حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: باقر شريف القرشي

الناشر: دار البلاغة

المطبعة: دار البلاغة

الطبعة: 1

الموضوع : سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 532

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهماالسلام

الجزء الأول

دار البلاغة

محرّر الرّقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

المكتبة الإسلامية

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) . ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) . ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) .

ص: 4

الإهداء

إليك .. يا علة الموجودات ، وسيد الكائنات

إليك .. يا منقذ الإنسانية من ظلمات الجهل ، وباعث الروح والعلم في الأجيال.

إليك .. يا رسول اللّه ، وخاتم النبيين.

أرفع بكلتا يدي هذه الوريقات التي بحثت فيها عن سيرة سبطك الأكبر ، وريحانتك الذي غذيته من كمال النبوة ، وأورثته هيبتك ، وسؤددك. وهي بضاعتى المزجاة التي أعددتها ذخري يوم الوفادة عليك ، فعسى أن تقع من مقامكم الرفيع موقع القبول وهو حسبى.

ص: 5

تقديم لامام المصلح كاشف الغطاء

ص: 6

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الإمام السبط أبو محمد الزكي أول الأسباط الأحد عشر من نسل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) سيد الأنبياء ونسل علي سيد البشر وأول من اجتمع فيه نور النبوة ونور الإمامة فكان مجمع النورين وأحد النيرين وملتقى البحرين ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) علي بحر نور الإمامة وفاطمة بحر نور النبوة والكرامة ، يخرج منهما اللؤلؤ الأخضر بخضرة السم في السماء والمرجان الأحمر بحمرة الأرض من الدماء.

الحسن أول الأئمة الامناء من صلب سيد الأوصياء ، الحسن الذي أظهر الحق وأزهق الباطل وحقن بصلحه الدماء.

وقد كانت ولادته في ليلة النصف من رمضان على أشهر الأقوال وقد صادف املائي لهذه الكلمات هذه الليلة التي هي ليلة النور وليلة الفرح

ص: 7

والسرور لأهل البيت الذين يجب أن نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم. فالى سيد الكائنات ، وعلي وفاطمة صلوات اللّه عليهم أزف الأناشيد والتهاني والترانيم مهنيا لهم بهذا المولود المبارك الذي يقول فيه علة الوجود ومرآة المعبود وفي أخيه : « نعم الجمل جملكما ونعم الراكبان أنتما ».

وإني لا أحاول من هذه المقالة التي جرى بها القلم على العجالة أن أذكر ما لأبي محمد الزكي (عليه السلام) من عظمة المآثر ومآثر العظمة وكبرياء الجبروت وجبروت الكبرياء وعلوّ المفاخر والمناقب ومفاخر العلياء كلا ثم كلاّ فان صقر باعي ونسر يراعي على سعة معرفتى واطلاعي ينحطان ويسقطان عن العروج إلى ذلك العرش المتمرد بمناعته على العقول والذي لا تنال منه الأفكار مهما تعالت وتغالت سوى الدهشة والذهول.

وإنما أريد أن أتعرض إلى ناحية من نواحي حياته وآية واحدة من آيات معجزاته ومعجزات آياته ، وهي ناحية صلحه مع الطاغية ابن الغاوي والغاوية معاوية ، فان هذه الناحية قد تعقدت ولبست أسمك جلابيب الغموض وساءت في توجيهها الظنون وباءت بالفشل كل الفروض وسرى الشك وتضعضعت أركان الإيمان حتى من أخص أصحابه وأصحاب أبيه علیه السلام ، والخلص من شيعته ومواليه فحمل الغيظ والغضب ذلك الطود الأشم على إساءة الأدب فقال : السلام عليك .. وكان الواجب أن يقول يا معز المؤمنين فقال عكسها. ولم يزل الغموض والالتباس يضفي على القضية أسوأ لباس حتى على المعتقدين بامامته وعصمته. ولكن غلبت العاطفة فيها وصدمة الرزية على التعقل والروية. ولو أمعنوا النظرة وفسحوا المجال للفكرة لتجلى لهم جلاء الشمس ، ان كل الصلاح وصلاح الكل فيما فعله سلام اللّه عليه لا من حيث التعبد والتسليم والخضوع للامر الواقع مهما كان خيرا أو شرا ولا من حيث الاعتقاد بالعصمة ، وإن عمل المعصوم لا بد

ص: 8

وأن يكون موافقا للحكمة ، كلا بل لو تدبرنا الواقعة ونظرناها من جميع أطرافها وظروفها وملابساتها ونتائجها ومقدماتها لا تضحّ لنا على القطع واليقين أن ما فعله سلام اللّه عليه هو المتعين ولا يصح غيره ، نعم هو الحزم بعينه وهو الظفر بخصمه وهو عين الفتك بعدوه من حيث الفنون الحربية والسياسة الزمنية فعل فعل القائد المحنك والحازم المجرب فحارب عدوه بالسلم وغلب عليه بالصلح ، فاخمد ناره وهتك ستاره وابدى للناس عاره وعياره ، وما كان من الصلاح إلا أن يحاربه بالصلح لا بالسلاح ويذبحه باعماله لا بقتاله ونباله وهذا اتم للحجة واقطع للمعاذير وابلغ في دفع الريب والشبهة وإيضاح كل هذا وانارته بحيث يرى بالعين ويلمس باليد يحتاج إلى فضل بيان وقوة جنان وسعة في القول ولا يساعدني على شيء من ذلك جسمي العليل وبصرى الكليل وكثرة اشغالى وبالى البالى وضيق مجالى وسوء حالى. وعسى أن يلطف جل شأنه فيسمح لى بانتهاز فرصة أخرى استطيع أن اعطي البيان حقه في هذا المضمار واكشف عن هذا الغموض الحجب والاستار حتى يظهر الحق وتسطع الانوار ، ولكن لا أجد بدا من أن اختم كلمتى هذه بالحق المحض وزبدة المخض.

وهي على الجملة والطى أنه كما كان الواجب والمتعيّن الذي لا محيص عنه في الظروف التي ثار بها الحسين سلام اللّه عليه على طاغوت زمانه أن يحارب ويقاتل حتى يقتل هو واصحابه وتسبى عياله ودائع رسول اللّه كما كان هذا هو المتعين في فن السياسة وقوانين الغلبة والكياسة مع قطع النظر عن الاوامر الإلهية والمشيئة الازلية كذلك كان المتعين والواجب الذي لا محيص عنه في ظروف الحسن (عليه السلام) وملابساته هو الصلح مع فرعون زمانه ولو لا صلح الحسن وشهادة الحسين علیهماالسلام لما بقى للاسلام أسم ولا

ص: 9

رسم ولضاعت كل جهود محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وما جاء به للناس من خير وبركة وهدى ورحمة ، فان أبا سفيان ونغله معاوية وسخله يزيد دبروا كل التدابير واعملوا كل الحيل لمحو الاسلام ورد الناس إلى جاهليتهم الاولى وعبادة اللات والعزى ولعل إلى هذه النكتة الدقيقة اشار النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بالحديث المشهور ، الظاهر بصحته ظهور النور ، يقول صلی اللّه علیه و آله « الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا » لعله يعنى أن الحسن إمام في قعوده كما أن الحسين إمام في قيامه ونهضته.

وكانت جمهرة المؤرخين وأرباب التراجم والسير تسرد قضية الحسن سلام اللّه عليه وصلحه مع معاوية على سطحها الظاهر وشكلها البسيط من غير تحليل ولا تعليل ولا تعمق وتحقيق ومن دون نظر إلى ظروف الواقعة وملابساتها ومباديها وغاياتها ولذا قد يستبق إليها نوع من الاستنكار لعدم النظر إليها بنظر التدبر والاعتبار.

ولكن بما أن الحق والحقيقة نور ، والنور إذا اشتد يشق الستور ويأبى إلا الظهور قيض اللّه في هذا العصر بعض الافاضل من ذوى الاقلام البارعة والافهام الفارعة والانظار السديدة والافكار الحرة فكشفوا بمؤلفاتهم عن حياة الحسن (عليه السلام) وسيرته وصلحه الغموض والتعقيد وازاحوا لثام بعض الاوهام التي زلق فيها بعض الكتبة من المعاصرين ومن الذين قبلهم.

وممن عرف فالف واجاد فيما جمع وصنف ، وترجم للحسن (عليه السلام) في حياته فاحسن ، واتقن ، وجمع فبرع العالم الفاضل النجيب الاديب الشيخ باقر القرشي ايده اللّه بروح العناية منه والتوفيق ، فقد رفع إلىّ بعض فصول الجزء الاول من مؤلفه ( حياة الحسن ) فوجدت فيه روح الطموح

ص: 10

وطموح الروح ووجدت فيه نفسا وثابة قد جرت في أشواط السباق ، وإذا كانت في البداية فهي على وشك الوصول إلى الغاية. واحسن شاهد على فضل كتابه نفس كتابه.

( سبوح لها منها عليها شواهد )

شكر اللّه مساعيه وبلغه امانيه.

بدعاء ابيه الروحي

محمد الحسين آل كاشف الغطاء

صدر من مدرستنا العلمية بالنجف الاشرف

بتأريخ 20 شهر الصيام المبارك سنة 1373 هج.

ص: 11

مقدّمة الطبعة الثانية

اشارة

ص: 12

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

- 1 -

للامام أبي محمد الحسن (عليه السلام) تأريخ مشرق ، حافل بأروع صفحات البطولة والجهاد ، وسيرة ندية تنبض بالعدل والتقوى ، وتتدفق بالقابليات الفذة ، والنزعات الخيرة ، وتلتقي بها سجاحة الخلق ، واصالة الرأي ، وعمق التفكير ، وقد اجمع المترجمون له أنه من احلم الناس ، واقدرهم على كظم الغيظ ، والصبر على الأذى والمكروه ، فما عرف من سيرته أنه قابل مسيئا باساءته ، ولا جازى مذنبا بذنبه ، وإنما كان يغدق عليهم بالاحسان ويقابلهم بالمعروف ، شأنه شأن جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الذي وسع الناس باخلاقه وحلمه.

وحسبها شهادة تدل على عظيم حلمه ادلى بها الد خصومه ، واحقد اعدائه مروان بن الحكم حينما بادر إلى حمل جثمانه الطاهر ، فاستغرب منه سيد الشهداء وقال له : « اتحمل جثمانه ، وكنت تجرعه الغصص؟! »

فقال مروان : « كنت افعل ذلك بمن كان يوازي حلمه الجبال » وكما كان من احلم الناس ، فقد كان من ابرز رجال الفكر في سداد الرأي وصواب التفكير ، وقد تجلى ذلك في صلحه مع معاوية ، وتجنبه من فتح باب الحرب ، فان البلاد كانت تضج بالحزبية ، وباع زعماء القبائل وقادة الجيش ذممهم على معاوية ، وانحازوا إلى معسكره لا

ص: 13

إيمانا بقضيته ، وانما طمعا بامواله ، واستجابة لرغباتهم النفسية التي تطمع بالنفوذ والسيطرة ، والثراء العريض ، مضافا إلى ذلك خبث جنوده ، وشدة خلافهم ، وايثارهم للسلم ، وغير ذلك من العوامل التي سنذكرها بالتفصيل في غضون هذا الكتاب ، فاستسلم علیه السلام للامر الواقع ، وصالح معاوية ، وقد صان بذلك الأمة ، وحفظ دماءها ، وجنبها من المضاعفات السيئة التي لا يعلم مدى خطورتها الا اللّه ، واجمع الرواة أنه كان أندى الناس كفا ، واوصلهم لعباد اللّه ، واعطفهم على الفقراء والمحرومين حتى لقب بكريم اهل البيت مع أنهم اصول الكرم ومعدن السخاء والمعروف وكانت تترى عليه وفود من الفقراء والمحتاجين فيفيض عليهم ببره ، ومعروفه وينقذهم بوافر عطاياه من ذل السؤال والحاجة إلى السعة والبسط في العيش والاستغناء عما في أيدى الناس.

واتفقت كلمة المؤرخين أنه كان اعبد أهل زمانه ، وأتقاهم واكثرهم عبادة ، وخوفا من اللّه ، وقد حج بيت اللّه الحرام خمسا وعشرين حجة وان النجائب تقاد بين يديه ، وقد عمل جميع الوسائل التي يتقرب بها إلى اللّه ، وتجرد عن لهو الحياة ، ونبذ جميع زخارفها ، وسنذكر ذلك بالتفصيل عند التحدث عن مثله ، ومظاهر شخصيته العظيمة.

ان سيرة الامام (عليه السلام) في جميع صورها من اروع سير العظماء والمصلحين الذين تعتز بهم الامة في جميع مجالاتها ، ويكفيها خلودا أنها شابهت سيرة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وحكت كريم طباعه وسجاياه.

- 2 -

ومشكلة تواجهنا في تأريخ الامام أبي محمد هي الاخبار الموضوعة التي ألصقت بتأريخه النير ، فقد دسها في التأريخ الاسلامي بعض الرواة من

ص: 14

اجراء السلطة الحاكمة فنسبوا له ما هو بعيد عنه ، اتهموا الامام انه كان عثماني الهوى ، وانه كان يندد بموقف أبيه يوم الدار ، لأنه لم يقم بعمليات النجدة ، ولم ينقذ عثمان ، وينجيه من أيدى الثوار ، كما أنه لم يكن من رأيه - كما رووا - أن يستجيب أبوه إلى رغبة الجماهير الذين هتفوا باسمه واصروا على ترشيحه لمنصب الخلافة ، وان امير المؤمنين عصاه - على حد تعبيرهم - واستجاب لدعوة الثوار.

والصقوا بسيرته الوضاءة انه كان كثير الزواج ، والطلاق ، وقد بالغوا في ذلك إلى حد بعيد فرووا أنه كان في اكثر أيامه يعقد على امرأة ويطلق أخرى ، والسبب في ذلك كله هو الحط من شأنه ، والتقليل من أهميته وقد دون تلك الروايات المؤرخون ، واستند إليها كتاب العصر وفي طليعتهم الدكتور طه حسين (1) فقد مال إليها ، وارسلها إلى القراء ارسال المسلمات ، ولم يتثبت في سندها ليتضح له أن رواتها قد وصموا بالوضع والانحراف عن أهل البيت ، وقد فندنا القسم الكثير منها في بحوثنا ودللنا على مواضع الضعف الذي فيها سواء أكان من ناحية السند أو من غيره.

إن اهم شيء تستدعيه ضرورة البحث هي غربلة الاخبار ، ومعرفة رواتها والتوثق منهم فمن كان صحيحا في نقله بعيدا عن الكذب غير متهم في دينه فيؤخذ بروايته ، ويعول عليها في بناء التأريخ الاسلامي ، ومن كان من الرواة منزلقا في احضان السلطة ويكتب لأغراضها ، ويدون لتدعيم سلطانها وهو في نفس الوقت غير متحرج ولا متأثم من الكذب والوضع فان الواجب أن ترد روايته ولا يعتمد على نقله ، والإسلام قد

ص: 15


1- استند الدكتور طه حسين في كتابه على وبنوه الى الروايات الموضوعة وسنذكرها في غضون هذا الكتاب وندلل على ما يرد عليها من المؤخذات.

أمرنا بصراحة بالتثبت في اخبار المتهمين في دينهم ، قال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1) والآية صريحة الدلالة في وجوب التثبت في اخبار الفساق ، واي أثم اعظم من ارتكاب الوضع وتعمد الكذب ، وهي في عمومها شاملة للاخبار عن الموضوعات الخارجية ، ومنها الاخبار عن الحوادث التأريخية وغيرها.

وعجيب - وان كان خارجا عن الصدد - أن تؤخذ بعين الرضا والقبول روايات شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي (2) والجلاد سمرة بن جندب ، ويعول عليها في بناء العقيدة الاسلامية مع أن في الكثير منها خروجا على سلطان العقل وحكمه ، وخروجا على حكم الاسلام الذي ما آمن - والحمد لله - بالخرافات والاوهام.

ان تنقية الاخبار ضرورة ملحة لكل باحث سواء أكانت متصلة بشئون الدين أو في غيره ولزوم طرح ما رواه المنحرفون واجراء السلطة فيما انفردوا بروايته.

- 3 -

والشيء البارز في العصر الذي عاش فيه الامام الحسن (عليه السلام) انتشار الحزبية ، وتفاعل تياراتها الهائلة ، فقد صمم الحزب القرشى - الذي شكل قبل وفاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) - على صرف الخلافة الاسلامية عن أهل البيت (عليهم السلام)

ص: 16


1- سورة الحجرات : آية 6.
2- كشف الغطاء عن خرافات ابي هريرة الامام شرف الدين فى كتابه « ابو هريرة » وكذلك بحث عن موضوعاته ومفترياته العلامة الكبير الشيخ محمود ابو رية فى كتابه « شيخ المضيرة ».

لاسباب أهمها التهالك على الامرة والسلطان ، والحسد لعترة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) على ما منحها اللّه من الفضائل والمواهب ، وقد أثر عنهم « ان النبوة والخلافة لا يجتمعان في بيت واحد » وهو كلام لا يعضده الدليل في جميع مناحيه ، وقد تعرض ابن عباس الى تزييفه بمنطقه الرصين فى محاورته مع عمر بن الخطاب ، فقد قال له عمر « بعد حديث طويل دار بينهما » :

« يا ابن عباس ، أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)؟ ». قال ابن عباس : فكرهت أن اجيبه ، فقلت له : إن لم أكن ادرى فان امير المؤمنين يدرى :

فقال عمر : « كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتجحفوا على قومكم بجحا ، بجحا ، فاختارت قريش لا نفسها فاصابت ، ووفقت. » وخاف ابن عباس من شدة عمر وغلظته أن يجابهه بتزييف كلامه فطلب منه الاذن ليصارحه بالواقع قائلا : « يا أمير المؤمنين ، إن تأذن لي في الكلام ، وتمط عني الغضب تكلمت .. ».

« تكلم يا ابن عباس ».

« أما قولك يا أمير المؤمنين : اختارت قريش لأنفسها فاصابت ووفقت ، فلو ان قريشا اختارت لانفسها من حين اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، واما قولك : انهم ابوا أن تكون لنا النبوة والخلافة ، فان اللّه عز وجل ، وصف قوما بالكراهة ، فقال : « ذلك بأنهم كرهوا ما انزل اللّه فأحبط اعمالهم ».

فثار عمر وقد لسعه قول ابن عباس : فقال له :

« هيهات يا بن عباس .. قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك منى .. » وخاف ابن عباس من سطوته فاجابه بناعم القول :

ص: 17

« ما هي يا أمير المؤمنين؟ فان كانت حقا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه ،. »

وهدأت ثورة عمر فقال له :

« بلغني أنك تقول : إنما صرفوها - اي الخلافة - عنا حسدا وبغيا وظلما! »

فاجابه ابن عباس بمنطقه الفياض :

« أما قولك يا أمير المؤمنين : ظلما فقد تبين للجاهل والحليم ، واما قولك حسدا فان آدم حسد ، ونحن ولده المحسودون!! »

فثار عمر ، وصاح به

« هيهات هيهات!! أبت واللّه قلوبكم يا بني هاشم إلاّ حسدا لا يزول .. »

وانبرى ابن عباس فرد عليه مقالته :

« مهلا يا أمير المؤمنين!! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .. » (1)

وكشفت هذه المحاورة عما تكنه قريش في نفوسها من الموجدة والكراهية لآل البيت فاختارت صرف الخلافة عنهم ، ويرى عمر أنها وفقت في ذلك ، ولكنها في الحقيقة لم توفق ، ولم تصب الرأي والرشد ، فقد انتج اختيارها أن يفوز الأمويون بالحكم ، وهم أعداء الاسلام وخصومه ، ومجزرة كربلا الرهيبة احدى مظاهر عدائهم ونقمتهم من الاسلام ، فقد صدرت الأوامر المشددة من القيادة العسكرية العليا إلى الجيش بإبادة اهل البيت واستئصال شأفتهم ، وأن لا يبقى على مسرح الحياة أحد من نسل آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فابيدت تلك الصفوة الطاهرة من عترة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 18


1- تأريخ ابن الأثير 3 / 24 ، شرح نهج البلاغة 3 / 107.

وتقطعت أوصالها على صعيد كربلا ، وحملت ودائع النبوة وكرائم الوحي سبايا تطوف بها ارذال العرب واجلافهم من بلد إلى بلد ، ولما انتهيت سبايا آل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) الى يثرب يلتفت عمرو بن سعيد عامل يزيد عليها وهو جذلان مسرور الى قبر رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فيخاطب جدثه الطاهر ويقول له :

« يوم بيوم بدر يا رسول اللّه. » (1)

ثم رقى منبر النبي ، وخاطب المسلمين فقال : - ويا لهول ما قال - « أيها الناس. إنها لدمة بلدمة ، وصدمة بصدمة ، كم خطبة بعد خطبة ، حكمة بالغة فما تغني النذر. »

وقبله قال يزيد :

لست من خندف إن لم انتقم

من بني أحمد ما كان فعل

هذا هو اختيار قريش الذي وفقت فيه - كما يقولون - قد اوجب هضم العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم في لزوم مراعاتها والاحتفاء بها ، فانا لله وإنا إليه راجعون

- 4 -

وقد نظرنا الى الحوادث - التي جرت في عصر الامام أبي محمد (عليه السلام) - نظرة امعان وتدبر ، فان التاريخ - كما ذكرنا - قد خلط بالموضوعات حتى اصبح من العسير أن يخلص المؤرخ إلى الحق في أيسر الأمور ، وقد استلخصنا من تلكم الحوادث كثيرا من الجوانب التي لها صلة في الكشف عن حياة الامام (عليه السلام) وبتصوير العصر الذي نشأ فيه.

وقد نشر هذا الكتاب قبل احدى عشرة سنة ، ونفذت نسخه ، ولم

ص: 19


1- شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 361.

يعد لها أي وجود في الأسواق ، وقد ترجمه إلى اللغة الاوردية فضيلة العلامة الجليل السيد محمد باقر النقوي حفظه اللّه ، وقد طبع في الهند بمطبعة ( اصلاح كجهو ابهار ) وإن كثيرا ممن تهمهم امثال هذه البحوث قد رغبوا في اعادة طبع الكتاب بعد نفاذ نسخه ، وكنت أرجئ ذلك إلى وقت آخر أملا في اعادة النظر فيه لأني اعتقد أن فيه بعض الفصول تحتاج إلى مزيد من البسط والتفصيل وقد تفضل عليّ أخي العلامة التقي الشيخ هادي القرشي فابدى رغبته الملحة في مراجعة الكتاب ومعاودة النظر فيه فلم أر بدا من اجابته فراجعت الجزء الاول منه ، واضفت إليه كثيرا من البحوث ، ولعل القارئ يجد أن هذه الطبعة غير الطبعة الأولى لما فيها من الاضافات ، واناقه الطبع ، وروعة التنسيق ودقة الاخراج التي اشتهرت بها مطابع الآداب.

وقبل أن انهى هذا التقديم ارفع اعمق الامتنان ، وجزيل الشكر إلى حضرة المحسن الوجيه الحاج محمد رشاد عجينة لتبرعه بطبعه سائلا من اللّه أن يوفقه لكل مسعى نبيل وأن يتولى جزاءه عن ذلك انه ولي التوفيق.

النجف الأشرف

28 ذي القعدة سنة 1384

باقر شريف القرشي

ص: 20

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

(1)

لريحانة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسبطه الأول الإمام الزكي الحسن بن المؤمنين علي (عليه السلام) حياة مثالية وسيرة فواحة عطرة تتدفق بها طاقات الاسلام الثرة الندية ، وتتمثل فيها سيرة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) واخلاقه واتجاهاته ، وتتجسد فيها جميع عناصر التربية الاسلامية الرفيعة فهي - بحق - من اروع الشخصيات الفذة التي لمعت في سماء الأمة الإسلامية ، وفي طليعة الذوات الخيرة التي تحلى بها قاموس الإنسانية ، وذلك لما اتصفت به من الحلم والعلم والخلق والسجاحة والسخاء وغير ذلك من الصفات الرفيعة التي شابهت صفات الرسول وحكت اخلاقه.

وحفلت حياة الامام (عليه السلام) بالمصاعب والكوارث ، وامتحن امتحانا عسيرا بالامويين الذين جرعوه اقسى الوان الخطوب والآلام فقد ابتلى بهم الامام كما ابتلى بهم جده وأبوه من قبل ، فقد كان الامويون يكنون في دخائل نفوسهم واعماق قلوبهم بغضا عارما للهاشميين ، ومصدر ذلك العداء يرجع الى التنافر الذاتي بين الاسرتين واختلاف طباعهما وتباين اتجاههما ، فقد كان الهاشميون يمثلون الاريحية والشمم والإباء والوفاء وحماية الضعيف وقرى الضيف ، وكانت أندية العرب ومجالسهم تتحدث عن مكارمهم ولين طباعهم ، وعما تركوه فى ربوع مكة من أنظمة للعدل واسباب للنعيم والتجارة ، وأما ( الامويون )

ص: 21

فقد عرفوا باللؤم والجفاء والغلظة والغدر والخيانة ، وعدم الاستجابة أو المساهمة فى أي عمل من اعمال الخير ، وهم فى جاهليتهم واسلامهم سواء لم تصدر منهم بادرة من بوادر الكرم أو ظاهرة من ظواهر الاصلاح والنفع العام يقول فيهم الجاحظ :

« ليس لهم قدم مذكور ولا يوم مشهود فلا سابقة ولا جهاد ، وإذا كان شيء من هذا فانما يكون فيما يضر الناس ».

ولما أسس الهاشميون فى الجاهلية حلف الفضول الذي كان شعاره مناصرة المظلوم حتى يدفعوا عنه ظلامته ، ومنع القوي من ظلم الضعيف ، والقاطن من الاعتداء على الغريب كان الامويون وحدهم قد تخلفوا عن مناصرة هذا الحلف والانتماء إليه لدوافع أهمها ان هذا الحلف يتنافى مع ميولهم التي طبعت على الظلم والاعتداء ، والغرور والحسد للهاشميين.

(2)

ولما صدع الرسول الاعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) برسالته الخالدة الداعية الى يقظة الضمير وتحرير العقول ثقل على الامويين هذا المجد الذي اختص بالهاشميين ، وعظم عليهم الأمر فألهبت قلوبهم بالحقد والكراهية ، وقد تحدث الحكم ابن هشام مع قرينه فى الشرك أبي جهل فاعرب له عما يكنه فى قرارة نفسه من البغض العارم للهاشميين وعدم الاستجابة لدعوة الاسلام قائلا :

« تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فاطعمنا ، وحملوا فحملنا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذا ، واللات لا نؤمن به ولا نصدقه ». وقد اجمعت كلمتهم على مكافحة الدعوة الاسلامية فألّبوا على الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) القبائل وقادوا الجيوش لمناجزته ، ولكن اللّه رد كيدهم فى نحرهم

ص: 22

ونصر الاسلام وأعز رسوله فقد تحطمت قوى الامويين ومن تابعهم من شذاذ الآفاق وأعداء الاسلام ، واتجهت الجيوش الاسلامية الظافرة الى احتلال مكة المكرمة ، وقد وقع أبو سفيان أسيرا هو والعباس بيد القوات الاسلامية الزاحفة فأمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بحبسهما في المضيق ليشاهد أبو سفيان قوة المسلمين وضخامة جيشهم ، واجتازت عليه القوات العسكرية الهائلة فوقف مذهولا مبهوتا قد انهارت قواه وانطلق يقول للعباس :

« لقد اصبح ملك ابن اخيك اليوم عظيما!! »

فأجابه العباس : انها النبوة

فقال أبو سفيان بصوت خافض متحجر : نعم اذن

إنها لكلمة يسمعها بأذنه فلا يفقهها قلبه فما كان مثل هذا القلب ليفقه الا معنى الملك والسلطان ، كما يقول السيد قطب : (1)

واطلق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) سراح أبي سفيان ، ومنحه العفو كما منح أهل مكة فانطلق يهرول قد غمرته عظمة المسلمين وقوتهم وهو يهتف بين قومه. « من دخل داره فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن »

ولما سمعت هند زوجته ذلك وشعرت بخوفه وايثاره العافية وطلبه للسلم جعلت تصيح وهي حانقة مغيضة « اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه ، قبح من طليعة قوم ، هلا قاتلتم ، ودفعتم عن انفسكم وبلادكم!! » تحرض بذلك قريشا على الحرب ، وتلهب فى نفوسهم نار الثورة ، وروح العصبية ، ودخل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) مكة فاتحا ، وقام بتطهير البيت الحرام من الاوثان والاصنام ، وقد حطمها امير المؤمنين (عليه السلام) فكسر لاتهم وهبلهم ، وصعد بلال فوق ظهر الكعبة يؤذن للصلاة فلما سمعه

ص: 23


1- العدالة الاجتماعية فى الاسلام ص 181.

أبو سفيان انخلع قلبه وصرخ مناديا بلا اختيار.

« لقد أسعد اللّه عتبة بن ربيعة إذ لم يشهد هذا المشهد ».

(3)

ولما اندحرت قوى الإلحاد وانهارت معنوية المشركين لم يجد الامويون بدا من الدخول في حظيرة الاسلام فدخلوا فيه وهم أذلاء صاغرون ، قد كسرت شوكتهم ، واخمدت نارهم ، وقد ظلت قلوبهم مترعة بالحقد والكراهية للاسلام ، وقد شعر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بذلك فاصدر قراره الحاسم بابعاد رءوسهم عن يثرب عاصمة المسلمين وحرم عليهم الدخول إليها ، وقابلهم بالاستهانة والتحقير ، فقد أقبل أبو سفيان راكبا ومعه معاوية وأخوه أحدهما قائد ، والآخر سائق فلما رآهم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال :

« اللّهم ، ألعن القائد والسائق والراكب » (1)

وأقبلت امرأة الى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أرادت التزويج بمعاوية فنهاها عن ذلك وقال لها :

« إنه صعلوك » (2).

ومتى كان هذا الصعلوك كاتب الوحي أو مقربا عند النبي (3) - كما يقولون -

ص: 24


1- تاريخ الطبري 11 / 357 وقعة صفين 344.
2- تاريخ الخميس 2 / 296.
3- ذكر الفيروزآبادي في سفر السعادة ص 149 في فضل ما روى فى فضل معاوية ما نصه : « ليس فيه حديث صحيح » وقال العلامة المحقق محمد بن عقيل! في « النصائح الكافية » ما نصه « اما كتابة معاوية ، للوحي والتنزيل فلم تصح ، ومن ادعى ذلك فليثبت أية آية نزلت فكتبها معاوية ، اللّهم الا ان يأتينا بالحديث الموضوع انه كتب آية الكرسي بقلم من ذهب جاء به جبرئيل هدية لمعاوية من فوق العرش ، نعوذ باللّه من الفرية على اللّه وعلى امينه ورسوله » وقال السيد قطب : في ( العدالة الاجتماعية ) ص 182 إن أبا سفيان حين اسلم رجا النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في ان يسند إلى معاوية شيئا يعتز به أمام العرب ، ويعوضه عن سبة التأخر في الاسلام ، وانه من الطلقاء الذين لا سابقة لهم في الاسلام ، فاستخدمه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في الرسائل والحوائج والصدقات ولم يقل احد من الثقات انه كتب للنبي كما اشاع انصاره بعد استقرار الملك كما يصنع سائر الدعاة ، وإن كان استخدام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لمعاوية محل ريب لأن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كان ينظر إليه وإلى اسرته نظرة ريبة لشكه (صلی الله عليه وآله وسلم) فى اسلامهم.

لقد قابل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) عموم الامويين بالاستهانة والتحقير والحط من شأنهم وذلك لأنه استشف من وراء المغيبات أنهم مصدر الفتن والاضطراب والقلق بين المسلمين فباعدهم ، وقد رأى (صلی الله عليه وآله وسلم) في منامه أنهم ينزون على منبره نزو القردة والخنازير فانزل اللّه تعالى عليه قوله : ( وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) وما رؤي بعد ذلك ضاحكا (1).

(4)

ولما انقصم ظهر الاسلام وانحسرت روحه بموت الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) انصبت الفتن على المسلمين كقطع الليل المظلم حتى فقدوا الرشد والصواب فناصبوا عترة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الذين هم وديعة النبي فابعدوهم عن مراتبهم التي رتبهم اللّه فيها وسلبوا الخلافة الاسلامية من أيديهم ، وتهالكوا على الإمرة والسلطان ، وقد مهد الخليفة الثاني الحكم للامويين فاستعمل معاوية واليا على الشام واطلق له العنان فلم يحاسبه على إسرافه ، ولم يعاتبه على تبذيره وبذخه كما فعل مع بقية عماله وقد قيل له في ذلك فاعتذر لنفسه ، واعتذر عنه قائلا : ذاك كسرى العرب؟

ص: 25


1- تأريخ الخطيب 9 / 44 ، تفسير الطبري 5 / 77 ، اسد الغابة 3 / 14.

ولم يكتف بهذا المد للأمويين ، وبهذا الاحسان الذي أسداه إليهم فقد فتل حبل الشورى الذي انتج فوزهم بالخلافة وتلاعبهم بمقدرات الأمة وامكانياتها ، وجر الخطوب والويلات لها ، وانتهاك كرامة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في عترته وذريته.

ولما استولى الامويون على زمام الحكم كان هدفهم طوي هذا الدين ، وقلع جذوره ، ومحو سطوره ، وابادة معالمه وآثاره ، ولو لا فيض عارم في مبادئه ، وقوة كامنة في طاقاته ، وتضحيات العلويين لانتشاله ، وعناية قبل كل شيء فيه من اللّه تعالى لا صبح الاسلام معدوم الأثر من دنيا الوجود لأنه حينما استتب لهم الأمر وصفا لهم الجو ظهر مدى حقدهم البالغ على الاسلام ، وظهرت رغباتهم فى الملك والسلطان فكانوا لا يفكرون الا بذلك ولا يحلمون الا بأن تكون دولة المسلمين العوبة بأيدي ابنائهم وصبيانهم ، وقد ادلى بذلك أبو سفيان بكلمته التي القاها أمام أسرته وذويه قائلا لهم :

« يا بني أمية ، تلاقفوها تلقف الكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار وما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة » (1).

قال هذه الكلمة أبو سفيان : بمرأى ومسمع من عثمان وهي صريحة في ارتداده وظاهرة في الحاده والواجب الشرعي يحتم على عثمان أن يقيم عليه الحد باعتباره خليفة المسلمين ، وهو مسئول عن تنفيذ احكام الدين وتطبيق حدوده ولكنه اعار ذلك أذنا صماء ، واهمل ما وجب عليه.

وحينما نشبت اظفار معاوية بالملك اتضح عداؤه السافر للاسلام والمسلمين ، وقد برز ذلك في أقواله وأعماله واتجاهاته فقد خطب في النخيلة وكانت نشوة الظفر عليه بادية فقال :

« يا أهل العراق ، واللّه إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ،

ص: 26


1- مروج الذهب 1 / 440.

ولا لتحجوا ولا لتزكوا ، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطانى اللّه ذلك .. » (1)

وأي قيمة للصلاة والصوم والزكاة والحج ، واي أثر لسائر الطقوس الدينية عند ابن هند التي نهشت كبد سيد الشهداء حمزة ، انه ما قاتلهم من اجل ذلك ولا من اجل المطالبة بدم عثمان الذي أقام الدنيا وأقعدها بسببه ، وانما قاتلهم من اجل الظفر بالملك والسلطان.

لقد منيت البلاد الاسلامية أيام حكمه وسلطانه بالظلم والجور والاستبداد ، ومني المسلمون بالاستعباد والاستغلال ، فقد قضت سياسته الارهابية الملتوية بارسال الاخيار والمصلحين الى ساحات الاعدام وظلمات السجون ، فقد اعدم الصحابى العظيم حجر بن عدي وإخوانه الصالحين لأنهم انكروا على ولاته سبهم لامير المؤمنين وسيد المتقين.

إن البارز في سياسة معاوية نشر الارهاب والخوف ، واشاعة الفتن والاضطراب ، واباحة الغدر والخيانة ، والولوغ في دماء المسلمين فقد أسرف هو وعماله فى ذلك حتى قتلوا الاطفال الصغار والشيوخ العاجزين بعد ما تجاوزوا الحد فى قتل الرجال وسجن النساء ، وقد ارتطمت البلاد بالفتن وضج الناس من الظلم والجور.

وقد ساند سياسته فريق من المرتزقة وباعة الضمير الذين وضعوا دنياهم فوق رءوسهم ودينهم تحت أقدامهم فراحوا يلقون عليه التقديس ، ويخلعون عليه النعوت الحسنة ويبررون جرائمه وموبقاته ، وهم ما بين راو وخطيب وزعيم فاخذوا يذيعون بين الشاميين قربه من الرسول وانه وارثه حتى انقضى ردح من الزمن وهم لا يظنون ان هناك احدا أقرب إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من معاوية وبني أميّة ، كما افتعلوا الاحاديث الكثيرة في

ص: 27


1- شرح النهج 4 / 16.

الثناء عليه وضرورة تكريمه وتقديره ، ومضافا لهذا الفريق المرتزق البطانة التي ظفر بها كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه وأضرابهم من دهاة العرب وابالسة الدنيا فقد اخذوا فى تسديده واحكام سلطانه وتخذيل اعدائه حتى اصبحت مقاومة حكمه من الصعوبة بمكان ، فقد عجز أمير المؤمنين (عليه السلام) عن مقاومته ومناجزته حيث افسد عليه جيشه وتركه في ارباض الكوفة يتمنى النزوح عن هذه الدنيا ومفارقة ذلك المجتمع المصاب باخلاقه حتى قضى علیه السلام شهيدا صابرا.

(5)

ولما فجع الاسلام ونكب المسلمون بقتل وصي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وبايعت الحواضر الاسلامية سبط النبي الامام الحسن اخذ معاوية وعملاؤه يدبّرون نفس الخطة التي دبّروها مع أبيه من قبل فافسدوا عليه جيشه وخواصه بالمال تارة وبالارهاب أخرى حتى بلغ بهم التخاذل والانحطاط مبلغا فظيعا فقد كاتبوا معاوية بتسليم الامام له أسيرا سرا أو علانية إن شاء ذلك وانضمت إلى ذلك عوامل أخرى سنذكرها مشفوعة بالتفصيل فى غضون هذا الكتاب ، فرأى علیه السلام أنه إن قاوم معاوية قاومه بيد جذاء ولو ضحى بنفسه لذهبت تضحيته سدى وتعود بالضرر الجسيم على الاسلام والمسلمين فوقف (عليه السلام) مع عدوه موقف الحازم اليقظ والبصير المحنك فصالح معاوية وحفظ دمه ودم أهل بيته والبقية الصالحة من المؤمنين ، وقد كشف ذلك عن سمو رأيه وعمق نظره ، ولم يترك (عليه السلام) بعد الصلح جهاده المقدس فقد انبرى يعمل في تحطيم عروش الدولة الأموية ، ويبين اخطارها على العقيدة الاسلامية ، وقد تصدى لمعاوية بالذات فذكر مثالبه وموبقاته في بلاطه وذلك حين سافر (عليه السلام) الى الشام.

ص: 28

وسيقف القارئ الكريم في بحوث هذا الكتاب على مدى الآلام المرهقة التي تجرعها سبط الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وريحانته من معاوية ، ومن جلاوزته ، ويقف على ما ألمّ به من المحن والبلوى ، والاستهانة به حتى من خلص أصحابه وأصحاب أبيه ، فقد جابهوه بعد ابرام الصلح باقسى القول وأمره وكان أشد على نفسه من ضربات السيوف ، وقد صبر سلام اللّه عليه على ما انتابه من الخطوب ، وبث حزنه وشكواه الى اللّه.

وبحثنا في هذا الكتاب عن مظاهر شخصيته ، وعن سيرته الندية ، التي هي - بحق - من اروع ما حفل به تأريخ المسلمين من المآثر والمفاخر ، كما ذكرنا الأدوار التي اجتازت عليه ، وما في عصره من الظواهر الاجتماعية فان الاحاطة بذلك - فيما نعلم - ضرورة ملزمة يقتضيها البحث ، وقد بحثنا عن ذلك كله ببحث حر جهد ما توصل إليه تتبعنا ، ومن اللّه التوفيق وهو ولي القصد.

النجف الأشرف : 1 / صفر سنة 1373 ه

باقر شريف القرشي

ص: 29

اجتماع النورين

اشارة

ص: 30

نشأت الصديقة فاطمة سيدة بنات حواء في إبان الدعوة الاسلامية وترعرعت والاسلام في مرحلة الارتقاء ، وقد قام بدور تربيتها منقذ الانسانية وسيد ولد آدم الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) فغذاها من حكمه وكماله ، وأفرغ عليها أشعة من روحه المقدسة ، واشبعها من مكرمات نفسه العظيمة ، لتكون قدوة لنساء أمته ، ومثالا للكمال الانساني ، وعنوانا للطهر والعفاف.

وحمل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في نفسه من الحب لها ما لم يحمله لغيرها ذلك لأنها البقية الصالحة من زوجته الطاهرة أم المؤمنين خديجة (رضي الله عنه) (1)

ص: 31


1- خديجة بنت خويلد بن اسد القرشية الأسدية زوج النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) واول من آمنت به وصدقته باجماع المسلمين وكانت تدعى فى الجاهلية « الطاهرة » وهي ذات ثراء عريض كانت تستأجر الرجال للتجارة فى اموالها ، وقد بلغها عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) صدق حديثه وعظم امانته وكرم اخلاقه فبعثت إليه وعرضت عليه التجارة في اموالها فاجاب الى ذلك وخرج الى الشام مع غلام لها اسمه ميسرة فلما قدم (صلی الله عليه وآله وسلم) الى الشام استظل تحت شجرة وكانت قريبة من صومعة راهب فاطل الراهب وقال لميسرة من هذا الرجل؟ فقال له : إنه من قريش من اهل الحرم فقال الراهب. ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي ، ثم باع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) الأموال التي جاء بها ، واشترى ما اراد ثم قفل راجعا إلى مكة واعطى خديجة الأموال وقد ربحت ربحا كثيرا ، وحدثها ميسرة عن قول الراهب ، فبعثت خلف النبي فقالت له : إني قد رغبت فيك لقرابتك منى وشرفك في قومك وامانتك عندهم ، وحسن خلقك وصدق حديثك ، وعرضت عليه الزواج بها ، وكانت من اوسط قريش نسبا واعظمهم شرفا واكثرهم مالا ، وخرج الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فعرض مقالتها على اعمامه فخرج عمه حمزة ودخل على ابيها خويلد فخطبها منه فاجابه الى ذلك فتزوج بها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وكان عمرها اربعين سنة وعمره الشريف خمس وعشرون سنة وقيل غير ذلك ، ولما بعث رسول اللّه كانت اول من آمنت به وآزرته ، وكان لا يسمع شيئا يكرهه - من رد عليه وتكذيب له مما يحزنه إلاّ خففت عنه وهونت عليه امر الناس وصدقته ، ولعظم جهادها في الاسلام بشرها رسول اللّه ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ، وكان جبرئيل يحمل لها السلام من اللّه ، وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) في حقها : « خير نساء العالمين اربع : مريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة ابنة خويلد وفاطمة بنت محمد » وما فتئ رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يذكرها حتى انه إذا ذبح شاة يتتبع رفيقات خديجة فيهدي لهن من لحمها ، وقد توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل إنها توفيت بعد موت ابي طالب بثلاثة ايام فتتابعت على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) المصائب بعد فقده لهما. توفيت فى رمضان وكان عمرها خمسا وستين سنة ودفنت بالحجون ، جاء ذلك فى اسد الغابة والاصابة والاستيعاب.

التي منحته بعطفها وحنانها ، وآمنت به قبل غيرها ، ورصدت جميع أموالها وامكانياتها لتقويم دعائم الاسلام وتشييد دعوته حتى نفذ جميع ما عندها من الثراء العريض ، ولم ينس الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) تلك اليد البيضاء التي اسدتها على الاسلام فقد قابلها بالشكر الجزيل والثناء العاطر ، فكان بعد موتها دوما يترحم عليها ويذكر وفاءها واحسانها حتى وجدت عليها عائشة ، وانطلقت تقول له :

« ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين (1) قد أبدلك اللّه خيرا منها » فغضب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من هذا التوهين فقال لها :

« ما أبدلني اللّه خيرا منها آمنت بي حين كذبني الناس ، وواستني بما لها حين حرمني الناس ، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها .. » (2)

ص: 32


1- الشدقين : مفرده شدق - بالكسر والفتح - جانب الفم.
2- اسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الابصار ص 96 ، وروى ما يقرب من ذلك في مسند احمد 6 / 150 والاستيعاب واسد الغابة والاصابة فى ترجمة خديجة ، وسنن ابن ماجة في باب الغيرة من ابواب النكاح.

لقد واسته خديجة حينما وجدت عليه جبابرة قريش ، فوقفت الى جانبه تحميه وتصون دعوته بأموالها الضخمة كما رزق منها الولد ولم يرزقه من غيرها فقد رزق منها سيدة نساء العالمين شبيهة القديسة مريم بنت عمران في عفافها وطهارة ذيلها فاطمة الزهراء علیهاالسلام التي بتلها اللّه عن النظير وهو السبب في تسميتها « بالبتول » كما ان السبب في تسميتها بفاطمة ان اللّه قد فطمها وذريتها من النار (1)

سمو منزلتها :

وادلى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بعظيم منزلة الزهراء علیهاالسلام وسمو مكانتها عند اللّه فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) مخاطبا لها :

« إن اللّه يرضى لرضاك ويغضب لغضبك » (2)

وأخذ بيدها وقال للمسلمين :

« من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وهي بضعة مني ، وهي قلبي ، وهي روحي التي بين جنبي

ص: 33


1- الصواعق المحرقة لابن حجر ص 96 وقد جاء فيه ان عليا سأل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لم سميت فاطمة؟ فقال (صلی الله عليه وآله وسلم). « إن اللّه قد فطمها وذريتها من النار » وذكره الحافظ محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص 26 وجاء فيه ان الامام علي بن موسى الرضا روى الحديث في مسنده ولفظه ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال : « إن اللّه عز وجل فطم ابنتى فاطمة وولدها ومن احبهم من النار » وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال : قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إن ابنتى فاطمة حوراء إذ لم تحض ولم تطمث وانما سماها فاطمة لأن اللّه عز وجل فطمها ومحبيها عن النار ، اخرجه النسائي.
2- ذكر فى كل من اسد الغابة والاصابة وذخائر العقبى ص 39.

من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه » (1)

لقد قرن الرسول راحتها براحته وسعادتها بسعادته ، وقد تظافرت الاخبار التي أثرت عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بذلك فقد قال (صلی الله عليه وآله وسلم) :

« إنما فاطمة شجنة مني (2) يبسطني ما يبسطها (3) ويقبضني (4) ما يقبضها » (5).

وروت عائشة عن مدى حفاوته (صلی الله عليه وآله وسلم) وتكريمه للزهراء (عليهاالسلام) فقالت : إنها إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها وأخذ بيدها فأجلسها في مجلسه (6).

وسئلت عائشة فقيل لها :

- أي الناس كان أحب الى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)؟

فقالت : فاطمة

فقيل لها ، ومن الرجال؟

فقالت : زوجها إن كان ما علمت صواما قواما (7).

وأخرج الامام احمد بن حنبل في ( مسنده ) ان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قال :

ص: 34


1- نور الابصار ص 41.
2- الشجنة : العضو المشتبك والغصن.
3- البسط : السرور.
4- القبض : الاستياء.
5- مستدرك الحاكم 3 / 154.
6- مستدرك الحاكم 3 / 157 ، اسعاف الراغبين ص 169.
7- مستدرك الحاكم 3 / 157 ، وذخائر العقبى ص 35 وجاء فيه زيادة على الرواية جديرا بقول الحق ، وعن بريدة كما في الاستيعاب قال : كان أحب النساء الى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فاطمة ومن الرجال علي.

( فداؤها أبوها ) قال ذلك ثلاث مرات (1).

وبلغ من حبه ، وتقديره لها أنه إذا سافر جعلها آخر الناس عهدا به ، وإذا قدم من سفره جعلها أول من يقصده (2).

وروى أنس بن مالك أن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت ، ويتلو قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) الآية.

لقد كان كلف النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) واشفاقه على بضعته الزهراء (عليهاالسلام) فوق كلف الآباء واشفاقهم على أبنائهم (3) ومن المعلوم الذي لا ريب فيه ان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يمنحها هذا العطف ، ولم يفض عليها هذا التكريم لأنها ابنته ولا عقب له سواها فان شأن النبوة بعيد كل البعد عن المحاباة والاندفاع بعاطفة الهوى والحب ، وانما صنع ذلك لتشييد الفضيلة

ص: 35


1- الصواعق المحرقة ص 109.
2- مستدرك الحاكم 3 / 154.
3- كتب المستشرق « لامنس » فى كتابه « فاطمة وبنات محمد » مغالطات وبحوثا معكوسة يقول عند التحدث عن سيدة النساء فاطمة (عليهاالسلام) ما نصه « ولم يكن شأنها في بيت والدها خطيرا ظاهر الأثر بادي الخطورة ، بل لقد كان خطرها اقل من خطر عائشة وزينب ، وحفصة ، واضاف يقول : ولقد كانت تعامل فى بيت والدها معاملة عادية » ان لا منس معروف بعمالته للاستعمار وبحقده على الاسلام ، فمن اي مصدر استنتج منه هذه النتائج ، وقد طفحت الكتب الاسلامية بالاخبار المتظافرة الواردة عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فى سمو منزلتها وعظيم شأنها عنده (صلی الله عليه وآله وسلم) وما ذكرناه من الاحاديث السابقة التي اجمع المسلمون على روايتها تدل بوضوح على مدى تكريم النبي لها (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وانما اراد ( لا منس ) تشويه الاسلام والحط من اهم شخصياته الرفيعة.

ورفع مستوى القيم الرفيعة فانه (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يجد في بنات المسلمين ونسائهم من تضارع ابنته في كمالها وعفافها وطهارة ذيلها فقد تجسمت فيها جميع المثل الخيرة من العلم والعبادة والتقوى وغير ذلك من الصفات التي عز وجود بعضها في بنات حواء.

خطبة الامام لها :

ولما أشرفت كريمة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على ميعة الشباب تشرفت مشيخة الصحابة بمقابلة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وعرضوا عليه رغبتهم في التشرف بمصاهرته فقد جاء أبو بكر خاطبا فرده (صلی الله عليه وآله وسلم) وقال له : « أنتظر بها القضاء » وأعقبه عمر فرده بمثل ما رد به صاحبه (1) ، ولما علم المسلمون أن أمر الزهراء بيد اللّه تعالى وليس للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يبت فيه ، وجموا عن مذاكرته في ذلك ، ومضت فترة من الزمن اجتمع في خلالها نفر من الصحابة بعلي فذكروا له قربه من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وشدة بلائه في الاسلام ومناصرته للنبي في جميع المواقف والمشاهد ، وحفزوه على خطبة كريمته ليفوز بمصاهرته ويحوز الى شرف جهاده شرف المصاهرة ، فسار (عليه السلام) بين احجام واقدام يمشي في خطو متمهل وئيد حتى دخل على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد أخذه صمت رهيب (2) فالتفت (صلی الله عليه وآله وسلم) إليه مستفسرا :

ص: 36


1- طبقات ابن سعد 8 / 11 ، تأريخ الخميس 1 / 407 ذخائر العقبى ص 29
2- علل بعض الحاقدين على امير المؤمنين ذلك الصمت انه كان يخاف من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ان يرده لفقره ، وهو تعليل موهوم فان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) لا يعني من المسلم الا فضائله وتقواه ولم يعر اي اهتمام للثراء وتضخم الاموال ، ولقد آخى بينه وبين علي مع علمه بفقره ، فقد جاء فى مستدرك الحاكم 3 / 14 وفي الاستيعاب 3 / 35 ما نصه : ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لما آخى بين اصحابه جاءه علي (عليه السلام) فقال : آخيت بين اصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد فقال له رسول اللّه : « أنت اخي في الدنيا والآخرة » الى غير ذلك من الاخبار التي دلت على أنه نفس النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وانه اخوه ووصيه ووزيره وخليفته من بعده على امته ولم يحز الامام هذه المنزلة الا الا لعظيم اتصاله باللّه.

« ما حاجة ابن أبي طالب؟ »

فغالبه الحياء برهة ثم اجاب :

« ذكرت فاطمة يا رسول اللّه »

فاجابه الرسول والسرور باد على وجهه ، وابتسامة ظاهرة على شفتيه قائلا :

« مرحبا إن اللّه أمرني أن أزوجك من ابنتي » (1)

وتغمر المسرات قلب الامام بما أراد له الخالق الحكيم من خير الدنيا والآخرة فهو ابن عم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسيصبح له صهرا ، وورد في بعض التفاسير انه هو المعنى بهذه الآية « وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا » (2) ويلتفت النبي الى أصحابه فيخبرهم بما أمره اللّه به قائلا :

« لقد أتاني ملك ، فقال لي : يا نبي اللّه ، إن اللّه يقرئك السلام ، ويقول لك : إني زوجت فاطمة من علي في الملأ الأعلى فزوجها منه في الأرض » (3).

ويدخل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على ابنته ، وقد اترعت نفسه الشريفة بالافراح فيخبرها بذلك قائلا لها « زوجتك خير أمتي اعلمهم علما وافضلهم

ص: 37


1- نور الابصار ص 42 كنز العمال 6 / 218 ، المستدرك 3 / 153.
2- مجمع البيان 9 / 175 طبع بيروت.
3- ذخائر العقبى ص 32.

حلما وأولهم سلما » (1).

ويقول لها مرة اخرى.

« يا فاطمة ، أما علمت أن اللّه عز وجل اطلع على اهل الارض ، فاختار منهم أباك فبعثه نبيا ، ثم اطلع ثانية فاختار بعلك فاوحي إلي فانكحته ، واتخذته وصيا .. » (2)

ويقول لها :

« إنه لأول أصحابي اسلاما أو أقدم أمتي سلما ، وأكثرهم علما وأعظمهم حلما » (3).

ومع توفر هذه المثل الرفيعة والقيم العليا في شخصية الامام (عليه السلام) كيف لا يزوجه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من كريمته التي لا كفؤ لها في المسلمين سوى أمير المؤمنين كما جاء بذلك الحديث الشريف « لو لم يخلق علي ما كان لفاطمة كفؤ » (4).

المهر :

وأنبرى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد غمرته موجات من السرور الى الامام قائلا له :

« ما عندك من المهر؟ »

اجابه الامام أنه لا يملك شيئا من متع الدنيا سوى فرسه ، ودرعه ، وكانت الدرع مما أفاء اللّه بها عليه من غنائم بدر ، فقال له النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) :

ص: 38


1- اخرجه الخطيب فى المتفق والسيوطي في جمع الجوامع 6 / 398.
2- كنز العمال 6 / 153.
3- مسند أحمد 5 / 26 ، مجمع الزوائد 6 / 101 ، الرياض النضرة 2 / 194.
4- كنوز الحقائق للمناوي ص 124 ، من لا يحضره الفقيه 3 / 249.

« أما فرسك فلا بد لك منها ، وأما درعك فبعه ».

وانطلق الامام الى السوق فباع درعه باربعمائة وثمانين درهما ، وجاء بالثمن معقودا في طرف ثوبه (1) فوضعه بين يدي الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد غلبه الحياء حيث يعلم ان هذا المهر هو اقل ما يبذله الفقراء مهرا لازواجهم ولكن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أحب مصاهرته لا لشيء من حطام الدنيا ولا لغير ذلك مما يئول أمره الى التراب بل انما خصه بهذه المكرمة لأنه الفرد الاول في أمته الذي امتاز على غيره بسبقه الى الاسلام (2) وجهاده عن حياض هذا الدين بالاضافة الى عبقرياته الاخرى التي لا تتوفر بعضها في أي انسان.

الجهاز :

وعند ما قبض الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) المهر ناول بعضا منه بلالا ليشتري شيئا من الطيب والروائح وناول بعضه الآخر سلمان وأم سلمة ليشتريا بقية الأثاث ، وما هي إلا ساعة حتى تم جهاز العرس وكان إهاب كبش إذا ارادا أن يناما قلباه على صوفه ، ووسادة من أدم حشوها ليف (3)

ص: 39


1- كنز العمال 7 / 114 ، وجاء في تأريخ الخميس 1 / 407 انه باع بعيرا له وبعض أمتعته وأعطاه مهرا وهو مخالف لما عليه المشهور من أنه باع درعه واعطى ثمنه مهرا لفاطمة.
2- جاء فى كل من المستدرك 3 / 112 والاستيعاب 3 / 31 أنه بعث النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء ، وكذا جاء فى غيرهما من المصادر وقد اجمع المسلمون انه اول من اسلم وآمن بالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).
3- الطبقات الكبرى 8 / 14 رواه بسنده عن جعفر بن محمد عن ابيه (عليه السلام)

وسريرا مشروطا (1) ورحيين وسقاء وجرتين (2) وغير ذلك مما هو زهيد في بادئ الرأي ولكنه في نظر الاسلام أثمن من الجوهر واعلى من الأمتعة الثمينة التي توجد عند الملوك وذوي الثراء العريض ، وقد استنتج المستشرق الانگليزي « لامنس » من هذا الجهاز المقدس نتيجة معكوسة يقول :

« وبالاحرى أن هذا الجهاز الذي أمر به محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) دليل على الكراهية التي في نفس محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) لابنته فاطمة ولزوجها وكانت كراهيته له لا تقل عنها » (3)

ولحقد « لامنس » على الاسلام وجهله بحكم تشاريعه استنتج ذلك فقد اعتقد أن مظاهر الحب من الوالد تجاه ولده تتجلى فيما اذا اكثر له من ملاذ الحياة ونعيمها ومباهجها ، ولم يعلم أن مقام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) اسمى من أن يخضع لعاطفة الحب التي تجر إلى زخارف الحياة ، فانه في عمله هذا كان في مقام التشريع والتأسيس لأهم نقطة حيوية في الاسلام تبتنى عليها سعادة المسلمين وهي تسهيل الزواج وعدم تعقيده بزيادة المهر ، فان المهر الذي ارتضاه لابنته ، وهذا الجهاز الزهيد الذي هيأه لها مع أنها أعز ابنائه وبناته انما هو سنة من نظامه الرفيع الخالد الذي كره المغالاة في المهر فان

ص: 40


1- مشروطا : اي مشدودا بشريط ، وهو خوص مفتول - يشرط ، اي : يشد ويربط به السرير والرواية ذكرها ابو نعيم فى حلية الاولياء 3 / 329 رواها بسنده عن عكرمة.
2- مسند احمد بن حنبل 1 / 104 ، كنز العمال 7 / 113 ، وجاء فى مستدرك الحاكم 2 / 185 قال جهز رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : فاطمة فى خميل وقربة ووسادة حشوها ليف ، وجاء في ذخائر العقبى ص 35 ان عليا (عليه السلام) قال : لقد تزوجت فاطمة ومالي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه الناضح بالنهار.
3- فاطمة وبنات محمد.

زيادته تمنع الفقراء والبؤساء من الاقتران ، ولهذه الغاية النبيلة قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « أفضل نساء امتي أقلهن مهرا » (1) ويقول الامام موسى بن جعفر علیه السلام : كان الرجل على عهد رسول اللّه يتزوج المرأة على السورة من القرآن وعلى الدرهم وعلى الحنطة ، القبضة (2) وقد زوج (صلی الله عليه وآله وسلم) أحد أصحابه وجعل صداق زوجه تعليم سورة من القرآن الكريم (3) ، لقد حثت الشريعة الاسلامية على الزواج وتساهلت في صداقه ، والغت التفاضل بين الزوجين ، وجعلت المسلم كفء المسلمة ، والحكمة فى ذلك هو قمع الفساد والقضاء على البغاء ، وتكثير النسل ، وقد خفيت هذه العلل والاسباب على « لامنس » الذي لا ينظر الى الاشياء الا من زاوية المادة فاستنتج النتيجة السالفة على غير هدى جاهلا بالنظم الاسلامية الداعية الى سعادة المجتمع ودفع الشقاء عنه.

خطبة العقد :

ولما تم شراء الجهاز دعا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) جماعة من المهاجرين والانصار لحضور مجلس العقد فلما مثلوا عنده اجرى (صلی الله عليه وآله وسلم) خطبة النكاح وهذا نصها :

« الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع بسلطانه ، المرهوب من عذابه وسطواته ، النافذ أمره في سمائه وارضه ، الذي خلق الخلق بقدرته ، وميزهم بأحكامه ، وأعزهم بدينه ، وأكرمهم بنبيه محمد صلی اللّه علیه و آله إن اللّه تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سببا لاحقا وأمرا مفترضا

ص: 41


1- من لا يحضره الفقيه 3 / 243.
2- تهذيب الاحكام 7 / 366.
3- صحيح مسلم 1 / 545.

او شج به الارحام والزمها الأنام ، فقال عزّ من قائل : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً ) وأمر اللّه يجري الى قضائه ، وقضاؤه يجري إلى قدره ، ولكل قضاء قدر ، ولكل قدر أجل ، ولكل أجل كتاب ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) ثم ان اللّه عز وجل أمرني أن ازوج فاطمة من علي ، وأشهدكم أني زوجت فاطمة من علي على اربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك على السنة القائمة والفريضة الواجبة ، فجمع اللّه شملهما ، وبارك لهما ، وأطاب نسلهما وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة ومعادن الحكمة ، وأمن الأمة اقول قولي هذا واستغفر اللّه لي ولكم .. »

ولم يكن الامام حاضرا مجلس العقد ، وإنما كان في حاجة لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وحينما انتهت خطبة العقد دخل امير المؤمنين على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فلما رآه تبسم وقال له :

« يا علي ، إن اللّه أمرني أن أزوجك فاطمة ، واني قد زوجتكها على اربعمائة مثقال فضة » فقال أمير المؤمنين : رضيت ، وخر (عليه السلام) ساجدا لله شاكرا له ، ولما رفع رأسه من السجود قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « بارك اللّه لكما وعليكما وأسعد جدكما واخرج منكما الكثير الطيب » (1)

وأمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أن يقدم للمدعوين وعاء فيه بسر ، وقال لهم : « انتهبوا فتخاطف المدعوون منه (2) وبعد الفراغ تفرقوا وهم يدعون للزوجين بالسعادة والهناء والذرية الطاهرة.

ص: 42


1- نور الابصار ص 42 وذكرت مع اختلاف يسير في الرياض النضرة 2 / 183 وذخائر العقبى ص 29 وغيرها.
2- ذخائر العقبى ص 30 ، الرياض النضرة 2 / 181.

الوليمة :

ولما حانت ليلة اقتران النورين قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد غمرته الافراح :

يا علي : لا بد للعروس من وليمة

فانطلق سعد بن عبادة فتبرع بكبش وتبرع الانصار بأصوع من ذرة (1) ودعي المسلمون لتناول طعام العشاء وتقول اسماء : ما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمة علي (2) وقام المدعوون فتناولوا الطعام ، وبعد الفراغ منه اقبلوا يهنئون الامام ويباركون له.

الزفاف :

وطلب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) من أم سلمة أن تذهب بكريمته الى دار أمير المؤمنين فمضت أم سلمة مع حفنة من النساء تقدمهن أمهات المؤمنين قد زففن الصديقة الطاهرة الى بيت الامام وهن يرتلن الاهازيج والأشعار ، وبعد ما فرغ الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من صلاة العشاء انطلق الى دار علي فاستقبلته أم أيمن فقال لها بصوت فياض بالبشر :

« هاهنا أخي؟ »

وملكت الدهشة أم أيمن فراحت تقول :

ص: 43


1- طبقات ابن سعد 8 / 13 اسد الغابة 5 / 521 وفي كنز العمال 7 / 114 ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال : لا بد للعروس من وليمة ثم امر بكبش فجمعهم عليه.
2- طبقات ابن سعد 8 / 14 وجاء فى الرياض النضرة 2 / 182 عن جابر قال : حضرنا عرس على فما رايت عرسا كان احسن منه حشونا البيت طيبا وأتينا بتمر وزيت فاكلنا منه.

« بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه! ... فمن أخوك؟ »

« علي بن أبي طالب »

« وكيف يكون أخاك وقد زوجته ابنتك؟ »

« هو ذلك يا أم أيمن »

ودخل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فنهض الزوجان تكريما واجلالا له فالتفت إلى فاطمة وأمرها بان تناوله ماء فاحضرت له قعبا فيه ماء فاخذه ومج فيه وقال لها : قومي فنضح بعض ذلك الماء على ثدييها (1) ورأسها وهو يرفع صوته بالدعاء الى اللّه.

« اللّهم ، إني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم »

وقال لعلي : عليّ بماء ، فاحضره له فاخذ منه شيئا ثم مجه فيه وصبه على رأسه وانطلق يدعو له :

« اللّهم : إني اعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم »

ثم قال له ادبر فادبر وصب بقية ذلك الماء بين كتفيه ، ودعا له وقال له : ادخل باهلك باسم اللّه والبركة (2) وانصرفت النسوة إلى منازلها وتخلفت أسماء بنت عميس فقال لها (صلی الله عليه وآله وسلم) : « من أنت؟ »

« أنا التي أحرس ابنتك ، إن الفتاة ليلة بنائها لا بد لها من امرأة قريبة منها ، إن عرضت لها حاجة أو ارادت أمرا أفضت بذلك إليها .. »

فشكر النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ذلك منها وانطلق يوافي ابنته بدعائه :

« إني اسأل الهي أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان الرجيم ... »

وقام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فاغلق الباب بيده وانصرف وهو يدعو لهما خاصة

ص: 44


1- وفي رواية فصب الماء بين يديها.
2- كنز العمال 7 / 114.

لا يشرك أحدا في دعائه حتى توارى في حجرته (1) وكان تأسيس هذا البيت الجديد في السنة الثانية من الهجرة (2). ويمتد الزمن بعد زواج الامام علیه السلام والعيش هادئ ، والحياة البيتية كل يوم في سرور قد غمرتها المودة والوداعة ، وبذل المعونة وترك الكلفة واجتناب هجر الكلام ومره ، فكان الامام يشارك زوجته في شئونها البيتية ويعينها بما تحتاج إليه فكانت حياتهما أسمى مثل للرابطة الزوجية الرفيعة.

وفي فترات تلك المدة السعيدة عرض للصديقة (عليهاالسلام) حمل وكان الرسول يبشر بطلائعه وأنه غلام وذلك حينما جاءت إليه أم الفضل تطلب منه تفسير رؤياها (3) قائلة له يا رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إني رأيت

ص: 45


1- مجمع الهيثمي 6 / 207.
2- تأريخ الخميس ج 1 ص 407 جاء فيه ان عليا تزوج فى السنة الثانية في رمضان وبنى بها فى ذي الحجة ، وذكر المسعودي في مروج الذهب ج 2 ص 187 ان تزويج الامام علیه السلام بفاطمة كان بعد سنة من الهجرة وقيل اقل من ذلك وكان عمر الامام علي علیه السلام فى ذلك الوقت إحدى وعشرين سنة وخمسة اشهر وعمر الصديقة علیهاالسلام خمس عشرة سنة وخمسة اشهر كما ذكر ذلك ابن حجر في المواهب اللدنية ج 1 ص 257 وذكر المسعودي في مروج الذهب ج 1 ص 403 ان عمر الزهراء علیهاالسلام كان ثماني عشرة سنة وعلي علیه السلام عمره خمس عشرة سنة وجاء هذا أيضا فى طبقات الصحابة ج 8 ص 13 وجاء فى البحار ج 10 ص 4 ان عمرها الشريف كان عشر سنين وانها توفيت وعمرها ثماني عشرة سنة.
3- أمّ الفضل : هى زوجة العباس بن عبد المطلب واسمها لبابة وهى بنت الحارث الهلالية وهى اول امرأة آمنت بعد خديجة (رضي الله عنه) وهى شقيقة ميمونة زوجة النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) وهي إحدى الروايات عن النبي كذا جاء في الاصابة ج 4 ص 483 وفي الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ج 4 ص 398 ، ان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يزورها ويقيل عندها وروت عنه احاديث كثيرة ، وقد ولدت أمّ الفضل للعباس ست رجال لم تلد امرأة مثلهم وهم الفضل وبه كانت تكنى ويكنى زوجها العباس أيضا ابا الفضل ، وعبد اللّه الفقيه ، وعبيد اللّه الفقيه ، ومعبد ، وقثم ، وعبد الرحمن ، وأم حبيبة سابعة ، وفي أمّ الفضل يقول عبد اللّه بن يزيد الهلالي : ما ولدت نجيبة من فحل *** بجبل نعلمه وسهل كستة من بطن أمّ الفضل *** اكرم بها من كهلة وكهل عم النبي المصطفى ذي الفضل *** وخاتم الرسل وخير الرسل

في المنام أن عضوا من أعضائك سقط في بيتي ، فقال لها (صلی الله عليه وآله وسلم) : خيرا رأيت تلد فاطمة غلاما فترضعيه بلبن قثم (1).

وكان المسلمون آنذاك ينتظرون بفارغ الصبر وخصوصا الرسول صلی اللّه علیه و آله ساعة ولادة الصديقة شوقا الى المولود المبارك لتطيب به للإمام (عليه السلام) ولزوجته الحياة وتظللهما السعادة ، ونختم الفصل لنستقبل الوليد الجديد.

ص: 46


1- تأريخ الخميس ج 1 ص 418 جاء فيه ان الحسن (عليه السلام) لما ولد ارضعته أمّ الفضل ، وفي الإصابة ج 4 ص 484 ان الرؤيا التي قصتها أمّ الفضل كانت قبل ولادة الحسين (عليه السلام) فلما ولد ارضعته.

الوليد الجديد

ص: 47

ص: 48

أطل على العالم الاسلامي نور الامامة من بيت أذن اللّه أن يرفع ، ويذكر فيه اسمه ، وانبثق من دوحة النبوة والإمامة فرع طيب زاك رفع اللّه به كيان الاسلام ، وأشاد به صروح الايمان ، وأصلح به بين فئتين عظيمتين.

لقد استقبل حفيد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسبطه الاكبر سيد شباب أهل الجنة دنيا الوجود في شهر هو أبرك الشهور وأفضلها حتى سمي شهر اللّه ، وهو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، وكان ذلك في السنة الثانية ، أو الثالثة من الهجرة (1) وقد شوهدت في طلعة الوليد طلعة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبدت فيه شمائل النبوة ومحاسن الإمامة.

ص: 49


1- الاصابة ج 1 ص 328 ، الاستيعاب ج 1 ص 368 تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 73 ، دائرة المعارف للبستاني ج 7 ص 38. ذكر هؤلاء ان ولادته علیه السلام كانت فى السنة الثالثة من الهجرة فى النصف من شهر رمضان ، وجاء فى شذرات الذهب ج 1 ص 10 ان ولادته كانت فى الخامس من شهر شعبان. وهو اشتباه ظاهر ولعله اشتبه بالامام الحسين (عليه السلام) فان ولادته كانت في الخامس من شهر شعبان وذهب جماعة ان ولادته «ع» كانت في السنة الثانية من الهجرة ، وجاء في مرآة العقول ص 390 ما نصه : إن التحقيق انه لا منافاة بين تأريخى الولادة لأن كلا مبنى على اصطلاح فى مبدأ التأريخ غير الاصطلاح الذي عليه بناء الآخر وتفصيله ان فيه ثلاث اصطلاحات « الأول » : ان يكون مبدؤه فى شهر ربيع الأول فان الهجرة إنما كانت فيه ، وبناء الصحابة عليه إلى سنة ستين ورواية ان الحسن ولد سنة اثنتين من الهجرة محمول على هذا المبنى. « الثاني » ان يكون مبدؤه شهر رمضان السابق على شهر ربيع الأول الذي وقعت فيه الهجرة لأنه اول السنة الشرعية ورواية ان الحسن (عليه السلام) ولد سنة ثلاث مبنى على هذا. « الثالث » : ما اخترعه عمر وهو ان مبدأه المحرم انتهى. وما افاده صاحب « مرآة العقول » رافع للتعارض بين القولين واما ما افاده الاستاذ محمد فريد وجدي فى « دائرة المعارف ج 3 ص 443 » ان ولادة الحسن 7 كانت قبل الهجرة بست سنين فهو مخالف لاجماع المؤرخين فانه قبل الهجرة لم يكن الامام امير المؤمنين متزوجا بالصديقة كما اوضحنا ذلك ، واما كيفية ولادة الصديقة بالامام (عليه السلام) فقد جاء بيانها فى تأريخ الخميس ج 1 ص 470 انه لما حان وقت ولادتها بعث إليها رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) اسماء بنت عميس وأم ايمن فقرأتا عليها آية الكرسي والمعوذتين وحدثت اسماء فقالت : قبلت فاطمة بالحسن (عليه السلام) فلم أر لها دما فقلت يا رسول اللّه إني لم أر لفاطمة دما فى حيض ولا نفاس فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) أما علمت ان فاطمة طاهرة مطهرة لا يرى لها دم فى طمث ولا ولادة ، وكانت مدة حملها به ستة اشهر ، وذهب صاحب « الفصول المهمة » الى خلافه وعليه فلم يولد مولود عمره ستة اشهر فعاش إلا عيسى بن مريم 7 كما ذكر ذلك فقيد العلم الأمينى ; فى « اعيان الشيعة ج 4 ص 3 ».

ولما أذيع نبأ ولادة الصديقة بالمولود المبارك غمرت موجات من السرور والفرح قلب النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) فسارع إلى بيت ابنته - أعز الباقين ، والباقيات عليه من ابنائه - ليهنئها بمولودها الجديد ويبارك به لاخيه امير المؤمنين ، ويفيض على المولود شيئا من مكرمات نفسه التي طبق شذاها العالم باسره ولما وصل (صلی الله عليه وآله وسلم) الى مثوى الامام نادى :

« يا أسماء : هاتيني ابني .. »

فانبرت أسماء ، ودفعته إليه في خرقة صفراء فرمى بها.

وقال :

« الم أعهد إليكم أن لا تلفوا المولود في خرقة صفراء؟ »

وقام (صلی الله عليه وآله وسلم) فسرّه ، وألباه بريقه (1) وضمه إلى صدره ، ورفع يديه بالدعاء له.

ص: 50


1- سرأه : قطع سرته ، ألباه بريقه ، مأخوذ من اللباء ، وهو اول اللبن عند الولادة ، والمراد انه (صلی الله عليه وآله وسلم) اطعمه بريقه كما يطعم الصبي اللباء.

« اللّهم : إني أعيذه بك ، وذريته من الشيطان الرجيم .. » (1) سنن الولادة :

واخذ (صلی الله عليه وآله وسلم) باجراء مراسيم الولادة وسننها على مولوده المبارك وهى :

1 - الأذان والإقامة :

وأذن (صلی الله عليه وآله وسلم) في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى (2) وفي الخبر « ان ذلك عصمة للمولود من الشيطان الرجيم » (3).

همسة رائعة همس بها خير بني آدم في أذن وليده ، ليستقبل عالم الوجود باسمى ما فيه ، فاى بداية منح بها الانسان افضل من هذه البداية التي منح بها السبط الاكبر؟! فان اول صوت قرع سمعه هو صوت جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) علة الموجودات ، وسيد الكائنات ، وأنشودة ذلك الصوت.

« اللّه اكبر لا إله إلا اللّه. »

بهذه الكلمات المنطوية على الإيمان بكل ماله من معنى يستقبل بها الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) سبطه فيغرسها في اعماق نفسه ، ويغذي بها مشاعره ، وعواطفه لتكون انشودته في بحر هذه الحياة.

2 - التسمية :

والتفت (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى أمير المؤمنين ، وقد أترعت نفسه العظيمة بالغبطة والمسرات فقال له :

ص: 51


1- دائرة المعارف للبستاني 7 / 38.
2- مسند الامام احمد بن حنبل 6 / 391 ، صحيح الترمذي 1 / 286 ، صحيح أبي داود 33 / 214 ، وقيل إنه لم يفعل ذلك بنفسه ، وإنما او عز إلى اسماء بنت عميس وأمّ سلمة أن تفعلا ذلك به ساعة الولادة ذكره الشبلنجي في نور الابصار ص 107.
3- الجواهر كتاب النكاح.

« هل سميت الوليد المبارك؟ »

فأجابه الامام :

« ما كنت لاسبقك يا رسول اللّه. »

وانطلق النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له :

« ما كنت لأسبق ربي .. »

وما هي الا لحظات وإذا بالوحي يناجى الرسول ، ويحمل له « التسمية » من الحق تعالى يقول له جبرئيل : « سمه حسنا » (1).

ص: 52


1- تاريخ الخميس ج 1 ص 470 وجاء فيه ان امين الوحي جبرئيل هبط على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال له : إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك علي منك بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبي بعدك فسم ابنك هذا باسم ولد هارون ، فقال له (صلی الله عليه وآله وسلم) وما كان اسم ابن هارون يا جبرئيل؟ فقال شبر فقال له (صلی الله عليه وآله وسلم) : إن لساني عربي فقال : سمه الحسن ففعل (صلی الله عليه وآله وسلم) ذلك. وقريب من هذا ذكره العاملي ; في « اعيان الشيعة » وجاء في « اسد الغابة » ، وتأريخ الخميس ج ١ ص ٤٧٠ ان اسم الحسن لم يكن معروفا فى الجاهلية وجاء في تأريخ الخميس ان رسول اللّه اسماه بهذا الاسم في اليوم السابع من ولادته ، وهذا القول بعيد لأن التسمية وقعت عقيب الولادة بلا فصل كما ذهب إليه كافة المؤرخين ، وجاء فى الاستيعاب ج ١ ص ٣٦٨ ، وفى الأدب المفرد ص ١٢٠ انه لما ولد الحسن ٧ جاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال اروني ابني فما اسميتموه؟ قالوا حربا ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) بل هو حسن ، فلما ولد الحسين قال اروني ابني فما اسميتموه؟ قالوا حربا ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) بل هو حسين ، فلما ولد الثالث قال ما اسميتموه؟ قالوا حربا ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) بل هو محسن ، ثم قال ٦ إني سميتهم باسماء ولد هارون شبر وشبير ، ويمكن ان يقال إن هذه الرواية موضوعة ، اولا إن العداء بين الهاشميين وآل حرب غير خفي فما هو المحبذ لآل البيت بتسمية ابنائهم باسم حرب الذي ينتمى إليه الأمويون وثانيا إن إعراض الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) عن اسم حرب حين ولادة الحسن «ع» هو كاف في إعراض آل البيت عن تسمية الحسين والمحسن بهذا الاسم ، وثالثا إن المحسن لم يولد في حياة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فهذه الامور تبعد صحة الرواية التي ذكرها صاحب « الاستيعاب » وغيره وروى احمد بن حنبل فى مسنده عن علي «ع» انه قال : لما ولد لي الحسن سميته باسم عمي حمزة ولما ولد الحسين سميته باسم اخى جعفر فدعاني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال إن اللّه قد امرني ان اغير اسم هذين فسماهما حسنا وحسينا ، وهذه الرواية أيضا ضعيفة فان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) اسمى حفيديه عقيب ولادتهما ولم يذهب احد الى ما ذكره الامام احمد.

حقا إنه اسم من أحسن الأسماء وكفى به جمالا وحسنا أن الخالق الحكيم هو الذي اختاره ليدل جمال لفظه على جمال المعنى وحسنه.

3 - العقيقة :

(1) وانطوت سبعة أيام على ولادة حفيد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فاتجه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى بيت الإمام (عليه السلام) ليقوم ببعض التكريم والاحتفاء فجاء بأقصى ما عنده من البر والتوسعة فعق عنه بكبش واحد (2) واعطى القابلة منه الفخذ وصار فعله هذا سنة لأمته من بعده.

4 - حلق رأسه :

وحلق (صلی الله عليه وآله وسلم) رأس حفيده بيده المباركة ، وتصدق بزنته فضة على

ص: 53


1- العقيقة في اللغة صوف الجذع وشعر كل مولود من الناس وهى مأخوذة من العق وهو الشق والقطع سمى الشعر المذكور بذلك لأنه يحلق عنه والعقيقة من المستحبات الأكيدة وذهب بعض الفقهاء الى وجوبها ، وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) حين ذبحها بسم اللّه عقيقة عن الحسن اللّهم عظمها بعظمه ولحمها بلحمه اللّهم اجعلها وقاء لمحمد وآله.
2- تأريخ الخميس ج 1 ص 470 مشكل الآثار 1 / 456 ، الحلية 7 / 116 ، صحيح الترمذي 1 / 286 ، اعيان الشيعة ج 4 ص 108 ، وذكر الشبلنجي في نور الابصار والطحاوى في مشكل الآثار 1 / 456، والحاكم في المستدرك ج 4 ص 237 ان رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله عق عن الحسن والحسين عن كل واحد بكبشين وهذه الرواية ضعيفة فقد طعن بها شمس الدين الذهبي في تلخيص المستدرك المطبوع على هامش مستدرك الحاكم ج 4 ص 237 فقال إن راويها سوار وهو ضعيف الرواية هذا اولا وثانيا ان أئمة الفقه لم يذكروا في تشريع العقيقة إلا واحدة.

المساكين (1) وطلى رأسه بالخلوق (2) حقا لم نر حنانا مثل هذا الحنان ، ولا عطفا يضارع هذا العطف.

5 - الختان :

واجرى (صلی الله عليه وآله وسلم) عليه الختان في اليوم السابع من ولادته (3) لأن ختان الطفل في ذلك الوقت اطيب له وأطهر (4).

6 - كنيته :

وكناه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أبا محمد (5) ولا كنية له غيرها ، وبهذا

ص: 54


1- تأريخ الخميس 1 / 470 ، نور الابصار ص 107 صحيح الترمذي 1 / 286 وجاء فيها ان زنة شعره كانت درهما او بعض درهم.
2- الخلوق : طيب مركب من زعفران وغيره ، وفي البحار 10 / 68 ان العادة في الجاهلية كانوا يطلون رأس الصبي بالدم ، فقال صلی اللّه علیه و آله : الدم من فعل الجاهلية ، ونهى اسماء عن فعل ذلك.
3- نور الابصار : ص 108.
4- جواهر الاحكام كتاب النكاح ، وجاء فيه ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : طهروا اولادكم يوم السابع فانه اطيب ، واطهر ، واسرع لنبات اللحم ، وان الارض تنجس من بول الأغلف اربعين يوما.
5- اسد الغابة 2 / 9 ، والكنية هى ان تصدر بأب او أم ، وهى من سنن الولادة فعن الامام محمد الباقر علیه السلام : إنا لنكني اولادنا في صغرهم مخافة النبز ان يلحق بهم.

انتهت جميع مراسيم الولادة التي قام النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) بها لسبطه الأكبر. ألقابه :

ولقب (عليه السلام) بالسبط ، والزكي ، والمجتبى ، والسيد ، والتقي. ملامحه :

أما ملامحه ، فكانت تحاكي ملامح جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فقد حدث أنس ابن مالك قال : لم يكن أحد أشبه بالنبى من الحسن بن علي (1) وقد صور رواة الأثر صورته بما ينطبق على صورة جده (صلی الله عليه وآله وسلم) فقالوا : إنه كان ابيض مشربا بحمرة ادعج العينين (2) ذا وفرة (3) عظيم الكراديس (4) بعيد المنكبين (5) جعد الشعر (6) كث اللحية (7)

ص: 55


1- فضائل الاصحاب : ص 166 ، وفي صحيح الترمذي 2 / 307 عن علي علیه السلام قال : الحسن اشبه برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما بين الصدر الى الرأس ، والحسين اشبه بالنبي صلی اللّه علیه و آله ما كان اسفل من ذلك ، وفي الاصابة عن البهي قال : تذاكرنا من اشبه النبي صلی اللّه علیه و آله من اهله فدخل علينا عبد اللّه بن الزبير ، فقال : انا احدثكم بأشبه اهله به ، واحبهم إليه الحسن بن علي ، ورواه الهيثمى فى مجمعه 9 / 175 ، وفي المحبر ص 469 ان فاطمة علیهاالسلام كانت ترقص ولدها الحسن وتقول له : وا بأبي شبه ابي *** غير شبيه بعلي
2- الادعج : شدة فى سواد العين مع سعتها.
3- الوفرة : الشعر السائل على الأذنين ، او هو الشعر المجتمع على الرأس.
4- الكراديس : جمع مفرده الكردوسة ، وهى كل عظمين التقيا في مفصل او العظم الذي يجتمع عليه اللحم ، والمراد ضخم الاعضاء.
5- المنكبين تثنية منكب ، وهو مجتمع راس الكتف والعضد.
6- الجعد : الشعر الذي فيه التواء ، وتقبض ، وهو خلاف المسترسل.
7- كث اللحية : قصرها مع كثرة شعرها.

كأن عنقه إبريق فضة (1) وهذه الأوصاف تضارع أوصاف النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) حسب ما ذكره الرواة من أوصافه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وكما شابه جده في صورته فقد شابهه وماثله في اخلاقه الرفيعة (2).

رأى النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) أن سبطه الحسن (عليه السلام) صورة مصغرة عنه ، يضارعه في أخلاقه ، ويحاكيه في سمو نفسه ، وانه قبس من سناه ، يرشد أمته من بعده الى طريق الحق ، ويهديها إلى سواء السبيل ، واستشف (صلی الله عليه وآله وسلم) من وراء الغيب أن كل ما يصبو إليه في هذه الحياة من المثل العليا سيحققه على مسرح الحياة ، فافرغ عليه أشعة من روحه العظيمة ، وقابله بالعناية والتكريم ، وأفاض عليه حنانه وعطفه ، من حين ولادته ونشأته ، وسنقدم عرضا مفصلا لإلوان ذلك التكريم والاحتفاء الذي صدر من النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) تجاه الحسن في حال طفولته وصباه.

ص: 56


1- تأريخ الخميس 1 / 171 ، وذكر البستاني في دائرة المعارف 7 / 38 بعض هذه الاوصاف.
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 201 ، وعن الغزالي فى احياء العلوم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال للحس : « اشبهت خلقي وخلقي ».

ذكاء وعبقريّة

اشارة

ص: 57

ص: 58

ومما لا شبهة فيه أن للتربية الصالحة أهمية كبرى في تكوين الطفل ، وتنمية مداركه ، كما أن سلوك الوالدين لهما الأثر الفعال في نمو ذكائه ، وفي سلوكه العام ، وطفولة الامام الحسن (عليه السلام) قد التقت بها جميع هذه العناصر الحية ، فالرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) تولى تربية سبطه ، وافاض عليه بمكرمات نفسه ، والامام أمير المؤمنين (عليه السلام) غذاه بحكمه ومثله ، والعذراء القديسة أفضل بنات حواء قد غرست في نفس وليدها الفضيلة والكمال ، وبذلك سمت طفولته فكانت مثالا للتكامل الانساني ، وعنوانا للسمو والتهذيب ، ورمزا للذكاء والعبقرية.

لقد ذهب بعض علماء النفس إلى أن الطفل في اصغر ما يلزمه من العادات ، وفي أهم الخصائص العقلية ، والخلقية ، وفي الموقف العام الذي يقفه من الناس ، وفي وجهة النظر العامة التي ينظر بها إلى الحياة أو العمل في كل هذه الأشياء مقلد إلى حد كبير ، وقد يكون التقليد أحيانا شعوريا مقصودا ، ولكنه في أغلب الحالات يكون لا شعوريا ، فاذا منح الطفل بتقليده الأشخاص المهذبين ظل متأثرا باخلاقهم وعواطفهم ، وإن هذا التأثير في أول الأمر يعتبر تقليدا ، ولكنه سرعان ما يصبح عادة ، والعادة طبيعة ثانية ، والتقليد هو أحد الطريقين اللذين تكتسب بهما الخصائص الفردية ، وتتكون بهما الأخلاق الشخصية (1).

إن الامام الحسن (عليه السلام) على ضوء هذا الرأي ، هو الفرد الاول في خصائصه العقلية ، والخلقية لأنه نشأ في بيت الوحي ، وتربى في مدرسة التوحيد ، وشاهد جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الذي هو اكمل انسان ضمه هذا الوجود ، يقيم في كل فترة من الزمن صروحا للعدل ، ويشيد دعائم الفضيلة والكمال ، قد وسع الناس باخلاقه ، وجمعهم على كلمة التوحيد وتوحيد

ص: 59


1- علم النفس فى الحياة لما ندر.

الكلمة ، فتأثر السبط بذلك ، وانطلق يسلك خطى جده في نصح الناس وارشادهم فقد اجتاز مع أخيه سيد الشهداء (عليه السلام) ، وهما في دور الطفولة على شيخ لا يحسن الوضوء ، فلم يدعهما السمو في النفس ، وحب الخير للناس أن يتركا الشيخ على حاله لا يحسن وضوءه ، فاحدثا نزاعا صوريا أمامه ، وجعل كل منهما يقول للآخر : أنت لا تحسن الوضوء ، والتفتا إلى الشيخ باسلوب هادئ وجعلاه حاكما بينهما قائلين له :

« يا شيخ ، يتوضأ كل واحد منا أمامك ، وانظر أي الوضوءين أحسن؟ » فتوضآ أمامه ، وجعل الشيخ يمعن في ذلك فتنبه إلى قصوره ، والتفت إلى تقصيره من دون أن يأنف فقال لهما :

« كلاكما ، يا سيدي : تحسنان الوضوء ، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لا يحسن ، وقد تعلم الآن منكما ، وتاب على يديكما ... » (1)

وهذه البادرة ترينا بوضوح ان اتجاه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في هداية الناس بالطرق السليمة والاخلاق الرفيعة قد انطبعت في ذهن الامام الحسن علیه السلام وهو في دور الصبا حتى صارت من خصائصه ومن طبائعه لقد ذهب بعض علماء النفس إلى وراثة الخلق الفردي ، وان لها أثرا مهما في تكوين اخلاق الشخص وأنها لا تقل أهمية عن التقليد ، يقول « هكسلي » :

« ما من أثر أو خاصة لكائن عضوي الا ويرجع كلها الى الوراثة ، أو إلى البيئة ، فالتكوين الوراثي يضع الحدود ، لما هو محتمل ، والبيئة تقرر أن هذا الاحتمال سيتحقق ، فالتكوين الوراثي ليس الا القدرة على التفاعل مع أية بيئة بطريق خاص .. ».

وقد أيد هذه النظرية ( جنجز ) فقال : « إن كل انسان لديه

ص: 60


1- البحار 10 / 89.

قوى موروثة كامنة ، ولكن اظهار أية واحدة يقف على الظروف التي تحيط بهذه القوى عند نموها ».

وقاعدة الوراثة تقضى ان الامام الحسن (عليه السلام) في طليعة من ظفر بهذه الظاهرة فقد ورث ما استقر في نفس جده (صلی الله عليه وآله وسلم) من القوى الروحية ، والثروة الاصلاحية الهائلة يضاف إلى ذلك تأثره بالبيئة الصالحة التي تكونت من أسرته ومن خيار المسلمين وصلحائهم.

وملك الامام الحسن (عليه السلام) بمقتضى ميراثه من الذكاء ، وسمو الادراك ما لا يملكه غيره ، فقد حدث الرواة عن مدى نبوغه الباكر ، فقالوا : إنه كان لا يمر عليه شيء إلاّ حفظه ، وكان يحضر مجلس جده (صلی الله عليه وآله وسلم) فيحفظ الوحي فينطلق إلى أمه فيلقيه عليها ، فتحدث به أمير المؤمنين (عليه السلام) فيتعجب ، ويقول :

« من أين لك هذا؟!! »

« من ولدك الحسن. »

واختفى الامام (عليه السلام) في بعض زوايا البيت ليسمع ولده ، ويقبل الحسن على عادته ليلقي على أمه ما حفظه من آيات الوحي والتنزيل فيرتج عليه ، ولا يستطيع النطق فتبادر البتول قائلة :

« يا بني ، لما ذا أرتج عليك؟!! »

« يا أماه .. لا تعجبي مما عراني ، فان كبيرا يرعاني!! » (1).

وهذه البادرة تدل بوضوح على مدى ادراكه الواسع ، الذي يبصر به الاشياء من بعيد ، ويستشف به ما غاب عنه من وراء حجاب.

ص: 61


1- مناقب ابن شهر اشوب 2 / 148 ، البحار 10 / 93.

حفظه للحديث :

وحفظ (عليه السلام) وعمره الشريف اربع سنين الشيء الكثير مما سمعه من جده (صلی الله عليه وآله وسلم) ونشير إلى بعض ما رواه عنه.

1 - قال (عليه السلام) : علمنى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) كلمات أقولهن في الوتر : ( اللّهم ، اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما اعطيت ، وقنى شر ما قضيت ، فانك تقضى ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت » (1)

2 - وروى عمير بن مأمون ، قال : سمعت الحسن بن علي (عليه السلام) يقول : ( من صلى صلاة الغداة ، فجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس كان له حجاب من النار ، أو قال : ستر من النار ) (2).

3 - وقال له بعض أصحابه : ما تذكر من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)؟ فقال (عليه السلام) : أخذت تمرة من تمر الصدقة ، فتركتها في فمي فنزعها بلعابها ، فقيل يا رسول اللّه ، ما كان عليك من هذه التمرة ، قال إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة (3).

4 - وسئل (عليه السلام) عما سمعه من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال : سمعته يقول لرجل : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فان الشر ريبة والخير

ص: 62


1- صحيح الترمذي 1 / 93 مستدرك الحاكم 3 / 172 تاريخ ابن عساكر 4 / 20.
2- اسد الغابة 2 / 11.
3- اسد الغابة 2 / 11 والمراد من الصدقة المحرمة على آل البيت هي الصدقة الواجبة كالزكاة والفطرة دون غيرهما من الصدقات المندوبة.

طمأنينة » (1).

5 - وحدث (عليه السلام) أصحابه عن خلق جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسيرته فقال : كان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إذا سأله أحد حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول.

6 - قال (عليه السلام) : سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول : « ادعوا لي سيد العرب - يعنى عليا - فقالت له عائشة : الست سيد العرب؟ فقال لها أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب ، فدعى له الإمام فلما مثل بين يديه أرسل خلف الأنصار ، فلما حضروا التفت إليهم قائلا :

يا معشر الأنصار ألا ادلكم على شيء ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا ، قالوا بلى يا رسول اللّه فقال : هذا علي فأحبوه بحبي واكرموه بكرامتى فان جبرئيل أخبرني بالذي قلت لكم عن اللّه عز وجل (2) وقد

ص: 63


1- تأريخ اليعقوبى 2 / 201 وفي مسند احمد 1 / 200 انه علیه السلام قال سمعت رسول اللّه قد قال : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فان الصدق طمأنينة ، وان الكذب ريبة.
2- حياة علي بن ابي طالب للشيخ محمد حبيب اللّه الشنقيطي ص 83 وذكر الدكتور زكي مبارك فى التصوف الإسلامي ج 1 ص 274 في بيان مأخذ عقيدة الصوفية في سيد الأنبياء محمد صلی اللّه علیه و آله يقول : ومن الخير ان ننص على ان هذا الشطط استند فيه الصوفية إلى حديث « أنا سيد الأنبياء » وهو حديث شك فيه العلماء فقد جاء في كتاب العجلونى المسمى « كشف الخفاء والالتباس ، عما اشتهر من الاحاديث على السنة الناس » ان الحسن بن علي روى ان الرسول قال ( ادعوا لي سيد العرب ) يعني عليا فقالت له عائشة : الست سيد العرب ، فقال أنا سيد ولد آدم وعلى سيد العرب ، ثم حدثنا العجلوني ان الذهبي يجنح إلى الحكم على هذا الحديث بالوضع ، اقول : لم يتبين لنا بجلاء ما افاده الدكتور زكي مبارك في مأخذ عقيدة الصوفية ولبيان الحال نقول إنهم قد انفردوا عن بقية فرق الاسلام بالتزامهم بجهتين ( الاولى ) إن هناك تعينا اوليا وهو مجمع التعينات وهو المسمى بالعقل الأول والصادر الأول في لسان الفلاسفة القدامى ، ومستندهم في ذلك هي البراهين التي اقيمت فى الفلسفة التي منها إن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد ( الثانية ) تطبيق العقل الأول والصادر الأول على الحقيقة الأحمدية المقدسة وبهذا التطبيق انحازوا عن الفلاسفة ، وحجتهم في ذلك هي الأخبار كحديث ( أنا سيد الناس ) ( ولو لاي لما خلقت الأكوان ) وانا نبي وآدم بين الماء والطين ، ونحوها من الأخبار الدالة على إثبات مطلوبهم بنحو من الدلالة العقلية ، والمتصوفة إنما كانوا متصوفة بالتزامهم بالجهة الأولى التي ذهبت إليها الفلاسفة ، فكان الأجدر بالدكتور زكي مبارك ان لا يطلق القول في ان عقيدة الصوفية قد اخذت من الأخبار وعليه ان يبين ان استنادهم إلى الأخبار إنما هو لتطبيق العقل الأول والصادر الأول على الحقيقة الأحمدية ، وكان المناسب له التعرض الى مناقشة الصوفية في الجهة الأولى ، وبيان السر في تشكيك العلماء في حديث ( أنا سيد الناس ) هل كان مصدره ضعف الراوى ، او من جهة اعتماد الصوفية عليه والأخير غير صالح للتضعيف والأول غير معلوم.

نقل علماء الفقه ورواة السنة الشيء الكثير عنه (عليه السلام) مما سمعه وشاهده من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما يتعلق بأحكام الشريعة المقدسة وآدابها وذلك يدل على نبوغه وعبقريته وإدراكه الواسع ، والناظر في دور طفولته (عليه السلام) يهيم بها إعجابا وإكبارا وتقديسا وذلك لما لها من آيات للكمال والفضيلة والذكاء ، ولما أنيطت بلون من التربية الرفيعة التي لم يظفر بها إنسان فيما نحسب.

ص: 64

تكريم وحفاوة

اشارة

ص: 65

ص: 66

واشاد كتاب اللّه العزيز بفضل اهل البيت واحتفى بهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقرنهم بمحكم الكتاب ، وفرض على الأمة مودتهم وحبهم ، ولا بد لنا أن نشير إلى بعض ما ورد في الكتاب ، والسنة في حق أهل البيت (عليهم السلام) فان ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بما نحن فيه ويكشف لنا عن مدى خطورة الامام الحسن (عليه السلام) وعظم شأنه ، وسمو منزلته ، وإلى القراء ذلك :

الكتاب العزيز :

ونطق كتاب اللّه العظيم - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه - بفضل أهل البيت ، وبسمو مكانتهم عند اللّه ، وحسبنا أن نشير إلى بعض آياته :

1 - آية المودة :

وفرض اللّه على المسلمين مودة أهل البيت (عليهم السلام) وقد نطق القرآن بذلك قال تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (1) وروى ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال بعض المسلمين : يا رسول اللّه من قرابتك الذين أوجبت علينا طاعتهم؟ فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : علي وفاطمة وابناهما (2) وروى أبو نعيم بسنده عن جابر ، قال جاء اعرابي إلى النبي

ص: 67


1- سورة الشورى : آية 23
2- تفسير الفخر الرازي 7 / 406 ، الدر المنثور 7 / 7 ، تفسير النيسابوري في تفسير سورة الشورى ، تفسير ابن جرير الطبري 5 / 16، الكشاف في تفسير سورة الشورى ، الصواعق المحرقة : ص 102 ، ذخائر العقبى : ص 25 نور الابصار : ص 100.

(صلی الله عليه وآله وسلم) فقال : يا محمد أعرض عليّ الاسلام ، فقال : تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وان محمدا عبده ورسوله ، قال : تسألني عليه أجرا؟ قال : - لا - إلا المودة في القربى ، قال : قرباي أو قرباك؟ قال : قرباي ، قال هات أبايعك ، فعلى من لا يحبك ولا يحب قرباك لعنة اللّه ، قال (صلی الله عليه وآله وسلم) آمين (1) وصرح الامام الحسن (عليه السلام) أنه من المعنيين بهذه الآية فى بعض خطبه قال (عليه السلام) :

« وأنا من أهل البيت الذين أفترض اللّه مودتهم على كل مسلم ، فقال تبارك وتعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ، وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً ) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت. » (2)

وإلى مضمون الآية الكريمة يشير الامام الشافعي فى قوله :

يا أهل بيت رسول اللّه حبكم

فرض من اللّه في القرآن أنزله (3)

وأفاد الفخر الرازي ما نصه : « وإذا ثبت هذا - يعنى أنها نزلت في علي وفاطمة وابناهما - وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ، وتدل عليه وجوه « الاول » قوله تعالى : ( إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ووجه الاستدلال به ما سبق ، وهو ما ذكره من قبل من أن آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 68


1- حلية الأولياء 3 / 201.
2- مستدرك الحاكم 3 / 172 ، مجمع الزوائد 9 / 146 ، الصواعق المحرقة ص 101 ، مجمع البيان في تفسير سورة الشورى 9 / 29.
3- الصواعق المحرقة : ص 88.

هم الذين يئول أمرهم إليه ، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شك ان فاطمة وعليا والحسن والحسين (عليهم السلام) كان التعلق بينهم وبين رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أشد التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل « الثانى » لا شك ان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يحب فاطمة (عليهاالسلام) قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » وثبت بالنقل المتواتر عن محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه كان يحب عليا والحسن والحسين علیهم السلام ، وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله ، لقوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ولقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) ولقوله : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) ولقوله سبحانه :

و ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) « الثالث » إن الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : اللّهم صل على محمد وآل محمد ، وارحم محمدا وآل محمد » وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل ، فكل ذلك يدل على أن حب آل محمد واجب » (1)

إن مودة أهل البيت من أهم الواجبات الاسلامية ، ومن أقدس الفروض الدينية لأن فيها أداء لأجر الرسالة ، وصلة للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وشكرا له على ما لاقاه من عظيم العناء في سبيل انقاذ المسلمين من الشرك وعبادة الأوثان ، فحقه على الأمة أن توالي عترته ، وتكن لها المودة والاحترام.

2 - آية التطهير :

ومن آيات اللّه البينات الدالة على عصمة اهل البيت من الذنوب ، وعلى طهارتهم من الزيغ والآثام ، آية التطهير قال تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ

ص: 69


1- تفسير الفخر الرازي في ذيل تفسير آية المودة فى سورة الشورى.

لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) وهي صريحة الدلالة في العصمة ، ويقع البحث في الآية من جهات : أ - دلالتها على العصمة :

وكيفية الاستدلال بها على عصمة أهل البيت ، انه تعالى حصر إرادة إذهاب الرجس - أي المعاصي - بكلمة انما ، وهي من أقوى أدوات الحصر وبدخول اللام في الكلام الخبري وبتكرار لفظ الطهارة وذلك يدل - بحسب الصناعة - على الحصر والاختصاص ، ومن المعلوم أن ارادة اللّه تعالى يستحيل فيها تخلف المراد عن الارادة ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) وبذلك يتم الاستدلال بها على عصمة أهل البيت من كل ذنب ومعصية. ب - المختصون بها :

واجمع ثقاة الرواة أنها نزلت في رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وفي أمير المؤمنين علیه السلام وفاطمة ، والحسنين (عليهماالسلام) ولم يشاركهم أحد في هذه الفضيلة (2) فقد روى الحاكم بسنده عن أم سلمة أنها قالت : في بيتي نزلت هذه الآية ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) قالت : فأرسل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، قالت أم سلمة : يا رسول اللّه ما أنا من أهل

ص: 70


1- سورة الأحزاب :
2- انظر تفسير الفخر 6 / 783 ، النيسابوري في تفسير سورة الاحزاب ، صحيح مسلم 2 / 331 ، الخصائص الكبرى 2 / 264 ، الرياض النضرة 2 / 188 ، خصائص النسائي 4 ، تفسير ابن جرير 22 / 5 ، مسند الامام احمد بن حنبل 4 / 107 سنن البيهقي 2 / 150 ، مشكل الآثار 1 / 334 وغيرها.

البيت؟ قال « إنك إلى خير وهؤلاء أهل بيتي ، اللّهم أهل بيتي احق » (1).

وفي رواية أم سلمة الأخرى : « قالت في بيتي نزلت : « إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت » ، وفي البيت فاطمة وعلى والحسن والحسين فجللهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بكساء كان عليه ، ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » (2)

وروى الخطيب البغدادي بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى : إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » قال : جمع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عليا وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ثم أدار عليهم الكساء فقال : هؤلاء أهل بيتي اللّهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وأم سلمة على الباب فقالت : يا رسول اللّه ألست منهم؟ فقال : إنك لعلى خير ، أو إلى خير » (3).

ويدل على اختصاص الآية بهم وعدم شمولها لغيرهم ما رواه ابن عباس قال : « شهدت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) تسعة أشهر يأتى كل يوم باب علي بن أبي طالب (عليه السلام) عند وقت كل صلاة فيقول : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته أهل البيت « إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » الصلاة رحمكم اللّه ، كل يوم خمس مرات » (4).

واخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء قال : حفظت من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغد إلا أتى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب ، ثم قال : الصلاة ،

ص: 71


1- مستدرك الحاكم 2 / 416 ، اسد الغابة 5 / 521.
2- الدر المنثور 5 / 199.
3- تأريخ بغداد 10 / 278.
4- الدر المنثور.

الصلاة « إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » (1)

وروى أبو برزة قال : صليت مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) سبعة أشهر فاذا خرج من بيته أتى باب فاطمة (عليهاالسلام) فقال : السلام عليكم « إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » (2)

وروى أنس بن مالك قال : كان النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج لصلاة الفجر ، ويقول : الصلاة يا أهل البيت « إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا » (3)

وقال الامام الحسن (عليه السلام) في بعض خطبه :

« وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل إلينا ، ويصعد من عندنا ، وأنا من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا. » (4)

لقد تواترت الاخبار الصحيحة التي لا مجال للشك في سندها ، وفي دلالتها ، على اختصاص الآية الكريمة فى الخمسة من أهل الكساء علیهم السلام ، وعدم تناولها لغيرهم من أسرة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم). ج - خروج نساء النبي :

وليس لنساء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) نصيب في هذه الآية ، فقد اختص بها أهل الكساء ، وللتدليل على ذلك نذكر ما يلي :

1 - خروجهن موضوعا عن الأهل ، فإنه موضوع لعشيرة الرجل

ص: 72


1- الدر المنثور.
2- مجمع الزوائد 9 / 169.
3- ذخائر العقبى : ص 24.
4- مستدرك الحاكم 3 / 172.

وذوى قرباه ، ولا يشمل الزوجة ، ويؤكد هذا المعنى ما صرح به زيد ابن ارقم حينما سئل من أهل بيته - اي النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) - نساؤه؟ فقال - لا - وأيم اللّه ، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها ، وقومها ، أهل بيته أصله ، وعصبته ، الذين حرموا الصدقة بعده (1).

2 - انا لو سلمنا أن الأهل يطلق على الزوج فلا بد من تخصيصه ، وذلك للاخبار المتواترة التي تقدم ذكرها وهي توجب تقييد الاطلاق من دون شك. د - مزاعم عكرمة :

وزعم عكرمة أن الآية نزلت في نساء النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وكان ينادى بذلك في السوق (2) وبلغ من اصراره وعناده أنه كان يقول : ( من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبيّ ) (3) وعكرمة لا يعول على روايته ، ولا يوثق به ، وذلك لما يلي :

1 - انه من الخوارج (4) وموقف الخوارج من الامام أمير المؤمنين معروف ، من ناحية النصب والعداء.

2 - انه قد عرف بالكذب واشتهر به فعن ابن المسيب « انه قال لمولى اسمه برد لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس » (5) وعن عثمان بن مرة أنه قال للقاسم : ان عكرمة حدثنا عن ابن عباس كذا :

ص: 73


1- صحيح مسلم 2 / 238 ، تفسير ابن كثير 3 / 486.
2- اسباب النزول للواحدي : ص 268.
3- الدر المنثور 5 / 198.
4- طبقات القراء 1 / 15 ، طبقات ابن سعد 5 / 216.
5- الكلمة الغراء للامام شرف الدين نقلا عن ميزان الاعتدال.

فقال القاسم : يا بن اخي إن عكرمة كذاب يحدث غدوة حديثا يخالفه عشيا (1) ومع اتهامه بالكذب كيف يمكن التعويل على حديثه.

3 - انه كان فاسقا يسمع الغناء ، ويلعب بالنرد ، ويتهاون في الصلاة وانه كان خفيف العقل (2).

4 - إنه كان منبوذا عند المسلمين ، فقد جفوه ، وتجنبوه ، وبلغت من كراهيتهم له أنه لما توفى لم يصلوا عليه ، ولم يشهدوا تشييع جنازته (3) ومع هذه الطعون التي احتفت به كيف يمكن التعويل على روايته؟ مضافا إلى أنها من أخبار الآحاد حتى لو لم تمن بالضعف فانها لا تصلح لمعارضة الأخبار الصحيحة المتواترة.

3 - آية المباهلة :

من آيات اللّه الباهرات التي أشادت بفضل أهل البيت (عليهم السلام) آية المباهلة قال تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (4) فقد روى الجمهور بطرق مستفيضة (5) أنها نزلت

ص: 74


1- معجم الأدباء فى ترجمة عكرمة.
2- تهذيب التهذيب 7 / 263.
3- تهذيب التهذيب
4- سورة آل عمران :
5- تفسير الجلالين 1 / 35 ، تفسير روح البيان 1 / 457 ، تفسير الكشاف 1 / 149 ، تفسير البيضاوي ص 76 ، تفسير الرازي 2 / 699 ، صحيح الترمذي 2 / 166 سنن البيهقي 7 / 63 ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ، مسند احمد بن حنبل 1 / 185 مصابيح السنة للبغوي 2 / 201.

في أهل البيت (عليهم السلام) وان ابناءنا اشارة إلى ( الحسنين ) ، ونساءنا الى فاطمة ، وانفسنا إلى علي.

وموجز قصة المباهلة ان وفدا من نصارى نجران قدموا على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليناظروه في دينه ، وبعد حديث دار بينهما اتفقا على « المباهلة » وهي أن يبتهلوا أمام اللّه تعالى فيجعلوا لعنته الخالدة وعذابه المعجل على الكاذبين ، وعينوا زمانا خاصا لها.

وخرج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) في اليوم الذي اتفقا عليه ، وقد اختار للمباهلة أعز الناس لديه ، وأكرمهم عند اللّه ، وهم الحسن والحسين ، وسيدة النساء فاطمة ، وأمير المؤمنين ، واحتضن (صلی الله عليه وآله وسلم) الحسين وامسك بيده الأخرى الحسن ، وسارت خلفه الزهراء وهي مغشاة بملاءة من نور اللّه ، وأمير المؤمنين يسير خلفها وهو باد الجلال ، وخرج السيد والعاقب بولديهما وعليهما الحلي والحلل ، ومعهم نصارى نجران وفرسان بني الحرث على خيولهم ، وهم على أحسن هيئة واستعداد ، وقد اجتمعت الجماهير الحاشدة وهي تراقب الحادث الخطير ، ويسأل الناس بعضهم بعضا ، هل تباهل النصارى؟ أو تكف عن ذلك وبينما هم على هذا الحال إذ تقدم السيد والعاقب إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد بدا عليهما الذهول والارتباك قائلين :

« يا أبا القاسم بمن تباهلنا؟. ».

فأجابهم (صلی الله عليه وآله وسلم) :

« أباهلكم بخير أهل الأرض وأكرمهم على اللّه ، وأشار إلى علي وفاطمة والحسنين. »

وقدما له سؤالا مقرونا بالتعجب :

« لمّ لا تباهلنا بأهل الكرامة ، والكبر ، وأهل الشارة ، ممن آمن

ص: 75

بك ، وأتبعك؟!! »

فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) :

« أجل. أباهلكم بهؤلاء خير أهل الأرض وأفضل الخلق. »

فذهلوا ، وذابت قلوبهم من الخوف والرعب ، ورجعوا قافلين الى الاسقف زعيمهم يستشيرونه في الأمر قائلين :

« يا أبا حارثة. ما ذا ترى في الأمر؟ »

فأجابهم الاسقف ، وقد غمرته هيبة آل الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قائلا :

« أرى وجوها لو سأل اللّه بها أحد أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله »

ولا يكتفي بذلك بل يدعم قوله : بالبرهان واليمين التي تؤيد مقالته :

« أفلا تنظرون محمدا رافعا يديه ، ينظر ما تجيئان به ، وحق المسيح - إن نطق فوه بكلمة - لا نرجع إلى أهل ، ولا إلى مال!! »

وجعل يصيح بهم :

« ألا ترون إلى الشمس ، قد تغير لونها ، والأفق تنجع فيه السحب الداكنة (1) ، والريح تهب هائجة سوداء ، حمراء ، وهذه الجبال يتصاعد فيها الدخان ، لقد أطل علينا العذاب ، أنظروا إلى الطير وهي تقيء حواصلها وإلى الشجر كيف تتساقط أوراقها ، وإلى هذه الأرض كيف ترجف تحت أقدامنا.!!! »

اللّه أكبر .. لقد غمرت المسيحيين عظمة تلك الوجوه المقدسة ، وآمنوا بما لها من الكرامة والشأن عند اللّه ، ووقفوا خاضعين أمام النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ونفذوا طلباته ، وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) :

« والذي نفسي بيده إن العذاب تدلى على أهل نجران ، ولو لا عنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولأضطرم عليهم الوادي نارا ، ولأستأصل اللّه

ص: 76


1- الداكنة : السحابة السوداء.

نجران وأهله حتى الطير على الشجر ، وما حال الحول على النصارى كلهم ... » (1)

ودلت قصة المباهلة على عظيم منزلة أهل البيت ، وسمو مكانتهم ، وانهم افضل خلق اللّه وأحبهم إلى رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولا يداني فضلهم أحد من سائر العالمين.

4 - سورة هل أتى :

ونزلت في أهل البيت (عليهم السلام) سورة مباركة من سور القرآن الكريم وهي سورة « هل أتى » فقد روى جمهور المفسرين والمحدثين أنها نزلت فيهم (2) والسبب في نزولها ان الحسن والحسين (عليهماالسلام) مرضا فعادهما جدهما رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) مع بعض الصحابة ، فقالوا للامام : لو نذرت لله إن عافى ولديك ، فنذر (عليه السلام) صوم ثلاثة أيام شكرا لله إن برئا ، وتابعته الصديقة علیهاالسلام وجاريتها فضة في هذا النذر ، ولما ابل الحسنان من المرض صاموا جميعا ، ولم يكن عند أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك الوقت شيء من الطعام ليجعله افطارا لهم فاستقرض ثلاثة أصواع من الشعير ، فعمدت الصديقة (عليهاالسلام) في اليوم الاول إلى صاع فطحنته وخبزته فلما آن وقت الإفطار ، وإذا بمسكين يستمنحهم من القوت شيئا ، فتبرع الامام في افطاره ، وتابعه الجميع في صنعه ، وناولوا طعامهم إلى المسكين وقضوا ليلتهم ، ولم يذوقوا من الطعام شيئا ، واصبحوا وهم صائمون ،

ص: 77


1- نور الابصار : ص 100.
2- تفسير الفخر 8 / 392 ، روح البيان 6 / 546 ، النيسابوري في تفسير سورة هل اتى ، اسباب النزول للواحدي : ص 331 ، الدر المنثور في تفسير سورة هل اتى ، ينابيع المودة 1 / 93 ، الرياض النضرة 2 / 227.

فلما حل وقت الافطار ، والطعام بين أيديهم ، وإذا بيتيم على الباب يشكو ألم الجوع ، فتبرعوا جميعا بقوتهم ، وطووا ليلتهم ، ولم يذوقوا سوى ماء القراح ، وفي اليوم الثالث قامت سيدة النساء فطحنت ما فضل من الطعام وخبزته ، فلما حان وقت الافطار قدمت لهم الطعام ، وسرعان ما طرق الباب أسير يشكو الجوع فسحبوا أيديهم من الطعام ، ومنحوه له ، سبحانك اللّهم أي مبرة أعظم من هذه المبرة ، وأي ايثار اعظم من هذا الايثار!!!

وفي اليوم الرابع جاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لزيارتهم ، فرآهم ويا لهول ما رأى ، رأى الصفرة بادية على الوجوه ، الارتعاش حل في أجسامهم من الضعف ، فتغير حاله وانطلق يقول :

« وا غوثاه أهل بيت محمد يموتون جياعا!! ».

ولم ينته الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من كلامه حتى هبط عليه أمين الوحى ، وهو يرفع إليه سورة « هل اتى » وفيها اجمل الثناء وعاطر الذكر لاهل البيت قال تعالى : ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً. )

لقد شكر اللّه سعيهم على هذا الايثار الذي لا نظير له في عالم المبرات والاحسان ، وأورثهم في دار الآخرة الفردوس يتقلبون في نعيمه ، وجعل ذكرهم خالدا ، وحياتهم قدوة ، وجعلهم أئمة للمسلمين حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها.

وبهذا ينتهي بنا المطاف عن بعض الآيات التي نزلت في حق أهل البيت علیهم السلام ، وهي من دون شك تتناول الامام الحسن (عليه السلام) ، وتدل على خطورة شأنه ، وسمو منزلته عند اللّه.

ص: 78

السنة :

أما الأخبار التي أثرت عن النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) في سبطه الاكبر ، وأشادت بعظيم شأنه ، وبينت عما يكنه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) في نفسه من عميق الود ، وخالص الحب فهي على طوائف ثلاثة « الاولى » إنها مختصة به « الثانية » وردت فيه وفي أخيه سيد الشهداء (عليه السلام) « الثالثة » في أهل بيته ، ومن المعلوم ان الامام الحسن (عليه السلام) من أبرارهم فتشمله بالضرورة تلك الأخبار وهذه المناحي قد تظافرت بها النصوص وتواترت حتى افادت القطع واليقين ، وإلى القراء ذلك.

الطائفة الاولى :

اما ما أثر عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فيما يخص سبطه فهى روايات عدة نقتصر منها على ما يلي :

1 - روى البراء بن عازب (1) قال : رأيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) والحسن على عاتقه ، يقول : « اللّهم ، إنى أحبه فاحبه ) (2)

2 - وروت عائشة قالت : إن النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يأخذ حسنا ، فيضمه

ص: 79


1- البراء بن عازب يكنى ابا عمارة ، شهد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واقعة بدر ، ولكنه لم يأذن له في الجهاد لصغر سنه ، وغزا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اربع عشرة غزوة ، وهو الذي فتح الري سنة اربع وعشرين فى قول ابى عمرو الشيباني ، وشهد مع امير المؤمنين علیه السلام الجمل وصفين ، والنهروان ، نزل الكوفة وابتنى بها دارا ، ومات ايام مصعب بن الزبير ، جاء ذلك فى اسد الغابة 1 / 171 ، والاستيعاب.
2- صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق ، ورواه الترمذي في صحيحه 2 / 307 ورواه مسلم فى صحيحه فى كتاب فضائل الصحابة ، ورواه ابن كثير في البداية والنهاية 8 / 34.

إليه ثم يقول : « اللّهم ، إن هذا ابنى ، وأنا أحبه ، فأحبه ، وأحب من يحبه .. » (1)

3 - وروى زهير بن الاقمر قال : بينما الحسن بن علي يخطب بعد ما قتل علي (عليه السلام) إذ قام إليه رجل من الأزد آدم طوال ، فقال : لقد رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) واضعه في حبوته ، يقول : ( من أحبني فليحبه ، فليبلغ الشاهد الغائب ) ولو لا عزمة من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ما حدثتكم (2).

4 - وروى أبو بكرة قال : رأيت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه ، وهو يقبل على الناس مرة ، وعليه أخرى ، ويقول : ( إن ابني هذا سيد. ولعل اللّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين

ص: 80


1- كنز العمال 7 / 104 ، وذكره الهيثمي فى مجمعه 9 / 176 ، وتظافرت الاخبار بهذا المضمون عن النبي صلی اللّه علیه و آله فعن سعيد بن زيد قال : احتضن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حسنا ثم قال : ( اللّهم إني قد احببته فأحبه ) ذكره المتقي الهندي فى كنز العمال 7 / 105 وقال اخرجه الطبراني وابو نعيم ، وذكر ابن حجر في الاصابة 3 / 78 قال : واخرج البغوي من طريق يزيد بن ابي زياد عن يزيد بن ابي الحسن عن سعد بن زيد الانصاري ان النبي صلی اللّه علیه و آله حمل حسنا ، ثم قال : اللّهم إني احبه فاحبه مرتين ، وروى ابو نعيم فى حليته عن ابي هريرة ان النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « اللّهم ، إني احبه ، فأحبه واحب من يحبه » يقولها ثلاث مرات.
2- تهذيب التهذيب 2 / 297 ، مسند الامام احمد بن حنبل 5 / 366 الصواعق المحرقة : ص 82.

من المسلمين » (1).

5 - وروى ابن عباس قال : اقبل النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد حمل الحسن على رقبته فلقيه رجل ، فقال نعم المركب ركبت يا غلام ، فقال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ونعم الراكب هو. (2)

6 - وروى عبد اللّه بن عبد الرحمن بن الزبير قال : أشبه أهل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وأحبهم إليه الحسن رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته أو قال : ظهره فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل ، ولقد رأيته وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر (3)

7 - وروى ان النبي صلی اللّه علیه و آله صلى احدى صلاتي العشاء فسجد سجدة أطال فيها السجود ، فلما سلم قال له الناس : في ذلك فقال : ( إن ابنى هذا - يعنى الحسن - ارتحلنى فكرهت أن أعجله ) (4)

ص: 81


1- الاصابة 1 / 330 ، صحيح البخاري ذكره فى الصلح ، ورواه الامام احمد بن حنبل فى مسنده 5 / 44 باسناده عن المبارك عن الحسن عن ابي بكرة قال : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصلي بالناس ، وكان الحسن بن علي يثب على ظهره إذا سجد ، ففعل ذلك غير مرة ، فقالوا له : واللّه إنك لتفعل بهذا شيئا ، ما رأيناك تفعله باحد ، قال المبارك : فذكر شيئا ثم قال : إن ابني هذا سيد وسيصلح اللّه تبارك وتعالى به بين فئتين من المسلمين ، وذكره ابن حجر في صواعقه وجاء في العقد الفريد 1 / 164 ان الرسول صلی اللّه علیه و آله دخل على ابنته فاطمة فوجد الحسن طفلا يلعب بين يديها ، فقال لها : إن اللّه سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
2- الصواعق : ص 82 ، حلية الاولياء.
3- الاصابة 2 / 11
4- البداية والنهاية 8 / 33

8 - وصعد صلی اللّه علیه و آله على المنبر ليخطب ، فجاء الحسن فصعد المنبر ، فوضعه على رقبته حتى كان يرى بريق خلخاليه من اقصى المسجد ، وهما يلمعان على صدر الرسول ، ولم يزل على هذه الحالة حتى فرغ صلی اللّه علیه و آله من خطبته (1)

9 - وقال صلی اللّه علیه و آله : « من سره أن ينظر إلى سيد شباب اهل الجنة فلينظر الى الحسن » (2)

10 - وقال صلی اللّه علیه و آله : « الحسن ريحانتي من الدنيا » (3) 11 - وروى انس بن مالك قال دخل الحسن على النبي صلی اللّه علیه و آله فأردت أن أميطه عنه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « ويحك يا أنس دع ابنى ، وثمرة فؤادي ، فان من آذى هذا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه » (4)

هذه طائفة من الاخبار التي وردت عن النبي صلی اللّه علیه و آله في سبطه الاكبر ، ويلمس فيها أسمى الوان التكريم والحفاوة والحب العميق.

الطائفة الثانية :

أما ما أثر عن النبي صلی اللّه علیه و آله في حق السبطين علیهماالسلام فكوكبة من الروايات الصحاح التي دونها الثقات والحفاظ ، وهي صريحة

ص: 82


1- البحار 6 / 58
2- فضائل الاصحاب : ص 165 ، البداية والنهاية 8 / 35
3- الاستيعاب 2 / 369
4- كنز العمال 6 / 222

الدلالة في أنهما علیهماالسلام من أعز الناس عند رسول اللّه صلى عليه وآله ومن أحبهم له ، ونذكر منها ما يلي :

1 - روى سعيد بن راشد ، قال : جاء الحسن والحسين علیهماالسلام يسعيان الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأخذ أحدهما فضمه الى إبطه ، ثم جاء الآخر فضمه إلى إبطه الاخرى ، وقال : ( هذان ريحانتي من الدنيا من أحبنى فليحبهما ) (1) وكان النبي صلی اللّه علیه و آله دوما يضفى عليهما هذا اللقب ، وقد وردت بذلك روايات عديدة (2)

2 - وروى انس بن مالك قال : سئل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « الحسن والحسين » وكان يقول : لفاطمة ادعي ابني فيشمهما ويضمهما إليه (3)

3 - وروى أسامة بن زيد قال : طرقت النبي صلی اللّه علیه و آله ذات ليلد في بعض الحاجة فخرج النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو مشتمل

ص: 83


1- ذخائر العقبى : ص 124
2- روى ابو نعيم في حلية الاولياء 3 / 201 عن جابر ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لعلي بن ابي طالب علیه السلام سلام عليك يا ابا الريحانتين اوصيك بريحانتي من الدنيا خيرا فعن قليل ينهد ركناك واللّه خليفتي عليك ، قال فلما قبض النبيّ صلی اللّه علیه و آله : قال علي علیه السلام : هذا احد الركنين اللذين قال النبي صلی اللّه علیه و آله فلما ماتت فاطمة علیهاالسلام قال علي (عليه السلام) : هذا الركن الآخر الذي قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : وفي كنز العمال 7 / 110 عن سعد بن مالك قال دخلت على النبيّ صلی اللّه علیه و آله والحسن والحسين يلعبان على ظهره ، فقلت يا رسول اللّه أتحبهما؟ فقال : ومالي لا احبهما ، وانهما ريحانتى من الدنيا
3- صحيح الترمذي 2 / 306 فيض القدير 1 / 148

على شيء لا ادري ما هو؟ فلما فرغت من حاجتي ، قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ قال فكشفه فاذا هو حسن وحسين على وركيه ، فقال : ( هذان ابناي ، وابنا ابنتي ، اللّهم ، إني احبهما فأحبهما وأحب من يحبهما ) (1)

4 - وروى سلمان الفارسي قال سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : ( الحسن والحسين ابناي من احبهما احبني ، ومن احبني أحبه اللّه ، ومن أحبه اللّه ادخله الجنة ، ومن أبغضهما ابغضني ومن ابغضني ابغضه اللّه ، ومن ابغضه اللّه ادخله النار » (2)

5 - وروى ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما » (3)

6 - واعتلى صلی اللّه علیه و آله أعواد المنبر يخطب ، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران ، وهما يمشيان ويعثران ، فنزل صلی اللّه علیه و آله عن المنبر فحملهما ، ووضعهما بين يديه ، وقال : صدق اللّه

ص: 84


1- صحيح الترمذي 2 / 240 ، كنز العمال 7 / 110 ، وذكر آخر الحديث ابن حجر فى صواعقه ص 114
2- مستدرك الحاكم 3 / 166 ، وبتغيير يسير رواه الهيثمي في مجمعه 9 / 811 وكذلك فى كنز العمال 6 / 221
3- مستدرك الحاكم 3 / 167 ، صحيح ابن ماجة ، وتظافرت الاخبار الواردة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ان سبطيه سيدا شباب اهل الجنة ، روى الترمذي في صحيحه 2 / 306 عن ابي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة » ورواه احمد بن حنبل فى مسنده 3 / 3 ، وروى الخطيب البغدادي في تاريخه 1 / 140 بسنده عن علي علیه السلام قال قال : رسول اللّه : ( الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة )

إذ يقول : ( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ( لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ) (1)

7 - وروى ابن عباس قال : بينا نحن ذات يوم مع النبي صلی اللّه علیه و آله إذ أقبلت فاطمة سلام اللّه عليها تبكى ، فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فداك أبوك ، ما يبكيك؟ قالت إن الحسن والحسين خرجا ، ولا أدرى أين باتا ، فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا تبكين فان خالقهما ألطف بهما مني ومنك ، ثم رفع يديه ، فقال : اللّهم احفظهما وسلمهما ، فهبط جبرئيل ، وقال يا محمد ، لا تحزن فانهما في حظيرة بني النجار ، نائمان ، وقد وكل اللّه بهما ملكا يحفظهما ، فقام النبي صلی اللّه علیه و آله ومعه أصحابه حتى أتى الحظيرة فاذا الحسن والحسين علیهماالسلام معتنقان نائمان ، وإذا الملك الموكل بهما قد جعل أحد جناحيه تحتهما والآخر فوقهما ، يظلهما ، فأكب النبي صلی اللّه علیه و آله عليهما يقبلهما ، حتى انتبها من نومهما ، ثم جعل الحسن على عاتقه الايمن ، والحسين على عاتقه الايسر ، فتلقاه أبو بكر ، وقال يا رسول اللّه : ناولني أحد الصبيين أحمله عنك ، فقال صلی اللّه علیه و آله نعم المطي مطيهما ، ونعم الراكبان هما ، وأبوهما خير منهما ، حتى أتى المسجد فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على قدميه وهما على عاتقيه ثم قال :

« معاشر المسلمين ، ألا أدلكم على خير الناس جدا وجدة؟

« بلى يا رسول اللّه »

« الحسن والحسين ، جدهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خاتم المرسلين ، وجدتهما خديجة بنت خويلد ، سيدة نساء أهل الجنة »

ص: 85


1- صحيح الترمذي 2 / 306 ، صحيح النسائي 1 / 209

ثم قال صلی اللّه علیه و آله : « ألا أدلكم على خير الناس عما وعمة؟ » قالوا : بلى يا رسول اللّه

« الحسن والحسين عمهما جعفر بن أبي طالب ، وعمتهما أم هاني بنت أبي طالب. »

ثم قال : « أيها الناس ، ألا أدلكم على خير الناس خالا وخالة؟ » قالوا : بلى يا رسول اللّه

« الحسن والحسين ، خالهما القاسم بن رسول اللّه ، وخالتهما زينب بنت رسول اللّه ».

ثم قال : اللّهم ، انك تعلم أن الحسن والحسين في الجنة ، وعمهما ، في الجنة ، وعمتهما في الجنة ، ومن أحبهما في الجنة ، ومن أبغضهما في النار. (1)

ودل الحديث على مدى حبه صلی اللّه علیه و آله لسبطيه ، وانهما أحب أهل بيته إليه ، وآثرهما عليه ، ومن المعلوم أن شأن النبوة بعيد عن الاندفاع بعواطف الحب ، فانه صلی اللّه علیه و آله لم يمنحهما هذا الحب الا لانهما مصدرا كل فضيلة ، ومنبعا كل خير.

8 - وروى جابر ، قال دخلت على النبي صلی اللّه علیه و آله والحسن والحسين على ظهره ، وهو يقول : « نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما » (2) وبهذا المضمون روى عمر قال رأيت الحسن والحسين علیهماالسلام على عاتقي النبي صلی اللّه علیه و آله فقلت نعم الفرس تحتكما فقال النبي صلی اللّه علیه و آله ونعم الفارسان هما (3) وقد نظم ذلك

ص: 86


1- ذخائر العقبى : ص 130
2- كنز العمال 7 / 108 ، مجمع الهيثمي 9 / 182
3- مجمع الهيثمي 9 / 181 ، كنز العمال 7 / 106

شاعر العقيدة السيد الحميرى فى قوله :

اتى حسنا والحسين الرسول *** وقد برزا ضحوة يلعبان

فضمهما وتفداهما *** وكانا لديه بذاك المكان

ومرا وتحتهما عاتقاه *** فنعم المطية والراكبان

9 - وروى يعلى بن مرة الثقفي (1) قال : جاء الحسن والحسين يستبقان الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فضمهما إليه ، وقال : إن الولد مبخلة مجبنة (2)

10 - وقال صلی اللّه علیه و آله : ( الحسن والحسين سبطان من الاسباط ) (3)

11 - وبلغ من مزيد حبه واشفاقه على سبطيه أنه كان يعوذهما خوفا عليهما من الحسد ، فقد روى أبو نعيم بسنده عن عبد اللّه ، قال : كنا جلوسا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ مرّ الحسن والحسين وهما صبيان ، فقال : هات ابنى أعوذهما بما عوذ به إبراهيم ابنيه اسماعيل ، واسحاق ، فقال : « اعيذكما بكلمات اللّه التامة من كل عين لامة ، ومن

ص: 87


1- روي في المستدرك الحديث عن يعلى بن منبه الثقفي ، وراجعنا كتب التراجم فلم نجد يعلى بن منبه وانما الموجود يعلى بن مرة ، ولعل ما وقع ما فى المستدرك كان سهوا ، وجاء فى كل من الاصابة ، واسد الغابة ان يعلى بن مرة من افاضل الصحابة ، روى عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعن امير المؤمنين علیه السلام وشهد مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله الحديبية ، وبايع بيعة الرضوان وشهد خيبر ، والفتح وهوازن والطائف.
2- مستدرك الحاكم 3 / 168 ، مسند الامام احمد بن حنبل 4 / 172
3- الصواعق المحرقة : ص 114 ، كنز العمال 6 / 221

كل شيطان وهامة » (1) وليس في سجل المودة الانسانية أجمل من هذا الحنان ، ولا أكرم من هذا العطف.

12 - ومما اشتهر بين المسلمين قوله صلی اللّه علیه و آله : « الحسن والحسين إمامان إن قاما وان قعدا » (2) واضفى صلی اللّه علیه و آله على حفيديه حلة الامامة ، وهي من أهم الصفات الماثلة فيهما وذلك لما تستدعيه من المثل العليا التي لا تتوفر إلا عند من اختاره اللّه واصطفاه من بين عباده ، فقد خص اللّه بها خليله إبراهيم قال تعالى : ( قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) وسنتحدث عن الامامة ، وما يعتبر في الامام من المؤهلات ، والصفات عند عرض مثله علیه السلام .

الطائفة الثالثة :

وتواترت النصوص الصحيحة عن النبي صلی اللّه علیه و آله في لزوم مودة أهل بيته ، وانه حرب لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم ، وقرنهم بمحكم الكتاب ، وجعلهم سفن النجاة ، وأمان الأمة ، وإلى القراء بعض تلك السنن.

ص: 88


1- حلية الاولياء 5 / 44 الفضائل الخمسة من الصحاح الستة 3 / 177
2- البحار 10 / 78 ، وجاء في نزهة المجالس 2 / 184 ، وفى الاتحاف بحب الاشراف : ص 129 ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال للحسن والحسين : « انتما الامامان ولامكما الشفاعة » وجاء فى منهاج السنة 4 / 210 ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : للحسين علیه السلام « هذا امام ابن امام اخو امام ابو أئمة تسعة ».
3- سورة البقرة : آية 124

1 - روى زيد بن أرقم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لعلي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام : ( أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم » (1)

2 - وعن أبي بكر قال : رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خيم خيمة ، وهو متّكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام فقال : « معشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، وحرب لمن حاربهم ، وولي لمن والاهم ، لا يحبهم إلا سعيد الجد ، طيب المولد ، ولا يبغضهم إلا شقي الجد ردىء الولادة » (2)

3 - وروى احمد بن حنبل أن النبي صلی اللّه علیه و آله أخذ بيد الحسن والحسين ، وقال : « من احبني ، وأحب هذين وأباهما ، وامهما كان معي فى درجتي يوم القيامة » (3)

4 - وروى جابر ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ذات يوم بعرفات ، وعلى تجاهه « ادن منى يا علي خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها فمن تعلق بغصن منها ادخله اللّه الجنة » (4)

5 - وروى ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتى أمان لأمتي من الاختلاف

ص: 89


1- كنز العمال 7 / 102 ، سنن ابن ماجة ص 14 ورواه ابن كثير فى البداية والنهاية عن ابي هريرة.
2- الرياض النضرة 2 / 252
3- مسند احمد 1 / 77 ينابيع المودة ص 164 صحيح الترمذي 2 / 2 / 301
4- مسند احمد 1 / 77

فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس ) (1)

6 - روى زيد بن أرقم قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ، احدهما اعظم من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتى ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (2)

إن حديث الثقلين من أوثق الأحاديث النبوية ، واكثرها ذيوعا ، وقد اهتم العلماء به اهتماما بالغا لانه يحمل جانبا مهما من جوانب العقيدة الاسلامية ، كما انه من اظهر الأدلة التي تستند إليها الشيعة في حصر الامامة في اهل البيت ، وفي عصمتهم من الاخطاء والاهواء لان النبيّ صلی اللّه علیه و آله قرنهم بكتاب اللّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلا يفترق أحدهما عن الآخر ومن الطبيعي أن صدور آية مخالفة لاحكام الدين تعتبر افتراقا عن الكتاب العزيز ، وقد صرح النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعدم افتراقهما حتى يردا عليه الحوض ، فدلالته على العصمة ظاهرة جلية ، وقد كرر النبي صلی اللّه علیه و آله هذا الحديث في غير موقف من المواقف لأنه يهدف الى صيانة الأمة والمحافظة على استقامتها وعدم انحرافها في المجالات العقائدية ، وغيرها أن تمسكت باهل البيت ولم تتقدم عليهم ، ولم تتأخر عنهم.

واستيفاء البحث في جوانب الحديث يستدعى وضع كتاب خاص ، وقد كفانا مئونة البحث عنه ما ذكره العلماء من التحقيق الرائع في جميع مناحى الحديث سواء أكان من ناحية السند أم الدلالة وغيرها (3)

ص: 90


1- مستدرك الحاكم 3 / 149
2- صحيح الترمذي 2 / 308 ، اسد الغابة 2 / 12
3- المراجعات : ص 49 - 52 ، الاصول العامة للفقه المقارن ص 164 - 187

7 - روى أبو سعيد الخدرى قال : سمعت النبي صلی اللّه علیه و آله يقول : « إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له .. » (1)

يقول الامام شرف الدين في مرجعاته القيمة في بيان الحديث ما نصه « وأنت تعلم أن المراد من تشبيههم علیهم السلام بسفينة نوح أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأصوله عن أئمتهم الميامين نجا من عذاب النار ، ومن تخلف عنهم كان كمن آوى « يوم الطوفان » إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه ، غير أن ذاك غرق فى الماء وهذا في الحميم والعياذ باللّه. والوجه في تشبيههم علیهم السلام بباب حطة هو أن اللّه تعالى جعل ذلك الباب مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سببا للمغفرة.

هذا وجه الشبه ، وقد حاوله ابن حجر إذ قال : - بعد أن أورد هذه الاحاديث وغيرها من أمثالها -

« ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم وأخذ بهدي علمائهم نجا ، من ظلمة المخالفات ، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان » إلى أن قال : ( وبباب حطة - يعني ووجه تشبيههم بباب حطة - ان اللّه جعل دخول

ص: 91


1- مجمع الزوائد 9 / 168 ، وجاء في مستدرك الحاكم عن حنش الكناني قال : سمعت أبا ذر يقول : وهو آخذ بباب الكعبة : أيها الناس من عرفنى فأنا من عرفتم ، ومن انكرني فأنا أبو ذر سمعت رسول اللّه يقول : « مثل اهل بيتى مثل سفينة نوح من ركبها نجا. ومن تخلف عنها غرق » وقد تظافرت الأخبار بهذا النص.

ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سببا للمغفرة ، وجعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سببا لها » (1)

8 - قال صلی اللّه علیه و آله : « معرفة آل محمد براءة من النار وحب آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب. » (2)

9 - قال صلی اللّه علیه و آله : « من مات على حب آل محمد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الايمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس الى بيت زوجها ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة اللّه .. » (3)

10 - قال صلی اللّه علیه و آله : « واجعلوا أهل بيتى منكم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العينين من الرأس ، ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين » (4)

ص: 92


1- المراجعات : ص 54
2- المراجعات : ص 58 نقلا عن كتاب الشفاء ص 40
3- المراجعات : ص 59 نقلا عن الامام الثعلبي في تفسير آية المودة من تفسيره الكبير
4- المراجعات نقلا عن الشرف المؤبد ص 58.

ان الواجب على المسلمين أن يجعلوا أهل بيت نبيهم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العينين من الرأس ، فيتمسكوا بأهدافهم ، ويأخذوا بأفعالهم وأقوالهم ، ولو انهم حققوا ذلك لكانوا سادات الامم وهداة الشعوب ولكنهم ناصبوهم العداء ، واخروهم عن مراتبهم ، وأزالوهم عن مكانتهم ، فاصيبت الامة بالنكسات ، وحفت بها الخطوب والاخطار فانا لله وإنا إليه راجعون.

11 - قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : لا تزول قدما عبد - يوم القيامة - حتى يسأل عن أربع ، عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله فيما أنفقه ، ومن أين اكتسبه ، وعن محبتنا أهل البيت » (1)

إن المسلمين مسئولون أمام اللّه عن مودة أهل البيت وعن حبهم ، ومن اظهر ألوان الحب الأخذ بأقوالهم والاقتداء بهم في جميع المجالات.

12 - قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال عليا من بعدي ، وليوال وليه وليقتد بأهل بيتى من بعدي فانهم عترتي ، خلقوا من طينتى ورزقوا فهمي وعلمي فويل للمكذبين بفضلهم من امتي ، القاطعين فيهم صلتى ، لا أنالهم اللّه شفاعتي » (2)

ونقتصر على هذه السنن التي أثرت عن الرسول صلی اللّه علیه و آله في أهل بيته ، وهناك عشرات أمثالها ذكرت في كتب الحديث وهي تهتف بفضلهم ، وتلزم المسلمين بالرجوع إليهم في جميع المجالات.

ص: 93


1- المراجعات نقلا عن السيوطي في احياء الميت ، والنبهانى فى اربعينه.
2- كنز العمال 6 / 217.

احتفاء المسلمين به :

واحتفى المسلمون بالامام الحسن احتفاء بالغا فكان كبار الصحابة يقابلونه بالتجلة والتكريم ، ويتسابقون الى القيام بخدمته ، فهذا عبد اللّه بن عباس حبر الأمة كان إذا ركب الحسن والحسين علیهماالسلام بادر فأمسك لهما الركاب وسوى عليهما الثياب ، وقد لامه مدارك بن زياد على ذلك فنهره وقال له :

« يا لكع أو تدري من هذان؟! هذان ابنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو ليس مما أنعم اللّه به علي أن أمسك لهما الركاب ، وأسوي عليهما الثياب .. » (1)

وبلغ من تعظيم المسلمين وتكريمهم لهما انهما كانا يفدان الى بيت اللّه الحرام ماشيين فما اجتازا على ركب الا ترجل ذلك الركب اجلالا واكبارا لهما ، وإذا طافا بالبيت الحرام بلغ زحام الناس عليهما مبلغا هائلا لم يشاهد نظيره لاجل السلام عليهما والتبرك بزيارتهما (2) وكان أبو هريرة إذا رأى الامام الحسن (عليه السلام) مقبلا قام إليه فقبله بسرته لأنه رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يفعل ذلك (3) وحقا للمسلمين أن يكرموا حفيد نبيهم ويقدسوه بعد ما كرمه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ورفع من شأنه.

ص: 94


1- تاريخ ابن عساكر 4 / 212 ، مناقب ابن شهرآشوب 2 / 143
2- البداية والنهاية 8 / 37
3- مسند الامام احمد بن حنبل 2 / 255 ، انساب الاشراف للبلاذري

الفاجعة الكبرى

اشارة

ص: 95

ص: 96

وقطع الحسن علیه السلام شوطا من طفولته مع جده الرسول صلی اللّه علیه و آله حتى توسعت مداركه ونمت ملكاته ، وهو ناعم البال قرير العين ، يستقبل الحياة كل يوم بثغر باسم وبهناء وسعادة ، يرى من جده صلی اللّه علیه و آله الحنان والعطف ، ومن مشيخة الصحابة التعظيم والتكريم ، وقد رأى علیه السلام ما منح به الاسلام من التوسع وكثرة الغزوات حتى دخل الناس في دين اللّه افواجا افواجا ، فقد تحطمت عروش الشرك واندحرت قوى الالحاد ، وغزت الجيوش الاسلامية مكة التي هي اعز بلد وامنعه في الجزيرة العربية ، وقام الاسلام وهو عبل الذراع مفتول الساعد شامخ الكيان وسرت موجات فتحه الى أغلب شعوب الأرض ، وقد غمرت قلوب المسلمين المسرات على هذا النصر الذي أعزهم اللّه وأيدهم به وكان أشد المسلمين فرحا واعظمهم سرورا بهذه الانتصارات التي حققها الاسلام أهل البيت.

ولكن لم تدم لهم الحالة الهانئة فقد عبس الزمن فى وجوههم ، واكفهر ، وغزا قلوبهم بخوف غامض وحزن بهيم فقد آن للرسول صلی اللّه علیه و آله أن يفد على اللّه ، وينتقل الى حظيرة القدس ، وقد بدت له طلائع الرحيل وامارات الانتقال وهي :

1 - وكانت أول النذر بمغادرته لهذه الحياة نزول الوحي عليه بهذه الآية ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقد اثارت كوامن التوجس في نفسه فقد سمعه المسلمون ينعى نفسه ويقول :

« ليتنى اعلم متى يكون ذلك؟ »

ونزلت عليه بعد هذه الآية سورة « النصر » فكان يسكت بين التكبير والقراءة ويقول :

« سبحان اللّه وبحمده ، استغفر اللّه واتوب إليه »

ص: 97

وقد ساور قلوب المسلمين الخوف والجزع فانطلقت قلوبهم قبل السنتهم تستفهم عن هذه الحالة الرهيبة فاجابهم صلی اللّه علیه و آله :

« إن نفسي قد نعيت لي » (1)

وحينما سمع المسلمون ذلك قدّت قلوبهم وانهارت قواهم ، وغامت أبصارهم بفيض من الدموع ، وأصابتهم رجفة هزت كيانهم واشاعت في نفوسهم الجزع والخوف.

2 - ونزل عليه القرآن الكريم في تلك السنة مرتين فاستشعر بذلك حضور الاجل المحتوم (2) واخذ ينعى نفسه ، ويعلن مفارقته لهذه الحياة وقد تصدعت القلوب لهذا النبأ وطافت بالمسلمين أمر الوان المحن والخطوب

حجة الوداع :

ولما علم الرسول صلی اللّه علیه و آله بانتقاله الى دار الخلود ، وهو قد تحمل في سبيل ارشاد المسلمين وهدايتهم من العنت والعناء ما تنوء بحمله النفوس رأى أن يتم النهاية لرسالته المقدسة ويضع الخطة السليمة التي تضمن لامته من بعده السعادة والنجاح فحج صلی اللّه علیه و آله من اجل ذلك حجته الأخيرة الشهيرة بحجة الوداع ، في السنة العاشرة من الهجرة واشاع بين الوافدين لبيت اللّه الحرام ان هذا الالتقاء هو آخر العهد بهم قائلا :

« انى لا ادري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف ابدا .. »

وجعل يطوف على الجماهير ويعرفهم بما يضمن لهم السعادة والنجاح « يا أيها الناس ، اني تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل

ص: 98


1- مناقب ابن شهر اشوب 1 / 127.
2- الخصائص الكبرى 2 / 368

بيتى .. » (1)

لقد قرن بين الكتاب والعترة الطاهرة وجعل التمسك بهما منجاة من الفتن والزيغ ، ولو أن الامة تابعته في قوله ، وتمسكت بهما لما حلت بها الاهواء والخطوب وما عراها الذل والهوان ، وما اختلفت كلمتها ، ولا تشعبت الى فرق واحزاب ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )

غدير خم :

ولما فرغ النبي صلی اللّه علیه و آله من أداء مناسك الحج اتجه الى يثرب فلما وصل موكبه الى غدير خم هبط عليه أمين الوحي فأمره أن يحط رحله في رمضاء الهجير ، وينصب الامام أمير المؤمنين خليفة من بعده ومرجعا لأمته ، وكان أمر السماء يحمل طابعا مهما بالغ الخطورة ، فقد نزل عليه الوحي بهذه الآية :

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (2) واضطرب النبي من هذا الانذار وهذا التهديد ، إنه إن لم ينفذ ما أراد اللّه في تقليد أمير المؤمنين بهذا المنصب الخطير فما بلغ رسالة اللّه وضاعت جميع اتعابه وجهوده ، فانبرى صلی اللّه علیه و آله بعزم ثابت الى تنفيذ ذلك وإن اغضب الطامعين بالخلافة والمنحرفين عن الامام علیه السلام ، فوضع صلی اللّه علیه و آله اعباء المسير وحط رحله في ذلك المكان القاحل وكان الوقت قائضا حتى كان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتقى من الحر وامر صلى اللّه

ص: 99


1- صحيح الترمذي 2 / 308
2- سورة المائدة نزلت هذه الآية فى يوم الغدير ذكر ذلك الواحدى فى اسباب النزول ص 150 والفخر الرازي فى تفسيره الكبير وغيرهما.

عليه وآله باجتماع الجماهير فلما اجتمعوا صلى بهم فلما انفلت من صلاته أمر أن توضع حدائج الابل لتكون له منبرا فصنعوا له ما اراد فاعتلى عليها وكان عدد الحاضرين مائة الف أو يزيدون ، وقد اتجهوا بقلوبهم قبل اسماعهم الى الرسول ليسمعوا ما يلقى عليهم ، وانبرى صلی اللّه علیه و آله فبين لهم - اولا - جهاده المقدس واتعابه الشاقة فى سبيل ارشادهم وانقاذهم من حضيض الشرك والعبودية ، وذكر لهم - ثانيا - جملة من الاحكام الاسلامية والآداب الدينية فأمرهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، وبعد ذلك قال لهم :

« فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين »

فناداه مناد من القوم

« وما الثقلان يا رسول اللّه؟ »

فاجابه صلی اللّه علیه و آله : « الثقل الاكبر كتاب اللّه طرف بيد اللّه عز وجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا ، والآخر الاصغر عترتي وان اللطيف الخبير نبأني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا »

ثم أخذ بيد علي حتى بان بياض إبطيهما وعرفه القوم اجمعون وقال :

« أيها الناس ، من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم؟

فاجابوه « اللّه ورسوله اعلم »

فقال صلی اللّه علیه و آله : إن اللّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من انفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه قال ذلك ثلاث مرات او أربع مرات ، ثم قال :

« اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ، واحب من أحبه ، وابغض

ص: 100

من ابغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وادر الحق معه حيث دار الا فليبلغ الشاهد الغائب » (1)

ولما انهى صلی اللّه علیه و آله خطابه الشريف الحافل بتكريم أمير المؤمنين علیه السلام وتقليده للخلافة العظمى انبرى الى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) حسان ابن ثابت فاستأذنه ان يتلو احدى روائع نظمه ليصف بها هذه المناسبة الخالدة فاذن له في ذلك فانطلق يقول :

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم واسمع بالرسول مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا *** ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له : قم يا على فانني *** رضيتك من بعدى إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه *** فكونوا له اتباع صدق مواليا

هناك دعا اللّهم وال وليه

وكن للذى عادى عليا معاديا (2)

واقبل المسلمون على اختلاف طبقاتهم يبايعونه بالخلافة ويهنئونه بامرة المؤمنين ، وأمر الرسول صلی اللّه علیه و آله أمهات المؤمنين أن يسرن إليه ويهنئنه (3) وممن هنأه عمر بن الخطاب فقد صافحه وقال له :

ص: 101


1- حديث الغدير من الاحاديث المتواترة القطعية ، اجمع المسلمون على روايته ، وقد بحث عنه من حيث السند والدلالة نابغة الاسلام سماحة الحجة الاميني سلمه اللّه في موسوعته الخالدة « الغدير » وقد خص الجزء الاول من كتابه في البحث عن ذلك ، وصحب معه في بقية الاجزاء جيشا من الشعراء والادبا الذين أشادوا بذكرى الغدير فترجم لهم وذكر ما لهم من التراث الأدبى والعلمي.
2- الغدير 2 / 34
3- الغدير 1 / 271 نقلا عن روضة الصفا للمؤرخ خاوندشاه في الجزء الثانى ص 1 / 273

« هنيئا يا ابن أبي طالب اصبحت وامسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ... » (1)

وفي ذلك اليوم الخالد في دنيا الحق والفضيلة نزلت هذه الآية الكريمة : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (2)

لقد تمت النعمة الكبرى ، وكمل الدين بولاية أمير المؤمنين ، وامام المتقين ، وقد خطا النبي صلی اللّه علیه و آله بذلك الخطوة الاخيرة للمحافظة على المجتمع الاسلامي وعلى التشريع الاسلامي فلم يترك الامة حيرى تسودها الفوضى والانحلال بل نصب لها علما وهاديا ومرشدا الى سواء السبيل.

ان بيعة الغدير من اوثق الادلة واكثرها وضوحا على اختصاص الخلافة والامامة بالامام أمير المؤمنين علیه السلام ، وقد احتج بها الامام الحسن على احقية أبيه بالخلافة وذلك في خطابه الذي القاه بعد الصلح فقد جاء فيه : « إنا أهل بيت أكرمنا اللّه بالاسلام ، واختارنا واصطفانا واذهب عنا الرجس ، وطهرنا تطهيرا ، لم تفترق الناس فرقتين إلا جعلنا اللّه في خيرهما من آدم الى جدي محمد صلى اللّه فلما بعثه اللّه للنبوة واختاره للرسالة وانزل عليه كتابه ثم امره بالدعاء الى اللّه عز وجل فكان أبي اول من استجاب لله ولرسوله ، وأول من آمن وصدق اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله وقد قال اللّه في كتابه المنزل على نبيه المرسل : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) فجدى الذي على بينة من ربه وأبي الذي يتلوه وهو شاهد منه « إلى أن قال » وقد سمعت هذه الامة جدي

ص: 102


1- مسند احمد 4 / 281
2- سورة المائدة ذكر نزول الآية في يوم الغدير السيوطي فى الدر المنثور والخطيب البغدادي في تاريخه 8 / 290 وغيرهما

يقول : ما ولت امة امرها رجلا ، وفيهم من هو اعلم منه الا لم يزل يذهب أمرهم سفالا حتى يرجعوا الى ما تركوه. وسمعوه يقول لابي : أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي. وقد رأوه وسمعوه حين أخذ بيد أبي بغدير خم ، وقال لهم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وآل من والاه وعاد من عاده ثم أمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب » (1)

لقد حفلت كتب التاريخ الاسلامي بذكر احتجاج أهل البيت علیهم السلام واعلام شيعتهم ببيعة الغدير على أحقية الامام أمير المؤمنين بمنصب الخلافة الاسلامية ، ولكن القوم أعرضوا عن الحديث وأولوه حسب ميولهم وأهوائهم.

استغفاره لاهل البقيع :

ولما رجع الرسول اللّه عليه وآله من حجه إلى يثرب اقام بها حفنة من الايام ، وقد احاطت به الهواجس والهموم وارق ليلة طال فيها أرقه فاستدعى أبا مويهبة (2) في الليل البهيم فلما مثل عنده أمره بمصاحبته الى البقيع وقال له :

« لقد أمرت بالاستغفار لاهل البقيع فلذا بعثت إليك للانطلاق معى ... »

وسار الرسول صلی اللّه علیه و آله حتى انتهى الى البقيع فسلم على الاموات وهنأهم بما هم فيه وأخذ يخبر عن الفتن السود التي ستنصب على أمته من بعده قائلا :

ص: 103


1- الغدير 1 / 197
2- ابو مويهبة مولى لرسول اللّه اشتراه واعتقه

« السلام عليكم يا أهل المقابر ليهنئكم ما اصبح الناس فيه ، فقد اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها اولها ، الآخرة شر من الاولى .. »

وانطلق يحدث ابا مويهبة عن مغادرته لهذه الحياة قائلا له :

« إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلود فيها ثم الجنة بعد ذلك فاخترت لقاء ربي والجنة »

فقال له أبو مويهبة : بأبي أنت وأمي ألا تأخذ مفاتيح خزائن الدنيا وتكون مخلدا فيها ثم الجنة بعد ذلك؟ .. »

فاجابه الرسول صلی اللّه علیه و آله عن رغبته الملحة في ملاقاة اللّه « لا واللّه لقد اخترت لقاء ربي » ثم استغفر لاهل البقيع وانصرف الى منزله (1)

سرية اسامة :

ولما علم الرسول صلی اللّه علیه و آله أن لقاءه بربه لقريب أراد أن يعزز خلافة أمير المؤمنين علیه السلام التي عقد أواصرها فى « غدير خم » وأن يقضي على روح الشغب والتمرد ليتم الامر بعد وفاته بسهولة الى الامام علیه السلام فرأى أن خير ضمان لتحقيق ذلك اخلاء عاصمته من جميع المناوئين للامام علیه السلام وارسالهم الى ساحة الجهاد لغزو الروم فأمر أصحابه بالتهيؤ الى ذلك ولم يبق احدا من أعلام المهاجرين والانصار كابي بكر وعمرو أبي عبيدة وبشير بن سعد وامثالهم (2) وأمر

ص: 104


1- سيرة ابن هشام 3 / 93 تاريخ الطبري 3 / 190 وذكر المجلسي في بحاره 6 / 121 ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لما احس بالمرض اخذ بيد علي علیه السلام وتبعه فريق من الناس فتوجه الى البقيع واستغفر لاهله.
2- كنز العمال 5 / 312 ، طبقات ابن سعد 4 / 46 ، تاريخ الخميس 2 / 46

عليهم اسامة بن زيد (1) وذلك لأربع ليال بقين من صفر سنة احدى عشر للهجرة ، وقال لاسامة : « سر الى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش ، فاغز صباحا على أهل ابنى (2) وحرّق عليهم ، واسرع السير لتسبق الاخبار ، فان أظفرك اللّه عليهم فاقل اللبث فيهم ، وخذ معك الأدلاء ، وقدم العيون والطلائع معك .. »

وفى اليوم الثامن والعشرين من شهر صفر ألم المرض به فاصابته حمى ملازمة وصداع شديد قيل انهما كانتا مسببين عن الطعام المسموم الذي ذاقه في خيبر فكان يقول! « ما زلت أجد ألم الطعام الذي اكلته بخيبر (3)

ولما اصبح اليوم التاسع والعشرين من صفر رأى أصحابه وقد دب فيهم التمرد والتخاذل خرج بنفسه مع ما مني به من المرض فحثهم على

ص: 105


1- اسامة بن زيد : بن حارثة بن شراجيل بن كعب بن عبد العزى الكلبي أمه أم ايمن ، واسمها بركة مولاة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وحاضنته اختلف فى سنه يوم مات رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فقيل ابن عشرين سنة ، وقيل ابن تسع عشرة ، وقيل ابن ثمان عشرة سنة ، سكن بعد موت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وادى القرى ثم رجع الى المدينة فمات بالجرف في آخر خلافة معاوية وكانت وفاته سنة ثمان او تسع وخمسين من الهجرة وقيل سنة اربع وخمسين جاء في الاستيعاب المطبوع عن هامش الاصابة 1 / 34 - 35 ، ومما يؤسف انه انحرف عن الحق فانه لم يبايع امير المؤمنين حينما آلت إليه الخلافة والسبب في ذلك ان هبات الامويين واموالهم الوفيرة التي اغدقوها عليه حرفته عن امير المؤمنين.
2- ابنى - بضم الهمزة وسكون الباء ثم نون مفتوحة بعدها الف مقصورة - : ناحية بالبلقاء من ارض سوريا بين عسقلان والرملة وهي قرب موتة التي استشهد عندها زيد بن حارثة وجعفر بن ابي طالب.
3- مستدرك الحاكم 3 / 58

المسير وحفزهم على الخروج ، وعقد اللواء بنفسه لأسامة وقال له :

« اغز بسم اللّه ، وفي سبيل اللّه ، وقاتل من كفر باللّه »

فخرج بلوائه معقودا ودفعه الى بريدة ، وعسكر بالجرف ، وتثاقل القوم من الالتحاق به واظهروا التمرد والتخاذل يقول عمر لاسامة :

« مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنت علي امير؟! » (1)

وانطلقت السنتهم بالنقد اللاذع والاعتراض المر على تأمير أسامة ، وتثاقلوا من الالتحاق بالجيش فوصلت كلماتهم الى مسمع الرسول صلی اللّه علیه و آله وقد ازدادت به الحمى المبرحة واخذ منه الصداع القاسي مبلغا ليس بالقليل فغضب صلی اللّه علیه و آله وخرج وهو معصب الرأس مدثر بقطيفته وقد برّح به الحزن لانه رأى أن الوسيلة التي مهدها لغايته ستبوء بالفشل وعدم النجاح فصعد المنبر وذلك في يوم السبت لعشر خلون من ربيع الاول ، فاظهر سخطه البالغ وغضبه الشديد على عدم تنفيذهم لأوامره قائلا :

« أيها الناس ، ما مقالة بلغتنى عن بعضكم في تأميرى أسامة؟ ولئن طعنتم في تاميرى اسامة لقد طعنتم في تأميرى أباه من قبله وايم اللّه إنه كان لخليقا بالامارة وان ابنه من بعده لخليق بها »

ثم نزل عن المنبر ودخل بيته (2) وجعل يوصى بالالتحاق به وهو يقول :

« جهزوا جيش اسامة »

« نفذوا جيش اسامة »

« لعن اللّه من تخلف عن جيش أسامة »

ص: 106


1- السيرة الحلبية 3 / 34 وغيره من المحدثين والمؤرخين
2- السيرة الحلبية 3 / 34

ولم تثر حفائظ نفوسهم هذه الأوامر المشددة ، ولم يرهف عزيمتهم هذا الاهتمام البالغ من النبي صلی اللّه علیه و آله وهو في ساعاته الأخيرة فقد تثاقلوا عن الخروج ، وتخلفوا عن الجيش ، واعتذروا للرسول صلی اللّه علیه و آله بشتى المعاذير وهو - بأبي وأمي - لم يمنحهم العذر ، وأظهر لهم الغيظ والسخط ، والمتأمل في هذا الحادث الخطير يستنتج ما يلي :

1 - إن اهتمام النبيّ صلی اللّه علیه و آله بشأن اخراج القوم من يثرب ولعنه لمن تخلف من الالتحاق بجيش اسامة يدل بوضوح لاخفاء فيه على غايته المنشودة وهي اخلاء عاصمته من الحزب المعارض لامير المؤمنين علیه السلام ليصفو له الأمر بسهولة ، وتتم له الخلافة بهدوء وسلام.

2 - ان تخلف القوم عن الجيش وطعنهم في تأمير اسامة ما كان المقصود منه الا الظفر بالسلطة والحكم ، واحكام قواعد سياستهم فانهم اذا انصرفوا الى الغزو ونزحوا عن عاصمة الرسول صلی اللّه علیه و آله فان الخلافة لا محالة تفوت من أيديهم ، ولا مجال لهم حينئذ الى التمرد والخلاف.

3 - ان السبب في عدم تولية الرسول صلی اللّه علیه و آله قيادة الجيش لذوي السن والموجهين من الصحابة انما هو للاحتياط على مستقبل الأمة ، وصيانتها من الاضطراب والفتن من بعده ، فانه لو اسند القيادة إليهم لاتخذوها وسيلة الى أحقيتهم بالخلافة ومطالبتهم بالحكم فسد صلی اللّه علیه و آله عليهم هذه النافذة لئلا يتصدع شمل الامة ، ويضطرب أمنها.

وأما الحكمة من تأميره صلی اللّه علیه و آله لأسامة وهو حدث السن فقد كان عمره آنذاك سبعة عشر عاما او يزيد عليها بيسير فهي ما يلي :

( أ ) - سد جميع نوافذ الخلاف والطعن في خلافة امير المؤمنين عليه

ص: 107

السلام لأنه حدث السن فان أسامة اصغر منه سنا وقد اسند إليه اهم الوظائف العسكرية في جيشه.

( ب ) - الغاء التقدم في السن ، وعدم الاعتناء به في استحقاق المناصب الرفيعة مع حرمان الشخص من القابليات والمواهب ، فان ادارة شئون الامة وقيادتها انما يستحقها ذوو الكفاءات والحزم والادارة وقد صرح صلی اللّه علیه و آله بهذه الفكرة الاصلاحية بقوله :

« من تقدم على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان اللّه ورسوله ، والمسلمين » (1)

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من استعمل عاملا من المسلمين ، وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه فقد خان اللّه ورسوله وجميع المسلمين » (2) ان الاسلام يحرص كل الحرص على تعيين خيرة الرجال واكثرهم كفاءة للعمل في جهاز الحكم ليضعوا المصلحة العامة نصب اعينهم ويكونوا أمناء فيما يجبونه من الناس وفيما ينفقونه على المرافق العامة ، وان يسيروا بين الناس بسيرة قوامها العدل الخالص ، ولا يكون ذلك بتقدم السن وانما يكون بالدراية والاطلاع على ما تحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها العامة (3)

( ج ) - انه صلی اللّه علیه و آله في تاميره لاسامة قد كبح جماح المناوئين لأمير المؤمنين ، وكسر شوكتهم وحطم معنوياتهم ، واقصاهم الى حد بعيد ، وقد فطنوا الى ما دبر صلی اللّه علیه و آله فطعنوا في تأمير

ص: 108


1- سنن البيهقي : 10 / 111 مجمع الزوائد
2- تمهيد الباقلاني : ص 190
3- قد بسطنا البحث فى هذه الجهة في كتابنا الماثل للطبع نظام الحكم والادارة فى الاسلام.

أسامة ، وتثاقلوا من الالتحاق بكتيبته ، ولم يبرحوا مقيمين بالجرف حتى لحق الرسول صلی اللّه علیه و آله بالرفيق الاعلى.

هذه بعض البوادر التي تطل على المتأمل في سرية أسامة وهي صريحة الدلالة على قصده صلی اللّه علیه و آله من تمهيد الأمر للامام امير المؤمنين بعد وفاته بهدوء وسلام (1) كما تدل بوضوح على وجود الموامرة الخطيرة التي دبرها القوم ضد خليفته ووصيه كما ولعلنا سنذكر ذلك مفصلا فى بعض الفصول.

اشتداد مرضه :

واشتدت الحمى عليه حتى كأن به لهبا منها ، وكانت عليه قطيفة فاذا وضع أزواجه وعواده أيديهم عليها شعروا بحرها (2) ووضعوا الى جواره إناء فيه ماء بارد فما زال يضع يده فيه ويمسح به وجهه ، واقبل المسلمون يهرعون الى عيادته وقد خيم عليهم الجزع والذهول فازدحمت حجرته بهم فنعى إليهم نفسه واوصاهم بما يضمن لهم السعادة والنجاح قائلا :

« أيها الناس يوشك أن اقبض قبضا سريعا فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم الا اني مخلف فيكم كتاب اللّه عز وجل وعترتى أهل بيتي »

ثم اخذ بيد علي فرفعها وقال :

« هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض » (3)

ص: 109


1- المراجعات والنص والاجتهاد للامام شرف الدين ، وقد حلل فيهما سرية اسامة ، تحليلا رائعا.
2- حياة محمد لهيكل ص 484.
3- الصواعق المحرقة لابن حجر

وكان الاجدر بالأمة أن تتابع الرسول صلی اللّه علیه و آله وتواكب أرائه فتتبع أمير المؤمنين وتسلم له قيأتها لانه يسير بمنهج القرآن ويحكم بما انزل اللّه ، ولو انها حققت ذلك بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لنجت من جميع النكسات وما اصيبت به من الفتن والخطوب ، ولتقدم الاسلام بخطى ثابتة متزنة وسادت في العالم مبادئ الحق والعدالة.

اعطاء القصاص من نفسه :

وخرج علة الكائنات وسيد الموجودات وهو مثقل قد تعصب بعمامته ليعلن المساواة العادلة التي جاء بها ، ويعطي القصاص من نفسه لو كان منه اعتداء على اي انسان فاعتلى أعواد المنبر وبين للمسلمين مدى ما عاناه من الجهود في سبيل ارشادهم وهدايتهم ثم قال :

« ان ربي عز وجل حكم واقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم ، فانشدكم باللّه أي رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة الا قام ليقتص مني فالقصاص في دار الدنيا أحب الى من القصاص فى دار الآخرة على رءوس الملائكة والأنبياء .. »

ووجم الحاضرون عن الجواب ، وذهلوا حتى عن نفوسهم ، وساد فيهم صمت رهيب أى واحد له ظلامة او حق عند الرسول صلی اللّه علیه و آله وهو مشرع العدالة الكبرى ومثال اللطف الالهي ، وقد خيم عليهم الجزع لأنهم عرفوا أن كلامه كلام مودع لهذه الحياة ، وانبرى من اقصى القوم شخص يسمى سوادة بن قيس فادعى ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اصابه بسوط في بطنه ، وهو يريد القصاص منه فأمر صلی اللّه علیه و آله بلالا أن يحضر له السوط ليقتص منه سوادة وانطلق بلال وهو مبهور قد ملكت احاسيس نفسه هذه العدالة الكبرى فراح يجوب في ازقة يثرب

ص: 110

وهو رافع عقيرته قائلا :

« أيها الناس اعطوا القصاص من أنفسكم في دار الدنيا ، فهذا رسول اللّه قد اعطى القصاص من نفسه »

ومضى الى دار النبي صلی اللّه علیه و آله فاخذ السوط ، وجاء به الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأمره أن يدفعه الى سوادة ليقتص منه وتوجه المسلمون بقلوبهم قبل ابصارهم الى سوادة ينظرون هل يقتص من النبي صلی اللّه علیه و آله ؟ وهو بتلك الحالة قد فتك به المرض وأضناه السقام ، وانبرى سوادة وهو مرتعش الخطا قد غمرته عظمة الرسول وهيبته فقال له :

« يا رسول اللّه اكشف لي عن بطنك .. »

فكشف صلی اللّه علیه و آله عن بطنه فقال له سوادة بصوت خافض :

يا رسول اللّه ، أتاذن لي أن اضع فمي على بطنك؟

فاذن له صلی اللّه علیه و آله فوضع سوادة فمه على بطن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودموعه تتبلور على خديه وهو يقول :

« اعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار يوم النار »

فقال له النبي صلی اللّه علیه و آله : اتعفو يا سوادة أم تقتص؟

بل اعفو يا رسول اللّه

فرفع صلی اللّه علیه و آله يده بالدعاء له قائلا :

اللّهم ، اعفو عن سوادة كما عفا عن نبيك محمد (1)

وتصدعت قلوب المسلمين ، وبلغ بهم الحزن الى قرار سحيق ، وايقنوا بنزلة القضاء المرهوب والرزء القاصم

ص: 111


1- البحار 6 / 1035

توجع الزهراء

واحاط الاسى بابنة الرسول وألم بها الخطب واضر الحزن بقلبها الرقيق المعذب ، فقد شاهدت أباها يعاني اشد الألم والكرب وهو يقول :

( وا كرباه )

ويمتلئ قلبها باللوعة والحزن فتجيبه

« وا كربا لكربك يا أبتي »

فنظر إليها وقد غام بصرها بالدموع فاشفق عليها وقال لها :

« لا كرب على أبيك بعد اليوم .. »

ولما اشتدت حالته تغير وضع الزهراء (عليهاالسلام) فكانت شاحبة اللون خائرة القوى ذاهلة اللب قد ساورتها الهواجس والهموم واحاطت بها الآلام والاحزان فلما رآها تصدع قلبه وأراد أن يزيل عنها كابوس الحزن فاجلسها الى جنبه فاسر إليها بحديث فلم تملك عند سماعه الا ان تجرى عيناها بالدموع ومال صلی اللّه علیه و آله إليها ثانية فالقى عليها كلاما قابلته ببسمات فياضة بالبشر والرضا ، وعجبت عائشة من هذا الصنيع وراحت تقول :

« ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن!! »

وسألتها عما قال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فامتنعت عن اجابتها ، ولما تصرمت الايام اخبرت عن سبب ذلك البكاء والسرور فقالت أخبرني :

« ان جبرئيل كان يعارضني بالقرآن فى كل سنة مرة ، وانه عارضني هذا العام مرتين ، وما اراه الا قد حضر أجلى »

فهذا سبب لوعتها وبكائها واما سبب سرورها فتقول أخبرني.

ص: 112

« انك اول أهل بيتي لحوقا بي ، ونعم السلف انا لك .. ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الامة .. »

لقد دفع صلی اللّه علیه و آله عن حبيبته الأسى باخبارها بعدم طول الفراق بينها وبينه ، ولما علمت أن لقاء أبيها بربه لقريب انطلقت الى بيتها فجاءت بولديها وهي تذرف من الدموع مهما ساعدتها الجفون فقالت له : « أبه هذان والداك فورثهما منك شيئا .. »

فافاض عليهما الرسول من مكرمات نفسه ، وورثهما من كمالاته قائلا :

« اما الحسن فان له هيبتي ، وسؤددي ، وأما الحسين فان له جرأتى وجودي » (1)

ويقوم الحسن من عنده وقد ورث منه الهيبة والسؤدد ، وورث منه سيد الشهداء الجرأة والجود ، وهل هناك مما تحويه البسيطة ميراث خير من هذا الميراث الحاوي لكمالات النبوة وسؤددها ، وقد كان الحسن بحكم ميراثه رمزا للهيبة الأحمدية ، ومثالا للسؤدد النبوي فقد روى ( أنه كان عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك. ) (2)

التصدق بما عنده

وكانت عند الرسول صلی اللّه علیه و آله قبل مرضه سبعة دنانير فخاف أن يقبضه اللّه إليه وهي عنده فأمر أهله أن يتصدقوا بها ، ولكن انشغالهم بتمريضه والقيام بخدمته انساهم تنفيذ أمره ، فلما افاق من مرضه سألهم ما فعلوا بها؟ فاجابوه أنها ما تزال باقية عندهم فطلب منهم أن

ص: 113


1- كنز العمال 7 / 110 شرح النهج 4 / 4.
2- مناقب ابن شهر اشوب.

يحضروها فلما جيء بها إليه وضعها فى كفه وقال :

« ما ظن محمد بربه لو لقى اللّه وعنده هذه » (1)

ثم تصدق بها على فقراء المسلمين ، ولم يبق منها عنده شيء.

الرزية الكبرى

واستشف الرسول صلی اللّه علیه و آله من وراء الغيب أن امته من بعده سوف تنصب عليها الفتن كقطع الليل المظلم وتتوالى عليها الخطوب السود فترتد على اعقابها بعد الايمان - كما اخبر صلی اللّه علیه و آله - فكبر ذلك وعظم عليه ، وزاد في حزنه وأساه وهو في ساعاته الأخيرة اطلاعه على المؤامرة الكبرى التي دبرت ضد وصيه وخليفته وباب مدينة علمه وذلك بتخلف القوم وتثاقلهم عن الالتحاق بسرية أسامة فرأى صلی اللّه علیه و آله أن يسلك طريقا آخر يصون امته من الضلال ويحميها من الفتن والاخطاء فقال صلی اللّه علیه و آله :

« ائتوني بالكتف والدواة ، اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا .. (2)

ما اعظمها من نعمة ، واغلاها من فرصة لو استغلوها وسارعوا الى تنفيذها وتحقيقها لوقوا انفسهم ووقوا الاجيال اللاحقة من الزيغ والانحراف ولكنهم حرموا أنفسهم السعادة ، وسدوا نوافذ الرحمة والهداية عليهم وعلى من يليهم من الاجيال ، فقد خدعتهم الدنيا وتهالكوا على الامرة وعلموا قصد الرسول صلی اللّه علیه و آله وعرفوا غايته انه سيوصي بامير المؤمنين ويعزز بيعة يوم الغدير فتفوت بذلك أهدافهم وتضيع مصالحهم فانبرى إليه أحدهم بكل وقاحة

ص: 114


1- مسند احمد 1 / 355 وغيره.
2- الرواية اخرجها الطبراني فى الاوسط ، والبخاري ومسلم.

وصلافة رادا عليه قائلا :

« حسبنا كتاب اللّه »

والمتأمل في هذا الرد تنفتح أمامه الكوة التي تطل على تآمرهم وعلى مخططاتهم في اقصاء أمير المؤمنين عن جهاز الحكم فانهم لو كانوا يحتملون ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يوصي بالخلافة إليه وانما يوصي بحماية الثغور أو بالمحافظة على طقوسه الدينية لما قابلوه بهذه الجرأة وماردوا رغبته ، ولكنهم علموا ما يريده فقاموا بعمليات التخريب والافساد ، وعلى اي حال فقد كثر الخلاف والتشاجر فى ذلك ، وانطلقت النسوة من وراء الستر فقلن لهم :

« الا تسمعون ما يقول رسول اللّه :؟ »

فثار عمر وصاح فيهن لئلا يفسد عليهم الامر قائلا :

« انكن صويحبات يوسف إذا مرض عصرتن اعينكن ، واذا صح ركبتن عنقه .. »

فرمقه الرسول صلی اللّه علیه و آله بطرفه وقد ازعجه كلامه فقال له :

« دعوهن فانهن خير منكم »

وكادت أن تفوز الجبهة التي رغبت في تنفيذ ارادة الرسول فانبرى احد المعارضين فسدد لهم سهما افسد عليهم أمرهم فقال : ويا لهول ما قال :

« إن النبي ليهجر .. » (1)

ص: 115


1- ذكر الحادثة البخاري عدة مرات في 4 / 69 وص 99 وفي ج 6 / 8 وكتم اسم القائل لهذه الكلمة وصرح ابن الاثير فى نهاية غريب الحديث وغيره ان القائل هو عمر بن الخطاب ، وقد اعترف عمر في حديثه مع ابن عباس انه صد النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) عن الكتابة فى علي وعترته ، كما في شرح النهج المجلد الثالث ص 114

اي خطب حل بالاسلام مثل هذا الخطب ، وأى رزية مني بها المسلمون مثل هذه الرزية أفيحكم على علة الموجودات وسيد الكائنات بالهجر؟ لقد رجع القوم الى جاهليتهم الاولى وتناسوا مقام النبي صلی اللّه علیه و آله فقابلوه بأمر الكلام وأقساه ، فانا لله وإنا إليه راجعون.

إنها الرزية الكبرى ، والرزء القاصم الذي يذيب هوله القلوب ، فقد حيل بين المسلمين وبين سعادتهم ، وأقصي عنهم الخير ، وكان ابن عباس اذا ذكر الحادث المؤلم يتفجع ويبكي حتى تسيل دموعه على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ويتنهد ويقول : يوم الخميس ، وما يوم الخميس! قال رسول اللّه : ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابا ان تضلوا بعده أبدا فقالوا ان رسول اللّه يهجر (1)

ولم يسمعوا نصوص القرآن الكريم وهي تتلى عليهم آناء الليل ، وأطراف النهار ، وقد دلت على عصمة النبي صلی اللّه علیه و آله قال تعالى : ( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) الى غير ذلك من الآيات التي نصت على عصمته من الهجر ، ولكن القوم قد غرتهم الدنيا ، وراقهم زبرجها فانحرفوا عن طريق الحق ، ومالوا عن سنن العدل ، وتركوا الأمة تتردى فى ميادين الجهالة والغواية ، وسدوا عليها نوافذ الرحمة والهداية.

الى الرفيق الاعلى

ولما قرب دنو النبي صلی اللّه علیه و آله الى حظيرة القدس بعث اللّه

ص: 116


1- مسند احمد 1 / 355

إليه ملك الموت ليسمو بروحه الطاهرة الى جنة المأوى ، والى سدرة المنتهى وجاء ملك الموت فاستأذن من أهل بيت الوحي بالدخول على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبرته الزهراء علیهاالسلام بأن النبي صلی اللّه علیه و آله في شغل عنه لأنه كان قد أغمي عليه من شدة المرض ، وبعد برهة كرر الطلب فافاق الرسول صلی اللّه علیه و آله من اغمائه فقال لابنته :

- أتعرفيه؟

- لا يا رسول اللّه

- إنه معمر القبور ، ومخرب الدور ، ومفرق الجماعات

فانهد كيانها ، واحاط بها الذهول ، وارسلت ما في عينها من دموع وراحت تقول بصوت خافت حزين النبرات « وا ويلتاه لموت خاتم الأنبياء وا مصيبتاه لممات خير الاتقياء ، ولانقطاع سيد الاصفياء ، وا حسرتاه لانقطاع الوحي من السماء ، فقد حرمت اليوم كلامك .. »

واشفق الرسول صلی اللّه علیه و آله على بضعته فارسل لها كلمة فيها سلوى وعزاء فقال لها :

« لا تبكي فانك اول أهلي لحوقا بي .. » (1)

واذن صلی اللّه علیه و آله لملك الموت بالدخول عليه فلما مثل عنده قال له :

« يا رسول اللّه ، إن اللّه ارسلني إليك وأمرني أن اطيعك فى كل ما تأمرني إن أمرتني أن اقبض نفسك قبضتها ، وان امرتني أن أتركها تركتها ... »

فقال صلی اللّه علیه و آله أتفعل يا ملك الموت؟

بذلك أمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني.

ص: 117


1- درة الناصحين ص 66

ثم دخل جبرئيل فقال : يا احمد ان اللّه قد اشتاق إليك .. » (1)

ولما علم أهل البيت أن النبي صلی اللّه علیه و آله سيفارقهم فى هذه اللحظات اذهلهم الخطب وبلغ بهم الحزن الى قرار سحيق ، وجاء الحسن والحسين فالقيا بانفسهما على الرسول ليودعاه الوداع الأخير وهما يذرفان الدموع فجعل صلی اللّه علیه و آله يقبلهما وهما يقبلانه وأراد أمير المؤمنين أن ينحيهما عنه فقال صلی اللّه علیه و آله :

« دعهما يتمتعان مني واتمتع منهما فستصيبهما بعدي أثرة ... »

ثم التفت الى عواده فقال لهم :

« قد خلفت فيكم كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، فالمضيع لكتاب اللّه كالمضيع لسنتي ، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي انهما لن يفترقا حتى اللقاء على الحوض .. » (2)

واستدعى وصيه وخليفته امير المؤمنين فقال له :

« ضع رأسي فى حجرك فقد جاء أمر اللّه فاذا فاضت نفسي فتناولها وامسح بها وجهك ، ثم وجهنى الى القبلة وتولىّ أمرى ، وصل عليّ أول الناس ولا تفارقنى حتى تواريني فى رمسي واستعن باللّه عز وجل .. »

واخذ أمير المؤمنين رأس النبي صلی اللّه علیه و آله فوضعه في حجره ومد يده اليمنى تحت حنكه ، واذن صلی اللّه علیه و آله لملك الموت باستلام روحه المقدسة ، واخذ صلی اللّه علیه و آله يعاني آلام الموت وشدة النزع حتى فاضت نفسه الزكية فمسح بها الامام وجهه (3) ونعاه الى الحاضرين

ص: 118


1- طبقات ابن سعد 2 / 48
2- مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 114
3- المناقب 1 / 29 ، وتظافرت الاخبار بأن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) توفى في حجر علي علیه السلام فقد جاء في كنز العمال 4 / 55 ان ابا غطفان قال سألت ابن عباس فقلت له لما توفى رسول اللّه 6 راسه فى حجر من؟ فقال توفى وهو الى صدر على ، فقلت له ان عروة حدثني عن عائشة انها قالت توفي رسول اللّه 6 بين سحرى ونحرى فقال لى : أتعقل؟! واللّه لتوفي رسول اللّه وهو الى صدر على وهو الذي غسله واخرجه ابن سعد فى ص 51 من القسم الثانى من الطبقات.

لقد انطوت ألوية العدالة في ذلك اليوم الخالد في دنيا الاحزان ، واخمدت مصابيح الكمال والفضيلة ، وما اصيبت الانسانية بكارثة كهذه الكارثة فقد مات المنقذ العظيم ، واحتجب النور الذي اضاء الطريق للانسان وهداه الى سواء السبيل.

وطاشت احلام المسلمين أمام هذا الخطب المريع فما بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للناس عزاء ولا للأسى على فقده مدى ولا انتهاء ، لقد ذهب محمد عن هذه الدنيا وغرب نور محياه فانطلقت الالسن نادبة والاعين باكية ، وعلى الصراخ والعويل من بيت النبي صلی اللّه علیه و آله وكان اكثر أهل بيته لوعة واشدهم مصابا هي بضعته الزهراء فقد وقعت على جثمانه وهي مذهولة اللب من شدة الوله والحزن وهي تبكي امر البكاء وتقول :

« وا أبتاه ، الى جبرئيل انعاه! ... وا أبتاه جنة الفردوس مأواه! .. وا أبتاه أجاب ربا دعاه!!. » (1)

وسرى النبأ المفجع الى مدينة الرسول صلی اللّه علیه و آله فتركها تمور في الحزن واجتمع المسلمون وهم حيارى قد أخرسهم الخطب وألم بهم الحادث المريع وهم ما بين وآجم وصائح ومشدوه ونائح ونتهوا الى

ص: 119


1- سنن ابن ماجة وجاء فيه ان حماد بن زيد قال رايت ثابت راوى الحديث حينما يحدث به يبكى حتى تختلف اضلاعه

واد من الالم ماله قرار.

وقام أمير المؤمنين وقد حفت به الآلام والاحزان فأخذ في تجهيز الرسول صلی اللّه علیه و آله فغسله (1) وهو يقول : « بابي أنت وأمي طبت حيا وميتا .. » (2)

وبعد الفراغ من تجهيزه وضعه على السرير ، فاول من صلى عليه هو اللّه من فوق عرشه ثم جبرئيل ثم ميكائيل ثم اسرافيل ثم الملائكة زمرا زمرا (3) ودخل المسلمون يلقون على الجثمان المقدس نظرة الوداع ، ويؤدون فريضة الصلاة (4) وبعد الانتهاء قام الإمام فحفر القبر ولما فرغ منه

ص: 120


1- وفاء الوفاء 1 / 227 وجاء في كنز العمال 4 / 53 ان الامام عليا غسل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وكان الفضل واسامة يناولانه الماء من وراء الستر ، وجاء فيه أيضا انه قد اختلف في كفنه فقيل كفن فى ثلاثة اثواب وقيل في حلة يمانية وقميص ، وذكر اقوالا اخرى فى كفنه (صلی الله عليه وآله وسلم) ونقل ان ابا قلاعة كان يقول الا تعجب من اختلافهم فى كفن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم)
2- طبقات ابن سعد ج 2 / القسم 2 / 63
3- حلية الاولياء 4 / 77
4- كنز العمال 4 / 54 وجاء فيه ان الامام امير المؤمنين (عليه السلام) لما وضع الجثمان - المعظم على السرير لاجل الصلاة عليه قال للمسلمين لا يقوم عليه امام منكم ، هو امامكم ، حيا وميتا فكان الناس يدخلون رسلا رسلا فيصلون عليه صفا صفا ليس لهم امام وامير المؤمنين (عليه السلام) واقف الى جانب الجثمان وهو يقول السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، اللّهم ، انا نشهد انه قد بلغ ما انزل إليه ونصح لأمته وجاهد فى سبيل اللّه حتى اعز اللّه دينه وتمت كلمته ، اللّهم فاجعلنا ممن يتبع ما انزل إليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه وكان الناس يقولون آمين آمين حتى صلى عليه الرجال والنساء والصبيان ، واختلف في تاريخ وفاته صلی اللّه علیه و آله فقيل في اليوم الثاني عشر من ربيع الاول ( جاء في وفاء الوفاء 1 / 226 و227 وقيل في اليوم الثامن والعشرين من صفر ذكره الطبرسي في اعلام الورى ص 1. وقيل في اليوم الثاني من ربيع الاول ذكره ابن واضح فى تاريخه 2 / 93 وقيل غير ذلك.

القى المغيرة خاتمه في القبر ، وقال لأمير المؤمنين علیه السلام خاتمي ، فقال علیه السلام لولده الحسن : أدخل فناوله خاتمه ، ففعل علیه السلام ذلك ، وكان مقصد المغيرة من ذلك أن يدخل القبر الشريف بعد ما خرج منه أمير المؤمنين ليفتخر على الصحابة بأنه آخر الناس عهدا برسول اللّه فالتفت أمير المؤمنين الى مقصده ، فامر الحسن بدخول القبر ، فكان آخر الناس عهدا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1)

وقام الامام أمير المؤمنين فوارى الجسد العظيم في مقره الأخير ووقف على القبر يرويه بماء عينيه ، وارسل كلمات تنم عن لواعج حزنه وثكله قائلا :

« ان الصبر لجميل الا عنك ، وان الجزع لقبيح الا عليك ، وان المصاب بك لجليل ، وانه قبلك وبعدك لجلل ... » (2)

واذاب الهول العظيم ، والمصاب المؤلم قلب الامام الحسن (عليه السلام) وهو في سنه المبكر فذبلت منه نضارة الصبا وروعته فقد رأى من يحدب عليه ويفيض عليه من رقيق حنانه يوارى في الثرى ، ورأى أبويه وقد اضناهما الذهول واحاط بهما الأسى على فقد الراحل العظيم فترك ذلك في نفسه شديد الألم ولاذع الحزن ... لقد مضى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الى الرفيق الاعلى وكان عمر

ص: 121


1- طبقات ابن سعد 2 / 77
2- نهج البلاغة محمد عبده 3 / 224 ، والجلل الهين الحقير ، والمراد ان المصائب قبل مصيبة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وبعدها هينة حقيرة.

الحسن سبع سنين (1) وهو دور تنمو فيه مدارك الطفولة ، وتكون فيه فكرة الطفل كالعدسة اللاقطة تنقل الى دخائل النفس كثيرا من المشاهدات والصور وينطبع فيها جميع ما يمر عليها من حزن وسعادة ، كما انه قد تكون لبعض الاطفال النابهين اللياقة والاستعداد لأن يفهم الغاية من بعض الاعمال والمواقف ، وقد رافق الامام الحسن فى ذلك الدور الاحداث الخطيرة التي وقعت قبل وفاة جده الرسول صلی اللّه علیه و آله من امتناع القوم من الالتحاق بسرية أسامة وعدم استجابتهم للنبي صلی اللّه علیه و آله حينما امر باعطائه الدواة والكتف ليكتب لأمته كتابا يقيها من الفتن والضلال فعرف - من غير شك - الغاية من ذلك ، وعلم ما دبره القوم من المؤامرات ضد أبيه فترك ذلك في نفسه كامن الحزن والوجد وانبرى ينكر على القوم غصبهم لحق أبيه كما سنبينه في عهد الشيخين.

ص: 122


1- كشف الغمة : ص 154.

فى عهد الشيخين

اشارة

ص: 123

ص: 124

وحينما مضى النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) الى جنة المأوى ، وسمت روحه الى الرفيق الاعلى ، انثالت الفتن على المسلمين تترى كقطع الليل المظلم ، وعصفت بهم امواج عارمة من الانشقاق والاختلاف زعزعت كيانهم وصدعت شملهم ، ومزقت وحدتهم ، وقد بين تعالى ما يمنى به المسلمون بعد وفاة نبيه من الارتداد والاختلاف قال تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .. ) (1)

فاي رزية اعظم من رزية الانقلاب؟ وأي كارثة اقسى من كارثة الارتداد بعد الايمان!! لقد ترك القوم جثمان نبيهم لم يواروه في مقره الأخير وتهالكوا على الامرة والسلطان ، وصمموا على صرف الخلافة الاسلامية عن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل ، وقد تحدث الامام أمير المؤمنين علیه السلام عن غب ما فعلوه وسوء ما ارتكبوه يقول علیه السلام :

« حتى اذا قبض رسوله رجع قوم على الاعقاب ، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج (2) ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص أساسه (3) فبنوه في غير موضعه معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة » (4)

لقد استأثروا بالامر ، ونقلوه عن اهله ومعدنه ، ووضعوه في غير محله ، وقد فاجئوا أهل البيت (عليهم السلام) - والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر

ص: 125


1- سورة آل عمران : آية 144
2- الولائج : جمع وليجة وهي بطانة الانسان وخاصته
3- الرص : مصدر رصص الشى اى الصق بعضه ببعض ومنه قوله تعالى ( كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ) .
4- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 48

بصرف الامر عنهم والاعتداء عليهم ، وتركوهم يتجرعون الغصص ، ويتوسدون الارق وتساورهم الهموم ، فما اعظم رزيتهم؟! وما اشد محنتهم وبلاءهم!!

لقد تسرع القوم الى عقد البيعة ، وانتهزوا الفرصة في انشغال امير المؤمنين بتجهيز جثمان النبي صلی اللّه علیه و آله فلم يمهلوه حتى يفرغ من مواراته صلی اللّه علیه و آله لئلا يفوت الامر منهم ، وتضيع امانيهم وآمالهم فى الاستيلاء على زمام الحكم والسلطان .. وعلى أي حال فلا بدلنا من البحث عن فصول تلك المأساة الكبرى - بايجاز - فانها ترتبط ارتباطا وثيقا بحياة الامام الحسن علیه السلام ، فان صرف الامر عن أهل البيت علیهم السلام كانت له مضاعفاته السيئة ونتائجه الخطيرة ، واهمها طمع الطلقاء وابنائهم خصوم الاسلام واعداء اللّه في الخلافة الاسلامية ، ومناجزتهم لاهل بيت النبوة ومعدن الرحمة ، حتى اضطر سبط النبي صلی اللّه علیه و آله الامام الحسن علیه السلام في دوره الى الصلح مع معاوية وتسليم الامر له ، والى القراء بيان ذلك.

السقيفة

وترك القوم النبي صلی اللّه علیه و آله مسجى في فراش الموت ، لم يهتموا في شيء من أمره فقد سارع الانصار الى سقيفة بني ساعدة (1) وعقدوا لهم اجتماعا سريا أحاطوه بكثير من الكتمان والتحفظ ، واحضروا معهم شيخ الخزرج سعد بن عبادة (2)

ص: 126


1- السقيفة : الصفة تشبه البهو ، كانت مجمعا للانصار ودارا لندوتهم
2- سعد بن عبادة : سيد الخزرج ، وزعيم الانصار اعترف له قومه بالسيادة ، وقد اشتهر بالجود والسخاء هو وابوه وجده وابنه قيس ، ويقال لم يكن فى الأوس والخزرج بيت واحد فيه اربعة اشخاص اسخياء متتالون الا بيت سعد ، وهو احد النقباء ، شهد مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) العقبة وبدرا ، وقد تخلف عن بيعة ابي بكر ، وخرج غاضبا من المدينة فتبعه خالد بن الوليد وصاحب له فكمنا له له ليلا فطعناه والقياه فى البئر ، واوهم خالد على بعض الحمقى ان الجن هي التي قتلته وانشدوا على لسانها بيتين من الشعر : نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة *** ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده كانت وفاته بحوران من ارض الشام سنة خمس عشرة من الهجرة وقيل سنة اربع عشرة ترجم في كل من الاصابة ، والاستيعاب واسد الغابة وغيرها

فتداولوا في شئون الخلافة والسلطان ، وكان شيخ الخزرج قد ألم به المرض فخطب في القوم فلم يتمكن أن يسمع كلامه للناس وانما كان يقول ويبلغ مقالته بعض اقربائه ، وكان منطق خطابه ان الغنم بالغرم ، والانصار هم الذين غرموا في سلسلة الحروب وحركات الجهاد التي قام بها الرسول صلی اللّه علیه و آله فهم احق بالأمر وأولى به من غيرهم وهذا هو نص خطابه :

يا معشر الانصار لكم سابقة في الدين وفضيلة فى الاسلام ليست لقبيلة من العرب ، ان محمدا صلی اللّه علیه و آله لبث بضع عشر سنة في قومه يدعوهم الى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به من قومه الا القليل ، وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا أن يعزوا دينه ، ولا أن يدفعوا عن انفسهم ضيما عموا به حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ، وخصكم بالنعمة فرزقكم اللّه الايمان به وبرسوله والمنع له ولاصحابه والاعزاز له ولدينه والجهاد لاعدائه ، فكنتم اشد الناس على عدوه منكم ، وأثقله على عدوه من غيركم حتى استقامت العرب لامر اللّه طوعا وكرها ، واعطى البعيد المقادة صاغرا

ص: 127

داخرا ، حتى اثخن اللّه عز وجل لرسوله بكم الأرض ودانت بأسيافكم له العرب وتوفاه اللّه وهو عنكم راض وبكم قرير العين ، استبدوا بهذا الأمر دون سائر الناس فانه لكم دون الناس ... » فاجابه الأنصار بالرضا والطاعة قائلين « وفقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدوا ما رأيت نوليك هذا الامر فانك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضى .. ، (1)

لقد القى الانصار المقادة والسمع لسيد الخزرج ، واعربوا له عن رغبتهم الملحة في ترشيحه لمنصب الخلافة ، وهنا امور تدعو الى العجب وتبعث الى التساؤل في أمر الانصار وهي :

1 - إنهم حضنة الاسلام ، واعضاد الملة ، وحماة الدين فلما ذا أسرعوا في شأن الخلافة ، وتناسوا مبايعتهم لأمير المؤمنين في غدير خم ، وتنكروا لوصايا النبي صلی اللّه علیه و آله في أهل بيته وعترته؟!!

2 - لما ذا هذا التستر في مكان منزو عن الانظار والابصار؟! ولما ذا هذا التكتم والحيطة في اخفاء الامر؟!!

3 - لما ذا لم يأخذوا رأي العترة الطاهرة في شأن البيعة واستبدوا بالأمر؟؟!!

واكبر الظن انهم وقفوا على المؤامرة الخطيرة التي دبرها كبار المهاجرين ضد أمير المؤمنين فخافوا أن يفوز المهاجرون بالخلافة ، ويحرموا منها لذا اسرعوا لانتهاز الفرصة وبادروا الى ترشيح سعد الى مركز الخلافة. فذلكة عمر

ولم يكن أبو بكر في يثرب عند وفاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وانما كان بالسنح (2)

ص: 128


1- تأريخ الطبري 3 / 207
2- السنح : محل يبعد عن المدينة بميل ، وقيل هو احد عواليها يبعد عنها باربعة اميال او ثلاثة.

فخاف عمر بن الخطاب أن يفوز احد بالخلافة قبل مجيء أبي بكر فصنع فذلكة دلت على سياسته النفسية وخبرته الفائقة باحوال المجتمع فقد اوقف حركة البيعة ، وشغل الناس حتى عن تفكيرهم فقد راح يهز بيده السيف ويهتف بصوت عال.

« إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد مات. وإنه واللّه ما مات ولكنه ذهب الى ربه كما ذهب موسى بن عمران .. واللّه ليرجعن رسول اللّه فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممن ارجفوا بموته ... »

وجعل لا يمر باحد يقول : مات رسول اللّه الا خبطه بسيفه ، وتهدده وتوعده (1) واستغرب المسلمون من هذه البادرة ، واستطابها السذج والبسطاء ، فقد جاءهم بالأمل اللذيذ والحلم الجميل فان النفوس تأبى أن تذعن بموت العظيم ، وتتمسك بحياته بالخيال والأوهام ، وقد ساق إليها عمر أطيب الاماني واروع الآمال ، اخبرها بحياة عزيزها ومنقذها ، وأملها باظهار دينه على الدين كله ، واضاف الى كلامه اعنف الارهاب والتهديد وعزاه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بتقطيعه الايدي والارجل ممن ارجف بموته ، كما توعد هو بالقتل لمن فاه بموت النبيّ صلی اللّه علیه و آله واستمر على هذا الحال يبرق ويرعد ، ويتهدد ويتوعد حتى وصل أبو بكر إلى يثرب فاحتف به عمر وانطلقا إلى بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكشف أبو بكر الرداء عن وجه النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وإذا بجثمانه الطاهر قد رحلت منه روحه الزكية ، فخرج وهو يفند مقالة عمر والتفت إلى الجماهير الحائرة التي اذهلها الخطب فقال لها :

« من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فان

ص: 129


1- شرح ابن ابي الحديد.

اللّه حي لا يموت ... وتلا قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) .

وتلقى الجمهور مقالة أبي بكر بالإذعان ، وراحوا يلهجون بالآية واسرع عمر الى تصديق مقالة أبي بكر ولم يبد اية معارضة له ، واحتف به ، وسار معه يشد عضده ، ويحمي جانبه.

ولا بد لنا من وقفة قصيرة امام هذه البادرة الغريبة فانها تدعو إلى التساؤل من عدة امور وهي :

1 - هل صحيح ان عمر قد خفي عليه موت الرسول صلی اللّه علیه و آله ؟؟ والقرآن الكريم قد أعلن أن كل انسان لا بد أن يتجرع كأس الحمام قال تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) وقال تعالى في نبيه : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقال تعالى : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ ) الآية ، بالاضافة الى أن الرسول صلی اللّه علیه و آله قد نعى نفسه غير مرة الى المسلمين وأخبرهم بأنه يوشك أن يدعى فيجيب ، وكان عمر نفسه يقول لأسامة قبل وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله : مات رسول اللّه وأنت علي أمير.

2 - ما هو السر في تهديده وتوعيده لمن أرجف بموت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ ولما ذا ينكل رسول اللّه المرجفين؟ فهل أن قولهم ارتداد عن الدين او خروج عن حظيرة الاسلام كي يستحقون تقطيع الأيدي والأرجل؟

ان من امعن النظر في هذه الحادثة يتضح له المقصود من فعل عمر وهو اشغال الناس عن مبايعة أي انسان قبل مجيء أبي بكر. إن عمر لم يكن من البلهاء والأغبياء كي يخفى عليه موت الرسول صلی اللّه علیه و آله وان حماسه البالغ وقيامه بعمليات التهديد والتوعيد ، وسكون

ص: 130

ثورته حينما جاء أبو بكر كل ذلك يدل بوضوح لا خفاء فيه على أن هذه الحادثة جزء من المخطط المرسوم قبل وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله في صرف الخلافة عن أهل بيته واستئثارهم بها ، ويذهب المستشرق لامنس الى أنه كانت بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة مؤامرة في صرف الخلافة عن أهل البيت علیهم السلام قبل وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله يقول :

« إن الحزب القرشي الذي يرأسه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح لم يكن وضع حاضر ، ولا وليد مفاجأة أو ارتجال ، وانما كان وليد مؤامرات سرية مبرمة حيكت أصولها وربت أطرافها بكل احكام ، وإن ابطال هذه المؤامرة ، أبو بكر ، عمر بن الخطاب ، أبو عبيدة بن الجراح ، ومن اعضاء هذا الحزب عائشة وحفصة ،. »

وهو رأي وثيق للغاية فان الامعان في تتبع خطوات القوم ، والتدبر في افعالهم يقضي بقدم المؤامرة ، وانهم حاكوا اصولها منذ زمان بعيد ، فان تثاقلهم من الالتحاق بسرية اسامة ، ومراسلة بعض ازواج النبي صلی اللّه علیه و آله لآبائهن في التريث عن المسير ، وترشيحهن لآبائهن لامامة الجماعة ، والرد على النبي صلی اللّه علیه و آله فيما رامه من الكتابة وغير ذلك من القرائن والشواهد مما يدل بوضوح على قدم المؤامرة ، وانهم بنوها على خطط وثيقة مدروسة احيطت بالامعان والتدبر ، وليست وليدة الوقت الحاضر ، ولا وليدة المباغتة والمفاجأة.

مباغتة الانصار :

ولما عقد الانصار أمرهم على تولية سيد الخزرج سعد بن عبادة كان ابن عمه بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي ، واسيد بن خضير زعيم الاوس ينافسانه في السيادة ، وحسداه على ترشيحه لهذا المنصب الرفيع ، فاضمرا

ص: 131

له الحقد وأجمع رأيهما على صرف الأمر عنه وانضم إليهما عويم بن ساعدة الأوسي ، ومعن بن عدى حليف الانصار ، وكانا من حزب أبي بكر ومن اوليائه على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالاضافة الى ذلك انهما كانا يضمر ان الحقد والشحناء لسعد بن عبادة فانطلقا الى أبي بكر وعمر مسرعين فاخبرهما باجتماع الانصار في السقيفة وانهم قد اجمعوا على تولية سعد بن عبادة (1) فذهل أبو بكر وقام مسرعا ومعه عمر وتبعهما أبو عبيدة بن الجراح (2) وسالم مولى أبي حذيفة ولحقهم آخرون من حزبهم من المهاجرين ، فكبسوا الانصار في ندوتهم فغاض لون سعد واسقط ما في أيدي الانصار وساد عليهم الوجوم والذهول ، واراد عمر أن يتكلم فمال إليه أبو بكر فهمس في أذنه قائلا :

« رويدك يا عمر حتى اتكلم .. »

وافتتح أبو بكر الحديث فقال :

« نحن المهاجرون أول الناس اسلاما ، وأكرمهم احسابا ، وأوسطهم دارا ، وأحسنهم وجوها ، وأمسهم برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رحما وانتم اخواننا في الاسلام ، وشركاؤنا في الدين نصرتم وواسيتم فجزاكم اللّه خيرا. فنحن الأمراء وانتم الوزراء ، لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش ، فلا تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما فضلهم اللّه به ، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين - يعني عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح ... » (3)

ان أوثق الأدلة التي أقامها أبو بكر على احقية المهاجرين بالخلافة

ص: 132


1- العقد الفريد 3 / 62
2- تأريخ الطبرى 3 / 208
3- العقد الفريد 3 / 62

والإمرة هي ما يلي :

1 - إنهم أول الناس اسلاما

2 - إنهم أمس الناس رحما برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ولم يفصح في استدلاله عن أول من آمن باللّه ، واستجاب لدعوة نبيه ، ووقف إلى جانبه يصد عنه الاعتداء ، ويحميه من جبابرة قريش وهو الامام أمير المؤمنين علیه السلام ابن عم النبي صلی اللّه علیه و آله وزوج ابنته ، وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فقد تناساه أبو بكر ورشح أبا عبيدة ، وابن الخطاب لمنصب الخلافة ، وهل كانت له ولاية على المسلمين حتى يرضى لهم ويختار من يتولى قيادتهم ويدير شئونهم وقد علق الامام أمير المؤمنين على احتجاجه بقوله : « احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة » وما ابلغ هذا القول!! وما أروع هذا الاحتجاج!! فقد تمسك المهاجرون بقربهم للنبي صلی اللّه علیه و آله واستدلوا به على احقيتهم بالأمر ، وتغافلوا عن عترته وذريته ووديعته وعدلاء كتاب اللّه ، وقد خاطب أمير المؤمنين أبا بكر بذلك ، واستدل عليه بعين ما استدل به أبو بكر على الانصار فقال له :

فان كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك اولى بالنبي وأقرب

وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غيب

وخاطب علیه السلام القوم مرة أخرى فقال لهم : « واللّه ، إني لأخوه - اى أخ الرسول صلی اللّه علیه و آله - ووليه وابن عمه ووارث علمه ، فمن احق به منى » (1) لقد عدل القوم عن أبي الحسين وتناسوا فضائله ومآثره ووصايا النبي صلی اللّه علیه و آله فيه طمعا في الخلافة وتهالكا على الامارة.

ص: 133


1- خصائص النسائي : ص 18 ، مستدرك الحاكم 3 / 126

بيعة ابي بكر :

ولما انهى أبو بكر خطابه السالف الذي رشح فيه عمر وأبا عبيدة لمنصب الخلافة اسرع إليه عمر فقال له : « يكون هذا وأنت حى؟! ما كان أحد ليؤخرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... »

ولا نعلم متى أقامه الرسول صلی اللّه علیه و آله في مقامه الذي هو فيه ، وقد أخرجه صلی اللّه علیه و آله من يثرب مع بقية اصحابه جنودا مسلحين وولى عليهم أسامة بن زيد وهو شاب حدث السن ، بمثل هذا اللف والدوران تمت البيعة لأبي بكر ، وقد تسابق إلى بيعته عمر وبشير ، وتبارى إلى البيعة جميع اعضاء حزبهم فبايعه اسيد بن حضير ، وعويم بن ساعدة ، ومعن بن عدى ، وأبو عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وخالد بن الوليد ، واشتد هؤلاء على حمل الناس على البيعة ، وكان اشدهم حماسا عمر فقد لعبت درته شوطا في الميدان وارغم الممتنعين على البيعة وقابلهم بالقسوة والعنف ، وقد سمع الانصار يقولون في سعد :

« قتلتم سعدا »

فاندفع يقول :

« اقتلوه ، قتله اللّه فانه صاحب فتنة » (1)

ولما تمت البيعة لابي بكر بهذه الصورة التي يحف بها الارهاب والتهديد اقبل به حزبه يزفونه الى مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زفاف العروس (2) والنبي صلی اللّه علیه و آله ملقى على فراش الموت ، قد

ص: 134


1- العقد الفريد 3 / 62
2- شرح النهج لابن ابي الحديد 2 / 8

انشغل أمير المؤمنين علیه السلام بتجهيزه ، فلما أخبر تمثل بقول القائل :

واصبح أقوام يقولون ما اشتهوا

ويطغون لما غال زيدا غوائل (1)

لقد بويع أبو بكر بمثل هذه العجالة والمباغتة ، وكان عمر يرى عدم مشروعية هذه البيعة ووجه إليها لاذع النقد فقال فيها كلمته المشهورة :

« إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقى اللّه المسلمين شرها ، فمن دعاكم الى مثلها فاقتلوه. » (2)

وحفلت هذه الكلمة باقسى الوان النقد والتشهير واحتوت على ما يلي :

1 - إن عمر وصم البيعة ( بالفلتة ) وسواء أكان معناها الشر والخطيئة والزلة ، أو المباغتة والمفاجأة فانها اعظم ما تكون في ميدان القدح والذم.

2 - إنه دعا اللّه أن ينقذ المسلمين من شرها ويقيهم من مضعفاتها السيئة.

3 - انه حكم بقتل من دعا لمثل هذه البيعة

وانما طعن عمر في انتخاب أبي بكر وقدح في بيعته لانها لم تعتمد على اسس سليمة ، ولم تبتن على منطق رصين وحفلت بما يلي من المؤاخذات :

1 - إن القوم لم يأخذوا رأي العترة الطاهرة فيها واستبدوا بالأمر وقد تناسوا وصايا النبي صلی اللّه علیه و آله فيها ، واهملوا ما أمرهم الرسول صلی اللّه علیه و آله من الاقتداء والتمسك بذريته يقول الامام شرف الدين طيب اللّه مثواه :

ص: 135


1- شرح النهج 2 / 5
2- صحيح البخاري 10 / 44 ومسند احمد 1 / 55 وتمام المتون ص 137

« فلو فرض أن لا نص بالخلافة على أحد من آل محمد صلی اللّه علیه و آله وفرض كونهم مع هذا غير مبرزين في حسب أو نسب او اخلاق أو جهاد ، أو علم ، أو عمل ، او ايمان ، أو اخلاص ، ولم يكن لهم السبق في مضامير كل فضل ، بل كانوا كسائر الصحابة ، فهل كان مانع شرعي ، أو عقلي ، أو عرفي يمنع من تأجيل عقد البيعة الى فراغهم من تجهيز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ ولو بأن يوكل حفظ الامن الى القيادة العسكرية موقتا حتى يستتب أمر الخلافة؟

أليس هذا المقدار من التريث كان أرفق باولئك المفجوعين؟ وهم وديعة النبي لديهم ، وبقيته فيهم. وقد قال اللّه تعالى : ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) أليس من حق هذا الرسول - الذي يعز عليه عنت الامة ويحرص على سعادتها ، وهو الرءوف بها الرحيم لها - أن لا تعنت عترته فلا تفاجأ بمثل ما فوجئت به - والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر » (1)

النبيّ صلی اللّه علیه و آله مسجى على فراش الموت لم يغيبه عن عيون القوم مثواه ، وراحوا بهلع وجشع يتسابقون الى الحكم والسلطان ، واهملوا عترته ، واجمعوا على مجافاتهم ، وهضم حقوقهم ، وسلب تراثهم ، ومنذ ذلك اليوم واجهت العترة الوانا قاسية من النكبات والخطوب فاريقت دماؤها ، وسبيت نساؤها ، ولم ترع فيها قرابة النبي صلی اللّه علیه و آله التي هي اولى بالرعاية والعطف من كل شيء.

2 - ومما يؤخذ على هذه البيعة انها لم تكن جامعة لاهل الحل والعقد الذي يعتبرونه هم شرطا اساسيا فى حصول الاجماع وفي مشروعية الانتخاب ، فقد الغى القوم استشارة الطبقة الرفيعة في الاسلام فلم يعتنوا

ص: 136


1- النص والاجتهاد ص 7

بآرائها ولم يأخذوا موافقتها في الخليفة الجديد ، كما ان المكان الذي اجرى فيه الانتخاب كان مخفيا الى ابعد الحدود يقول عبد الوهاب النجار

« يرى المطلع على الشكل الذي حصلت به بيعة أبي بكر ان الاستشارة فى أمرها كانت ناقصة نقصا ظاهرا لان المعقول في مثل هذه الحال أن يتخذ المسلمون مكانا يجتمعون فيه وان يؤذن الناس به من قبل .. » (1)

إن انتخاب أبي بكر كان مشوها الى أبعد الحدود ، فقد انسحبت عن اختياره وانتخابه الشخصيات الفذة التي ساهمت في بناء كيان الاسلام وفي طليعتها الامام أمير المؤمنين علیه السلام ومن يمت إليه من الهاشميين ووجوه الصحابة كسلمان الفارسي ، وأبي ذر وعمار بن ياسر ، وأبي بن كعب ، ومن الهاشميين الزبير وعتبة بن أبي لهب والعباس وغيرهم كما امتنع جميع الانصار أو بعضهم عن البيعة ، وقالوا » لا نبايع الا عليا » (2) ومع انسحاب هذا العدد الضخم من الانتخاب ، وفيهم الضروس ، والرءوس ، والاعلام من المهاجرين والانصار كيف تكون البيعة مشروعة ، والانتخاب صحيحا؟!!

3 - ان المسلمين قد أرغموا على بيعة أبي بكر ، وأكرهوا عليها ولم تكن ناشئة عن اختيارهم وارادتهم فقد لعبت درة عمر في تحقيقها وايجادها حتى ذهل المسلمون ، ولم يشترطوا فى ضمن العقد أن يسير الخليفة على كتاب اللّه وسنة نبيه كما اشترطوا ذلك على الخلفاء من بعده ولعل لهذه الاسباب حكم عمر بعدم مشروعيتها ، وعدم مشروعية أساليبها ، كما حكم بالقتل لمن يعود لمثلها.

ص: 137


1- الخلفاء الراشدون : ص 16
2- تأريخ ابن الاثير

امتناع امير المؤمنين عن البيعة :

وامتنع أمير المؤمنين علیه السلام عن البيعة ، واعلن سخطه البالغ على أبي بكر لأنه نهب تراثه ، وسلب حقه ، وهو يعلم أن محله من الخلافة محل القطب من الرحى ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير - على حد تعبيره - لذلك كان علیه السلام لا يظن ان احدا يرقى منبر الخلافة غيره وقد اعلن ذلك بوضوح لما جاء إليه عمه العباس وطلب منه أن يبايعه فقال له :

يا بن أخي امدد يدك أبايعك ، فيقول الناس : عم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بايع ابن عم رسول اللّه فلا يختلف عليك اثنان. »

فاجابه الامام :

« ومن يطلب هذا الأمر غيرنا » (1)

لقد قلده النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا المنصب الرفيع يوم غدير خم ، واعلن له الولاية على ملأ من الناس ، بالاضافة الى وصاياه المتظافرة التي حث فيها أمته على متابعته ، وتسليم قيادتها بيده ، يقول الدكتور طه حسين فى هذا الموضوع ما نصه :

« نظر العباس في الأمر فرأى ابن أخيه أحق منه بوراثة هذا السلطان لأنه ربيب النبي ، وصاحب السابقة فى الاسلام ، وصاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد كلها ، ولأن النبيّ كان يدعوه أخاه حتى قالت له أم أيمن : ذات يوم مداعبة تدعوه أخاك وتزوجه ابنتك! ولأن النبي قال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدى. وقال للمسلمين يوما آخر : من كنت مولاه فعلى مولاه. من أجل ذلك اقبل العباس

ص: 138


1- الامامة والسياسة 1 / 4

بعد وفاة النبي على ابن اخيه فقال له : ابسط يدك ابايعك .. » (1)

لقد تخلف امير المؤمنين عن البيعة فلم يسالم القوم ، ولم يمنحهم الرضا واعلن سخطه عليهم ، وحاججهم وناظرهم ، وقد حفل نهجه بتذمره البالغ وسخطه الشديد على القوم لأنهم سلبوا تراثه ، وجحدوا ولايته وحقه.

احتجاج ومناظرات :

واحتج الامام أمير المؤمنين علیه السلام على القوم بأنه أولى بالامر واحق به منهم ، وكذلك احتج عليهم من يمت إليه من الهاشميين ، وذوي السابقة في الاسلام من اعلام المهاجرين والانصار ، والى القراء بعض تلك الاحتجاجات :

1 - الامام امير المؤمنين

ولما اخذ أمير المؤمنين علیه السلام قسرا ليبايع أبا بكر قال له القوم بعنف :

« بايع أبا بكر »

فاجابهم وهو رابط الجأش ثابت الجنان

« أنا احق بالأمر منكم ، لا أبايعكم وانتم اولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الامر من الانصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلی اللّه علیه و آله وتأخذونه منا أهل البيت غصبا ، ألستم زعمتم للانصار أنكم اولى بهذا الامر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الامارة ، وأنا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الانصار نحن اولى برسول اللّه حيا وميتا ، فانصفونا ان كنتم تؤمنون وإلا فبوءوا بالظلم وانتم تعلمون .. »

ص: 139


1- على وبنوه ص 19

وسلك علیه السلام بهذا الاحتجاج الصارم الطريقة التي سلكها المهاجرون أمام الانصار من انهم امس الناس رحما برسول اللّه ، وهذا الملاك الذي هتف به المهاجرون واتخذوه وسيلة لتحطيم آمال خصومهم موجود فى الامام علیه السلام على النحو الاكمل فهو ابن عم النبي صلی اللّه علیه و آله وختنه على ابنته ، ومما وسع ابن الخطاب أمام هذا المنطق الا أن يسلك طريق العنف ، وهو طريق من يعوزه الدليل والبرهان فقال له :

« إنك لست متروكا حتى تبايع »

فصاح به أمير المؤمنين

« احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا .. »

وثار الامام وهتف يزأر

« واللّه ، يا عمر لا اقبل قولك ، ولا ابايعه .. »

وخاف ابو بكر ان يصل الأمر الى ما لا تحمد عقباه فاقبل على الامام يتلطف به ويقول له بناعم القول.

« إن لم تبايع فلا أكره .. »

وحاول أبو عبيدة ارضاء الامام فقال له :

« يا بن عم إنك حدث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالامور ولا ارى أبا بكر إلا أقوى على هذا الامر منك وأشد احتمالا واضطلاعا به ، فسلم لأبي بكر هذا الأمر ، فانك إن تعش ويطل بك بقاء ، فانت لهذا الامر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك ، وفهمك وسابقتك ، ونسبك وصهرك .. »

وأثارت هذه المخادعة كوامن الالم والاستياء في نفس الامام فاندفع يخاطب المهاجرين ويذكر لهم مآثر اهل البيت علیهم السلام قائلا :

ص: 140

« اللّه اللّه يا معشر المهاجرين! .. لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره ، وقعر بيته الى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه فى الناس وحقه؟ .. فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن احق الناس به - لأنا أهل البيت - ونحن أحق بهذا الامر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، الفقيه في دين اللّه ، العالم بسنن رسول اللّه ، المضطلع بأمر الرعية ، الدافع عنهم الامور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، واللّه إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحق بعدا .. » (1)

ودفع الامام باحتجاجه الرائع جميع شبه القوم فلم يترك لهم نافذة الا سدها ببليغ حجته وقوة برهانه ، فان أبلغ ما تمسك به أبو عبيدة لاثبات ولاية أبي بكر أنه اكبر سنا من امير المؤمنين وذلك عنده مقياس الصواب وفصل الخطاب ، ولكنه منطق مفلوج فى نظر الاسلام ، فان المقياس عنده في قيم الرجال أن تتوفر فيهم المواهب والكفآت والعبقريات فمن تمتع بها فهو الخليق بزعامة الامة ، وبادارة شئونها ، ولهذه الجهة نظر الامام في احتجاجه فبين لهم الصفات الرفيعة الماثلة فى أهل البيت علیهم السلام من الفقه بدين اللّه ، والعلم بسنن رسوله والاضطلاع بامور الرعية ودفع الشر والمكروه عنها ، والقسم بينها بالسوية ، وهذه الصفات التي اعتبر الاسلام مثولها في الحاكمين والمسئولين لم تتوفر الا عند أهل البيت علیهم السلام فهم احق بالأمر وأولى به من غيرهم.

2 - الزهراء

واحتجت سيدة نساء العالمين بحجج بالغة على القوم ، وبينت لهم سوء ما فعلوا ، وعظيم ما ارتكبوا قالت سلام اللّه عليها :

ص: 141


1- الامامة والسياسة 1 / 11 - 12

« ويحهم انى زحزحوها - أي الخلافة - عن رواسي الرسالة؟! وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الأمين ، الطبن (1) بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا واللّه منه نكير سيفه وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات اللّه ، وتاللّه لو تكافئوا (2) على زمام نبذه إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لاعتقله (3) وسار بهم سيرا سجحا (4) لا يكلم خشاشه (5) ولا يتتعتع راكبه (6) ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا (7) تطفح ضفتاه (8) ولا يترنم جانباه (9) ولأصدرهم بطانة (10) ونصح لهم سرا واعلانا ، غير متحل منهم بطائل الا بغمر الناهل (11) وردعة سورة الساغب (12) ولفتحت عليهم بركات من السماء والارض ، وسيأخذهم اللّه بما كانوا يكسبون ، الا هلمّ فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبا!! وإن تعجب فقد اعجبك

ص: 142


1- الطبن : الخبير
2- التكافؤ : التساوي
3- اعتقله : اي وضعه بين ركابه ، وساقه كما يعتقل الرمح
4- سجحا : أي سهلا
5- الخشاش : عود يجعل فى انف البعير يشد به الزمام
6- لا يتتعتع راكبه. اى لا يصيبه اذى
7- فضفاضا : اي يفيض منه الماء
8- تطفح ضفتاه : اي يمتلئ ويفيض جانباه
9- الترنم : الصوت
10- اصدرهم بطانة : اي اشبعهم وافاض عليهم بالنعم والخيرات
11- غمر الناهل : اي رى الظمآن
12- ردعة سورة الساغب : كسر شدة الجوع

الحادث الى أي لجأ لجئوا؟! وبأى عروة تمسكوا لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، استبدلوا واللّه الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل (1) فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، الا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، يحهم أفمن يهدى الى الحق أحق أن يتبع امن لا يهدّي إلا ان يهدى فما لكم كيف تحكمون ، أما لعمر إلهكن لقد لقحت ، فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا وذعافا ممقرا (2) هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غب ما اسس الاولون ، ثم طيبوا عن انفسكم نفسا وطامنوا للفتنة جأشا ، وابشروا بسيف صارم ، وبقرح شامل يدع فيئكم زهيدا ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة لكم انلزمكموها وانتم لها كارهون .. » (3)

وشجبت بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله في خطابها الرائع البليغ الاعتداء الصارخ على آل البيت علیهم السلام ، ونددت بمن غصب الخلافة الاسلامية منهم ، فان القوم قد وضعوها في غير موضعها ، وضيعوا بذلك عترة نبيهم وهم رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة والامامة ، وفي بيوتهم هبط الروح الامين ، وتنزل الذكر الحكيم ، وقد حفل خطابها القيم بامور بالغة الخطورة وهي :

1 - انها ذكرت اهم الاسباب الوثيقة التي من اجلها زهد القوم

ص: 143


1- الكاهل : سند القوم ومعتمدهم يقال « فلان شديد الكاهل » اي منيع الجانب
2- الذعاف : الطعام الذي يجعل فيه السم ، الممقر : المر
3- بلاغات النساء ص 23 ، اعلام النساء م 3 / 1219 - 1220 الاحتجاج للطبرسي البحار للمجلسي شرح النهج

فى أبي الحسين ، ونقموا منه :

( أ ) - نكير سيف الامام الذي حصد به رءوس المشركين والملحدين ونافح به عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جميع المواقف والمشاهد ، ووتر به الاقربين والابعدين فى سبيل اقامة دعائم الدين ، ومن الطبيعي أن ذلك اولد في نفوس القوم عظيم الحقد والكراهية.

( ب ) - شدة وطأته علیه السلام فقد كان حتف الكافرين ، وغيظ المنافقين ، لم يصانع ، ولم يحاب ، ولم تأخذه في اللّه لومة لائم وهو القائل « وأيم اللّه لانصفن المظلوم من ظالمه ، ولآخذن الظالم بخرامته ، حتى اورده منهل الحق وان كان كارها »

( ج ) - تنمره في ذات اللّه ، فقد وهب علیه السلام نفسه لله ، ورصد جميع طاقاته لاحياء دين اللّه ، واقامة سننه ، وقد قذف نفسه فى لهوات الحروب ، وخاض الغمرات والأهوال ، ووطأ صماخ المشركين باخمصه حتى استقام امر هذا الدين ، وقام على سوقه عبل الذراع كل ذلك ببركة جهوده ، وعظيم جهاده.

ان هذه الاسباب : هي التي أدت الى بغض القوم وحقدهم عليه ، بالاضافة الى حسدهم على ما منحه اللّه من المواهب والكمالات ، والحسد يولد ضغنا وحقدا في النفوس ، ويلقى الناس في شر عظيم.

2 - ان الامة لو قلدت امورها الى أمير المؤمنين ، وتابعت قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيه لظفرت بما يلي :

1 - انه يسير فيهم بسيرة العدل والحق ، ويحكم بما انزل اللّه تعالى ولا يضام في ظل حكمه احد ، ولا تهدر كرامة اي فرد منهم.

2 - انه يوردهم منهلا عذبا ، ويقود ركبهم الى شاطئ الامن والسلامة ويفيض عليهم بالخير والبركات ، ويغدق عليهم بالنعم فلا يشكو

ص: 144

احد في ظل عدله الحرمان والجوع والفقر.

3 - انه ينصح لهم في السر والعلانية ، ويهديهم الى سواء السبيل

4 - ان الامام سلام اللّه عليه لو تقلد زمام الحكم لما تحلى من دنياهم بطائل ، وما استأثر من اموالهم بشيء ، ولشاركهم في البأساء والضراء وقد حقق ذلك حينما آلت إليه أمور المسلمين ، فقد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه وما وضع لبنة على لبنة ، وواسى الفقراء والمحرومين وقد قال كلمته الخالدة في المواساة.

« أأقنع من نفسي بان يقال أمير المؤمنين ، ولا اشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش »

ولم يحفل تأريخ المسلمين بحاكم مثله في زهده ، وورعه ، وعدله ، وتجنبه عن اموال الرعية ، وقد بقيت سيرته من اروع الامثلة التي يعتز بها المسلمون.

5 - ان الامام (عليه السلام) لو تولى الخلافة من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله لانتشرت الخيرات والبركات ، وعمت النعم جميع ارجاء البلاد ، واكل الناس من فوق رءوسهم ومن تحت ارجلهم ، ولكن المسلمين حرموا انفسهم السعادة وحرموها للاجيال اللاحقة من بعدهم ، فقد استبدلوا الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، وتركوا من يهديهم الى الحق ويسير فيهم بسيرة العدل.

3 - واستشفت بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله من وراء الغيب النتائج الفظيعة التي تترتب على ما ارتكبه القوم وهي كما يلي :

( أ ) انتشار الفتن بين المسلمين ، وانشقاق صفوفهم وتفلل وحدتهم

( ب ) - تنكيلهم وارهاقهم من قبل السلطات الجائرة.

( ج ) - استبداد الظالمين بشئونهم

ص: 145

وقد تحققت هذه النتائج الخطيرة على مسرح الحياة حينما استولى الأمويون على زمام الحكم ، فقد حكم معاوية رقاب المسلمين وولى عليهم جلاوزته الجلادين امثال سمرة بن جندب ، وبسر بن ارطاة ، وزياد بن أبيه ، فامعنوا فى ارهاق المسلمين والتنكيل بهم ، واذاعوا الخوف بين المسلمين ، وفي عهد زياد كان الناس يقولون : « انج سعد فقد هلك سعيد » وتولى من بعده يزيد فاستعمل على المسلمين ابن مرجانة ففعل الأفاعيل المنكرة التي سود بها وجه التاريخ ، وهكذا اخذت الخلافة الاسلامية تنتقل من ظالم الى ظالم ، ومن جائر الى جائر حتى ضجت البلاد من الظلم والجور والاستبداد.

ولهذه الاسباب الوثيقة التي بينتها فى خطابها ناهضت الحكم القائم ، وناجزته بجميع امكانياتها ، وطالبت المسلمين بالقيام لقلب الحكم ، ودعتهم الى الثورة لاستنقاذ الحق الغصيب فقد طاف بها زوجها المظلوم اربعين يوما على بيوت المهاجرين والانصار تسألهم النجدة والنصرة فكانوا يقولون لها :

« يا بنت رسول اللّه .. قد مضت بيعتنا لهذا الرجل »

فتجيبهم مستنكرة

« افتدعون تراث رسول اللّه يخرج من داره الى غير داره؟ »

واخذوا يعتذرون لها قائلين :

« يا بنت رسول اللّه ... لو أن زوجك سبق إلينا قبل أبي بكر لما عدلنا به »

ويجيبهم أمير المؤمنين

« أفكنت أدع رسول اللّه فى بيته لم ادفنه ، ثم أخرج انازع الناس سلطانه؟ »

ص: 146

وتدعم بضعة الرسول قول أمير المؤمنين فتقول :

« ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له .. وقد صنعوا ما اللّه حسيبهم عليه » (1)

وقد خطبت سلام اللّه عليها خطبتها الشهيرة واستنهضت - في كثير من فصولها - همم المسلمين وحفزتهم على الثورة وطالبتهم بارجاع الخلافة الى أمير المؤمنين فقد قالت مخاطبة بني قيلة :

« أيها بنى قيلة ، أأهضم تراث أبي وانتم بمرأى ، ومسمع تبلغكم الدعوة ، وشملكم الصوت وفيكم العدة ، ولكم الدار والجنن ، وانتم نخبة اللّه التي انتخبت وخيرته التي اختار. باديتم العرب ، وبادهتم الامور ، وكافحتم البهم ، حتى دارت بكم رحى الاسلام ، ودر حلبه وخبت نيران الحرب ، وسكنت فورة الشرك ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوثق نظام الدين ، أفتأخرتم بعد الاقدام ، ونكصتم بعد الشدة ، وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكصوا أيمانهم من بعد عهدهم ، وطعنوا في دينكم ، فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون .. » (2)

وقد اثارت حفائظ النفوس ، والهبت نار الثورة في خطابها الكبير إلا أن أبا بكر استقبلها بالاعتذار ، واللين ، واظهر لها بالغ الاحترام والتقدير فاخمد الثورة وشل حركتها ، فلم تجد سلام اللّه عليها مجالا لاسترجاع حق امير المؤمنين علیه السلام واخذت تبث الشكوى والشجى الى أبيها وخلدت الى الصبر على ما انتابها من المحن والخطوب.

3 - الامام الحسن

وما استقر في نفس أمير المؤمنين علیه السلام من اللوعة والأسى على

ص: 147


1- الامامة والسياسة 1 / 12
2- اعلام النساء 3 / 1214

ضياع حقه وغصب تراثه قد استقر فى نفس وليده الامام الحسن علیه السلام فقد انطلق إلى مسجد جده صلی اللّه علیه و آله فرأى أبا بكر على منبر المسجد يخطب الناس فالتاع ووجه إليه لاذع النقد قائلا له :

« انزل ... انزل عن منبر أبي ، واذهب الى منبر أبيك!! »

وبهت ابو بكر ، وتطلعت ابصار الناس إلى القائل فاذا هو حفيد الرسول صلی اللّه علیه و آله وريحانته ، فاخذتهم الحيرة والدهشة ، وساد عليهم الوجوم ، واسترد أبو بكر خاطره فتدارك الموقف فقال له بناعم القول :

« صدقت واللّه. إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي .. » (1)

إن احتجاج الامام الحسن علیه السلام - وهو في غضون الصبا - انبعث عن نضوج وطموح وذكاء ، وكشف عن آلام مرهقة كان يكنها في اعماق نفسه على ضياع حق أبيه.

كان يرى المنبر يرقاه جده الرسول صلی اللّه علیه و آله وهو يدعو الناس الى اللّه ، ويهديهم الى سواء السبيل ، وقد اختفى ذلك النور ، واحتجب ذلك الصوت ، وهو لا يجد أحدا خليقا بأن يخلفه سوى أبيه سيد الاوصياء الذي نافع عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جميع المواقف والمشاهد.

ص: 148


1- الرياض النضرة 1 / 139 ، شرح النهج لابن ابى الحديد 2 / 17 مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 93 المناقب 2 / 172 وجاء في الاصابة 2 / 15 ان هذا الاحتجاج كان من الامام الحسين ، وجاء في الصواعق المحرقة ص 105 وفي الصبان المطبوع على هامش نور الابصار ص : 125 ان الحسن قال لأبي بكر هذه الكلمة ، ووقع للحسين ذلك مع عمر بن الخطاب.

4 - سلمان الفارسي

واندفع سلمان الفارسي ابن الاسلام البار ، ومنبع التقوى والصلاح ، الى الانكار على القوم والاحتجاج عليهم فقد راح يتكلم مع أبي بكر قائلا له :

« يا أبا بكر .. الى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه؟! وإلى من تفزع اذا سئلت عما لا تعلمه؟ وما عذرك في تقدم من هو اعلم منك ، واقرب الى رسول اللّه ، واعلم بتأويل كتاب اللّه عز وجل ، وسنة نبيه ، ومن قدمه النبي في حياته ، واوصاكم به عند وفاته ، فنبذتم قوله ، وتناسيتم وصيته ، واخلفتم الوعد ، ونقضتم العهد ، وحللتم العقد ، الذي كان عقده عليكم ، من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد! » (1)

5 - عمار بن ياسر

وانطلق الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر الى محاججة القوم فقال لهم :

« يا معاشر قريش .. ويا معاشر المسلمين ، إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم اولى به واحق بارثه ، وأقوم بامور الدين ، وآمن على المؤمنين ، واحفظ لملته ، وانصح لأمته فمروا صاحبكم فليرد الحق الى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ، ويضعف أمركم ، ويظهر شقاقكم ، وتعظم الفتنة بكم ، وتختلفون فيما بينكم ، ويطمع فيكم عدوكم ، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الامر منكم ، وعلي أقرب منكم الى نبيكم ، وهو من بينهم وليكم بعهد اللّه ورسوله ، وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سد النبي صلی اللّه علیه و آله أبوابكم التي كانت الى المسجد كلها غير بابه ، وايثاره اياه بكريمته فاطمة ، دون ساير من خطبها إليه منكم ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : انا مدينة العلم ، وعلى بابها ، ومن

ص: 149


1- احتجاج الطبرسي ص 42 - 43

أراد الحكمة فليأتها من بابها ، وانكم جميعا مضطرون فيما اشكل عليكم من أمور دينكم إليه ، وهو مستغن عن كل أحد منكم الى ما له من السوابق التي ليست لأفضلكم عند نفسه ، فما بالكم تحيدون عنه ، وتبتزون عليا على حقه ، وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، بئس للظالمين بدلا ، اعطوه ما جعله اللّه له ، ولا تولوا عنه مدبرين ، ولا ترتدوا على اعقابكم فتنقلبوا خاسرين .. (1)

6 - خزيمة بن ثابت

وانبرى الصحابي العظيم خزيمة بن ثابت فقال : « أيها الناس ، الستم تعلمون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل شهادتي وحدى ، ولم يرد معي غيرى؟ فقالوا بلى. قال : فاشهد أني سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل ، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم ، وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين .. »

7 - أبو الهيثم بن التيهان

وانطلق الصحابي الكبير أبو الهيثم بن التيهان فقال : « وأنا أشهد على نبينا صلی اللّه علیه و آله أنه أقام عليا يوم غدير خم ، فقالت الانصار ما أقامه الا للخلافة ، وقال بعضهم : ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مولى له ، وكثر الخوض في ذلك فبعثنا رجالا منا الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسألوه عن ذلك؟ فقال : قولوا لهم : على ولي المؤمنين بعدي ، وانصح الناس لأمتى ، وقد شهدت بما حضرني فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، إن يوم الفصل كان ميقاتا .. »

ص: 150


1- احتجاج الطبرسي ص 43

8 - سهل بن حنيف

واندفع سهل بن حنيف فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلى على النبيّ وآله ثم قال :

« يا معشر قريش ، اشهد على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد رأيته في هذا المكان - يعنى في جامعه - وقد أخذ بيد علي بن أبي طالب علیه السلام وهو يقول : أيها الناس هذا علي إمامكم من بعدي ، ووصيي فى حياتي؟ وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، وأول من يصافحنى على حوضي ، وطوبى لمن تبعه ، ونصره ، والويل لمن تخلف عنه وخذله .. ».

9 - عثمان بن حنيف

وقام عثمان بن حنيف فقال : « سمعنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم فهم الولاة من بعدي فقام إليه رجل فقال : يا رسول اللّه ، وأي أهل بيتك؟ فقال : علي والطاهرون من ولده .. »

10 - أبو أيوب الانصاري

وقال أبو أيوب الانصاري : « اتقوا اللّه عباد اللّه في أهل بيت نبيكم ، وردوا إليهم حقهم الذي جعله اللّه لهم ، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا علیه السلام ومجلس بعد مجلس يقول : أهل بيتى أئمتكم بعدي ، ويومىء الى على ويقول : هذا أمير البررة ، وقاتل الكفرة مخذول من خذله ، منصور من نصره فتوبوا الى اللّه من عملكم ، إن اللّه تواب رحيم ، ولا تتولوا عنه مدبرين ، ولا تتولوا عنه معرضين .. » (1)

ص: 151


1- الاحتجاج للطبرسي 43 - 44 وذكره غيره.

11 - عتبة بن أبي لهب

وقام عتبة بن أبي لهب وهو يذرف الدموع وينشد :

ما كنت أحسب أن الامر منصرف *** عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن

عن أول الناس إيمانا وسابقة *** واعلم الناس بالقرآن والسنن

وآخر الناس عهدا بالنبي ومن *** جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم لا يمترون به *** وليس في القوم ما فيه من الحسن (1)

الى غير ذلك من الاحتجاجات الصارمة التي اقامها كبار المسلمين وثقاتهم على احقية الامام علیه السلام بالأمر ، ولكن القوم اعاروا ذلك أذنا صماء واصروا على صرف الخلافة عن أهل البيت علیهم السلام .

كبس دار الامام

وتخلف امير المؤمنين علیه السلام عن بيعة أبي بكر ، واحتج عليه بأنه اولى بالخلافة منه ، واعلن سخطه البالغ على القوم ، وقد انضم إليه اعلام الاسلام ، ووجوه المسلمين كعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، والزبير ، وخالد بن سعيد ، وغيرهم ، فكانوا يعقدون الاجتماع في داره ، ويتداولون فيها الاحاديث ، وثقل على أبي بكر ذلك ، وعظم عليه ، فاقتضت سياسته أن يكبس دار الامام ، ويقابله بالشدة والصرامة ، ويتخذ معه جميع الإجراءات الحاسمة ، فاصدر أوامره الى عمر بكبس داره ، وحمله على البيعة قسرا ، فراح عمر يشتد ومعه الشرطة والجنود ، وقد رأى ان خير وسيلة لحمل الامام على الطاعة ان يحرق داره ، ويشعل فيها النار ، فحمل مشعلا من النار ، وحمل القوم حزمة الحطب وانطلقوا مسرعين يعلوهم الغضب ليحرقوا البيت الذي اذن اللّه أن يرفع ، ويذكر فيه اسمه!! البيت الذي

ص: 152


1- تأريخ ابى الفداء 1 / 156

اذهب اللّه عن أهله الرجس ، وطهرهم تطهيرا!! وهجم عمر على الدار وهو مغيظ محنق يصيح باعلى صوته.

« والذي نفس عمر بيده ليخرجن ، أو لأحرقنها على من فيها؟ » (1) فعذلته طائفة ، وحذرته من عقوبة اللّه قائلة :

« ان فيها فاطمة .. »

فصاح فيها غير مكترث ولا مبال

« وإن! وإن! »

وطالعتهم حبيبة الرسول صلی اللّه علیه و آله وبضعته ، وقد علاها الرعب ، واستولى عليها الذهول فوجهت إليهم لاذع القول :

« لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جنازة بين أيدينا ، وقطعتم امركم بينكم لم تستأمرونا ، ولم تردوا لنا حقا ».

وتبدد جبروت القوم ، وذاب عنفهم ، واسرع عمر الى أبى بكر يحفزه على المضى في حمل الامام على البيعة قائلا :

ص: 153


1- ان تهديد عمر لامير المؤمنين بحرق داره إن لم يبايع ثبت بالنصوص المتواترة ودونه اغلب المؤرخين فقد ذكرت في الامامة والسياسة 1 / 12 - 13 ، شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 34 تاريخ الطبري 3 / 202 ط دار المعارف تاريخ ابى الفداء 1 / 156 ، تاريخ اليعقوبى 2 / 105 ، اعلام النساء 3 / 205 ، الاموال لابي عبيد 131 ، مروج الذهب 1 / 414 ، الامام على لعبد الفتاح 1 / 213 وذكرها في الجزء الرابع ص 171 ، ونظمها شاعر النيل حافظ ابراهيم فقال : وقولة لعلي قالها عمر *** اكرم بسامعها اعظم بملقيها حرقت دارك لا ابقى عليك بها *** ان لم تبايع وبنت المصطفى فيها ما كان غير ابي حفص بقائلها *** امام فارس عدنان وحاميها

« ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟! »

فارسل أبو بكر قنفذا خلف الامام فابى علیه السلام من الحضور ، فانطلق عمر ومعه معاونوه الى بيت الامام فقرع الباب ، واقتحم على الاسد عرينه فانطلقت بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله وهي تهتف بابيها وتستغيث به قائلة :

« يا أبت ، يا رسول اللّه ... ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب ، وابن أبي قحافة!!؟ »

وتصدعت القلوب ، وذابت النفوس من هول المصاب ، وانصرف القوم باكين ، وبقى ابن الخطاب ومعه حزبه وبدا عليه الحنق والغضب ولم يجد معه تعنيف بضعة الرسول ، فاخرج أمير المؤمنين بعنف وانطلق به إلى أبي بكر ، فقال له :

« بايع »

« وإن لم افعل؟ » »

فبادر القوم ، وقد اضلهم الهوى قائلين له :

« واللّه. الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك .. »

فصمت علیه السلام برهة ، ونظر الى القوم ، فاذا ليس له معين ولا ناصر فقال بصوت حزين النبرات.

« إذا تقتلون عبد اللّه ، وأخا رسوله!! »

واندفع ابن الخطاب ، وهو مندلع الثورة فرد على الامام

« اما عبد اللّه فنعم ، وأما أخو رسوله فلا!! »

وتناسى عمر ان امير المؤمنين اخو النبي ، ونفسه وباب مدينة علمه ، والتفت الى أبي بكر يحثه على الايقاع به ، قائلا :

« الا تأمر فيه بأمرك؟؟ »

ص: 154

وحاذر أبو بكر من الفتنة ، وخاف ان تندلع نيران الثورة فقال :

« لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة الى جانبه .. »

واطلقوا سراح الامام فراح يهرول الى قبر النبي صلی اللّه علیه و آله يستنجد به ويناجيه وهو يبكي أمر البكاء رافعا صوته.

( يَا بْنَ أُمَ ) .. ( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي ، وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي .. )

لقد استضعفه القوم ، واستوحدوه ، واستباحوا حرمته ، وقفل علیه السلام الى البيت راجعا وهو كئيب حزين قد أحاط به الهم والاسى ، واتضح له ما يكنه القوم في نفوسهم من الحقد والكراهية له.

مصادرة فدك

ولما فتحت الجيوش الاسلامية حصون خيبر قذف اللّه الهلع والرعب في قلوب أهالي فدك ، وخيم عليهم الذعر والخوف فهرعوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونزلوا على حكمه ، وصالحوه على نصف اراضيهم فكانت ملكا خالصا له لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ، ولما انزل اللّه تعالى على نبيه قوله : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) بادر صلی اللّه علیه و آله فانحل فاطمة فدكا ، ووضعت يدها عليها وتصرفت فيها تصرف الملاك في املاكهم ، وبعد وفاته صلی اللّه علیه و آله اقتضت سياسة أبي بكر أن يصادرها ، وينتزعها من يد الزهراء علیهاالسلام لئلا تقوى شوكة الامام ، ويغلب جانبه ، وهو حرب اقتصادى باعثه اضعاف الروح المعارضة ، وشل الحركة المعادية له ، وهذا ما عليه الدول قديما وحديثا أمام خصومها ، وقد مال الى هذا الرأي علي بن مهنأ العلوي قال :

« ما قصد أبو بكر ، وعمر بمنع فاطمة عنها - اي عن فدك - إلا

ص: 155

أن يقوى علي بحاصلها وغلتها على المنازعة فى الخلافة .. » (1)

وبعد ما استولى أبو بكر على فدك ، واخرج منها عامل الزهراء انبرت سلام اللّه عليها إليه فطالبته بردها فما اجابها الى ذلك ، وطلب منها إقامة البينة على صدق دعواها ، وهو من الغرابة بمكان - اولا - ان ذلك لا ينطبق بحال على ما قرر في الفقه الاسلامى من أن صاحب اليد لا يطالب بالبينة ، وانما البينة على المدعي ومع عدم وجودها فلا حق له الا اليمين على المنكر ، والزهراء سلام اللّه عليها هي صاحبة اليد ، فلا تطالب بالبينة وانما يطالب بها أبو بكر ، ومع عدم وجودها عنده فلا حق له سوى اليمين عليها ، ولكنه أهمل ذلك وصمم على أن تقيم البينة - وثانيا - ان فاطمة سيدة نساء هذه الأمة ، وخير نساء العالمين ، على حد تعبير أبيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واجمع المسلمون على أنها ممن انزل اللّه فيهم آية التطهير ، وهي تدل على طهارة ذيلها وعصمتها ، وهي اصدق الناس لهجة حسب قول عائشة (2) أفلا يكفى ذلك كله في تصديقها ، واجابة قولها؟

وعلى اي حال فقد مضت ريحانة الرسول صلی اللّه علیه و آله فاحضرت أمير المؤمنين ، وأم أيمن فشهدا عنده ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انحلها فدكا ، فرد الشهادة واعتذر بأن البينة لم تتم ، وهذا لا يخلو أيضا من المؤاخذات - اولا - انه لا يتفق مع القواعد الفقهية فانها صريحة في أن الدعوى اذا كانت على مال أو كان المقصود منها المال فانها تثبت بشاهد ويمين فان اقام المدعي شاهدا واحدا فان على الحاكم أن يحلفه بدلا من الشاهد الثاني فان حلف اعطاه الحق ، وإن نكل رد الدعوى ،

ص: 156


1- اعلام النساء 3 / 1215
2- حلية الأولياء 2 / 41 ، مستدرك الحاكم 3 / 160

ولم يطبق ذلك أبو بكر فالغى الشهادة ورد الدعوى ، وثانيا - انه رد شهادة أمير المؤمنين ، وهو مع القرآن ، والقرآن معه لا يفترقان كما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1) - وثالثا - انه رد شهادة السيدة الصالحة أم ايمن وقد شهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأنها من أهل الجنة (2)

وخرجت سيدة النساء من عند أبي بكر وهي تتعثر باذيالها من الخيبة قد انهد كيانها والم بها الشجى والحزن يقول الامام شرف الدين نضّر اللّه مثواه.

فليته اتقى فشل الزهراء في مواقفها بكل ما لديه من سبل الحكمة ، ولو فعل لكان ذلك أحمد في العقبى ، وابعد عن مظان الندم ، وأنأى عن مواقف اللوم ، واجمع لشمل الامة واصلح له بالخصوص

وقد كان فى وسعه أن يربأ بوديعة رسول اللّه ووحيدته عن الخيبة ويحفظها عن أن تنقلب عنه وهي تتعثر باذيالها ، وما ذا عليه ، إذ احتل محل أبيها لو سلمها فدكا من غير محاكمة؟! فان للامام أن يفعل ذلك بولايته العامة ، وما قيمة فدك في سبيل هذه المصلحة ، ودفع هذه المفسدة؟ » (3)

إن أبا بكر لم يصنع الجميل ، ولم يفعل المعروف مع بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله فقد كان بوسعه أن يقر يدها على فدك ، ولا يستعمل معها اللف والدوران ، ولا يواجهها بمثل هذه القسوة والجفوة ، ولكن الأمر كما حكاه على بن الفارقي احد اعلام بغداد ومن المدرسين في مدرستها

ص: 157


1- مستدرك الحاكم 3 / 124 الصواعق المحرقة ص 75
2- الاصابة
3- النص والاجتهاد : ص 37

الغربية ، واحد شيوخ ابن أبي الحديد فقد سأله

- أكانت فاطمة صادقة - في دعواها النحلة -؟

- نعم

- فلم لم يدفع لها أبو بكر فدكا وهي عنده صادقة؟

قال ابن أبي الحديد : فتبسم ، ثم قال : كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه ، وحرمته وقلة دعابته ، قال : لو اعطاها اليوم فدكا بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا ، وادعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكن حينئذ الاعتذار بشيء ، لأنه يكون قد سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة الى بينة ولا شهود »

نعم لهذه الجهة اجمع القوم على هضمها ، وسلب تراثها ، واستباحوا رد شهادة أمير المؤمنين ، وتركوا عترة النبيّ صلی اللّه علیه و آله يتقطعون حسرات ، ويتصعدون زفرات قد خيم عليهم الهم والغم واخذهم من الحزن ما يذيب لفائف القلوب ومن الوجل ما تميد به الجبال.

ندم ابى بكر

وندم أبو بكر أشد الندم على ما فرط مع بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله وأخذ يؤنبه ضميره على ما صدر منه من كبس دارها ، وحمل مشاعل النار لاحراقها فقال :

« وددت أني لم اكشف بيت فاطمة ، ولو انهم اغلقوه على الحرب. » (1)

وجزع جزعا شديدا على ما ارتكبه مع وديعة النبي صلی اللّه علیه و آله فانطلق مع صاحبه عمر الى بيتها ليطيبا خاطرها ويفوزا برضاها ،

ص: 158


1- كنز العمال 3 / 135 ، الطبري 4 / 52

فاستأذنا عليها فأبت أن تأذن لهما ، ثم استأذنا ثانيا فأبت ، فسارا الى أمير المؤمنين وطلبا منه أن يمنحهما الإذن لمقابلة وديعة النبي صلی اللّه علیه و آله فانطلق علیه السلام الى الدار فالتمس من سيدة النساء أن تأذن لهما فاجابته الى ذلك فأذن (عليه السلام) لهما ودخلا فسلما عليها فلم تجبهما ، وتقدما فجلسا أمامها فازاحت بوجهها عنهما ، وراحا يلحان أن تسمع مقالتهما ، فاذنت لهما فى ذلك فقال أبو بكر : « يا حبيبة رسول اللّه واللّه ان قرابة رسول اللّه أحب الى من قرابتى ، وإنك لأحب الى من عائشة ابنتي ولوددت يوم مات أبوك أني مت ، ولا ابقى بعده ... أفتراني اعرفك وأعرف فضلك وشرفك وامنعك حقك وميراثك من رسول اللّه؟ الا أني سمعت رسول اللّه يقول :

« لا نورث ما تركناه فهو صدقة »

وقد فندت روايته بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله بما اقامته - في خطابها الكبير - من اوثق الأدلة على بطلان قوله ومساواة النبي لعموم المسلمين في الميراث ، والتفتت سلام اللّه عليها إلى أبي بكر وقد اشركت عمر معه فى خطابها قائلة :

« ونشدتكما اللّه ... ألم تسمعا رسول اللّه يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي ، فمن احب فاطمة ابنتي فقد أحبنى ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن اسخط فاطمة فقد أسخطني؟ »

فاجابا بالتصديق قائلين :

« اجل سمعناه يقول ذلك »

فرفعت كفيها إلى السماء وراحت تقول بفؤاد مكلوم

« فاني اشهد اللّه وملائكته أنكما أسخطتماني ، وما أرضيتماني ... ولئن لقيت رسول اللّه لأشكو كما إليه! »

ص: 159

وانطلق أبو بكر يبكي فقالت له :

« واللّه لأدعون عليك في كل صلاة اصليها .. » (1)

( فما كان أشدها كلمات أخف من وقعها ضربات السيف! مادت الارض تحتهما ، ودارت كالرحى حتى سارا من هول ما لقيا يترنحان. وغادرا الدار وقد خبا أملهما في رضا زهراء الرسول ، وعلما مدى الغضب الذي أثاراه عليهما في قلبها ومدى السخط الذي باءا به ) (2)

وحقا لأبي بكر أن يبكي ويحزن من غضب سيدة النساء عليه فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لها :

« إن اللّه يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك » (3)

لقد ضاقت الدنيا على أبي بكر ، ولاذ بدموعه ليخفف بها آلامه واحزانه فقد فاته رضاء بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله الذي هو من رضاء اللّه

كل هذه الحوادث كانت بمرأى من الامام الحسن ومسمع فكان لها الاثر في موطن شعوره فقد جعلته واجدا على من تقمص حق أبيه وناقما على من احتل مركزه شجون الزهراء

وطافت بوديعة النبي صلی اللّه علیه و آله موجات من الهموم والاحزان

ص: 160


1- الامامة والسياسة 1 / 14 ، اعلام النساء 3 / 1214 ، الامام على 1 / 217
2- الامام على 1 / 217 - 218
3- مستدرك الحاكم 3 / 153 ، اسد الغابة 5 / 522 ، تهذيب التهذيب 12 / 441 ، ميزان الاعتدال 2 / 72 ، كنز العمال 6 / 219 ، ذخائر العقبى ص 39 مقتل الخوارزمي 1 / 52

وغشيتها سحب من الكدر واللوعة ، على ضياع حقها ، وعلى فقد أبيها ، فقد حدثوا أنها لم تر ضاحكة ، ولا داخلها السرور بعده حتى لحقت به فكانت لا تفكر الا به ، ولا تذكر اسمه إلا مقرونا بالتفجع والآلام.

وكانت تزور جدثه الطاهر فتطوف به وهي حيرى فتبل أديمه المقدس بدموع سخية ، وتلقي بنفسها على القبر وهي ذاهلة اللب ، مصدوعة الجسم ، منهدة الكيان فتأخذ من ثرى القبر قبضة فتضعها على عينيها ووجهها وتطيل من شمها وتقبيلها وهي تبكي أمر البكاء وترفع صوتها الحزين النبرات قائلة :

ما ذا على من شم تربة أحمد *** أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت علي مصائب لو أنها *** صبت على الأيام صرن لياليا(1)

ينظر الحسن علیه السلام الى هذا الحزن البهيم الذي حل بأمه الرؤم فينصدع قلبه ، ويذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون ، يرى الحسن وهو في غضون الصبا لوعة المصائب التي دهت أمه الحنون حتى وهت قوتها ولوّن الاسى وجهها كانها صورة جثمان قد فارقته الحياة ، فيغرق في الدموع والشؤون.

أي حزن هذا الذي حل بابنة الرسول صلی اللّه علیه و آله وريحانته

ص: 161


1- نور الابصار ص 42 ، وذكر ابن شهرآشوب فى المناقب 2 / 131 زيادة على هذين البيتين وهي : قل للمغيب تحت اطباق الثرى *** إن كنت تسمع صرختى وندائيا قد كنت ذات حمى بظل محمد *** لا اختشي ضيما وكان جماليا فاليوم اخضع للذليل واتقي *** ضيمي وادفع ظالمي بردائيا فاذا بكت قمرية في ليلها *** شجنا على غصن بكيت صباحيا فلأجعلن الحزن بعدك مؤنسي *** ولأجعلن الدمع فيك وشاحيا

حتى ضربوا بها المثل في الحزن ، وعدوها من البكائين الخمس (1) الذين مثلوا الحزن والاسى على مسرح الحياة؟؟

وبلغ من عظيم حزنها ان أنس بن مالك استأذن عليها ليعزيها بمصابها الجليل فاذنت له وكان ممن وسد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مقره الأخير فقالت.

« أنس بن مالك »

« نعم ، يا بنت رسول اللّه »

فقدمت له سؤالا مقرونا بالتفجع والآلام

« كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول اللّه؟. » (2)

وخرج أنس وقلبه كاد أن يقضي حسرة ، قد علا صوته بالبكاء ، وكانت سلام اللّه عليها تطالب أمير المؤمنين بالقميص الذي غسل فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاذا رأته شمته ووضعته على عينيها ، ويذوب قلبها من الم الحزن حتى يغشى عليها.

وهكذا بقيت بضعة الرسول بعد أبيها قد اضناها الحزن ، وزاد في احزانها جحد القوم حقها وسلبهم لتراثها ، وبقي الحسن يشاهد ما منيت به أمه من الكوارث والخطوب وهو مصدوع الجسم ، قد ذبلت نضارة صباه لا يعرف في نهاره إلا شجرة الأراك حيث يمضي مع أمه ليساعدها في النوح ويخفف عنها اللوعة والحسرة ويستمر معها طيلة النهار في حزن وكمد فاذا اوشكت الشمس أن تغرب تقدمها مع أبيه وأخيه قافلين الى الدار فيجد الوحشة والهم قد خيما عليها ،

ص: 162


1- البكاءون الخمس : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وعلي بن الحسين ، وفاطمة ، ذكر ذلك المجلسي فى البحار 10 / 44
2- سنن ابن ماجة ص 18

وقلع القوم الشجرة التي كانت تستظل بها فكانت تبكي مع ولديها في حر الشمس ، فقام أمير المؤمنين فبنى لها بيتا أسماه بيت الاحزان فكانت تجلس فيه وتبكي على أبيها وتناجيه وتبثه الشكوى.

وأحاطت بها الآلام ، وفتكت بها الامراض فلازمت الفراش ، ولم تتمكن من النهوض والقيام وبادرت نساء المسلمين يعدنها فقلن لها :

« كيف اصبحت من علتك يا بنت رسول اللّه؟. »

فرمقتهن بطرفها ، واعربت لهن عما تكنه في نفسها من الاسى قائلة « أجدني كارهة لدنياكن ، مسرورة لفراقكن ، القى اللّه ورسوله بحسرات منكن فما حفظ لي الحق ، ولا رعيت منى الذمة ، ولا قبلت الوصية ، ولا عرفت الحرمة. » (1)

وعدنها بعض نساء النبي صلی اللّه علیه و آله فقلن لها :

« يا بنت رسول اللّه ... صيرى لنا فى حضور غسلك حظا ... »

فأبت وقالت :

« اتردن أن تقلن في ، كما قلتن في أمي ، لا حاجة لي فى حضوركن »

الى الرفيق الاعلى

وبرح المرض بابنة الرسول ، وانهك الحزن جسمها النحيل ، واضر الأسى بقلبها الرقيق المعذب ، حتى مشى إليها الموت وهي في فجر الصبا وروعة الشباب ... فوا لهفتاه على حبيبة النبيّ وريحانته ، لقد دنا إليها الموت سريعا ، وحان موعد اللقاء بينها وبين أبيها الذي اشتاقت إليه وتطلبت لقياه بفارغ الصبر.

ص: 163


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 95.

ولما علمت بدنو الاجل المحتوم منها استدعت امير المؤمنين فاوصته بوصيتها ، وأهم ما فيها أن يواري جثمانها فى غلس الليل البهيم ، وأن لا يصلي عليها ، ولا يقوم على قبرها أحد من الذين ظلموها وجحدوا حقها لأنهم اعداؤها وأعداء أبيها - على حد تعبيرها - وانصرف الامام وهو غارق في البكاء ، قد استجاب لأحاسيس نفسه الولهى الذي لم يترك الزمن فيها فراغا لغير الاسى والحزن.

واحبت ان يصنع لها نعش يواري جثمانها المقدس لان الناس كانوا يضعون الميت على سرير تبدو فيه جثته فكرهت ذلك ، وما احبت أن ينظر إليها أحد فاستدعت اسماء بنت عميس (1) واخبرتها بما ترومه فعملت لها سريرا يستر من فيه قد شاهدته يوم كانت في الحبشة ، فلما نظرت إليه تبسمت وهي اول ابتسامة شوهدت لها بعد وفاة أبيها (2)

ص: 164


1- اسماء بنت عميس بن سعيد بن الحارث الخثعمي ، وامها هند بنت عوف ابن زهير من كنانة ، اسلمت قبل دخول رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) دار الارقم بمكة ، وبايعت وهاجرت الى ارض الحبشة مع زوجها جعفر بن ابى طالب. وقالت يا رسول اللّه ، ان رجالا يفخرون علينا أن لسنا من المهاجرين الاولين ، فقال صلی اللّه علیه و آله : بل لكم هجرتان هاجرتم الى ارض الحبشة ونحن مرهنون بمكة ، ثم هاجرتم بعد ذلك. روت عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ستين حديثا ، وكان عمر بن الخطاب يسألها عن تفسير المنام ، وفرض لها الف درهم ، ولما استشهد زوجها تزوجها ابو بكر فولدت له الطيب محمد ولما مات ابو بكر تزوجها امير المؤمنين (عليه السلام) وهي اخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) واخت أمّ الفضل زوج العباس، ترجمت في اسد الغابة 5 / 395 وتهذيب التهذيب والاستيعاب ، واعلام النساء وطبقات ابن سعد وغيرها.
2- مستدرك الحاكم 3 / 162

وفي اليوم الاخير من حياتها كانت فرحة مسرورة لعلمها باللحاق بابيها الذي بشرها انها تكون اول أهل بيته لحوقا به ، وعمدت لولديها فغسلت لهما ، وأمرتهما ، بالخروج لزيارة قبر جدهما فخرجا وهما يفكران في الأمر هل ان أمهما قد انهكتها العلة ، واضر الداء بها حتى لا تستطيع ان تمضي الى بيت الاحزان الذي الفته؟! او انها تريد أن تبكي في هذا اليوم فى ثويها؟! كيف البكاء وشيوخ المدينة قد منعوها من البكاء؟! وغرقا فى بحر من الهموم وتيار من الهواجس.

والتفتت الى سلمى بنت عميس (1) وكانت تتولى خدمتها وتمريضها فقالت لها.

« يا أماه »

« نعم يا حبيبة رسول اللّه »

« اسكبي لي غسلا »

فانبرت وأتت لها بما طلبته من الماء فاغتسلت فيه ، وهي على احسن ما تكون ، وقالت لها :

« ايتني بثيابي الجدد »

فناولتها ثيابها ، وهتفت بها ثانية « اجعلي فراشي وسط البيت »

فذهلت المرأة وقامت تتعثر باذيالها فصنعت لها ذلك فاضطجعت على فراشها ، واستقبلت القبلة والتفتت الى سلمى قائلة :

« يا أمه ... اني مقبوضة الآن ، وقد تطهرت ، فلا يكشفني احد » (2)

ص: 165


1- سلمى بنت عميس اخت اسماء وهي احدى الاخوات اللاتي قال فيهن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم). الاخوات مؤمنات ، وهي زوج حمزة بن عبد المطلب جاء ذلك في اسد الغابة 5 / 479
2- طبقات ابن سعد 8 / 17 وفى مسند الامام احمد بن حنبل 6 / 461 وفي ذخائر العقبى ص 53 ان التي شهدت وفاة الصديقة هي أمّ سلمة لا سلمى بنت عميس.

وقبضت في وقتها وقد انطوت في ذلك اليوم الخالد في دنيا الاحزان اروع صفحة من صفحات الفضيلة والطهر والعفاف ، وانقطع بموتها آخر من كان في دنيا الوجود من نسل رسول اللّه

وقفل الحسنان راجعين الى الدار فنظرا فاذا ليس فيها أمهم فبادرا الى سلمى فقالا.

« سلمى اين امنا؟ »

فبادرت إليهما ، وقد احاطت بها رعشة الذهول والارتباك ، وغامت عيناها بالدموع فقالت :

« يا سيدى إن أمكما قد ماتت ... فاخبرا بذلك أباكما .. »

وا شرفا على الموت بهذا النبأ المريع فبادرا الى المسجد ، وقد علا منهما البكاء فاستقبلهما المسلمون ، قائلين :

« ما يبكيكما يا بني رسول اللّه؟ لعلكما نظرتما الى موقف جدكما فبكيتما شوقا إليه؟ »

فاجابا بصوت مشفوع بالاسى والعبرات

« أو ليس قد ماتت أمنا فاطمة »

وسلبا شعور المسلمين بهذا النبأ المؤلم ، وتركا الالم يحز في قلوبهم لانهم فقدوا بضعة نبيهم واعز ابنائه وبناته عنده ، وهم لم يحفظوا مكانتها ولم يؤدوا حقها ، وهرعوا من كل جانب الى دار الامام ليفوزوا بتشييع بقية النبوة ، القديسة الطاهرة ، وازدحموا على بيت الامام ، وقد علاهم الندم والاسى على عدم قيامهم بمراعاة بضعة نبيهم صلی اللّه علیه و آله الذي برّ بدينهم ودنياهم.

وامر الامام سلمان الفارسي أن يصرف الناس فخرج سلمان وصرفهم

====

ص: 166

واقبلت عائشة فارادت الدخول الى بيت الامام فمنعتها اسماء وقالت لها :

« لقد عهدت الي فاطمة أن لا يدخل عليها أحد .. » (1)

وقام الامام الثاكل الحزين فغسل الجسد الطاهر وطيبه بالحنوط ، وادرجه في الاكفان ودعا باطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان امهم فالقوا عليها نظرة الوداع ، وقد علا منهم الصراخ والعويل ، وبعد الفراغ من ذلك انتظر الهزيع الاخير من الليل فلما حل خرج مع حفنة من الرجال وهم يحملون الجثمان المقدس الى مقره الاخير ، ولم يخبر امير المؤمنين احدا من الناس سوى الصفوة من اصحابه تنفيذا لوصيتها (2) وحفر (عليه السلام) لها قبرا في البقيع على ما قيل (3) ووسدها فيه واهال عليها التراب ، ولما انصرف من كان معه من المشيعين وقف على حافة القبر ونار الحزن قد لسعت قلبه ، فجعل يناجى الرسول ، ويؤبن زهراءه بكلمات تنم عن قلب افعم بالآلام والحسرات.

ص: 167


1- اسد الغابة 5 / 524 ، كنز العمال 7 / 113
2- ذكر ذلك شراح البخاري من المجلد الثامن ص 157 وفي مستدر الحاكم 3 / 162 عن عائشة قالت : دفنت فاطمة بنت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ليلا ودفنها على (عليه السلام) ولم يشعر ابو بكر حتى دفنت وصلى عليها علي ، ويوجد هذا الحديث في مسند احمد 1 / 6 و9 وفى صحيح مسلم 2 / 72 وفي تاريخ الطبرى 3 / 212 وفي سنن البيهقي 6 / 300 وفي مشكل الآثار للطحاوي وذكره ابن كثير فى تاريخه 5 / 285 وقال فى ج 6 / 333 لم تزل فاطمة تبغضه مدة حياتها ، وفى السيرة الحلبية 3 / 390 قال الواقدي : ثبت عندنا ان عليا كرم اللّه وجهه دفنها رضي اللّه عنها وصلى عليها ومعه العباس والفضل ولم يعلموا بها احدا.
3- البحار 10 / 52 وجاء فيه ان ابن بابويه يذهب الى انها دفنت في بيتها وذهب شيخنا ابو جعفر الطوسي الى انها دفنت اما فى دارها او فى الروضة.

« السلام عليك يا رسول اللّه ، عنى وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ... قلّ يا رسول اللّه عن صفيتك صبرى ، ورق عنها تجلدي ... الا أن في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعز فلقد وسدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحرى وصدرى نفسك ... إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، أما حزني فسرمد وأما ليلى فمسهد (1) الى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فاحفها السؤال (2) واستخبرها الحال ... هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر. والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم (3) فان انصرف فلا عن ملالة ، وان اقم فلا عن سوء ظن بما وعد اللّه الصابرين .. » (4)

ص: 168


1- الليل المسهد : الذي ينقضي بالسهر
2- الاحفاء بالسؤال : الاستقصاء ، ويطلب سلام اللّه عليه من النبيّ ان يكثر من سؤال بضعته لتخبره بما جرى عليها من الخطوب والكوارث والآلام التي تجرعتها من صحابته.
3- القالى : المبغض ، والسئم ماخوذ من السامة وهى ملال الشيء
4- شرح النهج محمد عبده 2 / 207 - 208 واختلف فى تأريخ وفاتها ففي طبقات ابن سعد 8 / 18 انها توفيت بعد وفاة ابيها (صلی الله عليه وآله وسلم) بثلاثة اشهر ، وكان عمرها يوم وفاتها عشرين سنة ، وفي مستدرك الحاكم 3 / 162 انها توفيت بعد وفاة ابيها بثمانية اشهر ، وقيل لم تمكث إلاّ شهرين ، وكان عمرها الشريف احدى وعشرين سنة ، وفي البحار 10 / 60 انها توفيت بعد ابيها بخمسة وسبعين يوما ، وقيل باربعين يوما وكان عمرها ثمانى عشر سنة وشهرين نقله عن السيد المرتضى علم الهدى وذكر اقوالا أخر.

واعلن الامام (عليه السلام) بهذه المناجاة الحزينة عن تظافر الأمة على هضم وديعة النبي صلی اللّه علیه و آله في الوقت الذي لم يطل فيه غيابه ، ولم ينقطع ذكره ويطلب منه أن يستقصي في السؤال من بضعته لتخبره بما جرى عليها بعده من الشؤون والشجون ، وتعرفه بما لاقته من الظلم والاذى والاضطهاد يصغي الامام الحسن علیه السلام الى هذه المناجاة الحزينة من أبيه فتلم به آلام مبرحة ، ويحف به حزن مرهق ، وتضاعف حزنه وشجاه حينما رأى أعز ما في الحياة عنده أمه الرءوم قد عاشت في هذه الدنيا وعمرها كعمر الزهور ، وفاجأها الموت وهي في شبابها الغض الاهاب ، وقد حملت على الآلة الحدباء فى غلس الليل البهيم ولم يحضر أحد من المسلمين تشييعها عدا نفر قليل ، وهي بضعة النبي صلی اللّه علیه و آله وريحانته ، ووديعته في امته واعز من أحب من أبنائه وبناته ، وقد ذاق من هذه الكوارث وهو فى دوره الباكر مرارة الحياة ، وصار قلبه موطنا للهموم ، ومركزا للاحزان والشجون.

اعتزال الامام

وانصرف امير المؤمنين علیه السلام بعد أن ودع بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله في الثرى ، وهو يبكي أمر البكاء ، وعاد الى البيت وهو كئيب حزين ، ينظر الى اطفاله وهم يندبون امهم ويبكون على فادح المصاب ، فتهيج أحزانه ، وتزداد آلامه ، ويشاهد حقه وتراثه فيرى الرجال قد تناهبوه فتلم به الكوارث والخطوب ، فآثر علیه السلام العزلة ، واحب الخلود الى السكون في داره ، وقد اعتزل علیه السلام عن الناس فصار جليس بيته ، لا يجتمع بالناس ، ولا يجتمعون به قد اعرض عن القوم ، واعرضوا عنه ، لا يراجعهم ، ولا يراجعونه ، ولا يشار كونه فى جميع الامور اللّهم إلا إذا حلت في ناديهم مشكلة لا يعرفون جوابها ، ولا يهتدون لحلها ، فزعوا إليه ليكشف لهم الستار عنها ، وكان علیه السلام تارة يتولى جواب ذلك

ص: 169

بنفسه ، واخرى يحيله الى ولده الحسن للتدليل على فضله ومواهبه ، فمن ذلك ما حدث به الرواة ان اعرابيا سأل أبا بكر فقال له :

« إني اصبت بيض نعام فشويته وأكلته ، وانا محرم فما يجب علي؟. »

فتحير ابو بكر ولم يطق جوابا ، واحال الجواب الى عمر فتحير أيضا ، واحال الجواب الى عبد الرحمن فعجز عنه ، وفزعوا جميعا الى باب مدينة علم النبي صلی اللّه علیه و آله ليهديهم الى الجواب ، ووجه إليه الاعرابي السؤال السالف فقال (عليه السلام) :

« سل أي الغلامين شئت - واشار الى الحسن والحسين - »

ووجه الاعرابي سؤاله الى الامام الحسن فقال (عليه السلام) له

- ألك إبل؟

- نعم

- فاعمد الى ما أكلت من البيض نوقا فاضر بهن فى الفحول ، فما ينتج منها ، اهده الى بيت اللّه العتيق ، الذي حججت إليه .. »

والتفت إليه أمير المؤمنين

« يا بني. إن من النوق السلوب ، وما يزلق (1) »

فاجابه الحسن عن اشكاله.

« يا ابة. إن يكن من النوق السلوب ، وما يزلق فان من البيض ما يمرق (2) وكان جوابه علیه السلام على وفق ما قرر في الفقه الاسلامي في كفارة الاحرام ، واستحسن أمير المؤمنين جوابه فالتفت علیه السلام الى حضار مجلسه ، وهو يشيد بمواهب ولده ، وغزارة علمه وفضله ، قائلا :

« معاشر الناس .. إن الذي فهم هذا الغلام هو الذي فهمه سليمان بن داود (3)

ص: 170


1- السلوب : الناقة التي مات ولدها او القته بغير تمام ، الزلوق : الناقة التي تلقى ولدها بغير تمام.
2- يمرق : مأخوذ من مرقت البيضة اي فسدت
3- مناقب ابن شهر اشوب 2 / 150 نقله عن القاضي فى شرح الاخبار

لقد كان امير المؤمنين علیه السلام مرجعا للفتيا في حياة أبي بكر وعمر ومفزعا للمسلمين إن حلت يناديهم مشكلة ، وقد اتفقت الكلمة انه اعلم الصحابة بشئون الدين واحكام الشرع.

وفاة ابي بكر

وظل أبو بكر متقمصا للخلافة زمنا يسيرا يدير شئون الامة ، ويتصرف في أمورها ، قد اعتمد على عمر وأسند إليه مهام الدولة ، ولما مرض مرضه الذي توفي فيه وثقل حاله ادلى بالامر من بعده إليه وقد انكر عليه طلحة هذا الاختيار فقال له :

« ما ذا تقول لربك ، وقد وليت علينا فظا غليظا؟ تفرق منه النفوس وتنفض منه القلوب » (1)

فسكت أبو بكر ، واندفع طلحة قائلا :

« يا خليفة رسول اللّه ، إنا كنا لا نحتمل شراسته وأنت حي تأخذ على يديه ، فكيف يكون حالنا معه ، وأنت ميت وهو الخليفة .. » (2)

ولم ينفرد طلحة بهذا الانكار بل شاركه جمهور المهاجرين والانصار فقد بادروا الى أبي بكر وقالوا له :

« نراك استخلفت علينا عمر ، وقد عرفته ، وعلمت بوائقه فينا ، وأنت بين أظهرنا ، فكيف اذا وليت عنا ، وأنت لاق اللّه عز وجل فسائلك ، فما أنت قائل؟ .. »

فاجابهم أبو بكر بصوت خافض

ص: 171


1- شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 55
2- شرح النهج 6 / 343 ط دار احياء الكتب العربية

« لئن سألني اللّه لاقولن استخلفت عليهم خيرهم فى نفسي ... » (1)

وكون عمر خيرهم في نفسه ليس مبررا له في ترشيحه للخلافة ، فان الاجدر أن يأخذ رأي المسلمين في ذلك ويستشير أهل الحل والعقد منهم عملا بقاعدة ( الشورى ) ولكنه اهمل ذلك ، واستجاب لعواطفه ورغبته الملحة في أن يتولى زمام الحكم من بعده خدنه وزميله ، وعلى أي حال فقد كان عمر الى جانبه يعزز مقالته ورأيه فيه قائلا :

« أيها الناس ، اسمعوا ، واطيعوا قول خليفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .. » (2)

ودعا أبو بكر عثمان بن عفان ، وامره أن يكتب له العهد في عمر وأملاه عليه وهذا نصه :

« هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة ، آخر عهده في الدنيا نازحا عنها. وأول عهده بالآخرة داخلا فيها ، إني استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب ، فان تروه عدل فيكم فذلك ظني به ورجائى فيه ، وإن بدل وغير فالخير أردت ، ولا اعلم الغيب ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (3)

وتناول عمر الكتاب ، وانطلق يهرول الى الجامع ليقرأه على الناس فقال له رجل :

« ما في الكتاب يا أبا حفص.؟ »

« لا ادري. ولكني أول من سمع وأطاع .. »

فنظر الرجل إليه نظرة ريبه وانبرى قائلا :

ص: 172


1- الامامة السياسة 1 / 19
2- تأريخ الطبرى 4 / 52
3- الامامة والسياسة 1 / 19 ، تأريخ الطبرى ، طبقات ابن سعد

« ولكني واللّه أدرى ما فيه : أمرته عام أول ، وأمرك العام .. » (1)

لقد مهد أبو بكر الأمر الى عمر ، وعبدّ له الطريق ، وتناسى أمير المؤمنين فلم يشاوره في الامر ، ولم يرع حقه ، وقد نطق علیه السلام بعد سنين عما يكنه في نفسه من عميق الالم والحزن يقول في خطبته الشهيرة بالشقشقية :

فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا ، حتى مضى الاول لسبيله ، فادلى بها الى فلان بعده ، ثم تمثل بقول « الأعشى » :

شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر

فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته (2) إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها .. (3)

وهذه الكلمات قد عبرت عن عظيم الوجد ، وبالغ الاسى الذي استقر في نفس الامام على ضياع حقه ، ويعتقد بعض كتاب العصر أن السبب في عدول أبي بكر عن اختياره ، هو تخلفه عن بيعته ، واحتجاجه عليه بأنه أحق بالأمر منه لقرابته من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مما اوجب بغض أبي بكر له ، وحقده عليه.

وزاد المرض بأبي بكر ، وثقل حاله حتى وافاه الأجل المحتوم (4)

ص: 173


1- الامامة والسياسة 1 / 20
2- اشارة الى قول ابي بكر بعد ما بويع « اقيلوني فلست بخيركم »
3- نهج البلاغة محمد عبده 1 / 26 - 27
4- توفى ابو بكر ليلة الثلاثاء لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة ، وعمره ثلاث وستون سنة ، ومدة خلافته سنتان وثلاثة اشهر ذكر ذلك المسعودى في مروج الذهب 2 / 191 وكان في الجاهلية معلما للصبيان ، وفى الاسلام خياطا ، وكان ابوه فقيرا ، يكتسب من صيد القمارى والدباسي ، ولما عمى وعجز ابنه عن القيام به التجأ إلى عبد اللّه بن جدعان احد رؤسا. مكة فنصبه ينادى على مائدته جاء ذلك فى حق اليقين 1 / 181

فقام عمر في شئونه ، ودفنه في بيت النبي صلی اللّه علیه و آله وفي جواره ، وبيت النبي صلی اللّه علیه و آله لا يخلو اما أن يكون ميراثا كما تقول به بضعة الرسول صلی اللّه علیه و آله أو يكون صدقة كما زعم أبو بكر فان كان ميراثا فلا يحل دفنه فيه الا بعد ارضاء الورثة ، وان كان صدقة فلا بد من ارضاء جماعة المسلمين ، ولم يتحقق كل ذلك. خلافة عمر

وتولى عمر بن الخطاب أزمة الحكم بعد وفاة أبي بكر ، وتسلم قيادة الأمة بهدوء وسلام ، فساس البلاد بشدة وعنف بالغين ، وقد تحامى لقاءه أكابر الصحابة ، فلم يستطع أحد منهم أن يجاهر بآرائه ، أو ينقد الحكم القائم ، فان درة عمر - كما يقولون - كانت أهيب في النفوس من سيف الحجاج ، حتى ان ابن عباس لم يتمكن أن يصرح برأيه في جواز المتعة ، وحليتها الا بعد وفاة عمر ، وقد وصف الامام أمير المؤمنين علیه السلام بعد اعوام سياسة عمر ، وشدة عنفه يقول علیه السلام :

« فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن اشنق لها خرم وان اسلس لها تقحم ، فمني الناس لعمر اللّه بخبط وشماس ، وتلون واعتراض .. » (1)

وهو وصف دقيق للسياسة العمرية التي انتهجت منهج الشدة والغلظة في جميع مجالاتها حتى مني الناس بخبط وشماس وتلون واعتراض ، وبلغ من

ص: 174


1- نهج البلاغة لابن ابي الحديد 1 / 162

عظيم عنفها ان امرأة جاءت تسأله عن أمر ، وكانت حاملا ، ولشدة خوفها اجهضت حملها (1) ويقول عثمان في شدة عمر وقسوته : « لقد وطئكم ابن الخطاب برجله ، وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه فخفتموه ، ورضيتم به » ويذهب الناقدون الى هذه السياسة انها لا تمثل وجهة السياسة الاسلامية ، فانها لا تقر بحال سياسة العنف والارهاب ، فقد جاء رجل إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأخذته هيبة النبيّ فارتعدت اعضاؤه فنهره صلی اللّه علیه و آله وقال له : « انما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد » إن الاسلام بنى على الرفق ، واللين ، والتسامح وليس لرئيس الدولة أن يسلك أي طريق يؤدي الى ارهاق المواطنين وعنائهم.

ومما يؤخذ على السياسة العمرية انها كانت تنهج إلى ايجاد الطبقية في الاسلام ، فقد التزم في سياسته المالية بتقديم بعض الطبقات على بعض في العطاء ، فقدم امهات المؤمنين على غيرهن ، وقدم البدريين على من سواهم ، والمهاجرين على الانصار (2) ومن الطبيعي أن ذلك يتنافى مع المساوات التي جاء بها الاسلام.

ومما يرد على سياسة عمر أنه فرض الحصار على الصحابة في يثرب ولم يسمح لهم بمغادرتها وذلك يجافي الحرية التامة التي اقرها الاسلام ، ومنحها لجميع المواطنين.

ولعل لهذه الجهات وصف أمير المؤمنين عهد عمر بأن المجتمع قد منى فيه بخبط وشماس وتلون واعتراض.

ص: 175


1- نهج البلاغة 1 / 174
2- الأموال لأبى عبيد ص 224

اعتزال الامام

واعتزل الامام امير المؤمنين علیه السلام في دور الخليفة الثاني كما اعتزل في عهد الخليفة الاول ، فلم يشترك في شأن من شئون القوم ، ولم يتدخل في أمر من أمورهم ، حتى خفت صوته في جميع الحروب والمواقف اللّهم الا رأيه الوثيق اذا استفتي حتى اشتهرت كلمة عمر في ذلك : لو لا علي لهلك عمر » (1) فقد كان عمر لا يستغنى عن الامام من ناحية الفتيا لأن معلومات الخليفة في الفقه الاسلامي كانت ضئيلة للغاية فقد قضى في ميراث الجد مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة ثم خاف في الحكم فى هذه المسألة فقال : من أراد أن يقتحم جرائيم جهنم فليقل في الجد برأيه ، (2) وقال : لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي صلی اللّه علیه و آله الا ارتجعت ذلك منها ، فقالت إليه امرأة :

« ما جعل اللّه لك ذلك ، إنه تعالى قال : ( وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (3)

فانطلق عمر وهو يبدى للمسلمين عجزه قائلا :

« كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال! ألا تعجبون من إمام أخطأ ، وامرأة اصابت فاضلت إمامكم ففضلته .. (4)

ص: 176


1- السنن الكبرى 7 / 442 ، تفسير الرازي 7 / 484
2- نهج البلاغة 1 / 181
3- سورة النساء : آية 20
4- نهج البلاغة 1 / 182

وعلى أي حال فقد كان عمر قليل البضاعة في الفقه الاسلامي ليست له دراية في كثير من مسائله ، فكان بطبيعة الحال مضطرا الى الرجوع الى باب مدينة علم النبي صلی اللّه علیه و آله ووصيه ليكشف له الستار عما أشكل عليه ، وقد تصدى علیه السلام بسخاء لهذه الناحية ، ولم يظن على القوم بعلومه ومعارفه لئلا تهمل أحكام اللّه وتتعطل حدوده ، وهو في نفس الوقت كان بعيدا عن القوم كل البعد فلم يشترك في شأن من شئونهم قد خلد الى الانعزال ، والابتعاد عنهم ، وأظهر لهم المسالمة حرصا منه على كلمة الإسلام ، وخوفا على كلمة المسلمين من الانشقاق.

وقد قطع الامام الحسن علیه السلام في عهد عمر دور الصبا حتى أشرف على ميعة الشباب ، وقد اقتضت سياسة عمر أن يجل السبطين ويجعل لهما نصيبا فيما يغتنمه المسلمون ، ووردت إليه حلل من وشي اليمن فوزعها على المسلمين ونساهما ، فبعث الى عامله على اليمن أن يرسل له حلتين ، فأرسلهما إليه فكساهما وقد جعل عطاءهما مثل عطاء أبيهما ، وألحقهما بفريضة أهل بدر ، وكانت خمسة آلاف (1).

ولم تظهر لنا أي بادرة عن الامام الحسن علیه السلام ما عدا ذلك ، ويعود السبب الى عدم تدخل أبيه أمير المؤمنين علیه السلام في شئون عمر وعدم اشتراكه في أي جانب من الجوانب العامة.

اغتياله :

واغتاله أبو لؤلؤة غلام المغيرة فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت سرته وهي التي قضت عليه ، وتعزو بعض المصادر سبب ذلك الى ان المغيرة جعل

ص: 177


1- تأريخ ابن عساكر 4 / 321

عليه خراجا ثقيلا فشكا حاله الى عمر فزجره وقال له :

« ما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها .. »

فتأثر أبو لؤلؤة ، وأضمر له الشر في نفسه ، واجتاز عليه فى وقت آخر فسخر منه عمر قائلا :

« بلغنى أنك تقول : لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت .. »

فاندفع أبو لؤلؤة وقد لسعته سخريته فاخبره بما يبيت له من الشر قائلا :

لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها .. »

وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال (1) وقيل ان اغتياله كان وليد مؤامرة دبرها الناقمون على سياسته التي انتهجت منهج الشدة والقسوة ، وخلقت الطبقية بين المسلمين.

ومهما يكن من أمر فقد حمل عمر الى داره ، وجراحاته تنزف دما وبادر أهله فأحضروا له طبيبا فقال له :

« أي الشراب أحب إليك؟. »

« النبيذ »

فسقوه منه ، فخرج من بعض طعناته ، فقال الناس : خرج صديدا ثم سقوه لبنا فخرج من بعض طعناته ، فيئس منه الطبيب وقال له :

لا أرى أن تمسى (2) ولما أيقن ولده عبد اللّه بموته قال له :

« يا أبة. استخلف على امة محمد صلی اللّه علیه و آله فانه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك ، وترك إبله أو غنمه لا راعى لها لمته ، وقلت له :

ص: 178


1- مروج الذهب 2 / 212 ، الاستيعاب
2- الامامة والسياسة 1 / 21

كيف تركت أمانتك ضائعة؟! فكيف بأمة محمد صلی اللّه علیه و آله فاستخلف عليهم .. »

فنظر إليه نظرة ريبة فقال له :

« إن استخلف عليهم فقد استخلف أبو بكر ، وإن أتركهم فقد تركهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .. » (1)

وأقام عبد اللّه في حديثه برهانا تدعمه الفطرة على ضرورة نصب الوصي ، وتعيين ولى العهد ، وان من أهمله يستحق اللوم والتقريع ، وهو أمر واضح لا مجال للشك فيه ، والعجب من عمر وهو في ساعاته الأخيرة كيف يقول إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ترك امته ولم يستخلف عليها أحدا من بعده!! وهو صلی اللّه علیه و آله الحريص على امته الذي يعز عليه عنتها واختلافها ، وانشقاقها وقد لاقى في سبيل هدايتها أعظم العناء وأشقه ، ولعل ( الوجع ) قد غلب على عمر فنسي النصوص المتضافرة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أمير المؤمنين علیه السلام وأنه ولى عهده وخليفته من بعده ، وتناسى بيعته له يوم غدير خم ، وقوله له : « بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة » ولكن إنا لله ، وإنا إليه راجعون.

الشورى :

ولما يئس عمر من الحياة ، وأيقن بنزول الأجل المحتوم أخذ يطيل التفكير ، ويمعن النظر فيمن يتولى شئون الحكم من بعده ، وتذكر أقطاب حزبه الذين شاركوه في تمهيد الأمر الى أبي بكر ، وصرفه عن أهل بيت

ص: 179


1- مروج الذهب 2 / 212

النبوة فطافت به آلام مبرحة لأنه لم يكن أحد منهم إلا اختطفته يد المنون فجزع عليهم وقال بنبرة الآسف : « لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته لأنه أمين هذه الامة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته لأنه شديد الحب لله تعالى ... »

لقد اسف على هلاك أبي عبيدة وسالم ، ولو كانا حيين لرشحهما لمنصب الخلافة ، فهل لهما سابقة الجهاد في الاسلام؟ أو أنهما كانا أثيرين عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليستحقا هذا المنصب الخطير.

لقد فتش عمر في سجل الاموات عمن هو أهل للخلافة ، ونسي أمير المؤمنين علیه السلام الذي هو نفس النبيّ صلی اللّه علیه و آله وباب مدينة علمه ، وباب دار حكمته ، وأقضى امته ، وأبو سبطيه ، وناصره في جميع المشاهد والمواقف ، لقد نساه عمر فلم يذكره بقليل ولا بكثير ، وعلى اي حال فقد رأى عمر ان يجعلها شورى في جماعة زعم أن الامام أحدهم ، وهي مؤامرة خطيرة دبرت ضد أمير المؤمنين علیه السلام يقول الامام كاشف الغطاء رحمه اللّه :

« الشورى بجوهرها وحقيقتها مؤامرة واقعية ، وشورى صورية ، وهي مهارة بارعة لفرض عثمان خليفة على المسلمين رغما عليهم ولكن بتدبير بارع عاد على الاسلام والمسلمين بشر ماله دافع .. »

ودعا عمر أعضاء الشورى فلما مثلوا عنده قال لهم :

« أكلكم يطمع بالخلافة بعدي؟ .. »

ووجموا عن الكلام ، فأعاد القول عليهم ثانيا فانبرى إليه الزبير فرد عليه مقالته قائلا :

« وما الذي يبعدنا منها!! وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في

ص: 180

قريش ، ولا في السابقة ولا فى القرابة .. »

والتفت إليهم فقال :

« أفلا أخبركم عن أنفسكم؟! »

« قل : فانا لو استعفيناك لم تعفنا .. »

وأخذنا يدلي برأيه فيهم ، ويخبر عن نفسياتهم واتجاهاتهم واحدا بعد واحد فقال في الزبير :

« أما أنت يا زبير ، فوعق لقس (1) مؤمن الرضا كافر الغضب ، يوما انسان ، ويوما شيطان ، ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير!! أفرأيت إن أفضت إليك ، فليت شعرى من يكون للناس يوم تكون شيطانا ، ومن يكون يوم تغضب!! وما كان اللّه ليجمع لك أمر هذه الامة ، وأنت على هذه الصفة. »

ومع علمه بنفسية الزبير ، وأنه يوم إنسان ، ويوم شيطان وأنه مبتل بالبخل والشح ويلاطم بالبطحاء على مد من شعير كيف يرشحه للخلافة ، ويجعله من أعضاء الشورى؟؟!!

وأقبل على طلحة فقال له :

« أقول أم أسكت؟. »

فزجره طلحة وقال له :

« إنك لا تقول من الخير شيئا .. »

« أما إني أعرفك منذ اصيبت إصبعك يوم أحد وائيا (2) بالذي حدث لك ، ولقد مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ساخطا عليك بالكلمة

ص: 181


1- الوعق : الضجر المتبرم ، واللقس من لا يستقيم على وجه
2- وائيا : غاضبا

التي قلتها يوم انزلت آية الحجاب ... »

وإذا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد توفى وهو ساخط على طلحة كيف يرشحه للخلافة الاسلامية التي هي نيابة عن الرسول؟ كما أنه يناقض ما قاله أخيرا في أعضاء الشورى من أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مات وهو راض عنهم ، يقول الجاحظ : « لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مات وهو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة : إنه مات علیه السلام ساخطا عليك للكلمة التي قلتها ، لكان قد رماه بمشاقصه (1) ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا فكيف هذا »

وأقبل على سعد بن ابي وقاص فقال له :

« إنما أنت صاحب مقنب (2) من هذه المقانب ، تقاتل به ، وصاحب قنص وقوس ، وأسهم ، وما زهرة والخلافة وأمور الناس!! »

فسعد بن أبي وقاص - حسب فراسة عمر - رجل حرب ، وقتال ، وصاحب قنص وقوس فلا يصلح للخلافة ، وليس خليقا بها هو وأسرته فكيف يرشحه عمر لها ويجعله من أعضاء الشورى الذين لهم الأهلية لتسلم قيادة الحكم؟!

والتفت الى عبد الرحمن بن عوف فقال له :

« وأما أنت يا عبد الرحمن ، فلو وزن نصف إيمان المسلمين بايمانك لرجح إيمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الامر لمن فيه ضعف كضعفك وما زهرة وهذا الامر!. »

ص: 182


1- المشاقص : جمع مشقص وهو نصل السهم اذا كان طويلا
2- المقنب : جماعة الخيل

ان عبد الرحمن رجل إيمان وتقوى - حسب رأي عمر - ومن إيمانه الذي اضفاه عليه الخليفة أنه عدل عن انتخاب العترة الطاهرة ، وسلم قيادة الامة ، ومقدراتها بأيدى الامويين خصوم الاسلام واعداء الرسول صلی اللّه علیه و آله ثم ان الايمان بذاته - كما يقول عمر - لا يصلح لترشيح صاحبه للخلافة ما لم تكن له دراية تامة بشئون المجتمع ، وخبرة وافرة بما نحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها ، وعبد الرحمن - حسب اعتراف عمر - رجل كيف لا يليق للخلافة فكيف يرشحه لها ويجعله من أعضاء الشورى البارزين؟! وأقبل على أمير المؤمنين فقال له :

« لله أنت ، لو لا دعابة فيك! أما واللّه لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والمحجة البيضاء .. »

ومتى كانت لأمير المؤمنين علیه السلام الدعابة والمزاح ، وهو الذي ما الف في حياته لغير الجد في القول والعمل ، وعلى تقدير اتصافه بها ، فهى من خلق الأنبياء ومن خلق الرسول صلی اللّه علیه و آله بالاخص ، فقد ورد أنه كان صلی اللّه علیه و آله يداعب الرجل ليسره بذلك.

وهل من الحيطة على الاسلام ، والمحافظة على وحدة الامة ، ورعاية صالحها أن يفتل عمر حبل الشورى ويجعل أمير المؤمنين علیه السلام أحد أعضائها ، وهو - حسب اعترافه - لو تولى زمام الحكم لحمل المسلمين على الحق الواضح والمحجة البيضاء ، ولسار بهم سيرا سجحا لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح ضفتاه ، ولا يترنم جانباه ، ولأصدرهم بطانا ، ونصح لهم سرا واعلانا - كما تقول بضعة الرسول ووديعته - ويقول النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إن ولوا عليا فهاديا مهديا » (1)

ص: 183


1- الاستيعاب 3 / 5

ان الامام أمير المؤمنين علیه السلام لو استولى على زمام السلطة لوفر للمسلمين ما يحتاجون إليه من خيرات الحياة وأوجد لهم الفرص المتساوية ، وصان المثل الاسلامية من التدهور والانحطاط ، فهل من الانصاف أن تصرف الخلافة عنه وتجعل شورى بأسلوب يؤدي الى فوز الامويين بالحكم؟!!

وأقبل عمر على عثمان فقال له :

« هيها إليك!! كأني بك قد قلدتك قريش هذا الامر لحبها إياك فحملت بني أمية ، وبني أبي معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفىء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحا. واللّه لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ، ثم أخذ بناصيته ، فقال : فاذا كان ذلك فاذكر قولي .. » (1)

ومع علمه بأنه يحمل بنى أمية ، وبنى أبي معيط على رقاب الناس ، ويؤثرهم بفىء المسلمين كيف يرشحه للخلافة ، ويمكنه من رقاب المسلمين ويعرض الامة للويلات والخطوب!!

وبعد ما أدلى بحديثه التفت الى الجمهور قائلا :

إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش ، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم واحدا منهم .. »

ثم قال للمرشحين : « احضروا معكم من شيوخ الانصار ، وليس لهم من أمركم شيء ، واحضروا معكم الحسن بن علي ، وعبد اللّه بن عباس فان لهما قرابة ، وارجو لكم البركة فى حضورهما وليس لهما من

ص: 184


1- شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 185 - 186

أمركم شيء .. » (1)

وما هى البركة التي تحصل لأعضاء الشورى بحضور الامام الحسن ، وعبد اللّه بن عباس ، وهما لا يملكان من الامر شيئا ، قد جردهما من الادلاء بالرأي ، كما جرد شيوخ الانصار من ذلك ، ولم يسمح لأحد منهم أن يبدي برأيه ، ثم التفت الى أبي طلحة الانصاري (2) فقال له :

« يا أبا طلحة ، إن اللّه أعز الاسلام بكم فاختر خمسين رجلا من الانصار ، فالزم هؤلاء النفر بامضاء الامر وتعجيله .. »

والتفت الى المقداد بن الاسود فاوصاه بمثل ذلك ثم قال :

« اذا اتفق خمسة ، وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه ، وان اتفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقيهما ، وان اتفق ثلاثة منهم على رحل ، ورضي ثلاثة منهم برجل آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس .. »

وخرج الامام أمير المؤمنين المظلوم المهتضم ، وهو ملتاع حزين من الشورى العمرية قد أيس من الامر فالتقى بعمه العباس فبادره قائلا :

« يا عم لقد عدلت عنا .. »

ص: 185


1- الامامة والسياسة 1 / 24
2- ابو طلحة الانصارى هو زيد بن سهل النجار ، شهد مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله بدرا ، ولما آخى صلی اللّه علیه و آله بين اصحابه آخى بينه وبين ابى عبيدة الجراح ، وكان ابو طلحة من الرماة المعدودين ، ومن الشجعان المشهورين ، قتل يوم حنين عشرين رجلا ، وتزوج بام انس بن مالك ، توفى بالمدينة سنة احدى وثلاثين ، وكان عمره سبعين عاما ، وقد صلى عليه عثمان بن عفان ، اسد الغابة 5 / 334

ومن أعلمك بذلك؟! »

« لقد قرن بي عثمان .. وقال : كونوا مع الاكثر ، ثم قال : كونوا مع عبد الرحمن ، وسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهر لعثمان ، وهم لا يختلفون فاما أن يوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن .. » (1)

لقد كشف علیه السلام عن المؤامرة التي دبرها الخليفة الراحل ضده فقد فتل حبل الشورى بهذا الاسلوب ليصرف الامر عنه ، وقد كوت هذه الصور المؤلمة قلبه فراح يقول بعد سنين :

« حتى اذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الاول منهم حتى صرت أقرن الى هذه النظائر .. »

أجل واللّه ، متى اعترض الريب فيه مع أبي بكر حتى صار يقرن بطلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف فهل فى هؤلاء من هو كفؤ للامام فى دينه وعلمه ، وجهاده ، وسابقته للاسلام ، وإنما استجاب علیه السلام لئن يكون من أعضاء الشورى مع وجود هذه المفارقات بينه ، وبين القوم ، فقد بينه في حديثه مع عبد اللّه بن عباس ، وخلاصته أن عمر قد أهله للخلافة وكان من قبل يقول : لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد فاراد أن يظهر أن أقواله تناقض أفعاله ، ولهذا السبب الوثيق انضم مع أعضاء الشورى

نظرة في الشورى :

وتواجه الشورى العمرية عدة من المؤاخذات فقد ذكر الناقدون لها

ص: 186


1- الطبري 5 / 35

أنها لم تستند الى الاساليب الصحيحة ، ولم تبتن على الاسس الوثيقة ، وانها لم تنشد بأي حال صالح الامة ، ولم تهدف الى حماية المجتمع وصيانته من القلق والاضطراب ، وإنما الغرض منها صرف الخلافة عن أمير المؤمنين علیه السلام وحرمان الامة من التمتع فى ظل حكمه العادل ، فهي لم تكن شورى واقعية ، وإنما كانت شورى صورية مشفوعة بالعصبية والاحقاد ، والى القراء بعض تلك النقود التي ترد عليها :

1 - إن حقيقة الشورى ان تشترك الامة بجميع هيآتها فى الانتخاب والاختيار في جو تتوفر فيه الحريات العامة لجميع الناخبين ، والشورى العمرية قد فقدت هذه العناصر فقد حيل بين الشعب والاختيار فان عمر منح الاختيار الى ستة اشخاص ومن الطبيعي أنهم لا يملكون إلا آراءهم الخاصة فلا يمثلون الامة ولا يحكون ارادتها على أنه ضيق الدائرة فجعل المناط بآراء الثلاثة الذين ينضم إليهم عبد الرحمن بن عوف ، وجعل آراءهم تعادل آراء بقية الشعوب الاسلامية ، وهذا شكل من اشكال التزكية التي تستعملها بعض الحكومات التي تفرض ارادتها على شعوبها ، لقد تصادمت هذه الشورى مع إرادة الشعوب الاسلامية ، وتنافت مع حرياتهم ، وقد فرضت عليهم فرضا.

2 - إن هذه الشورى قد ضمت اكثر العناصر المعادية لأمير المؤمنين علیه السلام والحاقدة عليه ففيها طلحة التيمي وهو من أسرة أبي بكر الذي نافس الامام على الخلافة ، وكانت بين تيم والامام أشد المنافرة والخصومة وضمت الشورى عبد الرحمن بن عوف ، وهو صهر عثمان ، بالاضافة الى أنه كان حقودا على امير المؤمنين علیه السلام فهو من جملة الذين حملوا الحطب في بيعة أبي بكر لحرق بيت الامام ، وضمت الشورى سعد بن أبي

ص: 187

وقاص ، وكان يحقد على الامام من أجل اخواله الامويين فان أمه حمنة بنت سفيان بن أميّة ، وقد أباد الامام صناديدهم في سبيل الاسلام فكانت نفس سعد مترعة بالحقد والعداء على الامام من أجلهم ، ولما بايع المسلمون الامام كان سعد في طليعة المتخلفين عن بيعته ، واحتوت الشورى على عثمان وهو شيخ الاسرة الاموية التي عرفت بالنصب لآل بيت النبي صلی اللّه علیه و آله وقد ألب عمر هذه القوى كلها ضد الامام ، لئلا تؤل الخلافة إليه ، وقد تحدث علیه السلام بعد ان ولى الامر عن ضغن أعضاء الشورى وحقدهم عليه فقال :

« لكني اسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره مع هن وهن »

لقد ألب عمر عن عمد جميع أحقاد قريش ، واضغانها ضد أخي رسول اللّه ووصيه وباب مدينة علمه استجابة لأحقاد قريش التي وترها الامام في سبيل الاسلام.

3 - لقد عمد عمر الى اقصاء جميع العناصر الموالية للامام فلم يجعل لها نصيبا في الشورى ولم يرشح أحدا من الانصار وهم الذين آووا النبي صلی اللّه علیه و آله ونصروه لأنه كان لهم هوى وميل للامام علیه السلام كما لم يجعل نصيبا فيها لعمار بن ياسر الذي هو أحد المؤسسين في يناء الاسلام ، وكذلك أقصى أبا ذر ، والمقداد وأمثالهم من أعلام الاسلام لأنهم كانوا شيعة لعلي ، وقصر الشورى على القوى المنحرفة عن الامام والمعادية له.

4 - ومن عجيب أمر الشورى التي وضع برامجها عمر أنه يشهد بحق أعضائها ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مات وهو راض عنهم ثم يأمر

ص: 188

بضرب أعناقهم إن تأخروا عن انتخاب أحدهم فهل ان ذلك موجب للخروج عن الدين ، والمروق من الاسلام حتى تباح دماؤهم!!؟

5 - ومن غريب أمر هذه الشورى ان عمر جعل الترجيح للكفة التي تضم عبد الرحمن فيما اذا اختلف أعضاؤها ، وغض طرفه عن الجماعة التي تضم أمير المؤمنين علیه السلام فلم يعرها أي اهتمام بل الزمها بالخضوع لرأي عبد الرحمن بن عوف ، وتقديمه على أمير المؤمنين وهو صاحب المواهب والعبقريات الذي لا ند له فى علمه وورعه وتقواه فكيف يساويه بغيره ، واللّه تعالى يقول : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) أف لك يا زمان ، وتعسا لك يا دهر أيكون أمير المؤمنين ندا لأعضاء الشورى ، ويرجح عليه عبد الرحمن ، ولكنها الاحقاد والعصبيات التي أترعت نفوسهم بها قد أنستهم المقاييس ، وصدتهم عن جادة العدل.

6 - ومما يؤخذ على هذه الشورى انها أوجدت التنافس بين أعضائها فقد رأى كل واحد منهم أنه كفؤ للآخر ، ولم يكونوا قبلها على هذا الرأي فقد كان سعد تبعا لعبد الرحمن ، وعبد الرحمن تبعا لعثمان ، والزبير من شيعة الامام ، وهو القائل على عهد عمر : « واللّه لو مات عمر بايعت عليا » ولكن الشورى قد نفخت فيه روح الطموح ففارق أمير المؤمنين وخرج عليه يوم الجمل ، وقد تولدت في نفوسهم بسبب الشورى الاطماع والاهواء ، ورجا الخلافة وتطلبها من ليس أهلا لها حتى ضجت البلاد بالفتن والاختلاف ، واضطربت كلمة المسلمين ، وتصدع شملهم ، وقد صرح بهذا الواقع المرير معاوية بن ابي سفيان في حديثه مع ابن حصين الذي أوفده زياد لمقابلته ، فقد قال له معاوية :

- بلغنى ان عندك ذهنا ، وعقلا فاخبرني عن شيء أسألك عنه؟

ص: 189

- سلنى عما بدا لك :

- أخبرني ما الذي شتت أمر المسلمين ، وملأهم وخالف بينهم؟؟

- قتل الناس عثمان

- ما صنعت شيئا

- مسير علي إليك وقتاله اياك

- ما صنعت شيئا

- مسير طلحة ، والزبير ، وعائشة ، وقتال علي إياهم!!

- ما صنعت شيئا

- ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين

- أنا أخبرك انه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر الى ستة نفر ، وذلك ان اللّه بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فعمل بما أمره اللّه به ، ثم قبضه اللّه إليه ، وقدم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأمر دينهم ، فعمل بسنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسار بسيرته حتى قبضه اللّه ، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته ، ثم جعلها شورى بين ستة نفر فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلعت الى ذلك نفسه ، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك خلاف .. » (1)

هذه بعض آفات الشورى التي فتحت باب الفوضى والنزاع بين المسلمين ، وتركت الطلقاء وأبناءهم يتسابقون الى ميدان الخلافة الاسلامية وينزون على منابر المسلمين ، ويستأثرون بالفيء وينكلون باخيار المسلمين

ص: 190


1- العقد الفريد 3 / 73 - 74

وصلحائهم فانا لله وإنا إليه راجعون.

الانتخاب :

ولاقى عمر ربه ، ومضى الى مقره الأخير (1) فاحاط البوليس بأعضاء الشورى ، وألزمهم بالاجتماع لينفذوا وصية عمر ، ويختاروا للمسلمين حاكما منهم ، فاجتمع المرشحون في بيت المال ، وقيل في بيت مسرور بن محرمة وأشرف على الانتخاب الامام الحسن علیه السلام وعبد اللّه بن عباس ، وازدلف عمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة الى محل الانتخاب فجلسا في الباب ، فعرف قصدهما سعد بن أبي وقاص فنهرهما وقال :

« تريدان ان تقولا : حضرنا ، وكنا في أهل الشورى؟! »

وتداول الاعضاء الحديث فيما بينهم عمن هو أحق بالامر وأولى به وأكثرهم قدرة وقابلية على ادارة شئون الحكم ، وانبرى إليهم أمير المؤمنين علیه السلام فأقام عليهم الحجة ، وحذرهم مغبة ما يحدث في البلاد من الفتن ان استجابوا لنزعاتهم ولم يؤثروا الحق فقال علیه السلام :

« لم يسرع أحد قبلي الى دعوة حق ، وصلة رحم ، وعائدة كرم فاسمعوا قولي ، وعوا منطقى ، عسى أن تروا هذا الامر من بعد هذا اليوم

ص: 191


1- توفى عمر يوم الاربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، وكانت ولايته عشر سنين وستة اشهر ، واربع ليال وهو ابن ثلاث وستين سنة جاء ذلك في مروج الذهب 2 / 198 وكان قبل الاسلام من الفقر والبؤس بمكان ، يقول عمرو بن العاص : « واللّه لقد رايت عمر واباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية ، لا تجاوز مأبض ركبتيه ، وعلى رقبته حزمة حطب » ذكر ذلك ابن ابي الحديد في شرح النهج 1 / 175

تنتضى فيه السيوف ، وتخان فيه العهود ، حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلال وشيعة لأهل الجهالة .. » (1)

ولم يعوا منطق الامام ، ولم يتأملوا فيه ، وانطلقوا مدفوعين وراء أطماعهم وأهوائهم ، وكشف الزمن بعد حين صدق تنبؤ الامام ، فقد انتضوا السيوف ، وخانوا العهود ليصلوا الى صولجان الحكم والسلطان وصار بعضهم أئمة لأهل الضلالة ، وشيعة لأهل الجهالة

وعلى اي حال ، فقد كثر الجدال فى الموضوع ، وانفضت الجلسة ولم تنته على محصل ، وكان الناس ينتظرون بفارغ الصبر النتيجة الحاسمة التي تسفر عن اجتماعهم ، فلم يظفروا بشيء ، وانعقد الاجتماع مرة أخرى ولكنه لم يسفر عن اي نتيجة وأخذت فترة الزمن التي حددها عمر تضيق فأشرف أبو طلحة الانصارى على الاعضاء وقال لهم :

« لا والذي نفس عمر بيده!. لا أزيدكم على الايام الثلاثة التي أمرتم .. »

واقترب اليوم الثالث ، فانعقد الاجتماع فانبرى طلحة ، ووهب حقه لعثمان وانما فعل ذلك لعلمه بانحرافه عن أمير المؤمنين علیه السلام ، فاراد يقوي جانبه ، ويضعف جانب الامام ، وانطلق الزبير فوهب حقه للامام لأنه رأى الامام قد ضعف جانبه ، واندفع سعد فوهب حقه لعبد الرحمن ابن عوف لأنه ابن عمه (2) أما عبد الرحمن الذي أناط به عمر أمر الشورى وجعل رأيه هو الفيصل فكان يرى في نفسه الضعف وعدم القدرة على ادارة شئون الحكم ، فاتجه الى ترشيح غيره ، وكانت ميوله مع عثمان ،

ص: 192


1- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 31
2- شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 189

واستشار القرشيين فزهدوه في أمير المؤمنين وحببوا له عثمان ، ودفعوه الى اختياره وانتخابه.

وحلت الساعة الرهيبة التي تغير فيها مجرى التأريخ فقال عبد الرحمن لابن اخته :

« يا مسور .. اذهب فادع لي عليا وعثمان.

« بأيهما أبدأ يا خال؟ »

« بأيهما شئت. »

فانطلق مسور ، فاحضر الامام ، وعثمان وحضر المهاجرون والانصار وازدحمت الجماهير في الجامع لتأخذ القرار الحاسم فقام عبد الرحمن وقال :

« أشيروا علي في هذين - واشار الى سليل هاشم ، وشيخ الامويين - » فانبرى إليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر فقال له :

« ان أردت ألا يختلف الناس فبايع عليا .. »

وأشار عليه بالرأي الصائب الذي يصون الامة من الاختلاف ، ويحميها من النزاع والانشقاق ، وانطلق المقداد فأيّد مقالة عمار ، فقال :

« صدق عمار .. وإن بايعت عليا ، سمعنا واطعنا .. »

فقام عبد اللّه بن ابي سرح أحد أعلام الامويين الذين ناهضوا النبي صلی اللّه علیه و آله وناجزوه فخاطب ابن عوف فقال له :

« إن أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان .. »

واندفع عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي فقال :

« صدق إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا .. »

وانبرى عمار بن ياسر فشتم ابن أبي سرح وقال له :

« متى كنت تنصح للإسلام؟؟! »

ص: 193

وصدق عمار فمتى كان ابن أبي سرح يقيم وقارا للاسلام ، او ينصح المسلمين ، ويهديهم الى طريق الحق ، وقد كان من اعدى الناس الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولما فتح مكة أمر صلی اللّه علیه و آله بقتله ولو كان متعلقا باستار الكعبة (1) ، أمثل هذا الوغد يتدخل في شئون المسلمين؟ ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.

وتكلم بنو هاشم وبنو أميّة ، واحتدم الجدال بين الاسرتين ، فانطلق ابن الاسلام البار عمار بن ياسر فقال :

« أيها الناس إن اللّه اكرمكم بنبيه ، وأعزكم بدينه ، فالى متى تصرفون هذا الامر عن اهل بيت نبيكم!!؟ »

لقد كان كلام عمار حافلا بمنطق الاسلام الذي وعاه قلبه فان قريشا وسائر العرب إنما اعزها اللّه بدينه وأسعدها بنبيه ، فهو مصدر عزهم وشرفهم ومجدهم ، فليس من الانصاف ولا من العدل أن يصرفوا الامر عن أهله وعترته ويضعونه تارة في تيم واخرى في عدي ، ويجهدون الآن ليضعونه في قبيلة اخرى وانبرى إليه رجل من مخزوم فقطع عليه كلامه قائلا :

« لقد عدوت طورك يا ابن سمية .. وما أنت وتأمير قريش لأنفسها!!؟ » وقد أترعت نفس الرجل بروح الجاهلية فراح يندد بابن سمية ، ويرى أنه عدا طوره ، وتجاوز حده لتدخله فى شئون قريش ، وأي حق لقريش في هذا الامر؟! وهي التي ناهضت النبي صلی اللّه علیه و آله وناجزته ، ووقفت في وجه دعوته ، وإنما الامر للمسلمين يشترك فيه ابن سمية - الذي أعزه اللّه بدينه - وسائر الضعفاء الذين ساندوا الرسول ، وحاموا عن دعوته فهؤلاء لهم الرأى ولهم الحكم وليس لطغاة قريش أي رأي

ص: 194


1- الاستيعاب 2 / 375

لو كان هناك منطق أو حساب

وعلى أي حال فبعد ما كثر النزاع بين القوى الاسلامية الواعية ، وبين القوى المنحرفة عنه التفت سعد الى عبد الرحمن فقال له :

« يا عبد الرحمن .. افرغ من امرك قبل أن يفتتن الناس .. » »

فاسرع عبد الرحمن الى الامام :

« هل أنت مبايعي على كتاب اللّه وسنة نبيه ، وفعل ابي بكر وعمر؟ :

فرمقه الامام بطرفه واجابه بمنطق الايمان ، ومنطق الاحرار قائلا « بل على كتاب اللّه وسنة رسوله واجتهاد رأيي .. »

ولا يتوقع من الامام علیه السلام غير ذلك فان مصدر التشريع في الاسلام كتاب اللّه وسنة نبيه فعلى ضوئهما تسير الدولة ، وتعالج مشاكل الرعية ، وليس فعل ابي بكر وعمر من مصادر التشريع ، وقد نهج أبو بكر في سياسته منهجا خاصا لم يوافقه عمر فيه ويرى انه كان بعيدا عن سنن التشريع فقد كان لأبي بكر رأيه الخاص في خالد بن الوليد حينما قتل مالك بن نويرة (1) وزنى بزوجته فقد رأى أبو بكر أن خالدا تأول فأخطأ

ص: 195


1- مالك بن نويرة بن حمزة التميمي ، اليربوعى ، يكنى أبا حنظلة ، ويلقب « الجفول » كان شاعرا فارسا شريفا ، معدودا فى قومه من فرسان بني يربوع في الجاهلية ، وكان من ارداف الملوك ، استعمله النبي صلی اللّه علیه و آله لوثاقته ونباهته على صدقات قومه ، فلما بلغه وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله امسك عن الصدقة ، وفرقها في قومه ، ولعله عمل فى ذلك بالسنة التي نصت على توزيع الزكاة على فقراء المنطقة فان فضل منها شيء يحمل الى بيت المال وإلا فلا ، ويقول فى ذلك فقلت خذوا اموالكم غير خائف *** ولا ناظر فيما يجيء من الغد فان قام بالدين المخوف قائم *** اطعنا وقلنا الدين دين محمد وهذا الشعر يدل على إيمانه وتمسكه الوثيق بدينه ، وقد زحف إليه خالد بن الوليد ، ولم يؤمر بقتاله فغشيه في الليل ، وبعد اداء فريضة الصلاة خف بجيشه الى الاستيلاء على اسلحتهم ، وامساكهم ، وساقوهم اسرى الى خالد ، وفيهم زوجة مالك ليلى بنت المنهال ، وهى من اشهر نساء العرب فى جمالها ، فافتتن بها خالد ، وتجادل بالكلام مع مالك فقال له خالد : إني قاتلك : قال له مالك : أو بذلك امرك صاحبك - يعنى ابا بكر - قال واللّه إني قاتلك ، وكان عبد اللّه ابن عمر وابو قتادة الانصاري الى جانبه فعذلاه عن قتله فأبى وقال : لا اقالنى اللّه إن لم اقتله ، وامر ضرار بن الازور بضرب عنقه ، فالتفت مالك الى زوجته ، وقال لخالد : هذه التي قتلتني ، فقال له خالد : بل اللّه قتلك برجوعك عن الاسلام ، فرد عليه مالك قائلا : إني على الاسلام ، وقام ضرار فقتله صبرا وجعل خالد رأسه اثفية لقدر ، وقبض على زوجته وبنى بها في تلك الليلة ، ودرأ ابو بكر عنه الحد بدعوى انه تأول فأخطأ ، يراجع فى تفصيل الحادث المؤسف النص والاجتهاد للامام شرف الدين.

فلا يستحق أن يقام عليه الحد ، ويرى عمر أنه لا بد من اقامة الحد عليه ولا مجال لاعتذار ابي بكر ، وسلك أبو بكر في سياسته المالية منهجا اقرب الى المساواة من سياسة عمر التي انتهجت في كثير من شئونها منهج الطبقية وتقديم بعض المسلمين على بعض في العطاء ، وحرم عمر المتعتين وهما حسب اعترافه كانتا مشروعتين في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولعمر فتواه المتعارضة فى ميراث الجدة وغيرها فعلى أي منهج منها يسير ابن أبي طالب رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الارض ، ولو كان علیه السلام يروم الأمرة والسلطان لالتزم لابن عوف بشرطه ، وبعد ذلك يسير برأيه الخاص في الحكم ، ويعتقل المعارضين له ولكنه علیه السلام أبى ذلك وحجزه إيمانه الوثيق أن يقر شيئا لا يراه مشروعا.

ولما يئس ابن عوف من الامام انبرى الى عثمان فشرط عليه ذلك فابدأ عثمان الموافقة لأي شرط وأرسل يده فصفق عبد الرحمن بكفه عليها وقال :

« اللّهم. إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان .. »

وعلا الضجيج والصخب بين الناس ، فقد فاز عميد الامويين بالحكم وآلت إليه امور الخلافة ، وانطلق أمير المؤمنين علیه السلام فقال لابن عوف :

« واللّه ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ،

ص: 196

دق اللّه بينكما عطر منشم » (1)

والتفت الى القرشيين فقال لهم :

« ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل ، واللّه المستعان على ما تصفون. »

واندفع ابن عوف الى الامام يهدده

« يا علي ، لا تجعل على نفسك سبيلا »

وغادر الامام المسجد وهو يقول :

« سيبلغ الكتاب أجله. »

وانطلق الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر ، وهو يخاطب ابن عوف :

ص: 197


1- منشم : - بكسر الشين - اسم امراة كانت بمكة عطارة ، وكانت خزاعة وجرهم اذا ارادوا القتال تطيبوا من طيبها ، وكانوا اذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم ، فكان يقال اشأم من عطر منشم ، صحاح الجوهرى 5 / 2041 وقد استجاب اللّه دعاء الامام فكانت بينهما اشد المنافرة والخصومة واوصى ابن عوف ان لا يصلي عليه عثمان.

« يا عبد الرحمن .. أما واللّه لقد تركته ، وانه من الذين يقضون بالحق ، وبه كانوا يعدلون .. »

وخرج المقداد ، وهو مثقل الخطا ويقول :

« تاللّه ما رأيت مثل ما أتى الى أهل هذا البيت بعد نبيهم!! واعجبا لقريش!! لقد تركت رجلا ما اقول ولا أعلم أن أحدا أقضى بالعدل ولا اعلم ولا اتقى منه أما لو أجد أعوانا .. »

وقطع عليه عبد الرحمن كلامه فقال له :

« اتق اللّه يا مقداد ، فاني خائف عليك الفتنة .. » (1)

واشرف الامام الحسن على الانتخاب فراعه ما رأى من انقياد القوم نحو الاغراض الشخصية ، والمطامع ، واستبان له أن المهاجرين من قريش يحملون في نفوسهم حقدا وضغنا على أبيه ، وان الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه حيث ما درّت معايشهم ، وقد تركت تلكم الصور التي اجتازت عليه في نفسه أشد الاستياء والتذمر ، وعرفته ان القوم يسيرون وراء مصالحهم وأطماعهم ، ولا شأن لهم بالمصلحة العامة ، وهنا نودع الامام الحسن لنلتقي معه في عهد الخليفة الثالث.

ص: 198


1- شرح النهج لابن ابي الحديد 1 / 194

فى عهد عثمان

اشارة

ص: 199

ص: 200

نستقبل الحسن علیه السلام في عهد عثمان وهو في شرخ الشباب وعنفوانه فقد كان عمره ينيف على عشرين عاما وهو دور يسمح لصاحبه أن يخوض معترك الحياة ، وأن يعطي رأيا في الناحية الاجتماعية فدخل الامام علیه السلام في دوره هذا - على ما قيل - ميدان الجهاد « والجهاد باب من أبواب الجنة » فانضم الى المجاهدين حيث اتجهت ألويتهم الفاتحة الى احتلال افريقية ، سنة ست وعشرين من الهجرة (1) وتذكر المجاهدون في حفيد الرسول صلی اللّه علیه و آله شخصية جده ، فأبلوا بلاء حسنا حتى فتح اللّه على أيديهم وبعد ما وضعت الحرب أوزارها اتجه الحسن علیه السلام الى عاصمة جده صلی اللّه علیه و آله والنصر حليفه وقلبه مفعم بالسرور والارتياح لتوسع النفوذ الاسلامى وانتشار دين جده ، ولما كانت سنة ثلاثين من الهجرة اتجهت الجيوش الاسلامية الفاتحة والتي يرف النصر عليها

ص: 201


1- العبرج 2 ص 128 و129 لابن خلدون ، وجاء فيه ان عثمان وجه جيشا الى غزو افريقية فى سنة خمس وعشرين وكانت قيادة الجيش بيد عبد اللّه ابن نافع وعقبة بن نافع بن عبد القيس ، فتوجه الجيش الى افريقية وكان عدده عشرة آلاف ، فلما وصلوا إليها لم يتمكنوا على فتحها وصالحهم اهلها على مال يؤدونه إليهم ، ثم ان عبد اللّه بن ابى سرح اخا عثمان من الرضاعة استأذن عثمان على غزو افريقية وطلب منه ان يمده بالجيش فاستشار عثمان الصحابة فحبذ إليه اكثرهم ذلك ، فجهز عثمان إليه جيشا من المدينة فيهم ابن عباس وابن العاص وابن جعفر والحسن والحسين فساروا الى افريقية ففتحوها وذلك في سنة ست وعشرين ولم يذكر صاحب الفتوحات الاسلامية انضمام الحسن والحسين علیهماالسلام الى الجيش.

الى احتلال طبرستان فانضم الحسن علیه السلام إليها (1) وببركته فتح اللّه على أيديهم ورف لواء الاسلام عليها ، ففي سبيل المصلحة العامة وخدمة الدين اللذين هما فوق سائر الاعتبارات دخل الامام الحسن علیه السلام في ميدان الجهاد والكفاح ، والقى الستار على ما يكنه في نفسه من الاستياء على ضياع حق أبيه ، وهو درس رائع يجب أن تستفيد منه الاحزاب السياسية القائمة في البلاد من ان عنعنات الحزبية يجب ان تلغى أمام صالح البلاد والمجتمع.

وساس عثمان الامة حفنة من السنين فكانت سياسته بعيدة كل البعد عن سنة الرسول صلی اللّه علیه و آله وسيرة الشيخين وبعيدة كل البعد عن روح ذلك العصر لأنها لم تتفق مع الناحية الدينية والاجتماعية لذلك كتب لها الفشل والخذلان ، وسبب ذلك يرجع الى عدم قدرة الخليفة على ادارة شئون الامة وعجزه من الناحية الادارية ، وضعف ارادته ضعفا يلمس في كافة أعماله ، وصدق « امرسن » في قوله :

« إن قوة الارادة سر النجاح ، والنجاح غاية الوجود ، فان قوة إرادة نابليون ، وكرنت ، والاسكندر وغيرهم من رجال التأريخ هي التي

ص: 202


1- تأريخ الامم والملوك ج 5 ص 57 و58 العبر ج 2 ص 134 الفتوحات الاسلامية ج 1 ص 175 جاء فى كل هذه المصادر انه غزا سعيد بن العاص طبرستان سنة ثلاثين من الهجرة ، وكان الأصبهبد قد صالح سويد بن مقرن على مال بذله له في ايام عمر بن الخطاب ، فلما كان دور عثمان جهز إليهم جيشا بقيادة سعيد بن العاص ، كان فيه الحسن والحسين وعبد اللّه بن عباس وغيرهم فلما وصلوا إليها فتحوها ، وقال الراغب الاصفهاني فى محاضرات الادباء ج 1 ص 76 الأصبهبد هو صاحب الجبل وهو الصواب لا الأصبهبد.

خلدت اسماءهم ، وإنا لنرى عددا كبيرا من رجال التأريخ لم ينتج انخذالهم على ما اشتهروا به من الشجاعة والحنكة والذكاء إلا عن ترددهم ، وضعف إرادتهم ، وان من المحال أن ندخل معترك الحياة ، ونرجو الفوز فيها دون أن تكون لدينا إرادة قوية » (1)

إن قوة الارادة لها الاثر التام في تكوين الشخص وفي خلوده فى هذه الحياة ، وان الشخص الضعيف المغلوب على امره يستحيل أن يحقق أي هدف للامة أو يبني لها كيانا ، وقد حرص الاسلام كل الحرص على ابعاد ضعيف الارادة عن قيادة الامة ، ومنعه من مزاولة الحكم لأنه يعرض البلاد للاخطار ، ويجر لها الويلات والخطوب ، ويذهب بهيبة الحكم ومعنويته ويغري ذوي القوة بالتمرد والخروج من الطاعة.

إن عثمان كان فاقد الارادة الى حد بعيد ، فلم تكن له قدرة لمواجهة الاحداث ، ولا قابلية له للتغلب عليها فقد او كل شئون الدولة الى مروان يتصرف بها حسب ما يشاء ، ونقل ابن ابي الحديد عن بعض مشايخه ان الخليفة فى الحقيقة والواقع مروان ، وعثمان له اسم الخلافة لا غير.

وعلى أي حال فلا بد لنا أن نتبين قصة عثمان ، ونقف على حقيقتها وواقعها فان لها ارتباطا وثيقا بما نحن فيه ، فقد زعم غير واحد من المؤرخين أن الامام الحسن علیه السلام كان عثمانى الهوى ، وانه وقف يوم الدار مدافعا عن عثمان ، وحزن عليه بعد مقتله حزنا بالغا ، وانه كان يندد بأبيه لأنه لم يقم بنجدته وحمايته ، وقد مال لذلك الدكتور طه حسين وأرسلها الى القراء ارسال المسلمات من دون ان يتبين فيها ، ولا يعرف مدى واقعية ذلك إلا بعد التعرف على سياسة عثمان وسيرته فانها هي التي

ص: 203


1- قوة الارادة لاوريسون سويت ماردن

تكشف عن زيف هذه الامور وعدم التقائها بواقع الامام علیه السلام الذي كان يحمل هدي جده الرسول صلی اللّه علیه و آله وسيرة أبيه.

وقبل التحدث عن سياسة عثمان نود أن نبين أنا نلتقي في كثير من بحوثنا الآتية مع الدكتور طه حسين فقد حاول تبرير عثمان ، وتنزيهه عن التهم التي الصقت به بوجوه بعيدة خالية من التحقيق العلمي ، وقد تنصل في طليعة بحوثه عن عثمان عن كل هوى وتعصب طائفى ، فليس هو شيعة لعثمان وليس شيعة لعلي ، وانما يريد أن يخلص في بحوثه للحق ما وسعه اخلاصه للحق وحده (1) ولكنه لم يلتزم بوعده فانطلق يتمسك بالاسباب الواهية لتصحيح أخطاء السياسة العثمانية التي لم تساير فى اي مرحلة من مراحلها كتاب اللّه وسنة نبيه ، وسيرة الشيخين ، حتى نقم عليها خيار المسلمين وصلحاؤهم ، وثارت عليه الاقاليم الاسلامية ، واحاطت به جماهير المسلمين يطالبونه أن يعتدل في سياسته وأن يسير على الطريق الواضح والمحجة البيضاء فلم يستجب لذلك فاردوه صريعا ، قد شقيت الامة بحكمه ، وامتحنت بعد مقتله.

إن الواجب يقضى بأن ننظر الى هذه الاحداث بدقة وأمانة ، ونتعمق فيها ، ونبين معطياتها فانها ترتبط بواقعنا الدينى ، وليس لنا ان نلتمس المعاذير لأي شخص كان فيما اذا جافت سيرته تعاليم الاسلام ، وتنافت مع مبادئه واحكامه ، والى القراء بعض تلك المؤاخذات التي تواجه سياسة عثمان :

ص: 204


1- الفتنة الكبرى 1 / 5

عفوه عن عبيد اللّه

واستقبل عثمان خلافته بالعفو عن عبيد اللّه بن عمر الذي ثار لمقتل أبيه فقتل بغير حق الهرمزان ، وجفينة ، وبنت أبي لؤلؤة ، وأراد قتل كل سبي بالمدينة فانتهى إليه سعد بن أبي وقاص فساوره وقابله بناعم القول حتى أخذ منه السيف ، وأودع في السجن حتى ينظر عثمان في امره ، ولما تمت البيعة لعثمان اعتلى أعواد المنبر ، وعرض على المسلمين قصة عبيد اللّه فقال :

« وقد كان من قضاء اللّه ان عبيد اللّه بن عمر أصاب الهرمزان ، وكان الهرمزان من المسلمين ، ولا وارث له إلا المسلمون عامة ، وأنا إمامكم وقد عفوت أفتعفون؟ .. »

فانبرى جمع من الناس فاعلنوا الرضا ، والاقرار للعفو سوى الامام أمير المؤمنين علیه السلام فقد انكر على عثمان ولم يرض بقضائه وقال له :

« أقد الفاسق فانه أتى عظيما ، قتل مسلما بلا ذنب .. »

وصاح الامام بعبيد اللّه « يا فاسق .. لئن ظفرت بك لأقتلنك بالهرمزان. » (1)

واندفع المقداد بن عمر فرد على عثمان قائلا :

« إن الهرمزان مولى لله ولرسوله ، وليس لك أن تهب ما كان لله ولرسوله .. » (2)

ولم يرض ثقات المسلمين وصلحاؤهم بهذا العفو واعتبروه تعديا على الاسلام وخرقا لحدوده فكان زياد بن لبيد إذا لقى عبيد اللّه يقول له :

ألا يا عبيد اللّه مالك مهرب *** ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر

ص: 205


1- الانساب للبلاذري 5 / 24
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 141

أصبت دما واللّه في غير حله *** حراما وقتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل *** أتتهمون الهرمزان على عمر

فقال سفيه والحوادث جمة *** نعم أتهمه قد أشار وقد أمر

وكان سلاح العبد في جوف بيته *** يقلبه والامر بالامر يعتبر

وشكا عبيد اللّه الى عثمان فدعا زيادا فنهاه عن ذلك ، ولكنه لم ينته وقد تناول بالنقد عثمان فقال فيه :

أبا عمرو عبيد اللّه رهن *** - فلا تشكك - بقتل الهرمزان

فانك ان غفرت الجرم عنه *** وأسباب الخطا فرسا رهان

لتعفو إذ عفوت بغير حق *** فما لك بالذي تخلي يدان

وغضب عثمان على زياد فنهاه وزجره حتى انتهى (1) واخرج عبيد اللّه من يثرب الى الكوفة ، وأنزله دارا فنسب الموضع إليه فقيل « كويفة ابن عمر » وروى الطبري ان عثمان استشار الصحابة في شأن عبيد اللّه ، فاشار عليه قوم بالعفو ، وقالوا : يقتل عمر امس ويقتل ابنه اليوم ، وأشار عليه جماعة منهم الامام أمير المؤمنين بالقود ، فقال له عمرو بن العاص يا أمير المؤمنين ، ان اللّه قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان ، إنما كان هذا الحدث ، ولا سلطان لك ، فاستجاب عثمان لرأيه وقال : أنا وليهم وقد جعلتها دية ، واحتملها في مالى (2)

وقد حفلت هذه البادرة بما يلي من المؤاخذات :

1 - ان الاسلام قد ألزم ولاة الامور باقامة الحدود وعدم التسامح

ص: 206


1- تاريخ الطبري 5 / 41
2- تاريخ الطبري 5 / 41

والتساهل فيها للحفاظ على النظام العام ، وصيانة النفوس ، وحمايتها من الاعتداء وليس للحاكم ان يقف موقف اللين والتسامح مع المعتدى مهما كانت له من مكانة مرموقة في المجتمع ، وقد أعلن ذلك الرسول صلی اللّه علیه و آله وطبقه على واقع الحياة فقد سئل أن يعفو عن سارقة لشرف أسرتها فأجاب :

« انما هلك من كان قبلكم لأنهم كانوا إذا أذنب الضعيف فيهم عاقبوه ، واذا أذنب الشريف تركوه ، واللّه لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها .. » (1)

وجلد صلی اللّه علیه و آله أصحاب الإفك ، وفيهم سطح بن اثاثة (2) وكان من أهل بدر ، هذا ما يقتضيه العدل الاسلامى الذي لا يفرق بين الابيض والاسود ، والضعيف والقوي ، والرئيس والمرءوس فهم سواسية أمام القانون ، وقد جافى عثمان ذلك ، وخالف ما يقتضيه العدل فلم يفد عبيد اللّه لأنه ابن عمر ، وفتى من فتيان قريش فآثر رضا آل الخطاب ورضا قريش فعفا عنه ، وابعده الى الكوفة ، ومنحه دارا يسكن فيها ، وقد فتح بذلك باب الفوضى والفساد ، ومكن ذوي النفوذ أن ينالوا من الضعفاء ، الذين ليس لهم ركن يأوون إليه.

2 - ان عثمان قد الغى رأى أمير المؤمنين الذي الزم بالقود ، وهو من دون شك أعلم بحدود اللّه واحكامه ، واستجاب لرأي ابن العاص الذي عرف ببغيه وحقده على الاسلام.

3 - ان المصلحة العامة كانت تقضى بالقود وعدم العفو عنه لأنه

ص: 207


1- النظام السياسي فى الاسلام ص 227 نقلا عن الخراج لأبي يوسف ص 50
2- اسد الغابة

لو قتله لكان اقطع للفساد ، وأنفى للقتل ، ولم يقدم أحد من ذوى النفوذ على ارتكاب هذه الجريمة ، فان ابن الخليفة قد اقتص منه ولكن عثمان لم يرع المصلحة العامة ، واستجاب الى الاغراض الخاصة التي تتنافى مع مصلحة الامة.

4 - إن الولاية للامام إنما تثبت فيما اذا علم ان المقتول لا وارث له والهرمزان من فارس فكان اللازم على عثمان أن يفحص عن وارثه ويتبين واقعيته ، ومع عدمه تثبت له الولاية ، ولكنه لم يفعل ذلك ، ولم يتحقق في أمره فاضفى على نفسه أنه وارثه ووليه.

5 - وليس للحاكم ان يعفو عن الدية ، وإنما له ان يصالح عليها كما يرى ذلك ملك العلماء الحنفى يقول :

« ان الامام له ان يصالح على الدية إلا أنه لا يملك العفو ، لأن القصاص حق المسلمين بدليل أن ميراثه لهم ، وإنما الامام نائب عنهم في الاقامة ، وفي العفو إسقاط حقهم أصلا ورأسا وهذا لا يجوز ، ولهذا لا يملكه الاب والجد وإن كانا يملكان استيفاء القصاص ، وله ان يصالح على الدية » (1). وعلى ضوء هذه الفتيا الحنفية فليس لعثمان صلاحية العفو عن الدية ، وهذا الاشكال يسجل على عثمان على ما رواه بعضهم من انه عفا عن الدية. هذه بعض المؤاخذات التي تواجه عثمان في عفوه عن عبيد اللّه وعدم قوده.

دفاع طه حسين

وحاول الدكتور طه حسين تبرير عثمان ، ونفي المسئولية عنه ، وكان اعتذاره لا يحمل طابعا علميا ، ونسوق الى القراء مواضع دفاعه :

ص: 208


1- بدائع الصنائع 7 / 245

1 - فما كان عثمان ليستفتح خلافته بقتل فتى من فتيان قريش ، وابن من أبناء عمر. وما كان عثمان ليهدر دم مسلم وذميين. وهو من أجل ذلك آثر العافية ، فأدى دية القتلى من ماله الخاص الى بيت مال المسلمين وحقن دم عبيد اللّه بن عمر ، وفي امضائه الحكم على هذا النحو سياسة رشيدة لو نظر الناس الى القضية نظرة سياسية خالصة (1).

ان عثمان لو استفتح خلافته بقتل عبيد اللّه لوفى للمسلمين ما عاهدهم عليه من السير على ضوء كتاب اللّه وسنة نبيه ، وتطبيق أحكام الشرع على واقع الحياة ولكنه انطلق في ميدان السياسة فآثر العافية وأهمل أحكام الدين وقد علق سماحة الامام كاشف الغطاء رحمه اللّه على هذا الاعتذار بقوله :

« هذا من الاغلاط الواضحة فان دم عبيد اللّه قد هدره الشرع ولم يحقنه - هذا أولا - وثانيا ان القتل كان عن عمد وحكمه القصاص لا الدية وقد غلط الاولون وجاء الآخرون يوجهون غلطهم بغلط آخر .. » (2)

2 - ونعود فنقول إن عثمان كان ولي أمر المسلمين وله بحكم هذه الولاية أن يعفو ، ونزيد على ذلك أنه حين عفا لم يعطل حدا من حدود اللّه ، ولم يهدر دم الهرمزان وصاحبيه ، وإنما ادى ديتهم من ماله لبيت مال المسلمين الذي كان يرثهم وحده .. » (3)

وقد علق عليه سماحة المغفور له كاشف الغطاء قال ما نصه :

ص: 209


1- الفتنة الكبرى 1 / 66
2- تعليقة مهمة للامام كاشف الغطاء على الفتنة الكبرى مخطوطة توجد فى مكتبته العامرة ، ودفاع طه حسين ونقد كاشف الغطاء إنما يتم على رواية الطبري من انه دفع الدية من ماله ولم يعف عنه
3- الفتنة الكبرى 1 / 67

« وهذا أيضا غلط ادهى وأمر فان واجب ولي أمر المسلمين اقامة حدود اللّه لا تعطيلها ، واعطاء الدية في مورد القصاص من دون رضاء أولياء الدم تحكم في احكام الشرع وتلاعب بالدين. »

3 - وقد أمر النبي ان تدرأ الحدود بالشبهات ، فلعل عثمان قد درأ هذا الحد عن عبيد اللّه بالشبهة التي تأتي من غضبه لأبيه واندفاعه مع شهوته الجامحة. واللّه قد حبب الى المسلمين العفو حين يقدرون وجزاهم عليه خيرا ... »

وهذا من الاغلاط الفظيعة فان الغضب لا يصلح أن تدرأ به الحدود وإلا لوجب أن يدرأ الحد عن كل قاتل على نحو القتل على الاكثر إنما يصدر عن الغضب والثورة الجامحة ، وقاعدة الحدود تدرأ بالشبهات لا تنطبق على ما نحن فيه فلها مواردها الخاصة والمورد ليس من مصاديقها ، ولو كان الغضب موجبا لسقوط القود لاعتذر به عثمان ، ودافع به عن نفسه حينما أنكر عليه أمير المؤمنين وغيره ، فهل الدكتور اعرف بمواقع السنة من عثمان؟!

إن دفاع الدكتور خال من التحقيق ، وليست له أي صبغة تشريعية ولا يمكن ان يبرر عثمان ويقصى عنه المسئولية.

ومهما يكن من أمر فان عفو عثمان عن عبيد اللّه لم يكن المقصود منه إلا تطييب قلوب آل الخطاب ، وارضاء القرشيين ، وليس فيه أي مصلحة للامة.

سياسته المالية

واحتاط الاسلام احتياطا شديدا في أموال الدولة ، وألزم الولاة

ص: 210

والحكام ان ينفقوها على المرافق العامة وعلى اصلاح الحياة ، ومكافحة الفقر ، واعالة الضعيف ، والانفاق على العاجزين كالارامل والايتام ، وليس لهم ان يدخروا منها لأنفسهم ، ولا أن يصطفوا منها لذراريهم ، فليست طعمة لهم ، ولا ملكا يتصرفون فيها حيثما شاءوا ، يقول الامام أمير المؤمنين لعبد اللّه بن زمعة لما قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا :

« إن هذا المال ليس لي ولا لك ، وإنما هو فيء للمسلمين وجلب أسيافهم ، فان شركتهم في حرب كان لك مثل حظهم ، وإلا فجناة ايديهم لا تكون لغير أفواههم .. » (1)

وكتب علیه السلام الى قثم بن العباس عامله على مكة :

« وانظر الى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفه الى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيبا به مواضع الفاقة والخلات ، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا » (2)

ويقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ان رجالا يتخوضون في مال اللّه بغير حق فلهم النار يوم القيامة » (3)

هذا هو نظر الاسلام بايجاز في الناحية المالية فهو يلزم المسئولين بصرف أموال الدولة على انعاش المواطنين ، وانقاذهم من البؤس والحاجة ، وليس لهم بأي حال أن يتاجروا بها في شراء الضمائر ، وصلة غير المحتاج ، ولكن عثمان لم يطبق ذلك لا بكثير ولا بقليل ، فقد تسلط على الخزينة المركزية ، ووهب الاموال الطائلة بسخاء الى الامويين والى آل أبي معيط لتقوية نفوذهم

ص: 211


1- نهج البلاغة 1 / 461
2- نهج البلاغة 2 / 128
3- صحيح البخاري 5 / 17

وتركيزهم في البلاد ، فقاموا بدورهم باستغلال المسلمين ، والتلاعب بمقدراتهم والتحكم في مصيرهم ، كما منح الاموال الطائلة الى الوجوه والاعيان الذين يخاف جانبهم ، ويحذر سطوتهم نظرا لنفوذهم السياسي فى البلاد ، وقد أدى ذلك الى تضخم الثراء وتكدس الاموال عند طائفة من الناس حاروا في صرفها وفي انفاقها ، ومن الطبيعي أن ذلك يؤدي الى نشر الفاقة وذيوع الفقر والبؤس بين الناس الامر الذي يتنافى مع اتجاه الاسلام الذي يحرص كل الحرص على اسعاد المجتمع ، ونشر الرفاهية ، وبسط السعة بين الناس ونسوق بعض البوادر للاستدلال بها على ما ذكرناه :

1 - هباته للأمويين

ومنح عثمان أموال المسلمين الى اسرته ، وذوي قرباه الذين تنكروا للإسلام ، وقابلوه ، وناجزوه الحرب ، فأوصلهم وبرّ بهم ، وحملهم على رقاب الناس ، ووهبهم الثراء العريض يتمتعون فيه ، ويبالغون في البذخ والاسراف ، والى القراء بعض اولئك الذين أغدق عليهم بهباته : أ - أبو سفيان

ووهب عثمان الى أبي سفيان مائتى الف من بيت المال (1) أعطاه هذه المنحة وهو رأس المشركين يوم أحد ، ويوم الاحزاب ، وفي طليعة الحاقدين على الاسلام ، والناقمين منه ، وما دخل الدين في قلبه ، ولا انتزعت روح الجاهلية من نفسه ، وهو الذي انطلق الى قبر حمزة فركله برجله ، وقال : « يا أبا عمارة! .. إن الامر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا يتلعبون به. » ثم مضى مثلوج القلب ، ودخل على عثمان بعد أن فقد بصره فقال :

ص: 212


1- شرح النهج 1 / 67

« اللّهم ، اجعل الامر أمر جاهلية ، والملك ملك غاصبية ، واجعل أوتاد الارض لبني أمية .. » (1)

فهل من العدل والانصاف أن تمنح أموال المسلمين الى هذا المنافق الذي اترعت روحه بالعداء والبغض للإسلام؟!! وهل تبيح الشريعة الاسلامية إعطاء هذه الاموال الى شخص ما آمن باللّه طرفة عين؟!

ب - الحارث بن الحكم

وأجزل عثمان بالعطاء الى الحارث بن الحكم لأنه صهره من عائشة فقد أعطاه ثلاثمائة الف درهم (2) ووردت ابل الصدقة الى المدينة فوهبها له (3) وأقطعه سوقا في يثرب يعرف بتهروز بعد أن تصدق به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على جميع المسلمين (4) وبما ذا استحق الحارث أن يمنح هذه الاموال الطائلة؟ فهل اسدى خدمة للاسلام او قام بعمل نفع به المسلمين حتى يستحق أن يوصل بهذه الاموال؟! هذا مع ان ابل الصدقة يجب ان تنفق على الفقراء والمعوزين ، كما أنه كيف خصه بصدقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع أنها لجميع المسلمين ، فلا مبرر ولا مسوغ له في هذا العطاء الذي خالف أحكام اللّه ، وتنافى مع صالح الامة

ج - عبد اللّه بن سعد

وأعطى عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة جميع ما أفاء اللّه به من فتح إفريقية بالمغرب وهي من طرابلس الغرب الى طنجة ، ولم

ص: 213


1- تأريخ ابن عساكر 6 / 407
2- انساب الاشراف 5 / 52
3- الانساب ص 28
4- شرح النهج 1 / 67

يشرك في عطائه أحدا من المسلمين (1) وهو أحد أعلام المشركين ، ومن الذين تنكروا للإسلام ، وكفروا بقيمه ، وسنذكر ترجمته في البحوث الآتية ما يثبت ذلك ، فكيف جاز لعثمان أن يوصله بهذه الاموال الهائلة ، ويمنحه هذا الثراء العريض.

د - الحكم بن أبي العاص

ويجدر بنا قبل أن نذكر هبات عثمان وصلاته للحكم أن نتعرف على واقعيته ، وبعض شئونه ليتضح أنه كان خليقا بالقطيعة والاقصاء ، وجديرا بالتوهين والاستخفاف ، وإن منحه أموال المسلمين أمر لا مبرر له بأي حال والى القراء ذلك :

1 - محاربته للإسلام

ووقف الحكم فى وجه الدعوة الاسلامية فكان يحرض الناس على البقاء على عبادة الاوثان ، ويمنعهم من الدخول في حظيرة الاسلام ، وقد التقى مروان بحويطب فسأله عن عمره فأخبره به فقال له مروان : « تأخر اسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الاحداث؟! »

فقال حويطب :

« واللّه لقد هممت بالاسلام غير مرة ، كل ذلك يعوقني أبوك يقول : تضع شرفك ، وتدع دين آبائك ، لدين محدث ، وتصير تابعا .. » (2)

إن الحكم وبقية الاسرة الاموية ناهضت الاسلام ، وبذلت جميع امكانياتها في صد الدعوة الاسلامية ومكافحتها بشتى الاساليب ، ولكن اللّه رد كيدهم ، ونصر الاسلام واعز دينه.

ص: 214


1- شرح النهج 1 / 67
2- تاريخ ابن كثير 8 / 70

2 - استهزاؤه بالنبي

كان الحكم من ألد أعداء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن أحقدهم عليه وقد بالغ في إيذائه والتوهين به ، والاستخفاف بمقامه الرفيع ، فكان يمر خلفه فيغمز به ، ويحكيه ، ويخلج بأنفه وفمه (1) والتفت النبي فرآه يفعل ذلك فقال : كذلك فلتكن ، فكان الحكم مختلجا يرتعش حتى مات ، وقد عيره بذلك عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال فى هجاء عبد الرحمن بن الحكم :

إن اللعين أبوك فارم عظامه *** إن ترم ترم مخلجا مجنونا

يمسي خميص البطن من عمل التقى *** ويظل من عمل الخبيث بطينا (2)

3 - لعن النبي له

واستأذن هذا الخبيث الماكر على النبي صلی اللّه علیه و آله فقال صلی اللّه علیه و آله : ائذنوا له لعنة اللّه عليه وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنين ، وقليل ما هم ، ذوو مكر وخديعة يعطون الدنيا ، وما لهم في الآخرة من خلاق (3) وأمر صلی اللّه علیه و آله الامام عليا أن يقوده كما تقاد الشاة ويأتي به إليه فأنطلق الامام وجاء به وهو آخذ بأذنه حتى أوقفه بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلعنه ثلاثا ، ثم قال : أحله ناحية حتى راح إليه قوم من المهاجرين والانصار ، ثم دعا به ثانيا فلعنه ، وقال : إن هذا سيخالف كتاب اللّه وسنة نبيه ، وستخرج من صلبه فتن يبلغ دخانها السماء ، فقال إليه قوم هو أقل ، وأذل من أن

ص: 215


1- الانساب 5 / 27
2- الاستيعاب 1 / 118
3- السيرة الحلبية 1 / 337

يكون هذا منه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : بلى وبعضكم يومئذ شيعته (1)

4 - نفيه الى الطائف

وكان هذا الرجس الخبيث يفشى أحاديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويبالغ فى ايذائه فنفاه الى الطائف ، وقال : لا يساكننى (2) ولم يزل منفيا هو وأولاده طيلة خلافة الشيخين ، وقد توسط عثمان في شأنه عندهما فلم يستجيبا له وظل مبعدا منفيا.

5 - رجوعه الى يثرب

ولما آل الامر الى عثمان أصدر عنه العفو فقدم الى يثرب ، وعليه فزر خلق وهو يسوق تيسا والناس ينظرون الى رثة ثيابه ، وسوء حاله ، فدخل دار عثمان ثم خرج وعليه جبة خز وطيلسان (3) وأوصله بمائة الف (4).

6 - توليته على الصدقات

وولاه على صدقات قضاعة فبلغت ثلاث مائة الف درهم فوهبها له (5) وقد ادى ذلك الى شيوع السخط والانكار عليه لأنه آوى طريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومنحه أموال الصدقة التي جعلها اللّه للفقراء والمحرومين وذوي الحاجة ، فكيف ساغ له أن يمنحها لهذا اللعين على لسان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والحكم في هذه المسألة للقراء.

ص: 216


1- كنز العمال 6 / 39
2- الانساب 5 / 27
3- تأريخ اليعقوبي 2 / 41
4- المعارف : ص 84
5- الانساب 5 / 28

5 - سعيد بن العاص

ومنح عثمان سعيد بن العاص مائة الف درهم (1) وهو من فساق بني أمية ، ومن فجارهم ، وكان أبوه من أعلام المشركين قتله الامام أمير المؤمنين يوم بدر (2) وقد أثار ذلك السخط على عثمان فانكر عليه ثقات المسلمين وصلحاؤهم.

6 - الوليد بن عقبة

والوليد بن عقبة أخو عثمان من أمه ، وكان فاسقا ماجنا لا يرجو لله وقارا - كما سنبين ذلك عند التحدث عن ولاة عثمان وعماله - قدم الكوفة فاستقرض من عبد اللّه بن مسعود أموالا طائلة من بيت المال فأقرضه ، وطلبها منه عبد اللّه فكتب الوليد الى عثمان بذلك ، فرفع عثمان مذكرة الى ابن مسعود جاء فيها ، إنما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال ، فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : كنت أظن أني خازن للمسلمين فأما اذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك ، وأقام بالكوفة بعد ان استقال من منصبه (3) وكيف ساغ لعثمان أن يبدد أموال المسلمين ، ويهبها الى أعداء اللّه وخصوم الاسلام ، ولنترك الحكم في ذلك للقراء.

7 - مروان بن الحكم

ومروان بن الحكم هر الذي لعنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو فى صلب أبيه كما رواه الامام الحسن علیه السلام (4) ولما ولد جيء

ص: 217


1- الانساب 5 / 28
2- اسد الغابة 2 / 310
3- الانساب 5 / 30
4- مجمع الزوائد 10 / 72

به الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : هو الوزغ ابن الوزغ ، الملعون ابن الملعون (1) ونظر إليه الامام أمير المؤمنين فقال له :

« ويل لك ، وويل لأمة محمد منك ومن بيتك إذا شاب صدغاك » (2) وكان رأسا من رءوس المنافقين ، ووجها من وجوه أهل الضلال والباطل ، وكان يلقب خيط باطل وفيه يقول الشاعر :

لعمرك ما أدرى واني لسائل *** حليلة مضروب القفا كيف يصنع

لحى اللّه قوما أمروا خيط باطل *** على الناس يعطي ما يشاء ويمنع (3)

وقد عرف بالغدر ، ونقض الوعد ، وخيانة العهد ، يقول الامام أمير المؤمنين حينما كلمه السبطان في مبايعة مروان له :

لا حاجة لي في بيعته ، إنها كف يهودية لو بايعنى بيده لغدر بسبابته أما إن له امرة كلعقة الكلب انفه ، وهو أبو الاكبش الاربعة ، وستلقى الامة منه ومن ولده يوما أحمر .. » (4)

وهذا الوزغ الرجس قد بر به عثمان وأحسن إليه ، ومكنه من بيت المال يهب منه لمن شاء ، ويمنع عنه من شاء ، ونسوق الى القراء الهبات الضخمة التي منحها عثمان لمروان وهى :

1 - اعطاه خمس غنائم إفريقية ، وقد بلغت خمس مائة الف دينار وقد عيب عثمان على ذلك وهجاه عبد الرحمن بن حنبل بقوله :

سأحلف باللّه جهد اليمي *** ن ما ترك اللّه أمرا سدى

ص: 218


1- مستدرك الحاكم 4 / 479
2- شرح ابن ابي الحديد 2 / 55
3- اسد الغابة 4 / 348
4- نهج البلاغة

ولكن خلقت لنا فتنة *** لكي نبتلي لك أو تبتلى

فان الامينين قد بينا *** منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غيلة *** وما جعلا درهما في الهوى

دعوت اللعين فأدنيته *** خلافا لسنة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس العبا *** د ظلما لهم وحميت الحمى (1)

2 - انه منحه الف وخمسين أوقية ولا نعلم انها من الذهب او الفضة وهي من جملة الامور التي سببت النقمة على عثمان (2)

3 - اعطاه مائة الف من بيت المال ، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى فنهره عثمان وقال له :

« اتبكى إن وصلت رحمي؟ »

« ولكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت انفقته في سبيل اللّه ، في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لو اعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا .. »

فزجره عثمان وصاح به

« الق المفاتيح .. يا بن أرقم ، فانا سنجد غيرك. » (3)

4 - واقطعه فدكا ، ووهبها له (4) وهي على كل حال لا تصح هبتها لأنها إن كانت نحلة لفاطمة علیهاالسلام كما تقول فهي لأبنائها ، وان كانت صدقة كما زعم أبو بكر فهي لجميع المسلمين ، وليس لعثمان ان

ص: 219


1- تأريخ ابى الفداء 1 / 168
2- سيرة الحلبي 2 / 87
3- شرح ابن ابي الحديد 1 / 67
4- تأريخ ابي الفداء 1 / 168 ، المعارف ص 84

يتصرف فيها على كلا الوجهين.

وعلى اي حال ، فأي خدمة أسداها مروان للامة ، وأي مكرمة أو مأثرة صدرت منه حتى يستحق هذا العطاء الجزيل ، ويمنح هذا الثراء العريض

هذه بعض اعطيات الخليفة ومنحه الى اسرته ، وذوى قرباه ، وهي من دون شك لا تتفق مع كتاب اللّه وسنة نبيه فانهما الزما بالمساواة بين القريب والبعيد ، وأهابا بالحاكمين ان لا يميزوا قوما على آخرين وأن يطبقوا العدل في جميع المجالات.

الانكار على عثمان :

وكان من الطبيعي أن تثير هذه السياسة سخط الاخيار ، والصلحاء والمتحرجين في دينهم بل وسخط العامة الذين ينظرون الى بني أميّة نظرة ريبة وشك في اسلامهم ، ويرون في هذا العطاء امتدادا لهم وتقوية لنفوذهم وبسطا لسلطانهم ، حتى نقم من عثمان عبد الرحمن بن عوف الذي انتخبه وعينه حاكما على المسلمين ، فكان يقول : عاجلوه قبل ان يتمادى في ملكه وكان يقول للإمام أمير المؤمنين : خذ سيفك وآخذ سيفي فانه قد خالف ما اعطاني ، ولما حضرته الوفاة اوصى أن لا يصلي عليه (1)

لقد شاع التذمر بين المسلمين من جراء هذه السياسة الملتوية ، وقد انكرت عليه الخاصة والعامة حينما استأثر بالسفط الذي كان في بيت المال فأخذ منه ما حلى به بعض أهله وصعد على أثر ذلك أعواد المنبر فقال :

« لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت به أنوف أقوام .. »

وقد اثار سخط الناس هذا الكلام فتصدى أمير المؤمنين الى رده فقال له :

ص: 220


1- الانساب للبلاذري

« إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه ».

واندفع الصحابي العظيم عمار بن ياسر فأيد مقالة الامام ، وأعلن نقمته على عثمان فقال :

« أشهد ان أنفى أول راغم من ذلك .. »

ولما منح سعيد بن العاص مائة الف درهم ، انطلق الامام أمير المؤمنين مع جماعة من اعلام الصحابة فعابوا عليه عمله ، وانكروا عليه هذا العطاء فقال لهم :

« إن له قرابة ورحما .. »

فردوا عليه حجته ، وقالوا له :

« أفما كان لأبي بكر وعمر قرابة؟ .. »

فأجابهم :

« ان ابا بكر ، وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وأنا أحتسب في اعطاء قرابتى .. » (1)

لقد نقم المسلمون من عثمان ، وسخط عليه خيارهم لأنه استأثر بالفيء ، ومنح أموال المسلمين الى بني أميّة ، ولم يطبق فى سياسته العدل الاجتماعى الذي جاء به الاسلام.

اعتذار عثمان

واعتذر عثمان للناقدين لسياسته بأنه أوصل رحمه ، وبرّ بذي قرباه وليس فى ذلك مأثم عليه او مخالفة للشرع - كما يراه - ولا بد لنا من وقفة قصيرة أمام هذا الاعتذار لنعرف مدى واقعيته ، وصحته ، والذي

ص: 221


1- الانساب 5 / 28

يقتضيه النظر أنه منطق مفلوج لا يتفق مع الشرع ، ولا يلتقي بصالح الامة وذلك - أولا - ان الاموال التي منحها لأسرته لم تكن من أمواله الخاصة لتكون له مندوحة في انفاقها عليهم ، وانما هي أموال المسلمين فيجب انفاقها عليهم ، وليس لرئيس الدولة أن يتصرف فيها بقليل ، ولا بكثير فقد ورد عقيل من يثرب وهو بائس مضطر الى أخيه أمير المؤمنين علیه السلام فطلب منه وفاء دينه ، فقال له الامام :

- كم دينك؟

- أربعون الفا

- ما هي عندي ، ولكن اصبر حتى يخرج عطائي فادفعه إليك - بيوت المال بيدك وأنت تسوفنى بعطائك؟

- أتأمرني ان أدفع إليك أموال المسلمين ، وقد ائتمنوني عليها. (1)

هذا هو منطق الاسلام ، وهذا عدله ، وهذه مساواته إنه لا يفرق بين القريب والبعيد فالجميع سواسية في العطاء وغيره.

و - ثانيا - إن اسرته التي برّ بها خليقة بالقطيعة وجديرة بأن لا توصل لأنها ناهضت الاسلام وناجزته الحرب ، وهي الشجرة الملعونة في القرآن فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو ان النبي صلی اللّه علیه و آله قال : رأيت ولد الحكم بن ابي العاص على المنابر كأنهم القردة فانزل اللّه : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة : يعنى الحكم وولده (2) وقالت عائشة لمروان سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول

ص: 222


1- اسد الغابة 3 / 423
2- تفسير الطبري 15 / 77 ، تفسير القرطبي 10 / 283

لأبيك : « أبي العاص بن أميّة » انكم الشجرة الملعونة في القرآن (1) وقد نهى اللّه عن موادة المعادين له ، وحرم مواصلتهم قال تعالى : « لا تجد قوما يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادون من حاد اللّه ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم » (2)

لقد كان عثمان شديد الحب للامويين فقد قال : « لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بنى أميّة حتى يدخلوا عن آخرهم .. » (3) وهذا الحب العارم لأسرته هو الذي اجهز عليه ، وحفز القوى الاسلامية الى الثورة عليه والاطاحة بحكمه وقتله.

2 - منحه للاعيان

ووهب عثمان أموال المسلمين الى الوجوه والاعيان ، وذوي النفوذ السياسى ممن يحذر جانبهم ، فوصل طلحة بمائتي الف دينار (4) وكانت له عليه خمسون الفا ، فقال له طلحة : تهيأ مالك فاقبضه ، فوهبه له ، وقال : هو لك يا أبا محمد على مروءتك (5) ووصل الزبير بستمائة الف ، ولما قبضها جعل يسأل عن خير المال ليستغل صلته فدل على اتخاذ الدور فى الاقاليم والامصار (6) فبنى احدى عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة

ص: 223


1- الدر المنثور 4 / 191
2- سورة المجادلة : آية 22
3- مسند احمد 1 / 62
4- طبقات ابن سعد
5- تأريخ الطبري 5 / 139
6- طبقات ابن سعد

ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر (1) ووهب أموالا طائلة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء انه لما توفى خلف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الاموال والضياع مائة الف دينار (2) ومنح أموالا أخرى الى السائرين في ركابه ، والمؤيدين لسياسته ، وقد ذكر بالتفصيل تلك الهبات شيخ المحققين الاميني في موسوعته الخالدة (3)

وبأي وجه تصحح هذه الهبات وهي أموال المسلمين وقد فرض فيها ان تصرف على اصلاح المجتمع ، وانقاذ الفقير والمحروم من البؤس والفاقة ، لا أن يتاجر بها في شراء الضمائر ، وتأييد الحكم القائم فان ذلك لا يقره الاسلام بحال من الاحوال. 3 - استئثاره بالاموال

واستنزف عثمان بيوت الاموال فاصطفى منها ما شاء لنفسه وعياله ، وبالغ في البذخ والاسراف فبنى دارا فى يثرب شيدها بالحجر والكلس ، وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة (4) وكان ينضد اسنانه بالذهب ، ويتلبس بأثواب الملوك ، وانفق اكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (5) ولما قتل كان عند خازنه ثلاثون الف الف درهم ، وخمسمائة الف درهم وخمسون ومائة الف دينار ، وترك الف

ص: 224


1- صحيح البخاري 5 / 21
2- مروج الذهب 1 / 334
3- الغدير الجزء الثامن
4- مروج الذهب 1 / 433
5- السيرة الحلبية 2 / 87

بعير وصدقات ببراديس وخيبر ، ووادي القرى قيمة مائتى الف دينار (1)

إن عثمان قد نهج منهجا خاصا في سياسته المالية ، فلم يتقيد بكتاب اللّه ، ولا بسنة نبيه ، فتصرف في بيت المال تصرفا كيفيا فأخذ منه ما شاء ومنح من أحب ، ووهب لمن سار في ركابه ، وقد وصف الامام امير المؤمنين هذه السياسة الملتوية بقوله :

« الى ان قام ثالث القوم - يعني عثمان - نافجا حضنيه (2) بين نثيله ومعتلفه (3) وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الابل نبتة الربيع .. »

وهذا أبدع ما توصف به السياسة المنحرفة التي تتخذ الحكم وسيلة للثراء والتمتع بملاذ الحياة ، ولا تقيم وزنا للامة ، ولا تعتني بمصالحها وأهدافها.

وقد أصدر الامام أمير المؤمنين قراره الحاسم بعد ان استولى على زمام الحكم بمصادرة جميع الاموال التي استأثر بها عثمان لنفسه ، والتي وهبها لخاصته وأقربائه ، وهذا نص قراره :

« الا ان كل قطيعة اقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال اللّه فهو مردود في بيت المال ، فان الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج به النساء ، وفرق في البلدان لرددته الى حاله فان في العدل سعة

ص: 225


1- طبقات ابن سعد 3 / 53
2- نافجا حضنيه : اي رافعا لهما ، والحضن ما بين الابط والكشح ، يقال للمتكبر : جاء نافجا حضنيه ، ويقال لمن امتلأ بطنه طعاما : جاء نافجا حضنيه ، ومراده (عليه السلام) هو الثاني.
3- النثيل : الروث ، والمعتلف : موضع العلف يريد به ان همه الاكل والرجيع ، وهذا من ممض الذم كما يقول ابن ابى الحديد.

ومن ضاق عنه الحق فالجور عنه أضيق .. » (1)

وكان هذا الاجراء الذي اتخذه الامام على وفق العدل الاسلامي الذي حدد صلاحية المسئولين ، ولم يطلق لهم العنان فى التصرف بأموال الامة ، والاستئثار بها ، فليس لهم أن يصطفوا منها لأنفسهم ولا لذراريهم فهذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد جاءته ابنته الوحيدة التي لا عقب له سواها تطلب منه ان يبغي لها وصيفا يخدمها لأن يديها قد مجلت من الرحى ، فلم يجد صلی اللّه علیه و آله مجالا لأن يأخذ من بيت المال ما يشتري به وصيفا يعين ابنته فردها ، وعلمها التسبيح الذي ينسب لها ، وقد سار على هذه السيرة وصيه وباب مدينة علمه الامام امير المؤمنين علیه السلام فقد جاء أخوه عقيل يستميحه البر ، ويطلب منه السعة والرفاهية فاحمى له حديدة كاد ان يحترق من ميسمها ، هذا هو منطق الاسلام الذي جاء لاسعاد الشعوب واصلاحها وانقاذها من البؤس والفقر والحرمان.

مع الدكتور طه حسين

وتناقضت أقوال الدكتور طه حسين تناقضا صريحا في تصوير السياسة المالية التي انتهجها عثمان ، فتارة يسف في قوله فيزعم انه كان محافظا على سيرة عمر فى سياسة المال فلم يخالفه فى ذلك ، ولم يشذ عنه فى جميع أعماله الادارية والحربية ، وفيما كان يأخذ به عامة المسلمين من الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والتزام السنة الموروثة ، واجتناب التكلف والابتداع (2) واخرى يستقيم فى قوله فيذهب الى أنه انحرف عن سياسة عمر فى الابقاء على بيت المال ، وفى ألا ينفق منه إلا بمقدار الحاجة الى الانفاق ، وأنه

ص: 226


1- نهج البلاغة 1 / 46
2- الفتنة الكبرى 1 / 72

كان ينكر تشدد عمر ، ويرى أن فى بيت المال ما يسع الناس اكثر مما وسعهم أيام عمر فهو نقد غير مباشر لسيرة عمر فى سياسة بيت المال (1) ومعنى هذا انه لم يتقيد بسيرة عمر ، ولم يطبق سياسته على واقع حكومته وهذا ينافى ما ذكره أولا ، من انه كان يسير على وفق الاهداف التي سار عليها عمر.

وعلى أي حال فقد مال أخيرا الى تصحيح سياسته المالية وانها لم تخالف السنة الموروثة ، ولم تخل من الخير ومراعاة الصالح العام ، ونسوق نص كلامه فى ذلك مع مواقع النظر فيه وهو كما يلي :

أفاد الدكتور ما نصه : « الشيء المحقق هو ان عثمان لم يدهن في دينه والشيء المحقق أيضا هو ان عثمان لم ير في سياسته تلك مخالفة خطيرة او غير خطيرة لسيرة الشيخين ، فهو لم يعتمد الجور ولا المحاباة ، وإنما وسع على الناس من أموالهم ، رأى فى بيت المال غنى فآثر الناس به ، ولم يغل فى الادخار. وأي حرج فى أن يصل اصحاب النبي بشيء من هذا المال قليل او كثير ، وهم أئمة الاسلام وبناة الدولة وأصحاب البلاء الحسن ايام النبيّ ، وهم قد احتملوا من الشدة والحرمان شيئا كثيرا! وقد صدق اللّه وعده واكثر الخير ، فأي الناس أحق من هؤلاء المهاجرين ان يستمتعوا بشيء من هذا الخير الكثير .. » (2)

ومواقع النظر فى كلامه ما يلي :

1 - انه ذهب الى أن عثمان لم يدهن فى دينه ، وأنه لم ير في سياسته مخالفة خطيرة او غير خطيرة لسيرة الشيخين ، ولم يتعمد الجور ولا المحاباة.

ص: 227


1- الفتنة الكبرى 1 / 74
2- الفتنة الكبرى 1 / 77

أما ان عثمان لم يدهن فى دينه فيزيفه اعلانه للتوبة ، وانه قد جافى العدل ، وانحرف عن الطريق القويم وهذا نص توبته :

« أما بعد : أيها الناس ، فو اللّه ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله وما جئت إلا وأنا أعرفه ، ولكني منتنى نفسي ، وكذبتني ، وضل عني رشدي ، ولقد سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : من زلّ فليتب (1) ومن أخطأ فليتب ، ولا يتمادى في الهلكة إن من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق ، فانا أول من اتعظ ، استغفر اللّه عما فعلت وأتوب إليه » (2)

وهي صريحة في أنه سلك غير الجادة ، وشذ عن السنة الموروثة ، وأنه على بصيرة من ذلك لم يجهله ، ولم يغب عنه علمه وانما ارتكب ما ارتكب من المخالفات للسنة كهباته للأمويين ، وصلاته لآل أبى معيط ، وتنكيله باعلام الصحابة الناقدين لسياسته ، وغير ذلك من الاحداث الجسام ، انما هو استجابة لعواطفه ورغباته فان نفسه قد منته بذلك حتى ضل عنه رشده وفقد صوابه - على حد تعبيره - ومع اعترافه بذلك ، وتسجيله على نفسه انه انحرف عن الطريق كيف يمكن ان يقال إنه لم يدهن في دينه ، ولم يتعمد الجور والمحاباة.

2 - أما ما ذكره من أن عثمان وسع على الناس من أموالهم لأنه رأى فى بيت المال غنى فآثر الناس به ، ولم يغل في الادخار .. فان هذا لا يمكن المساعدة عليه بوجه فان عثمان لم يوسع على الناس ، ولم يبسط لهم فى العيش وإلا لما ثاروا عليه ، وقتلوه ، وإنما وسع على نفسه وخاصته ،

ص: 228


1- في رواية البلاذري من زل فلينب
2- تاريخ الطبري

ووسع على بنى أميّة والمؤيدين لسياسته فآثرهم بالفىء ، وخصهم بأموال الدولة الامر الذي اوجب شيوع التذمر ، ونقمة المسلمين عليه في جميع اقطارهم وأقاليمهم حتى أطاحوا بحكمه ، وأردوه قتيلا لم يواروه فى قبره حتى ندم خيار المسلمين على عدم حرق جثته (1)

3 - وأما ما أفاده من أنه لا حرج ، ولا اثم على عثمان في صلته لأصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله بالاموال لأنهم أئمة المسلمين ، وأصحاب البلاء الحسن ، فأي الناس احق منهم بالاستمتاع بشيء من هذا الخير. فانه ظاهر البطلان لأن بيت المال - كما ذكرنا غير مرة - هو للمسلمين جميعا لا يختص به قوم دون آخرين ، ويجب صرفه على مصالحهم ، واصلاح شئونهم ، وليس لطائفة مهما علا شأنها ان تختص به ، وتحرم منه الاكثرية الساحقة ، على ان الاسلام فى ذلك الوقت احوج ما يكون الى بسط عدله الاجتماعي بين الشعوب المتعطشة الى مساواته العادلة التي لا تميز قوما على آخرين ، ولكن عثمان آثر بنى أميّة في كل شيء آثرهم بالاموال والوظائف وحملهم على رقاب الناس الامر الذي أدى الى تحطيم المساواة التي جاء بها الاسلام.

وأما سبق المهاجرين من اصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الاسلام ودفاعهم عن حياضه ، وتحملهم للعناء والبلاء فى سبيله فامر لا مجال للشك فيه ، وهم مشكورون عليه ، واللّه هو الذي يتولى جزاءهم عن ذلك ، ولكن منحهم بالاموال والاغداق عليهم بالنعم فامر لا مساغ له لأن فيه إحياء للطبقية التي حاربها الاسلام وشجب جميع مظاهرها.

ويمضى الدكتور فى تصحيح سياسة عثمان ، ومشروعية هباته للصحابة

ص: 229


1- قال ذلك الصحابي العظيم عمار بن ياسر انظر الغدير 9 / 216

وانه لم يخالف بذلك السنة الموروثة ، وإنما جرى على طبعه السخي ، ولم يذكر هباته الضخمة ، وعطاياه الوافرة للامويين وآل أبي معيط فقد اعرض سيادته عن ذلك ولم يذكره بقليل ولا بكثير ، وهو فيما نحسب من أهم الاسباب التي أدت الى الانكار عليه ، لقد أهمل الدكتور هذه الناحية أما لأنه لم يجد مجالا للاعتذار عنها أو انه لا يرى بأسا في ذلك كما لا يرى بأسا في عطاياه للصحابة ، ومن المؤسف ان يسف فى ذلك ، ويبرر ما خالف السنة.

ولاته على الامصار

ويحتم الاسلام على خليفة المسلمين ، وولي أمرهم أن يجهد نفسه في اختيار ذوي القابليات والمواهب ممن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة من العدالة والتقوى ، والنزاهة ، والنصح للرعية ، والسهر على صالحها ، ورعاية شئونها بأمانة واخلاص ليجعلهم ولاة على الامصار والاقاليم ، ولا يجوز ان يولي أي احد مهما كان قريبا له محاباة او اثرة فان ذلك خيانة لله ولرسوله ، وللمسلمين لأن الولاة يتحملون مسئولية الحكم ، والقضاء بين الناس ، وادارة شئونهم والاصلاح فيما بينهم ، والائتمان على أموالهم ودمائهم فلا بد ان يكونوا من خيرة الرجال ومن اكثرهم دينا ، ووقوفا في الشبهات ، وأبعدهم عن الطمع والحرص ، واصبرهم على تكشف الامور هذا هو رأي الاسلام ، وهذه خطته التي حفل بها نظامه الخالد ، وقد ابتعد عثمان عن ذلك فعمد الى توظيف اسرته وذوى قرباه الذين حاربوا اللّه ورسوله وسعوا في الارض فسادا فحملهم على رقاب المسلمين وأسند إليهم اهم الوظائف فجعلهم أمراء على الامصار والاقاليم ، ونشير الى بعضهم مع بيان تراجمهم وهم :

1 - الوليد بن عقبة

ص: 230

وكان على الكوفة واليا سعد بن أبي وقاص الزهري فعزله عثمان عنها وولى عليها الوليد بن عقبة بن ابي معيط ولم يعهد الى اهل الكفاية والقدرة من المهاجرين والانصار الذين احسنوا البلاء فى الاسلام ليتولوا شئون هذا المصر الذي هو من اعظم امصار المسلمين أهمية وأكثرها ثغورا.

وعلى أي حال فهل ان الوليد كان خليقا لأن يعهد إليه بهذا المنصب الخطير الذي يوكل إليه القضاء بين الناس وإتمامهم به في الصلاة ، والائتمان على بيت المال وغير ذلك من الشؤون التي تتوقف على العدالة والتقوى والحريجة فى الدين ونقدم عرضا موجزا لبعض شئونه ليتضح حاله وهي :

أ - نشأته

نشأ فى مجتمع جاهلي ، وتربى تربية جاهلية ، ولم يدخل بصيص من نور الاسلام فى قلبه ، كان ابوه من ألد اعداء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله روت عائشة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : كنت بين شرّ جارين بين أبي لهب وبين عقبة بن ابي معيط ، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي حتى أنهم ليأتون ببعض ما يطرحونه من الاذى فيطرحونه على بابي (1) وقد بصق هذا اللعين فى وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وشتمه ، فقال له النبي : إن وجدتك خارجا من جبال مكة اضرب عنقك صبرا ، فلما كان يوم بدر وخرج اصحابه امتنع من الخروج فقال له اصحابه اخرج معنا ، قال وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة ان يضرب عنقى صبرا ، فقالوا له : لك جمل احمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم ، فلما هزم اللّه المشركين حمل به جمله في جدود من الارض فأخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 231


1- طبقات ابن سعد 1 / 186 ط مصر

أسيرا في سبعين من قريش فقدم إليه فقال عقبة أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال نعم بما بزقت في وجهي ، ثم أمر عليا فضرب عنقه (1) وقد اترعت نفس الوليد بالحقد والكراهية من النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأنه قد وتره بأبيه ، ولما لم يجد بدا من الدخول فى الاسلام اسلم ولكن قلبه كان مطمئنا بالكفر والنفاق. ب - فسقه

ونطق القرآن الكريم بفسقه ، وعدم ايمانه مرتين « الاولى » انه جرت بينه وبين امير المؤمنين مشادة ، فقال الوليد له : اسكت فانك صبي وأنا شيخ ، واللّه اني ابسط منك لسانا ، وأحد منك سنانا ، واشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكثيبة ، فقال له علي : اسكت فانك فاسق فانزل اللّه تعالى فيهما قوله : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ) (2) وقد نظم ذلك حسان بن ثابت بقوله :

أنزل اللّه والكتاب عزيز *** في علي وفى الوليد قرانا

فتبوا الوليد من ذاك فسقا *** وعلي مبوأ إيمانا

ليس من كان مؤمنا عرف اللّه *** كمن كان فاسقا خوانا

فعلي يلقى لدى اللّه عزا *** ووليد يلقى هناك هوانا

سوف يجزى الوليد خزيا ونارا *** وعلي لا شك يجزى جنانا (3)

« الثانية » أنه غش النبيّ وكذب عليه وذلك حينما ارسله في بنى المصطلق ، فعاد الى النبيّ يزعم انهم منعوه الصدقة ، فخرج النبي

ص: 232


1- الغدير 8 / 273
2- تفسير الطبري 21 / 62
3- تذكرة الخواص ص 115

صلی اللّه علیه و آله إليهم غازيا فتبين له كذب الوليد ، ونزلت عليه الآية بفسقه قال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1)

ومع اعلان القرآن بفسقه وأثمه كيف يجوز أن يجعل حاكما على المسلمين واماما لهم ومؤتمنا على أموالهم ودمائهم.

ج - ولايته على الكوفة

واستعمله عثمان واليا على الكوفة بعد عزله لسعد ، فسار فيها سيرة عبث ومجون وتهتك ، ولم يرع للدين حرمة ووقارا ، وأخذ يعيث فسادا في الارض حتى ضجت الكوفة من مجونه واستهتاره وتذمر الاخيار والصلحاء من سوء سيرته.

د - شربه للخمر

واقترف الوليد افحش جريمة ، وافظع ذنب فقد ثمل وصلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات ، وصار يقول : في ركوعه وسجوده : اشرب واسقنى. ثم قاء فى المحراب وسلم ، وقال هل ازيدكم؟ فقال له ابن مسعود : لا زادك اللّه خيرا ، ولا من بعثك إلينا ، وأخذ فردة نعله ، وضرب به وجه الوليد ، وحصبه الناس فدخل القصر والحصباء تأخذه ، وهو مترنح (2) وفي فعله يقول الحطيئة جرول بن أوس العبسي :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** إن الوليد أحق بالعذر

نادى وقد تمت صلاتهم *** أأزيدكم؟ ثملا ولا يدرى

ص: 233


1- سورة الحجرات : آية 6 يقول ابن عبد البر فى الاستيعاب 2 / 62 لا خلاف بين اهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت ان الآية نزلت فى الوليد.
2- السيرة الحلبية 2 / 314

ليزيدهم خيرا ولو قبلوا *** منه لزادهم على عشر

فأبوا أبا وهب ولو فعلوا *** لقرنت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك اذ جريت *** ولو خلوا عنانك لم تزل تجري (1)

وقال الحطيئة فيه أيضا :

تكلم في الصلاة وزاد فيها *** علانية وجاهر بالنفاق

ومج الخمر عن سنن المصلي *** ونادى والجميع الى افتراق

أزيدكم على أن تحمدوني *** فما لكم وما لي من خلاق (2)

وهذه البادرة قد دلت على تهتكه ، وتماديه فى الاثم والفسوق ، فلم يرع حرمة للصلاة التي هي من اهم الشعائر الدينية ، واعظمها حرمة عند اللّه رأي طه حسين

ويعتقد طه حسين ان صلاة الوليد بالمسلمين ، وهو ثمل وزيادته فيها قصة مخترعة لا نصيب لها من الصحة قد وضعها خصوم الوليد والصقوها به ويستدل على ذلك أنه لو زاد فيها لما تبعته جماعة المسلمين من اهل الكوفة ، وفيهم نفر من اصحاب النبي ، وفيهم القراء والصالحون ، ولما رضى المسلمون من عثمان بما اقام عليه من حد الخمر ، فان الزيادة في الصلاة والعبث بها اعظم خطرا عند اللّه وعند المسلمين من شرب الخمر ، كما يذهب الى ان الشعر الذي هجي به الوليد لم يقله الحطيئة ، وانما قال الحطيئة شعرا يمدح به الوليد مدح حب حريص على رضاه ، وذكر أبياتا قالها في مدحه والثناء عليه (3) والذي ذكره الدكتور لا يمكن المساعدة

ص: 234


1- الاغاني 4 / 178 - 179
2- الاغاني 4 / 178 ، الاستيعاب
3- الفتنة الكبرى 1 / 96 - 97

عليه بوجه وذلك - أولا - ان النصوص قد تضافرت بذلك ودونها الكثير ممن ترجم الوليد أو تعرض لأحداث عثمان فقد قال ابو عمر في الاستيعاب : « ان صلاته - اي الوليد - بهم وهو سكران ، وقوله ازيدكم؟ بعد ان صلى الصبح اربعا مشهورة من رواية الثقات من أهل الحديث وأهل الاخبار » وقال ابن حجر في الاصابة : « قصة صلاته بالناس الصبح وهو سكران مشهورة مخرجة » وحكى أبو الفرج في الاغاني ( 14 / 178 ) عن ابى عبيد والكلبي والاصمعي ان الوليد بن عقبة كان زانيا شريب خمر فشرب الخمر بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح فى المسجد الجامع فصلى بهم اربع ركعات ثم التفت إليهم ، وقال لهم ازيدكم؟ وتقيأ في المحراب ، وقرأ بهم في الصلاة :

علق القلب الربابا *** بعد ما شابت وشابا

إن التشكيك في هذا الحادث والاعتقاد بأنه من الموضوعات انكار للضروريات ، وتشكيك في البديهيات وفي الهامش ثبت الى المصادر التي دونت ذلك ، وهي توجب القطع بصحته ، وعدم الريب فيه (1) - وثانيا - إن اللّه تعالى هو العالم بسرائر عباده ونياتهم ، وقد اعلن في كتابه الكريم فسق الوليد وفجوره في آيتين فلا يستبعد منه بعد ذلك أن تصدر منه افحش الموبقات واعظم الجرائم - وثالثا - ان صلحاء المسلمين وخيارهم

ص: 235


1- مسند احمد 1 / 144 ، سنن البيهقي 8 / 318 ، اسد الغابة 5 / 91 - 92 ، مروج الذهب 2 / 224 ، الكامل لابن الاثير 3 / 42 ، تأريخ ابى الفدا 2 / 176 ، تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 104 ، تأريخ اليعقوبي 2 / 142 ، الاصابة 3 / 638 ، هذه بعض المصادر التي نصت على ذلك ، فعلى اي مصدر اعتمد الدكتور فى افتعال القصة وعدم صحتها.

قد انكروا عليه ونقموا منه وثاروا في وجهه ، فقد ضربه عبد اللّه بن مسعود بنعله ، وحصبه الناس - كما تقدم - وخرج رهط من الكوفة فاستجاروا باعلام الصحابة ، لينقذوهم من امارة الوليد واستهتاره - كما سنذكر ذلك - وما زعمه الدكتور طه حسين ان جماعة من المسلمين من أهل الكوفة قد تبعته وفيهم من أصحاب النبيّ والصالحين ، قد غالط بذلك الحقائق التأريخية التي نصت على ما ذكرناه - ورابعا - ان الحطيئة وان كان قد مدح الوليد واخلص له فانه لا ينافي أنه نقم منه وهجاه على ارتكابه هذه الجريمة النكراء التي سود بها وجه التأريخ الاسلامى والعربي.

إن الحطيئة عرف بالهجاء والمدح فهو قد يمدح شخصا يأمل منه البر والخير فاذا لم يعطه هجاه وذمه فقد قصد بنى ذهل يسترفدهم ، ويستميحهم العطاء ، ويقول في مدحهم :

إن اليمامة خير ساكنها *** أهل القرية من بني ذهل

قوم اذا انتسبوا ففرعهم *** فرعي وأثبت أصلهم اصلي

فلم يعطوه شيئا فقال يهجوهم :

ان اليمامة شر ساكنها *** أهل القرية من بني ذهل

وكان اذا غضب على بنى عبس يهجوهم ويقول انا من بنى ذهل وإذا غضب على بنى ذهل يهجوهم ويقول لهم : أنا من بنى عبس ، وقد غضب على أمه فهجاها بقوله :

تنحي فاجلسى منى بعيدا *** أراح اللّه منك العالمينا

أغربالا اذا استودعت سرا *** وكانونا على المحدثينا

حياتك ما علمت حياة سوء *** وموتك قد يسر الصالحينا

ص: 236

والتمس انسانا يهجوه فلم يجده فانشأ يقول :

أبت شفتاي اليوم إلا تكلما *** بشر فما ادري لمن انا قائله

وجعل يردد البيت ، ولا يرى انسانا حتى اذا طلع على حوض فرأى وجهه فقال :

أرى لي وجها شوه اللّه خلقه *** فقبح من وجه وقبح حامله (1)

هذا هو الحطيئة فهل خفى حاله على الدكتور حتى يستبعد منه ان يمدح الوليد ويهجوه؟

وعلى أي حال فان طه حسين قد حاول تبرير الوليد ، وتنزيهه عن الموبقات والآثام وإلحاقه بالامراء الصالحين الذين لم يجوروا عن القصد فى حكمهم وقد قال فيه ما نصه :

« إن الوليد قد سار في اثناء ولايته على الكوفة سيرة فيها كثير جدا من الغناء وحسن البلاء. فهو لم يقصر في سد الثغور والامعان فى الفتح ، وإنما بلغ من ذلك غاية عرفت له وتحدث بها الناس في حياته وبعد موته وهو قد ساس الكوفة سياسة حزم وعزم ومضاء ، فاقر الامن ، وضرب على ايدي المفسدين من الاحداث والذين لا يرعون للنظام حرمة ، ولا يرجون للدين وقارا. » (2)

وهل يستطيع الدكتور ان يثبت ذلك ويدلنا على معالم تلك السياسة الرشيدة التي سار عليها الوليد وتحدث الناس بها في حياته وبعد وفاته ، ولو كان الامر كما ذكره لما قام سعيد بن العاص - الذي عينه عثمان واليا على الكوفة بعد عزله للوليد - بغسل المنبر تحرجا من موبقات الوليد

ص: 237


1- الاغاني المجلد الثانى القسم الاول ص 76 - 84 ط دار الفكر
2- الفتنة الكبرى 1 / 94 - 95

وآثامه. نعم لقد تحدث الناس ، ولا زالوا يتحدثون عن مهازل الحكم الاموي الذي بنى على الاثرة والاستغلال والتحكم فى رقاب المسلمين ، وخيانة الامة ، وقهرها واذلالها باستعمال الوليد وأمثاله من الماجنين والمستهترين حكاما وولاة عليها وإنا لنأسف من الدكتور ان يدافع عن هؤلاء الخونة الذين هم صفحة عار وخزي على الامة العربية والاسلامية. ه - اقامة الحد عليه

واسرع قوم من الكوفيين ممن يهمهم الاصلاح الى يثرب ليعرضوا على عثمان جريمة الوليد ، وانتهاكه لحرمة الاسلام ، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه وهو في حالة السكر ، ولما انتهوا الى يثرب قابلوا عثمان ، وشهدوا عنده ان الوليد قد شرب الخمر فزجرهم عثمان وقال لهم :

« وما يدريكما أنه شرب خمرا؟. »

« هى الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية »

وأخرجوا له خاتمه الذي انتزعوه منه ، فثار عثمان ، وقام فدفع في صدورهم ، وقابلهم بأمر القول ، فانطلقوا الى امير المؤمنين (1) وأخبروه بالامر فأقبل الامام الى عثمان وقال له :

ص: 238


1- وذكر ابو الفرج فى الاغاني 4 / 179 ان القوم فزعوا الى عائشة فاستجاروا بها واصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة فقال : اما يجد مراق اهل العراق وفساقهم ملجأ الا بيت عائشة ، فسمعت فرفعت نعل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقالت تركت سنة رسول اللّه صاحب هذا النعل. فتسامع الناس فجاءوا حتى ملأوا المسجد فمن قائل : احسنت ، ومن قائل ما للنساء ولهذا؟ حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ودخل رهط من اصحاب رسول اللّه على عثمان فقالوا له : اتّق اللّه لا تعطل الحد واعزل اخاك.

« دفعت الشهود وأبطلت الحدود؟ »

« ما ترى؟ »

« أرى ان تبعث الى صاحبك فان اقاما الشهادة في وجهه ، ولم يدل بحجة أقمت عليه الحد. »

ولم يجد عثمان بدا من الاذعان ، والاستجابة لقول الامام فكتب الى الوليد يأمره بالشخوص إليه ، ولما وصلت رسالته إليه نزح عن الكوفة فانتهى الى يثرب ، ودعا عثمان الشهود فأقاموا عليه الشهادة ، ولم يدل الوليد بأي حجة يدافع بها عن نفسه ، وامتنع حضار المجلس من القيام بحده نظرا لقربه من عثمان ، فانبرى امير المؤمنين فأخذ السوط ودنا منه فسبه الوليد ، وقال : يا صاحب مكس (1) فاندفع عقيل بن أبي طالب ، فرد على الوليد قائلا :

« إنك لتتكلم يا بن ابي معيط ، كأنك لا تدري من أنت ، وأنت علج من أهل صفورية - وهى قرية بين عكة واللجون من اعمال الاردن من بلاد طبرية ، كان ذكوان اباه يهوديا منها -

وجعل الوليد يروغ من الامام فاجتذبه ، وضرب به الارض وعلاه بالسوط ، فثار عثمان ، وقد علاه الغضب فقال للامام :

« ليس لك ان تفعل به هذا .. »

« بلى وشر من هذا اذا فسق ومنع حق اللّه ان يؤخذ منه .. » (2)

واقام الامام عليه الحد وكان اللازم بعد هذا الحادث أن يبعده عثمان ولا يقربه إليه حتى يرتدع هو وغيره من ارتكاب المنكر والفساد ولكنه

ص: 239


1- المكس : النقص والظلم.
2- مروج الذهب 2 / 225

لم يلبث ان رق عليه وولاه صدقات كلب ، وبلقين (1) وكيف يؤتمن هذا الخليع الفاسق على صدقات المسلمين وأموالهم؟

إن الامصار الاسلامية التي استجد تأسيس بعضها ، والتي لم يستجد تأسيسها كان يقيم فيها العربي وغيره من النازحين عن أوطانهم لطلب الرزق والعيش ، والاسرى الذين كانوا يقيمون مع الفاتحين وكل اولئك كانوا جديدى عهد بالاسلام فكانوا ينتظرون من خليفة المسلمين وولي أمرهم ان يستعمل عليهم رجالا اترعت نفوسهم بالتقوى والصلاح ، وتوفرت فيهم النزعات الخيرة ليكونوا قدوة لهم وهداة قبل ان يكونوا حكاما وامراء ولكن عثمان آثر في الحكم بنى أميّة وآل أبي معيط وهم لا يمثلون إلا الترف والدعارة والبطالة والفراغ والتهالك على اللذة والمجون.

2 - سعيد بن العاص

وبعد ان اقترف الوليد تلك الجريمة النكراء اقصاه عثمان عن امارة الكوفة على كره منه ، وكان من المتوقع ان يسند الحكم الى أحد اعلام الصحابة من الذين أبلوا فى الاسلام بلاء حسنا ، ولكنه عمد الى سعيد ابن العاص فولاه هذا المصر العظيم ، وقد استقبله الكوفيون بالكراهية وعدم الرضا لأنه كان شابا مترفا (2) لا يتحرج من الاثم ولا يتورع من الإفك روى ابن سعد أنه قال مرة في فطر رمضان - بعد أن ولي المصر - من رأى منكم الهلال؟ فقال إليه هاشم بن عتبة الصحابي العظيم « انا رأيته »

فوجه إليه لاذع القول وأقساه قائلا :

« بعينك هذه العوراء رأيته؟! »

ص: 240


1- تأريخ اليعقوبي 2 / 142
2- طبقات ابن سعد 5 / 21 ، تاريخ ابن عساكر 6 / 135

فالتاع هاشم واجابه

« تعيرني بعينى ، وإنما فقئت في سبيل اللّه - وكانت عينه اصيبت يوم اليرموك - ».

واصبح هاشم في داره مفطرا عملا بقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته » وفطر الناس لإفطاره ، وبلغ ذلك سعيدا ، فأرسل إليه وضربه ، وحرق داره ، وقد أثار حفائظ النفوس بهذا الاعتداء الصارخ على علم من أعلام الاسلام.

وأثر عنه انه قال : إنما السواد - اي سواد الكوفة - بستان لقريش فقام إليه الاشتر فقال له : أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء اللّه علينا بستانا لك ولقومك؟ واللّه لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ، وانضم الى الاشتر قراء المصر وفقهاؤهم فأيدوا مقالته ، وغضب صاحب شرطة سعيد فرد عليهم ردا غليظا فقاموا إليه فضربوه ضربا منكرا حتى اغمي عليه ، وقاموا من مجلسه وهم يطلقون ألسنتهم بنقده ، ويذكرون مثالب عثمان ، وسيئات قريش ، وجرائم بنى أميّة وكتب سعيد الى عثمان بخبره بأمر هؤلاء ، فأجابه عثمان ان يسيرهم الى الشام ، وكتب في نفس الوقت الى معاوية يأمره باستصلاحهم.

والمهم ان هؤلاء لم يرتكبوا اثما او فسادا ، ولم يقترفوا جرما حتى يستحقوا هذا التنكيل والنفى وانما نقدوا اميرهم لأنه شذ عن الطريق ، وقال غير الحق ، والاسلام قد منح الحرية التامة للمواطنين ، ومنها حرية النقد للحاكمين إن سلكوا غير الجادة ، وعدلوا عن الطريق القويم ، فعلى اي وجه يصحح نفيهم عن اوطانهم وهم لم يخلعوا يدا عن طاعة ولم يفارقوا جماعة .. وعلى أي حال فقد اخرجهم سعيد بالعنف ، وأرسلهم الى الشام

ص: 241

الى بلد لا يألفون الى اهلها ولا يسكنون الى من فيها ، وتلقاهم معاوية فانزلهم في كنيسة ، واجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويعظهم ولكنه لم ينجح في اقناعهم ، فقد كان منطقهم منطق الاحرار ، فأي ، مزية تمتاز بها قريش حتى يكون السواد ملكا لها ، وأي مأثرة صدرت لها حتى تمتاز على بقية العرب والمسلمين ، ولما يئس منهم معاوية كتب الى عثمان يستعفيه من بقائهم فى الشام خوفا من ان يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره ان يردهم الى الكوفة ، فعادوا إليها وهم مصرون على نقد الحكم القائم وأطلقوا السنتهم في ذكر مثالب سعيد ومعاوية وعثمان وأعاد سعيد الكتابة الى عثمان يطلب منه ابعاد القوم عن مصرهم ، فأجابه عثمان الى ذلك ، وأمره ان ينفيهم الى حمص والجزيرة فاخرجهم من وطنهم الى حمص ، فقابلهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عامل معاوية على حمص اعنف لقاء وأشده ، وأخذ يسومهم سوء العذاب ، ويقابلهم بأغلظ القول وأفحشه ، وكان اذا ركب أمر بهم فساروا حول ركابه ، ليظهر هوانهم واذلالهم ، ويغري الناس بانتقاصهم ولما رأوا تلك القسوة اظهروا الطاعة وأعلنوا التوبة ، وطلبوا منه ان يقيلهم من ذنوبهم فأقالهم ، وكتب الى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله العفو عنهم فأجابه الى ذلك وردهم الى الكوفة ونزح سعيد بن العاص الى يثرب في مهمة له فوجد القوم هناك يشكونه الى عثمان ويسألونه عزله ، ولكن عثمان ابى وامتنع من اجابتهم ، وأمره ان يرجع الى عمله فقفل القوم راجعين الى مصرهم قبله فاحتلوا الكوفة وأقسموا ان لا يدخلها سعيد ما حملوا سيوفهم ، ثم خرجوا في جمع بقيادة الاشتر حتى بلغوا الجرعة ، فانتظروا سعيدا فلما أقبل ردوه ومنعوه من دخول المصر ، وأجبروا عثمان على عزله وتولية غيره فاستجاب عثمان على

ص: 242

كره منه لذلك. (1)

والمهم ان عثمان قد نكل بالناقدين لسعيد بن العاص وهم قراء المصر وفقهاؤه ونفاهم عن اوطانهم وبالغ في ارهاقهم من أجل شاب طائش لأنه من ذويه واسرته الامر الذي أوجب شيوع التذمر وانتشار السخط عليه ، وكراهية الامة لحكمه.

3 - عبد اللّه بن عامر

وعزل عثمان أبا موسى الاشعري عن ولاية البصرة ، واختار لها ابن خاله عبد اللّه بن عامر بن كريز (2) فولاها اياه وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة (3) وبلغ ذلك ابا موسى فقال للناس : « يأتيكم غلام خراج ولاج ، كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان. (4)

والمهم أنه ولاه هذا المصر العظيم وهو شاب حدث السن ، وكان الاولى ان يختار له من خيار الصحابة وثقاتهم ليستفيد الناس من هديه وصلاحه ، ولكنه عمد الى اختيار هذا الفتى لأنه ابن خاله ، وقد سار في اثناء ولايته سيرة ترف وبذخ ، فكان - كما قال الاشعري - ولاجا خراجا فهو أول من لبس الخز في البصرة ، وقد لبس جبة دكناء فقال الناس : لبس الامير جلد دب ، فغير لباسه ولبس جبة حمراء (5) وقد انكر عليه

ص: 243


1- الانساب 5 / 39 - 43 ، تأريخ الطبري 5 / 88 ، تأريخ ابي الفداء 1 / 168
2- تهذيب التهذيب 5 / 282 ، وجاء فيه ان أم عثمان اروى بنت كريز
3- الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة 2 / 253
4- الكامل 3 / 38
5- اسد الغابة 3 / 192

عامر بن عبد اللّه التميمي الزاهد العابد وعاب عليه سياسته كما عاب على عثمان فقد روى الطبري : انه اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان ، وما صنع فاجتمع رأيهم أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه فارسلوا إليه عامر بن عبد اللّه ، ولما التقى به قال له :

« إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في اعمالك فوجدوك قد ركبت امورا عظاما ، فاتق اللّه عز وجل وتب إليه ، وانزع عنها. »

فاحتقره عثمان وقد لسعه قوله فقال لمن حوله :

« انظروا الى هذا فان الناس يزعمون انه قارة ثم هو يجيء فيكلمنى في المحقرات ، فو اللّه ما يدري أين اللّه؟. »

فقال له عامر : أنا لا أدري اين اللّه؟

- نعم

- اني لأدرى أن اللّه بالمرصاد

وارسل عثمان الى مستشاريه وعماله فعرض عليهم الامر فأشار عليه عبد اللّه بن عامر فقال له :

« رأيي لك ، يا أمير المؤمنين ان تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وان تجمهرهم فى المغازي حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة احدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته .. »

واشار عليه آخرون بغير ذلك إلا انه استجاب الى رأى عبد اللّه فرد عماله ، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم ، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث ، كما عزم على تحريم اعطياتهم ليطيعوه ، ويحتاجوا إليه. (1)

ولما وصل عبد اللّه بن عامر الى البصرة عمد الى التنكيل بعامر بن

ص: 244


1- تأريخ الطبري 5 / 94 ، تاريخ ابن خلدون 2 / 39

عبد اللّه ، فقد اوعز الى عملائه واذنابه أن يشهدوا عنده بأن عامرا قد خالف المسلمين في امور أحلها اللّه فهو لا يأكل اللحم ، ولا يرى الزواج ولا يشهد الجمعة (1) ورفع تقريرا الى عثمان فامره بنفيه الى الشام على قتب فحمل إليها ، وانزله معاوية ( الخضراء ) وبعث إليه بجارية ، وأمرها ان تتعرف على حاله وتكون عينا عليه ، فرأت أنه يقوم في الليل متعبدا ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة ولا يتناول من طعام معاوية شيئا ، وكان يجىء بكسر من الخبز وبجعلها فى ماء ، ويشرب من ذلك الماء ، فأخبرته الجارية بشأنه ، فكتب معاوية الى عثمان بأمره ، فأوعز إليه بصلته (2)

وقد نقم المسلمون من عثمان لأنه نفى رجلا من صلحاء المسلمين (3) وأبعده عن اهله ووطنه لأنه نقد عماله وعاب ولاته ، وليس لولي الامر الصلاحية في هذا النفي فانه إنما شرع لمن حارب اللّه ورسوله وسعى في الارض فسادا.

وعلى اي حال فان عبد اللّه بن عامر ظل واليا على البصرة الى أن قتل عثمان فلما سمع بمقتله نهب ما في بيت المال ، وسار الى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضم إليهم ، وأمد المتمردين بالاموال ، وكان من عزمهم ان يتوجهوا الى الشام إلا انه صرفهم عنه ، وأشار عليهم بالمسير الى البصرة (4)

ص: 245


1- الفتنة الكبرى 1 / 116
2- الاصابة 3 / 85
3- العقد الفريد 2 / 261
4- اسد الغابة 3 / 192

4 - معاوية بن أبي سفيان

ومعاوية بن أبي سفيان اكثر ولاة عثمان حظا ، وأعظمهم نفوذا ، واسبقهم امرة كما ان شعبه من اكثر الشعوب طاعة واخلاصا له قد أحبه وأحبهم ، وقد منحه عمر بالامارة ، وحباه بالولاية ، وأيده بجميع ألوان التأييد فرفع شأنه ، وأعلا قدره فكان في كل سنة يحاسب عماله ، ويشاطرهم أموالهم وان اكتسبوها بالتجارة او ربحوها بسائر الوجوه المشروعة ، سوى معاوية فانه لم يحاسبه ، ولم يشاطره ، ولم يتفقد اموره وانما كان يضفى عليه المديح والثناء ، ويبالغ في تسديده والاعتذار عنه ، فكانوا يقولون له : إنه يلبس الديباج والحرير وهو لباس محرم في الاسلام ، وانه يسرف ويبذخ وهو مجاف للنظم الادارية التي جاء بها الاسلام فانها تلزم الولاة بالاقتصاد وعدم البسط في العيش من أموال المسلمين.

كانوا يقولون لعمر ذلك : فيعتذر عنه ، ويقول : ذاك كسرى العرب ، ولو فرضنا انه كان كذلك فهل يباح له أن يلبس المحرم ، ويسرف في أموال المسلمين؟ ولم يكتف بهذا المد والتأييد ، فقد نفخ فيه روح الطموح ، وفتح له باب الامل بالخلافة ، فقد قال لأعضاء الشورى : « ان تحاسدتم وتقاعدتم ، وتدابرتم ، وتباغضتم ، غلبكم على هذا معاوية بن ابي سفيان ، وكان إذ ذاك أميرا على الشام (1) وقد دفعه ذلك الى الاتجاه للخلافة ، واتخاذ جميع الوسائل للظفر بالحكم ، واعلانه للتمرد على حكومة الامام أمير المؤمنين ، ومناجزته له ، كما سنذكر ذلك بالتفصيل في غضون هذا الكتاب.

وعلى اي حال فقد ظل معاوية واليا على الشام والاردن طيلة خلافة

ص: 246


1- نهج البلاغة لابن ابي الحديد 1 / 187

عمر يتصرف حيثما شاء ، قد استأثر بالاموال فشرى بها الضمائر ، واحاط نفسه بالاتباع لا رقيب عليه ، ولم توجه له اي مسئولية ، وانما يرى التسديد ، والمديح والرضا بما يعمل ، وبعد وفاة عمر أقره عثمان على عمله ، وزاد في سلطانه فضم إليه فلسطين بعد موت عاملها عبد الرحمن ابن علقمة الكناني ، كما ضم إليه حمص بعد ان استعفاه عاملها عمير بن سعد الانصاري ، وبذلك خلصت له ارض الشام كلها ، واصبح من اعظم الولاة قوة ، ومن اكثرهم نفوذا ، واصبح قطره من اهم الاقطار الاسلامية وامنعها واكثرها هدوءا واستقرارا.

ومما لا شبهة فيه ان عثمان قد زاد في نفوذه ، ووسع رقعة سلطانه ، ومهد له نقل الخلافة الاسلامية الى آل ابي سفيان ، وقد صرح بذلك الدكتور طه حسين قال ما نصه :

« وليس من شك في ان عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم الى آل أبي سفيان وتثبيتها في بنى أميّة. فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية فضم إليه فلسطين وحمص ، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الارجاء ، وجمع له قيادة الاجناد الاربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين. ثم مد له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر ، واطلق يده فى امور الشام اكثر مما اطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فاذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيته. » (1)

إن عثمان قد عبّد له الطريق ، وأتاح له الفرصة لمنازعة أمير المؤمنين ومحاربته ، وارتكابه لفظائع المنكرات والموبقات ، وقتله صلحاء المسلمين

ص: 247


1- الفتنة الكبرى 1 / 120

وثقاتهم كحجر بن عدي واخوانه المؤمنين ، وغير ذلك من المآثم والجرائم 5 - عبد اللّه بن سعد

وحبا عثمان اخاه من الرضاعة عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح بولاية مصر ، ومنحه إمارة هذا القطر العظيم فجعل بيده امر صلاته وخراجه (1) وقبل ذلك منحه الاموال الطائلة ، ووهبه خمس غنائم إفريقية ، ولم يكن خليقا بذلك كله لأن له تأريخا أسودا حافلا بالآثام والموبقات فقد ارتد مشركا بعد اسلامه ، وصار الى قريش بمكة يسخر بالنبي ويقول لهم : اني اصرفه حيث اريد ، واهدر النبي دمه يوم الفتح ، وان وجد متعلقا باستار الكعبة ، ففر الى عثمان ، واستجار به فغيبه ، وبعد ما اطمأن أهل مكة أتى به الى النبي صلی اللّه علیه و آله فصمت طويلا ثم آمنه وعفا عنه فلما انصرف عثمان قال النبي صلی اللّه علیه و آله : ما صمت الا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ، فقال له رجل من الانصار : هلا أومأت الي يا رسول اللّه؟ فقال : إن النبي لا ينبغى ان تكون له خائنة الاعين (2)

ونزل القرآن الكريم بكفره وذمه قال تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللّهُ ) (3) واجمع المفسرون أنه هو المعنى بهذه الآية ، وسبب ذلك انه لما نزلت الآية ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) دعاه النبي فأملاها عليه فلما انتهى الى قوله : ( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) عجب عبد اللّه فى تفصيل خلق الانسان فقال : تبارك اللّه أحسن الخالقين ، فقال

ص: 248


1- الولاة والقضاة : ص 11
2- تفسير القرطبى 7 / 40 ، تفسير الشوكاني 2 / 134 ، سنن ابى داود 2 / 220
3- سورة الانعام : آية 93

النبي : هكذا انزلت علي فشك عبد اللّه ، وقال : لئن كان محمد صادقا لقد اوحي الي كما اوحى إليه ، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال : فارتد عن الاسلام ولحق بالمشركين (1)

أمثل هذا المرتد الذي سخر بالنبي ورجع عن حظيرة الاسلام يكون واليا على المسلمين وتسلم له قيادتهم ، ويكون مؤتمنا على أموالهم ، ودمائهم إن ذلك واللّه هو الرزء القاصم الذي يذيب لفائف القلوب ، وتذوب النفوس من هوله اسى وحسرات ، أتعطي امارة المسلمين ، وتمنح اقطارهم وامصارهم الى اعداء الاسلام وخصومه الذين لم يألوا جهدا في البغى على الاسلام والكيد له فانا لله وإنا إليه راجعون.

وعلى اي حال فقد مكث الرجل واليا على مصر سنين ، وكلف المصريين فوق ما يطيقون ، وساسهم سياسة عنف وجور ، واظهر الكبرياء والغطرسة ، فضجر الناس منه ، وسئموا حكمه فخف أخيارهم يشكونه الى عثمان فبعث إليه رسالة يتهدده فيها ، ويتوعده بالعزل ان لم يئوب الى الرشاد ولكنه ابى أن ينزع عما نهاه ، ونكل بمن شكاه الى عثمان حتى قتله فخرج سبع مائة رجل من مصر الى يثرب فنزلوا الجامع ، وشكوا الى اصحاب النبيّ ما صنع بهم ابن ابي سرح ، فانبرى طلحة الى عثمان فكلمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة ان ينصف القوم من عاملهم ، ودخل عليه أمير المؤمنين فقال له :

« إنما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما فأعزله عنهم ، واقض بينهم ، فان وجب عليه حق فانصفهم منه ».

فاستجاب لذلك ، وقال لهم : اختاروا رجلا اوليه عليكم مكانه ،

ص: 249


1- تفسير الرازي 4 / 96 تفسير الخازن 2 / 37 الكشاف 1 / 461

فاشار الناس عليه بمحمد بن ابي بكر فكتب عهده الى مصر ، ووجه معه عدة من المهاجرين والانصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن ابي سرح (1) ونزحوا عن يثرب فلما بلغوا الى المحل المعروف ( بحمس ) وإذا بقادم من المدينة تأملوه فاذا هو ورش غلام عثمان فتفحصوا عن حاله واذا يحمل رسالة الى ابن ابي سرح يأمره التنكيل بالقوم ، تأملوا الكتاب فاذا هو بخط مروان ، فرجعوا الى يثرب ، وصمموا على خلع عثمان او قتله.

إن عثمان قد سمى لحتفه بظلفه ، وجر البلاء لنفسه ، وعرض الامة للخطوب والويلات في سبيل اسرته ، وتدعيم كيانها ، ولو أنه استجاب لرأي الامام ، والناصحين له فاقصى بنى أميّة عن مراكز الحكم لكان بمنجاة عن تلك الثورة التي اودت بحياته ، وفتحت باب الفتن بين المسلمين ، وفرقت كلمتهم ، وجعلتهم احزابا ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض عماله وولاته الذين ما استعملهم الا اثرة ومحاباة.

تنكيله بالصحابة :

ونكل عثمان بخيار المسلمين وثقاتهم من الذين أبلوا في الاسلام بلاء حسنا. وساهموا فى بنائه ، لأنهم عابوا عليه سياسته ، وطلبوا منه أن يسير على المحجة البيضاء ، ويهتدي بسنة الرسول ، ويقتفى اثره ، فلم يستجب لارشادهم ولم يثب لنصحهم ، فشددوا عليه فى المعارضة والنكير فصب عليهم جام غضبه ، وبالغ في اضطهادهم وارهاقهم ، وهم كما يلي :

1 - عبد اللّه بن مسعود

وعبد اللّه بن مسعود اشبه الناس هديا وسمتا برسول اللّه صلى اللّه

ص: 250


1- الانساب 5 / 26

عليه وآله (1) ويقول فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من سره ان يقرأ القرآن غضا او رطبا كما انزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد » (2) واثنى عليه قوم عند أمير المؤمنين فقال علیه السلام : أقول فيه مثل ما قالوا : وهو أفضل من قرأ القرآن ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فقيه فى الدين ، عالم بالسنة (3) وهو ممن نزلت فيهم الآية الكريمة (4) ( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (5) وهو أيضا ممن نزلت فيهم الآية (6) قال تعالى : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (7)

ان عبد اللّه بن مسعود من أقطاب المسلمين فى هديه ، وصلاحه ، وورعه ، وتحرجه فى الدين ، سيره عمر فى عهده الى الكوفة مع عمار بن ياسر ، وكتب لأهل الكوفة كتابا جاء فيه :

« إني قد بعثت عمار بن ياسر اميرا وعبد اللّه بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من اصحاب رسول اللّه من اهل بدر فاقتدوا بهما ، واطيعوا

ص: 251


1- مسند احمد 5 / 389 ، حلية الاولياء 1 / 126 كنز العمال 7 / 55
2- صفة الصفوة 1 / 156 سنن ابن ماجة 1 / 63
3- مستدرك الحاكم 3 / 315
4- طبقات ابن سعد 3 / 108
5- سورة آل عمران آية 172
6- تفسير الطبرى 7 / 128 الدر المنثور 3 / 13
7- سورة الانعام آية 52

واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد اللّه على نفسى (1)

وبقى ابن مسعود فى الكوفة طيلة خلافة عمر وهو يفقه المسلمين فى دينهم ، ويعلمهم كتاب اللّه ، ويغذيهم بمعارف الاسلام وهديه ويرشدهم الى سواء السبيل ، وكان في نفس الوقت خازنا لبيت المال ، ولما آل الامر الى عثمان وبعث الوليد واليا على الكوفة جرت بينه وبين الوليد مشادة - ذكرناها عند البحث عن امارة الوليد على الكوفة - أوجبت أن يستقيل من منصبه وبقى فى الكوفة وقتا ثم غادرها فشيعه الكوفيون وحزنوا على فراقه ، وقالوا له عند وداعه :

« جزيت خيرا فلقد علمت جاهلنا ، وثبت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، فنعم أخو الاسلام أنت ، ونعم الخليل »

ثم ودعوه وانصرفوا وواصل ابن مسعود المسير حتى انتهى الى يثرب وكان عثمان على منبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يخطب فلما رآه قال للمسلمين وأشار الى ابن مسعود « ألا انه قدمت عليكم دويبة سوء ، من يمشي على طعامه يقىء ويسلح .. »

أيشتم صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا الكلام المر ، ويقابل بمثل هذه الجفوة من أجل الوليد الذي خان اللّه ورسوله ونهب أموال المسلمين؟! ورد عليه ابن مسعود قائلا :

« لست كذلك ، ولكني صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم بدر ، ويوم بيعة الرضوان. »

وقد اثار كلام عثمان حفائظ النفوس فاندفعت عائشة تعلن انكارها وسخطها عليه قائلة :

ص: 252


1- اسد الغابة 3 / 258

« أي عثمان. اتقول هذا لصاحب رسول اللّه؟! »

وأمر عثمان جلاوزته فاخرجوا الصحابي العظيم من المسجد اخراجا عنيفا ، وقام إليه عبد اللّه بن زمعة فضرب به الارض ، وقيل بل احتمله « يحموم » غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الارض فدق ضلعه.

وثار أمير المؤمنين فانبرى الى عثمان فقال له :

- يا عثمان ، أتفعل هذا بصاحب رسول صلی اللّه علیه و آله بقول الوليد بن عقبة؟؟

- ما بقول الوليد فعلت هذا ، ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي الى الكوفة ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال

- احلت عن زبيد على غير ثقة!! (1)

وحمل امير المؤمنين ابن مسعود الى منزله فقام برعايته حتى أبل من مرضه ، فقاطعه عثمان ، وهجره ، ولم يأذن له في الخروج من يثرب ، كما قطع عطاءه ، ومرض ابن مسعود مرضه الذي توفى فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له :

- ما تشتكي؟

- ذنوبي

- فما تشتهي؟؟

- رحمة ربي

- ألا ادعو لك طبيبا؟

- الطبيب امرضني

ص: 253


1- الانساب 5 / 36

- آمر لك بعطائك

- منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطينه وأنا مستغن عنه

- يكون لولدك

- رزقهم على اللّه

- استغفر لي يا ابا عبد الرحمن؟

- أسأل اللّه ان يأخذ لي منك بحقى

وانصرف عثمان ولم يظفر برضائه ولما ثقل حاله اوصى ان لا يصلي عليه عثمان ، وان يصلي عليه صاحبه عمار بن ياسر ، ولما انتقل الى دار الحق قامت الصفوة من اصحابه بأمره فدفنوه بالبقيع ، ولم يخبروا عثمان فلما علم غضب وقال : سبقتموني ، فرد عليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر قائلا :

« انه اوصى ان لا تصلي عليه .. »

وقال ابن الزبير :

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفى حياتي ما زودتني زادي (1)

لقد صب عثمان جام غضبه على ابن مسعود فاهانه وحقره وجفاه ، وقطع عطاءه ، واوعز الى شرطته بضربه ، وفرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب ، ولم يرع شبهه بالنبي فى هديه وسمته ، وماله من عظيم الجهاد وحسن البلاء في الاسلام ، لقد نقم منه عثمان لأنه انكر عليه منحه للوليد أموال المسلمين وهو خازن لها ، ولم يجد اي مبرر لهذا التلاعب في ميزانية الدولة ، فراح بوحى من دينه وعقيدته ينكر عليه ويشجب تصرفاته

ص: 254


1- الانساب تأريخ ابن كثير 7 / 163 ، مستدرك الحاكم 3 / 13 وغيرها

2 - أبو ذر

وأبو ذر أعظم شخصية عرفها التأريخ الاسلامى فقد تجسدت فيه جميع طاقات الاسلام ، وعناصره ومقوماته ، ووعى حقيقة الاسلام ، وتغذى بجوهره وواقعه ، وهو اقدم من سبق الى اعتناقه والايمان به (1) وجهر بالشهادتين أمام قريش فانبرت إليه عتاتهم فأوجعوه ضربا ، والهبوا جسمه بالسياط حتى كاد أن يتلف (2) ولم يثنه ذلك فقد انطلق كالمارد الجبار يدعو قومه الى الاسلام ، وهجر الاوثان ، وكان من ابرز الصحابة في علمه وورعه وتقواه وزهده وتحرجه في الدين ، وقد أثر عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنه قال فيه :

« ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة اصدق من أبي ذر ، من سره أن ينظر الى زهد عيسى بن مريم فلينظر الى ابي ذر .. » (3)

لقد كان ازهد الناس فى الدنيا ، وأقلهم احتفالا بمنافعها ، وأشدهم خوفا من اللّه وانصرافا عن اباطيل الحياة ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يأتمنه حين لا يأتمن أحدا ، ويسر إليه حين لا يسر الى احد (4) وهو أحد الثلاثة الذي أحبهم اللّه ، وامر نبيه بحبهم (5) كما انه احد

ص: 255


1- طبقات ابن سعد 4 / 161 ، وجاء فيه عن ابي ذر قال : كنت في الاسلام خامسا.
2- مسند الامام احمد 5 / 174 ، مجمع الزوائد 9 / 329
3- سنن ابن ماجة 1 / 68
4- كنز العمال 8 / 15
5- مجمع الزوائد 9 / 330

الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنة (1).

ولما حدثت الفتن ، واستأثر عثمان مع بني أميّة بأموال المسلمين فكنزوا لأنفسهم ، واكثروا من شراء الضياع وبناء القصور وقف أبو ذر عملاق الامة الاسلامية فأخذ يندد ، ويهدد عثمان ، ويدعو المسلمين الى الثورة ، وقلب الحكم ، واعادة النظام الاسلامي الحافل بكل مقومات النهوض والارتقاء وتطبيق سياسته البناءة على واقع الحياة.

إن صيحة ابي ذر كانت صيحة رجل يقظ وعى الاسلام ، ووقف على اهدافه ، واحاط بواقعه فانه ليس من الاسلام فى شيء أن تستغل أموال المسلمين ، وتمنح للوجوه والاعيان ، فيمعنون في التلذذ والاسراف وقد اخذ الفقر بخناق المسلمين ، وعمت في بلادهم المجاعة والفاقة والبطالة فانكر أبو ذر ذلك ، واندفع بوحي من عقيدته الى تلك الصيحة التي دوخت عثمان وانكرها المستغلون من اتباعه. يقول الاستاذ السيد قطب : « إن صيحة ابي ذر كانت دفعة من دفعات الروح الاسلامى أنكرها الذين فسدت قلوبهم ولا يزال ينكرها امثالهم من مطايا الاستغلال فى هذه الايام ، لقد كانت هذه الصيحة يقظة ضمير لم تخدره الاطماع امام تضخم فاحش فى الثروات يفرق الجماعة الاسلامية طبقات ، ويحطم الاسس التي جاء هذا الدين ليقيمها .. » (2)

وانطلق أبو ذر يوالي انكاره ، ومعارضته للحكم القائم لا يعبأ به ، ولا يبالي بشدة ارهابه وقسوته فكان يقف على اولئك الذين منحهم عثمان بهباته فيتلو قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها

ص: 256


1- مجمع الزوائد 9 / 330
2- العدالة الاجتماعية : ص 211

فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ورفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان فارسل إليه ينهاه عن ذلك فقال أبو ذر :

« اينهاني عثمان عن قراءة كتاب اللّه ... فو اللّه لأن ارضي اللّه بسخط عثمان أحب الي وخير لي من أن اسخط اللّه برضاه .. »

فالتاع عثمان من ذلك ، ولكنه كظم غيظه ، وقد أعياه امر ابي ذر وضاق به ذرعا.

نفيه الى الشام

واستمر صاحب رسول اللّه في اداء رسالته الاصلاحية لم يصانع ولم يحاب ، وانما يبغي الحق ويلتمس وجه اللّه ورضاه ، وقد وجد عليه عثمان وامر بنفيه الى الشام ، ويقول الرواة : إن السبب في ذلك هو ان عثمان سأل حضار مجلسه فقال لهم :

« أيجوز ان يأخذ من المال فاذا ايسر قضى؟ »

فانبرى كعب الاحبار فأجاب عن سؤاله فقال :

« لا ارى بذلك بأسا .. »

ولما رأى أبو ذر كعب الاحبار يتدخل في امور الدين وهو يهودي النزعة ، ويشك في اسلامه غضب من ذلك ورد عليه قائلا :

« يا ابن اليهوديين. أتعلمنا ديننا؟ »

فثار عثمان وقال له :

« ما اكثر أذاك ، وأولعك بأصحابي؟ الحق بمكتبك في الشام. »

وذهب أبو ذر الى الشام ، فلما انتهى إليها ورأى منكرات معاوية وبدعه جعل ينكر على معاوية ويندد بالسياسة الاموية ، ويذيع مساوئ

ص: 257

عثمان وبعد سيرته عن سيرة الرسول وسنته ، وقد نقم من معاوية حينما قال : المال مال اللّه ، فقال له : المال مال المسلمين ، وانكر عليه بناء الخضراء التي انفق عليها الاموال الطائلة من بيت المال فكان يقول له :

« يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال اللّه فهي الخيانة ، وان كانت من مالك فهذا الاسراف؟ »

واخذ يوقظ النفوس ، ويبعث روح الثورة على معاوية فكان يقول لأهل الشام :

« واللّه لقد حدثت أعمال ما أعرفها. واللّه ما هي فى كتاب اللّه ولا في سنة نبيه ، واللّه اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه .. » (1)

وكان الناس يسمعون قوله ، ويؤمنون بحديثه ، وخاف معاوية من دعوة أبي ذر فكتب الى عثمان يخبره بخطره على الشام ، فكتب عثمان إليه ان يرسله على اغلظ مركب وأوعره ، فارسله معاوية مع جماعة لا يعرفون مكانته ، ولا يحترمون مقامه فساروا به ليلا ونهارا حتى تسلخت بواطن أفخاذه وكاد ان يتلف ، ولما بلغ المدينة مضى في دعوته فكان ينكر على عثمان أشد الانكار ويقول له :

« تستعمل الصبيان ، وتحمى الحمى (2) وتقرب أولاد الطلقاء؟! »

ص: 258


1- الانساب 5 / 52
2- اشار بذلك الى ما فعله عثمان فى منحه جميع المراعى التي حول المدينة لبنى أميّة ترعى فيها اغنامهم ، وحمى مواشي المسلمين منها وهو مناف للسنة فانها جعلت المراعي التي لا مالك لها لجميع المسلمين لأنها من المباحات الاصلية ، وقد قال رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) : الناس شركاء فى ثلاث فى الكلأ والماء والنار.

وانطلق يبين للمسلمين ما سمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذم الامويين ، ومدى خطرهم على الاسلام يقول : قال رسول اللّه :

« اذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد اللّه دولا ، وعباد اللّه خولا ودين اللّه دغلا .. »

واصدر عثمان اوامره بمنع مجالسة أبي ذر ، كما حرم الكلام معه ، والاختلاط به.

نفيه الى الربذة

وثقل أبو ذر على عثمان ، وضاق به ذرعا ، فقد ايقظ النفوس ، واوجد فيها وعيا أصيلا يبعثها على الثورة العارمة ، والاجهاز على النظام القائم الذي آثر الاغنياء بأموال الدولة ، وحجبها عن المصالح العامة ، الامر الذي أدى الى فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية ، وشيوع الفقر والمجاعة في البلاد.

ورأى عثمان ان خير وسيلة له من الخطر الذي يتهدده ابعاد ابي ذر عن يثرب ونفيه عن سائر الامصار الاسلامية الى بعض المجاهل والقرى التي لا تزدحم بالسكان ، فأرسل خلفه فلما حضر بادره أبو ذر بالكلام فقال له :

« ويحك يا عثمان!! أما رأيت رسول اللّه ، ورأيت ابا بكر وعمر هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش الجبارين. »

فقطع عثمان كلامه ، وصاح به

- اخرج عنا من بلادنا

- اتخرجني من حرم رسول اللّه؟

- نعم وانفك راغم

ص: 259

- اخرج الى مكة؟

- لا

- الى البصرة؟

- لا

- الى الكوفة

- لا

- الى اين اخرج؟

- الى الربذة حتى تموت فيها

وأوعز الى مروان باخراجه فورا من المدينة ، وهو مهان الجانب محقر الكيان ، وحرم على المسلمين ان يشايعوه ويخرجوا لتوديعه ، ولكن أهل الحق ، ومن طبعوا على نصرته ابوا إلا مخالفة عثمان فقد خف الامام أمير المؤمنين لتوديعه ، ومعه عقيل وعبد اللّه بن جعفر ، والحسن والحسين وبادر مروان الى الحسن فقال له :

« إيه يا حسن!! ألا تعلم ان عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟

فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك .. »

فحمل امير المؤمنين عليه ، وضرب أذنى راحلته بالسوط ، وصاح به : تنح نحاك اللّه الى النار ، وولى مروان منهزما الى عثمان يخبره بالحال.

ووقف الامام أمير المؤمنين على أبي ذر فودعه والقى إليه كلمات كانت له سلوى طيلة حياته في تلك البقعة الجرداء قال له :

« يا أبا ذر ، انك غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما احوجهم الى ما منعتهم وما اغناك عما

ص: 260

منعوك ، وستعلم من الرابح غدا ، والاكثر حسدا؟ ولو ان السموات والارض كانتا على عبد رتقا ، ثم اتقى اللّه لجعل اللّه منهما مخرجا ، لا يؤنسنك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لآمنوك .. »

وحدد الامام - بهذه الكلمات الرائعة - الموقف الرهيب الذي وقفه أبو ذر من عثمان فانه لم يكن من اجل المادة ، ولا من اجل سائر الاعتبارات الاخرى التي يئول امرها الى التراب ، وانما كان من أجل المبادئ الاصيلة والقيم العليا التي جاء بها الاسلام وهي تهيب بالحاكمين والمسئولين أن لا يستأثروا بأموال المسلمين ، وقد جافى عثمان ذلك ، وانتهج سياسة خاصة بنيت على الاستغلال والإثرة ، فلهذا ثار أبو ذر في وجهه وناجزه ، وقد خافه عثمان على ملكه وسلطانه ، وخافه أبو ذر على دينه وعقيدته ، وقد امره الامام ان يترك ما بأيديهم ، ويهرب بدينه ليكون بمنجاة من شرور القوم وآثامهم.

وبيّن علیه السلام - فى كلماته - اتجاه ابي ذر وميوله ، فانه لا يؤنسه إلا الحق ، ولا يوحشه إلا المنكر والباطل ولو انه غيّر اتجاهه فسالم القوم ووادعهم لأحبوه واخلصوا له ، وأجزلوا له العطاء ، ومنحوه الثراء.

وبادر إليه الامام الحسن فصافحه وودعه ، وألقى عليه كلمات تنم عن قلب موجع لهذا الفراق قائلا :

« يا عماه. لو لا انه ينبغي للمودع أن يسكت ، وللمشيع ان ينصرف لقصر الكلام وإن طال الاسف ، وقد اتى القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها ، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيك ، وهو عنك راض .. »

ص: 261

لقد امره الامام الحسن علیه السلام بالصبر على ما انتابه من الكوارث والخطوب التي صبها عليه القوم ليلقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو عنه راض.

والقى ابو ذر على أهل البيت نظرة مقرونة بالتفجع والاسى والحسرات وتكلم بكلمات يلمس فيها ذوب قلبه على هذا الفراق المرير قال :

« رحمكم اللّه يا أهل بيت الرحمة ، اذا رأيتكم ذكرت بكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما لي بالمدينة سكن ولا شجن (1) غيركم إني ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن اجاور أخاه وابن خاله بالمصرين (2) فأفسد الناس عليهما فسيرنى الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا اللّه ، واللّه ما أريد إلا اللّه صاحبا ، وما اخشى مع اللّه وحشة .. »

وانصرف أبو ذر طريدا في فلوات الارض شريدا عن حرم اللّه وحرم رسوله قد باعدته السياسة العمياء ، وفرقت بينه وبين اهل البيت الذين يكن لهم أعمق الود وخالص الحب من أجل حبيبه وصاحبه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

لقد مضى أبو ذر الى الربذة ليموت فيها جوعا ، وفي يد عثمان ذهب الارض يصرفه على بني أمية ، وعلى آل ابي معيط ، ويحرمه على شبيه المسيح عيسى بن مريم في هديه وسمته.

ورجع الامام امير المؤمنين مع اولاده من توديع ابي ذر ، وقد علاه الاسى والحزن فاستقبلته جماعة من الناس فاخبروه بغضب عثمان واستيائه منه

ص: 262


1- السكن : الاهل والشجن : من يهواه ويحبه
2- المصرين : البصرة ، ومصر وكان والي البصرة عبد اللّه بن عامر ابن خال عثمان ، ووالي مصر عبد اللّه بن سعد بن ابي سرح وهو اخو عثمان.

لأنه خالف أمره وخرج لتوديع خصمه فقال علیه السلام :

« غضب الخيل على اللجم. » (1)

وبادر عثمان الى الامام فقال له :

- ما حملك على رد رسولي؟

- اما مروان فانه استقبلني يردني فرددته عن ردي ، وأما امرك فلم ارده

- او لم يبلغك أني قد نهيت الناس عن تشييع ابي ذر؟

- أو كل ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة اللّه والحق في خلافه أتبعنا فيه أمرك؟!!

- أقد مروان

- وما أقيده؟

- ضربت بين اذني راحلته

- أما راحلتي فهي تلك ، فإن اراد ان يضربها كما ضربت راحلته فليفعل ، وأما أنا فو اللّه لئن شتمني لأشتمنك أنت بمثلها بما لا اكذب فيه ولا أقول إلا حقا.

- ولم لا يشتمك إذ شتمته ، فو اللّه ما أنت عندي بأفضل منه.

وغضب الامام من عثمان لأنه ساوى بينه وهو من النبي بمنزلة هارون من موسى ، وبين الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم الذي لعنه رسول اللّه وهو في صلب أبيه ، فقال علیه السلام له :

- إلي تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟!! فانا واللّه افضل منك وأبي افضل من أبيك ، وأمي أفضل من أمك ، وهذه نبلي قد نثلتها .. »

ص: 263


1- يضرب مثلا لمن يغضب غضبا لا ينتفع به

فسكت عثمان ، وانصرف الامام وهو ملتاع حزين منه لأنه لم يرع مقامه ، ولم يلحظ جانبه وقرن بينه وبين مروان.

3 - عمار بن ياسر

وعمار بن ياسر فذ من أفذاذ الاسلام ، وعلم من أعلامه ، وقطب من أقطابه ، وصاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخليله لقي في سبيل الاسلام أعظم الجهد ، وأمر البلاء ، وعذب مع أبويه اعنف التعذيب وأقساه ، فقد استضعفتهم جبابرة قريش فصبت عليهم وابلا من العذاب الأليم فألهبت ابدانهم بمكاوى النار ، وضربتهم ضربا موجعا ، ووضعت على صدورهم الاحجار الثقيلة ، وصبت عليهم قربا من الماء ، وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يجتاز عليهم فيرى ما هم فيه من المحنة والعذاب فتذوب نفسه اسى وحزنا ، ويقول :

« اصبروا آل ياسر : موعدكم الجنة. » (1)

ويقول وقد اضناه الحزن « اللّهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت .. » (2)

وبقيت هذه الاسرة التي وهبت حياتها لله تحت التعذيب والارهاق لم تحتفل بما تعانيه من ألم التعذيب وشدته وأصرت على ايمانها بدعوة محمد صلی اللّه علیه و آله وهي تسخر بأوثان قريش واصنامها فورم من ذلك أنف أبي جهل ، وانتفخ سحره ، وجعلت عيناه تقدحان شررا وغيظا فعمد الى سمية فطعنها في قلبها فماتت وهي اول شهيدة في الاسلام ، وعمد الاثيم بعد ذلك الى ياسر فقتله.

وظل عمار تحت التعذيب حتى اعياه ، وأرهقه فعرضت عليه قريش

ص: 264


1- كنز العمال 6 / 85 ، مجمع الزوائد 9 / 293
2- مسند احمد 1 / 62

سب النبي والعدول عن دينه فاجابهم على كره فعفوا عنه ، فانطلق الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يبكي فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ، وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، وانزل اللّه تعالى فيه :

( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. ) (1)

وملئت نفس عمار بالايمان باللّه فكان الدين قطعة من طبعه ، وعنصرا مقوما لمزاجه ، وانزل اللّه فيه غير آية من القرآن كلها ثناء عليه وتمجيد له ، واشادة به ، وقد عناه تعالى بقوله : ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ) (2) ونزلت فيه الآية الكريمة : ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (3) كما نزلت فى الثناء عليه وفى ذم الوليد الآية المباركة وهي قوله تعالى : ( أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. ) (4)

واهتم النبي صلی اللّه علیه و آله في شأن عمار اهتماما بالغا فكان يرفع من شأنه ، ويشيد بذكره ، ويقدمه على غيره فقد رأى خالدا يغلظ له

ص: 265


1- سورة النحل : آية 106 ذكر نزولها في عمار ابن سعد في طبقاته 3 / 178 الواحدي في اسباب النزول صفحة 212 الطبري في تفسيره 14 / 122 وغيرهم
2- سورة الزمر : آية 9 ذكر نزولها في عمار القرطبي في تفسيره 1 / 239 وابن سعد في طبقاته 3 / 178
3- سورة الانعام : آية 122 نص على نزولها في عمار السيوطى في تفسيره 3 / 43 ، وابن كثير في تفسيره 2 / 172.
4- سورة القصص : آية 61 نص على نزولها في عمار والوليد الزمخشري في تفسيره 2 / 386 ، الواحدي في اسباب النزول صفحة 255

في القول فالتاع من ذلك وانبرى يقول : « من عادى عمارا عاداه اللّه ، ومن أبغض عمارا ابغضه اللّه. » (1) وجرت بينه وبين شخص مشادة فقال لعمار : سأعرض هذه العصا لأنفك ، فلما سمع ذلك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) غضب واندفع يقول : « ما لهم ولعمار يدعوهم الى الجنة ، ويدعونه الى النار ، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفى فاذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه » (2) ويقول فيه : « ما خير عمار بين امرين الا اختار ارشدهما » (3)

وظل عمار موضع عناية النبي وتبجيله وتقديره لما يرى فيه من الاخلاص والزهد فى الدنيا ، والحب للحق وقد شهد مع النبي بدرا وأحدا والمشاهد كلها ، وشارك فى بناء المسجد النبوي فكان المسلمون يحمل كل واحد منهم لبنة لبنة ، وهو يحمل لبنتين لبنتين ، وهو يقول : « نحن المسلمين نبتنى المساجد » وكان النبي يرجع عليه بعض قوله فيقول « المساجد » وشارك كذلك في حفر الخندق وكان يمسح التراب عنه ، وهكذا كان عمار فى طليعة أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله في ايمانه واخلاصه وعظيم بلائه وعنائه في سبيل الاسلام ، ولما انتقل النبي الى حضيرة القدس لازم أمير المؤمنين وكان متفانيا في حبه ، ولا يرى أحدا خليقا بالخلافة غيره ومن أجل ذلك تخلف عن بيعة أبي بكر واحتج عليه ، وقد تقدم بيان ذلك ولما آل الامر الى عثمان ، وسلك غير الجادة نقم منه عمار واشتد فى معارضته والانكار عليه ، وقد نكل به عثمان ، واعتدى عليه ، وقابله بافحش القول وأمره ، وكان ذلك في مواضع عدة وهي :

ص: 266


1- مسند احمد 4 / 89
2- سيرة ابن هشام 2 / 114
3- سنن ابن ماجة 1 / 66 مصابيح السنة 2 / 288

1 - انه لما استأثر بالسفط ، وحلى به بعض نسائه انكر عليه أمير المؤمنين ، وايد عمار معارضته ، كما تقدم بيانه قال له عثمان : أعليّ يا بن المتكاء (1) تجترئ؟ واوعز الى شرطته بأخذه فأخذوه وأدخلوه عليه فضربه حتى غشي عليه ، وهو شيخ قد علاه الضعف وحمل الى منزل السيدة أم سلمة زوج النبي ، ولم يفق من شدة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين والمغرب ، فلما افاق توضأ وصلى العشاء ، وقال : الحمد لله ليس هذا اول يوم أوذينا فيه فى اللّه ، وغضبت من اجل ذلك السيدة عائشة فاخرجت شعرا من شعر رسول اللّه وثوبا من ثيابه ، ونعلا من نعاله ، ثم قالت ما اسرع ما تركتم سنة نبيكم ، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد وغضب عثمان حتى لا يدري ما يقول ، ولا يعرف كيف يعتذر عن عمله؟ (2)

2 - ان أعلام الصحابة رفعوا مذكرة لعثمان ذكروا فيها احداثه ، ومخالفة سياسته للسنة ، وانهم يناجزونه إن لم يثب الى الرشاد ، ولم يغير خطته ، وقد دفع إليه المذكرة عمار ، فأخذها عثمان وقرأ صدرا منها فثار واندفع وهو مغيظ محنق فقال له :

- أعلي تقدم من بينهم؟؟!

- إني انصحهم لك

- كذبت يا ابن سمية

- أنا واللّه ابن سمية وابن ياسر

وأمر عثمان غلمانه فمدوا بيديه ورجليه ، ثم ضربه عثمان برجليه ، وهي

ص: 267


1- المتكاء : العظيمة البطن ، والتي لا تمسك البول
2- الانساب 5 / 48

في الخفين على مذاكيره فاصابه الفتق ، وكان ضعيفا فأغمي عليه (1)

3 - ولما نفى عثمان أبا ذر صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الربذة ، وتوفى فيها غريبا ، وجاء نعيه الى يثرب قال عثمان أمام جماعة من الصحابة :

« رحمه اللّه »

فاندفع عمار قائلا :

« نعم رحمه اللّه من كل أنفسنا .. »

فانتفخت اوداج عثمان ، وقال لعمار بافحش القول ، وأقساه :

« يا عاض أير أبيه ، أتراني ندمت على تسييره؟ »

وأمر غلمانه فدفعوا عمارا ، وأرهقوه ، كما أمر بنفيه الى الربذة ، فلما تهيأ للخروج أقبلت بنو مخزوم الى امير المؤمنين فسألوه ان يذاكر عثمان في شأنه ، فانطلق الامام إليه ، وقال له :

- اتق اللّه ، فانك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك ثم أنت الآن تريد ان تنفي نظيره؟ فثار عثمان وقال للامام :

- أنت احق بالنفي منه

- رم إن شئت ذلك

واجتمع المهاجرون فعذلوه ، ولاموه على ذلك فاستجاب لقولهم ، وعفا عن عمار (2).

لقد بالغ عثمان في اضطهاد عمار وارهاقه ، فضربه اعنف الضرب وأقساه ، واغلظ له فى القول ، ولم يرع بلاءه فى الاسلام ، ونصرته للنبي

ص: 268


1- الانساب 5 / 49 ، العقد الفريد 2 / 272
2- الانساب 5 / 54 ، اليعقوبي 2 / 150

في جميع المواقف والمشاهد ، واهتمام النبي بشأنه ، وتقديمه على غيره ، وانه جلدة ما بين عينيه - على حد تعبيره - كل ذلك لم يلحظه فاعتدى عليه ، ونقم منه لأنه أمره بالعدل ، ودعاه الى الحق الواضح ، والى الاعتدال في سياسته.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن تنكيله باعلام الصحابة من الذين سبقوا الى الاسلام ، وجاهدوا اعظم الجهاد في سبيله ، وهم - من دون شك - لم يكونوا مدفوعين بدافع الرغبة في الحكم أو الامرة على بعض الامصار والاقاليم الاسلامية ، او الظفر بالمال ، كل ذلك لم يدفعهم الى الصيحة عليه ، وإنما رأوا أنه احدث من الاعمال ما ليست في كتاب اللّه ، ولا في سنة نبيه ، رأوا حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى - كما يقول أبو ذر - من اجل ذلك اعلنوا نقمتهم وانكارهم عليه ، وطالبوه بأن يسلك الجادة الواضحة ، ويسير على الطريق القويم ، ويتبع هدي النبي ويقتفى اثره.

الافتراء على الامام الحسن

وافترى بعض المؤرخين على الامام الحسن فزعم أنه كان عثماني الهوى وانه يكن له في دخائل نفسه أعمق الحب ومزيد الولاء والاخلاص ، وقد حزن عليه بعد مقتله حزنا بالغا ، وقد ذهب الى ذلك الدكتور طه حسين قال ما نصه :

« ولم يفارق الحسن حزنه على عثمان ، فكان عثمانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، إلا انه لم يسل سيفا للثأر بعثمان لأنه لم ير ذلك حقا له ، وربما غلا في عثمانيته حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب

ص: 269

فقد روى الرواة أن عليا مر بابنه الحسن وهو يتوضأ فقال له : اسبغ الوضوء فاجابه الحسن بهذه الكلمة المرة : « لقد قتلتم بالأمس رجلا كان يسبغ الوضوء » فلم يزد علي على ان قال : لقد اطال اللّه حزنك على عثمان. » (1)

إن السياسة التي انتهجها عثمان ، والاحداث الجسام التي صدرت منه لم تترك له أي حميم أو صديق في البلاد فقد سخط عليه عموم المسلمين ، وخافوه على دينهم ، فكانت عائشة تخرج ثوب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول اللّه لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنته ، ونقم عليه حتى طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف ، وغيرهم ممن اغدق عليهم بالنعم والاموال ، ولم يعد له أي صديق أو مدافع عنه سوى بني أمية وآل ابي معيط ، وبعد هذه الكراهية الشاملة فى نفوس المسلمين لعثمان كيف يكون الامام الحسن - الذي يحمل هدي جده الرسول - عثمانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة - كما يقول طه حسين - لقد كان الحسن من جملة الناقمين على عثمان والناكرين عليه لأنه رأى ما لاقاه أصحاب أبيه كأبي ذر وعمار ، وابن مسعود من الاضطهاد والارهاق ، وشاهد ما لاقاه أبوه بالذات من الاستهانة بحقه ، والاعتداء عليه حينما خرج لتوديع ابي ذر وبعد هذا كيف يكون الحسن عثمانيا ، او مغاليا في حبه له؟!!

وأي مظهر من مظاهر الكآبة والحزن بدت من الامام الحسن على عثمان بعد مقتله ، أفي قيامه بالدور البطولي في بعث الجماهير ، واخراجها الى ساحة الحرب في موقعة الجمل التي اثيرت للطلب بدم عثمان ، وقد كان معه في كثير من تلك المواقف عمار بن ياسر ، وكان ينال من عثمان

ص: 270


1- الفتنة الكبرى 2 / 193 - 194

ويتهمه في دينه ، ويقول فيه : قتلنا عثمان يوم قتلناه وهو كافر (1) وكان الحسن يسنده ، ويدعم أقواله ، أو أنه ظهر منه الاسى على عثمان في حرب صفين الذي ثأر فيه معاوية للطلب بدم عثمان ، ففى أي موقف أظهر الامام حزنه وأساه على عثمان؟؟

وأما الرواية التي استند إليها الدكتور طه حسين لتدعيم قوله ، فقد رواها البلاذري عن المدائني (2) الذي عرف بالنصب والعداء لأهل البيت وافتعال الروايات الحسنة في بني أميّة (3) والغرض من وضع هذه الرواية أن يضفي على عثمان ثوب القداسة ، ويجعل له رصيدا من الحب في نفوس صلحاء المسلمين ، ومضافا لضعف سندها فيرد عليها بعض المؤاخذات وهي

1 - إن الامام امير المؤمنين قد تلطف في خطابه مع ولده الحسن ، وبين له الحكم الشرعي ، ولم يواجهه بلاذع القول فما الذي دعا الحسن ان يقابله بتلك الكلمات المرة ، وهو وارث النبي صلی اللّه علیه و آله وشبيهه في سمو أخلاقه وكريم طباعه.

2 - إن الامام الحسن كان من جملة المدافعين عن عثمان - كما يقولون - وكان ذلك بأمر من أبيه فكيف يتهمه بقتل عثمان؟

3 - إن الامام لم يكن له أي دخل في قتل عثمان ، ولا في التآمر عليه ، وإنما قتلته أعماله ، وأجهزت عليه الاحداث التي ارتكبها ، فكيف يتهم الحسن أباه بقتله؟

وبعد الاحاطة بما ذكرنا لا تبقى للرواية اي قيمة في سندها ولا في

ص: 271


1- التمهيد للباقلانى صفحة 220
2- الانساب 5 / 81
3- الطبري 4 / 240

دلالتها ، والغريب من الدكتور أن يعتمد عليها ، ولا يمعن النظر فيها وفى امثالها من الروايات التي تعمد وضعها ذوو النزعات الاموية وأجراء السلطة

الثورة

وأخذ المسلمون يتحدثون في أنديتهم عن مظالم عثمان ، وعن احداثه واستبداده بشئونهم ، وتبديده لثرواتهم ، وتنكيله بأخيار الصحابة وأعلام الدين ، وتلاعب مروان وبني أميّة بشئون الدولة ، وغير ذلك من الاحداث الجسام ، وقد انتشر التذمر ، وعم السخط والاستياء جميع انحاء البلاد ، فاجتمع أهل الحل والعقد ، وذوو السابقة في الاسلام فكاتبوا الامصار يستنجدون بهم ، ويطلبون منهم العون ، وارسال القوات المسلحة للقيام بقلب الحكم القائم وهذا نص مذكرتهم لأهل مصر :

« من المهاجرين الاولين وبقية الشورى ، الى من بمصر من الصحابة والتابعين ، أما بعد : ان تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول اللّه قبل أن يسلبها أهلها ، فان كتاب اللّه قد بدل ، وسنة رسوله قد غيرت ، واحكام الخليفتين قد بدلت ، فننشد اللّه من قرأ كتابنا من بقية اصحاب رسول اللّه والتابعين باحسان إلا أقبل إلينا ، وأخذ الحق لنا ، وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا ان كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقنا ، واستولى على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله .. » (1)

وحفلت هذه الرسالة بذكر الاحداث الخطيرة التي ابتلي بها العالم

ص: 272


1- الامامة والسياسة 1 / 35

الاسلامي من جراء الحكم القائم وهي :

1 - تبديل كتاب اللّه ، والغاء أحكامه العادلة

2 - تغيير سنة النبي صلی اللّه علیه و آله واهمال ما اثر عنه في عالم الحكم والسياسة

3 - الاعراض عن سيرة الشيخين

4 - استئثار السلطة بالفيء وصرفه على مصالحها الخاصة

5 - صرف الخلافة الاسلامية عن مفاهيمها البناءة ، وطاقاتها الثرة الى ملك عضوض لا يعتني باهداف الامة ، ولا يرع مصالحها

وقد اوجبت هذه الاحداث زعزعة الكيان الاسلامي ، وتهديد الحياة الاسلامية بالدمار ، وقد واصل الناقمون على عثمان جهادهم فبعثوا برسالة أخرى الى المرابطين في الثغور من اصحاب النبي يطلبون منهم القدوم الى يثرب لإقامة الخلافة ، وهذا نص رسالتهم :

« انكم انما خرجتم ان تجاهدوا في سبيل اللّه عز وجل ، تطلبون دين محمد صلی اللّه علیه و آله فان دين محمد قد أفسده خليفتكم فاقيموه .. »

واستجابت الامصار الاسلامية لهذا النداء فارسلت وفودها الى يثرب للاطلاع على الاوضاع الراهنة ودراسة الموقف ، وما يحتاجه من علاج ، والوفود التي أقبلت هي :

أ - الوفد المصري

وأرسلت مصر وفدا عدده اربع مائة شخص ، وقيل اكثر من ذلك بقيادة محمد بن أبي بكر ، وعبد الرحمن بن عديس البلوي

ب - الوفد الكوفي

وأرسلت الكوفة وفدها بقيادة الزعيم مالك الاشتر ، وزيد بن صوحان

ص: 273

العبدي ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد اللّه بن الاصم العامري ، وعلى الجميع عمرو بن الاهثم

ج - الوفد البصري

ونزح من البصرة حكيم بن جبلة في مائة رجل ، ولحقه بعد ذلك خمسون ، وفيهم ذريح بن عباد العبدي وبشر بن شريح القيسي ، وابن المحرش وغيرهم من الاعيان والوجوه

ورحبت الصحابة بالوفود ، واستقبلتها بمزيد من الابتهاج والشكر وأخذت تذكر لها احداث عثمان التي لا تتفق بظاهرها وواقعها مع الدين وحرضوها على الايقاع به والاجهاز عليه لتستريح الامة من حكمه.

ورأى الوفد المصري - قبل كل شيء - أن يرفع مذكرة الى عثمان يدعوه فيها الى التوبة والاستقامة في سياسته فكتبوا ذلك ، وهذا نصه :

« أما بعد فاعلم ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فاللّه اللّه ثم اللّه اللّه ، فانك على دنيا فاستتم معها آخرة ، ولا تنسى نصيبك من الآخرة ، فلا تسوغ لك الدنيا ، واعلم انا لله ولله نغضب ، وفي اللّه نرضى وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة أو ضلالة مجلحة مبلجة (1) فهذه مقالتنا لك وقضيتنا إليك واللّه عذيرنا منك والسلام .. » (2)

واضطرب عثمان من الامر ، وقرأ الرسالة بامعان ، وأحاط الثوار به فبادر إليه المغيرة وطلب منه الاذن بالكلام معهم ، فاذن له وانطلق

ص: 274


1- مجلحة. من جلح على الشيء اقدم عليه اقداما شديدا ، مبلجة : واضحة بينة
2- الانساب 5 / 64 - 65 ، تاريخ الطبري 5 / 111 - 112

إليهم فلما رأوه صاحوا به

« يا أعور وراءك! يا فاجر وراءك! يا فاسق وراءك! »

فرجع خائبا ودعا عثمان عمرو بن العاص ، وطلب منه ان يكلم القوم فمضى إليهم وسلم فما ردوا علیه السلام ، وقالوا له :

« ارجع يا عدو اللّه! ارجع يا ابن النابغة! فلست عندنا بأمين ولا مأمون » وعلم عثمان ان لا ملجأ له إلا الامام أمير المؤمنين فاستغاث به ، وطلب منه ان يدعو القوم الى كتاب اللّه وسنة نبيه ، فأجابه الامام الى ذلك ولكن شرط عليه ان يعطيه عهد اللّه وميثاقه على الوفاء بما قال فأعطاه ذلك ومضى الامام الى القوم فلما رأوه قالوا له :

- وراءك!

- لا. بل امامي ، تعطون كتاب اللّه ، وتعتبون من كل ما سخطتم وعرض عليهم ما بذله عثمان لهم

- أتضمن ذلك عنه؟

- نعم

- رضينا

وأقبل وجوههم وأشرافهم مع أمير المؤمنين حتى دخلوا على عثمان ، فعاتبوه على اعماله فاعتبهم من كل شيء ، وطلبوا منه أن يكتب لهم كتابا يلتزم فيه على نفسه بالعمل على كتاب اللّه وسنة نبيه وتوفير الفيء للمسلمين فأجابهم الى ذلك ، وكتب لهم ما نصه :

« هذا كتاب من عبد اللّه عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين أن لكم أن اعمل فيكم بكتاب اللّه وسنة نبيه ، يعطى المحروم ويؤمن الخائف ، ويرد المنفي ، ولا تجمر فى البعوث. ويوفر الفيء ، وعلي

ص: 275

ابن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين ، على عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب »

وشهد فيه كل من الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد اللّه ، وسعد ابن مالك أبي وقاص ، وعبد اللّه بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وأبو ايوب خالد بن زيد ، وكتب ذلك في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا (1) ، وطلب منه الامام أمير المؤمنين ان يخرج الى الناس ، ويعلن لهم أنه قد استجاب لهم ونفذ طلباتهم ، ففعل عثمان ذلك ، واعطى الناس عهدا ان يسير فيهم على كتاب اللّه وسنة نبيه ، وأن يوفر لهم الفيء ، ولا يؤثر به أحدا من أرحامه ، وذوي قرباه ، ورجع المصريون الى بلادهم ، ودخل مروان على عثمان فقال له :

« تكلم واعلم الناس ان اهل مصر قد رجعوا ، وان ما بلغهم عن امامهم كان باطلا ، فان خطبتك تسير في البلاد قبل ان يتحلب الناس عليك من امصارهم فيأتيك من لا تستطيع دفعه .. »

لقد دعاه ان يعلن الكذب ، ويقول غير الحق فامتنع من اجابته - اولا - ولكنه انصاع أخيرا لقوله فخرج ، واعتلى أعواد المنبر وقال :

« أما بعد : إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن امامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم رجعوا الى بلادهم ... »

واندفع المسلمون الى الانكار عليه فناداه عمرو بن العاص

« اتّق اللّه يا عثمان فانك قد ركبت نهابير (2) وركبناها معك فتب الى اللّه نتب معك .. »

ص: 276


1- الانساب
2- النهابير : المهالك.

فزجره عثمان وصاح به :

« وإنك هناك يا ابن النابغة؟ قملت واللّه جبتك منذ تركتك من العمل؟ .. »

وارتفعت من جميع جنبات المسجد أصوات الانكار وهي ذات لهجة واحدة

« اتق اللّه يا عثمان اتق اللّه. »

فانهارت قواه ، ولم يجد بدا من أن يعلن التوبة على هذا الإفك ، ونزل عن المنبر ومضى الى منزله (1)

وهذه البادرة تدل على ضعفه ، وهزال ارادته ، وتلاعب مروان فى شئونه ، وسيطرته على جميع اموره ، وأنه لا قدرة له على مخالفته ، والتغلب عليه.

استنجاده بالامصار

ولما ازداد نشاط الثوار ، وحاصروه فى داره استنجد بمعاوية ، واستغاث به ، وكتب إليه هذه الرسالة :

« أما بعد : فان اهل المدينة قد كفروا ، وخلعوا الطاعة ، ونكثوا البيعة ، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول .. » (2) وتربص معاوية حينما اطلع على الكتاب فلم يندفع الى نصرته واجابته وتنكر للأيادي التي اسداها عليه ، وعلى اسرته.

ولما ابطأ معاوية على عثمان ، ولم يقم بنجدته بعث عثمان رسالة الى يزيد بن اسد بن كرز وإلى أهل الشام يستفزهم ويحثهم على الخروج

ص: 277


1- تأريخ الطبري 5 / 110 ، الانساب 5 / 74
2- تاريخ اليعقوبي 2 / 152 الكامل لابن الاثير 5 / 67

لنصرته ، ولما انتهى إليهم الكتاب نفروا للخروج تحت قيادة يزيد القسري ولكن معاوية أمره أن يقيم بذي خشب ، ولا يتجاوزه ، فأقام الجيش هناك حتى قتل عثمان ، والسبب في ذلك هو أن يتخذ من قتله وسيلة للمطالبة بدمه لتؤل الخلافة الى بني أميّة ، إن معاوية ممن دبر الحيلة في قتله ، والى ذلك يشير أبو أيوب الانصاري بقوله لمعاوية : « إن الذي تربص بعثمان ، وثبط يزيد بن اسد عن نصرته لأنت. »

وعلى اي حال فان عثمان قد كتب رسائل متعددة الى الامصار ، والى من حضر الموسم في مكة يستنجد بهم ويطلب منهم القيام بنجدته.

يوم الدار

ورجع الوفد المصري من اثناء الطريق لما تبينت له المكيدة الخطيرة التي دبرت ضده ، فاحاطوا بقصر عثمان وهم يهتفون بسقوطه ، ويطالبونه بالاستقالة من منصبه ، وخرج إليهم مروان فشتمهم ونال منهم قائلا :

« ما شأنكم؟ كأنكم قد جئتم لنهب؟ شاهت الوجوه. تريدون ان تنزعوا ملكنا من ايدينا اخرجوا عنا. »

فألهبت هذه الكلمات نار الثورة في نفوسهم فاحاطوا بعثمان ، وعزموا على قتله فاستنجد بالامام فاقبل إليه وقد نقلت له كلمات مروان فقال (عليه السلام) :

« أما رضيت من مروان ، ولا رضى منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك ، مثل جمل الضعينة يقاد حيث يسار به ، واللّه ما مروان بذي رأي فى دينه ، ولا فى نفسه ، وأيم اللّه لأراه سيوردك ثم لا يصدرك وما أنا بعائد بعد مقامى هذا لمعاتبتك ، اذهبت شرفك ، وغلبت على امرك .. »

إن الذي اجهز على عثمان وقتله هو مروان وبنو أميّة ، وقد صرحت

ص: 278

بذلك نائلة زوج عثمان فقالت للامويين :

« أنتم واللّه قاتلوه وميتمو أطفاله .. »

ونصحت زوجها بأن لا يطيع مروان تقول له : « انك متى اطعت مروان قتلك .. »

إن عثمان يحمل قسطا ليس بالقليل فى الجناية على نفسه لأنه لما علم أنه ضعيف الارادة ، ولا قابلية له للتغلب على الاحداث وان بني أمية قد استولوا على اموره ، وهو يعلم من دون شك كراهية المسلمين لهم ، فكان اللازم عليه أن يترك الامر لغيره ويستقيل من منصبه ، ولا ينكب الامة بقتله. وأيقن الثوار أنه لا مجال لإصلاحه لأنه إن ابرم أمرا نقضه مروان فاصروا عليه أن يخلع نفسه عن الخلافة فأبى وقال : « انما هي ثوب البسنيها اللّه. » وفي الحقيقة انها ثوب كساه بها عمر ، وألبسها اياه عبد الرحمن بن عوف.

وعلى أي حال فقد اندلعت نيران الثورة ، واشتد أوارها حتى بلغ السيل الزبى فقد صمم الثوار على قتله بعد إبائه عن الاستقالة من منصبه فمنع عنه طلحة الماء ، واستولى على بيوت الاموال ، واحاط الثوار بقصره وتسلق بعضهم عليه الدار فجعلوا يرمونه بالحجارة ، ويبالغون في سبه وشتمه وقذفه

موقف الامام الحسن

وزعم غير واحد من المؤرخين ان الامام الحسن وقف يوم الدار مدافعا عن عثمان بايعاز من أبيه ، وقد أبلى في ذلك بلاء حسنا حتى خضب بدمائه ، وهذا القول - من دون شك - من موضوعات الامويين

ص: 279

ومن مفترياتهم فان الامام الحسن (عليه السلام) وسائر البقية الصالحة من المهاجرين والانصار كانوا في معزل عن عثمان بل ومن الناقمين عليه ، ولم يحضر من يدافع عنه فى حصاره سوى بني أمية وبعض المنتفعين منهم ولو كان له أي رصيد في المجتمع لما تمكن الثائرون من قتله.

لقد اتفقت كلمة الصحابة على خذلانه ، ولم تظهر منهم بادرة من بوادر المساعدة والمؤازرة له بل كانوا يمجدون الثورة ، ويبعثون روح الحماس في نفوس الثوار ، وبعد هذا فكيف يمكن ان يخرق الامام الحسن الاجماع ويمضي للدفاع عنه وعلى أى حال فقد تعرض المحقق الاميني الى تزييف تلك الاخبار ، وعدها في سلسلة الموضوعات (1)

الاجهاز على عثمان

واجهز الثوار على عثمان ، وقد تولى قتله جماعة في طليعتهم محمد ابن ابي بكر فكان من أحقدهم عليه فقد شهر السيف في وجهه وقال له :

- على أي دين أنت يا نعثل؟

- على دين الاسلام ولست بنعثل ، ولكني أمير المؤمنين

- غيرت كتاب اللّه

- كتاب اللّه بيني وبينكم

وأخذ بلحيته فسحبه الى الارض وهو يقول : إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول : ربنا إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل.

وهجم القوم عليه فاردوه قتيلا يتخبط بدمائه ، وتركوه جثة

ص: 280


1- الغدير 9 / 218 - 247

هامدة (1) لم يواروه ، ولم يسمحوا لأحد بمواراته ، وتكلم بعض خواصه مع الامام أمير المؤمنين في ذلك فتوسط في شأنه فأذنوا لهم في ذلك ولكنهم لم يسمحوا لهم بدفنه في البقيع فدفنوه في حش كوكب (2)

لقد امتحن المسلمون امتحانا عسيرا في امر عثمان ، وقد أورثهم قتله عناء أي عناء ، وقد تولدت في ايام حكومته وبعد مقتله أحزاب نفعية لا يهمها إلا الوصول الى الحكم لتتخذ منه وسيلة الى الثراء ، وأخذت تلك الاحزاب تعيث فسادا في الارض ، وتتآمر على مصالح المسلمين فأبادت وحدتهم ، وفرقت كلمتهم ، وخلقت في المجتمع أهم المصاعب والمشاكل حتى أصبح من المتعذر على الامام أمير المؤمنين في دور حكومته أن يصلح الاوضاع الراهنة ، ويعيد سيرة الرسول وسنته بين الناس ، واتسعت تلك المشاكل حتى بلغت الذروة فى دور الامام الحسن ، فرأى أن لا خطة له أفضل ولا أحسن من الاستسلام كما سنوضحه بالتفصيل في البحوث الآتية.

وبهذا ينتهى بنا المطاف عن عهد عثمان ، وقد اسهبنا القول في امره واطلنا الحديث فى تصوير سياسته التي أشعلت نار الفتنة الكبرى فى البلاد وفتحت باب الخلاف والنزاع بين المسلمين ، ومهدت الطريق للامويين ان يتدخلوا في شئون المسلمين ، ويختلسوا السلطة من أيديهم ، ويمعنوا في قتل الاخيار ومطاردة المصلحين ، وإبادة جميع الاسس التي جاء هذا الدين ليقيمها وبسطنا القول في ذكر بعض المؤاخذات التي تواجه بحوث الدكتور

ص: 281


1- قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشر ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين من الهجرة ، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما وعمره اثنان وثمانون سنة.
2- اسم بستان في المدينة كانت اليهود تدفن موتاهم فيها

طه حسين فى عثمان ، وتبرير سياسته ، ولم نكن - يعلم اللّه - مدفوعين في ذلك كله بدافع العصبية أو الحقد على عثمان ، وإنما رائدنا الاخلاص للحق وحده ، وخدمة القضية الاسلامية ، فان الكثير من كتاب العصر قد حاول تصحيح تلكم الاحداث بوجوه بعيدة لا يسندها منطق ، ولا يدعمها برهان ، ونحن في أمس الحاجة الى دراسة التأريخ الاسلامي على واقعه ، والامعان في الحوادث التي جرت في العصور الاسلامية الاولى ، لنقف على الذوات الخيرة التي خدمت الاسلام ورفعت مناره ونتميز الذين خدعتهم السلطة ، وغرهم الثراء فتنكروا لدينهم وأمتهم في سبيل مصالحهم الضيقة ، وعسى ان تكون هذه البحوث التي رسمناها بدقة وامانة قد صورت لنا الواقع الذي جرى في تلكم العصور.

ص: 282

المثل العليا

اشارة

ص: 283

ص: 284

وتوفرت فى الامام أبي محمد الصفات الرفيعة والمثل الكريمة ، وتجسدت فيه طاقات الاسلام وعناصره ومقوماته ، فهو بحكم قابلياته ونزعاته فذ من أفذاذ العقل الانساني ، ومثل من امثلة التكامل البشري ، وعظيم من عظماء الاسلام.

لقد بلغ الامام الذروة في فضائله ، ومآثره ، واصالة رأيه ، وسمو تفكيره ، وشدة ورعه ، وسعة حلمه ، ودماثة اخلاقه الى غير ذلك من ملكاته التي كان بها موضع اعتزاز المسلمين وفخرهم ، ونشير الى بعضها

امامته

ومن أبرز الصفات الماثلة فيه هي الامامة وذلك لما تستدعيه من المثل والقابليات التي لا تتوفر إلا عند من اصطفاه اللّه واختاره من بين عباده ، وقد حباه تعالى بها ، وأعلن ذلك الرسول الكريم بقوله فيه وفي أخيه : « الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا. »

ولا بد لنا من وقفة قصيرة لنتبين فيها معنى الامامة ، وبعض الشؤون التي تتعلق بها فانها تكشف عن سمو مكانة الامام وعظيم شأنه والى القراء ذلك :

أ - معنى الامامة

وحددها علماء الكلام فقالوا : « الامامة رئاسة عامة في امور الدين والدنيا لشخص انساني. » فالامام - حسب هذا التحديد - هو الزعيم العام والرئيس المتبع وله السلطة الشاملة على الناس في جميع شئونهم الدينية والدنيوية ب - الحاجة الى الامامة

والامامة ضرورة من ضروريات الحياة لا يمكن الاستغناء عنها بحال

ص: 285

من الاحوال فبها يقام ما أعوج من نظام الدنيا والدين ، وبها تتحقق العدالة الكبرى التي ينشدها اللّه في ارضه ، ويتحقق الامن العام والسلام بين الناس ، ويدفع عنهم الهرج والمرج ، ويمنع القوي من أن يتحكم في الضعيف ، ومن اهم الامور الداعية الى وجود الامام ايصال الناس الى عبادة اللّه ، ونشر احكامه وتعاليمه ، وتغذية المجتمع بروح الايمان والتقوى ليبتعد الانسان بذلك عن الشر ويتجه الى الخير ، ويجب على الامة كافة الانقياد إليه ، والامتثال لأوامره ليقيم أودها ، ويلم شعثها ويهديها الى سواء السبيل. ج - واجبات الامام

إن على امام المسلمين وولي أمرهم ان يقوم بما يلي :

1 - حفظ الدين ، وحراسة الاسلام ، وصيانته من المستهترين بالقيم والاخلاق.

2 - تنفيذ الاحكام ، والقضاء على الخصومات ، وانصاف المظلوم من ظالمه.

3 - حماية البلاد الاسلامية من الغزو الخارجي سواء أكان الغزو عسكريا أم فكريا كما في هذه العصور التي غزت بلادنا بعض المبادئ الهدامة التي تدعو الى تحطيم الاسس التي أقامها الاسلام.

4 - اقامة الحدود ، والقضاء على كافة الجرائم التي توجب شقاء الانسان.

5 - تحصين الثغور

6 - الجهاد

7 - جباية الاموال كالزكاة والخراج وغيرها من الامور التي نص

ص: 286

عليها التشريع الاسلامي.

8 - استخدام الامناء في جهاز الحكم ، وعدم استعمال الموظف محاباة او اثرة.

9 - النظارة على امور الرعية بالذات ، ولا يجوز له أن يعول على الغير لينظر فيها لأن ذلك من حقوق الرعية (1)

10 - القضاء على البطالة ، ونشر الرفاهية الشاملة في ربوع الامة ، وانقاذها من الفقر والحرمان.

هذه بعض الامور التي يجب على الامام أن يطبقها على مسرح الحياة العامة ، وقد استوفينا البحث فى هذه الجهات في كتابنا « النظام الاداري فى الاسلام ».

د - اوصافه

ولا بد في الامام ان تتوفر فيه الشروط الآتية وهي :

1 - العدالة على شروطها الجامعة وهي الامتناع من ارتكاب كبائر الذنوب والاصرار على صغائرها

2 - العلم بما تحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها ، ومعرفة النوازل والاحكام

3 - سلامة الحواس ، كالسمع ، والبصر ، واللسان ، ليصح معها مباشرة ما يدرك كما يشترط سلامة الاعضاء الاخرى من أي نقص.

4 - الرأي المفضي الى سياسة الرعية وتدبير المصالح العامة.

5 - الشجاعة والنجدة ، والقدرة على حماية بيضة الاسلام وجهاد العدو

6 - النسب وهو ان يكون الامام من قريش

ص: 287


1- السياسة الشرعية : ص 7

وقد ذكر هذه الشروط والاوصاف كل من الماوردي وابن خلدون (1)

7 - العصمة ، وعرفها المتكلمون : بأنها لطف من اللّه يفيضها على اكمل عباده وبها يمتنع من ارتكاب الجرائم والموبقات عمدا وسهوا ، وقد أجمعت الشيعة على اعتبارها في الامام ، ويدل عليها حديث الثقلين ، فقد قرن الرسول صلی اللّه علیه و آله بين الكتاب والعترة وكما ان الكتاب معصوم من الخطأ والزلل فكذلك العترة الطاهرة وإلا لما صحت المقارنة والمساواة بينهما وقد تقدم الكلام في بيان ذلك.

وهذه الاوصاف لم تتوفر إلا في أئمة أهل البيت حضنة الاسلام وحماته ، والادلاء على مرضاة اللّه وطاعته ، وقد وصفهم الكميت شاعر العقيدة الاسلامية بقوله :

القريبين من ندى والبعيدين *** من الجور في عرى الاحكام

والمصيبين ما أخطأ النا *** س ومرسي قواعد الاسلام

والحماة الكفاة في الحرب إن لف *** ضرام وقوده بضرام

والغيوث الذين ان أمحل النا *** س فمأوى حواضن الايتام

راجحي الوزن كاملي العدل في ال *** سيرة طبين بالامور الجسام

ساسة لا كمن يرى رعية النا *** س سواء ورعية الاغنام (2)

إن أئمة أهل البيت سلام اللّه عليهم قد دللوا بسيرتهم وهديهم على عصمتهم من الخطأ والزيغ ، وقد برهنت الحوادث والوقائع على ذلك ، ودلت على أنهم نسخة لا مثيل لها فى تأريخ الانسانية وذلك لما لهم من عظيم الفضل والتقوى والحراجة في الدين.

ص: 288


1- الاحكام السلطانية صفحة 4 المقدمة ص 135
2- الهاشميات

ه - تعيينه

وذهبت الشيعة الى أن تعيين الامام ليس بيد الامة ، ولا بيد أهل الحل والعقد منها ، والانتخاب فى الامامة باطل والاختيار فيها مستحيل ، فحالها كحال النبوة فكما أنها لا تكون بايجاد الانسان وتكوينه كذلك الامامة لأن العصمة - التي هي شرط في الامامة - لا يعرفها اللّه المطلع على خفايا النفوس ، وقد اوضح ذلك واستدل عليه حجة آل محمد ومهدي هذه الأمة القائم المنتظر علیه السلام في حديثه مع سعد بن عبد اللّه فقد سأل الامام عن العلة التي تمنع الناس من اختيار امام لأنفسهم فقال علیه السلام له :

- يختارون مصلحا او مفسدا؟

- بل مصلحا

- فهل يجوز ان تقع خيرتهم على المفسد بعد ان لا يعلم أحد بما يخطر ببال غيره من صلاح او فساد

- بلى

- فهي العلة أوردها لك ببرهان يثق به عقلك ، اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم اللّه ، وانزل الكتب عليهم ، وأيدهم بالوحي والعصمة ، إذ هم أعلام الامم ، وأهدى الى الاختيار ، منهم مثل موسى وعيسى ، هل يجوز مع وفور عقلهما ، وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنه مؤمن

- لا

- هذا موسى كليم اللّه مع وفور عقله ، وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن

ص: 289

لا يشك في ايمانهم واخلاصهم ، فوقعت خيرته على المنافقين ، قال اللّه عز وجل : ( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) الى قوله ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) بظلمهم. » فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه اللّه للنبوة واقعا على الافسد دون الاصلح وهو يظن أنه الاصلح علمنا ان الاختيار ليس إلا لمن يعلم ما تخفى الصدور ، وتكن الضمائر .. » (1)

إن الطاقات البشرية قاصرة عن ادراك الاصلح الذي تسعد به الامة فليس اختياره بيد الانسان وإنما هو بيد اللّه العالم بخفايا الامور ، هذه صورة مجملة عن الامامة وتفصيل الكلام يجده المتتبع مستوفى في كتب الكلام.

اخلاقه الرفيعة

قال بعض علماء الاجتماع : إنما تتفاضل الامم في حال البداوة بالقوة البدنية فاذا ارتقت تفاضلت بالعلم ، ثم اذا بلغت من الارتقاء غايته تفاضلت بالاخلاق. فالاخلاق هي غاية ما يصل إليه الانسان في سموه وكماله وتهذيبه

إن الخلق الكامل اذا انطبع في النفس لا يمكن ان تنحرف عن الطريق القويم ، أو تحل الانانية محل الايثار ، او تستولي عليها المغريات والنقائص من اجل ذلك كانت الاخلاق من أهم العناصر التي تبتني عليها الحياة الاجتماعية والفردية ، كما انها من اوثق الاسباب في بقاء الامم وفى دوام حضارتها واصالتها.

إن من أقوى العلل في ظهور الشرائع السماوية ، وبقاء سلطانها الروحي عنايتها بالخلاق واهتمامها بتهذيب النفوس وتربيتها بالنزعات الخيرة ، وقد

ص: 290


1- البحار 13 / 127

اهتم النبي بها اهتماما بالغا واعتبرها من ابرز الاسباب التي بعث من اجلها يقول صلی اللّه علیه و آله « إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق » وقد استطاع بمكارم اخلاقه أن يوقظ البشر من سباته ، ويؤسس معالم الحضارة فى العالم ويغير مجرى التأريخ فقد الف ما بين القلوب ، ووحّد المشاعر والعواطف وجمع الناس على صعيد المحبة والاخاء.

كان النبي فى عظيم أخلاقه مثالا للرحمة الإلهية التي تملأ القلوب البائسة الحزينة رجاء ورحمة ، كان يزور ضعفاء المسلمين ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم ، ويجيب دعوة من دعاه ، ولا يرد دعوة مملوك ولا فقير (1) ومن جالسه صابره حتى يكون جليسه هو المنصرف ، وما أخذ أحد بيده فجذبها منه حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها ، وكان حريصا على تطييب النفوس واجتناب الإساءة لأي انسان.

وهذه الاخلاق الرفيعة قد تمثلت فى الامام الحسن بحكم ميراثه من جده العظيم ، وقد ذكر التأريخ بوادر كثيرة من مكارم اخلاقه نسوق بعضها وهي :

1 - انه اجتاز على جماعة من الفقراء قد وضعوا على وجه الارض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها من الطريق ، وهم يأكلون منها فدعوه الى مشاركتهم فأجابهم الى ذلك وهو يقول : « إن اللّه لا يحب المتكبرين » ولما فرغ من تناول الطعام دعاهم الى ضيافته فاطعمهم وكساهم (2) واغدق عليهم بنعمه واحسانه.

إن التواضع دليل على كمال النفس وسموها وشرفها ، وفي الحديث

ص: 291


1- مستدرك الحاكم 2 / 466
2- اعيان الشيعة 4 / 24

« إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرحمكم اللّه » (1)

2 - ومن آيات أخلاقه أنه مرّ على صبيان يتناولون الطعام فدعوه لمشاركتهم فاجابهم الى ذلك ثم حملهم الى منزله فمنحهم ببره ومعروفه وقال : « اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما اطعموني ونحن نجد مما اعطيناهم » (2)

3 - ومن مكارم اخلاقه أنه كان يغضي عمن اساء إليه ، ويقابله بالاحسان ، فقد كانت عنده شاة فوجدها يوما قد كسرت رجلها فقال علیه السلام لغلامه :

- من فعل هذا بها؟

- أنا

- لم ذلك؟!

- لأجلب لك الهم والغم

فتبسم علیه السلام ، وقال له : لأسرك ، فاعتقه وأجزل له في العطاء (3)

4 - ومن عظيم أخلاقه أنه كان جالسا في مكان فأراد الانصراف منه فجاءه فقير فرحب به ولاطفه وقال له :

- إنك جلست على حين قيام منا أفتأذن لي بالانصراف؟؟

- نعم يا ابن رسول اللّه (4)

ص: 292


1- نهاية الارب في فنون الادب 3 / 443
2- الصبان المطبوع على هامش نور الابصار : ص 176
3- مقتل الحسين للخوارزمي 1 / 147
4- تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 73

إن مراعاة حق الجليس من الآداب الاجتماعية التي توجب المحبة والإلفة ، وتوجد التعاون والترابط بين الناس فلذا أمر الإسلام بها وحث عليها.

5 - واجتاز على الامام شخص من أهل الشام ممن غذاهم معاوية بالكراهية والحقد على آل البيت فجعل يكيل للامام السب والشتم ، والامام ساكت لم يرد عليه شيئا من مقالته ، وبعد فراغه التفت الامام فخاطبه بناعم القول وقابله ببسمات فياضة بالبشر قائلا :

« أيها الشيخ : أظنك غريبا؟ لو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا حملناك ، وإن كنت جائعا أطعمناك ، وإن كنت محتاجا أغنيناك ، وإن كنت طريدا أويناك .. » وما زال (عليه السلام) يلاطف الشامي بهذا ومثله ليقلع روح العداء والشر من نفسه حتى ذهل ولم يطق رد الكلام وبقي حائرا خجلا كيف يعتذر للامام ، وكيف يمحو الذنب عنه؟ وطفق يقول :

( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) فيمن يشاء. » (1)

وهكذا كان علیه السلام مثالا للانسانية الكريمة ، ورمزا للخلق العظيم لا يثيره الغضب ، ولا يزعجه المكروه قد وضع نصب عينيه قوله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. ) وقد قابل جميع ما لاقاه من سوء وأذى ومكروه من الحاقدين عليه بالصبر والصفح الجميل ، حتى اعترف الد خصومه مروان بن الحكم بسمو حلمه ، وعظيم خلقه ، وذلك حينما انتقل الامام إلى الرفيق الاعلى

ص: 293


1- مناقب ابن شهر اشوب 2 / 149 ، الكامل للمبرد 1 / 190 وجاء فيه ان الأعرابى انصرف وهو يقول واللّه ما على وجه الأرض أحد أحب الي منه.

فبادر مروان إلى حمل جثمانه فقال له سيد الشهداء :

- تحمل اليوم سريره ، وقد كنت بالأمس تجرعه الغيظ؟!!

- إني كنت افعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (1)

لقد كان الامام كجده الرسول في سعة حلمه ، وعظيم أخلاقه ، وصفحه عمن أساء إليه ، وقد روى التأريخ بوادر كثيرة من أخلاقه دلت على أنه في طليعة الأخلاقيين والمساهمين فى بناء الأخلاق والآداب في دنيا العرب والمسلمين.

كرمه وسخاؤه :

من كان ندى الكف مبسوط اليدين بالعطاء متمسكا بأهداب السخاء بعيدا عن البخل وضروبه فاعظم به من خير عميم ، كبير الثقة باللّه ، عظيم النفس ، شريف الذات ، وقد تحدث رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) عن شرف هذه الظاهرة فقال : « خلقان يحبهما اللّه وهما : حسن الخلق والسخاء » وقال : « السخاء من الايمان ».

إن السخاء ينم عن طيب القلب ، ويكشف عن الفضائل النفسية ، ويحكى عن رحمة الانسان ورأفته ، ومن الطبيعي انه انما يكون كذلك فيما اذا كان بذله بداعي الخير والمعروف لا بداعي السمعة والمديح والثناء وغير ذلك من الدواعي التي لا تمت إلى الاحسان بصلة ، وقد حدث التأريخ عن أناس كانوا يهبون الألوف للوافدين ، ويبذلون القرى للاضياف ، ولكن سرعان ما انكشف أنه تصنع لا اتصال له بحقيقة الكرم والمعروف ، وذلك كعطاء معاوية بن أبي سفيان وهباته للوافدين عليه فان ذلك لم يكن

ص: 294


1- شرح النهج 4 / 5.

بداعي الاحسان وإنما كان لشراء الضمائر لأجل التمسك بزمام الحكم.

إن السخاء الحقيقي هو بذل الخير بداعي الخير ، وبذل الاحسان بداعي الاحسان ، وقد تجلت هذه الصفة الرفيعة بأجلى مظاهرها ، واسمى معانيها في الامام أبي محمد (عليه السلام) حتى لقب بكريم أهل البيت.

تلقى هذه المكرمة من سلفه الطاهر الذي عرف بالسخاء والمعروف ونجدة الضعيف والاحسان إلى كل منقطع ومحروم وفى جده الاعلى يقول القائل :

عمرو العلى هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف

وزاد الحسن على سلفه الطاهر فى ذلك فقد كان لا يعرف للمال قيمة ، ولا يرى له أهمية سوى ما يرد به جوع جائع ، أو يكسو به عاريا ، أو يغيث به ملهوفا ، أو يفي به دين غارم.

ان السخاء عنصر من عناصر ذاته ، ومقوم من مقومات مزاجه ، وقد أثر عنه أنه ما قال لسائل لا قط (1) وقيل له لأي شيء لا نراك ترد سائلا؟ فأجاب :

« إني لله سائل ، وفيه راغب ، وأنا استحي أن أكون سائلا ، وأرد سائلا ، وان اللّه عودني عادة أن يفيض نعمه علي ، وعودته أن أفيض نعمه على الناس فأخشى ان قطعت العادة أن يمنعني العادة وأنشأ يقول :

إذا ما أتاني سائل قلت مرحبا *** بمن فضله فرض علي معجل

ومن فضله فضل على كل فاضل *** وأفضل أيام الفتى حين يسأل (2)

ص: 295


1- الطبقات الكبرى للشعرانى 1 / 23 ، جوهرة الكلام للقراغولي ص 112
2- نور الابصار ص 111.

ونسبت له أبيات نظمها في الجود والسخاء منها قوله :

إن السخاء على العباد فريضة *** لله يقرأ في كتاب محكم

وعد العباد الأسخياء جنانه *** وأعد للبخلاء نار جهنم

من كان لا تندى يداه بنائل *** للراغبين فليس ذاك بمسلم

وله أيضا :

خلقت الخلائق من قدرة *** فمنهم سخي ومنهم بخيل

فأما السخي ففي راحة *** وأما البخيل فحزن طويل (1)

وكانت الوفود من المرتزقة والمحتاجين تزدحم عليه فيغدق عليهم ببره واحسانه ، ويجزل لهم المزيد من العطاء ، وقد ذكر التأريخ بوادر كثيرة من كرمه وجوده نسوق إلى القراء بعضها.

1 - جاءه اعرابي سائلا فقال (عليه السلام) : اعطوه ما في الخزانة ، وكان فيها عشرة آلاف درهم فقال له الاعرابي : يا سيدي هلا تركتني أبوح بحاجتي ، وأنشر مدحتي؟ فاجابه الامام :

نحن أناس نوالنا خضل *** يرتع فيه الرجاء والأمل

تجود قبل السؤال أنفسنا *** خوفا على ماء وجه من يسل

لو علم البحر فضل نائلنا *** لغاض من بعد فيضه خجل (2)

2 - واجتاز علیه السلام على غلام أسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ويدفع لكلب كان عنده لقمة اخرى.

فقال له الامام :

- ما حملك على ذلك؟

ص: 296


1- المناقب 2 / 156.
2- اعيان الشيعة 4 / 89 - 90.

- إني لأستحيي أن أكل ولا أطعمه.

رأى الامام فيه خصلة من أحب الخصال عنده ، فاحب أن يجازيه على صنعه ، ويقابل إحسانه بإحسان فقال له :

لا تبرح من مكانك ، ثم انطلق فاشتراه من مولاه واشترى الحائط (1) الذي هو فيه فاعتقه ، وملكه إياه (2).

3 - وأجتاز يوما فى بعض أزقة المدينة فسمع رجلا يسأل اللّه أن يرزقه عشرة آلاف درهم ، فانطلق إلى بيته ، وأرسلها إليه بالوقت (3).

4 - وجاءه شخص يظهر الاعواز والحاجة فقال له (عليه السلام) ما هذا حق سؤالك ، يعظم لدى معرفتي بما يجب لك ، ويكبر على ويديّ تعجز عن نيلك بما أنت اهله ، والكثير في ذات اللّه قليل ، وما في ملكى وفاء لشكرك ، فان قبلت منا الميسور ، ورفعت عنا مئونة الاحتفال والاهتمام فعلت ، فأجابه الرجل : يا بن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أقبل القليل واشكر العطية ، واعذر على المنع ، فاحضر (عليه السلام) وكيله وحاسبه وقال له : هات الفاضل ، وكان الفاضل خمسين الف درهم فدفعها إليه ولم يكتف (عليه السلام) بذلك بل قال لوكيله ما فعلت بالخمس مائة دينار التي عندك؟ فقال له : هي عندي ، فأمره باحضارها ثم دفعها إلى الرجل وهو يعتذر منه (4)

ص: 297


1- الحائط : البستان.
2- البداية والنهاية 8 / 38.
3- الطبقات الكبرى للشعراني 1 / 23 ، الصبان ص 177.
4- دائرة المعارف للبستانى ج 7 ص 39 ، إحياء العلوم للغزالي ج 3 ص 171 وزاد فيه انه «ع» قال للرجل هات من يحمل هذه الاموال فاتاه بحمالين فدفع علیه السلام رداءه لكراء الحمالين ، فقال له مواليه يا بن رسول اللّه واللّه ما عندنا درهم ، فقال «ع» لهم : ارجو ان يكون لي عند اللّه اجر عظيم.

إن قوله (عليه السلام) ( الكثير في ذات اللّه قليل ) ينم عن أن هذا العطاء إنما هو في سبيل اللّه تعالى لا يبتغي من احد جزاء أو شكورا.

5 - ومن مكارمه (عليه السلام) انه خرج هو وأخوه الحسين (عليه السلام) وابن عمهما عبد اللّه بن جعفر (1) وافدين إلى بيت اللّه الحرام ، وفى أثناء الطريق أصابهم جوع وعطش وقد سبقتهم اثقالهم ، فانعطفوا على بيت قد ضرب أطنابه في وسط تلك البيداء القاحلة ، فلما وصلوا إلى البيت لم يروا فيه إلا عجوزا فطلبوا منها شرابا وطعاما ، فأجابت بما طبعت عليه نفس الكريم قائلة :

نعم.

ص: 298


1- عبد اللّه بن جعفر بن ابي طالب الهاشمي ، وأمه اسماء بنت عميس الخثعمية ولد بأرض الحبشة لما هاجر إليها ابوه ، ولما قتل جعفر مسح النبي على راس عبد اللّه وقال : اللّهم اخلف جعفرا فى ولده ، وقال فيه صلی اللّه علیه و آله عبد اللّه يشبه خلقى وخلقى ، واطلع (صلی الله عليه وآله وسلم) عليه يوما وهو يبيع مع الصبيان فقال اللّهم بارك له فى بيعه او صفقته ، وهو احد الاجواد المشهورين ، ونقلت عن جوده وسخائه اخبار كثيرة وفيه يقول عبد اللّه بن قيس الرقيات وما كنت إلا كالأغر ابن جعفر *** راى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا ويقول فيه الشماخ بن ضرار : إنك يا ابن جعفر نعم الفتى *** ونعم مأوى طارق إذا اتى ورب ضيف طرق الحى سرى *** صادف زادا وحديثا ما اشتهى توفي سنة ثمانين من الهجرة ، وقد عرف ذلك العام الذي توفي فيه بعام الجحاف لحدوث سيل كان ببطن مكة اجحف الحاج وذهب بالابل وعليها الحمولة جاء ذلك فى الاصابة ج 2 ص 289 - 290.

إنها النفس إذا جبلت على الخير وطبعت فيها الأريحية قدمت في سبيل العز والمجد كل ما تملك ، لم يك عند العجوز سوى شاة هى كل ما تملك مما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء ، فتقدمت وبيدها الشاة قائلة لهم :

دونكم هذه الشاة فاحلبوها واشربوا لبنها ، فلما فعلوا ذلك تقدمت إليهم مرة أخرى قائلة :

أقسم عليكم إلا ما ذبحها أحدكم حتى أهيّئ لكم الحطب لشيها ، ففعلوا ذلك وهيأت العجوز الحطب ، وبعد الفراغ من تناول الطعام عزموا على الرحيل فتقدموا إليها وعرفوها بشخصياتهم ليجازوها على صنعها خيرا إن رجعوا إلى وطنهم ، قائلين :

« يا أمة اللّه إنا نفر من قريش نريد حج بيت اللّه الحرام ، فاذا رجعنا سالمين فهلمي إلينا لنكافئك على هذا الصنع الجميل ».

ثم انصرفوا لشأنهم ، ولما عنّ غياب القرص عن السماء أقبل رب البيت على عادته فأخبرته العجوز بالقصة ، فاستولى عليه الغضب ، ذلك لأن الشاة هي مصدر القوت وإدرار الرزق عليهم ، فقال لها : ويحك أتذبحين الشاة لأناس لا تعرفينهم؟ ثم تقولين إنهم نفر من قريش.

وطوى الدهر عجلته فمضت سنة وأقبلت أخرى فاعترت البادية أزمة شديدة لأن السماء قد منعتها قطرها حتى قلت موارد العيش وانعدمت أسباب القوت ، فرحلا عن البادية ونزلا المدينة ، ولم يجدا عملا يحيطان به خبرا سوى التقاط البعر من الطرقات والشوارع ، فاتخذا ذلك مهنة لهما ، وفي يوم من الأيام وهما على عملهما ارادت السعادة أن تحنو عليهما فلمح الحسن (عليه السلام) العجوز فعرفها ، وقد حل وفاء الدين ، والمعروف في ذمة الأحرار دين فأمر (عليه السلام) غلامه أن يأتي بها إليه ، فلما مثلت بين يديه

ص: 299

قال (عليه السلام) لها :

أتعرفيني يا أمة اللّه؟

- لا ..

- أنا أحد ضيوفك يوم كذا سنة كذا.

- لست أعرفك.

- إن لم تعرفيني فانا أعرفك ، ثم أمر (عليه السلام) غلامه فاشترى لها من غنم الصدقة الف شاة وأعطاها الف دينار ، ثم أمر (عليه السلام) غلامه أن يذهب بها إلى أخيه الحسين (عليه السلام) ويعرفه بها ، فأخذها الغلام فلما دخلت عرفها الحسين (عليه السلام) ، فقال للغلام : كم اعطاها أخي؟ فأخبره الغلام بعطائه ، فأوصلها (عليه السلام) بمثل ذلك ، ثم بعث الحسين بها إلى عبد اللّه بن جعفر ، فلما دخلت عليه عرفها ، فأمر لها بألفي شاة والفي دينار فأخذت ذلك جميعا وانصرفت (1) وفد تغير حالها من فقر مدقع إلى غناء وثروة حسدها عليه كل من عرفها كل ذلك من بر الحسن وفضله ،.

6 - ومن آيات مكارمه (عليه السلام) أنه اشترى حائطا من الأنصار بأربعمائة الف فبلغه أنهم قد احتاجوا إلى ما في أيدي الناس فرده إليهم (2) إن إنقاذ هؤلاء من ذل السؤال ورد شرفهم إليهم من أفضل أنواع السخاء ومن أسمى مراتب الجود.

7 - ومن مكارمه (عليه السلام) أن جارية حيته بطاقة من ريحان ، فقال علیه السلام لها : أنت حرة لوجه اللّه ، فلامه أنس على ذلك ، فأجابه علیه السلام : أدبنا اللّه فقال تعالى : ( إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها )

ص: 300


1- إحياء العلوم للغزالي 3 / 173 ، دائرة المعارف للبستاني 7 / 39.
2- الصبان ص 176.

وكان أحسن منها إعتاقها (1).

8 - ومن مكارمه (عليه السلام) أن مروان بن الحكم قال : إني لمشغوف ببغلة الحسن بن علي فمن يأتيني بها؟ فأنبرى إليه ابن أبي عتيق قائلا :

- أنا آتيك بها لكن بشرط أن تقضي لي ثلاثين حاجة؟

- التزم لك بذلك.

فقال ابن أبي عتيق لمروان : إذا اجتمع الناس عندك العشية فاني آخذ في مآثر قريش وأمسك عن الحسن فلمنى على ذلك ، فلما اجتمع الناسى أخذ ابن أبي عتيق في مآثر قريش وسكت عن ذكر فضائل الامام الحسن (عليه السلام) ، فقال له مروان ألا تذكر أولية أبي محمد ، وله فى هذا ما ليس لأحد منا ، فقال ابن أبي عتيق : إنما كنا في ذكر الاشراف ولو كنا في ذكر الأنبياء لذكرنا فضائل أبي محمد ، ولما خرج الامام (عليه السلام) تبعه ابن ابي عتيق فلما نظر إليه الحسن (عليه السلام) تبسم وعرف الغاية من مديحه فقال (عليه السلام) له : ألك حاجة؟ فقال : نعم ذكرت البغلة ، فنزل (عليه السلام) عنها ودفعها إليه (2).

9 - ومن جوده (عليه السلام) أن رجلا سأله أن يعطيه شيئا فقال له (عليه السلام) إن المسألة لا تصلح إلا في غرم فادح (3) أو فقر مدقع أو حمالة مفظعة (4) فقال ما جئت إلا فى إحداهن ، فأمر (عليه السلام) له بمائة دينار ،

ص: 301


1- المناقب 2 / 23.
2- الكامل للمبرد 2 / 13.
3- الغرم الفادح هو لدين الثقيل.
4- الحمالة. بالفتح هو ما يتحمله الشخص من الدية والغرامة عن قومه ، المفظعة الشيء الشديد.

ثم انعطف الرجل نحو الحسين (عليه السلام) فسأله مثل سؤال اخيه فأعطاه مائة دينار سوى دينار لأنه كره أن يساوى أخاه في عطائه وانعطف الرجل بعد ذلك إلى عبد اللّه بن عمر فسأله فأعطاه سبعة دنانير ، فقال الرجل : لعبد اللّه إني أتيت الحسن والحسين وحكى له ما جرى له معهما فقال ابن عمر : ويحك أنى تجعلني مثلهما؟! انهما غرا العلم (1). غرا المال (2).

10 - ومن مكارمه (عليه السلام) أنه ما اشترى من أحد حائطا ثم أفتقر البائع إلا ورده عليه وأردفه بالثمن معه (3).

11 - وجاءه فقير يشكو حاله ولم يك عنده (عليه السلام) في ذلك اليوم شيء فعز عليه الامر واستحى من رده فقال (عليه السلام) له : إني أدلك على شيء يحصل لك منه الخير ، فقال الفقير يا بن رسول اللّه ما هو؟! قال علیه السلام اذهب إلى الخليفة فان ابنته قد توفيت وانقطع عليها وما سمع من أحد تعزية بليغة فعزه بهذه الكلمات يحصل لك منه الخير ، قال يا بن رسول اللّه حفظني إياها ، قال (عليه السلام) قل له الحمد لله الذي سترها بجلوسك على قبرها ولم يهتكها بجلوسها على قبرك ، وحفظ الفقير هذه الكلمات وجاء إلى الخليفة فعزاه بها ، فذهب عنه حزنه وأمر له بجائزة وقال له :

أكلامك هذا؟

- لا : وإنما هو كلام الامام الحسن.

الخليفة : صدقت فانه معدن الكلام الفصيح وأمر له بجائزة أخرى (4).

ص: 302


1- غرا العلم اي القما العلم ومنه حديث معاوية كان النبي يغر عليا بالعلم.
2- عيون الاخبار لابن قتيبة 3 / 140.
3- الطبقات الكبرى للشعرانى 1 / 23.
4- نور الابصار ص 111.

وذكر المترجمون للإمام صورا كثيرة من ألوان بره ومعروفه على الفقراء وقيامه بانقاذهم من كابوس الحاجة والفقر الى الدعة والسعة فى العيش ، وجميع تلك المبرات التي أسداها عليهم كانت خالصة لوجه اللّه ، ولم تكن مشفوعة بأي غرض من الاغراض فإنه كان يمنحهم العطاء والبر قبل أن يبوحوا بحاجاتهم ، ويذكروا مديحهم وثناءهم لئلا يظهر عليهم ذل السؤال والاحتياج.

عبادته وتقواه

ان الانسان كلما ازداد معرفة باللّه ازداد إيمانا به ، وحبا له ، وانقيادا لأوامره وطاعته ، وسعيا في جميع الوسائل التي تقربه إليه.

والامام الحسن قد تغذى بلباب المعرفة ، وبجوهر الايمان ، وبواقع الدين وانطبعت مثله في دخائل نفسه واعماق ذاته ، فكان من اشد الناس إيمانا ، ومن اكثرهم اخلاصا وطاعة لله ، وقد حدث الرواة عن مدى طاعته فقالوا : إنه لم ير في وقت من الاوقات إلا وهو يلهج بذكر اللّه ، (1) وانه اذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم (2) فسأل اللّه الجنة وتعوذ من النار ، واذا ذكر الموت وما يعقبه من البعث والنشور بكى بكاء الخائفين والمنيبين (3) واذا ذكر العرض على اللّه شهق شهقة يغشى عليه منها (4) ، وكان من اشد المعتبرين بالموت فاذا حضر جنازة

ص: 303


1- أمالي الصدوق صفحة 108
2- السليم : من لسعه العقرب
3- اعيان الشيعة 4 / 11
4- أمالي الصدوق : صفحة 108

ظهرت عليه السكينة أياما ، واذا مات فى جواره ميت سمع منه النحيب والبكاء كما يسمع من دار الميت (1) ودلت هذه الامور على عظيم طاعته وخوفه من اللّه ، ونسوق الى القراء بعض مظاهر عبادته : 1 - وضوؤه وصلاته

كان الامام اذا اراد الوضوء تغير حاله ، وداخله خوف عميق حتى يصفر لونه وترتعد فرائصه ، وسئل عن سر ذلك فقال :

« حق على من وقف بين يدي رب العرش أن ترتعد فرائصه ، ويصفر لونه .. »

واذا فرغ من الوضوء وأراد الدخول الى المسجد رفع صوته قائلا :

« إلهي : ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء ، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم » (2)

واذا اقبل على صلاته بدا عليه الخضوع والخشوع ، وظهر عليه الخوف حتى ترتعد جميع فرائصه واعضائه (3) واذا فرغ من صلاة الفجر لا يتكلم الا بذكر اللّه حتى تطلع الشمس (4) 2 - حجه

ومن مظاهر عبادته وعظيم اخلاصه وطاعته لله تعالى انه حج بيت اللّه الحرام خمسا وعشرين حجة ماشيا على قدميه وكانت النجائب (5) ،

ص: 304


1- مجموعة ورام صفحة 317
2- البحار 10 / 93 ، أمالي الصدوق صفحة 108 ، روضة الواعظين
3- أمالي الصدوق صفحة 108
4- البحار 10 / 93
5- النجائب : جمع ، مفرده نجيبة وهي الفاضل من الحيوانات وفي بعض المصادر وان الجنائب لتقاد بين يديه ، والجنائب. جمع جنيبة وهي الدابة التي تقاد.

تقاد بين يديه (1) وسئل عن كثرة حجه ماشيا فأجاب : « اني استحي من ربي أن لا امضي الى بيته ماشيا على قدمي (2)

3 - تلاوته للقرآن

كان الامام يتلو الذكر الحكيم تلاوة امعان وتدبر فلا يمر بآية تشتمل على نداء المؤمنين إلا قال : لبيك. اللّهم لبيك (3) وكان يقرأ في كل ليلة سورة الكهف (4) 4 - التصدق بأمواله

وقدم الامام في سبيل مرضاة اللّه كل غال ونفيس ، فقد خرج عن جميع ما يملك مرتين ، وشاطر اللّه أمواله ثلاث مرات حتى أعطى نعلا وامسك اخرى (5)

زهده

ورفض الامام جميع مباهج الحياة ، وزهد في ملاذها ونعيمها ، واتجه الى الدار الآخرة التي أعدها اللّه للمتقين من عباده ، وقد تحدث علیه السلام

ص: 305


1- اللمعة كتاب الحج واعيان الشيعة ، وقيل انه حج خمس عشرة حجة ، وقيل عشرون ، وذكر الصدوق فى أماليه انه ربما مشى حافيا الى بيت اللّه.
2- اعيان الشيعة 4 / 11
3- أمالي الصدوق ص 108
4- تاريخ ابن كثير 8 / 37
5- اسد الغابة 2 / 13 ، البحار 10 / 94

عن عزوفه عن الدنيا ، واقتناعه بالقليل منها يقول :

لكسرة من خسيس الخبز تشبعني *** وشربة من قراح الماء تكفيني

وطرة من دقيق الثوب (1) تسترني *** حيا وان مت تكفيني لتكفيني (2)

ورسم على خاتمه بيتين من الشعر يلمس فيهما مدى زهده وهما :

قدم لنفسك ما استطعت من التقى *** إن المنية نازل بك يا فتى

أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى *** أحباب قلبك في المقابر والبلى (3)

وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت *** يا اهل لذات دنيا لا بقاء لها

ان اغترارا بظل زائل حمق (4)

ومما ينسب له في ذم المغرور في الدنيا والمفتون بحبها قوله :

قل للمقيم بغير دار اقامة *** حان الرحيل فودع الاحبابا

ان الذين لقيتهم وصحبتهم *** صاروا جميعا في القبور ترابا (5)

ومن مظاهر زهده ما حدث به مدرك بن زياد (6) قال : كنا في حيطان ابن عباس فجاء الحسن والحسين ، وابنا العباس فطافوا فى تلك البساتين ثم جلسوا على ضفاف بعض السواقي ، فقال الحسن : يا مدرك : هل عندك غذاء؟ فقلت له : نعم ثم انطلقت فجئته بخبز وشيء من الملح

ص: 306


1- الدقيق : الحقير من الثياب
2- البحار 10 / 94
3- تاريخ ابن عساكر 4 / 219
4- الفصول المهمة لابن الصباغ : ص 162
5- المناقب 2 / 145
6- مدرك بن زياد احد الصحابة ، توفى في دمشق بقرية يقال لها « راوية » وهو اول مسلم دفن فيها ، الاصابة 3 / 394

مع طاقتين من بقل فأكل منه ، وقال يا مدرك ما أطيب هذا؟

وجيء بعد ذلك بالطعام وكان في منتهى الحسن والجودة فالتفت علیه السلام الى مدرك وأمره بأن يجمع الغلمان ويقدم لهم الطعام ، فدعاهم مدرك فأكلوا منه ولم يأكل الامام منه شيئا فقال له مدرك : لما ذا لا تأكل منه؟ فقال علیه السلام : ان ذاك الطعام أحب عندي (1) لأنه طعام الفقراء والمحرومين ، ومما يدل على عظيم زهده أنه زهد في الملك طلبا لمرضاة اللّه ، وخوفا على دماء المسلمين ، وقد الف فى زهده محمد ابن بابويه القمي (2) كتابا اسماه زهد الحسن وأجمع المترجمون له انه كان أزهد الناس وأفضلهم بعد جده وأبيه

هيبته ووقاره

إن شخصية الامام كانت تملأ العيون وتهيمن على النفوس لأنه قد التقت بها عناصر النبوة والامامة ، وتمثلت فيها هيبة النبيّ ، وقد حدث واصل بن عطاء (3) قال :

ص: 307


1- تاريخ ابن عساكر 4 / 212
2- محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، من اعظم علماء الشيعة ، ورئيس المحدثين لم ير فى القميين مثله في حفظه وكثرة علمه ، وهو استاذ الشيخ المفيد ، له من المؤلفات ثلاث مائة مؤلف توفى بالري سنة 381 ه جاء ذلك في الكنى والالقاب 1 / 212
3- واصل بن عطاء البصري : كان متكلما بليغا متشدقا ، وكان يلثغ بالراء نقل عنه انه هجر الراء وتجنبها فى خطابه وقيل فيه ويجعل البر قمحا فى تصرفه *** وخالف الراء حتى احتال للشعر ولم يطق مطرا والقول يعجله *** فعاذ بالغيث اشفاقا من المطر له من المؤلفات : اصناف المرجئة ، التوبة ، معاني القرآن ، وكان يتوقف من القول بعدالة اهل الجمل ، وهو شيخ المعتزلة ومن اجلائها ، ولد فى يثرب سنة ثمانين ، وتوفى سنة مائة واحدى وثلاثين من الهجرة جاء ذلك فى لسان الميزان 6 / 214

« كانت على الحسن سيماء الأنبياء وبهاء الملوك » (1)

وقال ابن الزبير :

« واللّه ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي في هيبته وسمو منزلته » (2)

وبلغ من عظيم هيبته انه كان يفرش له على باب البيت فاذا خرج وجلس انقطع الطريق لأنه لا يمر أحد إلا جلس اجلالا واكبارا له ، فاذا علم ذلك قام ودخل البيت (3)

ومن عظيم هيبته وسمو مكانته في نفوس المسلمين أنه ما أجتاز مع أخيه على ركب في حال سفرهما إلى بيت اللّه الحرام ماشيين إلا ترجل ذلك الركب تعظيما واكبارا لهما حتى ثقل المشي على جماهير الحجاج فكلموا سعد بن أبي وقاص في ذلك فبادر إلى الامام وقال له :

« يا أبا محمد ، إن المشي قد ثقل على الحجاج لأنهم إذا رأوا كما لم تطب نفوسهم بالركوب ، فلو ركبتما رحمة لهم .. »

فاجابه الامام بما ينم عن نفس قد عاهدت اللّه أن تبذل فى مرضاته

ص: 308


1- اعيان الشيعة 4 / 12 ، المناقب.
2- تأريخ ابن كثير 8 / 37.
3- اعلام الورى فى اعلام الهدى ص 125.

كل غال ونفيس قائلا :

« لا نركب فقد عاهدنا اللّه أن نؤم بيته ماشيين ، ولكن نتنكب الطريق .. » (1)

وسار علیه السلام فى بعض طرق يثرب وقد لبس حلة فاخرة ، وركب بغلة فارهة ، ووجهه الشريف يشرق حسنا وجمالا ، وقد حفت به خدمه ، وحاشيته فرآه بعض اغبياء اليهود فبادر إليه وقال له :

يا بن رسول اللّه عندى سؤال؟

- ما هو؟

- إن جدك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فأنت المؤمن وأنا الكافر ، وما الدنيا إلا جنة لك تتنعم فيها ، وتستلذ بها وأنت مؤمن ، وما أراها الا سجنا قد أهلكني حرها وأجهدني فقرها؟

- لو نظرت إلى ما أعد اللّه لي وللمؤمنين في الدار الآخرة مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر لعلمت أني قبل انتقالي إليها وأنا فى هذه الحالة فى سجن ، ولو نظرت إلى ما أعد اللّه لك ولكل كافر في دار الآخرة من سعير نار جهنم ، ونكال العذاب الأليم المقيم لرأيت قبل مصيرك إليه أنك في جنة واسعة ونعمة جامعة (2) وتركه الامام ، واليهودي يتميز من الغيظ والحقد.

ورأى هيبة الامام ووقاره بعض الأغبياء من الحاقدين عليه فقال له إن فيك عظمة فاجابه الامام ان في عزة ثم تلا قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ

ص: 309


1- المناقب 2 / 142 ، اعيان الشيعة 4 / 20.
2- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 161.

وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (1) ان الحسن كان يحكى جده الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) فى هيبته وسؤدده وكريم طباعه.

فصاحته وبلاغته :

وكل ظاهرة من ظواهر الكمال قد تمثلت في الامام أبي محمد ، وتحلت بها شخصيته الكريمة ، ومن أروع صفاته البلاغة والفصاحة في الكلام فقد كان (عليه السلام) من أبرع البلغاء في اصابته للمناسبات ، ومن أقدرهم على الايجاز والاعجاز والابداع فى الكلام ، وحقا أن يكون كذلك فقد تفرع من دوحة الفصاحة والبلاغة وفصل الخطاب ، فالجد رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أفصح من نطق بالضاد ، والأب علي (عليه السلام) سيد البلغاء وامير البيان.

إن الحسن (عليه السلام) في فصاحته وبلاغته كأبيه ، وقد ترك (عليه السلام) تراثا رفيعا وحكما بالغة تحتوى على أصول الآداب الاجتماعية والنصح والارشاد والوعظ الخالد ، قد رصعت بجمال اللفظ وسمو المعنى وإلى القراء بعضها. الآداب الاجتماعية :

وجه الامام علي (عليه السلام) الى الحسن اسئلة تتعلق بأصول الأخلاق والفضائل ، فأجابه الحسن (عليه السلام) بما هو عفو البداهة والخاطر فكان الجواب آية من آيات البلاغة والاعجاز :

الامام علي : يا بني ما السداد؟

الحسن : يا أبت السداد دفع المنكر بالمعروف.

- ما الشرف؟

- اصطناع العشيرة وحمل الجريرة.

- ما المروءة؟

ص: 310


1- المناقب 2 / 149.

- العفاف واصلاح المرء ماله.

- ما الدنيئة؟

- النظر في اليسير ومنع الحقير.

- ما اللوم؟

- احتراز المرء نفسه وبذله عرسه (1).

- ما السماحة؟

- البذل في العسر واليسر.

- ما الشح؟

- أن ترى ما في يديك شرفا وما أنفقته تلفا.

- ما الاخاء؟

- الوفاء في الشدة والرخاء.

- ما الجبن؟

- الجرأة على الصديق والنكول عن العدو.

- ما الغنيمة؟

- الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا.

- ما الحلم؟

- كظم الغيظ وملك النفس.

- ما الغنى؟

- رضى النفس بما قسم اللّه وإن قل فانما الغنى غنى النفس.

- ما الفقر؟

ص: 311


1- وفى رواية انه قال ما اللؤم؟ احتراز المرء ماله وبذله عرضه جاء ذلك فى دائرة المعارف للبستاني 7 / 39.

- شره النفس في كل شيء.

- ما المنعة؟

- شدة البأس ومقارعة أشد الناس.

- ما الذل؟

- الفزع عند المصدوقية؟

- ما الجرأة؟

- موافقة الأقران.

- ما الكلفة؟

- كلامك فيما لا يعنيك.

- ما المجد؟

- أن تعطى في الغرم وأن تعفو عن الجرم.

- ما العقل؟

- حفظ القلب كل ما استرعيته. (1)

- ما الحزق؟

- معاداتك إمامك ورفعك عليه كلامك.

- ما الثناء؟

- اتيان الجميل وترك القبيح.

- ما الحزم؟

- طول الأناة (2) والرفق بالولاة والاحتراس من الناس بسوء الظن

ص: 312


1- وفى رواية ابى نعيم في الحلية 2 / 36 حفظ القلب كل ما استوعيته ، وفى رواية اخرى حفظ القلب لكل ما استتر فيه.
2- الأناة : الوقار والحلم والانتظار.

هو الحزم.

- ما الشرف؟

- موافقة الاخوان.

- ما السفه؟

- إتباع الدناة ومصاحبة الغواة.

- ما الغفلة؟

- تركك المسجد وطاعتك المفسد.

- ما الحرمان؟

- تركك حظك وقد عرض عليك.

- ما السيد؟

- الأحمق في ماله المتهاون في ... ، يشتم فلا يجيب ، المتحزن (1) بأمر العشيرة هو السيد (2).

إن النفس لتقف حائرة أمام هذا الاسترسال العجيب من الامام الحسن وعدم تكلفه في الجواب واحاطته خبرا بمعانى هذه النقاط الحيوية ، فلن يسع النفس إلا الاكبار والاعجاب والاعتراف بالعظمة والخضوع لتلك المواهب العلمية. مكارم الأخلاق :

قال جابر : سمعت الحسن (عليه السلام) يقول : مكارم الأخلاق عشرة ، صدق اللسان ، وصدق البأس ، واعطاء السائل ، وحسن الخلق ، والمكافاة

ص: 313


1- وفى رواية المهتم بأمر عشيرته.
2- تأريخ ابن كثير ج 8 ص 39.

بالصنائع ، وصلة الرحم ، والتذمم (1) على الجار ، ومعرفة الحق للصاحب ، وقرى الضيف ، ورأسهن الحياء (2).

والتفت معاوية يوما إلى الامام (عليه السلام) قال له : يا أبا محمد ثلاث خلال لم أجد من يجيبني عنها!!!

- ما هي؟

- المروءة ، الكرم ، النجدة.

- أما ( المروءة ) فاصلاح الرجل أمر دينه وحسن قيامه على ماله وإفشاء السلام والتحبب إلى الناس.

( الكرم ) العطية قبل السؤال ، والتبرع بالمعروف والاطعام في المحل.

( النجدة ) الذب عن الجار ، والمحامات في الكريهة ، والصبر عند الشدائد.

وجاء إليه شخص فقال : يا بن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من أحسن الناس؟

- من أشرك الناس في عيشه.

- من أشر الناس؟

- من لا يعيش فى عيشه أحد (3). الجرائم الاخلاقية :

قال «ع» : هلاك الناس في ثلاث ، الكبر ، الحرص ، الحسد.

« الكبر » به هلاك الدين ، وبه لعن إبليس.

ص: 314


1- التذمم ماخوذ من اذمه اي اجاره واخذه تحت حمايته.
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 201.
3- تأريخ اليعقوبي 2 / 202.

« الحرص » عدو النفس وبه اخرج آدم من الجنة.

« الحسد » رائد السوء وبه قتل هابيل قابيل (1).

لا شك ان هذه الرذائل الثلاث التي حرض الامام «ع» على اجتنابها واقام الشواهد على اضرارها هي اصول الاجرام وامهات الرذائل. التحريض على طلب العلم :

قال «ع» : لبنيه تعلموا العلم فانكم صغار القوم ، وكبارهم غدا ، ومن لم يحفظ منكم فليكتب (2).

وقال «ع» علم الناس ، وتعلم علم غيرك فتكون قد اتقنت علمك وعلمت ما لم تعلم (3).

وقال «ع» : حسن السؤال نصف العلم (4). فضل العقل :

قال «ع» : لا أدب لمن لا عقل له ، ولا مودة لمن لا همة له ، ولا حياء لمن لا دين له ، ورأس العقل معاشرة الناس بالجميل ، وبالعقل تدرك سعادة الدارين ، ومن حرم العقل حرمهما جميعا (5). فضل القرآن الكريم :

قال «ع» : إن هذا القرآن فيه مصابيح النور ، وشفاء الصدور ،

ص: 315


1- نور الابصار ص 110.
2- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 142.
3- الاثنى عشرية ص 37.
4- نور الابصار ص 110.
5- اعيان الشيعة 4 / 88.

فليجل جال بضوئه ، وليلجم (1) الصفة قلبه ، فان التفكير حياة القلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور (2). الدعاء :

قال «ع» ما فتح اللّه عز وجل على أحد باب مسألة فخزن (3) عنه باب الاجابة ، ولا فتح على رجل باب عمل فخزن عنه باب القبول ، ولا فتح لعبد باب شكر فخزن عنه باب المزيد (4). السياسة :

سأله شخص عن رأيه في السياسة؟ فقال «ع» : هي أن ترعى حقوق اللّه ، وحقوق الاحياء ، وحقوق الأموات ( فأما حقوق اللّه ) فأداء ما طلب ، والاجتناب عما نهى « وأما حقوق الأحياء » فهي أن تقوم بواجبك نحو اخوانك ، ولا تتأخر عن خدمة أمتك ، وأن تخلص لولى الأمر ما اخلص لأمته ، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما حاد عن الطريق السوى « وأما حقوق الأموات » فهي أن تذكر خيراتهم ، وتتغاضى عن مساوئهم فان لهم ربا يحاسبهم (5).

وقال له معاوية : ما يجب لنا في سلطاننا؟

الامام : ما قال سليمان بن داود!!!

ص: 316


1- لجم : اي شد.
2- كشف الغمة ص 171.
3- خزن : اغلق وسد.
4- اعيان الشيعة 4 / 88.
5- مجلة العرفان الجزء الثالث المجلد الاربعون ص 254 نقلا عن المجلد التاسع من التذكرة المعلوفية.

معاوية : وما قال سليمان؟

الامام : انه قال لبعض أصحابه ، أتدري ما يجب على الملك فى ملكه وما لا يضره إذا أدى الذي عليه منه ، إذا خاف اللّه في السر والعلانية وعدل في الغضب والرضا ، وقصد في الفقر والغنى ، ولم يأخذ الأموال غصبا ، ولم يأكلها إسرافا وتبذيرا ، ولم يضره ما تمتع به من دنياه إذا كان من خلته (1).

هذه هي السياسة الصحيحة التي لو سارت عليها الدول لدام لها البقاء وكان الشعب والحكومة في راحة ونعيم ، وقد ادلى الامام «ع» بهذه الآراء القيمة إلى عدوه لأجل المصلحة العامة علّه أن يسير خصمه على ضوء الحق. الصديق والصاحب :

قال «ع» : ألا اخبركم عن صديق كان لي من اعظم الناس في عيني ، وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه ، كان خارجا من سلطان بطنه فلا يتشهى ما لا يحل ولا يكنز إذا وجد ، وكان خارجا من سلطان الجهالة فلا يمد يدا إلا على ثقة لمنفعة ، كان لا يتشكى ولا يتبرم ، كان أكثر دهره صامتا فاذا قال بذ (2) القائلين ، كان ضعيفا مستضعفا فاذا جاء الجد فهو الليث عاديا ، كان إذا جامع العلماء على أن يسمع احرص منه على أن يقول ، كان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت كان لا يقول ما يفعل ويفعل ما لا يقول كان إذا عرض له أمران لا يدري أيهما أقرب إلى الحق نظر اقربهما من هواه فخالفه كان

ص: 317


1- تأريخ اليعقوبي 2 / 202.
2- بذ اي تفوق وغلب.

لا يلوم أحدا على ما قد يقع العذر في مثله ، كان لا يقول حتى يرى قاضيا عدلا وشهودا عدولا (1)

وقال «ع» لبعض ولده : يا بني لا تواخ احدا حتى تعرف موارده ومصادره القريب من قربته المودة والبعيد من باعدته المودة وإن قرب نسبه.

وسأله رجل أن يكون صديقا له وجليسا ، فقال له «ع» : إياك أن تمدحني فانا اعلم بنفسي منك ، أو تكذبني فانه لا رأى لمكذوب ، أو تغتاب عندى أحدا ، فقال الرجل : ائذن لي في الانصراف قال له : نعم إذا شئت (2). السخاء والمعروف :

كان «ع» يطوف في بيت اللّه الحرام فسأله رجل عن معنى الجواد فقال له : إن لكلامك وجهين ، فان كنت تسأل عن المخلوق فان الجواد الذي يؤدى ما افترض عليه ، والبخيل الذي يبخل بما افترض عليه ، وإن كنت تسأل عن الخالق فهو الجواد إن اعطى وهو الجواد إن منع لأنه إن أعطى عبدا اعطاه ما ليس له وإن منع منع ما ليس له (3) وقال «ع» المعروف ما لم يتقدمه مطل ولا يتبعه منّ ، والاعطاء قبل السؤال من اكبر السؤدد (4).

ص: 318


1- عيون الاخبار لابن قتيبة ج 2 ص 55 ، وذكره غيره مع اختلاف فى التعبير.
2- تحف العقول ص 55.
3- مجمع البحرين مادة جود.
4- اعيان الشيعة ج 4 ص 88.

البخل :

قال «ع» البخل جامع للمساوئ والعيوب ، وقاطع للمودات من القلوب.

وسئل «ع» عن البخل فقال : هو أن يرى الرجل ما انفقه تلفا وما امسكه شرفا (1). التواضع :

قال «ع» : أعرف الناس بحقوق اخوانه واشدهم قضاء لها اعظمهم عند اللّه شأنا ، ومن تواضع في الدنيا لاخوانه فهو عند اللّه من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب «ع» (2). التوكل على اللّه :

قيل له «ع» : إن أبا ذر كان يقول الفقر أحب إلى من الغنى ، والسقم أحب إلى من الصحة. فقال : رحم اللّه أبا ذر ، أما أنا فأقول من اتكل على حسن اختيار اللّه لم يتمن أنه في غير الحالة التي اختارها اللّه له (3). ابطال الجبر :

ورفع أهالي البصرة إليه «ع» رسالة يطلبون منه رأيه في مسألة الجبر (4) فأجابهم علیه السلام :

ص: 319


1- نهاية الارب في فنون الادب ج 3 ص 398.
2- مجموعة ورام ص 312.
3- تأريخ ابن كثير ج 8 ص 39.
4- مبحث الجبر والتفويض من اهم المسائل الكلامية واشكلها ، وقد اضطربت فيها اقوال العلماء واختلفت إلى ابعد الحدود ، وقد شاعت فكرة الجبر في البصرة بسبب الحسن البصري وابي الحسن الاشعري حفيد ابي موسى الاشعري ، ومجمل فكرة الجبر ان الفعل الصادر من العبد ليس مخلوقا له وإنما هو مخلوق لله تعالى ، وإن ارادة العبد وقدرته لا مدخل لهما في ايجاد الفعل سواء كان الفعل الصادر من العبد باختياره او مضطرا عليه ، وقد تعرض آية اللّه الأستاذ السيد ابو القاسم الخوئي سلمه اللّه فى بحثه إلى المسألة فأوفاها بالتحقيق وبين فساد الجبر والتفويض واثبت ( ان الأمر بين الأمرين ) وهي الفكرة التي تذهب إليها الشيعة وقد كتبنا ما افاده سلمه اللّه برسالة مستقلة.

من لم يؤمن باللّه وقضائه وقدره فقد كفر ، ومن حمل ذنبه على ربه فقد فجر ، إن اللّه لا يطاع استكراها ، ولا يعصى لغلبة لأنه المليك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم فان عملوا بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما فعلوا فاذا لم يفعلوا فليس هو الذي أجبرهم على ذلك ، فلو اجبر اللّه الخلق على الطاعة لأسقط عنهم الثواب ، ولو أجبرهم على المعاصي لاسقط عنهم العقاب ، ولو اهملهم لكان عجزا فى القدرة ولكن له فيهم المشيئة التي غيبها عنهم فان عملوا بالطاعات كانت له المنة عليهم ، وإن عملوا بالمعصية كانت الحجة عليهم (1). تقوى اللّه :

قال «ع» إن اللّه لم يخلقكم عبثا وليس بتارككم سدى ، كتب آجالكم وقسم بينكم معايشكم ليعرف كل ذى منزلة منزلته وإن ما قدر له أصابه وما صرف عنه فلن يصيبه قد كفاكم مئونة الدنيا وفرغكم لعبادته وحثكم على الشكر وافترض عليكم الذكر وأوصاكم بالتقوى وجعل التقوى منتهى رضاه ، والتقوى باب كل توبة ورأس كل حكمة وشرف كل عمل بالتقوى فاز من فاز من المتقين ، قال اللّه تبارك وتعالى : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ

ص: 320


1- رسائل جمهرة العرب ج 2 ص 25.

مَفازاً ) وقال : ( وَيُنَجِّي اللّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) فاتقوا عباد اللّه واعلموا أن من يتق اللّه يجعل له مخرجا من الفتن ويسدده في أمره ويهيأ له رشده ، ويفلحه بحجته ويبيض وجهه ويعطيه رغبته مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا » (1). الوعظ والارشاد

قال علیه السلام : يا ابن آدم عف عن محارم اللّه تكن عابدا وارض بما قسم اللّه تكن غنيا ، واحسن جوار من جاورك تكن مسلما وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عادلا ، إنه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا اصبح جمعهم بورا وعملهم غرورا ومساكنهم قبورا ، يا ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك مذ سقطت من بطن أمك ، فجد بما في يديك فان المؤمن يتزود والكافر يتمتع وكان يتلو عقيب كلامه هذا ، قوله تعالى : ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ) (2).

وقال علیه السلام : اتقوا عباد اللّه وجدّوا في الطلب وتجاه الهرب وبادروا العمل قبل مقطعات النقمات وهادم اللذات ، فان الدنيا لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجيعتها ولا تتوقى في مساويها ، غرور حائل ، وسناد مائل فاتعظوا عباد اللّه بالعبر واعتبروا بالأثر وازدجروا بالنعم وانتفعوا بالمواعظ ، فكفى باللّه معتصما ونصيرا وكفى بالكتاب حجيجا وخصيما وكفى

ص: 321


1- تحف العقول ص 55.
2- نور الابصار ص 110

بالجنة ثوابا وكفى بالنار عقابا ووبالا (1).

وعزى علیه السلام رجلا قد مات بعض ذويه فقال له. إن كانت هذه المصيبة احدثت لك موعظة وكسبتك اجرا فهو ، وإلا فمصيبتك في نفسك أعظم من مصيبتك في ميتك (2).

وجاءه رجل من الاثرياء فقال له : يا ابن رسول اللّه اني أخاف من الموت!!!

فقال له علیه السلام : ذاك لأنك أخرت مالك ولو قدمته لسرك أن تلحق به (3).

ومر علیه السلام على قوم يلعبون ويضحكون في يوم عيد الفطر فوقف علیه السلام والتفت إليهم قائلا : إن اللّه جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته الى مرضاته فسبق قوم ففازوا ، وقصر آخرون فخابوا ، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون ، وأيم اللّه لو كشف الغطاء لعلموا ان المحسن مشغول باحسانه والمسيء مشغول بإساءته. ثم تركهم علیه السلام وانصرف (4)

وقال علیه السلام : اوصيكم بتقوى اللّه وادامة التفكر فان التفكر أبو كل خير وأمه.

وقال علیه السلام : من عرف اللّه احبه ومن عرف الدنيا زهد فيها

ص: 322


1- كذا وجد في تحف العقول ص 56.
2- مجموعة ورام ص 411
3- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 202
4- جامع السعادات ج 3 ص 376 ، تحف العقول ص 56 مجموعة ورام ص 54

والمؤمن لا يلهو حتى يغفل واذا تفكر حزن (1).

ومر علیه السلام على ميت يراد دفنه فقال : إن امرا هذا آخره لحقيق بأن يزهد في اوله ، وان امرا هذا اوله لحقيق أن يخاف من آخره (2).

وقال علیه السلام : الناس في دار سهو وغفلة يعملون ولا يعلمون فاذا صاروا الى دار الآخرة صاروا الى دار يقين يعلمون ولا يعملون (3). طلب الرزق

قال علیه السلام : لا تجاهد الطلب جهاد الغالب ولا تتكل على القدر اتّكال المستسلم فان ابتغاء الفضل من السنة والاجمال فى الطلب من العفة وليست العفة بدافعة رزقا ولا الحرص بجالب فضلا فان الرزق مقسوم واستعمال الحرص استعمال المآثم (4).

المساجد

قال علیه السلام : من ادام الاختلاف الى المسجد أصاب ثمان خصال آية محكمة ، وأخا مستفادا ، وعلما مستطرفا ، ورحمة منتظرة ، وكلمة تدله على هدى أو تردعه عن ردى ، وترك الذنوب حياء او خشية (5). آداب المائدة

قال علیه السلام : غسل اليدين قبل الطعام ينفى الفقر وبعده ينفي

ص: 323


1- مجموعة ورام صفحة 37
2- المحاسن والمساوئ للجاحظ صفحة 256
3- الاثنى عشرية صفحة 37
4- تحف العقول صفحة 55
5- عيون الاخبار لابن قتيبة ج 3 ص 3

الهم (1).

وقال علیه السلام : في المائدة اثنتا عشرة خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها ، أربع فيها فرض ، واربع سنة ، واربع تأديب.

الفرض : المعرفة ، الرضا ، التسمية ، الشكر.

السنة : الوضوء قبل الطعام ، الجلوس على الجانب الايسر ، الاكل بثلاثة اصابع ولعق الاصابع.

التأديب : الاكل مما يليك ، تصغير اللقمة ، تجويد المضغ. قلة النظر فى وجوه الناس ، (2) ولاء اهل البيت

قال له رجل : يا ابن رسول اللّه إني من شيعتكم!!!

فقال علیه السلام : يا عبد اللّه إن كنت لنا فى أوامرنا وزواجرنا مطيعا فقد صدقت ، وان كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها ، لا تقل أنا من شيعتك ، ولكن قل أنا من مواليكم ومحبيكم ومعادى اعدائكم وأنت في خير والى خير (3). التحذير من المحرفين لكتاب اللّه

قال علیه السلام : أيها الناس إنه من نصح لله وأخذ قوله دليل هدى للتي هي أقوم ، وفقه اللّه للرشاد وسدده للحسنى ، فان جار اللّه آمن محفوظ وعدوه خائف مخذول ، فاحترسوا من اللّه بكثرة الذكر واخشوا

ص: 324


1- الاثنى عشرية ص 37
2- مصابيح الانوار فى حل مشكلات الاخبار للحجة السيد عبد اللّه شبر اعلى اللّه مقامه ج 2 ص 271 وقد اوضح السيد فقرات الحديث.
3- مجموعة ورام صفحة 301

اللّه بالتقوى وتقربوا الى اللّه بالطاعة فانه قريب مجيب ، قال اللّه تعالى : ( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) فاستجيبوا لله وآمنوا به فانه لا ينبغي لمن عرف عظمة اللّه أن يتعاظم ، فان رفعة الذين يعلمون عظمة اللّه أن يتواضعوا ، والذين يعرفون ما جلال اللّه ان يتذللوا وسلامة الذين يعلمون ما قدرة اللّه ان يستسلموا له ولا ينكرون انفسهم بعد المعرفة ولا يضلون بعد الهدى ، واعلموا علما يقينا انكم لن تعرفوا التقى حتى تعرفوا صفة الهدى ولن تمسكوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نبذه ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه ، فاذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف ورأيتم الفرية على اللّه ورأيتم كيف يهوي من يهوي ولا يجهلنكم الذين لا يعلمون ، والتمسوا ذلك عند أهله فانهم خاصة نور يستضاء بهم وأئمة يقتدى بهم ، بهم عيش العلم وموت الجهل وهم الذين اخبركم حلمهم عن جهلهم ، وحكم منطقهم عن صمتهم ، وظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه ، وقد خلت لهم من اللّه سابقة ومضى فيهم من اللّه حكم ، إن في ذلك لذكرى للذاكرين ، واعقلوه اذا سمعتموه عقل رعاية ، ولا تعقلوه عقل رواية فان رواة الكتاب كثير ورعاته قليل واللّه المستعان (1). الشاهد والمشهود

وجاء رجل الى مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليسأل عن المراد من قوله تعالى : ( وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) فرأى في المسجد ثلاثة اشخاص قد احتف بكل واحد منهم جمع من الناس وهم يحدثونهم عما سمعوه من

ص: 325


1- كذا وجد في تحف العقول صفحة 53

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الاحكام والآداب فقصد واحدا منهم فسأله عن مسألته؟!!!

فقال له : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. ثم انعطف الى الثاني ، فسأله عن مسألته؟!!!

فقال له : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر. ثم انعطف نحو الشخص الثالث فسأله عن مسألته؟!!!

فقال له : الشاهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمشهود يوم القيامة ودعم كلامه بالبرهان قائلا : أما سمعت اللّه يقول في كتابه العزيز : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) وقال تعالى : ( وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) فسأل من هو الاول؟ قيل له هو عبد اللّه بن عباس (1)

ص: 326


1- عبد اللّه بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم عم النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمه أمّ الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية ، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل بخمس وقد دعا له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال اللّهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقال صلی اللّه علیه و آله : اللّهم زده علما وفقها ، فكان ببركة دعاء رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) من اساطين العلماء ، وقال مسروق إذا رايت عبد اللّه بن عباس قلت اجمل الناس فاذا تكلم قلت افصح الناس وإذا تحدث قلت اعلم الناس ، وقيل لو سمعت فارس والروم والترك كلامه لأسلمت ، وقد عمى فى آخر عمره فقال : إن يأخذ اللّه من عيني نورهما *** ففي لساني وقلبى منهما نور قلبي ذكى وعقلى غير ذى دخل *** وفي فمي صارم كالسيف مأثور مات في الطائف سنة ثمان وستين في ايام ابن الزبير وكان عمره سبعين سنة وقيل إحدى وسبعون وقيل اربع وسبعون ، وصلى عليه محمد بن الحنفية وكبر عليه اربعا وقال : اليوم مات رباني هذه الامة جاء ذلك فى الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ج 2 ص 350

فسأل من هو الثاني؟ قيل له عبد اللّه بن عمر (1).

فسأل من هو الثالث؟ قيل له الحسن بن علي (2). بعض خطبه :

وكان علیه السلام خطيبا مفوها من أبرع الخطباء واقدرهم على الارتجال والابداع في القول وإليك أيها القارئ الكريم بعضا من خطبه :

قال علیه السلام : نحن حزب اللّه المفلحون ، وعترة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الاقربون ، وأهل بيته الطاهرون الطيبون ، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والثاني كتاب اللّه فيه تفصيل كل شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمعول عليه في كل شيء لا يخطئنا تأويله ، بل نتيقن حقائقه ، فاطيعونا فاطاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة اللّه والرسول وأولي الامر مقرونة ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) وأحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان إنه

ص: 327


1- عبد اللّه بن عمر بن الخطاب ولد بعد المبعث النبوي بثلاث سنين ومات سنة اربع وثمانين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، جاء ذلك فى الاصابة ج 2 ص 347 وجاء في الاستيعاب ج 2 ص 343 انه لم يتبع عليا وقعد وندم على ذلك ولما حضرته الوفاة قال : ما اجد فى نفسي شيئا إلا انى لم اقاتل الفئة الباغية مع علي بن ابي طالب علیه السلام وذكر المسعودي فى مروج الذهب ج 2 ص 238 جماعة تخلفوا عن بيعة علي ذكر منهم عبد اللّه بن عمر وكان سبب تخلفهم خروجا عن الامر ، ومخالفة لعلي علیه السلام .
2- الفصول المهمة لابن الصباغ ص 160.

لكم عدو مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم : ( لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ) فتلقون للرماح أزرا ، وللسيوف جزرا ، وللعمد خطأ ، وللسهام غرضا ، ثم لا ينفع نفسا إيمانها ما لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا ، واللّه اعلم.

ومرض الامام علي علیه السلام يوما فأمر الحسن ان يصلي بالناس صلاة الجمعة ، فصعد علیه السلام المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : إن اللّه لم يبعث نبيا إلا اختار له نفسا ورهطا وبيتا ، فو الذي بعث محمدا بالحق لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إلا نقصه اللّه من عمله ، مثله ولا يكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة ، ولتعلمن نبأه بعد حين (1) كلماته الحكمية القصار :

فضح الموت الدنيا (2).

كن في الدنيا ببدنك وفى الآخرة بقلبك.

اجعل ما طلبت من الدنيا فلم تظفر به بمنزلة ما لم يخطر ببالك.

ما تشاور قوم إلا هدوا الى رشدهم.

إن من طلب العبادة تزكى لها.

المزاح يأكل الهيبة وقد اكثر من الهيبة الصامت.

تجهل النعم ما أقامت فاذا ولت عرفت.

الوعد مرض في الجود والانجاز دواؤه.

ص: 328


1- مروج الذهب ج 2 صفحة 306
2- مجموعة ورام صفحة 201 ، وقال خالد بن صفوان افصح الناس الحسن ابن علي علیه السلام لقوله هذه الكلمة الذهبية التي مثلت الاعجاز والابداع والايجاز

المسئول حر حتى يعد ومسترق بالوعد حتى ينجز.

لا تعاجل الذنب بالعقوبة ، واجعل بينهما للاعتذار طريقا.

قطع العلم عذر المتعلمين.

اليقين معاذ السلامة.

لا يغش العاقل من استنصحه :

إذا أضرت النوافل بالفريضة فاتركوها.

الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود.

وسأله شخص عن الصمت؟ فقال «ع» : هو ستر العى وزين العرض وفاعله في راحة وجليسه في أمن.

فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها.

أشد من المصيبة سوء الخلق.

من تذكر بعد السفر اعتدّ.

القريب من قربته المودة وإن بعد نسبه ، والبعيد من باعدته المودة وإن قرب نسبه.

وقال «ع» : لرجل قد برىء من مرضه ، إن اللّه قد ذكرك فاذكره وأقالك فاشكره.

إن لم تطعك نفسك فيما تحملها عليه مما تكره فلا تطعها فيما تحملك عليه مما تهوى.

من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه.

العار أهون من النار.

قال «ع» لأصحابه : هل رأيتم ظالما أشبه بمظلوم؟ قالوا وكيف ذاك يا بن رسول اللّه؟!!

ص: 329

قال : الحاسد ، فانه فى تعب ومن حسده فى راحة.

مروءة القناعة والرضا أكثر من مروءة الاعطاء.

تمام الصنيعة خير من ابتدائها. نظمه للشعر :

إما نظم الامام «ع» للشعر فقليل وقد تقدمت فى بحوث هذا الكتاب أبيات نسبت له ولكن ابن رشيق قد عد الامام « ع ، من الشعراء واستشهد له ببيت واحد كان الامام قد أنشده وهو مختضب بالسواد فقال «ع» :

نسود أعلاها وتأبى أصولها

فليت الذي يسود منها هو الأصل (1)

وجاء فى أعيان الشيعة أنه «ع» قال في الوعظ :

ذرى كدر الأيام ان صفاءها *** تولى بأيام السرور الذواهب

وكيف يغر الدهر من كان بينه *** وبين الليالي محكمات التجارب

وجاء في المناقب أنه «ع» قال :

لئن ساءني دهر عزمت تصبرا *** وكل بلاء لا يدوم يسير

وإن سرني لم أبتهج بسروره *** وكل سرور لا يدوم حقير

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن تراثه ومثله :

ص: 330


1- العمدة ج 1 ص 21 ومعنى البيت : إنا نسود الظاهر من الشعر ولكن جذوره تأبى إلا البقاء على الشيب.

فى عهد الإمام على «ع»

اشارة

ص: 331

ص: 332

واستقبل جمهور المسلمين خلافة الامام أمير المؤمنين بمزيد من السرور والابتهاج واتساع الأمل والرجاء فقد أيقنوا أن الامام سيرجع لهم الحريات المنهوبة. ويحطم عنهم أركان العبودية التي أقامها الحكم الأموي المهدوم ، ويعيد لهم عهد النبوة الزاهر الذي انبسطت فيه الرحمة ، وعم فيه العدل والرجاء ، وانهم سينعمون - من دون شك - في ظل حكمه العادل الذي لا يعرف الإثرة والاستغلال ، ولا يميز قوما على آخرين لقد وثق الجمهور أن الامام سيحقق لهم الأهداف النبيلة التي يصبون إليها من تحقيق العدل الاجتماعي والعدل السياسي في البلاد ، وتطبيق المبادئ والنظم التي جاء بها الاسلام ، والقضاء على جميع الفوارق والامتيازات التي خلفها عثمان ، وقد هبوا بجميع طبقاتهم إلى الامام وهم يهتفون باسمه ، ويعلنون رغبتهم الملحة فى أن يلي أمورهم ليحملهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء ، ونضع بين يدي القراء صورة مجملة عن البيعة وعن الأحداث التي رافقتها وهي : البيعة :

واجتمع المهاجرون والأنصار ومعهم الثوار وبقية الجماهير ومن بينهم طلحة والزبير فهرعوا إلى الامام أمير المؤمنين وهو معتزل بداره فأحاطوا به من كل جانب وقالوا له :

« يا أبا الحسن. إن هذا الرجل قد قتل. ولا بد للناس من إمام. ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ، ولا أقرب قرابة من رسول اللّه .. ».

فامتنع الامام من أجابتهم وقال لهم :

« لا حاجة لي فى أمركم فمن اخترتم رضيت به .. »

فهتفوا بلسان واحد

ص: 333

« ما نختار غيرك .. »

وكثر اصرار الجماهير على الامام ولكنه لم يستجب لهم فخرجوا منه ولم يظفروا بشيء ، وعقدت القوات المسلحة اجتماعا خاصا عرضت فيه الأحداث الخطيرة التي تواجه الأمة إن بقت بلا إمام يدير شئونها ، وقد قررت على احضار المدنيين وارغامهم على انتخاب إمام للمسلمين فقالوا لهم :

« أنتم أهل الشورى ، وأنتم تعقدون الإمامة. وحكمكم جائز على الأمة فانظروا رجلا تنصبونه ، ونحن لكم تبع ، وقد أجلناكم يومكم ، فو اللّه لئن لم تفرغوا لنقتلن عليا وطلحة والزبير وتذهب من أضحية ذلك أمة من الناس .. » (1)

وفزع المدنيون بعد هذا الانذار والتهديد إلى الامام أمير المؤمنين ، وهم يهتفون بلسان واحد

البيعة. البيعة

أما ترى ما نزل بالاسلام ، وما ابتلينا به من أبناء القرى

وأجابهم الامام بهدوء قائلا :

« دعوني والتمسوا غيري. »

ثم أعرب لهم عن السر في توقفه من قبول الخلافة قائلا :

« أيها الناس ، إنا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول .. » (2)

لقد علم علیه السلام بما دب في نفوس الأمة من الشر ، وبما ساد في نفوس زعمائها من الأهواء لا سيما ولاة عثمان وأسرته ومن يمت إليه فانهم

ص: 334


1- تاريخ ابن الأثير 3 / 80
2- شرح النهج محمد عبده 1 / 182

جميعا سيقفون أمامه ويحولون بينه وبين تحقيق أهدافه العريضة ، ولا بد أن يخلقوا المشاكل والمصاعب في وجه حكومته لذلك أصر على الامتناع من قبول الأمر.

وفكر الامام فى الأمر فقال لهم :

« إني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فانما أنا كأحدكم ألا واني من أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه .. »

وصاحوا به هاتفين :

« ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك ».

وقد وصف علیه السلام مدى انثيالهم عليه وشدة اصرارهم واقبالهم عليه بقوله :

« فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلى (1) ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي (2) مجتمعين حولي كربيضة الغنم (3) » وأجلهم الامام إلى صباح اليوم الآخر لينظر فى الأمر فافترقوا على ذلك ، وقد خيم الليل على سماء المدينة وبرك بحمله على بيوتها فبات المدنيون ولكن في غير هدوء واطمئنان ، ولما أصبح الصبح اجتمع الناس فى الجامع الأعظم فاقبل الامام ، واعتلى أعواد المنبر فخطب فيهم قائلا :

ص: 335


1- عرف الضبع : الشعر الكثير الذي يكون على عنق الضبع يضرب به المثل فى الكثرة والازدحام.
2- شق عطفاي : المراد انه خدش جانباه من كثرة زحام الناس عليه من اجل البيعة.
3- ربيضة الغنم : الطائفة الرابضة من الغنم يصف علیه السلام جثومهم بين يديه.

« يا أيها الناس ، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم وقد افترقنا بالأمس وكنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ألا وانه ليس لي أن آخذ درهما دونكم فان شئتم قعدت لكم والا فلا آخذ على أحد .. »

وتعالى هتاف الجماهير بلهجة واحدة

« نحن على ما رقناك عليه بالأمس .. »

« اللّهم اشهد عليهم. »

وتدافع الناس كالموج المتلاطم إلى البيعة ، وتقدم طلحة فبايع بتلك اليد التي سرعان ما نكث بها عهد اللّه (1) وجاء بعده الزبير فبايع كما بايع رفيقه وبايعه الوفد المصري والوفد العراقي ، وبايعه الجمهور العام ولم يظفر أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة في شمولها ، وعمت المسرة جميع المسلمين وقد وصف الامام مدى سرور الناس ببيعته بقوله :

« وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب. »

لقد ابتهج المسلمون ببيعتهم إلى وصي رسول اللّه وباب مدينة علمه ، وعمت الأفراح جميع أنحاء البلاد فقد أطلت على عالم الوجود حكومة العدل والمساواة ، وتقلد الخلافة امام الحق ، وناصر المظلومين ، وأبو الأيتام الذي واسى الفقراء والمحرومين في سغبهم ومحنهم ، القائل فى دور حكمه.

« أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم فى مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش .. »

ص: 336


1- كانت يد طلحة شلاء فتطير منها الامام ، وقال ما اخلقه ان ينكث فكان كما قال جاء ذلك في العقد الفريد 3 / 93

لقد نشرت في ذلك اليوم الخالد ألوية العدالة الكبرى ، وتحققت الأهداف الأصيلة التي ينشدها الإسلام فى عالم السياسة والحكم فلا استغلال ولا مواربة ولا استبداد ولا انقياد للنزعات والعواطف كل ذلك حققه ابن أبي طالب في دور خلافته وحكمه.

تأييد الصحابة :

وانبرى كبار الصحابة وأعلام الاسلام من الذين آمنوا بحق أمير المؤمنين منذ وفاة النبي فأبدوا سرورهم البالغ بهذه البيعة ، وأعلنوا تأييدهم الشامل لحكومة الامام وحثوا المسلمين إلى تدعيمها وهم :

1 - ثابت بن قيس

ووقف ثابت بن قيس خطيب الأنصار فخاطب الامام قائلا :

« واللّه يا أمير المؤمنين لئن كان قد تقدموك فى الولاية فما تقدموك في الدين ولئن كانوا سبقوك أمس لقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ، ولا يجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون وما احتجت إلى أحد مع علمك .. »

2 - خزيمة بن ثابت

وانطلق الصحابي العظيم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال :

« يا أمير المؤمنين ، ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك ولا كان المنقلب إلا إليك ولئن صدقنا أنفسنا فيك لأنت أقدم الناس إيمانا ، واعلم الناس باللّه وأولى المؤمنين برسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) لك ما لهم وليس لهم مالك .. »

وجرت على لسانه أبيات من الشعر فخاطب الجماهير بها :

إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا *** أبو حسن مما نخاف من الفتن

ص: 337

وجدناه أولى الناس بالناس انه *** أطب قريش بالكتاب وبالسنن

وإن قريشا ما تشق غباره *** إذا ما جرى يوما على الضمر البدن

وفيه الذي فيهم من الخير كله *** وما فيهم كل الذي فيه من حسن (1)

3 - صعصعة بن صوحان

وقام صعصعة بن صوحان فقال للامام :

« واللّه يا أمير المؤمنين لقد زينت الخلافة وما زانتك ، ورفعتها وما رفعتك ولهي إليك أحوج منك إليها ،. » (2)

4 - مالك الأشتر

واندفع الزعيم الكبير مالك الأشتر فخاطب المسلمين قائلا :

« أيها الناس هذا وصي الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، العظيم البلاء الحسن العناء ، الذي شهد له كتاب اللّه بالايمان ورسوله بجنة الرضوان ، من كملت فيه الفضائل ، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل .. »

ص: 338


1- مستدرك الحاكم 3 / 115 وذكر السيد المرتضى في الفصول المختارة 2 / 67 زيادة على هذه الأبيات وهي : وصي رسول اللّه من دون اهله *** وفارسه قد كان في سالف الزمن واول من صلى من الناس كلهم *** سوى خيرة النسوان واللّه ذو المنن وصاحب كبش القوم في كل وقعة *** يكون لها نفس الشجاع لدى الذقن فذاك الذي تثنى الخناصر باسمه *** امامهم حتى اغيب في الكفن
2- وبهذا المضمون قال الامام احمد بن حنبل : « إن الخلافة لم تزين عليا بل علي زانها » ذكر ذلك ابن الجوزي في مناقب احمد ص 163.

5 - عقبة بن عمرو

وقام عقبة بن عمرو فأشاد بفضل الامام قائلا :

« من له يوم كيوم العقبة ، وبيعة كبيعة الرضوان ، والامام الأهدى الذي لا يخاف جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله .. » (1)

وتتابعت الصحابة وهي تشيد بفضائل أبي الحسين وتذكر مناقبه ومآثره وتدعوا المسلمين إلى تأييد حكومته.

وجوم القرشيين :

واستقبلت قريش وسائر القوى المنحرفة عن الحق خلافة الامام أمير المؤمنين فى كثير من الوجوم والقلق والاضطراب لأن الامام قد وترهم في سبيل الدعوة الاسلامية وقضى على الكثير من عيونهم ووجوههم فقد قتل من أعلام بني أمية عتبة بن ربيعة جد معاوية ، والوليد بن عتبة خاله ، وحنظلة أخاه وقتل غير هؤلاء من أقطاب الشرك ودعائم الالحاد ما أوغر به الصدور وأثار الحفائظ عليه ومضافا لذلك فان سياسة الامام تتصادم مع مصالحهم ومنافعهم فانها تحارب الإثرة والاستغلال ، ولا تقر بأي حال من الأحوال سياسة النهب والإيثار التي سار عليها عثمان لذلك أظهرت قريش تمردها على حكومته ، وقد أعرب عن هذه المناحي بأسرها الوليد حينما حمل على البيعة ومعه الأمويون فقال للإمام :

« إنك وقد وترتنا جميعا أما أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر وكان أبوه من نور قريش ، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه ، فنبايع على أن تضع عنا ما أصبنا

ص: 339


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 155

وتعفي لنا عما في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا .. »

فرد عليه الامام مقالته وأجابه بمنطق الاسلام الذي لا تعيه قريش قائلا :

« أما ما ذكرت من وتري إياكم فالحق وتركم ، وأما وضعي عنكم عما فى أيديكم فليس لي أن أضع حق اللّه ، وأما إعفائي عما في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم ، وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غدا ولكن لكم أن أحملكم على كتاب اللّه وسنة نبيه فمن ضاق الحق فالباطل عليه أضيق ، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم .. » (1)

ان قريشا تريد المساومة من الامام على أموال الأمة ، وتريد منه أن ينحرف عن خطته القويمة التي تنشد المصلحة العامة ، وحمل الناس على الحق الواضح والمحجة البيضاء ، ولكن الامام قد عاهد اللّه وعاهد المسلمين أن يطبق أحكام القرآن ويحيي معالم الإسلام ، ويسير على ضوء سنة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وأن لا ينصاع للأحداث والظروف مهما كانت قاسية وشديدة ، وأن يقف بالمرصاد لكل ظالم ومعتد على المسلمين ، لذا أظهرت قريش حقدها البالغ على حكومته ، وهبت بأحلافها وأبنائها على اعلان التمرد والعصيان ، ويصف ابن أبي الحديد مدى اضطرابهم وقلقهم بقوله :

« كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه من اظهار ما في النفوس وهيجان ما في القلوب حتى الأحلاف من قريش ، والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه ، وفتكاته في أسلافهم وآبائهم فعلوا ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله .. »

لقد امتحن الامام امتحانا عسيرا بهؤلاء العتاة الذين لم ينفث الاسلام إلى قلوبهم ومشاعرهم ، وقد أترعت نفوسهم بالحقد عليه لأنه وقف إلى

ص: 340


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 155

جانب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يحمي دعوته ، ويصد عنه اعتداء الغادرين والمعتدين وأطاح برءوس الكافرين والملحدين منهم ، وقد أعرب عن مدى استيائه منهم بقوله :

« ما لي ولقريش لقد قتلتهم كافرين ، ولأقتلنهم مفتونين .. واللّه لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته .. فقل لقريش فلتضج ضجيجها. »

لقد وجدت قريش على الامام وحالت بينه وبين حقه منذ وفاة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فصرفت عنه الخلافة تارة إلى تيم وأخرى إلى عدي ، وثالثة إلى أمية ، وهي جادة على أن تخلق الشغب والتمرد حتى تجهز على حكومته ، وقد ظهر ذلك منها في موقعة الجمل وصفين.

القعاد :

وتخلف جماعة عن البيعة لأمير المؤمنين سماهم المسعودي ( بالقعاد ) (1) وسماهم أبو الفداء « بالمعتزلة » (2) وسئل الامام عنهم فقال : « أولئك قوم قعدوا عن الحق ولم يقوموا مع الباطل » (3) وهم سعد بن أبي وقاص ، وعبد اللّه بن عمر ، وحسان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ورافع بن خديج ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة ، وعبد اللّه بن سلام وصهيب بن سنان ، وسلامة بن سلامة ، وأسامة بن زيد ، وقدامة بن مظعون

ص: 341


1- مروج الذهب المطبوع على هامش ابن الأثير 6 / 78 - 79.
2- تاريخ ابي الفداء 1 / 178 - 179.
3- الاستيعاب 3 / 55.

والمغيرة بن شعبة (1) وهؤلاء قد انحرفوا عن الحق وضلوا عن الطريق فان بيعة الامام قد قام عليها الاجماع وليس لهم أي عذر في التأخر عن مبايعته فتخلفهم كان خرقا للاجماع ، وخروجا على ارادة الأمة ، وقد فتحوا بذلك باب البغي والتمرد على حكومة الامام ، وأشعلوا نار الفتنة في البلاد ، وقد اعتذر سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة في الجنة - كما يقولون - عن سبب اعتزاله عن الامام وعن بني أمية أيام الفتنة الكبرى فقال : إني لا أقاتل حتى يأتوني بسيف مبصر عاقل ناطق ينبئني أن هذا مسلم وهذا كافر ، وهو اعتذار مهلهل لا يدعمه منطق ولا برهان فان بيعة الامام كانت شرعية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة فقد اصحر بها الامام وبايعه جمهور المسلمين ولم تكن بيعته فلتة كبيعة أبي بكر ، ولا بادلاء شخص معين كبيعة عمر ، ولم تستند إلى جماعة معينة كبيعة عثمان فالفئة التي خرجت عليه كانت باغية يجب قتالها كما أمر اللّه بذلك قال تعالى : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر اللّه » ولكن سعدا كان يحمل حقدا على الامام وهو الذي وهب صوته إلى عبد الرحمن بن عوف لاضعاف كفة الامام كما بينا ذلك في حديث الشورى ، وأخيرا ندم على ما فرط في أمره وود أن يكون مع الامام ، كما ندم عبد اللّه بن عمر فقال عند موته : إني لم أخرج من الدنيا وليس في قلبي حسرة إلا تخلفي عن علي ، وقد انتقم اللّه منه فأراه الذل والهوان فى أواخر أيامه فقد عاش إلى زمن عبد الملك فجاء الحجاج ليأخذ البيعة له فجاء عبد اللّه في آخر الناس لئلا يراه أحد فعرف الحجاج ذلك فاحتقره واستهان به وقال له :

« لم لم تبايع أبا تراب وجئت تبايع آخر الناس لعبد الملك أنت أحقر

ص: 342


1- الكامل لابن الأثير 3 / 74.

من أن أمد لك يدي دونك رجلي فبايع .. »

ومد إليه رجله وفيها نعله فبايعها ، ان هؤلاء القعاد يعلمون - من دون شك - ان الحق مع علي وانه أولى بالأمر من غيره لسابقته في الاسلام ولعلمه وفقهه وتحرجه في الدين ولكن الأهواء ودواعي الغرور هي التي باعدت بينهم وبين دينهم فناصبوا عترة نبيهم وأبعدوهم عن مراتبهم التي رتبهم اللّه فيها فإنا لله وإنا إليه راجعون.

مصادرة الاموال المنهوبة :

وكانت فاتحة الأعمال التي قام بها الامام أمير المؤمنين أن أصدر قراره الحاسم برد القطائع التي أقطعها عثمان ، وباسترجاع الأموال التي استأثر بها والأموال التي منحها لذوي قرباه لأنها أخذت بغير وجه مشروع ، وقد صودرت أموال عثمان حتى سيفه ودرعه ، وفي ذلك يقول الوليد بن عقبة يخاطب بني هاشم :

بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم *** ولا تنهبوه لا تحل مناهبه

بني هاشم كيف الهوادة بيننا *** وعند علي درعه ونجائبه

بني هاشم : كيف التودد منكم *** وبزّ ابن أروى فيكم وحرائبه

بني هاشم : ألا تردوا فاننا *** سواء علينا قاتلاه وسالبه

بني هاشم إنا وما كان منكم *** كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه *** كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فرد عليه عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث بأبيات منها :

فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم *** أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه

وشبهته كسرى وقد كان مثله *** شبيها بكسرى هديه وضرائبه

ص: 343

وقد أثارت هذه الاجراءات العادلة سخط الذين استباحوا نهب أموال المسلمين وتمرغوا بالدنيا فقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها « ما كنت صانعا فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه ، كما تقشر عن العصا لحاها » (1)

وأوجس خيفة كل من طلحة والزبير ومن شابهما ممن أقطعهم عثمان ووهبهم الأموال الطائلة والثراء فخافوا على ما في أيديهم من أن يصدر الحكم بمصادرته فأظهروا بوادر الشقاق والبغي وأعلنوا التمرد على الامام.

عزل الولاة :

ومضى أمير المؤمنين يؤسس معالم العدل في البلاد فأصدر أوامره بعزل ولاة عثمان واحدا بعد واحد لأنهم أظهروا الجور والفساد في الأرض. وقد أبى الامام أن يبقيهم في جهاز الحكم لحظة واحدة لأن في ابقائهم اقرارا للظلم والطغيان ، وقد عزل بالفور معاوية بن أبي سفيان ، وقد نصحه جماعة من المخلصين له أن يبقيه على عمله حتى تستقر الحال فأبى وامتنع من المداهنة في دينه ، وقد دخل عليه زياد بن حنظلة ليعرف رأيه فى معاوية فقال له الامام :

- تيسر يا زياد

- لأي شيء يا أمير المؤمنين؟

- لغزو الشام

- الرفق والأناة أمثل

فأجابه الامام :

متى تجمع القلب الذكي وصارما *** وأنفا حميا تجتنبك المظالم

ص: 344


1- الغدير 8 / 288.

وعبأ جيوشه لغزو الشام والقضاء على الحكم الأموي الجاثم عليها الا انه فوجئ بتمرد طلحة والزبير وعائشة فانشغل بهم وانصرف إلى القضاء على تمردهم كما سنبينه بالتفصيل في البحوث الآتية ،

اعلان المساواة :

وانطلق رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الارض فاعلن المساواة العادلة بين جميع المسلمين سواء فى العطاء أو في غيره ، وقد عوتب على خطته فاجاب :

« أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ، واللّه ما أطور به ما سمر سمير ، وما أم نجم في السماء نجما ، لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال اللّه! الا وإن اعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند اللّه .. » (1).

إن المساواة التي اعلنها الإمام كانت تهدف إلى ايجاد مجتمع لا تطغى فيه العنصريات والقوميات ، ولا يوجد فيه بائس ومحروم وعاطل ، وينعدم فيه الظلم والطغيان والاستبداد والاستغلال.

ان المساواة التي طبقها الامام في دور حكمه كانت ترتكز على المفاهيم الإسلامية البناءة التي تهدف إلى تطبيق العدل السياسي والعدل الاجتماعي في الأرض ، والى القضاء على جميع افانين الظلم وضروب الجور والاستبداد وقد هبت القوى النفعية الى معارضتها كما ناجزت الرسول في بدء دعوته ، وناهضت مبادئه وأهدافه ،

ص: 345


1- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 10.

وصاياه لولده الحسن :

وللامام أمير المؤمنين وصايا تربوية لولده الحسن حافلة بالقيم العليا والمثل الانسانية الكريمة ، وأهمها وصيته الخالدة التي كتبها بحاضرين (1) حال انصرافه من صفين ، وقد حفلت بالدروس القيمة ، والآداب الاجتماعية ، وحقا أن ترسم على صفحات القلوب ، وأن يجعلها المسلمون دستورا لهم في سلوكهم الفردي والاجتماعي ، ونسوق الى القراء بعضا من فصولها :

« من الوالد الفان المقر للزمان (2) المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، والظاعن عنها غدا ، إلى المولود المؤمل ما لا يدرك (3) السالك سبيل من قد هلك غرض الاسقام ، ورهينة الايام ، ورمية المصائب (4) وعبد الدنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا. وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ونصب الآفات (5) وصريع الشهوات ، وخليفة الاموات ... ».

لقد اعرب علیه السلام بهذه الكلمات الذهبية عن استسلامه للدهر وإدباره عن الدنيا فقد كان عمره الشريف حين كتابته لهذه الوصية ينيف

ص: 346


1- حاضرين : احدى نواحي صفين.
2- المقر للزمان - اي - المعترف له بالشدائد والمصاعب.
3- المؤمل ما لا يدرك : يؤمل البقاء والخلود فى الدنيا وذلك لا يدركه أحد.
4- رمية : هدف المصائب.
5- النصب : - بالضم - الذي لا تفارقه الآفات.

على ستين عاما ، وهو سن من يفارق الحياة ، ويقبل على الآخرة ، وقد وصف كل من يولد في الدنيا بأنه يؤمل ما لا يدركه ، في الوقت الذي يسلك فيه سبيل الهالكين ، وانه غرض للاسقام وحليف للهموم والاحزان وقد ذكر «ع» بعد هذا الاسباب الوثيقة التي دعته لرسم هذه الوصية فيقول :

« .. أما بعد ، فان فيما تبينت من إدبار الدنيا عنى ، وجموح الدهر علىّ (1) ، وإقبال الآخرة إلىّ ، ما يرغبني عن ذكر من سواى والاهتمام بما ورائى (2) غير أنى حيث تفرد بي - دون همموم الناس - هم نفسى ، فصدقنى رأيى وصرفني عن هوائي ، وصرح لى محض أمرى ، فأفضى بي إلى جد لا يكون فيه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب ، ووجدتك بعضي بل وجدتك كلى حتى كأن شيئا لو أصابك اصابني. وكأن الموت لو أتاك أتاني فعنانى من أمرك ما يعنيني من امر نفسى ، فكتب إليك ( كتابى ) مستظهرا به (3) إن أنا بقيت لك أو فنيت .. »

وبعد ما ذكر العوامل التي دعته لأن يرسم هذه الوصية شرع في بيان المثل الكاملة التي ينبغي لولده أن يتمسك بها ويسير عليها فقال :

« .. فانى أوصيك بتقوى اللّه ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله ، وأى سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به؟

أحى قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهادة ، وقوه باليقين ، ونوره

ص: 347


1- الجموح : التغلب والاستعصاء
2- يريد به امر الآخرة.
3- مستظهرا اى مستعينا.

بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت ، وقرره بالفناء (1) ، وبصره فجائع الدنيا وحذره صولة الدهر ، وفحش تقلب الليالى والأيام ، وأعرض عليه أخبار الماضين وذكره بما اصاب من كان قبلك من الأولين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا ، وعما انتقلوا ، وأين حلوا ونزلوا ، فانك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة وحلوا ديار الغربة ، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم ، فاصلح مثواك. ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم تكلف وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فان الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال ، وأمر بالمعروف تكن من أهله وأنكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين من فعله بجهدك ، وجاهد في اللّه حق جهاده ، ولا تأخذك في اللّه لومة لائم ، وخض الغمرات (2) للحق حيث كان ، وتفقه في الدين ، وعود نفسك التصبر على المكروه ، ونعم الخلق التصبر ( فى الحق ) وألجئ نفسك فى الأمور كلها إلى إلهك فانك تلجئها إلى كهف حريز (3) ، ومانع عزيز وأخلص في المسألة لربك فان بيده العطاء والحرمان ، واكثر الاستخارة (4) ، وتفهم وصيتي ، ولا تذهبن عنها صفحا (5) فان خير القول ما نفع ، وأعلم أنه لا خير في علم لا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه (6).

ص: 348


1- قرره : اى اطلب منه الاقرار بالفناء.
2- الغمرات : الشدائد.
3- الكهف : الملجأ ، الحريز ، الحافظ.
4- الاستخارة اجالة الراي في الأمر قبل فعله لاختيار احسن وجوهه.
5- صفحا : اى جانبا ، والمراد انك لا تعرض عنها.
6- لا يحق - بكسر الحاء وضمها - اى : لا يكون من الحق تعلمه ومعرفته وذلك كالسحر والشعبذة ونحوهما من العلوم التي لا تنفع.

إن هذه الحكم التي تضمنها كلامه الشريف هى برامج السعادة وخلاصة الحكمة والآداب والتهذيب ، ويعرب «ع» في كلماته الآتية عن بلوغه سن الشيخوخة وهو يخاف أن يهجم عليه الموت دون أن يدلى بهذه الحكم إلى ولده فيقول :

« .. أى بنى ، إنى لما رأيتنى قد بلغت سنا (1) ورأيتنى أزداد وهنا بادرت بوصيتي إليك ، وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلى دون أن أفضى (2) إليك بما في نفسى ، وأن انقص (3) في رأيي كما نقصت في جسمى ، أو يسبقنى إليك بعض غلبات الهوى ، أو فتن الدنيا (4) ، فتكون كالعصب النفور (5) ، وإنما قلب الحدث كالارض الخالية ، ما القى فيها من شيء قبلته. فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك. لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته (6) وتجربته ، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه ، واستبان لك ما ربما اظلم علينا منه .. »

انه علیه السلام لما طعن في السن أراد أن يضع في نفس ولده ما استقر في نفسه الشريفة من الآداب والكمال ، ويغذيه بأطرف الحكم ويلمسه

ص: 349


1- اي وصلت النهاية من جهة السن.
2- افضى : القى إليك.
3- ( وان انقص ) معطوف على ( ان يعجل ).
4- اي يسبقني بالاستيلاء على قلبك غلبات الأهواء فلا تتمكن نصيحتى من النفوذ إلى فؤادك.
5- الصعب الفرس غير المذلل ، والنفور ضد الأنس.
6- البغية : بالكسر والضم : الطلبة والحاجة.

أهم العبر التي حدثت في عالم الوجود والتي أخذ خلاصتها الحكماء وأهل التجارب ، يضع كل ذلك أمام ولده ليستبين له كل شيء ، ويعرف خلاصة الأمور واهمها ، ثم يسترسل الامام الحكيم في وصيته فيقول.

« .. أى بنى ، إنى - وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلى - فقد نظرت في أعمالهم ، وفكرت في اخبارهم ، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إلى من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله (1) وتوخيت لك جميله ، وصرفت عنك مجهوله ورأيت - حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت (2) عليه من أدبك - أن يكون (3) ذلك وأنت مقبل العمر ، ومقتبل الدهر ، ذو نية سليمة ونفس صافية ، وأن ابتدئك بتعليم كتاب اللّه وتأويله وشرائع الاسلام واحكامه ، وحلاله وحرامه ، ( و) لا اجاوز لك إلى غيره (4) ثم اشفقت (5) أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من اهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلى من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة (6) ورجوت

ص: 350


1- النخيل : المختار المصفى.
2- اجمعت : عزمت.
3- ان يكون : مفعول ( رأيت ).
4- لا اتعدى بك كتاب اللّه إلى غيره ، بل اقف بك عنده.
5- ( اشفقت ) اي خشيت.
6- اى : إنك وإن كنت تكره ان ينبهك احد لما ذكرت لك فاني اعد إتقان التنبيه على كراهتك له احب إلى من القائك إلى امر تخشى عليك به الهلكة

أن يوفقك اللّه لرشدك ، وأن يهديك لقصدك ، فعهدت إليك بوصيتى هذه .. »

سيدي أيها الخبير بأحوال الناس العارف بصفو الأمور وكدرها المحيط بجوهر الاشياء ، حدثنا عن أحب الامور إليك وأهمها عندك فيقول

« .. واعلم يا بنى ، أن أحب ما أنت آخذ به إلىّ من وصيتي ، تقوى اللّه والاقتصار على ما فرضه اللّه عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك فانهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر. وفكروا كما أنت مفكر ، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والامساك عما لم يكلفوا فان أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم ، لا بتورط الشبهات وعلو الخصوصيات ، وأبدأ - قبل نظرك في ذلك - بالاستعانة بالهك ، والرغبة إليه في توفيقك ، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة (1) ، أو اسلمتك إلى ضلالة ، فاذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتم رأيك فاجتمع ، وكان همك فى ذلك هما واحدا ، فانظر فيما فسرت لك ، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك وفراغ نظرك وفكرك ، فاعلم أنك إنما تخبط العشواء (2) وتتورط الظلماء ، وليس طالب الدين من خبط أو خلط! والامساك عن ذلك امثل ..

فتفهم يا بني وصيتي ، واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة ، وأن الخالق هو المميت ، وأن المفنى هو المعيد » وأن المبتلى هو المعافي ، وأن

ص: 351


1- الشائبة : ما يشوب الفكر من شك وحيرة ، واولجتك : ادخلتك.
2- العشواء : الضعيفة البصر : اى تخبط الناقة العشواء لا تأمن ان تسقط فيما لا خلاص منه.

الدنيا لم تكن لتستقر إلا على ما جعلها اللّه عليه من النعماء (1) والابتلاء والجزاء في المعاد ، أو ما شاء مما لا نعلم فان أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك به فانك أول ما خلقت جاهلا ثم علمت ، وما اكثر ما تجهل من الأمر » ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك فاعتصم بالذى خلقك ورزقك وسواك ، وليكن له تعبدك ، وإليه رغبتك ، ومنه شفقتك (2).

وبعد هذا شرع (عليه السلام) في توحيد اللّه وإقامة الادلة عليه وبعد فراغه من ذلك أخذ في بيان الآداب الاجتماعية فقال :

يا بنى ، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم واحسن كما تحب أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك (3) ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك.

واعلم أن الاعجاب ضد الصواب ، وآفة الألباب (4) فاسع في كدحك (5)

ص: 352


1- اي : لا تثبت الدنيا على حال لما اودع اللّه فيها من التلون بالنعيم تارة وبالبلاء اخرى.
2- « شفقتك » اي : خوفك.
3- اي إذا عاملوك بمثل ما تعاملهم فارض بذلك ، ولا تطلب منهم ازيد مما تقدم لهم.
4- الاعجاب : استحسان ما يصدر منه وهو من رذائل الأخلاق.
5- الكدح : اشد السعي.

ولا تكن خازنا لغيرك (1) وإذا كنت هديت لقصدك فكن اخشع ما تكون لربك.

إن هذه الحكم القيمة لو سار عليها الانسان لكان اسمى مثل للتهذيب والسمو والكمال ، فقد احتوت على اصول العدل واسس الفضيلة والكمال ومن جملة هذه الحكم الخالدة قوله :

وأعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك ، ولن تعدو أجلك ، وأنك في سبيل من كان قبلك فخفض في الطلب (2) وأجمل في المكتسب ، فإنه رب طلب قد جر إلى حرب (3) فليس كل طالب بمرزوق ، ولا كل مجمل بمحروم ، وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب فانك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا (4) ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرا ، وما خير خير لا ينال إلا بشر (5) ويسر لا ينال إلا بعسر؟! (6) ،

ص: 353


1- اي لا تحرص على جمع المال فان الوارثين ياخذونه بعدك فيكون الاثم عليك وغيرك يتنعم.
2- خفض : امر من ( خفض ) بالتشديد اي : ارفق.
3- الحرب - بالتحريك - : سلب المال.
4- إن رغائب المال إنما تطلب لصون النفس عن الابتذال فلو بذل الانسان نفسه لتحصيل المال فقد ضيع ما هو المقصود من المال فكان جمع المال عبثا عوضا لما ضيع.
5- يريد «ع» ان الخير الذي لا يناله الإنسان إلا بالشر كيف يكون خيرا.
6- المراد ان العسر الذي يخاف منه الانسان هو الذي يضطره إلى الوقوع فى الرذائل فاذا جعلها الانسان وسيلة وطريقا لجمع المال فقد وقع فيما هرب منه ، وحينئذ فما الفائدة من جمع المال وهو لا يحميه من النقص.

وإياك أن توجف بك مطايا الطمع (1) فتوردك مناهل الهلكة وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين اللّه ذو نعمة فافعل ، فانك مدرك قسمك ، وآخذ سهمك! وإن اليسير من اللّه - سبحانه - اعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كان كل منه.

وتلا فيك (2) ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك ، وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء ، وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يد غيرك (3) ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور ، والمرء احفظ لسره (4) ورب ساع فيما يضره (5) من اكثر أهجر (6) ومن تفكر أبصر!

قارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشر تبن عنهم! بئس الطعام الحرام ، وظلم الضعيف افحش الظلم. إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا (7) ربما كان الدواء داء والداء دواء ، وربما نصح غير

ص: 354


1- توجف : تسرع ، والمناهل ما ترده الابل ونحوها للشرب.
2- التلافى : التدارك لاصلاح ما فسد.
3- إرشاد للاقتصاد فى المال.
4- إرشاد إلى عدم إفشاء سر الانسان إلى غيره.
5- قد يسعى الانسان بقصد فائدته فينقلب سعيه بالضرر عليه لجهله او سوء قصده.
6- الهجر : الهذيان في الكلام.
7- الخرق - بالضم - العنف والمراد ان المقام إذا الزمه العنف كان إبداله بالرفق عنفا ، ويكون العنف من الرفق وذلك كمقام التأديب.

الناصح وغش المستنصح (1) وإياك واتكالك على المنى فانها بضائع الموتى والعقل حفظ التجارب. وخير ما جربت ما وعظك. بادر الفرصة قبل أن تكون غصة. ليس كل طالب يصيب ، ولا كل غالب يؤوب ، ومن الفساد اضاعة الزاد ، ومفسدة المعاد ، ولكل أمر عاقبة ، سوف يأتيك ما قدر لك ، التاجر مخاطر!! ورب يسير أنمى من كثير ، ولا خير في معين مهين ولا في صديق ظنين ، ساهل الدهر ما ذلّ لك قعوده (2) ولا تخاطر بشيء رجأ اكثر منه وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج!! احل نفسك من أخيك - عند صرمه - على الصلة (3) وعند صدوده على اللطف والمقاربة وعند جموده (4) على البذل وعند تباعده على الدنو ، وعند شدته على اللين ، وعند جرمه على العذر ، حتى كأنك له عبد ، وكأنه ذو نعمة عليك ، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه ، أو أن تفعله بغير أهله ، لا تتخذن عدو صديقك عدوا فتعادي صديقك ، وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة ، وتجرع الغيظ فاني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة (5) ولن لمن غالظك فانه يوشك أن يلين لك وخذ على عدوك بالفضل فانه أحلى الظفرين ، وان أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك

ص: 355


1- المستنصح - على زنة اسم المفعول - المطلوب منه النصح ، فيلزمه التفكر والتروي في جميع الاحوال لئلا يروج غش او تنبذ نصيحة.
2- المراد ساهل الدهر ما دام منقادا لك ، وخذ حظك منه.
3- الصرم : القطيعة.
4- الجمود : البخل.
5- المغبة : - بفتحتين ثم باء مشددة - بمعنى العاقبة وكظم الغيظ.

يوما ما ومن ظن بك خيرا فصدق ظنه ، ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه فانه ليس لك بأخ من أضعت حقه ، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ، ولا ترغبن فيمن زهد عنك ، ولا يكونن أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته ، ولا يكونن على الاساءة أقوى منك على الاحسان ، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فانه يسعى في مضرته ونفعك وليس جزاء من سرك أن تسؤه. »

وهكذا يسترسل الامام «ع» فى كلامه فيضع جواهر الحكم القيمة واسمى الدروس النافعة واثمن الآراء الصائبة في وصيته ، ونكتفي بهذا المقدار منها وبها ينتهى بنا المطاف لنلتقي مع الامام فى البصرة.

ص: 356

فى البصرة

اشارة

ص: 357

ص: 358

تمت البيعة للامام من جميع الحواظر الاسلامية سوى الشام ، وآمن المسلمون بالأهداف الاصيلة التي ينشدها الحكم الجديد ، وايقنوا أن الامام سيعيد لهم رحمة الاسلام وعدله ، وان حكمه امتداد لحكم النبي وسيرته ، وقد قام الامام في اليوم الاول من خلافته بتطبيق العدالة الاسلامية الكبرى ، وتحقيق المساواة الشاملة بين المسلمين سواء فى العطاء أو فى غيره من المجالات العامة ، وحطم الفوارق والامتيازات التي اوجدها عثمان على مسرح الحياة الاسلامية ، وقام بمصادرة الأموال المنهوبة التي منحها عثمان لأسرته وأقاربه وقد قضى بذلك على الغبن الاجتماعي ، والظلم الاجتماعي ، كما قام بحماية المسلمين من الاستغلال والاستبداد ، وصيانتهم من التدهور والانحطاط ، وقد أثارت هذه المبادئ والأهداف سخط النفعيين والمنحرفين فلم تمض أيام قليلة حتى اظهروا بوادر البغي والشقاق ، واعلنوا التمرد والعصيان وقاموا بعد وانهم المسلح لاجل الاطاحة بالحكم القائم واعادة سياسة النهب والتجويع ، وأبطال هذه المؤامرة عائشة وطلحة والزبير فقد أثاروها حربا شعواء من اجل مطامعهم الرخيصة ، فكانت موقعة البصرة التي صدعت شمل المسلمين ، وأشاعت الحزن والحداد فى ربوعهم ، وعلينا أن ننظر إلى فصول هذه المأساة الكبرى التي نشرت الفتن والكوارث في أجواء العالم الاسلامي لنتبين بواعثها ودوافعها.

تمرد طلحة والزبير

وتعرض كثير من المسلمين لأسباب الفتن ودواعي الغرور وطرأت عليهم من الأحداث ما باعدت بينهم وبين دينهم وبين عهدهم الأول ، والسبب فى ذلك انهم امتحنوا بالسلطة وبالثراء الواسع العريض ، ومن

ص: 359

هؤلاء طلحة والزبير فقد انطلقا إلى الامام أمير المؤمنين فقالا له :

« هل تدرى على م بايعناك يا أمير المؤمنين؟؟ »

فرمقهما الامام بطرفه وقال لهما :

- نعم على السمع والطاعة ، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان - لا - ولكن بايعناك على أنا شريكاك فى الأمر

- لا - ولكنكما شريكان فى القول والاستقامة والعون على العجز والأود إن بيعتهما للامام فى قرارة أنفسهما كانت مدفوعة بالدوافع المادية البحتة ، فهما يريدان الحكم ، والمساومة على السلطة ، وهمها فى نظر الامام شريكان له فى الاستقامة وفى تحقيق العدالة بين المسلمين ، ولما استبان لهما أنه لا يوليهما شيئا اظهرا الشكاة واعلنا التمرد فقال الزبير فى ملأ من قريش :

« هذا جزاؤنا من علي ، قمنا له فى أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب وسببنا له القتل ، وهو جالس فى بيته وكفى الأمر فلما نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا .. »

وقال طلحة :

« ما اللوم الا انا كنا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا (1) ، وبايعناه ، واعطيناه ما فى أيدينا ، ومنعنا ما فى يده فأصبحنا قد اخطأنا ما رجونا .. »

وانتهى حديثهما إلى الامام أمير المؤمنين فاستدعى عبد اللّه بن عباس فقال له :

ص: 360


1- يريد به سعد بن ابى وقاص فانه امتنع عن بيعة الامام وهو من اهل الشورى والذي حمله على ذلك حقده على الامام وكراهيته له على حد تعبير طلحة.

- بلغك قول الرجلين؟

- نعم

- أرى أنهما أحبا الولاية فول البصرة الزبير ، وول طلحة الكوفة وأنبرى الامام يفند رأى ابن عباس ، ويبين له أن فى ولايتهما خطرا على الأمة قائلا :

« ويحك!! إن العراقين بهما الرجال والأموال ، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع ، ويضربا الضعيف بالبلاء ، ويقويا على القوى بالسلطان ، ولو كنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام ، ولو لا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي » (1) ودلت هذه البادرة على مدى حرص طلحة والزبير على الامارة والسلطان ، وانهما إنما أثارا سخط الناس على عثمان طمعا بالخلافة والولاية ولم يكونا مدفوعين بدافع المصلحة العامة ، وحب النصح للمسلمين ، وقد خسرا الصفقة ، وذهبت مساعيهما أدراج الرياح حينما آل الأمر إلى أمير المؤمنين لأن المحور الذي تدور عليه رحى سياسته مسايرة الدين والعمل على وفق المبادئ الاسلامية وهي لا تقر بأي حال من الأحوال أن تمنح الوظائف أثرة أو محاباة لأن ذلك خيانة للامة ، وقد اعرب الامام عن الاسباب التي دعته أن لا يوليهما العراقين وهي :

1 - إنهما يستميلان السفهاء بالمنافع والاطماع.

2 - إنهما يصبان على الضعفاء وابلا من العذاب والبلاء.

3 - يستغلان النفوذ والسلطان ويقويان به على القوى.

ومع علمه بهذه الاتجاهات كيف يجعلهما ولاة وحكاما على المسلمين يتصرفان في أموالهم ودمائهم .. وقد انتقد شفيق جبرى الامام في ذلك

ص: 361


1- الامامة والسياسة 1 / 52

واعتبر أن حرمانهما من الولاية كان غلطة منه - على حد تعبيره الرخيص - (1)

ان شفيق جبري قد آمن بالسياسة الغربية التي تبيح جميع الوسائل فى سبيل الوصول الى الحكم وان كانت غير مشروعة وهذه السياسة لا يقرها الاسلام بحال فقد بنى سياسته الخلاقة على الايمان بحقوق الانسان وتجنب المكر والخداع وان توقف عليهما النصر والظفر وعلى ضوء هذه السياسة العادلة سار ابن ابي طالب رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض.

ان السياسة التي سار عليها الملوك ولا يزال يسيرون عليها عشاق الملك والسلطان لا يلتقى معها الامام بصلة ، ولا تتفق مع أهدافه العليا ، وقد اوضح علیه السلام اسباب ذلك بقوله :

« لو لا التقى والورع لكنت ادهى العرب »

ان التقى والورع والخوف من اللّه تقف امامه وتصده عن ارتكاب اى وسيلة لا يقرها الشرع ، ومضافا لذلك فان المصلحة كانت تقضي ان لا يوليهما الكوفة والبصرة لان لهما حزبين وشيعة بهما ولا يؤمن أن يتسرب نفوذهما يوما ما إلى الدولة الاسلامية كافة

وعلى أي حال فلما استبان لطلحة والزبير ضياع املهما وعدم فوزهما بمقعد الحكم انطلقا إلى الامام طالبين منه الاذن بالخروج قائلين :

- ائذن لنا يا أمير المؤمنين.

- إلى اين؟!!

- نريد العمرة.

فرمقهما الامام هينهة وقد عرف حفايا نفوسهما فقال لهما برنة المستريب

واللّه ما العمرة تريدان!! بل الغدرة ونكث البيعة!!

ص: 362


1- العناصر النفسية ، وقد تعرض لخطل آرائه كثير من الكتاب.

واقسما له بالايمان المغلظة انهما لا يخلعان البيعة ، وانهما يخرجان ليعتمرا بالبيت الحرام ، وانهما يعلمان أنها قسم حانث ، ولكن لم يجدا وسيلة يصلان بها إلى الغاية سوى اليمين الكاذب ، والتفت الامام لهما ونفسه مترعة بالشك والريبة منهما قائلا :

« أعيدا البيعة لي ثانية ».

ففعلا دون تردد ، ومضيا منهزمين إلى مكة ، وكأنه قد اتيح لهما الخلاص من سجن أو عقاب ، ولحقا بعائشة يستفزانها على الثورة فانهما على علم بما تكنه من الحقد والعداء للامام.

خروج عائشة :

كانت عائشة في طليعة من أشعل نار الثورة على عثمان ، وقالت فيه أمر القول وأقساه ، وما كان اسمه عندها الا نعثلا ، وتعزو بعض المصادر السبب في ذلك إلى أنه نقصها مما كان يعطيها عمرو صيرها كغيرها من أزواج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) (1) وقد بالغت في التشهير به والتحريض على قتله ولما احاط الثوار به خرجت إلى مكة وبعد ادائها لمناسك الحج قفلت راجعة إلى يثرب وهي تجد في السير لتنظر ما آل إليه أمر عثمان فلما انتهت إلى سرف (2) لقيها رجل من أخوالها يقال له عبيد بن أبي سلمة وكان قادما من المدينة فاستعجلت قائلة له :

ص: 363


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 132.
2- سرف : موضع على ستة اميال من مكة وقيل اكثر من ذلك ، وبه تزوج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بميمونة بنت الحارث وتوفيت فيه ، وقال رواة البخاري : هو « شرف » بالشين المعجمة جاء ذلك في معجم البلدان 5 / 71.

- مهيم؟ (1).

- قتلوا عثمان.

- ثم صنعوا ما ذا؟

- اجتمعوا على بيعة علي فجازت بهم الأمور الى خير مجاز!!

فانهارت أعصابها ، وتحطمت قواها ، وبلغ بها الحزن إلى قرار سحيق ، وهتفت وهي حانقة مغيظة وبصرها يشير إلى السماء ، ثم ينخفض فيشير إلى الأرض قائلة :

« واللّه ليت هذه انطبقت على هذه ، إن تم الأمر لابن أبي طالب قتل عثمان مظلوما واللّه لأطلبن بدمه ».

فاجابها عبيد باستنكار وسخرية :

« ولمّ؟ فو اللّه إن أول من أمال حرفه لأنت!!! ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا فقد كفر! » لما ذا هذا الحزن والجزع من عائشة؟

وقد عادت للاسلام نضارته بحكومة الامام ، وظفر المسلمون بما يصبون إليه؟؟

وأجابت عائشة ابن خالها فقالت له :

« إنهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا؟ وقولي الأخير خير من قولي الأول .. »

وهل كانت حاضرة حينما استتابوه؟ وهل لها دراية بكيفية توبته ، ولكنها افتعلت دلك لتبرير موقفها وفد رد عليها عبيد فقال لها :

منك البداء ومنك الغير *** ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الامام *** وقلت لنا إنه قد كفر

ص: 364


1- مهيم : كلمة استفهام من معانيها ما وراءك؟

فهبنا (1) اطعناك فى قتله *** وقاتله عندنا من أمر

ولم يسقط السقف من فوقنا *** ولم تنكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا تدرإ *** يزيل الشبا ويقيم الصعر (2)

ويلبس للحرب أثوابها *** وما من وفى مثل من قد غدر

فاعرضت عنه وانصرفت راجعة الى مكة (3) وقد علاها الحزن والاكتئاب ، واحاط بها الاسى والذهول.

دوافع تمردها :

وليس شيء أو هى من القول بأن السبب في خروج عائشة هو المطالبة بدم عثمان فانها هي التي حفزت المسلمين إلى الاجهاز عليه ودعتهم إلى الاطاحة بحكمه يقول شوقي :

أثار عثمان الذي شجاها *** أم غصة لم ينتزع شجاها

ذلك فتق لم يكن بالبال *** كيد النساء موهن الجبال

نعم تذرعت بدم عثمان واتخذته وسيلة إلى اعلان العصيان والتمرد وإلى اغراء السذج والبسطاء فزجت بهم فى الحرب التي أثارتها ضد أمير المؤمنين وأخي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وباب مدينة علمه.

إن دم عثمان لا يصلح باي حال ان يكون من بواعث ثورتها على النظام القائم وانما بواعث ذلك ما يلي :

1 - إن نفسها كانت مترعة بالبغض والكراهية للامام ولزوجته سيدة

ص: 365


1- وفي رواية « ونحن ».
2- ذو تدرإ : اي ذو عزيمة ومنعة » الشبا : المكروه ، الصعر : ميل في الوجه او فى احد الشقين : والمراد انه يقيم الشيء الملتوي.
3- الطبري 3 / 454 وغيره.

النساء وأولادهما وسبب ذلك انها رأت اتجاه النبي واقباله عليهم وانه قد خصهم بمزيد الحب والعطف على نحو لم يشاركهم فيه أحد (1) ولم تحض عائشة بقليل ولا بكثير من تلك الرعاية وذلك الحنان بل كان يعاملها معاملة عادية بل ويزدري بها فى كثير من الاحيان فقد وقف خطيبا على منبره فأشار إلى مسكنها قائلا : « هاهنا الفتنة ، هاهنا الفتنة هاهنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان (2) وقد هددها غير مرة بالطلاق نظرا لما كان يعانيه منها فقد قالت له مرة فى كلام غضبت عنده أنت الذي تزعم أنك نبي (3) وكان اذا صلى تمد رجلها في قبلته ثم لا ترفعها عن سجوده حتى يغمزها فاذا غمزها رفعتها ، حتى يقوم فتمدها ثانية (4) لقد رأت عائشة اقبال النبي على فاطمة وعلى زوجها واعراضه عنها الأمر الذي اثار كوامن الحقد في نفسها ، وقد جابهت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بذلك فقد استأذن أبو بكر على رسول اللّه فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول له : « واللّه لقد عرفت أن عليا أحب إليك من أبي ومنى مرتين أو ثلاثا » (5) وليس شيء يثير عواطف المرأة ويترك العقد النفسية فيها مثل ما ترى أحدا أثيرا عند زوجها ، ومقدما عليها في الحنان والحب ، وزاد في تأثرها وانفعالها انها حرمت الولد من

ص: 366


1- بسطنا القول في ذكر الأخبار التي وردت عن النبي فى حبه لأهل بيته في بداية بحوث هذا الكتاب.
2- البخاري 2 / 125 باب فرض الخمس وصحيح مسلم 2 / 503 وجاء فيه انه قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : راس الكفر من هاهنا حيث يطلع قرن الشيطان.
3- احياء العلوم 2 / 35 كتاب آداب النكاح.
4- صحيح البخاري 1 / 143.
5- مسند الامام احمد 4 / 275

النبي كما حرم من غيرها ، وقد تبنى ابناء ابنته الوحيدة فاقام لهم في نفسه اعمق الحب والاخلاص ، وقد ترك ذلك كوامن الحسد فى نفسها من الامام وزوجته ، وقد بذلت جميع طاقاتها في مقابلة أمير المؤمنين وصرف الخلافة عنه فقد رشحت أباها للصلاة فى مرض رسول اللّه لئلا يصلي بالمسلمين الامام ، وبعد وفاة النبي كان لها ضلع كبير في ترشيح ابيها للخلافة وحرمان الامام منها ، وبلغ من عظيم حقدها ان بضعة النبي لما توفيت جئن نساؤه الى بني هاشم في العزاء الا هي ونقل عنها كلام يدل على سرورها وفرحها (1)

ولما آل الأمر إلى الامام انهارت جميع قواها واندفعت إلى مقاومته وإلى اعلان الثورة على حكومته ، وقد وصف علیه السلام مدى ضغنها وحقدها عليه بقوله :

« أما فلانة فقد أدركها ضعف رأي النساء ، وضعن غلا في صدرها كمرجل القين (2) ولو دعيت لتنال من غيرى ما أتت إلى ما تفعل » (3)

ان من أقوى العوامل التي دفعتها إلى مقاومة الامام هي الاحقاد والضغائن التي تكنها في نفسها حتى انها لم تستطع إلى كبتها واخفائها ، وقد ابدت بالغ المسرات والأفراح حينما بلغها مقتله ، وقد تناسب أنه أخو النبي ووليه وانه منه بمنزلة هارون من موسى ، واعرضت عما قال فيه : « اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله .. » لقد سمعت ذلك ووعته ، ولم يخف عليها شيء مما أثر عن

ص: 367


1- شرح النهج لابن ابي الحديد
2- المرجل : قدر كبيرة ، القين : الحداد
3- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 63

النبي فيه وفي أبنائه.

2 - ومن بواعث ثورتها انها كانت تتوقع أن ترجع الخلافة إلى تيم ويتقلدها ابن عمها طلحة - كما يرى ذلك العقاد - (1) وكانت تدعو له وتشيد به ولما بلغها مقتل عثمان وهي في مكة بادرت قائلة : إن أحق الناس بهذا الأمر ذو الأصبع - يعنى طلحة - ثم اقبلت مسرعة إلى المدينة وهي لا تشك أنه هو صاحب الأمر ، وكانت تقول : بعدا لنعثل وسحقا ، إيه ذا الأصبع ، إيه أبا شبل ، إيه ابن عم لله أبوك ، أما انهم وجدوا طلحة لها كفؤا ، لكأني أنظر إلى إصبعه حثو الابل » (2)

وهي بذلك كانت مدفوعة بدافع العصبية القبلية فلم تنظر لصالح الأمة فقد أرادت أن تعيد المجد ثانيا لأسرتها ، وأن تبسط نفوذها وتستأثر بالأموال وذلك لا يتحقق الا بأن ترجع الخلافة إلى تيم.

3 - ويرى الاستاذ العلائلى ان السبب في خروجها من اجل الحزبية السائدة فى ذلك العصر يقول :

« والتاريخ لا يحدثنا لما ذا خرجت على علي ولم تر بعد من سياسته شيئا ما ، ودعوى انها خرجت طلبا بدم عثمان توهيم لأنها لم تكن جاهلة بالشريعة التي تقضي بترك الأمر إلى الحاكم المركزي فان لم يكن فلولي القتيل وليست من اوليائه (3)

إذن فلم نخرج عائشة طلبا بدم عثمان بل لشيء آخر وهو ما لم

ص: 368


1- عبقرية الامام علي ص 87
2- شرح النهج لابن ابي الحديد 2 / 76
3- إن الشريعة تقضي بان ولي الدم ابتداء هو ولي المقتول فان لم يكن فالحاكم الشرعي الذي هو ولي من لا ولى له

يذكره التأريخ بصراحة ، والذي يستقيم عندي في هذا الأمر ان الحزبية بلغ من نفوذها مبلغا عظيما حتى عدت إلى زوجات النبي فكانت أم سلمة من حزب المحافظين « أي حزب علي » وعائشة من حزب طلحة والزبير كما ذكرت فى « مقدمة الحلقة الاولى » وكانتا كذلك في عهد النبي فقد كانت أم سلمة زعيمة طائفة من نسائه ، وعائشة زعيمة طائفة أخرى ، ولا ريب في أن هذه الحزبية ولدت في نفسيهما حزازة تأريخية اتصلت بمسلكيهما العام .. » (1)

هذه بعض البواعث التي حفزتها على الخروج على حكومة الامام وقد فتحت بذلك باب التمرد والعصيان ، ومهدت السيل للقوى المنحرفة عن الحق أن تتكتل وتجتمع على حرب ابن أبي طالب فتغرق البلاد في المآسي والدموع ، وتجر للأمة الويلات والخطوب.

اعلان العصيان :

واعلنت عائشة العصيان والخروج على الحكم القائم في خطابها الذي القته بمكة فقد جاء فيه :

« أيها الناس .. إن الغوغاء من أهل الأمصار ، وأهل المياه ، وعبيد أهل المدينة اجتمعوا إن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الأرب (2) واستعمال من حدث سنه ، وقد استعمل أسنانهم قبله ومواضع من الحمى حماها لهم ، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها ، فتابعهم

ص: 369


1- الحلقة الثانية من سيرة الحسين ص 267
2- الأرب : الخداع والحيلة

ونزع لهم عنها استصلاحا لهم فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا خلجوا (1) وبادروا بالعدوان ، ونبا فعلهم عن قولهم ، فسفكوا الدم الحرام ، واستحلوا البلد الحرام ، واستحلوا الشهر الحرام ، واللّه لأصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! .. فنجاة من اجتماعكم عليهم حتى ينكل بهم غيرهم ويشرد من بعدهم وو اللّه لو ان الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه او الثوب من درنه إذ ماصوه (2) كما يماص الثوب بالماء » (3)

وحفل خطابها بالمغالطات والتنكر للحقائق فقد جاء فيه ان الغوغاء عابوا على عثمان وهو مجاف للواقع فان الذي عاب عليه ، وشهر به إنما هم كبار المهاجرين والانصار ، وكانت هي بالذات اول من قدح زناد الثورة عليه فقد قالت فيه كلمتها الشهيرة : اقتلوا نعثلا فقد كفر ، انها وغيرها من الاعلام والرءوس هم الذين اجهزوا عليه ولا علاقة لغيرهم بدمه

وجاء فى خطابها أنه رجع عن احداثه ، وتابع الثوار استصلاحا لهم فلما لم يجدوا حجة عليه استحلوا دمه وقتلوه ، وهذا أيضا لا يلتقى بالواقع فان عثمان قد اعلن التوبة وأظهر الندم على الأحداث التي ارتكبها الا انه اعلن للناس اخيرا انه إنما قال ذلك من أجل ضغط الثوار عليه وهو ماض على سياسته التي رسمها لنفسه ، ولما قفل الثوار راجعين بعد المكيدة التي دبرها ضدهم طالبوه بالاستقالة من منصبه فابى وامتنع من اجابتهم فلم يجدوا بدا من قتله ، كما ذكرنا ذلك بالتفصيل وهو لا يتفق مع ما ذكرته عائشة في خطابها من انهم لم يجدوا حجة لقتله.

وعلى أي حال فان خطاب عائشة كان أول اعلان للعصيان والتمرد

ص: 370


1- خلجوا : اي انتزعوه وجذبوه
2- الموص : الغسل اللين والدلك باليد
3- تأريخ الطبري 3 / 468

والاختلاف يقول الاستاذ عبد الفتاح مقصود : « وتفرق الناس بعد حديثها هذا شيعا ، وكان اولى بهم أن تتوحد كلمتهم في هذه المحنة الحازبة التي اصابت الاسلام ، ففيم تدعوهم اليوم أم المؤمنين؟ وإلى أية غاية تريد أن تسير بهم!. لحرب الغوغاء؟. للزحف على المدينة وفيها الأمير الشرعي للبلاد؟. » (1)

لقد احدثت عائشة في خروجها الشقاق والاختلاف بين المسلمين ، وغرست بذور العداء والفتن فى جميع أنحاء البلاد.

مع أمّ سلمة :

واستنجدت عائشة بازواج النبي ودعتهن أن يخرجن معها لحرب وصي رسول اللّه وباب مدينة علمه وأبي سبطيه واجتمعت بأم سلمة فجعلت تخادعها وتقول لها :

« يا بنت أبي أمية ، أنت أول مهاجرة من أزواج رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأنت كبيرة أمهات المؤمنين ، وكان رسول اللّه يقسم لنا من بيتك وكان جبرئيل أكثر ما يكون في منزلك .. »

فتريبت أم سلمة من كلامها وقالت لها :

« لأمر ما قلت هذه المقالة؟. »

فاجابتها عائشة بما تروم قائلة :

« إن القوم استتابوا عثمان ، فلما تاب قتلوه صائما فى الشهر الحرام وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ، ومعي الزبير وطلحة ، فاخرجى معنا لعل اللّه يصلح هذا الأمر على أيدينا .. »

ص: 371


1- الامام علي 2 / 267

وانبرت أم سلمة إلى تفنيد مقالتها وإلى تسديدها ونصحها قائلة :

« إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان ، وتقولين فيه أخبث القول وما كان اسمه عندك الا نعثلا ، وانك لتعرفين منزلة علي عند رسول اللّه أما أذكرك؟ .. »

- نعم

- أتذكرين يوم أقبل ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال فخلا بعلي يناجيه فأطال ، فاردت أن تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني وهجمت عليهما ، فما لبثت أن رجعت باكية فقلت : ما شأنك؟ فقلت : أتيتهما وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول اللّه الا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي؟ فاقبل رسول اللّه علي وهو محمر الوجه غضبا ، فقال ارجعي وراءك واللّه لا يبغضه أحد الا وهو خارج من الايمان. فرجعت نادمة ساخطة.

- نعم اذكر ذلك.

- أو أذكرك.

- نعم

- كنت أنا وأنت مع رسول اللّه فقال لنا : أيتكن صاحبة الجمل الادب (1) تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط؟ فقلنا نعوذ باللّه وبرسوله من ذلك ، فضرب على ظهرك فقال : إياك أن تكونيها يا حميراء.

- نعم اذكر ذلك

- أو أذكرك؟

ص: 372


1- الأدب : الجمل الكثير الشعر

- نعم

- كنت أنا وأنت مع رسول اللّه فى سفر له ، وكان علي يتعاهد نعل رسول اللّه فيخصفها ، وثيابه ، فيغسلها ، فنقب نعله ، فأخذها يومئذ يخصفها ، وقعد في ظل سمرة ، وجاء أبوك ومعه عمر فاستأذنا عليه فقمنا إلى الحجاب ، ودخلا يحدثانه فيما أرادا ، ثم قالا يا رسول اللّه : إنا لا ندري قدر ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا؟ فقال لهما : أما إني قد أرى مكانه ، ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرق بنو إسرائيل عن هارون بن عمران ، فسكتا ثم خرجا فلما خرجا خرجنا إلى رسول اللّه فقلت له أنت وكنت أجرأ عليه منا : يا رسول اللّه من كنت مستخلفا عليهم؟ فقال : خاصف النعل. فنزلنا فرأيناه عليا فقلت يا رسول اللّه ، ما أرى الا عليا ، فقال : هو ذاك.

- نعم اذكر ذلك

- فاي خروج تخرجين بعد هذا؟

- إنما أخرج للاصلاح بين الناس وأرجو فيه الأجر

- أنت ورأيك

وانصرفت أم سلمة وكتبت بالأمر الى الامام أمير المؤمنين (1) وقد أبدت لها تمام النصح وذكرتها بما تناسته من فضائل أمير المؤمنين ومآثره ولكن عائشة استسلمت لاحقادها وعواطفها فلم تستجب لذلك.

ص: 373


1- شرح النهج 2 / 79 وذكر الزمخشري فى الفائق 1 / 290 ما يقرب من ذلك.

الزعف الى البصرة :

واستجاب لدعوة عائشة جميع رجال الحكم المباد من ولاة عثمان واقربائه وذوى الاطماع الذين اعتقدوا أن حكومة الامام تبدد أحلامهم فى النفوذ السياسي ، والمغرر بهم والسذج من الناس الذين تلونهم الدعاية كيف شاءت ، كل هؤلاء جرفتهم دعوة عائشة ودعايتها وخضعوا لأوامرها وقد تداول زعماء الفتنة الآراء في غزو أي بلد ، وعرضوا المدينة الا انهم عدلوا عنها لأن فيها الخليفة الشرعي وهو يتمتع بالقوى العسكرية ولا قبل لهم بها ، وعرضوا ثانيا الشام وفيها الرجال والأموال وعليها ابن عثمان واليا فهي اولى بلد واجدره بالاجابة ولكن الأمويين لم يستجيبوا لذلك لأنهم جعلوا الشام في حوزتهم وخافوا عليها من التصدع ، فاجمع الرأي على غزو البصرة لأن فيها أعوانا وانصارا لهم ونادى المنادي فى مكة :

« أيها الناس ، إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة فمن كان يريد اعزاز الاسلام ، وقتال المحلين ، والطلب بثار عثمان ، ولم يكن عنده مركب ولا جهاز فهذا جهازه وهذه نفقته .. »

وزودوا الجند بالسلاح والعتاد فاعان يعلى بن أمية (1) بأربعمائة الف

ص: 374


1- يعلى بن أميّة بن ابى عبيدة التميمي كان واليا على بعض نواحي اليمن من قبل عمر ، واستعمله عثمان على صنعاء ، وقال المدائني : كان يعلي اميرا على الجند باليمن فبلغه قتل عثمان فاقبل لينصره فسقط عن بعيره في الطريق فانكسر فخذه فقدم مكة بعد انقضاء الحج فاجتمع الناس به فاخذ يحرضهم على الطلب بدم عثمان فاعان الزبير باربعمائة الف وحمل سبعين رجلا من قريش وحمل عائشة على الجمل الذي شهدت القتال عليه واسمه « عسكر » ولما فشلت حرب الجمل لحق بالامام امير المؤمنين وصار من اصحابه وقتل معه بصفين ، جاء ذلك في اسد الغابة 5 / 138.

وحمل سبعين رجلا ، واعتلت عائشة جملها المسمى ( بعسكر ) قد احتف بها بنو أمية وهي تتقدم أمام الحشد الزاخر ، تقودهم إلى تمزيق الوحدة الاسلامية والى محاربة الحكومة الشرعية ، ولما انتهت إلى ذى قار التقى بها سعيد ابن العاص (1) فقال لها :

- أين تريدين يا أم المؤمنين؟

- البصرة

- وما تصنعين بها؟

- أطلب بدم عثمان

فضحك ساخرا وقال متبهرا :

- هؤلاء قتلة عثمان يا أم المؤمنين

فازاحت بوجهها عنه إذ لا حجة لها تدافع بها عن نفسها ، وتركها وانصرف إلى مروان فقال له :

- وأنت أيضا تريد البصرة

- نعم

- ما تريد؟

- أطلب بدم عثمان

- فهؤلاء قتلة عثمان معك - وأشار الى طلحة والزبير - فقال : إن

ص: 375


1- سعيد بن العاص الأموي ولد عام الهجرة ، قتل علي اباه يوم بدر وهو من فصحاء قريش استعمله عثمان واليا على الكوفة ثم عزله عنها وارجع سعيدا إليها فارجعوه اهل الكوفة وكتبوا إلى عثمان لا حاجة لنا في سعيدك ولا في وليدك ، وكان فيه تجبر وشدة وغلظة ، ولما قتل عثمان لزم سعيد بيته واعتزل ايام الجمل وصفين ولم يشهد شيئا من تلك الحروب ، ولما استتب الأمر الى معاوية ولاه المدينة ثم ولاها مروان بن الحكم وكان يعاقب بينهما في ولايتها توفى في خلافة معاوية سنة تسع وخمسين ، الاستيعاب 2 / 8

هذين الرجلين قتلة عثمان ، وهما يريدان الأمر لأنفسهما ، فلما غلبا عليه قالا : نغسل الدم بالدم والحوبة بالتوبة (1) ولم تجد معهم هذه المحاورة شيئا ، وانطلقوا مصممين على الغي والعدوان. ماء الحوأب :

وانطلقت قافلة عائشة تطوى البيداء فاجتازت على مكان يقال له « الحوأب » (2) فتلقت الركب كلاب الحي الساهرة بهرير وعواء فذعرت عائشة من ذلك النباح الذي اطلقته الكلاب على القافلة ، فقالت لمحمد بن طلحة : (3).

ص: 376


1- الامامة والسياسة 1 / 63
2- الحوأب بالفتح ثم السكون وهمزة مفتوحة وباء موحدة موضوع للاودية الواسعة والعلبة الضخمة ومكان في طريق البصرة وقال ابو منصور : الحوأب موضع بئر نبحت كلابه على عائشة عند مجيئها الى البصرة وانشد ما هي الاشربة بالحوأب *** فصعدى من بعدها او صوبى معجم البلدان 3 / 355
3- محمد بن طلحة القرشي التميمي : ولد في حياة النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وهو الذي سماه محمدا وكناه بابى القاسم قتل يوم الجمل وكان هواه مع علي ومر به الامام بعد مقتله فقال : هذا الذي قتله بره بأبيه امره ابوه ان يتقدم للقتال فتقدم ونثل درعه بين رجليه وقام عليها وجعل كلما مر عليه رجل قال له : نشدتك بحاميم فشد عليه رجل فقتله وانشد يقول : واشعث قوام بآيات ربه *** قليل الاذى فيما ترى العين مسلم ضممت إليه بالقناة قميصه *** فخر صريعا لليدين وللفم على غير ذنب غير ان ليس تابعا *** عليا ومن لا يتبع الحق يظلم يذكرني حاميم والرمح شاجر *** فهلا تلا حاميم قبل التقدم يقال قتله كعب بن مدلج ، وقيل معاوية بن شداد ، وقيل غيرهما الاستيعاب 3 / 349.

- أي ماء هذا؟

- ماء الحوأب.

فذعرت ، وذاب قلبها أسى وحسرات على ما فرطت في أمرها وقالت :

- ما أراني إلا راجعة!!

- لمّ - يا أم المؤمنين؟

- سمعت رسول اللّه يقول لنسائه : كأني بإحداكنّ قد نبحتها كلاب الحوأب ، (1) وإياك أن تكوني أنت يا حميراء.

- تقدمي رحمك اللّه ودعى هذا القول ولم تقتنع عائشة واصرت على الانسحاب فعلم ذلك طلحة والزبير فاقبلا يلهثان لأنها متى انفصلت عن الجيش ذهبت آمالهما أدراج الرياح فتكلما معها في الامر فاصرت على

ص: 377


1- روى ابن عباس عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) انه قال يوما لنسائه وهن جميعا عنده : ايتكن صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلهم فى النار وتنجو بعد ما كادت ، شرح النهج 2 / 497 وهذا الحديث من اعلام النبوة ومن اخباره بالمغيبات.

الانسحاب فجاءوا لها بشهود اشتروا ضمائرهم فشهدوا أنه ليس بماء الحوأب وهي اول شهادة زور تقام في الاسلام (1) وبهذه الشهادة الكاذبة استطاعوا أن يقلعوا رأيها وكان الواجب عليها بعد ما ذكرت قول الرسول أن ترجع إلى بيتها فلا تقود الجيوش لمحاربة أخي رسول اللّه

في ربوع البصرة :

وسارت قافلة عائشة تطوي البيداء حتى اشرفت على البصرة فلما علم ذلك عامل البصرة عثمان بن حنيف (2) أرسل إليها أبا الأسود الدئلى ليسألها عن قدومها ، ولما التقى بها قال لها :

- ما أقدمك يا أم المؤمنين؟

- أطلب بدم عثمان

- ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد!!

ص: 378


1- مروج الذهب 2 / 342 ، تأريخ اليعقوبي.
2- عثمان بن حنيف الانصاري من الأوس ، كان واليا من قبل عمر ، ثم ولاه الامام على البصرة ولما خرج الامام منها عزله عنها وولى عبد اللّه بن عباس ، وقيل إن عمر بن الخطاب استشار الصحابة فى رجل يوجهه الى العراق فاجمعوا على عثمان بن حنيف ، وقالوا : إن تبعثه على اهم من ذلك فان له بصرا وعقلا ومعرفة وتجربة ، فاسرع عمر فولاه مساحة ارض العراق فضرب عثمان على كل جريب من الارض يناله الماء عامرا وغامرا درهما وقفيزا من الطعام فبلغت جباية سواد الكوفة قبل ان يموت عمر بعام مائة الف الف ونيفا ، وبعد حادثة البصرة اقام فى الكوفة ، وبقى فيها الى زمان معاوية ، الاستيعاب 3 / 79

- صدقت ، ولكنهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة ، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله ، انغضب لكم من سوط عثمان ، ولا نغضب لعثمان من سيوفكم؟

فرد عليها بمنطقه الفياض قائلا :

- ما أنت من السوط والسيف؟ إنما أنت حبيسة رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أمرك أن تقري في بيتك ، وتتلي كتاب ربك ، وليس على النساء قتال ، ولا لهن الطلب بالدماء ، وإن عليا لأولى منك وأمس رحما ، فانهما ابنا عبد مناف!!

- لست بمنصرفة حتى امضي لما قدمت إليه ، افتظن أبا الأسود أن أحدا يقدم على قتالي؟!

- أما واللّه لتقاتلن قتالا أهونه الشديد.

ثم تركها وانصرف عنها واقبل الى الزبير فذكره بماضي ولائه للامام أمير المؤمنين قائلا :

- يا أبا عبد اللّه ، عهد الناس بك ، وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك ، تقول : لا أحد أولى بهذا الامر من ابن أبي طالب ، واين هذا المقام من ذاك.؟؟

- نطلب بدم عثمام

- أنت وصاحبك وليتماه فيما بلغنا

وانصاع الزبير لمقالة أبي الاسود ورأى فيها النصح والرشاد إلا انه طلب منه مواجهة طلحة ومذاكرته في الأمر ، فمضى أبو الاسود مسرعا وعرض عليه الامر فلم يستجب له وأصر على الغي والعدوان (1)

ص: 379


1- شرح النهج 2 / 81

وأنطلق أبو الأسود الى ابن حنيف فأخبره بنية القوم ، واصرارهم على الحرب فجمع أصحابه فخطب فيهم فقال في خطابه :

« أيها الناس ، إنما بايعتم اللّه ، يد اللّه فوق أيديهم ، فمن نكث فانما ينكث على نفسه ، ومن أو فى بما عاهد عليه اللّه فسيؤتيه اللّه أجرا عظيما ، واللّه لو علم علي أحدا احق بهذا الامر منه ما قبله ، ولو بايع الناس غيره لبايع وأطاع وما به الى أحد من صحابة رسول اللّه حاجة ، وما باحد عنه غنى ولقد شاركهم في محاسنهم وما شاركوه في محاسنه ولقد بايع هذان الرجلان وما يريدان اللّه ، فاستعجلا الفطام قبل الرضاع. والرضاع قبل الولادة والولادة قبل الحمل ، وطلبا ثواب اللّه من العباد ، وقد زعما أنهما بايعا مستكرهين فان كانا استكرها قبل بيعتها وكانا رجلين من عرض قريش لهما أن يقولا ولا يأمرا ، إلا وان الهدى ما كانت عليه العامة ، والعامة على بيعة على. فما ترون أيها الناس؟ »

وانبرى إليه حكيم بن جبلة فخاطبه بمنطق الايمان قائلا.

« نرى إن دخلا علينا قاتلناهما ، وإن وقفا تلقيناهما ، واللّه ما أبالي أن أقاتلهما وحدي ، وإن كنت أحب الحياة ، وما أخشى في طريق الحق وحشة ، ولا غيرة ولا غشا ولا سوء منقلب الى بعث وانها لدعوة قتيلها شهيد وحيها فائز ، والتعجيل الى اللّه قبل الأجر خير من التأخير في الدنيا ، وهذه ربيعة معك .. » (1)

وصمم القوم بذلك على رد العدوان ، ومقابلتهم بالمثل إن اعتدوا عليهم ، وعدم التعرض لهم إن لم يبدؤهم بقتال.

ص: 380


1- الامامة والسياسة 1 / 64 - 65

عقد الهدنة :

وجرت بين الفريقين مصادمات عنيفة ادت الى قتل البعض وجرح الآخر منهما ، وكان ابن حنيف يروم السلم ولا يحب مناجزة القوم قبل أن يأتيه أمر بذلك من أمير المؤمنين ، فاوقف القتال وعقد هدنة موقتة حتى يستبين له رأى الامام وهذا نصها.

« هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الانصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين على بن أبي طالب. وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما. إن لعثمان بن حنيف دار الامارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر ، وان لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شأوا من البصرة ولا يضار بعضهم بعضا فى طريق ولا فرضة (1) ولا سوق ولا شريعة ، ولا مرفق حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فان أحبوا دخلوا في ما دخلت فيه الامة ، وان أحبوا لحق كل قوم بهواهم ، وما أحبوا من قتال او سلم أو خروج أو إقامة وعلى الفريقين بما كتبوا عهد اللّه وميثاقه. واشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة. »

ووقعها الفريقان ، ومضى ابن حنيف إلى دار الامارة ، وأمر اصحابه بالقاء السلاح والالتحاق بمنازلهم.

غدر وخيانة :

وقام طلحة والزبير بمراسلة الوجوه والاشراف يدعونهم الى الطلب

ص: 381


1- الفرضة : الثلمة من النهر التي يستقى منها.

بدم عثمان وخلع أمير المؤمنين واخراج ابن حنيف ، فاستجابت لهم قبائل الأزد وضبة وقيس عيلان ، وتابعهم كثير من البسطاء وذوى الاطماع ، ولما استوثق لهم الأمر غدروا وخانوا ونقضوا ما اتفقوا عليه من الهدنة ، فقد هجموا على ابن حنيف في غلس الليل وهو في دار الإمارة فاعتقلوه ونكلوا به فأمروا بنتف شعر رأسه ولحيته وحاجبيه (1) ونهبوا ما في بيت المال ، ولما حضر وقت الصلاة تنازع طلحة والزبير على الصلاة بالناس فجعل كل واحد منهما يمنع صاحبه من التقدم عليه حتى فات وقت الصلاة فصاح الناس بهما ، فقطعت عائشة النزاع فيما بينهما وقالت يصلي بالناس يوما محمد بن طلحة ، ويوما عبد اللّه بن الزبير (2) فذهب ابن الزبير ليصلي بالناس فجذبه محمد بن طلحة وتقدم محمد ليصلي بالناس فمنعه ابن الزبير ، ورأى الجميع أن خير وسيلة لفصل الخصومة وقطع النزاع هي القرعة فاقترعا فخرج محمد بن طلحة فتقدم وصلى بالناس وقرأ سأل سائل بعذاب واقع » (3) وفي ذلك يقول الشاعر :

تبارى الغلامان إذ صليا *** وشح على الملك شيخاهما

ومالي وطلحة وابن الزبير *** وهذا بذي الجذع مولاهما

فأمهما اليوم عزتهما *** ويعلى بن منية دلاهما (4)

ص: 382


1- شرح النهج 2 / 50 وجاء فيه انهم طردوا عثمان فلحق بعلي فلما رآه بكى وقال له : فارقتك شيخا ، وجئتك امرد فقال علي : إنا لله وإنا إليه راجعون قال ذلك ثلاثا.
2- تأريخ اليعقوبي 2 / 157.
3- طبقات ابن سعد 5 / 39
4- الاغاني 11 / 120.

ان القوم مدفوعون بدافع الملك والسلطان ، ولو تم الأمر لهما لأجهز كل واحد منهما على صاحبه ، فانهما بعد في بداية الطريق وقد ظهرت منهما بوادر الانشقاق والاختلاف.

إنهما لم يخرجا على حكم الامام الا من أجل المنافع المادية الضيقة وقد اعترف بذلك الزبير فقد جاء إليهما رجل وهما في جامع البصرة فقال لهما :

« نشدتكما باللّه في مسيركما أعهد إليكما فيه رسول اللّه شيئا؟ ... »

فسكت طلحة ولم يجبه بشيء فاجابه الزبير :

« - لا - ولكن بلغنا أن عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها ... » (1)

لقد حدد الزبير خروجهم على وصي رسول اللّه فهو انما كان من أجل الاطماع والمنافع وليس فيه أى عهد من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم).

وعلى أى حال فقد سقطت البصرة بايديهم واحتلت قواتهم جميع مواقعها وأمرت عائشة بقتل عثمان بن حنيف الا ان احدى السيدات استعظمت هذا الأمر وقالت لعائشة :

« نشدتك اللّه يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول اللّه » فعدلت عن رأيها وأمرت بحبسه (2) وأمرت بقتل الشرطة وحراس بيت المال وعددهم سبعون شخصا وهم من خيار المسلمين وصلحائهم فقتلوا صبرا (3) ولم تتحرج أم المؤمنين فى إراقة دمائهم ، ولم تتأثم فى اشاعة الثكل والحزن والحداد بين أهليهم ، قد أعرضت عما أمر اللّه به من الحريجة في الدماء وحرمة سفكها بغير الحق.

ص: 383


1- الطبري 5 / 183.
2- الطبري 5 / 178.
3- شرح النهج 2 / 50.

مقتل حكيم بن جبلة :

ولما بلغ حكيم بن جبلة ما ارتكبه القوم بعثمان بن حنيف من التنكيل وما قاموا به من قتل الشرطة وخزان بيت المال خرج في ثلاثمائة رجل من عبد القيس (1) فخرج القوم وحملوا عائشة على جمل ، فسمى ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر ويومها مع امير المؤمنين يوم الجمل الأكبر ، وتجالد الفريقان بالسيوف ، وأبلى حكيم مع أصحابه المؤمنين بلاء حسنا ، وشد عليه رجل من الأزد من عسكر عائشة فضرب رجله فقطعها ، وجثا حكيم فأخذ رجله المقطوعة فضرب بها الأزدي الذي قطعها فقتله ولم يزل يقاتل ورجله مقطوعة وهو يقول :

يا ساق لن تراعى *** ان معى ذراعي *** أحمي بها كراعي

وما زال على مثل هذه الحالة التي ضرب بها الرقم القياسي في البطولة والشجاعة ونكران الذات والدفاع عن المبدأ والعقيدة حتى نزف دمه ، فانطلق إلى الرجل الذي قطع رجله فاتكأ عليه وهو قتيل فاجتاز عليه شخص فقال له : من فعل بك هذا؟ فقال : وسادتي ثم قتله سحيم الحداني (2) وقتل معه اخوة له ثلاثة كما قتل جميع أصحابه (3) ففى ذمة اللّه تلك الدماء الزكية التي أريقت ، والنفوس الكريمة التي أزهقت فى سبيل الذب عن دين اللّه ، والدفاع عن وصي رسول اللّه.

ص: 384


1- وفى رواية خرج مع سبعمائة من اصحابه.
2- اسد الغابة 2 / 40.
3- شرح النهج 2 / 51.

استنجاد الامام بالكوفة :

كان الامام أمير المؤمنين متهيأ لغزو الشام حيث اعلن معاوية التمرد على حكومته ورفض بيعته وبينما هو جاد في تدبير الأمر إذ فاجأه الخبر عن هياج أهل مكة للطلب بدم عثمان بتحريض طلحة والزبير وعائشة واتباعهم من الامويين ، فاشفق من انشقاق العصا واختلاف شمل المسلمين ، ورأى أن خطرهم أقوى من خطر معاوية ، وشرهم أقوى من شره ، وإذا لم يبادر لاخماد هذه الفتنة فانها يوشك أن تتسع ، ويكثر التمرد والاختلاف فتجهز للشخوص إليهم ، وخفت لنصرته البقية الصالحة من المهاجرين والانصار وخرجوا مسرعين ليلحقوا بهم قبل أن يدخلوا مصرا من الامصار فيفسدوه فلما بلغوا الربذة علموا بسبقهم إلى البصرة وبالحوادث التي جرت فيها فاقام الامام بالربذة أياما يحكم أمره ، وارسل إلى جماهير أهل الكوفة يستنجد بهم ويدعوهم الى نصرته والقيام معه لاخماد نار الفتنة ، وأوفد للقياهم محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر (1) وزودهما برسالة جاء فيها

« إني اخترتكم على الامصار ، وفزعت إليكم لما حدث فكونوا لدين

ص: 385


1- محمد بن جعفر بن ابي طالب الهاشمي : هو اول من سمى محمدا في الاسلام من المهاجرين ، قيل انه ولد بأرض الحبشة ، وتزوج بام كلثوم بنت الامام امير المؤمنين ، قيل انه استشهد بتستر ، وقيل انه قتل بصفين اعترك هو وعبيد اللّه ابن عمر فقتل كل منهما الآخر ، الاصابة 3 / 372 وجاء في اسد الغابة 4 / 313 لما جاء نعى جعفر إلى رسول اللّه جاء إلى بيت جعفر ، وقال : اخرجوا لي أولاد اخي جعفر ، فاخرج إليه عبد اللّه ومحمد وعون فوضعهم على فخذه ودعا لهم ، وقال : انا وليهم فى الدنيا والآخرة ، ثم قال : اما محمد فيشبه عمنا ابا طالب.

اللّه أعوانا وانصارا ، وأيدونا وانهضوا إلينا ، فالاصلاح ما نريد لتعود الأمة إخوانا ، ومن أحب ذلك وآثره فقد أحب الحق ، ومن ابغض ذلك فقد أبغض الحق وأغمضه » (1).

وطوى الرسولان البيداء حتى وصلا الكوفة فعرضا رسالة الامام على أبي موسى والي المصر إلا انهما لم يجدا منه أي اجابة أو انطلاق فى الامر وانما وجدا منه موقفا غير طبيعي فقد كان يثبط العزائم ، ويوهن القوى ويمنع الناس من الاستجابة لنداء الامام ، وتكلم معه الرسولان بشدة فاجابهما أبو موسى مبررا لعناده قائلا :

« واللّه إن بيعة عثمان لفى عنقي وعنق صاحبكما ، فان لم يكن بد من القتال ، لا نقاتل أحدا حتى يفرغ من قتلة عثمان .. » (2).

وبعث المحمدان الأنباء بالتفصيل إلى الامام ، وعرفاه بتمرد أبي موسى وتثبيطه عزائم الناس ، فأوفد الامام للقياه هاشم المرقال وزوده برسالة جاء فيها :

« إني وجهت هاشما لينهض بمن قبلك من المسلمين إلي ، فاشخص الناس ، فاني لم أولك إلا لتكون من أعواني على الحق .. ».

وسار هاشم حتى انتهى إلى الكوفة فرأى أبا موسى مصرا على تمرده وممعنا في غلوائه وعدائه ، وكلما حاول اقناعه وارجاعه إلى طريق الحق لم يتمكن ، واستدعى أبو موسى سائب بن مالك الأشقري ليستشيره فى الأمر فاشار عليه بالنصيحة وملازمة الامام ، وتنفيذ أوامره الا انه لم يسترشد وبقي مصمما على عصيانه وعناده ، فارسل هاشم إلى الامام رسالة يخبره فيها

ص: 386


1- الطبري 3 / 393.
2- الطبري 3 / 394.

بفشله في مهمته ، واخفاقه في سفارته.

ايفاد الحسن :

وبعث الامام ولده الحسن ومعه عمار بن ياسر وارسل معه رسالة فيها عزل أبي موسى عن منصبه وتعيين قرضة بن كعب (1) في وظيفته ، وهذا نص رسالته :

« أما بعد : فقد كنت أرى أن تعزب عن هذا الأمر الذي لم يجعل اللّه لك نصيبا منه ، بمنعك عن رد أمري ، وقد بعثت الحسن بن علي وعمار بن ياسر يستفزان الناس ، وبعثت قرضة بن كعب واليا على المصر فاعتزل عملنا مذموما مدحورا ، فان لم تفعل فاني قد أمرته أن ينابذك .. »

ووصل الامام الحسن إلى الكوفة فالتأم حوله الناس زمرا ، وهم يعربون له الانقياد والطاعة ، ويظهرون له الولاء والاخلاص ، واعلن الامام الحسن بالوقت عزل الوالي المتمرد عن منصبه ، وتعيين قرضة في محله ، ولكن أبا موسى بقي مصمما على مكره وغيه ، فقد اقبل على عمار ابن ياسر يحدثه فى أمر عثمان عله أن يجد في حديثه فرجة فيتهمه بدم عثمان ليتخذ من ذلك وسيلة إلى خذلان الناس عن الامام فقال له :

ص: 387


1- قرضة بن كعب بن ثعلبة الانصارى الخزرجي شهد مع النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) احدا وما بعدها من المشاهد ، وفتح اللّه على يديه فى زمن عمر بن الخطاب ، وهو احد العشرة الذين ارسلهم عمر الى الكوفة لتعليم اهلها ، وولاه الامام على الكوفة ، ولما خرج إلى حرب صفين حمله معه ، وولاها ابا مسعود البدري ، وشهد مع الامام جميع مشاهده ، وتوفى فى خلافته في دار ابتناها بالكوفة ، وصلى عليه الامام الاستيعاب 3 / 266.

« يا أبا اليقظان ، أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار.؟ »

فاجابه عمار :

« لم أفعل ولم تسؤني؟. »

وعرف الحسن غايته فقطع حبل الجدال وقال له :

« يا أبا موسى ، لم تثبط عنا الناس؟ »

وأقبل الامام الحسن يحدثه برفق ولين ليقلع روح الشر والعناد من نفسه قائلا :

« يا أبا موسى .. واللّه ما أردنا الا الاصلاح ، وليس مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء .. »

فبهت أبو موسى ، وضاقت به مكابرته ، وطغيانه فقال للامام :

« صدقت بأبي أنت وأمي! ... ولكن المستشار مؤتمن .. »

- نعم

- سمعت رسول اللّه يقول : إنها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الراكب!. وقد جعلنا اللّه عز وجل اخوانا وحرم علينا أموالنا ودماءنا ، فقال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) (1) وقال عز وجل : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ) (2) ... »

فانبرى إليه عمار فرد عليه أباطيله وخداعه قائلا :

ص: 388


1- سورة النساء : آية 29
2- سورة النساء : آية 93

« أنت سمعت هذا من رسول اللّه؟ ... »

« نعم وهذه يدى بما قلت. »

فالتفت عمار الى الناس قائلا :

« إنما عنى رسول اللّه بذلك أبا موسى ، فهو قاعد خير منه قائم؟ .. »

ولم يجد كلام عمار ولا ترفق الحسن ، وطول صبره وعظيم حلمه مع هذا الجلف المتمرد الذي لا يخضع لغير الشدة والقسر ، فقد بقي شديد الاصرار على ما هو عليه من تثبيط عزائم الناس وخذلانهم من الخروج مع الامام.

واخذ سبط النبي يوقظ الهمم ، ويبعث النشاط في النفوس ويحفزها للجهاد ، وخطب فيهم قائلا :

« أيها الناس .. قد كان في مسير أمير المؤمنين علي بن أبى طالب ما قد بلغكم ، وقد أتيناكم مستنصرين لأنكم جبهة الانصار ، ورءوس العرب وقد كان من طلحة والزبير بعد بيعتهما وخروجهما بعائشة ما قد بلغكم. وتعلمون أن وهن النساء وضعف رأيهن الى التلاشي ، ومن أجل ذلك جعل اللّه الرجال قوامين على النساء ، وأيم اللّه لو لم ينصره منكم أحد لرجوت أن يكون فيمن أقبل معه من المهاجرين والانصار كفاية ، فانصروا اللّه ينصركم .. »

وقام عمار فاخذ يحفز الناس للجهاد ويبين لهم حقيقة الحال في شأن عثمان قائلا :

« يا أهل الكوفة .. إن غابت عنكم انباؤنا فقد انتهت إليكم امورنا إن قتلة عثمان لا يعتذرون من قتله الى الناس ولا ينكرون ذلك ، وقد جعلوا كتاب اللّه بينهم وبين محاججتهم فيه أحيا اللّه من أحيى ، وأمات

ص: 389

من أمات ، وان طلحة والزبير كانا أول من طعن وآخر من أمر ، وكانا أول من بايع ، فلما اخطأهما ما أملا نكثا بيعتهما من غير حدث! .. وهذا ابن بنت رسول اللّه قد عرفتموه وقد جاء يستنصركم ، وقد دلكم علي في المهاجرين والبدريين والانصار الذين تبؤوا الدار والايمان .. »

وقام على أثرهما قيس بن سعد فجعل يدعوهم الى القيام بالواجب ونصرة أمير المؤمنين قائلا :

« .. إن الأمر لو استقبلنا به أهل الشورى لكان علي أحق الناس به ، وكان قتال من أبى حلالا فكيف والحجة على طلحة والزبير ، وقد بايعاه طوعا ، وخالفاه حسدا وقد جاءكم علي في المهاجرين والانصار. ثم أنشأ يقول :

رضينا بقسم اللّه إذ كان قسمنا *** عليا وأبناء الرسول محمد

وقلنا لهم أهلا وسهلا ومرحبا *** نمد يدينا من هوى وتودد

فما للزبير الناقض العهد حرمة *** ولا لأخيه طلحة اليوم من يد

أتاكم سليل المصطفى ووصيه *** وأنتم بحمد اللّه عار من الهد (1)

فمن قائم يرجى بخيل الى الوغا *** وصم العوالي والصفيح المهند

يسود من أدناه غير مدافع *** وإن كان ما نقضيه غير مسود

فان يأتى ما نهوى فذاك نريده *** وإن نخط ما نهوى فغير تعمد (2)

وقد بقى أبو موسى مصرا على طغيانه يثبط عزائم الناس ، ويدعوهم إلى التخاذل وعدم الاجابة لنصرة الامام ، وقد جعل كلما سمعه من الحسن ومن الخطباء دبر أذنيه حتى اعيى الامام الحسن حلمه فاندفع يصيح به في

ص: 390


1- الهد الضعيف والجبان.
2- الغدير 2 / 77

ثورة وعنف قائلا له :

« اعتزل عملنا أيها الرجل ، وتنح عن منبرنا لا أم لك!. »

وأخذ الحسن يجد في تحفيز الناس للجهاد ويحثهم على الخروج لنصرة أبيه ، وقد قام فيهم خطيبا فقال لهم :

« أيها الناس .. أجيبوا دعوة أميركم ، وسيروا إلى إخوانكم ، فانه سيوجد الى هذا الامر من ينفر إليه ، واللّه لئن يليه أولو النهي أمثل في العاجل والآجل وخير في العاقبة ، فاجيبوا دعوتنا واعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم ، وان أمير المؤمنين يقول : قد خرجت مخرجي هذا ظالما او مظلوما واني اذكر اللّه رجلا رعى حق اللّه إلا نفر ، فان كنت مظلوما اعانني ، وان كنت ظالما أخذ. واللّه ان طلحة والزبير لاول من بايعني ، وأول من غدر فهل استأثرت بمال او بدلت حكما ، فانفروا وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر .. »

فاجابه الناس بالسمع والطاعة ، والامتثال والانقياد لأمره ، والاجابة لدعوته ، ولكن الزعيم مالك الاشتر رأى ان الامر لا يتم الا بإخراج أبي موسى مهان الجانب محطم الكيان ، فاقبل مع جماعة من قومه فاحاطوا بالقصر فلما نظر إليهم غلمانه اقبلوا يشتدون الى أبي موسى وقد خيم عليهم الخوف والذعر فقالوا له :

« يا أبا موسى. هذا الاشتر قد دخل القصر فضربنا واخرجنا. »

فنزل الوغد من القصر وقد استولى عليه الذهول فصاح به الاشتر :

« أخرج من قصرنا لا أم لك .. »

وتردد الاشعرى برهة فصاح به مالك ثانيا :

« اخرج ... اخرج اللّه نفسك!. فو اللّه إنك لمن المنافقين!. »

ص: 391

ونطق الاشعرى بصوت واهن ضعيف

- أجلني هذه العشية.

- هي لك ، ولا تبيتن فى القصر الليلة ..

ودخلت الجماهير تنهب امتعته وأمواله ، ولكن الاشتر لم يتنكر لعدوه المهزوم فقد وقف معه موقف الكريم النبيل فحال وبين الجماهير وبين ما ابتغوه من نهبه والتنكيل به ، فقال لهم :

« إني أجلته الليلة وقد أخرجته فكفوا عنه. »

فكف الناس عنه ، وفى الصباح خرج الباغي الأثيم وهو يجر سرابيل الخزي والخيانة ، وقد صفا الجو للامام الحسن ، واقبل يتحدث الى الناس بالخروج قائلا :

« أيها الناس. إني غاد ، فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر (1) ومن شاء فليخرج في الماء .. »

واستجابت الجماهير لدعوة الامام فلما رأى ذلك قيس بن سعد غمرته الافراح والمسرات وأنشأ يقول :

جزى اللّه اهل الكوفة اليوم نصرة *** أجابوا ولم يأبوا بخذلان من خذل

وقالوا! علي خير حاف وناعل *** رضينا من ناقضي العهد من بدل

هما أبرزا زوج النبي تعمدا *** يسوق بها الحادى المنيخ على جمل

فما هكذا كانت وصاة نبيكم *** وما هكذا الإنصاف اعظم بذا المثل

فهل بعد هذا من مقال لقائل *** ألا قبح اللّه الاماني والعلل (2)

وعجت الكوفة بالنفار فقد نزحت منها آلاف كثيرة ، فريق منها

ص: 392


1- اي على الدواب
2- الغدير 2 / 76

ركب السفن ، وفريق آخر ركب المطي ، وقد بدا عليهم الرضا والقبول وقد ساروا وهم تحت قيادة الحسن فانتهوا الى ذي قار (1) وقد التقوا بالامام أمير المؤمنين حيث كان مقيما هناك فسر بنجاح ولده ، وشكر له جهوده ومساعيه النبيلة.

الافتراء على الحسن :

وروى الطبرى في تأريخه حديثا موضوعا فيه افتراء على الامام الحسن نسوقه الى القراء ثم نبين ما يثبت وضعه ، فقد ذكر أنه أقبل على أبيه بعد خروج طلحة والزبير فقال له :

- أمرتك فعصيتنى ، فانت اليوم تقتل بمضيعة لا ناصر لك! ..

- لا تزال تحن حنين الجارية ، ما الذي أمرتني فعصيتك؟؟

- أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة ، فيقتل ولست بها ، ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى تأتيك وفود أهل الامصار والعرب وبيعة كل مصر.

ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فان كان الفساد كان على يد غيرك ، فعصيتني في ذلك كله.

فرد أمير المؤمنين عليه قائلا :

« أي بني ، أما قولك : « لو خرجت من المدينة حين احيط بعثمان » لقد احيط بنا كما أحيط بعثمان ، وأما قولك : « لا تبايع حتى تأتي بيعة الامصار » فان الامر أمر أهل المدينة ، وكرهنا أن يضيع هذا الامر ،

ص: 393


1- ذي قار : ماء لبكر بني وائل قريب من الكوفة يقع بينها وبين واسط ، معجم البلدان 7 / 8

وأما قولك : « حين خرج طلحة والزبير » فان ذلك كان وهنا على أهل الاسلام ، وو اللّه ما زلت مقهورا منذ وليت ، منقوصا لا أصل الى شيء مما ينبغي.

وأما قولك : « اجلس في بيتك » فكيف لي بما قد لزمنى!! أو من تريدني؟ أتريدني أن اكون مثل الضبع التي يحاط بها ، ويقال : دباب دباب (1) ليست هاهنا حتى يحل عرقوباها (2) ثم تخرج ، وإذا لم انظر فيما لزمني من هذا الامر ويعنيني فيمن ينظر فيه فكف عنك اي بنى » (3)

وهذا الحديث رواه الطبرى عن سيف بن عمر الاسدى التميمي وهو من موضوعاته ومختلقاته ، وقد اجمع الثقات على ضعفه وعدم الاعتماد على احاديثه لانه عرف بالكذب والوضع ، واختلاق الحديث ، وقد اتهمه بعضهم في دينه وقد بين حاله وواقعه ، وعرض موضوعاته ومفترياته العلامة المحقق السيد مرتضى العسكري في كتابه « عبد اللّه بن سبأ »

ومما يزيد وضوحا في وضع الرواية وافتعالها أنه جاء فيها أن الامام الحسن قال لأبيه : « أمرتك فعصيتني » وهذا من اسمج الكلام وأمره فكيف يستقبل الحسن أباه بذلك وهو العارف بحقيقته والعالم بعظيم شأنه وقد قال فيه : إنه لم يسبقه الأولون بعمل ولم يدركه الآخرون بعمل » ومما لا ريب فيه ان ذلك يتنافى مع هدى الامام الحسن الذي تجنب الاساءة

ص: 394


1- دباب اسم فعل امر مشتق من الدبيب ، وهو استدعاء للضبع لتخرج.
2- عرقوباها : تثنية عرقوب - بالضم - وهو العصب الغليظ فوق عقب الانسان ، ومن الدابة في رجلها بمنزلة الركبة فى يدها.
3- الطبري 3 / 170

وهجر الكلام ومره حتى مع أعدائه ومناوئيه فكيف يخاطب أباه بذلك؟!!

وعلق عبد الوهاب النجار على هذا الحديث الموضوع فقال : « وكأني به - يعنى أمير المؤمنين - في هذا الامر الاخير يقول بمقالة عثمان : « لا اخلع لباسا البسنيه اللّه عز وجل » وهو اعتذار لا يقبله من يريد له وللمسلمين السلامة ، أو هو مثل اعتذار دول الاستعمار بأنه لا مناص لهم من تحمل التبعة الملقاة على عاتقهم بإزاء الامم التي يحتلون بلادها ويهيمنون عليها وعلى مرافقها ومقومات حياتها » (1)

وعبد الوهاب النجار قد عرف بالتعصب لبني أميّة والتنكر لاهل البيت ، ولم يوفق في كثير من بحوثه فقد اعتمد على الموضوعات والمختلقات ولم يمعن النظر فيها ، وقد تجرأ بهذه الكلمات القاسية على الامام امير المؤمنين فقد شبهه بالدول الاستعمارية الظالمة التي نشرت الجور والظلم في الارض والامام أمير المؤمنين هو الذي بسط العدالة والمساواة ونشر جميع القيم الانسانية فى دور حكمه ، ولم يعهد في تأريخ الانسانية حاكم مثله في عدله وتحرجه وعدم انخداعه بمظاهر الملك والسلطان ، فقد دخل عليه ابن عباس وهو يخصف نعله بيده فقال له :

- يا ابن عباس ، ما قيمة هذا النعل؟

- لا قيمة له يا أمير المؤمنين

- واللّه لهى أحب إلي من أمرتكم ، إلا أن أقيم حقا أو ادفع باطلا هذا هو نظر الامام الى الحكم فهو عنده وسيلة لاقامة الحق ودحض الباطل ، ولو كان يروم الحكم لما فاز بالخلافة عثمان كما ذكرنا ذلك في

ص: 395


1- الخلفاء الراشدون : ص 414 ، وقد بسط القول فى الرد عليه السيد سعيد الافغاني في كتابه عائشة والسياسة ص 96.

بحث الشورى ، فكيف يصح أن يشبه بالدول الاستعمارية الكافرة ، وهو نفس النبي ووصيه وباب مدينة علمه؟!!

التقاء الفريقين :

وتحركت كتائب الامام من ذي قار تجد السير حتى انتهت الى الزاوية (1) فنزل الامام فصلى فيها اربع ركعات ولما فرغ من صلاته جعل يعفر خده الشريف على التربة وهو يبكي ، ثم رفع يديه بالدعاء الى اللّه قائلا :

« اللّهم ، رب السموات وما أظلت ، والارضين وما أقلت ، ورب العرش العظيم ، هذه البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرها ، اللّهم انزلنا فيها خير منزل ، اللّهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا علي ، ونكثوا بيعتي ، اللّهم احقن دماء المسلمين .. » (2)

ولما استقر الامام بعث بالوقت عبيد اللّه بن عباس ، وزيد بن صوحان الى عائشة يدعوها إلى حقن الدماء وجمع كلمة المسلمين ، وقال لهما :

قولا لها :

« إن اللّه أمرك ان تقري في بيتك وأن لا تحرجي منه ، وانك لتعلمين ذلك غير أن جماعة قد أغروك ، فخرجت من بيتك ، فوقع الناس لاتفاقك معهم في البلاء والعناء ، وخير لك أن تعودي الى بيتك ولا تحومي حول الخصام والقتال ، وإن لم تعودي ولم تطفئ هذه النائرة فانها سوف تعقب

ص: 396


1- الزاوية : موضع قريب من البصرة ، وبه كانت الواقعة المشهورة بين الحجاج وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، معجم البلدان 4 / 37
2- مروج الذهب 2 / 254

القتال ، ويقتل فيها خلق كثير فاتقي اللّه يا عائشة وتوبي الى اللّه فان اللّه يقبل التوبة من عباده ويعفو. وإياك أن يدفعك حب عبد اللّه بن الزبير وقرابة طلحة الى أمر يعقبه النار .. ».

ولو وعت عائشة هذه النصيحة وارتدعت عما هي عليه لعادت بخير عميم على الأمة ، ولكنها جعلت ذلك دبر أذنيها ، وقالت للرسولين :

إني لا ارد على ابن ابي طالب بالكلام لأني لا أبلغه فى الحجاج » (1)

إنها لا ترده بالكلام لأنها ليست لها حجة تدلى بها في الدفاع عن نفسها ، وبعث الامام برسالة الى طلحة والزبير يدعوهما فيها الى الوئام ونبذ الشقاق وهذا نصها :

« أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى بايعوني وإنكما ممن أرادنى وبايعني ، وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر ، وان كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا الى اللّه من قريب ، وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة ، وإسراركما المعصية ، ولعمري ما كنتما بأحق المهاجرين بالتقية والكتمان ، وان دفعكما هذا الامر من قبل أن تدخلا فيه كان اوسع عليكما من خروجكما منه بعد اقراركما به ، وقد زعمتما اني قتلت عثمان فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة ، ثم يلزم كل امرئ بقدر ما احتمل ، فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما ، فان الآن اعظم امركما العار من قبل أن يجتمع العار والنار .. » (2)

ولم يستجيبا لنداء الحق واصرا على الفساد والتمرد والبغي ، واعلنا مقاومة الامام ومناجزته.

ص: 397


1- تأريخ ابن اعثم ص 175
2- نهج البلاغة 3 / 122

خطاب ابن الزبير :

وكان عبد اللّه بن الزبير من اشد المحرضين الى اثارة الفتنة ، واراقة الدماء ، وقد افسد جميع الوسائل التي صنعها امير المؤمنين لتحقيق السلم ، وقد خطب في جموع البصريين ودعاهم الى الحرب ومناجزة الامام وهذا نص خطابه :

« أيها الناس ، ان علي بن أبي طالب قتل الخليفة بالحق عثمان ، ثم جهز الجيوش إليكم ليستولي عليكم ، ويأخذ مدينتكم ، فكونوا رجالا تطلبون بثأر خليفتكم ، واحفظوا حريمكم ، وقاتلوا عن نسائكم وذراريكم وأحسابكم وانسابكم ، أترضون لأهل الكوفة ان يردوا بلادكم ، اغضبوا فقد غوضبتم ، وقاتلوا فقد قوتلتم ، ألا وإن عليا لا يرى معه في هذا الأمر أحدا سواه واللّه لئن ظفر بكم ليهلكن دينكم ودنياكم .. »

وحفل خطابه بالمغالطات والاكاذيب ، واثارة النعرات والعصبيات ضد امير المؤمنين ، وهو يعلم - من دون شك - كذب ما قاله ولكن نفسه سولت له ذلك طمعا بالامرة والسلطان.

خطاب الحسن :

وبلغ الامام أمير المؤمنين خطاب ابن الزبير فاوعز الى ولده الحسن بالرد عليه فقام الحسن خطيبا فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال :

« قد بلغتنا مقالة ابن الزبير في أبي وقوله فيه : إنه قتل ، عثمان ، وانتم يا معشر المهاجرين والانصار وغيرهم من المسلمين علمتم بقول الزبير في عثمان ، وما كان اسمه عنده ، وما كان يتجنى عليه ، وان طلحة

ص: 398

يومذاك ركز رايته على بيت ماله وهو حي ، فانى لهم أن يرموا أبى بقتله وينطقون بذمه ، ولو شئنا القول فيهم لقلنا.

وأما قوله : إن عليا ابتز الناس أمرهم ، فان أعظم حجة لأبيه زعم أنه بايعه بيده ولم يبايعه بقلبه ، فقد أقر بالبيعة وادعى الوليجة فليأت على ما ادعاه ببرهان وانى له ذلك؟

وأما تعجبه من تورد أهل الكوفة على أهل البصرة ، فما عجبه من أهل حق توردوا على أهل باطل.

أما انصار عثمان فليس لنا معهم حرب ولا قتال ، ولكننا نحارب راكبة الجمل واتباعها .. » (1)

واندفع عمرو بن أحيحة فابدى اعجابه البالغ بخطاب الامام فقال :

حسن الخير يا شبيه أبيه *** قمت فينا مقام خير خطيب

قمت بالخطبة التي صدع الل *** ه بها عن أبيك أهل العيوب

وكشفت القناع فاتضح الامر *** وأصلحت فاسدات القلوب

لست كابن الزبير لجلج في القو *** ل وطأطأ عنان فسل مريب

وأبى اللّه أن يقوم بما قا *** م به ابن الوصي وابن النجيب

ان شخصا بين النبي - لك الخير - وبين الوصي غير مشوب (2)

لقد فند الامام ابو محمد مزاعم ابن الزبير ، ورد عليه اكاذيبه فان الذي اشعل نار الفتنة على عثمان انما هو الزبير وطلحة وعائشة ، وليس للامام امير المؤمنين ضلع في ذلك ، كما اوضحناه في البحوث المتقدمة

ص: 399


1- الجمل ص 158 - 159
2- شرح النهج 1 / 146 ، ط دار احياء الكتب العربية

الدعوة الى كتاب اللّه

وبذل الامام قصارى جهوده فى تدعيم السلم وعدم ايقاع الحرب والدعوة الى العمل بما في كتاب اللّه فقد رفع المصحف بيمينه وجعل يطوف به بين أصحابه وفي نفسه بقية امل في الصلح قائلا :

« أيكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه؟ .. فان قطعت يده أخذه بيده الأخرى ، وإن قطعت أخذه باسنانه ، وهو مقتول .. »

فنهض إليه فتى كوفي ونفسه تفيض حماسا ونبلا فقال له :

« أنا له يا أمير المؤمنين »

فأشاح الامام بوجهه عنه برهة ، وطاف في أصحابه ينتدبهم لمهمته فلم يجبه أحد سوى ذلك الفتى النبيل فدفع له المصحف وقال له :

« اعرض عليهم هذا ، وقل هو بيننا وبينكم ... واللّه في دمائنا ودمائكم. »

وانطلق الفتى مزهوا لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب وهو يلوح بالمصحف أمام عسكر عائشة يدعوهم الى العمل بما فيه ، ويدعوهم الى الأخوة والوئام ، فتنكروا له ، فقد دفعتهم الانانية وكراهية الحق الى الفتك به فقطعوا يمناه ، فأخذ المصحف بيساره وهو يدعوهم الى العمل بكتاب اللّه فعدوا عليه ثانيا فقطعوا يساره فأخذ المصحف باسنانه وقد اغرق في الدماء ، وهو يدعوهم فى آخر مراحل حياته الى السلم والصلح وحقن الدماء قائلا :

« اللّه في دمائنا ودمائكم »

فانثالوا عليه وهم مصرون على الغي والعناد فرشقوه بنبالهم فوقع على الارض جثة هامدة وانطلقت أمه ترثيه.

يا رب إن مسلما أتاهم *** يتلو كتاب اللّه لا يخشاهم

ص: 400

فخضبوا من دمه لحاهم *** وأمه قائمة تراهم (1)

ولم يجد الامام بعد هذا الاعذار وسيلة سوى الحرب فقال لاصحابه « الآن حل قتالهم وطاب لكم الضراب. » (2)

اعلان الحرب :

ودعا الامام بعد مقتل سفيره قادة جيشه فأقامهم على أماكنهم ، وعبأ الجنود للحرب وقد رسم لهم خطة تمثلت فيها الفضيلة والرحمة والعدل فقد قال لهم :

« أيها الناس .. إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيرا ، ولا تتبعوا موليا ، ولا تطلبوا مدبرا ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ولا تهتكوا سترا ولا تقربوا من أموالهم إلا ما تجدونه في معسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد او امة ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب اللّه .. »

واعتلت عائشة جملها المسمى بعسكر ، وقد البسوه المسوح ، وجلود البقر ، وجعلوا دونه اللبود (3)

ولها القيادة العامة فهي التي تنظم العساكر وتصدر الأوامر ، ووجه جيشها النبل الى معسكر الامام فقتل بعض اصحابه ، فلم يجد بعد ذلك بدا من الحرب فتقلد الامام سيفه ، ودفع الراية الى ولده محمد (4) وقال للحسن

ص: 401


1- مروج الذهب 2 / 246
2- الطبري 5 / 204
3- اللبود : - جمع مفردها اللبد - الكساء من الشعر ، وبساط من الشعر.
4- محمد بن علي بن ابي طالب الهاشمي المعروف بابن الحنفية ، أمه خولة بنت جعفر الحنفية ، قال ابراهيم بن الجنيد لا نعلم احدا اسند عن علي اكثر ولا اصح مما اسند محمد قال ابو نعيم توفي سنة ثمانين خلاصة تهذيب الكمال ص 21.

والحسين : انما دفعت الراية الى أخيكما وتركتكما لمكانكما من رسول اللّه وانطلق محمد الى ساحة الوغى بعزم ثابت ونفس جياشة وهو يطلب الظفر والنصر ، ولكن سهام القوم قد مطرت عليه من كل جانب فتريث عن المسير برهة فلم يشعر الا ويد أبيه تدفعه من الخلف وهو يقول له بنبرات تقطر حماسا :

« أدركك عرق من امك! »

ثم خطف الراية من يده وهزها في وجهه وهو يقول له :

اطعن بها طعن أبيك تحمد *** لا خير في الحرب إذا لم توقد

بالمشرفي والقنا المسدد

لم يكن موقف محمد خورا وجبنا وانما هو من دهاء القائد المحنك الذي أراد أن يبلغ الغاية بعد أن تنكشف عنه سهام القوم ، ولم يرد أمير المؤمنين بفعله الا ليرى أهل البصرة فى بداية الحرب الحزم والعزم والبسالة لعلهم عن غيهم يرتدعون.

وحمل الامام على القوم وقد رفع العلم بيسراه ، وشهر فى يمينه ذا الفقار الذي حارب به الملحدين والمشركين على عهد رسول اللّه واليوم يحارب به المارقين من الدين والمنحرفين عن الاسلام ، واحتف به اعلام المهاجرين والانصار فكان العدو أمام بواترهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف مصرع الزبير :

وخرج أمير المؤمنين حاسرا بين الصفوف فنادى باعلا صوته :

ص: 402

« أين الزبير.؟ »

فخرج إليه الزبير وهو شاك في سلاحه فلما رآه اعتنقه وقال له :

- يا أبا عبد اللّه ما جاء بك هاهنا؟؟

- جئت أطلب دم عثمان

فرمقه بطرفه وقال له بنبرة المستريب.

- تطلب دم عثمان؟!!

- نعم

- قتل اللّه من قتل عثمان

واقبل عليه يحدثه برفق ، ويذكره بما نساه قائلا :

« أنشدك اللّه يا زبير ، هل تعلم أنك مررت بي وأنت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو متّكئ على يدك ، فسلم علي رسول اللّه وضحك إلي ، ثم التفت إليك فقال لك : يا زبير إنك تقاتل عليا وأنت له ظالم. »

فاطرق الزبير ، وقد غاض لونه ، وذاب قلبه أسى وحسرات ، وندم على ما فرط من أمره وقال للامام :

- اللّهم نعم

- فعلام تقاتلني؟

- نسيتها واللّه ، ولو ذكرتها ما خرجت إليك ، ولا قاتلتك (1)

- ارجع

- وكيف ارجع وقد التقت حلقتا البطان ، هذا واللّه العار الذي لا يغسل؟؟

- ارجع قبل أن تجمع العار والنار

ص: 403


1- الامامة والسياسة 1 / 73

فانصرف وهو يقول :

اخترت عارا على نار مؤججة *** ما إن يقوم لها خلق من الطين

نادى على بأمر لست أجهله *** عار لعمرك في الدنيا وفي الدين

فقلت حسبك من عدل أبا حسن *** فبعض هذا الذي قد قلت : يكفيني (1)

وعزم على الانسحاب من هذه الفتنة الا انه أراد أن يخرج منها بسلام فقال لعائشة :

« يا أم المؤمنين ... إني واللّه ما وقفت موقفا قط إلا عرفت اين أضع قدمي فيه إلا هذا الموقف؟ فاني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر ..؟ »

عرفت عائشة خبيئته ، وما يرومه في حديثه من الانسحاب ، فالتفتت إليه وكانت عارفة بما يثيره وينقض عزيمته فقالت له باستهزاء.

« يا أبا عبد اللّه .. خفت سيوف بنى عبد المطلب؟! »

وعاثت هذه السخرية في نفسه ، وزاد في اضطرابه وقلقه وارجاعه الى ساحة التمرد ابنه المشوم عبد اللّه فقد قال له :

« إنك خرجت على بصيرة ، ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب وعرفت أن تحتها الموت فجبنت؟! »

لقد اتهمه ابنه بالحور والجبن وهو عار وذل ومنقصة عليه فالتفت إليه وقد مشت الرعدة باوصاله فقال له :

- ويحك إني قد حلفت له أن لا أقاتله؟

- كفر عن يمينك بعتق غلامك سرجس.

فاعتق غلامه (2) ثم انعطف يجول فى الميدان ليرى عائشة وابنه

ص: 404


1- مروج الذهب 2 / 247
2- تأريخ الطبري 5 / 200 وجاء فيه ان عبد الرحمن بن سليمان التميمي قال متعجبا من فعل الزبير!! لم ار كاليوم اخا اخوان *** اعجب من مكفر الايمان بالعتق من معصية الرحمن وقال رجل آخر من شعرائهم يعتق مكحولا لصون دينه *** كفارة لله عن يمينه والنكث قد لاح على جبينه

شجاعته وبسالته وعدم مبالاته بحتفه ، فشد في الميسرة ، ثم رجع فشد في القلب ، ورجع الى ابنه وقال له :

« ايفعل هذا جبان؟؟ »

ومضى منصرفا حتى أتى ( وادي السباع ) وكان الاحنف بن قيس مع قومه مقيمين فيه ، فقالوا له : هذا الزبير قد اجتاز فقال : ما اصنع بالزبير؟ وقد جمع بين فئتين عظيمتين من الناس يقتل بعضهم بعضا؟ ولحقه نفر من بنى تميم فسبقهم إليه عمرو بن جرموز ، وقد نزل الزبير الى الصلاة فقال : أتؤمنى أو أؤمك؟ فأمه الزبير ، فقتله عمرو بن جرموز وهو فى حال صلاته(1)

لقد كانت النهاية الأخيرة من حياة الزبير مشفوعة بالغدر والخيانة والتمرد على الحق وهو مما يؤسف له ، فله ماضيه الزاهر الحافل بالمكرمات والفضائل فهو صاحب حلف الفضول الذي كان شعاره مناصرة المظلوم فما باله في هذه المرحلة قد تنكر لأمير المؤمنين ونسيى ظلامته ، فقد ابتزت حقه تيم تارة وعدى أخرى وأمية ثالثة ، وقد جاء هو لينتزع منه حقه.

انه مما يؤسف على الزبير أن تكون له هذه النهاية المؤلمة وهو صاحب

ص: 405


1- مروج الذهب 2 / 247

المواقف الكريمة الذي جلى بسيفه الكرب عن وجه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ووقف من بعده ، مع أمير المؤمنين يحمي جانبه ويهتف بفضله ويقدمه على غيره فما الذي حداه على الخروج عليه فهل استأثر ابن أبى طالب باموال المسلمين وهل ادخر وفرا لنفسه ولعياله حتى يناجزه ويخرج عليه؟

الاحتفاف بعائشة :

واستطابت الموت واستلذته بعض القبائل العربية في سبيل عائشة فقدموا لها الضحايا والقرابين ، وبالغوا في حمايتها والدفاع عنها وهم :

أ - الأزد

وهامت الازد بحب عائشة ، وتفانت في ولائها ، فكانوا يأخذون بعر جملها يشمونه ويقولون : بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك (1) وقد هبوا للدفاع عنها مستميتين ، وقد انطلق شيخ في المعركة يستنجد بهم لما رأى من عظيم ولائهم واخلاصهم لها فقد خاطبهم قائلا :

يا معشر الأزد عليكم امكم *** فانها صلاتكم وصومكم

والحرمة العظمى التي تعمكم *** فاحضروها جدكم وحزمكم

لا يغلبن سم العدو سمكم *** إن العدو إن علاكم زمكم

وخصكم بجوره وعمكم *** لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم (2)

واحتفوا بهودجها ، وامسكوا بخطام « عسكرها » فبهرت عائشة وقالت!

- من انتم؟

ص: 406


1- تأريخ ابن الاثير 3 / 97
2- شرح النهج 1 / 254.

فاخذت تلهب في نفوسهم روح الحماس وتدفعهم الى الموت قائلة :

« إنما يصبر الأحرار .. ما زلت أرى النصر مع بني ضبة! »

واشعلت هذه الكلمات نار الثورة فى نفوسهم فاندفعوا إلى الموت ، وقاتلوا أشد القتال في سبيلها (1)

ب - بنو ضبة

وبنو ضبة من أرذال العرب وأوباشهم ، وكانوا غلاظ القلوب والطباع ، قد أترعت نفوسهم بروح الجاهلية ومساوئها ، وقد وهبوا أرواحهم بسخاء لعائشة ، وأحاطوا بجملها مستميتين وهم يقولون :

يا أمنا يا زوجة النبي *** يا زوجة المبارك المهدي

نحن بنو ضبة لا نفر *** حتى نرى جماجما تخر

يخر منها العلق المحمر

ووقفوا صامدين حتى قطعت أيديهم وبدرت رءوسهم ، واتخذوا في ذلك اليوم دم عثمان شعارا لهم فكانوا يقاتلون اعنف القتال وأشده وشاعرهم يرتجز ويقول :

نحن بنو ضبة أصحاب الجمل *** ننازل القرن اذا القرن نزل

والقتل اشهى عندنا من العسل *** نبغي ابن عفان بأطراف الأسل

ردوا علينا شيخنا ثم بجل

وقتل حول خطامها اربعون رجلا منهم ، وكانت عائشة تقول : ما زال جملي معتدلا حتى فقدت اصوات بني ضبة.

ج - بنو ناجية

ص: 407


1- شرح النهج 2 / 81

ومن القبائل التي فتنت بحب عائشة بنو ناجية ، فقد انطلقوا الى ساحة الموت في سبيلها فأخذوا بخطام جملها فسألت عنهم؟ فقيل لها بنو ناجية فأخذت تستفز حميتهم ، وتقذف بهم فى لظى الحرب قائلة :

« صبرا يا بنى ناجية. فاني اعرف فيكم شمائل قريش .. » (1)

هذه بعض القبائل التي قدمت المزيد من الضحايا في سبيل عائشة ، قد غرتهم امهم وفتنتهم في سبيل أطماعها واحقادها.

عقر الجمل :

واستمر اعنف القتال بين الفريقين يريد أصحاب أمير المؤمنين أن يحموا امام المسلمين ووصيي نبيهم ويريد أصحاب عائشة أن يحموا أمهم ويموتوا دونها حتى شاعت المقتلة بينهما ، ورأى امير المؤمنين ان الحرب لا تنتهي ما دام الجمل موجودا ، فدعا بعمار وبالاشتر فلما مثلا بين يديه قال لهما.

« اذهبا فاعقرا هذا الجمل فان الحرب لا يخمد ضرامها ما دام حيا!!! فانهم قد اتخذوه قبلة لهم. »

انطلق الأشتر وعمار ومعهما فتية من مراد فوثب فتى يعرف بمعمر ابن عبد اللّه (2) الى الجمل فضربه على عرقوبه فهوى الى الارض وله عجيج منكر لم يسمع مثله ، وتفرق اصحاب عائشة فقد تحطم الصنم الذي

ص: 408


1- شرح النهج
2- وقيل غيره هو الذي عقره وفي رواية ان الامام دعا ولده محمد بن الحنفية فاعطاه رمحا وقال له : اقصد بهذا الرمح الجمل فذهب فحال القوم بينه وبينه فرجع ولم يظفر ببغيته فاخذ الحسن الرمح من يده وقصد الجمل فطعنه.

قدموا له القرابين ، وأمر الامام بحرقه وتذرية رماده في الهواء لئلا تبقى منه بقية يفتتن بها السذج والبسطاء وبعد ما فرغ من ذلك قال :

« لعنه اللّه من دابة. فما اشبهه بعجل بني اسرائيل!! »

ومد بصره الى الرماد الذي اخذه الريح فتلا قوله تعالى : « وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في أليم نسفا » (1)

الصفح عن عائشة :

وقابل الامام عائشة بالاحسان والصفح الجميل فبعث إليها أخاها محمدا يسألها عن حالها فانطلق إليها محمد فادخل يده في هودجها فجفلت مرعوبة منه وصاحت به :

- من أنت؟

- ابغض أهلك إليك

عرفته في الوقت فقالت له ونفسها مترعة بالكراهية له والحقد عليه :

- ابن الخثعمية؟

- نعم أخوك البر

- عقوق

وأزاحت بوجهها عنه ، والتفت إليها يسألها برفق ولين :

- هل أصابك مكروه؟

- سهم لم يضرني

فانتزعه منها ، وأخذ بخطام هودجها ، وادخلها في الربع الأخير

ص: 409


1- سورة طه : آية 97

من الليل الى دار عبد اللّه بن خلف الخزاعي (1) على صفية بنت الحارث (2) فاقامت هناك اياما.

العفو العام :

واصدر الامام اوامره بالعفو عن جميع اعدائه ، والمعارضين له ، وطلبت عائشة ان يؤمن ابن اختها عبد اللّه بن الزبير وهو من ألد اعدائه فاجابها إلى ذلك ، وتكلم معه الحسن والحسين فى شأن مروان فآمنه وعفا عنه ونادى مناديه :

« ألا لا يجهز على جريح ، ولا يتبع مول ، ولا يطعن في وجه مدبر ومن القى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .. »

ثم آمن الاسود والأحمر - على حد تعبير اليعقوبي - (3) ولم ينكل بأحد من خصومه ، وبذلك فقد انتشر السلام وعم الهدوء في جميع ربوع البصرة

تسريح عائشة :

وبعث أمير المؤمنين عبد اللّه بن عباس الى عائشة لتخرج من البصرة الى يثرب فتقر فى بيتها كما أمرها اللّه فانطلق إليها ابن عباس واستأذن

ص: 410


1- عبد اللّه بن خلف بن اسعد الخزاعي والد طلحة الطلحات قال ابو عمر : لا اعلم له صحبة ، كان كاتبا لعمر بن الخطاب على ديوان البصرة ، قتل في واقعة الجمل وكان من حزب عائشة واخوه عثمان من اصحاب الامام ، الاصابة 2 / 303
2- صفية بنت الحارث بن طلحة قتل ابوها يوم بدر كافرا ، وهي زوج عبد اللّه بن خلف وأم طلحة الطلحات ، الاصابة 4 / 346
3- تأريخ اليعقوبي 2 / 159

منها فأبت أن تأذن له فدخل بغير أذن وهوى الى متاعها فأخرج منه وسادة فجلس عليها ، فتأثرت منه وقالت له :

« تاللّه يا ابن عباس .. ما رأيت مثلك تدخل بيتنا وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا!! »

فانبرى إليها ابن عباس وهو فياض المنطق قائلا :

« واللّه ما هو بيتك ، ولا بيتك الا الذي أمرك اللّه أن تقرى فيه فلم تفعلي ، إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي الى بلدك الذي خرجت منه. »

فاظهرت كوامن غيظها وبغضها للامام فقالت :

- رحم اللّه أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطاب.

- نعم. وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

- أبيت ، أبيت

- ما كان إباؤك إلا فواق ناقة بكيئة (1) ثم صرت ما تحلين ولا تمرين ولا تأمرين ولا تنهين.

فالتاعت من كلامه وأرسلت ما في عينيها من دموع ، ثم قالت له :

« نعم ارجع فان ابغض البلدان الي بلد انتم فيه. »

فثار ابن عباس من كلامها ورد عليها :

« أما واللّه ما كان ذلك جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين أما ، وجعلنا أباك لهم صديقا. »

فاجابته باسخف القول

ص: 411


1- الفواق : الوقت ما بين الحلبتين فان الناقة تحلب ثم تترك ليرضعها الفصيل حتى تدر فتحلب ، البكيئة : الناقة التي قل لبنها.

« أتمن علي برسول اللّه؟!! »

وما ابعد هذا القول عن منطق الايمان فمن تكون هي لو لا رسول اللّه فبسببه علا لها نجم وصار لها ذكر ، وقد انبرى ابن عباس فرد عليها منطقها الرخيص قائلا :

« نمن عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننت به علينا!! »

وتركها وانصرف فاخبر الامام بحديثه معها ، وباستجابتها لقوله فشكره الامام على ذلك (1) ولما عزمت على الخروج جهزها الامام باحسن جهاز واعد لها قافلة كاملة لا ينقصها شيء ، وفي اليوم المقرر لسفرها دخل عليها ومعه الحسن والحسين فلما رأينه النسوة بكين وصحن في وجهه ، والتفتت إليه صفية ربه الدار فقالت له :

يا قاتل الأحبة. يا مفرق الجماعات. أيتم اللّه بنيك منك كما ايتمت بنى عبد اللّه .. »

اجابها الامام : لو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذا البيت ، وأشار الى بيت فى دارها قد اختفى فيه فريق من أعدائه وخصومه ، وأراد من كان معه الهجوم عليهم فمنعهم من ذلك ، وجرى بعد ذلك حديث بين الامام وعائشة فقالت له : إني احب أن أقيم معك فاسير إلى قتال عدوك ، فابى الامام وأمرها أن تقر في البيت الذي تركها فيه رسول اللّه ولو أراد السياسة الوقتية لأجابها إلى ذلك ولكنه منبع التقوى والايمان أراد أن يسير معها على وفق الشريعة الاسلامية التي تلزم المرأة بالحجاب وبالعمل لتهذيب نفسها واصلاح منزلها ، وليس لها باي حال أن تدخل في المعمعات الحزبية والمعتركات السياسية ، ورحلت عائشة من البصرة وقد

ص: 412


1- العقد الفريد 3 / 103 - 104.

اسكنت بيوتها الثكل والحزن والحداد ، وروعت المسلمين وأشاعت القتل فيما بينهم فقد كان عدد الضحايا بسببها عشرة آلاف نصفهم من اصحابها والنصف الآخر من أصحاب الامام (1) وقد دمرت بخروجها على الامام وشائج الصلات بين المسلمين ، ونسفت أواصر الأخوة الاسلامية التي عقدها الرسول الكريم ، وفتحت باب الفتن والشر بين أمة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) كما مهدت العصيان لمعاوية وبني أميّة ، وعبدت لهم الطريق ليتخذوا من دم عثمان وسيلة الى الظفر بالحكم وإلى استعباد المسلمين واذلالهم.

لقد اجمع أئمة المسلمين على تأثيم القائمين بهذا التمرد وانه لا مبرر له بحال من الاحوال كما نعتوهم بالبغاة وان الواجب الديني يقضي بمناجزتهم عملا بقوله تعالى : ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ ) يقول أبو حنيفة :

« وما قاتل أحد عليا الا وعلي أولى بالحق منه ، ولو لا ما سار علي فيهم ما علم أحد كيف السيرة فى المسلمين. ولا شك ان عليا إنما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه ، وفى يوم الجمل سار على فيهم بالعدل ، وهو علم المسلمين فكانت السنة في قتال أهل البغي » (2)

وقال ابن حجر :

« ان أهل الجمل وصفين رموا عليا بالمواطاة مع قتلة عثمان وهو برىء من ذلك وحاشاه واضاف يقول : ويجب على الامام قتال البغاة لاجماع الصحابة عليه ولا يقاتلهم حتى يبعث إليهم أمينا عدلا فطنا ناصحا يسألهم عما ينقمونه على الامام تأسيا بعلي (عليه السلام) فى بعثه ابن عباس الى

ص: 413


1- تأريخ الطبري 5 / 224 وقيل ان عدد القتلى اكثر من ذلك
2- مناقب ابي حنيفة للخوارزمي 2 / 82 - 83

الخوارج بالنهروان » (1)

وقال امام الحرمين الحويني : « كان على بن أبي طالب امام حق في توليته ومقاتلوه بغاة » (2)

ان الشريعة الاسلامية تلزم بمناجزة الخارجين على السلطة الشرعية لان في خروجهم تصديعا لوحدة المسلمين ، وتدميرا لاخوتهم.

لقد مرت هذه الحادثة الرهيبة على الامام الحسن وقد عرفته باضغان القوم وأحقادهم على أبيه ، وقد كان فى تلك الموقعة البطل الوحيد والقائد المحنك الذي استطاع أن يحفز الجماهير ويجهزهم لقتال القوى الباغية على أبيه ، وبهذا ينتهى بنا المطاف عن مشكلة البصرة لنلتقى به في موقعة صفين

ص: 414


1- تحفة المحتاج للنووى 4 / 110
2- الارشاد في اصول الاعتقاد ص 433

فى صفّين

اشارة

ص: 415

ص: 416

تمر بعض الحوادث في دنيا الوجود وتذهب من دون أن تترك أثرا مهما يذكره التأريخ وإن كان لها في وقتها من الخطورة شأن كبير ، وتمر بعض الحوادث الأخرى في ميدان الحياة فتبقى خالدة خلود الدهر لأنها تركت أثرا اجتماعيا عاد بالخير العميم على الانسان ، وتجتاز بعض الحوادث على مسرح الحياة فتملأ الدنيا بالمآسي والخطوب وتعود بشقاء الانسان واستعباده ، من هذه الحوادث المفجعة والرزايا المؤلمة حادثة صفين التي تجسم فيها الصراع بين الحق والباطل ، وبين العدل والجور والظلام والنور وبين الخلافة الدينية التي تنشد صالح الانسان واسعاده. وبين الحكم الفوضوي الذي لا يهدف إلا إلى الإثرة والاستغلال والمتاجرة بمصالح الشعوب.

إن الشعوب الاسلامية لم تقرر مصيرها الحاسم في وقعة صفين فقادها ذلك الى الاستعباد والاذلال والخضوع للظلم والجور ، وقد المع الى ذلك الاستاذ مالك الجزائري في ايضاحه للاسس القويمة التي تبناها مؤتمر ( باندونج ) اذ يقول :

ولقد عرف التأريخ الاسلامي لحظة كهذه - اي فى تقرير حق المصير - في معركة صفين تلك الحادثة الموسفة المؤثرة التي نتج عنها التذبذب في الاختيار ، الاختيار الحتم بين علي ومعاوية ، بين المدينة ودمشق ، بين الحكم الديمقراطي الخليفي والحكم الاسري ، ولقد اختار المجتمع الاسلامي في هذه النقطة الفاصلة في تأريخه الطريق الذي قاده اخيرا الى القابلية للاستعمار والى الاستعمار » (1)

لقد انخذل المجتمع الاسلامى في حادثة صفين فلم يقرر مصيره الحاسم فانتج ذلك خذلان الامام أمير المؤمنين وارغام الامام الحسن من بعده على

ص: 417


1- فكرة الافريقية الآسيوية ، في ضوء مؤتمر باندونج / 111

الصلح ، وتسلم الامويين لقيادة الحكم في البلاد فامعنوا في قتل الاخيار ومطاردة المصلحين واشاعة الظلم والجور في الأرض ، وعلينا أن نتبين فصول هذه المأساة - بايجاز - وننظر الى متاركها الفظيعة وهي :

تمرد معاوية :

واعلن معاوية التمرد على حكومة الامام ، ورفض البيعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون اما بواعث عصيانه فهي ما يلي :

1 - لقد علم معاوية أن الامام لا يقره في منصبه ، ولا بد أن يجرده من جميع امواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين ، ولو كان يحتمل أنه يبقيه على حاله ويقره على بذخه واسرافه لما اعلن العصيان والخروج عليه إن الامام لا يداهن في دينه ، ولا يطلب النصر بالجور ، ولا يقر الظلم ، وهو حتف الظالمين والمعتدين فكيف يبقى معاوية في جهاز الحكم ، وهو يعلم أنه لا واقعية له ولا حريجة له في الدين ، وقد اصدر في اليوم الأول من خلافته عزله عن مقره ، وقد كتب إليه معاوية يسأله أن يبقيه على حاله أو يجعله واليا على مصر فامتنع من اجابته ، وقد لام عقبة بن أبي معيط معاوية على ذلك وكتب له رسالة جاء فيها.

معاوية إن الشام شامك فاعتصم *** بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا

فان عليا ناظر ما تجيبه *** فأهد له حربا تشيب النواصيا

وحام عليها بالصوارم والقنا *** ولاتك مخشوش الذراعين واصيا

والا فسلم ان فى الأمن راحة *** لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وان كتابا يا ابن حرب كتبته *** على طمع جان عليك الدواهيا

سألت عليا فيه ما لا تناله *** ولو نلته لم تبق إلا لياليا

ص: 418

الى أن ترى منه الذي ليس بعدها *** بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا

ومثل علي تغترره بخدعة *** وقد كان ما خربت من قبل بانيا

ولو نشبت أظفاره فيك مرة *** فراك ابن هند بعد ما كنت فاريا (1)

إن معاوية ومن يمت به يعلمون اتجاه الامام وأهدافه الرامية الى تحقيق العدل في البلاد والقضاء على الغبن الاجتماعي واقصاء الظالمين عن مراكزهم ، وانهم سيعودون في ظل حكومته نكرات لا امتياز لهم كما كانوا فى عهد الرسول فلذا اعلنوا عليه البغي حفظا على مصالحهم الضيقة.

2 - ورأى معاوية أن له قوة على مقاومة الامام ومناجزته وذلك لما له من النفوذ والمكانة في بلاده فانه لم يعمل فيها عمل وال يظل واليا طول حياته ويقنع بهذا المنصب ثم لا يتطاول إلى ما وراءه ولكنه عمل فيها عمل صاحب الدولة التي يؤسسها ويدعمها له ولا بنائه من بعده فجمع الأقطاب ، واشترى الانصار بكل ثمن في يديه وأحاط نفسه بالقوة والثروة واستعد للبقاء الطويل (2) وقد حفزته هذه القوى التي يتمتع بها الى مناجزة الامام ومقاومته.

3 - ومما دفعه الى التمرد خروج عائشة وطلحة والزبير فقد فتحوا له الطريق ، ومهدوا له السبيل فان واقعة صفين انما هي امتداد لحرب الجمل ، ونتيجة من نتائجها فلو لا خروجهم واعلانهم للعصيان وتطبيلهم بدم عثمان لما استطاع معاوية أن يشق الكلمة ويخرج على الامام ويناجزه الحرب.

ص: 419


1- تأريخ ابن كثير 8 / 129
2- عبقرية الامام علي ص 115.

4 - وشيء آخر جدير بالاهتمام علل به معاوية عصيانه وخروجه على النظام القائم وذلك في رسالته التي بعثها لمحمد بن أبي بكر وقد جاء فيها

« كان ابوك وفاروقه أول من ابتزه - يعني عليا - حقه وخالفاه على امره ، على ذلك اتفقا واتسقا ثم دعواه الى بيعتهما فابطأ عنهما وتلكأ عليهما فهما به الهموم واردا به العظيم ، ثم انه بايع لهما وسلم لهما ، وأقاما لا يشاركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما اللّه ... واضاف يقول : فان يك ما نحن فيه صوابا فابوك استبد به ونحن شركاؤه ولو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا إليه ولكن رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا واخذنا بمثله .. » (1)

وهو تعليل وثيق للغاية فانه لو لا منازعة الشيخين للامام وابتزازهما لحقه لما استطاع معاوية ان يخالفه ويخرج عليه ولكنه احتذى حذوهما وسار على طريقتهما فبغى على الامام وأفسد عليه جيشه وتركه في أرباض الكوفة يتمنى الموت ليستريح مما ألم به من الشؤون والشجون.

5 - ومن الامور التي حفزته على العصيان والتمرد على الامام هو المطالبة بدم عثمان فقد اتخذ قتله وسيلة الى نيل أهدافه وبلوغ أمانيه ، وقد ارصد جميع أبواق دعايته لتهويل أمره والاشادة بذكره وتنزيهه عن كل ذنب حتى انقادت له قلوب اهل الشام وأترعت نفوسهم بالحقد والكراهية للامام فاذا بهم يظهرون الحزن والاسى اكثر مما يظهر وإذا بهم يحثونه ويستعجلونه على الحرب والمطالبة بدمه اكثر مما يستعجل.

ولم يكن هناك ادنى مجال للشك في أن معاوية لا يهمه أمر عثمان ولا يقيم لمقتله وزنا فقد استنجد به لما حوصر وضويق ، وطلب منه المعونة

ص: 420


1- المسعودي على هامش ابن الاثير 6 / 78 - 79

فلم يخف لنصرته ، ولم يستجب له ولم يسعفه بشيء ، ولو كان يروم المطالبة بدمه لكان اولى الناس بالعقوبة والتنكيل مستشاره ووزيره عمرو بن العاص فهو الذي سعر الدنيا نارا على عثمان وكان يقول : « واللّه لالفى الراعى فاحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء والوجوه » (1) فمطالبته بدم عثمان ليست الا وسيلة لتحقيق غايته والظفر بالملك الذي يحلم به.

هذه بعض الاسباب والبواعث التي دعت معاوية لمناجزة الامام واعلانه للحرب عليه.

ايفاد جرير :

ولما اعلن معاوية تمرده على حكومة الامام طلب أصحاب الامام أن ينهض بهم لحربه بعد فراغهم من حرب الجمل وكأنهم أرادوا أن يحوزوا لنصرهم نصرا فابى الامام لأن خطته كانت المسالمة وايثار العافية فرأى أن يبعث إليه السفراء يدعونه الى الطاعة والدخول فيما دخل فيه الناس فاوفد للقياه جرير بن عيد اللّه البجلى (2)

ص: 421


1- شرح النهج 1 / 163
2- جرير بن عبد اللّه البجلي اختلف فى وقت اسلامه قيل انه اسلم حينما بعث النبي وقيل ان اسلامه كان قبل وفاة النبي باربعين يوما ، وقيل غير ذلك ، وكان جميل الصورة قال فيه عمر : هو يوسف هذه الامة ، وقدمه فى حروب العراق على جميع بجيلة وكان لهم الاثر فى فتح القادسية وقد سكن الكوفة ولما ارسله الامام سفيرا الى معاوية اخفق فى سفارته فاعتزل الفريقين وآثر العافية فسكن فى قرقيسيا حتى توفى بها سنة احدى وخمسين وقيل اربع وخمسين ، الاصابة 1 / 232

وزوده بهذه الرسالة :

« أما بعد فان بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لانه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يرد. وانما الشورى للمهاجرين والانصار فاذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا ، فان خرج من امرهم خارج بطعن او رغبة ردوه الى ما خرج منه ، فان أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه اللّه ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا ، وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، فان أحب الامور إلى فيك العافية ، إلا أن تتعرض للبلاء ، فان تعرضت له قاتلتك واستعنت اللّه عليك. وقد اكثرت فى قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إلىّ أحملك وإياهم على كتاب اللّه. فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن ، ولعمرى لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان. واعلم أنك من الطلقاء (1) اللذين لا تحل لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشورى. وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد اللّه ، وهو من أهل الايمان والهجرة. فبايع ولا قوة إلا باللّه (2)

وكانت هذه الرسالة رسالة حق داعية واعية. دعت الى الحق من

ص: 422


1- الطلقاء : جمع طليق ، وهو الاسير الذي اطلق سراحه ، ويراد بهم فى المقام الاسراء الذين خلى عنهم رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة ولم يسترقهم.
2- وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 34.

أقصر سبله ، وبأوضح أساليبه. ووعت قصة الاستخلاف التي أثارت كل هذا الخلاف ، بما سبقها وما لحقها من المقدمات والخواتيم.

وكانت فوق هذا وذاك عظة جارية ، وحكمة هادية لمن أراد الهداية وشرح اللّه صدره وفجر في فؤاده ينبوع النور ، فلم يغفل الامام فيها أمرا جرت ألسن الناس بذكره إلا بينه. ولم يدع ثغرة ينفذ منها خصمه إلا سدها دونه وما من شيء كان معاوية يستطيع أن يحتال به ، أو يدعيه حجة تؤيد خلافه وتسند انحرافه الا مد له الامام معولا من سطورها - حديدا شديدا - يدمر باطله ويقوض معاقله ، كما قال الاستاذ السيد عبد الفتاح مقصود (1) :

وطوى جرير البيداء حتى وصل الى بلاط معاوية ، فانطلق يتكلم معه قائلا :

أما بعد يا معاوية فانه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين (2) وأهل الحجاز وأهل اليمن ، وأهل العروض وعمان وأهل البحرين واليمامة ، فلم يبق إلا أهل هذه الحصون التي أنت فيها ، لو سال عليها سيل من اوديته غرقها وقد أتيتك أدعوك الى ما يرشدك ويهديك الى مبايعة الرجل (3)

ولما سمع معاوية ذلك خارت قواه وبقي مبهور النفس لم يفه بشيء ولكنه بقي يطاوله ، ويسرف في مطاولته لا يجد لنفسه مهربا سوى الامهال والتسويف ، وقد جمع في خلال تلك المدة وجوه أهل الشام وقادة الجيش فجعل يستشيرهم في

ص: 423


1- الامام على بن ابي طالب ج 4 ص 27.
2- الحرمان : مكة والمدينة ، والمصران البصرة والكوفة.
3- وقعة صفين ص 33

الخضوع لحكومة الامام والاستجابة لسفيره أو اعلان التمرد والمطالبة بدم عثمان فاظهروا له رغبتهم الملحة في الطلب بدم عثمان ، واعلان العصيان على حكومة الامام.

مراسلة معاوية لعمرو :

وعلم معاوية أن الامر لا يتم له إلا إذا انضم إليه داهية العرب عمرو ابن العاص ليقوم بتسديده ويستعين به في مهامه ، فبعث إليه رسالة يطلب فيها قدومه إليه وهذا نصها :

« أما بعد : فانه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة ، وقدم علينا جرير بن عبد اللّه في بيعة علي ، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني أقبل أذاكرك أمرا ... »

ولما قرأ الرسالة تحير في أمره فاستشار ولديه عبد اللّه ومحمدا فقال له عبد اللّه وكان رجل صدق وصلاح.

« أرى أن نبي اللّه قبض وهو عنك راض والخليفتان من بعده ، وقتل عثمان وأنت عنه غائب ، فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة ، ولا تريد أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أو شك أن تهلك فتشقى فيها .. »

وأشار عليه عبد اللّه بالنصيحة والورع والتقوى وعدم الاستجابة لدواعي الفتن والغرور ، وأما ابنه محمد فقد فتنته الدنيا وطمع بالملك فقد قال له :

« أرى أنك شيخ قريش وصاحب أمرها ، وان تصرم هذا الامر وأنت فيه خامل تصاغر أمرك فالحق بجماعة أهل الشام فكن يدا من ايديها وأطلب بدم عثمان ، فانك قد استلمت فيه الى بني أمية .. »

وقد دفعه محمد الى هلاك آخرته واصلاح دنياه ، والتفت عمرو الى

ص: 424

ولده عبد اللّه فقال له : أما أنت فأمرتني بما هو خير في ديني؟ وقال لولده محمد : أما أنت أمرتني بما هو خير لي فى دنياى؟

حيرة وذهول :

واعتركت الدنيا والآخرة في نفس عمرو وملأت الحيرة اهابه واحاطت به الهواجس ، وقد انفق ليلا ساهرا يفكر فى الامر فهل يلتحق بمعسكر معاوية فيناجز أخا رسول اللّه ووصيه وباب مدينة علمه فيكون قد فرط في أمر دينه أو يلتحق بعلي فيكون رجلا كسائر الناس له ما لهم وعليه ما عليهم ولكنه يضمن بذلك آخرته ودينه ، وأطال التفكير فى الأمر وسمعه أهله يقول :

تطاول ليلى للهموم الطوارق *** وخوف التي تجلو وجوه العوائق

وإن ابن هند سائلي أن أزوره *** وتلك التي فيها بنات البوائق

أتاه جرير من على بخطة *** أمرّت عليه العيش ذات مضائق

فان نال منى ما يؤمل رده *** وإن لم ينله ذل ذل المطابق

فو اللّه ما ادري وما كنت هكذا *** اكون ومهما قادني فهو سائقي

أخادعه إن الخداع دنية *** أم اعطيه من نفسي نصيحة وامق

أم أقعد في بيتي وفي ذاك راحة *** لشيخ يخاف الموت في كل شارق

وقد قال عبد اللّه قولا تعلقت *** به النفس إن لم تقتطعني عوائقي

وخالفه فيه أخوه محمد *** وانى لصلب العود عند الحقائق

ودل هذا الشعر على تردده وحيرته إلا ان ابنه عبد اللّه فهم منه الاستجابة لدعوة معاوية فقال :

« بال الشيخ على عقبيه ، وباع دينه بدنياه!! »

ولما اندلع لسان الصبح دعا غلامه وردان وكان ذكيا يقرأ ما فى

ص: 425

النفوس فقال له : « حط يا وردان ، ثم قال له : ارحل ، ثم قال له حط يا وردان ».

فعرف غلامه حيرته وذهوله فقال له :

- خلطت أبا عبد اللّه؟! أما إن شئت أنبأتك بما فى نفسك؟

- هات ويحك!!

- اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : على معه الآخرة فى غير دنيا ، وفى الآخرة عوض من الدنيا. ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة وليس في الدنيا عوض الآخرة فانت واقف بينهما.

- إنك واللّه ما أخطأت!! ما ترى؟

- أرى أن تقيم في بيتك فان ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك.

ولم يستجب لنصحه وصمم على الالتحاق بمعاوية وهو يقول :

يا قاتل اللّه وردانا وفطنته *** أبدى لعمرك ما فى النفس وردان

لما تعرضت الدنيا عرضت لها *** بحرص نفسى وفي الاطباع ادهان

نفس تعف واخرى الحرص يغلبها *** والمرء يأكل تبنا وهو غرثان (1)

أما علي فدين ليس يشركه *** دنيا وذاك له دنيا وسلطان

فاخترت من طمعي دنيا علي بصر *** وما معي بالذي اختار برهان

اني لاعرف ما فيها وأبصره *** وفي أيضا لما أهواه الوان

لكن نفسي تحب العيش في شرف *** وليس يرضى بذل العيش انسان

عمرو لعمر أبيه غير مشتبه *** والمرء يعطس والوسنان وسنان

لقد استجاب لعاطفته فآثر الدنيا على الآخرة ، وعزم على الالتحاق

ص: 426


1- الغرثان : الجائع.

بمعسكر معاوية ليحارب امير المؤمنين الذي هو نفس رسول اللّه ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى.

قدومه الى الشام :

وارتحل ابن العاص ومعه ابناه الى دمشق فلما بلغها جعل يبكي كما تبكي المرأة وهو يقول :

« وا عثماناه انعى الحياء والدين!! » (1)

لقد اصطنع البكاء ليغري السذج ويظهر الاخلاص والطاعة لمعاوية ولما التقى به تذاكر معه معاوية في الوسائل والطرق التي يسلكها في حربه مع الامام ، فقال له ابن العاص :

« أما علي فو اللّه لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء من الاشياء وإن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش الا أن تظلمه .. »

وانطلق معاوية يبين له الدوافع في حربه وعصيانه قائلا :

« صدقت. ولكنا نقاتله على ما في أيدينا ، ونلزمه قتلة عثمان!! »

إنه إنما يقاتل الامام من أجل السلطة والامرة والثراء العريض الذي اختلسه من بيت المال ، واندفع ابن العاص يبين له وهن المطالبة بدم عثمان قائلا :

- وا سوأتاه إن احق الناس أن لا يذكر عثمان!!

- ولم ويحك؟!!

- أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتى استغاث بيزيد بن اسد

ص: 427


1- تأريخ ابن الأثير 3 / 129

البجلي فسار إليه ، وأما أنا فتركته عيانا وهربت الى فلسطين!! (1)

فلم يلتفت معاوية الى قوله لأنه لم يجد وسيلة يتمسك بها في عصيانه سوى المطالبة بدم عثمان.

المساومة الرخيصة :

وكان ابن العاص يحن الى مصر حنينا متصلا وقد باع دينه وضميره على معاويه من اجلها فقد قال له معاوية :

- أتحبني يا عمرو؟

- لما ذا؟ للآخرة فو اللّه ما معك آخرة ، أم للدنيا. فو اللّه لا كان حتى أكون شريك فيها!!

- أنت شريكي فيها

- فاكتب لي مصر وكورها

- لك ما تريد

فكتب له ولاية مصر وكتب في آخر الوثيقة وعلى عمرو السمع والطاعة فقال له عمرو :

- إن السمع والطاعة لا ينقصان من الشرط شيئا.

- نعم ، ولا ينظر الناس الى هذا.

ونفذ له ما أراد (2) وبذلك فقد باع دينه على معاوية ، وسمع وهو يقول :

معاوي لا اعطيك ديني ولم أنل *** به منك دنيا فانظرن كيف تصنع

ص: 428


1- تأريخ اليعقوبي 2 / 162
2- العقد الفريد 3 / 113

فان تعطنى مصر فاربح بصفقة *** أخذت بها شيخا يضر. وينفع

وما الدين والدنيا سواء وإنني *** لآخذ ما أعطي ورأسي مقنع

ولكنني أعطيك هذا وإنني *** لأخدع نفسي والمخادع يخدع

أأعطيك أمرا فيه للملك قوة *** وأبقى له إن زلت النعل اضرع

وتمنعني مصر وليست برغبة *** وان ثرى القنوع يوما لمولع (1)

لقد ظفر معاوية بأهم سياسي ماكر مخادع يجيد اللعب على الحبل ويتغلب على الأحداث وهو القائل عن دهائه أنا أبو عبد اللّه ما حككت قرحة إلا أدميتها.

رد جدير :

ولما اجتمع لمعاوية امره واحكم وضعه رد سفير الامام ( جرير ) الى الكوفة ولم يجبه الى شيء ، وأرسل معه رسالة الى الامام جاء فيها :

« اما بعد. لو بايعك الذين ذكرت وأنت برىء من دم عثمان لكنت كأبي بكر وعمر وعثمان ، ولكنك اغريت بدم عثمان ، وخذلت الانصار فأطاعك الجاهل ، وقوى بك الضعيف ، وقد أبى اهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان فان فعلت كانت شورى بين المسلمين وانما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم ، فلما فارقوه كان الحكام على الناس اهل الشام ، ولعمري ما حجتك على اهل الشام كحجتك على طلحة والزبير إن كانا بايعاك فلم ابايعك انا ، فأما فضلك في الاسلام وقرابتك من رسول اللّه فلست ادفعه ... »

ص: 429


1- في البيت الأخير اضطراب ورواه ابن ابي الحديد في شرح النهج 1 / 137 بما يلي « وإني بذا الممنوع قدما لمولع »

وكانت هذه الرسالة حاملة للبهتان والاباطيل ففيها اتهام الامام بدم عثمان ، وهو يعلم أن الامام برىء منه ، ولكنه لم يجد حجة يتعلق بها سوى هذه الاكاذيب.

وهبط جرير على الامام وهو خافق فى سفارته ، ومعه رسالة معاوية فاطلع عليها الامام وعرف ما يرومه معاوية من البغي والخروج عليه ، وقد رأى أن يقيم عليه الحجة مرة اخرى فبعث إليه السفراء يدعونه الى الطاعة والدخول فيما دخل فيه المسلمون فلم يجد ذلك شيئا وأصر على عناده.

زحف معاوية لصفين :

وأخذ معاوية البيعة من أهل الشام على المطالبة بدم عثمان والأخذ بثأره ، وتوفرت لديه الامكانيات والقوى العسكرية ، وانضم إليه كل من لم تنطبع في نفسه العقيدة الدينية من ذوى الاطماع والمنحرفين عن الحق والباغين على الاسلام ، ولما تم أمره زحف بجيوشه الى صفين (1) لمحاربة السلطة الشرعية والاطاحة بالحكم الاسلامي واعادة المثل الجاهلية ، ولما انتهى في مسيره الى صفين نزل بها واحتل الفرات وعد هذا أول الفتح لانه حبس الماء على عدوه ، وبقيت جيوشه رابضة هناك تصلح امرها ، وتنضم قواها لتستعد للحرب.

ص: 430


1- صفين - بكسرتين وتشديد الفاء - موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالسن وبه كانت الواقعة بين الامام ومعاوية فى سنة 37 فى غرة صفر واختلف فى عدة اصحاب الفريقين فقيل كان معاوية في مائة وعشرين الفا وكان مع الامام تسعون الفا وقيل بالعكس ، معجم البلدان 3 / 414 ط دار صادر بيروت.

تهيؤ الامام للحرب :

ولما اخفقت جميع الوسائل التي اتخذها الامام من أجل السلم تهيأ للحرب بعد ما علم أن خصمه قد زحف الى صفين لمناجزته ، وقد استدعى المهاجرين والانصار الذين خفوا لنجدته فقال لهم :

« إنكم ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركو الفعل والامر ، وقد أردنا المسير الى عدونا فاشيروا علينا برأيكم؟ »

فانطلق هاشم بن عتبة فقال له :

« يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء وهم لمن يطلب حرث الدنيا اولياء ، وهم مقاتلوك ومجاهدوك (1) لا يبقون جهدا ، مشاحة على الدنيا ، وضنا بما في أيديهم منها وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان ، كذبوا ليسوا بدمه يثأرون ، ولكن الدنيا يطلبون فسر بنا إليهم ، فان اجابوا الى الحق فليس بعد الحق إلا الضلال. وإن أبوا الا الشقاق فذلك الظن بهم واللّه ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ويسمع إذا أمر .. » (2)

إن هاشما كان خبيرا بنفوس القوم ، وعالما باتجاههم وميولهم فانهم يطلبون حرث الدنيا ، وهم يقاتلون الامام من اجل مطامعهم ، وقد تذرعوا بدم عثمان واتخذوه وسيلة لعصيانهم ، ولا يتركون نفاقهم وغيهم ما دام لهم شاخص يتمتع بالنفوذ والقوة ، فلا بد من مناجزتهم والزحف إليهم للقضاء على غيهم وتمردهم وانبرى غير واحد من اعلام المهاجرين والانصار

ص: 431


1- وفي رواية ومجادلوك
2- وقعة صفين : ص 103

فاعلنوا تأييدهم لمقالة هاشم ، وأظهروا الطاعة والانقياد للامام ، وقد اتجه بعد ذلك الى الاستعداد للحرب فراسل الوجوه وامراء القبائل وقادة الجنود يستحثهم على نصرته والخروج معه لحرب البغاة ، واستجاب الجميع لنداء الحق واعربوا عن استعدادهم الشامل لنصرته.

خطبة الحسن :

وأخذ الامام الحسن يوقظ الهمم ، ويبعث الحزم والنشاط في النفوس ويحثها على الخروج لحرب معاوية كما فعل ذلك من قبل في معركة الجمل وقد قام خطيبا بين الجماهير يدعوهم الى الجهاد وهذا نص خطابه.

« الحمد لله لا إله غيره ، وحده لا شريك له ، واثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال :

إن مما عظم اللّه عليكم من حقه ، وأسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره ، ولا يؤدى شكره ، ولا يبلغه صفة ولا قول ونحن إنما غضبنا لله ولكم ، فانه منّ علينا بما هو أهله ان نشكر فيه آلاءه وبلاءه ونعماءه ، قولا يصعد الى اللّه فيه الرضا ، وتنتشر فيه عارفة الصدق يصدق اللّه فيه قولنا ، ونستوجب فيه المزيد من ربنا ، قولا يزيد ولا يبيد ، فانه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد امرهم ، واستحكمت عقدتهم. فاحتشدوا فى قتال عدوكم معاوية وجنوده ، فانه قد حضر. ولا تخاذلوا فان الخذلان يقطع نياط القلوب ، وإن الاقدام على الاسنة نجدة وعصمة لأنه لم يمتنع (1) قوم قط الا رفع اللّه عنهم العلة ، وكفاهم جوائح (2) الذلة ، وهداهم الى معالم الملة ، ثم انشد.

ص: 432


1- الامتناع : العزة والقوة.
2- الجوائح : - جمع مفردة جائحة - وهي الدواهي والشدائد

والصلح تأخذ منه ما رضيت به *** والحرب يكفيك من انفاسها جرع (1)

وحفل خطابه البليغ بالدعوة الى الوحدة والتعاون ، وبذل الجهود لمحاربة القوى الباغية ، وقد استجاب الناس لدعوته فخفوا سراعا لنصرة الحق والدفاع عن الاسلام.

الحسن مع سليمان :

وكان بعض زعماء العراق قد اعتزل معركة الجمل ، ولم يقم بنجدة الامام ومن بينهم سليمان بن صرد الخزاعي (2) وقد وجه الامام امير المؤمنين إليه - بعد انقضاء الحرب - أعنف اللوم والتقريع فقد قال له :

« أرتبت وتربصت وراوغت ، وقد كنت من أوثق الناس في نفسي وأسرعهم - فيما أظن - الى نصرتي فما قعد بك عن أهل بيت نبيك ، وما زهدك في نصرهم؟؟ »

ص: 433


1- البيت للعباس بن مرداس السلمى كما في الخزانة ( 2 / 82 )
2- سليمان بن صرد الخزاعي الكوفي كان من ذوى الوجاهة والشرف فى قومه ، وقد روى عن النبي وعن امير المؤمنين والحسن ، وهو احد الذين كتبوا الى سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) بالقدوم الى الكوفة ، ولما استجاب الامام لندائهم تخلف سليمان عنه ، وبعد ما روع الاسلام بقتل حفيد الرسول ندم سليمان وجماعة من قومه على عدم قيامهم بنصرته فهبوا للطلب بثأره ، وساروا حتى التقوا بالاثيم الوغد عبيد اللّه بن زياد في موضع يقال له : « عين الوردة » فوقعت الحرب بينهم فقتل سليمان ومن معه وذلك في ربيع الآخر سنة خمس وستين ، وكان عمره ثلاثا وتسعين عاما ، تهذيب التهذيب 4 / 200

وضاق سليمان ذرعا بتأنيب الامام له فقال له :

« يا أمير المؤمنين .. لا تردن الأمور على أعقابها ، ولا تؤنبني بما مضى منها ، واستبق مودتي تخلص لك نصيحتي ، وقد بقيت امور تعرف فيها وليك من عدوك .. »

ثم قام مسرعا إلى الامام الحسن ليعرض عليه حديث أبيه فقال له :

« ألا أعجبك من أمير المؤمنين وما لقيت منه من التبكيت والتوبيخ!! » وانطلق الحسن فتكلم معه برفق ولين ليزيل ما في نفسه من وجد قائلا :

« إنما يعاتب من ترجى مودته ونصيحته .. »

ولكن سليمان بقي على ثورته فقد لذعته مرارة العتب والتقريع فقال للامام الحسن :

« إنه بقيت أمور سيستوسق فيها القنا (1) وينتضى فيها السيوف ، ويحتاج فيها الى اشباهي ، فلا تستغشوا عتبى ، ولا تهموا نصيحتي .. »

فهدأ الحسن روعه ، واعرب له عن ثقته به فقال له :

« رحمك اللّه : ما أنت عندنا بالظنين .. » (2)

وهدأت ثورة سليمان ، وسكن روعه لما قابله الامام الحسن بالرفق وسجاحة الطبع ، وقد استطاع الحسن أن يزيل ما في نفسه من الم الوجد ويرجعه الى صفوف المجاهدين.

المسير الى صفين :

ولما توفرت القوى العسكرية للامام تهيأ للخروج الى صفين ، وأمر

ص: 434


1- الاستيساق : الاجتماع
2- وقعة صفين : ص 9 - 10

الحارث بن الأعور أن ينادي في الناس بالخروج إلى معسكرهم في النخيلة فنادى فيهم بذلك فعجت الكوفة بالنفار ، وخرج الامام تحف به صحابة النبي وقد زحفت معه الكتائب كأنها السيل وهي ما بين راكب وراجل ، وهم يعرفون القصد في خروجهم فانهم خرجوا لنصرة الحق ومحاربة اعداء الاسلام وخصومه.

ولزمت جيوش الامام الفرات فى زحفها السريع فلما انتهت الى الانبار استقبلها أهلها ثم جاءوا يهرعون إلى الامام فتنكر منهم وقال لهم :

« ما هذه الدواب التي معكم؟ وما أردتم بهذا الذي صنعتم؟ .. »

فقالوا وهم يبدون عظيم الولاء ومزيد التكريم.

« يا أمير المؤمنين. أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الامراء وأما هذه البراذين فهدية لك ، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاما وهيأنا لدوابكم علفا كثيرا .. »

فزجرهم الامام ونهاهم عن ذلك فقال :

« أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون به الامراء ، فو اللّه ما ينفع هذا الامراء ، وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم ، فلا تعودوا له. وأما دوابكم هذه فان أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم. وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فانا نكره أن نأكل من أموالكم شيئا الا بثمن .. »

هذا هو منطق العدل الذي سار عليه ابن أبي طالب فلم يسمح للمهرجانات ولا لسائر المظاهر التي اعتادها الملوك والأمراء لأن فيها جهدا للرعية وتعظيما للامراء وهم في نظر الاسلام لا ميزة لهم على بقية أفراد الشعب واندفع الانباريون فقالوا له :

ص: 435

« يا أمير المؤمنين نقومه - اي الطعام - ثم نقبل ثمنه »

« لا تقومونه قيمته »

ثم تركهم وانصرف عنهم (1) وسارت جيوشه تطوى البيداء حتى انتهت الى صفين فانزلها الامام بإزاء اصحاب معاوية.

القتال على الماء :

ولم يجد أصحاب الامام على الفرات شريعة يستقون منها الماء إلا وعليها الحرس الكثير وهم يمانعونهم أشد الممانعة من الوصول إليه فاقبلوا الى الامام يخبرونه بذلك فدعا صعصعة بن صوحان وقال له :

« ائت معاوية فقل : إنا سرنا مسيرنا هذا وأنا أكره قتالكم قبل الاعذار إليكم ، وإنك قدمت بخيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ، وبدأتنا بالقتال ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ، ونحتج عليك. وهذه اخرى قد فعلتموها ، حتى حلتم بين الناس وبين الماء. فخل بينهم وبينه حتى ننظر فيما بيننا وبينكم ، وفيما قدمنا له وقدمتم. وان كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له وندع الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا .. »

وانطلق صعصعة الى معاوية فعرض عليه كلام الامام فاستشار اصحابه فقال له الوليد بن عقبة :

« امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان : حصروه اربعين يوما يمنعونه برد الماء ، ولين الطعام ، اقتلهم عطشا قتلهم اللّه ... »

وأشار عليه ابن العاص بالسماح لهم ولكن الوليد اعاد مقالته ،

ص: 436


1- وقعة صفين : ص 160 / 161

وانبرى عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح فقال له :

« امنعهم الماء الى الليل ، فانهم إن لم يقدروا عليه رجعوا ، وكان رجوعهم هزيمتهم. امنعهم الماء منعهم اللّه يوم القيامة .. »

فثار صعصعة ولم يسعه السكوت فقال له :

« إنما يمنعه اللّه يوم القيامة الكفرة الفجرة شربة الخمر ، ضربك وضرب هذا الفاسق - واشار الى الوليد - .. » وتواثبوا عليه يشتمونه ويتهددونه ، فأمرهم معاوية بالكف عنه ، ورجع صعصعة ولم تنتج سفارته شيئا ، فخف الى الامام الأشعث بن قيس (1) فقال له :

« يا أمير المؤمنين. أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا ومعنا السيوف

ص: 437


1- الاشعث بن قيس الكندي وفد على رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) مع قومه وكان زعيمهم في السنة العاشرة من الهجرة فاسلم واسلم معه قومه ، ولما توفى النبيّ ارتد الاشعث عن الاسلام ثم رجع إليه في خلافة ابى بكر ، فزوجه ابو بكر اخته أمّ فروة بنت ابي قحافة ، وهي أمّ محمد بن الاشعث ولما مات ابو بكر خرج الاشعث ، مع سعد بن ابي وقاص الى القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند. وبنى له دارا بالكوفة في محلة كندة فنزلها هلك سنة اثنتين واربعين من الهجرة وقيل سنة اربعين وصلى عليه الامام الحسن الاستيعاب 1 / 1. وجاء في شرح النهج 1 / 130 ان الاشعث طمع بالملك بعد وفاة النبي فدعا قومه ان يتوجوه فاجابوه لذلك فحارب المسلمين مع المرتدين حتى حوصر في حصنه اياما ولما يئس من الغلبة استسلم على ان يصان دمه ودم عشرة من اصحابه فاعطاه المسلمون ذلك ونجا من القتل واسف ابو بكر على عدم قتله فقال عند احتضاره : وددت اني يوم جيء بالاشعث كنت ضربت عنقه فانه يخيل لي انه لا يرى شرا الا اعان عليه.

خل عنا وعن القوم فو اللّه لا نرجع حتى نرده أو نموت. ومر الاشتر فليعل بخيله فيقف حيث تأمره .. »

فمنحه الامام الأذن ، ولما ظفر الاشعث بذلك رجع الى قومه وهو يهتف بهم :

« من كان يريد الماء او الموت فميعاده الصبح ، فانى ناهض الى الماء .. ».

فأجابه اثنا عشر الفا ، فلما رآهم قام مزهوا يشد عليه لامة حربه وهو يقول :

ميعادنا اليوم بياض الصبح *** هل يصلح الزاد بغير ملح

لا لا ، ولا أمر بغير نصح *** دبوا الى القوم بطعن سمح

مثل العزالى بطعان نفح (1)

لا صلح للقوم واين صلحى *** حسبي من الاقحام قاب رمح

ولما اندلع لسان الصبح دبت جماهير العراقيين الى الاشعث فحمل بهم على أهل الشام وهو يقول لقومه :

« بأبي أنتم وأمي تقدموا قاب رمحي .. » (2)

ولم يزل يهتف بقومه ، ويبعث في نفوسهم روح العزم والنشاط حتى خالطوا أهل الشام ، وصاح بهم الاشعث :

« خلوا عن الماء .. »

ص: 438


1- العزالى : - جمع عزلاء بالفتح - فم المزادة شبه بها اتساع الطعنة واندفاق الدماء منها ، النفح : الدفع ، وطعنة نفاحة دفاعة بالدم
2- قاب رمحي : اي قدره

فأجابه أبو الأعور السلمي (1) : بعدم السماح لهم ، وهجم الاشعث ومن معه على صفوف أهل الشام فار الوهم عن الفرات والحقوا بهم خسائر فادحة في الاموال والنفوس ، ولما ملك العراقيون الفرات سمح الامام لأهل الشام أن يردوا منه ، ولم يكل لهم صاعا بصاع ولم يعمل معهم الا عمل المحسن الكريم.

ايفاد السفراء الى معاوية :

وقبل أن يدق جرس الحرب أوفد الامام رسل السلام الى معاوية كما اوفدهم من قبل في معركة الجمل رجاء في الصلح وحقن الدماء ، والذين بعثهم للقياهم : عدى بن حاتم ، وشبث بن ربعي ، ويزيد بن قيس ، وزياد بن حفصة ، فتكلم معه عدى بن حاتم فقال له :

« أما بعد : فانا أتيناك لندعوك الى أمر يجمع اللّه به كلمتنا وأمتنا ويحقن به دماء المسلمين ، وندعوك الى افضلها سابقة واحسنها في الاسلام آثارا (2) وقد اجتمع له الناس ، وقد ارشدهم اللّه بالذي رأوا ، فلم يبق احد غيرك وغير من معك ، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك اللّه واصحابك بمثل يوم الجمل .. »

ص: 439


1- ابو الأعور السلمي : هو عمرو بن سفيان قال ابو حاتم الرازي لا يعد من الصحابة ولا تصح روايته ، شهد حنينا وهو كافر ثم اسلم ، وكان من اشد الناس على الامام في صفين ، وكان الامام يدعو عليه في قنوته في صلاة الغداة الاستيعاب 4 / 14
2- وجاء في تأريخ الطبري : ان ابن عمك سيد المسلمين افضلها سابقة واحسنها في الاسلام آثارا.

وهي دعوة حق لو وعاها ابن هند واستجاب لها لحقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم ولكنه آثر مصالحه على ذلك فقال لعدى :

« كأنك إنما جئت متهددا ولم تأت مصلحا. هيهات يا عدي. كلا واللّه لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان (1) أما واللّه إنك لمن المجلبين على ابن عفان ، وانك لممن قتلته ، وإني لارجو أن تكون ممن يقتله اللّه. هيهات يا عدى قد حلبت بالساعد الاشد .. »

لقد اظهر له الغي والتمرد والإيثار للحرب وذلك لما يتمتع به من القوى العسكرية والقدرة على مناجزة الامام وتكلم معه يزيد بن قيس فقال له :

« إنا لم نأتك الا لنبلغك ما بعثنا به إليك ، ولنؤدى عنك ما سمعنا منك ، لن ندع أن ننصح لك ، وأن نذكر ما ظننا أن لنا به عليك حجة او أنه راجع بك الى الالفة والجماعة. إن صاحبنا لمن قد عرفت وعرف المسلمون فضله ، ولا أظنه يخفى عليك : إن أهل الدين والفضل لن يعدلوك بعلي ولن يميلوا بينك وبينه (2) فاتق اللّه يا معاوية ، ولا تخالف عليا ، فانا واللّه ما رأينا رجلا قط اعمل بالتقوى ، ولا ازهد في الدنيا ، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه .. »

إن معاوية يعلم فضل أمير المؤمنين ولكن احقاده واطماعه يحولان بينه وبين الحق فآثر حربه ومناجزته فاجاب القوم قائلا :

« أما بعد : فانكم دعوتم الى الطاعة والجماعة. فأما الجماعة التي

ص: 440


1- الشنان : جمع شن ، وهو القربة الخلق فقد كانوا يحركونها اذا ارادوا حث الابل على المسير.
2- التمييل بين الشيئين الترجيح بينهما.

دعوتم إليها فنعما هي. وأما الطاعة لصاحبكم فانا لا نراها. إن صاحبكم قتل خليفتنا ، وفرق جماعتنا ، وآوى ثأرنا ، وقتلتنا ، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد ذلك عليه ، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون انهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به ونحن نجيبكم الى الطاعة والجماعة .. »

وحفل كلام ابن هند بالاكاذيب والاغاليط فقد أتهم الامام بقتل عثمان وهو يعلم ببراءته منه ، فقد قتله خيار المسلمين لما انحرف عن الحق وغيّر كتاب اللّه - كما ذكرنا ذلك عند عرض احداثه - وقد انبرى إليه شبث بن ربعي (1)

فقال له :

« أيسرك باللّه يا معاوية إن أمكنت من عمار بن ياسر فقتلته؟ »

وقد عرض شبث لمعاوية اعظم شخصية اسلامية ثارت على عثمان وهو عمار بن ياسر فهل يقتص منه إن ظفر به ، فقال له معاوية.

« وما يمنعني من ذلك؟ واللّه لو امكنني صاحبكم من ابن سمية ما قتلته بعثمان ، ولكن كنت اقتله بنائل مولى عثمان بن عفان .. »

وما الذي يمنع معاوية من قتل عمار لو ظفر به في سبيل الملك والبغي على الاسلام ، وثار شبث حينما سمع مقالته فقال له :

« لا واللّه الذي لا إله إلا هو لا تصل الى قتل ابن ياسر حتى تنذر

ص: 441


1- شبث بن ربعي التميمي كان مؤذنا لسجاح التي ادعت النبوة ثم اسلم ، وصار من اصحاب امير المؤمنين ، ثم صار مع الخوارج ثم تاب عن ذلك ، وكان هذا الاثيم ممن اشترك في قتل سيد الشهداء ، هلك في حدود السبعين من الهجرة ، الاصابة 2 / 163

الهام عن كواهل الرجال ، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها .. »

ورجع القوم وهم خافقون في سفارتهم لم يستجب لهم معاوية فقد رأوا أنه مصمم على الحرب وممعن في البغي والتمرد فجعلوا يدعون الناس للحرب ، ويحرضونهم على مناجزة معاوية.

اعلان الحرب :

ولما اخفقت جميع الوسائل التي اتخذها الامام من أجل السلم تهيأ للحرب ، وقد اصدر تعاليمه الى عموم جيشه وقد جاء فيها :

« لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم ، فانتم بحمد اللّه على حجة ، وترككم قتالهم حجة اخرى ، فاذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثلوا بقتيل ، فاذا وصلتم الى رجال القوم فلا تهتكوا سترا ، ولا تدخلوا دارا إلا بأذني ، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في معسكرهم ، ولا تهيجوا امرأة وإن شتمن أعراضكم ، وتناولن امراءكم وصلحاءكم فانهن ضعاف القوى والانفس والعقول .. »

هذه خطته التي رسمها لجيشه وهي تمثل ما يكنه في نفسه من الرحمة والرأفة وحب الخير حتى لاعدائه ومناوئيه.

وعقد الامام الالوية ، وأمرّ الأمراء فاستعمل على الخيل عمار بن ياسر ، وعلى الرجالة عبد اللّه بن بديل ، ودفع اللواء الى هاشم المرقال ، وجعل على الميمنة الاشعث بن قيس وعلى الميسرة عبد اللّه بن عباس ، وعقد ألوية القبائل فاعطاها لأعيانهم ، وكذلك عبأ معاوية أصحابه على راياتهم فاستعمل عبيد اللّه بن عمر على الخيل ، وعلى الرجالة مسلم بن عقبة المري

ص: 442

وعلى الميمنة عبيد اللّه بن عمرو بن العاص وعلى الميسرة حبيب بن مسلم الفهرى ، واعطى اللواء عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وجعل على اهل دمشق الضحاك بن قيس الفهرى.

وجعلت كتائب من جيش الامام نخرج الى فرق أهل الشام فيقتتل الفريقان نهارا كاملا أو طرفا منه ، ولم يرغب الامام في أن تقع حرب عامة بين الفريقين رجاء أن يجيب خصمه الى الصلح ، ويثوب الى الرشاد ، ودام على هذا الحال حفنة من الايام حتى أطل شهر المحرم وهو من الاشهر التي يحرم القتال فيها في الجاهلية والاسلام فتركوا القتال فيه ، وتوادعوا شهرهم كله وأتيح للقوم أن يلتقوا فيه آمنين من دون أن تقع بينهم أي حرب ولكن كان بينهم أعنف الجدال واشد الخصام يدعو العراقيون أهل الشام الى جمع الكلمة وإلى العمل بكتاب اللّه ومبايعة وصي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ويدعوهم أهل الشام الى الطلب بدم عثمان ورفض بيعة الامام ، ولما انقضى شهر المحرم مضى القوم على حربهم كما كانوا قبله ، وجعل مالك الاشتر ينظر الى رايات أهل الشام ويتأملها فاذا هي رايات المشركين التي خرجت لحرب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) فاندفع يخاطب قومه قائلا :

« أكثر ما معكم رايات كانت مع رسول اللّه ، ومع معاوية رايات كانت مع المشركين على عهد رسول اللّه فما يشك فى قتال هؤلاء الا ميت القلب .. »

واندفع عمار بن ياسر فجعل يبين للمسلمين واقع معاوية ويحرضهم على قتاله قائلا :

« يا أهل الاسلام (1) أتريدون أن تنظروا الى من عادى اللّه ورسوله

ص: 443


1- وفي رواية يا اهل الشام

وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين ، فلما أراد اللّه أن يظهر دينه ، وينصر رسوله أتى النبي فأسلم وهو واللّه فيما يرى راهب غير راغب وقبض اللّه رسوله وإنا واللّه لنعرفه بعداوة المسلم ومودة المجرم ، الا وانه معاوية فالعنوه لعنه اللّه ، وقاتلوه فانه ممن يطفئ نور اللّه ويظاهر اعداء اللّه .. »

إن معاوية قبل أن يسلم قد عادى اللّه ورسوله ، وبغى على المسلمين وما اسلم الا خوفا من حد السيوف التي أخذت اسرته ، وقد اضمر الشرك والنفاق والبغي على الاسلام والمسلمين فلما وجد أعوانا نهض بهم لمحاربة أخي رسول اللّه وباب مدينة علمه.

الحسن مع عبيد اللّه

وحاول معاوية أن يلعب دورا مع الامام الحسن فبعث إليه عبيد اللّه ابن عمر (1) يمنيه بالخلافة ويخدعه حتى يترك أباه فانطلق عبيد اللّه فقال له :

- لي إليك حاجة

- نعم .. ما تريد؟

- إن أباك قد وتر قريشا أولا وآخرا ، وقد شنئوه فهل لك ان تخلعه ونوليك هذا الامر؟ نعم ان الامام قد وترهم ولكن فى سبيل الاسلام فقد حاولوا لف لوائه ، فناجزهم الامام فقتل جبابرتهم ، وأباد طغاتهم

ص: 444


1- عبيد اللّه بن عمر بن الخطاب ولد على عهد رسول اللّه ولم يرو عنه شيئا ، وهو الذي قتل الهرمزان وجفينة وقد توعده الامام باقامة الحد عليه ان ظفر به ، التحق بمعاوية فى صفين ، وخرج في بعض ايامها وعليه جبة خز وسواك وهو يقول : « سيعلم علي غدا اذا التقينا » فقال الامام دعوه فانما دمه دم بعوضة ، وقد قتل بصفين ، الاستيعاب 2 / 431

وهزم جموعهم ، وهم من أجل ذلك يحملون له حقدا وعداء ، ولما سمع الامام مقالته صاح به وقد لذعته عقرب الخيانة فقال له :

« كلا واللّه لا يكون ذلك!! »

والقى الامام الحسن عليه نظرة غضب واستياء ، وأخبره انه سيلاقي حتفه عما قليل فقال له :

« لكأنّي انظر إليك مقتولا فى يومك أو غدك. أما ان الشيطان قد زين لك ، وخدعك حتى اخرجك مخلقا بالخلوق (1) ترى نساء أهل الشام موقفك ، وسيصرعك اللّه ويبطحك لوجهك قتيلا .. »

ورجع عبيد اللّه الى معاوية وهو خائب حسير وقد اخفق في مهمته وأخبره بحديث الامام فقال معاوية متبهرا :

« انه ابن أبيه!! » (2)

وخرج عبيد اللّه في ذلك اليوم الى ساحة الحرب يقاتل مع الجبهة المعادية للاسلام فلاقى حتفه سريعا على يد فذ نبيل من همدان ، واجتاز الامام الحسن فى ساحة المعركة فرأى رجلا قد توسد رجلا قتيلا وقد ركز رمحه في عينه وربط فرسه في رجله ، فقال الحسن لمن حوله : انظروا من هذا؟ فأخبروه أن الرجل من همدان ، وان القتيل عبيد اللّه بن عمر ، فسر بذلك وقال مبتهجا : الحمد لله على ذلك (3) وقد قضى عبيد اللّه نهايته الأخيرة وهو معاد لله ورسوله ، وباغ على الاسلام ، وخارج على امام المسلمين.

ص: 445


1- الخلوق : الطيب
2- البحار
3- وقعة صفين : ص 334

الحرب العامة :

واستمرت المناوشات بين الفريقين أمدا غير يسير من دون أن تقع بينهما حرب عامة ، وقد سئم كل منهما هذه المطاولة التي لم تكن تجدي شيئا فانه لم يكن هناك أي أمل في الاصلاح والوئام وجمع الكلمة ، وإنما كانت هذه المطاولة تزيد الفتنة امتداد والشر انتشارا ، فلما رأى الامام ذلك عبأ أصحابه وتهيأ للحرب العامة ، ولما رأى معاوية ذلك فعل مثل فعله ، والتقى كل منهما بالآخر ، وبادر الحسن ليحمل على صفوف أهل الشام فلما بصر به الامام ذهل وأريع وقال لمن حوله :

« املكوا عنى هذا الغلام لا يهدنى (1) فانني أنفس (2) بهذين - يعنى الحسن والحسين - لئلا ينقطع بهما نسل رسول اللّه .. (3)

واستعرت نار الحرب ، واشتد أوارها حتى جفل الناس وخيم عليهم الذعر والموت ، وقد انكشفت ميمنة الامام ، وتضعضع قلب الجيش وبدت الهزيمة فيه فدعا سهل بن حنيف فلما مثل بين يديه أمره أن يلتحق بمن معه في الميمنة ، فامتثل ما أمر به فحملت عليهم جيوش أهل الشام فكشفتهم ورجعوا منهزمين الى الميسرة ، وانكشفت عن الميسرة مضر وثبتت ربيعة فيها ، وإن قائلهم ليقول : « يا معشر ربيعة ، لا عذر لكم بعد اليوم عند العرب إن أصيب أمير المؤمنين وهو فيكم. »

تحالفت ربيعة على الموت وثبتت فى الميدان وهي رابطة الجاش لا تبالى

ص: 446


1- يهدني : اي يهلكني.
2- انفس : ابخل.
3- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 212

بالحمام قد أخذت على عاتقها أن تقوم بنصرة الحق وتفدى ارواحها للامام وكان الامام معهم يحمل على اعدائه وقد مطرت عليه سهام القوم ، وكان ابناؤه يقونه بأنفسهم ولم يفارقه أحد منهم ، وبصر به حين اشتباك الأسنة مولى لبني أميّة يدعى بأحمر بن كيسان فجاء كالكلب نحو الامام وهو يقسم على قتل الامام قائلا :

« ورب الكعبة قتلني اللّه ان لم أقتلك أو تقتلنى »

فانبرى إليه مولى للامام يدعى بكيسان فبدر إليه الكلب المهاجم فأرداه صريعا على الارض يتخبط بدمه ، وجعل الخبيث يشتد نحو الامام فتناوله الامام بيده وحمله على عاتقه ثم ضرب به الارض فكسر منكبه وعضديه وشد عليه الحسين ومحمد فقتلاه.

ودنا الامام من جموع اهل الشام فخاف الحسن أن يغتال العدو أباه فقال له :

« لو سعيت حتى تنتهى الى هؤلاء الذين قد صبروا لعدوك ( يعني بهم ربيعة ) من اصحابك. »

وعرف الامام مغزى كلام الحسن فقال له برفق ولين :

« يا بني .. إن لأبيك يوما لن يعدوه ولا يبطئ به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي ، ان اباك واللّه ما يبالى أوقع على الموت أو وقع الموت عليه. »

واقبل الأشتر يركض وهو مذهول اللب مندهش الفكر لما انهزمت الكتائب وولت على اعقابها خوفا من الموت ، فلما بصر الامام به قال له :

- يا مالك.

- لبيك.

ص: 447

- ائت هؤلاء القوم فقل لهم : اين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه الى الحياة التي لا تبقى لكم.

مضى الاشتر الى المنهزمين فالقى عليهم رسالة الامام فهدأ روعهم ثم قال معرفا لهم بشخصيته.

- أنا مالك بن الحارث. أنا مالك بن الحارث.

وخطر له أن هذا الاسم غير كاف لهم فى تعريفه فقال معرفا نفسه بما اشتهر به.

- أنا الأشتر.

فبادرت فصيلة من الناس إليه فهتف فيهم بنبرات تقطر حماسا وعزما قائلا :

« أيها الناس. عضضتم بهن آبائكم ، ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم. »

ثم هتف ثانيا قائلا :

« أخلصوا لى مذحجا. »

فأنبرت إليه مذحج. فقال لها :

« عضضتم بصم الجندل ، ما ارضيتم ربكم ولا نصحتم له في عدوكم وكيف بذلك وانتم ابناء الحروب ، واصحاب الغارات ، وفتيان الصباح ، وفرسان الطراد ، وحتوف الأقران ، ومذحج الطعان الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم ولا تطل دماؤهم ، ولا يعرفون في موطن بخسف ، وأنتم حد أهل مصركم واعد حي في قومكم ، وما تفعلون فى هذا اليوم فانه مأثور بعد اليوم ، فاتقوا ماثور الاحاديث في غد ، واصدقوا عدوكم اللقاء فان اللّه مع الصادقين ، والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء ( وأشار لأهل الشام ) رجل على مثال جناح بعوضة من محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) أنتم ما احسنتم

ص: 448

القراع ، اجلوا سواد وجهي دمى ، عليكم بهذا السواد الأعظم ، فان اللّه عز وجل ، لو قد فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع مؤخر السيل مقدمه! »

لقد هيمن الزعيم مالك على النفوس واستولى عليها بخطابه الحماسي الرائع فقد بعث روح العزم والنشاط في نفوس الجيش. وتعالت الاصوات من كل جانب تعرب له الطاعة والانقياد.

- خذ - حيث احببت.

وسارعوا إليه يتسابقون نحو الموت صامدين امام العدو ، وكانت كتائب من همدان قد أبيد فريق من زعمائها وقوادها الباسلين فى المعركة وكان آخر من أخذ اللواء بيده وهب بن كريب فبادر إليه جمع من احبائه قائلين له :

« رحمك اللّه قد قتل أشراف قومك حولها - اي حول الراية - فلا تقتل نفسك ولا من بقى من قومك. »

انصرف وهب ومن معه عن ساحة الحرب وهم يطلبون فئة قوية ينضمون إليها وهتفوا امام الجموع بما يرومونه قائلين :

« ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا على الموت ثم نستقدم نحن وهم فلا ننصرف حتى نقتل أو نظفر. »

واجتازوا على الاشتر فسمع نداءهم ، فرحب بفكرتهم وقال لهم.

« أنا أحالفكم واعاقدكم على ان لا نرجع ابدا حتى نظفر أو نهلك » وابتهجوا بكلام الاشتر وانضمونا تحت لوائه ، وفي فعلهم هذا يقول كعب بن جعيل : « وهمدان زرق تبتغي من تحالف »

وهجم الأشتر بمن معه من البهاليل على جموع أهل الشام فكانوا أمام بواترهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، وظهر الضعف في

ص: 449

جيش معاوية وكاد اصحاب معاوية يبلغون فسطاطه وهمّ معاوية بالفرار لو لا أن ذكر قول ابن الاطنابة :

أبت لى عفتي وحياء نفسي *** وإقدامي على البطل المشيح

وإعطائي على المكروه مالي *** واخذى الحمد بالثمن الربيح

وقولى كلما جشأت وجاشت *** مكانك تحمدى أو تستريحي

فرده ذلك الشعر الى الصبر والثبات كما كان يتحدث بذلك ايام العافية.

مصرع عمار :

ولما رأى الصحابي العظيم عمار بن ياسر الرءوس تتساقط ، والارض قد صبغت بالدماء أخذ يناجى نفسه قائلا :

« صدق رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) هؤلاء القاسطون ، إنه اليوم الذي وعدني فيه رسول اللّه ، إني قد أربيت على التسعين فما ذا انتظر؟! رحماك ربي قد اشتقت الى إخواني الذين سبقوني بالايمان إليك .. سأمشي الى لقاء ربي مجاهدا أعداءه بين يدي وليه ووصيي رسوله وخليفته من بعده ، فاني أراه اليوم الذي وعدني به رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ... »

وأطال النظر في رايات معاوية فانطلق يقول : « إن مراكزنا على مراكز رايات رسول اللّه يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين ، وإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الاحزاب .. » (1)

وتمثلت أمامه في ذلك اليوم صفحات من تأريخه البعيد والقريب ، فعرضت له صورة أبويه ياسر وسمية وهما يعذبان أعنف التعذيب وأمره

ص: 450


1- شرح ابن ابى الحديد 1 / 506

وهو شاب معهما يلاقى ما لاقياه من الارهاق على يد جبابرة قريش ففاضت روح أبويه ، وأفلت هو من التعذيب ، وتذكر ما عناه فى شيخوخته من عثمان من التنكيل والتعذيب كل ذلك في سبيل مبدئه وعقيدته ، وقد اودعت هذه الذكريات في نفسه شوقا عارما الى ملاقاة اللّه فانفجر في البكاء وأخذ يناجي اللّه قائلا :

« اللّهم انك تعلم. أنى لو أعلم أن رضاك ان اضع ظبة سيفى (1) في صدري ثم انحنى عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت ، ولو اعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت ، ولو اعلم أن رضاك أن أرمى بنفسي من هذا الجبل فاتردى واسقط فعلت ، وإني لا اعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين ، ولو أعلم من الاعمال هو أرضى لك منه لفعلته. »

ثم انعطف الى أمير المؤمنين ودموعه تتبلور على كريمته الشريفة فلما رأه الامام قام إليه وعانقه واحتفى به فالتفت الى الامام.

- يا أخا رسول اللّه أتأذن لي في القتال؟

فقد قلب الامام وأريع من كلامه لانه ساعده الذي به يصول فقال له بصوت راعش النبرات.

مهلا يرحمك اللّه!

انصرف عمار فلم يلبث الا قليلا حتى عرضت له تلك الذكريات فحفزته الى لقاء اللّه فرجع الى الامام قائلا :

- اتأذن لي فى القتال؟

- مهلا يرحمك اللّه

ص: 451


1- الظبة : حد السيف او السنان جمع ظبات

ومضى فلم يمكث الا برهة حتى عاوده الشوق الى لقاء احبائه الذين سبقوه الى الايمان فكر راجعا الى الامام فقال له :

« أتأذن لي بالقتال؟ فانى أراه اليوم الذي وصفه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وقد اشتقت الى لقاء ربي والى اخواني الذين سبقوني. »

فلم يجد الامام بدا من اجابته فقام إليه وعانقه وقد ذابت نفسه اسى وحسرات وقال له :

« يا أبا اليقظان. جزاك اللّه عنى وعن نبيك خيرا فنعم الاخ كنت ونعم الصاحب. »

واجهش الامام بالبكاء وبكى عمار لبكائه وقال له :

« واللّه يا أمير المؤمنين ما تبعتك الا ببصيرة فانى سمعت رسول اللّه يقول يوم حنين : « يا عمار ستكون بعدي فتنة فاذا كان كذلك فاتبع عليا وحزبه ، فانه مع الحق والحق معه ، وسيقاتل بعدي الناكثين والقاسطين » فجزاك اللّه يا أمير المؤمنين عن الاسلام أفضل الجزاء فلقد أديت ، وبلغت ونصحت .. »

ثم تقدم عمار الى ساحة الشرف وميدان القتال وهو جذلان مسرور بملاقاة اللّه وقد استرد قوته ونشاطه ، وارتفع صوته عاليا وهو يقول :

« الجنة تحت ظلال العوالي ، اليوم القى الأحبة محمدا وحزبه .. »

وتبعه المهاجرون والانصار والشباب المؤمن فانعطف بهم الى القائد العام هاشم بن عتبة المرقال (1) فطلب منه أن يتولى القيادة فاجابه إلى

ص: 452


1- هاشم بن عتبة بن ابي وقاص الزهري القرشي يكنى ابا عمرو ويعرف بالمرقال اسلم يوم فتح مكة ، كان من ذوي الفضيلة والدين وفي طليعة شجعان العرب فقئت عينه في واقعة اليرموك بالشام ، وهو الفاتح لجلولاء من بلاد الفرس ، وكانت جلولاء تسمى فتح الفتوح بلغت غنائمها ثمانية عشر الف الف ، كان على الرجالة في واقعة صفين فقطعت رجله فجعل يقاتل كل من دنا إليه وهو بارك وهو يقول : « الفحل يحمى شوله معقولا » وفيه يقول ابو الطفيل عامر بن وائلة : يا هاشم الخير جزيت الجنة *** قاتلت في اللّه عدو السنة اسد الغابة 5 / 49

ذلك وحمل هاشم فجعل عمار يحثه على الهجوم وهو يقول له :

« احمل فداك أبي وأمي .. »

وجعل هاشم يزحف باللواء زحفا فضاق على عمار ذلك لأنه في شوق عارم لملاقاة اللّه والوفود على حبيبه محمد فوجه لهاشم اعنف التقريع قائلا له :

« يا هاشم. أعور وجبان؟ »

وثقل على هاشم هذا العتاب المر فقال له :

« رحمك اللّه يا عمار. إنك رجل تأخذك خفة في الحرب ، وإني إنما أزحف باللواء زحفا أرجو أن أنال بذلك حاجتي ، وإني إن خففت لم آمن الهلكة. »

وما زال عمار بهاشم يحرضه ، ويحثه على الهجوم حتى حمل وهو يرتجز :

قد أكثروا لومي وما أقلا *** إني شريت النفس لن اعتلا

أعور يبغى نفسه محلا *** لا بد أن يفل أو يفلا

قد عالج الحياة حتى ملا *** أشدهم بذى الكعوب شلا

فجال هاشم فى ميد القتال ، وعمار يقاتل معه فنظر الى راية ابن العاص فجعل يقول :

ص: 453

« واللّه إن هذه الراية قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن. »

وجعل يقاتل أشد القاتل وهو موفور النشاط خفيف الحركة وهو يرتجز ويقول :

نحن ضربناكم على تنزيله *** واليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق الى سبيله

لقد قاتل عمار قريشا مع النبي على الاقرار بكلمة التوحيد واليوم يقاتلهم على الايمان بما في القرآن وعلى التصديق بما جاء به الاسلام.

وبعد كفاح رهيب سقط عمار الى الارض صريعا قد قتلته الفئة الباغية (1) التي طبع على قلوبها بالزيغ ، ونسيت ذكر اللّه فسبحت في ظلام قاتم ، ولما أذيع خبر مقتله انهد ركن الامام ، واحاطت به موجات وموجات من الهموم والأحزان لأنه فقد بمقتله كوكبة من الاعوان والانصار ومشى لمصرعه حزينا باكيا تحف به قواد الجيش وأمراء القبائل والبقية الصالحة من المهاجرين والانصار ، وهم يهرقون الدموع وعلا منهم النحيب والبكاء ، ووقف الامام عليه فلما رأه صريعا متخبطا بدمه انهارت قواه وجعل يؤبنه بكلمات تنم عن قلب موجع قائلا :

« إن امرأ من المسلمين لم يعظم عليه قتل ابن ياسر ، وتدخل عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد. رحم اللّه عمارا يوم اسلم ، ورحم اللّه عمارا يوم قتل ، ورحم اللّه عمارا يوم يبعث حيا. لقد رأيت عمارا وما

ص: 454


1- قتله ابو العادية وكان يدخل على معاوية فيقول لحاجبه قاتل عمار بالباب فياذن له ، اسد الغابة 5 / 267 واثر عن النبي انه قال : لو ان عمارا قتله اهل الارض لدخلوا النار.

يذكر من أصحاب رسول اللّه أربعة الا كان رابعا ، ولا خمسة إلا كان خامسا. وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول اللّه يشك أن عمارا قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا اثنين. فهنيئا لعمار بالجنة .. »

وأخذ الامام رأس عمار ووضعه في حجره وجعل ينظم ذوب الحشا وهو يقول :

ألا أيها الموت الذي ليس تاركي *** أرحنى فقد أفنيت كل خليل

أراك بصيرا بالذين أحبهم *** كأنك تسعى نحوهم بدليل

ووقف الامام الحسن واجما مستعبرا عند مصرع الشهيد العظيم الذي ساهم في بناء الاسلام فأخذ يتلو على المسلمين ما سمعه من جده النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) في فضله والاشادة بعظيم منزلته فقال (عليه السلام) : ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) قال لاصحابه : « ابنوا لى عريشا كعريش موسى » وجعل يتناول اللبن من قومه ، وهو يقول : اللّهم لا خير الا خير الآخرة ، فاغفر للانصار والمهاجرة ، وجعل يتناول اللبن من عمار ، وهو يقول : ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية.

وقال : إن جدى قال إن الجنة لتشتاق الى ثلاثة علي وعمار وسلمان » ولما اذيع خبر مقتله حدثت الفتنة والانشقاق في صفوف أهل الشام فقد سمعوا ممن سمع من رسول اللّه أنه قال : في عمار تقتله الفئة الباغية وقد حدثهم بذلك عمرو بن العاص ، وقد اتضح لهم بعد مقتله انهم هم الفئة الباغية التي عناها الرسول ، ولكن ابن العاص قد استطاع بمكره وأكاذيبه أن يزيل ذلك ، ويرجع الحياة الى مجراها الطبيعي ، فقد القى المسئولية على الامام زاعما انه هو الذي أخرجه وقتله ، واذعن جهال أهل الشام ، وصدقوا مقالته وراحوا يهتفون.

ص: 455

« انما قتل عمارا من جاء به. »

وثقل على أمير المؤمنين مقتل عمار ، وأحاطت به المآسي والشجون ، فهتف بربيعة وهمدان ، فاستجابوا له فقال لهم :

« انتم درعي ورمحي »

فأجابه اثنا عشر الفا منهم فحمل بهم وهو هائج غصبان ، فلم يبق صف لأهل الشام الا انتقض ، وأبادوا كل فصيلة انتهوا إليها حتى قربوا من فسطاط معاوية ، وكان الامام يرتجز ويقول في رجزه :

أضربهم ولا أرى معاوية *** الجاحظ العين العظيم الحاوية

ووجه خطابه الى معاوية فقال له :

علام يقتتل الناس بيننا؟ هلم احاكمك الى اللّه فأينا قتل صاحبه استقامت له الامور. »

فانبرى ابن العاص الى معاوية مستهزءا به قائلا :

- انصفك الرجل

- ما انصفت ، وانك لتعلم أنه لم يبارزه أحد إلا قتله

- وما يجمل بك الا مبارزته

- طمعت فيها بعدى (1)

واستمر القتال عنيفا بين الفريقين وهم ماضون فى الحرب لا يريحون ولا يستريحون ، وقد بان الضعف في جيش معاوية ، وتحطمت جميع كتائبه وتفللت جميع قواه حتى همّ بالفرار والانهزام.

ص: 456


1- تاريخ الطبرى 5 / 231

رفع المصاحف :

ولما رأى معاوية بسالة جيش الامام وخور جيشه ، وعجزه عن المقاومة ونهاية أمره دعا وزيره الماكر عمرو بن العاص وقد مشت الرعدة باوصاله وخيم عليه الخوف فقال له :

« إنما هي الليلة حتى يغدو علينا بالفيصل ، فما ترى؟. »

وقد اعرب عن قرب نهايته وعدم قدرته على مقاومة جيش الامام فقال له ابن العاص :

« أرى رجالك لا يقومون برجاله ، ولست مثله فهو يقاتلك على امر وأنت تقاتله على أمر آخر ، إن أهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم ، وأهل الشام لا يخافون من على إن ظفر بهم .. »

لقد حدد ابن العاص النزاع القائم بين الامام ومعاوية فالامام يقاتله من اجل الاسلام والذب عن مثله ومعاوية يقاتله من اجل الملك والسلطان فكل واحد منهما يقاتل على امر لا ينشده الآخر ، وقد اعرب له عن السر في بسالة جيش الامام وخور جيشه فجيش الامام يدافع عن كرامته وحياته لأنه على علم بنفسية معاوية واتجاهه ان تغلب عليهم فانه ينكل بهم ويصب عليهم وابلا من العذاب الأليم فلذلك كان جادا في حربه وأما جيشه فانه يعرف اتجاه الامام إن ظفر بهم فانه يقابلهم بالمعروف والاحسان وقد سمعوا عن عفوه واحسانه حينما ظفر بخصومه في واقعة الجمل. فجيش الامام لا بد أن يحوز النصر والظفر ، وقد ادلى له ابن العاص بفكرة كانت هي السبب فى تغلبه على الأحداث والسبب في تدمير جيش الامام فقال له :

ص: 457

« الق إليهم أمرا إن قبلوه اختلفوا ، وإن ردوه اختلفوا ، ادعهم إلى كتاب اللّه حكما فيما بينك وبينهم ، فانك بالغ حاجتك في القوم فاني لم أزل أؤخر هذا الأمر لحاجتك إليه .. »

ورأى معاوية الصواب في رأي ابن العاص فبادره بالتصديق والاجابة وأمر بالوقت أن ترفع المصاحف فرفعت زهاء خمس مائة مصحف على الرماح ، وارتفعت الصيحة من أهل الشام وهم يهتفون بلهجة واحدة قائلين :

« هذا كتاب اللّه بيننا وبينكم من فاتحته الى خاتمته ، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام؟ ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق؟ ومن لجهاد الروم؟ ومن للترك؟ ومن للكفار؟ .. »

لقد رفعوا المصاحف حيلة ومكرا ، وتذرعوا بها لحقن دمائهم فانهم من دون شك لا يؤمنون بما فيها ولا يحزنون على مصير الاسلام والمسلمين ولا يرجون لله وقارا ، ولا يهمهم سوى الحكم والسلطان ، ولو كان في نفوسهم بصيص من نور الاسلام لما فتحوا باب الحرب على وصيي رسول اللّه وأراقوا دماء المسلمين بغير حق.

الفتنة الكبرى :

إن من أبشع المهازل وأسوئها في التأريخ الانساني هي حيلة رفع المصاحف فقد افتتن بها الجيش العراقي ، وانقلب رأسا على عقب. فاذا بهم يخلعون الطاعة ويعلنون العصيان والتمرد من دون تفكير ولا تدبر وهم قد أشرفوا على الفتح والظفر بعدوهم الذي أراق سيلا عارما من دمائهم.

ص: 458

يا للمصيبة والأسف لقد استعلى الباطل على الحق باسم الحق ، فقد عملت مكيدة ابن العاص عملها الفظيع في قلب حكومة العدل والمساواة فقد اندفعت كتائب منهم كالسيل فأحاطوا بالامام مرغميه على الاذعان والخضوع لدعوة معاوية وهم يهتفون بلسان واحد.

« لقد اعطاك معاوية الحق ، دعاك الى كتاب اللّه فاقبل منه!! »

وكان في طليعة الهاتفين بدعوة التحكيم الأشعث بن قيس الذي كان سوسة تنخر في المعسكر العراقي ، وأداة للشغب والتمرد ، أما بواعث ذلك فانه كانت له رئاسة كندة وربيعة وقد عزله الامام عنها وجعلها لحسان ابن مخدوج ، وتكلم جماعة مع الامام فى ارجاعه وعدم عزله فابى (1) وقد أثار ذلك كوامن الحقد في نفسه على الامام وجعلته يتطلب الفرصة المواتية للانتقام وقد وجدها في تلك الفترة الرهيبة ، ومن الخطأ أن يقال إنه انخدع بدعوة معاوية فانه ليس من السذج والبسطاء حتى يخفى عليه الامر وعلى أي حال فقد جاء يشتد كأنه الكلب نحو الامام وهو يقول :

« ما أرى الناس إلا قد رضوا ، وسرهم أن يجيبوا القوم الى ما دعوهم إليه من حكم القرآن فان شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد؟ فنظرت ما يسأل. »

وأخذ يلح على الامام بان يوفده الى معاوية فامتنع من اجابته ولكنه اصر عليه اصرارا شديدا فلم يجد «ع» بدا من إجابته ، فمضى وهو يحمل شارات الشر والشقاء ، فقال لمعاوية :

« لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ »

فأجابه معاوية بالخداع والأباطيل قائلا :

ص: 459


1- وقعة صفين : ص 153

« لنرجع نحن وأنتم إلى أمر اللّه عز وجل في كتابه ، تبعثون منكم رجلا ترضون به ونبعث منا رجلا ، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب اللّه لا يعدوانه ، ثم نتبع ما اتفقا عليه. »

وانبرى مصدقا لمقالة معاوية :

« هذا هو الحق. »

وأغلب الظن ان معاوية مناه وارشاه لأنه كان يعلم بانحرافه عن أمير المؤمنين ، وقد استجاب لدعوته وقفل راجعا الى الامام وهو ينادي بالتحكيم ، فقال الامام (عليه السلام) له ولغيره من المعاندين الذين لا يجدون لذة سوى العناد والتمرد :

« عباد اللّه ، إني أحق من أجاب إلى كتاب اللّه ، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إني أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال ، إنها كلمة حق يراد بها باطل. إنهم يعرفونها ولا يعملون بها ، وما رفعوها لكم إلا خديعة ومكيدة ، اعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا. ».

لقد اعرب (عليه السلام) في كلامه كذب ما يدعيه معاويه من الانقياد إلى كتاب اللّه ، وأبان لهم عن غيهم وتمردهم عن الدين فهو أدرى بهم من غيره ، ولكن ذلك المجتمع الهزيل لم يذعن لكلام الامام واعار حديثه أذنا صماء ، فقد انبرى إليه زهاء أثنى عشر الفا من الذين يظهرون القداسة والدين وهم لا يفهمون منهما شيئا فخاطبوه باسمه الصريح منذرين ومتوعدين إن لم يخضع لما يرومونه قائلين :

ص: 460

« يا علي .. أجب القوم إلى كتاب اللّه إذ دعيت إليه ، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان ، فو اللّه لنفعلنها إن لم تجبهم. »

فأجابهم علیه السلام

« ويحكم ، أنا أول من دعا الى كتاب اللّه ، وأول من أجاب إليه وليس يحل لى ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب اللّه فلا أقبله ، إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن ، فانهم قد عصوا اللّه فيما أمرهم ، ونقضوا عهده ونبذوا كتابه ، ولكن قد اعلمتكم أنهم قد كادوكم ، وأنهم ليسوا العمل بالقرآن يريدون. »

وكلما حاول الامام إقناعهم وإفهامهم بشتى الاساليب بأنها خديعة بعد فشلهم وعجزهم عن المقاومة فلم يتمكن ، وأخذوا يصرون عليه بأن يأمر قائده الأشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب.

ورأى الامام الشرفي وجوههم وقد اجمعوا على مناجزته واحاطوا به مهددين ومنذرين فلم يجد (عليه السلام) بدا من إجابتهم فانفذ بالوقت الى الأشتر يزيد بن هانئ يأمره بالانسحاب عن الحرب ، فلما انتهى الرسول الى الاشتر وبلغه رسالة الامام ، انبرى الأشتر قائلا مقالة رجل تهمه مصلحة الأمة والنفع العام.

« قل لسيدى : ليست هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي ، إني قد رجوت اللّه أن يفتح لي فلا تعجلني. »

رجع الرسول الى الامام فأخبره بمقالة الحازم اليقظ ، وكانت إمارة الفتح والظفر قد بدت على يده وأوشك أن ينتهى الأمر ، وارتفعت الأصوات من كتائب جيشه معلنة بالفتح المبين ، فلما سمع هؤلاء المتمردون ذلك أحاطوا بالامام قائلين له :

ص: 461

واللّه ما نراك إلا امرته أن يقاتل.

- أرأيتموني ساررت رسولى ( إليه )؟ أليس إنما كلمته على رءوسكم علانية وانتم تسمعون.

فانطلقوا يهتفون بلسان واحد :

فابعث إليه فليأتيك ، وإلا فو اللّه اعتزلناك.

فأريع الامام منهم وقد أوشكوا أن يفتكوا به فقال (عليه السلام) :

« ويحك يا يزيد ، قل له : اقبل إلى ، فان الفتنة قد وقعت!! »

فانطلق يزيد مسرعا إلى الأشتر فقال له :

« أقبل إلى أمير المؤمنين ، فان الفتنة قد وقعت. »

فقد قلب الأشتر فقال ليزيد والذهول باد عليه مستفهما عن مدرك هذه الفتنة والانقلاب الذي وقع في الجيش :

- الرفع هذه المصاحف؟

- نعم.

وقال الأشتر مصدقا تنبؤ نفسه وحدسها في وقوع هذا الانقلاب : « أما واللّه لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع اختلافا وفرقة ، إنها مشورة ابن العاهرة ، ثم التفت الى الرسول والألم يحز في نفسه.

« ألا ترى إلى الفتح ، ألا ترى الى ما يلقون ، ألا ترى الى الذي يصنع اللّه لنا ، أينبغى أن ندع هذا وننصرف عنه؟. »

فانطلق يزيد يخبره بحراجة الموقف والاخطار التي تحف بالامام قائلا :

- أتحب أنك ظفرت هاهنا ، وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم الى عدوه؟

- سبحان اللّه. لا واللّه ما احب ذلك.

ص: 462

- فانهم قالوا : لترسلن الى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا ابن عفان ، أو لنسلمنك الى عدوك.

فقفل الأشتر راجعا إلى الامام والحزن قد استولى عليه لضياع أمله المنشود ، فقد ظفر بالفتح واهريقت دماء جيشه حتى اشرف على النهاية وإذا بتلك المتاعب والجهود تذهب سدى لمكر ابن العاص ، وخاطب اولئك الاراذل بشدة وصرامه منددا بهم قائلا :

« يا أهل الذل والوهن ، أحين علوتم القوم فظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟! وقد واللّه تركوا ما أمر اللّه به فيها وسنة من أنزلت عليه ، فلا تجيبوهم ، أمهلوني فواقا ، فاني قد أحسست بالفتح. »

فانطلق هؤلاء المتمردون مظهرين له الغي والعناد قائلين بلسان واحد « لا. لا. »

- امهلوني عدوة الفرس ، فاني قد طمعت في النصر.

- إذن ندخل معك في خطيئتك.

وانبرى الأشتر يحاججهم ويقيم لهم الأدلة على خطل رأيهم وبعدهم عن الصواب حدثوني عنكم - وقد قتل أماثلكم وبقى أراذلكم - متى كنتم محقين ، أحين كنتم تقتلون أهل الشام ، فانتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون ، أم انتم الآن فى إمساككم عن القتال محقون؟ فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم ، في النار. »

ولم يجد هذا الكلام المشفوع بالأدلة معهم شيئا فأجابوه :

« دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في اللّه وندع قتالهم في اللّه ، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا »

ص: 463

فقال لهم الاشتر :

« خدعتم واللّه فانخدعتم ، ودعيتم الى وضع الحرب فأجبتم ، يا اصحاب الجباه السود ، كنا نظن أن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق إلى لقاء اللّه فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ، ألا فقبحا يا اشباه النيب الجلالة ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا فابعدوا كما بعد القوم الظالمون. »

وما انهى الأشتر كلامه حتى اقبلوا عليه يكيلون له أصواعا من السب والشتم ، فقابلهم بالمثل والتفت الى الامام بحماس قائلا :

« يا أمير المؤمنين. احمل الصف على الصف يصرع القوم. »

ولم يجبه الامام وأطرق برأسه وهو يفكر فى العاقبة المرة التي جرها هؤلاء المتمردون على الأمة ، وقد اتخذ هؤلاء سكوته رضى منه بالأمر فهتفوا :

« إن عليا أمير المؤمنين. قد رضى الحكومة ، ورضى بحكم القرآن » ولم يسع الامام الا الرضا كما لم يسع الأشتر إلا الاذعان والقبول فقال :

« إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضى بحكم القرآن فقد رضيت بما رضى به أمير المؤمنين. »

فانبروا يهتفون :

« رضى أمير المؤمنين. رضى أمير المؤمنين. »

والامام (عليه السلام) ساكت لا يجيبهم بشيء قد استولى عليه الهم والحزن لأنه ينظر الى جيشه قد فتكت به ومزقته حيلة ابن العاص ، وليس بوسعه اصلاحهم وارجاعهم إلى طريق الحق والصواب ، فانه لم يكن له نفوذ وسلطان عليهم كما أعرب (عليه السلام) عن ذلك بقوله :

« لقد كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا. وكنت أمس

ص: 464

ناهيا فأصبحت اليوم منهيا » (1)

انتخاب الاشعرى :

ولم تقف محنة الامام وبلاؤه في جيشه على هذا التمرد ، وإنما أخذوا يسعون جاهدين للاطاحة بحكومته فقد اصروا عليه في ترشيح عدوه الخبيث أبي موسى الأشعرى ، وانتخابه للتحكيم ، وعدم الرضا بغيره ممن رشحه الامام كابن عباس ومالك الأشتر وغيرهما من ذوي البصيرة والرأي ، والسبب في ذلك انهم يعلمون بانحراف الاشعرى عن أمير المؤمنين فاذا تولى مهمة التحكيم فانه لابه أن يختار للخلافة غير الامام ، ويذهب الدكتور طه حسين إلى ان اصرارهم لم يأت مصادفة وانما كان عن مؤامرة وتدبير بين طلاب الدنيا من أصحاب على وأصحاب معاوية جميعا (2) وعلى أي حال فقد أحاطوا بالامام يهتفون :

« إنا رضينا بأبى موسى الاشعرى. »

فزجرهم الامام ونهاهم عن انتخابه قائلا :

« إنكم قد عصيتموني في أول الامر. فلا تعصوني الآن ، إني لا أرى أن أولى أبا موسى!! »

ولم يجد معهم نصح الامام شيئا وانما أخذوا يلحون عليه قائلين :

« لا نرضى إلا به ، فما كان يحذرنا وقعنا فيه »

وأخذ الامام يبين لهم الوجه في كراهيته له قائلا لهم :

« إنه ليس لي بثقة ، قد فارقني وخذل الناس عني ، ثم هرب مني

ص: 465


1- نهج البلاغة محمد عبده ج 2 ص 212
2- علي وبنوه : ص 90

حتى آمنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عباس نوليه ذلك .. »

فلم يقنعوا واصروا على غيهم وجهلهم قائلين :

« ما نبالي أنت كنت أم ابن عباس ، لا نريد إلا رجلا هو منك ، ومن معاوية سواء ليس الى واحد منكما بادنى منه الى الآخر .. »

فدلهم الامام على الاشتر فانه ليس رحما له فردوا عليه قائلين :

« وهل سعر الأرض غير الأشتر!! »

ولم يجد الامام بعد هذه المحاورة وسيلة يسلكها في اقناعهم فاطلق سراحهم وخلى بينهم وبين جهلهم وأصبحت الأمور بيد هؤلاء العصاة المتمردين.

وثيقة التحكيم :

وتسابق القوم الى تسجيل ما يرومونه في وثيقة التحكيم وهذا نصها كما رواها الطبرى :

بسم اللّه الرحمن الرحيم : هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضي علي على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين إنا ننزل عند حكم اللّه عز وجل وكتابه ولا يجمع بيننا غيره ، وان كتاب اللّه عز وجل بيننا من فاتحته الى خاتمته نحيي ما احيا ونميت ما امات فما وجد الحكمان في كتاب اللّه عز وجل. وهما أبو موسى الاشعرى عبد اللّه بن قيس وعمرو بن العاص القرشي ، عملا به وما لم يجدا في كتاب اللّه عز وجل فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة ، وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق والثقة

ص: 466

من الناس انهما آمنان على انفسهما وأهلهما ، والامة لهما انصار على الذي يتقاضيان عليه وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد اللّه وميثاقه ، إنا على ما في هذه الصحيفة وان قد وجبت قضيتهما على المؤمنين فان الامن والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما ساروا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وشاهدهم وغائبهم ، وعلى عبد اللّه بن قيس وعمرو بن العاص عهد اللّه وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة ولا يرداها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا ، وأجل القضاء الى رمضان ، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراض منهما وإن توفي أحد الحكمين فان أمير الشيعة يختار مكانه ولا يألو من أهل المعدلة والقسط ، وإن مكان قضيتهما الذي يقضيان فيه مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام وإن رضيا وأحبا فلا يحضرهما فيه إلا من أرادا ويأخذ الحكمان من ارادا من الشهود ثم يكتبان شهادتهما على ما في هذه الصحيفة وهم انصار على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيه إلحادا وظلما ، اللّهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة » (1)

وسجل فريق من زعماء العراق والشام شهادتهم في هذه الوثيقة ، وتدل بنصها الصريح على عدم اهتمام معاوية وحزبه بدم عثمان ولو كان لهم إرب في ذلك لجاء ذكر قتله فيها صريحا أو ضمنا.

لقد أقاموا الدنيا وأقعدوها من أجل عثمان فنشروا ثيابه على منبر دمشق ، وهم يبكون على مصابه وأثاروا هذه الحرب من أجل المطالبة بدمه ، فما بالهم لم يتعرضوا له في وثيقة التحكيم ، ولم يذكروه بقليل ولا كثير.

وعلى أي حال فقد حفلت هذه الصحيفة بتحقيق رغبات الاشعث

ص: 467


1- تاريخ الطبري ج 6 ص 30

وسائر ذوي الاطماع والمنحرفين من قومه لأنه قد تم لهم ما أرادوا من تفلل الجيش العراقي وانقلابه وتغلب القوى الباغية على قوى الحق والاسلام

انبثاق الفكرة الحرورية :

واعقبت مهزلة رفع المصاحف انبثاق الفكرة الثورية الهدامة وهي فكرة الخوارج التي لم يكن الباعث لها الا التماس المصالح الدنيوية ، والسعي وراء النفوذ والسلطان ، وتحقيق المطامع الشخصية الرخيصة ، وقد اتخذوا « الحكم لله » شعارا لهم ، ولكنهم سرعان ما جعلوا الحكم للسيف وذلك بما أراقوه من دماء الابرياء ونشر الذعر والخوف بين المسلمين ، وكان سمتهم الذي اتصفوا به هو اعلان البغي والتمرد ، والحكم بالكفر على من لا يدين بفكرتهم واباحة دماء المسلمين ، وقد تظافرت الاخبار الواردة عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بكفرهم ومروقهم من الاسلام قال (صلی الله عليه وآله وسلم) : « سيكون بعدي من أمتي قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة » (1) وروى أبو سعيد الخدري ان رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أتاه مال فجعل يضرب بيده فيه فيعطي يمينا وشمالا وفيهم رجل مقلص الثياب ذو سيماء بين عينيه أثر السجود فجعل رسول اللّه يضرب يده يمينا وشمالا حتى نفد المال ، فلما نفد المال ولى مدبرا ، وقال واللّه ما عدلت منذ اليوم ، قال فجعل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقلب كفه ويقول : إذا لم أعدل فمن يعدل بعدي؟ أما إنه ستمرق مارقة يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه حتى

ص: 468


1- صحيح مسلم 1 / 398

يرجع السهم على فوقه يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يحسنون القول ويسيئون الفعل ، فمن لقيهم فليقاتلهم فمن قتلهم فله أفضل الأجر ، ومن قتلوه فله أفضل الشهادة ، برىء اللّه منهم تقتلهم أولى الطائفتين بالحق (1) إلى غير ذلك من الاخبار التي رواها الفريقان عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فى خروجهم من الدين ومروقهم عن الاسلام وهي تعد من معاجزه (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن آيات نبوته وذلك لما فيها من انباء الغيب التي تحققت بعده وعلى أي حال فقد تكتل هؤلاء المارقون وانحازوا إلى جانب آخر وهم ينادون بفكرتهم ، ويعلنون تمردهم ، ولما نزح الامام من صفين الى الكوفة ، لم يدخلوا معه إليها وانحازوا الى ( حروراء ) (2) فنسبوا إليها وكان عددهم اثني عشر الفا وقد اذن مؤذنهم ان أمير القتال شبث بن ربعي التميمي وعلى الصلاة عبد اللّه بن الكواء اليشكري والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله عز وجل والامر بالمعروف والنهى عن المنكر

احتجاج ومناظرات :

واضطرب الامام من هؤلاء المارقين عن الدين فأرسل إليهم عبد اللّه ابن عباس وأمره أن لا يخوض معهم في ميدان البحث والخصومة حتى يأتيه ولما اجتمع بهم ابن عباس لم يجد بدا من الدخول معهم في مسرح البحث فقال لهم :

« ما نقمتم من الحكمين؟ وقد قال اللّه عز وجل : ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما ) (3) فكيف بأمة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ».

ص: 469


1- مستدرك الحاكم 2 / 154
2- حروراء - بفتح الحاء والراء وسكون الواو - قيل هي قرية بظهر الكوفة ، وقيل موضع على ميلين منها ، معجم البلدان 3 / 256
3- سورة النساء : آية 35

فأجابه الخوارج :

« أما ما جعل حكمه الى الناس وأمر بالنظر فيه والاصلاح له فهو إليهم كما أمر به ، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه ، حكم في الزاني مائة جلدة ، وفي السارق بقطع يده فليس للعباد أن ينظروا فيه » واندفع ابن عباس يجيبهم :

- إن اللّه عز وجل يقول : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (1) - أو تجعل الحكم في الصيد ، والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وهذه الآية بيننا وبينك ، أعدل عندك ابن العاص؟ وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا ، فان كان عدلا فلسنا بعدول ونحن اهل حربه وقد حكمتم في أمر اللّه الرجال وقد امضى اللّه عز وجل حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا وقبل ذلك دعوناهم الى كتاب اللّه عز وجل فأبوه ثم كتبتم بينكم وبينه كتابا وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة وقد قطع اللّه الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت ( براءة ) إلا من أقر بالجزية.

وبقى ابن عباس يحاججهم ويحاججونه ، لم تغن معهم شيئا الأدلة القطعية والبراهين الحاسمة التي أقامها على خطل رأيهم.

ورحل الامام إليهم تصحبه زمرة من اصحابه ليناظر هؤلاء المارقين فانتهى (عليه السلام) الى فسطاط يزيد بن قيس فدخل فيه وتوضأ وصلى ركعتين ثم اقبل نحو القوم فرأى ابن عباس يناظرهم فزجره قائلا : : انته عن كلامهم ، ألم انهك رحمك اللّه؟ ثم التفت الى القوم قائلا :

« اللّهم. إن هذا مقام من افلج فيه كان اولى بالفلج يوم

ص: 470


1- سورة المائدة آية 95

القيامة ، ومن نطق فيه وأوعث فهو في الآخرة اعمى واضل سبيلا ثم قال لهم :

- من زعيمكم؟

- ابن الكواء

فوجه (عليه السلام) خطابه إليه وإليهم :

- ما اخرجكم علينا؟

- حكومتكم يوم صفين

- انشدكم باللّه أتعلمون انهم حيث رفعوا المصاحف ، فقلتم نجيبهم الى كتاب اللّه ، قلت لكم إني اعلم بالقوم منكم إنهم ليسوا باصحاب دين ولا قرآن ، اني صحبتهم وعرفتهم اطفالا ورجالا فكانوا شر اطفال وشر رجال ، امضوا على حقكم وصدقكم فانما رفع القوم هذه المصاحف خديعة ودهنا ومكيدة فرددتم علىّ رأيي وقلتم لا. بل نقبل منهم ، فقلت لكم اذكروا قولى لكم ومعصيتكم اياى ، فلما ابيتم الا الكتاب اشترطت على الحكمين ان يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن فان حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكما يحكم بما في القرآن ، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء

فدحضت هذه الحجة النيرة جميع ما تمسكوا به لاثبات فكرتهم الواهنة واندفعوا بلين لا عسف فيه نحو الامام قائلين له :

- اتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟

- لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن انما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق انما يتكلم به الرجال.

- فخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم؟

ص: 471

- ليعلم الجاهل ، ويثبت العالم ، ولعل اللّه عز وجل يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة.

ورأى الامام (عليه السلام) منهم اذعانا لكلامه ومقاربة شديدة له ، فقال لهم :

« ادخلوا مصركم رحمكم اللّه »

فاجابوا الى ذلك ورحلوا عن آخرهم معه الى الكوفة ، ولكنهم بقوا على فكرتهم يذيعونها بين الكوفيين وينشرون الشغب ويدعون الى البغي وقد شاع أمرهم وقويت شوكتهم واندفع بعضهم الى الامام وهو يخطب فقطع عليه خطابه تاليا قوله تعالى ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) (1) فأجابه الامام بآية اخرى ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (2)

وجعل الأمر يمعن في الفساد بين الامام وبين هؤلاء المارقين ، فقد أخذوا يتعرضون للآمنين ، وينشرون الرعب والفزع فى البلاد الأمر الذي أوجب اضطراب الامن العام وشيوع الخوف بين جميع المواطنين.

اجتماع الحكمين :

واسترد معاوية قواه واحكم أمره بعد الانهيار الذي أصابه ، وقد أوفد الى الامام رسله يستنجزه الوفاء بالتحكيم ، ويطلب منه المبادرة باجتماع الحكمين ، وانما بادر لذلك لعلمه بالفتن والخطوب التي منى بها الجيش العراقي حتى تفرق الى طوائف وأحزاب يضاف الى ذلك علمه بانحراف ابي موسى الاشعرى عن الامام ، وقد أراد أن يحوز بذلك الى

ص: 472


1- سورة الزمر آية 65
2- سورة الروم آية 60

نصره نصرا ، وقد اجابه الامام (عليه السلام) الى ذلك وانفذ اربع مائة رجل عليهم شريح بن هانى الحارثي (1) ومعهم عبد اللّه بن عباس يصلى بهم ويلي أمورهم : ومن بينهم ابو موسى الأشعرى المنتخب للتحكيم ، وكذلك فعل معاوية فأشخص عمرو بن العاص ومعه اربع مائة شخص ، وزوده بدراسة وافية عن نفسية الخامل أبي موسى قائلا :

« إنك قد رميت برجل طويل اللسان قصير الرأى فلا ترمه بعقلك كله » (2)

وسارت الكتائب فانتهت الى أذرح (3) أو دومة الجندل (4)

ص: 473


1- شريح : بن هاني بن يزيد بن الحرث : كان جاهليا فاسلم يكنى ابا المقدام وابوه هاني له صحبة مع النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وشريح من اجل اصحاب الامام ، الاستيعاب 2 / 149
2- العقد الفريد ج 3 ص 115.
3- اذرح : - بفتح اوله وسكون الذال وضم الراء - جمع مفرده ذريح ، وهو اسم لبلد من اطراف الشام تقرب من ارض الحجاز وفيها كان التحكيم بين ابن العاص والأشعري ، وهو الصحيح لقول ذى الرمة يمدح بلالا حفيد ابى موسى : ابوك تلافى الدين والناس بعد ما *** تساءوا وبيت الدين منقطع الكسر فشد إصار الدين ايام اذرح *** ورد حروبا قد لقحن الى عقر معجم البلدان ج 1 ص 161.
4- دومة الجندل بفتح اوله وضمه وقد انكر ابن دريد الفتح وعده من اغلاط المحدثين ، وهو اسم مكان على سبع مراحل من دمشق ومن مدينة الرسول ، وقال ابو عبيد السكوني : دومة الجندل حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طىء كانت به بنو كنانة من كلب ويقال إن بدومة الجندل كان التحكيم فقد حدث عبد اللّه بن عيسى حفيد ابى ليلى قال مررت مع ابى موسى بدومة الجندل ، فقال ابو موسى حدثني رسول اللّه انه حكم في بني اسرائيل في هذا الموضع حكمان بالجور ، وانه يحكم فى امتي فى هذا المكان حكمان بالجور ، قال : فما ذهبت الايام حتى حكم هو وعمرو ابن العاص فيما حكما ، وقد اكثر الشعراء فى ذكر الاجتماع بأذرح إلا قول الأعور الشنى فانه ذكر دومة الجندل في قوله : رضينا بحكم اللّه فى كل موطن *** وعمرو وعبد اللّه مختلفان فليس بهادى امة من ضلالة *** بدومة شيخا فتنة عميان بكت عين من يبكى ابن عفان بعد ما *** نفا ورق الفرقان كل مكان ثوى تاركا للحق متبع الهوى *** ووارث حزنا لاحقا بطعان كلا الفتنتين كان حيا وميتا *** يكادان لو لا القتل يشتبهان وإن كان الوزن يستقيم لو جيء بمكان دومة اذرح جاء ذلك فى معجم البلدان ج 4 ص 106 ، واحتمل الدكتور ( طه حسين ) فى كتابه ( علي وبنوه ) ص 107 ، ان الاجتماع كان في دومة الجندل اولا ثم فى اذرح بعد ذلك.

فكان هناك الاجتماع والتحكيم ، واجتمع الماكر المخادع عمرو بن العاص بضعيف العقل الخامل ابي موسى ، فأمهله ثلاثة ايام وافرد له مكانا خاصا به وجعل يقدم له ما لذّ من الطعام والشراب ولم يفتح معه الحديث حتى استبطنه وارشاه ، ولما علم بأنه قد هيمن عليه وصار زمامه بيده أخذ يحدثه بانخفاض ولين مبديا له الاكبار والتقديس والتعظيم قائلا له :

« يا أبا موسى .. انك شيخ اصحاب محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) وذو فضلها ،

ص: 474

وذو سابقتها ، وقد ترى ما وقعت فيه هذه الامة من الفتنة العمياء التي لا بقاء معها ، فهل لك ان تكون ميمون هذه الأمة فيحقن اللّه بك دماءها ، فانه يقول : في نفس واحدة. ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا ، فكيف بمن احيا انفس هذا الخلق كله. »

ومتى كان ابو موسى شيخ صحابة النبي ومن ذوي الفضائل والسوابق في الاسلام ،؟!! وقد لعبت هذه الكلمات في نفسه فطفق يسأل عن الكيفية التي يحسم بها النزاع قائلا : كيف ذلك؟

« تخلع أنت على بن ابي طالب ، واخلع انا معاوية بن ابي سفيان ونختار لهذه الامة رجلا لم يحضر في شيء من الفتنة ولم يغمس يده فيها » فبادره ابو موسى عن الشخص الذي يرشح لكرسى الخلافة قائلا :

« ومن يكون ذلك؟ »

وكان عمرو قد فهم ميول ابي موسى واتجاهه نحو عبد اللّه بن عمر فقال له :

« انه عبد اللّه بن عمر. »

واسترّ الاشعري بذلك اى سرور واندفع إليه يطلب منه المواثيق على وفائه بما قال ، قائلا له :

- كيف لى بالوثيقة منك؟

- يا أبا موسى .. الا بذكر اللّه تطمئن القلوب ، خذ من العهود والمواثيق حتى ترضى.

ثم انبرى يكيل له العهود والمواثيق والايمان المغلظة ، حتى لم يبق يمين او شيء مقدس إلا واقسم به على الوفاء والالتزام بما قال ، وبقى الشيخ الكبير السن الصغير العقل مبهورا بهذه اللباقة التي ابداها ابن العاص فأجابه بالرضا والقبول ، واذيع بين المجتمع اتّفاقهما ، والوقت الذي يكون

ص: 475

فيه الاجتماع.

وأقبلت الساعة الرهيبة التي تغير فيها مجرى التأريخ ، فاجتمعت الجماهير لتأخذ النتيجة الحاسمة من هذا التحكيم المنتظر بفارغ الصبر ، فأقبل الخاتل ابن العاص مع أبي موسى المخدوع الى منصة الخطابة ليعلنا للجماهير الصورة التي اتّفقا عليها ، فالتفت ابن العاص الى أبي موسى قائلا :

- قم فاخطب الناس ، يا أبا موسى.

- قم. أنت فاخطبهم.

- سبحان اللّه أنا اتقدمك ، وأنت شيخ أصحاب رسول اللّه واللّه لا فعلت ذلك أبدا.

- أفي نفسك شيء؟

فزاده أيمانا مغلظة على الالتزام بالعهد الذي أعطاه له (1) وعرف ابن عباس هذه المخادعة من ابن العاص وتجلت له الحيلة التي يرومها هذا الماكر فالتفت الى الأشعري قائلا :

« ويحك واللّه ، إني لأظنه قد خدعك ، إن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك ، ثم تكلم أنت بعده ، فان عمرو رجل غادر ولا آمن من أن يكون قد اعطاك الرضا فيما بينك وبينه فاذا قمت فى الناس خالفك » (2).

فلم يلتفت الصعلوك الى كلام ابن عباس وراح يشتد كأنه الحمار نحو منصة الخطابة فلما استوى عليها ، حمد اللّه واثنى عليه وصلى على النبي الكريم ، ثم قال :

ص: 476


1- العقد الفريد ج 3 ص 115.
2- تأريخ الطبرى ج 6 ص 39.

« أيها الناس ، إنا قد نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الالفة ، خلعنا عليا ومعاوية وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتى هذه ( وأهوى الى عمامته فخلعها ) واستخلفنا رجلا قد صحب رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بنفسه وصحب أبوه النبي صلی اللّه علیه و آله فبرز في سابقته وهو عبد اللّه بن عمر ».

وأخذ يثنى عليه بالثناء العاطر ويخلع عليه النعوت الحسنة والأوصاف الشريفة.

وقد عدل الاشعري عن انتخاب الامام أمير المؤمنين وهو نفس النبيّ وباب مدينة علمه فرشح عبد اللّه بن عمر وهو لا يحسن طلاق زوجته - على حد تعبير أبيه - أف للزمان وتعسا للدهر أن يتحكم فى المسلمين ويفرض رأيه عليهم مثل هذا الصعلوك النذل ، وعلى اى حال فقد انبرى ابن العاص فحمد اللّه واثنى عليه وصلى على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم قال :

« أيها الناس ، إن أبا موسى عبد اللّه بن قيس خلع عليا واخرجه من هذا الأمر الذي يطلب ، وهو اعلم به ، ألا وإنى خلعت عليا معه وأثبت معاوية علىّ وعليكم ، وإن أبا موسى قد كتب فى الصحيفة (1) إن عثمان قد قتل مظلوما شهيدا وإن لوليه أن يطلب بدمه حيث كان ، وقد صحب معاوية رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) بنفسه ، وصحب أبوه النبي وأخذ يفيض عليه بالثناء والمديح ، ثم قال : هو الخليفة علينا ، وله طاعتنا وبيعتنا على الطلب بدم عثمان.

وانطلق الخامل المخدوع أبو موسى الى ابن العاص قائلا :

ص: 477


1- يشير بالصحيفة الى إقرار ابى موسى حول قتلة عثمان الذي سجله عنده ، وقد ذكر المسعودي تفصيل ذلك فى مروج الذهب ج 2 ص 277

« ما لك؟ عليك لعنة اللّه! ما أنت إلا كمثل الكلب تلهث. »

فزجره ابن العاص بعد أن جعله جسرا فعبر عليه ، قائلا له :

« لكنك مثل الحمار يحمل اسفارا » (1)

نعم هما كلب وحمار وقد احسن كل منهما فى وصف صاحبه ، وانطلق أبو موسى الى مكة يصحب معه الخزي والعار بعد ما أحدث هذه الفتنة العمياء والفتق الذي لا يرتق وترك إمام الحق يئن من جراء حكمه المهزول ، وقد سجل للعراقيين بتحكيمه عارا وخزيا لا ينساه التأريخ ، وقد اكثر الشعراء فى الهجاء المقذع لهم فمن ذلك ما قاله أيمن بن خريم الأسدي (2) :

لو كان للقوم رأي يعصمون به *** من الضلال رموكم بابن عباس

لله در أبيه أيما رجل *** ما مثله لفصال الخطب فى الناس

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن *** لم يدر ما ضرب اخماس لأسداس

إن يخل عمرو به يقذفه في لجج *** يهوى به النجم تيسا بين أتياس

ابلغ لديك عليا غير عاتبه *** قول امرئ لا يرى بالحق من باس

ما الأشعري بمامون ، أبا حسن *** فاعلم هديت وليس العجز كالراس

فاصدم بصاحبك الادنى زعيمهم *** إن ابن عمك عباس هو الآسى

لقد سجل العراقيون فى تأريخهم صفحات من الخزي بانتخابهم لأبي موسى الخامل الرأي ، الضعيف العقل الذي لم يمتع به النظر ، ولا باصالة في التفكير ، فكيف ينتخبونه ليقرر مصيرهم ومصير الاجيال اللاحقة؟

ص: 478


1- الامامة والسياسة ج 1 ص 143.
2- أيمن بن خريم - بالراء المهملة - وهو ابن شداد الاسدى ، احد الشعراء ، وقد اختلف فى صحبته للنبي ، وقد روى عنه فى شهادة الزور ، تهذيب التهذيب 1 / 392

خطاب الامام الحسن :

ولما أذيع الخبر المؤلم بين العراقيين في خلع أبي موسى للامام زادت الفتنة ، وكثر الاختلاف والانشقاق بينهم ، وجعل بعضهم يتبرأ من بعض ويشتم بعضهم بعضا ، ورأى الامام أن خطورة الموقف تقضي بأن يقوم تفر من أهل بيته فيخطب بين الناس ليوقفهم على حقيقة الحال ويبين لهم فساد التحكيم ، فقال للحسن : قم يا بني. فقل في هذين الرجلين عبد اللّه ابن قيس ، وعمرو بن العاص فقام الحسن فاعتلى أعواد المنبر فقال :

« أيها الناس. قد أكثرتم في هذين الرجلين ، وإنما بعثا ليحكما بالكتاب على الهوى ، فحكما بالهوى على الكتاب ، ومن كان هكذا لم يسم حكما ولكنه محكوم عليه ، وقد أخطأ عبد اللّه بن قيس إذ جعلها لعبد اللّه ابن عمر فأخطأ في ثلاث خصال ، واحدة انه خالف ( يعني ابا موسى ) أباه ( يعني عمر ) إذ لم يرضه لها ولا جعله من اهل الشورى واخرى إنه لم يستأمره في نفسه (1) وثالثها : إنه لم يجتمع عليه المهاجرون والأنصار الذين يعقدون الامارة ويحكمون بها على الناس. وأما الحكومة فقد حكم النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) سعد بن معاذ (2) في بني قريضة فحكم بما يرضى اللّه به ،

ص: 479


1- وفى رواية ابن قتيبة فى الامامة والسياسة 1 / 144 إنه لم يستأمر الرجل فى نفسه ولا علم ما عنده من رد او قبول.
2- سعيد بن معاذ بن النعمان الانصارى من الاوس اسلم على يد مصعب بن عمير لما ارسله النبي الى المدينة ليعلم المسلمين ، ولما اسلم سعد قال لبني عبد الاشهل : كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تسلموا فأسلموا وكان من اعظم الناس بركة فى الاسلام ، وقد شهد مع النبي بدرا بغير خلاف ، ولما توجه النبيّ الى بدر جاءه الخبر بتوجه قريش الى حربه فاستشار (صلی الله عليه وآله وسلم) اصحابه في الامر فأنبرى إليه المقداد وابو بكر يعلنان الطاعة ، وكان نظره (صلی الله عليه وآله وسلم) الى الانصار لان اكثرية جيشه منهم ، وعرف سعد انه يريد باستشارته الانصار فقال له : لكأنك تريدنا يا رسول اللّه ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : اجل ، فقال سعد يا رسول اللّه قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به الحق واعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اللّه لما اردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره ان تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، لعل اللّه يريك فينا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة اللّه فسر (صلی الله عليه وآله وسلم) وابتهج من كلامه ونشط للقاء المشركين ولما صارت وقعة الخندق خرج سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه وفي يده حربة وهو يقول : لبث قليلا يلحق الهيجا جمل *** لا بأس بالموت إذا حان الاجل فالتفتت إليه أمه قائلة الحق يا بنى قد واللّه اخرت ، واصابه فى ذلك اليوم سهم فقطع اكحله ، ولما اذعن بنو قريظة على النزول على حكم سعد جاء وهو جريح ، فقال النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) لاصحابه قوموا الى سيدكم او خيركم فلما حل بالمجلس قال رسول اللّه له : يا سعد احكم فيهم فقال سعد حكمت فيهم ان تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) حكمت فيهم بحكم اللّه : ولما فرغ من التحكيم انفجر جرحه فاحتضنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجعلت الدماء تسيل عليه وقبض من جرحه ، وبكى عليه رسول اللّه ومشيخة الصحابة وقالت أمه راثية له : ويل أم سعد سعدا *** براعة ونجدا ويل أم سعد سعدا *** صرامة وجدا فلما سمع النبي رثاءها قال : إن كل نادبة كاذبة إلا نادبة سعد ، جاء ذلك فى اسد الغابة ج 2 ص 296.

ولا شك لو خالف لم يرضه رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ثم نزل عن منصة الخطابة.

ص: 480

لقد ذكر الحسن في خطابه الرائع أهم النقاط الحساسة التي هي محور النزاع ومصدر الفتنة فأشبعها بالتفصيل وبين جلية الحال للجموع الحاشدة حتى لم يترك ثغرة ينفذ منها المتمردون إلا وسدها في وجوههم فأبان (عليه السلام) أن المختار للتحكيم إنما يتبع قوله ويكون رأيه فيصلا للخصومة فيما إذا حكم بالحق ولم يخضع للنزعات والأهواء الفاسدة ، وأبو موسى لم يكن في تحكيمه هذا خاضعا للحق بل اتبع هواه وميوله فرشح عبد اللّه ابن عمر للخلافة مع أن أباه كان لا يراه أهلها ولو كان يراه اهلا للخلافة لرشحه لها او جعله من اعضاء الشورى مضا الى أن الشرط الأساسي في الانتخاب هو أن يجتمع على المنتخب المهاجرون والأنصار ولم يحصل ذلك له ، وأعرب (عليه السلام) في خطابه عن مشروعية التحكيم الامر الذي أنكرته الخوارج مستدلا على ذلك بتحكيم النبيّ (صلی الله عليه وآله وسلم) لسعد بن معاذ في بني قريظة ، ولو كان التحكيم غير مشروع لما ارتكبه الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم).

وقام بعد الحسن عبد اللّه بن عباس فحمد اللّه واثنى عليه وقال :

« أيها الناس. إن للحق أناسا أصابوه بالتوفيق والرضا ، والناس بين راض به ، وراغب عنه وإنما سار أبو موسى يهدى الى ضلال ، وسار عمرو بضلال إلى هدى ، فلما التقيا رجع أبو موسى عن هداه ، ومضى عمر على ضلاله ، فو اللّه لو كانا حكما عليه بالقرآن لقد حكما عليه ، ولئن كانا حكما بهواهما على القرآن ، ولئن مسكا بما سارا به ، لقد سار أبو موسى وعلى إمامه وسار عمرو ومعاوية إمامه ».

ولما انهى خطابه أمر الامام عبد اللّه بن جعفر أن يخطب فتقدم عبد اللّه فصعد المنبر فقال :

« أيها الناس. هذا أمر كان النظر فيه لعلى. والرضا فيه الى غيره

ص: 481

جئتم بأبي موسى ، فقلتم قد رضينا هذا فارض به ، وأيم اللّه ما أصلحا بما فعلا الشام ، ولا أفسدا العراق ، ولا اماتا حق علي ، ولا أحييا باطل معاوية ، ولا يذهب الحق قلة رأى ، ولا نفخة شيطان ، وانا لعلى اليوم كما كنا أمس عليه » ثم نزل عن المنبر (1) وقد استجاب الناس لندائهم وارتدع الكثيرون منهم عن الغي والتمرد.

تمرد الخوارج :

ولما فشل أمر التحكيم ورجع الوفد الكوفي وهو يجر رداء الخيبة والفشل أخذ الامام يبذل قصارى جهوده على إخراج الناس لمحاربة القوى الباغية عليه فأجابه الناس الى ذلك ، ولكن الخوارج أخذوا يعيثون في الارض فسادا فقد رحلوا عن الكوفة وعسكروا في النهروان (2) فاجتاز

ص: 482


1- الامامة والسياسة ج 1 ص 144
2- النهروان : كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدها الأعلى متصل ببغداد ، وفيها عدة بلدان منها اسكاف والصافية وغيرهما وقد تخرج منها جماعة من اهل العلم والأدب وكانت بها الواقعة بين الامام على والخوارج ، وكان فيها نهر عظيم ، وقد خرب وسبب خرابه اختلاف الملوك وقتال بعضهم بعضا فى ايام السلجوقية إذ ان كل من ملك لا يحفل بتعميره بل كان قصده ان يحوصل ويطير ، وكان أيضا في ممر العساكر ، وهذه الاسباب اوجبت ان يجلوا عنه اهله حتى استولى عليه الخراب ، جاء ذلك في معجم البلدان ج 8 ص 347.

عليهم الصحابي الجليل عبد اللّه بن خباب بن الأرت (1) فأقبلوا إليه قائلين له :

- من أنت؟

- رجل مؤمن.

- ما تقول في على بن أبي طالب؟

- إنه أمير المؤمنين ، وأول المسلمين إيمانا باللّه ورسوله.

- ما اسمك؟

- عبد اللّه بن خباب بن الارت صاحب رسول اللّه.

- أفزعناك؟

- نعم.

- لا روع عليك.

- حدثنا عن أبيك بحديث سمعه من رسول اللّه ، لعل اللّه أن ينفعنا به.

ص: 483


1- عبد اللّه بن خباب بن الأرت المدني حليف بني زهرة ، روى عن أبيه وعن أبي بن كعب وروى عنه جماعة منهم عبد اللّه بن الحارث وعبد الرحمن بن ابزى الصحابى ، وقال العجلى فيه إنه ثقة من كبار التابعين قتلته الحرورية ، وقد ارسله الامام على إليهم فقتلوه ، وذكره ابن حيان فى الثقات ، وقال الغلابى كان عبد اللّه من سادات المسلمين جاء ذلك في تهذيب التهذيب ج 5 ص 196 ، اقول : لم تنص كتب التأريخ والتراجم على إرسال الامام الى الخوارج عبد اللّه وقد انفرد العجلى في هذا القول ، وجاء في الاصابة ج 2 ص 302 ان عبد اللّه كان متوجها الى الكوفة للاجتماع بالامام فصادف الخوارج فقتلوه وذكر القصة في قتله.

- نعم حدثني عن رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال : ستكون فتنة بعدى يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه ، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا.

- لهذا الحديث سألناك؟ واللّه لنقتلنك قتلة ما قتلنا بمثلها احدا.

ثم أوثقوه كتافا ، واقبلوا به وبامرأته وكانت حبلى قد اشرفت على الولادة ، فنزلوا بهما تحت نخل ، فسقطت رطبة منها فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه ، فأقبل إليه بعضهم منكرا عليه قائلا :

« بغير حل أكلتها!! »

فالقاها بالوقت من فيه ، واخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيرا لأهل الذمة فقتله ، فصاح بعضهم فيه :

« إن هذا من الفساد في الأرض. »

فبادر الرجل الى صاحب الخنزير فأرضاه ، فلما نظر الى ذلك عبد اللّه ابن خباب قال لهم :

« لئن كنتم صادقين فيما أرى ، ما علي منكم بأس ، وو اللّه ما احدثت حدثا في الاسلام ، وإني لمؤمن ، وقد آمنتموني ، وقلتم لا روع عليك » فلم يلتفتوا الى قوله ، فجاءوا به وبامرأته ، فأضجعوه على شفير النهر ووضعوه على ذلك الخنزير الذي قتلوه ، ثم ذبحوه ، وأقبلوا الى امرأته وهي ترتعد من الخوف ترى شبح الموت قد خيم عليها وتنظر الى زوجها وهو جثة هامدة فقالت لهم مسترحمة ومتضرعة :

« إنما أنا امرأة ، أما تتقون اللّه؟ »

فلم يعتنوا باسترحامها وتضرعها ، وأقبلوا عليها كالكلاب فقتلوها وبقروا بطنها ، وانعطفوا على ثلاث نسوة فقتلوهن وفيهن أمّ سنان الصيداوية وكانت قد صحبت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولم يقف شرهم عند هذا الحد بل أخذوا

ص: 484

يستعرضون الناس ، ويذيعون الذعر بين المسلمين وينشرون الفساد في الارض

واقعة النهروان :

وأرسل الامام الى الخوارج الحارث بن مرة العبدى يسألهم عن ترويعهم للآمنين ونشرهم للخوف وعن الفساد الذي أحدثوه فى الأرض ، فحينما انتهى إليهم قتلوه ، ولما جاء خبر قتله الى الامام قام إليه فريق من اصحابه فقالوا له :

« يا أمير المؤمنين ، علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في اموالنا وعيالنا ، سربنا الى القوم فاذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا الى عدونا من أهل الشام ».

فاستصوب الامام رأيهم ورأى ان الخطر الناجم من هؤلاء أشد وأعظم من خطر معاوية وذلك لقربهم من عاصمته وهم لا شك سيحدثون الاضطراب والقلق فيما لو نزح لجرب معاوية فأزمع الامام على الرحيل إليهم ونادى مناديه في الجيش :

« الرحيل ، عباد اللّه ، الرحيل. »

وتحركت قوات الامام تحدوها العقيدة الى محاربة هؤلاء المارقين عن الدين والعابثين بالأمن فلما انتهوا إليهم بعث الامام لهم رسولا يطلب منهم قتلة عبد اللّه بن خباب ومن كان معه وقتلة رسوله الحارث بن مرة ، فاندفعوا مجيبين بجواب واحد.

« إنا كلنا قتلناهم ، وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم. »

فأقبل (عليه السلام) بنفسه إليهم فوجه لهم خطابا مشفوعا بالنصح والارشاد وحب الخير قائلا :

ص: 485

« أيتها العصابة ، إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدا ، وانتم صرعى بازاء هذا النهر بغير برهان ولا سنة ، ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة ، واخبرتكم أن طلب القوم لها مكيدة ، وانبأتكم ان القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وأني أعرف بهم منكم ، قد عرفتهم اطفالا ، وعرفتهم رجالا ، فهم شر رجال ، وشر أطفال ، وهم أهل المكر والغدر ، وانكم إن فارقتموني ورأيى جانبتم الخير والحزم ، فعصيتموني وأكرهتموني ، حتى حكمت ، فلما أن فعلت شرطت واستوثقت ، واخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فاختلفا ، وخالفا حكم الكتاب والسنة ، وعملا بالهوى ، فنبذنا أمرهم ، ونحن على أمرنا الاول ، فما نبؤكم ومن أين أتيتم؟ »

لقد بين (عليه السلام) فى خطابه اجبارهم وإكراههم له في بادئ الامر على التحكيم ، وإنه ما قبله إلا وهو مكره مخاطر على حياته منهم ، وانه قد شرط على الحكمين أن يحكما بما وافق كتاب اللّه وسنة نبيه ولما لم يحكما بذلك ولم يتبعا الحق كان حكمهما مردودا ولكن هؤلاء العتاة الذين لم يفهموا من المنطق شيئا اجابوا الامام بجواب دل على تماديهم في الجهل قائلين :

« .. إنا حيث حكمنا الرجلين أخطأنا بذلك ، وكنا كافرين ، وقد تبنا من ذلك ، فان شهدت على نفسك بالكفر ، وتبت كما تبنا واشهدنا فنحن معك ومنك ، وإلا فاعتزلنا ، وإن أبيت فنحن منابذوك على سواء » فأجابهم الامام منكرا عليهم ذلك قائلا :

« أبعد إيماني باللّه وهجرتي وجهادى مع رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أبوء وأشهد على نفسي بالكفر ، لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين ، ويحكم

ص: 486

بم استحللتم قتالنا والخروج من جماعتنا إن اختار الناس رجلين ، فقالوا لهما : انظرا بالحق فيما يصلح العامة ليعزل رجل ، ويوضع آخر مكان آخر. أحل لكم أن تضعوا سيوفكم على عواتقكم تضربون بها هامات الناس وتسفكون دماءهم ، إن هذا لهو الخسران المبين » (1)

ولما علموا أنهم لا يستطيعون أن يناقشوا الامام في كلامه نادى بعضهم بعضا :

« لا تخاطبوهم ولا تكلموهم ، تهيئوا للقاء الحرب ، الرواح الرواح إلى الجنة. »

ولما يئس الامام من ارشادهم وإرجاعهم الى طريق الحق عبأ جيشه وأمر بان لا يبدءوهم بقتال حتى يقاتلوهم ، ولما نظر الخوارج الى هذا التهيؤ استعدوا وتهيئوا ، وكانت نفوسهم مترعة بالشوق الى الحرب وقلوبهم تتحرق الى القتال تحرق الظمآن الى الماء ، وهتف بعضهم فيهم :

« هل من رائح الى الجنة؟ »

فأجابوه جميعا الرواح الى الجنة ، ثم حملوا حملة منكرة وهم يهتفون بشعارهم ( لا حكم إلا لله ) فانفرجت لهم خيل الامام فرقين ، فرق تمضي الى الميمنة وفرق تمضي الى الميسرة ، والخوارج يندفعون بين الفريقين ، فتلقاهم أصحاب الامام بالنبل وما هي إلاّ ساعة حتى قتلوا عن آخرهم ولم يفلت منهم الا تسعة (2)

ص: 487


1- الامامة والسياسة ج 1 ص 155.
2- الملل والنحل للشهرستانى ج 1 ص 159 وجاء فيه انه انهزم منهم اثنان الى عمان ، واثنان الى كرمان ، واثنان الى سجستان ، واثنان الى الجزيرة ، وواحد الى تل موزون ، واخذ هؤلاء يبثون فكرتهم في هذه المواضع حتى ظهرت فيها بدعة الخوارج.

ولما وضعت الحرب أوزارها طلب الامام من اصحابه أن يلتمسوا له ذا الثدية (1) في القتلى فبحثوا عنه بحثا دقيقا فلم يظفروا به فعادوا إليه يخبرونه بعدم ظفرهم به ، فأمرهم أن يلتمسوه له مرة اخرى قائلا :

ص: 488


1- ذو الثدية ، قال فيه انس كان في عهد الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) رجل يعجبنا تعبده وقد ذكرنا ذلك لرسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وسميناه له فلم يعرفه فبينما نحن فى ذكره إذ طلع علينا الرجل ، فقلنا له يا رسول اللّه هو هذا ، فلما نظر إليه قال (صلی الله عليه وآله وسلم) إنكم لتخبروني عن رجل إن وجهه لسفعة ( السفعة العلامة والسمة ) من الشيطان فاقبل حتى وقف ولم يسلم ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انشدك اللّه هل قلت حين وقفت على المجلس ما في القوم احد افضل مني او خير مني ، قال اللّهم نعم. ثم دخل يصلى فقال رسول اللّه من يقتل الرجل؟ فقال ابو بكر انا فمضى إليه فوجده يصلى ، فقال سبحان اللّه اقتل رجلا يصلى ، وقد نهى رسول اللّه عن قتل المصلين فخرج فقال له رسول اللّه ما فعلت؟ فقال كرهت ان اقتله وهو يصلي وأنت قد نهيت عن قتل المصلين ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) لاصحابه من يقتل الرجل؟ فقال عمر انا فمضى إليه فوجده واضعا جبهته على الارض ، فقال عمر ابو بكر افضل منى ثم خرج ، فقال له رسول اللّه ما فعلت؟ فقال عمر وجدته واضعا وجهه لله فكرهت ان اقتله ، فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : من يقتل الرجل ، فقال الامام انا ، فقال له رسول اللّه أنت له إن ادركته ، فمضى الامام إليه فوجده قد خرج ، فجاء الى رسول اللّه فأخبره بالامر فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) لو قتل ما اختلف من امتي رجلان كان اولهم وآخرهم سواء ، جاء ذلك في الاصابة ج 1 ص 484.

« ما كذبت ، ولا كذبت ، ويحكم!! التمسوا الرجل فانه في القتلى .. »

فانطلقوا يفتشون عنه ، فظفر به رجل من اصحابه بين القتلى ، فمضى يهرول فأخبر الامام به فقال : « اللّه اكبر!! ما كذبت على محمد ، وإنه لناقص اليد ليس فيها عظم في طرفها حلمة مثل ثدي المرأة عليها خمس شعرات أو سبع رءوسها معقفة .. »

وأمر باحضار جثته ، فاحضرت له فتبين عضده فاذا على منكبه ثدى كثدي المرأة وعليه شعرات سود تمتد حتى تحاذي بطن يده الأخرى فاذا تركت عادت الى منكبه ، فلما رأى ذلك خرّ لله ساجدا ، ثم قسم بين اصحابه سلاح الخوارج ودوابهم ، ورد الأمتعة والعبيد الى أهليهم (1) وبذلك انتهت حادثة النهروان.

المتارك البغيضة :

واعقبت حادثة صفين والنهروان أعظم المحن والمشاكل واغرقت البلاد في الاحداث والخطوب ، وقد اوجبت خذلان الامام وولده الحسن في دوره ، ونشير الى بعضها :

1 - تمرد الجيش

لقد منى الجيش العراقي عقيب الحادثتين بالانشقاق والتمرد ، والضعف والسئم من الحرب وسبب ذلك يرجع الى كثرة من قتل منه ، وان القتلى كانوا ينتمون الى تلك الكتائب العسكرية فشاع فيها الحزن وانتشر الجزع والتذمر ، واصبح الجيش على أثر ذلك يسأم من الحرب ، ويحب السلم ويؤثر العافية ، وقد ظهر ذلك بوضوح حينما أراد الامام أن يزحف الى

ص: 489


1- مروج الذهب 2 / 385

حرب معاوية عقيب حادثة النهروان فانهم لم يجيبوه الى ذلك ، وقد تصدى الاشعث بن قيس الى جوابه فقال له :

« يا أمير المؤمنين .. نفذت نبالنا ، وكلت سيوفنا ، ونصلت أسنة رماحنا ، فارجع بنا الى مقرنا لنستعد بأحسن عدتنا ، ولعل أمير المؤمنين يزيد فى عددنا عدد من هلك منا ، فانه أوفى لنا على عدونا .. »

وعلى أثر كلام هذا الماكر الخبيث تسلل الجنود من معسكراتهم ، منهزمين ولاذ من لاذ منهم بالمدن القريبة ، وأيقن الامام أنهم مارقون من يده ، ولا طاعة له عليهم ، فاضطر الى الرجوع إلى عاصمته وبهذا نقف على مدى رغبة الجيش في الاستسلام وسئمه من الحرب ، وكلما حاول الامام بعد ذلك بشتى الوسائل والاساليب أن يقضى على هذا الانحلال والتمرد فلم يتمكن.

2 - فقده لأعلام أصحابه

وفقد الامام في صفين أهم أصحابه الذين يعتمد على اخلاصهم وايمانهم بقضيته ، وهم البقية الصالحة من المهاجرين والانصار الذين ناضلوا عن كرامة الاسلام وشيدوا صروحه ، ولو كانوا في قيد الحياة لما حدث التفكك في جيشه ، وقد حزن عليهم حزنا مرهقا ، وبكى عليهم أمر البكاء وقد تذكرهم وهو يخطب على منبر الكوفة فصعد آهاته وبث زفراته وانطلق يقول : « ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص ويشربون الرنق (1) ،! - قد واللّه - لقوا اللّه فوفاهم اجورهم ، واحلهم دار الأمن بعد خوفهم ، اين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق ، اين عمار ، واين ابن التيهان (2) واين

ص: 490


1- الرنق : بكسر النون ، وفتحها ، الشيء الكدر.
2- ابن التيهان هو مالك بن التيهان بن مالك الأوسى كان احد الستة الذين لقوا رسول اللّه ، وهو اول من لقيه من الانصار ، وهو اول من بايعه في ليلة العقبة ، وقيل ليس هو اول من بايع، وكان مالك نقيب بنى عبد الأشهل هو واسيد بن خضير ، وشهد بدرا واحدا والمشاهد كلها قيل مات في خلافة عمر سنة عشرين ، وقيل شهد مع الامام صفين ومات بعدها بقليل جاء ذلك في اسد الغابة ج 4 ص 274 وجاء في الاستيعاب ان مالكا شهد مع الامام صفين وقتل فيها وصريح خطاب الامام يدل على ذلك.

ذو الشهادتين (1) واين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على النية ، وأبرد برءوسهم الى الفجرة؟! »

ثم وضع يده على كريمته الشريفة فأطال البكاء ثم قال :

« أوه (2) على إخواني الذين قرءوا القرآن فأحكموه ، وتدبروا

ص: 491


1- ذو الشهادتين : هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه الانصارى الأوسي يكنى ابا عمارة ، وقد جعل رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) شهادته كشهادة رجلين ، وسبب ذلك ان النبي اشترى فرسا من سواء بن قيس المحاربى فجحد سواء الشراء فشهد خزيمة بن ثابت للنبى فقال له رسول اللّه : ما حملك على الشهادة ولم تكن معنا حاضرا فقال : صدقتك بما جئت به وعلمت انك لا تقول إلا حقا فكيف لا اصدقك في هذا الأمر ، فقال رسول اللّه من شهد له خزيمة او عليه فحسبه ، وقد شهد مع رسول اللّه بدرا واحدا والمشاهد كلها وشهد مع الامام الجمل وصفين ولم يقاتل فيهما ولما قتل عمار بن ياسر بصفين قال خزيمة سمعت رسول اللّه يقول : تقتل عمارا الفئة الباغية ، ثم سل سيفه وقاتل حتى قتل جاء ذلك في اسد الغابة ج 2 ص 114.
2- اوه - بفتح الهمزة وسكون الواو وكسر الهاء - كلمة توجع.

الفرض فأقاموه ، أحيوا السنة ، وأماتوا البدعة ، دعوا للجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فأتبعوه (1)

لقد ذابت نفسه أسى على فقده لهذه الصفوة التي عرفت مكانته ووعت أهدافه ، وسارت على ضوء إرشاداته القيمة وتعاليمه الرفيعة حتى صارت أمثلة للكمال والتهذيب والسمو ، ولما طحنت هؤلاء المثاليين حرب صفين صار الامام أعزلا لا يجد أحدا في ذلك المجتمع الهزيل يسانده ويساعده على تحقيق ما يصبو إليه فى هذه الحياة من إصلاح المجتمع ونشر ألوية العدالة والمساواة بين الناس ، .. وأما خصمه معاوية فانه لم يخسر فى حرب صفين أحدا من بطانته والدهاة الذين عنده بل انضم إليه جمع كثير من الذين باعوا ضمائرهم عليه حتى قوي أمره. 3 - الاحتلال والغزو

لقد درس معاوية نفسية الجيش العراقي ووقف على تخاذله وعدم انقياده للامام فجعل يحتل الاقطار الاسلامية قطرا بعد قطر فبعث جيشا جرارا لاحتلال مصر التي هي أمل ابن العاص وبغيته ، فاحتلها وقتل حاكمها الطيب محمد بن أبي بكر قتلة مروعة ، والعراقيون متقاعسون عن إجابة الامام والنهوض معه الى رد هذا العدوان.

وبعث جيشا آخر بقيادة الوغد الأثيم بسر بن أبي أرطاة (2) لاحتلال الحجاز واليمن ، فتوجه القائد القاسي الى المدينة وكان حاكمها أبا أيوب

ص: 492


1- نهج البلاغة محمد عبده 2 / 130.
2- بسر بن ابي ارطاة القرشي واسم ابي ارطاة عمير ، وقيل عويمر العامري وقد ارتكب هذا الجافي من الجرائم والآثام ما لا يرتكبه احد ، منها قتله ولدى عبيدي اللّه بن العباس ، وهما عبد الرحمن وقثم وكانا طفلين » ولم يرع قرابتهما من رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وصغر سنهما ، ومنها غارته على همدان وسبى نسائهم فكن اول مسلمات سبين فى الاسلام ، ومنها قتله أحياء من بني سعد ، الى غير ذلك من الجرائم التي ارتكبها ، وقد برز هذا الأثيم يوم صفين لمحاربة الامام ، فطعنه الامام فسقط الى الأرض وكشف عن عورته فتركه الامام وفى فعله يقول الحرث احد الشعراء : أفي كل يوم فارس ليس ينتهي *** وعورته وسط العجاجة باديه يكف لها عنه على سنانه *** ويضحك منها فى الخلاء معاويه بدت امس من عمرو فقنع راسه *** وعورة بسر مثلها حذو حاذيه فقولا لعمرو ثم بسر الا انظرا *** سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما *** هما كانتا واللّه للنفس واقيه ولولاهما لم تنجوا من سنانه *** وتلك بما فيها عن العود ناهيه متى تلقيا الخيل المشيحة صبحة *** وفيها علي فاتركا الخيل ناحيه وكونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا *** نحور كما ان التجارب كافيه وقد خرف فى آخر عمره ومات بالمدينة ، وقيل بل مات بالشام في بقية ايام معاوية الاستيعاب 1 / 154 - 163.

الأنصاري (1) فهرب وقد استولى عليه الخوف ، ودخل بسر الى المدينة

ص: 493


1- ابو ايوب هو خالد بن زيد بن كليب الانصاري من بني النجار وهو معروف باسمه وكنيته ، شهد مع النبي العقبة وبدرا وما بعدها من المشاهد ، ولما قدم النبي الى المدينة نزل في بيته الى ان بنى بيوته ومسجده وآخى النبيّ بينه وبين مصعب بن عمير ، وقد استخلفه الامام علي على المدينة لما خرج الى العراق ، ثم لحق به بعده وشهد معه قتال الخوارج ولزم ابو ايوب الجهاد بعد النبي الى ان توفى بالقسطنطينية سنة خمسين ، وقيل اثنتين وخمسين جاء ذلك فى الاصابة ج 1 ص 405

فأدخل الرعب والخوف في القلوب ، وخطب الناس فكان خطابه حافلا بالجفاء والغلظة والقسوة فمن جملة خطابه.

« يا أهل المدينة ، واللّه لو لا ما عهد الي معاوية ما تركت بها محتلما إلا قتلته. »

ولما انهى هذا الأثيم أمر المدينة توجه إلى مكة فاحتلها ، وأخذ البيعة من أهلها قسرا ، ثم انعطف بعد ذلك الى اليمن وكان واليها عبيد اللّه ابن العباس فانهزم بنفسه ناجيا من شره قاصدا نحو الكوفة ليعرف الامام بذلك ولما دخل بسر الى اليمن أخذ البيعة من أهلها ، وفتش عن طفلين لعبيد اللّه فلما ظفر بهما قتلهما (1) ولما انتهى خبرهما الى امهما ضاقت بها الدنيا وأكلها الحزن وبرى البكاء عينيها ، فكان الحزن والجزع لها غذاء وشرابا حتى فقدت شعورها وقد رثتهما بذوب روحها قائلة :

يا من احس بابنيّ اللذين هما *** كالدرتين تشطى عنهما الصدف

يا من أحس بابنيّ اللذين هما *** قلبي وسمعي ، فقلبي اليوم مختطف

من ذل والهة حيرى مدلهة *** على صبيين ذلا : إذ غدا السلف

خبرت بسرا وما صدقت ما زعموا *** من افكهم ومن القول الذي اقترفوا

أنحى على ودجى ابني مرهفة *** مشحوذة وكذاك الأثم يقترف (2)

ولما انتهت الأنباء المريعة الى الامام أقبل الى اصحابه وانمسه المقدسة ملؤها اللوعة والاستياء على هذا التمرد الناشب فى جيشه فخطب فيهم فمن جملة خطابه قوله :

ص: 494


1- تأريخ ابي الفداء 1 / 180
2- شرح النهج محمد عبده ج 1 ص 59

« أنبئت بسرا قد اطلع اليمن (1) وانى واللّه لأظن ان هؤلاء القوم سيدالون (2) منكم ، باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم ، وبمعصيتكم امامكم في الحق ، وطاعتهم امامهم في الباطل ، وبأدائهم الامانة الى صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم فى بلادهم وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب (3) لخشيت أن يذهب بعلاقته (4)! اللّهم اني قد مللتهم وسئمتهم وسئموني فابدلني بهم خيرا منهم وابدلهم بي شرا مني ، اللّهم مث في قلوبهم كما يماث الملح في الماء (5) أما واللّه لوددت ان لي الف فارس من بني فرس ابن غنم (6) :

هنالك ، لو دعوت ، أتاك منهم *** فوارس مثل أرمية الحميم

ثم نزل (عليه السلام) عن المنبر (7) وبهذا الخطاب نقف على مدى فساد جيشه وخيانته ، ولا عجب في رفض الامام الحسن له والتخلية بينه وبين معاوية فان شعبا لا يساند الحق ولا يدافع عن كرامته لجدير بأن يكون لقمة سائغة لذوي الأطماع والأهواء.

ص: 495


1- اطلع اليمن : بلغها واحتلها بجيشه.
2- سيدالون : اى ستكون لهم الدولة بدلكم وذلك بسبب اجتماع كلمتهم ووحدة رايهم وانشقاق العراقيين وعدم اتفاقهم.
3- القعب : بالضم القدح الضخم.
4- علاقته : بكسر العين ما يعلق به من ليف ونحوه.
5- ماث : اي ذاب
6- بنو فرس قبيلة مشهورة بالشجاعة والاقدام منهم علقمة بن فراس وهو جذل الطعان ، ومنهم ربيعة بن مكدم حامي الظعن حيا وميتا ، ولم يحم احد حريمه غيره.
7- شرح النهج محمد عبده 1 / 60

ولم يكتف معاوية بذلك فأرسل جيشا جرارا بقيادة سفيان بن عوف للاغارة على أهل العراق في عقر دارهم فغزى جيشه هيت (1) والانبار (2) وقد أوقع بنفوس اهليهما قتلا فظيعا ، وبأموالهم أضرارا جسيمة ، ولما انتهت الانباء الى الامام بلغ منه الحزن أقصاه لأنه يرى الباطل قد قويت شوكته ولا يمكنه تحطيمه والقضاء عليه ، وينظر الى اصحابه وقد امتلأت قلوبهم خوفا وذلا وجبنا ، فصعد علیه السلام على المنبر فخطبهم بخطاب رائع مثل ما في نفسه من هم مقيم وأسى شديد ، وصور ما في نفوس اصحابه من خنوع وخور وتخاذل قائلا :

« ألا وإني قد دعوتكم الى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا ، وسرا واعلانا ، وقلت لكم : اغزوهم قبل أن يغزوكم فو اللّه ما غزى قوم في عقر دارهم الا ذلوا (3) فتواكلتم ، وتخاذلتم حتى شنت الغارات عليكم ، وملكت عليكم الاوطان. وهذا أخو غامد (4) وقد وردت خيله الانبار

ص: 496


1- هيت بكسر الهاء قال ابن السكيت : إنما سميت هيت بهذا الاسم لأنها فى هوة من الأرض ، وقد انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وهي بلدة من نواحي بغداد فوق الأنبار وهى ذات نخل كثير وخيرات واسعة جاء ذلك فى المعجم ج 8 ص 486.
2- الأنبار : بفتح اوله ، مدينة. على الفرات تقع فى غربي بغداد بينهما عشرة فراسخ ، وكان اول من عمرها سابور بن هرمز ذو الاكتاف ثم جددها ابو العباس السفاح اول خلفاء بني العباس وبنى بها قصورا ، وقام بها الى ان مات ، معجم البلدان 1 / 340
3- عقر الدار : بالضم وسطها واصلها.
4- اخو غامد : هو سفيان بن عوف من بني غامد قبيلة من اليمن

وقد قتل حسان بن حسان البكري ، وأزال خيلكم عن مسالحها (1) ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والاخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها (2) ما تمنع منه الا بالاسترجاع (3) والاسترحام ثم انصرفوا وافرين (4) ما نال رجلا منهم كلم (5) ولا أريق لهم دم ، فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما ، بل كان به عندى جديرا ، فيا عجبا - واللّه - يميت القلب ويجلب الهم اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم فقبحا لكم وترحا ، حين صرتم غرضا يرمى يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى اللّه وترضون فاذا امرتكم بالسير إليهم في ايام الصيف قلتم هذه حمارة القيظ (6) امهلنا يسلخ عنا الحر (7) واذا امرتكم بالسير إليهم فى الشتاء قلتم : هذه صبارة القر (8) امهلنا ينسلخ عنا البرد ، كل هذا فرارا من الحر والقر ، فأنتم واللّه من السيف افر ، يا أشباه الرجال ولا رجال!

ص: 497


1- المسالح : جمع مسلحة بالفتح ، وهي الثغر الذي يزود بالجيش لئلا يطرق العدو الى البلاد.
2- المعاهدة : الذمية ، والحجل ، بالكسر : الخلخال ، والقلب ، بالضم : السوار ، والرعاث : جمع رعثة بالفتح : القرط.
3- الاسترجاع : ترديد الصوت بالبكاء.
4- وافرين : اى تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم.
5- الكلم : بالفتح ، الجرح.
6- حمارة القيظ : بتشديد الراء ، وهي شدة الحر.
7- يسبخ : اي يخف وتذهب شدته.
8- صبارة القر : الصبارة بتشديد الراء وهي شدة الشيء ، والقر بالضم هو البرد.

حلوم الأطفال ، وعقول ربات الحجال (1) لوددت اني لم اركم ولم اعرفكم معرفة واللّه جرت ندما ، واعقبت سدما (2) قاتلكم اللّه!! لقد ملأتم قلبي قيحا ، وشحنتم صدرى غيظا ، وجرعتموني نغب التهمام انفاسا (3) وافسدتم علي رأيى بالعصيان والخذلان ».

ولم يثر هذا الخطاب الحماسي الرائع حفائظ نفوسهم ولم يقلع روح الخور والتمرد منهم ، قد اسلموا انفسهم للعداء المسلح ، يصيب معاوية من اموالهم وانفسهم ما شاء ومتى اراد. 4 - فتنة الخريت

ولم يقف بلاء الامام ومحنته فى أصحابه ، وخصمه معاوية الى هذا الحد فقد تجاوز البلاء والشر الى ما هو اعظم واشد ، تلك هي فكرة الخوارج التي لم يقض عليها يوم النهروان وانما قضى على بعض معتنقيها وقد اخذت تتسع ويكثر انصارها ، وقد خلقوا افظع المشاكل في الحقل الاسلامي فدعوا الى التمرد على حكومة الامام وكان من اهمهم هو الخريت (4) ، فقد خرج هو وفريق من اصحابه وقد اعلنوا الحرب والعصيان ، فأرسل الامام إليهم جيشا لردهم الى الطاعة وحربهم ان أبوا ذلك ، فلحق بهم الجيش

ص: 498


1- الحجال : جمع حجلة وهي القبة ، وربات الحجال : النساء.
2- السدم : بالتحريك الهم مشفوع بالاسف او الغيظ.
3- النغب : جمع نغبة وهي الجرعة ، التهمام بالفتح : الهم. انفاسا ، اى جرعة بعد جرعة.
4- الخريت بن راشد الناجي ، كان على مضر كلها يوم الجمل واستعمله عبد اللّه بن عامر على كورة من كور فارس ، وكان مع الامام حتى صار امر الحكمين ففارقه الى بلاد فارس مخالفا. ( الاصابة 1 / 422 ).

فكانت بينهم - أولا - مناظرة وجدال ، ولما امتنع الخريت من الرجوع الى الطاعة وقع بين الفريقين قتال عنيف ، ولكن لم يتغلب أحدهما على الآخر وهرب الخريت بأصحابه نحو البصرة ، فرجع جيش الامام ولم يظفر بشيء فأرسل الامام له جيشا آخر اكثر منه عدة وأعظم قوة وأمره بأن يتعقبهم وكتب الى عبد اللّه بن عباس عامله على البصرة أن يمد الجيش ويزوده بما يحتاج إليه فامتثل عبد اللّه بن عباس ذلك ، والتقى الفريقان فكان بينهما أشد القتال وأعنفه ، وبدت امارة الانحلال والخور في جيش الخريت الا أنه استطاع أن ينهزم بأصحابه فى غلس الليل البهيم ، فولى هاربا نحو الأهواز فأخذ يبذر الفتنة ويبشر بفكرته بين اولئك البسطاء الذين لم يعوا المفاهيم الاسلامية ولم يتعقلوا أهدافها وواقعها فاستجابوا له ، وقد أخذ يزهد الاسلام في نفوسهم ، فمنع العرب من اعطاء الصدقة ، والنصارى من اعطاء الجزية ، حتى ارتد كثير من النصارى ممن كان قد اسلم وقد التف حوله جمع كثير من اولئك الاغبياء حتى ظهر امره وقويت شوكته ، ولكن جيش الامام قد تتبعهم الى ان ظفر بهم فكانت بينهما موقعة ادت اخيرا الى قتل الخريت وفريق من حزبه ، واخذ قائد جيش الامام ما بقى من اصحاب الخريت اسرى فمن اسلم منهم منّ عليه ، ومن ارتد استتابه ، فان اسلم منّ عليه ، وان لم يسلم اخذه أسيرا معه.

وهكذا أخذت الفتن تتسع وتتزايد فى الحاضرة الاسلامية التي هي تحت سيطرة حكم الامام حتى اوجبت خذلان الامام وقتله وخذلان ولده الحسن في دوره والحقت اضرارا كثيرة في المجتمع الاسلامي جعلته غارقا فى المآسي والشجون.

ان حادثة صفين بما اعقبته من المتارك الفظيعة قد اوجبت تدهور

ص: 499

المسلمين وانحطاطهم ، وتغلب قوى البغي على قوى الحق والاسلام ، ومهدت الطريق للامويين أن يتحكموا في رقاب المسلمين ، وان يستأثروا باموالهم وسائر امكانياتهم ، وان يسعوا جاهدين في محاربة الاصلاح وسائر النزعات الخيرة حتى ضج المسلمون من جورهم واستبدادهم وظلمهم.

ص: 500

مصرع الحقّ

اشارة

ص: 501

ص: 502

بقي الامام أمير المؤمنين بعد حادثة صفين في أرباض الكوفة وهو محزون النفس مكلوم القلب يتلقى في كل فترة من زمانه الوانا مريعة من الرزايا والخطوب ، ينظر الى العدل وهو مضام ، وإلى الخير مضيع ، والى البغي قد كثر والى الجور قد طغى ، ويرى باطل معاوية قد استحكم ، وأمره قد تم ، وهو لا يتمكن على مناجزته لأن جيشه اصبح متمردا عليه بأمره فلا يطيع ، ويدعوه فلا يستجيب قد خلد الى الراحة ، وسئم التعب وكره الجهاد فى سبيل اللّه.

وتركت هذه الكوارث أسى مريرا فى نفسه فكان يتمنى الرحيل عن الدنيا في كل آونة من الزمن ليستريح من مشاكلها وشرورها ، وقد انطلق يدعو اللّه ليعجل انتقاله إليه قائلا : « اللّهم عجل للمرادى شقاءه » ويقول مخاطبا لأهل الكوفة :

« أما واللّه لوددت أن اللّه أخرجني من أظهركم ، وقبضني الى رحمته منكم .. »

لقد قرر « ماكس نورداو » بقاء الأحيل دون الأصلح لأن الأصلح لا يدوم طويلا فى دنيا الاباطيل. وقد كان الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) من المع المصلحين في الدنيا فقد اجهد نفسه على اقامة العدل وبسط المساواة في الأرض ، فكيف يبقى فى عالم المنافع والاضاليل فقد حاربه النفعيون وقاومه طلاب الجاه والسلطان ، وتنكر له ذلك المجتمع الذي لعبت به الاهواء ، وافسدته الاطماع فكيف يدوم حكمه في ذلك المجتمع الهزيل؟!!

وزاد في أسى الامام وأحزانه فقده للبقية الصالحة من صحابة الرسول صلی اللّه علیه و آله من الذين عرفوا اتجاهه ودرسوا في مدرسته امثال عمار ابن ياسر ، وهاشم المرقال وذى الشهادتين وامثالهم من عيون المؤمنين الذين

ص: 503

يعتمد عليهم في إقامة الحق ودحض الباطل واحياء معالم الدين ، وبعد فقده لهم اصبح غريبا في ذلك المجتمع لا ناصر له ولا صديق وأخذ يبتهل الى اللّه ويتضرع إليه أن ينقله الى جواره ليستريح من آلام هذه الحياة التي ما وجد فيها غير الارهاق والعناء.

المؤامرة الدنيئة :

وشهد موسم الحج جمع من الخوارج فتذاكروا من قتل من رفاقهم ومن قتل من سائر المسلمين وقد جعلوا تبعة ذلك على ثلاث من الكفار - في زعمهم - وهم : الامام أمير المؤمنين ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص فقال ابن ملجم : انا أكفيكم على بن أبي طالب ، وقال عمرو بن بكير التميمي : أنا أكفيكم عمرو بن العاص ، وقال الحجاج بن عبد اللّه الصريمي أنا اكفيكم معاوية ، واتفقوا على يوم معين يقومون فيه بعملية الاغتيال وهو اليوم الثامن عشر من شهر رمضان سنة اربعين من الهجرة ، كما عينوا ساعة الاغتيال وهي ساعة الخروج الى صلاة الصبح ، ثم تفرقوا وقصد كل واحد منهم الجهة التي عينها ، ووصل الأثيم ابن ملجم الى الكوفة ، وهو يحمل معه الشر والشقاء لجميع سكان الأرض ، فقد جاء ليخمد ذلك النور الذي اضاء الدنيا ، وقد قصد الماكرة الخبيثة ابنة عمه قطام ، وكان هائما بحبها ، وكانت تدين بفكرة الخوارج وقد قتل أبوها وأخوها فى واقعة النهروان فكانت مثكولة بهم ، وقد خطبها ابن ملجم (1) فلم ترض به زوجا إلا أن يشفى غليلها ، ويحقق اربها ، فقال لها :

ص: 504


1- مروج الذهب 2 / 289. وفي الاخبار الطوال ص 197 : ان ابن ملجم خطب الرباب بنت قطام.

« ما تريدين شيئا الا أنفذته وحققه .. »

فعرضت عليه المهر الذي تريده وهو ثلاثة آلاف درهم ، وعبد وقينة وقتل علي ، فقال لها الأثيم :

« ما سألت هو لك مهر الا قتل على فلا أراك تدركينه » وقد قصد إخفاء الأمر عليها ، ولكن الاثيمة اندفعت تحبذ له قتل الامام وتشجعه على ارتكاب الجريمة قائلة :

« إن أصبته شفيت نفسي ونفعك العيش ، وإن هلكت فما عند اللّه خير لك من الدنيا » ولما عرف الأثيم الجد فى قولها عرفها بنيته ، وأنه ما جاء لهذا المصر إلا لهذه الغاية ، وفى هذا المهر المشوم يقول الفرزدق :

ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة *** كمهر قطام من فصيح واعجم

ثلاثة آلاف وعبد وقينة *** وضرب على بالحسام المسمم

فلا مهر أغلى من علي وإن غلى *** ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم (1)

وقد أوجس أصحاب الامام الخوف عليه من اغتيال الخوارج فتكلموا معه في أن يجعل له رصدا يحرسونه إن خرج لعبادة اللّه او في بعض مهامه ، فامتنع (عليه السلام) من ذلك وقال لهم :

« إن علي من اللّه جنة حصينة (2) فاذا جاء يومي انفرجت عنى

ص: 505


1- مستدرك الحاكم ج 3 ص 143 ونور الابصار ص 95 وذكر زيادة على هذه الأبيات بيتين وهما. ولا غرو للاشراف إن ظفرت بها *** كلاب الأعادي من فصيح واعجم فحربة وحشى سقت حمزة الردى *** وحتف علي من حسام ابن ملجم وفى بعض المصادر ان الابيات لابن ابي مياس المرادي.
2- الجنة بالضم ، الوقاية.

واسلمتني ، فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم » (1)

الفاجعة الكبرى :

ولما أطل على الوجود شهر رمضان ، أفضل الشهور ، واعظمها حرمة وقدرا عند اللّه حتى نسب إليه فقيل شهر اللّه ، كان الامام على علم بانتقاله إلى حضيرة القدس في ظرف هذا الشهر العظيم ، فكان يتناول طعام الافطار الليلة عند الحسن ، وأخرى عند الحسين ، ومرة عند عبد اللّه بن جعفر وهو لا يزيد فى طعامه على ثلاث لقم ، ويحدث عن السبب فى قلة اكله قائلا : « أحب أن يأتيني أمر اللّه ، وأنا خميص البطن » (2)

ولما أقبلت الليلة الثامنة عشرة من شهر رمضان اضطرب الامام أشد الاضطراب ، فجعل يمشي في صحن الدار وهو محزون النفس خائر القوى ينظر إلى الكواكب ويتأمل فيها فيزداد همه وحزنه ، وهو يقول متنبّئا عن وقوع الحادث الخطير في تلك الليلة :

« ما كذبت ، ولا كذبت ، إنها الليلة التي وعدت فيها » (3)

وبقي «ع» طيلة تلك الليلة ، قلقا حزينا يناجي ربه ويطلب منه المغفرة والرضوان ، ويتلو آى الذكر الحكيم ، وقبل أن تشرق أنوار الفجر وينسلخ ظلام الليل القاتم ، أقبل فسبغ الوضوء ، ولما عزم على الخروج من بيته الى مناجاة اللّه وعبادته في بيته الكريم صاحت في وجهه وز (4)

ص: 506


1- طاش السهم : اي جاوز الهدف ولم يصبه : الكلم : بالفتح الجرح جمعه كلوم وكلام.
2- تأريخ ابن الاثير ج 3 ص 168.
3- الصواعق ص 80.
4- الوز : نوع من الطيور.

كانت قد أهديت الى الحسن ، فتنبأ «ع» من صياحهن وقوع الحادث العظيم والرزء القاصم قائلا :

« لا حول ولا قوة إلا باللّه ، صوائح تتبعها نوائح » (1)

وأقبل الحسن وهو مضطرب من خروج أبيه في هذا الوقت الباكر فقال له :

- ما أخرجك في هذا الوقت؟

- رؤيا رأيتها فى هذه الليلة أهالتني.

- خيرا رأيت ، وخيرا يكون قصها على.

- رأيت جبرئيل قد نزل من السماء على جبل أبي قبيس ، فتناول منه حجرين ، ومضى بهما الى الكعبة ، فضرب احدهما بالآخر فصارا كالرميم ، فما بقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله من ذلك الرماد شيء - ما تأويل هذه الرؤيا؟

- إن صدقت رؤياي ، فان أباك مقتول ، ولا يبقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله الهم والحزن من أجلى.

فالتاع الحسن وذهل وانبرى قائلا بصوت خافت حزين النبرات :

- متى يكون ذلك؟

- إن اللّه تعالى يقول ( وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) (2) ولكن عهد الي حبيبي رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه يكون في العشر الأواخر من شهر رمضان ، يقتلني عبد الرحمن بن ملجم.

ص: 507


1- مروج الذهب ج 2 ص 291
2- سورة لقمان آية 34.

- إذا علمت ذلك فاقتله.

- لا يجوز القصاص قبل الجناية والجناية لم تحصل منه.

وأقسم الامام على ولده الحسن أن يرجع الى فراشه ، فلم يجد الحسن بدا من الامتثال (1) وخرج الامام الى بيت اللّه في السحر ، وقد جاء فى الأخبار أن السحر وقت تجلى اللّه فينفح فيه الرحمات ويهب به البر والخير ويستجيب فيه الدعاء.

ولما انتهى الامام الى بيت اللّه ، جعل على عادته يوقض الناس لعبادة اللّه ومناجاته ، وحينما فرغ من ذلك شرع في صلاته ، وبينما هو ماثل بين يدي الخالق الحكيم والصلاة بين شفتيه وقلبه مشغول بذكر اللّه إذ هوى عليه الوغد الأثيم ابن ملجم (2) وهو يهتف بشعار الخوارج ( الحكم لله لا لك ) وضرب الامام على رأسه فقد جبهته الشريفة التي طالما عفرها بالخضوع لله بكل ما للخضوع من معنى ، وانتهت الضربة القاسية إلى دماغه المقدس الذي ما فكر إلا فى نفع الناس وسعادتهم ورفع الشقاء عنهم ، ولما احس

ص: 508


1- وجاء فى الاستيعاب ان الحسن خرج مع ابيه ولم ينفصل عنه.
2- لم يكن الاثيم وحده هو الذي قدم على قتل الامام بل كان معه شبيب بن بحيرة ومجاشع بن وردان ، واقبلوا الى قطام فعصبتهم بحرير وكانت معتكفة بالمسجد ، فاخذ هؤلاء اسيافهم وقعدوا مقابلين لباب السدة التي يخرج منها الامام للمسجد ، وقد علم الاشعث نية ابن ملجم فقال له محفزا على ارتكاب الجريمة ( النجا فضحك الصبح ) ولما سمع حجر بن عدى كلامه قال له : قتلته يا اعور قتلك اللّه ، إما ابن ملجم فضرب الامام على راسه ، وإما شبيب فوقعت ضربته بعضادة المسجد وإما ابن وردان فهرب جاء ذلك في مروج الذهب ج 2 ص 290

علیه السلام بلذع السيف في رأسه صاح :

« فزت ورب الكعبة »

لقد فاز الامام ، وأى فوز اعظم من فوزه؟ فقد جاءته النهاية المحتومة وهو بين يدي اللّه وذكره بين شفتيه ، فى أقدس بيت ، واعظم شهر.

لقد فاز إمام الحق لأنه أرضى ضميره الحي فلم يوارب ولم يخادع منذ بداية حياته حتى النهاية ، ولقد قتل على غير مال احتجبه ولا على دنيا أصابها ولا سنة في الاسلام غيرها.

لقد فاز الامام ، وأى فوز أعظم من فوزه؟ فقد أفاض عليه الخلود لباس البقاء ليكون مظهرا للعدالة وعنوانا للحق. ومثالا للانسانية الكاملة التي ارتقت سلم الكمال حتى بلغت نهايته.

لقد فاز الامام ، وأى فوز اعظم؟ من أن يذكر قرينا للحق والعدل وتذكر مبادئه المقدسة اعجوبة لقادة الفكر الانساني يسيرون على ضوئها للعمل في حقل الاصلاح ، ولما وقع الامام صريعا في محرابه هتف معرفا بقاتله :

« قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم ، فلا يفوتنكم. »

فهرع الناس الى المسجد بجميع طبقاتهم وهم معولون نادبون قد اذهلهم الخطب وروعهم المصاب وبلغ بهم الحزن الى قرار سحيق وفى مقدمتهم أولاد أمير المؤمنين ، فوجدوا الامام طريحا في محرابه وجعدة ابن هبيرة (1) وجماعة حافون به يعالجونه للصلاة وهو لا يستطيع ولما وقع نظره

ص: 509


1- جعدة بن هبيرة المخزومي ابن أم هاني بنت ابي طالب له صحبة مع النبي. وقال ابن معين لم يسمع من النبيّ شيئا ، وقال العجلى : إنه تابعي ثقة ، جاء ذلك فى خلاصة تهذيب الكمال ص 53 ، وجاء فى الاستيعاب : ان جعدة كان فقيها ، قد ولاه خاله الامام على خراسان وقال ابو عبيدة ولدت أم هاني بنت ابي طالب من هبيرة ثلاث بنين : جعدة وهاني ويوسف.

على ولده الحسن أمره أن يصلى بالناس (1) وصلى الامام وهو جالس والدم ينزف منه ، ولما فرغ الحسن من صلاته أخذ رأس أبيه فوضعه في حجره ودموعه تتبلور على وجهه الشريف ، فقال له :

- من فعل بك هذا؟

- ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم.

- من أي طريق مضى؟

- لا يمض أحد فى طلبه ، إنه سيطلع عليكم من هذا الباب ، وأشار الى باب كندة ، فاشتغل الناس بالنظر إليها وما هي إلا فترات وإذا الصيحة قد ارتفعت فقد ظفر بالأثيم المجرم ابن ملجم (2) فجيء به مكتوفا مكشوف الرأس ، فأوقف بين يدى الحسن فقال له » :

« يا ملعون ، قتلت أمير المؤمنين ، وإمام المسلمين ، هذا جزاؤه حين آواك وقربك حتى تجازيه بهذا الجزاء ».

والتفت الى أبيه قائلا : يا أبة هذا عدو اللّه وعدوك ابن ملجم قد أمكننا اللّه منه. ففتح الامام عينيه وقال له بصوت خافت :

« لقد جئت شيئا إدا وأمرا عظيما ، ألم أشفق عليك واقدمك على

ص: 510


1- مطالب السئول فى مناقب آل الرسول ص 63.
2- ذكر المسعودى في مروج الذهب ج 2 ص 290 ان الاثيم ابن ملجم لما ضرب الامام شد عليه الناس فجعلوا يرمونه بالحصباء ويصيحون عليه ، فضرب المغيرة بن نوفل بن الحرث وجهه فصرعه واقبل به الى الحسن ، وهناك اقوال أخر فى كيفية القبض عليه.

غيرك في العطاء؟ فلما ذا تجازيني بهذا الجزاء؟ » وقال للحسن يوصيه ببره والاحسان إليه.

« يا بني ارفق بأسيرك وارحمه ، واشفق عليه. »

فقال له الحسن :

« يا أبتاه ، قتلك هذا اللعين ، وفجعنا بك ، وأنت تأمرنا بالرفق به!! »

فاجابه أمير المؤمنين :

يا بني نحن أهل بيت الرحمة والمغفرة ، أطعمه مما تأكل ، واسقه مما تشرب ، فان أنامت فاقتص منه بأن تقتله ، ولا تمثل بالرجل فانى سمعت جدك رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور وإن أنا عشت فأنا أعلم ما افعل به ، وأنا أولى بالعفو ، فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا عفوا وكرما. »

وأمر (عليه السلام) بحمله الى الدار فحمل والناس تهرول خلفه قد اشرفت على الهلاك من البكاء والعويل قد أخذتهم المائقة وهم يهتفون بذوب الروح :

قتل إمام الحق ، قتل إمام الحق.

واستقبلته بناته وعياله بالبكاء والعويل ولما استقر في ثويه ، التفت إليه الحسن وقد حرق الهم والجزع قلبه قائلا :

« يا أبة ، من لنا بعدك؟ إن مصابنا بك مثل مصابنا برسول اللّه » فضمه الامام وقال مهدا روعه :

يا بني ، اسكن اللّه قلبك بالصبر ، وعظم أجرك ، واجر اخوتك بقدر مصابكم بي.

وجمع الحسن لجنة من الاطباء لمعالجته وكان ابصرهم بالطب أثير بن

ص: 511

عمرو السكوني (1) فاستدعى برئة شاة حارة فتتبع عرقا منها فاستخرجه فأدخله في جرح الامام ثم نفخ العرق فاستخرجه فاذا هو مكلل ببياض الدماغ ، لأن الضربة قد وصلت الى دماغ الامام فارتبك أثير والتفت إلى الامام - واليأس في صوته - قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، اعهد عهدك ، فانك ميت » (2)

فالتفت الحسن الى ابيه ودموعه تتبلور على وجهه ، وشظايا قلبه يلفظها بنبرات صوته قائلا :

« أبة. كسرت ظهري ، كيف استطيع أن أراك بهذه الحالة؟ » وبصر الامام فرأى الأسى قد استوعب نفسه فقال له برفق :

« يا بنى لا غم على أبيك بعد هذا اليوم ولا جزع ، اليوم القى جدك محمد المصطفى ، وجدتك خديجة الكبرى ، وامك الزهراء ، وإن الحور العين ينتظرن أباك ويترقبن قدومه ساعة بعد ساعة ، فلا بأس عليك ، يا بني لا تبك. »

وتسمم دم الامام ، ومال وجهه الشريف الى الصفرة ، وكان في تلك الحالة هادئ النفس قرير العين لا يفتر عن ذكر اللّه وتسبيحه وهو ينظر الى آفاق السماء ، ويبتهل الى اللّه بالدعاء قائلا :

« إلهي. أسألك مرافقة الأنبياء ، والأوصياء وأعلى درجات الجنة » وغشى عليه فذاب قلب الحسن وجعل يبكى مهما ساعدته الجفون ، فسقطت قطرات من دموعه على وجه الامام فأفاق ، فلما رأه قال له :

ص: 512


1- اثير بن عمرو السكوني ، كان احد الاطباء الماهرين يعالج الجراحات الصعبة وكان صاحب كرسي ، وله تنسب صحراء اثير.
2- الاستيعاب ج 2 ص 62.

مهدأ روعه :

« يا بني ما هذا البكاء؟ لا خوف ولا جزع على أبيك بعد اليوم ، يا بني لا تبك ، فأنت تقتل بالسم ، ويقتل أخوك الحسين بالسيف. »

وصاياه :

وأخذ الامام يوصى أولاده بمكارم الاخلاق ، ويضع بين أيديهم المثل الرفيعة ويلقي عليهم الدروس القيمة ، وقد وجه «ع» نصائحه الرفيعة أولا لولديه الحسن والحسين ، وثانيا لبقية اولاده ولعموم المسلمين.

قائلا :

« أوصيكما بتقوى اللّه ، وان لا تبغيا الدنيا وان بغتكما (1) ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما ، وقولا للحق واعملا للاجر ، وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا.

أوصيكما ، وجميع ولدى وأهلي ومن بلغه كتابي ، بتقوى اللّه ، ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم ، فاني سمعت جدكما صلی اللّه علیه و آله يقول : صلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام. اللّه اللّه في الأيتام ، فلا تغبوا أفواههم (2) ولا يضيعوا بحضرتكم ، واللّه اللّه في جيرانكم ، فانهم وصية نبيكم ، ما زال يوصى بهم حتى ظننا أنه سيورثهم واللّه اللّه في القرآن ، لا يسبقكم بالعمل به غيركم ، واللّه اللّه في الصلاة ، فانها عمود دينكم ، واللّه اللّه في بيت ربكم ، لا تخلوه ما بقيتم فانه إن ترك

ص: 513


1- المعنى : لا تطلبا الدنيا ، وإن طلبتكما.
2- لا تغبوا افواههم : اى لا تقطعوا صلتكم عنهم وصلوا افواههم بالطعام دوما.

لم تناظروا (1) واللّه اللّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم والسنتكم فى سبيل اللّه ، وعليكم بالتواصل والتباذل (2) وإياكم والتدابر والتقاطع ، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم.

ثم قال علیه السلام مخاطبا لآله وذويه :

يا بني عبد المطلب لا ألفينكم (3) تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون قتل أمير المؤمنين ، قتل امير المؤمنين ، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلى

انظروا إذا أنامت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ، ولا يمثل بالرجل ، فاني سمعت رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول : إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور » (4)

وأخذ (عليه السلام) يوصى ولده الحسن خاصة بمعالم الدين وإقامة شعائره قائلا :

« أوصيك ، اى بني ، بتقوى اللّه ، وإقام الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة عند محلها وحسن الوضوء ، فانه لا صلاة إلا بطهور ، واوصيك بغفر الذنب وكظم الغيظ ، وصلة الرحم ، والحلم عن الجاهل والتفقه فى الدين ، والتثبت في الامر ، والتعاهد للقرآن ، وحسن الجوار والأمر بالمعروف

ص: 514


1- لم تناظروا ، مبني للمجهول : اي لا ينظر إليكم بالكرامة والرحمة من اللّه وغيره إن إن اهملتم تعاليم الدين وفروضه.
2- التباذل : العطاء.
3- لا الفينكم : اي لا اجدنكم تخوضون دماء المسلمين بالسفك انتقاما منهم بقتلى.
4- شرح النهج محمد عبده ج 3 ص 85.

والنهي عن المنكر ، واجتناب الفواحش » (1)

وفي اليوم العشرين من شهر رمضان ازدحمت الجماهير من الناس على بيت الامام طالبين الاذن لعيادته ، فاذن لهم اذنا عاما ، فلما استقر بهم المجلس التفت لهم قائلا :

« سلوني قبل أن تفقدوني ، وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم »

فاشفق الناس أن يسألوه ، نظرا لما ألم به من شدة الألم والجرح.

اقامة الحسن من بعده :

ولما علم أمير المؤمنين أنه مفارق لهذه الدنيا ، وان لقاءه بربه لقريب عهد بالخلافة والامامة لولده الحسن فاقامه من بعده لترجع إليه الأمة في شئونها كافة ، ولم تختلف كلمة الشيعة في ذلك فقد ذكر ثقة الاسلام الكليني (2) ان أمير المؤمنين اوصى إلى الحسن ، واشهد على وصيته الحسين ومحمدا وجميع ولده ، ورؤساء شيعته وأهل بيته ، ثم دفع إليه الكتب والسلاح ، وقال له : يا بني. أمرني رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) أن أوصى إليك ، وأن ادفع إليك كتبي وسلاحي كما اوصى الى رسول اللّه ، ودفع إلي كتبه وسلاحه

ص: 515


1- تاريخ ابن الاثير ج 3 ص 170.
2- الكليني : هو محمد بن يعقوب بن اسحاق ، وهو من اعظم علماء الشيعة ، ومن المجددين لمذهب الامامية في المائة الثالثة من الهجرة ومن اشهر مؤلفاته : الكافي انفق على تأليفه من الوقت عشرين سنة ، وهو من اجل الكتب الاسلامية ومن اهمها » وقال محمد امين الأسترآبادي في محكى فوائده : انه سمع من بعض العلماء انه لم يصنف فى الاسلام كتاب يوازى الكافي ويدانيه ، توفى رحمه اللّه فى بغداد سنة 329 هجرية وصلى عليه محمد ابن جعفر الحسيني ودفن بباب الكوفة ( الكنى والالقاب 3 / 98 )

وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها الى أخيك الحسين. »

وروى أيضا انه قال له : « يا بني أنت ولي الدم فان عفوت فلك وإن قتلت فضربة مكان ضربة » (1)

وذهب جماعة من اهل السنة والجماعة الى أن أمير المؤمنين لم يعهد بالامر الى ولده الحسن مستدلين على ذلك بما رواه شعيب بن ميمون الواسطي (2) ان عليا قيل له ألا تستخلف؟ فقال : إن يرد اللّه بالأمة خيرا يجمعهم على خيرهم. وهذه الرواية من موضوعات شعيب ومن مناكيره كما نص على ذلك ابن حجر (3)

ان الامام الحسن ريحانة رسول اللّه ، وسيد شباب أهل الجنة ، وهو امام إن قام أو قعد - على حد تعبير رسول اللّه - وقد هذبه اللّه عن كل نقص ورجس - كما دلت على ذلك آية التطهير - بالاضافة الى توفر جميع ما تتطلبه الخلافة من الصفات الرفيعة في شخصيته كالعلم والتقوى والحزم والجدارة فكيف لا يرشد الامام أمير المؤمنين الى مبايعته ولا يجعله علما من بعده؟!!

ان أمير المؤمنين من احرص المسلمين على جمع كلمتهم وتوحيد أمرهم فكيف يترك الأمر فوضى من بعده ولا يجعل لهم مفزعا وملجأ يلجئون إليه لا سيما في تلك الفترة الرهيبة التي احاطت بهم الاخطار والمشاكل؟!!

ص: 516


1- اصول الكافى 1 / 297 - 298
2- شعيب بن ميمون الواسطي صاحب البزور ، قال ابو حاتم : مجهول وكذا قال العجلى : وقال البخاري : فيه نظر ، وقال ابن حبان يروى المناكير عن المشاهير على قلته لا يحتج به اذا انفرد ، تهذيب التهذيب 4 / 357.
3- تهذيب التهذيب 4 / 357 وجاء فيه : ومن مناكيره عن حصين عن الشعبي عن أبي وائل قال قيل لعلي الا تستخلف الرواية.

الى الرفيق الاعلى :

ولما فرغ الامام امير المؤمنين من وصاياه اخذ يعاني آلام الموت وشدته ، وهو يتلو آى الذكر الحكيم ويكثر من الدعاء والاستغفار ، ولما دنا منه الأجل المحتوم كان آخر ما نطق به قوله تعالى ( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) ثم فاضت روحه الزكية الى جنة المأوى وسمت الى الرفيق الاعلى (1) وارتفع ذلك اللطف الإلهي الى مصدره فهو النور الذي خلقه اللّه ليبدد به غياهب الظلمات.

لقد مادت اركان العدل وانطمست معالم الدين ، ومات عون الضعفاء وأخو الغرباء وأبو الايتام.

سيدى : أبا الحسن لقد مضيت الى عالم الخلود وأنت مكدود مجهود مجهول حقك وقدرك ، فقد قضيت حياتك في ذلك الجيل القاتم الذي لا يقيم وزنا للعلم ولا للعدل ، ولا يعي ما تنشده من الأهداف الرامية الى بناء مجتمع تسوده العدالة والرفاهية والخير ، ولو كان للانسانية حظ لثنيت لك الوسادة وتسلمت قيادة الامة لتفيض على العالم بمعارفك وعلومك فانا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 517


1- اختلف المؤرخون فى الليلة التي ضربه فيها ابن ملجم فقيل : ليلة الثامن عشر من رمضان. ذهب الى ذلك المسعودي في مروج الذهب ، وقيل ليلة السابع عشر ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب. وذهب مؤرخو الشيعة ان ذلك كان في الليلة التاسعة عشرة ، واما عمره الشريف فقيل اربع وستون وقيل ثلاث وستون وقيل غير ذلك ، ومدة خلافته اربع سنين وتسعة اشهر وستة ايام ، وعمر الحسن في ذلك الوقت سبع وثلاثون سنة. جاء ذلك في كشف الغمة ص 154

تجهيزه ودفنه :

وأخذ الحسن (عليه السلام) في تجهيز أبيه فغسل الجسد الطاهر وطيبه بالحنوط ، وأدرجه في اكفانه ، ولما حل الهزيع الأخير من الليل خرج ومعه حفنة من آله وأصحابه يحملون الجثمان المقدس الى مقره الأخير فدفنه في النجف الأشرف حيث مقره الآن كعبة للوافدين ومقرا للمؤمنين والمتقين ومدرسة للمتعلمين ، ورجع الامام الحسن بعد أن وارى أباه الى بيته وقد استولى عليه الاسى والذهول وأحاط به الحزن.

القصاص من ابن ملجم :

وفي صبيحة ذلك اليوم الخالد فى دنيا الأحزان طلب الامام الحسن احضار المجرم الأثيم عبد الرحمن بن ملجم فلما مثل بين يديه قال له ابن ملجم :

- ما الذي أمرك به أبوك؟

- أمرني أن لا أقتل غير قاتله ، وأن أشبع بطنك وانعم وطأك ، فان عاش اقتص أو عفا وإن مات ألحقتك به.

فقال الأثيم متبهرا :

« إن كان أبوك ليقول الحق ، ويقضي به في حال الغضب والرضا!! » ثم ان الامام الحسن ضربه بالسيف فاتقى اللعين الضربة بيده فبدرت ثم جهز عليه فقتله ولم يمثل به (1) « وحلت على ابن ملجم لعنة اللّه ولعنة اللاعنين ومن ولدوا ومن ماتوا ومن قال اللّه لهم : كونوا فكانوا!! لعنة

ص: 518


1- تاريخ اليعقوبى 2 / 191 ، تاريخ الطبري 6 / 86 ، مقاتل الطالبيين ص 16 ، تأريخ ابن الأثير 3 / 170

تجفف النبع وتخضم الزرع ، وتحرق النبت في الارض وهو وسيم ، وجعل اللّه زفير جهنم وشهيقها في أصول تكوينه! وأهلكه الف شيطان كبوه على وجهه في سواء الجحيم وفيها لفح وفيها أفواه من اللّهب ذات أجيج وذات صفير » (1)

وأما التمثيل به فقد ذهب إليه فريق من المؤرخين ولا شك انه من الموضوعات وذلك لنهي أمير المؤمنين عنه ، مكررا لقول النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : « المثلة حرام ولو بالكلب العقور » فكيف يسوغ لريحانة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وسبطه أن يعرض عن وصية أبيه ، ويرتكب ما خالف الشريعة الاسلامية؟ وقد اختلف القائلون بذلك في الشخص الذي مثل بابن ملجم : فالمحب الطبري ذكر ان الذي مثل به الامام الحسين ومحمد بن الحنفية ، وقد نهاهما الحسن عن ذلك فلم يذعنا له (2) وذكر أبو الفداء ان الذي قام بذلك عبد اللّه بن جعفر (3) وذكر ابن أبي الحديد ان الحسن هو الذي قام به (4)

ان هذا الاختلاف يزيدنا وثوقا بافتعال ذلك وعدم صحته ، وجزم الدكتور طه حسين بصدور التمثيل من اولياء الدم قال :

« والشيء المحقق هو ان ولاة الدم لم ينفذوا وصية علي في أمر قاتله فهو قد امرهم أن يلحقوه به ، ولا يعتدوا ، ولكنهم مثلوا به أشنع التمثيل فلما مات حرقوه بالنار » (5)

ص: 519


1- الامام علي صوت العدالة الانسانية 4 / 1003
2- الرياض النضرة.
3- تأريخ ابى الفداء 1 / 180
4- شرح النهج 5 / 452
5- على وبنوه ص 184

ان الشيء المحقق على خلاف ما ذكره الدكتور وذلك لما ذكرناه من عدم اتفاق المؤرخين على التمثيل به ، والذين اتفقوا عليه قد اختلفوا في ذلك كما ذكرنا ، بالاضافة الى أن أولياء الدم بعيدون كل البعد عن ارتكاب ما خالف الشريعة الاسلامية.

وعلى أي حال فان الامام الحسن بعد ما فرغ من قتل ابن ملجم ، انثال الناس على مبايعته - كما سنذكر ذلك بالتفصيل - وقد استقبل الحسن الخلافة بما لم يستقبلها احد من الذين سبقوه فقد اصبحت الحاظرة الاسلامية الخاضعة لنفوذه مهددة بخطر معاوية فقد قوى أمره ، واستحكم سلطانه ، وعظم شره ، وانضم إليه كل من لم يع الاسلام من ذوي الاطماع والأهواء فعملوا جاهدين على إفساد امر الامام وتقويض خلافته ، ومضافا لهذا الخطر الخارجي الفتن الداخلية التي نشبت أظفارها في المجتمع العراقي وأهمها خطرا واعظمها محنة وبلاء هي فتنة الخوارج التي كانت سوسة تنخر في المعسكر العراقي ، وخطرا مسلحا من أهم الاخطار الفتاكة في الدولة الجديدة ، فقد انجرف بفكرتهم السذج والمغرر بهم من البسطاء.

هذان الخطران معظم ما استقبله الامام الحسن في دور خلافته ، ولقد ابتلى بهما أشد البلاء ، ولم يبتل وحده بهما ، فقد ابتلى بهما النظام الاسلامي والخلافة الرشيدة فقد كان يرجى في دوره ان تنتشر مفاهيم الاسلام وتسود العدالة الاجتماعية في الارض ويقضى على الغبن الاجتماعي والظلم الاجتماعي وهنا ينتهي بنا المطاف عن الحلقة الأولى من هذا الكتاب ونستقبل الامام الحسن في عهد خلافته لنقف على انبائها بالتفصيل.

ص: 520

محتويات الكتاب

ص: 521

البسملة مع آي من الذكر الحكيم... 5

الاهداء... 6

تقديم لسماحة الامام كاشف الغطاء... 7

تقديم الطبعة الثانية... 12

تقديم الطبعة الأولى... 20

اجتماع النورين... 29

نشأة الصديقة... 31

سمو منزلتها... 33

خطبة الامام لها... 36

المهر... 38

الجهاز... 39

خطبة العقد... 41

الوليمة ، الزفاف... 43

الوليد الجديد... 47

ولادة الامام الحسن... 49

سنن الولادة... 51

(1) الأذان والاقامة (2) التسمية

(3) العقيقة (4) حلق رأسه (5)

الختان (6) كنيته ، ألقابه ، ملامحه

ص: 522

ذكاء وعبقرية... 57

العوامل المؤثرة في نمو الذكاء ، التربية الصالحة ، سلوك... 59

الوالدين ، الوراثة

حفظه للحديث... 62

تكريم وحفاوة... 65

اشادة الكتاب العزيز بفضله... 67

(1) آية المودة... 67

(2) آية التطهير... 69

( أ ) دلالتها على العصمة ( ب ) المختصون بها ( ج )

خروج نساء النبي ( د ) مزاعم عكرمة

(3) آية المباهلة ... 74

قصة المباهلة... 75

(4) سورة هل أتى... 77

السنة ... 79

الطائفة الاولى في عرض الاخبار الواردة في فضل

الامام الحسن خاصة ،

الطائفة الثانية في ذكر الاخبار الواردة في الحسنين

الطائفة الثالثة... في عرض الأخبار الواردة في فضل

أهل البيت (عليهم السلام)

ص: 523

احتفاء المسلمين به... 94

الفاجعة الكبرى... 95

حجة الوداع... 98

غدير خم... 99

استغفاره لأهل البقيع... 103

سرية أسامة... 104

اهتمام النبي بها ، التخاذل من الالتحاق بالجيش السبب

في عدم تولية النبي قيادة جيشه لشيوخ الصحابة

الحكمة في تأمير أسامة

اعطاء القصاص من نفسه... 110

توجع الزهراء ... 112

التصدق بما عنده... 113

الرزية الكبرى طلب النبي احضار الدواة والكتف... 114

امتناعهم من اجابته

الى الرفيق الاعلى... 116

في عهد الشيخين ... 123

السقيفة ... 126

فذلكة عمر ، انكاره لموت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أسباب ذلك... 128

ص: 524

مباغتة الانصار... 131

بيعة أبي بكر ... 134

امتناع أمير المؤمنين عن البيعة... 138

احتجاج ومناظرات... 139

(1) أمير المؤمنين (2) الزهراء (3) الامام الحسن

(4) سلمان الفارسي (5) عمار بن ياسر (6) خزيمة

ابن ثابت (7) أبو الهيثم بن التيهان (8) سهل بن حنيف (9) عثمان بن حنيف (10) أبو أيوب

الانصاري (11) عتبة بن أبي لهب

كيس دار الامام... 152

مصادرة فدك... 155

ندم أبي بكر ... 158

شجون الزهراء ... 160

الى الرفيق الاعلى... 163

اعتزال الامام... 169

وفاة أبي بكر... 171

خلافة عمر... 174

اعتزال الامام... 176

اغتيال عمر... 177

الشورى... 179

نظرة في الشورى... 186

ص: 525

الانتخاب... 191

في عهد عثمان... 199

عفوه عن عبيد اللّه المؤاخذات التي ترد على ذلك ،... 205

دفاع طه حسين

سياسته المالية ... 210

هباته للامويين... 212

( أ ) أبو سفيان ( ب ) الحارث بن الحكم ( ج )

عبد اللّه بن سعد ( د ) الحكم بن أبي العاص (1)

محاربته للاسلام (2) استهزاؤه بالنبي (3) لعن النبي له (4) نفيه الى الطائف (5) رجوعه الى يثرب (6) توليته على الصدقات

( ه ) سعيد بن العاص ( و) الوليد بن عقبة

( ز ) مروان بن الحكم

الانكار على عثمان... 220

اعتذار عثمان... 221

منحه للاعيان... 223

استئثاره بالأموال... 224

مع الدكتور طه حسين... 226

ولاته على الامصار... 230

(1) الوليد بن عقبة ( أ ) نشأته ( ب ) فسقه

ص: 526

( ج ) ولايته على الكوفة ( د ) شربه للخمر

رأى طه حسين ( ه ) اقامة الحد عليه

(2) سعيد بن العاص... 240

(3) عبد اللّه بن عامر... 243

(4) معاوية بن أبي سفيان ... 246

(5) عبد اللّه بن سعد... 248

تنكيله بالصحابة... 250

(1) عبد اللّه بن مسعود (2) أبو ذر ، نفيه الى

الشام ، نفيه الى الربذة (3) عمار بن ياسر

الافتراء على الامام الحسن... 269

الثورة ، الثوار ( أ ) الوفد المصري ( ب ) الوفد الكوفى... 272

( ج ) الوفد البصري

استنجاده بالامصار... 277

يوم الدار... 278

موقف الامام الحسن... 279

الاجهاز على عثمان... 280

المثل العليا

امامته ( أ ) معنى الامامة ( ب ) الحاجة الى الامامة

( ج ) واجبات الامام ( ه ) تعيينه

اخلاقه الرفيعة... 290

ص: 527

كرمه وسخاؤه... 294

عبادته وتقواه (1) وضوؤه وصلاته (2) حجه... 303

(3) تلاوته للقرآن (4) التصدق بأمواله

زهده... 305

هيبته ووقاره... 307

فصاحته وبلاغته... 310

الآداب الاجتماعية ، مكارم الاخلاق ، الجرائم

الاخلاقية ، التحريض على طلب العلم ، فضل العقل

فضل القرآن الكريم ، الدعاء ، السياسة ، الصديق

والصاحب ، البخل ، التواضع ، ابطال الجبر ، الوعظ

والارشاد ، طلب الرزق ، المساجد ، آداب المائدة

ولاء اهل البيت ، التحذير من المحرفين لكتاب اللّه

الشاهد والمشهود ، بعض خطبه ، كلماته الحكمية

القصار ، نظمه للشعر

في عهد الامام على... 331

البيعة... 333

تأييد الصحابة... 337

(1) ثابت بن قيس (2) خزيمة بن ثابت (3)

صعصعة بن صوحان (4) مالك (5) عقبة بن عمرو

وجوم القرشيين... 339

ص: 528

القعاد... 341

مصادرة الاموال المنهوبة... 343

عزل الولاة... 344

اعلان المساواة... 345

وصاياه لولده الحسن... 346

في البصرة... 357

تمرد طلحة والزبير... 359

خروج عائشة... 363

دوافع تمردها... 365

اعلان العصيان... 369

مع أم سلمة... 371

الزحف الى البصرة... 374

ماء الحوأب... 376

في ربوع البصرة... 378

عقد الهدنة... 381

غدر وخيانة... 381

مقتل حكيم بن جبلة... 384

استنجاد الامام بالكوفة... 385

ايفاد الحسن... 387

الافتراء على الحسن... 393

ص: 529

التقاء الفريقين... 396

خطاب ابن الزبير... 398

خطاب الحسن... 398

الدعوة الى كتاب اللّه... 400

اعلان الحرب... 401

مصرع الزبير ... 402

الاحتفاف بعائشة ( أ ) الأزد ( ب ) بنو ضبة... 406

( ج ) بنو ناجية

عقر الجمل... 408

الصفح عن عائشة... 409

العفو العام... 410

تسريح عائشة... 410

في صفين ... 415

تمرد معاوية ، بواعث ذلك... 418

ايفاد جرير... 421

مراسلة معاوية لعمرو... 424

حيرة وذهول... 425

قدومه الى الشام... 427

المساومة الرخيصة... 428

رد جرير ... 429

ص: 530

زحف معاوية لصفين... 430

تهيؤ الامام للحرب... 431

خطبة الحسن... 432

الحسن مع سليمان... 433

المسير الى صفين... 434

القتال على الماء... 436

ايفاد السفراء الى معاوية... 439

اعلان الحرب... 442

الحسن مع عبيد اللّه... 444

الحرب العامة... 446

مصرع عمار... 450

رفع المصاحف... 457

الفتنة الكبرى... 458

انتخاب الاشعري... 465

وثيقة التحكيم... 466

انبثاق الفكرة الحرورية... 468

احتجاج ومناظرات... 469

اجتماع الحكمين... 472

خطاب الامام الحسن... 479

تمرد الخوارج... 482

واقعة النهروان... 485

ص: 531

المتارك البغيضة ... 489

(1) تمرد الجيش (2) فقده لاعلام أصحابه

(3) الاحتلال والغزو (4) فتنة الخريت

مصرع الحق... 501

المؤامرة الدنيئة... 504

الفاجعة الكبرى... 506

وصاياه... 513

اقامة الحسن من بعده... 515

الى الرفيق الاعلى... 517

تجهيزه ودفنه... 518

القصاص من ابن ملجم... 518

محتويات الكتاب... 521

ص: 532

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.