاختيار بالشرط، بل يعتبر كون المشروط اختيارياً مراداً للمكلف في ظرف تحقق الشرط، كالصلاة إلى القبلة وإن لم يكن الاستقبال اختيارياً، فعدم تعلق الإرادة بالداعي القربي لا يمنع من كونه شرطاً في العبادة المأمور بها بعد كون العبادة الواجدة له اختيارية مرادةً للمكلف.

وتوهم: أن القيد إذا لم يكن موجوداً فخروجه عن الاختيار مستلزم لعدم كون المقيد اختيارياً.

مدفوع: بأنه لا مجال لذلك في الاختيار، فإن العمل المقيد به اختياري، وإن لم يلزم كونه هو اختيارياً، فلاحظ.

وجه استحالة تقييد المتعلق ذاتاً َ

هذا، وفي المقام وجه آخر ذكره غير واحدٍ لعله لا يختص بمقام الامتثال، بل يرجع إلى استحالة تقييد متعلق الأمر بقصد امتثاله ذاتاً.

وهو أنه لما كان الأمر يدعو إلى متعلقه ذاتاً فلو كانت داعويته مأخوذة في متعلقه لزم كونه داعياً إلى داعوية نفسه، وهو كعليته لعلية نفسه محال.

ما دفعه به العراقي قدس سره

وقد دفعه بعض الأعيان المحققين قدس سره بالتفكيك الذي تقدم التنبيه له

ص: 442

غير مرة، بدعوى: أن الأمر بالمركب لا يدعو إلى داعوية نفسه، بل الحصة من الأمر المتعلقة بقصد الامتثال تدعو إلى داعوية الحصة المتعلقة بنفس العمل، لما سبق من أن المعتبر هو قصد كون العمل جزءاً من الامتثال أو مقتضياً له، لا أنه تمام الامتثال وعلته التامة، ليكون امتثالاً للأمر بتمام المركب.

وعليه لا يلزم إلا داعوية إحدى الحصتين من الأمر لداعوية الأخرى، ولا محذور فيه.

وهو وإن كان مسلّماً - لما سبق - إلا أنه يشكل بما تقدم في الوجه الأول لمحذور التقييد في مقام توجيه الخطاب، من أنه يمتنع لحاظ الأمر الانحلال والتفكيك في الأمر في مقام إنشائه، ليأخذ داعوية بعض حصصه في موضوع الأخرى.

إلا أن يدعى أخذه لباً بنحو نتيجة التقييد لا بصريحه، نظير ما تقدم في الوجه المذكور.

مع أن داعوية الأمر - وإن كان ضمنياً إلى متعلقه - من لوازمه الذاتية، فيمتنع استنادها إلى أمر خارج عنه.

وهذا هو العمدة في المحذور، لأنه ثبوتي لا يختلف باختلاف ألسنة جعل الحكم، بخلاف الأول.

الأولى: في دفع المحذور المذكور

فالأَولى دفع المحذور المذكور: بأن داعوية الأمر إلى متعلقه التي هي من لوازمه الذاتية ليست هي داعويته الفعلية في نفس المكلف، فإنها من شؤون المكلف، لا من لوازم الأمر الذاتية، بل هي بمعنى إقتضائه تحصيله، والداعوية المأخوذة في المأمور به ليست بهذا المعنى، لعدم كونه

ص: 443

من شؤون المكلف، بل هي بمعنى فعلية داعويته في نفس المكلف، بحيث يكون اندفاعه عنه، ولا مانع من استنادها لأمرٍ خارجٍ عن ذات الأمر، وهو خصوصية متعلقه، فيكون الأمر داعياً - بالمعنى الأول - لها في ضمن متعلقه، فلاحظ.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في المقام لمنع اختصاص متعلق الأمر بالقصد القربي، وقد ظهر عدم تماميتها في أنفسها أو عدم نهوضها بالمنع منه.

ومن هنا ينبغي البناء على إمكانه، غايته أنه لو كان القصد القربي مختصاً بقصد امتثال الأمر إمتنع أخذه بلسان التقييد في مقام جعل الحكم وتوجيه الخطاب، للوجه الأول، المتقدم في محذور التقييد في المقام المذكور، بل يتعين قصور المتعلق بنتيجة التقييد، فلابد من بيان ذلك بلسان آخر.

أما بناءً على ما سبق من أن المدار فيه على قصد ملاك المحبوبية فلا مانع من أخذه بلسان التقييد، كما تقدم.

بقي شيء: في متمم الجعل

بقي شيء:

وهو أنه ربما يدعى أنه بناءً على امتناع اختصاص متعلق الأمر بالقصد القربي فلو كان الغرض مختصاً به يتعين تعدد الأمر محافظةً على الغرض المذكور.

وهو الذي أصر عليه بعض الأعاظم قدس سره وجعله من صغريات متمم الجعل الذي التزم به في غير مورد من موارد امتناع التقييد.

ص: 444

وحاصله: أن جعل المولى وأمره..

تارةً: يكون تاماً ووافياً بغرضه وملاكه.

وأخرى: لا يكون وافياً به، لتعذر استيفاء الغرض بأمرٍ واحد، فلابد من تتميم الجعل بجعلٍ آخر، بأن يكون له أمران يحصل بهما غرضه ويستوفي الملاك الملحوظ له.

وفي المقام إذا كان الملاك الملحوظ للمولى يقتضي التعبدية فحيث يستحيل استيفاؤه بأمرٍ واحد يتعين للمولى أن يأمر أولاً بذات العبادة، ثم يأمر ثانياً بالإتيان بها بقصد امتثال الأمر الأول الذي لا يلزم منه شيء من المحاذير السابقة، وحيث فرض أن الأمرين ناشئان عن غرضٍ واحدٍ كانا ارتباطيين في مقام الامتثال، ويمتنع سقوط أحدهما بالامتثال دون الآخر.

ما أورده به الخراساني قدس سره

وقد أورد المحقق الخراساني قدس سره على تعدد الأمر في مثل ذلك بعدم الحاجة إلى الأمر الثاني حينئذٍ، بل على الآمر أن يتكل على ما يحكم به العقل من أنه مع عدم حصول الغرض بمجرد موافقة الأمر الأول يجب على المكلف موافقته بالنحو الذي يحصل به الغرض بالإتيان بجميع ما يكون دخيلاً فيه، وإن لم يؤخذ في الأمر.

ما دفعه به السيد الحكيم قدس سره

وقد دفعه سيدنا الأعظم قدس سره بأنه إنما يتم مع علم المكلف بعدم حصول الغرض، وكذا مع الشك لو قيل بحكم العقل بالاحتياط، أما لو قيل بحكمه بالبراءة فلا مانع من الأمر الثاني مولوياً، ليكون رافعاً لحكم العقل.

بل لو قيل بأن حكم العقل بالاحتياط منوط بعدم البيان من الشارع الأقدس صح الأمر مولوياً وكان وارداً على حكم العقل.

والظاهر رجوع ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره إلى ذلك، بل لا

ص: 445

يبعد رجوع ما ذكره بعض المحققين إليه في الجملة أيضاً.

لكن لا يخفى أن ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ناظر إلى مقام الثبوت، لا الإثبات، فمرجعه إلى أنه بعد فرض عدم وفاء مجرد موافقة الأمر الأول بالغرض يحكم العقل بموافقته بالنحو الذي يحصل به الغرض من دون حاجةٍ إلى أمرٍ شرعي، بل هو يلغو معه.

أما مقتضى الوظيفة الظاهرية عند الشك في حصول الغرض بمحض الموافقة فهو أمر آخر يأتي في المقام الثاني المعد لمقام الإثبات، فإن قلنا هناك بتوقف عدم الاكتفاء بمحض الموافقة على البيان الشرعي - وحكم العقل بالبراءة بدونه - لزم على المولى البيان محافظةً على الغرض.

بل قد يلزم البيان عليه أو يحسن حتى لو قيل بلزوم الاحتياط تجنباً لفوت الغرض بسبب قصور بعض المكلفين على استيضاح الحكم المذكور أو غفلته عن احتمال عدم حصول الغرض بمجرد الموافقة.

لكن البيان لا يكون بالجعل الآخر والأمر الثاني الذي هو محل الكلام، بل بمحض الكشف عن حال الغرض، لتنقيح صغرى حكم العقل المذكور.

توجيه مراد الخراساني قدس سره

وبعبارة أخرى: مراد المحقق الخراساني قدس سره اكتفاء الشارع في مقام الثبوت بحكم العقل بلزوم تحصيل الغرض عن الأمر الثاني، لا إكتفاؤه في مقام الإثبات بحكم العقل بالاحتياط في تحصيل الغرض عند الشك فيه عن بيان حال غرض الأمر الأول.

ومثله ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن شأن العقل إدراك أن الشيء قد أراده الشارع، وليس من شؤونه الأمر والتشريع حتى يكون شارعاً في قبال

ص: 446

الشارع.

لاندفاعه: بأن المدعى هو إلزام العقل بقصد الامتثال ابتداءً، ليكون شارعاً في قبال الشارع، بل بتوسط فرض توقف غرض الشارع عليه، نظير حكمه بوجوب الإطاعة في فرض ورود الأمر الشرعي.

ومرجع ذلك إلى أن موضوع وجوب الإطاعة عقلاً لا يختص بالأمر، بل يعم تحصيل الغرض ولو بدونه.

إلا إن يكون مراده إنكار ذلك وتخصيص موضوع وجوب الإطاعة بالأمر.

لكنه في غير محله، على ما يأتي في الوجه الثالث من وجوه الفرق بين التعبدي والتوصلي إن شاء الله تعالى.

العمدة في دفع ما ذكره الخراساني قدس سره

فالعمدة في دفع ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره أن حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى وإن تم إلا أنه لا يمنع من أمر المولى بما يتوقف عليه حصول غرضه، ولا يستلزم لغويته، وإلاّ لزم اكتفاء المولى ببيان موضوعات أغراضه عن جميع أحكامه، ولا يحتاج في التعبد حتى إلى الأمر الأول الذي يعترف قدس سره به.

بل يأتي في الوجه الثالث أن تعلق غرض المولى بشيءٍ بعد فرض عدم غفلته مستلزم للأمر به استقلالاً، أو في ضمن غيره جزءاً أو شرطاً، فلا موضوع لما ذكره قدس سره.

نعم، ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره مبني على إمكان الإهمال في مقام الثبوت وعدم انحصار أمر الجعل بالإطلاق والتقييد، إذ حينئذٍ لا يكون عدم تقييد متعلق الأمر الأول مستلزم لإطلاقه ثبوتاً، ليكون مُخلاً بالغرض، بل

ص: 447

يكون المتعلق مُهملاً من هذه الجهة ثبوتاً، فلا يلزم إلا قصوره عن استيفاء الغرض، ويتوقف استيفاؤه على متمم الجعل وهو الأمر الثاني.

أما بناءً على امتناع الإهمال، وأن المتعلق لا يخرج عن الإطلاق والتقييد - كما يأتي في المقام الثاني - فعدم تقييد متعلق الأمر الأول مستلزم لإطلاقه، المستلزم في المقام لإخلاله بالغرض الممتنع في نفسه، ولكون الأمر الثاني من سنخ الناسخ لإطلاق الأمر الأول لا المتمم له، وهو خلاف الفرض.

ولأجله لابد من البناء على قصور متعلق الأمر الأول ابتداءً واختصاصه بواجد القيد ثبوتاً وإن لم يؤخذ بلسان التقييد، فلا يكون الأمر الأول قاصراً عن استيفاء الغرض، ليحتاج إلى متمم الجعل بالأمر الثاني، بل وافياً به، غاية الأمر أنه يحتاج إلى بيان قصور متعلقه في مقام الإثبات، نظير ما ذكرناه آنفاً بناءً على اختصاص القصد القربي بقصد الامتثال.

مضافاً إلى أن الأمر الأول لما لم يكن وافياً بغرض المولى - بالفرض - فقصد امتثاله لا يكون مقرباً، إلا بلحاظ ما سبق في الجهة الأولى من إمكان التقرب بقصد بعض ما يحصّل الغرض أو مقتضيه في ضرف تمامية العلة له، وهو لو تم إقتضى الاكتفاء مع وحدة الأمر بقصد مقتضي الامتثال وموافقة الأمر الضمني الوارد على ذات العبادة، الذي سبق منّا أنه معه لا يتم ما ذكره قدس سره في وجه امتناع تقييد متعلق الأمر مع وحدته.

ومن هنا كان الظاهر عدم تمامية ما ذكره قدس سره من إبتناء التعبدي على متمم الجعل وتعدد الأمر، فلاحظ.

الوجه الثاني: أن الفرق اختلاف سنخهما

الوجه الثاني: في أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في ماهية الأمر

ص: 448

وسنخه.

قد يدعى أن التعبدي سنخ من الأمر يقتضي إيجاد متعلقه بقصد امتثاله، بخلاف التوصلي فإنه سنخ آخر منه يقتضي تحقيق متعلقه مطلقاً، فالفرق بينهما نظير الفرق بين الوجوب والاستحباب، حيث يقتضي الأول منهما لزوم الإطاعة بخلاف الثاني من دون فرق بينهما في المتعلق.

ولا يخفى أن تخصيص مقتضى التعبدي بقصد الامتثال مبني على ما هو المشهور من انحصار القصد القربي به، أما بناءً على الاكتفاء فيه بوجهٍ آخر فيكون هو الفارق في المقام.

ومن هنا لا مجال للإشكال فيه من بعض الأعاظم قدس سره بعدم اختصاص الداعي القربي بالقصد المذكور، كي يدعى كونه من لوازم ذات الأمر.

نعم، استشكل فيه - أيضاً - باستحالة كون دعوة الأمر موجودة بوجوده وفي عرضه وإلا لتقدم الشيء على نفسه.

وكأنه راجع إلى أن تأخر داعوية الأمر رتبةً تمنع من إفادة الأمر نفسه لزومها بحيث يوجد بإنشائه.

لكنه - مع ابتنائه على اختصاص الداعي القربي بقصد امتثال الأمر الذي سبق الكلام فيه - إنما يتم لو كان المدعى دخل لزوم الداعوية في مفهوم الأمر التعبدي، بحيث يكون به امتيازه، ويكون مقوماً له وينشأ بإنشائه، أما لو كان المدعى أن ما به امتيازه عن التوصلي أمر آخر يستلزم لزوم داعوية الأمر في مقام الامتثال فلا مانع من ذلك، نظير اقتضاء كل أمر لأن يمتثل مع أن امتثال الأمر متأخر عنه رتبةً كداعويته.

ومجرد التأخر الرتبي لا يمنع من وجود المتأخر بإيجاد المتقدم، كما

ص: 449

هو الحال في جميع اللوازم وإن كانت متأخرة رتبةً عن ملزوماتها.

ومن هنا كان الظاهر أن اختلاف ماهية الأمر بالنحو المذكور بمكان من الإمكان.

نعم، لا شاهد عليه، بل لا يدرك العقل للأمر إلا حقيقةً واحدةً، وأن إطاعته مطلقاً تكون بتحقيق متعلقه في الخارج، ولا يعتبر في مقام الإطاعة إلا ما اعتبر في المتعلق شطراً أو شرطاً.

هذا ما تقتضيه المرتكزات المحكمة في المقام، والتي هي المرجع في مثل ذلك من دون حاجة للبرهان.

الوجه الثالث: الفرق في الغرض الداعي للأمر

الوجه الثالث: في أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في الغرض الداعي للأمر.

من الظاهر أن اختلاف التعبدي والتوصلي في الغرض الداعي للأمر ليس مورداً للإشكال في نفسه، وإنما الإشكال في أن الاختلاف بينهما في الغرض هل يستلزم الاختلاف بينهما في المتعلق مع وحدة بالأمر أو تعدده - كما هو مقتضى الوجه الأول - أو في سنخ الأمر - كما هو مقتضى الوجه الثاني - أولا يستلزمه، بل يكون حتى مع وحدة سنخ الأمر ومتعلقه.

وقد اختار الثاني المحقق الخراساني قدس سره حيث أصر على وحدة الأمر والمتعلق فيهما من دون أن يشير للاختلاف بينهما في السنخ، ومع ذلك ذكر أن الأمر التوصلي يحصل غرض الأمر منه بمجرد موافقته، فيسقط بذلك تبعاً لحصول الغرض.

بخلاف التعبدي فإن حصول غرضه منه يتوقف على موافقته بقصد الامتثال، فلا يسقط بدونه، لتبعية الأمر للغرض حدوثاً وسقوطاً، فيجب

ص: 450

قصد الامتثال عقلاً وإن لم يؤخذ فيه شرعاً، لاستقلال العقل مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب موافقته بنحو يحصل به الغرض كي يسقط الأمر.

وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام في تعدد الأمر.

ما استشكله النائيني قدس سره

لكن استشكل فيه بعض الأعاظم قدس سره.. أولاً: بابتنائه على اختصاص القصد القربي بقصد الامتثال.

و ثانياً: باستحالة كون دعوة الأمر غرضاً منه وموجودةً بوجوده.

و ثالثاً: بعدم لزوم متابعة الغرض.

إلا أنه يظهر حال الأول مما تقدم في الوجه الثاني.

كما أن ظاهره كون المراد بالثاني ما تقدم منه في دفع الوجه المذكور. ويظهر اندفاعه مما تقدم.

مضافاً إلى أنه - لو تم - إنما يمنع من استناد لزوم داعوية الأمر للأمر نفسه، بنحوٍ يكون هو المقتضي لها - كما تقدم في الوجه الثاني - وليس هو محل الكلام هنا، بل المدعى استناده إلى تعلق الغرض المستكشف بالأمر أو بغيره وأنه هو المقتضي للموافقة بالوجه المذكور.

ومجرد صدور الأمر عن مثل هذا الغرض لا يستلزم استناد لزوم الداعوية للأمر المذكور، كما لعله ظاهر. ولعله لذا أهمل في تقرير درسه للكاظمي.

وأما الثالث فهو وإن ذكر في تقريري درسه، وقد أصر عليه شيخنا الأستاذ قدس سره، مدعياً أن موضوع الإطاعة الواجبة عقلاً يختص بالأمر الشرعي،

ص: 451

وأن الشارع إنما عبَّدنا بأحكامه دون أغراضه ومرغوباته، إلا أنه حكي عنه قدس سره العدول عن ذلك مدعياً إلزام العقل بموافقة غرض المولى، لاندراجه تحت الكبرى العقلية بلزوم الإطاعة، وعليه جرى غير واحدٍ من الأكابر، بل يظهر من بعضهم المفروغية عنه.

وهو الموافق للمرتكزات العقلية القطعية في باب الإطاعة والمعصية.

بل لزوم موافقة الأمر والنهي ارتكازاً إنما هو بلحاظ كاشفيتهما عرفاً عن غرض الآمر والناهي، الذي هو الموضوع الحقيقي لوجوب الإطاعة عقلاً، لا لخصوصيتهما فيه، فيجب القيام بغرض المولى لو علم به وإن لم يصدر أمر أو نهي من قبله، لعجزه عنهما أو تخيله عدم الفائدة فيهما.

بل يكفي في ذلك عندهم بلوغ الملاك مرتبة لو التفت المولى إلى بلوغها لتعلق غرضه به وأمر أو نهى على طبقه، وإن كان غافلاً لسهوٍ أو نومٍ أو نحوهما - لو أمكن في حقه - على ما أشرنا إليه عند الكلام في معيار المقربية.

وقد تقدم في الأمر الخامس من الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية ما ينفع في المقام.

وأما ما سبق من شيخنا الأستاذ قدس سره من أن الشارع إنما عبَّدنا بأحكامه، فالمراد به غير ظاهر، إذ لم يصدر من الشارع تعبّد بالأحكام في قبال جعلها، كي يصلح لأن يكون بياناً لما ينبغي إطاعته - لو كان من شأنه التعرض لذلك - بل ليس وراء جعله الأحكام إلا حكم العقل بلزوم الإطاعة، فاللازم النظر في موضوعه، وقد ذكرنا أن المعيار فيه الغرض.

نعم، عدم مطابقة الأمر للغرض سعةً وضيقاً إنما تمكن مع غفلة

ص: 452

المولى وجهله بعدم استيفاء غرضه بالأمر، ولا يعقل في حق الملتفت العالم - كالشارع الأقدس - إلا بناءً على إمكان الإهمال في مقام الثبوت، حيث لا يكون الأمر مخالفاً للغرض في مورد الإهمال.

أما بناءً على امتناع الإهمال - كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقام الثاني - فعدم مطابقة الأمر للغرض وعدم وفائه به مستلزم لمخالفة الأمر للغرض، الذي هو ممتنع في نفسه، بل لابد معه من التطابق بينهما وقصور متعلق الأمر عما لا يحصل به الغرض لباً وبنتيجة التقييد لو فرض امتناع تحديده بلسان التقييد، على ما يظهر بالرجوع لما تقدم عند الكلام في تعدد الأمر، وحينئذٍ لا أثر للنزاع في لزوم موافقة الغرض.

كما لا مجال لما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن القصد القربي إنما يجب عقلاً لتوقف غرض الشارع عليه من دون أن يؤخذ في متعلق الأمر، بل لابد من البناء على اختصاص متعلق الأمر بالواجد للقصد المذكور، ويجب الاقتصار عليه عقلاً لوجوب إطاعة الأمر.

ومن هنا لا معدل عن الوجه الأول، الذي سبق إمكانه في نفسه ومطابقته للمرتكزات، فلاحظ.

ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.

ص: 453

المقام الثاني في الدوران بين التعبدي والتوصلي في مقام الإثبات

والكلام في هذا المقام إنما يكون في مقتضى الدليل والأصل بعد الفراغ عن الفرق بينهما في مقام الثبوت بأحد الوجوه المتقدمة وهو ينحصر بجهتين.

الجهة الأولى: في مفاد الدليل

الجهة الأولى: في مفاد الدليل.

ومن الظاهر أن مقتضى الإطلاق التوصلية بناءً على إمكان التقييد بالقصد القربي، لأنه يكون كسائر القيود التي شأن الإطلاق نفيها.

الكلام في عدم جواز التمسك بالإطلاق لامتناع التقييد

إما بناءً على امتناع التقييد فقد ذكر غير واحدٍ أنه لا مجال للتمسك بالإطلاق، بل هو ممتنع في ظرف امتناع التقييد، لأن الإطلاق ليس هو محض عدم التقييد، كي يلزم في مورد امتناعه، بل عدم التقييد في المورد القابل للتقيد، فليس التقابل بينهما من تقابل النقيضين، بل من تقابل العدم والملكة، فمع امتناع التقييد يمتنع الإطلاق أيضاً.

ولا يخلو المراد بذلك عن إجمال.

في وجه امتناع الإطلاق ثبوتاً وإثباتاً

إذ.. تارةً: يراد به أن امتناع التقييد يستلزم امتناع الإطلاق في مقام الثبوت، وفي مرحلة ورود الحكم على الماهية واقعاً، فلا يكون الحكم مطلقاً ولا مقيداً لباً، بل يكون مهملاً من هذه الجهة ثبوتاً، فيعمل به على إهماله تبعاً للغرض الموجب له - كما تقدم من المحقق الخراساني قدس سره - أو

ص: 454

يحتاج إلى جعلٍ آخر، وهو الذي عبَّر بعض الأعاظم قدس سره ب (متمم الجعل)، وجعل منه الأمر الثاني في المقام.

وأخرى: يراد به أن امتناع التقييد مانع من ظهور الكلام في الإطلاق في مقام الإثبات، فلا يكون بياناً على سريان الحكم، بل يكون مجملاً من هذه الجهة، ويحتاج إلى بيانٍ آخر، وإن كان دائراً بين الإطلاق والتقييد ثبوتاً غير خارجٍ عنهما، لامتناع الإهمال.

فالواسطة بين الإطلاق والتقييد على الأول الإهمال، وعلى الثاني الإجمال. ولا بأس بالكلام في الأمرين، فإن محله طبعاً وإن كان هو مبحث المطلق والمقيد، إلا أن إبتناء الكلام في هذه المسألة عليه وأهميتها وتشعب مبانيها تلزم باستيفاء الكلام فيها بالبحث في كلا الأمرين.

امتناع الإطلاق ثبوتاً ورأي النائيني قدس سره

أما الأول: فعمدة الوجه فيه ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الإطلاق وإن كان عبارة عن عدم التقييد، إلا أنه لابد فيه من ورود الحكم على المقسم، لأنه هو القابل للأمرين، فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فيمتنع كل منهما مع امتناع ورود الحكم على المقسم، كما هو المفروض في المقام، لأن انقسام المتعلق إلى ما يؤتى به بقصد امتثال الأمر وما يؤتى به لا بقصده إنما هو في رتبة متأخرة عن ورود الأمر عليه، ولا يقبل الانقسام إلى ذلك في مرتبة ورود الأمر عليه.

وهكذا الحال في جميع القيود المنتزعة في مرتبةٍ متأخرةٍ عن ورود الحكم، كالعلم به والالتفات إليه، بل يتعين الإهمال بالإضافة إليها.

المناقشة فيه

وفيه: أن التقابل بين الإطلاق والتقييد وإن كان من تقابل العدم والملكة، فلابد فيهما من فرض موضوع قابل لهما، إلا أن موضوعهما هو

ص: 455

الماهية الخارجية القابلة للوجود في ضمن أفراد كثيرة، دون الماهية المجردة التي لا وجود لها في الخارج، والجزئي الذي لا يقبل الانطباق على كثيرين.

وحينئذٍ فالماهية المذكورة المأخوذة موضوعاً للحكم أو متعلقاً له إن لحظت بنفسها ولم يؤخذ فيها ما يمنع من انطباقها على بعض الأفراد لزم سريان الحكم لتمام أفرادها، ولزم الإطلاق البدلي أو الشمولي الانحلالي أو المجموعي، وإن أخذ فيها ما يوجب قصورها عن بعض الأفراد لزم التقييد، ولا يعقل الإهمال وخلو الأمر عن الوجهين، لأن الماهية إن كانت وافيةً بنفسها بالغرض الموجب لجعل الحكم بنظر الحاكم لزم الاكتفاء بها وتعين الإطلاق، وإن لم تكن وافيةً به فلا مجال للاكتفاء بها بعد كون انطباقها على تمام الأفراد قهرياً، فيلزم من الاكتفاء بها الإخلال بالغرض، وهو ممتنع، بل لابد من أخذها بنحو تقصر في موضوعيتها عما لا يفي بالغرض، إما بالتقييد صريحاً بالعنوان الدخيل في الغرض لو أمكن أو بنتيجة التقييد بقصر الحكم على الحصة المقارنة للقيد بواقعها لا بعنوانها المنتزع من القيد.

فأن أراد من الإهمال مجرد عدم التقييد صريحاً مع قصور الموضوع بنتيجة التقييد، فهو خلاف ما نفهمه من الإهمال، ولا يستلزم قصور الجعل ثبوتاً بنحو يحتاج إلى المتمم الذي ذكره، بل غاية الأمر احتياج الحصة التي هي موضوع الحكم إلى البيان بوجهٍ غير التقييد.

ما ذكره قدس سره من أنه لابد في الإطلاق من ورود الحكم على المقسم

وإن أراد منه عدم شمول الحكم ولا قصوره، بل يكون مسكوتاً عنه في المورد الذي لا يفي بالغرض، كالفرد الخارج عن الماهية تخصصاً، فلا مجال له بعد فرض لحاظ الماهية وكون انطباقها على جميع أفرادها قهرياً.

وأما ما ذكره قدس سره من أنه لابد في الإطلاق من ورود الحكم على

ص: 456

المقسم، فيندفع: بأن المقسم في المقام ليس إلا الماهية المفروض ورود الحكم عليه لأن مقسمية الماهية لتمام حصصها واقعي قهري.

ومجرد امتناع تعنون الحصة بالقيد في مرتبة ورود الحكم على الماهية إنما يمنع من مقسمية الماهية للحصة بعنوانها المنتزع من القيد، لا من مقسميتها لها بواقعها، المستلزم لشمول الإطلاق لها بالواقع المذكور أو قصوره عنها كذلك، ولا يعقل الإهمال، كما ذكرنا.

ولولا ذلك لزم الإهمال بالإضافة إلى ما يفي بالغرض وهو الواجد للقيد أيضاً، لأنه يشارك ما لا يفي به في عدم مقسمية الماهية له بعنوانه المنتزع من القيد في مرتبة ورود الحكم عليها، ولازمه لغوية الجعل، فلاحظ.

ثم إن ما ذكرنا كما يجري بناءً على أن الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في موضوعه، وأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة - كما هو الظاهر - كذلك يجري بناءً على أن الإطلاق عبارة عن لحاظ سريان الحكم لتمام أفراد الماهية، وأن التقابل بينه وبين التقييد تقابل الضدين.

إذ لا يراد - على المبنى المذكور - بلحاظ السريان لتمام أفراد الماهية لحاظ السريان إليها بعناوينها المنتزعة من كل قيد يفرض فيها، بنحو يستلزم السريان في مورد كل قيد لحاظه في مقام جعل الحكم، كي يمتنع السريان في مورد القيود التي يمتنع لحاظها في مقام الجعل.

بل المراد لحاظ السريان إلى الأفراد بواقعها المقارن لأي عنوان يفرض من دون لحاظ العنوان، ولذا لا إشكال في بنائهم على الإطلاق بالإضافة إلى القيود التي يمكن لحاظها، لكن يعلم غفلة المتكلم عنها حين الخطاب والجعل - لو أمكن في حقه الغفلة - ولا يعتبر في التعميم بلحاظ

ص: 457

كل قيدٍ إلى إحراز التفات الحكم إليه عند الإطلاق وتعميمه بالإضافة إليه.

في امتناع الإهمال ثبوتاً

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في امتناع الإهمال ثبوتاً، بل لابد من كون الحكم الوارد على الماهية مجعولاً واقعاً بنحو الإطلاق أو التقييد، بمعنى قصوره عن بعض الحصص واقعاً ولو بنتيجة التقييد، وإن لم تلحظ بعناوينها المنتزعة من بعض القيود، لامتناع لحاظه في مرتبة جعل الحكم.

في امتناع الإطلاق إثباتاً

وأما الثاني فعمدة الوجه فيه: أن ظهور المطلق في الإطلاق إنما يتم بمقدمات الحكمة التي منها كون عدم التقييد مع دخله في الغرض منافياً للحكمة، لأنه بعد فرض كون المتكلم في مقام البيان المستتبع للعمل يلزمه ذكر تمام ما هو الدخيل في مراده، ليقع العمل تبعاً له مطابقاً لغرضه.

وهذا إنما يتم إذا كان التقييد ممكناً في نفسه، إذ لو كان ممتنعاً لا يكون الإخلال به مع دخله في الغرض منافياً للحكمة، فلا يكون عدم ذكره كاشفاً عن عدم إرادته، لينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

المناقشة فيه

وفيه: أن تعذر التقييد في المقام لا يستلزم تعذر بيان إرادة المقيد، بل يمكن بيانه بطريقٍ آخر، فعدم بيانه بالطريق المذكور كاشف عن عدم إرادته ومستلزم لانعقاد الإطلاق، كعدم التقييد، مع إمكانه.

على أن التعذر لا يمنع من ظهور المطلق في الإطلاق لو ورد في مقام البيان، بل لو لم يكن مراداً لا ينبغي الخطاب به، ويلزم البيان بطريقٍ آخر يطابق المراد ويوافق الغرض.

ومجرد كون قرينة الحكمة من مقدمات الإطلاق لا ينافي ذلك، على ما يتضح في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.

ومن هنا لا يكون امتناع التقييد - بعد ما سبق من امتناع الإهمال

ص: 458

ثبوتاً - مانعاً من ظهور المطلق في الإطلاق لو ورد في مقام البيان.

وعليه يكون مقتضى الإطلاق في المقام التوصلية، ويحتاج البناء على كون المأمور به تعبدياً إلى الدليل الخاص.

وينبغي تتميم البحث في المقام بذكر أمور..

الأول: ابتناء ما تقدم على الفرق في متعلق الأمر

الأول: أن ما تقدم في تقريب الإطلاق مبني على أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في متعلق الأمر.

أما بناءً على أن الفرق بينهما في سنخ الأمر فلا موضوع للتمسك بإطلاق المأمور به، بل غاية الأمر التمسك بإطلاق الأمر، لدعوى: أن كون الأمر تعبدياً يحتاج إلى مؤنة بيان، نظير التمسك بإطلاقه لإثبات كونه وجوبياً، لدعوى: أن الاستحباب يحتاج إلى مؤنة البيان، كما تقدم من بعضهم.

لكن حيث كان المحكم في مفاد الإطلاق الارتكازيات المتفرعة في المقام على إدراك الفرق في سنخ الطلب ثبوتاً، وقد سبق عدم إدراكنا للفرق بينهما، فلا يتيسر لنا التصديق بمفاد الإطلاق المذكور ولا دفعه، بل يختص الجزم بأحد الأمرين بمن يدعي الفرق المذكور.

وأما بناءً على أن الفرق بينهما في الغرض الداعي له وأنه في التوصلي يحصل بمجرد الموافقة وفي التعبدي لا يحصل إلا بالموافقة بالوجه القربي من دون فرق في المتعلق، فمن الظاهر أن الإطلاق إنما ينهض بتعيين متعلق الأمر، وأما كاشفيته عن مورد الغرض فهي بضميمة لزوم مطابقة الأمر للغرض، فمع فرض إبتناء الكلام على عدم لزوم التطابق بينهما، وإمكان قصور متعلق الأمر عنه فلا مجال لاستفادة مورد الغرض من الإطلاق.

إلا أن يدعى بناء العقلاء على أن الأصل التطابق بينهما في فرض

ص: 459

الشك فيه، ليتم بضميمته استفادة مورد الغرض من الإطلاق.

لكن التصديق بمفاد الأصل المذكور فرع وضوح إمكان عدم التطابق بينهما، وهو غير متعقل لنا في فرض التفات الحاكم، بل الظاهر امتناعه.

بل سبق منا عند الكلام في الوجه المذكور أن عدم مطابقة الأمر للغرض إنما تمكن بناءً على إمكان الإهمال ثبوتاً، ومع فرض الإهمال لا موضوع للإطلاق في مقام الإثبات، ليقع الكلام في مفاده، ويمكن دعوى كاشفيته عن موضوع الغرض.

الثاني: دعوى ظهور الأمر في التوصلية بعد عدم الإطلاق

الثاني: بناءً على عدم جواز التمسك بإطلاق المادة في فرض امتناع التقييد، إما للزوم الإهمال ثبوتاً، أو لعدم صلوح الإطلاق للبيان في مقام الإثبات فقد يدعى ظهور الأمر في التوصلية، لا من جهة الإطلاق المذكور، كما جرى على ذلك شيخنا الأعظم قدس سره على ما في التقريرات.

فإنه بعد أن منع من التمسك بالإطلاق بالإضافة للقيود المنتزعة في رتبة متأخرة عن تعلق الأمر بالفعل قال: «فالحق الحقيق بالتصديق هو أن ظاهر الأمر يقتضي التوصلية، إذ ليس المستفاد من الأمر إلا تعلق الطلب الذي هو مدلول الهيئة للفعل [بالفعل. ظ] على ما هو مدلول المادة، وبعد إيجاد المكلف نفس الفعل في الخارج لا مناص من سقوط الطلب، لامتناع طلب الحاصل».

المناقشة فيه

لكن ما ذكره إن ابتنى على ظهور الصيغة في طلب المادة بنفسها بنحوٍ يطابق الغرض فهو عبارة أخرى عن الرجوع لإطلاق المادة الذي أنكره في صدر كلامه.

وإن ابتنى على ظهورها في طلب المادة في الجملة من دون أن

ص: 460

ينهض بالإطلاق من حيثية القيد المذكور، بل لابد من الإهمال أو الإجمال - ليناسب ما سبق منه - فمن الظاهر أن طلب المادة في الجملة لا يستلزم أجزاء المأتي به لا بقصد التقرب، لعدم ثبوت صدق المطلوب عليه، ليلزم من عدم سقوط الطلب به طلب الحاصل.

وإن ابتنى على خروج قصد التقرب عن المأمور به ودخله في الغرض الذي عليه المدار في سقوط الأمر، بنحوٍ لا يلزم من إطلاق المأمور به مطابقته للغرض، فلابد من التزام عدم امتناع طلب الحاصل إذا لم يحصل به الغرض، وأنه يلزم عقلاً تحقيق المطلوب بالوجه الذي يحصل به الغرض، وإلا لزم امتناع التعبدي.

نعم، قال: - بعد كلام له - «وأما الشك في التقييد المذكور فبعد ما عرفت من أنه لا يعقل أن يكون مفاداً بالكاشف عن الطلب لابد له من بيان زائد على بيان نفس الطلب، والأصل عدمه. واحتمال العقاب على ترك الامتثال يدفع بقبح العقاب من دون بيان - كما هو المحرر في أصالة البراءة - من غير فرق في ذلك بين الكواشف اللفظية أو غيرها».

وظاهره الرجوع في العمل على التوصلية للأصل العملي، وهو لا يناسب ما قربه في كلامه السابق من ظهور الأمر في التوصلية، ومن هنا كان كلامه قدس سره مضطرباً.

بل يظهر بمراجعة من كلماته في فرائده وما نسب له في التقريرات شدة اضطراب مبانيه في المسألة، حيث يظهر من بعضها كون القصد القربي معتبراً في المأمور به شطراً أو شرطاً وإن احتاج إلى بيان آخر، ويظهر من بعضها كونه خارجاً عنه ومن شؤون الامتثال لتوقف الغرض عليه، مع

ص: 461

اختلافها فيما هو المرجع عند الشك فيه من ظهور الأمر أو الأصل العملي المقتضي للبراءة أو الاشتغال.

وقد ذكرنا جملة منها في تعليقتنا على الكفاية، ولا مجال لاستقصائها هنا.

ما ذكره النائيني قدس سره من أن مقتضى الإطلاق المقامي التوصلية

أما بعض الأعاظم قدس سره فبعد ما سبق منه من امتناع كل من الإطلاق والتقييد من حيثية القيد الخاص ولزوم الإهمال، وأنه لابد في كون الواجب تعبدياً من تتميم الجعل بالأمر الثاني، ذكر أن مقتضى الإطلاق المقامي التوصلية.

بدعوى: أنه إذا كان المولى في مقام بيان تمام جعله ولم ينصب قرينة على الجعل الثاني المتمم للجعل الأول فمقتضى إطلاق المقام تمامية الجعل الأول وعدم احتياجه للمتمم، فيحرز بذلك التوصلية.

لكنه يشكل: بأنه لما كان مبنى كلامه على الإهمال وعدم الإطلاق ثبوتاً، فلا معنى لكشف الإطلاق المقامي عن تمامية الجعل التي لا تكون إلا بالإطلاق أو التقييد، بل لابد للجعل من متمم يفيد فائدة التقييد أو فائدة الإطلاق.

غاية الأمر أن يكون الإطلاق المقامي كاشفاً عن كون الجعل المتمم بخصوص أحد الوجهين، ولم يتعرض قدس سره في كلامه لذلك ولا لوجهه.

ولا يسعنا الجزم بأحد الوجهين بعدما إستوضحناه من عدم تمامية مبنى المسألة في كلامه.

الثالث: دعوى أن مقتضى الأصل اللفظي التعبدية

الثالث: ذهب جماعة منهم الكلباسي في الإشارات - على ما حكي - إلى أن مقتضى الأصل اللفظي التعبدية.

ص: 462

ويستدل على ذلك بوجوهٍ:

أولها: كون الغرض محركية الأمر

أولها: أن غرض المولى من الأمر جعله محركاً للعبد نحو العمل المأمور به، فلابد في موافقة الغرض المذكور من الإتيان بالمأمور به بداعي امتثال الأمر، فيكون الأمر تعبدياً، ويحتاج الاكتفاء به بدونه إلى دليل مخرج عن ذلك.

وبهذا الوجه لا يبقى مجال لإطلاق المادة الذي تقدم أن مقتضاه التوصلية.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من ابتنائه على لزوم قصد الامتثال في التعبدي، وقد تقدم عدم لزومه.

فيدفعه: أن عدم لزوم قصد الامتثال والاكتفاء بالقصد القربي - بالوجه الذي تقدم منّا أو منه - إنما هو لعدم الدليل على وجوبه والاقتصار على القصد القربي، أما لو فرض نهوض هذا الوجه بإثبات وجوبه لزم البناء عليه ورفع اليد عما تقدم.

فالعمدة الإشكال فيه..

المناقشة فيه

تارةً: بأن الالتزام بذلك في الأمر يقتضي الالتزام به في النهي، إذ لو كان الغرض من الأمر جعله محركاً للعبد نحو المأمور به كان الغرض من النهي كونه داعياً لترك المنهي عنه، بل يلتزم بنظيره في الترخيص، حيث يكون الغرض منه إعتماد العبد عليه في السعة في مقام العمل، مع وضوح عدم كون النهي والترخيص تعبديين.

ولا يظن بأحد الالتزام بأن ذلك للدليل الخاص مع ظهور الخطاب بهما في التعبدية.

ص: 463

وأخرى: بأنه ليس الغرض من الشيء إلا ما يترتب عليه ولا يتخلف عنه، ومن الظاهر أن فعلية محركية الأمر قد تتخلف عنه بالمعصية أو غيرها، فلا تكون غرضاً منه، بل ليس الغرض منه إلا إحداث الداعي العقلي الصالح للمحركية نحو العمل، وهو مشترك بين التعبدي والتوصلي.

وثالثةً: بأن الغرض الذي يجب متابعته ويلزم مطابقة المأمور به له سعةً وضيقاً وإطلاقاً وتقييداً هو الغرض من المأمور به، وهو الملاك المترتب عليه، لا الغرض من الأمر نفسه، كمحركية المأمور أو إحداث الداعي العقلي له أو نحوهما، فلو كان غرض الآمر من الأمر تحبيب الفعل للمكلف - لتخيل أنه لا يفعله لو لم يحبه - لم يستلزم ذلك تقييد المأمور به بداعي الحب، فلو فعل المأمور به لابد اعي الحب امتثل وسقط الأمر.

كيف ولا ريب في أن الداعي المذكور هو الداعي في جميع الأوامر حتى التوصلية، فلولا عدم ملازمته لتقييد المتعلق بقصد الامتثال لإمتنع كون الأمر توصلياً؟!

دعوى: تعبدية جميع الأوامر ودفعها

ودعوى: أن جميع الأوامر تعبدية، وأن قيام الدليل على عدم اعتبار قصد الامتثال في سقوط الأمر لا يكشف عن عدم اعتبار القصد المذكور في متعلقه، بل غاية الأمر أن يكون الفعل الخالي عنه رافعاً لموضوع الامتثال، فيسقط الأمر به لتعذر امتثاله، نظير سقوط أحكام الميت بحرقه، ولا يكون الفعل المذكور امتثالا له. وإليه ترجع جميع الأوامر التوصلية.

غريبة جداً، وإن ادعاها من لا يستهان به في مجالس المذاكرة أو الدرس، على ما ببالي.

لوضوح أن سقوط الأمر بالعمل الخالي عن القصد المذكور في

ص: 464

تلك الموارد ليس لتعذر استيفاء الملاك معه، نظير سقوط أحكام الميت بحرقه، ولذا لا يكون محرماً، بل لحصول الملاك به، كما يحصل مع القصد المذكور، ومع عموم مورد الملاك لا وجه لتقييد المتعلق.

ثانيها: الآية الشريفة.. ودفعها

ثانيها: قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»(1).

ويشكل بأن الظاهر من الإخلاص لله تعالى في الدين في غير موردٍ من الكتاب المجيد هو التوحيد في مقابل الشرك، وأما التقرب بالعمل فهو إخلاص العمل له.

ويناسب إرادة ما ذكرنا في المقام قوله تعالى: «حُنَفَاء» حيث تضمن جملة من الآيات أخذ الحنيفية في التدين بدين الإسلام، ومقابلتها بالشرك.

كما يناسبه - أيضاً - عطف الصلاة والزكاة اللتين هما من الواجبات الاستقلالية الزائدة على التوحيد المطلوبة معه، والمعتبر فيهما الإخلاص بمعنى التقرب، فلا يناسب عطفهما عليه لو كان هو المراد بالإخلاص، ولاسيما مع كون الأمر به إرشادياً لبيان شرطيته، من دون أن يكون مطلوباً مولوياً استقلالياً.

على أنه لو سلم إرادته من الآية فهي لا تنفع فيما نحن فيه، لأن اللام في قوله: «لِيَعْبُدُوا» إن كانت للغاية بلحاظ نفس الأمر أو لتقوية العامل - التي قد تكون هي لام الإرادة التي ذكرها بعضهم - فهي لبيان المأمور به، وتدل الآية على أنهم لم يؤمروا إلا بالعبادة الخالصة لله تعالى - إن كان الحصر حقيقياً - أو لم يؤمروا بالعبادة إلا على وجه الإخلاص - لو كان

ص: 465


1- سورة البينة: 5

الحصر إضافياً - لا أنه يعتبر في الواجبات أن تقع على وجه الإخلاص، فهي ظاهرة في بيان قضية خارجية أخبر بها عن حال أحكامهم والتشريعات الثابتة لهم، لا قضية حقيقية تشريعية تتضمن اعتبار الإخلاص في المأمور به، لتنفع في حقنا.

فالمقام نظير ما لو قال: لم نأمرهم إلا بالصلاة عن طهارة، فإنه لا يقتضي اعتبار الطهارة في كل صلاة حتى غير ما أمروا به، بخلاف ما لو قيل: وجعلنا عليهم أن لا صلاة إلا بطهور، فإنه يقتضي شرطية الطهور في كل صلاة تفرض وإن لم تجب عليهم.

وإن كانت اللام للغاية بلحاظ المأمور به فهي ظاهرة في أنهم أُمروا بأشياء فائدتها التوفيق للعبادة الخالصة، نظير ما تضمن بيان فوائد كثير من الواجبات والمستحبات، ولا دلالة لها على تعيين ما أمروا به وأنه (عبادي) أو غيره.

مع أنه وارد لبيان حكم أهل الكتاب، فالاستدلال به في حقنا مبني على جريان استصحاب أحكامهم أو أصالة عدم النسخ فيها، وهو - مع أنه خلاف التحقيق - لا ينفع في الخروج عن الإطلاق الذي تقدم أنه يقتضي التوصلية.

اللهم إلا أن يستفاد من قوله تعالى: «وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» ثبوت الحكم المذكور في جميع الأديان. فينهض حينئذٍ برفع اليد عن الإطلاق المذكور.

ثالثها: نصوص الأعمال بالنيات

ثالثها: ما في غير واحدٍ من النصوص من أنه لا عمل إلا بنية، وأن

ص: 466

الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى(1).

وربما يظهر من بعضهم الاستدلال به بحمله على النفي الحقيقي بلحاظ دلالته على توقف الأفعال الاختيارية على النية.

لكنه - مع بعده في نفسه، لأنه أمر تكويني خارجي لا غرض ببيانه - أجنبي عما نحن فيه، لأن النية المعتبرة في التعبدي عبارة عن قصد الفعل بنحوٍ مقرب، ولا يتوقف الفعل الاختياري على ذلك.

مع أن لزوم كون الفعل اختيارياً بالمعنى الذي يتوقف على النية أول الكلام، بل مقتضى الإطلاق عدمه، كما كان مقتضى إطلاق أدلة الضمان - مثلاً - ترتبه على الإتلاف ولو لم يكن عن قصدٍ.

تقريب: الاستدلال به

فالأولى تقريب الاستدلال به بظهوره في الحث على النية بلسان نفي الموضوع ادعاءً، لعدم ترتب أثره، وهو راجع إلى تقييد إطلاق موضوع الأثر بالواجد للنية، نظير قولهم عليهم السلام: «لا صلاة إلا بطهور»(2) وحيث كان ظاهر النصوص المذكورة إرادة قصد القربة من النية كان مقتضى إطلاقها التعبدية في الواجبات.

المناقشة فيه

لكنه يشكل: بأنه بعد تعذر حمله على الحقيقة فليس حمله على إناطة الأجزاء بالنية الراجع لشرطيتها في متعلق الحكم الشرعي بأولى من حمله على إناطة الثواب ونحوه بها، لأن كلاً منهما مورد لغرضٍ مهم صالح لأن يبين ويصح نفي الحقيقة توسعاً بلحاظه.

ودعوى: منافاة ذلك لما ذكروه من أن نفي الصحة أقرب إلى نفي

ص: 467


1- راجع الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات
2- راجع الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء

الحقيقة من نفي الكمال.

ممنوعة، للفرق بأن الكمال مرتبة زائدة على الصحة، وتعلق الغرض به متفرع على تعلقه بها، فنفي الموضوع لأجله معهاً مبتنٍ على تنزيل الموجود منزلة المعدوم، وليس كذلك الثواب والأجزاء، بل هما أمران متباينان بينهما عموم من وجه موردي يمكن تعلق الغرض بكلٍ منهما بانفراده.

ومثلها دعوى: أن مقتضى الإطلاق العموم لكلا الأمرين. لاندفاعها بعدم الجامع بينهما عرفاً، إذ لو أُريد نفي الثواب كانت القضية ارتكازية، ولو أُريد نفي الأجزاء تعبدية محضة ترجع إلى تقييد إطلاقات التشريع بالنية.

وبهذا يظهر أن الأول أظهر في نفسه، لأن أُنس الذهن بالقضايا الارتكازية يوجب انصراف الذهب إليها مع صلوح الكلام لها، فإرادة غيرها يحتاج إلى قرينةٍ صارفةٍ، وبدونها يُحمل الكلام عليها عرفاً.

ولاسيما مع استلزام الثاني كثرة التخصيص بنحوٍ ظاهرٍ عند الخطاب بالكلام، لأن عدم العبادية في كثير من الأعمال في الجملة من الواضحات التي لا تخفى بحال، خصوصاً مع شمول إطلاقها للمستحبات، بل لموضوعات الأحكام الوضعية التي يرغب المكلف في ترتبها بتحقيق موضوعاتها.

ومن ثم كان ظاهر القضية آبياً عن التخصيص ارتكازاً، لوضوح أن الآبي عنه هو المعنى الأول الارتكازي.

على أن هذا المعنى هو المتعين من قولهم عليهم السلام: «إنما الأعمال بالنيات، لكل امرئٍ ما نوى».

لظهورها في اختلاف العمل باختلاف النية، لا في نفي العمل عند

ص: 468

عدمها، ليصلح للحمل على عدم الإجزاء بدونها.

ومن الغريب ما في الجواهر من الاستدلال بالنبوي: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل إمريءٍ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلا ما نوى»(1)، مع صراحته في إرادة الثواب، ووروده في الجهاد الذي هو توصلي.

رابعها ما تضمن الأمر بالإطاعة

رابعها: ما تضمن الأمر بالإطاعة، بدعوى: أن الإطاعة لا تكون إلا بقصد الامتثال، فيصلح لتقييد الإطلاق المقتضي للتوصلية.

وفيه: أن الظاهر من الإطاعة في المقام محض الموافقة في مقابل المخالفة، فتكون الأوامر المذكورة للإرشاد، كما يظهر من مقابلته بالمخالفة في مثل قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ»(2) ومن عطف الرسول وحده أو مع أولي الأمر في كثير من الآيات، مع وضوح عدم اعتبار قصد امتثال أمر غيره تعالى.

ويناسبه ظهور الأوامر المذكورة في مطلوبية الإطاعة استقلالاً، لا في الإرشاد لقيديتها في متعلق الأوامر الأخرى.

وظهور شمولها للنواهي مع عدم الإشكال في عدم اعتبار قصد الامتثال فيها، ككثير من الأوامر.

والتزام خروجها تخصيصاً - مع استلزامه تخصيص الأكثر - ليس بأولى من حملها على المعنى الذي ذكرناه.

بل ما ذكرناه أولى بعد كونه ارتكازياً ينصرف الذهن إليه، نظير ما

ص: 469


1- الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 10
2- سورة التغابن: 12

ذكرناه في الوجه السابق، ولذا كانت آبيةً عن التخصيص ارتكازاً.

وقد تحصَّل من جميع ما سبق: أنه لا قرينة عامة داخلية أو خارجية مخرجة عن الإطلاق الذي ذكرناه المقتضي للتوصلية.

فلابد من العمل عليه إلا في الموارد التي يخرج عنه فيها بالأدلة الخاصة المقتضية للتعبدية.

الجهة الثانية: في مقتضى الأصل العملي

الجهة الثانية: في مقتضى الأصل العملي، الذي هو المرجع مع عدم الأصل اللفظي.

ولا ينبغي التأمل بناءً على ما سبق من دخل القصد القربي في متعلق الأمر العبادي بنحو التقييد أو بنتيجته في كون المقام من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، التي كان التحقيق فيها جريان البراءة من الأمر المشكوك والاكتفاء في مقام الامتثال بالأقل الذي يعلم التكليف به.

وكذا بناءً على وجوبه بأمرٍ ثانٍ، لأن الأمر الثاني لما كان متمماً للجعل الأول فالشك فيه شك فيما يعتبر في الواجب الارتباطي المستفاد من الأمرين معاً.

كما أنه بناءً على أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في سنخ الأمر فلا يبعد البناء على عدم منجزية العلم الإجمالي بأحد التكليفين إلا للأثر المشترك بينهما المتيقن في مقام العمل، وهو لزوم محض الموافقة، دون ما يمتاز به التكليف التعبدي من لزوم التقرب به، فهو نظير ما لو علم إجمالاً بوجوب شيءٍ أو استحبابه، حيث لا ينهض العلم المذكور لتنجيز خصوصية الوجوب وما به امتيازه من لزوم الموافقة، بل تختص منجزيته بالأثر المشترك بينهما، وهو حسن الموافقة.

ص: 470

وأما لو كان الفرق بينهما في الغرض للتكليف - كما جرى عليه المحقق الخراساني قدس سره وسبقه إليه شيخنا الأعظم قدس سره على اضطراب في كلامه أشرنا إليه عند الكلام في ظاهر الأمر بناءً على عدم الرجوع للإطلاق - فقد ذكروا أنه لا مجال للرجوع للبراءة والبناء عملاً على التوصلية، حتى لو قيل بالبراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.

وما يظهر منهم في وجه الفرق بينهما: أن الشك هناك في تحديد المكلف به، فقد يتجه دعوى الرجوع في عدم التكليف بالزائد للبراءة، لعدم المنجز له، فيكون العقاب عليه بلا بيان، وللأدلة الشرعية المتضمنة عدم المؤاخذة على ما لا يعلم، ويقتصر على الأقل لتنجزه بالعلم بالتكليف به على كل حال.

أما هنا فحيث فرض عدم الشك في مقدار الواجب، لعدم دخل القصد القربي فيه مطلقاً وإن كان تعبدياً، فلا موضوع معه للبراءة من التكليف بالزائدة لا العقلية، ولا الشرعية لاختصاصهما بالشك في التكليف.

بل حيث كان الشك في المقام في سقوط التكليف المعلوم بدون القصد المذكور، لاحتمال اعتباره في مقام الامتثال تبعاً لدخله في الغرض لزم الاحتياط به، لإحراز الفراغ عن التكليف المعلوم بحدوده.

لكن لا يخفى أن احتمال عدم سقوط التكليف لعدم حصول الغرض في المقام لما كان متفرعاً على احتمال دخل القصد القربي في الغرض وعلى لزوم موافقة غرض المولى وتبعية سقوط التكليف لحصول غرضه، فهو يجري في الشك في دخل شيء في المأمور به، الذي هو موضوع مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، لما هو المعلوم من ملازمة احتمال دخل شيء

ص: 471

في المأمور به لاحتمال دخله في غرض الأمر به، ومع فرض اختصاص أدلة البراءة في الشك في التكليف فهي لا تقتضي إلا السعة من حيثية التكليف، لا من حيثية الغرض، بل يرجع الشك من حيثية الغرض للشك في سقوط التكليف بدونه بعين البيان المذكور هنا.

ومن هنا ذكرت شبهه الغرض وجهاً للاحتياط في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

فلابد في البناء على البراءة من دفعها، وقد ذكر جملة من الوجوه لذلك تنفع كلها أو جلها في المقام لو تمت.

وعمدتها - حسبما ذكرناه في محله - أن بيان تمام ما هو الدخيل في الغرض من وظيفة المولى بعد فرض تصديه لحفظ غرضه بالتكليف، ولا يجب حفظه على المكلف إلا من حيثية ما بين دخله فيه، دون غيره من الجهات، فمع قصور بيانه عن دخل بعض الأمور فيه لا يتنجز وجوب حفظه من حيثيته، كما لا يتنجز احتمال عدم امتثال التكليف لاحتمال دخل ما لم يبين المولى دخله في متعلقه من الأجزاء والشرائط.

البناء على البراءة على جميع المباني

ومن الظاهر أن هذا الوجه يجري في المقام لأن المفروض تصدي المولى لحفظ غرضه بالتكليف، وقصور بيانه عن إثبات دخل قصد التقرب فيه، فلا يتنجز حفظ الغرض من حيثيته بعين البيان المتقدم.

ومن هنا كان الظاهر على جميع المباني البناء على البراءة عند احتمال كون الواجب تعبدياً، إما لأن هذه المسألة من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين - التي كان التحقيق فيها البراءة - أو لأنها نظيرها.

بل ربما كان جريان البراءة فيها أظهر منه في تلك المسألة، بناءً على

ص: 472

أن الفرق بين التوصلي والتعبدي في سنخ الأمر، لما تقدم.

وقد تحصل من جميع ما تقدم أن التحقيق كون خصوصية التعبدية كسائر الخصوصيات المأخوذة في المتعلق، والتي يكون مقتضى الإطلاق نفيها، ومقتضى الأصل البراءة منها.

وإنما أطلنا الكلام فيها لكثرة الشبهات التي أثيرت حول ذلك من الأعيان والأكابر في العصور المتأخرة، والتي أوجبت تعقّد هذه المسألة وغموض الحال فيها واضطراب مبانيها.

ونأمل منه تعالى أن نكون قد وفقنا للخروج منها بالوجه المناسب. وهو ولي العصمة والسداد، ولا حول ولا قوة إلا به.

بقي أمور:

بقي في المقام أمور..

الأول:

الأول: ذكرنا في الأمر الثالث من مقدمات الكلام في هذه المسألة أنه يكفي في التقرب قصد ملاك المحبوبية وإن لم يقصد امتثال الأمر.

ولا إشكال في الاكتفاء بذلك في التعبدي لو كان الدليل المثبت لكونه تعبدياً ظاهراً في الإكتفاء بقصد التقرب، أما لو كان مجملاً من هذه الجهة فيتوقف الاكتفاء به على أن تكون التوصلية مقتضى الإطلاق أو الأصل، لأنها إن كانت مقتضى الإطلاق كان دليل التعبدية مقيداً له، ومع دوران القيد بين الأقل والأكثر يتعين الاكتفاء بالأقل، اقتصاراً في الخروج عن الإطلاق على المتيقن.

وكذا إذا كانت مقتضى الأصل، لمشاركته للإطلاق في لزوم الاقتصار في الخروج عنه على المتيقن.

ص: 473

أما إذا كان مقتضى الدليل العام أو الخاص المثبت لكون الواجب تعبدياً هو اعتبار ما زاد على قصد التقرب فلابد من البناء عليه، كما أشرنا إليه عند الكلام في الوجه الأول من وجوه الاستدلال على أصالة التعبدية.

كما أنه بناءً على أن التعبدية مقتضى الأصل، لرجوع الشك فيها للشك في سقوط التكليف والفراغ عنه، فاللازم مع عدم الدليل الخاص أو العام على التوصلية الاحتياط بالإتيان بكل ما يحتمل دخله مما زاد على قصد التقرب، كقصد الامتثال وغيره.

ومنه يظهر الحال في قصد الوجه - الذي هو عبارة عن قصد الأمر بخصوصيته من الوجوب أو الاستحباب داعياً - والتمييز - الذي هو عبارة عن قصد الفعل بعنوانه المنتزع من كونه متعلقاً للوجوب أو الاستحباب بخصوصيته، أو تمييز الأجزاء الواجبة أو المستحبة - فإنهما كقصد الامتثال زائدان على قصد التقرب، فيدفعان بالإطلاق أو الأصل، بناءً على ما سبق من أنهما يقتضيان التوصلية.

ومثلهما الكلام في الإجتزاء بالامتثال الاحتمالي إذا أصاب الواقع بالامتثال الإجمالي مع التكرار وبدونه، لأنه يكفي في التقرب بالفعل الإتيان به لاحتمال كونه مطلوباً بنحو الشبهة البدوية أو المحصورة، فعدم الاجتزاء بذلك لاعتبار أمر زائد على التقرب يحتاج إلى دليل مخرج عن مقتضى الإطلاق والأصل.

وقد ذكرنا في الفصل الخامس من مباحث القطع الكلام في وجوه الاستدلال على ذلك، فراجع.

الثاني: في عبادية الطهارات الثلاث

الثاني: لا يخفى أن إشكال التعبدي والنقض والإبرام فيه يختص بما

ص: 474

إذا كان الأمر نفسه تعبدياً بمعنى أنه قد أُخذ في متعلقه التقرب به من حيثيته، إما بقصد امتثاله أو بقصد ملاك المحبوبية المستكشف به أو نحوهما، أما لو كان الأمر توصلياً وقد اعتُبر التقرب في موضوعه ولو من غير جهته، أو اعتبر التقرب به في موضوع حكمٍ آخرٍ فلا إشكال أصلاً، بل هو كسائر القيود غير المترتبة على الحكم المقيد والتي يمكن لحاظها في مرتبةٍ سابقةٍ عليه.

ومن ذلك عبادية الطهارات، لوضوح أن أمرها النفسي - وهو الأمر بالكون على الطهارة - توصلي لا يعتبر في امتثاله التقرب به فيها، بل هو راجع إلى استحباب الكون على الطهارة بالمعنى الاسم المصدري، وإن كان إحداث الطهارة بالمعنى المصدري بداعي أمرٍ آخر غير الاستحباب المذكور.

وكذا الحال في مطلوبيتها الغيرية، سواءً قيل بثبوت الأمر الشرعي الغيري، أم بعدمه وأن لزوم المقدمة عقلي لتوقف امتثال ذي المقدمة عليها، ومقربيتها بلحاظ كونها شروعاً في امتثاله - كما هو التحقيق - لما هو المعلوم من أن مطلوبية المقدمة ليست تعبدية، فلا يعتبر في مقدمية المقدمة التقرب بأمرها المقدمي، بل يكفي حصولها بأي وجهٍ اتفق.

غاية الأمر قيام الدليل على أن سببية أسباب الطهارات لها مشروطة بإيقاعها بوجهٍ عبادي، ومن الظاهر أن عبادية الطهارة لا تتفرع على سببية أسبابها لها، لتتوجه شبهة امتناع تقييدها بها، على نحو ما سبق في التعبدي.

ومن هنا لو فرض الشك في معيار التعبدية المعتبرة وأنه يكفي محض التقرب أو ما زاد عليه فالمتعين الاكتفاء بمحض التقرب اقتصاراً في الخروج عن إطلاق دليل سببية أسباب الطهارة لها على المتيقن.

ص: 475

ومن الظاهر أن يكفي في الجهة المصححة للتقرب العلم بالأمر بالشيء أو بمقدميته لما هو المأمور به، ولو كانا توصليين، كما يكفي في ذلك اعتقاد أحد الأمرين أو احتماله - بنحوٍ يؤتى بالفعل لرجاء حصوله - وإن انكشف خطأ الاعتقاد المذكور أو عدم مطابقة الاحتمال للواقع.

بل يكفي في ذلك التهيؤ لامتثال أمر غير فعلي بما يتوقف عليه يعلم أو يتوقع فعليته بعد ذلك.

فيتجه صحة الطهارات في جميع ذلك، ولا ملزم بتوقفها على ثبوت الأمر واقعاً وفعليته.

وبهذا يظهر الحال في كثير من الفروع المترتبة على اعتبار النية في الطهارات، والتي تعرض لها الفقهاء في محالها المناسبة.

الثالث: ما ذكره النائيني قدس سره في إطلاق التوصلية

الثالث: ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن التوصلي قد يطلق ويراد به..

تارةً: ما لا يعتبر صدوره عن قصدٍ واختيارٍ.

وأخرى: ما يسقط بفعل الغير باستنابةٍ أو تبرعٍ.

وثالثةً: ما يسقط بالفرد المحرم.

وقد أطال الكلام في مقتضى الإطلاق والأصل لو شك في كون المأمور به توصلياً بأحد المعاني المذكورة وعدمه.

المختار فيما لو شك في اعتبار القصد

والذي ينبغي أن يقال: ظاهر الأمر بفعل شيءٍ لزوم صدوره عن المأمور، بحيث يصح نسبته إليه، وإن لم يقصده بذاته، فضلاً عن أن يقصده بعنوانه الخاص الذي أُخذ في متعلق الأمر كعنوان الغسل.

ولذا كان إطلاق دليل ضمان المتلف للمثل أو القيمة والقاتل للدية

ص: 476

شاملاً لمن يقع منه أحد الأمرين من دون قصد إليهما.

نعم، لابد فيه من استناد الفعل إليه بحيث يستقل به ولو بفعل سببه التوليدي الذي لا يحتاج معه إلى توسط فعل الغير، وبدون ذلك لا يصح نسبة الفعل للشخص، فمن أُوقع على شخصٍ فقتل أو على مال فتلف لا يصح نسبة القتل والإتلاف إليه، بل إلى موقعه.

ومنه يظهر أن مقتضى الظهور المذكور عدم الإجتزاء بفعل الغير مع الاستنابة فضلاً عن التبرع، بل لابد فيه من دليلٍ عامٍ أو خاصٍ يقتضي بدلية فعل المستناب والمتبرع عن فعل المكلف.

نعم، قد لا يكون ظاهر الدليل تكليف الشخص بفعل المأمور به، بل بتحققه في الخارج بأي وجهٍ اتفق، كما لو قيل: يجب عليك أن تكون أرض الدار طاهرةً يوم الجمعة، بناءً على ما سبق في مبحث الواجب الكفائي من إمكان التكليف بوجود الماهية في مقابل عدمها المطلق، من دون أن يقتضي التكليف بخصوصية إيجادها.

وحينئذٍ يتجه الاكتفاء بفعل الغير مع عدم الاستنابة ولا التبرع، فضلاً عما إذا كان مع أحدهما.

بل الاكتفاء بحصول المكلف به في الخارج ولو من غير فاعلٍ مختار، كما لو طهَّر المطر في المثال المتقدم أرض الدار.

غايته أنه لا يكون المكلف معه ممتثلاً ولا مشاركاً في الامتثال، بل يسقط التكليف عنه بحصول المكلف به وتحقق الغرض الداعي له.

ودعوى: أنه من باب سقوط التكليف بتعذر الامتثال، لارتفاع موضوعه من دون حصول المكلف به، نظير تعذر إجراء أحكام الميت

ص: 477

عليه بتلفه. ولذا يكون خلاف الأصل للشك معه في المسقط، بل خلاف الإطلاق، لأن مقتضى الإطلاق بقاء التكليف وإمكان امتثاله ما دام المكلف به مقدوراً.

مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم في فرض عدم حصول الغرض وتعذر تحصيله، ولذا يجب على المكلف المنع منه، لما فيه من التعجيز عن الامتثال، كما في حرق الميت في المثال، لا في مفروض الكلام من حصول الغرض المستلزم لحصول المكلف به، لتبعيته له، ولذا لا يجب المنع منه.

هذا، ولو فرض إجمال الدليل وعدم الإطلاق فحيث كانت خصوصية المباشرة زائدة على الماهية كان الأصل عدم التكليف بها.

ودعوى: أن الشك في المقام حيث كان في سقوط التكليف فالمرجع معه الاشتغال.

مدفوعة: باختصاص الاشتغال بما إذا كان الشك في السقوط للشك في الامتثال مع تحديد المكلف به، دون مثل المقام مما كان الشك فيه للشك في حدود المكلف به.

بل هو من صغريات مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، التي كان التحقيق فيها البراءة.

وأصالة عدم سقوط التكليف بغير الامتثال، لا أصل لها، وإنما الأصل عدم سقوطه مع عدم حصول المكلف به الذي يتنجز التكليف به، والمفروض حصوله في المقام وإن لم يكن امتثالاً، كما يظهر مما ذكرنا.

وأما السقوط بالفرد المحرم فهو موقوف على أن يكون الفرد المحرم واجداً لملاك الوجوب، ولا يكون تحريمه مستلزماً لخروجه عن إطلاق

ص: 478

الواجب رأساً، بل يكون واجداً لكلتا الجهتين المقتضيتين لكلٍ من الوجوب والتحريم، وإن فُرض عدم فعلية وجوبه، لامتناع اجتماعه مع التحريم الفعلي، لأن عدم فعلية وجوبه لا تنافي إجزاءه بعد فرض واجديته للملاك.

والمعيار في إحراز حال الفرد، وأنه واجد للملاك أو لا موكول لمسألة اجتماع الأمر والنهي، لأنه راجع لإحراز موضوعها، وقد ذكرناه في مبحث التزاحم في مقدمات الكلام في تعارض الأدلة. ولا مجال للكلام فيه هنا مع ذلك.

والحمد لله رب العالمين. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 479

الفصل السابع في أن متعلق الأمر والنهي هو الطبائع أو الأفراد
اشارة

قد اختلفت كلماتهم في تحرير محل النزاع في المقام، بنحوٍ قد يظهر منه عدم الاتفاق عليه في كلام المتنازعين وأن كل طرف يختار ما لا يدفعه الآخر ويدفع ما لا يختاره.

ومن هنا كان المناسب التعرض لما ينبغي البناء عليه في ضمن أمورٍ قد يتضح بها الحال.

الأول: محط الأغراض الوجود الخارجي

الأول: لا ريب في أن محط الأغراض والملاكات هو الوجود الخارجي، دون الماهية بنفسها مع قطع النظر عنه، فلا يعقل تعلق الأمر والنهي بالماهية من حيث هي. ولا يظن من أحدٍ النزاع في ذلك.

نعم، قد يظهر من استدلال القائلين بتعلق الأمر والنهي بالأفراد بأن الطبيعة من حيث هي لا وجود لها في الخارج، منافاة القول بتعلقهما بالطبائع لما ذكرنا.

لكن الظاهر أنه في غير محله، ولعله يبتني على الجمود على لفظ الطبيعة ومقابلتها بالفرد.

كما أن الاستدلال المذكور قد يكشف عن كون مراد القائلين بتعلق

ص: 480

الأمر بالأفراد تعلقه بالطبيعة الخارجية الموجودة بوجود الفرد، في مقابل تعلقه بالطبيعة من حيث هي، دون ما يأتي مما قد ينسب لهم، وهو يناسب ما ذكرنا من عدم تحديد محل النزاع.

الثاني: قيام الغرض بأفراد الماهية على نحوين

الثاني: قيام الغرض والملاك والمصالح والمفاسد بأفراد الماهية بنحو يقتضي الأمر والنهي..

تارةً: يكون لاستناد الغرض إلى خصوص ما به الاشتراك بينها، ويكون ما به امتياز كلٍ منها مقارناً لمورد الملاك غير دخيلٍ فيه، كما لو كان منشأ تعلق الغرض بإكرام العلماء بنحو البدلية أو الاستغراق مجرد العلم المشترك بينهم، بحيث لو فرض - ولو محالاً - تجرده عن كل خصوصية لكفى في تعلق الغرض بالإكرام.

وأخرى: يكون لدخل ما به امتياز كلٍ منها فيه بنحو البدلية، كما لو كان كل من العلم والإحسان والكرم والشرف كافياً في تعلق الغرض بإكرام من اتصف بها، وكان من في الدار بين عالم ومحسن وكريم وشريف، فيتعلق الغرض بإكرام من فيها.

وحيث كان متعلق الأمر والنهي هو موضوع الغرض تعين في الصورة الأولى تعلق الأمر بالجهة المشتركة بين الأفراد، دون خصوصياتها، وفي الثانية تعلقه بالخصوصيات بنحو الاستغراق أو البدلية، وعدم الاكتفاء بالجهة المشتركة - كالكون في الدار في المثال - بعد عدم وفائها بالغرض.

ولو كان الأمر بدلياً كان التخيير في الأُولى عقلياً، وفي الثانية شرعياً، على ما ذكرناه في أول مبحث الواجب التخييري ضابطاً في الفرق بين التخييرين.

ص: 481

لكن يظهر من غير واحدٍ أن مراد القائلين بتعلق الأمر والنهي بالأفراد دخل الخصوصيات الفردية في متعلقهما مطلقاً حتى في الصورة الأولى.

وهو بعيد جداً، بل أنكره بعضهم أشد الإنكار، قال بعض المحققين قدس سره:

«جعل اللوازم الغير دخيلة في الغرض مقومة للمطلوب بعيد جداً عن ساحة العلماء والعقلاء».

ولعل منشأ النسبة إليهم الجمود على لفظ الأفراد من دون ملاحظة بقية كلماتهم، وقد سبق أن استدلالهم المتقدم يناسب كون مرادهم بذلك ما يقابل تعلقهما بالطبيعة من حيث هي.

هذا كله في مقام الثبوت، وأما في مقام الإثبات فمن الظاهر أن جعل الطبيعة متعلقاً للأمر والنهي ظاهر في الصورة الأولى، دون الثانية، لرجوع الثانية إلى أن ذكر الطبيعة لمحض الإشارة بها للأفراد، من دون أن تكون بنفسها مورداً للغرض، والحكم، وهو خلاف الظاهر جداً، بل خلاف المقطوع به في غالب الموارد.

الثالث: قيام الوجودات الخارجية بالماهيات الخارجية

الثالث: لا يخفى أن قيام الوجودات الخارجية بلحاظ الجهة المشتركة بينها بالملاكات من المصالح والمفاسد الموجبة لتعلق الغرض بتحقيقها أو بتركها هو الموجب لتعلق الأمر والنهي بتلك الجهة المعبر عنها بالماهية الخارجية، بمعنى أن الحاكم يلحظ تلك الجهة بما لها من حدود مفهومية ويجعلها موضوعاً لأمره ونهيه، وحيث كان مقتضى الأمر تحقيق متعلقه في الخارج ومقتضى النهي تركه كان الأمر داعياً للوجود الخارجي بلحاظ واجديته للجهة المشتركة، والنهي داعياً لتركه بلحاظ ذلك.

وحينئذٍ فبلحاظ تعلق الأمر والنهي بالجهة المشتركة يتجه دعوى

ص: 482

تعلقهما بالطبيعة، وبلحاظ داعويتهما لتحقيق الوجود الخارجي أو لتركه يتجه دعوى تعلقهما بالأفراد.

ولم يتحصل لنا بعد النظر في كلماتهم وجود مخالف في ذلك، كما لم يتضح لنا وجود نزاع جوهري يصح الكلام فيه في هذه المسألة زائد على ما بيَّنا، بل يقرب كون النزاع المذكور فيها شبيهاً بالنزاع اللفظي ناشئاً عن عدم تحديد محل النزاع.

نعم، ربما يكون النزاع فيها مبتنياً على بعض مباحث المعقول، كما يظهر من بعض المحققين قدس سره حيث ذكر: أنه إما أن يبتني على النزاع في إمكان وجود الكلي الطبيعي في الخارج وامتناعه، فمن يقول بإمكانه يقول بإمكان تعلق الأمر والنهي بالماهية.

للقدرة عليها، ومن يقول بامتناعه يقول بتعلقهما بالأفراد، لأنها المقدورة، دون الماهية.

أو على النزاع في أصالة الماهية أو الوجود، فمن يقول بالأول يقول بتعلق التكليف بالماهية، ومن يقول بالثاني يقول بتعلقهما بالأفراد.

وحيث لا يسعنا الكلام في تحقيق أحد الأمرين، بل لا يبعد عدم رجوع النزاع فيهما إلى محصلٍ، فلا مجال لإطالة الكلام في هذه المسألة بأكثر مما ذكرنا.

الرابع: اختلاف تعلق التكليف بمتعلقه عن سائر الأعراض بمتعلقاتها

الرابع: لا يخفى أن تعلق التكليف بمتعلقه ليس على حدِّ تعلق سائر الأعراض بمتعلقها، لوضوح أن العرض الخارجي لا يقوم إلا بمعروضه الخارجي، ويمتنع فعليته مع عدم فعليته، أما التكليف فوجود متعلقه موجب لسقوطه بالامتثال أو العصيان، ولا يكون فعلياً إلا في ضرف عدم وجوده.

ص: 483

بل هو يتعلق بمتعلقه بما له من حدود مفهومية، كما سبق - من دون أن يكون موجوداً في الخارج، لكن بنحو يدعو إلى إيجاده أو إلى تركه. فإضافته إليه نظير إضافة التناقض للنقيضين والتضاد للضدين.

ويشاركه في ذلك من الأحكام الوضعية الملكية المتعلقة بالكليات من الأعمال والأعيان، دون المتعلقة بالأمور الشخصية ودون بقية الأحكام الوضعية.

ومنه يظهر أنه لا موقع للإشكال في تعلق الطلب بالوجود بأنه إن كان سابقاً على المطلوب لزم وجود العرض دون معروضه، وإن كان متأخراً عنه لزم طلب الحاصل، إذ يفي ما ذكرناه ببيان الحال، ولا ينبغي معه إطالة الكلام فيما ذكره بعضهم في دفعه.

تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع أو الأفراد

تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع أو الأفراد

ص: 484

الفصل الثامن
في أن نسخ الوجوب أو التحريم هل يقتضي بقاء جواز الفعل أو الترك

قد وقع الكلام بينهم في أنه مع نسخ الوجوب هل يُبنى على بقاء الجواز بالمعنى الأعم، الراجع لعدم التحريم، أو الأخص الذي هو عبارة عن الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة. ويجري نظير ذلك في نسخ التحريم بالإضافة إلى بقاء جواز الترك.

وحيث لا يكثر الابتلاء بهذه المسألة فالمناسب إيجاز الكلام فيها بالاقتصار على بيان ما تقتضيه القاعدة على مبان ينا في حقيقة الحكمين المذكورين من أنهما بسيطان منتزعان من الخطاب بداعي جعل السبيل، لا مركبان من الإذن في الفعل أو الترك والمنع من النقيض ولا أن الإذن المذكور من مراتبهما.

فنقول: حيث كانت الأحكام الخمسة متباينة في أنفسها احتاج كل منها لجعلٍ مستقل، ومن الظاهر أن رفع كل من الوجوب والتحريم إنما يستلزم جعل غيره من الأحكام ولو كان هو الحكم الآخر منهما، لا خصوص أحد الأحكام الثلاثة الباقية المستلزمة للجواز بالمعنى الأعم، فضلاً عن خصوص

ص: 485

الجواز بالمعنى الأخص الذي هو الإباحة.

ودعوى: أن جواز الفعل لما كان لازماً أعم للوجوب وجواز الترك لازماً أعم للتحريم، ونسخ الحكم لا يستلزم نسخ لازمه الأعم كان مقتضى الأصل بقاء اللازم المذكور وعدم نسخه.

مدفوعةٌ: بأن الوجوب والتحريم لا يستلزمان جواز الفعل وجواز ا لترك على أنهما حكمان شرعيان، لتجري أصالة عدم النسخ فيهما، لوضوح انحصار الأحكام في الخمسة، بل على أنهما حكمان عقليان، كما أنهما يستلزمان ثبوت ملاكيهما، وكلاهما ليس موضوعاً لأصالة عدم النسخ.

نعم، لو حكم شرعاً بجواز الفعل قبل جعل الوجوب، وبجواز الترك قبل جعل التحريم، فحيث لا يكون جعل الوجوب مستلزماً لارتفاع الأول، ولا جعل التحريم مستلزم لارتفاع الثاني، لعدم التنافي بينهما عرفاً، أمكن الرجوع فيهما لأصالة عدم النسخ بعد نسخ الوجوب والتحريم.

وهذا بخلاف ما إذا ورد الخطاب بهما بعد جعل الوجوب أو التحريم، لأنه حيث يلغو جعلهما معهما لزم حمل الخطاب بهما على محض بيان اللازم العقلي للحكم المجعول، أو على بيان عدم جعل التحريم في مورد الوجوب أو الوجوب في مورد التحريم، وكلاهما ليس موضوعاً لأصالة عدم النسخ. فتأمل.

وحينئذٍ يكون المرجع هو الأصل المقتضي للبراءة، ولو لاستصحاب عدم التحريم مع نسخ الوجوب، وعدم الوجوب مع نسخ التحريم، بناءً على جريانه في مورد البراءة، على ما ذكرناه في مبحث أصل البراءة.

ولا مجال لمعارضته باستصحاب عدم كل من الاستحباب والإباحة

ص: 486

والكراهة.

لأنه لا يستلزم التحريم أو الوجوب شرعاً، بل عقلاً بضميمة العلم بسنخ الوجوب أو التحريم وليس الأصل حجةً في اللازم غير الشرعي لمؤداه.

نسخ التكليف هل يقتضي البناء على الجواز

ص: 487

الفصل التاسع في الأمر بالأمر
اشارة

قد وقع الكلام في أن الأمر بالأمر بشيءٍ هل يكون أمراً بذلك الشيء في حق المأمور الثاني أو لا؟

ويجري نظيره في الأمر بالنهي عن الشيء، وأنه هل يقتضي النهي عنه من قبل الأمر في حق المنهي أو لا؟

ولا وجه لتخصيص الكلام بالأول إلا ذكره في مبحث الأوامر.

وحيث كان مبنى الكلام فيهما واحداً فلنجرٍ في تحريره على ما جروا عليه من الكلام في الأمر بالأمر، لأنه أيسر بياناً، وبه يتضح الحال في الأمر بالنهي.

وينبغي الكلام في صور ذلك ثبوتاً، ثم فيما هو الظاهر منها في ضمن مقامين:

المقام الأول:

المقام الأول: وقوعه على وجوه

إذا أمر زيد عمراً بأن يأمر بكراً بالسفر فهو يقع على وجوه..

الأول: أن يكون نفسياً ناشئاً عن ملاك مستقل

الأول: أن يكون أمراً نفسياً حقيقياً ناشئاً عن ملاكٍ مستقلٍ به من دون

ص: 488

ملاك يقتضي أمر زيد لبكر بالسفر حتى بعد أمر عمرو له، ولا يكون سفره مورداً لغرضه أصلاً، كما لو أراد إستكشاف حال بكر وأنه يطيع عمراً أولا.

وعليه يكون الأمر من عمرو لبيان مراده، دون مراد زيد، وتكون إطاعة بكر أو معصيته له لا لزيد.

كما لا أثر لهذا الأمر في حق بكر، بل إن كان من شأنه أن يطيع عمراً أطاعه وإن لم يأمر زيد عمراً بأمره، وإلا لم يطعه وإن أمره زيد بذلك.

الثاني: أن يكون نفسياً مع عدم استقلال ملاكه

الثاني: أن يكون أمراً نفسياً حقيقياً من دون أن يكون مستقلاً بالملاك، بل لتوقف ترتب الملاك المقتضي لأمر زيدٍ بكراً بالسفر على أمر عمرو به له، فهو راجع في الحقيقة إلى أمر زيد بكراً بالسفر المترتب على أمر عمرو به له، إلا أنه حيث كان الترتب المذكور موقوفاً على تحقق الأمر به من عمرو أمر عمراً بتحقيق ذلك، فهو نظير أمر شخص بتهيئة شرط ما يجب على غيره.

لكن هذا موقوف على وجوب إطاعة عمرو على بكر من قبل زيد، نظير وجوب إطاعة المولى على العبد شرعاً، وإلا لم يمكن التوصل بأمر عمرو للغرض المذكور، بل يكون كالوجه الخامس.

وعليه يكون أمر عمرو بكراً بالسفر محققاً لموضوع أمر زيد له به، فيكون شرط الواجب والوجوب معاً، ويكون السفر من بكر بعد أمر عمرو له به إطاعةً لزيدٍ وعمروٍ وتركه معصيةً لهما معاً.

كما أنه لو علم بكر بصدور الأمر بالأمر من زيدٍ ولم يأمره عمرو بالسفر لم يجب عليه السفر، لا من جهة زيد، لعدم تحقق موضوع أمره، ولا من جهة عمرو، لعدم صدور الأمر منه.

الثالث: أن يكون غيرياً

الثالث: أن يكون طريقياً يراد به محض التبليغ وإيصال تكليف زيد

ص: 489

لبكر بالسفر من طريق الأمر المذكور، مع تمامية الملاك في السفر المقتضي لأمر زيدٍ بكراً به مطلقاً من دون تعليق للتكليف ولا تقييد للمكلف به، نظير أمر الله سبحانه الرسل بأمر أممهم بما شرعه تعالى عليهم.

وعليه لا يكون الأمر من عمروٍ لبيان مراده، بل لبيان مراد زيد، فلا تكون إطاعة بكر ومعصيته له بل لزيد، عكس الوجه الأول.

كما أنه لو علم بكر بصدور الأمر المذكور من زيد كان موضوعاً لإطاعته ولو لم يأمره عمرو.

الرابع: أن يكون غيرياً لتحصيل إطاعة المأمور

الرابع: أن يكون طريقياً لتحصيل إطاعة بكر للأمر بالسفر من زيدٍ في فرض ثبوته في حقه وعدم قيامه بامتثاله، لتأكيد داعي الامتثال كما في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهو يشارك الوجه الثاني في كون الإطاعة والمعصية لزيد وعمرو معاً، ويفارقه في عدم توقف لزوم الإطاعة - من حيثية أمر زيدٍ - على صدور الأمر من عمرٍ، لفرض ثبوت التكليف في حقه، وأن أثّر أمر عمرو تأكيد داعي الامتثال، لا تحقيق موضوعه، كما في الوجه الثاني.

الخامس: أن يكون غيرياً لتحصيل الموضوع

الخامس: أن يكون طريقياً لتحصيل السفر من بكر من دون أن يكلف به من قبل زيد مطلقاً حتى بعد أمر عمرو له به، لمانعٍ من تكليف زيد له به، من إجلال أو احتقار أو غيرهما مما يمنع من فعلية ملاك التكليف في حقه، بل يختص الأمر بالسفر بعمروٍ وتكون الإطاعة له لا لزيد.

وبهذا يفارق الوجوه الثلاثة الأخيرة ويشارك الوجه الأول.

لكن يفارقه في كون تحقق السفر من بكر هو الغرض الأقصى من الأمر، على خلاف ما ذكرناه في الوجه الأول.

ص: 490

ومن هنا يفترقان في أن حصول السفر من بكر من دون أمر عمرو به في الأول مفوت لملاك أمر عمرو بالأمر به بعد تعذر امتثاله معه، بخلافه في الثاني، حيث يستلزم سقوط الأمر بحصول غرضه، وإن لم يمتثل.

هذا وقد اقتصر المحقق الخراساني قدس سره على الوجوه الثلاثة الأول، كما اقتصر بعض الأعاظم قدس سره على الأول والثالث ولم يشيللأخيرين، بل لم أعثر عاجلاً على من أشار إليهما في المقام، مع شيوعهما وأهميتهما.

وربما كان هناك بعض الوجوه الأُخر لا مجال لإطالة الكلام فيها، وقد يظهر الحال فيها مما ذكرنا في هذه الوجوه.

المقام الثاني:

المقام الثاني: اختيار الوجه فيه

حيث ظهر اختلاف وجوه الأمر بالأمر ثبوتاً ودورانه بين الوجوه الخمسة فالظاهر أن الوجه الأول بعيد في نفسه ومخالف لظاهر إطلاق الأمر، لأن ارتكاز اقتضاء الأمر لتحصيل متعلقه موجب لظهور الأمر به في تعلق الغرض بمتعلقه الذي هو كالمعلول له، كسائر موارد الأمر بالعلة، كما لا يبعد ذلك في الوجه الثاني أيضاً، لأن استبعاد تقييد المطلوب بخصوصية علة له، بحيث لا يراد منه إلا ما يصدر عنها يوجب انصراف إطلاق الأمر عنه وظهوره في تعلق الغرض بالمعلول من حيث هو ولو صدر بتوسط غير تلك العلة.

مع أن توقفه على فرض تكليف الأمر الأول للمأمور الثاني بإطاعة الأمر الثاني يوجب عدم الأثر المهم لاحتماله، إذ مع عدم ثبوت تكليفه بذلك لا موضوع لهذ الوجه، ومع ثبوته لابد له من إطاعة الأمر

ص: 491

الثاني - كعمروٍ في المثال - إذا أمره.

نعم، يظهر الأثر لو لم يأمره الثاني، حيث لا يجب عليه الإتيان بالفعل على هذا الوجه والوجه الخامس، ويجب على الوجه الثالث والرابع. وهو ليس بمهم، فيتردد الأمر بين الوجوه الباقية.

وقد ذهب غير واحد إلى ظهور الأمر في الثالث.

قال سيدنا الأعظم قدس سره: «الظاهر ثبوت القرينة النوعية على كون الأمر بالأمر من قبيل الأمر بالتبليغ الملحوظ فيه التبليغ طريقاً، وليس جارياً مجرى الأوامر في كون الغرض في متعلقاتها».

ولعله ناشئ عن عدم تعرضهم للوجهين الأخيرين، حيث يتعين الثالث بعد ما سبق وأشير إليه في كلماتهم من بعد الوجهين الأولين.

وإلا فهو غير ظاهر إلا في ظرف كون وظيفة المأمور بالأمر التبليغ عن الأمر الأول، كما في الأنبياء والأوصياء صلوات الله وسلامه عليهم، حيث ينصرف أمره والأمر منه إلى إعمال وظيفته.

وأما في غيره فلا يتضح وجه ظهور الأمر في إرادة التبليغ، بل هو مخالف لظاهره لغةً وعرفاً.

ولذا يفهم منه لزوم قيام المأمور بوظيفة الآمر الذي يدعو لتحصيل مطلوبه من ترغيبٍ أو ترهيبٍ أو نحوهما مما يحقق في نفس المأمور داعي الامتثال، ولا يكتفي بمجرد التبليغ.

ومن هنا كان الظاهر تردد الأمر المذكور بين الوجهين الأخيرين.

وحيث كان الوجه الرابع مبتنياً على تكليف الأمر الأول للمأمور الثاني

ص: 492

بالفعل احتاج إلى قرينة ومؤنة بيان، وبدون ذلك يتعين الوجه الخامس، لأنه مقتضى الأصل.

وأولى بذلك ما لو كانت هناك قرينة على عدم كونه بصدد تكليفه، فضلاً عما لو علم بذلك.

في تحديد ثمرة النزاع

ثم إنه ذكر غير واحد أن ثمرة النزاع المذكور تظهر في عبادات الصبي، وأنه بناءً على الوجه الثالث - الذي عرفت من غير واحدٍ دعوى ظهور الأمر بالأمر فيه - يمكن استفادة شرعيتها من قوله عليه السلام: «فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين»(1) وقوله عليه السلام: «فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما أطاقوا من صيام»(2) وغيرهما مما ورد في أمر الولي للصبي بالعبادات.

ولابد لأجله من حمل حديث رفع القلم على رفع الإلزام مع ثبوت أصل المشروعية، وهذا بخلاف ما لو بني على الوجه الأول، حيث يكون الصبي مأموراً بها من قبل الولي دون الشارع.

وفيه: أنه لو بني على ذلك فمقتضى الجمع العرفي حينئذٍ تخصيص عموم حديث رفع القلم بأدلة الأوامر المذكورة، لأنها أخص مطلقاً، حيث تختص بالصلاة والصيام، ويعم حديث الرفع جميع التكاليف، ولا وجه معه للجمع برفع اليد عن ظهور هذه الأوامر في الإلزام.

خصوصاً مع قوة ظهور بعضها وصراحة بعضها في الإلزام، حيث

ص: 493


1- الوسائل ج 3، باب: 3 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، حديث: 5
2- الوسائل ج 7، باب: 29 من أبواب من يصح منه الصوم، حديث: 3

تضمن أنهم يؤخذون بذلك ويجبرون عليه ويضربون(1)، إذ لو كان ذلك طريقياً مبتنياً على محض تبليغ الحكم الشرعي فلا معنى لابتنائه على الإلزام مع عدم كون الحكم الشرعي إلزامياً.

مع أنه لا يظن بأحدٍ كما لم يعرف من الأصحاب البناء على ذلك أو فهمه من الأدلة.

ولا منشأ لذلك إلا أن المستفاد من الأوامر المذكورة بحسب المرتكزات ليس هو الوجه الثالث، لظهورها بل صراحة بعضها في عدم إرادة محض التبليغ، بل الأمر الحقيقي المبتني على الترغيب والترهيب، الذي هو اللازم في الوجه الرابع والخامس، وحيث كانت المفروغية عن عدم تكليف الصبي بضميمة ظهور وصراحة نصوص الأوامر المذكورة في إرادة إلزام الولي للصبي تمنع من الوجه الرابع فيتعين الوجه الخامس.

كما هو المتعين فيما تضمنته النصوص أو قام عليه الإجماع واقتضته المرتكزات من لزوم منعه وتعزيره على بعض المستنكرات كالزنا واللواط وشرب الخمر وقتل النفس المحترمة وغيرها.

فهو نظير ما تضمن الأمر بمنع الصبيان والمجانين عن دخول المسجد لا يكون المراد به إلا تجنب ذلك من دون خطاب لهم بحرمته أو بكراهته.

نعم، يمكن استفادة مشروعية العبادات من الأوامر المذكورة لا من جهة ما ذكروه، بل من جهة ظهور نسبة العبادات المذكورة للصبيان في أنهم يؤمرون بها على ما هي عليه بحقائقها المعهودة المستلزم للقدرة عليها

ص: 494


1- راجع الوسائل ج 3، باب: 3 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، و ج 3، باب: 29 من أبواب من يصح منه الصوم

كذلك، لا أن المأمور به صورها لمحض التمرين، وحينئذٍ يلزم مشروعيتها، لتعذر التقرب بها بدونها.

ولا يفرق في ذلك بين جميع الوجوه المتقدمة للأمر بالأمر.

هذا، مضافاً إلى أنه إذا بني على تنزيل حديث الرفع على مجرد رفع الإلزام إما لأنه الظاهر فيه - كما هو التحقيق - أو للجمع بين الأدلة أمكن إثبات مشروعية عبادات الصبي بإطلاق أدلة تشريعها، حيث يكون مقتضى الجمع بينها وبين الحديث المذكور البناء في حق الصبي على أصل المشروعية. وتمام الكلام في محله.

ص: 495

الفصل العاشر في الأمر بعد الأمر
اشارة

ذكرنا غير مرة أن التكليف نحو من الإضافة القائمة بين المكلِّف والمكلِّف والمكلِّف به، وحيث كانت وحدة الإضافة تابعةً لوحدة أطرافها، والمفروض وحدة المكلف والمكلف فلابد في تعدد التكليف من تعدد المكلَّف به، ومع وحدة المكلف به من جميع الجهات يتعين وحدة التكليف وحينئذٍ نقول:

تردد الأمر ثبوتاً بين ثلاثة وجوه

إذا ورد الأمر بالماهية الواحدة مرتين - مثلاً - فالأمر مردد ثبوتاً بين وجوه ثلاثة:

الأول: أن يراد بهما بيان تكليف واحد

الأول: أن يراد بهما بيان تكليف واحد تابع لموضوع واحد، وتكرار البيان للتأكيد أو غيره مما يأتي من دون أن يكشف عن تأكد في التكليف المبين لغرض وحدة موضوعه.

الثاني: أن يراد بهما بيان تكليف واحد لموضوعين

الثاني: أن يراد بهما معاً بيان تكليفٍ واحدٍ تابعٍ لموضوعين كل منهما صالح لترتبه عليه، فيراد بكلٍ منهما بيان تحقق التكليف من حيثية موضوع خاص مباين للموضوع الذي بيِّن بالآخر تحقق ذلك التكليف من حيثيته. فيلزمه تأكد التكليف المبيَّن تبعاً لتعدد المقتضي له، من دون تأكيد في البيان،

ص: 496

لفرض عدم اشتراك البيانين في مبينٍ واحد.

الثالث: أن يراد بكل منها تكليف مستقل

الثالث: أن يراد بكلٍ منهما بيان تكليف مستقلٍ تابعٍ لموضوعه مباين للتكليف المبيَّن بالآخر.

وحيث سبق استلزام تعدد التكليف لتعدد المكلف به، فلابد من كون متعلق كلٍ منهما مبايناً لمتعلق الآخر وإن كانا تحت ماهية واحدة، بأن يراد من كل منهما فرد منها مباين للفرد المراد من الآخر، في مقابل الاكتفاء بصرف الوجود.

ومرجع الثالث إلى عدم تداخل التكليفين في مقام الامتثال، والثاني إلى التداخل فيه، لا بمعنى تداخل التكليفين فيه، لفرض وحدة التكليف، بل بمعنى التداخل مع تعدد الموضوع، إذ لا يراد بالتداخل إلا ذلك على ما يتضح في محله من مبحث مفهوم الشرط.

أما في الأول فلا موضوع لمسألة التداخل لفرض وحدة التكليف تبعاً لوحدة موضوعه، فليس له إلا امتثال واحد.

مقتضى إطلاق متعلق التكليف

إذا عرفت هذا، فمقتضى إطلاق متعلق التكليف في كل من الخطابين هو الاكتفاء بصرف الوجود المستلزم لوحدة التكليف مع تعدد موضوعه المقتضي له أو وحدته، فيتردد الأمر بين الوجهين الأولين.

بل في فرض اتحاد موضوع الأمر في الخطابين - كما لو ورد مرتين: من ظَاهَرَ فَلْيُكَفِّر - يتعين الوجه الأول، لتوقف الوجه الثاني معه على عدم كون الموضوع المذكور موضوعاً للحكم في أحدهما أو في كليهما، بل هو مقارن له، ليمكن فرض ثبوت الحكم من جهتين معه، وهو خلاف الظاهر.

وكذا الحال لو كان الأمر فعلياً لفعلية موضوعه - كما قال مرتين

ص: 497

لشخصٍ مُظاهِر: كفِّر - في فرض عدم غفلة الأمر - كالشارع الأقدس - حيث يبعد جداً إرادته بيان التكليف من حيثية أحد الموضوعين دون الاخر في كل خطاب لو كان الموضوع متعدداً.

بل حيث يكون الموضوع في مثل ذلك جهة تعليلية غير مقصودة بالبيان، لا يكون المقصود بالبيان إلا ثبوت الحكم فعلاً، فيكون المبين بالبيانين واحداً كما في الوجه الأول وإن كان الداعي للبيان متعدداً.

دعوى: أن التأكيد خلاف الأصل ودفعها

ودعوى: أن التأكيد في البيان خلاف الأصل، بل الأصل فيه التأسيس وتعدد المبين إما لتعدد التكليف أو لتعدد الجهة الموجبة له مع وحدته، وحيث يأتي في مبحث مفهوم الشرط أن الثاني خلاف الأصل، وأن الأصل عدم التداخل تعين البناء على تعدد التكليف، كما هو مقتضى الوجه الثالث.

مدفوعة: أولاً: بأن أصالة التأسيس ليست بنحوٍ تنهض برفع اليد عما ذكرنا.

وثانياً: بأن تكرار البيان في الوجه الأول قد لا يكون للتأكيد، بل لغفلة الأمر - لو أمكن في حقه الغفلة - أو المأمور أو جهل أحدهما بالأمر الأول، كما قد يكون لاختلاف مقام البيان لتعدد المناسبة المقتضية له، كما لو أمر بالسجود عند قراءة آية العزيمة في مقام بيان أحكام قراءة القرآن، وفي مقام بيان أقسام السجود الواجب حيث لا تأكيد في ذلك، لاختصاص التأكيد بالبيان اللاحق المبتني على البيان السابق، دون ما لا يبتني عليه، ومن الظاهر أنه لا أصل ينفي ذلك، ليخرج به عما ذكرنا.

وثالثاً: أن منشأ البناء على أصالة عدم التداخل - كما يأتي إن شاء الله تعالى - هو ظهور دليل كل أمرٍ في أن الموضوع الذي تضمنه سبب مستقل

ص: 498

لتكليف مستقل، وبذلك يخرج عن إطلاق المتعلق الذي سبقت الإشارة إليه، فمع فرض وحدة الموضوع، أو عدم ذكره وفعلية الأمر، لا منشأ للبناء على عدم التداخل، ليخرج به عن إطلاق المتعلق المقتضي للإجتزاء بصرف الوجود.

نعم، لو كان ظاهر الخطاب تعدد الجهة الموجبة للأمر، بأن اختلف موضوعه أو شرطه - كما في مثل: إن أفطرت فكفِّر، وإن ظاهرت فكفر - فلا مجال للوجه الأول، لظهور كل منهما في بيان الأمر من حيثية الشرط أو الموضوع المذكور فيه، فالتعدد في المبين مع انفراد كل بيانٍ بمبينٍ واحد. بل يتردد الأمر بين الوجهين الآخرين.

ويأتي في مبحث مفهوم الشرط إن شاء الله تعالى أن البناء في مثل ذلك على الوجه الثالث الذي هو مرجع أصالة عدم التداخل.

هذا، وأما النهي بعد النهي فلا مجال فيه للوجه الثالث، لفرض كونه استغراقياً يقتضي ترك تمام الأفراد سواء اتحد أم تعدد، بل يتردد الأمر فيه بين الوجهين الأولين، ولا أثر للتردد المذكور عملاً، على أنه مما سبق يتضح لزوم حمله على الثاني مع تعدد الموضوع أو الشرط وعلى الأول بدون ذلك، خصوصاً مع اتحاد الموضوع أو الشرط، فلاحظ.

والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.

وبهذا انتهى ما أردنا إيراده في مباحث الأوامر والنواهي، فإنه وإن ذكر جماعة من الأصحاب مسائل الإجزاء و مقدمة الواجب والضد في مباحث الأوامر، ومسألتي اجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي الفساد في مباحث النواهي، إلا أنه حيث كان منهجنا الاقتصار على المباحث اللفظية فلا مجال

ص: 499

لبحث هذه المسائل هنا، بل توكل لمباحث الملازمات العقلية لابتناء عمدة الكلام فيها عليها.

ولو كان فيها بعض الجهات المتعلقة بالألفاظ يشار إليها هناك تبعاً، لا بنحو يقتضي ذكرها في مباحث الألفاظ، والله سبحانه ولي التوفيق.

وكان الفراغ منه ضحى الجمعة، الثلاثين من شهر ربيع الأول، سنة: (1401 ه)،

وانتهى تبييضه بعد تدريسه ليلة الأربعاء، الخامس من شهر ربيع الثاني من السنة المذكورة.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 500

المقصد الثالث

في المفاهيم

ص: 501

ص: 502

المقصد الثالث في المفاهيم

المقصد الثالث في المفاهيم

اشارة

تمهيد

تمهيد وفيه أمور:

فيه أمور..

الأول: تعريف المفهوم

الأول: من الظاهر أن المنطوق لغةً يختص باللفظ المؤدى بآلة النطق، والمفهوم بالمعنى المدرك بقوة الفهم، وليس كل منهما بالمعنى المذكور مورداً للكلام في المقام، وإنما يراد بمحل الكلام مصطلح خاص لكل من العنوانين يختص بالجمل المتضمنة لحكمٍ خبري أو إنشائي.

وهما متقابلان في الكلام الواحد، فالكلام الذي له مفهوم له منطوق، وغيره لا منطوق له ولا مفهوم بهذا المصطلح، وإن كان الحكم الذي تضمنه مفاداً بالجملة المنطوقة.

ويستفاد من غير واحدٍ أن المنطوق هو الحكم الذي تضمنته القضية بما لها من مدلول مطابقي، والمفهوم هو الحكم الذي لم يذكر، وإنما استفيد بالملازمة من خصوصية قد تضمنتها، فمنطوق قولنا: إنما زيد قائم، ثبوت القيام لزيد الذي هو مدلوله المطابقي، ومفهومه عدم قيام غيره الملازم للحصر الذي تضمنه بسبب اشتماله على أداة (إنما).

لكن الظاهر أن الخصوصية التي تستلزم المفهوم لا يلزم أن تتضمنها

ص: 503

القضية، بل يكفي استفادتها منها بدلالة الاقتضاء أو غيرها، فمفهوم الوصف - مثلاً لو قيل به - يبتني على أن ذكر الوصف قيداً في موضوع الحكم يفيد عليته للحكم أو إناطته به، المستلزمين لانتفائه بانتفائه، مع أنه لا يصرح في القضية بالعلية والإناطة المذكورتين، ولا تدل عليها أداة أو هيئة في الكلام، بل يستفادان عرفاً منها.

كما لا يعتبر في المنطوق أن يكون مدلولاً مطابقياً لها، فإن منطوق بعض الجمل وإن كان كذلك كالمنطوق في الجملة الوصفية وذات مفهوم الموافقة، إلا أنه لا يطَّرد في جميعها، بل قد يكون لازماً لمفاد القضية، مثلاً منطوق القضية الشرطية ثبوت الجزاء حال ثبوت الشرط - الذي هو مفاد قضية حملية مقيدة بحال ثبوته - وهو ملازم لمفاد الشرطية بسبب تضمها إناطة الجزاء بالشرط، لا عينها.

وأما التعبير عنه في جملة من كلماتهم بنفس الشرطية فهو مبني على نحوٍ من التسامح، وتجريد الشرطية المنطوقة عن خصوصية الإناطة، لما هو المعلوم من تباين المنطوق والمفهوم وعدم تضمن الأول للثاني، وإن استفيدا معاً من الشرطية.

ومثله في ذلك منطوق جملة الاستثناء، فإنه عبارة عن ثبوت الحكم لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه الذي يعبر عنه بلسان التقييد، وليس هو مدلولاً مطابقياً للجملة، بل لازماً لها، لوضوح التباين بين مفاد التقييد والاستثناء مفهوماً.

ومن هنا فالظاهر أن اختلاف المنطوق والمفهوم اصطلاحاً ليس بلحاظ كون الأول مذكوفي القضية، والثاني ملازماً للخصوصية المذكورة

ص: 504

فيها، بل بلحاظ كيفية استفادتهما من القضية، لكن لا بلحاظ خصوص مضمونها اللفظي المطابقي، بل ما يعم مضمونها العرفي التابع للملازمة الذهنية العرفية أو نحوها، وإن لم يكن لازماً حقيقياً.

فالمنطوق هو الأقرب عرفاً لمضمونها من المفهوم، إما لأنه المدلول المطابقي لها، كمنطوق القضية بالإضافة إلى مفهوم الموافقة والوصف، أو لأنه الأقرب لمدلولها المطابقي، كمنطوق القضية الشرطية بالإضافة إلى مفهومها.

على أنه لم يتضح بعد عموم ذلك واطراده في كل ما هو الأقرب للمضمون والأبعد، ليصح تعريف المنطوق والمفهوم بذلك، وإنما المتيقن أن ذلك قدر جامع بين جميع الموارد التي أطلق فيها المفهوم مقابل المنطوق، ووقع الكلام فيها في مباحث المفاهيم.

الثاني: البحث عن ظهور الكلام في المفهوم

الثاني: حيث كان مقصد المفاهيم من مباحث الألفاظ، وتقدم في التمهيد للدخول في هذا العلم أن المبحوث عنه فيها تشخيص الظهورات النوعية فالبحث في المقام إنما يكون عن ظهور الكلام في المفهوم لا عن حجيته بعد فرض الظهور فيه، فإنه من صغريات البحث عن حجية الظهور الذي يأتي في القسم الثاني من هذا العلم.

وما في جملة من الكلمات من التعبير عن مسائل هذا المقصد بمسألة حجية مفهوم الوصف أو الشرط أو نحوهما إنما يراد به ذلك، كما يظهر بأدنى تأملٍ في كيفية تحريرهم الكلام في تلك المسائل.

الثالث: مفهوم الموافقة

الثالث: قسموا المفهوم إلى قسمين:

أولهما: مفهوم الموافقة، وهو الذي يطابق المنطوق في الإيجاب

ص: 505

والسلب.

ثانيهما: مفهوم المخالفة، وهو الذي يخالفه فيهما.

وذكروا في الأول مفهوم الأولوية العرفية، والمعيار فيه أن يستفاد عرفاً من الخطاب بالحكم في الأدنى ثبوته في الأقوى أو العكس بسبب إدراك العرف جهة الحكم من نفس الخطاب به، نظير: دلالة تحليل وطء الجارية على تحليل ما دونه من الاستمتاع كالتقبيل، وإن فرض غفلة المتكلم عنه حين التحليل، حيث يفهم العرف أن الجهة الموجبة لتحليله الاهتمام بمتعة المحلل له وإشباع رغبته، ورفع الحرج لأجل ذلك عن الأهم تستلزم عرفاً رفعه عن الأخف.

وأظهر من ذلك ما لو فهم العرف سوق الخطاب لبيان عموم الحكم ببيان ثبوته في الفرد الأدنى أو الأعلى، لينتقل لغيره بالأولوية، كما هو الظاهر في قوله تعالى: «فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ...»(1) حيث يفهم عرفاً أن الغرض بيان عموم النهي عن الإهانة والايذاء بالنهي عن الفرد الضعيف منهما.

وبهذا كان المفهوم مقتضى ظهور الكلام، لأن الفهم العرفي بأحد الوجهين من سنخ القرينة الحالية، بخلاف الانتقال من أحد الفردين للآخر بالأولوية التي هي من الأدلة العقلية، حيث لا يعتبر فيه فهم ذلك من الدليل، بل يكفي فيه إدراك أقوائية الملاك في الفرد الآخر منه في مورد الدليل.

ولذا لابد فيه من القطع بالملاك أو قيام الحجة عليه بالخصوص، أما في مفهوم الموافقة فلا يعتبر إلا ظهور الدليل بأحد الوجهين، ومن ثم يمكن رفع اليد عنه بظهور أقوى منه، كما هو الحال في سائر الظهورات في موارد

ص: 506


1- سورة الإسراء: 23

الجمع العرفي.

موارد مفهوم الموافقة وعدم اختصاصه بالأولوية العرفية

ومنه يتضح عدم اختصاص مفهوم الموافقة بمفهوم الأولوية العرفية، بل يجري في جميع موارد فهم عموم الحكم في الدليل الوارد في خصوص بعض الأفراد، لالغاء خصوصيتها عرفاً، إذ يستفاد من الدليل المذكور نظير الحكم الذي تضمنه في بقية الموارد، وهو شائع في الأدلة.

ونظيره تسرية الحكم عن مورده بتنقيح المناط، وإن كان الفرق بينهما نظير الفرق المتقدم بين التعدي بالأولوية العرفية الذي هو من مفهوم الموافقة والتعدي بالأولوية الذي هو من الأدلة العقلية.

بل من مفهوم الموافقة - أيضا - التعدي عن مورد الدليل لجميع موارد العلة المنصوصة، حيث يستفاد من التعليل دوران الحكم مداره وجوداً وعدماً، كما في قولنا: «لا تأكل الرمان لأنه حامض» حيث يستفاد منه عموم النهي لغير الرُّمّان من أفراد الحامض، وعدم النهي في الرمان غير الحامض، ولما كان الأول مطابقاً للحكم المنطوق في الإيجاب كان من مفهوم الموافقة، ولما كان الثاني مخالفاً له فيه كان من مفهوم المخالفة.

لكن أهل الفن اقتصروا في مفهوم الموافقة على مورد الأولوية العرفية.

ولعله لعدم كونهم بصدد حصر أفراده، لوضوح الحال فيها وعدم الخلاف في التعدي عن مورد أدلتها.

أو لأن التعدي بفهم عدم الخصوصية بسبب ارتكازيته لم يلتفت إليه تفصيلاً، لينبِّه على كبراه الجامعة بين أفراده، والتعدي في مورد العلة المنصوصة قد تعرضوا له في الجملة في مباحث القياس، فاستغنوا بذلك

ص: 507

عن التنبيه له في مباحث المفاهيم، أو غفلوا عن كونه منها.

كما لعله لأحد الوجهين لم يذكروا قصر الحكم عن الموضوع الفاقد للعلة المنصوصة في مفهوم المخالفة.

وكيف كان، فلا مجال لإطالة الكلام في مفهوم الموافقة بعد الاتفاق على موارده - كما ذكرنا - مع عدم وضوح الضوابط العامة لتشخيص صغرياته، بل هو من الظهورات الشخصية الموكولة لنظر الفقيه في كل موردٍ مورد.

وإنما نقتصر على الكلام في مفهوم المخالفة، تبعاً لأهل الفن، حيث تعرضوا لجملة من الموارد وقع البحث في دلالة الكلام على المفهوم فيها.

والبحث فيها يقع في ضمن فصول..

ص: 508

الفصل الأول في مفهوم الشرط

اشارة

لا إشكال في دلالة القضية الشرطية على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، وهو منطوقها، وإنما الكلام في دلالتها على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط الذي هو مفهومها بمصطلحهم، فقد أصر على ذلك جماعة، ومنعه آخرون.

المناط في الدلالة على المفهوم

ومحل الكلام إنما هو دلالتها بالوضع أو الإطلاق، بحيث يكون المفهوم مقتضى الظهور النوعي للجملة الذي لا يخرج عنه إلا بالقرينة، وإلا ففهم ذلك منها في كثير من الموارد وتجردها عنه في موارد أخرى ليس محلاً للكلام ظاهراً.

كما أن اتفاق جميع القضايا الشرطية من حيثية الدلالة على المفهوم أو عدمها واختلافها في الحيثية المذكورة محل كلام يأتي إن شاء الله تعالى، والذي هو فعلا محل الكلام ما اقترن ب (إن) أو نحوها.

هذا، والمستفاد من كلام شيخنا الأعظم قدس سره وجملة ممن تأخر عنه أن المناط في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ظهورها في كون الشرط علة منحصرة للجزاء، وبدونه لا دلالة لها عليه.

ص: 509

وظاهر صاحب الفصول - بل صريحه - أنه يكفي فيه ظهورها في مجرد لزوم الشرط للجزاء بمعنى عدم حصول الجزاء إلا مع حصول الشرط، إما لكون الشرط علة منحصرة للجزاء، أو لكون الجزاء علة للشرط، أو لكونهما معلولين لعلةٍ واحدةٍ، ووافقه على ذلك سيدنا الأعظم قدس سره.

ولا ريب أن ما ذكراه هو المتعين، إذ لو فرض أن الجزاء علة تامة للشرط أو متمماً لعلته - مع وجود بقية أجزائها - فعدمه مستلزم لعدم الجزاء. وكذا لو اشتركا في العلة المنحصرة أو العلل المتعددة، حيث يستلزم انتفاء الشرط انتفاء علته، فينتفي معلولها الآخر وهو الجزاء.

بل لو فُرض ظهورها في عدم الانفكاك بينهما خارجاً بالنحو المذكور كفى في الدلالة على ا لمفهوم وإن كان اتفاقياً لا لزومياً بناءً على ما يأتي في معنى الاتفاقية، إذ يكفي في المفهوم انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط وإن لم يكن ممتنعاً.

ومما ذكرنا يظهر حال ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الشرط لو كان معلولاً للجزاء لم يقتضِ المفهوم، لأن وجود المعلول وإن كان كاشفاً عن وجود العلة، إلا أن عدم المعلول لا يكشف عن عدم ذات العلة، لجواز استناده إلى وجود المانع.

فإنه إنما يتم لو كان الجزاء جزءً من علة الشرط غير متمم لها، كالمقتضي، حيث يمكن وجوده في ظرف عدم المعلول للمانع، دون ما إذا كان علته التامة أو متمماً للعلة - كما ذكرنا - حيث لابد حينئذٍ من انتفاء الشرط عند انتفائه.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في كفاية دلالة الشرطية على لزوم الشرط

ص: 510

للجزاء بالنحو المتقدم في دلالتها على المفهوم.

ومن هنا كان هو المهم في محل الكلام، إلا أن المناسب التعرض لما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من الكلام في دلالتها على العلية المنحصرة، لأنها وإن كانت أخص من اللزوم المذكور إلا أن تحقيق مفاد الشرطية من هذه الجهة لا يخلو في نفسه عن فائدةٍ، ولاسيما مع كون تماميته مستلزمة للظهور في المفهوم الذي هو محل الكلام في المقام.

دلالة الشرطية على أمور مترتبة في نفسها

وعليه يقع الكلام في دلالتها على أمورٍ مترتبة في أنفسها..

الأول: اللزوم

الأول: اللزوم، في مقابل كون الشرطية اتفاقية.

وقد أصر غير واحدٍ على ظهور الشرطية في كونها لزومية، بل ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن استعمالها في الاتفاقية نادر جداً، بل هو غير صحيح في نفسه، ولابد في صحة الاستعمال في تلك الموارد من رعاية علاقة وإعمال عناية، ضرورة أنه لا يصح تعليق كل شيءٍ على كل شيءٍ، وسبقه إلى ذلك شيخنا الأعظم قدس سره.

كلام السيد الحكيم قدس سره في المراد من اللزوم

لكن قال سيدنا الأعظم قدس سره: «الاتفاق المقابل للزوم إن أُريد به أن لا يكون بين الشرط والجزاء علاقة تقتضي اقترانهما فذلك مما أحاله جماعة، لأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما علة للآخر أو يكونا معلولي علة واحدة - ولو بوسائط - لامتناع تعدد الواجب. ولذلك أنكر هؤلاء الاتفاقية بهذا المعنى التي هي أحد قسمي المتصلة. وإن أريد به أن لا يكون بينهما علاقة ظاهرة في نظر العقل - كما هو معنى الاتفاقية عند هؤلاء الجماعة - فالمراد من اللزومية حينئذٍ ما يكون بينهما علاقة ظاهرة.

وعليه فدعوى ظهور القضية الشرطية في اللزومية بهذا المعنى في

ص: 511

غاية السقوط لا دعوى كونها اتفاقية».

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أن ما ذكره من عدم خروج الموجودين عن الفرضين المذكورين في كلامه لا يستلزم إنكار الاتفاقية التي لا علاقة بين طرفيها أصلاً، حيث تتعين فيما إذا كان أحد طرفي الشرطية أو كلاهما نسبة منتزعة من مقام ذات الموضوع أو لازمها، نحو: إن كان الإنسان ناطقاً كان الحمار ناهقاً، وإن كان زيد ممكناً كان شريك الباري ممتنعاً، وإن كان زيد جميلاً كانت الأربعة زوجاً، وغيرها لوضوح أن النسبة المنتزعة من مقام الذات غير معلولة لأمرٍ خارج عنها، لتتردد بين الفرضين المذكورين في كلامه، بل هي قائمة بنفسها غير مرتبطة بغيرها.

و ثانياً: أن امتناع الاتفاقية الحقيقية لا يستلزم كون المراد بها مطلق ما كانت العلاقة فيها غير ظاهرة بنظر العقل، بل قد يراد بها خصوص ما كانت العلاقة فيها غير ظاهرة أصلاً ولو عرفاً، كالعلاقة بين وجود زيد وجريان النهر، المستلزم لعدم قصد أدائها بالجملة الشرطية وتمحضها في بيان تقارن النسبتين، لأن مجرد وجود العلاقة واقعاً لا يوجب الظهور في الاستعمال فيها ما لم تقصد بالاستعمال، ولابد في قصدها من إدراكها، ويكون المراد باللزومية ما كانت العلاقة فيها مدركه ولو إجمالاً عرفاً وعقلاً، كما في مثل: إذ أراد الله تعالى شيئاً كان، أو عرفاً فقط، كما في قولنا: إن وقع الثوب في الماء ابتلَّ، فيقصد أداؤها بالجملة الشرطية زائداً على التقارن بين النسبتين، والظاهر أن هذا هو مراد من يدعي ظهور الشرطية في اللزومية.

إذا عرفت هذا، فلا ينبغي التأمل في ظهور الشرطية في اللزوم زائداً على التقارن، والمعيار فيه ما ذكرنا. بل الظاهر عدم صحة استعمالها في

ص: 512

الاتفاقية إلا بعنايةٍ، كما تقدم ممن ذكرنا.

مبنى تقسيم المناطقة الشرطية إلى لزومية واتفاقية

والظاهر أن مبنى تقسيم المنطقيين الشرطية إلى لزومية واتفاقية إرادتهم بالشرطية ما تضمن مجرد الاتصال بين النسبتين الذي يكفي فيه تقارنهما، أو الانفصال بينهما الذي يكفي فيه التردد بينهما، ولذا تؤدى المتصلة عندهم بقولنا: كلما كان كذا كان كذا، والمنفصلة ب (إما) ومن الظاهر أن (ما) في (كُلَّما) ظرفية مصدرية، متمحضة في الدلالة على الزمان، وليست كأدوات الشرط خصوصاً (إن) التي سبق أن الكلام فعلاً فيها، حيث لا إشكال في أن المفهوم منها عرفاً معنى زائد على الظرفية لا يصدق في الاتفاقية.

ومنه يظهر حال ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن الشرطية لا تلازم اللزوم، لشهادة الوجدان بعدم العناية في إرادة الاتفاقية منها، لأنها ليست إلا لبيان مصاحبة المقدم مع التالي.

ولا يبعد أن يكون ذلك منه مبتنياً على النظر للشرطية عند المناطقة المألوفة في استعمالاتهم.

الثاني: ترتب الجزاء على الشرط

الثاني: ترتب الجزاء على الشرط دون العكس، أو كونهما في مرتبة واحدة، كالمتضايفين.

وقد أصر غير واحدٍ على ظهور الجملة الشرطية في الترتب، وإن اختلفوا في كونه بالوضع أو بغيره، كما سيأتي.

إنكار الخراساني قدس سره لذلك

وظاهر المحقق الخراساني قدس سره إنكار ذلك، لعدم العناية في استعمال الشرطية في مطلق اللزوم من دون ترتب، كما في قولنا: إن صارت هند زوجة لك صرت زوجاً لها، وإن جاء زيد جاء عمرو لو كان علة مجيئهما فصل الخصومة المشتركة بينهما. بل مع عكس الترتب، كما في قولنا: إن

ص: 513

عُوفي زيد فقد استعمل الدواء، وإن أفطر زيد فهو مريض.

لكن قال سيدنا الأعظم قدس سره: «ظهور الجملة الشرطية في الترتب مما لا ينبغي أن يُنكر، بشهادة دخول الفاء في الجزاء».

وهو كما ترى! فإن ذلك إنما يشهد بالترتب في مورد دخول الفاء، ولعله مستند إليها لا إلى هيئة الجملة الشرطية أو أداتها.

ما ينبغي أن يقال في المقام

فلعل الأَولى أن يقال: لا ينبغي التأمل في عدم صحة استعمال الشرطية فيما لو كان الجزاء متقدماً رتبةً على الشرط واستهجان ذلك، فلا يصح أن يقال: إن انكسر الإناء وقع على الأرض، وإن طهر الثوب غسل.

وأما مثل الاستعمال المتقدم في تقريب ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره فليس الجزاء فيه علة للشرط، بل معلول له، لأن مفاد نسبة الجزاء فيه ليس محض الحدوث الذي هو علة الشرط، ولذا لو قيل بدل المثال الأول: إن عُوفي زيد شرب الدواء، وبدل الثاني: إن أفطر مرض، كان مستهجناً أو ينقلب المعنى، بل مفادها نسبة التحقيق والاتضاح التي هي مفاد (قد) في الأول أو نسبة التقرر والثبوت التي هي مفاد الجملة الاسمية في الثاني، وكلاهما ليس علة للشرط.

وهما مسوقان لبيان أنه ينبغي العلم بمفاد الجملة المبني على الانتقال من وجود المعلول إلى وجود العلة، ومن الظاهر أن العلم بالعلة معلول للعلم بالمعلول في ذلك. ويشهد به دخول الفاء على الجزاء الظاهرة في تفرعه تعلى الشرط، ولا معنى لتفرع العلة على المعلول، إلا بلحاظ تفرع العلم بها عليه.

وكأنه إلى ذلك يرجع ما عن المحقق القمي قدس سره وغيره من أن الشرط

ص: 514

في مثل ذلك سبب للعلم بالجزاء.

ولا وقع للإيراد عليه - كما يظهر من التقريرات - بأن محل الكلام هو علية الشرط للجزاء، لا علية العلم به للعلم به.

إذ بناءً على ما ذكرنا يكون الجزاء متضمناً معنى العلم ومسوقاً للكناية عنه، فيكون الجزاء بنفسه معلولاً للشرط.

وأما استعمالها فيما إذا كان متحدي الرتبة - كالمثالين المتقدمين - فلا يبعد ابتناؤه على التنزيل وادعاء ترتب الجزاء على الشرط، بسبب سبق فرضه، حيث يستتبع فرض الجزاء بضميمة التلازم بينهما، كما يناسبه الفرق ارتكازاً في كل طرفٍ بين جعله شرطاً وجعله جزاءً، فلا يتمحض الفرق بين قولنا: إن صارت هند زوجةً لك صرت زوجاً لها، وقولنا: إن صرت زوجاً لهندٍ صارت زوجةً لك، في مجرد التقديم والتأخير الذكري، نظير الفرق بين قولنا: اشترك زيد وعمرو، وقولنا: اشترك عمرو وزيد، بل يزيد عليه باختلاف نحو التبعية اللحاظية الادعائية.

وإلا فمن البعيد جداً إفادتها القدر المشترك بين خصوص ترتب الجزاء على الشرط وتساويهما في الرتبة، لعدم كونه عرفياً ولا مفهوماً منها، بل ليس الجامع العرفي بينهما إلا محض التلازم الذي يعم صورة ترتب الشرط على الجزاء، وحيث عرفت استهجان الاستعمال فيها تعين اختصاصها بترتب الجزاء على الشرط وابتناء استعمالها مع تساويهما رتبةً على الادعاء، كما ذكرنا. ولذا لو لم تقم قرينة ملزمة بحمل الترتب على الادعائي - بالوجه المتقدم أو غيره - كان ظاهر الشرطية الترتب الحقيقي بينهما، فيستفاد من مثل: إن جاء زيد جاء عمرو، تبعية مجيء عمرو لمجيء زيد وترتبه عليه

ص: 515

ومعلوليته له.

ما ذكره المظفر رحمهم الله في أصوله

وأما ما ذكره بعض المعاصرين في أصوله من أن المترتب على الشرط في القضايا الشرطية الخبرية هو الإخبار والحكاية عن الجزاء لا نفس الجزاء، سواءً كان الجزاء مترتباً على الشرط ثبوتاً، أم كان الشرط مترتباً عليه أم كانا في رتبة واحدةٍ.

فلا مجال للبناء عليه، لأن التعليق إنما هو بين الشرط والجزاء المحكيين، فكما يكون المعلَّق عليه هو الشرط لا الحكاية عنه يكون المعلَّق هو الجزاء لا الحكاية عنه.

ولذا التزم بأن الجزاء لو تضمن إنشاء حكم تكليفي أو وضعي كان المعلق هو الحكم لا إنشاؤه.

بل الإخبار والإنشاء فعليان لا تعليق فيهما، ولذا يتصف الإخبار فلا بالصدق أو الكذب والإنشاء بالنفوذ أو البطلان، وإنما التعليق في المخبر عنه والمنشأ.

ولو تم ما ذكره لصح استعمال الشرطية مع عكس الترتيب، في مثل قولنا: إن انكسر الإناء وقع على الأرض، وقد عرفت استهجانه، كما عرفت أن مثل: إن عوفي زيد فقد استعمل الدواء، ليس من الاستعمال في عكس الترتيب.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الشرطية في ترتب الجزاء على الشرط، كما يظهر من جماعةٍ استيضاحه.

مستند الترتب في الشرطية

وإنما اختلفوا في أن ذلك مستند للوضع أو لغيره، كما أشرنا إليه آنفاً، فقد استوضح بعض الأعاظم قدس سره عدم استناده للوضع، وإلا لزم أن يكون

ص: 516

الاستعمال في غيره مجازاً مبنياً على عناية، وهو باطل بالضرورة.

ومن ثم ادعى أنه مستند إلى سياق الكلام، لأن ظاهر جعل شيءٍ مقدماً وجعل شيءٍ آخر تالياً هو ترتب التالي على المقدم.

ويشكل بأن مجرد تقديم الشيء في الذكر - مع أنه لا يطّرد في الشرطية، حيث قد يتقدم الجزاء فيها - لا يوجب ظهور الكلام في تقدمه ثبوتاً، بل غايته الإشعار به غير البالغ مرتبة الحجية، فلا بد أن يكون ذلك مختصاً بالشرط والجزاء في الجملة الشرطية، وحيث كان ذلك مستنداً ارتكازاً لنفس الجملة الشرطية بهيئتها وأداتها فالظاهر منشئه بالوضع.

وما ذكره من أن لازمه كون الاستعمال في خلاف الترتيب مجازاً يظهر الحال فيه مما سبق من قرب ابتناء الاستعمال مع التساوي في الرتبة على الادعاء والتنزيل، وعدم ثبوت الاستعمال مع عكس الترتيب، بل هو مستهجن، وأن ما يوهم ذلك ليس منه في الحقيقة، وإلا لزم كونه مخالفاً لظاهر الشرطية، للجهة التي ذكرها، مع وضوح عدم كونه كذلك.

ومن ثم كان الظاهر استناد ظهورها في الترتب للوضع، كما قربه شيخنا الأعظم قدس سره.

الثالث: الترتب بنحو العلية

الثالث: كون الترتب بنحو العلية.

وظاهر غير واحد أن الكلام فيه هو الكلام في أصل الترتب، حيث لم يفصلوا بينهما. وكأنه لأنه ليس المراد بالعلية هي خصوص العلية التامة، إذ لا إشكال في صدق الشرطية مع كون الشرط جزءاً من العلة في ظرف تحقق بقية أجزائها، ولا مطلق المقدمية المتقومة بكون أحد الأمرين جزءاً من علة الاخر ودخيلاً في ترتبه، لأن ذلك لا يستلزم حصول الجزاء عند

ص: 517

حصول الشرط، الذي لا إشكال في دلالة الشرطية عليه، وقد سبق أنه المراد بالمنطوق بل مطلق ما يستلزم حصول الجزاء عند حصول الشرط، الذي هو القدر المشترك بين العلة التامة وتتميم العلة، ولو لملازمة الشرط لتحقق آخر أجزاء العلة.

ومن هنا لا مجال لحمل الترتب - الذي تقدم البناء عليه - على التقدم بالشرف، فإنه - مع عدم التفات العرف العام له، وقيامه بالمفردات كالحيوان والجماد والنور والظلام، لا بين مفاد الجمل من النسب، كما في الترتب التي تفيده الشرطية - لا يستلزم حصول الجزاء عند حصول الشرط، ولا على الترتب بالزمان، لأنه مستلزم للانفكاك بينهما.

المعيار في الترتب الطبعي

وأما الترتب بالطبع فالذي يظهر منهم أن المعيار فيه كون المتقدم جزءاً من علة المتأخر، فقد يعدّ منه تقدم الموضوع على العرض، مع وضوح توقف العرض على موضوعه، فهو جزء علته المعدّ له، كما عدّ منه تقدم الجزء على الكل، مع أن الجزئية والكلية منتزعتان من فرض الوحدة بين الأمور المتكثرة، فالجزء بما هو جزء غير متقدم على الكل طبعاً، بل هما متضايفان متلازمان، لوحدة منشأ انتزاعهما.

وأما الجزء بذاته فهو متقدم على الكل تقدم الموضوع على عرضه، لأن الكلية حيث كانت منتزعة من فرض الوحدة بين الأمور المتكثرة فالوحدة المذكورة قائمة بذات الأجزاء قيام العرض بموضوعه.

وعليه لا مجال لإرادة التقدم الطبعي في المقام، لما سبق من أن مجرد المقدمية لا يكفي في حصول الجزاء عند حصول الشرط، بل المعيار ما ذكرنا من العلية.

ص: 518

على أنه حيث كانت الشرطية دالة على حصول الجزاء عند حصول الشرط، فمن الظاهر أن ما يلزم حصول الشيء عند حصوله ليس إلا علته أو لازمها أو معلوله، وحيث فرض ظهور الشرطية في ترتب الجزاء على الشرط تعين ظهورها في علية الشرط للجزاء، إذ لو كان معلولاً له لزم عكس الترتب، ولو كان لازماً لعلته فلا ترتب بينهما.

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أن المراد بالترتب في المقام ليس إلا الترتب بالعلية بالمعنى الجامع بين العلة التامة ومتمم العلة، كما ذكرنا.

ومن هنا كان ما سبق في وجه دلالة الشرطية على الترتب كافياً فيها، بل لا ينبغي التأمل في ظهور الشرطية في دخل الشرط في الجزاء وترتب الجزاء على الشرط وتفرعه عليه حتى لو غض النظر عن انحصار الترتب بالعلية.

دعوى عدم استناد الترتب للوضع

نعم، قد يدعى أن ذلك غير مستندٍ للوضع، بل للإطلاق، إما لأن علاقة العلية أكمل أفراد العلائق، وحيث كانت الشرطية دالة على اللزوم لعلاقةٍ كان إطلاقها منصرفاً لأكمل العلائق، وإما لظهور الشرطية في وجود الجزاء عند وجود الشرط على وجه الاستقلال من دون حاجةٍ إلى أمر آخر معه، وهو مستلزم لاستناد وجوده إليه.

ولو تم هذان الوجهان كانا صالحين لإثبات الترتب، وتعين لأجلهما رفع اليد عما سبق من استناده للوضع، إذ لا يتعين استناد الظهور للوضع إلا مع عدم القرينة العامة أو الخاصة التي يمكن استناده إليها.

كما أنه قد ذكر هذان الوجهان لإثبات الترتب والعلية معاً، لما سبق من وحدة كلامهم فيهما.

ص: 519

دفع الدعوة المذكورة

لكن يندفع الأول: - مضافاً إلى منع كون علاقة العلية أكمل، وإلى أنها لا تستلزم ترتب الجزاء على الشرط، بل تكون مع العكس، كما في التقريرات - بأن مجرد الأكملية ثبوتاً لا تقتضي انصراف الإطلاق في مقام الإثبات، كما تقدم نظيره عند الكلام في وجه دلالة صيغة الأمر على الإلزام.

والثاني: بأن عدم الحاجة إلى انضمام شيءٍ مع الشرط في وجود الجزاء إن أريد عدم توقف وجود الجزاء عند وجود الشرط على أمر مفقود، فلا ريب أنه مقتضى إطلاق الملازمة بينهما الذي هو مقتضى إطلاق الشرطية، إلا أنه لا يستلزم استقلاله بالتأثير فيه، بل يكون مع محض التلازم بينهما من دون ترتب، فضلاً عن العلية. وإن أريد به عدم استناد وجود الجزاء عند وجود الشرط لأمر آخر ولو كان موجوداً عند وجود الشرط فلا مجال للبناء على ظهور الشرطية فيه، خصوصاً إذا قيل بعدم دلالتها على العلية، بل على مجرد الملازمة، كما هو مبنى هذا الوجه، لعدم اقتضاء الملازمة أكثر من تقارن المتلازمين في الوجود من دون نظر إلى العلة المؤثرة في وجود كل منهما.

كيف ولوكانت الشرطية ظاهرة في ذلك لزم كون الشرط علة تامة للجزاء! ولا يظن من أحدٍ احتماله، خصوصا في الأحكام الشرعية التي كان أهم أجزاء علتها جعل الشارع الأقدس لها على موضوعاتها، وليس الشرط إلا متمماً لعلتها ومستلزماً لفعليتها.

ومن هنا كان الظاهر استناد الظهور في العلية بالمعنى المتقدم للوضع، لأنه المتبادر من الشرطية ارتكازاً من دون ضم قرينهٍ خاصةٍ أو ارتكازيةٍ.

نعم، ليس المراد بالعلية في الأحكام الشرعية إلا كون الشرط موضوعاً

ص: 520

للحكم الذي يتضمنه الجزاء، حيث يكون هو المتمم لعلة فعليته في فرض جعله شرعاً على موضوعه.

ولذا لا إشكال ظاهراً في بنائهم على كون الشرط موضوعاً للحكم الذي يتضمنه الجزاء، فيكفي التعبد به ظاهراً في التعبد بالحكم، ولا يبتني على الأصل المثبت.

وما عن بعضهم من كون الأسباب الشرعية معرفات، لا مؤثرات حقيقية، قد يراد به كونها معرفات عن مورد الجعل الشرعي، أو عن الملاكات الداعية له، لملازمة موضوع الحكم لملاكه، في قبال استقلالها بالتأثير بعد الجعل كبروياً، أو كونها بنفسها ملاكاً للحكم.

لا أنها معرفات عن الموضوعات من دون أن تكون موضوعات حقيقية، فإنه خلاف ظاهر الشرطية وغيرها من القضايا المتكفلة بجعل الأحكام الشرعية على موضوعاتها.

بل خلاف ما سبق من ظهور الشرطية في الترتب، لأن لازم موضوع الحكم لا يتقدم على الحكم رتبةً.

الرابع: كون العلية بنحو الانحصار

الرابع: كون العلية بنحو الانحصار.

وقد احتمل شيخنا الأعظم قدس سره أن النزاع في المفهوم راجع للنزاع في دلالة الشرطية على ذلك، للاتفاق على ما قبله، وإن كان قد يظهر من بعض كلماتهم التشكيك فيما قبله أيضاً.

وقد أصر غير واحدٍ من القدماء والمتأخرين على ظهور الشرطية فيه، ومنع منه آخرون.

وقد ذكرنا في أول الفصل أن المعيار في دلالة الشرطية على المفهوم

ص: 521

ليس هو دلالتها على العلية المنحصرة، بل على لزوم الشرط للجزاء بنحو لا يتحقق الجزاء بدونه ولو اتفاقاً.

ومن الظاهر أن ظهور الشرطية في ذلك مستلزم لظهورها في كون الشرط علةً منحصرةً، بناءً على ما سبق من ظهورها في كون الشرط علة للجزاء، ولظهورها في كون الشرط لازماً مساوياً للجزاء، بناءً على ظهورها في مجرد اللزوم دون العلية.

ومن هنا كان المناسب الكلام في ظهور الشرطية في ذلك، سواء رجع إلى ظهورها في العلية المنحصرة أم لا.

ما استدل على العلية

وقد يستدل عليه بوجوه، وإن ذكر بعضها أو كلها في كلماتهم دليلاً على ظهور الشرطية في العلية المنحصرة.

الأول: ظهور الإطلاق في الفرد الأكمل

الأول: أن الظاهر من إطلاق العلاقة اللزومية إرادة الفرد الأكمل منها، وهو الناشئ عن انحصار العلة في الشرط.

المناقشة فيه

ويشكل: - مضافاً إلى ما سبق من عدم انصراف الإطلاق للأكمل - بأنه لا دخل لانحصار العلية في اللزوم بنحو يقتضي أكمليته - كما ذكره المحقق الخراساني قدس سره - لابتناء اللزوم على عدم انفكاك الجزاء عن الشرط الحاصل مع انحصار العلية وعدمه بنحوٍ واحدٍ.

وكذا الحال في العلية لتقومها بتأثير العلة في المعلول، ولا أثر للانحصار في ذلك.

الثاني: أنه مقتضى إطلاق نسبة اللزوم

نعم، قد يكون لمنشأ اللزوم دخل في كماله، فاللزوم الذاتي أكمل عرفاً من اللزوم لأمرٍ خارجٍ عن الذات، ولا دخل لذلك بما نحن فيه.

الثاني: أن مقتضى إطلاق نسبة اللزوم، كما كان مقتضى إطلاق هيئة

ص: 522

الأمر الحمل على الوجوب التعييني دون التخييري.

المناقشة فيه

ويشكل: بالفرق بأن هيئة الأمر حيث كانت متضمنة لنسبة البعث نحو المأمور به بنحوٍ يقتضي الانبعاث نحوه كانت ظاهرة في كون التكليف به تعيينياً مقتضياً للإتيان به لا غير، لا تخييرياً يجزئ فيه غيره، إذ مقتضاه عدم الانبعاث إليه في ظرف الانبعاث للطرف الآخر، وهو خلاف إطلاق نسبة البعث، أو خلاف مقتضاها لو بقيت على إطلاقها.

أما في المقام فحيث فرض عدم دلالة الشرطية إلا على لزوم تحقق الجزاء عند تحقق الشرط فهو بنفسه لا يقتضي الانحصار، لأن تحقق الجزاء عند تحقق أمر آخر لا ينافي اللزوم المذكور بوجهٍ أصلاً، كما لا ينافي إطلاقه.

وإنما يتجه القياس في فرض التسليم بظهور الشرطية في الانحصار والإناطة، لأن قيام شيءٍ آخر مقام الشرط مخالف لظهور الاقتصار في بيان العلة المنحصرة على الشرط، نظير مخالفة قيام شيءٍ مقام المأمور به لظهور الاقتصار عليه في بيان المطلوب الذي لابد من الإتيان به، بل يحتاج كلٍ منهما للبيان بمثل العطف ب - (أو).

ومثله في ذلك تقريب هذا الاستدلال بإطلاق الشرط، بدعوى: أن مقتضى إطلاقه تعينه، كما كان مقتضى إطلاق الواجب تعينه.

لاندفاعه: بأنه لا دخل للانحصار وعدمه في الشرط بنحوٍ يكون من شؤونه التابعة لإطلاقه وتقييده.

ومجرد احتياج عدم الانحصار للبيان لا يكفي في كونه مقتضى الإطلاق ما لم يكن من شؤون موضوع الإطلاق وأنحائه، وليس هو كإرسال الماهية وسريانها الذي يكون مقتضى إطلاقها.

ص: 523

على أن الانحصار أيضاً يحتاج إلى بيان لو فرض كون مفاد الشرطية وضعاً مجرد حصول الجزاء عند حصول الشرط ولزومه له.

واستفادة التعيين في الواجب دون التخيير ليس من إطلاق الواجب، بل من إطلاق الهيئة بالوجه المتقدم، وقد سبق عدم صحة قياس المقام عليه.

تقريب إطلاق نسبة الجزاء في العلية المنحصرة

وكذا تقريبه بإطلاق نسبة الجزاء، بدعوى: أن الاقتصار في تقييدها على الشرط وعدم تقييدها بغيره بمفاد (أو) ظاهر في انحصار العلة به، كما كان عدم تقييدها بغيره بمفاد الواو ظاهر في استقلال الشرط بالتأثير وعدم توقف نسبة الجزاء على انضمام غيره إليه، فيكون علةً تامةً أو متمماً للعلة، كما تقدم.

دفعه

لاندفاعه: بأن الإطلاق إنما ينهض بدفع القيد لرجوعه إلى تضييق موضوعه الذي هو مفاد المفرد أو الهيئة، ومن الظاهر أنه كما يكون اشتراط نسبة الجزاء بالشرط راجعاً إلى تضييق النسبة المذكورة، فيكون مدفوعاً بإطلاقها، كذلك يكون عدم استقلال الشرط في فرض التقييد به، فإن توقف فعلية نسبة الجزاء على انضمام غيره إليه موجب لزيادة في تضييقها، فيكون زيادة في تقييدها، ويدفع بالإطلاق.

أما عدم انحصار العلية بالشرط وقيام شيءٍ آخر مقامه في تحقيق نسبة الجزاء فهو لا يستلزم التضييق في النسبة المذكورة، بل هي باقية على سعتها، فلا يكون قيداً فيها، ليدفع بإطلاقها، بل تكون الشرطية ساكتة عن ذلك، فلا وجه لجعل الأمرين من بابٍ واحدٍ.

وبالجملة: لا مجال للاستدلال بالإطلاق المذكور، سواءً أريد به إطلاق نسبة اللزوم، أم إطلاق الشرط، أم إطلاق الجزاء، على اختلاف

ص: 524

كلمات المستدلين واضطرابها.

ومجرد الحاجة في بيان الشرط الآخر إلى العطف بمفاد (أو) لا يكفي في ذلك، ولا يصحح قياسه على حمل إطلاق الأمر على التعييني دون التخييري.

ولذا لو صرح باللزوم بالمفاد الاسمي - كما لو قيل: مجيء زيد مستلزم لأن يجب إكرامه - لم ينفع الإطلاق في استفادة المفهوم، سواء أريد به إطلاق اللازم أم الملزوم أم الملازمة، بخلاف ما لو صرح بالوجوب بالمفاد الاسمي، فقيل: يجب الصدقة، حيث يحمل على الوجوب التعييني كهيئة الأمر.

الثالث: مقتضى الإطلاق تأثير الشرط في الجزاء دائماً

الثالث: أن مقتضى إطلاق الشرطية تأثير الشرط للجزاء دائماً، ولازم ذلك انحصار العلة به، إذ لو كان غيره مؤثراً له لزم انفراد الغير به لو كان أسبق، ولا يكون هو مؤثراً لو تأخر، وهو خلاف الإطلاق المذكور.

وأما تقريره بأن مقتضى الإطلاق استقلال الشرط بالتأثير، ولو كان غيره مؤثراً، لزم استناد الأثر إليهما معاً لو تقارنا، كما هو الحال في سائر موارد اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد.

فهو كما ترى! موقوف على ظهور الشرطية في كون الشرط علة تامة للجزاء، وقد سبق أنه لا مجال للبناء على ذلك، وأنه قد يكون متمماً للعلة، فلا يستقل بالتأثير، فاستناد الجزاء للشرط وللأمر الآخر عند اجتماعهما لا ينافي إطلاق الشرطية، ويتعين الاقتصار في تقريبه على الوجه الأول.

ومن الظاهر أنه يبتني على دلالة الشرحية على العلية، ولا موضوع له بناءً على تمحضها في الدلالة على الملازمة ولو مع كون الجزاء هو العلة.

ص: 525

المناقشة فيه

هذا، والظاهر أنه لا مجال للاستدلال بالوجه المذكور..

أولاً: لأن المنصرف من إطلاق تأثير المؤثر للأثر بيان تحققه تبعاً له في فرض عدمه، لا مطلقاً بنحوٍ يقتضي عدمه قبله. فإذا قيل: وقوع الإناء سبب لانكساره، كان ظاهره تأثير الوقوع في الانكسار لو لم ينكسر قبله، لا أنه لا ينكسر قبله بسبب آخر بل انكساره قبله كالرافع لموضوع الإطلاق من دون أن ينافيه عرفاً، وكذا الحال في الشرطية غير المسوقة للمفهوم ونحوها مما لا يتضمن إلا سببية شيءٍ لحدوث آخر.

ولعله إلى هذا يرجع ما ذكره غير واحدٍ في المقام من ظهور الكلام في بيان المؤثرية الاقتضائية الراجعة إلى قابلية المؤثر للتأثير. وإلا فلا إشكال في ظهور الكلام في المؤثرية الفعلية، لتمامية العلة حين وجود الشرط وعدم المانع من التأثير.

و ثانياً: لأن ذلك إنما يمنع من استناد الجزاء لأمرٍ سابقٍ على الشرط بنحوٍ لا يبقى معه موضوع لتأثير الشرط في ظرف وجوده، ولا يمنع من استناده لأمرٍ لا يجتمع مع الشرط، كما لو قيل: إن جاء زيد من سفره هذا يوم الجمعة وجب إكرامه، واحتمل وجوب إكرامه أيضاً لو جاء من هذا السفر يوم الثلاثاء، أو يجتمع معه في ظرف لا يمنع من تأثيره، لتعدد الموضوع، كما لو قيل: رحب بالقادم إن كان عالماً، واحتمل وجوب الترحيب به إن كان كريماً، أو قيل: إن ذبح الحيوان بالحديد حل أكله، واحتمل حليته أيضاً لو ذبح بالذهب.

وحيث لا إشكال في عدم الفرق في دلالة الشرطية على المفهوم وعدمها بين الموارد، ولا مجال لاستناد الدلالة والظهور لعدم الفصل

ص: 526

لزم عدم نهوض هذا الوجه بإثبات المفهوم، كما يناسبه الغفلة عنه بحسب المرتكزات في مقام الشرطية أو استفادة المفهوم منها، ولو استفيد المفهوم منها فمن وجهٍ آخر يعم جميع الموارد.

الرابع: ما ذكره السيد الحكيم قدس سره

الرابع: ما ذكره بعض المحققين وسيدنا الأعظم قدس سره ما من أن ظهور القضية الشرطية في دخل خصوصية الشرط في تحقيق الجزاء موجب لظهورها في كونه علة منحصرة له، إذ لو قام مقامه أمر آخر كان الجزاء مستنداً للجامع بينهما بلا دخلٍ للخصوصية.

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أن ذلك منتقض بغير الشرطية من القضايا المتكفلة ببيان موضوعات الأحكام الدخيلة فيها، فكما كان ظاهر قولنا: أكرم زيداً إن كان فقيراً دخل الفقر في الحكم، كذلك قولنا: أكرم الفقير، وأظهر منهما قولنا: فقر المرء سبب لوجوب إكرامه، مع عدم بنائهم على ثبوت المفهوم لغير الشرطية.

و ثانياً: أنه يبتني على أن وحدة الأثر تستلزم وحدة المؤثر، وقد سبق منا ومن بعض المحققين نفسه المنع من ذلك في مبحث الصحيح والأعم.

ولو تم، فهو أمر بُرهاني لا يدركه أهل اللسان ليترتب عليه الظهور النوعي في المفهوم، لوضوح أن الظهورات النوعية تبتني على الارتكازيات المدركة لعامة أهل اللسان.

على أن ذلك إنما يقتضي كون الشرط هو القدر المشترك لو كان دخل كل من الشرطين في الملاك بنحوٍ واحد، أما لو اختلف نحو دخلهما فيه فهو راجع إلى اختلاف الأثر حقيقةً، ولا ملزم معه باستناد الأثر للقدر المشترك، بل يتعين دخل خصوصية كل منهما فيه.

ص: 527

مثلاً: إذا كان فقر زيد مقتضياً لوجوب الانفاق عليه، إلا أن إساءته مانعة من وجوب ذلك إلا مع اضطراره، صح الحكم بوجوب الانفاق عليه مع عدم إساءته ومع اضطراره من دون ملزم برجوع عدم الإساءة والاضطرار لجامعٍ واحد، لأن تأثير عدم الإساءة في الوجوب بلحاظ ارتفاع المانع من تأثير المقتضي للملاك، وتأثير الاضطرار فيه بلحاظ كونه العلة التامة له، فلا تمنع الإساءة من تأثيره، ولا ملزم بوجود القدر الجامع الحقيقي بين عدم المانع والعلة التامة، بل هو ممتنع في نفسه.

ما ينبغي أن يقال في المقام

والذي ينبغي أن يقال: ظهور القضية في دخل خصوصية الموضوع أو غيره من القيود في الحكم إنما هو بمعنى دخلها في شخص الحكم المنشأ والمبين، ولا ظهور لها في دخلها في سنخه، بحيث لا يثبت مع خصوصية أخرى تشاركها في جامع عرفي، فضلاً عما إذا كانت مشاركة لها في جامع عقلي مستكشف بقاعدة استلزام وحدة الأثر لوحدة المؤثر لو تمت.

ودلالة القضية على دخل الخصوصية في سنخ الحكم تحتاج إلى عناية لابد من إثباتها في المقام وغيره. ويأتي في بعض تنبيهات المسألة توضيح ذلك.

الخامس: ما حكي عن العراقي قدس سره

الخامس: ما حكاه في منتهى الأصول عن بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الكلام في ثبوت المفهوم في المقام وغيره لا يبتني على ظهور القضية في كون ما أُخذ فيها موضوع أو شرط أو وصف أو غيرها علة منحصرة للحكم، لاشتراك جميع القضايا في ذلك، لظهور أخذ الشيء في الحكم في كونه دخيلاً بخصوصه، وأنه تمام ما يعتبر في الحكم، فلا يخلفه شيء آخر، كما لا يعتبر معه شيء آخر، من دون فرق بين القضايا في ذلك، بل الذي يبتني

ص: 528

على ثبوت المفهوم هو أن المنشأ سنخ الحكم أو شخصه، فإن كان الأول كان انتفاؤه بانتفاء علته المنحصرة مستلزماً لانتفاء تمام أفراد الحكم، فيثبت المفهوم، وإن كان الثاني فانتفاؤه بانتفاء علته المنحصرة لا ينافي ثبوت فردٍ آخر من الحكم، فلا يثبت المفهوم.

وحينئذٍ فالقضية بطبعها لا تتضمن إلا إنشاء الحكم بنحو القضية المهملة على موضوعه، وهي في قوة الجزئية لا إطلاق لها يشمل جميع وجودات سنخ الحكم، ليثبت المفهوم.

نعم، لو تضمنت القضية جهة زائدة على ربط الحكم بموضوعه أمكن دعوى الإطلاق من هذه الجهة الزائدة وخروجه عن الإهمال وظهور القضية في إنشاء سنخ الحكم المستلزم لثبوت المفهوم، لا شخصه، كما هو الحال في القضية الشرطية والمتضمنة للغاية والحصر، لاشتمالها على خصوصية زائدة على ربط الحكم بالموضوع، بخلاف القضية المشتملة على الوصف، لأن الوصف لما كان من شؤون الموضوع، بل بلحاظ عينه ونفسه، فلا يفيد أكثر من ربط الحكم بالموضوع، ليدل على إنشاء سنخ الحكم ويخرج به عن مفاد القضية بطبعها.

ويشكل ما ذكره..

المناقشة فيه

أولاً: بأنه لا مجال للتفريق بين القضايا في ظهور بعضها في إنشاء سنخ الحكم وظهور الآخر في إنشاء شخصه، بعد أن كان الحكم نحواً من النسبة المتقومة بجميع ما يؤخذ في القضية من موضوع وقيود، بل ليس المنشأ أو المخبر عنه إلا النسبة المتشخصة والمتقومة بتمام ما أخذ فيها من أطراف، ولا مجال لاحتمال تكفل القضية بإنشاء سنخ الحكم بنحو يشمل صورة

ص: 529

فقد الموضوع أو بعض قيوده، ليحتاج في استفادة أن المجعول هو الحكم الجزئي، إلى دعوى إهمال الحكم المنشأ بحسب طبع القضية، وأن المهملة في قوة الجزئية، بل لا معنى للإهمال في القضايا المتضمنة للإنشاء والجعل، لامتناع الإهمال في المجعول ثبوتاً، وعموم الحكم وخصوصه تابع لعموم موضوعه وخصوصه، لا لكون الحكم المنشأ أوسع من موضوعه.

ومن ثم كان لازم ذلك ارتفاع الحكم المنشأ بارتفاع موضوعه أو قيوده، وهو معنى كونها علة منحصرة، له - حسبما تقدم منه - لا بمعنى ظهور القضية في ذلك، بل لا تتكفل القضية إلا ربط الحكم بالموضوع والقيد بنحوٍ يقتضي قصوره عن غيرهما.

ولذا لا يكون مرادهم بالنزاع في كون بعض القيود علة منحصرة في ذلك، لبداهة اشتراك جميع القضايا فيه - كما ذكره - ولوضوح أن ارتفاع الحكم لارتفاع موضوعه أو قيده لا ينافي ثبوت حكم آخر مثله لموضوعٍ آخر أو في حال آخر، فلا يكون هو المعيار في المفهوم، بل المعيار فيه أن يستفاد من القضية انحصار سنخ الحكم بالموضوع أو القيد المذكور فيها، بحيث لا يثبت إلا معها، كما أشرنا إليه في ذيل الكلام في الوجه السابق، وهو مرادهم بالانحصار الذي يقع الكلام فيه في بعض القضايا، ومنها الشرطية.

و ثانياً: أن مجرد اشتمال القضية الشرطية على خصوصية زائدة على ربط الحكم بموضوعه لا يكفي في ظهورها في إنشاء السنخ الذي جعله معياراً في الدلالة على المفهوم، كما لا يكفي في ظهورها في انحصار السنخ بالخصوصية المذكورة، الذي عرفت أنه المعيار في الدلالة عليه، وإلا لاطَّرَدَ ذلك في سائر القيود الزائدة على الموضوع من ظرفٍ أو حالٍ أو غيرهما، بل

ص: 530

لجرى في الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع، بل لابد فيه من جهةٍ أخرى تستلزم الانحصار، ولو لم يكن انحصار العلية، ولذا اهتم أهل الفن بتحقيق ذلك، والكلام فيه إثباتاً ونفياً.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم لإثبات ظهور الجملة الشرطية في الانحصار بضميمة الإطلاق من دون أن تكون موضوعة لذلك، بل مع عدم وضعها عند بعضهم حتى لإفادة العلية.

الأولى ما يظهر من الشيخ الأعظم قدس سره من الاستدلال على المرتكزات الاستعمالية

وحيث ظهر وَهْنُهَا فلعل الأولى ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره وسبقه إليه جماعة كثيرة من القدماء والمتأخرين من ظهورها بنفسها في الانحصار، بمعنى لزوم الشرط للجزاء، بحيث ينتفي الجزاء بانتفائه الذي سبق أنه المعيار في المفهوم.

لقضاء الوجدان بذلك بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية، للفرق ارتكازاً بين الشرط وغيره من قيود النسبة، كالظرف والحال وغيرهما في أن التقييد به لا يبتني على مجرد إفادة ثبوتها عنده، بل تعليقها عليه وإناطتها به، ولذا أطلق عليه الشرط عندهم وعلى القضية أنها شرطية، لوضوح أن شرط الشيء ليس مجرد ما يحصل عنده، بل ما يتوقف وجوده عليه، فلولا ارتكاز أن مفاد الشرطية الإناطة والتعليق بالنحو الذي ذكرناه لم يكن وجه للإطلاق المذكور.

كثرة موارد تجريد الشرطية عن العلية

نعم، لا إشكال في كثرة موارد تجريد الشرطية عن الخصوصية المذكورة وسوقها لبيان مجرد حصول الجزاء عند حصول الشرط، من دون تعليق عليه ولا إناطة به.

ولعل ذلك هو منشأ بناء من تقدم على كون الخصوصية المستلزمة

ص: 531

للمفهوم خارجة عن مفاد القضية وضعاً، وبسبب ارتكاز ظهورها في الخصوصية المذكورة تكلف من تكلف توجيه كونها مقتضى الإطلاق بمقدمات الحكمة، على اختلاف الوجوه المتقدمة.

لكن الارتكاز المذكور - بعدما عرفت من عدم تمامية تلك الوجوه - كافٍ في إثبات إفادتها لها وضعاً، من دون أن ينافيه كثرة موارد تجريدها عنها، لشيوع التوسع في الاستعمالات، نظير التوسع في غير الشرطية مما تضمن التقييد بالوصف والظرف وغيرهما، فيساق لبيان الإناطة والتعليق بنحوٍ يقتضي المفهوم، مع وضوح عدم إفادته لذلك لا وضعاً ولا إطلاقاً.

وبالجملة: قياس الشرطية على غيرها شاهد بالفرق بينهما في إفادة الإناطة وعدمها، وكما لا ينافي ذلك سَوق غير الشرطية لإفادة الإناطة في كثيرٍ من الاستعمالات لا ينافيه تجريد الشرطية عنها في الاستعمالات الكثيرة، لأن المعيار في الوضع التبادر، لا الاستعمال.

الاستدلال ببعض النصوص في المقام

ثم إنه قد يُستدل لما ذكرنا ببعض النصوص الظاهرة في المفروغية عن إفادة الشرطية المفهوم، كصحيح عبيد بن زرارة: قلت لأبي عبد الله عليه السلام قوله عز وجل: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»؟ قال: «ما أبينها، من شهد فليصمه، ومن سافر فلا يصمه»(1).

وما في صحيح أبي أيوب عن أبي عبد الله عليه السلام في تفسير قوله تعالى: «فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْه(2) من قوله عليه السلام

ص: 532


1- الوسائل ج 7، باب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، حديث: 8
2- سورة البقرة: 203

«فلو سكت لم يبق أحد إلا تعجّل، ولكنه قال: ومن تأخر فلا إثم عليه»(1).

وصحيح أبي بصير: سألت أعبد الله عليه السلام عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير عبيط. فقال: «لا تأكل، إن علياً عليه السلام كان يقول: «إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل»(2)، وغيرها.

وهي إن لم تبلغ مرتبة الاستدلال، فلا إشكال في قوة تأييدها للمطلوب، ولاسيما الأولين، وخصوصاً الثاني، لظهوره في فهم الناس الإناطة بأنفسهم.

ما ذكره المنطقيون من أن رفع المقدم لا يستلزم رفع التالي

هذا، وأما ما ذكره المنطقيون في القياس الاستثنائي من أن رفع المقدم في المتصلة لا يستلزم رفع التالي. فهو مبني على إرادتهم بها ما تتضمن مجرد اتصال نسبة الجزاء بنسبة الشرط، ولذا تؤدي عندهم بقولنا: كلما كان كذا كان كذا، مع أن (ما) في (كلما) مصدرية ظرفية متمحضة في الدلالة على الزمان، ولذا صح منهم تقسيمها إلى اللزومية والاتفاقية، وليس الملحوظ لهم المعنى اللغوي والعرفي لمفاد الأداة أو الهيئة، كما أشرنا إليه عند الكلام في دلالة الشرطية على اللزوم، فلا مجال للخروج بما ذكروه عما ذكرنا من التبادر.

تنبيهات..

بقي في المقام تنبيهات..

التنبيه الأول: المتيقن مما تقدم الجملة المقترنة ب - (أن)

التنبيه الأول: أشرنا في أول الفصل إلى أن المتيقن من محل الكلام الجملة المقترنة ب (إن) ونحوها، وذلك لأن (إن) بسبب شيوع استعمالها

ص: 533


1- الوسائل ج 10، باب: 9 من أبواب العود إلى منى، حديث: 4
2- الوسائل ج 16، باب: 12 من أبواب الذبائح، حديث: 1

اتضح مؤداها حتى صارت أظهر أدوات الشرط في إفادة الإناطة والتعليق المستلزمين للمفهوم.

ولكن الظاهر مشاركة كثير من أدوات الشرط لها، سواء كانت جازمة للمضارع ك (من) و (ما) أم لا ك (إذا)، كما يشهد به أو يؤيده النصوص المتقدمة.

ولا ينافي ذلك ما صرح به النحويون من أن (إذ) ظرف مضاف للجملة التي بعدها معمولة للجزاء. لأنه لو تم فتضمن (إذا) معنى الظرف لا ينافي إفادتها الإناطة أيضاً.

نعم، ما يقل استعماله في أعرافنا ك (أيان وحيثما وإذ ما ومتى ومهما) لا يتسنى لنا تحديد مفاده بالتبادر، ليتضح ظهوره في المفهوم وعدمه.

ولا يتسنى لنا الجزم بتلازم أدوات الشرط في ذلك، وإن كان مظنوناً لعدم وضوح كون المعيار في جعلهم لها من أدوات الشرط ملاحظتهم إفادتها الخصوصية المستلزمة للمفهوم، بل لعله ناشئ عن مجرد إفادتها الارتباط بين المقدم والتالي، نظير ما تقدم من المنطقيين، فيكون مصطلحاً نحوياً لا يصلح لتحديد المفهوم اللغوي والعرفي للأدوات المذكورة.

الشرطية الخالية من الأداة

هذا، والظاهر استفادة المفهوم من الشرطية الخالية عن الأداة، وهي المتضمنة لجواب الطلب، نحو: أسلم تسلم، لقوة ظهور هيئتها في الإناطة والتعليق، ويؤيده صحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال له رجل: جُعِلتُ فداك إن الله يقول: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» وإنا ندعو فلا يستجاب لنا، قال: «لأنكم لا توفون بعهده، وإن الله يقول: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ»

ص: 534

والله لو وفيتم لله لوفى الله لكم»(1).

نعم، يشكل استفادته من الحملية المشعرة بالشرط، وهي التي يكون المبتدأ فيها موصولاً والخبر مقترناً بالفاء، نحو الذي يأتي فله درهم، فإنهم وإن ذكروا أن دخول الفاء مشعر بتضمن الموصول معنى الشرط، إلا أن المتيقن منه تضمنه له من حيثية إفادة كون الصلة علة للخبر، لا من حيثية الإناطة والتعليق.

التنبيه الثاني: المعيار انتفاء سنخ الحكم لا شخصه

التنبيه الثاني: أشرنا آنفاً إلى أن المعيار في استفاده المفهوم من القضية دلالتها على انتفاء سنخ الحكم حال عدم الشرط، لا انتفاء شخصه. فقولنا: أكرم زيداً إن جاءك لما كان دالاً على وجوب الإكرام عند المجيء، فانتفاء الوجوب المذكور حال عدم المجيء لعدم تحقق موضوعه لا ينافي ثبوت فرد آخر من وجوب الإكرام في حال المرض مثلاً، ليستلزم المفهوم، وإنما المستلزم للمفهوم انتفاء مطلق وجوب الإكرام حال عدم المجيء.

وهكذا الحال في جميع المفاهيم، فمفهوم الغاية يتوقف على ظهور القضية في ارتفاع مطلق الحكم بحصول الغاية، لا خصوص الحكم الثابت قبل حصولها، ومفهوم الاستثناء والوصف يتوقف على ظهورها في ارتفاع مطلق الحكم في المستثنى أو فاقد الوصف، لا خصوص الحكم الوارد على الباقي من المستثنى منه وعلى الموصوف، ومفهوم اللقب على ظهورها في ارتفاع مطلق الحكم عن غير الموضوع المذكور فيها، لا خصوص الحكم الوارد عليه... إلى غير ذلك. وبذلك ظهر أنه ليس المراد بشخص الحكم في مقابل سنخه الحكم الشخصي الوارد على الموضوع الجزئي كنجاسة

ص: 535


1- تفسير القمي: ج 1، ص 46

الثوب الخاص في مقابل الحكم الكلي الوارد على الموضوع العام بنحو الانحلال، كنجاسة الملاقي للنجس، لاختلاف القضايا المتضمنة للأحكام في ذلك، بل الحكم المقارن للخصوصية المذكورة في القضية من موضوعٍ أو قيدٍ أو غيرهما مما يكون منشأ للمفهوم، في مقابل ذات الحكم مع قطع النظر عن تلك الخصوصية.

الكلام في مفاد القضية حملية أو إنشائية

هذا، ولا ينبغي التأمل في أن مفاد القضية - إنشائية كانت أم خبرية - جعل الأمر المحكوم به أو الحكاية عنه مقارناً لتمام ما أُخذ في القضية من موضوع أو قيد أو غيرهما، لتقوّم النسبة التي تتضمنها القضية بأطرافها، فلا معنى لعمومها لحال عدم بعض تلك الأطراف.

إلا أن يخرج بعض تلك الأطراف عن كونه قيداً في القضية، كالوصف المذكور لمحض بيان حال الموضوع اللازم أو ا لغالب.

أو تكون خصوصية القيد ملغية لذكره في القضية عبرةً لبيان قيدية الماهية التي يندرج تحتها.

لكن كلاهما - مع مخالفته للظاهر واحتياجه للقرينة - لا ينافي ما ذكرنا من دخل القيد في الحكم الذي تتضمنه القضية، وأنها لا تفيد إلا الحكم المتقوم به.

ومرجع ذلك إلى كون المجعول في القضية الإنشائية والمحكي عنه في الخبرية شخص الحكم لا سنخه.

وعليه يبتني منع ما سبق عن بعض الأعيان المحققين قدس سره من أنه قد يستفاد من بعض القضايا إنشاء سنخ الحكم لاشتماله على خصوصيةٍ زائدةٍ على جعل الحكم على موضوعه.

ص: 536

عدم ابتناء استفادة سنخ الحكم على عموم المعنى الحرفي

هذا، ولا فرق في ذلك بين القول بعموم المعنى الحرفي والقول بخصوصه، لوضوح أن عموم المعنى الحرفي مفهوماً لا ينافي كون المنشأ فرداً خاصاً من الحكم متقوماً بجميع ما يؤخذ في القضية من موضوعٍ وقيودٍ، لأن إطلاقه بالإضافة إليها لا يجتمع مع أخذها فيه.

وليس الفرق بين جزئية المعنى الحرفي وكليته إلا في كون الخصوصية خارجة عن مفهومه مقارنةً له وكونها مأخوذة في المفهوم - نظير الفرق بين قولنا: أكرم زيداً، وقولنا: أكرم الرجل، في كونه مفهومياً محضاً - مع كون المؤدى واحداً مطابقاً للنسبة المتقومة بالأطراف.

فما قد يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من كون المنشأ سنخ الحكم، لعموم المعنى الحرفي، في غير محله.

ومثله ما قد يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من الالتزام بذلك فيما لو كان الحكم الذي يتضمنه الجزاء مستفاداً من معنى اسمي، كالوجوب والتحريم، لعموم المعنى المذكور مفهوماً، وليس كالمعنى الحرفي شخصياً جزئياً.

وكذا ما في التقريرات من أن الكلام المشتمل على المفهوم إذا كان خبرياً، كقولنا: يجب كذا إن كان كذا، فالمخبر عن ثبوته في المنطوق ليس شخصاً خاصاً من الحكم، بل هو كلي الحكم، وإنما يكون شخصاً خاصاً منه إذا كان إنشائياً كقولنا: أكرم زيداً إن جاءك.

لابتناء جميع ذلك على تعقل كون المنشأ أو المخبر عنه كلي الحكم وسنخه بالنحو الذي يشمل فاقد الخصوصية التي تضمنتها القضية، وقد عرفت أنه غير معقول، وأن أخذ القيد في القضية مستلزم لاختصاص الحكم الذي تضمنته في مقام الإخبار أو الإنشاء بما يقارنه، ومرجعه إلى كون مفاد

ص: 537

القضية شخص الحكم لا سنخه.

على أن لازم ما في التقريرات ثبوت المفهوم لكل قضية خبرية، ولازم ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره ثبوته لكل قضية يستفاد الحكم من معنى اسمي فيها، ولازم ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ثبوته في كل قضية، ولا يختص - بناءً على ما ذكروه - بالشرطية ونحوها، لأنه بعد أن كان الحكم الذي تتضمنه القضية هو السنخ، والمفروض أن مفادها ارتباطه بالموضوع أو القيد الخاص المذكور فيها، ولازم ذلك انتفاؤه بانتفائه، وامتناع وجوده في موضوع آخر أو في غير مورد القيد، فلاحظ.

ويترتب على ما ذكرنا أن ثبوت شخص الحكم في الموضوع أو مورد القيد إذا كان منافياً لثبوت مثله في غيرهما تعين البناء على عدم ثبوته واختصاص سنخ الحكم بالموضوع ومورد القيد، من دون فرق بين القضايا.

لكنه ليس من المفهوم المصطلح الذي يبتني على خصوصية في مفاد القضية، بل لخصوصية في الحكم، وذلك كما في الوقوف، لوضوح أن العين إذا وقفت على وجهٍ أمتنع وقفها على وجهٍ آخر.

فإذا قال: هذه الدار وقف على أولادي الفقراء، اختص بها أولاده الفقراء، ولم يدخل في الموقوف عليهم غير الفقراء من أولاده، وإن لم نقل بمفهوم الوصف، ولا غير أولاده، وإن لم نقل بمفهوم اللقب، لا بوقفية أخرى، لامتناع وقف العين مرتين، ولا بالوقفية، الأولى، لتوقف دخول غير الفقراء من أولاده فيها على عدم سوق الوقف للتقييد، بل لمحض التوصيف بالغلبة، وتوقف دخول غير أولاده على إلغاء خصوصية الأولاد، وأن ذكرهم عبرة للأعم منهم كأرحامه، أو مطلق الناس، وقد عرفت أنهما خلاف ظاهر

ص: 538

الكلام، بل قد يكونا خلاف المقطوع به منه.

ولا يفرق في ذلك بين كون القضية إنشائية وكونها إخبارية عن حال الوقفية الواقعة، كما في مقام الإقرار والشهادة.

وما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من عدم الدلالة على الانتفاء في الإخبار إلا أن تكون القضية ذات مفهوم.

في غير محله بعد ظهور القضية الخبرية في بيان تمام الموقوف عليهم، لأن الاقتصار في بيان طرف الإضافة على شيءٍ ظاهر في كونه تمام الطرف، لا بعضه.

نعم، يتجه ذلك لو لم تتضمن الموقوف عليهم، بل مجرد استحقاقهم التصرف في الوقف، لأن استحقاقهم بالوقفية الواحدة لا ينافي استحقاق غيرهم بها.

ونظير الوقف في ذلك ما يتضمن الملكية أو يستلزمها، كالهبة والوصية ونحوهما، مع اتحاد موضوع الملكية. أما مع تعدد فلا يتم ذلك، بل تتوقف الدلالة على الانتفاء على سوق القضية للمفهوم، لعدم التنافي بين الملكيتين.

وعليه هذا فلو أوصى بإعطاء داره لجيرانه، ثم أوصى بإعطائها لجيرانه الفقراء أو إن كانوا فقراء، كانت الوصية الثانية ناسخة للأولى، من دون نظر إلى ظهور القضية المتضمنة لها في المفهوم.

أما إذا أوصى بإعطاء كل رجل منهم عشرة دراهم، ثم أوصى بإعطاء كل رجلٍ من فقرائهم عشرة دراهم لم تكن ناسخة للأولى إلا إذا كانت القضية المتضمنة لها ظاهرة في المفهوم.

ص: 539

ولعله إلى ما ذكرنا يرجع ما عن الشهيد الثاني في محكي تمهيد القواعد من عدم الإشكال في دلالة القضية على المفهوم في مثل الوقف والوصايا والنذور والايمان، قال: «كما إذا قال: وقفت داري على أولادي الفقراء، أو إن كانوا فقراء أو نحو ذلك. ولعل الوجه في تخصيص المذكور هو عدم دخول غير الفقراء في الموقوف عليهم، وفهم التعارض فيما لو قال بعد ذلك: وقفت على أولادي مطلقاً».

محاولة توجيه دلالة الشرطية على انتفاء سنخ الحكم مع كون المنشأ شخصه

إذا عرفت هذا، فقد حاول غير واحدٍ توجيه دلالة الشرطية على انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الشرط مع فرض كون المنشأ هو شخصه، إما مطلقاً، كما ذكرنا، أو إذا كانت واردةً في مقام الإنشاء، كما يظهر من التقريرات، أو إذا استفيد الحكم مع معنى حرفي، كما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره.

والمذكور في كلماتهم وجوه:

أحدها: ما يظهر من التقريرات

أحدها: ما يظهر من التقريرات قال: «وأما ارتفاع مطلق الوجوب فيما إذا كان الكلام إنشائياً فهو من فوائد العلية والسببية المستفادة من الجملة الشرطية، حيث إن ارتفاع شخص الطلب والوجوب ليس مستنداً إلى ارتفاع العلة والسبب المأخوذ في الجملة الشرطية، فإن ذلك يرتفع ولو لم يؤخذ المذكور في حيال أداة الشرط علة له، كما هو ظاهر في اللقب والوصف، فقضية العلية والسببية ارتفاع نوع الوجوب الذي أنشأه الأمر وصار بواسطة إنشائه شخصا...».

وظاهره أنه لما لم يكن ارتفاع شخص الحكم بارتفاع الخصوصية المأخوذة فيه موقوفاً على سوقها علة له، بل يكفي فيه سوقها قيداً في القضية بأي نحوٍ اتفق، فأخذها علة له - كما هو ظاهر الشرطية - لابد أن يكون لبيان

ص: 540

ارتفاع أصل الحكم وسنخه بارتفاعها، لا ارتفاع خصوص شخصه.

المناقشة فيه

وفيه: أولاً: أن مرجع ذلك إلى أن دلالة الشرطية على انتفاء السنخ - المستلزم للمفهوم - ليست بالوضع، بل بدلالة الاقتضاء دفعاً للغوية ذكر الشرط بصورة العلة، وهو موقوف على انحصار فائدة البيان بصورة العلة بذلك، لكنه غير ظاهر، بل قد يكون بنفسه محطاً للغرض ومورداً للفائدة، ولو بلحاظ نكتة بيانية.

على أن لازم ذلك دلالة الشرطية على المفهوم وإن لم نقل بدلالتها على الانحصار. ومن ثم جعل بعض المحققين قدس سره استفادة انتفاء السنخ من فوائد بيان انحصار العلة، لا من فوائد بيان أصل العلية.

وثانياً: أن ذلك لو تم اقتضى دلالة الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع على المفهوم، بحيث تقتضي انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الشرط. بل هي أولى بذلك، للاستغناء فيها عن ذكر الشرط مطلقاً بعد تقوم موضوع الجزاء به، بخلاف غيرها، حيث يحتاج فيها لذكره إما بصورة قيد الموضوع أو بصورة العلة، فذكره بصورة العلة مع الاستغناء عنه أولى بالدلالة على انتفاء سنخ الحكم من ذكره بصورتها مع الحاجة إلى ذكره ولو بصورةٍ أخرى. فلاحظ.

ثانيها: ما ذكره النائيني قدس سره

ثانيها: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن المعلق في الشرطية ليس هو مفاد الهيئة، لأنه معنى حرفي وملحوظ آلي، بل هو نتيجة القضية المذكورة في الجزاء، وإن شئت عبرت عنها بالمادة المنتسبة، على ما تقدم تفصيله في بحث الواجب المشروط.

وعليه يكون المعلق في الحقيقة هو الحكم العارض للمادة، كوجوب الصلاة في قولنا: إذا دخل الوقت فصل.

ص: 541

المناقشة فيه

لكنه حيث يبتني على ما تقدم منه في الواجب المشروط يظهر الإشكال فيه مما تقدم هناك في وجه ضعف المبنى المذكور.

مع أنه لا ينهض بدفع الإشكال، لأن الحكم الذي هو نتيجة الهيئة عنده هو الوجوب الشخصي الخارجي، لفرض جزئية مفهوم الهيئة عنده، فكيف يكون المتحصل منها سنخ الحكم!

ثالثها: ما يظهر من السيد الحكيم قدس سره

ثالثها: ما يظهر من سيدنا الأعظم قدس سره من أن ظاهر القضية تعليل سنخ الجزاء لا شخصه، سواء كان الإنشاء وارداً على الطبيعة أم على الشخص، مستشهداً على ذلك بأن المشهور - مع بنائهم على أن الصيغة مستعملة في المعنى الجزئي - قائلون بدلالة القضية الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء. وقد يظهر منه توجيه ما سبق من التقريرات بذلك.

المناقشة فيه

لكنه كما ترى! إذ لا إشكال في أن مفاد الشرطية نحو نسبة بين الشرط ونفس الجزاء، لا سنخه ومجرد بناء المشهور على ما سبق لابد من النظر في وجهه، ولا يصلح بنفسه وجهاً للمدعى.

المختار في المقام

والذي ينبغي أن يقال: حيث سبق أن شخص الحكم هو الحكم المتحصل من القضية المتقوم بتمام ما أخذ فيها من موضوع وقيود، فلا مجال لكونه موضوعاً للتقييد الذي تتضمنه القضية، لتفرعه عليه، بل ليس موضوع التقييد إلا الذات بنفسها، الصالحة لطروء القيد وعدمه وهي المساوقة لسنخ الحكم بالمعنى الذي تقدم، وإن لم يكن مجعولاً أو مخبراً عنه على سعته، لامتناع تقييده بعد إطلاقه إلا بنسخه.

فمثلاً الوجوب في قولنا: يجب إكرام زيد، قد لحظ في مرتبة وروده على إكرام زيد بذاته على ما هو عليه من سعة في المفهوم، وتضييقه إنما

ص: 542

يكون بتقييده بموضوعه، وهو إكرام زيد، وفي مرتبة متأخرة عنه.

فهو في المرتبة الأولى سنخ الحكم وطرف للتقييد غير مجعول على سعته، وفي الثانية شخصه الذي تناوله الجعل.

كما أن وجوب إكرام زيد الذي هو مفاد الجزاء في قولنا: أكرم زيداً إن جاءك، قد لحظ في مرتبة تقييده بالمجيء بذاته، على ما هو عليه من سعة، وتضييقه بالشرط الذي يتحصل منه شخص الحكم إنما يكون في المرتبة اللاحقة لتقييده بالشرط، وهكذا الحال في جميع القيود التي تتضمنها القضية.

وحينئذٍ إذا فرض ظهور التقييد ببعض القيود في الانحصار والإناطة بها فليس المراد بهما إلا الانحصار والإناطة بالإضافة إلى موضوع التقييد وهو السنخ المستلزم للمفهوم، وإن كان الحكم المتحصل من القضية المنشأ أو المخبر عنه بها هو الشخص.

فكون الحكم المجعول أو المخبر عنه هو الشخص لا يستلزم كونه هو المنوط بالقيد والمعلق عليه، بل لا يمكن ذلك بعد كونه متحصلاً منهما ومتأخراً عنهما رتبةً، بل ليس موضوعهما إلا السنخ، والذات القابلة للأمرين.

وعلى هذا يكون المعيار في سعة المفهوم، فإنها تابعة لسعة الحكم الذي يكون طرفاً للتقييد.

فحيث كان مفهوم اللقب مبنياً على ظهور تقييد الحكم بموضوعه في انحصاره به، وكان الموضوع قيداً للحكم بذاته غير بشيء أصلاً، كان مفهوم اللقب على تقدير القول به أوسع المفاهيم، لرجوعه إلى انتفاء ذات الحكم عن غير الموضوع المذكور في القضية.

ص: 543

أما غيره من القيود فحيث كان وارداً على الحكم بعد تقييده بموضوعه المذكور في القضية فمفهومه - لو قيل به - انتفاء الحكم عن ذلك الموضوع في غير مورد القيد، لا انتفاء مطلق الحكم في غير مورد القيد، بحيث يستلزم انتفاءه عن موضوعٍ آخر.

ولذا كان مفهوم الشرط في قولنا: أكرم العالم إن كان عادلاً، ومفهوم الوصف في قولنا: أكرم العالم العادل، عدم وجوب إكرام العالم غير العادل.

لا عدم وجوب إكرام غير العالم مطلقاً، بل هو يبتني على مفهوم اللقب.

ولا عدم وجوب إكرامه إذا لم يكن عادلاً، بل هو يبتني على كون الشرط أو الوصف وهو العدالة تمام العلة المنحصرة - الذي سبق أنه لا مجال للبناء عليه في الشرطية، ولا يظن من أحدٍ البناء عليه في الوصفية - إذ لو كان متمماً للعلة أمكن اختصاص الاحتياج إليه بالعالم، لكونه متمما لمقتضى الحكم فيه، أو شرطاً لتأثير مقتضيه فيه، أو رافعاً للمانع منه، دون غيره - كالفقير الجاهل - بل يكون واجداً لتمام مقتضى الحكم من دون أن يحتاج تأثيره للشرط، أو يمتنع بمانعٍ.

وبذلك يظهر الحال في الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع، فإن ظهور الشرطية في المفهوم لما سبق إنما يقتضي إفادتها إناطة ثبوت الحكم لموضوعه بالشرط المفروض عدم انفكاكه عن الموضوع، ومقتضى الإناطة المذكورة ارتفاع الحكم عن موضوعه بارتفاع الشرط بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وأما ارتفاع الحكم عن غير موضوعه بارتفاع الشرط فهو أمر لا

ص: 544

تقتضيه الشرطية ليصح النقض بها في المقام، كما عن بعضهم.

فإذا قيل: إن قَدِمَ العالم فاستقبله، كان مفهومه عدم وجوب استقبال العالم عند عدم قدومه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع - إذ لا موضوع للاستقبال مع عدم القدوم - لا عدم وجوب استقبال غيره، وإنما يستفاد ذلك لو قيل استقبل القادم من السفر إن كان عالماً، فلاحظ.

التنبيه الثالث: مفهوم القضية الشرطية الكلية

التنبيه الثالث: من الظاهر أن المفهوم لما كان يبتني على إناطة الجزاء بالشرط وتعليقه عليه كان عبارة عن ثبوت نقيض الجزاء عند عدم الشرط.

وهو ظاهر فيما لو كان الجزاء حكماً خاصاً تبعاً لخصوصية موضوعه، كما في قولنا: أكرم زيداً إن جاءك.

وكذا لو كان حكماً عاماً منحلاً إلى أحكام متعددة بعدد أفراد موضوعه، وكان الشرط منحلاً إلى شروط متعددة تبعاً لها، كما في قولنا: أكرم العالم إن كان عادلاً، حيث يستفاد منه إناطة وجوب إكرام كل عالم بعدالته.

أما لو كان مفاد الجزاء حكماً عاماً، ولم يكن الشرط منحلاً إلى شروط متعددة بعدد أفراد العام الذي تضمنه الجزاء، فهل يكون مقتضى المفهوم قضية كلية مختلفة مع المنطوق في الإيجاب والسلب، أو مهملة في قوة الجزئية.

فمقتضى مفهوم قولهم عليهم السلام: «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(1) على الأول تنجس غير الكر بكل نجسٍ، وعلى الثاني مجرد تنجسه في الجملة ولو ببعض النجاسات، ومقتضى مفهوم قولنا: إن جاء زيد فأكرم ولده، على الأول أن جميع أولاد زيد لا يجب إكرامهم عند عدم مجيئه،

ص: 545


1- راجع الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب الماء المطلق

وعلى الثاني مجرد عدم وجوب إكرام جميعهم، وإن وجب إكرام بعضهم.

تقريب استفادة الجزئية من نقيض الكلية

إذا عرفت هذا فالظاهر الثاني، لأن إناطة العام بالشرط إنما تستلزم عدم ثبوته مع ارتفاع الشرط، وهو إنما يكون بسلب العموم، لا بعموم السلب من دون فرق في ذلك بين أن يكون العموم انحلالياً وأن يكون مجموعياً.

والمعلَّق على الشرط في الأول وإن كان أحكاماً متعددة حقيقةً وعرفاً، بخلافه في الثاني بل هو حكم واحد حقيقةً وعرفاً، وتحليله إلى أحكام متعددة ضمنية إنما هو بالتحليل العقلي، إلا أن ذلك ليس فارقاً في المقام بعد كون المعلق والمنوط في القسمين هو العام.

نعم، لو كان المعلق والمنوط كل واحدٍ من الأحكام الانحلالية في العام الانحلالي، بحيث يرجع إلى إناطات متعددة بعدد تلك الأحكام، ويكون كل منها منوطاً مع قطع النظر عن غيره، اتجه عموم المفهوم، لأن إناطة كل حكم بنفسه تستلزم ارتفاعه بارتفاع الشرط، فيلزم ارتفاع الجميع بارتفاعه. لكنه يحتاج إلى عناية خاصة زائدة على مفاد العام، وقرينة مخرجة عن ظهور الكلام الأولي في كون المعلق هو العام.

ومجرد كون العموم انحلالياً لا يستلزم ذلك، لأن انحلالية العام لا تنافي جعله بنفسه طرفاً للتعليق، ولا تستلزم النظر إلى أحكام أفراده وإناطتها بأنفسها مع قطع النظر عنه، بحيث تنحل إناطته إلى إناطات متعددة بعددها.

ولذا لا إشكال في ظهور مثل قولنا: إذا أخذ زيد سلاحه لم يخف أحداً، في أنه إذا لم يأخذ سلاحه خاف في الجملة، لا من كل أحدٍ، مع أن العموم فيه انحلالي بلا إشكال.

ما ذكره النائيني قدس سره ومناقشته

فما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن العموم إذا كان انحلالياً كان المعلق

ص: 546

كل واحدٍ من الأحكام، بنحوٍ يستلزم كون المفهوم قضية عامة، في غير محله.

وأشكل من ذلك ما ذكره معياراً في مقام الإثبات من أن العموم الذي يتضمنه الجزاء إذا استفيد من معنى اسمي - كلفظ - (كل) - أمكن أن يكون المعلق نفس العموم، فيكون المفهوم قضية جزئية، كما يمكن أن يكون هو الحكم العام بتمام أفراده، فيكون المفهوم قضية كلية.

أما إذا كان مستفاداً من معنى حرفي - كهيئة الجمع المعرف باللام، والنكرة في سياق النهي أو النفي، كحديث الكر المتقدم - فلا يمكن أن يكون المتعلق هو العموم، بل هو الحكم العام بما له من أفراد ينحل إليها.

إذ يرد عليه: أولاً: أن العموم المستفاد من معنى حرفي كما يكون انحلالياً يكون مجموعياً، ولا يختص العموم المجموعي بما يستفاد من معنى اسمي، بل هو تابع لقرائن تختلف باختلاف الموارد.

وثانياً: إن كون العموم مستفاداً من معنى حرفي لا يمنع من تعليقه بنفسه على الشرط، إما لما سبق منّا في الواجب المشروط من قابلية المعنى الحرفي للتعليق، أو لما سبق منه في التنبيه الثاني من أن المعلّق نتيجة القضية المذكورة في الجزاء، فإذا كانت نتيجتها العموم أمكن أن يكون هو المعلق على الشرط.

وبالجملة: النظر في الأمثلة العرفية - كالمثال المتقدم - شاهد بأن المعلق هو العام، وأن تعليق الأفراد بأنفسها كل على انفراده يحتاج إلى عناية يفتقر ظهور الكلام فيها إلى قرينة.

ومما ذكرنا يظهر أن الجزاء لو كان قضية مهملة أو جزئية كان مقتضى المفهوم قضية عامة مخالفة لها في الإيجاب والسلب، لأن نقيض الجزئية

ص: 547

كلية إلا أن يراد بها الإشارة إلى أفراد خاصة، فيكون المفهوم قضية جزئية أيضاً مراداً بها خصوص تلك الأفراد.

لكن الظاهر عدم الإشكال في احتياجه إلى قرينةٍ خاصةٍ لمخالفته للظهور الأولي للكلام.

التنبيه الرابع: تعدد الشرطية مع وحدة الجزاء

التنبيه الرابع: إذا تعددت الشرطية مع وحدة الجزاء واختلاف الشرط، لزم التنافي بناءً على ظهور الشرطية في المفهوم، لأن مقتضى مفهوم كل شرطية انتفاء الجزاء بانتفاء شرطها وإن تحقق شرط الأخرى، وهو ينافي إطلاق منطوق الأخرى.

ولا إشكال في ذلك مع عدم قابلية الجزاء للتعدد، كما في قولنا: إذا خفي الأذان فقصر، و: إذا خفي الجدران فقصر.

دعوى: عدم التنافي مع قابلية الجزاء للتعدد

أما مع قابليته له، فقد يدعى عدم التنافي بين الشرطيتين أو الأكثر، كما في قولنا: إن ظاهرت فاعتق رقبة، وإن أفطرت فاعتق رقبة، حيث يمكن تعدد التكليف بالعتق تبعاً لتعدد السبب، فمع تحقق أحد الشرطين أو الأكثر يتحقق التكليف التابع له، دون التكليف التابع للاخر، وبانتفائه ينتفي التكليف التابع له، وإن لم ينتف التكليف التابع له، ولا تنافي، لأن المنوط بكل شرط تكليفه التابع له.

المناقشة فيه

لكنه يشكل: بأن تعدد التكليف لما كان موقوفاً على تعدد المكلف به، بحمل المكلف به في كل شرطية على فرد من الماهية مباين للفرد المكلف به في الأخرى، فهو مخالف لإطلاق المكلف به في كل شرطية، لأن مقتضى الإطلاق إرادة أصل الماهية التي يكفي في امتثالها صرف الوجود، ومع وحدة المكلف به يمتنع تعدد التكليف، بل يتعين وحدته ويلزم التنافي، لأن

ص: 548

مقتضى مفهوم كل شرطية عدم تحققه في ظرف عدم تحقق شرطها، وإن تحقق شرط الأخرى.

وبالجملة: تعدد التكليف وإن لم يناف ظهور هيئة الطلب في كل من الشرطيتين، إلا أنه منافٍ لإطلاق المادة التي يراد بها المكلف به في كل منهما، وهو كاف في التنافي المدعى في المقام.

ثم إنه بما ذكرنا يتضح أن التنافي لا يختص بتعدد الشرطية، بل يجري فيما لو كانت إحدى القضيتين شرطية والأخرى حملية قد تضمنت موضوعاً للحكم غير الشرط الذي تضمنته الشرطية، كما لو قيل: يجب على من خفي عليه الأذان التقصير، وقيل: إن خفيت الجدران فقصر، لأن ثبوت الجزاء مع غير الشرط ينافي ظهور الشرطية في إناطته به.

بل يجري - أيضاً - في غير الشرطية مما تضمن حصر الحكم بموضوعه مع ما تضمن ثبوته مع غيره، كقولهم عليهم السلام: «ليس ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك..» مع ما تضمن ناقضية النوم(1).

فملاك التنافي ظهور أحد الدليلين في حصر الحكم بموضوع وظهور الآخر في ثبوته مع غيره بدونه.

وذكرهم لذلك في ذيل مفهوم الشرط ليس لاختصاص التنافي به، بل لابتناء ظهور الشرطية في المفهوم على ظهورها في الإناطة والانحصار الذي هو الملاك في التنافي.

نعم، قد تختص الشرطية ببعض الجهات الدخيلة فيما ذكروه في المقام.

ص: 549


1- راجع في الأمرين الوسائل ج 1، باب: 2 و 3 من أبواب نواقض الوضوء

ومن ثم ينبغي متابعتهم في جعلها موضوع الكلام هنا، وإن أمكن استفادة حال غيرها مما يذكر فيها تبعاً، وإن امتاز بشيءٍ ينبغي أن ينبه عليه.

في كيفية الجمع بين الشرطيتين

إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم في كيفية الجمع بين الشرطيتين ورفع التنافي بينهما.

الوجوه المحتملة ثلاثة

والوجوه المحتملة ثلاثة:

الأول: المحافظة على مفهوم كل من الشرطيتين مع تقييد منطوق كلٍ منهما به، فيبنى على عدم ثبوت الجزاء إلا بتحقق الشرطين معاً، وانتفائه بانتفاء كل منهما.

الثاني: المحافظة على إطلاق منطوق كل منهما مع تنزيل مفهوم كلٍ منهما على ما لا ينافيه، فيبنى على كفاية كل من الشرطين في ثبوت الجزاء، وأنه ينتفي بانتفائهما معاً.

الثالث: رفع اليد عن المفهوم رأساً، فتحمل الشرطية على بيان مجرد ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، دون إناطته به، فيبنى على كفاية كل من الشرطين في ثبوت الجزاء من دون نظر إلى حال انتفائهما.

ومنه يظهر الإشكال فيما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من رجوع هذا الوجه لسابقه، بلحاظ اشتراكهما في استقلال الشرط في التأثير بالجزاء وموضوعيته له.

إذ فيه: أن مجرد اشتراكهما في ذلك لا يستلزم رجوع أحدهما للاخر بعد اختلافهما عملاً في فرض انتفاء كلا الشرطين، تبعاً لاختلافهما مفهوماً، لابتناء هذا الوجه على رفع اليد عن ظهور الشرطية في المفهوم والإناطة رأساً، وابتناء ما قبله على المحافظة عليه مع تنزيله على ما يناسب المنطوق

ص: 550

في القضية الأخرى.

أقربية الوجه الثالث عرفاً

والظاهر أن الأقرب عرفاً هو الثالث، لابتناء الثاني على ما لا مجال للبناء عليه، كما يأتي إن شاء الله تعالى، وابتناء الأول على التصرف في ظهور الشرطية في ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط واستقلاله في التأثير فيه، وهو أقوى من ظهورها في الإناطة، ولذا سبق شيوع استعمالها مجردة عنها خالية عن المفهوم، ويتعين في الجمع العرفي المحافظة على أقوى الظهورين ورفع اليد عن أضعفهما.

ولا يبعد مفروغيتهم عن ذلك فيما لو أمكن تعدد الجزاء، كالمثال المتقدم في أول هذا التنبيه، ولذا غفل بعضهم عن التنافي بين الشرطيتين بدواً بسبب وضوح الجمع بهذا الوجه وارتكازيته.

نعم، قد يقوى ظهور الشرطية في الإناطة وبيان توقف الجزاء على الشرط المستلزم لانتفائه بانتفائه بنحوٍ لا يمكن رفع اليد عنه رأساً، كما لو ورد في مورد يفرغ معه عن ثبوت الجزاء ويشك في حده، حيث يغلب عدم التصدي لبيان مجرد ثبوته بثبوت الشرط، بل بيان توقفه عليه، المستلزم للمفهوم.

كما هو الحال فيما تضمن أنه إذا خفي الأذان فقصر، وإذا خفي الجدارن فقصر(1)، لوضوح أن مجرد وجوب القصر حينئذٍ مقتضى إطلاق وجوب القصر على المسافر، الذي يظهر المفروغية عنه في مقام البيان، فلا غرض ببيانه، بل المناسب لذلك حمله على بيان توقف وجوب القصر على الشرط المستلزم للمفهوم، فلا مجال لرفع اليد عنه في مقام الجمع العرفي

ص: 551


1- بناء على ورود نص بهذا المضمون، وهو محل كلام موكول إلى محله من الفقه

كما هو مقتضى الوجه الثالث، بل يتعين الوجه الأول أو غيره تبعاً للقرائن الخاصة المختلفة باختلاف الموارد، وقد يأتي التعرض لبعض الوجوه المناسبة فيه.

لكن الكلام في المقام من حيثية طبع الشرطية، التي عرفت أن ظهورها في الإناطة والمفهوم دون ظهورها في ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط بنحوٍ يقتضي استقلاله بالتأثير فيه وفي موضوعيته له من دون حاجة إلى انضمام غيره إليه، فيتعين رفع اليد عن الظهور الأضعف في مقام الجمع العرفي.

هذا، ولم أعثر عاجلاً على من اختار الوجه الأول.

نعم، حيث سبق من بعض الأعاظم قدس سره رجوع الوجه الثالث للثاني لزم تردد الأمر عنده بين الوجه الأول والثاني، وقد ذكر أنه لا مرجح لأحدهما بعد مخالفة كلٍ منهما للإطلاق، لابتناء الأول على تقييد الشرط بمفاد (الواو) الراجع للزوم انضمام أحد الشرطين للآخر في ترتب الجزاء، والثاني على تقييده بمفاد (أو) الراجع لقيام أحد الشرطين مقام الآخر في ترتب الجزاء، وحينئذٍ يتعين الإجمال والرجوع للأصول العملية مع تحقق أحد الشرطين دون الاخر.

لكن عرفت عدم رجوع الثالث للثاني وأنه يتعين البناء عليه، مضافاً إلى ما سبق في الاستدلال على المفهوم من أن الوجه في دلالة الشرطية عليه ليس هو الإطلاق المقابل للتقييد بأو، لأن مفاد (أو) لا ينافي الإطلاق، فلا مجال لمعارضته للإطلاق المقابل للتقييد بالواو، بل الوجه فيه ظهور الشرطية في الإناطة الذي سبق أنه دون ظهورها في استقلال الشرط في موضوعيته للجزاء، فيلزم الجمع العرفي برفع اليد عن الظهور في الإناطة،

ص: 552

لأنه أضعف الظهورين.

الكلام في الوجه الثاني وابتناؤه على أحد وجوه

وأما الوجه الثاني فهو الذي جرى عليه غير واحدٍ، وهو يبتني على أحد وجوه..

الأول: ما ذكر الشيخ الأعظم قدس سره من تقييد المفهوم بمنطوق الأخرى

الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره وغيره من تقييد مفهوم كل من الشرطيتين بمنطوق الأخرى.

وقد اعترف قدس سره - كما ذكر غيره - بأن المفهوم ليس مفاد قضية قابلة للتقييد، بل هو لازم لمفاد الشرطية فلابد من التصرف في ملزومه المدلول للشرطية بحمله على ما ينتج نتيجة التقييد المذكور. وهو وإن لم يشر إلى كيفية التصرف إلا أنه قد يقرب بوجهين:

أحدهما: حمل الإناطة على الإناطة الناقصة بالمقدار الذي لا ينافي ثبوت الجزاء مع الشرط الآخر.

لكنه كما ترى! لأن الإناطة والتوقف أمر بسيط لا يقبل الانحلال والتبعيض عرفاً، ليمكن رفع اليد عن بعض مراتبه مع المحافظة على الباقي في مقام الجمع العرفي بين الأدلة المتعارضة.

ثانيهما: ما أشار إليه سيدنا الأعظم قدس سره من أن المعلق على الشرط لما كان هو السنخ أمكن التفكيك فيه، بأن يكون المعلق كل فرد منه عدا واحد، فإنه يثبت مع الشرط الآخر.

وقد ذكر قدس سره أنه معقول في نفسه وإن لم يمكن الالتزام به في الجمع بين الشرطيتين.

لكن الظاهر أنه غير معقول في نفسه، إذ ليس سنخ الجزاء - كما سبق - إلا عبارة عن مفاد قضيته مع قطع النظر عن تقييدها بالشرط، وهو مما لا

ص: 553

أفراد له، كي يمكن التفكيك بينها في إناطة بعضها دون الآخر، فإن النسبة في نفسها ليست كالماهية الكلية ذات أفراد، بل هي أمر واحد تلحظ على نحو السعة أو الضيق بالقيد.

وليس توقفها على أحد أمرين راجعاً إلى توقف قسم من أفرادها على أحدهما بخصوصه، والقسم الآخر على الثاني بخصوصه، نظير اتصاف الماهية في الخارج بأحد وصفين - كالعلم والجهل - الراجع لاتصاف كل قسمٍ من أفرادها بأحدهما معيناً، كما لعله ظاهر.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من أنه بعد امتناع التصرف في المفهوم نفسه، لما سبق من كونه لازماً لمفاد الشرطية فلابد من رفع اليد عن ملزومه الذي هو مفادها بالمقدار الذي يرتفع به التعارض، ولا يكون ذلك إلا بتقييد المنطوق بمفاد (أو) ورفع اليد عن إطلاقه من هذه الجهة.

وجه الإشكال: أن ملزوم المفهوم لما كان هو الإناطة غير القابلة للانحلال والتبعيض عرفاً فلا مجال للاقتصار في رفع اليد عنها على ما يرتفع به التعارض، بل لابد إما من رفع اليد عنها رأساً أوالبناء عليها ورفع التعارض بوجهٍ آخر.

ومجرد كون نسبة المفهوم اللازم لها مع منطوق الشرطية الأخرى العموم المطلق لا يكفي في الجمع بالتقييد ما لم يكن جمعاً عرفياً.

كما أن الحمل على مفاد (أو) ليس من سنخ التقييد ولا تصرفاً في نفس الإناطة التي هي المنشأ في الدلالة على المفهوم، بل هو تصرف في موضوعها يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

ص: 554

الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره من تقييد إطلاق الشرط بعدم الآخر

الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره - كما في التقريرات - من تقييد إطلاق الشرط في كل منهما بعدم الآخر. فمثل: إذا أخفي الأذان فقصر، و: إذا خفي الجدران فقصر، يحمل على أنه: إذا خفي الأذان ولم يخف الجدران فقصر، وإذا خفي الجدران ولم يخف الأذان فقصر.

المناقشة فيه

وفيه: أنه إن أريد بذلك إبقاء ظهور الشرطيتين في الإناطة المستلزمة للمفهوم، فهو وإن نفع في دعوى أن مقتضاهما عدم تحقق الجزاء عند عدم تحقق الشرطين - كما لو لم يخف الأذان ولا الجدران في المثال المتقدم - لأنه من صور ارتفاع الشرط المقيد لكلٍ من الشرطيتين.

إلا أنه مستلزم للتعارض بين الشرطيتين، لأن شرط كلٍ منهما لما كان هو المقيد فتحققه من أفراد ارتفاع شرط الأخرى.

كما يستلزم البناء على عدم ثبوت الجزاء عند تحقق كلا الأمرين - كما لو خفي الأذان والجدران معاً في المثال المتقدم - لأنه من صور ارتفاع الشرط المقيد لكلٍ من الشرطيتين، وهو خلاف المقطوع به.

مع أنه مستلزم - أيضاً - لرفع اليد عن ظهور الشرطية في استقلال شرطها في التأثير في الجزاء وموضوعيته له، وقد سبق أنه أقوى من ظهورها في الإناطة والمفهوم.

وإن أريد به رفع اليد عن ظهور الشرطية في الإناطة كفى ذلك في رفع التنافي بلا حاجة إلى تقييد الشرط ورجع إلى الوجه الثالث الذي ذكرناه.

كما أن التقييد المذكور لا ينفع حينئذٍ في إثبات المفهوم المدعى على تقدير ارتفاع لكلا الشرطين، وإنما يستلزم إخراج صورة تحقق كلا الشرطين - كما لو خفي الأذان والجدران معاً - عن مفاد الشرطيتين، وتكون مسكوتاً

ص: 555

عنها، وهو خلاف المقطوع به أيضاً.

الثالث: تقييد كل منهما بعدم تحقق شرط الأخرى

الثالث: تقييد كل من الشرطيتين بعدم تحقق شرط الأخرى.

فإن الشرطية كسائر القضايا قابلة للتقييد بالشرط وغيره، كما في قولنا: إن سألك زيد فإن كان فقيراً فأعطه، ولازم ذلك قصور مفهومها عن صورة فقد القيد، فلو وجب إعطاء زيد مع عدم سؤاله وإن كان غنياً لم يكن منافياً لمفهوم الشرطية المذكورة.

فإذا قيدت كل من الشرطيتين في المقام بعدم تحقق شرط الأخرى قصر مفهومها عن صورة تحققه، فلا يصلح لمعارضة منطوق الأخرى، وإنما يكون مفهومهما مختصاً بصورة فقد الشرطين، كما هو مبنى الوجه الثاني.

المناقشة فيه

وفيه: أن ذلك إنما يتجه لو كان القيد قيداً للشرطية بتمامها، كالمثال المتقدم، دون ما إذا كان شرطاً لخصوص جزائها، كما هو المفروض في ا لمقام، إذ لا وجه حينئذٍ لصرفه إلى أصل الشرطية.

مع أن تقييد الشرطية كما يقتضي قصور مفهومها عن صورة فقد القيد يقتضي قصور منطوقها أيضاً، فلو لم يجب في المثال المتقدم إعطاء زيد إذا لم يسأل وإن كان فقيراً لم يكن منافياً لمنطوق الشرطية، ولازم ذلك خروج صورة تحقق كلا الشرطين في المقام - بأن خفي الأذان والجدران معاً - عن موضوع الشرطيتين، فلا يحكم بترتب الجزاء فيها، بل تكون مسكوتاً عنها، وقد سبق أنه خلاف المقطوع به.

الرابع: حمل الشرط على القدر الجامع

الرابع: حمل الشرط على القدر الجامع بين الشرطين وهو راجع إلى التصرف في ظهور الشرط في الخصوصية، وحمله في كلتا الشرطيتين على القدر الجامع مع المحافظة على ظهورهما في الإناطة، ولازمه انتفاء الجزاء

ص: 556

بانتفاء القدر الجامع.

قال في التقريرات: «ولعل العرف يساعد على ذلك بعد الإطلاع على التعدد».

المناقشة فيه

ويشكل: بأن المراد بذلك إن كان جعل تعدد الشرطية قرينة على أن المراد بكل شرطٍ هو القدر الجامع، بحيث يكون مسوقاً عبرةً له، نظير ما لو مر بشخص حيوان، فقال: اسم هذا أرنب، حيث لا يراد به إنه اسم لشخصه، بل لجنسه.

فهو بعيد جداً إلا في نادر من الموارد، لقوة ظهور العنوان في الحكاية عن معنونه استقلالاً واحتياج فنائه في غيره إلى عناية خاصة يصعب البناء عليها في غالب الموارد، بل يمتنع ذلك فيما لو لم يكن بين الشرطين جامعٍ عرفي، لتفرع مقام الإثبات على مقام الثبوت.

وإن كان المراد جعل تعدد الشرطية قرينة على أن موضوع الحكم الذي يتضمنه الجزاء هو القدر الجامع وأن ذكر كل من الشرطين لأنه فرد منه، لا لدخل خصوصيته فيه.

فهو وإن كان قريباً عرفاً فيما لو كان بين الشرطين جامع عرفي، بل متعيناً مطلقاً بناءً على ما تكرر من بعضهم - كالمحقق الخراساني قدس سره - من امتناع تعدد موضوع الحكم الواحد حقيقة، لامتناع تأثير المتعدد في الواحد.

إلا أنه لا ينفع في المحافظة على ظهور الشرطية في المفهوم، ليكون مقتضى الشرطيتين انتفاء الجزاء بانتفاء كلا الشرطيتين، حيث لا يصح تعليق الحكم على بعض أفراد موضوعه وإناطته به، وإنما يصح الحكم بمجرد ثبوته له.

ص: 557

فإذا صح ملك ولد مطلق المملوك، عبداً كان أو أمةً صح أن يقال: يملك ولد العبد، ولا يصح أن يقال: يملك الإنسان إن كان ولد عبد.

إلا أن يراد بالعبد مطلق المملوك، ولو كان أمة، بحيث يساق لبيانه ويجعل عبرة له.

حال دعوى تقييد الشرط بمفاد (أو)

ومنه يظهر الحال فيما ذكره غير واحد - منهم بعض الأعاظم قدس سره وبعض مشايخنا - من تقييد الشرط بمفاد (أو) فقد ذكرنا آنفاً أن ذلك ليس من التقييد، وإن كان نحواً من التصرف في متعلق الإناطة.

وحينئذٍ يشكل بأن كفاية أحد الأمرين في ثبوت الحكم إنما يصحح تعليقه على أحدهما بنحو الترديد بالتصريح بالعطف ب (أو) ولا يصحح تعليقه على أحدهما بعينه، بل لابد من تنزيل الشرطية المقتصر فيها على أحدهما بعينه على مجرد الثبوت عند الثبوت دون الإناطة.

إلا أن يفرض الإشارة بالمعين إلى المردد بين الأمرين، لمعهودية الترديد بينهما، وهو محتاج إلى عناية خارجة عن المتعارف ليس بناءَ العرف على الحمل عليها بمجرد اختلاف الشرط في الشرطيتين أو الأكثر قطعاً، بل لابد فيها من قرينةٍ خاصةٍ نادرة التحقق.

هذا ما عثرنا عليه وتيسر لنا الوصول إليه من الوجوه لتقريب الوجه الثاني المبتني على المحافظة على المفهوم في كل من الشرطيتين بالنحو الذي لا ينافي عموم منطوق الأخرى.

وحيث ظهر عدم تماميتها يدور الأمر بين الوجه الأول والثالث، وقد سبق أن الثالث هو الأظهر نوعاً، لأن ظهور الشرطية في استقلال الشرط في التأثير أقوى من ظهورها في الإناطة المستتبعة للمفهوم.

ص: 558

احتفاف الشرطية بقرائن توجب قوة ظهورها في الإناطة

كما سبق أن الشرطية قد تحتف بما يوجب قوة ظهورها في الإناطة والتوقف المستلزمين للمفهوم، فلا مجال حينئذٍ للوجه الثالث، بل لابد من الجمع بوجه آخر، تبعاً لخصوصيات القرائن المختلفة باختلاف الموارد من دون ضابط لها.

ولا يسعنا استقصاء الوجوه الممكنة، وإنما نكتفي بالإشارة إلى ما يحضرنا منها، ليستعين به الفقيه في مقام الجمع بين الأدلة..

منها: الوجه الأول المبتني على رفع اليد عن ظهور الشرطية في استقلال الشرط في التأثير، وتقييد الشرط في كل منهما بالآخر، ومرجعه إلى توقف ثبوت الجزاء على اجتماع الشرطين، وانتفائه بانتفاء أحدهما.

ومنها: البناء على اختلاف الحكم المعلق في كل من الشرطيتين سنخاً، نظير ما تضمن توقف حلية السمك على ما إذا كان له فلس، مع ما تضمن توقفها على إخراجه من الماء حياً، فيحمل الأول على الحلية الاقتضائية بلحاظ ذات الحيوان، والثاني على الحلية الفعلية.

الوجوه الممكنة في الخروج بها عن القاعدة الأولوية

ومنها: حمل الشرطيتين أو أحداهما على الحصر الإضافي الذي هو شائع في استعمالات العرف للقضايا المسوقة للحصر، فيقتصر مفهومه على مورد الإضافة نظير حمل ما تضمن حصر ناقضية الوضوء بما يخرج من الطرفين الأسفلين على كونه بالإضافة إلى سائر ما يخرج من البدن، كالقيء والرعاف، فيبنى على عدم ناقضيتها، من دون أن ينافي ناقضية ما لا يخرج منه، كالنوم.

ففي المقام يحمل ما تضمن اشتراط القصر بخفاء الأذان تارةً، وبخفاء الجدران أخرى - مثلاً - على الحصر بالإضافة إلى محض السفر، لبيان عدم

ص: 559

كفايته بنفسه في القصر.

نعم، لازم ذلك سقوط إطلاق سببية السفر للقصر عن الحجية في غير مورد خفاء الجدران والأذان، لكشفه عن عدم كونه تمام الموضوع للقصر، بل هو مقتض له، لابد في فعليته معه من انضمام أمرٍ آخر إليه.

فلابد من الرجوع إلى دليل آخر، كإطلاق وجوب التمام أو غيره.

وليس المقام من صغريات العام المخصص الذي هو حجة في الباقي، لابتناء التخصيص على إخراج بعض أفراد العام عن عمومه الراجع لعدم كفاية عنوان العام في ثبوت حكمه في خصوص مورده، لا مطلقاً، بخلاف الحصر الإضافي في المقام، فإن المفروض سوقه لبيان عدم كفاية السفر بنفسه في القصر مطلقاً، بل لابد فيه من انضمام شيء آخر إليه في تتميم موضوعه.

وحينئذٍ فالبناء على القصر في غير مورد خفاء الأذان والجدران إن كان لأجل محض السفر - كما هو مقتضى العموم المذكور - كان منافياً للحصر المذكور، وإن كان لأجل خصوصية زائدة عليه - كالتعب مثلاً - فمن الظاهر عدم نهوض ا لعام ولا غيره بإثبات دخله في موضوعه، فلاحظ.

ومنها: التصرف في خصوص إحدى الشرطيتين إما بتقييد الشرط فيها بشرط الأخرى لو كان أخص منه، أو بحمل الشرط فيها على كونه علامةً على تحقق شرط الأخرى في مورد الشك، مع كون شرط الأخرى هو المنحصر به الحكم حقيقةً.

ولذا احتمل في التقريرات كون ذلك هو الوجه لما في السرائر وعن غيره من أن التعويل على خفاء الأذان، دون خفاء الجدران. بأن يكون خفاء

ص: 560

الجدران أمارة على خفاء الأذان.

إلى غير ذلك مما لا يتيسر ضبطه، ويوكل لنظر الفقيه في الموارد المختلفة، ولو فرض عدم وضوح وجه الجمع لزم التوقف والرجوع للأدلة الأُخَر، أو الأصول العملية.

التنبيه الخامس: في التداخل

التنبيه الخامس: لا إشكال في ترتب الحكم تبعاً لترتب موضوعه بتمام حدوده المأخوذة في الكبرى الشرعية المستفادة من دليلٍ واحدٍ أو من أدلة متعددة بعد الجمع بينها.

وقد وقع الكلام بينهم في أن تعدد وجود الموضوع في الخارج هل يستلزم تعدد الحكم بنحو يقتضي تعدد الامتثال، أو لا فيكتفى بامتثال واحد وقد عنونت المسألة في كلماتهم بمسألة التداخل.

المعيار في تعدد وجود الموضوع

والمعيار في موضوعها على تعدد وجود موضوع الحكم في الخارج، إما من سنخ واحد يختص الحكم به كبروياً - كما لو قيل: إنما يجب إكرام زيد بمجيئه، فجاء مرتين - أو لا يختص به - كما لو ظاهَرَ الشخص مرتين بالإضافة لوجوب الكفارة - أو من سنخين كل منهما موضوع له كبروياً - كما لو ظاهر الشخص وقتل خطأً بالإضافة للكفارة - لعدم الفرق في ملاك النزاع بين الأقسام المذكورة بعد اشتراكها في تعدد السبب خارجاً ووحدة المسبب.

ومنه: يظهر عدم تفرع هذه المسألة على الكلام في المسألة السابقة، لأن البحث في تلك المسألة إنما هو عن أنه مع تعدد الشرط ووحدة الجزاء هل يبنى على استقلال كل من الشرطين في موضوعيته للحكم الذي يتضمنه الجزاء، فيكون الموضوع متعدداً كبروياً، أو عدم استقلاله، بل ليس الموضوع

ص: 561

كبروياً إلا المركب من الشرطين، ومحل الكلام هو تعدد الموضوع صغروياً ولو مع وحدته كبروياً، كما عرفت.

نعم، لو وجد فرد من كل من الشرطين في الخارج كان تحقق موضوع هذه المسألة مبتنياً إثباتاً على الكلام في تلك المسألة، فإن بني على استقلال كل من الشرطين في الموضوعية تحقق موضوع هذه المسألة، وإلا فلا.

فتلك المسألة إنما تصلح لتنقيح بعض صغريان هذه المسألة، لاتمام موضوعها، كما يظهر من كيفية تحريرها في بعض كلماتهم.

بل لا يختص موضوع الكلام في هذه المسألة بالشرطية، بل يجري في الحملية والأدلة اللبية، لاشتراكها معها في تعيين موضوع الحكم كبروياً، ولا مناسبة لذكرهم لها في ذيل الكلام في مفهوم الشرط وبعد الكلام في المسألة السابقة إلا ما أشرنا إليه من تفرع بعض صغرياتها إثباتاً على تلك المسألة المتفرعة على المفهوم، وإلا فلا دخل للمفهوم فيها بعد كون تعيين موضوع الحكم من شؤون المنطوق لا المفهوم.

محل الكلام الحكم القابل للتعدد

هذا، ومحل الكلام الحكم القابل للتعدد تبعاً لتعدد متعلقه، كالوجوب والاستحباب الواردين على الماهية بنحو البدل، والتي يكفي تحقيقها بتحقيق فرد منها في امتثال كل منهما، حيث يمكن تعددهما تبعاً لتعدد الموضوع، فيلزم تعدد الامتثال بتعدد الفرد من تلك الماهية.

ومثلهما الضمان الذي قد يتعلق بقدر معين من المال الكلي، حيث يمكن تعدده بتعدد المضمون من ذلك المقدار.

دون ما لا يقبل التعدد لوحدة متعلقه، إما لكونه كلياً قد تعلق الحكم به بنحو الاستغراق كمتعلق التحريم والكراهة، أو لكونه شخصياً، كمتعلق

ص: 562

النجاسة، وضمان اليد والإتلاف وهو الجسم الخارجي غير القابل للتعدد، حيث لا إشكال في التداخل في مثل ذلك، لامتناع تعدد الحكم من سنخٍ واحدٍ مع وحدة متعلقه، لاستلزامه اجتماع المثلين.

إلا أن يفرض الاختلاف بين الحكمين في الخواص والآثار، نظير اختلاف النجاسة المسببة عن ملاقاة البول مع النجاسة المسببة عن ملاقاة الدم في كيفية التطهير، واختلاف الحرمة المسببة عن الاسكار مع الحرمة المسببة عن الغصبية في ترتب الحد والسقوط بإذن المالك في التصرف، لرجوع ذلك في الحقيقة إلى الاختلاف في سنخ الحكم، فلا يلزم من التعدد معه اجتماع المثلين، فتأمل.

المختار عدم التداخل

إذا عرفت هذا، فالظاهر عدم التداخل مطلقاً، وهو المنسوب للمشهور، وعن جماعة - منهم المحقق الخوانساري - اختيار التداخل مطلقاً، وعن الحلي التفصيل بين اتحاد الموضوعات جنساً واختلافها فالتداخل في الأول دون الثاني، وقد يناسبه النظر في كلماتهم في بعض فروع الفقه.

دعوى: عدم التداخل لإطلاق دليل الواجب

وكيف كان، فقد يدعى أن مقتضى إطلاق الواجب في كل دليل متكفل ببيان الموضوع هو التداخل والاكتفاء في امتثال التكليف الذي بصرف الوجود ولو مع تعدد الموضوع في الخارج، لا لكون متعلق التكليف هو صرف الوجود، لما ذكره بعض الأعاظم قدس سره وسبق منّا في التنبيه الأول لمسألة المرة والتكرار من منع ذلك، بل لأنه مع تعلق التكليف بالماهية المعرّاة عن كل قيد - كما هو مقتضى فرض الإطلاق - يتعين الاكتفاء في امتثاله بصرف الوجود، لتحققها به.

ما ذكره النائيني قدس سره في دفع الدعوى المذكورة

لكن يظهر من تقرير بعض مشايخنا لدرس بعض الأعاظم قدس سره أن

ص: 563

الاكتفاء بصرف الوجود في امتثال التكليف بالماهية إنما هو مع وحدة الطلب المتعلق بها، أما مع تعدده - كما هو مقتضى ظهور كل دليل في تحقق التكليف تبعاً لوجود موضوعه بنحو الانحلال، المستلزم لتكثره بتكثر وجوده - فالمتعين عدم الاكتفاء بصرف الوجود، بل لابد من تعدد إيجادها تبعاً لتعدد التكليف الوارد عليها.

المناقشة فيه: أولاً امتناع تعدد التكليف الوارد على الماهية المعراة

وفيه: أولاً: أنه يمتنع تعدد التكليف الوارد على الماهية المعراة عن كل قيد يقتضي تعدد المتعلق، لقيام التكليف بالاعتبار العرفي، والعرف لا يعتبر تعدد التكليف إلا في ظرف اختلاف ما يدعو إليه، أما مع وحدته من جميع الجهات، فيلغو اعتبار التعدد عرفاً، غايته أن يلتزم بتأكد التكليف حينئذٍ.

وإليه يرجع ما سبقت الإشارة إليه من استلزام تعدد الحكم مع وحدة متعلقه اجتماع المثلين، لأن استحالة الاجتماع في الاعتباريات فرع عدم صحة اعتبار الأمرين عرفاً، وليس هو كامتناع الاجتماع في الأمور الحقيقية تابعاً لجهة حقيقية يدركها العقل، ليكون امتناع الاجتماع عقلياً.

ومن هنا كان الظاهر أنه مع اجتماع الوجوب والاستحباب على متعلقٍ واحدٍ لا يلتزم بتعدد الطلب، بل بتأكده، لأن ما به الاشتراك بين الطلبين لا يقبل التعدد عرفاً، بل التأكد، وإن كان الحكمان متباينين حقيقةً وليسا متماثلين.

نعم، لابد من كونه لزومياً، بلحاظ كون اللزوم مما يمتاز به الوجوب، فيثبت تبعاً لتحقق مقتضي الوجوب.

وبالجملة: لابد مع وحدة المتعلق - وهو الماهية المطلقة - من وحدة

ص: 564

الطلب.

أما مع تعدد الطلب فلابد من تقييد الماهية بما يوجب التعدد، ولو بتعدد الفرد أو الدفعة، بحيث يكون المطلوب بكل من الطلبين مقيداً بكونه غير ما يمتثل به الآخر، وإن كان مطلقاً من سائر الجهات، فالتباين بين متعلقيهما بمحض اختلاف التحصص، لا بلحاظ اختلاف القيود والمقارنات الخارجية.

لكن لا إشكال في كون التقييد بذلك مدفوعاً بالإطلاق المذكور، وأَن مقتضى الإطلاق هو التكليف بأصل الماهية الصادقة بصرف الوجود.

وأما ما عن بعض مشايخنا من تأييد ما سبق عن شيخه بثبوت النظير له في مثل ما إذا أتلف زيد من عمر درهماً ثم اقترض منه آخر، حيث تنشغل ذمته من طبيعة الدراهم بدرهمين قد استقل كلٍ منهما بأمره، ومثله ما لو فات المكلف صوم يومين حيث تنشغل ذمته بتكليفين كلٍ منهما متعلق بقضاء يومٍ من دون تميز لمتعلق كلٍ من الحكمين في الموردين، ولذا تبرأ الذمة من أحد التكليفين بفعل فرد واحد من دون حاجة إلى تمييزه.

فهو كما ترى! لا يشهد بتعدد الطلب مع وحدة المطلوب وهو الماهية المطلقة، بل بكفاية تعدد الفرد في التعدد المعتبر في المتعلق من دون حاجةٍ إلى مميز زائد على ذلك، وهو مما لا إشكال فيه، كما لا إشكال في كونه نحواً من التقييد المدفوع بإطلاق الواجب، كما ذكرنا.

ثانياً: أنه لا ملزم بتعدد الامتثال بالتكرار

و ثانياً: أنه لو أمكن تعدد الطلب مع وحدة المطلوب، وهو الماهية المطلقة فلا ملزم بتعدد الامتثال بالتكرار، لأن كل طلب إنما يدعو إلى نقض عدمها، الحاصل بصرف الوجود وبالفرد الواحد، وحكم العقل بالامتثال لا

ص: 565

يقتضي أكثر من تحقيق ما يدعو إليه الطلب.

ولذا لا إشكال في الاكتفاء به مع تعدد الطالب وصحة اعتبار تعدد التكليف عرفاً، بلحاظ اختلاف طرف النسبة الطلبية ومع ذلك يكون مقتضى إطلاق المطلوب في كل منهما الاكتفاء بصرف الوجود، ولا يحتاج إلى التعدد إلا مع التقييد بما يناسب تعدد الفرد، الذي سبق أنه مدفوع بالإطلاق.

وبالجملة: الاكتفاء بصرف الوجود مع وحدة الطلب، ولزوم تعدد الامتثال بتعدد الفعل مع تعدد الطلب، ليس لمحض حكم العقل مع وحدة المتعلق في مقام الجعل في الموردين، بل لاختلاف المتعلق، فهو مع وحدة الطلب الماهية المطلقة التي يكفي في تحقيقها صرف الوجود، ومع تعدده الماهية المقيدة بما يستلزم التعدد، بحيث لا يتحقق الامتثال إلا به.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما ذكره غير واحد في تحرير محل الكلام من أن الكلام يقع..

تارة: في تداخل الأسباب، فيرجع إلى أن تعدد وجود الموضوع في الخارج هل يوجب تعدد الحكم أو لا؟ والمرجع فيه ظهور الدليلين، ومع فقده فالأصل التداخل والاقتصار في التكليف على المتيقن، وهو الواحد.

وأخرى: في تداخل المسببات، فيرجع إلى أنه بعد فرض تعدد الحكم تبعاً لتعدد الموضوع هل يلزم تعدد الفعل الممتثل به، أو لا بل يكفي في امتثال التكاليف المتعددة فعل واحد؟ ومع الشك فالمتعين البناء على عدم التداخل، للشك في سقوط التكاليف المتيقنة بالفعل الواحد، ومقتضى قاعدة الاشتغال عدمه.

ولا مجال للرجوع فيه لظهور الدليل بعد كونه من شؤون الامتثال، لا

ص: 566

من شؤون الجعل الذي يتكفل به الدليل، كما هو الحال في المقام الأول.

وجه الإشكال: أنه بعدما سبق من امتناع تعدد التكليف مع وحدة المتعلق، وهو الماهية المطلقة، وأنه لابد من تعدده معه بتقييد الماهية في كلٍ منهما بما يقتضي التباين بين المتعلقين ويستلزم امتثال كل من التكليفين بفردٍ مباين لما يمتثل به الآخر، يمتنع البناء على عدم التداخل في الأسباب مع التداخل في المسببات.

إذ مع وحدة المتعلق يتعين وحدة التكليف، الراجع للتداخل في الأسباب، فيلزم الاكتفاء في امتثاله بصرف الوجود، ومع تعدد التكليف بتعين تعدد المكلف به وعدم الاجتزاء في الامتثال بالفرد الواحد، بل لابد من التعدد الراجع لعدم التداخل في المسببات.

إلا أن يكون الاجتزاء بالفرد الواحد لإسقاط أحد التكليفين، لا بامتثاله، وهو خارج عن محل الكلام. مع أنه لو فرض إمكان تعدد التكليف مع وحدة المكلف به فقد سبق أن اللازم الاكتفاء في امتثال التكليفين بصرف الوجود، ولا مجال معه لقاعدة الاشتغال بالتكليف.

نعم، قد يتجه البحث في المقامين المذكورين فيما لو كان ترتب التكليف على الموضوع بتوسط أثر يستتبع التكليف، كما في ترتب التكليف بأسباب الطهارات على تحقق سبب الحدث، حيث يتجه فيه الكلام.

أولاً: في تعدد الحدث بتعدد سببه، الراجع للكلام في تداخل الأسباب.

و ثانياً: في لزوم تعدد المطهر - كالغسل - في فرض تعدد الحدث، أو عدمه والاكتفاء في إزالة الأحداث المتعددة بالمطهر الواحد، الراجع للكلام

ص: 567

في تداخل المسببات.

لكن الثاني - كالأول - حيث كان تابعاً للجعل الشرعي يتجه الرجوع فيه لأدلته، وليس هو من شؤون الامتثال، لينحصر المرجع فيه بقاعدة الاشتغال.

ويأتي تفصيل الكلام فيه - إن شاء الله تعالى - بعد الكلام في التكليف ونحوه - كالضمان - الذي هو عمدة الكلام في ا لمقام.

لابد من النظر فيما يخرج به عن الإطلاق في التداخل

هذا، وحيث سبق أن مقتضى إطلاق متعلق الحكم هو التداخل فاللازم النظر فيما يخرج به عن الإطلاق المذكور، فاعلم أنه حيث سبق امتناع تعدد الحكم مع وحدة متعلقه، وهو الماهية المطلقة التي يقتضيها الإطلاق، بل اللازم مع ذلك وحدة الحكم، كان لازم الإطلاق المذكور استناد الحكم لاسبق الموضوعات وجوداً، أما اللاحق فهو لا يستلزم حدوث الحكم، بل يكون خالياً عن الأثر لو لم يقبل الحكم التأكد - كالضمان - وإن كان الحكم قابلاً له - كالتكليف - يكون أثر الموضوع اللاحق تأكيده، من دون أن يستند إليه حكم حادث بحدوثه.

ومن الظاهر أن ذلك مخالف لظاهر دليل موضوعية الموضوع وسببية السبب، لظهور القضية الشرطية والحملية الحقيقية ونحوهما مما يتضمن سببية الموضوع للحكم في ترتب الحكم على الموضوع، بحيث يستند إليه حدوثه بعد العدم، لا ما يعم تأكيد حكم سابق عليه، فضلاً عن عدم ترتب شيء عليه أصلاً لو لم يقبل ا لحكم التأكيد، كما لا إشكال ظاهراً في أن الظهور المذكور أقوى من الإطلاق المتقدم، فيقدم عليه، ويلتزم بتقييد المتعلق بما يستلزم التعدد، ليمكن تعدد الحكم وتجدده بتجدد الموضوع.

وأما ما قيل: من أن الأسباب ليست أسباباً حقيقيةً، بل معرفات،

ص: 568

فيمكن تعدد المعرف مع وحدة المعرف.

فقد سبق عند الكلام في ظهور الشرطية في العلية أنه إن رجع لعدم موضوعيتها في الحكم فهو خلاف ظاهر الأدلة، وإن رجع إلى كونها معرفات عن الملاكات مع موضوعيتها، فهو لا ينافي ما ذكرناه من ظهور الكبريات الشرعية في ترتب الأحكام عليها وحدوثها بحدوثها.

على أنه لو فرض كونها معرفات فهي معرفات لحدوث الحكم مقارناً لها، المستلزم لتعدد الحكم الحادث بتعاقبها، ولا مجال لاحتمال كونها معرفات عن وجود الحكم في الجملة ولو سابقاً عليها.

فرض تقارن وجود الأسباب

هذا كله في فرض تعاقب وجود الأسباب، أما في فرض تقارنها فلابد في عدم التداخل مع ما ذكرنا من ظهور دليل السببية في استقلال السبب في التأثير في المسبب، حيث لابد معه من تعدد المسبب، ليستقل كل سبب بأثره، أما لو لم يتم الظهور المذكور فمجرد ظهور الدليل في تأثير السبب وترتب المسبب عليه لا يقتضي تعدد المسبب، لإمكان اشتراك كل من السببين في مسببٍ واحدٍ يستند إليهما ويترتب عليهما، ويلزم التداخل.

وأما ما يظهر من التقريرات من أن ذلك هو مقتضى فرض كونه سبباً تاماً لا يتوقف ترتب المسبب عليه على انضمام غيره إليه، وأن السبب ليس هو المركب من الأمرين.

فهو كما ترى! لأن عدم استقلال السبب بالتأثير يكون..

تارةً: لقصور فيه، بحيث يحتاج تأثيره إلى انضمام شيءٍ آخر إليه

وأخرى: لقصور في المسبب، لوحدته واجتماع الأسباب المتعددة عليه، حيث لابد من استناده لمجموعها وعدم استقلال كل واحد منها به،

ص: 569

وإن كان كافياً في ترتبه لو انفرد.

والمفروغية في المقام عن كون الموضوع سبباً تاماً إنما تنافي الأول الذي يكفي في منعه ظهور الأدلة في فعلية ترتب المسبب عليه وحدوثه بحدوثه، دون الثاني الذي يتوقف عليه عدم التداخل في محل الكلام.

بل لابد فيه من ظهور الأدلة - مضافاً إلى ذلك - في كون المترتب فرد مستقل من الحكم، بحيث لا يشركه في التأثير فيه سبب آخر حتى لو اجتمع معه، ولا تلازم بين الأمرين.

فالعمدة في ذلك: أن الدليل المتكفل بسببية السبب كما يظهر في تأثيره في المسبب وترتبه عليه كذلك يظهر في استقلاله به، لأن ذلك هو مقتضى طبع السبب التام السببية، وإنما تشترك الأسباب التامة في مسببٍ واحدٍ لعدم قابلية المسبب للتعدد المانع من تمامية مقتضاها، كما لو ضرب الزجاج دفعة ضربتين تصلح كل منهما لكسره، حيث لا يستقل كل منهما بالكسر في ظرف تقارنهما وإن استقل في ظرف انفراده.

وحيث كان عدم الاستقلال في مثل ذلك للمانع فهو لا ينافي ظهور الدليل في نفسه في الاستقلال بنحوٍ يرفع به اليد عما تقدم من إطلاق المتعلق.

ثم إن تحقق موضوع المسألة - وهو تعدد الأسباب - مع تعدد أفراد سنخ واحدٍ يبتني على أخذ الموضوع بنحو الانحلال، بحيث يكون كل فرد موضوعاً مستقلاً، لظهور دليل ا لسببية في ذلك، لا في كون الدخيل في الحكم هو مطلق الوجود الناقض للعدم المطلق لماهية السبب، الذي لا يقبل التعدد والتكرار، وهو مما يختلف باختلاف الأدلة.

إلا أن المفروض في محل الكلام ذلك، ولذا لو تجدد الموضوع

ص: 570

بفرد آخر بعد امتثال الحكم المسبب عن الفرد الأول لأقتضى تجدد الحكم ولزوم الامتثال بفرد آخر بلا إشكال ظاهر، مع أنه لو أُخذ الموضوع بالنحو الآخر لم يكن الوجود اللاحق مورداً للأثر حتى بعد الامتثال، لعدم ناقضيته للعدم المطلق.

ومنه يظهر أنه لا مجال للتفصيل في التداخل وعدمه بين تعدد الموضوع من سنخٍ واحد ومن سنخين، كما تقدم عن الحلي، إذ مع أخذ الموضوع بنحو الانحلال يتعين عدم التداخل، ومع أخذه بالنحو الآخر يخرج عن مسألة تداخل الأسباب، ويتعين عدم تأثير الفرد اللاحق حتى بعد امتثال الحكم المسبب عن الفرد السابق، وهو مخالف لمفروض الكلام في المقام.

كون المبحث من مباحث الألفاظ

هذا، ومن جميع ما تقدم يظهر أن البحث في المسألة من مباحث الألفاظ، المبتنية ثبوتاً على تشخيص الظهور، فالتداخل يبتني على ظهور الواجب في الإطلاق، كما أن عدمه يبتني على ظهور دليل السببية في السببية المطلقة بالنحو المقتضي لكون المترتب على وجود الموضوع هو الحكم المستقل مطلقاً ولو كان مسبوقاً بوجود مثله تبعاً لوجود موضوع سابق، وفي أخذ الموضوع بنحو الانحلال.

ما ذكره في التقريرات والمناقشة فيه

ولا مجال مع ذلك لما في التقريرات من أن النزاع في هذه المسألة إنما يؤول إلى النزاع في اقتضاء معنى السببية عند التعدد تعدد المسببات، وإن لم يكن ذلك المعنى مدلولاً عليه بدلالة لفظية كما إذا قام الإجماع على سببية أمرين لوجوب شيءٍ، ولا يبتني على تحقيق مفاد الإطلاق.

إذ فيه: أن السببية تختلف باختلاف الموارد، والقطع بثبوتها في الجملة

ص: 571

لا يكفي في البناء على التداخل أو عدمه بل لابد في البناء على أحد الأمرين من الرجوع لظواهر الأدلة، فما لم يتم ظهور دليل السببية في السببية المطلقة وفي أخذ الموضوع بنحو الانحلال لا مجال للبناء على عدم التداخل، بل يتعين البناء على التداخل عملاً بإطلاق الواجب.

هذا، ولو لم يكن للواجب إطلاق حينئذٍ كان مقتضى الأصل التداخل، لوضوح أن مقتضى أصل البراءة الاقتصار في التكليف على المتيقن، وهو التكليف الواحد الذي يكفي في امتثاله الفرد الواحد.

ولا مجال معه لقاعدة الاشتغال، لأن الشك في الفراغ ليس للشك في امتثال تكليف معلوم، بل للشك في ثبوت التكليف الزائد.

دعوى: ابتناء الكلام على مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ودفعها

ودعوى: أن المقام يبتني على الكلام في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، لأن تعدد التكليف لما كان مستلزماً لتقييد المكلف به بما يقتضي التعدد يكون احتماله مستلزماً للشك في تقييد المكلف به الذي هو موضوع تلك المسألة.

مدفوعة: بأن الشك في التقييد إنما يكون موضوعاً للمسألة المذكورة إذا كان التقييد المحتمل ناشئاً من دخل القيد في الغرض الذي هو منشأ للتكليف المتيقن، دون مثل المقام مما كان منشأ التقييد تعدد الغرض المستتبع لتعدد التكليف والمكلف به، من دون أن يؤخذ في أحد التكليفين أو كليهما خصوصية زائدة على الماهية دخيلة في الغرض، فيكون الفرد الواحد محققاً لأحد الغرضين قطعاً حتى لو كان التكليف متعدداً.

امتثال فرد واحد موجب لسقوط أحد التكليفين

ومنه يظهر أنه في مورد عدم التداخل يكون الإتيان بفرد واحد موجباً لسقوط أحد التكليفين، لأنه وإن لم يكن امتثالا لأحد التكليفين بخصوصه،

ص: 572

لعدم المرجح له بعد صلوح الفرد المذكور لأن يقع امتثالاً لكلٍ منهما، إلا أن عدم دخل الخصوصية في الغرض وعدم التميز بين موضوعي الغرضين ثبوتاً بأكثر من تعدد الوجود مستلزم لسقوط أحد الغرضين بالإتيان بأحد الفردين قهراً، المستلزم لسقوط أحد التكليفين وبقاء التكليف بفردٍ واحد كما يتضح بالقياس على الإرادة التكوينية المتعلقة بالوجود المتعدد بنحو الانحلال دون الارتباطية.

واعتبار قصد خصوص أحد الأمرين في امتثاله محتاج إلى دليلٍ خاصٍ دالٍ على دخل القصد المذكور في ترتب غرضه، والإطلاق والأصل يدفعان ذلك.

نعم، لو اختص امتثال أحد التكليفين بأثرٍ - كما في من عليه صوم يوم من سنته وآخر من السنة السابقة، حيث يكون أثر قضاء الأول قبل مجيء رمضان اللاحق عدم ثبوت الفدية - يتعين توقف ترتب الأثر المذكور على سقوط خصوص أمره إما بقصد امتثاله بالفرد الأول، أو بالإتيان بالفردين الموجب لحصول كلا الغرضين وسقوط كلا الأمرين، فتأمل جيداً.

بقي أمور

بقي في المقام أمور:

الأول: مع عدم قبول الحكم للتعدد

الأول: إذا كان الحكم غير قابل للتعدد لوحدة متعلقه، فإن لم يقبل التأكيد فلا إشكال في استناده لأسبق الأسباب، واحداً كان أو متعدداً، من دون أثر للاحق.

وإن كان قابلاً له لم يبعد البناء عليه، لأنه بعد تعذر البناء على مقتضى ظهور دليل سببيته في ترتب حكم مستقل عليه لم يبعد التنزل إلى تأثيره تأكيد

ص: 573

الحكم الواحد، كما هو مقتضى طبع السببية في مثل ذلك وهو أقرب عرفاً من رفع اليد عن ظهور الدليل في تأثير المتأخر رأساً تخصيصاً لعموم السببية.

بل لا ينبغي التأمل في تعينه مع تقارن السببين، لأن اشتراك المتقارنين في المسبب الواحد ليس إلا لأنه مقتضى طبع السببية، وهي تقتضي التأكيد مع قابلية المسبب له.

الثاني: مع اختلاف المتعلق مفهوماً

الثاني: ما تقدم إنما هو مع اتحاد متعلق التكليف المسبب عن الأسباب المتعددة مفهوماً ومصداقاً، أما إذا اختلف المتعلق مفهوماً ولو بلحاظ اختلاف القيود المأخوذة في الماهية الواحدة، فإن كان المتعلقان متباينين مورداً، كما لو كان الواجب في أحدهما الصدقة بدرهم، وفي الآخر الصدقة بدينار فلا إشكال في عدم التداخل.

مع فرض تصادق المتعلق فالنسبة لا تخلو من أحد أمور ثلاثة

وإن كانا متصادقين مورداً في الجملة فالنسبة بينهما تكون..

تارةً: العموم من وجه، كما لو كان الواجب في أحدهما إكرام العالم و في الآخر ضيافة الهاشمي، حيث يجتمعان في إكرام عالم هاشمي بالضيافة.

وأخرى: العموم المطلق، كما لو كان الواجب في أحدهما عتق مطلق الرقبة، وفي الآخر عتق خصوص المؤمنة.

وثالثة: التساوي، كما لو كان الواجب في أحدهما لبس الخاتم وفي الآخر التزين به، مع فرض كون الاختلاف بينهما معنوياً، لتعلق كل من الغرضين بإحدى الخصوصيتين، فتكون هي مورد التكليف دون الأخرى، وإن كانت ملازمة لها، لا لفظياً محضاً راجعاً إلى سوق إحداهما في الدليل كنايةً عن الأخرى، وإلا لم يكن بين الواجبين اختلاف مفهومي، وخرج عما نحن فيه ودخل فيما سبق.

ص: 574

الكلام فيما لو كانت النسبة هي العموم من وجه

أما في الأولى فالظاهر أنه لا مانع من التداخل، بمعنى إمكان امتثال كلا الأمرين بفردٍ واحدٍ من مورد الاجتماع، عملاً بإطلاق الواجب في كلٍ منهما، ولا ينهض إطلاق دليل السببية بالخروج عنه، إذ لا مانع من تأثير كل سبب لحكمه المستقل بعد اختلاف متعلقي الحكمين مفهوماً ومورداً.

ومجرد اجتماع العنوانين في بعض الأفراد لا يمنع من إطلاق كل منهما بنحو يشمل محل الاجتماع، لوجود الأثر المصحح للتكليف بكل منهما على إطلاقه، بلحاظ إمكان الامتثال بالفرد الذي به الافتراق، ولا ملزم بالتقييد في كل منهما بما إذا لم يمتثل به الآخر، لإمكان وفاء المجمع بكلا الغرضين الموجب لسقوط كلا الأمرين وتحقق امتثالهما به.

وبعبارة أخرى: قد سبق أن محذور اجتماع المثلين مع تعدد التكليف بالماهية الواحدة راجع إلى عدم اعتبار العرف تعدد التكليفين إلا في ظرف تعدد ما يدعو إليه، ولا مجال لذلك في المقام بعد اختلاف ما يدعو إليه كل منهما في الجملة وانطباقه على ما لا ينطبق عليه الآخر، وإن تطابقا في بعض الأفراد لأن تطابقهما فيه وإن اقتضى دعوةٍ كل منهما إلى وجوده، إلا أن كلاً منهما إنما يدعو إليه بنحو البدلية بينه وبين ما به الافتراق من كلٍ من المتعلقين، فاختلاف نحو داعويتهما إليه باختلاف طرف البدلية.

نعم، لو كان كلا التكليفين استغراقياً انحلالياً اتجه امتناع تعدد الحكم فيه، لداعوية كل منهما إليه عيناً، ولا أثر لانضمام غيره إليه في داعوية التكليف له، فاتحد نحو الداعوية.

الكلام فيما لو كانت النسبة هي العموم المطلق

ولأجل ذلك لا يبعد البناء على التداخل في الثانية أيضاً، لأن الأخص وإن كان مدعوا إليه بكل من التكليفين، إلا أن التكليف الوارد عليه يدعو إليه

ص: 575

عيناً، والتكليف الوارد على العام يدعو إليه بنحو التخيير والبدلية، فاختلف نحو داعويتهما إليه، فلا يلغو التكليف بكل منهما على إطلاقه، ليتعين تقييد كل منهما بما يباين الآخر المستلزم لعدم التداخل، محافظة على تعدد التكليف الذي هو مقتضى إطلاق دليل السببية.

ومما تقدم في هاتين الصورتين يظهر أن مقتضى القاعدة البناء على التداخل لو كان التكليفان تخييريين مشتركين في بعض الأطراف وينفرد كلٍ منهما بطرف، أو كان أحدهما تخييرياً والآخر تعيينياً متعلقاً بأحد أطراف التخيير، كما لو خير في أحدهما بين العتق والصدقة، وألزم في الآخر بالعتق، أو خير بينه وبين الصوم.

بل يتعين ذلك في جميع موارد اختلاف نحو تعلق الحكم بالمتعلق الواحد، ككونه مطلوباً استقلالياً في أحدهما وضمنياً في الآخر، وغير ذلك.

الكلام فيما لو كانت النسبة التساوي

وأما الثالثة فقد يمنع التداخل فيها، لامتناع تعدد التكليف بالعنوانين مع التلازم بينهما خارجاً، للغويته، بسبب كفاية امتثال أحدهما في تحقق متعلق الآخر، بل لابد في تعدد التكليفين الذي هو مقتضى إطلاق دليل السببية من تقييد متعلق كلٍ منهما بما يقتضي تعدد الامتثال، كما في صورة اتحاد متعلقي التكليفين مفهوماً.

لكنه يشكل: بأن التلازم بين الواجبين لا يمنع من تعدد التكليف بهما عرفاً، لأن كلاً منهما إنما يدعو إلى متعلقه ذاتاً وإلى لازمه تبعاً، فاختلف سنخ الداعوية، بل ليست الداعوية التبعية داعوية حقيقية.

وفائدة تعدد التكليف تبعاً لتعدد الملاك تعدد ما يستتبعه من إحداث الداعي العقلي والعقاب والثواب، فيكون أدعى للامتثال، كتأكيد التكليف

ص: 576

الواحد. ولذا يصح عرفاً نسبة التكليف إلى كلٍ منهما، لا إلى خصوص أحدهما، لعدم المرجح، ولا إلى قدر مشترك بينهما، لعدم إدراك العرف له.

وإنما الممتنع هو اختلاف المتلازمين في الحكم الفعلي، إذ مع تعذر الجمع بينهما، لكون كلٍ منهما اقتضائياً على خلاف مقتضى الآخر يلغو جعلهما معاً، بل قد يستلزم التكليف بما لا يطاق، كما لو كان أحدهما وجوبياً والآخر تحريمياً ومع إمكان الجمع بينهما لكون أحدهما اقتضائياً دون الآخر يلغو جعل غير الاقتضائي، لعدم صلوحه للداعوية مع الاقتضائي. ويستثنى من ذلك ما إذا كانا اقتضائيين وأحدهما غير الزامي كالوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة فإنه لا مانع من اجتماعهما في المتلازمين لعين ما سبق في تعدد التكليف.

نعم، قد يتجه ما ذكر من امتناع تعدد التكليف لو كان ما ينطبق عليه العنوانان في الخارج أمراً واحداً، لا أمرين متلازمين، كما لو وجب إكرام أصغر أولاد زيد، وأكبر أولاد هند، واتحدا في الخارج، حيث يتجه لزوم وحدة التكليف ونسبته للذات التي هي مجمع العنوانين، ويتوقف تعدد التكليف على التقييد بما يقتضي تعدد الامتثال المستلزم لعدم التداخل.

وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن مقتضى إطلاق المتعلق في الأقسام الثلاثة التداخل، وإطلاق دليل السببية لا ينهض بالخروج عنه في الأولين، لأن اجتماع العنوانين في بعض الأفراد لا يمنع من تعدد الحكمين، وكذا في الثالث لو كان ما ينطبق عليه العنوانان متلازمين في الخارج من دون أن يتحدا، لعدم المحذور في تعدد حكم المتلازمين.

فلابد في البناء على عدم التداخل فيها من قرينةٍ أخرى مخرجة عن

ص: 577

مقتضى إطلاق المتعلق، ولا ضابط لذلك، بل يوكل للفقه.

نعم، كثيراً ما تقوم القرينة على كون الواجبات المسبب وجوبها عن الأسباب المختلفة ما هيات شرعية متباينة في أنفسها، نظير تباين صلاتي الظهر والعصر، وحجة الإسلام وغيرها، وأقسام الكفارات، وإن اشتركت في الأجزاء والشرائط، وليس تباينها لمجرد تعدد الأمر بها أو اختلاف سبب الأمر ولازم ذلك عدم انطباقها على فردٍ واحدٍ في الخارج ليمكن أن يمتثل به أوامرها المتعددة.

وهذا أمر خارج عن محل الكلام، لأن الكلام في مفاد نفس القضية المتكفلة ببيان موضوعية الموضوع للتكليف مع قطع النظر عن القرائن الخارجية.

الثالث: لو كان التكليف سبباً عن الموضوع بتوسط أثره

الثالث: أشرنا آنفاً إلى أن محل الكلام في التداخل وعدمه ما إذا كان التكليف مسبباً عن الموضوع بالمباشرة، دون ما إذا كان مسبباً عنه بتوسط أثره، كما في أسباب الخبث والحدث بالإضافة إلى وجوب التطهير بالغسل أو الوضوء والغسل، لوضوح أن موضوع التطهير هو الخبث والحدث المسببان عن أسبابهما المعهودة، لا نفس حدوث تلك الأسباب.

وحينئذٍ نقول: إذا ورد: من بال فليتوضأ، ومن نام فليتوضأ، فمقتضى إطلاق المأمور به هو الاكتفاء بوضوءٍ واحدٍ بحدوث كل من السببين، ولا ينهض إطلاق دليل السببية برفع اليد عن مقتضى الإطلاق المذكور، لأن سببية كل من النوم والبول لوجوب الوضوء لما كان بتوسط سببيتهما للحدث فمقتضى إطلاق سببيتهما إنما هو تعدد الحدث المسبب عن كل منهما، وحيث لا مانع من رفع الوضوء الواحد للأحداث المتعددة فلا ملزم

ص: 578

بالخروج عن إطلاق الوضوء في الدليلين المقتضي للتداخل.

دعوى: البناء على التداخل لو لم يتضمن الدليلان إلا بيان السببية ودفعها

ودعوى:، أن ذلك إنما يتجه لو لم يتضمن الدليلان إلا بيان السببية، كما لو قيل: من بال فالوضوء رافع لحدثه، ومن نام فالوضوء رافع لحدثه، أما إذا تضمن الأمر بالوضوء بسبب الحدث فيجري ما سبق في وجه عدم التداخل، لأنه لو لم يكن الوضوء الواجب بكل منهما ما يباين الآخر، بل مطلق ماهيته لم يكن الحدث الثاني موجباً لحدوث الأمر المستقل بالوضوء، لما سبق من امتناع تعدد الأمر مع وحدة المتعلق، بل غايته تأكيد الأمر الأول، وهو - كما سبق - مخالف لظاهر إطلاق دليل السببية.

مدفوعة: بأن الأمر المذكور إن كان للارشاد إلى كون السبب محققاً للحدث الذي يرفعه الوضوء - كما هو الغالب - فمن الظاهر أن ما سِيقَ الكلام له - وهو الحدث - متعدد ولو مع وحدة الوضوء.

وإن كان لبيان الأمر المولوي برفع الحدث المسبب عن السبب المذكور نفسياً - كما في الأمر بالكون على الطهارة - أو غيرياً - لتوقف مثل الصلاة عليه - فهو غيري بلحاظ مقدمية الوضوء لرفع الحدث المطلوب، ولا مانع من تعدد الأمر الغيري بالمقدمة الواحدة مع تعدد ذي المقدمة، لأن داعويته في طول داعوية الأمر النفسي وبينهما نحو من الارتباطية، فمع تعدد الأمر النفسي لتعدد ذي المقدمة تختلف نحو داعوية الأمرين بالمقدمة، وقد سبق أنه لا محذور في تعدد الأمر بالمأمور به الواحد مع اختلاف نحو الداعوية.

هذا بناء على ثبوت الأمر الغيري المولوي، وأما بناءً على عدمه وأنه ليس الأمر بالمقدمة إلا عقلياً لأنها من شؤون إطاعة الأمر النفسي - كما هو التحقيق - فالأمر أظهر، حيث ليس في البين إلا أمران نفسيان برفع كلٍ من

ص: 579

الحدثين، إذ لا مانع من تعدد الأمر مع تعدد المأمور به ولو مع التلازم بين المتعلقين، نظير ما تقدم في الصورة الثالثة من الأمر السابق.

نعم، لو لم يكن الأمر غيرياً لرفع الأثر - كالحدث في المثال السابق - بل نفسياً بسبب تحقق الأثر من دون أن يراد به رفعه كما لو قيل: من بال فليتصدق بدرهم، ومن نام فليتصدق بدرهم، كان الأصل عدم التداخل، لعين ما سبق، ولا أثر لتوسط الأثر حينئذٍ إلا أن يثبت من الخارج وحدة الأثر، فيلزم عدم تأثير السبب اللاحق فيه، فلا تعدد في موضوع التكليف، فيكون نظير فعل المفطر في نهار شهر رمضان بالإضافة إلى الكفارة، الذي فهم من الأدلة أن موضوعيته للكفارة بلحاظ مبطليته للصوم غير القابلة للتعدد.

وكذا لو ثبت تعدد الأثر وعدم سببية اللاحق للتكليف المستقل، وكلاهما مخالف لإطلاق دليل السببية، لما تقدم من أن مقتضاه تأثير كل سببٍ لفردٍ مستقلٍ من المسبب.

الرابع: ابتناء التداخل

الرابع: قد ظهر من جميع ما سبق أن التداخل في مورد يبتني إما على وحدة متعلق التكليف - وهو الماهية المطلقة - المستلزمة لوحدة التكليف واستناده لاسبق الأسباب، وإما على تعدده وتعدد التكليف تبعاً له مع حصول المتعدد بفعلٍ واحدٍ يمتثل به التكاليف المتعددة، وعلى كلا الوجهين يتعين كون التداخل عزيمة بمعنى عدم مشروعية تكرار الامتثال بفعلٍ آخر، إذ لا موضوع للامتثال بعد سقوط الأمر الواحد أو الأوامر المتعددة بالفعل الأول.

ولا يُتعقل كونه رخصة يشرع معه تكرار الامتثال، كما قد يتردد في بعض الكلمات، إذ لا امتثال إلا في فرض وجود الأمر، ومع فرض وجوده بعد الفعل الأول لا تداخل.

ص: 580

نعم، لو ابتنى التداخل على تعدد الأمر تبعاً لتعدد متعلقه مع تحقق المتعلق المتعدد بالفعل الواحد - كما هو مبنى الوجه الثاني - فلو كان سقوط أحد الأمرين أو كليهما مشروطاً بقصد امتثاله يتعين عدم سقوط ما لم يقصد امتثاله ويلزم تكرار الفعل بقصده، كما ذكره في التقريرات.

لكنه راجع إلى التفصيل في التداخل وتوقفه على قصد الامتثال، لا على كون التداخل في ظرف ثبوته رخصةً لا عزيمةً.

وكذا لو فرض التداخل بأحد الوجهين السابقين، مع استحباب التكرار لتعدد الأسباب، حيث لا يكون التداخل رخصة، بل عزيمة بالإضافة إلى التكليف المسبب عن السببين، وإنما يكون التكرار لامتثال الاستحباب المفروض من دون تداخل فيه.

ص: 581

الفصل الثاني في مفهوم الوصف

اشارة

وقع الكلام في أن أخذ الوصف في موضوع الحكم هل يدل على إناطته به وانتفائه بانتفائه، أو لا، بل على مجرد ثبوته في ظرف ثبوته.

وكلامهم في تحديد محل النزاع لا يخلو عن اضطراب، حيث وقع الكلام..

تارةً: في اختصاصه بالوصف المعتمد على الموصوف، أو عمومه لغير المعتمد مما أُخذ بنفسه في موضوع الحكم لا قيداً في موضوعه.

وأخرى: في أن المفهوم المتنازع فيه انتفاء الحكم عن غير مورد الوصف من خصوص أفراد الذات المقيدة به، أو مطلقاً ولو من غيرها، فلو قيل: أحب العسل الحلو، وتجب في الغنم السائمة الزكاة، كان ظاهر عدم محبوبية كل غير حلو ولو من الرمان، وعدم وجوب الزكاة في كل غير سائم ولو من الإبل.

محاولة تخصيص النزاع في مورين

وقد حاول غير واحدٍ تخصيص النزاع في الموردين لبعض الوجوه الصالحة في الحقيقة لبيان ضعف عموم القول بالمفهوم، لا لبيان قصور مورد النزاع، بل لا وجه له بعد ظهور عمومه من ذهاب بعضهم لعموم ثبوت المفهوم أو عموم بعض استدلالاتهم عليه.

ص: 582

بل يتعين تعميم محل النزاع، والنظر في حال كل دليلٍ بنفسه من حيثية عموم مفاده أو خصوصه.

بل قد يتجه تعميمه للوصف الضمني، كما في النبوي: «لَئِنْ يمتلئ بطن الرجل قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً» لأن امتلاء البطن كناية عن الكثرة، فلو كان له مفهوم كان مقتضاه عدم البأس بالشعر القليل.

بل لعل ملاك النزاع بملاحظة بعض تصريحاتهم واستدلالاتهم يشمل غير الوصف من القيود، كالحال والظرف وغيرهما، كما يظهر عند استقصاء الأدلة.

إذا عرفت هذا، فقد ذكرنا في الوجه الرابع والخامس لتقريب دلالة الشرطية على الإناطة وفي التنبيه الثاني من تنبيهات مفهوم الشرط أن مفاد القضية جعل الحكم الشخصي المتقوم بتمام ما أُخذ فيها من قيود وشروط وخصوصيات، أو الحكاية عنه، وأنها لا تتضمن جعل الحكم بنحوٍ أوسع من ذلك، ولا الحكاية عنه.

إلا أن يخرج بعض الأطراف عن كونه قيداً في القضية، كالوصف المذكور لبيان الحال اللازم للموضوع أو الغالب، كتقييد الربائب المحرمة على زوج الأُم في الآية الشريفة بكونها في حجره، أو تكون خصوصية الطرف ملغية، بحيث يكون مسوقاً لبيان دخل ما هو الأعم منه، كما لو قال العطشان: جئني بماءٍ أشربه، والجائع: جئني بخبزٍ آكله، وأرادا بذلك طلب مطلق ما يرفع العطش والجوع من السوائل والطعام، وكلاهما مخالف لظاهر أخذ العنوان في القضية.

والظاهر رجوع الأول إلى ما قيل من أن الأصل في القيد أن يكون

ص: 583

احترازياً، والثاني إلى ما قيل من ظهور أخذ العنوان في دخله بخصوصيته في الحكم.

كما ذكرنا آنفاً أن ذلك وحده لا يكفي في الدلالة على ا لمفهوم، لأن انتفاء الحكم الذي تضمنته القضية بانتفاء بعض أطرافها لا ينافي ثبوت مثله في مورد الانتفاء، بل لابد مع ذلك من ظهور القضية في كون الطرف المأخوذ فيها دخيلاً في سنخ الحكم، بحيث ينتفي بانتفائه.

وحينئذٍ فالظاهر أن الوصف ككثير من القيود المذكورة في القضية - من الحال والظرف وغيرهما - لا ظهور له في ذلك وضعاً، لعدم فهم ذلك من نفس الكلام، بل ليس المفهوم من حاق الكلام إلا ثبوت الحكم بثبوت القيد.

ومما سبق يظهر أن ذلك لا ينافي ما قيل من أن الأصل في القيد أن يكون احترازياً، وأن ظاهر العنوان دخله بخصوصيته في الحكم، لما ذكرنا من أن ذلك إنما هو بالإضافة إلى شخص الحكم لا سنخه.

الاستدلال على مفهوم الوصف بوجوه أخرى

ومن هنا لابد من الاستدلال على مفهوم الوصف أو غيره من القيود بوجوه أُخر لا ترجع إلى دعوى كونه مقتضى الوضع.

والمذكور في كلماتهم وجوه:

الأول: لزوم اللغوية بدونه

الأول: دعوى لزوم اللغوية بدونه، إذ لو كان الحكم يعم حال فقد القيد لم يكن لتكلف ذكره فائدة.

وهو - لو تم - لا يختص بالوصف، بل يجري في سائر القيود التي تتضمنها القضية.

نعم، قد يختص بالوصف المعتمد على الموصوف ونحوه من القيود

ص: 584

الزائدة على الموضوع، حيث قد تتجه دعوى لغوية تكلف ذكرها زائداً على ذكر الموضوع لو كان الحكم ثابتاً للموضوع مطلقاً ولو مع فقدها، أما غير المعتمد فلا وجه للغوية جعله موضوعاً بمجرد عموم الحكم لغيره، لأن بيان ثبوت الحكم في مورده كافٍ في الفائدة الرافعة للغويته، وإلا لزم البناء على حجية مفهوم اللقب لأجلها، ولم يعرف منهم الاستدلال عليه بها، وليس هو كالمعتمد الذي يكفي الإطلاق في بيان ثبوت الحكم في مورده.

كما أن المفهوم اللازم من الاستدلال المذكور هو كون انتفاء القيد موجباً لانتفاء الحكم عن بقية أفراد الموضوع وأحواله، لكفايته في رفع اللغوية المدعاة، وإن لم يرتفع الحكم عن موضوعٍ آخر حال فقد القيد، كما لعله ظاهر.

وكيف كان، فمن الظاهر أن توقف رفع اللغوية على المفهوم غير مطرد، ليكون المفهوم مقتضى الظهور النوعي الذي لا يخرج عنه إلا بالقرينة، بل قد يكون ذكره لدفع توهم عدم ثبوت الحكم في مورده، لكونه من أفراد المطلق الخفية، أو لكونه مورد اهتمام الحاكم لأولويته بالملاك، أو لكونه مورداً للابتلاء أو السؤال أو نحو ذلك.

مضافاً إلى أنه يكفي في رفع اللغوية دخل القيد في الحكم بنحوٍ لا يثبت لفاقده مطلقاً، ولا يتوقف على عموم انتفائه بانتفائه، بحيث لا يخلفه قيد آخر متمم لموضوع الحكم بدلاً عنه، فإذا قيل: أكرم الرجل العالم، لا يعتبر في رفع لغوية ذكر الوصف توقف وجوب الإكرام عليه وانحصاره بمورده - كما هو مدعى القائل بالمفهوم - بل يكفي في رفعها عدم وجوب إكرام مطلق الرجل، بحيث لا دخل للعلم فيه أصلاً، حيث يكون فائدة ذكر

ص: 585

الوصف حينئذٍ بيان دخله في تمامية موضوع وجوب الإكرام، وإن لم تنحصر به، بل يشاركه فيها غيره، كالفقر والتدين وحسن الخلق وغيرها.

الثاني: دلالة الوصف على العلية

الثاني: دلالة الوصف على العلية قال في التقريرات: «قد ملأ الأسماع قولهم: إن التعليق على الوصف يُشعر بالعلية».

وهو - لو تم - يختص بالوصف الحاكي عن جهة عرضية زائدة على الذات، ولا يعم غيره من القيود.

نعم، لا يختص بالوصف المعتمد على الموصوف. كما أن المفهوم الذي يقتضيه انتفاء الحكم بانتفاء الوصف مطلقاً لو لم يكن معتمداً.

وأما إن كان معتمداً فإن رجع الوجه المذكور إلى دعوى عليته المنحصرة للحكم أعم من أن يكون تمام العلة أو متممها - كما تقدم منّا في العلية المدعاة للشرط - اتجه اختصاص المفهوم بانتفاء الحكم عن الموضوع الفاقد للوصف، دون غيره مما يفقده، لإمكان احتياج الموضوع إلى تتميم علية الحكم بالوصف دون غيره من الموضوعات، بل هي علة تامة له.

وإن رجع إلى دعوى كونه تمام العلة المنحصرة للحكم من دون دخلٍ لخصوصية الموضوع في عليته اتجه عموم المفهوم، وانتفاء الحكم تبعاً لانتفاء الوصف مطلقاً ولو في غير الموضوع.

لكنه يشكل..

أولاً: بأن الإشعار لا يبلغ مرتبة الحجية.

وثانياً: بأنه غير مطّرد، بل يختص بالوصف المناسب ارتكازاً للحكم، كالعلم والعدالة بالإضافة إلى وجوب الإكرام، دون مثل: تقل الثياب البيض

ص: 586

والمياه العذبة، وتكثر الرجال الطوال والنساء القصار.

وثالثاً: بأن العلية بمجردها لا تكفي في المفهوم، ما لم تكن بنحو الانحصار، ولا إشعار للوصف بكونه علة منحصرة.

نعم، قد يستفاد ذلك من قرينة خاصة أو من سوقه مساق التعليل، كما لو قيل: لا تأكل الرمان لأنه حامض، ويتعين البناء حينئذٍ على المفهوم.

ولعله إليه يرجع ما عن العلامة من التفصيل في ثبوت المفهوم وعدمه بين كون الوصف علة وعدمه.

لكنه خارج عن محل الكلام، لوضوح أن الكلام في ظهور الوصف بنفسه في المفهوم.

الثالث: مع عدم ظهوره في المفهوم لا وجه لحمل المطلق على المقيد

الثالث: أنه لولا ظهور الوصف في المفهوم لم يكن وجه لحمل المطلق على المقيد المثبتين، لعدم التنافي بينهما بدواً، مع أن بناء الفقهاء وأهل الاستدلال على التنافي البدوي بينهما ولزوم الجمع بذلك.

ولا يخفى أنه لو تم فالمفهوم اللازم له هو انتفاء الحكم بانتفاء الوصف عن الموضوع - إذا كان معتمداً - لا عن غيره.

كما أنه لا يختص بالوصف المعتمد، بل يجري في غيره أيضاً، كما يجري في غير الوصف من القيود، لعموم البناء على الجمع بين المطلق والمقيد فيها.

لكنه تقرر في محله أن التنافي بين المطلق والمقيد غير المختلفين في الإيجاب والسلب مختص بما إذا كان الحكم الذي تضمناه واحداً وارداً على الماهية بنحو البدلية، كما في مثل: من ظاهَرَ فليعتق رقبة، و: من ظَاهَرَ فليعتق رقبة مؤمنة، بخلاف ما إذا كان وارداً عليها بنحو الاستغراق، كما في

ص: 587

مثل: من أحرم حرم عليه الصيد، ومن أحرم حرم عليه صيد الوحش.

والوجه في التنافي المذكور: أن الحكم الوارد على الماهية بنحو البدلية كالوارد عليها بنحو المجموعية واحد له نحو نسبة خاصة مع جميع أفرادها، وليس هو حكماً منحلاً إلى أحكام مستقلة متعددة بعدد الأفراد، كما هو الحال في الحكم الوارد على الماهية بنحو الاستغراق.

ومن الظاهر أن الحكم الواحد البدلي أو المجموعي يمتنع تعلقه بالعام والخاص معاً، لا من جهة ظهور القيد في الانتفاء عند الانتفاء بحسب تركيبه اللفظي، بل لأن تعلقه بالخاص يقتضي تعين الامتثال بفرد منه لو كان الحكم بدلياً، والاكتفاء بتمام أفراده لو كان مجموعياً، وتعلقه بالعام يقتضي الاكتفاء بفردٍ منه - ولو من غير الخاص - لو كان بدلياً، وتعين الامتثال بتمام أفراده لو كان مجموعياً، عكس الأول.

ولذا يقع التنافي بين العام والخاص مطلقاً وإن لم يكن الخاص وصفاً ولا مقيداً، بل اسماً جامداً، كما لو قيل: إن ظاهرت فاعتق رقبة، و: إن ظاهرت فاعتق رجلاً، مع وضوح أن أخذ الاسم الجامد في موضوع الحكم لا يدل على الانتفاء عند الانتفاء إلا بناءً على مفهوم اللقب، الذي هو خارج عن محل الكلام.

وهذا بخلاف الحكم الاستغراقي فإنه حيث كان منحلاً إلى أحكامٍ متعددة بعدد أفراد الماهية لكل منها إطاعته ومعصيته، فلا تنافي بين تعلقه بالعام وتعلقه بالخاص، إلا أن يكون لدليل تعلقه بالخاص ظهور في الانحصار والانتفاء عند الانتفاء.

ومن ثم كان عدم البناء على حمل المطلق على المقيد في ذلك، لعدم

ص: 588

التنافي بينهما، والاقتصار في البناء على التنافي على ما إذا كان الحكم بدلياً شاهداً بعدم ابتنائه على مفهوم الوصف، بل على خصوصية الحكم.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم.

وربما استدل بعضهم بفهم أهل اللسان المفهوم في بعض الموارد وهو كما ترى! لا ينهض بالاستدلال، لعدم حجية فهمهم، واحتمال استناده لقرائن خاصةٍ خارجةٍ عن مفاد التوصيف.

ومن هنا يتعين البناء على عدم دلالة الوصف على المفهوم، بحيث يكون من الظهورات النوعية.

وإن كان قد يحمل الكلام عليه لقرائن خاصة مقالية أو حالية غير منضبطة.

ما عن السيد الخوئي قدس سره من أن ظاهر القيد الاحترازية

هذا، وعن بعض مشايخنا أن الوصف وإن لم يدل على المفهوم بمعنى انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الوصف إلا أنه يدل على عدم ثبوت الحكم لذات الموصوف على الإطلاق، بل لابد في تتميم موضوعيتها من انضمام أمر آخر إليها سواءً كان هو الوصف أم غيره.

فمثلاً قولنا: أكرم الرجل العالم، وإن لم يدل على انحصار وجوب الإكرام، بل لابد في موضوعيته للوجوب المذكور من انضمام أمر زائد عليه من العلم أو غيره مما يقوم مقامه، فالقضية المذكورة تنافي عموم وجوب إكرام الرجل، وإن لم تناف عموم وجوب بعض أصنافه الأخرى، كالفقير والمتدين وغيرهما.

وقد وجه ذلك: بأن ظاهر القيد أن يكون احترازياً، وخروجه في بعض الموارد عن ذلك محتاج للقرينة المخرجة عن الظهور المذكور، وثبوت

ص: 589

الحكم لمطلق الذات الوارد عليها القيد من دون أن يكون القيد دخيلاً فيه ينافي احترازية القيد.

ومن ثَمَّ خصه بالوصف المعتمد على الموصوف، أما غيره فحيث لم يسق لتقييد موضوع الحكم فلا ظهور له في الاحترازية، بل هو كسائر الموضوعات التي يرد عليها الحكم ابتداءً، لا مجال لظهوره في المفهوم بناءً على عدم القول بمفهوم اللقب، الذي هو خارج عن محل الكلام.

المناقشة فيه

لكنه كما ترى! إذ المراد بأصالة الاحترازية في القيد إن كان بالإضافة إلى شخص الحكم - كما تقدم أنه الظاهر - فقد سبق أنه لا ينفع في المفهوم أيضاً، وإن كان بالإضافة إلى سنخ الحكم فهو يقتضي انحصاره بواجد القيد المستلزم للمفهوم، لأن مرجعه إلى الاحتراز بالمقيد عن شمول الحكم لغير موارده، ولا يقتضي التفصيل الذي ذكره.

نعم، يتجه ذلك لو كان المدعى عدم ظهور القيد في الاحترازية بالإضافة إلى سنخ الحكم، بل في دخله في ثبوت الحكم في مورده زائداً على تحديده لمورد الحكم، لاستلزام دخله عدم كفاية الذات في ترتب الحكم وعدم كونها تمام الموضوع له وإن أمكن أن يخلفه أمر آخر يقوم مقامه في الدخل في الحكم وتتميمه لموضوعه.

لكن الظهور في ذلك يبتني على أحد الاستدلالين الأولين لو غض النظر عن الوجه الأول في دفع الأول، وعن الوجهين الأولين في دفع الثاني، كما يظهر بملاحظتهما والتأمل فيهما.

وحيث لا مجال للغض عنها فلا مجال للبناء على التفصيل المذكور.

مفهوم الوصف

مفهوم الوصف

مفهوم الوصف

مفهوم الوصف

ص: 590

الفصل الثالث في مفهوم الغاية

اشارة

وقع الكلام في أن التقييد بالغاية هل يدل على انتفاء الحكم بحصولها أولا؟

وقد ذكر غير واحدٍ أن الغاية..

وجوه وقوع الغاية في الحكم

تارةً: تكون قيداً للحكم.

وأخرى: تكون قيداً للموضوع، وبنوا على ذلك الكلام في المفهوم.

وينبغي الكلام في هذا التقسيم وإيضاح حدوده فنقول:

الظاهر أن المراد بالأول رجوع الحكم للنسبة التي يتضمنها الكلام، لا للمحمول، ففي مثل: كل شيءٍ طاهر حتى تعلم أنه قذر، وكل مسافر مستوحش حتى يتخذ سكناً، يكون المراد استمرار النسبة إلى حصول الغاية، لا الحكم بحصول الطهارة والوحشة المستمرتين إلى حصول الغاية، لأن لازم الثاني توقف صدق القضية على حصول الغاية، لأن صدق الحملية كما يتوقف على تحقق المحمول يتوقف على تحقق قيوده، وليس كذلك على الأول، لعدم توقف صدق القضية على تحقق قيود النسبة التي تضمنتها من شرطٍ أو غايةٍ أو ظرفٍ أو غيرها، بل غاية الأمر أنه لابد في ظرف تحقق القيود

ص: 591

أو عدمها في الخارج من مطابقة النسبة في الخارج لنحو قيديتها، فتتحقق النسبة بتحقق الشرط والظرف وترتفع بتحقق الغاية، ولا تتحقق النسبة مع عدم تحقق الشرط، كما لا يعلم تحققها مع عدم تحقق الظرف، ولا ترتفع - بعد تحققها - مع عدم تحقق الغاية.

وحيث لا ظهور للقضية في تحقق الغاية، ولذا لا تكذب مع عدم تحققها، لزم رجوعها إلى النسبة.

وما يظهر من بعض عباراتهم من أنها قد ترجع إلى المحمول، في غير محله على الظاهر، لعدم معهوديته في القضايا المتعارفة المعهودة.

وأما الثاني فقد تردد في بعض كلماتهم أن الغاية ترجع..

تارةً: لمتعلق الحكم كالسير في قولنا: سر من الكوفة إلى البصرة.

وأخرى: لموضوع المتعلق، كالأيدي والأرجل في قوله تعالى:

«فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» (1) ، حيث لا تكون غاية للغسل والمسح، ولذا لا يجب الانتهاء فيهما بالمرفق والكعب وإليه يرجع ما قيل من أنها لتحديد المغسول.

لكن الظاهر رجوع الثاني للأول، وأن المراد بمثل الآية بيان غاية الغسل، غاية الأمر أنه ليس بلحاظ التدرج في وجود أجزائه، الذي يكون معيار الفرق فيه بين المبدأ والمنتهى سبق الوجود وتأخره، بل بلحاظ محض التحديد وبيان المقدار، الذي يكون الفرق فيه بين المبدأ والمنتهى بمحض الاعتبار، نظير تحديد الأمكنة والبقاع، حيث يصح أن يقال في تحديد البحر الأبيض المتوسط مثلاً: إنه يمتد من جبل طارق إلى بلاد الشام، كما يصح

ص: 592


1- سورة المائدة: 6

أن يقال: يمتد من بلاد الشام إلى جبل طارق، فيكون المراد بالآية بيان مقدار الغسل بلحاظ سعة المغسول.

وإلا فحملها على تقييد نفس الموضوع الخارجي بلحاظ أجزائه بعيد عن المرتكزات غير معهود النظير.

ومنه يظهر أن غاية الموضوع كغاية الحكم راجعة للنسبة، لوضوح أن متعلق الحكم هو فعل المكلف، ورجوع الغاية إليه إنما هو بلحاظ قيام المكلف به وصدوره منه وانتسابه إليه.

وليس الفرق بين رجوع الغاية للحكم ورجوعها للموضوع إلا في أن مرجع الغاية في الأول هي النسبة بين الحكم ومتعلقه، أما في الثاني فهي النسبة التي يرد عليها الحكم وتكون متعلقاً له.

فإذا قيل: يجب أن تجلس من طلوع الشمس إلى الظهر، فإن كان التوقيت للنسبة بين الوجوب والجلوس - مع إطلاق الجلوس - كانت الغاية راجعةً للحكم، وإن كان للنسبة الصدورية بين المكلف والجلوس التي هي متعلق للوجوب - مع إطلاق نسبة الوجوب إليها - كانت الغاية راجعة للموضوع.

ولعله لذا ذكر النحويون أن الجار والمجرور لابد أن يتعلق بالفعل وما يقوم مقامه من الأسماء المتضمنة معنى الحدوث والتجدد، حيث لا يبعد كونه بلحاظ تضمن تلك الأسماء معاني حدثية قد لحظ انتسابها لموضوعاتها، فلاحظ.

الكلام في مقامين

إذا عرفت هذا فيقع الكلام في مقامين:

الأول: في مقام الثبوت

الأول: في مقام الثبوت، الراجع لبيان حال واقع كلٍ من القسمين من

ص: 593

حيثية الدلالة على المفهوم.

رجوع الغاية للحكم وللموضوع

وقد ذكر غير واحدٍ أن الغاية إن رجعت للحكم لزم انتفاؤه بحصول الغاية، وكانت القضية دالة على المفهوم، وإن رجعت للموضوع كانت كسائر قيوده لا مفهوم لها.

ما استدل به الخراساني قدس سره على المفهوم في الأول

أما الأول: فقد استدل عليه المحقق الخراساني قدس سره بأن فرض كون الشيء غاية لشيءٍ ملازم لارتفاعه بارتفاعه، وإلا لم يكن غايةً له.

ولا مجال للإشكال عليه: بأن ذلك فرع كون الغاية غاية لسنخ الحكم، لا لشخصه، فلابد من إثبات ذلك.

لظهور اندفاعه مما سبق في التنبيه الثاني من تنبيهات مفهوم الشرط من أن ما تتضمنه القضية وإن كان هو شخص الحكم المتقوم بتمام ما أُخذ فيها من قيود، إلا أن موضوع التقييد الذات على سعتها المساوقة للسنخ بالمعنى المتقدم، فتضيق بالقيد، فالقيد يرد على السنخ، وإن كان المتحصل من القضية المتضمنة له هو الشخص. فراجع.

المناقشة فيه

فالعمدة في الإشكال على الاستدلال المذكور: أنه مع فرض كون الشيء غايةً لابد من ثبوت المفهوم، ولا مجال للنزاع فيه، ومرجع النزاع المذكور إلى النزاع في ظهور الكلام في كون الشيء غاية، فإن التعبير بالغاية إنما وقع في كلام أهل الفن من دون أن يتضمنه الكلام الذي وقع النزاع في دلالته على المفهوم، وإنما تضمن أدوات خاصة مثل: (إلى) و (حتى)، ومرجع النزاع في المقام إلى النزاع في ظهور تلك الأدوات في كون ما بعدها غايةً للنسبة، بحيث ترتفع بعدها، وعدمه وأنها إنما تدل على مجرد استمرار النسبة إليها سواءً انتهت بها أم بقيت بعدها.

ص: 594

ونظير ذلك تعبيرهم عن مدخول أدوات الشرط بالشرط، فإن فرض كونه شرطاً ملازم لدلالة القضية الشرطية على المفهوم، والنزاع في دلالتها عليه راجع للنزاع في ظهور الأدوات في شرطيته للجزاء أو مجرد تحققه حينه وإن أمكن أن يتحقق بدونه.

وحينئذٍ لا يبعد عدم دلالة الأدوات المذكورة بنفسها إلا على مجرد الاستمرار، دون الانتهاء، كما يشهد به النظر في استعمالاتها فيما لو كانت قيوداً لفعل المكلف، لا للحكم.

ففي قولنا: سرت من الكوفة إلى البصرة، أو حتى دخلت البصرة، لا يستفاد انتهاء السير بالبصرة، بحيث لا سير بعد الدخول إليها وكذا لو قيل: سر من الكوفة إلى البصرة، لا يستفاد إلا تقييد السير الواجب بأن يستمر للبصرة وإن لم ينته إليها.

وكذا الحال في الغاية الزمانية في مثل: سرت إلى ساعةٍ، أو سر إلى ساعةٍ.

ودعوى: أن دخول البصرة ومضي الساعة وإن لم يكن بهما انتهاء السير بواقعه إلا أن بهما انتهاء السير المخبر عنه والواجب.

مدفوعة: بأن السير بواقعه إذا لم يطابق السير المخبر عنه والواجب لم يصدق به الخبر ولم يمتثل به الواجب.

إلا أن يراد بذلك أن دخول البصرة ومضي الساعة يكفي في تحقق المخبر عنه وامتثال الواجب، بحيث ينتهيان بلا حاجة لاستمراره بعدهما.

لكنه - وإن تم - غير ناشئ من دلالة الأداتين على الانتهاء، بل يكفي فيه دلالتهما على مجرد الاستمرار، لأن السير المستمر لمكانٍ أو زمانٍ يحصل

ص: 595

بالوصول إليهما وإن استمر السائر بعدهما.

وأما اللازم من دلالتهما على الانتهاء فهو أخذ الانتهاء لمدخولهما قيداً في المخبر عنه والمطلوب، بحيث لا ينطبق على ما لا ينتهي به، كما لو قال: سرت سيراً منتهياً بالبصرة أو بالساعة، أو: سر سيراً كذلك، والظاهر عدم دلالتهما على ذلك، كما ذكرنا.

إلا بقرينةٍ خارجةٍ عن ذلك، كورود الكلام في مقام التحديد، حيث يستفاد المفهوم معه حتى في اللقب والعدد، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ولعل كثرة ورودهما في المورد المذكور هو الموهم لدلالتهما على الانتهاء والغاية زائداً على الاستمرار.

لكن تشخيص المفاد الوضعي إنما يكون بملاحظة الموارد الخالية عن القرائن الخارجية، وأظهرها موارد الاستفهام، كما لو قيل: هل صادف أن سرت من الكوفة إلى البصرة، أو كنت في الدار من الظهر إلى المغرب، حيث لا إشكال ظاهراً في أن المنسبق منه الاستفهام عن مجرد استمرار السير بين البلدين، وقضاء تلك المدة في الدار، لا عن تحقق السير والكون المحدودين بالحدين، بحيث لا يزيد عليهما، كما لا ينقص عنهما.

ثم إن ما ذكرناه من الأمثلة وإن كان فيما إذا كانت الأدوات قيوداً للفعل الذي هو خارج عما نحن فيه من فرض كونها قيوداً للحكم، إلا أن اختلاف مفاد الأداة وضعاً باختلاف متعلق التقييد بها بعيد جداً، بل هو كالمقطوع بعدمه.

انسباق المفهوم في موارد تقييد الحكم بالأداتين

نعم، لا إشكال في انسباق المفهوم في موارد تقييد الحكم بالأداتين، بل ظهورها فيه أقوى من ظهور موارد التقييد بأدوات الشرط فيه، كما صرح

ص: 596

به غير واحدٍ، ويشهد به كثرة استعمال أدوات الشرط معراة عن المفهوم، بخلاف الأداتين المذكورتين، وظهور التعارض مع اختلاف الغاية بالزيادة والنقيصة، كما لو قيل: كل شيء ظاهر حتى يشهد شاهدان أنه قذر، و: كل شيءٍ طاهر حتى يشهد أربعة شهود أنه قذر، مع وضوح عدم التنافي لو تمحضت الأداة ببيان الاستمرار، الذي هو مفادها الوضعي، كما سبق، فلابد من استناد الظهور في المفهوم لأمرٍ آخر غير الوضع.

ولا يهم تحقيق منشأ الظهور المذكور، لعدم تعلق الغرض به، بل بنفس الظهور الذي هو أمر وجداني لا يقبل الإنكار أو الإشكال.

نعم، لا يبعد أن يكون منشؤوه أنه لما كان مقتضى إطلاق جعل الحكم على موضوعه استمراره باستمراره كان بيان مجرد الاستمرار مستغنى عنه ولاغياً عرفاً، وذلك أوجب مألوفية استعمال الأداتين المذكورتين في مقام التحديد زائداً على بيان أصل الاستمرار الذي هو مفادهما الوضعي، حتى صار لهما ظهور ثانوي في ذلك زائداً على ظهورهما الوضعي في الاستمرار.

ولا يرجع ذلك إلى كون اللغوية هي القرينة الموجبة للظهور في التحديد، ليتجه ما سبق في وجه منع استناد مفهوم الوصف إليها من عدم انحصار الغرض المصحح لذكر القيد بالتحديد، بل إلى كونها علةً في مألوفية استعمالها في التحديد بين أهل اللسان بنحوٍ أوجب ظهورها فيه نوعاً، لإغفالهم بقية الأغراض المصححة لبيان مجرد الاستمرار.

وبعبارة أخرى: اللغوية في المقام نظير علة التسمية التي لا يلزم اطرادها، مع كون منشأ الظهور مألوفية الاستعمال في مقام التحديد بين أهل اللسان، وليست هي القرينة التي يستند الظهور إليها، ليلزم اطرادها، ويتجه

ص: 597

النقض بلزوم البناء لأجلها على ثبوت المفهوم للوصف.

في رجوع الغاية للموضوع

وأما الثاني: - وهو عدم المفهوم فيما إذا رجعت الغاية للموضوع - فقد وجَّه في كلماتهم بأن ثبوت الحكم للموضوع المقيد لا ينافي ثبوت مثله لفاقد القيد، نظير ما تقدم في مفهوم الوصف.

هذا، وحيث سبق عدم ظهور الأداتين في الغاية والنهاية فلا إشكال في عدم دلالة التقييد بهما على كون متعلق الحكم هو الفعل المنتهي بمدخولهما، بحيث لا ينطبق على ما يزيد على ذلك، وتكون الزيادة عليه مانعةً من الامتثال به.

وإنما الكلام في أن التقييد بهما هل يدل على انتهاء متعلق الحكم بحصول مدخولهما، بحيث لا يكون ما بعده مورداً للحكم، أو لابل يكون مسكوتاً عنه محتملاً لذلك فإذا قيل: اجلس إلى الظهر هل يكون ظاهر الكلام خروج الجلوس بعد الظهر عن الواجب، أو لا بل يكون مسكوتاً عنه، بحيث لو دل دليل آخر على دخوله في الواجب لم يكن منافياً له؟

وحينئذٍ نقول: لا ينبغي التأمل في الظهور في المفهوم مع وحدة الحكم، بأن كان بالإضافة لأجزاء الزمان بدلياً، كما لو قيل: يجب أن تجلس في المسجد ساعةً من طلوع الشمس إلى الظهر، أو مجموعياً ارتباطياً، كما في قوله تعالى:

«ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ» (1) ، لأن مقتضى إطلاق متعلق الحكم تحديده سعةً وضيقاً على طبق القيود المأخوذة في الخطاب من دون خصوصيةٍ لأدوات الغاية، فلو كان بدلياً كان مقتضاه تعين الامتثال بفرد من الماهية المقيدة التي أُخذت مورداً للتكليف والإجتزاء به، وإن كان مجموعياً كان

ص: 598


1- سورة البقرة: 187

مقتضاه الإجتزاء بالماهية المذكورة، وعدم لزوم ما زاد عليها المستلزم لعدم لزوم ما بعد الغاية في المقام.

وأما لو كان الحكم متعدداً، لكونه بالإضافة لأجزاء الزمان استغراقياً انحلالياً راجعاً إلى أحكام متعددة بعددها لكل منها إطاعته ومعصيته فالإطلاق إنما يقتضي ثبوت الحكم للفعل في كل جزءٍ من أجزاء الزمان أو المكان الواقعة قبل مدخول الأداتين بحياله واستقلاله من دون نظر إلى غيره، فلا ينهض بنفي الحكم عما بعد مدخولهما.

إلا أن يستفاد من ذكرهما إرادة التحديد زائداً على الاستمرار، وهو غير بعيد بالنظر إلى ما تقدم في توجيه دلالتهما على ذلك لو رجعا للحكم لا للموضوع، ولذا لا يفرق ارتكازاً في ظهور مثل آية الصوم في عدم وجوب ما زاد على الحد بين كون الإمساك الواجب في تمام النهار مجموعياً وكونه انحلالياً، فتأمل.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك إذا كانت الغاية راجعةً لموضوع متعلق التكليف، لكونها جزءه، كما في آية الوضوء، وكما في مثل: اغسل المسجد إلى نصفه، لو فُرض مطلوبية غسل كل جزء بنحو الانحلال، لأن نسبة الفعل للموضوع، كالغسل للأيدي أو المسجد تقتضي الاستيعاب وضعاً لا بالإطلاق، فذكر الغاية بلحاظ بعض الأجزاء كالمرافق والنصف لو كان لمجرد بيان الاستيعاب له كان أبعد عن الفائدة عرفاً مما سبق، ولذا يكون المستفاد منه تحديد الواجب وبيان انتهائه بالغاية، فهو نظير الاستثناء لما بعد الغاية من الاستيعاب المستفاد وضعاً.

تعين ظهور الأداتين في المفهوم

ومن هنا يتعين البناء على ظهور الأداتين في المفهوم من دون فرق

ص: 599

بين كونهما قيداً للحكم وكونهما قيداً للموضوع، كما أطلقه بعضهم.

عدم استناد المفهوم للوضع

غاية الأمر أنه لا يستند لوضع الأداتين للغاية والانتهاء، بل لاستعمال العرف لهما في مقام التحديد، زائداً على الاستمرار والاستيعاب الذي هو المفاد الوضعي لهما، بنحوٍ يكون ذلك منشأ لثبوت ظهور ثانوي لهما فيه.

وإن كانت الموارد مختلفة في مراتب الظهور في ذلك، فأظهرها ما كان الاستيعاب والاستمرار فيه مقتضى الوضع، كما في التحديد بجزء موضوع المتعلق، ثم ما كان الاستيعاب والاستمرار فيه مقتضى الإطلاق، كما في تحديد الحكم، وفي غيرهما قد يحتاج إلى قرينةٍ زائدة، فتأمل جيداً.

نعم، إذا ذكر سبب للحكم فتقييده هو أو موضوعه بهما لا ينافي الإطلاق في حكمٍ آخر ثابت بسبب آخر، فتحديد وجوب الإمساك أو الإمساك الواجب بدخول الليل من حيثية الصوم المعهود لا ينافي إطلاق وجوب الإمساك بسبب آخر بنحوٍ يشمل الليل لو فرض احتماله.

لأن الإطلاق مع وحدة الحكم لكونه بدلياً أو مجموعياً إنما يقتضي تحديد متعلق التكليف المبين لا متعلق غيره، كما أن بناء العرف على استعمال الأداتين في مقام التحديد من جهة لغوية بيان محض الاستمرار لا تقتضي ما زاد على ذلك. ولعل ذلك خارج عن محل الكلام.

الثاني: في مقام الإثبات

الثاني: في مقام الإثبات. ومرجع الكلام فيه إلى تشخيص موارد كل من رجوع الغاية للحكم ورجوعها للموضوع، وإنما يحتاج إلى الكلام في ذلك بناء على الفرق بينهما في الدلالة على المفهوم، أما بناء على ما سبق منا من عدم الفرق بينهما فيه فهو مستغنى عنه، وإنما نتعرض له لاستيعاب الكلام على تمام مباني المسألة مع عدم خلوه في نفسه عن الفائدة.

ص: 600

فنقول: لا ينبغي التأمل في رجوع الغاية المكانية للموضوع، دون الحكم، ومثلها في ذلك مطلق الظرف المكاني، لأن الحكم وضعياً كان أو تكليفاً من الاعتباريات غير القابلة عرفاً للتحديد بالمكان، فإذا قيل: تجب على زيد الصلاة في المسجد أو السير إلى البصرة، لا معنى لكون الوجوب مظروفاً للمسجد، أو محدوداً بالبصرة.

إلا أن ترجع الظرفية المكانية إلى الظرفية الزمانية بالإضافة إلى الحكم، فيراد في المثالين ثبوته في زمان كون زيد في المسجد، أو إلى زمان وصوله للبصرة لكنه مبتنٍ على عناية وتقدير محتاج للقرينة.

وبدونها يتعين البناء على تقييد الموضوع وهو - في المثالين - الصلاة والسير مع إطلاق الحكم.

ومثله ما إذا كانت الغاية جزءاً من موضوع متعلق الحكم، كالمرافق والكعبين في قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»(1).

لوضوح أن موضوع المتعلق من شؤونه، لا من شؤون حكمه، ولذا تقدم منا رجوعها لباً للمتعلق.

وأما الغاية الزمانية فهي كسائر الظروف الزمانية تصلح لتقييد كل من الحكم والموضوع.

لكنها إنما ترجع للمعاني الاسمية الحدثية المنتسبة، لا لنفس النسب، فإذا كان الحكم مستفاداً من الهيئة، كما في قولنا: صم يوم الجمعة، أو إلى الليل تعين رجوع الظرف للمتعلق الذي هو الموضوع، وهو الصوم بما هو

ص: 601


1- سورة المائدة: 6

صادر من المكلف، لا لوجوبه، لأن الدال على الوجوب ليس إلا الهيئة المتمحضة في الدلالة على النسبة.

أما إذا كان الحكم مستفاداً من معنى اسمي، كما في قولنا: يجب الصوم يوم الجمعة أو إلى الليل، أمكن رجوع الظرف له، كما يمكن رجوعه لمتعلقه.

وحينئذٍ مقتضى ظهور الكلام رجوعه للسابق منهما، ففي قولنا: الصوم يوم الجمعة أو إلى الليل واجب، يرجع الصوم، وفي قولنا: يجب يوم الجمعة أو إلى الليل الصوم، يرجع للوجوب، ولو كان متأخراً عنهما معاً لا يبعد رجوعه للأقرب إليه منهما، ففي قولنا: يجب الصوم يوم الجمعة أو إلى الليل، يرجع للصوم، وفي قولنا: الصوم يجب إلى الليل أو يوم الجمعة، يرجع إلى الوجوب.

وقد يخرج عن ذلك بقرائن خاصة لا مجال لضبطها، فلاحظ.

وينبغي التنبيه على أمور

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول: في أدوات الغاية

الأول: لا إشكال في أن من أدوات الغاية التي هي محل الكلام (إلى) واللام التي بمعناها و (حتى) الجارة، دون العاطفة التي هي لإدخال الفرد الخفي، كما في قولنا: مات الناس حتى الأنبياء، فإنها لتأكيد العموم، من دون نظر للاستمرار والغاية.

وأما (أو) التي ذكر النحويون أنها بمعنى (إلى) أو (إلا) فالظاهر أنها لا تخرج عن معناها من الترديد، الذي يراد به في المقام مفاد مانعة الخلو، غايته أنها إن تعقبت فعلاً لا يقبل الاستمرار دلَّت على الترديد بين وقوع ما قبلها ووقوع ما بعدها، فتناسب مفاد (إلّا)، وإن تعقبت فعلاً يقبل الاستمرار

ص: 602

دلت على استمراره إلى أن يتحقق مدخولها، فيناسب مفاد (إلى) من دون نظر لارتفاعه بعد حصوله، كما هو حال مانعة الخلو، ولا تدل حينئذٍ على المفهوم.

الثاني: في دخول المدخول في حكم المغيى

الثاني: وقع الكلام في دخول مدخول أدوات الغاية في حكم المغيى وعدمه، بمعنى أن مفاد الأدوات هل هو الاستمرار إلى ما قبل المدخول مع كون نفس المدخول مسكوتاً عنه أو مبدأ لانقطاع الاستمرار - على الكلام في المفهوم - أو أن مفادها الاستمرار حتى بالإضافة إليه، وأن المسكوت عنه أو مبدأ الانقطاع هو ما بعده.

ولا يخفى أن البحث في ذلك يرجع لتحديد المنطوق، ويرجع لتحديد المفهوم بتبعه، لا ابتداءً.

كما أن محل الكلام هو صورة فقد القرينة على أحد الأمرين، وإلا فكثيراً ما تتحكم القرائن الخاصة الحالية والمقالية في تعيين أحدهما.

وربما استدل على الأول بما عن نجم الأئمة من أن الغاية من حدود المغيى، فيتعين خروجها عنه.

وهو كما ترى! لأن كونها حداً بالمعنى المذكور أول الكلام، بل للقائل بالوجه الثاني دعوى كونها آخره الذي ينتهي به، لا الذي ينتهي إليه.

أما ابن هشام فقد فصل في المغني بين (إلى) و (حتى) مدعياً البناء على الدخول في الثانية دون الأولى، حملاً على الغالب في البابين.

لكن الغلبة إنما تنفع إذا أوجبت الظهور النوعي، لأن مجرد الغلبة مع القرائن الخاصة ليست من القرائن العامة التي يلزم العمل عليها في مورد فقد القرينة، وكون الغلبة في المقام - لو سلمت - بالنحو المذكور غير ظاهر.

ص: 603

فلعل الأَولى التوقف في مورد فقد القرينة.

والذي يُهوّن الأمر كثرة احتفاف الكلام بما يصلح شاهداً على أحد الأمرين وإن كان هو مساق الكلام الذي هو من سنخ القرينة الحالية.

الثالث: في مفاد (من)

الثالث: الظاهر أن (من) المذكورة للابتداء في مساق أدوات الغاية، بالإضافة إلى ما قبل مدخولها تشترك مع أدوات الغاية بالإضافة إلى ما بعد مدخولها في الكلام المتقدم في المفهوم.

كما أنها بالإضافة إلى نفس مدخولها تشترك مع تلك الأدوات في الكلام المتقدم في الأمر السابق الراجع إلى دخوله في حكم المغيى وخروجه عنه.

ص: 604

الفصل الرابع في مفهوم الحصر

اشارة

لا يخفى أن حصر الحكم بمورد ملازم لانتفائه عن غيره وثبوت نقيضه فيه، الذي هو عبارة أخرى عن المفهوم، فلا معنى للنزاع في مفهوم الحصر.

فلابد من رجوع الكلام في المقام إلى الكلام في تشخيص مفاد أدوات خاصة وهل أنها دالة على الحصر، ليكون لها مفهوم أولا، بل هي متمحضة في الدلالة على ثبوت الحكم في المورد من دون أن تتضمن الحصر.

في أدوات الحصر

وهي عدة أدوات..

منها: أدوات الاستثناء مثل (إلا) و (غير) و (سوى) و (عدا) وغيرها مما ذكره النحويون، وإنما تقع مورداً للكلام إذا وردت للاستثناء، دون ما إذا وقعت للتوصيف، بل تبتني دلالتها على المفهوم حينئذٍ على الكلام في مفهوم الوصف.

هذا، والظاهر شيوع استعمال (غير) للتوصيف دون الاستثناء ومألوفيته، كما في قوله تعالى: «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ»(1)، وقولنا: أكرم عالماً غير فاسق، و: أكرمت رجلاً غير فاسقٍ،

ص: 605


1- سورة فاطر: 37

لتوقف الاستثناء على شمول الحكم لتمام الأفراد أو الأحوال، ولا يجري مع كونه بدلياً أو وارداً على المبهم الذي لا عموم فيه، كما في الأمثلة المذكورة، ولاسيما الأول حيث كان ما بعد (غير) فيه مبايناً لما قبلها لا من أفراده، فيراد بالوصف فيه بيان حال الموضوع، لا تقييده مع شيوعه، كما في الأخيرين.

ومن هنا يشكل البناء على الاستثناء في المورد الصالح له وللوصف، كما في قولنا: أكرم العلماء غير العدول. إلا أن يعين أحد الأمرين بكيفية الإعراب أو بقرينة خارجية.

الكلام في (إلا)

وأما (إلا) فقد ذكر النحويون أنها قد تكون وصفية مستشهدين بقوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1) على كلام لا مجال للإطالة فيه، كما ذكروا ورودها عاطفةً وزائدةً.

وكيف كان، فلا ينبغي التأمل في أن المتبادر منها الاستثناء ولو بسبب شيوع استعمالها فيه، فيتعين الحمل عليه في غير مورد امتناعه، الذي لا مجال للكلام في ضبطه.

كما أن الظاهر عدم استعمال بقية الأدوات في التوصيف.

الكلام في ظهور الاستثناء

إذا عرفت هذا، فلا إشكال في ظهور الاستثناء في ثبوت الحكم لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه، وهو المراد بالمنطوق في المقام.

وأما بالإضافة إلى المستثنى فقد وقع الكلام في ظهوره في ثبوت نقيض الحكم السابق له، بحيث يدل على الحصر بالإضافة إليه، ليكون له مفهوم كما هو المعروف بل عن جماعة دعوى الإجماع عليه. أو عدمه، بل يكون مسكوتاً عنه، لتمحض الاستثناء في تضييق دائرة الموضوع، كما عن

ص: 606


1- سورة الأنبياء: 22

أبي حنيفة.

والحق الأول، لتبادر ذلك منه، حيث يتضح بالنظر إليه الفرق بين الاستثناء ومثل الوصف مما يتمحض في تضييق الموضوع، ويأتي مزيد توضيح له بعد الكلام في حجة القول الثاني.

ومعه لا حاجة إلى الاستدلال عليه بقبول إسلام كل من قال كلمة الإخلاص، مع وضوح أنه لولا دلالة الاستثناء على ذلك لم تدل على التوحيد إذا صدرت ممن لا يعترف بوجود مدبّر للكون، كالدهرية. لأن الاستدلال المذكور وإن كان تاماً، إلا أن الأمر أوضح من أن يتشبث له به.

وأما الإشكال في الاستدلال بذلك بأن مجرد الاستعمال لا يدل على الوضع، لإمكان استناد الدلالة عليه لقرينة حالٍ أو مقالٍ.

فهو كما ترى! لوضوح أن قبول الإسلام بذلك لم يكن مشروطاً باطلاع القائل على القرينة واستناده إليها.

ومثله دعوى: أن قبول الإسلام بذلك شرعاً لا يستلزم دلالته على التوحيد لغةً، بل هو نظير الشعار الذي يعتمد على التباني، والاصطلاح.

لوضوح اندفاعها بما هو المعلوم من أن قبول الإسلام بها شرعاً فرع دلالتها على إقرار القائل بالتوحيد إما لدلالتها عليه لغةً أو بالقرينة، وحيث سبق المنع من الثاني تعين الأول.

النصوص الشارحة للشهادتين

وهو المناسب للنصوص الشارحة للإسلام بالشهادتين(1)، ولتأكيد كلمة الإخلاص بقولنا: «وحده لا شريك له» هذا، وقد يستشكل في دلالتها

ص: 607


1- راجع الكافي ج 2، ص 18-25، طبع الحروف في إيران

على التوحيد بأن خبر (لا) إن قدر (موجود) لم تدل على امتناع إله غيره تعالى، وإن قدر (ممكن) لم تدل على فعلية وجوده تعالى.

وقد حاول غير واحدٍ الجواب عن ذلك، ولعل أقرب الوجوه ما ذكره في التقريرات وغيرها من أنه لا يعتبر في التوحيد المعتبر في الإسلام إلا إثبات الألوهية له تعالى فعلاً ونفيها عن غيره كذلك.

وأما نفي إمكان ألوهية غيره فهو بواسطة ملازمة واقعية لا يضر خفاؤها وعدم العلم بها في جريان حكم الإسلام، وليس الإذعان به مأخوذاً في التوحيد الذي هو أول ركني الإسلام.

نعم، لا يبعد كونه من ضروريات الإسلام الزائدة على أركانه، فلا يعتبر الالتفات إليها والإذعان بها فيه، وإن كان إنكارها بعد الاطلاع على حالها من الدين موجباً للخروج منه، لمنافاته للإذعان به، كما يشهد به الرجوع لارتكازيات المتشرعة، وللاستدلال عليه في الكتاب والسنة بقضايا برهانية واضحة عند المسلمين كقوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1).

على أنه لو فرض أخذ نفي إمكان ألوهية غيره تعالى في التوحيد الذي هو ركن الإسلام أمكن ذلك بحمل القضية على بيان الانحصار به تعالى خارجاً مع كون الضرورة جهة لها بتمامها ارتكازاً، لا أن الإمكان قيد في موضوع عقد السلب منها، كي لا تدل على فعلية وجوده وألوهيته تعالى.

الاستدلال على عدم المفهوم ب - (لا صلاة إلا بطهور)

هذا وقد استدل على ما سبق عن أبي حنيفة من عدم ظهور الاستثناء في ثبوت نقيض الحكم السابق للمستثنى ليكون له مفهوم بمثل: لا صلاة إلا

ص: 608


1- سورة الأنبياء: 22

بطهور.

تقريب الاستدلال

بدعوى: أنه لو كان له مفهوم لدل على حصول الصلاة مع الطهارة ولو مع فقد بقية الأجزاء والشرائط، ولا إشكال في عدم دلالته على ذلك.

ما أجيب عن الاستدلال المذكور

وقد أجيب عن ذلك بوجوه..

الأول: عدم منافاة الاستعمال مع عدم المفهوم للوضع له

الأول: أن الاستعمال مع عدم إرادة المفهوم لا ينافي الوضع للمفهوم، لأن الاستعمال مع القرينة المعينة للمراد أعم من الحقيقة.

وفيه: أنه لا مجال لاحتمال الاعتماد على القرينة في مثل هذا التركيب، لشيوعه مع عدم ظهور العناية والقرينة المخرجة عن مقتضى الظهور الأولى فيه، وليس هو كالاستعمالات الشخصية التي قد يستند فهم المراد منها إلى القرائن المكتنفة للكلام.

وبعبارةٍ أخرى: الاستدلال ليس بعدم إرادة المفهوم من هذا التركيب، كي يمكن استناد فهم ذلك للقرينة، بل بعدم ظهوره بنفسه فيه مع قطع النظر عن القرينة.

الثاني:

الثاني: أن المفروض في موضوع الحصر في مثل هذا التركيب تمامية بقية الأجزاء والشرائط، فعدم تحقق الصلاة مع الطهارة - مثلاً - لفقد بعض الأجزاء أو الشرائط الأُخر لا يكون منافياً للمفهوم، بل خارجاً عن موضوعه.

والظاهر رجوع ما في التقريرات والكفاية لهذا الوجه وما قبله.

ويندفع: بأنه بعيد عن المرتكز الاستعمالي لهذا التركيب، لعدم الالتفات فيه للتقييد بتمامية الأجزاء والشرائط.

بل لا مجال للبناء عليه، لأن لازم خروج فاقد بعض الأجزاء والشرائط

ص: 609

الأُخَر موضوعاً قصور المنطوق والمفهوم معاً عنه، فكما لا يقتضي المفهوم حصوله مع الطهارة لا يقتضي المنطوق عدم حصوله بدونها، مع أنه لا ريب في عموم المنطوق له. فإذا قيل: لا صلاة إلا بطهور، و: لا صلاة إلا بركوع، كان مقتضاهما بطلان الصلاة الفاقدة للطهارة والركوع معاً من جهتين، لا أنهما ساكتان عنها لخروجها عن موضوع كلٍ منهما.

الثالث: نفي الإمكان لا الوجود

الثالث: ما في هامش بعض نسخ الكفاية من أن المراد من مثله نفي الإمكان، لا الوجود، ولازمه في المثال إمكان الصلاة مع الطهارة، لا ثبوتها فعلاً، لينافي ما سبق.

وفيه: أن التركيب بنفسه إنما يقتضي نفي الوجود دون الإمكان، كما هو الحال في مثل: لا يأتي زيد إلا أن يجيء عمرو، و: لا آكل إلا أن أغسل يدي ونحوهما، وإنما استفيد عدم الإمكان في المقام بلحاظ كون القضية تشريعية مسوقة لبيان شرطية الطهارة للصلاة، ويمتنع تحقق المشروط مع عدم شرطه، ومن الظاهر أن ذلك يجري في جميع الأجزاء والشروط، فكما لا تمكن الصلاة مع فقد الطهارة لا تمكن مع فقد بعض الأجزاء والشروط الأُخر وإن كانت الطهارة موجودة، فتنافي المفهوم، فوجود الطهارة كما لا يستلزم وجود الطهارة مطلقاً لا يستلزم إمكانها كذلك، ولم ينفع ما ذكره في دفع الإشكال.

على أن الإشكال لا يختص بالمثال المتقدم، بل يجري في نظائره من التراكيب مما هو ظاهر في نفي الوجود دون الإمكان، كالمثالين المتقدمين، كما هو ظاهر.

الرابع: ما عن السيد الخوئي قدس سره

الرابع: ما عن بعض مشايخنا من أن المستثنى في المقام لما كان هو

ص: 610

الظرف مثل: (بطهور) فلابد من تقدير متعلق له، فيكون المعنى: لا صلاة إلا صلاة بطهور.

ومرجع ذلك إلى أن الصلاة لو وقعت وقعت مع الطهور، لا أنها يلزم أن تقع مع جميع أفراده.

ويندفع: بأن كون الصلاة لو وقعت وقعت مع الطهور ليس هو مفاد المفهوم، بل لازم المنطوق، وأما مفاد المفهوم فهو وقوع الصلاة مع الطهور بنحو القضية التنجيزية، كما كان مفاد المنطوق سلبها بدونه كذلك، وحيث هو غير مطّرد في فاقد بعض الأجزاء والشرائط الأخرى يعود الإشكال.

وأما تقدير متعلق الظرف المستثنى بنفس الصلاة فهو إنما يتم لو كان الاستثناء من عموم أفراد الصلاة المنفية، وليس كذلك، بل الظاهر أنه استثناء من عموم أحوال نفي الصلاة، فكأنه قيل: لا صلاة في جميع الأحوال إلا حال وجود الطهور.

الوجه في الجواب عنه

فلعل الأَولى أن يقال في الجواب: إن حكم المستثنى منه لما كان هو السلب المطلق للصلاة بدون الطهارة بنحو الاستيعاب والاستغراق فمفهومه المستفاد من الاستثناء ليس إلا نقيضه وهو وجودها في الجملة مع الطهارة، لا وجودها معها مطلقاً، إذ ليس نقيض السلب الكلي إلا الإيجاب الجزئي دون الإيجاب الكلي، وهكذا الحال في نظير المثال من التراكيب. وقد تقدم توضيح ذلك في التنبيه الثالث من مبحث مفهوم الشرط، فراجع.

نعم، لو لم يدل الكلام على وجود الصلاة مع الطهارة حتى في الجملة بحيث يكون مسكوتاً عنه اتجه سوقه شاهداً لعدم الدلالة على المفهوم.

لكن لا مجال لإنكار دلالته على ذلك.

ص: 611

وبالجملة: وضوح دلالة الاستثناء على ثبوت نقيض الحكم للمستثنى مانع من رفع اليد عنه بمثل هذه الاستعمالات الشائعة وكاشف عن ابتنائها على ما لا ينافيه إجمالاً لو لم يتسن معرفته تفصيلاً.

ومما يوضح ذلك ويؤكده ما اشتهر تبعاً للمرتكزات الاستعمالية من دلالة الاستثناء على الحصر، إذ لا حصر مع كون حكم المستثنى مسكوتاً عنه.

ولاسيما وأنه لا يراد به دلالته على انحصار الحكم بما عدا المستثنى، بل على انحصار نقيضه بالمستثنى المبتني على المفروغية عن ثبوت النقيض له، بل كونه المقصود بالأصل منه، كما يناسبه حسن تأكيده بما يدل على انحصاره به، مثل (وحده) و (لا غير)، إذ انصراف التأكيد إليه شاهد بكونه هو المقصود بالأصل، وأن ذكر حكم المستثنى منه للتمهيد له، فلاحظ.

نعم، الحصر المذكور إنما هو بالإضافة إلى أفراد المستثنى منه دون غيرها، إلا أن يكون الاستثناء منقطعاً، فيدل على الحصر بالإضافة إلى ما يناسبه مما يدخل معه ومع المستثنى منه تحت جامعٍ عرفيٍ واحدٍ، فلو قيل: ما في الدار رجل إلا حمار، كان ظاهره نفي وجود ما يناسب الحمار من غير أفراد الرجل، كالجمل والثور، لأن الظاهر عدم خروج (إلا) فيه عن الاستثناء الذي لا يصح عرفاً إلا بعموم المستثنى منه للمستثنى المستلزم لإرادة الجامع العرفي بينهما، كما ذكرنا.

وما في بعض الكلمات من كون (إلا) فيه بمعنى (لكن) بعيد عن المرتكزات الاستعمالية.

ولازم ما ذكرنا دلالة الاستثناء المفرَّغ - وهو الذي يحذف المستثنى

ص: 612

منه فيه ويختص بالنفي - على الحصر الحقيقي وعموم النفي لجميع ما عدا المستثنى، لأن حذف المتعلق مع عدم القرينة يقتضي الحمل على العموم.

غاية الأمر أنه كثيراً ما يراد به الحصر الإضافي، بلحاظ خصوص جهةٍ ملحوظةٍ للمتكلم يقتضيها سياق الكلام أو غيره من القرائن المحيطية به، والتي لا مجال لضبطها، بل تختلف باختلاف خصوصيات الموارد.

الكلام في (إنما)

ومنها: (إنما) حيث كان المعروف فيها إفادة الحصر، على ما يظهر من تصريح أهل اللغة، بل عن بعضهم أنه لم يظهر مخالف فيه، وعن آخر دعوى إجماع النحاة عليه، كما ذكر في التقريرات أنه المنقول عن أئمة التفسير.

ويقتضيه التبادر، حيث لا إشكال في ظهورها في انحصار المتقدم بالمتأخر.

غاية الأمر أنها - كسائر أدوات الحصر - كثيراً ما تستعمل في الحصر الإضافي بلحاظ خصوص بعض الجهات المقصودة بالنفي مما يقتضيه قرينة حال أو مقال، بل هو المتعين دائماً في حصر الموصوف بالصفة، نحو: إنما زيد شاعر أو تاجر أو عامل، حيث لا يراد به نفي كل صفةٍ أخرى عنه، لما هو المعلوم من عدم خلوه عن كثير من الصفات، كالحياة والتكلم وغيرهما، بل نفي خصوص بعض الصفات مما تقتضيه قرينة السياق، كالعلم أو الشجاعة أو غيرهما.

وذلك لا ينافي دلالتها على الحصر بما هو نسبة خاصة، لأن الفرق بين الحصر الحقيقي والإضافي في طرف النسبة المذكورة لا في أصلها.

ولذا لا يصح الإتيان بها لمحض بيان ثبوت الحكم للموضوع من دون حصر أصلاً.

ص: 613

نعم، الحصر الإضافي محتاج إلى قرينةٍ، وبدونها يتعين الحمل على الحصر الحقيقي.

ما استشكله في التقريرات من دلالتها على الحصر

لكن استشكل في التقريرات في دلالتها على الحصر. قال: «والإنصاف أنه لا سبيل لنا إلى ذلك، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتى يستكشف منها ما هو المتبادر منها، بخلاف ما هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة قطعاً لبعض الكلمات العربية، كما في أداة الشرط وأما النقل المذكور فاعتباره في المقام موقوف على اعتبار قول اللغوي في تشخيص الأوضاع...».

وكأن الذي أوجب التباس الحال عليه شيوع استعمالها في الحصر الإضافي، وإلا فتبادر الحصر منها في الجملة مما لا ينبغي أن ينكر، كشيوع استعمالها فيه في عرفنا.

على أنه يكفي إدراكه من استعمالاتها فيه في العصور السابقة، حيث قد يتيسر الإطلاق على معاني الألفاظ المستعملة لهم إذا كان استعمالها كثيراً شائعاً، حيث قد يدرك من مجموعها مفاد اللفظ بنفسه مع قطع النظر عن القرينة.

إنكار الرازي دلالة آية (إنما وليكم الله...) على المفهوم

هذا، وقد أنكر الرازي دلالتها على الحصر في مقام الجواب عن استدلال الإمامية بقوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1) قال: «لا نسلّم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة، ولا نسلِّم أن كلمة (إنما) للحصر. والدليل

ص: 614


1- سورة المائدة: 55

عليه قوله: «إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء»(1) ولا شك إن الحياة الدنيا لها أمثال أُخرى سوى هذا المثل. وقال: «إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ»(2)، ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها».

لكن الآيتين الكريمتين لا تنافيان دلالة (إنما) على الحصر.

أما الأولى فلأن وجود أمثال أخر للدنيا إنما ينافي الحصر المذكور لو كان حقيقياً، دون ما لو كان إضافياً - كما هو الظاهر منه - لدفع توهم ابتنائها على البقاء الذي هو مقتضى الاهتمام بها والركون إليها من عامه الناس، فإن ذلك منهم مظهر لغفلتهم عن حالها، فحسن حصرها بالمثل المذكور في الآية لردعهم عن ذلك وتنبيههم لما يخالف مقتضى حالهم وإن كان لها أمثال أُخر.

ولذا حسن الحصر ب (إلا) بنظيره في قول الشاعر:

* وما الدهر إلا منجنونا بأهله *

ومنه يظهر الحال في الآية الثانية، فإن المراد بها الحصر الإضافي أيضاً توهيناً لحالها، وردعاً لمن يرغب فيها ويعتد بها، لكن مع ابتنائه على التغليب - ولو ادعاءً - إغفالاً لما يكسبه أهل البصائر والكمال من الدرجات العالية والتجارة السامية.

ولذا حسن الحصر المذكور ب (إلا) في قوله تعالى: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا

ص: 615


1- سورة يونس: 24
2- سورة محمد (ص): 36

إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» (1) وقوله سبحانه: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ»(2).

وأما ما ذكره من أن اللهو واللعب قد يحصل في غيرها.

فهو إنما ينافي حصر اللهو واللعب بها، لا حصرها بهما الذي تضمنته الآية الشريفة.

هذا، وقد ذكر بعضهم من أدوات الحصر (بل) على بعض وجوهها التي ذكرها أهل اللغة.

ولا يسعنا تفصيل الكلام في وجوهها وتمييز موارد استعمالها، بل نحيل في ذلك على ما ذكروه.

كما أنه قد تكون هناك بعض الأدوات الأخرى تدل على الحصر بنفسها أو بالقرينة لا مجال لنا لاستقصائها، بل توكل لمباحث اللغة ونظر الفقيه في مقام الرجوع للأدلة.

الكلام في تعريف المسند إليه

ومنها: تعريف المسند إليه باللام، حيث يدل على اختصاصه بالمسند، نحو: العالم زيد، والنجس من الميتة ما كان له نفس سائلة، ونحوهما.

ومحل الكلام ما إذا لم تكن اللام للعهد، وإلا اقتضت انحصار المعهود بالمسند، دون أصل الماهية بلا كلام.

ما استشكله الخراساني قدس سره في دلالته على المفهوم

وقد استشكل في ثبوت المفهوم في المقام بما قد يرجع إليه ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره من أنه موقوف إما على كون الحمل أولياً ذاتياً، لملازمة التطابق المفهومي للتساوي المصداقي في الخارج أو على كون اللام للاستغراق، أو كون الماهية ملحوظة بنحو الإرسال، حيث يلزمهما

ص: 616


1- سورة الأنعام: 32
2- سورة العنكبوت: 64

اتحاد تمام أفراد الماهية في الخارج بالمسند، المستلزم لمباينتها لما يباينه.

لكن الحمل الأولي خلاف الأصل في القضايا المتعارفة، بل الأصل فيها هو الحمل الشائع الصناعي، الذي ملاكه الاتحاد الخارجي، بل هو المتعين في غالب الموارد، حيث يعلم بعدم التطابق المفهومي بين طرفي الحمل.

كما أن الأصل في اللام أن تكون للجنس، وحملها على الاستغراق محتاج إلى القرينة، كحمل الماهية على الإرسال، بناءً على إمكانهما ذاتاً وقيام القرينة عليهما في بعض الموارد، على ما لعله يأتي الكلام فيه في مبحث المطلق والمقيد.

وعلى ذلك فليس مفاد القضايا المفروضة في محل الكلام إلا حمل المسند على الجنس والماهية وحمل الشيء على الجنس والماهية لا يقتضي اختصاصهما به، ولا يدل عليه.

المناقشة فيه

لكنه يشكل: بأنه إن أريد من عدم اختصاصهما به إمكان اتصافهما بغيره مما يجتمع معه في الخارج، فإذا قيل: الكاتب متحرك الأصابع، لم يناف اتصافه بغير ذلك كالأكل والمشي، فهو مسلّم، إلا أنه لا ينافي الحصر المدعى في المقام، إذ ليس المراد به في المقام إلا كون تمام أفراد الماهية مطابقة للمسند، بحيث لا يباينه منها شيء، فإذا قيل: العالم زيد، كان ظاهره اتحاد تمام أفراد العالم مع زيد، وإن أمكن اتحادها مع عنوانٍ آخر يجتمع معه، كالعادل والمتكلم.

وإن أريد من عدم اختصاصهما به إمكان اتصافهما بغيره مما يباينه ولا يجتمع معه في الخارج المستلزم لمباينة بعض أفرادهما للمحمول، فهو

ص: 617

في غاية المنع، إذ لا ريب في ظهور حمل الشيء على الجنس في اتصاف تمام أفراده به ولو بضميمة مقدمات الإطلاق، فإذا قيل: الإنسان أبيض، كان ظاهره اتصاف تمام أفراده بالبياض، وعدم اتصاف بعضها بغيره مما يضاده، فليس فيها أحمر ولا أسود.

وبذلك يتم المدعى، لأنه إذا كان ظاهر قولنا: العالم زيد، كون تمام أفراد العالم متصفاً بأنه زيد لزم عدم عالمية غير زيد من أفراد الإنسان المباينة له، كما لا يخفى.

ومن هنا لا ينبغي التأمل في الدلالة على الحصر بالوجه المذكور، ولاسيما بعد مطابقته للمرتكزات الاستعمالية.

حديث السيد الحكيم قدس سره

قال سيدنا الأعظم قدس سره في حقائقه تعقيباً على ما ذكره المحقق المذكور: «ظهور قولنا: القائم زيد، في الحصر أقوى من كثير من الظهورات التي بنى عليها المصنف قدس سره وغيره، والرجوع إلى العرف شاهد عليه، وكفى بإجماع البيانيين مؤيداً له، فلا مجال للتأمل فيه.

بل الظاهر من كلام جماعة ممن تعرض للمقام المفروغية عن ثبوت المفهوم، وأن الكلام في وجهه، فالنقض والإبرام إنما يكون فيه، لا في ثبوت المفهوم».

هذا، مضافاً إلى شيءٍ، وهو أن الظاهر من حمل أحد الشيئين على الآخر ليس محض انطباق أحدهما على الآخر، غير المستلزم لاختصاصه به، بل التطابق بينهما، بحيث يكون أحدهما عين الآخر - مفهوماً لو كان الحمل أولياً ذاتياً، وخارجاً لو كان الحمل شايعاً صناعياً - كما هو مفاد (هو هو)، ولازم ذلك اختصاص أحدهما بالآخر وعدم انطباقه على ما يباينه.

ص: 618

وعلى هذا يبتني التعريف بالرسم في مثل قولنا: الإنسان هو الحيوان الضاحك، أو الخفاش هو الطائر الولود، مع وضوح أن الحمل فيه شائع صناعي، ولو لم يكن مقتضى الحمل التطابق لم يصلح الحمل للتحديد، لإمكان كون أحدهما أعم من الآخر مطلقاً أو من وجه.

ولا مجال للنقض على ذلك بالحمل مع تنكير أحدهما، كما في قولنا: الإنسان ماشٍ، وزيد عالم، لأن مفاد النكرة - التي هي أحد الطرفين - ليس نفس الجنس ارتكازاً، كمفاد المعرف باللام، بل ما يعم مفاد الحصة منه، فلا يدل الحمل المذكور، إلا على التطابق بين الإنسان والماشي وبين زيد والعالم في الجملة، ولو بلحاظ التطابق بينهما وبين حصة من كلٍ منهما، ومرجعه إلى مجرد انطباق جنس الماشي على الإنسان، وجنس العالم على زيد، وإن لم يطابقاهما ولم يختصا بهما.

ومثله في ذلك الحكم بالشيء على الموضوع بنسبة أخرى غير نسبة الحمل، حيث يكفي حصوله له وإن لم يختص به نحو قولنا: زيد في الدار، أو جاء، أو: جاء زيد، أو غير ذلك.

وبذلك يتضح عدم الفرق في الدلالة على الحصر بين كون المعرف بلام الجنس مسنداً إليه، الذي هو محل الكلام وكونه مسنداً، كما في قولنا: زيد العالم، والخفاش هو الطائر الولود، وهو المطابق للمرتكزات العرفية الاستعمالية التي هي المعيار في الظهور الحجة.

وأما ما في التقريرات من أن الماهية قد تعتبر على وجه لا يستفاد منها الحصر، سواء كانت موضوعاً، أم محمولاً معرفاً، كما إذا قيل لمن سمع الأسد ولم يشاهد فرداً منه: الأسد هذا، أو: هذا الأسد.

ص: 619

فيندفع: بأن المحمول في الأول والموضوع في الثاني وإن كان هو الفرد المشار إليه بلفظ (هذا) والذي لا تختص به الماهية، إلا أنه مسوق عبرة للماهية على عمومها، كما في قولنا: هذا اسمه أسد.

ومن هنا فالحمل المذكور في الحقيقة أولي ذاتي، أو واجد لملاكه إن لم يكن منه اصطلاحاً.

ولو أُريد به الحمل على الفرد بنفسه لم يصح إلا أن يقال: هذا أسد، أو: أسد هذا، أو: هذا من أفراد الأسد، لما ذكرناه من أن مفاد النكرة ما يعم الفرد من الجنس والماهية، لا نفس الجنس على ما هو عليه.

جريان الكلام فيما يشبه المعرّف باللام

ثم إن ما ذكرنا كما يجري في المعرف باللام يجري فيما يشبهه مما يحكي عن الجنس والماهية في مقام التعريف، كالموصول في قولنا: الذي يجب إكرامه زيد، أو: زيد هو الذي يجب إكرامه. ومثله المضاف إذا أُريد به العهد الجنسي، نحو قول الشاعر:

إن أخاك الحق من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك

نعم، قد لا يراد بالإضافة العهد، بل محض النسبة بين الطرفين، كما هو كثير فيما يقع خبراً نحو قولنا: زيد أخو عمرو أو عدوه أو جاره أو نحوها، حيث لا يراد به إلا أنه أخ له أو عدو أو جار من دون إشارة للجنس، أو لفردٍ معهود.

ولعله خارج عن أصل معنى الإضافة، كما تعرض له بعض البيانيين.

الكلام في تقديم ما حقه التأخير

ومنها: تقديم ما حقه التأخير. فقد ذكر البيانيون أنه يدل على حصر المتأخر بالمتقدم، كتقديم المفعول في قوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

ص: 620

نَسْتَعِينُ» (1) .

وقد صرّح في التلخيص وشرحه أن دلالته ليست بالوضع، بل بفحوى الكلام حسبما يدركه منه ذو الذوق السليم.

لكنهم ذكروا - أيضاً - في وجه تقديم المسند وغيره من متعلقات الفعل التي حقها التأخير وجوهاً أخرى، كالتشويق في مثل قول الشاعر:

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر

والاهتمام كقولنا: أمير جاءني، وغيرهما.

ومرجع ذلك إلى تبعية الدلالة على التخصيص للمناسبات والقرائن المكتنفة للكلام والتي لا يتيسر لنا ضبطها.

وقد تعرضوا لضوابطها واختلفوا فيها، وقد يبلغ بعضها مرتبة الإشعار، الذي يكفي في البلاغة، دون الظهور الحجة الذي هو المهم في المقام.

كما أن ذلك قد يجري في تقديم ما حقه التقديم، كالمسند إليه، على ما ذكروه.

ولا مجال لإطالة الكلام في ذلك، بل يوكل تشخيصه للفقيه عند النظر في الأدلة، مستعيناً في فهمها واستظهار المراد منها بما ذكروه، مع تحكيم ذوقه وسليقته.

ص: 621


1- سورة الفاتحة: 4

الفصل الخامس في مفهوم اللقب

قال في التقريرات: «والمراد به ما يجعل أحد أركان الكلام، كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر وغير ذلك».

وكأن مراده بأركان الكلام مطلق ما كان طرفاً لنسبةٍ قد تضمنها ولو كان فضلةً من دون خصوصية للمفعول، كالحال والظرف وغيرهما، كما عممه لذلك سيدنا الأعظم قدس سره.

وإليه يرجع ما ذكره في الفصول من أن مفهوم اللقب عبارة عما لا يتناوله الاسم.

ولا يخرج من ذلك إلا ما سبق الكلام في دلالته على المفهوم، كالشرط والوصف.

والظاهر عدم ثبوت المفهوم لذلك بنفسه مع قطع النظر عن القرينة، كما نسبه في التقريرات إلى أهل الحق وجماعة من مخالفينا، قال: «وذهب جماعة منهم الدقّاق والصيرفي وأصحاب أحمد إلى ثبوت المفهوم فيه».

ويشهد لما ذكرنا عدم تبادر المفهوم من حاق الكلام وبحسب أصل التركيب مع قطع النظر عن القرينة.

ص: 622

غاية الأمر أنه تقدم في مفهوم الشرط أن أخذ شيءٍ في موضوع الحكم يقتضي تقوم شخص الحكم به المستلزم لانتفائه بانتفائه.

وحينئذٍ قد يكون له نحو من المفهوم لخصوصية في الحكم، كما لو أُخذ قيداً في متعلق أمر بدلي، فلو ورد الأمر بعتق رجل، أو السفر للحج ماشياً، أو يوم الجمعة، استفيد عدم أجزاء عتق المرأة، ولا السفر راكباً، ولا في غير يوم الجمعة، ولزم رفع اليد عن الإطلاق المقتضي لأجزاء أحد هذه الأمور لو ثبت.

لكنه ليس لإفادة التقييد الذي هو محل الكلام بل لظهور الأمر بشيءٍ في كونه تعيينياً، كما تقدم توضيحه في مفهوم الوصف. ولذا لا ينافي الأمر بالمطلق بسببٍ آخر.

كما أنه قد يستفاد منه المفهوم وانتفاء سنخ الحكم في غير الموضوع المذكور في القضية، إما للزوم اللغوية بدونه عرفاً، ولا ضابط لذلك.

أو لوروده في مقام التحديد، كما في صحيح عاصم بن حميد عن أبي عبد الله عليه السلام: «قال: قال رجل لعلي بن الحسين: أين يتوضأ الغرباء؟ قال: يتقي شطوط الأنهار والطرق النافذة وتحت الأشجار المثمرة ومواضع اللعن..»(1) لأن ظاهر السؤال طلب تمام ما ينبغي اجتنابه.

هذا، وكثيراً ما يكون أخذ شيءٍ في موضوع الحكم مشعراً بثبوت نقيضه في غيره، فقول القائل في مقام التعريض بشخصٍ: الحمد لله الذي نزهني عن السرقة، مشعر بأن ذلك الشخص قد سرق.

بل قد يبلغ مرتبة الظهور الحجة بضميمة خصوصية حال أو مقال لا

ص: 623


1- الوسائل ج 1، باب 15 من أبواب أحكام الخلوة، حديث: 1

مجال لضبطها.

وكأن بعض ما تقدم هو الذي أوهم من سبق ثبوت المفهوم للقب، كما يظهر مما أشار إليه في الفصول والتقريرات من استدلالهم.

ص: 624

الفصل السادس مفهوم العدد

اشارة

الظاهر أنه لا مفهوم للعدد بنفسه، كما نسبه في التقريرات لجمعٍ كثير من أصحابنا ومخالفينا، قال: «بل وادعي وفاق أصحابنا فيه. وحكي القول بالإثبات مطلقاً، ولم نعرف قائله».

ويقتضيه ما سبق في اللقب من عدم تبادره من حاق اللفظ، فقوله (ص) في النبوي: «إن الله كره لكم أيتها الأمة أربعاً وعشرين خصلة ونهاكم عنها...»(1) لا دلالة له على عدم كراهة ما زاد عليها.

وقد أشار في الفصول والتقريرات إلى احتجاج القائلين بالمفهوم فيه بوجوه ظاهرة الضعف لا مجال لإطالة الكلام فيها.

نعم، ما سبق في اللقب من الدلالة عليه في خصوص بعض الموارد وإشعاره به في بعضها جارٍ هنا، بل لا يبعد هنا كونه أظهر وأكثر، وخصوصاً التحديد، حيث يكثر سوق العدد له.

بل لا إشكال في ظهور الكلام فيه لو ورد طرفاً للحمل كقولنا: حد الزنا مائة جلدة، لأن مقتضى الحمل الاتحاد والتطابق بين طرفيه. وكذا لو

ص: 625


1- الوسائل ج 1، باب 15 من أبواب أحكام الخلوة، حديث: 11.

وقع جواباً عن السؤال عن الكم، كبعض الأمثلة الآتية.. إلى غير ذلك من طرق استفادة التحديد.

غاية الأمر أن التحديد..

وجوه التحديد بالعدد

تارةً: يكون لنفي الزيادة والنقيصة معاً، كما هو الأصل عند فقد القرينة، لكن بنحوٍ يقتضي خروج الزائد عن الحد، دون المنع عنه إلا لجهةٍ خارجةٍ، كحرمة المسلم في المثال المتقدم.

وأخرى: لنفي النقيصة دون الزيادة، كما في حديث العيص عن أبي عبد الله عليه السلام: «قال في التقصير: حده أربعة وعشرون ميلاً»(1).

وثالثة: بالعكس، كحديث حماد: قلت لأبي عبد الله عليه السلام في أدب الصبي والمملوك، فقال: «خمسة أو ستة وارفق»(2).

ولابد في تعيين أحد الأخيرين من قرينة مقالية أو حالية ولو كانت هي المناسبات الارتكازية.

هذه هي المفاهيم المذكورة في كلماتهم بعناوينها الخاصة.

وربما يستفاد المفهوم - الذي هو عبارة عن ثبوت نقيض الحكم المذكور في غير مورده - في بعض الألفاظ والموارد الخاصة من دون أن يدخل تحت عنوان أحدها ولو بضميمة قرينة خارجية.

وحيث لا ضابط لذلك لا يسعنا استقصاء موارده، كما لا مجال لإطالة الكلام فيه، بل يوكل للناظر في الاستعمالات الممارس لها.

ص: 626


1- الوسائل ج 5، باب 1 من أبواب صلاة المسافر، حديث: 14
2- الوسائل ج 18، باب 8 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات، حديث: 1

والحمد لله رب العالمين

انتهى الكلام في مباحث المفاهيم صبح السبت، السابع عشر من شهر شعبان المعظم، من السنة الأولى بعد الألف والأربعمائة للهجرة النبوية، على صاحبها وآله أفضل الصلاة والتحية، في النجف الأشرف، على مشرِّفه الصلاة والسلام، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل حجة الإسلام والمسلمين السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.

وكان الفراغ من تبييضه - بعد تدريسه - صبح الأحد الثامن عشر من الشهر المذكور بقلم مؤلفه حامداً مصلياً مسلماً.

ص: 627

ص: 628

المحتويات

ص: 629

ص: 630

الصورة

ص: 631

الصورة

ص: 632

الصورة

ص: 633

الصورة

ص: 634

الصورة

ص: 635

الصورة

ص: 636

الصورة

ص: 637

الصورة

ص: 638

الصورة

ص: 639

الصورة

ص: 640

الصورة

ص: 641

الصورة

ص: 642

الصورة

ص: 643

الصورة

ص: 644

الصورة

ص: 645

الصورة

ص: 646

الصورة

ص: 647

الصورة

ص: 648

الصورة

ص: 649

الصورة

ص: 650

الصورة

ص: 651

الصورة

ص: 652

الصورة

ص: 653

الصورة

ص: 654

الصورة

ص: 655

الصورة

ص: 656

الصورة

ص: 657

الصورة

ص: 658

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.