خطط الشام المجلد 4

اشارة

نام کتاب: خطط الشام
نویسنده: کرد علی، محمد
تاریخ وفات مؤلف: 1372 ه. ق
موضوع: جغرافیای شهرها
زبان: عربی
تعداد جلد: 6
ناشر: مکتبه النوری
مکان چاپ: بیروت
سال چاپ: 1403 ه. ق
نوبت چاپ: سوم
khtt alsham
تألیف: محمد سردعلی تاریخ النشر: 01/01/2012 الناشر: مؤسسة النوری للطباعة والنشر والتوزیع
النوع: ورقی غلاف فنی، حجم: 24×17، عدد الصفحات: 634 صفحة الطبعة: 3 مجلدات: 2
مدة التأمین: یتوفر عادة فی غضون أسبوعین
اللغة: عربی

التاریخ المدنی العلم و الأدب‌

ما یراد بالعلم و الأدب:

نرید بالعلم علم الدین و الدنیا، فالعالم بالحدیث عالم، و العالم بالطب عالم، و العالم بالکلام عالم، و العالم بالهندسة عالم. و الکیمیاء علم، و البیطرة علم، و التاریخ علم و الجدل علم، و شرف هذه العلوم بشرف مقاصدها، و أشرفها فی نظر الإلهیین ما هذب النفس و أعدها للحیاة الخالدة. و علوم الدنیا هی الوسیلة إلی تلک السعادة کما قال حجة الإسلام الغزالی: إن الفقیه معلم السلطان و مرشده إلی طریق سیاسة الخلق و ضبطهم، لینتظم باستقامتهم أمورهم فی الدنیا، و لعمری إنه متعلق أیضا بالدین و لکن لا بنفسه بل بواسطة الدنیا. فإن الدنیا مزرعة الآخرة و لا یتم الدین إلا بالدنیا.
کان البشر قبل ظهور الأدیان المشهورة یستخدمون علوم الدنیا للدنیا، و کانت بسائط علی حالة ابتدائیة بالطبع، و یعکفون من جهة أخری علی تماثیلهم و أربابهم و معابدهم یجوّدون صنعها، و یمجدونها و یتغنون بمدحها، فلما جاءت الأدیان المعروفة تغیر الشکل بصورة أخری، و بقیت العنایة بالعلوم تختلف باختلاف الأصقاع و الدول. أما الأدب فالذی کانت العرب تعرفه هو ما یحسن الأخلاق و یدعو إلی المکارم. و اصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طویلة علی تسمیة العالم بالشعر أدیبا و علوم العربیة أدبا. و المراد بالإسلام کما قال
خطط الشام، ج‌4، ص: 4
النووی من حین انتشر و شاع فی الناس و ذلک قبل الهجرة النبویة بنحو ست سنین.
للأهویة و الأهواء تأثیر فی العلم، و العلوم ربیبة الأرض المعتدلة أو الباردة أکثر من الحارة و الوبیئة، لأن أهل هذه قصیرة آمالهم فی الحیاة، محدودة مطالبهم، فاترة هممهم، مثلوم حدهم، متداعیة صحتهم. و من صرف وکده أیضا إلی الأهواء المذهبیة ضعف سلطان العلم فیه، لتوزع قواه، و انصراف رغبته عن الفانیة إلی الباقیة، و اشتغال ذهنه بأمور لا یتسع لغیرها فی الأغلب.
و کلما توغلت أمة فی مضمار المدنیة نظرت إلی علوم الدین و علوم الدنیا نظرة واحدة، و شرّفت ما تشتد حاجتها إلیه منها، و أقبلت بکلیتها علی المشتغلین بها. فقد رأینا جامعات اوربا فی القرون الوسطی تنشأ لغرض الدین علی الأکثر، فلما عظمت مطالب البشر، و أخذت المدنیة تسیر سیرها، أصبحت العلوم الدینیة فی جامعاتهم تقرأ کما یقرأ التاریخ و الأدب و الطبیعة، لا فضل لدینی لاهوتی علی طبیعی ریاضی، إلا بالأثر الناتج عن درسه و بحثه، هذا إن لم یرجحوا فی عرفهم العالم الثانی. و بینا نجد تماثیل العلماء بالمئات فی شوارع الغربیین و ساحاتهم و متاحفهم و دور العلم و الصناعات عندهم، لا نشهد من علماء الدین إلا نفرا قلیلا أقیمت لهم التماثیل داخل البیع و الکنائس فقط.
کان الاقتصار علی العلم الدینی فی الصدر الأول للإسلام، ثم تسربت العلوم الدنیویة بسرعة، و رأی علماء الأمة أنها نافعة لقوام الدین و الدنیا، و بذلک أقنعوا العامة و من فوق درجتهم، فأقبل الناس علیها، و کانت العنایة أولا بعلوم القرآن و السنة، ثم أقبل الناس علی الفقه لأن حالة الزمن اقتضت الإقبال علیه لتعدد الخصومات بین الناس و اتساع المملکة الإسلامیة و ما حدث فیها من المشاکل و العضل، ثم أقبلوا علی علم الکلام، لما رأوا الحاجة الماسة إلیه خصوصا و قد دخلت فلسفة القدماء و صادفت لها أنصارا و عشاقا، ثم مالوا إلی المناظرة فی الفقه و بیان الأولی من مذاهب الشافعی و أبی حنیفة، ثم کثرت العلوم بین العرب فی المدن و ضعفت و ضعف سندها فی القرن العاشر للهجرة، إلی أن أخذت تتطور تطورا جدیدا أواخر القرن الثالث عشر و أوائل هذا القرن علی ما سیجی‌ء.
خطط الشام، ج‌4، ص: 5
و أهم العوامل فی اضمحلال العلم فی دیار الإسلام زهد الملوک و الأمراء فیها و اشتغال الناس بالفتن و الغوائل. و مذ أخذ العلماء یتعلمون علوم الدین للجاه و المال، ضعفت علوم الدین و الدنیا معا. و أصبح السلطان للممخرقین و المعطلین و المتهوسین بمسائل الکشف و الولایة من علماء الرسم، و لیس الغرض من العلوم کما قال ابن ساعد الاکتساب بل الاطلاع علی الحقائق، و تهذیب الأخلاق، علی أن من تعلم علما للاحتراف لم یأت عالما و إنما یجی‌ء شبیها بالعلماء. و لقد کوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر، و نطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد، فأقاموا للعلم مأتما، و قالوا کان یشتغل به أرباب الهمم العلیة و الأنفس الزکیة الذین یقصدون العلم لشرفه و الکمال به، فیأتون علماء ینتفع بهم و بعلمهم، و إذا صار علیه أجرة تدانی إلیه الأخساء و أرباب الکسل، فیکون ذلک سببا لارتفاعه، و من هنا هجرت علوم الحکمة و إن کانت شریفة لذاتها.
إن الذین یولعون بالعلم للعلم فی هذا العالم قلائل جدا، و لکنهم یکونون علی الأکثر ممن نسمیهم أو أکثرهم بأهل النبوغ و العبقریة، یتفانون فی مقصدهم و یأتون بالجدید یبدعون و یبرّزون علی من اتخذوا العلم آلة للمظاهر و عنوانا للتصدر، و هم هم الذین یذهبون بفضل الشهرة فی الأرض، و تبقی أعمالهم شاهدة لهم بعد موتهم أحقابا و دهورا، و من هذا الفریق أنجبت الشام قدیما و حدیثا جماعة افتخرت بهم، و عدّوا بأعمالهم بالقیاس إلی حال هذا القطر و إلی مجموع علماء الأمة کتلة صالحة أثرت تأثیرا محمودا فی العلم و المدنیة، و قد عرفنا تراجم أکثر رجال العهد العربی لقربه منا، و لا طراد التدوین فی العرب فی أغلب العصور علی طریقة حسنة فی الجملة، فوقفنا بها علی منازعهم و أعمالهم. و غابت عنا تراجم کثیر من المهندسین و النقاشین و المصورین و الموسیقیین لأن القوم علی ما یظهر یحسبون هذا الصنف النافع من الناس من أهل الصناعات فقط لا من أهل العلم. کأن العلم کله علی اختلاف ضروبه لیس صناعة من الصناعات. و قد اصطلح المتأخرون علی أن المراد بالعلم إذا أطلق یقصد منه العلم الدینی. و من الغریب أن بعض المتأخرین ممن دوّنوا تراجم أهل عصورهم حرصوا علی تراجم المجاذیب و الممخرقین و لم یذکروا مثلا تراجم أهل تلک
خطط الشام، ج‌4، ص: 6
الأیام من المقدرّین و البنائین و غیرهم ممن خلدوا بأعمالهم مدنیة أعصارهم.
لم یتسلسل العلم قرونا طویلة فی الشام تبعا لتغیر الدول و انصراف الهمم «و العلم مذ کان محتاج إلی العلم» ذلک لأن الشام کان فی جمیع أدواره ممرا للفاتحین یطمع فیه جیرانه، بل البعیدون عنه لتوسطه بین برّ آسیا و إفریقیة و أوربا. و القدر الذی عرفناه من رسوخ العلم فی دیارنا کاف و لا شک فی إنشاء مدنیة صالحة خصوصا إذا دعمها ما کان ینهال علیها من علوم أهل العراق و الجزیرة و مصر و الأندلس و فارس و غیرها. و کأن الشرق منی بالتساهل و الإهمال، و عدم التسلسل فی الفکر و الاطراد فی العمل، فکان مظهر الحیاة الفردیة فی الأعم الأغلب من حالاته، و علی العکس فی الغرب فإنه کان و لا یزال مثال الحیاة الاجتماعیة و التعصب للفکر و الاستماتة فیه، و التسلسل فی الأفکار.
و لقد رأینا الغرب فی قرونه الوسطی قبیل عهد النهضة یشتد فی إرهاق الأفکار الحرة، و دیوان التفتیش الدینی یحرق الأنفس البشریة بالعشرات للقضاء علی الفلسفة و التجدد، بید أن الغرب کان إذا هلک فیه رجل بطریق الإلحاد و الخروج عن مألوف القوم، یقوم غیره من أخلافه فی الحال یتناول ما بدأ به سلفه، ناسیا أن الهلاک یحل به إذا اشتهر أمره. و رأینا فی هذا الشرق القریب أناسا ینزعون إلی التجدید و الإبداع کان نصیبهم من الحیاة ضرب أعناقهم، أو إدخال الرعب علی قلوبهم حتی قضوا أعمارهم فی خمول و تقیة، و کان نصیب الأمة العربیة أن یقل فیها جدا ظهور من یخلفهم فی دعوتهم، و قد یأتی العصر و العصران و لا یظهر فیهما نابغة یذکر و عالم مبدع، و جاء زمن و هو لیس ببعید، و قد أصبح الناس ینکرون البدیهیات فی العلم، و یحرمون ما حلل اللّه من ضروبه النافعة، فغارت ینابیعه من أرضنا و فاضت فی الغرب و زادت مع الأیام فیضانا، و قویت تقیة العلماء و دخل فی غمارهم الجاهلون فسقطت هیبة العلم. و کان من نتائج عمل الغربیین تلک الحضارة الحدیثة المدهشة و من تفاشلنا و تجاهلنا هذا الانحطاط المحسوس و إضاعة مدنیة الأجداد.
العلم ابن الحریة، و الأدب ربیب التسامح، و قد شاهدنا أجدادنا فی هذه الدیار المثال الصالح فی هذا الباب علی اختلاف العصور و المذاهب، و کان
خطط الشام، ج‌4، ص: 7
العرب فی أدوارهم المختلفة یمثلون أجمل صورة من هذا القبیل. فإن کانت أنطاکیة و بیروت قبل الإسلام عاصمتی الحکمة و الأدب و الشرائع، فقد امتازت بعدهما حلب و المعرة و طرابلس و دمشق و حمص بهذه الخصائص.
و العلم بضاعة ثمینة لا تروج الرواج المطلوب إلا فی ظل السلام و صلاح السلطان.
هذا شأن العلم، أما الأدب و هو منظوم الکلام و منثوره و الخطب و الرسائل فیتصرف أیضا علی هذا المثال، و به أدرکنا بعض الحالة الاجتماعیة و الروحیة التی کانت علیها تلک الأعصر، و رأینا فیه تبدلا محسوسا فی القرون التالیة، فکانت الآداب فی الشام فی القرن الأول غیرها فی القرن الثانی و الثالث، و قد استحکمت أسباب الحضارة و عم الترف، و نقلت علوم الأوائل و راجت سوق الشعر فی الرابع و الخامس فی الشمال، و ما لبثت فی أواخر هذا القرن أن عراها الکساد قلیلا، ثم هبت إلی الحیاة بعض الشی‌ء فی السادس و السابع تبعا للحالة السیاسیة التی کان علیها القطر زمن الحروب الصلیبیة، و لم ینشأ فی الشام خلال القرنین الثامن و التاسع شاعر یجوز عدّه فی مصاف المفلقین علی مثال شعراء القرن الثالث و الرابع، أما فی القرون الأربعة التالیة فضعفت حالة الشعر أکثر من ذلک بما لا یقدر، و أصبح نظما لا شعرا فقد من أکثر ما نقل من الشعر الروح و بقی جسما له من الشعر قوافیه و أوزانه، یطرس فیه المتأخر علی مثال المتقدم و تتأثر أنفاس الابن بأنفاس أبیه و جده.
إن حکمنا علی المنظوم یسوغ أن نورده فی المنثور، کان الإنشاء فی القرنین الأولین للإسلام یسیر مع الطبع غالبا و نبغ فی الشام أفراد کعبد الحمید بن یحیی الذی وضع أساس الکتابة المرسلة، و رأینا عمر بن عبد العزیز یکتب الکتاب فی الإدارة أو السیاسة أو القضاء أو فی أمر مهم من أمور الدولة فی سطرین أو ثلاثة لیس فیه شی‌ء من الکلفة بتة بل هو آیة الفصاحة و البلاغة، و هکذا معظم آل بیته من بنی أمیة و بنی مروان، و من نشأ فی دولتهم أمثال الحجاج بن یوسف الثقفی و زیاد بن أبیه و عتبة بن أبی سفیان و شهدنا التکلف بادیا فی کتابة القرون التالیة التی انتقلت فیها صناعة الکتابة إلی بغداد أو القاهرة و ضعف أمرها فی الشام. و کان الشام یتبع العراق تارة و مصر تارة أخری، حتی إذا کان القرن السادس، و نبغ فی الدولة الصلاحیة القاضی الفاضل
خطط الشام، ج‌4، ص: 8
بطریقته المستملحة فی الکتابة المسجعة علی الأغلب، و حذا حذوه العماد الکاتب ثم ضیاء الدین ابن الأثیر صاحب المثل السائر و غیرهما من کتاب الدولة أخذت تضیق حلقة الکتابة و هی احتذاء مثال المجودین من القدماء لحصرها فی قیود الجناس و البدیع و الأسجاع فجمدت القرائح و قل المبرزون فیها المجیدون لصناعتها، فما بالک بالإنشاء الذی هو ابتکار المعانی و الإبداع فی القوالب.
و إذا استطعنا أن نعد عشرة کتاب فی القرن الواحد لا نقوی علی عدّ منشئ واحد فیه. و حکمنا هذا مبنیّ علی ما قرأناه فیما خلفه السلف فی هذه الدیار من الکتب و الآثار المبعثرة فی بطون الدفاتر، و ربما کان فی المفقود الذی لم یصلنا من هذا النوع ما یؤهلنا لو ظفرنا به، أن نصدر حکما أصح من هذا علی فنون الإنشاء و الکتابة و الشعر و النظم، و الإنشاء من الکتابة کالشعر من النظم.
و لو لم ینبغ فی الکتابة من المؤلفین أمثال القفطی و یاقوت و ابن أبی أصیبعة و ابن العدیم ثم الصفدی و ابن فضل اللّه و المقریزی و الشهاب الحلبی و أمثالهم فی القرنین السابع و الثامن لقلنا إن الانحطاط فی الکتابة بدأ فی الشام منذ القرن السادس، بید أنها أصبحت فی الحقیقة سجعا کسجع الکهان بظهور ابن عربشاه الدمشقی و ابن حجة الحموی و أمثالهما فی القرن التاسع، أما فی القرن العاشر و ما بعده فإن الکتابة کالشعر کانت إلی التکلف و السجع غالبا، و من أفلت من المؤلفین من قیود التکلف، و نجا من الترصیع و التسجیع، جاء کلامه مقبولا فی الجملة و قلیل ما هم.
بقیت الکتابة و الشعر ترسفان فی قیودهما القدیمة إلی أوائل القرن الرابع عشر أیام نشأ للأمة فی مصر بضعة شعراء و منشئین أدخلوا الآداب فی طور جدید و نزعوا عنها ثیابها البالیة، و ألبسوها حلة قشیبة، فقام من المنشئین أمثال محمد عبده و إبرإهیم المویلحی ثم المنفلوطی و طه حسین و العقاد و أضرابهم.
و من الشعراء محمود سامی و إسماعیل صبری ثم حافظ إبراهیم و أحمد شوقی و تلک الحلبة، و انتشرت کتاباتهم و قصائدهم فی العالم العربی و منها اقتبس شعراء الشام و کتابه و بطریقتهم اقتدوا و غیروا أسلوبهم من حیث یشعرون أو لا یشعرون. و ما أسلوبهم إلا الجمع بین متانة القدماء ورقة المحدثین،
خطط الشام، ج‌4، ص: 9
و أصبح لهذا العصر طراز خاص عرف به لم یکن له منذ عرف تاریخ الأدب العربی أی منذ زهاء خمسة عشر قرنا. و کان للصحف و المجلات و لانتشار الآداب الانکلیزیة و الفرنسیة و الترکیة و غیرها تأثیر کبیر فی هذا الانقلاب الأدبی فی دیارنا، و المبرزون فیه ما زالوا قلائل جدا، و یرجی أن لا یمضی عقدان أو ثلاثة من السنین حتی تکون الشام أخت مصر فی هذا الشأن مع مراعاة النسبة بین حالة القطرین السیاسیة، و النظر إلی وفرة السکان و الغنی، و توفر أسباب التعلیم العربی فی القطر المصری.

العلم و الأدب عند أقدم شعوب الشام:

صمت تاریخ العلم فی هذه الدیار عن ذکر الرجال الذین اشتهروا مثلا علی عهد الحثیین و من کان قبلهم من القبائل التی نزلت الشام، و خلفت فیها آثارا فی العمران لا تقوم بغیر العلم، و لم ینقل إلا أسماء قلیلة اشتغل أربابها بالعلم الدینی و الدنیوی علی عهد بعض الدول الخالفة، و لا سیما الکلدان و العبران و الرومان و الیونان، و لو لا بعض عادیات أثرت عن الأمم التی تأصل حکمها فی بعض أرجاء القطر، و أخبار نقلتها التواریخ الصحیحة لقلنا إن أکثرهم کانوا أمما بدویة علی الفطرة. و أهم ما أثر عن الفینیقیین مما ساعد العلم بالنسبة لعصورهم اختراعهم حروف الکتابة، بل تحسین أصولها و جعلها مطابقة للأصوات، و نقلهم لها إلی الأمم التی أبحروا و اتجروا معها، و عنهم أخذتها أمم الحضارة الحدیثة النازلة علی شواطی‌ء البحر المتوسط و ما إلیها. و هذا الاختراع أهم ما عرف فی القدیم کما کانت الطباعة فی القرون الحدیثة أهم اختراعاتها فی نظر العلم. قال بورتر: لا یستحق الذکر من علوم الفینیقیین سوی علم الکتابة بحروف هجائیة، و لیس هم أول من استعملوا الکتابة لأنا علمنا من الآثار أنها کانت عند المصریین و الکلدانیین قبل عهدهم، غیر أن کتابتهم لم تکن بحروف وفق الأصوات البشریة الأصلیة کالحروف الهجائیة التی استنبطها الفینیقیون و اعتبروا بها کل الاعتبار لأنهم أتقنوا الکتابة و نشروها بین أکثر الأمم المتمدنة لاتساع تجارتهم، فإن الحروف الهجائیة فی لغات أوربا و غربی آسیا و شمالی إفریقیة مشتقة من حروفهم.
خطط الشام، ج‌4، ص: 10
و أخبار العلم قبل الإسلام فی الشام ضئیلة و منها یستدل بعض الاستدلال علی مکانة العقل فیه و سلامة أذواق بنیه. و کان النور یسطع بین أهل هذا القطر علی حالة متقطعة لا مطردة، و یخرج العلماء و الفلاسفة فرادی، انتقلت إلینا أسماء بعضهم ممن کانوا یعملون برأسهم أو یعملون مجتمعین مع أقرانهم فی ظل الحکومات مثل یوسیفوس المؤرخ الیهودی فی سنة 100 م و له عدة تواریخ و قد صار والیا علی الجلیل، و کتب بالسریانیة ثم ترجمت کتاباته بالیونانیة، و منهم یوستوس الطبرانی الیهودی المؤرخ و فیلون الیهودی الجبلی و فیلودومر الابیکوری من جدر و تیودور الخطیب من عسقلان و أقلیدس المهندس النجار الفیلسوف الریاضی الذی نبغ فی صور، کما نبغ فیها فرفوریوس الفیلسوف، و کان بعد زمن جالینوس، و نبغ فی العلم بولودر المهندس الدمشقی الذی أقام عمود تراجان فی رومیة و بنی جسرا علی نهر الطونة (الدانوب) و جاء فی رفنیة ارسطیفس الرفنی و فلسفته هی الفلسفة الأولی قبل أن تتحقق الفلسفة، و ثاوذوسیوس الفلکی کان فی القرن الأول قبل المسیح فی مدینة طرابلس، و ممن نشأ فی اللاذقیة نیقولاوس صاحب جوامع الفلسفة و توفلس صاحب الحجج فی قدم العالم.
و اشتهر فی هذه القرون الأولی هرمپوس البیروتی تلمیذ فیلون المؤرخ الفینیقی فی فنون الأدب، و طوروس البیروتی فی الحکمة، و لوپرکوس البیروتی فی اللغویات و الفلسفیات، و مناسیاس البیروتی فی الخطابة، و اشتهر فی الآداب مرقس کالریوس پروبس البیروتی، و فی الجغرافیا مارینوس الصوری، و کان معاصرا لبطلیموس القلوذی فی القرن الثانی للمسیح. و کانت أنطاکیة علی عهد خلفاء الإسکندر اوسلوقس نیقاتور و من جاء بعده مباءة أدب و حکمة، و نبغ فیها من الشعراء و رجال الدین و الأدب و الخطابة علی عهد انتشار النصرانیة رجال عظام مثل القدیس یوحنا فم الذهب الیونانی، و القدیس لوقا، و الشاعر ارستیاس. و کما کانت أنطاکیة دار حکمة و علم، کانت بیروت تدعی مرضعة الحکمة علی عهد الرومان، و کانت فیها مدرسة الفقه التی أسسها علی الغالب بعض أباطرة الرومان من الشامیین- و قد نشأ من حمص و بصری أباطرة لبسوا تاج المملکة الرومانیة و حکموها- و کانت اللغة اللاتینیة لسان
خطط الشام، ج‌4، ص: 11
العلم فی تلک المدرسة، و یدرس فیها الفقه و الآداب و اللغة یقصدها الطلاب من جمیع أنحاء المملکة حتی من روم القسطنطینیة و من أبناء العرب، و قد تخرج بأساتذتها أناس تأفقت شهرتهم فی الأدب و الشریعة، و کان قضاة الرومان من خریجیها مدة أربعة قرون، و کان اثنان من تلامذتها من جملة أعضاء المجمع الذی ألفه الامبراطور یوستنیانوس لتدوین الفقه و قیل ثلاثة و هم اودکسیوس و اناطولیوس و دوروتاوس، و من أساتذتها امیل بابنیان من بیروت و کان من أشهر فقهاء الرومان، عد من جملة الفقهاء الخمسة الذین تنزل أقوالهم منزلة شریعة، و إذا تعارضت أقوالهم فالعمل بقوله، و منهم اولبیان و هو من المشهورین من فقهاء الرومانیین ذهب بعضهم إلی أن مولده فی بیروت و غیرهم إلی أنه فی صور، و منهم یولیوس بولس الحمصی و هو مشهور فی الفقهاء الرومان، و منهم مکسیموس الصوری و هو فیلسوف أفلاطونی، و منهم لوسیان السمیساطی کان نقاشا فقیها فیلسوفا بلیغا، و منهم اسباسیوس الجبیلی الخطیب المؤرخ، و لنجینوس صاحب زینب ملکة تدمر الذی جلبته کما جلبت بولس دی ساموزات أسقف أنطاکیة لینشر العلم فی أرجاء مملکتها.
و ممن کان فی تدمر و فی أرجاء الشام علی ذاک العهد کیّکلراتیس الصوری و عالم المؤرخین پوسانیاس الدمشقی و نیکوماخوس المؤرخ. و ممن أفضلت علیه زینب صاحبة تدمر و کانت تعرف التدمریة و المصریة و الیونانیة و اللاتینیة و العربیة علی الأرجح و أسماء أولادها عربیة- کاسیوس و یونیسیوس و أوریجانس فیلسوف قیساریة. و من علماء بیروت الأقدمین هرمبوس له تآلیف عدیدة و سیلیر الفیلسوف و مناسیا ألف کتابا فی البیان و الفیلسوف الأفلاطونی طورس و الطبیب اسطرابون و ساویرس بطریرک الیعاقبة و هذا کان فی القرن الخامس للمیلاد. و کثر فی القرن الثالث للمیلاد الکتاب و أرباب القرائح و أهل العلم و الحصافة و الحکمة، و ممن نشأ من الأدباء و الفلاسفة لوسین و جامبلتوس و بلوتین.
قال سنیوبوس: حفظت فی مدارس الروم فی دمشق و الإسکندریة علوم الروم من فلک و جغرافیا و ریاضیات و طب فجمع علماء الامبراطوریة البیزنطیة رومهم و عربهم و فرسهم هذه العلوم و أکملوها و نشروها.
خطط الشام، ج‌4، ص: 12

مواطن العلم فی القطر قدیما:

کان العلم یدرس فی تلک الأحقاب فی أربع مدارس و هی القسطنطینیة و الإسکندریة و رومیة و بیروت، و قد أنشأ الرومان مدرسة فی قیساریة، و أخری فی آثینة، و کان لصیدا علی ذلک العهد مدرسة حکمة ذات شأن، و لکن دون مکانة مدرسة جارتها بیروت. و قد ألغی یوستنیانوس مدارس قیساریة و آثینة و الإسکندریة، و أبقی مدارس رومیة و القسطنطینیة و بیروت و لقب بیروت بأم العلوم و ظئر الشرائع. و أعفی دیوقلیسیانوس قیصر الفقراء المتخرجین فی مدرسة بیروت من الرسوم تنشیطا لهم. و قد خربت مدرسة بیروت قبل الإسلام بالزلازل التی تواترت علی الثغر فی القرن السادس للمیلاد ثم حریق سنة 560 م الذی التهم بیروت و مساکنها و معاهدها.
و کان فی غزة مدرسة قدیمة تفاخر بمشاهیر علماء البیان فیها و کان فصحاؤها علی العهد الیونانی المرجع الأول فی الفصاحة و البلاغة، و کان فی قیساریة فی القرن الثالث للمسیح مدرسة علمیة یعلم فیها أوریجین أحد رجال الکنیسة و تخرج منها الأسقف أوزیب أبو التاریخ الکنسی و قیل: إنه کان فی أریحا مدرسة أسسها ایلیا.
قال استرابون الجغرافی الیونانی من أهل القرن الأول قبل المیلاد: لم یبق فی صور و صیدا فینیقیون یضربون فی الآفاق للتجارة، بل کان فیهما کثیر من أصحاب علم الهیئة و العلوم الریاضیة و الخطباء و الفلاسفة، و مدارس تقتبس فیها کل العلوم البشریة، و قد أنشأت صیدا فی أیامنا کثیرا من الفلاسفة منهم بواتیوس تلمیذنا و دیودوت أبوه، و نشأ فی صور انتیباتر و قبله أبولون، و کان فی أیامنا فیلسوف اسمه بوسیدونیوس کان شیشرون یسمع خطبه.
و کانت اللغة اللاتینیة ثم اللغة الیونانیة لغة العلم فی هذه الأحقاب، و لم یکن السریان السکان الأصلیون دون الرومانیین و الیونانیین فی تخریج الرجال، و لا سیما فی عهد النصرانیة. فقد هبت فی المئة الرابعة للمیلاد اللغة الآرامیة السریانیة بحلب و جوارها من رقدتها، فسار فی طلیعة أهلها کیرتونا الشاعر الکبیر، نشأ فی حلب أو فی صقعها و درس الآداب السریانیة فی مدرسة الرّها،
خطط الشام، ج‌4، ص: 13
و هی إحدی المدارس العالیة فی العالم السریانی، و نشأ منهم سمعان العمودی و بالای و القدیس إسحاق الأنطاکی، و من فحول شعراء السریان، اخسنایا المنبجی أحد غلاة المنوفسیة (الطبیعة الواحدة) و یوحنا بن افتون القنسرینی شید دیرا علی ساحل الفرات عرف بدیر قنسرین، و کان جامعة للآداب و المعارف الآرامیة عصرا طویلا مات سنة 538 و توما الحرقلی نشأ فی دیر ترعیل قرب حلب و تلقی العلم فی قنسرین و قد ترجم الأناجیل و غیرها من الأسفار المقدسة من الیونانیة إلی السریانیة.
و من المدارس التی أنشأها السریان فی غیر أرض الشام، و لکنها خرّجت للشامیین رجالا أیضا، و سری من علومها علی هذا القطر نسمات مبارکات، مدرسة حران، و قد أخذت الشام و لا سیما شمالیها منذ القرن الخامس تغص بالمدارس و الأدیار حیث تدرس الآداب السریانیة، و یتنافسون مع المدارس العالیة الأخری فی دیار السریان، و کانت حران بمثابة آثینة العالم الآرامی، کما انبعثت من مدرسة نصیبین فی دیار مضر فی القرن الرابع شعلة الآداب الکلدانیة الآرامیة. و فی تاریخ کلدو و أثور أن مدرسة نصیبین کانت أول مدرسة فی الشرق، أزهرت فی القرن الخامس و السادس و السابع و بلغت عزها و مجدها، و اشتهرت مدرسة نصیبین أکثر من مدرسة اورهای اشتهار مدرسة المدائن و غیرها، و کان صیتها فی فارس و الروم و إیطالیا و افریقیة، و هی أول کلیة لاهوتیة بل أول جامعة درّس فیها علم الإلهیات، و ظهر منها علماء کفاة کتبوا فی الفنون و لا سیما فی الإلهیات. و اشتهر الیعاقبة کالنساطرة فی العلم و التألیف. و النسطوریون أکثر عددا، و الیعاقبة أکثر مادة. و کان یرشح من علوم هؤلاء الأشوریین علی الشام شی‌ء کثیر للاشتراک فی اللغة و الدین إذ ذاک.
هذا بعض ما انتهی إلینا من أخبار العلم و نوابغه فی الشام من الفینیقیین و السریانیین و الرومانیین و البیزنطیین و ما زالت بعض آثارهم و أخبارهم شاهدة بفضلهم، و أنهم لیسوا دون من خلفهم فی أمور کثیرة، مما اهتدی إلیه العقل البشری، فإن حرمنا کتبهم لأن الکتابة کانت علی حالة ابتدائیة فلم نحرم کتابات لهم مزبورة علی بعض الأحجار، دونوا فیها أعمالهم
خطط الشام، ج‌4، ص: 14
الحربیة و مآثرهم العلمیة، لا جرم أن من ینشی‌ء هذه المصانع و ینزل فیها لا بد أن یکون علی جانب من الغنی، و هذا لا یزکو إلا بالعلم المختلف الضروب و فی ظل حضارة بدیعة.

ما حمل العرب من العلم إلی الشام:

تاریخ العلم فی العرب من أغرب ما سمع فی تاریخ البشر، کانوا أول ظهورهم نصف متمدنین یکثر فیهم الأمیون و یقل من یکتب فیهم حتی فی أهل الطبقة الأولی، و یعد فیهم من الممتازین من یحسن الکتابة، خرجوا فجأة من ظلمات الجهل إلی أنوار العلم، و من ضیق البداوة إلی متسع المدنیة. و لما جاء الإسلام لم یکونوا مولعین بغیر الشعر و الخطب، لا یعرفون غیر الفصاحة و البلاغة، و هما فی نظرهم جماع کل العلوم، ینقلون أنسابهم و أخبارهم فی الصدور، و علومهم فی الطب و النجوم عبارة عن تجارب شخصیة أو تقلیدیة، و لم یکن التدوین یعهد عندهم، و کانت حدثت هذه الکتابة بالخط العربی قبل الإسلام بقلیل نقلها إلی الحجاز حرب بن أمیة، و کان قدم الحیرة فعاد إلی مکة بهذه الکتابة. أخذت الکتابة من واضعها مرامر بن مرة. و أول من علم بمکة الکتابة عبد اللّه بن سعید بن العاص بن أمیة أمره الرسول صلی اللّه علیه و سلم أن یعلم الکتاب بالمدینة، و کان ممن أسر ببدر و لا مال له، فقبل منه أن یعلم عشرة من غلمان الأنصار الکتابة و یخلی سبیله، فیومئذ تعلم الکتابة زید بن ثابت.
و لما فتحت الشام و کانت أشبه بنصف عربیة بمن حکمها من الغسانیین فی الجنوب و الوسط و التنوخیین فی الشمال من عمال الروم و من کان ینزلها من القبائل و البطون العربیة فی أرجاء تدمر و الفرات و غزة و سینا، کان الشعر مما یفاخرون به، و إذا نشأ فیهم شاعر رفعوا من شأنه و اعتمدوا علی قریحته فی الشدائد. و کان جبلة بن الأیهم من ملوک الغسانیین شاعرا مجیدا یعجب بالشعر و یجیز علیه و هو ممدوح حسان بن ثابت و من أهل بیته فصحاء لا یستهان بهم.
جاء الشام فی الجاهلیة کثیر من شعراء جزیرة العرب و کأنهم کانوا ینزلون علی أهل جیلهم و قبیلهم، و منهم امرؤ القیس و قد ذکر فی شعره بعض أرجاء
خطط الشام، ج‌4، ص: 15
الشام. و کذلک حسان بن ثابت ذکر أرض الغساسنة و منازلهم. و أقام المتلمس المتوفی سنة 580 م فی حوران عند الغساسنة إلی وفاته.

جمع القرآن و نشره فی الشام:

جمع القرآن علی عهد رسول اللّه (علیه الصلاة و السلام) علی ما روی ابن سعد أبیّ بن کعب و معاذ بن جبل و أبو الدرداء و زید بن ثابت و سعد بن عبید و أبو زید ثابت. و کان مجمّع بن جاریة قد جمع القرآن إلّا سورتین أو ثلاثا. و کان ابن مسعود قد أخذ بضعا و تسعین سورة و تعلم بقیة القرآن من مجمّع. قال و کان بقی علی مجمع بن جاریة سورة أو سورتان حین قبض النبی و فی روایة أن من جمّاع القرآن عدا من ذکروا، علی بن أبی طالب و عبید بن معاویة.
و قال محمد بن کعب القرظی: جمع القرآن فی زمن النبی صلی اللّه و سلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل و عبادة بن الصامت و أبیّ بن کعب و ابو أیوب و أبو الدرداء فلما کان زمن عمر بن الخطاب کتب إلیه یزید بن أبی سفیان: إن أهل الشام قد کثروا و ربلوا و ملأوا المدائن، و احتاجوا إلی من یعلمهم القرآن و یفقههم، فأعنّی یا أمیر المؤمنین برجال یعلمونهم. فدعا عمر أولئک الخمسة فقال لهم: إن إخوانکم من أهل الشام قد استعانونی بمن یعلمهم القرآن و یفقههم فی الدین، فأعینونی رحمکم اللّه بثلاثة منکم، إن أجبتم فاستهموا، و إن انتدب ثلاثة منکم فلیخرجوا، فقالوا: ما کنا لنتساهم. هذا شیخ کبیر لأبی أیوب، و أما هذا فسقیم لأبیّ بن کعب. فخرج معاذ و عبادة و أبو الدرداء.
فقال عمر: ابدأوا بحمص فإنکم ستجدون الناس علی وجوه مختلفة منهم من یلقن، فإذا رأیتم ذلک فوجّهوا إلیه طائفة من الناس، فإذا رضیتم منهم فلیقم بها واحد، و لیخرج واحد إلی دمشق و الآخر إلی فلسطین. و قدموا حمص فکانوا بها حتی إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، و خرج أبو الدرداء إلی دمشق، و معاذ إلی فلسطین. و أما معاذ فمات عام طاعون عمواس، و أما عبادة فصار بعد إلی فلسطین فمات بها، و أما أبو الدرداء فلم یزل بدمشق حتی مات.
و هذه أول بعثة علمیة حجازیة أتت الشام لتعلم أهلها و تثقفهم. و یرجع الفضل الأول فی اقتراح إنفاذها لأحد أبناء أبی سفیان النجباء کما کان أبو سفیان
خطط الشام، ج‌4، ص: 16
و أبو حرب نقلا الخط العربی إلی الحجاز، و الشام مدینة لأمیة فی أمور کثیرة لاشتراکها فی خدمة الحضارة اشتراکا عملیا.
قال زید بن ثابت: أرسلت إلی أبی بکر فأتیته فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بکر: إن عمر أتانی فقال لی إن القتل قد استحرّ بالقراء یوم الیمامة و إنی أخشی أن یستحر القتل فی القراء فی المواطن کلها فیذهب کثیر من القرآن، فأری أن یجمع القرآن بحال فقلت لعمر: کیف أفعل شیئا لم یفعله رسول اللّه؟ فقال عمر: هو و اللّه خیر فلم یزل عمر یراجعنی فی ذلک حتی شرح اللّه له صدری و رأیت ذلک الذی رآه عمر. قال زید بن ثابت: قال أبو بکر: إنک رجل شاب عاقل لا نتهمک. قد کنت تکتب الوحی لرسول اللّه فتتبّع القرآن و اجمعه، قال زید: فو اللّه لنقل جبل من الجبال ما کان أثقل علیّ من الذی أمرنی به من جمع القرآن، أجمع من الرقاع و اللخاف و العسب و صدور الرجال حتی وجدت آخر سورة التوبة مع أبی خزیمة الأنصاری لم أجدها مع أحد غیره. فکانت الصحف عند أبی بکر حیاته حتی توفاه اللّه ثم عند عمر حتی توفاه اللّه، ثم عند حفصة ابنة عمر- رواه صاحب الفهرست.
و أمر عثمان بن عفان رضی اللّه عنه سنة ثلاثین بنسخ المصحف الذی کتب فی زمن سلفه أبی بکر و تفریقه فی الأمصار، و کان بلغ عثمان ما وقع فی أمر القرآن من أهل العراق فإنهم قالوا: قرآننا أصح من قرآن أهل الشام، لأنا قرأنا علی أبی موسی الأشعری، و أهل الشام یقولون: قرآننا أصح لأنا قرأنا علی المقداد بن الأسود، و کذلک غیرهم من الأمصار، فأجمع رأیه و رأی الصحابة علی أن یحمل الناس علی المصحف الذی کتب فی خلافة أبی بکر رضی اللّه عنه، و کان مودعا عند حفصة زوج النبی، و یحرق ما سواه من المصاحف التی بأیدی الناس، ففعل ذلک و نسخ من ذلک المصحف مصاحف و حمل کلا منها إلی مصر من الأمصار. و کان الذی تولی نسخ المصاحف العثمانیة بأمر عثمان زید بن ثابت و عبد اللّه بن الزبیر و سعید بن العاص و عبد
خطط الشام، ج‌4، ص: 17
الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومی. و قال عثمان: إن اختلفتم فی کلمة فاکتبوها بلسان قریش فإنما نزل القرآن بلسانهم.
فتح العرب الشام و لم یحملوا إلیه غیر دین یبعد عن الشرک و عبادة الأصنام، و غیر بلاغة الشعر و الخطب المغروسة فی طباعهم، و فطر سلیمة جبلت علیها نفوسهم، فاقتبسوا فی الحال مدنیة من نزلوا علیهم و تمثلوها و هضموها فی أقصر مدة، و أتوا بعدها بأمور جدیدة، علی ما قاموا بمثل ذلک فی بغداد و مصر و فارس و الأندلس و غیرها. و لقد أظهروا و هم فی أوج عزهم من التسامح مع السکان ما دهش له المخالفون و استغربه الموافقون، و لا غرو إذا فتحوا صدورهم لتعلم العلوم بعد أن ثبت أن الرسول علیه السلام أمر زید ابن ثابت أن یتعلم کتاب الیهود أی یتعلم لغة غیر لغة العرب.

العلم و الأدب فی القرن الأول:

من شعراء الأمویین جریر و الفرزدق و کانت للأخطل الشاعر صحبة بیزید ابن معاویة مدحه و هجا الأنصار، و ما فیهم بیت إلا و یقول الشعر و لم یمسه أحد بسوء، و کان خلفاء الشام یقربونه علی حین کان أهل نحلته یتبرمون بسلاطة لسانه، حتی إن الأسقف حبسه مرة فی الکنیسة بدمشق لشتمه أعراض الناس، و استرساله فی هجوهم، هذا و الملوک تهابه، و الخلفاء تکرمه، و ذکره فی الناس عظیم. و منهم مسکین الدارمی و الراعی و الراجز العجلی و الأحوص و عدّی بن الرقاع القضاعی و علقمة بن عبدة و جناح بن روح و الربیع بن مطر التمیمی و حکیم بن عباس بن الأعور الکلبی و الحسین بن عبید الکلابی و أنیف العذری و أسباط بن واصل الشیبانی صدیق الخلیفة یزید بن الولید و جواس ابن القعطل الکلبی و عثمان بن الولید القرشی. و کان معاویة و من خلفه من خلفاء بنی أمیة و بنی مروان یفضلون علیهم، و من شعرائهم نابغة بنی شیبان کان یفد علی المروانیین فیجزلون عطاءه، و کان الأمویون یرسلون لأبی العباس الأعمی أحد شعرائهم بعطائه إلی مکة، و غالوا فی الحرص علی إکرام الشعراء ما خلا عمر بن عبد العزیز فإنه کان یقصی الشعراء عن حضرته لارتکابهم المطاعن و التشبیب فی أشعارهم، و لکنه کان رضی اللّه عنه یفضل (4- 2)
خطط الشام، ج‌4، ص: 18
علی العلماء فقد کتب إلی والی حمص: «انظر إلی القوم الذین نصبوا أنفسهم للفقه و حبسوها فی المسجد عن طلب الدنیا فأعط کل رجل منهم مائة دینار یستعینون بها علی ما هم علیه من بیت مال المسلمین حین یأتیک کتابی هذا و إن خیر الخیر أعجله و السلام». و ظلت القبائل فی الإسلام إذا نشأ منها شاعر تغتبط و تفاخر، و إذا عدمته ذلت، لأنها تعده لسانها الناطق و مدون مفاخرها.
و قد أعطی النعمان بن بشیر عامل حمص أعشی همدان شاعر الیمن عشرین ألف دینار من مال الیمانیة، اقتطعها برضاهم من عطائهم دینارا دینارا، و کان من خلفاء الأمویین مثل یزید الأول و الولید الثانی من یقول الشعر الجید و کان عبد الملک من أکثر الناس علما و أبرعهم أدبا.
و قد نشأ فی القرن الأول من الفقهاء و المحدثین جملة صالحة فی الشام منهم عبد الرحمن بن غنم بن سعد الأشعری الصحابی، بعثه عمر بن الخطاب إلی الشام یفقه الناس فتفقه علیه عامة التابعین بالشام (78) و منهم فضالة بن عبید الصحابی ولی قضاء دمشق لمعاویة و أمّره غزو الروم فی البحر (53)، و أبو الدرداء الخزرجی الزاهد الحکیم المقری ولی قضاء دمشق فی خلافة عثمان مات (سنة 32) و أول من أحدث روایة القرآن بدمشق هشام بن إسماعیل و بفلسطین الولید بن عبد الرحمن. و من علماء الشام أبو ذر جندب بن جنادة الغفاری و أوس بن أوس الصحابی الشاعر سکن بیت المقدس و الرملة (سنة 32)، و من أخبارییهم عبید بن شریة الجرهمی وفد علی معاویة بن أبی سفیان و أملی أشیاء فی أخبار الملوک أخذ عنه علاقة بن کرسم الکلابی أیام یزید بن معاویة، و کان عارفا بأیام العرب و أحادیثها و هو أحد من أخذت عنه المآثر و ربما جاز أن یعدّ أول من دوّن التاریخ فی الشام.
و من علماء الشامیین أبو إدریس الخولانی فقیه الشام و قاضیه، و عمرو البکالی المحدث الفقیه، و بشیر بن الولید الأموی کان یقال له عالم بنی مروان، و إبراهیم بن کثیر بن المرتجل الرملی، و کان عبادة بن الصامت والی بیت المقدس لعمر بن الخطاب قرأ علیه أبو سلام الحبشی و اسمه محظور و یقال الباهلی الدمشقی و شهر بن حوشب الأشعری المحدث (100)، و بلال بن أبی الدرداء الأنصاری
خطط الشام، ج‌4، ص: 19
قاضی دمشق (93)، و أبو مسلم الخولانی شیخ الفیحاء و زاهدها من سادات التابعین، و روح بن زنباع یکنی بأبی زرعة، و یقال بأبی رنباع الجذامی الفلسطینی کان له اختصاص بعبد الملک بن مروان، و رجاء بن أبی سلمة الفلسطینی المحدث. و مالک بن دینار أحد الأعلام أقام فی القدس (23) و جبیر بن نفیر الحضرمی عالم أهل الشام (79) و غیلان بن مروان الدمشقی من کبار المعتزلة و کان الحسن یقول إذا رأی غیلان فی الموسم «أترون هذا هو حجة اللّه علی أهل الشام و لکن الفتی مقتول» و کان أوحد دهره فی العلم و الزهد قتله هشام بن عبد الملک و قتل معه صاحبه صالحا لأنه کان ینال من بنی أمیة. و إسماعیل بن عبد اللّه بن أبی مهاجر مولی بنی مخزوم من أهل دمشق کان یؤدب أولاد عبد الملک بن مروان.
و نشأ من الکتاب فی هذا القرن عبد اللّه بن أوس الغسانی سید أهل الشام و أسود بن قبیس الحمیری من کتاب بنی أمیة بدمشق، و فی الفلسفة ساویرا سابوخت أسقف قنسرین الیعقوبی کان علی عهد السفیانیین فی الشام ممثل الحرکة الأدبیة و قد جادل الموارنة بحضرة الخلیفة معاویة سنة (659 م) و ألف رسائل و مقالات عدیدة فی الحساب و الفلک و الاصطرلاب و الفلسفة و اللاهوت، و یعقوب الرّهاوی و غیرهم، و نشأ فی القرن السابع للمیلاد أی فی القرن الأول للهجرة کالینیکیوس البعلبکی و هو مهندس کیماوی قیل إنه مخترع النار الیونانیة المرکبة من النفط و الکبریت و القطران و غیرها، و کان أبو قرة أول کاتب نصرانی دینی کتب بالعربیة. و من مشاهیر النصاری فی القرون الأولی القدیس یوحنا الدمشقی (780 م) کان علما فی عصره و ألف کتبا کثیرة فی اللاهوت و منهم قزما المنشی و قزما البار و ندراوس الاقریطشی و البطریرک صفرونیوس.

عنایة خالد بن یزید بالنقل و أوائل التدوین:

کانت الکتب التی ترجمت لأبی هاشم خالد بن یزید بن معاویة بن أبی سفیان الأموی حکیم آل مروان و عالم قریش، أول نقل أو تعریب کان فی الإسلام فی عاصمة الشام. و خالد بن یزید هذا زهد فی الخلافة و عشق العلم، و إذا أنشأ جده معاویة ملکا فی الشام دام ألف شهر، فإنه أنشأ بعلمه مملکة
خطط الشام، ج‌4، ص: 20
باقیة بقاء الدهر، فقد «أمر باحضار جماعة من فلاسفة الیونانیین ممن کان ینزل مصر و قد تفصح بالعربیة، و أمرهم بنقل الکتب فی الصنعة من اللسان الیونانی و القبطی إلی العربی» و الصنعة صنعة الکیمیاء. فترجمت له کتب فیها کما ترجمت له کتب فی الطب و النجوم. و ممن نقل له اصطفن القدیم، نقل کتب الکیمیاء، و کان خالد بصیرا بالطب أخذه عن یحیی النحوی و أخذ الکیمیاء عن مریانس الرومی و أتقن هذین العلمین و ألف فیهما و له رسائل و کتب فی غیر هذه الأغراض، دالة علی معرفته و براعته، و له شعر کثیر و مقاطیع دالة علی حسن تصرفه و سبقه. و کان من الطبقة الثانیة من تابعی أهل الشام و قیل عنه قد علم علم العرب و العجم، و کان خطیبا شاعرا، فهو أول من أعطی التراجمة و الفلاسفة، و قرب أهل الحکمة و رؤساء أهل کل صناعة، و ترجم کتب النجوم و الطب و الکیمیاء و الحروب و الآلات و الصناعات.
و فی الفهرست: و یقال و اللّه أعلم إنه صح له عمل الصناعة و له فی ذلک عدة کتب و رسائل و له شعر کثیر رأیت منه نحو خمسمائة ورقة و رأیت من کتبه کتاب الحرارات، کتاب الصحیفة الکبیر، کتاب الصحیفة الصغیر. کتاب وصیته إلی ابنه فی الصنعة.
جاء فی التاریخ العام: لما جاءت العرب وجدت المدنیة الیونانیة راسخة فی جمیع الأقطار التی داهمتها أولا مثل الشام و مصر و العراق فاقتربت من المملکة البیزنطیة و بدا لها من وراء مدنیتها النبوغ الیونانی کما تجلی لها من الفرس المدنیات القدیمة من الهند و الصین علی نحو ما وجدت فی بلاد کنعان و مصر تذکارات من الأمم القدیمة التی لا تزال علیها مسحة الأجیال العریقة فی القدم و مصانعها و أعمالها.
و لما بلغت الدولة العربیة غایة عزها، ثم تمزقت و تقسمت أصبح دینها واحدا و لسانها واحدا و قوانینها المعمول بها واحدة، و ذلک من نهر السند إلی أعمدة هرکول و تمت الوحدة بین أولئک الشعوب المختلفة دیارهم، و أخذوا یقتبس بعضهم عن بعض من تبادل التجارة و سیاحة الأفراد و تنقل الجیوش و الأمم و انتشار المعتقدات و الأخلاق و الأفکار یتصادمون و یتمازجون و یتحدون و یتداخلون و کل شعب ینقل إلی الآخر عاداته و تاریخه و ملکاته الطبیعیة.
خطط الشام، ج‌4، ص: 21
فالمدنیة التی عمل فیها هذا العدد الکثیر من المؤازرین المختلفین لیست إذا عربیة صرفة، بل هی بحسب النموذجات التی تشبعت بروحها و المحیط الذی کبرت فیه: یونانیة و فارسیة و شامیة و مصریة و إسبانیة و هندیة، و لکن إذا وجب أن یذکر لکل واحد قسطه من العمل لا یسع المنصف إلا أن یقول بأن قسط العرب منه کان أعظم من غیرهم فلم یکونوا واسطة فقط لنقل هذه المدنیة ینقلون إلی الشعوب الجاهلة فی إفریقیا و إسبانیا و أوربا اللاتینیة معارف الشرق الأدنی و الأقصی و علومه و اختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة التی کانوا یلتقطونها من کل مکان، فمن مجموع هذه المواد المختلفة التی صبّت فتمازجت تمازجا متجانسا أبدعوا مدنیة حیة مطبوعة بطابع قرائحهم و عقولهم. و بفضلهم تیسر للحضارة الإسلامیة فی القرون الوسطی التی عاونت فیها أید أخری أن تکون ذات وحدة موصوفة، فالتقلید فیها محسوس و لکنه تقلید غیر أعمی، و سلطة الأساتذة الأقدمین لا تحول دون الأبحاث العلمیة و الاختراعات الحدیثة کما أن متشهد البدائع القدیمة و درسها لا یحول دون انتشار التفنن و لطافة الإبداع فی الاختراع. و فی الشرق نشأت هذه المدنیة و کانت دمشق إحدی مراکزها و منبعث أنوارها ا ه.
و بعد فإن خالد بن یزید أول من جمعت له الکتب و جعلها فی خزانة فی الإسلام، و فی دمشق علی الأرجح أنشئت أول دار للکتب فی العالم العربی، و دمشق أول عاصمة أنشئت فیها دار ترجمة فأولی أبو هاشم بعمله هذه الأمة و هذه العاصمة شرفا لا یبلی علی الأیام. و إن الشام لیفخر بأن قامت فیه أول دولة عربیة ممدنة، و تمت فیه کثیر من مشخصات الأمة العربیة، و من أولها التدوین و الترجمة، فالشام أول سوق نفقت فیها بضاعة العلم و الأدب فباعتها من غیرها و هذا یعدّ من مفاخرها التالدة. و خالذ بن یزید أول من عنی بعلوم الفلسفة و لم یتفرد بذلک المنصور العباسی خلافا لما قاله کاتب چلبی من أن علوم الأوائل کانت مهجورة فی عصر الأمویة. قال الأصفهانی کان خالد ابن یزید ینزل حلب و توفی سنة 85 ه.
و بذا رأینا أن التدوین حدث فی القرن الأول فی العلوم الدنیویة و یری نالینو أنه ربما کان أول کتاب ترجم من الیونانیة إلی العربیة کتاب أحکام
خطط الشام، ج‌4، ص: 22
النجوم المنسوب إلی هرمس الحکیم، و کان مطمح‌نظر المدونین ضبط مقاصد القرآن و الحدیث و معانیهما ثم دوّنوا فیما هو کالوسیلة إلیهما.
و حدث التدوین فی عصر الصحابة الکرام علی ما فی «توجیه النظر» فقد ذکر بعض الحفاظ أن زید بن ثابت ألف کتابا فی علم الفرائض و ذکر البخاری أن عبد اللّه بن عمر کان یکتب الحدیث، و ذکر مسلم فی صحیحه کتابا ألف فی عهد ابن عباس فی قضاء علی. و ذکر صاحب الفهرست أنه رأی فی مدینة الحدیثة علی الفرات خزانة للکتب فیها بخطوط الإمامین الحسن و الحسین، و أمانات و عهود بخط أمیر المؤمنین علی و بخط غیره من کتاب النبی، و من خطوط العلماء فی النحو و اللغة مثل أبی عمرو بن العلاء و أبی عمرو الشیبانی و الأصمعی و ابن الأعرابی و سیبویه و الفراء و الکسائی و من خطوط أصحاب الحدیث مثل سفیان بن عیینة و سفیان الثوری و الأوزاعی و غیرهم.
و ذکر المؤرخون أن أول کتاب نقل إلی العربیة کتاب أهرن بن أعین فی الطب و جده عمر بن عبد العزیز فی خزائن الکتب فأمر بإخراجه للناس و بثه فی أیدیهم. و عمر بن عبد العزیز هو الذی قال: کنت أصحب من الناس سراتهم، و اطلب من العلم شریفه، فلما ولیت أمر الناس احتجت إلی أن أعلم سفساف العلم، فتعلموا من العلم جیده و ردیئه و سفسافه.

علماء القرن الثانی و الأدب و النقلة و المنشئون فیه:

مضی القرن الأول و جاء الثانی فکثر القراء و المحدثون و الشعراء و النقلة و المترسلون و الکتاب بکثرة الفتوحات و فرط العنایة بالعلم و الأدب، و قد نبغ فی هذا القرن کثیر من أهل العلم منهم رجاء بن حیوة الفلسطینی الکندی الأردنی الفقیه العالم الذی کان یجالس عمر بن عبد العزیز (101) و مکحول مولی بنی هذیل فقیه الدمشقیین و أحد أوعیة العلم و الآثار (113) و عبد اللّه ابن عامر الیحصبی القاری‌ء المحدث أحد القراء السبعة من التابعین من أهل دمشق (118) و سلیمان بن موسی الأشدق الفقیه و کان أعلم أهل الشام بعد مکحول (119) و ربیعة بن یزید شیخ دمشق بعد مکحول (123) و سلیمان ابن حبیب المحاربی قاضی دمشق أربعین سنة (126) و یحیی بن یحیی بن قیس
خطط الشام، ج‌4، ص: 23
الغسانی کان ثقة إماما عالما بالفتوی و القضاء و سید أهل دمشق (135) و یزید ابن یزید بن جابر الأزدی إمام فقیه (134) و العلاء بن الحارث الحضرمی الفقیه (136) و یحیی بن الحارث الذّماری المقرئ الدمشقی و علیه دارت قراءة الشامیین (145) و عبد الرحمن بن یزید بن جابر المحدث (154) و عبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعی البیروتی (157) کان إمام أهل الشام و عالمهم قیل: إنه أجاب فی سبعین ألف مسألة، و صار یعمل بمذهبه فی الشام نحو مائتی سنة و آخر من عمل بمذهبه أحمد بن سلیمان بن حذلم قاضی الشام و عمل أهل الأندلس بمذهبه أربعین سنة ثم تناقص بمذهب الإمام مالک. و کان الأوزاعی عظیم الشأن بالشام و أمره فیهم أعز من أمر السلطان. و کان مع علمه بارعا فی الکتابة و الترسل.
و من علماء الشام یونس بن میسرة بن حلبس و ثور بن یزید الکلاعی الحمصی، و کان ثقة فی الحدیث (153) و الولید بن مسلم الدمشقی صاحب الأوزاعی و کانوا یقولون علم الشام عند إسماعیل بن عیاش و الولید بن مسلم فأما الولید فمضی علی سننه میمونا عند أهل العلم متقنا صحیح العلم (195 أو 194) و من المحدثین الفقهاء فی دمشق المطعم بن المقدام الصنعانی و أبو مرثد الغنوی و ابراهیم بن جدار العذری و مبشر بن إسماعیل الحلبی مولی کلب کان ثقة مأمونا (200) و یحیی بن عمرو السّیبانی من أهل الرملة (و سیبان بفتح السین المهملة بطن من حمیر) (148) و صعصعة بن سلام الدمشقی المحدث کان أول من أدخل علم الحدیث إلی الأندلس. و صدقة بن عبد اللّه السمین من کبار محدثی دمشق (166) و الهقل بن زیاد مفتی الولید بن مسلم و له تصانیف تبلغ السبعین (195) و عبد اللّه بن أبی زکریا الخزاعی الفقیه کان عمر بن عبد العزیز یکرمه و یجلسه معه علی السریر (117) و نمیر بن أوس الأشعری المحدث (121) و ربیعة بن یزید القصیری من أئمة التابعین (122) و ابراهیم ابن أبی عبلة من علماء التابعین (152) و عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان المحدث (165) و سعید بن عبد العزیز التنوخی الفقیه العالم (167) و محمد بن الولید الزّبیدی کان أعلم أهل الشام بالفتوی و الحدیث (148) و یحیی بن حمزة کان کثیر الحدیث و کان قاضیا بدمشق (183) و بقیة بن الولید الحمصی
خطط الشام، ج‌4، ص: 24
المحدث (197) و أسد بن وداعة الطائی الحمصی المحدث (137).
و حرص المسلمون فی الصدر الأول بعد علم الدین علی علم الطب، و کان من الأطباء فی القرنین الأول و الثانی زمرة صالحة مختلفة مذاهبهم منهم الحکم ابن أبی الحکم الدمشقی الطبیب و کان أبوه أبو الحکم طبیبأ فی صدر الإسلام، و کان أبو الحکم یستطبه معاویة و یعتمد علیه اعتماده علی ابن أثال من الأطباء المتمیزین بدمشق. و منهم عیسی بن حکم الدمشقی المشهور بمسیح صاحب الکناش الکبیر. و تیاذوق کان فی أول دولة بنی مروان و مشهورا عندهم بالطب و منهم عبد الملک بن أبجر الکنانی کان طبیبا عالما ماهرا یقیم فی أول أمره فی الإسکندریة لأنه کان المتولی للتدریس بها بعد الإسکندرانیین، و لما ملک المسلمون الإسکندریة أسلم ابن أبجر علی ید عمر بن عبد العزیز فاستطبه و اعتمد علیه فی صناعة الطب.
و کان عبد الحمید بن یحیی الکاتب إمام الإنشاء العربی و واضع أساسه و کان عالما فی کل فن من فنون الأدب (132) و هو الذی فک قیود الإنشاء و ضبط أصوله و کان ختنه سالم و یکنی أبا العلاء أحد الفصحاء و البلغاء. و قد نقل من رسائل أرسطالیس إلی الإسکندر و نقل له و أصلح هو، و له رسائل و مجموع نحو مائة ورقة. و من الکتاب قنان بن متی و ابنه قیس و حفیده الحصین و منهم أسامة بن زید أبو عیسی الکاتب التنوخی و یقال الکلبی. و من المشهورین بالبلاغة و الخطابة عبد الملک بن صالح الهاشمی نسب إلی منبج، و خالد بن عبد اللّه القسری الخطیب المفوّه (126) و أبو السامی و عبد اللّه بن خداش و أبو مسلم الشامی.
و من الناقلین أی المترجمین جبلة بن سالم، و کان ناقلا من العربی إلی الفارسی، و نقل بعضهم شیئا من تواریخ الأمم عن الفارسیة. و لم یلبث النقل أن صار إلی بغداد بانتقال الخلافة إلیها، فانتقل بذلک المترجمون الذین أنبغتهم الشام مثل قسطا بن لوقا البعلبکی الفیلسوف الطبیب المهندس المترجم المصنف، و کان یحسن العربیة و السریانیة و الیونانیة، جید النقل فصیح اللسان، و مثل أبی عثمان الدمشقی و عبد المسیح بن عبد اللّه الحمصی الناعمی المعروف بابن الناعمة، و زروبا بن ماجوه الناعمی الحمصی و کلاهما من النقلة، و هلال
خطط الشام، ج‌4، ص: 25
ابن أبی هلال الحمصی صحیح النقل و لفظه مبتذل و حنین بن إسحاق البغدادی المولد نشأ فی الشام و تعلم فیه.
و للشامیین منذ القدیم میل إلی النقل عن الأمم الأخری، هکذا فعلوا فی کل قرن فقد کان الناقلون منهم فی القرنین الأول و الثانی و کذلک فی القرون التالیّة إلی یومنا هذا و هم أقدر الأمم علی تعلم اللغات الغریبة و التفصح فیها.
و کان أکثر النقل عن السریانیة، و هذه نقلت عن العبرانیة، و هذه نقلت عن الیونانیة، و لذلک تعب فلاسفة المسلمین فی حلّ رموز الفلسفة الیونانیة لأنها نقل عن نقل، و ذکر أحد المعاصرین من الإفرنج أن کتب أرسطو کانت تنقل لیفهمها أهل القرون الوسطی من الیونانیة إلی السریانیة و منها إلی العربیة و منها إلی العبریة و من هذه إلی اللاتینیة و کان التراجمة بادی‌ء بدء لا یدرکون فهم المعانی من کتب العرب و ینقلونها إلی اللاتینیة حرفا بحرف. و قال نالینو:
إن أکثر نقلة القرن الثانی کانوا ضعافا فی العلوم یترجمون بالحرف دون فهم الموضوع و کثیرا ما ترددوا فی تعریف المصطلحات العلمیة المجهولة عند العرب فی ذلک العصر، و من المعلوم أن طریقة التعریب لم تتقن إلا فی القرن الثالث.

العلم و الأدب فی القرن الثالث:

لم یکن للقرن الثالث ما کان للقرن الذی سلفه من النهضة، و تجلی آثار النبوغ و التجدد، بل کان کالتتمة لبعض ما سمت له الهمم فی القرنین الماضیین، و علی صورة ربما کانت أضعف، زاد التدوین فیه أکثر من ذی قبل، و أخذت بغداد حظها من العلماء الذین قصدوها من القاصیة و بقیت الشام بمعزل، راحت العلوم الفلسفیة فی بغداد أواخر القرن الثانی و الثالث و سری منها شعاع إلی الشام ثم عراها ما خنقها. و ممن أفضل علی الشام الخلیفة المأمون فإنه أنشأ فیها مرصدا فلکیا عمله له یحیی بن أبی منصور و هو أحد أصحاب الأرصاد المشهورین فی أیامه و کان ذلک فی سنة خمس عشرة و ست عشرة و سبع عشرة بعد المائتین. و قام فی الشام محمد بن عائذ صاحب المغازی و الفتوح و غیر ذلک من المصنفات (233) و عبد اللّه بن ذکوان القاری‌ء الحافظ (242) و هشام بن عمار خطیب دمشق و قارئها و فقیهها و محدثها (245) و أحمد
خطط الشام، ج‌4، ص: 26
ابن أبی الحواری من کبار المحدثین و الصوفیة (246) و محمود بن سمیع صاحب الطبقات و أحد الأثبات الثقات (259) و أبو زرعة الدمشقی النصری عبد الرحمن ابن عمرو المحدث صنف کتبا (281) و أبو مسهر عبد الأعلی الغسانی شیخ دمشق و عالمها کان راویة سعید بن عبد العزیز التنوخی و غیره من الشامیین (218) و صفوان بن صالح المؤذن المحدث (239) و القاسم بن عثمان الجوعی شیخ دمشق و زاهدها (248) و الحافظ زکریا بن یحیی السّجزی المعروف بخیاط السنة (287) و عبد الغفار بن عثمان و الولید بن مزید العذری البیروتی کان من أهل العلم و الروایة و کان الأوزاعی یقول، فیما عرفت ما حمل عنی أصح من کتب الولید بن مزید (203) و ولده أبو الفضل العباس بن الولید البیروتی کان من أهل العلم و الروایة (270) و الإمام محمد بن إدریس الشافعی المطلبی أحد الأئمة ولد بغزة هاشم سنة خمسین و مئة و توفی بمصر سنة 204 و هو أول من صنف فی أصول الفقه. و من أعیان العلماء محمد بن عوف الطائی الحمصی (269) ذکر عند عبد اللّه بن أحمد بن حنبل فی سنة 273 فقال:
ما کان بالشام منذ أربعین سنة مثل محمد بن عوف. و عبد اللّه بن اسماعیل بن زید بن صخر البیروتی و محمد بن عبد اللّه بن عبد السلام بن أیوب البیروتی و آدم بن أبی إیاس العسقلانی من مشایخ البخاری (221) و هشام بن الغاز بن ربیعة الجرشی الصیداوی (256) و أبو بکر محمد بن برکة القنسرینی الحافظ ببرداعس سکن حلب ثم قدم دمشق و حدث بها عن أبی جعفر أحمد ابن محمد بن رجاء المصیصی و یوسف بن سعد بن مسلم و هلال بن أبی العلاء الرقی.
و لقب حافظ کان یطلق علی من یحفظ ألوفا من الأحادیث بأسانیدها و کانوا یطلقون اسم المسند علی من یروی الحدیث بإسناده سواء کان عنده علم به أو لیس له إلا مجرد روایة، و یطلقون اسم المحدث علی من کان أرفع منه و العالم علی من یعلم المتن و الإسناد جمیعا، و الفقیه علی من یعرف المتن و لا یعرف الإسناد. و کان السلف یطلقون المحدث و الحافظ بمعنی و المحدث من عرف الأسانید و العلل و أسماء الرجال و العالی و النازل و حفظ من ذلک جملة مستکثرة من المتون و سمع الکتب الستة و مسند أحمد بن حنبل و سنن البیهقی
خطط الشام، ج‌4، ص: 27
و معجم الطبرانی و ضم إلی هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحدیثیة. هذا أقل درجاته فإذا سمع ما ذکر و کتب الطباق و دار علی الشیوخ و تکلم فی العلل و الوفیات و المسانید کان فی أول درجات المحدثین.
و ممن کان فی الشام الإمام محمد بن الحسن صاحب أبی حنیفة کان من أهل حرستا من غوطة دمشق. و عثمان بن خرّزاذ الأنطاکی المحدث. و أبو الحسن محمد الغسانی الصیداوی المعروف بابن جمیع الحافظ المحدث و أبو عبد اللّه محمد بن علی الصوری الحافظ. و احمد بن الخلیل الحلبی المحدث و أحمد ابن المسیب الحلبی المحدث و عبد اللّه بن إسحاق الصّفرّی المحدث و مؤمل الرملی و أبو توبة الربیع بن نافع و یزید بن خالد الرملی روی عن اللیث بن سعد و المفضل ابن فضالة و روی عنه أبو العباس محمد بن الحسن بن قتیبة العسقلانی و أبو زرعة الرازی و موسی بن سهل الرملی (262) و عبد اللّه بن محمد بن نصر بن طویط و یقال طویث أبو الفضل البزاز الرملی الحافظ. سمع فی دمشق هشام بن عمار ودحیما و هشام بن خالد بن أحمد بن ذکوان، و وارث بن الفضل العسقلانی، و نوح بن أبی حبیب القومسی.
و من شعراء هذا القرن البطین الشاعر الحمصی و عبد السلام بن رغبان المعروف بدیک الجن من شعراء بنی العباس و أصله من سلمیة و إدریس بن یزید النابلسی الأدیب الشاعر و أدهم بن محرز و العتابیّ و أبو تمام. و اشتهر فی هذا القرن بالهندسة أبو بکر البناء المهندس الذی بنی لابن طولون میناء عکا.

الأدب فی القرن الرابع و نهصته علی عهد سیف الدولة و أبی العلاء المعری:

قل فی القرن الثالث فی الشام الشعراء و الأدباء، و لم ینبغ فیه إلا رجال فی الحدیث، و المغازی و الفقه، فطلع القرن الرابع و قد ظهر فیه الأدب العربی فی مظهر عظیم لم یسبق له عهد بمثله، و لا جاء فی القرون التالیة شبه له و نظیر، اللهم إلا إذا کان علی عهد الأمویین، و لم تبلغنا جمیع أخبار شعراء سیف الدولة بن حمدان فی حلب، و قد قصده نوابغ الشعراء و الأدباء، قال الصفدی و کانوا یسمون عصر سیف الدولة الطراز المذهب لأن الفضلاء الذین کانوا عنده و الشعراء الذین من حوله لم یأت بعدهم مثلهم.
خطط الشام، ج‌4، ص: 28
ذکر الثعالبی من شعراء الشام المحدثین العتابی و منصور النمری و الأشجع السلمی و محمد بن زرعة الدمشقی و ربیعة الرقی قال علی أن فی الطائیین (أبی تمام و البحتری) اللذین انتهت إلیهما الریاسة فی هذه الصناعة کفایة و هما هما.
و من مولدی أهل الشام المعوج الرقی و المریمی و العباس المصیصی و أبو الفتح کشاجم و الصنوبری و أبو المعتصم الأنطاکی، و هؤلاء ریاض الشعر و حدائق الظرف. و یقال إنه لم یجتمع بباب أحد من الملوک بعد الخلفاء، ما اجتمع بباب سیف الدولة من شیوخ الشعر و نجوم الدهر، و إنما السلطان سوق یجلب إلیها ما ینفق لدیها، و کان أدیبا شاعرا أورد صاحب الیتیمة من شعرائه و من کانوا یقصدونه من الآفاق لینفقوا من أدبهم فی سوقه ما هو بهجة النفوس مدی الأیام.
و کان فی هذا القرن أکثر الجهابذة و الصیاغین و الصیارفة و الدباغین بالشام من الیهود، و أکثر الأطباء و الکتبة نصاری و انحطت مدن الشام فی العلم انحطاطا کثیرا و منها حمص. ذکر السیوطی أنه نزلها خلق من الصحابة و انتشر بها الحدیث زمن التابعین و إلی أیام حریز بن عثمان و شعیب بن أبی حمزة ثم إسماعیل بن عیاش و بقیة و أبی المغیرة و أبی الیمان ثم أصحابهم ثم تناقص ذلک فی المائة الرابعة و تلاشی ثم عدم بالکلیة.
کان أبو فراس الحمدانی الذی قال فیه الصاحب بدی‌ء الشعر بملک و ختم بملک، یعنی امرأ القیس و أبا فراس- ابن عم سیف الدولة و أعطاه علی بیت واحد ضیعة بمنبج تغل ألف دینار. و لطالما أعطاه و أعطی الشعراء فی بابه و لا سیما أبو الطیب المتنبی عشرات الألوف من الدنانیر دع الإقطاعات و الضیاع، و کان أبو بکر و أبو عثمان الخالدیان من خواص شعراء سیف الدولة و کانا علی خزانة کتبه کما کان علیها أیضا السلامی و الببغاء و الوأواء. و ربما قلّ فی الملوک من مدح بمثل ما مدح به سیف الدولة حتی إن کلا من أبی محمد عبد اللّه بن محمد الفیاض الکاتب و أبی الحسن علی بن محمد السمیساطی قد اختار من مدائح الشعراء لسیف الدولة عشرة آلاف بیت. و کان أبو محمد الفیاض کاتبا لسیف الدولة و ندیمه معروفا ببعد المدی فی مضمار الأدب و حلبة
خطط الشام، ج‌4، ص: 29
الکتابة، أخذ بطرفی النظم و النثر، و کان سیف الدولة لا یؤثر علیه فی السفارة إلی الحضرة أحدا، لحسن عبارته، و قوة بیانه، و نفاذه فی استغراق الأغراض، و تحصیل المراد.
و من خواص شعراء سیف الدولة أبو العباس أحمد بن محمد النامی و کان عنده تلو المتنبی فی المنزلة و الرتبة، و منهم أبو الفرج عبد الواحد الببغاء من أهل نصیبین و من شعرائه أو ما قربوا من عصره الخلیع الشامی و الوأواء الدمشقی و أبو طالب الرقی و أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاکی المعروف بأبی الرقعمق، و أبو القاسم الحسن الواسانی الدمشقی و أحمد بن محمد الطائی الدمشقی و ابن أبی الجوع و ابن رشدین و کشاجم (و أقام کشاجم فی الرملة کثیرا فسمی الرملی 360) و الصنوبری و أبو الفتح البکتمری و أبو الفرج العجلی و أبو حصین الرقی و أبو الفرج سلامة بن بحر. و من علماء الأدب و اللغة ابن خالویه و ابن جنی. و من الشعراء أبو محمد جعفر و أبو أحمد عبد اللّه ابنا ورقاء الشیبانی من رؤساء عرب الشام و قوادها. و کان جعفر بن ورقاء الشیبانی (352) من بیت إمرة و تقدم و آداب، و کان المقتدر یجریه مجری بنی حمدان و تقلد عدة ولایات، و کان شاعرا کاتبا جید البدیهة و الرویة، و من الشعراء منصور و أحمد ابنا کیغلغ و أبو علی أحمد بن نصر بن الحسین البازیار و أبو زهیر المهلهل نصر بن حمدان و المغنم المصری و اسمه ابو الحسن محمد الشعبانی و أبو عبد اللّه محمد بن الحسین و أبو نصر بن نباتة التمیمی و الشیظمی و أبو العباس الصّفّری و أبو العباس الناشی‌ء و أبو نصر البنص، و أبو القاسم الرقی المنجم الفلکی و عبد العزیز بن نباتة السعدی کان شاعرا مجیدا و له فی سیف الدولة غرر القصائد (405) و من شعراء القرن الرابع الحسین بن عبد اللّه بن أبی حصینة المعری (327) و ممن اجتمع بسیف الدولة و جالسه مدة ثم جاء معه إلی دمشق فتوفی فیها المعلم الثانی حکیم الإسلام أبو نصر محمد الفارابی صاحب التآلیف الممتعة فی الحکمة (339).
و أهم ما یفاخر به هذا القرن نبوغ أبی العلاء أحمد بن سلیمان المعری التنوخی حکیم العرب و أدیبهم، و قد کانت المعرة فی أیامه کعبة القصاد، من طلاب الآداب، جذبهم إلیها أبو العلاء، فجعل بلده دار حکمة و أدب،
خطط الشام، ج‌4، ص: 30
کما جعل سیف الدولة فی القرن الذی قبله مدینة حلب مجمع الأدباء و الشعراء بإحسانه و مشارکته. أحسن نابغة الشام أبو العلاء المعری إلی الآداب العربیة أی إحسان، و هو من بیت أدب و فضیلة، کان أبوه عبد اللّه بن سلیمان لغویا شاعرا، و أخوه الأکبر محمد بن عبد اللّه و أخوه الثانی عبد الواحد بن عبد اللّه شاعرین مجیدین، و کان الشعر و الأدب متسلسلا فیهم من بطون کما تسلسل فی بیتهم القضاء مدة مائتی سنة. و من شیوخ أبی العلاء أبو بکر محمد بن مسعود النحوی و محمد بن عبد اللّه بن سعد النحوی الحلبی، و من تلامذته أبو غالب همام بن الفضل بن المهذب صاحب التاریخ المشهور، و أبو یعلی عبد الباقی ابن أبی الحصین، و أبو محمد عبد اللّه الخفاجی، ورشأ بن نظیف بن ما شاء اللّه المقری، و هذا کان أول من أنشأ فی دمشق دارا للقرآن فی حدود سنة 444 و الخطیب التبریزی و الحسن بن علی بن همام و الأمیر أبو الفتح بن أبی حصینة و عشرات غیرهم من أهل المعرة و کفرطاب و حلب و دمشق و حمص و حماة و طرابلس و الرقة و هکار و المصیصة و بغداد و تبریز و الأندلس إلی غیرهم من التنوخیین أهل بیته، و کان أکثر هؤلاء یقول الشعر الجید حتی أصبح ذلک من اختصاصهم. و ممن صحب أبا العلاء المعری و أخذ عنه کثیرا علی بن القاضی التنوخی کان من أهل بیت کلهم فضلاء أدباء ظرفاء. و مما یستدل به علی انتشار الآداب فی هذا العصر و تغالی الناس فی الشعر و الأدب ما قیل من أن سبعین شاعرا رثوا المعری علی قبره یوم مات، فما بالک بسائر شعراء الشام علی ذاک العهد.
و قام فی هذا القرن من العلماء إبراهیم بن عبد الرزاق الأنطاکی مقری‌ء أهل الشام (338) و من المحدثین عمر بن علی العتکی الأنطاکی الخطیب الحافظ صاحب کتاب المقبول و عبد الوهاب الکلابی المحدث (396) و محمد ابن عبید اللّه یعرف بابن أبی الفضل أبو الحسن الکلاعی الحمصی المحدث (309) و أبو الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعیل التمیمی محدث دمشق کان یسکن فی ربض باب الفرادیس فی طرف العقیبة (328) قال القاسمی و إلیه تنسب مقبرة الدحداح، و عمر بن حسن الخرقی الحنبلی الدمشقی صاحب التصانیف العدیدة و أحمد بن شرام الغسانی أحد النحاة المشهورین بالشام
خطط الشام، ج‌4، ص: 31
(387) و محمد بن أحمد بن أبی بکر البناء المقدسی الجغرافی الرحالة صاحب کتاب أحسن التقاسیم المطبوع و أبو مسهر البیروتی المعروف بمکحول الحافظ الثقة الثبت المشهور (321) و أبو طاهر بن ذکوان البعلبکی المؤدب (359) و المنجم الصابی البعلبکی و أبو القاسم علی بن أحمد الأنطاکی کان ریاضیا مهندسا و له تصانیف جلیلة و کان مشارکا فی علوم الأوائل (376) و إبراهیم الأزدی العجلی الأنطاکی الفقیه المقرئ (338) و محمد بن جعفر صاحب التصانیف المشهورة کاعتلال القلوب و غیره توفی فی یافا (327) و محمد التمیمی المقدسی و الحافظ أحمد بن عمیر مولی بنی هاشم شیخ الشام فی وقته رحل و صنف و ذاکر و حدث (320) و أبو الحسین بن کشکرایا الطبیب العالم صاحب الکناش المعروف بالحاوی و عیسی الرقی المنجم الطبیب و کلاهما من أطباء سیف الدولة. و کان عیسی ینقل من السریانیة إلی العربیة و یأخذ أربعة أرزاق رزقا بسبب الطب و رزقا بسبب النقل و رزقین بسبب علمین آخرین. و عبد اللّه بن عطیة المقری الدمشقی المفسر کان یحفظ خمسین ألف بیت من شعر العرب فی الاستشهادات علی معانی القرآن و اللغة (383) و عبد الرحیم بن نباتة الفارقی صاحب الخطب المشهورة کان خطیب حلب و بها اجتمع بأبی الطیب المتنبی فی خدمة سیف الدولة (374) و قام فی حلب أربعة من الشعراء المعدودین و هم أبو الحسن المستهام الحلبی و أبو محمد الماهر الحلبی و ابن الفتح الموازینی الحلبی و أبو الفرج بن أبی حصین القاضی الحلبی. و من الشعراء الشامیین أبو الجود الرسعیی و اسمه محمد بن أحمد و أبو مسکین البردعی شاعر محدث یتنقل فی البلدان و کان مجودا. و الخلیع الرقی و اسمه محمد بن أبی الغمر القرشی. و من المهندسین الریاضیین المجتبی الأنطاکی (376) و دیونیسیوس بطریرک الیعاقبة له تاریخ. و قیس المارونی له کتاب حسن فی التاریخ.

الآداب فی القرن الخامس:

امتاز القرن الخامس بأن نشأت فیه طائفة من الرجال الذین عنوا بالفلک و العلم الطبیعی و الریاضی و الطب، کما امتاز بأن نبغ فیه فی الأقطار العربیة الأخری من الفلاسفة أمثال ابن رشد و ابن سینا و البیرونی و الغزالی و الرازی
خطط الشام، ج‌4، ص: 32
ممن هم فخر العرب علی تعاقب الحقب. و قد انتقلت من کتبهم و أفکارهم أشیاء کثیرة إلی الشام. و یصح أن یقال إن العلم اقترب من العلوم المادیة فی هذا الدور، ذهبت عن الناس الدهشة بالفصاحة و الشعر و نقل الأحادیث و العنایة بالدین و تم تدوین أقوال أرباب المذاهب و الشعراء فانصرفت العنایة إلی علوم الدنیا. و ممن نشأ فی هذه الدیار أبو الفضل الحارثی الدمشقی المهندس الریاضی العالم بالحساب و التقسیمات و الهندسة و علم الهیئة و نقش الرخام و ضرب الخیط و الطب و له عدة تآلیف (500) و محمد القیسرانی الدمشقی العالم بالحساب و النجوم و الهندسة و الهیئة و علم المساحة و المیقات و الفلک (500) و رضوان الخراسانی الریاضی و محمد بن عبد الواحد المهندس صنف کتابا فی رکایة الزوال بدمشق و معرفة طلوع الفجر بالمنازل منازل القمر (409) و جورجس بن یوحنا الیبرودی العالم بالطب و له عدة رسائل و مقالات. و من المؤرخین حمزة بن أسد أبو یعلی التمیمی المعروف بابن القلانسی العمید صنف تاریخا للحوادث بعد سنة أربعین و أربعمائة إلی حین وفاته و قد طبع باسم ذیل تاریخ دمشق. و مبارک ابن شرارة أبو الخیر الطبیب الکاتب الحلبی النصرانی کان له جرائد مشهورة بحلب عند أهلها یحفظونها لأجل الخراج المستقر علی الضیاع إذا اختلف النواب فی شی‌ء من هذا النوع رجعوا إلیها و له تاریخ حلب توفی فی حدود سنة (490) فی صور. و من الحفاظ محمد بن علی الصوری الحافظ قالوا: کان یذاکر بمائتی ألف حدیث. قال غیث: سمعت جماعة یقولون ما رأینا أحفظ منه (441) و الحافظ محمد بن جمیع الغسانی الصیدانی و یقال له الصیداوی (402) و عبد الواحد الشیرازی المقدسی الأنصاری شیخ الشام فی وقته نشر مذهب الإمام أحمد بن حنبل أقام بدمشق و له تصانیف (486) و سلامة بن إسماعیل ابن جماعة المقدسی الضریر کان کثیر الحفظ ألف تآلیف (480) و الحسن ابن عبد الصمد بن الشخباء العسقلانی صاحب الخطب البدیعة مشهور بنثره (482).
و من الکتاب و الخطباء صاعد بن شمامة المسیحی الحلبی الکاتب و أبو الیمن المسلم بن الحسن بن غیاث الکاتب الحلبی النصرانی کان صاحب الدیوان بحلب، و تادرس بن الحسن النصرانی کان وزیر صالح بن مرداس و عبد اللّه بن
خطط الشام، ج‌4، ص: 33
أسعد فقیه حمص یعرف بابن الدهان. و عبد العزیز بن أحمد الکنانی الدمشقی الصوفی المحدث (466) نصر بن إبراهیم المقدسی النابلسی عالم الشام له عدة تصانیف درس العلم ببیت المقدس مدة ثم أتی صور ثم جاء دمشق (490) علی بن داود الدارانی الخطیب (402) و هو الذی طلع إلی داریا کبراء دمشق لما مات خطیب جامعهم و طلبوه لیکون خطیب جامعهم فوثب أهل داریا بالسلاح و قالوا: لا نعطیکم خطیبنا فقال رئیسهم: أما ترضون یا أهل داریا أن تسمع الناس فی البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إلیکم فی إمام. و من مشاهیره الحسین بن علی بن شواش الکنانی المقری (497) و الحسین بن علی بن إبراهیم الأهوازی شیخ القراء بدمشق (446) و الخطیب أبو نصر بن طلاب مسند دمشق (470) و أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الشیرازی الواعظ العالم (456) و من الشعراء عبد المحسن الصوری الشاعر (418) و أبو الفتیان بن حیوس الحلبی الشاعر. و محمد بن سنان الحلبی الشاعر و أبو مشکور الحلبی الشاعر و أحمد بن فضالة الدمشقی شاعر. و علی بن منصور الحلبی الملقب دوخلة یعرف بابن القارح من شیوخ الأدب راویة للأخبار کتب لأبی العلاء المعری رسالته المشهورة فأجابه عنها برسالة الغفران و کلا الرسالتین مطبوع.
و مما یذکر فی هذا القرن أن القاضی جلال الملک بن عمار جدد فی طرابلس دار العلم و دار الحکمة و ذلک فی سنة اثنتین و سبعین و أربعمائة لتکون مرکزا من مراکز التشیع، فنشرت العلوم و الآداب و أصبحت طرابلس مباءة علم و درس و مباراة فی التعلم و جهز هذه الجامعة الدینیة بمئة ألف مجلد و ربما کانت علی عهده قبل استیلاء الصلیبیین علیها أول بلدة علمیة فی الشام علی ما رأی فان برشم.

العلم و الأدب فی القرن السادس:

دخل القرن السادس و علی کثرة ما کان فیه من الفتن نشأ للأمة علماء خدموا العلم فی فنون مختلفة، و کانت بالشعر أقل من عصر سیف الدولة و عصر أبی العلاء المعری، و إن کان نور الدین و صلاح الدین و أسرتهما ممن یجیزون (4- 3)
خطط الشام، ج‌4، ص: 34
علیه و یعجبون و یترنمون بسماعه، و کان من أهل بیت صلاح الدین الشعراء المفلقون، و مما عنی به نور الدین محمود بن زنکی أنه کان یجلب العلماء من القاصیة و یسکنهم بالشام مثل قطب الدین النیسابوری و شرف الدین بن أبی عصرون، یبنی لهم المدارس و یغدق علیهم و علی مریدیهم أنواع الإحسان و یدرّ علیهم الرواتب. و قد أحصی فقهاء مدارس دمشق فی عهد صلاح الدین فکانوا ستمائة فقیه، کان یعطیهم من صدقاته. و من کتاب للقاضی الفاضل لصلاح الدین: و مما یجب أن یعلم المولی أن أرزاق أرباب العمائم فی دولته إقطاعا و راتبا یتجاوز مائتی ألف دینار و ربما کانت ثلاثمائة ألف دینار.
و أزهرت فی هذا القرن مدرسة الیعاقبة فی طرابلس و منها نشأ أبو الفرج ابن العبری صاحب التاریخ المطبوع. و تعلم کثیر من المحاربین و القواد و الأمراء من الصلیبیین اللغة العربیة فی الشام. فی تاریخ اللغة الفرنسیة و آدابها: أما بشأن اللغة (أی فی عهد الصلیبیین) فقد حدث ما یحدث فی مثل هذه الأحوال علی صورة مطردة، و هو أن لغة الأکثر تمدنا أثر أهلها فی غیرهم. و کان أکثر الأمم تمدنا بلا مراء الشرقیون و لا سیما العرب و الیونان. و قد تعلم قلیل جدا من العرب و الترک و الفرس لغة الإفرنج ما عدا بعض التراجمة الرسمیین.
و علی العکس تعلم کثیر من الصلیبیین لغة الوطنیین عقیب وصولهم إلی فلسطین.
إلی أن قال: و لا ریب أن مجاورة التمدن الإسلامی قد ساعدت علی زیادة النفوذ الذی کان العلم العربی و الفنون العربیة تؤثرها فینا منذ زمن طویل.
و معلوم ما تدین به لهذا التأثیر کل من الفلسفة و الریاضیات و الفلک و الملاحة و ترکیب النیران الصناعیة و الطب و الکیمیاء حتی فن الطبخ فقد أخذنا عن العرب أشیاء کثیرة من مثل طریقة الارقام و شروح أرسطو حتی حمام الزاجل و الشعارArmoiries و أدوات الموسیقی و الأزیاء و الثیاب و الزهور و البقول.
و بعد فإذ حدث أحیانا أن الأشیاء التی نقلت لم تکن تسمی إلا بأسماء المدنیة الشرقیة التی أخذت منها مثل ثوم عسقلان و ثیاب دمشق فإن غیرها قد احتفظت بأسمائها العربیة مع بعض التحریف و هی کثیرة و یتألف منها فی الفرنسیة مجموع کبیر فی الجملة ا ه.
و نبغ فی هذا القرن أبو المجد محمد بن أبی الحکم، و کان طبیبا مهندسا
خطط الشام، ج‌4، ص: 35
فلکیا (570) و أبو زکریا یحیی البیاسی من أطباء صلاح الدین و عمل لابن النقاش و هو علی بن عیسی بن هبة اللّه أستاذه فی الطب آلات کثیرة تتعلق بالهندسة و کان یعرف النجارة و ابن النقاش هذا کان أوحد زمانه فی صناعة الطب و له مجلس عام للمشتغلین علیه و کان یعالج أیضا کتابة الإنشاء (574) و أبو الحکم عبید اللّه بن المظفر المعروف بالحکیم المغربی و هو عالم بالحکمة و الطب و الأدب و الهندسة (549) . و عمر بن علی بن البذوخ الدمشقی عالم بالطب شاعر له تآلیف (576) و ابن الصلاح عالم بالحکمة متمیز بالطب ملیح التصنیف (540) و موفق الدین بن المطران عالم بالطب و الفلسفة متعین فی الفنون الأدبیة له عدة مصنفات (587) و قد نعی علی أهل زمانه فتورهم و زهدهم فی العلوم و قلة مضائهم و رغبتهم فی الکتب و الآثار و تطیر بتفاقم الخطب فی هذا الشأن.
و أبو الفضل عبد الکریم الحارثی الدمشقی و هو مهندس طبیب نجار نحات هندس أکثر أبواب المستشفی النوری الکبیر اشتغل بالأدب و علم النجوم و الحدیث له عده مصنفات (599) و هو الذی أصلح الساعات التی لجامع دمشق. و علی ابن عبد الباقی بن أبی جرادة العقیلی الأنطاکی الحلبی عالم بالأدب و اللغة و الحساب و النجوم و الفلسفة مات سنة نیف و أربعین و خمسمائة. زین الدین علی بن غانم الأنصاری الدمشقی المعروف بابن منجه الحنبلی کان من أعیان أهل العلم و له رأی صائب و کان صلاح الدین یسمیه عمرو بن العاص. و محمد بن طاهر المقدسی ذو الرحلة الواسعة و التصانیف و التعالیق (507) و الحافظ أبو القاسم علی بن عساکر محدث الشام و مؤرخها و من أعیان فقهائها صاحب تاریخ دمشق المشهور (571) و کتابه من أعظم المفاخر فی التاریخ معدن أدب و رکاز علم.
و حمزة بن أسد أبو یعلی التمیمی الدمشقی العمید بن القلانسی الکاتب صاحب کتاب ذیل تاریخ دمشق المطبوع. تولی ریاسة دمشق و جمع بین کتابة الإنشاء و کتابة الحساب توفی فی عشر التسعین و أربعمائة، و توفیق بن محمد المهندس المنجم الأدیب الدمشقی و له تصانیف (516) و أبو البیان محمد بن محفوظ
خطط الشام، ج‌4، ص: 36
القرشی له عدة تصانیف (501). و مخلص الدین أبو البرکات عبد القاهر ابن أبی جرادة الحلبی کان أمینا علی خزائن نور الدین و کان کاتبا بلیغا و شاعرا مجیدا مستحسن الفنون من التذهیب البدیع و حسن الخط المحرر علی الأصول القدیمة المستظرفة. و عبد الرحیم البیسانی المشهور بالقاضی الفاضل الکاتب العالم صاحب الرسائل و التصانیف الجیدة و محیی الدین بن الزکی الفقیه الخطیب (598) و عماد الدین الأصفهانی العالم الکاتب الشاعر صاحب التصانیف و منها الفتح القدسی المطبوع (597) و محمد الشهرزوری الدمشقی الفقیه الأدیب الشاعر الکاتب (572) و عبد اللّه بن أبی عصرون الفقیه له عدة مصنفات (585).
و علی بن جعفر البلخی الدمشقی من أئمة الحنفیة (548) و سلیم بن أیوب أحد أوعیة العلم صنف الکثیر فی التفسیر و الحدیث و الفقه و العربیة نشر العلم فی صور (547) و الحافظ محمد بن طاهر المعروف بابن القیسرانی المقدسی کان جوالا فی الآفاق یجمع بین الذکاء و الحفظ و حسن التصنیف و له تصانیف کثیرة (567) و بهاء الدین بن شداد قاضی العسکر فی زمن صلاح الدین یوسف الفقیه الکاتب المؤرخ صاحب التاریخ المطبوع فی سیرة صلاح الدین نشأ فی حلب و عظم فی أیامه شأن الفقهاء لعظم قدره و ارتفاع منزلته و مجد الدین طاهر ابن نصر اللّه بن جهبل الحلبی والد بنی جهبل الفقهاء الدمشقیین کان إماما فی الفقه و الحساب و الفرائض، و محمد بن خضر المعری شاعر. و تقی الدین عبد الغنی الجماعیلی له عدة مصنفات فی الرجال (600) و الحسین الأسدی مسند دمشق (551) و قطب الدین النیسابوری العالم الفقیه (578) و الحسن بن هبة اللّه بن صصری التغلبی المحدث (586) و تاج الدین الخراسانی الفقیه الصوفی (584) و تقیة بنت غیث الأرمنازی الصوری الشاعرة الأدیبة و لها شعر سائر (579) و علی بن الموازینی مسند دمشق (514) و أبو طاهر برکات الخشوعی المحدث امتاز بالسماع (598). و موسی البلاغاشانی الفقیه (506) و علی ابن إبراهیم الحسینی الخطیب (508) و هبة اللّه بن أحمد الأکفانی الأمین المحدث (524) و علی بن مسلم السلمی الدمشقی الفقیه (532) و نصر اللّه بن محمد المصیصی الدمشقی العالم (542).
و من الشعراء و الأدباء أحمد بن الخیاط الدمشقی الشاعر الکاتب الأدیب
خطط الشام، ج‌4، ص: 37
(517) و أحمد بن منیر الطرابلسی الشاعر الهجاء الوصاف المشهور (548) و طراد بن علی المعروف بالبدیع کاتب شاعر (524) و أبو الوحش الشاعر و عبد القاهر بن عبد اللّه الوأواء الشاعر الأدیب (551) طبع دیوانه. و عرقلة الدمشقی الندیم الخلیع الشاعر و محمد بن حرب النحوی الأدیب (580) و الحسین ابن رواحة الأنصاری الحموی الفقیه الأدیب الشاعر (585) و مسلم بن خضر ابن قسیم الحموی الشاعر، و الحسن بن أبی الحسن صافی النحوی المعروف بملک النحاة له مصنفات فی الفقه و الأصلین و النحو و له دیوان شعر (568) و حسان بن نمیر العقیلی الدمشقی الشاعر (567) و علوی بن عبد اللّه بن عبید الشاعر الحلبی المعروف بالباز الأشهب الأدیب المتفنن (596) و أسامة بن منقذ صاحب کتابی الاعتبار و لباب الآداب و کلاهما مطبوع شاعر کاتب. و زرعة ابن موسی أبو العلاء الطبرانی النصرانی کاتب الأمراء بنی منقذ کان معاصرا لعبد اللّه بن محمد بن سنان شاعر.
و قد جاء حلب الشهاب السهروردی فی عهد ملکها الظاهر غازی و هو فیلسوف قتله صلاح الدین بدسائس الفقهاء قتل بقتله الحکمة، و هی صناعة الصنائع حتی إن سیف الدین الآمدی الفیلسوف النظار الکبیر فی القرن التالی لم یجرؤ أن یقرئ أحدا شیئا من العلوم الحکمیة، و بعد ذلک انقطعت الفلسفة من هذه الدیار و لا تقرأ إلا أشیاء قلیلة منها و قل النابغون و المشتغلون بها، و لم نقف علی حیاة فیلسوف نشأ للشام من بین جمیع من قام فیها من الأعلام، و لم ینشأ من الأفراد أمثال قطب الدین النیسابوری و الشهاب السهروردی و سیف الدین الآمدی، و لقد أبان رنان کیف أن الفکر الدینی لسوء حظ الإسلام تغلب بعد جدال طویل فخنق الحرکة العلمیة الفلسفیة الباهرة التی جعلت المدنیة العربیة بتأثیرات الفارسیة و الیونانیة و النسطوریة و الیهودیة ردحا من الدهر، وارثة المدنیة الیونانیة. قال: و أوربا مدینة لمدنیة العرب ببقایا العلم الذی قطفت ثماره فی القرون الوسطی.

العلم و الأدب فی القرن السابع:

لما خرب التتر بغداد سنة (656) انتقلت الحرکة الأدبیة بحکم الطبیعة إلی
خطط الشام، ج‌4، ص: 38
الشام و مصر و لم تکن انقطعت منها کل الانقطاع من قبل، فهاجر کثیر من العلماء من عاصمة العراق إلی دمشق و القاهرة. و فی هذا القرن تعینت المسالک العلمیة و کثر الإخصائیون و تنوعت العلوم و توفر المشتغلون بها و أنبغ الشام طبقة عالیة عدّت تآلیفهم من الأمهات فی خزانة کتب الأمة العربیة، و مرجعا ثقة للأخلاف اقتبسوها من أعمال الأسلاف. فمن المؤرخین عمر بن أبی جرادة الحلبی العقیلی المعروف بابن العدیم صاحب تاریخ حلب (660) و هو کمال الدین عمر بن الصاحب السعید قاضی القضاة نجم الدین أبی الحسن أحمد بن الصاحب السعید قاضی قضاة جمال الدین أبی غانم هبة اللّه بن قاضی القضاة مجد الدین أبی عبد اللّه محمد ابن قاضی القضاة جمال الدین أبی الفضل هبة اللّه ابن قاضی القضاة نجم الدین أبی الحسن أحمد بن یحیی بن زهیر بن أبی جرادة. بیت تسلسل فیه العلم خمسة بطون کانوا أجداد کمال الدین عمر أکرم به من بیت فضیلة و علم. و من مفاخر هذا القرن بحلب علی بن یوسف القفطی المعروف بالقاضی الأکرم أحد الکتاب المشهورین المبرزین فی النظم و النثر و له تآلیف أکثرها فی التاریخ و الأدب (646) و کان یقوم بعلوم من اللغة و النحو و الفقه و الحدیث و علوم القرآن و الأصول و المنطق و النجوم و الهندسة و التاریخ و الجرح و التعدیل و من کتبه المطبوعة مختصر تاریخ الحکماء. و یاقوت الرومی الحموی الجغرافی المؤرخ الرحالة صاحب معجم البلدان و معجم الأدباء و المشترک و غیرها من الکتب الممتعة المنقحة المطبوعة (626) و فی حماة إبراهیم بن أبی الدم صاحب التاریخ الکبیر المظفری فی الملة الإسلامیة (642) و قام فیها عبد الرحیم البارزی قاضی حماة و ابن قاضیها و أبو قاضیها. و فی حماة أیضا علم الدین قیصر المعروف بتعاسیف المهندس الریاضی (642) و القاضی جمال الدین بن واصل (697) کان إماما مبرزا فی علوم کثیرة مثل المنطق و الهندسة و الأصول و الهیئة ألف تاریخا فی أخبار بنی أیوب و له عدة مصنفات منها الانبروریة فی المنطق صنعها للانبرور ملک الإفرنج صاحب صقلیة و انبولیة و أنکبردة لما توجه إلیه رسولا فی أیام الظاهر بیبرس سنة (659). و نبغ من المهندسین إبراهیم بن غنائم المهندس بانی المدرسة الظاهریة الجوانیة بدمشق، و اسمه لا یزال منقوشا علی یسار الداخل إلیها فی زاویة المدخل، و هو الذی هندس القصر الأبلق
خطط الشام، ج‌4، ص: 39
الذی قامت التکیة السلیمانیة فی القرن العاشر علی أنقاضه. و نبغ فی حماة الملک المنصور محمد بن الملک المظفر بن أیوب خلف عدة مصنفات منها المضمار فی التاریخ و طبقات الشعراء و کان فی خدمته قریب مئتی متعمم من النحاة و الفقهاء و المشتغلین بغیر ذلک. و جاء الناصر داود ابن الملک المعظم و کان شاعرا أدیبا و فی أیامه راجت الفلسفة و أمن المشتغلون بها علی أرواحهم. و جاء الأمجد بهرام شاه بن أیوب صاحب بعلبک و کان شاعرا رقیقا و له دیوان (628) و نبغ فی دمشق أحمد بن خلکان قاضی قضاتها الفقیه المؤرخ المدقق و صاحب وفیات الأعیان المنقح المطبوع (681) و أحمد بن القاسم بن خلیفة المعروف بابن أبی أصیبعة الدمشقی الطبیب الأدیب مؤلف طبقات الأطباء المطبوع (668) و عبد الرحمن أبو شامة له عدة تصانیف فی التاریخ و غیره (665) و منها تاریخ الروضتین و ذیله و الأول مطبوع. و یوسف بن قزاوغلی سبط ابن الجوزی صاحب مرآة الزمان فی التاریخ، المطبوع منه الجزء الثامن و هو الأخیر، أقام زمنا فی دمشق (654) و عبد المنعم الجلیانی الملقب بحکیم الزمان علامة فی الطب و الکحل و الأدب و الشعر و له عدة کتب منها عشرة دواوین من منظوم الکلام و مطلقه فی مدح صلاح الدین لم یصلنا منها إلا المدبجات. و من النوابغ فی دمشق عز الدین الإربلی الفیلسوف الضریر کان بارعا فی الفنون الأدبیة رأسا فی علوم الأوائل یقرئ المسلمین و أهل الکتاب و الفلاسفة (660) و عاش فی دمشق أیضا حکیمان عظیمان من حکماء الإسلام و ماتا فیها هما سیف الدین علی الثعلبی الآمدی سید العلماء و أزکی أهل زمانه و أکثرهم معرفة بالعلوم الحکمیة و المذاهب الشرعیة و المبادی المنطقیة أقام سنین کثیرة فی حماة مستترا ممن کانوا تحاملوا علیه و نسبوه إلی الانحلال. و قد صنف فی أصول الفقه و أصول الدین و المعقولات عدة مصنفات طبع له کتاب الإحکام و مات فی دمشق سنة (631) و الثانی الشیخ الأکبر محیی الدین بن عربی الأندلسی الدمشقی صاحب المذهب المشهور فی التصوف و له عدة مصنفات فی الأخلاق و کلام القوم منها الفتوحات المکیة و فصوص الحکم المطبوعان (638) و نبغ فی دمشق شمس الدین الخویی العالم فی الحکمة و الشرع و الطب و غیره و له تآلیف (637) و رفیع الدین الجیلی عالم بالعلوم الحکمیة و أصول الدین و الفقه و العلم الطبیعی و الطب و له تآلیف
خطط الشام، ج‌4، ص: 40
(641) و إسماعیل بن عبد الکریم المعروف بابن المعلم کان شیخ الحنفیة فی وقته و شرف الدین بن الرحبی الطبیب الشاعر الأدیب له تآلیف (667) و أخوه جمال الدین بن الرحبی الطبیب العالم و رشید الدین الصوری طبیب متفنن فی علوم کثیرة و له عدة تصانیف فی الطب. و مهذب الدین یوسف بن أبی سعید السامری طبیب متمیز فی العلوم الحکمیة و أدیب له من الکتب شرح التوراة (624) و الصاحب أمین الدولة أبو الحسن بن غزال عالم بالطب له فیه مصنف لم یوضع مثله (643) و مهذب الدین عبد الرحیم بن علی و یعرف بالدخوار عالم بالطب و هو صاحب المدرسة الطبیة المعروفة بالدخواریة بدمشق، و نجم الدین یحیی بن اللبردی عالم فی الحکمة و الهندسة و العدد صاحب المدرسة الطبیة المنسوبة إلیه فی دمشق و صاحب دار الهندسة أیضا ألّف و له ثلاث عشرة سنة فی الرد علی عبد اللطیف البغدادی و له عدة مصنفات (621) و علاء الدین علی بن أبی الحزم بن النفیس الدمشقی صاحب التصانیف الکثیرة کانت تصانیفه یملیها من حفظه و کان مشارا إلیه فی الفقه و الأصول و الحدیث و العربیة و المنطق.
و شمس الدین بن المؤید العرضی الدمشقی من الحکماء الذین کانوا بدمشق و دعاهم نصیر الدین الطوسی لبناء المرصد و کان العرضی و ابنه محمد من علماء الفلک و تولی مؤید الدین الأرصاد فی مرصد مراغة و قد وضع محمد کرة لا تزال محفوظة فی متحف درسدن فی المانیا. و عثمان بن الصلاح المضروب به المثل فی کل فن (643) و علی بن محمود الیشکری المنجم له ید طولی فی علم الفلک و حل التقاویم شاعر خطاط (680) و بدر الدین ابن قاضی بعلبک عالم بالطب و علوم الأدب له تصانیف طبیة (650) و نجم الدین ابن المنفاخ و یعرف بابن العالمة و کانت أمة عالمة بدمشق و تعرف ببنت دهین اللوز طبیب عالم بالحکمة و المنطق و الأدب له مؤلفات (652) عز الدین ابن السویدی الدمشقی عالم بالطب و الأدب شاعر مجید. یعقوب السامری عالم بالطب و علوم الحکمة له عدة مصنفات (681) و علی بن خلیفة بن أبی أصیبعة عالم بالطب و العربیة و له کتب فی الطب و غیره (616) و عبد العزیز بن رفیع الدین کان متمیزا فی الحکمة و الطبیعی و الطب و أصول الدین و الفقه و الخسرو شاهی من أصحاب التصانیف الجلیلة فی المنطق و الحکمة و من تلامیذ فخر الدین الرازی و عفیف الدین التلمسانی الدمشقی
خطط الشام، ج‌4، ص: 41
أدیب له فی کل علم مصنف (690) و عبد الرحمن بن محمد بن عساکر ابن أخی الحافظ أبی القاسم صاحب تاریخ دمشق کان فقیه وقته (620) و أحمد ابن هبة اللّه بن عساکر مسند دمشق (699) و کریمة بنت عبد الوهاب بن علی مسندة الشام أم الفضل القرشیة الزبیریة و تعرف ببنت الحبقبق (641) و فاطمة بنت أحمد بن السلطان صلاح الدین المحدثة (678) و فاطمة بنت عساکر محدثة (683) و ست العرب بنت یحیی بن قایماز أم الخیر الدمشقیة الکندیة المحدثة. و ست الکتبة بنت الطراح المحدثة و زینب بنت علی بن أحمد بن فضل الصالحیة محدثة. و عائشة ابنة عیسی بن الشیخ الموفق المقدسی المحدثة (697).
و علی بن داود القحفازی شیخ أهل دمشق و خصوصا فی العربیة. و عبد الوهاب ابن سحنون طبیب و له شعر و أدب و فقه (694) و زید بن الحسین الکندی علامة فی فنون الآداب مفنن عرف بعلو السماع (613) و علم الدین السخاوی المقری النحوی الأدیب الفقیه له تصانیف (657) و إبراهیم بن أحمد بن فارس التمیمی شیخ القراء بدمشق (676) و القاسم بن أحمد المرسی اللورقی شیخ القراء و المتکلمین (661) و عبد الکریم بن الحرستانی خطیب الشام (662) و عبد العزیز بن عبد السلام الدمشقی شیخ الإسلام له تصانیف (660) و الحافظ شمس الدین محمد بن جعوان الحافظ النحوی (682) و رشید الدین الربعی مفسر لغوی کاتب (687) و محمد بن سعادة مفسر أصولی فقیه نحوی عالم بالخلاف و الأدب و الفرائض (693) و جاء من المحدثین موسی بن عبد القادر الجیلی مسند دمشق (618) و الحافظ تقی الدین إسماعیل بن عبد اللّه الأنماطی المحدث (619) و مکرم بن محمد بن أبی الصقر القرشی المسند الفقیه (635) و إسماعیل بن أبی الیسر التنوخی مسند الشام (676) و عبد العظیم و هو عبد الرحمن المعروف بالمسجف (635) و القاسم بن أبی بکر الإربلی المقری المحدث (680) و محمد بن علی ابن الصابونی المحدث (680).
و جاء من العلماء فی الشام عبد اللّه الجماعیلی الإمام فی الخلاف و الفرائض و الأصول و الفقه و النحو و الحساب و النجوم و المنازل (620) و یعقوب بن صقلان المقدسی قرأ الحکمة علی الفیلسوف الأنطاکی و عرف بها (626) و نجم الدین النخجوانی کانت له عارضة قویة فی علوم الأوائل و نفیس الدولة بن طلیب
خطط الشام، ج‌4، ص: 42
الدمشقی و ولده صفی الدین النصرانی الملکی و محمد بن القیسرانی الدمشقی عالم بالأدب و الهیئة (630) و أبو الفضل بن یامین الحلبی عالم بالریاضیات و علم حل الزیج و تسییر الموالید (604) و أحمد بن هبة اللّه المعروف بابن الجبرانی الحلبی النحوی اللغوی و عبد اللّه الیونینی المحدث. و نجم الدین القمراوی عالم بالحکمة و الشریعة. و شرف الدین المتانی عالم بالحکمة و الشریعة و هما اللذان ذهبا إلی الموصل مختفیین لیلقیا الفیلسوف الأکبر کمال الدین بن یونس و حلا لغزه فی الحکمة، و کان عجز العلماء عن حله، فسألهما عن موطنهما فقالا الشام فقال:
من أی موضع منه قالا من حوران فقال: لا أشک أن أحد کما النجم القمراوی و الآخر الشرف المتانی. و فی هذا دلیل علی شهرتهما فی العلوم الحکمیة و الدینیة.
و قمرا مزرعة یقال لها قمیرة الیوم و متان قریة صغیرة و هما من قری صرخد فی جبل حوران.
و کانت بعض المدن عامرة بالعلماء مثل قنسرین التی خربت فی القرن الرابع و کفرطاب التی خربت فی أواخر الخامس. قال ابن العدیم کانت کفرطاب مشحونة بأهل العلم و کان بها من یقرأ الأدب و یشتغل به. و هاتان المدینتان أصبحتا الآن قریتین حقیرتین، و کان فی قری غوطة دمشق علماء و فقهاء و یختلف إلیها علماء دمشق یدرسون فیها فمن جملة تآلیف الحافظ ابن عساکر کتب فی روایات أهل داریا و کفرسوسة و صنعاء دمشق و الربوة و النیرب و من حدث بهما و أهل الحمیریین و قبیبة و فذایا و بیت أرانس و بیت قوفا و البلاط و بیت سوا و دومة و مسرابا و حرستا و کفربطنا و دقانیة و حجیرة و عین ثرماء و جدیا و طرمیس و بیت لهیا و برزة. و من هذه القری ما دثر الآن، و ذکر المحدثین من أهل منین و أهل بعلبک مما دل علی العنایة بالحدیث فی القرن السادس.
و محمد بن میاس العرّمانی الشاعر الأدیب و موسی القمراوی الفقیه الأدیب المناظر (625) و مسعود بن أبی الفضل النقاش الحلبی الشاعر و التاج الصرخدی محمود بن عدی التمیمی الشاعر المحسن (674) و الرشید البصروی سعید بن
خطط الشام، ج‌4، ص: 43
علی أحد أئمة المذهب الحنفی النحوی الشاعر (684) و علی بن بلبان الکرکی (684) و الفخر البعلبکی عبد الرحمن الحنبلی الفقیه المحدث (687) و عبد العزیز الأنصاری شیخ شیوخ حماة قال الصفدی: لا أعرف فی شعراء الشام بعد الخمسمائة و قبلها من نظم أحسن منه و لا أجزل و لا أفصح و برع فی الفقه و حدث کثیرا (662) و نبغ فی حماة ابن برکات له تآلیف فی التاریخ. و أبو بکر بن الخیثمی الحموی کان إماما فی الأدب و محمد بن المظفر بن أبی بکران الحموی عالم الأئمة الفقیه المحدث. و عبد العزیز بن حجة الحموی الشاعر الأدیب و أبو المحاسن محمد بن نصر بن عنین الدمشقی الشاعر (632) و محمد بن أبی الفضل الدّولعی الفقیه الخطیب الدمشقی (635) و محمد شمس الدین الأنصاری الکاتب بدمشق (650) و محمد بن العفیف التلمسانی الشاعر (688) و محمد بن سوار ابن إسرائیل شاعر (677) و محمد بن عبد المنعم التنوخی شاعر (669) و ابن الساعاتی الشاعر الدمشقی صاحب الدیوان المطبوع (604) و فتیان الشاغوری الدمشقی الشاعر المبدع (615) و تقی الدین الیلدانی المحدث (655) و علی بن عمر المشد شاعر (656) و أبو المحاسن الشواء الشاعر الحلبی (635) و محمد بن أبی الیسر التنوخی الدمشقی الکاتب الشاعر (669) و عبد الرحمن بن إبراهیم الفزاری البدری الدمشقی إمام فقیه ناظم ناثر له تصانیف جیدة (690) و محمد ابن سعادة مفسر أصولی فقیه نحوی عالم بالخلاف و الأدب و الفرائض (693) و عبد العزیز السلمی الفقیه المجتهد له تصانیف (660) و عبد الرحمن بن نجم الحنبلی الواعظ الفقیه (634) و محمد بن عبد الواحد السعدی المحدث الأصولی الفقیه له عدة تصانیف (643) و الحافظ خالد بن یوسف النابلسی (663) و أبو السخاء فتیان الحلبی النحوی. و یحیی بن حمیدة الحلبی المعروف بابن أبی طی صاحب التاریخ و طبقات العلماء (630) و یحیی بن محمود الثقفی الحلبی محدث.
و أحمد بن محمد الطرسوسی الحلبی محدث و یعیش بن علی الحلبی النحوی المعروف بابن الصائغ شرح المفصل للزمخشری المطبوع و شرح تصریف الملوکی لابن جنی المطبوع منه المتن (643). و کانت حلب لما دخلها ابن خلکان فی هذا العصر فی سنة (626) للاشتغال بالعلم أمّ البلاد مشحونة بالعلماء و المشتغلین. و مما انفرد
خطط الشام، ج‌4، ص: 44
به هذا القرن علی صورة لم یسبق لها مثال إنشاء ثلاث مدارس للطب و مدرسة للهندسة فی دمشق فکان فی هذه العاصمة أعظم جامعة إسلامیة عربیة حوت العلوم الدینیة و الدنیویة فلم تکن دون القاهرة بأزهرها الذی بنی فی القرن الرابع و لا بغداد بمدرستها النظامیة.

الإمام ابن تیمیة و الإصلاح الدینی و الأدب و العلم فی القرن الثامن:

اختص القرن الثامن بقیام أعظم مصلح فیه و فی قرون کثیرة من قبله و من بعده، أراد إرجاع الدین إلی نضرته الأولی، و تعریته من القشور التی ألصقها به الجهلة المتنمسون، فآذوه و عذبوه، و سجنوه و نفوه، و نعنی به شیخ الإسلام تقی الدین أحمد بن تیمیة نابغة النوابغ فی الشرع و صاحب التآلیف العدیدة الممتعة المطبوعة، و إمام المعقول و المنقول، و سید العلماء، و رأس الفقهاء (728) و إن دمشق لتفاخر و حق لها الفخر بأنها تجلت فیها روح ابن تیمیة، و دفنت أعظمه فی تربتها، و لکن عصره یخجل کل الخجل من أعمال من ناهضوه مدفوعین بعامل الحسد، و لا سیما المشایخ بنو السبکی الذین آذوه فأکثروا من أذاه، طمعا فی نیل الحظوة من العامة و الملوک و استعانوا بنفوذهم السیاسی فی حکومة مصر و الشام فاعتقلوه زمانا فی القاهرة و الإسکندریة و دمشق، و الأمة و عقلاء علمائها تقدسه حتی لقی ربه. و قد أشبه ابن تیمیة فی دعوته فی الإسلام «لوثیروس» صاحب المذهب الإنجیلی فی النصرانیة بید أن مصلح النصرانیة نجح فی دعوته، و مصلح الإسلام أخفق و یاللأسف.
قال السیوطی: إن دمشق کثر بها العلم فی زمن معاویة ثم فی زمن عبد الملک و أولاده و ما زال بها فقهاء و محدثون و مقرئون فی زمن التابعین و تابعیهم ثم إلی أیام أبی مسهر و مروان بن محمد الطاطری و هشام و دحیم و سلیمان بن بنت شرحبیل ثم أصحابهم و عصرهم. و هی دار قرآن و حدیث و فقه، و تناقص بها العلم فی المائة الرابعة و الخامسة و کثر بعد ذلک و لا سیما فی دولة نور الدین
خطط الشام، ج‌4، ص: 45
و أیام محدثها ابن عساکر و المقادسة النازلین بسفحها ثم کثر بعد ذلک بابن تیمیة و المزیّ و أصحابهما.
و نبغ أفراد فی هذا العصر و لا سیما فی الفلک و التاریخ و الجغرافیا و الحدیث، و منهم بدمشق البرزالی محدث الشام و صاحب التاریخ و المعجم الکبیر (740) و الحافظ جمال الدین المزی صاحب التصانیف (742) و الحافظ محمد بن قایماز الذهبی عالم الشریعة و الأدب و التاریخ و له عشرات من المصنفات أکثرها فی التاریخ و الرجال منها تاریخ الإسلام و المشتبه و میزان الاعتدال و طبقات الحفاظ و هذه الثلاثة الأخیرة مطبوعة (748) و الحافظ عماد الدین بن کثیر المفسر المؤرخ الفقیه صاحب التآلیف و منها تاریخه المطول المطبوع (774) و محمد بن أبی بکر الزرعی المعروف بابن قیم الجوزیة الدمشقی الإمام الحجة المجدد من أکبر أنصار شیخ الإسلام ابن تیمیة (751) طبعت بعض کتبه فی السنة و من أهمها إعلام الموقعین. و أحمد بن فضل اللّه العمری الدمشقی إمام أهل الأدب و التاریخ و الجغرافیة و الأسطرلاب و حل التقاویم و صور الکواکب و له عدة مصنفات منها مسالک الأبصار و التعریف بالمصطلح الشریف و هما مطبوعان. و مسالک الأبصار معلمة أدبیة تاریخیة کبری (749) و صلاح الدین خلیل بن أیبک الصفدی الأدیب المؤرخ صاحب الکتب المهمة من المطبوع منها الوافی بالوفیات (أجزاء) و نکت العمیان و شرح قصیدة ابن زیدون و الأرب من غیث الأدب و تشنیف السمع و الغیث المنسجم و نسب الجراکسة و لوعة الشاکی و جنان الجناس إلی غیر ذلک (764) و الملک المؤید إسماعیل أبو الفداء و کان عالما فقیها مؤرخا جغرافیا فلکیا منها تاریخه و کتابه تقویم البلدان و هما مطبوعان (732) و کان یفضل علی العلماء کثیرا أوی إلیه أثیر الدین الأبهری فرتب له ما یکفیه و رتب لجمال الدین ابن نباتة فی دمشق کل سنة ستمائة درهم غیر ما یتحفه به. و بعمل الملک المؤید أبی الفداء و عمل أسرته من قبل و من بعد أصبحت حماة مدینة علم و أدب و خرجت رجالا یفتخر بهم فی تاریخ العلم و کانت أشبه بالقری فی القرون الأولی للفتح الإسلامی. و مثل هؤلاء الملوک علی صغر ممالکهم کانوا مادة العلم و الأدب فی تلک العصور، و کثیرا ما کان ملوکنا هؤلاء یحتالون
خطط الشام، ج‌4، ص: 46
لنشر العلم بطرق غریبة حتی إن الملک المعظم عیسی بن الملک العادل شرط لکل من یحفظ المفصل للزمخشری مائة دینار و خلعة فحفظه لهذا السبب جماعة. و من قرأ المفصل تعلم النحو و الأدب معا. و فی أواخر دولة المعظم عیسی هذا و فی دولة أبیه داود اشتهر بدمشق الاشتغال بعلوم الأوائل و کثر ذلک فأخمد فی الدولة الأشرفیة. و لعل ما نال أصحاب ابن حزم الظاهری من الضرب الذی أوعز به ملک مصر إلی فقهاء الشام فی القرن الثامن کان من جملة ما ارتآه الجامدون من الأسباب للنیل من المجددین.
و جاء فی هذا العصر أبو بکر محمد الأنصاری المعروف بشیخ الربوة الدمشقی کان یعرف الرمل و الأوفاق و نحو ذلک من العلوم و هو صاحب نخبة الدهر فی القوزموغرافیا و الجغرافیا المطبوع و السیاسة فی علم الفراسة (727) و أبو بکر بن عبد اللّه بن أیبک صاحب صرخد له تآلیف کثیرة. و محمد الأکمل بن مفلح الدمشقی الفقیه المؤرخ (764) و محمد بن شاکر الکتبی صاحب التصانیف منها فوات الوفیات المطبوع و عیون التواریخ (764). و عمر بن الوردی المعروف بابن أبی الفوارس صاحب التاریخ و دیوان الشعر و المقامات المطبوعة کان فقیها أدیبا (749). و علی بن إبراهیم علاء الدین بن الشاطر الفلکی الدمشقی (777) و یعرف أیضا بالمطعم الفلکی، کان أوحد زمانه یعرف تطعیم العاج و عالما بالهیئة و الحساب و الهندسة و کانت له ثروة و مباشرات و دار من أحسن الدور وضعا و أغربها، و له الزیج المشهور و الأوضاع الغریبة التی منها البسیط الموضوع فی منارة العروس بجامع دمشق یقال: إن دمشق زینت عند وضعه، و فی تاریخ الصالحیة أن ابن الشاطر هو صاحب الأسطرلاب و البسیط و کان له نظر علی التوقیت بالجامع و ألف الزیج و الکرة و له الرسالة علیها. و یعرف علم الخیط فی المزولة و ترکیبها.
و من المهندسین محمد بن إبراهیم المهندس و المعلم عمر بن نجیم و المعلم محمد الصفدی و المعلم علی بن محمد التقی المهندس کان معاصرا لابن فضل اللّه و حدثه بأحادیث عن الجامع الأموی و شهاب الدین أحمد الحموی النقاش کتب الختمة
خطط الشام، ج‌4، ص: 47
الشریفة من أولها إلی آخرها علی خوصة مفصلة الأجزاء و السور. و من المحدثین الحافظ علی بن محمد الیونینی البعلی (701) قال الزبیدی و له و لأبیه ترجمة حسنة و إخوته البدر الحسن و القطب موسی و أمة الرحیم حدثوا و من ولده الصدر عبد القادر و عم أبیه الزین عبد الغنی و هم بیت علم و حدیث. و عمر بن إبراهیم العجمی الحلبی فقیه فرضی حاسب له مصنفات (777) و حسن بن عمر بن حبیب الحلبی له عدة تآلیف منها درة الأسلاک فی دولة الأتراک و أکثر کتبه مسجعة (779) و علی بن مظفر الوداعی المقرئ المحدث الکاتب وقف التذکرة الکندیة فی خمسین مجلدا وضعها فی المدرسة السمیساطیة و هی بخطه فی فنون مختلفة (716) و قاضی القضاة بدمشق عبد اللّه المقدسی (731) و الجلال القزوینی إمام البیان صاحب المصنفات و المثل السائر فی الخطابة (739) و علی ابن سلیم بن ربیعة الأذرعی فقیه أدیب نظم التنبیه فی الفقه فی ستة عشر ألف بیت و شعره کثیر (732) و عبد اللّه بن مروان الفارقی الخطیب الفقیه (703) و أحمد بن إبراهیم بن سباع الفزاری الخطیب النحوی المحدث (705) و محمد ابن أبی بکر الأرموی القرافی صاحب التآلیف (714) و صلاح الدین خلیل ابن کیکلدی الدمشقی ثم المقدسی أخذ عن مشایخ الدنیا له عدة مصنفات محررة (761) و شیخ قراء دمشق أحمد بن محمد بن أبی الحزم سبط السلعوس (731) و أحمد بن البرهان له مصنفات (738). و محمد بن عبد الهادی البحر الزاخر فی العلم (744) و شیخ القراء ذو الفنون إبراهیم بن عمر الجعبری بالخلیل (732) و تصانیفه کثیرة. و محمد بن جماعة الکنانی الحموی له معرفة بفنون و له عدة مصنفات (733) و محمد بن علی المؤذن المعروف بابن أبی العشائر (789) له عدة مصنفات منها تاریخ قنسرین. و عبد الرحمن الفقیه المواقیتی سبط الأبهری و کان له ید طولی فی الریاضی و الوفق و العملیات و مشارکة فی فنون (733) وهبة اللّه البارزی الجهنی الحموی المؤلف العالم المشهور (738) و عثمان بن محمد البارزی الحموی شرح الحاوی فی الفقه (730) و إسماعیل بن محمد بن جمال الدین بن الفقاع الحموی (715) العالم بالقرآات العربیة درس فی عدة مدارس بحماة و شهاب الدین السبکی الفقیه له تآلیف (771) و الکمال ابن الزملکانی الفقیه الأصولی العالم بالعربیة صاحب الرسائل (727) و الأمیر
خطط الشام، ج‌4، ص: 48
العالم الشاعر أبو بکر محمد بن صلاح الدین بن صاحب الکرک (730) و سلیمان ابن أبی العز الأذرعی الفقیه (707) و القاسم بن محمد الإشبیلی المحدث المؤرخ (739) و محمد بن سلیمان الصرخدی المصنف الجامع بین أشتات العلوم (792) و قاضی القضاة یوسف المحجی (738) و ابن أخیه محمود بن محمد ابن جبلة الخطیب و محمد بن إسماعیل الکفربطناوی من فقهاء المدارس، و قاضی قضاة دمشق إبراهیم بن عبد الباعونی و محمد بن یعقوب المعروف بابن الصاحب الحلبی (763) فقیه أدیب کاتب و محمد بن عیسی البعلی کان صاحب فنون (730) و أسمی بنت محمد بن سالم بن صصری التغلبیة المسندة المحدثة (733) و زینب بنت الکمال محدثة قرأ علیها کبار العلماء. و ست العرب ابنة محمد بن علی الدمشقیة المحدثة کانت حیة سنة 766 و من الأطباء سلیمان بن داود کبیر الأطباء بدمشق (732) و أحمد بن الصلاح البعلبکی الطبیب فی بعلبک صاحب التآلیف.
و من الشعراء و الکتاب علاء الدین بن غانم کاتب شاعر (737) و الحسن بن علی المحدث الکاتب المجود (732) و محمد بن الحسن الصائغ العروضی الأدیب الشاعر له تآلیف (722) و أحمد أبو جلنک الشاعر الحلبی (701). و من کتاب هذا القرن الشهاب محمود الحلبی صاحب حسن التوسل فی معرفة صناعة الترسل (755) و أحمد الأنصاری. إلی أمثالهم ممن نبطوا العلم و نشروه و أظهروه.
و یلاحظ أن أعلاما من العلماء اشتهروا فی هذا القرن و الذی قبله و بعده، و کثیر منهم نشأ من قری الجنوب و الشمال، و القری ما زالت مادة المدن فی العلم و الأدب کما هی فی الزرع و الضرع، و من مواطنهم الیوم من لا یعرف شیئا مما یطلق علیه اسم العلم، و بعضها فی جاهلیة جهلاء، مثل زملکا و حرستا و کفربطنا و المزة و یلدا و داریا و إزرع و محجة و نوی و الجیدور و یبرود و البقاع و عجلون و صرخد و متان و قمرا و حسبان و الکرک و جبرین و یونین و أنطاکیة و صفد و بعلبک و المعرة و کفرطاب و شیزر. و توشک بعض تلک القری أن تدثر، و أعمال النابغین فیها خالدة خلود الدهر فسبحان من هذا شأنه.
خطط الشام، ج‌4، ص: 49

العلوم فی القرن التاسع:

بدأت طلائع الانحطاط فی القرن التاسع، فلم ینبغ فی الشام رجل أحدث عملا علمیا عظیما، أو دل علی نبوغ فی فرع من فروع العلم، و کثر فیه الجماعون و المختصرون و الشارحون من المؤلفین، و السبب أن حکومة الممالیک البرجیة و البحریة کانت تشتد فی إرهاق المتفلسفة و المتفقهة علی غیر الأصول المتعارفة التی لم یشتهر منها سوی أربعة أئمة: الحنفی و الشافعی و المالکی و الحنبلی. فکان المخالف قلیلا یعزر علی مذهب المالکیة، و القتل أیسر مراتب التعزیر عندهم، ثم زادت الحال اشتدادا فی أوائل القرن بانسیال جیوش تیمورلنک علی القطر، و قتله لبعض العلماء، و حمله إلی سمرقند کل ممتاز بعلم أو صناعة.
و مع هذا نشأ فی هذا القرن أفراد قلائل فی العلم ذکر التاریخ تراجمهم، و منهم أبو بکر بن أحمد ابن قاضی شهبة صاحب الطبقات و غیره (851) و أحمد بن علاء الدین حجی الحسبانی الدمشقی الحافظ المؤرخ له کتاب سماه الدارس فی أخبار المدارس و لعله الأصل لکتاب النعیمی فی المدارس و له ذیل علی تاریخ ابن کثیر و غیره (815) و أحمد بن محمد بن عربشاه له عدة مصنفات فی الأدب و التاریخ شاعر کاتب مجید فی اللغات العربیة و الفارسیة و الترکیة و من تآلیفه عجائب المقدور فی أخبار تیمور و هو مطبوع (854) و صالح بن یحیی صاحب تاریخ بیروت و أمراء الغرب المطبوع کان فی أواسط القرن التاسع و نقل عن أحمد بن شباط الغربی الأدیب المؤرخ أیضا.
و من الفقهاء إبراهیم بن محمد العجلونی الفقیه کان فی الشامیین نظیر البیجوری فی المصریین (825) و إبراهیم بن إبراهیم النووی متمیز فی الفرائض و الحساب و متعلقاتهما له تآلیف (850) و إبراهیم بن علی الحسنی البقاعی له مصنفات فی الفقه و النحو و المنطق و الحکمة و أدب البحث و غیرها.
و إبراهیم بن محمد بن مفلح فقیه (803) و عبد اللّه بن مفلح رئیس الحنابلة (834) و تقی الدین الحصنی عالم له مصنفات فی الفقه و غیره (829) و أبو بکر محمد بن مزهر الدمشقی الفقیه انتهت إلیه ریاسة عصره (832) و علاء الدین البهائی الغزولی عالم دمشق (885) له کتاب مطالع البدور فی منازل
خطط الشام، ج‌4، ص: 50
السرور مطبوع، و إبراهیم البقاعی ترک مائة مؤلف کان إماما بالعربیة و الأدب و الدین و التاریخ له نظم الدرر فی تناسب الآی و السور فی التفسیر و عدة تواریخ للرجال، و عبد اللّه التنوخی الأمیر اللبنانی المعروف بالسید فقیه أدیب مشارک فی الطب و الفلک طبعت بعض رسائله فی الوعظ (884)، و محمد بن أحمد الباعونی (871) له مؤلفات منها منظومات فی التاریخ.
و نشأ فی هذا القرن أحمد الطولونی کبیر المهندسین و کان أبوه وجده مهندسین. و خلیل بن جمال الدین الأدیب المؤرخ الدمشقی صنف تاریخا للحوادث و غیره (815) و محمود العینی (855) الفقیه المؤرخ له عدة مصنفات فی التاریخ و غیره. و عبد الرحمن ابن العینی عالم دمشق فی هذا القرن.
و أحمد المقدسی المشهور بابن زوجة أبی عذیبة (856) صاحب تاریخ دول الأعیان.
و أحمد بن حجر العسقلانی الفقیه المحدث المؤرخ (852) صاحب تاریخ الدرر الکامنة (المطبوع) و إنباء الغمر. و أحمد بن خلیل المعروف بابن اللبودی له أدب و شعر و بعض تآلیف (896) و أحمد بن المحوجب عالم بالدینیات و اللسانیات. و أحمد بن عبد اللّه العامری فقیه أصولی له تآلیف.
و أحمد بن محمد الکشک عالم فقیه (837) و زین الدین بن رجب الحنبلی له عدة مصنفات و منها طبقات الحنابلة المطبوع. و أبو العباس المالکی الفقیه العالم المفنن له عدة مصنفات. و عبد الرحیم بن عبد الرحمن الحموی فقیه أدیب له مصنفات. و محمد بن خلیل القباقیبی الحلبی (849) إمام فی القراآت صنف فیها. و عبد اللّه ابن قاضی عجلون فقیه عالم بالمعقولات (865) و قاضی القضاة العونی الناصری خطیب الخطباء (815). و صدقة الجیدوری المقرئ (825) و نور الدین أبو الثناء خطیب الدهشة استوطن حماة له تآلیف کثیرة.
و محمد الجزری الدمشقی المقرئ صاحب المصنفات الجلیلة منها کتاب الطبقات، و النشر فی القراآت العشر طبعا (833) و عائشة بنت عبد الهادی محدثة دمشق (815) و أبو البقاء البدری له تآلیف (887) و علاء الدین ابن خطیب الناصریة الحلبی المؤرخ (843) و أبو بکر بن علی بن حجة الحموی الأدیب الشاعر صاحب الخزانة و ثمرات الأوراق و غیرهما و هما مطبوعان و کان رئیس أدباء عصره (837). و زین الدین ابن الشحنة الحلبی الفقیه المؤرخ (815) کتب
خطط الشام، ج‌4، ص: 51
فی عدة فنون و له أراجیز فی اللغة و الدین و التصوف و الأحکام و الفرائض.
و محمود ابن الشحنة الفقیه الشاعر الأدیب (890) له عدة تآلیف منها الدر المنتخب فی تاریخ حلب طبع مختصره. و أحمد السرمینی الحلبی الفلکی (824) کان إماما فی الهیئة و حل الزیج و عمل التقاویم. و عبد الملک البابی الحلبی (839) علم بالقراآت له نزهة الناظرین فی الأخلاق. و عز الدین ابن عبد السلام السعدی المقدسی العالم الرحلة صاحب التآلیف (850). و البدر البشتکی محمد بن إبراهیم الدمشقی (830). و علی بن خلیل الطرابلسی (844) له کتاب فی الفقه اسمه معین الحکام. و ابن حبیب الحلبی (808) له عدة مصنفات.
و عبد اللّه بن جماعة المقدسی صاحب التآلیف (865). و البرهان الحلبی المحدث (841) و عبد اللّه توقشندی المقدسی عالم زمانه فی الأرض المقدسة (867).
و من علماء السریان نوح البقوفاوی بطریرک الیعاقبة فی حلب. و قد امتاز هذا القرن بکثرة المدارس فی لبنان قال الدویهی فی حوادث سنة 875 ه: و قد أحصینا أسماء من کان من النساخ فی ذلک العهد ممن وقفنا علی کتبهم فإذا هم ینیفون علی مئة و عشرة و فی ذلک الوقت أهملوا الخط الاسترنکالی المربع و تمسکوا بالسریانی المدور.

انحطاط العلم و الأدب فی القرن العاشر:

زاد انحطاط العلم فی القرن العاشر، فلم تکن أیام الترک العثمانیین میمونة علی المعارف فی هذه الدیار مثل القرنین السالفین. و کانت الآداب تسیر إذ ذاک بقوة التسلسل منبعثة من قوتها القدیمة، و إذ اختلف لسان الحاکم و المحکوم علیه، و خصت الوظائف الدینیة الکبری بجماعة السلطان من الترک، مالت النفوس عن العلم، اللهم إلا من کانت لهم فطر سلیمة عشقوه لفائدته و قلیل ما هم. ذکر المقدسی أن أهل الدولة العثمانیة کانوا لا یولّون المدارس فی الشام أحدا من أبناء العرب، زاعمین أن العلماء فی العرب کثیر و أنهم إن ولوا عربیا من غیر طریقهم، کثر الطالبون من أبناء العرب و عجزوا عن إرضائهم، و ضاق الأمر علی ملازمی الروم. و حصر الترک عنایتهم بالاستانة کما حصروها من قبل ببورصة، فجعل الفاتح القسطنطینیة عاصمة العلم، بل جامعة ذاک
خطط الشام، ج‌4، ص: 52
العصر، کما قال جودت. و کان العلماء بعد الفتح العثمانی یأتون إلی القسطنطینیة زرافات، و لذلک لم یکن حظ للولایات دع البعیدة من عنایة الدولة العثمانیة بها و ترقیتها فی العلم و الآداب.
و تسلسل العلم الدینی فی بعض البیوت بدمشق فی هذا القرن و الذی بعده علی صورة غریبة مثل بنی الغزی و حمزة و فرفور و العمادی و النابلسی و مفلح و ممن نبغ بدمشق محمد بن محمد الغزی العالم بعلوم اللسان و غیرها و له عدة مصنفات (935). و محمد بن بدر الدین الغزی الفقیه المفسر النحوی المحدث المقرئ الأصولی النظار المؤرخ و له مئة و بضعة مصنفات (984). و عبد الرحمن بن فرفور عالم بالتاریخ و الأدب (992). و امتاز فی الدینیات محمد بن حمزة (933) و علی بن إسماعیل بن عماد الدین (971) و إسماعیل النابلسی (993). و إبراهیم بن عمر بن مفلح (917). و کان فیه محمد بن علی بن طولون النحوی الفقیه المحدث المؤرخ صاحب مصنفات کثیرة فی التاریخ علی اختلاف ضروبه و منها المطبوع (953). و عبد القادر النعیمی المؤرخ المحدث ألف کتبا کثیرة منها الدارس (927). و عبد الباسط العلموی اختصر بعض کتب النعیمی و زاد علیها و منها مختصر الدارس (981). و ابن سکیکر الدمشقی المؤرخ له زبدة الآثار فی ما وقع لجامعه فی الإقامة و الأسفار (987). و بهاء الدین محمد بن یوسف الباعونی و مؤلفاته مثل مؤلفات عمه أراجیز تاریخیة (910).
و من علماء القرن فی دمشق محمد بن محمد بن سلطان العالم الفقیه صاحب التآلیف (950). و محمد بن مکی عالم بالطب و الهیئة و الهندسة و الفلک (938) و عرف بالمهارة فی الفقه و غیره. و أبو بکر البلاطنسی (936). و أبو بکر محمد القاری (935) و أبو الفتح البستری (962). و أحمد بن محمد الشویکی له تآلیف (966) و إسماعیل الکردی البانی عالم بالمعقولات (956). و عثمان الآمدی و هو خطیب متفنن (985). و محمد بن محمد بن عماد الدین عالم فی الدینیات (986). و أحمد بن أحمد الطیبی الفقیه النحوی له عدة مصنفات (979) و أسد الشیرازی عالم فی البلاغة و العربیة و المنطق و الأصلین و الفقه (998).
و محمد بن هشام نحوی (907)، و محمد بن منیعة (904). و محمد الکنجی له ید فی النحو و الحساب و المیقات و القرآن (932). و محمد الکفرسوسی
خطط الشام، ج‌4، ص: 53
(932). و محمد المیدانی عالم بالقراآت و العربیة له عدة مصنفات (923).
و إبراهیم بن الهلالی فقیه محدث (916). و أبو بکر ابن قاضی عجلون إمام مفنن (928).
و جاء فی القدس عبد الرحمن بن محمد مجیر الدین العلیمی صاحب تاریخ القدس و الخلیل المطبوع. و برهان الدین المقدسی الفقیه الأدیب له عدة مصنفات (922). و فی غزة أبو عبد اللّه محمد بن قاسم الغزی (918) له کتب فی الفقه و الأصول و غیرها. و إبراهیم بن یوسف الحنبلی المعروف بابن الحنبلی له عدة کتب (959). و فی دمشق یوسف بن عبد الهادی (909) الفقیه المؤرخ صاحب الرسائل و الکتب الکثیرة فی الفنون المختلفة و هو أشبه بالسیوطی فی مصر بکثرة تآلیفه و تنوع موضوعاته طبع له کتاب مساجد دمشق. و فی حلب محمد ابن الحنبلی المؤرخ العالم له عدة تآلیف منها تألیف فی تاریخ حلب (971). و عبد البر ابن الشحنة الحلبی الأصولی الفقیه (921). و عمر الشماع الحلبی المؤرخ المحدث له عدة مصنفات (936). و فی الرملة شمس الدین الرملی العالم الفقیه (923). و نشأ فی حلب خلیل بن أحمد الشیخ غرس الدین (971) عالم بالحساب و المیقات و الهیئة و الوفق و الموسیقی و الطب و هو صاحب شجرة الإفادة بشرقیة جامع حلب الأعظم. و فی حماة محمود بن أبی بکر المعری الحموی الحلبی الفقیه. و فی دمشق هاشم بن السید الطبیب ناصر الدین السروجی (964).
و فی حماة محب الدین بن داود الحموی له تآلیف. و فی دمشق موسی بن یوسف بن أیوب القاضی شرف الدین الدمشقی الشافعی ألف تاریخا فی مجلد و تذکرة فی مجلدین (1000).
و مع انحطاط محسوس فی حرکة العقول فی هذا العصر کان فی الشام بعض النساء العالمات مثل فاطمة بنت قریمزان شیخة المدرستین العادلیة و الزجاجیة معا انتهت إلیها ریاسة أهل زمانها بحلب أخذت العلم عن زوجها (966).
و بوران بنت الشحنة الشاعرة الحلبیة (938). و عائشة الباعونیة الدمشقیة المحدثة المتصوفة الشاعرة المجیدة لها عدة تآلیف و منها البدیعیة و شعرها لطیف (922).
خطط الشام، ج‌4، ص: 54

الآداب فی القرن الحادی عشر:

أما القرن الحادی عشر فشبیه بتالیه و سالفه من حیث قلة الإبداع و التجدد و الاکتفاء بالموجود، لکن عدد العالمین و المتأدبین کان أکثر علی ما یظهر أو أنه دوّن کله و لم یفقد، فقد نشأ فی دمشق أحمد بن محمد الغزی فقیه له بعض التآلیف (1017) و محمد أکمل الدین بن مفلح المحدث الرحلة المؤرخ کتب تاریخا ترجم فیه معاصریه و له تعلیقات تاریخیة مهمة (1011). و النجم محمد الغزی محدث الشام صاحب التآلیف منها فی التاریخ و تراجم الرجال (1061). و أحمد بن سنان القرمانی الأدیب المؤرخ صاحب التصانیف و له تاریخ آثار الدول المطبوع (1019). و عبد الوهاب الفرفوری الفقیه (1073).
و أحمد بن أبی الوفاء بن مفلح الحنبلی الفقیه المحدث عارف بالفرائض و الحساب و التاریخ (1038). و من الفقهاء محمد الداودی (1006). و من علماء العربیة محمد الخوخی (1022). و فی الفقه محمد الحصکفی صاحب التصانیف فی الفقه و غیره (1088). و محمود الباقانی له عدة تصانیف (1003). و أبو بکر ابن عبد عرف أبوه بمنلا جامی (1077). و أحمد بن محمد الزریابی فقیه المالکیة (1050). و کمال الدین بن مرعی العیتاوی الفقیه (1086). و رمضان العطیفی الفقیه النحوی الراویة (1095). و عبد الباقی بن فقیه فصة محدث مقرئ أثری (1091). و یحیی الشاوی له تآلیف. و شمس الدین بن بلبان عالم بالسنة (1083). و الشاکر الحموی کان متصوفا ناظما و ناثرا و له دیوان فی ثلاث مجلدات.
و من أدباء هذا القرن و شعرائه أبو بکر بن منصور العمری (1048) و إبراهیم الصالحی الشاعر المعروف بالأکرمی (1012). و عمر بن محمد المعروف بابن الصغیر شیخ الأدب بالشام بعد شیخه أبی بکر بن منصور العمری شاعر مجید عارف بالطب (1065). و إبراهیم الفتال الشاعر (1098). و أبو بکر ابن أحمد المعروف بابن الجوهری. و محمد الکریمی (1068). و عبد الکریم الطارانی الشاعر الکاتب المؤرخ (1041). و عبد اللطیف البهائی شاعر متفنن (1082). و عبد اللطیف بن المنقار شاعر (1057). و الحسن البورینی الشاعر اللغوی له تآلیف منها تراجم رجال عصره و شرح دیوان ابن الفارض المطبوع
خطط الشام، ج‌4، ص: 55
(1024). و أحمد العنایاتی الشاعر (1014). و أحمد بن الشاهینی الأدیب اللغوی (1053). و أحمد الصفوری الشاعر الأدیب المؤرخ (1043). و أحمد ابن محمد بن المنقار أدیب شاعر (1032) و إسماعیل النابلسی الفقیه له بعض التآلیف (1062). و درویش محمد بن أحمد الطالوی الدمشقی الأدیب (1014) و منجک بن محمد بن منجک صاحب الدیوان المطبوع (1080). و شهاب الدین العمادی شاعر منشئ (1098). و عبد الحی العکری المعروف بابن العماد مصنف أدیب مفنن أخباری أثری له شذرات الذهب فی التاریخ مطبوع (1087). و عبد الرحمن بن النقیب منشئ شاعر (1081). و إبراهیم العمادی أحد بلغاء الشام المذکورین (1098). و أحمد بن المنلا النخجوانی الملقب بالمنطقی شاعر ناثر فقیه ینظم و ینثر فی الألسن الثلاثة العربیة و الفارسیة و الترکیة.
و ظهر فی دمشق فی العلوم و الفنون بضعة أفراد منهم علاء الدین بن ناصر الدین علی الطرابلسی اشتهر بالریاضیات و القراآت و الفرائض و الفقه و له تآلیف (1032). و عمر بن محمد القاری عالم مفنن له باع فی الهیئة (1046).
و عمر بن یحیی المعروف بالدویک کان عارفا بفنون عدیدة منها الریاضیات و الفلک و المیقات و له شعر (1083) و محمد بن یونس الطبیب الخطیب (1008) و المنلا محمود الکردی عالم فی کثیر من الفنون (1047). و ابن الحکیم المصاحب أبو بکر بن محمود رئیس أطباء دمشق و خطیب أمویها عالم فی العلوم الغریبة مثل علم الوفق و علم الحرف و له ید طولی فی العقلیات (1007). و عبد القادر ابن عبد الهادی ریاضی فقیه أصولی (1100). و عبد الحی بن محمد بن عماد عالم بالریاضیات (1089). و إبراهیم بن الأحدب الزبدانی محدث فرضی رحالة أخذ الفرائض و الحساب عن العلامة محمد النجدی و یلحق بابن الهائم فی هذین العلمین (1010). و نشأ فی هذه المدینة أیوب الخلوتی من المتصوفة له فی التصوف رسائل (1071). و من الخطباء الشهاب أحمد بن یحیی البهنسی الخطیب ابن الخطیب ابن الخطیب و أحمد بن محمد البصراوی و یعرف بابن الإمام (1003).
و جاء فی المدن الأخری أبو الجود عبد الرحمن الحلبی البترونی کان محققا فی المذهب و التفسیر و البحث نظارا (1039). و أبو الوفاء محمد بن عمر العرضی الحلبی متفرد بالإتقان و الحفظ و الضبط له تاریخ معادن الذهب و له رسائل
خطط الشام، ج‌4، ص: 56
و تآلیف (1071). و محمود البیلونی الحلبی کان إذا تکلم فی فن من العلم یقول سامعه لا یحسن غیره (1007). و فتح اللّه البیلونی الحلبی له عدة مصنفات و حواش و مجامیع و شعر (1042). و نور الدین بن برهان الحلبی صاحب السیرة الحلبیة المطبوعة و غیرها من الحواشی و الشروح و الرسائل (1044)، و علی البصیر له کثیر من التآلیف فی الفقه و غیره (1090). و محمد بن حسن الکواکبی رئیس حلب فی الفنون و العلوم ألف مؤلفات کثیرة فی الفقه و التفسیر و هو شاعر مجید (1096). و عبد الوهاب بن رجب إمام فی العربیة (1015).
و علی البصیر الحموی له تآلیف فی الفقه و غیره. و محمد بن أبی بکر الحموی له تآلیف عدیدة فی الفقه و التفسیر و العربیة و رسائل و رحلات و کان عالما بالفرائض و الحساب و المنطق و الحکمة و الزایرجا و الرمل و هو جد الشیخ محمد المحبی مؤلف خلاصة الأثر (1016).
و من علماء السریان أندراوس اخبیجان الحلبی أول بطارکة الکاثولیک.
و أبو السعود الکورانی الحلبی الشاعر الأدیب (1056). و أحمد بن خلیل الأطاسی الحمصی الفقیه مفتی حمص و عالمها (1004). و أحمد بن النقیب الحلبی الأدیب المتفنن (1056). و باکیر بن أحمد المعروف بابن النقیب الحلبی لم یکن فی حلب من أدباء عصره أکثر روایة منه للنظم و النثر (1094).
و بشیر بن محمد الخلیلی القدسی الأدیب الشاعر لم یکن فی زمنه من أقرانه من یدانیه فیه إلّا شرف الدین العسیلی (1060). و تقی الدین التمیمی الغزی صاحب الطبقات السنیة فی تراجم الحنفیة (1010). و حسن بن محمد أبو الفوارس الحموی المعروف بابن الأعوج أمیر حماة شاعر اجتمع عنده من الشعراء ما لم یجتمع عند أحد من أمراء عصره. و حسین الجزری الحلبی الشاعر (1033).
و حسین بن عبد اللّه المعروف بالمملوک متصوف (1034). و خیر الدین الرملی المفسر المحدث الفقیه اللغوی صاحب التآلیف و الفتاوی و منها المطبوع (1081) و رجب بن علوان الحموی أمهر ما کان فی العلوم الریاضیة کالهیئة و الحساب و الفلک و الموسیقی و غیرها (1087). و سرور بن سنین الحلبی شاعر (1020) و صالح بن سلوم الحلبی رئیس الأطباء (1081). و صلاح الدین الکورانی الحلبی شاعر (1049). و عبد الحق الحمصی الملقب زین الدین الحجازی
خطط الشام، ج‌4، ص: 57
عالم بالمعقولات. و عبد اللّه بن حجازی الحلبی الشهیر بابن قضیب البان مطبوع بشعره و إنشائه فی الألسن الثلاثة و له تآلیف (1096). و فتح اللّه النحاس الحلبی الشاعر (1052). و محمد القاسمی الحلبی شاعر ناثر (1054). و محمد الکواکبی الحلبی عالم فی المنقول و المعقول (1096). و محمد بن عبد القادر الشهیر بالحادی الصیداوی أدیب فقیه (1042). و محمد التمرتاشی الغزی رأس الفقهاء الحنفیة له التآلیف الکثیرة (1004). و محمد بن علی المعروف بالحریری و بالحرفوشی العاملی الدمشقی اللغوی النحوی الأدیب الشاعر صاحب التصانیف الکثیرة (1059). و محمد البیلونی الحلبی راویة الشعر و الوقائع خبیر بصنعة النقد أدیب (1085)، و محمد بن محمد الحلفاوی الحلبی أدیب (1054) و محمد العسیلی القدسی له تصانیف دینیة. و موسی الرام حمدانی الحلبی البصیر متفنن فی الریاضیات و العلوم الحکمیة و علم الحرف و الأخبار و الأدب (1089).
و بهاء الدین العاملی الفقیه الأدیب صاحب المخلاة و الکشکول و غیرهما من کتب الأدب المطبوعة. و محمد الفصی البعلبکی الفقیه و آباؤه کلهم رؤساء العلم فی تلک الناحیة و له تآلیف (1024). و أبو الوفاء بن معروف الحموی له تآلیف (1016). و حسین الأشقر کان جامعا لأنواع الفنون (1042).
و عبد القادر بن قضیب البان کان له ما ینیف علی أربعین تألیفا (1040).
و عبد النافع بن عمر الحموی کان متضلعا من العلوم شاعرا (1016). و داود الأنطاکی و یعرف بالشیخ الصوری (1005) ألف کتابا فی السب سماه تذکرة أولی الألباب مطبوع. و تقی الدین الغزی التمیمی (1005) له الطبقات الحنفیة.

العلوم و الآداب فی القرن الثانی عشر:

دخل القرن الثانی عشر و لا تجدید فیه و لا جدید، إلا النظر فی قضایا قدیمة لاکتها الألسن قدیما لا إبداع فیها و لا اختراع، فالمسائل الدینیة المقررة تنتقل خلفا عن سلف، و الآداب العربیة تنحط حتی أصبح الشعر و النثر فی حالة مخزیة و «صارت الفتوی و القضاء و المناصب العلمیة ملعبة و شعبذة و سخریة و المدارس مأوی الحمیر». کما قال أحد العارفین بذاک القرن. و جاء فی العاصمة زمرة من العلماء منهم إبراهیم بن حمزة محدث لغوی (1120). و أبو
خطط الشام، ج‌4، ص: 58
الإسعاد بن أیوب عارف بعلوم جمة مبرز فی علوم الأبدان (1106). و أبو الصفا المفتی فقیه مفسر نحوی. و أحمد بن حسین باشا الکیوانی أدیب کاتب صاحب الدیوان المطبوع (1173). قال المرادی: و هو فی هذا القرن أی الثانی عشر کالأمیر منجک المنجکی فی القرن الماضی بل أرجح، و إن لم یکن أرجح منه فهو مقارن له. و أحمد بن عبد الکریم الغزی فقیه نحوی له تآلیف (1143). و أحمد بن علی المنینی المحدث اللغوی النحوی الأدیب له تآلیف منها شرح تاریخ الیمینی المطبوع (1172). و أحمد شاکر الحکواتی شاعر رحلة (1193). و أحمد الفلاقنسی أدیب منشئ (1173). و أحمد المهمنداری فقیه مفنن له شعر و أدب (1105) و أحمد البهنسی فقیه أدیب (1148).
و أحمد البقاعی أدیب مفنن شاعر (1171). و أسعد الطویل أدیب (1150).
و إسماعیل الحائک فقیه عالم (1113). و إسماعیل العجلونی رحلة له ید فی العلوم لا سیما الحدیث و العربیة و له تصانیف (1162). و حامد العمادی فقیه فرضی شاعر أدیب له تآلیف. و خلیل الحمصانی له ید فی التفسیر خاصة (1123). و زین الدین البصروی عالم أدیب (1102). و سعید الجعفری عالم أدیب له شعر (1183). و سعید السمان لغوی شاعر ناثر له تآلیف (1172).
و سعدی العمری شاعر ناثر (1147). و سعدی بن حمزة محدث فرضی حیسوب مهندس مساح (1132). و سلیمان الحموی المعروف بالسواری کاتب شاعر (1117). و صالح الجینینی محدث فقیه (1170). و عبد الجلیل المواهبی عالم فی المعقولات (1119). و عبد الرحمن الصنادیقی فقیه أصولی نحوی (1164).
و عبد الرحمن الغزی فقیه فرضی نحوی شاعر (1118). و عبد الرحمن الکیلانی عالم مدقق شاعر ناثر (1172). و عبد الرحمن البهلول شاعر لغوی أدیب (1163). و علی الطاغستانی عالم محقق مفنن (1129). و محمد الدکدکجی صوفی مقرئ متفنن (1131). و محمد الکفیری فقیه أدیب (1150). و محمد الغزی فقیه أدیب مؤرخ نسابة (1167). و محمد أمین المحبی عالم أدیب مؤرخ له تآلیف منها خلاصة الأثر المطبوع (1111). و محمود الجزیری عالم فی الزایرجا و الحرف و الأوفاق و الریاضیات (1141). و محمود العبدلانی عالم محقق (1173). و مراد المرادی عالم فی المعقول و المنقول له تآلیف (1132).
خطط الشام، ج‌4، ص: 59
و مکی الجوخی عالم أدیب متضلع له شعر و کتابة (1192). و مصطفی اللقیمی عالم فرضی حیسوب ناظم ناثر (1187). و مصطفی البکری عالم بلغت مؤلفاته 223 مؤلفا بین مجلد و کراسین و أقل و أکثر و له نظم کثیر و قصائد خارجة عن الدواوین تقارب اثنی عشر ألف بیت (1162). و مصطفی العلوانی الحموی أدیب ناثر ناظم (1193). و مصطفی السفرجلانی متفنن فی العلوم الحکمیة له رسائل فی المنطق و الفلسفة و الحکمة و الکلام و شعر و نثر (1191). و موسی المحاسنی عالم محقق (1173). و عبد الرحیم المخللاتی عالم فی الفرائض و الحساب و الفلک (1140). و عبد الرحمن الکابلی عالم محقق (1135). و عبد الرحیم الطواقی فقیه نحوی فرضی له بعض تآلیف و رسائل (1123). و عبد الرزاق الرومی فقیه له تآلیف. و عبد السلام بن محمد المعروف بالکاملی أو الکامدی فقیه أصولی نحوی أدیب (1147). و عبد الغنی النابلسی إمام فی التصوف و الفقه و التفسیر و علوم الأدب و له تآلیف کثیرة و نظم و نثر المطبوع منها شرح الطریقة المحمدیة و البدیعیة و کتاب فی الزراعة و دیوان و الرحلة القدسیة و الرحلة الحجازیة و غیرها (1126). و عبد الفتاح بن مغیزل أدیب طبیب (1195) عبد القادر التغلبی فقیه فرضی (1135) عبد القادر الکردی عالم محقق له ثلاثون تألیفا (1178). و عبد اللّه البصروی عالم محقق فی العلوم و الفنون مؤرخ (1170) عبد اللّه الطرابلسی أدیب شاعر له تآلیف و رسائل (1154) عبد اللّه المکتبی محقق فی الحساب و الفلک و الهیئة و التقویمات (1162). عثمان الشمعة عالم بالدینیات و علوم الأدب (1126). عثمان القطان عالم بالعقلیات و النقلیات (1115). عمر البغدادی عالم متصوف له رسائل (1194). عمر الرجیحی کاتب أدیب (1130). علی العمادی عالم أدیب (1117). علی التدمری فقیه نحوی فرضی عالم بالحرف و الزایرجة و الوفق (1131). علی کزبر عالم رحلة مقرئ (1165). محمد بن عیسی بن کنان مؤرخ أدیب (1153). یوسف ابن محمد الطرابلسی رئیس الأطباء.
هذا غایة ما یقال فی رجال دمشق أما فی المدن الأخری فقد نشأ فی حلب طه الجبرینی المفسر المحدت العالم بالمعقولات (1178). أحمد الکواکبی الفقیه المفسر الشاعر الأدیب (1124). أبو السعود الکواکبی العالم المحقق
خطط الشام، ج‌4، ص: 60
الشاعر (1137). و بنو الکواکبی و بنو الشحنة فی حلب من البیوت التی تسلسل فیها العلم عدة قرون. المطران جرمانوس فرحات (1145) کان یحسن عدة لغات و له تآلیف بالسریانیة و العربیة (طبع منها کتابه فی النحو) و هو تلمیذ عالم عصره سلیمان الحلبی. عبد اللّه زاخر (1162) مترجم الإنجیل و طابعه. عبد اللطیف الأطاسی الحمصی الأدیب عالم بالکیمیاء و الأوفاق و غیرها و له شعر کان حیا سنة 1140. البطریرک میخائیل جروة الحلبی. الایکونیموس بطرس التولوی. القس یوحنا زندو الحلبی. و عطاء اللّه زندو عبد المسیح لبیان الشاعر. و الشاعران میخائیل جبارة و أنطون ذکری. و یوسف الشراباتی.
و یواکیم البعلبکی الواعظ له تآلیف (1782 م).
و أحمد العکی العالم الفقیه له تآلیف کثیرة و شعر و أدب (1147) عبد اللّه الاطرابلسی المعروف بالأفیونی الفقیه له عدة تآلیف و شروح (1154). عبد المعطی الخلیلی له فتاوی و رسائل کلها منتخبة (1154). إبراهیم الحاقلی له عدة تآلیف ترجم عدة کتب من العربیة إلی اللاتینیة منها کتاب ابولونیوس فی الهندسة و مختصر فی الفلسفة الشرقیة و عدد تآلیفه 64 (1664 م). البطریرک اسطفان الدویهی العالم المؤرخ صاحب التاریخ المطبوع (1704 م)، علی البرادعی البعلی الواعظ کان جده الأعلی جلال الدین من العلماء الأجلاء. و محمد التاجی الحنفی صاحب الفتاوی التاجیة الفقیه (1114). السمعانی اللبنانی کتب بالعربیة و اللاتینیة منها المکتبة الشرقیة (1768 م) و له شهرة فی ایطالیا و إسبانیا و تآلیفه کثیرة قال الدبس بعد أن عدد تآلیفه: و أعجب بهذا الرجل الذی یعجز رجل و إن کان مغرما بالمطالعة عن أن یقرأ فی حیاته ما ألفه هو فی أوقات فراغه.
و القس یوسف البانی الحلبی ترجم عدة کتب إلی العربیة فی الدین المسیحی.
و البطریرک مکاریوس الحلبی نبغ فی أواسط القرن السابع عشر للمیلاد و هو صاحب الرحلة إلی القسطنطینیة و بلغاریا و روسیا.

العلم و الأدب فی القرن الثالث عشر:

کان القرن الثالث عشر تتمة القرن الثانی عشر، و لکن فیه بطء و ضعف، نشأ فیه من دمشق محمد بن حسین الحلبی العطار العالم بالریاضیات و الفنون
خطط الشام، ج‌4، ص: 61
(1243) اتهم بالتساهل فی دینه فالتزم بیته فألف عدة رسائل بالفنون الحربیة و الفلک و الحساب طبع بعضها. و أحمد الکزبری العالم بالکتاب و السنة (1248).
أحمد المنینی الفقیه المحدث (1256). أحمد بن إسماعیل بیبرس فقیه (1247) أسعد المنیر فقیه (1242). حامد العطار المحدث المفسر (1263). کمال الدین الصمادی الجرائحی الدمشقی له تآلیف فی التاریخ (1209). حسن جینة فقیه أدیب له رسائل فی الأخلاق (1206). خلیل الخشة فقیه (1242).
رضاء الدین الحلبی فقیه (1286). شاکر العقاد الشهیر بمقدم سعد الفقیه الحکیم الأدیب (1222). صالح الدسوقی له بعض رسائل فی الفقه و الأدب (1246). عبد الرحمن الکزبری الفقیه المحدث (1262). مکسیموس مظلوم له خمسون تألیفا و معربا (1855 م). یوسف مهنا الحداد عالم بالدینیات و التاریخ و الریاضیات یعرف الیونانیة و العبرانیة (1860 م). حسین الغزی الحلبی أدیب (1271). جبرائیل بن یوسف المخلع أدیب یحسن الفارسیة ترجم الکلستان للشیخ سعدی مطبوع (1851 م). عبد القادر العمادی فقیه (1228). عبد الغنی السقطی عالم مفنن (1236). عمر الغزی فقیه (1277). قاسم الحلاق فقیه مفسر محدث شاعر ناثر (1284). کمال الدین الغزی عالم مؤرخ شاعر صاحب التذکرة (1214). محمد المخللاتی فرضی موقت فلکی (1207).
نجیب القلعی فقیه (1241). محمد عابدین صاحب التآلیف و الرسائل المتقنة منها حاشیته المشهورة و رسائله و فتاویه و کلها مطبوع. عبد الغنی المیدانی عالم بالأصول و الفقه و فنون العربیة (1299) عبد السلام الشطی شاعر فقیه (1295). مصطفی المغربی التهامی عالم أدیب شاعر (نحو سنة 1280).
عبد القادر الحسنی الجزائری عالم بالتصوف و الأخلاق و له شعر و نثر و تآلیف و منها المواقف و رسائل منها مطبوع (1300).
و نشأ فی حلب محمد نور الترمانینی (1250) له عدة شروح علی بعض کتب الآلات و الأدب و له شعر و أخوه أحمد الترمانینی (1293) خلّف عدة تآلیف و حواش و شروح و منها کتاب الجامع فی الکیمیاء. رزق اللّه حسون (1880 م) کاتب شاعر ضلیع بالعربیة و فنونها و له رسائل جیدة و هو أول من أنشأ صحیفة عربیة بالاستانة. و فرنسیس مرّاش الأدیب له عدة تآلیف
خطط الشام، ج‌4، ص: 62
و دیوان شعر (1873 م). عمر الأنسی البیروتی الشاعر الأدیب له دیوان مطبوع (1293). أمین الجندی الشاعر الرقیق له دیوان مطبوع (1257).
بطرس کرامة الشاعر له دیوان مطبوع (1851 م). ناصیف الیازجی الشاعر اللغوی الأدیب صاحب المقامات و الدیوان و غیرهما من کتب النحو و البیان و کلها مطبوعة اشتهر فی هذا العصر کثیرا (1871 م). نقولا الترک شاعر أدیب له دیوان شعر و تاریخ حملة الفرنسیس علی مصر و الشام مطبوع و غیره. حسین بیهم البیروتی أدیب له دیوان شعر (1292). محمد النصری کان فی حدود المائتین و ألف له مؤلفات کثیرة أشهرها شرح قصیدة کعب. نصر اللّه الطرابلسی شاعر (1840 م). أحمد البربیر البیروتی شاعر عالم کبیر له عدة مؤلفات طبع بعضها (1226). حیدر أحمد الشهابی اللبنانی (1834 م) مؤرخ أدیب له التاریخ المنسوب إلیه المطبوع. محمد أرسلان اللبنانی له مؤلفات فی الفلک و التاریخ (1864 م). ناصیف المعلوف الأدیب الکاتب ألف 36 مؤلفا طبع أکثرها.
نوفل نعمة اللّه نوفل الطرابلسی له کتب فی التاریخ و الأدب. عمر الیافی متصوف له دیوان شعر (1234). محمد الدباغ له عدة مصنفات (1288).

العلوم المادیة فی منتصف القرن الثالث عشر:

و فی النصف الثانی من هذا القرن بدأت تباشیر العلوم الریاضیة و الطبیعیة، و کانت انحطت انحطاطا أشبه بالاندراس، تقبل علی الشام من طریق الدیار المصریة، بواسطة النهضة التی انبعثت بعنایة محمد علی عزیز مصر فإنه أنشأ مدارس للهندسة و الطب و الترجمة و الفنون الجمیلة و الحربیة و البحریة و غیرها، فتخرج فیها کثیر من المصریین و بعض أفراد من الشامیین. و أخذت تسری من أنوارها أشعة نافعة إلی الشام.
ثم إن الدولة العثمانیة أنشأت المدارس العالیة فی الاستانة و لا سیما المدرسة الحربیة و الطب، و بعد حین أحدثت مدارس الملکیة و الحقوق و الزراعة و الهندسة فأخذ بعض أفراد من الشامیین یدرسون فیها و لکن بالترکیة، فکان ذلک إلی آخر عهد العثمانیین فی دیارنا من العوائق الکبیرة فی سبیل نشر العلم، لأن الدولة کانت تحرص علی نشر لغتها، و أبناء العرب أو من یرید أن یسلک مسالک الجیش و الطب و الإدارة و الهندسة و الزراعة أرغمتهم الحالة علی التخلی عن
خطط الشام، ج‌4، ص: 63
لغتهم، فجاء أکثرهم ضعافا حتی فی العلم الذی أخصوا فیه، و کانوا أضعف من ذلک فی لغتهم، فلم ینبغ منهم رجال اشتهروا و أفادوا کما نبغ من مدارس الوطنیین النصاری مثل مدرسة عین ورقة الأکایرکیة التی أنشئت سنة (1789 م) و نبغ فیها کثیر من البطارکة و المطارنة و الکهنة من الموارنة فی القرن التاسع عشر. قال الدبس: و من هذه المدرسة خاصة انبعثت علوم اللغتین العربیة و السریانیة بین نصاری الشام و غیرها من العلوم و الفنون، و مثل مدرسة کفتین للروم الأرثوذکس، و المدرسة الوطنیة فی بیروت، و الجامعة الأمیرکانیة فی بیروت التی علّمت زمنا طویلا العلوم بالعربیة و منها الطب، فجاء من تلامذتها أفراد خدموا الآداب العربیة.
و نشأ فی لبنان بطرس البستانی صاحب دائرة المعارف و محیط المحیط و قطر المحیط و کان یعرف العربیة و السریانیة و الإیطالیة و اللاتینیة و العبرانیة و الیونانیة، و وجد من خدیوی مصر إسماعیل و غیره من ملوک المسلمین و أمرائهم تنشیطا علی إتمام عمله، کما نشأ فی تلک الحقبة أحمد فارس الشدیاق اللغوی المحقق صاحب جریدة الجوائب و کتاب الساق علی الساق و کشف المخبا و الجاسوس علی القاموس و سر اللیال و غیرها و کلها مطبوع، و وجد هذا من عزیز مصر و بای تونس و ملک باهوبال تنشیطا کثیرا. و هنا یقضی الواجب أن نشیر بالتکریم للأسرة العلویة المصریة أسرة محمد علی الکبیر فإن رجالها فی کل دور قد تقیّلوا آثار جدهم الأعظم فی الأخذ بأیدی المعارف و بر المؤلفین و الصحافیین و الشعراء فعدوا من دعائم النهضة العربیة الأخیرة و العاملین علی الأخذ بأیدی العاملین فیها.

العلوم و الآداب فی أواخر القرن الثالث عشر و أوائل الرابع عشر:

و من علماء القرن الأخیر و الذی بعده فی دمشق سلیم العطار محدث فقیه محمود الحمزاوی فقیه أدیب له مصنفات. بکری العطار إمام العربیة و لا سیما النحو و التصریف ثم الفقه و الحدیث. حسن البیطار فقیه متفنن. محمد الطنطاوی عالم بالعربیة و الأصول و الفقه و الفلک و المیقات. حسن الشطی فقیه. محمد الجوخدار فقیه. عبد اللّه الحلبی فقیه أصولی. أحمد الحلوانی شیخ القراء.
محمد الخانی متصوف فقیه. عمر العطار فقیه عالم بالعربیة. عبد الرحمن الطیبی فقیه. محمد المرعشلی أدیب و فقیه. عبد الرحمن البوسنوی عالم بالعربیة.
خطط الشام، ج‌4، ص: 64
أحمد فوزی الساعاتی عالم بالعلوم المادیة و الدینیة. عبد المجید الخانی أدیب شاعر. عبد الحکیم الأفغانی عالم بالفقه و الأصول. ملا عیسی الکردی فقیه أصولی. محمد محمود الأتاسی فقیه أصولی. علاء الدین عابدین فقیه أدیب.
صالح قنباز عالم بالتربیة و الطب له عدة رسائل و کتب. عبد اللّه السکری فقیه.
محمد المنینی فقیه محدث. و فی بیروت یوسف الأسیر عالم بالعربیة و الفقه و له شعر و أدب و عدة تآلیف نشر العلوم الإسلامیة و العربیة بین نصاری لبنان (1307). إبراهیم الأحدب عالم بالتفسیر و الحدیث و الأصول و الفقه و اللغة و الأدب و له عدة تآلیف ثلاثة منها دواوین باسمه و نحو ثمانین مقامة و نظم مجمع الأمثال للمیدانی و شرح رسائل بدیع الزمان و هما مطبوعان و غیر ذلک من المقالات فی الصحف (1308). أمین الشمیل حقوقی مؤرخ له عدة تآلیف (1897). إسکندر ابکاریوس له تآلیف فی التاریخ (1885) یوحنا ابکاریوس (1889) له قطف الزهور فی تاریخ الدهور و معجم إنکلیزی مطول. محمد الحوت (1276) فقیه محدث له کتاب فی الحدیث. عبد الغنی الرافعی الطرابلسی (1309) شاعر متصوف. محمد المیقاتی الطرابلسی (1302) شاعر. إبراهیم الحورانی الحمصی (1916 م) أدیب ریاضی فلکی له عدة تآلیف و مقالات و تحقیقات. سلیم کساب لغوی أدیب له عدة مصنفات (1909 م). میخائیل مشاقة الدمشقی ریاضی فلکی موسیقی مؤرخ من رجال الإصلاح الدینی فی النصرانیة (1889 م) له تآلیف. سلیمان الصولة شاعر هجاء له دیوان (1891 م).
یوسف الدبس (1909 م) أدیب له تاریخ سوریة المطبوع. جرجس همام ریاضی أدیب له المعجم العربی الانکلیزی و الکتب المدرسیة و الهندسیة (1920 م).
سعید الخوری الشرتونی لغوی أدیب صاحب معجم أقرب الموارد و غیره من الکتب اللغویة و الأدبیة کان متقنا للفقه الإسلامی. رشید الشرتونی أدیب نحوی کاتب له عدة کتب مدرسیة و غیرها. رشید الدحداح اللبنانی له عدة تآلیف فی التاریخ و نشر تآلیف فیه (1889 م). أدیب إسحاق کاتب مترسل شاعر سیاسی (1303). إبراهیم سرکیس أدیب له بعض الرسائل و المصنفات.
سلیم شحادة مؤرخ و هو أحد مؤلفی کتاب آثار الأدهار المطبوع. أنطون الصقال شاعر کاتب. قاسم أبو الحسن الکسیّ الشاعر الأدیب له دیوان مطبوع
خطط الشام، ج‌4، ص: 65
(1322). حسین الجسر فقیه أدیب له عدة مصنفات منها الرسالة الحمیدیة فی الرد علی الدهریین و غیرها من المقالات فی الصحف و منها فی الأخلاق و الأدب (1327). یوسف ضیا الخالدی المقدسی له عکاظ الأدب و التحفة الحمیدیة فی اللغة الکردیة. روحی الخالدی له عدة تآلیف منها علم الأدب عند الأفرنج و العرب. طاهر الجزائری العالم بالتفسیر و الحدیث و الفقه و الأصول و الفلسفة و التاریخ و الأدب و اللغة له بضعة و عشرون مصنفا مطبوعة فی فنون مختلفة و له التفسیر و معجم اللغة و غیره مما لم یطبع و کنانیش فیها آراؤه و مطالعاته یحسن الفارسیة و الترکیة و یلم بالحبشیة و السریانیة و العبرانیة و الفرنسیة (1339).
محمد المبارک متصوف أدیب لغوی شاعر ناثر له رسائل أدبیة مطبوع بعضها (1330). محمد مرتضی متصوف فقیه أدیب کاتب شاعر. عبد الرزاق البیطار فقیه أدیب له تاریخ رجال عصره مخطوط. جمال الدین القاسمی فقیه محدث أصولی أدیب شاعر کاتب له تفسیر القرآن و عدة کتب فی الإصلاح الإسلامی و تاریخ دمشق و بعضها مطبوع (1332). عبد اللّه الحموی شیخ القراء. شاکر الحمزاوی فقیه. شبلی شمیل فیلسوف کاتب أدیب طبیب له تآلیف و آثار فی النشوء و الارتقاء و الفلسفة. جرجی زیدان مؤرخ کاتب قصصی له عدة مصنفات منها روایات تاریخیة و تاریخ التمدن الإسلامی و آداب اللغة العربیة (1914). رفیق العظم مؤرخ اجتماعی کاتب له عدة مصنفات منها أشهر مشاهیر الإسلام (1343). سلیم التنیر کاتب باحث له تآلیف و رسائل.
و مات من الفقهاء خالد الأتاسی. أبو الخیر عابدین. أمین السفرجلانی أدیب له بعض تآلیف. أحمد الزویتینی الحلبی (1316) الفقیه. أحمد صلاح.
محمد الزرقا. صالح الرافعی. أحمد الصدیقی. طاهر الحسینی. یوسف الإمام.
خلیل التمیمی. محیی الدین الحسینی. ابراهیم أبو رباح. بشیر الغزی. مصطفی کرامة. صلاح الدین الدین تفاحة. محیی الدین الیافی. حسین العمری إلی أمثالهم.
و هلک فی هذا القرن من الشعراء و الکتاب و الکاتبات و الأدیبات سلیم قصاب حسن شاعر له دیوان مطبوع. نجیب حداد شاعر کاتب قصصی (1891 م) (4- 5)
خطط الشام، ج‌4، ص: 66
داود عمون شاعر أدیب. یوسف خطار غانم، محمد الهلالی شاعر. إسکندر عازار. نعوم شقیر له مؤلفان فی تاریخ سینا و السودان مطبوعان. أمین حداد.
نعوم لبکی. أنطون رباط. أبو الخیر الطباع. محمد علی حشیشو. جرجی دیمتری سرسق. فرح أنطون له عدة تآلیف و ترجمات مطبوعة. إسکندر شاهین له عدة کتب مترجمة. شاکر شقیر کاتب شاعر. محمد أرسلان.
عمر حمد شاعر. عمر الیافی. محمود الشهال شاعر. نقولا رزق اللّه. جمیل مدور. نوفل نوفل. أمین الشمیل. صلاح الدین القاسمی. شاکر الخوری له کتاب هزلی. أحمد الصابونی له تاریخ حماة مطبوع. محیی الدین الخیاط کاتب له عدة کتب مدرسیة. حسن رزق. حسن بیهم کاتب متفنن. سلیم سرکیس کاتب هزلی. عبد الوهاب الإنکلیزی. سلیم الجزائری. شکری العسلی له عدة رسائل اجتماعیة و أدبیة. رشدی الشمعة شاعر کاتب. أحمد طبارة. عارف الشهابی. عبد الغنی العریسی. جرجی حداد. سعید عقل.
باترو باولی. رفیق رزق سلوم. فیلیب الخازن. فرید الخازن. محمد المحمصانی عبد الحمید الزهراوی. عبد القادر المؤید. حسین وصفی رضا. بشارة زلزل له عدة کتب فی الطب و غیره. محمد عبد القادر الحسنی. محیی الدین الحسنی له مؤلفات. شاکر عون. سلیم بسترس. سلیم تقلا. سلیم عباس. سلیم البستانی.
أسعد الشدودی. عبد الغنی الرافعی. شاکر أبو ناضر. خلیل باخوس. سلیم باز.
سلیم جدی. فیلیب جلاد. نجیب حبیقة. یوسف حرفوش. أمین الخوری.
یوسف دریان.
و هلک من النساء فی العهد الأخیر عفیفة کرم. وردة الیازجی. عفیفة اوزون. زینب فواز. وردة الترک. هیلانة البارودی. سلمی قساطلی. هنا کسبانی. مریانا المراش. سارة نوفل. فریدة عطیة.

المعاصرون من العلماء و الأدباء:

و من شیوخنا و کهولنا و شبابنا و نسائنا من اشتغلوا بالعلوم و الآداب علی اختلاف أنواعها و ممن اشتهر منهم: (1) علماء الدین و الفقه و القضاء: سلیم البخاری. رشید رضا. بدر الدین الحسنی. عبد اللّه العلمی. عبد اللّه الجزار.
خطط الشام، ج‌4، ص: 67
مسعود الکواکبی. سعید العرفی. سعید مراد الغزی. مصباح محرم. عبد المحسن الأسطوانی. أحمد عباس. محسن الأمین. جرجس صفا. عطا الکسم. سعید النعسان. سعید البانی. بهجة البیطار. طاهر الأتاسی. یوسف النبهانی. محمود منقارة. عبد الکریم عویضة. عبد اللطیف نشابة. عبد الحمید الجابری. عبد القادر بدران. عبد القادر القصاب. طاهر المنلا الکیالی. أحمد النویلاتی.
خالد النقشبندی. نجیب قبانی. عبد الکریم حمزة. محمد الأسطوانی. محمد الکستی. إبراهیم هاشم. سلیمان أحمد. طاهر أبو السعود. یوسف الإمام الحسنی. محیی الدین الخانی. عیسی العکرماوی. منیب هاشم. نمر الداری فهمی الحسینی. عادل زعیتر. أحمد الزرقا. نجیب أبو صوان. مصطفی برمدا. حسن الشطی. عونی عبد الهادی. معین الماضی. یوسف الخیری.
أمین عز الدین. إسماعیل حافظ. میخائیل عید البستانی. مصطفی الخانی. مصطفی نجا. فوزی الغزی، فتح اللّه أدیب. علی الکیالی. عبد المجید المغربی. محمد الحسینی. محاسن الأزهری. توفیق الدجانی. خلیل الخالدی.
و من المتفردین بالقراآت فی دمشق: محمد الحلوانی. عبد اللّه المنجد.
أحمد دهمان. محمد القطب. عبد الرحیم دبس وزیت و غیرهم.
(2) العلوم الفلسفیة و المادیة: یعقوب صروف. منصور جرداق. جودت الهاشمی. مصباح حولا. فارس الخوری. سعید البحرة. رشدی سلهب.
درویش أبو العافیة. شکری خلیفة. أمین معلوف. عبد الوهاب المالکی.
أمیل خاشو. یوسف افتیموس. إبراهیم الدادا. وجیه الجابری. فیکتور کورنلی. إسماعیل باقی. أحمد رستم. مصطفی الشهابی. وصفی زکریا.
جمال الفرا. یوسف قدورة. محمد الترمانینی. صلاح الدین الکواکبی. مصطفی تمر. هاشم الفصیح. عبد الوهاب القنوانی. أسعد الحکیم. سعید شقیر. أحمد حمدی الخیاط. مرشد خاطر. جمیل الخانی. حسنی سبح. محمد محرم. شوکة الشطی. جمیل صلیبا. جعفر الحسنی و غیرهم.
(3) العلوم الاجتماعیة و التاریخیة و الحقوقیة: شکیب أرسلان. فارس نمر. داود برکات. خلیل ثابت. عیسی إسکندر المعلوف. نقولا حداد.
محمد رستم حیدر. نسیم صیبعة. سعید حیدر. جرجی یی. عمر الصالح البرغوثی
خطط الشام، ج‌4، ص: 68
خلیل طوطح. میخائیل ألوف. قسطنطین الباشا. سلیم شحاده. نجیب صلیبا.
رفیق التمیمی. أسد رستم. راشد طبارة. أسعد منصور. سعید المحاسنی.
زکی الخطیب. عارف الخطیب. قسطنطین زریق. حبیب الخوری.
روحی عبد الهادی. حسن فهمی الدجانی. أحمد سامح الخالدی. ساطع الحصری. حسن یحیی الصبان و غیرهم.
(4) الأدباء: عبد اللّه البستانی. لویس شیخو. أسعد خلیل داغر. سلیم الجندی. إسعاف النشاشیبی. عارف النکدی. کامل الغزی. قسطاکی الحمصی.
الخوری بطرس البستانی. مصطفی الغلایینی. رشید عطیة. أمین ظاهر خیر اللّه.
حنا صلاح. رشید بقدونس. أنیس المقدسی. جبر ضومط. جرجس منش.
أحمد رضا. سلیمان ظاهر. عزة دروزة. بندلی الجوزی. عبد الرحمن سلام.
عبد القادر المغربی. عبد القادر المبارک. إبراهیم منذر. أنیس الخوری المقدسی.
میخائیل صقال. نجیب میخائیل ساعاتی. جرجس شلحت. سامی جریدینی.
حسنی عبد الهادی. راغب الطباخ. سامی الکیالی. عز الدین علم الدین. عبد اللّه النجار. عمر الأتاسی. أبیفانیوس زائد. علی ناصر الدین.
عبد اللطیف صلاح. عبد اللّه مخلص. عمر الزعنی. حبیب کحالة. عارف الزین. فیلیب طرازی. راجی الراعی. جمیل معلوف. عمر الفاخوری.
جرجی باز، أحمد صلاح الدین. أحمد عبد المهدی. یوسف زخم. جمیل الشطی. صبحی القوتلی. توفیق ناطور. أنطون جمیّل. نزیه المؤید. لویس معلوف. شکری الجندی. وصفی الأتاسی. أمین الحشیمی. أنیس النصولی.
أدیب التقی. جودت الکیال. محمد الداودی. أحمد عبید. حمود الزبرؤتی.
منح هارون. فائز الغصین. سامی العظم. خالد الحکیم. وجیه بیضون.
نجیب الریس. شریف عسیران. أدیب الصفدی. أدیب فرحات. سعید الصباغ جمال الملاح. أدیب وهبة. عبد الغنی باجقنی. عارف التوام. فوزی العظم.
حسن الحکیم. الیاس القدسی. عبد اللّه رعد. صبحی أبو غنیمة. میشل بیطار.
إبراهیم حرفوش. توفیق حمادة. عبد اللّه خیر. سلیم خطار الدحداح. حکمة المرادی. یوسف الیان سرکیس. یوسف صادر. أنطون صالحانی. جودت الماردینی. نعیم صوایا. إسکندر طحینی. بولس عبود. إمیل عرب. یوسف
خطط الشام، ج‌4، ص: 69
علوان. یوسف غصوب. جبرائیل قرداحی. یوسف قیقانو. نجیب مخلوف.
فیلیب مسک. أمین مشحور. حلمی مصری. عیسی بندک. شکری کنیدر.
عبد اللّه صفیر. حبیب زیات. أحمد عمر المحمصانی. محمد علی الطاهر.
یوسف حیدر. أنطون شعراوی. توفیق الحلبی. توفیق جانا. أسعد ملکی.
رزق حداد. عباس أبو شقرا. طه مدور و غیرهم.
(5) الکتاب: عبد الباسط فتح اللّه. خلیل زینیة. خلیل سعادة. خلیل سعد. سامی قصیری. نعوم مکرزل. یوسف الخازن. عبد اللّه الأسطوانی.
نجیب شاهین. أمیل زیدان. إبراهیم سلیم النجار. یوسف العیسی. بدر الدین النعسانی. عادل أرسلان. محمد الجسر. توفیق الیازجی. ادوارد مرقص.
أمین الریحانی. مصطفی الخیری. محمد علی السراج. محب الدین الخطیب. سلیم قبعین. میخائیل نعیمة. بولس الخولی. جبران توینی. جبران خلیل جبران.
شحادة شحادة. أمین غریب. فؤاد صروف. سعید أبو جمرة. یوسف البستانی خلیل السکاکینی. عادل جبر. نجیب نصار. رشدی الحکیم. عیسی العیسی.
سلیم ابکاریوس. أمین الکیلانی. سعید الزهور. خلیل بدوی. خلیل بیدس.
بطرس غالب. ناجی أدیب. وجیه الکیلانی. سعید الأفغانی. صلاح الدین المنجد نجیب الریس. سامی کبارة. جبران تونسی. خلیل کسیب. علی الطنطاوی.
کاظم الطاغستانی. عمر الطیبی. أمین الحلبی. راشد البیلانی. عبد الهادی الیازجی. فارس فیاض. أحمد شاکر الکرمی. أحمد کرد علی. معروف الأرناؤط. عبد الحسیب الشیخ سعید. نجیب الیان. ایلیا زکا. نجیب شقرا.
زکی مغامز و أمثالهم.
(6) الشعراء: فؤاد الخطیب. أمین ناصر الدین. خلیل مطران. خیر الدین الزرکلی. خلیل مردم بک. شفیق جبری. سلیمان التاجی. عبد الحمید الرافعی. مصباح رمضان. طانیوس عبده. الیاس فیاض. سلیم عنحوری.
محمد الشریقی. نوفل الیاس. محمد البزم. جرجی عطیة. بشارة الخوری.
شبلی ملاط. أمین تقی الدین. رشید نخلة. محمد سلیمان. أسعد رستم. فخری البارودی. نسیب أرسلان. إیلیا أبو ماضی. حلیم دموس. أبو السعود مراد.
عبد الرحمن القصار. کامل شعیب. عارف الرفاعی. ندیم الملاح. محمد
خطط الشام، ج‌4، ص: 70
الفراتی. عبد الرحیم قلیلات. جمیل العظم. إبراهیم الشدودی. حسین الحبال.
أمجد الطرابلسی. جمیل سلطان. زکی المحاسنی. عمر أبو ریشة و غیرهم.
(7) الخطباء: عبد الرحمن شهبندر. أسعد الشقیری. أسعد عفیش.
نقولا فیاض. غریغوریوس حداد. حبیب أسطفان. أنیس سلوم. فیلکس فارس. حنا خباز. عبد الرزاق الدندشی. مصطفی الشماع. محمود النحاس.
بدر الدین الصفدی. أفرام أبیض. عبد الرحمن الکیالی. سامی السراج و غیرهم.
(9) الکاتبات و الشواعر و الخطیبات: ماری زیادة. ماری عجمی. سارة خطیب. لبیبة هاشم. نجلا أبو اللمع. سلمی صائغ. جولیا طعمة. عفیفة صعب. عنبرة سلام. مسرة الأدلبی. ماری ینی. هیلانة البارودی. فاطمة سلیمان. ابتهاج قدورة. بهیجة المؤید. خیریة ترمانینی و غیرهن.

تأثیرات الأجانب فی التربیة:

من المعاهد التی خرجت أناسا بالعربیة و الفرنسیة کلیة القدیس یوسف الیسوعیة فی بیروت، و کان أول نزول الآباء الیسوعیین فی الشام سنة (1653 م)، فأسسوا مدرسة عینطورا بلبنان التی أخذها الآباء اللعازریون بعد مدة (1834 م) و خرجت کثیرا من الأدباء باللغة الفرنسیة فقط. و قد ضعفت فی هذا القرن ملکة البیان فی المسلمین. و هم یتلون القرآن و لکن بدون أن یتدبروا معانیه و یفهموا إعجازه، حتی أصبح الفقیه و المحدث و النحوی و المنطقی لا یحسن کتابة سطرین إلا بصعوبة. و یتعاصی علیه فهم الکلام الفصیح دون الرجوع فی المفردات البسیطة إلی المعاجم، و ضعف الشعر علی تلک النسبة بحیث لم ینبغ إلا أفراد قلائل من الشعراء یستحق شعرهم أن یسمع و یدون، بل کانوا إذا أرادوا الخطب فی الجوامع و المساجد یحفظون شیئا منها لأهل العصور التی سلفت و یوردونها بدون مناسبة، بل إن الإجازات التی یکتبها الشیوخ و غیرها من التحمیدات و التقاریظ و أدعیة المواسم ینقلونها عن الأقدمین و یحرفونها علی صورة مستکرهة، و قد قویت فی هذا العصر قاعدة خبز الأب للابن، و کان المفتی أبو السعود من مشایخ الإسلام فی الإستانة أول من ابتدعها و أخرجها للناس، فأصبح التدریس و التولیة و الخطابة و الإمامة و غیرها من المسالک الدینیة
خطط الشام، ج‌4، ص: 71
توسد إلی الجهلة بدعوی أن آباءهم کانوا علماء، و هم یجب أن یرثوا وظائفهم و مناصبهم و إن کانوا جهلة، کما ورثوا حوانیتهم و عقارهم و فرشهم و کتبهم.
بل بلغت الحال بالدولة إذ ذاک أن کانت تولی القضاء للأمیین، و کم من أمی غدا فی دمشق و حلب و القدس و بیروت قاضی القضاة، أما فی الأقالیم فربما کان الأمیون أکثر من غیرهم، لأن أخذ القضاء فی دار الملک کان متوقفا علی بذل شی‌ء من الرّشی، فیصل إلیه أجهل الناس و بذلک فترت الهمم، و انصرفت الرغبات عن تعلم علوم الدین، لأن الجاهل و العالم سواء، و من یحسن المصانعة و الرشوة و یمتّ إلیهم بأسلوب من أسالیب الشفاعة.
و أصبح الشعر عبارة عن شبکة یتعلم صاحبها نصبها لیتزلف بها إلی الکبراء و أرباب الدولة، و الشاعر کطبال أو زامر أو قرّاد یغنی و یلعب أمام من یعطیه دریهمات قلیلة. و هناک شبکة رسمیة أخری یصطاد بها المال و هی أن من حفظ قواعد النحو و الصرف فی کتب لهم معینة و انقطع إلی مدرسة من المدارس، و جاز الامتحان ست سنین علی أسلوب لهم مخصوص یعفی من الخدمة العسکریة، فتعلم بذلک کثیرون، و من فهموا ما تعلموه جاء منهم بعض فقهاء و أدباء، ثم أبطل ذلک فی العقد الثانی من القرن الرابع عشر.
و بینا کانت مدارس العلم فی حلب و حماة و دمشق و طرابلس و القدس و غیرها آخذة بالأفول و الاندراس، و المسلمون أو الذین خرجوا من الأمیة بعض الشی‌ء من أهل هذه الدیار یولون وجوههم قبل المناصب الدینیة و الإداریة و العسکریة، کان إخوانهم المسیحیون یتعلمون فی مدارس نظامیة فی الجملة، جعلت تدریس العربیة و آدابها و اللغات الحیة أول بند من منهاج الدراسة فیها، فجاء من أبنائهم و من أخذ العلم عنهم من سائر الطوائف جماعات یذکرون فی التاریخ بحسن بلائهم فی خدمة الآداب، و منهم أفراد نزحوا إلی مصر و امیرکا و تولوا الأعمال الکبری و أظهروا آثار قرائحهم و نبوغهم و لا سیما فی القرن التالی، و بطلت القاعدة التی کان وضعها بعض ضعاف النظر من تقبیح نحو النصاری و غناء الیهود، فأصبح بالتعلم من النصاری نحاة ثقات، و من الیهود مغنون و مغنیات، أی أن الزمن أبطل ذاک الزعم.
خطط الشام، ج‌4، ص: 72

الآداب فی القرن الرابع عشر:

اختص القرن الرابع عشر بأن تجلت فیه فائدة العلم لعامة الشعب، فصار المقتدرون من الناس یلقون بأولادهم لأی مدرسة کانت لیأخذوا العلم منها، و دبت الغیرة فی نفوس المسلمین فأنشأوا بعض المدارس الأهلیة مثل مدارس المقاصد الخیریة و غیرها فی بیروت و صیدا و دمشق و حماة و حمص و حلب و طرابلس فخرّجت هذه المدارس مئات من المتأدبین کما خرّجت المدارس الطائفیة مثل مدرسة البطریرکیة الکاثولیکیة و مدرسة الحکمة المارونیة فی بیروت.
و کان الفضل فی هذه النهضة الشامیة أولا لمدارس لبنان و بیروت و عنایة بطارکة الموارنة و مطارنتهم و أساقفتهم و قسیسیهم بالعلم و اللغة. أما العلوم الطبیعیة و الریاضیة و الطبیة فانبعثت جذوتها من الجامعة الامیرکیة أکثر من غیرها، و لو لم تبطل تدریس العلوم بالعربیة و تجعله إنکلیزیا لتضاعفت الفائدة التی نشأت من هذه المدرسة العالیة، و کان من أستاذین من أساتذتها الدکتور فاندیک الامیرکانی و الدکتور و رتبات الأرمنی فضل علی العربیة بما کتباه فی العلوم المختلفة باللغة العربیة و کذلک کان شأن بوست الامبرکانی فإنه ألف کتبا علمیة نافعة بلغتنا فعدّ منا، و کذلک فعل بورتر و غیره.
إن المدارس الطائفیة و مدارس المرسلین من الأمیرکیین و الیسوعیین و غیرهم من الأمم ذات المطامع فی الأرض المقدسة قد جعلت التربیة متلونة فأصبح کل متعلم یخدم الغرض الذی أنشئت له مدرسته، و انقسمت الأمة بهذا الضرب من التعلم أقساما، و تباعدت مسافة الخلف بین أبناء البلد الواحد، لاختلاف المذاهب بل للاختلاف فی المذهب الواحد مما لم یکن له أثر یذکر فی غابر العصور، و لأن معظم المدارس التی أنشأها غیر الوطنیین من الشامیین کان العامل فی تأسیسها مذهب خاص فی الدین و السیاسة، فالإنجیلیون أو البرتستانت تنتشر دعوتهم کل یوم، و الیسوعیون ینزعون منزعا آخر فی التربیة الدینیة و السیاسیة، و هکذا لو أردنا أن نعدد أسماء الجمعیات الدینیة التی تعلم المسیحیین فی الشام لما رأیناها تقل عن ثمانین إرسالیة. و منها ما ینزع من المتعلم حب قومیته
خطط الشام، ج‌4، ص: 73
و بلاده، و کم رأینا رجالا و نساء درسوا فی تلک المدارس فجاؤوا لا عرب و لا إفرنج، یتکلمون فی بیوتهم بغیر لغتهم، و لا یشعرون شعور الشامی، بل یبغضون تقالیدهم و تاریخهم، و لذلک صح أن یقال إن تلک المدارس لم تنفع النفع المطلوب، بل نفعت الشرکة التی قامت بتأسیسها بأن هیأت لها فی هذه الدیار أنصارا.
و بینا نری بعض المسلمین یکتبون الترکیة کأهلها و شعورهم ترکی صرف و لم ینفعوا الشام بشی‌ء کثیر من علمهم، نشاهد کثیرین ممن درسوا فی مدارس الرهبان و القسیسین و الحاخامین و المدارس العلمانیة الفرنسیة یکتبون الفرنسیة أو الإنکلیزیة أو الألمانیة أو الروسیة أو الیونانیة أحسن من کتابتهم لغتهم بدرجات و کل هؤلاء لم یستحق أحدهم اسم العالم و الأدیب، بل إن معظمهم قد اسودت الشام الجمیلة فی عینه، و هجرها إلی أرض أخری. إن الشامی المتأدب فی الجملة بآداب قومه یحب لغته و یغار علیها، و لذلک أسس عدة صحف و مجلات راقیة فی مصر و المهجر من أمیرکا الشمالیة و الجنوبیة و حبب المطالعة بالعربیة إلی من نزل علیهم، أو إلی من هاجروا من الشامیین بحیث لا تقل صحفنا و مجلاتنا العربیة خارج الدیار الشامیة عن خمسین جریدة و مجلة حیة، و ما ندری إن کانت هذه الهمة تظل علی حالتها بعد انقراض هذا الجیل، فإن الجیل الجدید من الشامیین فی أمیرکا الشمالیة و الجنوبیة قلما یعرف العربیة بل هو یتکلم بالإنکلیزیة أو الاسبانیة أو البرتغالیة. و أعظم نقص فی المدارس الأمیریة و الطائفیة و الأجنبیة أن الأولی تصوغ موظفین و الثانیة و الثالثة تهی‌ء المتخرجین علی معلمیها إلی الهجرة، و تباعد بین أبناء الوطن الواحد و تبث مبادی‌ء اجتماعیة لا تنطبق علی حالتنا.
نعم تمت بالشامیین کما قلنا مرة (المقتبس المجلد الخامس) دواعی التفریق فی الوطنیة و ضعفت ملکتها فیهم بقوة المدارس غیر الوطنیة فی دیارهم. فإن کانت هذه المدارس قد نفعت الشام بما أدخلته إلیها من النور، فقد أضرتها بانحلال عقدة الوطنیة، فمدارس الأمیرکان و الروس و الیونان و الفرنسیین و الإنکلیز قد أصلحت و أفسدت. أصلحت بتلقین من تخرجوا فیها شیئا من معارف الغرب، و أضعفت فی نفوسهم حب الوطن بتحبیبها إلیهم أوطانا غیر أوطانهم،
خطط الشام، ج‌4، ص: 74
و تعریفهم إلی رجال غیر رجالهم. و العاقل من حرص علی نفع أمته قبل کل نفع، و انتفع بما عنده قبل أن یتطال إلی ما عند غیره. و من زهد فی لغة آبائه و جدوده کان حریا بالزهد فی وطنه و وطنیته. و اللغة و الوطن یصح أن یکونا اسمین لمسمی واحد. جنت مدارس الأجانب و الحکومة أعظم جنایة، لأن المتخرجین فیها و معظمهم من الذکاء علی جانب لم ینفعوا الدولة و لم ینفعوا الأرض التی ولدوا فیها. إن المدارس غیر العربیة فی الشام أشبه بالسارق الذی یسرق الأعلاق و نفائس المتاع، أستغفر اللّه بل إن من یسرق فلذات الأکباد، لیخرجها علی ما أراد، أشق علی النفس و طأة، و أعظم فی المغبة أثرا. و هل یقاس سارق الأموال بسارق الأطفال و الرجال؟ أولیست الأرواح أثمن من کل بضاعة، و هل أعز من الولد علی قلب أبویه. إن المدارس التی تعلم علی غیر الأسلوب الوطنی هی التی تسلب من الشام الیوم بعد الیوم روحها، و ناهب الروح ماذا یدعی فی الشرع و العقل. و لم یبلغ البشر درجة من التمدن حتی تتساوی فی عیونهم اللغات و العناصر کلها، و تتجرد أمة فتفنی لإحیاء غیرها، و تقلل جنسیتها لتزید سواد أخری، و لا تهمها دارها و ترید هدمها لتعمر بأنقاضها دار جارها.
فی نحو سنة (1278) فتحت حکومة حلب المدرسة المنصوریة و هی أول مدرسة أمیریة أنشئت فی حلب. و أنشأ مدحت باشا فی دمشق سنة (1295 ه) ثمانی مدارس ابتدائیة للذکور و الإناث و دار صنائع، و أسس مثل ذلک فی أعمال ولایته الواسعة، و ما برحت المعارف مذ ذاک العهد تعلو و تسفل و الحکومة لا تطلب من المدارس الابتدائیة و الثانویة إلا أن تخرج لها طبقة من الموظفین ملکیین و عسکریین یکونون أتراکا بألسنتهم لا بقلوبهم، عثمانیین بتربیتهم لا بأصولهم، و قد أخذ دعاة تتریک العناصر یقاومون العربیة سرا، فما هی إلا أعوام حتی أصبح معظم الدارسین فی مدارس الحکومة یخرجون بعد درس عشر أو خمس عشرة سنة، و هم لا یحسنون لغتهم و لا لغة الدولة الرسمیة،
خطط الشام، ج‌4، ص: 75
فضلا عن اللغة الفرنسیة التی کان تعلمها إذ ذاک رسمیا فی الظاهر صوریا فی الحقیقة، علی مثل ما کانت اللغة العربیة فی مدارس الحکومة، و کان یندر بین من تخرجوا فی هذه المدارس من یعانی الصناعات الحرة، و معظم من أتموا تعلمهم فی مدارس الحکومة العثمانیة نشأوا مستعدین للوظائف فقط.
و ما فتئت مدارس الحکومة بعد خمسین سنة من تأسیسها غیر وافیة بالغرض من بعض الوجوه. و جعل التعلیم بالعربیة عقبی خروج الدولة العثمانیة من هذا القطر، و روحها لم تبرح تلک الروح الترکیة، لأن معظم المعلمین ممن تعلم بالترکیة و تخلق بالأخلاق الترکیة، و قد حاولت إدارات المعارف فی الدیار الشامیة نزع الروح القدیم و تنشئة المعلمین نشأة عربیة، و لیس فی الوسع أن یشیب المرء إلا علی ما شب علیه، و فاقد الشی‌ء لا یعطیه، و لم تهتد مدارس الحکومة حتی الیوم إلی إیجاد مثال من التربیة یلتئم مع ماضی الأمة العربیة و ینفعها فی حاضرها و مستقبلها، و تغذیة العقول غذاء کافیا ینفعها فی استخراج ثمرات الأرض و کنوزها و التفنن فی صنعها و وضعها، و تجدید برامج التعلیم من الزوائد التی یستغنی عنها فی باب تربیة الفتاة و الصبیّ. أما التعلیم الدینی عند المسلمین فهو أحط تعلیم، أصیبوا بذلک بعد خراب المئات من المدارس الدینیة فی القطر و أکل أوقافها، و قد تغافلت الدولة الترکیة عن إنهاضها، و لم یتهیأ لها فی الدور الحدیث من یفکّر حقیقة فی إصلاحها، و إذا درس المشایخ الدروس النظامیة، و تأهلوا للقضاء و الفتیا و التعلیم أهلیة حقیقیة، تنحل بتعلیمهم التاریخ و الریاضیات و الطبیعیات و الاجتماعیات مشاکل کثیرة. و من العجیب أن مدینة کدمشق لا یقل سکانها عن ثلاثمائة ألف نسمة کان فیها فی الثلث الأول من القرن العاشر نحو ثلاثمائة مدرسة و معهد مختلفة الشکل- عدا الکتاتیب الملحقة بالجوامع- تقرأ فیها دروس العلم و الأدب و الطب و الهندسة، لیس فیها الیوم درس دینی واحد یقرأ بصورة مطردة، و لذلک بلغت العلوم الشرعیة درجة من الضعف تضحک و تبکی، و بلغت أکثر وظائف الوعظ و التدریس و الخطابة و الإمامة من السخف ما نسأل اللّه معه السلامة.
و قد جبرت حلب هذا النقص فتولی مفتیها بمعاونة ناظر أوقافها کبر هذا الأمر، فوضع برنامج لتدریس العلوم الآلیة و الدینیة مدة اثنتی عشرة
خطط الشام، ج‌4، ص: 76
سنة، و نزل الطلبة فی المدارس: المدرسة الخسرویة و المدرسة العثمانیة و الشعبانیة و القرناصیة و الإسماعیلیة، و ربطت لهم رواتب تعاونهم بعض الشی‌ء علی ما هم بسبیله، یتقاضونها من أوقاف تلک المدارس و یقرأ الطلبة الیوم علی أساتذة تلک المدینة علی نظام فی الجملة و یرجی أن یکون منهم علماء دینیون و متأدبون.
أما علماء الدین عند المسیحیین و الإسرائیلیین فأخذوا یتعلمون فی مدارس لهم نظامیة فی روسیا أو إیطالیا أو أمیرکا و غیرها فلا یرقی فی الأغلب إلی الرئاسة الدینیة عندهم إلا من توفرت فیه شروط العلم و النباهة، و یکون علی الأغلب بانتخاب أقرانه، و لذلک جاء البون شاسعا بین عقلیة علماء الدین من المسلمین و عقلیة غیرهم من أرباب الأدیان، و غدا أرباب الإنصاف یقولون بالرئاسة الدینیة فی الإسلام علی النحو الذی هی فی النصرانیة، لأنه ثبتت فوائدها فی تثقیف العامة و جمع کلمة الخاصة، و لأن الحکومات لیس من شأنها أن تعلم إلا البسائط العامة المشترکة، و الأمور الأخری من شأن زعمائها الذین تعتقد فیهم صلاحها. و من أغرب الحالات أن مدارس الحکومة فی جمیع المقاطعات الشامیة لا یتعلم فیها غیر المسلمین، أما سائر الطوائف فلا یعتمدون فی تعلیم أبنائهم علی غیر مدارسهم أو علی مدارس المبشرین. و بهذه الطرق المختلفة فی مناحی التربیة یستحیل أن یجتمع أبناء الوطن علی مقصد واحد، لأن کل فرد یتعلم النفرة من مخالفه فی معتقده، و خصوصا فی مدارس بعض الرهبنات التی تهزأ بالإسلام و العرب، و تحرّف التاریخ الصحیح و لا تعلم منه إلا ما ینطبق مع رغائبها، و لا یفید شیئا فی تکوین الوطنیة و القومیة، و لو اتحدت التربیة و اشترک جمیع أبناء الشام فی التناغی بها و الاعتماد علیها، لا تلبث هذه الأمة خمسین سنة أن تخرج سماؤها سلسلة طویلة من الرجال یرفعون مستوی العقل فیها، ارتفاعه عند أمم الحضارة فی الغرب، و یؤثرون فیها کما أثر أجدادنا فی مجموع الحضارات الحدیثة. و عندنا أن لا نهضة فی الأخلاق و العلم و الشؤون الاقتصادیة و الاجتماعیة إلا إذا تعلم المسلمون تعلیما صحیحا، لأنهم ستة أسباع السکان، و الثروة الثابتة ملکهم، و هذا لا یتم إلا إذا تعلم أبناء غیر المسلمین مع أبناء المسلمین تعلیما وطنیا واحدا.
خطط الشام، ج‌4، ص: 77

الجامعات و الکلیات:

احتفل الصهیونیون (سنة 1343 ه) بإنشاء جامعتهم العبریة فی القدس یعلمون العلوم باللغة العبرانیة و لا تمضی خمس عشرة سنة حتی تنبعث الدیانة الیهودیة و المدنیة الیهودیة من مراقدها، کما انبعثت منذ القرن الماضی فی بیروت شعلة المدنیة الأمیرکیة و المذهب الإنجیلی من الجامعة الأمیرکیة، و انتشرت المدنیة الفرنسیة و الکثلکة من کلیة القدیس یوسف الیسوعیة.
و فی (15 حزیران 1923 م) أسست فی دمشق الجامعة السوریة و هی ذات فرعین الطب و الحقوق لتکون جامعة عربیة للشام بالمعنی الذی یفهمه العلماء من الجامعات ثم أضیفت إلیها شعبة الآداب و ألغیت بعد سنین، و ما زالت اللغة العامیة شائعة فی مدرستی الطب و الحقوق، لأن معظم المدرسین من الطبقة التی لا تقیم للعربیة وزنا، فقد تخرجت فی مدارس الترک لتکون من الموظفین فی الحکومة العثمانیة، و لم تعن بالمطالعة و البحث و لا بالتألیف و الترجمة، و بعض الشهادات التی کان العثمانیون یعطونها من مدارسهم مشهور أمرها، و من الغریب أن توسد هذه الأعمال العلمیة الجلیلة إلی أناس هم أتراک فی تربیتهم و أفکارهم و منازعهم فی صمیم بلاد العرب، و فی جامعة عربیة یراد منها تکوین أمة عربیة. و یرجی إدخال الإصلاح المنشود إلی هاتین المدرستین العالیتین إذا و سدت مناصب التعلیم فیهما إلی کفاة، یحسنون العربیة إحسانهم العلم الذی یدرسونه و أن تصقل أمالیهم بأیدیهم صقلا متقنا بحیث تصدر دروسهم عن علم أتقنوه و تمثلوه و هضموه و صار لهم ملکة خاصة، لا مترجمة فی الأکثر عن الترکیة ترجمة جذماء عوجاء کما یفعلون إلی الیوم، و متی کانت اللغة الترکیة لغة علم و عنها یؤخذ فی مثل هذا العصر، و المعلوم أن لغات العلم ثلاث الإنکلیزیة و الفرنسیة و الألمانیة لیس إلا، و متی کانت تربیة الأعاجم تصلح للأمة العربیة التی یجب أن تتکون بحسب تاریخها و منافعها الحاضرة و المقبلة.
و بعد عشرین سنة مضت علی هذا التدوین ارتقی مستوی التعلیم فی الجامعة السوریة و ارتقت اللغة العربیة فیها باعتزال من ربوا تربیة ترکیة و وسد إلیهم أمر التعلیم لأول إنشائها و جاء أساتذة أتقنوا العربیة و آدابها و هم الیوم یلقون دروسهم
خطط الشام، ج‌4، ص: 78
بلغة أقرب إلی الفصحی و قد وضعوا التآلیف فی الطب و الحقوق بلغة عربیة مقبولة.
و لا سبیل إلی الانتفاع بالجامعة السوریة نفعا حقیقیا یتفق مع شهرة الدیار الشامیة القدیمة بالعلم- إلا إذا تمت فروعها فأنشئت فیها مدرسة للآداب و أخری للعلوم و ثالثة للإلهیات، و بذلک تتم فروعها و تنبعث منها أنوار الحکمة المشرقیة و المغربیة، و لا غضاضة علینا إذا جئنا من مصر و دیار الغرب بعلماء إخصائیین فی الفروع التی لا نحسنها من ضروب العلم، نتعلم منهم طریقتهم فی البحث و الدرس و التحلیل و الترکیب، فالقطر المصری و هو أسبق منا فی العلوم ما زال إلی الیوم یأتی من الغرب بعلماء یوسد إلیهم الإدارة و التعلیم فی جامعته. و علی ذکر القطر المصری لا بأس بأن نشیر إلی أن المتعلمین من الشامیین ما برحوا یفزعون إلی مصر منذ أواخر القرن الماضی یخدمون الآداب و یرزقون منها، فکان لمصر الفضل علی الشام و بنیه لأنها کانت منبعث قرائحهم. و کان فی هذه المقایضة العلمیة بین الشام و مصر من الفوائد ما لا یمکن أحدا جهله.
و بعد ذلک یرجی أن لا یضیق کثیرا نطاق اللغة العربیة، بعد أن رأی الناس أمرها یضعف الحین بعد الآخر فی الغرب و الجنوب، و هی إلی ضؤولة فی الشرق و الشمال و الوسط علی ما یبذله المجمع العلمی العربی منذ سنة (1337 ه) من العنایة بنشرها و تهذیب ألفاظ الکتاب و تراکیبهم، و الأخذ بأیدی المؤلفین و المترجمین، و تحبیب المطالعة إلی الجمهور، و تعلیمه فی محاضرات و دروس عامة، و عرض آثار مدنیة الأسلاف علی أنظاره لبعث عقلیته من رقدتها.
و إذا توفرت الجامعة السوریة العربیة علی صیاغة علماء الهیین و علماء مدنیین و أدباء و مهندسین و طبیعیین و کیماویین و زراعیین و أطباء و حقوقیین و أثریین یعرفون کیف یبحثون و یعلمون، نخدم المدنیة خدمة حقیقیة.

الإخصاء:

و بعد فإن أهمّ ما ینبغی صرف العنایة إلیه الیوم نشر العلوم الانسیکلوبیدیة، أی المشارکة فی العلوم المتعارفة، ثم الانقطاع إلی فرع واحد، أی إلقاء النظر علی المعارف التی تنیر الفکر من العلوم الطبیعیة و الریاضیة و الاجتماعیة و التاریخیة
خطط الشام، ج‌4، ص: 79
و الأدبیة ثم معالجة موضوع واحد: «إذا کانت القرون الوسطی قرون التعمیم فی التعلیم، فإن هذا العصر عصر التخصص. فقد اتسعت معارف البشر النظریة و العملیة فدعت الحاجة إلی أن یقسموها بحسب استعدادهم و حاجاتهم إلی أقسام ینقطع إلیها أفراد. فالأصول من المعارف هی المعلومات العامة و تفرعاتها هی الإخصائیات. کان بادئ بدء کل شی‌ء مفهوما فی الفلسفة، فکانت لفظة عام عند الأمم الجاهلة تتناول جمیع العلوم، و تنقسم إلی قسمین: المحسوسات و المعقولات. و دعیتا علوم الطبیعة و علوم ما وراء الطبیعة. أما الصنائع الیدویة فلم تکن منظمة تنظیما معقولا و لا جاریة علی طریقة معقولة، و کان أرباب الأفکار یحتقرونها فلا یمارسها إلا الصعالیک یخلفون فی تعلمها آباءهم، بدون وقوف علی القوانین المیکانیکیة أو الطبیعیة التی کانوا یعملون بها علی الدوام.
ثم حسنت الحال بالتدریج و دخلت الأعمال فی طور نظام، و انتظمت العلوم الرئیسة. لا سیما الآداب و الفنون و علوم النظر و العلوم العملیة أی التجارة و الصناعة و الحرف، و نشأ الإخصاء فی کل فرع من فروع هذه الطبقات. فالطبیب مضطر إلی تعلم أمور کثیرة، و لا یخصی فی تعاطی فرع واحد إلا فی المدن، أما فی القری فیمارس کل فرع من فروع الأمراض الباطنیة و الخارجیة. و هکذا الحال فی الأعمال التجاریة و الصناعیة فإن کل حرفة أو مهنة تنقسم إلی أقسام.
و قد دخل کل علم الیوم فی دائرة الإخصاء حتی ما یلزم الطاهی و البائع من المعارف، فأصبح من الضروری بالنظر لتکاثر أعمال البشر، أن یزید أبدا الإخصاء فی کل علم و شأن. و إذا نظرت إلی الإخصاء من حیث العلم فإنه دلیل الکفاءة و بدونه لا یکون عالم، فان المبادئ الأولیة من جمیع العلوم هی و لا شک نافعة لکل الناس، و متی حاز المرء قسطا من هذه العلوم و رأی أن یتبحر فیها یجب علیه تعیین الموضوع الذی سینصرف إلیه و بدون ذلک یتقدم المرء فی عمله تقدما بطیئا، و یخلط و یبقی متوسطا و إلی ضعف. و الإخصاء ضروری أیضا فی العلم العملی أی فی المعامل و الأعمال الیدویة و ذلک للسرعة فی الإنتاج و بهذا یری أرباب معامل الابر و الخیاطة فی لندرا أن فی تقسیم الأعمال اقتصادا کبیرا.
خطط الشام، ج‌4، ص: 80
إذا قسمت الأعمال و أخصی المشتغلون بالعلوم و توسعوا فیها، فالإخصاء یؤدی و لا جرم إلی الضعف الأدبی، و ذلک أن العاملات مثلا إذا قضین نهارهن فی عملهن السهل اللطیف فی الظاهر، کأن یتوفرن علی إدخال الخیوط فی إبرهن فإنهن لا یفقدن شیئا من حواسهن، و لکنه ثبت أنهن یفقدن حاسة النظر فی أقرب وقت. أما القوی العقلیة و القوی المماثلة لها فإنها تتأذی أیضا. و من ینصرفون فی العلم المحض إلی الإخصاء ککثیر من الریاضیین و المهندسین و الفلکیین یعیشون فی العالم کأنهم لیسوا منه، و یدهشون من عاصروهم بغرابة أخلاقهم، و تشتت أفکارهم، و بالجملة فیقضی علی کل مخص فی العلم أو فی الصناعة أن یحرز حظا من المعارف لأول أمره، و أن یخصی فی علمین أو ثلاثة، فإذا مارس أحدها أراح غیره ا ه.

الصحافة العربیة:

نشأت الصحافة، أی نشر صحف الأخبار، بعد انتشار فن الطباعة الحدیثة عام (1566 م) فی مدینة البندقیة، و لم تلبث أن انتشرت فی أوربا، و لکنها لم تعرف فی دیار العرب إلا فی سنة (1799 م) أنشأها فی مصر نابولیون بونابرت، و لم تصل إلی الشام إلا فی أوائل منتصف القرن التاسع عشر، ففی بدء سنة (1851 م) أنشأ المرسلون الأمیرکان فی بیروت أول مجلة عربیة اسمها «مجموع فوائد». و للشامیین الفضل الأول فی إنشاء الجرائد، جمع جریدة، و هو الاسم الذی وضعه أدیب لبنانی للتعبیر عن‌Journal أوGazette ثم وضع لغوی لبنانی آخر اسم «مجلة» للتعبیر عن‌Revue أوBulletin أطلقه علی هذه الرسائل الدوریة التی تضم بین صفحاتها مختلف الفوائد فی شتی الموضوعات. و ما زال للشامیین الفضل الأکبر فی إنشاء الجرائد و المجلات. و قد أنشأوا فی الاستانة و مصر و تونس و أوربا و أمیرکا صحفا عربیة کثیرة، و آزروا فی صحف کثیرة، کما أنشأوا فی الشام صحفا کانت تعلو و تسفل بحسب مقدرة القائمین بها، ذلک لأن الأمیة کانت غالبة، و لم یکن الإقبال علی مدارس المرسلین و المدارس الطائفیة و هی التی سهلت درس العربیة قبل غیرها، هذا الإقبال الذی شوهد من بعد،
خطط الشام، ج‌4، ص: 81
و خرّج مئات من الطلاب الذین کان أقل ما ثقفوه فیها تعلم مبادئ لغتهم و مبادئ اللغات الأجنبیة.
و لما احتل البریطانیون مصر و زاد الضغط علی الصحافة العربیة فی الشام، هبط مصر کثیر من نبهاء الکتاب الشامیین من أرباب الصحف و من المترجمین و غیرهم، و أنشأوا جرائد و مجلات و منها إلی الیوم جریدتا الأهرام و المقطم و مجلات المقتطف و الهلال و غیرها من الجرائد و المجلات التی نشرها الشامیون و عاشت مدة ثم احتجبت. و کلها أبلت بلاء حسنا فی خدمة الأفکار و نشر الآراء العلمیة و التهذیبیة و الأدبیة و الدینیة. و قد نشرت فی الشام و فی مصر بأقلام الشامیین أنفسهم صحف و مجلات کثیرة لم یکتب لها البقاء، و إن کان بعض القائمین بها علی حصة موفورة من العلم و الأدب، و قضی علیها لقلة القراء، أو لوفاة أصحابها کمجلة الضیاء و المنار و لم یأت من یخلفهم فی موضوعهم. و أخری أن المجلات المفیدة لم تجد من الحکومات و الجمعیات معاضدة فعلیة.
ظلت الصحف السیاسیة و المجلات العلمیة مستندة إلی قوی أصحابها فقط، و لو کان فی القوم أناس یحبون حقیقة معاضدة الآداب لألفوا شرکات برؤوس أموال کبیرة لإنشاء بضع صحف و مجلات تخدم الخدمة اللازمة، و لا تسف إلی تناول ما یسد بعض عوزها من الحکومات أو من أفراد أو من أرباب المظاهر یعطون المجلات أو الجرائد ما تیسر حتی تسبح بحمدهم و تنشر محامدهم و صورهم فالجرائد و المجلات بذلت الجهد إذا فی نشر الأفکار و التهذیب فی الشام علی قلة الوسائط، و کان صوتها یسمع أکثر مما سمع لو بذلت الأمة العنایة بتعهدها أکثر مما بذلت، نعم کانت خیر معلم و أجمل مدرسة للناس، ترشدهم فی جمیع ما تشتد إلیه حاجتهم من المعارف، و تغرس فی نفوسهم روحا وطنیا لا تقوم الأمم بغیره، و تلقن الجمهور علی اختلاف نزعاته تربیة سیاسیة صالحة فی الجملة لأمة لم تستقر حالتها السیاسیة.
دخل منذ ثمانین سنة کثیر من النبهاء فی الصحافة، و لکن المتوسطین الذین خاضوا غمارها کانوا أوفر عددا، فأفسد المتوسطون عمل الذین کان یرجی من أقلامهم رفع مستوی المعارف. و مع کل الضعف الذی تجلت أعراضه فی کل أدوار الصحافة الشامیة کان منها أن علمت الناس ما لم یکونوا یعلمونه، (4- 6)
خطط الشام، ج‌4، ص: 82
علمتهم أن وراء حیاتهم المادیة حیاة معنویة. لا تبقی لهم مادیاتهم بدون الأخذ بحظ وافر منها، علمتهم بسائط من التاریخ و حال الأمم و سیاسات السیاسیین و قوانین المشرعین و استعمار المستعمرین و تدلیس المدلسین، و أن أمتهم کانت شیئا مذکورا فیما مضی، و لا حیاة للأحفاد بدون الأخذ من سیرة الأجداد، و الاقتباس من المدنیة الحدیثة کل ما لا ینزع منهم مشخصاتهم و مقدساتهم، و أصبح بعض العامة ممن أدمنوا تلاوة الصحف و تفهمها. أرقی عقلا من کثیر ممن کانوا یسمونهم بالخاصة منذ مئة أو مئین من السنین. علمتهم أن لا قیام لأمرهم إلا بالقومیة العربیة، و أن نغمة الدین وحدها لا تنجیهم مما هم فیه لأن التساهل بأمور الدنیا یذهب بالدین و الدنیا معا. علمتهم أن الغرب لا یرید خیرا للشرق، و الشرق شرق و الغرب غرب، و أن الأقلیات التی کانت تصرفها أوربا بحسب أمیالها السیاسیة لا تعیش إلا بالاندماج فی الأکثریات، و توحید المقاصد الوطنیة. و کل أمة تحکم برأی السواد الأعظم من أبنائها.
علم معظم الناس، إلا أناسا مأخوذین بتعصبات مذهبیة و نعرات طائفیة، أن الغرب لتحقیق أغراضه یفادی بکل من یمتون إلیه بصلة من صلات القربی المذهبیة، و أن الاعتبار عنده للمصلحة کیفما کانت و کان السبیل إلی الحصول علیها، و قاعدتهم کلهم الغایة تبرر الواسطة. و لقد عرفت الحکومات التی استولت علی هذه الدیار منذ نشأة الصحافة الشامیة کیف تستفید من هذه القوة، فکانت تحتال فی أول دور أن تشرّف صاحب الجریدة برتبة لها و وسام، و من خالف الصدع بأمرها تکسر قلمه و تشرده و تسجنه و تنزل علیه غضبها، و قد تجلی ذلک فی الثلث الأخیر من الدور الحمیدی، فلما أعلن القانون الأساسی أخذ الأتراک الذین قبضوا بعده علی زمام المملکة یتوسعون فی هذا المبدإ مبدإ السیر بقوة الصحافة إلی الغرض الذی یرمون إلیه، فصانعوا بعض أربابها و ضحکوا من بعضهم بإکرامهم و إعطائهم مالا. و لما جاءت الحکومات المنتدبة و هی من أعرف الأمم بتأثیر الصحافة فی الأفکار لم تقصر فی اتخاذ هذه النظریة علی طریقة جمعت أیضا بین الرغبة و الرهبة و العطاء و المنع. و لم تخل الشام فی کل دور من أناس باعوا فی خدمة صاحب القوة ضمائرهم. شأن کل أمة جدیدة فی الحیاة السیاسیة، و لکن ظهر ذلک جلیا فی صحافتنا لأن الدعاة للقوة ضعاف،
خطط الشام، ج‌4، ص: 83
حتی فی فهم ما انتدبو إلیه، فکانت تنکشف أعمالهم منذ أول یوم یسبحون بحمد من استهووهم.
و بعد فالصحافة العربیة فی الشام تحتاج إلی أربع أو خمس صحف و بضع مجلات علی النمط العالی من نوعها فی أمم الحضارة، تصدر فی أمهات حواضر الشام (القدس و بیروت و دمشق و حلب) و ترجع فی شؤونها إلی شرکات منظمة تدیر مالیتها، أو أحزاب سیاسیة ثابتة تدیر حرکتها، و یوکل أمرها إلی کفاة ینسجون فیها علی أحسن منوال نسجته صحافة أوربا و أمیرکا، و نحن لا نتطال إلی أن یکون للشام الیوم صحافة کصحافة بریطانیا العظمی بوفرة مادتها، و صدق لهجتها لأمتها، و سرعة تناولها الأخبار، و تنویع أسالیب التعلیم و التفهیم، بل نرجو أن تکون لنا صحافة متناسبة مع ماضینا و حاضرنا، بحیث لا تکون الشام أحط من مصر فی هذا الشأن علی الأقل. الصحافة عنوان ارتقاء الأمة، و لیس ما یمنع من إبرازها فی قوالب مقبولة لجمیع الأذواق، و هذا لا یتم إلا إذا وسدت أعباء الصحافة للعارفین.
قلنا فی سنة 1328 ه (1910 م) من مقالة (المجلد السادس من مجلة المقتبس):
و قد رأینا هذا التهالک علی إنشاء الصحف و المجلات حتی کان لنا منها نحو مئة صحیفة فی هذا القطر الصغیر، نأسف لأکثرها علی الورق الذی تطبع فیه و الوقت الذی یصرف علیها، و هی خلو من الفوائد اللازمة، و لو لا بضع جرائد و مجلات لا بأس بها فی الجملة، لقلنا إننا بعد اشتغال ستین سنة فی الصحافة لا نزال فی حالة ابتدائیة، قلنا: إن للنجاح فی الأعمال أسبابا کثیرة، منها ما هو مادی و منها ما هو معنوی، إذا اختل أحدها تعذر النهوض بالشق الآخر. و إنشاء الجرائد و المجلات لا یخرج عن هذا الحد المقرر. و هل فی الأرض عمل لا یحتاج إلی علم و تجارب و مال و استعداد؟ و لطالما رأینا مصر فی الثلاثین سنة الأخیرة، و الشام فی عهدها الدستوری و غیرهما من الأقطار و الأمصار التی یتکلم أهلها بالعربیة، تتجرأ علی إصدار الصحف بدون حساب و لا رویة، و أدرکنا العامة أجرأ من الخاصة علی اقتحام هذا المرکب الصعب، و لیس لدیهم فی الأغلب من وسائط النجاح کبیر أمر، فلا یلبث ما ینشئون أن یظهر إلی الوجود حتی یختفی اضطرارا لا اختیارا. و هذا هو السبب فی تعدد الجرائد و قصر أعمارها و اشمئزاز
خطط الشام، ج‌4، ص: 84
الناس منها، إذ توهموها بما تمثل لهم من حال بعض من أقدموا علیها آلة للتکسب و التدجیل لا أداة للوعظ و الإرشاد و التعلیم.
«ما رأینا صناعة من الصناعات استسهل الناس أمرها کالصحافة، فلم یعهد معلم فی النجارة أو الحدادة أو البناء أو الهندسة یحترف هذه الحرف بدون سابق ممارسة و یتصدر للاعتیاش منها و هو لا یعرف من أسرارها سرا، و لکن فن الصحافة فی هذه الدیار الذی یتوقف النجاح فیه علی أسباب کثیرة أهمها العلم و التجربة و المال، قد رأینا أناسا من الأغمار یدّعونه بدون خشیة و أکثرهم لا یعرفون قراءة الجرائد و المجلات دع تألیفها و إصدارها.
«کان جمهور الناس إلی عهد قریب یشارک الأطباء فی طبهم، فتری الکبیر و الصغیر إذا عرض لهما مریض من خاصتهما و معارفهما لا یتوقفان فی وصف علاج یشفیه، مدعین أن ذلک من مجرباتهما أو مجربات أصحابهما، و لما کثر الأطباء و استنارت الأمة بعض الشی‌ء خفت هذه العادة فی التعدی علی الأطباء فی طبهم إلا عند الطبقة الجاهلة. أما الصحافة فیدخل فیها بالفعل أناس لیسوا منها و لیست منهم، و یصفون للأمة أدویة تقیها الأسواء و الأرزاء، و یعترضون علی العالمین و الحاکمین و السلاطین بلا خشیة و لا حیاء، کأن طب الأرواح لیس أصعب من طب الأشباح، أو کأن الصحافة من العلوم اللدنیة لا الکسبیة، یتعلمها المرء بالذوق و توحی إلیه إیحاء.
«من أجل هذا احتقرت الأمة الصحافة لما رأت من ضعف بعض أدعیائها فی أخلاقهم و معارفهم و قد شانوا اسمها و عبثوا بجمالها، تذرعا إلی مطمع ینالونه، وصیت بالباطل یحصلونه، و مقام عال ینزلونه. نعم لم نشهد العطار بیطارا، و لا الإسکاف نجارا، و لا الحطاب رساما، و لا الفحام نظاما، و لا الجوهری حجاما. و لکن شهدنا الفلاح صحافیا، و المتشدق مؤلفا، و الثرثار محامیا، و المکثار خطیبا. کما نشهد الأغبیاء قد یحاولون مجاراة الأذکیاء، و الفقراء یقلدون الأغنیاء.
«بید أن سنن الفطرة التی لا تغالب، و نظام هذا الکون البدیع الذی قلما اختل. یعاقبان المعتدی علی ما لا یعلم بما جنته یداه، کما قیل فی الأمثال الإفرنجیة کل خطاء یحمل عقوبته فیه. و ندر جدا فی الناجحین من تیسر لهم الوصول إلی ما وصلوا إلیه إلا باتخاذ الذرائع المنجحة، و نسج حلل مجدهم بأیدیهم.
خطط الشام، ج‌4، ص: 85
رأینا کثیرا و لا سیما فی مصر و الشام التصقوا بالصحافة و أنفقوا ثرواتهم فی سبیلها فلم ینجحوا، و رجعوا بعد العناء الطویل و خسارة المال صفر الأیدی خائبین، لأن مائدة العلم لا یجلس إلیها طفیلی، و لأن التمویه إن صعب فی عمل فهو فی الأعمال العلمیة أصعب ...
«و لقد شاهدنا عیانا أن معظم الصحف التی کتب لها البقاء فی هذین القطرین الشقیقین خاصة هی التی قام بأعبائها أناس متعلمون تخرجوا فی الکتابة و تدربوا فی السیاسة و تذوقوا لماظة من العلوم التی لا یسع صاحب جریدة و مجلة جهلها.
و معظم من لم یخادنهم التوفیق أخفقوا لأسباب ناشئة من ضعفهم و قلة معارفهم فی صناعة یلزمها ما یلزم لکل صانع من الأدوات إن لم نقل إنها تتوقف علی أدوات أکثر. و لو کان قومنا یبالغون فی انتقاء الرجال للأعمال، لوضع فی قانوننا بند یلزم کل من تصدّر لمعاناة صناعة القلم، أن یمتحن فی الفن الذی یخوض عبابه، کما یمتحن المتطببون و الصیادلة، فإنشاء الصحف إن لم یکن أحق بالعنایة من معرفة الأمراض و العلل و العقاقیر، فلا أقل من أن یکون علی مستواها، فکم من جاهل قتل نفسا زکیة، و من صحافی جرع قراءه السم الزعاف، علی حین ینتظر منه التریاق النافع».
هذا ما قلناه و نزید علیه أن الإخصاء أو الاختصاص العلة الأولی فی نجاح الغرب فی صحافته یجب أن یکون له فی صحفنا المقام المحمود، و فی الیوم الذی أصبحت فیه توسد فی مصر أعمال الصحافة إلی أمثال هؤلاء من الحقوقیین و الکتاب و السیاسیین دخلت مصر فی حیاة جدیدة، و هذا قریب المنال علی الشام التی کان لبعض أبنائها خدمة تشکر فی تاریخ الآداب و الصحافة. و من أهم مجلاتنا التی تصدر فی الشام «المشرق» «مجلة المجمع العلمی العربی» «المجلة الطبیة» «مجلة المعهد الطبی» و من المجلات المحتجبة «الرئیس» «الطبیب» «المقتبس» «الآثار» «الکلیة» «الحارس» «الخدر» «المرأة الجدیدة» و من صحفنا الیومیة «لسان الحال» «الأحرار» «القبس» «ألف باء» «فتی العرب» «الرأی العام» «البلاغ» «الاستقلال» «الجوائب» «فلسطین» «العهد الجدید» «البرق» «الأحوال» «النهار» «النضال» «الکفاح» «الأیام» إلی ما هنالک من جرائد أسبوعیة و منها الجدی و الهزلی المصوّر و غیر ذلک.
خطط الشام، ج‌4، ص: 86
و بعد فالواجب علی الصحافی قبل کل شی‌ء أن یحسن الکتابة العربیة کأحسن منشئیها، و أن یکون قادرا علی النقل و الاحتذاء من أفکار الغربیین، أی عارفا بلغة أو لغتین من لغات السیاسة و العلم، و أن یکون ممن عانی البحث ملما بالقوانین الدینیة و الزمنیة و تاریخ الأمة و لا سیما تاریخ هذا القطر عارفا الاقتصاد و الاجتماع و حیاة الأمم و تاریخها و ثوراتها و نهضاتها و نقاباتها و ألوان أحزابها و أوضاعها کل هذه المسائل أقل ما یجب للصحافی المشارکة التامة فیه. أما المباحث المالیة و الزراعة و التجارة و الفنون و الأدب و الشعر و الآثار و التاریخ و غیرها مما یجعل من الصحیفة مدرسة تامة الأدوات لإنارة الأفکار و بث الصحیح منها، فیجب أن یوکل شأنها لأهل الإخصاء من العارفین بها. و بذلک یصح أن یقال إن لنا صحافة راقیة، و ما دامت الصحیفة الواحدة ینشئها واحد أو اثنان أو ثلاثة علی الأکثر، تضطر الصحف إلی أن تکون ناقلة ضعیفة فی مادتها و أخبارها و أفکارها و إذا زاد علیها خدمة غرض سیاسی لا یحسن صاحبها التصرف فیه، فهناک البلاء الذی یحول دون الرقیّ.

الطباعة و الکتب:

لم یصل إلینا فن الطباعة الحدیث أفضل اختراع تم فی أوائل النصف الثانی من القرن الخامس عشر للمیلاد، إلا فی القرن السابع عشر، و من أوائل الکتب العربیة التی طبعت فی رومیة فی القرن الخامس عشر الإنجیل الشریف و قانون ابن سینا، و قام بتأسیس مطبعة فی الشویر من لبنان عبد اللّه زاخر الراهب المارونی سنة (1145) و طبعت هذه المطبعة 34 مؤلفا خلال ستین سنة و أکثرها دینی و هی مطبعة یدویة علی الحجر، و قد طبعت مطبعة الشویر المزامیر سنة (1610 م)، و دخلت الطباعة الاستانة سنة (1135 ه) و أول مطبعة أنشئت فی بیروت مطبعة القدیس جاورجیوس فی أواسط القرن الثامن عشر، بل إن فن الطباعة بهذه الحروف المتعارفة لم تثبت قدمه إلا بمجی‌ء الإرسالیات و الرهبنات الدینیة من الغربیین، و إلی الیوم لا تزال المطبعتان العظیمتان فی بیروت بل فی الشام کله هما لتلک الجمعیات (الأمیرکانیة أسست سنة 1834 م و الیسوعیة 1848 م) التی کان الغرض الأول منها نشر الکتب المقدسة و الدعایة إلی إنجیل المسیح فی هذا الشرق
خطط الشام، ج‌4، ص: 87
القریب بین أبناء العرب، ثم خدمة التهذیب و الثقافة الإنکلیزیة و الفرنسیة و بعد ذلک تعلیم شی‌ء من العربیة. و الکتب العلمیة الحدیثة التی ظهرت فی هذه المطابع باللغة العربیة شاهد عدل علی أنه لا یتأتی نشر المبدإ الذی یریدونه قبل أن یخدموا القطر بلغته.
ربما بلغ عدد المطابع فی الشام ثمانین مطبعة من أهمها المطبعة الأدبیة فی بیروت، و قلّ جدا فیها المطابع التی طبعت الکتب النافعة و لاحظت نفع جمهور الناس قبل منفعتها الخاصة. طبعت قصصا معربة و أشعارا و دواوین قدیمة و حدیثة و کتبا دینیة و رسائل علمیة فی المعارف العامة و قلیلا من کتب العرب التی لا یزال ألوف منها محفوظا فی خزائننا و خزائن الغرب مما یقبل الغریب علی طبعه و یجود العنایة به من حیث التصحیح و التعلیق. و نحن قلما کتب لمطابعنا أن تتأسی بهم و تتعلم منهم. و لو لا ألوف من کتبنا طبعت فی مصر و الإستانة و الهند و أوربا لما وجدنا بین أیدینا من ترکة السلف الصالح ما فیه الغناء فی العلوم و الآداب القدیمة، ذلک لأن بعض من یرجی منهم خدمة الطباعة بنشر الکتب النافعة لا یجدون من یطبع لهم ما یریدون إحیاءه من کتب القدماء، أو ما یؤلفونه هم علی النمط الحدیث، لأن الطابعین ینظرون إلی أرباحهم أولا، و أرباحهم موقوفة علی کثرة ما ینصرف من مطبوعاتهم، و الجمهور بالطبع کما هو فی کل بلد لا یقبل علی الجد إقباله علی الهزل، و لا یقدر أن المنفعة له فی الصعب قبل السهل، و أکبر الظن أن کثیرا من أرباب المطابع هم من العامة أو یقربون منهم فی الفکر و التعلم.
و لقد شاهدنا أناسا من الغیر علی العلم طبعوا مصنفاتهم بأنفسهم فافتقروا إذ لم یعرفوا تصریفها، و المؤلف غیر التاجر، ثم هم لم یجدوا فی الأغنیاء و الحکومات من یناصرهم و لو بابتیاع نسخ معدودة من کتبهم. و رأینا أناسا طبعوا کتبا سخیفة من تألیفهم فروّجوها هم أو أحبابهم بالتجبیة و القحة فدرّت علیهم أرباحا لا یستهان بها. فلا عجب إذا أصبح الطابعون و المصنفون یهتمون لمنافعهم الخاصة و لو کان فی الطابعین من یخاطرون بطبع کتب العلم و الأدب التی لها قراء مخصوصون لزاد عدد الراغبین فی المسائل الجدیة أکثر من الآن و لارتفع میزان العقل أکثر مما ارتفع.
نعم لم یطبع کثیر من الکتب الخالدة سواء کانت للمعاصرین أو لمن قبلهم فی عهد ارتقاء العلم فی العرب، و قل أن طبع کتاب بذاک الإتقان الذی تطبع
خطط الشام، ج‌4، ص: 88
به الکتب فی أرض المدنیة اللهم إلا فی بضع مطابع لا یهتم أهلها ربحت أم خسرت لأنها لجماعات لا لأفراد. و ما عدا عشرات من الکتب التی طبعها فی بیروت خاصة علماء المشرقیات أو من أخذوا عنهم طرائقهم فی الطبع و النشر. لم یکد یطبع فی سائر مدن الشام کتاب یعد نموذجا فی إتقانه و وضعه و تألیفه. و غایة ما نشروه کتب قصص و کتب مدارس ابتدائیة أو أشعار أناس تهجموا علی التألیف تهجما، و لما یستعدوا له الاستعداد الکافی، و لم یجوّدوا مصنفاتهم بإنضاجها بالبحث و التنقیب، و إیراد الطریف من المباحث.
فالشام مقصر فی هذا الشأن من وجوه کثیرة، و لو لا مئات من المجلدات خلفها لنا أجدادنا، و ما زالت تطبعها مطبعة لیدن فی هولاندة منذ أکثر من ثلاثة قرون بمعرفة أفاضل علماء المشرقیات فی الغرب، و لو لا ما طبعته جمعیات المستشرقین فی ممالک أوربا و أمیرکا لفاتنا الوقوف علی أمور کثیرة فی مدنیة العرب و تاریخهم، و إلی الیوم لم تبلغ مصر علی کثرة ما یطبع فیها من الکتب، و بعضها باتقان زائد فی الطبع، کمطبوعات المطبعة الأمیریة و دار الکتب المصریة و مطبعة جمعیة التألیف و الترجمة و النشر مبلغ مطبعة لیدن و لیبسیک فی الإجادة، و لا سیما فی الفهارس و الشروح و الهوامش و الأمانة فی النقل الذی أصبحوا به قدوتنا و عنهم یجب أخذه
تأملنا ملیا فیما تصدره المطابع من الکتب فرأیناها مصنفات هوائیة موقتة إلا قلیلا، تخدم فکرا خاصا و لا یتوقع منها إلا الشهرة علی الأغلب لا عموم الفائدة، و معظم من یعدونهم من المؤلفین هم فی الحقیقة مترجمون، و منهم من لا یجید الترجمة، و کم من تألیف نظرت فیه فانقبضت نفسک مما فی تضاعیفه من ضعف التألیف ورداءة الطبع. و مع هذا کان الناس یؤلفون علی عهد النهضة الأدبیة الأولی أی فی أواخر القرن الماضی أکثر من الیوم، و لقد تسربت روح التفرنج إلی طائفة ممن تلقنوا اللغات الأجنبیة، و غدوا لا یهتمون إلا بالأخذ من کتب اللغة التی یحسنونها من لغات الغرب، و فی الغالب تکون الفرنسیة أو الإنکلیزیة و قلما رأینا رجلا کفوءا من هؤلاء الذین لا یعتمدون علی غیر کتب الإفرنج أن نقل، لمن حرموا معرفة اللغات الغربیة من بنی قومه، موضوعا نافعا لهم فی اجتماعهم و صناعتهم و تمدنهم، لأن الأثرة زادت بزیادة المدنیة.
خطط الشام، ج‌4، ص: 89
و قد زاد فی رداءة التآلیف المطبوعة کون المؤلفین، و منهم الوسط فی علمه و تألیفه، یخافون نقد الناقدین علیها، و کون بعض الصحف و المجلات تصانع فی الأکثر هؤلاء الذین وضعوا أنفسهم موضع المؤلفین، و تدهن دهانا عجیبا لمن کان من أهل دین صاحب الجریدة و المجلة أو علی مشربه السیاسی!.
أو یکون ممن یتوقع منه أن یکتب له ذات یوم مقالة أو یعاونه أدنی معاونة مادیة.
و لذلک استشری الفساد و ظن کل من طبع شیئا أنه خدم الأمة خدمة صالحة.
و النقد الذی هو من أهم الذرائع فی السیر نحو الکمال إلی بحابح المدنیة مما لا یؤبه له، و ربما تعرض صاحبه لمقت هؤلاء الطابعین و المؤلفین. قسم السید أسعد داغر من یعرضون فی سوق الأدب بضاعتهم من ترجمة و تألیف و تصنیف إلی فریقین فریق المحترفین و فریق الهواة، فالمحترفون هم الذین یعملون بالقلم لیتقوا شر المتربة، و یعیشوا من شق تلک القصبة، و الهواة هم الذین یشتغلون بالعلم و الأدب لأن لهم فیهما حفاوة صحیحة مجردة عن المآرب، و رغبة حقیقیة منزهة عن حب الأرباح و المکاسب، و معظم هؤلاء هواة کانوا أم محترفین یشق علیهم أن تنقد کتبهم و مؤلفاتهم و ینظرون إلی الانتقاد و المنتقد بعین الشانئ الکاشح.
لیس فی کل ما طبعته المطابع الشامیة منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، و هو عصر النهضة عندنا، سوی کتب قلیلة تستحق العنایة و تستوقف القارئ للأخذ منها مثل کتب محمد عابدین، أحمد فارس، فاندیک، ورتپات، پوست، پورتر، لامنس، شیخو، مشاقة، إبراهیم الیازجی، إبراهیم الحورانی، طاهر الجزائری، عبد الرحمن الکواکبی، سعید الشرتونی جمال الدین القاسمی، رفیق العظم، شبلی شمیل، شکیب أرسلان، نجیب الحداد، یعقوب صروف، عیسی المعلوف، إسعاف النشاشیبی، إبراهیم الأحدب، یوسف الأسیر، بطرس و سلیمان و عبد اللّه البستانی، أحمد حمدی الخیاط، مرشد خاطر، جمیل الخانی، شفیق جبری، سلیم الجندی، خلیل مردم بک، أمین الریحانی، خلیل سعادة و أضرابهم ممن أبرزوا تآلیف منقحة، و فی بعضها إبداع و إیجاد، و ذلک لأنهم هضموا العلوم التی عرفوا بها، و جاءوا بالجدید، و فیها أفکار علمیة أو مدنیة أو دینیة صحیحة.
خطط الشام، ج‌4، ص: 90

الفنون الجمیلة

تعریف الفنون الجمیلة:

الفنون الجمیلة أو الصنائع النفیسة، و أسماها بعضهم نواضر الفنون و قیل إن العرب أطلقوا علیها اسم «الآداب الرفیعة» هی الصنائع التی من شأنها إدخال السرور بجمالها و جلالها علی النفوس البشریة، و تربی ملکة الذوق و الشعور، و هی سبعة أقسام: الموسیقی، الغناء، التصویر، النقش، البناء، الشعر و الفصاحة، الرقص. و أرجعها بعضهم إلی ثلاثة فروع فقط: التصویر و الشعر و الموسیقی.
و لقد کان لهذه الدیار حظ کبیر من هذه الفنون بقدر ما ساعدتها بقعتها و طاقتها، و ربما تم فیها أشیاء لم تصلنا أخبارها، أما الدول التی تعاقبت علی الشام بعد الإسلام، فإن ما وصلنا من أنباء هذه الفنون فیها قد تعرّض له کاتبوه بالعرض کأن یکون المشتغل بالموسیقی أو التصویر مثلا ذا مشارکة فی فنون أخری من أدب و شعر، و طب و فلک، و حدیث و فقه، أو أن القوم دوّنوا عامة سیر الموسیقیین و المغنین و المصورین و النقاشین مثلا فضاع ما دونوه فی جملة ما ضاع من أخبار حضارتنا.

الموسیقی و الغناء:

نشأت الموسیقی مع البشر و لازمتهم فی جمیع ما عرف من أدوارهم فی حیاتهم الخاصة و العامة، و فی مظاهر سلمهم و حربهم، و سعادتهم و شقائهم، و أفراحهم و أتراحهم، و سفرهم و حضرهم، و تعبهم و راحتهم، و دینهم و دنیاهم و المرء من طبعه أن لا یستغنی عن رفع صوته، لیطرب نفسه و جلیسه، و قلبه
خطط الشام، ج‌4، ص: 91
یصبو بالفطرة إلی سماع أوتار تهزه و تطربه. فالموسیقی تجمع الحواس و تنشط لها النفوس، و بها یجسر الجبان، و یعطف اللئیم، و یرقّ الکثیف، و یلین القاسی و یقوی الضعیف، و یکف الظالم، و یعتدل المائل، فهی مدعاة السرور، مجلبة الطرب، مسلاة الحزین، مفرّجة الکروب، مهوّنة الخطوب، عنوان الحیاة الداخلیة، مظهر الأخلاق القومیة، مصورة الانفعالات النفسیة، أصدق عامل علی التحمس، أقوی دافع إلی النهوض و التحسس، معلمة أنفع الدروس الشریفة مذکرة بالمطالب العالیة، فیها یتجلی العقل البشری بإشارات و حرکات، تعمل عملها فی الأفئدة و الوجدانات.
و لقد ثبت أن العنصر السامی من أکثر العناصر و لوعا بالطرب و الخیال، و قیل: إن الحثیین من أقدم شعوب الشام کانوا أقل عنایة بالموسیقی و الغناء من جیرانهم البابلیین و الأشوریین و الآرامیین، و مع هذا کان لهم من الغناء ما ابتدعوه بفطرتهم، و منه ما أخذوه من مجاوریهم. و کان الآرامیون مولعین بالغناء و الضرب بالإیقاع علی آلات لهم یبوّقون بها و یزمرون، و یطرّبون بها فیطربون، و هی بالطبع علی حالة ابتدائیة علی مثال الشعوب التی سبقتهم إلی سکنی هذا القطر.
و مثل هذا یقال فی الفینیقیین الذین اقتبسوا مدنیة الفراعنة، و هم من أصل سامی، فإنهم کانوا یعرفون الموسیقی، و منها ما نقلوه عن المصریین لتمازج مدنیة السلائل المصریة بمدنیة فینیقیة الصغیرة، و إذ کان للمصریین عنایة فائقة فی معابدهم بالموسیقی علی ما ظهر من تماثیلهم التی مثلت بها الضاربین و المغنین، تعلم جیرانهم أهل فینیقیة بعض هذه العنایة، و لکن علی طریقة الاحتذاء لا إبداع فیها، و یقال ذلک فی الکنعانیین و الإسرائیلیین فقد أولعوا بها و ظهرت آثارها فی معابدهم و بیعهم، و أمام أربابهم و معبوداتهم، و فی حروبهم و غاراتهم و أعیادهم و مآتمهم و اجتماعاتهم، علی ما فهم من نصوص التوراة. و مزامیر داود مشهورة مذکورة، و الآلات التی اشتهرت عند الشعوب القدیمة و عانت استعمالها، ترجع فی الأکثر إلی شبابة و بوق و صنج و طبل و دف.
و لقد دلت بعض النقوش التی عثر علیها فی وادی موسی و جرش و تدمر أن العمالقة و النبط و العرب لم یکونوا أقل من الشعوب التی سبقتهم إلی نزول هذه الدیار و لوعا بالتلحین و الإیقاع و الضرب علی القیثار و النفخ بالمزمار، و قد
خطط الشام، ج‌4، ص: 92
نقل الیونان و الرومان إلی هذا القطر موسیقاهم و أصول غنائهم علی الأرجح کما نقلوا أربابهم، و اقتبسوا أربابا مع أربابهم، و إذ طال عهد دولتیهم کثیرا تأصلت موسیقاهم، و ثبتت مصطلحاتهم، و ربما نقلوا بعض مصطلح الأمة التی حکموا علیها فی غنائها و موسیقاها. و لما انتشرت النصرانیة فی الشام فی القرن الثالث للمیلاد عنی منتحلوها بالموسیقی فی کنائسهم عنایة الیهود بها من قبل فی بیعهم، و إذ اقتبست النصرانیة کثیرا من عادات الروم و مصطلحاتهم لم تقصر فی اقتباس الموسیقی و التلحین و الغناء لثبوت فوائدها الروحیة.
و لما جلت بعض القبائل العربیة إلی الشام یوم سیل العرم و قبله و بعده، حملت معها ما ألفت أن تفزع إلیه من اللحون، و تضرب علیه من الآلات، حتی إذا کان الإسلام، و کانت مدنیة الفاتحین إلی السذاجة و الفطرة، و کان غناؤهم لا یتعدی الحداء و الإنشاد یوم الغارة و الحفل، و فی ظل الخیام و الآطام، أخذت موسیقاهم تقتبس من الموسیقی الشامیة الرومیة کما تقتبس من الموسیقی الفارسیة.
و قال بعض العارفین: کان اقتباسها من الموسیقی الفارسیة فقط. و زعم بعضهم أن أخذها کان من الرومیة أکثر. و لا یعقل أن یتأخر العرب فی نقل الموسیقی إلی القرن الأول للهجرة و استعدادهم لها کاستعدادهم لغیرها من الفنون، و لهم من فطرتهم و مناخ أرضهم أعظم دافع للولوع بها، و هم المعروفون بحب الارتحال و کانت لهم صلات مع جیرانهم من الأمم الأخری منذ الزمن الأطول «و لم تکن أمة من الأمم بعد فارس و الروم أولع بالملاهی و الطرب من العرب».
و مع هذا فنحن مضطرون أن نشایع القائلین بأن أول من غنی هذا الغناء العربی بمکة ابن مسجح، نقل غناء الفرس إلی غناء العرب، ثم کثر الموالی من الفرس فکانوا یتعلمون فی مکة و المدینة، و منها ینتقلون إلی الشام و العراق و مصر و غیرها من الأصقاع التی استظلت برایة الإسلام. و فی الأغانی أن سعید ابن مسجح أبو عثمان مولی بنی جمح و قیل إنه مولی بنی نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، مکی أسود مغن متقدم، من فحول المغنین و أکابرهم، هو أول من وضع الغناء منهم، و نقل غناء الفرس إلی غناء العرب، ثم رحل إلی الشام، و أخذ ألحان الروم.
و قیل: إن أول من أخرج الغناء العربی جرادة، جاریة ابن جدعان و فیه نظر
خطط الشام، ج‌4، ص: 93
فإن الغناء معهود من عهد عاد، حتی کان من جملة مغنیاتهم الجرادتان اللتان یضرب بهما المثل فیقال غنته الجرادتان. و کان النضر بن الحارث بن کلدة أول من ضرب علی العود أخذه عن الفرس و علمه أهل مکة فانتشر فی الحجاز و کان یتغنی أیضا.
و فی القصة التی ساقها صاحب الأغانی فی الدعوة التی دعی إلیها حسان بن ثابت فی آل نبیط و قد أتوا بجاریتین إحداهما رائقة و الأخری عزة فجلستا و أخذتا مزهریهما و ضربتا ضربا عجیبا و غنتا بقول حسان:
انظر خلیلی بباب جلق هل‌تبصر دون البلقاء من أحد
و روایة حسان نفسه أنه کان فی الجاهلیة مع جبلة بن الأیهم، و قد رأی عنده عشر قیان: خمس یغنین بالرومیة بالبرابط (الأعواد) و خمس یغنین غناء أهل الحیرة، أهداهن إلیه إیاس بن قبیصة و کان یفد إلیه من یغنیه من العرب من مکة و غیرها. فی ذلک کله إشارة إلی أن الغناء العربی فی الشام أقدم من الإسلام.
موسیقی کل أمة ملازمة لها کروحها، و هی مظهر من مظاهر حیاتها، فلا یعقل أن تخلو أمة من روح حتی تجی‌ء أمة أخری فتقبسها روحها. و لکن الأمة إذا اختلطت بأخری، و کان عند الثانیة فضل علی الأولی فی شی‌ء، و فی الثانیة طبیعة الاقتباس و مرونة علی الاحتذاء و التشبه، قد تحمل الأولی إلی الثانیة ما ینمی فیها ذاک الروح فتعدله علی أسلوبها و مناحیها.
و لقد زعم بعضهم أن الإسلام لم یحلّ الموسیقی محلها اللائق بها، و ادعی بعضهم أنه حرمها، فکان الحظر أسهل من الإطلاق فی نظرهم، بید أن الإسلام و هو دین الفطرة لا یخرج عن حد قیود العقل، إلا أنه لا یقول بالإفراط فی شی‌ء حتی و لا بالعبادة، لأنه یکون قد دعا إذ ذاک إلی البطالة و اللهو، و هما مخالفان للشرع، و بذلک تکون الموسیقی و بالا علی من یأخذ نفسه بها، و مصیبة علی من ینصرف إلی سماعها، و لو صح ما قالوا فلماذا رأینا جلّة من الصحابة و التابعین لحنوا و تغنوا، و سمعوا الألحان و طربوا لها، و لو لم یجزها الشارع الأعظم فی أوقات معینة و حوادث وقعت، هل کان یجرأ أحد من أصحابه و من بعدهم علی الجلوس فی مجالس الطرب، و الدین غض و العهد بصاحبه غیر بعید، قال عبد اللّه بن قیس: کنت فیمن یلقی عمر مع أبی عبیدة مقدمه الشام، فبینما عمر یسیر إذ لقیه المقلّسون من أهل أذرعات بالسیوف و الرّیحان فقال عمر:
خطط الشام، ج‌4، ص: 94
امنعوهم فقال أبو عبیدة: یا أمیر المؤمنین هذه سنتهم، أو کلمة نحوها، و إنک إن منعتهم منها یروا أن فی نفسک نقضا لعهدهم فقال: دعوهم. و التقلیس الضرب بالدف و الغناء و استقبال الولاة عند قدومهم المصر بأصناف اللهو. و قیل المقلس هو الذی یلبس القالس أو القلنسوة و هی أشبه بقبعات الروم.
و لما استقر الملک لأمیة فی الشام و دخلت الحضارة کان فی جملة ما دخل إلیه الغناء علی صورة لا خنا فیها و لا تبذل، و لقد روی المبرّد أن معاویة استمع علی یزید ذات لیلة فسمع من عنده غناء أعجبه، فلما أصبح قال لیزید: من کان ملهیک البارحة فقال له یزید: ذاک سائب خاثر، قال: إذا فأخثر له من العطاء. و قالوا: إن معاویة قال لما دخل علی ابن جعفر یعوده فوجده مفیقا و عنده جاریة و فی حجرها عود: ما هذا یا ابن جعفر؟ فقال: هذه جاریة أروّیها رقیق الشعر فتزیده حسنا بحسن نغمتها قال: فلتقل، فحرکت عودها و غنت و کان معاویة قد خضب.
ألیس عندک شکر للذی جعلت‌ما ابیض من قادمات الریش کالحمم
وجددت منک ما قد کان أخلقه‌ریب الزمان و صرف الدهر و القدم
فحرک معاویة رجله فقال له ابن جعفر: لم حرکت رجلک یا أمیر المؤمنین قال: کل کریم طروب.
و رأینا بعض خلفاء بنی أمیة فی دمشق و أمراءهم و ساداتهم، یضعون ألحانا و یسمعون الغناء و یولعون بالموسیقی، و یجیزون أربابها و یواسونهم من غیر نکیر:
و منهم عمر بن عبد العزیز، و ناهیک به من کامل، فی جمیع الفضائل. فقد دوّنت له صنعة فی الغناء أیام إمارته علی الحجاز سبعة ألحان یذکر سعاد فیها، و کان أحسن خلق اللّه صوتا. قال أبو الفرج: و أما الألحان التی صنعها فهی محکمة لا یقدر علی مثلها إلا من طالت دربته بالصنعة و حذق فی الغناء. و ممن صنع فی شعره غناء یزید بن عبد الملک الأموی و ممن غنی و له أصوات صنعها مشهور و کان یضرب بالعود و یوقع بالطبل و یمشی بالدف علی مذهب أهل الحجاز، الولید بن یزید. و قد ذکروا أنه کان للخلفاء من بنی العباس غناء، و منهم من کان یضرب بالعود، و من خلفاء العباسیین السفاح و المنصور و الواثق و ابن المعتز و المعتضد و کثیر غیرهم من أبناء الخلفاء، دع سائر الطبقات من أهل
خطط الشام، ج‌4، ص: 95
الرفاهیة و السعة، ممن کانوا فی کل زمان ینشطون إلی سماع الأغانی، و یبرون الرجال و النساء من أرباب الموسیقی و الغناء، و یغالون بابتیاع الجواری اللائی حذقن الغناء، و برعن فی الموسیقی و شدون شیئا من الأدب.
و کانت تغلو فی العادة قیمة مثل هذه الطبقة من الجواری. و السواذج منهن أی غیر المثقفات دون من عنی أولیاؤهن بثقافتهن فی الرتبة و القیمة مهما بلغ من جمالهن، و الموسیقی و الشعر فی مقدمة ما کان یطلب منهن. و ذکر المسعودی أن کثیرا من الجواری اشتهرن بالغناء بالمدینة، و کان یقصدهن بعض الناس من بغداد، و ربما وافی الواحدة وجوه أهل المدینة من قریش و الأنصار و غیرهما، و منهن القارئة القوّالة، و لم تکن محبة القوم إذ ذاک لریبة و لا فاحشة. و کان لبعض الموسیقیین و الموسیقیات و المغنین و المغنیات من أرباب النباهة و الفضل، ید فی إصلاح بعض الأحوال و تخفیف النوازل عند العظماء، و لطالما ارتجلوا ألحانا و أبیاتا ظاهرها طرب و غرام و سلوی، و باطنها وعظ و عبرة و تعریض، ذلک لأن الموسیقی عندهم کانت علی الأغلب مرافقة للشعر و الأدب، و کم من شاعر تدفقت الحکمة علی قلبه، و جاش بها صدره، فهذّب نفسا بل نفوسا بأبیات یقولها.
جاء أبو النصر الفارابی الفیلسوف إلی الشام علی عهد سیف الدولة بن حمدان فأدهشه و من عنده من الموسیقیین علی إتقانهم لها، و أقام فی دمشق و مات فیها، قال ابن أبی أصیبعة: إن الفارابی المعلم الثانی وصل فی علم صناعة الموسیقی و عملها إلی غایاتها، و أتقنها إتقانا لا مزید علیه، و إنه صنع آلة غریبة یسمع عنها ألحانا بدیعة، یحرّک بها الانفعالات، و یحکی أن القانون الذی کان یضرب علیه للطرب هو من وضعه، و أنه کان أول من رکّب هذه الآلة ترکیبها المعهود الیوم. و قد ذکر المؤرخون من تنافس سیف الدولة بن حمدان مع الوزیر المهلبی للاستئثار بمغنیة أدیبة مشهورة اسمها الجیداء ما یدلّ علی و لوع القوم بالموسیقی، و کان لجیداء فی مجالس سیف الدولة من ارتجال الألحان و الأدب البارع ما اشتهر أمره، و فی عصره اشتهرت فی انطاکیة المغنیة المشهورة «بنت یحنا».
و لم تبرح الشام تخرج من رجال الموسیقی و الغناء رجالا کانوا بهجة
خطط الشام، ج‌4، ص: 96
عصورهم، و منهم أبو المجد بن أبی الحکم من الحکماء المشهورین من أهل القرن السادس، کان یعرف الموسیقی و یلعب بالعود، و یجید الإیقاع و الغناء و الزمر و سائر الآلات، عمل أرغنا و بالغ فی إتقانه و حاول أیضا عمل الأرغن و اللعب به أبو زکریا یحیی البیاسی من أطباء الناصر صلاح الدین.
و کان من البارعین فی هذا الفن من العلماء قسطا بن لوقا البعلبکی و عبد المؤمن بن فاخر و نجم الدین بن المنفاخ المعروف بابن العالمة و فخر الدین الساعاتی. و کان رشید الدین بن خلیفة أعرف أهل زمانه بالموسیقی و اللعب بالعود، و أطیبهم صوتا و نغمة حتی إنه شوهد من تأثیر الأنفس عند سماعه مثل ما یحکی عن أبی نصر الفارابی، فکثر إعجاب المعظم به جدا و حظی عنده. و منهم علم الدین قیصر أخذ الموسیقی عن الفیلسوف کمال الدین بن یونس فی الموصل.
و کان أحمد بن صدقة طنبوریا مقدما حاذقا حسن الغناء و محکم الصنعة، و کان ینزل فی الشام فاستدعاه المتوکل إلی بغداد و أجزل صلته. و کان خلفاء بنی العباس کلما سمعوا بنابغة فی هذا الفن حملوه من القاصیة و أغدقوا علیه الهبات ذکرا کان أم أنثی، و لهم فی ذلک نوادر إن لم تصحّ کلها ففی بعضها إشارة إلی ما کانوا فیه من حب هذا الفنّ.
و منهم الجمال البستی کان یلعب بالجغانة (الأصل الصغانة و هی القیثارة) ولی خطابة جامع التوبة بدمشق علی عهد الملک الأشرف، فلما توفی تولی موضعه العماد الواسطی الواعظ و کان یتهم باستعمال الشراب، و صاحب دمشق یومئذ الصالح عماد الدین إسماعیل. فکتب إلیه عبد الرحیم المعروف بابن زویتینیة الرحبی أبیاتا، یعرّض بها بالرجلین و یرجو أن یعاد جامع التوبة إلی ما کان علیه محله من قبل، و هو خان للفسق و الفجور، لأن حظه حتی بعد أن صار جامعا أن یتولاه موسیقار، و شرّیب عقار، فقال:
خطط الشام، ج‌4، ص: 97 یا ملیکا أوضح الحقّ‌لدینا و أبانه
جامع التوبة قدقلّدنی منه أمانه
قال قل للملک الصالح أعلی اللّه شانه
یا عماد الدین یا من‌حمد الناس زمانه
کم إلی کم أنا فی ضّرو بؤس و إهانه
لی خطیب واسطی‌بعشق الشرب دیانه
و الذی قد کان من قبل یغنی بجغانه
فکما نحن فما زلنا و لا أبرح حانه
ردّنی للنمط الأوّل و استبق ضمانه
و کان محمد بن علی الدهان المتوفی سنة 731 شاعرا موسیقیا ملحنا قانونیا دهانا، و کان الکمال القانونی من المشهورین فی عصره بقانونه، وصفه عبد الرحمن بن المسجف (635) الدمشقی فقال:
لو کنت عاینت الکمال و جسّه‌أوتار قانون له فی المجلس
لرأیت مفتاح السرور بکفه الیسری و فی الیمنی حیاة الأنفس
و ذکر ابن حجر فی أخبار سنة (779) أن دنیا بنت الاقباعی المغنیة الدمشقیة اشتهرت بالتقدم فی صناعتها، فاستدعاها الناصر حسن علی البرید إلی مصر فأکرمها، ثم وفدت علی الأشرف فحظیت عنده، و هی کانت من أعظم الأسباب فی إسقاط مکس المغانی، سألت السلطان فی ذلک فأجابها إلیه، و استمر إبطاله فی الدولة. و اشتهرت فی القرن الثامن بدمشق فرحة بنت المخایلة المغنیة کما اشتهرت المغنیة المعروفة بالحضرمیة و هی التی کانت مع عرب آل مرا یوم وافوا دمشق لحرب التتر فی زهاء أربعة آلاف فارس، فکانت تغنیهم من الهودج سافرة و کانوا یرقصون بتراقص المهاری و تقول:
و کنا حسبنا کل بیضاء شحمةلیالی لاقینا جذاما و حمیرا
و لما لقینا عصبة تغلبیةیقودون جردا للمنیة ضمّرا
(4- 7)
خطط الشام، ج‌4، ص: 98 فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه‌ببعض أبت عیدانه أن تکسرا
سقیناهم کأسا سقونا بمثله‌و لکنهم کانوا علی الموت أصبرا
و منذ الزمن الأطول إلی أیامنا ما خلت الشام من عوادة و طنبوریة و کراعة و ربابیة و صناجة و رقاصة و زفانة. و لم یخل عصر بعد زهو الشام علی عهد الأمویین و العباسیین و من بعدهم من الممالیک و غیرهم من مبرزین فی الغناء و الموسیقی. و اشتهر فی دمشق بضرب القانون و کان أستاذا فیه أحمد التلعفری (813) کان کاتب المنسوب. و من النابهین ابن القاطر الدمشقی من أهل القرن الحادی عشر کانت له شهرة عند أرباب هذا الفن فإذا حضروا معه مجلسا عظّموه و تراخوا فی العمل حتی یشیر إلیهم، ذکر ذلک المحبی و ترجم له و لرجب بن علوان الحموی و قال: إن هذا کان یعرف الموسیقی علی اختلاف أنواعها و هو أعرف من أدرکه و سمع به، و له أغان صنعها علی طریقة أساتذة هذا الفن. و منهم برسلوم الحلبی رئیس أطباء الدولة العثمانیة و ندیم السلطان محمد بن إبراهیم کان حسن الصوت عارفا بالموسیقی. و اشتهرت أسرة بنی فرفور فی القرنین الماضیین بدمشق بالشعر و الآداب و قد أخرجت رجلین من أبنائها عارفین بالموسیقی و هما جمال الدین و عبد الرحمن.
و فی تراجم أهل الغناء الذی کتبه الکنجی المتوفی سنة 1150 ه ترجمة ستة و عشرین مغنیا من معاصریه فی دمشق و فیهم المؤذن و المنشد فی الأذکار و المغنی علی الآلات الموسیقیة، مما یدل علی الإقبال علی الموسیقی حتی فی أعصر الظلمات فإذا کانوا فی عصره علی هذا القدر فی دمشق فقط فکم کان فی حلب و غیرها من المدن، و حلب مشهورة من القدیم بغرام أبنائها بالموسیقی منذ عهد سیف الدولة بن حمدان، دع الموسیقیات و المغنیات ممن غفل المؤرخون عن ذکرهم أمثال علوة محبوبة البحتری فی حلب التی ذکرها کثیرا فی شعره الخالد.
و من الموسیقیین من کانوا یمارسون الموسیقی للتکسب و هم المحترفون، و منهم من کان یخدم هذا الفن المهمّ حبا به و هم الهواة، و من هؤلاء طبقة من الرجال و النساء لا یستهان بها و لکنها کانت و لا زالت متکتمة، و منهم من تستعمل من الموسیقی أو تسمع منها ما لا یعبث بوقارها إن کانت من أرباب
خطط الشام، ج‌4، ص: 99
المظاهر الدینیة أو الدنیویة مخافة أن ترمی بما یثلم الشرف، لأن بعض الفقهاء شددوا علی الغناء و الموسیقی، و کان بعضهم یعد ساقطا من العدالة کل من یغنی بأجرة من الموسیقیین و المغنین، و یتسامحون مع من یغنی فی جماعة من أصحابه، و یعدون الغناء فنا یفقر صاحبه، و جاء فی الأمة مثل شیخ الإسلام عبد العزیز ابن عبد السلام (660) و کان علی نسکه و ورعه یحضر السماع و یرقص و یتواجد و الناس تقول فی المثل «ما أنت إلا من العوام و لو کنت ابن عبد السلام».
و صناعة الغناء کما قال ابن خلدون: آخر ما یحصل فی العمران من الصنائع لأنها کمالیة، و أول ما ینقطع من العمران عند اختلاله و تراجعه.
و لقد أدرکنا و أدرک أجدادنا أن الشام کلها کانت لا تخلو معظم طبقاتها من موسیقیین، و کل مجلس من مجالسهم أو سهرة من سهراتهم، أو نزهة من نزهاتهم، کانت تضم أناسا أتقنوا هذا الفن حتی صار لهم ملکة، فکان السرور یملأ القصور و الدور، و الموسیقی و الإنشاد من الأمور المألوفة لا یستغنی عنها بحال، أما فی القری و البوادی فکان لهم الغناء و الحداء، و ضرب الرباب و القیثارة و المزمار و الدف و الکوبة، أی أن لهم ما یطرب آذانهم و ترتاح إلیه أرواحهم و تسهل معاناته و ممارسته، و من مشاهیر الموسیقیین فی النصف الأول من القرن الماضی محمد السؤالاتی الدمشقی أخذ عنه أرباب الموسیقی فی عصره من المصریین و الشامیین ذکره فی سفینة الملک.
و من أهل المظاهر الذین عرفوا بالموسیقی فی أوائل هذا القرن الشیخ أبو الهدی الصیادی من حلب و عبد الرزاق البیطار من دمشق و کانا من أساتذة هذا الفن الجلیل، و منهم من عنوا بالموسیقی فبرزوا فیها من أبناء هذه الدیار مثل محمود الکحال. أحمد السفرجلانی. علی حبیب. عمر الجراح. عبد القادر الحفنی. محیی الدین کرد علی. سامی الشوا. رحمون الحلبی. توفیق الصباغ.
علی الدرویش. باسیل الحجار. محمد الشاویش. نجیب زین الدین. مصطفی سلیمان بک. شفیق شبیب. محمد علی الأسطه. رضا الجوخدار. مصطفی الصواف حمدی ملص. رجب خلقی. یوسف الزرکلی. محمد الأنصاری، محمد محمود الأتاسی. میشل اللّه و یردی. مدحت الشربجی. الیکسی بطرس. الیان نعمة.
إسکندر معلوف. بولس صلبان. نصوح الکیلانی. تحسین یوقلمه‌جی. عباد الحلو. طلعت شیخ الأرض. حسن التغلبی. جمیل البربیر، أحمد التنیر. أمین
خطط الشام، ج‌4، ص: 100
النقیب. محیی الدین بعیون. و دیع صبرا. عزت الصلاح. قسطندی الخوری.
أحمد الشیخ. محمد الجراح. إبراهیم شامیة. فرید الأطرش. و غیرهم ممن جعلوا الموسیقی حرفة أو للتسلیة فی خلواتهم و منهم من کانوا صلة بین الموسیقی القدیمة و الموسیقی الجدیدة. و من المنشدات المطربات فریدة مخیش. رمزیة. جمعة.
خیریة السقا. نادرة. سارینا. فیروز. أسمهان الأطرش. ماری جبران.
ماری عکاوی. لور دکاش.
و لقد أنبغت بیروت و حلب کثیرین من المغنین و الغالب أن فی هاتین المدینتین خاصیة حسن الصوت. سألت صدیقنا الشیخ کامل الغزی من أساتذة حلب عن المغنین و الموسیقیین فی بلده فکتب لی رسالة قال فیها:
إن حلب لا تخلو فی أکثر أوقاتها من الشداة و المترنمین الذین یعدون بالمئات و یعرف عند الحلبیین من یأخذ علی غنائه أجرة باسم ابن الفن، و من رجال أواسط القرن الماضی مصطفی یشبک، فتح نادیا لممارسة الفنون الموسیقیة دعاه بقاعة بیت مشمشان، کان یختلف إلیه فی أوقات معینة کثیر من المولعین بالموسیقی لیتلقوها عن أستاذها. و ما زال الحلبیون یضربون المثل بالمکان الذی تتوفر فیه دواعی الطرب فیقولون: (و لا قاعة بیت مشمشان). و من رجال أواسط القرن الماضی عبد اللّه البویضاتی و من رجال القرن الماضی و أوائل القرن الحالی محمد بن عبده. إسماعیل السیخ. جبرا الأکشر. آجق‌باش. طاهر النقش.
محمد الوراق. الدرویش صالح قصیر الذیل. محمد غزال. باسیل حجار. أحمد سالم. أحمد بن عقیل. و ممن أخذ عن هذا بعض فصول الرقص المعروف بالسماح السید أحمد أبو خلیل القبانی الممثل الموسیقار الدمشقی و السید عبده الحمولی المطرب المصری و هما من المشاهیر. و من تلامذته امرأة قنصل إیطالیا فی حلب کانت تقول إن السید أحمد بن عقیل یقل نظیره فی هذا الفن حتی فی أوربا قال: و من الأحیاء فی حلب عبده بن محمد عبده و شرف الدین المعری و من قینات القرن الماضی و أوائل القرن الحالی الحاجة عائشة المسلمینیة.
و قال: إن العود المعروف بالبربط لم یکن معروفا فی حلب فی القرن الماضی حتی جاء حلب سنة (1293 ه) رجل من أهل دمشق اسمه سعید الشامی فأخذ
خطط الشام، ج‌4، ص: 101
الناس عنه. و من العازفین علی الکمنجة أوائل هذا القرن شعیا الکمنجاتی و إسحاق عدس و نیقولاکی الحجار. و من الأحیاء سامی الشوا و والده أنطون موسیقار أیضا. و العازفون بالنای المعروف عند العرب بالیراعة کان نابغة فیه أوائل القرن عبده زرزور و کل من فی حلب الیوم خریجوه و تلامیذه ا ه. و من الموسیقیین الحلبیین أیضا عبد الکریم بلّة و حبیب العبدینی و أحمد مکانس و عمر البطش و مصطفی طمرق توفوا فی أوائل هذا القرن.
و لقد بدأت الموسیقی الترکیة تنازع الموسیقی العربیة فی أواخر القرن الماضی لأنها خدمت أکثر من موسیقانا، ثم جاءت الموسیقی الإفرنجیة، فأصبحت الموسیقی الشامیة مزیجا لا یقام له وزن، لم یحتفظ بالقدیم و هو من روحه و عاداته و لم یحسن اقتباس الجدید لأنه لیس من مصطلحه. و لا یفوتنا القول إن الموسیقی فی العصور المتأخرة کان لها فی أذکار بعض أرباب الطرق الصوفیة مقام رفیع.
و منهم من أتبعها بالصنوج و الأوتار، و منهم من شفعها برقص، و قد قام منهم مبرزون فی صنعتهم، و ماتت شهرتهم، یوم سکنت نأمتهم، و الموسیقی فی الکنائس علی اختلاف الطوائف المسیحیة و تباین العصور، ما زالت شائعة معتبرة و کم من موسیقار عندهم تقلبت به الحال حتی رقی بفضله إلی أرقی درجات الکهنوت.

التصویر:

أخذ الحثیون التصویر علی الأغلب کما أخذوا النقش و البناء عن جیرانهم من البابلیین و الأشوریین، و ربما أخذوا عن المصریین أیضا، لکنهم لم یجودوه کل الإجادة علی ما رأینا من تصاویرهم المکتشفة، و خالفنا رأی بعض المشتغلین بآثارهم المعجبین بمدنیتهم، فإن الآثار التی اکتشفت للحثیین فی جرابلس تدل علی مبلغ تلک الأمة من الإتقان فی النقش و التصویر. و قد قال لنا الاستاذ هروزنی التشکی و هو إخصائی بآثار الحثیین: إن عادیاتهم مما یعجب منه، و لا تقلّ بجمالها عن بقیة آثار الأمم الأخری، و کذلک فعل الکنعانیون و الفینیقیون و الإسرائیلیون، أخذوا عن أشور و بابل و مصر هذا الفن، و لم یعرف أنه کان لهم طرز خاص فی التصویر، و کانوا علی ما ظهر دون من اقتبسوا عنهم. أما
خطط الشام، ج‌4، ص: 102
التدمریون فأجادوا فی تصویرهم و کانوا ینقشون علی القبور صور من دفن فیها من الرجال و النساء، مثل أهل جنوة فی إیطالیا فی العصور الأخیرة، و منها صورة جاریتین رآهما أوس بن ثعلبة التیمی فی القرن الأول و قال فیهما أبیاته المشهورة:
فتاتی أهل تدمر خبرانی‌ألّما تسأما طول المقام
قیامکما علی غیر الحشایاعلی جبل أصم من الرخام
و فی دار الآثار بدمشق مجموعة تماثیل من قبور تدمر کأنها تنطق، و منها صورة فتاة مزینة الرأس یستدل منها علی صورة تصفیف الشعور فی ذاک العصر، و کیف کانت أزیاء نساء تدمر و بهرجة رؤوسهن و أقراطهن و عصباتهن، و فیما ظهر مؤخرا فی مدینة تدمر من تماثیل صاحبتها زینب و وصیفاتها و فی غیر ذلک من الشخوص دلیل علی تبریز التدمریین فی هذا الشأن.
أما التصویر عند الروم و الیونان فی الشام فإن منه نموذجات تأخذ بمجامع القلوب قال الثعالبی: لم یبدع التصویر إبداع الروم و الرومان أحد من الأمم، فقد کان لهم إغراب فی خرط التماثیل و إبداع فی عمل النقوش و التصویر، حتی إن مصورهم یصور الإنسان و لا یغادر شیئا إلا الروح، ثم لا یرضی بذلک حتی یصوره ضاحکا، ثم لا یرضی بذلک حتی یفصل بین ضحک الشامت، و ضحک الخجل، و بین المتبسم و المستغرب، و بین ضحک المسرور و ضحک الهازئ، فیرکب صورة فی صورة، و صورة فی صورة.
و المصانع الشامیة من العهد الرومانی هی ذات أشکال معتادة فی تلک الأعصر لها نقش ظاهر خاص بها من النقوش النباتیة الکبیرة المنقولة عن نباتات القطر و لا سیما فی فلسطین علی عهد الملوک و القضاة و منها ما یستعمل فیه صور الطیور.
قال دوسو: إن فی الکتابات التی وجدت فی الصفا صورة فرسان مسلحین برماح طویلة علی مثال بدو هذه الأیام، و أحیانا تمثلهم و هم یطاردون غزالا أو و علا أو یصطادون أسدا، و منهم الفرسان یحملون الرماح و المشاة مسلحون بالقوس و النشاب. و لقد غصت فلسطین علی عهد الامبراطور قسطنطین بالمصانع التی تذکر بالحوادث الخطیرة التی وردت فی الإنجیل و قد زینت هذه المصانع بالفصوص التی تمثل هذه المشاهد.
خطط الشام، ج‌4، ص: 103
جاء الإسلام للقضاء علی الوثنیة و عبادة الأصنام، فحاذر المسلمون إذا أجازوا الرسم المجسم أن یکون فی عملهم مدرجة للعرب إلی الرجوع إلی عبادة الأصنام، فجعلوا فی التجویز بعض القیود الخفیفة، و لما ذهبت تلک الخشیة أخذت مسألة التصویر تنحل شیئا فشیئا و یعمد إلی ما فیه مصلحة منه. ذکر المقریزی أن الرسول علیه السلام أقر نقود العرب فی الجاهلیة التی کانت ترد إلیهم من الممالک الأخری و الدنانیر قیصریة من قبل الروم مصورة و أن عمر ضرب الدراهم علی نقش الکسرویة و شکلها و بأعیانها و ضرب معاویة دنانیر علیها تمثال متقلدا سیفا.
و رأینا زید بن خالد الصحابی استعمل الستر الذی فیه صور و لم ینکر الناس عمله. قال صدیقنا السید محمد رشید رضا فی المنار: و من الآثار فی حکم التصویر و صنع الصور و التماثیل اتخاذ أحد أعاظم أئمة التابعین القاسم بن محمد ابن أبی بکر (رض) الحجلة التی فیها تصاویر القندس و العنقاء، و هو ربیب عمته عائشة الصدیقة و أعلم الناس بحدیثها و فقهها، و منها استعمال یسار بن نمیر مولی عمر بن الخطاب (رض) و خازنه الصور فی داره، و منها صنع الصور فی دار مروان بن الحکم و سعید بن العاص و کل منهما ولی إمارة المدینة و کانا من التابعین قال: و عمل مروان یدل علی أن التصویر کان مستعملا فی عصر الصحابة، فمن عرض مسألة التصویر و اتخاذ الصور علی هذه القواعد الشرعیة علم منها أن دین الفطرة الذی قرن کتابه و وصف بالحکمة، و رفع منه الحرج و العسر عن الأمة، لم یکن لیحرم صناعة نافعة فی کثیر من العلوم و الأعمال و یحتاج إلیها فی حفظ الأمن و فنون القتال، و إنما یحرم ما فیه مفسدة أو ما کان ذریعة إلی مفسدة ا ه.
و یعجبنی ما کتبه أستاذنا الإمام الشیخ محمد عبده مفتی الدیار المصریة فی وصف رحلته إلی صقلیة عام 1322 ه (1894 م) فی مجلة المنار و قد ذکر تنافس الغربیین فی حفظ الصور المرسومة علی الورق و النسیج فقال: «إذا کنت تدری السبب فی حفظ سلفک للشعر و ضبطه فی دواوین و المبالغة فی تحریره خصوصا شعر الجاهلیة، و ما عنی الأوائل رحمهم اللّه بجمعه و ترتیبه، أمکنک أن تعرف السبب فی محافظة القوم علی هذه المطبوعات من الرسوم و التماثیل، فإن الرسم
خطط الشام، ج‌4، ص: 104
ضرب من الشعر یری و لا یسمع، و الشعر ضرب من الرسم الذی یسمع و لا یری. إن هذه الرسوم و التماثیل قد حفظت من أحوال الأشخاص فی الشؤون المختلفة، و من أحوال الجماعات فی المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمی دیوان الهیئات و الأحوال البشریة. یصورون الإنسان أو الحیوان فی حال الفرح و الرضی، و الطمأنینة و التسلیم، و هذه المعانی المدرجة فی هذه الألفاظ، متقاربة لا یسهل علیک تمییز بعضها من بعض، و لکنک تنظر فی رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرا باهرا، یصورونه مثلا فی حالة الجزع و الفزع و الخوف و الخشیة.
و الجزع و الفزع مختلفان فی المعنی، و لم أجمعهما هنا طمعا فی جمع عینین فی سطر واحد، بل لأنهما مختلفان حقیقة، و لکنک ربما تعصر ذهنک لتحدید الفرق بینهما و بین الخوف و الخشیة، و لا یسهل علیک أن تعرف متی یکون الفزع و متی یکون الجزع، و ما الهیأة التی یکون علیها الشخص فی هذه الحال أو تلک. أما إذا نظرت إلی الرسم و هو ذلک الشعر الساکت فإنک تجد الحقیقة بارزة لک تمتع بها نفسک، کما یتلذذ بالنظر فیها حسک.
قال: «ربما تعرض لک مسألة عند قراءة هذا الکلام، و هی ما حکم هذه الصور فی الشریعة الإسلامیة، إذا کان القصد منها ما ذکر من تصویر هیئات البشر فی انفعالاتهم النفسیة و أوضاعهم الجثمانیة، هل هذا حرام أو جائز أو مکروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لک: إن الراسم قد رسم، و الفائدة محققة لا نزاع فیها، و معنی العبادة و تعظیم التمثال أو الصورة قد محی من الأذهان، فإما أن تفهم الحکم من نفسک بعد ظهور الواقعة، و إما أن ترفع سؤالا إلی المفتی فهو یجیبک مشافهة، فإذا أوردت علیه حدیث إن أشد الناس عذابا یوم القیامة المصورون أو ما فی معناه مما ورد فی الصحیح، فالذی یغلب علی ظنی أنه سیقول لک إن الحدیث جاء فی أیام الوثنیة، و کانت الصور تتخذ فی ذلک العهد لسببین: الأول اللهو و الثانی التبرک بمثال من ترسم صورته من الصالحین، و الأول مما یبغضه الدین و الثانی مما جاء الإسلام لمحوه، و المصور فی الحالین شاغل عن اللّه أو ممهد للإشراک به، فإذا زال هذان العارضان و قصدت الفائدة، کان تصویر الأشخاص بمنزلة تصویر النبات و الشجر فی المصنوعات، و قد صنع ذلک فی حواشی المصاحف و أوائل السور، و لم یمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة
خطط الشام، ج‌4، ص: 105
فی نقش المصحف موضع النزاع، أما فائدة الصور فمما لا نزاع فیه علی الوجه الذی ذکر .... و بالجملة فانه یغلب علی ظنی أن الشریعة الإسلامیة أبعد من أن تحرم وسیلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقیق أنه لا خطر فیها علی الدین لا من جهة العقیدة و لا من جهة العمل ا ه.
لما جاء الفاتحون إلی الشام کانت فی تصویرها عالة علی الروم و الفرس و بقیت علی ذلک مدة قلیلة لأن التصویر لم یکن یعرف أنه کان فی متفرق أقطار جزیرة العرب اللهم إلا فی الیمن، برع فیه أهلها براعة أثبتتها الآثار و المصانع، و کانت الأثواب الیمانیة المزرکشة المبرقشة المصورة مما یحمل إلی الحجاز و سائر أرجاء الجزیرة و ما إلیها منذ عهد الجاهلیة، و أول ما عرف التصویر فی الشام علی عهد المسلمین کان فی زمن الولید بانی الجامع الأموی بدمشق و المسجد الأقصی فی القدس و غیرهما، و ما نظن أن جمیع من صوروا له ما أراد من الحیوان و النبات و الشجر و المدن و الأصقاع کانوا من أصول عربیة بل کان فیهم الفرس و الروم الذین دخلوا فی خدمة الدولة العربیة، و منهم من بعثت به مملکة بیزنطیة لیساعدوا الخلیفة علی عمله النافع، و قد وجد الأثری موسیل التشکی فی قصیر عمرة علی سبعین کیلومترا من قصر المشتی فی البلقاء کتابات و نقوشا تشیر إلی فتح الأندلس فی أیام الولید و فیه من النقوش الزاهیة و التصاویر العجیبة ما یأخذ بالأبصار.
قال صاحبنا شیخو: و فی هذه القصور من الآثار الهندسیة و من التصاویر و من تمثیل أحوال البادیة کالصید و الغزوات و المآدب و المصانع ما أذهل العلماء لوجوده فی البراری. و یقول ریسون: إن العرب قد نهجوا فی الفنون الجمیلة نهج البیزنطیین، و لم یخالفوهم إلا بعدم تجسیم الحیوان، و لکنهم استعاضوا عنه بالنقش النباتی من تشبک أوراق و أقواس باهرة و فصفصة زاهرة و آکام و معاهد ساحرة.
و فی التاریخ العام أن الإسلام حظر تمثیل الصور الآدمیة و لکن هذا الحظر لم یمنع الخلفاء من أن یکون فی قصورهم صور و تماثیل. و مع هذا لم یخلف العرب فی النقش و لا فی الرسم آثارا خارقة للعادة، و ما بقی من آثارهم و عادیاتهم الحجریة و أنواطهم المنقوشة، و عاجهم و مجوهراتهم، یشهد باستعدادهم الفنی، فإنهم نقلوا عن غیرهم فی هذا الشأن أولا ثم أخذوا یمرنون أنفسهم علی حسن
خطط الشام، ج‌4، ص: 106
الهندسة بالنقل عما عثروا علیه بادئ بدء و لا سیما عن الآثار البیزنطیة، فکانوا یخشون أول أمرهم ثم أخذوا یجرأون فیعدلون ما یریدون احتذاءه بل یخترعون و یبدعون، فظهر لهم علم جدید مستقل علی غیر مثال، قال: و لا نعلم هل کان للعرب قبل الإسلام طرز من البناء الخاص بهم، لأنه لم یبق من الزمن السابق للإسلام سوی خرائب مبعثرة، و من الهجرة إلی القرن العاشر کان عهد الطرز الیونانی العربی، و علی مثاله جاء بناء المسجد الأقصی فی القدس، و الجامع الأموی فی دمشق، و الجامع الأعظم فی قرطبة، و التأثیرات الیونانیة ظاهرة فیها ا ه.
و بعد أن ترجم العرب کتب الفنون و الصناعات عن الروم و الفرس و القبط و السریان و الهند، منذ أول النصف الثانی من القرن الأول، أخذوا یزینون کتبهم ببعض الصور، یصورونها لتمثیل المسائل العلمیة للأبصار، و لا سیما کتب النبات و البیطرة و الحیوان و الجراحة و الهندسة و الفلک و الجغرافیا و بعض کتب الأدب و المحاضرات و المقامات، فاستعملوها بحسب الحاجة و أجادوا بالنسبة لعصورهم، علی ما ثبت ذلک بشهادة المحفوظ من مخطوطات العرب فی متاحف الشرق و الغرب، و أکثر من أثر عنهم التصویر و الإجادة فیه و صنع التماثیل و وضعها فی قصورهم خلفاء بنی أمیة فی الأندلس، و من جاء بعدهم من الملوک، و الصور- کما قال ابن أیی أصیبعة- إنما جعلت لارتیاح القلوب إلیها و اشتیاق النظر إلی رؤیتها، و الصبیان یلازمون بیوت الصور للتأدیب بسبب الصور التی فیها، و کذلک نقشت الیهود هیاکلها، و صورت النصاری کنائسها و بیعها، و زوق المسلمون مساجدهم.
نعم زوّق المسلمون مساجدهم، و کانوا أوائل الإسلام یکتفون بالصلاة فی مساجد أشبه بالأرض القفراء، و یفضلون السجود علی الحصا و یعدون فرشها بالبواری بدعة، و ذلک لئلا تشتغل العین بشی‌ء یبعد النفس من الخشوع لبارئها، ثم أخذوا یتأنقون فی مساجدهم، و یفرشونها بالطنافس و الزرابیّ، و یصورون حیطانها، و ینقشون فیها آیات ثم مشجرات و أماکن جمیلة، و معظم ما انتهی إلینا أو بلغنا خبره فی العصور العشرة الأخیرة فی الشام تصویر المسائل العلمیة، و الأمصار و الأشجار، و السفن تمخر فی البحار، ثم تصویر الحیوان و الإنسان و لکن علی قلة.
خطط الشام، ج‌4، ص: 107
لا جرم أن التصویر فی هذه الدیار کان ضعیفا بعض الشی‌ء لأن مسألته کان فیها نظر عند بعض الفقهاء الذین جمدوا علی ما فهموه من الشریعة، و التصویر عارض علی الملة غیر مغروس فی فطرتها، و لکن المسلمین تطوروا بطور الأمصار التی نزلوها. و لم یتوقف ملوکهم و أمراؤهم علی فتاوی الفقهاء لإقامة المعالم و اقتباس الحضارة، فقد ذکر ابن بطریق أن بطریق الروم فی قنسرین طلب إلی أبی عبیدة ابن الجراح الموادعة علی نفسه سنة حتی یلحق الناس بهرقل الملک، و من أقام فیها فهو فی ذمة و صلح، فأجابه أبو عبیدة إلی ذلک، فسأله البطریق وضع عمود بین الروم و المسلمین، و صوّر الروم فی ذلک العمود صورة هرقل جالسا فی ملکه فرضی أبو عبیدة، و مرّ بالصورة أحد العرب، و وضع زج رمحه فی عین تلک الصورة ففقأ عین التمثال عن غیر قصد، فأقبل البطریق و قال لأبی عبیدة:
غدرتمونا یا معشر المسلمین، و نقضتم الصلح، و قطعتم الهدنة فقال أبو عبیدة:
فمن نقضه؟ فقال البطریق: الذی فقأ عین ملکنا. فقال أبو عبیدة: فما تریدون؟
فقال: لا نرضی حتی نفقأ عین ملککم. فقال أبو عبیدة: صوروا بدل صورتکم هذه صورتی ثم اصنعوا بی ما أحببتم و ما بدا لکم، فقال: لا نرضی إلا بصورة ملککم الأکبر فأجابهم أبو عبیدة إلی ذلک فصورت الروم تمثال عمر بن الخطاب فی عمود، و أقبل رجل منهم ففقأ عین الصورة برمحه فقال البطریق: قد أنصفتمونا.
و ذکر المقریزی أن خمارویه بن أحمد بن طولون أمیر مصر و الشام المتوفی سنة (282 ه) عمل فی داره فی القاهرة مجلسا برواقه سماه بیت الذهب، طلی حیطانه کلها بالذهب المجال باللازورد، المعمول فی أحسن نقش و أظرف تفصیل، و جعل فیه علی مقدار قامة و نصف صورا فی حیطانه بارزة من خشب معمولة علی صورته و صورة حظایاه، و المغنیات اللاتی یغنینه بأحسن تصویر و أبهج تزویق، و جعل علی رؤوسهن الأکالیل من الذهب الخالص الإبریز الرزین و الکراذن المرصعة بأصناف الجواهر، و فی آذانها الأخراص الثقال الوزن، المحکمة الصنعة، و هی مسمّرة فی الحیطان و لونت أجسامها بأصناف أشباه الثیاب من الأصباغ العجیبة. فکان هذا البیت من أعجب مبانی الدنیا.
خطط الشام، ج‌4، ص: 108
کانت هذه القاعة المصورة فی القرن الثالث. و ظهر فی عصر الأیوبیین و الممالیک مصورون شامیون أبدعوا فی التصویر علی الجدران و علی الکتب، و منها ما کان إلی القرن السابع فی دیر باعنتل قرب حمص، کان فیه علی روایة یاقوت عجائب منها آزج (بیت مستطیل) أبواب فیها صور الأنبیاء محفورة منقوشة فیها، و صورة مریم فی حائط منتصبة، کلما ملت إلی ناحیة کانت عینها إلیک. و منها ما کان فی هیکل دیر مران فی سفح قاسیون بدمشق من صورة عجیبة دقیقة المعانی. و ذکر ابن جبیر أنه کان فی کنیسة مریم بدمشق فی القرن السادس من التصاویر أمر عجیب، و کان مثل ذلک فی کنیسة القیامة و غیرها من کنائس فلسطین.
کان الیازوری من وزراء الفاطمیین یفضل کثیرا علی المصورین الشرقیین و کانوا من المسلمین. و قد جعل الظاهر بیبرس رنکه أی شعاره الأسد، و جعل دراهمه علی صورته، و جعل أقوش الأفرم رنکه فی غایة الظرف و هو دائرة بیضاء یشقها شطب أخضر کأنه مسن علیه سیف أحمر یمر من البیاض الفوقانی إلی البیاض التحتانی و قال فیه نجم الدین هاشم البعلبکی:
سیوف سقاها من دماء عداته‌و أقسم عن ورد الرّدی لا یردها
و أبرزها فی أبیض مثل کفه‌علی أخضر مثل المسنّ یحدها
قالوا: و قد کان الخواطئ ینقشن رنکه علی معاصمهن و فی أماکن مستورة من أجسامهن.
و من أجمل ما أبقت الأیام و إن لم یتم لها إلی الآن قرنان، الصورة الباقیة فی دار أسعد باشا العظم فی حماة من أبدع ما حوت من النقوش العجیبة و غیرها، و هی صورة رسمت علی قطعتین من الخشب جعلتا فی حائط القاعة الکبری و نقشت علیهما صورة حماة فی ذلک العهد بجوامعها و مدارسها، و نواعیرها و قصورها، ظهر منها أن حماة کانت أعمر مما هی علیه الآن عرفنا ذلک بفضل التصویر.
أخذت العرب نقوش الفسیفساء عن الروم و بالغت فیها و لا یزال إلی الیوم قطع فی الدور و غیرها، و أهمها ما لا یزال فی کنیسة مادبا فی البلقاء من مصوّر فلسطین و نهر الأردن یشقها من وسطها و الأسماک تعوم فیه، و المدن التی کانت
خطط الشام، ج‌4، ص: 109
عامرة لعهد واضعها، و لا یزال القسم الأعظم منها بحاله لم یصب بأذی الأیام.
و آثار الفسیفساء کثیرة مبعثرة فی دور مادبا لم تزل علی بریقها، و فی دار سلیم الصناع فی مادبا برکة ماء معمولة بالفسیفساء الملونة أیضا تخال ما فیها ماء حقیقیا و علی جوانبها الثلاثة الباقیة رسوم بالفسیفساء تمثل الحیوانات و الطیور البریة و الداجنة، تسرح فی جنینة زاهرة و الطیور المائیة واقفة فی وسط الماء علی آنیة تشبه الزهریة، و فی کل زاویة من زوایاها صورة إنسان تخالف الأخری. و فی هذه البلیدة عدة قاعات فرشت أرضها بالفسیفساء یطلق الماء علیها لتغسل کما یغسل بلاط القاعات و أفنیة الدور.
قال فی مسالک الأمصار: و الفسیفساء مصنوع من زجاج یذهب ثم یطبق علیه زجاج رقیق و من هذا النوع المسحور (المسجور) و أما الملون فمعجون و قد عمل منه فی هذا الزمان (740- 750) شی‌ء کثیر برسم الجامع الأموی و حصل منه عدة صنادیق و فسدت فی الحریق الواقع سنة أربعین و سبعمائة و عمل منه قبل للجامع التنکزی ما علی جهة المحراب، غیر أنه لا یجی‌ء تماما مثل المعمول القدیم فی صفاء اللون و بهجة المنظر، و الفرق بین الجدید و القدیم أن القدیم قطعه متناسقة علی مقدار واحد و الجدید قطعه مختلفة و بهذا یعرف الجدید و القدیم ا ه.
و وصف ابن فضل اللّه هذا یمکن أن یستنتج منه أن الفسیفساء کانت تعمل فی الشام، و أن هذه الصناعة اللطیفة و إن اختصت بها القسطنطینیة قد نقلت إلی الشام وجوّد عملها. و کان الولید بن عبد الملک یحمل الفسیفساء علی البرید من القسطنطینیة إلی دمشق حتی صفح بها حیطان المسجد الجامع و مکة و المدینة.
و کانت الفسیفساء فی الجامع الأموی قبل حریقه الأول فی القرن الرابع ملونة مذهبة تحوی صور أشجار و أمصار و کتابات، علی غایة الحسن و الدقة و لطافة الصنعة، و قلّ شجرة أو بلد مذکور إلا و قد مثل علی تلک الحیطان قاله المقدسی و قال غیره: إنه مثلث فی صور الجامع صفات البلاد و القری و ما فیهما من العجائب و أن الکعبة المشرفة صوّرت فوق المحراب کما قال فیه بعض المحدثین:
إذا تفکرت فی الفصوص و مافیها تیقنت حذق واضعها
أشجارها لا تزال مثمرةلا ترهب الریح فی مدافعها
کأنها من زمرد غرست‌فی أرض تبر یغشی بفاقعها
خطط الشام، ج‌4، ص: 110 فیها ثمار تخالها ینعت‌و لیس یخشی فساد یانعها
تقطف باللحظ لا بجارحة الأیدی و لا تجتنی لبائعها
و تحتها من رخامه قطع‌لا قطع اللّه کف قاطعها
أحکم ترخیمها المرخم قدبان علیها إحکام صانعها
قال صدیقنا أحمد تیمور فی رسالته التصویر عند العرب بعد کلامه علی محاسن الجامع الأموی و ما فیه من التصاویر: «و لا نعلم إن کانت هذه الصور من عمل العرب فتدخل فیما قصدناه، أو من عمل صناع الروم الذین استعان بهم الولید بن عبد الملک عند بناء المسجد» و قد علل المقدسی زخرف الجامع الأموی فقال: قلت یوما لعمی: یا عم لم یحسن الولید حیث أنفق أموال المسلمین علی جامع دمشق، و لو صرف ذلک فی عمارة الطرق و المصانع و رمّ الحصون، لکان أصوب و أفضل، قال: لا تغفل بنیّ، إن الولید وفق و کشف له عن أمر جلیل، و ذلک أنه رأی الشام بلاد نصاری، و رأی لهم فیها بیعا حسنة قد افتن زخارفها و انتشر ذکرها کالقمامة و بیعة لدّ و الرّها فاتخذ للمسلمین مسجدا شغلهم به عنهن، و جعله أحد عجائب الدنیا، ألا تری أن عبد الملک لما رأی عظم قبة القمامة و هیأتها خشی أن تعظم فی قلوب المسلمین فنصب علی الصخرة قبة علی ما تری ا ه. و لذلک حرص المسلمون فی کل دور علی السیر علی قدم الولید فی الاحتفاظ بنقوش الجامع و تحاسینه و تزایینه و تزاویقه، و مما أبقته الأیام من نقوش الفسیفساء أو الفصوص حیطان قبة الظاهر بیبرس فی دمشق، فإنها الأثر الباقی من هذه الصناعة فی هذا الصقع، بعد أن دثرت فسیفساء الجامع بما تعاقب علیه من الحریق فی أدوار کثیرة و لم یبق منها إلا ما کشف مؤخرا فی الحائط الغربی من صور الأشجار و غیرها. و من القصور المصورة الجدران دار الملک رضوان بحلب و فیها یقول الرشید النابلسی من قصیدة یمدحه بها سنة 589 و یذکر ما علی جدران الدار من الصور:
دار حکت دارین فی طیب و لاعطر بساحتها و لا عطار
رفعت سماء عمادها فکأنهاقطب علی فلک السعود یدار
و زهت ریاض نقوشها فبنفسج‌غض و ورد یانع و بهار
خطط الشام، ج‌4، ص: 111 نور من الأصباغ مبتهج و لانور و أزهار و لا أزهار
و منها:
صور تری لیث العرین تجاهه‌فیها و لا یخشی سطاه صوار
و فوارسا شبت لظی حرب و مادعیت نزال و لم یشنّ مغار
و موسدین علی أسرّة ملکهم‌سکرا و لا خمر و لا خمار
هذا یعانق عوده طربا و ذاأبدا یقبّل ثغره المزمار
ثم لما تزوّج بضیفة خاتون ابنة عمه العادل و أسکنها فی هذه الدار وقعت نار عقب العرس فاحترقت و احترق جمیع ما فیها، فجددها و سماها دار الشخوص لکثرة ما کان من زخارفها.
و من القصور المصورة القصر الأبلق الذی بناه الظاهر بیبرس فی مرجة دمشق أوائل النصف الثانی من القرن السابع، و علی أنقاضه بنیت التکیة السلیمانیة، و کان علی واجهته مائة أسد منزّلة صورها بأسود فی أبیض، و علی الشمالیة اثنا عشر أسدا منزلة صورها بأبیض فی أسود، و هذه الصور أجمل من صور الأسود و النمورة و غیرها من الحیوانات التی کانت فی قلعة حلب، و من الحمامات المصورة حمام سیف الدین بدمشق عثر أحمد تیمور علی قصیدة فی دیوان عمر ابن مسعود الحلبی الشهیر بالمحّار فی وصف هذا الحمام جاء فیها:
و خطّ فیها کل شخص إذالا حظته تحسبه ینطق
و مثّل الأشجار فی لونهاو لینها لو أنها تورق
أطیارها من فوق أغصانهابودها تنطق أو تزعق
و هیئة الملک و سلطانه‌و جیشه من حوله یحدق
هذا بسیف و له عبسةو ذا بقوس و به یعلق
و من التصویر علی النسیج علی ما ذکره البدری من تصویر «الأبیض القطنی المصوّر لأحیاء القصور و أموات القبور» و کان یصنع فی دمشق. و من التصویر فی الکتب ما ذکره أبو الفداء فی حوادث سنة (642) فی ترجمة المظفر صاحب حماة قال: استخدم الشیخ علم الدین قیصر المعروف بتعاسیف و کان مهندسا
خطط الشام، ج‌4، ص: 112
فاضلا فی العلوم الریاضیة فعمل له کرة من الخشب مدهونة، رسم فیها جمیع الکواکب المرصودة. و ذکر ابن قاضی شهبة أن علی بن محمد بن صالح الرسام عالم صفد المتوفی سنة (749 ه) کان فی أول أمره یرسم القماش و قال: إن عنده کتابا فی علم الفلک صورت فیه جمیع الأبراج و النجوم بلیقتی الکتاب أی بالأحمر و الأسود تحت کل صورة أرجوزة بتعریفها. قال القاضی جمال الدین ابن واصل: و ساعدت الشیخ علم الدین علی عملها و کان المظفر یحضر و نحن نرسمها و یسألنا عن مواضع دقیقة منها. و قد اطلع مؤلف کتاب نهر الذهب علی مخطوط فیه وصف شجرة الإفادة التی کانت فی الجامع الأموی بحلب و تعد من الذخائر النفیسة العلمیة قال: إنها کانت عظیمة الرواء مصنوعة من حجر و نحاس و حدید ذات خطوط و جداول فی أصول العلوم الریاضیة شبیهة بشجرة ذات جذع و أغصان و أوراق عظیمة فی کل ورقة منها أصل من أصول تلک العلوم. و کان الطلبة یقدمون حلب من القاصیة للاشتغال بالعلوم الریاضیة المرسومة فی هذه الشجرة. و اسم غارس شجرة الإفادة خلیل بن أحمد غرس الدین علی ما فی در الحبب. خطط الشام ؛ ج‌4 ؛ ص112
یدخل فی باب النقش و الصنائع الغریبة ما رواه المقدسی فی حوادث سنة (990) یوم عمل ختان ابن درویش باشا والی دمشق، فانهم صنعوا شیئا یسمی النقل بجامع المصلی و بجامع ایلخان خارج محلة القراونة و بجامع التوبة، و هو یشتمل علی أربع عشرة قلعة من الورق المحشو بالبارود و أربع عشرة فرسا و أربعة عشر عفریتا کذلک، و علی صور طیور و وحوش و کلاب و غیر ذلک، و علی قصر عظیم من الشمع الملون المشتمل علی صورة أنواع الفواکه و البقول و الأزهار و الأطیار و غیرها کل ذلک من الشموع المصبغة و التذهیب و التفضیض، و کان ارتفاعه علی علو الجملون الذی بجامع المصلی بحیث لم یتأت نقله منه و إخراجه إلا بعد فک الجملون المذکور، و هدم قوس أحد أبواب الجامع المذکور و هدم مواضع متعددة فی طریقه إلی دار السعادة، و هدم الحائط الشرقی من باب دار السعادة أیضا حتی أدخل، و کان لهذا النقل یوم مشهود خرج للفرجة علیه جمیع أهل دمشق رجالا و نساء لم یتخلف أحد. ثم فی الیوم الثانی منه نقل النقل الذی صنع بجامع محلة القراونة و بجامع التوبة و هو یشتمل علی قصرین عظیمین من
خطط الشام، ج‌4، ص: 113
الشمع أیضا أحدهما أطول من القصر المقدم بنحو أربع أذرع و الآخر دونه مشتملین علی ما تقدم و علی صور أنواع الحیوانات من السکر من الخیل و الجمال و الفیلة و السباع و الطیور و غیرها، کل ذلک من السکر المعقود و علی النقول و الملبسات بالسکر أیضا.
و کان رشید الدین بن الصوری یستصحب مصورا و معه الأصباغ و اللیق علی اختلافها و تنوعها، فکان یتوجه إلی المواضع التی بها النبات مثل جبل لبنان و غیره من المواضع التی قد اختص کل منها بشی‌ء من النبات، فیشاهد النبات و یحققه و یریه للمصور فیعتبر لونه و مقدار ورقه و أغصانه و أصوله، و یصور بحسبها و یجتهد فی محاکاتها. ثم إنه سلک فی تصویر النبات مسلکا مفیدا، و ذلک أنه کان یری النبات للمصور فی إبان نباته و طراوته فیصوره، ثم یریه إیاه أیضا وقت کماله و ظهور بزره فیصوره تلو ذلک، ثم یریه إیاه أیضا فی وقت ذواه و یبسه فیصوره، و من ذلک نستدل أنه کان فی القطر أکثر من مصور فی ذاک العصر، و أن ذلک التصویر بالأصباغ کان مألوفا، و قد بلغ من خذق المصورین أن یصوروا النبات علی أنحاء شتی، أما عنایتهم بالنبات نفسه فمسألة ینظر فیها علماء النبات یستخرجون منها ما یریدون، و هذا کان فی الثلث الأول من القرن السابع للهجرة أی فی القرن الثالث عشر للمیلاد.
و لا شک أن کل هذه البدائع کانت من صنع صنع الأیدی من الشامیین، فمن المصورین علی الخزف و من المصورین علی الخشب و من المصورین علی النسیج و من المصورین علی النحاس و الحدید، فمن المصورین علی الخزف «الغیبی» قال تیمور: إن له قطعا بدار الآثار العربیة بمصر، عثروا علیها بأطلال الفسطاط و قد کتب علیها اسمه فکتب علی بعضها «الغیبی» فقط و علی بعضها «الغیبی الشامی» و إن فی دار الآثار العربیة أیضا لوحا من القاشانی «لمحمد الدمشقی» علیه صورة مکة المکرمة و الکعبة المعظمة صورها سنة (1139 ه) و کتب علیها اسمه.
و بعد فهذا القلیل الذی قرأناه و استأنسنا به یدل علی ذوق و إبداع، و إن مشارکة الأمة فی هذا الفن کانت علی حصة موفورة، و فی هذا العصر نبغ فی الشام مصورون لا بأس بهم أخذوا عن إیطالیا و فرنسا و غیرهما و کادوا یجارون
خطط الشام، ج‌4، ص: 114
مصوری الغرب بإبداعهم، و منهم من یصور بالأصباغ، و منها بدونها أی بالسواد، و منهم من یصور التماثیل من المرمر و الرخام و الصفر، و منهم من ینقش فیبدع علی الخشب و النحاس، و من المصورین بالید توفیق طارق، علی رضا معین، ندیم بخاش، مصطفی الحمصانی، مصطفی فروخ، عبد الحمید عبد ربه، عبد الوهاب أبو السعود، بشارة السمرة، داود القریم، حبیب سرور خلیل صلیبی، سلیم عورا، جبران خلیل جبران، خلیل الغریب، نقولا الصائغ.

النقش:

و یصح أن یعد فی باب التصویر نقش البیوت و التماثیل فإن المعروف أنه کان للشام حظ منه، و لم نر للنقش علی الحجر براعة و إبداعا عند الأمم القدیمة بقدر ما رأینا عند الیونان و الرومان، فإن النقوش التی عثر علیها فی شمالی الشام من أصل حثی مثل الأسود التی کانوا یرسمونها علی أبواب مصانعهم و جدرانها و أبی الهول المجنح برأس إنسان أو ثور و هو من نقوش الأشوریین، و النقوش التی عثر علیها فی الجنوب من أصل سامی کالکنعانیین و الإسرائیلیین و ما عثر علیه فی الساحل من نقوش الفینیقیین و أربابهم و معظمها منقولة عن المصریین الفراعنة- کل هذه النقوش لیست من جمال الوضع و حسن الذوق بحیث یرتاح إلیها النظر مثل نقوش الرومان و الیونان، و مثال منها الناووس الذی عثر علیه فی صیدا من القرن الرابع للمیلاد و جعل فی دار الآثار فی الإستانة و هو یمثل نساء باکیات تمثیلا کأنک تراهن.
أین جمال نقوش بعلبک من نقوش جبیل، أین نقش الناووس البدیع المنسوب للإسکندر المقدونی أو لأحد قواده، و هو مما کان عثر علیه فی صیدا أیضا و حفظ فی دار الآثار بالإستانة، من نقوش قبر أحیرام الذی عثر علیه فی جبیل و جعل فی دار الآثار فی بیروت، أو قبر حیرام الذی عثر علیه قرب صور و نقل إلی متحف اللوفر فی باریز سنة 1860 م.
آثار تدمر و تماثیلها تنم عن ذوق و فضل صناعة أکثر من أرباب الفینیقیین و الحثیین، و الغالب أن تماثیل الشبه کانت تعمل فی قبرس و الروم و تحمل إلی تدمر لتزین بها رحباتها و ساحاتها، و صناعات جرش و مادبا أجمل من نقوش
خطط الشام، ج‌4، ص: 115
السهول فی حوران و الصفا. کأن للإقلیم و للعنصر الذی ینزله دخلا کبیرا فی إجادة النقش و التصویر. و معظم العناصر التی نزلت الشام منذ عهد التاریخ من العناصر السامیة، و السامیون کما قال بعض علماء الإفرنج ما زالوا ینفرون من الرسم و النقش و التصویر. و لا غضاضة إذا قلنا إن الآریین أفرطوا فی الاشتغال بالرسم و النقش إفراطا شوهدت آثاره فی أمم أوربا التی خلفتهم، فکل شی‌ء إذا لم یرسم الآن عندهم لا یفهم و لا یدرک، فأضعفوا بذلک قوة التخیل و قووا الباصرة.
و مما یستدل به علی أن التماثیل قبل الإسلام کانت تعمل و تنقش فی الشام و أن العرب نقلوا عنها فی جزیرتهم ما رواه ابن الکلبی من أنه کان لقضاعة و لخم و جذام و عاملة و غطفان صنم فی مشارف الشام یقال له الأقیصر کانوا یحجونه و یحلقون رؤوسهم عنده. و قال ربیعة بن صبغ الفزاری:
و إننی و الذی نغم الأنام له‌حول الأقیصر تسبیح و تهلیل
قال: و وجد عمرو بن لحی أهل البلقاء یعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟ فقالوا نستسقی بها المطر، و نستنصر بها علی العدو، فسألهم أن یعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مکة و نصبها حول الکعبة. و لا شک أن هذه الأصنام تعد من الصناعات الشامیة.
و لم یخل عصر فی الشام من نقاشین أبدعوا النقش علی الحجر و النقش بالأصباغ علی الجدران و علی الخشب یتناقلون ذلک خلفا عن سلف، و النقش بالجبس علی الجدران، و منها مقرنصات جمیلة ذات تعاریش و کتابات حفظت فی مدفن أحد الوزراء من القرون الوسطی فی صالحیة دمشق أمام دار الحدیث الأشرفیة البرانیة و بینهما الطریق و تسمی هذه المدرسة التکریتیة. و فی بعض الدور القدیمة الباقیة من القرن العاشر و بعده فی حلب و دمشق کثیر من القاعات تدل علی ذوق. و فی در الحبب أن أبا بکر بن أحمد النقاش الجلومی الحلبی خدم أساتذة النقاشین من الأعاجم و استفاد منهم و مهر فی نقوش البیوت و کتابات الطرازات علی طریقة القاطع و المقطوع، و فی نقوشه ما کان لکفّال حلب و غیرهم من الرماح و السروج بالمذهب و اللازورد مع معرفة طریقة حله و صنعة الترکاش وضعا و نقشا و صنعة اللوح الذی یکتب فیه و صنائع أخری تتم عشرین صنعة. و لا یعقل أن یعمل
خطط الشام، ج‌4، ص: 116
ذلک مثل هذا المفنن و لا یکون حوالیه عشرات من المتعلمین و العاملین.
و من النقوش الکثیرة التی بقیت محفوظة علی بعض مصانع الشهباء نقوش باب أنطاکیة و باب النصر و علی هذا قطعة من إفریز تمثل کرمة معرشة یرکض إلی جانبها أرنب. و من أجمل آثار قلعتها المحراب المنقوش علی الخشب من عمل نور الدین زنکی و الجزء الثانی الذی أنشأه الظاهر غازی یدل علی صورة الهندسة المألوفة فی عصر الأمویین: مثلث قائم الزوایا تعلوه قبة بین حنایا واسعة.
و من المنابر العجیبة الصنع ما عمله نور الدین محمود بن زنکی فی حلب برسم المسجد الأقصی عمله حمید بن ظافر الحلبی و سلیمان بن معالی من خشب مرصع بالعاج و الآبنوس و علیه تاریخ سنة (564 ه) و قد وضعه صلاح الدین فی محله عند فتح القدس و قد عمل فی حلب أیضا محراب الجامع الکبیر بحماة صنعه ذاک الفنان الحلبی. و من أجمل المنابر منبر الحرم فی الخلیل من صناعة الفاطمیین و منبر جامع الحنابلة بدمشق من الخشب. و من المحاریب محراب جامع الحلاویة بحلب من الخشب و محراب الأقصی من الرخام. و من المحاریب الجمیلة محراب جامع الفردوس بحلب الذی أنشأته ضیفة خاتون و هو من عمل حسان بن عنان. و جامع الظاهر غازی فی قلعة حلب الذی بناه سنة (610) فیه أجمل ضروب الهندسة من النقوش المعروفة فی المصانع الجمیلة. و من أهم الآثار العربیة تابوت من الخشب وضع علی قبر السیدة سکینة بنت الحسین فی مقبرة باب الصغیر بدمشق عمله أحمد بن محمد بن عبد اللّه سنة (560 ه) و قد نقش بخطوط کوفیة و جعل داخل الحروف نقوش و حروف صغیرة أخری بالکوفیة أیضا. و تابوت و محراب و منبر جامع خالد بن الولید بحمص من أجمل الآثار العربیة. و کذلک تابوت مدفن أبی الفداء صاحب حماة. و من الآثار العربیة ما نقش بالحروف الکوفیة علی تابوت من الحجر دفنت تحته السیدة فاطمة الصغری بنت الحسین من القرن الرابع. و من التوابیت المهمة تابوت سیدی صهیب فی حی المیدان بدمشق (من القرن السادس) و منها تابوت بخت خاتون المعروفة عند العوام بالسیدة حفیظة فی طریق عین الکرش المؤدی إلی حی الأکراد بدمشق.
و ذکر القزوینی سوق المزوقین فی حلب و قال: إن فیه آلات عجیبة مزوقة، و ذکر ابن جبیر أن أکثر حوانیت حلب خزائن من الخشب البدیع الصنعة قد
خطط الشام، ج‌4، ص: 117
اتصل السماط خزانة واحدة و تخللتها شرف خشبیة بدیعة النقش. و قد عرف الحلبیون من القدیم بحسن الذوق فی هذه الصناعة کما عرفوا بحسن الذوق فی الخطوط العربیة المنوعة الأشکال، و کلها نقوش معرشة تأخذ بمجامع الأبصار، و تعد فی باب النقش، و قد کان عدد الخطاطین الذین أنبغتهم حلب علی اختلاف العصور أکثر من غیرها من مدن الشام.
ذکر الغزی أن النقاشین فی حلب أصناف منهم من ینقش علی الحجر و هم نوابغ البنائین و فی المبانی القدیمة کثیر من النقوش الحجریة تشهد ببراعة البنائین الحلبیین فی القرون الماضیة و تدل دلالة واضحة علی نبوغهم بصنعة النقش، من ذلک صورتا وجهی أسدین فی حجرین مرصوفین فی جانبی أحد أبواب قلعة حلب لا یفرق الناظر إلیهما فی أول وهلة بین ملامحهما، فإذا أمعن النظر فیهما تبین له أن وجه أحدهما یضحک و وجه الآخر یبکی مما دل علی براعة النقاش.
و قال: إن من النقاشین من یعانی النقش علی المعادن کالذهب و الفضة و النحاس، و منهم من ینقشون المنازل و یعرفون بالمدهنین ینقشون صور أشخاص و أزهار و طیور و أشجار، و إن هذه الصنعة انحطت فی حلب أواخر القرن الماضی حتی سافر جماعة من أهلها إلی أمیرکا و تلقوا هذه الحرفة من أربابها و عادوا فنشروها بین الناس. و من أشهر النقاشین یوسف سعد اللّه الحویّک، و من الحفارین و النقاشین یوسف الزغبی و بشارة عیسی الزغبی و هذا حفر صورة آل رومانوف فی قطعة صدف من أنفس التحف.
و اشتهر فی دمشق و حلب و بیروت خطاطون کثیرون فی العهد الأخیر و منهم أمین زهدی. مصطفی السباعی. مراد الشطی. مصطفی القبانی. محمد علی الحکیم نجیب هواوینی. حسین البغجاتی. ممدوح الشریف. سلیم الحنفی. محمد علی الخطیب. زکی المولوی. حنا علّام. یوسف علّام. نسیب مکارم. مشکین قلم. محمد یحیی. صادق الطرزی. موسی الشلبی.
و کان فن الخط إلی عهد بعید صناعة یتنافس بها، و کثیر من البارعین فیها کانت مدار معاشهم ینسخون الکتب و غیرها فلما جاءت الطباعة ثم الآلات الطابعة بطل التنافس بالخط العربی الجمیل و قلّ الراغبون فیه.
خطط الشام، ج‌4، ص: 118

البناء:

قالوا: إن علم المبانی فن من الفنون الجمیلة بل هو أحسنها، إذا قارنا بینه و بین الموسیقی نجد أن کلیهما مطرب للإنسان، فالأول مکوّن من نغمات غیر متنافرة منتظمة الأوقات، و الثانی مکوّن من تراکیب و أوضاع غیر متنافرة الأجزاء، یظهر الأول مذببات العدد و الأوتار یحملها الهواء إلی الآذان فیطرب بها الإنسان، و یظهر الثانی الظلّ و الضوء و الألوان فتراها العین فی أتم ما یکون موضوعة بنسب محفوظة ما بین مزخرف و بسیط تظهر علیها المتانة و الراحة فتشتاق إلیها النفس، فکلا الفنین جمیل غیر أن الأول تذهب محاسنه فی الهواء و بعد ذهابها لا یشعر بها، و تبقی محاسن الثانی ما دام لها ظل.
مواد البناء الحجر و التراب و الخشب و الحدید قد توجد کلها فی قطر و لا یوجد إلا بعضها فی آخر، فمصانع بابل تداعت لأن معوّل البانین کان علی الآجر لا الحجر، و مصانع الشام بقیت لأن الحجر فیه کثیر مبذول، و إن کان أقدم ما عرف من آثارنا یرد إلی زهاء ألفی سنة، و أقدم ما عرف فی بابل و أشور و نینوی من الآجر المکتوب یرجع إلی أربعة آلاف سنة. و ما عمل عندنا من الخشب و التراب دثر بعد مدة لیست بطویلة من عهد بانیه.
و لقد ظهر أن الشام فی القدیم لم یکن له طراز خاص فی البناء. و کان بناؤه بحسب روح الدولة التی تحکم فیه و الأمة التی تتغلب علیه: مصریا أیام الفراعنة، أشوریا علی عهد الأشوریین، بابلیا فی أیام بابل، فارسیا فی دور الفرس، رومیا فی دولة الروم، رومانیا فی عهد الرومان. و لم یکن للحثیین و الإسرائیلیین هندسة خاصة، بل کان الحثیون یقتبسون عن جیرانهم الأشوریین أصول بنائهم، و لیس مما اکتشف منه حتی الآن ما هو خارق للعادة فی أشکاله و وضعه بل هو محرف عن الطراز الأشوری تحریفا کثیرا، و ما اکتشف من الصور النصفیة و غیرها من عهد الحثیین لا ینم عن ذوق و إبداع علی الأکثر. و مصانع الحثیین فی الجملة مقتبسة من مصانع الأشوریین و البابلیین اقتباسا ردیئا لا یخلو من جفاء و سذاجة علی ما قال الباحثون. و سار الإسرائیلیون فی صنع مصانعهم علی تقلید الأشوریین و المصریین و قلدوا المصریین فی الأکثر لقرب فلسطین من مصر، و لاستیلاء المصریین زمنا علی فلسطین. و کذلک فعل الفینیقیون و الکنعانیون.
خطط الشام، ج‌4، ص: 119
و علی عهد الإسکندر دخل الشام طرز جدید فی البناء أی أصول الهندسة الیونانیة.
غصت جبال الشام بالمغاور الطبیعیة و الصناعیة، و منها ما کان لسکنی أهلها قبل أن عرف التاریخ، و منها ما جعلوه قبورا لموتاهم فی الأمم التی عرف بعضها التاریخ، و قد ثبت بهذه المغاور أن الشامیین استعملوا منذ الزمن الأطول آلات من المعادن لقطع الحجر و نحته. و لا یمکن تحدید العصر الحجری فی الشام، و یمکن أن یردّ العصر المعدنی إلی ثلاثة آلاف سنة قبل المسیح. و فی غربی الأردن آثار کثیرة من ذلک، و کلها ذات صلة بعبادات الأقدمین. و احترام الأحجار المقدسة کان قدیما منتشرا فی جمیع أرجاء الشام. و من المغاور مغاور عدلون بین صیدا و صور و مغاور نهر إبراهیم فی لبنان، و مغاور بیروت و جبیل و أنطلیاس، و من مصانع فلسطین الصهاریج و معاصر الزیت و الخمر. و بناء الفینیقیین من هذا النوع أجمل من بناء العبرانیین.
و قد اقتبس العبرانیون فی أصول مبانیهم مبانی الفینیقیین، و هؤلاء أخذوا علی ما یظهر من المصریین، و قد قیل: إن بنائین فینیقیین هندسوا معبدی داود و سلیمان. و یقول سنیوبوس: إن القدس کانت بالنسبة لبابل و ثیبة عاصمة أقالیم فقیرة، و ما کان العبرانیون یتعاطون البناء و یمیلون إلی العمران، بل کانت دیانتهم تحظر علیهم إقامة المعابد، و لم یکن فی القدس إلا قصر سلیمان و هو أول معبد عبرانی.
و أخذت الشام أصول الهندسة الیونانیة و تناغت بها قبل أن یفتحها الإسکندر.
و لم یبق من الآثار الیونانیة علی کثرتها فی الشام بقدر ما بقی من الآثار الرومانیة.
فإن الرومان أنشأوا مدنا برمتها خططوها علی أصولهم. و کان من هذه المدن ما بنی علی نفقة أباطرة رومیة. و معلوم أن الرومان تفننوا فی البناء و خلفوا فی کل مکان امتد سلطانهم علیه آثار الهندسة من طرق و قنوات و أسوار و مسارح و ملاعب و حمامات، مما شهد لهم باتساع الفکر و معرفة الهندسة و المتانة فی العمل و جمال الأسلوب. لا جرم أن علاقة الشام بإیطالیا أقدم من الإسلام، علاقتها بأرضنا مذ کنا ولایة رومانیة تحکمنا رومیة عاصمة تلک الأمة العظیمة.
و أخذ النصاری فی بناء کنائسهم عن فارس و الشرق، ثم اقتبس منهم الرومان أصولهم فی البیع، و ما لبثت الصناعات الفارسیة و البیزنطیة أن اختلطت
خطط الشام، ج‌4، ص: 120
و نشأ منها صناعة جدیدة هی الصناعة العربیة. و أجمل هذه الصناعات علی ما قال هوار الجوامع و القصور، و التقلید محسوس و لکنه تقلید غیر أعمی، لأن تأثیرات الأساتذة الأقدمین لا تمنع من البحث العلمی و الاختراع الحدیث، کما أن مشهد البدائع القدیمة و درسها لا یحولان دون التفنن و لطافة الإبداع و الاختراع. قال: و فی الشرق نشأت هذه المدنیة و کانت دمشق إحدی مراکزها.
و قال جلابرت: و من المصانع المنوعة فی الهندسة الشامیة شیئان یلفتان النظر خاصة و هما البیع و الأبنیة ذات السطوح. و کان المهندسون الشامیون فیها عالة علی الشرق یسترشدون بآراء مهندسی فارس. و قد أثرت الهندسة الشامیة إذ ذاک فی هندسة کثیر من الأمم و لا سیما فی بیزنطیة، و أخذت بیزنطیة عن الشام أو من طریق مصر عن الشام، أصول کثیر من الأبنیة، و قال لامنس: إن الهندسة و التصویر و النقش و فنون الزینة أخذت تسیر فی طریق مستقلة عن النموذجات الیونانیة و الرومانیة التی کانت منذ عهد السلوقیین مؤثرة فی جمیع الصنائع النفیسة، و أنشأ المهندس الشامی یرفض استعمال الملاط بین الأحجار و یکتفی بحسن وضعها علی صورة متوازیة تقوی بها بدون لحمة بین أجزائها، و استعاض عن الآجر المألوف علی عهد الرومان و الیونان بالحجر النحیت، و بنی الکنائس ذات القباب فکثرت البیع البدیعة التی یعجب الأثریون بخرائبها العظیمة الیوم و عنها أخذ بناة الکنائس الرومانیة ا ه.
کان أساتذة العرب فی البناء لأول أمرهم أناسا من الروم، فکان بین أبنیتهم الأولی و أبنیة النصاری وجه شبه، فقد بنی المسجد الأقصی علی مثال کنیسة القبر المقدس، و نقل استعمال القیاب من الشرق إلی الغرب، و لم تکن معروفة إلا فی هذا الشرق، و قد أفرط العرب کالروم فی استخدام الفسیفساء فی الجدران و القباب، و زادوا فی هذه الفصوص ما ابتدعوه من عندهم، و کان محببا إلی نفوسهم، جمیلا فی عیونهم. و یقول بعض العارفین: إن الشام لا یحوی کثیرا من المصانع الخارقة للعادة من صنع العرب، لأنهم اکتفوا بما وجدوه فی القطر من المبانی القدیمة، فاستعملوها علی ما یشاءون، و لطالما بنوا بمواد أخذوها من أبنیة قدیمة.
أما هندسة الصلیبیین فأکثرها حصون و قلاع، و لا یعرف إذا کانت فی
خطط الشام، ج‌4، ص: 121
الأصل من بناء العرب أو الإفرنج، المرجح أن هؤلاء طبعوها بطابعهم، و قالوا لم یخترع العرب أبنیة خاصة بهم، بل تجلی فی هندستهم حبهم للزخرف و اللطف و اخترعوا القوس المقنطر و رسم البیکارین، و کان تفننهم فی هندسة القباب و السقوف و المعرشات من الأشجار و الأزهار، مما جعل لجوامعهم و قصورهم بهجة لا یبلی علی الدهر جدیدها، و دلت کل الدلالة علی إیغالهم فی حب النقوش و الزینة، کأن أبنیتهم و مصانعهم ثوب من ثیاب الشرق تفنن حائکه فی رقشه و نقشه.
نعم إن العرب لم یخترعوا و لکنهم اقتبسوا بادئ بدء، فإن ابن الزبیر لما عمر الکعبة دعا إلیها بنائین من الفرس و الروم، و الولید لما بنی أمویّ دمشق و أقصی القدس دعا إلیهما بنائین من الفرس و الروم و الهند. و لا جرم فقد برع مهندسو العرب فی هذه الدیار فی علم عقود الأبنیة و هی ما یتعرف منه أحوال أوضاع الأبنیة و کیفیة شق الأنهار و تقنیة القنیّ و سد البثوق و تنضید المساکن.
و لو لم یبرعوا فی کیفیة إیجاد الآلات الثقیلة الرافعة لنقل الثقل العظیم بالقوة الیسیرة لما تمکنوا من عمارة المدن و القلاع و الأسوار و المنازل و الجوامع و المدارس هذا التمکن الذی یبهرنا الیوم أثره.
و مالت الهندسة الشامیة إلی السذاجة لأول انتشار النصرانیة، فکانوا یجتنبون کل زینة زائدة لتؤثر بمتانة البناء المعمول بالحجارة الضخمة، و جمال الحجم و ترتیب الأجسام. و نشأت بین القرن الرابع و السادس للمیلاد هندسة متینة تختلف عن الهندسات الأخری، منها بعض أمثلة فی الشام العلیا و حوران.
و یقول جلابرت: إنه کان لأهالی الشام الوسطی هندسة قائمة بذاتها مباینة لفن البناء الذی أشاعه الرومان فی الشام، و هو بناء قدیم یدعی بالطراز الشامی لا أثر فیه للطرق الرومانیة و الشرقیة المحضة فی البناء، و علاقته ظاهرة بالهندسة الیونانیة الشائعة فی أنطاکیة، و قد نشأ عنه طرز مرکب شاع فی القرون الأخیرة، و طرق البناء فی حوران تختلف عن الهندسة الشمالیة فتألف طرز وطنی مباین للطرز الیونانی الذی أدخله السلوقیون.
و من أهم أبنیة القرون الوسطی و تدل علی ذوق جمیل فی البناء، المدارس الکبری فی حلب و دمشق و القدس و غیرها من البلدان، و القلیل الباقی منها إلی الآن شاهد علی وجه الأیام بما صار للمهندس الشامی من حسن الذوق، و منها
خطط الشام، ج‌4، ص: 122
فی دمشق مدخل المدرستین العادلیة الکبری و الظاهریة و المستشفی القیمری، و فی حلب مستشفی أرغون شاه و مدرسة الفردوس إلی غیرها من الأبنیة الکثیرة فی القرون المتأخرة.
و من أهم أبنیة القرون الإسلامیة بدمشق المأذنة الغربیة فی الجامع الأموی المعروفة بمأذنة قایتبای و هی من أهم المآذن العربیة من حیث الهندسة و النقش و الأصول المعماریة قامت علی قصبتین من الأرض (48 مترا مربعا) بارتفاع 66 مترا هندسها معمار عربی اسمه سلوان بن علی و قد تمت عمارتها سنة (885 ه) و بانیها السلطان الملک الأشرف قایتبای کتب اسمه فی جهاتها الأربع. و قد أجری ترمیمها و إرجاعها إلی أصلها و إکمال نواقصها المهندس الرسام توفیق طارق سنة (1342 ه) و کان علی رفرف شرفتها الأولی آیة إِنَّا فَتَحْنا لَکَ فَتْحاً الآیة و کتبها موسی شلبی و بقی قسم من الحروف القدیمة.
و قد دخلت إلی الساحل منذ عهد الحروب الصلیبیة أصول الهندسة الطلیانیة فی الدور و القصور، و ما برحت ترسخ مع الزمن، و لا سیما فی طرابلس و بیروت بحیث أن جمیع ما نراه فی مدن الساحل من الدور هو مما أنشئ فی القرن الأخیر و فی هذا القرن هو طلیانی الصبغة، و هندسته عارضة علی هذه الدیار. هذا فی الساحل أما هندسة البیوت فی الداخل فإنها قدیمة لا یعرف زمن الاصطلاح علیها، فقد نقل الرومان هندسة بیوت دمشق القدیمة إلی شمالی إفریقیة، ثم نقلها العرب بعد قرون إلی الأندلس، و لا تزال هناک إلی الیوم یفاخر بطرازها و یطرّس علی آثارها، کأن تکون الدار ذات مدخل أو دهلیز یؤدی إلی فناء واسع فیه حوض ماء و إیوان، و علی جوانبه أماکن لتربیة بعض الأشجار و الزهور، و الدار ذات طبقتین فقط: السفلی للصیف و العلیا للشتاء. و قد رأی ناصر خسرو قبیل منتصف القرن الخامس أن البیوت فی طرابلس کانت ذات أربع و خمس و أحیانا ست طبقات. و کثرة الطبقات فی الدور لم تعهد إلا فی الغرب، و ما نظن الشام زادت طبقات بیوتها علی ثلاث فی معظم أدوار التاریخ.

الشعر و الفصاحة:

ظهر کثیر من الشعراء و البلغاء فی هذه الدیار و لا سیما من السریان و اللاتین
خطط الشام، ج‌4، ص: 123
و الروم، اشتهروا فی العالم و خلدوا آثار نبوغهم، و لطالما أخرجت مدرسة نصیبین و الرّها و مدرسة الفقه فی بیروت و مدرسة أنطاکیة خطباء هزوا النفوس و علموها بخطبهم و أشعارهم و مجادلاتهم، و قد کثر سواد هذه الفئة فی عهد الدول العربیة الإسلامیة أیضا. و الشعر و الخطابة مما امتازت به العرب فی الجاهلیة و الإسلام و غالت فی الولوع بهما، و لقد أثر القرآن فی هدایة العرب ببلاغته و فصاحته، تأثیره بحکمه و هدایته. و لطالما کان شعراء العرب یصفون الشام و یتغزلون بها منذ أول یوم عرفوها، حتی إذا کان الإسلام و تبسطوا فی أرجائها، أوحت إلی قرائحهم من أسالیب الشعر ما یتألف من مجموعه أعظم دیوان بل خزانة عظیمة فی الأدب تدل علی فضل قرائح، و نبوغ فی فنون القول، و توسع فی مجال الخیال، و ما هم إلا مبدعون وضعوا ما وضعوه من بنات أفکارهم علی غیر مثال.
لا جرم أن الشام کانت أول الأقطار التی أخذت الفصاحة عن العرب فی جزیرتهم، و بقیت فیها علی اختلاف العصور و تعاقب الدول محفوظة فی الجملة، فما انقطع منها من ینظمون و یجدون حوالیهم من یطرب لنغماتهم و یصفق لنبراتهم و إن لم یعرفوا صحاحها من زیوفها. کان الشعر مبدأ دخول العرب فی الحضارة، و الأدب مقدمة النهوض فی العلوم، و لذلک رأیناهم لم یحرصوا علی شی‌ء حرصهم علی روایته و درایته. و أکثر ما یجید الشعراء فی أرض صح إقلیمها، و اعتدل نسیمها، و طابت تربتها و أدیمها، و صفت أمواهها، و ساغ نمیرها، و کثرت ظلالها بأشجارها، و غردت أطیارها فی أسحارها، و فغم أریج نوارها و أزهارها، و هذا علی حصة موفورة فی القطر الذی یتاخم جزیرة العرب من شمالها. و قد أنعم علیه الخالق بضروب البدائع و الروائع، فکان شعراء عرب الشام و ما یقاربها أشعر من شعراء عرب العراق و ما یجاورها فی الجاهلیة و الإسلام کما قال الثعالبی. و ما زالت بعض قصائد شعراء ذاک الدور مضرب الأمثال فی البلاغة، و ما برح عرب المدن یتغنون بشعرهم و یعجبون به و یترنمون، و یتوفرون علی حل ما استعجم علیهم من ألفاظه و معانیه. قال: و السبب فی تبریز القوم قدیما و حدیثا علی من سواهم فی الشعر قربهم من خطط العرب و لا سیما أهل الحجاز و بعدهم عن بلاد العجم، و سلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق
خطط الشام، ج‌4، ص: 124
بمجاورة الفرس و النبط و مداخلتهم إیاهم ... انبعثت قرائحهم فی الإجادة، فقادوا محاسن الکلام، بألین زمام، و أحسنوا و أبدعوا ما شاءوا، و کان أبو بکر الخوارزمی قد دوّخ الشام فی صباه و لطالما قال و هو أحد أمراء النظم و النثر:
ما فتق قلبی، و شحذ فهمی، و صقل ذهنی، و أرهف حدّ لسانی، و بلغ هذا المبلغ بی إلا تلک الطرائف الشامیة، و اللطائف الحلبیة، التی علقت بحفظی، و امتزجت بأجزاء نفسی.
حکی المازنی المتوفی سنة 249 قال: دخلت دیر بصری فرأیت فی رهبانه فصاحة و هم متنصرة من بنی الصارد و هم أفصح من رأیت فقلت: ما لی لا أری فیکم شاعرا مع فصاحتکم؟ فقالوا: و اللّه ما فینا أحد ینطق بالشعر إلا أمة لنا کبیرة السن فقلت: جیئونی بها فجاءت فاستنشدتها فأنشدتنی لنفسها:
أیا رفقة من دیر بصری تحملت‌تؤم الحمی لقیت من رفقة رشدا
إذا ما بلغتم سالمین فبلغواتحیة من قد ظن أن لا یری نجدا
و قولوا ترکنا الصاردیّ مکبلابکل هوی من حبکم مضمرا وجدا
فیا لیت شعری هل أری جانب الحمی‌و قد أنبتت أجراعه بقلا جعدا
و هل أردن الدهر یوما وقیعةکأن الصبا یسدی علی متنه بردا
و ما برحت الدیارات فی الشام تقدر الفصاحة کما تقام فیها للموسیقی أسواق.
و ظهر الضعف فی الشعر خلال القرون الأخیرة، و نسلت علیه القرون إلی أن خلع فی أوائل هذا القرن الثوب البالی القدیم و لبس ثوبا جدیدا فیه من جلال الحدیث و عز القدیم ما جمع فیه الجسم و الروح. بدأ هذا من لبنان و بیروت ثم تناول عامة مدن الشام. أما القری و البوادی فقد اکتفت بالأزجال، و الزجل نوع من الشعر محدث یصفون فیه أیامهم و مفاخرهم و هو أشبه بالرجز الذی کانت العرب تترنم به فی عملها و سوقها و تحدو به فی بوادیها. و کان للزجالین فی القرن الماضی و فی هذا القرن منزلة عند أهل الزرع و الضرع، یدعون الزجال إلی الأفراح لیحمل البهجة إلیها، و إلی الأتراح لیسری عن النفوس ما نزل بها، و لهم ضروب من الموالیا یسمونها العتابی و الإبراهیمی یطربون بها و لا تخلو من معان شعریة قال صدیقنا الشیخ إبراهیم الحورانی و کان شاعرا مجیدا بالفصحی و العامیة:
و النصاری و الیهود یعتقدون أن بعض الشعر إلهام إلهی و وحی حق کشعر أیوب
خطط الشام، ج‌4، ص: 125
و داود و سلیمان و أشعیا و عدة من کتبة الأسفار الإلهیة و الشعر بقسمیه الفصیح و العامی المعروف عند العامة بالمعنّی یعمل علی ثلاثة أبحر الرجز و الوافر و السریع، أما أغانیهم التی یسمونها بالقرادیات و هو اسم خشن سمیت مؤخرا بالعدیّات و بالقویلات کما یقولون لمن یعانیها (القوّال) فبعضها لا ینطبق علی وزن من أوزان الشعر المعروف، و وزن بعضها المتدارک مع تغییرات أیضا. و جاءت أغانیهم المعروفة بالموالات البغدادیة و المصریة و الزلاغیط علی بحر البسیط ا ه.
و لا یزال إلی الیوم لکل قبیلة فی الشام شاعرها ینشدهم من حفظه أو نظمه من شعر شعراء البادیة علی نغمات الرباب قصائد یسلیهم بها، و لشعر البادیة عندهم أوزان خاصة، و إذا قیس علی علات لفظه علی أبحر الشعریری بعضه موزونا و فی بعضه عیوب بسیطة، و من أشعر شعراء البادیة نمر بن عدوان فی عبر الأردن کانت له امرأة اسمها و ضحاء تتیم بها کما تتیم قیس بلیلاه فرثاها بعد موتها بعشرات من القصائد و منها ما فیه معان جمیلة- قاله أدیب وهبة.
و إذا انتشرت المدارس فی المدن و القری علی حد سوی، و جعل التعلیم فی کل درجاته باللغة الفصحی یتأصل الغرام فی الناس أکثر مما نراه بالفصاحة و الشعر فلا تلبث الشام أن تحسدها جاراتها کما کانت فی القدیم علی اختصاصها بذلک، و کما تحسد هی مصر الیوم علی تفنن شعرائها و خطبائها و سریان الفصاحة إلی ألسن من لیسوا من الأدب العربی فی العیر و لا فی النفیر.

الرقص:

ربما ینفر بعضهم من سماع هذا اللفظ و نحن لم نتعرض له هنا إلا مجاراة للفرنج فی إدماجهم له فی الفنون الجمیلة. عدّ «طاشکبری» الرقص من أنواع العلوم فقال: إنه علم باحث عن کیفیة صدور الحرکات الموزونة عن الشخص بحیث یوجب الطرب و السرور لمن یشاهده، و هذا من العلوم التی یرغب فیها أصحاب الترفه و الأغنیاء و الأمراء و من یجری مجری هؤلاء من أصحاب الملاهی ا ه. و ذکروا أن الرقص قدیم کقدم العالم و أن أقدم شعوب الأرض کان لها رقص علی أوزان معلومة. فالرقص مرتبط بالموسیقی و الإیقاع، و کثیرا ما کانوا یتبعون الرقص بالتصدیة و الضرب بالأیدی، ثم عرفوا الشبابة حتی جاءت المزاهر
خطط الشام، ج‌4، ص: 126
و المعازف، و کان الرقص علی نوعین: رقص مقدس من توابع الحفلات الدینیة، و رقص عالمی لتسلیة العامة، أی أن الرقص رقصان رقص دینی أو رقص المآتم و رقص الحبور و الابتهاج. و فی التوراة أن الرقص کان شائعا عند العبرانیین، و قد رقص داود أمام تابوت العهد، و لما خرج بنو إسرائیل من مصر کان لهم نوعان من الرقص، الرقص المقدس المنظم و رقص سریّ له اتصال بالتعبد علی نحو ما کانوا یرقصون فی التیه حول عجل الذهب. و کان للعبرانیین نوع من الرقص الشریف یرقصه العذاری فی الحفلات العامة احتفاء بذکری حوادث سعیدة من مثل انتصار علی عدو أو تکریم مجد أبطال الوطن. و هکذا کان الرقص شائعا عند المصریین، ثم شاع عند الیونان و هم المشهورون بتفننهم فبلغ عندهم أقصی درجات رقیه و انتقل إلی الرومان، و إذ کانوا شعبا قاسیا غلیظا فقد عندهم بهاءه و رواءه و ما یقصد منه. و لکل شعب رقصه الخاص به، علیه صبغة أخلاقه القومیة الثابتة. و لجمیع شعوب الغرب و الشرق رقصهم الخاص أو رقصات عرفت بهم و أثرت عنهم. و الإنکلیز أکثر الأمم انحطاطا فی الرقص لم یبرزوا فیه تبریزهم فی معظم مظاهر الحیاة القویمة.
و کان الرقص عند العرب کالغناء من الفنون الطبیعیة استعملوه فی کل دور عرف من أدوارهم. و الرقص أو الزفن کان عند العرب علی ما یظهر علی الطراز الذی هو علیه الیوم عند العرب سکان القری و العرب الرحالة و منه ما یعرف بالدبکة، فإن وفد الحبشة لما قدم إلی الحجاز جعلوا یزفنون أی یرقصون. و فی حدیث فاطمة أنها کانت تزفن للحسن أی ترقص له و فی روایة ترقصه. و من غریب تفنن العرب فی مسائل الظرف و الذوق أنهم عرفوا علما سموه «علم الغنج» عده صاحب الموضوعات من فروع علم الموسیقی و قال: هو علم باحث عن کیفیة صدور الأفعال التی تصدر عن العذاری و النسوان الفائقات الجمال و المتصفات بالظرف و الکمال إلی آخر ما نقله صاحب کشف الظنون.
و الغالب أن رقص الشام اقتبس مع الزمن من أوضاع کثیرة، و الأمم تقتبس عن غیرها ما یتلاءم مع مزاجها. و کذلک تقبس غیرها بعض ما ألفته فی هذا الشأن. من ذلک أن الرقص الاسبانی إلی الیوم لم یبر بعد خمسة قرون من مغادرة العرب أرض الأندلس علی الطراز العربی و کذلک موسیقاهم إلا قلیلا. و قد
خطط الشام، ج‌4، ص: 127
أصبح الرقص فی الغرب علما بذاته و لکن العرب لم یقصروا فیه، و لا سیما فی عصور البذخ و الرفاهیة. و بعض المحققین من علماء المشرقیات من الأسبان و البرتغال (مجلة الزهراء) یبرهنون الآن علی أن موسیقی الأوربیین و شعرهم انتقلا من فارس إلی أوربا بواسطة العرب، و منهم من ینشر منذ سنین قطعا قدیمة و یبین ما فیها من آثار الروح الشرقی، و کان لنا فی الشام نوع من الرقص یسمونه بالسماح (و لعله السماع) یرقصه عدة أشخاص علی نغمات متساوقة من الأوتار و تردید جمیل من الموشحات فقط، و هو أشبه بالأوبرا أو الأوبریت‌ope ?ra ,Ope ?rette عند الإفرنج أی القصائد الملحنة التی تمثل علی نغمات الموسیقی فقط، و یزید رقص السماح علی الأوبرا کونه ترفع فیه الأصوات بأنغام مألوفة.
و فی کتاب مفرح النفس: و اعلم أن من الریاضیات البدنیة التی تختص بالنفس اختصاصا کثیرا إلی الغایة الرقص، و هو عبارة عن حرکة متناسبة من الیدین و الرجلین بضرب من الضروب المعروفة فی الموسیقی بإرادة النفس و شوقا إلی محل طلبها الأصلی، قال: إن الرقص مندوب إلیه فی ترویح الأرواح و نفی کدورة النفس و حصول الإشراق لها، و یجب أن یکون مع سکون و تجمع من الذهن و العقل فتحصل اللذة و البهجة، فالرقص له فی إحداث راحة النفس و سرورها قوة عظیمة یعجز اللسان عن وصفها و الذهن و العقل عن تصورها ا ه.

التمثیل:

و یدخل فی باب الرقص أو فی باب الموسیقی (فن التمثیل) و هو و إن کان مشهورا فی الشام علی عهد الرومان و الیونان، بدلیل ما نراه من الملاعب الخاصة به و بعرض الحیوانات و الصراع فی البتراء و عمان و بعلبک و أفامیة ولدّ و قیساریة و غیرها من المدن القدیمة. إلا أنه لم یعهد علی الصورة المعروفة حدیثا، اللهم إلا علی الندرة عند عرب الأندلس، و هذا فی بعض الروایات. و لقد قالوا: إن أنطاکیة أیام عزها ارتقی فن التمثیل فیها حتی کانت تجلب الممثلین من صور و بیروت و المغنین من بعلبک. و قال بعضهم: إن السبب فی عدم العنایة بالتمثیل فی الإسلام حجاب النساء. و التمثیل لا یتم بدون مشارکة الجنس اللطیف. و لما لم یعهد التمثیل عند الجنس السامی لم تخرج العرب عن هدی جنسها. و التمثیل
خطط الشام، ج‌4، ص: 128
ما عرف إلا عند الجنس الآری فقط. و من ذلک الفرس و هم آریون خلفوا للعرب کتاب ألف لیلة و لیلة و هو اختراع آری فیه شی‌ء من التمثیل.
و کان العرب فی الجاهلیة و الإسلام یرون من سقوط المروءة أن یمثل مجلس الأمیر أو الوزیر، و إن کان لا یخلو تمثیله من حکمة، فکیف بمجلس صبابة، و معظم التمثیل یدور علیها، لا جرم أنهم قصروا فی التمثیل، و تقاعسوا عن اقتباسه عن الأمم الآریة، و إن عرف من حالهم أنهم لم یأخذوا عن الأمم الأخری إلا ما اشتدت حاجتهم إلیه من أنواع العلوم، أدمجوه فی حضارتهم و مزجوه بأجزاء نفوسهم. و إذ کان التمثیل لا ینطبق مع عادات العرب و لا عرف به مجتمعهم أعرضوا عنه، و جاء الإسلام موافقا لمصطلحهم و عاداتهم و أخلاقهم فی بعض الأحوال.
بید أن العصر الأخیر لم یضنّ علی الشام بتجلی الآداب الرفیعة فیه، فقام فیها سنة (1282 ه) فی دمشق أیضا رجل من أبنائها هو السید أحمد «أبو خلیل» القبانی من المبرزین فی الموسیقی المشهود لهم بالإجادة فأنشأ دارا للتمثیل، و بدأ یضع روایات تمثیلیة وطنیة، من تألیفه و نظمه و تلحینه، و یمثلها فتجی‌ء دهشة الأسماع و الأبصار، لا تقل فی الإجادة من حیث موضوعها و أزیاؤها و نغماتها و مناظرها عن التمثیل الجمیل فی الغرب. و اعتاض لأول مرة عن النساء بالمرد، و لما انتقل إلی مصر لنشر فن التمثیل العربی هناک، عاد إلی الطبیعة و استخدم فی کل دور من یصلح له من الجنسین، و وجه الفخر فی أبی خلیل أنه لم ینقل فن التمثیل عن لغة أجنبیة، و لم یذهب إلی الغرب لغرض اقتباسه، بل قیل له: إن فی الغرب فنا هذه صورته فقلده، و قیل: إنه شهد روایة واحدة مثلت أمامه فی إحدی المدارس الأجنبیة، و لما کانت عنده أهم أدوات التمثیل و هو الشعر و الموسیقی و الغناء و رأی أنه لا ینقصه إلا المظاهر و القوالب، أوجدها و أجاد فی إیجادها، و لذلک کان أبو خلیل مؤسس التمثیل العربی، و نابغة العرب فی الموسیقی و التمثیل، و روایاته التی ألفها ما زالت منذ زهاء ستین سنة و إلی یوم الناس هذا، موضع إعجاب الأمة، تمثل فی دور التمثیل و تلذ الجمهور مثل روایة أنیس الجلیس و غیرها.
هذا و إن سبق لمارون النقاش فی بیروت فعرب فی سنة (1848 م) من إحدی
خطط الشام، ج‌4، ص: 129
اللغات الأوربیة بعض الروایات التمثیلیة و مثّلها بالفعل. و الإبداع فی التألیف و الوضع، لا فی النقل و الاحتذاء، و إن عدّ الناقل صاحب فضل أیضا.
و لما کان التمثیل کما قلنا عارضا علی مدنیتنا رجع القهقری بعد أبی خلیل.
و ظل إلی یومنا هذا یمشی مشیا ضعیفا، فلم تقم إلی الآن جوقة تمثیل وطنیة تبث فی الأمة روح الفضائل و الآداب، و تأخذ من الناس بعض أوقاتهم تصرفه فیما یفیدهم فیلهون بما یجلب السرور إلی قلوبهم، و النور إلی عقولهم، و تتهذب فی مدرسة التمثیل الیومیة عقول الکبار، کما تتهذب فی الکتاتیب عقول الصغار.
فقد قال فولتیر: إن المرء یتعلم بالتمثیل أحسن مما یعلمه إیاه کتاب ضخم.
و لعل أبناء الشام إذا قویت فیهم أسالیب الثقافة الحدیثة، ترتقی فیهم سائر الفنون التی انحطت و لا تزال منحطة، فتکون من العوامل فی نهوضها إلی المستوی اللائق بها فی سلم الحضارة و الهناء. و التمثیل الراقی أنفع لمجتمعنا من ذاک التمثیل الساذج الذی ما زال فی أکثر مدن الشام مألوفا للعامة، و نعنی به خیال الظل أو الخیال الراقص المعروف أهله بالمخایلیة و عرف هذا الضرب من التمثیل عند الترک، و إن لم یکن من اختراعهم باسم (قره کوز). و التمثیل أجدی علی أبنائنا و بناتنا من القصاصین أی الحکویة (الحکواتیة) الذین یلهون العامة بغرائب الوقائع فی المقاهی و یبثون فیهم سخائف و خرافات.
و من غریب شأن هذه الأمة أننا رأینا کثیرا من نجباء أبنائها برعوا فی التمثیل، و منهم من یعرف الأدب و ما ینبغی له، قد زهدوا فی فنهم، و کتموا نبوغهم فیه، شأن کثیر من أرباب الصوت الرخیم و الغرام بالموسیقی، و الضرب علی آلات الطرب المتعارفة، یخافون أن یعرفوا بها و یعمدون إلی التقیة کأن من العار التلبس بهذه الفنون الجمیلة.
و ممن عرفنا منهم نور الدین حقی. حکمة المرادی. صالح الحیلانی. أحمد عبید. سلیم عطاء اللّه. أمین عطاء اللّه المعروف بکش کش بک. و اشتهر أیضا حمزة الأصیل. صالح شهبندر. حسن الساعاتی. إبراهیم المنجد. إبراهیم نفش.
راغب السمسمیة. جرجی نفش. درویش البغجاتی. أبو الخیر الغلایینی. یوسف مردم بک. خالد السمسمیة.
(4- 9)
خطط الشام، ج‌4، ص: 130

متی ترتقی الفنون الجمیلة:

لا جرم أن ارتقاء الشام فی هذه الفنون علی اختلاف فروعها، موقوف علی ظهور نوابغ من أبنائنا یرحلون إلی الغرب لنقلها و التشبع بآدابها، ثم یعودون فیلوبون علی إحیاء ما اندثر أو کاد من هذه الصناعات النفیسة فی القطر، و ینشرونها علی النظام الغربی الحدیث علی صورة مقبولة، و إذا نشأت بعد ذلک مدرسة واحدة راقیة فی کل فن من هذه الفنون لا یأتی جیل ثان بعد جیلنا هذا حتی یکون عند أهل القطر العدد الذی یحتاجون إلیه من الأعیان الذین لا غنیة للمجتمع الشامی عنهم فی إنهاضه. و یشترط فی من یریدون الإخصاء فی هذه الفنون أن یکونوا ممن یحبون أن یعرفوا بما اختصوا به، أو یسعوا طاقتهم لنشره، و من لا یحب صنعته و لا یفاخر بها لا یبرز فیها، و عندئذ نعدّ شیئا مذکورا بین أمم الحضارة فی باب هذه الفنون کما کان أجدادنا.
یقول الجاحظ: إن الضحک فی موضعه کالبکاء فی موضعه، و التبسم فی موضعه کالقطوب فی موضعه، و إنما تشاغل الناس لیفرغوا، و جدّوا لیهزلوا، کما تذللوا لیعزوا، و کدوا لیستریحوا، و قد قسم اللّه الخیر علی المعدلة، و أجری جمیع الأمور إلی غایة المصلحة، و قسط أجزاء المثوبة علی العزیمة و الرخصة، و علی الإعلان و التقیة، فأمر بالمداراة کما أمر بالمباداة، و جوّز المعاریض، کما أمر بالإفصاح، و سوغ المباح، کما شدد فی المفروض، و جعل المباح جماما للقلوب، و راحة للأبدان، و عونا علی معاودة الأعمال ا ه.
خطط الشام، ج‌4، ص: 131

الزراعة الشامیة

العامر و الغامر:

حیاة الشام بزراعته ثم بصناعته و تجارته، و القری و البوادی أوسع بقعة و أوفر سکانا من المدن و الحواضر، و لا نعلم مقدار سکان الشام فی القرون التی سبقت الإسلام و لا فی القرون التالیة، و قال بعضهم: إن سکان الشام عند دخول العرب کانوا ستة ملایین علی وجه التخمین، و لکن الظاهر من مصانع أهلها و طرقهم القدیمة التی کانت تربط أجزاء القطر کالشبکة و آثار عمرانهم مثل حنایا بعض الجسور الکبری، و خرائب القصور الفخمة، و الدّ من التی تشاهد الآن فی أواسط الفلوات الخالیة، و العادیّات و الآثار الجمة، یدل علی ارتقاء زراعتهم و کثرة ثروتهم و نفوسهم. فقد کانت حوران أنبار الشام علی عهد الرومان لوفرة حبوبها و لا تزال هی و البلقاء علی کثرة ما تعاقب علیهما من الأیدی الظالمة فی الأکثر، معروفة بهذه الصفة وجودة حنطتهما التی لا مثیل لها، و ما یقال عنهما یقال عن جمیع الأصقاع الشامیة. و لا سیما ما کان بقرب المیاه و الأودیة فإنه عامر بطبیعته لا یحتاج إلا لأمن و نظام حتی یفیض لبنا و عسلا.
و مغل حوران کسیل دافق‌یأتم من أرجاء جلق موجلا
و مما أقامه الرومان لحفظ زراعة البلقاء و حوران و ما کان علی سیف البادیة من مرج الغوطة و أدانی جبل قلمون و تدمر فحلب فما وراءها، مخافر مجهزة أحسن جهاز لمنع البادیة من التسلل إلی المعمور، لأن داء الغارات علی الزروع و العیث فی العامر من الأدواء القدیمة. و اعتداء الرحالة من أهل الظعن، علی المقیمین من أهل الدساکر و المزارع، النازلین فی الدور و المساکن، داء قدیم
خطط الشام، ج‌4، ص: 132
عقام علی ما یظهر. و ما اتخذ الروم من الغسانیین فی الجنوب، و التنوخیین فی الشمال عمالا لهم إلا لیقوموا بإنفاذ هذا الغرض، و یأمنوا بسلطانهم عیث البادیة علی أرض الشام الجمیلة.
و لیست البادیة التی تحد أکثر هذا القطر من الشرق کما قال الدکتور پوست بادیة حقیقیة لأنه یقع فیها بعض المطر فی فصل الشتاء، و ینبت فیها عشب ترعاه المواشی، و تسکنها قبائل شتی من العرب، و تتدرج هذه البادیة إلی جهة شمالی الشام، فی السهل المتسع الممتد من نواحی حلب إلی ما بین النهرین، و کان هذا السهل مسکونا فی قدیم الزمان، و لم تزل فیه آثار عظیمة تدل علی کثرة الذین سکنوه و وفرة ثروتهم، إلا أنه أمسی الآن قلیل السکان تجول فیه العرب و الأکراد.
و قد أکد موسیل أن البلاد الواقعة فی شرقی الأردن کانت قبل مئة و عشرین سنة عامرة بالسکان و هی الیوم تکاد تکون خالیة لعیث البادیة.
و أهل الوبر الذین یشتون منذ القدیم بمواشیهم فیما وراء بادیة الشام من الفلوات تشتد حاجتهم فی الربیع إلی أن یدخلوا المعمور، فإذا حصدت الزروع یضطرون إلی رعی أنعامهم و أغنامهم فی أرض الحصید، و مراعی دیر الزور و الجولان طلبا للماء، و التماسا لبیع حاصلاتهم و استبضاع ما یلزمهم. و إذ کانت أرض السقی أقلّ من أرض العذی بالشام، و معظم الأنهار لا یستفاد من سقیاها الیوم کما کانت الحال عند الأقدمین، زاد اعتداء البادیة علی مهاجمة البلدان الخصبة.

قلة العنایة بالأنهار:

نقول هذا و أهم أنهارنا الفرات و هو نهر یتاخمنا من الشرق، و لا نستفید منه الاستفادة المطلوبة لأنه منحط عن مستوی أرضنا، و لم یکن کذلک فی الدهر السالف بما کان یعهد به من السدود و السکور التی کانت سبب غنی العراق، و بالطبع غنی الأقالیم المتاخمة له من أرض الشام. و لا یستفاد من الأنهار التی تشق قلب القطر الفائدة المطلوبة فی الریّ. فالأردن مثلا یشق بعض أرجاء فلسطین و العاصی الذی یجری من سفوح لبنان مارا بحمص فحماة فأنطاکیة حتی السویدیة لا ینتفع بهما علی ما کان الحال قدیما. فقد انتهی إلینا من عمل القدماء سد قدس بالقرب من قریة قطینة بجوار أرض حمص، و کان أعلی مما هو الآن بحیث یتأتی
خطط الشام، ج‌4، ص: 133
أن یسقی العاصی بواسطته و ما اخترع له من النواعیر، جمیع الأرض العالیة فی وادی نهر المقلوب کما کانت العرب تسمی العاصی. و لا تزال إلی الآن آثار السدود و القنی فی غور الفارعة بادیة للعیان، تدل علی أن القدماء کانوا ینتفعون من میاه نهر الأردن أکثر منا الیوم. و یقول صدیقنا الأمیر شکیب أرسلان:
إن الأراضی التی لها حظ من الشرب فی هذه الغیران (جمع غور) إنما تسقی من أودیة جاریة من الجبال مثل سیل الزرقاء، و السائل من جهة عجلون إلی الغرب، و مثل میاه بیسان المنحدرة من صوب مرج بنی عامر إلی الشرق، و مثل ماء الفارعة النازل من الغرب إلی الشرق، و مثل عین السلطان التی تسقی جنان أریحا، و مثل غور نمرین المنحدر من وادی شعیب أسفل الصلت إلی الغرب و ماء حسبان و غیرها من المیاه، و هذه الجداول کلها لو اجتمعت ما ساوت معشار الأردن الذی أصبح عاطلا من کل عمل ا ه.
و حالة الإرواء فی أکثر الأنحاء البعیدة ما زالت علی الفطرة القدیمة، فالقریب من الماء یروی أرضه أو بستانه بالقربة أو المدار کأهل الزور و جزیرة ابن عمر فی أقصی الشام، فإن هذه الأنحاء فی وسط المیاه کالفرات و الخابور و غیرهما من کبار الأنهار و قلما تستفید منه، و قد خربت السدود القدیمة و لم یعمل غیرها، ذلک لأن الأنهار الکبیرة و لا سیما الفرات قد تتحول عن مجراها فی معظم السنین لأنها خالیة من الجوانب المتینة المحددة، و هی فی أرض رخوة خبار، فإذا فاضت طغت علی الأرض اللینة.
و کان نهر بردی و نهر الأعوج یستفاد منهما أکثر من جمیع الأنهار التی تعطش الأرض التی حفافیها، و هی من مجراه علی قید أشبار، أو یترک للبحر یصب فیه علی هینته و هواه، کنهر عفرین و الأسود و قادیشا و الأولی و الأزرق و العوجا و إبراهیم و المقطع و القاسمیة و غیرها. و کم فی هذه الدیار من آثار قنوات عجیبة مثل قناة بسیمة فی سنیر، و ربما کان ماء عین الفیجة یسیل منها إلی بلد بعید کما هو المأثور، و مثل قناة منین التی جرها المأمون إلی معسکره فی أعلی قاسیون بدمشق. و کم من قناة طمت بتهاون الفلاح فهلک مع أرضه عطشا، لأن الحکومات قلما التفتت فی الأدوار الأخیرة إلی العنایة بأمرها، و الأعمال
خطط الشام، ج‌4، ص: 134
المشترکة قلما تجد لها نصیرا فی هذه الأرض، و لو کانت میاه الشفة فکیف بمیاه الری ری الأرض.

خراب الزراعة و المزارع:

و یمکن أن یقال إن القطر خرب بنزول الفاتحین المخربین و العاهات الطبیعیة ثم من فساد النظام فی الدولتین الجرکسیة و الترکیة فی القرون الوسطی إلی هذا العهد، و قد کان مسرح ظلم، و میدان حروب و غارات، یهلک الفلاح فیه کما یهلک النمل تحت الأقدام، و قبل أن یهلک ابن المدن الذی له من اجتماعه بأخیه، و اعتصامه وراء حصنه و سوره بعض الوقایة، و کانت القری التی علی جوانب الطرق تخرب قبل غیرها، و علی نسبة قرب القریة من المدینة أو من الطرق الموصلة أو طرق الغزاة و الفاتحین، کان الخراب إلیها أسرع من الماء إلی الحدور. و کان من دلائل القوة فی تلک الأعصر أن تخرب القری و تلقی النار فیها إذا غضب الملک أو الأمیر أو المقدم أو صاحب الإقطاع علی ذاک الإقلیم أو تلک القریة. و کان قطع الأشجار من أبلغ أنواع النکایة فی الخصم و لذلک أمثلة کثیرة فی القدیم و الحدیث إلی زمن کتابة هذا الفصل. و ما أصیبت به الأشجار فی غوطة دمشق خلال الثورة الشامیة الأخیرة مثال مما تعمله الحکومات حتی باسم الحضارة. فکأن طبائع الحکومات واحد یوم تغضب من شعب أو ترید أن تکره التناء علی النزول علی إرادتها.
و أهم ما أثر فی حالة الفلاح نظام الحکومات، لأن أصول الإدارة لم تؤسس فی هذه المملکة علی ما یجب، و کانت المظالم الأرضیة و المفاسد البشریة أشد تأثیرا فی أهل الفلح و الکرث و القائمین علی تربیة الماشیة و الضرع، من الآفات السماویة، کالزلازل و الأوبئة و القحط من قلة أمطار أو فیضان أو انتشار جراد أو دیدان و جرذ و فیران.
هذه العوامل هی جماع الخراب الذی أصاب العامر فدمر القری و الأقالیم، و منها ما لا تزال دمنه و میاهه شاهدة علی ماضیه الزاهر، فقد ذکر الظاهری من أهل المئة التاسعة للهجرة أنه کان علی عهده نیف و ألف قریة و مدن صغار فی حوران، و أنه کان فی إقلیم غوطة دمشق نیف و ثلاثمائة قریة و به مدن صغار و بلدان تشابه المدن، و أنه کان فی وادی التیم و ما إلیه ثلاثمائة و ستون قریة، و إذا
خطط الشام، ج‌4، ص: 135
أحصیت قری هذه الأقالیم الثلاثة الیوم لا تجدها فی حوران تزید علی أربعمائة قریة و منها الخرب، و فی الغوطة علی ثنتین و أربعین، و فی وادی التیم علی ثلاثین إلی أربعین. و هکذا سائر الشام. فإن حلب کان فیها قبل العثمانیین 3200 قریة فأصبحت 400 فی القرن الحادی عشر، و منها ما ظل خرابا إلی النصف الأخیر من القرن الماضی لأن معظم عهد العثمانیین انقضی فی مظالم و مغارم، و کان من جندها و لا سیما الإنکشاریة فی آخر عهدهم أدوات تخریب لم یشهد الناس أفظع منها، لذلک خربت حتی الضواحی و الأرباض من المدن الحافلة أمثال حلب و دمشق و حماة و حمص و ما شاکلها. و کانت رجل الإنکشاری بل الجندی الترکی علی الإطلاق حیث دبت یدب الدمار و البوار. و لذلک لا نکاد نری عمرانا إلا علی طول الطرق العامة الکبری و ما إلیها من الیمین و الشمال، و نشاهد المدینتین العظیمتین حلب و دمشق مثلا ینقطع فی الحال أو علی ساعات قلیلة عمرانهما الذی کان وارف الظلال إلی القاصیة. و کان هذا بفعل البادیة و فعل الجیوش المدمرة.

عوامل الخراب:

و لو لا ذلک الظلم المتسلسل قرونا فی أعقاب الفلاحین المساکین، و أسواط النقمة التی انهالت علی رقابهم الجیل بعد الجیل، لما تیسر الیوم لأحد أن یملک المزرعة و المزرعتین بل ربما العشر و العشرین قریة، و بعض الأسر الحدیثة تملک الخمسین و الثمانین، و الإنسان قد تکفیه المئة دونم أو جریب إذا أحسن تعهدها، فکیف له أن یعمر ألوفا من الأفدنة، و یتسع وقته و ماله لحمایتها و ترقیتها؟
نقول حمایتها لأن کثیرا من القری تنازل عنها ملاکها لأرباب النفوذ لیحموهم من ظلم الحکام و المرابین، و أخذوا ثمنها بضع عباءات و غلایین، أو قفة من البن أو رطلا من الدخان أو أقة من الحلوی المعروفة بالبقلاوة، و من الأراضی ما توسل أهلها إلی أرباب المکانة أن یسجلوها فی دائرة التملیک بأسمائهم لما شرعت الدولة العثمانیة 1882 م بتسجیل الأملاک علی أصحابها، و ذلک فرارا من ظلم عمال تلک الحکومة و من وضع الرسم المعتاد، و منهم من تخلوا للأعیان عن أراض عانوا مع آبائهم زراعتها زمنا طویلا، تخلصا من تسجیل نفوسهم
خطط الشام، ج‌4، ص: 136
لما حررت النفوس، و من أهل القری من خرجوا عن ملک أراضیهم لأنه وجد فیها قتیل، و کانت العادة و لا تزال إلی الیوم أن یلزم أهل الأرض بدیة من یقتل فیها أو تفرض غرامة ثقیلة علیهم، فمنهم من ترکوا أرضهم مخافة أن یلزموا بمال لا قبل لهم بأدائه. و من القری ما خرج عن ملک أهله کما وقع لأهل مرج ابن عامر فی القرن الماضی لما عجزوا عن دفع الأموال الأمیریة فباعته الحکومة الترکیة بالثمن البخس صفقة واحدة لرجل واحد مقابل رشوة قبضها الوالی.
و من المرابین من اقتنوا قری کثیرة فی الدیار الشامیة لأنهم کانوا لا یشفقون علی الفلاح باشتطاطهم علیه بأخذ الربا الفاحش. و ما زلنا فی کل دور نری الفلاح فی أکثر الأقالیم یقترض المئة بمئة و خمسین من الخریف إلی البیدر و أحیانا ترتفع الفائدة إلی أکثر من هذا القدر، فإذا أضیف إلی ذلک ظلم الأعشار و تعدد الضرائب علی الفلاح حتی کاد یهلک بسببها، لا نستعظم إذا رأینا خرابا، بل نقول: لماذا نری هذه الرشاشة من العمران قرب المدن و الثغور، و علی شواطی‌ء الأنهار و البحیرات.
و لقد کانت الأوقاف من جملة ما أخر الزراعة، ذلک لأن الأراضی الموقوفة تجمد علی حالة واحدة فی أشجارها و غلاتها و مجاریها و سکورها و زرائبها، و کل جسم لا ینمو یصیبه الفناء. و علی کثرة ما وقف المسلمون علی أعمال البر و غیرها لا یمضی القرن و القرنان حتی یعود الوقف ملکا صرفا، و لو لا ذلک لکثر الخراب أکثر مما هو الآن فی القری و الحدائق. و لو دام حکم إبراهیم باشا المصری إلی الیوم لأصبحت أرضنا عامرة کمصر لأنه نشط الزراعة و أمر بنشر دود الحریر و دود القز و علم الأهالی کیفیة قطف الزیتون بالأیدی حتی صار شجره یعطی ثمرا فی کل سنة فاستعادت بعمله أکثر القری عمرانها القدیم.
کتب قنصل بریطانیا فی دمشق سنة 1859 م بمناسبة زیادة الضرائب علی الأهلین و توکیل الجنود بجبایتها بالعنف: إن الحکومة تأخذ مال الشعب ظلما و عنفا، و لا تحمیهم من البدو الذین یزدادون جرأة و اعتداء، و عملها قائم
خطط الشام، ج‌4، ص: 137
بابتزاز أموال الفلاحین التعساء لما فیه مصلحتها، علی حین لا تأتی بدلیل علی إدراکها وجوب حمایة الذین یجب علیهم أن یدفعوا الأموال اللازمة لتحسین حال الولایة، و سد حاجات الحکومة المرکزیة، و إنما تهمل الاحتیاط للأمر.
و قال أیضا: «إن جو الشام صاف و هواءها جید و أرضها خصبة حسنة الری، ففی مکنتها أن تصبر علی هذه الحالة أکثر من غیرها من الولایات الأقل خصبا، و لکن لا بد فی آخر الأمر من أن تفرغ هذه الموارد».

آفة الهجرة علی الزراعة:

و مما أصیبت به الزراعة من الآفات آفة دونها الآفات کلها، بدأت تدب فی جسمها أواخر القرن الماضی برکوب الفلاحین غوارب الاغتراب عن الوطن فی التماس الرزق و طرق الغنی. و ذلک منذ دهش الناس لأرباح المهاجرة الأول من الشامیین إلی أمیرکا. أرباح لم یکن لابن هذه الأرض عهد بها و کان ثلاثة و عشرون قیراطا من أربعة و عشرین قیراطا منهم یعیش، و لا سیما فی الأرض القاحلة، عیش القلة الشدیدة. فلم یلبث الناس فی الجبال أن حذوا حذو أولئک المهاجرین، فأخذ الناس ینزحون إلی أمیرکا الجنوبیة و الشمالیة و إلی اوسترالیا و جنوبی إفریقیة و غیرها من البلاد المفتتحة حدیثا، حیث یسهل جنی المال، و تزید أجرة العامل علی نفقته کثیرا.
و هاجر ألوف أیضا إلی مصر و السودان عقبی الاحتلال الإنکلیزی سنة (1882 م) فحرمت الشام فی أربعین سنة نحو سبعمائة ألف ید عاملة، کان ثلثهم یستوطن فی الأصقاع التی نزلها، تمسک بتلابیبه لکثرة علائقه و طیب العیش فیها، و الثلث الثانی یهلک، و الثلث الثالث یرجع. و لم تلبث الهجرة أن عمت جمیع السکان، اقتصرت علی أبناء الجبال أولا، ثم تناولت ابن السهول، و انتقل الغرام بها من ابن القریة إلی ابن المدینة. و من جملة ما زاد فی عدد المهاجرین سهولة السفر و تألیف شرکات للتسفیر تسلف المهاجر أجرة طریقه و نفقاته الأولی ریثما یجد عملا حیث ینزل.
و هذه الهجرة من أعظم ما أخر حال الزراعة فی هذا القطر، فأصیبت بضربة مهمة أهمها ارتفاع أجور العملة فیها لأن من عاد منهم یحمل مالا و لو
خطط الشام، ج‌4، ص: 138
قلیلا استنکف عن العمل فی الزراعة کما کان هو و أبوه، و منهم من بنوا القصور الغناء و الدور القوراء فی مزارعهم، و أخذوا ینعمون بطیب العیش، و یبحثون أوقات فراغهم فی أمور ما کانت لهم و لا کانوا لها، و یلهون و یلعبون علی الطرق التی اقتبسوها فی مهاجرهم. و قد کانت جبال لبنان و عامل و العلویین و قلمون و الخلیل و السامرة من أشد الأصقاع التی تأذت بالهجرة فتأخرت زراعتها فوق تأخرها. و لقلة الید العاملة رأینا بعضهم فی البقاع یقرن امرأته إلی ثوره تعمل مع فدانه، و رأینا الحوارنة یستکثرون من الأزواج یتخذونهن أجیرات فی أعمال الحقل و علف الدواب و استخراج الدرّ و عمل السمن و اللبن. و لئن دخلت القطر أموال طائلة بسبب الهجرة فثروة أمة لا تعد بکثرة نقدها بل بکثرة ما یعمل أبناؤها فی أسالیب الرزق المختلفة، و قلّ أن أنفق مال یذکر علی تحسین الزراعة و إقامة الشرکات النافعة، و نحن لم نبرح ننشد مع حافظ إبراهیم:
أیشتکی الفقر غادینا و رائحناو نحن نمشی علی أرض من الذهب

خصب الأراضی و معالجتها و ما یزرع فیها:

یضرب المثل بزکاء منابت الشام و اعتدال أهویتها، وجودة مناخها، و کثرة میاهها، علی کثرة حزونها و جبالها، و إن أرضا تعطی حبتها فی بعض الجهات مئة حبة، کأرض الرحبة بالقرب من جبال الصفا، لتعد من أخصب بقاع الأرض، و ذلک لأن أرضها مستریحة منذ العصور المتطاولة. فإذا کان بنو إسرائیل قد جعلوا عادة لهم أن یریحوا أرضهم مرة کل سبع سنین، فإننا قد أرحناها منذ قرون، و لذلک لا تضن علینا بخیرات سطحها کلما حرثناها و زرعناها.
و ما زالت زراعتنا کما عرفها الأجداد بل کما عرفها الإنسان منذ آلاف من السنین، لیس فیها شی‌ء من العلم إلا التجارب، و لا من التغییر إلا ما تضطر إلیه الأحوال و تهدی إلیه الفطرة، و لذلک یعوزها کثیر مما یجود فی غیرها من النباتات و الأشجار. قال الرحالة فولنی فی کلامه علی مناخ الشام: إن الأرز یجود زرعه علی شواطی‌ء بحیرة الحولة، و النیلة تنبت بلا عمل علی ضفاف نهر الأردن فی بیسان و هی لا تحتاج إلا إلی قلیل من العنایة حتی تستوفی الشروط المطلوبة. و بعد أن أفاض القول علی مدن الشام قال: إن دمشق تفاخر و حق
خطط الشام، ج‌4، ص: 139
لها الفخر بأن فیها کل الثمار التی تحصل فی ولایات فرنسا. ثم ذکر أن البن الذی یزرع فی تهامة الیمن تلائم زراعته أرض الشام، و مناخها یلائم طبائع الثمار کلها فینبت النخل کما ینبت الصنوبر و السرو.
و قال «هوار»: لئن کان القطن زرع فی أوربا فإن ضواحی هاتین المدینتین (دمشق و حلب) کانت خاصة بزراعة شجیرة القطن، و هذه الحقول البدیعة توجب حیرة السیاح، و القطن الصغیر الطول ینبت فی ضواحی دمشق، و کانت عکا و اللاذقیة و قبرس تعطی صنفا ثالثا من القطن، و کانت أرجاء نابلس إلی عهد قریب تصدر من القطن ما قیمته مئات الألوف من الدنانیر.
و قال «پوست»: تقسم فلسطین باعتبار الفلاحة إلی أربعة أقسام: السواحل کساحل غزة و یافا و شارون و هی صالحة لنمو مزروعات المنطقة تحت الحارة، و وادی الأردن (العربة) و هی تناسب مزروعات المنطقة الحارة و الجبال و فیها أودیة کثیرة مخصبة کمرج ابن عامر «یزرعیل»، و الأودیة المجاورة کالناصرة و نابلس و الخلیل «حبرون» و هی تناسب مزروعات المنطقة المعتدلة، و السهول الداخلیة و هی تناسب فی الأکثر الحنطة و الشعیر و السمسم. قال: و لا شک بأن هذه البلاد کانت ذات أشجار بریة و بستانیة أکثر مما هی الآن. و کان التراب علی جوانب الجبال أکثر مما هو الیوم، و کذلک العیون فإنها کانت أکثر عددا و ماء فضلا عن أن میاه الشتاء کانت تجمع فی مساقی و صهاریج. و قال «ورن»:
إن فلسطین «شرقی الأردن و غربیه» کافیة لسکنی خمسة عشر ملیونا من الجنس البشری إذا اعتنی بها الاعتناء الواجب. قلنا: إذا کانت الشام علی هذه الصفة من الخصب و السعة فکیف لا تسع العشرین ملیونا من الناس و کل إقلیم من أقالیمها کالبلقاء أو الجولان مثلا یعد الصالح من تربته أکثر من مملکة من الممالک الصغری فی أوربا، و لکن السر بالسکان لا بالمکان.

تقسیم السهول و الجبال:

قسم صاحب کتاب الزراعة العملیة الحدیثة أقالیم الشام الزراعیة إلی خمسة أقالیم یترکب کل منها من عدة مناطق تکاد تکون واحدة فی درجة الارتفاع عن سطح البحر و هی:
خطط الشام، ج‌4، ص: 140
(1) أقلیم الغور أی شواطی‌ء الأردن و هو یمتد من بحیرة الحولة شمالا إلی بحیرة لوط جنوبا، أی أراضی جنوب بحیرة الحولة و أراضی البطیحة و الغویر و سمخ و القسم الشرقی من بحیرة طبریة و أرض جسر المجامع و بیسان و جنوب بیسان و غور الصلت و منطقة أریحا و شواطی‌ء بحیرة لوط. و من جملة نباتات هذا الأقلیم البردی و الأسل و القصب الفارسی و الأکاسیا الشوکی و السوسن و زنبق الماء علی شواطی‌ء بحیرة الحولة و السدر الکثیر فی الأراضی المجاورة لبحیرة طبریة کأرض الغویر و المجدل و البطیحة و غیرها و الغار و الطرفاء و القصب و أنواع النخیل و سفط السیال و الرتم و البان و الصلة و الغرقد و العوسج و العشر و غیرها علی شواطی‌ء الأردن فی منطقة بیسان و شرق الشریعة و الصلت و أریحا.
(2) إقلیم السواحل التی تمتد من شبه جزیرة العقبة إلی خلیج الإسکندرونه و یشتمل علی السهول الساحلیة من غزة و یافا و حیفا و عکا و صور و بیروت و طرابلس و اللاذقیة و الإسکندرونة و یدخل فیه مرج ابن عامر و أراضی جنین و شمال بحیرة الحولة و یجود فیه اللیمون و البرتقال و الموز و الرمان. و من جملة نباتات هذا الإقلیم الطبیعیة البلان و الصنوبر البحری و القندول و الوزال و الطرفاء و أنواع البرسیم و الشقائق و الدّفلی و الأقحوان و القصب الفارسی و أنواع مختلفة من البلوط
(3) أقلیم السهول و تدخل فیه سهول الکرک و البلقاء و حوران و سفوح حرمون و البقاع و الجولان و الغوطة و المرج و السهول المرتفعة فی فلسطین و حمص و حماة و حلب و ما شاکلها من السهول المتقاربة فی إقلیمها، و تجود فی هذا الأقلیم الأشجار المثمرة و الخضر و التوت و اللوز فی الأرض البعلیة و الحور و الصفصاف و الدلب فی شواطی‌ء الأنهار.
(4) إقلیم الجبال و یدخل فیه جبال الکرک و الصلت و عجلون و قلمون و جبل الشیخ و لبنان و لبنان الشرقی و النصیریة و الأقرع، و یجود فیه الزیتون و الکرم و التین و اللوز و الصنوبر و السرو و الفستق البری و المیس و الحبوب و کثیر من الأشجار المثمرة، و فیه من النباتات الطبیعیة البطم و القیقب و الجنستا و الخرنوب و الزعرور و العلیق و الشذاب و الدر دار و الزیتون و السندیان و الدلب و الصنوبر و الدیشار و الآس و السرخس، و فی أقسام الجبال المرتفعة بعض أنواع البلوط ثم الأرز و الدفران.
خطط الشام، ج‌4، ص: 141
(5) إقلیم الصحراء و تتناول ما نسمیه بادیة الشام أی الأصقاع الواقعة شرق المعمور من دمشق تنبت فیه بعض النباتات و الأعشاب منها ما یزول فی الربیع و منها ما یبقی فی الصیف. و لیس فی هذا الإقلیم سکان إلا البدو الضاربون فی أرجائه.

من الذین أدخلوا الطرق الجدیدة:

أدخل ثلاثة أصناف من الناس فی الشام روحا جدیدا فی زراعتها، و منهم مهاجر و قافقاسیا و غیرهم ممن سکنوا قری کثیرة فی عمل حلب و دمشق و عمّان، فإن هؤلاء أدخلوا أصول الزراعة علی طریقتهم و هی أرقی من طریقة من نزلوا علیهم فی حمص و البلقاء و الجولان مثلا. ثم إن الألمان الذین أقاموا لهم مستعمرات فی حیفا و یافا منذ (1868 م) قد کانوا مثال الفلاح النشیط، و کان علی فلاحنا المجاور لهم أن یتعلم منهم و یعتبر بما یأخذه الفلاح الجرمانی من وافر الغلات، و یتعلم منه تنظیم داره و إصطبله و حدیقته و مزرعته و تعلیم أولاده و غیر ذلک مما یعود علیه بالنفع و الراحة. و أهم من أدخلوا التجدد فی الزراعة فی ربوع الشام الصهیونیون من مهاجرة ألمانیا و رومانیا و روسیا و بولونیا و غیرهم، فإنهم و الحق یقال قد أنشأوا بأموال روتشلد و برکم و فیرو و فیتیفیوری و غیرهم من أغنیاء الإسرائیلیین الذین ابتاعوا الأراضی فی فلسطین لأبناء نحلتهم، و أمدوهم بالمال لیتوفروا علی استثمارها، مزارع حریة بأن تکون نموذجات الحقول، و قد قامت الجمعیات الصهیونیة مثل الجمعیات الصهیونیة الیهودیة و جمعیات ایکا و فاعولیم و الألیانس و غیرها بأعمال مهمة لنشل أبناء دینهم من سقطتهم، و أنشأوا لهم قری کسارونا و زمارین و الخضیرة و ملبس و الجاعونة و الشجرة و غیرها هی کالقری الأوربیة بإتقان أعمالها الزراعیة. و ممن ساعد علی إنجاح الزراعة بعض مهاجری اللبنانین الشرقی و الغربی فإن منهم من وضع مما اقتصد من المال أمواله فی الزراعة و أدخل طریقة الأمیرکان فی أرضه.

درس الزراعة:

و کان من أثر مدرسة الزراعة العملیة فی نیتر قرب یافا التی أسست منذ نحو خمسین سنة، و کان یتخرج فیها فی السنة علی الأقل عشرون تلمیذا یستطیع
خطط الشام، ج‌4، ص: 142
تطبیق علمه الزراعی علی العمل- أن نشرت أصول الزراعة الحدیثة بین أبناء إسرائیل، و غدا فیهم الکفاة للقیام علی الحرث و التسمید و البذر و الغرس و التعهد و التقلیم و التطعیم، و أصبحت مستعمراتهم تخرج أصنافا جیدة من الخمور و اللوز و غیرها لا تخرجها القری المجاورة لها.
و من مدارس الزراعة التی نفعت بعض أبناء سوریة و فلسطین مدرسة اللاطرون بین یافا و القدس أنشأها الآباء البیض. و مدرسة تعنایل بین بیروت و دمشق أنشأها الآباء الیسوعیون. و قد أنشأت الحکومة السابقة مدرسة زراعیة فی سلمیة لکنها ضعیفة فی تلقین العملیات و النظریات، و قد ألغتها مؤخرا بحجة أن تلامیذها لم یعملوا فی الصناعة التی اختصوا بها، و آثروا التوظیف فی أعمال الحکومة، و ذلک علی شرط أن تؤسس مدارس عملیة أخری و مشاتل فی کل قصبة فلم یتم شی‌ء من ذلک.
و من الغریب أن الزراعة و هی تکاد تکون فی هذا القطر المحبوب مورد عیشه الأول، لم یدرسها إلی الیوم سوی أفراد قلائل، و لا أذکر سوی بضعة شبان ممن یملک آباؤهم مزارع واسعة تعلموا فن الزراعة علی الأصول فی مدارس فرنسا و إنکلترا و تونس و مصر و الإستانة، و جاءوا فعنوا بتطبیق ما تعلموه، و کان الواجب أن یکون لکل بضع قری مهندس زراعی، یعلمها من علمه و یمدها بتجاربه و یدیر شؤونها کما یدیر أهل البصر فی الغرب مزارعهم.

نقص کبیر:

إلی الیوم لم تدخل علی ما یجب أرضنا الأدوات الزراعیة الحدیثة التی تقلل عمل الأیدی و تزید النماء کآلة الحرث و البذر و الدرس و التذریة دع غیرها، و ما أبقاه لنا بعض علماء العرب من الکتب الزراعیة التی طبع بعضها بلغتنا فی أوربا دلیل کبیر علی ترقی هذا الفن أیام لم یکن فی الأرض من یحسنه. سبق العرب الغرب فی کل شی‌ء، و سبقهم هو الیوم و یا للاسف فی کل شی‌ء، و الدهر دول یوم لک و یوم علیک.
سبق الأجداد فی کل شی‌ء، و تأخر الأحفاد فی کل شی‌ء، و الفلاحة التی هی أشرف الأعمال و ضیعة فی نظر کثیرین حتی إن بعضهم قال و قد رأی
خطط الشام، ج‌4، ص: 143
السکة فی دار: ما دخلت هذه السکة دار قوم إلا ذلوا، و لو قال: ما خلت هذه السکة من دار قوم إلا ذلوا لکان أقرب إلی الصواب. شعار الغرب الیوم «الأرض هی الوطن و من توفر علی تحسینها یخدم وطنه» و إذا کانت الفلاحة عندنا ینظر إلیها نظر احتقار فمن باب أولی أن ینظر إلی الفلاح کذلک و هو خادم الوطن الحقیقی. و إذا کان الفلاح کالسلطان فی مزرعته عند الأمم الممدنة، فهو هنا عبد رقّ لصاحب الأرض و للحکومة و للمرابی.
و بینا نری أرباب المزارع فی الممالک الراقیة، و مصر منها، یعنون براحة فلاحیهم و تعلیم أبنائهم و بناتهم، و توفیر قسطهم من الصحة و الهناء، و یجعل لهم حتی فی قراهم مدارس و معابد و دور تمثیل و صور متحرکة للتسلیة، نجد أکثر المزارعین هنا یجدّون فی أن یبقوا فلاحیهم جهلاء أغبیاء حتی یخضعوا لهم بزعمهم أبد الدهر خضوعا أعمی، و قلّ أن سمعت بأن مزارعا أنشأ لفلاحیه عندنا مدرسة بسیطة أو مسجدا و أتاهم بخطیب یعلمهم أو بطبیب یطبهم، و لذلک تجد القری التی یملکها أفراد صفرا من هذه الوجهة، لأن صاحب القریة لا یهتم إلا لتکثیر الدخل السنوی و إرهاق فلاحه، و ابن البادیة و القائمون علی الزرع و الضرع أقل الأمة و یا للأسف حظا من التفکر بسعادتهم، کأنهم لیسوا مادة الثروة، إذا اختل نظامهم تطرق الخلل إلی سائر مذاهب المعاش، و مقومات الحضارة و مظاهر الرخاء و الهناء.
و لا یزال یدور علی الألسن فی وصف الفلاحین أنهم «غبر الوجوه إذا لم یظلموا ظلموا» و لکن تثقیف أودهم بالتربیة قلما یخطر ببال، و قطع الجرثومة من أساسها لا نراه دواء عاجلا!

التحسین الأخیر:

علی أن من الواجب أن یقال أیضا: إنه استفادت کثیر من قری الغوطة و المرجین و وادی العجم و البقاع و بعلبک و الحولة و جبال عامل و عکار و الحصن و نابلس و عکا و الخلیل و غزة و سهول حمص و حماة و حلب و أنطاکیة و إسکندرونة و السوبدیة عمرانا منذ ثمانین سنة بفضل بعض طبقة الأعیان، لأنهم استطاعوا أن یحموها من عیث البادیة و عبث الظلمة من العمال، و أن یمدوها بالمال وقت
خطط الشام، ج‌4، ص: 144
العسرة. فغرّموا علی تحسینها أموالا، و صرفوا قواهم إلی الانتفاع بها ما أمکن. و کان العربان یداهمون حتی القری القریبة من الحواضر، و یطلبون منها «الخوة أو الخاوة» و هی مبلغ من المال یتقاضونه من الفلاحین البائسین یؤدونه لصعالیک البدو صاغرین، و إذا استنکفوا عن أداء ما یطلب منهم، محتجین بضیق ذات الید أو رداءة الموسم، نهبوا دورهم و حرقوا عروضهم و غلاتهم و اعتدوا علی أرواحهم. و قد کانت معظم الأریاف مأوی الأشقیاء و عصابات قطاع الطرق، فما کان الفلاح یجسر أن ینتقل من قریة إلی أخری، أو یحمل محاصیله إلی المدن، و لا أن یعمل فی حقله البعید قلیلا عن القریة أو المزرعة.
فلما طبق قانون الولایات سنة (1281 ه) ثم أنشئت المحاکم النظامیة کان من أثرها القضاء علی عصابات من أرباب الدعارة، و قلّت الشقاوة، فانصرف الفلاحون کلهم إلی العمل، لأن الأسعار بدت بالارتفاع، فبعد أن کان الحورانی ینقل غلاته علی الجمال إلی بیروت أو عکا فلا یتحصل منها غیر أجرة النقل، أصبح الفلاح یحمل غلاته إلی الموانی البحریة و لا سیما غزة و یافا و حیفا و بیروت و طرابلس و اللاذقیة و الإسکندرونة فتأتیه بأرباح طائلة، لأن الحبوب کالثمار، أصبحت تسافر فی البحار، و یدفع فی ثمنها النضار.
و انتبه الفلاح لحاله بکثرة اختلاطه بابن المدن فعرف بؤسه، فلم یکن علی ما کان منذ سبعین سنة مملوکا لجهله الطبیعی. و لظالمیه من المرابین و غیرهم من أدوات التخریب. و کان من تأسیس المصارف الزراعیة، و إن کانت قلیلة رؤوس الأموال، و یجب أن یکون فیها التسهیل کثیرا، أن أنزلت معدل الربا إلی سبعة فی المئة، فخففت من غلواء المرابین و الصیارفة. و لو زید فی ترقیة المصارف الزراعیة و أنشئت مصارف عقاریة تقرض أرباب العقارات أیضا بفائدة معتدلة لزادت المنافع المطلوبة للزراعة.
و صادف أن قلت آفات الزراعة فی العهد الأخیر، فأصبحت الأوبئة فی البشر و البقر لا تفعل فعلها الشدید کما کانت فی الأدوار السالفة، و ردمت بعض المستنقعات الصغیرة التی کانت بجوار بعض القری، و عنی دیوان الصحة بفتح مستوصفات فی القصبات و مستشفیات فی المدن، فتحسنت الصحة بعض الشی‌ء، و أصبح الفلاح یدرک فائدة التطبب، و إن أعوزه الطبیب أحیانا، و فتحت وزارة
خطط الشام، ج‌4، ص: 145
المعارف مدارس ابتدائیة فی بعض القری الکبیرة فدخلت المدنیة قلیلا و زادت النفوس زیادة محسوسة، و ربما زادت عما کانت علیه منذ سبعین سنة سبعة أضعاف. و هذه الزیادة أفادت الزراعة أیضا. و لم تصب بعض الأصقاع الزراعیة بالضعف إلا مدة الحرب الأخیرة، و قد کلب عمال الترک فاستلبوا من الفلاح ابنه و بقره و غنمه و خیله و حمیره و بذاره و حطبه و قطنه و صوفه و قشره، و لو طالت الحرب سنة أخری لحصد الوباء البقری الأبقار من أکثر أنحاء الشام، لأن ما بقی سالما منها کانت الحکومة تأخذه للنقل أو للذبح، فتعطل بعضهم عن الحرث، و لکن من نجوا من هذه الغوائل و لو قلیلا استفادوا من ارتفاع الأسعار أرباحا طائلة، فوفوا دیونهم و خرجوا و قد أغنتهم الحرب و لم تفقرهم.
و ما زلت أعتقد أن أصحاب الحوانیت مقصرون جدا فی تعلیم الفلاح، و تحسین حالته المعاشیة و المنزلیة و الصحیة، حتی کاد یصبح بطول الزمن شقیق البهائم لا یفرق عنها إلا أنه ناطق، و هذا النقص یحمل علیهم و علی الحکومة.
فقد تجتاز إلی الیوم القریة و القریتین فی الأرجاء البعیدة و لا تجد رجلین أو ثلاثة من أهلها یقرأون و یکتبون علی ما یجب، فکیف لهم أن یعرفوا ما لهم و ما علیهم من الحقوق و الواجبات. و لا یستقیم للزراعة حال فیما أری إلا إذا علّمت کل أسرة یأتیها رزقها من الزراعة أحد أبنائها هذا الفن الجلیل، و لا تمضی بضع سنین حتی تدخل الشام فی طور الأقطار الزراعیة الراقیة، و عندها تتضاعف الثروة مرتین أو ثلاثا، و ینقطع دابر الهجرة و یعمر الغامر کما یزید عمران العامر.
و یعتقد الناس أن العز و الغنی معقود بالأرض، و أن الشرف یستمده المرء من عمله الحر الحلال.

عنایة الأقدمین بالزراعة:

إن ما انتهی إلینا من الکلام القلیل علی الزراعة الشامیة لا یشفی غلة الباحثین الیوم، لأنه مجمل یحتاج إلی تفصیل کثیر. و إذا عرضنا له هنا فللاستئناس به فی تاریخ الزراعة فی الجملة، فقد علمنا أن الإسرائیلیین کانوا یریحون الأرض سبع سنین ثم یزرعونها فتأتی غلاتهم مخصبة نامیة. و علمنا أن النبطیین و هم (4- 10)
خطط الشام، ج‌4، ص: 146
العرب الرحل فی أرجاء البتراء فی الجنوب کان من المحظور علیهم أن یزرعوا الحنطة و یغرسوا الأشجار المثمرة و یبنوا البیوت إذ کانوا یعتبرون أن الاحتفاظ بهذه الخیرات یحتاج إلی أن یفادی المرء بحریته. و عرفنا أن الفینیقیین کانوا لا یعنون بالزراعة عنایتهم بالتجارة، فکانوا یجلبون من الداخل و من السواحل القریبة منهم ما یلزمهم فی غذائهم. حتی إذا جاء العرب و أبدوا ما أبدوا من حب التحضر کان قانونهم من أحیا أرضا مواتا فهی له و اطرد ذلک منذ الفتح.
و اغتبط العرب بما وجدوه من الخصب فی هذه الربوع بعد قحولة الحجاز و بوادیه المحرقة فقال زیاد بن حنظلة فی فتح عمر مدینة إیلیا من قصیدة:
و ألقت إلیه الشام أفلاذ بطنهاو عیشا خصیبا ما تعد مآکله
حتی إذا تربعت أمیة فی دست الخلافة و أخذ آلهم و رجالهم یقتنون المزارع، و یبالغون فی اتخاذ الغروس و الزروع المثمرة المغلة، جعلوا القری مستغلات لهم و نزلوها و عنوا بعمرانها، و تنافسوا فی ذلک. فقد ذکر المنبجی أن هشام بن عبد الملک اتخذ المستغلات الکبیرة فی أکثر المدن التی فی سلطانه، و الخانات و الحوانیت و الحجر و الضیاع و المزارع، و هو أول من اتخذ الضیاع لنفسه من العرب، و اشتق أنهارا کثیرة غزیرة، و هو الذی استخرج النهر الذی فوق الرقة، و غرس غرسا کثیرا بالجزیرة و الشامات، فبلغت غلته أکثر من خراج مملکته.
و لطالما عنی الخلفاء بأن لا تبقی أرض شاغرة لا تستغل، فقد أنزل معاویة قوما من الفرس فی طرابلس، و کان الرشید لما انتشر ذاک الطاعون الجارف فی فلسطین علی عهده و کان ربما أتی علی جمیع أهل البیت فتخرب أرضوهم و تعطل، قد و کل بهذه الأرضین من عمرها فکان یتألف الأکرة و المزارعین إلیها فصارت ضیاعا للخلافة.
و ما زالت العنایة بتعهد الأرض متوفرة حتی اغتی العرب الذین استغلوا هذه الدیار بذکائهم و بعد نظرهم. و العرب کما- قال أحد علماء الإفرنج- عمال زراعة و رجال براعة، برعوا فی سقی الجنائن و اخترعوا النواعیر العجیبة بل و وطنوا النباتات و الأشجار الإفریقیة و الآسیاویة فی أوربا کالنخل و البرتقال و التوت و القطن و قصب السکر و الذرة و الأرز و الحنطة السوداء و الزعفران و الهندباء
خطط الشام، ج‌4، ص: 147
و الخرشوف و السبانخ و الباذنجان و الطرخون و البصل و الیاسمین الخ و ینسب إلیهم اختراع طواحین الهواء و نواعیر الماء. و قال میشو: ما من دار فی أوربا إلا و تعرف الیوم البصل‌Echalote الذی جاء اسمه و أصله من عسقلان. و معلوم أن الأندلس ابنة الشام فتحها الشامیون و نقلوا إلیها مدنیتهم. و هذه الصنوف من الزراعة التی انتشرت فی الأندلس ثم فی سائر أوربا تکاد تکون خاصة بأرض الشام فی تلک القرون.
لا جرم أن الحضارة التی أوجدها العرب کان من أول دعائمها الزراعة فاحتاجت الدولة و الأمة إلی الاستکثار من الغروس و استجادة الزروع من وراء الغایة. قیل لإسحاق بن یحیی الختلی من ولاة دمشق (235) لم سکنت دمشق و فلحت أرضها، و أکثرت فیها من الغروس من أصناف الفاکهة، و أجریت المیاه إلی الضیاع و غیرها؟ فقال: لا یطیق نزولها إلا الملوک قیل له: و کیف ذلک؟
قال: ما ظنکم ببلدة یأکل فیها الأطفال ما یأکله فی غیرها الکبار!. و لطالما دهش العرب بغوطة دمشق لأنها کانت أول ما یقع علیه نظرهم من عمران الشام فیعجبون للأشجار و الزروع المنوعة التی لا یعرف أکثرها فی شبه جزیرة العرب و یدهشون للخصب و المیاه الدافقة من کل جهة.

أصناف الزروع و الأشجار:

ذکر المهلبی أنه تجلب من کور حلب و ضیاعها ما یجمع جمیع الغلات النفیسة فإن بلدة معرة مصرین و جبل السماق بلد التین و الزیتون و الزبیب و الفستق و السماق و الحبة الخضراء. و قال ابن شداد: و فی بعض ضیاع حلب ما یجمع عشرین صنفا من الغلات. و قال یاقوت: و یزرع فی أراضیها القطن و السمسم و البطیخ و الخیار و الدخن و الکروم و الذرة و المشمش و التین و التفاح عذیا لا یسقی إلا بماء المطر، و یجی‌ء مع ذلک رخصا غضا رویا، یفوق ما یسقی بالمیاه و السیح و قال: إن أکثر مستغل ضیاع الغور السکر و منها یحمل إلی الآفاق، و فی عسقلان نخل کثیر و صنوف من التمور و الرمان یحمل إلی کل بلد بحسبه، و إنها معدن الجمیز کثیرة المحارس و الفواکه. و اشتهرت نواز فی جبل السماق بتفاحها الکبیر الملیح. و تل أعرن فی حلب بعنبها الأحمر المدور. و قال ابن جبیر: فی بلاد المعرة و هی سواد کلها بشجر الزیتون و التین و الفستق و أنواع الفواکه و یتصل
خطط الشام، ج‌4، ص: 148
التفاف بساتینها و انتظام قراها مسیرة یومین. و قال ابن حوقل: و ما حول معرة نسرین من القری أعذاء لیس بجمیع نواحیها ماء جار و لا عین، و کذلک أکثر ما بجمیع جند قنسرین أعذاء و میاههم من السماء. و قالوا: اشتهرت الفرزل فی البقاع بزبیبها الجوزانی، و کان یعمل به الملبن المسمی بجلد الفرس و هو من خصائصها، و أن بعلبک معدن الأعناب و الحولة معدن الأقطان و الأزهار، و اشتهرت بیسان بالنخیل الکثیر کما اشتهرت بیروت و آبل بقصب السکر، یطبخ بها السکر الفائق، و عراق الأمیر بسفرجلها، و الناعمة بخرنوبها الفائق.
و قال المقدسی: إن عسقلان معدن الجمیز و أریحا معدن النیل و النخیل کثیرة الموز و الأرطاب و الریحان. و معان معدن الحبوب و الأنعام، و یبنی معدن التین الفائق الدمشقی. و أن أشجار جبال فلسطین زیتون و تین و جمیز و سائر الفواکه أقل من ذلک. و قال: خیر العسل ما رعی السعتر بإیلیا و جبل عاملة و أجود المری ما عمل بأریحا، و أن عنب القدس خطیر و لیس لمعنقتها نظیر.
و ذکر ابن حوقل أن أهل زغر یلقحون کرومهم و کروم فلسطین کما یلقح النخل بالطلع الذکر و کما یلقح أهل المغرب تینهم بأذکارهم. و قالوا: إن لبنان کثیر الأشجار و الثمار المباحة یتعبد فیه أقوام قد بنوا لأنفسهم بیوتا من القش یأکلون من تلک المباحات، و یرتفقون بما یحملون منها إلی المدن من القصب الفارسی و المرسین و غیر ذلک.
و قال شیخ الربوة: و لجبل لبنان و لا سیما بقضیبه و أذیاله نحو من تسعین عقارا و نباتا نافعا مباحا بلا ثمن و له قیمة جیدة و ثمن یکتفی به الجابی الجامع طول سنته له و لأهله، و من ذلک الکثیراء و الریباس و البرباریس و القاوینا و هو عود الصلیب و القیسه و البقس و القبقب الذی یعملون منه المرامل و الملاعق و الآلات المموهة بالذهب و الفضة و یحمل إلی سائر البلاد و الأقالیم، و لیس عملا ألطف منه و لا أحسن، و من النباتات أیضا شجر المحمودة و الاشتوان و الزراوند و الحماما التی لا توجد إلا فی إقلیم دمشق و هو معلق فی شقیف عال ما یقدرون علی جنیه إلا أن یدلوا جانبه بحبال من رأس جبل عال، کما یدلی الدلو فی البئر، و هی لأجل التریاق الفاروق و الراوندان و اللوز المر و الحلو و الأبهل و القراصیا و الزیزفون، و أما الفواکه فکثیرة جدا بلبنان ا ه.
خطط الشام، ج‌4، ص: 149
و ذکر الثعالبی أن التفاح اللبنانی موصوف بحسن اللون و طیب الرائحة و لذاذة الطعم یحمل منه فی القرابات إلی الآفاق، و کان یحمل إلی الخلفاء فی بغداد منه من خراج أجناد الشام ثلاثون ألف تفاحة. و قال المقدسی فی الرملة: إنه لیس أطیب من حواری الرملة و لا ألذ من فواکهها، أطعمة نظیفة و أدمات کثیرة و أنها جمعت التین و النخل و أنبتت الزروع علی البعل و حوت الخیرات و الفضل.
و قال: إن ماء فلسطین من الأمطار و الطل و أشجارها أعذاء و زروعها کذلک لا تسقی إلا نابلس فإن فیها میاها جاریة. و قال یاقوت: إن یاسوف من قری نابلس توصف بکثرة الرمان.
و قال أبو الفدا: إن جبال فلسطین و سهلها زیتون و تین و خرنوب و سائر الفواکه أقل من ذلک. و ذکر المقدسی أن علی نحو نصف مرحلة من کل جانب من حبرون قری و کروم و أعناب و تفاح یسمی جیل نضرة لا یری مثله و لا أحسن من فواکهه عامتها تحمل إلی مصر و تنشر. و قال ابن حوقل فی زغر:
إن بها بسرا یقال له الانقلاء لم یر بالعراق و لا بمکان أغرب و لا أحسن منظرا منه لونه کالزعفران و لم یغادر منه شیئا و یکون فی أربع منه رطل، و بها النیل الکثیر المقصر عن صباغ نیل کابل، و فیه لهم تجارة کبیرة واسعة و مقصد کبیر.
و قال الظاهری: إن غزة کثیرة الفواکه. و قال ابن بطلان فی أنطاکیة: إن أرضها تزرع الحنطة و الشعیر تحت شجر الزیتون. و قال یاقوت: و بدمشق فواکه جیدة فائقة طیبة تحمل إلی جمیع ما حولها من البلاد من مصر إلی حرّان و ما یقارب ذلک فتعم الکل. و لقد ذکروا فی باب خصب أریحا أن الجفنة التی عمرها 42 سنة تکون استدارتها علی سطح الأرض مترین و ثلاثین سنتیمترا و تحمل فی السنة 1500 کیلو من العنب و أنه یضرب المثل بورودها و أزاهیرها و یخرج منها الزقوم و السدر و هو أشبه بالزیتون الکبیر یستخرجون منه زیتا للجروح.
و کذلک النبق و هو بمقام الصبار و الزیزفون فی بلاد أخری یستعمل حیطانا للحوائط أی للبساتین.
و ذکر الثعالبی أن زیت الشام یضرب به المثل فی الجودة و النظافة و إنما قیل له الزیت الرکابی لأنه کان یحمل علی الإبل من الشام و هی أکثر بلاد اللّه زیتونا
خطط الشام، ج‌4، ص: 150
و فیه ما فیه من البرکة و المنفعة. و قال شیخ الربوة فی نابلس: و قد خصها اللّه تبارک و تعالی بالشجرة المبارکة و هی الزیتون و یحمل زیتها إلی الدیار المصریة و الشامیة و إلی الحجاز و البراری مع العربان و یحمل إلی جامع بنی أمیة منه فی کل سنة ألف قنطار بالدمشقی، و یعمل منه الصابون الرقی یحمل إلی سائر البلاد التی ذکرناها و إلی جزائر البحر الرومی، و بها البطیخ الأصفر الزائد الحلاوة علی جمیع بطیخ الأرض. و الظاهر أن هذه الشجرة المبارکة شجرة الزیتون آخذة بالاضمحلال قیاسا مع حالها فی القدیم، فقد قلّ عدده فی فلسطین بعد الحرب العامة و استعیض عن بعضه بما بذلته الحکومة هنا من الجهد لغرس الزیتون و الکرمة، أما فی أرباض دمشق فهو آخد بالقلة منذ اشتهرت الفواکه و هی هینة العمل سریعة الغلة، و کان فی حمص علی ما تبین من الحفریات التی أجریت زیتون کثیر بدلیل ما وجد من معاصره التی لم یبق لها زیتون تعصر منه و لا تجد الزیتون الیوم فی أرجاء حمص إلا فی بقعة أو بقعتین. و اشتهر فی القدیم زیتون الطفیلة و الشوبک اشتهارهما بمشمشهما و کمثراهما و رمانهما. سألنا أحد شیوخ الصلت عن السبب فی إحجام القوم هناک عن غرس شجر الزیتون مع أنه یجود کل الجودة فقال: لا تذکرنا بغباوتنا فقد حملنا سعید باشا شمدین أحد متصرفی البلقاء علی أن نغرس فی هذه الأودیة التی تراها مئة ألف زیتونة فوقع فی أنفسنا أن فی الأمر دسیسة من الحکومة ترید بها وضع الضرائب الفاحشة علی أملاکنا و تسجیل أراضینا علی صورة لا نعود معها ملاکها الحقیقیین فصدعنا بالأمر بالظاهر، و غرسنا ألوفا من شجر الزیتون، و لکن أتدری کیف تخلصنا منه بعد؟ کان أحدنا یجی‌ء الی الغرسة فیحرکها حتی لا یطلع جذعها و هکذا لم یبق من کل ما غرسه الصلتیون إلا ما تشاهده الیوم فی جوار القصبة و قلیل ما هو. قلنا: و عجیب تبدل تصورات الناس فرجال الحکومة بالأمس کانوا یحملون الناس علی زرع الأشجار. و یزینون لهم اقتناء الأراضی للزراعة، و الیوم یطلب الأهلون فی هذا العمل و فی غیره الأرض الموات لیحیوها و لا یعطون طلبتهم! هکذا رأینا أهل الشراة و الطفیلة و معان، علی حین یقضی قانون الأراضی بأن کل من یحیی أرضا مواتا تبعد عن القری و الدساکر مقدار ما یسمع الصوت فیها من أقصی العامر فهی له. و لقد رأینا کثیرا من
خطط الشام، ج‌4، ص: 151
أهل القری استأصلت أشجار التین و الکرمة و غیرها لأن العشارین کانوا یتقاضون منهم عشرها فاحشا أثمرت أم لم تثمر، فعدمت بعض القری شجرها المثمر بهذا الظلم!.
و ما قیل فی کثرة الزیتون یقال فی کثرة الأعناب و اشتهرت بلدان کثیرة بذلک، و قد أکثر شعراء العرب من ذکر خمر بیت رأس و لبنان و غزة و جدر و صرخد و أذرعات و الأندرین و بنات مشیع و بیسان ولدّ و مآب و الخمر المقدیّة و خمر الأحصّ و قاصرین (فی أرجاء حمص و حلب) و کان یقال لجبل بیت المقدس جبل الخمر لکثرة کرومه. و اشتهرت حلبون فی جبل سنیر بخمرها و کثرة کرومها. و یظهر أن الزعفران کان کثیرا ما یجود فی الشام لأنه کان یدخل فی الأطعمة و الأشربة کثیرا، و مزارع الزعفران التی کان یطلّ علیها من دیر مرّان فی السفح الغربی من قاسیون جبل دمشق مشهورة، و الغالب أنها کانت فی أرض النیرب، و کان الزعفران یجود فی جادیة فی قری البلقاء و الجادی هو الزعفران. و لم تکن عنایتهم بالنخیل أقل من عنایتهم بالزیتون و الکرم مثلا و لا سیما فی جنوب الشام و شرقه.
و لا أثر الیوم لبعض الثمار مثل القراصیا و الکستانة و البندق و البیسیم (المشمولة) و کانت کثیرة مبذولة هی و الکراز حتی القرن الحادی عشر و کان القطن یجود فی ضواحی دمشق و حماة و حلب. ذکر القلقشندی زروع الشام و فواکهه و ریاحینه فقال: إن غالب زروعه علی المطر قال فی مسالک الأبصار: و منها ما هو علی سقی الأنهار و هو قلیل و فیه من الحبوب من کل ما یوجد فی مصر من البرّ. الشعیر. الذرّة. الأرز. الباقلاء. البسلّة.
الجلبان. اللوبیاء. الحلبة. السمسم. القرطم. و لا یوجد فیه الکتان و البرسیم.
و به من أنواع البطیخ و القثاء ما یستطاب و یستحسن. و کذلک غیرها من المزروعات کالقلقاس. الملوخیا. الباذنجان. اللفت. الجزر. الهلیون.
القنّبیط. الرّجلة. البقلة الیمانیة، و غیر ذلک من أنواع الخضروات المأکولة، و قصب السکر فی أغواره إلا أنه لم یبلغ فی الکثرة حد مصر.
و أما فواکهه ففیه من کل ما یوجد فی مصر کالتین. العنب. الرمان.
القراصیا. البرقوق. المشمش. الخوخ- و هو المسمی بالدراقن- و التوت
خطط الشام، ج‌4، ص: 152
و الفرصاد، و یکثر بها التفاح و الکمثری و السفرجل مع کونها أکثر أنواعا و أبهج منظرا، و یزید علیه فواکه أخر لا توجد بمصر، و ربما وجد بعضها فی مصر علی الندور الذی لا یعتدّ به کالجوز. البندق. الإجّاص. العنّاب.
الزعرور، و الزیتون فیه الغایة فی الکثرة، و منه یعتصر الزیت و ینقل إلی أکثر البلدان و غیر ذلک. و بأغوارها أنواع المحمضات کالأترج. اللّیمون.
الکباد. النارنج. و لکنه لا یبلغ فی ذلک حد مصر. و کذلک الموز و لا یوجد البلح و الرّطب فیه أصلا. قال فی مسالک الأبصار: و فیه فواکه تأتی فی الخریف و تبقی فی الربیع کالسفرجل و التفاح و العنب.
و أما ریاحینه ففیه کل ما فی مصر من الآس و الورد و النرجس و البنفسج و الیاسمبن و النسرین، و یزید علی مصر فی ذلک خصوصا الورد حتی إنه یستقطر منه ماء الورد و ینقل منه إلی سائر البلدان. قال فی مسالک الأبصار: و قد نسی به ما کان یذکر من ماء ورد جور و نصیبین.
و بعد فقد دخلت الشام فی العهد الحدیث عدة ضروب من الزروع و الغراس لم تکن له فیه من قبل مثل الشوح. الأوکالبتس. الأکاسیا. المشمش الهندی.
البندورة (الطماطم أو القوطة) و البطاطا فکان منهما فائدة جلی و أصبحت البندورة و البطاطا من أهم أنواع التغذیة، و سرعان ما انتشر الغرام بهما و عمت القاصیة و الدانیة زراعتهما.

الأشجار غیر المثمرة:

کانت الشام مشهورة بسروها و صنوبرها و أرزها، و یقول الشجارون: إنه کان فی غوطة دمشق ألوف من أشجار السرو انقرضت، و أدرک الغزی فی حلب من شجر السرو الهرمی و الصیوانی أشجارا قلیلة ثم فقد عن آخره، و کان یوجد منها بکثرة، و أحسن الجبال فی الشام التی احتفظت بغاباتها بعض الشی‌ء جبل لبنان، فإن الصنوبر و الأرز فیه کثیر. و قد أکثر القدماء و المحدثون من الکلام علی تاریخ الأرز لورود ذکره فی الکتاب المقدس مرات، و لأن من خشبه بنی قصر داود و هیکل سلیمان و الهیکل الثانی الذی جدد فی أیام زربایل و سقف الهیکل المجدد فی عهد هیرودوس و قبة القبر المقدس و سقف الکنیسة
خطط الشام، ج‌4، ص: 153
فی بیت لحم، و قالوا: إن الأشوریین و البابلیین و الفرس و المصریین استعملوه فی قصورهم و بناء هیاکلهم و استعمله الإسکندر المقدونی فی السد الذی أقامه بین الجزیرة و الشاطئ من مدینة صور و کذلک السلاقسة أدخلوه فی بناء دورهم.
و کانت أخشابه تحمل إلی طرابلس و صیدا و صور و بیروت و تعمل منها السفن و فیها عمل معاویة أساطیله لغزو الروم. و ما برح کثیر من المتدینین بالنصرانیة یتبرکون بشجر الأرز و یحملون من غصونه قطعا ینقلونها من مملکة إلی أخری.
و هو عطر الرائحة إذا وضع فی النار و یحسن فی المشم إذا مسسته بیدک، و لونه أصفر فاقع مشرب بخطوط حمراء لا تعبث به الأرضة و لا یفعل فیه السوس.
و الغالب أن الحکومات السالفة فی لبنان کانت تحتکر أربعة أشکال من الشجر تستثمرها لخزینتها و هی السرو و العرعر و الأرز و الصنوبر و تسمح باحتکار غیره و بدأ النقص فی هذه الأشجار منذ خمسة قرون و قد احتاج اللبنانیون إلی الاحتطاب للدف‌ء و العمارة، و کانوا یسمون رزق الرجل أشجاره، و إذا غضب الحاکم علی أحدهم یقطع شجره فیقولون فی أمثالهم الدارجة (اللّه یقطع رزقه) أی شجره کما یقولون (اللّه یخرب زوقه) أی بیته، و ربما أسرع اللبنانیون فی احتطاب شجر الأرز و غیره لئلا تصدعهم الدولة العثمانیة کما أن کثیرا من القری فی القاصیة کانت أیام الأعشار تقطع التین و الکرم و غیره من مثمر الشجر لتخلص من ظلم العشارین الذین یتقاضون العشر من الشجر أثمر أم لم یثمر علی ما تقدم.
و لم یبرح شجر الأرز مشاهدا فی عدة أماکن من لبنان علی کثرة ما انتابه من البوائق فبالقرب من معاصر الفخار علی مقربة من بیت الدین غابة منه فیها نحو 250 شجرة یسمونها الأبهل، و أخری فوق قریة الباروک غیر ملتفة و ضعیفة النمو، لکثرة الأمطار و الثلوج و العواصف فی تلک الأرجاء، و منها ما غرس حدیثا، و ثالثة فوق قریة عین زحلتا، و کان أحرق أکثرها لاستخراج القطران منه، و رابعة بین أفقا و العاقورة فی جرد جبیل من جبل کسروان، و خامسة بین قریة تنورین و بشرّی صغیرة الشجر و عدد شجیراتها نحو عشرة آلاف، و سادسة بالقرب من بشری علی علو 1925 مترا عن سطح البحر و هی مقصد السیاح و فیها أضخم أشجار الأرز و یبلغ عددها 397 و قیل 680 شجرة منها 12 کبری
خطط الشام، ج‌4، ص: 154
و أکبرها شجرتان دائرة جذع کل منهما نحو خمسة عشر مترا و ارتفاع طولهما خمسة و عشرون مترا و قدروا عمرهما بثلاثة آلاف سنة. و فی تسریح الأبصار أنه لا أثر الیوم فی الشام لشجر الأرز إلا فی أعالی سیر بالضنیة فی وادی النجاص ففیه کثیر من شجر الأرز علی ارتفاع 1900 متر عن سطح البحر. و بین سیر و نبع السکر و فی الغابة الواقعة خلف وادی جهنم و یسمی عند أهله تنوب‌Sapin علی أن فی جبال قره مورط إحدی شعاب جبل اللکام من عمل أنطاکیة غابات من الأرز و غیره من فصیلته. و لو توفرت العنایة بأمثال هذه الأشجار و قضت الحکومة علی کل فلاح أن یغرس و یتعهد عشر شجرات منها، إذا لما مضی خمسون سنة حتی تصبح الشام کسویسرا بأشجارها الغضة الملتفة، تحسن المناظر و المناخ و یکون منها عموم النفع، کلما وقع القطع منها فی ثلاثین سنة کما تجری فرنسا فی غابة فونتینبلو و غیرها من غاباتها البدیعة المشهورة. و لا تکون فی جمالها أقل من شجر الأرز الذی یکسو نجاد جبال طوروس (الدروب) و وهادها فتری فیها تلعة مستطیلة إلی جانبها تلعة هرمیة و أخری ذات شکل بیضوی و غیرها المحدودب و المربع أو قائم الزوایا و منفرجها و کلها مزینة بالأشجار.
یقول کاتب چلبی من أهل القرن الحادی عشر: إن غابات الشام کثیرة أشهرها غابة عسقلان و هو حرج کبیر یمتد إلی نواحی الرملة. و من الغابات غابة أرسوف بالقرب من نهر العوجا تمتد إلی عکا و کان یقال له غاب قلنسوة و هذا الحرج یمتد من قاقون إلی عیون التجار، و من الحراج حرج القنیطرة، و فی أطراف حلب عدة غابات و خصوصا الغاب الکبیر و یقال له الزور و أکثر شجره التوت ا ه. و لقد ثبت أن الغابات کانت فی القرون السالفة أکثر من الیوم و أن معظم جبالنا التی نراها الیوم جرداء کانت خضراء و أن التجرید من الغابات وقع فی أدوار مختلفة فقد ذکر ابن حوقل أن جبل قلمون و جبل المانع و جبل الشیخ المحیطة بدمشق کانت منذ القرن الرابع مجردة من أشجارها قال: إنک إذا کنت فی دمشق تری بعینک علی فرسخ و أقل جبالا قرعاء من النبات و الشجر و أمکنة خالیة من العمارة.
و تجرید الشام من غاباته دعا إلی زیادة مساحة عدد البطائح و المستنقعات و تألیف صحار من الرمال فقد قالوا: إن الظلال کانت تمتد شرقی قیساریة علی ستة أو
خطط الشام، ج‌4، ص: 155
ثمانیة کیلومترات فأصبحت الیوم عبارة عن کثبان من الرمل. و هکذا سواحل فلسطین بل معظم سواحل الشام طمت علیها میاه البحر فأبقت فیها الرمال و ألّفت منها بطائح و مغایض و أفسدت الأراضی العامرة. و لهذا النظر قلّ و لا شک مساحة المزروع من أرض الشام سنة عن سنة و المستنقعات معروف ضررها بحیاة الفلاح و إن کانت أقلّ من الکثبان و الحرار. و ضرر المستنقعات یتناول الأنفس لما ینبعث عنها من الحمیات التی کثیرا ما رأیناها تقفر قری برمتها من سکانها.
و قد قال الزراعی أرنزون: إن أهم الآفات التی ابتلیت بها الغابات ثلاث:
الرعی المتبادل و حق المرعی فی الأراضی الخالیة و الحیوانات الصغیرة و لا سیما الماعز و فأس الحطابین. و نسب خراب الغابات فی فلسطین- و سائر الشام تتصرف علیها- إلی إصدار الخشب و التبن و السماد إلی الخارج، و قال: إن الربح من إصدارها لا یوازی خراب الغابات و قلة غذاء الحیوانات و بوار الأراضی بقلة السماد و السباخ.

الأشجار المثمرة و غیرها:

و کانوا یتفننون بتسمیة الفواکه و البقول و الورود. قال البدری: و العنب فی دمشق فقط أصناف: البلدی. خناصری. عاصمی. زینی. بیتمونی. قنادیلی.
إفرنجی. مکاحلی. بیض الحمام. حلوانی. بوارشی. جبلی. قصیف. ابزاز الکلبة. قشلمیش. کوتانی. عبیدی. شحمانی. جوزانی. دراقنی. مخ العصفور. عرایشی. رومی. شبیهی. ینطانی. عصیری. رناطی. ورق الطیر.
سماقی. حرصی. مجزع. شعراوی. دربلی. قاری. علوی. عینونی. مورق.
مشعر. مسمط. مرصص. مجضر. مقوس. حمادی. تفاحی. رهبانی. زردی مبرد. مخصل. مغاربی. شحمة القرط. و قسم المشمش إلی أحد و عشرین صنفا و هی: حموی. سندیانی. أویسی. عربیلی. خراسانی. کافوری. بعلبکی.
لقیس. لوزی. دغمشی. وزیری. کلابی. سلطانی. حازمی. أیدمری.
سنینی. بردیّ. ملوّح. قرط البخاتی. جلاجل القلوع. الخ. و وصف العماد الکاتب المشمش الدمشقی فقال: طلعت فی أبراج الأطباق کأنها کرات من التبر مصوغة، و بالورس مصبوغة، صفر کأنها ثمر الرایات الناصریة، حلا
خطط الشام، ج‌4، ص: 156
منظرا و ذوقا، و لو نظم جوهره لکان طوقا، کأنما خرط من الصندل، و خلط بالمندل، و جمد من الثلج و العسل، و تصاحب هو و السلطان فی الرکوب و الجلوس، و التناجی بما فی النفوس.
و قال البدری: و من خصوصیات دمشق «الطرخون» من بقول المائدة و کان یخرج فیها السذاب و الرشاد و بقلة الحمقاء و الماش و الهندباء و الکراویا و التوت الأسود و الشامی. و کان یکثر فیها الکراز و الوشنة و هو فیها سبعة أنواع. و ذکر أن الورد جنس تحته ستة أنواع بدمشق و منه الجوری و النسرینی، و النرجس جنس تحته أنواع منها الیعفوری و البری، و المضعف و ذکر منثورها و زنبقها و آذریونها و آسها و حبه و ریحانها و نیلوفرها و بانها و حیلانها و زنزلختها و تمر حنائها و قراصیاها و کمثراها (ثلاثة و عشرون صنفا) و تفاحها و دراقها (ستة عشر صنفا) و خوخها (ثلاثة عشر صنفا) إلی غیر ذلک مما کان فی القرن التاسع.

الصناعات الزراعیة القدیمة:

و کانت الزهور و الورود من أهم فروع الزراعة، و للطیوب و العطور و مستقطرات الزهور، شأن و أی شأن منذ الأزمان المتطاولة. و کان للأقدمین علی ما یظهر غرام شدید بالملاب العطر المائع و الکباد الیابس، و یستعملون المسک و العنبر و الزعفران کثیرا، و یولعون بالعرف و الأریجة، و کان لهم طیب یقال له الغالیة و هی مسک و عنبر یعجنان بالبان قال ابن سیده: و یقال إن الذی سماها غالیة معاویة بن أبی سفیان و ذلک أنه شمها من عبد اللّه بن جعفر بن أبی طالب فاستطابها فسأله عنها فوصفها له فقال: هذه غالیة. و قد حفظ لنا شیخ الربوة من أهل القرن الثامن شیئا من الإشارة إلی کثرة الورد و الزهر فی دمشق فقال: إن العطر و غیره کان یستخرج فی المزة من ضواحی دمشق من زهورها و ورودها حتی إن حراقته تلقی علی الطرقات و فی دروبها و أزقتها کالمزابل فلا یکون لرائحته نظیر و یکون ألذّ من المسک إلی مدة انقضاء الورد. و ذکر صفة إخراجه فی الکرکات و الأنابیق و رسم صورها- و القرع و الأنبیق آلتان لصنع ماء الورد السفلی هی القرع و العلیا علی هیئة المحجمة هی الأنبیق- قال: و غیر هذه الکرکة کرکة أخری یستخرج منها الماورد و غیره من المیاه بلا ماء بوقود الحطب و ذلک
خطط الشام، ج‌4، ص: 157
بعد حشو القرع بالورد و بلسان الثور و بزهر النوفر أو البان أو زهر النارنج و الشقیق و الهندباء أو بورق القرنفل المزروع بدمشق.
قال: و یحمل الورد المستخرج بالمزة إلی سائر البلاد الجنوبیة کالحجاز و ما وراء ذلک و کذلک یحمل زهر الورد المزی إلی الهند و إلی السند و إلی الصین و إلی ما وراء ذلک و یسمی هناک الزهر. و مما أرخوه إنه کان لقاضی القضاة الحنفیة و لأخیه الحریری قطعة بأرض تسمی شور الزهر طولها مائة و عشر خطوات و عرضها خمس و سبعون خطوة باع منها عشرین قنطارا باثنین و عشرین ألف درهم و ذلک سنة خمس و ستین و ستمائة و هذا لم یسمع بمثله ا ه.
و کانت حلب فی القدیم مختصة بماء الورد النصیبی الذی یستخرج بالباب من أعمالها قال ابن الشحنة: إنه لا یقاربه شی‌ء مما یجلب إلی الدیار المصریة من الشام و لا یدانیه مع أن المجلوب من دمشق عند المصریین فی غایة العظمة بحیث یصفه أطباؤهم للمرضی فیقولون ماء ورد شامی. و ینبت فی أرض حلب زهر القرنفل و کان یستقطر ماؤه. و اشتهرت فی القدیم زهور لبنان و ما إلیه من الجبال کجبل الشیخ فإنها کثیرة مبذولة فی الربیع شأنها فی مراعی الجولان و العمق و البقاع و البقیعة کما اشتهرت طیوب البلقاء و صموغه و کانت تحمل إلی مصر.
و قلّ الیوم من یلتفت إلی هذه الصناعات الزراعیة.
و من صناعاتهم الزراعیة فی القدیم السکّر و کان یعمل فی القدیم علی ضفاف الأردن و لا تزال معامله فی جنوبی الغور تدعی إلی الیوم مطاحن السکر، و کان السکر أکثر مستغل تلک الناحیة یحمل إلی الشرق و الغرب. و کان یصنع السکر فی أنطاکیة و طرابلس و عکا و یافا و یحمل منها إلی الآفاق. قال القلقشندی من أهل القرن التاسع: فی الشام یعمل السکر الوسط و المکرر. و کانت زیوت الشام کخمورها تصدر إلی القاصیة. و یعصر السلیط أی دهن السمسم فی دیاف من حوران و به اشتهرت. و کان الصابون الحلبی و النابلسی و غیره مما یفیض عن حاجة القطر یباع منه فی الأقطار الأخری. و کان الجبن الکرکی مشهورا یصدر إلی مصر.
و قد قامت الحکومة العثمانیة إبان الحرب العامة بعمل بعض المحفوظات و المرببات فی دمشق فتعمل الحساء ذرورا ثم یذاب فی ماء حار وقت الاستعمال فیأتی کأنه طبخ الساعة و استخرجوا من العظام مرقا معقما. و أخذوا یعملون
خطط الشام، ج‌4، ص: 158
من الثمار و البقول مجففات و محضرات علی طریقة لا تنقص من تغذیتها و تکون عند الاستعمال کأنها طریة حدیثة عهد بالقطف من الشجرة أو المسکبة. و بلغ عدد البقول المرببة عشرة أنواع کان یتناولها الجندی فی کل وقت کأنه علی مقربة من الحدائق و المباقل و المقاتی. و استخرجوا فی معامل الفیلق بدمشق أشربة کثیرة من ماء الزهر و ماء الورد و شراب قشر اللیمون و قشر البرتقال تجعل أرواحها فی زجاجات و تکفی القطرة منها کأس ماء لتکون حلوة ذات نکهة تستعمل فی أشربة الجیش و لا سیما فی مستشفیات البادیة. و بالجملة فقد کان لتعقیم السوائل و استخراج الأشربة و تجفیف الثمار و البقول و خبز الأخباز بالآلات الکهربائیة الصحیة شأن لم یعهد فی الشام ثم تنوسی بعدهم.
و من صناعاتهم العسل و کانوا یغالون بأکله کثیرا و اشتهر عسل سنیر و جبل الثلج کما اشتهر دبس بعلبک و جبنها و زیتها و لبنها، قال یاقوت: لیس فی الدنیا مثلها یضرب بها المثل. و کانت بیسان توصف بکثرة النخل، و النخیل مما یجود فی الأغوار و کان کثیرا فی القدیم و الشامیون یعنون بتعهده من وراء الغایة.
و یظهر أن العسل و الزعفران و الدبس و القنود و التمور کانت مما یعول علیه فی الأطعمة و الحلواء أکثر من الیوم. و لدینا وثیقة فی بعض المأکولات ذکرها أبو القاسم الواسانی من شعراء الیتیمة الدمشقیین نظمها منذ نحو ألف سنة فی وصف جماعة زاروه فی قریة جمرایا علی مقربة من الهامة فی غربی دمشق، و مما جاء فیها ما أکلوه من الأطعمة و فیه إشارة إلی کثرة أنواع التمر:
أکلوا لی من الجرادق ألفین ببنّ تشتاقه العارضان
أکلوا لی أضعافها غیر مشطور و مالوا إلی سمیذ الفران
أکلوا لی من الجداء ثلاثین قریصا بالخل و الزعفران
أکلوا ضعفها شواء و ضعفیها طبیخا من سائر الألوان
أکلوا لی تبالة تبلت عقلی بعشر من الدجاج السمان
خطط الشام، ج‌4، ص: 159 أکلوا لی مضیرة ضاعفت ضری بروس الجداء و العقبان
أکلوا لی کشکیة قرحت قلبی و هاجت لفقدها أشجانی
أکلوا لی سبعین حوتا من النهر طریا من أعظم الحیتان
أکلوا لی عدلا من المالح المشویّ ملقی فی الخل و الأنجدان
أکلوا لی من القریشاء و البرنیّ و المعقلی و الصرفان
ألف عدل سوی المصقر و البردی و اللؤلؤی و الصیحانی
أکلوا لی من الکوامخ و الجوز معا و الخلاط و الأجبان
و من البیض و المخلل ما تعجز عن جمعه قری حوران
و من صناعاتهم الزراعیة صناعة الصابون و کانت من أنجح الصناعات القدیمة و مصابنه فی حلب و کلز و إدلب و أنطاکیة و دمشق و نابلس و طرابلس و اللاذقیة و حیفا و رام اللّه و بعض قری لبنان. و خیر الصابون و أشهره الیوم الصابون النابلسی فیه علی ما یظهر خاصیة لیست بغیره أو أن السر فی جودته إتقانه بدون غش.
و منذ أفلتت الصناعات من رؤساء لها تشرف علی أعمال أهلها انحطت فی دمشق صناعة الصابون فقد کانت له أماکن خاصة لتجفیفه و کانوا لا یبیعونه إلا بعد ثلاث سنین من صنعه و یصدر إلی أقطار العالم و ثمنه یزید خمسین فی المئة علی سائر أنواع الصابون و کنت إذا غسلت به الثیاب تجد من رائحتها ما ینعش قلبک
خطط الشام، ج‌4، ص: 160
من الروائح الذکیة، و الآن یبیعون الصابون الدمشقی أخضر بدون تجفیف و یزاحمه فی عقر داره الصابون الغربی لرخصه و هو مرکب من زیوت صناعیة علی الغالب لیس من الزیت الخالص، و عسی أن یرسل صناع الصابون فی نابلس و طرابلس و دمشق و حلب و عکا و حیفا إلی أوربا من یدرسون المادة التی تدخل الصابون الغربی فتزید رغوته أخضر کان أو یابسا، یعیدون إلی الصابون البلدی رونقه السالف و یخلصون من النکهة الخبیثة فی الصابون الغریب.

معادن الشام و حمّاتها:

و خلیق بنا و قد انتهی بنا نفس الکلام علی ما حوی سطح الأرض من الخیرات الطبیعیة إلی هذا الحد، أن لا نغفل الکلام علی ما حوی بطنها من المعادن و الأمواه النافعة. فقد أجمع المتقدمون أنه کان فیها معادن حدید فی لبنان کان قدماء المصریین یحملونها إلی قطرهم، و أجمع المحدثون الذین بحثوا عن طبقات الأرض و ترکیبها علی أن الشام خالیة من الفحم الحجری و ما وجد منه لا یوازی ثمنه ما یصرف فی تعدینه، و فی لبنان طبقات القضّةGres فیها فحم خشبی متحجر (لنیت) یمکن استثمارها و فی قرطبا و میروبا و المنیطرة مناجم من هذا الحجر الخشبی و أشهر طبقاتها الفحم الخشبی المتحجر فی قرنایل، و قد صار الاعتناء باستخراجه من سنة (1835 إلی 1838 م)، و من مناجم هذا الحجر منجم مارشینا و فالوغا و بزبدین و جزین و زحلتا و عین التغرا و حیطورة و یجوز استخدام هذه المناجم للمعامل الصناعیة الصغیرة و الحاجات البیتیة للوقود.
و الفحم الحجری و نظنه من نوع الفحم الخشبی فی جبل البشر و أبی فیاض شرقی حلب و ذکر یاقوت أن فی جبل البشر و یمتد إلی الفرات من أرض الشام من جهة البادیة أربعة معادن: القار، و المغرة، و الطین الذی یعمل منه بواتق لسبک الحدید، و الرمل الذی یعمل منه فی حلب الزجاج و هو رمل أبیض کالاسفیداج.
و للحمّر مناجم فی عینبل و حریقة فی جبل عامل و فی أرجاء مرجعیون، و أشهرها منجم حاصبیا، کان یستخرج منه فی الیوم 80 صندوقا وزن کل واحد منها 100 کیلو و کان السلطان عبد الحمید الثانی یستثمره لنفسه، و بعد انحلال دولته أهملته الحکومة لقلة الید العاملة و اضطرت أن تهمل معدن سحمر
خطط الشام، ج‌4، ص: 161
فی البقاع و غیره من المعادن فی الشام. فأضر إهمال الحمّر بأرباب الکروم فتصاعدت أثمانه و هو یستعمل کل سنة عند تأبیرها فلحقته الدودة من أجل ذلک و قلت مداخیله. و فی التاس بین حمص و تدمر معدن للحمر یکاد یوازی معدن حاصبیا بصفائه. و فی المقارن بین درعا و سمخ مناجم کلس ممزوج بحمر، و کذلک فی أرباض تدمر و فی الصلت و وادی الیرموک. قال المقدسی: إن فی الشام جبال حمر یسمی ترابها الصمغة و هو تراب رخو و جبال بیض تسمی الحوارة فیه أدنی صلابة یبیض به السقوف و یطین به السطوح. و معدن الحدید کثیر فی قضض لبنان و أتربته، و علی سطح الجبال و بطون الأودیة، لا سیما فی أرجاء البترون و کسروان و المتن و فی قریة دومة و بیت شباب و فی عکار و مشغرة و الفرزل و مجاری الأنهار مثل نهر الکلب و نهر إبراهیم. و من هنا کانت تؤخذ مواد المسابک لمعامل الحدید التی کانت فی تلک الأرجاء، و المانع من استثمارها الیوم قلة الوقود أی الفحم الحجری، و الحطب لا یفی بهذا الغرض علی نحو ما کان الحال إلی عهد قریب.
و أهم مناجم الحدید فی برمانا و بحمدون و وادی النهر الکبیر حجر الصفار (الکروم) و فی جبال اللاذقیة معادن حدید کثیرة و فیها رصاص ممزوج بالفضة و خشب فحمی و نیکل و کان فی القدیم فی ناحیتی بایر و بوجاق معدن حجر الصفار یستخرج منه فی السنة 2500 طن و لم یبق له أثر، و یوجد حجر الصفار علی شواطی‌ء بحیریة طبریة و من نوع البیریت و اللنیت فی برتی و کفر سلوان و مرجبا و فی راشیا و سفح جبل الشیخ الغربی و جنوبی حاصبیا و فی عین اللبوة و عین عطا و شوایا و عین قنی و الروج و الکفیر.
و النحاس فی قریة اهمج فی کسروان و فی الجنوب الغربی من حلب و کان منه فی عین جر فأکدی لکثرة ما استخرج منه، و کان النحاس الأحمر یحمل من جبل جوشن علی قید غلوة من حلب. و ذکر کاتب چلبی أن فی بیت حبرون معدن زجاج یستخرج منه فیحمل إلی الأطراف فیباع و یحمل إلی السودان و الحبشة من أسورته و یقایض علیها بالتبر.
و استثمر معدن الفحم الحجری فی مرجیلیا فی لبنان أثناء الحرب الکبری (4- 11)
خطط الشام، ج‌4، ص: 162
لوقود السکک الحدیدیة و استخرج منه (1916) ما یقارب 1300 طن. و ذکروا أن الطبقات الفحمیة فی لبنان وجدت فی نیحا، المراح، کرکبا، زحلتا، عبیه، عرمون، جمهور، عین تراز، بحمدون، القریة، رأس الحرف، مرجیلیا، بتبیات، مارحنا، الکنیسة، عین موفق، قرنایل، جورة أرصون، بزبدین، رأس المتن، ترشیش، جوار الجوز، حیطورا، عین تدجورا، عین زحلتا، صیدنایا، قیتولة، بکاسین، جزین، حمصیة، مشغرة، قرطبا، حدث الجبة، مزرعة بیت ابن صعب، الدیمان، القنیات. و منه الردی‌ء الذی لا بال له.
و فی جهات أبو فیاض علی 80 کیلومترا من حلب فحم حجری ردی‌ء من اللنیت کما أن منه فی جهات حوران و فی قریة عرنة من إقلیم البلان معدن الفحم الحجری قیل: إنه لم ینضج و فی حضر من إقلیم البلان معادن أخری براقة. و فی جبال الکرک کثیر من أنواع المعادن قصدها مؤخرا کثیر من معدّنی الإنکلیز لتحلیلها و معرفة أنواعها. و البترول (زیت الکاز) حول البحر المیت. و فی أرسوس علی عشرین کیلومترا من الإسکندرونة و فی وادی صقلاب من أعمال الکورة فی شرقی الأردن و فی المزیریب من عمل حوران و فی أرجاء الإسکندرونة معدن غاز سائل جری تعدینه فلم یأت بفائدة. و فی أرجاء طرابلس معدن المغرة و نوع من الصبغ الأصفرOcre jaune .
و یوجد الکبریت بکثرة فی جهات الباروک و فی قریة عنجرة من جبل عجلون و فی أرجاء البحر المیت و بالقرب من حمة عفرة فی الطفیلة معادن الکبریت و القصدیر و البترول و النحاس و فی رأس العین من عمل الزور و فی أماکن جبلیة عدیدة و لا یصلح للاستعمال لامتزاجه بمواد غریبة فحمیة و حدیدیة. و یوجد الزاج فی حارم، و النیکل و منه الفاخر فی جبل الأقرع، و الفوسفات فی جبال السرو بین الصلت و عمان حسبت نفقات استثماره فرأوا أنها لا تفی بها وارداته فترک و شأنه. و الفوسفات موجود فی شمالی یبرود و بعض جهات فلسطین. و البوتاس حول البحر المیت و الاسفلت فی جبل الأکراد علی ثلاثین کیلومترا من اللاذقیة (فی قری کفریة و قصاب و خربة السولاس) و یقال: إنه أغنی منجم عرف من نوعه. و کان فی مقاطعة جرش فی أرض تسمی تلول الذهب معدن ذهب جاء فی الکتاب المقدس أن سلیمان علیه السلام کان یستخرج الذهب منها. و فی
خطط الشام، ج‌4، ص: 163
الجنوب الشرقی من تدمر و فی أرجاء أنطاکیة معادن ذهب و لکنها شحیحة.
و تکثر الفضة فی جبال اللاذقیة و شمالی بعلبک و مصیاف و علی ضفاف العاصی فیما یلی أنطاکیة معدن ذهب و معدن رصاص فضی و معدن إثمد و حجر الکحل و معدن فحم و معدن الطفال المعروف بالبیلون فی أرجاء کلز و أنطاکیة، و فی جبال قره‌موط إحدی نواحی أنطاکیة عدة معادن تستعمل للصبغ و فی جبل بارسال من أعمال کلز معدن مرمر أصفر.
و کان فی قریة یعفور من عمل دمشق معدن فضة قاله شیخ الربوة، و بأرض حدث من جبل لبنان جوسیة فوق کرک نوح یلتقط حجارة زلطیة تکسر مرقشیشا و کل معدن مائل باللونیة إلی لون ما هو قسمه، وعد الخوارزمی المارقشیشا من عقاقیرهم فقال: و منها مربع و مدور و قطع کبیرة غیر محدودة الشکل و هی ضروب فمنها أصفر یسمی الذهبی و أبیض یسمی الفضی و آخر یسمی النحاسی.
و یوجد الملح فی مواضع کثیرة و لا سیما فی جهات تدمر و جیرود و حماة و الخلیل و حوالی البحر المیت. و ملح جیرود فیه مرارة و أجوده ملح الجبول.
و فی حلب عدة ملاحات و أعظمها ما کان فی جوار قریة جبول علی شکل مخروطی عظیم لا تطاف أطرافها فی أقل من ثمانی عشرة ساعة یجمد ماؤها فی شهر أیار إلی تشرین الثانی فیکون فی هذه الفترة ملحا، و یسمی هذا النهر نهر الذهب یجری من ناحیة باب بزاعا إلی أن ینتهی إلی سبخة الجبول فی مساکب یعملها أهل الجبول و القری المجاورة لها، و کانوا یقولون إن هذا النهر سمی نهر الذهب لأن أوله بالقبان و آخره بالکیل، أی أنه تزرع فی أوله الحبوب کالحبة السوداء و الأنیسون و الکراویا و أنواع الفواکه مما یباع بالرطل، و آخره الملح الذی یباع بالکیل.
و یوجد الزئبق فی أرض أنطاکیة و غیرها، قال شیخ الربوة: إن معدن الملح الأندرانی کان یستخرج من أرض سدوم عند بحیرة لوط و کیف ما تکسرت حجارته ما تکسرت إلا فصوصا مربعات الزوایا. و یوجد النحاس فی ناحیة الصور علی نهر الخابور و معدن السودیوم فی البصیرة و الصور و الشدادی و القصبی و یعرف باسم بارود القصبی. و الرصاص فی أنطاکیة و المغرة فی جهات حلب و عمان و الجبص (الجبسین) فی جهات جیرود و صافیتا و عکار و طرابلس.
خطط الشام، ج‌4، ص: 164
و الرخام الأصفر فی جبل الجرمق من عمل صفد و علی ساعتین من مادبا جبلان أصفر و أحمر و الحجارة الکلسیة علی کثرة فی جمیع الأرجاء، و أهم أنواع الحجارة الکلسیة الرملیة الحواری و الرخام السماقی و الجنس المدعو «شحم بلحم» و أجمل المقالع ما کان فی جوار حلب و فی جبل باریشا من عمل حارم و هو رخام أصفر و من أجملها الحجر المزی و هو یضرب إلی الصفرة یستخرج من مقلع المزة قرب دمشق و الحجر المعربانی و هو أحمر یستخرج من مقلع معربا فی قلمون کما یستخرج من مقالع تلفتا حجر هش و هو شدید البیاض یعتمدون علیه الیوم فی البناء بدمشق لسهولة نحته و تکثر مقالع الحجر الرملی فی منحدرات لبنان السفلی و علی الشواطئ البحریة و لونه أصفر. و جمیع البنیان من صور إلی طرابلس مبنیة بحجره و هو سریع التفتت سهل النحت لدی خروجه من المقلع و یتصلب فی الهواء و یصلح للملاط أکثر من الحجارة الکلسیة الجمیلة.
و الحجارة الکلسیة ذات تقاطیع زجاجیة فی المواضع المنحوتة حدیثا و لونها أبیض کامد تتحول بمرور الزمان بفعل أشعة الشمس إلی شی‌ء من الصفرة الذهبیة و لذلک کانت أبنیة حلب و بیروت بهذا الحجر الجمیل من أجمل أبنیة الشام، و اشتهرت الداروم فی القدیم برخامها قال الرحالة ناصر خسرو: «و الرخام کثیر جدا فی الرملة و جدران معظم الأبنیة و الدور مغشاة بصفائح من الرخام مرصعة بإتقان و مغشاة بنقوش و رسوم و یقطع الرخام بمنشار لا أسنان له و برمل تلک الدیار، و بالمنشار تقطع قطع من الرخام بقدر طول السواری و العمد کما تقطع الدفوف من شجره. و لقد رأیت فی الرملة رخاما من کل جنس و منه المجزع (المبقع) و الأخضر و الأحمر و الأسود و الأبیض و بالجملة من مختلف الألوان ا ه».
هذا أهم ما فی بطن الشام من المعادن و مهما کانت حالها فهی وافیة نجاجة أهلها و لکنها لا تمون أمما غیرنا کالمعادن المشهورة فی العالم بذهبها و فحمها و غیر ذلک، و معادننا تجزئنا إذا استثمرناها بعض الشی‌ء.

الحمّات الشامیة:

الحمة (بفتح الحاء و تشدید المیم) العین الحارة یستشفی بها الأعلاء و المرضی،
خطط الشام، ج‌4، ص: 165
و فی الحدیث: العالم کالحمة یأتیها البعداء و یترکها القرباء، فبینما هی کذلک إذ غار ماؤها، و قد انتفع بها قوم و بقی أقوام یتفکّنون أی یتندمون. فالحمة هی ما یعرف الیوم بالحمامات المعدنیة تکثر فی أرض الشام البعیدة عن الساحل، و أهمها حمامات طبریة علی شاطئ البحیرة، تنفع النساء فی الأمراض التناسلیة و تشفی الأوجاع الحادة المزمنة و أمراض الرثیة و النقرس و البول السکری و أمراض أعضاء التناسل و المرة السوداء و التهاب قصبة الرئة المزمن و بعض الأمراض الجلدیة و غیرها.
قال أبو القاسم فی وصف حمة طبریة: و فیها عیون ملحة حارة و قد بنیت علیها حمامات فهی لا تحتاج إلی الوقود تجری لیلا و نهارا حارة و بقربها حمة یغتمس فیها الجرب ا ه. و یجری الماء إلی الحمامات من أربع عیون حارة و أهمها ما بناه إبراهیم باشا المصری و هو فی الشمآل و یعرف باسمه و هو عبارة عن حوض کبیر تحیط به عمد قدیمة من الرخام و علیه قبة عظمی، و هی مثقوبة بثقوب أسطوانیة یخرج منها البخار و درجة حرارة الماء 62 بالمیزان المئوی و هو صاف براق فی الجملة ملح الطعم مرّ مهوّع و تنبعث منه رائحة شدیدة من حامض الکبریت أو رائحة بیض فاسد، و هذه الحمامات ملک الحکومة تؤجرها و موسم الاستحمام فیها من أول کانون الثانی إلی آخر حزیران.
و منها «الحمة» حمة جدر فی وادی الیرموک علی الخط الحدیدی عند الکیلومتر 93 و 95 تنفع فی أمراض الجلد و غیرها و هی میاه معدنیة حارة تنبجس غزیرة و تجری إلی نهر الشریعة و هی ثلاث حمامات یبعد بعضها عن بعض بضع دقائق یدعی أحدها «المقلی» أو «حمام سلیم» درجة حرارته 119 و الآخران «حمام الجرب» و حرارته 108، أو «حمام الریح» و حرارته 82 بمیزان فارنهیت و عندها آثار الحمامات الرومانیة و بقربها ملعب عظیم و هو ملعب جدر المشهورة فی الجاهلیة و الإسلام قال أحد واصفیها: «و لا أبالغ إذا قلت إن معدل قاصدیها فی شهر نیسان لا یقل عن عشرین ألفا یقیمون أیاما تحت حر الشمس و هبوب الریح لا بیت یؤویهم و لا نزل یکنهم، فإن کان قاصدوها یبلغون هذا العدد و هی قفراء خربة فی شهر واحد فکم یکون عددهم لو تهیأت لهم حمامات منتظمة و أبنیة و فنادق و ما به تستتب لهم الراحة فیه أأبالغ إذا قلت إنهم یزیدون علی المائتی ألف؟».
خطط الشام، ج‌4، ص: 166
و حمة زرقا معین فی شرقی الأردن تبلغ درجة حرارتها 142 بمیزان فارنهیت و المالح فی قریة تیاسیر فی غور الأردن من أرجاء نابلس درجة حرارته 98 ف و حمة أبی ذابلة بجانب فحل و حمة أبی سلیم فی المهدّ من أرض صنمة، بقریة سحم الکفارات و حمیمة بزور النیص من أرض صنمة أیضا و درجة حرارتها فوق 100 ف أما حمامات طبریة فدرجة حرارتها 144 ف و ماء حمة جدر عذب جید الطعم یشرب سخنا و باردا بخلاف طبریة.
و حمة أبی رباح من عمل ناحیة القریتین فی حمص تنفع فی الأمراض العصبیة و تصلب الأعضاء و التشنج خاصة. و حمة ضمیر فی جبل قلمون کبریتیة، و حمة أرک فی جهات تدمر، و حمة أنطاکیة و هی کبریتیة و فیها مغنیزیا أیضا. و حمة إسکندرونة بین حلب و إسکندرونة علی الطریق. و حمة جسر الشغر و حمة زرقا معین فی الکرک و هی ثلاثة حمامات یستحم المستحمون ببخارها و یقصدها السیاح من الفرنج کما یقصدون حمة عفرة من بحیرة لوط. و حمام النبی داود فی وادی الحسا. و ذکر ابن الشحنة أن فی السخنة من أعمال قنسرین خمسة حمامات ینتفعون بها من البلغم و الریح و الجرب. و بناحیة العمق حمة أخری. و بکورة الجومة من أعمال قنسرین عیون کبریتیة تجری إلی الحمة و الحمة قریة یقال لها جندراس یأتیها الناس من الآفاق فیسبحون بها للعلل التی تصیبهم. قال الغزی: إن فی أطراف حمام العمق عدة عیون کبریتیة حارة لو جمعت إلی حوض لکانت حماما عظیما. و فی سنة (1300) بنت بلدیة حلب علی بعض هذه العیون خلوة و صارت تؤجرها.
و ذکر شیخ الربوة أن بین حمص و سلمیة کهفا فی جبل یخرج منه بخار أشد من الضباب المتراکم فإذا دخل الإنسان ذلک الکهف خیل إلیه أنه فی الحمام لشدة الوهج و کثرة قطر الماء من البخار المتصاعد من البئر الذی فی وسط الکهف و یسمع غلیان الماء بقعر البئر و لا یمکن النظر فیه لشدة البخار الصاعد من البئر و من نظر فیه یشیط من الحرارة. و لعله یقصد بذلک حمام أبی رباح. و ظهر مؤخرا علی کیلومترین من قرقخان من عمل إسکندرونة نبع ماء معدنی درجة حرارته 43 فتهافت الناس علی الاستحمام به.
خطط الشام، ج‌4، ص: 167
هذه أهم حمّات أو حمامات الشام المعدنیة و أکثرها کما رأیت لا ینتفع بها الانتفاع المطلوب، و حالتها کما عرفت منذ القدیم لا نظام فیها و لا أبنیة للمستحمین حوالیها. و قد عرف من تاریخ الرومان أنهم کانوا یعنون من وراء الغایة بالحمامات المعدنیة، فکانوا یبنون علیها أبنیة بحسب مصطلحهم، و لکن لم نر أن العرب فی هذه الدیار عنوا بشی‌ء من هذا القبیل اللهم إلا إذا کان ضاع عنا خبره لقلة التدوین. و لو أنها وقعت العنایة الیوم بحماتنا علی النحو الذی تنتفع به بعض الأصقاع التی تنبجس فیها میاه معدنیة من إقامة المستحمات و المنازل لنزول طلاب الاستحمام و تدبیرها تدبیرا جدیدا مرفها صحیا لکان منها منافع کثیرة لأبناء الشام و مورد أرباح لها تأتی من ألوف من الغرباء و القرباء یقصدونها للانتفاع بها و یصرفون فی جوارها أیاما و شهورا یجعلون علیها مقاصیر للتغمیز و التمسید، و أخری للتعریق، و غیرها للتبرید، و فنادق فیها شروط المدنیة الحدیثة، و حدائق و غابات تغرس بالقرب منها تحسن المناخ و تجمل المناظر الطبیعیة نظرة فی الفلاحة الشامیة الحدیثة .

أقالیم الشام:

أولا- لا تقل حرارة غور الأردن عن مثلها فی بعض الممالک العربیة الحارة کالعراق و مصر. ففی إحدی السنین کان معدل الحرارة السنوی فی طبریة 70/ 21 درجة و هو لا ینقص عن 5/ 21 درجة و قد یبلغ أکثر من 22 درجة لا سیما فی مناطق الغور الجنوبیة. و لما کانوا یحسبون معدل الحرارة السنوی فی القاهرة 5/ 21 درجة و فی بغداد 8/ 22 درجة کانت حرارة الغور کافیة لنمو کثیر من الزروع و الأشجار التی أغنت مصر و ستغنی العراق و أعظمها شأنا القطن. و یفضل إقلیم الغور أقالیم مصر و العراق فی أن أمطاره قلما ینقص ارتفاعها فی السنة عن 300 میلیمتر و لهذا یمکن زرع الحبوب الشتویة فیه عذیا، علی حین لا یستطاع ذلک فی مصر و فی معظم العراق لقلة الأمطار فیهما.
خطط الشام، ج‌4، ص: 168
ثانیا- لیست سواحل الشام أنقص شأنا من الغور من الوجهة المذکورة فمعدل الحرارة فی حیفا و یافا و بیروت قلما یقل عن 50، 20 درجة و لهذا یجود فی الساحل کثیر من النباتات التی تتطلب حرارة عظیمة کالقطن مثلا لکنه لا بد من إسقائه فی کلا الإقلیمین.
أما السهول ففی بعضها من الحرارة ما یکفی لنجاح القطن و هی التی لا تعلو کثیرا عن سطح البحر مثل مرج ابن عامر و سهل الغاب شمالی حماة و سهل العمق و إدلب، و یجب الری إلا فی إدلب و العمق. أما فی السهول المرتفعة کالغوطة و حوران و البقاع فالقطن ینتج محصولا متوسطا إلا أنه لا یجد من الحرارة ما یکفی لتفتح کل ثماره. و لهذا قد لا یأتی زرعه فیها بفائدة من الوجهة الاقتصادیة و الواجب أن لا یحل القطن مکان القنب فی الغوطة مطلقا. هذا و من العبث البحث فی زرع الأقطان فی إقلیم الجبال کسهل الزبدانی و سفوح سنیر و غیرها لأن نصف ثماره لا یتفتح هنالک لقلة الحرارة. هذا و من العبث أیضا البحث فی تعمیم زرعه فی سهول البلقاء و حوران و وادی العجم و حمص و حماة و حلب الشرقیة فی البعل من الأرض، لقلة الأمطار السنویة و اختلاف مجموعها بین سنة و أخری و إن نجحت زراعته بلا ری فی بعض قری حوران کقریة الحراک فی وادی الزیدی ضربت مثلا بها لأنها مجتمع میاه أرضیة و حالة کهذه لا تصلح للقیاس.
ثالثا- لیست مقادیر الأمطار واحدة فی مختلف مناطق الشام. فأغزرها فی السواحل دائما. فقد دلتنا قوائم رصد الجو فی مرصد الجامعة الأمیرکیة فی بیروت علی أن ارتفاع الأمطار السنویة فیها لا یقل عن 700 میلیمتر فی أکثر السنین و أنه یبلغ 900 میلیمتر أحیانا و هو رقم کبیر. و تثبت أن ارتفاع الأمطار فی حیفا و یافا یزید علی 550 میلیمتر فی أکثر السنین. و هکذا فی باقی سواحل الشام، و فی المناطق القریبة من الساحل. أما السهول الداخلیة و هی أعظم المناطق شأنا و أغناها تربة و أوسعها مساحة، فارتفاع أمطارها یختلف بین 200 و 500 میلیمتر فی السنین العادیة. و لما کان ارتفاع المطر الضروری لتکوین محصول متوسط من الحبوب الشتویة لا یقل عن 250 میلیمتر اتضح أن منتوجات الحبوب فی تلک السهول تختلف اختلافا کبیرا من سنة إلی أخری، تبعا لمقادیر المطر المنهمر و لتواریخ هطله فی خلال السنة. و أمطار غوطة دمشق قلیلة، فقد قستها
خطط الشام، ج‌4، ص: 169
بنفسی خلال عشر سنین متتابعة فرأیت أنها لا یبلغ ارتفاعها 250 میلیمترا فی أکثر هذه السنین، و کان ارتفاعها دون مائتی میلیمتر فی ثلاث سنین. فالغوطة إذن کالواحة کادت تکون صحراء لا تصلح للزرع، لو لا بردی و الأعوج و مشتقاتهما التی قلبتها جنة ناضرة.
رابعا- لا یسقط الثلج فی إقلیم الغور و لا تهبط الحرارة إلی الصفر. و یندر هبوطها إلی الصفر فی السواحل. أما فی السهول الداخلیة فلا تهبط لأوطأ من عشر درجات تحت الصفر فی السنین الاعتیادیة و یندر هبوطها إلی هذا الحد.
لکن لکل قاعدة شواذّ ففی شتاء سنة (1924- 1925) و کانت سنة قرّ شدید هبطت الحرارة إلی 15 درجة تحت الصفر فی دمشق و 20 درجة تحت الصفر فی سلمیة. و دام الصقیع عدة أیام فأتلف الأسباناخ و الملفوف و السلق و المقدونس و البیقیة و الحلبة و الفول و غیرها من البقول کما أتلف براعم التین و الرمان و أغصان اللیمون و البرتقال و بعض ورق الزیتون. و باد کثیر من الأزهار و الریاحین و أشجار التزیین کالمنثور و الکافور و السنط و الفلفل الکاذب و الخروع و الکزورینا و غیرها. أما الحنطة و الشعیر و المشمش و التفاح و الکمثری و الدراق و الخوخ و الصنوبر و السرو و الازدارخت و الصفصاف و الزیزفون و الورد فقد قاومت فلم یمسها الصقیع بأذاه.
و أضر مما ذکر هبوط درجة الحرارة إلی ما تحت الصفر بضعة أیام فی أوائل نیسان من سنة 1925 فتلف أکثر من نصف محصول المشمش فی الغوطة، و اسودت أفنان الجوز، و بادت نباتات الخیار و الکوسی و البنادوری البکیرة، فعاد الزراع إلی بذر بذورها ثانیة. و لقد ذکرت هذه الأحداث لأن الطاعنین فی السن من أرباب الفلاحة لم یرو شبیها لها منذ ثلاثین سنة و نیف.
خامسا- لیس لبناء التربة فی الشام کبیر تأثیر فی إمکان غرس الشجر أو عدمه فی إحدی المناطق، بل العامل الأقوی هو الإقلیم و ذلک أن الأمطار تهطل فی الشام خلال شهور معلومة ثم یعقب المطر یبوسة تدوم بضعة شهور. و تکون الریاح شدیدة، و الحرارة زائدة، فی شهور الیبوسة، و مهما کان ارتفاع المطر السنوی کبیرا حتی فی سواحل الشام فکثیر من أشجار الفاکهة لا یعیش بهناء عذیا، بل لا بد من إسقائه کالبرتقال و اللیمون و التفاح و الکمثری و المشمش
خطط الشام، ج‌4، ص: 170
و الخوخ. و لیس السبب فی ذلک قلة مجموع الأمطار السنویة بل انحباسها منذ أواخر الربیع و طول فصل الصیف و أوائل الخریف. فأمطار باریز مثلا لا تزید فی السنة علی أمطار بیروت أو أمطار طرابلس لکن المطر فی باریز یهطل فی کل شهور السنة تقریبا فتنمو الأشجار المذکورة دون ری علی العکس من حالتها فی الشام.
و من الشجر ما یعیش بلا إسقاء فی جمیع مناطق الشام الغربیة کالزیتون و الکرمة و اللوز و التین و الرمان و الفستق و الآس و الزعرور و العناب. أما مناطقها الشرقیة فمنها ما یصلح دون ری للکرمة و اللوز و الزیتون کشرقی العاصی إلی جبال الشومریة و کالجولان و حوران و جبل حوران و عجلون و البلقاء. و منها ما أمطاره من القلة بحیث أن الأشجار عموما لا تنجب فیه بلا ری، کالغوطة و المرج و شرقی سنیر (منطقة القریتین) و بادیة الشام. و ینمو الکرم و اللوز بلا ری بعد أن یکبر فی القری الشرقیة من منطقة سلمیة و الحمراء. أی أن المطر فی تلک المنطقة و حالة المیاه الأرضیة هما بحیث لوسقی الکرم سنتین أو ثلاثا حتی تضرب جذوره فی التراب، لأمکن بعدها أن یعیش بلا ری.
و اختلاف الأقالیم فی الشام یجعل هذا القطر صالحا لزرع زروع متنوعة، و غرس أشجار شتی، فالغور و الساحل للقطن و النخل و الموز و القشطة و البرتقال و اللیمون و الزیتون. و السهول للحبوب و الزیتون و اللوز و المشمش و الخوخ و الکرمة. و الجبال للتفاح و الکمثری و الکرز. و تقل الأصقاع التی تحوی کالشام أقالیم عدیدة فی مساحات ضیقة. و لیس فی العالم بلد غیرها یستطیع فیه الإنسان أن یصعد إلی ارتفاع 2800 متر فوق سطح البحر بعد أن یکون فی أعمق من مائتی متر من هذه السویة و ذلک بقطع مسافة لا تزید علی 65 کیلومتر، هذا شأن الذی یکون فی البطیحة أو التابغة علی شواطئ بحیرة طبریة مثلا و یرید الصعود إلی قمة جبل الشیخ فهو یعتلی ثلاثة آلاف متر بقطع تلک المسافة الصغیرة.

أتربة الشام:

کثیرا ما نسمع أن الشام قطر زراعی محض و أن تربتها من أخصب الأتربة
خطط الشام، ج‌4، ص: 171
فما معنی ذلک و ما هو مبلغه من الصحة؟ أما کون الشام محض أرض زراعیّة فلأنها لا کبیر منتوج فیها سوی منتوجات الأرض فهی إذا لم تقس بغیرها تعد قطرا زراعیا ذا شأن کبیر. أما إذا قسناها ببعض الممالک الأوربیة حیث الأرض خضراء دائما، و المحاصیل کبیرة بسبب کثرة الأمطار فی کل فصول السنة، أو لو قایسنا بینها و بین بعض الأقطار التی فیها أنهار عظیمة تسقی بمیاهها ملایین من الهکتارات کمصر الیوم و عراق الغد، إذن لوجدنا أن الشام لیس لها شأن عظیم حتی من وجهة الزراعة لأنها ما برحت و لن تبرح أرض حبوب شتویة کالحنطة و الشعیر تنتج بالقلیل من المطر الذی یهطل فیها. أما الأشجار المثمرة و الأقطان و الخضر فمقامها فی الدرجة الثانیة لما تتطلبه من الری علی حین لا تروی أنهار الشام مساحات واسعة علی ما سیجی‌ء ذکره. و نقول لمن جعلوا دیدنهم التنویه بأن الشام من أعظم الأقطار التی تنتج أقطانا أنهم مدفوعون إلی دعایتهم هذه بعوامل سیاسیة، لأن القطن فی الشام لا یمکن أن یکون له المقام الأول بین الزروع ما دامت معظم سهول هذا القطر لا تروی إلا بما تجود به السماء من المطر القلیل الذی یکاد لا یکفی لحیاة الحنطة و الشعیر. و یجب أن لا یتخذ القطن الإدلبی مثلا لأن صنفه من أردإ الأصناف، و لأن منطقة إدلب و أشباهها لیست سوی جزء صغیر من سهول الشام الواسعة الأرجاء. و قولی هذا لا ینفی کون زرع القطن مفیدا اقتصادیا فی کل مکان یستطیع أن ینجب فیه. فمما تعنینا معرفته أن الأمکنة التی یستطیع أن ینجب فیها صغیرة إذا قیست بمجموع أراضی الشام الزراعیة.
و لئن لم تجعل الطبیعة للشام حظا کبیرا من المطر و الأنهار التی تستطیع أن تروی مساحات واسعة، فلقد جادت علیه بتربة من أجود الأتربة. و هاک خلاصة ما تجب معرفته:
أولا- تراب أهم سهول الشام طینی کلسی (أکثر قری حوران و الغوطة و سهول سلمیة و حمص و حماة و بساتین حارم الخ ...) و تراب بعضها طینی رملی (بعض قری الغور و البقاع الخ). و تراب بعض آخر رملی طینی (بعض قری الساحل و السهول الشرقیة القریبة من البادیة). و من المعلوم أن بناء هذه الأنواع الثلاثة یعد جیدا لا سیما الأول منها.
خطط الشام، ج‌4، ص: 172
أما من حیث غنی أتربة الشام بالعناصر الغذائیة. فقد کشف التحلیل عن أن معظمها غنی بالحامض الفصفوریک و البوطاس. أما الآزوت (نیتروجین) فمقداره کبیر فی بعض المناطق کالغور مثلا، و کاف فی أکثرها، و قلیل فی بعض المناطق التی أنهکها الزرع المتتابع دون مدّ الأرض بالسماد.
و یفید أن أذکر کلمتین فی الطبقات و الأدوار الجیولوجیة التی تنتسب إلیها أهم المناطق الزراعیة فأقول:
الأرض البرکانیة: إن أتربة حوران و جبل حوران و اللجاة و الجولان و البطیحة و جبل المانع و الصفا و غربی العاصی بین حمص و حماة الخ هی أرض برکانیة (بزالتیة) متکوّنة من اندفاعات البراکین.
الأرض الطباشیریة: هی أوسع الأرضین فی الشام و إلیها تنتسب معظم جبال لبنان و سنیر و حرمون و عجلون و الکرک و الصلت و سهول البلقاء و جبل نابلس و تدمر الخ.
الأراضی المنسوبة للدور الثلاثی: منها معظم جبل العلا الواقع بین حماة و سلمیة، و منها جنوب البقاع بدءا من مجدل عنجر و سهل متسع حوالی حلب و سواحل فلسطین و قمة جبل قاسیون فی دمشق مع امتداده نحو قریة القطیفة، و قسم کبیر من قلمون و قسم من الجبل الأبیض بالقرب من تدمر، و مساحة واسعة حول شواطئ الفرات بعد الراسبات الرباعیة الخ.
الأراضی المنسوبة للدور الرباعی: فی الشام کثیر من الطبقات الأساسیة سترت براسبات من الدور الرباعی و أکثر ما تکون الرواسب فی السهول کالبقاع و الغوطة و المرج و مرج ابن عامر و سهل الرملة ولدّ و سهل عکار و علی طول الفرات الخ.

حراج الشام:

إذا رجع المرء إلی کتب الأقدمین یری أنه کان للحراج فی الشام شأن و أی شأن. و أهم أشجار هذه الحراج و مواقعها و مساحتها لعهدنا هذا، علی وجه التقریب:
أشجار الحراج: أعظمها شأنا أشجار البلوط و هی علی قسمین قسم یظل
خطط الشام، ج‌4، ص: 173
مکتسیا أوراقه فی الشتاء و آخر تسقط أوراقه فیه. فمن الأول السندیان و البلوط الأخضر و هی أشجار صعبة المراس جبارة تعیش فی الساحل و تعلو مع مختلف المناطق إلی ألف متر عن سطح البحر. و من الثانی الملول و البلوط المسمی عفصا.
و لأشجار الصنوبر شأن لا یفوقه سوی شأن البلوط. و أهمها الصنوبر المثمر و هو یشاهد فی الساحل و فی المناطق التی لا یزید علوها علی ألف متر عن سطح البحر. و یغرس فی لبنان (حمانا، برمانا، بیت مری، بکفیا الخ) لأن خشبه و ثماره مرغوب فیها. و یلیه الصنوبر الحلبی و هو الأکثر شیوعا یعیش فی کافة الأقالیم الزراعیة حتی فی ارتفاع 1500 متر عن سطح البحر. و منه حراج ملتفة فی عکار و الضّنّیة و قزل طاغ و یستخرج منه القطران و یستعمل فی الدباغة.
و من أشجار الفصیلة الصنوبریة التی تشاهد فی غابات الشام السرو و التنوب أو الشوح و هو یکثر فی الجبال الشامخة حیث یختلط بالأرز ثم العرعر و الدفران و الأرز و جمیعها تعیش فی الجبال العالیة.
و کثیرا ما یعثر المرء فی غابات الشام علی أشجار مثمرة بریة مثل الکمثری و الزعرور و الخوخ و السدر و الزیتون و الخروب و غیرها. کما یشاهد أشجارا مختلفة کالبطم فی البلعاس و الدلب علی شواطئ الأنهار و اللبنة أو الأبهر فی لبنان و وادی التیم و العجرم و هو مبذول و الغار فی غور الأردن الخ.
مواقع الحراج: إذا سرنا الیوم من شمال الشام إلی جنوبها نری الغابات الآتیة:
(أ) حراج السفح الممتد بین سلسلتی جبال اللکام مساحتها نحو 000، 10 هکتار (الهکتار عشرة آلاف متر مربع) و أهم أشجارها البلوط و الصنوبر الحلبی و یلیهما الأبهر و الأشجار المثمرة البریة. و فی منحدرات الجبال مثل هذه المساحة تقریبا مکسوة بالشجر لکن حالة شجرها سیئة.
(ب) حراج کرد طاغ و تمتد من راجو إلی الحمام، و مساحة الشجر الملتف فیها ألف هکتار تقریبا و أشجارها السندیان و الصنوبر الحلبی. و یلحظ أن فأس المحتطبین لا تکفّ عن العمل بها، و أن أضعاف هذه المساحة کانت فیما مضی حراجا جمیلة.
(ج) حراج رأس الخنزیر (قزل طاغ). أهم شجرها الصنوبر الحلبی و أنواع البلوط. تبلغ مساحة ما تلتف أشجاره منها نحو 000، 15 هکتار إلا أن
خطط الشام، ج‌4، ص: 174
ضعفی هذه المساحة کانت غابات ملتفة فإذا هی الیوم جرداء أو فیها أشجار حقیرة متفرقة. و یصنع القطران من صنوبر هذه الحراج فی أرسوس و أنطاکیة.
(د) حراج الأردو و البایر و البسیط: مساحة القسم المکتسی بالشجر الیوم 000، 10 هکتار تقریبا. و أهم شجرها الصنوبر الحلبی و أنواع البلوط و یلیها الدلب فیما انخفض من الأرض. و یجب الاحتفاظ بهذه الغابات من عیث الماشیة لأن بعض أشجارها بدأت تتلف.
(ه) حراج العمرانیة: شجرها السندیان و الملول و قلیل من الصنوبر الحلبی و مساحتها 000، 20 هکتار تقریبا، و یلاحظ أن أکثر أشجارها الباسقة قطعت إلا فی المواقع الکبیرة الانحدار التی یشق الوصول إلیها، فإن أشجارها لا تزال باسقة. و من المؤسف أن القطع لا یزال متواصلا فی هذه الحراج لنقل الحطب أو لصنع الفحم و نقله إلی حماة و حمص.
(و) حراج عکار و الضنیة: هی من أجمل الغابات و أهم شجرها السندیان و الملول و یلیهما الصنوبر الحلبی و السرو و العرعر و الأرز. و مساحتها 000، 10 هکتار علی وجه التقریب.
(ز) حراج الهرمل و إهدن و تنورین. تبلغ مساحتها نحو 000، 5 هکتار.
(ح) حراج الصنوبر فی لبنان: زرع اللبنانیون کثیرا من بزور الصنوبر المثمر و غرسوا کثیرا من غراسه فتکوّن منها حراج جمیلة تشاهد فی کثیر من قری لبنان. أما حراج الأرز القدیمة فقد أتت علیها أیدی الجهل و بعض بقایاها فی الباروک.
(ط) حراج البلعاس: یقع جبل البلعاس علی نحو خمسین کیلومترا شرقی سلمیة و فیه أشجار قدیمة من البطم. لعبت بها أیدی البدو و المحتطبین الذین یأتون بمرکباتهم کل یوم من سلمیة إلی البلعاس فیقطعون الشجر و یبیعون الحطب فی سلمیة و حمص و حماة علی بعد المسافة. و قد أکد بعضهم من بدو و حضر و بعض الضباط الذین اخترقوا البلعاس مرارا أن مساحته تبلغ 000، 30 هکتار تقریبا، و أن الشجر متفرق فی أکثر أقسامه لکنه یلتف فی بعض المواقع.
(ی) حراج عجلون: هی من أوسع حراج الشام و أجملها. أشجارها السندیان و الملول و الصنوبر و الحلبی و غیرها. و فیها مواضع أشجارها ملتفة و أخری أنهکها القطع.
خطط الشام، ج‌4، ص: 175
هذه هی أهم غابات الشام و ثمة غابات و محتطبات لا کبیر شأن لها الیوم لما لحقها من الأذی بسبب انکباب الإنسان علی قطعها أو عیث الماشیة بها، مثل غابات بعلبک و سنیر و جبل الشیخ و القنیطرة و صفد و الناصرة و الکرمل و الصلت و غزة و غیرها. و کانت الحکومة الترکیة خلال الحرب الکبری (1914- 1918) تأمر بقطع الشجر بلا رویة لاستعماله بدلا من الفحم الحجری الذی کان یعوزها.

الری فی الشام:

یروی الیوم فی الشام (عدا فلسطین و شرقی الأردن) مساحة تقدر بنحو 000، 77 هکتار علی وجه التقریب و أهم المناطق التی تروی هی الغوطة و المرج اللذان یسقیان من بردی و الفیجة و الأعوج و مشتقاتهما و من قنی موضعیة.
و تقدر المساحة التی تروی من هذا السهل الواسع بنحو 000، 25 هکتار و یسقی فی وادی العجم من نهر الأعوج نحو 000، 5 هکتار. و یسقی فی حمص بمیاه القناة التی تشتق من بحیرة حمص بساتین واسعة. و فی الزبدانی سهل یبلغ 1200 هکتار یروی من أنهار صغیرة و ینابیع. و یسقی فی القنیطرة و الزویة نحو 2000 هکتار لا سیما فی البطیحة و شمالی بحیرة الحولة إلی الشرق. و فی حماة نواعیر لا یقل عددها الیوم عن ثمانین ناعورة تبدأ بین حمص و حماة و تمتد شمالا إلی العشارنة و تسقی نحو 1500 هکتار. و فی سلمیة و القری التی فی تلک المنطقة قنوات عدیدة قدیمة دائرة أخذ الأکارون منذ بضع سنوات یکرونها و یعیدونها إلی سالف عهدها و فی جیرود و النبک و یبرود و دیر عطیة و القری المجاورة لها قنوات و ینابیع تسقی 2500 هکتار تقریبا.
و فی لبنان نحو عشرة آلاف هکتار من الأرض التی تروی، أهمها 1200 هکتار تقریبا فیها من شجر اللیمون و البرتقال فی طرابلس. و یتلوها بساتین واسعة حول بیروت و صیدا و صور و رأس العین و الهرمل و بعلبک و بعض قری البقاع الخ.
و مما یسقی سهل عکار و البقیعة و حول اللاذقیة و بعض أرض العمق و أرباض
خطط الشام، ج‌4، ص: 176
أنطاکیة و مدینة حلب و الإسکندرونة. أما فی جنوب الشام (فلسطین) فأعظم الأرض شأنا ما یسقی شمالی بحیرة الحولة حیث تهر الحاصبانی و البانیاسی و اللّدان أی أصل الأردن. ثم الغویر و مجدل طبریة ثم بیسان و ما حولها مما یسقی من نهر الجالوت ثم سهل عکا ثم ضواحی مدینة یافا حیث یسقی نحو 2000 هکتار من شجر البرتقال و اللیمون بواسطة آبار ترفع میاهها بالمحرکات.
و مما یستطاع إسقاؤه من الأرض فی المستقبل إذا وجد رأس المال الکافی للقیام بأعمال عظیمة للری. حتی لتبلغ مساحته ضعفی المساحة التی تسقی الیوم و ربما إلی ثلاثة أضعافها، الأراضی الواقعة حول النهر الأسود عند مصبه و حول نهر عفرین و سهل العمق (نحو 000، 200 هکتار) و سهل الغاب الممتد شمالی قلعة شیزر (سیجر) (نحو 000، 60 هکتار) و السهل الواقع شرقی جسر الشّغر و السهل الممتد بین صیدا و صور و حول بحیرة الحولة و أرض واسعة فی الغور بین بحیرة طبریة و بحیرة لوط الخ.

زروع الشام و أشجارها:

نذکر هنا بإیجاز أهم ما یزرع فی الشام من الحبوب و البقول و النباتات الصناعیة و ما یغرس من الشجر المثمر، ثم ما ینبت لنفسه من النباتات الطبیعیة المفیدة.
الحبوب: أهمها الحنطة فالشعیر فالذرة الصفراء و البیضاء فالأرز فذرة المکانس.
الحنطة: أعظم الزروع شأنا و أغزرها محصولا و أعمها انتشارا. یقدر ما نتج منها فی (سنة 922) ب 800، 345 طن (الطن أربعة قناطیر) فی الشام عدا فلسطین و شرقی الأردن و أشهر أصنافها الحورانیة و البیاضیة و الیبرودیة و البقاعیة و الحماریة و النورسیة و حنطة عین غرة و الدوشانیة و الشلمونیة و الهیتیة. فالحورانیة تعرف بساق متوسطة الطول و سنبلة غلیظة کثیفة مربعة ذات سفا لونها إلی سمرة و حب سمین قاس إلی حمرة. و هی أجود الأصناف و أعمها. تزرع فی حوران و وادی العجم و فلسطین و البلقاء و حلب، و بالاختصار فی کل أنحاء الشام علی درجات متفاوتة. أما موطنها الأصلی فحوران. و للحنطة البیاضیة سنبلة بیضاء
خطط الشام، ج‌4، ص: 177
طویلة و برة نصف فرقة ذات سفا، و حب أبیض سمین مکسره نصف دقیقی و هذا الصنف یزرع فی الغوطة و المرج و وادی العجم خاصة.
و للقمح الیبرودی ساق طویلة صلبة ثخینة نصف فارغة، و سنبلة مستطیلة کثیفة ذات سفا، و حبات ضاربة إلی بیاض مکسرها قرنی. و هذا الصنف یزرع فی دومة و قلمون. و للحنطة البقاعیة سنبلة دکناء إلی سواد، و حب إلی سمرة و هی تزرع فی البقاع. أما القمح الحماری فهو یزرع فی حمص و حماة و ما جاورهما. و أما النورسی فیزرع فی فلسطین و هو یعرف بسنبلة مستطیلة ذات سفا، و حبات مستطیلة حنطیة إلی حمرة.
و قمح عین غرة أشهر الأنواع فی الغوطة، و له ساق طویلة فارغة. و سنبلة سمراء متوسطة الکثافة ذات سفا إلی سواد، و حب سمین طحینی اللون. أما الدوشانی فله سنبلة فرقة طویلة لا سفا لها، و حب أبیض ثخین، و هو یزرع فی البقاع و بعلبک و فی الغوطة علی الندور. و یزرع السلمونی فی الأمکنة الجبلیة و یعرف بسنبلة مستطیلة فرقة ذات سفا، و حب مستطیل ذی مکسر دقیقی.
و القمح الهیتی من الأصناف التی تزرع فی الکرک و البلقاء، و سنبلته ذات سفا، و حبه حنطی إلی حمرة. و قد جرب علی القمح الطلیانی فی الغوطة فأتی بأحسن محصول.
الشعیر: هو فی الشام أشهر الزروع بعد الحنطة و أکثرها منتوجا، و قد قدرت غلاته فی سنة (1922) بنحو 500، 182 طن فی الشام عدا فلسطین و عبر الأردن. و هو علی صنفین العربی و الرومی. فالعربی ساقه قصیرة فارغة و سنبلته علی صفین و هی مستطیلة ذات سفا طویل. و حباته أقل غلظة من حبات الشعیر الرومی. ینضج قبل الرومی و هو أشهر منه و لا یتطلب مثله أرضا غنیة. أما الشعیر الرومی فسوقه غلیظة فارغة یتخللها عقد ملآنة و سنبلته علی ستة صفوف، و هی متوسطة الطول کثیفة ذات سفا. یکثر هذا الصنف فی الغوطة و المرج و هو یتطلب أرضا غنیة مسمدة.
و تزرع الذرة الصفراء فی أنحاء الشام فی الأرض التی تسقی، أما الذرة البیضاء فتزرع عذیا فی أنحاء فلسطین و فی عجلون لا سیما فی مرج ابن عامر. و أما الأرز (4- 12)
خطط الشام، ج‌4، ص: 178
فیزرع فی الحولة و هو قلیل الشأن. و من حبوب الفصیلة القرنیة الشائعة ما تعلفه الماشیة کالبیقیة و الجلبان و الکرسنة و الحلبة. و من الکلإ الفصفصة و هی ذائعة فی الأماکن التی تسقی.
البقول: لا تعیش أکثر الخضر و الأبازیر بلا ری فی أقالیم الشام کافة.
و لهذا یستدل من وجودها فی أرض علی کونها مما یمکن إسقاؤه. و أنواع الخضر التی تزرع کثیرة جدا و کلها تستهلک فی القطر.
الزروع الصناعیة: أشهرها القنب و القطن و السمسم. أما الکتان و النیلة و الحناء و الخشخاش و الخروع فلیست ذات بال فی الشام. فالقنب یزرع فی الغوطة و فی حلب، لکنه فی الغوطة أعظم شأنا، إذ تقدر فیها مساحة الأرض التی تزرع قنبا بنحو ألف هکتار فی کل سنة، أما فی حلب فقلما تزید علی مائتی هکتار.
و زراعة القنب رابحة لأسباب شتی أهمها کون هذا النبات لا یتطلب عنایات غیر التعطین بعد قلعه، و کونه فی مأمن من الأمراض و الحشرات حتی إن الماشیة لا تأکل ورقه. و قد ألف إقلیم الغوطة الوسطی و صار من زروعها الأساسیة التی لا یرجح علیها سوی أشجار الفواکه. و من الغلط الفاحش أن یقوم بعضهم فیبحث فی استبدال القطن به، لأن للقطن أقالیم غیر إقلیم الغوطة، و لأنه تصیبه عاهات لا تصیب القنب. هذا عدا العنایات التی تستلزمها زراعة القطن مما لا لزوم له فی زرع القنب.
القطن: یمکن زرع القطن بلا ری فی الشمال کمنطقة إدلب و دانة و ریحا حیث قدر ما ینتج منه سنة (1923) بنحو 000، 13 بالة. و قد علمت أنه نتج هنالک و فی باقی المناطق التی یزرع القطن فیها نحو 000، 15 بالة فی سنة (1925).
و لکن للقطن الذی ینتج فی البعل من أرض منطقة إدلب شعر غلیظ مجعد و هو لا یصلح إلا للمنسوجات الغلیظة، و لهذا لا یباع إلا بنحو نصف ثمن القطن المصری عادة. أما الأقطان المصریة فلا تنجب إلا فی الأرض التی تسقی.
السمسم: زرع السمسم شائع فی فلسطین و عجلون و لا سیما فی مرج ابن عامر حیث ینجب فی الأرض البعل کالذرة البیضاء. و یزرع منه قلیل فی الغوطة و وادی العجم و هناک یکون زرعا مسقیا. و الغایة من زرعه استخراج زیت الشیرج المعروف من بزوره و تتکوّن أثناء عصر هذه البزور مادة الطحینة المعلومة.
خطط الشام، ج‌4، ص: 179
المنتوجات الطبیعیة: تنبت الطبیعة فی بعض الأرجاء نباتات طبیعیة لها شأن فی اقتصادیات البلاد مثل السوس و الکمأة. فالسوس ینبت فی سهل العمق و جسر الشغر حیث أجود عروقه، ثم فی أنطاکیة و الباب و منبج و دیر الزور و السویدیة و کلها فی الشمال. و ینبت أیضا فی الغوطة و المرج. و یقدر ما یقتلع من عروق السوس فی الشمال بنحو عشرة آلاف طن کل سنة، و کلها تنقل إلی إسکندرونة حیث تسحق و تشحن إلی أمیرکا خاصة. أما فی الغوطة و المرج فیقتلع نحو ألف طن سنویا. و فوائد عرق السوس عظیمة و هو یضاف إلی عدد کبیر من الأدویة و یصنعون منه فی دمشق شرابا سکریا لذیذا یزید الإدرار.
و لیس للکمأة مکانة السوس و هی لا تکثر إلا فی السنین الغزیرة الأمطار.
و تنبت فی قلمون و جیرود و کثیر من القری الشرقیة القریبة من البادیة. و یختلف مقدار ما یرد منها إلی المدن باختلاف السنین.

الأشجار المثمرة:

أسماها مکانة الزیتون فالکرم فالبرتقال فاللیمون فالمشمش فالتین فالفستق فالجوز. أما باقی الأشجار فتأتی فی الدرجة الثانیة و أنواعها کثیرة مثل التفاح و الکمثری و الخوخ و اللوز و الرمان و الدراق و السفرجل و الموز و النخل و الآس و الصبار و التوت و العناب و الخروب الخ.
الزیتون: أفضل الشجر و أعمه فی مختلف المناطق. و هو یکثر فی جزین و المختارة و الشویفات و زغرتة و الکورة، و فی الغوطة و المرج، و ضواحی طرابلس و فی طرطوس و صافیتا و جبلة و اللاذقیة و البایر و فی أرباض أنطاکیة، و فی السویدیة و القصیر و کردطاغ، و یقل حول حلب و الباب و سلقین و إدلب.
و قد اشتهر فی الجنوب زیت الرامة کما اشتهر زیتون جبال نابلس و القدس و سهول لدّ و الرملة. و ینجب الزیتون فی البعل من الأرض و لا یسقی إلا فی الغوطة و المرج و فی القری القریبة من البادیة. و أصنافه کثار أشهرها فی دمشق الدان و الأخضر (أو المصعبی) و الجلط و التفاحی. و أشهرها فی لبنان الصوری و الشامی و المصری و الشتوی و العیرونی و بیض الحمام و البلدی. و أعمها فی اللاذقیة الخضیری و الطمرانی و قلب الطیر. و فی الإسکندرونة القرمانی و الخلخالی و الرمانی و التفاحی الخ.
خطط الشام، ج‌4، ص: 180
فالدان أنفع الأصناف بدمشق و أغناها زیتا (18- 20 فی المئة) یستخرج الزیت منه و قلما یؤکل أخضر أو مکبوسا. یبلغ طول ثمرته 20 میلیمترا و عرضها 13 میلیمترا و هی تسودّ بعد أن تنضج. و شجرة الزیتون الأخضر أو المصعبی کبیرة أحد طرفیها حاد یبلغ طولها 32 میلیمترا و عرضها 24 میملیترا، و هی تقطف خضراء و تکبس و لا تعصر لاستخراج زیتها. و ثمرة الجلط کبیرة مستطیلة سوداء تشبه ثمرة البلح شکلا طولها 35 میلیمترا و عرضها 25 میلیمترا و هذا الصنف أغلی الأصناف و أجودها مکبوسا و یندر عصره لاستخراج زیته منه.
الکرم: الکرم شائع کثیر فی الشام، و تقدر مساحة الکروم بنحو ستین ألف هکتار (عدا فلسطین و شرقی الأردن). و أوسع الکروم الیوم فی الصلت و دومة و داریا بالقرب من دمشق و فی زحلة و بحمدون و حمص و تلبیسة بالقرب من حمص و فی حلب الخ. و لا تخلو قریة من قری لبنان و وادی التیم و جبال النصیریة و قلمون من قلیل من الکروم. و الکرمة تعیش فی البعل من الأرض لا یسقی من الکروم إلا ما کان منها فی الغوطة و المرج و فی أرجاء سلمیة. و تؤکل الأعناب أو تصنع زبیبا أو دبسا أو خلا أو عرقا أو نبیذا. و الکرم أصناف عدیدة، أشهرها الزینی و البلدی و الأحمر و الأحمر الدارانی و الدربلی و الحلوانی و الأسود فی دمشق و الغوطة، و الفضی و القاصوفی و الشقیفی و القمحانی و المریمی و الخانقی و بیض الحمام و الزحلاوی فی وادی التیم و البقاع، و الجحافی و البیاضی فی سلمیة. و عنب الشیخ و اصبع الست فی الإسکندرونة الخ.
و قضبان الزینی طوال سلامیاتها متوسطة و عناقیده ضخمة نصف کثیفة و ورقه کبار مشرحة بشقوق عمیقة حافاتها مسننة و ثمرته مستطیلة قشرتها بیضاء غلیظة و لبها مائع. تؤکل ثمار هذا الصنف و لا یصنع منها زبیب أو خمر و هی من أجود الأعناب.
و عناقید البلدی رهلة و ثمرته أسطوانیة طویلة بیضاء إلی خضرة، ذات قشرة ملتصقة باللب و اللب لحمی قاس لذیذ. و ثمار هذا الصنف کالسابق تؤکل و لا یصنع منها شی‌ء. و لیس العنب الأحمر من الأعناب اللذیذة و یصنع منه زبیب و دبس و خمر و عرق. أما الأحمر الدارانی فثمرته قلیلة الحمرة مستدیرة مع شی‌ء من الاستطالة لبها نصف لحمی لذیذ و هی تؤکل و یصنع منها زبیب و مسکرات
خطط الشام، ج‌4، ص: 181
و یعادل ثمن هذا الصنف ثمن العنب الزینی.
و الفضی من أجود أعناب وادی التیم ثمرته مستدیرة متوسطة الجرم قشرتها رقیقة صفراء و لبها یکاد یکون مائیا و بزورها متوسطة. أما القاصوفی فثمرته أسطوانیة منتفخة قلیلا فی وسطها نصف لحمیة بیضاء إلی خضرة و هی أصغر قلیلا من ثمرة العنب الزینی.
البرتقال و اللیمون الحامض: ذکر علماء النبات أن موطن هاتین الشجرتین الأصلیة فی شرق آسیا، و أن الفضل یعود إلی العرب فی نقلهما إلی سواحل بحر الروم. و هما ینجبان فی الغور و سواحل الشام و لا بد من إسقائهما. أما فی مناطق السهول المرتفعة و الجبال کالغوطة و حوران و حلب و الزبدانی مثلا فإن هبوط الحرارة فی الشتاء إلی بضع درجات تحت الصفر یودی بحیاتهما، و لهذا لا یزرعان فی تلک الأرجاء إلا فی حدائق البیوت حیث یکونان بین جدران تقیهما تأثیر الریاح الباردة فیهما.
و أوسع بساتین البرتقال و اللیمون الیوم فی یافا (نحو 2000 هکتار) ثم فی طرابلس (نحو 1200 هکتار) و یلیهما منطقة الإسکندرونة (درت یول و بیاس) و بیروت و صیدا و صور و عکا الخ.
و أجود أصناف البرتقال الیافاوی أو الیافونی (شموطی) ثمرته ضخمة بیضیة ذات قشرة غلیظة و لب قاس لذیذ، لکنه قلیل العصارة لا سیما بعد تمام نضجه. و هو ینقل بسهولة إلی القاصیة مثل إنکلترا حیث یرجح علی کثیر من الأصناف. و مما یستملح فیه سهولة تقشیره دون تلویث الیدین.
و من أکثر الأصناف انتشارا البرتقال البلدی و هو ذو ثمرة کرویة أصغر من ثمرة الیافاوی قشرتها رقیقة و لبها کثیر العصارة. و هذا الصنف لا یصلح للأسفار مثل الیافاوی. و من أصناف البرتقال الماوردی و هو یعرف بقشرة رقیقة حمراء ملتصقة باللب و لب أحمر کثیر العصارة. و هذا الصنف لا یألف الأسفار الطویلة و تقشیره صعب.
کان یقدر محصول البرتقال فی یافا فی سنة (1914) أی فی بدء الحرب الکبری بنحو 000، 850، 1 صندوق، أما بعد الحرب فقد هبط المحصول إلی 000، 400، 1 صندوق تقریبا. و قد زاد فی العهد محصول البرتقال الیافاوی و بعبارة أصح
خطط الشام، ج‌4، ص: 182
الفلسطینی أربعة أو خمسة أضعاف ما کان علیه قبل ربع قرن. و کان محصول طرابلس قبل الحرب 000، 800 صندوق من البرتقال و 000، 240 صندوق من اللیمون الحامض علی وجه التقریب (یحتوی الصندوق علی 150 برتقالة أو 300 لیمونة). أما بعد الحرب فهبطت هذه المقادیر إلی نصفها.
و یشحن معظم محصول یافا إلی إنکلترا و مصر، أما محصول طرابلس فإلی أودیسا و بلغاریا و القسطنطینیة و مصر. و کذا محاصیل صیدا و الإسکندرونة.
المشمش: یمکن غرس المشمش فی جمیع أقالیم الشام الزراعیة و لیس فیها ما لا یصلح له سوی الجبال العالیة حیث یخشی علی أزهاره و فراخه من تأثیر الصقیع فیها فی الربیع. و هو لا ینجب فی غیر الأرض التی یمکن إسقاؤها.
و أعظم مغروساته فی الغوطة و المرج و وادی العجم و وادی بردی و حول صیدا و بیروت و بعلبک و أنطاکیة و أرسوس. و منه قلیل فی کثیر من البلدان التی یمکن فیها إسقاؤه. و أشهر أصنافه الیوم الحموی و البلدی و السندیانی و الوزری و العجمی و الکلابی فی دمشق ثم اللوزی فی الساحل.
و للحموی ثمرة متوسطة الحجم صفراء ذهبیة لامعة تذوب فی الفم و تهضم بسهولة و داخلها بزرة حلوة. و هی أجمل ثمار المشمش منظرا و ألذها طعما و أعطرها رائحة و أغلاها ثمنا تؤکل رخصة و لا یصنع منها قمر الدین. أما ثمار المشمش البلدی فکبیرة ضاربة إلی حمرة ضمنها بزور حلوة و تجی‌ء فی اللذة بعد الحموی، تؤکل رخصة و یصنع منها ألذّ المفلقات (النقوع). و تبلغ أشجار هذا الصنف عشرین فی المئة من مجموع شجر المشمش فی الغوطة و المرج. أما الحموی فلا یزید علی خمسة فی المئة. و یشبه المشمش السندیانی الحموی بشکل ثماره و شتان بین الثمرتین فی اللذة لأن السندیانی هو تقلید الحموی کما یقول الدمشقیون. و نسبة البلدی إلی الوزری من هذه الوجهة کنسبة السندیانی إلی الحموی أما المشمش العجمی فثماره کبیرة جمیلة المنظر صفراء إلی خضرة لبها قاس و طعمها سکری لکنه مجرد عن طعم المشمش الخصوصی بل هو یشبه طعم الدراق، و لهذا لا نستملح هذا الصنف و هو غیر شائع. و ثمار المشمش الکلابی أصغر الثمار حجما و أردؤها طعما و هی صفراء إلی حمرة بزورها مرة، و هذا الصنف أشهر الأصناف فی الغوطتین إذ تبلغ نسبته نحو 70 فی المئة من مجموع
خطط الشام، ج‌4، ص: 183
شجر المشمش، و منه یصنع قمر الدین المشهور. و هو یولد من بزوره و لا یطعم فهو إذن أقرب الأصناف إلی المشمش البری. و ثمرة المشمس اللوزی فی الساحل شبیهة بثمرة الحموی بدمشق و لعلهما صنف واحد.
دمشق مرکز تجارة المشمش و ما یصنع منه، و منها یصدر قمر الدین و النقوع و بزر المشمش إلی مصر و الأناضول و إلی أمیرکا الشمالیة و یقدر الیوم متوسط حاصلات المشمش فی الغوطة و المرج بنحو اثنی عشر ملیونا من الکیلو غرامات سنویا منها نحو 80 فی المئة من المشمش الکلابی الذی یصنع منه قمر الدین، و یظهر أن مستغلاته قبل الحرب الکبری کانت أعظم منها الیوم.
الفستق: إن غابات البطم فی البلعاس و بقیة أشجار الفستق الهرمة فی قریة عین التینة تحمل علی دعوی أن الشام من البلاد التی تعد بلاد الفستق الأصلیة.
و تکاد زراعة الفستق لا تتجاوز الیوم حلب حیث تأتی أجود ثماره و ألذّها و أغلاها و من أصنافه فی تلک المدینة الأبیض المراوحی و العاشوری و العلیمی و الباتوری و ناب الجمل و العینتابی، و یقدر ما ینتج من ثماره حوالی حلب بنیف و مائة ألف کیلو فی السنة.

الحیوانات الدواجن فی الشام:

الخیل- الخیل فی الشام ثلاثة أصناف العراب أو الأصیلة، و البراذین أو ما تعرف الیوم بالکدش، و المولدة و هی التی تولد من أم عربیة و أب أعجمی أو علی العکس. ففی الحالة الأولی یسمی المولّد هجینا، و فی الثانیة مقرفا.
تجلب الکدش من الأناضول خاصة و هی بشعة المنظر إذا قیست بالخیل العراب، لا ترکب بل تصلح لحمل الأثقال أو جرها أو درس الحصائد و عددها عظیم یبلغ نحو سبعین فی المئة من مجموع خیل الشام. أما الخیل المولّدة فأجمل من البراذین و أقوی و هی ترکب أکثر ما تستعمل فی جر المرکبات فی المدن و نسبتها للمجموع نحو 20 فی المئة.
و أجمل الخیل فی العالم هی العراب و تحلیتها علمیا کما یلی: مستقیمة الرأس متوسطة الجثة طول أعضائها متوسط لها رأس مربع و جبهة مسطحة و مقدم مستقیم و وجه متوسط الطول، و فکان متباعدتان و منخران جامدان و مرنان معا، و أذنان
خطط الشام، ج‌4، ص: 184
حساستان و عینان کبیرتان تنمان عن ذکاء، و عنق رشیق شدید العضل، و ظهر مستقیم و ردف أفقی مکتنز، و عجزان مستدیران و صدر واسع و بطن صغیر، و قوائم رشیقة قویة العضل عمودیة لا عیب فیها، و أوتار جلیة و مفاصل عریضة و جلد رقیق مرن و شعر لا مع قصیر و عرف و سیب طویلان ناعمان متموجان.
و مجموع الجواد العربی آیة فی انتظام تکوینه فهو جمیل قوی شهم، و لا ریب أنه أکمل جواد علی وجه الأرض.
و یختلف لون الخیل العراب و قد استفاضت شهرة الشهب و الشقر و الکمت. و أجملها الشهب المدنرة أی التی یخالط الشهبة فیها نکت سود (أبیض مبقج أو أزرق مبقج).
وزن الجیاد العراب بین 400 و 450 کیلو غراما ارتفاعها 42، 1 إلی 55، 1 متر، و دورة صدرها 72، 1 إلی 78، 1 متر، و تصلح الخیل العربیة للرکوب و السباق خاصة و إن من إسفاد ذکورها علی إناث إنکلیزیة غیر کریمة منذ بضعة قرون تولدت الجیاد الإنکلیزیة الصافیة السبّاقة الشهیرة التی یقصر الیوم عن إدراکها کل جواد فی حلبة السباق.
و أجمل الخیل العراب ما کان فی دمشق و حمص و حماة ولدی بعض الأسر و العشائر القدیمة کالدنادشة فی تل کلح و الموالی فی شمال الشام. و لا تزید نسبتها علی عشرة فی المائة من مجموع عدد الخیل لدی أهل الحضر من الشامیین.
الحمیر- فی الشام ثلاثة عروق من الحمیر: الآسیوی و المصری و القبرصی أو الأوربی. فالصنف الأسیوی هو الأشهر (تبلغ نسبته 95 فی المئة من مجموع حمر الشام) لونه إلی سواد و ارتفاعه متر إلی متر و ربع، و هو حیوان الفقراء، یصلح للرکوب و الحمل و لا یوازیه حیوان بصبره و قناعته و فوائده الجمة إذا قیست بالعلف القلیل الذی یعلفه. أما الحمر المصریة فبیضاء اللون ارتفاعها أکبر من ارتفاع الحمر الأسیویة و لا تستخدم إلا للرکوب و هی جمیلة المنظر سباقة فی نوعها و ثمن الجید منها غال لا سیما فی المدن. أما الحمر القبرصیة فتعرف من کبر قدها إذ یبلغ ارتفاعها 30، 1 إلی 40، 1 متر و هی تستعمل فی سفاد إناث الخیل للحصول علی بغال عظیمة القد قویة البنیة.
البغال- تحصل من إسفاد الحمر القبرصیة علی البراذین (کدش) و هی
خطط الشام، ج‌4، ص: 185
ذات قدّ یقرب من قد البراذین فهی إذن صغیرة القد و فائدتها بقناعتها و قوتها و تحملها الأتعاب و قیامها بأعمال تشق علی کل حیوان غیرها. فهی تستخدم مثلا فی الحرث بمحاریث حدیثة لأن بقر الشام صغیر الجثة لا یقوی علی إثارة الأرض بها. و تحمّل أثقالا فی المناطق الجبلیة الوعرة المسالک کوادی التیم و القری الجبلیة من إقلیم البلان و تجر المرکبات الضخمة المحملة بضاعات و مؤنا علی الطرقات المعبدة فی لبنان و بین دمشق و بیروت. و من منا لم یر فی لبنان و بیروت المرکبات الشهیرة التی تسمی (کارات) یجرها أربعة بغال مصفوفة بعضها أمام بعض علی سطر واحد. و لقد ترک الجیش الإنکلیزی فی الشام عقب الحرب الکبری عددا عظیما من البغال الکبیرة القد لا تبرح بقایاها فی دمشق إلی یومنا هذا. و هی تتطلب عنایات کثیرة و علفا زائدا و لا تتحمل المشاق بقدر البغال الشامیة.
البقر- بقر الشام من العرق الآسیوی القصیر الرأس ذی الجبهة المستقیمة العریضة و هو علی ثلاثة أصناف: البلدی و العکش و الجولانی (أو الخمیسی) فالبقر البلدی شائع فی الغوطة و فی أرجاء العاصی و یسمیه الحمصیون البقر الحلبی و الحمویون البقر الشامی و هو کبیر طویل القامة (متر و ربع إلی متر و نصف) صلب العود قصیر الرأس و القرون ناعم الجلد تغلب الشقرة علی لونه و قد یکون کمیتا أو إلی سواد أحیانا. و وزنه 300- 500 کیلو غرام و هو بالنظر إلی کبر قده أقرب الأصناف إلی البقر الأوربیة و لذا یصلح للحرث حرثا عمیقا إذا علفت أنثاه علفا غزیرا تحلب فی الغوطة طول السنة تقریبا. و یحسب أنها تدر عندئذ 12- 15 کیلو فی الیوم خلال ستة أشهر عقب الوضع و 8- 10 کیلو فی الیوم فی الثلاثة الأشهر التی تلیها ثم 4- 5 کیلو فی الیوم خلال شهرین آخرین. فیکون الوزن المتوسط لما تدرّه من اللبن فی السنة 2500- 2700 کیلو.
و لا یألف البقر البلدی أقالیم الشام بأسرها بل یتطلب إقلیما معتدلا و رطبا، و لهذا یندر أن تراه فی غیر البساتین و هو لا یقاوم الحر فی السهول التی لا ماء للری فیها کحوران و البلقاء و سهول حمص و حماة و غیرها. و عدده لیس عظیما و لا یزید علی 10 أو 12 فی المائة من مجموع بقر الشام. و یسمی البقر الجولانی بأسماء مختلفة فیقال له الخمیسی فی النبک و الزبدانی و البزری فی حماة. و یغلب
خطط الشام، ج‌4، ص: 186
علی الظن أنه حصل من إسفاد الثور البلدی علی البقرة العکش و لذا جاء قده و وزنه و تکوینه و طباعه بین بین. فإن له رأسا قصیرا و جبهة عریضة و قرنین متجهین إلی الأمام و ثوبا أسود فی الغالب و قد یکون أشقر أحیانا. و طوله نحو 15، 1 إلی 30، 1 متر و وزنه نحو 250 کیلو. و هو یعد فی العوامل و تعطی أنثاه قلیلا من اللبن. و لیس له رقة البقر البلدی و هو أکثر منه تحملا للحر و القر و الجوع و التعب. و نسبته للمجموع 15 فی المئة تقریبا.
و أشهر البقر الیوم هو الذی یدعی البقر العکش فی أکثر أنحاء الشام. و یسمیه الحمویون القلیطی و الحمصیون الأناضولی. و لا تختلف تحلیته من حیث تکوینه عما ذکر. و له جرم صغیر و لا یزید ارتفاعه علی متر و عشرة سنتیمترات إلی متر و ربع و وزنه نحو 200 کیلو و قد یکون أقل من ذلک فهو إذن لا یصلح للحرث بمحاریث حدیثة تغور فی التراب کثیرا. و یغلب علیه اللون الأسود و قلیلا ما یکون أبرش أو أشقر. و یحتمل هذا الصنف من البقر الجوع و التعب و الحر و الیبوسه و لهذا تبلغ نسبته نحو 75 فی المئة من مجموع بقر الشام. و درّ أنثاه قلیل و یسهل علفه و تسمینه بالغذاء.
الضأن- ینتسب للضأن فی الشام إلی العرق الشامی أو الآسیوی و هاک تحلیته فنیا: رأسه طویل قلیلا و جبهته تکاد تکون مستقیمة، و قرناه معقوفان متجهان إلی الوراء، و قد یتفرعان، و وجهه مستطیل، و عظام منخره طویلة، و منظر رأسه و وجهه ینم عن احدیداب قلیل، و ذنبه عظیم فیه مقدار کبیر من الدهن.
و وزنه المتوسط نحو 40 کیلو غراما و طوله 65- 75 سنتیمترا. و هو یسمن بسهولة أما مقدار الدرّ فی النعاج فمتوسط.
و فی الشام أصناف للضأن أشهرها المسمی (عواس) أو ضأن الموصل و هو شائع فی حمص و حماة و البقاع و دمشق و لبنان و غیرها. صوفه أبیض یبلغ کیلو غراما و نصفا إلی کیلو غرامین و قد یزید علی ذلک. و ینقص نحو نصفه إذا غسل و یبلغ وزن إلیته 5 إلی 6 کیلو غرامات و طول الشعرة من صوفه 15- 18 سنتیمترا.
و ما ذکر من الأرقام هو الحد الأوسط، و ربّ کبش سمن فی لبنان بورق التوت و الکرمة فبلغ وزنه ضعفی ما ذکر، و بلغ طول الشعرة من صوفه 30
خطط الشام، ج‌4، ص: 187
سنتیمترا و زاد وزن إلیته علی ثمانیة کیلو غرامات، ورقّ صوفه و مرن.
و یرد إلی الشام أصناف أخری للضأن کالحمراء و البرازیة و الشقراء و النجدیة ثم ضأن أرزنجان أو المور فی حلب و هو ذو صوف أحمر أو إلی سواد. و تدر النعجة لبنها 4- 5 أشهر فتعطی فی الیوم نحو 500 غرام. و إذا علفت کما تعلف فی حمص و البقاع تعطی 750 غراما إلی کیلو غرام من الحلیب فی کل یوم.
و یبدأ جز الصوف فی آذار و ینتهی فی أیار فی المناطق الباردة، و أکثر ما یکون فی نیسان.
و یزید عدد الضأن فی الشام علی ملیونی رأس و تربیته شائعة لدی العشائر البدویة الضاربة فی الشرق و منها الجزیرة. و قد اشتهرت عشیرة الحدیدیین بحسن تربیة الکباش و النعاج الصالحة للسفاد. و اشتهر السمن الحدیدی نسبة إلی تلک العشیرة التی تقطن منطقة الحمراء و معرة النعمان فی الصیف. و ینقل فی کل سنة قطعان عظیمة من الغنم من الروم و العراق إلی الشام حیث یستهلک بعضها و یرسل الآخر إلی مصر و جزر یونان و غیرها.
المعز- معز الشام من العرق الإفریقی و تحت العرق النوبی (نسبة إلی النوبة) و هی تعرف برأس طویل و وجه قصیر علی شکل مثلث قاعدته ضیقة، و جبهته محدبة کثیرا. و هی علی صنفین البلدیة و الجبلیة، فالمعز البلدیة یبلغ ارتفاعها 70- 75 سنتیمترا و وزنها 30- 35 کیلو غراما، و لها ثوب أحمر أو أحمر ملمع ببیاض.
و قد تکون شهباء أو سوداء أحیانا و قد تجمع ثلاثة ألوان متفرقة: بیاض و حمرة و سواد. و إذا کان لونها أحمر و جبهتها بیضاء سمیت صبحاء بدمشق، أما إذا جمعت البیاض و الحمرة فتسمی عجمیة، و هی جمّاء فی الغالب. و إذا نجمت لها قرون تظل صغیرة و کثیرا ما تقطع، و ینمو لکل منها زنمتان طویلتان فتسمی الشاة قرطاء و هی شیة حسنة تزید ثمنها و اذناها طویلتان متدلیتان و کثیرا ما ینیف طول واحدتهما علی شبر و یقطعهما الأکارون إذا أفرطتا فی الطول. و البلدیة من أجود المعزی الحلوبة فهی إذا صادفت عنایة تدر فی الیوم لیترین إلی ثلاثة من الحلیب مدة ستة أشهر و تدر نصف هذا المقدار تقریبا خلال شهرین آخرین.
و هی ترعی فی الغوطة العشب النامی حول القنی و مجاری الماء و ترعی أیضا الفصفصة و البیقیة الخضراء، و کثیرا ما تعلف نحو کیلو غرام من حب الجلبان
خطط الشام، ج‌4، ص: 188
صباح کل یوم قبل تسریحها و هذا خاص بالحلوبة منها.
و الماعز الجبلیة تشبه البلدیة بصفاتها الفنیة لکنها أقصر منها، و لها ثوب أکثر ما یکون أسود، و هی لیست درورا بقدر البلدیة. و المعزی الجبلیة منتشرة فی أنحاء الشام لا تخلو منها قریة و علی العکس فی البلدیة التی تکاد لا تخرج عن المدن و المناطق التی یکثر فیها الکلأ فی فصول السنة.
الإبل- إبل الشام من ذوات السنام الواحد. أما ذوات السنامین فتوجد فی جبال فارس و الأناضول و بلاد الکرد و تنقل إلیها من آسیا الوسطی. و لما کانت تحتمل البرد و السیر فی المسالک الوعرة فقد فکر الشامیون فی إسفاد فحولها علی النوق الشامیة فحصلوا علی هجن لها سنام واحد کأمهاتها و ذات جلد علی السیر فی الجبال و الأوعار کآبائها. و هذه الهجن شائعة فی الجزیرة و لبنان و عجلون و غیرها و هی تعرف بقصر القامة و صغر الرأس.
و الرکائب من إبل الشام أصناف و أشهرها الیوم إبل الحرة لدی عشیرتی بنی صخر و الشرارات و غیرهما فی البلقاء. و ینتقی الجیش رکائبه من هذه الإبل غالبا. و منها الإبل العمانیات أصلها من عمان و هی ذات رأس نحیف و قدّ أهیف و مزاج عصبی. و جیش الهند یبتاع منها ما یلزمه من الإبل، و منها الإبل التیهیة أصلها من السودان و ترد إلی فلسطین و البلقاء مع القوافل الآتیة من مصر.
و قد کانت إبل الجیش الإنکلیزی من هذا الصنف خلال الحرب الکبری.
و یطلق الأوربیون کلمة مهری علی الإبل السباقة عموما أو علی عرق معلوم منها. و یظن أن هذا الاسم مشتق من الإبل المهریّة المنسوبة إلی مهرة بن حیدان و هی مشهورة بالسبق.
و البعیر صدیق البدوی الحمیم و لولاه لزالت البداوة، فهو یحمل الخیام و الماء فی المراحل الخالیة من الماء و مؤنا تکفی لستة أشهر یقضیها البدوی مع عشیرته فی صحراء الشام، و یحمل البدوی نفسه و عیاله و سلاحه و تحلب الناقة بعد الوضع فی کل یوم خمسة لیترات إلی عشرة فی مدة سنة أو أکثر، و حلیب النوق لذیذ ملین، و لیس لحم الجمل أردأ من لحم البقر الذی یأکله الأوربیون و وبر الجمل ألین من صوف الضأن و منه تصنع عباءات الوبر العراقیة الشهیرة، و تصنع من جلده قرب عظام منها ما یسع 200 لیتر من الماء و تعمل أیضا نعال
خطط الشام، ج‌4، ص: 189
قویة لا تفنی من جلد رکبتیه و غیرهما من أعضائه التی تحتک بالأرض بینما یکون الجمل جالسا.

الصناعات الزراعیة فی الشام:

لیس فی الشام الیوم معامل عظیمة للمصنوعات الزراعیة کما فی أوربا، لکن لبعض هذه المصنوعات (و إن کانت تصنع علی الطرائق القدیمة) شأنا کبیرا فی الحیاة الاقتصادیة. و أهم هذه المصنوعات قمر الدین و النقوع و الزبیب و الدبس و الصابون و الزیت و السمن و العرق و الخمر و الجبن و الطحین و النشاء.
قمر الدین- یصنع أشهر قمر الدین فی الغوطة و المرج و قلیلا فی وادی العجم و الزبدانی و بعلبک و فی کل مکان فیه مقدار من شجر المشمش و یلزم أربعة أرطال إلی أربعة و نصف من المشمش للحصول علی رطل من قمر الدین، و هو یصنع من المشمش الکلابی و یندر صنعه من المشمش البلدی، و اشتهر منه بدمشق ما یرد من قریتی زملکا و عربیل من قری الغوطة، و لیس صنعه أمرا عسرا فالمشمش یسحق بالأیدی فی غربال موضوع فوق بناء یسمی تیغارا مفروشة أرضه بالاسمنت ثم یغترف العصیر بکیلة من خشب و یفرش بمهارة علی لوح من خشب بعد أن یطلی اللوح بقلیل من الزیت، و بعدها یوضع اللوح فی الشمس یوما و نصف یوم فیجف العصیر و یصیر شرائح وزن کل منها رطل تقریبا و هی «لفات» قمر الدین المعلومة.
و معظم القمر الدین الذی یصنع حوالی دمشق یشحن الیوم إلی مصر و شمال الشام، و یقدر ما یصنع منه سنویا بنحو 000، 40 قنطار دمشقی و هو المقدار المتوسط، (یساوی القنطار الدمشقی 256 کیلو غراما).
النقوع- هی ثمار المشمش المجففة و تسمی بالعربیة المفلّق، تصنع من المشمش البلدی و ذلک بأن یوضع المشمش فی الشمس علی مسطاح من القش مدة أربعة أیام، ثم تکبس الثمار بین الکفین و تترک یومین آخرین، ثم ترقق أطرافها بالأصابع ثم تترک یومین أو أکثر فتجف، و یلزم خمسة أرطال من المشمش للحصول علی رطل من النقوع، و یدل إحصاء المکس فی بیروت علی أنه صدر منها وحدها سنة، (1911) 000، 680 کیلو غرام من النقوع و ملیون و نیف کیلو
خطط الشام، ج‌4، ص: 190
غرام من بزور المشمش و هی تصلح لاستخراج زیت منها.
الزبیب و الدبس- أجود زبیب فی الشام ما یحصل من تزبیب العنب الدربلی فی جیرود و الرحیبة و الریحان و دومة، و یلیه زبیب الصلت. و یصنع الزبیب فی کل القری التی فیها أعناب، و لیس فی صنعه صعوبة، فالعنب یغطس بماء فیه شی‌ء من القلی و الزیت ثم یفرش علی مسطاح مدة ثمانیة أیام فیجف. و یحسب أن کل أربعة أرطال من العنب ینتج منها رطل من الزبیب. و للثمار المجففة شأن کبیر إذا صحت العزیمة علی الاعتناء بصفها و بقطفها و شحنها إلی الدیار الأجنبیة کما یفعل الزراع حول مدینة أزمیر بزبیبهم و تینهم المجفف.
و یصنع الدبس من الزبیب أو العنب، ففی الحالة الأولی یدرس الزبیب فی المعصرة بمدرس من حجر حتی یصیر کتلة لزجة، ثم یوضع فی قدور کبیرة و یغمر بالماء مدة 24 ساعة، ثم یؤخذ ماء الزبیب (جلاب أو صلیبة) و یوضع فی مرجل و تضرم النار تحته حتی یتحصل الدبس. و یلزم مائة رطل من الزبیب للحصول علی 60 إلی 80 رطلا من الدبس. و اشتهر دباسو قری معربا و دومة و عربیل بصنع دبس لذیذ یعطرونه بعطر الورد أحیانا.
الصابون- أشهر مصابن الشام فی طرابلس و نابلس و دمشق و حلب و کلز، و یبلغ المقدار المتوسط للصابون الذی یصنع سنویا فی الشام نحو 000، 13 طن.
و صناعته علی الأصول القدیمة.
الزیت- أشهر الزیوت ما یصنع فی معاصر لبنان و فلسطین و أشهرها جمیعا زیت الرامة، و اعتاد أرباب الزیتون فی دمشق أن یترکوه مدة طویلة فی المعصرة، فیختمر و یتعفن و یحصل له طعم کریه، حتی إنه لیشق تصریفه خارج الشام.
و الداعی إلی ذلک قلة المعاصر بدمشق و خصوصا اعتقاد الزراع بأنه بقدر ما تطول المدة بین قطف الزیتون و عصره تزداد نسبة الزیت المتحصل بالعصر. و اعتقادهم هذا صحیح إلا أن زیادة نسبة الزیت لا توازی هبوط سعره المنبعث عن رداءة طعمه.
و یتوقف استخراج الزیت علی الأعمال الآتیة: (أولا) سحق الزیتون بأسطوانة من حجر یدیرها بغل داخل وعاء مستدیر من حجر. (ثانیا) کبس الزیتون المسحوق لتفریق الزیت عن الثفل و ذلک بمکبس عادی أو مکبس مائی.
خطط الشام، ج‌4، ص: 191
(ثالثا) تفریق الزیت عن الماء و العناصر الأجنبیة المختلطة به و ذلک بترک العصیر یروق فیفترق الزیت الصافی لأنه یطفو علی وجه العصیر. أما الثفل فهو یسحق و یکبس فیخرج منه زیت أسود یسمیه الدمشقیرن زیت الجفت یستعمل فی صنع الصابون.
و فی الشام الیوم أکثر من 400 مکبس منها نحو 200 مکبس مائی، و یستدل من عدد المکابس علی عدد المعاصر، و إذا استثنینا فلسطین و شرقی الأردن فإن متوسط ما یستخرج من الزیت فی باقی أنحاء الشام یقدر بنحو 500، 10 طن نصفها الیوم فی لبنان.
السمن- هو المادة التی یطبخ بها الشامیون أکثر أغذیتهم علی العکس من الفرنج فهم یطبخونها بالزبدة و لا یعرفون السمن، و یصنع السمن بمخض اللبن فی مماخض من جلد الغنم، تعلق بحبلین یشدان إلی دعائم و یدوم المخض نحو ساعتین و نصف فیلتصق السمن بداخل الممخضة و یقشط بعد تفریغ اللبن. و یقدر أنه یحصل أربعة أرطال من السمن من مائة رطل من اللبن. و السمن من صناعات البدو، و أجود السمون ما یصنعه عشیرة الحدیدیین بلبن الضأن.
العرق و الخمر- العرق ألذ المسکرات و أرجحها لدی الشامیین، و یصنع منه ما لا یقل عن 000، 15 هیکتولیتر فی کل سنة فی دمشق و النبک و حمص و زحلة و کثیر من قری فلسطین و لبنان و وادی التیم. یوضع عصیر العنب فی دنان عظیمة حتی إذا اختمر یضاف إلیه الأنیسون بحیث یکون حظ کل مائة کیلو غرام من العصیر ثلاثمائة غرام من الأنیسون، و بعدها یقطر العرق بالانبیق فیکون مقداره ربع العصیر تقریبا، و إذا أرید الحصول علی عرق نسبة الکحول فیه أکبر (عرق مثلث) یعمد إلی العرق الأول فیضاف إلیه مقدار من الأنیسون و یقطر منه عرق ثقیل.
و لیس شرب الخمر شائعا فی الشام شیوعه فی أوربا حیث یقوم مقام الماء أثناء الطعام. و أکبر المعامل لصنع الخمرة هو معمل ریشون فی عیون قارة فی فلسطین و هو معدود من أکبر معامل العالم و یشحن نبیذه إلی مصر و العراق و إلی أوربا و لا یستهلک من نبیذه فی الشام إلا مقدار قلیل، و یلیه معمل کسارة و معمل شتورة فی البقاع.
خطط الشام، ج‌4، ص: 192
النشاء- یصنع فی الشام لا سیما فی دمشق و حلب مقدار من النشاء لاستهلاکه و قاعات النشاء فی دمشق معروفة، و هو یستخرج فیها من الحنطة علی طریقة قدیمة بسیطة لا شأن للآلات الحدیثة فیها. تنقع الحنطة فی الماء نحو عشرة أیام ثم تسحق بحجر الرحی و تمرس بضع مرات بالماء حتی یخالط النشاء الماء و بعدها یترک المائع فیرسب النشاء فی قعر الوعاء، و یحسب أن القنطار من الحنطة یعطی 65- 70 رطلا من النشاء بهذه الطریقة، أما الثفل فتعلفه الجمال.
المطاحن- کانت مطاحن الشام إلی عهد قریب عبارة عن أحجار رحی یدیرها الماء بقوة انحداره، أما الیوم فیشاهد المرء عشرات من المطاحن البخاریة فی الأماکن التی لا ماء فیها عدا بضع مطاحن علی آخر طراز من الفن أی إن أرحیتها أسطوانات تدار بالکهرباء و هی فی دمشق و حیفا و یافا.
الجبن و القشطة- تعزل القشطة عن الحلیب فتؤکل وحدها و تضاف إلی بعض الحلواء، و تصنع جبنة لا لذة لها بالحلیب الذی فرزت قشطته، و أشهر أنواع الجبن المصنوع فی الشام الأبیض و الحالوم الحلبی، و قد أخذ الشامیون یصنعون جبن البلقان المسمی قشقوان و لم یتوصلوا إلی تخمیره کما فی مواطنه الأصلیة و جمیع أنواع الجبن المذکورة بعیدة عن أن تساوی أنواع الجبن الأوربیة بلذتها و تعدد أنواعها.

زراعة الشام من الوجهتین المالیة و الاقتصادیة:

نذکر فی هذا البحث أقسام الأرض و الضرائب الزراعیة و طرائق استثمار الأرض و إقراض الزراع.
أقسام الأرض- تقسم الأرض فی الشام من الوجهة القانونیة إلی خمسة أقسام و هی الأرض المملوکة و الأمیریة و الموقوفة و المتروکة و الموات، و لکل قسم من هذه الأقسام نظام خاص فی دفع الضرائب الزراعیة. فالأرض المملوکة هی التی یملکها صاحبها ملکا صحیحا تاما بحیث یستطیع وقفها و عدم زرعها مدة طویلة، و مثالها الحدائق المتصلة بالبیوت و ما یسمی الأرض العشریة و الخراجیة (بعض بساتین محیطة بمدینة دمشق الخ). و الأرض الأمیریة هی التی یعود تملکها (رقبتها) لبیت المال، و هو یخول الأهلین استثمارها أی حق التصرف بها بصک یسمی
خطط الشام، ج‌4، ص: 193
«سند التصرف». و معظم الأرض فی الشام من هذا القسم. و لیس من فرق کبیر فی الأمور الجوهریة بین المتصرف بالأرض الأمیریة و بین مالک الأرض المملوکة، لأن الأول و إن لم یملک الأرض قانونیا فإن له سلطة کافیة فی استثمارها و النزول عنها حسب إرادته، و هی تنتقل لورثته بعد وفاته، إلا أنه لا یستطیع وقفها إلا بإذن و هو إن لم یستثمرها ثلاث سنین بلا عذر مقبول یضطر إلی دفع قیمتها علی شکل معلوم، حتی إذا استنکف من الدفع عدت الأرض محلولة و وجب بیعها بالمزاد العلنی. و ثمة فرق بین الأرض المملوکة و الأرض الأمیریة، و هو أن للورثاء من الدرجة الواحدة حصصا یتساوی فیها الذکر و الأنثی فی الأرض الأمیریة، أما فی الأرض المملوکة فللذکر مثل حظ الأنثیین. و لا یسمح للمتصرف بالأرض الأمیریة أن یوصی بها بعد مماته و علی العکس فی رب الأرض المملوکة. و الأرض الموقوفة هی التی حبست فی سبیل البر و لیس من شأننا البحث فیها، و الأرض المتروکة هی التی ترکت للنفع العام کالطرق و الساحات و البیادر و المحتطبات و مراعی القری. و هی لا یملکها أحد و رقبتها لبیت المال و التصرف بها للجماعة. و الأرض الموات هی الأرض البعیدة عن العمران التی لا یتصرف بها أحد. و الحکومة تعطی رخصا بإحیاء الأرض الموات فبالتصرف بها علی شروط موضحة فی قانون الأرض.

الضرائب الزراعیة:

علی الأرض الأمیریة فی یومنا هذا نوعان من الضرائب، ضریبة تابعة لقانون 7 رمضان سنة (1274 ه) و قدرها 4 فی الألف من ثمن الأرض، و ضریبة أعظم شأنا و أکبر تأثیرا فی الزراعة و هی العشر أی استیفاء عشرة فی المائة من محاصیل الأرض غیر الصافیة یضاف إلیها اثنان و نصف باسم المعارف و المصرف الزراعی أما الأرض المملوکة (و هی کما قلنا قلیلة فی الشام إلا فی لبنان الصغیر حیث کل الأرض تعد مملوکة) فصاحبها لا یدفع العشر من غلاتها بل یدفع عشرة فی الألف من ثمنها فی کل سنة.
و العشر من المصائب المزمنة فی هذا القطر لأن 50، 12 فی المئة من المنتوجات
خطط الشام، ج‌4، ص: 194
غیر الصافیة هی نسبة کبیرة فی ذاتها، و لأنه یصعب جدا تخمین الغلات علی وجه الضبط لأخذ هذا المقدار منها. فقد حارت حکومات الشام فی طریقة استیفاء العشر أو ثمنه و لا تزال حائرة، لأنها إذا خمنت الغلات تخمینا فقد یضل المخمنون أو یتعمدون الخطأ أحیانا فیظلم الفلاح إذا جاء التخمین زائدا عن الحقیقة، و إلا فیخسر بیت المال. و إذا باعت العشر بالمزاودة العلنیة من ملتزمین فهم لا یقدمون علی سوی قری الفلاحین فیظلمونهم بطرق شتی دون أن یجسروا علی المزاودة فی عشر قری الوجهاء، فیکون الضرر مزدوجا علی الفلاح و علی بیت المال معا. و قد رأت الحکومة أخیرا أن تعمد إلی معدل عشر أربع سنین ماضیة فتقره و تستوفی ضریبة محدودة مساویة له سواء زرع الفلاحون الأرض أو لم یزرعوها. و هذه الطریقة فی استیفاء العشر و إن کانت أصلح من الطریقتین السالفتین إلا أنها لیست عادلة إذا قلّ المطر فی إحدی المناطق بعض السنین هذا عدا أن أساسها فاسد، لأن متوسط عشر سنین أربع فی قری الفلاحین یکون قریبا من العشر الحقیقی غالبا. أما فی قری الوجهاء فیکون أنقص لأن الأعیان لا یدعون الحکومة تصل إلی حقها.
و الخلاصة أن مسألة العشر فی الشام من أعقد المسائل و کثیرا ما اقترح أرباب الفلاحة علی الحکومة أن تمسح الأرض کما فی بلاد الفرنج و تضع علی الأرض و ما تنتجه ضریبة واحدة لا تتبدل تخلصا من العشر کما یجری العمل به فی أرض مصر. و إن هذا الاقتراح فی غیر محله أو هو مما یتعذر اتباعه فی کل أنحاء الشام علی السواء، لأن الأمطار فی الشام متفاوتة التهطال. فقد یهطل فی سنة ثلاثة أضعاف ما یهطل فی السنة التالیة، لا سیما فی سهول الشام الشرقیة، و لهذا یختلف محصول الأرض اختلافا عظیما کل سنة. و قد تمحل منطقة واسعة فی إحدی السنین و لذلک لا یجوز أن یستوفی منها فی تلک السنة ضریبة کالتی تستوفی فی سنی الخصب. أما إذا کانت الأرض تسقی بماء نهر أو قناة فعندها یمکن وضع ضریبة ثابتة علیها کما فی الغوطة مثلا.

طرائق استثمار الأرض:

إذا قلنا إن أکثر من ستین فی المائة من سکان الشام یعملون فی الفلاحة رأسا
خطط الشام، ج‌4، ص: 195
أو بالواسطة فلا نکون مغالین فی قولنا لأن سکان المدن الکبیرة و المتوسطة و إن کان عددهم یقرب من نصف مجموع السکان فی الشام فکثیر منهم لا عمل له غیر الفلاحة. و یتصرف الشامیون الیوم بالأرض علی نسبة غیر عادلة، و معنی هذا أن أرباب الوجاهة و الثروة علی قلتهم یتصرفون بمساحات واسعة جدا فی کثیر من المناطق، بینا الفلاح یعمل فی الأرض دون أن یکون له فی تملکها نصیب ففی أطراف حماة مثلا 124 قریة منها ثمانون فی المائة لأرباب الوجاهة من عیال لا تتجاوز عدد الأصابع، و الباقی و هو عشرون فی المائة یتصرف به الفلاحون و رجال الطبقة المتوسطة من الشعب. و فی أرجاء حمص 176 قریة منها ثمانون فی المائة للوجهاء دون غیرهم و عشرون فی المائة مشاع بین هؤلاء الوجهاء و الفلاحین إلا بضع قری لم تمتد إلیها أیدی المتغلبین فلبثت للفلاحین وحدهم. و هکذا قل عن کثیر من مناطق الشام کقری معرة النعمان و غیرها فی حلب. و لیست الحالة کذلک فی حوران حیث تری 95 فی المائة من الأرض موزعة بین سکانه علی نسبة عادلة، و کلهم أرباب فلاحة و کذا فی جبل حوران و عجلون و البلقاء و الکرک و وادی التیم و إقلیم البلان، و ما من بیت من بیوت دمشق الکبیرة إلا و یملک مساحات واسعة فی الغوطة بل نصف الأرض فیها بید متوسطی الزراع و الربع بید صغارهم و الربع الأخیر یخص أرباب الوجاهة بدمشق.
و بعد، فقد کان السلطان عبد الحمید العثمانی من أقدر السلاطین علی تملک الأرضین و جمع الثروة، فقد تملک لشخصه شرقیّ حمص و سلمیة نحو ملیون هکتار من الأرض تشتمل علی جبل البلعاس و الشومریة و تمتد إلی مقربة من تدمر، و عمّر فیها نحو مائة و عشرین قریة و مزرعة تستثمر نحو مائة ألف هکتار. و تملّک فی أنحاء حلب نحو 000، 500 هکتار فیها الیوم 567 قریة و مزرعة عامرة حوالی منبج و الباب و علی الشاطی‌ء الغربی من الفرات من مصب الساجور إلی مسکنة و یشمل معظم جبل الحاص و مساحات واسعة جنوبی حلب عند مصب نهر قویق و اقتنی أیضا سبع قری فی حوران منها قریة المسمیة کما اقتنی بیسان و بضع قری بالقرب منها. و کان یوطد الأمن فی هذه المملکة الخاصة الواسعة و یعفی الزراع المستأجرین من الجندیة و یحمیهم من تعدی أرباب الوجاهة و یسلفهم المال بلا ربا
خطط الشام، ج‌4، ص: 196
حتی عمرت تلک الأنحاء بعد أن کانت منازل للعربان یعیثون فیها فسادا. و لما حصل الانقلاب العثمانی سنة (1908) اضطر السلطان المشار إلیه إلی التنازل عن هذه المعمورات إلی بیت المال، فأصبحت ملکا له و أصبح فلاحوها مستأجرین لدی المالک الجدید، و هو بیت المال أو الحکومة. و یدفع الفلاحون إلی الحکومة عشرین فی المائة من المستغلات فی بعض الأماکن و 50، 22 فی المائة فی أماکن أخری (عشر و أجرة أرض معا). و هم و إن کانوا مستأجرین لا یملکون الأرض رسمیا فهم یتوارثونها کأنهم مالکون لها و الحکومة لا تخرج فلاحا من قریته إلا إذا أتی عملا منکرا من إحداث فتنة أو التمادی علی الإضرار بالناس. و لما کانت الحکومة تسلف هؤلاء الفلاحین أموالا بلا ربا و کانت تستوفی من غلات الأرض نسبة أقل منها فی قری الوجهاء، رجحت حالة الفلاح فی أملاک الدولة من کل وجه علی حالة الفلاح المسکین الذی یستعبده المتغلبون فی قراهم.
و مع هذا اقترح علی الحکومة منذ نحو سنتین أن تبیع هذه الأملاک من الفلاحین أنفسهم دون سواهم علی أن یدفعوا الثمن أقساطا خلال خمس عشرة سنة، و علی أن یضمن عدم مد المتغلبة أیدیهم لهذه الأرضین، فأقرت الحکومة البیع مبدئیا. و قد أثبتت لنا الأیام أنه لا یستطیع أن یزید فی غلات الأرض سوی الذین یملکون فیها مساحات متوسطة أو صغیرة.
و لنرجع إلی طریق استثمار الأرض المتبعة الیوم فی الشام فنقول: إذا استثنینا الغوطة و المرج و بعض ما یسقی و ما حوالی المدن من المزارع، حیث یستغل بعض أرباب الزراعة أرضهم مباشرة و یدفعون إلی الفلاحین المشتغلین بها أجورا مقطوعة سنویة أو شهریة، فإن الأرض فی سائر الأنحاء تستغل علی طریق المزارعة بشرائط مختلفة (بالقسم). ففی حمص و حماة یأخذ صاحب الأرض ربع المحصول فیدفع منه العشر و تبقی الثلاثة الأرباع للفلاح. و فی هذه الحال یلزم الفلاح بجمیع النفقات و الأعمال، و لکن صاحب الأرض قد یقرضه البذار بربا فی الغالب علی أن یستوفیها من البیدر. و یأخذ أصحاب الأرض ربع المحاصیل فی بعض قری حوران و یدفعون منه العشر و ضریبة الأرض و یکون الباقی للفلاح مقابل النفقات و الأتعاب. لکن الطریقة الشائعة فی حوران هی إیجار الأرض بمقدار معلوم من الحب کأن تؤجر (الربعة) بنحو 50- 60 مدا
خطط الشام، ج‌4، ص: 197
من الحنطة، و لما کان یزرع فی الربعة أرض تستوعب 50- 60 مدا من البذار، فإذا أغل المد أربعة أمثاله أو خمسة أمثاله تکون الأجرة التی استوفاها صاحب الأرض معادلة لربع المحصول أو خمسه.
و کلما کانت القریة فی منطقة سکانها کثار و أرضها ضیقة، یزداد المقدار الذی یستوفیه صاحب الأرض من المحصول و العکس بالعکس. ففی البقاع مثلا یأخذ صاحب الأرض نصف المحصول و یؤدی العشر منه إلی الحکومة.
و فی الحولة حیث الأرض تروی تکون حصة صاحب الأرض ثلث المحصول و یکون عشر المحصول علیه. أما فی الغوطة و المرج فحصة صاحب الأرض الثلث لکنه لا یدفع إلی الحکومة سوی عشر هذا الثلث، و علی الفلاح أن یدفع العشر عن ثلثیه.
هذه بعض طرائق استثمار الأرض و تعود فیها جمیع النفقات و الأتعاب علی الفلاح. أما إذا أحب صاحب الأرض أن یکون رأس مال الاستثمار منه فالفلاح الذی یشتغل فی أرضه یسمی (مرابعا) و هو مطالب بأعمال فدان من البقر (زرع نحو ثمانیة هکتارات حبوبا و تجهیز مثلها للسنة القادمة). و یأخذ ربع المحصول أو خمسه بعد رفع العشر من المجموع فی الغالب‌

إقراض الزراع:

یعوز الفلاحین فی الشام النقود الکافیة لاستثمار أرضهم علی مقتضی قواعد الفن. و هم کثیرا ما یستدینون المال من المرابین بفوائد فاحشة لا یبعد أن تبلغ 100 فی المئة أحیانا. و لهذا تری غلة أرضهم تکاد لا تکفیهم للإنفاق علی حاجیاتهم الضروریة و قلما تری فلاحا فی سعة، یکدحون کلهم طول السنة لتحصیل بلغة من القوت، و سبب ذلک ضیق ذات ید الفلاح، فهو لا یستطیع أن یحرث الأرض حرثا عمیقا بأبقاره الصغیرة المهزولة التی لا تعلف غیر التبن، و لا یستطیع أن یبتاع آلات زراعیة حدیثة أو أسمدة معدنیة، و یستحیل علیه أن یخزن محصوله بقصد بیعه عندما یغلو ثمنه، لأنه فی حاجة دائمة إلی المال. و السعید من الفلاحین من لم یثقل الدین کاهله و من کان مفلتا من براثن المتغلبین و المرابین.
اتضح للحکومة العثمانیة أن الأکارین و أصحاب الأرض فی حاجة کبیرة
خطط الشام، ج‌4، ص: 198
إلی مصرف زراعی یقرضهم المال بفائدة محدودة إلی مدة طویلة فأسست المصرف الزراعی و جمعت له رأس مال صغیر بأن أضافت إلی العشر الذی تستوفیه من حاصلات الأرض 50، 0 فی المئة من الریع باسم هذا المصرف، و أنشأت له فروعا فی الأطراف و سنت له قانونا محکما بعد درس و اختبار فأقبل الفلاحون علیه أیما إقبال. و لما کان رأس ماله قلیلا فقد لبثت فائدته محدودة، فعسی أن تهتم الحکومة الحاضرة بتزیید رأس ماله و هو من أنفع أعمالها و لعلها لا تسمح لبراثن الأجنبی أن یناله أذاها.

الخلاصة:

الشام فقیر جدا بمعادنه المفیدة من الوجهة الاقتصادیة. و معناه أن عدد هذه المعادن و إن کان عظیما و کذا أنواعها فهی لا کبیر فائدة منها اللهم إلا معدن الحمر فی حاصبیا. و الأرجاء التی لیس فیها معادن ذات شأن (لا سیما الفحم الحجری الخالص لا اللینیت) لا یمکن أن یکون فیها صناعات کبیرة. و لهذا لا نری فی الشام إلا صناعات یدویة کنسج الملبوسات الأهلیة فی دمشق و حمص و حماة و کالمصنوعات الخشبیة و النحاسیة و غیرها. فالشام إذن لا یمکن أن یکون له عظیم شأن فی المعادن و الصناعة، و لیس له الیوم شأن یذکر فی التجارة لکن له مستقبل حسن فی قضیة الاتجار بالسیارات مع العراق و بلاد العجم عن طریق بادیة الشام. و نستنتج من بحثنا عن الفلاحة أن لها فی الشام شأنا غیر شأن الصناعة و التجارة. فإذا أحصینا بالمکس مثلا أنواع الأشیاء الأهلیة التی تصدر من الشام إلی البلدان الأجنبیة نجد أن أکثر من 90 فی المئة من هذه الصادرات هی غلات أو مصنوعات زراعیة نباتیة أو حیوانیة. ثم إذا أمعنا النظر فی أنواع واردات الحکومة فی الشام نری أن نحو 50 فی المئة منها هی واردات زراعیة مثل عشر المستغلات و الضریبة علی الأرض و الماشیة و واردات أملاک الدولة و واردات الحراج و غیرها. فزراعة القطر الشامی إذن و إن کانت لا تساوی زراعة الأقطار الغزیرة الأمطار أو التی منحتها الطبیعة أنهارا کبیرة هی الرکن الأعظم فی حیاة هذا القطر الاقتصادیة ا ه.
خطط الشام، ج‌4، ص: 199

الصناعات الشامیة

مواد الصناعات:

تتوقف الصناعات فی بلد علی وجود الموارد الأولیة فیه، و کان ذلک فی القدیم أقوی عامل فی قیام الصناعات، و المواد الأولیة فی الشام علی حصة موفورة لا ینقصها الیوم إلا الفحم الحجری و بعض الأصباغ. و کانت الشام منذ عرف تاریخها مشهورة بصناعاتها لتوفر موادها المستخرجة من سطح أرضها و بطنها.
و تسلسلت الثقافة بها تسلسلا عجیبا فی البیوت الصناعیة، و کانت الأمة الخالفة تأخذ عن الأمة السالفة هذه الثقافة و الدربة علی نحو ما یعلم الصناع أبناءهم.
و الصنائع کما قال ابن خلدون لا بدّ فیها من العلم، و إنک لتجدها فی الأمصار الصغیرة ناقصة و لا یوجد منها إلا البسیط، فإذا تزایدت حضارتها و دعت أمور الترف فیها إلی استعمال الصنائع خرجت من القوة إلی الفعل، و علی نسبة رسوخ الحضارة و طول أمدها تکون جودة الصنائع فی الأمصار.
إن قطرا هو معدن الحریر و الصوف و الوبر و المرعزّی و القطن و الکتان و القنب یفیض عن حاجیاتها و کمالیاتها. و فیها الحدید و النحاس و القصدیر و غیرها من المعادن، و تجود فی سهولها و جبالها الأخشاب علی أنواعها، و تکثر فی أرجائها الحیوانات الداجنة و المفترسة، و فیها المیاه الدافقة و الشلالات البدیعة. إن قطزا یحوی هذه الخیرات لا یحتاج إلا إلی أید صناع لصنعها، و عیون عوّدت النظر إلی الجمیل و اقتباس النافع منه، و نفوس طبعت علی حب التقلید و الاحتذاء، حتی تخرج ما به تفاخر، و تعیش من عملها عیشا غضا نضرا.
خطط الشام، ج‌4، ص: 200

الغزل و الحیاکة و النساجة:

کانت النساجة و الحیاکة و الغزل راقیة فی معظم ما عرف من أدوار الارتقاء و قلما أخرجت الشام رذالة المتاع و ردیثه، بل کانت تخرج جیده و نفیسه، و کان أهلها و لا یزالون یحسنون غسلها و نفشها و مشطها و حلجها و فتلها و مشقها و حیاکتها و نسجها. و اشتهر القطر منذ القدیم ببزه و قماشه و دیباجه و خزه و بروده و کان للدباجین صناع الدیباج و الأکسیة و المسوح صناعة رابحة، و إلی الیوم لم یبرح حلاجو القطن، و منهم من یستعمل لها الآلات الإفرنجیة الحدیثة، و منهم من اقتصر علی القوس و النداف علی الطریقة القدیمة فی الحلج و الغزل فی مغازل أولیة تدار بالأیدی یخرجون بها کل ما یقوم بالحاجة.
أخذت معظم المدن و البلدان حظها من هذه الصناعات، فاشتهرت فی غابر الدهر مدینة أعناک فی حوران بأکسیتها الجیدة اشتهارها ببسطها، و عرفت بعلبک بثیابها المنسوبة إلیها من الأحزام و المشدّات و ثوبها المعروف بالبعلبکی. و تأفقت شهرة الثیاب البلعسیة نسبة إلی کورة البلعاس من عمل حمص علی الأرجح.
و عرفت منبج بالأکسیة التی کانت تعمل فیها و تنسب إلیها فیقال «الأنبجانی» و الأنبجانی کساء صوف له خمل و لا علم له و هی من أدون الثیاب. و من ثیابهم الخمیصة الشامیة و هی برنکان أسود معلم من المرعزّی و الصوف و نحوه أو کساء أسود مربع له علمان، و قد تکرر فی الحدیث الشریف ذکر الأنبجانی و الخمیصة. و الخمیصة قد تکون من الحریر و البرنکان و البرّکان و البرّکانی و البرنکانی الکساء الأسود و جمعه برانک.
و کان یعمل فی صفد من الثیاب ما یقال له الصفدیة. و تعمل الثیاب الحفیة نسبة لکورة الحفة غربی حلب. و کان لأهل رصافة هشام بن عبد الملک فی غربی الرقة حذق فی عمل الأکسیة و کل رجل فیها غنیهم و فقیرهم یغزل الصوف و النساء ینسجن. و کانت تعمل فی الشام الأکسیة المرنبانیة قال ابن سیده: یقال کساء مرنبانی و مؤرنب فالمرنبانی لأنه لون الأرنب و المؤرنب ما قد خلط فی غزله وبر الأرانب، و یقال بل هو کالمرنبانی. و کانت تصنع فیها القطیفة المخملة أی ذات الخمل و هی المخمل.
و اشتهرت حمص بمصنوعاتها من ثیاب و فوط و غیرها و قیل: إن حمص تتلو
خطط الشام، ج‌4، ص: 201
إسکندریة مصر فیما یعمل فیها من الثیاب الفائقة علی اختلاف الأنواع، و حسن الأوضاع، لو لا قلة مائه، و قحولة جسمه، مع أنه یبلغ الغایة فی الثمن، و إن لم تلحق بالإسکندریة فإنها تفوق صنعاء الیمن. و قال الأدریسی فی صور: إنه یعمل فیها من الثیاب البیض المحمولة إلی الآفاق، کل شی‌ء حسن عالی الصفة و الصنعة، ثمین القیمة، و قلیلا ما یصنع مثله فی سائر البلاد المحیطة بها. و کذلک حماة و طرابلس و حلب. و لکل بلد و مدینة خاصیة تحتفظ بها فی نوع من الصناعة تبرع فیها، و أهم ما کان منها فی مدینة دمشق.
فقد ذکر الإدریسی أنها کانت فی عصره جامعة لصنوف من المحاسن «و ضروب من الصناعات و أنواع من الثیاب الحریر کالخز و الدیباج النفیس الثمن العجیب الصنعة، و العدیم المثال، الذی یحمل منها إلی کل بلد، و یتجهز به منها إلی کل الآفاق و الأمصار المصاقبة لها، و المتباعدة عنها. و مصانعها فی کل ذلک عجیبة، تضاهی دیباجتها بدیع دیباجة الروم، و تقارب ثیاب دستوا، و تنافس أعمال أصبهان، و تشف علی أعمال طرز نیسابور، من جلیل ثیاب الحریر المصمتة، و بدائع ثیاب تنیس، و قد احتوت طرزها علی أفانین من أعمال الثیاب النفیسة، و محاسن جمة، فلا یعادلها جنس و لا یقاومها مثال».
و قیل: إن اسم «الدمقس» مشتق من اسم مدینة دمشق. و نقل الشامیون إلی الأندلس صنعة الثیاب المزرکشة بالرسوم من الحریر و الکتان من دمشق فنسبت إلیها عندهم و قالوا فی فعلهاDamasser أی عمل ثیابا علی النمط الدمشقی.
قال البدری: و من محاسن دمشق ما یصنع فیها من القماش، و هو النسج علی تعداد نقوشه و ضروبه و رسومه، و منها عمل القماش الأطلس بکل جنسه و أنواعه و منها عمل القماش السابوری بجمیع ألوانه و حسن لمعانه، و منها عمل القماش الهرمزی علی اختلاف أشکاله، و تباین أوصاله، و منها عمل القماش الأبیض القطنی.
و کان من أنواع الثیاب فی القدیم ما أنسیناه و أنسینا أسماءه و منها المنیّر و المعیّن و المسیّر و المفوف و المسهم و المعمد و المعرّج و المهلهل و المکعب و المطیّر و المخیّل.
و لاشتهار دمشق بالحرائر و المنسوجات الغزلیة الفائقة بوشیها و حسن طرازها، عرفت هذه الصناعات باسم المدینة فیقال لها «الداماسکو» و الداماسکو ثوب غلیظ برسوم جعلت فی جسم الثوب و یتفننون فی ذلک تفننا غریبا و یعملون کل
خطط الشام، ج‌4، ص: 202
ما یجمع إلی المتانة الإبداع فی الصناعة. قال ابن عربشاه: إن الحریریین فی دمشق نسجوا لتیمورلنک قباء بالحریر و الذهب لیس له درز فإذا هو شی‌ء عجیب.
و لما نجحت الصنائع الإفرنجیة- و کانت صناعة الحرائر و الطرائف تروج زمنا ثم تنحمق و تکسد- و اخترع أحد صناع الإنکلیز نسیج الشیت (الیمنی) کاد یقضی علی صناعاتنا هذه، لو لا رجل دمشقی اسمه عبد المجید الأصفر من أهل هذه الصناعة، فاخترع القماش المعروف بالدیما فحال دون النساجة و البوار دفعة واحدة. ثم إن رجلا اسمه الرومانی من أهل دمشق أیضا، تفنن فی المنسوجات الحریریة تفننا عجیبا، فلما مات کادت هذه الصناعة تموت معه، و تغلبت المنسوجات الأوربیة علی منسوجات حلب و طرابلس و حماة و حمص و دمشق لرخص ثمنها، و کثرة تفننهم فی تلوینها، و تغییر أشکالها و طرازها، و إن کان البلی یسرع إلیها، و علی الرغم مما تقدم لم تنفک هذه الصناعة متماسکة أحوالها، علی ما أصاب القطر من الأزمات الاقتصادیة. و یزعمون أن ما یتعلق بها من الصنائع حتی تصلح و تصیر أثوابا، یقرب من سبعین صنعة. تصرف مصنوعاتها فی الشام و مصر و الجزیرة، و کانت قبل الحرب العامة تصرف منها کمیات وافرة فی آسیا الصغری و الروم ایلی فلما وضعت فی العهد الأخیر الحواجز الجمرکیة فی وجهها فی ترکیا عادت إلی الکساد.
و مع هذا لا یزال بعض أهل هذه الصناعة یصنعون الدیما و أنواع الحریر و الحبر و الشال البدیع و الأعبئة الحریریة للنساء، ما یتفاخر سیاح الإفرنج باقتنائه فی بیوتهم، و إلباس أسرهم منه فی السهریات و أوقات السمر، علی حین کان الناس هنا و لا سیما فی المدن یزهدون فیها علی متانتها و جمالها، لأنهم بلوا بداء التقلید یقبلون علی کل ما تأتیهم به أوربا و لو کان فیه بوارهم. و أهل معامل الحریر و القطن الیوم فی المجدل من عمل غزة و بیروت و بکفیا و زوق مکایل و دیر القمر و بیت شباب و الکفیر و حمص و حماة و حلب و أنطاکیة و دمشق، تعمل فیها الأعبئة و الکوفیات و الزنانیر و الملاءات و الشراشف و الدیما و الألاجة و النمارق و الأرائک و السجوف و الشفوف و اللحف و البرانس و الطیالسة و المیازر و البراقع و الأزر و الجلابیب و القطائف (المخمل).
خطط الشام، ج‌4، ص: 203
و من الصناعات التی کانت الشام و ما برحت تفتخر بها صناعة الشقق الحریریة و القطنیة، و هی عبارة عن قماش محوک طوله تسعة أذرع فی عرض ذراع. و لصناعه تفنن فی نقشه و صبغه، یدل علی رسوخ قدم فی الصناعة، و ذوق جمیل فیها، و اشتهرت مدن الشام بإتقان تلک الصناعة، و منها دمشق و حلب و حمص و حماة و طرابلس، و أشهرها المسماة بالمصریة و الحامدیة و الحمویة و الحمصیة و الحلبیة. و تفصیل تلک الشقق علی الطراز العربی و هی قطنیها و حریریها علی غایة من المتانة و الجمال. و کانت قدیما لباسا عاما للأهلین فقیرهم و غنیهم رجالهم و نسائهم و قل المنفق منها الآن لاعتیاد الناس اللباس الإفرنجی، و لا تزال مع هذا لباس أکثریة الأهالی یعملون منها القفاطین (القنابیز) و تدر تلک الصناعة علیهم أرباحا و فیرة، و تصدر إلی الأناضول و مصر و الحجاز و العراق، و یعد تجار تلک الصناعة من الأغنیاء غالبا. و من الصناعات الدقیقة الصنع أیضا الشال القطنی و الحریری و الزنانیر و الشملات، و أتقنها ما عمل فی طرابلس و بیروت و حلب و دمشق، و من صناعات الشام الکوفیات الحریریة علی اختلاف ألوانها و وشیها بالقصب الفضی بنقوش و رسوم غایة فی الإبداع و سلامة الذوق و المتانة، و ما فتئت هذه الصناعات إلی الآن زاهرة رغم مزاحمة الأوربیین بکل ما عندهم من قوة تجاریة و صناعیة و تفنن و إبداع.
و من الصناعات التی کانت من متممات اللباس لکنها ضعفت للغایة صناعة المشدات المعروفة بالکمار و هی تنسج بالصوف و الغزل ذات طاقین طویلین تشد علی الخصور، و لا تزال لباس الوطنیین الذین لم یتأوربوا أی لم یتشبهوا بالأوربیین فضعفت صناعتها. و قد أحدث السادة کسم و قبانی معملا لحیاکة الحریر فی دمشق ضاهیا به ما یصنع من نوعه فی فرنسا، و کذلک أحدث السادة توفیق و کامل و سعید الکحالة معملا لصنع ثیاب الکتان و الشراشف ینافس مصنوعات أوربا، و أحدث السید أنطون مزنر فی دمشق معملا لصنع الشال الحریر غایة الغایات إتقانا و جمالا. و فی دمشق ثلاثون آلة لغسل الحریر علی الطرز الحدیث. و مما تمتاز به حماة عن سائر المدن الصناعیة نسج المآزر للنساء مما یستعملنه فی الحمام و تسمی المناشف، و ما تغطی به الفرش و یسمی الشراشف
خطط الشام، ج‌4، ص: 204
و ینسج بالکتان و یوشی بالحریر من کل الألوان و هو غایة الغایات فی دقة الصنعة و المتانة یصدر إلی کثیر من جهات العالم. و تصنع حلب من هذه المآزر أنواعا کانت تضاهی بها المآزر التی ترد من العجم إلی أن بذتها و قامت مقامها.
و من المنسوجات الرائجة أیضا صناعة الأعبئة فهی من أهم الصناعات علی اختلاف أنواعها و منها الخشنة التی یلبسها الفلاحون، و حیاکتها غایة فی المتانة و لها ألوف من الأنوال فی دمشق و حمص و حلب و قری القلمون، و ذلک لتوفر مادتها الأولیة و لأنها لباس عامة الفلاحین، و یوجد أیضا ألوف الأنوال فی دمشق و قریة جرمانا و حمص و هی تصنع أعبئة من الصوف النحیف و الوبر برسم الأمراء و الکبراء و یصدر منها إلی الخارج و لا سیما إلی فارس و یبتاع الحجاج أیام الموسم من دمشق خاصة من تلک الأعبئة ألوفا و هی مشهورة بحسن صناعتها و علی غایة المتانة، مع أنها من النسج النحیف الناعم، و مما یدل علی ذوق صناعها تفننهم فی ألوانها علی اختلاف ضروبها، و فی دمشق و بیروت و لبنان و حمص و حلب من الأنوال لعمل الأعبئة من الحریر و هی علی غایة الرواء و الجمال و المتانة و فی النهایة من سلامة الذوق بوشیها و ألوانها. و تصدر إلی أوربا و أمیرکا و مصر و إیران. و مما یؤسف له الآن دخول الحریر النباتی إلی الدیار الشامیة و صنع العباءة منه مؤثرین له لرخص ثمنه مما یکون منه بعد بضع سنوات القضاء علی صناعة العباءة الحریریة فی الشام إن لم تتدارک بما یحفظ رواءها.
و اشتهرت حلب بالمنادیل الحریریة و المقصبة المعروفة بالبوشیة و فیها 53 معملا کما فیها 124 للخام و 247 لمنسوجات الغزل و 159 للحریر و 117 للأغبانی أو تقلید الزنار الهندی، و صناعة الأغبانی فی دمشق رائجة کل الرواج و هی عبارة عن قطعة ثوب مربعة طولها ذراعان فی مثلهما، تعمل من الحریر الدقیق، لونها أبیض و أدکن، و تطرز بألوان الحریر الجمیلة، و بأنواع الرسوم التی قد تعجز عنها ریشة المتفننین من المصورین، و کانت تلک الصنعة مختصة أولا بالهند تصدر منها إلی أطراف العالم، و کان قلیل منها یطرز فی حلب و یستعمل للعمائم فقط علی قماش قطنی و بعض الحریر. و أما الآن فقد تناولتها أیدی جمیع الشامیین الأذکیاء و أکثر من یصنعها النساء یطرزن منها أثوابا
خطط الشام، ج‌4، ص: 205
طول الثوب تسعة أذرع و عرضه ذراع واحد، و تعمل منها القفاطین، و هی الألبسة الوطنیة فی الشام، و فیه الیوم ألوف من الآلات تصنع هذا النوع من القماش، و تسمی القطعة منه أی ما طوله ذراعان و عرضه کذلک «سلک أغبانی» و هو یستعمل فی الشام غطاء للرأس أی کوفیة، و زنارا، و ملفا للأولاد الرضع، و عمامة، و یصدر منه إلی الخارج کمیات وافرة، و له تجار کثار إخصائیون فی دمشق و حلب و بیروت و حماة و حمص و طرابلس و فلسطین و جمیع المدن الصغیرة و یصدر إلی الهند و فارس و ترکیا و الحجاز و العراق و مصر و السودان و الصین.
و اشتهرت الشهباء بصناعة الأشغال الحریریة المعمولة بالقصب و أقمشة الجوخ المعمولة بالسیم و الثیاب المفصصة بالجوهر و الزبرج أی الزینة من و شی و ذهب و یقال لهذه الصناعة صنعة القصبجیة و الألتونیة فهی ممتازة بعمل الفضی و مشهورة بالزرکشة و التطریز، و عرفت زوق مکایل بصناعة الوشی و زرکشة القصب و النسیج أیضا، و اهتدی صناعها منذ تسعین سنة إلی رسم الأشکال التی یریدونها علی المنوال بالمحواک، و اصطنعوا من الأثاث و الأکسیة و الطنافس ما یأخذ بمجامع القلوب إتقانا، و عملوا نسائج هذا القز فأبدعوا فیه و أظهروا الصور الشمسیة علی النسیج فجاءت کأنها لم تمس بید، صنعوا بها صور العظماء و الملوک و الأمراء مجسمة، فکانت من أنفس أعلاق القصور. و صناعة زرکشة القصب هذه کانت راقیة جدا فی دمشق، وصفها أحد سیاح القرن الحادی عشر بقوله: و بباب جیرون علی یسار الخارج منه حارة الذهبیین، و هی أماکن یمد فیها خیوط الذهب غلاظا أولا، ثم لا یزالون یعالجونها بالإدخال خرقا بعد خرق، و کل ثان أضیق من قبله، حتی تنتهی إلی الرقة، إلی أن تصیر کالشعر ثم یطرقونها بمطارق لطیفة و صناعة محکمة، ثم یلفون ذلک المطروق علی خیوط الحریر فیترکب منه القصب المعلوم و نحو ذلک عملهم للفضة ا ه.
و سمی هذه الصناعة البدری «صناعة الذهب المسبوک و المضروب و المجرور و المرفوع و الممدود و المرصوع» و کان القوم یغالون فی لبس الأردیة و الأکسیة و المعاطف و السراویلات التی تعمل من هذا القصب علی الجوخ و یلبسه المترفون
خطط الشام، ج‌4، ص: 206
و العرس و أرباب النعیم، و بقایاها الیوم یلبسها الآذنون عند قناصل الدول و الرؤساء الروحیین.

الدباغة و صناعات الجلود:

کان للدباغة شأن مهم فی هذا القطر تعمل من الجلود الأحذیة و السروج و المطارح و المقاعد و القرب و الروایا و المحافظ و المطاهر و الرکوات و الإداوات و ما أشبهها، و کانت أهم معامله فی حلب و فیها الیوم 40 مدبغة علی الطریقة القدیمة و فی حماة و دمشق و زحلة و مشغرة و الخلیل. و تدبغ جلود الثعلب و بنات آوی التی تصلح للفراء فی جوار طرابلس و بیروت. و یقدرون عدد ما یدبغ من الجلود فی الشام بملیون و مائتی ألف جلد منها ملیون من المعزی و الغنم.
و قد أنشأ فی دمشق السادة رومیة و عمری معملا لدبغ الجلود و عمل الشراک و الشسوع للأحذیة، فجاءت مصنوعاتها کمصنوعات أوربا من کل وجه و زادت علیها رخص أثمانها، فأصبحت تباع حتی فی الغرب، و معظم معدات هذا المعمل الکبیر من صنع دمشق و لم یجلب له غیر أدوات قلیلة، و الصناع کلهم من أرباب هذه الصناعة القدماء، و فی دمشق نحو 30 دباغة علی الطراز القدیم و دباغات الخلیل مشهورة و أشهر منها صناعة القرب فی تلک المدینة، تعمل من جلد الماعز و هی صناعة خاصة بها. و فی عکا معمل جید للدباغة.
و صناعة الأحذیة و السروج و الکنابیش و البرادع و الرباطات و الرشمات من أهم صناعات دمشق و حلب. و صناعة السروج من الصنائع المشترکة فی الشام، و مما یعد فی جملتها لوازم الحیوانات کالعذر و الهمایین «الخراج» و البرادع «المراشح» و یعمل کل ذلک علی غایة من الإتقان. و من السروج ما یصنع وجهه من الجوخ، و یطرز أحسن تطریز بالحریر و القصب. و الجلد الذی تعمل منه السروج هو غالبا من دباغة الشام.
و من صناعة السروجیین أیضا أحزمة الجلد و یسمونه «قشاطا» و جعاب رصاص البنادق و یسمونها «جنادا» و أرسان للخیل، و صنادیق للسفر من الجلد و غیر ذلک من الحاجیات المحلیة، و یصدر ذلک إلی الداخلیة فقط و هو یضاهی أعمال الأوربیین أنفسهم من ذلک النوع.
و تعمل الأحذیة فی جمیع المدن و منها ما تستخدم فیه الجلود الإفرنجیة
خطط الشام، ج‌4، ص: 207
المعروفة بلمعانها و متانتها و حذاء و الشام مشهورون منذ القدم، و أهل الرفاهیة و البذخ الیوم یأتون بأحذیتهم من الغرب جاهزة و خصوصا النساء یرینها ألطف شکلا و أدق صنعة و یقبلن علیها و إن کانت أغلی قیمة و أقل متانة مما یعمل هنا.
و یلحق بصناعة الدباغة أو القرظیة صناعة عمل الأوتار من المصیر و المری و هی نافقة یبعثون بها بعد تحضیر قلیل إلی معامل الغرب فتعمل منها أوتار الأعواد و القیثارات و غیرها.

تربیة دود الحریر:

خطط الشام ؛ ج‌4 ؛ ص207
من أهم الصناعات تربیة دود الحریر (الفیالج أو الشرانق) و هو عمل خاص باللبنانیین و بسکان أرجاء أنطاکیة. و کانت مساحة الأراضی التی تغرس التوت الصالح لتربیة دود الحریر واسعة أکثر من الآن فی أرجائنا. فقد ثبت أن عمالتی وادی التیم و البقاع کانتا کلتاهما مغروستین بشجر التوت. و اقتبس أصحاب تربیة الدود فی العهد الأخیر طریقة باستور فی تربیة دود القز فزادوه إتقانا. و تصدر منه کمیات وافرة إلی معامل لیون فی فرنسا و هناک یصلح الإصلاح المطلوب حتی یکون منه الحریر المعهود فی نسج الثیاب و الطرائف. و من تربیة دود الحریر یعیش عشرات الألوف من الناس فی هذه الدیار. و الغالب أن مناخ لبنان و أنطاکیة و ما إلیها و بعض الأرجاء المعتدلة القریبة من الساحل تصلح فقط لتربیته و منذ القدیم لم یحظّ الحظ سائر الأرجاء أن تشترک فی صنعه. و قد أسس فی الزبدانی فی العهد الأخیر معمل لحل الحریر علی الطرز الحدیث و تصدر مصنوعاته إلی إیطالیا و فرنسا.

النجارة:

لم یکتف الصناع فی منجوراتهم بأخشاب الشام علی کثرتها، بل أخذوا یجلبونها من قلقیة و رومانیا و غیرهما، و منهم من یجلبونه من أمیرکا و هو الجوز الأمیرکانی. یعتمدون علیه و علی خشب الحور و الجوز و الزیتون و الشربین و التنوب و المیس و العرعر و الدردار، و کان اعتمادهم یکثر فی القدیم علی الصندل و الصنوبر و السرو. و خشب السرو و الصنوبر کما قال قسطا بن لوقا
خطط الشام، ج‌4، ص: 208
من أشرف الأشجار التی تستعمل أخشابها فی البناء یتخذ منها مصاریع الأبواب و الدعائم و السفن و یستعان بها فی کثیر من الأمور.
ینشرون الخشب الیوم بمناشیر میکانیکیة تدار بالبخار أو بالکهرباء أو بالطرق القدیمة فیعمدون إلی أیدی العملة فی إحضارها، یصنعون منها مناضد و أصونة للثیاب و إطارات و مقاعد و کراسی و مغاسل و صنادیق و توابیت و رحالا و ألواحا لدرس الغلة و أعواد الطرب. و هذه الصناعة صناعة الأعواد قدیمة جدا فی دمشق و دخلت حلب منذ نحو سبعین سنة. و قد اشتهرت دمشق بصنادیقها التی کانت تعمل من خشب الجوز و تبقی القرون لا تتشقق و لا یسرع إلیها البلی و لا تتأکل، و علیها من النقوش ما یدل علی ذوق جمیل، کما اشتهرت إلی الیوم بمصنوعاتها الخشبیة. و فی حلب معملان للنجارة بأنواعها، و کذلک مدینة بیروت فإن معامل هاته المدن الثلاث کادت تستأثر بتجهیز الدور و القصور و الفنادق و منها ما لا تقل جودته عن أدق ما یعمل من نوعه فی الغرب مع الرخص و الجودة و المتانة.
و إن ما یسمی بالحلقات فی القصور و القاعات القدیمة دلیل کاف علی رقی فن النجارة. فإن القصر أو القاعة یبلغ طوله علی الاعتدال ستة أمتار فی مثلها عرضا و ارتفاعه أیضا یتسامی إلی الستة أمتار، فجهاتها الأربع و سقفها مما یشهد للمتقدمین من النجارین بسلامة الذوق و إتقان الصنع، و یباع منجور بعض هذه القصور إذا کانت سلیمة من الأوربیین بأثمان باهظة، و هو عبارة عن أخشاب فقط. و صناعة الدهان المدهون به ذلک الخشب هو من أبرع الصناعات یشهد بذلک من له أقل إلمام أو ذوق من الناظرین فی المحلات الخصوصیة عدا ما کان من نوعه فی المساجد و غیرها من المحال العامة و کله یشهد للمتقدمین من النجارین الشامیین بالبراعة و الحذق. و النجارون فی الشام الیوم من أشهر نجاری العالم باعتنائهم بصنعتهم، و النجار بطبیعته ینبغی له أن یکون ذکیا، لما یقتضی لصنعته من الإلمام بالهندسة و المساحة و ضبط المقاییس و الحساب و أن یکون علی جانب من سلامة الذوق فی الوضع و الصنع. فالنجار الذی یخلو من هذه الصفات لا یحق له أن یصیر نجارا. إن هذا النجار الشامی الموصوف آنفا یعمل بیده و تدل علیه آثاره فی البناء الخشبی فی دور دمشق و حلب و غیرهما
خطط الشام، ج‌4، ص: 209
و ما یسمونه الصلب و غیره من أبواب و نوافذ غایة فی الإتقان. و من صنع النجارین أیضا قدیما الصنادیق الخشبیة و منها ما هو مغشی بالصدف و منه ما یسمونه بالحفر. و منذ نحو أربعین سنة دخلت بیروت و دمشق آلات النجارة الحدیثة التی تدار بالکهرباء فاستطاع مدیرو المعامل أن یقاولوا علی بنایات کبیرة لصنع أبوابها و نوافذها بغایة السرعة.
و ظهرت صناعة جدیدة علی الطراز الغربی تسمی صناعة (الموبیلیا) أی فرش الدور و تنضیدها و یتناول اسم الموبیلیا جمیع أنواع الخزائن و المغاسل و المقاعد الخشبیة المغلفة بالنسیج الحریری و لوازم غرف النوم و غرف الطعام و غرف الاستقبال، و کل ذلک یصنع فی دمشق و حلب و طرابلس و بیروت، و هی تضاهی المصنوعات الأوربیة جمالا و إتقانا و متانة، و تعد هذه المعامل بالمئات، و مما یدل علی الذکاء فی الصناعة أن تلمیذات المدارس الصغیرات یشتغلن الیوم من جملة الأشغال الیدویة علی اختلاف أنواعها و أوضاعها ما تقر به العیون و یبشر بمستقبل مجید. و قلما تجد واحدة من النساء إلا و تجید أکثر من صنعة یدویة.
و من الصناعات التی تمتاز بها دمشق خاصة، صناعة خشبیة تسمی الیوم بالمصری، و هی بواقی خشب الجوز الیابس تفصل بحسب المطلوب، و تصقل صقلا تاما، و یرسم علیها بالقلم عروق غایة فی الإبداع، و یحفر علی حسب رسم القلم، و ینزل به الغراء و فوقه الصدف. و تقسم قسمین فما کان دقیق الرسم یسمی بالمصری، و ما کان رسم عرقه ظاهرا کل الظهور یسمی فی عرف الصناع بالعرق. و یصنعون منه أنواعا، فمنها ما یسمی «بالجاردینیه» و هی أثاثة یوضع فیها قحف زهور صناعیة، بعرض مترین أو ثلاثة أذرع، و یجعل فوقها إطار من تلک الصناعة النفیسة طوله متران و عرضه متر. و فی داخل ذلک الإطار مرآة و بجانبه من الطرفین جناحان لطیفان لهما رفوف توضع علیها التحف المنوعة، و فوقها تاج علی علو متر أیضا. و کل ذلک محلی بتلک الصناعة الصدفیة یتخلله صباغ أسود قلیل یزید فی لمعان الصدف.
و یصنع من تلک الصناعة أشکال و أنواع متعددة منها الأصونة خزائن (4- 14)
خطط الشام، ج‌4، ص: 210
الثیاب و منها ما یسمی بالعرف بالبیرو (مکتب) و هو عبارة عن أربعة دروج کبیرة فوقها درجان صغیران و یصنع منه إطار للمرآة، و إطارات للصور و مناضد، و جمیع ما یصنع من الخشب البسیط. و منذ خمسین أو ستین سنة کثر طلب هذا الصنف إلی أوربا. و لکن الحکومة و البلدیة لم تأخذا تلک الصناعة تحت رعایتهما فکثر الغش فیها، و صارت إلی البوار و انقطع عنها الطلب إلی الخارج بتاتا، و هی لا تروج الآن إلا فی دمشق و ضواحیها تقریبا، و لو عنیت البلدیة بمراقبة صناعها، و جعلت لهم رئیسا مسؤولا لدرت تلک الصناعة علی دمشق أرباحا هائلة و لأصبحت أجرة الصانع یومیا نصف دینار و راجت فی أقطار العالم أجمع لجمالها و دقة صنعها.
و من أهم معامل النجارة و الفرش معامل الیاس جرجی السیوفی فی بیروت زرتها فی سنة (1330 ه 1912 م) و مما قلته فیها: رأیت صورة مصغرة من صورة الغرب فی الشرق، و تمثل لی فضل الذکاء العربی، و أنه و إن لم یفق الغربی فلیس دونه، و أن ید أبنائنا صناع فی الأعمال لا یفوقها ابن فرنسا و إیطالیا و إنکلترا و ألمانیا و سویسرا و بلجیکا إلا بأن الإفرنج یرجعون إلی أسالیب فی العمل تنقصنا، أو تکاد فی أکثر الأصقاع لا تجد لها أثرا بیننا، و هی ترجع إلی أسباب رئیسة مهمة، أولها الصبر علی العمل، و ثانیها تجوید العمل، و ثالثها القدر اللازم للعمل من المال و المعرفة، و رابعها الاقتصاد فی الوقت و الأیدی العاملة، و خامسها تنشیط الأهلین و الحکومات للمصنوعات الوطنیة و حمایة التجارة الداخلیة بقوانین تنفذ علی الصادر و الوارد، و سادسها وجود المواد الأولیة التی یمکن بها الاستغناء عن المواد الخارجیة فی الجملة.
دلت معامل السیوفی علی أن الشرقی بمفرده أمة، و أن الأمة بمجموعها ضعیفة، بمعنی أن الشرقی یعمل مفردا أحسن من عمله مجتمعا، و ذلک لفقد التربیة المشترکة بین المشارقة یرجعون إلیها و تضم عراهم. فلو کان معمل الغزل فی دمشق لفرد واحد منذ إنشائه له خیره و علیه شره، لما اضمحل هذا الاضمحلال الذی نراه علیه، و لو کانت معامل السیوفی فی بیروت لشرکة لما رأینا فیها هذا النظام و النجاح، و بذلک صح لنا إثبات ما قدمناه من أن الشرقی أمة بمفرده و الأمة ضعیفة بمجموعها، و أن لا سبیل إلی قیام الأعمال الکبری
خطط الشام، ج‌4، ص: 211
و أن نقدر لها النجاح المطلوب إلا إذا اتحدت مناحینا و تعلمنا تعلیما وطنیا اقتصادیا واحدا.
علی هضبة من هضاب بیروت الجمیلة فی حی الأشرفیة، فی مکان بعید عن مرکز حرکة هذا الثغر، یطل علی سفوح لبنان و بیروت و علی البحر الرومی من أخری، قامت هذه المعامل البدیعة فی بقعة فسیحة من الأرض تدخلها فتخال نفسک فی إحدی معامل الغرب الکبری، و أول ما یبدؤک بعد الدخول من الرتاج ساعتان عن الیمین و الشمال بجانبهما صندوقان معلقان مقسومان إلی بیوت صغیرة، و فی کل بیت مقواة کتب علیها اسم أحد العملة و طبعت علیها ساعات الغدو و الغداء و الرواح، فمتی وصل العامل بعد الفجر و قبل الإشراق فی الشتاء مثلا یضع مقواته فی بیتها، فلا تلبث أن تکتب علیها ساعة مجیئه و الدقیقة التی جاء فیها بجروف عربیة، و فی آخر الیوم أو الأسبوع یرجع إلیها مدیر المعمل، و یحسب المتأخر من المتقدم، و یعدون ذلک بموجب نظام خاص لهم جروا فیه علی مثال نظام العمال فی سویسرا و البلجیک و النمسا و ألمانیا.
و من قوانین العملة فی هذه الممالک اختار مؤسس المعمل أحسن ما یلائم هذه الدیار و ینفع فی نجاح عملته و یعود علیه و علیهم بالربح و اقتصاد الوقت.
و هذه الساعة من أنفع ما یجب استخدامه فی معاملنا و مطابعنا و دواوین أعمالنا و بیوتنا التجاریة و المالیة و دوائرنا العسکریة و الملکیة لیتعلم قومنا مراعاة الوقت و التدقیق فی حسابه حتی یبارک لهم بساعات العمل و أیام الحیاة، و یتعلموا أن التدقیق فی المواعید أحد دعائم التنظیم فی فروع الأعمال، و من أهم أسالیب النجاح الذی غفل عنه معظم سکان هذه الدیار و عدوا من ینظم أوقاته و یدقق فی وعوده و استقبال خاصته و من لهم علاقة به فی ساعات محدودة متکبرا أو مهوسا.
یباکر العملة فی معامل السیوفی فی الصیف و الشتاء و الحریف و الربیع علی السواء و ینقطعون ساعة وقت الظهر ثم یعاودون العمل إلی قبیل الغروب أو إلی بعده بقلیل بحیث لا یتجاوز معدل ساعات العمل فی الیوم تسعا بخلاف عملة أوربا فإنهم یعملون فی بعض الممالک کبلجیکا مثلا زهاء اثنتی عشرة ساعة، و لکثرة الأیدی العاملة و للعادة و الإقلیم دخل کبیر فی هذا الاصطلاح.
خطط الشام، ج‌4، ص: 212
و فی معامل السیوفی الیوم 280 عاملا مع أن الأدوات التی اقتناها صاحبها تشغل ضعفی هذا العدد فیستفیدون و یفیدون.
أکثر ما یعمل فی هذه المعامل منجورات الدور الخشبیة و أنواع الفرش و أثاث البیوت تعمل کما تعمل فی الغرب و تتأنق الأیدی و العیون فی تجویدها و تساعدها الأدوات التی تدار بالفحم الحجری و تبلغ نحو الستین آلة و منها لقطع الخشب و صقله و حفره و تقویره و نقشه و تشیفه، فتری خشب الجوز و الزان من واردات الروم (الأناضول) و الاکاجو من کوبا و شوح النمسا و سندیان أمیرکا و الخشب البیاسی من قلقیة تعمل فی تلک الأدوات و تحرکها تلک المحرکات و الآلات کأنها العجین فی ید خبازه أو الملاط بید البناء الحاذق.
قال لنا صاحب المعمل: إن الآلة الکبری المحرکة فی معمله هی بقوة مئة حصان تنفق فی النهار 13 فرنکا من الفحم و کانت الآلات التی هی أصغر منها تصرف من قبل أکثر من ذلک، و بهذا یستدل أیضا أن نفقات المعامل الکبیرة أدنی إلی الاقتصاد و أعمالها أقرب إلی الجودة من مصنوعات المعامل الصغیرة لا سیما و المعامل الکبری تتجلی فیها قاعدة تقسیم الأعمال فتجد العملة فی معامل السیوفی مقسومین إلی عدة أقسام قسم الأدوات و قسم النجارة و قسم الحفر و قسم البرداخ، و للمحل رسام خاص و کلهم من أبناء العرب لیس بینهم إفرنجی. و تختلف أجرة العامل فی الیوم من ستین بارة إلی ستین قرشا و یحاسب عن أجرته کل یوم سبت من کل أسبوعین فی الشتاء و یحاسب فی الصیف کل سبت قبل الظهر لیتیسر له الخروج إن أحب إلی الجبل یصرف لیل الأحد و لیل الإثنین فیه للنزهة، و یقضی علی کل عامل أن یعمل ستة أشهر تحت التجربة أولا ثم تحسم من میاومته أجرة أسبوعین تجعل فی صندوق المحل حتی لا تحدثه نفسه بالخروج من العمل کل یوم أو کل أسبوع کما یفعل بعض العملة فی المعامل و یترکون أصحابها معطلین. و من جملة ما شهدته من النظام داخل المعمل قاعة کبری و موائد یتناول علیها العملة طعام الظهر، و آلة تضغط النشارة عندما توضع فیها، و هی من اختراع أحد العمال هنا، و تلقی بها إلی مکان بعید خارج بنایة المعمل و من هناک یبتاعها أرباب القمامین. و مما رأیته خارج المعمل من النظام رصف الطریق الموصلة إلیه علی نفقة صاحب المعمل و غرس
خطط الشام، ج‌4، ص: 213
بعض الأشجار علی جانبیها و یبلغ طولها نحو کیلومترین.
هذا ما رأیته فی معامل السیوفی من النظام الذی لا أبالغ بأنی قلما رأیته فی معمل یرأسه شرقی، و لذلک یصفق لصاحبه لأنه بدأ به صغیرا سنة 1888 فی مدینة بیروت و کبره فی سنة 1908 فی حی الأشرفیة علی الصورة التی رأیناها الیوم و نفقة عمارته و أرضه و أدواته تساوی خمسة و عشرین ألف لیرة، و لکن لا یتیسر لمن معه مئة ألف لیرة أن یقیم مثله بأدواته و نظامه إذا لم تسبق له معرفة کمعرفة السیوفی و لم یقض سنین مثله فی النجارة و یحیط بما جل و قلّ من أسالیب العمل و تجویده. فلیت کل أعمالنا تجری علی هذا المثال من النظام البلیغ و النجاح الأکید ا ه.
و مما یصح أن یلحق بالنجارة صناعة تنزیل الخشب و تنزیل الصدف أو خشب اللیمون فیه، و هذه الصناعة کانت رائجة جدا ثم عدمت و جدد شبابها صناع دمشق منذ نحو سبعین سنة حتی أصبح ما یعمل منها مما یتنافس فی اقتنائه.
و نسبت هذه الصناعة لدمشق فیقال لها بالإفرنجیة (داماسکینه).

القیانة و الحدادة و النحاسة:

کانت العرب تطرق المعادن فی دمشق بإتقان أکثر من إتقان الغرب علی ما قال میشو، و اشتهرت کثیر من مدن الشام بهذه الصناعة منذ عرف تاریخ القیانة أو القردحة أی صناعة عمل السلاح. و ذلک لأن الحدید کان یکثر فی الجبال و لا سیما فی لبنان و حلب. و قد اشتهرت فی الجاهلیة سیوف مشارف الشام فی أقصی تخوم الجنوب، و کانت تطبع بها السیوف و تنسب إلیها فیقال السیوف المشرفیة، و کانت حاضرة المشارف مدینة مؤتة قال کثیر:
إذا الناس ساموکم من الأمر خطةلها خطة فیها السهام الممثل
أبی اللّه للشم الأنوف کأنهم‌صوارم یجلوها بمؤتة صیقل
و الصیقل هو الذی یجلو السیوف. و نسبت السیوف إلی دیاف و إلی بصری و کلتاهما فی أرض حوران فیقولون السیوف البصریة قال الحصین بن الحمام المرّی:
صفائح بصری أخلصتها قیونهاو مطردا من نسج داود محکما
و القیون جمع قین صانع السلاح. و سیوف دمشق لا تزال یفاخر بها لتفنن
خطط الشام، ج‌4، ص: 214
الصیاقلة فی صنعها، و قد عرفت بصفاء مائها، و اخضرار لونها، و إرهاف حدها، و لطف فرندها، و کانت تکتب علیها آیات و أشعار بماء الذهب، و کذلک علی الخناجر و الرماح، عرفها الصلیبیون فی القرون الوسطی و نسبوها إلی دمشق و غدوا یفاخرون بتقلدها و لا مفاخرة العرب بالسیوف الیمانیة و الرماح السمهریة. و صناعة تنزیل الذهب علی السیوف و الخناجر و المدی و البنادق کانت من أهم الصناعات الدمشقیة و یحسب أربابها من أهل الیسار و یعدون الیوم علی الأصابع و لا یسع المنصف إلا أن ینحنی إعجابا أمام جمال هذه الصناعة.
و قد نقل الفاتحون من العرب إلی الأندلس صناعة صقل السیوف و هی الصناعة التی نسبت إلی دمشق حتی الیوم فقیل لها بالإفرنجیةDamasquinage أوDamasquinerie أی تنزیل الذهب و الفضة فی الفولاذ و قد اشتق منه الفعل عندهم‌Damasquiner .
و کانت تعمل السیوف فی زحلة و الشویر و دومة من عمل لبنان و تعمل النبال الفائقة فی عمتا من بلاد الغور. و کانت الدروع تسرّد بید الدارعین و الخوذ و السابریة تصنع فی دمشق خاصة. و یعمل من الحدید کل ما یلزم من الطبر و الخناجر و المرادن و المغازل و الصنارات و الأسیاخ و العقافات و القیود و الزرد و المباضع و المبازغ و المشارط و الآنیة، یطرق کل ذلک فی کیرة الحدادین و سنداناتهم و یضرب بمطارقهم، و کانت وافیة بالغرض.
و من أهم أعمال صناعة النحاس فی دمشق حلقة باب المدرسة الخضیریة فی حی الخضیریة و کذلک الحلقتان اللتان علی بابی المستشفی النوری. و الأولی من القرن الثامن و الحلقتان الأخریان من القرن السادس و هی آیة الإبداع و المتانة و فی هذا البیمارستان أبواب من خشب من عصر صلاح الدین علیها مرایا المفاتیح علی طرز الغرب إذ ذاک. و فی مستودع الجامع الأموی بقایا النحاس الذی کان علی باب جیرون من أبواب الجامع تصور للمرء نموذجا من إتقان النحاسین و الحدادین لصناعتهم فی القدیم. و فی بعض مدارس حلب حلقات قدیمة من هذا القبیل تدل علی مبلغ صناعها من الحذق و فیها أبواب من الحدید صنعت لبعض البیوت و المدارس القدیمة آیة الجمال الصناعی. و من صناعة الحدید أمثلة کثیرة مثل أبواب بعض خانات دمشق کخان الحریر و خان أسعد باشا
خطط الشام، ج‌4، ص: 215
و خان الزیت و أبواب التکیة السلیمانیة و شبابیکها. و شبابیک المدارس و الدیارات و الجوامع و الکنائس القدیمة و أبوابها و درفاتها فی دمشق و حلب و القدس و الناصرة و بیت لحم و لبنان و غیرها و کلها تدل علی ترقی الحدادة و النحاسة دلالة عظیمة مثل أبواب القلاع کقلعة عکا و حصن الأکراد و غیرهما. و لکثرة الحدید فی أرباض حلب عمل کثیر من أبواب حلب القدیمة من الحدید.
و کذلک قل عن سائر صناعات الحدید و النحاس و کانت تعمل منها السرج و المصابیح و المواقد و الشمعدانات و الشبابیک و الکؤوس و الصحاف و الزهریات و المباخر و القماقم و أوعیة القهوة (الدلّات) و الألبان و الطسوت و الموائد و الصوانی و الصحون و المصافی و المغارف و الملاعق و القدور، و القدر الشامیة کانت مشهورة بکونها لا تنش، و السطول و المساخن و الهواوین و المدقات و المناشیر و الجرار و الحقاق و الأجراس و النعال و المسامیر و المعاول و المساحی و المناجل و المطارق و الأقفال و المفاتیح و المغالق و المناصب و الملاقط و السکاکین و المدی و المقال و المواسی و المبارد و القیود و الجواشن و الدروع و الصنجات و الجرز (العمد) و الحسک و الدرابزون و المناجیق و الدبابات.
و من الصناعات النفیسة صنعة الأجراس أجراس الکنائس فإنها تصنع فی بیت شباب، و استأثر بهذه الصنعة لبنان من دون أقطار الشرق الأقرب، و قد دخلت صنعتها أرضنا مع الصلیبیین علی الأکثر، و کانت البیع قبل ذلک تستعمل أجراسا من الخشب، و ما زالت هذه الصناعة محصورة ککثیر من الصناعات فی أسرة واحدة. و لما جاء حدید الغرب الرخیص السهل علی التطریق کثرت أدوات الحدید و تفنن صناعه فی صنعه و منهم من عمد إلی اتخاذ الأدوات الحدیثة کمعامل بیروت، و منهم من اعتمد علی الطرق القدیمة فی تطریقه، و کثیر من الأدوات الزراعیة کالفؤوس و القدم (جمع قدوم) و السکک الزراعیة و المقاریض و أدوات السیارات تعمل فی حلب و دمشق و بیروت و القدس و سائر المدن الشامیة. و لا یزال الحدادون علی تفننهم حتی یساووا معمولات الغرب. و الحاجة أمّ الاختراع.
و قد قامت دمشق فی الحرب العامة بصنع أعمال نفیسة من حاجیات الجیش کالقدوم و المنشار و الکلّاب و اللولب و الفأس و الرفش و القدر و المرکن و المرجل
خطط الشام، ج‌4، ص: 216
و الدلو و البرمیل و عجلة النقل و الرکوب و محفة الجرحی و المرضی، کنت إذا رأیتها تظنها لجمالها و متانتها من صنع الغرب. و قد جلب کثیر مما یستعمل فی هذه الصناعة من حلب و لبنان و بیروت، و یستعمل فیها الحدید و النحاس و الصفیح (التنک) و توفر الجیش الترکی فی تلک الأیام علی مل‌ء الخراطیش و صنع القذائف و المدمرات و استجادة أحسنها طرازا و أفعلها فی وقت الحاجة و إصلاح البنادق و المدافع ما دل علی ذکاء ابن هذه الدیار إذا علّم التعلیم العملی المنظم بنظام المعامل الغربیة. و لقد صنع أحد مهرة الصناعة مدة الحرب بندقیة من الخشب أخف من الماوزر فنال استحسان أهل هذا الشأن فی الدولة.
و یصح أن تلحق صناعة النحاسین و الصفارین بالحدادة، و کانت فی القدیم ذات شأن، و لم یبرح فی المتاحف و البیوت القدیمة فی المدن و القری نموذجات منه صبرت علی ممر الأیام بحالها، و ما عمل منذ ستة أو سبعة قرون کثیر جدا، و القدیم أقل منه، و کان ما یصنع منه فی دمشق یقال له الظاهری نسبة للملک الظاهر فیما زعموا و لا ندری أی ظاهر هو، لأنه کان من المنشطین لصناعته فنسب إلیه تحببا، و ما فتئت هذه الصناعة رائجة تعمل من النحاس الثریات و المصابیح و الفوانیس و التعالیق و الجفان و الکؤوس و المباخر و القماقم و الصحاف و الصوانی و الطسوت و الأباریق و الصنجات، مصنوعة من النحاس الأصفر منقوشة فی العهد الحدیث حروفا لا تقرأ إذ تعاور صناعتها أناس أمیون علی الأکثر، و کان یطرز و یرقش فی القدیم بکل معنی جمیل. و فی حلب و دمشق و زحلة و بسکنتا و بتغرین و دومة لبنان مسابک حدید، یقینون فیها الحدید قینا جیدا، و النحاس یعمل فی کل بلد للآنیة و امتهانات البیوت، و أجلّه ما صنعه صنعو الأیدی فی دمشق و حلب. و من أوسع معامل النحاس الأصفر معمل السادة النعسان فی دمشق فقد تفنن بصنع الزهریات و الکؤوس و الثریات و غیرها و السیاح یتنافسون فی اقتناء مصنوعاته و کثیر من أرباب الثراء فی مصر و أمیرکا و أوربا یزینون ردهاتهم بقطع منه و لا یقل العاملون و العاملات فیه عن مائتی نفس.
و صناعة النحاس المنقوش من الصناعات القدیمة فی الشام، و کل ما کانت تستعمله قدیما فی بیوتها و حوانیتها هو من صنعها، من صحاف کبیرة و صغیرة
خطط الشام، ج‌4، ص: 217
و بواط علی غایة من دقة الصنعة و القدیم منها یباع الآن بأثمان باهظة، و بیع من مدة من أحد تجار الآثار القدیمة صحنان من النحاس بسبعین لیرة عثمانیة ذهبا و یشتری الأوربیون ذلک تقدیرا للفن و خدمة للتاریخ، و فی الشام معامل کثیرة لصنع النحاس المنقوش و له رواج عظیم و هو أنواع کثیرة منها ثریات للتعلیق فی قصور الملوک و العظماء تزین برسوم جمیلة، و منها ما ینار بالکهرباء و منها ما ینار بالشموع و صحاف کبیرة و صغیرة و ما یلزم للاستعمال و الزینة فی البیوت و هو أنواع. و المعقول أن یدوم تصدیر هذه الأنواع و تزداد، لما فی نقوشها من الإتقان و دقة الصنعة و الاعتدال فی الأثمان.

الزجاجة:

من أهم الصناعات التی اختصت بها الشام من القدیم الزجاجة؛ صناعة الزجاج.
و عدها الثعالبی من خصائص الشام و قال: إنه یضرب به المثل فی الرقة و الصفاء فیقال «أرقّ من زجاج الشام» و قال بعض الحکماء: و ارفق بالعدو کما یرفق بزجاج الشام، إلی أن تجد الفرصة فإما أن یضربه الحجر فیفضه، و إما أن تضربه بالحجر فترضه» و ربما کانت تعمل من هذا الزجاج المناظیر للعیون قال أحمد بن محمد الدنیسری القاهری المتوفی سنة (794).
أتی بعد الصبا شیبی و ظهری‌رمی بعد اعتدال باعوجاج
کفی أن کان لی بصر حدیدو قد صارت عیونی من زجاج
و قد اشتهرت صور منذ القدیم بزجاجها، و کان الرمل الذی یعثر علیه فی جوارها یزید الزجاج بهجة لیست له فی غیرها من البلدان. و کانت معامل الزجاج فی حلب و أرمناز مشهورة تصدر منه إلی العراق و یتباهی به فی قصور الخلفاء. و اشتهرت معامل الزجاج فی عکا إلی القرن الرابع عشر، و عرفت دمشق بزجاجها کما اشتهرت الخلیل فکانت الزجاجة من صناعاتها و هی مشهورة بعمل المصابیح التی تعمل فیها اشتهارها بأساور النساء. و کان الزجاج معروفا بالدمشقی یتخذ للزخرفة و الزینة و منه الأکواب و الآنیة علی اختلاف ضروبها و یفهم مما وصفه به الشعراء مبلغ تفنن الزجاجین بزجاجهم. و اشتهرت الرقة بصنع الزجاج. و فی دار المتحف بدمشق مجموعة من الزجاج الملون المنقوش
خطط الشام، ج‌4، ص: 218
المرقوش، و هی أثمن المجموعات التی عرفت حتی الآن من نوعها. و من أجمل النموذجات فی هذه الطرائف البدیعة، و منها الأکواب و الأباریق و الجامات و السکرجات و المضخات و الأقداح و القواریر و الکیزان و البواطی و کانت معاملها فی دمشق و حلب و الرصافة و الخلیل و صور و عکا علی ما یظهر.
و قد انحطت هذه الصناعة حتی انحصرت فی دمشق و أرمناز و الخلیل بأناس فقراء یعملون من الزجاج القنانی و البواطی العادیة فقط. لأن صنع الزجاج النفیس الذی تعلمه البنادقة من معاملنا فی الحروب الصلیبیة و تلقنوه عن معامل صور و انتشر صنعه فی أرجاء أوربا بعد أن کانوا یستبضعونه من دیارنا قد نافس هذه الصناعة فقضی علیها أو کاد. و کانت معامل الزجاج ممتدة علی طول الجامع الأموی فی دمشق رآها الرحالة بوجیبوجی سنة (1346 م) و بعد أن کانت معامل عکا و صور مما یضرب بمصنوعاته المثل فقدت أسرار الجمال فی هذه الصناعة. و قبیل الحرب العامة (1908) أنشأ فی دمشق السید مسلم العمری معملا لصنع الزجاج، أنفق علیه عشرین ألف لیرة عثمانیة ذهبا، و جرّب عمله بواسطة صناع غربیین فجاء کالزجاج الذی یجلب من الغرب، و وافق الرمل الذی استعمل لکن المعمل لا یزال معطلا، و کانت الشرکة الوطنیة بنته علی آخر طرز فی شرقی المدینة. و فی الحرب العامة الأخیرة قل الزجاج المجلوب من معامل الغرب فهب أرباب معامل الزجاج فی دمشق و بیروت و أخذوا یصنعون الأکواب و الصحون و الأقداح من کسرات الزجاجات القدیمة فسدت بعض حاجة الناس.

الدهان:

و من الصنائع الدهان، و کانت مما تمتاز به بعلبک. قال فی مسالک الأبصار:
و یعمل فی بعلبک الدهان الفائق من الماعون و غیره، و لکن دمشق و حلب و غیرهما من المدن حیث کان للرفاهیة أسواق نافقة، لم تکن دون بعلبک فی هذه الصناعة، فکان یدهن الخشب و الحجر و یبقی بحاله القرون الطویلة. و من یدخل قاعة من قاعات دمشق و حلب مثلا یر الألوان زاهیة باهرة کأنها نقشت الآن، و فی دمشق الیوم قاعات و أبهاء و أواوین مضی علیها زهاء مئتی سنة و لا تزال
خطط الشام، ج‌4، ص: 219
برونقها تدهشک کما یدهش الداخل إلی متاحف الآثار المصریة من نقوش بیبان الملوک و بنی حسن و سقارة و کتاباتها و رسومها، و قد مضی علیها قرابة أربعة آلاف سنة، علی حین تنصل الألوان المستعملة لعهدنا و تکمد فی سنین قلیلة.
و السبب فی نصول الدهان الجدید، و مواده تأتی من الغرب، أن الدهانات القدیمة کانت من صنع القطر ترجع إلی أصل ثابت و یحافظ علیها من المطر و الشمس لأن الأقدمین لم یکونوا یعنون بفتح الطیقان و النوافذ و توسیع الأبواب مثل المحدثین، و لذلک صبرت الأصباغ علی الأیام، زد إلی ذلک عنایتهم فی تخیر الأخشاب و أکثرها من الدف الرومی أو الجوز أو السرو و هذه مما یصعب تطرق التشقق و البلی إلیه کالکریش و الشوح و فیه مواد قطرانیة أو غیرها، و کانت لهم فی دمشق صناعة من الدهان تعمل من الحفر و التنزیل و یقال لها الأبلق و هی أن یرسم الدهان الحجر مما یرید من الأشکال و النقوش و یحفرها النقاش و الحفار ثم یدفعها إلی الدهان فیدهنها بصب الأصباغ فی الشقوق التی یریدها ثم تجلی و تصقل فیجی‌ء صبغها کأنه من أصل الحجر ثابتا براقا، و لا یعمل منه شی‌ء الیوم.
و فی دمشق أسرة عرفت بأسرة الدهان اختصت بصناعة الدهان الذی یقال له العجمی کما اختصت بصنع هذا الأبلق. و تصنع هذه الأسرة مناضد و خزائن و اسکملات بهذا الدهان المعروف بالعجمی من النوع المقرنص تکون آیة الإبداع و حسن الذوق و یتنافس فی اقتنائها العظماء لتزیین قصورهم و تبقی السنین الطویلة زاهیة زاهرة. و قد دهنت عدة قاعات فجاءت آیة الإبداع. و ذکر الغزی أن أحد شبان حلب تعلم فی أمیرکا صناعة الدهان علی الأصول الحدیثة فجاء عمله غایة فی الرونق و الإتقان. و المنتظر تعمیم هذه الصنعة علی هذا المنوال مع مراعاة المعرفة القدیمة فیها.
هذا فی دهان الغرف و الأبهاء و القاعات، و أما صبغ الثیاب و الحریر و القطن و الغزل، فکان الاعتماد فیها علی أصباغ لهم جمیلة یعرفونها، ربما کان أکثرها من ترکیبهم أو من معادن القطر. و کان للصباغ الدمشقی صیت بعید فی الأقطار، لثبوت ألوانه و لطافة لمعانه، و کانت أصباغه معدنیة و نباتیة لا غشّ فیها فلما تغلبت الأصباغ الغربیة بطل استعمال القدیم منها بل نسی
خطط الشام، ج‌4، ص: 220
أمره و اعتیض عنه بالجدید. وجودة الأصباغ القدیمة کانت السر فی اشتهار الدیباج الدمشقی قدیما حتی أوشکت لطافته أن تجری مجری المثل. و فی حلب الیوم نحو 30 مصبغة بالنیل و 56 مصبغة للغزل و الحریر و فی دمشق مثلها و نحوها و کذلک فی کل بلد بحسب حجمه و أرباضه.
و کان من أصباغهم الأصفران أی الزعفران و الورس، و البرفیر أو الفرفیر و هو الأرجوان (أحمر و أررق) و کان و لم یزل للنیل الذی یخرج من الحولة أو یؤتی به من الهند، شأن فی صبغ ثیاب العملة و الفلاحین. و انحطت هذه الصناعة تبعا لانحطاط أکثر الصناعات، لما جاءت الأصباغ الألمانیة الحدیثة حتی إن بعض معامل ثیاب الحریر ترسل حریرها إلی الغرب لیصبغ و یعاد إلیها، فتعمل منه الشقق و الثیاب و توشی علی ما یشاؤون، و الوشی فی الثوب کالرقش فی القرطاس و النقش فی الحائط، و یحاولون أن تکون ألوانها ثابتة لا تنصل.

الفخارة و القیشانی:

و صناعة الفخارین اشتهرت بها الشام أیضا و کان فی صور الخزافون المبدعون فی الأعصر القدیمة، و کذلک فی کفرطاب، و کانت تعمل فیها قدور الخزف و تجلب إلی غیرها و منها نموذجات لطیفة حفظت فی داری الآثار فی دمشق و بیروت، و کان و لا یزال یعمل من الخزف القلل و الخوابی و الأجانات و الدوارق و أصاصی الزهور و غیرها، یصنع ذلک فی حلب و دمشق و طرابلس و بیت شباب و صیدا و بیروت و غزة و عیتا و راشیا (و یقال لهاتین البلدتین عیتا الفخار و راشیا الفخار) و صناعة الفخار علی کثرة منافسة الخزف الغربی لها لا تزال متماسکة، لأنه لا یتیسر جلب کل شی‌ء من الخارج. و أجمل الخزف الیوم ما عمل فی حلب من الصینی الجمیل.
و من الصناعات التی کانت تجود فی دمشق و حلب من دون سائر البلدان علی ما علمنا، صناعة القیشانی التی دثرت و کانت مورد ربح، و عنوان فخر و مباهاة. ترصف بها الجدران و المحاریب و الفساقی و السلسبیلات و الباذهنجات و القماقم و الزهریات و القلل و غیر ذلک. و کان یصنع علی ما یظهر من الرمل
خطط الشام، ج‌4، ص: 221
الأبیض و الجبس یجبلان معا و یفرغان فی قوالب علی الشکل المطلوب، و تکتب علی سطوحها آیات و أحادیث أو أشعار، أو ترسم علیها نقوش مختلفة بمواد ثابتة، و یذر علیها مسحوق الزجاج، أو تطلی به ممدودا بسائل غروی، و تشوی فی تنور معدّ لذلک، فیسیل الزجاج و یکسوها قشرة رقیقة تقیها من الغوائل و المؤثرات زمنا طویلا، و تظهر النقوش و الکتابات زاهیة بألوانها الطبیعیة. و فی سلسبیل جامع الدرویشیة بدمشق نموذج منه أرخ بسنة (982)، و قطعة أخری کانت علی قبر لطفی باشا أرخت بسنة (998) و هی محفوظة بدار الآثار بدمشق و قد کتبت علیها الآیة الکریمة کُلُّ شَیْ‌ءٍ هالِکٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُکْمُ وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ بخط تعلیق مشرق و فی أعلاها رحمة المولی علیه کل حین. و لا تزال فی بعض الجوامع و المدارس من هذا القیشانی العجیب نموذجات تأخذ بالأبصار.
و کان فی المسجد الأقصی مصنع للقاشانی له کامل الأدوات و ذلک فی عهد سلیمان القانونی العثمانی و هو أول من استعمل القاشانی فی زخرفة خارج قبة الصخرة، و لا تزال بعض قطعه محفوظة فی المسجد. و یوجد الآن مصنعان فیها لرجلین أرمنیین أتیا القدس من کوتاهیه، و کانت هذه من أشهر معامل القاشانی فی الدولة العثمانیة، و یشتغل المصنعان بالصنف من القاشانی الذی یرغب الفرنج فی اقتنائه و هی جیدة بعض الشی‌ء لکنها لا تحاکی الأنواع القدیمة. و یؤخذ تراب هذا النوع من مطحون حجر الصوان یسحق بآلة بخاریة قویة.
و من أجمل النماذج من القیشانی بدمشق عمودان منه علی طول متر فی محراب جامع التبان فی المناخلیة جوار باب الفرج، و منه نموذج کثیر و یظن أنه حدیث فی تربة جامع المرادیة، و فی مدخل السویقة فی مدرسة أقوش النجیبی کتبت علیه آیة الکرسی بالقیشانی البدیع. و فی تکیتی السلطان سلیمان و سلیم و فی قبر فی زقاق القرشی بالمیدان کتب علیه هذا قبر الجنینین الطفلین یونس و فرج، محفوظ فی إدارة الأوقاف، و القیشانی فی جامع تنکز مکتوب علیه آیة التوحید و فی مدفن بلال الحبشی الصحابی 146 قطعة من القیشانی المعمول فی کوتاهیة.
خطط الشام، ج‌4، ص: 222
و لا یعلم تاریخ اندراس هذه الصناعة، و المشهور أنها کانت خاصة بأهل بیت یتوارثون صنعها خلفا عن سلف، فدثروا و دثرت معهم منذ أکثر من قرنین. أخبرنی أحد أساطین العلم أنه رأی القیشانی فی جامع الدرویشیة بدمشق مصبوبا علی الأحجار طبقة لطیفة و هو فی غایة الحسن. و یظهر أن المادة القیشانیة کانت تمدّ علی الحجر کما تصنع صفائح و ألواحا. و قد قام فی العهد الأخیر فی کثیر من المدن أناس لعمل الخزف الملوّن لتبلیط البیوت دعوه بالقیشانی و هو لا یشبه القیشانی إلا بالاسم فقط. و انتشر و عم استعماله فی الشام کلها و نقل إلی الأصقاع المجاورة.

الوراقة:

فقدت الشام عدة صناعات کادت تکون خاصة بها، و تعد فی جملة موارد عیشها، و منها الوراقة صناعة عمل الورق. فقد کانت من الصناعات التی تعدها من حاجیاتها. و کانت العرب تکتب أولا فی أکتاف الإبل و الحجارة الرقیقة البیض و عسیب النخل، بعد ما کانت الکتابة فی الأدیم و الرقوق علی ما قاله المقریزی. و فی أیام بنی أمیة عمل الورق من الکتان و سمی بالخراسانی. و الغالب أن الشام أخذت فی صنع الورق فی دمشق و طبریة و طرابلس و حماة و منبج قبل هذا التاریخ. و عامة المؤرخین من الفرنج علی أن الورق من اختراع أهل (الصین سنة 123 ق. م) و نقل صنعه أسری من الصین إلی سمرقند فی سنة (751) و فی سنة (794 م) أسس معمل للورق فی بغداد ثم فی دمشق و یظهر من بیت طرفة فی معلقته أن القرطاس ینسب للشام و البیت:
و خد کقرطاس الشآمی و مشفرکسبت الیمانی قده لم یجرد
و أن القرطاس کان یعمل فی الشام علی عهده أو قبله خلافا لما قاله مؤرخو الفرنج، و أن الورق من صناعات الجاهلیة. و کان یرتفع منه کمیات من دمشق و من طبریة علی ما ذکر ذلک المقدسی. و قد تعلم صنع الورق فی دمشق أسیران فرنسیان علی عهد الحروب الصلیبیة فلما عادا إلی دیارهما نشرا صناعته فی
خطط الشام، ج‌4، ص: 223
فرنسا، و منها انتقل إلی جمیع أوربا، فلدمشق علی فرنسا بل علی المدنیة بأسرها، الفضل الأول فی تعلیم هذه الصناعة للغربیین، و ناهیک بأنها أهم صناعة نشرت العلم و الأفکار فی العالم. و قد حمل الشامیون الوراقة إلی الأندلس و صقلیة فی جملة ما حملوه من صناعاتهم، علی نحو ما حملوها إلی شمالی إفریقیة. و کانت شلطبة من مدن الأندلس تصدر منذ سنة (1009 م) الورق بکثرة و یحمل منها إلی سائر أرض الأندلس.
و کان الورق یصنع أشکالا فی مکابس صغیرة، و یعمل من الخروق البالیة أو الحریر و استبدل ورق القطن الذی منه الورق الدمشقی بالحریر فی سنة (706 م) رجل اسمه یوسف بن عمرو، و لا یزال فی خزانة دار الکتب العربیة بدمشق کتاب کتب سنة (266 ه) علی ورق یظن أنه من الورق الشامی و هو أقدم مخطوط عرف بالشام و لا یزال علی متانته. و قال الرحالة ناصر خسرو: إن الکاغد الجید الذی کان یصنع فی طرابلس یشبه ورق سمرقند إلا أنه أحسن صنعا. و ذکر القلقشندی أن الورق المعروف بورق الطیر، أی الورق الذی تکتب به البطائق و تعلق فی أجنحة حمام الزاجل، هو صنف من الورق الشامی رقیق للغایة و فیه تکتب ملطفات الکتب و بطائق الحمام. و هذا هو الورق الرقیق، و الورق القدیم أشبه بالبردی أو الرقوق بمتانته. و لا نعلم فی أی زمن انقرضت هذه الصناعة. و حدثنی أحد علماء حلب أن الورق کان یصنع فی الشهباء و أن حیا من أحیائها لا یزال اسمه الورّاقة حیث کانت معامل الورق. و الورق الحلبی الصقیل المتین مشهور إلی عهدنا.
و قد قام فی أوائل هذا القرن رجل بیروتی من بیت الباحوط، فأسس معملا مهما فی أنطلیاس علی ساحل البحر، و أصدر ورقا جیدا کورق النمسا و فرنسا، لکن معامل الورق فی الغرب أرخصت صادراتها من الورق إلی الشام فاضطر هو أن ینزل أیضا ثم خفضت السعر و لم تزل تخفضه، حتی قضت علی هذا المعمل النافع فی زمن أصبح المجلوب من الورق کل سنة یساوی عشرات الألوف من الدنانیر إلی الشام و أصبح الورق حاجة من حاجات المدنیة.
خطط الشام، ج‌4، ص: 224

المرایا:

المرآة (بکسر المیم) ما تراءیت فیه أو رأیت فیه صور الأشیاء و جمعه المرائی و الکثیر المرایا و صنعها من صناعات هذا القطر کانت تصنع فی صیدا علی ما قال بلینوس و تصدر إلی الخارج، و قد وجدت فی خرائب بومبی ألواح کبیرة من الزجاج و کانت مرایا الأقدمین من صفائح المعدن و هی المعروفة عند العرب بالوذائل واحدتها و ذیلة، اتخذوها بادئ بدء من مزیج القصدیر و النحاس ثم من الفضة خالصة أو ممزوجة بمعدن أدنی، و منها مرایا من الذهب، و قد اطلعنا علی مرایا من الشبه و الفضة استخرجت من أرض حمص. و هذه الصناعة مما تعلمه البنادقة علی ما یظهر من الشامیین و انتقل إلی الغرب ثم تنوسی عمله عندنا. و کان یرتفع من فلسطین خلال القرون الوسطی المرایا و قدور القنادیل فی جملة ما یحمل منها من أنواع الصناعات.

الصیاغة:

و من أهم الصناعات القدیمة التی لم تبرح علی شی‌ء من العنایة الصیاغة صیاغة الذهب و الفضة و التفنن فی تصویرها و وضع الأحجار الکریمة علیها، و کانت تعمل هنا أکلة الجوهر و أقرطة الذهب المزینة بالدر و الیاقوت و الشنوف و الخواتیم و الدمالج و القلائد و الأطواق و الخلاخیل علی أشکال و رسوم جمیلة. و الغالب أن المصنوعات المزیفة من الصیاغات الأجنبیة نازعت هذه الصناعة و زاد کسادها اختلاف شروط الحیاة فی هذا العصر عما کانت علیه فی الأعصر السالفة، و صارت رفاهیة القرون الخالیة مما یتعذر علی ابن هذا الجیل إلا قلیلا.
فصیاغة الحلی کما لا یخفی من الصناعات الیدویة الدقیقة جدا، و هی تحتاج إلی ذکاء و مهارة لتغیر أوضاعها و أشکالها بحسب ذوق کل عصر و رغبة أهله، و هی تقسم کما أکد العارفون إلی سبعة أقسام رئیسة. الأول ما یحلی به الرأس و أعظمها شأنا و رواء ما یسمی بالتاج، و هو عبارة عن دائرة من الذهب الرقیق، یختلف شکلها بحسب الزمان مرصعة بأحجار الماس المختلفة حجومها، و هی إجمالا من أحسن ما صنع لتزیین رؤوس السیدات، و یوجد الیوم أسماء کثیرة و أنواع عدیدة لما یزین به الرأس، منها ما یسمی بالمشط،
خطط الشام، ج‌4، ص: 225
و البرش، و القمر، و کثیر من أشکال الطیور و الحشرات کل ذلک من أبدع الأشکال و الصور مرصع بالجواهر الکریمة.
و مما تزدان به الصدور من الحلی أنواع متعددة أیضا منها ما یدعی بحسب صوره و أشکاله مثل «قلب، حبة، فراشة، زنبقة، غزال، دبوس، کردان ضفدع» کل ذلک جمیل فی صنع ذهبه و ترصیعه، و تناسب ترکیب أحجاره بدل علی رسوخ قدم فی تلک الصناعة، و غالب ما تزین به النحور عقود اللآلئ و مما تحلی به الزنود أساور الذهب الدقیق الصنع و یرصع غالبا بفصّ واحد کبیر الحجم و رسمه علی الأکثر حیة أو أفعی، و مما تحلی به المعاصم و یسمی أساور ترسم علی أشکال متعددة من الذهب، و ترصع بأحجار ماس، و لها بحسب أشکالها أسماء متعددة منها «حبة، برغی، ماس، سحب، عصافیر» و غیر ذلک. و کلها بما فیها من دقة صنع تدل علی سلامة ذوق صناعها.
و حلی الأنامل و هو ما یسمی بالخواتم، و عامتها من الذهب و یرکب علیها غالبا فص کبیر الحجم من الماس أو الیاقوت أو الزمرد أو الفیروزج أو فصوص صغیرة متناسبة الوضع، و لها أسماء متعددة منها «مرکیز، زیتونة، فریشة، ذو الثلاثة أحجار» و من أکثر أنواع الحلی الأقراط حلی الآذان و هو أشکال متعددة أیضا منه ما یسمی قرط کف ماس قفل، طارة، خروسة، عصافیر، ترکی، بغدادی، حریة، و قرط الطویل، و هو عبارة عن قطعة واحدة من ماس کبیر الحجم، معلقة بسلسلة من الذهب، بطول ثلاثة سانتیمات تقریبا لها خفقان علی الجید جمیل.
و بجید فوقه القرط یلوح‌شبه نجم خافق خلف القمر
و فی الشام ألوف من صناع الحلی و تجار الأحجار الکریمة، و لیس من بلد فی القطر إلا و فیه عدد من أرباب هذه الصناعة النفیسة. و من غریب الأمر فیها أنک لا تجد شکلا راج فی بلد إلا تجده قد راج فی الشام من أقصاها إلی أقصاها خلافا للباسهم و بقیة أزیائهم.
و لا بد من الإشارة إلی سبب ترفی هذه الصناعة، ذلک أن الشام مدینة للفتح العربی بها، فإن هذا القطر کما یعلم الباحثون لیس فیه مناجم ماس و لا ذهب (4- 15)
خطط الشام، ج‌4، ص: 226
و لکن الفاتحین من العرب بعد فتحهم أغلب آسیا و إفریقیة و عاصمتهم دمشق هادتهم الملوک، و أغلب هدایاهم هی الجواهر الکریمة و الذهب حتی امتلأت منها خزائنهم، و کان الخلفاء منهم یهدون منها القواد و الأمراء و الأطباء و الشعراء و العلماء و الفقهاء فکثرت فی أیدیهم و زادت بطبیعة الحال فی أیدی الصاغة، و تنافسوا فی إتقان تلک الصناعة حتی صارت کما تری الیوم فی أعلی درجات الارتقاء.
و یمکن أن یعد فی جملة الصیاغة طبع الدراهم و ضرب الدنانیر من النقرة المذابة من الذهب و الفضة، فإن الشام کانت من أول الأقطار التی طبعت فیها السکة الإسلامیة، و کانت الدنانیر تضرب فی الجاهلیة بأیلة علی البحر الأحمر، و فی متاحف دمشق و أوربا نقود ضربت فی دمشق و حمص و إیلیا و أنطاکیة و بعلبک و طبریة أیام عمر سنة (17) و علیها کلها رسم ملوک الروم ثم اسم المدینة بالعربیة و الیونانیة.
و کان لهم مهارة فی معرفة البهرج و الزیوف من النقود الصحیحة و یذهب بعضهم إلی أن الإکسیر إذا أضیف مثقال منه علی ألف قنطار من الحدید یستحیل ذهبا خالصا، و لم یثبت ذلک من طریق الکیمیاء و ما برح الأحمران الذهب و الفضة معدنین خاصین، و یمکن أن یعد فی جملة هذه الصناعة صناعة لصق المینا بالمعدن و منها نموذج فی دار الآثار بدمشق. و فی التاریخ العام أن معامل الشام کانت تصنع الخرز و الآنیة الذهبیة ذات المیناء، أما صناعة الجواهر و الصیاغة فإن ما بقی منها یدل دلالة کافیة علی رقی العرب فی صنعها. و کانت العرب تحسن قطع الأحجار الدقیقة و نقشها بالرسوم و زبرها بالصور.

صناعة الصدف و الرخام:

و اشتهرت بیت لحم و القدس بصناعة الصدف یعملون منه الصنادیق الصغیرة لوضع أدوات الزینة، و المسابح و الصلبان و الدبابیس و الدویّ و المقاطع و رسوما و طیورا و حیوانات الفیل و الأرنب، و ما یصنع من خشب الزیتون أشکالا دلیل علی رسوخ الصناعة، و تباع فی الغرب کمیات کثیرة منها، لما فیها من دقة الصنعة و جمال الأسلوب و التفنن فی الوضع و الشکل، و یتنافس الغربیون فی
خطط الشام، ج‌4، ص: 227
اقتناء هذه المصنوعات و یحببها إلیهم کونها من الأرض المقدسة.
و تفرد أهل بیت لحم منذ قرون بصنع أدوات التقوی کالسبح و الصلبان و بعض مشاهد التوراة، یصنعونها من عرق اللؤلؤ کما یعملون المرجان و حجر الخنزیر أو الحجر المنتن، و هو مؤلف من الطباشیر و الحمر المستخرج من بحیرة لوط.
و کانت عکا فی الدهر السالف تعمل صنوفا من حاجیات الکنائس. و لبعض صناع الرخام صنائع دقیقة فی دمشق فمنهم من یعمل أحواض الماء من قطع صغیرة، فیها أنواع الرخام الملون، و قد عمل أحدهم خزانة للکتب من أنواع الرخام الملون لا تتجاوز القطعة الواحدة السنتمتر الواحد فکانت طرفة من الطرائف التی آثروا بها القصر السلطانی فی فروق. و هذه الصناعات من الکمالیات قلما یرغب فیها حتی الأغنیاء أرباب القصور، و لذلک رغب عن صنعها أربابها فکادت تدثر. و لبعض الصناع مهارة فی تقلید العادیات القدیمة و غیرها من الأعلاق، لا تکاد تختلف عما صنع من نوعها منذ قرون، یقتنیها بعض السیاح علی أنها من القدیم. و تقلید العادیات مما عمت به البلوی فی الغرب الیوم و هی مورد من موارد ربح الفقراء من الأغنیاء و هی تحتاج إلی معرفة زائدة و مهارة غریبة.

السجاد و الحصیر:

و من أهم الصناعات صناعة نسج البسط، یقلدون فیه السجاد العجمی و الترکی. و هو أحط من العجمی لأن هذا السجاد الشیرازی و الأصفهانی یصعب أن یدانیه سجاد فی العالم لا یکاد یفنی حتی بعد استعماله قرونا، کالأعبئة الشامیة تلبس عشرین سنة و هی برونقها و متانتها. و بحق ما یقولون إن السجادات و الأعبئة أجراء دائمون بلا أجرة. و اشتهرت البسط الشوبکیة و بسط أعناک فی البلقاء و حوران و سجاد دمشق، و منها المصور بأشخاص و رسوم.
و فی دمشق و حوران و جبل قلمون و لا سیما فی جیرود و فی حمص و حلب ألوف من الأنوال، تحیک البسط من الصوف الخالص و کانت تصبغ بالأصباغ النباتیة الثابتة من استحضار القطر، فتحتفظ بألوانها بعد عشرات من السنین
خطط الشام، ج‌4، ص: 228
و تصبغ الآن بأصباغ أوربیة قلیلة الثبات و هی علی غایة من دقة الصنعة و تناسب النقوش و متانة الحیاکة بحیث تضاهی أحسن ما یعمل من نوعها فی الأقطار الأخری. و یأتی بعدها صناعة السجاد و الطنافس، و تعمل فی قری حمص و حماة و هی المسماة بالحزوری و العدمونی، نسبة لقریتی حزور و عدمون، و هی علی غایة الجودة و المتانة تعمل من الصوف الخالص، و مما یعاب علیها أنها لم تزل تعمل من لون واحد و هو الأحمر القانی، و نقوشه متشابهة لا تفنن فیها.
و دخلت صناعة الطنافس علی طریقة أحدث من الطریقة القدیمة فی حلب و بیروت و دمشق و ذلک بدخول جالیات من آسیا الصغری فی السنین العشر الأخیرة، یحسنون صنعه جدّ الإحسان، لکن النفوس لا تزال ترغب فی سجاد فارس، فإنه لا یعادله شی‌ء بمتانته و ثبات ألوانه و تصویره و رقشه. و فی بعض قری قلمون یصنعون من الوبر بسطا غلیظة متینة تستعمل فی الضیاع و البوادی، و توضع علی الأدراج فی المدن. و یعملون الجوالق (الشوالات) و العدول علی شی‌ء من الجودة و المتانة و کذلک البلاس و المسوح.
و کان نسج الحصیر و الباری من أفضل الصناعات تقوم بالحاجة. و اشتهر أنه کان «إلی جانب طبریة غابة حلفاء و رفقهم منها، أکثرهم ینسجون الحصر و یفتلون الحبال» و قد رأی ناصر خسرو فی القرن الخامس حصرا من هذه الحصر الطبرانیة تستعمل للصلاة و تساوی الواحدة منها خمسة دنانیر مغربیة.
و قد ضعفت هذه الصناعة بانهیال البسط الإفرنجیة و الحصر الیابانیة الرخیصة، و لکن القری و کثیرا من المدن ما زالت تعتمد علی المصنوع منها فی أرض الوطن و الحصر البیروتیة مشهورة بحسن نسجها و لطافة ألوانها و متانتها التی تفوق البسط الإفرنجیة کثیرا.

الصناعات المحدثة:

و من أهم الصناعات المحدثة صناعة القرمید و هو صنو الآجر القدیم تقرمد به السطوح، و فی لبنان و اللاذقیة و یافا معامل منه و فی سنة (1918) أسس رجل فرنسی فی اللاذقیة معملا لعمل القرمید، و القرمید الآجرة العظیمة. و یعمل فی هذا المعمل الفخار الصینی و بلاط الملاط لجودة التراب الخزفی فی تلک الأرجاء
خطط الشام، ج‌4، ص: 229
و فی القدس معمل للقیشانی أو البلاط الملون. و من الصناعات الجدیدة صنعة لفائف التبغ تصنع منها کمیات مهمة فی حمانا و بکفیا و زحلة و بعض قری بیروت الساحلیة و تعمل منها کمیات عظیمة فی فلسطین و دمشق و حلب.
و قد استفادت فلسطین فی الأیام الأخیرة من الإکثار من زرع الدخان استفادة عظیمة و أخذت تصنع من اللفائف ما یقوم بحاجتها و تبیع منه إلی الخارج.
و منها صناعة الطباعة و صنع الصور و الحفر علی النحاس و الزنک و فی بیروت أحسن مصانعها و دمشق تقلدها. و من الصناعات المحدثة صنع الجلید و أهم معامله فی بیروت و حلب و طرابلس و صیدا و اللاذقیة و دمشق و حیفا و یافا و القدس و هو یقوم مقام الثلج الطبیعی فی التبرید. و کان الثلج السماوی یدخر إلی آخر أشهر الصیف بحاله و کان هذا ینقل فی القرون الوسطی علی البغال من صیدا و طرابلس إلی قلعة الجبل بالقاهرة فی ثلاثة أیام لتبرید المیاه فی قصر الملک و عظماء الدولة هناک. و فی حیفا معمل للاسمنت المسلح یستخرج من حجر الجبل المتاخم لها و معمل للبنزین و السبیرتو. و قد أنشئ معملان للاسمنت أحدهما فی شقة قرب طرابلس و الآخر فی دمر قرب دمشق و نجحا نجاحا باهرا. و فی کل من عکا و یافا معمل للثقاب (الکبریت) و مثله فی دمشق.
و أهم ما دخل مجددا من الصناعات صناعة الجوخ فی دمشق أنشئ لصنعه معملان أحدهما شرقی المدینة و الآخر غربیها، و أنشئ فیها معمل لحفظ الفواکه و الثمار و البقول نجح نجاحا کبیرا، و أسس فی حلب معمل عظیم للنسیج أتی بأعظم الأرباح و سد حاجة البلاد فی الحرب الأخیرة.
هذه أهم الصنائع الشامیة و غالب الصناعات «تتبدل علیها أیدی الصناع من الواحد بعد الواحد إلی أن ینیف علی عشرة صناع حتی یتم» و قد أفاض صاحب قاموس الصناعات الشامیة بتعداد هذه الصنائع و الحرف فی دمشق خاصة علی اختلاف اسمائها و ضروبها فبلغت نحو 340 حرفة و صناعة. و لابن الصائغ الدمشقی منظومة فی ثلاثة آلاف بیت فی الصنائع قال ابن جماعة: و اعلم أن هذه الصنائع استخرجها الحکماء بحکمتهم ثم تعلم الناس منهم بعضها و صارت وراثة من الحکماء للعلماء، و من العلماء للمتعلمین، و من الأستاذین للتلامذة، و من التلامذة للصناع. و کان و لا یزال لکل حرفة زعیم أو نقیب أو شیخ أو
خطط الشام، ج‌4، ص: 230
عریف، و یسمی شیخ الحرف کلها بسلطان الحرافیش ثم کنی عنه احتشاما بشیخ مشایخ الحرف و الصنائع. و کان لأرباب الصنائع ترتیبات أشبه بالنقابات الصناعیة فی الغرب و لذلک دام رواجها طویلا. فی العهد الأخیر نقبت الصناعات النقابات علی مثال النقابات الصناعیة فی الغرب و أصبحت أصوات العمال تسمع و یزید صداها رنة کلما کثر الصناع.

تأثیر الصناعات فی المادیات و الأخلاق:

قلت من خطاب فی الصناعات یوم الاحتفال بافتتاح الدباغة الوطنیة الفنیة (5 کانون الأول 1924 م- 1343 ه) لقد فقدت معظم الصناعات و یا للأسف و آخر ما سیفقد منها صناعة النسیج الضروریة النافعة، فقد کانت صادراته من حلب و حماة و حمص و طرابلس و دمشق تسد جانبا عظیما من الموازنة بما تأتی به من الأموال کل سنة، فأصبحت الآن إلی انحطاط و نازعتها الأقمشة الإفرنجیة البراقة الدقیقة. قیل: إنه کان فی دمشق وحدها ثلاثون ألف نول للنسج قبل الحرب فأصبح عددها الیوم نحو ثلاثة آلاف، و لا تلبث إذا دامت الحال علی هذا المنوال أن تضمحل کما اضمحل غیرها من الصناعات، و یفتقر أربابها و یهاجرون أو یهلکون. و فی کل ذلک خسارة و فجیعة، و أی فجیعة أعظم من الفجیعة بالمال أو الرجال أو بهما معا.
و مما یجنیه القطر من اجتماع الناس علی مثل هذه الأعمال الصناعیة تربیة الروح القومی فیهم و إصلاح ما أمکن من شؤونهم الاجتماعیة. و إلیکم مثالا جری فی هذا المعمل یتخذ منه العاقل عبرة. ذکر لی مدیر مدبغتنا هذه منذ مدة أن مستشار الأمور الاقتصادیة فی المفوضیة العلیا زار المعمل و سر بنجاحه کل السرور و نشطه بالقول و الفعل، إلا أنه بدت منه حرکة استغربها، و ذلک أنه سأل کثیرا من العملة عن مذهبهم، و بالطبع فیهم من أهل الأدیان السماویة الثلاثة و من غیر الشامیین أیضا. فاستغربت مع صاحبی هذا السؤال منه و لم أهتد لتعلیله. و لم یلبث المستشار أن زارنی من الغد و ذکر لی فی جملة حدیثه سروره بالمدبغة الجدیدة، و قال: إنکم معاشر الدمشقیین قد حللتم مسألة من أعضل المسائل فی بلدکم لم نتمکن نحن فی بیروت من حلها. و ذلک أننا أردنا
خطط الشام، ج‌4، ص: 231
مرة أن نقوم بمشروع صناعی فیها فجاءنا أهل کل مذهب یریدون أن یستأثروا بأکثر المنافع لأبناء طائفتهم. و نحن کنا بالطبع نرید أن ینتفع به من یعمل و یعرف. و هکذا ضاع الوقت فی المجادلة علی غیر طائل و لم نتقدم شبرا واحدا فی الموضوع الأصلی، و سقط المشروع و هو جنین لأن الناس هناک یریدون أن یقوم بذاک الروح. و لقد سررت أن رأیت فی معملکم المسلم و المسیحی و الإسرائیلی علی اختلاف مذاهبهم. و کل فرد یعیش مع أخیه متساندا متعاطفا قلت له: و لذلک استغرب بعض عملة المدبغة سؤالکم أول أمس عن دین من رأیتموه فیه. فقال: لیس فی العالم عمل اقتصادی قام علی أساس الدین، و لبنان الکبیر غریب فی حالته هذه فقلت له: هذه قاعدة قدیمة سارت علیها دمشق منذ الفتح الإسلامی فکل من یحسن عملا یوسد إلیه مهما کانت نحلته. فسرّ لقولی و سررت لتوفیقنا.
بقیت هناک مسألة لا بد من الإشارة إلیها و أعنی بها تأثیر الصناعات فی الأخلاق. فقد ثبت أن الأقطار التی تکثر فیها الأعمال الصناعیة و الزراعیة أحسن أخلاقا من غیرها، و یقل فیها المتشردون و الثرثارون، لأن من طبع العاملین الأخذ بالنافع و ترک الفضول علی الجملة. و لذلک یضعف الشغب فی أرباب الصنائع، و تقل الموبقات المهلکات، لأنها لا تبقی للعامل إلا الوقت الکافی لراحته و نومه، و هو علی ثقة من أنه إذا لم یحصر ذهنه فی عمله یخرجه صاحب المعمل أو الحقل من خدمته. فالحکومة التی تحب أن یقل الشغب بین من وسد إلیها أمرهم یجب علیها أن تفکر لیلها و نهارها فی إیجاد أعمال رابحة لهم، و بذلک یقل المتشائمون و المشاغبون و المرجفون و الناقمون. و لیس أحسن و لا أنجع من هذه السیاسة.
لا جرم أن اشتراک أهل البلد الواحد بل القطر الواحد و المملکة الواحدة فی عمل اقتصادی مما یرفع مستوی القومیة أیضا و یلقن الناس معانی التکافل الوطنی.
فقد رأینا فی الدهر السالف سکان الجنوب و سکان الشمال من فرنسا یقتتلون و یتحاربون و لم تنقطع شأفة الفتن من بینهم إلا عندما اشترک الجنوبی مع الشمالی فی الأعمال الاقتصادیة، فأصبحت مصلحتهما واحدة و ارتفع النزاع من بینهما و أحسا أنهما أبناء أمة واحدة. لذلک نری إلی الیوم من بقایا تلک الأخلاق
خطط الشام، ج‌4، ص: 232
أن ابن الشمال یهزأ بابن الجنوب علی حین کلهم سواء فی مناحیهم و منازعهم، بل إن أهل شمالی فرنسا لا یعنون بغیر صناعاتهم و تجاراتهم علی الأکثر و یقلّ فیهم السیاسیون و الشعراء الأدباء و هم کثار جدا فی أهل الجنوب کثرة فاضت عن الحاجة.
فیا حبذا الیوم الذی یشترک فیه قاصینا و دانینا، فقیرنا و غنینا، فی إقامة الشرکات علی أنواعها، إحیاء لصناعاتنا و استبقاء للبقیة التی صبرت علی الأیام من ثروتنا. فالزراعة عشر الثروة العامة فی العادة، و الباقی من أسباب السعادة و النماء ثمرة الأعمال الصناعیة. و ما السکک الحدیدیة و البواخر و السیارات و القصور و المصانع الفخمة و کل ما فی المدنیة من ضروب الراحة و الرفاهیة مما یلذ و ینفع، إلا نتیجة عمل العملة فی المعامل، و کل ما نشاهده و ندهش به من أنواع الصناعات فی أمیرکا و أوربا و فی الیابان و الصین و الهند هو ثمرة التعاون و العلم العملی. و لذلک ساغ لنا أن نقول: إن کل ما یدفعنا و لو خطوة واحدة إلی الأمام لنقترب بسفینتنا الفقیرة من ساحل السلامة یستحق ثناء الأمة جمعاء و لا رجاء لنا فی الحصول علی الحاجیات ثم التطلع إلی الکمالیات، إلا بتألیف شرکات صغیرة بادئ بدء تقوم برؤوس أموال وطنیة، و تستعمل من الأدوات الجدیدة ما لا غنیة عنه، تنمو بنمونا فی مظاهر الحیاة و الانبعاث. فنحن لا نقل عن الغربی ذکاء و نشاطا و إنما ینقصنا التنظیم و التدریب. و فی أرجائنا أکثر المواد الأولیة اللازمة فی الصناعات لا تحتاج إلا إلی معرفة قلیلة للانتفاع بها و اللّه الموفق و الملهم.
خطط الشام، ج‌4، ص: 233

التجارة الشامیة

موقع الشام من التجارة و تجارة القدماء:

کان من وقوع الشام فی طرف آسیا و إفریقیة، و قربها من الساحل المقابل لبحرها من أوربا، أعظم مرکز تجاری فی القدیم، و من أهم ما حمل أبناءها علی الرحیل بتجاراتهم، منذ عرف التاریخ امتداد سواحلهم. و کثرة الأخشاب التی تجود فی غاباتهم، تساعدهم علی صنع السفن المتینة الکثیرة، ثم إن مرونة أخلاقهم تدعوهم إلی الاختلاط بغیرهم، و تقلیده و تعلم لغته و مماثلته فی عاداته و بهذا کانت شهرة الفینیقیین الذین استولوا علی جزء مهم من تجارة شمالی إفریقیة و جنوبی أوربا، و بلغوا جزائر بریطانیا، و أقاموا لهم مکاتب تجاریة فی کثیر من سواحل هذا البحر المتوسط و بحر الظلمات، و ما زال الفینیقیون أعظم أمة تجاریة بحریة فی الدهر السالف، ینقلون إلی الغرب حاصلات الشرق و إلی الشرق بعض ما کان یعمل فی الغرب، إلی أن قامت دولتا الرومان و الیونان.
عاش الفینیقیون بالتجارة لازدحام أقدامهم فی بقعة ضیقة من الأرض.
و لم یکن لسائر شعوب الشرق من مصریین و کلدانیین و أشوریین، و لا قبائل الغرب البربریة (الإسبان و الغالیون و الطلیان)، عهد برکوب البحار و شق العباب. و الفینیقیون وحدهم جرأوا فی تلک الأیام علی تجشم البحر و معارکة العباب. فصح أن یدعوا من أجل هذا عملاء تجارة العالم القدیم و قادة البیع و الشراء، یبتاعون من کل شعب سلعه و یقایضونه علی غلات البلاد الأخری.
تجارة کانت مستحکمة الصلات مع الشرق برا و الغرب بحرا.
و اعتاد الفینیقیون أن یرسلوا فی البر قوافل تتجه و جهات ثلاثا. إحداها
خطط الشام، ج‌4، ص: 234
إلی أرض العرب لتأتی منها بالذهب و العقیق الیمانی و البخور و الصبر و العطور العربیة و اللؤلؤ و الأبازیر و العاج و الآبنوس و ریش النعام و قرود الهند. و الثانیة ترحل إلی بلاد أشور لتعود منها بأنسجة القطن و الکتان و الحمر و الأحجار الکریمة و الماء العطر و حریر الصین. و تقصد القافلة الثالثة إلی أنحاء البحر الأسود لتستجلب منها الخیل و الرقیق و الأوانی النحاسیة من مصنوعات سکان جبال القوقاز.
و کانوا یبتاعون محاصیل صناعات الشعوب المتمدنة، و یبحثون فی الأصقاع المتوحشة عما یقل الظفر به فی المشرق من المحاصیل. یصطادون الصدف من شاطئ الیونان، و منه یستخرجون صباغا أحمر و هو الأرجوان. و کانت الأنسجة الأرجوانیة تستعمل عند الأقدمین کافة ملابس للملوک و الأمراء، و یجلبون الفضة التی یستخرجها أهل إسبانیا و سردانیة من مناجمهم. و کان القصدیر من ضروریاتهم یستعملونه فی صنع النحاس الأصفر، و هو مرکب من نحاس و قصدیر و لا أثر له فی أرض الشرق، یرحل الفینیقیون فی طلبه، و ینشدونه حتی فی شواطئ إنکلترا فی جزائر القصدیر و حیثما حلوا یتخذون الرقیق یبتاعونه تارة کما کان یبتاع النّخاس العبید فی ساحل إفریقیة. و ینزلون طورا فی إحدی السواحل فجأة فیختطفون النساء و الأطفال و ینقلبون بهم إلی أهلهم و یبیعونهم فی القاصیة. و إذا و اتتهم الحال ینقلبون قرصانا، و لا یتحامون إطالة أیدی التعدی علی غیرهم.
و قد أنشأ الفینیقیون مکاتب تجاریة فی الأرجاء التی اتجروا فیها، و هی مراکز للبرد حصینة، واقعة علی مرفإ طبیعی یخرجون إلیها بضائعهم من البحر و هی فی العادة أنسجة و فخار و حلی و أصنام، فیأتی أهل تلک الأقطار بغلاتهم یقایضونهم علیها کما یقایض الیوم تجار الأورببین زنوج إفریقیة. و تقام أمثال هذه الأسواق فی قبرس و مصر و جمیع بلدان البحر الرومی مثل إقریطش و یونان و صقلیة و إفریقیة و مالطة و سردانیة و مالقة و قادس و ربما أقاموها فی موناکو من بلاد الغول- قاله المؤرخ سنیوبوس.
و کانت الشام فی الزمن القدیم کثیرة السکان زاهرة علی ما یظهر، و هی مدینة بوفرة سکانها و استبحار عمرانها، لمرکزها الطبیعی و تجارتها العجیبة و رباعها الخصیبة. و کان فی وسع مصر أن تنازع الشام مکانتها التجاریة، بید
خطط الشام، ج‌4، ص: 235
أن الحسد المتأصل فی الطبقات الدینیة و السیاسیة کان یمزقها و یحول بین المصریین القدماء و بین کل صلة بالشام. فکانت الشام إذا المستودع الوحید للعالم المعروف تأتی حاصلات آسیا و إفریقیة مع القوافل إلی موانئ الشام حیث تحمل علی سفن فینیقیة، و أتت أزمان علی الشام کانت تخرب بأیدی الفاتحین، و تخرب أیضا بالحروب المتواصلة بین الممالک الصغری التی کانت تنازع هذا القطر. فأضاع بها مکانته، خصوصا منذ تخلصت مصر من نفوذ کهنتها، و غدت منافسة لها بأن جعلت من مرکزها الواقع علی بحرین مستودعا سهل التجارة بین أنحاء العالم.
و کان السبب فی کثیر من الحروب التی نشبت بین الشامیین و الأشوریین و البابلیین و المصریین ثم مع ممالک الروم فی الغرب، مسائل التجارة علی الأغلب و إرادة الشامیین أن یفتحوا صدر أرضهم لتنفذ إلیها تجارات جیرانهم أو غیرهم من الشعوب. و من أهم المدن التی استأثرت بالتجارة فی القدیم البتراء ثم تدمر ثم حلب و دمشق. و کانت مدن فینیقیة لولعها بالتجارة تترک الزراعة حتی بلغت الحال بأهل صور أن أغفلوا تعهد الأرض و کانوا یشترون مؤونتهم من الجلیل و السامرة و الیهودیة، و لما حاصر الإسکندر صور اضطر أن یستجلب أزودة جیشه من هذه المحال.
و ذکر دیودروس أن ثروة الأنباط أصحاب البتراء کانت من الاتجار بالطیوب و المر و غیرهما من العطریات، یحملونها من الیمن و غیرها إلی مصر و شواطئ البحر المتوسط، و لم تکن تجارة تمر فی أیامهم بین الشرق و الغرب إلا علی أیدیهم، و کانوا یحملون إلی مصر خاصة القار لأجل التحنیط. و لما استولی الرومان علی القطر انتقلت التجارة إلی تدمر و فارس. و وفق الفرس إلی تحویل التجارة عن مصارفها القدیمة إلی أصقاع الفرات و الخلیج الفارسی.
و أخذ الرومان یعنون بإنشاء الطرق المعبدة فی الشام، و الوصل بین الشام و الأقطار الأخری کالجزیرة و العراق و الحجاز و مصر و آسیا الصغری، و لا تزال إلی الیوم بعض هذه الطرق ماثلة للعیان فی صرخد و الشراة و الکرک و أیلة و جرش، و هذه کانت طرق البتراء إلی داخل الشام، و کانت أنطاکیة ترسل إلی رومیة الأصواف و الأنسجة و الحنطة، و الشرق یبعث إلیها بأدوات الزینة و الرفاهیة
خطط الشام، ج‌4، ص: 236
کالعطور و الأبازیر (الفلفل و جوز الطیب و الزنجبیل) و النیلة و العاج و الأحجار الکریمة و ثیاب الصوف و الحریر و العبید السود و الحیوانات النادرة و لا سیما القرود فکانت تجلب إلی الإسکندریة من طریق البحر الأحمر أو فی النیل و تأتی إلی أنطاکیة من طریق الخلیج الفارسی و بادیة الشام مع القوافل.
یقول بیرین المؤرخ البلجیکی فی کتابه محمد و شارلمان: لقد عظم نفوذ الشامیین من وراء الغایة فی رومیة جاءوها بکثرة و کان عدة من الباباوات من الشامیین کما کان بعض أباطرة رومیة من أصل شامی و إلی الشام تصل قوافل الهند و الصین و بلاد العرب و کان الشامیون یومئذ رجال البحر علی نحو ما صار الهولاندیون فی القرن السابع عشر و بواسطتهم تصدر الأبازیر و أعمال الصناعة من المدن الکبری فی الشرق کأنطاکیة و دمشق و الإسکندریة الخ و کنت تراهم فی کل الفرض البحریة کما کنت تجد منهم جالیات فی داخل البلاد. و کان لهم علی عهد ملوک الرومان منازل فی الإسکندریة و رومیة و اسبانیا و غالیا و بریطانیا العظمی حتی مدینة کارنونتوم علی نهر الدانوب. ثبت ذلک بنصوص العادیات التی عثر علیها. و فی القرن السادس کثر المشارقة فی جنوبی غالیا و کان منهم من یستوطنها و لا سیما فی الجنوب من أرجائها و کان سکان أربونة فی سنة (589) من القرط و الرومان و الیهود و الیونان و الشامیین. و کثر سواد الشامیین فی نابل و فی جوار باریز. قال: و کانت المیناء التی نعرفها أکثر من غیرها مرسیلیة و یظهر أنها کانت فرضة کبری منوعة السکان و یبین عن مکانتها تنافس الملوک فی الاستیلاء علیها عند تقسیم الامبراطوریة الرومانیة و قد کثر فیها الیهود و الشامیون و الروم و القوط.
فالتدمریون و من قبلهم النبطیون عنوا بالتجارة جد العنایة، لأنها مورد معاشهم و علة حیاتهم، لضعف الزراعة فی کورهم، فکانت القوافل علی عهد ارتقاء تدمر تحمل إلیها من جزائر العرب الذهب و الجزع و الیشب و اللبان و الصمغ و الصبر و عود الند، و من العراق اللؤلؤ، و من الهند أنواع المنسوجات و القرنفل و البهار و الحریر الصینی و النیل و الضجاج و الفولاذ و العاج و الآبنوس.
کل هذا یأتیهم من طریق القوافل فی البوادی و القفار فیحملونه إلی رومیة عاصمة الرومان. أما الأرفاق التی تأتیهم من البحر فکانت دون ذلک- قاله رنزفال.
خطط الشام، ج‌4، ص: 237
و قد اکتشف أمیر روسی فی سنة (1882) کتابة رسمیة کتبت بالتدمریة و الیونانیة یرتقی عهدها إلی سنة (137) للمسیح فهمت منها أحوال التجارة القدیمة و مضمونها تعریف جمرکی مطول أصدره مجلس شیوخ تدمر حسما لفتن وقعت بین التجار و عمال الخزانة، و فیها بیان ما یضرب من المکوس علی البضائع و المعاملات التجاریة إجمالا و إفرادا و هی باهظة فکان کل حمل جمل أو حمار یرد أو یصدر تضرب علیه أولا ثلاثة دنانیر رومانیة (و کان الدینار الرومانی یساوی نحوا من 72 سنتیما) ثم فریضة أخری تختلف باختلاف جنس البضائع. و البضائع التی ورد ذکرها فی هذه الجریدة کثیرة فمنها الرقیق و الجزر و الأرجوانیة و الزیوت العطریة المجعولة فی قماقم من الرخام الأبیض أو فی ظروف من جلد المعز، ثم ریت الزیتون و الشحم و الملوحات المتنوعة و الجلود و الثیاب و الأنسجة و الغلال المختلفة و الأفاویه و الأثمار الیابسة کحب الصنوبر و الجوز و اللوز و العقاقیر و الملح إلی غیر ذلک. و ینقسم کل حمل إلی ثلاثة أقسام حمل الحمار و حمل الجمل و حمل العجلة، و کان ثقل الأول نحو مئة کیلو و الثانی أثقل منه بثلاثة أضعاف و الثالث یبلغ نحو ألف کیلو. قال دی فوکیه: و کانت القوافل التی تحمل إلی تدمر خیرات المشرق تستخدم من الدواب الإبل و الحمیر و إذا وصل التجار إلی حاضرة زینب (تدمر) أنزلوا عن ظهر الدواب الجوالق و الأثقال المختلفة و حملوها علی العجلات لیوصلوها إلی جمیع أنحاء المملکة علی السکک و الشوارع الرومانیة، فإذا بحثت عن أسباب تقدم تدمر و بلوغها ذروة العمران وجدت لذلک سببین: الأول مرور البضائع بها و إقامتها فیها مدة و دفع المکوس إلی خزانة المدینة، و الثانی شهرة أهالی تدمر دون سواهم بقیادة القوافل فی المفاوز و الصحاری، فلذلک صارت هذه الحاضرة فی القرن الثانی للمسیح أشبه بمرفإ عظیم علی بحر البراری ترسو عند ساحلها تجارة الأمم فتغنی خزائنها کما جری فی القرون الوسطی لمدینة البندقیة سلطانة بحر الروم. و قد اکتشف علماء العادیات عمودین نصبا للدلالة علی مسافة الطریق میلا میلا علیها اسم زینب و اسم ابنها و هبلات. و أول هذین العمودین قریب الجبیل و الجسر الواقع علی وادی العذار و الثانی برج الریحان شمالی الجبیل.
و کانت الشام أهم محال الحریر و لا سیما صور و بیروت، و الشام من
خطط الشام، ج‌4، ص: 238
أهم ولایات الإمبراطوریة الرومانیة. و ذکر پروکوب عند کلامه علی أنطاکیة أنها أول مدینة رومانیة مهمة فی الشرق لغناها و اتساعها و وفرة نفوسها و جمالها و عادیاتها. و تعجب أنطونین الشهید من الترف الذی کان علی أتمه فی أنطاکیة و من عظمة أفامیة و بیروت و غزة. و قد اضمحل ذلک علی عهد یوستنیانوس لأنه أرد أن یضع سعرا وسطا للحریر فهلک تجاره و صانعوه و خربت معامله.
و یرد تاریخ زراعة الحریر إلی القرن الأول للحکم الیونانی علی الشام و لا سیما فی ضواحی بیروت. قال هید بعد أن ذکر ذلک: و قد حدا حب الربح تجارا مسیحیین علی أن یبیعوا أبناء دینهم بیع الرقیق لغرب اسبانیا و إفریقیة و الشام، فاتخذ شارلمان و البابا زکریا و أدریانوس الأول الأسباب لمنع ذلک.
و قد وجدت فی غالیا و غیرها من المدن التجاریة فی الغرب کتابات فیها أسماء الشامیین الذین کانوا یسکنونها للتجارة منذ الزمن الأطول، و منها ما وجد فی جنای علی مقربة من مدینة تریفو ذکر فیها شامی اسمه تیم من قریة عتیل من أهل مدینة قنوات فی جبل حوران کان یتجر مع غالیا بما یحمله إلیه مواطنوه إلی أرل علی سفنهم و منها إلی لیون فما فوقها من مدن فرنسا.
و لم یکن تجار الغرب یهتمون بالسفر إلی الساحل الشامی لأخذ البضائع اللازمة لهم، بل یحمل الشامیون أنفسهم بنشاطهم المعهود تلک البضائع، مع أن حاصلات آسیا کانت مما یلفت نظر الغربیین. و اشتهر خمر غزة فی فرنسا علی عهد الملک کونتران فی القرن السادس للمیلاد، و حریر الشرق و أحجاره الکریمة تتألف منها زینة العظماء و السادات. قال هید: إن الشامیین کانوا یرحلون إلی فرنسا علی عهد حکومة المیروفنجیین و نزلوا فی جنوبی فرنسا مثل ناربون و بوردو بل فی أواسطها مثل أورلیان و تور و کانت تحمل إلی فرنسا أکیاس الأدم من فلسطین. و الظاهر أن الشام کان یفوق غیره بأعماله الصناعیة و التجاریة، و صلات الشامیین محکمة مع الشرق و الغرب، و کانت بلادهم علی عهد الروم محط رحال قوافل الخلیج العربی و الخلیج الفارسی و أواسط آسیا و هی أهم ولایة تجاریة للروم. و فی الحق أن صلاتنا بالغرب زادت لما توطدت أقدام النصرانیة فی أوربا، و أصبح زوار بیت المقدس یأتون إلی فلسطین أفواجا أفواجا و یحملون معهم شیئا من تجارتهم و یأخذون ما عندنا مما یروج فی أسواقهم.
خطط الشام، ج‌4، ص: 239

تجارة العرب:

العرب أهل تجارة لضعف زراعتهم، و کانوا یوغلون فی الشرق و الغرب لغرض الربح، و قد کان لهم أسواق یقیمونها فی شهور السنة و ینتقلون من بعضها إلی بعض و یحضرها عامة قبائل العرب ممن قرب منهم أو بعد، فکانوا ینزلون دومة الجندل علی سیف بادیة الشام أول یوم من ربیع الأول فیقیمون أسواقها بالبیع و الشراء و الأخذ و العطاء، و کان یعشرهم فیها أکیدر دومة- و هو ملکها- و ربما غلب علی السوق کلها فیعشرهم بعض رؤساء کلب، فیقوم سوقهم هناک إلی آخر الشهر ثم ینقلون إلی سوق هجر- قاله القلقشندی.
و ما زال یقام فی الشام إلی الیوم فی أماکن مختلفة أسواق لبیع المصنوعات و الحاصلات أشبه بمعارض هذه الأیام فی الغرب. و کانت تقام فی دمشق فی کانون الأول سوق تعرف بسوق قضیب البان، رواه البیرونی. و روی القالی أن قریشا کانت تجارا، و کانت تجارتهم لا تعدو مکة، أی تقدم علیهم الأعاجم بالسلع فیشترونها منهم، ثم یتبایعونها بینهم و یبیعونها علی من حولهم من العرب، فکانوا کذلک حتی رکب هاشم بن عبد مناف إلی الشام فنزل بقیصر و تمکن عنده و قال له: إن قومی تجار العرب فإن رأیت أن تکتب لی کتابا تؤمّن تجارتهم، فیقدموا علیک بما یستطرف من أدم الحجاز و ثیابه، فتباع عندکم فهو أرخص علیکم، فکتب له کتاب أمان لمن یقدم منهم، فأقبل هاشم بذلک الکتاب. فجعل کلما مرّ بحیّ من العرب بطریق الشام أخذ من أشرافهم إیلافا. و الإیلاف أن یأمنوا عندهم فی أرضهم من غیر حلف، إنما هو أمان الطریق، و علی أن قریشا تحمل إلیهم بضائع فیکفونهم حملانها و یؤدون إلیهم رؤوس أموالهم و ربحهم، فأصلح هاشم ذلک الإیلاف بینهم و بین أهل الشام، حتی قدم مکة فأتاهم بأعظم شی‌ء أتوا به برکة، فخرجوا بتجارة عظیمة، و خرج هاشم معهم یجوّزهم، یوفیهم إیلافهم الذی أخذه لهم من العرب حتی أوردهم الشام و أحلهم قراها، فاتسعت قریش فی التجارة فی الجاهلیة. و هاشم هذا هو جد الرسول مات بغزة فنسبت إلیه فقیل لها غزة هاشم لأن الروم کانوا یقیمون لهم سوقا فی غزة فی موسم معلوم و کانت قریش فی الجاهلیة تحضره و تمتار منه.
خطط الشام، ج‌4، ص: 240
و کانت لهاشم بن عبد مناف رحلتان رحلة فی الشتاء نحو العباهلة من ملوک الیمن و نحو الیکسوم من ملوک الحبشة، و رحلة فی الصیف نحو الشام و بلاد الروم. قال الثعالبی: و کان یأخذ الإیلاف من رؤساء القبائل و سادات العشائر لخصلتین، إحداهما أن ذؤبان العرب، و صعالیک الأعراب، و أصحاب الغارات، و طلاب الطوائل، کانوا لا یؤمنون علی أهل الحرم و لا غیرهم، و الخصلة الأخری أن أناسا من العرب کانوا لا یرون للحرم حرمة، و لا للشهر الحرام قدرا، کبنی طی‌ء و خثعم و قضاعة. و سائر العرب یحجون البیت و یدینون بالحرمة له. و معنی الإیلاف إنما هو شی‌ء کان یجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، و یحمل لهم متاعا مع متاعه، و یسوق إلیهم إبلا مع إبله، لیکفیهم مؤونة الأسفار، و یکفی قریشا مؤونة الأعداء، فکان ذلک صلاحا للفریقین، إذ کان المقیم رابحا و المسافر محفوظا. و فی غزة استغنی عمر بن الخطاب فی الجاهلیة لأنها کانت متجرا لأهل الحجاز.
و خصبت قریش و أتاها خیر الشام و الیمن و الحبشة، و حسنت حالها و طاب عیشها، و لما مات هاشم قام بذلک عبد المطلب، فلما مات عبد المطلب قام بذلک عبد شمس، فلما مات عبد شمس قام به نوفل و کان أصغرهم. و ذکر اللغویون من جملة التخریجات فی اسم قریش التی کانت سادة العرب جاهلیة و إسلاما، أنها سمیت بذلک لتجرها و تکسبها و ضربها فی البلاد تبتغی الرزق، و قیل: لأنهم کانوا أهل تجارة و لم یکونوا أصحاب زرع و ضرع من قولهم فلان یتقرش المال أی یجمعه. و کان ساداتهم علی حبهم للتجارة إذا تولوا أمرا من أمور الأمة تخلوا عنها. ففی التذکرة الحمدونیة أنه کان لعمر بن عبد العزیز سفینة یحمل فیها الطعام من مصر إلی المدینة فیبیعه و هو و الیها، فحدثه محمد بن کعب القرظی عن النبی صلی اللّه علیه و سلم «أیما عامل اتجر فی رعیته هلکت رعیته» فأمر بما فی السفینة فتصدق به، و فکها و تصدق بخشبها علی المساکین.
و کان الأنباط یحملون من الشام إلی الحجاز الزیت و الدّرمک «دقیق الحوّاری» و یعودون إلی هذا القطر بحاصلات الحجاز. و فی السنة الثانیة للهجرة أقبل أبو سفیان بن حرب والد یزید و معاویة من الشام فی قریب من
خطط الشام، ج‌4، ص: 241
سبعین راکبا من قبائل قریش کلهم کانوا تجارا بالشام. و کانت تجارة أبی سفیان بیع الزبیب و الأدم کما کان الصدیق و عثمان و طلحة بزازین.
و خافت قریش لما أسلموا من انقطاع السفر إلی الشام للتجارات لمخالفتهم أهل الشام بالإسلام فقال علیه الصلاة و السلام: «إذا هلک قیصر فلا قیصر، و إذا هلک کسری فلا کسری بعده» معناه لا قیصر و لا کسری بعدهما فی الشام و العراق، و لا ضرر علیکم، فقویت نفوس العرب علی الاتجار مع هذین القطرین و کانوا من قبل یملکون المزارع فی الشام و یقیمون و ینعمون.
و اتجر الرسول فی الجاهلیة و کذلک بعض أصحابه کأبی بکر و عمر و عثمان، و لما رفرف علم الإسلام علی الشام اتسعت الدنیا علی الصحابة حتی إن عبد الرحمن بن عوف الزهری أحد الثمانیة الذین سبقوا الخلق إلی الإسلام کان تاجرا کثیر الأموال بعد أن کان فقیرا، باع مرة أرضا له بأربعین ألف دینار فتصدق بها کلها و تصدق مرة بسبعمائة جمل بأحمالها قدمت من الشام، و أعان فی سبیل اللّه بخمسمائة فرس عربیة، و کان الزبیر بن العوام ابن عمة النبی صلی اللّه علیه و سلم و أحد العشرة کثیر المتاجر و الأموال قیل: کان له ألف مملوک یؤدون إلیه الخراج فربما تصدق بذلک فی مجلسه، و قد خلف أملاکا بیعت بنحو أربعین ألف ألف درهم و هذا لم یسمع بمثله قط- قاله الذهبی.
و کانت مراکب صور و طرابلس تقلع من هاتین الفرضتین بالتجارة إلی سواحل خلیج القسطنطینیة (بحر إیجه) و خلیج البنادقة (الأدریاتیک) و بحر بنطس (الأسود) و جزائر قبرس و رودس و اقریطش، و کل ما قام به خلفاء المسلمین و وزراؤهم لتسهیل الحج علی المسلمین من إنشاء الطرق و إنباط المیاه علی طول الطریق إلی أم القری، و إقامة معالم الأمن و الراحة فیها للحجاج قد أفاد التجارة.
و کانوا قسموا أرض الشام إلی مراحل و برد و فراسخ و عنوا بالأمن من وراء الغایة حتی یتجر الناس. و کانت طریق القوافل إلی مصر علی الکرک أو علی غزة و رفح. قال ریسون: و کانت دمشق مدینة الصناعة الجمیلة (4- 16)
خطط الشام، ج‌4، ص: 242
مرکز تجارة شبه جزیرة العرب و مصر و الشام، و إن العرب رقوا الصناعة البحریة و وضعوا قوانین لحقوق الملاحة و استعاروا بیت الإبرة من الصینیین، و ضبطوا التجارة بفن مسک الدفاتر أیّ ضبط و شرحوا الکفالة و أنشأوا المصارف للفقراء و وضعوا السفاتج المألوفة و ردود التمسک و بعثوا روح الحرکة فی مصارفنا الحدیثة و کنت تراهم حیثما سکنوا مهدوا السبیل و أمنوها، و عمروا المرافئ و الفرض، و أصلحوا و أنشأوا الفنادق و الرباطات و رتبوا سیر القوافل الاقتصادیة و لم تکن المدن الکبری غیر أوساط تجاریة کبری.
و کان الفرات بن حیان أهدی الناس بالطرق و أعرفهم بها و کان یخرج مع عیرات قریش إلی الشام و له یقول حسان:
إذا هبطت حوران من رمل عالج‌فقولا لها لیس الطریق هنالک
فإن نلق فی تطوافنا و انبعاثنافرات بن حیان یکن وهن هالک
و یقول بیکولوتی: إن أربع موان: عکا و بیروت و طرابلس و اللاذقیة، و خمس مدن داخلیة الرملة و دمشق و حماة و أنطاکیة و حلب استفادت من التجارة مع اللاتین و لا سیما مع البیزیین و الجنویین و الطسقانیین و البنادقة و کلهم إیطالیون و هذه الجمهوریات الأربع، بیزة و جنوة و طسقانة و البندقیة التی کانت تقتسم إیطالیا هی أول من اتجر مع الشام من أمم الغرب و جاراهم بعض تجار من أهل بلجیکا و إنکلترا ثم عدلوا لبعد دیارهم. و کان لهؤلاء الطلیان و لتجار أمالفی و مارسیلیا مکاتب تجارة فی الإسکندریة و فی المدن الساحلیة و الداخلیة فی الشام، یقایضون بواسطتها حاصلات الشرق مع حاصلات الغرب، و لما فتح الجنویون ثم البنادقة جزیرة قبرس زادت صلات الشام مع هذه الجزیرة التی هی علی 93 کیلومترا من ساحل الشام فی طرف جون الإسکندرونة و تعد من الشام. و جعل ملوک فرنسا لهم تاجرا إسرائیلیا یذهب کل سنة إلی الشرق یبتاع منه حاصلات آسیا. و کثیرا ما کان الیهود سفراء فی المفاوضات مع أمراء آسیا.
و ذکر ابن خرداذبة أن التجار الیهود الراذائیة، و کانوا یتکلمون بالعربیة و الفارسیة و الرومیة و الإفرنجیة (الفرنسیة) و الأندلسیة (الإسبانیة أو البرتقالیة) و الصقلبیة (السلافیة) یسافرون من المشرق إلی المغرب و من المغرب إلی
خطط الشام، ج‌4، ص: 243
المشرق برا و بحرا، و یجلبون من الغرب الخدم و الجواری و الغلمان و الدیباج و جلود الخز و الفراء و السمور و السیوف یرکبون من فرنجة (فرنسا) فی البحر الغربی فیخرجون بالفرما «علی ساحل مصر» إلی القلزم «البحر الأحمر» و إن شاؤوا حملوا تجاراتهم من فرنجة فی البحر الغربی فیخرجون بأنطاکیة و یسیرون علی الأرض ثلاث مراحل إلی الجابیة «فی حوران»، و أما تجار الروس و هم من جنس الصقالبة فإنهم یحملون جلود الخز و جلود الثعالب السود، و السیوف من أقصی صقلبة «بلاد الروس» إلی البحر الرومی و الخارج منهم فی البر یخرج من الأندلس أو من فرنجة، فیعبر إلی السوس الأقصی فیصیر إلی طنجة ثم إلی إفریقیة «تونس» ثم إلی مصر ثم إلی الرملة ثم إلی دمشق ثم إلی الکوفة ثم إلی بغداد.
و کان یرتفع من فلسطین الزیت و القطین و الزبیب و الخروب و الملاحم و الصابون و الفوط و الجبن و القطن و التفاح و القریش و المرایا و قدور القنادیل و الإبر و النیل و التمور و الحبوب و الخرفان و العسل و شقاق المطارح و السّبح و الکاغد و البز و الأرز، و من قدس «حمص و حماة» الثیاب المنیرة و البلعسیة و الحبال، و من صور السکر و الخرز و الزجاج المخروط و المعمولات، و من مآب قلوب اللوز، و من دمشق المعصور و البلعیس و الدیباج و دهن البنفسج و الصفریّات و الکاغد و الجوز و القطین و الزبیب، و من حلب القطن و الثیاب و الأشنان و المغرة، و من بعلبک الملابن. و اختصت حلب أیضا- کما قال ابن الشحنة- بالصابون الذی یجلب منها إلی ممالک الروم و العراق و دیار بکر و هو أفخر صابون، و یباع منه بحلب فی الیوم الواحد ما لا یباع فی غیرها فی الأشهر، و من خصائصها نفاق ما یجلب إلیها من البضائع کالحریر و الصوف و الیزری و القماش العجمی و أنواع الفراء من السمور و الوشق و الفنک و السنجاب و الثعلب و سائر الوبر و البضائع الهندیة، فإذا حضر إلیها مائة حمل حریر فإنه یباع فی یوم واحد و یقبض ثمنه ا ه. و ذکر ابن بطلان من أهل القرن الرابع من عجائب حلب أن فی قیساریة البز عشرین دکانا للوکلاء یبیعون فیها کل یوم متاعا قدره عشرون ألف دینار مستمر ذلک منذ عشرین سنة و إلی الآن ا ه. و کانت تجارة الشام فی هذا القرن و الذی یلیه
خطط الشام، ج‌4، ص: 244
زاهرة جدا، و قد قسم جعفر بن علی الدمشقی التجار إلی ثلاثة أصناف و هم الخزان و الرکاض و المجهز.

التجارة فی القرون الوسطی:

کانت مراکب باری تسافر إلی موانی الشام قبل الحرب الصلیبیة و قد عقد أمراء سالرن و نابل و جایت و أمالفی فی سنة (875 م) معاهدة مع العرب کما عقد صلاح الدین یوسف و جمهوریة بیزا معاهدة مؤرخة فی 15 صفر سنة (569 ه- 1172 م) منح بها البیزانیین عدة امتیازات خاصة بالتقاضی و المملکة.
و حصل الفلورنتیون (أهل فلورنسه) من قایتبای سلطان مصر و الشام علی عدة امتیازات و کانت هاتان المعاهدتان من أوائل ما وضع من الامتیازات الأجنبیة للأوربیین فی الشرق و کان المقصد منها ترویج التجارة الصادرة و الواردة.
قال أحد کتاب الإنکلیز: إن عکا بقیت بخلیجها الجون الطبیعی الوحید علی طول ذلک الساحل، و کانت مرسی السفن فی العصور الوسطی، و لما کثر اعتماد سکان الشام فی طعامهم علی الأرز عظم شأن عکا، لأنها کانت المیناء الوحید لتوریده. و کان الناس یقولون إذا أراد «باشا» عکا تضرب المجاعة أطنابها فی الشام. و لذلک صار امتلاک عکا ضروریا لکل فاتح یرید امتلاک القطر، فحوصرت أکثر من سائر مدن الشام و کان اتصال أوربا بها أکثر من اتصالها بسواها.
کانت التجارة من أعظم العوامل فی الحروب الصلیبیة، و أکثر أمم أوربا انتفاعا منها الإیطالیون أهل جنوة و طسقانة و البندقیة و بیزا، و هؤلاء کانت لهم قصور فی الشام تدل علی غنی، و سفن الطلیان هی أهم الأساطیل التجاریة فی القرون الوسطی.
و اعتاد الأوربیون بعد الحروب الصلیبیة حاصلات الشرق، فلم یعد لهم طاقة علی الاستغناء عنها، و ملک أزمة التجارة فی البحر مع الطلیان الکاتالانیون و البروفانسیون و القبرسیون و الرودسیون، و أصبحت جزیرة رودس بمثابة مالطة و جبل طارق الیوم، و کانت قبرس تهدد شواطئ الشام و منافذ النیل.
خطط الشام، ج‌4، ص: 245
قال صالح بن یحیی: إن مراکب الإفرنج أخذت تتردد إلی بیروت بعد الحروب الصلیبیة بالمتاجر قلیلا قلیلا، و کانت مراکب البنادقة تحضر إلی قبرس فیرسل صاحب قبرس بضائعهم فی شونتین کانتا له إلی بیروت نقلة بعد أخری، و کان للقبارسة جماعة من التجار یسکنون فیها أی فی بیروت، و لهم خانات و حمامات و کنائس ثم بطل ذلک.
و تکاثر حضور مراکب طوائف الإفرنج و کانت ضرائب الواردات و الصادرات تؤخذ فی بیروت، و هی تبلغ جملة مستکثرة، و کان علی باب المیناء دواوین و عامل و ناظر و مشارف و شادّ یولیهم نائب دمشق و المتوفر من المرتبات یحمل إلی دمشق. و ذکر لامنس أنه فی نحو سنة (1136 م) جاءت مراکب فرنسیة علیها تجار إفرنسیون من مرسیلیا ثم أخذت بعض مرافئ جنوبی فرنسا کمونبلیة وارل تبعث سفنها، و بذلت جنوة جهدها لتبقی لها الأفضلیة فی التجارة مع الشام، و کانت عکا المرفأ الأعظم بین الموانی و قاعدة التجارة و مرکز القناصل العاملین، ثم مرافئ صور و طرابلس و السویدیة التی کانت تسمی میناء مارسمعان ثم بیروت. و منذ القرن الخامس عشر تقدمت بیروت سائر موانی الشام، و کان تجار الإفرنج یستبضعون من دیارنا الحریر و القطن بکمیات وافرة و الکتان و الخام و الأنسجة الکتانیة و الحریریة، و کانت صور لا تزال تتجر بالأرجوان و اشتهرت بآنیتها الصینیة و زجاجها الفاخر، و یقبل الأوربیون علی حریر أنطاکیة و زجاجها، و یبتاعون السکر بالکمیات الکبری من صور و طرابلس و غیرهما من مدن الساحل، إلی غیر ذلک من ضروب الثمار و العقاقیر و الحشائش الطیبة و الأفاویه العطریة، و کان البنادقة یجلبون من حلب مقادیر عظیمة من القطن و الشب و البهار، و خیرات الهند و العجم تتدفق إلیها. و مبدأ اشتداد صلات الشام مع الغرب منذ الحروب الصلیبیة. و قد أخذ تجار الإفرنج أنفسهم بفضل صلاح الدین ثم أخلافه من بعده یغدون و یروحون فی هذا القطر، و الحرب ناشبة بین الفریقین لا یمس أحدهم بأذی، و لا یعتدی علی حقوقه، حتی اضطر الصلیبیون أن یعاملوا تجار العرب علی هذه الصورة فی الأرض التی بقیت فی أیدیهم إلی آخر مدة الحرب مثل صور و عکا و أنطاکیة لا ینال التجار منهم کبیر
خطط الشام، ج‌4، ص: 246
أذی، و للنصاری علی المسلمین ضریبة یؤدونها فی أرضهم، و تجار النصاری أیضا یؤدون فی أرض المسلمین علی سلعهم. و قد تعقد المعاهدات مع ملوک الإفرنج و تذکر فیها أنواع المتاجر التی یحملونها إلی موانی هذا القطر و منها الخشب و الحدید.
و لم تکن جمهوریات إیطالیا فی حرب الصلیبیین دولا بحریة من الطراز الأول بل کانت منظمة بأحسن النظم الجمهوریة، و مع هذا فکثیرا ما کانت تشب الحرب بینها حتی تستأثر إحداها بالتجارة فی الشام، فکان الجنویون أعداء البنادقة، و کذلک کان الکتلانیون، و اضطر البروفانسیون أن یدخلوا تجارتهم إلی هذه الدیار بواسطتهم، و هم یریدون أن یستأثروا بنقل زوار بیت المقدس و أن تمر تجار ما وراء جبال الألب من مثل جوخ الفلاندر فی موانی إیطالیا، و تنقل علی سفنهم و تستوفی عنها رسوما خاصة. و لما احتل الجنویون الماغوسة فی قبرس بدأ اللاتین بزیارة دمشق و بقیة الشام، و کانت حال التجارة فی الدور الثالث من أدوار القرون الوسطی فی دمشق علی أحسن ما یکون، فکان التجار الأوربیون إذا انتهوا إلیها رأوا فیها عدة زملاء لهم من ممالک مختلفة مثل البندقیة و جنوة و فلورنسة و برشلونة و غیرها، فیبیعون و یبتاعون، و کان اجتماعهم فی خان برقوق و قد أقام بعض البنادقة فی حماة و منها کانوا یبتاعون القطن. و کان للأوربیین قناصل فی الشام منذ الزمن الأطول و أول قنصل کان للبنادقة فی مدینة دمشق سنة (1384 م) و اسمه فرنسسکو داندللو و کانت دمشق مستقر القناصل، إلا أن لا منس یقول:
إن أول ما ورد اسم القنصل فی جملة النزالة الجنویة التی کانت فی عکا أواسط القرن الثانی عشر و دعوه أولا بنائب القمص‌Vicomte ,Vice -Comg ثم انتشرت هذه الرتبة فی أماکن شتی فی النصف الثانی من ذلک القرن و عرف أصحابها بالقناصل و أطلق أولا علی الإیطالیین، و بعد زمن طویل صار للفرنسیس قنصل.

التجارة فی القرون الحدیثة:

کانت حلب فی هذا الدور من أول المدن التی اتجرت مع الطلیان،
خطط الشام، ج‌4، ص: 247
و قد أقام لهم البنادقة فیها منذ عهد الممالیک قناصل من الدرجة الأولی و کان البنادقة یتاجرون من ملیونین إلی ثلاثة ملایین دوکا مع حلب کل سنة، و قد احتفظت الشهباء بمرکزها التجاری المهم فکانت نقطة الاتصال بین الخلیج الفارسی و البحر المتوسط. ثم انتشر فیها الفرنسیون و لکنهم اضطروا أن یغادروها للاضطرابات السیاسیة إلی أنطاکیة، کما اضطر تجار الإفرنج فی دمشق إلی مبارحتها إلی صیدا و بیروت و عکا. و فی سنة (1507 م) عقدت الدولة العثمانیة مع فرنسا معاهدة تجاریة فکانت سفن فرنسا تأتی إلی موانی الشام و لا سیما طرابلس و صیدا و تأخذ منها حاصلات و تجلب إلیها بضائع.
و کثر عدید الإفرنج فی حلب أکثر من دمشق، لأنها أقرب منفذ لاتصال الشرق بالغرب، فکان تجارهم یأتونها من ثغر السویدیة یتجرون مع أهلها و یقایضون محصولاتهم بمحصولاتها و محصولات الشرق، و لا سیما الهند و فارس و العراق، و کانت فرنسا و البندقیة أول الممالک الأوربیة التی اتجرت مع حلب و عقدت معها الصلات التجاریة و أقامت المکاتب، ثم جاء الإنکلیز فی القرن السادس عشر و تلاهم الهولاندیون، و قد تناسل بعض الإفرنج فی حلب و ارتاشوا و تأثلوا و عدوا کأنهم من أهلها، و کان البنادقة یتجرون بالبهار یأخذونه من حلب بمقادیر وافرة کما کانوا یجلبون منها الشب و القطن.
و کان فی حلب وکلاء لتجار الهند و بلاد الکرج و الفرس و الأرمن و غیرهم، و للبنادقة بین أمم البحر المتوسط موقع ممتاز، و لئن أفقد حلب فتح الطریق البحری إلی الهند الشرقیة بعض مکانتها التجاریة، فقد کانت فی القرنین السابع عشر و الثامن عشر زاهرة بتجارتها. و کان فی حلب سنة (1775) ثمانون وکالة تجاریة لبیوت تجاریة أوربیة، و أکثر اعتماد الأوربیین علی سماسرة من الیهود یتجرون بالصادر و الوارد، و کثر تجار الإنکلیز فیها منذ عهد ملکهم جاک الأول (1613- 1625).
و نما عدد تجار الأوربیین فی عکا و صیدا و بیروت و لا سیما فی هذا الثغر، فأصبح علی ما روی لامنس فی القرن الخامس عشر و لا سیما بعد عهد تیمورلنک ملتقی شعوب البحر المتوسط. و کنت تشاهد فی بیروت مزیجا یصعب وصفه
خطط الشام، ج‌4، ص: 248
من العمائم و الطرابیش و الکوفیات الحریر و أکسیة و برانس و قفاطین. و فی القرن الثامن عشر اقترح تجار الفرنج أن تعمر میناء اللاذقیة مبینین للحکومة حسن مستقبلها، فلم یقبل المتصرف هذا الاقتراح و قال: ربما أکون غدا فی جدة فلماذا أتخلی عن الموجود و أتطلب مستقبلا مجهولا.
و ممن کان لهم الید الطولی فی تنشیط التجارة فی هذه الدیار فخر الدین المعنی الثانی فی أوائل القرن الحادی عشر للهجرة. و کثیرا ما کانت مراکب الإفرنج تأتی لمشتری الحنطة إلی موانی عکا و صور و الرملة و طنطورة و ربما بلغت السفن الصغیرة (البرش) الراسیة فی عکا نحو 150. و لقد توسع فخر الدین فی الامتیازات الأجنبیة فسمح للفرنسیین أن یبنوا خانا عظیما فی صیدا، و لأهل فلورنسة أن یفتحوا قنصلیة، فأصبحت صیدا و میناؤها أوائل القرن السابع عشر أهمّ موانی الشام.
و فی عصر فخر الدین کان یحمل من دمشق إلی الدیار المصریة عشرة قافات کما قال صاحب محاسن الشام: و هی قصب الذهب. قبع. قرضیة.
قرطاس. قوس. قبقاب. قراصیا. قمر الدین. قریشة. قنبریس. و نقل الغزی عن معجم التجارة العام المطبوع سنة 1723 (1136) أن حلب لا تضاهیها بلد بتجارها الذین یقصدونها من أقطار الدنیا، فإن خاناتها التی لا تقل عن أربعین خانا لا تزال غاصة بالهنود و الفرس و الترک و الفرنج و غیرهم بحیث لا تقوم بکفایتهم. قال: و من خصائصها التجاریة وجود الحمام الذی یأتی تجارها بالأخبار من إسکندرونة بثلاث ساعات بسبب تربیته بحلب و حمله إلی إسکندرونة بأقفاص، فإذا طرأ خبر علقت البطاقة فی رقبة الطیر و سرح، فیصیر إلی حلب طالبا لفراخه.
و فی کتاب «الشام علی عهد محمد علی»: ما زالت حلب و دمشق المرکزین العظیمین للتجارة فی الشام، و ما برحت حیفا و بیروت و طرابلس و أنطاکیة و إسکندرونة هی الموانی التی یکثر اختلاف السفن الأوربیة إلیها، و هی المحطات الرئیسة لتجارة الشرق، فتأتی قوافل بغداد إلی دمشق و حلب حاملة من العجم التنباک و السجاد، و من غیرها اللؤلؤ و الأحجار الکریمة، و من الهند الطیب و العقاقیر و الأفاویه، و فی عودتها تحمل جوخا و ثیابا من
خطط الشام، ج‌4، ص: 249
عمل أوربة، و ألبسة حریریة من صنع دمشق و حلب، و بضائع منوعة و مصنوعات خشبیة و صدفیة و نحاسیة، و بسوء السیاسة المخالفة لما هو جار فی أوربا، إذ کان ینشط التجار الغرباء دون التجار الوطنیین، أصبحت معظم التجارة العربیة فی الشام تجری تحت اسم أوربی. و قبل أن یفتح إبراهیم باشا الشام کان التجار الوطنیون یدفعون إلی الإفرنج ثلاثة و نصفا أو أربعة فی المئة لیتأتی لهم أن یتجروا بأسمائهم، لأن الإفرنج لا یدفعون علی الأکثر زیادة علی أربعة فی المئة من کل ما یطلب من المکوس و الضرائب، علی حین کانت العرب خاضعة لاداء 18 أو 20 و ربما 21 فی المئة. و قال:
إن عمال إبراهیم باشا کانوا یتجرون و یحتکرون أصنافا من التجارة.
و لما قلّ الأمن فی البحر علی عهد نابلیون و بسوء الإدارة العثمانیة و بثورات الإنکشاریة سنة (1814 و 1826) و بزلزال سنة (1822 و 27 و 32) و وباء سنة (1832) و طاعون سنة (1837) خربت تجارة حلب و دمشق، و کثرت البضائع الإنکلیزیة التی کانت تباع بأثمان بخسة تجی‌ء من طریق لیفورنا فی إیطالیا. و کانت الحاصلات الخام التی تعود إلی الشام معمولة، سبب خراب هذا القطر، مثل حرائر لیون التی أخذت تسحق حرائر دمشق و حلب، و بمنافسة حرائر لیون التی تقلد حرائر دمشق أحسن تقلید و تباع بأثمان بخسة، قضی علی صنائع دمشق بعد أن کانت تعمل أکثر من 400 ألف قطعة من الحریر و الثیاب الحریریة الممزوجة بالقطن. و کانت تجارة الحاصلات التی تبتاع بالسلف و السلم، خراب الفلاح الشامی البائس، و کان کثیر من تجار الأوربیین یستحسنون هذا النوع من التجارة، و منهم من کان یمقتها و قد یربح المتجر بها خمسة و عشرین فی المئة، و یعدها صاحب الذمة غبنا، و کان یصل إلی بیروت کل سنة 1340 سفینة تحمل 7848 طنا و یخرج 805 سفن تحمل 5005 یخرج منها القطن و الحریر و التبغ و الإسفنج و الفوّة و الزیت و الصابون بمقدار وافر و السمسم و الکمون و العفص. و تجارة الواردات تبلغ 670، 366، 44 قرشا منها نحو 15 ملیونا من مصر و تجارة الصادرات 270، 874، 26 منها نحو 13 ملیونا لمصر، فکانت الشام تخسر مسانهة نحو 18 ملیون قرش تسدها سبائک ذهب أو نقودا، و هذا علی عهد الحکومة
خطط الشام، ج‌4، ص: 250
المصریة. و بعض هذه الصادرات قد بطل إصداره الیوم من الشام.
و لقد تضررت حلب و دمشق بفتح البرتقالیین طریق رأس الرجاء الصالح فی جنوبی إفریقیة سنة (1497 م)، و کان أول من اکتشفه من البیض الفینیقیون نحو القرن السابع قبل المسیح، و تأذت تجارة حلب و دمشق بفتح الفرنسیین ترعة السویس سنة (1868)، و کان من نکبة الشام بفتح هذه الترعة أن انتقل کثیر من تجار دمشق و حلب إلی بیروت و الإسکندریة و القاهرة و طنطا و إزمیر و سلانیک و الإستانة و مانشستر و مارسیلیا و میلانو و غیرها من المدن الأوربیة و الإفریقیة و الآسیاویة، و قد تحولت تجارة الصین و الهند إلی البحر، و بطل عمل القوافل التی کانت تغدو و تروح بین الشرق الأدنی و الأقصی، و قل عدد الذین یمرون بدمشق من الروم و غربی آسیا للذهاب إلی الحجاز، و أصبح معظمهم یرکب البحر إلی البقاع الطاهرة تخفیفا من عناء الأسفار فی القفار و انحصرت التجارة الداخلیة فی حدود ضیقة، و أصبحت لا تتعدی حدّ المستهلکات، و صار لها مواسم قلما تروج فی غیرها، و لما انتظم سیر السفن البخاریة، و کثر اختلافها إلی موانی الشام، و کانت رحلاتها من قبل متقطعة مختلفة المواعید، تجرأ الناس علی الاتجار و تضاعفت الصلات التجاریة بین الشام و الأصقاع الإفرنجیة.
یقول بعض الکتاب: إن التجارة البحریة لم تنقطع فی البحر الرومی فی القرن الأول للإسلام إلا بما کان یبدو من حرکة الأسطول الیونانی، و لکن تجارة الشام أصیبت بالتأخر مع أوربا لما أصبح للشام منافس کالبصرة التی کانت لقربها من الهند أکثر منافسة للشام.
و ظهرت ظاهرة مهمة فی الشام منذ نحو ثمانین سنة أثرت فیه تأثیرا کبیرا و ذلک أن جماعة من تجار بیت لحم فی فلسطین حملوا مصنوعاتهم الخشبیة و الصدفیة إلی معرض فلادلفیا سنة (1876 م) فربحوا کثیرا و لما عادوا کثر المقتفون لآثارهم من التجار و غیرهم من أهل الشام و بدأ الناس بالهجرة طلبا للربح، و کانت الهجرة مقصورة أولا علی سکان الجبال من لبنان و عامل و اللکام ثم تعدت إلی سکان السهول، و کان المستأثر بها سکان القری فتعدت إلی سکان المدن، و کان التجار علی الأغلب مسیحیین فأصبحوا بعد من
خطط الشام، ج‌4، ص: 251
جمیع أهل الأدیان من الشامیین، و لم یلبث نطاق الهجرة أن توسع، و ما نراه فی اللبنانین الشرقی و الغربی، و ما إلیهما من الجبال من الدور و القصور عمر أکثره بدراهم أمیرکا، و یقدّر الیوم المهاجرون إلی أمیرکا الشمالیة و الجنوبیة و اوسترالیا و غیرها من البلاد التی ترحب بالأیدی العاملة بزهاء سبعمائة ألف مهاجر شامی.
و قد ساعد علی دوام الهجرة اختلال المجاری الاقتصادیة فی السلطنة العثمانیة، ثم استرسال الحکومات العثمانیة ثم المنتدبة فی إهمال الحرکة الاقتصادیة و إلقاء الحبل علی الغارب. و قد کان عمال العثمانیین یودون لو هاجر جمیع المسیحیین من الشام، لینجوا من دعوی أوربا فی حمایة الأقلیة و لکن بهجرتهم ضعفت التجارة، و کیف تنجح التجارة فی أمة و الحکام هم التجار، و قد رأینا من ذلک أمثلة خلال الحرب العامة، فکان عمال الأتراک لا فرق بین الکبیر و الصغیر منهم یحتکرون معظم الحاجیات دع الکمالیات، فکنت تراهم کلهم تجارا یؤخرون الأرزاق عن الجند فی ساحة الحرب و یقطعون مواد الحیاة عن الرعیة، حتی یشحنوا بضائعهم و یغنموا فرصة ارتفاع أسعارها، فاغتنی بذلک کثیر من عمالهم ثم افتقروا بعد حین.
علی أن بعض البلدان استفادت کثیرا من الحرب العامة و معظم المدن التی استفادت حلب و دمشق و بیروت و القدس. قال الغزی: إن التجارة فی حلب آخذة بالتقدم منذ ثلاثین سنة و لذا کثر عدد التجار زیادة عظیمة بحیث بلغ ثلاثة أضعاف ما کانوا علیه قبل هذه المدة، و کان معظم هذه الزیادة فی أیام الحرب العالمیة فإن أرباح التجارة التی کانت فی غضونها جرّت العدد الکبیر من ذوی الصنائع الیدویة من صنائعهم إلی الاسترزاق بالتجارة فنجحوا و ربحوا أرباحا طائلة، و نشأ من بینهم أصحاب ثروة تستحق الذکر. إلی أن قال: و فی سنة (1341) بدأ دولاب التجارة یدور ببطء فأخذت الثروة العامة فی حلب بالانحطاط لإغلاق الأناضول أبوابه فی وجه تجارة البضائع المعدودة من الکمالیات و غلاء أجور النقل فی السکة الحدیدیة و تلاعب الصیارفة و المحتکرین بالأوراق النقدیة و النقود الذهبیة إلی غیر ذلک من الأسباب.
خطط الشام، ج‌4، ص: 252
و من أعظم الفوائد التی نتجت للشامیین من تعلم اللغات الأجنبیة کالفرنسیة و الإنکلیزیة، أن کان من هؤلاء المتعلمین و أکثرهم من غیر المسلمین عمال لتجارة الواردات من الغرب. و استأثر المسلمون بتجارة الصادرات فکان منهم تجار شامیون فی الإسکندریة و طنطا و القاهرة و السودان و الإستانة و إزمیر، و کل بلد فی الأرض مهما بعدت الشقة إلیه تری فیه تجارا شامیین، و أنجح تجارهم فی مصر و الأمیرکتین و أوسترالیا. و لنا تجار فی العراق و الحجاز و فارس و الهند و یابان و جنوبی إفریقیة و أواسطها علی نحو ما وصفنا شاعر النیل حافظ إبراهیم:
و رجال الشام فی کرة الأرض‌یبارون فی المسیر الغماما
رکبوا البحر جاوزوا القطب فاتواموقع النیرین خاضوا الظلاما
یمتطون الخطوب فی طلب العیش و یبرون للنضال سهاما
و من أهم المواسم التی کانت فی فصل مخصوص من السنة تدب فیه روح الحرکة فی التجارة موسم السیاح، فکان سیاح الغرب یأتون أوائل الربیع لزیارة الأماکن المقدسة و المصانع التاریخیة فی فلسطین و بعلبک و تدمر و دمشق و غیرها و یقدرون بخمسة آلاف سائح کل سنة علی الأکثر إلی المدن الوسطی و الشمالیة و بأکثر من ذلک إلی فلسطین فقط، و الموسم الآخر موسم حجاج إفریقیة و آسیا و أوربا و کانوا یقدرون بخمسین ألف حاج، و الفضل فی ذلک یرجع لسهولة المواصلات البریة فی السکة الحجازیة، و لرخص أجور البواخر فی البحر. و موسم الحج بطل بالحرب فنزل معدل من یزورون الشام و یتجرون و یبتاعون. أما موسم فلسطین فإن کثیرا من تجارها أصبح رزقهم موقوفا علی ما یربحونه فی موسم الزوار فی القدس و بیت لحم و الخلیل و الناصرة و غیرها، و بدأ الشرق العربی یربح کثیرا من السیاح الذین یختلفون إلی ذاک الصقع لزیارة جرش و عمان و البتراء و قصر المشتی و غیرها، کما تربح سوریة و لبنان من القاصدین إلی زیارة بعلبک و تدمر و غیرهما، و صار لموسم الاصطیاف فی لبنان الغربی و الشرقی مکانة اقتصادیة ذات شأن کبیر فی تنشیط الصناعة و التجارة. و متی انتشر الأمن فی القطر، و کثرت الخطوط الحدیدیة فی البر، و السفن التجاریة فی البحر، و حمت الحکومة التجارة بقوانینها
خطط الشام، ج‌4، ص: 253
و أحکامها العادلة، و معاهداتها مع الأمم المجاورة، انتبه التجار إلی التجدد فی متاجرهم. و لا نعد تاجرا من یحرق مخزنه أو ما فیه لیربح ضمانه من الشرکة الضامنة، أو یتلکأ فی أداء الذمم التی علیه، أو یضارب فی الأسواق فیؤذی الفقیر. أو یعامل صاحب المعمل فی الغرب بقلیل من الذمة فیتلاعب فی الأسعار و الصوافی، فإن هذا مما یؤخر الصادر عنا و الوارد علینا، و فی کل ذلک ما یزید الغبن و یورث الخسارة فی العاجلة و الآجلة لا محالة.
و لقد ثبت فی العهد الأخیر، و خصوصا لما أخذ المسلمون یجارون مواطنیهم المسیحیین فی تعلم اللغات الغربیة، و یتقنون أصول التجارة علی أسالیب أمم الحضارة، و یتعرفون إلی أوضاعهم الجدیدة فی استثمار أموالهم فی مصارف خاصة بهم، أن الغربیین یتعذر علیهم أن یتوسعوا بعد فی الاتجار فی القطر، و فتح بیوت تجاریة علی المثال الذی کان لهم وحدهم فی القرن الماضی، و قطع أرزاق الشامیین فی عقر دارهم. ذلک لأن التاجر الوطنی أقل من التاجر الغربی فی مطالبه، یکتفی بالربح القلیل، و یصبر فی الأزمات، و هو فی بلده یعرف ما یصلح له و یروج فیه، و نفقاته إجمالا أقل من نفقات الغریب.
و إذا تساوی الوطنی و الدخیل من کل وجه، فالوطنی یؤثر معاملة مواطنه لا محالة.
و إذا جاری التاجر العربیّ التاجر الغربیّ أو کاد، تجلت فی ابن الشام أخلاق التجارة، و النفوذ فی قاعدة العرض و الطلب، و بدا فی هذا المیدان ذاک الشرف المغیب الذی کان کامنا فی نفسه، و ورثه مع الدم المتسلسل فیه من آبائه الأقدمین، عربا کانوا أو روما أو فینیقیین، و بذلک أصبح الرجاء معقودا بأن یستأثر الشامیون بتجارة دیارهم. فإن تعلموا باختلاطهم بالأمم الحیة ما ینقصهم من ضبط و نظام، و ساعدهم علی ذلک قلة من یأتی من الغرب من أرباب الطبقات الأولی فی التجارة، و کان التاجر المتوسط الحال بماله و معرفته منهم أقل حظا ممن یماثله من الشامیین فی أسواق المتاجرات، و إذ کان من البعید علی النوابغ من کل صنف فی الغرب أن یغشوا بلادنا- کان فی ذلک کله النفع العظیم لنا فی تجارتنا، و متی حللنا روح الشامی و ما انطوی علیه من مراعاة الشرف و الاحتفاظ بالثقة، و البعد عن التدلیس
خطط الشام، ج‌4، ص: 254
و المؤالسة، و إرادة النصح فی الجملة، کان التاجر کل التاجر، الذاهب فی الأرض بجماع المفاخر، و باستقامة تاجرنا فی معاملته، یدفع عن وطنه کثیرا من الغوائل الاجتماعیة، و لا یهنأ العیش و یطیب، إلا إذا قلّ توافد الغریب من الجنس الذی قال فیه حافظ:
یقتّلنا بلا قودو لا دیة و لا رهب
و یمشی نحو رایته‌فتحمیه من العطب

التجارة و الاقتصادیات فی العهد الحدیث :

نشبت الحرب العامة سنة (1914) و لم تکن الشام علی استعداد للدخول فی غمارها، و لم تأخذ الأهبة الکافیة لمقاومة طوارئها، و ما لبثت الدولة العثمانیة و البلاد الشامیة التابعة لها أن دخلت فی صفوف المحاربین إلی جانب الدولة الألمانیة و حلفائها، فحصرت موانی الشام، و بدأت أسعار البضائع ترتفع تدریجیا، و ذلک فی أصناف الملبوسات کأنواع منسوجات القطن و الصوف علی اختلاف أنواعها، أو فی المأکولات کأنواع السکر و القهوة و الأرز، أو فی سائر الحاجیات و الکمالیات کالبترول (الکاز) و الکحول (السبیرتو) و أنواع المواد القرطاسیة و الزجاجیة و الأصباغ و المواد الکیمیاویة علی اختلاف أنواعها، و شعر الناس بالحاجة إلی الاقتصاد و التفکر فی استجلاب هذه الأصناف من البلاد المجاورة بقدر الإمکان.
و قد اشتدت الأزمة الاقتصادیة بفقدان الأیدی العاملة أیضا من المدن و القری، بسبب النفیر العام و التجنید فی جمیع أصقاع الشام، و کان من تخلصوا من التجنید الإجباری هم الذین لم یتدربوا علی التعلیم العسکری فدفعوا بدلات نقدیة مرات خلال أعوام الحرب. و کانت هذه البدلات تکلف مبالغ طائلة فی السنین الأخیرة، و أعلنت الدولة العثمانیة بعد دخولها الحرب (قانون تأجیل الدیون) بقواعد مخصوصة أقرتها.
و لم یلبث الضیق أن عمّ و النقد أن قلّ و خصوصا بعد أن وضعت السلطة العسکریة یدها علی جمیع وسائط النقل فی البلاد مثل السکک الحدیدیة و دواب
خطط الشام، ج‌4، ص: 255
النقل و المرکبات و السیارات، فکانت أسعار الحاجیات تختلف اختلافا بینا فی بلاد الشام القریب بعضها من الآخر، و ذلک بالنسبة للتشدد أو التساهل الذی کانت تبدیه الإدارة العسکریة فی استخدام أسباب نقل البضائع.
انقضت السنة الأولی للحرب فأصبحت دمشق مرکزا للجیش الرابع الزاحف علی ترعة السویس. و أنشأ یعقد البیوع العظیمة و الالتزامات الکبیرة سد لحاجات الجیش المذکور، فبدأت هذه الأزمة الشدیدة بالانفراج، و أخذت إدارة الجیش تتساهل باستخدام المجندین فی إدارات المتعهدین و الملتزمین، و نشطت الحرکة التجاریة و الصناعیة فی الشام. و لا ینکر أن الجیش الرابع صرف مبالغ طائلة فی أسواق التجارة لضمان حاجاته الکثیرة التی لم یتمکن من تأمینها بطرق الإکراه أو بواسطة الضرائب الحربیة التی رأی أنها عقیمة لا تفی بالحاجة، و بعدئذ فکر بعض التجار باستجلاب بعض الحاجات الضروریة التی غلت أسعارها و عزّ وجودها من بلاد نجد التی کانت تستورد بضائعها من الهند و فارس علی أیسر وجه و طمأنینة، لأن أمیر نجد عبد العزیز ابن سعود کان موالیا لإنکلترا لا یجد ضیقا و لا رهقا فی استجلاب البضائع و مواد الغذاء علی اختلاف أنواعها.
و لقد کانت هذه الطریقة من أهم الوسائط لسد حاجات البلاد و الجیش، و لإیجاد حرکة تجاریة جیدة کانت تدرّ ذهبا و هاجا علی المتاجرین و المستوردین، کما أن کثیرا من التجار اتخذوا وسائط عدیدة لاستجلاب بعض البضائع الألمانیة و النمسویة بواسطة رجال الجیش و استخدام وسائطهم لنقل هذه البضائع بالاتفاق معهم، و بتبادل المنفعة بینهم، و بذلک انفرجت الأزمة الاقتصادیة التی بدأت فی السنتین الأولیین من الحرب، و اغتنی کثیر من التجار و العاملین و الوسطاء من رجال الإدارة و الجندیة باستخدام هذه الوسائط فی النقل و نقل أصناف التجارة، و البلاد محصورة لم یرد إلیها شی‌ء قط من طرقها البحریة العدیدة. و کثرت النقود الذهبیة فی التعامل بما أنفق من إدارات الجیش، و ما ورد البلاد من طرق البر من البضائع، و ما کانت بریطانیا العظمی تنفقه فی أنحاء البلاد المجاورة عن سعة من الذهب الوهاج لتأیید الثورة العربیة، حتی أصبحت البلاد فی أواخر سنی الحرب علی أحسن حالات الیسر و الرخاء.
خطط الشام، ج‌4، ص: 256
فارتفعت أسعار العقارات و المزارع، و شعر الناس بکثرة النقد الذهب فی أیدیهم حتی کان المشتری لا یجد من یبیع عقارا أو أرضا إلا بثمن فاحش، إلی أن دخلت الجیوش الإنکلیزیة و العربیة هذا القطر تحمل معها الذهب و تنفقه بلا حساب، و یقدر ما أنفقه الجیش الإنکلیزی فی سنة (1919) و الأشهر الأولی من سنة (1920) فی أرض الشام بما یقارب الثلاثة ملایین من الجنیهات المصریة.

الورق النقدی و العوامل فی تدنی الاقتصادیات:

و حدث خلال الحرب أن اتجر کثیر من المالیین بأوراق النقد الدولی علی اختلاف أنواعه، و أصبح بعضهم یستورده من طریق ألمانیا و النمسا و سویسرا إلی الإستانة، و منها توزع فی أنحاء بلاد العرب مثل الکورون النمساوی و المارک الألمانی و الشلن الإنکلیزی و الفرنک الفرنساوی و الروبل الروسی و أوراق النقد الترکیة و الأسهم الیابانیة و العقاریة المصریة و الأرجنتینیة علی اختلاف أنواعها، و أصبحت تباع بقیم تنحط أحیانا عن قیمتها الحقیقیة 25 إلی 50 فی المئة. و تدنی سعر الروبل الروسی إلی 10 و 15 فی المئة و کذلک المارک و الکرون، فأقبل عدد کبیر من التجار و أرباب الأملاک حتی و النساء علی مقتناها و ذلک علی أمل أن تعود إلی أسعارها الأولی بعد أن تضع الحرب العامة أوزارها. و یقدر الخبیرون أن الشام أدت قیمة ما ادخرته من أوراق النقد هذه ما یربو علی خمسة ملایین لیرة عثمانیة ذهبا، کان القوم یأمل بیعها بما یقارب أسعارها الأولی، و بذلک یربحون ربحا عظیما من أیسر طریق.
ثم أعلنت الهدنة عام (1918) و بدأ تجار الشام یستوردون البضائع المنوعة التی اشتدت حاجتها إلیها من البلاد المصریة أولا ثم عقدوا المبیعات المختلفة من أوربا بأسعار عالیة، و قد اضطر أرباب المصانع و المعامل إلی رفع أسعار بضائعهم لعوامل عدیدة، و منها قلة الأیدی العاملة بعد الحرب العامة، و غلاء المواد الأولیة للصناعات المنوعة، و ارتفاع أسعار الفحم و أجور المواصلات، و راح الکثیرون بالنظر للحاجة الماسة إلی عقد مبیعات عظیمة من أنواع البضائع المنسوجة و المغزولة علی کثرة أنواعها، و من الأصناف

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.