حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: باقر شريف القرشي

الناشر: دار البلاغة

المطبعة: دار البلاغة

الطبعة: 1

الموضوع : سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام)

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 374

المكتبة الإسلامية

باقر شريف القرشي

حياة الإمام محمد الباقر عليه السلام

الجزء الأول

دارالبلاغة

بطاقة تعريف: قریشی ، باقر شریف ، - 1926

عنوان المؤلف واسمه: حياة الإمام محمّد الباقر عليه السلام دراسة وتحليل/ باقر شریف القریشي

تفاصيل النشر: بیروت : دارالبلاغة ، م 1993 = .ق 1413 = .1372.

مواصفات المظهر: ج 2

حالة الاستماع: القائمة السابقة

ملحوظة: فهرس

موضوع : محمد بن علی (عليهماالسلام)، امام پنجم ، ق 114 - 57

تصنيف الكونجرس: BP44/ق 4ح 9

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-20426

محرّر الرّقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ

ص: 3

ص: 4

الإهداء

اليك ... يا مفجر العلم والنور فى الارض

اليك ... يا رسول الانسانية ...

اليك ... يا خاتم النبيين ...

أرفع الى مقامك العظيم هذا البحث المتواضع عن سيرة سبطك الامام محمد الباقر الذي سميته باسمك ولقبته بباقر العلم ...

فكان المجدد لدينك والمحيي لسنتك فليس احد هو اولى بهذا الاهداء منك فتقبل هذه البضاعة المزجاة

وتلطف علي برضاك ليكون ذخراً لي يوم القى اللّه

ص: 5

ص: 6

المقدمة

اشارة

ص: 7

ص: 8

(1)

الامام محمد الباقر (عليه السلام) من أفذاذ العترة الطاهرة ، ومن أعلام أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومن ابرز رجال الفكر والعلم في الاسلام فقد قام - فيما اجمع عليه المؤرخون - بدور إيجابي وفعال في تكوين الثقافة الاسلامية وتأسيس الحركة العلمية في الاسلام ، فقد تفرغ لبسط العلم واشاعته بين المسلمين في وقت كان الجمود الفكري قد ضرب نطاقه على جميع انحاء العالم الاسلامي ، ولم تعد هناك أية نهضة فكرية أو علمية ، فقد منيت الامة بثورات متلاحقة ، وانتفاضات شعبية كان مبعثها تارة التخلص من جور الحكم الاموي واضطهاده ، واخرى الطمع بالحكم ، واهملت من جراء ذلك الحياة العلمية اهمالا تاما فلم يعدلها أي ظل على مسرح الحياة.

وقد ابتعد الامام الباقر (عليه السلام) عن تلك التيارات السياسية ابتعادا مطلقا فلم يشترك بأي عمل سياسي يتصادم مع الحكم القائم آنذاك ، واتجه صوب العلم فرفع مناره ، وأسس قواعده وأرسى اصوله ، فكان الرائد والمعلم والقائد لهذه الأمة في مسيرتها الثقافية ، وقد سار بها خطوات واسعة في ميادين البحوث العلمية مما يعتبر عاملا جوهريا في ازدهار الحياة الاسلامية وتكوين حضارتها المشرقة في الاجيال التي جاءت بعده.

وكان من أهم ما عنى به الامام أبو جعفر (عليه السلام) نشر الفقه الاسلامي الذي يحمل روح الاسلام وجوهره وتفاعله مع الحياة فسهر على احيائه فاقام

ص: 9

مدرسته الكبرى التي زخرت بكبار الفقهاء كأبان بن تغلب ومحمد بن مسلم ، وبريد وأبي بصير الاسدي والفضل بن يسار ، ومعروف بن خربوذ وزرارة ابن اعين ، وهؤلاء الاعلام ممن اجمعت الصحابة على تصديقهم والاقرار لهم بالفقه ، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ولو لا هم لضاعت تلك الثروة الفكرية الهائلة التي يعتز بها العالم الاسلامي وهي احدى المدارك الاساسية لفقهاء الشيعة في استنباطهم للأحكام الشرعية.

والشيء الذي يدعو الى الاعتزاز بسيرة الامام هو انه قد تبنى هؤلاء الفقهاء فاشاد بهم ، وعزز مركزهم ، وارجع الأمة الى فتواهم يقول (عليه السلام) لأبان بن تغلب :

« اجلس في مسجد المدينة ، وافت الناس فاني أحب أن يرى في شيعتي مثلك » (1).

وقد قام بتسديد نفقاتهم وما يحتاجون إليه في حياتهم المعاشية ليتفرغوا الى تحصيل العلم وضبط قواعده وتدوينه ، وعهد من بعده الى ولده الامام الصادق (عليه السلام) القيام برعايتهم والانفاق عليهم حتى لا تشغلهم الحياة الاقتصادية عن القيام بأداء مهماتهم ... وقد قاموا بدور بناء في تدوين الحديث الذي سمعوه منه ، كما أخذوا يلقون على البعثات الدينية ما رووه عنه ، وقد روى عنه تلميذه جابر بن يزيد الجعفي سبعين ألف حديث (2). كما روى عنه أبان بن تغلب مجموعة كبيرة عنه ، وقد حفلت الموسوعات الفقهية بحشد كبير من رواياتهم عنه فجميع أبواب الفقه من العبادات وسائر العقود والايقاعات مدعمة بالروايات عنه فكان المؤسس والناشر لفقه أهل البيت الذي يحتل الصدارة في الفقه الاسلامي.

ص: 10


1- النجاشي ص 28 جامع الرواة 1 / 9.
2- ميزان الاعتدال 1 / 383.

(2)

ولم يقتصر الامام في محاضراته وبحوثه على الفقه الاسلامي وإنما خاض جميع الوان العلوم من الفلسفة وعلم الكلام والطب ، أما تفسير القرآن الكريم فقد استوعب اهتمامه ، فقد خصص وقتا له ، وقد دون أكثر المفسرين ما يذهب إليه وما يرويه عن آبائه في تفسير الآيات الكريمة ، وقد الف كتابا في التفسير رواه عنه زياد بن المنذر الزعيم الروحي للفرقة الجارودية (1).

ويعرض هذا الكتاب إلى بيان ذلك ، وتقديم برامج من تفسيره لبعض الآيات ، ومما تجدر الاشارة إليه ان الامام (عليه السلام) قد تحدث عن أحوال الأنبياء وما لاقوه من الاضطهاد من فراعنة زمانهم ، كما عرض لبعض حكمهم وآدابهم وعنه أخذ اكثر الباحثين في أحوال الأنبياء ... وتحدث (عليه السلام) بصورة موضوعية وشاملة عن السيرة النبوية وشرح أحوال الرسول الاعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومغازيه وحروبه.

وقد رواها عنه ابن هشام والواقدي والحلبي وغيرهم من المدونين للسيرة النبوية كما روى (عليه السلام) عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بسنده عن آبائه مجموعة كبيرة من الاحاديث تتعلق بآداب السلوك وحسن الاخلاق وما ينبغي ان يتصف به المسلم من الصفات الرفيعة التي تجعله قدوة لغيره ... وروى بصورة شاملة الأحداث التأريخية التي جرت في العصر الاسلامي الاول ، وقد نقلها عنه الطبري في تأريخه والبلاذري في انسابه.

وناظر (عليه السلام) مع بعض علماء المسيحيين ، والازارقة ، وجادل الملحدين ، وقاوم الغلاة ، وقد خرج من مناظراته وهو ظافر قد اعترف الخصم

ص: 11


1- فهرست الشيخ الطوسي ( ص 98 ).

بقدراته العلمية والعجز عن مجاراته ، ويعرض هذا الكتاب الى ذكر ذلك.

لقد ترك الامام (عليه السلام) ثروة فكرية هائلة تعد من ذخائر الفكر الاسلامي ومن مناجم الثروات العلمية في الارض وليس من المستطاع تسجيل جميع ما أثر عنه من العلوم والمعارف فان ذلك يستدعي وضع عدة مجلدات ، وانما أشرنا الى بعضها ، وتركنا الباب مفتوحا لمن يريد أن يبحث بصورة شاملة عن ثرواته العلمية.

وعلى أي حال فان التأريخ لم يعرف أماما كمحمد الباقر (عليه السلام) قد وقف حياته كلها لنشر العلم واذاعته بين الناس ، فكان - فيما يقول الرواة - قد أقام في يثرب سادنا أمينا كالجبل أو كالبحر وهو يغذي رجال الفكر ورواد العلم بفقهه وعلمه التي تحمل عناصر التقدم ، وعناصر الحياة لا لهذه الامة فحسب ، وإنما للناس جميعا.

(3)

وكما كان الامام الباقر (عليه السلام) من عمالقة الفكر والعلم في الاسلام فقد كان من أبرز أئمة المسلمين فيما أوتي من عظيم الاخلاق والتجرد من كل نزعة مادية أو أنانية ، فكان في سلوكه يمثل روح الاسلام وفكره وانطلاقه في هداية الناس وتهذيب أخلاقهم.

ويجمع المؤرخون انه كان مشغولا في أكثر اوقاته بذكر اللّه ، وانه كان ينفق لياليه ساهرا في الصلاة لله ومناجاته شأنه شأن آبائه الذين هم مصابيح الهداية والتقوى في الارض ، وقد تحرج الامام في حياته كأشد ما يكون التحرج ، فزهد في الدنيا ، وابتعد عن جميع زخارفها ، واتجه بقلبه وعواطفه نحو اللّه فآثر طاعته على كل شيء ، وعلى كل ما يقربه إليه زلفى ، فلم ينقاد لأية نزعة من نزعات الهوى ، وانما تحرر منها تحررا كاملا ، ولم يعد لها أي سلطان عليه.

ص: 12

لقد كانت سيرة الامام تحاكي سيرة جده الرسول الاعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في جميع مكوناتها وذاتياتها ، ولا يكاد يقرأها أحد إلا ويذهب به الاعجاب كل مذهب ، ويمضي به الاكبار الى غير حد.

(4)

وامتحن الامام الباقر (عليه السلام) وهو في غضارة الصبا امتحانا شاقا وعسيرا ، فقد شاهد رزايا كربلا وما جرى على العترة الطاهرة من صنوف القتل والتنكيل ، فقد جرت امامه عملية القتل الجماعي بوحشية قاسية لعترة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يتأثم الجيش الاموي في قتل الاطفال الابرياء والنساء والشيوخ ، والتمثيل الآثم بجثمان الامام العظيم ، وغير ذلك من الكوارث التي تذوب من هولها القلوب ، وقد حمل أسيرا مع أسارى أهل البيت الى ابن مرجانة فبالغ في اذلالهم واحتقارهم ، واظهر الشماتة والحقد بقتله لعترة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وذريته ، وحملهم الى الطاغية الفاجر يزيد بن معاوية فقابلهم بمزيد من الاحتقار والتوهين.

وقد وعى الامام الباقر (عليه السلام) تلك الاحداث المؤلمة فملئت قلبه ألما عاصفا وطبعت في نفسه اللوعة والحزن ، وظلت ملازمة له طول حياته فلم يهنىء بعيش ولم تطب له الحياة ، قد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير.

ومن الكوارث التي دهمته وهو في غضون الصبا واقعة الحرة التي انتهك فيها جيش يزيد حرمة مدينة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاستباح الاعراض والاموال وازهاق النفوس ، ولم تبق حرمة لله إلا انتهكها ، ولم ينج من أهوال تلك الكارثة الأليمة الا الامام زين العابدين (عليه السلام) لوصية عهد بها يزيد الى جلاده المسرف الأثيم مسلم بن عقبة ، وتركت هذه الصور الحزينة في نفس الامام شعورا انبعاثيا طافحا بالاسى والحزن.

ص: 13

(5)

وكان عصر الامام من أدق العصور في الاسلام فقد كانت الحياة فيه بشعة شديدة الظلام ومرهقة كأشد ما يكون الارهاق ، فقد تفجرت البلاد الاسلامية ببركان من الثورات كانت نتيجة لسوء السياسة الاموية التي لم تضع نصب أعينها مصلحة الشعوب الاسلامية ، وانما راحت تتصرف بوحي من رغباتها الخاصة من دون أن تولي أي اهتمام بصالح الأمة ، فقد وضعت عليها الضرائب الثقيلة ، وشددت في أمر الخراج وسلبت ثروات الامة ، وانفقتها على شهواتها وملاذها ، واستبدت كأشر ما يكون الاستبداد في جميع شئونها.

ولا بد لنا أن نذكر الحكومات التي عاصرها الامام ، ونعرض الاحداث السياسية التي جرت في ذلك العصر ، ويجب أن نلاحظها بدقة وامعان فهي مما تمس الحياة الاجتماعية والفكرية في ذلك العصر الذي نشأ فيه الامام ، ومن الطبيعي أن الباحث الذي يهمل ذلك فانه من غير الممكن أن يتوصل الى دراسة الشخصية التي يبحث عنها أو يهتدي الى فهمها حسب الدراسات الحديثة.

ان من الامانة للعلم والرغبة في الحق اظهار تلك الاحداث والتدليل على مصادرها ، ومناقشة المصادر التي لم تخضع للحق وانما كانت خاضعة للأهواء التي هي أبعد ما تكون عن الواقع ، فان الدراسة بهذا اللون - فيما نحسب - تعود على القراء بمزيد من الفائدة.

(6)

ولم تحظ المكتبة العربية بدراسة عن هذا الامام العظيم الذي هو من عناصر الثقافة والتكوين الحضاري لهذه الامة ، فانه ليس من الوفاء في شيء ان نهمل حياة عظمائنا في حين أن الأمم الحية قد عنت بتخليد

ص: 14

عظمائها والاشادة بهم وابراز مآثرهم الى العالم للتدليل على مدى اصالتها وما تملكه من القيم الكريمة يقول العقاد : « ان الاوربيين قد وجدوا من علمائهم من يشيد بعظمائهم ويستقصي نواحي مجدهم بل قد دعتهم العصبية أحيانا أن يتزايدوا في نواحي هذه العظمة ، ويعملوا الخيال في تبرير العيب وتكميل النقص تحميسا للنفس واثارة لطلب الكمال ، أما نحن فقد كان بيننا وبين عظمائنا سدود وحواجز حالت بين شبابنا والاستفادة منهم ».

ومن هو أحق بالاشادة من الامام محمد الباقر (عليه السلام) الذي هو من ابرز القادة الطليعيين لهذه الامة ، وأحد عباقرة هذه الدنيا ، والذي كان من بعض مآثره وخدماته تحرير النقد العربي والاسلامي من السيطرة الخارجية ، وجعله مستقلا بنفسه غير مرتبط بالامبراطورية الرومانية بما سنذكره تفصيلا في غضون هذا الكتاب.

وقد عنى القدامى بالبحث عن سيرة الامام أبي جعفر فألف الجلودي عبد العزيز بن يحيى المتوفى سنة ( 304 ه ) كتابا اسماه « اخبار أبي جعفر الباقر » (1) ذكر فيه أحواله وشئونه الا أنا لم نعثر عليه في خزانة المخطوطات التي حفلت بها مكتباتنا العامة. ولعله يوجد في خزائن المخطوطات الاخرى في العالم أو انه قد ضاع في ضمن المخطوطات الكثيرة التي خسرها العالم العربي والاسلامي.

(7)

وقد ساعدني التوفيق - والحمد لله - فتشرفت بالبحث عن سيرة هذا الامام العظيم ومن الحق اني لم أر صورة أروع ولا أنظر منه ، فهو يمثل

ص: 15


1- الذريعة 1 / 315 ، الاعلام 7 / 153.

جميع القيم الانسانية التي يعتز بها كل انسان.

وقد عكفت على مراجعة جملة كبيرة من المصادر المخطوطة والمطبوعة التي عرضت لترجمته وتدوين بعض مآثره وحكمه ، وأنا واثق كل الوثوق أن الباحث المتتبع يجد اضعاف ما كتبته عن حياته مما قد خفي عليّ ، ولا ازعم أني احطت بترجمته أو دونت جميع ما أثر عنه ، وانما القيت اضواء على شخصيته ، وتركت الباب مفتوحا لغيري من البحاث للكشف عن حياته.

وقبل أن انهي هذا التقديم أود أن اذكر بمزيد من الشكر ما قام به ولدنا السيد الجليل السيد عبد الرسول بن السيد رضا الحسيني الصائغ من المساهمة في الانفاق على طبع هذا الكتاب سائلا منه تعالى أن يوفقه لكل مسعى نبيل وما التوفيق الا بيد اللّه يهبه لمن يشاء من عباده.

6 / 11 / 1977 م - 1397 ه

باقر شريف القرشي

ص: 16

الوليد العظيم

اشارة

ص: 17

ص: 18

واستقبل أهل البيت (عليهم السلام) بمزيد من الفرح والسرور الوليد المبارك الذي ازدهرت به الحياة الفكرية والعلمية في الاسلام ، وكان ابتهاجهم به كأعظم ما يكون الابتهاج لانه أول مولود التقت به عناصر السبطين والنيرين الحسن والحسين ، وامتزجت به تلك الاصول الكريمة التي أعز اللّه بها العرب والمسلمين ، أما الاصلاب ، الكريمة والارحام المطهرة التي تفرع منها فهي :

الام :

أما أمه فهي السيدة الزكية الطاهرة فاطمة بنت الامام الحسن سيد شباب أهل الجنة ، وتكنى أم عبد اللّه (1) وكانت من سيدات نساء بني هاشم ، وكان الامام زين العابدين (عليه السلام) يسميها الصديقة (2) ويقول فيها الامام أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) : « كانت صديقة لم تدرك في آل الحسن مثلها » (3) وحسبها سموا أنها بضعة من ريحانة رسول اللّه ، وأنها نشأت في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه وتربى الامام الباقر (عليه السلام) في حجرها الطاهر ، فأفرغت عليه اشعة من روحها الزكية ، وغذته بمثلها الكريمة ، حتى صارت من خصائصه وذاتياته.

ولم تتوفر لنا أية معلومات عن المدة التي عاشها مع أمه فقد أهملت المصادر التي بأيدينا ذلك ، ولم تشر إليه بقليل ولا بكثير ، كما لم تتوفر

ص: 19


1- تهذيب اللغات والاسماء 1 / 87 ، وفيات الاعيان 3 / 384 ، المحبر ( ص 57 ) تأريخ اليعقوبي 2 / 60 ، اعيان الشيعة 1 / 4 / 464.
2- ضياء العالمين الجزء الثاني من مخطوطات مكتبة الحسينية الشوشترية تأليف أبي الحسن العاملي ، الدر النظيم من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين تسلسل (2879).
3- أصول الكافي 1 / 469.

لنا أية معلومات عن سائر شئونها.

الاب :

أما الأب فهو سيد الساجدين وزين العابدين ، ومن المع سادات المسلمين فقها وعلما وتحرجا في الدين ، وسنذكر عرضا موجزا لشؤونه في البحوث الآتية.

الوليد العظيم :

واشرقت الدنيا بمولد الامام الزكي محمد الباقر الذي بشر به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قبل ولادته ، وكان أهل البيت (عليهم السلام) ينتظرونه بفارغ الصبر لانه من أئمة المسلمين الذين نص عليهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجعلهم قادة لأمته ، وقرنهم بمحكم التنزيل وكانت ولادته في يثرب في اليوم الثالث من شهر صفر سنة ( 56 ه ) (1) وقيل سنة ( 57 ه ) في غرة رجب يوم الجمعة (2) وقد ولد قبل قتل جده الامام الحسين (عليه السلام) بثلاث سنين (3) وقيل بأربع سنين كما أدلى (عليه السلام) بذلك (4) وقيل بسنتين. وأشهر (5) وهو قول شاذ لا يعنى به.

ص: 20


1- وفيات الاعيان 3 / 314 ، تذكرة الحفاظ 1 / 124 ، نزهة الجليس 2 / 36.
2- دلائل الامامة ( ص 94 ) دائرة المعارف لفريد وجدي 3 / 563.
3- تأريخ ابن الوردي 1 / 184 ، أخبار الدول ( ص 111 ) وفيات الاعيان 3 / 314.
4- تأريخ اليعقوبي 2 / 60.
5- عيون المعجزات للحسين بن عبد الوهاب من مخطوطات مكتبة الامام الحكيم تسلسل (975).

وقد أجريت له فور ولادته المراسيم الشرعية من الاذان والاقامة في اذنه كما أجريت له بعض المراسيم الاخرى في اليوم السابع من ولادته من حلق رأسه والتصدق بزنة شعره فضة على المساكين ، والعق عنه بكبش والتصدق به على الفقراء.

وكانت ولادته في عهد معاوية والبلاد الاسلامية تعج بالظلم ، وتموج بالكوارث والخطوب من ظلم معاوية وجور ولاته الذين نشروا الارهاب وأشاعوا الظلم في البلاد ، وقد تحدث الامام الباقر عن تلك المظالم الرهيبة ، وسنذكر حديثه في غضون هذا الكتاب.

تسميته :

وسماه جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمحمد ، وكناه بالباقر قبل أن يخلق بعشرات السنين ، وكان ذلك من أعلام نبوته كما يقول بعض المحققين ، وقد استشف (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من وراء الغيب ما يقوم به سبطه من نشر العلم واذاعته بين الناس فبشر به أمته ، كما حمل له تحياته على يد الصحابي الجليل جابر بن عبد اللّه الانصاري وسنلمع الى ذلك فيما يأتي.

كنيته :

أما كنيته فهي : « أبو جعفر » (1) ولا كنية له غيرها ، لقد كني بولده الامام جعفر الصادق (عليه السلام) الذي بعث الروح والحياة في هذه الامة وفجر ينابيع الحكمة في الارض.

ألقابه :

أما القابه الشريفة فقد دلت على ملامح شخصيته العظيمة ونزعاته الرفيعة وهي :

ص: 21


1- دلائل الامامة ( ص 94 ).

1 - الأمين :

2 - الشبيه : لأنه كان يشبه جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1).

3 - الشاكر :

4 - الهادي :

5 - الصابر :

6 - الشاهد : (2)

7 - الباقر : (3) وهذا من اكثر ألقابه ذيوعا وانتشارا ، وقد لقب هو وولده الامام الصادق ( بالباقرين ) كما لقبا ( بالصادقين ) من باب التغليب (4).

ويكاد مجمع المؤرخون والمترجمون للإمام على أنه انما لقب بالباقر لانه بقر العلم أي شقه ، وتوسع فيه فعرف أصله وعلم خفيه (5) ، وفيه يقول الامام الرضى :

يا باقر العلم لاهل التقى

وخير من لبى على الاجبل (6)

وكأنهم نظروا في ذلك الى ما أثر عنه من سعة العلوم والمعارف فجعلوا هذا اللقب مشعرا بها ، وقيل انما لقب به لكثرة سجوده فقد بقر جبهته

ص: 22


1- الدر النظيم في مناقب الائمة من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين ضياء العالمين الجزء الثاني مخطوط ، اعيان الشيعة ق 1 / 4 / 464.
2- جنات الخلود ، وناسخ التواريخ.
3- تذكرة الحفاظ 1 / 124 ، نزهة الجليس 2 / 36 ، مرآة الجنان 1 / 247 ، دائرة معارف وجدي 3 / 563.
4- جامع المقال للشيخ الطريحي من مصورات مكتبة الامام الحكيم.
5- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 213 ) عمدة الطالب ( ص 183 ).
6- جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام ( ص 133 ).

أي فتحها ووسعها (1) وقيل انما لقب بذلك لقوله : « استصرخي الحق وقد حواه الباطل في جوفه ، فبقرت عن خاصرته ، واطلعت الحق من حجبه حتى ظهر وانتشر بعد ما خفى » (2) ولكن المشهور والذائع بين المؤرخين هو المعنى الاول دون غيره.

تحيات النبي الى الباقر :

ويجمع المؤرخون والرواة على أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حمّل الصحابي العظيم جابر بن عبد اللّه الانصاري تحياته ، الى سبطه الامام الباقر ، وكان جابر ينتظر ولادته بفارغ الصبر ليؤدي إليه رسالة جده ، فلما ولد الامام وصار صبيا يافعا التقى به جابر فأدى إليه تحيات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد روى المؤرخون ذلك بصور متعددة وهذه بعضها :

1 - ما رواه آبان بن تغلب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال : ان جابر ابن عبد اللّه الانصاري كان آخر من بقي من أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان رجلا منقطعا إلينا أهل البيت ، وكان يقعد في مجلس رسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو معتجر (3) بعمامة سوداء ، وكان ينادي : يا باقر العلم ، يا باقر العلم ، فكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر ، فكان يقول : واللّه ما أهجر ، ولكني سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : إنك ستدرك رجلا مني اسمه اسمي ، وشمائله شمائلي يبقر العلم بقرا ، فذاك الذي دعاني الى ما أقول : قال : فبينما جابر يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذ مر بطريق في ذاك الطريق كتاب فيه محمد بن علي فلما نظر إليه قال : يا غلام اقبل فأقبل ،

ص: 23


1- مرآة الزمان في تواريخ الاعيان 5 / 78 من مصورات مكتبة الامام الحكيم.
2- مرآة الزمان في تواريخ الاعيان الجزء الخامس مخطوط.
3- معتجر : وهو وضع العمامة على الرأس.

ثم قال له : ادبر فادبر ، ثم قال : شمائل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والذي نفسي بيده ، يا غلام ما اسمك؟ قال : اسمي محمد بن علي بن الحسين فجعل يقبل رأسه ، ويقول : بأبي أنت وأمي أبوك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرؤك السلام ... قال : فرجع محمد بن علي الى أبيه وهو ذعر فأخبره الخبر ، فقال له : يا بني قد فعلها جابر قال : نعم قال : ألزم بيتك يا بني .. » (1).

أما محتويات هذه الرواية فهي.

أ - أن شمائل الامام الباقر (عليه السلام) وملامحه كانت تضارع شمائل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

ب - ان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هو الذي سمى سبطه بمحمد ، واضفى عليه لقب الباقر ، وأنه يبقر العلم بقرا.

ج - ان الامام زين العابدين (عليه السلام) قد خاف على ولده مما أخبر به جابر عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في شأنه ، ويعود السبب في ذلك الى أن الحكومة الاموية قد فرضت الرقابة الشديدة على الامام زين العابدين فكانت تحصي عليه انفاسه ، وتتعرف على من يخلفه ويقوم مقامه من بعده لتنكل به فخشى (عليه السلام) على ولده من أن يناله الامويون بسوء أو مكروه.

2 - ما رواه ابن عساكر ان الامام زين العابدين (عليه السلام) ومعه ولده الباقر دخل على جابر بن عبد اللّه الانصاري ، فقال له جابر : من معك يا ابن رسول اللّه؟ قال : معي ابني محمد فاخذه جابر وضمه إليه وبكى ثم قال : اقترب اجلي ، يا محمد ، رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرؤك السلام فسئل وما ذاك؟ فقال : سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : للحسين بن علي يولد لابنى هذا ابن يقال له علي بن الحسين ، وهو سيد العابدين إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ليقم سيد العابدين فيقوم علي بن الحسين ، ويولد

ص: 24


1- أصول الكافي « 1 / 469 - 470 » رجال الكشي ( ص 27 - 28 ).

لعلي بن الحسين ابن يقال له محمد اذا رأيته يا جابر فاقرأه منى السلام ، يا جابر اعلم أن المهدي من ولده ، واعلم يا جابر ان بقاءك بعده قليل .. » (1)

3 - ما رواه تاج الدين بن محمد نقيب حلب بسنده عن الامام الباقر علیه السلام قال : دخلت على جابر بن عبد اللّه فسلمت عليه. فقال لي من أنت؟ وذلك بعد ما كف بصره ، فقلت له : محمد بن علي بن الحسين ، فقال : بأبي أنت وأمي ادن مني فدنوت منه فقبل يدي ثم اهوى الى رجلي فاجتذبتها منه ، ثم قال : إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرؤك السلام ، فقلت وعلى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) السلام ورحمة اللّه وبركاته ، وكيف ذلك يا جابر؟ قال : كنت معه ذات يوم فقال : لي يا جابر لعلك تبقى حتى تلقى رجلا من ولدي يقال له محمد بن علي بن الحسين يهب له اللّه النور والحكمة فاقرأه مني السلام ... » (2).

4 - ما ذكره صلاح الدين الصفدي قال : « كان جابر يمشي بالمدينة ويقول يا باقر متى القاك؟ فمر يوما في بعض سكك المدينة فناولته جارية صبيا في حجرها فقال لها : من هذا؟ فقالت : محمد بن علي بن الحسين فضمه الى صدره ، وقبل رأسه ويديه ، وقال : يا بني جدك رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرؤك السلام ثم قال : يا باقر نعيت الى نفسي فمات في تلك الليلة. » (3)

5 - ما ذكره بعض الاسماعيلية أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : لجابر إنك ستلحق ولد ولدي هذا وأشار الى الحسين فاذا أدركته فاقرأه عنى السلام ، وقل : له يا باقر العلم ابقره. ففعل ذلك .. » (4).

ص: 25


1- تاريخ ابن عساكر 51 / 41 من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين عليه السلام
2- غاية الاختصار ( ص 64 ).
3- الوافي بالوفيات 4 / 102.
4- مسائل مجموعة من الحقائق العالية والدقائق والاسرار السامية ( ص 99 ) لمؤلف مجهول.

6 - ما رواه الحافظ نور الدين الهيثمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال أتاني جابر بن عبد اللّه وأنا في الكتاب فقال : اكشف عن بطنك فكشفت عن بطني فقبله ثم قال : ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أمرني أن اقرأ عليك السلام. » (1)

هذه بعض الروايات وهي قد اتفقت على أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حمل جابر ابن عبد اللّه الانصاري تحياته الى الامام الباقر (عليه السلام) وقد استشف (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من وراء الغيب ما يقوم به سبطه من نشر العلم واذاعته بين الناس وانه من جملة اوصيائه الذين يفجرون الحكمة والنور في الارض.

ملامحه :

أما ملامحه الشريفة فهي حسب ما يقول جابر بن عبد اللّه الانصاري كانت كملامح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشمائله (2) وكما شابه جده النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذه الظاهرة فقد شابهه في معالي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيين.

ووصفه بعض المعاصرين له فقال : إنه كان معتدل القامة اسمر اللون (3) رقيق البشرة له خال ، ضامر الكشح ، حسن الصوت مطرق الرأس (4).

ذكاؤه المبكر :

وكان (عليه السلام) في طفولته آية من آيات النبوغ والذكاء ، ويقول الرواة إن جابر بن عبد اللّه الانصاري على شيخوخته كان يأتيه فيجلس بين يديه فيعلمه ... وقد بهر جابر من سعة علوم الامام ومعارفه وطفق يقول :

ص: 26


1- مجمع الزوائد 1 / 22.
2- أصول الكافي 1 / 469.
3- اخبار الدول ( ص 111 ) جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام ( ص 132 ).
4- اعيان الشيعة ق 1 / 4 / 471.

« يا باقر لقد أوتيت الحكم صبيا ... » (1)

وقد عرف الصحابة ما يتمتع به الامام منذ نعومة اظفاره من سعة الفضل والعلم الغزير فكانوا يرجعون إليه في المسائل التي لا يهتدون إليها ويقول المؤرخون ان رجلا سأل عبد اللّه بن عمر عن مسألة فلم يقف على جوابها فقال للرجل : اذهب إلى ذلك الغلام - وأشار الى الامام الباقر - فاسأله ، وأعلمني بما يجيبك فبادر نحوه وسأله فاجابه (عليه السلام) عن مسألته وخف الى ابن عمر فاخبره بجواب الامام ، وراح ابن عمر يبدي اعجابه بالامام قائلا : « انهم أهل بيت مفهمون » (2).

لقد خص اللّه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالعلم والفضل ، ووهبهم الكمال المطلق الذي يهبه لأنبيائه ورسله ، فكان كل فرد منهم لا تخفى عليه أية مسألة تعرض عليه ، ويقول المؤرخون ان الامام كان عمره تسع سنين وقد سئل عن أدق المسائل فأجاب عنها.

هيبته ووقاره :

وبدت على ملامح الامام (عليه السلام) هيبة الأنبياء ووقارهم ، فما جلس معه أحد إلا هابه وأكبره وقد تشرف قتادة وهو فقيه أهل البصرة بمقابلته فاضطرب قلبه من هيبته وأخذ يقول له :

« لقد جلست بين يدي الفقهاء وأمام ابن عباس فما اضطرب قلبي من أي أحد منهم مثل ما اضطرب قلبي منك. » (3).

لقد كان الامام بقية اللّه في أرضه ، وتجلت في شخصيته سمات اوليائه واحبائه الذين اضفى عليهم الهيبة والوقار ، وممن غمرتهم هيبة الامام الشاعر

ص: 27


1- علل الشرائع ( ص 234 ).
2- المناقب 4 / 147.
3- اثبات الهداة 5 / 176.

المغربي يقول في وصفه له :

يا ابن الذي بلسانه وبيانه *** هدي الانام ونزل التنزيل

عن فضله نطق الكتاب وبشرت *** بقدومه التوراة والانجيل

لو لا انقطاع الوحي بعد محمد *** قلنا : محمد من أبيه بديل

هو مثله في الفضل إلا إنه *** لم يأته برسالة جبريل (1)

وروى المؤرخون أن الامام (عليه السلام) لم ير ضاحكا ، وإذا ضحك يقول : « اللّهم لا تمقتني » (2) لقد ابتعد عن كل ما ينافي الوقار وسمو الشخصية ، وكان البارز من صفاته ذكر اللّه ، ففي جميع أوقاته كان لسانه مشغولا بذكر اللّه ، وسنذكر ذلك عند البحث عن مظاهر شخصيته.

نقش خاتمه :

أما نقش خاتمه فهو : « العزة لله جميعا » (3) وكان يتختم بخاتم جده الامام الحسين (عليه السلام) وكان نقشه « إن اللّه بالغ أمره » (4) وذلك مما يدل على انقطاعه التام إلى اللّه وشدة تعلقه به.

إقامته :

وأقام الامام (عليه السلام) طيلة حياته في يثرب دار الهجرة ، فلم يبرحها إلى بلد آخر ، وقد كان فيها المعلم الاول ، والرائد الاكبر للحركات العلمية والثقافية ، وقد اتخذ الجامع النبوي مدرسة له فكان فيه يلقي بحوثه على تلاميذه.

ص: 28


1- المناقب 4 / 181.
2- صفة الصفوة 2 / 62 ، تذكرة الخواص ( ص 349 ).
3- حيلة الاولياء 3 / 189.
4- أعيان الشيعة ق 1 / 4 / 169.

فى ظلال الحسين وعلي

اشارة

ص: 29

ص: 30

نشأ الامام أبو جعفر (عليه السلام) في بيت الرسالة ومهبط الوحي ، ومصدر الاشعاع في دنيا الاسلام ، وكان جده الامام الحسين (عليه السلام) وأبوه الامام زين العابدين يغذيانه بالمثل الكريمة ، ويفيضان عليه ما استقر في نفسيهما من الخير والهدى ، ويعلمانه السلوك النير والاتجاه السليم ليكون قدوة لهذه الأمة ... وفيما يلي عرض لنشأته في ظلال جده وأبيه.

فى ظلال جده :

وعنى الامام الحسين (عليه السلام) بتربية حفيده فأفرغ عليه أشعة من روحه المقدسة التي أضاءت آفاق هذا الكون ، وكان فيما يرويه المؤرخون - يجلسه في حجره ، ويوسعه تقبيلا ، ويقول له :

« إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقرؤك السلام ... » (1).

وهو اشعار من الجد لحفيده بأن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينتظر منه القيام بدوره القيادي لأمته أن يفجر في ربوعها ينابيع الحكمة ، ويذيع فيها العلم ، ويهديها إلى سواء السبيل وشاهد الامام الباقر (عليه السلام) وهو في غضون الصبا جده الامام الحسين (عليه السلام) أيام المحنة الكبرى التي طافت به حينما أبتلي بطاغية زمانه ، وفرعون هذه الأمة يزيد بن معاوية الذي كان يشكل أعظم خطر على الاسلام ، وقد دعاه لبيعته ، والخنوع لحكمه ، فصرخ (عليه السلام) في وجهه ، وانطلق في مسيرته الخالدة ، ليرفع كلمة اللّه عالية في الارض ، ويؤدي رسالته الاسلامية بأمانة واخلاص ، فضحى بنفسه وأهل بيته وأصحابه بتلك التضحية المشرقة التي أقام بها مجد الاسلام ، وقضى بها على خصومه واعدائه ، وقد زخرت بالقيم الكريمة والمثل العليا ، وتفاعلت مع عواطف

ص: 31


1- تاريخ دمشق 51 / 38 ، سير اعلام النبلاء 4 / 241 من مصورات مكتبة الحكيم.

الناس ومشاعرهم وهي تفيض بالعطاء السمح ، وتقدم أروع الدروس عن التضحية في سبيل الحق والواجب وستبقى ندية عاطرة في جميع الاحقاب والآباد وهي تمثل شرف الانسان وسمو قصده.

وقد جرت فصول تلك المأساة الخالدة أمام الباقر وهو في غضون الصبا ، يقول (عليه السلام) : « قتل جدي الحسين ولي أربع سنين ، واني لأذكر مقتله ، وما نالنا في ذلك الوقت » (1)

وقد روى (عليه السلام) الكثير من فصولها ، وروى الطبري بسنده عنه بعض صورها ، كما الف جماعة من أعلام أصحابه كتبا اسموها ( مقتل الحسين ) دونوا فيها ما سمعوه منه ، ومن غيره أهوال كارثة كربلا ، ذكر الكثير منها ابن النديم في فهرسته وعلى أي حال فان تلك المأساة الخالدة قد تركت - من دون شك - في نفسه اعظم اللوعة والحزن ، وظلت مآسيها واشجانها ملازمة له طوال حياته.

فى ظلال ابيه :

عاش الامام أبو جعفر (عليه السلام) في كنف أبيه الامام زين العابدين (عليه السلام) ما يزيد على ( 34 عاما ) وقد لازمه وصاحبه طيلة هذه المدة فلم يفارقه ، وقد تأثر بهديه المشرق الذي يمثل هدي الأنبياء والمرسلين ، فما رأى الناس مثل الامام زين العابدين (عليه السلام) في تقواه وورعه وزهده ، وشدة انقطاعه واقباله على اللّه ... ونلمع الى بعض أحواله وشئونه لأن سيرته قد انطبعت في قرارة نفس الامام الباقر وارتسمت في اعماق ذاته ، وفيما يلي ذلك :

ص: 32


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 61.

اكبار وتعظيم :

واجمع رجال الفكر والعلم في عصر الامام زين العابدين على تعظيمه واكباره وتقديمه بالفضل على غيره وهذه بعض كلماتهم.

1 - سعيد بن المسيب.

وغمرت هيبة الامام وعظمته سعيد بن المسيب فراح يقول : « ما رأيت قط افضل من علي بن الحسين ، وما رأيته قط إلا مقت نفسي ، ما رأيته يوما ضاحكا .. » (1).

2 - الزهري :

وهام الزهري بحب الامام يقول : « ما رأيت قرشيا أفضل منه » (2) وقال : « ما رأيت أفقه من علي بن الحسين » (3).

3 - زيد بن اسلم :

يقول زيد بن اسلم : « ما رأيت مثل علي بن الحسين » (4).

4 - عمر بن عبد العزيز :

وقال عمر بن عبد العزيز لما أتاه نعي الامام : « ذهب سراج الدنيا ، وجمال الاسلام ، وزين العابدين » (5).

5 - أبو حازم :

يقول أبو حازم : « ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين » (6).

ص: 33


1- تاريخ اليعقوبي 2 / 46.
2- تهذيب التهذيب 7 / 305 ، وفي الحلية ( ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين ).
3- حلية الاولياء 3 / 309.
4- طبقات الفقهاء ( ص 34 ).
5- تأريخ اليعقوبي 2 / 48.
6- حلية الاولياء 3 / 141.

6 - مالك :

يقول مالك : « لم يكن في أهل بيت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مثل علي بن الحسين » (1).

7 - جابر بن عبد اللّه :

وممن هام بحب الامام الصحابي العظيم جابر بن عبد اللّه الانصاري يقول : « ما رؤي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين. » (2)

8 - الواقدي :

يقول الواقدي : « كان علي بن الحسين من أورع الناس وأعبدهم واتقاهم لله عز وجل .. » (3)

وحكت هذه الكلمات انطباعات هؤلاء الاعلام من الامام ، فقد اقروا جميعا على تقديمه بالفضل والعلم على غيره من ابناء الأسرة النبوية - في عصره - التي تمثل الكمال المطلق للإنسان.

سمو اخلاقه :

أما معالي أخلاقه فانها نفحة من روح اللّه يهتدي بها الحائر ويسترشد بها الضال وقد حاكى بهذه الظاهرة جده الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي امتاز على سائر النبيين بسمو اخلاقه.

وكان (عليه السلام) - فيما أجمع عليه المؤرخون - يقابل كل من اساء إليه بالعفو والصفح الجميل ، ويغدق عليه ببره ومعروفه ، ليقلع من نفسه جذور البغي والاعتداء على الغير ، وهذه بعض البوادر التي أثرت عنه.

ص: 34


1- تهذيب التهذيب 7 / 305.
2- الامام زين العابدين ( ص 73 ).
3- البداية والنهاية 9 / 104.

أ - يقول المؤرخون : إن اسماعيل بن هشام المخزومي كان واليا على يثرب ، وكان من أعظم المبغضين والحاقدين على آل البيت (عليهم السلام) وكان يبالغ في إيذاء الامام زين العابدين ، ويشتم آباءه على المنابر ، تقربا الى حكام دمشق ، ولما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة بادر الى عزله والوقيعة به لهنات كانت بينه وبينه قبل أن يلي الملك والسلطان ، وقد أوعز بايقافه للناس لاستيفاء حقوقهم منه ، وفزع هشام كأشد ما يكون الفزع من الامام (عليه السلام) لكثرة إساءته له ، وقال : ما أخاف إلا من علي بن الحسين فانه رجل صالح يسمع قوله فيّ ، ولكن الامام عهد إلى أصحابه ومواليه ان لا يتعرضوا له بمكروه ، وخف إليه فقابله ببسمات فياضة بالبشر ، وعرض عليه القيام بما يحتاج إليه في محنته قائلا له :

« يا ابن العم عافاك اللّه لقد ساءني ما صنع بك فادعنا إلى ما احببت .. »

وذهل هشام ، وراح يقول بإعجاب :

( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) فيمن يشاء .. » (1)

ب - ومن معالي اخلاقه هذه البادرة التي ترفعه الى مستوى لم يبلغه أي مصلح كان عدا آبائه ، كما تدلل على امامته.

لقد روى المؤرخون أنه كان في كل يوم من شهر رمضان يذبح شاة ويطبخها ويوزعها على الفقراء والمحرومين ، وفي يوم حمل غلامه اناء فيه شيء من المرق وكان يغلى من شدة الحرارة فعثر الغلام باحد اطفال الامام ، فتوفي الطفل في الوقت ، فارتفعت الصيحة من العلويات ، وكان الامام يصلي فلما انفلت من صلاته أخبر بوفاة ولده فاسرع (عليه السلام) الى الغلام فرآه يوعد من شدة الخوف ، فقابله بلطف وحنان ، وقال له :

« لقد ظننت بعلي بن الحسين الظنون ، ظننت أنه يعاقبك ويقتص

ص: 35


1- وسيلة المآل في عد مناقب الآل ( ص 208 ).

منك .. اذهب فأنت حر لوجه اللّه ، وهذه أربعة آلاف دينار هدية إليك ، واجعلني في حل من الخوف الذي داخلك من أجلي ... » (1).

أي نفس ملائكية هذه النفس ، إنها لتفوق نفوس عباد اللّه الصالحين الذين امتحن اللّه قلوبهم بالايمان ... لقد ورث هذه الاخلاق العظيمة من جده الرسول العظيم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي أسس مكارم الاخلاق في الارض.

ج - ومن معالي اخلاقه أنه كان خارجا من المسجد فالتقى به رجل من شانئيه فقابل الامام بالسب والشتم فثار في وجهه بعض موالي الامام وأصحابه فنهرهم (عليهم السلام) وأقبل على الرجل بلطف قائلا :

« ما ستر عليك من أمرنا أكثر ... الك حاجة نعينك عليها .. »

واستحيا الرجل وودّ أن الارض قد وارته ، وبان عليه الانكسار والندم ، وبادر نحوه الامام (عليه السلام) فالقى عليه خميصة ، وأمر له بألف درهم ، وطفق الرجل يقول :

« اشهد أنك من بني الرسل!! » (2).

هذه بعض البوادر من معالي اخلاقه التي تفيض بالرحمة والحلم ، ونكران الذات ... والحق ان اخلاق أهل البيت (عليهم السلام) مدرسة تقوم على الشرف والنبل وعلى كل ما يسمو به الانسان.

نشره للعلم :

وانصرف الامام زين العابدين (عليه السلام) بعد كارثة كربلا الى نشر العلم واذاعته بين الناس ولم يقتصر على علم الحديث والفقه ، وإنما عنى بالأخلاق والآداب والفلسفة والحكمة.

وقد أمد الفكر الاسلامي بطاقات هائلة من العلم والحكمة وآداب

ص: 36


1- صفة الصفوة.
2- وسيلة المآل فى عد مناقب الآل ( ص 208 ).

السلوك حفلت بها صحيفته ، ورسالته في الحقوق ، وغيرهما من موسوعات الحديث وكتب الاخلاق ، وقد قام بدور إيجابي وبناء في ابراز مثل الاسلام وقيمه وتعاليمه.

حثه على طلب العلم :

وكان (عليه السلام) يحث المسلمين على طلب العلم ، ويدعوهم الى المبادرة في تحصيله لأنه الاداة الخلاقة لتطورهم وازدهار حياتهم يقول (عليه السلام) : « لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج ، وخوض اللجج ».

وأوصى (عليه السلام) بعض أصحابه ببسط العلم ونشره ، وأن لا يتجبر على من يعلمه ، يقول (عليه السلام) :

« فان أنت احسنت في تعليم الناس ، ولم تتجبر عليهم زادك اللّه من فضله ، وإن أنت منعت علمك ، وأخرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقا على اللّه عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ، ويسقط من القلوب محلك. » (1)

تكريمه لطلاب العلوم :

وكان (عليه السلام) يعتني بطلاب العلوم ويرفع مكانتهم ، فاذا رأى أحدا منهم رحب به وقال له : « مرحبا بوصية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) » ويقول الامام الباقر (عليه السلام) كان أبي زين العابدين اذا نظر الى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه ، وقال : مرحبا بكم أنتم ودايع العلم ، ويوشك اذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين (2).

ص: 37


1- مكارم الاخلاق ( ص 143 ) لرضي الدين الطبرسي.
2- الدر النظيم ( ص 181 ) الانوار البهية ( ص 103 ).

احتفاف القراء به :

واحتف القراء بالامام زين العابدين ، وكانوا لا يفارقونه فقد كانوا يكتسبون منه العلوم والمعارف والآداب ، وتحدث سعيد بن المسيب عن مدى ملازمتهم للإمام يقول : إن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين ، فخرج وخرجنا معه الف راكب (1).

عتقه للموالى :

وكان الامام زين العابدين (عليه السلام) يعطف على الموالي كأشد ما يكون العطف ، فكان يشتريهم ، ويشتري نساءهم ، ويعتقهم جميعا لينعموا بالحرية والكرامة ، وإذا اعتقهم منحهم الأموال الطائلة ، والثراء العريض ليستغنوا عما في أيدي الناس.

وقد تبنى طائفة من الموالي فجعل يغذيهم بأنواع العلوم والمعارف ، وقد تخرج على يده مجموعة منهم كانوا من كبار العلماء في ذلك العصر ، وكان ذلك هو السبب في تزعم الموالي للحركة العلمية في تلك العصور ، كما ان ذلك هو السبب في انتشار الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) عندهم ، وانضمامهم لكل حركة سياسية تدعو الى التخلص من الحكم الاموي ، وارجاع الخلافة لاهل البيت (عليهم السلام) الذين كانوا الملجأ لكل بائس ومحروم.

عبادته وتقواه :

وكان الامام زين العابدين من رهبان هذه الامة في عبادته وتقواه. وقد لقب بذي الثفنات لكثرة سجوده ، كما لقب بالمتهجد ، وزين العابدين ، وسيد العابدين (2) والسجاد وهي تشير الى كثرة عبادته ، وعظيم اقباله على اللّه ، وقد روى المؤرخون أنه إذا توضأ اصفر لونه ، فيقول له

ص: 38


1- البحار 2 / 83.
2- الدر النظيم ( ص 179 ).

أهله : ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول لهم : أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ (1) وقد دخل عليه ولده الباقر فرآه قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فقد اصفر لونه من السهر ورمصت عيناه من البكاء ودبرت جبهته من كثرة السجود ، وورمت ساقاه من القيام في الصلاة ، فلم يملك ولده نفسه من البكاء ، وكان الامام زين العابدين في شغل عنه ، فلما بصر بولده أمره ان يناوله بعض الصحف التي فيها عبادة جده الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) فناوله تلك الصحف فجعل يتأمل فيها ، ثم تركها ضجرا وراح يقول :

« من يقوى على عبادة علي ابن أبي طالب » :

(2) وكان (عليه السلام) إذا قام للصلاة بين يدي اللّه توجه بقلبه ومشاعره نحو الخالق العظيم ، فلا يشغله أي شأن من هذه الحياة ، ويقول الامام الباقر (عليه السلام) : كان أبي اذا وقف للصلاة لم يشتغل بغيرها ، ولم يسمع شيئا لشغله بها وقد سقط بعض ولده فانكسرت يده ، فصاح أهله وجيء بالمجبر فجبر يده والصبي يصرخ من شدة الالم ، والامام لم يسمع فلما اصبح ورأى الصبي قد شدت يده فسأل عن ذلك فأخبره أهله بذلك (3).

وقد أجهدته العبادة أي اجهاد ، فقد حمل نفسه من أمرها رهقا ، وقد خاف عليه أهله ، فراحوا يتوسلون إليه ليخفف من عبادته ، وهو يأبى ذلك ، يقول الامام الباقر (عليه السلام) : لما رأت فاطمة بنت الامام أمير

ص: 39


1- درر الابكار في وصف الصفوة الاخيار من مصورات مكتبة الامام الحكيم.
2- أعلام الورى ( ص 360 ) عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 151 - 152 ) الدر النظيم ( ص 180).
3- الدر النظيم ( ص 179 ).

المؤمنين ما يفعل ابن أخيها علي بن الحسين بنفسه من الدأب في العبادة اقبلت الى جابر بن عبد اللّه الانصاري فقالت له :

« يا صاحب رسول اللّه إن لنا عليكم حقوقا ، ومن حقنا عليكم ان إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا أن تذكروه اللّه وتدعوه الى البقيا على نفسه ، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين قد انخرم أنفه ، ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه مما دأب على نفسه في العبادة .. »

وانطلق جابر الى الامام زين العابدين فوجده في محرابه قد أضنّته العبادة ، واجهدته الطاعة ونهض الامام فاستقبل جابر ، واجلسه إلى جنبه ، وسأله سؤالا حفيا عن حاله ، واقبل جابر عليه قائلا :

« يا ابن رسول اللّه أما علمت أن اللّه تعالى إنما خلق الجنة لكم ولمن أحبكم ، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم ، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟ .. »

فاجابه الامام بلطف وحنان قائلا :

« يا صاحب رسول اللّه ، أما علمت أن جدي رسول اللّه قد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ، فلم يدع الاجتهاد له وتعبد - بأبي وأمي - حتى انتفخ ساقه ، وورم قدمه ، وقد قيل له : أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : أفلا أكون عبدا شكورا ... »

ولما نظر جابر الى الامام لا يغنى معه قول يميل به من الجهد والتعب ، طفق يقول له : « يا ابن رسول اللّه ، البقيا على نفسك ، فانك من أسرة بهم يستدفع البلاء ، وبهم تستكشف الادواء ، وبهم تستمطر السماء ... »

فاجابه الامام بصوت خافت :

ص: 40

« لا أزال على منهاج أبوي مؤتسيا بهما حتى القاهما ... »

وبهر جابر ، وأقبل على من حوله قائلا :

« ما رؤي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب ، واللّه لذرية الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب!! إن منهم لمن يملأ الارض عدلا كما ملئت جورا ... » (1)

لقد كان الامام زين العابدين امام المتقين والمنيبين فقد اجتهد في عبادته وأخلص في طاعته ، ولم يؤثر عن القديسين مثل ما أثر عنه من الاقبال على اللّه.

صدقاته وبره :

وكان الامام زين العابدين من أبر الناس بالضعفاء ، وأرفقهم بالمساكين ، وأرحمهم للبائسين ، وكان يؤثر اصحاب الفاقة على نفسه وأهله ، وقد اجمع المؤرخون انه كان يحمل جراب الخبز على ظهره فيتصدق به ، ويقول : إن صدقة السر تطفئ غضب الرب (2) وكان يعول بمائة بيت في المدينة (3) وكان اذا ناول الفقير الصدقة قبله ثم ناوله (4) وإنما كان يفعل ذلك لئلا يبدو على الفقير أثر الذل والانكسار ، ويقول المؤرخون : ان الامام أبا جعفر (عليه السلام) لما غسل أباه نظر بعض من كان حاظرا تغسيله الى مواضع المساجد من ركبتيه ، وظاهر قدميه كأنهما مبارك البعير من كثرة

ص: 41


1- الامام زين العابدين ( ص 72 - 73 ) لاحمد فهمي ، مناقب ابن شهرآشوب 4 / 148.
2- حلية الاولياء 3 / 136.
3- حلية الاولياء 3 / 136.
4- حلية الاولياء 3 / 136.

سجوده إلا انهم نظروا الى عاتقه فوجدوا مثل ذلك الاثر عليه فسألوه عن ذلك فقال (عليه السلام) :

« اما انه لو كان حيا ما حدثتكم عنه ، كان لا يمر به يوم من الايام إلا اشبع فيه مسكينا فصاعدا ما أمكنه ، فاذا كان الليل نظر الى ما فضل عن قوت عياله يومهم ذلك فجعله في جراب فاذا هدأ الناس وضعه على عاتقه ، وتخلل المدينة وقصد قوما لا يسألون الناس الحافا فوصلهم من حيث لا يعلمون من هو ، ولا يعلم بذلك أحد من أهله غيري ، فانى كنت أطلعت على ذلك منه يرجو بذلك فضل اعطاء الصدقة بيده ، ودفعها سرا ، وكان يقول : صدقة السر تطفئ غضب الرب (1).

ويروي الامام الباقر (عليه السلام) بعض مبرات أبيه فيقول : كان أبي ربما يشتري مطرف الخز بخمسين دينارا فيشتو فيه ، ويدخل به المسجد فاذا كان الصيف أمر فيتصدق به ، أو بيع فيتصدق بثمنه (2).

لقد كان الامام زين العابدين (عليه السلام) نسخة لا ثاني لها في تأريخ الانسانية ، فان مقايسه الخلقية ، وفضائله النفسية لترفعه الى مستوى لم يبلغه أي انسان عدا آبائه.

رائعة الفرزدق :

وحج الامام زين العابدين (عليه السلام) بيت اللّه الحرام ، وكان قد حج هشام بن عبد الملك ، وقد جهد هشام على استلام الحجر فلم يستطع لزحام الناس على الحجر ، ونصب له منبر فجلس عليه ، وجعل ينظر الى طواف الناس ، واقبل الامام زين العابدين ليؤدي طوافه ، فلما بصر به الحجاج غمرتهم هيبته التي تحكي هيبة جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتعالت الاصوات

ص: 42


1- دعائم الاسلام 2 / 188.
2- دعائم الاسلام 2 / 156.

بالتهليل والتكبير ، وانفرج الناس له سماطين ، وكان السعيد من يراه ، والسعيد من يقبل يده ، ويلمس كتفه ، فانه بقية اللّه في ارضه ، وذهل اهل الشام ، وبهروا ، وتطلعت إليه أعناقهم وأبصارهم فان هشام المرشح للخلافة بعد أبيه مع ما احيط به من هالة التكريم من أهل الشام واحتفاف الشرطة به ، فانه لم ينل أي لون من الوان الحفاوة من الحجاج ، وبادر أحد اصحابه فقال له :

« من هذا الذي هابه الناس هذه المهابة؟ »

وتميز هشام من الغيظ ، وانتفخت أوداجه فصاح بالرجل « لا اعرفه .. »

وإنما انكر معرفته للإمام مخافة أن يرغب فيه الناس ، وكان الفرزدق حاظرا ، فلم يملك أهابه فقال لاهل الشام :

« أنا اعرفه »

« من هو يا أبا فراس؟ »

وصاح هشام بالفرزدق قائلا :

« أنا لا أعرفه » « بلى تعرفه »

ونهض فانشد هذه الرائعة التي كانت أشد وقعا على هشام من ضرب السيوف وطعن الرماح قائلا :

هذا سليل حسين وابن فاطمة *** بنت الرسول الذي انجابت به الظلم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد اللّه كلهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلم

اذا رأته قريش قال قائلها : *** الى مكارم هذا ينتهي الكرم

يرقى الى ذروة العز الذي قصرت *** عن نيلها عرب الاسلام والعجم

ص: 43

يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم اذا ما جاء يستلم

يغضي حياء ويغضى من مهابته *** فلا يكلم إلا حين يبتسم

بكفه خيزران ريحها عبق *** من كف أروع في عرينينه شمم

من جده دان فضل الأنبياء له *** وفضل أمته دانت له الامم

ينشق نور الهدى عن نور غرته *** كالشمس تنجاب عن اشراقها الظلم

مشتقة من رسول اللّه نبعته *** طابت عناصرها والخيم والشيم

هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله *** بجده انبياء اللّه قد ختموا

اللّه شرفه قدما وفضله *** جرى بذاك له في لوحه القلم

فليس قولك من هذا بضائره *** العرب تعرف من انكرت والعجم

كلتا يديه غياث عم نفعهما *** يستو كفان ولا يعروهما عدم

حمال اثقال أقوام اذا فدحوا *** حلو الشمائل تحلو عنده نعم

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته *** رحب الفناء أريب حسين يعتزم

من معشر حبهم دين وبغضهم *** كفر وقربهم منجى ومعتصم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم *** أو قيل من خير أهل الارض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم *** ولا يداينهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما ازمة ازمت *** والاسد أسد الشرى والبأس محتدم

لا ينقص العسر بسطا من اكفهم *** سيان ذلك ان أثروا وان عدموا

يستدفع السوء والبلوى بحبهم *** ويسترد به الاحسان والنعم

مقدم بعد ذكر اللّه ذكرهم *** في كل أمر ومختوم به الكلم

يأبى لهم أن يحل الذل ساحتهم *** خيم كريم وأيد بالندى هضم

أي الخلائق ليست في رقابهم *** لاولية هذا أولا نعم

من يشكر اللّه يشكر أولية ذا *** فالدين من بيت هذا بابه الامم

وثار هشام وود أن الارض قد خاست به ، ولا يسمع هذه القصيدة

ص: 44

العصماء التي دللت على واقع الامام العظيم ، وعرفته لاهل الشام الذين جهلوه وجهلوا آباءه ، وأمر بالوقت باعتقال الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة ، وبلغ ذلك الامام زين العابدين فبعث إليه باثني عشر الف درهم فردها الفرزدق ، واعتذر من قبولها ، وقال : إنما قلت فيكم غضبا لله ورسوله فردها الامام عليه فقبلها ، وجعل الفرزدق يهجو هشاما وكان مما هجاه به :

أيحبسني بين المدينة والتي *** إليها قلوب الناس يهوى منيبها

يقلب رأسا لم يكن رأس سيد *** وعين له حولاء باد عيوبها (1)

الحزن العميق :

ولم ينكب أحد في هذه الدنيا بمثل ما نكب به الامام زين العابدين علیه السلام فقد عانى أهوال كارثة كربلا ، وشاهد فصول تلك المأساة الخالدة في دنيا الاحزان ، وكان مريضا قد ألمت به العلل والامراض ، وقد ادمت قلبه تلك المشاهد الحزينة فكانت تبعثه على الاستمرار فى البكاء واللوعة ، وكان حزنه يزداد تحرقا وتأججا كلما تقدمت الايام حتى براه الحزن ، وبلغ من عظيم حزنه انه ما قدم له طعام ولا شراب إلا مزجه بدموع عينيه حزنا على أبيه (28) وألح عليه بعض مواليه ان يخلد الى الصبر ويخفف لوعة المصاب فقال له : اني اخاف عليك أن تكون من الهالكين ، فاجابه الامام برفق ولطف قائلا :

« يا هذا إنما اشكو بثي وحزني الى اللّه ، واعلم ما لا تعلمون ، ان يعقوب كان نبيا فغيب اللّه عنه واحدا من اولاده وعنده اثنا عشر ولدا ، وهو يعلم أنه حي فبكى عليه حتى أبيضت عيناه من الحزن ، وأني نظرت

ص: 45


1- حياة الامام الحسين 3 / 327.

إلى أبي وإخوتي وعمومتي وصحبي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟! واني لا أذكر مصرع ابن فاطمة إلا خنقتني العبرة ، واذا نظرت الى عماتي وأخواتي ذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة الى خيمة ، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين .. »

لقد كانت تلك المشاهد المفجعة التي تم تمثيلها على صعيد كربلا تبعثه على الحزن والأسى حتى عد من البكائين الخمسة الذين مثلوا الحزن والبكاء على مسرح الحياة في جميع الاحقاب والآباد.

وكان الامام الباقر (عليه السلام) ينظر الى هذا الحزن المرهق الذي حل بأبيه فيجزع كأشد ما يكون الجزع وربما شاركه في بكائه ولوعته.

وصاياه لولده الباقر :

وزود الامام العظيم ولده الباقر وسائر ابنائه بوصايا تربوية حفلت بالآداب العالية والقيم الكريمة التي تضمن لمن عمل بها السلامة والراحة ، وتهيئ له جوا من الطمأنينة ، والبعد عن مشاكل هذه الحياة .. وهذه بعضها :

1 - قال (عليه السلام) لولده الباقر : « يا بني لا تصحبن خمسة ، ولا تحادثهم ، لا تصحبن الفاسق فانه يبيعك بأكلة فما دونها ، قلت : يا أبت وما دونها؟ قال : يطمع فيها ثم لا ينالها ، ولا تصحب البخيل فانه يقطع بك أحوج ما تكون إليه ، ولا تصحب الكذاب فانه بمنزلة السراب يبعد عنك القريب ، ويقرب منك البعيد ، ولا تصحب الاحمق فانه يريد أن ينفعك فيضرك ، وقد قيل : عدو عاقل خير من صديق أحمق ، ولا تصحب قاطع رحم فانه ملعون في كتاب اللّه في ثلاثة مواضع : في سورة محمد قال تعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ

ص: 46

لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ) (1) وفي سورة الرعد حيث يقول تعالى : ( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) . (2)

وفي سورة الأحزاب حيث يقول اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً. ) (3) .. » (4)

وقد حذر الامام (عليه السلام) في هذه الوصية من مزاملة هؤلاء الاشخاص المصابين في اخلاقهم خوفا من انتقال أمراضهم النفسية الى من يصحبهم فان للصحبة أثرا فعالا في تكوين السلوك الشخصي للفرد.

2 - وأوصى (عليه السلام) ولده الامام الباقر بهذه الوصية القيمة قال له : « افعل الخير الى كل من طلبه منك فان كان أهلا فقد أصبت موضعه ، وإن لم يكن باهل كنت أنت اهله ، وان شتمك رجل عن يمينك ثم تحول الى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره ... » (5).

وحفلت هذه الوصية بمكارم الاخلاق التي طبعت عليها نفوس أهل البيت (عليهم السلام) فان الحث على فعل الخير ، والصفح عن المسيء كل ذلك من ذاتياتهم ومن أبرز ما عرفوا به.

3 - قال الامام الباقر (عليه السلام) : كان أبي علي بن الحسين يقول لولده :

« اتقوا الكذب الصغير منه ، والكبير في كل جد وهزل لأن الرجل اذا

ص: 47


1- سورة محمد : آية 22 و 23.
2- سورة الرعد : آية 25.
3- سورة الأحزاب : آية 57.
4- الاتحاف بحب الأشراف ( ص 50 ).
5- تحف العقول ( ص 282 ).

كذب في الصغير اجترأ على الكبير ... » (1).

لقد ربى الامام (عليه السلام) ولده بمحاسن الاعمال وغرس في نفوسهم النزعات الشريفة ، ونهاهم عن كل ما يوجب انحطاط الانسان في سلوكه.

4 - وأوصى (عليه السلام) ولده الامام الباقر بهذه الوصية الرفيعة قال (عليه السلام) :

« يا بني العقل رائد الروح ، والعلم رائد العقل ، والعقل ترجمان العلم ، واعلم أن العلم ابقى ، اللسان أكثر هذرا ، وان اصلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين بهما اصلاح شأن المعايش ملء مكتال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل (2) لأن الإنسان لا يتغافل عن شيء قد عرفه ففطن له ، واعلم أن الساعات تذهب عمرك ، وأنت لا تنال نعمة إلا بفراق أخرى وإياك والأمل الطويل فكم من مؤمل لا يبلغه ، وجامع مال لا يأكله ، ومانع مال سوف يتركه ، ولعله من باطل جمعه ، ومن حق منعه اصابه حراما وورثه واحتمل اصره ، وباء بوزره وذلك هو الخسران المبين. » (3)

هذه بعض وصاياه وقد حفلت بالآداب الرفيعة والحكم القيمة والتوجيه السليم ، ولم يضعها لأبنائه فقط ، وإنما وضعها للناس جميعا على اختلاف قومياتهم وأديانهم.

أدعيته لولده :

أما أدعية الامام على وجه العموم فانها تمثل جانبا أصيلا ومشرقا من جوانب التربية الاسلامية ، وهي من افضل الوسائل لتهذيب النفوس ، وتقويم الاخلاق.

لقد رأى الامام العظيم الأمة - في عصره - قد غمرتها سحب قاتمة من التدهور الديني والخلقي والاجتماعي فوضع أدعيته التي عرفت

ص: 48


1- وسائل الشيعة 3 / 232.
2- أثرت هذه الكلمة الذهبية في كثير من المصادر الى الامام الباقر.
3- كفاية الأثر ( ص 319 ) للخزاز.

با ( السجادية ) ليعالج بها الأمراض النفسية ، ويعيد للأمة ما فقدته من أرصدتها الروحية والفكرية ، وهي من اثمن الثروات الاسلامية بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة.

ان ادعية الامام (عليه السلام) تتفجر بالعلم والحكمة ، وتفيض بروح الايمان والاسلام ، وتمد الأمة بما تحتاجه من التعليم لضمان توازنها الاجتماعي والفردي ، .. وكان من بين ادعيته الشريفة هذا الدعاء الذي خص به ولده يقول (عليه السلام) : « اللّهم ومنّ علي ببقاء ولدي ، وباصلاحهم لي ، وبامتاعي بهم ، الهي : امدد لي في اعمارهم ، وزد في آجالهم ، ورب لي صغيرهم ، وقولي ضعيفهم ، واصح لي أبدانهم واديانهم ، واخلاقهم ، وعافهم في أنفسهم وفي جوارحهم وفي كل ما عنيت به من أمرهم ، وادرر لي وعلى يدي ارزاقهم ، واجعلهم ابرارا اتقياء ، بصراء سامعين مطيعين لك ولأوليائك محبين مناصحين ولجميع اعدائك معاندين ومبغضين آمين.

اللّهم أشدد بهم عضدي ، وأقم بهم أودي ، وكثر بهم عددي ، وزين بهم محضري ، واحي بهم ذكري ، واكفني بهم في غيبتي ، واعني بهم على حاجتي ، وأجعلهم لي محبين ، وعلى حدبين مقبلين ، مستقيمين لي مطيعين غير عاصين ، ولا عاقين ولا مخالفين ، ولا خاطئين ، واعني على تربيتهم وتأديبهم ، وهب لي من لدنك معهم أولادا ذكورا ، واجعل ذلك خيرا لي ، واجعلهم لي عونا على ما سألتك ، واعذني وذريتي من الشيطان الرجيم ، فانك خلقتنا وأمرتنا ونهيتنا ، ورغبتنا في ثواب ما أمرتنا ورهبتنا عقابه ، وجعلت لنا عدوا يكيدنا سلطته منا على ما لم تسلطنا عليه منه اسكنته صدورنا ، واجريته مجاري دمائنا ، لا يغفل ان غفلنا ، ولا ينسى ان نسينا ، يؤمننا عقابك ، ويخوفنا بغيرك ، إن هممنا بفاحشة شجعنا عليها ،

ص: 49

وان هممنا بصالح ثبطنا عنه ، يتعرض لنا بالشهوات ، وينصب لنا بالشبهات ... إن وعدنا كذبنا ، وإن منانا اخلفنا ، وإلا تصرف عنا كيده يضلنا وإلا تقنا خباله يستزلنا.

اللّهم : فاقهر سلطانه عنا بسلطانك حتى تحبسه عنا بكثرة الدعاء لك فنصبح من كيده في المعصومين بك ... اللّهم فاعطني كل سؤلي ، واقض لي حوائجي ، ولا تمنعني الاجابة ، وقد ضمنتها لي ، ولا تحجب دعائي عنك وقد امرتني به ... وامنن عليّ بكل ما يصلحني في دنياي وآخرتي ما ذكرت منه وما نسيت ، أو أظهرت او اخفيت ، أو اعلنت أو اسررت ، واجعلني في جميع ذلك من المصلحين بسؤالي اياك ، المنجحين بالطلب إليك غير الممنوعين بالتوكل عليك ، المعوذين بالتعوذ بك ، والراغبين في التجارة عليك ، المجارين بعزك ، الموسع عليهم الرزق الحلال من فضلك ، الواسع بجودك وكرمك ، المعزين من الذل بك ، والمجارين من الظلم بعد لك ، والمعافين من البلاء برحمتك ، والمغنين من الفقر بغناك ، والمعصومين من الذنوب والزلل والخطأ بتقواك ، والموفقين للخير والرشد والصواب بطاعتك ، والمحال بينهم وبين الذنوب بقدرتك ، التاركين لكل معصيتك ، الساكنين في جوارك.

اللّهم : اعطنا جميع ذلك بتوفيقك ورحمتك واعذنا من عذاب السعير واعط جميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات مثل الذي سألتك لنفسي ولولدي في عاجل الدنيا وآجل الآخرة انك قريب مجيب ، سميع عليم ، عفو ، غفور ، رءوف رحيم ، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار .. » (1)

ص: 50


1- الصحيفة السجادية دعاء (25).

لقد وضع الامام العظيم مناهج التربية ، واخلاق الاسلام بهذا الدعاء الشريف الذي هو من نفحات النبوة ، ومن عبقات الامامة ، ومن الصفحات المشرقة من تراث أهل البيت (عليهم السلام) ، فقد عنى فيه الامام بتربية ابنائه تربية تقوم على تهذيب الاخلاق ، وتطهير النفوس من الزيغ والآثام ... لقد دعا لهم بالصحة في الأديان ، والمعافاة من اقتراف ما حرمه اللّه ، ودعا لهم بالاستقامة والتوازن في سلوكهم ليكونوا قرة عين له ، وعونا له على شئون هذه الحياة ، ومن الطبيعي أن الأب إنما يسعد بولده فيما إذا استقامت اخلاقه وكان صالحا في هديه وسلوكه ، وأما إذا شذ عن ذلك فانه يحول حياة أبويه الى جحيم لا تطاق.

فى ذمة الخلود :

واجهد الامام العظيم نفسه في العبادة ، واخلص فى طاعته لله كأعظم ما يكون الاخلاص ، فلم ير الناس مثله في تقواه وورعه ، وشدة تحرجه في الدين ... لقد كانت حياته مدرسة للتقوى ومدرسة للأيمان ، ومنطلقا للتهذيب والاصلاح ، وقد اكبره الناس أي اكبار لأنه بقية النبوة ، وبقية اللّه فى أرضه ، فكان السعيد من يراه ، والسعيد من يحظى بمجالسته ، والحديث معه ، وشق ذلك على الامويين الذين كانوا من أحقد الناس على الأسرة النبوية ، فقد هالهم واقض مضجعهم اجماع الناس على اكباره وتحدثهم عن سعة علومه ومعارفه ، وذيوع مثله التي تعنو لها الجباه ، وكان من اعظم الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك فقد روى الزهري ان الوليد قال له : لا راحة لي وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا (1) واجمع رأي

ص: 51


1- حياة الامام علي بن الحسين ( ص 426 ).

هذا الخبيث الدنس على اغتيال الامام حينما آل إليه الملك والسلطان ، ونعرض فيما يلي الى ذلك مع ذكر الاحداث التي رافقت سم الامام.

سمه :

وقام الوليد بن عبد الملك بأخطر جريمة فى الاسلام ، فقد بعث سما قاتلا الى عامله على يثرب ، وأمره ان يدسه الى الامام (1) ونفذ عامله ذلك ، وحينما سقى السم أخذ يعاني اقسى الآلام وأشدها ، وبقي حفنة من الايام على فراش المرض يبث شكواه الى اللّه ، وتزاحم الناس على عيادته ، وهو (عليه السلام) يحمد اللّه ويشكره على ما رزقه من الشهادة على يد شرار بريته.

نصه على امامة الباقر :

وعبد (عليه السلام) بالامامة الى ولده الباقر ونص عليه يقول الزهري دخلت إليه عائدا فقلت له :

« إن وقع من أمر اللّه ما لا بد منه ، فالى من نختلف بعدك؟ » فنظر الامام إليه برفق وقال له :

« الى ابني هذا - واشار الى ولده الباقر - فانه وصي ووارثي وعيبة علمي ، هو معدن العلم وباقره .. »

« هلا أوصيت الى أكبر ولدك؟ .. »

« يا أبا عبد اللّه ليست الامامة بالكبر والصغر ، هكذا عهد إلينا

ص: 52


1- نور الابصار ( ص 129 ) الفصول المهمة لابن الصباغ ( ص 233 ) الاتحاف بحب الاشراف ( ص 52 ) الصواعق المحرقة ( ص 53 ) جدول مصباح الكفعمي ( ص 276 ).

رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهكذا وجدناه مكتوبا فى اللوح والصحيفة .. »

« يا ابن رسول اللّه عهد إليكم نبيكم أن تكونوا الأوصياء بعده؟ .. »

« وجدنا في الصحيفة واللوح اثنى عشر اسما مكتوبة في اللوح امامتهم واسماء آبائهم وامهاتهم ، ثم قال : ويخرج من صلب محمد ابني سبعة من الاوصياء منهم المهدي .. » (1)

ودخل عليه جماعة من اعلام شيعته فدلهم على أمامة ولده الباقر ، ونصبه مرجعا وعلما لأمة جده ، ثم دفع إليه سفطا وصندوقا فيه مواريث الأنبياء ، وكان فيه سلاح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكتبه (2).

وصيته لولده الباقر :

وعهد الامام زين العابدين (عليه السلام) الى وصيه وسيد ولده الامام الباقر (عليه السلام) بما أهمه وكان من جملة ما أوصى به.

1 - إنه قال له : اني حججت على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط ، فاذا نفقت فادفنها ، لا تأكل لحمها السباع ، فان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله اللّه من نعم الجنة ، وبارك في نسله ، ونفذ الامام الباقر ذلك (3).

2 - إنه أوصاه بهذه الوصية القيمة التي تكشف عن الجوانب المشرقة من نزعات أهل البيت (عليهم السلام) فقد قال له : « يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة ، فقد قال لي : يا بني إياك وظلم من لا يجد

ص: 53


1- كفاية الأثر للخزّاز ، اثبات الهداة 5 / 264.
2- بصائر الدرجات ( ص 146 ) اثبات الهداة 5 / 268.
3- محاسن البرقي 2 / 635.

عليك ناصرا إلا اللّه » (1).

3 - إنه عهد إليه ان يتولى غسله وتكفينه (2) وسائر شئونه حتى يواريه في مقره الأخير.

الى الرفيق الأعلى :

وثقل حال الامام ، واشتد به النزع ، وقد أخبر أهل بيته أنه في غلس الليل سوف ينتقل الى جنة المأوى ، وقد اغمي عليه ثلاث مرات فلما أفاق قرأ سورة ( الواقعة ) وسورة ( إنا فتحنا ) ثم قال (عليه السلام) : « الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين .. » (3).

ثم ارتفعت تلك الروح العظيمة الى بارئها كما ترتفع أرواح الأنبياء والمرسلين ، تحفها ملائكة الرحمن ، وتحفها الطاف اللّه وتحياته ورضوانه.

لقد سمت روحه الى جنة المأوى بعد أن أضاءت آفاق هذا الكون ، وأشرقت بها عوالم الدنيا ، وذلك بما تركته من سيرة ندية يهتدى بها الحائر ، ويرشد بها الضال.

تجهيزه :

وقام الامام أبو جعفر بتجهيز جثمان أبيه فغسل جسده الطاهر ، وقد رأى الناس مواضع سجوده كأنها مبارك الأبل من كثرة سجوده لخالقه ، ونظروا الى عاتقه كأنه مبارك الأبل أيضا ، فسألوا الباقر عن ذلك فأخبرهم

ص: 54


1- الخصال ( ص 185 ) الامالي ( ص 161 ).
2- الخرائج ( ص 20 ).
3- روضة الكافي.

أنه من أثر الجراب الذي كان يحمله على عاتقه ويضع فيه الطعام ويوزعه على الفقراء والمحرومين.

وبعد الفراغ من غسله أدرجه في اكفانه ، وصلى عليه الصلاة المكتوبة.

تشييعه :

وشيع الامام بتشييع حافل لم تشهد له يثرب نظيرا ، فقد شيعه البر والفاجر وبكاه الناس جميعا ، فقد فقدوا بموته الخير الكثير ، وفقدوا تلك الروحانية التي لم يخلق لها مثيل ، وقد ازدحم الناس على الجثمان المقدس فالسعيد من يحظى برفعه ، ومن الغريب ان سعيد بن المسيب أحد الفقهاء السبعة في المدينة لم يفز بتشييع الامام والصلاة عليه ، وانكر عليه حشرم مولى اشجع ، فقال له سعيد : أصلي ركعتين في المسجد أحب الى من ان اصلي على هذا الرجل الصالح في البيت الصالح (1) وقد حرم سعيد من الفوز بتشييع الامام الذي هو اتقى انسان خلقه اللّه بعد آبائه الطاهرين.

فى مقره الأخير :

وجيء بالجثمان العظيم في وسط هالة من التكبير والتحميد الى بقيع الغرقد فحفروا له قبرا بجوار قبر عمه الزكي الامام الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة ، وأنزل الامام الباقر جثمان أبيه فواراه في مقره الأخير ، وقد وارى معه البر والتقوى والحلم ، ووارى روحانية الأنبياء والمتقين.

وبعد الفراغ من دفنه هرع الناس نحو الامام الباقر (عليه السلام) وهم يرفعون له تعازيهم الحارة ويشاركونه في لوعته واساه ، والامام مع أخوته وسائر بني هاشم يشكرونهم على ذلك.

وانصرف الامام أبو جعفر (عليه السلام) إلى بيته بعد أن وارى أباه في بقيع

ص: 55


1- رجال الكشي ( ص 76 ).

الغرقد وهو غارق في البكاء ، وقد احتف به بنو هاشم ، وابناء الصحابة ، وسائر وجوه المسلمين وهم يذرفون الدموع على الامام زين العابدين ، ويعددون مزاياه ومآثره ، ويذكرون بمزيد من الأسى الخسارة العظمى التي منى بها المسلمون بفقده.

وقد تسلم الامام الباقر (عليه السلام) بعد وفاة أبيه القيادة الروحية والمرجعية العامة للعالم الاسلامي ، فقد انتقلت إليه الامامة ، والزعامة الدينية عند الشيعة (1) ، وأخذ منذ تلك اللحظة ينشر العلم ، ويلقى على العلماء الدروس الخاصة في شئون الشريعة الاسلامية واحكام الدين.

وقد عاش الامام الباقر (عليه السلام) في كنف أبيه ( 39 سنة ) حسبما ذكره أكثر المؤرخين (2) وقد وهم المستشرق روايت م. رونلدس حيث ذكر ان عمره حينما انتقلت إليه الامامة كان ( 19 سنة ) (3) فان ذلك نشأ من قلة التتبع وعدم التثبت في شئون التأريخ الاسلامي.

اسطورة :

من الموضوعات ما رواه ابن عساكر في تأريخه بأسناده عن محمد بن جعفر السامري قال ما نصه : سمعت أبا موسى المؤدب يقول : قال قيس ابن النعمان : خرجت يوما الى بعض مقابر المدينة فاذا أنا بصبي جالس عند قبر يبكي بكاء شديدا ، وإن وجهه ليلقي شعاعا من نور فأقبلت

ص: 56


1- العقد الفريد 5 / 204.
2- جاء في تأريخ الأئمة ( ص 5 ) لابن أبي الثلج البغدادي انه اقام مع أبيه ( 35 سنة ) إلا شهرين.
3- عقيدة الشيعة ( ص 123 ).

عليه ، فقلت : أيها الصبي ما الذي اعقلت له من الحزن حتى افردك بالخلوة في مجالب الموتى والبكاء على أهل البلاء ، وأنت بغرارة (1) الحداثة مشغول عن اختلاف الأزمان ، وحنين الأحزان؟!! فرفع الصبي رأسه ، وطأطأه واطرق ساعة لا يحيد جوابا ثم رفع رأسه وهو يقول :

ان الصبي صبي العقل لا صغر *** ازرى بذي العقل فينا لا ولا كبر

ثم قال لي : يا هذا إنك خلي الذرع من الفكر ، سليم الاحشاء من الحرقة ، آمنت تقارب الأجل بطول الأمل ، ان الذي أفردني بالخلوة في مجالب أهل البلاء يذكرني قول اللّه عز وجل « إذا هم من الاجداث الى ربهم ينسلون » فقلت : بأبي أنت وأمي من أنت؟ فاني لأسمع كلاما حسنا ، فقال : إن من شقاوة أهل البله قلة معرفتهم بأولاد الأنبياء ، أنا محمد بن علي بن الحسين ، وهذا قبر ابي فأي انس أنس من قربه؟ وأي وحشة تكون معه؟ ثم أنشأ يقول :

ما غاض دمعي عند نازلة *** إلا جعلت لها البكا سببا

إني احل ثرى حللت به *** من أن أرى بسواك مكتئبا

فاذا ذكرتك سانحتك به *** من الدموع اذا ما فاض فأنسكبا

قال قيس : فانصرفت ، وما تركت زيارة القبور منذ ذاك (2) والذي يدلل على وضع هذه الرواية انها ذكرت ان الامام كان صبيا بعد وفاة أبيه ، ومما اجمع عليه المؤرخون ان عمره الشريف في ذلك الوقت كان تسعا وثلاثين سنة مع أن التأمل في فصولها يوحي بانها من الموضوعات.

ص: 57


1- الغرارة : هي الحداثة في السن.
2- تأريخ ابن عساكر 51 / 44 - 45.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الامام محمد الباقر في ظلال جده وأبيه ، وقد ورث منهما أجل ما تورثه الاصول للفروع ، فقد ورث منهما العلم والحكمة وفصل الخطاب.

ص: 58

اخوته وابناؤه

اشارة

ص: 59

ص: 60

أما البحث عن شئون السادة من أخوان الامام الباقر وابنائه ، ومدى علاقتهم معه فانه ضروري حسب الدراسات الحديثة لأنه يكشف جانبا من جوانب حياته في ظلال أسرته التي تعد من المكونات التربوية للشخص - حسبما يقول علماء التربية - وفيما يلي ذلك.

أخوته :

أما علاقة الامام بأخوته فقد كانت وثيقة للغاية تسودها المحبة والألفة واجتناب هجر الكلام ومره ، وقد قيل له :

« أي اخوانك أحب إليك؟ »

فأجاب (عليه السلام) أنه لا يفرق بينهم ، وأنه يكن لهم جميعا اعظم المودة والاخلاص قائلا :

« أما عبد اللّه فيدي التي ابطش بها (1) واما عمر فبصري الذي ابصر به ، وأما زيد فلساني الذي انطق به ، وأما الحسين فحليم يمشي على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما .. » (2).

لقد توفرت في اخوان الامام (عليه السلام) جميع النزعات الكريمة من الورع والتقوى ، والصلاح ، قد غذاهم أبوهم الامام زين العابدين (عليه السلام) بهديه ، وأفاض عليهم أشعة من روحه فأنارت قلوبهم بجوهر الاسلام وواقع الايمان ، ونقدم عرضا موجزا لبعض شئونهم :

زيد الشهيد :

أما زيد الشهيد فهو ملئ فم الدنيا في فضله وعلمه وشممه وإبائه ،

ص: 61


1- عبد اللّه : هو أخو الامام الباقر لأمه وأبيه.
2- سفينة البحار 2 / 273.

وهو أحد أعلام الأسرة النبوية الذين رفعوا كلمة اللّه عالية في الأرض ، وقدموا أرواحهم قرابين خالصة لوجه اللّه ليحققوا العدالة الاسلامية ، ويعيدوا بين الناس حكم القرآن ، ويقضوا على معالم الظلم الاجتماعي التي أوجدها الحكم الاموي بين الناس ، ونلمع الى بعض سيرته وشئونه.

ولادته :

كانت ولادة زيد الشهيد سنة ( 78 ه ) (1) وقيل سنة ( 75 ه ) (2) ولما بشر به أبوه الامام زين العابدين (عليه السلام) أخذ القرآن الكريم وفتحه متفائلا به فخرجت الآية الكريمة ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) (3) فطبقه وفتحه ثانيا فخرجت الآية ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (4) وطبق المصحف ثم فتحه فخرجت الآية ( وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ ) (5) وبهر الامام وراح يقول :

« عزيت عن هذا المولود وانه لمن الشهداء .. » (6)

لقد تنبأ الامام (عليه السلام) بشهادة ولده واحاط أصحابه علما بها ، فلم يخامرهم شك في ذلك.

ص: 62


1- تهذيب ابن عساكر 6 / 18.
2- الحدائق الوردية 1 / 143.
3- سورة التوبة : آية 111.
4- سورة آل عمران : آية 169.
5- سورة النساء : آية 95.
6- الروض النضير 1 / 52.

نشأته :

نشأ زيد في بيوت النبوة والامامة ، وتغذى بلباب الحكمة ، فكان أبوه الامام زين العابدين الذي هو أفضل انسان في عصره يتعاهده بالآداب ، ويرسم له طرق الهداية والخير ، فتأثر بسلوكه ، وانطبعت في دخائل نفسه نزعاته المشرقة ، فكان البارز من صفاته - فيما يقول المؤرخون - الزهد والورع ، والتحرج في الدين ، فلم يتبع قيادة نفسه وإنما آثر رضا اللّه وطاعته على كل شيء.

وقد لازم منذ نعومة اظفاره أخاه الامام الباقر الذي هو خليفة أبيه ووصيه ، ووارث علومه ، ومن الطبيعي ان لهذه الصحبة أثرا فعالا في سلوكه وتكوين شخصيته ، فقد كان في هديه يضارع هدي آبائه الذين طهرهم اللّه من الرجس والزيغ وأبعدهم عن مآثم هذه الحياة.

عبادته وتقواه :

وأخلص زيد في العبادة والانابة لله ، فكان من أبرز المتقين في عصره يقول عاصم بن عبيد العمري : « رأيته وهو شاب بالمدينة يذكر اللّه فيغشى عليه ، حتى يقول القائل ما يرجع الى الدنيا » (1) وكان يعرف عند أهل المدينة بحليف القرآن (2) وقد أثر السجود بوجهه (3) لكثرة صلاته طوال الليل (4) لقد اتجه بعواطفه ومشاعره نحو اللّه ، وسلك

ص: 63


1- مقاتل الطالبين ( ص 128 ).
2- مقاتل الطالبين ( ص 130 ).
3- مقاتل الطالبين ( ص 128 ).
4- الخرائج والجرائح ( ص 328 ).

كل ما يقربه إليه زلفى.

علمه وأدبه :

وكان زيد من علماء عصره البارزين ، وكان موسوعة في الحديث والفقه والتفسير واللغة والأدب ، وعلم الكلام ، وقد سأل جابر الامام الباقر (عليه السلام) عن زيد فأجابه (عليه السلام) « سألتني عن رجل ملئ ايمانا وعلما من أطراف شعره الى قدمه. » (1).

وقال (عليه السلام) فيه : « ان زيدا أعطي من العلم بسطة » (2) وقد تحدث زيد عن سعة علومه ومعارفه حينما أعد نفسه لقيادة الأمة ، والثورة على الحكم الأموي ، يقول :

« واللّه ما خرجت ، ولا قمت مقامي ، هذا ، حتى قرأت القرآن ، وأتقنت الفرائض واحكمت السنة والآداب ، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل ، وفهمت الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ، والخاص والعام ، وما تحتاج إليه الأمة في دينها مما لا بد لها منه ، ولا غنى عنه وأني لعلى بينة من ربي ... » (3).

لقد كان زيد من اعلام الفقهاء ومن كبار رواة الحديث ، وقد أخذ علومه من أبيه الامام زين العابدين (عليه السلام) ومن أخيه الامام الباقر (عليه السلام) الذي بقر العلم حسبما أخبر عنه جده الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وقد غذياه بانواع العلوم وأخذ عنهما أصول الاعتقاد والفروع والتفسير ، فكان من الطراز الأول في فضله وعلمه ...

ص: 64


1- مقدمة مسند الامام زيد ( ص 8 ).
2- مقدمة مسند الامام زيد ( ص 7 ).
3- الخطط والآثار للمقريزي 2 / 440.

وإن من أوهى الاقوال ما ذهب إليه الشهرستاني من انه تتلمذ لواصل بن عطاء واخذ عنه الاعتزال يقول : « أراد - يعني زيدا - أن يحصل الاصول والفروع حتى يتحلى بالعلم فتتلمذ في الاصول لواصل بن عطاء رأس المعتزلة مع اعتقاد واصل بأن جده علي بن أبي طالب (عليه السلام) في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأصحاب الشام ما كان على يقين من الصواب ، وان أحد الفريقين منهما كان على خطأ لا بعينه فاقتبس منه الاعتزال .. » (1)

أما هذا الرأي فلا يحمل أي طابع من التوازن والتحقيق فان زيدا لم يقتبس علومه من واصل ، وإنما أخذها من أبيه وأخيه اللذين أضاءا الحياة الفكرية والعلمية في الاسلام.

وقد استمد الفقهاء ورؤساء المذاهب الاسلامية علومهم مما أخذوه من أئمة اهل البيت (عليهم السلام) أما مباشرة او من أحد تلامذتهم ، فكيف يذهب زيد الى واصل (2) لأخذ العلم عنه؟ ويذهب الشيخ أبو زهرة الى ان التقاء زيد بواصل كان التقاء مذاكرة وليس التقاء تلميذ عن استاذ فان السن متقاربة ، وزيد كان ناضجا ... واضاف قائلا : إنه تلقى فروع .

ص: 65


1- الملل والنحل المطبوع على هامش الفصل 2 / 208.
2- كان واصل بن عطاء الثغ قبيح اللثغة في الراء ، فكان يخلص كلامه من الراء وفيه يقول الشاعر : ويجعل البر قمحا في تصرفه *** وخالف الراء حتى احتال للشعر ولم يطق مطرا والقول يعجله *** فعاد بالغيث اشفاقا من المطر جاء ذلك في وفيات الاعيان 5 / 60.

الاحكام من أسرته ، وفي المدينة مهد علم الفروع (1).

لقد أخذ زيد علومه من أبيه وأخيه ، وكان من اعلام الفقهاء في عصره وقد روى عنه أبو خالد الواسطي مجموعة في الفقه تتناول العبادات والمعاملات اسماها ( مسند الامام زيد ) وقد ذكرنا ما يواجه هذا الكتاب من المؤخذات في درستنا عن عقائد الزيدية (2).

أما مكانة زيد الأدبية فقد كان من الطراز الأول في الأدب والبلاغة وكان يشبه جده الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في فصاحته وبلاغته (3) ويقول المؤرخون : إنه جرت بين زيد وبين جعفر بن الحسن منازعة في وصية فكانا إذا تنازعا انثال الناس عليهما ليسمعوا محاورتهما فكان الرجل يحفظ على صاحبه اللفظة من كلام جعفر ويحفظ الآخر اللفظة من كلام زيد فاذا انفصلا وتفرق الناس فيكتبون ما قالاه : ثم يتعلمونه كما يتعلم الواجب من الفرض والنادر من الشعر والسائر من المثل وكانا أعجوبة دهرهما واحدوثة عصرهما (4) وكان سيبويه يحتج بما أثر عن زيد من الشعر ، ويستشهد به فيما يذهب إليه واعترف خصمه الطاغية هشام بقدراته الأدبية ، وبراعته في الكلام فقال : « إنه حلو اللسان ، شديد البيان ، خليق بتمويه الكلام » (5) وقد حفلت مصادر الأدب والتأريخ

ص: 66


1- الامام زيد ( ص 225 ) لمحمد أبو زهرة.
2- طبع بعض هذا الكتاب في المسائل الدينية التي تصدر في كربلا والبعض الآخر لا يزال مخطوطا.
3- الحدائق الوردية 1 / 144.
4- زهر الآداب 1 / 87.
5- تأريخ اليعقوبي 2 / 390.

بالشيء الكثير من روائع حكمه وهي من غرر الكلام العربي.

اكبار الامام الباقر لزيد :

وكان الامام الباقر (عليه السلام) يجل أخاه زيدا ويكبره ، ويحمل له في دخائل نفسه أعمق الود ، وخالص الحب لأنه من افذاذ الرجال ، وصورة حية للبطولات النادرة ، وقد روى المؤرخون صورا من ألوان ذلك الود والاكبار ، وهذه بعضها :

1 - إنه قال له : « لقد انجبت أم ولدتك يا زيد ، اللّهم اشدد ازري بزيد » (1) وهذا يدل على مدى إكبار الامام وتعظيمه لزيد.

2 - روى سدير الصيرفي قال : كنت عند أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فدخل زيد بن علي فضرب أبو جعفر على كتفه وقال له : « هذا سيد بني هاشم إذا دعاكم فأجيبوه وإذا استنصركم فانصروه » (2) ودل ذلك على دعوة الامام الى نصرته والذب عنه ، والحكم بشرعية ثورته.

3 - روى المؤرخون عن رجل من بني هاشم قال : كنا عند محمد بن علي بن الحسين وأخوه زيد جالس فدخل رجل من أهل الكوفة فقال له محمد بن علي : إنك لتروى طرائف من نوادر الشعر فكيف قال الانصاري لأخيه؟ فانشده :

لعمرك ما أن أبو مالك *** بوان ولا بضعيف قواه

ولا بألد له نازع *** يعادي أخاه اذا ما نهاه

ص: 67


1- عمدة الطالب 2 / 127 من مصورات مكتبة الامام الحكيم تسلسل 42.
2- عمدة الطالب 2 / 127 ، غاية الاختصار ( ص 30 ).

ولكنه غير مخلافة *** كريم الطبائع حلو ثناه (1)

وإن سدته سدت مطواعة *** ومهما وكلت إليه كفاه

فوضع أبو جعفر يده على كتف زيد وقال له :

« هذه صفتك يا أخي واعيذك باللّه أن تكون قتيل العراق » (2).

ومعنى هذه الأبيات التي وصف بها الامام أخاه أنه كان قوي الشكيمة صلب الارادة ، ماضي العزيمة ، وانه منقاد لأخيه ، كريم في طبائعه ، وإنه مهما وكل إليه من أمر عظيم فانه اهل للقيام به ، ولا يتصف بهذه الصفات إلا أفذاذ الناس ، وعمالقة الدهر.

لقد اضفى الامام (عليه السلام) على أخيه اسمى النعوت ، ومنحه وده الخالص ، ولم يكن بذلك مدفوعا بدافع الأخوة فان مقامه الروحي بعيد كل البعد من الاندفاع وراء العواطف والرغبات ، وإنما رأى أخاه من أروع صور التكامل الانساني فمنحه هذا اللون من الود والتكريم.

مع هشام بن عبد الملك :

وعرف هشام بن عبد الملك بالحقد على الأسرة النبوية ، والبغض لها ، وقد عهد للمباحث ورجال الأمن بمراقبة العلويين والتعرف على تحركاتهم والوقوف على نشاطاتهم السياسية ، وقد احاطته استخباراته علما بسمو مكانة زيد ، وأهمية مركزه الاجتماعي ، وما يتمتع به من القابليات الفذة التي اوجبت احتفاف الجماهير حوله ، وتطلعهم الى حكمه ، وأخذ هشام يبغي له الغوائل ويكيد له في غلس الليل وفي وضح النهار ، وعهد الى عامله على يثرب بأشخاصه إليه ، ولما شخص الى دمشق حجبه عنه

ص: 68


1- وفي رواية ( حلو نثاه ).
2- زهر الآداب 1 / 118.

مبالغة في توهينه والاستهانة به ، وقد احتف به أهل الشام لما رأوا ما اتصف به من سمو الخلق ، وبليغ النطق وقوة الحجة ، والتحرج في الدين ، وبلغ ذلك هشاما فتميز من الغيظ فاستشار بعض مواليه ، وطلب منه الرأي للحط من شأنه وتوهينه أمام أهل الشام فأشار عليه أن يأذن للناس اذنا عاما ، ويحجب زيدا ثم يأذن له في آخر الناس فاذا دخل عليه وسلم فلا يرد عليه سلامه ولا يأمره بالجلوس ، وحسب أن ذلك موجب للحط من شأنه والتوهين بشخصيته وفعل هشام ذلك ، فلما دخل زيد وسلم لم يرد عليه سلامه فثار زيد في وجهه - فيما يقول بعض المؤرخين - وخاطبه بعنف قائلا :

« السلام عليك يا أحول فانك ترى نفسك أهلا لهذا الاسم ... » (1) ونسفت هذه الكلمات جبروت الطاغية ، واطاحت بغلوائه ، فصاح بزيد : « بلغني أنك تذكر الخلافة ، وتتمناها ، ولست أهلا لها ، وأنت ابن أمة .. »

وانبرى زيد يسخر منه ، ويدلي بحجته في تفنيد قول هشام قائلا : « ان الامهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات ، وقد كانت أم اسماعيل أمة لأم اسحاق فلم يمنعه ذلك أن بعثه اللّه نبيا ، وجعله أبا للعرب ، وأخرج من صلبه خير الأنبياء محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... » (2).

وفقد هشام توازنه امام هذا المنطق الفياض ، وسرت الرعدة في أوصاله فراح يتهجم على الامام محمد الباقر (عليه السلام) فقال له :

« ما يصنع أخوك البقرة؟ .. »

ص: 69


1- تهذيب ابن عساكر 6 / 22.
2- الكامل لابن الأثير 5 / 84.

ولا يلجأ الى هذا المنطق الرخيص إلا كل جاهل يعوزه الدليل ، والبرهان وشعر زيد بألم حينما سب أخاه فالتفت الى الطاغية قائلا :

« سماه رسول اللّه الباقر ، وتسميه البقرة ، لشد ما اختلفتما لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا فيرد الجنة وترد النار .. » (1)

وزعزعت هذه الكلمات عرش الطاغية وابرزته امام أهل الشام كأقذر مخلوق لا يستحق أن يكون شرطيا فكيف يكون خليفة على المسلمين؟ مع مخالفته لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ وفقد هشام صوابه فصاح بجلاوزته ان يخرجوا زيدا من مجلسه (2) وخرج زيد وقد ملئ قلب هشام غيظا والما ، وراح الطاغية يقول لأسرته :

« ألستم تزعمون أن أهل هذا البيت قد بادوا ، لا لعمري ما انقرض قوم هذا خلفهم ... » (3)

وخرج زيد وقد امتلأت نفسه حماسا وعزما على اعلان الثورة على الحكم الأموي الذي كفر بجميع القيم الانسانية واستهان بكرامة الناس ، وقد أعلن زيد شرارة الثورة بكلمته الخالدة التي اصبحت شعارا للثوار ونشيدا لهم على الخوض في ميادين الكفاح والنضال قائلا :

« ما كره قوم حر السيوف إلا ذلوا .. »

وقد جرت هذه المقابلة بين زيد وبين هشام في حياة الامام الباقر (عليه السلام) ولم تشر المصادر التي بايدينا الى السنة التي وقعت فيها وعلى أي حال فمنذ تلك اللحظة عزم زيد على الثورة ، والقيام بمناهضة الحكم الأموي ،

ص: 70


1- شرح النهج 1 / 315 ، عمدة الطالب ( ص 83 ).
2- الكامل 5 / 84.
3- عمدة الطالب.

يقول بعض شيعته دخلت عليه فسمعته يتمثل بقول الشاعر :

ومن يطلب المجد للمنع بالقنا *** يعش ماجدا أو تخترمه المخارم

متى تجمع القلب الذكي وصارما *** وآنفا حميا تجتنبك المظالم

وكنت اذا قوم غزوني غزوتهم *** فهل أنا في ذا يا آل همدان ظالم (1)

ودل هذا الشعر على تصميمه على الثورة ، والخوض في ميدان الكفاح المسلح ليعش ماجدا كريما تجتنبه المظالم ، ويصد عنه كيد المعتدين ... لست أيها الثائر العظيم ظالما ولا باغيا وإنما أنت منقذ ومحرر للأمة العربية والاسلامية من الظلم والجور والاستبداد.

مشروعية الثورة :

والشيء المحقق ان زيدا لم يفجر ثورته الكبرى أشرا ولا بطرا ، ولا ظالما ، ولا مفسدا ، وإنما كان يبغي وجه اللّه ، ويلتمس الدار الآخرة ، فقد رأى ظلما شائعا ، وجورا شاملا ، ورأى حكام بني أمية لم يبقوا لله حرمة إلا انتهكوها ، فخرج داعيا الى اللّه ، وطالبا بالحق ، يقول الرواة : إنه لما ازمع على الخروج جاءه جابر بن يزيد الجعفي فقال له : إني سمعت أخاك أبا جعفر يقول : إن أخي زيد بن علي خارج ومقتول ، وهو على الحق ، فالويل لمن خذله ، والويل لمن حاربه ، والويل لمن يقتله ، فقال له زيد :

« يا جابر لم يسعن أن أسكت ، وقد خولف كتاب اللّه تعالى ، وتحوكم بالجبت والطاغوت ، وذلك اني شاهدت هشاما ، ورجل عنده يسب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقلت : للساب ، ويلك يا كافر اما اني لو تمكنت منك

ص: 71


1- مقاتل الطالبين ( ص 129 ).

لاختطفت روحك وعجلتك الى النار ، فقال لي هشام : مه جليسنا يا زيد ، فو اللّه لو لم يكن إلا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه ، وجاهدته حتى افنى .. » (1)

وأثنى الامام أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) على عمه ثناء عاطرا ، ومجّد ثورته الاصلاحية فكان فيما يقول الرواة : قد قال لاصحابه : لا تقولوا : خرج زيد ، فان زيدا كان عالما ، وكان صدوقا ، ولم يدعكم الى نفسه ، إنما دعاكم الى الرضا من آل محمد (عليهم السلام) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه انما خرج الى سلطان مجتمع لينقضه (2) وقد دفع (عليه السلام) الى عبد الرحمن بن سيابة ألف دينار وأمره أن يقسمها في عيال من أصيب مع زيد (3).

ولو كانت الثورة غير مشروعة لما صنع ذلك فان شأنه أسمى من أن يندفع وراء التيارات العاطفية.

وشجبت بعض الروايات ثورة زيد ، ووسمتها بأنها غير مشروعة إلا ان سيدنا الاستاذ الامام الخوئي قد عرض (4) إليها فأثبت ان سندها ضعيف لا يمكن التعويل عليها في الطعن بشخصية زيد وثورته.

وعلى أي حال فقد أحدثت ثورة زيد تحولا اجتماعيا وفكريا في المجتمع الاسلامي وهيأته الى الثورة على الحكم الأموي فلم تمر إلا سنين يسيرة

ص: 72


1- تيسير المطالب ( ص 108 - 109 ).
2- روضة الكافي.
3- الأمالي للمجلسي 54.
4- معجم رجال الحديث 7 / 350 - 358.

وإذا بالرايات السود تخفق في خراسان ، وهي تزحف الى احتلال الاقاليم الاسلامية ، وتطهرها من عملاء السلطة الاموية حتى اطاحت بالعرش الأموي ، وقضت على معالم زهوه وجبروته.

الثورة الكبرى :

وثار زيد على الحكم الأموي بوحي من عقيدته التي تمثل روح الاسلام وهديه ، فقد رأى باطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، ورأى جورا شاملا ، واستبدادا في أمور المسلمين فلم يسعه السكوت ، يقول بعض شيعته : خرجت معه الى مكة فلما كان نصف الليل ، واستوت الثريا قال لي :

« أما ترى هذه الثريا؟ أترى أحدا ينالها؟ ... »

« لا ».

« واللّه لوددت أن يدي ملصقة بها فاقع الى الارض أو حيث أقع فاتقطع قطعة قطعة ، وان اللّه يصلح بين أمة محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... » (1)

ودل حديثه على مدى نزعته الاصلاحية واخلاصه العظيم لأمة جده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتفانيه في سبيل الاصلاح العام.

وروى عيسى بن عبد اللّه عن جده محمد بن عمر بن علي (عليه السلام) قال : كنت مع زيد بن علي حين بعث بنا هشام الى يوسف بن عمر ، فلما خرجنا من عنده ، وسرنا حتى كنا بالقادسية قال زيد : اعزلوا متاعي عن أمتعتكم ، فقال له ابنه : ما تريد أن تصنع؟ قال : أريد أن ارجع الى الكوفة ، فو اللّه لو علمت أن رضى اللّه عز وجل عني في أن أقدح نارا

ص: 73


1- مقاتل الطالبيين ( ص 129 ).

بيدي حتى اذا اضطرمت رميت نفسي فيها لفعلت!! ولكن ما أعلم شيئا ارضى لله عز وجل عني من جهاد بني أمية (1).

إنه لم يفجر ثورته الكبرى طمعا بالخلافة والملك ، وإنما كان يبغي وجه اللّه والدار الآخرة ، وقد رأى أن مناهضة اولئك الظالمين من اعظم ما يقربه الى اللّه.

ويمم زيد وجهه نحو الكوفة لأنها المركز العام للشيعة ، وان أهلها طلبوا منه القدوم إليهم ليأخذ منهم البيعة على مناهضة الحكم الاموي والاطاحة به ، ويقول المؤرخون إن جماعة من المخلصين لزيد حذروه من القدوم الى الكوفة ، وعذلوه من الوثوق بالكوفيين لما عرفوا به من الغدر ونقض العهود إلا انه لم يعن بذلك فانه لم يجد موطنا تتوفر فيه الإستراتجية للثورة سوى الكوفة ، وجعل زيد يتمثل بقول عنترة العبسي :

بكرت تخوفني المنون كأنني

اصبحت عن عرض الحياة بمعزل

فأجبتها أن المنية منهل

لا بد أن أسقى بكأس المنهل (2)

ودل هذا الشعر على عزمه وتصميمه على الخوض في ميادين الكفاح المسلح ، وانه يسعى بكل جرأة واقدام ليحتسي كأس المنية ولا يعيش ذليلا مضاما شأنه شأن جده الامام الحسين سيد الاحرار والأباة في الاسلام.

ولما انتهى زيد الى الكوفة بادر أهلها إليه فرحبوا به ترحيبا حارا ، وأسرعوا إليه يبايعونه حتى بلغ عدد المبايعين خمسة عشر الفا ، وقيل اكثر من ذلك وبايعه الفقهاء والقضاة واعلام الفكر والأدب كالاعمش ، وسعد

ص: 74


1- تيسير المطالب ( ص 108 - 109 ).
2- الروض النضير 1 / 75.

ابن كدام ، وقيس بن الربيع والحسن بن عمارة وغيرهم (1) وسئل ابو حنيفة عن خروج زيد فقال : « ضاهى خروج رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوم بدر » وقال : « لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه أمام بحق ، ولكن اعينه بمال » (2).

أما صيغة البيعة التي أخذها زيد على من بايعه فهي : « إنا ندعوكم الى كتاب اللّه ، وسنة نبيه ، وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين ، وقسم هذا الفيء بين أهله ، ورد المظالم ، ونصرة أهل الحق ... » (3).

وتعطي هذه الصيغة صورة عن المبادئ الاصلية التي ثار من أجلها زيد وهي :

1 - الدعوة الى احياء كتاب اللّه ، وسنة نبيه ، فقد اقصتهما السياسة الأموية عن واقع الحياة.

2 - جهاد الظالمين من حكام بني أمية الذين ساسوا المسلمين بالظلم والجور وارغموهم على ما يكرهون.

3 - الدفاع عن حقوق المستضعفين ، وتوفير العطاء للمحرومين ، فقد حرموا من جميع حقوقهم الشرعية طيلة الحكم الأموي.

4 - قسمة الفيء ، وسائر الحقوق المالية على المسلمين بالسواء ، فقد نهبها الامويون ، وانفقوها على ملاذهم ورغباتهم الخاصة.

5 - نصرة دعاة الحق الذين يعنون بشئون الأمة ، ويسهرون على

ص: 75


1- مقاتل الطالبيين.
2- الكامل 5 / 56.
3- مقاتل الطالبيين.

صالحها ، وهم الهداة من أهل البيت (عليهم السلام).

لقد ثار زيد من أجل أن يحقق هذه الاهداف العظيمة في ربوع الوطن الاسلامي الكبير ، وينقذ الأمة من عسف الامويين وظلمهم وبطشهم.

وبعد ما توفرت لزيد القوة العسكرية الهائلة التي يبلغ عددها - فيما يقول بعض المؤرخين - أربعين الفا ، رأى أن يفجر الثورة ، ويزحف بجيوشه الى احتلال الكوفة والاطاحة بالحكم الأموي.

وانطلقت جيوشه من جبانة سالم (1) وهي تهتف بجياة زعيمها العظيم زيد وسقوط الحكم الاموي ، وتنادي بشعار الشيعة « يا منصور امت » (2) ولما رأى زيد الرايات تخفق على رأسه قال : « الحمد لله الذي هداني واللّه اني كنت استحي من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أن أرد الحوض ولم آمر بمعروف » (3) وخطب في جيوشه فقال لهم : « عليكم بسيرة أمير المؤمنين علي بالبصرة والشام لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ، ولا تفتحوا مغلقا ، واللّه على ما نقول وكيل. » (4).

وبدأت الحرب في ليلة شديدة البرد (5) لسبع بقين من المحرم سنة ( 122 ه ) وجرت مناوشات واصطدام مسلح بين اتباع زيد وبين الجيوش الاموية تحت قيادة والي الكوفة يوسف بن عمر.

ص: 76


1- انساب الاشراف 3 / 203.
2- الطبري 8 / 273.
3- عمدة الطالب 2 / ورقة 127 من مصورات مكتبة الحكيم.
4- الحدائق الوردية 1 / 148.
5- انساب الاشراف 3 / 202.

الخيانة والغدر :

وخان أهل الكوفة بزيد وغدروا به بعد ما عاهدوا اللّه على نصرته والذب عنه فقد اسلموه عند الوثبة ، وتركوه مع القلة من اصحابه في ميدان الجهاد ، ولما رأى زيد تخاذلهم راح يقول :

« فعلوها حسينية ».

لقد غدروا به كما غدروا بجده الحسين من قبل ، وايقن زيد بفشل ثورته ، واستبان له ان لا ذمة لأهل الكوفة ، ولا وفاء لهم ، وقد خاض مع اصحابه الحرب في شوارع الكوفة وازقتها ، وابلى في المعركة بلاء حسنا ، وما رأى الناس قط فارسا اشجع منه (1).

فى ذمة الخلود :

وأبدى زيد من البسالة والبطولة ما يفوق حد الوصف ، فقد اخذ يلاحق الجيوش وينزل بها أفدح الخسائر ، ولم يستطع الجيش الاموي أن يصمد أمام الضربات المتلاحقة التي يصبها عليهم زيد ، وكان يحمل عليهم ويتمثل بقول الشاعر :

أذل الحياة وعز الممات *** وكلا أراه طعاما وبيلا

فان كان لا بد من واحد *** فسيري الى الموت سيرا جميلا

لقد آثر زيد عز الممات على ذل الحياة كما أثر ذلك آباؤه فلم يخضع للذل والعبودية ومات عزيزا تحت ظلال السيوف والرماح.

ولما جنح الليل رمي زيد بسهم غادر فأصاب جبهته (2) ووصل الى

ص: 77


1- انساب الاشراف 3 / 202.
2- يراجع في تفصيل الحادث المؤلم الى زيد الشهيد للمقرم ، وثورة زيد بن علي لناجي حسن ، والى عقائد الزيدية للمؤلف.

دماغه الشريف الذي ما فكر إلا في صالح الانسان وسعادته.

وحلت الكارثة بأصحابه ، وهاموا في تيارات مذهلة من الأسى والحزن ، وطلبوا له طبيبا فانتزع منه السهم فتوفى من فوره ، وقد انطفئت بذلك الشعلة الوهاجة التي كانت تضيء الطريق وتوضح القصد للمسلمين.

لقد استشهد زيد من أجل أن يحقق العدالة الاجتماعية في الارض ، ويحقق للمسلمين الفرص المتكافئة ، ويوزع خيرات الارض على الفقراء والمحرومين الذين كفرت السلطة الأموية بجميع حقوقهم.

ويقول المؤرخون : إن أصحاب زيد حاروا في مواراة جثمانه خوفا عليه من السلطة التي لا تتورع من التمثيل الآثم به ، وبعد المداولة صمموا على مواراته في نهر هناك فانطلقوا الى النهر فقطعوا ماءه وحفروا فيه قبرا وواروا الجسد الطاهر فيه ، ثم أجروا الماء ، وانصرفوا وهم يذرفون الدموع على القائد العظيم الذي تبنى حقوق المظلومين والمضطهدين.

وكان مع أصحاب زيد أحد عيون السلطة يراقب تحركاتهم فبادر مسرعا الى الكوفة واخبر حاكمها بموضع الدفن ، فأمر بنبش القبر واخراجه منه فاخرج ، وحمل الى قصر الكوفة ، وأمر بصلبه منكوسا في سوق الكناسة وعمدوا الى احتزاز رأسه الشريف ، وارسل هدية الى طاغية الشام هشام ابن عبد الملك ، وأمر الرجس بوضع الرأس في مجلسه ، وأمر جميع من يدخل عليه أن يطأه بحذائه (1) مبالغة في توهينه ، وجعلت الدجاج تنقر دماغه وفي ذلك يقول الشاعر :

أطردوا الديك عن ذؤابة زيد *** طال ما كان لا تطأه الدجاج (2)

ص: 78


1- شرح ابن أبي الحديث.
2- النزاع والتخاصم ( ص 7 ).

ابن بنت النبي اكرم خل *** ق اللّه زين الوفود والحجاج

حملوا رأسه الى الشام ركضا *** بالسرى والبكور والادلاج (1)

وأمر الطاغية بنصب الرأس الشريف على باب دمشق ، ثم أرسل الى المدينة (2) فنصب عند قبر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يوما وليلة (3) ثم أرسله الى مصر كل ذلك لاذاعة الخوف والارهاب بين الناس ، واعلامهم على قدرة السلطة على سحق أية معارضة تقوم ضدها.

وكتب طاغية دمشق الى السفاك يوسف بن عمر حاكم الكوفة بان يبقى زيدا مصلوبا ، ولا ينزله عن خشبته قاصدا بذلك اذلال العلويين والاستهانة بشيعتهم ، وقد فاته ان ذلك قد أوقد نار الثورة في نفوسهم ، وزادهم عزما وتصميما على التضحية في سبيل مبادئهم.

وقد افتخر الامويون بابقاء جثة زيد مصلوبة ، وقد اعتز بذلك وغد من عملائهم وهو الحكيم بن عياش يقول :

صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة *** ولم نر مهديا على الجذع يصلب

وقستم بعثمان عليا سفاهة *** وعثمان خير من علي وأطيب

حفنة من التراب في فيه فان زيدا إنما صلب دفاعا عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، وصلب من أجل أن يحقق العدالة الاجتماعية في الارض ، ويقضي على الغبن الاجتماعي والتلاعب بمقدرات الأمة وخيراتها.

ولما بلغ هذا الشعر الامام أبا عبد اللّه الصادق تألم كأشد ما يكون التألم ورفع يديه بالدعاء قائلا : « اللّهم ان كان عبدك كاذبا فسلط

ص: 79


1- أنساب الاشراف 3 / 292.
2- الطبري 8 / 77.
3- عمدة الطالب ( ص 258 ).

عليه كلبك » واستجاب اللّه دعاء الامام فافترسه أسد وهو يدور في سكك الكوفة ولما انتهى خبره الى الامام سجد لله شاكرا وهو يقول : الحمد لله الذي أنجزنا وعده (1).

التنكيل بأنصار زيد :

وامعنت السلطة الاموية بعد ما قضت على ثورة زيد في اشاعة الذعر والخوف في الكوفة ، فأخذت البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، وعمدت الى التنكيل القاسي بانصار زيد فاشاعت فيهم القتل والاعدام ، واسرفت في ذلك الى حد بعيد ، وتعدى التنكيل من الرجال الى النساء ، وكان ذلك محظورا حتى في العرف الجاهلي إلا ان الامويين قد استباحوا ذلك في سبيل أهدافهم السياسية ، ويقول المؤرخون : ان الطاغية السفاك يوسف ابن عمر أمر بالقاء القبض على امرأة كانت قد اعانت زيدا ، ولما مثلت عنده أمر بقطع يدها ورجلها ، فطلبت قطع رجلها أولا حتى تجمع عليها ثيابها فما استجابوا لها فقطعوا يدها ورجلها ، وأخذ ينزف دمها حتى ماتت ، ثم انه أمر باحضار زوجها وضرب عنقه ، فنفذ فيه ذلك (2) كما أوعز بالقاء القبض على امرأة كانت قد زوجت بنتها الى زيد ، فأمر بشق ثيابها ، وجلدها بالسياط ، فجلدت وتوفيت تحت السياط ، ورموا بجثتها في الصحراء ، فأخذها قومها ودفنوها في مقابرهم (3).

واقترف الطاغية كثيرا من أمثال هذه الجرائم التي تنم عن انسان ممسوخ ، ميت الضمير والاحساس.

ص: 80


1- السيرة الحلبية 1 / 327.
2- انساب الاشراف 3 / 255.
3- أنساب الاشراف 3 / 255.

سخط المسلمين :

وسخط المسلمون لمقتل الشهيد العظيم زيد ، ونقموا على بني أمية كأشد ما تكون النقمة فقد انتهكوا في قتله حرمة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي هي أولى بالرعاية والعطف من كل شيء.

فلم تمض حفنة من السنين على اقتراف الامويين لمجزرة كربلا الرهيبة ، وإذا بهم قد عمدوا الى قتل زيد الذي هو من أعلام الأسرة النبوية ، ولم يكتفوا بقتله ، وانما نبشوا قبره وصلبوه على الجذع ، ولم يسمحوا بمواراته لاظهار التشفي الآثم باهل البيت (عليهم السلام) وقد خالفوا بذلك ما أمر به النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من المودة لأهل بيته ، كما خالفوا ما أمر به الاسلام من احترام الاموات وتحريم المثلة بهم.

لقد كانت فاجعة زيد المروعة من الاحداث الجسام التي ذعر منها المسلمون ، واستعظموها وقد اندفع شعراؤهم الى رثائه بما صور مدى الحزن واللوعة التي مني بها المسلمون يقول الفضل بن العباس :

إلا يا عين لا ترقى وجودي *** بدمعك ليس ذا حين الجمود

غداة ابن النبي أبو حسين *** صليب بالكناسة فوق عود

يظل على عمودهم ويمسي *** بنفسي اعظم فوق العمود

تعدى الكافر الجبار فيه *** فأخرجه من القبر اللحيد

فظلوا ينبشون أبا حسين *** خضيبا بينهم بدم جسيد

فطال به تلعبهم عتوا *** وما قدروا على الروح الصعيد

وجاور في الجنان بني أبيه *** واجدادا هم خير الجدود

فكم من والد لأبي حسين *** من الشهداء أو عم شهيد

ومن ابناء اعمام سيلقى *** هم أولى به عند الورود

ص: 81

دماء معشر نكثوا أباه *** حسينا بعد توكيد العهود

فسار إليهم حتى أتاهم *** فما أرعوا على تلك العقود (1)

هذه بعض القصيدة وقد صور فيها الشاعر حزنه العميق على الشهيد العظيم الذي ثكل به المسلمون فهو يطلب من عينيه أن يجودا بالدموع ، ولا يضنا عليه ، وذلك لعظم الخطب الفادح ، ثم هو يستعظم كأشد ما يكون الاستعظام على اخراج زيد من قبره وصلبه ، ولكن مما يهون عليه الخطب انهم وان تلاعبوا بجسد الثائر العظيم إلا انهم لم يقدروا على ارغام روحه الطاهرة التي صارعت الباطل وقاومت المنكر والجور ، وانها قد أقامت في الجنان مع أرواح الشهداء الخالدين الذين صرعوا في كربلا دفاعا عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، ثم انه بعد ذلك ينعى على أهل الكوفة غدرهم بزيد ، كما غدروا من قبل بجده الحسين (عليه السلام) فكان الغدر من خصائص الكوفيين وذاتياتهم ، وقد قيل :

« الكوفي لا يوفى »

وممن رثى زيدا بذوب روحه أبو ثميلة الأبار يقول :

أبا الحسين أعار فقدك لوعة *** من يلق ما لاقيت منها يكمد

فغدا السهاد ولو سواك رمت به *** الأقدار حيث رمت به لم يشهد

ونقول : لا تبعد وبعدك دلؤنا *** وكذلك من يلق المنية يبعد

كنت المؤمل للعظائم والنهى *** ترجى لأمر الامة المتأود

فقتلت حين رضيت كل مناضل *** وصعدت في العلياء كل مصعد

فطلبت غاية سابقين فنلتها *** باللّه في سير كريم المورد

وابى إلهك أن تموت ولم تسر *** فيهم بسيرة صادق مستنجد

ص: 82


1- مقاتل الطالبين ( ص 148 - 149 ).

والقتل في ذات الاله سجية *** منكم وأحرى بالفعال الامجد

والناس قد أمنوا وآل محمد *** من بين مقتول وبين مشرد

نصب اذا القى الظلام ستوره *** رقد الحمام وليلهم لم يرقد

يا ليت شعري والخطوب كثيرة *** أسباب موردها وما لم يورد

ما حجة المستبشرين بقتله *** بالامس أو ما عذر أهل المسجد (1)

وقد رسم الشاعر في هذه الابيات شجونه واحزانه المرهقة على زيد الثائر العظيم ، وذكر الخسارة العظمى التي منيت بها الامة بفقدها لزيد ، فقد كان المؤمل لشدائدها وازماتها ، واضاف إنه بشهادته قد أنار الطريق للمناضلين والاحرار ، وملأ قلوبهم رضا ومسرة بنهضته الجبارة التي استهدفت القضايا المصيرية لامته ، وقد نال زيد بشهادته الغاية القصوى التي نالها الشهداء الممجدون من آبائه الذين رفعوا راية الحق ملطخة بدمائهم الزكية ... واضاف ان اللّه أبى لزيد أن يموت ، ولا يسير بين الناس بسيرة المنقذين والمحررين لامتهم وأوطانهم ، فان القتل في سبيل اللّه كانت سجية العلويين وقد أثر عن بعضهم أنه قال : « القتل لنا عادة وكرامتنا من اللّه الشهادة ».

وعرض أبو ثميلة في ابياته الاخيرة الى المحن القاسية التي عانها العلويون من حكام بني أمية والتي كان منها انهم قد حرموا من الأمن فانهم بين مقتول ومشرد يطارده الرعب والفزع والخوف ، في حين أن الطير ترقد في ليلها آمنة مطمئنة وآل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يرقدوا في ليلهم خوفا من بني أمية ، وندد بالمستبشرين بقتل زيد الذي ثار لتحقيق العدالة الاجتماعية في الارض ، كما ندد بالذين بايعوه ، وخذلوه ، فدخلوا جامع الكوفة ، وقد طلب منهم

ص: 83


1- مقاتل الطالبين ( ص 150 ).

أن يقوموا بنجدته وحماية ثورته ، فلم يستجيبوا له.

حرق الجثمان العظيم :

وبقي جثمان زيد مرفوعا على أعواد المشانق ، وهو يضيء للناس طريق الحرية والكرامة ، ويدفعهم الى التمرد على الذل والخنوع ، ويبعث في نفوسهم روح الثورة على الظلم والجور ، وقد وضعت عليه السلطة الحرس ، وعددهم اربعمائة ، وجعلت الرقابة في كل ليلة لمائة رجل ، وبنيت للحرس حول الجذع بناية خوفا من أن يختلس الجثمان العظيم ، ويوارى في التراب (1).

ولما هلك الطاغية هشام ، وولي الحكم من بعده الوليد بن يزيد فاجر بني أمية كتب الى حاكم الكوفة يوسف بن عمر كتابا يأمره بأن ينزل الجثمان المقدس من الخشبة ويحرقه بالنار (2) وقام السفاك بتنفيذ ما عهد إليه ، فأحرق الجسد الطاهر الذي ثار ليطهر الارض من الظالمين ويعيد للإنسان كرامته ، وحقه في الحياة.

وبعد ما أحرق الجثمان العظيم عمد الباغي يوسف بن عمر فذره في الفرات وهو يقول « واللّه يا أهل الكوفة لادعنكم تأكلونه في طعامكم ، وتشربونه في مائكم .. » (3)

لقد كان جزاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي حرر أمته من حياة التيه في الصحراء ، ان عمد الامويون الى قتل ذريته وعترته ، والتمثيل بهم تمثيلا آثما لا مبرر له سوى انهم كانوا يطالبون بحقوق الأمة ، وامنها ورخائها.

ص: 84


1- انساب الاشراف 3 / 256.
2- مقاتل الطالبين ( ص 147 ).
3- تأريخ اليعقوبي 2 / 391.

مع المسعودي :

بقى هنا شيء ، وهو ان المؤرخ الكبير المسعودي ذكر أن زيدا شاور أخاه أبا جعفر فى الخروج الى العراق لأعلان الثورة على الأمويين ، فاشار عليه الامام بأن لا يركن لأهل الكوفة لأنهم أهل غدر ومكر ، فقد قتلوا جده الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) وطعنوا عمه الحسن ، وقتلوا جده الحسين ، فأبى زيد الا ما عزم عليه من المطالبة بالحق ، فقال له أبو جعفر : اني أخاف أن تكون غدا المصلوب بكناسة الكوفة ، وودعه أبو جعفر واعلمه أنهما لا يلتقيان (1) ويشعر كلامه بأن الامام الباقر (عليه السلام) كان حيا حال خروج زيد ، كما فهم ذلك بعض من كتب عن زيد ، وهذا لا واقع له فان الامام أبا جعفر توفي سنة ( 114 ه ) (2) واستشهد زيد سنة ( 122 ه ) ولعل المسعودي أراد أن زيدا في ذلك الوقت حدثته نفسه بالخروج على بني أمية ، وهذا له مجال من الصحة ... وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حياة زيد وثورته التي هي من ألمع الثورات في ذلك العصر واكثرها عطاء للمجتمع.

الحسين الأصغر :

الحسين الاصغر بن الامام زين العابدين ، أمه أم ولد (3) وكان من مفاخر الأسرة النبوية في فضله وتقواه ، وسائر مواهبه ، وفيما يلي بعض شئونه :

ص: 85


1- مروج الذهب 3 / 139.
2- تأريخ ابن الاثير 4 / 217 البستان الجامع لعماد الدين الاصفهاني مصور في مكتبة الحكيم.
3- عمدة الطالب 2 / 29 من مصورات مكتبة الحكيم.

علمه :

كان من العلماء البارزين في عصره ، وقد روى حديثا كثيرا عن ابيه ، وعمته السيدة فاطمة بنت الامام الحسين (عليه السلام) ، وأخيه الامام أبي جعفر (عليه السلام) (1) وروى عنه محمد ابنه الحديث الوارد عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الاخبار عن قتل ولده الامام الحسين (عليه السلام) (2).

حلمه ووقاره :

وكان الحسين حليما وقورا تمثلت فيه هيبة المتقين والصالحين ، وعلت وجهه اسارير النور ، ووصفه الامام أبو جعفر فقال : « وأما الحسين فحليم يمشي على الارض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما. » (3)

تقواه وورعه :

كان ورعا تقيا شديد الخوف من اللّه يقول سعيد صاحب الحسن بن صالح : لم أر أحدا اخوف من اللّه من الحسن بن صالح حتى قدمت المدينة فرأيت الحسين بن علي بن الحسين فلم أر أشد خوفا منه ، كأنما أدخل النار ثم أخرج منها لشدة خوفه (4).

وروى احمد بن عيسى عن أبيه قال : كنت أرى الحسين بن علي بن الحسين يدعو فكنت أقول : لا يضع يده حتى يستجاب له في الخلق اجمعين (5)

ص: 86


1- الارشاد ( ص 302 ).
2- معجم رجال الحديث 6 / 44.
3- سفينة البحار 2 / 273.
4- الارشاد ( ص 302 ).
5- عمدة الطالب 2 / 29.

لقد نشأ الحسين في مركز الورع والتقوى ، ومعدن الحكمة والفضيلة في الاسلام ، وقد غذاه أبوه الامام زين العابدين بمثله وكمالاته النفسية ، فكان كأبيه في اقباله على اللّه ، وزهده في الدنيا ، وتحرجه في الدين.

وفاته :

توفى في يثرب عن عمر يناهز ( 57 عاما ) (1) وقيل ( 74 عاما ) (2) ودفن ببقيع الغرقد مجاورا لأبيه زين العابدين وأخيه الباقر.

عبد اللّه الباهر :

ابن الامام زين العابدين (عليه السلام) وهو أخو الامام الباقر لأمه وأبيه ، وهو من مفاخر ابناء الأئمة الطاهرين في علمه وورعه وتقواه ، ونعرض - بايجاز - لبعض شئونه.

لقبه :

لقب بالباهر لجماله وحسنه ، ويقول المؤرخون إنه ما جلس مجلسا إلا بصر جماله (3) وما رآه أحد إلا هابه ، واكبره.

علمه :

كان من العلماء البارزين فقد عني بتربيته أبوه زين العابدين فغذاه بعلومه وفضله ، ويقول المؤرخون : إنه كان من فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) وروى عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخبارا كثيرة ، وحدث الناس ،

ص: 87


1- معجم رجال الحديث 6 / 44.
2- عمدة الطالب 2 / 29.
3- عمدة الطالب 2 / ورقة 127.

وحملوا عنه الآثار (1) كما روى مرسلا عن جده الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) وعن جده لامه الامام الحسن (عليه السلام) وروى عنه عمارة بن غزية ، وموسى ابن عقبة ، وعيسى بن دينار ، ويزيد بن أبي زياد ، وعده ابن حيان في الثقات ، وصحح الترمذي والحاكم حديثه (2).

ولايته على صدقات النبي :

وتولى عبد اللّه بالنيابة عن إخوانه صدقات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصدقات الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) (3) وتوزيع وارداتهما على حسب ما جاء في وصية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والامام أمير المؤمنين.

وفاته :

انتقل الى حظيرة القدس ، وعمره سبع وخمسون سنة (4) ولم تعين المصادر التي بايدينا السنة التي توفى فيها والمكان الذي دفن فيه.

عمر الاشرف :

ابن الامام زين العابدين (عليه السلام) وأمه أمة اشتراها المختار بمائة الف درهم ، وبعث بها الى الامام زين العابدين فأولدت له عمرا وزيدا وعليا (5) وكان عمر الاشرف من أفاضل الناس وخيارهم ، أما اخباره وشئونه فهي :

ص: 88


1- الارشاد ( ص 300 ) وذكر بعض الاحاديث التي رويت عنه.
2- تهذيب التهذيب 5 / 324.
3- الارشاد ( ص 300 ).
4- عمدة الطالب 2 / ورقة 127.
5- عمدة الطالب 2 / ورقة 127.

كنيته :

يكنى أبا علي ، وقيل أبا جعفر (1) وقال الشيخ يكنى أبا حفص.

لقبه :

لقب بالأشرف بالنسبة الى عمر الأطرف عم أبيه وذلك لما ناله من شرف وفضيلة بالنسبة لولادة جده الحسين (عليه السلام) من سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) بخلاف عمر الاطراف فانه نال الشرف من طرف أبيه الامام أمير المؤمنين ، هذا ما قاله السيد المهنا ، وعلق عليه سيدنا الامام الخوئي بقوله : « اقول : وهو أشرف من الاطرف بحسبه وفضله وورعه أيضا .. » (2)

علمه :

وكان عالما فاضلا عده الشيخ من أصحاب أخيه الامام الباقر ، وقد روى عن أبيه ، وروى عنه فطر بن خليفة (3).

ولايته على صدقات النبي :

تولى صدقات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصدقات جده الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ويقول الحسين بن زيد : رأيت عمر عمي يشترط على من ابتاع صدقات علي أن يثلم في الحائط كذا وكذا ، لا يمنع من دخله أن يأكل (4) ودل

ص: 89


1- معجم رجال الحديث 13 / 54.
2- معجم رجال الحديث 13 / 54.
3- معجم رجال الحديث 13 / 54.
4- سفينة البحار 2 / 273.

ذلك على سخائه ونبله ، وسمو انسانيته.

وفاته :

انتقل الى الرفيق الأعلى وعمره خمس وستون سنة (1) ولم تشر المصادر التي عثرنا عليها الى السنة التي توفى فيها والمكان الذي دفن فيه فقد اهملت ذلك.

علي :

ابن الامام زين العابدين ، توفي بينبع (2) ودفن بها ، وعمره ثلاثون سنة (3) ولم نعثر على ترجمة ملمة بحياته ، فقد اهملت مصادر التراجم والنسب البحث عنه ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن السادة الابرار من أخوان الامام.

ابناء الامام الباقر :

اشارة

اما ابناء الامام الباقر فكانوا من حسنات الأسرة النبوية ، ومن مفاخر ابناء المسلمين في هديهم وصلاحهم وابتعادهم عن مآثم هذه الحياة ، قد رباهم الامام بمكارم اخلاقه ، وغرس فى نفوسهم نزعاته الكريمة ، ومثله العليا فكانوا امتدادا مشرقا لذاته العظيمة التي طبق شذاها العالم ...

ص: 90


1- عمدة الطالب 2 / ورقة 127.
2- ينبع : يقع عن يمين رضوى لمن كان منحدرا من المدينة الى البحر ، وهي لبنى الامام الحسن ، فيها عيون عذاب غزيرة ، وقال بعضهم إنه حصن به نخيل ، وماء وزرع ، وبها وقوف للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يتولاها ولده ، معجم البلدان 5 / 450.
3- عمدة الطالب 2 / ورقة 129.

أما ذريته الطاهرة من الذكور فهم :

1 - ابراهيم

ابن الامام الباقر (عليه السلام) وأمه أم حكيم بنت أسيد بن المغيرة بن الاخنس الثقفي (1) ولم نقف على أية معلومات عنه.

2 - الامام جعفر

هو سيد ولد أبيه ، ووصيه ، والامام القائم من بعده ، وكان من مفاخر هذه الدنيا ، وفي طليعة عباقرة العالم ، وذلك بما حققه على الصعيد الفكري والعلمي من التطور الهائل في الميادين العلمية والتي كان منها الابداع في علم الكيمياء الذي القى بحوثه على جابر بن حيان مفخرة الشرق العربي ، ويعتبر هذا العلم الأداة الخلاقة للتقدم التكنلوجي في العالم ، ولا تزال الكثير من النظريات التي أدلى بها الامام في هذا الفن لم تكتشفها العلوم الحديثة وما توصل لمعرفتها الاختصاصيون (2).

أما البحوث الفلسفية والكلامية فيعتبر الامام الصادق من الرواد الاوائل فيها وقد تخرج على يده فيها هشام بن الحكم الذي يعتبر الانموذج الرائع في هذه البحوث.

أما الفقه الاسلامي فانه المؤسس له والواضع لقواعده وأصوله بعد آبائه الطاهرين ، وقد عنى بهذا العلم عناية بالغة ، فوجه جل اهتمامه نحوه

ص: 91


1- مرآة الزمان فى تواريخ الاعيان 5 / 78 ، طبقات ابن سعد 5 / 320.
2- أعلن ذلك الدكتور محمد يحيى الهاشمي في كتابه الامام الصادق ملهم الكيمياء.

وقد حفلت الموسوعات الفقهية بما أثر عنه بحيث يعد معظم أبواب الفقه وفروعه قد روي عنه.

وإذا نظرنا الى سائر العلوم الاسلامية الاخرى كعلم الحديث والتفسير والاخلاق وغيرها فنجد اكثرها قد أخذ عنه ... ولا يعرف التأريخ الانساني من هو اعظم منه علما وفضلا عدا آبائه (عليهم السلام) أما الحديث عن نواحي شخصيته مفصلا فانه يستدعى موسوعة كبيرة.

3 - عبد اللّه

ابن الامام الباقر (عليه السلام) وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر (1) قام بتربيته أبوه وعنى بتهذيبه فكان من افاضل العلويين ، وانبههم ، وقد توفى شهيدا سقاه السم رجس من أرجاس بني أمية ، يقول المؤرخون إنه دخل عليه ، فاوجس منه عبد اللّه خيفة فقال له : « لا تقتلني اكن لله عليك عينا ، واكن لك على اللّه عونا » (2).

فلم يعن به الاموي واجبره على تناول السم ، فلما سقي تقطعت امعاؤه ، ولم يلبث إلا قليلا حتى فارق الحياة (3) لقد مضى الى اللّه شهيدا شأنه شأن آبائه الذين أجهزت عليهم القوى الشريرة والنفوس الآثمة الحاقدة على ذوي الاحساب الاصيلة التي رفعت منار الكرامة الانسانية.

ص: 92


1- الارشاد ( ص 303 ).
2- المراد بقوله : « اكن لك على اللّه عونا » أي اكن لك شفيعا عند اللّه.
3- غاية الاختصار ( ص 64 ) سفينة البحار 1 / 309.

4 - علي

ابن الامام الباقر (عليه السلام) عاش في كنف أبيه ، وتربى على هديه ، وسلوكه فنشأ مثالا للفضل والكمال ، لقب بالطاهر لطهارة نفسه وعظيم شأنه توفى بالقرب من بغداد في قرية من اعمال الخالص ، أدلى بذلك محب الدين ابن النجار في تأريخه قال : « مشهد الطاهر يقع في قرية من اعمال الخالص قريبة من بغداد ظهر فيها قبر قديم عليه صخرة فيها مكتوب : « بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ضريح الطاهر علي بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) » وقد انقطع باقي الصخرة فبنى عليه قبة من لبن ، ثم عمره بعد ذلك شيخ من الكتاب يقال له : علي بن نعيم كان يتولى كتابة ديوان الخالص ، فزوقه وزخرفه ، وعلق فيه قناديل من الصفر ، وبنى حوله رحبة واسعة ، وصار من المشاهد التي تزار. » (1)

ونقل عن صاحب رياض العلماء أن قبره في ( كاشان ) وعليه قبة رفيعة عظيمة وله كرامات ظاهرة (2).

5 - عبد اللّه

وأمه أم حكيم بنت أسيد بن المغيرة الثقفية (3) توفي في حياة أبيه (4)

ص: 93


1- غاية الاختصار ( ص 63 ).
2- سفينة البحار 1 / 309.
3- الارشاد ( ص 303 ) النفحة العنبرية للسيد كاظم يماني من مخطوطات مكتبة الامام كاشف الغطاء العامة ، ولم يذكر عبد اللّه في جمهرة انساب العرب ، ولا في عمدة الطالب ولا في مرآة الزمان فقد خلت هذه المصادر من ذكره.
4- الصراط السوي ( ص 194 ).

ولم نعثر له على ترجمة وافية في المصادر التي بأيدينا.

السيدات من بناته :

أما السيدات من بناته فهن : السيدة زينب ، وأمها أم ولد ، والسيدة أم سلمة (1) وأمها أم ولد ، وهي أم اسماعيل بن الأرقط ، وقد مرض ولدها اسماعيل فهرعت الى الامام الصادق فزعة ، فأمرها أن تصعد فوق البيت ، وتصلي ركعتين ، وتدعو اللّه بهذا الدعاء : « اللّهم انك وهبته لي ، ولم يك شيئا ، اللّهم واني استوهبكه فاعرنيه ... » (2)

ففعلت ذلك فعافاه اللّه.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن السادة الابرار من ابناء الامام (عليه السلام).

ص: 94


1- مرآة الزمان في تواريخ الاعيان 5 / 78 ، طبقات ابن سعد 5 / 230 ، وفي النفحة العنبرية بناته : زينب الكبرى وزينب الصغرى ، وأم كلثوم.
2- سفينة البحار 1 / 309.

اكبار وتعظيم

اشارة

ص: 95

ص: 96

واجمع رجال الفكر والعلم من المعاصرين للإمام وغيرهم من البحاث والمؤلفين على تعظيم الامام الباقر (عليه السلام) والاعتراف له بالفضل والتفوق العلمي على غيره وقد اتفقت كلماتهم على أنه أسمى شخصية علمية عرفها العالم العربي والاسلامي ، وهذه بعض كلماتهم التي تحمل انطباعاتهم عنه.

1 - الامام الصادق :

قال الامام أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) : « كان أبي خير محمدي يومئذ على وجه الارض .. » (1)

ومعنى ذلك ان الامام الباقر (عليه السلام) كان أفضل مسلم - في عصره - في علمه وتقواه ، وتحرجه في الدين ، وغير ذلك مما يسمو به الانسان المسلم.

2 - محمد بن المنكدر :

وكان محمد بن المنكدر ممن عاصر الامام زين العابدين وولده الامام الباقر علیهماالسلام ، وقد أدلى بانطباعاته عنه يقول : « ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفا لفضله وغزارة علمه وحلمه حتى رأيت ابنه محمدا .. » (2)

3 - سديف المكي :

وسديف المكي من أصحاب الامام أبي جعفر ، وقد اتصل به ، وهو ممن أبدى اكباره واعجابه به يقول : « ما رأيت محمديا قط

ص: 97


1- البداية والنهاية 9 / 309.
2- روضة الكافي ، وقريب منه في الاتحاف بحب الاشراف ( ص 53 ) وتهذيب التهذيب 9 / 352.

يعدله » (1).

4 - هشام بن عبد الملك :

أما هشام بن عبد الملك فكان من اعظم الحاقدين على الامام ومن ألد أعدائه إلا انه اعترف بسمو مكانة الامام ، وعظيم شأنه فقد خاطبه قائلا : « يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك .. » (2)

5 - المنصور الدوانيقي :

وتحدث الامام الباقر (عليه السلام) عن قائم آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومهدي هذه الأمة وكان في المجلس المنصور الدوانيقي فبهر من ذلك ، وراح يحدث سيف بن عمير بما سمعه من الامام قائلا : « لو حدثني أهل الارض كلهم ما قبلت منهم ، ولكنه محمد بن علي .. » (3) ودل هذا الكلام على مدى اكباره وتعظيمه للإمام ، فلو حدثه أهل الارض جميعا بمقالة الامام لما قبل منهم وصدقهم ، ولكن الامام حدثه بذلك وهو - حسب اعترافه - يفوق الناس جميعا في صدقه ووثاقته.

6 - عبد اللّه بن عطاء :

وتحدث عبد اللّه بن عطاء عن اكبار العلماء وتعظيمهم للامام (عليه السلام) وتواضعهم أمامه يقول : « ما رأيت العلماء عند أحد اصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي لتواضعهم له ، ومعرفتهم بحقه ، وعلمه ، واقتباسهم

ص: 98


1- أمالي الصدوق ( ص 297 ).
2- ضياء العالمين الجزء الثاني في ترجمة الامام الباقر.
3- الفرائد الغوالي 6 / 143.

منه ، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة على جلالته وسنه ، وهو بين يديه يتعلم منه ، ويأخذ عنه كالصبي بين يدي المتعلم .. » (1) وأدلى مرة أخرى عن مشاهدته للحكم عند الامام قال : « رأيت الحكم عنده كأنه عصفور مغلوب على أمره .. » (2)

ولا بد لنا من وقفة قصيرة عند الحكم بن عتيبة لنرى مكانته ومنزلته العلمية ليتبين لنا مدى سعة علوم الامام (عليه السلام) وسمو مكانته عند العلماء ... لقد كان الحكم - فيما يقول الرواة - من أجل علماء عصره وانبههم شأنا يقول مجاهد بن رومي : رأيت الحكم في مسجد الخيف ، وعلماء الناس عيال عليه ، ونقل جرير عن المغيرة ان الحكم إذا قدم المدينة أخلوا له سارية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يصلي إليها (3) وقال : ابن سعد : كان ثقة ثقة فقيها عالما رفيعا كثير الحديث.

واذا كان الحكم وهو بهذه المنزلة من سعة العلم وجلالة القدر كأنه الصبي المغلوب على أمره بين يدي الامام فلا بد أن يكون اعلم أهل عصره واكثرهم احاطة في جميع العلوم ، وهذا ما تذهب إليه الشيعة وتدلل عليه من سعة علوم الامام.

7 - جابر بن يزيد :

وجابر بن يزيد الجعفي من أشهر علماء المسلمين ، ومن أجل رواة

ص: 99


1- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 14 ) وقريب منه جاء في كل من حلية الأولياء 3 / 186 ، شذرات الذهب 1 / 149 ، تاريخ ابن عساكر 51 / 43 مرآة الجنان 1 / 248.
2- تهذيب التهذيب 2 / 133.
3- تهذيب التهذيب 2 / 134.

الحديث ، وهو ممن تتلمذ عند الامام أبي جعفر (عليه السلام) وروى عنه سبعين ألف حديث - حسبما يقول الذهبي - وكان ممن عرف مقام الامام ووقف على مكانته فكان إذا حدث عنه يقول : « حدثني وصي الاوصياء ، ووارث علم الأنبياء » (1).

8 - جابر بن عبد اللّه :

واشتهر الصحابي العظيم جابر بن عبد اللّه الانصاري بالولاء لأهل البيت (عليهم السلام) والتفاني بحبهم ، وهو الذي حمل تحيات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الى الامام أبي جعفر (عليه السلام) - كما ذكرنا ذلك - وهو ممن وعى مكانة الامام (عليه السلام) فكان يجله ويعظمه والامام صبي يافع فكان اذا خاطبه قال له : « أنت ابن خير البرية ، وجدك سيد شباب أهل الجنة .. » (2).

9 - ابن حجر الهيثمي :

قال شهاب الدين احمد بن حجر الهيثمي : « أبو جعفر محمد الباقر ، سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها ، وأنار مخبآتها ومكامنها ، فلذلك هو اظهر من مخبآت كنوز المعارف ، وحقائق الاحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة ، أو فاسد الطوية والسريرة ، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه ، وشاهر علمه ، ورافعه ، صفا قلبه ، وزكا علمه وعمله ، وطهرت نفسه ، وشرف خلقه ، وعمرت أوقاته بطاعة اللّه وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكل عنه السنة الواصفين ، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة .. » (3)

ص: 100


1- مناقب ابن شهرآشوب 4 / 180.
2- بحار الانوار 11 / 64.
3- الصواعق المحرقة ( ص 120 ).

وحددت هذه الكلمات بعض الجوانب المشرقة من حياة الامام أبي جعفر (عليه السلام) والتي كان منها قيامه بابراز كنوز المعارف ، وحقائق الاحكام بعد أن خفى أمرها على الناس ، وهذا ما سنتحدث عنه في البحوث الآتية.

10 - ابن كثير :

وترجم ابو الفداء الحافظ ابن كثير الامام الباقر وقال فيه : « هو تابعي جليل القدر كثير ، أحد أعلام هذه الأمة علما وعملا وسيادة وشرفا ... سمي الباقر لبقره العلوم ، واستنباطه الحكم ، وكان ذاكرا خاشعا ، صابرا ، وكان من سلالة النبوة ، رفيع النسب ، عالي الحسب ، وكان عارفا بالخطرات ، كثير البكاء والعبرات ، معرضا عن الجدال والخصومات ... » (1)

وتحدث ابن كثير عن سعة علوم الامام ، وعبادته وصبره ، وسمو حسبه ونسبه ، وكثرة بكائه من خشية اللّه ، واعراضه عن الجدل والخصومات ونال الامام (عليه السلام) بهذه الصفات اعجاب العلماء واكبارهم وتقديرهم.

11 - عبد الحميد الحنبلي :

قال عبد الحميد بن العماد الحنبلي في ترجمته للامام : « كان من فقهاء المدينة وقيل : له الباقر لأنه بقر العلم أي شقه وتوسع فيه ، وهو أحد الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الامامية .. » (2).

12 - النبهاني :

قال الشيخ يوسف بن اسماعيل النبهاني : « محمد الباقر بن علي زين

ص: 101


1- البداية والنهاية 9 / 309.
2- شذرات الذهب.

العابدين بن الحسين أحد أئمة ساداتنا آل البيت الكرام ، وأحد أعيان العلماء الاعلام ... » (1)

13 - القرماني :

وترجم احمد بن يوسف القرماني الامام قال : « إنما سمي الباقر لأنه بقر العلم ... وكان خليفة أبيه من بين أخوته ووصيه ، والقائم بالامامة من بعده ، ولم يظهر عن أحد من أولاد الحسن والحسين من علم الدين والسنن وعلم القرآن ، والسير وفنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر ، روى عند معالم الدين بقايا الصحابة ، ووجوه التابعين .. » (2)

14 - الذهبي :

وترجم الذهبي في كثير من مؤلفاته الامام (عليه السلام) الا إنه شذ في بعض أقواله ، وفيما يلي ذلك :

أ - قال : « كان الباقر سيد بني هاشم في زمانه فضلا وعلما وسؤددا » (3)

ب - قال : « كان الباقر سيد بني هاشم في زمانه اشتهر بالباقر من قولهم : « بقر العلم » يعني شقه فعلم اصلا وخفيه ... » (4)

ج - قال : « كان الباقر أحد من جمع بين العلم والعمل ، والسؤدد والشرف والثقة والرزانة ، وكان أهلا للخلافة ، وهو أحد الأئمة الاثني

ص: 102


1- جامع كرامات الأولياء 1 / 97.
2- أخبار الدول ( ص 111 ).
3- تذهيب الكمال 3 / ق 4 / 262 مخطوط.
4- تذكرة الحفاظ 1 / 124.

عشر الذين تبجلهم الشيعة الامامية ، وتقول : بعصمتهم ، وبمعرفتهم بجميع الدين.

ولقد كان أبو جعفر اماما مجتهدا ، تاليا لكتاب اللّه ، كبير الشأن ، ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه ، ولا في الفقه درجة أبي الزناد وربيعة ، ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة قتادة وابن شهاب. » (1) وانحرف الذهبي عن الحق في تقديمه لابن كثير ، وأبي الزناد وربيعة وقتادة وابن شهاب على الامام فان هؤلاء الاعلام لا يقاسون بتلاميذه كزرارة بن أعين ومحمد بن مسلم وجابر بن يزيد الجعفي فان ما أثر عنهم من الفضل والعلم يفوق بكثير مما أثر عن ابن كثير وجماعته ، وقد كان قتادة قد خاصمه الامام واحتج عليه فولى منهزما لا يعرف ما يقول ، ولا يدري كيف يتخلص مما هو فيه ... ولكن الذهبي كان يملك ضميرا متحجرا مترعا بالكراهية والحقد على آل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشيعتهم كما أعلن ذلك في كثير من بحوثه ، وما أبدع ما قيل فيه :

سميت بالذهبي اليوم تسمية

مشتقة من ذهاب العقل لا الذهب

15 - محمد بن أبي بكر :

قال محمد بن أبي بكر : المعروف بابن حماد دكين المتوفى سنة ( 700 ه ) : « سيدنا الامام محمد بن الامام زين العابدين (عليه السلام) برز بالفضل في العلم والزهد ، والسؤدد ، وكان نبيه الذكر ، عظيم القدر ، جليل الشأن ، لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين (عليهماالسلام) من علم الدين والآثار والسنة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر ، روى عنه علماء الدين وبقايا الصحابة ووجوه التابعين ، ورؤساء فقهاء المسلمين ، وصار

ص: 103


1- سير اعلام النبلاء 4 / 241 من مصورات مكتبة الامام الحكيم.

بالفضل علما تضرب به الامثال ، وتسير بوصفه الآثار والاشعار ... » (1)

16 - محمد الجزري :

قال محمد بن محمد الجزري : « محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو جعفر الباقر ، لأنه بقر العلم - أي شقة - وعرف ظاهره وخفيه ، وكان سيد بني هاشم علما وفضله وسنة ... » (2).

17 - كمال الدين الشافعي :

قال كمال الدين الشافعي : « هو باقر العلم وجامعه ، وشاهر علمه ، ورافعه ومتوفق دره وراضعه ، صفا قلبه ، وزكا عمله ، وطهرت نفسه ، وشرفت اخلاقه ، وعمرت بطاعة اللّه أوقاته ، ورسخت في مقام التقوى قدمه وظهرت عليه سيمات الازدلاف ، وطهارة الاحتباب فالمناقب تسبق إليه ، والصفات تشرف به ... » (3)

18 - ادريس القرشي :

قال الداعي إدريس القرشي : « محمد بن علي أول من حاز شرف الأصلين واجتمعت له ولادة الحسن والحسين ، ونشأ على الفضل والطهارة والرئاسة والسيادة والعلم. واحتذى سيرة آبائه الطاهرين ، ولم يزل في درجات الفضائل منتقلا ، وللمفاخر السامية متوغلا ... » (4)

ص: 104


1- روضة الاعيان في مشاهير اخبار الزمان من مصورات مكتبة الحكيم.
2- غاية النهاية في طبقات القراء 2 / 202.
3- مطالب السئول في مناقب آل الرسول.
4- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 212 ).

19 - جمال الدين :

قال جمال الدين يوسف بن تغري بردي الأتابكي : « أبو جعفر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي سيد بني هاشم في زمانه ، وهو أحد الأئمة الاثنى عشر الذين تعتقد الرافضة عصمتهم ... » (1)

20 - محمد الصبان :

قال محمد الصبان : « وأما محمد الباقر فهو صاحب المعارف ، وأخو الدقائق واللطائف ، ظهرت كراماته ، وكثرت في السلوك اشاراته ، ولقب بالباقر لأنه بقر العلم أي شقه فعرف اصله وخفيه .. » (2)

21 - ابن أبي الحديد :

قال عبد الحميد بن أبي الحديد : « كان محمد بن علي الباقر سيد فقهاء الحجاز ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه ، وهو الملقب بالباقر لقبه به رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يخلق بعد ، وبشر به ، ووعد جابر برؤيته .. » (3)

22 - الشيخ المفيد :

قال الشيخ المفيد : « كان الباقر محمد بن علي بن الحسين من بين أخوته خليفة أبيه ووصيه ، والقائم بالامامة من بعده ، وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد ، والسؤدد ، وكان أنبههم ذكرا وأجلهم في العامة

ص: 105


1- النجوم الزاهرة 1 / 273.
2- اسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الابصار ( ص 316 ).
3- شرح ابن أبي الحديد.

والخاصة ، وأعظمهم قدرا ، ولم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين (عليهماالسلام) من علم الدين والآثار والسنة وعلم القرآن والسيرة ، وفنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر ، وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ، ووجوه التابعين ، ورؤساء فقهاء المسلمين ، وصار بالفضل به علما لأهله ، تضرب به الأمثال ، وتسمو بوصفه الآثار والاشعار ... » (1)

23 - أبو الحسن الطبرسي :

قال الشيخ أبو الحسن الطبرسي : « قد اشتهر الباقر في العالم تبرزه على الخلق في العلم والزهد والشرف ما لم يؤثر عن أحد من أولاد الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من علم القرآن والآثار والسنن ، وأنواع العلم والحكم والآداب ما أثر عنه واختلف إليه كبار الصحابة ووجوه التابعين ، وفقهاء المسلمين ، وعرفه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) باقر العلم على ما رواه نقلة الآثار ... » (2)

24 - تاج الدين :

قال تاج الدين بن محمد نقيب حلب : « أبو جعفر باقر العلم هو أول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين ، كان واسع العلم ، وافر الحلم ، روي عنه حديث كثير ، ونقل عنه علم جم .. » (3)

25 - محمود بن وهيب :

قال محمود بن وهيب البغدادي : « سمي بالباقر من بقر الارض أي شقها ، وأنار مخبئاتها ، ومكامنها ، فلذلك هو اظهر من مخبآت كنوز المعارف ،

ص: 106


1- الارشاد ( ص 293 ).
2- اعلام الورى بأعلام الهدى ( ص 268 ).
3- غاية الاختصار ( ص 401 ).

وحقائق الاحكام والحكمة واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة ، ومن ثم قيل باقر العلم وجامعه ورافعه ، صفا قلبه ، وزكا علمه وعمله ، وطهرت نفسه ، وشرف خلقه ، وعمرت أوقاته بطاعة مولاه وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكل عنه السنة الواصفين .. » (1)

26 - عباس المكي :

قال السيد عباس بن علي المكي : « الباقر أحد الأئمة الاثني عشر عند الامامية ، وكان عالما سيدا كبيرا ، وما سمي الباقر إلا لأنه تبقر في العلم أي توسع فيه ... » (2)

27 - السيد كاظم اليماني :

قال السيد كاظم اليماني : « الامام الباقر : هو ثاني سبط ، وخامس امام معصوم على رأي من رأى ذلك ، ورابع تقي على رأي الاجماع ، وهو المكنى أبا جعفر .. » (3)

28 - ابن تيمية :

قال ابن تيمية : « كان محمد الباقر أعظم الناس زهدا وعبادة بقر للسجود جبهته ، وكان اعلم اهل وقته ، سماه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الباقر ، وذكر حديث جابر » (4) إلا انه بعد ذلك عدل عما قاله : وأنكر تسمية النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للامام الباقر بهذا الاسم وقال : « لا اصل له عند

ص: 107


1- جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام ( ص 132 ).
2- نزهة الجليس 2 / 36.
3- النفحة العنبرية من مخطوطات مكتبة الامام كاشف الغطاء.
4- منهاج السنة 2 / 114 - 115.

أهل العلم بل هو من الاحاديث الموضوعة » (1) لقد عرف ابن تيمية بالبغض لأهل البيت (عليهم السلام) والحقد على شيعتهم فقد الصق بهم - بدون تورع - كل احدوثة وخرافة ، وحسابه في ذلك على اللّه وعلى العلم والتأريخ ، ولعل اعظم عقاب ناله فقدان الثقة بما كتبه فلا ينظر إليه المؤرخون إلا نظرة ريبة وشك في جميع ما كتبه.

29 - الشيخاني :

قال عبد القادر الشيخاني : « محمد الباقر كان اشهر أهل زمانه ، واكملهم فضلا ، واعظمهم نبلا ، ولم يظهر في زمنه عند أحد من علم الدين والسنن ، وعلم القرآن والسير وفنون الآداب مثل ما ظهر منه .. » (2)

30 - المجلسي :

قال الشيخ المجلسي : « لم يظهر عن أحد من أولاد الحسن والحسين من العلوم ما ظهر منه « أي الباقر » من التفسير والكلام والفتيا ، والحلال والحرام ... وقد روى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ، ورؤساء فقهاء المسلمين ، فمن الصحابة جابر بن عبد اللّه الانصاري ، ومن التابعين نحو جابر بن يزيد الجعفي ، وكيسان السختياني صاحب الصوفية ، ومن الفقهاء نحو ابن المبارك ، والزهري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وزياد بن المنذر ، والنهدي ، ومن المصنفين نحو الطبري ، والبلاذري ، والخطيب في تواريخهم ، وفي الموطأ ، وشرف

ص: 108


1- منهاج السنة 2 / 123.
2- الصراط السوي ( ص 194 ) من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين (عليه السلام).

المصطفى ، والابانة وحلية الأولياء ، وسنن أبي داود ، ومسند أبي حنيفة ، وترغيب الاصفهاني وبسيط الواحدي ، وتفسير العياشي ، والزمخشري ، ومعرفة اصول السمعاني وكانوا يقولون : محمد بن علي ، وربما قالوا : محمد الباقر .. » (1)

وألمّ كلام المجلسي بالناحية العلمية من شخصية الامام العظيم التي استوعبت جميع المعارف ، وقد انتهل من نمير علمه علماء المسلمين فأخذوا عنه الفقه والتأريخ والتفسير وعلم الكلام ، وفنون الحكم والآداب ، مما يعتبر عاملا جوهريا في نشأة التطور والابداع في الفكر الاسلامي.

31 - النووي :

قال النووي : « الباقر تابعي جليل ، امام بارع ، مجمع على جلالته ، معدود في فقهاء المدينة وأئمتهم ... » (2)

32 - أبو زرعة :

قال أبو زرعة : « إن أبا جعفر لمن اكبر العلماء .. » (3)

33 - ابن عنبة :

قال جمال الدين احمد بن علي بن الحسين بن المهنا بن عنبة : « كان محمد الباقر واسع العلم ، وافر الحلم ، وجلالة قدره أشهر من أن ينبه عليها. » (4)

ص: 109


1- بحار الانوار 11 / 84.
2- تهذيب اللغات والاسماء 1 / 87.
3- أعيان الشيعة ق 1 / 4 / 485.
4- عمدة الطالب 2 / 29.

34 - علي بن عيسى الأربلى :

وتحدث الوزير علي بن عيسى الاربلي عن معالي سيرة أبي جعفر (عليه السلام) وختم حديثه بقوله : إن مناقبه اكثر من أن يأتي الحصر عليها ، ومزاياه أعلى من أن تتوجه الاحاطة بها ، ومفاخره إذا عددت خرت المفاخر والمحامد لديها لأن شرفه تجاوز الحد ، وبلغ النهاية ، وجلال قدره استولى على الأمن وادرك الغاية ، ومحله من العلم والعمل رفع له ألف راية ، وكم له من علامات سؤدد ، وسيما رئاسة ، وآية سماحة وحماسة ، وشرف منصب ، وعلو نسب وفخر حسب ، وطهارة أم واب ، والأخذ من الكرم والطهارة بأقوى سبب لو طاول السماء لطالها ، أورام الكواكب في أوجها لنالها .. » (1)

35 - احمد فهمى :

قال الشيخ احمد فهمي : « الامام الباقر : هو خامس الأئمة عند الامامية وكان رضی اللّه عنه اصدق الناس ، واحسنهم بهجة ، وأبدعهم لهجة .. » (2)

36 - فريد وجدي :

قال فريد وجدي : « كان الباقر عالما نبيلا ، وسيدا جليلا ، وسمى الباقر لأنه بقلم العلم أي توسع فيه .. » (3)

37 - أبو زهرة :

قال الشيخ أبو زهرة : « وكان محمد ابنه - أي ابن الامام زين

ص: 110


1- كشف الغمة 2 / 363.
2- الامام زين العابدين ( ص 18 ).
3- دائرة معارف وجدي 3 / 563.

العابدين - وريثه في امامة العلم ، ونيل الهداية ، ولذا كان مقصد العلماء من كل البلاد الاسلامية ، وما زار أحد المدينة إلا عرج على بيت محمد الباقر يأخذ عنه .. » (1)

38 - التلمسانى :

قال التلمساني : « محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب ، وهو والد جعفر الصادق يقال له الباقر ، سمي باقرا لتبحره في العلم ، وهو الشق والتوسعة تابعي عدل ثقة ، وامام مشهور .. » (2)

39 - عبد القادر الحلبي :

قال عبد القادر الحلبي : « الباقر أول علوي ولد بين علويين تابعي جليل القدر ، امام بارع مجمع على امامته ، وجلالته ، معدود في فقهاء المدينة وأئمتهم .. » (3)

هذه بعض الكلمات التي أدلى بها كبار العلماء والبحاث في حق الامام وهي كما سجلت اكبارهم لشخصية الامام كذلك كشفت عن بعض الجوانب من حياته المشرقة ، والتي كان منها :

أولا - : تقدم الامام في الفضل والعلم على جميع علماء عصره ، وإنه لم يكن هناك أحد يدانيه في مواهبه وملكاته العلمية ، وإنه يفوق في فضله وعلمه اخوانه ، وابناء عمومته وسائر ابناء الأسرة النبوية التي هي

ص: 111


1- الامام الصادق ( ص 22 ).
2- شرح الشفاء للخفاجي 1 / 292.
3- الحديث المفحص عن شرف نسل الامام علي ( ص 139 ) من مخطوطات مكتبة الامام كاشف الغطاء العامة.

مصدر النور والوعي في الارض.

ثانيا - : تصاغر علماء عصره أمامه اعترافا منهم بسمو مقامه العلمي والروحي وإنه المرجع الأعلى للعالم الاسلامي.

ثالثا - : سعة علوم الامام ومعارفه لا في الفقه الاسلامي فحسب ، وإنما كان ملما بجميع العلوم من علم الكلام والفلسفة ، والتفسير والتأريخ والحكم والآداب وغير ذلك مما اصبح به المنار المشرق للعلوم الاسلامية.

رابعا - : انه اظهر مخبآت بعض العلوم ، وكشف النقاب عن كنوز المعارف التي كانت خافية على الناس.

خامسا - : انه كان الرائد الاول للحركة العلمية في عصره ، فمن نمير علمه اقتبس العلماء ، ومن افاضاته استمد البحاث والمؤلفون والكتاب.

سادسا - : تحرج الامام في الدين كأشد ما يكون التحرج ، وشدة ورعه وخوفه من اللّه مما جعله من أئمة المتقين والمنيبين.

ص: 112

مظاهر شخصيته

اشارة

ص: 113

ص: 114

وتوفرت في شخصية الامام أبي جعفر (عليه السلام) جميع الصفات الكريمة التي تؤهله لزعامة هذه الأمة ، وقيادتها الروحية والزمنية ، فكل صفة من صفاته ترفعه الى القمة التي لا يبلغها إلا افذاذ الناس وعمالقة الدهر ، فهو كما قال الشاعر :

من هاشم في ذراها وهي صاعدة *** الى السماء تميت الناس بالحسد

قوم أبى اللّه إلا أن تكون لهم *** مكارم الدين والدنيا بلا أمد

لقد كان الامام العظيم بمواهبه وعبقرياته صورة متميزة من بين صور العظماء والمصلحين ، فقد تميز بفضائله النفسية ومآثره الخالدة ، وتميز بحسبه الوضاح ، وتميز بكل ما يسمو به هذا الانسان ، ومن بين ما تميز به.

إمامته :

وحباه اللّه بالامامة ، وخصه بالنيابة العامة عن جده الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهو أحد خلفائه ، وأوصيائه الاثنى عشر ، الذين جعلهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سفن النجاة ، وأمن العباد ، وقرنهم بمحكم التنزيل ، ونصبهم اعلاما لأمته صيانة لها من الفرقة ووقاية لها من الفتن والازمات.

لقد احتاط النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كأشد ما يكون الاحتياط في شأن أمته ، وأهاب بها من أن تكون في ذيل قافلة الأمم والشعوب ، فقد أراد لها العزة والكرامة ، وأراد أن تكون خير أمة أخرجت للناس ، فأولى الخلافة والامامة المزيد من اهتمامه ، ونادى بها اكثر مما نادى بأي فرض من الفروض الدينية لأنها القاعدة الصلبة لتطور أمته في مجالاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية ، وقد خصها بالأئمة الطاهرين من أهل بيته الذين لم يخضعوا بأي حال من الاحوال لأية نزعة مادية ، وإنما آثروا طاعة

ص: 115

اللّه ومصلحة الأمة على كل شيء.

وقد تحدث الامام الباقر (عليه السلام) عن الامامة بصورة موضوعية وشاملة سنعرض لها عند البحث عن تراثه الفكري والعلمي ... اما امامته فقد دلت عليها النصوص العامة والخاصة ، والتي كان منها نص الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) على امامته ، وامامة الأئمة الطاهرين من بعده (1) وغير ذلك من النصوص التي سنعرض لها في البحوث الآتية :

العصمة :

ومن اسمى مظاهر ذاتيات الامام أبي جعفر (عليه السلام) العصمة من الذنوب والآثام ، وطهارته من الزيغ والرجس.

أن العصمة لطف من اللّه تعالى يهبها لمن يشاء من عباده ممن امتحن قلوبهم بالايمان ، وزكاهم ، واختارهم لاداء رسالته واصلاح عباده ، وهي من أهم العقائد الراسخة عند الشيعة ، واحدى المبادي ، الاساسية للامامة عندهم ، ونتحدث - بايجاز - عنها.

تعريف العصمة :

وعرف المتكلمون من الشيعة العصمة بتعاريف متعددة ، كان من بينها تعريف الشيخ المفيد ، فقد عرفها بأنها الامتناع بالاختيار عن فعل الذنوب والقبائح عند اللطف الذي يحصل من اللّه تعالى في حقه وهو لطف يمتنع من يختص به من فعل المعصية ، وترك الطاعة مع القدرة عليهما (2) ويقول العلامة الحلي : فى تعريفها بأنها لطف من اللّه تعالى يفيضه على المكلف

ص: 116


1- بصائر الدرجات ( ص 108 ) للصفار.
2- شرح عقائد الصدوق ( ص 114 ).

لا يكون له مع ذلك داع الى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك (1) وعرفها شيخ الطائفة الشيخ الطوسي بأنها ما يمتنع المكلف من المعصية في حال تمكنه منها.

والعصمة على ضوء هذه التعاريف عبارة عن الكمال المطلق للنفس ، وتحررها التام من كل نزعة من نزعات الهوى والغرور والطيش ، والامتناع من اقتراف أية جريمة أو ذنب سواء أكان على سبيل العمد أم السهو ، ومن الطبيعي أنه لا يتصف بذلك إلا من اختاره اللّه لاداء رسالته وهداية عباده نبيا كان أم اماما.

الاستدلال عليها :

واستدلت الشيعة على ما ذهبوا إليه من اعتبار العصمة في الامام بأدلة كثيرة مقنعة لا مجال للشك فيها ، ولعل من أروع من أستدل عليها من متكلميهم هشام بن الحكم قال : إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها : الحرص ، الحسد ، الغضب ، الشهوة ، وهذه الصفات كلها منفية عن الامام ، فلا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدنيا ، وهي تحت خاتمه ، فهو خازن أموال المسلمين فعلى ما ذا يحرص؟ ولا يجوز أن يكون حسودا لأن الانسان إنما يحسد من فوقه ، وليس فوقه أحد ، فكيف يحسد من دونه ، ولا يجوز أن يغضب لشيء من أمور الدنيا إلا أن يكون غضبه لله عز وجل ، قد فرض عليه اقامة حدوده ، ولا يجوز أن يتبع الشهوات ، ويؤثر الدنيا على الآخرة لأن اللّه حبب إليه الآخرة كما حبب إلينا الدنيا ، فهو ينظر الى الآخرة كما ننظر الى الدنيا ، فهل رأيت أحدا ترك وجها

ص: 117


1- توفيق التطبيق ( ص 16 ).

حسنا لوجه قبيح ، وطعاما طيبا لطعام مر ، وثيابا لينة لثوب خشن ، ونعمة دانية باقية لدينا زائلة فانية (1).

واقامت الشيعة على ضرورة العصمة للأئمة مجموعة كبير من الادلة الوثيقة العقلية والنقلية حفلت بها كتبهم الكلامية (2) ويرى « دونالد سن » ان فكرة العصمة عند الشيعة قد أدت الى تطور علم الكلام وازدهاره في الاسلام ... كما ان لهم الفضل في بحث هذا الموضوع لا في الاسلام فحسب بل في جميع الديانات الاخرى (3) فقد كانوا أول من فتق باب الجدل والحوار العلمي المبني على الادلة العقلية المثبتة لشؤون مبادئهم الاساسية في الامامة.

شكوك وأوهام :

وأثير حول العصمة كثير من الشكوك والأوهام ، وأاهمت الشيعة بالجمود والغلو ، وقال الناقدون لهم : إن الأئمة كبقية الناس يطيعون اللّه ، ويعصونه ، وتصدر المعصية عنهم عمدا أو سهوا من دون أن يكون هناك أي فرق بينهم ، وبين سائر الناس.

وأكبر الظن أن الحملات المسعورة التي واجهتها الشيعة في التزامهم بعصمة أئمتهم إنما كانت لتبرير ملوك بني أمية وبني العباس الذين أضفوا عليهم النعوت العظيمة والالقاب الكريمة فادعوا أنهم سدنة الشريعة ،

ص: 118


1- عقيدة الشيعة ( ص 317 ).
2- يراجع الالفين للعلامة الحلي ، وأوائل المقالات في المذاهب المختارة للشيخ المفيد ، ومنهاج الكرامة للعلامة الحلي.
3- نظرية الامامة لدى الشيعة الاثنى عشرية ( ص 134 ).

وخلفاء اللّه في أرضه ، ولا مانع مع ذلك أن تصدر عنهم المعاصي والذنوب ، فليست العصمة اذن شرطا فيمن يتولى شئون المسلمين ، وقد انكرت الشيعة ذلك أشد الانكار ، وذهبت الى أن خلافة أولئك الملوك لا تحمل أي طابع من الشرعية ، وذلك لما أثر عنهم من الاعمال التي لا تتفق مع ابسط قواعد الدين الاسلامي ، فقد أسرفوا إلى حد بعيد في الدعارة واللّهو والمجون ، وتحولت قصورهم الى مسارح للهو والرقص والفساد ، وفي ذلك يقول الشاعر في المهدي العباسي :

بنو أمية هبوا طال نومكم *** ان الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم *** فالتمسوا خليفة اللّه بين الناي والعود

وإذا كان الخليفة قد صرعه الهوى فصار حليفا للناي والعود ، كيف يكون اماما للمسلمين ، وخليفة لله في أرضه؟

لقد احتاط الاسلام كأشد ما يكون الاحتياط في شأن الخلافة الاسلامية باعتبارها المركز الحساس لسعادة المسلمين ، وتقدمهم وتطور حياتهم فليس من المنطق في شيء أن يضفى على اولئك الملوك خلفاء اللّه في ارضه ، وامنائه على عباده ، وان يقال بشرعية خلافتهم.

لقد قالت الشيعة : بعصمة أئمتهم لأنهم الا نموذج الاعلى للتكامل الانساني ، ولم يؤثر عن احد منهم - فيما اجمع عليه المؤرخون - انه قد شذ في سلوكه عن الطريق القويم أو خالف اللّه فيما أوجب أو نهى ، ألم يقل الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « واللّه لو اعطيت الاقاليم السبع بما تحت افلاكها على أن اعصي اللّه في جلب شعيرة اسلبها من فم جرادة ما فعلت » وهذه هي العصمة التي تدعيها الشيعة لأئمتهم (عليهم السلام) فليس فيها غلو ولا جمود ، وإنما

ص: 119

كانت مطابقة للواقع المحكي عن سيرة أئمة اهل البيت (عليهم السلام) الذين تحرجوا كأشد ما يكون التحرج في أمور دينهم ، وآثروا طاعة اللّه على كل شيء ، وقد اعلن الكتاب الكريم عصمتهم وطهارتهم من الزيغ والأثم قال تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) و قرنهم الرسول الاعظم بمحكم التنزيل قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خلفت فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا » فكما ان الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كذلك العترة الطاهرة وإلا لما صحت المقارنة بينهما.

حلمه

أما الحلم فقد كان من ابرز صفات الامام أبي جعفر (عليه السلام) فقد اجمع المؤرخون على أنه لم يسىء الى من ظلمه واعتدى عليه ، وانما كان يغدق عليه بالبر والمعروف ، ويقابله بالصفح والاحسان ، وقد روى المؤرخون صورا كثيرة من عظيم حلمه ، كان منها :

1 - أن رجلا كتابيا هاجم الامام ، واعتدى عليه ، وخاطبه بمر القول :

« أنت بقر. »

فلطف به الامام ، وقابله ببسمات فياضة بالبشر قائلا :

« لا .. أنا باقر .. »

وراح الكتابي يهاجم الامام قائلا :

« أنت ابن الطباخة. »

فتبسم الامام ، ولم يثره هذا الاعتداء وقال له :

« ذاك حرفتها .. »

ولم ينته الكتابي عن غيه ، وإنما راح يهاجم الامام قائلا :

« أنت ابن السوداء الزغنة الندية .. »

ص: 120

ولم يغضب الامام ، وإنما قابله باللطف قائلا :

« إن كنت صدقت غفر اللّه لك ، وان كنت كذبت غفر اللّه لك .. »

وبهت الكتابي ، وبهر من معالي اخلاق الامام التي تضارع اخلاق الأنبياء ، فاعلن اسلامه (1) ورجع الى حظيرة الحق.

2 - ومن تلك الصور الرائعة المدهشة من حلمه أن شاميا كان يختلف الى مجلسه ، ويستمع الى محاضراته ، وقد أعجب بها ، فأقبل يشتد نحو الامام وقال له :

« يا محمد إنما أخشى مجلسك لا حبا منى إليك ، ولا أقول : إن أحدا أبغض إلي منكم أهل البيت ، واعلم ان طاعة اللّه ، وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم ، ولكني أراك رجلا فصيحا لك أدب وحسن لفظ ، فانما أختلف إليك لحسن ادبك!! »

ونظر إليه الامام بعطف وحنان ، واخذ يغدق عليه ببره ومعروفه حتى استقام الرجل وتبين له الحق ، فتبدلت حالته من البغض الى الولاء للإمام ، وظل ملازما له حتى حضرته الوفاة فأوصى ان يصلي عليه (2).

وحاكى الامام بهذه الاخلاق الرفيعة جده الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الذي استطاع بسمو اخلاقه أن يؤلف ما بين القلوب ، ويوحد ما بين المشاعر والعواطف ويجمع الناس على كلمة التوحيد بعد ما كانوا فرقا واحزابا ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )

الصبر :

لقد كان الصبر من الصفات الذاتية للأئمة الطاهرين من أهل البيت (عليهم السلام)

ص: 121


1- اعيان الشيعة 4 / ق 1 / 504.
2- بحار الانوار 11 / 66.

ففد صبروا على مكاره الدهر ، ونوائب الأيام ، وصبروا على تجرع الخطوب التي تعجز عنها الكائنات ، فقد كان الامام الحسين (عليه السلام) على صعيد كربلا يستقبل المحن الشاقة التي تذهل كل كائن حي ، وهو يقول : « صبرا على قضائك يا رب لا معبود سواك. » وصبر الامام الباقر (عليه السلام) كآبائه على تحمل المحن والخطوب ، وقد كان منها ما يلي :

1 - انتقاص السلطة لآبائه الطاهرين ، واعلان سبهم على المنابر والمآذن ، وهو (عليه السلام) يسمع ذلك ، ولا يتمكن أن ينبس ببنت شفة فصبر على كظم الغيظ ، وأوكل الأمر الى اللّه الحاكم بين عباده بالحق.

2 - ومن بين المحن الشاقة التي صبر عليها التنكيل الهائل بشيعة أهل البيت (عليهم السلام) وقتلهم تحت كل حجر ومدر بأيدي الجلادين من عملاء السلطة الاموية ، وهو لا يتمكن أن يحرك ساكنا ، قد فرضت عليه السلطة الرقابة الشديدة ، واحاطته بمباحثها ، ولم تستجب لأي طلب له في شأن شيعته.

3 - وروى المؤرخون عن عظيم صبره انه كان جالسا مع أصحابه إذ سمع صيحة عالية في داره ، فاسرع إليه بعض مواليه فأسره فقال (عليه السلام) :

« الحمد لله على ما اعطى ، وله ما أخذ انههم عن البكاء ، وخذوا في جهازه ، واطلبوا السكينة ، وقولوا لها : لا ضير عليك أنت حرة لوجه اللّه لما تداخلك من الروع .. »

ورجع الى حديثه ، فتهيب القوم سؤاله ، ثم اقبل غلامه فقال له : قد جهزناه ، فأمر اصحابه بالقيام معه للصلاة على ولده ودفنه ، واخبر اصحابه بشأنه فقال لهم : انه قد سقط من جارية كانت تحمله فمات (1)

ص: 122


1- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 218 ).

تدول الدول ، وتفنى الحضارات ، وهذه الاخلاق العلوية أحق بالبقاء ، وأجدر بالخلود من كل شيء لأنها تمثل شرف الانسانية وقيمها الكريمة.

4 - ويقول المؤرخون : إنه كان للإمام ولد وكان أثيرا عليه فمرض فخشي على الامام لشدة حبه له ، وتوفي الولد فسكن صبر الامام ، فقيل له : خشينا عليك يا ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فأجاب بالاطمئنان والرضا بقضاء اللّه قائلا :

« انا ندعو اللّه فيما يحب فاذا وقع ما نكره لم نخالف اللّه فيما يحب .. » (1)

لقد تسلح الامام بالصبر وقابل نوائب الدنيا وكوارث الدهر بارادة صلبة ، وايمان راسخ ، وتحمل الخطوب في غير ضجر ولا سأم محتسبا في ذلك الأجر عند اللّه.

تكريمه للفقراء :

ومن معالي أخلاقه أنه كان يبجل الفقراء ، ويرفع من شأنهم لئلا يرى عليهم ذل الحاجة ، ويقول المؤرخون : انه عهد لأهله اذا قصدهم سائل ان لا يقولوا له : يا سائل خذ هذا ، وإنما يقولون له : يا عبد اللّه بورك فيك (2) وقال : سموهم باحسن اسمائهم (3).

انها اخلاق النبوة التي جاءت لتسمو بالانسان ، وتغذيه بالعزة والكرامة وتنفي عنه الخنوع والذل.

ص: 123


1- تأريخ دمشق 51 / 52 ، عيون الاخبار لابن قتيبة 3 / 57.
2- عيون الاخبار 3 / 208.
3- البيان والتبيين ( ص 158 ) اعيان الشيعة ق 1 / 4 / 472.

عتقه للعبيد :

وكان الامام العظيم شغوفا بعتق العبيد ، وانقاذهم من رق العبودية ، فقد اعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر مملوكا (1) وكان عنده ستون مملوكا فأعتق ثلثهم عند موته (2).

صلته لأصحابه :

وكان أحب شيء للإمام في هذه الدنيا صلته لإخوانه فكان لا يمل من صلتهم وصلة قاصديه وراجيه ومؤمليه (3) وقد عهد لابنه الامام الصادق ان ينفق من بعده على اصحابه وتلاميذه ليتفرغوا الى نشر العلم واذاعته بين الناس.

صدقاته على فقراء المدينة :

وكان الامام (عليه السلام) كثير البر والمعروف على فقراء يثرب ، وقد أحصيت صدقاته عليهم فبلغت ثمانية آلاف دينار (4) وكان يتصدق عليهم في كل يوم جمعة بدينار ويقول : « الصدقة يوم الجمعة تضاعف الفضل على غيره من الايام » (5).

ص: 124


1- شرح شافية ابي فراس 2 / 176 من مصورات مكتبة الحكيم.
2- شرح شافية أبي فراس 2 / 176.
3- شرح شافية أبي فراس 2 / 176.
4- شرح شافية أبي فراس 2 / 176.
5- اعيان الشيعة 4 / ق 1 / 471.

كرمه وسخاؤه :

أما الكرم فهو من العناصر الاولية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) فقد بسطوا أيديهم بسخاء نادر الى الفقراء والسائلين ، وفيهم يقول الشاعر :

لو كان يوجد عرف مجد قبلهم *** لوجدته منهم على اميال

إن جئتهم أبصرت بين بيوتهم *** كرما يقيك مواقف التسآل

نور النبوة والمكارم فيهم *** متوقد في الشيب والاطفال (1)

ويقول فيهم الكميت :

والغيوث الليوث إن أمحل *** الناس فمأوى حواضن الايتام

ويقول الكميت :

إذا انشأت منهم بارض سحابة *** فلا النبت محظور ولا البرق خلب

وما ابدع ما قيل مما ينطبق عليهم :

كرموا وجاد قبيلهم من قبلهم *** وبنوهم من بعدهم كرماء

فالناس ارض في السماحة والندى *** وهم إذا عد الكرام سماء

لقد فطر الامام على حب الخير وصلة الناس وادخال السرور عليهم يقول ابن الصباغ : « كان محمد بن علي بن الحسين مع ما هو عليه من العلم والفضل والرئاسة والامامة ظاهر الجود في الخاصة والعامة ، مشهور بالكرم في الكافة معروف بالفضل والاحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله » (2).

ويقول المؤرخون : انه كان اقل أهل بيته مالا وأعظمهم مئونة (3)

ص: 125


1- زهر الآداب 1 / 94.
2- الفصول المهمة ( ص 227 ).
3- اعيان الشيعة 4 / ق 1 / 176.

ومع ذلك فكان يجود بما عنده لانعاش الفقراء والمحرومين ، وقد نقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه ومن بينها :

1 - حدث كل من عبد اللّه بن عبيد وعمرو بن دينار قالا : ما لقينا أبا جعفر محمد بن علي إلا وحمل إلينا النفقة والكسوة ، ويقول : هذه معدة لكم قبل أن تلقوني (1).

2 - روى سليمان بن قرم قال : كان أبو جعفر يجيزنا الخمسمائة درهم الى الستمائة درهم الى الألف ، وكان لا يمل من صلة الأخوان وقاصديه وراجيه (2).

3 - قال الحسن بن كثير : شكوت الى أبي جعفر محمد بن علي الحاجة وجفاء الاخوان فتأثر (عليه السلام) وقال : بئس الأخ يرعاك غنيا ، ويقطعك فقيرا ، ثم أمر غلامه فاخرج كيسا فيه سبعمائة درهم ، وقال : استنفق هذه فاذا نفذت فاعلمني .. (3)

4 - وكان (عليه السلام) يحبو قوما يغشون مجلسه من المائة الى الالف ، وكان يحب مجالستهم منهم عمرو بن دينار ، وعبد اللّه بن عبيد ، وكان يحمل إليهم الصلة والكسوة ، ويقول : هيأناها لكم من أول السنة (4).

5 - روت مولاته سلمى قالت : كان يدخل عليه إخوانه فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب ، ويلبسهم الثياب الحسنة ، ويهب لهم الدراهم وقد عذلته سلمى عن ذلك فقال لها : يا سلمى ما يؤمل في

ص: 126


1- الارشاد ( ص 299 ).
2- الارشاد ( ص 299 ).
3- صفة الصفوة 2 / 63.
4- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 217 ).

الدنيا بعد المعارف والاخوان .. (1) وكان يقول : « ما حسنت الدنيا إلا صلة الاخوان والمعارف (2) هذه بعض البوادر التي أثرت عن كرمه وسخائه ، وهي تكشف عن أن الاحسان والبر كانا من عناصره ومن مقوماته.

عبادته :

اشارة

كان الامام ابو جعفر (عليه السلام) من أئمة المتقين في الاسلام ، فقد عرف اللّه معرفة استوعبت دخائل نفسه ، فاقبل على ربه بقلب منيب ، واخلص في طاعته كاعظم ما يكون الاخلاص ، اما مظاهر عبادته.

أ - خشوعه فى صلاته :

وروى المؤرخون أنه اذا اقبل على الصلاة اصفر لونه (3) خوفا من اللّه وخشية منه ، فقد عرف عظمة اللّه تعالى ، خالق الكون وواهب الحياة فعبده عبادة المتقين والمنيبين.

ب - كثرة صلاته :

وكان كثير الصلاة فكان - فيما يقول الرواة - يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة (4) ولم تشغله شئونه العلمية ، ومرجعيته العامة للأمة عن كثرة الصلاة ، فقد كانت اعز شيء عنده لانها الصلة بينه

ص: 127


1- اعيان الشيعة ق 1 / 4 / 506 ، صفة الصفوة 2 / 63.
2- صفة الصفوة 2 / 63 ، اعيان الشيعة ق 1 / 4 / 506.
3- تاريخ ابن عساكر 51 / 44.
4- تذكرة الحفاظ 1 / 125 ، تأريخ ابن عساكر 51 / 44 ، حلية الاولياء 3 / 182.

وبين اللّه.

ج - دعاؤه فى سجوده :

جاء في الحديث أقرب ما يكون العبد الى ربه وهو ساجد ، فكان الامام (عليه السلام) في سجوده يتجه بقلبه وعواطفه نحو اللّه ويناجيه بانقطاع واخلاص ، وقد أثرت عنه بعض الادعية وهذه بعضها.

1 - ما رواه اسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال :

كنت أمهد لأبي فراشه فانتظره حتى يأتي ، فاذا آوى الى فراشه ونام قمت الى فراشي ، وقد ابطأ علي ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعد ما هدأ الناس ، فاذا هو في المسجد ساجد ، وليس في المسجد غيره فسمعت حنينه وهو يقول :

« سبحانك اللّهم ، أنت ربي حقا حقا ، سجدت لك يا ربي تعبدا ورقا ، اللّهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي .. اللّهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ، وتب عليّ انك أنت التواب الرحيم .. » (1)

2 - ما رواه أبو عبيدة الحذاء قال : سمعت أبا جعفر يقول : وهو ساجد.

« أسألك بحق حبيبك محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا بدلت سيئاتي حسنات ، وحاسبني حسابا يسيرا. »

ثم قال : في السجدة الثانية.

« اسألك بحق حبيبك محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا ما كفيتني مؤونة الدنيا ، وكل

ص: 128


1- فروع الكافي 3 / 323.

هول دون الجنة ».

ثم قال في الثالثة :

« اسألك بحق حبيبك محمد لما غفرت الكثير من ذنوبي والقليل ، وقبلت مني العمل اليسير ».

ثم قال في الرابعة :

« اسألك بحق حبيبك محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لما ادخلتني الجنة ، وجعلتني من سكانها ، ولما نجيتني من سفعات النار » (1) برحمتك ، وصلى اللّه على محمد وآله .. » (2)

وكشفت هذه الادعية عن شدة تعلقه باللّه ، وعظيم انابته إليه ، وتمسكه بطاعته.

د - دعاؤه فى قنوته :

وأثرت عنه بعض الأدعية التي كان يدعو بها فى قنوته وهي :

1 - « اللّهم ان عدوي قد استسن في غلوانه ، واستمر في عدوانه ، وأمن بما شمله من الحلم عاقبة جرأته عليك ، وتمرد في مباينتك ، ولك اللّهم لحظات سخط بياتا وهم نائمون ، ونهارا وهم غافلون ، وجهرة وهم يلعبون ، وبغتة وهم ساهون ، وان الخناق قد اشتد ، والوثاق قد احتد ، والقلوب قد محيت ، والعقول قد تنكرت ، والصبر قد أودى ، وكادت تنقطع حبائله ، فانك لبالمرصاد من الظالم ، ومشاهدة من الكاظم ، لا يعجلك فوت درك ، ولا يعجزك احتجاز محتجز ، وانما مهل استثباتا ، وحجتك على الاحوال البالغة الدامغة ، وبعبيدك ضعف البشرية وعجز الانسانية ، ولك سلطان الإلهية وملكة البرية ، وبطشة الاناة ، وعقوبة التأبيد.

ص: 129


1- سفعات النار : هي لفحات السعير التي تغير بشرة الانسان لشدة حرارتها.
2- فروع الكافي 3 / 322.

اللّهم ان كان في المصابرة لحرارة المعان من الظالمين ، وكمد من يشاهد من المبدلين لك ، ومثوبة منك فهب لي مزيدا من التأييد ، وعونا من التسديد الى حين نفوذ مشيئتك فيمن اسعدته واشقيته من بريتك ، وامنن علي بالتسليم لمحتومات أقضيتك ، والتجرع لصادرات اقدارك ، وهب لي محبة لما احببت في متقدم ومتأخر ، ومتعجل ومتأجل ، والايثار لما اخترت في مستقرب ومستبعد ، ولا تخلنا مع ذلك من عواطف رحمتك ... وحسن كلائتك .. » (1)

لا اكاد أعرف وثيقة سياسية حفلت بتحديد الاوضاع الراهنة في البلاد في ذلك العصر ، كهذا الدعاء الذي تحدث فيه الامام عن الازمات السياسية التي عاناها المسلمون أيام الحكم الاموي المعاصر له خصوصا عهد الطاغية عبد الملك بن مروان الذي جهد على اذلال المسلمين ، وارغامهم على ما يكرهون ، وقد سلط عليهم الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي الذي عاث في دينهم ودنياهم ، وسعى في الارض فسادا ، فلم يترك لونا من الوان الظلم إلا صبه على المسلمين حتى طاشت الاحلام ، وبلغت القلوب الحناجر ، وأودى الصبر ، وانقطعت حبائله ، والامام يطلب من اللّه ان ينقذ المسلمين من محنتهم ، وينزل عقابه الصارم بالمردة الظالمين.

2 - كان (عليه السلام) يدعو بهذا الدعاء في قنوته « بمنك وكرمك يا من يعلم هواجس السرائر ومكامن الضمائر ، وحقائق الخواطر ، يا من هو لكل غيب حاضر ، ولكل منس ذاكر ، وعلى كل شيء قادر ، والى الكل ناظر ، بعد المهل وقرب الاجل ، وضعف العمل ، وأراب الامل.

وأنت يا اللّه الآخر كما أنت الاول مبيد ما أنشأت ، ومصيرهم الى

ص: 130


1- مهج الدعوات ( ص 51 ).

البلى ، وتقلدهم أعمالهم ، ومحملها ظهورهم الى وقت نشورهم من بعثة قبورهم عند نفخة الصور ، وانشقاق السماء بالنور ، والخروج بالمنشر الى ساحة المحشر ، لا ترتد إليهم أبصارهم وافئدتهم هواء ، متراطمين في غمة مما أسلفوا ، ومطالبين بما احتقبوا ، ومحاسبين هناك على ما ارتكبوا ، الصحائف في الاعناق منشورة ، والاوزار على الظهور مأزورة ، لا انفكاك ولا مناص ولا محيص عن القصاص قد اقحمتهم الحجة وحلوا في حيرة المحجة وهمس الضجة ، معدول بهم عن المحجة ، الا من سبقت له من اللّه الحسنى فنجا من هول المشهد وعظيم المورد ، ولم يكن ممن في الدنيا تمرد ، ولا على أولياء اللّه تعند ، ولهم استعبد ، وعنهم بحقوقهم تفرد.

اللّهم : فان القلوب قد بلغت الحناجر ، والنفوس قد علت التراقي والاعمار قد نفذت بالانتظار لا عن نقص استبصار ، ولا عن اتهام مقدار ، ولكن لما تعاني من ركوب معاصيك ، والخلاف عليك في أوامرك ونهيك ، والتلعب باوليائك ، ومظاهرة اعدائك.

اللّهم : فقرب ما قد قرب ، وأورد ما قد دنى ، وحقق ظنون الموقنين وبلغ المؤمنين تأميلهم من اقامة حقك ونصر دينك واظهار حجتك .. » (1)

وحفل هذا الدعاء الشريف باعطاء صورة عن سعة علم اللّه ، واحاطته بكل شيء الظاهر والخفي ، كما حفل بذكر المعاد ، وحشر الناس جميعا يوم القيامة لعرضهم للحساب أمام اللّه ، وهم يحملون على ظهورهم وزر ما عملوه في دار الدنيا ، وانهم مطالبون بما اقترفوه ، ومحاسبون على ما عملوه ، ولا ينجو من أهوال ذلك المشهد الرهيب إلا من سبقت له من اللّه الحسنى ، ولم يكن من المتمردين في دار الدنيا ، ولا من المستعبدين لعباد اللّه ،

ص: 131


1- مهج الدعوات ( ص 52 ).

وفيه تعريض بحكام الامويين الذين اتخذوا مال اللّه دولا ، وعباد اللّه خولا ، وان القلوب قد بلغت الحناجر ، من ظلمهم وجورهم حسبما يقول (عليه السلام).

حجه :

وكان الامام أبو جعفر (عليه السلام) اذا حج البيت الحرام انقطع الى اللّه واناب إليه وتظهر عليه آثار الخشوع والطاعة ، وقد روى مولاه أفلح قال : حججت مع أبي جعفر محمد الباقر فلما دخل الى المسجد رفع صوته بالبكاء فقلت له :

« بأبي أنت وأمي إن الناس ينتظرونك فلو خفضت صوتك قليلا. »

فلم يعن به الامام وراح يقول له :

« ويحك يا أفلح اني ارفع صوتي بالبكاء لعل اللّه ينظر إلي برحمة فافوز بها غدا .. »

ثم انه طاف بالبيت ، وجاء حتى ركع خلف المقام ، فلما فرغ واذا بموضع سجوده قد ابتل من دموع عينيه (1) وحج (عليه السلام) مرة وقد احتف به الحجاج ، وازدحموا عليه وهم يستفتونه عن مناسكهم ويسألونه عن أمور دينهم ، والامام يجيبهم ، وبهر الناس من سعة علومه ، وأخذ بعضهم يسأل بعضا عنه فأنبرى إليهم شخص من اصحابه فعرفه لهم قائلا :

« إلا ان هذا باقر علم الرسل ، وهذا مبين السبل ، وهذا خير من رسخ في أصلاب أصحاب السفينة ، هذا ابن فاطمة الغراء العذراء الزهراء ، هذا بقية اللّه في أرضه ، هذا ناموس الدهر ، هذا ابن محمد وخديجة

ص: 132


1- صفة الصفوة 2 / 63 ، تأريخ ابن عساكر 51 / 44 ، مرآة الزمان 5 / 79 نور الابصار ( ص 130 ).

وعلي وفاطمة ، هذا منار الدين القائمة .. » (1).

ولم تذكر المصادر التي بأيدينا عدد حجه الى بيت اللّه الحرام ، فقد أهملت ذلك.

مناجاته مع اللّه :

كان الامام (عليه السلام) يناجي اللّه تعالى في غلس الليل البهيم ، وكان مما قاله في مناجاته :

« أمرتني فلم آتمر ، وزجرتني فلم انزجر ، ها أنا ذا عبدك بين يديك. » (2)

ذكره لله :

ويقول المؤرخون : إنه كان دائم الذكر لله ، وكان لسانه يلهج بذكر اللّه في أكثر أوقاته ، فكان يمشي ويذكر اللّه ، ويحدث القوم ، وما يشغله ذلك عن ذكره تعالى ، وكان يجمع ولده ويأمرهم بذكر اللّه حتى تطلع الشمس كما كان يأمرهم بقراءة القرآن ، ومن لا يقرأ منهم أمره بذكر اللّه (3).

زهده في الدنيا :

وزهد الامام أبو جعفر (عليه السلام) في جميع مباهج الحياة وأعرض عن زينتها فلم يتخذ الرياش في داره ، وإنما كان يفرش في مجلسه حصيرا (4)

ص: 133


1- مناقب ابن شهرآشوب 4 / 183.
2- حلية الاولياء 3 / 182 ، صفة الصفوة 2 / 63 ، نور الابصار ( ص 130 ).
3- اعيان الشيعة 4 / ق 1 / 471.
4- دعائم الاسلام 2 / 158.

لقد نظر الى الحياة بعمق وتبصر فى جميع شئونها فزهد في ملاذها ، واتجه نحو اللّه تعالى بقلب منيب ، يقول جابر بن يزيد الجعفي : قال لي محمد ابن علي :

« يا جابر إني لمحزون ، واني لمشتغل القلب .. »

فأنبرى إليه جابر قائلا :

« ما حزنك ، وما شغل قلبك؟ » فاجابه (عليه السلام) بما احزنه وزهده في هذه الحياة قائلا :

« يا جابر إنه من دخل قلبه صافي دين اللّه عز وجل شغله عما سواه ، يا جابر ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون ، هل هي إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها .. » (1)

وأثرت عنه كلمات كثيرة في الحث على الزهد ، والاقبال على اللّه ، والتحذير من غرور الدنيا ، وآثامها يعرض لها هذا الكتاب ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض مظاهر شخصيته المشرقة.

ص: 134


1- البداية والنهاية 9 / 310.

مواهبه وعبقريّاته

اشارة

ص: 135

ص: 136

وتفجرت مواهب الامام أبي جعفر (عليه السلام) وعبقرياته بطاقات هائلة من العلم شملت جميع أنواع العلوم والمعارف من الحديث والفلسفة وعلم الكلام والفقه والحكم العالية والآداب السامية مضافا الى الملاحم وهي الاحداث التي اخبر عنها قبل وقوعها ، ثم تحققت بعد ذلك على مسرح الحياة ... والذي يدلل على مدى سعة علومه أنه مع كثرة ما انتهل العلماء من نمير علومه فانه كان يجد في نفسه ضيقا وحرجا لكثرة ما عنده من العلوم التي لم يجد لبثها ونشرها سبيلا فكان - فيما يقول الرواة - يصعد آهاته ، ويقول بحسرات :

« لو وجدت لعلمي الذي آتاني اللّه عز وجل. لنشرت التوحيد والاسلام والدين والشرائع ... وكيف لي بذلك ، ولم يجد جدي أمير المؤمنين (عليه السلام) حملة لعلمه حتى كان يتنفس الصعداء ، ويقول على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني فان بين الجوانح علما جما ... » (1)

واجمع المؤرخون والرواة على أنه كان من أثرى رجال الفكر والعلم في عصره في مواهبه وقدراته العلمية ، وانه ممن رفع منار العلم ، وأبرز حقائقه واظهر كنوزه حسبما أدلى به المترجمون له ، كما ألمعنا الى ذلك في البحوث السابقة ... وقبل البحث عن العلوم التي خاضها نتعرض الى بعض النقاط التي ترتبط بالموضوع :

الحياة العلمية فى عصره :

ومنيت الحركة العلمية - في عصر الامام - بكثير من الجمود والخمول فلم يعد لها أي ظل على واقع الحياة ، فقد جرفت الناس التيارات السياسية ، وتهالكت البيوتات الرفيعة على الظفر بالحكم ، فزجت بطاقاتها البشرية

ص: 137


1- سفينة البحار 2 /

والمالية في حروب طاحنة مريعة ومذهلة منيت الأمة فيها بأفدح الخسائر وافظع النكبات.

لقد اتجهت الأمة اتجاها عسكريا مدمرا فيما بينها ، ولم يكن فيها أي بصيص لنور العلم والفكر ، فقد خبأ ذلك النور الذي فجره الاسلام في العالم ، وأراد للبشرية أن تسير على ضوئه لتحقق أهدافها من الأمن والرخاء والتطور ...

الدور المشرق للامام :

أطل الامام أبو جعفر (عليه السلام) على عالم ملئ بالفتن والاضطراب والاحداث ، ورأى الأمة الاسلامية قد فقدت جميع مقوماتها ، ولم تعد كما يريدها اللّه في وحدتها وتكاملها ، وتطورها في ميادين العلم والانتاج .. ووجه الامام بحكم قيادته الروحية جهده لإعادة مجد الأمة ، وبناء كيانها الحضاري ، فرفع منار العلم ، واقام صروح الفكر ، وقد انصرف عن كل تحرك سياسي ، واتجه صوب العلم وحده متفرغا له يقول المستشرق « روايت م. رونلدس » « وعاش مكرما متفرغا للعلم في عزلته بالمدينة ، وكان الناس يأتونه فيسألونه عن الامامة » (1).

وقد خف إليه زمرة من اعيان الأمة لتلقي العلوم منه ، وكان ممن وفد عليه العالم الكبير جابر بن يزيد الجعفي فقد قال له الامام في أول التقائه به :

- من أين أنت؟

- من اهل الكوفة.

- ممن؟

ص: 138


1- عقيدة الشيعة ( ص 123 ).

- من جعف.

- ما أقدمك هنا؟

- طلب العلم.

- ممن؟

- منك (1).

وقد أخذت الوفود العلمية تترى إليه لتأخذ عنه العلوم والمعارف ، يقول الشيخ ابو زهرة : « وما قصد أحد من العلماء مدينة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلا عرج عليه ليأخذ عنه معالم الدين » (2) وقد أخذ عنه أهل الفقه ظاهر الحلال والحرام (3).

وعلى أي حال فقد استمد العالم الاسلامي من الامام جميع مقومات نهوضه وارتقائه ، ولم يقتصر المد الثقافي الذي يستند إليه على عصره وإنما امتد الى سائر العصور التي تلت بعده ، فقد تبلورت الحياة العلمية ، وتطورت العلوم تطورا هائلا مما ازدهرت به الحياة العلمية في الاسلام.

إن الحياة الثقافية في الاسلام مدينة لهذا الامام العظيم فهو الباعث والقائد لها على امتداد التأريخ.

العلوم التي بحثها :

وخاض الامام عدة علوم في بحوثه التي القاها على العلماء في الجامع النبوي أو في بهو بيته ، وكان من بينها.

ص: 139


1- المناقب 3 / 331.
2- الامام زيد ( ص 22 ).
3- عيون الاخبار وفنون الآثار (213).

الحديث :

وأولى الامام أبو جعفر (عليه السلام) المزيد من اهتمامه في الحديث الوارد عن جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن آبائه الأئمة الطيبين (عليهم السلام) فهو المصدر الثاني للتشريع الاسلامي بعد القرآن الكريم وله الاهمية البالغة في الشريعة الاسلامية فهو يتولى تخصيص عمومات الكتاب ، وتقييد مطلقاته ، وبيان ناسخه من منسوخه ، ومجمله من مبينه ، كما يعرض لاحكام الفقه من العبادات والمعاملات ، واعطاء القواعد الكلية التي يتمسك بها الفقهاء في استنباطهم للحكم الشرعي ، وبالاضافة الى ذلك كله فان فيه بنودا مشرقة لآداب السلوك ، وقواعد الاجتماع ، وتنظيم الأسرة ، وصيانتها من التلوث بجرائم الآثام ، الى غير ذلك مما يحتاج إليه الناس في حياتهم الفردية والاجتماعية. فلذلك عنى به الامام أبو جعفر (عليه السلام) ، وتبناه بصورة إيجابية ، وقد روى عنه جابر بن يزيد الجعفي سبعين الف حديث ، وأبان بن تغلب مجموعة كبيرة ، كما روى عنه غيرهما من أعلام أصحابه طائفة كبيرة من الاخبار.

والشيء المهم ان الامام أبا جعفر (عليه السلام) قد اهتم بفهم الحديث ، والوقوف على معطياته ، وقد جعل المقياس في فضل الراوي هو فهمه للحديث ومعرفة مضامينه ، فقد روى يزيد الرزاز عن أبيه عن أبي عبد اللّه عن أبيه انه قال له :

« اعرف منازل الشيعة على قد رواياتهم ، ومعرفتهم ، فان المعرفة هي الدراية للرواية ، وبالدراية للرواية يعلو المؤمن الى أقصى درجات الايمان .. إني نظرت في كتاب لعلي فوجدت في الكتاب أن قيمة كل امرئ وقدره معرفته ان اللّه تعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من

ص: 140

العقول في دار الدنيا .. » (1)

إن وعي الراوي للحديث ووقوفه على معناه مما يستدل به على سمو منزلته ، وعظيم مكانته العلمية.

ولشدة اهتمام الامام وعنايته بالحديث فقد وضع بعض القواعد لتميز الصحيح من غيره عند تعارض الاخبار سنذكرها عند البحث عن علم الاصول الذي خاضه الامام.

روايات الأئمة :

أما روايات الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) التي أثرت عنهم في عالم التشريع والاحكام فهي لا تحكي آرائهم الخاصة وانما هي امتداد لقول الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ورأيه ولذا الحقت بالسنة - عند الشيعة - وقد ألمع الى ذلك الامام أبو جعفر (عليه السلام) في حديثين له مع جابر بن يزيد الجعفي.

1 - قال (عليه السلام) لجابر : « إنا لو كنا نحدثكم برأينا لكنا من الهالكين ، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم .. » (2)

2 - قال (عليه السلام) لجابر : « واللّه يا جابر لو كنا نحدث الناس أو حدثناهم برأينا لكنا من الهالكين ، ولكنا نحدثهم بآثار عندنا من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يتوارثها كابر عن كابر نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم .. » (3)

اذن فلم تستند احاديث أئمة اهل البيت (عليهم السلام) لهم ، وانما تستند الى

ص: 141


1- ناسخ التواريخ 2 / 219.
2- ناسخ التواريخ 2 / 217.
3- ناسخ التواريخ 2 / 217.

جدهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهم الذين حافظوا على تراثه العلمي فكنزوه كما يكنز الناس الذهب والفضة.

أحاديث الامام الباقر :

أما احاديث الامام أبي جعفر (عليه السلام) عن جديه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والامام أمير المؤمنين (عليه السلام) فهي على قسمين :

الأولى : - مرسلة وهي التي لم يذكر فيها رجال السند ، وينسب الامام الحديث رأسا الى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد سئل علیه السلام عن سنده في ذلك فقال : « إذا حدثت بالحديث فلم اسنده فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن جبرائيل عن اللّه عز وجل .. » (1)

الثانية : - المسندة ، وهي التي يذكر فيها سنده عن آبائه الطاهرين عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

وسواء أكانت روايته مرسلة أم مسندة فهي حجة بلا خلاف عند الشيعة إن صح طريق سندها إليه والا فتعامل معاملة بقية الاخبار التي فيها الضعيف والموثق والحسن.

رواياته عن النبي :

أما احاديثه عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فهي تتعلق تارة بالفقه الاسلامي ، وقد عرضت لها موسوعات الفقه والحديث ، واخرى بآداب السلوك والاخلاق ، كما عرضت بعضها لفضل العترة الطاهرة ولزوم مودتها ، وفيما يلي ذلك :

1 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « فضل

ص: 142


1- أعلام الورى ( ص 270 ).

العلم أحب الى اللّه من فضل العبادة ، وأفضل دينكم الورع .. » (1)

وفي هذا الحديث دعوة الى طلب العلم والحث عليه فهو أفضل من العبادة التي لا ينتفع بها الا صاحبها ، كما فيه الحث على الورع عن محارم اللّه والاجتناب عن المآثم التي تؤدي الى سقوط الشخص وانحرافه عن الطريق القويم.

2 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « ما جمع شيء الى شيء أفضل من حلم الى علم .. » (2)

ان الانصاف بالعلم والحلم مما يرفعان مستوى الشخص ، ويميزانه عن غيره فليس هناك شيء أفضل من هاتين الخصلتين.

3 - روى (عليه السلام) بسنده عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « فوق كل بر بر ، فاذا قتل في سبيل اللّه فليس فوقه بر ، وفوق كل عقوق عقوق حتى يقتل الرجل أحد والديه فاذا قتل احدهما فليس فوقه عقوق .. » (3) ان منتهى البر وغايته هي الشهادة في سبيل اللّه فاذا استشهد الشخص من اجل ذلك فقد انتهى الى غاية البر ، كما ان منتهى الاثم والعقوق هي قتل الرجل احد والديه فاذا فعل ذلك فقد سقط في حضيض من الأثم ليس له من قرار.

4 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من المروءة استصلاح المال. » (4)

ص: 143


1- الخصال : ( ص 4 ).
2- الخصال ( ص 5 ).
3- الخصال ( ص 10 ).
4- الخصال ( ص 11 ).

وحث الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أصحاب رءوس الاموال على استثمار أموالهم في الوجوه المشروعة لازدهار الاقتصاد العام وزيادة الدخل الفردي ، ونفي الحاجة من البلاد ، ونهاهم عن التبذير او حبس الاموال وعدم تشغيلها فان ذلك مما يعود بأضرار بالغة على اقتصاد البلاد.

5 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « إن اللّه تبارك وتعالى اهدى إلي والى أمتي هدية لم يهدها الى أحد من الأمم كرامة من اللّه لنا ، فقال أصحابه : وما ذاك يا رسول اللّه؟ قال : الافطار في السفر والتقصير في الصلاة .. » (1)

حقا ان تقصير الصلاة والافطار في السفر من ألطاف اللّه تعالى على هذه الأمة فان المسافر في عناء وجهد فاذا وجب عليه الصوم واتمام الصلاة فقد اضاف الى عنائه عناء والى مشقته مشقة أخرى.

6 - قال (عليه السلام) : أتى رجل الى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له : مالي لا أحب الموت؟ فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : الك مال؟ قال : نعم ، قال : فقدمته؟ قال : لا. قال : فمن ثم لا تحب الموت .. » (2)

ان هذا الانسان لو قدم لآخرته وسعى لها لأحب الدار الآخرة ليستوفي اجر ما عمله ، ولكنه لم يفعل شيئا مما يقربه الى اللّه زلفى فلذاكره الموت ، وكره ملاقاة اللّه تعالى.

7 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « إلا ان شرار أمتي الذين يكرمون مخافة شرهم ، إلا وان من اكرمه الناس اتقاء شره فليس مني .. » (3)

ص: 144


1- الخصال ( ص 14 ).
2- الخصال ( ص 14 ).
3- الخصال ( ص 15 ).

إن شرار هذه الأمة الذين يكرمون ويعظمون لا لفضيلة فيهم أو احسان اسدوه الى الناس ، وانما لاتقاء شرورهم ومخافة ظلمهم فان هؤلاء ليسوا من الاسلام الذي جاء بالرحمة والاحسان الى الناس.

8 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « رأس العقل بعد الايمان باللّه عز وجل التحبب الى الناس .. » (1)

ما أروع هذه الحكمة وما اجلها!! فان التحبب الى الناس اما بقضاء حوائجهم أو جلب الخير لهم ، ودفع الظلم عنهم أو مقابلتهم بالاخلاق الرفيعة مما يوجب شيوع المحبة بين الناس وربط الهيئة الاجتماعية بعضها ببعض ، وهذا ما يحرص عليه الاسلام ، ومما اقام مجتمعه عليه.

9 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « يا معاشر قراء القرآن اتقوا اللّه عز وجل فيما حملكم من كتابه ، فاني مسئول ، وإنكم مسئولون ، اني مسئول عن تبليغ الرسالة ، وأما أنتم فتسألون عما حملتم من كتاب اللّه وسنتي. » (2)

وفي هذا الحديث دعوة الى القراء والى سائر رجال الدين للقيام بدورهم في تحمل المسئولية بارشاد الناس وهدايتهم ، وتبليغهم بما أمر اللّه به وعما نهى عنه.

10 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « خلقت أنا وعلي من نور واحد .. » (3)

ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعليا (عليه السلام) خلقا من نور واحد اضاءا آفاق

ص: 145


1- الخصال ( ص 17 ).
2- اصول الكافي 2 / 616.
3- الخصال ( ص 31 ).

هذا الكون ، فهما مصدر الفكر والوعي لهذه الأمة ، وهما رائدا الانسانية لكل ما تسمو به.

11 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « اشتد غضب اللّه وغضبي على من اهراق دمي وآذاني في عترتي .. » (1)

الويل كل الويل للزمرة الخائنة التي لم تحفظ وصية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عترته وأهل بيته فأبادتهم وقطعت أوصالهم ، وسبت ذراريهم وانتهكت حرمتهم.

12 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « يحشر أبي ابراهيم وعلي وينادي مناد يا محمد نعم الأب أبوك ، ونعم الأخ أخوك .. » (2)

إلا بوركت تلك الابوة الزاكية لإبراهيم خليل الرحمن ، وتلك الاخوة الصادقة للإمام أمير المؤمنين الى الرسول الاعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وينادي بهما يوم حشر الناس على صعيد الحق والعدل لاظهار فضلهما وسمو مكانتهما عند اللّه.

13 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي : « لولاك ما عرف المؤمنون بعدي .. » (3)

لقد كان الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو المقياس للأيمان ، والمقياس للحق والعدل فما آمن به إلا كل من آمن بربه ووطنه وأمته ، وما جحده إلا كل من تنكر للعدل ، وتنكر لصالح أمته ، واعرض عن ذكر اللّه واتخذ آياته هزوا.

ص: 146


1- مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ( ص 40 ).
2- كفاية الطالب ( ص 185 ) مناقب علي بن أبي طالب ( ص 42 ).
3- مناقب علي بن أبي طالب ( ص 44 ).

14 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « تحشر ابنتي فاطمة ، ومعها ثياب مصبوغة فتعلق بقائمة العرش ، وتقول : يا جبار احكم بيني ، وبين قاتل ولدي - يعني الحسين - فيحكم لابنتي ورب الكعبة .. » (1)

لقد أذاع النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين المسلمين في كثير من مواقفه عن مقتل سبطه العظيم الامام الحسين (عليه السلام) واعلن - في هذا الحديث - ان بضعته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليهاالسلام) سترفع يوم القيامة قميص ولدها الملطخ بدمائه الزكية وتطالب الحاكم العدل أن يحكم بينها وبين قاتله ، فالويل كل الويل لمن كانت العترة الطاهرة خصما له في ذلك اليوم الذي يخسر فيه المبطلون.

15 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ان اللّه جعل ذرية محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من صلب علي .. » (2)

إلا بوركت تلك الذرية الطاهرة التي اعز اللّه بها كلمة الحق ، واضاء بها الطريق ، وأوضح بها القصد ، وجعلها الأدلاء على طاعته والقادة الى سبيله.

16 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من اسبغ وضوءه ، واحسن صلاته ، وادى زكاة ماله ، وكف غضبه ، وسجن لسانه ، وبذل معروفه واستغفر لذنبه ، وأدى النصيحة لأهل بيتي فقد استكمل حقائق الايمان وأبواب الجنة له مفتحة .. » (3)

ان هذه الاعمال مما تقرب العبد الى خالقه ، ويصل بها الانسان الى حقيقة الايمان ، ويستوجب بها الجنان.

ص: 147


1- مناقب علي بن أبي طالب ( ص 64 ) مقتل الخوارزمي ( ص 52 ).
2- ينابيع المودة ( ص 266 ) مجمع الزوائد 9 / 272.
3- مناقب علي بن أبي طالب ( ص 40 ).

17 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « غريبتان فاحتملوهما كلمة حكمة من سفيه فاقبلوها ، وكلمة سفه من حكيم فأغفروها .. » (1)

ان صدور الحكمة من السفيه لغريب ، ولو صدرت منه للزم الأخذ بها ولا يعنى بقائلها ، كما أن صدور السفه من الحكيم لغريب باعتبار كماله وحكمته فاذا نطق بذلك فينبغي أن لا يؤاخذ عليه.

18 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « نعمتان مكفورتان الأمن والعافية .. » (2)

لقد كفر الناس بهاتين النعمتين اللتين لا تطيب الحياة من دونهما ، وإنهم لم يؤدوا لله شكرا عليهما.

19 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « صنفان من امتي اذا صلحا صلحت أمتي ، وإذا فسدا فسدت أمتي ، قيل يا رسول اللّه ومن هما؟ قال : الفقهاء والامراء .. » (3)

ان الاصلاح الاجتماعي يتوقف على صلاح هذين الصنفين فاذا صلحا فقد سعدت الأمة ، وحققت ما تصبو إليه ، واذا شذا عن سنن الحق وانحرفا عن العدل أصيبت الامة بتدهور سريع في جميع مجالاتها.

20 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « إن الجنة ليوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام ، ولا يجدها عاق ، ولا ديوث ، قيل يا رسول اللّه وما الديوث؟ قال : الذي تزني امرأته وهو يعلم .. » (4)

ص: 148


1- الخصال ( ص 34 ).
2- الخصال ( ص 35 ).
3- الخصال ( ص 36 ).
4- الخصال ( ص 37 ).

ان العاق لأبويه ، والديوث الذي لا شرف له لا يستحقان أن ينعما بالفردوس الأعلى الذي هو مقر الأنبياء والصالحين ، بل لا يليق بهما إلا أن يكونا مقرنين بالاصفاد في النار.

21 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « لا خير في العيش إلا لرجلين : عالم مطاع أو مستمع واع ... » (1)

ان الخير في هذه الحياة انما هو للعالم الذي يطاع فيما يأمر به من القيم الكريمة والمثل الرفيعة ، فاذا تم له ذلك فقد نجح في اداء رسالته وحقق ما يصبو إليه ، وكذلك الخير في الحياة إنما هو للمستمع الواعي الذي يعي الاهداف النبيلة في رسالة المصلحين ويعمل بها.

22 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من واسى الفقير ، وأنصف الناس من نفسه فذلك المؤمن حقا .. » (2)

إن مواساة الفقراء ماديا ومعنويا دليل على قوة الايمان وتكامله ، كما ان انصاف الناس آية على سمو الشخص وتجرده من الانانية وسائر الامراض النفسية ، وهذا هو واقع الايمان وجوهر الاسلام.

23 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « يلزم الوالدين من العقوق لولدهما اذا كان الولد صالحا ما يلزم الولد لهما .. » (3)

ان العقوق لا يقتصر على الولد تجاه أبويه ، وإنما يشملهما فيما اذا اساءا إليه على غير وجه مشروع فانهما يتحملان اثم ما اقترفاه تجاهه.

24 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ما انفق مؤمن نفقة

ص: 149


1- الخصال ( ص 41 ).
2- الخصال ( ص 47 ).
3- الخصال ( ص 58 ).

هي أحب الى اللّه عز وجل من قول الحق في الرضا والغضب .. » (1)

ما أروع هذه الحكمة انها دستور الاسلام الذي يؤثر الحق والعدل بين الناس على كل شيء.

25 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « صنفان من أمتي لا نصيب لهما في الاسلام الغلاة والقدرية .. » (2)

أما الغلاة فهم الذين يزعمون أن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) هو اللّه تعالى أو انه ابن اللّه فهؤلاء ليسوا من فرق الاسلام - عند الشيعة - وإنما هم من الكفار ويعاملون معاملتهم ، قال السيد الحميري في هجائهم :

قوم غلوا في علي لا أبا لهم *** وأجشموا أنفسا في حبه تعبا

قالوا : هو ابن الاله جل خالقنا *** من أن يكون له ابن أو يكون أبا (3)

أما القدرية : فهم القائلون : بأن الخير والشر كله من اللّه وبتقديره ومشيئته (4) وهؤلاء ليس لهم نصيب من الاسلام.

26 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ثلاث خصال من كن فيه أو واحدة منهن كان في ظل عرش اللّه عز وجل ( يوم القيامة ) يوم لا ظل إلا ظله : رجل اعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم لها ، ورجل لم يقدم رجلا ، ولم يؤخر أخرى حتى يعلم ان ذلك لله فيه رضى

ص: 150


1- الخصال ( ص 60 ).
2- الخصال ( ص 71 ).
3- العقد الفريد 5 / 227.
4- سفينة البحار 2 / 409 ، وذكر الشيخ ابو زهرة في المذاهب الاسلامية ( ص 185 ) ان القدرية هم الذين غالوا في قدرة الانسان ، وقالوا : ان كل فعل للانسان يستند الى ارادته المستقلة عن إرادة اللّه.

أو سخط ، ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب من نفسه ، فانه لا ينفي منها عيبا إلا بدأ له عيب وكفى بالمرء شغلا بنفسه عن الناس .. » (1)

وفي هذا الحديث دعوة الى مكارم الاخلاق ، وحسن السلوك مع الناس ، والتحذير من ذكر مساوئ الناس.

27 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ثلاث يحسن فيهن الكذب : المكيدة في الحرب ، وعدتك زوجتك ، والاصلاح بين الناس ، وثلاث يقبح فيهن الصدق النميمة ، واخبارك الرجل عن أهله بما يكرهه ، وتكذيبك الرجل عن الخير ، وثلاثة مجالستهم تميت القلب مجالسة الانذال ، والحديث مع النساء ، ومجالسة الاغنياء .. » (2)

وسوغ النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الكذب في تلك المواضع نظرا للمصالح التي تترتب عليها ، وقد قال العلماء : ان الكذب ليس علة تامة للقبح ، وانما هو مقتض له فاذا وجد ما يرفع قبحه من المصالح جاز للمكلف فعله ، وكذلك يقبح الصدق في تلك المواضع نظرا للمفاسد التي تترتب عليه.

28 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه : « كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاث أعين : عين بكت من خشية اللّه ، وعين غضت عن محارم اللّه ، وعين باتت ساهرة في سبيل اللّه .. » (3)

29 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « إن أسرع الخير ثوابا

ص: 151


1- الخصال ( ص 78 ).
2- الخصال ( ص 84 ).
3- الخصال ( ص 94 ).

البر وان أسرع الشر عقابا البغي ، وكفى بالمرء عيبا أن ينظر من الناس الى ما يعمى عنه من نفسه ، ويعير الناس بما لا يستطيع تركه ، ويؤذي جليسه بما لا يعنيه .. » (1)

وفي هذا الحديث الحث على فعل الخير ، والتحذير من الشر والبغي على الناس ، والتنديد بمن ينظر الى عيوب الناس ، ولا ينظر الى ما فيه من نقص.

30 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « لا سهر إلا في ثلاث : متهجد بالقرآن أو في طلب العلم ، أو عروس تهدى الى زوجها .. » (2)

31 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ، ولا من اللّه عز وجل ، قيل : يا رسول اللّه وما هن قال : حلم يرد به جهل الجاهل وحسن خلق يعيش به في الناس ، وورع يحجزه عن معاصى اللّه عز وجل .. » (3). ويدعو هذا الحديث الى تكوين شخصية المسلم ، على أسس رفيعة من الحلم وحسن الاخلاق ، والورع عن محارم اللّه.

32 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « ثلاثة يشفعون الى اللّه عز وجل فيشفعون : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء .. » (4)

33 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « الايمان معرفة بالقلب ، واقرار باللسان ، وعمل بالاركان » (5).

ص: 152


1- الخصال ( ص 106 ).
2- الخصال ( ص 108 ).
3- الخصال ( ص 138 ).
4- الخصال ( ص 147 ).
5- الخصال ( ص 164 ).

ليس الايمان لفظا تلوكه الألسن ، وانما هو امر مستقر في اعماق القلب ، ودخائل النفس ، ويدفع الانسان الى العمل عن يقين واخلاص

34 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لابي ذر « يا ابا ذر إياك والسؤال فانه ذل حاضر وفقر تتعجله ، وفيه حساب طويل يوم القيامة يا أبا ذر تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتدخل الجنة وحدك يسعد بك قوم من أهل العراق يتولون غسلك وتجهيزك ودفنك ، يا أبا ذر لا تسأل بكفك ، وان أتاك شيء فاقبله ... ثم قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لاصحابه « الا اخبركم بشراركم؟ » « بلى يا رسول اللّه .. »

« المشاءون بالنميمة ، المفرقون بين الاحبة الباغون للبرآء العيب » (1) لقد اوصى النبيّ (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أبا ذر بالعفة والإباء ، واستشف (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من وراء الغيب عما يعانيه هذا المصلح العظيم من التنكيل والارهاق في سبيل اداء رسالته الاصلاحية الخالدة ، فقد اعلن ابو ذر سخطه على الامويين الذين تنكروا لحقوق الامة واستبدوا بثرواتها فاتخذوا مال اللّه دولا ، وعباد اللّه خولا فكان ابو ذر اللسان الناطق بحقوق المظلومين والمضطهدين والمترجم لآلامهم ، وقد ضاق الامويون منه ذرعا فنفوه الى الربذة وفرضت عليه الاقامة الجبرية في تلك البقعة الجرداء التي انعدمت فيها جميع وسائل الحياة ، وتوفى هذا الثائر العظيم جائعا منفيا عن وطن اللّه ووطن رسوله ، لقد توفى أبو ذر جائعا وفي أيدي الامويين ذهب الارض وثروات الأمة ، ينفقونها على شهواتهم وملاذهم.

لقد مات أبو ذر من اجل أن يحقق العدالة الاجتماعية ، ويحقق

ص: 153


1- الخصال ( ص 167 ).

الفرص المتكافئة بين الناس ، وينفي عنهم شبح الفقر وكابوس الظلم ، ويعيد فيهم حكم القرآن وعدالة الاسلام.

35 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي : « يا علي أربعة لا ترد لهم دعوة : إمام عادل ، ووالد لولده ، والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب ، والمظلوم يقول له اللّه عز وجل وعزتي وجلالي لانتصرن لك ولو بعد حين ... » (1)

36 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعلي : « يا علي ان اللّه عز وجل أشرف على الدنيا فاختارني فيها على رجال العالمين ، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين بعدي ، ثم اطلع الثالثة فاختار الأئمة من ولدك على رجال العالمين ، ثم اطلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين .. » (2)

لقد اختار اللّه تعالى نبيه العظيم وأوصيائه الأئمة الطاهرين من بين خلقه فجعلهم خزنة لعلمه ، ومستودعا لحكمته ، وأركانا لتوحيده ، ومنارا في بلاده وأدلاء ، على مرضاته وطاعته ، فصلوات اللّه عليهم.

37 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « اربع من كن فيه كان في نور اللّه الاعظم من كان عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا اللّه واني رسول اللّه ومن اذا اصابته مصيبة قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ومن اذا اصاب خيرا قال : الحمد لله رب العالمين ، ومن اذا أصاب خطيئة قال : استغفر اللّه وأتوب إليه .. » (3)

ص: 154


1- الخصال ( ص 180 ).
2- الخصال ( ص 188 ).
3- الخصال ( ص 203 ).

38 - روى (عليه السلام) بسنده عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « أربع من كن فيه نشر اللّه عليه كنفه ، وادخله الجنة في رحمته : حسن خلق يعيش به في الناس ، ورفق بالمكروب ، وشفقة على الوالدين ، واحسان الى المملوك .. » (1)

وفي هذا الحديث دعوة الى مكارم الاخلاق ، وحسن السلوك بين الناس والرفق والرحمة بالمعذبين والمنكوبين.

39 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « اربع يمتن القلب : الذنب على الذنب ، وكثرة مناقشة النساء - يعني محادثتهن - ومماراة الاحمق ، تقول : ويقول : ولا يرجع الى خير أبدا ، ومجالسة الموتى ، فقيل له : يا رسول اللّه وما الموتى؟ قال : كل مترف .. » (2)

وحذر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن هذه الامور لأنها تميت الضمير ، ويقسو بها القلب وقد حرص الاسلام كل الحرص على ضمير الانسان فأراده أن يكون واعيا متفتحا متنورا رحيما.

40 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : في وصيته الى الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) : « يا علي بادر باربع : بشبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وحياتك قبل موتك .. » (3)

ودعا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الى المبادرة لفعل الخير ، واغتنام الفرص للعمل الى ما يقرب العبد الى خالقه ، قبل أن يفوت الأوان ، فيخسر الانسان ما

ص: 155


1- الخصال ( ص 205 ).
2- الخصال ( ص 208 ).
3- الخصال ( ص 217 ).

اعده اللّه له من النعم في دار الآخرة.

41 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) انه قال : « من علامات الشقاء جمود العين ، وقسوة القلب ، وشدة الحرص في طلب الرزق ، والاصرار على الذنب .. » (1)

وحذر النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هذه الأمور التي تبعد الانسان عن ربه ، وتلقيه في شر عظيم.

42 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال على منبره : « ألا ان خير الاسماء عبد اللّه ، وعبد الرحمن ، وحارثة ، وهمام وشر الاسماء ضرار ، ومرة وحرب وظالم .. » (2)

واحب النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للمسلمين أن يسموا ابناءهم بتلك الاسماء الكريمة وكره لهم ان يسموهم بتلك الاسماء الكريهة التي تحمل طابع الشر والسوء.

43 - روى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن اربع عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من اين اكتسبه وفيما انفقه ، وعن حبنا أهل البيت .. » (3)

ان اللّه تعالى ليسأل هذا الانسان في يوم حشره عن كل شأن من شئون حياته في الدنيا فيسأله عن عمره هل انفقه في طاعته ورضاه ليجزل له الثواب أو انه صرفه في اقتراف الأثم وظلم العباد ليعاقبه عليه ، وكذلك يسأله بصورة خاصة عن شبابه فيما ابلاه كما يحاسبه على امواله هل

ص: 156


1- الخصال ( ص 221 ).
2- الخصال ( ص 228 ).
3- الخصال ( ص 231 ).

اكتسبها بصورة مشروعة حتى لا يؤاخذ عليها أو أنه اكتسبها من الحرام ليعاقب عليها ، وكذلك يسأله عن الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) الذين هم مصدر النور والخير في الارض فان كان متمسكا بولائهم فقد فاز ونجا وإن كان منحرفا عنهم فقد ظل وغوى.

44 - روى (عليه السلام) عن آبائه أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خطب الناس في آخر جمعة من شهر شعبان فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال :

« أيها الناس انه قد اظلكم شهر فيه ليلة خير من الف شهر ، وهو شهر رمضان ، فرض اللّه صيامه ، وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة كمن تطوع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور ، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر كأجر من أدى فريضة من فرائض اللّه ومن أدى فيه فريضة من فرائض اللّه كان كمن ادى فيه سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصبر ، وإن الصبر ثوابه الجنة ، وهو شهر المواساة ، وهو شهر يزيد اللّه فيه في رزق المؤمن ، ومن فطر فيه مؤمنا صائما كان له بذلك عند اللّه عز وجل عتق رقبة ومغفرة لذنوبه فيما مضى.

فقيل له : يا رسول اللّه ليس كلنا يقدر أن يفطر صائما؟ فقال : ان اللّه تبارك وتعالى كريم يعطي هذا الثواب منكم لمن لا يقدر إلا على مذقة من لبن يفطر بها صائما ، أو شربة من ماء عذب أو تميرات لا يقدر على اكثر من ذلك ، ومن خفف فيه عن مملوكه خفف عنه حسابه وهو شهر أوله رحمة ووسطه مغفرة ، وآخره اجابة والعتق من النار ، ولا غنى لكم فيه عن اربع خصال : خصلتين ترضون اللّه بهما ، وخصلتين لا غنى بكم عنهما ، اما اللتان ترضون اللّه بهما فشهادة أن لا إله إلا اللّه واني رسول اللّه ، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون اللّه فيه حوائجكم والجنة ،

ص: 157

وتسألون اللّه فيه العافية ، وتتعوذن به من النار .. » (1)

ان لشهر رمضان قداسة وحرمة عند اللّه ففضله على سائر الشهور ودعا فيه الرسول الى الطاعة والبر والاحسان على الفقراء ، وخصه بكثير من المميزات على بقية الشهور.

45 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال في وصيته للإمام أمير المؤمنين : « يا علي أربعة يذهبن ضياعا الأكل بعد الشبع ، والسراج في القمر ، والزرع في السبخة ، والصنعة عند غير أهلها .. » (2)

46 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « خمس لا ادعهن حتى الممات الأكل على الحضيض (3) مع العبيد ، وركوبي الحمار مؤكفا (4) وحلب العنز بيدي ، ولبس الصوف ، والتسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي .. » (5)

وهذه الأمور من معالي اخلاقه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) التي ساد بها على سائر النبيين وجلب بها الناس الى حظيرة الايمان والاسلام.

47 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « من باع واشترى فليجتنب خمس خصال وإلا فلا يبيعن ولا يشتري : الربا ، والحلف ، وكتمان العيب ، والمدح اذا باع ، والذم اذا اشترى .. » (6)

ص: 158


1- الخصال ( ص 236 ).
2- الخصال ( ص 240 ).
3- الحضيض : القرار من الارض عند اسفل الجبل.
4- المؤكف : وضع البرذعة أو غيرها على الحمار.
5- الخصال (247).
6- الخصال ( ص 260 ).

وعلى ضوء هذا النص افتى الفقهاء في كتاب البيع بما يلي :

1 - ان يتفقه البائع والمشتري في شئون المعاملات ليتجتنبا المعاملات الربوية التي هي من اعظم المحرمات في الاسلام.

2 - ان يتجنبا اليمين في المعاملة فانهما اذا كانا صادقين فيكره لهما ذلك ، واما اذا كانا كاذبين فانهما يقترفان الأثم والحرام.

3 - أن لا يكتما العيب سواء أكان ذلك في الثمن أم في المثمن ، واذا حصل الكتمان وظهر أمره فللمغرور خيار الفسخ ونقض المعاملة.

4 - ان يجتنب البائع مدح سلعته.

5 - ان لا يذم المشتري ما اشتراه إذا كان سليما.

48 - روى (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن آبائه ان رجلا جاء الى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال له :

- يا رسول اللّه ما العلم؟

- الانصات.

- ثم مه؟

- الاستماع له.

- ثم مه؟

- الحفظ له.

- ثم مه؟

- العمل به.

- ثم مه؟

- نشره (1)

ص: 159


1- الخصال (262).

49 - روى (عليه السلام) عن آبائه أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لأصحابه : « استحيوا من اللّه حق الحياء ، قالوا : وما نفعل يا رسول اللّه؟ قال :فان كنتم فاعلين فلا يبيتن أحدكم إلا واجلا بين عينيه ، وليحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وليذكر القبر والبلى ، ومن أراد الآخرة فليدع زينة الحياة الدنيا .. » (1)

ان الحياء إنما يتحقق من الانسان فيما إذا خاف ربه وحفظ لسانه من قول الباطل ، وبصره من النظر الى ما لا يحل له ، وذكر القبر ، وما يجري عليه من الأهوال فيه فان صنع ذلك فهو المستحي من اللّه.

50 - قال (عليه السلام) : سئل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن خيار العباد؟ فقال : « الذين اذا احسنوا استبشروا ، واذا اساؤوا استغفروا ، واذا اعطوا شكروا ، وإذا ابتلوا صبروا ، وإذا غضبوا غفروا .. » (2)

51 - روى (عليه السلام) عن آبائه أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال في وصيته لعلي : « يا علي في الزنا ست خصال : ثلاث منها في الدنيا ، وثلاث في الآخرة فأما التي في الدنيا فيذهب بالبهاء ، ويعجل الفناء ، ويقطع الرزق ، واما التي في الآخرة فسوء الحساب ، وسخط الرحمن ، والخلود في النار .. » (3)

ان الزنا آفة اجتماعية ، وكارثة مدمرة للأخلاق ، وقد شدد الاسلام فيه وتوعد من يقترفه بأنواع العذاب في الدار الآخرة.

52 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) انه قال : « الحكرة

ص: 160


1- الخصال (267).
2- الخصال (288).
3- الخصال ( ص 292 ).

في ستة اشياء : في الحنطة والشعير والتمر والزبيب ، والسمن ، والزيت .. » (1)

الاحتكار هو أحد العوامل المؤدية الى شل الحركة الاقتصادية في البلاد والى شيوع الفقر والحاجة بين الناس ، وقد حاربه الاسلام وشدد في أمره كأعظم ما يكون التشدد ، والزم ولاة أمر المسلمين بتسعير السلع ، وعدم الاجحاف في حق المواطنين فيها.

53 - روى (عليه السلام) عن آبائه عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « السحت ثمن الميتة ، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغي ، والرشوة في الحكم ، وأجرة الكاهن .. » (2)

وحرم الاسلام بذل المال بازاء هذه الأمور ، وجعل التعامل بها من اكل المال بالباطل لأنها تؤدي الى تسيب الاخلاق ، وشيوع الفساد في الأرض.

54 - روى (عليه السلام) عن آبائه ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : « ستة لعنهم اللّه وكل نبي مجاب : الزائد في كتاب اللّه ، والمكذب بقدر اللّه ، والتارك لسنتي ، والمستحل لعترتي ما حرم اللّه ، والمتسلط بالجبروت ليذل من اعزه اللّه ، ويعز من اذله اللّه ، والمستأثر بفيء المسلمين المستحل له .. » (3)

55 - روى (عليه السلام) عن آبائه ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لعلي : « يا علي حرم من الشاة سبعة أشياء : الدم والمذاكير ، والمثانة ، والنخاع

ص: 161


1- الخصال ( ص 300 ).
2- الخصال ( ص 300 ).
3- الخصال ( ص 308 ).

والغدد والطحال والمرارة .. » (1)

وفي تحريم الاسلام لهذه الأمور وقاية للصحة العامة ، وضمان للمجتمع من أن يصاب بالأمراض ، وقد ثبت في الطب الحديث أنها مما تضر بالصحة العامة وإن اجتنابها أمر لازم.

56 - روى (عليه السلام) عن آبائه ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال في وصيته لعلي : « يا علي ان اللّه تبارك وتعالى اعطاني فيك سبع خصال : أنت أول من ينشق عنه القبر معي ، وأنت أول من يقف على الصراط معي ، وأنت أول من يكسى إذا كسيت ، ويحيى إذا حييت ، وأنت أول من يسكن معي في عليين ، وأنت أول من يشرب معي من الرحيق المختوم الذي ختامه مسك .. » (2)

57 - روى (عليه السلام) عن آبائه ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : « لم يعبد اللّه عز وجل بشيء افضل من العقل ، ولا يكون المؤمن عاقلا حتى تجتمع فيه عشر خصال : الخير منه مأمول ، والشر منه مأمون ، يستكثر قليل الخير من غيره ، ويستقل كثير الخير من نفسه ، ولا يسأم من طلب العلم طول عمره ، ولا يتبرم بطلاب الحوائج قبله ، الذل احب إليه من العز ، والفقر احب إليه من الغنى ، نصيبه من الدنيا القوت ، والعاشرة وما العاشرة؟ لا يرى أحدا الا قال : هو خير مني وأتقى انما الناس رجلان ، فرجل هو خير منه واتقى ، وآخر هو شر منه وأدنى ، فاذا رأى من هو خير منه واتقى تواضع له ليلحق به ، وإذا رأى الذي هو شر منه وادنى قال : عسى خير هذا باطن وشره ظاهر عسى أن يختم له بخير فاذا فعل ذلك فقد علا مجده وساد أهل زمانه .. » (3)

ص: 162


1- الخصال ( ص 310 ).
2- الخصال ( ص 311 ).
3- الخصال ( ص 403 ).

وفي هذا الحديث وامثاله من الاحاديث النبوية دعوة الى اصلاح النفس ، وتهذيبها بمكارم الاخلاق ، ومحاسن الاعمال لتكون مصدر هداية للناس.

58 - روى (عليه السلام) عن آبائه أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لعن في الخمر عشرة : غارسها ، وحارسها ، وعاصرها ، وشاربها وساقيها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها. » (1)

وشدد الاسلام في أمر الخمر كأعظم ما يكون التشدد فحرم ايجاده وصنعه ، كما حرم تعاطيه ، فان الخمر من أعظم الآفات الاجتماعية التي تضر بالصحة العامة ، وتسبب انتكاسة القيم وتدهور الاخلاق.

59 - روى (عليه السلام) عن آبائه ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : « البركة عشرة اجزاء تسعة اعشارها في التجارة ، والعشر الباقي في الجلود - يعني الغنم. » (2)

60 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « بني الاسلام على عشرة أسهم : على شهادة أن لا إله إلا اللّه ، وهي الملة ، والصلاة وهي الفريضة ، والصوم ، وهو الجنة ، والزكاة وهي الطهر ، والحج وهو الشريعة ، والجهاد وهو الغزو ، والأمر بالمعروف وهو الوفاء ، والنهي عن المنكر وهو الحجة ، والجماعة وهي الالفة ، والعصمة وهي الطاعة .. » (3)

61 - روى (عليه السلام) عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال : « إذا سألتم اللّه فسألوه بباطن الكفين ، وإذا استعذتموه فلا تستعيذوه بظاهرهما .. » (4)

ص: 163


1- الخصال ص 414 ).
2- الخصال ( ص 415 ).
3- الخصال ( ص 416 ).
4- البيان والتبيين 2 / 263.

62 - روى (عليه السلام) عن آبائه ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : « اذا فعلت امتي خمس عشرة خصلة : حل بها البلاء ، اذا اكلوا الأموال دولا ، واتخذوا الامانة مغنما ، والزكاة مغرما ، واطاع الرجل زوجته ، وعق أمه ، وبر صديقه وجفا أخاه ، وارتفعت الاصوات في المساجد ، وأكرم الرجل مخافة شره وكان زعيم القوم ارذلهم ، واذا لبس الحرير ، وشربت الخمور ، واتخذت القيان والمعازف ، ولعن آخر هذه الأمة اولها فليترقبوا بعد ذلك ثلاث خصال : ريحا حمراء ، ومسخا ، وخسفا .. » (1)

وهذه الأمور التي حذر عنها النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) هي من مدمرات الأمم ومن محطمات الشعوب ، واذا اقترفتها الأمة الاسلامية فسوف يحل بها عذاب اللّه ، وتجتاحها نقماته.

63 - روى (عليه السلام) عن آبائه ان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : « من بات كالا من طلب الحلال بات مغفورا له .. » (2)

وحث الاسلام على الكسب الحلال ، واعتبره جهادا وشرفا لصاحبه ، وإن من سعى لعياله ، وهو مكدود متعوب بات مغفورا له.

64 - قال (عليه السلام) : سئل رسول اللّه عن خيار العباد؟ فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « الذين اذا أحسنوا استبشروا ، وإذا اعطوا شكروا ، وإذا ابتلوا صبروا ، واذا غضبوا غفروا .. » (3)

ان من يتصف بهذه الاخلاق الرفيعة فانه يكون من خيار الناس واشرافهم ، وانه قد ملك زمام نفسه ، وسيطر عقله على هواه.

ص: 164


1- البيان والتبيين 2 / 262.
2- أمالي الصدوق ( ص 257 ).
3- أمالي الصدوق ( ص 9 ).

65 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم .. » (1)

ما اسمى هذه الحكمة التي تجمع الناس على صعيد المحبة والألفة ، وتوحد ما بين مشاعرهم وعواطفهم ، ان سلطان المال لا يمكن أن يحقق ذلك ، ولكن الاخلاق هي اقوى مؤثر في بناء المجتمع واقامته على اسس سليمة.

66 - قال (عليه السلام) : مر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بقوم يربعون حجرا فقال :

ما هذا؟ قالوا : نعرف بذلك أشدنا وأقوانا ، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إلا أخبركم بأشدكم وأقواكم ، قالوا : بلى ، قال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أشدكم وأقواكم الذي اذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل ، واذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق ، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس بحق .. » (2)

ان الاسلام لا يعني إلا بقوة الضمير وصلابته ازاء الحق ، واما الاعتزاز بقوة العضلات فهي من الاعراف الجاهلية التي حاربها الاسلام.

67 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « مجالسة اهل الدين شرف الدنيا والآخرة .. » (3)

لقد ثبت في علم الاجتماع ان الحياة الاجتماعية حياة تأثير وتأثر فكل انسان يتأثر ويؤثر فيمن حوله ، ومن الطبيعي ان مزاملة الاخيار والمتحرجين في دينهم تؤثر فيمن يتصل بهم تأثيرا مباشرا فتصونهم من رذائل الصفات ، وتحبب لهم الخير ، وينالون بذلك شرف الدنيا وشرف الآخرة.

ص: 165


1- أمالي الصدوق ( ص 11 ).
2- أمالي الصدوق ( ص 18 ).
3- أمالي الصدوق ( ص 54 ).

68 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « إن هذا الدين متين فاوغلوا فيه برفق ، ولا تكرهوا عبادة اللّه الى عباد اللّه .. » (1)

69 - روى (عليه السلام) عن آبائه ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : « من أراد التوسل الي ، وان يكون له يد اشفع له بها يوم القيامة فليصل أهل بيتي ويدخل السرور عليهم .. » (2)

70 - روى (عليه السلام) عن آبائه أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال لعلي : « يا علي أنا مدينة العلم وأنت الباب وكذب من زعم أنه يصل الى المدينة إلا من الباب .. » (3)

71 - روى (عليه السلام) بسنده عن أم سلمة ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : « الحج جهاد كل ضعيف » (4)

72 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من نقله اللّه من ذل المعاصي الى عز التقوى اغناه بلا مال ، واعزه بلا عشيرة ، وآنسه بلا أنيس ، ومن خاف اللّه اخاف اللّه منه كل شيء ، ومن لم يخف اللّه اخافه اللّه من كل شيء ، ومن رضي من مال اللّه باليسير من الرزق فقد رضي منه باليسير من العمل .. » (5)

ص: 166


1- أصول الكافي
2- وسيلة المآل في عد مناقب الآل ( ص 61 ) من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين.
3- المناقب لابن المغازلي ( ص 85 ).
4- سير اعلام النبلاء 4 / 242 من مصورات مكتبة الحكيم العامة.
5- الصراط السوي ( ص 194 ) من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين.

73 - روى (عليه السلام) بسند عن آبائه ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : « اني واثنى عشر من أهل بيتي أولهم علي أوتاد الأرض التي امسكها اللّه بها أن تسيخ بأهلها ، فاذا ذهبت الاثنا عشر من أهل بيتي ساخت الأرض بأهلها .. » (1)

74 - قال (عليه السلام) : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من أهل بيتي اثنا عشر نقيبا محدثون ، منهم القائم بالحق يملأها عدلا كما ملئت جورا. » (2)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض رواياته عن جده النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمتتبع يجد اضعاف هذه الاحاديث التي يرويها الامام عن جده.

رواياته عن الامام أمير المؤمنين :

روى (عليه السلام) عن آبائه طائفة من حكم جده الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهذه بعضها :

1 - قال (عليه السلام) : قام رجل من أهل البصرة الى الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له :

« يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الاخوان!. »

فأجابه الامام (عليه السلام) :

« الاخوان صنفان : أخوان الثقة ، وأخوان المكاشرة ، فأما اخوان الثقة فهم الكف والجناح ، والأهل والمال ، فان كنت على حد الثقة فأبذل له مالك ، وبدنك ، وصاف من صافاه ، وعاد من عاداه ، واكتم سره ، وعيبه ، واظهر منه الحسن ، واعلم أيها السائل أنهم أقل من الكبريت

ص: 167


1- الاستنصار في النص على الأئمة الاطهار ( ص 8 ) للكراجكي
2- الاستنصار في النص على الأئمة الاطهار ( ص 8 ).

الأحمر ، واما اخوان المكاشرة فانك تصيب منهم لذتك ، فلا تقطعن ذلك منهم ، ولا تطلبن ما وراء ذلك من صغيرهم ، وابذل لهم ما بذلوا لك ، من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان .. » (1)

أما اخوان المكاشرة في هذا العصر فهم الاكثرية الساحقة تسيرهم الاطماع والرغبات ، وتدفعهم المصالح ، والاهواء ، اما مظاهر صداقتهم فهي طلاقة الوجه وعذوبة اللسان - كما قال الامام -.

2 - قال (عليه السلام) : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « الفتن ثلاث : حب النساء ، وهو سيف الشيطان ، وشرب الخمر ، وهو مخ الشيطان ، وحب الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان ، فمن احب النساء لم ينتفع بعيشه ، ومن احب الأشربة حرمت عليه الجنة ، ومن احب الدينار والدرهم فهو عبد الدنيا ، واضاف (عليه السلام) يقول : قال عيسى بن مريم بالدينار داء الدين ، والعالم طبيب الدين فاذا رأيتم الطبيب يجر الداء على نفسه فاتهموه ، واعلموا أنه غير ناصح لغيره .. » (2)

3 - قال (عليه السلام) في كتاب علي ثلاث خصال : لا يموت صاحبهن أبدا حتى يرى وبالهن ، البغي ، وقطيعة الرحم ، واليمين الكاذبة يبارز اللّه بها ، وان أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم وان القوم ليكونوا فجارا فيتواصلون فتنمي أموالهم ، ويبرون فتزداد اعمارهم ، وان اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها ، ويثقلان الرحم ، وان تثقل الرحم انقطاع النسل .. » (3)

ص: 168


1- الخصال ( ص 49 ).
2- الخصال ( ص 109 ).
3- الخصال ( ص 119 ).

وحفلت هذه القطعة من كتاب الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالوصية بالبر والتقوى ، وبما يعود على الانسان من خير عميم في هذه الحياة.

4 - قال (عليه السلام) : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « قوام الدين باربعة : بعالم ناطق مستعمل له ، وبغني لا يبخل بفضله على اهل دين اللّه ، وبفقير لا يبيع آخرته بدنياه ، وبجاهل لا يتكبر عن طلب العلم ، فاذا كتم العالم علمه وبخل الغني بماله ، وباع الفقير آخرته بدنياه ، واستكبر الجاهل عن طلب العلم ، رجعت الدنيا الى ورائها القهقرى ، فلا تغرنكم كثرة المساجد واجساد قوم مختلفة ، قيل : يا أمير المؤمنين كيف العيش في ذلك الزمان! قال (عليه السلام) : خالطوهم بالبرانية - يعني في الظاهر - وخالفوهم في الباطن ، للمرء ما اكتسب ، وهو مع من أحب ، وانتظروا مع ذلك الفرج من اللّه عز وجل ... » (1)

ان صلاح الدنيا وازدهار الحياة بهؤلاء الاصناف فيما اذا قاموا بمسئولياتهم ، وأدوا ما عليهم ، واما اذا انحرفوا عن ذلك فان الحياة العامة تصاب بنكسة وتتدهور فيها جميع القيم العليا.

5 - قال (عليه السلام) : سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) كم بين الحق والباطل! فقال (عليه السلام) : اربع اصابع ، ووضع يده على اذنه وعينه فقال : ما رأته عيناك فهو الحق ، وما سمعته أذناك فأكثره الباطل (2).

6 - روى (عليه السلام) عن آبائه أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : كان لي من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عشر خصال : ما أحب لي بإحداهنّ مما طلعت عليه الشمس ، قال لي : أنت اخي في الدنيا والآخرة وأقرب الخلائق

ص: 169


1- الخصال ( ص 180 ).
2- الخصال ( ص 215 ).

مني في الموقف ، وأنت الوزير والوصي والخليفة في الأهل والمال ، وأنت آخذ لوائي في الدنيا والآخرة ، وليك ولي ، وولي ولي اللّه ، وعدوك عدوي ، وعدوي عدو اللّه .. » (1)

لقد خص اللّه الامام أمير المؤمنين بفضائل كثيرة ، ومنحه المزيد من الطافه والتي كان منها ما ذكره النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في هذا الحديث.

7 - قال (عليه السلام) : كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول : « إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها ، صدق الحديث ، واداء الامانة ، والوفاء بالعهد ، وقلة الفخر ، والبخل ، وصلة الأرحام ، ورحمة الضعفاء ، وقلة المواتاة للنساء ، وبذل المعروف ، وحسن الخلق ، وسعة الحلم ، واتباع العلم ، فيما يقرب الى اللّه عز وجل ، طوبى لهم وحسن مآب .. » (2)

8 - قال (عليه السلام) : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « ان قلوب الجهال تستفزها الاطماع ، وترتهنها المنى ، وتستعلقها الخدائع .. » (3)

وصور هذا الحديث واقع الجهال ، وألمّ باتجاهاتهم والتي كان منها ان الاطماع تسيطر على مشاعرهم وعواطفهم ، وان المنى ترتهن قلوبهم ، والخدائع بسهولة تستولي عليهم وذلك لقلة خبرتهم ومعرفتهم.

9 - قال (عليه السلام) : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « جمع الخير كله في ثلاث خصال : النظر ، والسكوت ، والكلام ، فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو ، وكل سكوت ليس فيه فكرة فهو غفلة ، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو ، فطوبى لمن كان نظره عبرة ، وسكوته فكرا ،

ص: 170


1- الخصال ( ص 398 ).
2- الخصال ( ص 454 ).
3- اصول الكافي 1 / 23.

وكلامه ذكرا ، وبكى على خطيئته وأمن الناس شره .. » (1)

وهذه صفات العارفين بربهم ، والمنيبين الى خالقهم ، وهي لا تنطبق إلا على أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وعلى المهتدين بهديهم.

10 - قال (عليه السلام) : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : « إنا اهل البيت شجرة النبوة وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وبيت الرحمة ، ومعدن العلم .. » (2)

11 - قال (عليه السلام) : كان علي يقول : العامل بالظلم ، والمعين عليه والراضي به شركاء ثلاثة (3).

روايته عن جده الحسين :

روى (عليه السلام) عن أبيه عن جده الامام الحسين (عليه السلام) قال : سمعت جدي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول لي : « أعمل بفرائض اللّه تكن اتقى الناس ، وارض بقسم اللّه تكن اغنى الناس ، وكف عن محارم اللّه تكن مؤمنا ، واحسن مصاحبة من صاحبك تكن مسلما .. » (4)

روايته عن أبيه :

روى عن أبيه علي بن الحسين (عليه السلام) انه قال : « ايما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين حتى تسيل على خده بوأه اللّه في الجنة غرفا يسكنها احقابا ، وايما مؤمن دمعت عيناه فيما مسنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوأه اللّه منزل صدق ، وأيما مؤمن مسه اذى فينا فدمعت عيناه

ص: 171


1- الخصال ( ص 95 ).
2- أصول الكافي 1 / 220.
3- الخصال ( ص 103 ).
4- أمالي الصدوق ( ص 178 ).

حتى تسيل على خديه من مضاضة ما اوذي فينا صرف اللّه عن وجهه الأذى ، وآمنه يوم القيامة من سخط النار .. (1)

روايته عن جابر الأنصاري :

وروى (عليه السلام) عن جابر بن عبد اللّه مجموعة من الأخبار والأحداث من بينها.

1 - روى (عليه السلام) عن جابر ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان اذا وقف على الصفا يكبر ثلاثا ، ويقول : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، يصنع ذلك ثلاث مرات ، ويصنع مثل ذلك على المروة (2).

2 - روى (عليه السلام) عن جابر ان النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يتختم بيمينه (3).

4 - سأل (عليه السلام) جابرا عما جرى بين علي وعائشة ، فقال جابر : ذهبت يوما الى عائشة وسألتها ما تقولين في حق علي؟ فأطرقت برأسها ثم رفعته وانشدت :

إذا ما التبر حك على محك *** تبين غشه من غير شك

وفينا الغش والذهب المصفى *** علي بيننا شبه المحك (4)

روايته عن عمر :

وروى (عليه السلام) بسنده عن عمر بن الخطاب قال : سمعت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 172


1- كامل الزيارات ( ص 108 ).
2- تأريخ دمشق 51 / 37 - 38.
3- علل الشرائع ( ص 158 ).
4- الصراط السوي ( ص 119 ) نور الابصار ( ص 131 ) الفصول المهمة لابن الصباغ.

يقول : « كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سبي ونسبي .. » (1).

روايته عن ابن عباس :

وروى (عليه السلام) بسنده عن عبد اللّه بن عباس انه قال : نظر علي في وجوه الناس فقال : « إني لأخو رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووزيره ، وقد علمتم أني اولكم إيمانا باللّه ورسوله ، ثم دخلتم بعدي في الاسلام رسلا ، واني لابن عم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واخوه وشريكه في نسبه ، وأبو ولده ، وزوج ابنته سيدة ولده وسيدة نساء أهل الجنة ، ولقد عرفتم أنا ما خرجنا مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مخرجا قط إلا رجعنا وأنا احبكم إليه ، وأوثقكم في نفسه ، واشدكم نكاية للعدو ، وأثر في العدد ، ولقد رأيتم بعثته إياي ببراءة ، ولقد آخى بين المسلمين فما اختار احدا غيري ، ولقد قال لي : أنت أخي وانا أخوك في الدنيا والآخرة ، ولقد اخرج الناس من المسجد وتركني ، ولقد قال لي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي .. » (2)

روايته عن زيد بن أرقم :

وروى (عليه السلام) عن زيد بن أرقم قال : كنا جلوسا بين يدي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إلا أدلكم على من اذا استرشدتموه لن تضلوا ، ولن تهلكوا قالوا : بلى يا رسول اللّه ، قال : هذا - واشار الى علي بن أبي طالب - ثم قال : واخوه ، ووازروه ، وصدقوه ، وانصحوه ، فان جبرائيل

ص: 173


1- طبقات ابن سعد 8 / 463.
2- المناقب للمغازلي ( ص 111 - 112 ) المناقب للخوارزمي ( ص 226 ).

اخبرني بما قلت لكم (1).

روايته عن أبي ذر :

وروى (عليه السلام) طائفة من كلمات المصلح العظيم الصحابي أبي ذر منها قوله :

« يا مبتغي العلم لا يشغلك اهل ولا مال عن نفسك ، أنت يوم تفارقهم كضيف بت فيهم ، ثم غدوت عنهم الى غيرهم ... الدنيا والآخرة كمنزل تحولت منه الى غيره ، وما بين الموت والبعث إلا كنومة نمتها ثم استيقظت منها ، يا مبتغي العلم ان قلبا ليس فيه شيء من العلم كالبيت الخراب .. » (2)

هذه بعض الاحاديث التي اثرت عنه ، وهي تتعلق بآداب السلوك والاخلاق ، وبفضل العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم.

تفسير القرآن الكريم :

من العلوم التي خاضها الامام أبو جعفر (عليه السلام) في محاضراته تفسير القرآن الكريم ، فقد خصص له وقتا من اوقاته ، تناول فيه جميع شئونه ، وقد اخذ عنه علماء التفسير - على اختلاف آرائهم وميولهم - الشيء الكثير ، فكان (عليه السلام) من المع المفسرين في الاسلام ، وكان من جملة ما عرض له اثناء بحوثه عن القرآن ما يلي :

فضل قراءة القرآن :

وحث الامام ابو جعفر (عليه السلام) على تلاوة الكتاب العزيز لأنه المنبع

ص: 174


1- المناقب للمغازلي ( ص 245 ).
2- ناسخ التواريخ 2 / 204.

الفياض لهداية الناس واستقامتهم ، وهو مما يحيى القلوب ، ويمدها بطاقات من النور ، والوعي ، وقد روى (عليه السلام) ما قاله جده رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فضل تلاوته قال (عليه السلام) :

« قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين ، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين ، ومن قرأ الف آية كتب له قنطار من تبر .. » (1)

ووردت اخبار مماثلة لهذا الحديث عن أئمة اهل البيت (عليهم السلام) وهي تحث المسلمين على تلاوة القرآن ، وتحفزهم على الامعان في آياته ، والتأمل في اسراره ، وهي - من دون شك - تنمي العقول ، وتهذب النفوس وتصونها من الانحراف ، وتهديها الى سواء السبيل.

الترجيع بقراءة القرآن :

اما الترجيع بقراءة القرآن ، وتلاوته بالصوت الحسن فانه ينفذ الى اعماق القلب ودخائل النفس ، ويتفاعل مع العواطف ، وذلك لما اشتمل عليه من الحكم والمعارف التي لا غنى للحياة عنها.

وقد عنى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بتلاوة القرآن الكريم ، فكان الامام أبو جعفر (عليه السلام) من أحسن الناس صوتا بقراءته للقرآن (2).

وروى أبو بصير قال : قلت : لأبي جعفر إذا قرأت القرآن فرفعت

ص: 175


1- البيان في تفسير القرآن ( ص 25 ).
2- أصول الكافي.

صوتي جاءني الشيطان فقال : انما ترائي بهذا أهلك والناس ، فقال (عليه السلام) : يا أبا محمد اقرأ قراءة ما بين القراءتين ، تسمع أهلك ، ورجّع بالقرآن صوتك فان اللّه يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعا (1).

تنزيه القرآن من الباطل :

القرآن الكريم هو معجزة الاسلام الكبرى « كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. لا ريب فيه هدى للمتقين » وليس فيه أي تناقض في احكامه ولا تناف في آياته ( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) ( وهو يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) ( ولا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) وقد فسر هذه الآية الامام ابو جعفر (عليه السلام) قال : « لا يأتيه الباطل من قبل التوراة ، ولا من قبل الانجيل والزبور ، ولا من خلفه اي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله » وفي رواية عن الصادقين (عليهماالسلام) انه « ليس في أخباره عما مضى باطل ولا في أخباره عما يكون في المستقبل باطل ».

ذم المحرفين للقرآن :

وذم الامام أبو جعفر (عليه السلام) المحرفين لكتاب اللّه ، وهم الذين يؤوّلون آياته حسب اهواءهم ، فقد كتب (عليه السلام) في رسالته الى سعد الخير « وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرفوا حدوده ، فهم يرونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية. » (2)

ص: 176


1- البيان في تفسير القرآن ( ص 210 ).
2- الوافي ( ص 274 ) آخر كتاب الصلاة.

الاستعمالات المجازية فى القرآن :

وشاع الاستعمال المجازي في لغة العرب ، وذاع أمره في كثير من أنحاء الاستعمال كالاسناد المجازي ، والمجاز في الكلمة ، ومنه باب الكنايات التي قيل انها أبلغ من التصريح ، ويعتبر ذلك من لطائف هذه اللغة ومحاسنها ، وفي القرآن الكريم طائفة كبيرة من الآيات كان الاستعمال فيها مجازيا منها قوله تعالى : « يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي » فان المنصرف من اليد هو العضو المخصوص ويستحيل ذلك عليه تعالى لاستلزامه التجسيم وهو مما يمتنع عقلا على اللّه تعالى ، وقد سأل محمد ابن مسلم الامام أبا جعفر عن ذلك فأجابه (عليه السلام) :

« اليد في كلام العرب القوة والنعمة قال تعالى : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ) وقال : ( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ ) أي بقوة ، وقال : ( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ويقال : لفلان عندي اياد كثيرة أي فواضل واحسان ، وله عندي يد بيضاء أي نعمة » (1).

ومعنى ذلك ان اليد لم تستعمل في معناها المنصرف وإنما استعملت في غيره اما مجازا أو حقيقة بناء على انها مشتركة اشتراكا لفظيا في هذه المعاني التي ذكرها الامام.

البسملة جزء من سور القرآن :

وذهب الامام ابو جعفر (عليه السلام) وسائر أئمة اهل البيت (عليهم السلام) الى ان البسملة جزء من سور القرآن الكريم ، وتبعهم على ذلك جمهور غفير من علماء المسلمين ، وقراؤهم (2) وقد كتب يحيى بن أبي عمران

ص: 177


1- ناسخ التواريخ 1 / 434 نقلا عن توحيد الصدوق.
2- تفسير الآلوسي 1 / 39 ، تفسير الشوكاني 1 / 7.

الهمداني رسالة الى الامام أبي جعفر (عليه السلام) جاء فيها « جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ : ببسم اللّه الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أم الكتاب ، فلما صار الى غير أم الكتاب من السورة تركها؟ فقال العباسي : ليس بذلك بأس » فأجابه (عليه السلام) برسالة جاء فيها « يعيدها مرتين على رغم آنفه - يعني العباسي - » (1) وتظافرت الاخبار من الفريقين بجزئيتها ، وقد شذ من انكر ذلك.

نزول القرآن على سبعة احرف :

وشاع بين المفسرين أن القرآن نزل على سبعة أحرف ، وقد استندوا في ذلك الى ما روي عن أبي جعفر (عليه السلام) من أنه قال : « ان القرآن نزل على سبعة أحرف » (2) وقد كثرت الأقوال في هذه الجهة حتى أن ابا حاتم ذكر ان الأقوال بلغت خمسا وثلاثين قولا (3).

ولا بد لنا من وقفة قصيرة لننظر الى معاني الأحرف السبعة ومدى صحتها ونسبتها الى الامام الباقر (عليه السلام).

الحروف السبعة :

أما الحروف السبعة ، فقد اختلفت الأقوال في المراد منها وهذه بعضها :

1 - انها الوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، والقصص والمجادلة ، والامثال وقد

ص: 178


1- فروع الكافي 3 / 312 ، ومعنى قوله (عليه السلام) : « يعيدها مرتين » يعني انه كرر لفظ الاعادة من باب التأكيد.
2- غاية النهاية في طبقات القراء 2 / 202 ، القراءات القرآنية ( ص 420 ).
3- تفسير القرطبي 1 / 9.

ضعف هذا الوجه ابن عطية ، وقال : ان هذا لا يسمى احرفا (1).

2 - انها المعاني المتقاربة التي ترد بالفاظ مختلفة نحو اقبل وهلم أو عجل واسرع ، وقد اختار هذا الوجه الطبري (2) إلا ان ذلك لا يحمل أي طابع من التحقيق ، فان للإنسان - على هذا الوجه - ان يقرأ القرآن على أشكال مختلفة ، وذلك يؤدي الى اختلاف كبير من اضافة آية أو حذفها لأن الاختلاف فى الالفاظ يستتبع الاختلاف في الجمل - حسبما يقول القرطبي - (3).

3 - ان المراد بها الابواب السبعة التي نزل بها القرآن وهي : الزجر ، والأمر ، والحلال ، والحرام ، والمحكم ، والمتشابه ، والامثال (4) ويرد عليه أن هذه لا تسمى أحرفا ، مضافا الى أن الزجر والحرام شيء واحد فلا تكون سبعة.

4 - إنها اللغات الفصيحة من لغات العرب ، وهي متفرقة في القرآن فبعضها بلغة قريش ، وبعضها بلغة هذيل ، وبعضها بلغة هوازن وبعضها بلغة اليمن ، وبعضها بلغة كنانة ، وبعضها بلغة تميم ، وبعضها بلغة ثقيف ، ونسب هذا القول الى البيهقي والأبهري وصاحب القاموس ... إلا أن هذا الوجه ينافيه ما ورد عن عمر من أن القرآن نزل بلغة مضر (5).

5 - إنها سبع قراءات ، واشكل على ذلك سيدنا الاستاذ بانه إن

ص: 179


1- نظرة عامة في تاريخ الفقه الاسلامي ( ص 67 ).
2- تفسير الطبري 1 / 15.
3- تفسير القرطبي 1 / 36.
4- البيان في تفسير القرآن ( ص 183 ).
5- البيان في تفسير القرآن ( ص 185 ).

أريد منها السبع المشهورة فهي غير ثابتة حسبما حققه عند البحث عن تواتر القراءات ، وإن أريد بها السبع على اطلاقها فمن الواضح أن عدد القراءات اكثر من ذلك بكثير (1).

هذه بعض الاقوال ، وقد عد سيدنا الاستاذ عشرة أقوال إلا أنه فندها ، وأثبت انها لا ترجع الى محصل ، وقد الف أبو شامة كتابا في هذه المعاني ، وابطل معظمها.

انكار الامام للاحرف السبعة :

وانكر الامام أبو جعفر (عليه السلام) الأحرف السبعة ، ولم يصح ما نسب إليه أنه رواها فقد روى في الصحيح عنه زرارة انه قال : « إن القرآن واحد نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة » (2) وأثر عن الامام الصادق (عليه السلام) انكار ذلك فقد سأله الفضيل بن يسار فقال له : ان الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة احرف ، فقال علیه السلام : « كذبوا - أعداء اللّه - ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد » (3).

طرق التفسير :

واختلفت اتجاهات المفسرين للقرآن الكريم ، وقد سلكوا في ذلك طرقا مختلفة منها :

التفسير بالمأثور :

ونعني به تفسير القرآن بما أثر عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة الهدى ، وهذا

ص: 180


1- البيان في تفسير القرآن ( ص 191 ).
2- أصول الكافي كتاب فضل القرآن.
3- أصول الكافي كتاب فضل القرآن.

ما سلكه اغلب مفسري الشيعة كتفسير القمي ، والعسكري ، والبرهان وغيرها وحجتهم في ذلك أن أهل البيت (عليهم السلام) هم المخصوصون بعلم القرآن على واقعه وحقيقته ، وليس لغيرهم في ذلك أي نصيب ، وقد اشار الى ذلك الامام أبو جعفر (عليه السلام) بقوله : « ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الاوصياء » (1) فالأوصياء هم الذين عندهم علم الكتاب ، ظاهره وباطنه ، وقد تظافرت الأدلة على وجوب الرجوع إليهم في تفسير القرآن ، يقول الشيخ الطوسي : ان تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن الأئمة الذين قولهم حجة كقول النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).

التفسير بالرأي :

ويراد به الأخذ بالاعتبارات العقلية الظنية الراجعة الى الاستحسان (3) وقد ذهب الى ذلك المفسرون من المعتزلة والباطنية ، فلم يعنوا بما أثر عن اوصياء رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تفسيرهم ، وإنما استندوا الى ما يرونه من الاستحسانات العقلية ، وقد نهى عن ذلك الامام أبو جعفر (عليه السلام) فقد دخل عليه قتادة الفقيه المشهور فقال له الامام :

« أنت فقيه أهل البصرة؟ »

« نعم هكذا يزعمون .. »

« بلغني أنك تفسر القرآن .. »

ص: 181


1- الوافي 2 / 130.
2- التبيان 1 / 4.
3- فرائد الاصول للأنصاري.

« نعم .. »

فانكر عليه الامام ذلك قائلا :

« يا قتادة إن كنت قد فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، يا قتادة ويحك إنما يعرف القرآن من خوطب به .. » (1)

وقد قصر الامام أبو جعفر (عليه السلام) معرفة الكتاب العزيز على أهل البيت (عليهم السلام) فهم الذين يعرفون المحكم من المتشابه ، والناسخ من المنسوخ وليس عند غيرهم هذا العلم ، وقد أثر عن الأئمة (عليهم السلام) القول : « انه ليس شيء أبعد من عقول الرجل من تفسير القرآن ، الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف الى وجوه » (2).

أما الأخذ بظواهر الكتاب فلا يعد من التفسير بالرأي المنهى عنه ، وقد خالف في حجيتها بعض المحدثين ، وتمسكوا بأدلة قد فندت من قبل علماء الاصوليين (3).

تفسير الامام الباقر :

وألف الامام أبو جعفر (عليه السلام) كتابا في تفسير القرآن الكريم نص عليه محمد بن اسحاق النديم في « الفهرست » عند عرضه للكتب المؤلفة في تفسير القرآن الكريم قال : « كتاب الباقر محمد بن علي بن الحسين

ص: 182


1- البيان في تفسير القرآن ( ص 267 ).
2- فرائد الاصول ( ص 28 ).
3- يراجع في ذلك فرائد الاصول للشيخ الانصاري ، والبيان. في تفسير القرآن.

رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر رئيس الجارودية » وقال السيد حسن الصدر : وقد رواه عنه أيام استقامته جماعة من ثقاة الشيعة منهم أبو بصير يحيى بن القاسم الأسدي ، وقد اخرجه علي بن ابراهيم بن هاشم القمي في تفسيره من طريق أبي بصير (1) ويقول الرواة : أن جابر بن يزيد الجعفي ألف كتابا في تفسير القرآن أخذه من الامام (2).

نماذج من تفسيره :

وروى عنه المفسرون الشيء الكثير من تفسير آيات القرآن الكريم ، وهذه بعضها :

1 - قوله تعالى : ( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ) (3) قال (عليه السلام) : الغرفة : هي الجنة وهي جزاء لهم بما صبروا على الفقر في الدنيا » (4).

2 - قوله تعالى : ( وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) (5) سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن غضب اللّه؟ فقال (عليه السلام) : طرده وعقابه » (6).

3 - قوله تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَ

ص: 183


1- تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام ( ص 327 ) الفهرست للشيخ الطوسي ( ص 98 ) وحقق هذا التفسير المحامي السيد شاكر الغرباوي إلا انه لم يقدمه للنشر.
2- النجاشي.
3- سورة الفرقان : آية 70.
4- البداية والنهاية 9 / 301.
5- سورة طه : آية 82.
6- الفصول المهمة ( ص 227 ).

اهْتَدى ) (1) فسر (عليه السلام) الهداية بالولاية لأئمة أهل البيت وقال : فو اللّه لو ان رجلا عبد اللّه عمره ما بين الركن والمقام ، ولم يجيء بولايتنا إلا اكبه اللّه في النار على وجهه » (2).

4 - قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (3) قال (عليه السلام) : يعني بذلك تبليغ ما أنزل الى الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في فضل علي (4) وقد روى (عليه السلام) أن اللّه اوحى الى نبيه أن يستخلف عليا فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من اصحابه فأنزل اللّه تعالى هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره اللّه بادائه (5).

5 - قوله تعالى : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) (6) نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي الذي اتهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالسحر ، وكان الوليد يسمى في قومه الوحيد ، والآية سيقت على وجه التهديد له ، وقد روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر انه قال : الوحيد ولد الزنا ، وقال زرارة ذكر لأبي جعفر ان أحد بني هشام قال في خطبته أنا ابن الوحيد فقال : ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها :! فقلنا له : وما هو؟

قال : من لا يعرف له أب (7).

ص: 184


1- سورة طه : آية 83.
2- مجمع البيان 7 / 23 طبع بيروت.
3- سورة المائدة : آية 67.
4- خصائص الوحي المبين ( ص 30 ).
5- مجمع البيان 4 / 223.
6- (*) سورة المدثر : آية 11.
7- مجمع البيان 10 / 387.

6 - قوله تعالى : ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها. ) (1) قال (عليه السلام) : تنزل الملائكة والكتبة الى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون في السنة من أمور ما يصيب العباد ، والأمر عنده موقوف له فيه على المشيئة فيقدم ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب » (2).

7 - قوله تعالى : ( فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ) (3) المراد من الآية أن الغاوين والقوى الكافرة يجمعون ويطرح بعضهم على بعض في النار قال الامام أبو جعفر (عليه السلام) « انها نزلت في قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثم خالفوه الى غيره » (4).

8 - قوله تعالى : ( وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (5) قال (عليه السلام) : في تفسيره للآية انه تعالى اعظم واعز واجل وأمنع من أن يظلم ، ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه ، وولايتنا ولايته حيث يقول : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) يعني الأئمة منا ، ثم قال : في موضع آخر ( وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (6).

9 - قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (7). روى محمد بن مسلم قال : قلت : للإمام أبي جعفر إن من عندنا يزعمون أن المعنيين بالآية هم اليهود والنصارى؟ قال : إذا يدعونكم إلى دينهم ،

ص: 185


1- سورة القدر : آية 4.
2- دعائم الاسلام 1 / 334.
3- سورة الشعراء : آية 94.
4- اصول الكافي 1 / 47.
5- سورة البقرة : آية 57.
6- أصول الكافي 1 / 146.
7- سورة الأنبياء : آية 7.

ثم اشار (عليه السلام) الى صدره فقال : نحن أهل الذكر ونحن المسئولون (1).

10 - قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (2) .. » قال (عليه السلام) : « نحن الذين يعلمون وعدونا الذين لا يعلمون ، وشيعتنا أولو الالباب » (3).

11 - قوله تعالى : ( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (4) فسر الامام أبو جعفر ( الذين اوتوا العلم ) بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) (5) وروى أبو بصير أن الامام أبا جعفر قرأ هذه الآية وأومأ بيده الى صدره (6).

12 - قوله تعالى : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) (7) روى جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : لما نزلت هذه الآية قال المسلمون : يا رسول اللّه ألست امام الناس كلهم أجمعين؟ فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أنا رسول اللّه الى الناس أجمعين ، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من أهل بيتي يقومون في الناس فيكذبون ، ويظلهم أئمة الكفر والضلال واشياعهم ، فمن والاهم واتبعهم ، وصدقهم فهو مني ومعي ، وسيلقاني ، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ، ولا معي ، وانا منه بريء .. » (8)

ص: 186


1- أصول الكافي 1 / 211.
2- سورة الزمر : آية 9.
3- أصول الكافي 1 / 212.
4- سورة العنكبوت : آية 49.
5- مجمع البيان 7 / 288.
6- أصول الكافي 1 / 212.
7- سورة الاسراء : آية 17.
8- اصول الكافي 1 / 215.

13 - قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1).

وسأل سالم الامام أبا جعفر عن هذه الآية فقال (عليه السلام) : السابق بالخيرات الامام ، والمقتصد العارف للإمام ، والظالم لنفسه الذي لا يعرف الامام (2) وروى زياد بن المنذر عنه (عليه السلام) انه قال : اما الظالم لنفسه فمن عمل صالحا وآخر سيئا ، واما المقتصد فهو المتعبد المجتهد واما السابق بالخيرات فعلي والحسن والحسين ومن قتل من آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) شهيدا (3).

14 - قوله تعالى : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) (4) قال (عليه السلام) :

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) المتوسم ، وأنا من بعده والأئمة من ذريتي المتوسمون (5).

15 - قوله تعالى : ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) (6) قال (عليه السلام) : يعني لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) والاوصياء من ولده ، وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماء غدقا يعني اشربنا قلوبهم الايمان ، والطريقة : هي الايمان بولاية علي والاوصياء (7).

ص: 187


1- سورة فاطر : آية 32.
2- اصول الكافي 1 / 214.
3- مجمع البيان 7 / 409.
4- سورة الحجر : آية 75.
5- أصول الكافي 1 / 219.
6- سورة الجن : آية 16.
7- اصول الكافي 1 / 220.

16 - قوله تعالى : ( قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (1) سأل بريد بن معاوية الامام أبا جعفر (عليه السلام) عن المعنيين بقوله تعالى : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) ؟ فقال (عليه السلام) : ايانا عنى ، وعلي اولنا ، وافضلنا وخيرنا بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2).

17 - قوله تعالى : ( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. ) (3) سأل بريد العجلي الامام أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية؟ فقال (عليه السلام) : جعل في آل ابراهيم الرسل والأنبياء والأئمة فكيف يقرونه في آل ابراهيم ، وينكرونه في آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم)؟ قال بريد : وما المراد ( وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) قال : الملك العظيم ان جعل فيهم أئمة من اطاعهم اطاع اللّه ومن عصاهم عصى اللّه فهو الملك العظيم (4).

18 - قوله تعالى : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) سئل (عليه السلام) عن الروح فقال : هي القدرة (6).

19 - قوله تعالى : ( لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) (7) قال (عليه السلام) :

ص: 188


1- سورة الرعد : آية 43.
2- أصول الكافي 1 / 229 مجمع البيان 6 / 301 روى عن أبي جعفر أنها نزلت في آل البيت.
3- سورة النساء : آية 54.
4- أصول الكافي 1 / 206.
5- سورة الحجر : آية 29.
6- تفسير البرهان ( ص 558 ).
7- سورة يوسف : آية 24.

لجابر الجعفي ما يقول فقهاء العراق في هذه الآية؟ قال جابر : رأى يعقوب عاضا على ابهامه ، فقال (عليه السلام) : ، حدثني أبي عن جدي علي ابن أبي طالب ان البرهان الذي رآه انها حين همت به ، وهمّ بها أي طمع فيها ، فقامت الى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض خشية أن يراها أو استحياء منه ، فقال لها يوسف : ما هذا؟ فقالت : الهي استحي منه أن يراني على هذه الصورة ، فقال يوسف : تستحي من صنم لا ينفع ولا يضر ، ولا يبصر ، أفلا استحي أنا من الهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت ، ثم قال : واللّه لا تنالين مني أبدا ، فهو البرهان (1).

هذه بعض الآيات التي فسرها الامام ابو جعفر (عليه السلام) وبها ينتهي بنا الحديث عن تفسيره للقرآن الكريم.

علم الكلام :

وبحث الامام أبو جعفر في كثير من محاضراته المسائل الكلامية ، وسئل عن أعقد المسائل وادقها في بحوث هذا العلم فأجاب عنها ، ومن الجدير بالذكر أن عصر الامام كان من اشد العصور الاسلامية حساسية فقد امتد فيه الفتح الاسلامي الى اغلب مناطق العالم وشعوب الارض فأثار ذلك موجة من الحقد في نفوس المعادين للإسلام من الشعوب المغلوبة على امرها ، ومن غيرها ، فقاموا بحملة دعائية ضد العقيدة الاسلامية فاذاعوا الشكوك والاوهام بين ابناء المسلمين ، وقد شجعت الحكومات الأموية الافكار المعادية للإسلام ، فلم يؤثر عن أي أحد من ملوك بين أمية انه

ص: 189


1- البداية والنهاية 9 / 310.

قاومها او تصدى لايقافها وعدم نشرها بين المسلمين ولم يكن هناك أحد قد انبرى الى انقاذ المسلمين في ذلك العصر سوى الامام أبي جعفر (عليه السلام) فقد تصدى الى تزييفها والرد عليها ببالغ الحجة والبرهان ، وسنعرض الى تفصيل ذلك عند البحث عن عصر الامام.

وعلى أي حال فهذه بعض البحوث الكلامية التي خاضها الامام وهي :

التوحيد :

اشارة

وتناول الامام ابو جعفر (عليه السلام) أهم مسائل التوحيد ، فكشف الغطاء عنها وفند ما أثير حولها من أوهام وشكوك ، وكان من بين ما عرض له.

1 - عجز العقول عن ادراك حقيقة اللّه :

والشيء الذي لا جدال فيه ان الانسان بجميع ما يملك من طاقات فكرية فانه عاجز عن معرفة حقيقة اللّه ، لأن العقول في جميع تصوراتها محدودة يقول الشافعي : « ان للعقل حدا ينتهي إليه كما ان للبصر حدا ينتهي إليه ».

ان جميع الاشياء التي يتوصل إليها حس الانسان لا بد ان توجد في مكان ويجري عليها الزمان ، ولا يستطيع العقل ان يتخيل موجودات لا مكان لها أو اشياء لا يجري عليها الزمان ، وذات اللّه تعالى يعجز العقل أن يدرك واقعها لأنه لا يجري عليها الزمان ولا المكان فانه تعالى هو الذي خلقهما ، وبالاضافة الى ذلك فان في السكون أمورا كثيرة قد عجز العقل عن الاحاطة بكنهها ، والتي منها الحقيقة الغيبية فان العقل لم يهتد الى معرفتها.

ان ذات اللّه تعالى لا تدركها أوهام القلوب على مدى ما تحمل من

ص: 190

سعة الخيال فضلا عن ادراكها بالعين الباصرة فان كلا منهما محدود بحسب الزمان والمكان ، وقد أدلى بذلك الامام أبو جعفر (عليه السلام) حيث سئل عن قوله تعالى : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) (1) فقال (عليه السلام) : « أوهام القلوب ادق من ابصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ، ولا تدركها ببصرك ، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف ابصار العيون؟ .. » (2)

ان البصر ينقلب خاسئا وهو حسير في تصوره لذات اللّه تعالى خالق الكون وواهب الحياة ، يقول ابن أبي الحديد :

فيك يا اعجوبة الكون *** غدا الفكر عليلا

كلما أقدم فكري *** فيك شبرا فرّ ميلا

أنت حيرت ذوي *** اللب وبلبلت العقولا (3)

إنه ليس هناك شيء ابعد من ادراك ذات اللّه تعالى فانها تمتنع على العقول وتعجز من ان تلم بأي جانب من جوانبها ، وقد سأل عبد الرحمن ابن أبي النجران الامام أبا جعفر عن اللّه تعالى فقال : إني اتوهم شيئا ، فقال (عليه السلام) له :

« نعم غير معقول ولا محدود ، فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه ، ولا يشبهه شيء ، ولا تدركه الأوهام ، وهو خلاف ما يعقل ، وخلاف ما يتصور ، إنما يتوهم شيء ، غير معقول ولا محدود .. » (4)

ص: 191


1- سورة الانعام : آية 103.
2- نسب هذا الحديث الى الامام الجواد.
3- شرح النهج 13 / 51.
4- أصول الكافي 1 / 82.

2 - ازلية واجب الوجود :

أما ازلية واجب الوجود فهي من ادق البحوث الكلامية ، والفلسفية ، وقد عرضت على أبي جعفر (عليه السلام) فقد سأله رجل فقال له : اخبرني عن ربك متى كان؟ فأجابه الامام :

« ويلك إنما يقال لشيء لم يكن ، متى كان؟!! إن ربي تبارك وتعالى كان ولم يزل حيا بلا كيف ، ولم يكن له كان ، ولا كان لكونه كون كيف ، ولا كان له اين ، ولا كان في شيء ، ولا كان على شيء ، ولا ابتدع لمكانه مكانا ، ولا قوي بعد ما كوّن الأشياء ، ولا كان ضعيفا قبل أن يكون شيئا ، ولا كان مستوحشا قبل أن يبتدع شيئا ، ولا يشبه شيئا مذكورا ، ولا كان خلوا من الملك قبل انشائه ، ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه ، لم يزل حيا بلا حياة ، وملكا قادرا قبل أن ينشيء شيئا ، وملكا جبارا بعد انشائه للكون ، فليس لكونه كيف ولا له اين ، ولا له حد ، ولا يعرف بشيء يشبهه ، ولا يهرم لطول البقاء ، ولا يصعق (1) لشيء ، بل لخوفه تصعق الأشياء كلها ، كان حيا بلا حياة حادثة ، ولا كون موصوف ولا كيف محدود ، ولا اين موقوف عليه ، ولا مكان ، جاور شيئا ، بل حي يعرف ، وملك لم يزل له القدرة والملك ، إنشاء ما شاء حين شاء بمشيئته ، لا يحد ولا يبعض ، ولا يفنى ، كان أولا بلا كيف ، ويكون آخرا بلا اين ، وكل شيء هالك إلا وجهه ، له الخلق والأمر تبارك اللّه رب العالمين.

ويلك أيها السائل!! ان ربي لا تغشاه الأوهام ، ولا تنزل به الشبهات ، ولا يحار ، ولا يجاوزه شيء ، ولا تنزل به الاحداث ، ولا يسأل عن

ص: 192


1- يصعق : أي يهلك ، ويضعف.

شيء ، ولا يندم على شيء ، ولا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الارض وما بينهما ، وما تحت الثرى .. » (1)

وألمت هذه القطعة الذهبية من كلام الامام العظيم بأزلية واجب الوجود وتوحيده ، وتنزيهه عن المشابهة لمخلوقاته التي يحدها الجنس والفصل والتي تخضع في وجودها وعدمها الى العلة ، وتفتقر إلى الزمان والمكان وتعالى اللّه عن جميع ذلك فانه الاول والآخر ، والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ... وقد سئل بعض المحققين عن اللّه ما هو؟ فقال : الأوحد ، فقيل له : كيف هو؟ فقال : ملك قادر ، فقيل له : اين هو؟ فقال : بالمرصاد ، فقال السائل : ليس عن هذا أسألك ، فقال : ما اجبتك به هو صفة الحق فأما غيره فصفة الخلق.

لقد أرادوا أن يتعرفوا على ذات اللّه تعالى حتى كأنه شيء من الاشياء التي تخضع للحواس وسائر المدركات العقلية ، ولم يعلموا أن اللّه تعالى فوق ما يدركه العقل ، وفوق ما تتصوره الأوهام ، لا إله إلا هو الحي القيوم.

وعلى أي حال فان كلام الامام (عليه السلام) قد عرض لأدق المسائل الكلامية التي لم يطرقها أحد من متكلمي المسلمين وفلاسفتهم سوى جده الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) اما الاحاطة بكلام الامام (عليه السلام) وإيضاحه فانه يحتاج الى دراسة مفصلة ، وقد عنى فلاسفة الاسلام بالاستدلال على النقاط التي وردت في حديث الامام (2).

ص: 193


1- أصول الكافي 1 / 88 - 89.
2- عرض لذلك بصورة موضوعية الفيلسوف الاسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي في كتابه ( الشواهد الربوية ).

3 - النهي عن الكلام في ذات اللّه :

ونهى الامام أبو جعفر (عليه السلام) عن الحديث والخوض في ذات اللّه تعالى لأن ذلك مبني على فلسفة عميقة لا تتحملها عقول البسطاء الذين لا يملكون رصيدا من العلم ، فانهم يقعون في حبائل الشيطان ، ويخرجون من حضيرة الايمان الى حضيض الشرك ، يقول (عليه السلام) :

« تكلموا في كل شيء ، ولا تتكلموا في ذات اللّه .. » (1)

وقال (عليه السلام) : « تكلموا في خلق اللّه ، ولا تتكلموا في اللّه فانه لا يزداد صاحبه إلا تحيرا .. » (2)

إن الحديث عن ذات اللّه تعالى لا يزيد الانسان إلا تحيرا والقاء في المهالك والشبهات ، اما التفكر في مخلوقات اللّه ، والتأمل في دقائق هذا الكون فانه يدعو الى حتمية الايمان باللّه ، فان كل مخلوق بحسب صنعته وتركيبه يدلل على الخالق العظيم ، يقول دارون : « اني أرى فيما يظهر لي ان الاحياء التي عاشت على هذه الأرض جميعها من صورة واحدة ازلية نفخ الخالق فيها نسمة الحياة » (3) وان من الخرافة القول بأن هذه العوالم وجدت من باب الصدفة ، فان من غير الممكن ان توجد الصدفة نظاما دقيقا قائما على العلم ، فلما ذا لم تخلق الصدفة الطائرة أو الآلات الحديثة التي أوجدها الفكر والعلم؟

4 - علم اللّه :

ان اللّه تعالى احاط بكل شيء علما ، وان علمه بالاشياء قبل تكوينها

ص: 194


1- اصول الكافي 1 / 92.
2- اصول الكافي 1 / 92.
3- النشوء والارتقاء ( ص 47 ).

وبعد تكوينها على حد سواء لأنه الخالق والمكون لها كما أنه العالم بما تنطوي عليه النفوس ، وتضمره القلوب ، وقد روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : « كان اللّه عز وجل ولا شيء غيره ، ولم يزل عالما بما يكون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه » (1).

5 - واقع التوحيد :

وطلب جابر بن يزيد الجعفي من الامام أبي جعفر (عليه السلام) أن يعلمه شيئا من التوحيد فقال (عليه السلام) :

« ان اللّه تباركت اسماؤه التي يدعا بها ، وتعالى في علو كنهه .. واحد توحد بالتوحيد في توحده ، ثم أجراه على خلقه ، فهو واحد صمد ، قدوس يعبده كل شيء ويصمد إليه كل شيء ، ووسع كل شيء علما ... » (2)

6 - صفات اللّه :

ان صفات الخالق الحكيم هي عين ذاته ، وليس بينهما تعدد حسب ما دلل عليه في علم الكلام ، وقد ظل قوم من أهل العراق عن طريق الحق فأشاعوا أنه تعالى يسمع بغير ما يبصر ، ويبصر بغير الذي يسمع شأنه في ذلك شأن مخلوقاته وقد عرض ذلك محمد بن مسلم على الامام أبي جعفر فقال (عليه السلام) :

« كذبوا والحدوا ، وشبهوا ، تعالى اللّه عن ذلك إنه سميع بصير ، يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع .. »

فقال محمد بن مسلم : يزعمون أنه بصير على ما يعقلونه ، فرد (عليه السلام)

ص: 195


1- اصول الكافي 1 / 107.
2- اصول الكافي 1 / 123.

مزاعمهم وقال :

« تعالى اللّه ، إنما يعقل ما كان بصفة المخلوق ، وليس اللّه كذلك » (1)

7 - الشك والجحود :

ان الشك في وجود اللّه تعالى فاطر السموات والأرض ، وجحوده له مضاعفاته السيئة ، والتي منها أنه لا يقبل من الشاك والجاحد أي عمل خير ، ولا ينفعه يوم حشره ونشره ، يقول (عليه السلام) :

« لا ينفع مع الشك والجحود عمل .. » (2)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن كلمات الامام أبي جعفر (عليه السلام) في التوحيد

الامامة :

الامامة نفحة من روح اللّه ، ورحمة من رحماته انعم بها على هذا الانسان لتدله على الايمان ، وتلهمه الخير ، وتهديه الى سواء السبيل وهي من اصول الدين ، وأركان الاسلام عند الشيعة الامامية لأنها القاعدة الصلبة التي تتركز عليها العدالة الاجتماعية في الاسلام ، وقد تحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) عن كثير من جوانب الامامة ، كان من بينها ما يلي :

الحاجة الى الامام :

الامامة ضرورة من ضروريات الحياة الاسلامية ، لا تستقيم شئون المجتمع من دونها وقد اجمع المسلمون على لزومها وضرورتها ، وقد سأل جابر بن يزيد الجعفي الامام (عليه السلام) عن الحاجة الى النبي والامام ، فقال (عليه السلام) :

« لبقاء العالم على صلاحه ، وذلك ان اللّه عز وجل يرفع العذاب عن

ص: 196


1- اصول الكافي 1 / 108.
2- جامع السعادات 1 / 117.

أهل الأرض اذا كان فيها نبي أو امام ، قال اللّه عز وجل : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) وقال النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الارض ، فاذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون ، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون » يعني بأهل بيته الأئمة الذين قرن اللّه عز وجل طاعتهم بطاعته ، فقال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) وهم المعصومون المطهرون الذين لا يذنبون ، ولا يعصون ، وهم المؤيدون الموفقون المسددون بهم يرزق اللّه عباده ، وبهم تعمر بلاده ، وبهم ينزل القطر من السماء ، وبهم تخرج بركات الأرض ، وبهم يمهل أهل المعاصي ، ولا يعجل عليهم بالعقوبة والعذاب ، ولا تفارقهم روح القدس ، ولا يفارقونه ، لا يفارقون القرآن ، ولا يفارقهم صلوات اللّه عليهم اجمعين .. » (1)

وحفل حديث الامام (عليه السلام) بضرورة الامامة لأنها تنشد صلاح العالم وتقيم اعوجاج الدين ، كما اشاد بالأئمة الطاهرين من أهل البيت (عليهم السلام) وانهم أمان لأهل الارض ، وبهم يستدفع البلاء ، وينزل الغيث وتخرج بركات الارض.

وجوب معرفة الامام :

وتظافرت الاحاديث عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعن سدنة علومه الأئمة الطاهرين في لزوم معرفة امام العصر ، وإن من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية - حسب النص النبوي - وقد أثرت عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) أخبار كثيرة بذلك كان منها :

1 - روى جابر بن يزيد الجعفي قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول :

ص: 197


1- علل الشرائع ( ص 123 - 124 ).

« إنما يعرف اللّه عز وجل ويعبده من عرف امامه منا أهل البيت ، ومن لا يعرف اللّه عز وجل ، ولا يعرف الامام منا أهل البيت فانما يعرف ويعبد غير اللّه ... » (1)

2 - روى محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : « كل من دان اللّه عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ، ولا امام له من اللّه فسعيه غير مقبول ، وهو ضال متحير ، واللّه شانئ لاعماله ، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها فهجمت (2) ذاهبة ، وجائية يومها ، فلما جنها الليل بصرت بقطيع من غنم مع راعيها ، فحنت إليها واغترت بها فباتت معها في مربضها ، فلما ان ساق الراعي قطيعه انكرت راعيها وقطيعها فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها ، فبصرت بغنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها فصاح بها الراعي الحقي براعيك وقطيعك فأنت تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك ، فهجمت ذعرة متحيرة تائهة لا راعي لها يرشدها الى مرعاها ويردها ، فبينما هي كذلك إذ اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها ... وكذلك يا محمد من اصبح من هذه الأمة لا امام له من اللّه عز وجل ظاهر عادل اصبح ضالا تائها ، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق.

واعلم يا محمد ان أئمة الجور واتباعهم لمعزولون عن دين اللّه قد ضلوا واضلوا ، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء .. ذلك هو الضلال البعيد .. » (3)

ص: 198


1- اصول الكافي 1 / 181.
2- هجمت : أي تعبت بلا روية ، فهي متحيرة في أمرها.
3- اصول الكافي 1 / 183 - 184.

ان أئمة اهل البيت (عليهم السلام) هم الذين تجب معرفتهم لأنهم سدنة الوحي وأوصياء الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وخلفاؤه على أمته ، لا ملوك بني أمية ، وملوك بني العباس الذين تمرغوا في الأثم ، واشاعوا الجور والفساد في الارض.

وجوب طاعة الامام :

وطاعة الامام واجب ديني اعلنه القرآن الكريم قال تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) . (1) وتظافرت الاخبار بذلك ، روى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال :

« ذروة الأمر وسنامه ، ومفتاحه ، وباب الأشياء ، ورضا الرحمن تبارك وتعالى ، الطاعة للإمام بعد معرفته ... ان اللّه تبارك وتعالى يقول :

( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. ) (2)

ان في طاعة أئمة الهدى (عليهم السلام) نظاما للدين واقامة للعدل لأنهم لا يأمرون إلا بالحق وبه يحكمون.

حق الامام على الناس :

ان للإمام على الناس حقا ، كما ان لهم عليه حقا ، وقد تحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) عن ذلك ، فقد سأله أبو حمزة قائلا :

- ما حق الامام على الناس؟

- حقه عليهم أن يسمعوا ويطيعوا.

- ما حقهم عليه؟

ص: 199


1- سورة النساء : آية 59.
2- أصول الكافي 1 / 185.

يقسم بينهم بالسوية ، ويعدل في الرعية (1).

ان حق الامام على الناس السمع والطاعة لأوامره الهادفة لسعادتهم وصلاحهم ، واما حقهم عليه فهو ان يقسم أموال اللّه بينهم بالسوية فلا يؤثر قوما على آخرين ، وان يبسط فيهم العدل الذي هو ظل اللّه في أرضه.

عظمة الامامة :

ان للإمام كرامة عند اللّه ومنزلة لا يبلغها أي أحد من عباد ، وقد تحدث عنها الامام أبو جعفر (عليه السلام) ، قال (عليه السلام) لجابر بن يزيد الجعفي :

« ان اللّه اتخذ ابراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، واتخذه نبيا قبل ان يتخذه رسولا ، واتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، واتخذه خليلا قبل ان يتخذه اماما ، فلما جمع له هذه الاشياء وقبض يده (2) قال له : يا ابراهيم ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) فمن عظمها في عين ابراهيم قال : يا رب ومن ذريتي ، قال : لا ينال عهدي الظالمين .. (3)

ومعنى هذا الحديث ان الامامة ارقى منزلة عند اللّه لا يصل إليها الأنبياء والمرسلون ، وقد خص اللّه بها خليله ابراهيم ، وجعلها من مكملات ذاتياته المشرقة ، وخص اللّه بها الأئمة الطاهرين من أهل البيت الذين هم سدنة الوحي ، وأبواب الهداية والرحمة لهذه الأمة.

الولاية لأئمة أهل البيت :

أن الولاية للأئمة الطاهرين جزء من الاسلام ، وعنوان للأيمان ،

ص: 200


1- أصول الكافي 1 / 405.
2- قبض يده : الضمير راجع الى الامام أي ضم اصابعه الى الكف
3- اصول الكافي 1 / 175.

وقد اذاع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بين أمته هذا الفرض الديني المقدس ، والزم الأمة به ، وعنى به اكثر مما عني باي واجب دينى يقول الإمام أبو جعفر علیه السلام :

« بني الاسلام على خمس : الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني الولاية -. » (1)

ان الواجب على كل مسلم أن يكن في دخائل نفسه الولاء للأئمة الطيبين الذين هم مصدر النور في الأرض ، ومن أظهر الولاء لهم الأخذ بما أثر عنهم من الاحكام وقواعد الأخلاق والآداب.

الاشادة بالأئمة :

واشاد الامام أبو جعفر (عليه السلام) في كثير من أحاديثه بالأئمة الطيبين وتحدث عن سمو منزلتهم ، وكان من بين أحاديثه ما يلي :

1 - قال (عليه السلام) : « نحن ولاة أمر اللّه ، وخزان علم اللّه ، وورثة وحي اللّه ، وحملة كتاب اللّه ، طاعتنا فريضة ، وحبنا إيمان ، وبغضنا كفر ، محبنا في الجنة ، ومبغضنا فى النار .. » (2)

2 - قال (عليه السلام) : « نحن جنب اللّه تعالى ، نحن صفوة اللّه ، نحن امناء اللّه ، نحن مستودع مواريث الأنبياء ، نحن حجج اللّه ، نحن حبل اللّه المتين ، نحن صراط اللّه المستقيم ، قال اللّه تعالى : ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ) نحن رحمة اللّه للمؤمنين ، بنا يفتح

ص: 201


1- اصول الكافي 1 / 183.
2- مناقب آل ابي طالب 2 / 336.

اللّه وبنا يختم اللّه ، من تمسك بنا نجا ، ومن تخلف عنا غوى ، نحن القادة الغر المحجلون ... من عرفنا ، وعرف حقنا ، وأخذ بأمرنا فهو منا وإلينا .. » (1)

3 - قال (عليه السلام) : « نحن خزنة علم اللّه ، ونحن ولاة أمر اللّه ، بنا فتح الاسلام وبنا يختمه ومنا تعلموا ، فو اللّه الذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ما علم اللّه في احد إلا فينا وما يدرك ما عند اللّه إلا بنا .. » (2)

4 - قال (عليه السلام) : « نحن أهل بيت الرحمة ، وشجرة النبوة ، ومعدن الحكمة وموضع الملائكة ، ومهبط الوحي .. » (3)

5 - قال (عليه السلام) : « واللّه إنا لخزان اللّه في سمائه وأرضه لا على ذهب ولا على فضة إلا على علمه .. » (4)

6 - قال (عليه السلام) : « نحن خزان علم اللّه ، ونحن تراجمة وحي اللّه ، ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ، ومن فوق الأرض .. » (5)

وتضافرت الاخبار من النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهي تحمل هذا الطابع الخاص في فضل الأئمة الطاهرين وما منحهم اللّه من مزيد الفضل. فقد جعلهم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ينابيع الحكمة ، وورثة علوم الأنبياء ، وخصهم بكل كرامة ، وهو حق لا شبهة فيه ، فان من راجع سيرتهم ، وما أثر عنهم من الهدي والصلاح وسائر الكمالات النفسية يؤمن بأنهم سادات الخلق ، وأوصياء

ص: 202


1- عيون المعجزات ( ص 34 ).
2- اعلام الورى ( ص 270 ).
3- روضة الواعظين ( ص 275 ).
4- اصول الكافي 1 / 192.
5- اصول الكافي 1 / 192.

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحملة علومه ، وليس في هذا القول أي غلو أو انحراف عن الحق ، فقد وهب اللّه انبياءه العلم والحكمة وفصل الخطاب ، وهم ليسوا بأفضل من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين اخلصوا لله ، وقدموا في سبيل طاعته ودينه من التضحيات ما لم يقدمه أي مصلح في الأرض.

عدد الأئمة :

وأعلن الامام أبو جعفر (عليه السلام) عدد الأئمة الطاهرين الذين هم خلفاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على أمته ، وأوصياؤه وحملة علومه ، وفيما يلي بعض ما روى عنه :

1 - روى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : « الأئمة اثنا عشر اماما منهم الحسن والحسين ثم الأئمة من ولد الحسين .. » (1)

2 - روى أبو بصير أن الامام أبا جعفر (عليه السلام) قال : « نحن اثنا عشر محدثا » (2).

3 - روى عنه أبو بصير انه قال : « تكون تسعة أئمة بعد الحسين بن علي تاسعهم قائمهم .. » (3)

وقد اذاع ذلك الرسول الأعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وتواترت الاخبار عنه فقد روى سلمان الفارسي قال : كنا مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والحسين بن علي على فخذه اذ تفرس في وجهه وقال له : « يا أبا عبد اللّه أنت سيد من سادتنا ، وأنت إمام ابن إمام أخو امام ، أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم ، أعلمهم ، أحكمهم أفضلهم » (4)

ص: 203


1- الاستنص ار ( ص 17 ) لمحمد بن علي الكراجكي.
2- الاستنصار ( ص 17 ).
3- الخصال ( ص 388 ).
4- مقتضب الأثر لاحمد بن محمد المتوفى سنة ( 401 ه ) من مخطوطات مكتبة الحسينية الشوشترية.

وروى عبد اللّه بن عمر قال : سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول : « يكون خلفي اثنا عشر خليفة » (1) وعلق الشيخ ابو عبد اللّه احمد بن عياش على هذا الحديث بقوله : « فاذا كانت هذه العدة المنصوص عليها لم توجد في القائمين بعد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولا في بني أمية لأن عدة خلفائهم تزيد على اثني عشر ، ولا في القائمين من بعدهم إلا زائدة عليهم ، ولم تدع فرقة من فرق هذه الامة هذه العدة في أئمتها غير الامامية دل ذلك على أن أئمتهم هي المعتدة بها » (2).

وقد عدهم الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكر اسماءهم واحدا بعد واحد حتى انتهى الى القائم (3) ويقول بعض الشعراء :

ان الأئمة تسعة وثلاثة *** نقلا عن الهادي البشير المنذر

لا زائد فيهم وليس بناقص *** منهم كما قد قيل عد الاشهر

مثل النبوة صيرت في معشر *** وكذا الامامة صيرت في معشر (4)

ويقول الشاعر عبد اللّه بن ايوب الخريبي مخاطبا للامام الجواد بعد وفاة أبيه :

يا ابن الذبيح ويا ابن أعراق الثرى *** طابت ارومته وطاب عروقا

يا ابن الثمانية الأئمة غربوا *** وأبا الثلاثة شرقوا تشريقا

ان المشارق والمغارب أنتم *** جاء الكتاب بذلكم تصديقا (5)

ص: 204


1- مقتضب الأثر.
2- مقتضب الأثر.
3- بصائر الدرجات ( ص 108 ) للصفار.
4- غاية الاختصار ( ص 131 ).
5- مقتضب الأثر.

والشيء المحقق ان خلفاء النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الاثني عشر الذين تواترت فيهم الاخبار انما هم الأئمة الطيبون من أهل البيت (عليهم السلام) فهم الذين يمثلون هدي النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسمته.

محن الائمة :

وتحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) مع حمران عن المحن والخطوب التي ألمت بالأئمة الطاهرين من طواغيت زمانهم ، وانهم سلام اللّه عليهم لو سألوا اللّه تعالى أن يكشفها عنهم لاستجاب لهم ، ولكنهم لم يسألوه لينالوا المنزلة الكريمة عنده ، يقول (عليه السلام) :

« ولو انهم - أي الأئمة - يا حمران حيث نزل بهم ما نزل من أمر اللّه عز وجل ، واظهار الطواغيت عليهم سألوا اللّه عز وجل أن يدفع ذلك عنهم والحوافي ازالة تلك الطواغيت ، وذهاب ملكهم اذن لأجابهم ، ورفع ذلك عنهم ، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذهاب ملكهم اسرع من رفع سلك منظوم انقطع فتبدد ، ما كان ذلك الذي اصابهم - يا حمران - لذنب اقترفوه ، ولا لعقوبة معصية خالفوا اللّه فيها ، ولكن لمنازل وكرامة من اللّه أن يبلغوها ، فلا تذهب فيك المذاهب فيهم .. » (1)

حثه على نشر مآثر الأئمة :

وكان (عليه السلام) يحث الرواة والمحدثين على اذاعة مآثر أئمة اهل البيت علیهم السلام ونشر فضائلهم لأنهم القدوة الحسنة لهذه الأمة ، يقول سعد الاسكاف : قلت : لأبي جعفر إني اجلس فأقص ، واذكر حقكم وفضلكم ، فشكر (عليه السلام) مساعيه وقال له :

ص: 205


1- ناسخ التواريخ 2 / 202.

« وددت على كل ثلاثين ذراعا قاصا مثلك » (1).

علم الأئمة :

وآمنت الشيعة منذ فجر تأريخها حتى يوم الناس هذا بأن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد وهبهم اللّه العلم والحكمة وفصل الخطاب ، كما وهب انبياءه ورسله ، ( ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) .

وقد اجمع المؤرخون والرواة على أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يملكون طاقات هائلة من العلم لم يملكها أي أحد من الناس ، وانهم قد فاقوا بمواهبهم وعبقرياتهم جميع العلماء الذين عاصروهم وجيرهم ، وليس فى هذا الايمان ، ولا في هذه الدعوى أية مؤاخذة بعد ما توفرت الأدلة على ذلك ، ألم يذع سيد العترة وزعيمها الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) من على منبر الكوفة قوله : « سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن طرق السماء فاني اعلم بها من طرق الأرض » ومعنى ذلك أن علومه ومعارفه قد تجاوزت شئون هذا الكوكب الذي يعيش عليه الانسان الى شئون الفضاء والمجرات وسائر الكواكب ، وانه قد احاط علما بأسرار الكون ، ودقائق الطبيعة.

ألم يقل هذا العملاق العظيم : ( لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل الانجيل بانجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل الفرقان بفرقانهم » وهذا يدل - بوضوح - على احاطته التامة بشئون جميع الشرائع والأديان ، ووقوفه على ما في تلك الكتب السماوية من احكام.

ألم يكن علي صاحب نهج البلاغة الذي هو أثرى كتاب عالمي عرفته الانسانية بعد القرآن الكريم ... هذا هو زعيم العترة الطاهرة باب

ص: 206


1- رجال الكشي ( ص 187 ).

مدينة علم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ووصيه الذي فاق جميع علماء الدنيا في مواهبه وعلومه ، وعلى هذا الطراز من سعة العلم الذي لا يحد سائر الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فهذا الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) حينما نصبه المأمون ولي عهده ، فاوعز الى جميع علماء الدنيا بالحضور الى خراسان لامتحان الامام واختباره ريثما يظهر عليه العجز فيتخذ ذلك وسيلة الى هدم مذهب التشيع وابطال ما ذهبت إليه الشيعة من أن الامام افضل اهل عصره ، واعلم اهل زمانه ، ولما اجتمع العلماء في خراسان أجزل لهم المأمون بالعطاء وندبهم الى مهمته ، وكان المدون لمسائلهم علي بن عيسى ، يقول وقد سئل الامام عن اربعة وعشرين الف مسألة ، وقد دونتها ، وتناولت علوما مختلفة من علم الفلك والنجوم والطب والفيزياء ، والفلسفة وعلم الكلام وغيرها ، وقد اجاب الامام عنها ، وما التقى به وفد من العلماء ، وخرج إلا وهو يقول بامامة الرضا ، وعقب علي بن عيسى كلامه بقوله : « ومن قال ان اللّه خلق افضل من علي بن موسى فلا تصدقه » (1).

وهذا ولده الامام محمد الجواد (عليه السلام) حينما آلت إليه الامامة بعد وفاة أبيه كان عمره الشريف لا يتجاوز العشر سنين فقربه المأمون وعظمه ، فحسده العباسيون ، وكلموا المأمون في أمره فعرفهم بامامته ، وان اللّه منحه العلم والفضل ، وميزه على الخلق اجمعين ، فانكروا ذلك عليه ، فعهد إليهم باختباره وامتحانه ، فخفوا الى يحيى بن اكتم الذي تقلد رئاسة القضاء ، وهو المع شخصية علمية في بغداد ، وطلبوا منه امتحان الامام (عليه السلام) فاجابهم الى ذلك ، وعقدوا مؤتمرا علميا في البلاط العباسي حضره كبار العلماء ، واقبل يحيى بن اكتم فسأل الامام عن اعقد المسائل واشكلها ،

ص: 207


1- عيون اخبار الرضا.

فأخذ الامام (عليه السلام) يحلل كل مسألة الى عدة فروع ، ويسأل يحيى عن أي فرع اراده ليجيبه عنه ، وذهل يحيى ، وبان عليه العجز ، وطلب من الامام ان يجيبه عن تلك الفروع التي شققها على مسألته ، فاجابه (عليه السلام) عنها ، وانفض المؤتمر ، وقد آمن جميع من حضر فيه بقدراته العلمية التي لا تحد ، وقد روى جميع المؤرخين هذه الباردة حتى ابن حجر ذكرها في صواعقه المحرقة ، فبأي شيء تعلل هذه الطاقات العلمية عند الامام الجواد وهو في سنه المبكرة؟

وعلى أي حال فان علم الأئمة (عليهم السلام) كعلم الأنبياء من دون أن يكون اي فرق بينهما وقد عرض لذلك الامام أبو جعفر (عليه السلام) فقد قال لبعض شيعته :

- ما تقول الشيعة في علي وموسى وعيسى؟

- جعلت فداك عن أي الحالات تسألني؟

- اسألك عن العلم

- هو واللّه اعلم منهما

- أليس يقولون : ان لعلي ما لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من العلم؟

- ولكن لا يقدمون على أولي العزم من الرسل أحدا

- فخاصمهم بكتاب اللّه

- في أي موضع منه

- يقول تعالى لموسى : ( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) وقال لعيسى : ( وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) (2) بينما

ص: 208


1- سورة الاعراف : آية 145.
2- سورة الزخرف : آية 63.

قال لمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : ( وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) (1) كما قال في نفس الآية ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) (2).

وقد تظافرت الاخبار ان علم الأئمة مستمد من علم جدهم الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد ورّث (صلی اللّه عليه وآله وسلم) علومه الى وصيه وباب مدينة علمه الامام أمير المؤمنين علیه السلام وقد ورثها من بعده الأئمة الطاهرون من ابنائه.

الملاحم التي اخبر عنها :

واجمع المؤرخون والرواة على أن أئمة اهل البيت (عليهم السلام) قد أخبروا عن وقوع كثير من الملاحم والاحداث ، وتحققت بعد ذلك على مسرح الحياة ، كما أخبروا عنها ، فقد اخبر الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) بما سيجري على الصحابي العظيم حجر بن عدي من صنوف القتل والتنكيل من قبل معاوية ، وجرى عليه ذلك ، واخبر (عليه السلام) عن حكومة مروان ابن الحكم القصيرة الأمد فقال (عليه السلام) : « ليحملن راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه ، وله امرة كلعقة الكلب أنفه » (3) وأخبر (عليه السلام) عن حكومة بني العباس فقد روى المبرد وغيره قال : لما ولد علي بن عبد اللّه ابن العباس جاء به ابوه الى الامام علي (عليه السلام) فقال له : ما سميته؟ فقال عبد اللّه : أو يجوز لي أن اسميه قبلك؟ فقال (عليه السلام) قد سميته باسمي ، وكنيته بكنيتي ، وهو أبو الاملاك (4) واخبر (عليه السلام) عن مصرع ولده أبي الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) فقد روى الاصبغ قال :

ص: 209


1- سورة النحل : آية 89.
2- نظرية الامامة لدى الاثنى عشرية ( ص 147 ) نقلا عن الكافي.
3- طبقات ابن سعد 5 / 30.
4- تهذيب التهذيب 7 / 358.

أتينا مع علي (عليه السلام) فمررنا بموضع قبر الحسين (عليه السلام) فقال علي : هاهنا مناخ ركابهم ، وهاهنا موضع رحالهم ، وهاهنا مهراق دمائهم ، فتية من آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض (1) كما اخبر (عليه السلام) عن الاحداث التي تجري آخر الزمان ، وما يخترعه الانسان من الآلات والاجهزة الحديثة ، وسائر الوان التقدم التكنلوجي في العالم ، كل ذلك اخبر عنه الامام (عليه السلام).

ولم تقتصر هذه الظاهرة على الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) وإنما شملت جميع أئمة اهل البيت (عليهم السلام) فهذا الامام الصادق قد قال : للمنصور الدوانيقي تتلاعب بها - أي الخلافة - الصبيان من ولدك (2) وقال علیه السلام : لابن عمه عبد اللّه بن الحسن انه لا يلي الخلافة وإنما يليها السفاح ، وتحقق جميع ما أخبر به.

وقد اعترف ابن خلدون بهذه الظاهرة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) يقول : « واذا كانت الكرامة تقع لغيرهم ، فما ظنك بهم علما ودينا ، وآثارا من النبوة ، وعناية بالاصل الكريم تشهد لفروعه الطيبة ، والشريعة قد قررت ان البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه اللّه عليه من عنده في نوم أو ولاية وقد وقع لجعفر وأمثاله من اهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه واللّه اعلم الكشف بما كانوا من الولاية ، فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة والكرامات الموهوبة » (3).

أما الملاحم التي اخبر عنها الامام أبو جعفر فهذه بعضها.

ص: 210


1- الرياض النضرة 2 / 222.
2- اثبات الوصية ( ص 182 ).
3- المقدمة ( ص 232 - 234 ).

1 - انه تنبأ بدولة بني العباس ، يقول أبو بصير : كنت مع محمد ابن علي إذ دخل المنصور وداود بن سليمان قبل ان يفضي الملك لبني العباس فجاء داود الى الامام محمد الباقر فسلم عليه ، فقال (عليه السلام) له :

« ما منع الدوانيقي أن يأتي؟ .. »

فاعتذر داود بن سليمان ، وقال : ان فيه جفاء ، واحاطه الامام (عليه السلام) علما بما يصير إليه المنصور قائلا :

« لا تذهب الأيام حتى يلي هذا الرجل أمر الخلق ، فيطأ اعناق الرجال ، ويملك شرقها وغربها ، ويطول عمره حتى يجمع من كنوز المال ما لا يجمع غيره .. »

وبادر داود نحو المنصور ، وهو يحمل إليه البشرى ، بما قاله الامام ، وخف المنصور مسرعا نحو الامام ليتبين مقالته فيه ، وأبدى للإمام معاذيره في عدم السلام عليه قائلا : ما منعني من الجلوس إليك إلا اجلالا لك ، ثم سأله عما اخبر به داود ، فقال (عليه السلام) :

« هو كائن .. »

وراح المنصور يطلب المزيد من الايضاح قائلا :

« ملكنا قبل ملككم؟. »

« نعم »

« ويملك أحد بعدي من ولدي.؟ »

« نعم »

« فمدة بني أمية أطول أم مدتنا؟. »

« مدتكم أطول ليلعبن بهذا الملك صبيانكم كما يلعبون بالكرة ، بهذا عهد إلي أبي .. »

ص: 211

وانصرف المنصور وهو جذلان مسرور قد صار على يقين بأن الملك سيؤل إليه ، وظلت مقالة الامام تراوده في جميع أوقاته فلما صارت إليه الخلافة تعجب من تنبأ الامام (1).

ويقول الدوانيقي : كنت هاربا من بني أمية أنا واخي أبو العباس فمررنا بمسجد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومحمد بن علي جالس ، فقال (عليه السلام) : لرجل إلى جانبه كأني بهذا الأمر قد صار الى هذين ، وأشار إلينا ، فجاء الرجل وأخبرنا بمقالته ، فملنا إليه وقلنا له : يا ابن رسول اللّه ما الذي قلت؟ فقال (عليه السلام) : هذا الأمر صائر إليكم عن قريب ولكنكم تسيئون إلى ذريتي ، وعترتي فالويل لكم (2) فكان كما اخبر (عليه السلام) وقد اساء المنصور حينما ولى الخلافة إلى ذرية رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعترته ، فنكل بهم كأفظع ما يكون التنكيل وقد قاست عترة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عهد هذا الطاغية من صنوف العذاب ما لم تقاسيه في عهد الامويين فقد كانت أيامه عليهم كلها محنة والما وعذابا.

2 - ومما انبأ عنه الامام أبو جعفر (عليه السلام) أنه أخبر عن الحجر الأسود وانه يعلق في الجامع الأعظم في الكوفة (3) وتحقق ذلك أيام القرامطة فقد اخذوه من الكعبة ، وجعلوه في جامع الكوفة باعتقادهم أن الحج يدور مداره ، وقد أرادوا ان يكون الحج إلى مسجد الكوفة وبقي فيه مدة تقرب من عشرين عاما ثم ارجع إلى مكانه.

3 - ومن الملاحم التي أخبر عنها غزو نافع بن الأزرق إلى يثرب ،

ص: 212


1- جامع كرامات الأولياء 1 / 97 ، الدر المسلوك مخطوط.
2- دلائل الامامة ( ص 96 ).
3- اتعاض الحنفاء للمقريزي ( ص 245 ).

واباحتها لجنوده ، يقول الامام الصادق (عليه السلام) : كان أبي في مجلس عام إذ اطرق برأسه إلى الأرض ثم رفعه وقال : يا قوم كيف أنتم إذا جاءكم رجل يدخل عليكم مدينتكم في اربعة آلاف حتى يستعرضكم على السيف ثلاثة ايام متوالية ، فيقتل مقاتلكم ، وتلقون منه بلاء لا تقدرون عليه ولا على دفعه ، وذلك من قابل - أي السنة التي تأتي - فخذوا حذركم ، واعلموا أن الذي قلت لكم هو كائن لا بد منه ، فلم يلتفت أهل المدينة إلى كلامه ، وقالوا : لا يكون هذا أبدا ، فلما كانت السنة المقبلة حمل ابو جعفر عياله ، وصحب معه جماعة من بني هاشم ، وخرجوا من المدينة ، فجاء نافع بن الأزرق فدخلها في اربعة آلاف واستباحها ثلاثة أيام ، وقتل فيها خلقا كثيرا (1) واستبان لأهل المدينة مدى صدق الامام في تنبوئه.

4 - واخبر (عليه السلام) عن شهادة أخيه زيد الشهيد العظيم فقد روى زيد ابن حازم قال : كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) فمر بنا زيد بن علي فقال لي ابو جعفر : أما رأيت هذا؟ ليخرجن بالكوفة ، وليقتلن ، وليطافن برأسه (2) ولم تمض الايام حتى قتل زيد بالكوفة وطيف برأسه في الاقطار والامصار.

5 - ومن الاحداث التي تنبأ عنها انه اخبر بهدم دار هشام بن عبد الملك ، وهي من اضخم الدور في يثرب ، وكان قد بناها باحجار الزيت ، قال

ص: 213


1- نور الابصار ( ص 130 ) جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام ( ص 134 ) الخرائج والجرائح ( ص 80 ) من مخطوطات مكتبة الحكيم.
2- نور الابصار ( ص 131 ).

علیه السلام : اما واللّه لتهدمن ، أما واللّه لتندر احجار الزيت ، يقول

أبو حازم : فلما سمعت هذا تعجبت منه وقلت : من يهدمها وامير المؤمنين هشام قد بناها!! فلما مات هشام وولي الخلافة من بعده الوليد امر بهدمها ، ونقل احجار الزيت منها حتى ندرت في يثرب (1).

6 - ومن الملاحم التي انبأ عنها ما رواه الفضيل قال : سألت أبا جعفر فقلت له : بلغنا أن لآل جعفر راية ، ولآل العباس رايتين فهل انتهى إليك من علم ذلك شيء؟ فقال (عليه السلام) :

« اما آل جعفر فليس لهم شيء ، ولا لأهل بيتي شيء ، واما آل العباس فان لهم ملكا عظيما ، يقربون فيه البعيد ، ويبعدون فيه القريب ، وسلطانهم عسر ليس فيه يسر حتى إذا آمنوا مكر اللّه ، وآمنوا عقابه صيح فيهم صيحة واحدة لا يبقى لهم منزل يجمعهم ، ولا اذن تسمعهم ، وهو قول اللّه عز وجل حتى إذا اخذت الارض زخرفها .. (2)

هذه بعض البوادر من الملاحم التي اخبر عنها الامام (عليه السلام) وهي تلقي الأضواء على مدى سعة علوم الامام (عليه السلام) واحاطته بمثل هذه الأمور التي منحها اللّه تعالى للأنبياء وأوصيائهم ، ومن الطبيعي ان الاقرار للأئمة (عليهم السلام) بهذه الظاهرة يحتاج إلى إيمان راسخ ويقين ثابت ، وقد اشار الامام ابو جعفر (عليه السلام) إلى ذلك بقوله : « ان حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل او عبد امتحن اللّه قلبه للأيمان » (3).

ص: 214


1- دلائل الامامة ( ص 110 ).
2- اثبات الهداة 5 / 310.
3- اعلام الورى من مخطوطات دار الآثار العراقية.

هذه بعض البحوث الكلامية واخباره عن المغيبات التي خاضها الامام (عليه السلام) وله بحوث أخرى في هذه المجالات سنذكرها عند البحث عن عصره.

علم الفقه :

أما فقه أهل البيت (عليهم السلام) فقد أخذ معظمه من الامامين الباقر وولده الصادق (عليه السلام) وقد حفلت موسوعات الفقه الامامي - كالحدائق والجواهر ومستمسك العروة الوثقى - بالروايات الكثيرة التي أثرت عنهما ، وإليها يرجع فقهاء الامامية في استنباطهم للأحكام الشرعية ، وفي اصدارهم للفتوى ، أما موسوعات الحديث كوسائل الشيعة والتهذيب ، ومن لا يحضره الفقيه وغيرها فاغلب ما فيها من الاحاديث قد أخذت عنهما ، وقد شكلت تلك الموسوعات دائرة معارف للفقه الاسلامي هي من أروع وأثرى ما قنن في عالم التشريع.

لقد جهد الامام الباقر وولده الصادق (عليه السلام) على نشر الفقه الاسلامي وتبنياه بصورة إيجابية في وقت كان المجتمع الاسلامي غارقا في الأحداث السياسية ، وقد أهملت الحكومات في تلك العصور الشؤون الدينية اهمالا تاما ، فلم تعد الشعوب الاسلامية تفقه من أمور دينها القليل ولا الكثير ، يقول الدكتور علي حسن : « وقد أدى تتبعنا للنصوص التأريخية إلى امثلة كثيرة تدل على هذه الظاهرة - أي اهمال الشؤون الدينية - التي كانت تسود القرن الأول سواء لدى الحكام أو العلماء أو الشعب ، ونعني بها عدم المعرفة بشئون الدين ، والتأرجح وعدم الجزم والقطع فيها حتى في العبادات ، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس خطب في آخر رمضان على منبر البصرة فقال : ( اخرجوا صدقة صومكم ) فكان الناس لا يعلمون ، فقال : من هاهنا من أهل المدينة ، فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم ، فانهم

ص: 215

لا يعلمون من زكاة الفطرة الواجبة شيئا (1) مما يدل على أن أهل البلاد الاسلامية لم يكونوا يعرفون شئون دينهم معرفة مفصلة ، وقد كان يوجد في بلاد الشام من لا يعرف عدد الصلوات المفروضة ، فراحوا يسألون الصحابة عن ذلك (2) وهذه مسألة أوقات الصلاة لم تكن معروفة عند عمر بن عبد العزيز (3) وبعض أهل العلم ، فكان العلماء يرون سنة مخصوصة في ذلك ، وكانت الحكومة ترى رأيا مخالفا ، وعلى هذا جاء الحديث « سيأتي في آخر الزمان أمراء يميتون الصلاة ، فأدوا الصلاة في وقتها » والمؤرخون المتقدمون إذا لم يعرفوا كيف يشرحون لنا هذه الحالة فانهم لم يجدوا أمامهم إلا سببا مفروضا ، وهو ان الامويين قد غيروا أوقات الصلاة برأيهم.

ولكن الحقيقة هو إنه في اثناء عصر بني أمية الذين كانوا لا يهتمون كثيرا بأمور الدين كان الشعب في الواقع قليل الفهم والمعرفة للفقه ومسائل الدين ، ولم يكن يعرف من هذه الشؤون إلا اهل المدينة وحدهم (4) .. » (5)

ص: 216


1- الاحكام في أصول الاحكام لابن حزم 2 / 131.
2- أبو داود 1 / 142 ، النسائي 1 / 42.
3- ان خفاء أوقات الصلاة على عمر بن عبد العزيز من الموضوعات والمفتريات عليه ، وسنعرض لذلك عند البحث عن سيرته.
4- يراجع في كيفية صلاة عمر بن عبد العزيز طبقات ابن سعد 5 / 47 ، والامامة والسياسة 2 / 143 ، ويراجع إلى عصر عبد الملك ابن مروان إنه لم تكن مسائل الحج قد عرفت تماما ، مصادر ذلك طبقات ابن سعد 5 / 170 ، اليعقوبي 2 / 358.
5- نظرة عامة في تأريخ الفقه الاسلامي ( ص 110 ).

ان الدور المشرق الذي قام به الامام الباقر والصادق في نشر الفقه وبيان احكام شريعة اللّه كان من اعظم الخدمات التي قدمت للعالم الاسلامي ولو لاها لخسر المسلمون اعظم ثروة دينية لهم.

وعلى أي حال فانه لما لم يكن في العالم الاسلامي - في تلك العصور - من هو أدرى بشئون الشريعة واحكام الدين غير الامامين (عليهما السلام) فقد أسرع إلى الأخذ من علومهما ابناء الصحابة والتابعون ، ورؤساء المذاهب الاسلامية كأبي حنيفة ومالك وغيرهما ، وقد تخرج على يد الامام أبي جعفر جمهرة كبيرة من الفقهاء كزرارة بن اعين ، ومحمد بن مسلم وابان ابن تغلب ، وإليهم يرجع الفضل في تدوين أحاديث الامام (عليه السلام) كما كانوا من مراجع الفتيا بين المسلمين ، وبذلك فقد اعاد الامام أبو جعفر (عليه السلام) للإسلام نضارته وحافظ على ثرواته الدينية من الضياع.

ومن الجدير بالذكر أن الشيعة هي أول من سبق إلى تدوين الفقه يقول مصطفى عبد الرزاق : « ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة لأن اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يشبه العصمة كان حريا إلى تدوين أقضيتهم وفتاواهم » (1) وبذلك فقد ساهمت الشيعة في بناء الصرح الاسلامي ، وحافظت على أهم ثرواته ... ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر في فقه أهل البيت (عليهم السلام) الذي هو مستمد من الرسول الاعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم).

مميزاته :

اشارة

ويمتاز فقه أهل البيت (عليهم السلام) بمميزات رائعة جعلته في قمة الفقه الاسلامي وغيره ، وهذه بعضها :

ص: 217


1- تمهيد لتأريخ الفلسفة الاسلامية ( ص 202 ).

1 - اتصاله بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) :

والشيء المهم في فقه اهل البيت (عليهم السلام) إنه يتصل اتّصالا مباشرا بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فطريقه إليه أئمة اهل البيت (عليهم السلام) الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وجعلهم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سفن النجاة ، وأمن العباد ، وعدلاء الذكر الحكيم حسبما تواترت الاخبار بذلك.

ومما لا شبهة فيه انهم سلام اللّه عليهم الصق الناس برسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وادرى بشئون شريعته وأحكامه من غيرهم فروايتهم عن جدهم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ان صح طريق سندها إليهم فهي من أصح الروايات إليهم وأقربها إلى الواقعية وبراءة الذمة ، وهذا مما دعا فقهاء الامامية إلى الاقتصار على روايات الأئمة في استنباطهم للأحكام الشرعية ، باعتبارها قد حازت على وثاقة الدليل واصالته اللذين يعتمد عليهما الفقيه ، وقد عرض الامام أبو جعفر علیه السلام إلى روايات الأئمة (عليهم السلام) وإنها لم تكن منهم وإنما هي مأخوذة عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يقول (عليه السلام) : « لو إننا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من قبلنا ، ولكنا حدثنا ببينة من ربنا بينها لنبيه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فبينها لنا » (1)

وسئل عن الحديث الذي يرسله ، ولا يسنده فقال (عليه السلام) : « إذا حدثت بالحديث فلم أسنده فسندي فيه أبي زين العابدين عن أبيه الحسين الشهيد عن أبيه علي بن أبي طالب عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن جبرائيل عن اللّه » (2) وهل هناك سند أشرق من هذا السند أو أصح منه؟ وهل يجد المسلم الذي يبتغي وجه اللّه والدار الآخرة طريقا يوصله إلى اللّه اسلم واضمن من هذا الطريق؟

ص: 218


1- اعلام الورى ( ص 270 ).
2- اعلام الورى ( ص 270 ).

2 - مرونته :

وفقه أهل البيت يساير الحياة ، ويواكب التطور ، ولا يشذ عن الفطرة ويتمشى مع جميع متطلبات الحياة ، فليس فيه - والحمد لله - حرج ولا ضيق ، ولا ضرر ، ولا اضرار ، وإنما فيه الصالح العام ، والتوازن في جميع مناحي تشريعاته ، وقد نال اعجاب جميع رجال القانون ، واعترفوا بأنه من أثرى ما قنن في عالم التشريع عمقا واصالة وابداعا.

ان فقه أهل البيت (عليهم السلام) ثبت يضيء للباحثين القوة التشريعية الدافعة المتقدم العلمي والحضاري وهو آية للعدل المطلق ، والحق المحض لأنه نابع من صميم الواقع فقد استعرض خلايا جسم الأمة ، فوضع الحلول الحاسمة لجميع مشاكلها.

3 - فتح باب الاجتهاد :

والشيء الذي تميز به فقه أهل البيت (عليهم السلام) عن بقية الفقه الاسلامي هو فتح باب الاجتهاد ، فقد دلل ذلك على اصالة فقه أهل البيت ، وتفاعله مع الحياة واستمراره في العطاء لجميع شئون الانسان ، وإنه لا يقف مكتوفا أمام الاحداث المستجد ، التي يبتلي بها الناس خصوصا في هذا العصر الذي استجدت فيه كثير من الأحداث التي لم تكن موجودة في العصور السابقة كالتلقيح الصناعي ، وغرس الاعضاء ، وغير ذلك من الأمور التي لا يوجد لها حل على غير مائدة فقه أهل البيت ، وقد أدرك كبار علماء المسلمين من الأزهر مدى الحاجة الملحة إلى فتح باب الاجتهاد ، ومتابعة الشيعة في هذه الظاهرة يقول احمد أمين : « وقد أصيب المسلمون بحكمهم على أنفسهم بالعجز ، وقولهم : بإقفال باب الاجتهاد لأن معناه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد ، ولا يرجى أن يكون ذلك

ص: 219

في المستقبل ، وإنما قال : هذا القول بعض المقلدين : لضعف ثقتهم بأنفسهم ، وسوء ظنهم بالناس .. » (1)

ويقول السيد رشيد رضا :

« ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما ، واما مضاره فكثيرة ، وكلها ترجع إلى إهمال العقل ، وقطع طريق العلم ، والحرمان من استغلال الفكر ، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد ، فصاروا إلى ما نرى .. » (2)

ان الاسلام - والحمد لله - قد نعى على الفكر الجمود ، ودعاه إلى الانطلاق في ميادين الفكر والعلم ، وليس من الحكمة في شيء اقفال باب الاجتهاد وفرض التقليد ، إذ ليس في الاجتهاد استحالة ، ولا فيه خروج على المنطق والدليل ، وأما اقفال بابه فقد كان في وقت خاص فرضته الحكومات القائمة في تلك العصور - حسبما يقوله المحققون -

4 - الرجوع الى حكم العقل :

وانفردت فقهاء الامامية عن بقية المذاهب الاسلامية فاعتبرت العقل أحد المدارك الأربعة لاستنباط الاحكام الشرعية ، وقد اضفت عليه اسمى الوان التقديس فاعتبرته رسول اللّه الباطني ، وإنه مما يعبد به الرحمن ، ويكتسب به الجنان ، ومن الطبيعي ان الرجوع إلى حكم العقل إذا لم يكن في المسألة نص وإلا فهو حاكم عليه ، وان للعقل مسرحا كبيرا في علم الاصول الذي يتوقف عليه الاجتهاد ، إذ اكثر مسائل الفقه يستند فيها الفقهاء إلى ما تقتضيه القواعد الاصولية فيها ، وعلى ضوء حكم العقل

ص: 220


1- يوم الاسلام ( ص 189 ).
2- الوحدة الاسلامية ( ص 99 ).

فقد حكموا بوجوب مقدمة الواجب ، وان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، كما حكموا بحجية الظن المطلق بناء على الحكومة لا على الكشف ، وارجعوا الخبرين المتعارضين إلى حكم العقل فان أيد احدهما فيؤخذ به حسبما دلت عليه الاخبار إلى غير ذلك من المسائل التي يرتبط موضوعها بحكم العقل ، وهذا مما يدعو إلى الاعتزاز والفخر بحيوية الفقه الامامي واصالته.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن مميزات الفقه الامامي.

مسائل فقهية :

وليس من المستطاع لي تدوين ما أثر عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) من المسائل الفقهية ، فان ذلك يستدعي تدوين موسوعة فقهية كبيرة ، فان معظم أبواب الفقه وبحوثه قد رويت عنه ، إلا أنا نذكر عرضا موجزا لبعض المسائل التي أثرت عنه ، وهي :

حكم القتال فى الاسلام :

وتحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) عن حكم القتال والحرب في الاسلام حينما سأله رجل من شيعته عن حروب الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له :

« بعث اللّه محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بخمسة أسياف : ثلاثة منها شاهرة لا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها ، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها فاذا طلعت الشمس من مغربها أمن الناس كلهم في ذلك اليوم فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، وسيف مكفوف ، وسيف منها مغمود ، سله إلى غيرنا ، وحكمه إلينا.

ص: 221

فأما السيوف الثلاثة الشاهرة : فسيف على مشركي العرب ، قال اللّه عز وجل : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (1) ( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (2) هؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الاسلام ، وأموالهم فيء وذراريهم سبي على ما سن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فانه سبى وعفا ، وقبل الفداء.

والسيف الثاني : على أهل الذمة قال اللّه سبحانه ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) (3) نزلت هذه الآية في أهل الذمة ، ونسخها قوله : ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) (4) فمن كان منهم في دار الاسلام فلن يقبل منهم إلا الجزية أو القتل ، ومالهم فيء ، وذراريهم سبي ، فاذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم وحرمت أموالهم ، وحلت لنا مناكحهم (5) ومن كان منهم في دار الحرب حل لناسبيهم وأموالهم ، ولم تحل لنا مناكحتهم ، ولم يقبل منهم إلا دخول دار الاسلام والجزية أو القتل.

والسيف الثالث : على مشركي العجم كالترك والديلم والخزر ، قال اللّه عز وجل : في أول السورة التي يذكر فيها الذين كفروا فقص قصتهم ،

ص: 222


1- سورة التوبة : آية 5.
2- سورة التوبة : آية 11.
3- سورة البقرة : آية 83.
4- سورة التوبة : آية 30.
5- في التهذيب والكافي « مناكحتهم ».

ثم قال : ( فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) (1).

فأما قوله : ( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ ) يعني بعد السبي منهم ( وَإِمَّا فِداءً ) يعني المفاداة بينهم ، وبين أهل الاسلام ، فهؤلاء لن يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الاسلام ، ولا يحل لنا نكاحهم ما داموا في الحرب.

وأما السيف المكفوف : فسيف على أهل البغي والتأويل قال اللّه : ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ ) (2) فلما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ان منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل ، فسئل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من هو؟ فقال : خاصف النعل - يعني أمير المؤمنين - وقال عمار بن ياسر : قاتلت بهذه الراية مع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثلاثا (3) وهذه الرابعة واللّه لو ضربونا حتى يبلغوا بنا السعفات من هجر (4) لعلمنا أنا على الحق ، وانهم على الباطل ، وكانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل ما كان من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أهل مكة يوم فتحها فانه لم يسب لهم ذرية ، وقال : من أغلق بابه فهو

ص: 223


1- سورة محمد : آية 4.
2- سورة الحجرات : آية 9.
3- الثلاث : التي قاتل مع تلك الراية الصحابي العظيم عمار بن ياسر هي : يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين ، وكان يتزعم تلك الحروب أبو سفيان عميد الأمويين.
4- هجر : - بالتحريك - بلدة باليمن ، كما إنها اسم لجميع أرض البحرين.

آمن ، ومن القى سلاحه فهو آمن ، وكذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : يوم البصرة نادى فيهم لا تسبوا لهم ذرية ، ولا تدففوا على جريح (1) ولا تتبعوا مدبرا ، ومن اغلق بابه والقى سلاحه فهو آمن.

والسيف المغمود : فالسيف الذي يقام به القصاص قال اللّه عز وجل ( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) (2) فسله إلى اولياء المقتول وحكمه إلينا.

فهذه السيوف التي بعث اللّه بها محمدا (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فمن جحدها أو جحد واحدا منها أو شيئا من سيرها فقد كفر بما أنزل اللّه تبارك وتعالى على محمد نبيه .. » (3)

واستمد فقهاء المسلمين الاحكام التي رتبوها على قتال أهل البغي من سيرة الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب الجمل ، كما أخذوا عن أئمة الهدى (عليهم السلام) الكثير من الاحكام في هذه المسألة

المسح على الخفين :

وجوز فقهاء المذاهب الاسلامية المسح على الخفين في الوضوء ، ولم يعتبروا مماسة اليد لظاهر القدمين (4) أما أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فاعتبروا المماسة ولم يسوغوا غيرها ، يقول الربيع : سألت أبا اسحاق عن المسح؟ فقال : أدركت الناس يمسحون - يعني على الخفين - حتى لقيت رجلا من بني

ص: 224


1- لا تدففوا على جريح : أي لا تجهزوا عليه.
2- سورة المائدة : آية 47.
3- تحف العقول ( ص 288 - 290 ) ورواه الكليني في فروع الكافي ، والشيخ الصدوق في الخصال ، والشيخ الطوسي في التهذيب.
4- الخلاف 1 / 18.

هاشم لم أر مثله قط يقال له محمد بن علي بن الحسين فسألته عن المسح؟ فنهاني عنه ، وقال : لم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) يمسح ، وكان يقول : سبق الكتاب المسح على الخفين (1).

لقد دل الكتاب العظيم على اعتبار المماسة قال تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) والآية ظاهرة أشد الظهور فيما حكم به أهل البيت علیهم السلام .

مس الفرج لا ينقض الوضوء :

وذهب الشافعي إلى أن مس الفرج من نواقض الوضوء ، وتمسك بذلك بما روى عن ابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة وسعيد ابن المسيب ، وسليمان بن يسار من ان مس الفرج من نواقض الوضوء ، أما الامام ابو جعفر (عليه السلام) وسائر أئمة اهل البيت (عليهم السلام) فانهم لا يرون ذلك ، روى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : « ليس في القبلة ولا المباشرة ، ولا مس الفرج وضوء » (2) ويضاف إلى ذلك ثبوت حكم الطهارة وجريان استصحابها ، وان نقضها يحتاج الى دليل.

الجهر فى صلاة الاخفات :

وذهب فقهاء المذاهب الاسلامية إلى أن الجهر في صلاة الاخفات أو الاخفات في صلاة الجهر متعمدا غير مبطل للصلاة ، أما في فقه مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فانه مبطل للصلاة فقد روى زرارة عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه أو اخفى فيا لا ينبغي

ص: 225


1- روضة الواعظين ( ص 243 ).
2- الخلاف 1 / 23.

الاخفاء فيه ، فقال (عليه السلام) : ان فعل ذلك متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الاعادة ، وإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمت صلاته (1).

الصلاة على آل النبي في التشهد :

وذهب اكثر فقهاء المسلمين الى وجوب الصلاة على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في التشهد ، وقد روى جابر الجعفي عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال : قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : « من صلى صلاة لم يصل فيها علي ، ولا على أهل بيتي لم تقبل منه (2).

هذه بعض المسائل الفقهية التي أدلى بها الامام أبو جعفر (عليه السلام) ومعظم أبواب الفقه اصولا وفروعا قد اخذت عنه ، كما ذكرنا ذلك.

علم الاصول :

من العلوم التي فتق أبوابها الامام الباقر (عليه السلام) علم الاصول ، وهو من أجل العلوم الاسلامية بعد علم الفقه لأن الاجتهاد يتوقف عليه فانه لا يكون المجتهد قد حصل على ملكة الاجتهاد حتى يجتهد في بحوث هذا العلم (3).

وقد اتفق البحاث والعلماء على أن الامام أبا جعفر (عليه السلام) هو اسبق من اسس هذا العلم ، وارسى قواعده ، يقول السيد حسن الصدر : « ان أول من فتح بابه - أي باب علم الاصول - وفتق مسائله هو باقر العلوم الامام أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وبعده ابنه أبو عبد اللّه

ص: 226


1- الخلاف 1 / 130.
2- الخلاف 1 / 131.
3- كفاية الاصول الجزء الثاني باب الاجتهاد والتقليد.

الصادق (عليه السلام) وقد امليا فيه على جماعة من تلامذتهما قواعده ومسائله جمعوا من ذلك مسائل رتبها المتأخرون على ترتيب مباحثه ككتاب ( اصول آل الرسول ) وكتاب « الفصول المهمة في أصول الأئمة » وكتاب « الاصول الاصيلة » كلها بروايات الثقات مسندة ، متصلة الاسناد إلى أهل البيت علیهم السلام . » (1).

وفيما يلي بعض القواعد الاصولية التي أسسها الامام (عليه السلام) أو نقلها عن اجداده الطاهرين ، وإليها يرجع الفقهاء عند عدم النص على الحكم الشرعي. وان كانت الكثير منها قواعد فقهية إلا ان علماء الاصول ذكروها استطرادا في علم الاصول ونحن نذكرها كذلك.

الاستصحاب :

وهو احد الاصول الأربعة التي يرجع إليها الشاك في مقام العمل ، أما سبب شكه فيرجع اما إلى فقدان النص أو اجماله ، أو الى تعارض النصوص وتساقطها فيما إذا تكافأت ، ولم يكن أحدهما ارجح من الآخر ، ولا يجري الاستصحاب حتى يتوفر في المستصحب اليقين السابق والشك اللاحق ، وقد نص الامام (عليه السلام) على حجية الاستصحاب في كثير من المسائل التي سئل عنها خصوصا في أبواب الشك في الصلاة ، وقد ذكرت تلك الاخبار في ( وسائل الشيعة ) وغيرها من الموسوعات الفقهية.

قاعدة التجاوز :

وتعنى هذه القاعدة الحكم بوجود الشيء المشكوك بعد الدخول في غيره مما هو مترتب عليه (2) كما إذا شك في القراءة وقد ركع ، وقد

ص: 227


1- الشيعة وفنون الاسلام ( ص 95 ).
2- حقائق الاصول 2 / 547.

تظافرت الاخبار عن الامام الباقر (عليه السلام) وولده الامام الصادق (عليه السلام) في عدم العناية بالشك والمضي في الصلاة.

قاعدة الفراغ :

وهي عبارة عن الحكم بصحة الفعل الموجود في ظرف الشك في صحته (1) وقد استفيدت هذه القاعدة من موثق محمد بن مسلم عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) قال : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » (2) كما دلت على ذلك صحيحة محمد بن مسلم عنه (عليه السلام) جاء فيها « كلما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فأمضى ولا تعد » (3) وعلى ضوء الموثقة والصحيحة افتى فقهاء الامامية بعدم الاعتناء بالشك في افعال الصلاة بعد الفراغ منها.

قاعدة نفي الضرر :

من القواعد المهمة في التشريع الاسلامي قاعدة « نفي الضرر » ومفادها نفي الحكم المؤدي إلى الضرر - كما يرى ذلك الشيخ الانصاري - ويترتب عليها كثير من الاحكام ذكرها الفقهاء ، وقد نص الامام أبو جعفر (عليه السلام) على مدرك هذه القاعدة فقد قال (عليه السلام) : لزرارة : إن سمرة بن

ص: 228


1- حقائق الاصول 2 / 547.
2- مستمسك العروة الوثقى 7 / 350.
3- مستمسك العروة الوثقى 7 / 349.

جندب (1) كان له عذق (2) في حائط لرجل من الانصار ، وكان منزل الانصاري بباب البستان ، وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلمه الانصاري أن يستأذن اذا جاء فأبى سمرة فجاء الانصاري إلى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فشكى إليه ، وأخبره بالخبر ، فأرسل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إليه واخبره بقول الانصاري ، وما شكاه ، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا اردت الدخول فاستأذن فأبى ، فلما أبى ساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء اللّه ، فأبى أن يبيعه ، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لك بها عذق في الجنة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه (3) فانه لا ضرر ولا ضرار (4).

وقد ذكر الاصوليون مفاد هذا الحديث ، وشرحوا مفردات الفاظه ، وما يترتب عليه من الاحكام.

ص: 229


1- سمرة بن جندب الصحابي الكذاب كان من سماسرة معاوية واعوانه على نشر الظلم والارهاب ، استعمله زياد بن أبيه واليا على البصرة فأسرف في قتل الابرياء فقتل - فيما يقول المؤرخون ثمانية آلاف ، وفي تأريخ الطبري 6 / 632 ان أبا سوار العدوي قال : قتل سمرة من قومي في غداة سبعة واربعين رجلا ممن جمع القرآن ، وقد تحدثنا بصورة مفصلة عن جرائمه في كتابنا « حياة الامام الحسن » 2 / 186 - 191.
2- العذق : - بفتح العين - النخلة ، وبكسرها عنقود التمر.
3- في رواية الحذاء عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) : « ما أراك يا سمرة إلا مضار اذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه؟
4- إيضاح الكفاية 3 / 439 مخطوط للمؤلف.

علاج التعارض :

اشارة

ووردت أخبار كثيرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) متعارضة في مدلولها بين النفي والايجاب في موضوع واحد ، ومن المعلوم استحالة هذا اللون من التناقض في احاديث الأئمة ، اما سبب التعارض فلا يخلو من أحد أمرين « الأول » صدور أحدهما للتقية ، فقد ابتلي الأئمة الطاهرون بفراعنة زمانهم الذين جهدوا على ظلمهم ، والتنكيل بهم وبشيعتهم ، وقد احاطوا مجالسهم بمباحثهم لحجبهم عن المسلمين ، فكانت ظروفهم قاسية وحرجة ، فاذا سألوا عن مسألة ، وشكوا في أمر السائل أو كان في المجلس من يخافون منه افتوا بالمسألة على وفق رأي الجمهور حذرا من التنكيل ، وسنتحدث عن هذه الجهة بالتفصيل في البحوث الآتية « الثاني » أن يكون أحد الخبرين من الموضوعات عليهم فان وضع الحديث وافتعاله قد كثر في تلك العصور ، وسنعرض لذلك عند البحث عن مشاكل عصر الامام.

وكانت معرفة الخبر الصحيح وتميزه عن غيره في مجالات التعارض تهم المتحرجين في دينهم من الرواة فخفوا إلى الامام أبي جعفر (عليه السلام) وسألوه عن ذلك فوضع (عليه السلام) البرامج العلاجية لذلك وهي :

1 - الشهرة :

ونعنى بها الشهرة في الرواية لا في الفتوى فاذا كان أحد الخبرين المتعارضين مشهورا بين الرواة فيؤخذ به ، واما الشاذ النادر من الخبرين فيطرح يقول (عليه السلام) : لزرارة « يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ،

ص: 230

ودع الشاذ النادر » (1) ومعنى هذا ان الشاذ النادر من الخبرين يطرح ولا يؤخذ به ، ويعول على الخبر المشهور بين الرواة.

2 - موافقة الكتاب والسنة :

والمقياس الثاني الذي وضعه الامام أبو جعفر لعلاج التعارض هو عرض الخبرين المتعارضين على الكتاب والسنة فان اتفق أحدهما مع منطوق الكتاب والسنة فيؤخذ به ويطرح الآخر يقول (عليه السلام) لبعض أصحابه : « لا تصدق علينا إلا بما يوافق كتاب اللّه وسنة نبيه ».

3 - الترجيح بالصفات :

الطريق الثالث : لمعرفة الخبر الصحيح هو النظر في صفات الراوي من حيث الوثاقة والعدالة ، فتقدم روايته على من لا تتوفر فيه هذه الصفات ، يقول الامام أبو جعفر لزرارة : « خذ بما يقوله أعدلهما عندك ، وأوثقهما ».

ودلت هذه الرواية على أن عدالة الراوي ووثاقته من موجبات الترجيح لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر ... وبهذا ينتهي بنا الحديث عن القواعد الاصولية التي القاها الامام (عليه السلام) في بحوثه ومحاضراته.

بحوث اقتصادية :

اشارة

وعرض الامام (عليه السلام) في محاضراته وسيرته الى أهم المباحث الاقتصادية ، وهذه بعضها :

ص: 231


1- غوالي اللئالي لأبي جمهور الاحسائي ، رواه عن العلامة مرفوعا إلى زرارة.

1 - ضرورة تحسين المعيشة :

ودعا الامام (عليه السلام) إلى الجد والسعي في طلب المعيشة لينعم الانسان مع عائلته بالرفاه والرخاء ، ويتجنب الفقر والبؤس ، قال (عليه السلام) :

« من تسلح لطلب المعيشة خفت مئونته ، ورخا باله ، ونعم عياله .. »

قال (عليه السلام) : « بسعة الخلق تطيب المعيشة .. »

إن التسلح لطلب المعيشة والجد فيها مما يوفر للإنسان الحياة الاقتصادية الحافلة بالرخاء والنعم ، وهدوء البال والاستقرار ، وان الحياة إنما تطيب وتنعم اذا كانت في ظلال الرخاء لا في ظلال البؤس والشقاء.

2 - التحذير من الكسل :

وحذر الامام أبو جعفر (عليه السلام) من الكسل لأنه موجب لشل الحركة الاقتصادية وتجميد الطاقات الانسانية ، ونشر الفساد في الأرض ، يقول علیه السلام : « الكسل يضر بالدين والدنيا » (1).

أما ان الكسل يضر بالدين فانه يمنع من ذكر اللّه واداء فرائضه وواجباته فان الكسول يتقاعس عن الاتيان بالواجبات الدينية ، وأي ضرر اعظم من هذا الضرر؟ واما إنه يضر بالدنيا فان الكسول - دائما - يميل إلى الخمول ، ويرغب أن يعيش حياة بائسة تسودها الحاجة والفقر ولا يدخل في ميادين العمل التي تضمن له الرخاء والسعادة.

وحذر (عليه السلام) بعض ابنائه من الكسل فقال له : « إياك والكسل والضجر فانهما مفتاح كل شر ، من كسل لم يؤد حقا ، ومن ضجر لم يصبر على حق .. » (2)

ص: 232


1- تحف العقول.
2- تحف العقول.

ان الاسلام - بكل اعتزاز يريد انطلاق الانسان في هذه الحياة يريده ان يعمل وينتج ، كما يريد له أن يؤدي حقوق الناس ، ويرتبط معهم ، ويؤدي ما عليه من الواجبات ، ومن الطبيعي ان الانسان اذا اصيب بداء الكسل فانه يهمل حقوق اللّه وحقوق الناس.

3 - مقت لتارك العمل :

كان الامام أبو جعفر (عليه السلام) يمقت تارك العمل لأنه يؤدي إلى ضعف الانتاج ، وزيادة البطالة ، وانتشار الازمات الاقتصادية في البلاد ، يقول (عليه السلام) : « اني أجدني امقت الرجل يتعذر عليه المكاسب فيستلقي على قفاه ، ويقول : اللّهم ارزقني ، ويدع أن ينتشر في الأرض ، ويلتمس من فضل اللّه والذرة (1) تخرج من جحرها تلتمس رزقها. » (2)

4 - العمل طاعة لله :

وكان الامام أبو جعفر (عليه السلام) يرى أن في العمل طاعة لله ، فكان (عليه السلام) يعمل بنفسه في اصلاح ارض له ، يقول محمد بن المنذر : خرجت إلى بعض نواحي المدينة ، فلقيني أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) وكان بادنا ثقيلا ، وهو متّكئ على غلامين أسودين ، وموليين ، فقلت في نفسي : سبحان اللّه شيخ من اشياخ قريش في هذه الحالة ، وفي هذه الساعة يخرج في طلب الدنيا!! أما اني لأعظنه ، فدنوت منه ، فسلمت عليه ، وهو يتصاب عرقا ، فقلت له :

« أصلحك اللّه ، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة يخرج لطلب

ص: 233


1- الذرة : النملة الصغيرة.
2- العمل وحقوق العامل في الاسلام الطبعة الثانية ( ص 139 ).

الدنيا؟!! أرأيت لو جاء أجلك على هذه الحالة ما كنت تصنع؟ .. »

فاجابه الامام بمنطق الاسلام قائلا :

« لو جاءني الموت ، وأنا في طاعة من طاعات اللّه عز وجل اعمل فاكف نفسي وعيالي عنك وعن الناس ، وإنما كنت اخاف لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي اللّه .. »

فخجل محمد ، ولم يطق جوابا ، وانبرى يقول : « صدقت يرحمك اللّه أردت أن اعظك فوعظتني .. »

ان العمل طاعة من طاعات اللّه - على حد تعبير الامام - لأن به كف النفس ، وكف العيال من الاحتياج عما في أيدي الناس.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض البحوث الاقتصادية التي خاضها الامام (عليه السلام) كما ينتهي بنا الحديث عن العلوم التي عرضها في بحوثه ومحاضراته.

مع العلم والعلماء :

اشارة

وتحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) كثيرا عن أهمية العلم ، وحث على طلبه لأنه الدعامة الأولى الذي ترتكز عليه حياة الأمم والشعوب ، كما اشاد (عليه السلام) بفضل العلماء لأنهم مصدر الوعي والتوجيه للأمة ، وفيما يلي بعض ما أثر عنه في ذلك.

1 - فضل العلم :

ومجد الامام أبو جعفر (عليه السلام) العلم ، ودعا إليه ، وحث على طلبه ، وأثنى على طلابه ، يقول (عليه السلام) :

« تعلموا العلم فان تعلمه جنة ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ،

ص: 234

والبحث عنه جهاد ، وتعليمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، والعلم منار الجنة ، وانس الوحشة ، وصاحب في الغربة ، ورفيق في الخلوة ، ودليل على السراء ، وعون على الضراء ، وزين عند الاخلاء ، وسلاح على الاعداء ، يرفع اللّه به قوما ليجعلهم في الخير أئمة ، يقتدى بفعالهم ، وتقتص آثارهم ، ويصلي عليهم كل رطب ويابس ، وحيتان البحر وهوامه ، وسباع البر وانعامه .. » (1)

لا اعرف كلمة مجدت العلم ، وقيمت أهله ، واحاطت بثمراته وفوائده كهذه الكلمة الذهبية التي من حقها أن ترسم في معاهد العلم وجامعاته.

2 - فضل العالم :

واشاد (عليه السلام) بفضل العالم ، وبين مكانته الاجتماعية ، وما أعد اللّه له من مزيد الأجر ، وفيما يلي بعض ما أثر عنه.

أ - قال (عليه السلام) : « عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد .. » (2)

ب - قال (عليه السلام) : « من علم باب هدى فله مثل أجر من عمل به ، ولا ينقص اولئك من أجورهم شيئا ، ومن علم باب ضلالة كان عليه مثل وزر من عمل به ولا ينقص اولئك من أوزارهم شيئا .. » (3)

ج - قال (عليه السلام) : « ما من عبد يغدو في طلب العلم ويروح إلا خاض الرحمة خوضا .. » (4)

ص: 235


1- تذكرة ابن حمدون ( ص 26 ).
2- جامع بيان العلم وفضله 1 / 32 ، جامع السعادات 1 / 104 ، تحف العقول ( ص 294 ).
3- أصول الكافي 1 / 34.
4- ناسخ التواريخ 2 / 205.

3 - مجالسة العلماء والمتقين :

وحث الامام (عليه السلام) على مجالسة العلماء والمتحرجين في دينهم للاستفادة من هديهم وسلوكهم يقول (عليه السلام) : « لمجلس أجلسه الى من أثق به ، أوثق في نفسي من عمل سنة .. » (1)

4 - مذاكرة العلم :

ودعا (عليه السلام) إلى المذاكرة في العلوم لأنها تفتح آفاقا واسعة في ميادين المعرفة والعلم يقول (عليه السلام) : « تذاكر العلم دراسة ، والدراسة صلاة حسنة. » (2)

5 - آداب المتعلم :

ووضع (عليه السلام) البرامج الرائعة لآداب المتعلمين يقول (عليه السلام) : « إذا جلست إلى عالم فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول : وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول ، ولا تقطع على أحد حديثه ... » (3)

6 - بذل العلم :

ودعا (عليه السلام) إلى بذل العلم واشاعته بين الناس حتى لا يبقى جاهل يقول (عليه السلام) : « زكاة العلم أن تعلمه عباد اللّه » (4) وقال (عليه السلام) : « ان الذي تعلم العلم منكم له أجر مثل الذي يعلمه ، وله الفضل عليه ،

ص: 236


1- أصول الكافي 1 / 34.
2- أصول الكافي 1 / 41.
3- ناسخ التواريخ 2 / 205.
4- أصول الكافي 1 / 41.

تعلموا العلم من حملة العلم ، وعلموه إخوانكم كما علمكم العلماء » (1).

7 - الحث على التعلم :

وحث الامام على التعلم والسؤال من أهل العلم يقول (عليه السلام) : « العلم خزائن والمفاتيح السؤال ، فاسألوا يرحمكم اللّه فانه يؤجر في العلم أربعة السائل والمتكلم ، والمستمع ، والمحب لهم. » (2)

8 - التفقه في الدين :

ودعا (عليه السلام) الى التفقه في الدين ، ومعرفة الحلال والحرام ، قال (عليه السلام) :

« الكمال كل الكمال التفقه في الدين ، والصبر على النائبة ، وتقدير المعيشة. » (3)

إن التفقه في الدين مما يحفظ توازن الانسان وسلوكه ، ويبعده عن اقتراف أي شذوذ أو انحراف عن الدين.

9 - العمل بالعلم :

وحث (عليه السلام) أهل العلم بتطبيق ما علموه على واقع حياتهم ، يقول علیه السلام : « اذا سمعتم العلم فاستعملوه ، ولتتسع قلوبكم ، فان العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله قدّر الشيطان عليه ، فاذا خاصمكم الشيطان ، فاقبلوا عليه بما تعرفون ، فان كيد الشيطان كان ضعيفا ، فقال له ابن أبي ليلى : وما الذي نعرفه؟ قال (عليه السلام) : خاصموه بما ظهر

ص: 237


1- ناسخ التواريخ 2 / 205.
2- الخصال ( ص 223 ).
3- أصول الكافي 1 / 32.

لكم من قدرة اللّه عز وجل. » (1)

10 - قبول العمل بالمعرفة :

والمعرفة شرط في قبول العمل ، فمن يعمل من دون معرفة اللّه ولا للواجب الذي يؤديه فلا أثر لعمله قال (عليه السلام) : « لا يقبل عمل إلا بمعرفة ، ولا معرفة إلا بعمل ، ومن عرف دلته معرفته على العمل ، ومن لا يعرف فلا عمل له .. » (2)

11 - ذم المباهاة بطلب العلم :

وحذر الامام أبو جعفر (عليه السلام) من المباهاة والافتخار بطلب العلم ، وحث أهل العلم ان يجهدوا نفوسهم على التقرب به إلى اللّه ، وأن يلتمسوا به الدار الآخرة قال (عليه السلام) : « من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء ، أو يعرف به وجوه الناس فليتبوّأ مقعده من النار ، ان الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها .. » (3)

ان هذه الدواعي الفاسدة ، والاغراض السقيمة لتحبط الأجر الجزيل الذي أعده اللّه لطالب العلم الديني الذي هو داعية اللّه في الأرض ، وعليه ان أراد النجاح في الدنيا والسعادة في الآخرة ان يخلص في نيته لله ، ولا يبتغي غير وجهه.

12 - الفتوى بغير علم :

واثرت عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) عدة احاديث تنهى عن الفتيا

ص: 238


1- أصول الكافي 1 / 45.
2- تحف العقول ( ص 294 ).
3- اصول الكافي 1 / 47 ، جامع السعادات 1 / 106.

بغير علم لأنها مصدر لغواية الناس وضلالهم ، وهذه بعض ما أثر عنه.

أ - قال (عليه السلام) : « من افتى الناس بغير علم ، ولا هدى لعنته ملائكة الرحمن وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه .. » (1)

ب - قال (عليه السلام) : « ما علمتم فقولوا : وما لم تعلموا فقولوا : اللّه اعلم ، ان الرجل ينتزع الآية من القرآن يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض .. » (2)

ج - سأل زرارة الامام أبا جعفر (عليه السلام) فقال له : ما حق اللّه على العباد؟ قال (عليه السلام) : « ان يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون .. » (3)

د - قال (عليه السلام) : « للعالم اذا سئل عن شيء وهو لا يعلمه أن يقول : اللّه أعلم وليس لغير العالم أن يقول ذلك .. » (4)

13 - صفات العالم :

وتحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) في كثير من احاديثه عن صفات العلماء وهذه بعضها :

أ - قال (عليه السلام) : « لا يكون العبد عالما حتى لا يكون حاسدا لمن فوقه ، ولا محقرا لمن دونه .. » (5)

ان العالم إنما يكون عالما فيما إذا صفت نفسه من الحسد الذي هو من اعظم الآفات النفسية ، فهو الذي يلقي الناس في البلاء ، ويجر لهم

ص: 239


1- اصول الكافي 1 / 42.
2- أصول الكافي 1 / 43.
3- أصول الكافي 1 / 42.
4- تحف العقول ( ص 297 ).
5- تحف العقول ( ص 294 ).

الويلات والخطوب ، كما ان العالم لا يكون عالما فيما إذا احتقر من دونه فانه ينم عن عدم انتفاعه بالعلم الذي يدعو الى تكريم الناس ، ومقابلتهم بالاخلاق الرفيعة ، فان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إنما بعث ليتمم مكارم الاخلاق ، وإذا تجرد العالم من هذه الظاهرة فقد شذ عن سنن الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واخلاقه.

ب - قال (عليه السلام) : « ان الفقيه حق الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، المتمسك بسنة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .. » (1)

ج - قال (عليه السلام) : اذا رأيتم القارئ - أي العالم - يحب الاغنياء فهو صاحب دنيا ، واذا رأيتموه يلزم السلطان من غير ضرورة فهو لص .. » (2)

ان حب العالم للأغنياء إنما هو للطمع في أموالهم ، وما يستفيده منهم وهذا ليس من اخلاق العلماء الذين أمروا أن يرجوا ما عند اللّه ، ولا يرجون غيره ، واما ملازمة السلطان من غير حاجة ، ولا ضرورة فانه ينم عن عدم واقعية ذلك العالم ، وانه لص - على تعبير الامام - وهجأ محمود الوراق العلماء الذين لازموا دوائر السلطان يقول :

ركبوا المراكب واغتدوا *** زمرا الى باب الخليفة

وصلوا البكور الى الرواح *** ليبلغوا الرتب الشريفة

حتى إذا ظفروا بما طلبوا *** من الحال اللطيفة

وغدا الموالي منهم فرحا *** بما تحوى الصحيفة

وتعسفوا من تحتهم *** بالظلم والسير العنيفة

ص: 240


1- أصول الكافي 1 / 70.
2- الامام الصادق ( ص 24 ) لأبي زهرة.

خانوا الخليفة عهده *** بتعسف الطرق المخوفة

باعوا الامانة بالخيانة *** واشتروا بالأمن جيفة

عقدوا الشحوم واهزلوا *** تلك الامانات السخيفة

ضاقت قبور القوم وات *** سعت قصورهم المنيفة

من كل ذي أدب ومع *** رفة وآراء حصيفة

متفقه جمع الحدي *** ث الى قياس أبي حنيفة

فاتاك يصلح للقض *** اء بلحيفة فوق الوظيفة

لم ينتفع بالعلم اذ *** شغفته دنياه الشغوفة

نسي الاله ولاذ في *** الدنيا بأسباب ضعيفة (1)

ويقول أبو العتاهية في هجائهم :

عجبا لأرباب العقول *** والحرص في طلب الفضول

سلاب أكسية الارا *** مل واليتامى والكهول

والجامعين المكثري *** ن من الخيانة والغلول

والمؤثرين لدار رحلتهم *** على دار الحلول

وضعوا عقولهم من الد *** نيا بمدرجة السيول

ولهوا بأطراف الفر *** وع واغفلوا علم الاصول

وتتبعوا جمع الحط *** أم وفارقوا أثر الرسول (2)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عما أثر عن الامام (عليه السلام) في فضل العلم وتكريم حملته ، وما ينبغي أن يتصفوا به من معالي الاخلاق ليكونوا قدوة للأمة.

ص: 241


1- جامع بيان العلم وفضله 1 / 201.
2- جامع بيان العلم وفضله 1 / 201.

فى رحاب الايمان :

اشارة

وحلل الامام أبو جعفر (عليه السلام) في احاديثه حقيقة الايمان ، ومراتبه ، تحدث عن صفات المتقين ، ونعم اللّه عليهم ، وغير ذلك ، وهذا بعض ما أثر عنه.

1 - حقيقة الايمان :

وحدد الامام (عليه السلام) حقيقة الايمان بقوله : « الايمان ثابت في القلوب ، واليقين خطرات ، فيمر اليقين بالقلب فيصير كأنه زبر الحديد ، ويخرج منه فيصير كأنه خرقة بالية .. » (1)

إن الايمان إذا استقر في اعماق القلوب ودخائل النفوس فانها تكون في صلابتها كزبر الحديد فتتحمل الأهوال ، وتخوض الشدائد في سبيل ما تذهب إليه ، وقد كان ذلك الايمان الراسخ هو السمت البارز في سيرة الأنبياء والعظماء والمصلحين الذين قدموا أرواحهم قرابين لمبادئهم وآرائهم.

وإذا خرج اليقين من القلب فان يكون خرقة بالية قد فقد ارادته واختياره ، وصار خاليا من الشعور والاحساس.

2 - مراتب الايمان :

وتحدث الامام (عليه السلام) عن مراتب الايمان بقوله : « ان المؤمنين على منازل ، منهم على واحدة ، ومنهم على اثنين ، ومنهم على ثلاث ، ومنهم على اربع ، ومنهم على خمس ، ومنهم على ست ، فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة اثنتين لم يقو ، وعلى صاحب الاثنتين ثلاثا لم يقو ، وعلى صاحب الثلاث اربعا لم يقو ، وعلى صاحب الاربع خمسا لم يقو ، وعلى

ص: 242


1- حلية الاولياء 3 / 180.

صاحب الخمس ستا لم يقو ، وعلى صاحب الست سبعا لم يقو ، وعلى هذه الدجارت. » (1)

ان مرتب اليقين والمعرفة باللّه متفاوتة كأشد ما يكون التفاوت فقد احاط اللّه تعالى بعض انبيائه علما بأسرار الكون وحقائق الوجود وما يحدث في هذه الدنيا من الاحداث بما لم يحط به غيرهم من الأنبياء لأنهم لا يقوون على حملها ، ومن هذا القبيل كان الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو باب مدينة علم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومستودع أسراره وحكمه قد احاط بعض حواريه كميثم التمار علما بما سيجري عليه من الخطوب والكوارث من بني أمية ، واطلعه على كثير من الأسرار ، وعلى ما سيجري في آخر الزمان في حين أنه لم يخبر بذلك عبد اللّه بن عباس وهو حبر الأمة لعلمه (عليه السلام) بعدم قدرته على تحملها.

وعلى مقدار الايمان كانت محن الأنبياء والمصلحين من قبل طواغيت زمانهم متفاوتة وكان أشدهم ايذاء واعظمهم محنة النبي محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد أوذي من قبل طواغيت قريش وجهالها بما لم يؤذه أي نبي من انبياء اللّه ، وأوذي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من بعد وفاته بعترته فقد عانت من الظلم والتنكيل ما يقصم الاصلاب ويذهل الألباب ، فلم تراع حرمته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في عترته فلم يمض على وفاته إلا خمسون عاما واذا برءوس ابنائه على الحراب ، وبناته سبايا من بلد الى بلد ، فأي محنة وأي بلاء اعظم من هذه المحنة وهذا البلاء؟

3 - صفات المتقين :

وتحدث (عليه السلام) في جملة من أحاديثه عن معالي صفات المتقين ، وهذا

ص: 243


1- أصول الكافي باب درجات الايمان.

بعض ما أثر عنه.

أ - قال (عليه السلام) : « أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة ، واكثرهم معونة ، إن نسيت ذكروك ، وإن ذكرت أعانوك ، قوالين بحق اللّه ، قوامين بأمر اللّه .. » (1)

وهذه صفات الافذاذ الذين هم قوة الانسانية ومثلها الأعلى ، وقادتها الى سبل الرشاد.

ب - قال (عليه السلام) : « إنما المؤمن إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل ، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق : والمؤمن إذا قدر لم تخرجه قدرته الى التعدي الى ما ليس بحق .. » (2)

ان من أميز صفات المؤمن بربه ان يكون متماسكا في شخصيته ، ومتميزا في سلوكه مد رائده الحق في جميع حالاته وشئونه.

ج - قال (عليه السلام) : « الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن فاذا وصلا الى مكان فيه التوكل استوطناه .. » (3)

ونظم هذه الحكمة الرائعة اليافعي بقوله :

يجول الغنى والعز في قلب مؤمن *** فان الفيا جوف القلوب توكلا

أقاما فأمسى العبد باللّه ذاعنا *** عزيزا وان لم يلقياه ترحلا (4)

د - الفرق بين الايمان والاسلام :

وتحدث (عليه السلام) عن الفرق بين الايمان والاسلام فقال : « الايمان

ص: 244


1- شذرات الذهب 1 / 149.
2- الخصال ( ص 101 ).
3- صفة الصفوة 2 / 61.
4- مرآة الجنان 1 / 248.

ما كان في القلب ، والاسلام ما عليه التناكح ، والتوارث ، وحقنت به الدماء ، والايمان يشرك الاسلام ، والاسلام لا يشرك الايمان. » (1)

ان الايمان يقيم في ضمائر المتقين والمنيبين الى اللّه تعالي ، به يخشونه ويخافون عقابه ، فلا يتركون واجبا ، ولا يقترفون اثما ، أما الاسلام فهو التلفظ بكلمة التوحيد ، واذا نفذ الى اعماق القلب صار المسلم مؤمنا وإلا فلا ، والى هذا تشير الآية الكريمة ، ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ. ) (2) وصرح (عليه السلام) بكلام آخر عن الفرق بينهما يقول (عليه السلام) : « الايمان اقرار وعمل ، والاسلام اقرار بلا عمل. » (3)

ه - عطاء اللّه للمؤمنين

ومنح اللّه المؤمنين المزيد من الطافه وفضله ، وقد تحدث الامام (عليه السلام) عن العطاء الذي افاضه عليهم بقوله : « ان اللّه اعطى المؤمن ثلاث خصال :العز في الدنيا في دينه ، والفلج في الآخرة ، والمهابة في صدور العالمين .. » (4)

هذه بعض احاديثه عن حقيقة الايمان وواقعه.

مع الشيعة :

اشارة

وكان الامام أبو جعفر (عليه السلام) وسائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حريصين كل الحرص على أن تكون شيعتهم مقتدين بهديهم ، ومتميزين في سلوكهم ،

ص: 245


1- تحف العقول ( ص 297 ).
2- سورة الحجرات : آية 14.
3- تحف العقول ( ص 297 ).
4- الخصال ( ص 133 ).

ومتورعين في مكاسبهم ومتحرجين في أمور دينهم كأشد ما يكون التحرج ليكونوا قدوة لبقية المسلمين بما يحملونه من طاقات اسلامية مشرقة ، تضىء الطريق ، وتهدى الحائر ، وتدلل على واقع أهل البيت (عليهم السلام) وقد أثر عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال لبعض شيعته بما مضمونه كونوا زينا لنا ، ولا تكونوا شينا علينا ، حتى يقول القائل : رحم اللّه جعفر ابن محمد قد أدب شيعته ، ورأى الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) بعض شيعته قد شذ في سلوكه ، وارتكب ما حرم اللّه ، فوجه (عليه السلام) إليه هذه النصيحة الرائعة قائلا له : « إن الحسن من كل احد حسن ، ومنك أحسن ، والقبيح من كل أحد قبيح ومنك أقبح نظرا لاتصالك بنا أهل البيت » (1).

أما الامام أبو جعفر (عليه السلام) فقد أهتم كأشد ما يكون الاهتمام في تربية الشيعة وتهذيبهم ، وقد وجه لهم النصائح الرفيعة ، والتعاليم الكريمة التي يجب أن يسيروا عليها ، ويقتدوا بها ، وهذا بعض ما أثر عنه.

1 - وصيته لشيعته :

ان من الواجب على من انتحل مبدأ أهل البيت (عليهم السلام) أن يأخذ بهذه الوصية الخالدة ويعمل بما تضمنته من بنود مشرقة ليكون مثالا للإنسانية ، وانموذجا يقتدى به ، وهذا نص وصيته :

« يا معشر شيعتنا ، اسمعوا وافهموا وصايانا ، وعهدنا الى اوليائنا ، اصدقوا في حديثكم ، وبروا في ايمانكم لأوليائكم واعدائكم ، وتواسوا باموالكم ، وتحابوا بقلوبكم ، وتصدقوا على فقرائكم ، واجتمعوا على امركم ، ولا تدخلوا غشا ولا خيانة على أحد ، ولا تشكوا بعد اليقين ،

ص: 246


1- حياة الامام موسى بن جعفر.

ولا تولوا بعد الاقدام جبنا ، ولا يول أحدكم أهل مودته قفاه ، ولا تكونن شهوتكم في مودة غيركم ، ولا مودتكم في سواكم ، ولا عملكم لغير ربكم ، ولا ايمانكم وقصدكم لغير نبيكم ، واستعينوا باللّه ، واصبروا فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

واضاف (عليه السلام) قائلا :

ان اولياء اللّه واولياء رسوله من شيعتنا من اذا قال : صدق وإذا وعد وفى ، وإذا أوتمن ادى ، واذا حمل احتمل في الحق ، وإذا سئل الواجب اعطى ، وإذا امر بالحق فعل ، شيعتنا من لا يعدو علمه سمعه ، شيعتنا من لا يمدح لنا معيبا ، ولا يواصل لنا مبغضا ، ولا يجالس لنا خائنا ، ان لقي مؤمنا اكرمه ، وان لقي جاهلا هجره ، شيعتنا من لا يهر هرير الكلب ، ولا يطمع طمع الغراب ، ولا يسأل أحدا إلا من اخوانه وان مات جوعا ، شيعتنا من قال : بقولنا ، وفارق احبته فينا ، وادنى البعداء في حبنا ، وأبعد الغرباء في بغضنا.

وبهر بعض الجالسين من وصف الامام لشيعته وراح يقول له :

« اين يوجد مثل هؤلاء؟. »

فاجابه الامام :

« في اطراف الارضين ، اولئك الخفيض عيشهم ، القررة أعينهم ، ان شهدوا لم يعرفوا ، وإن غابوا لم يفتقدوا ، وإن مرضوا لم يعادوا ، وان خطبوا لم يزوجوا ، وإن وردوا طريقا تنكبوا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما ، ويبيتون لربهم سجدا وقياما.

وراح بعض الجالسين يندد بالشيعة ممن عاصروا الامام قائلا :

« يا ابن رسول اللّه : وكيف بالمتشيعين بالسنتهم وقلوبهم على خلاف

ص: 247

ذلك؟ »

وانبرى الامام فاجابه :

« التمحيص يأتي عليهم بسنين تفنيهم ، وضغائن تبيدهم واختلاف يقتلهم ، اما والذي نصرنا بأيدي ملائكته ، لا يقتلهم اللّه الا بايديهم ، فعليكم بالاقرار اذا حدثتم ، وترك الخصومة فانها تقصيكم ، واياكم أن يبعثكم قبل وقت الأجل فتطل دماؤكم وتذهب أنفسكم ويذمكم من يأتي بعدكم وتصيروا عبرة للناظرين ، وان أحسن الناس فعلا من فارق أهل الدنيا من والد وولي وناصح ، وكافى اخوانه في اللّه وإن كان حبشيا أو زنجيا ، وإن كان لا يبعث من المؤمنين أسود ، بل يرجعون كالبرد قد غسلوا بماء الجنان ، واصابوا النعيم المقيم ، وجالسوا الملائكة المقربين ، ورافقوا الأنبياء المرسلين ، وليس من عبد اكرم على اللّه من عبد شرد وطرد في اللّه حتى يلقى اللّه ، على ذلك شيعتنا المنذرون في الارض سرج وعلامات ، ونور لمن طلب ما طلبوا وقادة لأهل طاعة اللّه ، شهداء على من خالفهم ممن ادعى دعواهم ، سكن لمن اتاهم ، لطفاء بمن والاهم ، سمحاء ، اعفاء ، رحماء ، فذلك صفتهم في التوراة والانجيل والقرآن العظيم.

ان الرجل العالم من شيعتنا اذا حفظ لسانه ، وطاب نفسا بطاعة اوليائه واظهر المكائدة لعدوه بقلبه ، ويغدو حين يغدو وهو عارف بعيوبهم ، ولا يبدي ما في نفسه لهم ، ينظر بعينه الى اعمالهم الردية ، ويسمع بأذنه مساوئهم ، ويدعو بلسانه عليهم ، مبغضوهم اولياءه ، ومحبوهم اعداءه .. »

وانطلق رجل من الحاضرين فقال للامام :

« بأبي أنت وأمي ما ثواب من وصفت اذا كان يمشي آمنا ، ويصبح آمنا ويبيت محفوظا ، فما منزلته وثوابه؟ .. »

فقال (عليه السلام) :

ص: 248

« تؤمر السماء باظلاله ، والأرض باكرامه ، والنور ببرهانه .. »

فقيل للامام :

« فما صفته في الدنيا؟ »

قال (عليه السلام) : « إن سئل أعطى ، وان دعي أجاب ، وان طلب أدرك ، وان نصر مظلوما أعز .. » (1)

لا اكاد اعرف وصية أثرت عن أئمة المتقين مثل هذه الوصية الحافلة بالتعاليم الرفيعة التي تسمو بالانسان ، وترفعه الى أرقى ما يصل إليه الأبرار والمتقون ففيها الدعوة الى التحلي بالأخلاق الكريمة ، والتجنب عن مساوئ الاخلاق والتخلي عن النزعات السيئة ، ولو سار المسلمون على ضوئها لكانوا سادة الأمم ، وقادة الشعوب.

ان هذه الوصية من كنوز الاسلام ، وهي تحمل جوهره وواقعه ، وما ينشده من خير ورحمة وهدى الى الناس ، فمن حق كل مسلم أن يجعلها منهاجا يسير عليها في حياته.

2 - الشيعة الأوائل :

واشاد الامام أبو جعفر (عليه السلام) بالشيعة الأوائل ، وبين معالي اخلاقهم وما اتصفوا به من الصفات الرفيعة والخيرة فقال (عليه السلام) :

« اولياءونا ، وشيعتنا فيما مضى خير من كانوا فيه ، ان كان امام مسجد في الحي كان منهم ، وإن كان مؤذن في القبيلة كان منهم ، وإن كان صاحب وديعة كان منهم ، وإن كان صاحب امانة كان منهم ، وإن كان عالم في الناس يقصدونه لدينهم ومصالح أمورهم كان منهم .. » (2)

ص: 249


1- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 223 - 225 ).
2- دعائم الاسلام 1 / 71.

وألمت هذه الوصية بما اتصفت به الشيعة الأوائل من النسك والورع والتقوى والحريجة في الدين حتى نالوا ثقة الناس فأتموا بهم في صلاتهم ، وائتمنوهم على اموالهم ودينهم ، وقد عرفوا بهذا السمت من الورع والصلاح ، وذاع عنهم ذلك ، ومن طريف ما ينقل ان شيعيا مثل شاهدا أمام القضاء فرد القاضي عليه شهادته لأنه من الرافضة ، فاغرق فى البكاء فبهر القاضي ، وتوهم ان بكاءه لرد شهادته ، وسأله عن ذلك فاجابه بما مضمونه انك حدت عن الحق فنسبتني الى طائفة لا ينتسب إليها الا الأنبياء والمتقون.

3 - صفات الشيعة :

وأدلى (عليه السلام) في كثير من احاديثه عن الصفات الرفيعة التي ينبغي أن يتحلى بها من انتحل مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، وهذا بعض ما أثر عنه.

1 - قال (عليه السلام) : « ما شيعتنا إلا من اتقى اللّه واطاعه ، وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع ، والتخشع ، واداء الامانة ، وكثرة ذكر اللّه ، والصوم والصلاة والبر بالوالدين ، وتعهد الجيران من الفقراء ، وذوي المسكنة ، والغارمين والايتام ، وصدق الحديث ، وتلاوة القرآن ، وكف الألسن عن الناس إلا من خير ، وكانوا امناء عشائرهم فى الاشياء .. » (1)

ولا يتحلى بهذه الصفات إلا الابرار والمتقون الذين يخشون اللّه ، ويخافون عقابه.

2 - قال (عليه السلام) : « إنما شيعة علي (عليه السلام) المتباذلون في ولايتنا ، المتحابون في مودتنا ، المتزاورون لاحياء أمرنا ، الذين اذا غضبوا لم يظلموا واذا رضوا لم يسرفوا ، بركة على من جاورهم ، وسلم لمن خالطوا. » (2)

ص: 250


1- تحف العقول ( ص 295 ).
2- تحف العقول ( ص 300 ).

ومن توفرت فيهم هذه الصفات من الشيعة فانهم يكونون بركة ورحمة لمن جاورهم ، وامنا وسلما لمن خالطهم اذ لا تصدر منهم بادرة من بوادر الظلم سوى الخير العميم الى الناس.

3 - وتحدث (عليه السلام) مع أبي المقدام عن شيعة الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) وما اتصفوا به من معالي الاخلاق قال (عليه السلام) : « يا أبا المقدام إنما شيعة علي الشاحبون ، الناحلون ، الذابلون ، ذابلة شفاهم ، خميصة بطونهم ، متغيرة الوانهم ، مصفرة وجوههم ، اذا جنهم الليل اتخذوا الأرض فراشا ، واستقبلوا الارض بجباههم ، كثير سجودهم ، كثيرة دموعهم ، كثير دعاؤهم ، كثير بكاؤهم ، يفرح الناس وهم يحزنون .. » (1)

وهذه صفات عباد الشيعة ونستاكهم امثال عمار بن ياسر ، وأبي ذر ، وحجر بن عدي ، وميثم التمار ، ونظراؤهم من هداة هذه الأمة وقادتها.

4 - نصائحه للشيعة :

وزود الامام أبو جعفر الشيعة بكثير من نصائحه الرفيعة وتعاليمه القيمة ومن بينها.

أ - روى جابر بن يزيد الجعفي قال : كنا جماعة فدخلنا على أبي جعفر (عليه السلام) بعد ما قضينا مناسكنا فودعناه ، وقلنا له : اوصنا بشيء يا ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فوجه (عليه السلام) لهم هذه النصيحة القيمة قال (عليه السلام) :

« ليعن قويكم ضعيفكم ، وليعطف غنيكم على فقيركم ، ولينصح الرجل أخاه كنصيحته لنفسه ، واكتموا اسرارنا ، ولا تحملوا الناس على اعناقنا ، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنا ، فان وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردوه ، وإن اشتبه عليكم الأمر فقفوا عنده ، وردوه

ص: 251


1- الخصال ( ص 413 ).

إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا .. » (1)

لقد أوصاهم بمعالي الاخلاق ، ودلهم على ما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم ، كما أوصاهم بعرض ما أثر عن الأئمة من الاخبار على كتاب اللّه فما وافقه فيأخذون به ، وما شذ عنه فيطرحونه ، وإنما عهد لهم بذلك لأن كثيرا من الاخبار قد افتعلت عليهم ، فقد وضعها من لا حريجة له في الدين لتشويه واقع أهل البيت (عليهم السلام) وتشويه احكامهم.

ب - قال (عليه السلام) : « عليكم بالورع والاجتهاد ، وصدق الحديث ، واداء الامانة إلى من ائتمنكم برا كان أو فاجرا ، فلو أن قاتل علي بن ابن أبي طالب ائتمنني على امانة لأديتها إليه .. » (2)

وهل هناك اسمى وارفع من هذه النصائح القيمة التي تنشد خير الانسان وتوازنه في سلوكه مع الناس.

ج - وأوفد (عليه السلام) بعض أصحابه إلى جماعة من شيعته ، وأمره أن يبلغهم بما يلي :

قال (عليه السلام) : « بلغ شيعتنا عنا السلام ، وأوصهم بتقوى اللّه العظيم ، وبأن يعود غنيهم على فقيرهم ، ويعود صحيحهم عليلهم ، ويحضر حيهم جنازة ميتهم ويتلاقوا في بيوتهم فان لقاء بعضهم بعضا حياة لأمرنا.

رحم اللّه امرا احيا أمرنا ، وعمل بأحسنه ، وقل لهم : إنا لن نغني عنهم من اللّه شيئا إلا بعمل صالح ، ولن ينالوا ولايتنا إلا بالورع والاجتهاد ، وان اشد الناس حسرة يوم القيامة لمن وصف عملا ثم

ص: 252


1- ضياء العالمين الجزء الثالث مخطوط.
2- تحف العقول ( ص 299 ).

خالفه الى غيره. » (1)

لقد اوصاهم بالخير بجميع رحابه ومفاهيمه ، وأمرهم بالتماسك ، والتضامن ، وما يصون جماعتهم من الاختلاف والفرقة.

د - قال (عليه السلام) : « رحم اللّه عبدا حببنا إلى الناس ، ولم يبغضنا إليهم ، أما واللّه لو يروون عنا ما نقول : ولا يحرفونه ، ولا يبدلونه علينا برأيهم ما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشيء ، ولكن أحدهم يسمع الكلمة فينيط إليها عشرا ويتأولها على ما يراه ، فرحم اللّه عبدا سمع من مكنون سرنا فدفنه في قلبه ... واللّه لا يجعل اللّه من عادانا ومن تولانا في دار واحدة. » (2).

وحذر (عليه السلام) بهذا الحديث من تحريف اخبارهم وتبديلها لأنها تعود بالاضرار البالغة على أهل البيت (عليهم السلام) فان فيها تشويها لسيرتهم وواقعهم.

5 - حب أهل البيت :

وتحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) في جملة من أحاديثه مع جماعة من شيعته عن حب أهل البيت (عليهم السلام) وما يترتب عليه من مزيد الأجر عند اللّه تعالى ، وفيما يلي ذلك :

1 - وفد عليه جماعة من شيعته من خراسان ، فنظر (عليه السلام) الى رجل منهم ، وقد تشققت رجلاه فقال (عليه السلام) له : ما هذا؟ فقال : بعد المسافة يا ابن رسول اللّه ، واللّه ما جاءنى من حيث جئت إلا محبتكم أهل البيت ، فقال (عليه السلام) :

« ابشر فأنت واللّه معنا تحشر. »

ص: 253


1- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 223 ).
2- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 223 ).

وطار الخرساني فرحا وراح يقول :

« معكم يا ابن رسول اللّه؟ .. »

قال (عليه السلام) : « نعم ما أحبنا عبد إلا حشره اللّه معنا ، وهل الدين إلا الحب ، ان اللّه تبارك وتعالى يقول في كتابه : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (1).

2 - وفد زياد الأسود على الامام أبي جعفر (عليه السلام) وقد قصده من مسافة طويلة ، ومكان بعيد ، وقد جهد في طريقه من كثرة السير حتى تشققت رجلاه فقال له الامام أبو جعفر :

« ما هذا يا زياد؟. »

فقال زياد : يا مولاي أقبلت على بكر لي (2) ضعيف فمشيت عامة الطريق ، وذلك إنه لم يكن عندي ما أشتري به مسنا وانما ضممت شيئا إلى شيء حتى اشتريت هذا البكر.

ورق الامام أبو جعفر (عليه السلام) على حاله ، وجرت دموع عينيه ، وقال له زياد : جعلني اللّه فداك ، اني واللّه كثير الذنوب مسرف على نفسي ، حتى ربما قلت : قد هلكت ، ثم اذكر ولايتي إياكم وحبي لكم أهل البيت فأرجو بذلك المغفرة ، فاقبل عليه الامام بوجهه وقال له بعطف وحنان :

« سبحان اللّه!! وهل الدين إلا الحب ، ان اللّه تبارك وتعالى يقول في كتابه : ( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (3) وقال :

ص: 254


1- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 226 ).
2- البكر : الفتي من الأبل.
3- سورة الحجرات : آية 7.

( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (1) وقال : ( يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ) (2) ان اعرابيا اتى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقال : يا رسول اللّه إني احب المصلين ولا أصلي ، وأحب الصائمين ولا اصوم ، يعني لا اصلي ولا أصوم التطوع - أي المندوب - فقال له رسول اللّه : ( أنت مع من احببت ) .. ما الذي تبغون؟ أما واللّه لو وقع أمر يفزع الناس له ما فزعتم إلا إلينا ، ولا فزعنا الا إلى نبينا ، انكم معنا فابشروا ثم ابشروا واللّه ما يساويكم اللّه وغيركم ، لا واللّه ولا كرامة » (3).

3 - قال (عليه السلام) : إن الجنة لتشتاق ويشتد ضوءها لمجىء آل محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشيعتهم ، ولو ان عبدا عبد اللّه بين الركن والمقام حتى تتقطع أوصاله ، وهو لا يدين بحبنا وولايتنا أهل البيت ما قبل منه .. » (4)

4 - قال (عليه السلام) : لجماعة من شيعته « إنما يغتبط أحدكم اذا بلغت نفسه هاهنا ، - وأومأ بيده الى حلقه - ينزل عليه ملك الموت فيقول له : أما ما كنت ترجوه فقد اعطيته ، وأما ما كنت تخافه فقد أمنت منه ، ويفتح له باب الى منزله من الجنة ، فيقول له : انظر الى مسكنك من الجنة فهذا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وعلي والحسن والحسين (عليهما السلام) هم رفقاؤك .. وهو قول اللّه عز وجل : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ) (5) (6) وتواترت الاخبار عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم)

ص: 255


1- سورة آل عمران : آية 31.
2- سورة الحشر : آية 9.
3- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 226 ).
4- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 227 ).
5- سورة يونس : آية 63 و 64.
6- عيون الاخبار وفنون الآثار ( ص 227 ).

وعن الأئمة الطاهرين بهذا المضمون وقد ذكرتها مصادر الحديث والاخبار.

6 - تسمية الشيعة بالرافضة :

وحدث أبو بصير قال : قلت لأبي جعفر : جعلت فداك اسم سمينا به استحلت به الولاة دماءنا واموالنا وعذابنا ، قال (عليه السلام) :

« ما هو؟ »

« الرافضة »

قال (عليه السلام) : بعد حديث له « ان ذلك اسم قد نحلكموه اللّه .. » (1)

لقد اصبح هذا الاسم علما للشيعة الذين هم دعاة الاصلاح الاجتماعي في الأرض ، وقد أخذ يعيبهم به من لاخلاق له ، إن الشيعة لتعتز بهذا الاسم ، وتفخر به ، فقد اصبح لهم وساما لحبهم واخلاصهم لآل البيت (عليهم السلام) ( الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) وقد فخر به الامام الشافعي بقوله :

إن كان حب آل محمد رفضا *** فليشهد الثقلان اني رافض

7 - دعاؤه لشيعته :

وكان الامام أبو جعفر (عليه السلام) يخلص لشيعته كأعظم ما يكون الاخلاص ، وكان يدعو لهم بهذا الدعاء :

« يا دان غير متوان ، يا ارحم الراحمين اجعل لشيعتي من النار وقاء لهم ، ولهم عندك رضا ، واغفر ذنوبهم ، ويسر أمورهم ، واقض ديونهم ، واستر عوراتهم ، وهب لهم الكبائر التي بينك وبينهم ، يا من لا يخاف الضيم ، ولا تأخذه سنة ولا نوم ، اجعل لي من كل غم فرجا ومخرجا .. » (2)

ص: 256


1- محاسن البرقي ( ص 119 ).
2- مهج الدعوات ( ص 18 ).

وكان (عليه السلام) يدعو لشيعته بهذا الدعاء :

« اللّهم ان كان لي رضوان وود فاغفر لي ولمن تبعني من إخواني وشيعتي وطيب ما في صلبي برحمتك يا ارحم الراحمين. » (1)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) مع شيعته.

سنن الأنبياء وحكمهم :

اشارة

وتحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) كثيرا عن حكم الأنبياء وسننهم ، وقد نقل عنه المختصون بهذه البحوث الشيء الكثير ، وفيما يلي بعضها :

1 - من وحي اللّه لآدم :

وعرض الامام (عليه السلام) لأصحابه ما اوحى اللّه به لآدم من الحكم ومعالي الأخلاق قال (عليه السلام) : « اوحى اللّه تبارك وتعالى لآدم اني اجمع لك الخير كله في اربع كلمات : واحدة منهن لي ، وواحدة لك ، وواحدة فيما بيني وبينك ، وواحدة فيما بينك وبين الناس ، فأما التي لي فتعبدني ، ولا تشرك بي شيئا ، وأما التي لك فأجازيك بعملك في وقت احوج ما تكون إليه واما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الاجابة ، واما التي بينك وبين الناس فترضي الناس ما ترضى لنفسك .. » (2)

2 - حكمة لسليمان :

وحكى (عليه السلام) لأصحابه حكمة رائعة لنبي اللّه سليمان بن داود قال (عليه السلام) : « قال سليمان بن داود : أوتينا ما أوتي الناس ، وما لم يؤتوا ، وعلمنا ما علم الناس ، وما لم يعلموا ، فلم نجد شيئا افضل من

ص: 257


1- مصباح الكفعمي ( ص 161 ).
2- أمالي الصدوق ( ص 544 ).

خشية اللّه في الغيب والمشهد ، والقصد في الغنى والفقر ، وكلمة الحق في الرضا والغضب ، والتضرع الى اللّه عز وجل في كل حال .. » (1)

وهذه الحكمة تجمع خصال الخير ، ففيها الدعوة الى خشية اللّه والخوف منه ، والحث على الاقتصاد ، وعدم التبذير والاسراف في الاموال ، كما فيها الدعوة الى قول الحق ، وإيثاره على كل شيء ، والالتجاء الى اللّه تعالى الذي بيده مصير العباد.

3 - حكمة في التوراة :

ونقل (عليه السلام) لأصحابه حكمة مكتوبة في التوراة قال (عليه السلام) : « ان في التوراة مكتوبا يا موسى إني خلقتك ، واصطفيتك ، وقويتك ، وامرتك بطاعتي ونهيتك عن معصيتي فان اطعتني اعنتك على طاعتي ، وان عصيتني لم اعنك على معصيتي ، يا موسى ولي المنة عليك في طاعتك لي ، ولي الحجة عليك في معصيتك لي .. » (2)

4 - تسمية نوح بالعبد الشكور :

روى محمد بن مسلم عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) انه قال : « ان نوحا إنما سمي عبدا شكورا لأنه كان يقول : إذا أمسى واصبح ، اللّهم اني اشهدك أنه ما أمسى واصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك ، لك الحمد والشكر بها عليّ حتى ترضى .. » (3)

ص: 258


1- الخصال ( ص 219 ).
2- أمالي الصدوق ( ص 274 ).
3- علل الشرائع ( ص 29 ).

5 - دعاء نوح على قومه :

سأل سدير الامام أبا جعفر (عليه السلام) عن دعاء نوح على قومه فقال له : أرأيت نوحا حين دعا على قومه فقال : ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً ) إنه كان عالما بهم؟

فاجابه (عليه السلام) « اوحى اللّه إليه أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن فعند ذلك دعا عليهم بهذا الدعاء .. » (1)

6 - اسماعيل أول من تكلم بالعربية :

ونقل الامام ابو جعفر (عليه السلام) لأصحابه ان نبي اللّه اسماعيل هو أول من فتق لسانه باللغة العربية ، قال (عليه السلام) : « اول من فتق لسانه بالعربية المبينة اسماعيل ، وهو ابن عشر سنة .. » (2)

7 - مناجاة اللّه مع موسى :

وحكى الامام لأصحابه مناجاة لله تعالى مع نبيه موسى قال (عليه السلام) : « في التوراة مكتوب فيما ناجى اللّه عز وجل به موسى بن عمران ، يا موسى خفني في سر أمرك احفظك من وراء عورتك ، واذكرني في خلواتك ، وعند سرور لذاتك اذكرك عند غفلاتك ، واملك غضبك عمن ملكتك عليه اكف عنك غضبي ، واكتم مكنون سري في سريرتك ، واظهر في علانيتك المدارة عني لعدوي وعدوك من خلقي ، ولا تستسب لي عندهم باظهارك مكنون سري فتشرك عدوك وعدوي في سبي .. » (3)

ص: 259


1- علل الشرائع ( ص 31 ).
2- البيان والتبيين 3 / 290.
3- الامالي للصدوق ( ص 226 ).

8 - نفي الأمية عن النبي :

روى علي بن اسباط قال : قلت لأبي جعفر : إن الناس يزعمون ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكتب ، ولم يقرأ؟ فانكر علیه السلام ذلك وقال :

« انى يكون ذلك؟!! وقد قال اللّه تعالى : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) كيف يعلمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ ويكتب؟. »

وانبرى على بن اسباط فقال للإمام : لم سمي النبي الأمي؟

فاجابه الامام : « لأنه نسب الى مكة ، وذلك قول اللّه عز وجل :

( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) فأم القرى مكة ، فقيل أمي .. » (1)

9 - نوح وابليس :

وحكى الامام أبو جعفر (عليه السلام) محاورة جرت بين نبي اللّه نوح (عليه السلام) حينما دعا على قومه ، وبين ابليس وهي :

ابليس : يا نوح ان لك عندي يدا أريد أن اكافئك عليها.

نوح : واللّه اني لبغيض إلي ان تكون لي عليك يد فما هي؟

ابليس : بلى دعوت اللّه على قومك فاغرقتهم ، فلم يبق أحد فاغويه فأنا مستريح حتى ينشأ قرن آخر فأغويهم.

نوح : ما الذي تريد أن تكافئني به؟

ابليس : اذكرني في ثلاثة مواطن : فاني أقرب ما أكون الى العبد

ص: 260


1- علل الشرائع ( ص 125 ).

اذا كان في احداهن : اذكرني اذا غضبت ، واذكرني اذا حكمت بين اثنين ، واذكرني مع امرأة خاليا ليس معكما أحد .. (1)

وحقا ان ابليس انما يغزو الانسان في هذه المواطن الثلاثة فهي التي تجزه الى اقتراف الأثم والعصيان اعاذنا اللّه من شروره.

10 - موت سليمان :

وروى الامام أبو جعفر (عليه السلام) لأبي بصير موت نبي اللّه سليمان فقال : « أمر سليمان بن داود الجن فصنعوا له قبة من قوارير ، فبينما هو متّكئ على عصاه في القبة ينظر الى الجن كيف يعملون ، وهم ينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة فاذا رجل معه في القبة قال : من أنت؟ قال : أنا الذي لا أقبل الرشا ، ولا أهاب الملوك أنا ملك الموت فقبضه وهو قائم متّكئ على عصاه في القبة ، والجن ينظرون إليه فمكثوا سنة يدأبون له حتى بعث اللّه عز وجل الارضة فأكلت منسأته وهي العصا ، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. » (2)

11 - التقاء يعقوب بيوسف :

وروى الامام أبو جعفر قصة التقاء يعقوب بيوسف قال (عليه السلام) : إن يعقوب قال لولده : تحملوا إلى يوسف من يومكم هذا بأهليكم اجمعين فساروا إليه ، ويعقوب معهم ، وخالة يوسف أم يامين ، فحثوا السير فرحا وسرورا تسعة أيام الى مصر ، فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه وقبله ، وبكى ورفعه ورفع خالته على سرير الملك ، ثم دخل منزله

ص: 261


1- الخصال (128).
2- علل الشرائع ( ص 74 ).

واكتحل وادهن ، ولبس ثياب العز والملك ، فلما رأوه سجدوا جميعا إعظاما له وشكرا لله عند ذلك ولم يكن يوسف في تلك العشرين سنة يدهن ، ولا يكتحل ، ولا يتطيب حتى جمع اللّه بينه وبين أبيه واخوته (1).

12 - مدة حياة يعقوب بمصر :

وسأل محمد بن مسلم الامام أبا جعفر (عليه السلام) عن مدة حياة يعقوب بمصر فقال (عليه السلام) : عاش يعقوب مع يوسف بمصر حولين ، فقال له محمد بن مسلم : فمن كان الحجة لله في الارض يعقوب أم يوسف؟ قال علیه السلام : كان يعقوب الحجة ، وكان الملك ليوسف فلما مات يعقوب حمله يوسف في تابوت الى ارض الشام فدفنه في بيت المقدس ، فكان يوسف بعد يعقوب الحجة ، قال محمد : وكان يوسف رسولا نبيا؟ قال علیه السلام : نعم أما تسمع قوله عز وجل : ( لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ) (2).

هذا بعض ما أثر عنه من الروايات في احوال الأنبياء وسننهم.

مع السيرة النبوية :

اشارة

وروى الامام أبو جعفر (عليه السلام) الشيء الكثير من شئون السيرة النبوية ، وقد أخذ عنه المدونون لها ، وفيما يلي بعض ما رووه عنه.

1 - استعارة النبي السلاح من صفوان :

وروى الطبري بسنده عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) قال : لما اجمع رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) السير الى هوازن ليلقاهم ذكر له أن عند صفوان

ص: 262


1- مجمع البيان في تفسير القرآن 6 / 264.
2- مجمع البيان 6 / 166.

ابن أمية ادراعا وسلاحا ، فارسل إليه فقال : يا أبا أمية - وهو يومئذ مشرك - اعرنا سلاحك هذا نلق فيه عدونا غدا فقال له صفوان : اغصبا يا محمد؟ قال : بل عارية مضمونة ، حتى نؤديها إليك ، قال : ليس بهذا بأس ، فاعطاه مائة درع بما يصلحها من السلاح ، وزعموا أن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) سأله أن يكفيه حملها ففعل.

قال الامام ابو جعفر : فمضت السنة ان العارية مضمونة (1) وقد المع الامام الى أن هذه الحادثة قد استفيد منها القاعدة الفقهية وهو ان العارية مضمونة مع التفريط ، فمن استعار شيئا فقد ضمنه حتى يؤديه الى صاحبه.

2 - مسيرة خالد الى بني جذيمة :

وروى ابن هشام بسنده عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) ان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعث خالد بن الوليد الى بني جذيمة حين فتح مكة داعيا الى اللّه ، ولم يبعثه مقاتلا الا ان خالدا غار عليهم فاوجسوا منه خيفة فبادروا الى اسلحتهم فحملوها ، فلما رأى خالد ذلك قال لهم : ضعوا السلاح ، فان الناس قد اسلموا ، ووثقوا بقوله ، فوضعوا سلاحهم ، إلا إنه غدر بهم ، فأمر بتكتيفهم ثم عرضهم على السيف ، فقتل منهم من قتل ، ولما انتهى خبرهم الى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بلغ به الحزن اقصاه ورفع يديه بالدعاء ، وقال :

« اللّهم اني ابرأ إليك مما صنع خالد .. »

ودعا النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له : ( اخرج الى هؤلاء القوم ، فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك ) وخرج علي حتى جاءهم ، ومعه مال ، فودى لهم الدماء ، وما اصيب لهم

ص: 263


1- تأريخ الطبري 3 / 73 طبع دار المعارف.

من الأموال ، حتى انه ليدي ميلغة الكلب (1) حتى اذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه ، وبقيت معه بقية من المال ، فقال لهم علي : هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا : لا. قال : فاني اعطيكم هذه البقية من هذا المال ، احتياطا لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مما يعلم ولا تعلمون ، فأعطاهم ثم رجع الى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فأخبره الخبر ، فقال (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : أصبت واحسنت وقام رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فاستقبل القبلة شاهرا يديه ، حتى كان يرى ما تحت منكبيه ، وهو يقول : « اللّهم اني ابرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد » وكرر ذلك ثلاث مرات (2).

هذه بعض رواياته عن السيرة النبوية ، أما ذكر جميع ما روي عنه فانه يستدعي الإطالة ، وقد آثرنا الايجاز في امثال هذه البحوث.

سيرة الامام علي :

وتحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) في كثير من احاديثه عن سيرة جده الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) رائد الحق والعدالة في الارض ، وكان من بين ما رواه هذه البادرة.

روى زرارة بن أعين عن أبيه ، عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) قال : كان علي (عليه السلام) إذا صلى الفجر لم يزل معقبا الى أن تطلع الشمس ، فاذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس فيعلمهم الفقه والقرآن ، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك ، فقام يوما ، فمر برجل فرماه بكلمة هجر - ولم يم ابو جعفر ذلك الرجل - فرجع الامام ، وصعد المنبر ، وأمر فنودي الصلاة جامعة ، فلما حضر الناس ،

ص: 264


1- اليلغة : الاناء يلغ فيه الكلب أو يسقى فيه.
2- السيرة النبوية لابن هشام 2 / 429 - 430.

حمد اللّه وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ، ثم قال : أيها الناس انه ليس شيء أحب الى اللّه ، ولا أعم نفعا من حلم إمام وفقهه ، ولا شيء ابغض الى اللّه ، ولا أعم ضررا من جهل إمام وخرقه ، إلا وانه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من اللّه حافظ إلا وانه من انصف من نفسه لم يزده اللّه الا عزا ، إلا وان الذل في طاعة اللّه اقرب الى اللّه من التعزز في معصيته ، ثم قال : اين المتكلم آنفا؟ فلم يستطع الانكار ، فقال : ها أنا ذا يا أمير المؤمنين ، فقال : أما اني لو أشاء لقلت : فقال : إن تعف وتصفح فأنت اهل لذلك فقال : قد عفوت وصفحت (1).

وليس في تأريخ الانسانية على الاطلاق مثل الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عدله ورحمته ، وصفحه عمن اساء إليه ... لقد كان المؤسس الأول بعد النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لمكارم الاخلاق ونكران الذات ، وقد ساس الناس أيام خلافته سياسة قوامها العدل الخالص والحق المحض ، فآثر طاعة اللّه على كل شيء.

أخبار أمير المؤمنين بقتل الحسين :

وتواترت الاخبار عن الامام أمير المؤمنين بقتل ولده الامام الحسين (عليه السلام) ومن بين تلك الاخبار ما رواه الامام أبو جعفر (عليه السلام) ، فقد قال (عليه السلام) : خطب علي (عليه السلام) في الكوفة فلما قال : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو اللّه لا تسألوني عن فئة تضل مائة ، وتهدى مائة ، إلا انبأتكم بناعقها وسائقها ، فقام إليه رجل فقال : اخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ، فقال له علي : واللّه لقد حدثني خليلي - يعني رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) - ان على كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك ، وإن على كل طاقة شعر من لحيتك

ص: 265


1- شرح النهج 4 / 109 - 110.

شيطانا يغويك ، وان في بيتك سخلا يقتل ابن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وكان ابنه قاتل الحسين يومئذ طفلا يحبو ، وهو سنان بن أنس النخعي (1).

وتحقق ما اخبر به الامام امير المؤمنين (عليه السلام) فلم تمض حفنة من السنين واذا بالخبيث الدنس سنان بن انس كان من القتلة المجرمين لريحانة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وسبطه.

صفة الامام أمير المؤمنين :

وسأل اسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة الامام أبا جعفر عن صفة جده الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال (عليه السلام) : « رجل آدم شديد الأدمة ، ثقيل العينين عظيمهما ، ذو بطن ، اصلع هو الى القصر أقرب (2).

أحداث صفين :

وروى الامام أبو جعفر (عليه السلام) الكثير من أحداث صفين ، وقد نقلها عنه نصر بن مزاحم ، والطبري وابن أبي الحديد ، وغيرهم من المؤرخين. وفيما يلي بعضها :

فك الحصار عن الماء :

وزحف معاوية بجنوده الى صفين قبل أن يقدم إليها جيش الامام ، وقد اجمع رأيه على احتلال الفرات فاحاطه بقوى مكثفة لمنع اصحاب الامام من الاستسقاء منه ، ولما قدمت جيوش الامام رأوا الفرات قد احتلته قوات معاوية ، وهي تمنعهم أشد المنع من الدنو منه ، وقد روى الامام أبو جعفر (عليه السلام) كيفية فك احتلاله من قبل جيش الامام (عليه السلام) قال (عليه السلام) : « ونادى الاشعث عمرو بن العاص ، فقال : ويحك يا ابن العاص! خل

ص: 266


1- شرح النهج 2 / 386.
2- تأريخ الطبري 5 / 153.

بيننا وبين الماء فو اللّه لئن لم تفعل لتأخذنا واياكم السيوف ، فقال عمرو : واللّه لا نخلي عنه حتى تأخذنا السيوف واياكم ، فيعلم ربنا أينا اصبر اليوم ، فترجل الاشعث والأشتر وذوو البصائر من اصحاب علي (عليه السلام) وترجل معهما اثنا عشر الفا فحملوا على عمرو وأبى الأعور ، ومن معهما من أهل الشام ، فأزالوهم عن الماء ، حتى غمست خيل علي سنابكها في الماء » (1) ومن الجدير بالذكر أن جيش الامام لما احتل الفرات أرادوا أن يقابلوا اهل الشام بالمثل فيمنعونهم عنه ، كما صنعوا ذلك معهم ، الا ان الامام لم يسمح لهم بذلك ، وعاملهم معاملة المحسن الكريم فخلى بينهم وبين الماء.

معاوية مع ابن العاص :

وروى الامام أبو جعفر (عليه السلام) حديثا دار بين معاوية وعمرو بن العاص ، قال (عليه السلام) : « طلب معاوية الى عمرو بن العاص أن يسوي صفوف أهل الشام ، فقال له عمرو : على أن لي حكمي إن قتل اللّه ابن أبي طالب ، واستوسقت لك البلاد ، قال : أليس حكمك في مصر؟ قال : وهل مصر تكون عوضا عن الجنة ، وقتل ابن أبي طالب ثمنا لعذاب النار الذي لا يفتر عنهم ، وهم فيه مبلسون؟ فقال معاوية : إن لك حكمك أبا عبد اللّه إن قتل ابن أبي طالب ، رويدا لا يسمع الناس كلامك ، فقال لهم - أي لأهل الشام - عمرو : يا معشر أهل الشام سووا صفوفكم ، واعيروا ربكم جماجمكم ، واستعينوا باللّه إلهكم ، وجاهدوا عدو

ص: 267


1- شرح ابن أبي الحديد 3 / 324.

اللّه وعدوكم ، واقتلوهم قتلهم اللّه وأبادهم ( وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (1).

وبهذا الخداع والتضليل استطاع معاوية أن يناجز الامام أمير المؤمنين علیه السلام رائد الحكمة والحق في الأرض.

خطبة للامام بصفين :

وروى الامام ابو جعفر (عليه السلام) خطبة لجده الامام امير المؤمنين (عليه السلام) خطبها بصفين ، وقد تحدث فيها عن سمو اخلاق النبي العظيم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومدى الخسارة العظمى التي منيت بها الانسانية بفقده (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كما ذكر فيها مكانته ومنزلته عند النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم دعا فيها الى جهاد عدوه معاوية ابن أبي سفيان ، وهذا نصها :

« الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع من خلق من البر والفاجر ، وعلى حججه البالغة على خلقه من اطاعه فيهم ، ومن عصاه ، إن رحم فبفضله ومنه ، وإن عذب فبما كسبت أيديهم ، وأن اللّه ليس بظلام للعبيد ، أحمده على حسن البلاء ، وتظاهر النعماء ، وأستعينه على ما نابنا من أمر دنيا أو آخرة ، وأومن به وأتوكل عليه ، وكفى باللّه وكيلا ، وأشهد أن لا إله الا اللّه وحده لا شريك له ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ارتضاه لذلك ، وكان أهله ، واصطفاه على جميع العباد لتبليغ رسالته ، وجعله رحمة منه على خلقه ، فكان كعلمه فيه رءوفا رحيما ، اكرم خلق اللّه حسبا ، واجمله منظرا ، واسخاه نفسا وابره بوالد ، وأوصله لرحم ، وافضله علما ، واثقله حلما ، وأوفاه بعهد ،

ص: 268


1- وقعة صفين ( ص 267 ).

وآمنه على عقد ، لم يتعلق عليه مسلم ولا كافر بمظلمة قط ، بل كان يظلم فيغفر ، ويقدر فيصفح ، ويعفو حتى مضى صلی اللّه علیه و آله مطيعا لله ، صابرا على ما اصابه ، مجاهدا في اللّه حق جهاده حتى أتاه اليقين (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكان ذهابه اعظم المصيبة على جميع اهل الأرض البر والفاجر ، ثم ترك كتاب اللّه فيكم يأمر بطاعة اللّه وينهى عن معصيته ، وقد عهد الي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عهدا فلست أحيد عنه ، وقد حضرتم عدوكم وقد علمتم من رئيسهم منافق ابن منافق ، يدعوهم الى النار ، وابن عم نبيكم معكم بين أظهركم يدعوكم الى الجنة والى طاعة ربكم ، ويعمل بسنة نبيكم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فلا سواء من صلى قبل كل ذكر ، لم يسبقني بصلاتي مع رسول اللّه أحد ، وأنا من اهل بدر ، ومعاوية طليق ابن طليق ، واللّه إنكم لعلى حق ، وانهم لعلى باطل فلا يكونن القوم على باطلهم اجتمعوا عليه ، وتفرقون عن حقكم ، حتى يغلب باطلهم حقكم « قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ، فان لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم » فاجابه اصحابه قائلين : يا أمير المؤمنين انهض بنا الى عدونا وعدوك اذا شئت ، فو اللّه ما نريد بك بدلا نموت معك ، ونحيا معك ، فقال لهم علي : « والذي نفسي بيده لنظر الي رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أضرب قدامه بسيفي ، فقال : « لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى الا علي ، وقال : « يا علي ، أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ، وموتك وحياتك يا علي معي » واللّه ما كذبت ، ولا كذبت ، ولا ضللت ولا ضل بي ، وما نسيت ما عهد الي ، واني لعلى بينة من ربي ، واني لعلى الطريق الواضح ، الفظه لفظا (1).

ص: 269


1- وقعة صفين ( ص 354 - 356 ).

يوم الهرير :

وكان من اعظم ايام صفين ، وأشدها محنة يوم الهرير ، وهو اليوم الأعظم - كما يسميه المؤرخون - فقد استعرت فيه نار الحرب ، وأشتد أوارها ، حتى خيم الفزع والموت على الناس وقد تحدث عنه الامام أبو جعفر (عليه السلام) قال : « لما كان اليوم الأعظم ، قال اصحاب معاوية : واللّه لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا ، فبادروا القتال غدوة في يوم من ايام الشعرى (1) طويل شديد الحر ، فتراموا حتى فنيت النبال ، وتطاعنوا حتى تقصفت الرماح ، ثم نزل القوم عن خيولهم ، ومشى بعضهم الى بعض بالسيوف ، حتى كسرت جفونها ، وقام الفرسان في الركب ، ثم اضطربوا بالسيوف ، وبعمد الحديد ، فلم يسمع السامعون إلا تغمغم القوم ، وصليل الحديد في الهام ، وتكادم الأفواه ، وكسفت الشمس وثار القتام ، وضلت الألوية والرايات ، ومرت مواقيت اربع صلوات ما يسجد فيهن لله إلا تكبيرا ، ونادت المشيخة فى تلك الغمرات ، يا معشر العرب اللّه ، اللّه في الحرمات من النساء والبنات. »

ولما انتهى ابو جعفر الى هذه الكلمات بكى (2) فقد طافت به تلك الذكريات الحزينة التي تذيب من هولها القلوب ، فقد مثلت أمامه محنة جده الامام امير المؤمنين (عليه السلام) حينما ابتلى بتلك الزمرة الخائنة التي عملت على محو الاسلام ، وأزالة مكاسبه ، واعادة الحياة الجاهلية

ص: 270


1- الشعرى : كوكب نير يقال له المرزم يطلع بعد الجوزاء ، وطلوعه في شدة الحر « اللسان ».
2- شرح النهج 2 / 212 - 213 ، وقعة صفين ( ص 547 ).

في الارض.

ان من ابشع مهازل التأريخ البشري هي مكيدة ابن العاص في رفع المصاحف وقد وصفها ( راوحوست ميلر ) بأنها من اشنع المهازل واسوئها في التأريخ البشري (1) فقد اشرف جيش الامام على الفتح ، وتفللت جميع قوى معاوية وأراد أن يلوذ بالفرار ، ولجأ الى ابن العاص يطلب منه الرأي فأشار عليه برفع المصاحف وهي مكيدة مدبرة قد حيكت أصولها ووضعت مخططاتها بين ابن العاص وبين الاشعث بن قيس الماكر الخبيث في جيش الامام.

وقد تحدث الامام أبو جعفر عن عدد المصاحف التي رفعت ، فقال علیه السلام : استقبلوا عليا بمائة مصحف ووضعوا في كل مجنبة (2) مائتي مصحف فكان جميعها خمسمائة مصحف.

وقام فريق من اتباع معاوية ، فنادوا في المعسكر العراقي : « يا معشر العرب ، اللّه اللّه في النساء ، والبنات والابناء من الروم والأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم ، اللّه اللّه في دينكم هذا كتاب اللّه بيننا وبينكم.

والتاع الامام ، وانبرى قائلا : اللّهم إنك تعلم ما الكتاب يريدون فأحكم بيننا وبينهم انك أنت الحكم الحق المبين (3).

وقد اطاحت هذه المكيدة بالنصر الذي أحرزه جيش الامام ، فقد انقلب على اعقابه وماج في الفتنة ، واضطرب كأشد ما يكون الاضطراب ، وكان من المتوقع أن تمنى حكومة الامام بانقلاب عسكري يتزعمه الأشعث

ص: 271


1- العقيدة والشريعة في الاسلام ( ص 190 ).
2- المجنبة : بكسر النون المشددة ميمنة الجيش وميسرته.
3- شرح النهج 2 / 212 ، وقعة صفين ( ص 546 - 547 ).

ابن قيس ، وقد ادرك الامام هذا الوضع المتفجر فأبدى من الاناة والصبر ما لا يوصف ، فقد استجاب - على كره - الى إيقاف القتال ، وأوعز الى قائد قواته المسلحة الزعيم مالك الأشتر بالانسحاب عن ساحة الحرب بعد ان اشرف على الفتح ، وصار أمرا محتوما.

وثيقة التحكيم :

وبعد ان أجبر الامام على التحكيم الذي انقذ حكومة معاوية ، واطاح بحكومة الامام (عليه السلام) فقد تسابق زعماء الفتنة في جيش الامام مع اهل الشام الى تسجيل ما يرومونه من الشروط التي تنهي الحرب مؤقتا حتى يجتمع الحكمان ، وقد روى الامام أبو جعفر (عليه السلام) نص الوثيقة ، وأخذها عنه المؤرخون لهذه الاحداث وهذا نصها بعد البسملة :

« هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضي علي بن أبي طالب على اهل العراق ، ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية بن أبي سفيان على اهل الشام ، ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، اننا ننزل على حكم اللّه تعالى وكتابه ، ولا يجمع بيننا الا إياه ، وان كتاب اللّه سبحانه تعالى بيننا من فاتحته الى خاتمته ، نحيى ما احيا القرآن ، ونميت ما امات القرآن ، فان وجد الحكمان ذلك في كتاب اللّه اتبعاه ، وإن لم يجداه أخذا بالسنة العادلة غير المفرقة ، والحكمان عبد اللّه بن قيس وعمرو بن العاص ، وقد أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين انهما امينان على انفسهما وأموالهما وأهلهما ، والأمة لهما انصار ، وعلى الذي يقضيان عليه وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين عهد اللّه ان يعملوا بما يقضيان عليه مما وافق الكتاب والسنة ، وان الأمن والموادعة ووضع السلاح متفق عليه بين

ص: 272

الطائفتين الى ان يقع الحكم ، وعلى كل واحد من الحكمين عهد اللّه ليحكمن بالأمة بالحق ، لا بالهوى ، وأجل الموادعة سنة كاملة ، فان احب الحكمان أن يعجلا الحكم عجلاه ، وان توفي أحدهما فلأمير شيعته أن يختار مكانه رجلا ، لا يألوا الحق والعدل ، وإن توفي أحد الأميرين كان نصب غيره الى اصحابه ممن يرضون أمره ، ويحمدون طريقته اللّهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيها إلحادا وظلما .. » (1)

ووقع الفريقان على هذه الوثيقة ، ولم تتعرض الى مطالبة معاوية بدم عثمان ذلك الدم الذي اتخذه شعارا لتمرده وبغيه على حكومة الامام ، ومن المؤكد انه لم يكن يهتم بعثمان فقد استنجد به حينما حاصره الثوار فاعاره اذنا صماء حتى قتل ، فاتخذ قتله وسيلة لنيل اطماعه.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن روايات الامام ابي جعفر لأحداث صفين تلك الأحداث المؤلمة التي جرت للمسلمين اعظم المحن والخطوب ، والقتهم في شر عظيم.

مأساة الامام الحسين :

وفزع المسلمون كأشد ما يكون الفزع من مأساة الامام الحسين (عليه السلام) التي انتهكت فيها حرمة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في ابنائه وعترته ، فقد عمد الجيش الاموي الى استئصال آل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) واقترفوا معهم من الفضائع ما لم يمر مثلها في جميع مراحل هذه الحياة.

وكان الامام أبو جعفر (عليه السلام) صبيا يافعا قد حضر يوم الطف ، وشاهد المحن الكبرى التي تواكبت على آل البيت (عليهم السلام) وقد وعاها ، وارتسمت فصولها الحزينة في اعماق نفسه ودخائل ذاته ، وظلت مناظرها الرهيبة ملازمة

ص: 273


1- شرح النهج 2 / 233 - 234.

له ولأبيه الامام زين العابدين طوال حياتهما.

واقبل علماء المسلمين ورواتهم على الامام أبي جعفر (عليه السلام) وهم يسألونه عما شاهده وما سمعه من أبيه من رزايا كربلا ، وما جرى على العترة الطاهرة من صنوف القتل والتنكيل ، وكان (عليه السلام) يزودهم بمعلوماته عنها ، وهم يدونونها.

وقد دون العلماء في ذلك العصر وما تلاه حوالي ستين مؤلفا كلها بعنوان « مقتل الحسين ».

رواية عمار الدهني :

ويروي الطبري أن عمار الدهني وفد على الامام أبي جعفر (عليه السلام) يسأله عن مقتل الحسين فأجابه (عليه السلام) وقد روى الطبري الرواية متقطعة غير متصلة ، ونحن نجمع بين فصولها ولنا فيها مواقع للنظر نذكرها في آخر الرواية ، وهذا نصها :

« حدثني زكريا بن يحيى الضرير ، قال : حدثنا أحمد بن جناب المصيصي - ويكنى أبا الوليد - قال : حدثنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد اللّه القسري قال : حدثني عمار الدهني ، قال : قلت لأبي جعفر : حدثني بمقتل الحسين حتى كأنى حضرته.

قال (عليه السلام) : مات معاوية ، والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة ، فارسل الى الحسين بن علي فقال له : اخرني ، وارفق فأخره ، فخرج الى مكة ، فأتاه أهل الكوفة ، ورسلهم انا قد حبسنا انفسنا عليك ، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي ، فأقدم علينا ، وكان النعمان بن بشير الانصاري على الكوفة ، قال : فبعث الحسين الى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه ، فقال له : سر الى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلي ، فان

ص: 274

كان حقا خرجنا إليهم ، فخرج مسلم حتى أتى المدينة فأخذ منها دليلين ، فمرا به في البرية فأصابهم عطش فمات أحد الدليلين ، وكتب مسلم الى الحسين يستعفيه ، فكتب إليه الحسين : أن امضى الى الكوفة ، فخرج حتى قدمها ، ونزل على رجل من أهلها يقال له ابن عوسجة (1) قال : فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دبوا إليه فبايعوه ، فبايعه اثنا عشر الفا. قال : فقام رجل ممن يهوى يزيد بن معاوية الى النعمان بن بشير فقال له : إنك ضعيف أو متضعف ، قد فسد البلاد ، فقال له النعمان : أن اكون ضعيفا ، وأنا في طاعة اللّه أحب إلي من أن اكون قويا في معصية وما كنت لأهتك سترا ستره اللّه.

فكتب بقول النعمان الى يزيد فدعا مولى يقال له : سرجون - وكان يستشيره - فأخبره الخبر ، فقال له : أكنت قابلا من معاوية لو كان حيا؟ قال : نعم ، قال : فاقبل مني فانه ليس للكوفة إلا عبيد اللّه بن زياد ، فولها اياه - وكان يزيد عليه ساخطا ، وكان همّ بعزله عن البصرة - فكتب إليه برضائه ، وانه قد ولاه الكوفة مع البصرة ، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده.

قال : فاقبل عبيد اللّه في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متلثما ، ولا يمر على مجلس من مجالسهم فيسلم إلا قالوا : عليك السلام يا ابن بنت رسول اللّه - وهم يظنون انه الحسين بن علي (عليه السلام) - حتى نزل القصر فدعا مولى له فاعطاه ثلاثة آلاف وقال له : اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع له أهل الكوفة فاعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر ، وهذا مال تدفعه إليه ليتقوى ، فلم يزل يتلطف ويرفق به ، حتى

ص: 275


1- المعروف بين المؤرخين ان مسلم أول ما نزل في دار المختار.

دل على شيخ من أهل الكوفة يلي البيعة ، فلقيه فأخبره ، فقال له الشيخ : لقد سرني لقاؤك إياي ، وقد ساءني ، فأما ما سرني من ذلك فما هداك اللّه له ، وأما ما ساءني فان أمرنا لم يستحكم بعد فادخله إليه فأخذ المال وبايعه ورجع الى عبيد اللّه فاخبره.

فتحول مسلم حين قدم عبيد اللّه بن زياد من الدار التي كان فيها الى منزل هانئ بن عروة المرادي ، وكتب مسلم بن عقيل الى الحسين بن علي (عليه السلام) يخبره ببيعة اثنى عشر الفا من أهل الكوفة ، ويأمره بالقدوم ، وقال عبيد اللّه لوجوه أهل الكوفة : مالي أرى هانئ بن عروة لم يأتني فيمن أتاني! قال : فخرج إليه محمد بن الاشعث في ناس من قومه ، وهو على باب داره ، فقالوا : إن الأمير قد ذكرك واستبطاك فانطلق إليه ، فلم يزالوا به حتى ركب معهم ، وسار حتى دخل على عبيد اللّه وعنده شريح القاضي ، فلما نظر إليه قال لشريح : « أتتك بحائن رجلاه » فلما سلم عليه ، قال : يا هانئ اين مسلم؟ قال : ما ادري ، فأمر عبيد اللّه مولاه صاحب الدراهم فخرج إليه ، فلما رآه قطع به ، فقال : أصلح اللّه الأمير ، واللّه ما دعوته الى منزلي ، ولكنه جاء فطرح نفسه علي ، قال ائتني به ، قال : واللّه لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه ، قال : ادنوه إلي ، فأدني فضربه على حاجبه فشجه ، قال : وأهوى هانئ الى سيف شرطي ليسله ، فدفع عن ذلك ، وقال : قد أحل اللّه دمك ، فأمر به فحبس في جانب القصر (1).

وروى الطبري بعد هذا حديثا فيما يتعلق بتفصيل الحادثة ثم ذكر

ص: 276


1- تأريخ الطبري 5 / 347 - 349 طبع دار المعارف بمصر تحقيق أبو الفضل ابراهيم.

كلام الامام أبي جعفر (عليه السلام) قال : فبينا هو كذلك اذ خرج الخبر الى مذحج ، فاذا على باب القصر جلبة سمعها عبيد اللّه ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : مذحج ، فقال لشريح : اخرج إليهم فأعلمهم أني انما حبسته لأسأله ، وبعث عينا عليه من مواليه يسمع ما يقول ، فمر بهانىء بن عروة ، فقال له هانئ : اتق اللّه يا شريح فانه قاتلي ، فخرج شريح حتى قام على باب القصر ، فقال : لا بأس عليه ، انما حبسه الأمير ليسأله ، فقالوا صدق ، ليس على صاحبكم بأس فتفرقوا ، فاتى مسلما الخبر ، فنادى بشعاره فاجتمع إليه اربعة آلاف من أهل الكوفة ، فقدم مقدمته ، وعبى ميمنته ، وميسرته وصار في القلب الى عبيد اللّه ، وبعث عبيد اللّه الى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر ، فلما سار إليه مسلم فانتهى الى باب القصر أشرفوا على عشائرهم فجعلوا يكلمونهم ، ويردونهم ، فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتى امسى في خمسمائة فلما اختلط الظلام ذهب اولئك أيضا.

فلما رأى مسلم انه قد بقي وحده جعل يتردد في الطرق فانى بابا فنزل عليه فخرجت إليه امرأة ، فقال لها : اسقيني فسقته ، ثم دخلت فمكثت ما شاء اللّه ، ثم خرجت فاذا هو على الباب ، قالت : يا عبد اللّه إن مجلسك مجلس ريبة ، فقم ، قال : إني مسلم بن عقيل فهل عندك مأوى؟ قالت : نعم ادخل ، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث ، فلما علم به الغلام انطلق الى محمد فأخبره ، فانطلق محمد الى عبيد اللّه فأخبره ، فبعث عبيد اللّه عمرو بن حريث المخزومي - وكان صاحب شرطه - إليه ومعه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فلم يعلم مسلم حتى احيط بالدار ، فلما رأى ذلك مسلم خرج إليهم بسيفه فقاتلهم ، فاعطاه عبد الرحمن

ص: 277

الامان فأمكن من يده ، فجاء به الى عبيد اللّه ، فأمر به فاصعد الى أعلى القصر فضربت عنقه والقى جثته الى الناس ، وأمر بهانىء فسحب الى الكناسة ، فصلب هنالك وقال شاعرهم في ذلك :

فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري *** الى هانئ في السوق وابن عقيل

أصابهما أمر الامام (1) فأصبحا *** أحاديث من يسعى بكل سبيل

أيركب أسماء الهماليج آمنا *** وقد طلبته مذحج بذحول (2)

ثم يذكر الطبري روايات أخرى عن أبي مخنف وغيره في تفصيل الأحداث ثم عقب ذلك بقوله : حدثنا خالد بن يزيد بن عبد اللّه القسرى ، قال : حدثنا عمار الدهني قال : قلت لأبي جعفر : حدثني عن مقتل الحسين حتى كأني حضرته قال :

« فاقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه حتى اذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال ، لقيه الحر بن يزيد التميمي ، فقال له : اين تريد؟ قال : أريد هذا المصر قال له : ارجع فاني لم ادع لك خلفي خيرا أرجوه ، فهم أن يرجع ، وكان معه أخوة مسلم بن عقيل ، فقالوا : واللّه لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل ، فقال : لا خير في الحياة بعدكم ، فسار فلقيته أوائل خيل عبيد اللّه ، فلما رأى ذلك عدل الى كربلا فاسند ظهره الى قصباء وخلا كيلا يقاتل الا من وجه واحد ، فنزل وضرب أبنيته وكان اصحابه خمسة واربعين فارسا ، ومائة راجل وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه عبيد اللّه بن زياد الري ، ، وعهد إليه عهده ، فقال : اكفني هذا الرجل ، قال : اعفني فأبى أن

ص: 278


1- في رواية « اصابهما بغي الأمير ».
2- تأريخ الطبري 5 / 349 - 351.

يعفيه ، قال فانظرني الليلة فأخره فنظر في أمره ، فلما اصبح غدا عليه راضيا بما أمر به ، فتوجه إليه عمر بن سعد فلما أتاه قال له الحسين : اختر واحدة من ثلاث : أما أن تدعوني فانصرف من حيث جئت ، وأما أن تدعوني فاذهب الى يزيد وأما أن تدعوني فألحق بالثغور ، فقبل ذلك عمر فكتب إليه عبيد اللّه لا ولا كرامة ، حتى يضع يده في يدي ، فقال له الحسين : عشر شابا من أهل بيته ، وجاء سهم فاصاب ابنا له معه في حجره ، فجعل يمسح الدم عنه ويقول : اللّهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا ، ثم أمر بحبرة فشقها ثم لبسها ، وخرج بسيفه ، فقاتل حتى قتل صلوات اللّه عليه قتله رجل من مذحج واحتز رأسه وانطلق به الى عبيد اللّه وقال :

اوقر ركابي فضة وذهبا *** فقد قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا *** وخيرهم اذ ينسبون النسا

وأوفده الى يزيد بن معاوية ، ومعه الرأس فوضع رأسه بين يديه وعنده ابو برزة الأسلمي فجعل ينكت بالقضيب على فيه ويقول :

يفلقن هاما من رجال أعزة *** علينا وهم كانوا أعق وأظلما

فقال له أبو برزة : ارفع قضيبك ، فو اللّه لربما رأيت فاه رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على فيه يلثمه ، وسرح عمر بن سعد بحرمه وعياله الى عبيد اللّه ، ولم يكن بقى من أهل بيت الحسين بن علي علیه السلام إلا غلام كان مريضا مع النساء ، فأمر به عبيد اللّه ليقتل فطرحت زينب نفسها عليه ، وقالت : واللّه لا يقتل حتى تقتلوني!! فرق لها فتركه وكف عنه.

قال : فجهزهم ، وحملهم الى يزيد ، فلما قدموا عليه جمع من كان بحضرته من أهل الشام ، ثم ادخلوهم فهنئوه بالفتح ، قال رجل منهم

ص: 279

ازرق أحمر ، ونظر الى وصيفة من بناتهم فقال : يا أمير المؤمنين هب لي هذه ، فقالت زينب : لا واللّه ، ولا كرامة لك ، ولا له إلا أن يخرج من دين اللّه ، قال فأعادها الأزرق ، فقال له يزيد كف عن هذا ، ثم أدخلهم على عياله فجهزهم ، وحملهم الى المدينة ، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها ، واضعة كمها على رأسها تلقاهم ، وهي تبكي وتقول :

ما ذا تقولون : إن قال النبي لكم *** ما ذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي *** منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم *** أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي (1)

وانتهت بذلك رواية عمار الدهني عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) : ذكر كارثة كربلا.

المؤاخذات :

وتواجه هذه الرواية عدة من المؤاخذات منها ما يلي :

1 - إن عمار الدهني طلب من الامام (عليه السلام) أن يحدثه - بالتفصيل - عن مقتل الامام الحسين (عليه السلام) كأنه قد حضره ، أما الجواب فقد كان موجزا ، ولم يشر الى كثير من الأحداث لا بقليل ولا بكثير ، فقد طويت فيه اكثر فصول تلك المأساة ، ومن الطبيعي أن هذا لا يتناسب مع السؤال الذي يطلب فيه المزيد من المعلومات.

2 - إنه جاء في هذه الرواية ان الامام الحسين (عليه السلام) حينما اجتمع بابن سعد طلب منه أحد هذه الامور :

أ - ان يسمحوا له بالرجوع الى يثرب.

ص: 280


1- تاريخ الطبري 5 / 389 - 390.

ب - ان يذهب الى يزيد.

ج - أن يلحق بالثغور.

ومن المقطوع به عدم صحة الامرين الأخيرين ، فان الامام (عليه السلام) لو فرض أنه ادلى بهما لما قدم الجيش الأموي على قتاله وحربه ، وقد تحدث عن افتعال ذلك عقبة بن سمعان وهو ممن صاحب الامام من المدينة الى مكة ثم الى العراق وظل ملازما له حتى قتل يقول :

« صحبت الحسين من المدينة الى مكة ، ومنها الى العراق ، ولم أفارقه حتى قتل ، وقد سمعت جميع كلامه ، فما سمعت منه ما يتذاكر فيه الناس ، من أن يضع يده في يد يزيد ، ولا أن يسير الى ثغر من الثغور ، لا في المدينة ، ولا في مكة ، ولا في العراق ، ولا في عسكره الى حين قتل نعم سمعته يقول : اذهب الى هذه الارض العريضة حتى انظر ما يصير إليه الناس » (1) ونظرا لاشتمال الرواية على هذه البنود فلا تصح نسبتها الى الامام أبي جعفر (عليه السلام) ومن المحتمل أن الرواية بناء على صحتها قد نقص منها الشيء الكثير ، وزيد فيها مما جعلها مضطربة لا يمكن التعويل عليها.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض ما أثر عنه من نقل السيرة النبوية وسائر الاحداث التي جرت في العصر الاسلامي الأول.

وصاياه القيمة :

وأثرت عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) وصايا كثيرة ، وجه بعضها لابنائه ، وبعضها لأصحابه وهي حافلة بالقيم الكريمة ، والمثل العليا ، وزاخرة بآداب السلوك ، والتوجيه الصالح الذي يصون الانسان من الانحراف

ص: 281


1- حياة الامام الحسين 3 / 129.

والسلوك في المنعطفات ، وفيما يلي ذلك :

وصاياه لولده الصادق :

وزود الامام أبو جعفر (عليه السلام) ولده الصادق بجمهرة من الوصايا القيمة ، ومن بينها :

1 - قال (عليه السلام) : « يا بني ان اللّه خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء : خبأ رضاه في طاعته ، فلا تحقرن من الطاعة شيئا فلعل رضاءه فيه ، وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئا فلعل سخطه فيه ، وخبأ اولياءه في خلقه فلا تحقرن أحدا فلعله ذلك الولي ... » (1)

وحفلت هذه الوصية بمعالي الاخلاق ، ففيها الترغيب في طاعة اللّه والحث عليها ، وفيها التحذير من المعصية ، والتشديد في أمرها ، وفيها الحث على تكريم الناس وعدم الاستهانة بأي احد منهم.

2 - حكى الامام الصادق (عليه السلام) احدى وصايا أبيه الى سفيان الثوري فقد قال له : « يا سفيان أمرني أبي بثلاث ، ونهاني عن ثلاث ، فكان فيما قال لي : يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم ، ومن يدخل مداخل السوء يتهم ، ومن لا يملك لسانه يندم ، ثم أنشدني :

عود لسانك قول الخير تحظ به *** ان اللسان لما عودت يعتاد

موكل بتقاضي ما سننت له *** في الخير والشر فانظر كيف تعتاد (2)

وهذه الوصايا من روائع الحكم ، ومن خيرة وصايا المصلحين لابنائهم فقد حفلت بجميع مقومات الآداب والفضائل.

ص: 282


1- الفصول المهمة ( ص 29 ) وسيلة المآل في عد مناقب الآل ( ص 208 ).
2- الخصال ( ص 157 ).

وصيته لبعض ابنائه :

وواصى بعض ابنائه بهذه الوصية فقال له : « يا بني اذا انعم اللّه عليك نعمة فقل : الحمد لله ، واذا احزبك (1) أمر فقل : لا حول ولا قوة إلا باللّه ، واذا ابطأ عنك رزقك فقل : استغفر اللّه. » (2)

وصيته لعمرو بن عبد العزيز :

وحينما ولي الخلافة عمرو بن عبد العزيز طلب من الامام أبي جعفر علیه السلام أن يزوده بوصية ينتفع بها ، ويسوس بها دولته ، فقال علیه السلام له :

« أوصيك بتقوى اللّه ، وأن تتخذ صغير المسلمين ولدا ، وأوسطهم أخا ، وكبيرهم أبا ، فارحم ولدك ، وصل أخاك ، وبر أباك ، واذا صنعت معروفا فربه (3). » (4)

وبهر عمرو بهذه الحكمة الجامعة وراح يبدي اعجابه قائلا :

« جمعت واللّه ما ان اخذنا به ، واعاننا اللّه عليه استقام لنا الخير ان شاء اللّه. » (5)

واروع كلمة جامعة لشؤون السياسة العادلة هذه الكلمة القيمة ، فان رئيس الدولة اذا ساس رعيته بسياسة العدل والانصاف ، واعتبر ابناء

ص: 283


1- حزبه الأمر : نابه واشتد عليه.
2- البيان والتبيين 3 / 280 ، الموفقيات ( ص 399 ).
3- ربه : أي ادمه : يقال : ربّ بالمكان أي أقام به.
4- الامالي لأبي على القالي 2 / 308 ، جمهرة خطب العرب 2 / 147.
5- تاريخ دمشق 51 / 38.

الأمة من أفراد أسرته ، وعاملهم كما يعامل الرجل أهله فيشيع فيهم الخير ، ويبسط فيهم العدل فان الحكومة والشعب يسعدان ، ويستقيم لهما الخير.

وصيته لجابر الجعفى :

وزود الامام أبو جعفر (عليه السلام) تلميذه العالم جابر بن يزيد الجعفي بهذه الوصية الخالدة الحافلة بجميع القيم الكريمة والمثل العليا التي يسمو بها الانسان فيما لو طبقها على واقع حياته ، وهذا بعض ما جاء فيها :

« أوصيك بخمس : إن ظلمت فلا تظلم ، وان خانوك فلا تخن ، وان كذبت فلا تغضب ، وان مدحت فلا تفرح ، وإن ذممت فلا تجزع ، وفكر فيما قيل فيك ، فان عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين اللّه عز وجل عند غضبك من الحق أعظم عليك مصيبة مما خفت من سقوطك من أعين الناس ، وإن كنت على خلاف ما قيل فيك : فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك.

واعلم بأنك لن تكون لنا وليا حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك ، وقالوا : إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنك رجل صالح لم يسرك ذلك ، ولكن اعرض نفسك على كتاب اللّه فان كنت سالكا سبيله ، زاهدا في تزهيده راغبا في ترغيبه ، خائفا من تخويفه فاثبت وابشر ، فانه لا يضرك ما قيل فيك ، وان كنت مبائنا للقرآن ، فما ذا الذي يغرك من نفسك ، إن المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها ، فمرة يقيم أودها ويخالف هواها في محبة اللّه ومرة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه اللّه ، فينتعش ، ويقيل اللّه عثرته فيتذكر ، ويفزع الى التوبة والمخافة فيزداد بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف وذلك بان اللّه يقول :

ص: 284

( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ) (1).

يا جابر استكثر لنفسك من اللّه قليل الرزق تخلصا الى الشكر ، واستقلل من نفسك كثير الطاعة لله إزراء على النفس (2) وتعرضا للعفو ، وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم ، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل ، وتحرز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدة التيقظ ، واستجلب شدة التيقظ بصدق الخوف ، واحذر خفي التزين بحاضر الحياة ، وتوق مجازفة الهوى بدلالة العقل ، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم ، واستبق خالص الاعمال ليوم الجزاء ، وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص ، وادفع عظيم الحرص بايثار القناعة ، واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل ، واقطع اسباب الطمع ببرد اليأس ، وسد سبيل العجب بمعرفة النفس ، وتخلص الى راحة النفس بصحة التفويض ، واطلب راحة البدن باجمام (3) القلب ، وتخلص الى اجمام القلب بقلة الخطأ ، وتعرض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات ، واستجلب نور القلب بدوام الحزن. وتحرز من ابليس بالخوف الصادق ، وإياك والرجاء الكاذب فانه يوقعك في الخوف الصادق ، وتزين لله عز وجل بالصدق في الاعمال ، وتحبب إليه بتعجيل الانتقال واياك والتسويف فانه بحر يغرق فيه الهلكى ، واياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب ، واياك والتواني فيما لا عذر لك فيه فاليه يلجأ النادمون واسترجع سالف الذنوب بشدة الندم ، وكثرة

ص: 285


1- سورة الاعراف : آية 200.
2- إزراء على النفس : أي احتقارا واستخفافا بها.
3- الجمام : - بالفتح - الراحة.

الاستغفار ، وتعرض للرحمة وعفو اللّه بحسن المراجعة ، واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء ، والمناجاة في الظلم ، وتخلص الى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق ، واستقلال كثير الطاعة ، واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر ، والتوسل الى عظيم الشكر بخوف زوال النعم ، واطلب بقاء العز باماتة الطمع ، وادفع ذل الطمع بعز اليأس ، واستجلب عز اليأس ببعد الهمة ، وتزود من الدنيا بقصر الأمل ، وبادر بانتهاز البغية عند امكان الفرصة ، ولا امكان كالايام الخالية مع صحة الابدان ، وإياك والثقة بغير المأمون فان للشر ضراوة كضراوة الغذاء.

واعلم انه لا علم كطلب السلامة ، ولا سلامة كسلامة القلب ، ولا عقل كمخالفة الهوى ، ولا خوف كخوف حاجز ، ولا رجاء كرجاء معين ، ولا فقر كفقر القلب ، ولا غنى كغنى النفس ، ولا قوة كغلبة الهوى ، ولا نور كنور اليقين ، ولا يقين كاستصغارك للدنيا ، ولا معرفة كمعرفتك بنفسك ، ولا نعمة كالعافية ، ولا عافية كمساعدة التوفيق ، ولا شرف كبعد الهمة ، ولا زهد كقصر الأمل ، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات ، ولا عدل كالانصاف ، ولا تعدي كالجور ، ولا جور كموافقة الهوى ، ولا طاعة كاداء الفرائض ، ولا خوف كالحزن ، ولا مصيبة كعدم العقل ، ولا عدم عقل كقلة اليقين ، ولا قلة يقين كفقد الخوف ، ولا فقد خوف كقلة الحزن على فقد الخوف ، ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب ، ورضاك بالحالة التي أنت عليها ، ولا فضيلة كالجهاد ، ولا جهاد كمجاهدة الهوى ، ولا قوة كرد الغضب ، ولا معصية كحب البقاء ، ولا ذل كذل الطمع ، واياك والتفريط عند امكان الفرصة فانه ميدان يجر لأهله بالخسران .. » (1)

ص: 286


1- تحف العقول ( ص 284 - 286 ).

ودللت هذه الوصية الرائعة الحافلة بجواهر الحكم على امامة الامام أبي جعفر (عليه السلام) واضاءت جانبا كبيرا من مواهبه وعبقرياته ، ولو لم تكن له إلا هذه الوصية لكفت في الاستدلال على عظمته وما يملكه من طاقات علمية لا تحد ، لقد نظر الامام العظيم الى اعماق النفوس ، وسبر اغوارها وحلل ابعادها ، وعرف ما ابتلي به الانسان من الأمراض والآفات لقد ابتلي الانسان بالجهل والغرور والكبرياء والجشع والطمع ، وطول الأمل وغير ذلك مما يدفعه الى الاغراق في المعاصي واقتراف الآثام والانحراف عن طريق الحق ، وعدم الاستقامة في سلوكه ، درس الامام (عليه السلام) هذه الأمراض فوضع لها العلاج الحاسم ، ووصف لها الدواء السليم الذي يقضي على جراثيمها ، واذا اخذ الانسان بهذه الوصفة فانه يعود انسانا مثاليا مهذبا ، قد صان نفسه ، واتصل بخالقه الذي إليه مرجعه ومآله ، ولو لا خوف الاطالة لشرحنا بنودها شرحا مفصلا ، ودللنا على ما فيها من الحكم والأسرار.

وصيته لرجل :

وفد عليه رجل من المسلمين وطلب منه أن يمنحه بوصية يسير على ضوئها فقال (عليه السلام) له :

« هيئ جهازك ، وقدم زادك ، وكن وصي نفسك. » (1)

لقد دله على ما يقربه الى اللّه زلفى ، وما يضمن له السلامة في دار البقاء والخلود ، ان الانسان اذا هيئ جهازه وقدم زاده كان على سلامة من دينه ، وضمان آخرته.

ص: 287


1- تاريخ دمشق 51 / 38.

وصيته لبعض اصحابه :

وأراد بعض أصحاب الامام (عليه السلام) السفر فزوده (عليه السلام) بهذه الوصية القيمة ، قال له :

« لا تسيرن سيرا وأنت حافي ، ولا تنزلن عن دابتك ليلا لقضاء حاجة إلا ورجلك في خف ، ولا تبولن في نفق ، ولا تذوقن بقلة ولا تشمها حتى تعلم ما هي ، ولا تشرب من سقاء حتى تعرف ما فيه ، وأحذر من تعرف ولا تصحب من لا تعرف .. » (1)

لقد اوصاه الامام (عليه السلام) بالمناهج الصحية ، والدروس الاخلاقية التي تضمن له الصحة والسلامة.

أما ما يتعلق بالصحة والوقاية من الأمراض فهي :

أ - أمره أن لا يسير حافيا ، فان المشي حافيا كثيرا ما يجلب للإنسان بعض الأمراض التي انتشرت جراثيمها في الارض ، وهي مما تنفذ بسرعة الى مسام القدمين مثل البهلرزيا.

ب - اوصاه أن لا ينزل من دابته في الليل حافيا لقضاء حاجته لأنه لا يؤمن أن تلذعه بعض هوام الأرض الكامنة في التراب ، وهو لا يدري.

ج - حذره من أن يبول في التفق لأنه غالبا ما تكمن فيه بعض الحيوانات القاتلة فتنساب إليه ، وتسبب هلاكه.

د - نهاه من تناول أحد البقول المنتشرة في الصحراء ، ما لم يعرفها فانها قد تكون سامة وهو لا يعلم فتسبب تسممه وتؤدي بحياته أو مرضه.

ه- - نهاه عن الشرب من السقاء حتى يعلم ما فيه لأنه قد يكون شرابا فاسدا ومضرا بصحته فيسبب هلاكه أو سقمه ، هذه بعض المناهج

ص: 288


1- تذكرة ابن حمدون ( ص 27 ).

الصحية التي امره بها واما الدروس الاخلاقية فقد اوصاه بأمرين :

1 - ان يحذر من يعرف ، فلا يبيح له بأسراره ، كما ان عليه ان يحسن صحبته خوفا منه ، فان السفر يكشف عن حقيقة الشخص ، ويظهر كوامن سره ، وكم سافر جماعة كانت بينهم اعمق المودة فعادوا وهم اعداء يلعن بعضهم بعضا ، فعلى الانسان المستقيم أن يكون في سفره على حذر ممن يعرفه ، وممن لا يعرفه.

2 - نهاه عن السفر مع من لا يعرف ، فانه قد يسبب له كثيرا من المشاكل التي قد تؤدي الى هلاكه ، وقد وقع ذلك بكثرة للمسافرين مع من لا يعرفونهم ... هذه بعض وصاياه القيمة.

مواعظه :

ووجه الامام أبو جعفر (عليه السلام) الى شيعته المواعظ التي وعظ بها الأوصياء أممهم فحذرهم من غرور الدنيا وفتنها ، وبصرهم صولة الدهر ، وفجائع الأيام ، ودعاهم الى التفكر والتبصر فيما يصيرون إليه من مفارقة الدنيا الى القبور المظلمة ، واللحود الموحشة التي لا ينفع فيها إلا ما ادخره الانسان من العمل الصالح ، وهذه بعض مواعظه :

1 - قال (عليه السلام) : « أيها الناس إنكم في هذه الدار اغراض تنتضل فيكم المنايا ، لن يستقبل أحد منكم يوما جديدا من عمره إلا بانقضاء آخر من أجله ، فأية اكلة ليس فيها غصص؟ أم أي شربة ليس فيها شرق؟ استصلحوا ما تقدمون عليه بما تظعنون عنه ، فان اليوم غنيمة ، وغدا لا تدري لمن هو ، أهل الدنيا فى سفر يحلون عقد رحالهم في غيرها ، قد خلت منا أصول نحن فروعها فما بقاء الفرع بعد أصله.

أين الذين كانوا أطول أعمارا منكم وأبعد آمالا؟! أتاك يا ابن آدم

ص: 289

ما لا ترده ، وذهب عنك ما لا يعود ، فلا تعدن عيشا منصرفا عيشا ، ما لك منه إلا لذة تزدلف بك الى حمامك ، وتقربك من أجلك؟ فكأنك قد صرت الحبيب المفقود ، والسواد المخترم ، فعليك بذات نفسك ، ودع ما سواها ، واستعن باللّه يعنك .. » (1)

2 - وحضر عنده جماعة من الشيعة فوعظهم ، وحذرهم عقاب اللّه ، فلم يحفلوا بكلامه فغاظه ذلك ، واطرق برأسه مليا الى الارض ، ثم رفع رأسه ، فجعل يعاتبهم ، ويعظهم مرة أخرى قائلا :

« إن كلامي لو وقع طرف منه في قلب أحدكم لصار ميتا ، الا يا أشباحا بلا أرواح وذبابا بلا مصباح كأنكم خشب مسندة ، وأصنام مريدة ، ألا تأخذون الذهب من الحجر ، إلا تقتبسون الضياء من النور الأزهر ، ألا تأخذون اللؤلؤ من البحر ، خذوا الكلمة الطيبة ممن قالها وان لم يعمل بها ، فان اللّه يقول : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ ) (2).

ويحك يا مغرور ألا تحمد من تعطيه فانيا ، ويعطيك باقيا ، درهم يفنى بعشرة تبقى الى سبعمائة ضعف مضاعفة من جواد كريم آتاك اللّه عند مكافأة هو مطعمك وساقيك ، وكاسيك ، ومعافيك ، وكافيك ، وساترك ممن يراعيك ، من حفظك في ليلك ونهارك ، وأجابك عند اضطرارك ، وعزم لك على الرشد في اختبارك ، كأنك قد نسيت ليالي أوجاعك وخوفك ، دعوته فاستجاب لك فاستوجب بجميل صنيعه الشكر فنسيته فيمن ذكر ، وخالفته فيما أمر ، ويلك انما أنت لص من لصوص الذنوب ، كلما

ص: 290


1- تحف العقول ( ص 299 ) الكامل للمبرد 1 / 127.
2- سورة الزمر ، آية 18.

عرضت لك شهوة أو ارتكاب ذنب سارعت إليه ، وأقدمت بجهلك عليه ، فارتكبته كأنك لست بعين اللّه أو كأن اللّه ليس لك بالمرصاد!!!

يا طالب الجنة ما أطول نومك ، وأكل مطيتك ، وأوهى همتك فلله أنت من طالب ومطلوب ، ويا هاربا من النار ما أحث مطيتك إليها ، وما اكسبك لما يوقعك فيها!!!

انظروا الى هذه القبور سطورا بافناء الدور ، تدانوا في خططهم ، وقربوا في مزارهم ، وبعدوا في لقائهم ، عمروا فخربوا ، وانسوا فأوحشوا وسكنوا فأزعجوا ، وقنطوا فرحلوا ، فمن سمع بدان بعيد وشاحط (1) قريب وعامر مخرب ، وآنس موحش ، وساكن مزعج ، وقاطن مرحل غير أهل القبور!!!

يا ابن الأيام الثلاثة : يومك الذي ولدت فيه ، ويومك الذي تنزل فيه قبرك ، ويومك الذي تخرج فيه الى ربك ، فيا له من يوم عظيم يا ذوي الهيئة المعجبة والهيم المعطنة (2) مالي ارى اجسامكم عامرة ، وقلوبكم دامرة اما واللّه لو عاينتم ما أنتم ملاقوه ، وما أنتم إليه صائرون لقلتم : ( يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (3) قال جل من قائل : ( بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ ) .. ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (4) » (5).

ص: 291


1- الشاحط : البعيد.
2- الهيم : الأبل العطاش ، العاطنة : الأبل التي رويت ثم بركت.
3- سورة الانعام : آية 27.
4- سورة الانعام : آية 28.
5- تحف العقول ( ص 291 - 292 ).

لقد انكر الامام أبو جعفر (عليه السلام) على هؤلاء القوم انصرافهم عن وعظه ، وارشاداته الهادفة الى استقامتهم وحسن سلوكهم ، وظفرهم بخير الدنيا والآخرة ، وقد وجه إليهم هذه الموعظة البالغة فدعاهم الى اللّه ، والتمسك بطاعته ، فانه بيده الخير والحرمان.

لقد وعظهم بهذه المواعظ التي تخشع لها النفوس ، وتتوجل منها القلوب ليرجعهم الى حظيرة الايمان وواقع الاسلام.

3 - ووعظ الامام بعض اصحابه فأحاطه علما بواقع هذه الحياة فقال (عليه السلام) له :

« انزل الدنيا كمنزل نزلته وارتحلت عنه ، أو كمال أصبته في منامك فاستيقظت ، وليس معك منه شيء. » (1)

ان الانسان لو نظر الى الدنيا بهذه النظرة الصائبة ، وتعرف على واقعها وحالها لما أصيب بداء الغرور والأنانية ، والجشع والطمع وغير ذلك من الآفات النفسية التي تضله عن طريق الحق.

4 - ومن مواعظه (عليه السلام) أنه قال : « ما اغرورقت عين بمائها من خشية اللّه إلا وحرم اللّه وجه صاحبها على النار ، فان سالت على الخدين دموعه لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة ، وما من شيء إلا له جزاء إلا الدمعة فان اللّه تعالى يكفر بها بحور الخطايا .. » (2)

لقد دعا (عليه السلام) الى البكاء من خشية اللّه فانه من علامة الايمان ، وهو يكشف عن اتصال العبد بربه وخالقه.

5 - قال (عليه السلام) : « اكثر من ذكر الموت فانه لم يكثر انسان ذكر

ص: 292


1- مرآة الجنان 1 / 248 ، شذرات الذهب 1 / 149.
2- اخبار الدول ( ص 11 ).

الموت إلا زهد في الدنيا. » (1)

ان الانسان متى ذكر الموت ، وجعله أمام عينيه فانه يزهد في هذه الدنيا ، وينصرف عن مباهجها ، وملاذها.

6 - وسئل الامام أبو جعفر عن أشد الناس زهدا؟ فقال (عليه السلام) : من لا يبالي الدنيا في يد من كانت ، فقيل له : من أخسر الناس صفقة؟ فقال (عليه السلام) : من باع الباقي بالفاني ، فقيل له : من اعظم الناس قدرا؟ فقال (عليه السلام) : من لا يرى الدنيا لنفسه قدرا (2).

7 - ووعظ (عليه السلام) اصحابه فقال لهم : « إن اللّه تعالى يقول : يا ابن آدم تطولت عليك بثلاث : سترت عليك ما لو يعلم به اهلك ما داروك ، وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدم خيرا ، وجعلت لك نظرة في ثلثك فلم تقدم خيرا. » (3)

هذه بعض النماذج من مواعظه القيمة وقد ساقها (عليه السلام) الى معالجة النفوس وتهذيبها ، وكانت هذه الظاهرة التربوية من ابرز القيم في تعاليم أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

فضل العقل :

وتحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) عن فضل العقل ، وانه من اعظم ما خلق اللّه تعالى قال (عليه السلام) :

« لما خلق اللّه العقل استنطقه ، ثم قال له : اقبل فأقبل ، ثم قال له : ادبر فادبر ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي

ص: 293


1- جامع السعادات 2 / 61.
2- البيان والتبيين 3 / 161.
3- الخصال ( ص 131 ).

منك ، ولا اكملتك إلا فيمن أحب أما اني إياك آمر ، وإياك انهى ، وإياك أعاقب ، وإياك أثيب .. » (1)

ان بالعقل ترتفع قيمة الانسان ، ولو لاه لما كان هناك أي فرق بينه وبين الحيوان السائم ، وهو من الشرائط الأولية في صحة التكليف - كما يقول الفقهاء -.

الفطنة :

واشاد الامام أبو جعفر (عليه السلام) بالفطنة ، وجعلها المصدر الوحيد لسعادة الانسان ، وصلاح معيشته قال (عليه السلام) : « صلاح جميع التعايش والتعاشر ملء مكيال ثلثاه فطنة ، وثلثه تغافل ، فلم يجعل لغير الفطنة نصيبا من الخير ، ولا حظا في الصلاح لأن الانسان لا يتغافل إلا عن شيء قد فطنه وعرفه. » (2)

وما أروع هذه الكلمة ، وقد علق عليها بعض العلماء فقال : انها جمعت صلاح شأن الدنيا بحذافيرها.

اجالة الفكر :

ودعا (عليه السلام) الى اجالة الفكر وانطلاقه قال (عليه السلام) : « باجالة الفكر يستدر الرأي المعشب .. » (3)

وهذه الكلمة من روائع الحكم فان الرأي الأصيل والسديد انما يصل

ص: 294


1- اصول الكافي 1 / 10.
2- الكامل للمبرد 1 / 76 ، زهر الآداب 1 / 116 ، البيان والتبيين 3 / 99.
3- جامع السعادات 1 / 165.

إليه الانسان بعد اجالة فكره في الأمور ، وكذلك الحقائق العلمية والمخترعات انما هي وليدة التفكر والدراسة للأمور ، فانه من غير الممكن ان يتوصل الانسان لذلك من دون اجالة الفكر وامعانه.

مكارم الاخلاق :

اشارة

واهتم الامام أبو جعفر (عليه السلام) بنشر مكارم الاخلاق واذاعتها بين الناس ، لأنها من العناصر الذاتية في بناء المجتمع الاسلامي ، وقد حفلت مصادر الحديث وغيرها بالشيء الكثير من كلماته الحكمية ، وفيما يلي ذلك :

1 - الاحسان :

أما الاحسان الى الناس فانه من اوثق الاسباب الى تماسك المجتمع وترابطه وشيوع المحبة والألفة بين ابنائه ، وقد ندب إليه الاسلام ، وحث عليه قال الامام أبو جعفر (عليه السلام) : « ما تذرع إلي بذريعة ، ولا توسل بوسيلة هي أقرب الي من يد سالفة مني إليه أتبعتها أختها ليحسن حفظها وربها لأن منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل ، وما سمحت لي نفسي برد بكر الحوائج .. » (1)

ان احب الاشياء الى الامام (عليه السلام) مواصلة الاحسان وتكراره ليغرس به المودة والحب في قلوب الناس.

2 - فعل المعروف :

وحث الامام (عليه السلام) على فعل المعروف الى الناس في كثير من احاديثه ، ومن بين ما قاله :

ص: 295


1- تحف العقول ( ص 296 ).

أ - قال (عليه السلام) : « ان اللّه جعل للمعروف أهلا من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ، ووجه لطلاب المعروف الطلب إليهم ، ويسر إليهم قضاءه كما يسر الغيث للأرض المجدبة ليحييها ويحي أهلها ، وان اللّه جعل للمعروف اعداء من خلقه بغض إليهم المعروف ، وبغض إليهم فعاله وحظر على طلاب المعروف التوجه إليهم ، وحظر عليهم قضاءه كما يحظر الغيث عن الأرض المجدبة ليهلكها ، ويهلك أهلها ، وما يعفو اللّه عنه اكثر .. » (1)

ب - قال (عليه السلام) : « صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وكل معروف صدقة وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة ، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة ، وأول أهل الجنة دخولا الى الجنة أهل المعروف وان أول أهل النار دخولا الى النار أهل المنكر .. » (2)

3 - مقابلة المعروف بالاحسان :

وأوصى (عليه السلام) اصحابه بمقابلة المعروف بالمزيد من الاحسان قال (عليه السلام) : « من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافاه. ومن أضعف كان شكورا ، ومن شكر كان كريما. ومن علم أنه ما صنع كان الى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم ، ولم يستزدهم في مودتهم ، فلا تلتمس من غيرك شكر ما اتيته الى نفسك ، ووقيت به عرضك ، واعلم ان طالب الحاجة لم يكرم وجهه عن مسألتك فأكرم وجهك عن رده .. » (3)

وبعد ما أوصى (عليه السلام) بمقابلة المعروف بالاحسان ، دعا الى صنع المعروف

ص: 296


1- تحف العقول ( ص 295 ).
2- أمالي الصدوق ( ص 225 ).
3- تحف العقول ( ص 300 ).

بما هو معروف وان لا يبغي صاحبه جزاء ، فانه قد صنع ذلك لنفسه. ووقى به شرفه وعرضه.

آداب السلوك :

اشارة

وحث الامام (عليه السلام) على آداب السلوك الاجتماعي مع الناس ، وكان من بين ذلك.

1 - طلاقة الوجه :

وأمر (عليه السلام) بمقابلة الناس بطلاقة الوجه والبشرى بهم قال (عليه السلام) :

« البشر الحسن ، وطلاقة الوجه مكسبة للمحبة ، وقربة من اللّه ، وعبوس الوجه ، وسوء البشر مكسبة للمقت ، وبعد من اللّه .. » (1)

2 - معاملة الناس بالحسنى :

وحث (عليه السلام) على معاملة الناس بالحسنى واجتناب هجر الكلام معهم ، قال (عليه السلام) : « قولوا للناس : أحسن ما تحبون أن يقال : لكم فان اللّه يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين ، الفاحش المتفحش ، السائل الملحف ، ويحب الحيّ الحليم العفيف المتعفف .. » (2)

حقوق المسلم :

وأدلى (عليه السلام) بالحقوق التي شرعها الاسلام للمسلم تجاه أخيه المسلم ، قال (عليه السلام) :

« احبب أخاك المسلم ، واحبب له ما تحب لنفسك ، واكره له ما

ص: 297


1- تحف العقول ( ص 296 ).
2- تحف العقول ( ص 300 ).

تكره لنفسك ، واذا احتجت فسله ، واذا سألك فاعطه ، ولا تدخر عنه خيرا فانه لا يدخره عنك ، كن له ظهرا فانه لك ظهر ، إن غاب فاحفظه في غيبته ، وان شهد فزره ، واجله ، واكرمه فانه منك ، وأنت منه ، وان كان عليك عاتبا فلا تفارقه حتى تسل سخيمته (1) وما في نفسه ، واذا اصابه خير فاحمد اللّه عليه ، وان ابتلي فاعضده ، وتمحل له .. » (2)

ولو طبق المسلمون هذه التعاليم الحية على واقع حياتهم لصاروا من اقوى شعوب العالم وما تداعت الأمم على غزوهم ، واستعبادهم ، ونهب ثرواتهم ... لقد انحرفوا عن هذه المبادئ الاصيلة فهانوا وذلوا ، وتفرقوا شيعا واحزابا ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) .

قضاء حاجة المسلم :

وندب الامام أبو جعفر المسلمين الى قضاء حوائج اخوانهم ، وحذر من تركها ، قال (عليه السلام) : « ما من عبد يمتنع عن معونة أخيه الملم ، - والسعي له في حاجته قضيت له أو لم تقض إلا ابتلي في حاجة فيما يأثم عليه ، ولا يؤجر ، وما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يرضي اللّه إلا أبتلي بأن ينفق أضعافها فيما أسخط اللّه .. » (3)

صلة الارحام :

وعنى الاسلام بصلة الارحام ، وندب إليها لأنها توجب تماسك الأسرة وارتباطها ، وتعود على الأمة باروع الثمرات ، وقد حث عليها الامام أبو جعفر (عليه السلام) قال (عليه السلام) : « صلة الأرحام تزكي الاعمال ، وتنمي الأموال ،

ص: 298


1- السخيمة : الضغينة
2- أمالي الصدوق ( ص 288 ).
3- تحف العقول ( ص 292 ).

وتدفع البلوى ، وتيسر الحساب ، وتنسىء في الأجل .. » (1)

الصدقة :

وأكد الامام (عليه السلام) على الصدقة ، وذكر الفوائد التي يظفر بها المتصدق ، وقد أدلى بذلك امام اصحابه قال (عليه السلام) : « إلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه يبعد السلطان ، والشيطان منكم » فقال له أبو حمزة :

« بلى اخبرنا حتى نفعله. »

قال (عليه السلام) : « عليكم بالصدقة فبكروا بها ، فانها تسود وجه ابليس ، وتكسر شره السلطان الظالم عنكم في يومكم ذلك ، وعليكم بالحب لله والتودد والموازرة على العمل الصالح فانه يقطع دابرهما - يعني الشيطان والسلطان - وألحوا في الاستغفار فانه ممحاة للذنوب .. » (2)

العطف على اليتيم :

ودعا الامام (عليه السلام) الى العطف على اليتيم والبر بالضعيف قال (عليه السلام) :

« اربع من كن فيه بنى له اللّه بيتا في الجنة من آوى اليتيم ، ورحم الضعيف واشفق على والديه ، ورفق بمملوكه .. » (3)

محاسن الصفات :

وتحدث الامام أبو جعفر (عليه السلام) عن محاسن الصفات التي تقرب الانسان من اللّه ، وتبعده عن سخطه وعذابه قال (عليه السلام) : « أربع من كن فيه كمل إسلامه ، وأعين على ايمانه ، ومحصت ذنوبه ، ولقى اللّه عز وجل ،

ص: 299


1- تحف العقول ( ص 298 ).
2- تحف العقول ( ص 298 ).
3- الخصال ( ص 204 ).

وهو عنه راض ، ولو كان فيما بين قرنه الى قدميه ذنوب حطها اللّه عنه ، وهي : الوفاء بما يجعل اللّه على نفسه ، وصدق اللسان مع الناس ، والحياء مما يقبح عند اللّه ، وعند الناس ، وحسن الخلق مع الأهل والناس ، وأربع من كن فيه من المؤمنين اسكنه اللّه تعالى في أعلى عليين في غرف فوق الغرف : من آوى اليتيم ، ونظر له ، وكان له أبا ، ومن رحم الضعيف ، واعانه وكفاه ، ومن انفق على والديه ، وترفق بهما ، وسرهما ولم يحزنهما ، ومن لم يخرق مملوكه فاعانه على ما يكلفه .. » (1)

لقد أمر الامام (عليه السلام) بكل ما يقرب الانسان من ربه ، وقد ارشده الى محاسن الاعمال التي يحبها اللّه ، ويجزل عليها ثوابه ، وتستوجب المزيد من الطافه.

الصمت :

ودعا (عليه السلام) الى الصمت وعدم الخوض فيما لا يكسب فيه الانسان فائدة أو خيرا قال (عليه السلام) : « إن هذا اللسان مفتاح كل خير وشر ، فينبغي للمؤمن أن يختم لسانه كما يختم على ذهبه وفضته ، فان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال : ( رحم اللّه مؤمنا أمسك لسانه من كل شر فان ذلك صدقة منه على نفسه ) لا يسلم أحد من الذنوب حتى يحزن لسانه .. » (2)

مساوئ الصفات والأعمال :

وحذر الامام (عليه السلام) من الاتصاف بالصفات السيئة ، والاعمال المنكرة ، وهذا بعض ما أثر عنه :

ص: 300


1- الدر النظيم ( ص 191 ).
2- تحف العقول ( ص 298 ).

1 - قال (عليه السلام) : « ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك قل ذلك أو كثر .. » (1)

وقال (عليه السلام) : « المتكبر ينازع اللّه رداءه » (2).

ان الكبرياء ينم عن الجهل ونقصان العقل ، فان الانسان لو عرف مآله وما يصير إليه من مفارقة هذه الحياة ، ونسيان ذكره ، واستحالة جسمه الذي يزهو به الى كتلة من التراب المهين ، لو ادرك ذلك وتبصر فيه لما تكبر على خلق اللّه.

2 - وذم الامام (عليه السلام) الانسان المنافق الذي يكون ذا وجهين ولسانين قال (عليه السلام) : « بئس العبد عبد يكون ذا وجهين ، وذا لسانين يطري أخاه شاهدا ، ويأكله غائبا ، ان أعطي حسده ، وان أبتلي خذله .. » (3)

ان هذا الانحراف يكشف عن خبث السريرة ، وسوء الطوية ، وان صاحبه لا خلق له ، ولا ايمان له بربه.

3 - وحذر الامام من الاتصاف بالصفات التالية قال (عليه السلام) : « ما أقبح الأسر عند الظفر ، والكآبة عند النائبة ، والغلظة على الفقير ، والقسوة على الجار ، ومشاحة القريب ، والخلاف على الصاحب ، وسوء الخلق على الاهل ، والاستطالة بالقدرة ، والجشع مع الفقر ، والغيبة للجليس ، والكذب في الحديث ، والسعي بالمنكر ، والغدر من السلطان ، والخلق من ذوي المروءة ، من سأل فوق قدره استحق الحرمان ، صلاح من جهل الكرامة في هوانه ، المسترسل مرقي ، والمحترس ملقى .. » (4)

ص: 301


1- صفة الصفوة 2 / 61 ، حلية الاولياء 3 / 180.
2- تحف العقول
3- أمالي الصدوق ( ص 30 ).
4- تذكرة ابن حمدون ( ص 60 ).

ومن تجنب هذه الصفات فقد تحلى بمعالي الاخلاق الرفيعة وصار من أفذاذ الناس وخيارهم.

4 - ونهى الامام (عليه السلام) عن ارتكاب ما يلي قال (عليه السلام) : « ثلاث خصال : لا يموت صاحبهن أبدا حتى يرى وبالهن ، البغي وقطيعة الرحم ، واليمين الكاذبة يبارز اللّه بها ، وان أعجل الطاعة ثوابا لصلة الرحم ، وان القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنمى أموالهم ، ويثرون ، وان اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم ليذران الديار بلاقع من أهلها .. » (1)

5 - وكره الامام (عليه السلام) اتصاف الانسان بما يلي من الصفات قال علیه السلام : « أربعة اسرع شيء عقوبة : رجل أحسنت إليه ، ويكافيك بالاحسان إليه اساءة ، ورجل لا تبغي عليه ، ويبغي عليك ، ورجل عاهدته على أمر فمن أمرك الوفاء له ، ومن أمره الغدر بك ، ورجل يصل قرابته ويقطعونه .. » (2)

6 - وحذر الامام (عليه السلام) من شرب الخمر الذي هو من أعظم المحرمات قال (عليه السلام) : « إن مدمن الخمر كعابد وثن ، ويورثه الارتعاش ، ويهدم مروءته ، ويحمله على التجسر على المحرمات من سفك الدماء ، وركوب الزنا .. » (3)

إن الخمر مصدر لكل رذيلة وموبقة ، وهو من الآفات الاجتماعية ، التي تسبب فقدان الشرف ، والوقوع في جميع المحرمات ، اما اضراره الجسمية فقد تحدثنا عنها في بعض مؤلفاتنا.

ص: 302


1- تحف العقول ( ص 294 ).
2- الخصال ( ص 210 ).
3- البحار 16 / 771.

7 - وذم الامام (عليه السلام) الفاحش بقوله : « ان اللّه يبغض الفاحش المتفحش » (1).

الغيبة والبهتان :

وفرق الامام (عليه السلام) بين الغيبة والبهتان بقوله : « من الغيبة أن تقول : في أخيك ما ستره اللّه عليه ، فاما الأمر الظاهر منه مثل الحدة والعجلة فلا بأس أن تقوله ، وان البهتان أن تقول في أخيك ما ليس فيه .. » (2)

الغضب وعلاجه :

وحذر الامام (عليه السلام) من الغضب ووضع له علاجا قال (عليه السلام) : « ان هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم ، وان أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه ، ودخل الشيطان فيه ، فاذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الارض ، فان رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك. » (3)

وقد شدد الامام أبو جعفر في أمر الغضب ، وحذر من عواقبه قال الامام الصادق (عليه السلام) : كان أبي يقول : أي شيء اشد من الغضب ، ان الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرم اللّه ، ويقذف المحصنة (415).

وقال الامام ابو جعفر (عليه السلام) : « إن الرجل ليغضب فما يرضى أبدا حتى يدخل النار .. » (416)

ص: 303


1- تحف العقول ( ص 296 ).
2- تحف العقول (298).
3- 414 و 415 و 416 جامع السعادات 1 / 289.

العجب :

قال (عليه السلام) : « عجبا للمختال الفخور ، انما خلق من نطفة ثم يعود جيفة ، وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يصنع به ».

أدعيته :

وفي أدعية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تراث رائع ، ومناجم اخاذة تكمن فيها جواهر الحكم والآداب وهي تمثل مدى اتجاه الأئمة (عليهم السلام) نحو اللّه ، واتّصالهم به ، وانقطاعهم إليه ، كما تمثل الرصيد الروحي الذي يملكونه من النسك والتقوى والحريجة فى الدين ، وبالاضافة لذلك فانها من الثروات الكبرى للاخلاق والفلسفة وعلم الكلام ، .. وقد اثرت عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) كثير من الادعية ، وهذه بعضها :

1 - روى هذا الدعاء أبو حمزة الثمالي عن الامام أبي جعفر ، وكان يسميه ( بالجامع ) وقد جاء فيه بعد البسملة « أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، آمنت باللّه وبجميع رسول اللّه وبجميع ما أنزل به رسل اللّه ، وإن وعد اللّه حق ، ولقاءه حق ، وصدق اللّه ، وبلغ المرسلون ، والحمد لله رب العالمين ، وسبحان اللّه كلما سبح اللّه شيء ، وكما يحب اللّه أن يسبح ، والحمد لله كلما حمد اللّه شيء ، وكما يحب اللّه أن يحمد ، ولا إله إلا اللّه كلما هلل اللّه شيء ، وكما يحب اللّه أن يهلل ، واللّه أكبر كلما كبر اللّه شيء ، وكما يحب اللّه أن يكبر.

اللّهم : اني اسألك مفاتيح الخير ، وخواتمه ، وشرائعه وسوابقه ، وفوائده وبركاته ، وما بلغ علمه علي ، وما تصر عن احصائه حفظي ، اللّهم انهج لي أسباب معرفته ، وأفتح لي أبوابه ، وغشني بركات رحمتك ،

ص: 304

ومنّ عليّ بعصمة من الشيطان الرجيم وما يريدني عن الازالة عن دينك ، وطهر قلبي من الشك ، ولا تشغل قلبي بدنياي ، وعاجل معاشي عن أجل ثواب آخرتي واشغل قلبي بحفظ ما لا تقبل مني جهله ، وذلل لكل خير لساني وطهر قلبي من الرياء ، ولا تجره في مفاصلي ، واجعل عملي خالصا لك.

اللّهم : إني اعوذ بك من الشر وأنواع الفواحش كلها ظاهرها وباطنها وغفلاتها وجميع ما يريدني به السلطان العنيد مما أحطت بعلمه وأنت القادر على صرفه عني ... اللّهم إني أعوذ بك من طوارق الجن والانس وزوابعهم وتوابعهم ، وبوائقهم ، ومكايدهم ، ومشاهد الفسقة من الجن والأنس وان استزل عن ديني فتفسد علي آخرتي ، ويكون ذلك منهم ضررا عليّ في معاشي ، أو بعرض بلاء يصيبني منهم لا قوة لي به ، ولا صبر لي على احتماله ، فلا تبتلني يا الهي بمقاساته فيمنعني ذلك من ذكرك ، ويشغلني عن عبادتك ، أنت العاصم المانع ، والدافع الواقي من ذلك كله ، واسألك اللّهم الرفاهية في معيشتي ما أبقيتني في معيشة أقوى بها على طاعتك ، وأبلغ بها رضوانك ، وأصير بها منك الى دار الحيوان غدا ، ولا ترزقني رزقا يطغيني ، ولا تبتلني بفقر اشقى به مضيقا علي اعطني حظا وافرا في آخرتي ، ومعاشا واسعا هنيئا مريئا في دنياي ، ولا تجعل الدنيا عليّ سجنا ، ولا تجعل فراقها علي حزنا ، اخرجني من فتنها مرضيا عني ، واجعل عملي فيها مقبولا ، وسعي فيها مشكورا.

اللّهم من أرادني بسوء فارده بمثله ومن كادني فيها فكده ، واصرف عني همّ من ادخل عليّ همه ، وامكر بمن مكر بي فانك خير الماكرين ، وافقا عني عيون الكفرة والظلمة ، والطغاة الحسدة ، اللّهم وانزل علي منك

ص: 305

السكينة والوقار ، والبسني درعك الحصينة ، واحفظني بسترك الواقي ، واجعلني في عافيتك النافعة ، وصدق قولي وفعالي ، وبارك لي في ولدي واهلي ، ومالي ، وما قدمت وأخرت ، وما اغفلت ، وما تعمدت ، وما توانيت ، وما اسررت ، فاغفر لي برحمتك يا أرحم الراحمين .. » (1)

ويكشف هذا الدعاء عن مدى انقطاع الامام الى اللّه ، وشدة اتصاله به ، فقد ألجأ جميع أموره إليه ، واستعاذ به من فتن الدنيا ، وغرورها ، خوفا ان تصده عن ذكره تعالى.

2 - روى الربيع عن عبد اللّه بن عبد الرحمن عن الامام أبي جعفر علیه السلام انه قال له :

« إلا أعلمك دعاء لا ندعو به نحن أهل البيت اذا اكربنا أمر ، وتخوفنا من شر السلطان إلا قبل لنا به .. »

« بلى بأبي أنت وأمي .. »

« قل : يا كائنا قبل كل شيء ، ويا مكون كل شيء ، ويا باقي بعد كل شيء صل على محمد واهل بيته .. ثم تذكر حاجتك .. » (2)

وذكرت له ادعية أخرى ، وهي تدلل على مدى روحانيته ، وعظيم اتصاله بخالقه.

الحث على الدعاء :

وحث الامام (عليه السلام) على الدعاء الى اللّه ، قال (عليه السلام) : « ان اللّه كره الحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة ، واحب ذلك لنفسه جل ذكره

ص: 306


1- مهج الدعوات ( ص 213 - 215 ).
2- مهج الدعوات ( ص 215 ).

ان يسأل ، ويطلب ما عنده .. » (1)

روائع الحكم :

وأثرت عن الامام أبي جعفر (عليه السلام) روائع الحكم القصار الحافلة بالقيم الكريمة والحكم الصائبة والتجارب النافعة ، وهذه بعضها :

1 - قال (عليه السلام) : « إن استطعت أن لا تعامل أحدا إلا ولك الفضل عليه فافعل .. »

2 - قال (عليه السلام) : « صانع المنافق بلسانك ، واخلص مودتك للمؤمن ، وان جالسك يهودي فاحسن مجالسته .. »

3 - قال (عليه السلام) : « ما شيب شيء بشيء احسن من حلم بعلم .. »

4 - قال (عليه السلام) : « قم بالحق ، واعتزل ما لا يعنيك ، وتجنب عدوك ، واحذر صديقك من الاقوام ، إلا الأمين من خشي اللّه ، ولا تصحب الفاجر ، ولا تطلعه على سرك ، واستشر في أمرك الذين يخشون اللّه .. »

5 - قال (عليه السلام) : « صحبة عشرين سنة قرابة .. »

6 - قال (عليه السلام) : « في كل قضاء اللّه خير للمؤمن .. »

7 - قال (عليه السلام) : « من لم يجعل اللّه له من نفسه واعظا فان مواعظ الناس لن تغني عنه شيئا .. »

8 - قال (عليه السلام) : « من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه. »

9 - قال (عليه السلام) : « كم من رجل لقى رجلا فقال له : اكب اللّه عدوك ، وماله من عدو الا اللّه. »

10 - قال (عليه السلام) : « ما عرف اللّه من عصاه ، وانشد.

تعصي الاله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمرك في الفعال بديع

ص: 307


1- تحف العقول.

لو كان حبك صادقا لأطعته *** ان المحب لمن أحب مطيع

11 - قال (عليه السلام) : « إنما مثل الحاجة الى من اصاب مالا حديثا - يعني به مستحدث النعمة - كمثل الدرهم في فم الأفعى أنت إليه محوج ، وأنت منها على خطر .. »

12 - قال (عليه السلام) : « اعرف المودة في قلب أخيك بما له في قلبك .. »

13 - قال (عليه السلام) : « الايمان حب وبغض .. »

14 - قال (عليه السلام) : « أربع من كنوز البر كتمان الحاجة ، وكتمان الصدقة ، وكتمان الوجع ، وكتمان المصيبة .. »

15 - قال (عليه السلام) : « من صدق لسانه زكى عمله ، ومن حسنت نيته زيد في رزقه ، ومن حسن بره في أهله زيد في عمره. »

16 - قال (عليه السلام) : « من استفاد اخا في اللّه على ايمان باللّه ووفاء باخائه طلبا لمرضات اللّه فقد استفاد شعاعا من نور اللّه ، وامانا من عذاب اللّه وحجة يفلج بها يوم القيامة ، وعزا باقيا ، وذكرا ناميا لأن المؤمن من اللّه عز وجل لا موصول ، ولا مفصول ، قيل له : ما معنى لا موصول ، ولا مفصول؟ قال (عليه السلام) : لا موصول به انه هو ، ولا مفصول منه ، انه من غيره .. »

17 - قال (عليه السلام) : « كفى بالمرء غشا لنفسه ان يبصر من الناس ما يعمى عليه من أمر نفسه أو يعيب غيره بما لا يستطيع تركه ، أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه .. »

18 - قال (عليه السلام) : « التواضع : الرضا بالمجلس دون شرفه ، وان تسلم على من لقيته ، وان تترك المراء ، وان كنت محقا .. »

19 - قال (عليه السلام) : « إن المؤمن اخو المؤمن ، لا يشتمه ، ولا يحرمه ،

ص: 308

ولا يسيء به الظن .. »

20 - قال (عليه السلام) : « من قسم له الخرق (1) حجب عنه الايمان .. »

21 - قال (عليه السلام) : « ان لله عقوبات في القلوب ، والابدان ، ضنك في المعيشة ، ووهن في العبادة ، وما ضرب عبد بعقوبة اعظم من قسوة القلب .. »

22 - قال (عليه السلام) : « اذا كان يوم القيامة نادى مناد اين الصابرون؟ فيقوم فئام (2) من الناس ، ثم ينادي مناد اين المتصبرون؟ فيقوم فئام من الناس ، فقيل له :

« ما الصابرون والمتصبرون؟ »

قال (عليه السلام) : الصابرون على اداء الفرائض ، والمتصبرون على ترك المحارم .. »

23 - قال (عليه السلام) : « يقول اللّه : يا ابن آدم اجتنب ما حرمت عليك تكن من أورع الناس .. »

24 - قال (عليه السلام) : « أفضل العبادة عفة البطن والفرج .. »

25 - قال (عليه السلام) : « الحياء والايمان مقرونان في قرن فاذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه .. »

26 - قال (عليه السلام) : « ان هذه الدنيا تعاطاها البر والفاجر ، وان هذا الدين لا يعطيه اللّه إلا أهل خاصته .. »

27 - قال (عليه السلام) : « إن اللّه يعطي الدنيا من يحب ويبغض ، ولا يعطي دينه إلا من يحب .. »

ص: 309


1- الخرق : ضعف العقل.
2- الفئام : الجماعة من الناس.

28 - قال (عليه السلام) : « لو يعلم السائل ما في المسألة ما سأل أحد أحدا ، ولو يعلم المسئول ما في المنع ما منع أحد أحدا .. »

29 - قال (عليه السلام) : « إن لله عبادا ميامين مياسير يعيشون ، ويعيش الناس في اكنافهم وهم في عباده مثل القطر ، ولله عباد ملاعين مناكيد لا يعيشون ، ولا يعيش الناس في أكنافهم ، وهم في عباده مثل الجراد لا يقعون على شيء إلا أتوا عليه .. »

30 - قال (عليه السلام) : « ان اللّه يحب افشاء السلام .. » (1)

31 - قال (عليه السلام) : « لكل شيء آفة ، وآفة العلم النسيان .. » (2)

32 - قال (عليه السلام) : « اللّهم اعني على الدنيا بالغنى ، وعلى الآخرة بالتقوى » (3).

33 - قال (عليه السلام) : « لا يزال الرجل يزداد في رأيه ما نصح لمن استشاره .. » (4)

34 - قال (عليه السلام) : « سلاح اللئام قبيح الكلام .. » (5) ونظم بعض الشعراء هذه الحكمة الرائعة بقوله :

لقد صدق الباقر المرتضى *** سليل الامام علیه السلام

بما قال : في بعض الفاظه *** قبيح الكلام سلاح اللئام (6)

ص: 310


1- هذه الحكم القيمة أخذت من تحف العقول ( ص 292 - 300 ).
2- البداية والنهاية 9 / 310.
3- البيان والتبيين 3 / 222.
4- عيون الاخبار لابن قتيبة 1 / 300.
5- حلية الأولياء 3 / 184 ، صفة الصفوة 2 / 61.
6- الاتحاف بحب الاشراف ( ص 53 ).

35 - قال (عليه السلام) : « الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن ، ولا تصيب الذاكر. » (1)

36 - قال (عليه السلام) : « اشد الاعمال ثلاثة ذكر اللّه على كل حال ، وانصافك من نفسك ، ومواساة الأخ في المال .. » (2)

37 - قال (عليه السلام) : « لا يكون المعروف معروفا إلا باستصغاره وتعجيله وكتمانه » (3).

38 - قال (عليه السلام) : « ان من الصدق في السنة التجافي في الدين لأهل المروءات » (4).

39 - قال (عليه السلام) : « ما احسن الحسنات بعد السيئات ، وما اقبح السيئات بعد الحسنات .. » (5)

40 - قال (عليه السلام) : « من اصاب مالا من أربع لم يقبل منه في أربع ، من أصاب مالا من غلول أوربا أو خيانة أو سرقة ، لم يقبل منه في زكاة ، ولا في صدقة ولا في حج ، ولا في عمرة .. » (6)

41 - قال (عليه السلام) : « لا يقبل اللّه عز وجل حجا ولا عمرة من مال

ص: 311


1- حلية الأولياء 3 / 181 ، صفة الصفوة 2 / 60 ، سير اعلام النبلاء 4 / 242 ، مرآة الزمان 5 / 78.
2- حلية الاولياء 3 / 183.
3- الاخبار الموفقيات ( ص 400 ).
4- المردة للمرزباني 2 / ب ، من مصورات مكتبة العلامة السيد مهدي الخرسان.
5- أمالي الصدوق ( ص 224 ).
6- أمالي الصدوق ( ص 296 ).

حرام .. » (1)

42 - قال (عليه السلام) : « من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه. » (2)

43 - قال (عليه السلام) : « ان الكذب هو حراب الايمان .. » (3)

44 - قال (عليه السلام) : « كان لي أخ في عيني عظيما ، وكان الذي عظمه صغر الدنيا في عينيه .. » (4)

45 - قال (عليه السلام) : لأصحابه يدخل احدكم يده في كيس صاحبه فيأخذ ما يريد؟ فقالوا له : لا ، فقال (عليه السلام) : لستم اخوانا كما تزعمون. (5)

46 - قال (عليه السلام) : « شر الآباء من دعاه البر الى الافراط ، وشر الأبناء من دعاه التقصير الى العقوق .. » (6)

47 - قال (عليه السلام) : « عظموا أصحابكم ، ووقروهم ، ولا يتهجم بعضكم على بعض .. » (7)

48 - قال (عليه السلام) : « ما من نكبة تصيب العبد الا بذنب .. » (8)

ص: 312


1- أمالي الصدوق ( ص 296 ).
2- أمالي الصدوق ( ص 296 ).
3- اصول الكافي 2 / 339.
4- مرآة الجنان 1 / 248.
5- صفة الصفوة 2 / 63.
6- تأريخ اليعقوبي 2 / 53.
7- اصول الكافي 2 / 173.
8- اصول الكافي 2 / 269.

49 - قال (عليه السلام) : « إن اللّه قضى قضاء حتما ألا ينعم على العبد نعمة فيسلبها اياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة .. » (1)

50 - قال (عليه السلام) : « لو صمت النهار لا افطر ، وصليت الليل لا أفتر ، وانفقت مالي في سبيل اللّه علقا ، علقا ، ثم لم تكن في قلبي محبة لاوليائه ، ولا بغضة لاعدائه ما نفني ذلك شيئا ... » (2)

51 - سأل زرارة الامام أبا جعفر (عليه السلام) قال له : ما الحنيفية؟ قال علیه السلام : هي الفطرة التي فطر الناس عليها ... فطرهم على معرفته .. » (3)

52 - قيل للامام أبي جعفر (عليه السلام) : أتعرف شيئا خيرا من الذهب؟ قال (عليه السلام) : نعم معطيه (4).

53 - قال (عليه السلام) : بلية الناس علينا عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا .. » (5)

54 - قال (عليه السلام) : « ما عبد اللّه بشيء أفضل من عفة بطن وفرج .. » (6)

55 - قال (عليه السلام) : « اصبر للنوائب ، ولا تتعرض للحقوق ، ولا تعط أحدا من نفسك ما ضره عليك اكثر من نفعه .. » (7)

ص: 313


1- اصول الكافي 2 / 273.
2- تأريخ اليعقوبي 3 / 61.
3- البحار 12 / 87.
4- تأريخ اليعقوبي 3 / 61.
5- اعلام الورى ( ص 27 ).
6- جامع السعادات 2 / 16.
7- تأريخ اليعقوبي 3 / 61.

56 - قال (عليه السلام) : « شيعتنا من أطاع اللّه .. » (1)

57 - قال (عليه السلام) : « بئس الأخ يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا .. » (2)

58 - قال (عليه السلام) : « ليس في الدنيا شيء أعون من الاحسان الى الاخوان. » (3)

59 - قال (عليه السلام) : « من أعطي الخلق والرفق فقد أعطي الخير والراحة ، وحسن حاله في دنياه وآخرته ، ومن حرمهما كان ذلك سبيلا الى كل شر وبلية الا من عصمه اللّه .. » (4)

60 - قال (عليه السلام) : « ما يضر من عرفه اللّه الحق ان يكون على قلة جبل يأكل من نبات الأرض حتى يأتيه الموت .. » (5)

61 - قال (عليه السلام) : « اذا دخل أهل الجنة ، الجنة بأعمالهم ، فاين عتقاء اللّه من النار ، ان لله عتقاء من النار .. » (6)

62 - قال (عليه السلام) : « لا خير فيمن لا تقية له .. » (7)

63 - قال (عليه السلام) : « إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا فانظر الى قلبك ، فان كان يحب أهل طاعة اللّه عز وجل ، ويبغض أهل معصيته ففيك خير ، واللّه يحبك ، وان كان يبغض أهل طاعة اللّه ، ويحب أهل

ص: 314


1- نور الابصار للشبلنجيّ ( ص 131 ).
2- نور الابصار ( ص 131 ).
3- اسعاف الراغبين ( ص 316 ).
4- البداية والنهاية 9 / 311.
5- التحصين ( ص 225 ) لاحمد بن فهد الحلي.
6- الدر النظيم ( ص 191 ).
7- علل الشرائع ( ص 51 ).

معصيته فليس فيك خير ، واللّه يبغضك ، والمرء مع من أحب .. » (1)

64 - قال (عليه السلام) : « إن من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق ، والنذر في المعاصي وكل يمين بغير اللّه تعالى .. » (2)

65 - قال (عليه السلام) : « إذا شبع البطن طغى .. » (3)

66 - قال (عليه السلام) : « ما من شيء أبغض الى اللّه من بطن مملؤ .. » (4)

67 - قال (عليه السلام) : « من طلب الدنيا استعفافا عن الناس ، وسعيا على أهله وتعطفا على جاره لقي اللّه عز وجل يوم القيامة ، ووجهه مثل القمر ليلة البدر » (5).

68 - قال (عليه السلام) : « إن حديثنا صعب مستصعب ، لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل ، أو عبد امتحن اللّه قلبه للأيمان .. » (6)

69 - قال (عليه السلام) : « اني لأكره أن يكون مقدار لسان الرجل فاضلا على مقدار علمه كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله. » (7)

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض كلماته الحكمية التي تمثل اصالة الفكر والابداع.

ص: 315


1- علل الشرائع ( ص 117 ).
2- مجمع البيان 1 / 252.
3- جامع السعادات 2 / 5.
4- جامع السعادات 2 / 5.
5- جامع السعادات 2 / 21.
6- اعلام الورى.
7- شرح النهج 7 / 92.

نظمه للشعر : ولم تنص المصادر المترجمة للإمام أبي جعفر (عليه السلام) على أنه كان ينظم الشعر ، وانما نصت على أنه فتق أبوابا كثيرة من العلوم ، واسس معظم قواعدها ، وانه ممن أوتي الحكمة وفصل الخطاب ، غير أن السيد علي صدر المدني نسب له هذه الأبيات :

عجبت من معجب بصورته *** وكان من قبل نطفة مذرة

وفي غد بعد حسن صورته *** يصير في القبر جيفة قذرة

وهو على عجبه ونخوته *** ما بين جنبيه يحمل العذرة (1)

وسواء أصح أن الامام (عليه السلام) كان ينظم الشعر أم لم يصح فان - من المقطوع به - انه كان في طليعة البلغاء ، وقد دللت على ذلك المجموعة الضخمة من كلماته الحكمية التي هي من الطراز الأول في فصاحتها وبلاغتها.

وقبل أن أطوي الحديث عن مواهب الامام أبي جعفر (عليه السلام) أرى من الحق أن ابين اني لم اذكر الا نماذج يسيرة ، وصورا موجزة من علومه ومعارفه وحكمه ، ولا أزعم أني احطت بها أو الممت ببعضها ، فذلك من غير الممكن لي ، فقد تركت الباب مفتوحا لغيري من البحاث للكشف عنها وعن ، سائر جوانب حياته المشرقة التي هي امتداد ذاتي لحياة آبائه العظام الذين اضاءوا الحياة الفكرية للناس.

ص: 316


1- أنوار الربيع 6 / 300.

مع كثير عزة : والكميت

اشارة

ص: 317

ص: 318

وكانت للشاعرين الشهيرين كثير عزة ، والكميت الأسدي اتصالات وثيقة بالامام أبي جعفر فكلاهما يدينان بإمامته ، ووجوب طاعته ، والانقطاع إليه ، وقد شاع ذلك عنهما ، وعرفا به عند جميع الأوساط ، ونعرض - بايجاز - لبعض شئونهما ، ومدى ارتباطهما بالامام (عليه السلام) :

كثير عزة :

أما كثير عزة فهو أبو حمزة الخزاعي المدني ، أحد عشاق العرب المشهورين هام بحب عزة بنت جميل ، وله معها أخبار كثيرة ، ذكرها المعنيون بترجمته ، وكان في مواهبه الشعرية أشعر أهل الاسلام - كما يقول ابن اسحاق - (1).

ولاؤه لأهل البيت (عليهم السلام) :

كان كثير شديد الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) متعصبا لهم ، ولم يخف تشيعه على الامويين ، فقد أقسم عليه عبد الملك بن مروان بحق الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يحدثه هل رأى أحدا هو اعشق منه؟ فقال له كثير : لو سألتني بحقك أخبرتك ، فأقسم عليه ، فأخبره عن غرام بعض العشاق (2).

مع الامام الباقر :

كان كثير يكن فى اعماق نفسه خالص الحب والولاء للإمام أبي جعفر علیه السلام ويدين بامامته وفضله ، ويقول المؤرخون : ان رجلا نظر إليه وهو راكب ، والامام أبو جعفر (عليه السلام) يمشي فانكر عليه ذلك

ص: 319


1- الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة ( ص 587 ).
2- وفيات الاعيان 3 / 266.

وقال له :

« اتركب وأبو جعفر يمشي؟!! »

فاجابه كثير جواب المؤمن بدينه ، المتبصر في عقيدته قائلا :

« هو أمرني بذلك ، وأنا بطاعته في الركوب أفضل من عصياني اياه بالمشي .. » (1)

ودلت هذه البادرة على حسن أدبه ، وكمال عقيدته ، فان طاعة الامام واجبة ليس الى مخالفتها من سبيل.

مدحه لبني مروان :

واختص كثير ببني مروان فكانوا يعظمونه ويكرمونه (2) ونظم في مدحهم عدة قصائد ذكرت في ( ديوانه ) الا انه لم يكن في مدحه لهم جادا ، ولا مؤمنا بما يقول ، وإنما مدحهم طمعا بأموالهم وهباتهم ، وكان يسخر منهم فكان يشبههم بالحيات والعقارب ، فقد روى المؤرخون أنه وفد على الامام أبي جعفر (عليه السلام) فقال (عليه السلام) له :

« تزعم أنك من شيعتنا ، وتمدح آل مروان؟!! »

فأنبرى كثير قائلا :

« إنما أسخر منهم ، وأجعلهم حيات ، وعقارب ، ألم تسمع الى قولي في عبد العزيز بن مروان :

وكنت عتبت معتبة فلجت *** بي الغلواء في سن العقاب

ويرقيني لك الراقون حتى *** أجابك حية تحت الحجاب

وفهم ذلك عبد الملك فقال لأخيه عبد العزيز : ما مدحك ، انما

ص: 320


1- أمالي المرتضى 1 / 283.
2- الاعلام 6 / 72.

جعلك راقيا للحيات ، ونقل لي ذلك عبد العزيز فقلت له : واللّه لأجعلنه حية ، ثم لا ينكر ذلك فقلت فيه :

يقلب عيني حية بمجارة *** أضاف إليها الساريات سبيلها

يصيد ويغضي وهو ليث خفية *** إذا أمكنته عدوة لا يقيلها

ولما تلوت ذلك على عبد الملك اجزل لي بالعطاء ، وخفي عليه ما قصدته (1) فلم يكن كثير في مديحه لبني مروان جادا ، ولا مؤمنا بما يقول : وانما كان ساخرا وهازء ، فقد خادعهم ليكسب منهم الأموال التي اختلسوها بغير حق ، ولم تكن له مندوحة لأخذ شيء منها الا بهذه الوسيلة.

وفاته :

توفى سنة ( 105 ه ) وقد توفى في اليوم الذي توفى فيه عكرمة وصلي عليهما في موضع واحد بعد الظهر ، فقال الناس : مات أفقه الناس ، واشعر الناس (2) وقد شيع بتشييع حافل ، وكان من جملة المشيعين لجنازته الامام أبو جعفر (عليه السلام).

رواية موضوعة :

وذكر بعض المؤرخين رواية - فيما نحسب - أنها من الموضوعات فقد رووا عن يزيد بن عروة أنه قال : غلبت النساء على جنازة كثير ، وهن يبكينه ، ويذكرن عزة في ندبتهن ، فقال أبو جعفر محمد بن علي : افرجوا لي عن الجنازة لأدفعها ، قال : فجعلنا ندفع عنها النساء ، وجعل أبو جعفر يضربهن بكمه ، ويقول : تنحين يا صويحبات ، يوسف ، فانتدبت

ص: 321


1- اخبار شعراء الشيعة ( ص 62 ).
2- وفيات الاعيان 3 / 269.

امرأة منهن ، واقبلت على الامام فقالت له : يا ابن رسول اللّه لقد صدقت انا لصويحبات يوسف ، وقد كنا خيرا منكم له ، فقال أبو جعفر لبعض مواليه : احتفظ بها حتى نجيء ، فلما فرغوا من دفن جنازة كثير جيء له بالمرأة فقال (عليه السلام) لها :

« أنت القائلة : إنكن خير منا؟ .. »

« نعم ، تؤمنني غضبك يا ابن رسول اللّه؟ .. »

« أنت آمنة من غضبي فابيني .. »

« نحن يا ابن رسول اللّه دعوناه الى اللذات من المطعم والمشرب ، والتمتع ، وانتم معاشر الرجال القيتموه في الجب ، وبعتموه بأبخس الاثمان ، وحبستموه في السجن ، فأينا كان به لحن ، وعليه ارأف؟ .. »

وابدى الامام اعجابه بها فقال لها :

« لله درك لن تغالب امرأة الا غلبت ، ثم قال لها الك بعل؟ .. »

« لي من الرجال من أنا بعله .. »

« صدقت مثلك من تملك زوجها ، ولا يملكها .. »

وانصرفت المرأة ، فقال رجل من القوم وكان يعرفها : هذه زينب بنت معيقب الانصارية (1).

والذي يواجه هذه الرواية من المؤاخذات ما يلي :

1 - ما معنى تجمهر السيدات من النساء حول جثمان كثير ، واحاطتهن به حتى صعب على الامام الوصول إليه ، فاضطر حتى أمر بكشفهن عنه ، مع العلم أن المرأة لم يعهد انها تشترك في مثل هذه المراسيم ، فقد امرت أن تقر في بيتها.

ص: 322


1- الدرجات الرفيعة ( ص 590 ).

2 - ومما يدعو الى الاطمئنان بوضع الرواية تهجم الامام على السيدات اللاتي ازدحمن على جنازة كثير ، فانه (عليه السلام) كان المثل الأعلى للآداب الرفيعة والاخلاق الفاضلة ، ومن المستحيل أن تصدر منه أية كلمة نابية.

3 - ومما يدعم وضع الرواية هو الحوار الذي دار بين الامام ، وبين السيدة الانصارية وسؤاله منها انها لها زوج وهل يتناسب مع قدسية الامام والحق انها الى الخيال اقرب منه الى الواقع ، .. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن ترجمة كثير (1).

الكميت الاسدي :

الكميت بن زيد بن خنيس ( أبو المستهل ) الأسدي ، شاعر الاولين والآخرين - على حد تعبير الفرزدق - (2) ولو لا شعره لم يكن للغة ترجمان ، ولا للبيان لسان - حسبما يقول عكرمة الضبي - (3).

وهو في طليعة رجال الفكر والأدب في عصره ، وقد ساهم مساهمة ايجابية في تطور الثقافة العربية وازدهار الحركة العلمية في الاسلام ، ونعرض لبعض البنود المشرقة من جوانب حياته.

ولادته ونشأته :

ولد الكميت سنة ( 60 ه ) وهي السنة التي فجعت بها الأمة الاسلامية

ص: 323


1- توجد ترجمة كثير في كل من الاغاني 8 / 25 ، وشذرات الذهب 1 / 131 ، وسير اعلام النبلاء ، وخزانة البغدادي 2 / 381 ، ومعجم الشعراء للمرزباني ( ص 350 ) واخبار الشيعة (62) ووفيات الاعيان 3 / 265 - 270.
2- الاغاني 15 / 115.
3- روضات الجنات 6 / 59.

بقتل سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) (1) وقد انطبعت في نفسه صورة تلك المأساة المروعة وأخذت تتفاعل مع مشاعره وعواطفه ، وظهر أثر ذلك في شعره الحزين الذي يرثي به الامام الحسين (عليه السلام).

أما نشأته فقد نشأ بالكوفة التي هي عاصمة الشيعة ، وينبوع التشيع ، ومنجم الثورات على بني أمية ، وتربى على حب أهل البيت (عليهم السلام) فكان حبهم من عناصره ، ومقوماته.

مواهبه :

كان الكميت من أفذاذ التأريخ ، ومن اعلام الأمة العربية ، وكان يتمتع بمواهب شريفة وصفات رفيعة ، عدها بعضهم بعشر خصال قال : « كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر ، كان خطيب أسد ، وفقيه الشيعة ، حافظ القرآن العظيم ، ثبت الجنان ، وكان كاتبا حسن الخط ، وكان نسابة ، وكان جدلا ، وهو أول من ناظر في التشيع ، وكان راميا لم يكن في بني اسد أرمى منه ، وكان فارسا شجاعا دينا ، وكان مشهورا في التشيع مجاهرا في ذلك .. » (2)

وهذه الصفات قد رفعته الى القمة ، وميزته على جميع ادباء عصره.

شعره :

اما شعره فهو من مناجم الأدب العربي ، ومن أروع ما قاله شعراء العرب على الاطلاق ، فلم يكن في شعره يميل الى الدعابة والمجون ، وبذلك فقد فارق شعراء العصر الاموي والعباسي الذين اتجهوا بمواهبهم الفكرية والادبية الى اللّهو والعبث وفساد الاخلاق.

ص: 324


1- الغدير 2 / 211.
2- خزانة الأدب 1 / 99.

اما الكميت فقد صرف فكره الى ساداته من بني هاشم ، فاخذ ينشر مآثرهم ، ويذيع فضائلهم بأروع ما نظم في الأدب العربي.

ويقول المؤرخون : كان الكميت لا يذيع شعره بين الناس حتى يرضى به ، ويطمئن إليه ، فلذا كان لوحة فنية تحكي الابداع والفن والفكر ، أما هاشمياته ، فقد كبرت عن التحديد والتقييم ، وقد ضمنها الاستدلال على مذهبه الذي لا يقبل الجدل والتشكيك ، وكانت هاشمياته احدى الوسائل الثقافية في تلك العصور لما فيها من الخصب وغزارة الفكر والادب ، وكانت تروى في الاندية ، والمجالس ويحفظها الناس.

الكميت مع الفرزدق :

ويروي المؤرخون أن الكميت لما نظم ( الهاشميات ) سترها ولم يذعها بين الناس ، ورأى أن يعرضها على شاعر العرب الأكبر الفرزدق بن غالب ليرى رأيه فيها ، فقصده ، وبعد أن استقر به المجلس قال له :

- يا أبا فراس ، إنك شيخ مضر ، وشاعرها ، وأنا ابن اخيك الكميت ابن زيد الأسدي.

- صدقت أنت أبن أخي فما حاجتك؟

- نفث على لساني ، فقلت : شعرا فأحببت أن أعرضه عليك ، فان كان حسنا أمرتني باذاعته ، وإن كان قبيحا أمرتني بستره ، وكنت أول من ستره علي

وعجب الفرزدق من حسن أدبه ، فطفق يقول له :

- أما عقلك فحسن ، واني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك ، فانشدني ما قلت : وانبرى الفرزدق يتلو عليه رائعته قائلا :

طربت وما شوقا الى البيض أطرب

ص: 325

وقطع الفرزدق عليه كلامه قائلا : فيم تطرب يا ابن أخى؟! فقال :

ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب؟!

وراح الفرزدق يقول : بلى يا ابن أخي فالعب ، فانك في أوان اللعب ، فقال :

ولم يلهني دار ولا رسم منزل *** ولم يتطربني بنان مخضب

واكبر الفرزدق هذا الشعر ، وانطلق يقول : ما يطربك يا ابن أخي؟ فقال :

ولا السانحات البارحات عشية *** أمر سليم القرن أم مر أعضب

فقال الفرزدق : اجل لا تتطير فقال الكميت :

ولكن الى أهل الفضائل والتقى *** وخير بني حواء والخير يطلب

واهتز الفرزدق من روعة هذا الادب العالي فراح يقول :

« من هؤلاء؟ ويحك. »

قال الكميت :

الى النفر البيض الذين يحبهم *** الى اللّه فيما نابني اتقرب

واستولى الكميت على مشاعر الفرزدق وعواطفه فصاح :

« ارحني ويحك من هؤلاء؟!! » قال الكميت :

بني هاشم رهط النبي فانني *** بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب

خفضت لهم مني جناحي مودة *** الى كنف عطفاه أهل ومرحب

وملك هذا الشعر احاسيس الفرزدق ، وانطلق يقول :

« يا ابن أخي ، اذع ، ثم اذع ، فأنت واللّه اشعر من مضى ، وأشعر من بقي » (1).

ص: 326


1- الاغاني 15 / 124.

مميزات شعره :

ويمتاز شعر الكميت بأنه كان مسرحا للقيم الدينية التي تعبر اصدق التعبير عن عواطفه تجاه ساداته بني هاشم الذين اخلص لهم في مودته وحبه ، وفقد فرضت عليه ذلك الأدلة الشرعية التي لا تقبل الجدل والنقاش أما الظواهر التي امتاز بها شعره ، فمن بينها.

1 - ان شعره في بني هاشم لم يكن عاطفيا ، وانما قام على الجدل والاقناع ، يقول شوقي ضيف : « وهكذا لم يعد الشعر عند الكميت يعبر عن الشعور فحسب ، بل اصبح يعبر أيضا عن الفكر ، وأصبح يشفع بكل ما وصل إليه العقل العربي في هذا العصر من قدرة على الجدال والاقناع » (1) « بل لعل تعبيره عن الفكر أهم من تعبيره عن العواطف » (2) وهذه لوحة من احدى روائعه التي تمثل هذا الاتجاه :

وقالوا : ورثناها أبانا وأمنا *** وما ورثتهم ذاك أم ولا أب

يرون لهم حقا على الناس واجبا *** سفاها وحق الهاشميين أوجب (3)

وشجب الكميت بهذين البيتين دعوى الذين انتحلوا الخلافة ، وفرضوا لهم حقا على الناس لأنهم من قريش أسرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فان هذه الجهة التي توصلوا بها الى الخلافة قد توفرت في آل البيت (عليهم السلام) على اكمل صورها فهم الصق الناس به ، واقربهم إليه ... ويأخذ الكميت بعد هذين البيتين في الثناء على الرسول الاعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ثم يعرج على ما ذهب إليه من أحقية آل البيت (عليهم السلام) بالخلافة فيقول :

ص: 327


1- التطور والتجديد ( ص 241 ).
2- التطور والتجديد ( ص 240 ).
3- الهاشميات ( ص 41 - 42 ).

يقولون : لم يورث ولو لا تراثه *** لقد شركت فيه بكيل وأرحب

وعك ولخم والسكون وحمير *** وكندة والحيان بكر وتغلب (1)

وقد أراد بهذين البيتين ابطال ما زعموه أن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يورث فان كان ذلك حقا فان القبائل المذكورة لها نصيب في الخلافة بل كانت الناس فيها سواء - حسبما يقول شارح الهاشميات - ولا وجه لاختصاص قريش بها ، وهو منطق رصين يقوم على المنطق والفكر ... لقد كان الكميت بهذا الاستدلال فقيها فقد صاغ شعره صياغة العالم الفقيه الذي يعرف كيف يناقش المسائل ، ويثبتها ويدلل عليها - كما يقول الدكتور يوسف خليف - (2).

2 - وأقام الكميت شعره في مدح بني هاشم على الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم تدلل على ما ذهب إليه ، يقول مخاطبا بني هاشم :

وجدنا لكم في آل حاميم آية *** تأولها منا تقي ومعرب

وفي غيرها آيا وآيا تتابعت *** لكم نصب فيها الذي الشك منصب (3)

انه يشير في البيت الأول الى قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (4).

وفي البيت الثاني الى قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (5) وقوله تعالى : ( وَآتِ ذَا

ص: 328


1- الهاشميات ( ص 42 ).
2- حياة الشعر في الكوفة ( ص 713 ).
3- الهاشميات ( ص 40 ).
4- سورة الشورى : آية 23.
5- سورة الأحزاب : آية 33.

الْقُرْبى حَقَّهُ ) (1) وقوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (2).

لقد دعم الكميت ما ذهب إليه في فضل ساداته بني هاشم بآيات من القرآن الكريم « الذي ( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) فهو حجة قاطعة لا ريب فيه.

3 - واتسم شعر الكميت في مدحه لأهل البيت (عليهم السلام) بأنه صادق اللّهجة ، قوي العاطفة ، مبعثه الايمان الخالص الذي لا يشوبه أي عرض من اعراض الدنيا ، فقد كان يبغي فيه وجه اللّه والدار الآخرة ويدلل على ذلك قوله :

الى النفر البيض الذين بحبهم *** الى اللّه فيما نالني أتقرب

لقد اخلص الكميت في هواه وحبه لأهل البيت (عليهم السلام) لأنه لم ير وسيلة تقربه الى اللّه زلفى سوى الاخلاص في المودة لهم.

4 - والظاهرة التي يمتاز بها شعر الكميت في بني هاشم انه لم يستند فيما نظمه فيهم الى ما يسمعه عنهم من المآثر والفضائل ، وإنما يستند الى مشاهداته فقد عاصرهم ، ونظر الى مثلهم العليا التي طبق شذاها العالم بأسره ، فهام بها ، شأنه شأن الأحرار الذين يقدسون الفضيلة ، ويكبرون من اتصف بها ، .. لقد كان شعر الكميت صورة حية يحكي الواقع المشرق لأهل البيت (عليهم السلام) الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

هذه بعض مميزات شعر الكميت ، أما الحديث عن مظاهره الفنية فانه يستدعي الاطالة ، وقد آثرنا الايجاز في اكثر هذه البحوث.

ص: 329


1- سورة الأسراء : آية 26.
2- سورة الانفال : آية 41.

صلابته فى عقيدته :

كان الكميت صلب العقيدة ، راسخ الايمان ، قد أقام عقيدته على الواقع العلمي الذي لا يقبل الجدل والنقاش ، فهو شاعر العقيدة الشيعية ، والمعبر عن آرائها ، ومبادئها ويجمع الرواة على أنه اول من فتق باب الاحتجاج للشيعة في هاشمياته ، وانه كان لسانهم ، والمدافع عنهم ، والمحتج لهم ، وقد صورت هاشمياته الجانب الفكري ، والعقائدي للشيعة ، واحاطت - بوضوح - بشئون الامامة التي تعتبر من العناصر الاساسية في مبادئهم.

مع الامام الباقر :

واختص الكميت بالامام أبي جعفر (عليه السلام) فكان شاعره الخاص ، وقد تلا عليه بعض هاشمياته وقصائده التي نظمها في حق أهل البيت (عليهم السلام) فأخذت موقعها من نفس الامام (عليه السلام) فشكره ودعا له بالمغفرة والرضوان.

وكان الكميت لا يرى أحدا في هذه الدنيا يستحق الولاء والتقدير غير سيده الامام أبي جعفر (عليه السلام) فقد دخل عليه وهو يقول :

ذهب الذين يعاش في اكنافهم *** لم يبق إلا شامت أو حاسد

وبقي على ظهر البسيطة واحد *** فهو المراد وأنت ذاك الواحد (1)

تعطشه لرؤيا الامام :

كان الكميت مقيما في الكوفة ، فاشتد به الوجد الى رؤيا الامام فسافر الى يثرب ، ولما مثل عند الامام تلا عليه قصيدته التي يذكر فيها تعطشه لرؤياه ، يقول فيها :

كم جزت فيك من احواز وايقاع *** وأوقع الشوق بي قاعا الى قاع

ص: 330


1- روضات الجنات 6 / 56.

يا خير من حملت أنثى ومن وضعت *** به إليك غدى سيري وايضاعي

أما بلغتك فالآمال بالغة *** بنا الى غاية يسعى لها الساعي

من معشر شيعة اللّه ثم لكم *** صور إليكم بابصار واسماعي

دعاة أمر ونهي عن أئمتهم *** يوصي بها منهم واع الى واعي

لا يسأمون دعاء الخير ربهم *** أن يدركوا فيلبوا دعوة الداعي (1)

وصورت هذه الابيات عظيم ولائه للامام ، وما عاناه من جهد الطريق ، وعناء السفر في سبيل رؤيته والالتقاء به.

رثاؤه للحسين :

وكان الكميت قد ولد في السنة التي استشهد بها أبو الأحرار الامام الحسين (عليه السلام) ولما ترعرع ، وفهم الحياة رأى الناس قد ذهلتهم أهوال تلك المأساة الخالدة في دنيا الأحزان ، وهم يرددون في انديتهم ومجالسهم ما عاناه ريحانة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) من فوادح المحن والخطوب ، وقد هزت مشاعره وعواطفه ، وملأت نفسه الما عاصفا ، وقد رثاه بذوب روحه في كثير من شعره ، ويقول الرواة انه نظم قصيدة في رثاء الحسين ووفد على الامام أبي جعفر ليتلوها عليه فلما مثل عنده قال له :

- يا ابن رسول اللّه قد قلت فيكم أبياتا من الشعر : أفتأذن لي في انشادها؟

ص: 331


1- تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام ( ص 189 ) وفي اعيان الشيعة ق 1 / 4 / 516 ان هذه الابيات قالها اخو الكميت الورد بن زيد الأسدي أمام الامام ابي جعفر ، وليست للكميت ، وذكر ذلك احمد بن محمد عياش في مقتضب الأثر ( ص 132 ).

- انها ايام البيض (1) - التي يكره فيها انشاد الشعر -.

- هي فيكم خاصة.

- هات ما عندك.

فانبرى يقول :

اضحكني الدهر وابكاني *** والدهر ذو صرف والوان

لتسعة بالطف قد غودروا *** صاروا جميعا رهن اكفان

وتألم الامام كأشد ما يكون التألم حينما سمع رثاء جده الامام الحسين ، واغرق في البكاء وبكى معه ولده الامام الصادق (عليه السلام) كما بكت العلويات من وراء الخباء ، ولما بلغ الى قوله :

وستة لا يتجارى بهم *** بنو عقيل خير فرسان

ثم علي الخير مولاهم *** ذكرهم هيج أحزاني

بكى الامام أبو جعفر (عليه السلام) أمرّ البكاء ، وذكر له ما اعد اللّه من الثواب الجزيل لمن يذكر أهل البيت ، ويحزن لحزنهم ، ولما بلغ قوله :

من كان مسرورا بما مسكم *** أو شامتا يوما من الآن

فقد ذللتم بعد عز فما *** ادفع ضيما حين يغشاني

أخذ الامام (عليه السلام) بيد الكميت وأخذ يدعو له قائلا :

« اللّهم اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه وما تأخر .. »

ولما بلغ قوله :

متى يقوم الحق فيكم متى *** يقوم مهديكم الثاني

ص: 332


1- الايام البيض : يراد بها أيام الليالي البيض ، وهي الثالث عشر والرابع عشر ، والخامس عشر ، وسميت لياليها بيضا لأن القمر يطلع فيها من أولها الى آخرها.

التفت إليه الامام ، وعرفه بأن الامام المهدي (عليه السلام) هو الامام المنتظر الذي يملأ الارض عدلا وقسطا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، وسأله الكميت عن زمان خروجه فقال (عليه السلام) : لقد سئل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عن ذلك ، فقال : انما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم الا بغتة (1).

الميمية من هاشمياته :

وانشد الكميت بحضرة الامام أبي جعفر (عليه السلام) الميمية من هاشمياته ، وهي من أروع الشعر العربي وارقاه فهي تصور - بوضوح - انطباعاته الخاصة عن أهل البيت (عليهم السلام) تصويرا رائعا يستند الى مشاهداته لمآثرهم الرفيعة ومثلهم العليا ، يقول فيها :

من لقلب متيم مستهام *** غير ما صبوة ولا احلام

طارقات ولا ادكار غوان *** واضحات الخدود كالآرام

بل هواي الذي أجن وابدي *** لبني هاشم فروع الانام

للقريبين من ندى والبعيدين *** من الجور في عرى الاحكام

والمصيبين باب ما اخطأ الناس *** ومرسي قواعد الاسلام

والحماة الكفاة في الحرب ان *** لف ضرام وقوده بضرام

والغيوث الذين أن أمحل الناس *** فمأوى حواضن الأيتام

والولاة الكفاة للأمران طر *** ق يتنا بمجهض أو تمام

والأساة الشفاة للداء ذي *** الريبة والمدركين بالاوغام

والروايا التي يحمل بها النا *** س وسوق المطبعات العظام

والبحور التي بها تكشف الحر *** ة والداء من غليل الأوام

لكثيرين طيبين من النا *** س وبرين صادقين كرام

واضحي أوجه كرام جدود *** واسطي نسبة لهام فهام

ص: 333


1- الغدير 2 / 200.

للذرى فالذرى من الحسب الثا *** قب بين القمقام فالقمقام

راجحي الوزن كاملي العدل في ال *** سيرة طبين بالامور العظام

فضلوا الناس في الحديث حديثا *** وقديما في اول القدام

لقد ذكر في مطلع قصيدته هيامه في الحب ، وانه قد استولى على مشاعره وعواطفه ، فصار اسيرا ، لا يملك من أمر نفسه شيئا. ولكن لمن هذا الحب العارم الذي وقع في شبكه؟ انه ليس للغانيات التي يفتتن الناس بجمالهن ، وانما كان لأرفع الناس شأنا ، واسماهم مكانة ، انهم بنو هاشم الذين التقت بهم جميع عناصر الشرف والمجد ، وفاقوا جميع الناس بمواهبهم وعبقرياتهم ، فقد قصر عليهم اخلاصه وهواه الذي يجنه ويبديه.

ولم يندفع الكميت بحب ساداته بني هاشم وراء العاطفة ، وإنما رآهم صورة رائعة لا ثاني لها في تأريخ البشرية ، فقد رأى ، وشاهد ، ولمس أروع صور الانسانية التي رفعتهم الى القمة السامقة ، قمة الفكر ، والقيادة العليا في الاسلام.

رأى الكميت من صفات اسياده التي هام بها ما يلي :

1 - انهم معدن الجود والكرم والسخاء ، فقد جادوا بجميع ما يملكونه لانعاش المحرومين ، وانقاذ البائسين.

2 - انهم مصدر العدل بين الناس ، فلا يؤثرون قريبا على بعيد ، وانما الناس جميعا عندهم على حد سواء ، فلا يعرفون المحسوبية ، ولا سائر الاعتبارات الأخرى التي يأخذ بها الناس اندفاعا مع العاطفة والهوى.

3 - انهم اشجع من خلق اللّه ، فلم يمر الخوف على نفوسهم ، فقد خاضوا غمرات الحروب ، وأبدوا من صنوف البسالة ، ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ ، فكان الامام امير المؤمنين (عليه السلام) مضرب المثل في

ص: 334

الدنيا في شجاعته وبسالته ، وكذلك الامام الحسين سيد الأباة والاحرار في الارض فقد ابدى يوم عاشوراء من قوة البأس وروعة التصميم ما حير العقول وأذهل الألباب ، وتطعمت بهذه الروح العالية سائر ابناء الأسرة النبوية ، فقد ملكوا من الشجاعة ما لا يملكها أي أحد من الناس.

4 - انهم كانوا الملجأ والمأوى لايتام الناس وسائر الفقراء والمحرومين ان امحل الناس ، ولم يجدبوا فليس هناك من يعطف عليهم سوى أهل البيت علیهم السلام .

5 - انهم ولاة الأمور للناس ان التبست عليهم الأمور أو طرقتهم الازمات والأحداث ، فليس هناك من يستطيع التغلب عليها سواهم ، فهم الذين يملكون العقول النيرة ، والافكار الصائبة التي يحلون بها مشاكل الناس وازماتهم.

6 - انهم الحكماء الماهرون في معالجة أمراض النفوس ، وازالة ما فيها من جراثيم الزيغ والانحراف ، فقد درسوا واقع هذا الانسان ، وسبروا اعماق نفسه ، ودخائل ذاته ، ووقفوا على اندفعاته نحو الحرص والطمع والجشع وايثاره للهوى على الحق ، فوضعوا العلاج الحاسم لجميع أمراضه وآفاته ، وتجد في كلماتهم روائع الحكم والمواعظ الهادفة الى اصلاح الناس وتهذيبهم.

7 - انهم الروايا الذين يحملون الحكمة والحياة الى الناس ، فاليهم يلجأ الضامئ ومن ساحل كرمهم وجودهم ينتهل كل من يريد الحياة.

8 - انهم البحور الذين يرتوي منهم كل من اشرف على الهلاك ، فهم مصدر السعادة والخير لهذا الانسان.

9 - انهم اطيب الناس برا وصدقا ، وكرما ، وأصبح الناس وجوها ،

ص: 335

واكرمهم جدودا ، واعلاهم شأنا ، ونسبا.

10 - انهم ارجح الناس وزنا ، واكملهم في العدل بين الناس ، وأخبرهم بالامور العظام.

11 - انهم فاقوا الناس في جميع مراحل التاريخ فاقوهم في صدق حديثهم واصالة فكرهم ، وخصب رأيهم.

ويسترسل الكميت بعد هذه الأبيات في ذكر مآثر ساداته بني هاشم وفضائلهم التي هام بها فيقول :

مستفيدين متلفين مواهي *** ب مطاعيم غير ما ابرام

مسعفين مفضلين مسامي *** ح مراجيح في الخميس اللّهام

ومداريك للذحول متاري *** ك وان احفظوا لعور الكلام

لا حباهم تحل للمنطق الشغ *** ب ولا للطام يوم اللطام

ابطحيين اريحيين كالانج *** م ذات الرجوم والاعلام

غالبيين هاشميين في العل *** م ربوا من عطية العلام

ومصفين في المناصب محضي *** ن خضمين كالقروم السوام

واذا الحرب أو مضت بسنا الحر *** ب وسار الهمام نحو الهمام

فهم الأسد في الوغى لا اللواتي *** بين خيس العرين والآجام

أسد حرب غيوث جدب بهالي *** ل مقاويل غير ما اقدام

لامها ذير في الندى مكاثي *** ر ولا مصمتين بالافحام

سادة ذادة عن الخرد البي *** ض اذا اليوم صار كالأيام

ومغايير عندهن مغاو *** ير مساعير ليلة الألجام

لا معازيل في الحروب تنا *** بيل ولا رائمين بو اهتضام

وهم الآخذون من ثقة الأ *** مر بتقواهم عرى لا انفصام

ص: 336

والمصيبون والمجيبون للد *** عوة والمحرزون خصل الترامي

ومحلون محرمون مقرو *** ن لحل قراره وحرام

وعرض الكميت في هذه الأبيات الى الصفات الرفيعة الماثلة في أهل البيت (عليهم السلام) وهي :

1 - ان الأموال التي تردهم يبذلونها بسخاء وطيب نفس الى ذوي الحاجة لا يبغون جزاء ولا شكورا.

2 - انهم اذا وتروا فهم غير قاصرين ولا عاجزين من الأخذ بثأرهم ، ولكنهم تركوا ذلك إيثارا لما عند اللّه ، وان نالهم من اعدائهم قبيح الكلام.

3 - ووصف الكميت بقوله : « لا حباهم تحل للمنطق الشغب » سعة حلمهم وانهم لا تطيش احلامهم عند المشاغبة فلا يحلون حباهم ولا يتحركون.

4 - وعرض بقوله : « ابطحيين اريحيين » الى انهم اشراف قريش بما اتصفوا به من الأريحية فهم كالنجوم والاعلام التي يهتدي بها الضال.

5 - وأراد بقوله : « غالبيين هاشميين في العلم » انهم ينتمون الى سيد العرب غالب بن فهر ، ثم الى هاشم ، وانهم نالوا من العلم ما لم ينله أحد ، فقد منحهم بذلك اللّه تعالى الذي بيده الخير.

6 - وعرض بقوله : ومصفين في المناصب الخ » إلى انهم في مناصبهم ومكانتهم قد خلصوا من الدنس ، ونزهوا من كل عيب فرفعوا رءوسهم اعتزازا لأنهم لم يحيدوا عن الحق ، ولم يقترفوا أي باطل أو أثم ،

7 - وعرض بقوله : « وإذا الحرب أو مضت بسنا الحرب » وبالبيتين اللذين بعده الى شجاعة العلويين ، وان الحرب اذا استعرت ، واشتد اوارها ، فانهم يخوضون غمارها ببسالة وصمود وقوة بأس لا يعرفون الفزع ولا

ص: 337

الخوف وانما يستقبلون الموت بثغورهم الباسمة.

8 - وأراد بقوله : « لا مهاذير في الندى » انهم إذا ضمهم النادي فلا يبتذلون بكثرة الكلام ، وإنما يصمتون في مواضع الصمت من غير افحام.

9 - واعرب بقوله : « سادة ذادة عن الخرد » الى انهم الحماة الذين يحمون اهلهم عن الضيم في احلك الايام المشهورة بالحروب والوقائع.

10 - وعرض بقوله : « ومغاير عندهن مغايير » وبالبيت الذي بعده الى انهم اسد الحروب الذين يوقدون نارها ويسعرون لهبها ، ويقذفون بنفوسهم فيها ، وليسوا بمعازيل ولا بتنابيل ، وانما هم الاعلام ، والقادة والرءوس.

11 - واعطى الكميت بقوله : « وهم الآخذون من ثقة الأمر » صورة عن تكامل شخصية أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم يأخذون بأوثق الأمور ، واشدها صلة بالحق ، ولا يأخذون بما التبس عليهم أو شكوا في مشروعيته ، وذلك لشدة تقواهم وورعهم ، وعرض في البيت الذي يليه الى انهم أول من اجاب دعوة الحق التي اعلنها الرسول الاعظم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقد كان الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) سيد العترة الطاهرة هو أول من سبق الى الاسلام كما كان المدافع الاول عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمحامي عن دعوته.

وعرض الكميت بعد هذا المدح للعلويين الى هجاء خصومهم الأمويين يقول :

ساسة لا كمن يرعي النا *** س سواء ورعية الانعام

لا كعبد المليك أو كوليد *** أو كسليمان بعد أو كهشام

رأيه فيهم كرأي ذوي الثل *** ة في الثائجات جنح الظلام

جز ذي الصوف وانتقاء لذي المخ *** ة نعقا ودعدعا بالبهام

ص: 338

من يمت لا يمت فقيدا وإن يح *** ي فلا ذو إلّ ولا ذو ذمام

لا أكاد أعرف هجاء امض ، ولا اصدق من هذا الهجاء ، فقد كشف النقاب عن سوء السياسة الأموية ، التي ساست الناس سياسة لم يألفوها ، فقد نظرت إليهم كالانعام ، ولم تؤمن بأي حق من حقوقهم ، فصبت عليهم وابلا من العذاب الأليم ، وعرض الى من مات من ملوك الامويين ، وانه لا ذكر لهم ، لأنهم لم يقيموا حقا ، ولم يؤسسوا عدلا فلذا لا يذكرهم الناس بخير ، وإنما يعددون ظلمهم ، ويذكرون جورهم وبطشهم.

ويواصل الكميت مدحه لبني هاشم فيقول :

فهم الأقربون من كل خير *** وهم الأبعدون من كل ذام

وهم الأوفون بالناس في الرأ *** فة والأحلمون في الاحلام

بسطوا أيدي النوال وكفوا *** أيدي البغي عنهم والعرام

أخذوا القصد فاستقاموا عليه *** حين مالت زوامل الآثام

عيرات الفعال والحسب العو *** د إليهم محطوطة الاعكام

أسرة الصادق الحديث أبي القا *** سم فرع القدامس القدام

وصورت هذه الأبيات المثل العليا التي اتصف بها أهل البيت (عليهم السلام) من قربهم الى الخير ، وبعدهم عن كل ما يوجب الذم ، ووفائهم بكل عهد ، ورأفتهم بالناس وسعة حلمهم ، وغير ذلك من الصفات التي جعلتهم مهوى الأفئدة ، وموضع تقديس الناس واكبارهم.

ويأخذ الكميت في رائعته بمدح النبي العظيم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فيقول :

خير حي وميت من بني آ *** دم طرا مأمومهم والامام

كان ميتا جنازة خير ميت *** غيبته مقابر الاقوام

وجنينا ومرضعا ساكن المه *** د وبعد الرضاع عند الفطام

ص: 339

خير مسترضع وخير فطيم *** وجنين أقر في الارحام

وغلاما وناشئا ثم كهلا *** خير كهل وناشئ وغلام

انقذ اللّه شلونا من شفى النا *** ر به نعمة من المنعام

لوفدى الحي ميتا قلت نفسي *** وبني الفدا لتلك العظام

طيب الاصل طيب العود في البن *** ية والفرع يثربي تهامي

ابطحي بمكة استثقب الل *** ه ضياء العما به والظلام

والى يثرب التحول عنها *** لمقام من غير دار مقام

هجرة حولت الى الأوس والخز *** رج اهل الفسيل والآطام

غير دنيا محالفا واسم صدق *** باقيا مجده بقاء السلام

وبعد هذا الثناء العاطر على النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أخذ في مدح الشهيد العظيم جعفر الطيار ابن عم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ومدح عم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الشهيد الخالد حمزة ، يقول :

ذو الجناحين وابن هالة منهم *** أسد اللّه والكمي المحامي

لا ابن عم يرى كهذا ولا ع *** م كهذاك سيد الاعمام

ويعرض الكميت بعد هذا الى مدح سيد الاوصياء ، وباب مدينة علم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول :

والوصي الذي أمال التجوبى *** به عرش أمة لانهدام

كان أهل العفاف والمجد والخي *** ر ونقض الامور والابرام

والوصي الولي والفارس المع *** لم تحت العجاج غير الكهام

كم له ثم كم له من قتيل *** وصريع تحت السنابك دام

وخميس يلفه بخميس *** وفئام حواه بعد فئام

وعميد متوج حل عنه عق *** د التاج بالصنيع الحسام

ص: 340

قتلوا يوم ذاك إذ قتلوه *** حكما لا كغابر الحكام

راعيا كان مسجحا ففقدنا *** ه وفقد المسيم هلك السوام

واشتت بنا مصادر شتى *** بعد نهج السبيل ذي الآرام

جرد السيف تارتين من الده *** ر على حين درة من صرام

في مريدين مخطئين هدى الل *** ه ومستقسمين بالازلام

وانبرى الى ذكر الامام الحسن سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال :

ووصي الوصي ذي الخطة الفض *** ل ومردي الخصوم يوم الخصام

وعرج بعد ذلك الى ذكر مأساة الامام الحسين (عليه السلام) تلك المأساة المروعة التي تركت اعظم اللوعة والاسى في النفوس قال :

وقتيل بالطف غودر منه *** بين غوغاء أمة وطغام

وحينما سمع الامام أبو جعفر (عليه السلام) هذا البيت تناثرت دموعه ، وبكى ، وقال له : - كما قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لحسان بن ثابت - لا زلت مؤيدا بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت (1).

ويستمر الكميت في تلاوة رثائه للامام الحسين (عليه السلام) يقول :

تركب الطير كالمجاسد منه *** مع هاب من التراب هيام

وتطيل المرزآت المقالي *** ت عليه القعود بعد القيام

يتعرفن حر وجه عليه *** عقبة السرو ظاهرا والوسام

قتل الادعياء إذ قتلوه *** أكرم الشاربين صوب الغمام

وعرض بعد ذلك الى محمد بن الحنفية قال :

وسمي النبي بالشعب ذي الخي *** ف طريد المحل بالاحرام

ص: 341


1- قصص العرب 2 / 269 ، مروج الذهب 2 / 195.

يشير بذلك الى ما تعرض إليه محمد من التنكيل من قبل ابن الزبير لانه امتنع من بيعته ، فحصره بالخيف ، وهدده ومن معه بالحرق ان لم يبايعوه ، وذكر بعد ذلك الشهيد العظيم أبا الفضل العباس بن الامام امير المؤمنين (عليه السلام) الذي استشهد دفاعا عن أخيه سيد الاحرار الامام الحسين (عليه السلام) يقول :

وأبو الفضل إن ذكرهم الحل *** وبني الشفاء للاسقام (1)

ويعرض بعد ذلك الى مدى ولائه العميق لأهل البيت (عليهم السلام) يقول :

فبهم كنت للبعدين عما *** واتهمت القريب أي اتهام

صدق الناس في حنين بضرب *** شاب منه مفارق القمقام

وتناولت من تناول بالغي *** بة أعراضهم وقل اكتتام

ورأيت الشريف في اعين الن *** اس وضيعا وقل منه احتشامي

معلنا للمعالنين مسرا *** للمسرين غير دحض المقام

مبديا صفحتي على المرقب المع *** لم باللّه عزتي واعتصامي

ما أبالي اذا حفظت أبا القا *** سم فيهم ملامة اللوام

لا أبالي ولن أبالي فيهم *** أبدا رغم ساخطين رغام

فهم شيعتي وقسمي من الا *** مة حسبي من سائر الاقسام

إن أمت لا أمت ونفسي نفسا *** ن من الشك في عمى أو تعامي .

ص: 342


1- في مقاتل الطالبيين ( ص 84 ). وأبو الفضل ان ذكرهم الحلو *** شفاء النفوس من اسقام قتل الادعياء اذ قتلوه *** اكرم الشاربين صوب الغمام وذكر شارح الهاشميات ان المراد بابي الفضل هو العباس عم النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو اشتباه محض نشأ من قلة التتبع.

عادلا غيرهم من الناس طرا *** بهم لاهمام بي لاهمام

لم ابع ديني المساوم بالوك *** س ولا مغليا من السوام

وعبر بهذه الابيات عن اصدق الولاء لبني هاشم ، فقد اخلص للبعيد الذي يخلص لهم وعادى القريب الذي يعاديهم ، وكان ذلك منتهى الايمان ، ولما بلغ الكميت الى قوله :

اخلص اللّه لي هواي فما اغ

رق نزعا ولا تطيش سهامي (1)

قال له الامام : قل : « فقد أغرق نزعا ولا تطيش سهامي » التفت الكميت الى النكتة في ذلك ، فقال للإمام : أنت أشعر مني في هذا المعنى ، ولما فرغ الكميت من انشاد رائعته توجه الامام نحو الكعبة ، واخذ يدعو له قائلا :

« اللّهم ارحم الكميت ، واغفر له. »

وكرر الدعاء بالمغفرة له ثلاث مرات ، ثم قال له : يا كميت هذه مائة الف قد جمعتها لك من أهل بيتي ، فابى الكميت من قبولها ، واعتذر بأنه يطلب المكافأة من اللّه تعالى ، وطلب من الامام (عليه السلام) أن يتكرم عليه بقميص من قمصه ، فاعطاه ذلك (2).

وخرج الكميت من الامام فقصد عبد اللّه بن الحسن فانشده رائعته فاعجب بها عبد اللّه وقال له :

ص: 343


1- النزع : جذب الوتر بالسهم ، الاغراق في النزع : مثل يضرب للغلو والافراط ، فقوله : فما اغرق نزعا لا يناسب المقام لان معناه انه لا يبالغ في محبة أهل البيت (عليهم السلام) مع أن المناسب المبالغة فيها فلهذا غير الامام الشعر من النفي الى الايجاب.
2- اعيان الشيعة 1 / 4 / 515 - 516.

« يا أبا المستهل ان لي ضيعة أعطيت فيها اربعة آلاف دينار ، وهذا كتابها ، وقد اشهدت بذلك شهودا .. »

وناوله الكتاب ، فانبرى الكميت قائلا :

« بأبي أنت وأمي اني كنت أقول : الشعر في غيركم أريد به الدنيا ، ولا واللّه ما قلت : فيكم إلا لله ، وما كنت لأخذ على شيء جعلته لله مالا ولا ثمنا .. »

فالح عليه عبد اللّه ، فأخذ الكميت الكتاب ، ومضى أياما ، ثم قصد عبد اللّه فقال له :

« إن لي حاجة »

« ما هي؟ كل حاجة لك مقضية »

« كائنة ما كانت؟ » « نعم »

« هذا الكتاب تقبله ، وترجع الضيعة .. »

وناوله الكتاب فقبله عبد اللّه ، ونهض عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه ابن جعفر فاخذ جلدا ودفعه الى اربعة من غلمانه ، وجعل يدخل دور بني هاشم وهو يرفع عقيرته قائلا :

« يا بني هاشم ، هذا الكميت قال : فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم ، وعرض دمه لبني أمية فاثيبوه بما قدرتم .. »

واخذ العلويون يطرحون في الجلد ما يقدرون عليه من الدنانير والدراهم ، وعلمت السيدات من العلويات فكن يبعثن إليه ما يتمكّن عليه حتى كانت العلوية تخلع الحلي من جسدها ، وتدفعه ، واجتمع عنده من المال ما قيمته مائة الف درهم ، فجاء بها الى الكميت ، وقال له :

ص: 344

« يا أبا المستهل اتيناك بجهد المقل ، ونحن في دولة عدونا ، وقد جمعنا هذا المال ، وفيه حلي النساء ، فاستعن به على دهرك .. »

وأبى الكميت من قبوله قائلا :

« بأبي أنتم وأمي قد اكثرتم ، واطيبتم ، وما أردت بمدحي اياكم إلا اللّه ورسوله ، ولم اك لآخذ ثمنا من الدنيا ، فاردده الى اهله .. »

وجهد عبد اللّه ان يقبل الكميت تلك الاموال فأبى وامتنع (1).

اللامية من هاشمياته :

وانشد الكميت اللامية من هاشمياته أمام الامام أبي جعفر (عليه السلام) وقد أخذت منه مأخذا عظيما ، فقد تركت في نفسه اعظم الاثر ، فقد عرض فيها الى الاحداث السياسية المؤلمة في ذلك العصر ، وما حل بأهل البيت (عليهم السلام) من صنوف التنكيل والارهاق يقول في أولها :

ألا هل عم في رأيه متأمل *** وهل مدبر بعد الاساءة مقبل

وهل أمة مستيقظون لرشدهم *** فيكشف عنه النعسة المتزمل

فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى *** مساويهم لو كان ذا الميل يعدل

ودعا الكميت بهذه الابيات المسلمين الى اليقظة من سباتهم ، واهاب بهم من الجمود والخمول ، وقد حفزهم على الثورة للتخلص من ظلم الامويين وجورهم فقد جهدوا على الاستبداد بشئون الناس وارغامهم على ما يكرهون ، ويقول الكميت في هذه الرائعة :

وعطلت الاحكام حتى كأننا *** على ملة غير التي نتنحل

كلام النبيين الهداة كلامنا *** وأفعال أهل الجاهلية نفعل

ص: 345


1- مروج الذهب 2 / 195.

رضينا بدنيا لا نريد فراقها *** على أننا فيها نموت ونقتل

ونحن بها مستمسكون كأنها *** لنا جنة مما نخاف ونعقل

وعرض في البيت الاول الى تعطيل الامويين للاحكام الدينية ، وتجميدهم لمبادئ الاسلام حتى صار المسلمون بشكل مؤسف كأنهم قد انتحلوا دينا غير دين الاسلام.

اما البيت الثاني فقد قدح فيه ولاة الحكم الاموي ، وانهم يقولون : كلام الهداة المصلحين إلا ان اعمالهم تتجافى مع اقوالهم ، فهم يعملون أعمال اهل الجاهلية الاولى اما البيتان الاخيران فانه يعزو فيهما الحالة الراهنة التي منى بها المسلمون الى حبهم للحياة وايثارهم للعافية ، وتمسكهم بالدنيا ، فلم يهبوا للجهاد والثورة على الحكم الاموي ويقول الكميت :

فتلك أمور الناس أضحت كأنها *** امور مضيع آثر النوم بهّل

فباساسة هاتوا لنا من حديثكم *** ففيكم لعمري ذو أفانين مقول

أأهل كتاب نحن فيه وانتم *** على الحق نقضي بالكتاب ونعدل

ويعرض في البيت الاول الى اهمال احكام الامويين لشؤون الرعية حتى غدت كأنها الابل المهملة تسرح ولا راعي لها يحفظها من الضياع ، ويسأل في البيتين الاخيرين اولئك الساسة القابضين على زمام الحكم ، هل انهم اهل كتاب يقضون بالحق ، وعلى ضوئه يسوسون شئون رعيتهم؟ واذا كانوا كذلك فما بالهم قد شذوا في سياستهم عن الدين ، وابتعدوا عن تعاليمه.

ويستمر الكميت في محاسبة الامويين ، وتحميلهم المسئولية عما اصاب الامة من الظلم والجور ، ويعدد مثالبهم ، ويدعو المسلمين الى الانتفاضة على حكمهم ، وبعد ذلك عرج على رثاء أبي الاحرار الامام الحسين علیه السلام قائلا :

ص: 346

كأن حسينا والبهاليل حوله *** لاسيافهم ما يختلي المتبقل

يخضن به من آل احمد في الوغى *** وما ظل منهم كالبهيم المحجل

وغاب نبي اللّه عنهم وفقده *** على الناس رزء ما هناك مجلل

لقد كان الكميت صادق اللّهجة والعاطفة في رثائه للحسين (عليه السلام) ، وقد تركت ابياته اعظم الاثر في نفس الامام أبي جعفر (عليه السلام) ولما انتهى الكميت الى هذا البيت :

يصيب به الرامون عن قوس غيرهم *** فيا آخرا أسدى له الغي أول

وقد اراد الكميت بهذا البيت ان جميع ما حل بأهل البيت (عليهم السلام) من الرزايا والخطوب فانه يستند الى الصدر الاول فانهم هم الذين سمحوا للأمويين أن يقفزوا الى الحكم ، ومكنوهم من رقاب المسلمين ، ولما سمع الامام (عليه السلام) هذا البيت بلغ به الحزن اقصاه ، ورفع يده الى السماء. وجعل يدعو للكميت قائلا : « اللّهم اغفر للكميت » (1).

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن لامية الكميت ، وقد جاء فيها أنه قد رثا الامام ابا جعفر (عليه السلام) حيث يقول :

أ موتا على حق كمن مات منهم *** ابو جعفر دون الذي كنت تأمل

ومن المؤكد انه نظم هذا البيت وما بعده بعد وفاة الامام أبي جعفر علیه السلام والحق ذلك بلاميته.

العينية من هاشمياته :

وهذه رائعة أخرى من هاشمياته ، وقد وفد على الامام أبي جعفر (عليه السلام) ليتلوها عليه فقال له : إني قد قلت شعرا ان اظهرته خفت القتل ، وان كتمته خفت اللّه تعالى ، ثم انشد الامام (عليه السلام) هذه الرائعة :

ص: 347


1- اخبار شعراء الشيعة للمرزباني ( ص 72 ).

نفى عن عينك الارق الهجوعا *** وهم يمتري منها الدموعا

دخيل في الفؤاد يهيج سقما *** وحزنا كان من جذل منوعا

لفقدان الخضارم من قريش *** وخير الشافعين معا شفيعا (1)

ووصف في هذه الابيات ما حل به من هم مقيم ، وآلام عميقة جعلته دائما ارقا لا يألف إلا الحزن والاسى ، وذلك لما حل باسياده العلويين من الرزايا والخطوب ، فقد كوت قلبه ، وجعلته هائما في تيارات مذهلة من الاسى والشجون.

ويقول الكميت في عينيته يصف سيده الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) :

لدى الرحمن يصدع بالمثاني *** وكان له أبو حسن قريعا

حطوطا في مسرته ومولى *** الى مرضاة خالقه سريعا

وأصفاه النبي على اختيار *** بما أعيى الرفوض له المذيعا

ويوم الدوح دوح غدير خم *** أبان له الولاية لو اطيعا

ولكن الرجال تبايعوها *** فلم ار مثلها خطرا مبيعا (2)

فلم ابلغ بها لعنا ولكن *** أساء بذاك أولهم صنيعا

فصار بذاك أقربهم لعدل *** الى جور واحفظهم مضيعا

اضاعوا أمر قائدهم فضلوا *** واقومهم لدى الحدثان ريعا

تناسوا حقه وبغوا عليه *** بلا ترة وكان لهم قريعا (3)

وعرض الكميت في هذه القطعة من قصيدته الى الامام امير المؤمنين علیه السلام فذكر مناصرته للنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما فجر دعوته المشرقة ،

ص: 348


1- الخضارم : السادة الكرماء.
2- في بعض النسخ ( فلم ار مثلها حقا اضيعا ).
3- القريع : المختار يقال : اقترعه اي اختاره.

فقد كان الامام الى جانبه يحميه ويذب عنه ، ويرد عنه كيد المعتدين والظالمين ، وكان الامام (عليه السلام) في جهاده ودفاعه لا يبتغي إلا وجه اللّه ، ولا يلتمس إلا الدار الآخرة ، ونظرا لما يتمتع به الامام (عليه السلام) من الطاقات الروحية الهائلة فقد اصطفاه النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وجعله وزيرا وخليفة من بعده ، اعلن ذلك في مؤتمره العام الذي عقده في غدير خم ، فقلده وسام الخلافة والامامة ، وقال فيه : « من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله » (1) ومن المؤسف - حقا - ان هذه البيعة التي عقدها اللّه ورسوله للامام امير المؤمنين القائد الاول للمسيرة الاسلامية لم تتفق مع رغبات القوم وميولهم فعقدوا مؤتمر السقيفة ، وتجاهلوا بيعتهم للإمام وتناسوا مقامه ، وقد حفلت مصادر التأريخ بذكر الحادث المؤلم ، وتفصيل شئونه :

ومضى الكميت في رائعته يقول :

فقل لبني أمية حيث حلوا *** وإن خفت المهند والقطيعا

إلا اف لدهر كنت فيه *** هدانا طائعا لكم مطيعا (2)

اجاع اللّه من اشبعتموه *** واشبع من بجوركم اجيعا

ويلعن فذ أمته جهارا *** اذا ساس البرية والخليعا

بمرضي السياسة هاشمي *** يكون حيا لأمته مريعا

وليثا في المشاهد غير نكس *** لتقويم البرية مستطيعا

ص: 349


1- حديث الغدير متواتر اجمع المسلمون على روايته ، وذكرته الصحاح كافة.
2- الهدان : الجبان.

يقيم أمورها ويذب عنها *** ويترك جدبها أبدا مريعا (1)

وعرض الكميت في هذه الابيات لبني أمية فدعا بالجوع والحرمان على عملائهم واذنابهم الذين اتخمت بطونهم من أموال الامويين وهباتهم ، كما دعا لمن حرمتهم السلطة الأموية من العطاء بالثراء وسعة العيش ، كما عرض لبني هاشم ، وانهم ساسة الأمة ، وانها في ظلال حكمهم تجد الرفاهية ، والعيش الرغيد.

ويقول المؤرخون إن الامام أبا جعفر (عليه السلام) : لما سمع هذه القصيدة العصماء اخذ منه الاعجاب مأخذا عظيما ، وانطلق يقول :

« اللّهم اكف الكميت. »

وكرر الامام هذا الدعاء ثلاث مرات ، وقد انجاه اللّه ببركة دعائه فتخلص من سجن الامويين (2).

نضاله المرير :

اشارة

وناضل الكميت نضالا مريرا في الدفاع عن عقيدته ، والذب عن مبادئه ، وقد انطلق كالمارد الجبار في احلك الظروف ، وأشدها قسوة ومحنة على أهل البيت (عليهم السلام) فأخذ يذيع مآثرهم ، ويشيد بفضائلهم ، ويدعو الناس الى الالتفاف حولهم ، ويدفعهم الى التمرد على الحكم الاموي ، والتخلص من جوره وطغيانه.

لقد قام الكميت بدور ايجابي وفعال في زعزعة الكيان الأموي ، واسقاط هيبته ، وكان من ابرز ما قام به في هذا المجال ما يلي :

ص: 350


1- الهاشميات ( ص 81 - 82 ).
2- اخبار شعراء الشيعة ( ص 72 - 73 ).

1 - مدحه لأهل البيت :

ومدح الكميت أهل البيت (عليهم السلام) مدحا عاطرا ، وعدد مناقبهم ومآثرهم في هاشمياته التي هي من أثمن اللوحات الفنية في الأدب العربي ، وقد لعبت دورا خطيرا في بلورة الوعي العربي والاسلامي ، وأوجدت شعورا عاما يتسم بالكراهية والبغض لبني أمية.

لقد مدح الكميت أهل البيت (عليهم السلام) في وقت كانت الحكومة الأموية قد منعت منعا رسميا الاشادة بهم ، وفرضت سبهم على المنابر والمآذن ، وأوعزت الى معاهد التعليم القيام بتغذية النشىء ببغضهم ، كما عهدت الى لجان الوضاعين بافتعال الحديث للحط من شأنهم ، وفرضت أشد العقوبات واكثرها صرامة على من يذكرهم بخير ، فقيام الكميت بمدحهم يعتبر من ابرز الوان النضال الديني لأنه قد قاوم رغبات السلطة ، وناهض سياستها.

2 - هجاء الأمويين :

وقام الكميت بدور خطير في مناهضة الأمويين ، فقد هجا ملوكهم ، وعدد مثالبهم وابرزهم في شعره كأقذر مخلوق ، وقد حفظ الناس ما قاله فيهم ، فزهدوا في بني أمية ، ونقموا على حكمهم وسلطانهم ، ويعتبر هجاؤه لهم من الاسباب التي اطاحت بملكهم ومن قوله فيهم :

فقل لبني أمية حيث حلوا *** وإن خفت المهند والقطيعا

اجاع اللّه من اشبعتموه *** واشبع من بجوركم اجيعا

وقد قرأ هذه الابيات على الامام أبي جعفر (عليه السلام) فدعا له بالمغفرة والرضوان (1) وهجا هشام بن عبد الملك بقوله :

ص: 351


1- معجم الشعراء ( ص 348 ).

يصيب على الأعواد يوم ركوبها *** لما قال فيها مخطئ حين ينزل

كلام النبيين الهداة كلامنا *** وافعال أهل الجاهلية نفعل (1)

ولم يقتصر الكميت في هجائه على الأمويين ، وإنما هجا انصارهم واعوانهم فقد هجا الحكيم بن عياش الكلبي ، وقد اعتز الكميت في هجائه ببني أمية ، وكان ذلك موضع دهشة واستغراب.

وقد خف إليه ولده المستهل فانكر عليه اعتزازه ببني أمية قائلا : « يا ابة انك هجوت الكلبي ، وغمزت عليه ، ففخرت ببني أمية ، وأنت تشهد عليهم بالكفر ، فهلا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم؟!! »

فأجابه الكميت جواب العالم الخبير قائلا :

« يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي الى بني أمية ، وهم اعداء علي ، فلو ذكرت عليا لترك ذكري ، واقبل على هجائه فاكون قد عرضت عليا له ، ولا أجد له ناصرا من بني أمية ، ففخرت عليه ببني أمية وقلت : ان نقضها علىّ قتلوه ، وإن امسك قتلته غما وغلبته .. »

وكان كما قال الكميت : فقد امسك الكلبي من جوابه إلا انه ترك الحزن والأسى يحزان في نفسه (2).

3 - اثارة العصبية بين اليمنية والنزارية :

وقام الكميت بدور خطير في تحطيم الدولة الأموية فقد القى الخصومة واجج نار الفتنة بين اليمانية والنزارية ، وهما من أهم القبائل العربية عددا ونفوذا ، وكانتا من اعظم المؤيدين للحكم الأموي ، وقد هجا الكميت في شعره اليمانيين وعدد مثالبهم فلم يترك حيا من احيائهم إلا هجاه بأقسى

ص: 352


1- معجم الشعراء ( ص 348 ).
2- الاغاني 15 / 129.

ألوان الهجاء ، اما سبب هجائه لهم فقد روى المسعودي أنه قصد عبد اللّه ابن الحسن فطلب منه أن ينشىء شعرا يثير به حفائظ النفوس بين العرب لعل فتنة تحدث فتكون سببا الى زوال دولة الامويين فاستجاب الكميت ، وانطلق ينظم قصائد من الشعر الحماسي الرائع يمجد فيها اليمانيين ، ويذكر مناقبهم ، ويهجو القحطانيين ، ومما قاله :

لنا قمر السماء وكل نجم *** تشير إليه أيدي المهتدينا

وجدت اللّه اذ سمى نزارا *** واسكنهم بمكة قاطنينا

لنا جعل المكارم خالصات *** وللناس القفا ولنا الجبينا

وأثر شعره فى القلوب تأثيرا عظيما ، حتى ثارت الحفائظ بين القبيلتين ، وشاع البغض والعداء بينهما ، وانتصر للقحطانيين شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي ، واكبر الظن أنه كان بينهما اتفاق سري على ذلك ، فانهما معا من شعراء أهل البيت (عليهم السلام) وكل منهما قد ضرب الرقم القياسي في الولاء لهم ، ومما قاله دعبل في الرد على الكميت :

افيقي من ملامك يا ظعينا *** كفاك اللوم مر الأربعينا

ألم تحزنك أحداث الليالي *** يشيبن الذوائب والقرونا

أحي الغر من سروات قومي *** لقد حييت عنا يا مدينا

فان يك آل اسرائيل منكم *** وكنتم بالاعاجم فاخرينا

الى أن يقول :

وما طلب الكميت طلاب وتر *** ولكنا لنصرتنا هجينا

لقد علمت نزار أن قومي *** الى نصر النبوة فاخرينا

واخذت كل قبيلة تفتخر على الأخرى وتدلي بمناقبها ومكارمها ، وتنتقص القبيلة الأخرى حتى اتسع العداء بينهما وشمل سكان القرى والبادية ،

ص: 353

وقد تخربت القلوب ، وانفصمت عرى الوحدة بين الأسرتين ، ونتج من ذلك ان مروان بن محمد الجعدي آخر ملوك بني أمية قد تعصب للنزاريين ، مما سبب انحراف اليمانيين عن بني أمية ، وانضمامهم الى الدعوة العباسية ، وبذلك فقد انهارت الدولة الأموية (1) ويقول أحمد امين : « وقتلت بعده - اي بعد الكميت - الدولة الأموية بقليل » (2).

اعتقاله :

وشاع هجاء الكميت لليمانيين ، وصار أحدوثة الأندية والمجالس ، وبلغ ذلك حاكم الكوفة خالد بن عبد اللّه القسري ، وكان يتعصب لليمانيين ، فقال : واللّه لأقتلنه ، ويقول المؤرخون : إنه اشترى جارية في نهاية الحسن ، فرواها هاشميات الكميت ، فلما حفظتها أهداها الى هشام ابن عبد الملك ، وكتب إليه باخبار الكميت ، وهجائه لبني أمية ، وانفذ إليه قصيدته التي يقول فيها :

فيا رب هل إلا بك النصر يبتغى *** ويا رب هل إلا عليك المعول

وهي قصيدة طويلة يرثى فيها الشهيد العظيم زيد بن علي ، وابنه الشهيد الخالد الحسين بن زيد ، كما يمدح فيها بني هاشم ، ولما وصلت الى هشام ، وقرئت عليه غضب كأشد ما يكون الغضب ، فكتب الى خالد يأمره بقطع لسان الكميت ويده ، وأوعز خالد القسري الى الشرطة باعتقاله ، فألقت عليه القبض ، وأودع في السجن ، لينفذ فيه حكم الأعدام ، وبقي

ص: 354


1- حياة الامام موسى بن جعفر 1 / 315 - 316 نقلا عن مروج الذهب.
2- ضحى الاسلام 3 / 206.

في السجن حفنة من الأيام وهو يعاني قسوة السجن ومرارته (1).

هربه من السجن ،

وبقي الكميت في السجن وجلا مضطربا قد طافت به الهموم والآلام فلا يدري متى ينفذ فيه حكم الاعدام؟ ويقول المؤرخون : انه كان له صديق حميم هو ابان بن الوليد العجلي ، وكان عاملا على واسط من قبل الأمويين ، فلما انتهت إليه انباء الكميت ارسل بالفور إليه غلامه ، وأمره بالاسراع إليه ، وحمله رسالة عرفه فيها بأن مصيره القتل ، وإنه لاخلاص له منه إلا بأن يحتال فيرسل بأسرع وقت خلف زوجته الى السجن ، ويلبس لباسها ، وتكون مكانه في السجن من حيث لا يعلم السجانون ، ويكون بذلك نجاته ، وفعل الكميت ذلك ، وهرب من السجن بعد أن لبس لباس زوجته وقد ظن السجان أنه زوجة الكميت فلم يفتشه ، وقد نجا بذلك من القتل المحتم وأنشا الكميت بعد هروبه هذين البيتين :

خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل *** على الرغم من تلك النوائح والمشل

علي ثياب الغانيات وتحتها *** عزيمة امر أشبهت سلة النصل (2)

العفو عنه :

وبقى الكميت متواريا عن انظار السلطة متخفيا ، وهي تمعن بالتفتيش عنه إلا انها لم تهتد الى معرفته ، وقد عزم الكميت على مدح هشام وبني أمية لينجو مما هو فيه ، وقبل أن ينظم فيهم أرسل وردا ابن أخيه زيد الى الامام أبي جعفر (عليه السلام) يستأذنه فيما عزم عليه ، فاذن له الامام (عليه السلام)

ص: 355


1- الاغاني 15 / 114.
2- مقدمة الهاشميات ( ص 17 ).

وقفل ورد الى عمه فعرفه برضاء الامام (1) واتجه الكميت مع جماعة من بني أسد الى دمشق ، فلما انتهوا إليها ، قصدوا جماعة من أشراف قريش ، واحاطوهم علما بالأمر ، فاجابوهم ، وخفوا جميعا سوى الكميت الى عنبسة بن سعيد بن العاص فقالوا له :

« يا أبا خالد هذه مكرمة أتاك اللّه بها ، هذا الكميت بن زيد لسان مضر ، وكان أمير المؤمنين قد كتب في قتله فنجا حتى تخلص إليك وإلينا .. »

واستجاب لهم عنبسة ، واتجه الى مسلمة بن هشام فقال له : يا أبا شاكر مكرمة أتيتك بها تبلغ بها الثريا ، فقال له مسلمة : ما هي؟ فأخبره بالأمر ، فأجاره مسلمة (2) وشاع ذلك فلما بلغ هشام دعا بولده مسلمة فصاح به :

« اتجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟ »

« كلا ولكني انتظرت سكون غضبه .. »

« احضرنيه الساعة فانه لا جوار لك .. »

وقام مسلمة من مجلس أبيه ، ومضى نحو الكميت ، فقال له : يا أبا المستهل ان أمير المؤمنين قد أمرني باحضارك ، فقال الكميت :

« أتسلمني يا أبا شاكر؟ .. »

« كلا .. »

ومهد مسلمة الطريق الى نجاته فقال له : ان معاوية بن هشام مات قريبا ، وقد جزع عليه جزعا شديدا ، فاذا كان من الليل فاضرب رواقك

ص: 356


1- مقدمة الهاشميات ( ص 17 ).
2- الغدير 2 / 206.

على قبره ، وأنا أبعث لك بنيه يكونون معك في الرواق ، فاذا دعا بك تقدمت عليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك ، ويقولون : هذا استجار بقبر ابينا ، ونحن أحق باجارته ، ثم تركه وانصرف ، واتجه الكميت في الليل نحو قبر معاوية فضرب رواقه عليه ، ولما اصبح هشام تطلع من قصره إلى قبر ولده ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : له لعله مستجير بالقبر ، فقال : يجار كل من كان إلا الكميت فانه لا جوار له ، فقيل له : إنه الكميت ، فأمر باحضاره ، فاحضر وقد ربط صبيان معاوية ثيابهم بثيابه ، فلما نظر إليهم هشام اغرق في البكاء ، وقد رفعت الصبية أصواتهم قائلين له : يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا ، وقد مات ، ومات حظه من الدنيا ، فاجعله هبة له ولنا ، ولا تفضحنا فيمن استجار به ، فبكى هشام ، ثم اقبل على الكميت ، فقال له : أنت القائل؟

وإلا فقولوا : غيرها تتعرفوا *** نواصيها تروى بنا وهي شزب

واعتذر الكميت ، فصاح به هشام فقال له :

- ايه يا كميت الست القائل :؟

فيا موقدا نارا لغيرك ضوؤها *** ويا حاطبا في غير حبلك تحطب

- بل أنا القائل :

الى آل بيت أبي مالك *** مناخ هو الأرحب الأسهل

نمت بارحامنا الداخلا *** ت من حيث لا ينكر المدخل

بمرة والنضر والمالكين *** رهط هم الأنبل الأنبل

وجدنا قريشا قريش البطاح *** على ما بنى الأول الأول

- وأنت القائل :

لا كعبد المليك أو كوليد *** او سليمان بعد أو كهشام

ص: 357

من يمت لا يمت فقيدا ومن يح *** ي فلا ذو إلّ ولا ذو ذمام

« ويلك يا كميت!! جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلاّ ولا ذمة .. »

قال الكميت : بل أنا القائل :

فالآن صرت الى أمية والأمور الى المصائر

والآن صرت بها الى المصيب كمهتد بالأمس حائر

قال هشام : الست القائل :؟

فقل لبني أمية حيث حلوا *** وإن خفت المهند والقطيعا

أجاع اللّه من اشبعتموه *** واشبع من بجوركم اجيعا

بمرضي السياسة هاشمي *** يكون حيا لأمته ربيعا

قال الكميت : يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تمحو عني قولي الكاذب؟

- بما ذا؟

- بقولي الصادق :

اورثته الحصان أم هشام *** حسبا ثاقبا ووجها نضيرا

وتعاطى به ابن عائشة البد *** ر فامسى له رقيبا نظيرا

وكساه ابو الخلايف مروا *** ن سناء المكارم المأثورا

لم تجهم له البطاح ولكن *** وجدتها له معانا ودورا

وغزت هذه الأبيات قلب هشام ، وازالت عنه الغيظ فاستوى جالسا واخذ يبدي إعجابه بهذه الأبيات ، قائلا :

« هكذا فليكن الشعر!! قد رضيت عنك يا كميت. »

وشكره الكميت ، وطلب منه أن لا يجعل لخالد بن عبد اللّه القسري امارة عليه فأجابه الى ذلك ، وأمر له باربعين الف درهم ، وثلاثين ثوبا هشامية ، وكتب الى خالد ان يخلي سبيل امرأته ، ويعطيها عشرين الف درهم ،

ص: 358

وثلاثين ثوبا ، ففعل خالد (1).

لقد استطاع الكميت أن يتغلب على الأحداث بلباقته ، وقوة بيانه ، وبليغ منطقه ، وتماسك شخصيته ، فلم ينهار أمام الطاغية هشام ، ولم يراوده الخوف والفزع ، وإنما كان كالجبل في صلابة إرادته ، وقوة عزيمته ، ولم يكتف بما ظفر به من السلامة والنجاة ، وإنما طلب من هشام أن لا يجعل لحاكم الكوفة عليه سلطانا وسبيلا ، ويتركه وحريته فيما يقول ويعمل.

عتاب واعتذار :

ووفد الكميت على الامام أبي جعفر (عليه السلام) فرحب به ، وقرب مجلسه ، وتبسم في وجهه وعاتبه عتابا رقيقا قال له :

يا كميت أنت القائل :؟

فالآن صرت الى أمي *** ة والأمور الى المصائر

واعتذر الكميت ، وأجاب جواب العالم الفقيه قائلا :

« نعم قد قلت : ذلك ، ولا واللّه ما أردت به الا الدنيا ، لقد عرفت فضلكم .. »

ومنحه الامام الباقر الرضا والقبول ، وقال له : اما ان قلت : ذلك تقية ان التقية لتحل (2) وهذا إنما يتم بناء على عدم استئذانه من الامام في مدح الأمويين لقد كان الكميت صادق المودة والولاء لأهل البيت علیه السلام وقد امتحن في سبيلهم كأعظم ما يكون الامتحان فتعرض لسخط الامويين ونقمتهم ، وقضى شطرا من حياته في السجن ، يلاحقه الفزع والرعب ،

ص: 359


1- الاغاني 15 / 115 - 119 ، العقد الفريد 1 / 189.
2- الاغاني 15 / 126.

وهو لم يبتغ بذلك إلا وجه اللّه والدار الآخرة.

الى جنة المأوى :

وشاء اللّه لهذا العملاق العظيم الذي نافح عن حقوق أهل البيت (عليهم السلام) أن يرزق الشهادة على يد شرار بريته ، فقد دخل على والي العراق يوسف ابن عمر بعد عزل خالد القسري الذي نكل به ، فانشده قصيدة يثني فيها عليه ، ويعرّض بالقسرى جاء فيها :

خرجت لهم تمشي البراح ولم تكن *** كمن حصنه فيه الرتاج المضبب

وما خالد يستطعم الماء فاغرا *** بعدلك والداعي الى الموت ينعب

وكان الحرس الذين على رأس يوسف متعصبين لخالد ، فوضعوا سيوفهم في بطنه وقالوا : أتنشد الأمير ، ولم تستأمره ، فأخذه نزيف الدم (1) وأخرج وهو يجود بنفسه ، وأغمي عليه ، ثم أفاق وهو يقول :

« اللّهم آل محمد ، اللّهم آل محمد .. » (2)

ثم فاضت نفسه الزكية ، وارتفعت الى بارئها كما ترتفع أرواح الأولياء تحفها ملائكة اللّه ورضوانه.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن هذا العملاق العظيم الذي وهب مشاعره وعواطفه لآل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وصاغ فكره ، وعقيدته فيهم على أساس العلم والمنطق فلم يندفع في ولائه لهم وراء العاطفة وانما استند في ذلك الى الأدلة الحاسمة من القرآن والسنة حسب ما أشار إليها في هاشمياته التي هي من أثمن الثروات الفكرية والعلمية في الأدب العربي والاسلامي.

ص: 360


1- الاغاني 15 / 121.
2- الاغاني 15 / 130.

وقبل أن أطوي الصفحة الأخيرة من الحلقة الأولى من هذا الكتاب أرى من الحق علي أن أشيد بالملاحظات الفنية والعلمية ، التي تكرم بها علي سماحة الحجة الأخ الشيخ هادي القرشي في هذا الكتاب سائلا من اللّه تعالى أن يجزيه عني خير ما يجزي أخا عن أخيه ، وبهذا ينتهي بنا المطاف عن الجزء الأول من هذا الكتاب.

أما الجزء الثاني فأود أن أبين أن من بين ما يعرض له البحث عن ملوك الأمويين الذين عاصرهم الامام أبو جعفر (عليه السلام) فقد بسطنا الحديث عنهم ، وذكرنا ما أثر عنهم من الاعمال التي لا تتفق مع قواعد هذا الدين واصوله ، والتي كان منها ما عاناه الناس من الظلم الهائل وعدم الاعتراف بأي حق من حقوقهم الفردية والاجتماعية ، فقد حولوا البلد الى مزرعة خاصة لهم يصيبون منها ما شاءوا فالسواد - على حد تعبير ابن العاص - بستان قريش ، وقد اجحفوا في جباية الخراج ، وساموا الناس سوء العذاب.

وكان من الضروري جدا عرض ذلك لأنه بصور الحياة الاجتماعية والسياسية التي عاشها الامام ، وقد اصبحت دراسة مثل هذه البحوث مما لا بد منها في الدراسات الحديثة.

كما عرضنا الى عصر الامام (عليه السلام) ذلك العصر الذي هو أكثر العصور الاسلامية حساسية ، فقد نشأت فيه الفرق الاسلامية التي كانت من اخطر الظواهر الفكرية والاجتماعية في ذلك العصر ، كما تصاعدت فيه عمليات الصراع الفكري والعقائدي بين الاحزاب التي تصارعت بصورة مذهلة على الوصول الى الحكم ، وكان من نتائج ذلك الصراع إيقاف المسيرة الاسلامية ، ووضع السدود والحواجز أمام الزحف الاسلامي ، المقدس ، هذا بعض ما سيجده القارئ في الحلقة الثانية من هذا الكتاب.

ص: 361

محتوى الكتاب

ص: 362

محتويات الكتاب

آيات من الذكر الحكيم... 5

الاهداء... 7

تقديم... 9

الوليد العظيم

الأم... 19

الأب... 20

الوليد العظيم... 20

تسميته ، كنيته ، القابه... 21

تحيات النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الى الباقر... 23

ملامحه... 26

ذكاؤه المبكر... 26

هيبته ووقاره ... 27

نقش خاتمه... 28

اقامته... 28

فى ظلال الحسين وعلي

في ظلال جده... 31

في ظلال أبيه ، شئون الامام زين العابدين واحواله... 32

اكبار العلماء وتعظيمهم له... 33

سمو أخلاقه... 34

نشره للعلم... 36

حثه على طلب العلم ... 37

ص: 363

تكريمه لطلاب العلوم ... 37

احتفاف القراء به... 38

عتقه للموالي... 38

عبادته وتقواه... 38

صدقاته وبره ... 41

رائعة الفرزدق... 42

الحزن العميق ... 45

وصاياه لولده الباقر... 46

ادعيته لولده... 48

في ذمة الخلود ... 51

سمه... 52

نصه على امامة الباقر... 52

وصيته لولده الباقر... 53

الى الرفيق الأعلى... 54

تجهيزه ... 54

تشييعه... 55

في مقره الأخير... 55

اسطورة... 56

اخوته وابناؤه 59

اخوته... 61

زيد الشهيد... 61

ص: 364

ولادته... 62

نشأته... 63

عبادته وتقواه... 63

علمه وأدبه... 64

اكبار الامام الباقر لزيد... 67

مع هشام بن عبد الملك... 68

مشروعية الثورة... 71

الثورة الكبرى... 73

الخيانة والغدر... 77

في ذمة الخلود... 77

التنكيل بانصار زيد... 80

سخط المسلمين... 81

حرق الجثمان العظيم... 84

مع المسعودي... 85

الحسين الأصغر... 85

علمه ، حلمه ، وقاره ، تقواه ، ورعه ، وفاته ،... 86

عبد اللّه الباهر : لقبه ، علمه ، ولايته على صدقات النبي ، وفاته... 87

عمر الأشرف :... 88

كنيته ، لقبه ، علمه ، ولايته على صدقات

النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وفاته

علي... 90

ص: 365

ابناء الامام الباقر... 90

1 - ابراهيم... 91

2 - الامام جعفر... 91

3 - عبد الل... ه 92

4 - علي... 93

5 - عبد اللّه ... 93

السيدات من بناته ... 94

السيدة زينب ، السيدة أم سلمة... 94

اكبار وتعظيم

عرض لكلمات العلماء والمؤلفين التي تقيم... 97

الامام وتشيد بملكاته ومواهبه

مظاهر شخصيته

امامته... 115

العصمة ... 116

تعريف العصمة ... 116

الاستدلال عليها... 117

شكوك وأوهام... 118

حلمه... 120

صبره... 121

تكريمه للفقراء ... 123

عتقه للعبيد... 124

ص: 366

صلته لاصحابه ، صدقاته على فقراء المدينة ... 124

كرمه وسخاؤه... 125

عبادته... 127

( أ ) خشوعه في صلاته ( ب ) كثرة صلاته

( ج ) دعاؤه في سجوده ( د ) دعاؤه في قنوته

حجه... 132

مناجاته مع اللّه ، ذكره لله... 133

زهده في الدنيا... 133

مواهبه وعبقرياته

الحياة العلمية في عصره... 137

الدور المشرق للإمام... 138

العلوم التي بحثها... 139

الحديث ... 140

روايات الأئمة ... 141

احاديث الامام الباقر... 142

رواياته عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ... 142

رواياته عن الامام أمير المؤمنين... 167

روايته عن جده الحسين... 171

روايته عن أبيه... 171

روايته عن جابر الانصاري... 172

روايته عن عمر... 172

ص: 367

روايته عن ابن عباس... 173

روايته عن زيد بن أرقم ... 173

روايته عن أبي ذر... 174

تفسير القرآن الكريم ، فضل قراءة القرآن... 174

الترجيع بقراءة القرآن... 175

تنزيه القرآن من الباطل... 176

ذم المحرفين للقرآن... 176

الاستعمالات المجازية في القرآن... 177

البسملة جزء من سور القرآن... 177

نزول القرآن على سبعة أحرف... 178

الحروف السبعة... 178

انكار الامام للأحرف السبعة... 180

طرق التفسير... 180

التفسير بالمأثور ، التفسير بالرأي

تفسير الامام الباقر... 182

نماذج من تفسيره... 183

علم الكلام... 189

التوحيد ... 190

1 - عجز العقول عن إدراك حقيقة اللّه... 190

2 - ازلية واجب الوجود... 192

3 - النهي عن الكلام في ذات اللّه... 194

ص: 368

4 - علم اللّه ... 194

5 - واقع التوحيد... 195

6 - صفات الل... ه 195

7 - الشك والجحود... 196

الامامة ، الحاجة الى الامام... 196

وجوب معرفة الامام... 197

وجوب طاعة الامام ، حق الامام على الناس ... 199

عظمة الامامة ... 200

الولاية لأئمة أهل البيت... 200

الاشادة بالأئمة... 201

عدد الأئمة... 203

محن الأئمة... 205

حثه على نشر مآثر الأئمة... 205

علم الأئمة... 206

الملاحم التي أخبر عنها... 209

علم الفقه... 215

مميزاته... 217

(1) اتّصاله بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (2) مرونته (3) فتح باب الاجتهاد

(4) الرجوع إلى حكم العقل...

مسائل فقهية ... 221

حكم القتال في الاسلام ، المسح على الخفين ، مس الفرج

ص: 369

لا ينقض الوضوء ، الجهر في صلاة الاخفات ، الصلاة على

آل النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في التشهد...

علم الاصول... 226

الاستصحاب... 227

قاعدة التجاوز... 227

قاعدة الفراغ... 228

قاعدة نفى الضرر... 228

علاج التعارض... 230

(1) الشهرة (2) موافقة الكتاب والسنة (3) الترجيح

بالصفات...

بحوث اقتصادية... 231

1 - ضرورة تحسين المعيشة ... 232

2 - التحذير من الكسل... 232

3 - مقته لتارك العمل... 233

4 - العمل طاعة لله... 233

مع العلم والعلماء... 234

(1) فضل العلم (2) فضل العالم (3) مجالسة العلماء والمتقين

(4) مذاكرة العلم (5) آداب المتعلم (6) بذل العلم (7) الحث

على التعلم (8) التفقه في الدين (9) العمل بالعلم (10) قبول

العمل بالمعرفة (11) ذم المباهاة بطلب العلم (12) الفتوى

بغير علم (13) صفات العالم...

ص: 370

في رحاب الايمان... 242

(1) حقيقة الايمان (2) مراتب الايمان (3) صفات المتقين

مع الشيعة ... 245

1 - وصيته لشيعته... 246

2 - الشيعة الأوائل... 249

3 - صفات الشيعة... 250

4 - نصائحه للشيعة ... 251

5 - حب أهل البيت... 253

6 - تسمية الشيعة بالرافضة... 256

7 - دعاؤه لشيعته... 256

سنن الأنبياء وحكمهم ... 257

(1) من وحي اللّه لآدم (2) حكمة لسليمان (3) حكمة

في التوراة (4) تسمية نوح بالعبد الشكور (5) دعاء نوح

على قومه (6) اسماعيل أول من تكلم بالعربية (7) مناجاة

اللّه مع موسى (8) نفي الأمية عن النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (9) محاورة

بين نوح وابليس (10) موت سليمان (11) التقاء يعقوب

بيوسف (12) مدة حياة يعقوب بمصر...

مع السيرة النبوية... 262

(1) استعارة النبي السلاح من صفوان

(2) مسيرة خالد الى بني جذيمة

سيرة الامام علي (عليه السلام)... 264

ص: 371

اخبار الامام بقتل الحسين... 265

صفة الامام أمير المؤمنين ... 266

احداث صفين... 266

فك الحصار عن الماء ، معاوية مع ابن العاص ، خطبة

للامام بصفين ، يوم الهرير ، وثيقة التحكيم

مأساة الامام الحسين ... 273

رواية عمار الدهنى... 274

المؤاخذات ... 280

وصاياه ، القيمة... 281

وصاياه لولده الصادق... 282

وصيته لبعض ابنائه... 283

وصيته لعمرو بن عبد العزيز... 283

وصيته لجابر الجعفي... 284

وصيته لرجل ... 287

وصيته لبعض اصحابه... 288

مواعظه... 289

فضل العقل... 293

الفطنة... 294

اجالة الفكر... 294

مكارم الاخلاق... 295

(1) الاحسان (2) فعل المعروف (3) مقابلة المعروف

ص: 372

بالإحسان...

آداب السلوك... 297

(1) طلاقة الوجه (2) معاملة الناس بالحسنى

حقوق المسلم... 297

قضاء حاجة المسلم... 298

صلة الارحام... 298

الصدقة ، العطف على اليتيم... 299

محاسن الصفات... 299

الصمت... 300

مساوئ الصفات والأعمال... 300

الغيبة والبهتان... 303

الغضب وعلاجه... 303

العجب... 304

ادعيته ... 304

الحث على الدعاء ... 306

روائع الحكم ... 307

نظمه للشعر... 316

مع كثير عزة والكميت

كثير عزة ... 319

ولاؤه لأهل البيت (عليهم السلام) مع الامام الباقر (عليه السلام) مدحه

لبني مروان ، وفاته ، رواية موضوعة

ص: 373

الكميت الأسدي ، ولادته ونشأته... 323

مواهبه ، شعره ... 324

الكميت مع الفرزدق... 325

مميزات شعره... 327

صلابته في عقيدته ... 330

مع الامام الباقر (عليه السلام) تعطشه لرؤيا الامام ... 330

رثاؤه للحسين ... 331

الميمية من هاشمياته... 333

اللامية من هاشمياته... 345

العينية من هاشمياته... 347

نضاله المرير ... 350

1 - مدحه لأهل البيت... 351

2 - هجاء الأمويين... 351

3 - اثارة العصبية بين اليمنية والنزارية... 352

اعتقاله... 354

هربه من السجن ... 355

العفو عنه... 355

عتاب واعتذار... 359

الى جنة المأوى ... 360

محتويات الكتاب... 362

ص: 374

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.