مع الائمة الهداة فی شرح الزیارةالجامعةالکبیرة

تالیف السیدعلی الحسینی المیلانی

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:3

ص:4

ص:6

ص:8

ص:10

وَأَشْهَدُ أَنَّکُمُ الْأَئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِیُّونَ الْمَعْصُومُونَ الْمُکَرَّمُونَ الْمُقَرَّبُونَ الْمُتَّقُونَ الصَّادِقُونَ الْمُصْطَفَوْنَ الْمُطِیعُونَ لِلَّهِ الْقَوَّامُونَ بِأَمْرِهِ الْعَامِلُونَ بِإِرَادَتِهِ الْفَائِزُونَ بِکَرَامَتِه

ص:11

ص:12

وصفتهم الآیة الکریمة - : « فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ »،1 وأمّا أُولئک فلا کلام لنا معهم.

وهنا لابدّ من بیان عدّة مطالب:

المطلب الأول: لا شک فی أنَّ آیة الولایة قد نزلت فی حقّ أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السّلام، ألا وهی قوله تعالی :

«إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ »2

وقد وردت فی هذا الشأن أحادیث کثیرة بطرق الشیعة والسنّة، فدلالة الآیة علی ولایة أمیر المؤمنین علیه السّلام بعد ولایة اللّه والرسول، قطعیّة ومسلمّة، فکما أنَّه یجب الإقرار والشهادة بولایة اللّه ورسوله، کذلک یجب الإقرار والشهادة بولایة أمیر المؤمنین علیه السّلام.

المطلب الثانی: وردت روایات کثیرة جاء فیها إنَّ إسم أمیر المؤمنین علیه السّلام قد ذکر مقروناً لاسم اللّه تعالی وإسم رسوله فی عالم ما قبل عالمنا، وکذا فی غیب عالمنا هذا.

وبعبارة اخری، فی کلّ مرتبة من مراتب الوجود وأینَما کتب «لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه» کُتب «علی ولی اللّه، علی حجّة اللّه» وأوصاف مختلفة اخری، وهذه الأحادیث منقولة فی کتب الشیعة والسنّة بنحوٍ مستفیض.(1)

ص:14

المطلب الثالث: وردت روایات فی خصوص الشهادة بالولایة بعد الشهادتین، وفی هذه الروایات إطلاق وعموم یشمل الأذان أیضاً.

المطلب الرابع: حتّی لو قبلنا عدم إمکان الإستدلال بهذه الروایات المطلقة، لعدم تمامیتها من جهة السند مثلاً، یمکننا الإستدلال بروایات «مَن بَلَغ»،(1) وهذا الإستدلال کافٍ للإفتاء بالشهادة الثالثة فی الأذان.

المطلب الخامس: إذا صارت الشهادة الثالثة فی الأذان من شعائر المذهب - کما قال بذلک بعض الفقهاء الأجلاّء وأفتوا به ومنهم آیة اللّه العظمی السیّد محسن الحکیم الّذی نصَّ علی ذلک فی کتاب المستمسک - کانت الشهادة الثالثة فی الأذان واجبة.(2)

وعلی هذا، فإنّ الشهادة الثالثة لیست أمراً مبتدعاً من قبلنا أو ناشئاً عن هوی النفس أو بداعی حبّ أهل البیت علیهم السّلام، بل هو واقع قام الدلیل علیه، وإن کنّا نتحرّی المواطن للتعبیر عن وِدّنا وإخلاصنا لأهل البیت علیهم السّلام بشتی الأنحاء المتاحة.

وفی شرح هذه الفقرة من الزیارة، نکاتٌ وتأمّلات مفیدة، فقد أفادت أنَّ کلّ ما وصل إلیه الأئمّة الأطهار علیهم السّلام، فإنّما هو منحة من اللّه سبحانه و تعالی لهم، فلذا نقول: «اصْطَفَاکُمْ بِعِلْمِهِ وارْتَضَاکُمْ لِغَیْبِهِ واخْتَارَکُمْ لِسِرِّهِ واجْتَبَاکُمْ بِقُدْرَتِهِ وأَعَزَّکُمْ بِهُدَاه...» حیث أنّ جمیع هذه الأفعال مسندة إلی اللّه تعالی ومنسوبة الیه، وإنّه هو الذی أقرّ هذه الذوات الطاهرة فی هذه المقامات ورفعهم إلی هذه الدرجات.

ص:15

إنَّ هؤلاء السّادة الأطهار قد حازوا لیاقة وأهلیّة وشأنیّة الفوز بهذا العطاء الإلهی، فجاد الباری جلَّ وعلا علیهم بهذه المقامات. والسؤال هو: ماذا فعل الأئمّة الأبرار حتّی وصلوا إلی هذا المقام ؟

وبعد هذه الفقرة تأتی العبارة اللّاحقة مصدَّرة ب «فاء» التفریع: «فَعَظَّمتُم جَلالَهُ وأکبَرتُم شَأنَهُ » أی کلّما رفعکم اللّه و قرَّبکم إلیه، تواضعتم وخشعتم له أکثر فأکثر.

ومن الضروری هنا بیان مطلبین:

الأول: إنَّ من یقولون: «قد یصل الإنسان إلی مقام تسقط عنده عنه الصَّلاة والعبادة والخضوع والخشوع»،(1) هم متوهمون الوصول إلی مقام مّا، ویحاولون التهرب من التکالیف الشرعیّة بهذه الذریعة الواهیة، فإنَّ اللّه تعالی یقول فی کتابه:

«وَ اعْبُدْ رَبَّکَ حَتّی یَأْتِیَکَ الْیَقِینُ »2

أی حتّی یأتیک الموت.

المطلب الثانی: وطائفة اخری من المنحرفین یقولون: إنَّ الزیارة الجامعة فیها غلوّ!

فإنْ کان هؤلاء من مصادیق الآیة: «فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ »3 فلا کلام لنا معهم، وإنْ لم یکونوا من هذا الصنف، فعلیهم أن یلتفتوا إلی إنّ اللّه تبارک وتعالی هو

ص:16

الذی منح هذه المقامات والمنازل للأئمّة الأطهار علیهم السّلام حیث تقول الزیارة:

«اصْطَفَاکُمْ بِعِلْمِهِ وارْتَضَاکُمْ لِغَیْبِهِ واخْتَارَکُمْ لِسِرِّهِ واجْتَبَاکُمْ بِقُدْرَتِهِ وأَعَزَّکُمْ بِهُدَاه»

ثم نقول:

«فَعَظَّمْتُمْ جَلَالَهُ وأَکْبَرْتُمْ شَأْنَهُ ... وأَحْکَمْتُمْ عَقْدَ طَاعَتِه»

فأین الغلو فی هذا؟

إنّنا - ومن خلال آیات القرآن الکریم - عرفنا إنَّ فی تاریخ الإسلام بل ومن إبتداء الخلقة یوجد قسمان من الأئمّة:

1 - أئمة ضلال.

2 - أئمة هدی.

وهذا موضوع یحتاج إلی بحث مستقل، ولکن إجمالاً نقول:

إنَّ حکمة اللّه تعالی وسنّته فی خلقه قد إقتضت ذلک، وقد بدأت هذه الحقیقة منذ أن تمرّد إبلیس علی الأمر الإلهی بالسجود لآدم علیه السّلام.

ص:17

ص:18

جمیعاً، قال تعالی: «أُولئِکَ هُمُ الرّاشِدُونَ »1.2

بناءاً علی قول الراغب، فإنَّ الرشد مقابل الغی، وهکذا جاء فی القرآن المجید:

«قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ ».3

ویأتی الرشد بمعنی الهدایة أیضاً.

وأما فی القاموس المحیط، فقد ذکرت خصوصیّة اخری لهذا المصطلح، قال:

«الرشد: الإستقامة علی طریق الحقّ مع تصلّب فیه...»(1)

ویبدو أنَّ هذا المعنی هو المناسب لحال نبی اللّه إبراهیم علیه السّلام فی قوله تعالی : «وَ لَقَدْ آتَیْنا إِبْراهِیمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ...»5 وهو المناسب لحال الأئمّة الأطهار علیهم السّلام.

یقول الفضیل بن یسار: سألت الإمام الصّادق علیه السّلام: هل الحبُّ والبغض من الإیمان ؟

فقال علیه السّلام:

وهل الإیمان إلاّ الحبّ والبغض ؟ ثمَّ تلا هذه الآیة...(1)

ولقد کان الأئمّة علیهم السّلام المصداق الأعلی لمفهوم کلمة «الرشد»، أی إنّهم کانوا علی هدی وأنّهم إستقاموا علیه، ولکن ومع ذلک کانوا بذواتهم الطّاهرة أنوار هدایة وهداة إلی طریق خالٍ عن شائبة الغی، ولذا فهم أحقّ بالاتّباع والقیادة، قال تعالی :

«أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلاّ أَنْ یُهْدی »2

وعجبی من اولئک الذین نصبوا أعلاماً لهم فی مقابل أهل البیت علیهم السّلام ووصفوهم بالخلفاء الراشدین، بل إنَّهم تمادوا فی الغی ورَوَوْا فی بعض کتبهم الحدیثیة عن النبی الأکرم صلّی اللّه علیه و آله إنه قال:

«عَلَیکم بِسُنَّتِی وسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِینَ مِن بَعْدِی»(2)

ولکن - وطبقاً للتحقیق فی متن وسند هذا الحدیث - إتّضح إنَّ هذا الحدیث وحتّی علی مبانی أهل السنة وإستناداً إلی أقوال علمائهم فی الجرح والتعدیل - غیر صحیح، وإنّ بعض علماء أهل السنّة صرّح بعدم إعتباره، ولکن، وعلی فرض التغاضی عن البحث السندی وقبول صحة الحدیث، فإنَّه لا مناص من القول بأنَّ

ص:21

الأئمّة المعصومین علیهم السّلام هم الخلفاء الرّاشدون لا زید وبکر وخالد، إذ بقطع النظر عن الروایات والأدلّة الاخری، فإنّ حیاة هؤلاء الأطهار حاکیة عن رشدهم، وإنَّ مطالعة سیرتهم وأحوالهم - حتی فی کتب المخالفین لهم - خیرُ شاهد ودلیل علی هذا المعنی.

فإذا ما کان أکثر الناس قد ترکوا طریق الرشد وإختاروا طریق الغی والتمسوا اناساً سمّوهم - خطأ - الخلفاء الراشدین، فهذا تقصیر منهم...

یقول تعالی :

«وَ إِنْ یَرَوْا سَبِیلَ الرُّشْدِ لا یَتَّخِذُوهُ سَبِیلاً»1

فمن البدیهی عندنا إنّ هذا اللقب من ألقاب الأئمّة علیهم السّلام، کما أن «الصدّیق» و «الفاروق» من ألقاب أمیر المؤمنین علی علیه السّلام.(1)

وطبقاً للتحقیق، فإنَّ کبار علماء أهل السنة یقولون: لیس عندنا حدیث یُثبتُ لقبَ «الفاروق» لعمر بن الخطاب «وإنّما لقّبه بذلک أهل الکتاب، أی الیهود».

فالیهود هم الذین أطلقوا هذا اللقب علی عمر.(2)

نعم، أئمّتنا هم الأئمّة الراشدون، ولذا، فإنَّ اللّه تعالی نصبهم لهدایة الناس وجعلهم قادة لهم.

ص:22

مُلِئَتْ ظُلماً وجَوْراً»(1) یکون علی یدی الإمام المهدی أرواحنا فداه وعجَّل اللّه تعالی فرجه الشریف وجعلنا من أنصاره وأعوانه.

منصبٌّ علی وجود محمد وآل محمد علیهم الصَّلاة والسلام، والذین هم مقدّمون علی الآخرین فی جمیع الجهات.

فالأنبیاء السّابقون مکرَّمون أیضاً، وکذا الملائکة، ولکن ثبت فی محلّه وقد أشرنا إلی ذلک أیضاً فیما سبق، أن الأئمّة علیهم السّلام أفضل من جمیع الأنبیاء ماعدا رسول اللّه محمد صلّی اللّه علیه وآله، وهم مقدمون حتّی علی اولی العزم من الأنبیاء علیهم السلام، وإنْ کان قبول هذا المعنی یصعب علی بعض الأفهام، ولعلّنا نوفّق إن شاء اللّه إلی زیادة توضیح لهذا المطلب لاحقاً.

وقد أشرنا فی شرح فقرة «وعباده المکرمین الذین لا یسبقونه بالقول وهم بأمره یعملون» المأخوذة من الآیة المبارکة،(1) إلی جهات من التکریم المعنوی الإلهی للأئمّة علیهم السّلام من قبیل العصمة، العلم، والشفاعة،(2) ولکنّ التکریمات المعنویة لاتنحصر فی هذه الأمور، فإنّ حضرات الأئمّة علیهم السّلام، هم مظاهر أسماء اللّه الحسنی وصفاته العلیا.

فإذا ما قلنا: إنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وأهل بیته الطاهرین علیهم السّلام مقدَّمون علی جمیع المخلوقات ومن کلّ الجهات، فإنّ مقصودنا هو بیان إمتیازهم فی أصل الخلقة وفی الصفات والکمالات الظاهریّة والباطنیّة معاً.

وهذا ما سنقرؤه لاحقاً أیضاً فی قوله علیه السّلام:

«فبلغ اللّه بکم أشرف محلّ المکرّمین».

ص:25

وانظروا کیف إنّه فی هذه الآیة الشریفة، وضمن الإشارة إلی اختلاف مراتب المقربین، خصَّ السابقین منهم بمقام کمال القرب الإلهی. و«المقربون» فی الزیارة الجامعة إشارة إلی هذه الآیة المبارکة.

«وقی: الوقایة حفظ الشئ مما یؤذیه ویضرُّه، یقال: وقیت الشئ، أقیه وقایة ...

والتقوی جعل النفس فی وقایة مما یخاف...»(1)

إنَّ الوقایة من أی ضرر إنّما تکون بحسبه، فمثلاً الوقایة من الطقس البارد إنّما تکون بإرتداء الإنسان ملابس الشتاء کی لا یمرض، فیقال فی حقه: وقی نفسه من البرد؛ أو یقال: توقّی البرد.

بأخذها من القرآن والسنة والمصادر المعتبرة، وأن یحافظ ویستقیم علی هذه المعتقدات، وأن تکون عقائده صلبة لا تتزلزل أمام الشبهات، ولا تنحرف عند المزلّات. فإذا ما خرج الشخص عن خط سیر معتقداته الصحیحة، قیل فی حقّه:

إنّ فلاناً ساء حاله وانحرف فی عقیدته.

إنَّ الإنسان موظف بأداء التکالیف، بالإجتناب عن المحرّمات والعمل بالواجبات، وعلیه أن یأخذ ذلک من المنابع الصحیحة التی عیَّنتها الشریعة، وهو فی ذلک إما مجتهدٌ وإما مقلِّد أو محتاط، فلو إنّ الإنسان التزم بذلک علی وجهه الصحیح، کان عمله صحیحاً وسلیماً من العیب والنقص. وأمّا إذا وجد خلل أو نقص فی عمله، أو أنه أخذ تکالیفه من مصدر غیر معتمد، یقال فی حقّه: إنّه سیئ العمل ومنحرف عن الشریعة.

وکذا الکلام فی البعد الأخلاقی، فمراقبة النفس الإنسانیّة أمر لازم، وطبقاً لما ورد فی الکتاب والسنّة، فإنّ النفس الإنسانیّة تحتاج إلی التزکیة والتهذیب، وأن تُزان بالصفات الحسنة، وتطهّر من الصفات السیئة.

فعلی الإنسان أن یخطو خطوات فی هذا الطریق، وأن یواظب علی طهارة نفسه، وأن یسعی إلی ترکیز هذه الطهارة فی نفسه أکثر فأکثر.

وفی هذا المجال، علیه أن یجتنب عن قراءة الکتب المضلِّلة، والحضور فی المحیط الملوّث، ومراودة أصدقاء السّوء، وأن لا یُصغی لکلّ ما یقال هنا وهناک، وأن لا یجالس إلاّ الصّالحین، فإنَّ کلَّ ذلک له غایة الأثر والتأثیر علیه، وفی عکس هذه الحالة سیفسد وسیقال: إنّ فلاناً سیّئ الأخلاق ومنحرف أخلاقاً.

وبناءاً علی ما مرّ، فإنّ التقوی هی السّلامة من کلّ أنواع وأقسام الإنحرافات،

ص:29

وعلی الإنسان المکلف الذی یرید طی طریق الکمال أن یکون حذراً فی الأبعاد الثلاثة، العقائدیة، العملیة، والأخلاقیة، فأی خللٍ وغفلةٍ ستؤدّی إلی الإنحراف عن المسیر الصحیح، وإلی الإبتعاد عن الوضع السلیم.

«وَ الَّذِی جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ »1

فالذی لاریب فیه: أنّ «والّذی جاء بالصّدق» هو النبی الأکرم محمد صلّی اللّه علیه وآله، وهو ما ورد فی التفسیر والحدیث أیضاً.

تُری ، ما المراد من وصف أمیر المؤمنین علیه السّلام بالتقوی فی هذه الآیة ؟ وأیَّة مرتبةٍ من التقوی هذه ؟

ثم ذکر المفسرون هناک عدة وجوه، نقلناها عنهم فی کتاب «تشیید المراجعات» فی ذیل آیة الولایة الشریفة.(1)

وبناءاً علی ما مرَّ، فإن کلمة «المتقون» الواردة فی الزیارة الجامعة، یمکن أن تکون إشارة إلی هذه الآیة المبارکة.

وقد نقل الطبری فی تفسیره قضیة واعتمدها ابن تیمیة فی منهاجه لابأس بذکرها هنا، وهی:

نُقِلَ أنّ أحدهم طرح سؤالاً فی مجلس أحد علماء السنّة عن المراد فی قوله تعالی :

«وَ الَّذِی جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ »2

فقال ذلک العالم: المراد هو أبوبکر.

وکان فی المجلس رجلٌ شیعی، فقال: بل المراد هو أمیر المؤمنین علی علیه السّلام. فقال العالم السنّی فی ردّه: أنت تعتقد بعصمة علی بن أبی طالب، وهذه الآیة لا تنسجم مع العصمة، فإنّه وإن ورد فی ذیلها «أُولئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ » ، ولکن قد جاء بعدها:

«لِیُکَفِّرَ اللّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِی عَمِلُوا وَ یَجْزِیَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِی کانُوا یَعْمَلُونَ »3

فعلی مبنی الشیعة القائلین بعصمة علی علیه السّلام، لا یمکن أن یکون المراد من الآیة هو علی علیه السّلام، لأنّها تنافی العصمة.

ص:34

أقول: إنّ هذا العالم السنّی کان جاهلاً أو متجاهلاً أو متعصّباً، لأن اللّه تعالی خاطب رسوله الأکرم محمداً صلّی اللّه علیه وآله فی سورة الفتح فقال:

«لِیَغْفِرَ لَکَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِکَ وَ ما تَأَخَّرَ»1

فما هو هذا الذنب الذی صدر قُدماً عن رسول اللّه الأکرم صلّی اللّه علیه وآله ؟

وما هو ذلک الذنب الذی صدر مؤخراً عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله ؟

فما أجابوا به عمّا فی هذه الآیة هنا، فهو نفس الجواب الذی یجاب به حول ما فی الآیة هناک.

إنّ هذه الآیات الکریمة لا تنافی العصمة أبداً، فلا هذه منافیة لعصمة النبی الأکرم محمد صلّی اللّه علیه وآله، ولا تلک منافیة لعصمة أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب علیه السّلام.

وللوقوف علی وجه عدم التنافی بین الآیة والعصمة، لابد من الرجوع إلی التفاسیر المعتبرة.

حصراً، وهذا ما نُقرّ به فی الشهادة الثالثة فی الزّیارة الجامعة، فنخاطبهم بأننا نشهد بأنکم أنتم «الصّادقون» الذین أمرنا اللّه تعالی بأن نکون معهم.

فاللّه سبحانه وتعالی یقول: کونوا مع الصّادقین، والکون مع الصّادقین وملازمتهم یحتاج إلی مقدمات، فما کلُّ أحد یوفق لمثل هذه الملازمة والمعیّة والکون مع الصّادقین، بل لابد من تحقق تقوی اللّه فی مرتبة سابقة.

فغیر المتّقین لیسوا مؤهلین لمثل هذه المعیّة، ولا هم لائقون لهذه الکینونة.

هذا، وقد نُقِلَتْ روایات کثیرة فی مصادر أهل السنّة صریحة فی أنّ المراد من «الصّادقین» فی الآیة الشریفة، هم الأئمّة علیهم السّلام.

فلقد روی مالک بن أنس، وأبو بکر ابن الجعابی، وابن مردویه الإصفهانی، وأبو إسحاق الثعلبی، وأبو نعیم الإصفهانی، والحاکم الحسکانی، والخطیب الخوارزمی، وابن عساکر الدمشقی، وسبط ابن الجوزی، وأبو الحجّاج المزّی، وجلال الدین السیوطی، وجمال الدین الزرندی، وابن حجر المکی، وقاضی القضاة الشوکانی، وشهاب الدین الآلوسی، وهم من کبار علماء أزمنتهم، رووا عن کبار الصحابة والتابعین، أنّ المراد من «الصدّیقین» فی هذه الآیة الشریفة هو: أئمة أهل البیت علیهم السّلام.

والعجیب، أنَّ هؤلاء، مع إقرارهم بهذه الحقائق ونقلها فی کتبهم، یعرضون عن الأئمّة المعصومین علیهم السّلام و یوالون غیرهم، قال تعالی:

«وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ »1

وذلک لأنّ هذه الآیة الشریفة، جاءت لکلّ المسلمین، من کان ومن یکون، إلی یوم القیامة، فهی تقول: أیُّها المسلمون کونوا مع الصّادقین من الآن إلی یوم القیامة.

وهذا یعنی ضرورة وجود الصّادقین فی کلّ زمان لتتحقق المعیّة والمتابعة من قبل الناس، وإلاّ لم یکن للأمر بالکون معهم والاقتداء بهم ومتابعتهم أی معنی وفائدة.

وهنا یطرح هذا السؤال نفسه: من هو الصّادق فی کلّ زمن من الأزمنة ؟

هو الإمام من الأئمّة الاثنی عشر من عترة النبی صلّی اللّه علیه و آله، کما دلّ علیه حدیث الثقلین المتواتر، و الّذی نصّ کبار علماء أهل السنّة علی أنه وصیّة رسول اللّه، و أنه یدلّ علی أنّ الأرض لا تخلو منهم إلی یوم القیامة.(1)

وبملاحظة الآیة الشریفة، یمکننا أن نفهم ضرورة وجود المعصوم من أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله کلّ زمن من الأزمان.

ولذا، فإنّ سؤالاً یطرح نفسه وهو: کیف یمکن أن یتحقق هذا المعنی فی هذا العصر مع غیبة إمام الزمان عجل اللّه تعالی فرجه الشریف ؟

وبعبارة اخری، کیف یطیع الناس إماماً غائباً ویتّبعونه ؟

وفی مقام الإجابة عن هذا السؤال نقول: إنَّ اللّه سبحانه وتعالی قد نصب الإمام و عرّفه، وإنّ وظیفة الإمام قبول هذه المسئولیّة، وقد قبلها علیه السلام، فهل عمل الناس بوظیفتهم ؟

إذن، إنَّ الناس هم المقصّرون فی أداء وظیفتهم التی هی الإطاعة، مما أدّی إلی حرمانهم من حضور إمامهم، فمتی ما غیّروا ما بأنفسهم إنتهی عصر الغیبة.

یکونوا محقّین. فهذا یدلّ علی إنّ إجماع الأمّة حجّة.(1)

ونحن نقول، إنه متی ما فرض الطاعة المطلقة لأحد من الناس، وجب توفر العصمة فیه، وإلا لم تکن الإطاعة مطلقة.

فمثلاً یقول عزّوجلّ فی کتابه:

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِیثاقَ بَنِی إِسْرائِیلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً»2

ویقول فی موضع آخر:

«قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّکُمْ عَلَیْکُمْ أَلاّ تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئاً وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً»3

ویقول فی آیة اخری:

«وَ قَضی رَبُّکَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِیّاهُ وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً إِمّا یَبْلُغَنَّ عِنْدَکَ الْکِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ کِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً کَرِیماً* وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما کَما رَبَّیانِی صَغِیراً»4

فطاعة وإحترام الوالدین مهمة إلی هذه الدرجة، ولکن مع ذلک یقول عزّوجلّ :

«وَ إِنْ جاهَداکَ عَلی أَنْ تُشْرِکَ بِی ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما»5

وهذا یعنی إنَّ طاعة الوالدین لیست مطلقة، لأن حق الطاعة المطلقة مقرون دائماً بالعصمة، فما لم تکن العصمة موجودة لم یکن الإطلاق موجوداً.

ص:41

ومن هنا، فإنّ الفخر الرازی یضطرّ إلی قبول البرهان، إذ لا مفرَّ له من الإذعان له، وهو عاجز عن إنکاره.

ثمّ إنّ الفخر الرازی، وفی موضع آخر من تفسیره، یقرُّ بالأمر الثانی أیضاً ویقول: نعم، لابدّ من وجود الصّادقین فی کلّ زمن من الأزمنة، وإنَّ خطاب «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا» عامٌ لکلّ المسلمین إلی یوم القیامة، فلو لم یکن المصداق للعنوان موجوداً فی زمن من الأزمنة، استحالت معیّة الصّادقین.

وبعد الإذعان بهذین الأمرین من قبل الفخر الرازی، یقول:

لکن هذا الصادق، لیس هو الذی تقول به الشیعة، وإن ذلک المعصوم، لیس هو الذی تقول به الشیعة، لماذا؟ لأنّ هذا الصادق المعصوم عندهم لا یستطیع الناس الوصول إلیه لیکونوا معه، فلا یتحقق «کونوا مع الصّادقین»(1).

نقول:

من السبّب فی عدم استطاعة عموم الناس من الوصول إلی الإمام الصّادق من أهل البیت الذی تقول به الشیعة فی هذا الزمان ؟

من الواضح إنّ کلّ الأئمّة من أهل البیت علیهم السّلام کانوا بین الناس، وکان بإمکان عموم الناس مراجعتهم والأخذ عنهم ومتابعتهم. فماذا فعل الناس ؟ وکیف تعاملوا معهم ؟

فإذا ما کان الإمام المهدی علیه السّلام غائباً الیوم، ولیس بإمکان الناس الوصول إلیه، والإلتقاء معه، فما هو عذر اولئک المعاصرین للأئمّة الأحد عشر السّابقین علی الإمام المهدی علیهم السّلام أجمعین ؟

ص:42

وهل أنّ مثل هذه الأعذار، کافیة لإنکار الواقع وتغییر الحقائق ؟

إنَّ اللّه سبحانه وتعالی قضی بأن یکون تحقق العدل وإقامته علی ید الإمام الحجّة المنتظر المهدی علیه السّلام، والإمام مستعد لأداء هذه المهمّة، فلماذا لم یتحقق العدل ولم ینتشر القسط علی وجه الأرض ؟

ألیس ذلک ناشئاً عن تقصیر الناس ؟

إنَّ هذه الأعذار لا تکفی لصرف مصداقیّة الأئمّة علیهم السّلام للآیة المبارکة، فإن مصداقها الوحید هم الأئمّة الإثنا عشر من أهل البیت، لا غیرهم.

یقول الفخر الرازی: إنَّ المقصود من «الصّادقین» هو مجموع الأمّة، وإنّ الامّة من حیث المجموع، معصومة، فیکون معنی الآیة «یا أیها الذین آمنوا کونوا مع الذین آمنوا»!!

أقول:

إنْ کان المراد من الامّة، ما سوی أهل البیت علیهم السّلام، فإنّ الناس بدون أهل البیت لیست بأمّة رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله.

وإنْ کان مقصوده، کلّ أفراد الأُمّة بما فیهم أهل البیت علیهم السّلام، کان الحدیث الذی یروونه عن النبی من أنّه لا تجتمع امّتی علی خطأ باعتبار وجود المعصوم فیها، وهذا ما نقوله نحن أیضاً، فیعود الأمر مرة اخری إلی الأئمّة علیهم السّلام.

فالحق، هو أنّ هذا المورد من الموارد التی لم یجد الفخر الرازی منفذاً للتشکیک فیها، لکنه أراد التهرّب من الإقرار بالحقیقة.

هذا ما یرتبط بالامور التی نستخلصها من خلال التأمّل فی الآیة المبارکة، والحقائق العظیمة التی تنطوی علیها کلمة «الصادقون» التی نخاطب بها الإمام علیه السّلام فی عداد سائر أوصافهم العالیة.

ص:43

وعندما یأمرنا الإمام علیه السّلام بأن نقرأ الزیارة الجامعة فی المشاهد الشریفة للأئمّة علیهم السّلام ونخاطبهم بهذه الحقائق، فما ذلک إلا لانطوائها علی معانٍ جلیلة. فعلینا أن نلتفت إلی هذه المعانی حین قراءة الزیارة الشریفة، وأن نستشعرها ونُقِرُّ بها لهم.

تُری، من هم المقصودون بقوله تعالی «عباده الّذین اصطفی»؟

ونظیر هذا، ما ورد فی قوله تعالی :

«بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ »1

فمن هم العباد المکرمون ؟

ویقول عزّ من قائل فی آیة اخری:

«إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ * ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ »2

وعن سدیر: قال الإمام الباقر علیه السّلام فی قوله تعالی :

«إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ * ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ »3

نحن منهم ونحن بقیة تلک العترة.(1)

ولکنْ ظاهر بعض الأخبار وجود «آل محمد» بصراحةٍ فی لفظ الآیة فی القرآن الکریم.

فعن هشام بن سالم، قال:

سألت أبا عبد اللّه علیه السّلام عن قول اللّه «إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ ».

ص:45

فقال علیه السّلام: هو آل إبراهیم وآل محمد علی العالمین، فوضعوا اسماً مکان اسم.(1)

وفی روایة اخری، یقول أیوب:

«سمعنی أبو عبد اللّه علیه السّلام وأنا أقرأ «إنّ اللّه اصطفی آدم ونوحاً وآل إبراهیم وآل عمران علی العالمین».

فقال لی: «وآل محمد» کانت فمحوها وترکوا آل إبراهیم وآل عمران»(2)

کما روی الحافظ أبو إسحاق الثعلبی - وهو من کبار مفسری أهل السنّة فی القرن الرابع - فی تفسیره المعروف، بسنده عن الأعمش عن أبی وائل، قال: قرأت فی مصحف عبد اللّه بن مسعود:

«إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ » وَ آلَ مُحَمَّد «عَلَی الْعالَمِینَ »3

وروی الشیخ الطوسی رحمه اللّه فی الأمالی بسند عمّن قال أنّه سمع الإمام الصّادق علیه السّلام یقرأ:

«إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ » و آل محمد «عَلَی الْعالَمِینَ »

قال: هکذا نزلت.(3)

ویقول الشیخ الطبرسی رحمة اللّه علیه فی «مجمع البیان»:

ص:46

وفی قراءة أهل البیت علیهم السّلام: «وآل محمد علی العالمین»(1)

و إنَّ أحد توجیهات مثل هذه الروایات، هو الحمل علی اختلاف القراءات، کما یمکن حملها علی شأن النزول، کغیرها ممّا ورد فیه وجود «آل محمد» أو «أهل البیت» أو اسم أمیرالمؤمنین، وهی - کما عرفت - مرویّة من طرق العامّة أیضاً.

وإنما یجب حملها علی بعض المحامل قول علمائنا قدیماً وحدیثاً بعدم وقوع التحریف فی ألفاظ القرآن زیادةً ونقیصةً ، کما بحثنا عن ذلک فی موضعه.(2) فلابدّ من حمل تلک الأخبار ونحوها بما لاینافی صیانة القرآن عن الزیادة والنقصان.

والملفت للنظر هنا هو أنّ الأحادیث الشریفة الواردة عن النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله، تؤکد علی ضرورة ذکر «آل محمد» فی الصَّلاة علی النبی، وتنهی عن الصَّلاة علیه بدون قرن آله معه، ومن جملة الأحادیث الثابتة عند الفریقین: قوله صلّی اللّه علیه وآله وسلّم:

«لا تصلّوا علیّ الصَّلاة البتراء».(3)

هذا، وذهب بعض المخالفین لأهل البیت علیهم السّلام إلی أنّ المراد من «آل محمد» هو امّة محمد، ولکنّهم مع ذلک یمتنعون عن ذکر «آل محمد» عند صلواتهم علی النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله.

ص:47

«قال أبو عمرو الزبیری، سألت أبا عبد اللّه علیه السّلام: ما الحجّة فی کتاب اللّه إنّ آل محمد هم أهل بیته ؟

قال:» قول اللّه تبارک وتعالی: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ «و آل محمد» - هکذا نزلت - عَلَی الْعالَمِینَ * ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ».

ولایکون الذریّة من القوم إلا نسلهم من أصلابهم.

وقال: «اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُکْراً وَ قَلِیلٌ مِنْ عِبادِیَ الشَّکُورُ»1 وآل عمران وآل محمد».(1)

ومن الآیات فی هذا الباب: قوله تعالی:

«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ »3

وقد وردت فی هذه الآیة روایات کثیرة، فقد نقل الصفّار فی بصائر الدرجات عن الإمام الباقر إنّه علیه السّلام قال:

السابق بالخیرات: الإمام، والمقتصد: العارف للإمام، والظالم لنفسه: الذی لا یعرف الإمام.(2)

وورد فی غیر واحدٍ من الأخبار التأکید علی أنّ المراد من المصطفین فی الآیة هم الأئمة الإثناعشر من أهل البیت، وأنها لا علاقة لها بالزیدیّة، فعن أبی عبداللّه الصّادق علیه السّلام أنه قال:

ص:48

لیس حیث تذهب، لیس یدخل فی هذا من أشار بسیفه ودعا الناس إلی خلاف.

فقلت: فأی شئ ظالم لنفسه ؟

قال: الجالس فی بیته لا یعرف حقّ الإمام، والمقتصد: العارف بحقِّ الإمام، والسابق بالخیرات: الإمام.(1)

وفی روایة عن الإمام الکاظم علیه السّلام، قال:

«فنحن الذین اصطفانا اللّه عزّوجلّ وأورثنا هذا الذی فیه تبیانٌ لکلّ شی».(2)

وفی روایة اخری، سُئل الإمام الرّضا علیه السّلام عن هذه الآیة، فقال:

وُلدُ فاطمة (علیها السلام)، والسابق بالخیرات: الإمام، والمقتصد: العارف بالإمام، والظالم لنفسه: الذی لم یعرف الإمام.(3)

وفی الإحتجاج للطبرسی، عن أبی بصیر قال: سألت أبا عبد اللّه علیه السّلام عن هذه الآیة:

«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا»

قال علیه السّلام: أی شئ تقول ؟

قلت: إنّی أقول أنها خاصّة لولد فاطمة علیها السلام.

فقال علیه السّلام: أمّا من سلّ سیفَه ودَعَا الناس إلی نفسه من ولد فاطمة علیها السلام، وغیرهم، فلیس بداخل فی الآیة.

قلت: من یدخل فیها؟

ص:49

قال علیه السّلام: الظالم لنفسه الذی لا یدعو الناس إلی ضلال ولا هدی، والمقتصد منّا أهل البیت هو العارف حقّ الإمام، والسابق بالخیرات هو الإمام.(1)

وفی مناقب ابن شهر آشوب، قال: ورد عن الإمام الصّادق علیه السلام، إنّه قال:

«نزلت فی حقنا وحق ذریّاتنا خاصّة»(2)

وفی خبر آخر إنه علیه السّلام قال:

«هی لنا خاصّة وإیّانا عنی»(3)

وفی روایة أخری عن الإمام الباقر علیه السّلام، قال:

«هم آل محمد علیهم السّلام»(4)

فإلی هذه الآیة الکریمة أیضاً تشیر کلمة «المصطفون» فی الزیارة الجامعة.

فعرفنا إذن، أنّ هذا الکلام الوارد فی الزیارة یعود إلی القرآن الکریم، وأدلّتنا وبراهیننا فی خصوص الأئمّة علیهم السّلام تامّة.

ولا شک فی أنّ الأنبیاء، هم أیضاً کذلک، فهم واجدون لمقام العصمة والطهارة.

ویستمرّ الفخر الرازی فی نقل کلام الحلیمی، بأنّ أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب قال:

«علّمنی رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم ألف باب من العلم واستنبطتُ من کلِّ باب ألفَ باب».(1)

أجل، إنّ الأئمّة الأطهار موجودات خاصّة واستثنائیّة فی عالم الخلقة.

ومن جهة أخری، فإنّ دلالة کلمة «الإصطفاء» علی الأفضلیّة واضحة. فقد نقل الطبری فی تفسیره: «عن الحسن فی قوله تعالی :

«إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ »

قال: فضّلهم اللّه علی العالمین بالنبوّة علی الناس کلِّهم، کانوا هم الأنبیاء، الأتقیاء، المطیعون لربّهم»(2)

ومن جهة ثالثة، فإنّ هذه الآیة المبارکة «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ » تدلّ علی أعلمیّة أهل البیت علیهم السّلام. لأنه کان المقصود من «الکتاب» هو القرآن المجید، فإنّ القرآن هو أشرف الکتب السماویّة، فما کان موجوداً فی الکتب السّماویّة السّابقة، فهو موجود فیه، ومن ورثه کان أفضل وأعلم من أصحاب

ص:52

الکتب السماویّة السابقة. وإن کان المقصود من «الکتاب» أمراً آخر یتضمن القرآن الکریم، کانت الدلالة علی أفضلیّة وارثه وأعلمیّته، أوضح.

والحاصل، إن الأئمّة علیهم السّلام، أفضل وأعلم من کلّ الأنبیاء سوی رسول اللّه محمد صلّی اللّه علیه وآله وسلّم.

وعلی الجملة، فإنّ الآیة المبارکة «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ » تدلّ علی أعلمیّة أهل البیت علیهم السّلام، مضافاً إلی عصمتهم وأفضلیتهم علی سائر الناس.

وکذلک لاحظوا ما ورد فی ذیل هذه الآیة، حیث یقول الإمام علیه السّلام لمفضل بن عمر:

«ویحک یا مفضل ! ألستم تعلمون أنّ «من فی السماوات» هم الملائکة و«من فی الأرض» هم الجان والبشر وکلّ ذی حرکة، فمن الذین فیهم ومن عنده الذین قد خرجوا من جملة الملائکة ؟

قال المفضل: من تقول یا مولای !

قال: یا مفضل ! نحن الذین کنّا عنده، ولا کون قبلنا ولا حدوث سماء ولا أرض ولا ملک ولا نبی ولا رسول...»(1)

فلو أننا قلنا بأن الأئمّة علیهم السّلام عباد اللّه، ولکن عبادٌ أوصلهم اللّه تعالی ببرکة عبودیتهم الحقّة، إلی مقاماتٍ ومنازل عالیة لم یصل إلیها أحد، فهل یعدّ ذلک غلوّاً؟!

وعلیه، فإنّ : «المطیعون للّه» فی هذه الجملة من الزیارة یعنی: «العارفون باللّه، المؤمنون باللّه، المطیعون للّه» عزّوجلّ .

ولکن السؤال هو: أیّة معرفة هذه ؟ وأیّة عبودیّة هذه ؟

الأئمّة علیهم السّلام یقولون:

«ما عبدتک خوفاً من نارک ولا طمعاً فی جنّتک، بل وجدتک أهلاً للعبادة فعبدتک، فهل شأنهم فی المعرفة والطّاعة للّه».(1)

ومن هنا یتّضح لنا معنی قول أمیر المؤمنین علیه السّلام:

«لو کشف لی الغطاء ما ازددت یقیناً»(2)

فإذا کان علی علیه السّلام یقول ذلک، فهل یعقل أن تکون عنده ذرّة من شک أو جهل أو لحظة غفلة عن اللّه ؟

إنّ الأئمّة علیهم السّلام هم المصداق الأتمّ ل«العلماء» الذین ذکرهم اللّه سبحانه وتعالی بقوله:

«إِنَّما یَخْشَی اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ »3

بل إنّ الأئمّة علیهم السّلام هم من قال اللّه تعالی فی حقّهم:

«وَ هُمْ مِنْ خَشْیَتِهِ مُشْفِقُونَ »4

ص:55

إنَّ طاعة الإمام، هی طاعة الرسول صلّی اللّه علیه وآله وسلّم، فإذا ما کانت الطاعة مقرونة بالخشیة، کان الفوز نصیب المطیع.

فما هو المقصود من «الفوز»؟

للجواب عن هذا السؤال، نرجع إلی القرآن الکریم لنری کیف یفسّر «الفوز».

ففی آیةٍ فی ذکر نعیم الجنة یقول تعالی:

«وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَکْبَرُ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ »1

فأیّ مقام هذا؟

تفید الآیة أن النعم الإلهیّة الاخرویّة لا تقاس ب«رضوان من اللّه».

فی روایة سمعتها قدیماً من المرحوم والدی، أنّ أصحاب الإمام الحسین علیه السّلام یجتمعون حوله فی الآخرة ویجلسون بین یدیه ویستمعون إلیه، ولا یزالون ینظرون إلی وجهه المبارک، لایکترثون للحور العین والولدان المخلَّدین.

ثمّ وجدت الرّوایة فی کتاب کامل الزّیارات و هذا نصّها:

«... والخلق یعرضون وهم حدّاث الحسین علیه السّلام تحت العرش وفی ظلّ العرش لا یخافون سوء الحساب، یقال لهم: أُدخلوا الجنّة، فیأبون و یختارون مجلسه و حدیثه، و إنَّ الحور لترسل إلیه وإلیهم إنا قد اشتقناکم مع الولدان المخلّدین، فما یرفعون رؤوسهم لما یرون فی مجلسهم من السرور و الکرامة»(1)

ص:57

ورُوی عن الإمام الباقر علیه السّلام أنه قال فی خصوص هذه الآیة:

«نحن المحسودون»(1)

ولا شک أن المراد من «ملکاً عظیماً» هو الولایة التکوینیّة، والتی سنشرحها - إن شاء اللّه - فی محلّه بنحو من التفصیل.

عزّوجلّ وهو بحدّ الکفر. وعلیه، فإنّ قوله تعالی «وَ ما رَبُّکَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِیدِ» یعنی سلب النسبة بین اللّه تعالی والظلم.

فهو کما لو قیل: فلان لیس عطاراً، بل هو نجّارٌ مثلاً.

فتفسیر «القوّام بأمره» علی النسبة أولی من تفسیرها علی المبالغة والتفضیل بمعنی کثیر القیام بأمر اللّه تعالی .

وفی الحقیقة، فإن من شئون أهل البیت المعصومین علیهم السّلام القیام بأمر اللّه تعالی ، مثل العطار الذی من شأنه القیام بأمر العطور فی کلِّ أوقاته، إعداداً وتهیئة وعرضاً.

وهذا ما یبدو لی من خلال دراسة أحوال الأئمّة علیهم السّلام ومنازلهم، ولست أدری إن کان هناک من یقول بهذا الرأی، لأنّی لا أراجع سائر الشروح علی هذه الزیارة.

فالقوّامون بأمر اللّه، أی: الذین هم العماد لأمر اللّه، بهم یقوم ویستمرُّ علی الوجه الصحیح والوضع المعتدل، فالأئمة علیهم السّلام هم السّبب لبقاء أمر اللّه واستمراره ودوامه.

وأمّا «أمر اللّه» فإنَّ الأمر اسم جنسٍ مضاف، ومتی اضیف اسم الجنس أفاد العموم، کما تقرّر فی علوم العربیّة وأصول الفقه، فالأئمّة علیهم الصّلاة هم العماد والسناد لکلّ أمر اللّه، وإذا ما شرحنا «أمر اللّه» تعالی بهذا النّحو، سیتضح لنا جلیّاً تفسیر الآیة الشریفة التی جاء فیها:

«تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ»1

بعد ما تقرّر نزول الملائکة و الروح علی الإمام الحقّ فی کلّ زمانٍ ، فی لیلة القدر بکلّ التقدیرات الإلهیّة.

وبناءاً علی هذا المعنی، فإنّ تمام إرادة اللّه تعالی ، وکلّما یرتبط بحضرة الحق جلّ وعلا، بالنسبة إلی الخلائق، داخل فی «الأمر»، وإنّ قوام وجوده ومقوّمه هم الأئمّة علیهم السّلام.

ولا یخفی، إنّ ما نعلمه عن «أمر اللّه» عزّوجلّ ، هو بنحو الإجمال، وأنّه یشمل کلَّ شئ، ونظیر هذا الإجمال ما ذکرناه فی شرح فقرة «المستقرّین فی أمر اللّه». وأمّا بیان هذا المطلب بالتفصیل فعلمه عند الأئمّة علیهم السّلام أنفسهم.

وفی لیلة القدر، تتعالی مراتب علوم الأئمّة علیهم السّلام، فیطّلعون علی إرادة اللّه وتقدیراته لخلقه، وفی تلک اللیلة تتعین وظائف وتکالیف کلّ إمام لزمانه، وتُبَلَّغ الیه.

إذن، فکلُّ عمل یقوم به الأئمّة ویقومون علیه، هو من عند اللّه عزوجلّ ، وکلّ

ص:61

ما یفعلونه هو عین الصّلاح وحقّ المصلحة، فسکوتهم وقتالهم واستشهادهم وسجنهم وغیبتهم، وکلّ حالاتهم هی قیام بأمر اللّه تعالی .

وفی الحقیقة، إنّ إرادة اللّه عزّوجلّ ، تتجلّی وتتشخّص فی الخارج بحرکات وسکنات الإمام علیه السّلام.

ومن هنا نقرأ فی فقرة أخری من الزیارة: «العاملون بإرادته».

وکذلک نقرأ فی زیارة آل یس:

«ودلیل إرادته».

فالأئمّة علیهم السّلام هم الأدلّاء إلی إرادة اللّه وأمره، کما یکون الرجل المرشد إلی الطریق دلیلاً.

فإذا أردنا أن نعرف إرادة اللّه سبحانه وتعالی، لابدّ أن نری ما یقوم به الأئمّة علیهم السّلام، وما یأمرون به، وما یقولونه، فأقوالهم وسیرتهم علیهم السّلام هی دلیلنا إلی إرادة اللّه سبحانه وتعالی فی کلّ الموارد، فهل هذا من الغلو؟!

جاء فی الحدیث القدسی إنّ اللّه سبحانه وتعالی یقول:

«عبدی أطعنی تکون مثلی، أنا أقول للشئ کن فیکون، وأنت تقول للشئ کن فیکون»(1)

وهذا الحدیث الشریف أیضاً یبتدئ بکلمة «عبدی»، ونحن لانزال نؤکد علی إن البدایة لابدّ أن تکون من العبودیّة.

أجل، إنّ الإنسان یصل بإذن اللّه تعالی - عن طریق العبودیّة والطاعة للّه تعالی - إلی مقام تُطیعه فیه کلُّ الکائنات.

ص:62

وفی حدیث قدسی آخر یقول عزّوجلّ :

«ما زال العبد یتقرّب إلی بالنوافل حتّی أکون سمعه الذی یسمع به وبصره الذی یبصر به ویده التی یبطش بها...»(1)

والجدیر بالذکر أن الحافظ النووی - من کبار علماء السنّة الشافعیّة - قد نقل هذا الحدیث فی شرحه علی صحیح مسلم،(2) وفسرّه تفسیراً جمیلاً.

إذن، لابد أن یکون الشروع من العبودیّة للوصول إلی المحبّة، وإنّ المحبّة توصل للقرب، ولکنْ أیّ قرب ؟!!

فی هذا الحدیث لم یقل عزّوجلّ : «ما زال الرجل» ولم یقل «مازال المؤمن »، وإنما قال: «مازال العبد».

وهذا لمطلق العبد، فإذا ما قلنا ذلک فی حق الأئمّة علیهم السّلام، فهل یعدّ ذلک من الغلوّ؟! أم إنّ المستشکل فی قلبه مرض ؟

وبناءاً علی ما مرّ بیانه، فإنّ هذه الفقرة من الزیارة والفقرة السابقة علیها، لها دلالة واضحة علی الولایة المطلقة، کما إنَّ الولایة المطلقة لها دلالة علی العصمة، إذ مَن کان فی جمیع حالاته وشؤونه دلیلاً علی إرادة اللّه سبحانه وتعالی، یستحیل أن لا یکون معصوماً، لأن غیر المعصوم لا یمکنه بلوغ هذه المقامات والدرجات.

ومن جهة أخری، فإنّ هذه العبارة تدلّ علی علم الإمام علیه السّلام أیضاً، فما لم یکن الإمام علیه السّلام عالماً بإرادة اللّه سبحانه وتعالی، لم یکن دلیلاً علی إرادته عزّوجلّ .

ص:63

ومن هنا نقول: إنَّ کلّاً من أفعال وتروک و سکنات وحرکات الأئمّة علیهم السّلام، هی مظهر إرادة اللّه تعالی .

ولا عجب فی ذلک، فإنّه عندما یقبض عزرائیل روح أحد من الخلق، فإننا نقول: إنَّ إرادة اللّه تعالی تعلّقت بقبض روح هذا الإنسان، لماذا؟ لأنّ عزرائیل مأمور من قبل اللّه، ففعله فعل اللّه عزّوجلّ ، لذا نقول: کانت إرادة اللّه فی أن لایحیا هذا الشخص أکثر من هذا العمر، وإنّ أجله قد حان.

ففعل عزرائیل یبیّن لنا إرادة اللّه عزّوجلّ فهو الدلیل علیها.

ومن هنا نری أنّ اللّه یقول «قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ »1

ویقول أیضاً: «اَللّهُ یَتَوَفَّی الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِها»2

وهذا ینطبق علی فعل الأئمّة علیهم السّلام، فلماذا یکون هنا غلّواً ولا یکون کذلک هناک ؟!

أفهل من الغلوّ أن نقول: إنّ نصب العداء لأهل البیت علیهم السّلام هو نصب العداء للّه تعالی؟!

ولماذا لا یکون من الغلوّ ما جاء فی قوله تعالی :

«مَنْ کانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَ مَلائِکَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِیلَ وَ مِیکالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِلْکافِرِینَ »3

ویکون غلوّاً إذا ما قیل ذلک فی عداء أهل البیت علیهم السّلام ؟!

ص:64

«رأتک عین اللّه وضربتک ید اللّه»(1)

تُری، إذا أنکر شیعی هذا المقام لأهل البیت علیهم السّلام ألا یکون أقلّ شأناً من عمر؟!!

ویمکن أن تکون سببیة، بمعنی أنّ اللّه سبحانه وتعالی أعطاهم مقام الکرامة فکانوا بسببه من الفائزین، کما مرّ بنا سابقاً بیان بهذا الشأن، مع ذکر بعض الآیات القرآنیة.

ویبدو لنا أنّ التفسیر الأول للباء أوجه، واللّه العالم.

ص:67

ص:68

اصْطَفَاکُمْ بِعِلْمِهِ ، وارْتَضَاکُمْ لِغَیْبِهِ واخْتَارَکُمْ لِسِرِّهِ ، واجْتَبَاکُمْ بِقُدْرَتِهِ ، وأَعَزَّکُمْ بِهُدَاهُ ، وخَصَّکُمْ بِبُرْهَانِهِ ، وانْتَجَبَکُمْ لِنُورِهِ ، وأَیَّدَکُمْ بِرُوحِهِ ، ورَضِیَکُمْ خُلَفَاءَ فِی أَرْضِهِ ، وحُجَجاً عَلَی بَرِیَّتِهِ ، وأَنْصَاراً لِدِینِهِ ، وحَفَظَةً لِسِرِّهِ ، وخَزَنَةً لِعِلْمِهِ ، ومُسْتَوْدَعاً لِحِکْمَتِهِ ، وتَرَاجِمَةً لِوَحْیِهِ ، وأَرْکَاناً لِتَوْحِیدِهِ ، وشُهَدَاءَ عَلَی خَلْقِهِ ، وأَعْلَاماً لِعِبَادِهِ ، ومَنَاراً فِی بِلَادِهِ ، وأَدِلَّاءَ عَلَی صِرَاطِهِ .

عَصَمَکُمُ اللَّهُ مِنَ الزَّلَلِ ، وآمَنَکُمْ مِنَ الْفِتَنِ ، وطَهَّرَکُمْ مِنَ الدَّنَسِ ، وأَذْهَبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ وطَهَّرَکُمْ تَطْهِیراً

ص:69

ص:70

والأئمّة علیهم السّلام، وصلوا إلی مرتبة جعلتهم یمتازون عن الآخرین، أی إنّهم حصلوا علی خصائص لم یحصل علیها الآخرون.

وعلیه، فإنّ الباری عزّوجلّ ، وبمقتضی علمه بأحوالهم، صفاتهم وعبادتهم علیهم السّلام، اصطفاهم، ومنحهم مثل المقام الذی لم یصل إلیه أحد غیرهم.

وهنا ینبغی التنویه إلی أمرین:

الأول: إنّ الأئمّة علیهم السّلام، هم بشرٌ مخلوقون للّه کسائر أفراد البشر.

الثانی: إنّ کلِّ فرد من أفراد البشر یمکنه - باختیاره - الإهتداء إلی الطریق الصحیح للقرب الإلهی، وطیّ هذا الطریق الموصل إلی رضاه.

ومن هنا، فإنّ من الضروری بیان مطالب ثلاث:

المطلب الأول:

فی بیان بعض الشروط:

إنَّ أول شرط للاهتداء إلی الطریق الصحیح، هو المعرفة بالطریق، وعدم السیر فی الطریق الخطأ أو السیر بغیر طریق.

الشرط الثانی: العبادة والطاعة الصّادقة الخالصة، والثبات فی هذا الطریق.

الشرط الثالث: أن تکون هذه الحرکة إختیاریّة.

المطلب الثانی:

فإذا کان الأمر کذلک، فلا محالة من تفاوت مراتب الأشخاص فی هذه الحرکة.

المطلب الثالث:

بمقتضی الأدلّة الکثیرة الواردة فی الکتاب والسنّة، ومن خلال التأمّل فی أحوال وسیرة الأئمّة الهداة علیهم السّلام، یتضح لنا جلیّاً أنّ هؤلاء الکرام قد وصلوا إلی مرتبة عند اللّه تفوق المراتب جمیعاً.

ص:73

ولا یخفی، إنَّ هذا البحث یمکن أن یکون مستقلّاً عن بحث العصمة، مع أنّ الأئمّة علیهم السّلام معصومون باختیار منهم.

یقول تعالی فی محکم کتابه:

«إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ * ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ »1

فاصطفاء واختیار هؤلاء، إنما هو من ناحیة اللّه سبحانه وتعالی، ومن قبله، ولذا نسب الفعل إلی الذات الإلهیّة المتعالیة.

ولکن، نجد أنه عزّوجلّ یقول فی ذیل الآیة: «وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ».

أی: إنّ علم اللّه تعالی دخیل فی الإصطفاء والإنتخاب.

وفی آیة أخری یقول عزّوجلّ :

«اَللّهُ یَصْطَفِی مِنَ الْمَلائِکَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ سَمِیعٌ بَصِیرٌ* یَعْلَمُ ما بَیْنَ أَیْدِیهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَی اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ»2

وعلیه، فصحیحٌ أن الإصطفاء یکون من قبل اللّه تعالی ، وأنّه فعله عزّوجلّ ، ومنسوب الیه، ولکنّ هذا الإصطفاء إنما کان لعلمه عزّوجلّ بأحوالهم، وببرکة عبودیّتهم الحقّة للّه تعالی ، وهذا هو ما عنیناه بالإهتداء إلی الطریق وتشخیصه، ومن ثمّ طیّه والثبات علیه.

والشواهد علی ذلک فی الآیات القرآنیّة، والروایات الشریفة، کثیرة وقد ذکرنا بعضها فی المباحث السّابقة.

ص:74

ونقرأ فی آیة أخری، خطاب الباری عزّوجلّ لرسوله الأکرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم حیث یقول:

«وَ مِنَ اللَّیْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَکَ عَسی أَنْ یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقاماً مَحْمُوداً»1

فإنه ظاهر فی أنّ التهجّد مقدّمة للمقام المحمود.

وکذلک تأمّلوا فی الآیة الشریفة:

«وَ اذْکُرْ عِبادَنا إِبْراهِیمَ وَ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ أُولِی الْأَیْدِی وَ الْأَبْصارِ* إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِکْرَی الدّارِ* وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَیْنَ الْأَخْیارِ»2

ففی هذه الآیة یذکر أوّلاً عبودیّة الأنبیاء الکرام للّه تعالی، ثم یصل إلی :

«أخلصناهم» وهذا مطلب مهم جدّاً.

وفی آیة أخری یقول عزّوجلّ :

«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا»3

فإنّ فیها، أنّ الإصطفاء کان من بین العباد، وکما ذکرنا سابقاً، فإن مراتب العباد مختلفة، ولکنّ من بین العباد من خطی خطوات کبیرة وراسخة فی هذا الطریق، وتقدّم علی الآخرین حتّی وصل إلی مقام الإصطفاء من بین العباد، فاصطفاهم ثمّ أورثهم الکتاب، وهم أهل بیت النبی الأکرم علیهم السّلام.

کان هذا خلاصة شرح هذه الجملة بناءاً علی نسخة «إصطفاکم بعلمه».

ص:75

لمّا نزلت هذه الآیة «وَ کُلَّ شَیْ ءٍ أَحْصَیْناهُ فِی إِمامٍ مُبِینٍ » علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم، قام أبوبکر وعمر من مجلسهما فقالا: یا رسول اللّه ! هو التوراة ؟ قال: لا. قالا: فهو الإنجیل ؟ قال: لا. قالا: فهو القرآن ؟ قال: لا. قال: فأقبل أمیر المؤمنین علی علیه السّلام، فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله: هو هذا، إنَّه الإمام الذی أحصی اللّه تبارک وتعالی فیه علم کلّ شئ؛(1)

ومن جملة تلک الروایات، ما ورد فی ذیل الآیة المبارکة:

«قُلْ کَفی بِاللّهِ شَهِیداً بَیْنِی وَ بَیْنَکُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتابِ »2

وقد أشرنا إلی بعضها فی شرح عبارة: «وخزّان العلم».

اَلْإِیمانُ وَ لکِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِی بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّکَ لَتَهْدِی إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ »1

وکذلک قوله تعالی :

«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا...»2

ثمّ ورد عن الأئمّة علیهم السّلام قولهم:

علم الکتاب - واللّه - کلّه عندنا.(1)

هذا، وقد أخذ الأئمّة علمهم من رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم، کما ورد عنه أنه قال:

«معاشر الناس، ما من علم إلا وقد أحصاه اللّه فیّ ، وکلّ علم علمتُ فقد أحصَیته فی إمام المتقین، وما من علم إلا علّمته علیّاً وهو الإمام المبین»(2)

و قال أمیر المؤمنین علیه السّلام:

«علّمنی رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله ألف باب من العلم یُفتح لی من کلّ باب ألفُ باب»(3)

والآن، اسمعوا ما یقوله الإمام الرّضا علیه السّلام حول الإمام والإمامة:

«الإمام... مخصوص بالفضل کلِّه من غیر طلب منه ولا اکتساب، بل

ص:78

اختصاص من المفضل الوهّاب... إنّ العبد إذا اختاره اللّه عزّوجلّ لامور عباده، شرح صدره لذلک وأودع قلبه ینابیع الحکمة وألهمه العلم إلهاماً،

فلم یعی بجواب ولا یحیر فیه عن الصواب... یخصّه اللّه بذلک لیکون حجّته علی عباده وشاهده علی خلقه...»(1)

إنّ النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله، ینفی علمه بذلک، لأن ذلک من الغیب، والعالم بالغیب هو اللّه سبحانه وتعالی.

فعبارة «عالم الغیب» خبرٌ لمبتدأ محذوف تقدیره «هو» أی: هو عالم الغیب.

وقد ورد هذا المعنی کذلک فی قوله تعالی :

«قُلْ لا یَعْلَمُ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَیْبَ إِلاَّ اللّهُ ...»1

إذن، فاللّه سبحانه وتعالی هو «عالم الغیب» بالذات، ولا یُطلع أحداً علی غیبه «إلاّ من ارتضی من رسول».

ولابدّ من التأمل والتدقیق فی هذه الألفاظ ودلالاتها، فإنّ کلمة «إن» فی قوله «إن أدری» نافیة، و«فلا یظهر» أی لا یُطلِعُ أحداً.

إذن، فالإنسان لابدّ أن یکون بحالة من حیث الصّفات والأحوال والسّلوک، حتّی یستحق الرّضا من اللّه تعالی .

وهذه النقطة یمکن أن تکون نقطة الإفتراق بین الإرتضاء، الإنتخاب، الإجتباء والإصطفاء.

ثمّ إنَّ من یستحقُّ مقاماً ومنزلةً مّا، فإنّه ینتظر و یترقّب وصولها إلیه. وهذه الخصوصیّة لیست موجودة فی کلمة الإصطفاء أو الإنتخاب.

ومن جهة أخری، فإنه بالتأمل فی الآیة، یظهر اشتمالها علی الإستثناء من عمومین:

الأول: «علی غیبه» فی قوله تعالی : «فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ » وهذه النکرة فی سیاق النفی تفید العموم، أی لا یظهر علی کلّ غیبه، فإن لم یثبت هذا العموم، فلا شک فی تمامیة الإطلاق.

الثانی: العموم الموجود فی «أحداً»، فی قوله: «فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً» ، یعنی لا یظهر ولا یطلع أی أحدٍ علی غیبه.

إذن، لابدّ من مراجعة الروایات، لنری ماهو الدلیل علی شمولیّة الآیة للأئمّة علیهم السّلام، لیصح تطابق هذه الجملة من الزیارة الشریفة مع الآیة المبارکة.

فإن کانت «مِن» بیانیة، وکانت کلمة «رسول» بمعنی النبی المرسل، لم تتم المصداقیّة والتطابق، ولا ینسجم معنی الفقرة مع الآیة المبارکة.

ولکن، یکفی الإستشهاد فی هذا المقام بروایةٍ واحدة وهی:

عن الإمام الرّضا علیه السّلام، قال:

أو لیس اللّه یقول «عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً* إِلاّ مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ »

فرسول اللّه عند اللّه مرتضی، ونحن ورثة ذلک الرسول الذی أطلعه اللّه علی ما شاء من غیبه، فَعَلِمنا ما کان وما یکون إلی یوم القیامة.(1)

فالسرّ خلاف الإعلان، یقال: أسررتُ الشی إسراراً، خلاف أعلنت وأسررت الشئ: أخفیته. وأسررته أعلنته.(1)

ویقول ابن منظور فی «لسان العرب»:

وسرَّ الشئ: کتمه وأظهره، وهو من الأضداد، سَررته: کتَمتَه.(2)

وأیضاً، فقد أخذ لفظ «الُسرَّة» فی لغة العرب من السرّ بمعنی الخالص، قالوا:

لأنَّ السرّة من الإنسان: خالص جسمه ومرجعه.(1)

هذا، وقد ذهب بعض اللّغویین إلی أنّ سبب التسمیة بالسرّة إنّما هو وقوعها فی وسط جسم الإنسان.

وفی الروایة:

«الولد سرُّ أبیه»(2)

ذلک، لأنّ الولد خالص صفات الأب، فهی تظهر فی الولد بنحو الإجمال والکلّیّة وتتجلّی فیه. وبعبارة أخری، فإنّ الولد معرِّف للأب فی أخلاقه وملامحه.

ویقال أیضاً: «فلان سرّ قومه».(3) أی إنّ جمیع صفات القوم قد جمعت عند هذا الشخص وتجلّت فیه.

ومن المعانی للسّر: قولهم: «سرّ الشئ: مستقرّ الشئ»

ومنه سمِّی السریر الذی ینام علیه الإنسان، لأنّ الإنسان یستقرّ علیه.

ویقال أیضاً: «سریر الرأس: مستقرّه»

قال فی معجم مقاییس اللغة:

السرّ: السین والراء یجمع فروعه: إخفاء الشئ، وما کان من خالصه، ومستقرِّه.(4)

إذن، فلهذه المادّة ثلاثة معانی وإلیها تعود کلّ المشتقّات بناءً علی کلام ابن فارس.

ص:84

ولا یبعد أن یکون المعنی الثالث - وهو المستقر - هو المعنی الجامع بین الجمیع. فتأمّل.

ونحن نشرح الجملة المذکورة من الزیارة علی ضوء المعانی الثلاثة:

الرسالة ومختلف الملائکة وموضع سرّ اللّه، ونحن ودیعة اللّه فی عباده، ونحن حرم اللّه الأکبر، ونحن عهد اللّه...»(1)

وفی روایة أخری، بسند آخر فی کتاب البصائر وکتاب الکافی، عن الإمام الصّادق علیه السّلام قال:

«یا خیثمة، نحن شجرة النبوّة وبیت الرحمة ومفاتیح الحکمة ومعدن العلم وموضع الرسالة ومختلف الملائکة وموضع سرّ اللّه، ونحن ودیعة اللّه فی عباده ونحن حرم اللّه الأکبر، ونحن ذمّة اللّه».(2)

وفی روایة أخری فی الکافی عن أبی بصیر عن الإمام الصّادق علیه السّلام أنه قال له:

«یا أبا محمد، إنَّ عندنا - واللّه - سرّاً من سرّ اللّه وعلماً من علم اللّه».

و إنْ کانت «مِن» فی هذه الروایة تبعیضیّة، فهذا یعنی أنّ بعض الأمور مخفیّة حتّی عن أهل البیت علیهم السّلام ولم یطلعهم اللّه عزّوجلّ علیها، ولأنها لم تصلهم عبّر عنها بالسرّ.

ثم یقول علیه السّلام:

«ما یحتمله مَلک مقرّبٌ ولا نبی مرسل ولا مؤمن امتحن اللّه قلبه للإیمان، واللّه ما کلَّف اللّه ذلک أحداً غیرنا، ولا استعبد بذلک أحداً غیرنا، وإنّ عندنا سرّاً من سرّ اللّه وعلماً من علم اللّه، أمرنا اللّه بتبلیغه...»(3)

ومنه یظهر إنَّ بعض الامور وإنْ عبَّر عنها بالسرّ، إلّا إنَّ الأئمّة علیهم السّلام

ص:86

کانوا مأمورین بتبلیغها إلی الناس، وإنَّ ذلک من مختصاتهم التی یستعبدهم بها اللّه سبحانه وتعالی.

وفی روایة أخری فی هذا المجال، ذکرها الصّدوق علیه الرحمة فی کتاب الأمالی، ورواها أیضاً صاحب کتاب روضة الواعظین، إنّ أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السّلام قال فی خطبة له:

«أنا حجّة اللّه، وأنا خلیفة اللّه، وأنا صراط اللّه، وأنا باب اللّه، وأنا خازن علم اللّه، وأنا المؤتمن علی سرّ اللّه، وأنا إمام البریّة بَعدَ خَیر الخلیقة محمدٍ نبی الرحمة صلّی اللّه علیه وآله».(1)

وفی کمال الدین للشیخ الصّدوق رحمه اللّه، بسنده عن ابن عبّاس، إنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله سلم قال:

إنَّ علی بن أبی طالب إمام أمَّتی وخلیفتی علیها من بعدی.

ثم یوصلُ النبی صلّی اللّه علیه وآله وسلّم هذا الأمر بالإمام المهدی علیه السّلام وغیبته، قال ابن عباس: فقام جابر بن عبداللّه الانصاری فقال:

یا رسول اللّه، وللقائمِ مِن وُلدِک غَیبَة ؟

فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم:

إی وربّی، «وَ لِیُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ یَمْحَقَ الْکافِرِینَ » . یا جابر، إنَّ هذا الأمر أمرٌ مِن أمر اللّه وسرٌّ من سرّ اللّه، مطویّ عن عباد اللّه، فإیّاک والشکّ فیه، فإنَّ الشک فی أمر اللّه عزّوجلّ کفرٌ.(2)

ص:87

ومن المحتمل رجوع «إنَّ هذا الأمر» إلی أصل الإمامة، کما ویحتمل رجوعه إلی غیبة الإمام صاحب العصر علیه السّلام.

فإن کان المراد، أصلُ الإمامة، فقد عُبِّر عنها بأنّها «سرٌّ من سرِّ اللّه».

وإلی هنا تمّ بیان المعنی الأوّل من المعانی الثلاث لکلمة «السّر» فی توضیح جملة «اختارکم لسرّه».

وإلیه الإشارة بقوله: «فَمَنْ تَبِعَنِی فَإِنَّهُ مِنِّی».1 خلقهم اللّه من نور عظمته وولّاهُم أمر مملکته، فهم سرّ اللّه المخزون وأولیاؤه المقرّبون، وأمره بین الکاف والنون، إلی اللّه یدعون وعنه یقولون وبأمره یعملون...؛(1)

فالأئمّة علیهم السّلام، سرّ اللّه بالمعنی الثانی وهو شأن جلیل و مقام عظیم، و هم مع ذلک عبادُ اللّه، ومأمورون من قبله عزّوجلّ ، ویعملون بأمره، ویدعون إلیه، ولا یسبقونه بالقول، بل یقولون ما یقول.

وقد ورد فی الأحادیث القدسیة نظیر ذلک، کالحدیث:

«أنا عند المنکسرة قلوبهم».(1)

أوَ لیس صحیحاً ما ورد من أنّ :

«قلبَ المؤمِنِ عرشُ الرحمن»؟(2)

بل، إنَّ اللّه تعالی یمنح هذه المنزلة للمقرّبین عنده، وقد جاء فی القرآن الکریم:

«وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ »3

وبناءاً علی ذلک، فإنّ الأئمّة علیهم السّلام مستقرّون عند اللّه تعالی ، وأنّ صفات الباری المتعال مستقرة فیهم، فهم مظاهر علم اللّه وقدرته وارادته، فمن أخذ منهم فقد أخذ من اللّه، ومظاهر إرادة اللّه، فمن أطاعهم فقد أطاع اللّه...

هذا، وقد روی المجلسی رحمه اللّه فی بحاره عن کتاب مشارق أنوار الیقین، للشیخ رجب البرسی رحمه اللّه، جاء فیها:

«فَهُم سرُّ اللّه المخزون».(3)

وللعلماء آراء متفاوتة فی الشیخ المذکور وکتابه:

فالشیخ الأمینی رحمه اللّه فصَّل الحدیث فی کتابه «الغدیر» عن الحافظ

ص:90

الشیخ رضی الدین رجب البرسی رحمه اللّه، وأجلَّهُ وأکثر من الدفاع عنه، ونزَّهه عمّا رُمی به من الغلو.(1)

ولکنَّ المعتمد کلام الشیخ المجلسی رضوان اللّه علیه، لأنّنا نقلنا المطلب عن بحار الأنوار، یقول فی مقدمة کتاب بحار الأنوار عند عدّه منابع الکتاب ومصادره:

وکتاب مشارق الأنوار وکتاب الألفین للحافظ رجب البرسی، ولا أعتمد علی ما یتفرّد بنقله، لاشتمال کتابیه علی ما یوهم الخبط والخلط والإرتفاع.

ثمّ یقول بعد ذلک:

«وإنّما أخرجنا منهما ما یوافق الأخبار المأخوذةَ من الاُصول المعتبرة».(2)

ومن هنا، نعرف أنَّ ما رواه من کلام أمیر المؤمنین علیه السّلام مخاطباً به طارقاً، هو موافق للأخبار المأخوذة من الاصول المعتبرة.

ص:91

إذن، یمکن تفسیر عبارة «إختارکم لسرّه» علی المعانی الثلاث لکلمة السرّ، حتّی لو کانت شروح الزیارة الجامعة الموجودة قد اقتصرت فی شرحها علی المعنی الأول من المعانی الثلاث، ولکنّنا نعتقد بصحة تفسیرها طبق المعنی الثانی والثالث أیضاً، ولا نری فی ذلک إشکالاً.

«جبیت الماء فی الحوض جمعته، والحوض الجامع له جابیة، وجمعها:

جواب، قال اللّه تعالی : «وَ جِفانٍ کَالْجَوابِ »1 ومنه استعیر جبیت الخراج جبایة، ومنه قوله تعالی : «یُجْبی إِلَیْهِ ثَمَراتُ کُلِّ شَیْ ءٍ ».2 والإجتباء: الجمع علی طریق الإصطفاء. قال عزّوجلّ : «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ».3»4

ومنه یظهر أنَّ الإجتباء غیر الإصطفاء، وإنّ هذین اللفظین لیسا مترادفین، فالإصطفاء أعم والإجتباء أخصّ منه، لکونه الجمع علی طریق الإصطفاء، فکلّ إصطفاء إجتباء، ولیس کلّ إجتباء إصطفاء، بل هو أخصّ ، وخصوصیته هی جمعُهُ علی طریقه.

فلو جمعتم عدة أشیاء مصطفاةٍ ، بعضها إلی البعض، کان ذلک إجتباءاً لتلک الأشیاء.

وقد یعزل الإنسان عدة أشیاء من مجموعة واحدة، لکنه لا یجعلها إلی بعضها البعض، بل یفرّقها تفریقاً، فهذا لا یسمی إجتباءاً وإنما هو إصطفاءٌ لاغیر.

فالإجتباء - إذن - هو الجمع علی طریق الإصطفاء.

وهذه التدقیقات مفیدة لفهم القرآن الکریم والأحادیث الشریفة، وکذلک لفهم عبارات الزیارة الجامعة الشریفة.

یقول تعالی فی کتابه:

«فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصّالِحِینَ »5

ص:93

ثم یقول الراغب الإصفهانی:

«وإجتباء اللّه العبدَ، تخصیصه إیّاه بفیضٍ إلهی یَتَحَصَّل لهُ منهُ - یعنی من الفیض - أنواع من النعم بلا سعی مِنَ العبد، وذلک للأنبیاء وبعضِ من یُقاربِهم مِنَ الصدّیقین والشهداء»(1)

إذن، وکما فی تعبیر الراغب الإصفهانی، فإنَّ هذه المنازل والمقامات الممنوحة للأنبیاء المقربین والمفاضة علیهم من اللّه عزّوجلّ حاصلة للأئمّة الأطهار علیهم السّلام کذلک مع حفظ المراتب.

ویقول تعالی فی عدّة موارد من سورة مریم:

«وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ »

ثم یقول بعد ذلک:

«أُولئِکَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ مِنْ ذُرِّیَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّیَّةِ إِبْراهِیمَ وَ إِسْرائِیلَ وَ مِمَّنْ هَدَیْنا وَ اجْتَبَیْنا إِذا تُتْلی عَلَیْهِمْ آیاتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُکِیًّا»1

ویقول فی خصوص خلیله إبراهیم علیه السّلام:

«إِنَّ إِبْراهِیمَ کانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِیفاً وَ لَمْ یَکُ مِنَ الْمُشْرِکِینَ * شاکِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ * وَ آتَیْناهُ فِی الدُّنْیا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِی الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِینَ »2

حیث نلاحظ أیضاً فیها إقتران الهدایة بالإجتباء.

ویقول عزّوجلّ فی شأن یونس علیه السّلام:

«فَاصْبِرْ لِحُکْمِ رَبِّکَ وَ لا تَکُنْ کَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادی وَ هُوَ مَکْظُومٌ * لَوْ لا أَنْ تَدارَکَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصّالِحِینَ »3

ص:96

نعم، هذا فضل اللّه الذی أعطاه لأنبیائه والأئمّة علیهم السّلام وللمقرّبین من ساحة قدسه عزّوجلّ علی حسب مراتبهم.

وهذه حقیقة، أقرّت بها وأشارت إلیها کتب التفسیر واللغة، وقد سجَّلها أصحاب هذه الکتب بعبارات لطیفة جداً.

فقد جاء عنهم:

«الإجتباء من جَبَیتُ الشئ: إذا خلّصته لنفسک».(1)

فالإجتباء یعنی: عزل الشئ عن جملة أشیاء وجمعه من هنا وهناک والإختصاص به وعدم الإشتراک فیه مع الغیر.

وهذا هو نفس التعبیر الوارد فی القرآن الکریم:

«إِلاّ عِبادَ اللّهِ الْمُخْلَصِینَ »2

وهم الذین وصلوا، - ومن خلال طاعتهم وعبادتهم - إلی منزلة صاروا فیها خالصین للّه سبحانه وتعالی وحده.

ومن ثَمَّ یقول العلامة الطباطبائی فی تفسیر المیزان(2):

«فإجتباء اللّه سبحانه عبداً من عباده، هو أن یقصده برحمته ویخصّه بمزید کرامته، فیجمع شمله ویحفظُه من التفرّق فی السبُل المتفرقة الشیطانیّة المفرّقة للإنسان ویرکبهُ صراطه المستقیم وهو أن یتولّی أمره ویخصّه بنفسه».

ص:97

والحاصل، إنَّ اللّه تعالی إذا اجتبی عبداً من عباده، صارت کلُّ شؤون ذلک العبد، إلهیّة، فجمیع حرکاته، سکناته، سیرته، سلوکه، فعله، ترکه، نطقه وسکوته، ستکون بإرادة اللّه سبحانه وتعالی وموافقة لرضاه. وهذا هو نفس «إذا خلَّصَه لنفسه» الذی قال به علماء الفریقین.

ثم یقول صاحب المیزان:

فلا یکون لغیره فیه نصیبٌ .(1)

أی: ستکون کلّ أبعاد وجود هذا الشخص للّه تعالی وباختیاره عزّوجلّ ، ولا یبقی شئ فی هذا الوجود لغیر اللّه تعالی ، بل ستکون کلّ حرکاته وسکناته إلهیّةً ، وتکون أفعاله وتروکه ربّانیّة.

ویقول العلّامة الطباطبائی فی موضع آخر:

«إجتباء اللّه الإنسان، هو خلاصُه لنفسه وجمعه من التفرّق فی المذاهب المختلفة»(2)

ثم ینقل العلامة الطباطبائی کلام الراغب الإصفهانی فی تفسیر سورة الأنعام ویعلِّق علیه بقوله:

«والذی ذکره من معنی «الإجتباء»0 وإن کان کذلک علی ما یفیده موارد وقوعه فی کلامه تعالی ، لکنّه لازم المعنی الأصلی بحسب انطباقه علی صنعه فیهم».(3)

هذا، وینبغی التأمّل فی معنی کلمة «صنعه فیهم» وکیف أنَّ اللّه سبحانه وتعالی یتولّی صُنع الأنبیاء والأئمّة الأطهار علیهم السّلام ویهیؤهم ویعدُّهم لمنزلة شامخة ومقام رفیع.

ص:98

ثم یقول العلامة:

«والذی یُعطیه سیاق الآیات أنّ العنایة تعلّقت بمعنی الکلمة الأصلی وهو الجمع من مواضع وأمکنة مختلفة متشتتة، فیکون تمهیداً لما یذکر بعده من الهدایة إلی صراط مستقیم، کأنَّه یقول: وجمعناهم علی تفرّقهم حتّی إذا اجتمعوا وانضمَّ بعضهم إلی بعضٍ هدیناهم جمیعاً إلی صراطِ کذا وکذا»؛(1)

وخلاصة الکلام، إنَّ اللّه سبحانه وتعالی اصطنع الأئمّة علیهم السّلام لنفسه کما إصطنع أنبیائه ورسله والمقرّبین، واختصَّ بهم له وحده، بنحوٍ جعل معه هدایة خاصّة لهم بحسب مراتبهم، وهذا هو نفس مفاد الآیات التی ذکرناها سابقاً، والتی کان للأئمّة علیهم السّلام تفسیرهم وبیانهم لها.

«وروی بعض الإمامیة عن علی بن الحسین رضی اللّه تعالی عنهما أنّه قال:

نحن عُنینا بهؤلاء القوم. ولا یخفی أنَّ هذا خلاف الظاهر جدّاً. وحال روایات الإمامیّة لا یخفی علی أرباب التمییز».(1)

ثم یقول عزّوجلّ :

«وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ إِدْرِیسَ إِنَّهُ کانَ صِدِّیقاً نَبِیًّا*وَ رَفَعْناهُ مَکاناً عَلِیًّا»1

ثم یقول:

«أُولئِکَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ مِنْ ذُرِّیَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّیَّةِ إِبْراهِیمَ وَ إِسْرائِیلَ وَ مِمَّنْ هَدَیْنا وَ اجْتَبَیْنا إِذا تُتْلی عَلَیْهِمْ آیاتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُکِیًّا»2

وعبارة «أولئک الذین» متعلقة بقوله «واذکر».

کما إنَّ عبارة «وممَّن حملنا» و«ممن هدینا وإجتبینا» معطوفة علی «النبیین».

ومنه یُعلم أنَّ السیدة مریم علیها السلام کانت من جملة هؤلاء المجتبین، مع أنها لیست من الأنبیاء.

وعلیه، یتضح لنا، إنَّ مقام الإجتباء یشمل غیر الأنبیاء أیضاً، وإنَّ کلام الإمام السجّاد علیه السّلام فی تفسیر الآیة، خالٍ من أیّ إشکال بل هو فی غایة الصّحة، ولکنَّ الآلوسی غفل عن هذه النکتة فتصوّر أن کلام الإمام یستلزم القول بأنَّ الأئمّة علیهم السّلام هم من جملة الأنبیاء، فراح یستهزء ویسخر من روایات الإمامیّة ویتّهمها بالضعف.

مع أنَّ الراغب الإصفهانی نفسه قد أذعن بهذه الحقیقة حینما قال:

«وإجتباء اللّه العبد تخصیصه إیّاه بفیض إلهی یتحصل له منه أنواع النعم...

وذلک للأنبیاء وبعض من یقاربهم من الصدّیقین والشّهداء»(1)

ص:101

وبناءاً علی هذا، لا إشکال فی أنّ هذه العبارة من الزیارة الجامعة هی إشارة إلی المراتب والمقامات المذکورة فی القرآن الکریم للأنبیاء والأئمّة علیهم السّلام، علی ما بینهم من التفاوت کما لا یخفی.

وکذلک نقرأ فی آیة مبارکة أخری:

«بَلی قادِرِینَ عَلی أَنْ نُسَوِّیَ بَنانَهُ »1

فإرجاع الأجساد إلی الحیاة مع المحافظة علی أشکالها وحتی علی الخطوط الموجودة فی الأصابع، أمرٌ عظیم یحتاج إنجازه إلی قدرة عظیمة وهی القدرة الإلهیّة.

وفی آیة ثالثة یقول عزّوجلّ :

«أَ وَ لَیْسَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلی أَنْ یَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلی وَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِیمُ »2

2 - الإحتمال الثانی فی معنی الجملة هو: إنّ اللّه تعالی قد إختار الأئمّة علیهم السّلام بجهة أنهم مظهرُ قدرته. وعلیه تکون «الباء» بمعنی «اللّام»، إنْ کانت مستعملة فی لغة العرب.

ویؤیّده ورود الکلمة فی نسخة اخری للزیارة بلفظ «لقدرته» بدل «بقدرته».

وعلی أیّ حال، یمکن تفسیر العبارة هکذا: «اجتباکم لتکونوا مظاهر قدرته».

نعم، إنَّ اللّه سبحانه وتعالی قد فَعَل فعلاً عظیماً، وخلق أفراداً عظماء، لیکونوا دلیلاً علی قدرته، ومظهراً لها.

وکذلک، فإنَّ اللّه تعالی قد خلق الأئمّة علیهم السّلام، لتتوفر فیهم قدرة عظیمة للتصرّف فی الکون، وهو ما یعبّر عنه بالولایة التکوینیّة.

کما إنّهم کانوا یمتلکون القدرة الربّانیّة مضافاً إلی القدرة الجسمانیّة، وقد

ص:103

ظهر ذلک فی قضیّة قلع باب خیبر، فإنه لمّا سُئل أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السّلام عن ذلک قال:

«واللّه ما قَلَعتُ بابَ خَیبَرَ ورَمَیتُ بِهِ خَلف ظَهرِی أربعین ذراعاً بقوّة جسدیّة ولا حرکة غذائیَّة، لکنّی أُیِّدتُ بقوَة ملکوتیّة...».(1)

قال تعالی فی القرآن الکریم:

«فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِیعاً»1

وفی هذه الآیة الکریمة جاءت کلمة «العزَّة» بألف ولام الجنس، ومع ذلک، فقد أکدّها القرآن الکریم بکلمة «جمیعاً». ومن جهة أخری، فإنَّ اللّام فی «للّه» هی لام الملکیّة.

وبناءاً علی هذا، فإن أی إنسانٍ إذا امتلک شیئاً من العزّة الحقیقیّة، فإن ذلک إنّما یکون من اللّه تعالی ، فعزّة ما سوی اللّه أینما کانت فإنما هی من اللّه عزّوجلّ ولیست خصوصیّة ذاتیّة فی ذلک الفرد.

المال، فمثل هذه العزّة لیست حقیقیّة، بل العزّة الحقیقیة، هی العزّة الإلهیّة فقط، فإنها العزّة الدائمة الأبدیّة.

فإذا ما کانت العزّة المطلقة للّه تعالی وحده، وإنّ کلّ عزّة هی من عزّته عزّوجلّ ، اکتساباً أو تفضّلاً، نعرف حینئذٍ أن مثل هذه العزّة الحاصلة للإنسان إنّما هی ببرکة الإرتباط باللّه تعالی وطاعته.

فکلّما ارتبط الإنسان بمبدأ العزّة الحقیقیّة، وقوّی أواصره باللّه سبحانه، کلّما إزداد عزّاً حقیقیّاً، ولمّا کان ذلک المبدأ دائمیّاً وأبدیّاً، قهراً تکون عزّة الإنسان دائمیّة حقیقیّة کذلک.

فعمدة شواخص العزّة الحقیقیّة، هی دوامها وأبدیتها، لأنها مأخوذة ومستمدّة من مصدر دائمی وأبدی.

وبعبارة أخری، بإمکاننا نحن أیضاً أن نکون مصدراً لعزّة الآخرین. ومن هنا یقول الباری عزّوجلّ :

«فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِیعاً»

ویقول أیضاً:

«وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِینَ »1

فالمؤمن العزیز بعزّة اللّه تعالی ، لا یذلّ ولا یخاف، یقول تعالی :

«أَلا إِنَّ أَوْلِیاءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ »2

نعم، إنَّ عزّة النّبی و آله علیهم السّلام عزّة اللّه عزّوجلّ لهم، وهی بالحدّ الأعلی للعزّة الإلهیّة، ولا یتقدّمهم أحد فی قربهم الإلهی وکمالاتهم وسائر منازلهم علیهم السّلام.

وهذه العزّة کانت مقرونة بالتوکّل، یقول تعالی :

«وَ مَنْ یَتَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ »1

وهذه العزّة مقترنة بالنصر والغلبة فی کلّ الأحوال، فمهما حاول أعداء أهل البیت علیهم السّلام، النیل منهم والتقلیل من شأنهم، ما استطاعوا، فکان الأئمّة علیهم السّلام هم المنتصرون، وبهذا یصرّح القرآن الکریم بقوله تعالی :

«وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ »2

وهذه العزّة مقرونة بالقوّة، یقول تعالی :

«إِنَّ رَبَّکَ هُوَ الْقَوِیُّ الْعَزِیزُ»3

وهذه العزّة، مقرونة بالحکمة، وما أکثر ورود هذا المعنی فی القرآن الکریم فی وصف الذات الإلهیّة المتعالیة:

«عَزِیزٌ حَکِیمٌ »4

وهذه العزّة مقرونة بالعلم، یقول تعالی :

«اَلْعَزِیزِ الْعَلِیمِ »5

والعجیب، أنَّ هذه العزّة مع کلّ تلک القدرة والعلم والحکمة والنصر الإلهی، مقرونة أیضاً بالرحمة. یقول تعالی :

ص:108

«وَ إِنَّ رَبَّکَ لَهُوَ الْعَزِیزُ الرَّحِیمُ »1

فمع إنّ اللّه تعالی غالبٌ فی کلّ الأحوال، لکنّه رحیم فی کلّ الأحوال وغفور أیضاً.

والأئمّة علیهم السّلام کانوا کذلک أیضاً، فمع قدرتهم علی الانتقام والنصر وألغلبة کانوا یعفون عمّن ظلمهم ویحسنون إلی من أساء إلیهم، لأنهم مظهر الرحمة الإلهیّة.

إنه یقول تعالی :

«وَ لَوْ شاءَ لَهَداکُمْ أَجْمَعِینَ »1

لکنْ لیست المشیئة الإلهیّة فی أن یهدی اللّه کلّ المخلوقات بدون محاسبات وتقدیرات، وبدون مقدّمات وامتحانات، فإنّ هذا مخالف للحکمة من الخلقة.

فمقتضی الحکمة إذن، أن تکون الهدایة علی أساس التقادیر والإستعدادات، وطبقاً لضوابط وشروط وقواعد وسنن ثابتة، وذلک، لأنّ هذه الهدایة بکلّ هذه العظمة والأهمیّة والسّعة، لا یمکن أن تکون جزافیّة وبلا محاسبات دقیقة.

وقوله عزّوجلّ :

«شاکِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ »؛1

وقوله فی شأن جمع من الأنبیاء:

«وَ اجْتَبَیْناهُمْ وَ هَدَیْناهُمْ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ »2

إنَّ أنبیاء اللّه علیهم السّلام قد تحمّلوا من أممهم التعذیب والتکذیب وتعرّضوا لامتحانات شاقَّة وابتلاءات کبیرة فی هذا العالم، وبعد أن نجحوا فیها، إجتباهم اللّه تعالی .

والأئمّة علیهم السّلام أیضاً کانوا ممتحنین ومبتلین بأنواع الابتلاءات والإمتحانات، ثم بعد ذلک حصلوا علی الهدایة الخاصّة، ثم صاروا هداة للعالمین.

یقول تعالی فی کتابه للرّسول الأعظم:

«إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ»3

وقد جاء فی الأحادیث الصحیحة عن الفریقین، إنّ المراد من «لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ» هو أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السّلام، فهو الهادی لهذه الامّة، ومن ألفاظ الحدیث أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم قال:

«أنا المنذر وعلی الهادی من بعدی؛ یا علی بک یهتدی المهتدون من بعدی».(1)

ص:111

ویقول عزّوجلّ فی آیة أخری فی شأن الأئمّة علیهم السّلام:

«وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا»1

یقول جابر الجعفی، قال الباقر علیه السّلام:

«نزلت هذه الآیة فی ولد فاطمة سلام اللّه علیها خاصّة»:

«وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ ...»2

أجل، لقد صبر الأئمّة علیهم السّلام صبراً جمیلاً وکانوا مظهر الصّبر ومصداقه الواسع العریض، ولمّا صبروا نصبهم اللّه أئمّة وهداة للعالمین، وهذه هی الهدایة الخاصّة التی حصلوا علیها بعد تلک الخصوصیّات، فکانوا مهدیین هداة.

فلو أننا ارتبطنا باللّه عزّوجلّ ، الذی هو مرکز العزّة ومصدرها ومنبعها وأصلها، فلیس فقط سنکون من الأعزّاء، بل سنکون واسطةً لإفاضة العزّة علی الآخرین أیضاً. کما ورد فی مجالسة العلماء وملازمتهم من قول أمیرالمؤمنین علیه الصلاة والسّلام:

«من جالس العلماء وُقِّر».(1)

فمجالسة العلماء تورث العزّة، لأنّهم یحملون شیئاً من علوم أهل البیت علیهم السّلام، ومن جالس العالم ولازمه، کان محترماً بین الناس عزیزاً.

وعلی الجملة، فإنّ اللّه عزّوجلّ قد اجتبی الأئمة الأطهار وأدّبهم ثم

ص:112

نصبهم للهدایة وأمر بمتابعتهم وطاعتهم، ونهی عن اتّباع غیرهم کما فی قوله تعالی:

«أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلاّ أَنْ یُهْدی فَما لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ »1

کأن اللّه عزّوجلّ یقول: ألیس عندکم عقول ؟ کیف تتبعون من هو محتاج إلی الهدایة، ولا یمیِّز الحق من الباطل ؟ تجعلونه إماماً لکم ومقتدیً ، وتترکون الإمام الهادی الّذی لا یضلُّ ولا یزلّ أبداً؟ أین عقولکم ؟

یقول: «وَ إِنِّی لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدی »

ثم قال صلّی اللّه علیه وآله وسلّم لعلی بن أبی طالب علیه السّلام:

إلی ولایتک»؛(1)

وعنه أیضاً أنه قال:

«(ثمّ اهتدی) إلی ولایتنا أهل البیت، فواللّه، لو أنَّ رجلاً عبد اللّه عمرَهُ ما بین الرکن والمقام ثمَّ مات ولم یجئ بولایتنا لأکبَّه اللّه فی النار علی وجهه»(2)

ثم إنّ اللّه قد وعد المهتدین إلی ولایة أمیرالمؤمنین بالتسدید والهدایة فقال:

«وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا»3

فعن الإمام موسی بن جعفر علیه السّلام فی ذیل هذه الآیة:

«هذه نزلت فی آل محمد وأشیاعهم»(3)

ومن جهة أخری، فإنّ اللّه عزّوجلّ قد إعتنی بالأئمّة علیهم السّلام عنایة خاصّة، فعطف قلوب المؤمنین إلیهم، وساق الأرواح نحوهم، وهذا بنفسه نحوُ عزّةٍ وإکرامٍ لهم علیهم السّلام.

یقول تعالی :

«إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ سَیَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا»5

ص:114

وتلخّص: إن اللّه عزّوجلّ انتجب أهل البیت علیهم السلام وهداهم هدایة خاصّةً وجعلهم أعزّة بین الناس ونصبهم هداةً لهم إلیه.

ویقول تعالی :

«وَ مَنْ یَهْدِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ »1

وکلّ هذه مراتب للهدایة، ولکن المهمّ أن یعرف الإنسان سبیل الرشد فیختاره فیسلکه علی منهاج النبی وآله الأطهار علیهم السّلام، الذین نالوا الهدایة الخاصّة، ویضع قدمه موضع أقدامهم ویتّبع آثارهم فینال العزّة والهدایة معاً، بل ویکون مصدراً للعزّة والهدایة للآخرین ونوراً یُستضاء به ببرکة طاعته لأهل البیت علیهم السّلام.

الأول: فی شأن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم، یقول تعالی :

«قَدْ جاءَکُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّکُمْ »1

الثانی: فی شأن النبی یوسف الصدیق علیه السّلام، حیث یقول تعالی :

«وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأی بُرْهانَ رَبِّهِ »2

الثالث: فی قصّة موسی علیه السّلام، یقول تعالی :

«فَذانِکَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّکَ إِلی فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ »3

هذا، والملاحظ هو إنَّ «البرهان» فی الآیات الثلاث قد نسب إلی اللّه تعالی وأضیف إلی «الربّ »، وهذا یعنی أنَّ إقامة تلک البراهین هی من مقتضیات مقام الربوبیّة.

وعلیه، فإنّ اللّه سبحانه وتعالی، هو الموصل للموجودات إلی مرحلة الکمال، فإنّ کلَّ موجود له نوعاً من الکمال یتناسب مع خلقته، لذا، فإنّ اللّه تعالی هو ربُّ الموجودات جمیعاً.

وبالالتفات إلی معنی «التخصیص» و«البرهان» وإن هذه الکلمة قد اضیفت إلی کلمة «الربّ »، یتضح لنا معنی عبارة «وَ خَصَّکم بِبَرهانِهِ ».

فالمعنی المحصَّل هو: أنَّ اللّه تعالی قد خصَّ أهل البیت علیهم السّلام بالحجَّة المحکمة التی من خلالها یربّی الموجودات القابلة للرشاد - خاصّة الإنسان - ویوصلها إلی الکمال، وجعلهم المتولّین لمصالح هذه الموجودات، وتلک الحجّة هی البرهان.

فالأئمّة علیهم السّلام هم وسیلة کمال البشریّة وسائر الموجودات ورشدهم وتعالیهم.

من المحتمل أن یکون القرآن المجید، وإنّ اللّه تعالی قد خصَّ الأئمّة علیهم السّلام بفهم کلامه الکریم، إذ یمکن التعبیر عن القرآن الکریم ب «البرهان» وأنّه من الجائز تفسیر کلمة «برهان» فی قوله تعالی : «قَدْ جاءَکُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّکُمْ »1 علی إنّه القرآن الکریم، فإنَّ القرآن حجّة صادقة مطابقة أبداً مع الواقع ولا تتخلف عنه، وإنّه حجّةُ وبرهانُ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله علی حقانیّة الإسلام ورسالته، کما إنّه برهان الأئمّة علیهم السّلام علی إمامتهم وولایتهم فی قبال المخالفین والمنکرین.

ومن الواضح إنَّ المعجزة إنما یؤتی بها فی مقام الدعوة للإیمان، والهدایة، ولغرض الإیصال إلی الکمال المطلوب، والردع عن الإنحراف، وللنجاة من الضلالة.

ومن هنا فإننا نقرأ فی قصّة النبی موسی علیه السّلام، بأنَّ اللّه تعالی قال له:

«اُسْلُکْ یَدَکَ فِی جَیْبِکَ تَخْرُجْ بَیْضاءَ مِنْ غَیْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَیْکَ جَناحَکَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِکَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّکَ إِلی فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ کانُوا قَوْماً فاسِقِینَ »1

والاحتمال الآخر فی المراد من «البرهان» أنه «الإسم الأعظم»، والذی اختصَّ به الأئمّة علیهم السّلام، فصار سبباً لأفضلیّتهم علی جمیع العالمین. فقد جاء فی بعض الأدعیة

«وباسمک الذی جعلته عندهم وبه خصصتهم دون العالمین وبه أبْنتهم وأبنتَ فضلهم من فضل العالمین، حتّی فاق فضلهم فضلَ العالمین جمیعاً».

وعلی کلّ تقدیر، فإنَّ هذه العبارة فی الزیارة الجامعة، من جملة الأدلّة علی أفضلیّة رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم والأئمّة الأطهار علیهم السّلام، وتقدّمهم علی کلّ العالمین.

«والمنتَجَب: المختار من کلّ شئ، وقد انتجب فلانٌ فلاناً، إذا استخلصه وإصطفاه إختیاراً علی غیره».(1)

فالأئمّة علیهم السّلام المختارون المستخلصون لنور اللّه عزّوجلّ .

فعندما ینتخب الشخص من بین مجموعة أشخاص لعملٍ مّا، فهذا یعنی أنَّ هذا الشخص متمیّز فی هذا العمل عن الآخرین، وأنَّ غیره فاقد لهذه الأهلیّة، ولکنّ اختیار اللّه الأئمّة و انتخابهم من بین الخلائق إستخلاص لهم علی العالمین.

وهذا المعنی نلحظه فی قوله تعالی :

«قالَ فَبِعِزَّتِکَ لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ *إِلاّ عِبادَکَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ »2

فإبلیس یُقسم بعزّة اللّه تعالی بأنه سیضلّ کلّ العباد باستثناء المخلصین، لأنّه یعلم جیّداً عجزه عن إغوائهم، لأن هؤلاء قد أخلصهم اللّه تعالی لنفسه.

و«الإنتجاب» مأخوذ من «نجْب» بمعنی «الطهارة».

یقال: فلانٌ نجیب. أی: منزهٌ ومبرءٌ من العیوب والنقائص الموجودة فی الآخرین.

وبناءاً علی نسخة «لنوره» یکون المعنی: إنّ اللّه تعالی قد اختار الأئمّة علیهم السّلام لحمل نوره، إذ لم یکن لغیرهم من خلائقه القابلیّة اللاّزمة لهذا الشأن العظیم.

ثم إنَّ النور - وهو کما قالوا: الظاهر بنفسه والمظهر لغیره - منه مادیّ ، وهو ما یستشعره الإنسان ببصره، ومنه معنویٌ وهو المقصود هنا، ودرک هذا النور یحتاج إلی لبصیرة، وهی غیر متوفّرة عند أغلب الناس.

ص:121

وکما سیأتینا فی شرح «خلقکم اللّه أنواراً»، فإنّ الأئمّة علیهم السّلام أنوار، وکلّ حیثیاتهم نورانیّة، ولذا، فإنّ کلّ تعالیمهم، نصائحهم، أحکامهم، أفعالهم، تروکهم، أقوالهم، مصدرٌ للهدی ونور للنجاة.

ومن ثَمَّ کان أصل وجودهم حجّة، وکان قولهم وفعلهم وتقریرهم حجّة.

قال فی مجمع البیان:

«قد جاءکم من اللّه نور. یعنی بالنور محمداً صلّی اللّه علیه وآله، لأنّه یهتدی به الخلق کما یهتدون بالنور، عن قتادة واختاره الزجاج».(1)

وجاء فی کتاب معانی القرآن:

«قد جاءکم من اللّه نور» قیل: نور یعنی به النبی صلّی اللّه علیه و آله و هو تمثیل، لأنّ النور هو الّذی تتبیّن به الأشیاء.(2)

هذا، ومن مصادیق «النور»، العلم. ففی الروایة:

«العلم نورٌ یقذفُهُ اللّه فی قلب مَن یَشاء».(3)

وسنقرأ فی الزیارة الجامعة:

«کَلَامُکُم نُورٌ».

«علی مع القرآن والقرآن مع علی لا یفترقان».(1)

وأمّا حدیث الثقلین المعروف، والذی یقول فیه رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله:

«کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی».(2)

فظاهرهما القِران بین الأئمّة علیهم السّلام والقرآن الکریم وأنّ کلاًّ منهما عدلٌ للآخر...

ولکن المطلب أعمق من هذا، فالأئمّة علیهم السّلام هم القرآن الناطق وإنَّ کتاب اللّه هو القرآن الصّادق. فقد ورد فی حدیث لأمیر المؤمنین علی علیه السّلام، یقول فیه:

«هذا کتاب اللّه الصّادق وأنا کتاب اللّه الناطق».(3)

وما تقتضیه آیة المباهلة هو أنَّ أمیر المؤمنین علیه السّلام واجد لکلّ کمالات رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله - ماخلا النبوّة - وأنه نفسه من کلّ الجهات.

وقال نظام الدین النیشابوری فی تفسیره، ذیل الآیة المبارکة:

«وَ کَیْفَ تَکْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلی عَلَیْکُمْ آیاتُ اللّهِ وَ فِیکُمْ رَسُولُهُ »4

وکیف تکفرون: إستفهام بطریق الإنکار و التعجّب، والمعنی: من أین یتطرّق

ص:124

إلیکم الکفر، والحال أنّ آیات اللّه تتلی علیکم علی لسان الرّسول صلّی اللّه علیه وآله غضة فی کلّ واقعة، وبین أظهرکم رسول یبیّن لکم کلّ شبهة و یزیح عنکم کلّ علّة....

قلت: أمّا الکتاب، فإنّه باق علی وجه الدّهر، وأمّا النّبی صلّی اللّه علیه و آله فإنّه وإن کان قد مضی إلی رحمة اللّه فی الظاهر، ولکنَّ نور سرّه باق بین المؤمنین فکأنّه باق، علی أنّ عترته علیهم السّلام ورثته یقومون مقامه بحسب الظّاهر أیضاً، ولذا قال: «إنّی تارکٌ فیکم الثقلین»(1)

وهل الأئمّة علیهم السّلام إلّا العلم ؟

إنّ حیاتهم کلّها وکلَّ ما سُمِعَ وشوهِد منهم علیهم السّلام، هو علمٌ ونورٌ، ولا مجال للظلمة والجهل فی سیرتهم؛ فَهُمْ ، العلم والنور.

ولذا نقرأ فی زیارة صاحب الزمان علیه السّلام والمعروفة بزیارة آل یس:

«السلامُ علیک أیُّها العَلَمُ المنصوبُ والعِلمُ المصبوبُ ».(2)

فالحاصل، إنَّ الأئمّة علیهم السّلام نورٌ، وبهم یهتدی إلی اللّه، وکلّ مصادیق النور المضافة إلی اللّه تعالی ، متوفرة فیهم؛ وهذا إنما کان بانتخاب اللّه وإرادته، ولیس فی هذا الاعتقاد أی شائبة للغلوّ.

وأمّا بناءاً علی قراءة «وإنتجبکم بنوره»، فالظاهر أنَّ «الباء» سببیّة، وأنّ المراد من «النور» هو «العلم»، فیکون الباری عزّوجلّ وبسبب علمه بالذوات المقدسة، إنتجب الأئمّة علیهم السّلام وإنتخبهم وخصّهم لنفسه

ص:125

فالغلبة فی میدان الحرب والقتال تحصل بالقوّة البدنیّة وباستخدام الأسلحة، والغلبة فی میدان الحوار والمناظرة والجدل، تتحقق بالقدرة العلمیّة.

وکذلک تختلف کیفیّات التأیید الإلهی بحسب الموارد والحالات.

فتارة نجد أن اللّه تعالی یؤید بالوسائط الظاهریّة والقوّة القتالیة الشدیدة، لتحصیل الغلبة. ومنه قوله تعالی :

«هُوَ الَّذِی أَیَّدَکَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِینَ »1

ففی هذه الآیة، عُطفت کلمة «بالمؤمنین» علی «بنصره» و«الباء» فی الکلمتین، سببیة. یقول الراغب الإصفهانی:

«النصر والنصرة: العون».(1)

ولکن وَرد فی الدعاء لإمام العصر والزمان عجَّل اللّه تعالی فرجه الشریف:

«وَ أیِّدْهُ بِالنَّصر»

ویبدو أنَّ المقصود هنا، الإمداد الغیبی بالملائکة وغیرها.

تعالی نصر نبیّه بسبب المؤمنین والمراد - بحسب الأحادیث الواردة فی تفسیر الآیة - هو خصوص الإمام علی علیه الصّلاة و السّلام.

فیمکن إذن، الاستدلال بهذه الآیة الشریفة علی بطلان قول من یزعمون إنَّ الإستعانة بغیر اللّه شرک، لأنها ظاهرة فی إستعانة الرسول بالخلق لتحصیل الغلبة وإنتصار الإسلام علی أعدائه.

وخلاصة الکلام هی: إنَّ التأیید تارة: یکون بالوسائل الظاهریّة، وأخری:

بالوسائل الغیبیّة. یقول عزّوجلّ فی الکتاب الکریم:

«فَأَنْزَلَ اللّهُ سَکِینَتَهُ عَلَیْهِ وَ أَیَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها»؛1

ففی هذه الآیة، کان التأیید الإلهی غیبیاً، أی بقویً غیر مرئیّة، وهی الملائکة، کما جاء فی التفاسیر.(1) وکذلک الکلام فی الآیات الکریمة التی تتحدث عن وقعة بدل الکبری وحرب حنین، حیث ورد التصریح فیها بنزول الملائکة لنصرة رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله.(2)

ولکن، ورد فی غیرموضع من القرآن الکریم، التأیید الغیبی بخصوص « الروح»، وإنّ اللّه تعالی نصر نبیّه محمداً صلی اللّه علیه وآله والمسلمین بواسطة الروح حتّی غلبوا علی عدوّهم غیر أنّ التعبیر یختلف:

ففی مورد منها قال تعالی :

«أَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ »؛4

ص:128

وفی موضع آخر یقول تعالی :

«أَیَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ »؛1

فکان روح القدس، وسیلة التأیید لرسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله للغلبة.

کما کان روح القدس ینزل علی النبی صلّی اللّه علیه وآله بأمور تتعلّق بالرسالة.

یقول تعالی :

«قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّکَ بِالْحَقِّ لِیُثَبِّتَ الَّذِینَ آمَنُوا»؛2

وهذا فی واقع الأمر، مقامٌ خاصٌّ ، فإنه إنْ ارید بروح القدس أحد الملائکة - کما هو الظاهر - فلابدّ أن یکون لهذا الملک شأن خاصّ وموقع متمیّز فی طاقم الإدارة الربوبیّة.

ونقرأ فی آیة أخری قوله تعالی :

«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِینُ *عَلی قَلْبِکَ لِتَکُونَ مِنَ الْمُنْذِرِینَ »؛3

فهل هو ملکٌ واحد یوصف تارة بالقدس وأخری بالأمین ؟

إنّ هذا الأمر یحتاج إلی تحقیق أوسع.

وفی کتاب «بصائر الدرجات»، بابان عُقِدا فی هذا الشأن، جاء فیهما بعض الأحادیث الواردة فی هذا المعنی. ومن ذلک مارواه عن جابر قال:

سألت الإمام الباقر علیه السّلام عن «العلم» فقال:

«یا جابر، إنّ فی الأنبیاء والأوصیاء خمسة أرواح: روح القدس وروح

ص:129

الإیمان وروح الحیاة وروح القدرة وروح الشهوة. فروح القدس - یا جابر - علِّمنا ما تحت العرش إلی ما تحت الثری...»؛(1)

وظاهر هذه الروایة هو إنَّ «روح القدس» إسم روحٍ من أرواح الأنبیاء أو الأوصیاء.

وفی روایة أخری عن الإمام الباقر علیه السّلام قال:

«إنَّ الأوصیاء محدَّثون، یحدّثهم روح القدس ولا یرونه، وکان علی علیه السّلام یعرض علی روح القدس ما یُسئل عنه، فیوجس فی نفسه أن قد أصبت بالجواب فیخبر، فیکون کما قال».(2)

وروی سماعة بن مهران قال: سمعت الإمام الصّادق علیه السّلام یقول:

«إن الروح خلق أعظم من جبرئیل ومیکائیل، کان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله یسدّده ویرشده، وهو مع الأئمّة والأوصیاء من بعده»(3)

وظاهر هذه الروایات هو أنَّ «روح القدس» من جنس الملائکة، وأنّ له مقاماً خاصاً ومتمیّزاً.

ومن جهة أخری، یقول تعالی فی القرآن الکریم:

«تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ »4

والظّاهر أنه من عطف الخاصّ علی العام.

ص:130

ولکن، جاء فی القرآن الکریم ما یتضمّنُ إضافة «الروح» إلی اللّه تعالی ، وهذه الإضافة تارة تکون مع واسطة مثل قوله:

«أُولئِکَ کَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الْإِیمانَ وَ أَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ »1

وتارة تکون الإضافة مباشرة إلی اللّه تعالی ، مثل قوله تعالی :

«فَأَرْسَلْنا إِلَیْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِیًّا»2

وحینئذ، لابدّ من التحقیق فی إنّ «الروح» فی هاتین الآیتین واحدة أم متعددة ؟ وهل إنَّها نفس «روح القدس» أم لا؟

هذا، وفی الزیارة الجامعة «وأیّدکم بروحه» لا «أیّدکم بروح منه» ولا «أیّدکم بروح القدس» أو «الروح الأمین».

فهذه التعبیرات القرآنیّة المبارکة، تحتاج إلی بحث وتحقیق أکثر فی الموضع المناسب لذلک، وهل إنّ إضافة «الروح» إلی اللّه تعالی أو إلی الضمیر، تؤثر فی المعنی وتجعله مختلفاً أم لا؟

والقدر المسلّم هو إنّ الأئمّة علیهم السّلام مؤیّدون بذلک الملک العظیم المقرّب، وقد صرّحت الروایات بهذا المعنی، کما جاء فی کتاب بصائر الدرجات وکتاب أصول الکافی.(1)

وقد ورد فی نهج البلاغة أنّ أمیر المؤمنین علیه السّلام قال فی وصفه لرسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله:

ص:131

«ولقد قرن اللّه به صلّی اللّه علیه وآله من لدن أن کان فطیماً أعظم ملک من ملائکته، یسلک به طریق المکارم ومحاسن أخلاق العالم لیله ونهاره، ولقد کنت أتّبعه إتّباع الفصیل أثر أمّه، یرفع لی فی کلّ یومٍ من أخلاقه علماً ویأمرنی بالإقتداء به».(1)

وبتعبیر آخر، فإنّ إدارة شؤون رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله ومنذ بدایة حیاته کانت بید هذا الملک، الذی هو من أعظم الملائکة، وهذا لا ینافی إختیاریّة رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله، فإنّ حرکاته وسکناته وأفعاله وأقواله الإختیاریّة کانت بتسدید هذا الملک.

مضافاً إلی ما جاء فی الکافی فی ذیل قوله تعالی :

«وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ »2 : من قوله علیه السّلام:

«خلقٌ من خلق اللّه عزّوجلّ ، أعظم من جبرئیل ومیکائیل، کان مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله یخبره ویسدّده وهو مع الأئمّة من بعده»(2)

فهذه الروایة صریحة فی أنّ ذلک الملک الموکّل بحفظ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وتسدیده، هو نفسه الموکّل بحفظ الأئمّة علیهم السّلام من بعده، وتسدیدهم.

وهذا المقام - وهو وجود روح القدس مع الأئمة المؤید والمسدّد لهم - لم یحصل بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله إلّالأئمة أهل البیت الطاهرین علیهم السّلام.

وسیأتی إن شاء اللّه تفصیل الکلام فی هذا الشأن عندما نبحث فی الولایة وأقسامها.

ص:132

یقول تعالی :

«وَ اذْکُرُوا إِذْ جَعَلَکُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ »1

أی: لقد حصل فراغ فی الأرض بعد قوم نوح، فجئتم أنتم لملء الفراغ، ونحن قادرون علیکم کما قدرنا علی قوم نوح.

وفی آیة آخری - وفی معرض بیان أحوال قوم عاد وکیف إنّ اللّه تعالی أهلکهم جمیعاً ولم تبق لهم باقیة - عبّر تعالی عمّن جاء بعدهم بالخلفاء، وأنذرهم عاقبة أمرهم، فقال عزّوجلّ :

«وَ اذْکُرُوا إِذْ جَعَلَکُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَکُمْ فِی الْأَرْضِ »2

وکذا قوله تعالی فی قصّة فرعون:

«وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا»3

فعبّر القرآن الکریم فی هذه الموارد عن الناس الذین جاءوا بعد أقوامٍ إنقرضوا، بالخلفاء والخلائف.

هذا هو المعنی اللّغوی للخلیفة.

وفی هذه الموارد لایسجّل للخلفاء مدح ولا ذم.

ولابدّ لفهم هذه العبارة من بیان حقیقة الخلافة بصورةٍ عامّة، وذلک: إنّه یعتبر فی خلافة شخصٍ عن آخر، أی قیامه مقامه بعد تعیینهما من ثلاثة امور:

الأوّل: الدلیل علیها من قَبِل المستخلَف.

والثانی: وجود المناسبة بین الخلیفة والمستخلَف.

والثالث: العلم بجهة الخلافة وحدودها.

فنقول: إنّ اللّه تعالی جامع لجمیع الکمالات، ولذا فإنَّ الأئمّة علیهم السّلام لابدَّ أن یکونوا واجدین لکلّ صفات الکمال الإلهی وبحدِّ عالم الإمکان.

کما إنّ هذا الإستخلاف، إنما کان بإرادةٍ وجعلٍ إلهی، والأدلّة علی ذلک لاتحصی .

وأمّا جهتها وحدودها، فهی أنَّ الأئمّة علیهم السّلام یقومون بالأفعال الإلهیّة فی العالم، بحدود الإمکان؛ وهذا مقامٌ عظیم أُعطی للأئمّة علیهم السّلام من قِبَل اللّه تعالی .

وواضح أنّ هذا المقام لم یصل إلی الفعلیّة بنحو کاملٍ فی هذا العالم، فإنّ الأعداء منعوا بسط ید الأئمّة وحالوا دون نفوذ کلمة خلفاء الرسول علی ما أراده اللّه تعالی ، ولکنّ الوعد الإلهی بفعلیّة هذا الإستخلاف سیتحقق فی زمن الإمام المهدی علیه السّلام إن شاء اللّه، وإلیه یشیر قوله تعالی :

«وَعَدَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الْأَرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضی لَهُمْ وَ لَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً...»1

ص:135

ولمعرفة التفاصیل راجعوا وتأملوا الروایات التی أوردها الکلینی فی الکافی تحت عنوان: «باب أنَّ الأئمّة خلفاء اللّه»(1)

ولم یصل هذا الإستخلاف إلی حدِّ الفعلیّة عند الأنبیاء إلّا فی زمن النبی داود علیه السّلام. قال تعالی :

«یا داوُدُ إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الْأَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ »2

وبالتأمل فی الآیة یظهر لنا أنَّ هذه الخلافة الممنوحة لداود علیه السّلام:

1 - کانت من قِبَل اللّه تعالی بجعلٍ منه.

2 - إنَّها خلافة اللّه.

3 - إنَّها مطلقة وغیر مقیّدة بجهة خاصّة وحیثیّة معیَّنة.

4 - بعد أن تقرّرت الخلافة، فُرِّع علیها:

«فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ »

وبحثُنا فی هذه المرحلة، هو فی ثبوت أصل هذاالمقام للأئمّة علیهم الصّلاة والسّلام.

إنّ خلافة الأئمّة علیهم السّلام هی بجعل اللّه تعالی لا غیره. وحتّی رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله لم یکن له دور فی خلافتهم، سوی التبلیغ إلی الاُمّة وإنما هو تنصیب وجعلٌ إلهی.

وهنا لابدّ من بیان مطلبین:

الأول: لیس من حقِّ الناس التدخّل فی تعیین الخلیفة ونصبه.

ص:136

الثانی: قد ورد فی بعض الکتب إنَّ الخلافة صارت موروثة وإن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله قد جعلها فی أولاده !!!

کلّا، إنَّ القضیّة لیست بید النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم.

ومن جهة أخری، فإنّ الخلافة خلافة اللّه عزّوجلّ والتی هی بمعنی القائم مقامیّة؛ فالأئمّة علیهم السّلام هم خلفاء اللّه تعالی بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم.

فاللّه عزّوجلّ لیس جسماً، ولا سنخیّة بین الذات الإلهیّة المقدسّة ومخلوقاته علی الإطلاق؛ فلا یمکن أن یحکمهم جلَّ وعلا بشکل مباشر، ولذا، فإنّه قال لداود: «إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الْأَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ».

وفی مباحثنا الکلامیّة، إستفدنا من هذه الآیة بأنَّ الخلافة غیر الحکومة - وأنَّ من الخطأ أن یتصوّر البعض بأنَّ الخلافة والحکومة مترادفان !! لأنّ الحکومة إنّما هی شأن من شئون الخلافة، فقد یکون الخلیفة بلا حکومة، وقد یسجن الخلیفة لسنوات عدیدة، وقد یغیب عن أعین الناس قروناً.

فالحکومة الحقّة فی الأرض، هی للخلیفة الحقّ ، المنصوب من قبل اللّه تعالی لهدایة الخلق.

وبعبارة أخری، لو کان اللّه تعالی جسماً - تعالی اللّه عن ذلک - وأراد أن یحکم فی الأرض عملیّاً، لفعل ذلک. ولکنْ ، لأنّه لیس بجسم، ولأن الأرض بحاجة إلی حاکم یحکمها، جعل هذا المقام علی عهدة أشخاص توفّرت فیهم الأهلیّة للإستخلاف الإلهی، لیقوموا بالأمر نیابة عنه تعالی .

وهذا المعنی أو ما یقاربه جاء فی إحدی فقرات إستئذان دخول المشاهد

ص:137

الطّاهرة والعتبات المقدسة، فسواء کان هذا المتن معتبراً من حیث السند أم لم یکن کذلک، فإنّ الدلائل علی حقیّة مضمونه کثیرة، فقد جاء فیه:

«اللّهم إنّ هذه بقعةٌ طهّرتها وعَقوَةٌ شرّفتها ومعالم زکّیتها، حیث أظهرت فیها أدلَّة التوحید وأشباح العرشِ المجید الّذین إصطفیتهم ملوکاً لحفظ النّظام واخترتهم رؤساء لجمیع الأنام، وبعثتهم لقیام القسط فی إبتداء الوجود إلی یوم القیامة. ثمّ مننت علیهم باستنابة أنبیائک لحفظ شرائعک وأحکامک، فأکملت باستخلافهم رسالة المنذرین کما أوجبتَ ریاستهم فی فطر المکلّفین، فسبحانک من إلهٍ ما أرأفک ولا إله إلّا أنت من ملک ما أعدلک»

فالمراد من «أشباح» العرش المجید، هو الأئمّة علیهم السّلام. والمراد من «الملوک» هو الحکّام المعنیّون بحفظ النظام. فهذا هو مقتضی العدل الإلهی، فإنه لمّا تعالی عزّوجلّ عن الجسمیّة واستحال تصدّیه بنفسه للحکم، لزم أن یجعل أحداً یکون خلیفةً له لیقوم بذلک.

ونقرأ فی إدامة الاستئذان:

«حیث طابق صُنعُک ما فطرت علیه العقول ووافق حکمُک ما قرَّرتهُ فی المعقول والمنقول، فلک الحمد علی تقدیرک الحسن الجمیل، ولک الشکر علی قضائک المعلّل بأکملِ التعلیل. فسبحان من لا یسئلُ عن فعله ولا ینازع فی أمره، وسبحان من کتب علی نفسه الرحمة قبل ابتداء خلقه»

وکلّ هذه المعانی ثابتة بالبرهان.

ثم نقرأ بعد ذلک:

«والحَمدُ للّه الّذی منَّ عَلَینَا بِحُکام یَقومونَ مقامَه لَو کانَ حاضراَ فی المَکان»

ص:138

فلو کان اللّه تعالی جسماً، فماذا کان یفعل ؟

کان سیجلس علی عرش الحکم والرئاسة ویُدیرُ امور العباد والموجودات والمخلوقات بنفسه مباشرةً ؛ ولمّا کان هذا مستحیلاً، لأنه تعالی عن الجسمیّة، کان لابدَّ من تنصیب أحدٍ فی مقامه.

ثم نقرأ بعد ذلک:

«ولا إله إلّا اللّه الّذی شَرَّفنا بأوصیاءَ یحفظون الشرایع فی کلِّ الأزمان، واللّه أکبر الذی أظهرهم لنا بمعجزاتٍ یعجز عنها الثقلان، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العلی العظیم الذی أجرانا علی عوائده الجمیلة فی الأمم السّالفین.

اللهم فلک الحمد والثناء العلی کما وجب لوجهک البقاءُ السرمدی وکما جعلت نبیّنا خیر النبیّین وملوکنا أفضل المخلوقین وإخترتهم علی علمٍ علی العالمین، وفّقنا للسّعی إلی أبوابهم العامرة إلی یوم الدین، وإجعل أرواحنا تحِنُّ إلی مَوطنِ أقدامهم ونفوسنا تهوی النّظر إلی مجالسهم وعرصاتهم حتّی کأنّنا نخاطبهم فی حضور أشخاصهم.

فصلّی اللّه علیهم من سادةٍ غائبین ومن سلالةِ طاهرین ومن أئمّة معصومین.

اللهم فأذن لی بدخول هذه العرصات التی إستعبدت بزیارتها أهل الأرضین والسماوات، وأرسل دُموعنا بخشوع المهابة وذَلِّل جوارحنا بذُلِّ العبودیّةِ وفرض الطاعة، حتّی نقرَّ بما یجب لهم من الأوصاف ونعترف بأنّهم شفعاء الخلائق إذا نصب الموازین فی یوم الأعراف، والحمد للّه وسلامٌ علی عباده الّذین إصطفی محمّدٍ وآله الطاهرین»(1)

ص:139

«البَریَّة: الخلق»(1)

ومن الواضح، إنَّ مطلق الخلق لیس هو المراد من هذه الکلمة، وإنّما الخلق الذی یحتّج علیه والمحتاج إلی الحجّة.

و«البریّة» یمکن أن تتصف بالفضائل، کما یمکن اتصافها بالرذائل.

یقول تعالی :

«أُولئِکَ هُمْ خَیْرُ الْبَرِیَّةِ »2

وفی آیة أخری یقول عزّوجلّ :

«أُولئِکَ هُمْ شَرُّ الْبَرِیَّةِ »3

فهذه الکلمة - إذن - مطلقةٌ من جهة، ومقیّدة من جهة أخری.

وعلیه، فإنّ اللّه تعالی إختار الأئمّة علیهم السّلام وجعلهم حججاً بینَه وبین خلقه، صالحهم وغیر صالحهِمْ ، لیهتدی بهم من یحتاج إلی دلیل للهدایة، ولتتمیم الحجّة علی الجمیع.

إنَّ اللّه تعالی خلق الخلائق، وهذا الخلق لم یکن عبثاً - حاشا للّه- وإنَّما کان لهدف وغایة، وهی الکمال الذی ینبغی علی کلّ أفراد البشر طیّ طریقه للوصول إلی الغایة.

وهذا الطریق الذی ینبغی علی الجمیع سلوکه، هو الذی عُبِّرَ عنه ب «الصراط المستقیم». فعلی الإنسان أن یخطو الخطوات اللّازمة فی هذا الطریق لیصل إلی المقصد، ولا شک فی حاجة الإنسان إلی دلیل ومرشد فی سیرِهِ هذا، وذلک:

ص:142

أولاً: لکی لا یشتبه فی تعیین الطریق.

ثانیاً: حتّی علی فرض عدم إنحرافه عن الطریق المستقیم، لکنّه قد یواجه بعض العقبات والمعوّقات فی طیّه لهذا الطریق، فیحتاج إلی الإرشاد للنجاة.

فالإنسان - إذن - یحتاج إلی الدلیل فی أصل حرکته وسیره وبدایة مسیره، کما ویحتاج إلی هذا الدلیل فی استمراریّة الحرکة.

وبعبارة أخری، إنّ هذه الحرکة تحتاج إلی الدلیل والمرشد، حدوثاً وبقاءاً.

ومن هنا، قرأنا فی الفقرات السّابقة «والأدلّاء علی مرضاة اللّه».

والأئمّة المعصومون علیهم السّلام هم الهداة إلی صراط اللّه، فی أصل سیر العباد وفی دوام حرکتهم، الصراط الذی ینتهی إلی الکمال والقرب الإلهی والرضوان الأکبر، فلقد إختارهم اللّه وجعلهم أدلّاء ولم یختر غیرهم من بین العالمین، وإرتضی دلالتهم للبریّة ولم یرض بغیرهم لأن یکون دلیلاً إلیه، فلیس لنا أن نتّخذ غیرهم أدلّاء علی الطریق الموصل إلی اللّه، لأنّ الأمر لیس بید أحدٍ سواه، و لأن هذا الطریق هو الطریق إلی اللّه، واللّه تعالی هو الذی یعیِّن الدلیل لطریقه.

بأنْ یفکر بشکل صحیح، وأن یتمسک بالمعتقدات الصحیحة الخالیة من الإنحراف، وأن یکون راسخاً فی اصول الدین، فإنّ أحد أبعاد وجود الإنسان، بل أهمّها هو العقیدة.

والبعد الآخر هو الکمال فی الأعمال. والإنسان إنَّما یصل إلی الکمال العملی فیما لو تعبّد بأحکام المولی بنحو کامل، بأنْ یکون عبداً صالحاً، یطیع مولاه فیما یأمر به وینهاه عنه، بل یکون منقاداً لسیّده فی کلّ الأفعال والتروک، انقیاداً تامّاً.

وهذا هو الکمال فیما یتعلّق بالجوارح.

والبعد الثالث فی الکمال، هو البعدُ النفسانی، بأنْ یهذّب نفسه من الصّفات القبیحة ویتحلّی بالأخلاق والآداب الجمیلة الحسنة عند العقل والشرّع.

فقد لا یکون الإنسان من حیث البعد العقائدی، والفکری، منحرفاً، فتفکیره ومعتقده صحیحان، وکذا من حیث البعد العملی یکون ملتزماً بالإمتثال لکلّ الأوامر والنواهی، بل وحتی المکروهات والمستحبات، ولکنّه لم یصل إلی الکمال النفسانی الأخلاقی، کأن یکون بخیلاً أو حسوداً، أو متکبراً، فهو غیر متزیّن بالصّفات الحسنة، وغیر منزّه عن الصّفات السیّئة، فمثل هذا الکمال، کمالٌ ناقص، ولیس هو الهدف من الخلقة.

فالإنسان، إنّما یکون کاملاً فیما لو وصل إلی الکمال بجمیع جهاته، ولذا، فإنَّ علی الإنسان تهذیب وتزکیة نفسه، وتنزیهها عن الصفات القبیحة، وتزیینها بالصّفات الحسنة، ویصحّح عقیدته علی أساس النقل والعقل ویکون مطیعاً لمولاه إطاعةً مطلقة.

وبناءاً علی ذلک، فإنّ من سعی وجاهد فکریّاً وعملیّاً ونفسانیّاً ووصل إلی الکمال من کلّ الجهات، صار إنساناً کاملاً.

ص:144

فإذا عرفنا الغرض من الخلقة وعظمته وما یحقق الغرض وأهمیّته، فلابدّ أنْ نعلم أن الهدف له منهج معیّن وطریق خاص، والحرکة فی هذا الطریق تحتاج إلی أدلّاء ومرشدین، ولابدّ أن یکون هؤلاء الأدلّاء فی أعلی مراتب الکمال، لأنّ : «فاقد الشئ لا یعطیه».

وهذا الدلیل، فی کلّ زمان، هو الإمام من أئمة أهل البیت علیهم السلام، ولیست لغیرهم مثل هذه الصلاحیّة والمکانة.

إذن، فنحن فی الجهة الاعتقادیّة، نحتاج إلی دلیل، وعلینا أن نأخذ عقائدنا من الأئمّة علیهم السّلام. وفی البعد العملی والعبادی والأخلاقی، لابدّ أن نتتلْمَذ فی مدرسة أهل البیت علیهم السّلام، وأن نعی کلماتهم وإرشاداتهم، وننفی الصّفات الرذیلة عن أنفسنا، ونحلّیها بالصفات الحسنة، حتّی نصل إلی الکمال الذی هو غایة الخلقة وهدفها.

فاللّه سبحانه وتعالی إختار الأئمّة علیهم السّلام برضاه، وأقرَّهم أدلّاء للناس علی صراطه والغرض الذی من أجله خلقوا: یقول تعالی :

«وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ »1

فالهدف، هو العبادة التی لابدَّ أن تکون عن معرفة وعلم.

فاللّه سبحانه وتعالی خلق الإنسان وأراد منه أن یسیر فی طریق الکمال، وأراد له الوصول إلی قربه، ومن جهة أخری، فإنّ اللّه تعالی یَعلم بأنَّ الإنسان یخطأ ویشتبه فی انتخاب الطریق، وذلک لوجود المحتالین وقطّاع الطرق فی کلّ زمان، وإنّ الإنسان یعجز فی کثیر من الأحیان عن تشخیصهم ومعرفة حبائلهم ومخططاتهم بسهولة.

ص:145

وخلاصة الکلام، إنّ العبارة السّابقة: «ورضیکم خلفاء فی أرضه» توضح ضرورة وجود الخلیفة فی الأرض، ثمّ ثبت بالأدلَّة: إنّ هؤلاء الخلفاء هم الأئمّة الأطهار علیهم السّلام.

وفی هذه العبارة: إنَّ الأئمّة علیهم السّلام هم حجج اللّه علی الخلائق المحتاجین إلی الحجّة. إذن، فأصل وجود الحجّة وضرورته أمرٌ مسلَّمٌ وتامّ ، وإنّ الأئمّة علیهم السّلام هم الحجج الآلهیّة علی الناس أجمعین، والدلیل علی ضرورة وجود الحجة والخلیفة فی کلّ زمان عقلاً هو قاعدة اللّطف الثابتة بالکتاب والسنّة أیضاً، وإلّا لزم نقض الغرض أو التکلیف بغیر المقدور.

وبعد، فلو قیل: فلماذا لم یتحقّق الغرض من الخلقة فی أکثر الناس، بل الواقع - کما قال اللّه سبحانه - «وَ قَلِیلٌ مِنْ عِبادِیَ الشَّکُورُ»؟

والجواب واضح جدّاً: لأن تحقّق الغرض کان متقوماً بأمرین:

أحدهما: الطریق الموصل إلی الهدف والمنهج المحقّق له، وذلک هو الشّریعة الغرّاء التی شرّعها اللّه العالم بحقائق الامور الخبیر بما یصلح الإنسان، وهذه الشریعة متکوّنة من المبانی الإعتقادیّة التی یجب علی کلّ مکلّف الإیمان بها، ومن الأحکام الفرعیّة، التی علی کلّ مکلّف أن یطّبقها تطبیقاً کاملاً، لأنها مستندة إلی الحکم والمصالح، ومن الأخلاق والآداب والسّنن.

والثانی: الدلیل علی الطّریق، وهو النبیّ والوصّی من بعده، وقد تحمّل الأئمة بعد رسول اللّه هذه المسئولیّة وقاموا بها بأحسن قیام، فما ادّخروا وسعاً فی تبیین الشریعة وتعلیم الأُمة وتأدیب الناس.

فمن أین جاء الضّلال ؟ ومن أین حدثت المشکلة ؟

إنّ المشکلة هی من طرف الناس، فقد کان علیهم العمل بالشّریعة، والإهتداء

ص:146

بهدی الأئمة المعصومین الأدلّاء علی اللّه، حدوثاً واستمراراً لیتحرکوا فی الطریق المستقیم ویتجنّبوا الإنحراف والتیه، بعیداً عن العقبات والعوائق للوصول إلی الهدف من خلقهم وهو کمالهم، والذی تنحصر فائدته بهم، ولا یضرُّ اللّه تعالی تخلّفهم عن سلوک هذا الطریق، فلو أنّ جمیع الخلق اهتدوا بهدی الأئمة الهداة لما ضلّ أحدٌ، ووصل الکلّ إلی الکمال، ولو تحرکوا بعکس جهة الکمال، فإنّ ذلک لا یضرَّ اللّه شیئاً.

وإنْ قال: کنت جاهلاً،

قال له: ألا تعلّمت حتّی تعمل ؟

فیخصمه، وذلک الحجّة البالغة»(1)

أجل، إنّ اللّه تعالی قد نصب الأوصیاء من بعد الأنبیاء علیهم السّلام أدلّاء علی صراطه وحجة علی عباده، فلیس لأحد من عباده حجّة یوم القیامة یحتج بها.

ومن هنا، فإن العلماء قالوا فی علم الاصول، فی تعریف الحجّة:

«الحجّیة متقومّة بالمنجّزیّة علی تقدیر الموافقة، والمعذریّة علی تقدیر المخالفة للواقع، فإنّ الحجّة بالاعتبار الأوّل حجّة للمولی علی عبده وبالاعتبار الثانی حجّة للعبد علی مولاه»(2)

فلو إنَّ العبد لم یکن له أحدٌ یعلِّمه ویدلُّه علی الطریق الصحیح، ولم یکن له أحدٌ یأخذ بیده فی الأبعاد الثلاثة الآنفة الذکر، فإنه سیأتی یوم القیامة ویحتج علی اللّه تعالی ویقول: یا إلهی ما تقصیری ولم تصلنی الحجّة ؟ ما تقصیری ولم تنصب لی من یدلّنی علی الطریق فأتعلّم منه ؟

لکنّ القرآن الکریم یقول:

«لِئَلاّ یَکُونَ لِلنّاسِ عَلَی اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ »3

وبناءاً علی هذا البیان، فکلُّ إنسانٍ لم یصل إلی الکمال فی هذا العالم، ویأتی یوم القیامة مسودّ الوجه، فإنّه هو المقصِّر وحده، لأنَّ اللّه تعالی قد أقام له الحجّة عن طریق إرسال الأنبیاء وتعیین الأوصیاء.

ص:148

النقطة الثالثة:

إنَّ الإمام صاحب العصر والزمان علیه السّلام، هو حجّة اللّه حتّی فی زمن غیبته. لأنَّ اللّه تعالی خَلَقَهُ ونصبهُ دلیلاً علی صراطه. فلو ضللتُ الطریق فی زمن الغیبة، فأنا المقصِّر، کما إنَّ الامّة هی المقصِّرة فی أصل غیبته علیه السّلام.

ینفون عنه تأویل المبطلین وتحریف الغالین وإنتحال الجاهلین، کما ینفی الکیر خبث الحدید»(1)

وفی روایة أخری یقول علیه السّلام:

«إنّ اللّه تبارک وتعالی لم یدع الأرض إلّا وفیها عالم یعلم الزیادة والنقصان، فإذا زاد المؤمنون شیئاً ردّهم، وإذا نقصوا شیئاً أکمله لهم، ولولا ذلک لالتبست علی المؤمنین أمورهم»(2)

وفی حیاة الأئمّة الأطهار علیهم السّلام محطّات تعرّض لها الدین إلی أخطار کبیرة، لم یسلم منها الإسلام والمسلمون إلّا ببرکة وجود الأئمّة علیهم السّلام، نظیر قضایا أمیر المؤمنین علیه السّلام فی المدینة والکوفة، وقضیّة الاستسقاء فی زمن الإمام الحسن العسکری علیه السّلام فی سامراء؛(3) وقضیّة الرّمانة فی البحرین.(4)

فمن الواضح جدّاً، إنَّ نصرة الدین تحتاج إلی قدرة علمیّة ومددٍ غیبی کما سیأتی بیانه.

بالإمدادات الغیبیّة، ولعلّ هذه العبارة، إشارة إلی هذا المعنی، فإنّ أحد الإحتمالات فی معنی کلمة «سرّ» خصوص «الإسم الأعظم»، ولذا کان الأئمّة علیهم السّلام یستمدّون منه القوّة فی الأوقات اللّازمة.

«تراجمة وحیک، جمع ترجمان، وهو المترجم المفسّر للّسان، یقال: ترجم فلان کلامه: بیّنه وأوضحه... واسم الفاعل: ترجمان».(1)

وما یقال فی العرف للنقل من لغة إلی لغة: ترجمة، فإنَّما هو بلحاظ إنّ هذا بنفسه نوع من أنواع التفسیر.

ولعلّ العنوان الجامع لمعناها هو: المبیِّن.

والمراد من جملة «تراجمة لوحیه» هو أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السّلام هم المبینون والمبلّغون لوحی اللّه تعالی .

إنه قد یتحدّث الشخص فلا یقدر علی إسماع الآخرین صوته، فیأتی ثانٍ ویُعلم الآخرین بمؤدی کلام الأول بصوت عال، فیقال للثانی: ترجمان.

کما هو حال الشخص الذی یقف إلی جنب إمام الجماعة رافعاً صوته بالتکبیر حال حرکات الصّلاة. فکأنّه یرفع صوت إمام الجماعة ویوصله للمأمومین.

فحکم الأئمّة علیهم السّلام فی إیصال الوحی، هو حکم هذا «المکبِّر» أو هو بحکم مکبّرات الصوت فی زماننا.

وبتعبیر أحد أساتذتنا الکرام رحمه اللّه: إنّ حلقوم الإمام علیه السّلام هو المکبِّر لوحی اللّه المسمع له، وإنّ کلام اللّه تعالی یخرج من حلقوم ولسان الإمام علیه السّلام إلی أسماع العالمین.

ومن هنا، ورد فی بعض الروایات: «نحن لسان اللّه».(2)

ص:153

دلّ هذا الحدیث علی أنّ قوائم العرش وأرکان توحید اللّه وأسس شریعته ثلاثة: الإیمان بتوحید اللّه، ورسالة النبی، وولایة علی

ومن أروع الروایات فی الباب، ما أورده الشیخ الصدوق بثلاث أو أربع وسائط عن الإمام الجواد علیه السّلام عن آبائه عن سیّد الشهداء أبی عبد اللّه الحسین علیه السّلام قال:

«دخلت علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وعنده ابی بن کعب، فقال لی رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله: مرحباً بک یا أبا عبد اللّه ! یا زین السماوات والأرضین.

قال له ابی: وکیف یکون - یا رسول اللّه - زین السماوات والأرضین أحد غیرک ؟

قال: یا ابی، والّذی بعثنی بالحق نبیّاً، إنّ الحسین بن علی فی السماء أکبر منه فی الأرض، وإنّه لمکتوب عن یمین عرش اللّه عزّوجلّ : مصباح هدیً وسفینة نجاة...».(1)

وهی من کلام الإمام الرّضا علیه السّلام قاله تلبیة لطلب کبار علماء نیشابور، وقد جاء فیها:

«حدَّثنی أبی موسی بن جعفر الکاظم، قال: حدّثنی أبی جعفر بن محمّد الصادق، قال: حدّثنی أبی محمّد بن علی الباقر: قال حدّثنی أبی علی بن الحسین زین العابدین، قال: حدّثنی أبی الحسین بن علی بن أبی طالب شهید أرض کربلاء، قال: حدّثنی أبی أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب شهید أرض کوفة، قال:

حدّثنی أخی وابن عمّی محمّد رسول اللّه، قال: حدّثنی جبرئیل، قال سمعت ربّ العزّة سبحانه وتعالی یقول: کلمة لا إله إلّا اللّه حصنی، فمن قالها دخل حصنی، ومن دخل حصنی أمن من عذابی».(1)

ثمّ قال علیه السّلام:

«بشروطها، وأنا من شروطها».(2)

هذا، وقد جاء هذا المعنی فی روایات العامّة أیضاً، کالحدیث الذی رووه بأسانیدهم عن النبی الأکرم محمد صلّی اللّه علیه وآله، إنّه قال:

«لو أنّ عبداً عبَد اللّه بین الرّکن والمقام ألف عامٍ ثمّ ألف عام ولم یقل بمحبّتنا أهل البیت، لأکبّه اللّه علی منخره فی النار».(3)

ص:156

هذا من جهة البرهان العقلی.

وأمّا من جهة الدلیل القرآنی، فإنّ «وشهداء علی خلقه» إشارة إلی قوله تعالی فی القرآن المجید:

«وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ ...»1

فقد جاء عن أمیر المؤمنین علیه السّلام فی تفسیر هذه الآیة:

«نحن الامّة الوسطی، ونحن شهداء اللّه علی خلقه وحججه فی أرضه...»(1)

والروایات فی هذا الباب، علی عدّة أقسام:

1. روایات «نحن عین اللّه».(2)

2. روایات «نحن شهداء اللّه فی خلقه».

ففی روایة یقول علیه السّلام:

«یابن أبی یعفور ! إنَّ اللّه تبارک وتعالی واحد متوحّد بالوحدانیّة، متفرّد بأمره، فخلق خلقاً ففرّدهم لذلک الأمر فنحن هم.

یابن أبی یعفور ! فنحن حجج اللّه فی عباده وشهداؤه فی خلقه واُمناؤه وخزّانه علی علمه والدّاعون إلی سبیله والقائمون بذلک، فمن أطاعنا فقد أطاع اللّه».(3)

3. روایات واردة فی اصول الکافی: باب «إنّ الأئمّة شهداء اللّه».(4)

ص:158

4. روایات واردة فی عرض الأعمال علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم والأئمّة الأطهار علیهم السّلام، وقد عقد فی أصول الکافی باباً فی هذا العنوان.(1)

5. روایات إخبار الأئمّة علیهم السّلام بنوایا الأشخاص والوقائع الخاصّة بهم، وهی کثیرة.(2)

فإذا ما وقع السؤال عن کیفیّة هذا الحضور والإحاطة، یکفی أن نعرف أنّ الإمام له نفس قدسیّة وهو مؤیّد ب «روح القدس» کما ما بیَّناه سابقا، وهو ما أشارت إلیه بعض الروایات، منها قوله علیه السّلام:

«إنّ الإمام مؤیَّد بروح القدس، وبینه وبین اللّه عمود من نور یری فیه أعمال العباد».(3)

بل، قد جاء فی بعض الروایات:

«ما من شئ ولا من آدمی ولا إنسی ولا جنّی ولا ملک فی السماوات إلّا ونحن الحجج علیهم، وما خلق اللّه خلقاً إلّا وقد عرض ولایتنا علیه واحتجّ بنا علیه، فمؤمن بنا وکافر وجاحد حتّی السماوات والأرض والجبال».(4)

فمن هذه الروایة، نستفید أنّ الأمر أعظم بکثیر مما ذکرنا. واللّه العالم.

هذا، ونُنَوِّه هنا إلی أنّ هذا البحث سیأتی أیضاً فی شرحنا لعبارة: «وشهداء دار الفناء».

ص:159

والکعبة أیضاً «عَلَم»، لذا یقول أمیر المؤمنین علیه السّلام فی حقِّ البیت الحرام:

«جعله سبحانه وتعالی للإسلام عَلَماً».(1)

کما ویصدق هذا المعنی علی القرآن المجید، فقد قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله:

«إنّی تارک فیکم ما إن تمسَّکتم به لن تضلّوا، کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی».(2)

ولهذا، فلابدّ من أن یکون الأئمّة علیهم السّلام معصومین، وغیر المعصوم لایکون خلیفةً للّه وحجّة ودلیلاً علیه وخازناً لعلمه وحافظاً لسرّه وناصراً لدینه، وهذا المعنی مبرهن علیه عقلاً.

هذا، ولا یوجد معصومٌ غیر محمد وآل محمد صلوات اللّه وسلامه علیهم فی الإسلام.

ومن هنا، فإنَّ اللّه تعالی قد رضیهم ولم یرض غیرهم، لأنَّ العصمة أمرٌ خفی لا یعلمه إلّا اللّه، ومن ثمَّ قلنا بأنَّ المناصب المذکورة، والمشروطة بالعصمة، إنما تکون بجعل اللّه تعالی وتعیینه، فکلّ تلک المعانی بدأت بکلمة «رضیکم»، وکذلک أصل العصمة الموقوفة علی إرادة اللّه تعالی ، ولذا اسندت إلیه، قال علیه السّلام: «عصمکم اللّه»

ثم إنّه بالتأمّل فی هذه الفقرة من الزیارة، یظهر أنه قد نفی عن الأئمّة علیهم السّلام، أربعة أمور:

1 - «الزلل»، وهو جمع «زلّة»، بمعنی الزیغ بدون قصد،(1) ونفاها بقوله: « عصمکم».

2 - «الفتن»، وهی جمع «فتنة» وهی الحیرة والضلال علی أثر الجهل وقد نفاها بقوله: «آمنکم».(2)

3 - «الدنس»،(3) ونفاها عنهم بقوله: «طهّرکم».

4 - «الرجس»،(4) ونفاها عنهم بقوله: «أذهب».

ص:163

فلاحظوا، إنَّ کلّ هذه المعانی قد حصلت بفعل اللّه تعالی وإرادته فی حقِّ المعصوم علیه السّلام. وحینئذٍ، لابدَّ من التوصّل إلی خصوصیّات کلّ واحدة من هذه الامور الأربعة والفعل الوارد لنفیها.

هذا، وقد بحثنا عن العصمة فی ضمن کتبنا فی الإمامة، وکذلک وضعنا فیها رسالةً مفردةً .

وهذا موجز الکلام عن هذا الموضوع فی عدّة بحوث:

1 - العصمة لغةً .

2 - العصمة إصطلاحاً.

3 - أدلّة العصمة.

ومن جهة أخری، ولأنّ هذه الفقرة من الزیارة تشیر إلی آیة التطهیر، سنبحث باختصار حول الآیة وحدیث الکساء، الوارد فی ذیلها.

«العصم: الإمساک والاعتصام الاستمساک... وقوله: «وَ لا تُمْسِکُوا بِعِصَمِ الْکَوافِرِ» والعصام ما یُعصم به أی یُشدّ، وعصمة الأنبیاء حفظه إیّاهم...».(1)

ویبدو أنَّ کلمة «مسک» أخصّ من کلمة «منع».

وفی القرآن الکریم، وحکایة عن لسان إبن نوح، قال تعالی :

«قالَ سَآوِی إِلی جَبَلٍ یَعْصِمُنِی مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْیَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ »2

فقد تکون کلمة «عصم» فی هذا المورد، بمعنی «منع»، ولکن فی آیة اخری نقرأ:

«وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا»3

فالکلمة هنا ظاهرة فی «المَسْک» و«التَّمسُّک».

ومن هنا، فإن بعض المفسرین ذکروا حدیث الثقلین فی ذیل هذه الآیة المبارکة. قال الطبرسی فی مجمع البیان:

«وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ » أی: تمسّکوا به.

وقال الطبرسی رحمه اللّه بعد ذلک: قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله:

«أیّها الناس ! إنّی قد ترکت فیکم حبلین؛ إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدی، أحدهما أکبر من الآخر: کتاب اللّه، حبل ممدود من السماء إلی الأرض، وعترتی أهل بیتی، ألا وإنّهما لن یفترقا حتّی یردا علی الحوض»؛(2)

ص:165

وفی روایة أخری عن الصّادق علیه السّلام، قال:

«نحنُ حبلُ اللّه الذی قال: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» وولایة علی علیه السّلام البرّ، فمن إستمسک به کان مؤمناً ومن ترکه خرج من الإیمان»؛(1)

أضف إلی ذلک، إنَّ نفس حدیث الثقلین قد جاء فیه لفظ «عصم»، حیث یقول صلّی اللّه علیه وآله:

«إنّی تارک فیکم ما إن اعتصمتم به لن تضلّوا مِنْ بعدی، کتاب اللّه وعترتی أهْلَ بَیْتِی».(2)

ویمکن أن نعتبر کلمة «الحفظ» عنواناً جامعاً بین «المنع» و«المَسْک» وهذِهِ تدقیقات فی المفهوم.

إذن، فاللّه سبحانه وتعالی قد حفظ الأئمّة علیهم السّلام من الزلل؛ وأنّ اللّه تعالی قد آمنهم من الفتن.

والفتنة فی اللغة، ما خالف ظاهرُهُ واقعَهُ ، وأوقع الإنسان فی الاشتباه.(3)

ومن ثمَّ ، قسّموا الفتنة إلی بسیطة وعمیاء.

ثم إنَّ مفهوم «الدنس» وإنْ کان قریباً جدّاً من مفهوم «الرجس» إلّا إنّ التفاوت بینهما موجودٌ، وإنْ کان دقیقاً.

ص:166

وعلی کلّ حال، فکلاهما یعبِّر عمّا یضادّ الطهارة والنقاء.(1)

ومن الواضح أنَّ کلمة «الطهر» تستعمل فی مورد الطّهارة بمعنی «الدفع» کما تستعمل فیها بمعنی «الرفع»، والإذهاب فی الآیة دفعی لارفعی، فإن اللّه عزّوجلّ طهّر أهل البیت من الدنس فلم یعرض علیهم أصلاً.

مضافاً إلی إنَّ «عصمکم اللّه» لاتأتی بمعنی الرفع، لأنّ «الرفع» لا یتناسب مع «عصم»، وکذا الإذهاب، فإنه لا یتناسب مع «عصم» إذا کان بمعنی الرفع بعد الوجود.

والإمام لطف من اللّه وحالة معنویّة فی المعصوم بدرجة تمنع عن اختیارٍ من صدور المعصیة وترک الطاعة.

ولمّا کانت العصمة لطفاً إلهیّاً، فقد نسبت إلی اللّه تعالی فی قوله علیه السّلام:

«عصمکم اللّه».

هذا، وإنَّ فی القرآن الکریم آیةً یبدو أنّها فی نفس هذا المضمار، وهی قوله تعالی :

«وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَیْکَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ یُضِلُّوکَ »1

وبناءاً علی هذه الآیة، فإنّ الحافظ لرسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله هو فضل اللّه ولطفه، والرحمة الإلهیّة، وهذِهِ هی العصمة.

ثم إنّ جمعاً من المتأخرین من کبار العلماء، یَرَونَ أنّ أساس العصمة فی المعصوم علمُهُ . وذلک، لأنّ المعصوم عالمٌ بقبح الذّنوب وآثارها السیّئة، فلذا لا تصدر منه. قال العلّامة الطباطبائی فی تفسیر المیزان حول العصمة:

«ظاهر الآیة أنَّ الأمر الّذی تتحقق به العصمة نوع من العلم یمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصیة والخطأ.

وبعبارة أخری، علم مانع عن الضلال، کما إنّ سائر الأخلاق کالشجاعة والعفّة والسخاء کلّ منها صورة علمیّة راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعة عن التلبّس بأضدادها، من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذیر... ».(1)

ص:168

ویقول الشیخ الزرقانی المالکی فی «شرح المواهب اللّدنیّة» فی أحوال النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله:

«إنّه معصوم من الذنوب، بعد النبوّة وقبلها، کبیرها وصغیرها، وعمدها وسهوها علی الأصحّ ».

ثمّ ینقل عن الحافظ السبکی قوله:

«أجمعت الأمّة علی عصمة الأنبیاء فی ما یتعلّق بالتبلیغ وغیره، من الکبائر والصغائر الخسیسة، والمداومة علی الصغائر. وفی صغائر لا تحط من رتبتهم خلاف...».(1)

یکون حجّة یحتجُّ به اللّه تعالی علی عباده ویؤاخذهم علی عدم إعتماد أقواله وأفعاله وتعالیمه، بعنوان الرسالة أو الإمامة؛ بل للعباد حینئذ الإعتذار عن عدم المتابعة والإطاعة له.

فلو کان الأمر کذلک، لم تتمَّ حجّة اللّه تعالی علی الناس، ویتخلف مضمون الآیتین:

«قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ »، (1) «لِئَلاّ یَکُونَ لِلنّاسِ عَلَی اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ».2

لذا، فإنَّ حجّة اللّه علی الناس، لابدَّ أن یکون معصوماً حتّی عن السّهو والخطأ والإشتباه والنسیان، لتصحَّ مؤاخذة العبد یوم القیامة علی تخلّفه عن متابعة هذا الحجّة وإمتثال أوامره ونواهیه وترک الإقتداء والتأسی به، وإلّا لزم نقض الغرض من إقامة الحجّة.

فالغرض من نصب الإمام هو هدایة البشر وإیصالهم إلی الحقیقة، لذا کانت إطاعته والإقتداء به واجباً بنحو مطلق والتأسّی به فی کلّ الأحوال ضروریّاً.

فالإمام، منصوبٌ لبیان الأحکام الإلهیّة وحقائق القرآن الکریم، حتّی المتشابهات من آیاته - حیث قال: «وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ »3

فقد ورد عنهم:

«نَحنُ الرّاسِخُونَ فِی العِلمِ »؛(2)

ص:170

وفی هذه الحالة، لابدَّ أن یکون معصوماً من کلِّ الجهات المنافیة، فإنّه لو احتملنا فی حقّه الإشتباه فی تفسیر وتأویل آیة أو بیان حکم، لم یجز لنا الأخذ بقوله، فیلزم التناقض أو نقض الغرض.

کما إنَّ الإمام هو حجّة اللّه علی الخلق، فلو لم یکن معصوماً عن الخطأ، السهو، والنسیان، لم یمکن للّه الإحتجاج بأقواله وأفعاله علی الناس، وهذا نقض للغرض، وتناقض.

وأیضاً، یعتبر فی النبی و الإمام نزاهته ممّا یوجب تنفّر الناس منه، ولا شک فی أنّ الخطأ والإشتباه والسهو، یُسقطه من أعین الناس، فلا یُعتنی بأقواله ولا یُقتدی بأفعاله.

ولتوضیح هذا المعنی نضرب مثلاً:

لو بَنی أهل بلدٍ مسجداً لهم، وطلبوا من الحوزة العلمیّة إرسال عالمٍ یؤمّ الناس فی المسجد، ویبیّن لهم الأحکام الشرعیّة، ویعلّمهم معالم دینهم، فأرسلت الحوزة العلمیّة عالماً إلی ذلک البلد، فوقع السّهو من هذا الإمام فی صلاته فی الیوم الأوّل من وصوله، فإن الناس قد یعذرونه بحجّة إنه قد وصل توّاً من سفره وأنه مرهق، ولو سألوا منه مسألة فلم یحر جواباً أو أجاب خطأ، فقد یعذرونه بالنسیان.

ولکن لو تکرر منه ذلک ثانیةً و ثالثةً ، فلن یبقی الناس مکتوفی الأیدی، وإنما سیکتبون إلی أولی الأمر فی الحوزة العلمیّة، یطلبون منهم استدعاء هذا الشخص واستبداله بغیره.

ولاشک أنّ هذا التصرّف منهم طبیعی ومقبول.

وکمثال آخرَ أوضح من الأول:

ص:171

لو أنَّ طبیباً علّق یافطة علی مطبّه بأنه حکیم عُیون، فراجعه أحدهم، فحاول معالجته، ولکن لیس فقط لم ینجح علاجه وإنما تسبب فی عماه وفقدان بصره، ثمّ تکرّر ذلک بالنسبة إلی المریض الثانی، ففی هذه الحالة لا یعاتب أهل ذلک البلد إذا ما اجتمعوا حول محلّ طبابته وثارت ثائرتهم ضدّه وأجبروه علی تعطیل المکان.

وبعد هذین المثالین نقول إنّه لا یجوز علی الإمام وخلیفة اللّه والحجّة الإلهیّة علی الخلق أنْ یخطأ أو یسهو و لو مرّةً واحدة.

فالحاصل، إنّ الإمام، وبحکم العقل یجب أن یکون معصوماً عن الخطأ والنسیان والسهو، والأدلّة العقلیّة والنقلیّة علی ذلک کثیرة، وبهذا صرّح کبار العلماء قدیماً وحدیثاً، ولا غلوّ فی ذلک.

مضافاً إلی ذلک، فإنّ بعض العلماء إشترطوا خلوّه من «منافیات المروءة» أیضاً. یقول المرحوم المظفر:

«بل یجب أن یکون منزّهاً حتّی عمّا ینافی المروءة، کالتبذّل بین الناس، من أکل فی الطریق أو ضحک عال، وکلّ عمل یستهجن فعله عند العرف العام».(1)

یقول تعالی فی کتابه المجید:

«فَأَشارَتْ إِلَیْهِ قالُوا کَیْفَ نُکَلِّمُ مَنْ کانَ فِی الْمَهْدِ صَبِیًّا* قالَ إِنِّی عَبْدُ اللّهِ آتانِیَ الْکِتابَ وَ جَعَلَنِی نَبِیًّا»1

وثانیاً: ألیس ممکناً إجتماع العلم مع السّهو؟

فالقائلون بأن العلم هو المنشأ للعصمة، وفی نفس الوقت یقولون بأن المعصوم لابدَّ أن یکون معصوماً عن السّهو والنسیان، علیهم أن یبیّنوا کیفیّة الجمع بین هذین الأمرین.

أجل، إنَّ العلم لا یجتمع مع الجهل، لکنّه یجتمع مع السّهو، ألا یسهو العالم ؟

والظاهر إنّ القائلین بهذه النظریّة، إنّما قالوا بها لعدم قدرتهم علی الجمع بین العصمة والإختیار، لأنَّ علماءنا قالوا فی تعریف العصمة:

«... بحیث یمتنع منه وقوع المعصیة وترک الطاعة مع قدرته علیهما... ولا تنافی العصمة القدرة».(1)

المطلب الرابع: وبناءاً علی هذه التعریفات، تبقی شبهة «تنافی العصمة مع القدرة»، فکیف یکون للمعصوم القدرة علی إرتکاب المعصیة، والحال أنَّ اللّه هو الذی یفعل ذلک به، کما قالوا «یفعله اللّه»، أی إنَّ اللّه هو الذی جعله معصوماً، فإذا کانت بجعل من اللّه، فکیف یکون مختاراً؟

ومن هنا، فإنّ بعض علماء أهل السنّة یأخذون علینا فی هذا ویذکرون أنَّ القول بأن العصمة حالة یفعلها اللّه بالعبد لا یجتمع مع إنکار الجبر، والقول بأن العصمة بفعل اللّه لا یجتمع مع التصریح بالقدرة وعدم سلب الاختیار فی تعریف العصمة.

ویبدو أنَّ الشیخ المفید، السید المرتضی، الخواجه نصیر الدین الطوسی، العلّامة الحلّی رحمهم اللّه وغیرهم من أکابرنا الذین یصرحون بعدم سلب القدرة

ص:174

والإختیار عن المعصوم، قد حلّوا هذه الشبهة بدون رفع الید عن أنّه لا جبر ولا تفویض بل أمرٌ بین الأمرین.

المعصوم - بلطف اللّه - تحصل فیه حالة ینتفی فیها وجودُ الداعی إلی فعل الحرام وترک الواجب، ولا یقع منه السّهو والنسیان. فإنه لا یمکننا أن نتصوّر التشکیکیّة فی العصمة والقول بتعدّد مراتبها.

ولا یخفی أنَّ بین النبوّة والإمامة وبین العصمة، عموم مطلق، فکلّ نبی وإمام معصوم، ولیس کلُّ معصومٍ بنبی أو إمام، وعلیه، فمن نصب من قبل اللّه تعالی لقیادة الامّة وجعله حجةً بینه وبین الخلق وأوجب علیهم طاعته واتّباعه علی الإطلاق، فإنه یستحیل أنْ لایکون معصوماً.

وأمّا فیما یرتبط بمولاتنا الصدّیقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام اللّه علیها، فإنّ لها الولایة الکبری ، ولکنّها لیست إماماً. وقد ذهب البعض إلی أنَّ سلمان المحمدی معصوم أیضاً، ولکن لا فی حدِّ عصمة الأئمّة علیهم الصّلاة والسّلام.

ولکن علی هؤلاء أولاً أن یثبتوا تشکیکیّة العصمة.

ولا یبعد أن یکون مرادهم من عصمته، مرتبة عالیة من العدالة تتلو العصمة فی درجتها، إنطلاقاً من أنَّ إیمان سلمان کان أعلی رُتب الإیمان.

وعلیه، سیکون البحث لفظیاً، واللّه العالم.

أنّ مسألة عصمة الأئمّة لم تکن مطروحةً فی القرون الأولی.

وللأسف، فإنّ هؤلاء یتدخّلون فی أمور لیست من اختصاصهم، فهم یوقعون أنفسهم فیما یؤاخذون علیه فی الدنیا والآخرة، کما إنَّهم یتسببون فی وقوع الآخرین فی مثل هذه المآزق.

ولقد أثبتنا فی مباحث الإمامة والولایة، عصمة الأنبیاء فی القرآن الکریم؛ وإنْ کانت بعض الآیات الکریمة توهم بعدم العصمة.

ومن الأدلّة علی عصمة الأئمّة علیهم السّلام، آیة التطهیر، والتی أشیر إلیها فی هذه الفقرة من الزیارة.(1)

یقول تعالی فی القرآن الکریم:

«إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً»2

ولنوضّح معانی مفردات الألفاظ الواردة فی الآیة: «إنّما»، «یُرید»، «لیذهب»، «الرجس»، فنقول:

إنَّ «إنّما» سواءً کانت مرکبة أو بسیطة، موضوعة وبتصریح أهل اللغة لإفادة الحصر، إلّا إذا وجدت قرینة صارفة عن ذلک.

یقول إبن منظور فی لسان العرب:

«إذا اضیفت» إنَّ «إلی » ما «فإنها تدلُّ علی التعیین، مثل قوله تعالی :

«إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساکِینِ »3 ، فإنّها تدل علی إثبات الحکم لهؤلاء ونفیه عن غیرهم»(2)

ص:177

ولکنّ الفخر الرازی، أنکر دلالة «إنّما» علی الحصر فی آیة الولایة وهی قوله تعالی : «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ »1 قائلاً:

«ولا نسلِّم أنَّ الکلمة» إنّما «للحصر، والدّلیل علیه قوله: «إِنَّما مَثَلُ الْحَیاةِ الدُّنْیا کَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ».2 ولا شک أنَّ الحیاة الدنیا لها أمثال أخری سوی هذا المثل. وقال: «إِنَّمَا الْحَیاةُ الدُّنْیا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ»3 ولا شک أنّ اللعب واللّهو قد یحصل فی غیرها».(1)

وفی مسألة مفهوم الحصر فی کتب علم الاصول طرح علماؤنا کلام الفخر الرازی علی طاولة البحث، وأجابوا عنه بالتفصیل، کما قد ردّ علیه فی الکتب الکلامیّة والتفسیر أیضاً.

وقد اجیب عن هذه الشبهة فی محلِّه.(1)

وأمّا کلمة «لیذهب» فهی بمعنی الدفع لا الرّفع.

وإنَّ «الرّجس» هو الأعم من النقائص والقذارات المادیّة والمعنویّة، المحسوسة وغیر المحسوسة.

وبالإلتفات إلی هذه الخصوصیّات المأخوذة فی الآیة المبارکة، تکون الآیة دالّة علی عصمة أهل البیت علیهم السّلام.

ومن جهة ثانیة، فإنَّ الأفعال «یُرید» و«لیذهب» فی الآیة الکریمة، مستندة إلی اللّه تعالی ، کما ورد فی الزیارة الجامعة «عصمکم» حیث اسند الإعصام إلی اللّه تعالی .

والقول باختصاص الآیة بأزواج رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله باطل، وکذا القول بأنّ المراد هم الخمسة الطاهرة والأزواج معاً.

وذلک، لأنْ رسول اللّه قد فسّر الآیة المبارکة وعیّن المراد منها، کما فی الأحادیث الصّحیحة المتّفق علیها، فکان علی جمیع المسلمین الأخذ بما قال، کما أمر اللّه سبحانه بقوله: «ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».1 فلماذا یخالف بعض النّاس هذه السنّة النبویّة الثابتة، وهم یسمّون أنفسهم بأهل السنّة ؟ إن کان المقصود من «السنّة» التی هم أهلها والحافظون لها سنّة النبیّ الأکرم لاغیرها؟

نعم، الأحادیث القطعیّة فی المقام کثیرة...

وکنموذج لهذا التفسیر النبوی للآیة، لاحظوا ما جاء فی مسند أحمد:

عن عطاء بن أبی رباح، قال:

«حدّثنی من سمع أمّ سلمة تذکر أنّ النبی صلّی اللّه علیه وآله کان فی بیتها، فأتته فاطمة ببرمة فیها خزیرة، فدخلت بها علیه، فقال لها: ادعی زوجک وابنیک.

قالت: فجاء علی والحسین والحسن، فدخلوا علیه فجلسوا یأکلون من تلک الخزیرة وهو علی منامة له علی دکان تحته کساء له خیبری. قالت: وأنا أصلی فی الحجرة، فأنزل اللّه عزّوجلّ هذه الآیة: «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً».2

قالت: فأخذ فضل الکساء فغشّاهم به، ثمّ أخرج یده فألوی بها إلی السماء، ثمّ قال:

ص:180

اللهم هؤلاء أهل بیتی وخاصّتی فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهیراً.

قالت: فأدخلت رأسی البیت فقلت: وأنا معکم یا رسول اللّه !

قال: إنّک إلی خیر، إنّک إلی خیر».(1)

وجاء فی صحیح مسلم: عن صفیّة بنت شیبة، قالت:

«قالت عائشة: خرج النبی صلّی اللّه علیه وآله غداة وعلیه مرط من شعر أسود، فجاء الحسن بن علی فأدخله، ثمّ جاء الحسین فدخل معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ قال: «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً»»2

فإذا کان النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله - کما ورد بسند صحیح - قد عیَّن المراد من «أهل البیت» فی الآیة الکریمة، فلماذا المکابرة مع رسول اللّه ؟

ونقرأ فی آیة کریمة أخری:

«قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی »3

وقد نُقل بأسانید صحیحة فی کتب أهل السنّة أنَّ النبی صلّی اللّه علیه وآله قد عیَّن المراد من القربی وهم علی وفاطمة وحسن وحسین علیهم السّلام. ومن ذلک ما روی عن ابن عباس قال:

«لمّا نزلت «قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی » قالوا: یا رسول اللّه، من قرابتک هؤلاء الَّذین وجبت علینا مودّتهم ؟

ص:181

قال: علی وفاطمة وابناهما».(1)

هذا، ولقد فسَّر رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله آیة المباهلة تفسیراً عملیّاً.

فعندما نزل قوله تعالی :

«فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ ...»2

خرج رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وعلی وفاطمة وحسن وحسین علیهم السّلام للمباهلة مع النصاری، وهذا تفسیر عملی للآیة المبارکة.

فلماذا لم یقبل أهل السنّة هذه السنّة الواصلة إلیهم بسند صحیح وقد ذکروه فی کتبهم ؟

وفی روایة أخری، عن عامر بن سعد بن أبی وقاص عن أبیه قال:

«أمَرَ معاویة بن أبی سفیان سعداً فقال: ما منعک أن تسبّ أبا تراب ؟

فقال: أمّا ما ذکرت ثلاثاً قالهن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله فلن أسبّه؛ لأن تکون لی واحدة منهنّ أحبّ إلی من حمر النعم. سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله یقول له وخلّفه فی بعض مغازیه، فقال له علی: یا رسول اللّه ! خلّفتنی مع النساء والصبیان ؟

فقال له رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله: أما ترضی أن تکون منّی بمنزلة هارون من موسی إلّا أنّه لا نبوّة بعدی ؟

وسمعته یقول یوم خیبر: لأعطینّ الرایة رجلاً یحبّ اللّه ورسوله ویحبّه اللّه ورسوله.

ص:182

قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لی علیّاً.

فأتی به أرمد، فبصق فی عینه ودفع الرایة إلیه، ففتح اللّه علیه.

ولمّا نزلت هذه الآیة «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ » الآیة، دعا رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله علیّاً وفاطمة وحسناً وحسیناً، فقال: اللهم هؤلاء أهلی».(1)

فرسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم، عندما نزلت آیة التطهیر، قد عیّن «أهل البیت» قولاً وفعلاً، وشخَّصهم بأشخاصهم، فهل بعد ذلک مجالٌ للإنکار والمکابرة ؟

نعم، إنّه عکرمة البربری الخارجی - الذی قال أهلُ السنّة فی حقّه أنه کذّاب وجرّحوه وطعنوا فیه(2) - کان یدور فی الأسواق ویقول: لا واللّه !! لیس کما تقولون، وإنّما نزلت آیة التطهیر فی نساء النبی فقط !!(3)

ومنه یظهر أنَّ المعروف عند المسلمین فی ذلک الوقت هو أنّ آیة التطهیر نزلت فی حقِّ أهل البیت خاصّة، فکان عکرمة یخالف عامّة المسلمین ویدّعی إنّها فی نساء النبی خاصّة !!

هذا الخارجی البربری الذی حضر عند ابن عباس مدّةً ، ثمَّ کذَب علی إبن عباس، ونسب إلیه ما لم یَقُله، فعاقبه علی بن عبد اللّه بن عباس وربطه بالحبل بباب بیت الخلاء، هل یکون کلامُه حجّة ؟!

ومن هنا، کان حدیث الکساء المذکور هو الخبر المشهور روایةً بین أهل

ص:183

السنّة بتفسیر الآیة، وبأسانید صحیحة ومعتبرة، کما فی صحیح مسلم، مسند أحمد، تفسیر الطبری وغیرها من مصادرهم، حیث أنَّ النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم قد عیّن أهل البیت عملیّاً، ثمّ قال صلوات اللّه وسلامه علیه وعلی آله:

«اللّهمّ هؤلاء أهلُ بَیتی».(1)

ومن جهة أخری، فقد نصَّ غیر واحدٍ من کبار علماء أهل السنّة، کأبی جعفر الطحاوی - وهو فقیه محدّث جلیل القدر عندهم - وتقی الدین المقریزی، علی هذه الحقیقة، وقالوا: إنّ المراد من الآیة هم أهل البیت فقط.(2)

فها هو الطحاوی فی کتابه «مشکل الآثار»، بعد نقل روایات حول اختصاص آیة التطهیر بالنبی وأمیر المؤمنین وفاطمة والحسن والحسین صلوات اللّه علیهم أجمعین وخروج امِّ سلمة عن عنوان أهل البیت، یقول:

«فإن قال قائل: فإنّ کتاب اللّه تعالی یدلّ علی أنّ أزواج النبی هم المقصودون بتلک الآیة، لأنّه قال قبلها فی السورة الّتی هی فیها: «یا أَیُّهَا النَّبِیُّ قُلْ لِأَزْواجِکَ ...» فکان ذلک کلّه یؤذن به، لأنه علی خطاب النساء لا علی خطاب الرجال، ثمّ قال: «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ ».

فکان جوابنا له: إنّ الذی تلاه إلی آخر ما قبل قوله: «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ » ...

خطاب لأزواجه، ثمّ أعقب ذلک بخطاب لأهله بقوله تعالی : «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ »

ص:184

الآیة، فجاء به علی خطاب الرجال، لأنّه قال فیه: «لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ » وهکذا خطاب الرجال، وما قبله فجاء به بالنون وکذلک خطاب النساء.

فعقلنا أنّ قوله: «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ » ، خطاب لمن أراده من الرجال بذلک، لیعلمهم تشریفه لهم ورفعه لمقدارهم أن جعل نساءهم ممّن قد وصفه لما وصفه به ممّا فی الآیات المتلوة قبل الّذی خاطبهم به تعالی .

وممّا دلّ علی ذلک أیضاً ما قد حدّثنا... عن أنس: أنَّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله کان إذا خرج إلی صلاة الفجر یقول: الصَّلاة یا أهل البیت «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ » الآیة، وما قد حدّثنا.... أبو الحمراء، قال: صحبت رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله...

فی هذا أیضاً دلیل علی أنّ هذه الآیة فیهم».(1)

ومع إحترامنا الخاص لامِّ سلمة، لکنّها لیست مشمولة بالآیة.(2)

أفبعد کلِّ هذا، هل یمکن أن تشمل آیة التطهیر عائشةَ وحفصةَ بعد ورود ما ورد فی حقّهما فی سورة التحریم، والذی وضَّحناه فی محلِّه ؟!(3)

هذا، وقد الّفت کتبٌ خاصّة کثیرة حول آیة التطهیر وحدیث الکساء وقدّمت تحقیقات رشیقة فی بعض الموسوعات، أثبتت لیس فقط بطلان القول باختصاص الآیة بنساء النبی، وإنَّما أبطلت حتّی إشتراکهن مع أهل البیت فیها.

ص:185

والحاصل: إنّ هذا الحدیث الشّریف - الصحّیح سنداً عند الفریقین والواضح دلالةً - یثبت اختصاص آیة التطهیر بأهل البیت علیهم السّلام، ولیس للمخالفین إلّا التمسّک بالسّیاق. حیث یقولون: إنَّ آیة التطهیر قد وردت فی ضمن الآیات المتحدّثة مع نساء النبی صلّی اللّه علیه وآله.

ویمکن الإجابة عن ذلک بعدّة وجوه:

الأوّل: إنَّ السیاق قرینة عُرفیة فی الموارد التی لم یرد فیها الدلیل، فنرجع إلی السیاق لنعرف معنی الکلام فی حال عدم الدلیل؛ وأمّا إذا قام الدلیل فی موردٍ علی المعنی المقصود، لم یکن السیاق حینئذٍ قرینة علی المعنی المخالف لمضمون الدلیل.

الثانی: إنّ قبول هذا السیاق هو أوّل الکلام، کما ذکر غیرواحدٍ من علماء أهل السنّة، قالوا: لأنَّ الضمائر الموجودة فی الآیات، ضمائر تأنیث، وعندما نصل إلی هذه الآیة نجد إنّ الضمیر للتذکیر، فأین السیاق إذن ؟

یقول ابن حجر المکّی الشّافعی فی الصواعق المحرقة: «الفصل الأول فی الآیات الواردة فیهم.

الآیة الأولی، قال اللّه تعالی : «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً» وأکثر المفسّرین علی أنّها نزلت علی علی وفاطمة والحسن والحسین، لتذکیر ضمیر «عنکم» وما بعده»(1)

وکذا قال الحافظ أبوجعفر الطّحاوی وغیره

وخیر شاهد علی عدم السیاقیة، هو أننا إذا رفعنا آیة التطهیر من بین تلک

ص:186

الآیات فی خطاب نساء النبی، لم یحصل أی خلل فی نظم الآیات ویبقی الإرتباط بین الآیات المتناولة لنساء النبی محفوظاً.

الثالثة: أننا طرحنا فی محلّه بحثاً کبرویاً فی أنَّ ترتیب سور القرآن الکریم وآیاته الشریفة، بهذا النحو الموجود، هل کان فی زمن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وبأمر منه أم لا؟

فهذا المطلب لابدّ من إثباته.

وعلیه، فمجرَّد أن یقال: إنَّ آیة التطهیر وقعت بین الآیات المتعلّقة بنساء النبی صلّی اللّه علیه وآله، ولذا، فإن المراد منها هو نساء النبی !! مثل هذا الکلام لا یمکن قبوله أصلاً. وکذلک القول بمشارکتهنّ لأهل البیت فی الآیة المبارکة، بدعوی أنّه مقتضی الجمع بین السیاق و الحدیث الصحیح الوارد فی اختصاصها بأهل البیت،(1) فإنّه قول باطل، لأنّه علی خلاف السنّة النبویّة المعتمدة کما عرفت.

ومن جهة أخری، فإنّ التحقیق تکرر قصة حدیث الکساء، وأنها لم تکن لمرّة واحدة، لأنّ الأحادیث الواردة فیها مختلفة وکلّها بأسانید صحیحة، و لا یمکن الجمع بینها والقول بأنّها جمیعاً ناظرة إلی حادثة واحدة.

وهذا الأمر لیس عجیباً من رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله، فإنه کان یُکثر من الوصیّة بأهل بیته علیهم السّلام وبأنحاء مختلفة، وقد تکررت منه بعض المواقف، لبیان الأهمیّة.

وکمثال لذلک، فإن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله، وقبل یوم غدیر خُم، قال:

«من کنت مولاه فهذا علی مولاه»؛

ص:187

یقول بُریدة:

«غزوت مع علی علیه السّلام الیمن، فرأیت منه جفوةً ، فلمّا قدمت علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله ذکرت علیّاً، فتنقصته، فرأیت وجه رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله یتغیّر، فقال: یا بریدة ! ألست أولی بالمؤمنین من أنفسهم ؟

قلت: بلی یا رسول اللّه !

قال: فمن کنت مولاه فعلی مولاه».(1)

فالبعض یُشکل علینا ویقول: کیف تروون حدیث الغدیر عن فُلانٍ من الصّحابة، والحال أنه کان قد مات قبل حجَّة الوداع ؟

ونقول فی الجواب: قد ورد بسند صحیح عن طریق الصحّابی أنَّ النبی صلّی اللّه علیه وآله وسلّم قال: «من کنت مولاه فعلی مولاه»، ثمّ ثبت موته بعد واقعة بدر، ممّا یدلّ علی تکرّر صدور هذا الکلام منه صلّی اللّه علیه و آله.

ومن جملة المواطن التی وردت فیها هذه العبارة أیضاً، قضیة المؤاخاة التی وقعت أوائل أیّام الهجرة.

ففی هذه القضیّة قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله لعلی علیه السلام:

«ما یبکیک یا أبا الحسن ؟

قال: آخیت بین المهاجرین والأنصار یا رسول اللّه، وأنا واقف ترانی وتعرف مکانی ولم تؤاخ بینی وبین أحد. قال: إنّما ادّخرتک لنفسی، أ لا یسرّک أن تکون أخا نبیّک ؟

ص:188

قال: بلی یا رسول اللّه، أنّی لی بذلک.

فأخذ بیده وأرقاه المنبر، فقال: اللّهمّ هذا منّی وأنا منه، ألا إنّه منّی بمنزلة هارون من موسی، ألا من کنت مولاه فهذا علی مولاه...»(1)

إذن، فقول رسول اللّه صلی اله علیه وآله «من کنت مولاه فهذا علی مولاه» لم یکن لمرّة واحدة، ولکنَّ واقعة الغدیر اشتهرت أکثر من بقیّة الموارد.

والنموذج الآخر، هو حدیث الثقلین، المتواتر بین المسلمین، حیث قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله:

«إنّی تارک فیکم الثقلین، کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی ما إن تمسّکتم بهما لن تضلّوا أبداً».(2)

فهذا الحدیث أیضاً قد سُمع مراراً من لسان رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله.

وعلی الإجمال، فحدیث الکساء الشریف قد تکرر أکثر من مرَّة، بناءاً علی التحقیق الذی ورد فی کتب أهل السنّة ومصادرهم المعتبرة؛ کما إنَّ آیة التطهیر تکرَّر نزولها.

وکذا، ثبت أن النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله قال مراراً وفی موارد مختلفة:

«اللهم هؤلاء أهل بیتی».

ص:189

فلا استبعاد لتکرار صدور مثل هذه الکلمات من رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله، بل إنَّ عدّة من کبار علماء أهل السنّة قد صرّحوا فی کتبهم بتکرر وقوع حادثة حدیث الکساء، مع أننا لانحتاج إلی توافقهم معنا فی شئ من المسائل بعد قیام الدلیل.

والخلاصة، هی إنَّ الروایات المعتبرة لحدیث الکساء غیر قابلة للجمع، فلا مناص من القول بتکرّر الواقعة.

ابن قولویه القمّی، عن شیخه الکلینی، عن علی بن إبراهیم، عن أبیه إبراهیم ابن هاشم، عن أحمد بن محمّد بن أبی نصر البزنطی، عن قاسم بن یحیی الجلّاء الکوفی، عن أبی بصیر، عن أبان بن تغلب البکری، عن جابر بن یزید الجعفی، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاری، عن فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله وسلم».(1)

وهذا سند حدیث الکساء عن فاطمة الزهراء علیها السّلام فی کتاب «عوالم العلوم» للشیخ البحرانی المتوفی سنة 1107. وورد قطعة منه فی کتاب «الغرر و الدرر» للشیخ الدیلمی المتوفّی سنة 841 .

وقد أورد آیة اللّه السیّد المرعشی روایة حدیث الکساء عن الصدّیقة الطاهرة فی تعالیق کتاب «إحقاق الحق» حیث قال:

«أنقلها من رسالة العالم الجلیل الحجّة الزاهد الحاج الشیخ محمد تقی ابن الحاج الشیخ محمد باقر الیزدی البافقی نزیل قم».(2)

ثم یقول: وقد نُقل هذا الحدیث مسنداً فی کتاب «عوالم العلوم» وهو من الکتب المعتبرة التی لم تطبع وتنشر لحد الآن.

ویضیف قائلاً:

«ثمّ طلبت من الفاضل الجلیل الحجّة الشیخ محمد الصّدوقی الیزدی أن یستکتب من نسخ «العوالم» سند الحدیث ومتنه».

ثم یقول بعد ذلک:

ص:191

«وممن نقل المتن العلّامة الجلیل الثقة الثبت شیخنا فخر الدین محمد علی الطریحی... وممّن یوجد فی کلماته هذا المتن العلّامة الجلیل الدیلمی صاحب الإرشاد فی کتابه الغرر والدرر، فیوجد فیه ما یقرب من نصف الخبر».

ثم یقول السیّد المرعشی:

«وکذا الحسین العلوی الدمشقی الحنفی من أسرة نقباء الشّام، وقد رأیته بخطِّه».(1)

ولا یخفی أنّ هذا القدر کافٍ للوثوق بوقوع القضیّة وصدور الخبر، فلا مجال للمناقشة فی السّند ولا فی المتن ولا فی دلالته.

فلا یقال فی ناحیة السند، إنَّ الشیخ البحرانی رحمه اللّه یقول: رأیت بخطّ...

فمن یضمن بصحّة تشخیصه بأنّ ذلک الخطّ هو خط السیّد هاشم البحرانی رحمه اللّه ؟

إنَّ الشیخ عبد اللّه البحرانی صاحب «عوالم العلوم» یشهد بأنَّ هذا هو خط السیّد هاشم البحرانی، والشیخ ثقةٌ معتَمدٌ، ویقول: أنقله عن خط السید هاشم.

فلو لم نعتمد علی مثل هذه الشهادة، یلزم التشکیک بکلّ النسخ الخطیّة التی شهد علیها کبار علمائنا، کالشیخ البهائی والعلامة المجلسی وآخرین، حیث جاءت شهاداتهم علی کتب الشیخ الصدوق و الشیخ الطوسی، وکتب أخری غیرها فکانت دلیلاً علی ثبوت تلک الکتب ونسبتها إلی مصنّفیها.

ففی مکتبة السید المرعشی فی قم مجلّد بخطّه من کتاب «التبیان فی تفسیر القرآن» للشیخ الطوسی فهل من الجائز لغیر أهل الاختصاص التشکیک فی صحّة النسبة ؟

ص:192

أبداً، لا تصح الخدشة بهذا النحو، فإنه لا یستقّر حینئذ حجرٌ علی حجر، إلّا إذا ما أنکرنا وثاقة الشهود رأساً، والعیاذ باللّه.

ولا یقال إنّ هذا السند المنسوب إلی السید هاشم البحرانی قدس سره، لم یُذکر فی کتب السید هاشم مثل کتاب «تفسیر البرهان» وکتاب «غایة المرام» إذن، فالسند غیر صحیح (!!)

کما لا یقال إنّ الکثیر من کبار محدِّثی الشیعة الذین وردت أسماؤهم، فی سلسلة السند، کالشیخ الکلینی، الشیخ المفید، الشیخ الطوسی، ابن شهر آشوب، والطبرسی رحمهم اللّه، لم یذکروا «حدیث الکساء» فی کتبهم.

أقول:

إذا لم یذکر المرحوم الکلینی - مثلاً - حدیث الکساء بهذا المتن المعروف، فی کتابه الکافی، فهل یعنی هذا أنّ الحدیث غیر صحیح ؟!

أفهل کان الکلینی ملتزماً بنقل کلّ علومه فی الکافی لیقال: إنَّ ما نُقل فی غیر «الکافی» من أقوال الکلینی، فهو کذب ؟!

إذن، لا صرفُ الوجود دلیلٌ علی الصحة، ولا صرف عدم الوجود دلیل علی البطلان وعدم الصحة، وإنّما المهم هو النقل عن الثقات وصحّة سلسلة السند إلیه.

وکذا الکلام فی الشیخ المفید، الشیخ الطوسی، والعلّامة الحلّی فیما لو وقعوا فی سند حدیثٍ من الأحادیث ولم یذکروا ذاک الحدیث فی أیٍ من کتبهم الفقهیّة والاصولیّة والروائیّة.

والحاصل، إنّ هذا الحدیث معتبر ولو لم یرد فی أیّ کتاب من الکتب المعروفة للفریقین، وحتّی فی الکتب المهتمّة بجمع الأحادیث المنسوبة إلی أهل البیت علیهم السّلام، مثل کتاب بحار الأنوار للعلّامة المجلسی.

ص:193

ونحن نبیِّنُ أمراً کبرویاً یکون مورداً للإستفادة دائماً، وهو:

إنَّ الأمر العدمی لا یعتبر أبداً دلیلاً علی الأمر العدمی، ولا یصح الاستدلال علی العدم بالعدم، فلایقال للشخص: لست فقیهاً، لأنک لم تؤلّف کتاباً فی الفقه ! فعدم تألیفک فی الفقه دلیلٌ علی عدم فقاهتک.

إنّ مثل هذا الإستدلال باطل، لأنَّ عدم الکتابة فی الفقه، لیس دلیلاً علی عدم الفقاهة أبداً، بل هو لازم أعمّ .

نموذج آخر: یقول البعض: إذا کانت الإمامة مهمة إلی هذه الدرجة التی تدّعون، فلماذا لم تُذکر فی القرآن الکریم، ولم یصرَّح فیه باسم أمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب علیهما السلام ؟

إذن، فإمامة علی بن أبی طالب، باطلة !!

نقول فی مقام الجواب: إنّ القرآن الکریم لم یذکر إلّا أسماء بعض الأنبیاء فقط، فهل إنّ نبوّة من لم تذکر أسماؤهم، باطلة ؟

فبأی منطق یکون الأمر العدمی دلیلاً علی العدم ؟!

ونموذج آخر؛ ما قیل: متی وأین قال الإمام الصّادق علیه السّلام، فی کلامه وخطبه: «واللّعنُ الدائمُ علی أعدائهم أجمعین ؟»

فمادام الإمام الصّادق علیه السّلام لم یقل ذلک، لا یجوز لعن الأعداء فی الخطب، لأنه علیه السّلام لم یلعن أحداً !!

أفهل یکون الأمر العدمی دلیلاً علی العدم ؟

ألا یحتمل أن الإمام الصّادق علیه السّلام کان فی حال التقیّة ؟

ص:194

ألا تحتملون أنَّه علیه السّلام قال ذلک ولم یَصِلنا؟(1)

إذن، فهذه کبری کلیّة، وهی إنَّ الأمر العدمی لا یکون دلیلاً علی العدم.

والآن، وعوداً إلی صلب الموضوع نقول: لو قیل: إنَّ کبار علماء الفریقین لم یرووا قضیة حدیث الکساء، بالمتن الموجود بأیدینا، فالجواب:

من قال إنّ علماء الفریقین لم یرووا ذلک ؟ ومن المحتمل جدّاً أن تصل إلی أیدینا فی مستقبل الأیام کتب لم تکن قد وصلتنا لسبب من الأسباب، أو تطبع وقد کانت مخطوطة ولم تنشر لحدِّ الآن.

أین کتاب «مدینة العلم» للشیخ الصدوق، من کتب أصحابنا؟

و أین کتاب «الأحداث» لأبی الحسن المدائنی، من کتب غیرنا؟

أین مئات الکتب من هذا القبیل ؟

ولماذا حالوا دون وصول هذه الکتب إلینا؟!

ولماذا لم تصل بعض فصول «تاریخ البلاذری» إلی أیدینا، إلّا فی السنوات الأخیرة ؟

ولماذا لم یطبع وینشر «تاریخ ابن عساکر» إلّا أخیراً، مع إنّه محشوٌ بالأباطیل ؟

وعندما طبَعَ أهل السُنَّة کتاب «الطبقات الکبری» لابن سعد، ونشروه، لم ینشروا المجلد الخاص بالحسنین علیهما السلام، لماذا؟!

ص:195

إذن، فمن أین نتیقن أنَّ حدیث الکساء غیر موجود فی تلک الکتب التی لم تصل إلی أیدینا؟

فبأی دلیل یقال ببطلان قضیّة حدیث الکساء فی بیت الزّهراء الطّاهرة علیها السّلام، و أنّها فاقدة للمصدر و لا أصل لها؟

هذا، فضلاً عن الکتب الکثیرة التی أتلِفَت فلم یبق لها عین ولا أثر، خاصّةً فی أحوال الرّسول وأهل بیته، وحوادث صدر الإسلام!! ولذا، فإنَّ نفی أو إثبات الأمور بهذه الطریقة باطلٌ .

وقد یقال: إنّ المحدّث الشیخ عباس القمّی رحمه اللّه لم یذکر حدیث الکساء عن الزهراء فی کتابه المعروف «مفاتیح الجنان»، بل لقد ذکر فی کتابه «منتهی الآمال» بأنّه لم یجد هذا الحدیث فی الکتب المعروفة وأصول الحدیث ومجامیع المحدّثین المعتمدة، وأنّه یمکن القول بأن حدیث الکساء عن الزّهراء علیها السّلام مما انفرد به کتاب المنتخب للطّریحی.

ولکن الجواب:

أوّلاً: إنّما قال هذا قبل أنْ یطّلع علی وجود الخبر فی کتاب «عوالم العلوم» وإلّا لاعتمد علی روایته وأدرج الحدیث فی کتاب المفاتیح.

وثانیاً: إنه قد وضع حدیث الکساء فی الطبعة الثانیة التی کانت علی حیاته وتحت إشرافه، کما أخبرنا بذلک نجله العالم الجلیل الشیخ محسن رحمه اللّه، ولولا ثبوته عنده لَما أضافه، ولاسیّما مع تنصیصه علی المنع من إضافة شئ إلی کتابه من بعده.

وهذا تمام الکلام علی سند حدیث الکساء فی دار الزّهراء الطاهرة.

وأمّا بالنسبة إلی متن هذا الحدیث و مفاده:

ص:196

فقد اشتمل هذا اللفظ علی ما لیس فی غیره من ألفاظ حدیث الکساء، والمهمّ من ذلک هو ما ورد فیه عن اللّه سبحانه من قوله:

«ما خلقت سماءً مبنیّةً ولا أرضاً مدحیّةً ولا قمراً منیراً ولا شمساً مضیئةً ولا فلکاً یدور ولا بحراً یجری ولا فلکاً یسری، إلّا لأجلکم و محبّتکم».

فربما یتوهّم بعض الغافلین عن أنّ هذه الجُمل غلوٌّ، فالحدیث بالتالی غیر صحیح.

ولکنّ الأحادیث الواردة فی کتب الفریقین بهذه المضامین کثیرة، وقد أوردنا جملةً منها عن الکتب المعروفة فی هذا الکتاب بالمناسبة.

وبعد، فإنّه لا ریب فی ترتب الثواب علی قراءة هذا الحدیث علی أساس قاعدة أخبار «من بلغ» التی عمل بها الفقهاء وأفتوا بناءً علیها فی کثیر من الموارد.

وعلی کلّ حالٍ ، فقد قامت السّیرة عند أهل الولاء لأهل البیت علیهم السّلام بقراءة هذا الحدیث فی مجالسهم والتّبرک به و التّوسل به إلی اللّه فی حوائجهم.

ص:197

وجَاهَدْتُمْ فِی اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ ، حَتَّی أَعْلَنْتُمْ دَعْوَتَهُ وبَیَّنْتُمْ فَرَائِضَهُ وأَقَمْتُمْ حُدُودَهُ ونَشَرْتُمْ شَرَائِعَ أَحْکَامِهِ ، وسَنَنْتُمْ سُنَّتَهُ ، وصِرْتُمْ فِی ذَلِکَ مِنْهُ إِلَی الرِّضَا، وسَلَّمْتُمْ لَهُ الْقَضَاءَ وصَدَّقْتُمْ مِنْ رُسُلِهِ مَنْ مَضَی؛

ص:199

ص:200

یقول تعالی فی کتابه الکریم:

«کَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَیَطْغی *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنی »1

وهذا هو مقتضی طبع الإنسان، یطغی إذا ما حصل علی مقام. وللطغیان مراتب، وهی بالترتیب:

1 - الغرور.

2 - الإستغناء عن ولی نعمته والمتفضّل علیه، والتنکر له.

3 - والمرتبة الأعلی ، الندّیة لولی النعمة، بأن یری نفسه فی عرض ولی نعمته.

4 - وقد یصل الأمر أحیاناً إلی الانقلاب علی ولی النعمة ومحاربته علناً لإفنائه.

والأئمّة الأطهار علیهم السّلام، بشرٌ، لکنّهم یختلفون عن سائر البشر. لأنّ اللّه تعالی أعطی الأئمّة کلّ تلک المقامات وجعلهم فی تلک المنزلة السامیة التی لا تتیسّر لأحد من البشر غیرهم، ومع ذلک، فلیس فقط لم تتغیّر أحوالهم نحو الطغیان، بل کان خضوعهم وخشوعهم للّه یزداد ویتضاعف کلّما سَمت مقاماتهم أکثر فأکثر.

فکأنّما هی علاقة طردیّة بین اللّه تعالی وبین الأئمّة علیهم السّلام. فکلّما إزداد عطاء اللّه وکثرت مقاماتهم وسمت منازلهم، کلّما إزداد إستصغارهم لأنفسهم فی قبال ولی نعمتهم، وزاد خضوعهم وتذلّلهم له.

وکذلک العکس صحیح، فکلّما إزداد خضوعهم وتذللهم للّه، کلّما رفع اللّه مقاماتهم وزادهم وجاهةً وسموّاً وعزّة.

ص:202

ومن هنا قلنا سابقاً، وإستناداً إلی الروایات: إنَّ الأئمّة علیهم السّلام إذا ما وصلوا إلی مرتبة عالیة ومقام شامخ، فإن ذلک عن طریق العبودیة للّه، وکذا من تربی فی مدرسة أهل البیت علیهم السّلام ونال مرتبةً معینة.

والحقیقة، إنَّ رابطة العبودیّة والطاعة بین العبد ومولاه، علی ثلاثة أنحاء:

1 - تارة، تکون طاعة العبد وعبادته بحدٍّ لا تتعدّی عدم التمرّد علی الأوامر والنواهی. وهذا المقدار من الطاعة والعبودیّة جیّد جدّاً، ویوصف مثل هذا الإنسان بأنه عامل بالواجبات، تارک للمحرّمات وهذه هی التقوی.

2 - وتارة، یکون العبد بمرتبة تتعدی عدم التمرّد علی الواجبات والمحرّمات، بل یحاول العبد عدم مخالفة المولی فی المندوبات والمکروهات وسائر ما لا یؤاخذه علی مخالفته. ورتبة هذا العبد - بطبیعة الحال - أعلی من رتبة السابق، وهو أکثر قرباً إلی المولی من الأول.

3 - وتارة، یحبُّ العبد مولاه و تشتدّ علقته به، فتصل إلی درجةٍ هی أعلی من المرتبتین السّابقتین، فیحصل له به الاُنس و القرب منه بحیث یطّلع علی کلّ ما یحبّ و یکره، فیفعل ما یحبّ ویترک ما یکره قبل أن یصدر الأمر والنهی من المولی.

وکمثال تقریبی لهذا المعنی: عادة ما یکون فی بیت مرجع التقلید عدة أشخاص یعملون ویخدمون، وکلّهم محبّبون عنده وأعزّاء، ولکن قد یتّفق أن یکون أحدهم مقدّماً علی غیره و مقرّباً عنده أکثر من الآخرین. وهذا إنّما ینشأ عن معرفة هذا الشخص الموظف أو الخادم بروحیّات المرجع ومطلِّعاً علی تطلّعاته وما یحبُّ ویکره، فهو یعلم ما هو المناسب لحال المرجع فی الساعة الکذائیّة، فیسرع بإحضاره إلیه قبل أن یطلب.

ص:203

والأئمّة علیهم السّلام، لیسوا مطیعین للّه تعالی فی أوامره ونواهیه فحسب، ولا هم غیر تارکین للأولی فحسب، بل هم مسارعون إلی فعل کلِّ ما یوجب محبّة اللّه ورضاه، حتّی وإن لم یصدر حکمٌ بشأنه. کما إنَّهم یتجنّبون کلَّ ما یمکن أن یُسخط الربَّ ولا یرضاه أو یُغضِبُه، وإن لم یصدر النهی فیه.

ولذا فهم علیهم السّلام أقرب إلی اللّه من سائر خلقه، وأعزّهم عنده.

ولکن علاقة الأئمّة علیهم السّلام باللّه تعالی ، غیر قابلة للدرک من قبلنا، فهی فوق حدِّ تصورنا، وما ذکرناه إنَّما هو لتقریب المطلب إلی الأذهان.

فالأئمّة علیهم السّلام قد وصلوا - علی أثر العبودیّة الحقّة - إلی مرتبة صار فعلهم وترکهم فیها دلیلاً علی إرادة اللّه تعالی ، وقد اشیر إلی هذه الحقیقة فی الروایات الشریفة وفی بعض مقاطع الزیارة الجامعة.

یقول تعالی فی کتابه المجید فی هذا المضمار:

«بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ *لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ »1

ونقرأ فی زیارة الإمام صاحب الزمان علیه السّلام:

«السلام علیک یا... دلیل إرادته»(1)

والحاصل، إنَّ الجامع بین کلِّ عبارات هذا المقطع هو الخشوع والخضوع بین یدی اللّه تعالی وشکر تلک النعم الإلهیّة والمقامات الربانیّة، علی إختلاف ألفاظ العبارات.

ص:204

«الذکر بالکسر: نقیض النسیان».(1)

وأمّا الراغب الإصفهانی، فیقول فی المفردات:

«الذکر ذکران، ذکرٌ بالقلب وذکرٌ باللسان، وکلُّ واحدٍ منها ضربان، ذکر عن نسیان وذکر لا عن نسیان، بل عَن إدامة الحفظ»(2)

فالأفضل أن نقول: الذکر: عدم الغفلة

هذا، وقد أشرنا فی شرحنا لعبارة «وأهل الذکر» جانباً من ذکر الأئمّة علیهم سلام اللّه تعالی ، ولکنَّ جملة «وأدمتم ذکره» جاءت لبیان دوام ذکر الأئمّة علیهم السّلام ودیمومته.

«وَ اذْکُرْ رَبَّکَ فِی نَفْسِکَ تَضَرُّعاً وَ خِیفَةً ».1

ومن جهة الأزمنة، یقول تعالی :

«وَ اذْکُرِ اسْمَ رَبِّکَ بُکْرَةً وَ أَصِیلاً»2

وإن کان الواجب سائر علی المؤمنین أیضاً أن یکونوا دائمی الذکر بتمام معانیه.

وعن أبی بصیر عن الإمام الصّادق علیه السّلام، قال:

«إن سمعت الأذان وأنت علی الخلاء، فقل مثل ما یقول المؤذن ولا تَدَع ذکر اللّه عزّوجلّ فی تلک الحال، لأنّ ذکر اللّه حسن علی کلّ حال.

ثمّ قال علیه السّلام: لما ناجی اللّه عزّوجلّ موسی بن عمران علیه السّلام قال موسی: یا ربّ أبعید أنت منّی فأنادیک ؟ أم قریب فأناجیک ؟

فأوحی اللّه عزّوجلّ إلیه: یا موسی أنا جلیس من ذکرنی.

فقال موسی علیه السّلام: یا ربّ ! إنّی أکون فی حال أجلّک أن أذکرک فیها.

قال یا موسی: اذکرنی علی کلّ حال !».(1)

وقال علیه السّلام أیضاً:

«لا بأس بذکر اللّه وأنت تبول، فإنّ ذکر اللّه عزّوجلّ حسنٌ علی کلّ حال، فلا تسأم من ذکر اللّه».(2)

ولکنَّ للذاکر شروطاً وآداباً، فإنّ ذکر اللّه ینبغی أن یکون بنحوٍ یستتبع ذکرَ اللّه تعالی للذاکر. قال تعالی فی سورة البقرة:

ص:209

«فَاذْکُرُونِی أَذْکُرْکُمْ ».1

وأن یکون الذکر مستتبعاً للاطمئنان والاستقرار النفسی. یقول تعالی :

«أَلا بِذِکْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ »2

یقول تعالی فی الحدیث القدسی:

«أنا جَلیسُ مَن ذَکرَنی».(1)

فمن لا یغفل عن اللّه تعالی أبداً، هو فی محضر اللّه جلَّ وعلا، فکیف یکون منفصلاً عنه وبعیداً منه وهو فی محضر قدسه ؟

فکلّ وجود الأئمّة علیهم السّلام، سکوتهم، نطقهم، إنشغالهم بالامور الحیاتیة العادیة، وکلّ حالاتهم هی ذکرُ اللّه تعالی ، لماذا؟ لعدم غفلتهم عن اللّه.

فالذکر بمعنی عدم الغفلة، لذا فهم دائماً ذاکرون، فی الظاهر والباطن، وهم مع اللّه دائماً، وعنده. وهذا هو ما یقوله الراوی:

«قال لی أبو عبد اللّه علیه السّلام: ألا احدّثک بأشدّ ما فرض اللّه عزّوجلّ علی خلقه ؟

قلت: بلی.

قال: إنصاف الناس من نفسک ومواساتک لأخیک وذکر اللّه فی کلّ موطن.

أما إنّی لا أقول: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلّا اللّه واللّه أکبر، وإن کان هذا من ذلک، ولکن ذکر اللّه فی کلّ موطن إذا هجمت علیّ طاعة أو معصیة».(2)

فالمهم هنا، هو أن یکون الذکر مؤثراً فی وجود الإنسان وسلوکه، بنحو یجعله مع اللّه دائماً وفی کلّ أحواله، فمهما واجه من امور - إلهیةً کانت أو شیطانیة - لابدَّ أن یتصرّف بما یُرضی اللّه، ففی الإطاعات، علیه أن یسارع إلیها ولا یتوانی، وفی المعاصی علیه أن یستحضر اللّه ویعصی الشیطان ولا یستجیب لإغراءاته.

ص:211

وإذا ما ابتُلی بمفرق طریقین فی حیاته، أحدهما یؤدی إلی طاعة اللّه والثانی إلی طاعة الشیطان، فسیکون ذکرُ اللّه سبیل نجاته.

وأساساً، متی یطمع الشیطان بالإنسان ویحاول إغوائه ؟

إنه یطمع فیه حینما یجده غافلاً عن ذکر ربّه وغیر مجالس له، فالغفلة عن اللّه تعالی تساوی مجالسة الشیطان والسقوط فی شباکه.

وهذا هو معنی قوله تعالی :

«وَ مَنْ یَعْشُ عَنْ ذِکْرِ الرَّحْمنِ نُقَیِّضْ لَهُ شَیْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِینٌ »1

والحقیقة، هی إن الشیطان یبذل کلَّ جهده من أجل إغفال الإنسان عن ذکر ربّه. یقول تعالی :

«اِسْتَحْوَذَ عَلَیْهِمُ الشَّیْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِکْرَ اللّهِ »2

فالأئمّة الأطهار علیهم السّلام، دائمو الذکر بکلّ ما للکلمة من معنی، فلا یدانیهم أحد فی «الدوام» ولا فی «الذکر»، وکلّ من وصل إلی مرتبة من المراتب عن هذا الطریق، فهو تابع لهم ومستفید منهم، لأن حقیقة الذکر إنّما هی عندهم، بل إنّ ذکرهم هو ذکر اللّه، ولذا یقول الإمام الصّادق علیه السّلام:

«ما اجتمع فی مجلس قومٌ لم یذکروا اللّه عزّوجلّ ولم یذکرونا إلّا کان ذلک المجلس حسرةً علیهم یوم القیامة.

ثمّ قال: قال أبو جعفر علیه السّلام: إنّ ذکرنا من ذکر اللّه وذکر عدوّنا من ذکر الشیطان».(1)

ص:212

فلاحظوا المراتب التی یصل إلیها أتباع أهل البیت علیهم السّلام، ولاحظوا عاقبة أمر أتباع المدارس الاخری !!

وقد ورد فی الحدیث الصحیح، بل المتواتر عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله إنّه قال:

«مثل أهل بیتی فیکم کمثل سفینة نوح من رکبها نجا ومن تخلّف عنها هلک»(1)

فنحن نرید إتّباع أهل البیت علیهم السّلام، ونکون معهم فی مدرستهم، لا أن نکون مع أهل الحلقات الخاصّة بأفرادٍ خاصیّن، وفی زمان ومکان خاصّین، وذکر خاصّ مشتمل علی الفسق والفجور، فأین هذا مِن هذا؟

یقول بُرید العجلی:

«سألت أبا جعفر علیه السّلام عن قول اللّه تعالی : «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ کُونُوا مَعَ الصّادِقِینَ »؛

قال: إیّانا عنی»؛(1)

وقد اشیر فی هذه العبارة إلی إرتباط الأئمّة علیهم السّلام باللّه تعالی فی مرحلتین:

1 - مرحلة المیثاق مع اللّه عزّوجلّ .

2 - مرحلة الدعوة والعمل بالمیثاق.

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِیثاقَ بَنِی إِسْرائِیلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ »1

وفی بعض الآیات الاخری، یسوق الخطاب لمیثاقٍ قد اخذ من أنبیاء اللّه تعالی ، مثل قوله تعالی :

«وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ »2

هذا، وقد وصف المیثاق ب «الغلیظ» فی بعض الآیات، مثل قوله تعالی :

«وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِیِّینَ مِیثاقَهُمْ وَ مِنْکَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِیمَ وَ مُوسی وَ عِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِیثاقاً غَلِیظاً»3

وعلیه، فإن اللّه تعالی لم یأخذ المیثاق من النبیین ومن أشرف الأنبیاء محمد صلّی اللّه علیه وآله فقط، وإنّما أخذ المیثاق من الناس فرداً فرداً أیضاً فی الیوم الذی خاطب ذریّة آدم علیه السلام بقوله تعالی «أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ ».

وهنا تطرح بعض التساؤلات؛

ما هو المیثاق ؟

وکیف کان ؟

وأین کان ؟

وهل یختلف المیثاق المأخوذ من الأنبیاء عن میثاق سائر الناس ؟

لا شک فی أنَّ أوّل میثاق اخِذَ من عامّة أولاد آدم علیه السّلام هو میثاق توحید اللّه تعالی . یقول عزّوجلّ فی کتابه:

ص:216

«أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَیْکُمْ یا بَنِی آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّیْطانَ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ »1

ویقول فی الآیة التی تلیها:

«وَ أَنِ اعْبُدُونِی هذا صِراطٌ مُسْتَقِیمٌ »2

وهناک آیات أخری فی هذا المضمار تخاطب رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم. من جملة هذه الآیات، قوله تعالی :

«وَ لا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ»3

ویقول فی آیة أخری:

«فَلا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَکُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِینَ »4

«وَ أَشْهَدَهُمْ عَلی أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلی » فکنت أنا أوّل نبی قال بلی.

فسبقتهم بالإقرار باللّه عزّوجلّ ».(1)

ویقول الإمام الصّادق علیه السّلام فی روایة أخری:

«فلمّا أراد أن یخلق الخلق نثرهم بین یدیه، فقال لهم: من ربّکم ؟ فأوّل من نطق، رسول اللّه وأمیر المؤمنین والأئمّة صلوات اللّه علیهم. فقالوا: أنت ربّنا.

فحمّلهم العلم والدین.

ثم قال للملائکة: هؤلاء حملة دینی وعلمی وأمنائی فی خلقی وهم المسئولون.

ثمّ قال لبنی آدم: أقرّوا للّه بالربوبیّة ولهؤلاء النفر بالولایة والطاعة.

فقالوا: نعم ربّنا أقررنا...»(2)

الثانی: إن المیثاق المأخوذ، کان - مضافاً إلی التوحید - علی نبوة رسول اللّه محمد صلّی اللّه علیه وآله وولایة أمیر المؤمنین علیه السّلام.

«عن أبی عبد اللّه فی قول اللّه: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ ...».

قال: أخرج اللّه من ظهر آدم ذریّته إلی یوم القیامة، فخرجوا کالذر، فعرّفهم نفسه، ولولا ذلک لن یعرف أحد ربّه.

ثمّ قال: «أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلی » وإنّ هذا محمّد رسولی وعلی أمیر المؤمنین خلیفتی وأمینی».(3)

ص:218

الثالث: إنَّ المقرَّبین بالولایة کانوا قلَّة:

«عن أبی جعفر عن أبیه عن جدّه علیهم السّلام: إنّ النبی صلّی اللّه علیه وآله قال لعلی علیه السّلام: أنت الذی احتجّ اللّه به علی ابتداء الخلق حیث أقامهم فقال:

«أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ » قالوا جمیعاً: بلی، فقال: محمّد رسولی ؟ فقالوا جمیعاً: بلی. فقال:

وعلی أمیر المؤمنین ؟ فقالوا جمیعاً: لا، إستکباراً وعتوّاً عن ولایتک، إلّا نفر قلیل وهم أصحاب الیمین».(1)

5 - أن یصبر هؤلاء علی مضمون المیثاق. ولذا خوطب النبی الأکرم محمد صلّی اللّه علیه وآله، بقوله تعالی :

«فَاصْبِرْ کَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ »1

فمن الواضح جداً أنّ الصبر والتّحمل من لوازم الدعوة إلی اللّه، ولقد عمل النبیّ وأهل بیته بما کان یقتضیه المیثاق والتزموا بلوازمه، کما لا یخفی علی من نظر فی سیرتهم وأحوالهم.

ولا یخفی، أنَّ المیثاق بین اللّه تعالی وبین الأئمّة علیهم السّلام، کان علی نحوین:

1 - المیثاق العام، وهو المیثاق المأخوذ منهم جمیعاً کالأنبیاء وکان الأئمّة یعملون به.

2 - المیثاق الخاص المأخوذ من کلِّ واحدٍ من أهل البیت - ومنهم الصدّیقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیها السلام - وفیه تکالیفه الخاصّة به، والتی تعهّد بالعمل بها، وقد عملوا بها علی أحسن وجه.

وأمّا «العهد» فلیس کالعقد. فهو التزام کذلک، لکن یتحقّق مفهومه بطرف واحدٍ.

ومن هنا فإنَّ کلّ عقدٍ، عهدٌ ولا عکس.

وبعبارة أخری، إنَّ النسبة بین العهد والعقد هی نسبة العموم والخصوص المطلق.(1)

ومن جهة أخری، فإنّ کلمة «عقد» مأخوذة من «عَقَد»، هذا العقد یتناسب مع الإحکام، فلذا قال: «وأحکمتُم عَقدَ طاعته»، وأمّا العهد الذی یمکن أن یتقوّم بطرف واحد، فلا یتناسب مع الإحکام وإنَّما یتناسب مع التوکید، ولذا قال علیه السّلام: «ووکّدتُم میثاقَه».

وهذا من ظرائف ما تحمله هذه العبارة من معان، ولطائفها.

وقد یکون المراد من «نصحتم له» هو إرادة الخیر للناس فی رضا اللّه تعالی ، ودعوتهم إلی الحق، کما قال تعالی :

«اُدْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ ...»1

فالأئمّة علیهم السّلام دَعَوا الناس سرّاً وعلانیة، وبکلّ نحو من الأنحاء بحسب مقتضی الزمان والمکان والأشخاص.

وهذا أیضاً فی غایة المتانة والصحّة، فإنّ القرآن الکریم خیر واعظ لمن قرأه أو سمعه وتدبّر فیه.

«اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ کِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِیَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِینَ یَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلی ذِکْرِ اللّهِ ذلِکَ هُدَی اللّهِ یَهْدِی بِهِ مَنْ یَشاءُ ...»1

ولتوضیح هذا الأمر نقول:

تارة: یدعو الإنسان شخصاً مسلماً إلی الحق والطاعة، وحینئذٍ علیه إقامة الحجّة علیه لیقبل الحق، والحجّة هنا لابدّ أن تکون من الکتاب والسنّة، تلک السنّة التی یقبلها ذلک الشخص.

ومن ثمَّ ، فإننا نقول فی قوانین المباحثة والمناظرة: إذا تحاورنا مع فرد من أبناء العامّة فی موضوع معیَّن ومسئلة مّا، فلا یصحّ إلزامه بروایات کتاب الکافی مثلاً، لأنه لا یقبل هذا الکتاب أساساً. کما لا یصحّ من ذلک الشخص أن یلزم الشیعی بقبول روایات کتب السنّة. وإنما ینبغی استدلال کلّ منهما بالکتاب الکریم - وهو مقبول عندهما - وبما وقع علیه الإتّفاق من السنّة منهما، أو علی الأقل بما یقبله الخصم من السنّة فی مقام الاحتجاج.

یقول الحافظ ابن حزم الأندلسی:

«لا معنی لاحتجاجنا علیهم بروایاتنا، فهم لا یصدّقونها، ولا معنی لاحتجاجهم علینا بروایاتهم، فنحن لا نصدّقها، وإنّما یجب أن یحتجّ الخصوم بعضهم علی بعض بما یصدّقه الّذی تقام علیه الحجّة به، سواء صدقه المحتجّ أو لم یصدّقه، لأنّ من صدّق بشئ لزمه القول به، أو بما یوجبه العلم الضروری، فیصیر حینئذ مکابراً منقطعاً إن ثبت علی ما کان علیه...»(1)

وهذا کلامٌ صحیح موافق للقواعد.

واخری: لایکون المحاجج مسلماً، فحینئذٍ، ینبغی محاججته وإقناعه بالأدلّة المقبولة عنده، وإلزامه بمدالیلها ومضامینها.

ص:225

فإن کان من أهل العقل، وجب إقناعه ودعوته بالأدلّة العقلیّة، وإن کان من أهل الکتب والأدیان السماویة الاخری، فلابد من إقناعه من خلال کتابه الذی یعتقد به.

ومن هنا، فإننا وجدنا الأئمّة علیهم السّلام یناظرون الزنادقة بالأدلّة العقلیّة، ویناظرون أهل الکتاب بکتابهم، ویناظرون المسلمین بالقرآن الکریم والسنّة المقبولة عندهم. أی إنهم علیهم السّلام کانوا یراعون حال المناظر، فیختارون الطریق الأمثل لدعوته وإقناعه، وقد بذلوا کلّ ما کان یسعهم فی هذا الطریق حتّی وإن کلّفهم حیاتهم.

وبَذَلتُم أنفُسَکم فی مرضاتِهِ

«وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ ...»1

وجاء فی فقرات زیارة سید الشهداء الإمام الحسین بن علی علیهما السلام:

«وبَذَلَ مهجته فیک لیستنفذ عبادک من الجهالة وحیرة الضلالة».(1)

ولا یخفی، أنَّ رضا اللّه تعالی ، هو فی هدایة الضالّین وتخلیصهم من الهلکة، ونجاة الغافلین من الجهالة، ولقد کان سعی الأئمّة علیهم السّلام فی هذا الطریق جزءاً من میثاقهم مع اللّه تعالی .

فالصبر إنّما یکون ممدوحاً فیما لو کان متناسباً مع حجم الأمر الواقع من المصیبة وغیرها، ومن هنا نجد أنَّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وسلّم قال:

«الصبر ثلاثة: صبر عند المصیبة وصبر علی الطاعة وصبر عن المعصیة.

فمن صبر علی المصیبة حتی یردّها بحسن عزائها کتب اللَّه له ثلاثمائة درجة، ما بین الدّرجة إلی الدّرجة کما بین السماء إلی الأرض.

ومن صبر علی الطاعة کتب اللّه له ستمائة درجة، ما بین درجة إلی الدرجة کما بین تخوم الأرض إلی العرش.

ومن صبر عن المعصیة، کتب اللَّه له تسعمائة درجة، ما بین الدّرجة إلی الدّرجة کما بین تخوم الأرض إلی منتهی العرش».(1)

وبناءاً علی هذا، فإنَّ الطاعة وأداء التکالیف الشرعیّة، تحتاج إلی الصبر أیضاً، ولکن ولکثرة إستعمال هذا اللفظ فی تحمل المصائب وضبط النفس عند البلیّات والحوادث المؤلمة، ینتقل الذهن إلی هذه المعانی عند سماع الکلمة، والحقیقة غیر ذلک.

فتارة: یفقد الإنسان عضواً من أعضاء جسده، فیصبر علی ذلک، وتارة: یفقد محبوباً وعزیزاً علی قلبه، وثالثة: یفقد مالاً، ورابعة: یفقد مقاماً ومنصباً.

فعلی الإنسان أن یصبر عند کلِّ هذه الحوادث بما یتناسب مع حجمها.

ولکن أحیاناً یدعو الإنسانُ إلی الحق، ویحاور بالمنطق والبرهان ویقیم الحجج ویقدّم الأدلّة، فلا تؤثر دعوته. ففی مثل هذه الحالة، فإن روح هذا الإنسان تتألم وتتعذب، فیجب علیه أن یصبر.

أو، کمعلِّم یهتم بأحد طلّابه الممیّزین المقرّبین اهتماماً زائداً، فیبذل وقته ولا

ص:229

یدّخر جُهْدَهُ من أجل تعلیمه وتربیته، وفجأة ینحرف هذا التلمیذ عن الحق ویضیع، فعلی المعلّم هنا أن یصبر علی هذا الألم الروحی.

فمثل هذه الامور تعدُّ أیضاً من جملة المصائب التی یجب الصبر عندها، وإن کانت لا تخطر فی أذهاننا.

والأئمّة الأطهار علیهم السّلام قد تحمّلوا کلَّ أنواع المصائب، ولکلّ واحدة من هذه الامور مصداق فی حیاتهم.

فلقد واجهوا کلّ هذه الحوادث وصبروا علیها، وهی من جملة موارد میثاقهم مع اللّه تعالی .

وکما مرَّ بنا، فإنَّ الظاهر إنَّ الأئمّة علیهم السّلام کان لهم مع اللّه میثاقان:

1 - المیثاق العام الذی یشترک فیه الجمیع.

2 - المیثاق الخاص بکلّ إمامٍ إمام.

برسول اللّه صلی اللّه علیه وآله الأمر، نزلت الوصیّة من عند اللّه کتاباً مسجّلاً، نزل به جبرئل مع أمناء اللّه تبارک وتعالی من الملائکة.

فقال جبرئیل: یا محمّد ! مُر بإخراج من عندک إلّا وصیّک لیقبضها منّا وتشهدنا بدفعک إیّاها إلیه ضامناً لها - یعنی علیّاً علیه السّلام - .

فأمر النبی صلی اللّه علیه وآله بإخراج من کان فی البیت ما خلا علیّاً وفاطمة علیهما السلام فیما بین الستر والباب.

فقال جبرئیل: یا محمّد ! ربّک یقرؤک السلام ویقول: هذا کتاب ما کنت عَهدتُ إلیک وشرطت علیک وشهدت به علیک، وأشهدت به علیک ملائکتی وکفی بی یا محمّد شهیداً.

قال: فارتعدت مفاصل النبی صلی اللّه علیه وآله فقال: یا جبرئیل ! ربّی هو السلام ومنه السلام وإلیه یعود السلام، صدق عزّوجلّ وبَرَّ، هات الکتاب.

فدفعه إلیه وأمره بدفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السّلام، فقال له: اقرأه !

فقرأهُ حرفاً حرفاً.

فقال: یا علی ! هذا عهد ربّی تبارک وتعالی إلی وشرطه علی وأمانته، وقد بلّغت ونصحت وأدّیتُ .

فقال علی علیه السّلام: وأنا أشهد لک [بأبی وأمّی أنت] بالبلاغ والنصیحة والتصدیق علی ما قلت، ویشهد لک به سمعی وبصری ولحمی ودمی.

فقال جبرئیل علیه السّلام: وأنا لکما علی ذلک من الشاهدین.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله: یا علی ! أخذتَ وصیّتی وعرفتها وضمنت للّه ولی الوفاءَ بما فیها؟

ص:231

فقال علی علیه السّلام: نعم، بأبی أنت وأمّی، علی ضمانها وعلی اللّه عونی وتوفیقی علی أدائها.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله: یا علی ! إنّی ارید أن أشهد علیک بموافاتی بها یوم القیامة.

فقال علی علیه السّلام: نعم اشهد.

فقال النبی صلی اللّه علیه وآله: إنّ جبرئیل ومیکائیل فیما بینی وبینک الآن وهما حاضران معهما الملائکة المقرّبون لأُشهدهم علیک.

فقال: نعم، لیشهدوا، وأنا - بأبی أنت وأمّی - اشهدُهم.

فأشهدهم رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله، وکان فیما اشترط علیه النبی بأمر جبرئیل علیه السّلام، أمره اللّه عزّوجلّ أن قال له: یا علی ! تفی بما فیها من موالاة مَن والی اللّه ورسوله والبرائة والعداوة لمن عادی اللّه ورسوله والبرائة منهم، علی الصبر منک وعلی کظم الغیظ، وعلی ذهاب حقّک وغصب خمسک وانتهاک حرمتک ؟

فقال: نعم، یا رسول اللّه !

فقال أمیر المؤمنین علیه السّلام: والّذی فلق الحبّة وبرأ النسمة، لقد سمعت جبرئیل یقول للنبی: یا محمّد، عرِّفهُ أنّه ینتهک الحرمة وهی حرمة اللّه وحرمة رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله، وعلی أن تُخضَب لحیته من رأسه بدمٍ عبیط.

قال أمیر المؤمنین علیه السّلام: فصعقت حینَ فهمتُ الکلمة من الأمین جبرئیل حتّی سقطت علی وجهی وقلت: نعم، قبلت ورضیت وإن انتهکت الحرمة وعطلت السنن ومزّق الکتاب وهدِّمت الکعبة وخضبت لحیتی من رأسی بدم عبیط، صابراً محتسباً أبداً حتّی أقدم علیک.

ص:232

ثمّ دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله فاطمة والحسن والحسین، وأعلمهم مثل ما أعلم أمیر المؤمنین...

واللّه لقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله لأمیر المؤمنین وفاطمة علیهما السّلام: ألیس قد فهمتما ما تقدّمت به إلیکما وقبلتماه ؟

فقالا: بلی وصبرنا علی ما ساءنا وغاظنا».(1)

فهذا من المیثاق، وهکذا حال سائر الأئمّة علیهم السّلام.

فلقد تحمّل الإمام الحسن المجتبی علیه السّلام مصائب کثیرة، ولکنّنا وللأسف لا ندقق فی مثل هذه الامور.

فإن معاویة وقف بوجه الإمام الحسن علیه السّلام، ودبّر له کلّ تلک الدسائس التی یطول شرحها.

ومن جهة أخری، فإن بعض أصحاب الإمام الحسن علیه السّلام، والذین کانوا من وجهاء القبائل ورؤساء العشائر، قد دخل علی الإمام الحسن وقال له:

«السلام علیک یا مذلَّ المؤمنین».(2)

تُری، أیُّها أصعب علی الإنسان، حدُّ السیف وألمُه أم مثل هذا الکلام ؟

ومن جهة ثالثة، کان یوجد فی بیت الإمام الحسن علیه السّلام من دسّ إلیه السمّ مراراً.

ص:233

وهکذا سید الشهداء، الإمام الحسین علیه السّلام، کان له عهد ومیثاق خاصّ مع اللّه تعالی .

ومن خلال هذه الروایات وسائر الأدلّة المعتبرة، یتضح لنا بطلان قول القائل:

لا یمکن أن تصبّ تلک المصائب علی الصدّیقة الطاهرة فاطمة الزهراء، وکلّ ذلک الهتک لحرمة مکانتها، بحضور ووجود أمیر المؤمنین علیه السّلام.

فکلُّ ذلک عهدٌ ومیثاق، کما إنَّ سید الشهداء علیه السّلام قد اصطحب معه أخواته ونساءه وسائر المخدّرات من المدینة إلی کربلاء، وصِرن معرضاً للإهانة والهتک والسب والشتم والأسر.

فهل إنَّ حضور زینب وسائر المخدرات فی کربلاء، کذب ؟

هذه مواثیق وعهود خاصة بکلّ إمام.

وکذا الحال فی خصوص الإمام السجّاد والإمام الباقر والإمام جعفر الصادق والإمام موسی بن جعفر وباقی الأئمّة علیهم السّلام.

وهکذا الحال الآن فی زمن الغیبة، فإنّ الإمام الحجّة عجّل اللّه تعالی فرجه الشریف علیه تعهّدات خاصة مع اللّه سبحانه وتعالی.

فمن جهة یری، بأن دین اللّه تعالی لا یُعمل به، ولیس فقط لا یُعمل به وإنما نجد المخالفات لهذا الدین والعمل علی خلاف ما یأمر به، علی قدم وساق، ویشاهد کلّ هذا الظلم والجور الواقع فی العالم.

ومن جهة أخری، ها هی مظلومیة آبائه وأجداده واُمّه وجدِّه رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله، وکذا مظلومیّة شیعتهم فی أنحاء العالم والقضایا الاخری، التی یراها الإمام علیه السّلام ویسمعها، فهذه کلّها موجودة وتزداد یوماً بعد یوم والإمام علیه السّلام مأمور بالصبر.

ص:234

فهذا کلّه جزءٌ من تعهد الإمام علیه السّلام فی زمن الغیبة. کما إنَّ علیه تعهدات والتزامات أخری ترتبط بزمن حضوره علیه السّلام.

ولأنَّ اللّه تعالی ، قد علم بأنّ هؤلاء الأطهار سیفون بعهدهم ومیثاقهم، فقد أعطاهم تلک المقامات.

ونقرأ فی دعاء الندبة:

«إذ اخترت لهم جزیل ما عندک من النّعیم المقیم، الّذی لا زوال له ولا اضمحلال، بعد أن شرطتَ علیهم الزّهد فی درجات هذه الدُّنیا الدّنیّة وزخرفِها وزبرجها، فشرطوا لک ذلک، وعلمت منهم الوفاء به، فقبلتهم وقرّبتهم، وقدّمت لهم الذّکر العلی والثّناءَ الجلی»؛(1)

نعم، لقد اعطی اللّه تعالی هذه المقامات للأئمّة علیهم السّلام، لأنه کان یعلم بأنهم سیصبرون، وقد صبروا حقّاً.

إنَّ الأئمّة علیهم السّلام هم مصداق هذه الآیة الشریفة:

«وَ لَنَبْلُوَنَّکُمْ بِشَیْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصّابِرِینَ * الَّذِینَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِیبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَیْهِ راجِعُونَ * أُولئِکَ عَلَیْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ »2

لقد صبروا علیهم السّلام حتّی وصلوا إلی مرتبة:

«إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِینَ » (2)

ص:235

وجاء فی زیارة الإمام الکاظم علیه السّلام:

«وأقمت الصَّلاة وآتیت الزکاة وأمرت بالمعروف ونهیت عن المنکر وعبدت اللّه مخلصاً مجتهداً...»؛(1)

وکذلک فی زیارة الإمام الرّضا، الإمام الجواد، والإمام العسکری سلام اللّه علیهم أجمعین، فقد وردت فقرات بنفس هذا المضمون.(2)

هذا، وقد وردت کلمة «الصَّلاة» و«الزکاة» فی سیاق واحد فی کثیر من آیات القرآن الکریم.

أصل الوجه الجارحة،... ولمّا کان الوجه أوّل ما یستقبلک وأشرف ما فی ظاهر البدن، إستعمل فی مستقبل کلّ شئ وفی أشرفه ومبدئه.(1)

وفی روایة أخری، عُبِّر عن الصَّلاة ب «عمود الدین».

فعن جابر، قال الإمام الباقر علیه السّلام:

الصَّلاة عمود الدین....(2)

فشبّه الدین بالخیمة، وجعل عمود تلک الخیمة الصَّلاة، فلولاها لما بقیت الخیمة قائمة.

وفی حدیث آخر، عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله، قال:

الصَّلاة میزان، من وفّی إستوفی.(3)

وفی روایة عن الإمام الرضا علیه السّلام قال:

الصَّلاة قربانُ کلِّ تقی.(4)

نعم، فمن أراد التقرب إلی اللّه تعالی ، وکان من أهل التقوی، فإنّ الصَّلاة طریقه إلی ذلک.

وجاء فی روایة أخری عن الصَّلاة إنَّها:

أوّل ما یحاسب به العبد.

فقد ورد عن أبی بصیر قال: سمعت الإمام الباقر علیه السّلام یقول:

کلُّ سهو فی الصَّلاة یطرح منها غیر أنّ اللّه تعالی یتمّ بالنوافل، إنّ أوّل ما

ص:238

یحاسب به العبد الصَّلاة، فإن قبلت قبل ما سواها...؛(1)

وفی تعبیر آخر عنها:

مثل الصَّلاة مثلُ عمودِ الفسطاط.(2)

هذا، وقد عبّرت عنها بعض الروایات بأنها کالنهر الجاری، فکما أنّ النهر الجاری یطهِّر البدن، کذلک الصَّلاة وسیلة لطهارة الأرواح.

یقول الإمام الباقر علیه السّلام:

«قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله: لو کان علی باب دار أحدکم نهر فاغتسل منه فی کلّ یوم خمس مرات، أکان یبقی فی جسده شئ من الدَّرن ؟

قلنا: لا.

قال: فإنّ مثل الصَّلاة کمثل النهر الجاری، کلّما صلّی صلاة کفَّرت ما بینهما من الذنوب»(3)

کان ذلک نظرة عابرة علی بعض کلمات رسول اللّه والأئمّة الأطهار علیهم السّلام حول الصَّلاة.

وهنا نسأل: کیف کان حال الأئمّة علیهم السّلام مع الصَّلاة عملیّاً؟

ولیلة ألف رکعة».(1)

وقد لا یصدّق بعض الناس أن أمیر المؤمنین علیه السّلام کان یصلّی فی کلّ یومٍ ولیلةٍ فی حیاته الکریمة ألف رکعة من الصّلاة، ومنهم من یکذّب بهذا الخبر بغضاً و حسداً،(2) ومنهم من ینفی إمکان ذلک من حیث الوقت، و لکنَّ أهل السنّة قد کتبوا هذه المنقبة بترجمة علی بن الحسین السجّاد علیه السّلام،(3) کما قد ورد بتراجم غیر واحدٍ من علمائهم أنّه:

«کان یصلّی فی کلّ یوم و لیلة ألفَ رکعة»(4)

وجاء فی روایة فی أحوال أمیر المؤمنین علیه السّلام:

«ولم یترک علی صلاة اللیل قطّ حتّی لیلة الهریر»(5)

ص:240

ولیلة الهریر، احدی لیالی أیّام حرب صفین، وقد بقی الجیشان یقتتلان حتّی صبیحتها بلا توقف.

وهکذا کان حال سائر الأئمّة علیهم السّلام.

ومن ثمّ روی عن الصادق علیه السّلام أنه قال:

«إمتحنوا شیعتنا عند ثلاث: عند مواقیت الصَّلاة کیف محافظتهم علیها، وعند أسرارهم کیف حفظهم لها عن عدوّنا، وعند أموالهم کیف مواساتهم لإخوانهم فیها»(1)

«فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّکاةَ فَإِخْوانُکُمْ فِی الدِّینِ »1

و«إن» فی هذه الآیة «شرطیّةٌ » وهذا یعنی انتفاء المشروط - إسلام الشخص - بانتفاء شرطه وهو إقامة الصَّلاة، فما لم یهتم هؤلاء بالصَّلاة فلیسوا بمسلمین.

وفی آیة أخری یقول عزّوجلّ :

«ما سَلَکَکُمْ فِی سَقَرَ*قالُوا لَمْ نَکُ مِنَ الْمُصَلِّینَ »2

ویبدو أنَّ «سقر» مرتبة خاصّة من مراتب جهنم. أعاذنا اللّه.

وعن أبی الجارود عن الإمام الباقر علیه السّلام، إنه قال:

«قَوْلِهِ «وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِینَ » فَوُقُوفُهُمْ عَلَی الصِّرَاطِ، وأَمَّا لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِکُلِ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ، فَبَلَغَنِی - واللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا سَبْعَ دَرَجَاتٍ .

أَعْلَاهَا: الْجَحِیمُ ، یَقُومُ أَهْلُهَا عَلَی الصَّفَا مِنْهَا، تَغْلِی أَدْمِغَتُهُمْ فِیهَا کَغَلْی الْقُدُورِ بِمَا فِیهَا.

وَالثَّانِیَةُ : لَظی «نَزّاعَةً لِلشَّوی *تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلّی*وَ جَمَعَ فَأَوْعی ».

وَالثَّالِثَةُ : سَقَرُ «لا تُبْقِی وَ لا تَذَرُ*لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ*عَلَیْها تِسْعَةَ عَشَرَ».

وَالرَّابِعَةُ : الْحُطَمَةُ «تَرْمِی بِشَرَرٍ کَالْقَصْرِ*کَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ» ، تُدَقُّ کُلُّ مَنْ صَارَ إِلَیْهَا مِثْلَ الْکُحْلِ ، فَلَا یَمُوتُ الرُّوحُ کُلَّمَا صَارُوا مِثْلَ الْکُحْلِ عَادُوا.

وَالْخَامِسَةُ : الْهَاوِیَةُ ، فِیهَا مَلَأٌ یَدْعُونَ : یَا مَالِکُ ! أَغِثْنَا، فَإِذَا أَغَاثَهُمْ جَعَلَ لَهُمْ آنِیَةً مِنْ صُفْرٍ مِنْ نَارٍ فِیهِ صَدِیدُ مَاءٍ یَسِیلُ مِنْ جُلُودِهِمْ کَأَنَّهُ مُهْلٌ ، فَإِذَا رَفَعُوهُ

ص:242

لِیَشْرَبُوا مِنْهُ تَسَاقَطَ لَحْمُ وُجُوهِهِمْ فِیهَا مِنْ شِدَّةِ حَرِّهَا وهُوَ قَوْلُ اللَّهِ : «وَ إِنْ یَسْتَغِیثُوا یُغاثُوا بِماءٍ کَالْمُهْلِ یَشْوِی الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً» ومَنْ هَوَی فِیهَا هَوَی سَبْعِینَ عَاماً فِی النَّارِ، کُلَّمَا احْتَرَقَ جِلْدُهُ بُدِّلَ جِلْداً غَیْرَهُ .

وَالسَّادِسَةُ : هِی السَّعِیرُ، فِیهَا ثَلَاثُ مِائَةِ سُرَادِقٍ مِنْ نَارٍ فِی کُلِّ سُرَادِقٍ ثَلَاثُ مِائَةِ قَصْرٍ مِنْ نَارٍ، فِی کُلِّ قَصْرٍ ثَلَاثُ مِائَةِ بَیْتٍ مِنْ نَارٍ، فِی کُلِّ بَیْتٍ ثَلَاثُ مِائَةِ لَوْنٍ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فِیهَا حَیَّاتٌ مِنْ نَارٍ وعَقَارِبُ مِنْ نَارٍ وجَوَامِعُ مِنْ نَارٍ وسَلَاسِلُ وأَغْلَالٌ مِنْ نَارٍ، وهُوَ الَّذِی یَقُولُ اللَّهُ : «إِنّا أَعْتَدْنا لِلْکافِرِینَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِیراً».

وَالسَّابِعَةُ : جَهَنَّمُ ، وفِیهَا الْفَلَقُ وهُوَ جُبٌّ فِی جَهَنَّمَ إِذَا فُتِحَ أَسْعَرَ النَّارَ سِعْراً وهُوَ أَشَدُّ النَّارِ عَذَاباً، وأَمَّا صَعُوداً، فَجَبْلٌ مِنْ صُفْرٍ مِنْ نَارٍ وَسَطَ جَهَنَّمَ ، وأَمَّا أَثاماً فَهُوَ وَادٍ مِنْ صُفْرٍ مُذَابٍ یَجْرِی حَوْلَ الْجَبَلِ فَهُوَ أَشَدُّ النَّارِ عَذَاباً».(1)

ومما سبق، یُعلم أنَّ الصَّلاة الحقیقیة، هی الدین.

«وَ إِذا قامُوا إِلَی الصَّلاةِ قامُوا کُسالی »1

وهی تتحدث عن المنافقین ومقدار اهتمامهم بالصَّلاة.

ولکن القیام إلی الصَّلاة هو غیر إقامتها.

وفی آیة أخری یقول عزّوجلّ :

«وَ لا یَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَ هُمْ کُسالی »2

فالقیام إلی الصَّلاة هو أداؤها، وهذا یجتمع مع الکسل أیضاً. وهذا فی الحقیقة إنّما هو شکل الصَّلاة وهیئتها وصورتها فقط، لا روحها وحقیقتها.

ولکن الکلام، إنّما هو فی إقامة رسول اللّه والأئمّة الهداة للصّلاة.

فإقامة الصَّلاة لا تصدق إلّا إذا تحققت الصَّلاة بالمعنی الواقعی والحقیقی لها، وذلک:

أوّلاً: أن یعلم الإنسان بمعنی الصَّلاة.

ثانیاً: أن یؤدیها بحضور القلب.

ثالثاً: أن یعلِّم الآخرین الصَّلاة.

رابعاً: أن یحافظ علی الصَّلاة.

وهذه الجهات الأربع کانت متوفرة فی صلاة الرسول الأعظم والأئمّة صلوات اللّه وسلامه علیهم أجمعین، وإذا ما توفّرت فی غیر المعصومین، فإنّما ذلک ببرکتهم وتعلیمهم، وبفضل التتلمذ فی مدرستهم علیهم السّلام.

فإذا اجتمعت هذه الجهات الأربع، فقد أقیمت الصَّلاة.

ص:244

وبهذا البیان، یتضح ما تقدم من أنّ «الصَّلاة» هی «الدین»، وهذا الأمر مستفاد من الروایات بوضوح تام.

فقال: یابن رسول اللّه ! خطر فی ما بینک وبین المحراب.

فقال: وَیحَک، إنّ اللّه أقرب إلی من أن یخطر فیما بینی وبینه أحدٌ»؛(1)

وفی روایة أخری عن الإمام الصّادق علیه السّلام یقول لولده الإمام الکاظم علیه السّلام:

«یا بنی ! إنّ الذی أصلی لَه أقرَبُ إلی من الذی مرَّ من قدّامی».(2)

وفی روایة یقول علیه السّلام:

«لأنَّ الذی یصلّی له المصلّی أقرب إلیه ممن یمرُّ من بین یدیه».(3)

وجاء فی روایة أخری:

«قال أبو عبد اللّه علیه السّلام: إدعوا لی موسی، فَدُعِی فقال له: یا بنی ! إنّ أبا حنیفة یذکر أنّک کنت تصلّی والناس یمرّون بین یدیک، فلم تنههُم.

فقال: نعم یا أبه ! إنّ الّذی کنت أصلّی له کان أقرب إلی منهم، یقول اللَّه عزّوجلّ : «نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ».4

قال: فَضمَّهُ أبو عبد اللَّه علیه السّلام إلی نفسه، ثم قال: یا بنی ! بأبی أنت وأمی، یا مودع الأسرار»(4)

ص:246

فائدة:

اعتراض أبی حنیفة و سفیان الثوری مستند إلی ما یروونه عن النبی صلّی اللّه علیه و آله من أنّه قال:

«لو یعلم المارّ بین یدی المصلّی ماذا علیه من الإثم لکان أن یقف أربعین خیراً له من أن یمرّ بین یدیه»(1)

ولذا قال فقهاء العامّة بأنّ للمصلّی منعه من المرور. ثم قالوا: هذا فی غیر مکة، أمّا فیها، فقد رووا أنّ النبی صلّی اللّه علیه و آله صلّی حیال الحجر و النّاس یمرون بین یدیه. قالوا: لأنّ الناس یکثرون بمکة لأجل قضاء نسکهم و یزدحمون فیها، و لذلک سمیت بمکة...(2)

وأمّا أصحابنا، ففی العروة الوثقی: یستحبّ أن یجعل المصلّی بین یدیه سترةً إذا لم یکن قدّامه حائط أو صف، للحیلولة بینه و بین من یمرّ بین یدیه إذا کان فی معرض المرور... وهی نوع تعظیم و توقیر للصّلاة، و فیها إشارة إلی الإنقطاع عن الخلق و التوجّه إلی الخالق.(3)

قالوا: إنّه یستحبّ جعل المصلّی شیئاً بین یدیه، وأنه لا تبطل الصّلاة بمرور شئ، و قد جاء فی الصحیح عن أبی عبد اللّه الصّادق علیه السّلام أنّه قال:

«فإنْ لم تفعل فلیس به بأس، لأنّ الذی یصلّی له المصلّی أقرب إلیه ممّن یمرّ بین یدیه. ولکن ذلک أدب الصّلاة و توقیرها».(4)

ص:247

نعم، هکذا أقام الأئمّة علیهم السّلام الصَّلاة، ثمّ علّموا ذلک لأصحابهم، فکتب علماؤنا کتباً مستقلّةً خاصةً فی «أسرار الصّلاة». وهی مأخوذة من نهج الأئمّة علیهم السّلام وسیرتهم الشریفة.

أجل... لقد جاء النبی الأکرم والأئمّة الأطهار صلوات اللّه علیهم، لیقیموا مثل هذه الصّلاة، ویُشیعوها بین الناس، ویعلّموهم إیّاها، وهذه الصَّلاة هی الدّین و بها قوام الدّین.

ویبدو أنَّ الصَّلاة کانت مفروضة علی الامم السابقة فی کلِّ الأدیان. ولکن الصَّلاة التی جاء بها النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله وسلّم، وعلّمها لامّته، تختلف بلا شک عن صلاة اولئک الامم، من حیث أحکامها و أسرارها، و آثارها.

ولأنّ الصّلاة هی الدین - کما ذکرنا - فقد اتّخذها الکفّار هزواً کما اتّخذوا الدین هزواً، قال تعالی:

«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِینَ اتَّخَذُوا دِینَکُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ مِنْ قَبْلِکُمْ وَ الْکُفّارَ أَوْلِیاءَ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ * وَ إِذا نادَیْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً»1

ولا یخفی دلالة الآیة المبارکة علی أن بعض أصحاب النبی صلّی اللّه علیه و آله کانوا یتّخذون الکفّار أولیاء لهم، و العجیب أن تکون هذه الحالة موجودة عند بعضهم وحتی آخر عمره الشریف، لأنّ الآیة فی سورة المائدة، وقد ورد فی روایات الفریقین و قام الإجماع علی أنَّ آخر سورة نزلت من القرآن هی سورة المائدة.(1)

وهذا یعنی إنّ بعض أصحاب النبی صلّی اللّه علیه وآله بقوا إلی آخر عمر رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله یقیمون علاقات الودّ مع الکفّار وأهل الکتاب الذین کانوا یسخرون ویهزأون بالدّین و بالصَّلاة !!

ص:249

وفی آیة أخری، یقول تعالی :

«إِنَّ الْمُنافِقِینَ یُخادِعُونَ اللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَی الصَّلاةِ قامُوا کُسالی »1

وهذا یعنی إنّ بعض أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله کانوا یتظاهرون بالدین، ویقومون إلی الصّلاة ویخادعون. وقد کشف الباری جلّ وعلا بصراحة عن أمثال هؤلاء، فی سورة الجمعة حیث یقول عزّوجلّ :

«وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَیْها وَ تَرَکُوکَ قائِماً»2

إذن، فهذا هو حال هؤلاء مع الصّلاة، ولو بحثنا وحقّقنا فی هذه القضیّة أکثر، فإنّنا سنصل إلی حقائق مذهلة.

ثم إنه جاء فی روایات عدیدة، وبأسانید صحیحة، إنَّ الإمام الباقر علیه السّلام قال:

«ألا أحکی لکم وُضوء رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله»(1)

وهذا یعنی إنَّ الوضوء کان قد حرِّف قبل زمن الباقر علیه السّلام.

وفی زمن حکومة أمیر المؤمنین علیه السّلام، أراد أن یمنع من صلاة التراویح، فضجّ الناس ینادون: وا عمراه... وا عمراه !!(2)

ص:250

وهذه نماذج من تحریف المنافقین الصّلاة.

ولمّا وصلت النوبة إلی حکومة معاویة وبنی أمیّة، فحدّث ولا حرج.

ولا أظنُّ إن شخصاً دافع عن بنی أمیّة أکثر من إبن تیمیة، ومع ذلک یقول:

«أعظم ما نقمه الناس علی بنی أمیّة شیئان: أحدهما تکلّمهم فی علی، والثانی تأخیر الصَّلاة عن وقتها»(1)

وفی المقابل، یقول أئمّتنا عن الصّلاة:

«إمتحنوا شیعتنا عند ثلاث: عند مواقیت الصَّلاة...»؛(2)

وما ذلک إلّا لکی تتمیّز الخطوط عن بعضها البعض.

إنّ ابن تیمیة یعترف بوقوع التحریفات، ولکنه یُقصرها علی تأخیر الصَّلاة.

والحال إن التحریف لم یقتصر علیها، ولکنه إنما قال ذلک لأنه یقف دائماً موقف الدفاع عن معاویة وبنی أمیّة.

فمن جملة التحریفات، أداء صلاة الجمعة یوم الأربعاء.(3) وإرسال الجاریة الفاحشة لتصلّی بالناس، ووقوف والی الکوفة سکراناً یؤم المصلّین، حتّی تقیّأ فی المحراب!!(4)

ص:251

هؤلاء، هم الذین أقسم لهم أبو سفیان قائلاً:

«فوالذی یحلف به أبو سفیان، ما من عذاب ولا حساب ولا جنةٍ ولا نار ولا بعث ولا قیامة»(1)

حتّی إذا وصلت النوبة إلی یزید قال:

لعبت هاشم بالملک فلا خبرٌ جاء ولا وحی نزل(2)

إذن، فأهل البیت علیهم السّلام هم المقیمون للصلاة أی الدّین، وأمّا بنو أمیّة فقد أضاعوا الصَّلاة، بل کانوا بصدد تغییر الکثیر من شعائر الإسلام، حتّی أنّهم أرادوا نقل منبر الرسول صلّی اللّه علیه وآله من المدینة إلی الشام (!)، وقررّوا إرسال الناس لحجّ بیت المقدس بدلاً من الکعبة، وقد فعلوا ذلک.

حتی أنهم قالوا بأن عبد الملک بن مروان - العیاذ باللّه - أفضل من رسول اللّه محمد بن عبد اللّه صلّی اللّه علیه وآله !

لماذا؟ لأن عبد الملک خلیفة اللّه !! وأمّا محمد بن عبد اللّه، فهو رسول اللّه، وخلیفة الرجل أفضل من رسوله. وبناءاً علی هذا، فإن عبد الملک بن مروان أفضل(3)

فالأئمّة علیهم السّلام حفظوا شعائر الإسلام والصَّلاة فی قبال دعوات

ص:252

المنافقین، ووقفوا بوجههم مع کلّ قدراتهم وإمکاناتهم وجبروتهم، وهذا هو نتاج صبر الأئمّة واستقامتهم وتحملهم، ولذلک نقول لهم:

«بذلتم أنفسکم فی مرضاته» و «صبرتم علی ما أصابکم فی جنبه»

فالدین الذی جاء به رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله قد حفظه أهل البیت علیهم السّلام، وبقی قائماً ببرکة وجودهم وتحمّلهم وصبرهم، ففشلت کلّ محاولات أعداء الإسلام والمبتدعین والمنافقین، وعلی الرغم من قلّة أهل الدین، فإن الدین باق.

وعلی الجملة، فإنّ خطابنا للنبی وآله بقولنا: «أقمتم الصّلاة» إشارة إلی أنَّ الصّلاة هی الدین، و إلی الجهود التی بذلها أعداء الدین من أجل تقویضه، وإلی ما تحمّله أهل البیت علیهم السلام فی سبیل حفظ الدّین، ولذا کان من حارب أهل البیت محارباً للّه سبحانه وتعالی.

اَلزَّکاةَ وَ ذلِکَ دِینُ الْقَیِّمَةِ »1

ففی هذه الآیة أشیر إلی أصل من أصول الدین وهو التوحید، ثمَّ ذکر إقامة الصّلاة وإیتاء الزکاة فقط، وجعل ذلک دین القیّمة.

وفی آیة أخری، إشارة إلی أنّ إقامة الصّلاة وإیتاء الزکاة، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، من شرائط الإمامة ووظائف الإمام، فالإمام الحق یجب أن تتوفر فیه هذه الامور. یقول تعالی :

«اَلَّذِینَ إِنْ مَکَّنّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّکاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْکَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ»2

فالإمامة جعلٌ من اللّه تعالی ، ومن نصب للإمامة والرئاسة الإلهیّة یعتبر أن تتوفر فیه هذه الصفات والشرائط.

ومن ثمَّ ، نخاطب الأئمّة علیهم السّلام ونقول: أقمتم الصّلاة وآتیتم الزکاة وأمرتم بالمعروف ونهیتم عن المنکر.

بإخراجهم زکواتهم، فحافظوا علی أحکام الزکاة من التحریف والتشویه والتغییر، وأحبطوا محاولات المنافقین وأعداء الإسلام فی هذا المجال، وذلک لأنَّ الزکاة مثل الصّلاة من دعائم الدین.

الإحتمال الثانی: إنّ المراد من «الزکاة» هنا هو الأعمّ من الزّکاة الواجبة و المستحبّة، فقد یراد من الزّکاة الصّدقة المستحبّة أیضاً کما تقرّر فی محلّه، فالمقصود حینئذٍ: هو رعایة الأئمّة علیهم السّلام فقراء المؤمنین و العنایة بهم من النّاحیة المادّیّة، فهم بالإضافة إلی إیصال الزکوات الواجبة إلی مستحقّیها کانوا، یحملون الطعام إلی بیوت الفقراء و المعوزین، کما هو مذکور بتراجمهم فی کتب الموافقین و المخالفین، ممّا لم نجده فی أحوال غیرهم.

الإحتمال الثالث: أن یکون المراد من الزکاة هو المعنی العام لها، فامتیاز الأئمّة علیهم السّلام علی باقی الناس هو إنَّهم علیهم السّلام کانوا یؤتون کلَّ أنواع الزکاة، ذلک، لأن للزّکاة أنواعاً:

1 - زکاة المال.

وقد ذکرت أحکام هذه الزکاة وأنصبتها وخصوصیّاتها فی کتب الفقه.

2 - زکاة المقام والجاه.

3 - زکاة العلم.

ففی الحدیث عن أمیر المؤمنین علی علیه السّلام قال:

«زکاة العلم نشره، وزکاة الجاه بذله، وزکاة المال الإفضال وزکاة القدرة الإنصاف...».(1)

ص:255

فالأئمّة علیهم السّلام قد آتوا الزکاة بکلّ أنواعها وعلی أتمِّ الوجوه.

وزکاة المال، معلومة وواضحة.

وأمّا زکاة الجاه والمنزلة، فهی بأن یتوسط الإنسان ویشفع لإخوانه فی قضاء حوائجهم وحلِّ مشاکلهم، مستفیداً من جاهه ووجاهته عند الناس.

وزکاة العلم نشره وبثُّه، وهو واضح أیضاً.

فالأئمّة علیهم السّلام کانت لهم ممارسات فی کلّ أنواع الزکاة وقد أدّوا زکاتهم علی أحسن وجه، وقد تفضل علیهم الباری عزّوجلّ بکلّ هذه الشؤون.

فوظیفة الإمام، وشرط الإمامة، أن یؤدی الزکاة فی کلّ موارده بالنحو الذی تقتضیه الضرورة وبالترتیب الذی تتطلبه وظیفته.

ولا یخفی أنَّ تطبیق «آتیتم الزّکاة» علی هذا المعنی له ثلاث جهات:

1 - أن یکون للإمام علیه السّلام هذه الامور الثلاثة، أی المال، العلم والمقام.

وقد کان للأئمّة علیهم السّلام ذلک.

2 - أن یعرف کیف یضع الحقوق فی محلّها المناسب، وکیف یصرف کلّ قسمٍ من أقسامها بشکل صحیح ونافع.

3 - أن تکون له القدرة علی تطبیق الإیتاء فی الأقسام الثلاثة المذکورة.

ولقد کانت هذه الجهات الثلاثة متوفرة فی الأئمّة علیهم السّلام، فقاموا بإیتاء الزکاة علی أتمِّ وجه.

ومن هنا، فإنَّ «وآتیتم الزکاة» من خصائص الأئمّة علیهم السلام.

ص:256

وعلیه، فالأئمّة علیهم السّلام أمروا الناس بالمعروف الإعتقادی، العملی والأخلاقی، وأوجدوا فیهم الدواعی إلی ذلک.

ولتوضیح هذا الأمر نقول:

لقد قرأنا فی آیة النفر:

«فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ »1

وقال فی خصوص خلق الإنسان:

«أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناکُمْ عَبَثاً وَ أَنَّکُمْ إِلَیْنا لا تُرْجَعُونَ »1

وعلیه، فإنّ للّه تعالی غرضاً من خلق الإنسان، ولم یخلقه عبثاً.

فقال فی آخر الآیة:

«وَ أَنَّکُمْ إِلَیْنا لا تُرْجَعُونَ »

وهذا إشارة إلی وجود الثواب والعقاب فی عالم الآخرة.

إذن، ففی هذا العالم یوجد معروف و منکر، یستتبع المعروف فی عالم الآخرة ثواباً والمنکر عقاباً، فلکلٍّ منهما أثره.

والغرض من خلق الإنسان إنما یتحقق علی الوجه التام فیما إذا بلغ حدّ الکمال.

ولکنّ وصول الإنسان إلی الکمال إنَّما یکون بوصوله إلیه فی الأبعاد الثلاثة المذکورة للمعروف، وبذلک یتحقق التفقّه فی الدین.

والبعد الأول: إستقامة الإنسان وعدم إنحرافه فکریاً وعقائدیاً، بأنْ یستند إعتقاده إلی مبانٍ صحیحة ومتقنة، وأدلة وبراهین قاطعة.

والبعد الثانی أن یکون الإنسان فاعلاً للواجبات تارکاً للمحرمات عملیّاً، بأنْ یکون عاملاً بالمعروف وتارکاً للمنکر، فإذا ما جاء وقت «إلینا ترجعون» سیکون الثواب والعقاب علی أساس الأعمال ولا یکون ذلک جزافاً.

والبعد الثالث: الأخلاق، أی إنَّ الإنسان إنما یصل إلی الکمال فیما لو إتصف بالصفات الحسنة وتنزّه عن الرذائل والسیئات.

ص:259

ممّا سبق یتبیّن أنَّ المراد من الأمر بالمعروف، هو إنَّ الإمام یقود الناس إلی الکمال فی الأبعاد الإعتقادیّة والعملیّة والأخلاقیّة، فإنّ مثل هذا الأمر بالمعروف هو من مسئولیات الإمام علیه السّلام وإیصال الأمّة إلی الکمال هو الغرض الأقصی من نصبه.

إذن، فطبقاً للآیة الکریمة الآنفة الذکر، فإن الإنسان إذا وصل إلی الکمال فی أبعاده الثلاث، فسیکون من المتربّین فی مدرسة أهل البیت علیهم السّلام.

ومن الواضح، إنّ الإمام لابدّ أن یکون فی أعلی مراتب هذه الأبعاد الثلاثة، إذ کیف یدعو الآخرین إلی مکارم الأخلاق والأعمال الصالحة والعقائد الصحیحة قبل أن یکون واجداً لها؟

یقول القرآن الکریم:

«أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَکُمْ »1

فهذا ما لا یتحقق أبداً.

وعلیه، فلمّا کانت هذه المعانی العالیة التی لا یمکننا درک حقیقتها، متوفرة فی الأئمّة علیهم السّلام، کان المراد من المعروف هو نفس الإمام وکان أعظم المنکرات مخالفة الإمام علیه السّلام.

ویعنی هذا تجسّد المعروف بأعلی مراتبه فی وجود رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله وفی الإمام من بعده، فکلّما قاله النّبی و الإمام أو فعله هو المعروف، وکلّما نهیا عنه أو ترکاه هو المنکر، والنّبی والأئمّة هم الآمرون بالمعروف والنّاهون عن المنکر بمعناهما الحقیقی الواقعی، کما تقدَّم من أنّهم المقیمون للصّلاة والمؤتون للزّکاة، وإن کانت الصّلاة والزّکاة والأمر بالمعروف والنّهی عن المنکر من الفرائض المکتوبة علی کلّ فردٍ من أفراد المسلمین، علی ما تقرّر فی محلّه.

ص:261

ومن هنا یتبیّن وجه قراءة أهل البیت علیهم السّلام کلمة «خیر امّةٍ » فی قوله تعالی:

«کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ»1

بکلمة: «خَیرَ أئمة»(1)

وهذا هو الواقع حقاً، وإن کانوا علیهم السّلام قد قالوا: «إقرؤوا کما یقرأ الناس»،(2) إذ کیف یمکن لکلّ فردٍ فردٍ من الامّة أن یأمر بالمعروف وینهی عن المنکر بالمعنی الذی ذکرناه ؟

ألیس کلّ هؤلاء الظلمة والفسّاق مرتکبوا الجرائم والذنوب، من هذه الأمّة ؟

هذا، وقد فسّرنا الآیة فی بعض أبحاثنا وعلی ضوء کلام بعض المفسّرین کالفخر الرازی بما یتطابق مع قراءة أهل البیت علیهم السّلام.(3)

وخلاصة الکلام، إنَّ هذا المعنی من خصائص النبی الأکرم والأئمّة الأطهار صلوات اللّه علیهم أجمعین، وهو إحدی الشهادات الواردة فی الزیارات لهم کالشّهادة لهم بإقامة الصّلاة و إیتاء الزّکاة.

ص:262

5 - الجهاد فی اللّه مع وصف «حقَّ جهاده» کما جاء فی قوله تعالی :

«وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ »1

ونبیّن الآن حقیقة الجهاد:

والجهاد الوارد فی الشریعة علی قسمین:

1 - جهاد العدو.

2 - جهاد النفس، والذی عُبِّر عنه فی الروایة بالجهاد الأکبر.(1)

وعلینا هنا أن نتأمّل جیداً.

1 - ما معنی الجهاد فی اللّه ؟

2 - ما معنی حقَّ جهاده ؟

«قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی »1

فلماذا قال «فی القربی» ولم یقل: «إلّا المودّة للقربی» أو «إلا المودّة بالقربی» أو «إلّا مودّة القربی»؟

فما هی النکتة لمجئ کلمة «فی» فی الآیة ؟

إن هذه الآیة - المعروفة بآیة المودّة - من أحسن أدلّتنا علی إمامة أهل البیت علیهم السّلام بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله، وقد استشکل بعض المتعصّبین فی الإستدلال عن الجهل أو التجاهل لمعنی «فی»، فقد نعذر صاحب کتاب التحفة الإثنی عشریّة لکونه هندیّاً لا یعرف دقائق الإستعمالات فی اللغة العربیّة.

وإن کنّا نؤاخذه من جهة أنَّ علی الجاهل أن یسأل العالم لا أن یعترض علی ما لم یعلم!

ولکن ماذا نقول لإبن تیمیّة العربی الّذی یدّعی له العلم بالقرآن ؟ إنّه لیس إلّا التعصّب للباطل والعناد للحقّ وأهله.

لکنّ غیر واحد من المفسّرین کالزّمخشری وأبی حیّان الأندلسی النحوی والفخر الرازی ذکروا نکتةً لمجئ «فی» فی آیة المودّة جدیرة بالإلتفات، والأصل فیها هو الزمخشری وسنورد کلام بعضهم لاحقاً.

ونظیر هذه الآیة، ما جاء فی قوله تعالی :

«وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ »2

فلکلمة «فی» دلالة خاصة.

ص:265

هذا، وقد إدّعی بعض المعاصرین أنّنا أیضاً من مصادیق «الراسخون فی العِلم»، ولکنّ الأئمّة علیهم السّلام هم المصداق التام لهذه الآیة !!

لقد اشتبه هذا الشخص من عدَّة جهات:

الاولی: إنّه جاء فی ذیل هذه الآیة المبارکة، عدّة روایات فی بیان المراد من الراسخین، منها ما رواه أبو بصیر عن الإمام الصّادق علیه السّلام قال:

«نَحنُ الرّاسخونَ فی العِلمِ ونَحنُ نَعلَمُ تَأویلَه».(1)

فلسان هذه الروایات ینفی أن یکون غیرُ الأئمّة علیهم السّلام معنیین بهذه الآیة، حتّی بنحو المصداق غیر التامّ .

الثانیة: إنّ لکلمة «فی» فی الآیة الشریفة، دلالة خاصة ونکتة ظریفة، سنبیِّنها، ومع وجود هذه النکتة یخرج غیر الأئمّة من مصادیقها، ولا یحقّ لأحدٍ أن یدّعی ذلک.

الثالثة: إن مجئ کلمة «الرسوخ» فی هذه الآیة الشریفة، مع الالتفات إلی مفهومها فی اللغة العربیة، یدلُّ علی إنَّ العلم بالقرآن الکریم ینحصر فقط بالأئمّة المعصومین علیهم السّلام.

الرابعة: إنّ هذه الآیة الکریمة، فی مقام بیان أنّ القرآن المجید یشتمل علی المحکمات والمتشابهات، فهل یستطیع أحدٌ غیر الأئمّة علیهم السّلام أن یدّعی أنَّ عنده شیئاً من العلم بمتشابه القرآن الکریم ؟

إنّ کلمة «فی» هنا وفی الموارد المماثلة لها دلالة خاصة مع الحفاظ علی

ص:266

المعنی الموضوعة له وهو «الظرفیة».

والنکتة ما ذکره الزمخشری فی تفسیره «الکشاف» فی ذیل آیة المودة، قال:

«فإن قلت: هلّا قیل» إلّا مودّة القربی «أو» إلّا المودّة للقربی ؟ «وما معنی قوله «إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی »؟

قلت: جعلوا «قُربی» مکاناً للمودة ومقرّاً لها. کقولک: «لی فی آل فلان مودة» ولی فیهم هوی وحبّ شدید، ترید أُحبّهم وهم مکان حبّی ومحلّه، ولیست «فی» صلة للمودة کاللام إذا قلت: «إلا المودّة للقربی» إنما هی متعلّقة بمحذوف تعلّق الظرف به فی قولک: «المال فی الکیس» وتقدیره إلّا المودّة ثابتةً فی القربی ومتمکّنة فیها»(1)

ثم قال فی «الکشّاف»:

«رُوی أنَّها لما نزلت قیل: یا رسول اللّه! من قرابتک هؤلاء الّذین وجبت علینا مودّتهم ؟

قال صلّی اللّه علیه وآله: علی وفاطمة وابناهما».(2)

وها هو الفخر الرازی یشیر إلی هذا المعنی أیضاً ویقول:

«أورد صاحب «الکشّاف» علی نفسه سؤالاً فقال: هلّا قیل: «إلّا مودّة القربی» أو «إلّا المودّة للقربی» وما معنی قوله: «إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی »؟

وأجاب عنه بأن قال: جعلوا مکاناً للمودّة ومقرّاً لها، کقولک: «لی فی آل فلان مودّة»، ولی فیهم هَوی وحبّ شدید. ترید أحبّهم وهم مکان حبّی ومحلّه».(3)

فکأنّ الحبّ والمودة مظروف یحتاج إلی ظرف ومحلّ ، وهذا المظروف لابدَّ

ص:267

أن یستقر فی ظرفه. والمراد من الظرف هنا، أهلُ البیت وذوو القربی، فهم المختصّون بمودّتی لا أودّ غیرهم کمودّتی لهم وهی مستقرّة فیهم ولا تتزلزل ولا تنفصل عنهم.

وهکذا قال أبو حیّان و غیره من المفسّرین.(1)

وجاء فی تفسیر النیشابوری:

«أی المودة ثابتة فی القربی متمکنةٌ ».(2)

وبناءاً علی هذا، فمن الواضح أنّ المراد من «الراسخون فی العلم» لیس إلّا الأئمّة علیهم السّلام، فإنهم لا ینفصلون عن العلم، کما إنَّ العلم لا ینفصل عنهم.

فانفصال العلم عن الأئمّة علیهم السّلام یعنی الجهل والشک، ومتی شک الأئمّة علیهم السّلام ؟ ومتی جهلوا شیئاً؟ ومتی تکلّم الأئمّة علیهم السّلام إعتماداً علی الحدس والظنّ؟

إنَّ أعلَمَ العلماء، حینما یستنبط حکماً شرعیّاً أو یختار مطلباً علمیّاً، وذلک بعد مدّة مدیدة من التحقیق والتّدقیق والفحص، لا یتکلّم بصیغة الجزم و إنّما یقول: الأظهر، الأقوی، واللّه العالم، وکثیراً ما یتّفق عدوله عمّا ذهب إلیه.

وبتعبیر بعض أساتذتنا: إنّ أعلم العلماء هذا - وبمجرد أن یغفو إغفاءة قصیرة - یفقد کلَّ علمه، فکیف یکون من الراسخین فی العلم ومن مصادیق الآیة ؟

إذن، فمعنی «فی» فی هذه الآیة المبارکة، وکذا فی قولنا فی الزّیارة:

«وجاهدتم فی اللّه» هو ما ذکرناه.

ص:268

ثمّ ، لماذا نقول: «جاهدتم فی اللّه» ولا نقول: «جاهدتم فی الرحمن» أو «فی الرحیم»؟

لعلَّ النکتة فی ذلک هی إنّ لفظ الجلالة «اللّه» عَلَم للذات المستجمعة لکلّ الکمالات، والأئمّة علیهم السّلام - مع الأخذ بنظر الاعتبار لما ذکرناه فی فائدة «فی» - قد جاهدوا لتحصیل جمیع الکمالات الإلهیّة، وإنَّ تلک الکمالات قد رسخت فیهم ولن تنفصل عنهم بحال من الأحوال، فهی متمکّنة ومستقرّة فیهم.

إنّ الأئمّة علیهم السّلام، لهم شأن مع الذات الربوبیّة، وکانوا مرتبطین باللّه تعالی ومتوجهین إلیه بکلّ وجودهم.

وقد ذکرنا آنفاً إنَّ أمیر المؤمنین علیه السّلام کان یقول:

«إنَّ قوماً عبدوا اللّه رغبة فتلک عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلک عبادة العبید، وإنّ قوماً عبدوا اللّه شکراً فتلک عبادة الأحرار»؛(1)

وجاء فی روایات العامّة:

«علی مُخشَوشَنٌ فی ذات اللّه»

ماذا تعنی هذه الروایة ؟ وهی فی مسند أحمد، تاریخ الطبری والمستدرک علی الصحیحین.(2)

وروی الطبرانی وأبو نعیم الإصفهانی:

«علی مَمسوسٌ فی ذاتِ اللّه».(3)

ص:269

نعم، هکذا کان الأئمّة علیهم السّلام، فلم تکن علاقتهم مع اللّه تعالی مبتنیة علی أساس الخوف أو الطمع، بل کان جهادهم فی اللّه عزّوجلّ ، ولا نقول «فی سبیل اللّه» لیقع الفصل، فلقد حصل الأئمّة علیهم السّلام علی کلّ الکمالات الإلهیّة، فصاروا مظهراً لصفات الحقّ تعالی ، وکلُّ ما عند الناس من کمالات فهو ببرکة الأئمّة علیهم السّلام.

کما إنَّ الأئمّة علیهم السّلام جاهدوا من أجل الدعوة إلی اللّه وحفظ دینه.

وفی مجال جهاد النفس، کانوا هم القادة والقدوة لکلِّ سالکی هذا الطریق.

إذن، فالجهاد له أبعاد، و«الحق» له خصوصیّات، فإذا ما إنتفت إحداها لم یَعُد حقّاً.

وفی القیام بأمر «الجهاد» راعی الأئمّة علیهم السّلام کلّ الخصوصیّات الواجب توفرها فی الجهاد، ولذا، کان جهادُهم «فی اللّه «وکان» حقّ الجهاد».

إنَّ الأئمّة علیهم السّلام عرفوا وظائفهم بکلّ دقّة ووضوح، فکانوا یقومون بواجبهم فی کلّ مکان ومقام، ومع کلّ شخص، بالشکل المطلوب والتام.

وهذه الخصوصیّات هی من مختصات الأئمّة ومنحصرة فیهم، فحتّی أعقل عقلاء العالم یصادفه الاشتباه فی حساباته وتخطیطه وفعله، فیفشل فی مرحلة من مراحل عمله.

والحاصل، إنّ الأئمّة علیهم السّلام مارسوا الجهاد بکلّ أقسامه فی المکان والمقدار والکیفیة اللّازمة والمناسبة لکلِّ حال من الأحوال. ولذا فإنّهم علیهم السّلام یقولون فی ذیل الآیة التی قرأناها، إنّهم هم المعنیّون.

فعن برید العجلی عن الإمام الباقر علیه السّلام فی قوله تعالی :

«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ارْکَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّکُمْ وَ افْعَلُوا الْخَیْرَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ * وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ »1

قال علیه السّلام:

«إیّانا عنی ونحنُ المجتَبَون».(1)

وفی روایة أخری فی قوله تعالی :

ص:271

«وَ الَّذِینَ جاهَدُوا فِینا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِینَ »1

قال علیه السّلام: «نزلت فینا أهل البیت».(1)

أی إنّ المقصودین فی هذه الآیة هم أهل البیت فقط، لا إنّهم أحد مصادیقها أو مصداقها الأتمّ ، إذ إنّ غیر الأئمّة لا یصلح لأن یکون مصداقاً لها إطلاقاً.

نعم، من جاهد فی هذا الطریق، نقول عنه: إنّه سائر فی هذا الطریق، لا إنّه مصداق للآیة الکریمة.

وقد رُوی عن الإمام الباقر علیه السّلام، إنّه قال:

«هذه الآیة لآل محمّد ولأشیاعهم».(2)

ولکن لا علی نحو الإطلاق، فإن ذلک من مختصات الأئمّة علیهم السّلام، فهم الذین «جاهدوا فی اللّه حقّ جهاده» مطلقاً.

لأن هذا التعبیر بهذه الخصوصیّات لا یصدق علی غیر المعصومین.

فإذا ما سار أتباعهم وأصحابهم فی هذا الطریق، فهذا لا یکسبهم مصداقیّة الآیة لیقال: هذا مصداق، وذاک مصداق، ولکنّ الإمام هو المصداق الأتمّ !!

وبعبارة أخری، إنّ مصداقیّة الآیة إنّما تتحقق فی مقام العصمة، فهذا الرسوخ فی العلم، وهذا «الجهاد فی اللّه حقَّ جهاده» ملازم للعصمة ولا یکون إلّامن المعصوم، ولذا لم یتحقق الجهاد حقّ الجهاد - بالمعنی الذی ذکرناه - خارجاً إلّا من المعصومین من أهل بیت رسول اللّه علیهم السّلام.

ص:272

أجل، هناک فی کلّ زمان طائفة من أصحاب الأئمّة وتلامذتهم والمتربّین فی مدرستهم علیهم السّلام، ساروا فی سبیل اللّه عزّوجلّ وفی طریق تزکیة النفس وجهاد أعداء الحق بالمال والأنفس، ومدرسة أهل البیت علیهم السّلام مستمرّةِ والحمد للّه- فی إیتاء هذه الثمرات، ولکنّ هؤلاء ثمرة لتلک الشجرة الطیّبة، لا إنَّ الثمرة تکون فی حکم الشجرة، ولا یجوز أن نصف الثمرة بما توصف به الشجرة.

ص:273

ص:274

فَالرَّاغِبُ عَنْکُمْ مَارِقٌ واللَّازِمُ لَکُمْ لَاحِقٌ ، والْمُقَصِّرُ فِی حَقِّکُمْ زَاهِقٌ ، والْحَقُّ مَعَکُمْ وفِیکُمْ ومِنْکُمْ وإِلَیْکُمْ ، وأَنْتُمْ أَهْلُهُ ومَعْدِنُهُ .

ومِیرَاثُ النُّبُوَّةِ عِنْدَکُمْ وإِیَابُ الْخَلْقِ إِلَیْکُمْ ، وحِسَابُهُمْ عَلَیْکُمْ ، وفَصْلُ الْخِطَابِ عِنْدَکُمْ .

وآیَاتُ اللَّهِ لَدَیْکُمْ ، وعَزَائِمُهُ فِیکُمْ ونُورُهُ وبُرْهَانُهُ عِنْدَکُمْ ، وأَمْرُهُ إِلَیْکُمْ .

مَنْ وَالاکُمْ فَقَدْ وَالَی اللَّهَ ، ومَنْ عَادَاکُمْ فَقَدْ عَادَی اللَّهَ ، ومَنْ أَحَبَّکُمْ فَقَدْ أَحَبَّ اللَّهَ ، ومَنْ أَبْغَضَکُمْ فَقَدْ أَبْغَضَ اللَّهَ ، ومَنِ اعْتَصَمَ بِکُمْ فَقَدِ اعْتَصَمَ بِاللَّه؛

ص:275

ص:276

وهکذا أصبحت الأمّة بشأن أئمّة أهل البیت علیهم السّلام علی ثلاثة طوائف.

فطائفة هم:

وفی الحدیث المعروف عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله قال:

«النکاح سنتی فمن رغب عن سنّتی فلیس منی».(1)

والمستفاد من هذا الحدیث، مضافاً إلی محلّ الشاهد، إنَّ الإعراض عن سنّة النبی الأکرم هو إعراض عن نفس النبی صلّی اللّه علیه وآله.

وسنقرأ من الکتاب والسنّة، کیف إنّ الإنسان وببرکة حبِّ وطاعة رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله سیکون من رسول اللّه. وأنّ الرّاغب عن سنّته سیکون معرضاً عن نفس رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله.

إذن، فإذا کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله یقول إنَّ المعرض عن سنته لیس منه، فکیف سیکون حال من یعرض عن أهل بیته ؟ فهل له أن یدّعی إنّه من رسول اللّه ومن أمّته صلّی اللّه علیه وآله ؟

من هنا کان المُعرض عن أهل بیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله «مارقاً» عن الدّین، وهذا ما ذکرناه مراراً و أکّدنا علیه.

الخوارج مارقة، لقوله علیه السّلام: یمرقون من الدّین کما یمرق السّهم من الرّمیة».(1)

فکلمة «مَرَقَ » تستعمل فی الشئ الداخل فی الشئ من جانبٍ والخارج عنه من جانبٍ آخر، کما فی الحدیث الصحیح عن أمیر المؤمنین علیه السّلام یقول:

«اُمِرتُ بقتال الناکثین والقاسطین والمارقین».(2)

وفی حدیث آخر: أنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله قال لامّ سلمة:

«إسمعی یا امّ سلمة قولی واحفظی وصیّتی واشهدی وأبلغی (أنّ علیّاً) هذا أخی فی الدنیا والآخرة، نیط لحمه بلحمی ودمه بدمی، منّی ابنتی فاطمة ومنه ومنها ولدای الحسن والحسین، وعلی أخی وابن عمّی ورفیقی فی الجنّة، وهو منّی بمنزلة هارون من موسی غیر أنّه لا نبی بعدی... یا أم سلمة ! علی یقاتل الناکثین والقاسطین والمارقین بعدی».(3)

والمراد من الناکثین: أصحاب الجمل، ومن القاسطین: أهلُ الشام، ومن المارقین: أهل النهروان.(4)

ص:280

ولقد أنکر ابنُ تیمیة هذا الحدیث، لأنّه یدلّ علی وجوب قتل طلحة و الزبیر و معاویة، وأتباعهم.(1)

ولکنَّ الحدیث صحیح ولا مجال للخدش فی سنده، وقد أثبتنا ذلک بنحو مبسوط.(2)

لقد کان «المارقون»، من أصحاب أمیر المؤمین علیه السّلام، وکانوا من المندفعین فی ولایته، والمستحکمین إلی حدّ ما فیها، ولکنّهم مرقوا وخرجوا عن الولایة والدین، إلی درجة تجعل أهل السنّة - الذین یدافعون عن الناکثین والقاسطین - أیضاً یقولون بضلالتهم وإنحرافهم، فمروق أهل النهروان عن الحق متفق علیه بین کلِّ المسلمین.

لقد انقلبوا علی أعقابهم ومرقوا عن الدین حتّی شارکوا فی سفک دم الإمام علی والإمام الحسن والإمام الحسین علیهم السّلام.

إذن، فمن خالف أهلَ البیت علیهم السّلام وحاربهم کانت عاقبته نفس عاقبة أهل النهروان ومصیره مصیرهم وحکمُه حکمهم، فلا فرق بین الذین حاربوا أمیر المؤمنین علیه السّلام فی صفّین والذین حاربوه فی البصرة، والّذین حاربوه فی النّهروان، فکلّهم مشرکون کما سیأتی بشرح: «ومن حاربکم مشرک».

لکنّ أهل النهروان کانوا من أصحابه فعُبّر عنهم فی الأحادیث ب«المارقین»، وأهل البصرة عُبّر عنهم ب«الناکثین»، لأنّهم نکثوا البیعة مع أمیر المؤمنین. و عبّر عن أهل الشّام ب«القاسطین» أی: «الجائرین» و «الباغین».

ص:281

وقد ثبت من خلال الأحادیث الواردة عند الفریقین، أنَّ المراد من «الصّادقین» فی الآیة الشریفة هم أئمة أهل البیت علیهم السّلام.(1)

فیتضح حینئذٍ أنَّ اللّه تعالی قد أمرنا بأن نکون - معنویاً - معهم ولا نفارقهم.

ومن جهة أخری، فإنَّ إطاعتهم «مطلقة»، لأنه تعالی قال: «وَ کُونُوا مَعَ الصّادِقِینَ » ولم یقید بزمان أو مکان أو حال أو فقهٍ أو حدیثٍ أو تفسیرٍ، وإنّما أطلق وجوب المتابعة والکون والمعیّة، وهذا یوجب المتابعة فی أفعالهم وأقوالهم وتروکهم وحرکاتهم وسکناتهم وعقائدهم وأحکامهم وسننهم وآدابهم.

ومن ثمَّ قلنا بعصمة الأئمّة علیهم السّلام وإستدللنا علیها بهذه الآیة فی جملة الأدلّة الاخری، لأنّ الأمر بمعیّتهم مطلقٌ وغیر مقیَّد بأی قید، وکلّ من کان کذلک فلابدّ و أن یکون معصوماً.

ومنه یظهر إنّ القضیة ذات طرفین، والإقبال من طرف یقابله الإقبال من الطرف الثانی، وهو نظیر ما جاء فی قوله تعالی :

«فَاذْکُرُونِی أَذْکُرْکُمْ »1

وبالتدقیق فی إستعمال کلمة «الملازمة» فی الموارد المختلفة، نستکشف أمراً أخر وهو: أنَّ الملازمة بالمعنی الحقیقی والواقعی تنتهی إلی المخالطة، وبتعبیر آخر یصیر المتلازمان علی أثر شدّة الملازمة واحداً. ولذا جاء فی اللغة:

«وعانقه معانقةً وعناقاً: التزمه فأدنی عنقه من عُنُقِهِ ».(1)

فإذا تعانق إثنان بمحبَّة، التصقا، فکأنّهما یختلطان و یصیران بعد الإثنینیّة واحداً.

ومن هذا الباب تسمیة «الملتزم» من الکعبة المشرّفة، حیث یلتصق به الحاج و یحتضنه، قال فی المصباح:

یقال لما بین باب الکعبة و الحجر الأسود الملتزم، لأنّ النّاس یعتنقونه أی یضمّونه إلی صدورهم.(2)

والأصل فی کلّ ذلک هو الحبّ ، فإنّه المحرّک نحو الطّاعة، وکلّما اشتدّ الحبّ ازدادت الطّاعة، حتّی تتحوّل «الملازمة» و «المعیّة» إلی أن یکون التابع «من» المتبوع.

وهذا معنی قول النبی الأکرم صلی اله علیه وآله فی حقّ سلمان:

ص:284

«سلمانٌ منّا أهل البیت».(1)

ومن الشواهد علی أنّ الحبّ هو المحرّک الأصلی للطّاعة ثم الوصول إلی أعلی مراتب القرب:

«قُلْ إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ اللّهُ »2

فالمحبّة تأتی بالمتابعة، وإذا ما تحققت المتابعة، تبدأ المحبّة من طرف المحبوب، فکلَّما إزدادت من هذه الجهة إزدادت من الجهة الاخری حتّی یصل الإنسان إلی مقام «منّا».

هذا، وقد ذهب بعض الأجلّاء إلی القول بعصمة سلمان رضی اللّه تعالی عنه بالنظر إلی ما ورد فی حقّه عن النّبی و آله علیهم السّلام، ولنا بحث فی ذلک.

ومن أظهر المصادیق للمعنی المذکور ما حصل لأمیر المؤمنین من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علی أثر الملازمة المستتبعة الطّاعة و المتابعة له:

سُئل القثم بن العباس - أخو عبد اللّه بن العباس - عن سبب أقربیّة إبن عمّه علی علیه السّلام من رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله دون سائر عشیرته، فصار وارثاً له ؟

فقال فی الجواب:

«لأنّه کان أوّلنا برسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله لحوقاً وأشدَّنا به لُزوقاً».(2)

ص:285

ومن هذا الباب حالات النّبی و آله الأطهار علیهم الصّلاة و السّلام مع اللّه، کما سیأتی بیان طرفٍ من ذلک بشرح: «وإیاب الخلق إلیکم وحسابهم علیکم» إن شاء اللّه.

وهکذا کان حال طلّاب الحوزة العلمیّة وحتی الآونة القریبة. فلقد کانوا یلازمون الأساتذة قدر الإمکان، فمضافاً إلی حضور الدرس والبحث، فإنهم کانوا یحضرون معه فی منزله، ویصاحبونه فی سفره.

وقد نقل لی أحد أساتذتی أنَّ المیرزا محمد تقی الشیرازی کان یلازم استاذه «الفاضل الأردکانی»، حتّی عند ذهابه للاستحمام، فکان یحمل ملابس استاذه لیعینه فی شیخوخته ولیؤدی حق الاستاذ ولیستفید من علمه حتّی فی طریق ذهابه وإیابه.

وهذا درس تعلّموه من أمیر المؤمنین علیه السّلام الذی کان یلازم رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله ویذهب معه إلی بیته، کما إنَّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله کان یذهب إلی بیت أمیر المؤمنین ویُحدِّثه ویعلِّمه.

یقول أمیر المؤمنین علیه السّلام فی هذا الشأن:

«وقد کنت أدخل علی رسول اللَّه صلّی اللّه علیه وآله کلّ یوم دخلة وکلّ لیلة دخلة فیخلینی فیها أدور معه حیث دار، وقد علم أصحاب رسول اللَّه صلّی اللّه علیه وآله أنه لم یصنع ذلک بأحد من الناس غیری، فربما کان فی بیتی یأتینی رسول اللَّه صلّی اللّه علیه وآله أکثر ذلک فی بیتی. وکنت إذا دخلت علیه بعض منازله أخلانی وأقام عنّی نساءه فلا یبقی عنده غیری، وإذا أتانی للخلوة معی فی منزلی لم یقم عنّی فاطمة ولا أحداً من بنی، وکنت إذا سألته أجابنی وإذا سکتّ عنه

ص:286

وفنیت مسائلی ابتدأنی...»؛(1)

فهل بلغ أحدٌ من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله غیر علی علیه السّلام ما بلغه ؟

ولذا یقول عبد اللّه بن العباس: إنّ العلوم قسمت إلی عشرة أقسام، تسعة منها عند علی بن أبی طالب، وقسم واحد قسِّم بیننا جمیعاً وعلی شریکنا فی هذا القسم أیضاً.(2)

هذا، وقد جاء فی روایات أهل السنّة أنَّ النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله قد أشار إلی الحسن والحسین علیهما السلام وقال:

«مَن أحبَّنی وأحبَّ هذین وأباهُما واُمُّهما کانَ مَعی فی دَرجتی».(3)

ولکنّ البعض لیس مؤهلاً لدرک أنَّ حبِّ أهل البیت علیهم السّلام یصل بالإنسان إلی هذه النتیجة.

وعلی الجملة، فإن قولنا «واللّازم لکم لاحق»، کلام تدعمه الأدلّة عقلاً و نقلاً، و تشهد به الآیات و الروایات و سیرة الأئمّة الطّاهرین و عباد اللّه الصّالحین، وملخّص معناه: إن الملازمة للأئمّة تستتبع المتابعة لهم و المتابعة تستتبع اللّحاق لهم، قال تعالی:

«وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّیَّتُهُمْ بِإِیمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ »4

ص:287

مع تمکّنه من ذلک، و هذا یؤدّی قهراً إلی عدم متابعتهم وعدم طاعتهم والانقیاد لهم. وحینئذ ستکون الفاصلة بینه وبینهم کبیرة وسیبتعد عنهم کثیراً.

وتوضیح ذلک:

إنَّ الإنسان إمّا عالمٌ أو جاهل، والجاهلُ إمّا مقصِّر أو قاصر، وقد کان الجاهل القاصر موجوداً فی الأزمنة الماضیة. وأمّا فی زمننا هذا، فهل یوجد مصداق للجاهل القاصر أم لا؟ فیه بحث وخلاف. أللّهم إلّا اولئک الذین یعیشون فی الغابات والمناطق المنقطعة عن العالم، وهم الیوم قلّة قلیلة، ولسنا الآن بصدد التحقیق عن هذه القضیّة، وإنّما نقول: إنّ من کان قاصراً عن معرفة اللّه تعالی ، أو معرفة النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله، أو معرفة الأئمّة علیهم السّلام، أو أی نوع من المعارف الدینیّة، وکان عاجزاً عن الوصول إلی الحقائق، فإنه - وبحسب القواعد - سیکون حسابه علی اللّه.

ولکنَّ کلامنا فی الجاهل المقصِّر، فما هو تکلیف مثل هذا الفرد؟

إذا کان الإنسان جاهلاً، وکان یعلم بأنّه جاهل، ولم یتحرک باتجاه المعرفة عن عمدٍ وإرادة مع قدرته علی ذلک، فبقی فی ظلمات الجهل والضلال، فإنَّ الشرع والعقل والعقلاء یذمّون هذا الفرد ولا یعذرونه.

إنَّ الإنسان إذا ما إبتلی بصداع طفیف، فإنه سیسارع إلی التداوی والعلاج لرفعه. فإن لم یکن فی بلده طبیب أو مشفی أو صیدلیة، فإنه سیذهب إلی أقرب بلدة یتوفر فیها ذلک، من أجل معالجة حالته.

أجل، فأبسط حالة مرضیّة، تدفع الإنسان إلی التحرّک السّریع والجادّ للمعالجة، فإن لم یفعل لامَ نفسه ولامه الناس علی تقصیره.

أفلا یستحق تحصیل المعارف الدینیّة والوصول إلی الحقائق المعنویة

ص:289

المقوّمة لحیاة الإنسان، أن یکون داعیاً ومحفزاً ومحرکاً له باتجاهها؟

فمن البدیهی أن نلوم الإنسان الجاهل الذی لا یتحرّک - علی فرض المُکنة والقدرة - باتجاه المعرفة وتحصیل الحقائق، ولا تُقبل منه دعوی العجز عنها، ولا نعذره فی ذلک.

ومن جهة أخری، فإنَّ بعض الجهّال، لیس فقط یجهلون أنّهم جهّال، وإنَّما یرون أنفسهم من العلماء، فیستکبرون عن السؤال ویستنکفون عن التعلُّم، کمثل من یسیر أیاماً ولیالی بکلّ همّة وجدِّ بقصد مکة، غافلاً عن إنّه یسلک طریق الهند لا الحجاز، ولکنه یزعم بأنه عالم بالطرق فیستنکف من السؤال عن الطریق فلا یسأل أحداً: أین طریق مکة ؟ ظنّاً منه بأنه عالم به. اللهم إلّا أن یصادف شخصاً فی طریقه فیعرِّفه باشتباهه، وحینئذٍ سیخرج من الجهل المرکب إلی الجهل البسیط، فیحتاج إلی عالم یخرجه من جهله البسیط هذا فیأخذ بیده ویُقرّه فی الطریق الصحیح الموصل إلی مکة.

وانفصلوا عنهم تماماً، بعد أن کانوا من الموالین لهم وهو ما بیَّناه فی شرح «فالراغب عنکم مارق» حیث ذکرنا أن «المروق» لیس مطلق الخروج، وإنّما خروج خاص، وإن کان بمعناه فی ظاهر کلمات اللّغویین.

إنَّ هؤلاء، کانوا یقرؤن القرآن، ویؤدّون صلواتهم بخضوع وخشوع، ویلتزمون بالظواهر.

فقد جاء فی روایة إنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله کان جالساً ذات یوم بین أصحابه فی المسجد، فدخل رجل ولم یسلِّم علیه وأخذ زاویة من المسجد فوقف یصلی بها. فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله: من یقوم لهذا الرجل فیقتله ؟

فقال أبوبکر: أنا یا رسول اللّه!!

فلمّا سلَّ أبوبکر سیفه لیقتله، وجده فی حال الصَّلاة، وأی صلاة !! صلاة بخشوع وخضوع، فقال فی نفسه: کیف أقتل رجلاً یصلّی مثل هذه الصَّلاة ؟!

فرجع إلی مکانه دون الامتثال.

فقال رسول اللّه ثانیة: من یقوم لهذا الرجل فیقتله ؟

قال عمر: أنا یا رسول اللّه!

فقام إلیه کما قام الأول، فرآه علی ما رآه الأول، فلم یقتله ورجع.

فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله ثالثة: من یقتله ؟

فقال أمیر المؤمنین علیه السّلام: أنا یا رسول اللّه!

فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله:

«أنت إن أدرَکتَه»؛

وعندما ذهب علی علیه السّلام لیقتله، وجده قد انصرف.

ص:291

فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله:

«لو قُتِلَ ما اختلف من امّتی رجلان».

ثمّ قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله فی ذلک الشخص:

«إنَّ هذا وأصحابه یقرؤون القرآن لا یجاوز تراقیهم، یمرقون من الدین کما یمرق السهمُ من الرّمیة ثم لا یعودون فیه».(1)

ویظهر من هذه الروایة مدی إخلاص وطاعة أبی بکر وعمر لرسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله، وعمق إعتقادهما بنبوّته وحقّانیته، و مقدار إنقیادهما لأوامره الحکیمة التی یجب إمتثالها بدون تباطؤ أو نقاش.

3 - الغلاة، وهؤلاء هم الذین یزعمون الحبّ لأهل البیت علیهم الصّلاة والسّلام، فقالوا باُلوهیة النبی الأکرم صلّی اللّه علیه وآله ونبوة بعض أهل البیت واُلوهیة البعض الآخر، فحکم الأئمّة علیهم السّلام بکفرهم و حذّروا أتباعهم منهم.

4 - النواصب، وهم الذین یعلنون العداء الصریح لأهل البیت علیهم السّلام.

5 - المقصّرون، و هم الذین یغمطون حقَّ أهل البیت علیهم السّلام ویقصّرون فی ذلک، فلا یعترفون بمقاماتهم، بل ینزلونهم عن مراتبهم وقد یُساوونهم بسائر الناس.

ولابدّ من التذکیر بأننا - وفی مقدّمات الکتاب - تحدّثنا عن «الغلو» و«التقصیر»، وبیّنا المراد منهما علی ضوء الروایات الواردة عن

ص:292

أهل البیت علیهم السّلام، ونقلنا فی نهایة المطاف هناک کلاماً للعلّامة المجلسی رحمه اللّه فی هذا المجال.(1)

وخلاصة الکلام: إنَّ علینا أن نعرف الأئمّة علیهم السّلام حتّی نتابعهم عن بصیرة و نلازمهم عن وعی کامل، فنصل عن طریقهم إلی معرفة اللّه وطاعته ونکون من الفائزین.

شئون الإمام علیه السّلام، وکان هذا الشأن غیر مخالف للموازین الشرعیّة والعقلیة، فإننا سنکون ملزمین بالاعتقاد بالإمام طبقاً لتلک الروایة، فإذا ناقش أحدٌ فی تلک المقدّمات ولم یکن معانداً، کان علینا مجادلته بالتی هی أحسن وإفهامه بها وإزالة الشکوک عنه.

ولا نتصور وجود شیعی، أو غیر شیعی منصف، یخالف هذه المقدّمات أو إحداها ویرفضها.

وبناءاً علی ما مرَّ، فإنه لا یمکننا تعیین مقامات ومنازل الأئمّة علیهم السّلام من خلال عقولنا القاصرة، ولا تعیین حدودٍ لمقاماتهم، إذا ما تجاوزناها اتهمنا بالغلو !!

فإذا ما عرفنا الأئمّة کما فی الکتاب والسنّة، وکلّما تقدّمنا فی معرفتهم ازداد إیماننا بهم، فلا نرغب عنهم فحسب، بل نزداد ملازمةً لهم، ونعوذ باللّه من التقصیر فی حقّهم، فإنّ المقصّر فی حقّهم کان زهوقاً.

ففی الحدیث القطعی الصدور عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله، قال:

«من مات ولم یعرف إمام زمانه مات میتة جاهلیة».(1)

وعلیه، فمن الطبیعی أن تکون میتة المقصِّر فی معرفة الإمام ومتابعته المستندة إلی تلک المعرفة، میتةً جاهلیة، ومیتة الجاهلیة مساوقة للتلف والزهاق والهلکة.

فإذا ما إتّضحت حکمة نصب الإمام وتعیینه فی الأمّة، وإذا ما عرفنا فائدة معرفة الإمام، سنعلم قطعاً أنَّ عدم معرفته تؤدی إلی نتائج وخیمة وعواقب سیّئة.

وفی روایة أخری عن النبی الأکرم محمد صلّی اللّه علیه وآله، قال:

«إنّما مثل أهل بَیتی فیکم کمثل سفینة نوح من رکبها نجا ومن تخلّف عنها هلک».(2)

فالرکوب فی سفینة أهل البیت علیهم السّلام - یعنی أنّ الکون معهم وملازمتهم - مساوٍ للنجاة، وأن مفارقتهم وعدم ملازمتهم مساوٍ للهلکة.

وإذا انحصر النجاة والفلاح والصّلاح بطریق أهل البیت علیهم السّلام، کان کلُّ طریقٍ آخر غیر طریقهم ضلالاً وباطلاً ومؤدّیاً إلی الهلکة.

ص:295

ومن هنا، فإنه علیه السّلام یقول بعد تلک الفقرة:

«والحَقُّ مَعَکم وفیکم ومِنکم وإلَیکم وأنتُم أهلُه ومَعدِنُه»

فإذا ما کان من سوی أهل البیت باطلاً، وکان الباطل زهوقاً، کان أهل البیت هم الحقُّ ، لا الآخرون، لأنَّ الحقَّ واحدٌ لا أکثر.

ومن جهة أخری، فإنّ «الحقّ » نقیض «الباطل» کما تقدّم. فالشئ الزائل یقال له باطل.

فالباطل زائل والحقّ ثابت وباقٍ ولا یزول أبداً ولا یتغیّر ویبقی محفوظاً.

«وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ »1

ولابُدَّ من قبول الحق والتسلیم به و التمکین له، وهذا من جملة أحکام الحق فی القرآن الکریم، فإنّ قبول الحق واجب فی کلِّ حال، سواءٌ کان مطابقاً لمیول الإنسان أو لم یکن. فلا یجوز رفض الحقِّ من أجل الأهواء والرغبات أو أی حیث من الحیثیات. یقول تعالی فی کتابه المجید:

«وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَکَ مِنَ الْحَقِّ »2

فالأفکار، والآراء، وأنظار الإنسان فی مقابل الحق مهما کانت و ممّن کانت، لیس لها وزنٌ ولا قیمة.

فلو اجتمع کلّ الناس واتفقوا علی مخالفة الحق، لم یکن لإجماعهم أیَّة قیمة، بل علیهم إتّباع الحق.

فالحق ثابت ولا یتغیّر أبداً ولا یمیل مع الأهواء والمیول، بل کلّ الحیثیّات تنصهر فی الحق، وتمیل إلیه. قال تعالی :

«وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِیهِنَّ »3

فیظهر من ذلک، أنَّ من یقف بوجه الحقِّ ، فهو داعیة الفساد فی الأرض، وأی موضوع تبین أنّه الحق، فلا نقاش ولا مماراة فیه، ولا معنی لتغییره. یقول تعالی :

«یُجادِلُونَکَ فِی الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَیَّنَ »4

فلا مناص من إطاعة الحقِّ واتّباعه، بلا تغییر ولا تبعیض ولا زیادة ولا تعدُّد.

ص:299

إذن، فأولئک الذین یقولون: إنَّ الحقَّ یتعدّد، وإنَّ الکلَّ یصلون إلی الحقِّ ، وأنَّ کلَّ واحدٍ من الأقوال أو الأحزاب له نصیب من الحق، کلُّ ذلک بعید عن الصواب ومخالفٌ للقرآن الکریم. یقول تعالی :

«فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ »1

ومن جملة خصوصیّات الحقِّ أیضاً، إنّه معرِّفٌ لنفسه، ولا یحتاج إلی ما یعرِّفه، بل الآخرون یحتاجون إلی تعریفهم بالحق، لا العکس، فالحق هو المیزان لمعرفة الآخرین، لا أن یکون الآخرون میزاناً لمعرفة الحقّ ، فإن من یرید أن یعرِّف الحقَّ لا یخرج عن أحد حالین: إمّا أن یکون عالماً وإمّا أن یکون ظانّاً.

فإن کان کلامه وتعریفهُ عن علم، فإنّ ذلک یعنی إنّه أخذ کلامه من الحق.

وإن کان ما یقوله ظنّاً منه، فلا قیمة لکلامه حینئذٍ. یقول تعالی :

«إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً»2

ومن هنا، فإنّ ذلک الشخص الذی جاء إلی أمیر المؤمنین علی علیه السّلام یوم حرب الجمل وقال له: یا أمیر المؤمنین، لقد شککتُ فی الأمر، فطلحة والزبیر وعائشة فی جانب، وأنت وأصحابک فی المقابل، فأین الحقّ؟

فقال له أمیر المؤمنین علیه السّلام:

«إعرف الحقَّ تَعرفُ أهلَه».(1)

وفی روایة أخری، قال علیه السّلام له:

ص:300

«إعرف الرجال بالحقِّ لا الحقَّ بالرجال».(1)

فلا یجوز أبداً أن نقول: لأنَّ فلاناً وفلاناً...و... فعلوا کذا أو یفعلون کذا، فهذا هو الحقُّ إذن !!

بل لابدّ من معرفة فلان وفلان من خلال الحقِّ .

فالحقُّ لا یدور مدار الأشخاص، بل إنَّ الأشخاص لابدَّ أن یدوروا مدار الحقِّ .

فلا یجوز لنا أن نحترم الأشخاص بمجرّد شخصیاتهم، وإنَّما المناط هو إتّباعهم الحقَّ .

ومن خصوصیّات الحقّ أیضاً، هو إنّه لا یستوحش ولا یضعف مع قلَّة أهله والعاملین به، فلو أنَّ کلَّ الناس أعرضوا عن الحقِّ لم یتأثر بذلک ولا یتغیّر بل یبقی ثابتاً راسخاً. وبطبیعة الحال، فإن الحقَّ یُهضم إذا ما هجره الناس ومالوا عنه، ولکنَّ ذلک لا یؤثر بمقدار ذرّة فی حقّانیّته وواقعیته.

یقول تعالی :

«وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْیَکْفُرْ»2

ولذا، علینا نحن أن نتحرّک ونتّجه إلی الحق ونطلبه، وأن نجده ونتَّبعهُ ، فإنه موجود دائماً ومستقر فی محلّه.

وینبغی أن لا نتوقع وننتظر أن یأتی الحق ویطرق أبوابنا، بل علینا نحن أن نبحث عنه ونطرق بابه.

ص:301

وهذا یفسّر لنا ما جری فی قضیّة السقیفة والأحداث اللّاحقة لذلک، فهل کان أمیر المؤمنین علیه السّلام مکلَّفاً بدعوة الناس إلی نفسه وحمل السیف والقتال ؟ یقول الإمام علیه السّلام:

«یا جابر، مثلُ الإمام مَثَل الکعبة إذ یُوتی ولا یأتی»(1)

وفی روایة أخری عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه وآله یقول:

«یا علی أنت بمنزلة الکعبة تؤتی ولا تأتی»(2)

وهذا هو القرآن الکریم:

«قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَکُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنِ اهْتَدی فَإِنَّما یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِوَکِیلٍ »3

ویخاطب تعالی رسولَه الکریم بقوله:

«وَ اتَّبِعْ ما یُوحی إِلَیْکَ وَ اصْبِرْ حَتّی یَحْکُمَ اللّهُ وَ هُوَ خَیْرُ الْحاکِمِینَ »4

أی: یا أیّها الرسول إذا لم یأت إلیک الناس ولم یتّبعوک، فقد أدّیت الذی علیک من الصدع بالدعوة واللّه أحکم الحاکمین.

والعجیب هو إنه - وعلی مرّ التاریخ ودائماً - یکون النزاع قائماً بین الحق والباطل. یقول تعالی فی کتابه:

«کَذلِکَ یَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ »5

ص:302

والأعجب، هو أنَّ أکثر الناس یُعرضون عن الحق ویمیلون إلی الباطل.

یقول عزّ من قائل:

«بَلْ أَکْثَرُهُمْ لا یَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ »1

ویقول أیضاً فی آیة أخری:

«بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَکْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ کارِهُونَ »2

ومع کلّ ذلک أیجوز للإنسان العاقل أن لا یرغب فی الحقِّ؟

ولماذا یکون الحقُّ مُرّاً کما فی الخبر؟

فهل إنَّ نفس الحقَّ مرٌّ فی ذائقة الإنسان، أم إنَّ نفس الإنسان تراهُ مُرّاً؟

هذا بیان القرآن الکریم حیث یقول:

«بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَکْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ کارِهُونَ »

وبملاحظة آیات القرآن المجید، یُعلم أنَّ الإمام والإمامة أیضاً کذلک، فلابدَّ أن نفهم الإمامة و نعرف الإمام، و أن نعلم أنَّ إعراضنا لا یضرُّ الإمام کما أنّ معرفته و الإتّباع له لا ینفعه، ولن ینقاد الحقُّ أبداً لأهوائنا ولأفکارنا ومیولنا.

والعجیب هو إنّ سیرة أمیر المؤمنین - کما تدلّ علی ذلک الروایات والتاریخ والسیرة - لم تتغیّر أبداً، سواءٌ فی وقت إعراض الناس عنه أو وقت التفافهم حوله وإلحاحهم علی مبایعته وتصدّیه للحکم، فعلی الحاکم هو نفسه علی الجلیس فی الدار، لأنه الحق، وشأن الحقَّ عدم التّغییر، والحق مع أهل البیت علیهم السّلام، لم یفارقهم ولم یفارقوه أبداً.

ص:303