المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، المجلد 4

اشارة

نام کتاب: المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت
نویسنده: مقریزی، احمد بن علی
تاریخ وفات مؤلف: 845 ه. ق
موضوع: جغرافیای شهرها
زبان: عربی
تعداد جلد: 4
ناشر: دار الکتب العلمیة
مکان چاپ: بیروت
سال چاپ: 1418 ه. ق
نوبت چاپ: اول
رده بندی کنگره:
DT۷۷/ م۷م۸۱۳۷۶
almwaa'th walaa'tbar bthkr alkhtt wala'thar alma'rouf balkhtt almkriziah
تألیف: تقدی الدین العبیدی المقریزی تاریخ النشر: 01/01/1998
ترجمة، تحقیق: خلیل المنصور الناشر: دار الکتب العلمیة
النوع: ورقی غلاف فنی، حجم: 24×17، عدد الصفحات: 1832 صفحة الطبعة: 1 مجلدات: 4

الجزء الرابع

ذکر المساجد الجامعة

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم اعلم أن أرض مصر لما فتحت فی سنة عشرین من الهجرة، و اختط الصحابة رضی اللّه عنهم فسطاط مصر کما تقدّم، لم یکن بالفسطاط غیر مسجد واحد، و هو الجامع الذی یقال له فی مدینة مصر الجامع العتیق، و جامع عمرو بن العاص. و ما برح الأمر علی هذا إلی أن قدم عبد اللّه بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس رضی اللّه عنهما من العراق، فی طلب مروان بن محمد فی سنة ثلاث و ثلاثین و مائة، فنزل عسکره فی شمالیّ الفسطاط، و بنوا هناک الأبنیة، فسمی ذلک الموضع بالعسکر، و أقیمت هناک الجمعة فی مسجد، فصارت الجمعة تقام بمسجد عمرو بن العاص و بجامع العسکر، إلی أن بنی الأمیر أحمد بن طولون جامعه علی جبل یشکر، فی سنة تسع و خمسین و مائتین، حین بنی القطائع، فتلاشی من حینئذ جامع العسکر، و صارت الجمعة تقام بجامع عمرو و بجامع ابن طولون، إلی أن قدم جوهر القائد من بلاد القیروان بالمغرب، و معه عساکر مولاه المعز لدین اللّه أبی تمیم معدّ، فبنی القاهرة و بنی الجامع الذی یعرف بالجامع الأزهر فی سنة ستین و ثلاثمائة، فکانت الجمعة تقام فی جامع عمرو، و جامع ابن طولون، و الجامع الأزهر، و جامع القرافة الذی یعرف الیوم بجامع الأولیاء. ثم إنّ العزیز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدین اللّه، بنی فی ظاهر القاهرة من جهة باب الفتوح الجامع الذی یعرف الیوم بجامع الحاکم، فی سنة ثمانین و ثلاثمائة، و أکمله ابنه الحاکم بأمر اللّه أبو علیّ منصور، و بنی جامع المقس، و جامع راشدة، فکانت الجمعة تقام فی هذه الجوامع کلها إلی أن انقرضت دولة الخلفاء الفاطمیین، فی سنة سبع و ستین و خمسمائة، فبطلت الخطبة من الجامع الأزهر، و استمرّت فیما عداه.
فلما کانت الدولة الترکیة حدث بالقاهرة و القرافة و مصر و ما بین ذلک عدّة جوامع، أقیمت فیها الجمعة، و ما برح الأمر یزداد حتی بلغ عدد المواضع التی تقام بها الجمعة، فیما بین مسجد تبر خارج القاهرة من بحریها إلی دیر الطین قبلیّ مدینة مصر، زیادة علی مائة موضع. و سیأتی من ذکر ذلک ما فیه کفایة إن شاء اللّه تعالی.
و قد بلغت عدّة المساجدة التی تقام بها الجمعة مائة و ثلاثین مسجدا. منها: بمدینة مصر: جامع عمرو بن العاص، و الجامع الجدید، و المدرسة المعزیة، و جامع ابن اللبان،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 4
و جامع القرّاء، و جامع تقیّ الثمار، و جامع راشدة، و جامع الفیلة، و جامع دیر الطین، و جامع بساتین الوزیر.
و منها بالقرافة: جامع الأولیاء، و جامع الأفرم، و خانکاه بکتمر، و جامع ابن عبد الظاهر، و جامع الجوّانی، و جامع الضراب، و جامع قوصون، و جامع الشافعیّ، و جامع الدیلیّ، و جامع محمود، و جامع بقرب تربة الست.
و منها بالروضة: جامع المقیاس، و جامع عین، و جامع الرئیس، و جامع الأباریقیّ، و جامع المقسیّ.
و منها بالحسینیة خارج القاهرة: جامع أحمد الزاهد، و جامع آل ملک، و جامع کزای، و جامع الکافوریّ، بالقرب من السمیساطیة، و جامع الخندق، و جامع نائب الکرک، و جامع سویقة الجمیزة، و جامع قیدار، و جامع ابن شرف الدین، و جامع الظاهر، و جامع الحاج کمال التاجر، تجدّد هو و جامع سویقة الجمیزة فی أیام الظاهر برقوق.
و منها خارج القاهرة مما یلی النیل: جامع کوم الریش، جامع جزیرة الفیل، جامع أمین الدین بن تاج الدین موسی، جامع الفخر علی النیل، جامع الأسیوطی، جامع الواسطیّ، جامع ابن بدر، جامع الخطیری، جامع ابن غازی، جامع المقس، جامع ابن الترکمانیّ، جامع بنت الترکمانیّ، جامع الطواشی، جامع باب الرخاء، جامع الزاهد، جامع میدان القمح، جامع صاروجا، جامع ابن زید، جامع برکة الرطلیّ، جامع الکیمختی، جامع باب الشعریة، جامع ابن میاله، جامع ابن المغربیّ، جامع العجمیّ بقنطرة الموسکی، الجامع المعلق بقنطرة الموسکی أیضا، جامع الجاکی بسویقة الریش، جامع السروجیّ بسویقة الریش أیضا، جامع البکجریّ، جامع ابن حسون بالدکة، جامع ابن المغربیّ علی الخلیج، جامع الطباخ بخط اللوق، جامع الست نصیرة بخط باب اللوق حیث کان الکوم، فحفر فإذا بقبر عرف بالست نصیرة، و عمل علیه مسجد و أقیمت به الجمعة فی أیام الظاهر برقوق. جامع شاکر بجوار قنطرة قدادار عمّر سنة ست و عشرین و ثمانمائة، جامع غیط القاصد خلف قنطرة قدادار، جامع الجزیرة الوسطی، جامع کریم الدین بخط الزریبة، جامع ابن غلامها بخط الزریبة أیضا، الجامع الأخضر، جامع سویقة الموفق، جامع سلطان شاه بباب الخرق، جامع زین الدین الخشاب خارج باب الروق، کان زاویة للفقراء فأقیمت به الجمعة بعد سنة ثمانمائة، جامع منکلی بسویقة القیمریّ.
و منها فیما بین القاهرة و مصر: جامع بشتاک، جامع الإسماعیلیّ علی البرکة الناصریة، جامع الست مسکة، جامع آق سنقر بمجری السقائین، جامع الشیخ محمد بن حسن الحنفیّ، جامع ست حدق بالمریس، جامع الطیبرسیّ، جامع الرحمة عمارة الصاحب أمین الدین عبد اللّه بن غنام، جامع منشأة المهرانیّ، جامع یونس بالسبع سقایات علی البرکة، جامع برکة الاستادار بحدرة ابن قیحة، جامع ابن طولون، جامع المشهد النفیسیّ، جامع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 5
البقلیّ بالقبیبات، جامع شیخو، جامع قانبای برلس، سویقة منعم، جامع الماس، جامع قوصون، جامع الصالح بمدرسة الناصر حسن بسوق الخیل، جامع الجای، جامع الماردینیّ، جامع أصلم.
و منها بقلعة الجبل: الجامع الناصریّ، جامع التوبة، جامع الإصطبل، الجامع المؤیدی.
و منها: خارج القاهرة بالترب و ما قرب من القلعة: تربة جوش، و تربة الظاهر برقوق، و تربة طشتمر حمص أخضر بالصحراء، جامع الخضری، جامع التوبة، الجامع المؤیدی.
و منها بالقاهرة: الجامع الأزهر، و الجامع الحاکمیّ، و الجامع الأقمر، و مدرسة الظاهر برقوق، و المدرسة الصالحیة، و الحجازیة، و المشهد الحسینیّ، و جامع الفاکهانی، و الزمامیة، و الصاحبیة، و البوبکریة، و الجامع المؤیدیّ، و الأشرفیة، و جامع الدواداری قریبا من البرقیة، و جامع التوبة بالبرقیة، مدرسة ابن البقریّ، و الباسطیة.

ذکر الجوامع

اشارة

اعلم أنه لما اتصلت مبانی القاهرة المعزیة بمبانی مدینة فسطاط مصر، بحیث صارتا کأنهما مدینة واحدة، و اتخذ أهل القاهرة و أهل مصر القرافتین لدفن أمواتهم، ذکرت ما فی هذه المواضع الأربع من المساجد الجامعة، و أضفت إلیها ما فی جزیرة فسطاط مصر التی یقال لها الروضة من الجوامع أیضا، فإنها منتزه أهل البلدین، و جمعت إلی ذلک ما فی ظواهر القاهرة و مصر من الجوامع، مع التعریف بحال من أسسها. و بالله التوفیق.

الجامع العتیق

اشارة

هذا الجامع بمدینة فسطاط مصر، و یقال له تاج الجوامع، و جامع عمرو بن العاص، و هو أوّل مسجد أسس بدیار مصر فی الملة الإسلامیة بعد الفتح.
خرّج الحافظ أبو القاسم بن عساکر من حدیث معاویة بن قرّة قال: قال عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه: من صلّی صلاة مکتوبة فی مسجد مصر من الأمصار، کانت له کحجة متقبلة، فإن صلّی تطوّعا کانت له کعمرة مبرورة.
و عن کعب: من صلّی فی مسجد مصر من الأمصار صلاة فریضة، عدلت حجة متقبلة، و من صلّی صلاة تطوع عدلت عمرة متقبلة، فإن أصیب فی وجهه ذلک، حرّم لحمه و دمه علی النار أن تطعمه، و ذنبه علی من قتله.
و أول مسجد بنی فی الإسلام مسجد قبا، ثم مسجد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم. قال هشام بن عمار: حدّثنا المغیرة بن المغیرة، حدّثنا یحیی بن عطاء الخراسانیّ عن أبیه. قال: لما افتتح عمر البلدان، کتب إلی أبی موسی و هو علی البصرة یأمره أن یتخذ مسجدا للجماعة، و یتخذ للقبائل مساجد، فإذا کان یوم الجمعة انضموا إلی مسجد الجماعة. و کتب إلی سعد بن أبی وقاص و هو علی الکوفة بمثل ذلک، و کتب إلی عمرو بن العاص و هو علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 6
مصر بمثل ذلک، و کتب إلی أمراء أجناد الشام أن لا یتبدّدوا إلی القری، و أن ینزلوا المدائن، و أن یتخذوا فی کلّ مدینة مسجدا واحدا، و لا تتخذ القبائل مساجد، فکان الناس متمسکین بأمر عمر و عهده.
و قال أبو عمر محمد بن یوسف بن یعقوب بن حفص الکندیّ، فی کتاب أخبار مسجد أهل الرایة الأعظم: و أوّل أمره و بنائه و زیادة الأمراء فیه و غیرهم، و مجالس الحکام و الفقهاء منه و غیر ذلک، قال هبیرة بن أبیض عن شیخه تجیب: أن قیسبة بن کلثوم التجیبیّ أحد بنی سوم، سار من الشام إلی مصر مع عمرو بن العاص، فدخلها فی مائة راحلة و خمسین عبدا و ثلاثین فرسا، فلما أجمع المسلمون و عمرو بن العاص علی حصار الحصن، نظر قیسبة بن کلثوم فرأی جنانا تقرب من الحصن، فعرّج إلیها فی أهله و عبیده، فنزل و ضرب فیها فسطاطه و أقام فیها طول حصارهم الحصن حتی فتحه اللّه علیهم ثم خرج قیسبة مع عمرو إلی الإسکندریة و خلف أهله فیها، ثم فتح اللّه علیهم الإسکندریة، و عاد قیسبة إلی منزله هذا فنزله، و اختط عمرو بن العاص داره مقابل تلک الجنان التی نزلها قیسبة، و تشاور المسلمون أین یکون المسجد الجامع، فرأوا أن یکون منزل قیسبة، فسأله عمرو فیه و قال: أنا أختط لک یا أبا عبد الرحمن حیث أحببت. فقال قیسبة: لقد علمتم یا معاشر المسلمین أنی حزت هذا المنزل و ملکته، و إنی أتصدّق به علی المسلمین و ارتحل، فنزل مع قومه بنی سوم و اختط فیهم، فبنی مسجدا فی سنة إحدی و عشرین من الهجرة، و فی ذلک یقول أبو قبان بن نعیم بن بدر التجیبی:
و بابلیون قد سعدنا بفتحهاو حزنا لعمر اللّه فیأ و مغنما
و قیسبة الخیر بن کلثوم داره‌أباح حماها للصلاة و سلّما
فکلّ مصلّ فی فنانا صلاته‌تعارف أهل المصر ما قلت فاعلما
و قال أبو مصعب قیس بن سلمة الشاعر فی قصیدته التی امتدح فیها عبد الرحمن بن قیسبة:
و أبوک سلّم داره و أباحهالجباه قوم رکّع و سجود
و قال اللیث بن سعد: کان مسجدنا هذا حدائق و أعنابا. و قال الشریف محمد بن أسعد الجوانیّ: و من جملة مزارعها جامع مصر، و قد بقی إلی الآن من جملة الأنشاب التی کانت فی البستان فی موضع الجامع، شجرة زنزلخت، و هی باقیة إلی الآن خلف المحراب الکبیر و الحائط الذی به المنبر، و من العلماء من قال: إنّ هذه الشجرة باقیة من عهد موسی علیه السلام، و کان لها نظیر شجرة أخری فی الورّاقین، احترقت فی حریق مصر سنة أربع و ستین و خمسمائة، و ظهر بالجامع العتیق بئر البستان التی کانت به، و هی الیوم یستقی منها الناس الماء بموضع حلة الفقیه ابن الجیزیّ المالکیّ.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 7
قال الکندیّ: و قال یزید بن أبی حبیب: سمعت أشیاخنا ممن حضر مسجد الفتح یقولون: وقف علی إقامة قبلة المسجد الجامع ثمانون رجلا من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، فیهم الزبیر بن العوام، و المقداد، و عبادة بن الصامت، و أبو الدرداء، و فضالة بن عبید، و عقبة بن عامر، رضی اللّه عنهم. و فی روایة أسس مسجدنا هذا أربعة من الصحابة، أبو ذر، و أبو بصیرة، و محمئة بن جزء الزبیدیّ و نبیه بن صواب.
و قال عبد اللّه بن أبی جعفر: أقام محرابنا هذا عبادة بن الصامت، و رافع بن مالک، و هما نقیبان. و قال داود بن عقبة: أن عمرو بن العاص بعث ربیعة بن شرحبیل بن حسنة، و عمرو بن علقمة القرشیّ، ثم العدویّ، یقیمان القبلة، و قال لهما: قوما إذا زالت الشمس.
أو قال: انتصفت الشمس، فاجعلاها علی حاجبیکما ففعلا.
و قال اللیث: إنّ عمرو بن العاص کان یمدّ الحبال حتی أقیمت قبلة المسجد. و قال عمرو بن العاص: شرّقوا القبلة تصیبوا الحرم. قال: فشرّقت جدّا، فلما کان قرّة بن شریک تیامن بها قلیلا، و کان عمرو بن العاص إذا صلّی فی مسجد الجامع یصلی ناحیة الشرق إلّا الشی‌ء الیسیر، و قال رجل من تجیب: رأیت عمرو بن العاص دخل کنیسة فصلّی فیها و لم ینصرف عن قبلتهم إلّا قلیلا، و کان اللیث و ابن لهیعة إذا صلیا تیامنا، و کان عمر بن مروان عمّ الخلفاء إذا صلّی فی المسجد الجامع تیامن. و قال یزید بن حبیب فی قوله تعالی: قَدْ نَری تَقَلُّبَ وَجْهِکَ فِی السَّماءِ، فَلَنُوَلِّیَنَّکَ قِبْلَةً تَرْضاها، هی قبلة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم التی نصبها اللّه عز و جل مقابل المیزاب، و هی قبلة أهل مصر و أهل الغرب، و کان یقرأها فلنولینک قبلة نرضاها بالنون. و قال هکذا أقرأناها أبو الخیر.
و قال الخلیل بن عبد اللّه الأزدیّ: حدّثنی رجل من الأنصار أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم أتاه جبریل فقال: ضع القبلة و أنت تنظر إلی الکعبة، ثم قال بیده، فأماط کلّ جبل بینه و بین الکعبة، فوضع المسجد و هو ینظر إلی الکعبة، و صارت قبلته إلی المیزاب.
و قال ابن لهیعة: سمعت أشیاخنا یقولون: لم یکن لمسجد عمرو بن العاص محراب مجوّف، و لا أدری بناه مسلمة أو بناه عبد العزیز. و أوّل من جعل المحراب قرّة بن شریک.
و قال الواقدیّ: حدّثنا محمد بن هلال قال: أوّل من أحدث المحراب المجوّف عمر بن عبد العزیز، لیالی بنی مسجد النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و ذکر عمر بن شیبة أن عثمان بن مظعون تفل فی القبلة فأصبح مکتئبا، فقالت له امرأته: ما لی أراک مکتئبا؟ قال: لا شی‌ء إلّا أنی تفلت فی القبلة و أنا أصلی، فعمدت الی القبلة فغسلتها، ثم عملت خلوقا فخلقتها، فکانت أوّل من خلق القبلة.
و قال أبو سعید سلف الحمیریّ: أدرکت مسجد عمرو بن العاص طوله خمسون ذراعا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 8
فی عرض ثلاثین ذراعا، و جعل الطریق یطیف به من کلّ جهة، و جعل له بابان یقابلان دار عمرو بن العاص، و جعل له بابان فی بحریه، و بابان فی غربیه، و کان الخارج إذا خرج من زقاق القنادیل وجد رکن المسجد الشرقیّ محاذیا لرکن دار عمرو بن العاص الغربیّ، و ذلک قبل أن أخذ من دار عمرو بن العاص ما أخذ، و کان طوله من القبلة إلی البحری مثل طول دار عمرو بن العاص، و کان سقفه مطاطأ جدّا و لا صحن له، فإذا کان الصیف جلس الناس بفنائه من کلّ ناحیة، و بینه و بین دار عمرو سبع أذرع.
قلت: و أوّل من جلس علی منبر أو سریر ذی أعواد ربیعة بن محاسن. و قال القضاعیّ فی کتاب الخطط: و کان عمرو بن العاص قد اتخذ منبرا، فکتب إلیه عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه یعزم علیه فی کسره و یقول: أما یحسبک أن تقوم قائما و المسلمون جلوس تحت عقبیک، فکسره. قال مؤلفه رحمه اللّه: و فی سنة إحدی و ستین و مائة، أمر المهدیّ محمد بن أبی جعفر المنصور بتقصیر المنابر و جعلها بقدر منبر النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم. قال القضاعیّ: و أوّل من صلّی علیه من الموتی داخل الجامع، أبو الحسین سعید بن عثمان صاحب الشرط، فی النصف من صفر، و کانت وفاته فجأة، فأخرج ضحوة یوم الأحد السادس عشر من صفر، و صلّی علیه خلف المقصورة و کبّر علیه خمسا، و لم یعلم أحد قبله صلّی علیه فی الجامع. و ذکر عمر بن شیبة فی تاریخ المدینة، أنّ أوّل من عمل مقصورة بلبن، عثمان بن عفان، و کانت فیها کوی تنظر الناس منها إلی الإمام، و أن عمر بن عبد العزیز عملها بالساج. قال القضاعیّ: و لم تکن الجمعة تقام فی زمن عمرو بن العاص بشی‌ء من أرض مصر إلّا فی هذا الجامع. قال أبو سعید عبد الرحمن بن یونس: جاء نفر من بحافق إلی عمرو بن العاص فقالوا: إنا نکون فی الریف، أفنجمع فی العیدین الفطر و الأضحی و یؤمنّا رجل منا؟ قال: نعم. قالوا: فالجمعة؟ قال: لا، و لا یصلی الجمعة بالناس إلّا من أقام الحدود و آخذ بالذنوب و أعطی الحقوق.
و أوّل من زاد فی هذا الجامع مسلمة بن مخلد الأنصاریّ سنة ثلاث و خمسین و هو یومئذ أمیر مصر من قبل معاویة. قال الکندیّ فی کتاب أخبار مسجد أهل الرایة: و لما ضاق المسجد بأهله شکی ذلک إلی مسلمة بن مخلد، و هو الأمیر یومئذ، فکتب فیه إلی معاویة بن أبی سفیان، فکتب إلیه یأمره بالزیادة فیه، فزاد فیه من شرقیه مما یلی دار عمرو بن العاص، و زاد فیه من بحریه، و لم یحدث فیه حدثا من القبلیّ و لا من الغربیّ، و ذلک فی سنة ثلاث و خمسین، و جعل له رحبة فی البحریّ منه کان الناس یصیفون فیها، و لا طه بالنورة و زخرف جدرانه و سقوفه، و لم یکن المسجد الذی لعمر، و جعل فیه نورة و لا زخرف، و أمر بابتناء منار المسجد الذی فی الفسطاط، و أمر أن یؤذنوا فی وقت واحد، و أمر مؤذنی الجامع أن یؤذنوا للفجر إذا مضی نصف اللیل، فإذا فرغوا من أذانهم أذن کلّ مؤذن فی الفسطاط فی وقت واحد. قال ابن لهیعة فکان لأذانهم دویّ شدید، فقال عابد بن هشام الأزدیّ: ثم السلامانیّ لمسلمة بن مخلد:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 9 لقد مدّت لمسلمة اللیالی‌علی رغم العداة من الأمان
و ساعده الزمان بکلّ سعدو بلغه البعید من الأمانی
أ مسلم فارتقی لا زلت تعلوعلی الأیام مسلم و الزمان
لقد أحکمت مسجدنا فأضحی‌کأحسن ما یکون من المبانی
فتاه به البلاد و ساکنوهاکما تاهت بزینتها الغوانی
و کم لک من مناقب صالحات‌و أجدل بالصوامع للأذان
کأنّ تجاوب الأصوات فیهاإذا ما اللیل ألقی بالجران
کصوت الرعد خالطه دویّ‌و أرعب کلّ مختطف الجنان
و قیل أنّ معاویة أمره ببناء الصوامع للأذان، قال: و جعل مسلمة للمسجد الجامع أربع صوامع فی أرکانه الأربع، و هو أوّل من جعلها فیه، و لم تکن قبل ذلک. قال: و هو أوّل من جعل فیه الحصر، و إنما کان قبل ذلک مفروضا بالحصباء، و أمر أن لا یضرب بناقوس عند الأذان یعنی الفجر، و کان السلّم الذی یصعد منه المؤذنون فی الطریق، حتی کان خالد بن سعید، فحوّله داخل المسجد.
قال القاضی القضاعیّ: ثم إن عبد العزیز بن مروان هدمه فی سنة تسع و سبعین من الهجرة، و هو یومئذ أمیر مصر من قبل أخیه أمیر المؤمنین عبد الملک بن مروان، و زاد فیه من ناحیة الغرب، و أدخل فیه الرحبة التی کانت فی بحریه، و لم یجد فی شرقیه موضعا یوسعه به. و ذکر أبو عمر الکندیّ فی کتاب الأمراء أنه زاد فیه من جوانبه کلها، و یقال أنّ عبد العزیز بن مروان لما أکمل بناء المسجد خرج من دار الذهب عند طلوع الفجر، فدخل المسجد فرأی فی أهله خفة، فأمر بأخذ الأبواب علی من فیه، ثم دعا بهم رجلا رجلا، فیقول للرجل: أ لک زوجة؟ فیقول لا، فیقول زوّجوه، أ لک خادم؟ فیقول لا، فیقول أخدموه. أ حججت؟ فیقول: لا. فیقول أحجوه. أ علیک دین؟ فیقول: نعم. فیقول إقضوا دینه. فأقام المسجد بعد ذلک دهرا عامرا و لم یزل إلی الیوم. و ذکر أن عبد اللّه بن عبد الملک بن مروان فی ولایته علی مصر، من قبل أخیه الولید، أمر برفع سقف المسجد الجامع، و کان مطاطأ، و ذلک فی سنة تسع و ثمانین. ثم إن قرّة بن شریک العبسیّ هدمه مستهلّ سنة اثنتین و تسعین بأمر الولید بن عبد الملک، و هو یومئذ أمیر مصر من قبله، و ابتدأ فی بنیانه فی شعبان من السنة المذکورة، و جعل علی بنائه یحیی بن حنظلة، مولی بنی عامر بن لؤیّ، و کانوا یجمعون الجمعة فی قیساریة العسل حتی فرغ من بنائه، و ذلک فی شهر رمضان سنة ثلاث و تسعین، و نصب المنبر الجدید فی سنة أربع و تسعین، و نزع المنبر الذی کان فی المسجد، و ذکر أنّ عمرو بن العاص کان جعله فیه، فلعله بعد وفاة عمر بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 10
الخطاب رضی اللّه عنه. و قیل هو منبر عبد العزیز بن مروان، و ذکر أنه حمل إلیه من بعض کنائس مصر، و قیل أنّ زکریا بن برقنی ملک النوبة أهداه إلی عبد اللّه بن سعد بن أبی سرح، و بعث معه نجاره حتی رکبه، و اسم هذا النجار بقطر من أهل دندرة، و لم یزل هذا المنبر فی المسجد حتی زاد قرّة بن شریک فی الجامع، فنصب منبرا سواه علی ما تقدّم شرحه، و لم یکن یخطب فی القری إلّا علی العصا إلی أن ولی عبد الملک بن موسی بن نصیر اللخمی مصر، من قبل مروان بن محمد، فأمر باتخاذ المنابر فی القری، و ذلک فی سنة اثنتین و ثلاثین و مائة، و ذکر أنه لا یعرف منبرا أقدم منه، یعنی من منبر قرّة بن شریک بعد منبر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، فلم یزل کذلک إلی أن قلع و کسر فی أیام العزیز بالله بنظر الوزیر یعقوب بن کلس، فی یوم الخمیس لعشر بقین من شهر ربیع الأوّل سنة تسع و سبعین و ثلاثمائة و جعل مکانه منبر مذهب، ثم أخرج هذا المنبر إلی الإسکندریة و جعل فی جامع عمرو بها، و أنزل إلی الجامع المنبر الکبیر الذی هو به الآن، و ذلک فی أیام الحاکم بأمر اللّه فی شهر ربیع الأوّل سنة خمس و أربعمائة، و صرف بنو عبد السمیع عن الخطابة، و جعلت خطابة الجامع العتیق لجعفر بن الحسن بن خداع الحسینیّ، و جعل إلی أخیه الخطابة بالجامع الأزهر، و صرف بنو عبد السمیع بن عمر بن الحسین بن عبد العزیز بن عبد اللّه بن عبید اللّه بن العباس من جمیع المنابر بعد أن أقاموا هم، و سلفهم فیها ستین سنة. و فی شهر ربیع الأوّل من هذه السنة وجد المنبر الجدید الذی نصب فی الجامع قد لطخ بعذرة، فوکّل به من یحفظه و عمل له غشاء من أدم مذهب فی شعبان من هذه السنة، و خطب علیه ابن خداع و هو مغشی، و زیادة قرّة من القبلیّ و الشرقیّ، و أخذ بعض دار عمرو و ابنه عبد اللّه بن عمرو فأدخله فی المسجد، و أخذ منهما الطریق الذی بین المسجد و بینهما، و عوّض ولد عمرو ما هو فی أیدیهم الیوم من الرباع، و أمر قرّة بعمل المحراب المجوّف علی ما تقدّم شرحه، و هو المحراب المعروف بعمرو، لأنه فی سمت محراب المسجد القدیم الذی بناه عمرو، و کانت قبلة المسجد القدیم عند العمد المذهبة فی صف التوابیت الیوم، و هی أربعة عمد، اثنان فی مقابلة اثنین، و کان قرّة أذهب رؤوسها، و کانت مجالس قیس، و لم یکن فی المسجد عمد مذهبة غیرها، و کانت قدیما حلقة أهل المدینة، ثم روق أکثر العمد و طوّق فی أیام الإخشید سنة أربع و عشرین و ثلاثمائة، و لم یکن للجامع أیام قرّة بن شریک غیر هذا المحراب، فأمّا المحراب الأوسط الموجود الیوم فعرف بمحراب عمر بن مروان عمّ الخلفاء، و هو أخو عبد الملک و عبد العزیز، و لعله أحدثه فی الجدار بعد قرّة، و قد ذکر قوم أن قرة عمل هذین المحرابین، و صار للجامع أربعة أبواب، و هی الأبواب الموجودة فی شرقیه الآن، آخرها باب إسرائیل و هو باب النحاسین، و فی غربیه أربعة أبواب شارعة فی زقاق کان یعرف بزقاق البلاط، و فی بحریه ثلاثة أبواب، و بیت المال الذی فی علو الفوّارة بالجامع بناه أسامة بن زید التنوخیّ متولی الخراج بمصر، سنة سبع و تسعین فی أیام سلیمان بن عبد الملک، و أمیر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 11
مصر یومئذ عبد الملک بن رفاعة الفهمیّ، و کان مال المسلمین فیه، و طرق المسجد فی لیلة سنة خمس و أربعین و مائة فی ولایة یزید بن حاتم المهلبیّ من قبل المنصور، طرقه قوم ممن کان بایع علیّ بن محمد بن عبد اللّه بن حسن بن حسن بن علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، و کان أوّل علویّ قدم مصر، فنهبوا بیت المال ثم تضاربوا علیه بسیوفهم، فلم یصل إلیهم منه إلّا الیسیر، فأنفذ إلیهم یزید من قتل منهم جماعة و انهزموا، فنهبوا بیت المال ثم تضاربوا علیه بسیوفهم، فلم یصل إلیهم منه إلّا الیسیر، فأنفذ إلیهم یزید من قتل منهم جماعة و انهزموا، و ذکر أن هذا المکان تسوّر علیه لص فی إمارة أحمد بن طولون و سرق منه بدرتی دنانیر، فظفر به أحمد بن طولون و اصطنعه و عفا عنه.
و فی سنة ثمان و سبعین و ثلاثمائة أمر العزیز بالله بعمل الفوّارة تحت قبة بیت المال، فعملت و فرغ منها فی شهر رجب سنة تسع و سبعین و ثلاثمائة، ثم زاد فیه صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس رضی اللّه عنهما، و هو یومئذ أمیر مصر من قبل أبی العباس السفاح، فی مؤخرة أربع أساطین، و ذلک فی سنة ثلاث و ثلاثین و مائة، و هو أوّل من ولی مصر لبنی العباس. فیقال أنه أدخل فی الجامع دار الزبیر بن العوّام رضی اللّه عنه، و کانت غربیّ دار النحاس، و کان الزبیر تخلی عنها و وهبها لموالیه، لخصومة جرت بین غلمانه و غلمان عمرو بن العاص، و اختط الزبیر فیما یلی الدار المعروفة به الآن، ثم اشتری عبد العزیز بن مروان دار الزبیر من موالیه، فقسّمها بین ابنه الأصبغ و أبی بکر، فلما قدم صالح بن علیّ أخذها عن أمّ عاصم بنت عاصم بن أبی بکر، و عن طفل یتیم و هو حسان بن الأصبغ فأدخلها فی المسجد، و باب الکحل من هذه الزیادة، و هو الباب الخامس من أبواب الجامع الشرقیة الآن، و عمر صالح بن علیّ أیضا مقدّم المسجد الجامع عند الباب الأوّل موضع البلاطة الحمراء، ثم زاد فیه موسی بن عیسی الهاشمیّ، و هو یومئذ أمیر مصر من قبل الرشید فی شعبان سنة خمس و سبعین و مائة، الرحبة التی فی مؤخره، و هی نصف الرحبة المعروفة بأبی أیوب، و لما ضاق الطریق بهذه الزیادة أخذ موسی بن عیسی دار الربیع بن سلیمان الزهریّ شرکة بنی مسکین بغیر عوض للربیع، و وسع بها الطریق و عوّض بنی مسکین، و وصل عبد اللّه بن طاهر بن الحسین بن مصعب مولی خراعة أمیرا من قبل المأمون فی شهر ربیع الأوّل سنة إحدی عشرة و مائتین، و توجه إلی الإسکندریة مستهلّ صفر سنة اثنتی عشرة و مائتین، و رجع إلی الفسطاط فی جمادی الآخرة من السنة المذکورة، و أمر بالزیادة فی المسجد الجامع، فزید فیه مثله من غربیه، و عاد ابن طاهر إلی بغداد لخمس بقین من رجب من السنة المذکورة، و کانت زیادة ابن طاهر المحراب الکبیر و ما فی غربیه إلی حدّ زیادة الخازن، فأدخل فیه الزقاق المعروف أوّلا بزقاق البلاط، و قطعة کبیرة من دار الرمل، و رحبة کانت بین یدی دار الرمل، و دورا ذکرها القضاعیّ.
و ذکر بعضهم أن موضع فسطاط عمرو بن العاص حیث المحراب و المنبر، قال: و کان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 12
الذی تمم زیادة عبد اللّه بن طاهر بعد مسیره إلی بغداد، عیسی بن یزید الجلودیّ، و تکامل ذرع الجامع، سوی الزیادتین، مائة و تسعین ذراعا بذراع العمل طولا، فی مائة و خمسین ذراعا عرضا. و یقال أنّ ذرع جامع ابن طولون مثل ذلک سوی الرواق المحیط بجوانبه الثلاثة.
و نصب عبد اللّه بن طاهر اللوح الأخضر، فلما احترق الجامع احترق ذلک اللوح، فجعل أحمد بن محمد العجیفیّ هذا اللوح مکان ذلک، و هو هذا اللوح الأخضر الباقی إلی الیوم، و رحبة الحارث هی الرحبة البحریة من زیادة الخازن، و کانت رحبة یتبایع الناس فیها یوم الجمعة، و ذکر أبو عمر الکندیّ فی کتاب الموالی: أن أبا عمرو الحارث بن مسکین بن محمد بن یوسف مولی محمد بن ریان بن عبد العزیز بن مروان، لما ولی القضاء من قبل المتوکل علی اللّه فی سنة سبع و ثلاثین و مائتین، أمر ببناء هذه الرحبة لیتسع الناس بها، و حوّل سلّم المؤذنین إلی غربیّ المسجد، و کان عند باب إسرائیل، و بلّط زیادة بن طاهر، و أصلح بنیان السقف، و بنی سقایة فی الحذائین، و أمر ببناء الرحبة الملاصقة لدار الضرب لیتسع الناس بها، و زیادة أبی أیوب أحمد بن محمد بن شجاع ابن أخت أبی الوزیر أحمد بن خالد، صاحب الخراج فی أیام المعتصم، کان أبو أیوب هذا أحد عمال الخراج زمن أحمد بن طولون، و زیادته فی بقیة الرحبة المعروفة برحبة أبی أیوب. و المحراب المنسوب إلی أبی أیوب هو الغربیّ من هذه الزیادة عند شباک الحذائین، و کان بناؤها فی سنة ثمان و خمسین و مائتین، و یقال أن أبا أیوب مات فی سجن أحمد بن طولون بعد أن نکبه و اصطفی أمواله، و ذلک فی سنة ست و ستین و مائتین، و أدخل أبو أیوب فی هذه الزیادة أماکن ذکرها. قال:
و کان قد وقع فی مؤخر المسجد الجامع حریق، فعمر و زیدت هذه الزیادة فی أیام أحمد بن طولون، و وقع فی الجامع فی لیلة الجمعة لتسع خلون من صفر سنة خمس و سبعین و مائتین، حریق أخذ من بعد ثلاث حنایا من باب إسرائیل إلی رحبة الحارث بن مسکین، فهلک فیه أکثر زیادة عبد اللّه بن طاهر و الرواق الذی علیه اللوح الأخضر، فأمر خمارویه بن أحمد بن طولون بعمارته علی ید أحمد بن محمد العجیفیّ، فأعید علی ما کان علیه، و أنفق فیه ستة آلاف و أربعمائة دینار، و کتب اسم خمارویه فی دائر الرواق الذی علیه اللوح الأخضر، و هی موجودة الآن، و کانت عمارته فی السنة المذکورة. و أمر عیسی النوشزی فی ولایته الثانیة علی مصر، فی سنة أربع و تسعین و مائتین، بإغلاق المسجد الجامع فیما بین الصلوات، فکان یفتح للصلاة فقط، و أقام علی ذلک أیاما، فضجّ أهل المسجد ففتح لهم.
و زاد أبو حفص العباسیّ فی أیام نظره فی قضاء مصر، خلافة لأخیه محمد، الغرفة التی یؤذن فیها المؤذنون فی السطح، و کانت ولایته فی رجب من سنة ست و ثلاثین و ثلاثمائة و کان إمام مصر و الحرمین، و إلیه إقامة الحج، و لم یزل قاضیا بمصر خلافة لأخیه إلی أن صرف من القضاء بالخصیبیّ، فی ذی الحجة سنة تسع و ثلاثین و ثلاثمائة و توفی فی سنة اثنتین و أربعین و ثلاثمائة بعد قدومه من الحج، ثم زاد فیه أبو بکر محمد بن عبد اللّه الخازن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 13
رواقا واحدا من دار الضرب، و هو الرواق ذو المحراب و الشباکین المتصل برحبة الحارث، و مقداره تسع أذرع، و کان ابتداء ذلک فی رجب سنة سبع و خمسین و ثلاثمائة و مات قبل تمام هذه الزیادة، و تممها ابنه علیّ بن محمد، و فرغت فی العشر الأخر من شهر رمضان سنة ثمان و خمسین و ثلاثمائة. و زاد فیه الوزیر أبو الفرج یعقوب بن یوسف بن کلس بأمر العزیز بالله، الفوّارة التی تحت قبة بیت المال، و هو أوّل من عمل فیه فوّارة، و زاد فیه أیضا مساقف الخشب المحیطة بها علی ید المعروف بالمقدسیّ الأطروش، متولی مسجد بیت المقدس، و ذلک فی سنة ثمان و سبعین و ثلاثمائة و نصب فیها حباب الرخام التی للماء. و فی سنة سبع و ثمانین و ثلاثمائة جدّد بیاض المسجد الجامع و قلع شی‌ء کثیر من الفسیفساء الذی کان فی أروقته، و بیض مواضعه، و نقشت خمسة ألواح و ذهّبت و نصبت علی أبوابه الخمسة الشرقیة، و هی التی علیها الآن، و کان ذلک علی ید برجوان الخادم، و کان اسمه ثابتا فی الألواح فقلع بعد قتله.
و قال المسبحیّ فی تاریخه، و فی سنة ثلاث و أربعمائة أنزل من القصر إلی الجامع العتیق بألف و مائتین و ثمانیة و تسعین مصحفا، ما بین ختمات و ربعات، فیها ما هو مکتوب کله بالذهب، و مکن الناس من القراءة فیها، و أنزل إلیه أیضا بتور من فضة عمله الحاکم بأمر اللّه برسم الجامع، فیه مائة ألف درهم فضة، فاجتمع الناس و علّق بالجامع بعد أن قلعت عتبتا الباب حتی أدخل به، و کان من اجتماع الناس لذلک ما یتجاوز الوصف.
قال القضاعیّ: و أمر الحاکم بأمر اللّه بعمل الرواقین اللذین فی صحن المسجد الجامع، و قلع عمد الخشب و جسر الخشب التی کانت هناک، و ذلک فی شعبان سنة ست و أربعمائة، و کانت العمد و الجسر قد نصبها أبو أیوب أحمد بن محمد بن شجاع، فی سنة سبع و خمسین و مائتین، زمن أحمد بن طولون، لأنّ الحرّ اشتدّ علی الناس فشکوا ذلک إلی ابن طولون، فأمر بنصب عمد الخشب و جعل علیها الستائر فی السنة المذکورة، و کان الحاکم قد أمر بأن تدهن هذه العمد الخشب بدهن أحمر و أخضر، فلم یثبت علیها، ثم أمر بقلعها و جعلها بین الرواقین. و أوّل ما عملت المقاصیر فی الجوامع فی أیام معاویة بن أبی سفیان، سنة أربع و أربعین، و لعل قرّة بن شریک لما بنی الجامع بمصر عمل المقصورة. و فی سنة إحدی و ستین و مائة، أمر المهدیّ بنزع المقاصیر من مساجد الأمصار، و بتقصیر المنابر، فجعلت علی مقدار منبر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، ثم أعیدت بعد ذلک. و لما ولی مصر موسی بن أبی العباس من أهل الشاش، من قبل أبی جعفر اشناس، أمر المعتصم أن یخرج المؤذنون إلی خارج المقصورة، و هو أوّل من أخرجهم، و کانوا قبل ذلک یؤذنون داخلها، ثم أمر الإمام المستنصر بالله بن الظاهر بعمل الحجر المقابل للمحراب، و بالزیادة فی المقصورة فی شرقیها و غربیها، حتی اتصلت بالحذائین من جانبیها، و بعمل منطقة فضة فی صدر المحراب الکبیر أثبت علیها اسم أمیر المؤمنین، و جعل لعمودی المحراب أطواق فضة، و جری ذلک علی ید عبد اللّه بن محمد بن عبدون، فی شهر رمضان سنة ثمان و ثلاثین و أربعمائة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 14
قال مؤلفه رحمه اللّه: و لم تزل هذه المنطقة الفضة إلی أن استبدّ السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب علی مملکة مصر، بعد موت الخلیفة العاضد لدین اللّه، فی محرّم سنة سبع و ستین و خمسمائة، فقلع مناطق الفضة من الجوامع بالقاهرة، و من جامع عمرو بن العاص بمصر، و ذلک فی حادی عشر شهر ربیع الأوّل من السنة المذکورة.
قال القضاعیّ: و فی شهر رمضان من سنة أربعین و أربعمائة جدّدت الخزانة التی فی ظهر دار الضرب فی طریق الشرطة، مقابلة لظهر المحراب الکبیر، و فی شعبان من سنة إحدی و أربعین و أربعمائة أذهب بقیة الجدار القبلیّ حتی اتصل الإذهاب من جدار زیادة الخازن إلی المنبر، و جری ذلک علی ید القاضی أبی عبد اللّه أحمد بن محمد بن یحیی بن أبی زکریا.
و فی شهر ربیع الآخر من سنة اثنتین و أربعین و أربعمائة، عملت لموقف الإمام فی زمن الصیف مقصورة خشب و محراب ساج منقوش بعمودی صندل، و تقلع هذه المقصورة فی الشتاء إذا صلّی الإمام فی المقصورة الکبیرة.
و فی شعبان سنة أربع و أربعین و أربعمائة، زید فی الخزانة مجلس من دار الضرب، و طریق المستحم، و زخرف هذا المجلس و حسّن، و جعل فیه محراب و رخّم بالرخام الذی قلع من المحراب الکبیر حین نصب عبد اللّه بن محمد بن عبدون منطقة الفضة فی صدر المحراب الکبیر، و جرت هذه الزیادة علی ید القاضی أبی عبد اللّه أحمد بن محمد بن یحیی.
و فی ذی الحجة من سنة اثنتین و أربعین و أربعمائة، عمر القاضی أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن أبی زکریا غرفة المؤذنین بالسطح، و حسّنها و جعل لها روشنا علی صحن الجامع، و جعل بعدها ممرقا ینزل منه إلی بیت المال، و جعل للسطح مطلعا من الخزانة المستجدّة فی ظهر المحراب الکبیر، و جعل له مطلعا آخر من الدیوان الذی فی رحبة أبی أیوب.
و فی شعبان من سنة خمس و أربعین و أربعمائة، بنیت المئذنة التی فیما بین مئذنة غرفة و المئذنة الکبیرة، علی ید القاضی أبی عبد اللّه أحمد بن زکریا. انتهی ما ذکره القضاعیّ.
و فی سنة أربع و ستین و خمسمائة تمکن الفرنج من دیار مصر و حکموا فی القاهرة حکما جائرا، و رکبوا المسلمین بالأذی العظیم، و تیقنوا أنه لا حامی للبلاد من أجل ضعف الدولة، و انکشفت لهم عورات الناس، فجمع مری ملک الفرنج بالساحل جموعه، و استجدّ قوما قوّی بهم عساکره، و سار إلی القاهرة من بلبیس بعد أن أخذها و قتل کثیرا من أهلها، فأمر شاور بن مجیر السعدیّ و هو یومئذ مستول علی دیار مصر وزارة للعاضد بإحراق مدینة مصر، فخرج إلیها فی الیوم التاسع من صفر من السنة المذکورة عشرون ألف قارورة نفط،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 15
و عشرة آلاف مشعل مضرمة بالنیران، و فرّقت فیها. و نزل مری بجموع الفرنج علی برکة الحبش، فلما رأی دخان الحریق تحوّل من برکة الحبش و نزل علی القاهرة مما یلی باب البرقیة، و قاتل أهل القاهرة و قد انحشر الناس فیها، و استمرّت النار فی مصر أربعة و خمسین یوما، و النهابة تهدم ما بها من المبانی و تحفر لأخذ الخبایا إلی أن بلغ مری قدوم أسد الدین شیرکوه بعسکر من جهة الملک العادل نور الدین محمود بن زنکی صاحب الشام، فرحل فی سابع شهر ربیع الآخر من السنة المذکورة، و تراجع المصریون شیئا بعد شی‌ء إلی مصر، و تشعث الجامع، فلما استبدّ السلطان صلاح الدین بمملکة مصر بعد موت العاضد، جدّد الجامع العتیق بمصر فی سنة ثمان و ستین و خمسمائة، و أعاد صدر الجامع و المحراب الکبیر و رخمه و رسم علیه اسمه، و جعل فی سقایة قاعة الخطابة قصبة إلی السطح، یرتفق بها أهل السطح، و عمر المنظرة التی تحت المئذنة الکبیرة، و جعل لها سقایة، و عمر فی کنف دار عمرو الصغری البحریّ مما یلی الغربیّ، قصبة أخری إلی محاذاة السطح، و جعل لها ممشاة من السطح إلیها یرتفق بها أهل السطح، و عمر غرفة الساعات و حرّرت، فلم تزل مستمرّة إلی أثناء أیام الملک المعز عز الدین أیبک الترکمانیّ، أوّل من ملک من الممالیک، و جدّد بیاض الجامع و أزال شعثه، و جلی عمده، و أصلح رخامه، حتی صار جمیعه مفروشا بالرخام و لیس فی سائر أرضه شی‌ء بغیر رخام حتی تحت الحصر.
و لما تقلد قاضی القضاة تاج الدین عبد الوهاب بن الأعز أبی القاسم خلف بن رشید الدین محمود بن بدر، المعروف بابن بنت الأعز العلائی الشافعیّ، قضاء القضاة بالدیار المصریة، و نظر الأحباس فی ولایته الثانیة أیام الملک الظاهر رکن الدین بیبرس البند قداریّ، کشف الجامع بنفسه، فوجد مؤخره قد مال إلی بحریه، و وجد سوره البحریّ قد مال و انقلب علوه عن سمت سفله، و رأی فی سطح الجامع غرفا کثیرة محدثة، و بعضها مزخرف، فهدم الجمیع و لم یدع بالسطح سوی غرفة المؤذنین القدیمة و ثلاث خزائن لرؤساء المؤذنین لا غیر، و جمع أرباب الخبرة فاتفق الرأی علی إبطال جریان الماء إلی فوّارة الفسقیة، و کان الماء یصل إلیها من بحر النیل، فأمر بإبطاله لما کان فیه من الضرر علی جدر الجامع، و عمر بغلات بالزیادة البحریة تشدّ جدار الجامع البحریّ، و زاد فی عمد الزیادة ما قوّی به البغلات المذکورة، و سدّ شباکین کانا فی الجدار المذکور لیتقوّی بذلک، و أنفق المصروف علی ذلک من مال الأحباس، و خشی أن یتداعی الجامع کله إلی السقوط، فحدّث الصاحب الوزیر بهاء الدین علیّ بن محمد بن سلیم بن حنا فی مفاوضة السلطان فی عمارة ذلک من بیت المال، فاجتمعا معا بالسلطان الملک الظاهر بیبرس و سألاه فی ذلک، فرسم بعمارة الجامع، فهدم الجدار البحریّ من مقدّم الجامع، و هو الجدار الذی فیه اللوح الأخضر، و حط اللوح و أزیلت العمد و القواصر العشر، و عمر الجدار المذکور و أعیدت العمد و القواصر کما کانت، و زید فی العمد أربعة قرن، بها أربعة مما هو تحت اللوح الأخضر، و الصف الثانی منه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 16
و فصل اللوح الأخضر أجزاء و جدّد غیره و أذهب و کتب علیه اسم السلطان الملک الظاهر، و جلیت العمد کلها و بیض الجامع بأسره، و ذلک فی شهر رجب سنة ست و ستین و ستمائة، و صلّی فیه شهر رمضان بعد فراغه، و لم تتعطل الصلاة فیه لأجل العمارة.
و لما کان فی شهور سنة سبع و ثمانین و ستمائة، شکا قاضی القضاة تقیّ الدین أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الوهاب ابن بنت الأعز للسلطان الملک المنصور قلاون، سوء حال جامع عمرو بمصر، و سوء حال الجامع الأزهر بالقاهرة، و أن الأحباس علی أسوأ الأحوال، و أن مجد الدین بن الحباب أخرب هذه الجهة لما کان یتحدّث فیها، و تقرّب بجزیرة الفیل الوقف الصلاحیّ علی مدرسة الشافعیة إلی الأمیر علم الدین الشجاعیّ، و ذکر له بأن فی أطیانها زیادة، فقاسوا ما تجدّد بها من الرمال و جعلوه للوقف، و أقطعوا الأطیان القدیمة الجاریة فی الوقف، و تقرّب أیضا إلیه بأن فی الأحباس زیادة، من جملتها بالأعمال الغربیة ما مبلغه فی السنة ثلاثون ألف درهم، و أن ذلک لجهة عمارة الجامعین، و سأل السلطان فی إعادة ذلک و إبطال ما أقطع منه، فلم یجب إلی ذلک، و أمر الأمیر حسام الدین طرنطای بعمارة الجامع الأزهر، و الأمیر عز الدین الأفرم بعمارة جامع عمرو، فحضر الأفرم إلی الجامع بمصر و رسم علی مباشری الأحباس، و کشف المساجد لغرض کان فی نفسه، و بیض الجامع و جرّد نصف العمد التی فیه، فصار العمود نصفه الأسفل أبیض و باقیه بحاله، و دهن واجهة غرفة الساعات بالسیلقون، و أجری الماء من البئر التی بزقاق الأقفال إلی فسقیة الجامع، ورمی ما کان بالزیادات من الأتربة، و بطر العوام به فیما فعله بالجامع، فصاروا یقولون نقل الدیماس من البحر إلی الجامع، لکونه دهن الغرفة بالسیلقون، و ألبس العوامید للشیخ العریان، لکونه جرّد نصفها التحتانیّ، فصار أبیض الأسفل أسمر الأعلی، کما کان الشیخ العریان، فإن نصفه الأسفل کان مستورا بمئزر أبیض، و أعلاه عریان، و لم یفعل بالجامع سوی ما ذکر.
و لما حدثت الزلزلة فی سنة اثنتین و سبعمائة، تشعث الجامع، فاتفق الأمیر أن بیبرس الجاشنکیر، و هو یومئذ أستادار الملک الناصر محمد بن قلاون، و الأمیر سلار، و هو نائب السلطنة، و إلیهما تدبیر الدولة، علی عمارة الجامعین بمصر و القاهرة، فتولی الأمیر رکن الدین بیبرس عمارة الجامع الحاکمیّ بالقاهرة، و تولی الأمیر سلار عمارة جامع عمرو بمصر، فاعتمد سلار علی کاتبه بدر الدین بن الخطاب، فهدم الحدّ البحریّ من سلّم السطح إلی باب الزیادة البحریة و الشرقیة، و أعاده علی ما کان علیه، و عمل بابین جدیدین للزیادة البحریة و الغربیة، و أضاف إلی کلّ عمود من الصف الأخیر المقابل للجدار الذی هدمه عمودا آخر تقویة له، و جرّد عمد الجامع کلها و بیض الجامع بأسره، و زاد فی سقف الزیادة الغربیة رواقین، و بلط سفل ما أسقف منها، و خرّب بظاهر مصر و بالقرافتین عدّة مساجد و أخذ عمدها لیرخم بها صحن الجامع، و قلع من رخام الجامع الذی کان تحت الحصر کثیرا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 17
من الألواح الطوال، ورص الجمیع عند باب الجامع المعروف بباب الشراربیین، فنقل من هناک إلی حیث شاء، و لم یعمل منه فی صحن الجامع شی‌ء البتة، و کان فیما نقل من ألواح الرخام ما طوله أربعة أذرع فی عرض ذراع و سدس، ذهب بجمیع ذلک. و لما ولی علاء الدین بن مروانة نیابة دار العدل، قسم جامعی مصر و القاهرة، فجعل جامع القاهرة مع نبیه الدین بن السعرتیّ، و جامع عمرو مع بهاء الدین بن السکریّ، فسقفت الزیادة البحریة الشرقیة، و کانت قد جعلت حاصلا للحصر، و جعل لها دار بزین بین البابین یمنع الجانبین من المارّ، من باب الجامع إلی باب الزیادة المسلوک منه إلی سوق النحاسین، و بلط أرضها، و رقع بعض رخام صحن الجامع، و بلط المجازات، و عمل عضائد أعتاب تحوز الصحن عن مواضع الصلاة. و لما کان فی شهور سنة ست و تسعین و ستمائة، اشتری الصاحب تاج الدین دارا بسوق الأکفانیین و هدمها، و جعل مکانها سقایة کبیرة، و رفعها إلی محاذاة سطح الجامع، و جعل لها ممشی یتوصل إلیها من سطح الجامع، و عمل فی أعلاها أربعة بیوت یرتفق بهم فی الخلاء، و مکانا برسم أزیار الماء العذب، و هدم سقایة الغرفة التی تحت المئذنة المعروفة بالمنظرة، و بناها برجا کبیرا من الأرض إلی العلوّ، حیث کان أوّلا، و جعل بأعلی هذا البرج بیتا مرتفقا یختص بالغرفة المذکورة، کما کان أوّلا، و بیتا ثانیا من خارج الغرفة یرتفق به من هو خارج الغرفة ممن یقرب منها. و عمر القاضی صدر الدین أبو عبد اللّه محمد بن البارنباریّ، سقایة فی رکن دار عمرو البحریّ الغربیّ من داره الصغری، بعد ما کانت قد تهدّمت، فأعادها کأحسن ما کانت، ثم إن الجامع تشعث و مالت قواصره و لم یبق إلا أن یسقط، و أهل الدولة بعد موت الملک الظاهر برقوقا فی شغل من اللهو عن عمل ذلک، فانتدب الرئیس برهان الدین إبراهیم بن عمر بن علیّ المحلیّ رئیس التجار یومئذ بدیار مصر، لعمارة الجامع بنفسه و ذویه، و هدم صدر الجامع بأسره فیما بین المحراب الکبیر إلی الصحن طولا و عرضا و أزال اللوح الأخضر و أعاد البناء کما کان أوّلا، و جدّد لوحا أخضر بدل الأوّل و نصبه کما کان، و هو الموجود الآن، و جرّد العمد کلها، و تتبع جدار الجامع فرمّ شعثها کله، و أصلح من رخام الصحن ما کان قد فسد، و من السقوف ما کان قد و هی، و بیض الجامع کله، فجاء کما کان و عاد جدیدا بعد ما کاد أن یسقط، و لا أقام اللّه عز و جل هذا الرجل مع ما عرف من شحه و کثرة ضنته بالمال، حتی عمره. فشکر اللّه سعیه و بیض محیاه، و کان انتهاء هذا العمل فی سنة أربع و ثمانمائة، و لم یتعطل منه صلاة جمعة و لا جماعة فی مدّة عمارته.
قال ابن المتوج إن ذرع هذا الجامع اثنان و أربعون ألف ذراع بذراع البز المصریّ القدیم، و هو ذراع الحصر المستمرّ إلی الآن، فمن ذلک مقدّمة ثلاثة عشر ألف ذراع و أربعمائة و خمسة و عشرون ذراعا، و مؤخره مثل ذلک، و صحنه سبعة آلاف و خمسمائة ذراع، و کلّ من جانبیه الشرقیّ و الغربیّ ثلاثة آلاف و ثمانمائة و خمسة و عشرون ذراعا،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 18
و ذرعه کله بذراع العمل ثمانیة و عشرون ألف ذراع، و عدد أبوابه ثلاثة عشر بابا، منها فی القبلیّ باب الزیز لخته الذی یدخل منه الخطیب، کان به شجرة زیزلخت عظیمة، قطعت فی سنة ست و ستین و سبعمائة، و فی البحری ثلاثة أبواب، و فی الشرقیّ خمسة، و فی الغربیّ أربعة، و عدد عمده ثلاثمائة و ثمانیة و سبعون عمودا، و عدد مآذنه خمس، و به ثلاث زیادات، فالبحریة الشرقیة کانت لجلوس قاضی القضاة بها فی کل أسبوع یومین، و کان بهذا الجامع القصص.
قال القضاعیّ: روی نافع عن ابن عمر رضی اللّه عنهما قال: لم یقص فی زمن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم و لا أبی بکر و لا عمر و لا عثمان رضی اللّه عنهم، و إنما کان القصص فی زمن معاویة رضی اللّه عنه. و ذکر عمر بن شیبة قال: قیل للحسن متی أحدث القصص؟ قال: فی خلافة عثمان بن عفان. قیل: من أوّل من قص؟ قال: تمیم الداری.
و ذکر عن ابن شهاب قال: أوّل من قص فی مسجد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم تمیم الداری، استأذن عمر أن یذکر الناس فأبی علیه حتی کان آخر ولایته، فاذن له أن یذکر فی یوم الجمعة قبل أن یخرج عمر، فاستأذن تمیم عثمان بن عفان رضی اللّه عنه فی ذلک فأذن له أن یذکر یومین فی الجمعة، فکان تمیم یفعل ذلک.
و روی ابن لهیعة عن یزید بن أبی حبیب أنّ علیا رضی اللّه عنه قنت، فدعا علی قوم من أهل حربه، فبلغ ذلک معاویة، فأمر رجلا یقص بعد الصبح و بعد المغرب یدعو له و لأهل الشام، قال یزید: و کان ذلک أول القصص.
و روی عن عبد اللّه بن مغفل قال: أمّنا علیّ رضی اللّه عنه فی المغرب، فلما رفع رأسه من الرکعة الثالثة ذکر معاویة أوّلا، و عمرو بن العاص ثانیا، و أبا الأعور، یعنی السلمیّ ثالثا، و کان أبو موسی الرابع.
و قال اللیث بن سعد: هما قصصان، قصص العامّة، و قصص الخاصة، فأما قصص العامّة فهو الذی یجتمع إلیه النفر من الناس یعظهم و یذکرهم، فذلک مکروه و لمن فعله و لمن استمعه، و أما قصص الخاصة فهو الذی جعله معاویة، ولّی رجلا علی القصص، فإذا سلّم من صلاة الصبح جلس و ذکر اللّه عز و جل و حمده و مجده و صلّی علی النبی صلّی اللّه علیه و سلّم، و دعا للخلیفة و لأهل ولایته و لحشمه و جنوده، و دعا علی أهل حربه و علی المشرکین کافة.
و یقال أن أوّل من قص بمصر سلیمان بن عتر التجیبی، فی سنة ثمان و ثلاثین، و جمع له القضاء إلی القصص، ثم عزل عن القضاء و أفرد بالقصص، و کانت ولایته علی القصص و القضاء سبعا و ثلاثین سنة، منها سنتان قبل القضاء. و یقال أنه کان یختم القرآن فی کلّ لیلة ثلاث مرّات، و کان یجهر ببسم اللّه الرحمن الرحیم، و یسجد فی المفصل، و یسلّم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 19
تسلیمة واحدة، و یقرأ فی الرکعة الأولی بالبقرة، و فی الثانیة بقل هو اللّه أحد، و یرفع یدیه فی القصص إذا دعا. و کان عبد الملک بن مروان شکا إلی العلماء ما انتشر علیه من أمور رعیته و تحوّفه من کلّ وجه. فأشار علیه أبو حبیب الحمصیّ القاضی بأن یستنصر علیهم برفع یدیه إلی اللّه تعالی، فکان عبد الملک یدعو و یرفع یدیه، و کتب بذلک إلی القصاص فکانوا یرفعون أیدیهم بالغداة و العشی.
و فی هذا الجامع مصحف أسماء، و هو الذی تجاه المحراب الکبیر. قال القضاعیّ:
کان السبب فی کتب هذا المصحف، أنّ الحجاج بن یوسف الثقفیّ کتب مصاحف و بعث بها إلی الأمصار، و وجه إلی مصر بمصحف منها، فغضب عبد العزیز بن مروان من ذلک، و کان الوالی یومئذ من قبل أخیه عبد الملک و قال: یبعث إلی جند أنا فیه بمصحف؟ فأمر فکتب له هذا المصحف الذی فی المسجد الجامع الیوم، فلما فرغ منه قال: من وجد فیه حرفا خطأ فله رأس أحمر و ثلاثون دینارا، فتداوله القرّاء، فأتی رجل من قراء الکوفة اسمه زرعة بن سهل الثقفیّ فقرآه تهجیا، ثم جاء إلی عبد العزیز بن مروان فقال له: إنی قد وجدت فی المصحف حرفا خطأ. فقال: مصحفی؟ قال نعم. فنظر فإذا فیه إنّ هذا أخی له تسع و تسعون نعجة. فإذا هی مکتوبة نجعة، قد قدّمت الجیم قبل العین، فأمر بالمصحف فأصلح ما کان فیه، و أبدلت الورقة، ثم أمر له بثلاثین دینارا و برأس أحمر، و لما فرغ من هذا المصحف کان یحمل إلی المسجد الجامع غداة کلّ جمعة، من دار عبد العزیز، فیقرأ فیه ثم یقص ثم یردّ إلی موضعه. فکان أوّل من قرأ فیه عبد الرحمن بن حجیرة الخولانیّ، لأنه کان یتولی القصص و القضاء یومئذ، و ذلک فی سنة ست و سبعین، ثم تولی بعده القصص أبو الخیر مرثد بن عبد اللّه الیزنیّ، و کان قاضیا بالاسکندریة قبل ذلک، ثم توفی عبد العزیز فی سنة ست و ثمانین، فبیع هذا المصحف فی میراثه، فاشتراه ابنه أبو بکر بألف دینار، ثم توفی أبو بکر فاشترته أسماء ابنة أبی بکر بن عبد العزیز بسبعمائة دینار، فأمکنت الناس منه و شهرته، فنسب إلیها. فلما توفیت أسماء اشتراه أخوها الحکم بن عبد العزیز بن مروان من میراثها بخمسمائة دینار، فأشار علیه توبة بن نمر الحضرمیّ القاضی، و هو متولی القصص یومئذ بالمسجد الجامع، بعد عقبة بن مسلم الهمدانیّ، و إلیه القضاء. و ذلک فی سنة ثمان عشرة و مائة، فجعله فی المسجد الجامع، و أجری علی الذی یقرأ فیه ثلاثة دنانیر فی کل شهر من غلة الإصطبل، فکان توبة أوّل من قرأ فیه بعد أن أقرّ فی الجامع، و تولی القصص بعد توبة أبو اسماعیل خیر بن نعیم الحضرمیّ القاضی، فی سنة عشرین و مائة، و جمع له القضاء و القصص، فکان یقرأ فی المصحف قائما، ثم یقص و هو جالس، فهو أوّل من قرأ فی المصحف قائما، و لم تزل الأئمة یقرءون فی المسجد الجامع فی هذا المصحف فی کلّ یوم جمعة، إلی أن ولی القصص أبو رجب العلاء بن عاصم الخولانیّ، فی سنة اثنتین و ثمانین و مائة فقرأ فیه یوم الاثنین، و کان قد جعل المطلب الخزاعیّ أمیر مصر، من قبل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 20
المأمون، رزق أبی رجب العلاء عشرة دنانیر علی القصص، و هو أوّل من سلّم فی الجامع تسلیمتین بکتاب ورد من المأمون یأمر فیه بذلک، و صلّی خلفه محمد بن إدریس الشافعیّ حین قدم إلی مصر، فقال: هکذا تکون الصلاة، ما صلیت خلف أحد أتم صلاة من أبی رجب و لا أحسن.
و لما ولی القصص حسن بن الربیع بن سلیمان، من قبل عنبسة بن إسحاق أمیر مصر، من قبل المتوکل فی سنة أربعین و مائتین، أمر أن تترک قراءة بسم اللّه الرحمن الرحیم فی الصلاة، فترکها الناس. و أمر أن تصلّی التراویح خمس تراویح، و کانت تصلّی قبل ذلک ست تراویح، و زاد فی قراءة المصحف یوما، فکان یقرأ یوم الاثنین و یوم الخمیس و یوم الجمعة.
و لما ولی حمزة بن أیوب بن إبراهیم الهاشمیّ القصص بکتاب من المکتفی، فی سنة اثنتین و تسعین و مائتین، صلّی فی مؤخر المسجد حین نکس، و أمر أن یحمل إلیه المصحف لیقرأ فیه، فقیل له انه لم یحمل المصحف إلی أحد قبلک، فلو قمت و قرأت فیه فی مکانه.
فقال: لا أفعل، و لکن ائتونی به فإن القرآن علینا أنزل، و إلینا أتی. فأتی به، فقرأ فیه فی المؤخر و هو أوّل من قرأ فی المصحف فی المؤخر، و لم یقرأ فی المصحف بعد ذلک فی المؤخر إلی أن تولی أبو بکر محمد بن الحسن السوسیّ الصلاة و القصص، فی الیوم العشرین من شعبان، سنة ثلاث و أربعمائة، فنصب المصحف فی مؤخر الجامع حیال الفوّارة و قرأ فیه أیام نکس الجامع، فاستمرّ الأمر علی ذلک إلی الآن.
و لما تولی القصص أبو بکر محمد بن عبد اللّه بن مسلم الملطیّ، فی سنة إحدی و ثلاثمائة عزم علی القراءة فی المصحف فی کلّ یوم، فتکلم علیّ بن قدید فی ذلک و منع منه و قال: أعزم علی أن یخلق المصحف و یقطعه، أیری عبد العزیز بن مروان حیا فیکتب له مثله، فرجع إلی القراءة ثلاثة أیام.
و کان قد حضر إلی مصر رجل من أهل العراق و أحضر مصحفا ذکر أنه مصحف عثمان بن عفان رضی اللّه عنه، و أنه الذی کان بین یدیه یوم الدار، و کان فیه أثر الدم، و ذکر أنه استخرج من خزائن المقتدر، و دفع المصحف إلی عبد اللّه بن شعیب المعروف بابن بنت ولید القاضی، فأخذه أبو بکر الخازن و جعله فی الجامع، و شهره و جعل علیه خشبا منقوشا، و کان الإمام یقرأ فیه یوما، و فی مصحف أسماء یوما، و لم یزال علی ذلک إلی أن رفع هذا المصحف و اقتصر علی القراءة فی مصحف أسماء، و ذلک فی أیام العزیز بالله، لخمس خلون من المحرّم سنة ثمان و سبعین و ثلاثمائة. و قد أنکر قوم أن یکون هذا المصحف مصحف عثمان رضی اللّه عنه، لأن نقله لم یصح، و لم یثبت بحکایة رجل واحد. و رأیت أنا هذا المصحف و علی ظهر مما نسخته: بسم اللّه الرحمن الرحیم، الحمد للّه رب العالمین، هذا المصحف الجامع لکتاب اللّه جل ثناؤه و تقدّست أسسماؤه، حمله المبارک مسعود بن سعد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 21
الهیتیّ لجماعة المسلمین القرّاء للقرآن التالین له، المتقرّبین إلی اللّه جلّ ذکره بقراءته، و المتعلمین له، لیکون محفوظا أبدا ما بقی ورقه، و لم یذهب اسمه ابتغاء ثواب اللّه عز و جلّ، و رجاء غفرانه، و جعله عدّة لیوم فقره و فاقته و حاجته إلیه، أنا له اللّه ذلک برأفته، و جعل ثوابه بینه و بین جماعة من نظر فیه، و قد درس ما بعد هذا الکلام من ظهر المصحف، و المندرس یشبه أن یکون: و تبصر فی ورقه، و قصد بابداعه فسطاط مصر فی المسجد الجامع، جامع المسلمین العتیق، لیحفظ حفظ مثله مع سائر مصاحف المسلمین، فرحم اللّه من حفظه و من قرأ فیه و من عنی به، و کان ذلک فی یوم الثلاثاء مستهل ذی القعدة سنة سبع و أربعین و ثلاثمائة و صلّی اللّه علی محمد سید المرسلین و علی آله و سلّم تسلیما کثیرا، و حسبنا اللّه و نعم الوکیل.
قال ابن المتوّج: و دلیل بطلان ما قاله هذا المعترض، ظهور التعصب علی عثمان رضی اللّه عنه من تجیب و خلفائهم، أن الناس قد جرّبوا هذا المصحف، و هو الذی علی الکرسیّ الغربیّ من مصحف أسماء، أنه ما فتح قط إلّا و حدث حادث فی الوجود لتحقیق ما حدث أوّلا. و اللّه أعلم.
قال القضاعیّ: ذکر المواضع المعروفة بالبرکة من الجامع یستحبّ الصلاة و الدعاء عندها. منها البلاطة التی خلف الباب الأوّل فی مجلس ابن عبد الحکم، و منها باب البرادع، روی عن رجل من صلحاء المصریین یقال له أبو هارون الخرقیّ قال: رأیت اللّه عز و جلّ فی منامی، فقلت له یا رب أنت ترانی و تسمع کلامی؟ قال: نعم. ثم قال أ ترید أن أریک بابا من أبواب الجنة؟ قلت نعم. یا رب، فأشار إلی باب أصحاب البرادع أو الباب الأقصی مما یلی رحبة حارث، و کان أبو هارون هذا یصلی الظهر و العصر فیما بینهما.
و قال ابن المتوّج: و عند المحراب الصغیر الذی فی جدار الجامع الغربیّ، ظاهر المقصورة، فیما بین بابی الزیادة الغربیة الدعاء عنده مستجاب. قال: من ذلک باب مقصورة عرفة، و منها عند خرزة البئر التی بالجامع، و منها قبال اللوح الأخضر، و منها زاویة فاطمة، و یقال أنها فاطمة ابنة عفان، لمّا وصی والدها أن تترک للّه فی الجامع فترکت فی هذا المکان فعرف بها، و منها سطح الجامع و الطواف به سبع مرّات، یبدأ بالأولی من باب الخزانة الأولی التی یستقبلها الداخل من باب السطح، و هو یتلو إلی أن یصل إلی زاویة السطح التی عند المئذنة المعروفة بعرفة، یقف عندها ثم یدعو بما أراد، ثم یمرّ و هو یتلو إلی أن یصل إلی الرکن الشرقیّ عند المئذنة المشهورة بالکبیرة، ثم یدعو بما أراد و یمرّ إلی الرکن البحریّ الشرقیّ، فیقف محاذیا لغرفة المؤذنین و یدعو، ثم یمرّ و هو یتلو إلی المکان الذی ابتدأ منه. یفعل ذلک سبع مرّات، فإنّ حاجته تقضی.
قال القضاعیّ: و لم یکن الناس یصلّون بالجامع بمصر صلاة العید، حتی کانت سنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 22
ست، و یقال سنة ثمان و ثلاثمائة. فصلّی فیه رجل یعرف بعلیّ بن أحمد بن عبد الملک الفهمیّ، یعرف بابن أبی شیخة صلاة الفطر، و یقال أنه خطب من دفتر نظرا، و حفظ عنه اتقوا اللّه حق تقاته و لا تموتن إلّا و أنتم مشرکون. فقال بعض الشعراء:
و قام فی العید لنا خاطب‌فحرّض الناس علی الکفر
و توفی سنة تسع و ثلاثمائة.
و بالجامع زوایا یدرّس فیها الفقه: منها زاویة الإمام الشافعیّ رضی اللّه عنه، یقال أنه درّس بها الشافعیّ فعرفت به، و علیها أرض بناحیة سندبیس وقفها السلطان الملک العزیز عثمان بن السلطان الملک الناصر صلاح الدین یوسف بن أیوب، و لم یزل یتولی تدریسها أعیان الفقهاء و جلة العلماء. و منها الزاویة المجدیة بصدر الجامع، فیما بین المحراب الکبیر و محراب الخمس، داخل المقصورة الوسطی بجوار المحراب الکبیر، رتبها مجد الدین أبو الأشبال الحارث بن مهذب الدین أبی المحاسن مهلب بن حسن بن برکات بن علیّ بن غیاث المهلبیّ الأزدیّ البهنسیّ الشافعیّ، وزیر الملک الأشرف موسی بن العادل أبی بکر بن أیوب بحرّان، و قرّر فی تدریسها قریبه قاضی القضاة وجیه الدین عبد الوهاب البهنسیّ، و عمل علی هذه الزاویة عدّة أوقاف بمصر و القاهرة، و یعدّ تدریسها من المناصب الجلیلة، و توفی المجد فی صفر سنة ثمان و عشرین و ستمائة بدمشق، عن ثلاث و ستین سنة. و منها الزاویة الصاحبیة، حول عرفة رتبها الصاحب تاج الدین محمد بن فخر الدین محمد بن بهاء الدین بن حنا، و جعل لها مدرّسین أحدهما مالکیّ و الآخر شافعیّ، و جعل علیها وقفا بظاهر القاهرة بخط البراذعیین. و منها الزاویة الکمالیة بالمقصورة المجاورة لباب الجامع الذی یدخل إلیه من سوق الغزل، رتبها کمال الدین السمنودیّ، و علیها فندق بمصر موقوف علیها. و منا الزاویة التاجیة، أمام المحراب الخشب، رتبها تاج الدین السطحیّ، و جعل علیها دورا بمصر موقوفة علیها. و منها الزاویة المعینیة فی الجانب الشرقیّ من الجامع، رتبها معین الدین الدهر و طیّ، و علیها وقف بمصر. و منها الزاویة العلائیة، تنسب لعلاء الدین الضریر، و هی فی صحن الجامع، و هی لقراءة میعاد. و منها الزاویة الزینیة، رتبها الصاحب زین الدین بقراءة میعاد أیضا، ذکر ذلک ابن المتوّج. و أخبرنی المقرئ الأدیب المؤرخ الضابط شهاب الدین أحمد بن عبد اللّه بن الحسن الأوحدیّ رحمه اللّه قال:
أخبرنی المؤرّخ ناصر الدین محمد بن عبد الرحیم بن الفرات، قال: أخبرنی العلامة شمس الدین محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفیّ، أنه أدرک بجامع عمرو بن العاص بمصر قبل الوباء، الکائن فی سنة تسع و أربعین و سبعمائة، بضعا و أربعین حلقة لإقراء العلم، لا تکاد تبرح منه. قال ابن المأمون: حدّثنی القاضی المکین بن حیدرة و هو من أعیان الشهود بمصر، أن من جملة الخدم التی کانت بید والده مشارقة الجامع العتیق، و أنّ القومة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 23
بأجمعهم کانوا یجتمعون قبل لیلة الوقود عنده، إلی أن یعملوا ثمانیة عشر ألف فتیلة، و أن المطلق برسمه خاصة فی کلّ لیلة ترسم وقوده أحد عشر قنطار أو نصف زیتا طیبا.

ذکر المحاریب التی بدیار مصر و سبب اختلافها و تعیین الصواب فیها و تبیین الخطأ منها

اعلم أن محاریب دیار مصر التی یستقبلها المسلمون فی صلواتهم أربعة محاریب.
أحدها
محراب الصحابة رضی اللّه عنهم، الذی أسسوه فی البلاد التی استوطنوها، و البلاد التی کثر ممرّهم بها من إقلیم مصر، و هو محراب المسجد الجامع بمصر، المعروف بجامع عمرو، و محراب المسجد الجامع بالجیزة، و بمدینة بلبیس، و بالإسکندریة، و قوص، و أسوان، و هذه المحاریب المذکورة علی سمت واحد، غیر أن محاریب ثغر أسوان أشدّ تشریقا من غیرها، و ذلک أن أسوان مع مکة شرّفها اللّه تعالی فی الإقلیم الثانی، و هو الحدّ الغربیّ من مکة بغیر میل إلی الشمال، و محراب بلبیس مغرّب قلیلا.
و المحراب الثانی محراب مسجد أحمد بن طولون، و هو منحرف عن سمت محراب الصحابة، و قد ذکر فی سبب انحرافه أقوال منها: أنّ أحمد بن طولون لما عزم علی بناء هذا المسجد، بعث إلی محراب مدینة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم من أخذ سمته، فإذا هو مائل عن خط سمت القبلة المستخرج بالصناعة نحو العشر درج إلی جهة الجنوب، فوضع حینئذ محراب مسجده هذا مائلا عن خط سمت القبلة إلی جهة الجنوب بنحو ذلک، اقتداء منه بمحراب مسجد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم. و قیل: أنه رأی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی منامه، و خط له المحراب، فلما أصبح وجد النمل قد أطاف بالمکان الذی خطه له رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی المنام. و قیل غیر ذلک.
و أنت إن صعدت إلی سطح جامع ابن طولون، رأیت محرابه مائلا عن محراب جامع عمرو بن العاص إلی الجنوب، و رأیت محراب المدارس التی حدثت إلی جانبه قد انحرفت عن محرابه إلی جهة الشرق، و صار محراب جامع عمرو فیما بین محراب ابن طولون و المحاریب الأخر، و قد عقد مجلس بجامع ابن طولون فی ولایة قاضی القضاة عز الدین عبد العزیز بن محمد بن جماعة، حضره علماء المیقات، منهم الشیخ تقیّ الدین محمد بن محمد بن موسی الغزولیّ، و الشیخ أبو الطاهر محمد بن محمد، و نظروا فی محرابه، فأجمعوا علی أنه منحرف عن خط سمت القبلة إلی جهة الجنوب مغربا بقدر أربع عشرة درجة، و کتب بذلک محضر و أثبت علی ابن جماعة.
و المحراب الثالث: محراب جامع القاهرة، المعروف بالجامع الأزهر، و ما فی سمته من بقیة محاریب القاهرة، و هی محاریب یشهد الامتحان بتقدّم واضعها فی معرفة استخراج القبلة، فإنها علی خط سمت القبلة من غیر میل عنه و لا انحراف البتة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 24
و المحراب الرابع: محاریب المساجد التی فی قری بلاد الساحل، فإنها تخالف محاریب الصحابة، إلّا أنّ محراب جامع منیة غمر قریب من سمت محاریب الصحابة، فإن الوزیر أبا عبد اللّه محمد بن فاتک المنعوت بالمأمون البطائحیّ، وزیر الخلیفة الآمر بأحکام اللّه أبی علیّ منصور بن المستعلی بالله، أنشأ جامعا بمنیة زفتا فی سنة ست عشرة و خمسمائة، فجعل محرابه علی سمت المحاریب الصحیحة. و فی قرافة مصر بجوار مسجد الفتح عدّة مساجد تخالف محاریب الصحابة مخالفة فاحشة، و کذلک بمدینة مصر الفسطاط غیر مسجد علی هذا الحکم. فأما محاریب الصحابة التی بفسطاط مصر و الإسکندریة، فإن سمتها یقابل مشرق الشتاء، و هو مطالع برج العقرب مع میل قلیل إلی ناحیة الجنوب، و محاریب مساجد القری و ما حول مسجد الفتح بالقرافة، فإنها تستقبل خط نصف النهار الذی یقال له خط الزوال، و تمیل عنه إلی جهة المغرب، و هذا الاختلاف بین هذین المحرابین اختلاف فاحش یفضی إلی إبطال الصلاة. و قد قال ابن عبد الحکم: قبلة أهل مصر أن یکون القطب الشمالیّ علی الکتف الأیسر، و هذا سمت محاریب الصحابة. قال:
و إذا طلعت منازل العقرب و تکملت صورته، فمحاذاته سمت القبلة لدیار مصر و برقة و إفریقیة و ما والاها، و فی الفرقدین و القطب الشمالیّ کفایة للمستدلین، فإنهم إن کانوا مستقبلین فی مسیرهم من الجنوب جهة الشمال، استقبلوا القطب و الفرقدین، و إن کانوا سائرین إلی الجنوب من الشمال استدبروها، و إن کانوا سائرین إلی الشرق من المغرب جعلوها علی الأذن الیسری، و إن کانوا سائرین من الشرق إلی المغرب جعلوها علی الأذن الیمنی، و إن کان مسیرهم إلی النکباء التی بین الجنوب و الصبا جعلوها علی الکتف الأیسر، و إن کان مسیرهم إلی النکباء التی بین الجنوب و الدبور جعلوها علی الکتف الأیمن، و إن کان مسیرهم إلی النکباء التی بین الشمال و الدبور جعلوها علی الحاجب الأیمن، و إن کان مسیرهم إلی النکباء التی بین الشمال و الصبا جعلوها علی الحاجب الأیسر. و إذا عرف ذلک فإنه یستحیل تصویب محرابین مختلفین فی قطر واحد إذا زاد اختلافهما علی مقدار ما یتسامح به فی التیامن و التیاسر، و بیان ذلک أن کلّ قطر من أقطار الأرض کبلاد الشام و دیار مصر و نحوهما من الأقطار، قطعة من الأرض واقعة فی مقابلة جزء من الکعبة، و الکعبة تکون فی جهة من جهات ذلک القطر، فإذا اختلف محرابان فی قطر واحد، فإنا نتیقن أن أحدهما صواب و الآخر خطأ، إلّا أن یکون القطر قریبا من مکّة، و خطته التی هو محدود بها متسعة اتساعا کثیرا یزید علی الجزء الذی یخصه لو وزعت الکعبة أجزاء متماثلة، فإنه حینئذ یجوز التیامن و التیاسر فی محاریبه، و ذلک مثل بلاد البجة، فإنها علی الساحل الغربیّ من بحر القلزم، و مکة واقعة فی شرقیها لیس بینهما إلّا مسافة البحر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 25
فقط و ما بین جدّة و مکة من البرّ، و خطة بلاد الجبة مع ذلک واسعة مستطیلة علی الساحل، أوّلها عیذاب، و هی محاذیة لمدینة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و تمیل عنها فی الجنوب میلا قلیلا، و المدینة شامیة عن مکة بنحو عشرة أیام، و آخر بلاد البجة من ناحیة الجنوب سواکن، و هی مائلة فی ناحیة الجنوب عن مکة میلا کثیرا، و هذا المقدار من طول بلاد البجة یزید علی الجزء الذی یخص هذه الخطة من الأرض لو وزعت الأرض أجزاء متساویة إلی الکعبة، فیتعین و الحالة هذه التیامن أو التیاسر فی طرفی هذه البلاد لطلب جهة الکعبة.
و أما إذا بعد القطر عن الکعبة بعدا کثیرا، فإنه لا یضرّ اتساع خطته، و لا یحتاج فیه إلی تیامن و لا تیاسر، لاتساع الجزء الذی یخصه من الأرض، فإن کلّ قطر منها له جزء یخصه من الکعبة، من أجل أن الکعبة من البلاد المعمورة کالکرة من الدائرة، فالأقطار کلها فی استقبال الکعبة، محیطة بها کاحاطة الدائرة بمرکزها، و کل قطر فإنه یتوجه إلی الکعبة فی جزء یخصه، و الأجزاء المنقسمة إذا قدّرت الأرض کالدائرة فإنها تتسع عند المحیط و تتضایق عند المرکز، فإذا کان القطر بعیدا عن الکعبة فإنه یقع فی متسع الحدّ و لا یحتاج فیه إلی تیامن و لا تیاسر، و بخلاف ما إذا قرب القطر من الکعبة، فإنه یقع فی متضایق الجزء و یحتاج عند ذلک إلی تیامن أو تیاسر، فإنّ فرضنا أن الواجب إصابة عین الکعبة فی استقبال الصلاة لمن بعد عن مکة، و قد علمت ما فی هذه المسألة من الاختلاف بین العلماء، فإنه لا یتسامح فی اختلاف المحاریب بأکثر من قدر التیامن و التیاسر الذی لا یخرج عن حدّ الجهة، فلو زاد الاختلاف حکم ببطلان أحد المحرابین، و لا بدّ اللهمّ إلّا أن یکونا فی قطرین بعیدین بعضهما من بعض، و لیسا علی خط واحد من مسامته الکعبة، و ذلک کبلاد الشام و دیار مصر، فإن البلاد الشامیة لها جانبان و خطتها متسعة مستطیلة فی شمال مکة، و تمتدّ أکثر من الجزء الخاص بها بالنسبة إلی مقدار بعدها عن الکعبة، و وفی هذین القطرین یجری ما تقدّم ذکره فی أرض البجة، إلّا أنّ التیامن و التیاسر ظهوره فی البلاد الشامیة أقل من ظهوره فی أرض البجة، من أجل بعد البلاد الشامیة عن الکعبة، و قرب أرض البجة، و ذلک أن البلاد الشامیة وقعت فی متسع الجزء الخاص بها، فلم یظهر أثر التیامن و التیاسر ظهورا کثیرا کظهوره فی أرض البجة، لأنّ البلاد الشامیة لها جانب شرقیّ و جانب غربیّ و وسط، فجانبها الغربیّ هو أرض بیت المقدس و فلسطین إلی العریش، أوّل حدّ مصر، و هذا الجانب من البلاد الشامیة یقابل الکعبة علی حدّ مهب النکباء التی بین الجنوب و الصبا، و أمّا جانب البلاد الشامیة الشرقیّ، فإنه ما کان مشرّقا عن مدینة دمشق إلی حلب و الفرات، و ما یسامت ذلک من بلاد الساحل، و هذه الجهة تقابل الکعبة مشرقا عن أوسط مهب الجنوب قلیلا، و أما وسط بلاد الشام فإنها دمشق و ما قاربها، و تقابل الکعبة علی وسط مهب الجنوب، و هذا هو سمت مدینة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم مع میل یسیر عنه إلی ناحیة المشرق.
و أما مصر فإنها تقابل الکعبة فیما بین الصبا و مهب النکباء التی بین الصبا و الجنوب،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 26
و لذلک لما اختلف هذان القطران، أعنی مصر و الشام فی محاذاة الکعبة، اختلفت محاریبهما، و علی ذلک وضع الصحابة رضی اللّه عنهم محاریب الشام و مصر علی اختلاف السمتین، فأما مصر بعینها و ضواحیها و ما هو فی حدّها أو علی سمتها أو فی البلاد الشامیة و ما فی حدّها أو علی سمتها، فإنه لا یجوز فیها تصویب محرابین مختلفین اختلافا بینا، فإن تباعد القطر عن القطر بمسافة قریبة أو بعیدة، و کان القطران علی سمت واحد فی محاذاة الکعبة لم یضرّ حینئذ تباعدهما، و لا تختلف محاریبهما، بل تکون محاریب کلّ قطر منهما علی حدّ واحد و سمت واحد، و ذلک کمصر و برقة و أفریقیة و صقلیة و الأندلس، فإن هذه البلاد و ان تباعد بعضها عن بعض فإنها کلها تقابل الکعبة علی حدّ واحد، و سمتها جمیعها سمت مصر من غیر اختلاف البتة، و قد تبین بما تقرّر حال الأقطار المختلفة من الکعبة فی وقوعها منها.
و أما اختلاف محاریب مصر فإن له أسبابا، أحدها حمل کثیر من الناس قوله صلّی اللّه علیه و سلّم، الذی رواه الحافظ أبو عیسی الترمذیّ، من حدیث أبی هریرة رضی اللّه عنه «ما بین المشرق و المغرب قبلة علی العموم» و هذا الحدیث قد روی موقوفا علی عمر و عثمان و علیّ و ابن عباس و محمد ابن الحنفیة رضی اللّه عنهم، و روی عن أبی هریرة رضی اللّه عنه مرفوعا. قال أحمد بن حنبل: هذا فی کلّ البلدان. قال: هذا المشرق و هذا المغرب و ما بینهما قبلة، قیل له: فصلاة من صلّی بینهما جائزة؟ قال: نعم، و ینبغی أن یتحرّی الوسط، و قال أحمد بن خالد قول عمر: ما بین المشرق و المغرب قبلة، قاله: بالمدینة فمن کانت قبلته مثل قبلة المدینة فهو فی سعة مما بین المشرق و المغرب، و لسائر البلدان من السعة فی القبلة مثل ذلک بین الجنوب و الشمال. و قال أبو عمر بن عبد البرّ: لاختلاف بین أهل العلم فیه. قال مؤلفه رحمه اللّه: إذا تأمّلت وجدت هذا الحدیث یختص بأهل الشام و المدینة. و ما علی سمت تلک البلاد شمالا و جنوبا فقط، و الدلیل علی ذلک أنه یلزم من حمله علی العموم إبطال التوجه إلی الکعبة فی بعض الأقطار، و اللّه سبحانه قد افترض علی الکافة أن یتوجهوا إلی الکعبة فی الصلاة حیثما کانوا بقوله تعالی: فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ [البقرة/ 144] و قد عرفت إن کنت تمهرت فی معرفة البلدان و حدود الأقالیم أن الناس فی توجههم إلی الکعبة کالدائرة حول المرکز، فمن کان فی الجهة الغربیة من الکعبة فإن جهة قبلة صلاته إلی المشرق، و من کان فی الجهة الشرقیة من الکعبة فإنه یستقبل فی صلاته جهة المغرب، و من کان فی الجهة الشمالیة من الکعبة فإنه یتوجه فی صلاته إلی جهة الجنوب، و من کان فی الجهة الجنوبیة من الکعبة کانت صلاته إلی جهة الشمال، و من کان من الکعبة فیما بین المشرق و الجنوب فإن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 27
قبلته فیما بین الشمال و المغرب، و من کان من الکعبة فیما بین الجنوب و المغرب فإن قبلته فیما بین الشمال و المشرق، و من کان من الکعبة فیما بین المشرق و الشمال فقبلته فیما بین الجنوب و المغرب، و من کان من الکعبة فیما بین الشمال و المغرب فقبلته فیما بین الجنوب و المشرق. فقد ظهر ما یلزم من القول بعموم هذا الحدیث من خروج أهل المشرق الساکنین به، و أهل المغرب أیضا عن التوجه إلی الکعبة فی الصلاة عینا وجهة، لأنّ من کان مسکنه من البلاد ما هو فی أقصی المشرق من الکعبة، لو جعل المشرق عن یساره و المغرب عن یمینه لکان إنما یستقبل حینئذ جنوب أرضه و لم یستقبل قط عین الکعبة و لا جهتها، فوجب و لا بدّ حمل الحدیث علی أنه خاص بأهل المدینة و الشام، و ما علی سمت ذلک من البلاد، بدلیل أن المدینة النبویة واقعة بین مکة و بین أوسط الشام علی خط مستقیم، و الجانب الغربیّ من بلاد الشام التی هی أرض المقدس و فلسطین یکون عن یمین من یستقبل بالمدینة الکعبة، و الجانب الشرقیّ الذی هو حمص و حلب و ماو إلی ذلک واقع عن یسار من استقبل الکعبة بالمدینة، و المدینة واقعة فی أواسط جهة الشام علی جهة مستقیمة، بحیث لو خرج خط من الکعبة و مرّ علی استقامة إلی المدینة النبویة لنفذ منها إلی أوسط جهة الشام سواء، و کذلک لو خرج خط من مصلّی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم و توجه علی استقامة، لوقع فیما بین المیزاب من الکعبة و بین الرکن الشامیّ، فلو فرضنا أن هذا الخط خرق الموضع الذی وقع فیه من الکعبة و مرّ لنفذ إلی بیت المقدس علی استواء من غیر میل و لا انحراف البتة، و صار موقع هذا الخط فیما بین نکباء الشمال و الدبور، و بین القطب الشمالی. و هو إلی القطب الشمالیّ أقرب و أمیل، و مقابلته ما بین أوسط الجنوب و نکباء الصبا و الجنوب، و هو إلی الجنوب أقرب، و المدینة النبویة، مشرّقة عن هذا السمت، و مغرّبة عن سمت الجانب الآخر من بلاد الشام، و هو الجانب الغربیّ تغریبا یسیرا، فمن یستقبل مکة بالمدینة یصیر المشرق عن یساره و المغرب عن یمینه، و ما بینهما فهو قبلته، و تکون حینئذ الشام بأسرها و جملة بلادها خلفه، فالمدینة علی هذا فی أوسط جهات البلاد الشامیة.
و یشهد بصدق ذلک ما رویناه من طریق مسلم رحمه اللّه عن عبد اللّه بن عمر رضی اللّه عنهما قال: رقیت علی بیت أختی حفصة، فرأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم قاعدا لحاجته، مستقبل الشام مستدبر القبلة، و له أیضا من حدیث ابن عمر بینا الناس فی صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم قد أنزل علیه اللیلة و قد أمر أن یستقبل الکعبة فاستدار إلی الکعبة.
فهذا أعزک اللّه أوضح دلیل أنّ المدینة بین مکة و الشام علی حدّ واحد، و أنها فی أوسط جهة بلاد الشام، فمن استقبل بالمدینة الکعبة فقد استدبر الشام، و من استدبر بالمدینة الکعبة فقد استقبل الشام، و یکون حینئذ الجانب الغربیّ من بلاد الشام و ما علی سمته من البلاد جهة القبلة عندهم أن یجعل الواقف مشرق الصیف عن یساره، و مغرب الشتاء عن یمینه، فیکون ما بین ذلک قبلته. و تکون قبلة الجانب الشرقی من بلاد الشام و ما علی سمت ذلک من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 28
البلدان، أن یجعل المصلی مغرب الصیف عن یمینه، و مشرق الشتاء عن یساره، و ما بینهما قبلته. و یکون أوسط البلاد الشامیة التی هی حدّ المدینة النبویة قبلة المصلی بها، أن یجعل مشرق الاعتدال عن یساره، و مغرب الاعتدال عن یمینه، و ما بینهما قبلة له، فهذا أوضح استدلال علی أن الحدیث خاص بأهل المدینة، و ما علی سمتها من البلاد الشامیة، و ما وراءها من البلدان المسامتة لها.
و هکذا أهل الیمن و ما علی سمت الیمن من البلاد، فإن القبلة واقعة فیما هنالک بین المشرق و المغرب لکن علی عکس وقوعها فی البلاد الشامیة، فإنه تصیر مشارق الکواکب فی البلاد الشامیة التی علی یسار المصلی، واقعة عن یمین المصلی فی بلاد الیمن، و کذلک کل ما کان من المغرب عن یمین المصلی بالشام، فإنه ینقلب عن یسار المصلی بالیمن، و کلّ من قام ببلاد الیمن مستقبلا الکعبة فإنه یتوجه إلی بلاد الشام فیما بین المشرق و المغرب، و هذه الأقطار سکانها هم المخاطبون بهذا الحدیث، و حکمه لازم لهم، و هو خاص بهم دون من سواهم من أهل الأقطار الأخر، و من أجل حمل هذا الحدیث علی العموم کان السبب فی اختلاف محاریب مصر.
السبب الثانی: فی اختلاف محاریب مصر، أن الدیار المصریة افتتحها المسلمون کانت خاصة بالقبط و الروم مشحونة بهم، و نزل الصحابة رضی اللّه عنهم من أرض مصر فی موضع الفسطاط الذی یعرف الیوم بمدینة مصر و بالإسکندریة، و ترکوا سائر قری مصر بأیدی القبط، کما تقدّم فی موضعه من هذا الکتاب، و لم یسکن أحد من المسلمین بالقری، و إنما کانت رابطة تخرج إلی الصعید حتی إذا جاء أوان الربیع انتشر الأتباع فی القری لرعی الدواب، و معهم طوائف من السادات، و مع ذلک فکان أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه ینهی الجند عن الزرع، و یبعث إلی أمراء الأجناد بإعطاء الرعیة أعطیاتهم و أرزاق عیالهم، و ینهاهم عن الزرع. روی الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد اللّه بن الحکم فی کتاب فتوح مصر، من طریق ابن وهب، عن حیوة بن شریح، عن بکر بن عمر، و عن عبد اللّه بن هبیرة: أن عمر بن الخطاب أمر بناذره أن یخرج إلی أمراء الأجناد یتقدّمون إلی الرعیة، أنّ عطاءهم قائم، و أنّ أرزاق عیالهم سابل، فلا یزرعون و لا یزارعون. قال ابن وهب: و أخبرنی شریک بن عبد الرحمن المرادیّ قال: بلغنا أن شریک بن سمیّ الغطفانیّ أتی إلی عمرو بن العاص فقال: إنکم لا تعطونا ما یحسبنا، أفتأذن لی بالزرع؟ فقال له عمرو: ما أقدر علی ذلک. فزرع شریک من غیر إذن عمرو، فلما بلغ ذلک عمرا کتب إلی عمر بن الخطاب یخبره أن شریک بن سمیّ الغطفانیّ حرث بأرض مصر، فکتب إلیه عمر أن ابعث إلیّ به، فلما انتهی کتاب عمر إلی عمرو، أقرأه شریکا. فقال شریک لعمرو: و قتلتنی یا عمرو. فقال عمرو: ما أنا بالذی قتلتک، أنت صنعت هذا بنفسک. فقال له: إذا کان هذا من رأیک فأذن لی بالخروج من غیر کتاب، و لک علیّ عهد اللّه أن أجعل یدی فی یده، فأذن له
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 29
بالخروج، فلما وقف علی عمر قال: تؤمننی یا أمیر المؤمنین؟ قال: و من أیّ الأجناد أنت؟
قال: من جند مصر، قال: فلعلک شریک بن سمیّ الغطفانیّ؟ قال: نعم یا أمیر المؤمنین.
قال: لأجعلنک نکالا لمن خلفک. قال: أو تقبل منی ما قبل اللّه تعالی من العباد؟ قال:
و تفعل؟ قال: فکتب إلی عمرو بن العاص أن شریک بن سمیّ جاءنی تائبا فقبلت منه.
قال: و حدّثنا عبد اللّه بن صالح بن عبد الرحمن بن شریح عن أبی قبیل، قال: کان الناس یجتمعون بالفسطاط إذا قفلوا، فإذا حضر مرافق الریف خطب عمرو بن العاص الناس فقال: قد حضر مرافق الریف ربیعکم فانصرفوا، فإذا حمض اللبن و اشتدّ العود و کثر الذباب فحیّ علی فسطاطکم، و لا أعلمن ما جاء أحد قد أسمن نفسه و أهزل جواده.
و قال ابن لهیعة عن یزید بن أبی حبیب قال: کان عمرو یقول للناس إذا قفلوا من غزوهم: أنه قد حضر الربیع، فمن أحبّ منکم أن یخرج بفرسه یربعه فلیفعل، و لا أعلمن ما جاء أحد قد أسمن نفسه و أهزل فرسه، فإذا حمض اللبن و کثر الذباب و لوی العود فارجعوا إلی قیروانکم.
و عن ابن لهیعة عن الأسود بن مالک الحمیریّ عن بجیر بن ذاخر المعافریّ قال: رحت أنا و والدی إلی صلاة الجمعة تهجیرا، و ذلک بعد حمیم النصاری بأیام یسیرة، فأطلنا الرکوع إذا أقبل رجال بأیدیهم السیاط یزجرون الناس، فذعرت فقلت: یا أبت من هؤلاء؟ فقال: یا بنیّ هؤلاء الشرط فأقام المؤذنون الصلاة، فقام عمرو بن العاص علی المنبر فرأیت رجلا ربعة قصیر القامة، وافر الهامة، أدعج أبلج، علیه ثیاب موشاة کأن به العقبان تأتلق، علیه حلة و عمامة وجبة، فحمد اللّه و أثنی علیه حمدا موجزا، و صلّی علی النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و وعظ الناس و أمرهم و نهاهم، فسمعته یحض علی الزکاة و صلة الأرحام، و یأمر بالاقتصاد و ینهی عن الفضول و کثرة العیال، و إخفاض الحال فی ذلک فقال: یا معشر الناس إیّاکم و خلالا أربعا، فإنها تدعو إلی النصب بعد الراحة، و إلی الضیق بعد السعة، و إلی الذلة بعد العزة، إیاکم و کثرة العیال، و إخفاض الحال، و تضییع المال، و القیل بعد القال، فی غیر درک و لا نوال. ثم أنه لا بدّ من فراغ یؤول إلیه المرء فی تودیع جسمه و التدبیر لشأنه و تخلیته بین نفسه و بین شهواتها، و من صار إلی ذلک فلیأخذ بالقصد و النصیب الأقل، و لا یضیع المرء فی فراغه نصیب العلم من نفسه، فیجوز من الخیر عاطلا، و عن حلال اللّه و حرامه غافلا. یا معشر الناس: إنه قد تدلت الجوزاء و ذلت الشعری، و أقلعت السماء و ارتفع الوباء، و قلّ الندی و طاب المرعی، و وضعت الحوامل و درجت السخائل، و علی الراعی بحسن رعیته حسن النظر، فحیّ لکم علی برکة اللّه تعالی إلی ریفکم، فنالوا من خیره و لبنه و خرافه و صیده، و اربعوا خیلکم و أسمنوها و صنونوها و أکرموها، فإنها جنتکم من عدوّکم، و بها مغانمکم و أنفالکم، و استوصوا بمن جاورتموه من القبط خیرا، و إیاکم و المومسات
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 30
المعسولات، فإنهنّ یفسدن الدین و یقصرن الهمم. حدّثنی عمر أمیر المؤمنین أنه سمع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم یقول: «إنّ اللّه سیفتح علیکم بعدی مصر، فاستوصوا بقبطها خیرا، فإن لهم فیکم صهرا و ذمّة، فکفوا أیدیکم، و عفوا فروجکم، و غضوا أبصارکم» و لا أعلمن ما أتی رجل قد أسمن جسمه و أهزل فرسه، و اعلموا أنی معترض الخیل کاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غیر علة حططته من فریضته قدر ذلک، و اعلموا أنکم فی رباط إلی یوم القیامة لکثرة الأعداء حولکم، و تشوّق قلوبهم إلیکم، و إلی دارکم معدن الزرع و المال و الخیر الواسع و البرکة النامیة، و حدّثنی عمر أمیر المؤمنین أنه سمع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم یقول:
«إذا فتح اللّه علیکم مصر فاتخذوا فیها جندا کثیفا، فذلک الجند خیر أجناد الأرض» فقال له أبو بکر رضی اللّه عنه: و لم یا رسول اللّه؟ قال: «لأنهم و أزواجهم فی رباط إلی یوم القیامة» فاحمدوا اللّه معشر الناس علی ما أولاکم، فتمتعوا فی ریفکم ما طاب لکم، فإذا یبس العود و سخن الماء و کثرت الذباب و حمض اللبن و صوّح البقل و انقطع الورد من الشجر، فحیّ إلی فسطاطکم، علی برکة اللّه، و لا یقدمن أحد منکم ذو عیال إلا و معه تحفة لعیاله علی ما أطاق من سعته أو عسرته، أقول قولی هذا و استحفظ اللّه علیکم.
قال فحفظت ذلک عنه. فقال والدی بعد انصرافنا إلی المنزل لما حکیت له خطبته أنه یا بنیّ یحذر الناس إذا انصرفوا إلیه علی الرباط کما حذرهم علی الریف و الدعة. قال: و کان إذا جاء وقت الربیع کتب لکلّ قوم بربیعهم و لبنهم إلی حیث أحبوا، و کانت القری التی یأخذ فیها معظمهم منوف و سمنود و أهناس و طحا، و کان أهل الرایة متفرّقین، فکان آل عمرو بن العاص و آل عبد اللّه بن سعد یأخذون فی منوف و وسیم، و کانت هذیل تأخذ فی ببا و بوصیر، و کانت عدوان تأخذ فی بوصیر و قری عک، و الذی یأخذ فیه معظمهم بوصیر و منوف و سندبیس و ارتیب، و کانت بلی تأخذ فی منف و طرّانیة، و کانت فهم تأخذ فی اتریب و عین شمس و منوف، و کانت مهرة جذام تأخذ فی مناونمی و بسطة و وسیم، و کانت لخم تأخذ فی الفیوم و طرّانیة و قربیط، و کانت جذام تأخذ فی قربیط و طرّانیة، و کانت حضر موت تأخذ فی ببا و عین شمس و اتریب، و کانت مراد تأخذ فی منف و الفیوم و معهم عبس بن زوف، و کانت حمیر تأخذ فی بوصیر و قری أهناس، و کانت خولان تأخذ فی قری أهناس و القیس و البهنسا، و آل وعلة یأخذون فی سفط من بوصیر، و آل ابرهة یأخذون فی منف و غفار، و أسلم یأخذون مع وائل من جذام و سعد فی بسطة و قربیط و طرّانیة، و آل یسار بن ضبة فی أتریب، و کانت المعافر. تأخذ فی أتریب و سخا و منوف، و کانت طائفة من تجیب و مراد یأخذون بالیدقون، و کان بعض هذه القبائل ربما جاور بعضا فی الربیع، و لا یوقف فی معرفة ذلک علی أحد إلا أن معظم القبائل کانوا یأخذون حیث وصفنا، و کان یکتب لهم بالربیع فیربعون ما أقاموا و باللبن، و کان لغفار و لیث أیضا مربع باتریب. قال: و أقامت مدلج بخربتا فاتخذوها منزلا، و کان معهم نفر من حمیر حالفوهم فیها، فهی منازلهم. و رجعت خشین و طائفة من لخم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 31
و جذام فنزلوا أکناف ضان و أبلیل و طرانیة، و لم تکن قیس بالحوف الشرقیّ قدیما، و إنما أنزلهم به ابن الحبحاب، و ذلک أنه وفد إلی هشام بن عبد الملک فأمر له بفریضة خمسة آلاف رجل، فجعل ابن الحبحاب الفریضة فی قیس، و قدم بهم فأنزلهم الجوف الشرقیّ بمصر، فانظر أعزک اللّه ما کان علیه الصحابة و تابعوهم عند فتح مصر من قلة السکنی بالریف، و مع ذلک فکانت القری کلها فی جمیع الإقلیم أعلاه و أسفله مملوءة بالقبط و الروم، و لم ینتشر الإسلام فی قری مصر إلا بعد المائة من تاریخ الهجرة، و عند ما أنزل عبید اللّه بن الحبحاب مولی سلول قیسا بالحوف الشرقیّ، فلما کان فی المائة الثانیة من سنی الهجرة، کثر انتشار المسلمین بقری مصر و نواحیها، و ما برحت القبط تنقض و تحارب المسلمین إلی ما بعد المائتین من سنی الهجرة.
قال أبو عمرو محمد بن یوسف الکندیّ فی کتاب أمراء مصر: و فی امرة الحرّ بن یوسف أمیر مصر، کتب عبید اللّه بن الحبحاب صاحب خراج مصر إلی هشام بن عبد الملک، بأن أرض مصر تحتمل الزیادة، فزاد علی کلّ دینار قیراطا، فنقضت کورة تنو و نمی و قریط و طرانیة و عامّة الحوف الشرقیّ، فبعث إلیهم الحرّ بأهل الدیوان فحاربوهم فقتل منهم خلق کثیر، و ذلک أوّل نقض القبط بمصر، و کان نقضهم فی سنة تسع و مائة، و رابط الحرّ بن یوسف بدمیاط ثلاثة أشهر، ثم نقض أهل الصعید و حارب القبط عمالهم فی سنة إحدی و عشرین و مائة، فبعث إلیهم حنظلة بن صفوان أمیر مصر أهل الدیوان، فقتلوا من القبط ناسا کثیرا، فظفر بهم و خرج بحنس، و هو رجل من القبط من سمنود، فبعث إلیه عبد الملک بن مروان موسی بن نصیر أمیر مصر فقتل بحنس فی کثیر من أصحابه، و ذلک فی سنة اثنتین و ثلاثین و مائة، و خالفت القبط أیضا برشید، فبعث إلیهم مروان بن محمد الحمار لما دخل مصر، فارّا من بنی العباس، عثمان بن أبی سبعة، فهزمهم و خرج القبط علی یزید بن حاتم بن قبیصة بن المهلب بن أبی صفرة أمیر مصر بناحیة سخا، و نابذوا العمال و أخرجوهم فی سنة خمسین و مائة، و صاروا إلی شبراسنباط، و انضم إلیهم أهل البشرود و الأوسیة و النخوم، فأتی الخبر یزید بن حاتم فعقد لنصر بن حبیب المهلبیّ علی أهل الدیوان و وجوه أهل مصر، فخرجوا إلیهم و لقیهم القبط و قتلوا من المسلمین، فألقی المسلمون النار فی عسکر القبط و انصرف العسکر إلی مصر منهزما.
و فی ولایة موسی بن علیّ بن رباح علی مصر، خرج القبط ببلهیت فی سنة ست و خمسین و مائة، فخرج إلیهم عسکر فهزمهم، ثم نقضت القبط فی جمادی الأولی سنة ست عشرة و مائتین مع من نقض من أهل أسفل الأرض من العرب، و أخرجوا العمال و خلعوا الطاعة لسوء سیرة العمال فیهم، فکانت بینهم و بین الجیوش حروب امتدّت إلی أن قدم الخلیفة عبد اللّه أمیر المؤمنین المأمون إلی مصر، لعشر خلون من المحرّم، سنة سبع عشرة و مائتین، فعقد علی جیش بعث به إلی الصعید و ارتحل هو إلی سخا، و أوقع الأفشین بالقبط
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 32
فی ناحیة البشرود حتی نزلوا علی حکم أمیر المؤمنین، فحکم بقتل الرجال و بیع النساء و الأطفال، فبیعوا و سبی أکثرهم، و تتبع کلّ من یومأ إلیه بخلاف، فقتل ناسا کثیرا، و رجع إلی الفسطاط فی صفر، و مضی إلی حلوان، و عاد لثمان عشرة خلت من صفر فکان مقامه بالفسطاط و سخا و حلوان تسعة و أربعین یوما. فانظر أعزک اللّه کیف کانت إقامة الصحابة، إنما هی بالفسطاط و الإسکندریة، و أنه لم یکن لهم کثیر إقامة بالقری، و أن النصاری کانوا متمکنین من القری، و المسلمون بها قلیل، و أنهم لم ینتشروا بالنواحی إلا بعد عصر الصحابة و التابعین، یتبین لک أنهم لم یؤسسوا فی القری و النواحی مساجد، و تفطن لشی‌ء آخر، و هو أن القبط ما برحوا کما تقدّم یثبتون لمحاربة المسلمین، دالة منهم بما هم علیه من القوة و الکثرة، فلما أوقع بهم المأمون الوقعة التی قلنا غلب المسلمون علی أماکنهم من القری لما قتلوا منهم و سبوا، و جعلوا عدّة من کنائس النصاری مساجد، و کنائس النصاری مؤسسة علی استقبال المشرق و استدبار المغرب، زعما منهم أنهم أمروا باستقبال مشرق الاعتدال، و أنه الجنة، لطلوع الشمس منه، فجعل المسلمون أبواب الکنائس محاریب عند ما غلبوا علیها.
و صیروها مساجد، فجاءت موازیة لخط نصف النهار، و صارت منحرفة عن محاربی الصحابة انحرافا کثیرا یحکم بخطئها و بعدها عن الصواب کما تقدّم.
السبب الثالث: تساهل کثیر من الناس فی معرفة أدلة القبلة، حتی أنک لتجد کثیرا من الفقهاء لا یعرفون منازل القمر صورة و حسابا، و قد علم من له ممارسة بالریاضیات أن بمنازل القمر یعرف وقت الحسر و انتقال الفجر فی المنازل، و ناهیک بما یترتب علی معرفة ذلک من أحکام الصلاة و الصیام، و هذه المنازل التی للقمر من بعض ما یستدل به علی القبلة، و الطرقات، و هی من مبادی العلم، و قد جهلوه، فمن أعوزه الأدنی فحریّ به أن یجهل ما هو أعلی منه و أدق.
السبب الرابع: الاعتذار بنجم سهیل، فإن کثیرا ما یقع الاعتذار عن مخالفة محاریب المتأخرین بأنها بنیت علی مقابلة سهیل، و من هناک یقع الخطأ، فإن هذا أمر یحتاج فیه إلی تحریر، و هو أن دائرة سهیل مطلعها جنوب مشرق الشتاء قلیلا، و توسطها فی أوسط الجنوب، و غروبها یمیل عن أوسط الجنوب قلیلا، فلعل من تقدّم من السلف أمر ببناء المساجد فی القری علی مقابلة مطالع سهیل، و مطلعه فی سمت قبلة مصر تقریبا، فجهل من قام بأمر البنیان فرق ما بین مطالع سهیل و توسطه و غروبه، و تساهل فوضع المحراب علی مقابلة توسط سهیل، و هو أوسط الجنوب، فجاء المحراب حینئذ منحرفا عن السمت الصحیح انحرافا لا یسوغ التوجه إلیه البتة.
السبب الخامس: أن المحاریب الفاسدة بدیار مصر أکثرها فی البلاد الشمالیة التی تعرف بالوجه البحریّ، و الذی یظهر أن الغلط دخل علی من وضعها من جهة ظنه أن هذه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 33
البلاد لها حکم بلاد الشام، و ذلک أن بلاد مصر التی فی الساحل کثیرة الشبه ببلاد الشام فی کثرة أمطارها و شدّة بردها، و حسن فواکهها، فاستطرد الشبه حتی فی المحاریب و وضعها علی سمت المحاریب الشامیة، فجاء شیئا خطأ، و بیان ذلک أن هذه البلاد لیست بشمالیة عن الشام حتی یکون حکمها فی استقبال الکعبة کالحکم فی البلاد الشامیة، بل هی مغرّبة عن الجانب الغربیّ من الشام بعدّة أیام، و سمتاهما مختلفان فی استقبال الکعبة، لاختلاف القطرین، فإن الجانب الغربیّ من الشام کما تقدّم یقابل میزاب الکعبة علی خط مستقیم، و هو حیث مهب النکباء التی بین الشمال و الدبور ، و وسط الشام کدمشق و ما والاها شمال مکة من غیر میل، و هم یستقبلون أوسط الجنوب فی صلاتهم، بحیث یکون القطب الشمالیّ المسمی بالجدی وراء ظهورهم، و المدینة النبویة بین هذا الحدّ من الشام و بین مکة مشرّقة عن هذا الحدّ قلیلا، فإذا کانت مصر مغرّبة عن الجانب الغربیّ من الشام بأیام عدیدة، تعین و وجب أن تکون محاریبها و لا بدّ مائلة إلی جهة المرق بقدر بعد مصر و تغریبها عن أوسط الشام، و هذا أمر یدرکه الحس و یشهد لصحته العیان، و علی ذلک أسس الصحابة رضی اللّه عنهم المحاریب بدمشق و بیت المقدس مستقبلة ناحیة الجنوب، و أسسوا المحاریب بمصر مستقبلة المشرق مع میل یسیر عنه إلی ناحیة الجنوب، فرض- رحمه اللّه- نفسک فی التمییز، و عوّد نظرک التأمّل، و أربأ بنفسک أن تقاد کما تقاد البهیمة بتقلیدک من لا یؤمن علیه الخطأ. فقد نهجت لک السبیل فی هذه المسألة، و ألنت لک من القول، و قرّبت لک حتی کأنک تعاین الأقطار، و کیف موقعها من مکة. ولی هنا مزید بیان، فیه الفرق بین إصابة العین و إصابة الجهة، و هو أن المکلف لو وقف و فرضنا أنه خرج خط مستقیم من بین عینیه و مرّ حتی اتصل بجدار الکعبة من غیر میل عنها إلی جهة من الجهات، فإنه لا بدّ أن ینکشف لبصره مدی عن یمینه و شماله، ینتهی بصره إلی غیره إن کان لا ینحرف عن مقابلته، فلو فرضنا امتداد خطین من کلا عینی الواقف، بحیث یلتقیان فی باطن الرأس علی زاویة مثلثة، و یتصلان بما انتهی إلیه البصر من کلا الجانبین، لکان ذلک شکلا مثلثا یقسمه الخط الخارج من بین العینین إلی الکعبة بنصفین، حتی یصیر ذلک الشکل بین مثلثین متساویین، فالخط الخارج من بین عینی مستقبل الکعبة الذی فرق بین الزاویتین، هو مقابلة العین التی اشترط الشافعیّ رحمه اللّه وجوب استقباله من الکعبة عند الصلاة، و منتهی ما یکشف بصر المستقبل من الجانبین، هو حدّ مقابلة الجهة التی قال جماعة من علماء الشریعة بصحة استقباله فی الصلاة، و الخطان الخارجان من العینین إلی طرفیه هما آخر الجهة من الیمین و الشمال، فمهما وقعت صلاة المستقبل علی الخط الفاصل بین الزاویتین، کان قد استقبل عین الکعبة، و مهما وقعت صلاته منحرفة عن یمین الخط أو یساره بحیث لا یخرج استقباله عن منتهی حدّ الزاویتین المحدودتین بما یکشف بصره من الجانبین، فإنه مستقبل جهة الکعبة، و إن خرج
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 34
استقباله عن حدّ الزاویتین من أحد الجانبین، فإنه یخرج فی استقباله عن حدّ جهة الکعبة، و هذا الحدّ فی الجهة یتسع ببعد المدی، و یضیق بقربه، فأقصی ما ینتهی إلیه اتساعه ربع دائرة الأفق، و ذلک أن الجهات المعتبرة فی الاستقبال أربع، المشرق و المغرب و الجنوب و الشمال، فمن استقبل جهة من هذه الجهات کان أقصی ما ینتهی إلیه سعة تلک الجهة ربع دائرة الأفق، و إن انکشف لبصره أکثر من ذلک فلا عبرة به من أجل ضرورة تساوی الجهات، فإنا لو فرضنا إنسانا وقف فی مرکز دائرة و استقبل جزأ من محیط الدائرة، لکانت کلّ جهة من جهاته الأربع التی هی وراءه و أمامه و یمینه و شماله، تقابل ربعا من أرباع الدائرة، فتبین بما قلنا أن أقصی ما ینتهی إلیه اتساع الجهة قدر ربع دائرة الأفق، فأیّ جزء من أجزاء دائرة الأفق، قصده الواقف بالاستقبال فی بلد من البلدان، کانت جهة ذلک الجزء المستقبل ربع دائرة الأفق، و کان الخط الخارج من بین عینی الواقف إلی وسط تلک الجهة هو مقابلة العین، و منتهی الربع من جانبیه یمنة و یسرة هو منتهی الجهة التی قد استقبلها، فما خرج من محاریب بلد من البلدان عن حدّ جهة الکعبة لا تصح الصلاة لذلک المحراب بوجه من الوجوه، و ما وقع فی جهة الکعبة صحت الصلاة إلیه عند من یری أنّ الفرض فی استقبال الکعبة إصابة جهتها، و ما وقع فی مقابلة عین الکعبة فهو الأسدّ الأفضل الأولی عند الجمهور.
و إن أنصفت علمت أنه مهما وقع الاستقبال فی مقابلة جهة الکعبة، فإنه یکون سدیدا، و أقرب منه إلی الصواب ما وقع قریبا من مقابلة العین یمنة أو یسرة، بخلاف ما وقع بعیدا عن مقابلة العین، فإنه بعید من الصواب، و لعله هو الذی یجری فیه الخلاف بین علماء الشریعة و اللّه أعلم.
و حیث تقرّر الحکم الشرعیّ بالأدلة السمعیة و البراهین العقلیة فی هذه المسألة، فاعلم أن المحاریب المخالفة لمحاریب الصحابة التی بقرافة مصر و بالوجه البحریّ من دیار مصر، واقعة فی آخر جهة الکعبة من مصر، و خارجة عن حدّ الجهة، و هی مع ذلک فی مقابلة ما بین البجة و النوبة، لا فی مقابلة الکعبة، فإنها منصوبة علی موازاة خط نصف النهار، و محاریب الصحابة علی موازاة مشرق الشتاء تجاه مطالع العقرب مع میل یسیر عنها إلی ناحیة الجنوب، فإذا جعلنا مشرق الشتاء المذکور مقابلة عین الکعبة لأهل مصر، و فرضنا جهة ذلک الجزء ربع دائرة الأفق، صار سمت المحاریب التی هی موازیة لخط نصف النهار خارجا عن جهة الکعبة، و الذی یستقبلها فی الصلاة یصلی إلی غیر شطر المسجد الحرام، و هو خطر عظیم فاحذره.
و اعلم أن صعید مصر واقع فی جنوب مدینة مصر، وقوص واقعة فی شرقیّ الصعید، و فیما بین مهب ریح الجنوب و الصبا من دیار مصر، فالمتوجه من مدینة قوص إلی عیذاب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 35
یستقبل مشرق الشتاء، سواء إلی أن یصل إلی عیذاب و لا یزال کذلک إذا سار من عیذاب حتی ینتهی فی البحر إلی جدّة، فإذا سار من جدّة فی البرّ استقبل المشرق کذلک حتی یحل بمکة، فإذا عاد من مکة استقبل المغرب، فاعرف من هذا أن مکة واقعة فی النصف الشرقیّ من الربع الجنوبیّ بالنسبة إلی أرض مصر، و هذا هو سمت محاریب الصحابة التی بدیار مصر و الإسکندریة، و هو الذی یجب أن یکون سمت جمیع محاریب إقلیم مصر.
برهان آخر: و هو أن من سار من مکة یرید مصر علی الجادّة، فإنه یستقبل ما بین القطب الشمالیّ الذی هو الجدی، و بین مغرب الصیف مدّة یومین، و بعض الیوم الثالث، و فی هذه المدّة یکون مهب النکباء التی بین الشمال و المغرب تلقاء وجهه، ثم یستقبل بعد ذلک فی مدّة ثلاثة أیام أوسط الشمال، بحیث یبقی الجدی تلقاء وجهه إلی أن یصل إلی بدر، فإذا سار من بدر إلی المدینة النبویة صار مشرق الصیف تلقاء وجهه تارة و مشرق الاعتدال تارة إلی أن ینتهی إلی المدینة، فإذا رجع من المدینة إلی الصفراء، استقبل مغرب الشتاء إلی أن یعدل إلی ینبع، فیصیر تارة یسیر شمالا و تارة یسیر مغربا، و یکون ینبع من مکة علی حد النکباء التی بین الشمال و مغرب الصیف، فإذا سار من ینبع استقبل ما بین الجدی و مغرب الثریا، و هو مغرب الصیف، و هبت النکباء تلقاء وجهه إلی أن یصل إلی مدین، فإذا سار من مدین استقبل تارة الشمال و أخری مغرب الصیف حتی یدخل إیلة، و من إیلة لا یزال یستقبل مغرب الاعتدال تارة و یمیل عنه إلی جهة الجنوب مع استقبال مغرب الشتاء أخری، إلی أن یصل إلی القاهرة و مصر، فلو فرضنا خطا خرج من محاریب مصر الصحیحة التی وضعها الصحابة، و مرّ علی استقامة من غیر میل و لا انحراف لا تصل بالکعبة و لصق بها.
و اعلم أن أهل مصر و الإسکندریة و بلاد الصعید و أسفل الأرض و برقة و إفریقیة و طرابلس المغرب و صقلیة و الأندلس و سواحل المغرب إلی السوس الأقصی و البحر المحیط و ما علی سمت هذه البلاد، یستقبلون فی صلاتهم من الکعبة ما بین الرکن الغربیّ إلی المیزاب، فمن أراد أن یستقبل الکعبة فی شی‌ء من هذه البلاد فلیجعل بنات نعش إذا غربت خلف کتفه الأیسر، و إذا طلعت علی صدغه الأیسر، و یکون الجدی علی أذنه الیسری، و مشرق الشمس تلقاء وجهه أو ریح الشمال خلف أذنه الیسری، أو ریح الدبور خلف کتفه الأیمن، أو ریح الجنوب التی تهب من ناحیة الصعید علی عینه الیمنی، فإنه حینئذ یستقبل من الکعبة سمت محاریب الصحابة الذین أمرنا اللّه باتباع سبیلهم، و نهانا عن مخالفتهم بقوله عز و جل:
وَ مَنْ یُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدی وَ یَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّی وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِیراً [النساء/ 155] ألهمنا اللّه بمنه اتباع طریقهم، و صیرنا بکرمه من حزبهم و فریقهم إنه علی کلّ شی‌ء قدیر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 36

جامع العسکر

اشارة

هذا الجامع بظاهر مصر، و هو حیث الفضاء الذی هو الیوم فیما بین جامع أحمد بن طولون و کوم الجارح بظاهر مدینة مصر، و کان إلی جانب الشرطة و الدار التی یسکنها أمراء مصر، و من هذه الدار إلی الجامع باب، و کان یجمع فیه الجمعة، و فیه منبر و مقصورة، و هذا الجامع بناه الفضل بن صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس فی ولایته إمارة مصر، ملاصقا لشرطة العسکر التی کانت یقال لها الشرطة العلیا، فی سنة تسع و ستین و مائة، فکانوا یجمعون فیه، و کانت ولایة الفضل إمارة مصر من قبل المهدیّ محمد بن أبی جعفر المنصور علی الصلاة و الخراج، فدخلها سلخ المحرّم سنة تسع و ستین و مائة، فی عسکر من الجند عظیم أتی بهم من الشام، و مصر تضطرم لما کان فی الحوف، و لخروج دحیة بن مصعب بن الأصبغ بن عبد العزیز بن مروان، فقام فی ذلک و جهز الجنود حتی أسر دحیة و ضرب عنقه فی جمادی الآخرة من السنة المذکورة، و کان یقول أنا أولی الناس بولایة مصر لقیامی فی أمر دحیة، و قد عجز عنه غیری، حتی کفیت أهل مصر أمره، فعزله موسی الهادی لما استخلف بعد موت أبیه المهدیّ، بعد ما أقرّه فندم الفضل علی قتل دحیة و أظهر توبة و سار إلی بغداد، فمات عن خمسین سنة، فی سنة اثنتین و سبعین و مائة، و لم یزل الجامع بالعسکر إلی أن ولی عبد اللّه بن طاهر بن الحسین بن مصعب مولی خزاعة علی صلاة مصر و خراجها، من قبل عبد اللّه أمیر المؤمنین المأمون فی ربیع الأوّل سنة إحدی عشرة و مائتین، فزاد فی عمارته، و کان الناس یصلون فیه الجمعة قبل بناء جامع أحمد بن طولون، و لم یزل هذا الجامع إلی ما بعد الخمسمائة من سنی الهجرة. قال ابن المأمون فی تاریخه من حوادث سنة سبع عشرة و خمسمائة، و کان یطلق فی الأربع لیالی الوقود، و هی مستهلّ رجب و نصفه، و مستهلّ شعبان و نصفه، برسم الجوامع الستة، الأزهر و الأنور و الأقمر بالقاهرة، و الطولونیّ و العتیق بمصر، و جامع القرافة و المشاهد التی تتضمن الأعضاء الشریفة، و بعض المساجد التی یکون لأربابها و جاهة جملة کثیرة من الزیت الطیب، و یختص بجامع راشدة و جامع ساحل الغلة بمصر، و الجامع بالمقس یسیر، و یعنی بجامع ساحل الغلة جامع العسکر، فإنّ العسکر حینئذ کان قد خرب و حملت أنقاضه، و صار الجامع بساحل مصر، و هو الساحل القدیم المذکور فی موضعه من هذا الکتاب.

ذکر العسکر

کان مکان العسکر فی صدر الإسلام یعرف بعد الفتح بالحمراء القصوی، و هی کما تقدّم خطة بنی الأزرق و خطة بنی روبیل و خطة بنی یشکر بن جزیلة من لخم، ثم دثرت هذه الحمراء و صارت صحراء، فلما زالت دولة بنی أمیة و دخلت المسودة إلی مصر فی طلب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 37
مروان بن محمد الجعدیّ، فی سنة ثلاث و ثلاثین و مائة، و هی خراب فضاء یعرف بعضه بجبل یشکر، نزل صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس، و أبو عون عبد الملک بن یزید بعسکرهما فی هذا الفضاء، و أمر عبد الملک أبو عون أصحابه بالبناء فیه، فبنوا. و سمی من یومئذ بالعسکر، و صار أمراء مصر إذا قدموا ینزلون فیه من بعد أبی عون. و قال الناس من عهده کنا بالعسکر، خرجنا إلی العسکر، و کنت فی العسکر. فصارت مدینة الفسطاط و العسکر. و نزل الأمراء من عهد أبی عون بالعسکر، فلما ولی یزید بن حاتم إمارة مصر، و قام علیّ بن محمد بن عبد اللّه بن حسن و طرق المسجد، کتب أبو جعفر المنصور إلی یزید بن حاتم یأمره أن یتحوّل من العسکر إلی الفسطاط، و أن یجعل الدیوان فی کنائس القصر، و ذلک فی سنة ست و أربعین و مائة، إلی أن قدم الأمیر أبو العباس أحمد بن طولون من العراق أمیرا علی مصر، فنزل بالعسکر بدار الإمارة التی بناها صالح بن علیّ بعد هزیمة مروان و قتله، و کان لها باب إلی الجامع الذی بالعسکر، و کان الأمراء ینزلون بهذه الدار إلی أن نزلها أحمد بن طولون، ثم تحوّل منها إلی القطائع، و جعلها أبو الجیش خمارویه بن أحمد بن طولون عند إمارته علی مصر دیوانا للخراج، ثم فرّقت حجرا حجرا بعد دخول محمد بن سلیمان الکاتب إلی مصر، و زوال دولة بنی طولون، و سکن محمد بن سلیمان أیضا بدار فی العسکر عند المصلّی القدیم، و نزلها الأمراء من بعده إلی أن ولی الإخشید محمد بن طفج فنزل بالعسکر أیضا، و لما بنی أحمد بن طولون القطائع اتصلت مبانیها بالعسکر، و بنی الجامع علی جبل یشکر، فعمر ما هناک عمارة عظیمة، بحیث کانت هناک دار علی برکة قارون أنفق علیها کافور الإخشیدیّ مائة ألف دینار، و سکنها. و کان هناک مارستان أحمد بن طولون أنفق علیه و علی مستغله ستین ألف دینار.
و قدمت عساکر المعز لدین اللّه مع کاتبه و غلامه جوهر القائد فی سنة ثمان و خمسین و ثلاثمائة و العسکر عامر، غیر أنه منذ بنی أحمد بن طولون القطائع هجر اسم العسکر، و صار یقال مدینة الفسطاط و القطائع، فلما خرّب محمد بن سلیمان الکاتب قصر ابن طولون و میدانه، کما ذکر فی موضعه من هذا الکتاب، صارت القطائع فیها المساکن الجلیلة، حیث کان العسکر، و أنزل المعز لدین اللّه عمه أبا علیّ فی دار الإمارة، فلم یزل أهله بها إلی أن خربت القطائع فی الغلاء الکائن بمصر فی خلافة المستنصر، أعوام بضع و خمسین و أربعمائة. فیقال أنه کان هنالک ما ینیف علی مائة ألف دار، و لا ینکر ذلک. فانظر ما بین سفح الجبل حیث القلعة الآن، و بین ساحل مصر القدیم الذی یعرف الیوم بالکبارة، و ما بین کوم الجارح من مصر، و قناطر السباع، فهناک کانت القطائع و العسکر، و یخص العسکر من ذلک ما بین قناطر السباع و حدرة ابن قمیحة إلی کوم الجارح، حیث الفضاء الذی یتوسط فیما بین قنطرة السدّ و باب المخدم من جهة القرافة، فهناک کان العسکر. و لما استولی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 38
الخراب فی المحنة زمن المستنصر، أمر الوزیر الناصر للدین عبد الرحمن البازوریّ ببناء حائط یستر الخراب إذا توجه الخلیفة إلی مصر، فیما بین العسکر و القطائع و بین الطریق، و أمر فبنی حائط آخر عند جامع ابن طولون. فلما کان فی خلافة الآمر بأحکام اللّه أبی علیّ منصور بن المستعلی بالله، أمر وزیره أبو عبد اللّه محمد بن فاتک المنعوت بالمأمون البطائحیّ، فنودی مدّة ثلاثة أیام فی القاهرة و مصر، بأن من کان له دار فی الخراب أو مکان یعمره، و من عجز عن عمارته یبیعه أو یؤجره، من غیر نقل شی‌ء من أنقاضه، و من تأخر بعد ذلک فلا حق له و لا حکر یلزمه، و أباح تعمیر جمیع ذلک بغیر طلب حق، فعمر الناس ما کان منه مما یلی القاهرة، من حیث مشهد السیدة نفیسة إلی ظاهر باب زویلة، و نقلت أنقاض العسکر، فصار الفضاء الذی یوصل إلیه من مشهد السیدة نفیسة، و من الجامع الطولونیّ، و من قنطرة السدّ، و یسلک فیه إلی حیث کوم الجارح. و العامر الآن من العسکر جبل یشکر الذی فیه جامع ابن طولون و ما حوله إلی قناطر السباع. کما ستقف علیه إن شاء اللّه تعالی.

جامع ابن طولون

اشارة

هذا الجامع موضعه یعرف بجبل یشکر. قال ابن عبد الظاهر: و هو مکان مشهور بإجابة الدعاء، و قیل أنّ موسی علیه السّلام ناجی ربه علیه بکلمات. و ابتدأ فی بناء هذا الجامع الأمیر أبو العباس أحمد بن طولون بعد بناء القطائع، فی سنة ثلاث و ستین و مائتین.
قال جامع السیرة الطولونیة: کان أحمد بن طولون یصلّی الجمعة فی المسجد القدیم الملاصق للشرطة، فلما ضاق علیه بنی الجامع الجدید، مما أفاء اللّه علیه من المال الذی وجده فوق الجبل فی الموضع المعروف بتنور فرعون، و منه بنی العین. فلما أراد بناء الجامع قدّر له ثلاثمائة عمود، فقیل له: ما تجدها، أو تنفذ إلی الکنائس فی الأریاف و الضیاع الخراب، فتحمل ذلک، فأنکر ذلک و لم یختره، و تعذب قلبه بالفکر فی أمره، و بلغ النصرانیّ الذی تولی له بناء العین، و کان قد غضب علیه و ضربه و رماه فی المطبق الخبر.
فکتب إلیه یقول: أنا أبنیه لک کما تحب و تختار بلا عمد إلّا عمودی القبلة، فأحضره و قد طال شعره حتی نزل علی وجهه، فقال له: ویحک ما تقول فی بناء الجامع؟ فقال: أنا أصوّره للأمیر حتی یراه عیانا بلا عمد إلّا عمودی القبلة. فأمر بأن تحضر له الجلود، فأحضرت، و صوّره له فأعجبه و استحسنه، و أطلقه و خلع علیه، و أطلق له للنفقة علیه مأئة ألف دینار. فقال له: أنفق، و ما احتجت إلیه بعد ذلک أطلقناه لک. فوضع النصرانیّ یده فی البناء فی الموضع الذی هو فیه، و هو جبل یشکر، فکان ینشر منه و یعمل الجیرو یبنی إلی أن فرغ من جمیعه، و بیّضه و خلّقه و علّق فیه القنادیل بالسلاسل الحسان الطوال، و فرش فیه الحصر، و حمل إلیه صنادیق المصاحف، و نقل إلیه القرّاء و الفقهاء، و صلّی فیه بکار بن قتیبة القاضی، و عمل الربیع بن سلیمان بابا فیما روی عن النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم أنه قال: «من بنی للّه مسجدا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 39
و لو کمفحص قطاة، بنی اللّه له بیتا فی الجنة». فلما کان أوّل جمعة صلاها فیه أحمد بن طولون و فرغت الصلاة، جلس محمد بن الربیع خارج المقصورة، و قام المستملی و فتح باب المقصورة، و جلس أحمد بن طولون، و لم ینصرف و الغلمان قیام و سائر الحجاب حتی فرغ المجلس، فلما فرغ المجلس خرج إلیه غلام بکیس فیه ألف دینار و قال: یقول لک الأمیر نفعک اللّه بما علّمک، و هذه لأبی طاهر، یعنی ابنه، و تصدّق أحمد بن طولون بصدقات عظیمة فیه، و عمل طعاما عظیما للفقراء و المساکین، و کان یوما عظیما حسنا.
وراح أحمد بن طولون و نزل فی الدار التی عملها فیه للإمارة، و قد فرشت و علّقت و حملت إلیها الآلات و الأوانی و صنادیق الأشربة و ما شاکلها، فنزل بها أحمد و جدّد طهره و غیر ثیابه و خرج من بابها إلی المقصورة، فرکع و سجد شکرا للّه تعالی علی ما أعانه علیه من ذلک و یسره له. فلما أراد الانصراف، خرج من المقصورة حتی أشرف علی الفوّارة، و خرج إلی باب الریح. فصعد النصرانیّ الذی بنی الجامع و وقف إلی جانب المرکب النحاس و صاح: یا أحمد بن طولون، یا أمیر الأمان، عبدک یرید الجائزة و یسأل الأمان، أن لا یجری علیه مثل ما جری فی المرّة الأولی. فقال له أحمد بن طولون: انزل فقد أمّنک اللّه، و لک الجائزة. فنزل و خلع علیه و أمر له بعشرة آلاف دینار، و أجری علیه الرزق الواسع إلی أن مات. وراح أحمد بن طولون فی یوم الجمعة إلی الجامع، فلما رقی الخطیب المنبر و خطب، و هو أبو یعقوب البلخیّ، دعا للمعتمد و لولده، و نسی أن یدعو لأحمد بن طولون، و نزل عن المنبر، فأشار أحمد إلی نسیم الخادم أن أضربه خمسمائة سوط. فذکر الخطیب سهوه و هو علی مراقی المنبر، فعاد و قال: الحمد للّه، و صلّی اللّه علی محمد وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلی آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِیَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه/ 115] اللهمّ و أصلح الأمیر أبا العباس أحمد بن طولون مولی أمیر المؤمنین. و زاد فی الشکر و الدعاء له بقدر الخطبة ثم نزل، فنظر أحمد إلی نسیم أن أجعلها دنانیر، و وقف الخطیب علی ما کان منه، فحمد اللّه تعالی علی سلامته و هنأه الناس بالسلامة.
و رأی أحمد بن طولون الصنّاع یبنون فی الجامع عند العشاء، و کان فی شهر رمضان فقال: متی یشتری هؤلاء الضعفاء إفطارا لعیالهم و أولادهم، اصرفوهم العصر. فصارت سنّة إلی الیوم بمصر. فلما فرغ شهر رمضان، قیل له: قد انقضی شهر رمضان فیعودون إلی رسمهم. فقال: قد بلغنی دعاؤهم، و قد تبرّکت به، و لیس هذا مما یوفر العمل علینا. و فرغ منه فی شهر رمضان سنة خمس و ستین و مائتین، و تقرّب الناس إلی ابن طولون بالصلاة فیه، و ألزم أولادهم کلهم صلاة الجمعة فی فوّارة الجامع، ثم یخرجون بعد الصلاة إلی مجلس
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 40
الربیع بن سلیمان لیکتبوا العلم، مع کلّ واحد منهم ورّاق و عدّة غلمان. و بلغت النفقة علی هذا الجامع فی بنائه مائة ألف دینار و عشرین ألف دینار. و یقال أنّ أحمد بن طولون رأی فی منامه کأنّ اللّه تعالی قد تجلّی و وقع نوره علی المدینة التی حول الجامع، إلّا الجامع فإنه لم یقع علیه من النور شی‌ء، فتألم و قال: و اللّه ما بنیته إلّا للّه خالصا، و من المال الحلال الذی لا شبهة فیه. فقال له معبّر حاذق: هذا الجامع یبقی و یخرب کل ما حوله، لأنّ اللّه تعالی قال: فَلَمَّا تَجَلَّی رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَکًّا [الأعراف/ 143] فکل شی‌ء یقع علیه جلال اللّه عز و جل لا یثبت. و قد صحّ تعبیر هذه الرؤیا، فإن جمیع ما حول الجامع خرب دهرا طویلا، کما تقدّم فی موضعه من هذا الکتاب، و بقی الجامع عامرا، ثم عادت العمارة لما حوله کما هی الآن.
قال القضاعیّ رحمه اللّه، و ذکر أن السبب فی بنائه، أنّ أهل مصر شکوا إلیه ضیق الجامع یوم الجمعة من جنده و سودانه، فأمر بإنشاء المسجد الجامع بجبل یشکر بن جدیلة من لخم، فابتدأ بنیانه فی سنة ثلاث و ستین و مائتین، و فرغ منه سنة خمس و ستین و مائتین، و قیل أنّ أحمد بن طولون قال: أرید أن أبنی بناء، إن احترقت مصر بقی، و إن غرقت بقی.
فقیل له: یبنی بالجیر و الرماد و الآجر الأحمر القویّ النار إلی السقف، و لا یجعل فیه أساطین رخام، فإنه لا صبر لها علی النار، فبناه هذا البناء و عمل فی مؤخره میضأة و خزانة شراب فیها جمیع الشرابات و الأدویة، و علیها خدم و فیها طبیب جالس یوم الجمعة لحادث یحدث للحاضرین للصلاة، و بناه علی بناء جامع سامراء، و کذلک المنارة، و علّق فیه سلاسل النحاس المفرغة، و القنادیل المحکمة، و فرشه بالحصر العبدانیة و السامانیة.
حدیث الکنز: قال جامع السیرة: لما ورد علی أحمد بن طولون کتاب المعتمد بما استدعاه من ردّ الخراج بمصر إلیه، و زاده المعتمد مع ما طلب الثغور الشامیة، رغب بنفسه عن المعادن و مرافقها، فأمر بترکها، و کتب بإسقاطها فی سائر الأعمال، و منع المتقبلین من الفسخ علی المزارعین، و خطر الارتفاق علی العمال، و کان قبل إسقاط المرافق بمصر، قد شاور عبد اللّه بن دسومة فی ذلک، و هو یومئذ أمین علی أبی أیوب متولی الخراج. فقال:
إن أمننی الأمیر تکلمت بما عندی. فقال له: قد أمنک اللّه عز و جلّ. فقال: أیها الأمیر، إنّ الدنیا و الآخرة ضرّتان و الحازم من لم یخلط إحداهما مع الأخری، و المفرّط من خلط بینهما، فیتلف أعماله و یبطل سعیه، و أفعال الأمیر أیّده اللّه الخیر و توکله توکل الزهاد، و لیس مثله من رکب خطة لم یحکمها، و لو کنا نثق بالنصر دائما طول العمر، لما کان شی‌ء عندنا آثر من التضییق علی أنفسنا فی العاجل بعمارة الآجل، و لکن الإنسان قصیر العمر، کثیر المصائب، مدفوع إلی الآفات، و ترک الإنسان ما قد أمکنه و صار فی یده تضییع، و لعل الذی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 41
حماه، نفسه یکون سعادة لمن یأتی من بعده، فیعود ذلک توسعة لغیره بما حرمه هو، و یجتمع للأمیر أیده اللّه بما قد عزم علی إسقاطه من المرافق فی السنة بمصر دون غیرها مائة ألف دینار، و إنّ فسخ ضیاع الأمراء و المتقبلین فی هذه السنة، لأنها سنة ظمأ توجب الفسیخ، زاد مال البلد و توفر توفرا عظیما ینضاف إلی مال المرافق، فیضبط به الأمیر أیّده اللّه أمر دنیاه، و هذه طریقة أمور الدنیا و أحکام أمور الریاسة و السیاسة، و کلّ ما عدل الأمیر أیده اللّه إلیه من أمر غیر هذا، فهو مفسد لدنیاه، و هذا رأیی، و الأمیر أیده اللّه علی ما عساه یراه.
فقال له: ننظر فی هذا إن شاء اللّه. و شغل قلبه کلامه، فبات تلک اللیلة بعد أن مضی أکثر اللیل یفکر فی کلام ابن دسومة، فرأی فی منامه رجلا من إخوانه الزهاد بطرسوس و هو یقول له: لیس ما أشار به علیک من استشرته فی أمر الارتفاق و الفسخ برأی تحمد عاقبته، فلا تقبله. و من ترک شیئا للّه عز و جلّ عوّضه اللّه عنه، فأمض ما کنت عزمت علیه.
فلما أصبح أنفذ الکتب إلی سائر الأعمال بذلک، و تقدّم به فی سائر الدواوین بإمضائه، و دعا بابن دسومة فعرّفه بذلک، فقال له: قد أشار علیک رجلان، الواحد فی الیقظة و الآخر میت فی النوم، و أنت إلی الحیّ أقرب و بضمانه أوثق. فقال: دعنا من هذا، فلست أقبل منک.
و رکب فی غد ذلک الیوم إلی نحو الصعید، فلما أمعن فی الصحراء ساخت فی الأرض ید فرس بعض غلمانه، و هو رمل، فسقط الغلام فی الرمل، فإذا بفتق، ففتح فأصیب فیه من المال ما کان مقداره ألف ألف دینار، و هو الکنز الذی شاع خبره، و کتب به إلی العراق أحمد بن طولون بخیر المعتمد به و یستأذنه فیما یصرفه فیه من وجوه البرّ و غیرها، فبنی منه المارستان، ثم أصاب بعده فی الجبل مالا عظیما، فبنی منه الجامع و وقف جمیع ما بقی من المال فی الصدقات، و کانت صدقاته و معروفه لا تحصی کثرة. و لما انصرف من الصحراء و حمل المال أحضر ابن دسومة و أراه المال و قال له: بئس الصاحب و المستشار أنت، هذا أوّل برکة مشورة المیت فی النوم، و لو لا أننی أمنتک لضربت عنقک، و تغیّر علیه و سقط محله عنده، و رفع إلیه بعد ذلک أنه قد أجحف بالناس و ألزمهم أشیاء ضجوا منها، فقبض علیه و أخذ ماله و حبسه، فمات فی حبسه. و کان ابن دسومة واسع الحیلة بخیل الکف زاهدا فی شکر الشاکرین، لا یهش إلی شی‌ء من أعمال البرّ. و کان أحمد بن طولون من أهل القرآن، إذا جرت منه إساءة استغفر و تضرّع.
و قال ابن عبد الظاهر: سمعت غیر واحد یقول إنه لما فرغ أحمد بن طولون من بناء هذا الجامع، أسرّ للناس بسماع ما یقوله الناس فیه من العیوب. فقال رجل: محرابه صغیر،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 42
و قال آخر: ما فیه عمود. و قال آخر: لیست له میضأة. فجمع الناس و قال: أما المحراب فإنی رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم و قد خطه لی، فأصبحت فرأیت النمل قد أطافت بالمکان الذی خطه لی، و أما العمد فإنی بنیت هذا الجامع من مال حلال و هو الکنز، و ما کنت لأشوبه بغیره، و هذه العمد إمّا أن تکون من مسجد أو کنیسة فنزهته عنها، و أما المیضأة فإنی نظرت فوجدت ما یکون بها من النجاسات فطهرته منها، و ها أنا أبنیها خلفه، ثم أمر ببنائها. و قیل أنه لما فرغ من بنائه رأی فی منامه کأن نارا نزلت من السماء فأخذت الجامع دون ما حوله، فلما أصبح قص رؤیاه، فقیل له: أبشر بقبول الجامع، لأنّ النار کانت فی الزمان الماضی إذا قبل اللّه قربانا نزلت نار من السماء أخذته، و دلیله قصة قابیل و هابل. قال: و رأیت من یقول أنه عمّر ما حوله حتی کان خلفه مسطبة ذراع فی ذراع، أجرتها فی کلّ یوم اثنا عشر درهما، فی بکرة النهار، لشخص یبیع الغزل و یشتریه، و الظهر لخباز، و العصر لشیخ یبیع الحمص و الفول.
و قیل عن أحمد بن طولون أنه کان لا یعبث بشی‌ء قط، فاتفق أنه أخذ درجا أبیض بیده و أخرجه و مدّه و استیقظ لنفسه و علم أنه قد فطن به، و أخذ علیه لکونه لم تکن تلک عادته، فطلب المعمار علی الجامع و قال: تبنی المنارة التی للتأذین هکذا، فبنیت علی تلک الصورة، و العامّة یقولون أن العشاری الذی علی المنارة المذکورة یدور مع الشمس، و لیس صحیحا و إنما یدور مع دوران الریاح، و کان الملک الکامل قد اعتنی بوقودها لیلة النصف من شعبان، ثم أبطلها. و قال المسبحیّ: إن الحاکم أنزل إلی جامع ابن طولون ثمانمائة مصحف و أربعة عشر مصحفا. و فی سنة ست و سبعین و ثلاثمائة فی لیلة الخمیس لعشر خلون من جمادی الأولی، احترقت الفوّارة التی کانت بجامع ابن طولون فلم یبق منها شی‌ء، و کانت فی وسط صحنه قبة مشبکة من جمیع جوانبها، و هی مذهبة علی عشر عمد رخام و ستة عشر عمود رخام فی جوانبها، مفروشة کلها بالرخام، و تحت القبة قصعة رخام فسحتها أربعة أذرع، فی وسطها فوّارة تفور بالماء، و فی وسطها قبة مزوّقة یؤذن فیها، و فی أخری علی سلمها، و فی السطح علامات الزوال، و السطح بدرابزین ساج، فاحترق جمیع هذا فی ساعة واحدة. و فی المحرّم سنة خمس و ثمانین و ثلاثمائة أمر العزیز بالله بن المعز ببناء فوّارة عوضا عن التی احترقت، فعمل ذلک علی ید راشد الحنفیّ، و تولی عمارتها ابن الرومیة و ابن البناء، و ماتت أمّ العزیز فی سلخ ذی القعدة من السنة و اللّه أعلم.
تجدید الجامع: و کان من خبر جامع ابن طولون أنه لما کان غلاء مصر فی زمان المستنصر، و خربت القطائع و العسکر، عدم الساکن هناک و صار ما حول الجامع خرابا، و توالت الأیام علی ذلک و تشعث الجامع و خرب أکثره، و صار أخیرا ینزل فیه المغاربة بأباعرها و متاعها عند ما تمرّ بمصر أیام الحج، فهیأ اللّه جلّ جلاله لعمارة هذا الجامع، أن کان بین الملک الأشرف خلیل بن قلاون و بین الأمیر بیدر أمور موشحة تزایدت و تأکدت،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 43
إلی أن جمع بیدر من یثق به و قتل الأشرف بناحیة تروجه فی سنة ثلاث و تسعین و ستمائة، کما سیأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی عند ذکر مدرسته، و کان ممن وافق الأمیر بیدرا علی قتل الأشرف، الأمیر حسام الدین لاجین المنصوریّ، و الأمیر قراسنقر، فلما قتل بیدر فی محاربة ممالیک الأشرف له، فرّ لاجین و قراسنقر من المعرکة، فاختفی لاجین بالجامع الطولونیّ، و قراسنقر فی داره بالقاهرة، و صار لاجین یتردّد بمفرده من غیر أحد معه فی الجامع و هو حینئذ خراب لا ساکن فیه، و أعطی اللّه عهدا إن سلّمه اللّه من هذه المحنة و مکنه من الأرض أن یجدّد عمارة هذا الجامع و یجعل له ما یقوم به، ثم إنه خرج منه فی خفیة إلی القرافة فأقام بها مدّة، و راسل قراسنقر فتحیل فی لحاقه به، و عملا أعمالا إلی أن اجتمعا بالأمیر زین الدین کتبغا المنصوری، و هو إذ ذاک نائب السلطنة فی أیام الملک الناصر محمد بن قلاون، و القائم بأمور الدولة کلها، فأحضرهما إلی مجلس السلطان بقلعة الجبل بعد أن أتقن أمرهما مع الأمراء و ممالیک السلطان، فخلع علیهما و صار کلّ منهما إلی داره و هو آمن، فلم تطل أیام الملک الناصر فی هذه الولایة حتی خلعه الأمیر کتبغا و جلس علی تخت الملک، و تلقب بالملک العادل، فجعل لاجین نائب السلطنة بدیار مصر، و جرت أمور اقتضت قیام لاجین علی کتبغا و هم بطریق الشام، ففرّ کتبغا إلی دمشق و استولی لاجین علی دست المملکة، و سار إلی مصر و جلس علی سریر الملک بقلعة الجبل، و تلقب بالملک المنصور فی المحرّم من سنة ست و تسعین و ستمائة، فأقام قراسنقر فی نیابة السلطنة بدیار مصر، و أخرج الناصر محمد بن قلاون من قلعة الجبل إلی کرک الشوبک، فجعله فی قلعتها، و أعانه أهل الشام علی کتبغا حتی قبض علیه و جعله نائب حماه، فأقام بها مدّة سنین بعد سلطنة مصر و الشام و خلع علی الأمیر علم الدین سنجر الدواداریّ و أقامه فی نیابة دار العدل، و جعل إلیه شراء الأوقاف علی الجامع الطولونیّ، و صرف إلیه کلّ ما یحتاج إلیه فی العمارة، و أکد علیه فی أن لا یسخّر فیه فاعلا و لا صانعا، و أن لا یقیم مستحثا للصناع، و لا یشتری لعمارته شیئا مما یحتاج إلیه من سائر الأصناف إلّا بالقیمة التامة، و أن یکون ما ینفق علی ذلک من ماله، و أشهد علیه بوکالته، فابتاع منیة أندونة من أراضی الجیزة، و عرفت هذه القریة بأندونة، کاتب بمصر کان نصرانیا فی زمن أحمد بن طولون، و ممن نکبه و أخذ منه خمسین ألف دینار، و اشتری أیضا ساحة بجوار جامع أحمد بن طولون مما کان فی القدیم عامرا ثم خرب، و حکرها و عمر الجامع، و أزال کلّ ما کان فیه من تخریب، و بلطه و بیضه و رتب فیه دروسا لإلقاء الفقه علی المذاهب الأربعة التی عمل أهل مصر علیها الآن، و درسا یلقی فیه تفسیر القرآن الکریم، و درسا لحدیث النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و درسا للطب، و قرّر للخطیب معلوما، و جعل له إماما راتبا، و مؤذنین و فرّاشین و قومة، و عمل بجواره مکتبا لإقراء أیتام المسلمین کتاب اللّه عز و جلّ، و غیر ذلک من أنواع القربات و وجوه البرّ، فبلغت النفقة علی عمارة الجامع و ثمن مستغلاته عشرین ألف دینار، فلما شاء اللّه سبحانه أن یهلک لاجین، زیّن له
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 44
سوء عمله، عزل الأمیر قراسنقر من نیابة السلطنة، فعزله و ولی مملوکه منکوتمر، و کان عسوفا عجولا حادّا، و لاجین مع ذلک یرکن إلیه و یعوّل فی جمیع أموره علیه و لا یخالف قوله و لا ینقض فعله، فشرع منکوتمر فی تأخیر أمراء الدولة من الصالحیة و المنصوریة، و أعجل فی إظهار التهجم لهم و الإعلان بما یریده من القبض علیهم و إقامة أمراء غیرهم، فتوحشت القلوب منه و تمالأت علی بغضه، و مشی القوم بعضهم إلی بعض و کاتبوا إخوانهم من أهل البلاد الشامیة، حتی تمّ لهم ما یریدون، فواعد جماعة منهم إخوانهم علی قتل السلطان لاجین و نائبه منکوتمر، فما هو إلّا أن صلّی السلطان العشاء الآخرة من لیلة الجمعة العاشر من شهر ربیع الأوّل سنة ثمان و تسعین و ستمائة، و إذا بالأمیر کرجی و کان ممن هو قائم بین یدیه، تقدّم لیصلح الشمعة، فضربه بسیف قد أخفاه معه أطار به زنده، و انقض علیه البقیة ممن واعدوهم بالسیوف و الخناجر، فقطعوه قطعا، و هو یقول اللّه اللّه، و خرجوا من فورهم إلی باب القلة من قلعة الجبل، فإذا بالأمیر طفج قد جلس فی انتظارهم و معه عدّة من الأمراء، و کانوا إذ ذاک یبیتون بالقلعة دائما، فأمروا بإحضار منکوتمر من دار النیابة بالقلعة و قتلوه بعد مضیّ نصف ساعة من قتل أستاذه الملک المنصور حسام الدین لاجین المنصوریّ رحمه اللّه. فلقد کان مشکور السیرة.
و فی سنة سبعة و ستین و سبعمائة جدّد الأمیر یلبغا العمریّ الخاصکیّ درسا بجامع ابن طولون، فیه سبعا مدرّسین للحنفیة، و قرّر لکلّ فقیه من الطلبة فی الشهر أربعین درهما و أردب قمح، فانتقل جماعة من الشافعیة إلی مذهب الحنفیة. و أوّل من ولّی نظره بعد تجدیده الأمیر علم الدین سنجر الجاولیّ و هو إذ ذاک دوادار السلطان الملک المنصور لاجین، ثم ولّی نظره قاضی القضاة بدر الدین محمد بن جماعة، ثم من بعده الأمیر مکین فی أیام الناصر محمد بن قلاون، فجدّد فی أوقافه طاحونا و فرنا و حوانیت. فلما مات ولیه قاضی القضاة عز الدین بن جماعة، ثم ولّاه الناصر للقاضی کریم الدین الکبیر، فحدّد فیه مئذنتین، فلما نکبه السلطان عاد نظره إلی قاضی القضاة الشافعیّ، و ما برح إلی أیام الناصر حسن بن محمد بن قلاون، فولّاه للأمیر صرغتمش، و توفر فی مدّة نظره من مال الوقف مائة ألف درهم فضة، و قبض علیه و هی حاصلة، فباشره قاضی القضاة إلی أیام الأشرف شعبان بن حسین، ففوّض نظره إلی الأمیر الجای الیوسفیّ إلی أن غرق، فتحدّث فیه قاضی القضاة الشافعیّ إلی أن فوّض السلطان الملک الظاهر برقوق نظره إلی الأمیر قطلو بغا الصفویّ، فی العشرین من جمادی الآخرة سنة اثنتین و تسعین و سبعمائة، و کان الأمیر منطاش مدّة تحکمه فی الدولة فوّضه إلی المذکور فی أواخر شوّال سنة إحدی و تسعین و سبعمائة، ثم عاد نظره إلی القضاة بعد الصفویّ و هو بأیدیهم إلی الیوم. و فی سنة اثنتین و تسعین و سبعمائة جدّد الرواق البحریّ الملاصق للمئذنة، الحاج عبید اللّه محمد بن عبد الهادی الهویدیّ البازدار مقدّم الدولة. و جدّد میضأة بجانب المیضأة القدیمة، و کان عبید
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 45
هذا بازدارا، ثم ترقّی حتی صار مقدّم الدولة، فی شهر ربیع الأوّل سنة اثنتین و تسعین و سبعمائة، ثم ترک زیّ المقدّمین و تزیّا بزیّ الأمراء، و حاز نعمة جلیلة و سعادة طائلة حتی مات یوم السبت رابع عشر صفر سنة ثلاث و تسعین و سبعمائة.

ذکر دار الإمارة

و کان بجوار الجامع الطولونیّ دار أنشأها الأمیر أحمد بن طولون عندما بنی الجامع، و جعلها فی الجهة القبلیة، و لها باب من جدار الجامع یخرج منه إلی المقصورة بجوار المحراب و المنبر، و جعل فی هذه الدار جمیع ما یحتاج إلیه من الفرش و الستور و الآلات، فکان ینزل بها إذا راح إلی صلاة الجمعة، فإنها کانت تجاه القصر و المیدان، فیجلس فیها و یجدّد وضوءه و یغیر ثیابه، و کان یقال لها دار الإمارة، و موضعها الآن سوق الجامع حیث البزازین و غیرهم، و لم تزل هذه الدار باقیة إلی أن قدم الإمام المعز لدین اللّه أبو تمیم معدّ من بلاد المغرب، فکان یستخرج فیها أموال الخراج. قال الفقیه الحسن بن إبراهیم بن زولاق فی کتاب سیرة المعز: و لست عشرة بقیت من المحرّم، یعنی من سنة ثلاث و ستین و ثلاثمائة قلّد المعز لدین اللّه الخراج و جمیع وجوه الأعمال و الحسبة و السواحل و الأعشار و الجوالی و الأحباس و المواریث و الشرطیین، و جمیع ما ینضاف إلی ذلک، و ما یطرأ فی مصر و سائر الأعمال، أبا الفرج یعقوب بن یوسف بن کلس، و عسلوج بن الحسن، و کتب لهما سجلا بذلک قری‌ء یوم الجمعة علی منبر جامع أحمد بن طولون، و جلسا غد هذا الیوم فی دار الإمارة فی جامع أحمد بن طولون للنداء علی الضیاع و سائر وجوه الأعمال، ثم خربت هذه الدار فیما خرب من القطائع و العسکر، و صار موضعها ساحة إلی أن حکرها الدویداریّ عند تجدید عمارة الجامع کما تقدّم، و قد ذکر بناء القیساریة فی موضعه من هذا الکتاب عند ذکر الأسواق.

ذکر الأذان بمصر و ما کان فیه من الاختلاف

اعلم أن أوّل من أذن لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم بلال بن رباح، مولی أبی بکر الصدّیق رضی اللّه عنهما، بالمدینة الشریفة و فی الأسفار، و کان ابن أمّ مکتوم و اسمه عمرو بن قیس بن شریح من بنی عامر بن لؤیّ، و قیل اسمه عبد اللّه، و أمّه أمّ مکتوم، و اسمها عاتکة بنت عبد اللّه بن عنکثة من بنی مخزوم، ربما أذن بالمدینة، و أذن أبو محذورة، و اسمه أوس، و قیل سمرة بن معیر بن لوذان بن ربیعة بن معیر بن عریج بن سعد بن جمح، و کان استأذن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی أن یؤذن مع بلال، فأذن له و کان یؤذن فی المسجد الحرام، و أقام بمکة و مات بها و لم یأت المدینة.
قال ابن الکلبیّ: کان أبو محذورة لا یؤذن للنبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم بمکة إلّا فی الفجر، و لم یهاجر و أقام بمکة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 46
و قال ابن جریج: علّم النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم أبا محذورة الأذان بالجعرانة حین قسم غنائم حنین، ثم جعله مؤذنا فی المسجد الحرام.
و قال الشعبیّ: أذن لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم بلال و أبو محذورة و ابن أمّ مکتوم، و قد جاء أن عثمان بن عفان رضی اللّه عنه کان یؤذن بین یدی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم عند المنبر، و قال محمد بن سعد عن الشعبیّ: کان لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم ثلاثة مؤذنین، بلال و أبو محذورة و عمرو بن أمّ مکتوم، فإذا غاب بلال أذن أبو محذورة، و إذا غاب أبو محذورة أذن ابن أمّ مکتوم.
قلت: لعلّ هذا کان بمکة. و ذکر ابن سعد أنّ بلالا أذن بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم لأبی بکر رضی اللّه عنه، و أن عمر رضی اللّه عنه أراده أن یؤذن له فأبی علیه فقال له: إلی من تری أن أجعل النداء؟ فقال: إلی سعد القرظ فإنه قد أذن لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، فدعاه عمر رضی اللّه عنه فجعل النداء إلیه و إلی عقبه من بعده، و قد ذکر أن سعد القرظ کان یؤذن لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم بقباء.
و ذکر أبو داود فی «مراسیله» و الدار قطنیّ فی «سننه»، قال بکیر بن عبد اللّه الأشج:
کانت مساجد المدینة تسعة سوی مسجد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، کلهم یصلون بأذان بلال رضی اللّه عنه. و قد کان عند فتح مصر الأذان إنما هو بالمسجد الجامع المعروف بجامع عمرو، و به صلاة الناس بأسرهم، و کان من هدی الصحابة و التابعین رضی اللّه عنهم المحافظة علی الجماعة و تشدید النکیر علی من تخلف عن صلاة الجماعة. قال أبو عمرو الکندی فی ذکر من عرّف علی المؤذنین بجامع عمرو بن العاص بفسطاط مصر، و کان أوّل من عرّف علی المؤذنین أبو مسلم سالم بن عامر بن عبد المرادیّ، و هو من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و قد أذن لعمر بن الخطاب، سار إلی مصر مع عمرو بن العاص یؤذن له حتی افتتحت مصر، فأقام علی الأذان و ضمّ إلیه عمرو بن العاص تسعة رجال یؤذنون هو عاشرهم، و کان الأذان فی ولده حتی انقرضوا.
قال أبو الخیر: حدّثنی أبو مسلم و کان مؤذنا لعمرو بن العاص، أن الأذان کان أوّله لا إله إلا اللّه، و آخره لا إله إلّا اللّه، و کان أبو مسلم یوصی بذلک حتی مات و یقول: هکذا کان الأذان. ثم عرّف علیهم أخوه شرحبیل بن عامر و کانت له صحبة، و فی عرافته زاد مسلمة بن مخلد فی المسجد الجامع و جعل له المنار، و لم یکن قبل ذلک، و کان شرحبیل أوّل من رقی منارة مصر للأذان، و أن مسلمة بن مخلد اعتکف فی منارة الجامع، فسمع أصوات النواقیس عالیة بالفسطاط فدعا شرحبیل بن عامر، فأخبره بما ساءه من ذلک. فقال شرحبیل: فإنی أمدّد بالأذان من نصف اللیل إلی قرب الفجر، فإنههم أیها الأمیر أن ینقسوا إذا أذنت، فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقیس وقت الأذان، و مدّد شرحبیل و مطط أکثر اللیل إلی أن مات شرحبیل سنة خمس و ستین.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 47
و ذکر عن عثمان رضی اللّه عنه أنه أوّل من رزق المؤذنین، فلما کثرت مساجد الخطبة أمر مسلمة بن مخلد الأنصاریّ فی إمارته علی مصر ببناء المنار فی جمیع المساجد خلا مساجد تجیب و خولان، فکانوا یؤذنون فی الجامع أوّلا، فإذا فرغوا أذن کلّ مؤذن فی الفسطاط فی وقت واحد، فکان لأذانهم دویّ شدید. و کان الأذان أوّلا بمصر کأذان أهل المدینة، و هو اللّه أکبر اللّه أکبر و باقیه کما هو الیوم، فلم یزل الأمر بمصر علی ذلک فی جامع عمرو بالفسطاط، و فی جامع العسکر، و فی جامع أحمد بن طولون و بقیة المساجد إلی أن قدم القائد جوهر بجیوش المعز لدین اللّه و بنی القاهرة، فلما کان فی یوم الجمعة الثامن من جمادی الأولی سنة تسع و خمسین و ثلاثمائة، صلّی القائد جوهر الجمعة فی جامع أحمد بن طولون، و خطب به عبد السمیع بن عمر العباسیّ بقلنسوة و سبنی و طیلسان دبسیّ، و أذن المؤذنون حیّ علی خیر العمل، و هو أوّل ما أذن به بمصر، و صلّی به عبد السمیع الجمعة فقرأ سورة الجمعة إِذا جاءَکَ الْمُنافِقُونَ و قنت فی الرکعة الثانیة و انحط إلی السجود و نسی الرکوع، فصاح به علیّ بن الولید قاضی عسکر جوهر بطلت الصلاة أعد ظهرا أربع رکعات، ثم أذن بحیّ علی خیر العمل فی سائر مساجد العسکر إلی حدود مسجد عبد اللّه، و أنکر جوهر علی عبد السمیع أنه لم یقرأ بسم اللّه الرحمن الرحیم فی کلّ سورة، و لا قرأها فی الخطبة، فأنکره جوهر و منعه من ذلک.
و لأربع بقین من جمادی الأولی المذکور، أذّن فی الجامع العتیق بحیّ علی خیر العمل، و جهروا فی الجامع بالبسملة فی الصلاة، فلم یزل الأمر علی ذلک طول مدّة الخلفاء الفاطمیین، إلّا أن الحاکم بأمر اللّه فی سنة أربعمائة أمر بجمع مؤذنی القصر و سائر الجوامع، و حضر قاضی القضاة مالک بن سعید الفارقیّ، و قرأ أبو علیّ العباسیّ سجلا فیه الأمر بترک حیّ علی خیر العمل فی الأذان، و أن یقال فی صلاة الصبح الصلاة خیر من النوم، و أن یکون ذلک من مؤذنی القصر عند قولهم السلام علی أمیر المؤمنین و رحمة اللّه، فامتثل ذلک. ثم عاد المؤذنون إلی قول حیّ علی خیر العمل فی ربیع الآخر سنة إحدی و أربعمائة، و منع فی سنة خمس و أربعمائة مؤذنی جامع القاهرة و مؤذنی القصر من قولهم بعد الأذان السلام علی أمیر المؤمنین، و أمرهم أن یقولوا بعد الأذان، الصلاة رحمک اللّه. و لهذا الفعل أصل. قال الواقدیّ: کان بلال رضی اللّه عنه یقف علی باب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فیقول: السلام علیک یا رسول اللّه، و ربما قال: السلام علیک بأبی أنت و أمی یا رسول اللّه، حیّ علی الصلاة حیّ علی الصلاة، السلام علیک یا رسول اللّه.
قال البلاذریّ و قال غیره: کان یقول السلام علیک یا رسول اللّه و رحمة اللّه و برکاته، حیّ علی الصلاة حیّ علی الفلاح، الصلاة یا رسول اللّه. فلما ولی أبو بکر رضی اللّه عنه الخلافة کان سعد القرظ یقف علی بابه فیقول: السلام علیک یا خلیفة رسول اللّه و رحمة اللّه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 48
و برکاته، حی علی الصلاة حیّ علی الفلاح، الصلاة یا خلیفة رسول اللّه. فلما استخلف عمر رضی اللّه عنه کان سعد یقف علی بابه فیقول: السلام علیک یا خلیفة خلیفة رسول اللّه و رحمة اللّه، حیّ علی الصلاة حیّ علی الفلاح، الصلاة یا خلیفة خلیفة رسول اللّه. فلما قال عمر رضی اللّه عنه للناس: أنتم المؤمنین و أنا أمیرکم. فدعی أمیر المؤمنین، استطالة لقول القائل یا خلیفة خلیفة رسول اللّه، و لمن بعده خلیفة خلیفة رسول اللّه. کان المؤذن یقول:
السلام علیک أمیر المؤمنین و رحمة اللّه و برکاته، حیّ علی الصلاة حیّ علی الفلاح، الصلاة یا أمیر المؤمنین. ثم إن عمر رضی اللّه عنه أمر المؤذن فزاد فیها رحمک اللّه. و یقال أنّ عثمان رضی اللّه عنه زادها، و ما زال المؤذنون إذا أذنوا سلموا علی الخلفاء و أمراء الأعمال، ثم یقیمون الصلاة بعد السلام، فیخرج الخلیفة أو الأمیر فیصلی بالناس. هکذا کان العمل مدّة أیام بنی أمیة، ثم مدّة خلافة بنی العباس أیام کانت الخلفاء و أمراء الأعمال تصلی بالناس.
فلما استولی العجم و ترک خلفاء بنی العباس الصلاة بالناس، ترک ذلک کما ترک غیره من سنن الإسلام، و لم یکن أحد من الخلفاء الفاطمیین یصلی بالناس الصلوات الخمس فی کل یوم، فسلم المؤذنون فی أیامهم علی الخلیفة بعد الأذان للفجر فوق المنارات، فلمّا انقضت أیامهم و غیر السلطان صلاح الدین رسومهم لم یتجاسر المؤذنون علی السلام علیه احتراما للخلیفة العباسیّ ببغداد، فجعلوا عوض السلام علی الخلیفة السلام علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و استمرّ ذلک قبل الأذان للفجر فی کلّ لیلة بمصر و الشام و الحجاز، و زید فیه بأمر المحتسب صلاح الدین عبد اللّه البرلسیّ، الصلاة و السلام علیک یا رسول اللّه، و کان ذلک بعد سنة ستین و سبعمائة، فاستمرّ ذلک.
و لمّا تغلب أبو علیّ بن کتیفات بن الأفضل شاهنشاه بن أمیر الجیوش بدر الجمالیّ علی رتبة الوزارة فی أیام الحافظ لدین اللّه أبی المیمون عبد المجید بن الأمیر أبی القاسم محمد بن المستنصر بالله، فی سادس عشر ذی القعدة سنة أربع و عشرین و خمسمائة، و سجن الحافظ و قیده و استولی علی سائر ما فی القصر من الأموال و الذخائر، و حملها إلی دار الوزارة، و کان إمامیا متشدّدا فی ذلک، خالف ما علیه الدولة من مذهب الإسماعیلیة، و أظهر الدعاء للإمام المنتظر، و أزال من الأذان حیّ علی خیر العمل، و قولهم محمد و علیّ خیر البشر، و أسقط ذکر إسماعیل بن جعفر الذی تنتسب إلیه الإسماعیلیة، فلما قتل فی سادس عشر المحرّم سنة ست و عشرین و خمسمائة، عاد الأمر إلی الخلیفة الحافظ و أعید إلی الأذان ما کان أسقط منه.
و أوّل من قال فی الأذان باللیل محمد و علیّ خیر البشر، الحسین المعروف بأمیر کابن شکنبه، و یقال أشکنبه، و هو اسم أعجمیّ معناه الکرش، و هو علیّ بن محمد بن علیّ بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 49
إسماعیل بن الحسن بن زید بن الحسن بن علیّ بن أبی طالب، و کان أوّل تأذینه بذلک فی أیام سیف الدولة بن حمدان بحلب فی سنة سبع و أربعین و ثلاثمائة. قاله الشریف محمد بن أسعد الجوّانیّ النسابة، و لم یزل الأذان بحلب یزاد فیه حیّ علی خیر العمل، و محمد و علیّ خیر البشر إلی أیام نور الدین محمود. فلما فتح المدرسة الکبیرة المعروفة بالحلاویة، استدعی أبا الحسن علیّ بن الحسن بن محمد البلخیّ الحنفیّ إلیها، فجاء و معه جماعة من الفقهاء و ألقی بها الدروس، فلما سمع الأذان أمر الفقهاء فصعدوا المنارة وقت الأذان و قال لهم: مروهم یؤذنوا الأذان المشروع، و من امتنع کبوه علی رأسه. فصعدوا و فعلوا ما أمرهم به، و استمرّ الأمر علی ذلک.
و أمّا مصر فلم یزل الأذان بها علی مذهب القوم إلی أن استبدّ السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب بسلطنة دیار مصر، و أزال الدولة الفاطمیة فی سنة سبع و ستین و خمسمائة، و کان ینتحل مذهب الإمام الشافعیّ رضی اللّه عنه، و عقیدة الشیخ أبی الحسن الأشعری رحمه اللّه، فأبطل من الأذان قول حیّ علی خیر العمل، و صار یؤذن فی سائر إقلیم مصر و الشام بأذان أهل مکة، و فیه تربیع التکبیر و ترجیع الشهادتین، فاستمرّ الأمر علی ذلک إلی أن بنت الأتراک المدارس بدیار مصر و انتشر مذهب أبی حنیفة رضی اللّه عنه فی مصر، فصار یؤذن فی بعض المدارس التی للحنیفة بأذان أهل الکوفة، و تقام الصلاة أیضا علی رأیهم، و ما عدا ذلک فعلی ما قلنا، إلّا أنه فی لیلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذین سلموا علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و هو شی‌ء أحدثه محتسب القاهرة صلاح الدین عبد اللّه بن عبد اللّه البرلسیّ بعد سنة ستین و سبعمائة، فاستمرّ إلی أن کان فی شعبان سنة إحدی و تسعین و سبعمائة، و متولی الأمر بدیار مصر الأمیر منطاش، القائم بدولة الملک الصالح المنصور، أمیر حاج المعروف بحاجی بن شعبان بن حسین بن محمد بن قلاون. فسمع بعض الفقراء الخلاطین سلام المؤذنین علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی لیلة جمعة، و قد استحسن ذلک طائفة من إخوانه فقال لهم: أ تحبون أن یکون هذا السلام فی کلّ أذان؟ قالوا: نعم. فبات تلک اللیلة و أصبح متواجدا یزعم أنه رأی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی منامه، و أنه أمره أن یذهب إلی المحتسب فیبلغه عنه أن یأمر المؤذنین بالسلام علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی کلّ أذان، فمضی إلی محتسب القاهرة و هو یومئذ نجم الدین محمد الطنبدیّ و کان شیخا جهولا و بلهانا مهولا سی‌ء السیرة فی الحسبة و القضاء، متهافتا علی الدرهم و لو قاده إلی البلاء، لا یحتشم من أخذ البرطیل و الرشوة، و لا یراعی فی مؤمن إلّا و لا ذمّة قد ضری علی الآثام، و تجسد من أکل الحرام، یری أن العلم إرخاء العذبة و لبس الجبة، و یحسب أنّ رضی اللّه سبحانه فی ضرب العباد بالدرة و ولایة الحسبة، لم تحمد الناس قط أیادیه، و لا شکرت أبدا مساعیه، بل جهالاته شائعة و قبائح أفعاله ذائعة، أشخص غیر مرّة إلی مجلس المظالم، و أوقف مع من أوقف للمحاکمة بین یدی السلطان من أجل عیوب فوادح، حقق فیها شکاته علیه القوادح، و ما زال فی السیرة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 50
مذموما و من العامّة و الخاصة ملوما. و قال له: رسول اللّه یأمرک أن تتقدّم لسائر المؤذنین بأن یزیدوا فی کل أذان قولهم الصلاة و السلام علیک یا رسول اللّه، کما یفعل فی لیالی الجمع، فأعجب الجاهل هذا القول، و جهل أنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم لا یأمر بعد وفاته إلّا بما یوافق ما شرّعه اللّه علی لسانه فی حیاته، و قد نهی اللّه سبحانه و تعالی فی کتابه العزیز عن الزیادة فیما شرعه حیث یقول: أَمْ لَهُمْ شُرَکاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّینِ ما لَمْ یَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشوری/ 21] و قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم: «إیاکم و محدثات الأمور» فأمر بذلک فی شعبان من السنة المذکورة، و تمت هذه البدعة و استمرّت إلی یومنا هذا فی جمیع دیار مصر و بلاد الشام، و صارت العامّة و أهل الجهالة تری أن ذلک من جملة الأذان الذی لا یحلّ ترکه، و أدّی ذلک إلی أن زاد بعض أهل الإلحاد فی الأذان ببعض القری السلام بعد الأذان علی شخص من المعتقدین الذین ماتوا، فلا حول و لا قوّة إلّا بالله، و إنّا للّه و إنّا إلیه راجعون.
و أما التسبیح فی اللیل علی المآذن، فإنه لم یکن من فعل سلف الأمّة، و أوّل ما عرف من ذلک أن موسی بن عمران صلوات اللّه علیه، لما کان ببنی إسرائیل فی التیه بعد غرق فرعون و قومه، اتخذ بوقین من فضة مع رجلین من بنی إسرائیل، ینفخان فیهما وقت الرحیل و وقت النزول، و فی أیام الأعیاد، و عند ثلث اللیل الأخیر من کلّ لیلة، فتقوم عند ذلک طائفة من بنی لاوی سبط موسی علیه السّلام و یقولون نشیدا منزلا بالوحی، فیه تخویف و تحذیر و تعظیم للّه تعالی، و تنزیله له تعالی، إلی وقت طلوع الفجر، و استمر الحال علی هذا کلّ لیلة مدّة حیاة موسی علیه السّلام، و بعده أیام یوشع بن نون، و من قام فی بنی إسرائیل من القضاة إلی أن قام بأمرهم داود علیه السّلام و شرع فی عمارة بیت المقدس، فرتّب فی کلّ لیلة عدّة من بنی لاوی یقومون عند ثلث اللیل الآخر، فمنهم من یضرب بالآلات کالعود و السطیر و البربط و الدف و المزمار. و نحو ذلک، و منهم من یرفع عقیرته بالنشائد المنزلة بالوحی علی نبیّ اللّه موسی علیه السّلام، و النشائد المنزلة بالوحی علی داود علیه السّلام. و یقال أنّ عدد بنی لاوی هذا کان ثمانین و ثلاثین ألف رجل، قد ذکر تفصیلهم فی کتاب الزبور، فإذا قام هؤلاء ببیت المقدس، قام فی کلّ محلة من محال بیت المقدس رجال یرفعون أصواتهم بذکر اللّه سبحانه من غیر آلات، فإنّ الآلات کانت مما یختص ببیت المقدس فقط، و قد نهوا عن ضربها فی غیر البیت، فیتسامع من قریة بیت المقدس، فیقوم فی کلّ قریة رجال یرفعون أصواتهم بذکر اللّه تعالی حتی یهمّ الصوت بالذکر جمیع قری بنی إسرائیل و مدنهم، و ما زال الأمر علی ذلک فی کلّ لیلة إلی أن خرّب بخت نصر بیت المقدس و جلا بنی إسرائیل إلی بابل، فبطل هذا العمل و غیره من بلاد بنی إسرائیل مدّة جلائهم فی بابل سبعین سنة، فلما اعاد بنو إسرائیل من بابل و عمروا البیت العمارة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 51
الثانیة، أقاموا شرائعهم و عاد قیام بنی لاوی بالبیت فی اللیل، و قیام أهل محال القدس و أهل القری و المدن علی ما کان العمل علیه أیام عمارة البیت الأولی، و استمرّ ذلک إلی أن خرب القدس بعد قتل نبیّ اللّه یحیی بن زکریا، و قیام الیهود علی روح اللّه و رسوله عیسی ابن مریم صلوات اللّه علیهم علی ید طیطش، فبطلت شرائع بنی إسرائیل من حینئذ و بطل هذا القیام فیما بطل من بلاد بنی إسرائیل.
و أما فی الملة الإسلامیة فکان ابتداء هذا العمل بمصر، و سببه أن مسلمة بن مخلد أمیر مصر بنی منارا لجامع عمرو بن العاص، و اعتکف فیه فسمع أصوات النواقیس عالیة، فشکا ذلک إلی شرحبیل بن عامر عریف المؤذنین فقال: إنی أمدّد الأذان من نصف اللیل إلی قرب الفجر، فإنههم أیها الأمیر أن ینقسوا إذا أذنت. فنهاهم مسلمة عن ضرب النواقیس وقت الأذان، و مدّد شرحبیل و مطط أکثر اللیل، ثم إن الأمیر أبا العباس أحمد بن طولون کان قد جعل فی حجرة تقرب منه رجالا تعرف بالمکبرین، عدّتهم اثنا عشر رجلا، یبیت فی هذه الحجرة کلّ لیلة أربعة یجعلون اللیل بینهم عقبا، فکانوا یکبرون و یسبحون و یحمدون اللّه سبحانه فی کلّ وقت و یقرءون القرآن بألحان، و یتوسلون و یقولون قصائد زهیة، و یؤذنون فی أوقات الأذان، و جعل لهم أرزاقا واسعة تجری علیهم. فلما مات أحمد بن طولون و قام من بعده ابنه أبو الجیش خمارویه، أقرّهم بحالهم و أجراهم علی رسمهم مع أبیه، و من حینئذ اتخذ الناس قیام المؤذنین فی اللیل علی المآذن، و صار یعرف ذلک بالتسبیح. فلما ولی السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب سلطنة مصر و ولی القضاء صدر الدین عبد الملک بن درباس الهدبانیّ المارانیّ الشافعیّ، کان من رأیه و رأی السلطان اعتقاد مذهب الشیخ أبی الحسن الأشعریّ فی الأصول، فحمل الناس إلی الیوم علی اعتقاده، حتی یکفّر من خالفه، و تقدّم الأمر إلی المؤذنین أن یعلنوا فی وقت التسبیح علی المآذن باللیل بذکر العقیدة التی تعرف بالمرشدة، فواظب المؤذنون علی ذکرها فی کلّ لیلة بسائر جوامع مصر و القاهرة إلی وقتنا هذا. و مما أحدث أیضا، التذکیر فی یوم الجمعة من أثناء النهار بأنواع من الذکر علی المآذن، لیتهیأ الناس لصلاة الجمعة، و کان ذلک بعد السبعمائة من سنی الهجرة. قال ابن کثیر رحمه اللّه فی یوم الجمعة سادس ربیع الآخر سنة أربع و أربعین و سبعمائة، رسم بأن یذکر بالصلاة یوم الجمعة فی سائر مآذن دمشق کما یذکر فی مآذن الجامع الأمویّ، ففعل ذلک.

الجامع الأزهر

هذا الجامع أوّل مسجد أسس بالقاهرة، و الذی أنشأه القائد جوهر الکاتب الصقلیّ، مولی الإمام أبی تمیم معدّ الخلیفة أمیر المؤمنین المعز لدین اللّه لما اختط القاهرة، و شرع فی بناء هذا الجامع فی یوم السبت لست بقین من جمادی الأولی سنة تسع و خمسین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 52
و ثلاثمائة، و کمل بناؤه لتسع خلون من شهر رمضان سنة إحدی و ستین و ثلاثمائة و جمع فیه، و کتب بدائر القبة التی فی الرواق الأوّل، و هی علی یمنة المحراب و المنبر، ما نصه بعد البسملة: مما أمر ببنائه عبد اللّه و ولیه أبو تمیم معدّ الإمام المعز لدین اللّه أمیر المؤمنین صلوات اللّه علیه و علی آبائه و أبنائه الأکرمین، علی ید عبده جوهر الکاتب الصقلیّ، و ذلک فی سنة ستین و ثلاثمائة. و أوّل جمعة جمعت فیه فی شهر رمضان لسبع خلون منه سنة إحدی و ستین و ثلاثمائة. ثم إن العزیز بالله أبا منصور نزار بن المعز لدین اللّه جدّد فیه أشیاء، و فی سنة ثمان و سبعین و ثلاثمائة سأل الوزیر أبو الفرج یعقوب بن یوسف بن کلس الخلیفة العزیز بالله فی صلة رزق جماعة من الفقهاء، فأطلق لهم ما یکفی کلّ واحد منهم من الرزق الناض، و أمر لهم بشراء دار و بنائها، فبنیت بجانب الجامع الأزهر، فإذا کان یوم الجمعة حضروا إلی الجامع و تحلقوا فیه بعد الصلاة إلی أن تصلّی العصر، و کان لهم أیضا من مال الوزیر صلة فی کلّ سنة، و کانت عدتهم خمسة و ثلاثین رجلا، و خلع علیهم العزیز یوم عید الفطر، و حملهم علی بغلات. و یقال أنّ بهذا الجامع طلسما، فلا یسکنه عصفور، و لا یفرّخ به، و کذا سائر الطیور من الحمام و الیمام و غیره، و هو صورة ثلاثة طیور منقوشة، کلّ صورة علی رأس عمود، فمنها صورتان فی مقدّم الجامع بالرواق الخامس، منهما صورة فی الجهة الغربیة فی العمود، و صورة فی أحد العمودین اللذین علی یسار من استقبل سدّة المؤذنین، و الصورة الأخری فی الصحن فی الأعمدة القبلیة مما یلی الشرقیة، ثم إن الحاکم بأمر اللّه جدّده و وقف علی الجامع الأزهر و جامع المقس و الجامع الحاکمیّ و دار العلم بالقاهرة رباعا بمصر، و ضمّن ذلک کتابا نسخته: هذا کتاب، أشهد قاضی القضاة مالک بن سعید بن مالک الفارقیّ، علی جمیع ما نسب إلیه مما ذکر و وصف فیه، من حضر من الشهود فی مجلس حکمه و قضائه بفسطاط مصر، فی شهر رمضان سنة أربعمائة، أشهدهم و هو یومئذ قاضی، عبد اللّه و ولیه المنصور أبی علیّ الإمام الحاکم بأمر اللّه المؤمنین بن الإمام العزیز بالله صلوات اللّه علیهما علی القاهرة المعزیة و مصر و الإسکندریة و الحرمین حرسهما اللّه، و أجناد الشام و الرقة و الرحبة و نواحی المغرب، و سائر أعمالهنّ و ما فتحه اللّه و یفتحه لأمیر المؤمنین من بلاد الشرق و الغرب، بمحضر رجل متکلم أنّه صحت عنده معرفة المواضع الکاملة، و الحصص الشائعة، التی یذکر جمیع ذلک، و یحدد فی هذا الکتاب، و أنها کانت من أملاک الحاکم إلی أن حبسها علی الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة، و الجامع براشدة، و الجامع بالمقس، اللذین أمر بإنشائهما و تأسیس بنائهما، و علی دار الحکمة بالقاهرة المحروسة التی وقفها، و الکتب التی فیها قبل تاریخ هذا الکتاب، و منها ما یخص الجامع الأزهر و الجامع براشدة و دار الحکمة بالقاهرة المحروسة. مشاعا، جمیع ذلک غیر مقسوم، و منها ما یخص الجامع بالمقس، علی شرائط یجری ذکرها، فمن ذلک ما تصدّق به علی الجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة، و الجامع براشدة، و دار الحکمة بالقاهرة المحروسة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 53
جمیع الدار المعروفة بدار الضرب، و جمیع القیساریة المعروفة بقیساریة الصوف، و جمیع الدار المعروفة بدار الخرق الجدیدة، الذی کله بفسطاط مصر، و من ذلک ما تصدّق به علی جامع المقس، جمیع أربعة الحوانیت و المنازل التی علوها و المخزنین الذی ذلک کله بفسطاط مصر بالرایة فی جانب المغرب من الدار المعروفة کانت بدار الخرق، و هاتان الداران المعروفتان بدار الخرق فی الموضع المعروف بحمام الفار، و من ذلک جمیع الحصص الشائعة من أربعة الحوانیت المتلاصقة التی بفسطاط مصر بالرایة، أیضا بالموضع المعروف بحمام الفار، و تعرف هذه الحوانیت بحصص القیسیّ، بحدود ذلک کله، و أرضه و بنائه و سفله و علوه و غرفه و مرتفقاته و حوانیته و ساحاته و طرقه و ممرّاته و مجاری میاهه، و کل حق هو له داخل فیه و خارج عنه، و جعل ذلک کله صدقة موقوفة محرّمة محبسة بتة بتلة، لا یجوز بیعها و لا هبتها و لا تملیکها، باقیة علی شروطها جاریة علی سبلها المعروفة فی هذا الکتاب، لا یوهنها تقادم السنین، و لا تغیر بحدوث حدث، و لا یستثنی فیها و لا یتأوّل، و لا یستفتی بتجدّد تحبیسها مدی الأوقات، و تستمرّ شروطها علی اختلاف الحالات حتی یرث اللّه الأرض و السماوات، علی أن یؤجر ذلک فی کلّ عصر من ینتهی إلیه ولایتها و یرجع إلیه أمرها، بعد مراقبة اللّه و اجتلاب ما یوفر منفعتها من إشهارها عند ذوی الرغبة فی إجارة أمثالها، فیبتدأ من ذلک بعمارة ذلک علی حسب المصلحة و بقاء العین و مرمّته من غیر إجحاف بما حبس ذلک علیه.
و ما فضل کان مقصوما علی ستین سهما فمن ذلک للجامع الأزهر بالقاهرة المحروسة المذکور فی هذا الإشهاد، الخمس، و الثمن، و نصف السدس، و نصف التسع، یصرف ذلک فیما فیه عمارة له و مصلحة، و هو من العین المعزیّ الوازن ألف دینار واحدة و سبعة و ستون دینارا و نصف دینار و ثمن دینار، من ذلک للخطیب بهذا الجامع أربعة و ثمانون دینارا، و من ذلک لثمن ألف ذراع حصر عبدانیّة تکون عدّة له بحیث لا ینقطع من حصره عند الحاجة إلی ذلک، و من ذلک لثمن ثلاثة عشر ألف ذراع حصر مظفورة لکسوة هذا الجامع فی کلّ سنة عند الحاجة إلیها مائة دینار واحدة و ثمانیة دنانیر، و من ذلک لثمن ثلاثة قناطیر زجاج و فراخها اثنا عشر دینارا و نصف و ربع دینار، و من ذلک لثمن عود هندیّ للبخور فی شهر رمضان و أیام الجمع مع ثمن الکافور و المسک، و أجرة الصانع خمسة عشر دینارا، و من ذلک لنصف قنطار شمع بالفلفلیّ سبعة دنانیر، و من ذلک لکنس هذا الجامع و نقل التراب و خیاطة الحصر و ثمن الخیط و أجرة الخیاطة خمسة دنانیر، و من ذلک لثمن مشاقة لسرج القنادیل عن خمسة و عشرین رطلا بالرطل الفلفلیّ دینار واحد، و من ذلک لثمن فحم للبخور عن قنطار واحد بالفلفلیّ نصف دینار، و من ذلک لثمن أردبین ملحقا للقنادیل ربع دینار، و من ذلک ما قدّر لمؤنة النحاس و السلاسل و التنانیر و القباب التی فوق سطح الجامع أربعة و عشرون دینارا، و من ذلک لثمن سلب لیف و أربعة أحبل و ست دلاء أدم نصف دینار، و من ذلک لثمن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 54
قنطارین خرقا لمسح القنادیل نصف دینار، و من ذلک لثمن عشر قفاف للخدمة و عشرة أرطال قنب لتعلیق القنادیل و لثمن مائتین مکنسة لکنس هذا الجامع دینار واحد و ربع دینار، و من ذلک لثمن أزیار فخار تنصب علی المصنع و یصبّ فیها الماء مع الجرة حملها ثلاثة دنانیر، و من ذلک لثمن زیت وقود هذا الجامع راتب السنة ألف رطل و مائتا رطل مع أجرة الحمل سبعة و ثلاثون دینارا و نصف، و من ذلک لأرزاق المصلین یعنی الأئمة و هم ثلاثة و أربعة قومة و مسة عشر مؤذنا خمسمائة دینار و ستة و خمسون دینارا و نصف، منها للمصلین لکلّ رجل منهم دیناران و ثلثا دینار و ثمن دینار فی کلّ شهر من شهور السنة، و المؤذنون و القومة لکلّ رجل منهم دیناران فی کلّ شهر، و من ذلک للمشرف علی هذا الجامع فی کلّ سنة أربعة و عشرون دینارا، و من ذلک لکنس المصنع بهذا الجامع و نقل ما یخرج منه من الطین و الوسخ دینار واحد، و من ذلک لمرمّة ما یحتاج إلیه فی هذا الجامع فی سطحه و أترابه و حیاطته و غیر ذلک مما قدّر لکلّ سنة ستون دینارا، و من ذلک لثمن مائة و ثمانین حمل تبن و نصف حمل جاریة لعلف رأسی بقر للمصنع الذی لهذا الجامع ثمانیة دنانیر و نصف و ثلث دینار، و من ذلک للتبن لمخزن یوضع فیه بالقاهرة أربعة دنانیر، و من ذلک لثمن فدّانین قرط لتربیع رأسی البقر المذکورین فی النة سبعة دنانیر، و من ذلک لأجرة متولی العلف و أجرة السقاء و الحبال و القوادیس و ما یجری مجری ذلک خمسة عشر دینارا و نصف، و من ذلک لأجرة قیم المیضأة إن عملت بهذا الجامع اننا عشر دینارا. و إلی هنا انقضی حدیث الجامع الأزهر، و أخذ فی ذکر جامع راشدة و دار العلم و جامع المقس، ثم ذکر أن تنانیر الفضة ثلاثة تنانیر، و تسعة و ثلاثون قندیلا فضة، فللجامع الأزهر تنوران و سبعة و عشرون قندیلا، و منها لجامع راشدة تنور و اثنا عشر قندیلا، و شرط أن تعلق فی شهر رمضان و تعاد إلی مکان جرت عادتها أن تحفظ به، و شرط شروطا کثیرة فی الأوقاف منها: أنه إذا فضل شی‌ء و اجتمع یشتری به ملک، فإن عاز شیئا و استهدم و لم یف الریع بعمارته بیع و عمر به، و أشیاء کثیرة، و حبس فیه أیضا عدّة آدر و قیاسر لا فائدة فی ذکرها، فإنها مما خربت بمصر.
قال ابن عبد الظاهر عن هذا الکتاب: و رأیت منه نسخة، و انتقلت إلی قاضی القضاة تقیّ الدین بن رزین، و کان بصدر هذا الجامع فی محرابه منطقة فضة، کما کان فی محراب جامع عمرو بن العاص بمصر، قلع ذلک صلاح الدین یوسف بن أیوب فی حادی عشر ربیع الأوّل سنة تسع و ستین و خمسمائة، لأنه کان فیها انتهاء خلفاء الفاطمیین، فجاء وزنها خمسة آلاف درهم نقرة، و قلع أیضا المناطق من بقیة الجوامع. ثم أن المستنصر جدّد هذا الجامع أیضا، و جدّده الحافظ لدین اللّه، و أنشأ فیه مقصورة لطیفة تجاور الباب الغربیّ الذی فی مقدّم الجامع بداخل الرواقات، عرفت بمقصورة فاطمة، من أجل أن فاطمة الزهراء رضی اللّه تعالی عنها رؤیت بها فی المنام، ثم أنه جدّد فی أیام الملک الظاهر بیبرس البندقداریّ.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 55
قال القاضی محی الدین بن عبد الظاهر فی کتاب سیرة الملک الظاهر: لما کان یوم الجمعة الثامن عشر من ربیع الأوّل سنة خمس و ستین و ستمائة، أقیمت الجمعة بالجامع الأزهر بالقاهرة، و سبب ذلک أن الأمیر عز الدین أیدمر الحلیّ کان جار هذا الجامع من مدّة سنین، فرعی وفقه اللّه حرمة الجار، و رأی أن یکون کما هو جاره فی دار الدنیا، أنه غدا یکون ثوابه جاره فی تلک الدار، و رسم بالنظر فی أمره و انتزع له أشیاء مغصوبة کان شی‌ء منها فی أیدی جماعة، و حاط أموره حتی جمع له شیئا صالحا، و جری الحدیث فی ذلک، فتبرّع الأمیر عز الدین له بجملة مستکثرة من المال الجزیل، و أطلق له من السلطان جملة من المال، و شرع فی عمارته فعمّر الواهی من أرکانه و جدارنه و بیّضه و أصلح سقوفه و بلطه و فرشه و کساه، حتی عاد حرما فی وسط المدینة، و استجدّ به مقصورة حسنة، و آثر فیه آثارا صالحة یثیبه اللّه علیها، و عمل الأمیر بیلبک الخازندار فیه مقصورة کبیرة رتب فیها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه علی مذهب الإمام الشافعیّ رحمه اللّه، و رتب فی هذه المقصورة محدّثا یسمع الحدیث النبویّ و الرقائق، و وقف علی ذلک الأوقاف الدارّ، و رتب به سبعة لقراءة القرآن، و رتب به مدرّسا أثابه اللّه علی ذلک. و لما تکمّل تجدیده تحدّث فی إقامة جمعة فیه، فنودی فی المدینة بذلک، و استخدم له الفقیه زین الدین خطیبا، و أقیمت الجمعة فیه فی الیوم المذکور، و حضر الأتابک فارس الدین، و الصاحب بها الدین علیّ بن حنا، و ولده الصاحب فخر الدین محمد، و جماعة من الأمراء و الکبراء، و أصناف العالم علی اختلافهم، و کان یوم جمعة مشهودا، و لما فرغ من الجمعة جلس الأمیر عز الدین الحلیّ و الأتابک و الصاحب و قری‌ء القرآن و دعی للسلطان، و قام الأمیر عز الدین و دخل إلی داره و دخل معه الأمراء، فقدّم لهم کلّ ما تشتهی الأنفس و تلذ الأعین، و انفصلوا، و کان قد جری الحدیث فی أمر جواز الجمعة فی الجامع و ما ورد فیه. من أقاویل العلماء، و کتب فیها فتیا أخذ فیها خطوط العلماء بجواز الجمعة فی هذا الجامع و إقامتها، فکتب جماعة خطوطهم فیها، و أقیمت صلاة الجمعة به و استمرّت، و وجد الناس به رفقا و راحة لقربه من الحارات البعیدة من الجامع الحاکمیّ.
قال و کان سقف هذا الجامع قد بنی قصیرا فزید فیه بعد ذلک و علی ذراعا، و استمرّت الخطبة فیه حتی بنی الجامع الحاکمیّ، فانتقلت الخطبة إلیه، فإن الخلیفة کان یخطب فیه خطبة و فی الجامع الأزهر خطبة، و فی جامع ابن طولون خطبة، و فی جامع مصر خطبة، و انقطعت الخطبة من الجامع الأزهر لما استبدّ السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب بالسلطنة، فإنه قلد وظیفة القضاء لقاضی القضاة صدر الدین عبد الملک بن درباس، فعمل بمقتضی مذهبه، و هو امتناع إقامة الخطبتین للجمعة فی بلد واحد کما هو مذهب الإمام الشافعیّ، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر و أقرّ الخطبة بالجامع الحاکمیّ من أجل أنه أوسع. فلم یزل الجامع الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فیه مائة عام، من حین استولی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 56
السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، إلی أن أعیدت الخطبة فی أیام الملک الظاهر بیبرس کما تقدّم ذکره. ثم لما کانت الزلزلة بدیار مصر فی ذی الحجة سنة اثنتین و سبعمائة، سقط الجامع الأزهر و الجامع الحاکمیّ و جامع مصر و غیره، فتقاسم أمراء الدولة عمارة الجوامع، فتولی الأمیر رکن الدین بیبرس الجاشنکیر عمارة الجامع الحاکمیّ، و تولی الأمیر سلار عمارة الجامع الأزهر، و تولی الأمیر سیف الدین بکتمر الجوکندار عمارة جامع الصالح، فجدّدوا مبانیها و أعادوا ما تهدّم منها. ثم جدّدت عمارة الجامع الأزهر علی ید القاضی نجم الدین محمد بن حسین بن علیّ الأسعردیّ، محتسب القاهرة، فی سنة خمس و عشرین و سبعمائة. ثم جدّدت عمارته فی سنة إحدی و ستین و سبعمائة، عند ما سکن الأمیر الطواشی سعد الدین بشیر الجامدار الناصریّ، فی دار الأمیر فخر الدین أبان الزاهدیّ الصالحیّ النجمیّ بخط الأبارین بجوار الجامع الأزهر، بعد ما هدمها و عمرها داره التی تعرف هناک إلی الیوم بدار بشیر الجامدار، فأحب لقربه من الجامع أن یؤثر فیه أثرا صالحا، فاستأذن السلطان الملک الناصر حسن بن محمد بن قلاون فی عمارة الجامع، و کان أثیرا عنده خصیصا به، فأذن له فی ذلک.
و کان قد استجدّ بالجامع عدّة مقاصیر و وضعت فیه صنادیق و خزائن حتی ضیقته، فأخرج الخزائن و الصنادیق و نزع تلک المقاصیر، و تتبع جدرانه و سقوفه بالإصلاح حتی عادت کأنها جدیدة، و بیّض الجامع کله و بلطه، و منع الناس من المرور فیه، و رتب فیه مصحفا و جعل له قارئا، و أنشأ علی باب الجامع القبلیّ حانوتا لتسبیل الماء العذب فی کلّ یوم، و عمل فوقه مکتب سبیل لإقراء أیتام المسلمین کتاب اللّه العزیز، و رتب للفقراء المجاورین طعاما یطبخ کلّ یوم، و أنزل إلیه قدورا من نحاس جعلها فیه، و رتب فیه درسا للفقهاء من الحنفیة یجلس مدرّسهم لإلقاء الفقه فی المحراب الکبیر، و وقف علی ذلک أوقافا جلیلة باقیة إلی یومنا هذا، و مؤذنو الجامع یدعون فی کلّ جمعة و بعد کلّ صلاة للسلطان حسن إلی هذا الوقت الذی نحن فیه.
و فی سنة أربع و ثمانین و سبعمائة ولی الأمیر الطواشی بهادر المقدّم علی الممالیک السلطانیة نظر الجامع الأزهر، فتنجز مرسوم السلطان الملک الظاهر برقوق بأنّ من مات من مجاوری الجامع الأزهر عن غیر وارث شرعیّ و ترک موجودا فإنه یأخذه المجاورون بالجامع، و نقش ذلک علی حجر عند الباب الکبیر البحریّ. و فی سنة ثمانمائة هدمت منارة الجامع، و کانت قصیرة، و عمّرت أطول منها، فبلغت النفقة علیها من مال السلطان خمسة عشر ألف درهم نقرة، و کملت فی ربیع الآخر من السنة المذکورة، فعلّقت القنادیل فیها لیلة الجمعة من هذا الشهر، و أوقدت حتی اشتعل الضوء من أعلاها إلی أسفلها، و اجتمع القرّاء و الوعاظ بالجامع و تلوا ختمة شریفة، و دعوا للسلطان فلم تزل هذه المئذنة إلی شوّال سنة سبع عشرة و ثمانمائة، فهدمت لمیل ظهر فیها، و عمل بدلها منارة من حجر علی باب الجامع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 57
البحریّ، بعد ما هدم الباب و أعید بناؤه بالحجر، و رکبت المنارة فوق عقده، و أخذ الحجر لها من مدرسة الملک الأشرف خلیل التی کانت تجاه قلعة الجبل، و هدمها الملک الناصر فرج بن برقوق، و قام بعمارة ذلک الأمیر تاج الدین التاج الشوبکیّ والی القاهرة و محتسبها، إلی أن تمت فی جمادی الآخرة سنة ثمان عشرة و ثمانمائة، فلم تقم غیر قلیل و مالت حتی کادت تسقط، فهدمت فی صفر سنة سبع و عشرین، و أعیدت. و فی شوّال منها ابتدئ بعمل الصهریج الذی بوسط الجامع، فوجد هناک آثار فسقیة ماء، و وجد أیضا رمم أموات، و تمّ بناؤه فی ربیع الأوّل، و عمل بأعلاه مکان مرتفع له قبة یسبل فیه الماء، و غرس بصحن الجامع أربع شجرات، فلم تفلح و ماتت، و لم یکن لهذا الجامع میضأة عندما بنی، ثم عملت میضأته حیث المدرسة الأقبغاویة إلی أن بنی الأمیر أقبغا عبد الواحد مدرسته المعروفة بالمدرسة الأقبغاویة هناک، و أما هذه المیضأة التی بالجامع الآن فإن الأمیر بدر الدین جنکل بن البابا بناها، ثم زید فیها بعد سنة عشر و ثمانمائة میضأة المدرسة الأقبغاویة.
و فی سنة ثمان عشرة و ثمانمائة ولی نظر هذا الجامع الأمیر سودوب القاضی حاجب الحجاب، فجرت فی أیام نظره حوادث لم یتفق مثلها، و ذلک أنه لم یزل فی هذا الجامع منذ بنی عدّة من الفقراء یلازمون الإقامة فیه، و بلغت عدّتهم فی هذه الأیام سبعمائة و خمسین رجلا ما بین عجم و زیالعة، و من أهل ریف مصر و مغاربة، و لکلّ طائفة رواق یعرف بهم، فلا یزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن و دراسته و تلقینه و الاشتغال بأنواع العلوم الفقه و الحدیث و التفسیر و النحو، و مجالس الوعظ و حلق الذکر، فیجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الإنس بالله و الارتیاح و ترویح النفس ما لا یجده فی غیره، و صار أرباب الأموال یقصدون هذا الجامع بأنواع البرّ من الذهب و الفضة و الفلوس إعانة للمجاورین فیه علی عبادة اللّه تعالی، و کلّ قلیل تحمل إلیهم أنواع الأطعمة و الخبز و الحلاوات، لا سیما فی المواسم. فأمر فی جمادی الأولی من هذه السنة بإخراج المجاورین من الجامع و منعهم من الإقامة فیه، و إخراج ما کان لهم فیه من صنادیق و خزائن و کراسی المصاحف، زعما منه أن هذا العمل مما یثاب علیه، و ما کان إلّا من أعظم الذنوب و أکثرها ضررا، فإنه حلّ بالفقراء بلاء کبیر من تشتت شملهم و تعذر الأماکن علیهم، فساروا فی القری و تبذلوا بعد الصیانة، و فقد من الجامع أکثر ما کان فیه من تلاوة القرآن و دراسة العلم و ذکر اللّه، ثم لم یرضه ذلک حتی زاد فی التعدّی، و أشاع أن أناسا یبیتون بالجامع و یفعلون فیه منکرات، و کانت العادة قد جرت بمبیت کثیر من الناس فی الجامع ما بین تاجر و فقیه و جندیّ و غیرهم، منهم من یقصد بمبیته البرکة، و منهم من لا یجد مکانا یأویه، و منهم من یستروح بمبیته هناک خصوصا فی لیالی الصیف و لیالی شهر رمضان، فإنه یمتلئ صحنه و أکثر رواقاته. فلما کانت لیلة الأحد الحادی عشر من جمادی الآخرة، طرق الأمیر سودوب الجامع بعد العشاء الآخرة و الوقت صیف، و قبض علی جماعة و ضربهم فی الجامع، و کان قد جاء معه من الأعوان و الغلمان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 58
و غوغاء العامّة و من یرید النهب جماعة، فحلّ بمن کان فی الجامع أنواع البلاء، و وقع فیهم النهب، فأخذت فرشهم و عمائمهم، و فتشت أوساطهم و سلبوا ما کان مربوطا علیها من ذهب و فضة، و عمل ثوبا أسود للمنبر و علمین مزوّقین، بلغت النفقة علی ذلک خمسة عشر ألف درهم، علی ما بلغنی، فعاجل اللّه الأمیر سودوب و قبض علیه السلطان فی شهر رمضان و سجنه بدمشق.

جامع الحاکم

هذا الجامع بنی خارج باب الفتوح، أحد أبواب القاهرة، و أوّل من أسسه أمیر المؤمنین العزیز بالله نزار بن المعز لدین اللّه معدّ، و خطب فیه و صلّی بالناس الجمعة، ثم أکمله ابنه الحاکم بأمر اللّه. فما وسّع أمیر الجیوش بدر الجمالیّ القاهرة و جعل أبوابها حیث هی الیوم، صار جامع الحاکم داخل القاهرة، و کان یعرف أوّلا بجامع الخطبة، و یعرف الیوم بجامع الحاکم، و یقال له الجامع الأنور.
قال الأمیر مختار عز الملک محمد بن عبید اللّه بن أحمد المسبحیّ فی تاریخ مصر:
و فیه یعنی شهر رمضان، سنة ثمانین و ثلاثمائة خط أساس الجامع الجدید بالقاهرة مما یلی باب الفتوح من خارجه، و بدی‌ء بالبناء فیه، و تحلق فیه الفقهاء الذین یتحلقون فی جامع القاهرة، یعنی الجامع الأزهر، و خطب فیه العزیز بالله. و قال فی حوادث سنة إحدی و ثمانین و ثلاثمائة لأربع خلون من شهر رمضان، صلّی العزیز بالله فی جامعه صلاة الجمعة، و خطب، و کان فی مسیره بین یدیه أکثر من ثلاثة آلاف، و علیه طیلسان و بیده القضیب، و فی رجله الحذاء. و رکب لصلاة الجمعة فی رمضان سنة ثلاث و ثمانین و ثلاثمائة إلی جامعه و معه ابنه منصور، فجعلت المظلة علی منصور و سار العزیز بغیر مظلة.
و قال فی حوادث سنة ثلاث و تسعین و ثلاثمائة: و أمر الحاکم بأمر اللّه أن یتم بناء الجامع الذی کان الوزیر یعقوب بن کلس بدأ فی بنیانه عند باب الفتوح، فقدّر للنفقة علیه أربعون ألف دینار، فابتدی‌ء فی العمل فیه. و فی صفر سنة إحدی و أربعمائة زید فی منارة جامع باب الفتوح، و عمل لها أرکان طول کلّ رکن مائة ذراع، و فی سنة ثلاث و أربعمائة أمر الحاکم بأمر اللّه بعمل تقدیر ما یحتاج إلیه جامع باب الفتوح من الحصر و القنادیل و السلاسل، فکان تکسیر ما ذرع للحصر ستة و ثلاثین ألف ذراع، فبلغت النفقة علی ذلک خمسة آلاف دینار.
قال: و تمّ بناء الجامع الجدید بباب الفتوح، و علّق علی سائر أبوابه ستور دیبقیة عملت له، و علّق فیه تنانیر فضة عدّتها أربع، و کثیر من قنادیل فضة، و فرش جمیعه بالحصر التی عملت له، و نصب فیه المنبر و تکامل فرشه و تعلیقه، و أذن فی لیلة الجمعة سادس شهر رمضان سنة ثلاث و أربعمائة لمن بات فی الجامع الأزهر أن یمضوا إلیه، فمضوا. و صار
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 59
الناس طول لیلتهم یمشون من کلّ واحد من الجامعین إلی الآخر بغیر مانع لهم، و لا اعتراض من أحد من عسس القصر، و لا أصحاب الطوف إلی الصبح. و صلّی فیه الحاکم بأمر اللّه بالناس صلاة الجمعة، و هی أوّل صلاة أقیمت فیه بعد فراغه. و فی ذی القعدة سنة أربع و أربعمائة حبس الحاکم عدّة قیاسر و أملاک علی الجامع الحاکمیّ بباب الفتوح. قال ابن عبد الظاهر: و علی باب الجامع الحاکمیّ مکتوب أنّه أمر بعمله الحاکم أبو علیّ المنصور فی سنة ثلاث و تسعین و ثلاثمائة، و علی منبره مکتوب أنه أمر بعمل هذا المنبر للجامع الحاکمیّ المنشأ بظاهر باب الفتوح فی سنة ثلاث و أربعمائة، و رأیت فی سیرة الحاکم، و فی یوم الجمعة أقیمت الجمعة فی الجامع الذی کان الوزیر أنشأه بباب الفتوح. و رأیت فی سیرة الوزیر المذکور، فی یوم الأحد عاشر رمضان سنة تسع و سبعین و ثلاثمائة خط أساس الجامع الجدید بالقاهرة خارج الطابیة مما یلی باب الفتوح. قال: و کان هذا الجامع خارج القاهرة، فجدّد بعد ذلک باب الفتوح، و علی البدنة التی تجاور باب الفتوح و بعض البرج مکتوب: إنّ ذلک بنی سنة ثلاثین و أربعمائة فی زمن المستنصر بالله، و وزارة أمیر الجیوش، فیکون بینهما سبع و ثمانون سنة. قال: و الفسقیة وسط الجامع بناها الصاحب عبد اللّه بن علیّ بن شکر و أجری الماء إلیها، و أزالها القاضی تاج الدین بن شکر، و هو قاضی القضاة فی سنة ستین و ستمائة، و الزیادة التی إلی جانبه قیل إنها بناء ولده الظاهر علیّ و لم یکملها، و کان قد حبس فیها الفرنج فعملوا فیها کنائس، هدمها الملک الناصر صلاح الدین، و کان قد تغلب علیها و بنیت إصطبلات. و بلغنی أنها کانت فی الأیام المتقدّمة قد جعلت أهراء للغلال.
فلما کان فی الأیام الصالحیة و وزارة معین الدین حسن بن شیخ الشیوخ للملک الصالح أیوب ولد الکامل، ثبت عند الحاکم أنها من الجامع، و أن بها محرابا، فانتزعت و أخرج الخیل منها و بنی فیها ما هو الآن فی الأیام المعزیة علی ید الرکن الصیرفیّ، و لم یسقف. ثم جدّد هذا الجامع فی سنة ثلاث و سبعمائة. و ذلک أنه لما کان یوم الخمیس ثالث عشری ذی الحجة سنة اثنتین و سبعمائة، تزلزلت أرض مصر و القاهرة و أعمالهما و رجل کلّ ما علیهما و اهتز، و سمع للحیطان قعقعة، و للسقوف قرقعة، و مارت الأرض بما علیها و خرجت عن مکانها، و تخیل الناس أن السماء قد انطبقت علی الأرض، فهربوا من أماکنهم و خرجوا عن مساکنهم، و برزت النساء حاسرات، و کثر الصراخ و العویل، و انتشرت الخلائق فلم یقدر أحد علی السکون و القرار لکثرة ما سقط من الحیطان، و خرّ من السقوف و المآذن و غیر ذلک من الأبنیة، و فاض ماء النیل فیضا غیر المعتاد، و ألقی ما کان علیه من المراکب التی بالساحل قدر رمیة سهم، و انحسر عنها فصارت علی الأرض بغیر ماء، و اجتمع العالم فی الصحراء خارج القاهرة و باتوا ظاهر باب البحر بحرمهم و أولادهم فی الخیم، و خلت المدینة و تشعثت جمیع البیوت حتی لم یسلم و لا بیت من سقوط أو تسقط أو میل، و قام الناس فی الجوامع یبتهلون و یسألون اللّه سبحانه طول یوم الخمیس و لیلة الجمعة و یوم الجمعة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 60
فکان مما تهدّم فی هذه الزلزلة: الجامع الحاکمیّ، فإنه سقط کثیر من البدنات التی فیه، و خرب أعالی المئذنتین، و تشعثت سقوفه و جدرانه، فانتدب لذلک الأمیر رکن الدین بیبرس الجاشنکیر و نزل إلیه و معه القضاة و الأمراء، فکشفه بنفسه و أمر برمّ ما تهدّم منه، و إعادة ما سقط من البدنات. فأعیدت و فی کلّ بدنة منها طاق، و أقام سقوف الجامع و بیّضه حتی عاد جدیدا، و جعل له عدّة أوقاف بناحیة الجیزة و فی الصعید و فی الإسکندریة، تغلّ کلّ سنة شیئا کثیرا، و رتب فیه دروسا أربعة لإقراء الفقه علی مذاهب الأئمة الأربعة، و درسا لإقراء الحدیث النبویّ، و جعل لکل درس مدرّسا و عدة کثیرة من الطلبة، فرتّب فی تدریس الشافعیة قاضی القضاة بدر الدین محمد بن جماعة الشافعیّ، و فی تدریس الحنفیة قاضی القضاة شمس الدین أحمد السروجیّ الحنفیّ، و فی تدریس المالکیة قاضی القضاة زین الدین علیّ بن مخلوف المالکیّ، و فی تدریس الحنابلة قاضی القضاة شرف الدین الجوّانیّ، و فی درس الحدیث الشیخ سعد الدین مسعودا الحارثیّ، و فی درس النحو الشیخ أثیر الدین أبا حیان، و فی درس القراءات السبع الشیخ نور الدین الشطنوفیّ، و فی التصدیر لإفادة العلوم علاء الدین علیّ بن إسماعیل القونویّ، و فی مشیخة المیعاد المجد عیسی بن الخشاب، و عمل فیه خزانة کتب جلیلة، و جعل فیه عدّة متصدّرین لتلقین القرآن الکریم، و عدّة قرّاء یتناوبون قراءة القرآن، و معلما یقرئ أیتام المسلمین کتاب اللّه عز و جلّ، و حفر فیه صهریجا بصحن الجامع لیملأ فی کل سنة من ماء النیل، و یسبل منه الماء فی کلّ یوم و یستقی منه الناس یوم الجمعة، و أجری علی جمیع من قرّره فیه معالیم داره، و هذه الأوقاف باقیة إلی الیوم، إلّا أن أحوالها اختلت کما اختلّ غیرها، فکان ما أنفق علیه زیادة علی أربعین ألف دینار.
و جری فی بنائه لهذا الجامع أمر یتعجب منه، و هو ما حدّثنی به شیخنا الشیخ المعروف المسند المعمر أبو عبد اللّه محمد بن ضرغام بن شکر المقری بمکة، فی سنة سبع و ثمانین و سبعمائة قال: أخبرنی من حضر عمارة الأمیر بیبرس للجامع الحاکمیّ عند سقوطه فی سنة الزلزلة، أنّه لما شرع البناة فی ترمیم ما و هی من المئذنة التی هی من جهة باب الفتوح، ظهر لهم صندوق فی تضاعیف البنیان، فأخرجه الموکل بالعمارة و فتحه، فإذا فیه قطن ملفوف علی کف إنسان بزنده و علیه أسطر مکتوبة لم یدر ما هی، و الکف طریة کأنها قریبة عهد بالقطع، ثم رأیت هذه الحکایة بخط مؤلف السیرة الناصریة موسی بن محمد بن یحیی، أحد مقدّمی الحلقة. ثم جدّد هذا الجامع و بلط جمیعه فی أیام الملک الناصر حسن بن محمد بن قلاون فی ولایته الثانیة، علی ید الشیخ قطب الدین محمد الهرماس فی سنة ستین و سبعمائة، و وقف قطعة أرض علی الهرماس و أولاده، و علی زیادة فی معلوم الإمام بالجامع، و علی ما یحتاج إلیه فی زیت الوقود و مرمّة فی سقفه و جدرانه، و جری فی عمارة الجامع علی ید الهرماس ما حدّثنی به الشیخ المعمر شمس الدین محمد بن علیّ إمام
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 61
الجامع الطیبرسیّ بشاطئ النیل، قال: أخبرنی محمد بن عمر البوصیریّ قال: حدّثنا قطب الدین محمد الهرماس، أنه رأی بالجامع الحاکمیّ حجرا ظهر من مکان قد سقط منقوش علیه هذه الأبیات الخمسة:
إنّ الذی أسررت مکنون اسمه‌و کتمته کیما أفوز بوصله
مال له جذر تساوی فی الهجاطرفاه یضرب بعضه فی مثله
فیصیر ذاک المال إلّا أنّه‌فی النصف منه تصاب أحرف کله
و إذا نطقت بربعه متکلمامن بعد أوّله نطقت بکله
لا نقط فیه إذا تکامل عدّه‌فیصیر منقوطا بجملة شکله
قال و هذه الأبیات لغز فی الحجر المکرّم.
و قال العلامة شمس الدین محمد بن النقاش فی کتاب العبر فی أخبار من مضی و غبر:
و فی هذه السنة، یعنی سنة إحدی و ستین و سبعمائة، صودر الهرماس و هدمت داره التی بناها أمام الجامع الحاکمیّ، و ضرب و نفی هو و ولده. فلما کان یوم الثلاثاء التاسع و العشرون من ذی القعدة استفتی السلطان الملک الناصر حسن بن محمد بن قلاون فی وقف حصة طندتا، و هی الأرض التی کان قد سأله الهرماس أن یقفها علی مصالح الجامع الحاکمیّ فعین له خمسمائة و ستین فدّانا من طین طندتا، و طلب الموقعین و أمرهم أن یکتبوا صورة وقفها و یحضروه لیشهدوا علیه به، و کان قد تقرّر من شروطه فی أوقافه ما قیل أنه روایة عن أبی حنیفة رحمة اللّه تعالی علیه، من أنّ للواقف أن یشترط فی وقفه التغییر و الزیادة و النقص و غیر ذلک، فأحضر الکرکیّ الموقع إلیه الکتاب مطویا، فقرأ منه طرّته و خطبته و أوّله، ثم طواه و أعاده إلیه مطویا و قال: اشهدوا بما فیه دون قراءة و تأمل، فشهدوا هم بالتفصیل الذی کتبوه و قرّروه مع الهرماس، و لما اطلع السلطان علی ذلک بعد نفی الهرماس طلب الکرکیّ و سأله عن هذه الواقعة فأجاب بما قد ذکرنا و اللّه أعلم بصحة ذلک. غیر أن المعلوم المقرّر أن السلطان ما قصد إلّا مصالح الجامع، نعم سأله أزدمر الخازندار، هل وقفت حصة لطیفة علی أولاد الهرماس فإنه قد ذکر ذلک؟ فقال: نعم أنا وقفت علیهم جزأ یسیرا لم أعلم مقداره، و أما التفصیل المذکور فی کتاب الوقف فلم أتحققه و لم أطلع علیه، فاستفتی المفتین فی هذه الواقعة، فأمّا المفتون کابن عقیل و ابن السبکیّ و البلقینیّ و البسطامیّ و الهندیّ و ابن شیخ الجبل و البغدادیّ و نحوهم، فأجابوا ببطلان الحکم المترتب علی هذه الشهادة الباطلة، و بطلان التنفیذ، و کان الحنفیّ حکم و البقیة نفذوا، و أما الحنفیّ فقال: إنّ الوقف إذا صدر صحیحا علی الأوضاع الشرعیة فإنه لا یبطل بما قاله الشاهد، و هو جواب عن نفس الواقعة، و أما الشافعیّ فکتب ما مضمونه: إنّ الحنفیّ إن اقتضی مذهبه بطلان ما صححه أوّلا نفذ بطلانه، و حاصل ذلک أن القضاة أجابوا بالصحة، و المفتین أجابوا بالبطلان. فطلب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 62
السلطان المفتین و القضاة، فلم یحضر من الحکام غیر نائب الشافعیّ، و هو تاج الدین محمد بن إسحاق بن المناویّ، و القضاة الثلاثة الشافعیّ و الحنفیّ و الحنبلیّ و جدوا مرضی لم یمکنهم الحضور إلی سریاقوس، فإن السلطان کان قد سرح إلیها علی العادة فی کلّ سنة، فجمعهم السلطان فی برج من القصر الذی بمیدان سریاقوس عشاء الآخرة، و ذکر لهم القضیة و سألهم عن حکم اللّه تعالی فی الواقعة. فأجاب الجمیع بالبطلان، غیر المناوی فإنه قال:
مذهب أبی حنیفة أن الشهادة الباطلة إذا اتصل بها الحکم صح و لزم. فصرخت علیه المفتون شافعیهم و حنفیهم. أمّا شافعیهم فإنه قال: لیس هذا مذهبک و لا مذهب الجمهور، و لا هو الراجح فی الدلیل و النظر. و قال له ابن عقیل: هذا مما ینقض به الحکم لو حکم به حاکم و ادّعی قیام الإجماع علی ذلک. و قال له سراج الدین البلقینیّ: لیس هذا مذهب أبی حنیفة، و مذهبه فی العقود و الفسوخ ما ذکرت من أن حکم الحاکم یکون هو المعتمد فی التحلیل و التحریم، و أمّا الأوقاف و نحوها فحکم الحاکم فیها لا أثر له کمذهب الشافعیّ، و ادّعوا أن الإجماع قائم علی ذلک، و قاموا علی المناویّ فی ذلک قومة عظیمة فقال: نحن نحکم بالظاهر. فقالوا له: ما لم یظهر الباطن بخلافه. فقال: قال النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم: نحن نحکم بالظاهر. قالوا هذا الحدیث کذب علی النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و إنما الحدیث الصحیح حدیث: «إنما أنا بشر، و لعل بعضکم أن یکون ألحن بحجته من بعض الحدیث» قال المناویّ: الأحکام ما هی بالفتاوی. قالوا له: فبماذا تکون؟ أفی الوجود حکم شرعیّ بغیر فتوی من اللّه و رسوله؟ و کان قد قال فی مجلس ابن الدریهم: القائم علی نفیس الیهودیّ المدعوّ برأس الجالوت بین الیهود لا یلتفت لقول المفتی. فقیل له: فی هذا المجلس ها أنت قد قلت مرّتین أنّ المفتین لا یعتبر قولهم، و أنّ الفتاوی لا یعتدّ بها، و قد أخطأت فی ذلک أشدّ الخطأ، و أنبأت عن غایة الجهل، فإن منصب الفتوی أوّل من قام به ربّ العالمین إذ قال فی کتابه المبین:
یَسْتَفْتُونَکَ قُلِ اللَّهُ یُفْتِیکُمْ فِی الْکَلالَةِ [النساء/ 176] و قال یوسف علیه السّلام:
قُضِیَ الْأَمْرُ الَّذِی فِیهِ تَسْتَفْتِیانِ [یوسف/ 41] و قال النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم لعائشة رضی اللّه عنها: «قد أفتانی اللّه ربی فیما استفتیته» و کلّ حکم جاء علی سؤال سائل تکفل ببیانه قرآن أو سنة فهو فتوی، و القائم به مفت، فکیف تقول لا یلتفت إلی الفتوی أو إلی المفتین؟ فقال سراج الدین الهندیّ و غیره: هذا کفر، و مذهب أبی حنیفة أن من استخف بالفتوی أو المفتین فهو کافر، فاستدرک نفسه بعد ذلک و قال: لم أرد إلّا أنّ الفتوی إذا خالف المذهب فهی باطلة. قالوا له: و أخطأت فی ذلک أیضا، لأنّ الفتوی قد تخالف المذهب المعین و لا تخالف الحق فی نفس الأمر. قال: فأردت بالفتوی التی تخالف الحقّ. قالوا: فأطلقت فی موضع التقیید و ذلک خطأ. فقال السلطان حینئذ: فإذا قدّر هذا و ادّعیت أن الفتوی لا أثر لها، فنبطل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 63
المفتین و الفتوی من الوجود. فتلکأ و حار و قال: کیف أعمل فی هذا؟ فتبین لبعض الحاضرین أنه استشکل المسألة، و لم یتبین له وجهها. فقال: لا شک أنّ مولانا السلطان لم ینکر صدور الوقف، و إنما أنکر المصارف، و أن تکون الجهة التی عینها هی هرماس و شهوده و قضاته، و للسلطان أن یحکم فیها بعلمه، و یبطل ما قرّروه من عند أنفسهم. قال: کیف یحکم لنفسه؟ قیل له: لیس هذا حکما لنفسه، لأنه مقرّ بأصل الوقف، و هو للمستحقین لیس له فیه شی‌ء، و إنما بطل وصف الوقف، و هو المصرف الذی قرّر علی غیر جهة الوقف، و له أن یوقع الشهادة علی نفسه بحکم أن مصرّف هذا الوقف الجهة الفلانیة دون الفلانیة.
و لم یزالوا یذکرون له أوجها تبین بطلان الوقف إمّا بأصله أو بوصفه إلی أن قال: یبطل بوصفه دون أصله، و أذعن لذلک بعد إتعاب من العلماء. و إزعاج شدید من السلطان فی بیان وجوه ذکروها تبین وجه الحق، و أنه إنما وقفه علی مصالح الجامع المذکور. و هذا مما لا یشک فیه عاقل و لا یرتاب. فالتفت بعد ذلک و قال للحاضرین: کیف نعمل فی إبطاله؟
فقالوا: بما قرّرناه من إشهاد السلطان علی نفسه بتفصیل صحیح، و أنه لم یزل کذلک منذ صدر منه الوقف إلی هذا الحدّ، و غیر ذلک من الوجوه. فجعل یوهم السلطان أن الشهود الذین شهدوا فی هذا الوقف متی بطل هذا الوقف ثبت علیهم التساهل و جرحوا بذلک، و قدح ذلک فی عدالتهم، و متی جرحوا الآن لزم بطلان شهادتهم فی الأوقاف المتقدّمة علی هذا التاریخ، و خیل بذلک للسلطان حتی ذکر له إجماع المسلمین علی أن جرح الشاهد لا ینعطف علی ما مضی من شهاداته السالفة و لو کفر، و العیاذ بالله، و هذا مما لا خلاف فیه.
ثم استقرّ رأیه علی أن یبطله بشاهدین یشهدان أن السلطان لمّا صدر منه هذا الوقف کان قد اشترط لنفسه التغییر و التبدیل و الزیادة و النقص و قام علی ذلک.
قال مؤلفه رحمه اللّه: انظر تثبت القضاة، و قایس بین هذه الواقعة و ما کان من تثبت القاضی تاج الدین المناوی، و هو یومئذ خلیفة الحکم و مصادمته الجبال، و بین ما ستقف علیه من التساهل و التناقض فی خبر أوقاف مدرسة جمال الدین یوسف الأستادار، و میّز بعقلک فرق ما بین القضیتین. و هذه الأرض التی ذکرت هی الآن بید أولاد الهرماس بحکم الکتاب الذی حاول السلطان نقضه، فلم یوافق المناویّ. و الجامع الآن متهدّم و سقوفه کلها ما من زمن إلّا و یسقط منها الشی‌ء بعد الشی‌ء فلا یعاد، و کانت میضأة هذا الجامع صغیرة بجوار میضأته الآن، فیما بینها و بین باب الجامع، و موضعها الآن مخزن تعلوه طبقة عمرها شخص من الباعة یعرف بابن کرسون المراحلیّ، و هذه المیضأة الموجودة الآن أحدثت و أنشأ الفسقیة التی فیها ابن کرسون فی أعوام بضع و ثمانین و سبعمائة، و بیّض مئذنتی الجامع، و استجدّ المئذنة التی بأعلی الباب المجاور للمنبر رجل من الباعة، و کملت فی جمادی الآخرة سنة سبع و عشرین و ثمانمائة، و خرق سقف الجامع حتی صار المؤذنون ینزلون من السطح إلی الدکة التی یکبرون فوقها وراء الإمام.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 64
«هیئة صلاة الجمعة فی أیام الخلفاء الفاطمیین» قال المسبحیّ: و فی یوم الجمعة غرّة رمضان سنة ثمانین و ثلاثمائة رکب العزیز بالله إلی جامع القاهرة بالمظلة المذهبة و بین یدیه نحو خمسة آلاف ماش، و بیده القضیب، و علیه الطیلسان و السیف. فخطب و صلّی صلاة الجمعة و انصرف، فأخذ رقاع المتظلمین بیده و قرأ منها عدّة فی الطریق، و کان یوما عظیما ذکرته الشعراء. قال ابن الطویر: إذا انقضی رکوب أوّل شهر رمضان استراح فی أوّل جمعة، فإذا کانت الثانیة رکب الخلیفة إلی الجامع الأنور الکبیر فی هیئة المواسم بالمظلة و ما تقدّم ذکره من الآلات، و لباسه فیه ثیاب الحریر البیض توقیرا للصلاة من الذهب، و المندیل و الطیلسان المقوّر الشعریّ، فیدخل من باب الخطابة و الوزیر معه بعد أن یتقدّمه فی أوائل النهار صاحب بیت المال، و هو المقدّم ذکره فی الأستاذین، و بین یدیه الفرش المختصة بالخلیفة إذا صار إلیه فی هذا الیوم، و هو محمول بأیدی الفرّاشین الممیزین، و هو ملفوف فی العراضی الدیبقیة، فیفرش فی المحراب ثلاث طرّاحات أماسامان، أو دیبقیّ أبیض، أحسن ما یکون من صنفهما، کلّ منهما منقوش بالحمرة. فتجعل الطرّاحات متطابقات، و یعلّق ستران یمنة و یسرة، و فی الستر الأیمن کتابة مرقومة بالحریر الأحمر واضحة، منقوطة أوّلها البسملة و الفاتحة و سورة الجمعة، و فی الستر الأیسر مثل ذلک، و سورة إِذا جاءَکَ الْمُنافِقُونَ قد أسبلا و فرشا فی التعلیق بجانبی المحراب لاصقین بجسمه، ثم یصعد قاضی القضاة المنبر و فی یده مدخنة لطیفة خیزران یحضرها إلیه صاحب بیت المال فیها جمرات، و یجعل فیها ندّ مثلث لا یشمّ مثله إلّا هناک، فیجز الذروة التی علیها الغشاء کالقبة لجلوس الخلیفة للخطابة، و یکرّر ذلک ثلاث دفعات، فیأتی الخلیفة فی هیئة موقرة من الطبل و البوق، و حوالی رکابه خارج أصحاب الرکاب القرّاء، و هم قرّاء الحضرة من الجانبین یطرّبون بالقراءة نوبة بعد نوبة، یستفتحون بذلک من رکوبه من الکرسیّ علی ما تقدّم طول طریقه إلی قاعة الخطابة من الجامع، ثم تحفظ المقصورة من خارجها بترتیب أصحاب الباب و اسفهسلار العساکر، و من داخلها إلی آخرها صبیان الخاص و غیرهم ممن یجری مجراهم، و من داخلها من باب خروجه إلی المنبر واحد فواحد، فیجلس فی القاعة، و إن احتاج إلی تجدید وضوء فعل، و الوزیر فی مکان آخر، فإذا أذّن بالجمعة دخل إلیه قاضی القضاة فقال له: السلام علی أمیر المؤمنین الشریف القاضی و رحمة اللّه و برکاته، الصلاة یرحمک اللّه. فیخرج ماشیا و حوالیه الأستاذون المحنکون، و الوزیر وراءه، و من یلیهم من الخواص و بأیدیهم الأسلحة من صبیان الخاص، و هم أمراء و علیهم هذا الاسم، فیصعد المنبر إلی أن یصل إلی الذروة تحت تلک القبة المبخرة، فإذا استوی جالسا و الوزیر علی باب المنبر و وجهه إلیه، فیشیر إلیه بالصعود فیصعد إلی أن یصل إلیه، فیقبل یدیه و رجلیه بحیث یراه الناس، ثم یزرر علیه تلک القبة لأنها کالهودج، ثم ینزل مستقبلا، فیقف ضابطا لباب المنبر، فإن لم یکن ثمّ وزیر صاحب سیف، زرّر علیه قاضی القضاة کذلک،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 65
و وقف صاحب الباب ضابطا للمنبر.
فیخطب خطبة قصیرة من مسطور یحضر إلیه من دیوان الإنشاء، یقرأ فیها آیة من القرآن الکریم، و لقد سمعته مرّة فی خطابته بالجامع الأزهر و قد قرأ فی خطبته رَبِّ أَوْزِعْنِی أَنْ أَشْکُرَ نِعْمَتَکَ الَّتِی أَنْعَمْتَ عَلَیَّ وَ عَلی والِدَیَ الآیة، ثم یصلی علی أبیه و جدّه، یعنی بهما محمدا صلّی اللّه علیه و سلّم و علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، و یعظ الناس وعظا بلیغا قلیل اللفظ، و تشتمل الخطبة علی ألفاظ جزلة، و یذکر من سلف من آبائه حتی یصل إلی نفسه فقال: و أنا أسمعه، اللهمّ و أنا عبدک و ابن عبدک لا أملک لنفسی ضرّا و لا نفعا، و یتوسل بدعوات فخمة تلیق بمثله، و یدعو للوزیر إن کان، و للجیوش بالنصر و التألیف، و للعساکر بالظفر و علی الکافرین، و المخالفین بالهلاک و القهر، ثم یختم بقوله اذکروا اللّه یذکرکم. فیطلع إلیه من زرّر علیه و یفک ذلک التزریر و ینزل القهقری، و سبب التزریر علیهم قراءتهم من مسطور لا کعادة الخطباء، فینزل الخلیفة و یصیر علی تلک الطرّاحات الثلاث فی المحراب وحده إماما، و یقف الوزیر و قاضی القضاة صفا، و من ورائهما الأستاذون المحنکون و الأمراء المطوّقون و أرباب الرتب من أصحاب السیوف و الأقلام و المؤذنون وقوف، و ظهورهم إلی المقصورة لحفظه، فإذا سمع الوزیر الخلیفة أسمع القاضی فأسمع القاضی المؤذنین و أسمع المؤذنون الناس، هذا و الجامع مشحون بالعالم للصلاة وراءه، فیقرأ ما هو مکتوب فی الستر الأیمن فی الرکعة الأولی، و فی الرکعة الثانیة ما هو مکتوب فی الستر الأیسر، و ذلک علی طریق التذکار خیفة الارتجاج، فإذا فرغ خرج الناس و رکبوا أوّلا فأوّلا و عاد طالبا القصر و الوزیر وراءه، و ضربت البوقات و الطبول فی العود، فإذا أتت الجمعة الثانیة رکب إلی الجامع الأزهر من القشاشین علی المنوال الذی ذکرناه و القالب الذی وصفناه، فإذا کانت الجمعة الثالثة أعلم برکوبه إلی مصر للخطابة فی جامعها، فیزین له من باب القصر أهل القاهرة إلی جامع ابن طولون، و یزین له أهل مصر من جامع ابن طولون إلی الجامع بمصر، یرتب ذلک والی مصر، کلّ أهل معیشة فی مکان، فیظهر المختار من الآلات و الستور المثمنات و یهتمون بذلک ثلاثة أیام بلیالیهنّ و الوالی مارّ و عائد بینهم، و قد ندب من یحفظ الناس و متاعهم، فیرکب یوم الجمعة المذکور شاقا لذلک کله علی الشارع الأعظم إلی مسجد عبد اللّه الخراب الیوم، إلی دار الأنماط إلی الجامع بمصر، فیدخل إلیه من المعونة، و منها باب متصل بقاعة الخطیب بالزیّ الذی تقدّم ذکره فی خطبة الجامعین بالقاهرة، و علی ترتیبهما. فإذا قضی الصلاة عاد إلی القاهرة من طریقه بعینها شاقا بالزینة إلی أن یصل إلی القصر، و یعطی أرباب المساجد التی یمرّ علیها کلّ واحد دینارا.
و قال ابن المأمون: و وصل من الطراز الکسوة المختصة بغرّة شهر رمضان و جمعتیه برسم الخلیفة للغرّة بدلة کبیرة موکبیة مکملة مذهبة، و برسم الجامع الأزهر للجمعة الأولی من الشهر بدلة موکبیة حریر مکملة مندیلها و طیلسانها بیاض، و برسم الجامع الأنور للجمعة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 66
الثانیة بدلة مندیلها و طیلسانها شعریّ، و ما هو برسم أخی الخلیفة للغرّة خاصة بدلة مذهبة، و برسم أربع جهات للخلیفة أربع حلل مذهبات، و برسم الوزیر للغرّة خلعة مذهبة مکملة موکبیة، و برسم الجمعتین بدلتان حریرتان، و لم یکن لغیر الخلیفة و أخیه و الوزیر فی ذلک شی‌ء فنذکره.

جامع راشدة

هذا الجامع عرف بجامع راشدة لأنه فی خطة راشدة. قال القضاعیّ: خطة راشدة بن أدوب بن جدیلة من لخم، هی متاخمة للخطة التی قبلها إلی الدیر المعروف کان بأبی تکموس، ثم هدم و هو الجامع الکبیر الذی براشدة، و قد دثرت هذه الخطة، و منها المقبرة المعروفة بمقبرة راشدة، و الجنان التی کانت تعرف بکهمس بن معر، ثم عرفت بالماردانیّ، و هی الیوم تعرف بالأمیر تمیم.
و قال المسبحیّ فی حوادث سنة ثلاث و تسعین و ثلاثمائة، و ابتدئ بناء جامع راشدة فی سابع عشر ربیع الآخر، و کان مکانه کنیسة حولها مقابر للیهود و النصاری، فبنی بالطوب ثم هدم و زید فیه و بنی بالحجر، و أقیمت به الجمعة، و قال: فی سنة خمس و تسعین و ثلاثمائة و فیه، یعنی شهر رمضان، فرش جامع راشدة و تکامل فرشه و تعلیق قنادیله و ما یحتاج إلیه، و رکب الحاکم بأمر اللّه عشیة یوم الجمعة الخامس عشر منه و أشرف علیه.
و قال: فی سنة ثمان و تسعین و ثلاثمائة و فیه، یعنی شهر رمضان، صلّی الحاکم بجامعه الذی أنشأه براشدة صلاة الجمعة، و خطب. و فی شهر رمضان سنة أربعمائة أنزل بقنادیل و تنور من فضة زنتها ألوف کثیرة، فعلّقت بجامع راشدة. و فی سنة إحدی و أربعمائة هدم و ابتدئ فی عمارته من صفر، و فی شهر رمضان سنة ثلاث و أربعمائة صلّی الحاکم فی جامع راشدة صلاة الجمعة و علیه عمامة بغیر جوهر، و سیف محلی بفضة بیضاء دقیقة، و الناس یمشون برکابه من غیر أن یمنع أحد منه، و کان یأخذ قصصهم و یقف وقوفا طویلا لکلّ منهم، و اتفق یوم الجمعة حادی عشر جمادی الآخرة سنة أربع عشرة و أربعمائة أن خطب فیه خطبتان معا علی المنبر، و ذلک أنّ أبا طالب علیّ بن عبد السمیع العباسیّ استقرّ فی خطابته بإذن قاضی القضاة أبی العباس أحمد بن محمد بن العوّام، بعد سفر العفیف البخاریّ إلی الشام، فتوصل ابن عصفورة إلی أن خرج له أمر أمیر المؤمنین الظاهر لإعزاز دین اللّه أبی الحسن علیّ بن الحاکم بأمر اللّه، أن یخطب. فصعدا جمیعا المنبر و وقف أحدهما دون الآخر و خطبا معا، ثم بعد ذلک استقرّ أبو طالب خطیبا، و أن یکون ابن عصفورة یخلفه. و قال ابن المتوّج: هذا الجامع فیما بین دیر الطین و الفسطاط، و هو مشهور الآن بجامع راشدة، و لیس بصحیح. و إنما جامع راشدة کان جامعا قدیم البناء بجوار هذا الجامع، عمر فی زمن الفتح، عمرته راشدة، و هی قبیلة من القبائل کقبیلة تجیب و مهرة نزلت فی هذا المکان، و عمروا فیه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 67
جامعا کبیرا أدرکت أنا بعضه و محرابه، و کان فیه نخل کثیر من نخل المقل، و من جملة ما رأیت فیه نخلة من المقل عددت لها سبعة رؤوس مفرّعة منها، فذاک الجامع هو المعروف بجامع راشدة، و أما هذا الموجود الآن فمن عمارة الحاکم، و لم یکن فی بناء الجوامع أحسن من بنائه، و قیل عمرته حظیة الخلیفة و کان اسمها راشدة و لیس بصحیح، و الأوّل هو الصحیح. و فیه الآن نخل و سدر و بئر و ساقیة رجل، و هو مکان خلوة و انقطاع و محل عبادة و فراغ من تعلقات الدنیا.
قال مؤلفه: هذا و هم من ابن المتوّج فی موضعین: أولهما أن راشدة عمرت هذا الجامع فی زمن فتح مصر، و هذا قول لم یقله أحد من مؤرخی مصر، فهذا الکندیّ، ثم القضاعیّ، و علیهما یعوّل فی معرفة خطط مصر. و من قبلهما ابن عبد الحکم، لم یقل أحد منهم أن راشدة عمرت زمن الفتح مسجدا، و لا یعرف من هذا السلف رحمهم اللّه فی جند من أجناد الأمصار التی فتحتها الصحابة رضی اللّه عنهم أنهم أقاموا خطبتین فی مسجد واحد، و قد حکینا ما تقدّم عن المسبحیّ و هو مشاهد ما نقله من بناء الجامع المذکور فی موضع الکنیسة بأمر الحاکم بأمر اللّه، و تغییره لبنائه غیر مرّة، و تبعه القضاعیّ علی ذلک، و قد عدّ القضاعیّ و الکندیّ فی کتابیهما المذکور فیهما خطط مصر ما کان بمصر من مساجد الخطبة القدیمة و المحدثة، و ذکرا مساجد راشدة، و لم یذکرا فیها جامعا اختطته راشدة، و ذکرا هذا الدیر، و عین القضاعیّ اسمه، هدم و بنی فی مکانه جامع راشدة، و ناهیک بهما معرفة لآثار مصر و خططها.
و الوهم الثانی: الاستدلال علی الوهم الأوّل بمشاهدة بقایا مسجد قدیم و لا أدری کیف یستدل بذلک، فمن أنکر أن یکون قد کان هناک مسجد، بل المدّعی أنه کان لراشدة مساجد، لکن کونها اختطت جامعا هذا غیر صحیح. و قال ابن أبی طیّ فی أخبار سنة ثلاث و تسعین و ثلاثمائة فی کتابه تاریخ حلب: کانت النصاری الیعقوبیة قد شرعوا فی إنشاء کنیسة کانت قد اندرست لهم بظاهر مصر فی الموضع المعروف براشدة، فثار قوم من المسلمین و هدموا ما بنی النصاری و أنهی إلی الحاکم ذلک، قیل له إنّ النصاری ابتدأوا بناءها، و قال النصاری إنها کانت قبل الإسلام، فأمر الحاکم الحسین بن جوهر بالنظر فی حال الفریقین، فمال فی الحکم مع النصاری، و تبین للحاکم ذلک، فأمر أن تبنی تلک الکنیسة مسجدا جامعا، فبنی فی أسرع وقت، و هو جامع راشدة. و راشدة اسم للکنیسة، و کان بجواره کنیستان إحداهما للیعقوبیة و الأخری للنسطوریة، فهدمتا أیضا و بنیتا مسجدین، کان فی حارة الروم بالقاهرة آدر للروم و کنیستان لهم، فهدمتا و جعلتا مسجدین أیضا، و حوّل الروم إلی الموضع المعروف بالحمراء و أسس الروم ثلاث کنائس عوضا عما هدم لهم، و هذا أیضا مصرّح بأن جامع راشدة أسسه الحاکم، و فیه وهم لکونه جعل راشدة اسما للکنیسة، و إنما راشدة اسم لقبیلة من العرب نزلوا عند الفتح هناک فعرفت تلک البقاع بخطة راشدة، و قد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 68
جدّد جامع راشدة مرارا، و أدرکته عامرا تقام فیه الجمعة و یمتلئ بالناس لکثرة من حوله من السکان، و إنما تعطل من إقامة الجمعة بعد حوادث سنة ست و ثمانمائة. و قال الشریف محمد بن أسعد الجوّانیّ النسابة: راشدة بطن من لخم، و هم ولد راشدة بن الحارث بن أدّ بن جدیلة من لخم بن عدیّ بن الحارث بن مرّة بن أدد، و قیل راشدة بن أدوب، و یقال لراشدة خالفة، و لهم خطة بمصر بالجبل المعروف بالرصد، المطلّ علی برکة الحبش، و قد دثرت الخطة و لم یبق فی موضعها إلّا الجامع الحاکمیّ المعروف بجامع راشدة.

جامع المقس

هذا الجامع أنشأه الحاکم بأمر اللّه علی شاطی‌ء النیل بالمقس فی لأنّ المقس کان خطة کبیرة، و هی بلد قدیم من قبل الفتح، کما تقدّم ذکر ذلک فی هذا الکتاب.
و قال فی الکتاب الذی تضمن وقف الحاکم بأمر اللّه الأماکن بمصر علی الجوامع، کما ذکر فی خبر الجامع الأزهر ما نصه: و یکون جمیع ما بقی مما تصدّق به علی هذه المواضع، یصرف فی جمیع ما یحتاج إلیه فی جامع المقس المذکور، من عمارته، و من تمن الحصر العبدانیة و المظفورة، و ثمن العود للبخور، و غیره علی ما شرح من الوظائف فی الذی تقدّم، و کان لهذا الجامع نخل کثیر فی الدولة الفاطمیة، و یرکب الخلیفة إلی منظرة کانت بجانبه عند عرض الأسطول فیجلس بها لمشاهدة ذلک کما ذکر فی موضعه من هذا الکتاب عند ذکر المناظر، و فی سنة سبع و ثمانین و خمسمائة انشقت زریبة من هذا الجامع فی شهر رمضان لکثرة زیادة ماء النیل، و خیف علی الجامع السقوط فأمر بعمارتها. و لما بنی السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب هذا السور الذی علی القاهرة، و أراد أن یوصله بسور مصر من خارج باب البحر إلی الکوم الأحمر، حیث منشأة المهرانیّ الیوم، و کان المتولی لعمارة ذلک الأمیر بهاء الدین قراقوش الأسدیّ، أنشأ بجوار جامع المقس برجا کبیرا عرف بقلعة المقس فی مکان المنظرة التی کانت للخلفاء، فلما کان فی سنة سبعین و سبعمائة جدّد بناء هذا الجامع الوزیر الصاحب شمس الدین عبد اللّه المقسیّ، و هدم القلعة و جعل مکانها جنینة، و اتهمه الناس بأنه وجد هنالک مالا کثیرا، و أنه عمر منه الجامع المذکور، فصار العامّة الیوم یقولون جامع المقسیّ، و یظنّ من لا علم عنده أن هذا الجامع من إنشائه، و لیس کذلک، بل إنما جدّده و بیضه، و قد انحسر ماء النیل عن تجاه هذا الجامع کما ذکر فی خبر بولاق و المقس، و صار هذا الجامع الیوم علی حافة الخلیج الناصریّ، و أدرکنا ما حوله فی غایة العمارة، و قد تلاشت المساکن التی هناک و بها إلی الیوم بقیة یسیرة، و نظر هذا الجامع الیوم بید أولاد الوزیر المقسیّ، فإنه جدّده و جعل علیه أوقافا لمدرّس و خطیب و قومة و مؤذنین و غیر ذلک.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 69
و قال جامع السیرة الصلاحیة: و هذا المقسم علی شاطی‌ء النیل یزار، و هناک مسجد یتبرّک به الأبرار، و هو المکان الذی قسمت فیه الغنیمة عند استیلاء الصحابة رضی اللّه عنهم علی مصر، فلما أمر السلطان صلاح الدین بإدارة السور علی مصر و القاهرة، تولی ذلک بهاء الدین قراقوش و جعل نهایته التی تلی القاهرة عند المقس، و بنی فیه برجا یشرف علی النبل، و بنی مسجده جامعا، و اتصلت العمارة منه إلی البلد، و صار تقام فیه الجمع و الجماعات.
العزیز بالله: أبو النصر نزار بن المعز لدین اللّه أبی تمیم معدّ، ولد بالمهدیة من بلاد أقریقیة فی یوم الخمیس الرابع عشر من المحرّم سنة أربع و أربعین و ثلاثمائة، و قدم مع أبیه إلی القاهرة، و ولی العهد. فلما مات المعز لدین اللّه أقیم من بعده فی الخلافة یوم الرابع عشر من شهر ربیع الآخر سنة خمس و ستین و ثلاثمائة فأذعن له سائر عساکر أبیه و اجتمعوا علیه، و سیّر بذهب إلی بلاد المغرب، فرّق فی الناس، و اقرّ یوسف بن ملکین علی ولایة إفریقیة، و خطب له بمکة، و وافی الشام عسکر القرامطة فصاروا مع أفتکین الترکیّ، و قوی بهم و ساروا إلی الرملة و قاتلوا عساکر العزیز بیافا، فبعث العزیز جوهر القائد بعساکر کثیرة و ملک الرملة و حاصر دمشق مدّة، ثم رحل عنها بغیر طائل، فأدرکه القرامطة و قاتلوه بالرملة و عسقلان نحو سبعة عشر شهرا، ثم خلص من تحت سیوف افتکین و سار إلی العزیز فوافاه و قد برز من القاهرة، فسار معه و دخل العزیز إلی الرملة و أسر أفتکین فی المحرّم سنة ثمان و ستین و ثلاثمائة فأحسن إلیه و أکرمه إکراما زائدا.
فکتب إلیه الشریف أبو إسماعیل إبراهیم الرئیس یقول: یا مولانا لقد استحق هذا الکافر کلّ عذاب، و العجب من الإحسان إلیه؟ فلما لقیه قال: یا إبراهیم قرأت کتابک فی أمر أفتکین، و أنا أخبرک. اعلم أنا قد وعدناه الإحسان و الولایة، فلما قبل و جاء إلینا نصب فازاته و خیامه حذاءنا، و أردنا منه الانصراف فلج و قاتل، فلما ولی منهزما و سرت إلی فازاته و دخلتها سجدت للّه شکرا و سألته أن یفتح لی بالظفر به، فجی‌ء به بعد ساعة أسیرا، أ تری یلیق بی غیر الوفاء.
و لما وصل العزیز إلی القاهرة اصطنع افتکین و واصله بالعطایا و الخلع، حتی قال لقد احتشمت من رکوبی مع الخلیفة مولانا العزیز بالله، و نظری إلیه بما غمرنی من فضله و إحسانه، فلما بلغ العزیز ذلک قال لعمه حیدرة: یا عمّ أحبّ أن أری النعم عند الناس ظاهرة، و أری علیهم الذهب و الفضة و الجواهر، و لهم الخیل و اللباس و الضیاع و العقار، و أن یکون ذلک کله من عندی. و مات بمدینة بلبیس من مرض طویل بالقولنج و الحصاة، فی الیوم الثامن و العشرین من شهر رمضان سنة ست و ثمانین و ثلاثمائة فحمل إلی القاهرة و دفن بتربة القصر مع آبائه. و کانت مدّة خلافته بعد أبیه المعز إحدی و عشرین سنة و خمسة أشهر و نصفا، و مات و عمره اثنتان و أربعون سنة و ثمانیة أشهر و أربعة عشر یوما. و کان نقش
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 70
خاتمة: بنصر العزیز الجبار ینتصر الإمام نزار. و لما مات و حضر الناس إلی القصر للتعزیة أفحموا عن أن یوردوا فی ذلک المقام شیئا، و مکثوا مطرقین لا ینبسون، فقام صبیّ من أولاد الأمراء الکنانیین و فتح باب التعزیة و أنشد:
أنظر إلی العلیاء کیف تضام‌و مآتم الأحساب کیف تقام
خبرننی رکب الرکاب و لم یدع‌للسفر وجه ترحل فأقاموا
فاستحسن الناس إیراده و کأنه، طرّق لهم کیف یوردون المراثی، فنهض الشعراء و الخطباء حینئذ و عزوا و أنشد کلّ واحد ما عمل فی التعزیة، و خلّف من الأولاد ابنه المنصور، و ولی الخلافة من بعده، و ابنة تدعی سیدة الملک، و کان أسمر طوالا، أصهب الشعر، أعین أشهل عریض المنکبین، شجاعا کریما حسن العفو و القدرة، لا یعرف سفک الدماء البتة، مع حسن الخلق و القرب من الناس، و المعرفة بالخیل و جوارح الطیر، و کان محبا للصید مغریّ به حریصا علی صید السباع، و وزر له یعقوب بن کلس اثنتی عشرة سنة و شهرین و تسعة عشر یوما، ثم من بعده علیّ بن عمر العدّاس سنة واحدة، ثم أبو الفضل جعفر بن الفرات سنة، ثم أبو عبد اللّه الحسین بن الحسن البازیار سنة و ثلاثة أشهر، ثم أبو محمد بن عمار شهرین، ثم الفضل بن صالح الوزیریّ أیاما، ثم عیسی بن نسطورس سنة و عشرة أشهر.
و کانت قضاته: أبو طاهر محمد بن أحمد، أبو الحسن علیّ بن النعمان، ثم أبو عبد اللّه محمد بن النعمان. و خرج إلی السفر أوّلا فی صفر سنة سبع و ستین، و عاد من العباسیة و خرج ثانیا و ظفر بأفتکین، و خرج ثالثا فی صفر سنة اثنتین و سبعین، و رجع بعد شهر إلی قصره بالقاهرة، و خرج رابعا فی ربیع الأوّل سنة أربع و ستین، فنزل منیة الأصبغ و عاد بعد ثمانیة أشهر و اثنی عشر یوما، و خرج خامسا فی عاشر ربیع الآخر سنة خمس و ثمانین، فأقام مبرّزا أربعة عشر شهرا و عشرین یوما، و مات فی هذه الخرجة ببلبیس. و هو أوّل من اتخذ من أهل بیته وزیرا، أثبت اسمه علی الطرز، و قرن اسمه باسمه، و أوّل من لبس منهم الخفین و المنطقة، و أوّل من اتخذ منهم الأتراک و اصطنعهم و جعل منهم القوّاد، و أوّل من رمی منهم بالنشاب، و أوّل من رکب منهم بالذؤابة الطویلة و الحنک و ضرب الصوالجة و لعب بالرمح، و أوّل من عمل مائدة فی الشرطة السفلی فی شهر رمضان یفطر علیها أهل الجامع العتیق، و أقام طعاما فی جامع القاهرة لمن یحضر فی رجب و شعبان و رمضان، و اتخذ الحمیر لرکوبه إیاها، و کانت أمّه أمّ ولد اسمها درزارة، و کان یضرب بأیامه المثل فی الحسن، فإنها کانت کلها أعیادا و أعراسا لکثرة کرمه و محبته للعفو و استعماله لذلک، و لا أعلم له بمصر من الآثار غیر تأسیس الجامع الحاکمیّ، و ما عدا ذلک فذهب اسمه و محی رسمه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 71
الحاکم بأمر اللّه: أبو علیّ منصور بن العزیز بالله نزار بن المعز لدین اللّه أبی تمیم معدّ، ولد بالقصر من القاهرة المعزیة، لیلة الخمیس الثالث و العشرین من شهر ربیع الأول سنة خمس و سبعین و ثلاثمائة فی الساعة التاسعة، و الطالع من برج السرطان سبع و عشرون درجة، و سلّم علیه بالخلافة فی مدینة بلبیس بعد الظهر من یوم الثلاثاء عشری شهر رمضان سنة ست و ثمانین و ثلاثمائة و سار إلی القاهرة فی یوم الأربعاء بسائر أهل الدولة و العزیز فی قبة علی ناقة بین یدیه، و علی الحاکم دراعة مصمت و عمامة فیها الجوهر، و بیده رمح و قد تقلد السیف. و لم یفقد من جمیع ما کان مع العساکر شی‌ء، و دخل القصر قبل صلاة المغرب، و أخذ فی جهاز أبیه العزیز بالله و دفنه، ثم بکر سائر أهل الدولة إلی القصر یوم الخمیس، و قد نصب للحاکم سریر من ذهب علیه مرتبة مذهبة فی الإیوان الکبیر، و خرج من قصره راکبا علیه معممة الجوهر و الناس وقوف فی صحن الإیوان، فقبلوا له الأرض و مشوا بین یدیه حتی جلس علی السریر، فوقف من رسمه الوقوف، و جلس من له عادة أن یجلس، و سلّم الجمیع علیه بالإمامة و اللقب الذی اختیر له، و هو الحاکم بأمر اللّه، و کان سنّه یومئذ إحدی عشرة سنة و خمسة أشهر و ستة أیام، فجعل أبا محمد الحسن بن عمار الکندیّ واسطة، و لقب بأمین الدولة، و أسقط مکوسا کانت بالساحل، و ردّ إلی الحسین بن جوهر القائد البرید و الإنشاء، فکان یخلفه ابن سورین، و أقرّ عیسی بن نسطورس علی دیوان الخاص، و قلد سلیمان بن جعفر بن فلاح الشام، فخرج ینجو تکین من دمشق و سار منها لمدافعة سلیمان بن جعفر بن فلاح، فبلغ الرملة و انضمّ إلیه ابن الجرّاح الطائیّ فی کثیر من العرب، و واقع ابن فلاح فانهزم و فرّ، ثم أسر فحمل إلی القاهرة و أکرم، و اختلف أهل الدولة علی ابن عمار، و وقعت حروب آلت إلی صرفه عن الوساطة. و له فی النظر أحد عشر شهرا غیر خمسة أیام، فلزم داره و أطلقت له رسوم و جرایات، و أقیم الطواشی برجوان الصقلیّ مکانه فی الوساطة لثلاثة بقین من رمضان سنة سبع و ثمانین و ثلاثمائة فجعل کاتبه فهد بن إبراهیم یوقع عنه، و لقبه بالرئیس، و صرف سلیمان بن فلاح عن الشام بجیش بن الصمصامة، و قلد فحل بن إسماعیل الکتامیّ مدینة صور، و قلد یانس الخادم برقة، و میسور الخادم طرابلس، و یمنا لخادم غزة و عسقلان، فواقع جیش الروم علی فاهیة و قتل منهم خمسة آلاف رجل، و غزا إلی أن دخل مرعش، و قلد وظیفة قضاء القضاء أبا عبد اللّه الحسین بن علی بن النعمان فی صفر سنة تسع و ثمانین و ثلاثمائة بعد موت قاضی القضاة محمد بن النعمان، و قتل الأستاذ برجوان لاربع بقین من ربیع الآخر سنة تسع و ثمانین و ثلاثمائة، و له فی النظر سنتان و ثمانیة أشهر غیر یوم واحد، و ردّ النظر فی أمور الناس و تدبیر المملکة و التوقیعات إلی الحسین بن جوهر، و لقب بقائد القوّاد، فخلفه الرئیس بن فهد، و اتخذ الحاکم مجلسا فی اللیل یحضر فیه عدّة من أعیان الدولة، ثم أبطله و مات جیش بن الصمصامة فی ربیع الآخر سنة تسعین و ثلثمائة، فوصل ابنه بترکته إلی القاهرة و معه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 72
درج بخط أبیه فیه وصیة، و ثبت بما خلفه مفصلا، و أن ذلک جمیعه لأمیر المؤمنین الحاکم بأمر اللّه، لا یستحق أحد من أولاده منه درهما، و کان مبلغ ذلک نحو المأئتی ألف دینار، و ما بین عین و متاع و دواب، قد أوقف جمیع ذلک تحت القصر، فأخذ الحاکم الدرج و نظره ثم أعاده إلی أولاد جیش و خلع علیهم و قال لهم بحضرة وجوه الدولة: قد وقفت علی وصیة أبیکم رحمه اللّه و ما وصی به من عین و متاع، فخذوه هنیئا مبارکا لکم فیه. فانصرفوا بجمیع الترکة، و ولی دمشق فحل بن تمیم، و مات بعد شهور فولی علیّ بن فلاح، و ردّ النظر فی المظالم لعبد العزیز بن محمد بن النعمان، و منع الناس کافة من مخاطبة أحد أو مکاتبته بسیدنا و مولانا إلّا أمیر المؤمنین وحده، و أبیح دم من خالف ذلک، و فی شوّال قتل ابن عمار.
و فی سنة إحدی و تسعین و اصل الحاکم الرکوب فی اللیل کل لیلة، فکان یشق الشوارع و الأزقة، و بالغ الناس فی الوقود و الزینة، و أنفقوا الأموال الکثیرة فی المآکل و المشارب و الغناء و اللهو، و کثر تفرّجهم علی ذلک حتی خرجوا فیه عن الحدّ، فمنع النساء من الخروج فی اللیل، ثم منع الرجال من الجلوس فی الحوانیت. و فی رمضان سنة اثنتین و تسعین قلّد تموصلت بن بکّار دمسق، عوضا عن ابن فلاح، و ابتدأ فی عمارة جامع راشدة فی سنة ثلاث و تسعین، و قتل فهد بن إبراهیم و له منذ نظر فی الریاسة خمس سنین و تسعة أشهر و اثنا عشر یوما، فی ثامن جمادی الآخرة منها، و أقیم فی مکانه علیّ بن عمر العدّاس، و سار الأمیر ما روح لإمارة طبریة، و وقع الشروع فی إتمام الجامع خارج باب الفتوح، و قطع الحاکم الرکوب فی اللیل، و مات تموصلت فولی دمشق بعده مفلح اللحیانیّ الخادم، و قتل علیّ بن عمر العدّاس و الأستاذ زیدان الصقلیّ و عدّة کثیرة من الناس، و قلد إمارة برقة صندل الأسود فی المحرّم سنة أربع و تسعین، و صرف الحسین بن النعمان عن القضاء فی رمضان منها، و کانت مدّة نظره فی القضاء خمس سنین و ستة أشهر و ثلاثة و عشرین یوما، و إلیه کانت الدعوة أیضا، فیقال له قاضی القضاة و داعی الدعاة، و قلد عبد العزیز بن محمد بن النعمان وظیفة القضاء و الدعوة، مع ما بیده من النظر فی المظالم. و فی سنة خمس و تسعین أمر النصاری و الیهود بشدّ الزنار و لبس الغیار، و منع الناس من أکل الملوخیة و الجرجیر و التوکلیة و الدلینس، و ذبح الأبقار السلیمة من العاهة إلّا فی أیام الأضحیة، و منع من بیع الفقاع و عمله البتة، و أن لا یدخل أحد الحمام إلا بمئزر، و أن لا تکشف امرأة وجهها فی طریق، و لا خلف جنازة، و لا تتبرّج، و لا یباع شی‌ء من السمک بغیر قشر، و لا یصطاده أحد من الصیادین، و تتبع الناس فی ذلک کله و شدّد فیه، و ضرب جماعة بسبب مخالفتهم ما أمروا به و نهوا عنه مما ذکر، و خرجت العساکر لقتال بنی قرّة أهل البحیرة، و کتب علی أبواب المساجد و علی الجوامع بمصر و علی أبواب الحوانیت و الحجر و المقابر سبّ السلف و لعنهم، و أکره الناس علی نقش ذلک و کتابته بالأصباغ فی سائر المواضع، و أقبل الناس من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 73
سائر النواحی فدخلوا فی الدعوة و جعل لهم یومان فی الأسبوع، و کثر الازدحام و مات فیه جماعة، و منع الناس من الخروج بعد المغرب فی الطرقات، و أن لا یظهر أحد بها لبیع و لا شراء، فخلت الطرق من المارّة و کسرت أوانی الخمور و أریقت من سائر الأماکن، و اشتدّ خوف الناس بأسرهم، و قویت الشناعات و زاد الاضطراب، فاجتمع کثیر من الکتاب و غیرهم تحت القصر و ضجوا یسألون العفو، فکتب عدّة أمانات لجمیع الطوائف من أهل الدولة و غیرهم من الباعة و الرعیة، و أمر بقتل الکلاب فقتل منها ما لا ینحصر حتی فقدت، و فتحت دار الحکمة بالقاهرة و حمل إلیها الکتب و دخل إلیها الناس، فاشتدّ الطلب علی الرکابیة المستخدمین فی الرکاب، و قتل منهم کثیر، عفی عنهم و کتب لهم أمان، و منع الناس کافة من الدخول من باب القاهرة، و منع الناس من المشی ملاصق القصر، و قتل قاضی القضاة حسین بن النعمان و أحرق بالنار، و قتل عددا کثیرا من الناس ضربت أعناقهم.
و فی سنة ست و تسعین خرج أبو رکوة یدعو إلی نفسه و ادّعی أنه من بنی أمیة، فقام بأمره بنو قرّة لکثرة ما أوقع بهم الحاکم و بایعوه، و استجاب له لواته و مزاته و زنادة، و أخذ برقة و هزم جیوش الحاکم غیر مرّة، و غنم ما معهم، فخرج لقتاله القائد فضل بن صالح فی ربیع الأوّل و واقعه، فانهزم منه فضل و اشتدّ الاضطراب بمصر، و تزایدت الأسعار و اشتدّ الاستعداد لمحاربة أبی رکوة، و نزلت العساکر بالجیزة، و سار أبو رکوة فواقعه القائد فضل و قتل عدّة ممن معه، فعظم الأمر و اشتدّ الخوف و خرج الناس فباتوا بالشوارع. خوفا من هجوم عساکر أبی رکوة، و استمرّت الحروب فانهزم أبو رکوة فی ثالث ذی الحجة إلی الفیوم، و تبعه القائد فضل بعد أن بعث إلی القاهرة بستة آلاف رأس و مائة أسیر إلی أن قبض علیه ببلاد النبوة، و أحضر إلی القاهرة فقتل بها، و خلع علی القائد فضل، و سیّرت البشائر بقتله إلی الأعمال.
و فی سنة سبع و تسعین أمر بمحوسبّ السلف فمحی سائر ما کتب من ذلک، و غلت الأسعار لنقص ماء النیل، فإنه بلغ ستة عشر أصبعا من سبعة عشر ذراعا، نقص، و مات ینجو تکین فی ذی الحجة، و اشتدّ الغلاء فی سنة ثمان و تسعین، و ولی علیّ بن فلاح دمشق، و قبض جمیع ما هو محبس علی الکنائس، و جعل فی الدیوان، و أحرق عدّة صلبان علی باب الجامع بمصر، و کتب إلی سائر الأعمال بذلک.
و فی سادس عشر رجب قرّر مالک بن سعید الفارقیّ فی وظیفة قضاء القضاة، و تسلم کتب الدعوة التی تقرأ بالقصر علی الأولیاء، و صرف عبد العزیز بن النعمان عن ذلک، و صرف قائد القوّاد الحسین بن جوهر عما کان یلیه من النظر فی سابع شعبان، و قرّر مکانه صالح بن علیّ الروذبادیّ، و قرّر فی دیوان الشام مکانه أبو عبد اللّه الموصلیّ الکاتب، و أمر حسین بن جوهر و عبد العزیز بلزوم دورهما، و منعا من الرکوب و سائر أولادهما، ثم عفا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 74
عنهما بعد أیام، و أمر بالرکوب. و توقفت زیادة النیل فاستسقی الناس مرّتین، و أمر بإبطال عدّة مکوس، و تعذر وجود الخبز لغلائة و قلته، و فتح الخلیج فی رابع توت، و الماء علی خمسة عشر ذراعا فاشتدّ الغلاء.
و فی تاسع المحرّم و هو نصف توت نقص ماء النیل و لم یوف ستة عشر ذراعا، فمنع الناس من التظاهر بالغناء و من رکوب البحر للتفرّج، و منع من بیع المسکرات، و منع الناس کافة من الخروج قبل الفجر و بعد العشاء إلی الطرقات و اشتدّ الأمر علی الکافة لشدّة ما داخلهم من الخوف مع شدّة الغلاء، و تزاید الأمراض فی الناس و الموت.
فلما کان فی رجب انحلت الأسعار، و قری‌ء سجل فیه یصوم الصائمون علی حسابهم و یفطرون، و لا یعارض أهل الرؤیة فیما هم علیه صائمون و مفطرون، و صلاة الخمسین للذی جاءهم فیها یصلون، و صلاة الضحی و صلاة التراویح لا مانع لهم منها و لا هم عنها یدفعون، یخمّس فی التکبیر علی الجنائز المخمسون، و لا یمنع من التربیع علیها المربعون، یؤذن بحیّ علی خیر العمل المؤذنون، و لا یؤذی من بها لا یؤذنون، لا یسب أحد من السلف، و لا یحتسب علی الواصف فیهم بما وصف، و الحالف منهم بما حلف، لکلّ مسلم مجتهد فی دینه اجتهاده. و لقب صالح بن علیّ الروذبادیّ بثقة ثقات السیف و القلم، و أعید القاضی عبد العزیز بن النعمان إلی النظر فی المظالم، و تزایدت الأمراض و کثر الموت و عزت الأدویة، و أعیدت المکوس التی رفعت، و هدمت کنائس کانت بطریق المقس، و هدمت کنیسة کانت بحارة الروم من القاهرة، و نهب ما فیها، و قتل کثیر من الخدّام و من الکتاب و من الصقالیة، بعد ما قطعت أیدی بعضهم من الکتاب بالشطور علی الخشبة من وسط الذراع، و قتل القائد فضل بن صالح فی ذی القعدة، و فی حادی عشر صفر صرف صالح بن علیّ الروذبادیّ، و قرّر مکانه ابن عبدون النصرانیّ الکاتب فوقّع عن الحاکم، و نظر و کتب بهدم کنیسة قماسة، و جدّد دیوان یقال له الدیوان المفرد برسم من یقبض ماله من المقتولین و غیرهم، و کثرت الأمراض و عزت الأدویة، و شهر جماعة وجد عندهم فقاع و ملوخیة و دلینس و ضربوا، و عدم دائر القصر و اشتدّ الأمر علی النصاری و الیهود فی إلزامهم لبس الغیار، و کتب إبطال أخذ الخمس و النجاوی و الفطرة، و فرّ الحسین بن جوهر و أولاده، و عبد العزیز بن النعمان، و فرّ أبو القاسم الحسین بن المغربیّ، و کتب عدّة أمانات لعدّة طوائف من شدّة خوفهم، و قطعت قراءة مجالس الحکمة بالقصر، و وقع التشدید فی المنع من المسکرات، و قتل کثیر من الکتاب و الخدّام و الفرّاشین، و قتل صالح بن علیّ الروذبادیّ فی شوّال.
و فی رابع المحرّم سنة إحدی و أربعمائة، صرف الکافی بن عبدون عن النظر و التوقیع، و قرّر بدله أحمد بن محمد القشوریّ الکاتب فی الوساطة و السفارة، و حصر الحسین بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 75
جوهر و عبد العزیز بن النعمان إلی القاهرة، فأکرما. ثم صرف ابن القشوریّ بعد عشرة أیام من استقراره و ضربت عنقه، و قرّر بدله زرعة بن عیسی بن نسطورس الکاتب النصرانیّ، و لقّب بالشافی، و منع الناس من الرکوب فی المراکب فی الخلیج، و سدّت أبواب الدور التی علی الخلیج و الطاقات المطلة علیه، و أضیف إلی قاضی القضاة مالک بن سعید النظر فی المظالم، و أعیدت مجالس الحکمة، و أخذ مال النجوی، و قتل ابن عبدون و أخذ ماله، و ضرب جماعة و شهروا من أجل بیعهم الملوخیة و السمک الذی لا قشر له، و بسبب بیع النبیذ، و قتل الحسین بن جوهر و عبد العزیز بن النعمان فی ثانی عشر جمادی الآخرة سنة إحدی و أربعمائة، و أحیط بأموالهما، و أبطلت عدّة مکوس، و منع الناس من الغناء و اللهو و من بیع المغنیات و من الاجتماع بالصحراء. و فی هذه السنة خلع حسان بن مفرّج بن دغفل بن الجرّاح طاعة الحاکم، و أقام أبا الفتوح حسین بن جعفر الحسنیّ أمیر مکة خلیفة، و بایعه و دعا الناس إلی طاعته و مبایعته، و قاتل عساکر الحاکم. و فی سنة اثنتین و أربعمائة منع من بیع الزبیب و کوتب بالمنع من حمله، و ألقی فی بحر النیل منه شی‌ء کثیر، و أحرق شی‌ء کثیر، و منع النساء من زیارة القبور، فلم یر فی الأعیاد بالمقابر امرأة واحدة، و منع من الاجتماع علی شاطی‌ء النیل للتفرّج، و منع من بیع العنب إلا أربعة أرطال فما دونها. و منع من عصره و طرح کثیر منه و دیس فی الطرقات، و غرّق کثیر منه فی النیل، و منع من حمله و قطعت کروم الجیزة کلها، و سیّر إلی الجهات بذلک.
و فی سنة ثلاث و أربعمائة نزع السعر و ازدحم الناس علی الخبز، و فی ثانی ربیع الأوّل منها هلک عیسی بن نسطورس، فأمر النصاری بلبس السواد و تعلق صلبان الخشب فی أعناقهم، و أن یکون الصلیب ذراعا فی مثله، و زنته خمسة أرطال، و أن یکون مکشوفا بحیث یراه الناس، و منعوا من رکوب الخیل، و أن یکون رکوبهم البغال و الحمیر بسروج الخشب و السیور السود بغیر حلیة، و أن یسدّوا الزنانیر و لا یستخدموا مسلما و لا یشتروا عبدا و لا أمة، و تتبعت آثارهم فی ذلک، فأسلم منهم عدّة، و قرّر حسین بن طاهر الوزان فی الوساطة و التوقیع عن الحاکم فی تاسع عشری ربیع الأوّل منها، و لقب أمین الأمناء، و نقش الحاکم علی خاتمه: بنصر اللّه العظیم الولیّ ینتصر الإمام أبو علی. و ضرب جماعة بسبب اللعب بالشطرنج، و هدمت الکنائس و أخذ جمیع ما فیها و مالها من الرباع، و کتب بذلک إلی الأعمال فهدمت بها، و فیها لحق أبو الفتح بمکة و دعا للحاکم و ضرب السکة باسمه، و أمر الحاکم أن لا یقبّل أحد له الأرض، و لا یقبّل رکابه، و لا یده عند السلام علیه فی المواکب، فإنّ الانحناء إلی الأرض لمخلوق من صنیع الروم، و أن لا یزاد علی قولهم السلام علی أمیر المؤمنین و رحمة اللّه و برکاته، و لا یصلّی أحد علیه فی مکاتبة و لا مخاطبة، و یقتصر فی مکاتبته علی سلام اللّه و تحیاته. و نوامی برکاته علی أمیر المؤمنین، و یدعی له بما یتفق من الدعاء لا غیر، فلم یقل الخطباء یوم الجمع سوی اللهمّ صلّ علی محمد المصطفی، و سلّم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 76
علی أمیر المؤمنین علیّ المرتضی، اللهمّ و سلّم علی أمراء المؤمنین آباء أمیر المؤمنین، اللهمّ اجعل أفضل سلامک علی عبدک و خلیفتک، و منع من ضرب الطبول و الأبواق حول القصر، فصاروا یطوفون بغیر طبل و لا بوق، و کثرت إنعامات الحاکم فتوقف أمین الأمناء حسین بن طاهر الوزان فی إمضائها، فکتب إلیه الحاکم بخطه بعد البسملة، الحمد للّه کما هو أهله:
أصبحت لا أرجو و لا أتقی‌إلّا إلهی و له الفضل
جدّی نبیّ و إمامی أبی‌و دینی الإخلاص و العدل
المال مال اللّه عز و جلّ، و الخلق عباد اللّه، و نحن أمناؤه فی الأرض، أطلق أرزاق الناس و لا تقطعها و السلام و رکب الحاکم یوم عید الفطر إلی المصلی بغیر زینة و لا جنائب و لا أبهة، سوی عشرة أفراس تقاد بسروج و لجم محلاة بفضة بیضاء خفیفة، و بنود ساذجة و مظلة بیضاء بغیر ذهب علیه بیاض، بغیر طرز و لا ذهب و لا جوهر فی عمامته، و لم یفرش المنبر، و منع الناس من سبّ السلف، و ضرب فی ذلک و شهر و صلّی صلاة عید النحر کما صلّی صلاة عید الفطر من غیر أبهة، و نحر عنه عبد الرحمن بن الیاس بن أحمد بن المهدیّ، و أکثر الحاکم من الرکوب إلی الصحراء بحذاء فی رجله و فوطة علی رأیه.
و فی سنة أربع و أربعمائة ألزم الیهود أن یکون فی أعناقهم جرس إذا دخلوا الحمام، و أن یکون فی أعناق النصاری صلبان، و منع الناس من الکلام فی النجوم، و أقیم المنجمون من الطرقات و طلبوا فتغیبوا و نفوا، و کثرت هبات الحاکم و صدقاته و عتقه، و أمر الیهود و النصاری بالخروج من مصر إلی بلاد الروم و غیرها، و أقیم عبد الرحیم بن الیاس ولیّ العهد، و أمر أن یقال فی السلام علیه، السلام علی ابن عمّ أمیر المؤمنین، و ولیّ عهد المسلمین و صار یجلس بمکان فی القصر، و صار الحاکم یرکب بدراعة صوف بیضاء، و یتعمم بفوطة. و فی رجله خذاء عربیّ بقبالین، و عبد الرحیم یتولی النظر فی أمور الدولة کلها، و أفرط الحاکم فی العطاء و ردّ ما کان أخذ من الضیاع و الأملاک إلی أربابها، و فی ربیع الآخر أمر بقطع یدی أبی القاسم الجرجانیّ، و کان یکتب للقائد غین، ثم قطع ید غین فصار مقطوع الیدین، و بعث إلیه الحاکم بعد قطع یدیه بألف من الذهب و الثیاب، ثم بعد ذلک أمر بقطع لسانه، فقطع. و أبطل عدّة مکوس، و قتل الکلاب کلها، و أکثر من الرکوب فی اللیل، و منع النساء من المشی فی الطرقات، فلم تر امرأة فی طریق البتة، و أغلقت حماماتهنّ، و منع الأساکفة من علی خفافهنّ، و تعطلت حوانیتهم، و اشتدّت الإشاعة بوقوع السیف فی الناس، فتهاربوا و غلفت الأسواق، فلم یبع شی‌ء. و دعی لعبد الرحیم بن الیاس علی المنابر، و ضربت السکة باسمه بولایة العهد، و فی سنة خمس و أربعمائة قتل مالک بن سعید الفارقیّ، فی ربیع الآخر، و کانت مدّة نظره فی قضاء القضاة ست سنین و تسعة أشهر و عشرة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 77
أیام، و بلغ إقطاعه فی السنة خمسة عشر ألف دینار، و تزاید رکوب الحاکم حتی کان یرکب فی کلّ یوم عدّة مرّات، و اشتری الحمیر و رکبها بدل الخیل.
و فی جمادی الآخرة منها قتل الحسین بن طاهر الوزان، فکانت مدّة نظره فی الوساطة سنتین و شهرین و عشرین یوما، فأمر أصحاب الدواوین بلزوم دواوینهم، و صار الحاکم یرکب حمارا بشاشیة مکشوفة بغیر عمامة، ثم أقام عبد الرحیم بن أبی السید الکاتب و أخاه أبا عبد اللّه الحسین فی الوساطة و السفارة، و أقرّ فی وظیفة قضاء القضاة أحمد بن محمد بن أبی العوام، و خرج الحاکم عن الحدّ فی العطاء حتی أقطع نواتیة المراکب و المشاعلیة، و بنی قرّة، فما أقطع الإسکندریة و البحیرة و نواحیهما، و قتل ابنی أبی السید فکانت مدّة نظرهما اثنتین و ستین یوما، و قلد الوساطة فضل بن جعفر بن الفرات، ثم قتله فی الیوم الخامس من ولایته، و غلب بنو قرّة علی الإسکندریة و أعمالها، و أکثر الحاکم من الرکوب فرکب فی یوم ستة مرّات، مرّة علی فرس، و مرّة علی حمار، و مرّة فی محفة تحمل علی الأعناق، و مرّة فی عشاری فی النیل بغیر عمامة، و أکثر من إقطاع الجند و العبید الإقطاعات، و أقام ذا الریاستین قطب الدولة أبا الحسن علیّ بن جعفر بن فلاح فی الوساطة و السفارة، و ولی عبد الرحیم بن الیاس دمشق، فسار إلیها فی جمادی الآخرة سنة تسع و أربعمائة، فأقام فیها شهرین ثم هجم علیه قوم فقتلوا جماعة ممن عنده، و أخذوه فی صندوق و حملوه إلی مصر، ثم أعید إلی دمشق فأقام بها إلی لیلة عید الفطر و أخرج منها. فلما کان للیلتین بقیتا من شوّال سنة عشر و أربعمائة، فقد الحاکم و قیل أن أخته قتلته و لیس بصحیح، و کان عمره ستا و ثلاثین سنة و سبعة أشهر، و کانت مدّة خلافته خمسا و عشرین سنة و شهرا، و کان جوادا سفاکا للدماء، قتل عددا لا یحصی، و کانت سیرته من أعجب السیر، و خطب له علی منابر مصر و الشام و أفریقیة و الحجاز، و کان یشتغل بعلوم الأوائل، و ینظر فی النجوم و عمل رصدا و اتخذ بیتا فی المقطم ینقطع فیه عن الناس لذلک، و یقال أنه کان یعتریه جفاف فی دماغه، فلذلک کثر تناقضه، و ما أحسن ما قال فیه بعضهم، کانت أفعاله لا تعالی، و أحلام وساوسه لا تؤوّل، و قال المسبحیّ و فی محرّم سنة خمس عشرة و أربعمائة قبض علی رجل من بنی حسین ثار بالصعید الأعلی، فأقرّ بأنه قتل الحاکم بأمر اللّه فی جملة أربعة أنفس تفرّقوا فی البلاد، و أظهر قطعة من جلدة رأس الحاکم، و قطعة من الفوطة التی کانت علیه، فقیل له لم قتلته؟ فقال: غیرة للّه و للإسلام. فقیل له: کیف قتلته؟ فأخرج سکینا ضرب بها فؤاده فقتل نفسه. و قال هکذا قتلته. فقطع رأسه و أنفذ به إلی الحضرة مع ما وجد معه، و هذا هو الصحیح فی خبر قتل الحاکم، لا ما تحکیه المشارقة فی کتبهم من أن أخته قتلته.

جامع الفیلة

هذا الجامع بسطح الجرف المطلّ علی برکة الحبش المعروف الآن بالرصد، بناه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 78
الأفضل شاهنشاه بن أمیر الجیوش بدر الجمالیّ فی شعبان سنة ثمان و سبعین و أربعمائة، و بلغت النفقة علی بنائه ستة آلاف دینار، و إنما قیل له جامع الفیلة لأنّ فی قبلته تسع قباب فی أعلاه ذات قناطر، إذا رآها الإنسان من بعید شبهها بمدّرعین علی فیلة، کالتی کانت تعمل فی المواکب أیام الأعیاد، و علیها السریر و فوقها المدّرعون أیام الخلفاء، و لما کمل أقام فی خطابته الشریف الزکیّ أمین الدولة أبا جعفر محمد بن محمد بن هبة اللّه بن علیّ الحسینیّ الأفطسیّ النسابة الکاتب الشاعر الطرابلسیّ، بعد صرفه من قضاء الغربیة، فلما رقی المنبر أوّل خطبة أقیمت فی هذا الجامع قال: بسم اللّه الحمد للّه، و أرتج علیه فلم یدر ما یقول، و کان هناک الشیخ أبو القاسم علیّ بن منجب بن الصیرفیّ الکاتب، و ولده مختص الدولة أبو المجد، و أبو عبد اللّه بن برکات النحویّ، و وجوه الدولة. فلما أضجر من حضر نزل عن المنبر و قد حمّ، فتقدّم قیم الجامع و صلّی و مضی الشریف إلی داره فاعتلّ و مات.
و کان قد ولی قضاء عسقلان و غیرها، ثم قدم إلی مصر فولی الحکم بالمحلة، و ولی دیوان الأحباس، و کان أحد الأعیان الأدباء العارفین بالنسب، و من الشعراء المجیدین و النحاة اللغویین، ولد بطرابلس الشام فی سنة اثنتین و ستین و أربعمائة، و قدم إلی القاهرة فی سنة إحدی و خمسمائة، و مدح الأفضل، و مات فی سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة و خمسمائة، و قد ترشح للنقابة بمصر و لم ینلها مع تطلعه إلیها، و ذیل کتاب أبی الغنائم الزیدیّ النسابة، و من شعره بدیها، و قد نام مع جاریته علی سطوح فطلع القمر علیهما فارتاعا من کشف الجیران علیهما:
و لمّا تلاقینا و غاب رقیبناورمت التشکی فی خلو و فی سرّ
بدا ضوء بدر فافترقنا لضوئه‌فیا من رأی بدرا ینمُّ علی بدر
و أهل المطالب یذکرون أنّ الأفضل وجد بموضع الصهریج مطلبا، فختم علیه أشهرا إلی أن نقله و عمله صهریجا و بنی علیه هذا المسجد، و هذا الشرف الذی علیه جامع الفیلة منظرة فی غایة الحسن، لأنّ فی قبلیه برکة الحبش و بستان الوزیر المغربیّ و العدویة و دیر النسطوریة و بئر أبی سلامة، و هی بئر مدوّرة برسم الغنم، و بئر النعش، کان یستقی منها أصحاب الزوایا، و هی بجوار عفصة الصغری، و هی بئر أبی موسی بن أبی خلید، و سمیت بئر النعش لأنها علی هیئة النعش، و ماؤها یهضم الطعام و هو أصح الأمواه، و شرقیّ هذا الجبل: جبل المقطعم و الجبانة و المغافر و القرافة و آخر الأکحول و ریحان و رعین و الکلاع و الأکسوع، و غربیّ هذا الجبل: المعشوق و النیل و بستان الیهودیّ إلی القبلة، و طموه و الأهرام و راشدة، و بحریّ هذا الجبل بستان الأمیر تمیم، و قنطرة خلیج بنی وائل، و دیر المعدّلین، و عقبة بحصب، و محری قسطنطین، و الشرف و غیر ذلک. و هذا الجامع لا تقام فیه الیوم جمعة و لا جماعة لخراب ما حوله من القرافة و راشدة، و ینزل فیه أحیانا طائفة من العرب بإبلهم یقال لهم المسلمیة، و عما قلیل یدثر کما دثر غیره.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 79

جامع المقیاس

هذا الجامع بجوار مقیاس النیل من جزیرة الفسطاط أنشأه ... .

الجامع الأقمر

قال ابن عبد الظاهر: کان مکانه علافون، و الحوض مکان المنظرة، فتحدث الخلیفة الآمر مع الوزیر المأمون بن البطائحیّ فی إنشائه جامعا، فلم یترک قدّام القصر دکانا، و بنی تحت الجامع المذکور فی أیامه دکاکین و مخازن من جهة باب الفتوح، لا من صوب القصر، و کمل الجامع المذکور فی أیامه، و ذلک فی سنة تسع عشرة و خمسمائة، و ذکر أن اسم الآمر و المأمون علیه. و قال غیره: و اشتری له حمّام شمول و دار النحاس بمصر، و حبسهما علی سدنته و وقود مصابیحه و من یتولی أمره و یؤذن فیه، و ما زال اسم المأمون و الآمر علی لوح فوق المحراب، و فیه تجدید الملک الظاهر بیبرس للجامع المذکور، و لم تکن فیه خطبة، لکنّه یعرف بالجامع الأقمر. فلما کان فی شهر رجب سنة تسع و تسعین و سبعمائة، جدّده الأمیر الوزیر المشیر الأستادار یلبغا بن عبد اللّه السالمیّ، أحد الممالیک الظاهریة، و أنشأ بظاهر بابه البحریّ حوانیت یعلوها طباق، و جدّد فی صحن الجامع برکة لطیفة یصل إلیها الماء من ساقیة، و جعلها مرتفعة ینزل منها الماء إلی من یتوضأ من بزابیز نحاس، و نصب فیه منبرا، فکانت أوّل جمعة جمعت فیه رابع شهر رمضان من السنة المذکورة، و خطب فیه شهاب الدین أحمد بن موسی الحلبیّ أحد نوّاب القضاة الحنفیة، و أرتج علیه، و استمرّ إلی أن مات فی سابع عشری شهر ربیع الأول سنة إحدی و ثمانمائة، و بنی علی یمنة المحراب البحریّ مئذنة، و بیّض الجامع کله و دهن صدره بلازورد و ذهب. فقلت له: قد أعجبنی ما صنعت بهذا الجامع ما خلا تجدید الخطبة فیه و عمل برکة الماء. فإنّ الخطبة غیر محتاج إلیها هاهنا لقرب الخطب من هذا الجامع، و برکة الماء تضیق الصحن. و قد أنشأت میضأة بجوار بابه الذی من جهة الرکن المخلق، فاحتجّ لعمل المنبر بأن ابن الطویر قال فیه کتاب نزهة المقلتین فی أخبار الدولتین، عند ذکر جلوس الخلیفة فی الموالید الستة: و یقدّم خطیب الجامع الأزهر فیخطب کذلک، ثم یحضر خطیب الجامع الأقمر فیخطب کذلک. قال: فهذا أمر قد کان فی الدولة الفاطمیة، و ما أنا بالذی أحدثته، و أما البرکة ففیها عون علی الصلاة لقربها من المصلین، و جعل فوق المحراب لوحا مکتوبا فیه ما کان فیه أوّلا، و ذکر فیه تجدیده لهذا الجامع، و رسم فیه نعوته و ألقابه، و جدّد أیضا حوض هذا الجامع الذی تشرب منه الدواب، و هو فی ظهر الجامع تجاه الرکن المخلق، و بئر هذا الجامع قدیمة قبل الملة الإسلامیة، کانت فی دیر من دیارات النصاری بهذا الموضع.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 80
فلما قدم القائد جوهر بجیوش المعز لدین اللّه فی سنة ثمان و خمسین و ثلاثمائة أدخل هذا الدیر فی القصر، و هو موضع الرکن المخلق تجاه الحوض المذکور، و جعل هذه البئر مما ینتفع به فی القصر، و هی تعرف ببئر العظام، و ذلک أن جوهر انقل من الدیر المذکور عظاما کانت فیه من رمم قوم یقال أنهم من الحواریین، فسمیت بئر العظام، و العامّة تقول إلی الیوم بئر المعظمة، و هی بئر کبیرة فی غایة السعة، و أوّل ما أعرف من إضافتها إلی الجامع الأقمر، أنّ العماد الدمیاطیّ رکب علی فوهتها هذه المحال التی بها الآن، و هی من جید المحال، و کان ترکیبها بعد السبعمائة فی أیام قاضی القضاة عز الدین عبد العزیز بن جماعة الشافعیّ، و بهذا الجامع درس من قدیم الزمان، و لم تزل مئذنته التی جدّدها السالمیّ و البرکة إلی سنة خمس عشرة و ثمانمائة، فولی نظر الجامع بعض الفقهاء، فرأی هدم المئذنة من أجل میل حدث بها، فهدمها و أبطل الماء من البرکة لإفساد الماء بمروره جدار الجامع القبلیّ، و الخطبة قائمة به إلی الآن.
الآمر بأحکام اللّه: أبو علیّ المنصور بن المستعلی بالله أبی القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبی تمیم معدّ بن الظاهر لاعزاز دین اللّه أبی الحسن علیّ بن الحاکم بأمر اللّه أبی علیّ منصور، ولد یوم الثلاثاء ثالث عشر المحرّم سنة تسعین و أربعمائة، و بویع له بالخلافة یوم مات أبوه و هو طفل له من العمر خمس سنین و أشهر و أیام، فی یوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة خمس و تسعین، أحضره الأفضل بن أمیر الجیوش و بایع له و نصبه مکان أبیه، و نعته بالآمر بأحکام اللّه، و رکب الأفضل فرسا و جعل فی السرج شیئا و أرکبه علیه لینمو شخص الآمر، و صار ظهره فی حجر الأفضل، فلم یزل تحت حجره حتی قتل الأفضل لیلة عید الفطر سنة خمس عشرة و خمسمائة، فاستوزر بعده القائد أبا عبد اللّه محمد بن فاتک البطائحیّ، و لقّبه بالمأمون، فقام بأمر دولته إلی أن قبض علیه فی لیلة السبت رابع شهر رمضان سنة تسع عشرة و خمسمائة، فتفرّغ الآمر لنفسه و لم یبق له ضدّ و لا مزاحم، و بقی بغیر وزیر، و أقام صاحبی دیوان أحدهما جعفر بن عبد المنعم، و الآخر سامریّ یقال له أبو یعقوب إبراهیم، و معهما مستوف یعرف بابن أبی نجاح کان راهبا، ثم تحکم هذا الراهب فی الناس و تمکن من الدواوین، فابتدأ فی مطالبة النصاری، و حقق فی جهاتهم الأموال و حملها أوّلا فأوّلا، ثم أخذ فی مصادرة بقیة المباشرین و المعاملین و الضمناء و العمال، و زاد إلی أن عمّ ضرره جمیع الرؤساء و القضاة و الکتاب و السوقة، بحیث لم یخل أحد من ضرره.
فلما تفاقم أمره قبض علیه الآمر و ضرب بالنعال حتی مات بالشرطة، فجر إلی کرسیّ الجسر و سمّر علی لوح و طرح فی النیل، و حذف حتی خرج إلی البحر الملح. فلما کان یوم الثلاثاء رابع عشر ذی القعدة سنة أربع و عشرین و خمسمائة، و ثب جماعة علی الآمر و قتلوه، کما ذکر عند خبر الهودج، و کان کریما سمحا إلی الغایة، کثیر النزهة محبا للمال و الزینة، و کانت أیامه کلها لهوا و عیشة راضیة لکثرة عطائه و عطاء حواشیه، بحیث لم یوجد بمصر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 81
و القاهرة إذ ذاک من یشکو زمانه البتة إلی أن نکّد بالراهب علی الناس، فقبحت سیرته و کثر ظلمه و اغتصابه للأموال.
و فی أیامه ملک الفرنج کثیرا من المعاقل و الحصون بسواحل الشام، فملکت عکافی شعبان سنة سبع و تسعین، و غزة فی رجب سنة اثنتین و خمسمائة، و طرابلس فی ذی الحجة منها، و بانیاس و جبیل و قلعة تبنین فیها أیضا، و ملکوا صور فی سنة ثمان عشرة و خمسمائة، و کثرت المرافعات فی أیامه، و أحدثت رسوم لم تکن، و عمر الهودج بالروضة، و دکة ببرکة الحبش، و عمر تنیس و دمیاط، و جدّد قصر القرافة، و کانت نفسه تحدّثه بالسفر و الغارة إلی بغداد، و من شعره فی ذلک:
دع اللوم عنی لست منی بموثق‌فلا بدّلی من صدمة المتحقق
و أسقی جیادی من فرات و دجلةو أجمع شمل الدین بعد التفرّق
و قال:
أما و الذی حجت إلی رکن بیته‌جراثیم رکبان مقلدة شهبا
لاقتحمنّ الحرب حتی یقال لی‌ملکت زمام الحرب فاعتزل الحربا
و ینزل روح اللّه عیسی ابن مریم‌فیرضی بنا صحبا و نرضی به صحبا
و کان أسمر شدید السمرة، یحفظ القرآن و یکتب خطا ضعیفا، و هو الذی جدّد رسوم الدولة و أعاد إلیها بهجتها بعد ما کان الأفضل أبطل ذلک، و نقل الدواوین و الأسمطة من القصر بالقاهرة إلی دار الملک بمصر، کما ذکر هناک. و قضاته ابن ذکا النابلسیّ، ثم نعمة اللّه بن بشیر، ثم الرشید محمد بن قاسم الصقلیّ، ثم الجلیس بن نعمة اللّه بن بشیر النابلسیّ، ثم صرفه ثانیا بمسلم بن الرسغیّ، و عزله بأبی الحجاج یوسف بن أیوب المغربیّ، ثم مات فولی محمد بن هبة اللّه بن میسر، و کتاب إنشائه سنا الملک أبو محمد الزبیدیّ الحسنیّ، و الشیخ أبو الحسن بن أبی أسامة، و تاج الریاسة أبو القاسم بن الصیرفیّ، و ابن أبی الدم الیهودیّ. و کان نقش خاتمه: الإمام الآمر بأحکام اللّه أمیر المؤمنین. و وقع فی آخر أیامه غلاء قلق الناس منه، و کان جریئا علی سفک الدماء و ارتکاب المحظورات و استحسان القبائح، و قتل و عمره أربع و ثلاثون سنة و تسعة أشهر و عشرون یوما، منها مدّة خلافته تسع و عشرون سنة و ثمانیة أشهر و نصف، و ما زال محجورا علیه حتی قتل الأفضل، و کان یرکب للنزهة دائما عند ما استبدّ، فی یومی السبت و الثلاثاء، و یتحوّل فی أیام النیل بحرمه إلی اللؤلؤة علی الخلیج، و اختص بغلامیه برغش و هزار الملوک.
یلبغا السالمیّ: أبو المعالی عبد اللّه الأمیر سیف الدین الحنفیّ الصوفی الظاهریّ، کان اسمه فی بلاده یوسف، و هو حرّ الأصل، و آباؤه مسلمون. فلما جلب من بلاد المشرق سمی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 82
یلبغا، و قیل له السالمیّ نسبة إلی سالم، تاجره الذی جلبه، فترقّی فی خدم السلطان الملک الظاهر برقوق إلی أن ولّاه نظر خانقاه الصلاح سعید السعداء، فی ثامن عشر جمادی الآخرة سنة سبع و تسعین و سبعمائة، فأخرج کتاب الوقف و قصد أن یعمل بشرط الواقف، و أخرج منها جماعة من بیاض الناس، فجرت أمور ذکرت فی خبر الخانقاه. و فی سابع عشری صفر سنة ثمانمائة، أنعم علیه الملک الظاهر بإمرة عشرة عوضا عن الأمیر بهادر فطیلس، ثم نقله إلی أمرة طبلخاناه، ثم جعله ناظرا علی الخانقاه الشیخونیة بالصلیبة، فی تاسع شعبان سنة إحدی و ثمانمائة، فعسف بمباشر بها و أراد حملهم علی مرّ الحق، فنفرت منه القلوب، و لما مرض الظاهر جعله أحد الأوصیاء علی ترکته، فقام بتحلیف الممالیک السلطانیة للملک الناصر فرج بن برقوق، و الإنفاق علیهم بحضرة الناصر، فأنفق علیهم کل دینار من حساب أربعة و عشرین درهما، و لما انقضت النفقة نودی فی البلدان أنّ صرف کل دینار ثلاثون درهما، و من امتنع نهب ماله و عوقب، فحصل للناس من ذلک شدّة، و کان قد کثر القبض علی الأمراء بعد موت الظاهر، فتحدّث مع الأمیر الکبیر ایتمش القائم بتدبیر دولة الناصر فرج بعد موت أبیه فی أن یکون علی کلّ أمیر من المقدّمین خمسون ألف درهم، و علی کلّ أمیر من الطبلخاناه عشرون ألف درهم، و علی کلّ أمیر عشرة خمسة آلاف درهم، و علی کلّ أمیر خمسة ألفا درهم و خمسمائة درهم. فرسم بذلک و عمل به مدّة ایام الناصر، و حصل به رفق للأمراء و مباشریهم، ثم خلع علیه و استقرّ أستادار السلطان عوضا عن الأمیر الوزیر تاج الدین عبد الرزاق بن أبی الفرج الملکیّ، فی یوم الاثنین ثالث عشری ذی القعدة من السنة المذکورة، فأبطل تعریف منیة بنی خصیب، و ضمان العرصة، و أخصاص الکیالین، و کتب بذلک مرسوما سلطانیا و بعث به إلی والی الأشمونین، و أبطل وفر الشون السلطانیة، و ما کان مقرّرا علی البرددار و هو فی الشهر سبعة آلاف درهم، و ما کان مقرّرا علی مقدّم المستخرج، و هو فی الشهر ثلاثة آلاف درهم، و کانت سماسرة الغلال تأخذ ممن یشتری شیئا من الغلة علی کلّ أردب در همین سمسرة، و کیالة و لواحة و أمانة، فألزمهم أن لا یأخذوا عن کل أردب سوی نصف درهم، و هدّد علی ذلک بالغرامة و العقوبة.
و رکب فی صفر سنة ثلاث و ثمانمائة إلی ناحیة المنیة و شبرا الخیمة من الضواحی بالقاهرة، و کسر منها ما ینیف علی أربعین ألف جرّة خمر، و خرّب بها کنیسة کانت للنصاری، و حمل عدّة جرار فکسرها تحت قلعة الجبل، و علی باب زویلة، و شدّد علی النصاری، فلم یمکنه أمراء الدولة من حملهم علی الصغار و المذلة فی ملبسهم، و أمر فضرب الذهب کلّ دینار زنته مثقال واحدا، و أراد بذلک إبطال ما حدث من المعاملة بالذهب الإفرنجیّ، فضرب ذلک و تعامل الناس به مدّة، و صار یقال دینار سالمیّ إلی أن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 83
ضرب الناصر فرج دنانیر و سماها الناصریة، و صار یحکم فی الأحکام الشرعیة، فقلق منه أمراء الدولة و قاموا فی ذلک، فمنع من الحکم إلّا فیما یتعلق بالدیوان المفرد و غیره مما هو من لوازم الأستادار، و أخذ فی مخاشنة الأمراء عند ما عاد الناصر فرج و قد انهزم من تیمور لنک، و شرع فی إقامة شعار المملکة و النفقة علی العساکر التی رجعت منهزمة، فأخذ من بلاد الأمراء و بلاد السلطان عن کلّ ألف دینار فرسا أو خمسمائة درهم ثمنها، و جبی من أملاک القاهرة و مصر و ظواهرهما أجرة شهر، و أخذ من الرزق عن کلّ فدّان عشرة دراهم، و عن الفدّان من القصب المزروع و القلقاس و النیلة نحو مائة درهم، وجبی من البساتین عن کلّ فدّان مائة درهم، و قام بنفسه و کبس الحواصل لیلا و نهارا و معه جماعة من الفقهاء و غیرهم، و أخذ مما فیها من الذهب و الفضة و الفلوس نصف ما یجد، سواء کان صاحب المال غائبا أو حاضرا، فعمّ ذلک أموال التجار و الأیتام و غیرهم من سائر من وجد له مال، و أخذ ما کان فی الجوامع و المدارس و غیرها من الحواصل، فشمل الناس من ذلک ضرر عظیم، و صار یؤخذ من کل مائة درهم ثلاثة دراهم عن أجرة صرف، و ستة دراهم عن أجرة الرسول، و عشرة دراهم عن أجرة نقیب، فنفرت منه القلوب و انطلقت الألسن بذمّه و الدعاء علیه، و عرض مع ذلک الجند و ألزم من له قدرة علی السفر بالتجهز للسفر إلی الشام لقتال تیمور لنک، و من وجده عاجزا عن السفر ألزمه بحمل نصف متحصل إقطاعه، فقبض علیه فی یوم الاثنین رابع عشر رجب سنة ثلاث و ثمانمائة، و سلّم للقاضی سعد الدین إبراهیم بن غراب، و قرّر مکانه فی الاستاداریة، فلم یزل إلی یوم عید الفطر من السنة المذکورة، فأمر بإطلاقه بعد أن حصر و أهین إهانة کبیرة، ثم قبض علیه و ضرب ضربا مبرّحا حتی أشفی علی الموت، و أطلق فی نصف ذی القعدة و هو مریض، فأخرج إلی دمیاط و أقام بها مدّة، ثم أحضر إلی القاهرة و قلّد وظیفة الوزارة فی سنة خمس و ثمانمائة، و جعل مشیرا، فأبطل مکوس البحیرة و هو ما یؤخذ علی ما یذبح من البقر و الغنم، و استعمل فی أموره العسف، و ترک مداراة الأمراء، و استعجل فقبض علیه و عوقب و سجن إلی أن أخرج فی رمضان سنة سبع و ثمانمائة و قلّد وظیفة الإشارة، و کانت للأمیر جمال الدین یوسف الأستادار، فلم یترک عادته فی الإعجاب برأیه و الاستبداد بالأمور، و استعجال الأشیاء قبل أوانها، فقبض علیه فی ذی الحجة منها و سلّم للأمیر جمال الدین یوسف، فعاقبه و بعث به إلی الإسکندریة، فسجن بها إلی أن سعی جمال الدین فی قتله بمال بذله للناصر فیه حتی أذن له فی ذلک، فقتل خنقا عصر یوم الجمعة و هو صائم السابع عشر من جمادی الآخرة، سنة إحدی عشرة و ثمانمائة رحمه اللّه، و کان کثیر النسک من الصلاة و الصوم و الصدقة، لا یخلّ بشی‌ء من نوافل العبادات، و لا یترک قیام اللیل سفرا و لا حضرا، و لا یصلی قط إلّا بوضوء جدید، و کلما أحدث توضأ، و إذا توضأ صلّی رکعتین، و کان یصوم یوما و یفطر یوما، و یخرج فی کثرة الصدقات عن الحدّ، و یقرأ فیه کلّ ثلاثة أیام ختمة، و لا یترک أوراده فی حال من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 84
الأحوال مع المروءة و الهمة، و سمع کثیرا من الحدیث، و قرأ بنفسه علی المشایخ، و کتب الخط الملیح، و قرأ القراءات السبع، و عرف التصوّف و الفقه و الحساب و النجوم، إلّا أنه کان متهوّرا فی أخذ الأموال عسوفا لجوجا مصمما لا ینقاد إلی أحد، و یستبدّ برأیه فیغلط غلطات لا تحتمل، و یستخف بغیره، و یعجب بنفسه، و یرید أن یجعل غایة الأمور بدایتها، فلذلک لم یتمّ له أمر.

جامع الظافر

هذا الجامع بالقاهرة فی وسط السوق الذی کان یعرف قدیما بسوق السرّاجین، و یعرف الیوم بسوق الشوّایین، کان یقال له الجامع الأفخر، و یقال له الیوم جامع الفاکهیین، و هو من المساجد الفاطمیة، عمره الخلیفة الظافر بنصر اللّه أبو المنصور إسماعیل بن الحافظ لدین اللّه أبی المیمون عبد المجید بن الآمر بأحکام اللّه منصور، و وقف حوانیته علی سدنته و من یقرأ فیه. قال ابن عبد الظاهر: بناه الظافر، و کان قبل ذلک زریبة تعرف بدار الکباش، و بناه فی سنة ثلاث و أربعین و خمسمائة، و سبب بنائه أن خادما رأی من مشرف عال ذباحا و قد أخذ رأسین من الغنم، فذبح أحدهما ورمی سکینته و مضی لیقضی حاجته، فأتی رأس الغنم الآخر و أخذ السکین بفمه و رماها فی البالوعة، فجاء الجزّار یطوف علی السکین، فلم یجدها، و أما الخادم فإنه استصرخ و خلصه منه، و طولع بهذه القضیة أهل القصر، فأمروا بعمله جامعا، و یسمی الجامع الأفخر، و به حلقة تدریس و فقهاء و متصدّرون للقرآن، و أوّل ما أقیمت به الجمعة فی ... .

جامع الصالح

اشارة

هذا الجامع من المواضع التی عمرت فی زمن الخلفاء الفاطمیین، و هو خارج باب زویلة. قال ابن عبد الظاهر: کان الصالح طلائع بن رزیک لما خیف علی مشهد الإمام الحسین رضی اللّه عنه إذ کان بعسقلان من هجمة الفرنج، و عزم علی نقله، قد بنی هذا الجامع لیدفنه به، فلما فرغ منه لم یمکنه الخلیفة من ذلک و قال: لا یکون إلّا داخل القصور الزاهرة، و بنی المشهد الموجود الآن و دفن به، و تمّ الجامع المذکور، و استمرّ جلوس زین الدین الواعظ به، و حضور الصالح إلیه. فیقال أنّ الصالح لما حضرته الوفاة جمع أهله و أولاده و قال لهم فی جملة وصیته: ما ندمت قط فی شی‌ء عملته إلّا فی ثلاثة، الأوّل بنائی هذا الجامع علی باب القاهرة، فإنه صار عونا لها. و الثانی: تولیتی لشاور الصعید الأعلی.
و الثالث: خروجی إلی بلبیس بالعساکر و إنفاقی الأموال الجمة، و لم أتم بهم إلی الشام و أفتح بیت المقدس و استأصل ساقة الفرنج. و کان قد أنفق فی العساکر فی تلک الدفعة مائة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 85
ألف دینار، و بنی فی الجامع المذکور صهریجا عظیما، و جعل ساقیة علی الخلیج قریب باب الخرق تملأ الصهریج المذکور أیام النیل، و جعل المجاری إلیه، و أقیمت الجمعة فیه فی الأیام المعزیة فی سنة بضع و خمسین و ستمائة بحضور رسول بغداد الشیخ نجم الدین عبد اللّه البادرانیّ، و خطب به أصیل الدین أبو بکر الأسعردیّ، و هی إلی الآن، و لما حدثت الزلزلة سنة اثنتین و سبعمائة تهدّم، فعمر علی ید الأمیر سیف الدین بکتمر الجوکندار.
طلائع بن رزیک: أبو الغارات الملک الصالح فارس المسلمین نصیر الدین، قدم فی أوّل أمره إلی زیارة مشهد الإمام علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه بأرض النجف من العراق فی جماعة من الفقراء، و کان من الشیعة الإمامیة، و إمام مشهد علیّ رضی اللّه عنه یومئذ السید ابن معصوم، فزار طلائع و أصحابه و باتوا هنالک، فرأی ابن معصوم فی منامه علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه و هو یقول له: قد ورد علیک اللیلة أربعون فقیرا، من جملتهم رجل یقال له طلائع بن رزیک من أکبر محبینا، قل له اذهب فقد ولیناک مصر. فلما أصبح أمر أن ینادی: من فیکم طلائع بن رزیک فلیقم إلی السید ابن معصوم. فجاء طلائع و سلّم علیه، فقصّ علیه ما رأی، فسار حینئذ إلی مصر و ترقی فی الخدم حتی ولی منیة بنی خصیب، فلما قتل نصر بن عباس، الخلیفة الظافر، بعث نساء القصر إلی طلائع یستغثن به فی الأخذ بثار الظافر، و جعلن فی طیّ الکتب شعور النساء، فجمع طلائع عندما وردت علیه الکتب الناس، و سار یرید القاهرة لمحاربة الوزیر عباس، فعندما قرب من البلد فرّ عباس و دخل طلائع إلی القاهرة، فخلع علیه خلع الوزارة و نعت بالملک الصالح فارس المسلمین نصیر الدین، فباشر البلاد أحسن مباشرة، و استبدّ بالأمر لصغر سنّ الخلیفة الفائز بنصر اللّه إلی أن مات، فأقام من بعده عبد اللّه بن محمد و لقبه بالعاضد لدین اللّه، و بایع له، و کان صغیرا لم یبلغ الحلم، فقویت حرمة طلائع و ازداد تمکنه من الدولة، فثقل علی أهل القصر لکثرة تضییقه علیهم، و استبداده بالأمر دونهم، فوقف له رجال بدهالیز القصر و ضربوه حتی سقط علی الأرض علی وجهه، و حمل جریحا لا یعی إلی داره، فمات یوم الاثنین تاسع عشر شهر رمضان سنة ست و خمسین و خمسمائة، و کان شجاعا کریما جوادا فاضلا محبا لأهل الأدب جید الشعر، رجل وقته فضلا و عقلا و سیاسة و تدبیرا، و کان مهابا فی شکله، عظیما فی سطوته، و جمع أموالا عظیمة، و کان محافظا علی الصلوات فرائضها و نوافلها، شدید المغالات فی التشیع، صنف کتابا سماه الاعتماد فی الردّ علی أهل العناد، جمع له الفقهاء و ناظرهم علیه، و هو یتضمن إمامة علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، و الکلام علی الأحادیث الواردة فی ذلک، و له شعر کثیر یشتمل علی مجلدین فی کلّ فن، فمنه فی اعتقاده:
یا أمة سلکت ضلالا بیناحتی استوی إقرارها و جحودها
ملتم إلی أنّ المعاصی لم یکن‌إلّا بتقدیر الإله وجودها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 86 لو صح ذا کان الإله بزعمکم‌منع الشریعة أن تقام حدودها
حاشا و کلّا أنّ یکون إلهناینهی عن الفحشاء ثم یریدها
و له قصیدة سماها الجوهریة، فی الردّ علی القدریة، و جدّد الجامع الذی بالقرافة الکبری، و وقف ناحیة بلقس علی أن یکون ثلثاها علی الأشراف من بنی حسن و بنی حسین ابنی علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنهم، و سبع قراریط منها علی أشراف المدینة النبویة، و جعل فیها قیراطا علی بنی معصوم إمام مشهد علیّ رضی اللّه عنه، و لما ولی الوزارة مال علی المستخدمین بالدولة و علی الأمراء، و أظهر مذهب الإمامیة و هو مخالف لمذهب القوم، و باع ولایات الأعمال للأمراء بأسعار مقرّرة، و جعل مدة کلّ متولی ستة أشهر، فتضرّر الناس من کثرة تردّد الولاة علی البلاد، و تعبوا من ذلک، و کان له مجلس فی اللیل یحضره أهل العلم و یدوّنون شعره، و لم یترک مدّة أیامه غزو الفرنج و تسییر الجیوش لقتالهم فی البرّ و البحر، و کان یخرج البعوث فی کل سنة مرارا، و کان یحمل فی کلّ عام إلی أهل الحرمین مکة و المدینة من الأشراف سائر ما یحتاجون إلیه من الکسوة و غیرها، حتی یحمل إلیهم ألواح الصبیان التی یکتب فیها، و الأقلام و المداد و آلات النساء، و یحمل کلّ سنة إلی العلویین الذین بالمشاهد جملا کبیرة، و کان أهل العلم یغدون إلیه من سائر البلاد، فلا یخیب أمل قاصد منهم.
و لما کان فی اللیلة التی قتل صبیحتها قال: فی هذه اللیلة ضرب فی مثلها أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، و أمر بقربة ممتلئة فاغتسل و صلّی علی رأی الإمامیة مائة و عشرین رکعة، أحیا بها لیله، و خرج لیرکب فعثر و سقطت عمامته عن رأسه و تشوّشت، فقعد فی دهلیز دار الوزارة و أمر بإحضار ابن الضیف، و کان یتعمم للخلفاء و الوزراء، و له علی ذلک الجاری الثقیل، فلما أخذ فی إصلاح العمامة قال رجل للصالح:
نعیذ بالله مولانا، و یکفیه هذا الذی جری أمرا یتطیر منه، فإن رأی مولانا أن یؤخر الرکوب فعل، فقال: الطیرة من الشیطان، لیس إلی تأخیر الرکوب سبیل، و رکب فکان من ضربه ما کان، و عاد محمولا فمات منها کما تقدّم.

ذکر الأحباس و ما کان یعمل فیها

اعلم أن الأحباس فی القدیم لم تکن تعرف إلّا فی الرباع و ما یجری مجراها من المبانی، و کلها کانت علی جهات برّ. فأما المسجد الجامع العتیق بمصر، فکان یلی إمامته فی الصلوات الخمس، و الخطابة فیه یوم الجمعة، و الصلاة بالناس صلاة الجمعة أمیر البلد، فتارة یجمع للأمیر بین الصلاة و الخراج، و تارة یفرد الخراج عن الأمیر، فیکون الأمیر إلیه أمر الصلاة بالناس و الحرب، و الآخر أمر الخراج، و هو دون مرتبة أمیر الصلاة و الحرب، و کان الأمیر یستخلف عنه فی الصلاة صاحب الشرطة إذا شغله أمر، و لم یزل الأمر علی ذلک إلی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 87
أن ولی مصر عنبسة بن إسحاق بن شمر من قبل المستنصر بن المتوکل علی الصلاة و الخراج، فقدمها لخمس خلون من ربیع الآخر سنة ثمان و ثلاثین و مائتین، و أقام إلی مستهل رجب سنة اثنتین و أربعین و مائتین، و صرف فکان آخر من ولی مصر من العرب، و آخر أمیر صلّی بالناس فی المسجد الجامع، و صار یصلّی بالناس رجل یرزق من بیت المال، و کذلک المؤذنون و نحوهم، و أما الأراضی فلم یکن سلف الأمّة من الصحابة و التابعین یتعرّضون لها، و إنما حدث ذلک بعد عصرهم، حتی أنّ أحمد بن طولون لما بنی الجامع و المارستان و السقایة، و حبس علی ذلک الأحباس الکثیرة، لم یکن فیها سوی الرباع و نحوها بمصر، و لم یتعرّض إلی شی‌ء من أراضی مصر البتة، و حبس أبو بکر محمد بن علیّ الماردانیّ برکة الحبش و سیوط و غیرهما علی الحرمین و علی جهات برّ، و حبس غیره أیضا.
فلما قدمت الدولة الفاطمیة من الغرب إلی مصر، بطل تحبیس البلاد، و صار قاضی القضاة یتولی أمر الأحباس من الرباع، و إلیه أمر الجوامع و المشاهد، و صار للإحباس دیوان مفرد، و أوّل ما قدم المعز أمر فی ربیع الآخر سنة ثلاث و ستین و ثلاثمائة بحمل مال الأحباس من المودع إلی بیت المال الذی لوجوه البرّ، و طولب أصحاب الأحباس بالشرائط لیحملوا علیها. و ما یجب لهم فیها، و للنصف من شعبان ضمن الأحباس محمد بن القاضی أبی الطاهر محمد بن أحمد بألف ألف و خمسمائة ألف درهم فی کلّ سنة، یدفع إلی المستحقین حقوقهم و یحمل ما بقی إلی بیت المال. و قال ابن الطویر: الخدمة فی دیوان الأحباس و هو أوفر الدواوین مباشرة، و لا یخدم فیه إلّا أعیان کتّاب المسلمین من الشهود المعدّلین، بحکم أنها معاملة دینیة، و فیها عدّة مدبرین ینوبون عن أرباب هذه الخدم فی إیجاب أرزاقهم من دیوان الرواتب، و ینجزون لهم الخروج بإطلاق أرزاقهم، و لا یوجب لأحد من هؤلاء خرج إلّا بعد حضور ورقة التعریف، من جهة مشارف الجوامع و المساجد باستمرار خدمته ذلک الشهر جمیعه، و من تأخر تعریفه تأخر الإیجاب له، و إن تمادی ذلک استبدل به، أو توفر ما باسمه لمصلحة أخری، خلا جواری المشاهد فإنها لا توفر، لکنها تنقل من مقصر إلی ملازم، و کان یطلق لکل مشهد خمسون درهما فی الشهر برسم الماء لزوّارها، و یجری من معاملة سواقی السبیل بالقرافة و النفقة علیها من ارتفاعه، فلا تخلو المصانع و لا الأحواض من الماء أبدا، و لا یعترض أحد من الانتفاع به، و کان فیه کاتبان و معینان.
و قال المسبحی فی حوادث سنة ثلاث و أربعمائة: و أمر الحاکم بأمر اللّه بإثبات المساجد التی لا غلة لها، و لا أحد یقوم بها، و ماله منها غلة لا تقوم بما یحتاج إلیه، فأثبت فی عمل، و رفع إلی الحاکم بأمر اللّه، فکانت عدّة المساجد علی الشرح المذکور ثمانمائة و ثلاثین مسجدا، و مبلغ ما تحتاج إلیه من النفقة فی کلّ شهر تسعة آلاف و مائتان و عشرون درهما. علی أنّ لکلّ مسجد فی کلّ شهر اثنی عشر درهما. و قال فی حوادث سنة خمس
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 88
و أربعمائة: و قری‌ء یوم الجمعة ثامن عشری صفر سجل بتحبیس عدّة ضیاع، و هی: اطفیح وصول و طوخ و ست ضیاع أخر، و عدّة قیاسر و غیرها علی القرّاء و الفقهاء و المؤذنین بالجوامع، و علی المصانع و القوّام بها، و نفقة المارستانات و أرزاق المستخدمین فیها و ثمن الأکفان.
و قال الشریف بن أسعد الجوّانیّ: کان القضاة بمصر إذا بقی لشهر رمضان ثلاثة أیام طافوا یوما علی المساجد و المشاهد بمصر و القاهرة یبدأون بجامع المقس، ثم القاهرة، ثم المشاهد، ثم القرافة، ثم جامع مصر، ثم مشهد الرأس لنظر حصر ذلک و قنادیله و عمارته و ما تشعث منه، و ما زال الأمر علی ذلک إلی أن زالت الدولة الفاطمیة. فلما استقرّت دولة بنی أیوب أضیفت الأحباس أیضا إلی القاضی، ثم تفرّقت جهات الأحباس فی الدولة الترکیة و صارت إلی یومنا هذا ثلاث جهات: الأولی تعرف بالأحباس، و یلی هذه الجهة دوادار السلطان، و هو أحد الأمراء و معه ناظر الأحباس، و لا یکون إلّا من أعیان الرؤساء، و بهذه الجهة دیوان فیه عدّة کتاب و مدبر، و أکثر ما فی دیوان الأحباس الرزق الإحباسیة، و هی أراض من أعمال مصر علی المساجد و الزوایا للقیام بمصالحها، و علی غیر ذلک من جهات البرّ، و بلغت الرزق الإحباسیة فی سنة أربعین و سبعمائة عند ما حرّرها النشو ناظر الخاص فی أیام الملک الناصر محمد بن قلاون، مائة ألف و ثلاثین ألف فدّان، عمل النشو بها أوراقا، و حدّث السلطان فی إخراجها عمن هی باسمه و قال: جمیع هذه الرزق أخرجها الدواوین بالبراطیل و التقرّب إلی الأمراء و الحکام، و أکثرها بأیدی أناس من فقهاء الأریاف لا یدرون الفقه، یسمون أنفسهم الخطباء، و لا یعرفون کیف یخطبون و لا یقرءون القرآن، و کثیر منها بأسماء مساجد و زوایا معطلة و خراب، و حسن له أن یقیم شادّا و دیوانا یسیر فی النواحی و ینظر فی المساجد التی هی عامرة، و یصرف لها من رزقها النصف، و ما عدا ذلک یجری فی دیوان السلطان. فعاجله اللّه و قبض علیه قبل عمل شی‌ء من ذلک.
الجهة الثانیة تعرف بالأوقاف الحکمیة بمصر و القاهرة، ویلی هذه الجهة قاضی القضاة الشافعیّ، و فیها ما حبس من الرباع علی الحرمین و علی الصدقات و الأسری و أنواع القرب، و یقال لمن یتولی هذه الجهة ناظر الأوقاف، فتارة ینفرد بنظر أوقاف مصر و القاهرة رجل واحد من أعیان نوّاب القاضی، و تارة ینفرد بأوقاف القاهرة ناطر من الأعیان، و یلی نظر أوقاف مصر آخر، و لکلّ من أوقاف البلدین دیوان فیه کتّاب و جباة، و کانت جهة عامرة یتحصل منها أموال جمة، فیصرف منها لأهل الحرمین أموال عظیمة فی کلّ سنة، تحمل من مصر إلیهم مع من یثق به قاضی القضاة، و تفرّق هناک صررا، و یصرف منها أیضا بمصر و القاهرة لطلبة العلم و لأهل الستر و للفقراء شی‌ء کثیر، إلّا أنها اختلت و تلاشت فی زمننا هذا، و عما قلیل إن دام ما نحن فیه لم یبق لها أثر البتة، و سبب ذلک أنه ولی قضاء الحنفیة کمال الدین عمر بن العدیم فی أیام الملک الناصر فرج، و ولایة الأمیر جمال الدین یوسف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 89
تدبیر الأمور و المملکة، فتظاهرا معا علی إتلاف الأوقاف، فکان جمال الدین إذا أراد أخذ وقف من الأوقاف، أقام شاهدین یشهدان بأن هذا المکان یضرّ بالجار و المارّ، و أن الحظ فیه.
أن یستبدل به غیره، فیحکم له قاضی القضاة کمال الدین عمر بن العدیم باستبدال ذلک، و شره جمال الدین فی هذا الفعل کما شره فی غیره، فحکم له المذکور باستبدال القصور العامرة، و الدور الجلیلة بهذه الطریقة، و الناس علی دین ملکهم، فصار کلّ من یرید بیع وقف أو شراء وقف سعی عند القاضی المذکور بجاه أو مال، فیحکم له بما یرید من ذلک، و استدرج غیره من القضاة إلی نوع آخر، و هو أن تقام شهود القیمة فیشهدون بأن هذا الوقف ضارّ بالجار و المار، و أن الحظ و المصلحة فی بیعه أنقاضا، فیحکم قاض شافعیّ المذهب ببیع تلک الأنقاض. و استمرّ الأمر علی هذا إلی وقتنا هذا الذی نحن فیه، ثم زاد بعض سفهاء قضاة زمننا فی المعنی و حکم ببیع المساجد الجامعة إذا خرب ما حولها، و أخذ ذریة واقفها ثمن أنقاضها، و حکم آخر منهم ببیع الوقف و دفع الثمن لمستحقه من غیر شراء بدل، فامتدّت الأیدی لبیع الأوقاف حتی تلف بذلک سائر ما کان فی قرافتی مصر من الترب، و جمیع ما کان من الدور الجلیلة، و المساکن الأنیقة، بمصر الفسطاط و منشأة المهرانیّ و منشأة الکتاب و زریبة قوصون و حکر ابن الأثیر و سویقة الموفق، و ما کان فی الحکورة من ذلک، و ما کان بالجوّانیة و العطوفیة و غیرها من حارات القاهرة و غیرها، فکان ما ذکر أحد أسباب الخراب، کما هو مذکور فی موضعه من هذا الکتاب.
الجهة الثالثة: الأوقاف الأهلیة، و هی التی لها ناظر خاص، إمّا من أولاد الواقف أو من ولاة السلطان أو القاضی، و فی هذه الجهة الخوانک و المدارس و الجوامع و الترب، و کان متحصلها قد خرج عن الحدّ فی الکثرة لما حدث فی الدولة الترکیة من بناء المدارس و الجوامع و الترب و غیرهما، و صاروا یفردون أراضی من أعمال مصر و الشامات، و فیها بلاد مقرّرة، و یقیمون صورة یتملکونها بها و یجعلونها وقفا علی مصارف کما یریدون، فلما استبدّ الأمیر برقوق بأمر بلاد مصر قبل أن یتلقب باسم السلطنة، همّ بارتجاع هذه البلاد و عقد مجلسا فیه شیخ الإسلام سراج الدین عمر بن رسلان البلقینیّ، و قاضی القضاة بدر الدین محمد بن أبی البقاء، و غیره. فلم یتهیأ له ذلک، فلما جلس علی تخت الملک صار أمراؤه یستأجرون هذه النواحی من جهات الأوقاف، و یؤجرونها للفلاحین بأزید مما استأجروا، فلما مات الظاهر فحش الأمر فی ذلک و استولی أهل الدولة علی جمیع الأراضی الموقوفة بمصر و الشامات، و صار أجودهم من یدفع فیها لمن یستحق ریعها عشر ما یحصل له، و إلّا فکثیر منهم لا یدفع شیئا البتة، لا سیما ما کان من ذلک فی بلاد الشام، فإنه استهلک و أخذ، و لذلک کان أسوأ الناس حالا فی هذه المحن التی حدثت منذ سنة ست و ثمانمائة الفقهاء، لخراب الموقوف علیها و بیعه و استیلاء أهل الدولة علی الأراضی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 90

الجامع بجوار تربة الشافعیّ بالقرافة

هذا الجامع کان مسجدا صغیرا، فلما کثر الناس بالقرافة الصغری عندما عمر السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب المدرسة بجوار قبر الإمام الشافعیّ رضی اللّه عنه، و جعل لها مدرّسا و طلبة، زاد الملک الکامل محمد بن العادل أبی بکر بن أیوب فی المسجد المذکور، و نصب به منبرا و خطب فیه، و صلیت الجمعة به فی سنة سبع و ستمائة.

جامع محمود بالقرافة

هذا المسجد قدیم و الخطبة فیه متجدّدة، و ینسب لمحمود بن سالم بن مالک الطویل، من أجناد السریّ بن الحکم أمیر مصر بعد سنة مائتین من الهجرة. قال القضاعیّ: المسجد المعروف بمحمود، یقال أن محمودا هذا کان رجلا جندیا من جند السریّ بن الحکم أمیر مصر، و أنه هو الذی بنی هذا المسجد، و ذلک أنّ السریّ بن الحکم رکب یوما فعارضه رجل فی طریقه فکلمه و وعظه بما غاظه، فالتفت عن یمینه فرأی محمودا، فأمره بضرب عنق الرجل ففعل. فلما رجع محمود إلی منزله تفکر و ندم و قال: رجل یتکلم بموعظة بحق فیقتل بیدی و أنا طائع غیر مکره علی ذلک، فهلا امتنعت، و کثر أسفه و بکاؤه و آلی علی نفسه أن یخرج من الجندیة و لا یعود فیها، و لم ینم لیلته من الغمّ و الندم، فلما أصبح غدا إلی السریّ فقال له: إنی لم أنم فی هذه اللیلة علی قتل الرجل، و أنا أشهد اللّه عز و جلّ و أشهدک أنی لا أعود فی الجندیة، فأسقط اسمی منهم، و إن أردت نعمتی فهی بین یدیک، و خرج من بین یدیه و حسنت توبته و أقبل علی العبادة، و اتخذ المسجد المعروف بمسجد محمود و أقام فیه.
و قال ابن المتوج: المسجد الجامع المشهور بسفح المقطم، هذا الجامع من مساجد الخطبة، و هو بسفح الجبل المقطم بالقرافة الصغری، و أوّل من خطب فیه السید الشریف شهاب الدین الحسین بن محمد قاضی العسکر، و المدرّس بالمدرسة الناصریة الصلاحیة بجوار جامع عمرو، و به عرفت بالشریفیة و سفیر الخلافة المعظمة، و توفی فی شوّال سنة خمس و خمسین و ستمائة، و کان أیضا نقیب الأشراف.

جامع الروضة بقلعة جزیرة الفسطاط

قال ابن المتوج: هذا الجامع عمره السلطان الملک الصالح نجم الدین أیوب، و کان أمام بابه کنیسة تعرف بابن لقلق بترک الیعاقبة، و کان بها بئر مالحة، و ذلک مما عدّ من عجائب مصر أن فی وسط النیل جزیرة بوسطها بئر مالحة، و هذه البئر التی رأیتها کانت قبالة باب المسجد الجامع، و إنما ردمت بعد ذلک، و هذا الجامع لم یزل بید بنی الرّدّاد و لهم نوّاب عنهم فیه، ثم لما کانت أیام السلطان الملک المؤید شیخ المحمودیّ هدم هذا الجامع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 91
فی شهر رجب سنة ثلاث و عشرین و ثمانمائة، و وسعه بدور کانت إلی جانبه، و شرع فی عمارته فمات قبل الفراغ منه.

جامع غین بالروضة

قال ابن المتوّج: المسجد الجامع بروضة مصر یعرف بجامع غین، و هو القدیم، و لم تزل الخطبة قائمة فیه إلی أن عمر جامع المقیاس فبطلت الخطبة منه، و لم تزل الخطبة بطالة منه إلی الدولة الظاهریة، فکثرت عمائر الناس حوله فی الروضة و قلّ الناس فی القلعة، و صاروا یجدون مشقة فی مشیهم من أوائل الروضة، و عمر الصاحب محیی الدین أحمد ولد الصاحب بهاء الدین علیّ بن حنا داره علی خوخة الفقیه نصر قبالة هذا الجامع، فحسن له إقامة الجمعة فی هذا الجامع لقربه منه و من الناس، فتحدّث مع والده فشاور السلطان الملک الظاهر بیبرس، فوقع منه بموقع لکثرة رکوبه بحر النیل و اعتنائه بعمارة الشوانی و لعبها فی البحر، و نظره إلی کثرة الخلائق بالروضة، و رسم بإقامة الخطبة فیه مع بقاء الخطبة بجامع القلعة لقوّة نیته فی عمارتها علی ما کانت علیه، فأقیمت الخطبة به فی سنة ستین و ستمائة، و ولی خطابته أقضی القضاة جمال الدین بن الغفاریّ، و کان ینوب بالجیزة فی الحکم، ثم ناب فی الحکم بمصر عن قاضی القضاة وجیه الدین البهنسیّ، و کان إمامه فی حال عطلته من الخطبة، فلما أقیمت فیه الخطبة أضیفت إلیه الخطابة فیه مع الإمامة.
غین أحد خدّام الخلیفة الحاکم بأمر اللّه، خلع علیه فی تاسع ربیع الآخر سنة اثنتین و أربعمائة، و قلده سیفا و أعطاه سجلا قری‌ء فإذا فیه أنه لقب بقائد القوّاد، و أمر أن یکتب بذلک و یکاتب به، و رکب و بین یدیه عشرة أفراس بسروجها و لجمها، و فی ذی القعدة من السنة المذکورة أنفذ إلیه الحاکم خمسة آلف دینار، و خمسة و عشرین فرسا بسروجها و لجمها، و قلده الشرطتین و الحسبة بالقاهرة و مصر و الجیزة، و النظر فی أمور الجمیع و أموالهم و أحوالهم کلها، و کتب له سجلا بذلک قری‌ء بالجامع العتیق، فنزل إلی الجامع و معه سائر العسکر و الخلع علیه، و حمل علی فرسین، و کان فی سجله مراعاة أمر النبیذ و غیره من المسکرات، و تتبع ذلک و التشدید فیه، و فی المنع من عمل الفقاع و بیعه، و من أکل الملوخیا و السمک الذی لا قشر له، و المنع من الملاهی کلها، و التقدّم بمنع النساء من حضور الجنائز، و المنع من بیع العسل، و أن لا یتجاوز فی بیعه أکثر من ثلاثة أرطال لمن لا یسبق إلیه ظنه أن یتخذ منه مسکرا، فاستمرّ ذلک إلی غرّة صفر سنة أربع و أربعمائة، فصرف عن الشرطتین و الحسبة بمظفر الصقلیّ. فلما کان یوم الاثنین ثامن عشر ربیع الآخر منها، أمر بقطع یدی کاتبه أبی القاسم علیّ بن أحمد الجرجانیّ فقطعتا جمیعا، و ذلک أنه کان یکتب عند السیدة الشریفة أخت الحاکم، فانتقل من خدمتها إلی خدمة غین خوفا علی نفسه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 92
من خدمتها، فسخطت لذلک، فبعث إلیها یستعطفها و یذکر فی رقعته شیئا وقفت علیه، فارتابت منه فظنت أن ذلک حیلة علیها، و أنفذت الرقعة فی طیّ رقعتها إلی الحاکم، فلما وقف علیها اشتدّ غضبه و أمر بقطع یدیه جمیعا فقطعتا، و قیل بل کان غین هو الذی یوصل رقاع عقیل صاحب الخبر إلی الحاکم فی کلّ یوم، فیأخذها من عقیل و هی مختومة بخاتمه و یدفعها لکاتبه أبی القاسم الجرجانیّ، حتی یخلو له وجه الحاکم فیأخذها حینئذ من کاتبه و یوقفه علیها، و کان الجرجانیّ یفک الختم و یقرأ الرقاع، فلما کان فی یوم من الأیام فک رقعة فوجد فیها طعنا علی غین أستاذه، و قد ذکر فیها بسوء، فقطع ذلک الموضع و أصلحه و أعاد ختم الرقعة، فبلغ ذلک عقیلا صاحب الخبر فبعث إلی الحاکم یستأذنه فی الاجتماع به خلوة فی أمر مهم، فأذن له، و حدّثه بالخبر، فأمر حینئذ بقطع یدی الجرجانیّ فقطعتا، ثم بعد قطع یدیه بخمسة عشر یوما فی ثالث جمادی الأولی، قطعت ید غین الأخری، و کان قد أمر بقطع یده قبل ذلک بثلاث سنین و شهر، فصار مقطوع الیدین معا، و لما قطعت یده حملت فی طبق إلی الحاکم، فبعث إلیه بالأطباء و وصله بألوف من الذهب و عدّة من أسفاط ثیاب، و عاده جمیع أهل الدولة، فلما کان ثالث عشره أمر بقطع لسانه فقطع و حمل إلی الحاکم، فسیّر إلیه الأطباء و مات بعد ذلک.

جامع الأفرم

قال ابن المتوّج: هذا الجامع بسفح الرصد، عمره الأمیر عز الدین أیبک بن عبد اللّه المعروف بالأفرم أمیر جاندار الملکیّ الصالحیّ النجمیّ، فی شهور سنة ثلاث و ستین و ستمائة، لما عمر المنظرة هناک، و عمر بجوارها رباطا للفقراء، و قرّرهم عدّة تنعقد بهم الجمعة، و قرّر إقامتهم فیه لیلا و نهارا، و قرّر کفایتهم و إعانتهم علی الإقامة، و عمر لهم هذا الجامع یستغنون به عن السعی إلی غیره، و ذکر أن الأفرم أیضا عمر مسجدا بجسر الشعیبیة فی شعبان سنة ثلاث و تسعین و ستمائة، جامعا هدم فیه عدّة مساجد.

الجامع بمنشأة المهرانیّ

قال ابن المتوّج: و السبب فی عمارة هذا الجامع، أن القاضی الفاضل کان له بستان عظیم فیما بین میدان اللوق و بستان الخشاب، الذی أکله البحر، و کان یمیر مصر و القاهرة من ثماره و أعنابه، و لم تزل الباعة ینادون علی العنب رحم اللّه الفاضل یا عنب إلی مدّة سنین عدیدة بعد أن أکله البحر، و کان قد عمر إلی جانبه جامعا و بنی حوله، فسمیت بمنشأة الفاضل، و کان خطیبه أخا الفقیه موفق الدین بن المهدویّ الدیباجیّ العثمانیّ، و کان قد عمر بجواره دارا و بستانا و غرس فیه أشجارا حسنة، و دفع إلیه ألف دینار مصریة فی أوّل الدولة الظاهریة، و کان الصرف قد بلغ فی ذلک الوقت کل دینار ثمانیة و عشرین درهما
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 93
و نصف درهم نقرة ، فاستولی البحر علی الجامع و الدار و المنشأة، و قطع جمیع ذلک حتی لم یبق له أثر، و کان خطیبه موفق الدین یسکن بجوار الصاحب بهاء الدین علیّ بن محمد بن حنا، و یتردّد إلیه و إلی والده محیی الدین، فوقف و ضرع إلیهما و قال: أکون غلام هذا الباب و یخرب جامعی، فرحمه الصاحب و قال: السمع و الطاعة یدبر اللّه، ثم فکر فی هذه البقعة التی فیها هذا الجامع الآن، و کانت تعرف بالکوم الأحمر، مرصدة لعمل أقمنة الطوب الآجریة، سمیت بالکوم الأحمر، و کان الصاحب فخر الدین محمد بن الصاحب بهاء الدین علیّ بن محمد بن حنا، قد عمر منظرة قبالة هذا الکوم، و هی التی صارت دار ابن صاحب الموصل، و کان فخر الدین کثیر الإقامة فیها مدّة الأیام المعزیة، فقلق من دخان الأقمنة التی علی الکوم الأحمر، و شکا ذلک لوالده و لصهره الوزیر شرف الدین هبة اللّه بن صاعد الفائزیّ، فأمرا بتقویمه، فقوّم ما بین بستان الحلیّ و بحر النیل و ابتاعه الصاحب بهاء الدین، فلما مات ولده فخر الدین و تحدّث مع الملک الظاهر بیبرس فی عمارة جامع هناک، ملّکه هذه القطعة من الأرض، فعمر السلطان بها هذا الجامع و وقف علیه بقیة هذه الأرض المذکورة، فی شهر رمضان سنة إحدی و سبعین و ستمائة، و جعل النظر فیه لأولاده و ذریته، ثم من بعدهم لقاضی القضاة الحنفیّ، و أوّل من خطب فیه الفقیه موفق الدین محمد بن أبی بکر المهدویّ العثمانیّ الدیباجیّ إلی أن توفی یوم الأربعاء، ثالث عشر شوّال سنة خمس و ثمانین و ستمائة، و قد تعطلت إقامة الجمعة من هذا الجامع لخراب ما حوله، و قلة الساکنین هناک، بعد أن کانت تلک الخطة فی غایة العمارة، و کان صاحبنا شمس الدین محمد بن الصاحب قد عزم علی نقل هذا الجامع من مکانه، فاخترمته المنیة قبل ذلک.

جامع دیر الطین

قال ابن المتوّج: هذا الجامع بدیر الطین فی الجانب الشرقیّ، عمره الصاحب تاج الدین بن الصاحب فخر الدین ولد الصاحب بهاء الدین، المشهور بابن حنا، فی المحرّم سنة اثنتین و سبعین و ستمائة، و ذلک أنه لما عمر بستان المعشوق و مناظره و کثرت إقامته بها، و بعد علیه الجامع، و کان جامع دیر الطین ضیقا لا یسع الناس، فعمر هذا الجامع و عمر فوقه طبقة یصلی فیها و یعتکف إذا شاء، و یخلو بنفسه فیها. و کان ماء النیل فی زمنه یصل إلی جدار هذا الجامع، و ولی خطابته للفقیه جمال الدین محمد ابن الماشطة، و منعه من لبس السواد لأداء الخطبة، فاستمرّ إلی حین وفاته فی عاشر رجب سنة تسع و سبعمائة، و أوّل خطبة أقیمت فیه یوم الجمعة سابع صفر سنة اثنتین و سبعین و ستمائة، و قد ذکرت ترجمة الصاحب تاج الدین عند ذکر رباط الآثار من هذا الکتاب.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 94
محمد بن علیّ بن محمد بن سلیم بن حنا: أبو عبد اللّه الوزیر الصاحب فخر الدین بن الوزیر الصاحب بهاء الدین، ولد فی سنة اثنتین و عشرین و ستمائة، و تزوّج بابنة الوزیر الصاحب شرف الدین هبة اللّه بن صاعد الفائزیّ، و ناب عن والده فی الوزارة، و ولی دیوان الأحباس و وزارة الصحبة فی أیام الظاهر بیبرس، و سمع الحدیث بالقاهرة و دمشق، و حدّث، و له شعر جید، و درس بمدرسة أبیه الصاحب بهاء الدین التی کانت فی زقاق القنادیل بمصر، و کان محبا لأهل الخیر و الصلاح مؤثرا لهم متفقدا لأحوالهم، و عمر رباطا حسنا بالقرافة الکبری، رتب فیه جماعة من الفقراء، و من غریب ما یتعظ به الأریب أن الوزیر الصاحب زین الدین یعقوب بن عبد الرفیع بن الزبیر، الذی کان بنو حنا یعادونه، و عنه أخذوا الوزارة، مات فی ثالث عشر ربیع الآخر سنة ثمان و ستین و ستمائة بالسجن، فأخرج کما تخرج الأموات الطرحاء علی الطرقات من الغرباء، و لم یشیع جنازته أحد من الناس مراعاة للصاحب بن حنا، و کان فخر الدین هذا یتنزه فی أیام الربیع بمنیة القائد، و قد نصبت له الخیام، و أقیمت المطابخ و بین یدیه المطربون، فدخل علیه البشیر بموت الوزیر یعقوب بن الزبیر، و أنه أخرج إلی المقابر من غیر أن یشیع جنازته أحد من الناس، فسرّ بذلک و لم یتمالک نفسه و أمر المطربین فغنوه، ثم قام علی رجلیه و رقص هو و سائر من حضره، و أظهر من الفرح و الخلاعة ما خرج به عن الحدّ، و خلع علی البشیر بموت المذکور خلعا سنیة، فلم یمض علی ذلک سوی أقلّ من أربعة أشهر و مات فی حادی عشری شعبان من السنة المذکورة، ففجع به أبوه، و کانت له جنازة عظیمة، و لما دلّی فی لحده قام شرف الدین محمد بن سعید البوصیریّ، صاحب البردة، فی ذلک الجمع الموفور بتربة ابن حنا من القرافة و أنشد:
نم هنیئا محمد بن علیّ‌بجمیل قدّمت بین یدیکا
لم تزل عوننا علی الدهر حتّی‌غلبتنا ید المنون علیکا
أنت أحسنت فی الحیاة إلیناأحسن اللّه فی الممات إلیکا
فتباکی الناس، و کان لها محل کبیر ممن حضر رحمة اللّه علیهم أجمعین. و فی هذا الجامع یقول السراج الورّاق:
بنیتم علی تقوی من اللّه مسجداو خیر مبانی العابدین المساجد
فقل فی طراز معلم فوق برکةعلی حسنها الزاهی لها البحر حاسد
لها حلل حسنی و لکن طرازهامن الجامع المعمور بالله واحد
هو الجامع الإحسان و الحسن الذی‌أقرّ له زید و عمرو و خالد
و قد صافحت شهب الدجی شرفاته‌فما هی بین الشهب إلّا فراقد
و قد أرشد الضلال عالی مناره‌فلا حائر عنه و لا عنه حائد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 95 و نالت نواقیس الدیارات وجمةو خوف فلم یمدد إلیهنّ ساعد
فتبکی علیهنّ البطاریق فی الدجی‌و هنّ لدیهم ملقیات کواسد
بذا قضت الأیام ما بین أهلهامصائب قوم عند قوم فوائد

جامع الظاهر

هذا الجامع خارج القاهرة، و کان موضعه میدانا، فأنشأه الملک الظاهر رکن الدین بیبرس البندقداریّ جامعا. قال جامع السیرة الظاهریة: و فی ربیع الآخر، یعنی سنة خمس و ستین و ستمائة، اهتمّ السلطان بعمارة جامع بالحسینیة، و سیر الأتابک فارس الدین أقطای المستعرب، و الصاحب فخر الدین محمد بن الصاحب بهاء الدین علیّ بن حنا، و جماعة من المهندسین، لکشف مکان یلیق أن یعمل جامعا، فتوجهوا لذلک و اتفقوا علی مناخ الجمال السلطانیة. فقال السلطان لا و اللّه لا جعلت الجامع مکان الجمال، و أولی ما جعلته میدانی الذی ألعب فیه بالکرة و هو نزهتی، فلما کان یوم الخمیس ثامن شهر ربیع الآخر، رکب السلطان و صحبته خواصه و الوزیر الصاحب بهاء الدین علیّ بن حنا و القضاة و نزل إلی میدان قراقوش، و تحدّث فی أمره و قاسه و رتب أموره و أمور بنائه، و رسم بأن یکون بقیة المیدان وقفا علی الجامع یحکر، و رسم بین یدیه هیئة الجامع، و أشار أن یکون بابه مثل باب المدرسة الظاهریة، و أن یکون علی محرابه قبة علی قد رقبة الشافعیّ رحمة اللّه علیه، و کتب فی وقته الکتب إلی البلاد بإحضار عمد الرخام من سائر البلاد، و کتب بإحضار الجمال و الجوامیس و الأبقار و الدواب من سائر الولایات، و کتب بإحضار الآلات من الحدید و الأخشاب النقیة برسم الأبواب و السقوف و غیرها، ثم توجه لزیارة الشیخ الصالح خضر بالمکان الذی أنشأه له، و صلّی الظهر هناک، ثم توجه إلی المدرسة بالقاهرة فدخلها و الفقهاء و القرّاء علی حالهم، و جلس بینهم، ثم تحدّث و قال: هذا مکان قد جعلته للّه عز و جلّ، و خرجت عنه وقفا للّه، إذا مت لا تدفنونی هنا. و لا تغیروا معالم هذا المکان فقد خرجت عنه للّه تعالی. ثم قام من إیوان الحنفیة و جلس بالمحراب فی إیوان الشافعیة، و تحدّث و سمع القرآن و الدعاء، و رأی جمیع الأماکن، و دخل إلی قاعة ولده الملک السعید المبنیة قریبا منها، ثم رکب إلی قلعة الجبل و ولی عدّة مشدّین علی عمارة الجامع، و کان إلی جانب المیدان قاعة و منظرة عظیمة بناها السلطان الملک الظاهر، فلما رسم ببناء الجامع طلبها الأمیر سیف الدین قشتمر العجمیّ من السلطان فقال: الأرض قد خرجت عنها لهذا الجامع، فاستأجرها من دیوانه، و البناء و الأصناف و هبتک إیاها، و شرع فی العمارة فی منتصف جمادی الآخرة منها.
و فی أوّل جمادی الآخرة سنة ست و ستین و ستمائة سار السلطان من دیار مصر یرید بلاد الشام، فنزل علی مدینة یافا و تسلمها من الفرنج بأمان، فی یوم الأربعاء العشرین من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 96
جمادی الآخرة المذکور، و سیر أهلها فتفرّقوا فی البلاد، و شرع فی هدمها و قسم أبراجها علی الأمراء، فابتدأ فی ذلک من ثانی عشریه، و قاسوا شدّة فی هدمها لحصانتها و قوّة بنائها، لا سیما القلعة، فإنها کانت حصینة عالیة الارتفاع و لها أساسات إلی الأرض الحقیقة، و باشر السلطان الهدم بنفسه و بخواصه و ممالیکه، حتی غلمان البیوتات التی له، و کان ابتداء هدم القلعة فی سابع عشریه، و نقضت من أعلاها و نظفت زلاقتها، و استمرّ الأجناد فی ذلک لیلا و نهارا، و أخذ من أخشابها جملة، و من ألواح الرخام التی وجدت فیها، و وسق منها مرکبا من المراکب التی وجدت فی یافا و سیرها إلی القاهرة، و رسم بأن یعمل من ذلک الخشب مقصورة فی الجامع الظاهریّ بالمیدان من الحسینیة، و الرخام یعمل بالمحراب، فاستعمل کذلک.
و لما عاد السلطان إلی مصر فی حادی عشری ذی الحجة منها و قد فتح فی هذه السفرة یافا و طرابلس و أنطاکیة و غیرها، أقام إلی أن أهلت سنة سبع و ستین و ستمائة، فلما کملت عمارة الجامع فی شوّال منها رکب السلطان و نزل إلی الجامع و شاهده، فرآه فی غایة ما یکون من الحسن و أعجبه نجازه فی أقرب وقت و مدّة مع علوّ الهمة، فخلع علی مباشریه، و کان الذی تولی بناءه الصاحب بهاء الدین بن حنا، و الأمیر علم الدین سنجر السروریّ متولی القاهرة، و زار الشیخ خضرا و عاد إلی قلعته، و فی شوّال منها تمت عمارة الجامع الظاهریّ و رتب به خطیبا حنفیّ المذهب، و وقف علیه حکر ما بقی من أرض المیدان، و نزل السلطان إلیه و رتب أوقافه و نظر فی أموره.
بیبرس: الملک الظاهر رکن الدین البندقداریّ، أحد الممالیک البحریة الذین اختص بهم السلطان الملک الصالح نجم الدین أیوب بن الملک الکامل محمد بن العادل أبی بکر بن أیوب، و أسکنهم قلعة الروضة، کان أوّلا من ممالیک الأمیر علاء الدین أیدکین البندقداریّ، فلما سخط علیه الملک الصالح أخذ ممالیکه و منهم الأمیر بیبرس هذا، و ذلک فی سنة أربع و أربعین و ستمائة، و قدّمه علی طائفة من الجمداریة، و ما زال یترقی فی الخدم إلی أن قتل المعز أیبک الترکمانیّ الفارس أقطای الجمدار فی شعبان سنة اثنتین و خمسین و ستمائة، و کانت البحریة قد انحازت إلیه فرکبوا فی نحو السبعمائة، فلما ألقیت إلیهم رأس أقطای تفرّقوا و اتفقوا علی الخروج إلی الشام، و کانت أعیانهم یومئذ بیبرس البندقداریّ، و قلاون الألفیّ، و سنقر الأشقر، و بیسری، و ترامق، و تنکز، فساروا إلی الملک الناصر صاحب الشام. و لم یزل بیبرس ببلاد الشام إلی أن قتل المعز أیبک، و قام من بعده ابنه المنصور علیّ، و قبض علیه نائبه الأمیر سیف الدین قطز و جلس علی تخت المملکة، و تلقب بالملک المظفر، فقدم علیه بیبرس فأمّره المظفر قطز، و لما خرج قطز إلی ملاقاة التتار و کان من نصرته علیهم ما کان، رحل إلی دمشق فوشی إلیه بأن الأمیر بیبرس قد تنکر له و تغیر علیه، و أنه عازم علی القیام بالحرب، فأسرع قطز بالخروج من دمشق إلی جهة مصر و هو
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 97
مضمر لبیبرس السوء، و علم بذلک خواصه فبلغ ذلک بیبرس فاستوحش من قطز و أخذ کلّ منهما یحترس من الآخر علی نفسه، و ینتظر الفرصة، فبادر بیبرس و واعد الأمیر سیف الدین بلبان الرشیدیّ، و الأمیر سیف الدین بیدغان الرکنیّ المعروف بسم الموت، و الأمیر سیف الدین بلبان الهارونیّ، و الأمیر بدر الدین آنص الأصبهانیّ، فلما قربوا فی مسیرهم من القصر بین الصالحیة و السعیدیة عند القرین، انحرف قطز عن الدرب للصید، فلما قضی منه و طره و عاد و الأمیر بیبرس یسایره هو و أصحابه، طلب بیبرس منه امرأة من سبی التتار فأنعم علیه بها، فتقدّم لیقبل یده و کانت إشارة بینه و بین أصحابه، فعند ما رأوا بیبرس قد قبض علی ید السلطان المظفر قطز، بادر الأمیر بکتوت الجوکندار و ضربه بسیف علی عاتقه أبانه و اختطفه الأمیر آنص و ألقاه عن فرسه إلی الأرض، و رماه بهادر المغربیّ بسهم فقتله، و ذلک یوم السبت خامس عشر ذی القعدة سنة ثمان و خمسین و ستمائة، و مضوا إلی الدهلیز للمشورة، فوقع الاتفاق علی الأمیر بیبرس، فتقدّم إلیه أقطاء المستعرب الجمدار المعروف بالأتابک و بایعه و حلف له، ثم بقیة الأمراء و تلقب بالملک الظاهر، و ذلک بمنزلة القصیر.
فلما تمت البیعة و حلف الأمراء کلهم قال له الأمیر أقطای المستعرب: یاخوند ، لا یتم لک أمر إلّا بعد دخولک إلی القاهرة و طلوعک إلی القلعة، فرکب من وقته و معه الأمیر قلاون و الأمیر بلبان الرشیدیّ و الأمیر بیلبک الخارندار، و جماعة یریدون قلعة الجبل، فلقیهم فی طریقهم الأمیر عز الدین أیدمر الحلبیّ نائب الغیبة عن المظفر قطز، و قد خرج لتلقیه، فأخبروه بما جری و حلفوه، فتقدّمهم إلی القلعة و وقف علی بابها حتی وصلوا فی اللیل فدخلوا إلیها، و کانت القاهرة قد زینت لقدوم السلطان الملک المظفر قطز، و فرح الناس بکسر التتار و عود السلطان، فما راعهم و قد طلع النهار إلّا و المشّا علیّ ینادی معاشر الناس ترحموا علی الملک المظفر و ادعوا لسلطانکم الملک الظاهر بیبرس، فدخل علی الناس من ذلک غمّ شدید و وجل عظیم، خوفا من عود البحریة إلی ما کانوا علیه من الجور و الفساد و ظلم الناس. فأوّل ما بدأ به الظاهر أنه أبطل ما کان قطز أحدثه من المظالم عند سفره، و هو تصقیع الأملاک و تقویمها و أخذ زکاة ثمنها فی کل سنة، و جبایة دینار من کلّ إنسان، و أخذ ثلث الترک الأهلیة، فبلغ ذلک فی السنة ستمائة ألف دینار. و کتب بذلک مسموحا قری‌ء علی المنابر فی صبیحة دخوله إلی القلعة، و هو یوم الأحد سادس عشر ذی القعدة المذکور، و جلس بالإیوان و حلّف العساکر، و استناب الأمیر بدر الدین بیلبک الخازندار بالدیار المصریة، و استقرّ الأمیر فارس الدین أقطای المستعرب أتابکا علی عادته، و الأمیر جمال الدین أقوش التجیبیّ أستادارا، و الأمیر عز الدین أیبک الأفرم الصالحیّ أمیر جاندار، و الأمیر لاجین الدرفیل و بلبان الرومیّ دواداریة، و الأمیر بهاء الدین یعقوب الشهرزوریّ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 98
أمیراخور علی عادته، و بهاء الدین علیّ بن حنا وزیرا، و الأمیر رکن الدین التاجی الرکنیّ و الأمیر سیف الدین بکجریّ حجابا، و رسم بإحضار البحریة الذین تفرّقوا فی البلاد بطالین، و سیر الکتب إلی الأقطار بما تجدّد له من النعم، و دعاهم إلی الطاعة، فأذعنوا له و انقادوا إلیه.
و کان الأمیر علم الدین سنجر الحلبیّ نائب دمشق لما قتل قطز جمع الناس و حلّفهم، و تلقب بالملک المجاهد، و ثار علاء الدین الملقب بالملک السعید بن صاحب الموصل فی حلب و ظلم أهلها، و أخذ منهم خمسین ألف دینار، فقام علیه جماعة و مقدّمهم الأمیر حسام الدین لاجین العزیزیّ و قبضوا علیه، فسیر الظاهر إلی لاجین بنیابة حلب.
فلما دخلت سنة تسع و خمسین قبض الظاهر علی جماعة من الأمراء المعزیة، منهم الأمیر سنجر الغتمیّ، و الأمیر بهادر المعزیّ، و الشجاع بکتوت، و وصل إلی السلطان الإمام أبو العباس أحمد بن الخلیفة الظاهر العباسیّ من بغداد، فی تاسع رجب، فتلقاه السلطان فی عساکره و بالغ فی إکرامه و أنزله بالقلعة، و حضر سائر الأمراء و المقدّمین و القضاة و أهل العلم و المشایخ بقاعة الأعمدة من القلعة بین یدی أبی العباس، فتأدّب السلطان الظاهر و لم یجلس علی مرتبة و لا فوق کرسیّ، و حضر العربان الذین قدموا من العراق، و خادم من طواشیة بغداد، و شهدوا بأن العباس أحمد ولد الخلیفة الظاهر بن الخلیفة الناصر، و شهد معهم بالاستفاضة الأمیر جمال الدین یحیی نائب الحکم بمصر، و علم الدین بن رشیق، و صدر الدین موهوب الجزریّ، و نجیب الدین الحرّانیّ، و سدید الزمنتیّ نائب الحکم بالقاهرة عند قاضی القضاة تاج الدین عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعیّ، و أسجل علی نفسه بثبوت نسب أبی العباس أحمد، و هو قائم علی قدمیه، و لقّب بالإمام المستنصر بالله، و بایعه الظاهر علی کتاب اللّه و سنة نبیه، و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، و الجهاد فی سبیل اللّه، و أخذ أموال اللّه بحقها و صرفهاف ی مستحقها، فلما تمت البیعة قلد المستنصر بالله السلطان الملک الظاهر أمر البلاد الإسلامیة، و ما سیفتحه اللّه علی یدیه من بلاد الکفار، و بایع الناس المستنصر علی طبقاتهم، و کتب إلی الأطراف بأخذ البیعة له، و إقامة الخطبة باسمه علی المنابر، و نقشت السکة فی دیار مصر باسمه، و اسم الملک الظاهر معا. فلما کان یوم الجمعة سابع عشر رجب، خطب الخلیفة بالناس فی جامع القلعة، و رکب السلطان فی یوم الاثنین رابع شعبان إلی خیمة ضربت له بالبستان الکبیر ظاهر القاهرة، و أفیضت علیه الخلع الخلیفة، و هی جبة سوداء و عمامة بنفسجیة و طوق من ذهب، و قلد بسیف عربیّ، و جلس مجلسا عاما حضره الخلیفة و الوزیر و سائر القضاة و الأمراء و الشهود، و صعد القاضی فخر الدین بن لقمان کاتب السرّ منبرا نصب له، و قرأ تقلید السلطان المملکة، و هو بخطه من إنشائه، ثم رکب السلطان بالخلعة و الطوق و دخل من باب النصر، و شق القاهرة و قد زینت له، و حمل الصاحب بهاء الدین بن حنا التقلید علی رأسه قدّام السلطان، و الأمراء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 99
مشاة بین یدیه، و کان یوما مشهودا.
و أخذ السلطان فی تجهیز الخلیفة لیسیر إلی بغداد، فرتب له الطواشی بهاء الدین صندلا الصالحیّ شرابیا، و الأمیر سابق الدین بوزیا الصیرفیّ أتابکا، و الأمیر جعفرا أستادارا، و الأمیر فتح الدین بن الشهاب أحمد أمیر جاندار، و الأمیر ناصر الدین بن صیرم خازندار، و الأمیر سیف الدین بلبان الشمسیّ و فارس الدین أحمد بن أزدمر الیغموریّ دواداریة، و القاضی کمال الدین محمد السنجاریّ وزیرا، و شرف الدین أبا حامد کاتبا، و عین له خزانة و سلاحخاناه و ممالیک عدّتهم نحو الأربعین، منهم سلاحداریة و جمداریة و زردکاشیة و رمحداریة، و جعل له طشطخاناه و فراشخاناه و شرابخاناه، و إماما و مؤذنا و سائر أرباب الوظائف، و استخدم له خمسمائة فارس، و کتب لمن قدم معه من العراق بإقطاعات، و أذن له فی الرکوب و الحرکة حیث اختار، و حضر الملک الصالح إسماعیل بن بدر الدین لؤلؤ صاحب الموصل، و أخوه الملک المجاهد سیف الدین إسحاق صاحب الجزیرة، و أخوهما المظفر، فأکرمهم السلطان و أقرّهم علی ما بأیدیهم، و کتب لهم تقالید و جهزهم فی خدمة الخلیفة، و سار الخلیفة فی سادس شوّال و السلطان فی خدمته إلی دمشق، فنزل السلطان فی القلعة، و نزل الخلیفة فی التربة الناصریة بجبل الصالحیة، و بلغت نفقة السلطان علی الخلیفة ألف ألف و ستین ألف دینار، و خرج من دمشق فی ثالث عشر ذی القعدة و معه الأمیر بلبان الرشیدیّ، و الأمیر سنقر الرومیّ، و طائفة من العسکر، و أوصاهما السلطان أن یکونا فی خدمة الخلیفة حتی یصل إلی الفرات، فإذا عبر الفرات أقاما بمن معهما من العسکر بالبرّ الغربیّ من جهات حلب لانتظار ما یتجدّد من أمر الخلیفة، بحیث إن احتاج إلیهم ساروا إلیه، فسار إلی الرحبة و ترکه أولاد صاحب الموصل و انصرفوا إلی بلادهم، و سار إلی مشهد علیّ فوجد الإمام الحاکم بأمر اللّه قد جمع سبعمائة فارس من الترکمان و هو علی عانة، ففارقه الترکمان و صار الحاکم إلی المستنصر طائعا له، فأکرمه و أنزله معه و سارا إلی عانة، و رحلا إلی الحدیثة، و خرجا منها إلی هیت، و کانت له حروب مع التتار فی ثالث محرّم سنة ستین و ستمائة، قتل فیها أکثر أصحابه، و فرّ الحاکم و جماعة من الأجناد، و فقد المستنصر فلم یوقف له علی خبر، فحضر الحاکم إلی قلعة الجبل و بایعه السلطان و الناس، و استمرّ بدیار مصر فی مناظر الکبش، و هو جدّ الخلفاء الموجودین الیوم.
و فی سنة ست و ستین قرّر الظاهر بدیار مصر أربعة قضاة، و هم شافعیّ و مالکیّ و حنفیّ و حنبلیّ، فاستمرّ الأمر علی ذلک إلی الیوم، و حدث غلاء شدید بمصر، و عدمت الغلة، فجمع السلطان الفقراء و عدّهم و أخذ لنفسه خمسمائة فقیر یمونهم، و لا بنه السعید برکة خان خمسمائة فقیر، و للنائب بیلبک الخازندار ثلاثمائة فقیر، و فرّق الباقی علی سائر الأمراء، و رسم لکلّ إنسان فی الیوم برطلی خبز، فلم یر بعد ذلک فی البلد أحد من الفقراء یسأل.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 100
و فی ثالث شوّال سنة اثنتین و ستین، أرکب السلطان ابنه السعید برکة بشعار السلطنة، و مشی قدّامه و شق القاهرة و الکل مشاة بین یدیه من باب النصر إلی قلعة الجبل، و زینت البلد، و فیها رتب السلطان لعب القبق بمیدان العید خارج باب النصر، و ختن الملک السعید و معه ألف و ستمائة و خمسة و أربعون صبیا من أولاد الناس، سوی أولاد الأمراء و الأجناد، و أمر لکلّ صغیر منهم بکسوة علی قدره، و مائة درهم، و رأس من الغنم، فکان مهما عظیما، و أبطل ضمان المزر، و جهاته، و أمر بحرق النصاری فی سنة ثلاث و ستین، فتشفع فیهم علی أن یحملوا خمسین ألف دینار فترکوا. و فی سنة أربع و ستین افتتح قلعة صفد، و جهز العساکر إلی سیس و مقدّمهم الأمیر قلاون الألفیّ، فحصر مدینة ابناس و عدّه قلاع. و فی سنة خمس و ستین أبطل ضمان الحشیش من دیار مصر، و فتح یافا و الشقیف و أنطاکیة. و فی سنة سبع و ستین حج فسار علی غزة إلی الکرک، و منها إلی المدینة النبویة، و غسل الکعبة بماء الورد بیده، و رجع إلی دمشق فأراق جمیع الخمور، و قدم إلی مصر فی سنة ثمان و ستین.
و فی سنة سبعین خرج إلی دمشق. و فی سنة إحدی و سبعین خرج من دمشق سائقا إلی مصر، و معه بیسری و أقوش الرومیّ و جرسک الخازندار و سنقر الألفیّ، فوصل إلی قلعة الجبل، و عاد إلی دمشق فکانت مدّة غیبته أحد عشر یوما، و لم یعلم بغیبته من فی دمشق حتی حضر، ثم خرج سائقا من دمشق یرید کبس التتار، فخاض الفرات و قدّامه قلاون و بیسری، و أوقع بالتتار علی حین غفلة، و قتل منهم شیئا کثیرا، و ساق خلفهم بیسری إلی سروج و تسلم السلطان البیرة. و وقع بمصر فی سنة اثنتین و سبعین و باء هلک به خلق کثیر.
و فی سنة ثلاث و سبعین غزا السلطان سیس و افتتح قلاعا عدیدة. و فی سنة أربع و سبعین تزوّج السعید بن السلطان بابنة الأمیر قلاون و خرج العسکر إلی بلاد النوبة، فواقع ملکهم و قتل منهم کثیرا و فرّ باقیهم. و فی سنة خمس و سبعین سار السلطان لحرب التتار، فواقعهم علی الأبلستین و قد انضم إلیهم الروم، فانهزموا و قتل منهم کثیر، و تسلم السلطان قیساریة و نزل فیها بدار السلطان، ثم خرج إلی دمشق فوعک بها من إسهال و حمی مات منها یوم الخمیس تاسع عشری محرّم سنة ست و سبعین و ستمائة، و عمره نحو من سبع و خمسین سنة، و مدّة ملکه سبع عشرة سنة و شهران.
و کان ملکا جلیلا عسوفا عجولا کثیر المصادرات لرعیته و دواوینه، سریع الحرکة، فارسا مقداما، و ترک من الذکور ثلاثة: السعید محمد برکة خان، و ملک بعده، و سلامش و ملک أیضا، و المسعود خضر. و من البنات سبع بنات، و کان طویلا ملیح الشکل.
و فتح اللّه علی یدیه مما کان مع الفرنج قیساریة و أرسوف و صفد و طبریة و یافا و الشقیف و أنطاکیة و بقراص و القصیر و حصن الأکراد و القرین و حصن عکا و صافیتا و مرقیة و حلبا.
و ناصف الفرنج علی المرقب و بانیاس و انطرسوس، و أخذ من صاحب سیس، دریساک
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 101
و درکوس و تلمیش و کفر دین و رعبان و مرزبان و کینوک و أدنة و المصیصة.
و صار إلیه من البلاد التی کانت مع المسلمین، دمشق و بعلبک و عجلون و بصری و صرخد و الصلت و حمص و تدمر و الرحبة و تل ناشر و صهیون و بلاطیس و قلعة الکهف و القدموس و العلیقة و الخوابی و الرصافة و مصیاف و القلیعة و الکرک و الشوبک.
و فتح بلاد النوبة و برقة و عمر الحرم النبویّ، و قبة الصخرة ببیت المقدس، و زاد فی أوقاف الخلیل علیه السّلام، و عمر قناطر شبرامنت بالجیزیة، و سور الإسکندریة، و منار رشید، و ردم فم بحر دمیاط، و وعر طریقه، و عمر الشوانی و عمر قلعة دمشق و قلعة الصبیبة، و قلعة بعلبک، و قلعة الصلت، و قلعة صرخد، و قلعة عجلون، و قلعة بصری، و قلعة شیزر و قلعة حمص، و عمر المدرسة بین القصرین بالقاهرة، و الجامع الکبیر بالحسینیة خارج القاهرة، و حفر خلیج الإسکندریة القدیم، و باشره بنفسه، و عمر هناک قریة سماها الظاهریة، و حفر بحر أشموم طناح علی ید الأمیر بلبان الرشیدیّ، و جدّد الجامع الأزهر بالقاهرة، و أعاد إلیه الخطبة، و عمر بلد السعیدیة من الشرقیة بدیار مصر، و عمر القصر الأبلق بدمشق و غیر ذلک.
و لما مات کتم موته الأمیر بدر الدین بیلبک الخازندار عن العسکر، و جعله فی تابوت و علقه ببیت من قلعة دمشق، و أظهر أنه مریض، و رتب الأطباء یحضرون علی العادة، و أخذ العساکر و الخزائن و معه محفة محمولة فی الموکب محترمة، و أوهم الناس أن السلطان فیها و هو مریض، فلم یجسر أحد أن یتفوّه بموت السلطان، و سار إلی أن وصل إلی قلعة الجبل بمصر و أشیع موته رحمه اللّه تعالی.

جامع ابن اللبان

هذا الجامع بجسر الشعیبیة المعروف بجسر الأفرم، عمره الأمیر عز الدین أیبک الأفرم فی سنة ثلاث و تسعین و ستمائة. قال ابن المتوّج: و کان سبب عمارته أنه لما کثرت الخلائق فی خطة هذا الجامع، قصد الأفرم أن یجعل خطبة فی المسجد المعروف بمسجد الجلالة الذی ببرکة الشقاف ظاهر سور الفسطاط المستجدّ، و أن یزید فیه و یعمره کما یختار، فمنعه الفقیه مؤتمن الدین الحارث بن مسکین و ردّه عن غرضه، فحسن له الصاحب تاج الدین محمد بن الصاحب فخر الدین محمد بن الصاحب بهاء الدین علیّ بن حنا عمارة هذا الجامع فی هذه البقعة، لقربه منه فعمره فی شعبان سنة ثلاث و تسعین و ستمائة، لکنه هدم بسببه عدّة مساجد، و عرف هذا الجامع فی زمننا هذا بالشیخ محمد بن اللبان الشافعیّ، لإقامته فیه، و أدرکناه عامرا، و قد انقطعت منه فی هذه المحن إقامة الجمعة و الجماعة لخراب ما حوله و بعد البحر عنه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 102

الجامع الطیبرسیّ

هذا الجامع عمره الأمیر علاء الدین طیبرس الخازندار نقیب الجیوش، بشاطئ النیل فی أرض بستان الخشاب، و عمر بجواره خانقاه فی جمادی الأولی سنة سبع و سبعمائة، و کان من أحسن منتزهات مصر و أعمرها، و قد خرب ما حوله من الحوادث و المحن التی بعد سنة ست و ثمانمائة، بعد ما کانت العمارة منه متصلة إلی الجامع الجدید بمصر، و منه إلی الجامع الخطیریّ ببولاق، و یرکب الناس المراکب للفرجة من هذا الجامع إلی الجامعین المذکورین، مصعدین و منحدرین فی النیل، و یجتمع بهذا الجامع الناس للنزهة، فتمرّ به أوقات و مسرّات لا یمکن وصفها، و قد خرب هذا الجامع و أقفر من المساکین، و صار مخوفا بعد ما کان ملهی و ملعبا، سنة اللّه فی الذین خلوا من قبل، و لطیبرس هذا المدرسة الطیبرسیة بجوار الجامع الأزهر من القاهرة.

الجامع الجدید الناصریّ

هذا الجامع بشاطئ النیل من ساحل مصر الجدید، عمره القاضی فخر الدین محمد بن فضل اللّه ناظر الجیش باسم السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون، و کان الشروع فیه یوم التاسع من المحرّم سنة إحدی عشرة و سبعمائة، و انتهت عمارته فی ثامن صفر سنة اثنتی عشرة و سبعمائة، و أقیم فی خطابته قاضی القضاة بدر الدین محمد بن إبراهیم بن جماعة الشافعیّ، و رتب فی إمامته الفقیه تاج الدین بن مرهف، فأوّل ما صلّی فیه صلاة الظهر من یوم الخمیس ثامن صفر المذکور، و أقیمت فیه الجمعة یوم الجمعة تاسع صفر، و خطب عن قاضی القضاة بدر الدین ابنه جمال الدین، و لهذا الجامع أربعة أبواب، و فیه مائة و سبعة و ثلاثون عمودا، منها عشرة من صوّان فی غایة السمک و الطول، و جملة ذرعه أحد عشر ألف ذراع و خمسمائة ذراع بذراع العمل، من ذلک طوله من قبلیه إلی بحریه مائة و عشرون ذراعا، و عرضه من شرقیه إلی غربیه مائة ذراع، و فیه ستة عشر شباکا من حدید، و هو یشرف من قبلیه علی بستان العالمة، و ینظر من بحریه بحر النیل، و کان موضع هذا الجامع فی القدیم غامرا بماء النیل، ثم انحسر عنه النیل و صار رملة فی زمن الملک الصالح نجم الدین أیوب، یمرّغ الناس فیها دوابهم أیام احتراق النیل، فلما عمر الملک الصالح قلعة الروضة و حفر البحر، طرح الرمل فی هذا الموضع، فشرع الناس فی العمارة علی الساحل، و کان موضع هذا الجامع شونة، و قد ذکر خبر ذلک عند ذکر الساحل الجدید بمصر فانظره، و ما برح هذا الجامع من أحسن منتزهات مصر إلی أن خرب ما حوله، و فیه إلی الآن بقیة و هو عامر.
محمد بن قلاون: السلطان الملک الناصر أبو الفتح ناصر الدین بن الملک المنصور،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 103
کان یلقب بحرفوش، و أمّه أشلون ابنة شنکای، ولد یوم السبت النصف من المحرّم سنة أربع و ثمانین و ستمائة بقلعة الجبل من دیار مصر، و ولی الملک ثلاث مرّات، الأولی بعد مقتل أخیه الملک الأشرف خلیل بن قلاون فی رابع عشر المحرّم سنة ثلاث و تسعین و ستمائة، و عمره تسع سنین، تنقص یوما واحدا، فأقام فی الملک سنة إلّا ثلاثة أیام و خلع بمملوک أبیه کتبغا المنصوریّ، یوم الأربعاء حادی عشر المحرّم سنة أربع و تسعین و ستمائة، و أعید إلی المملکة ثانیا بعد قتل الملک المنصور لاجین یوم الاثنین سادس جمادی الأولی سنة ثمان و تسعین و ستمائة، فأقام عشر سنین و خمسة أشهر و ستة عشر یوما، و عزل نفسه و سار إلی الکرک، فولی الملک من بعده الأمیر رکن الدین بیبرس الجاشنکیر، و تلقب بالملک المظفر فی یوم السبت ثالث عشری شوّال سنة ثمان و سبعمائة، ثم حضر من الکرک إلی الشام و جمع العساکر، فخامر علی بیبرس معظم جیش مصر، و انحل أمره فترک الملک فی یوم الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان سنة تسع و سبعمائة، و طلع الملک الناصر إلی قلعة الجبل یوم عید الفطر من السنة المذکورة، و استولی علی ممالک مصر و الشام و الحجاز، فأقام فی الملک من غیر منازع له فیه إلی أن مات بقلعة الجبل فی لیلة الخمیس الحادی و العشرین من ذی الحجة، سنة إحدی و أربعین و سبعمائة، و عمره سبع و خمسون سنة و أحد عشر شهرا و خمسة أیام، و له فی ولایته الثالثة مدّة اثنتین و ثلاثین سنة و شهرین و عشرین یوما، و جملة إقامته فی الملک عن المدد الثلاث ثلاث و أربعون سنة و ثمانیة أشهر و تسعة أیام.
و لما مات ترک لیلته و من الغد حتی تمّ الأمر لابنه أبی بکر المنصور فی یوم الخمیس المذکور، ثم أخذ فی جهازه فوضع فی محفة بعد العشاء الآخرة بساعة و حمل علی بغلین و أنزل من القلعة إلی الإصطبل السلطانیّ، و سار به الأمیر رکن الدین بیبرس الأحمدیّ أمیر جاندار، و الأمیر نجم الدین أیوب والی القاهرة، و الأمیر قطلوبغا الذهبیّ، و علم دار خوطا جار الدوادار و عبروا به إلی القاهرة من باب النصر، و قد غلقت الحوانیت کلها و منع الناس من الوقوف للنظر إلیه، و قدّام المحفة شمعة واحدة فی ید علمدار، فلما دخلوا به من باب النصر کان قدامه مسرجة فی ید شاب و شمعة واحدة، و عبروا به المدرسة المنصوریة بین القصرین لیدفن عند أبیه الملک المنصور قلاون، و کان الأمیر علم الدین سنجر الجاولیّ ناظر المارستان قد جلس و معه القضاة الأربعة و شیخ الشیوخ رکن الدین شیخ خانقاه سریاقوس، و الشیخ رکن الدین عمر ابن الشیخ إبراهیم الجعبریّ، فحطت المحفة و أخرج منها فوضع بجانب الفسقیة التی بالقبة، و أمر ابن أبی الظاهر مغسّل الأموات بتغسیله، فقال: هذا ملک و لا أنفرد بتغسیله إلّا أن یقوم أحد منکم و یجرّده علی الدکه، فإنی أخشی أن یقال کان معه فص أو خاتم أو فی عنقه خرزة، فقام قطلوبغا الذهبیّ و علمدار و جرّداه مع الغاسل من ثیابه، فکان علی رأسه قبع أبیض من قطن ثیابه، و علی بدنه بغلطاق صدر أبیض و سراویل، فنزعا و ترک القمیص علیه، و غسل به، و وجد فی رجله الموجوعة بخشان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 104
مفتوحان، فغسل من فوق القمیص و کفن فی نصفیة، و عملت له أخری طرّاحة و مخدّة، و وضع فی تابوت من خشب، و صلّی علیه قاضی القضاة عز الدین عبد العزیز بن محمد بن جماعة الشافعیّ بمن حضر، و أنزل إلی قبر أبیه فی سحلیة من خشب قد ربطت بحبل، و نزل معه إلی القبر الغاسل و الأمیر سنجر الجاولیّ، و دفع إلی الغاسل ثلاثمائة درهم، فباع ما نابه من الثیاب بثلاثة عشر درهما سوی القبع، فإنه فقد، و ذکر الغاسل أنه کان محنکا بخرقة معقدة بثلاث عقد، فسبحان من لا یحول و لا یزول، هذا ملک أعظم المعمور من الأرض، مات غریبا و غسل طریحا و دفن وحیدا، إن فی ذلک لعبرة لأولی الألباب.
و فی لیلة السبت: قرأ القرّاء عند القبر بالقبة القرآن، و حضر بعض الأمراء، و ترک من الأولاد اثنی عشر ولدا ذکرا، و هم: أحمد، و هو أسنهم و کان بالکرک، و أبو بکر و تسلطن من بعده، و شقیقه رمضان، و یوسف، و إسماعیل، و تسلطن أیضا، و شعبان و تسلطن، و حسین، و کجک و تسلطن، و أمیر حاج، و حسن و یدعی قماری و تسلطن، و صالح و تسلطن، و محمد. و ترک من البنات ثمانیا متزوّجات سوی من خلف من الصغار، و خلف من الزوجات جاریته طغای، و إمّة الأمیر تنکز نائب الشام. و مات و لیس له نائب بدیار مصر و لا وزیر و لا حاجب متصرّف، سوی أن برسبغا الحاجب تحکم فی متعلقات أمور الإقطاعات، و لیس معه عصا الحجوبیة، و بدر الدین بکتاش نقیب الجیوش، و أقبغا عبد الواحد أستادار السلطان و مقدّم الممالیک، و بیبرس الأحمدیّ أمیر جاندار، و نجم الدین أیوب والی القاهرة، و جمال الدین حمال الکفاه ناظر الجیوش، و الموفق ناظر الدولة، و صارم الدین أزبک شادّ الدواوین، و عز الدین عبد العزیز بن جماعة قاضی القضاة بدیار مصر، و نائب دمشق الأمیر ألطنبغا، و نائب ... الأمیر طشتمر حمص أخضر، و نائب طرابلس الحاج أرقطای، و نائب صفد الأمیر أصلم، و نائب غزة الأمیراق سنقر السلاریّ، و صاحب حماه الملک الأفضل ناصر الدین محمد بن المؤید إسماعیل.
و الأمراء مقدّموا الألوف بدیار مصر یوم وفاته خمسة و عشرون أمیرا. و هم: بدر الدین جنکلی بن البابا، و الحاج آل ملک، و بیبرس الأحمدیّ، و علم الدین سنجر الجاولیّ، و سیف الدین کوکای، و نجم الدین محمود وزیر بغداد، هؤلاء برّانیة کبار، و الباقی ممالیکه و خواصه و هم: ولده الأمیر أبو بکر، و الأمیر قوصون، و الأمیر بشتاک، و طقزدمر، و أقبغا عبد الواحد الأستادار، و أیدغمش أمیراخور، و قطلوبغا الفخریّ، و یلبغا الیحیاویّ، و ملکتمر الحجازیّ، و ألطنبغا الماردانیّ، و بهادر الناصریّ، و آق سنقر الناصریّ، و قماری الکبیر، و قماری أمیر شکار، و طرغای، و أرتبغا أمیر جاندار، و برسیغا الحاجب، و بلدغی ابن العجوز أمیر سلاح، و بیغرا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 105
و کان السلطان أبیض اللون قد و خطه الشیب، و فی عینیه حول، و برجله الیمنی ریح شوکة تنغص علیه أحیانا و تؤلمه، و کان لا یکاد یمس بها الأرض و لا یمشی إلّا متکئا علی أحدا و متوکئا علی شی‌ء، و لا یصل إلی الأرض إلّا أطراف أصابعه، و کان شدید البأس جید الرأی، یتولی الأمور بنفسه، و یجود لخواصه، و کان مهابا عند أهل مملکته، بحیث أنّ الأمراء إذا کانوا عنده بالخدمة لا یجسر أحد أن یکلم آخر کلمة واحدة، و لا یلتفت بعضهم إلی بعض خوفا منه، و لا یمکن واحدا منهم أن یذهب إلی بیت أحد البتة، لا فی ولیمة و لا غیرها، فإن فعل أحد منهم شیئا من ذلک قبض علیه و أخرجه من یومه منفیا، و کان مسدّدا عارفا بأمور رعیته و أحوال مملکته، و أبطل نیابة السلطنة من دیار مصر من سنة سبع و عشرین و سبعمائة، و أبطل الوزارة و صار یتحدّث بنفسه فی الجلیل من الأمور و الحقیر، و یستجلب خاطر کل أحد من صغیر و کبیر لا سیما حواشیه، فلذلک عظمت حاشیة المملکة و أتباع السلطنة و تخوّلوا فی النعم الجزیلة، حتی الخولة و الکلابزیة و الأسری من الأرمن و الفرنج، و أعطی البازداریة الأخباز فی الحلقة، فمنهم من کان إقطاعه الألف دینار فی السنة، و زوّج عدّة منهم بجواریه، و أفنی خلقا کثیرا من الأمراء بلغ عددهم نحو المائتی أمیر، و کان إذا کبر أحد من أمرائه قبض علیه و سلبه نعمته، و أقام بدله صغیرا من ممالیکه إلی أن یکبر، فیمسکه و یقیم غیره، لیأمن بذلک شرّهم. و کان کثیر التخیل حازما، حتی أنه إذا تخیل من ابنه قتله، و فی آخر أیامه شره فی جمع المال، فصادر کثیرا من الدواوین و الولاة و غیرهم، ورمی البضائع علی التجار حتی خاف کل من له مال، و کان مخادعا کثیر الحیل، لا یقف عند قول و لا یوف بعهد و لا یبرّ فی یمین، و کان محبا للعمارة، و عمر عدّة أماکن منها: جامع قلعة الجبل، و هدمه مرّتین، و عمر القصر الأبلق بالقلعة و معظم الأماکن التی بالقلعة، و عمر المجری الذی ینقل الماء علیه من بحر النیل إلی القلعة علی السور، و عمر المیدان تحت القلعة و مناظر المیدان علی النیل، و عمر قناطر السباع علی الخلیج و مناظر سریاقوس و الخانقاه بسریاقوس، و حفر الخلیج الناصریّ بظاهر القاهرة، و عمر الجامع الجدید علی شاطی‌ء النیل بظاهر مصر، و جدّد جامع الفیلة الذی بالرصد، و المدرسة الناصریة بین القصرین من القاهرة، و غیر ذلک مما یرد فی موضعه من هذا الکتاب، و ما زال یعمر منذ عاد إلی ولایة الملک فی المرّة الثالثة إلی أن مات، و بلغ مصروف العمارة فی کل یوم من أیامه سبعة آلاف درهم فضة، عنها ثلاثمائة و خمسون دینارا، سوی من یسخره من المقیدین و غیرهم فی عمل ما یعمره، و حفر عدّة من الخلجانات و الترع، و أقام الجسور بالبلاد حتی أنه کان ینصرف من الأخباز علی ذلک ربع متحصل الإقطاعات، و حفر خلیج الإسکندریة و بحر المحلة مرّتین، و بحر اللبینیّ بالجیزة، و عمل جسر شیبین، و عمل جسر أحباس بالشرقیة و القلیوبیة مدّة ثلاث سنین متوالیة، فلم ینجع، فأنشأه بنیانا، بالطوب و الجیر، و أنفق فیه أموالا عظیمة، و راک دیار مصر و بلاد الشام، و عرض الجیش بعد حضوره فی سنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 106
اثنتی عشرة و سبعمائة، و قطع ثمانمائة من الجند، ثم قطع فی مرّة أخری ثلاثة و أربعین جندیا فی سنة إحدی و أربعین و سبعمائة، و قطع ثمانمائة من الجند، ثم قطع فی مرّة أخری ثلاثة و أربعین جندیا فی سنة إحدی و أربعین و سبعمائة، ثم قطع خمسة و ستین أیضا فی رمضان سنة إحدی و أربعین و سبعمائة، قبل وفاته بشهرین.
و فتح من البلاد جزیرة أرواد فی سنة اثنتین و سبعمائة، و فتح ملطیة فی سنة خمس عشرة و سبعمائة، و فتح أناس فی ربیع الأوّل سنة ثلاث و عشرین و سبعمائة و خرّبها، ثم عمرها الأرمن فأرسل إلیها جیشا فأخذها و معها عدّة بلاد من بلاد الأرم فی سنة سبع و ثلاثین و سبعمائة، و أقام بها نائبا من أمراء حلب، و عمر قلعة جعبر بعد أن دثرت، و ضربت السکة باسمه فی شوّال سنة إحدی و أربعین و سبعمائة، قبل موته تولی ذلک الشیخ حسن بن حسین بحضور الأمیر شهاب الدین أحمد قریب السلطان، و قد توجه من مصر بهذا السبب، و خطب له أیضا فی أرتنا ببلاد الروم، و ضربت السکة باسمه، و کذلک بلاد ابن قرمان و جبال الأکراد و کثیر من بلاد الشرق، و کان من الذکاء المفرط علی جانب عظیم، یعرف ممالیک أبیه و ممالیک الأمراء بأسمائهم و وقائعهم، و له معرفة تامّة بالخیل و قیمها مع الحشمة و السیادة، لم یعرف عنه قط أنه شتم أحدا من خلق اللّه و لا سفه علیه و لا کلمه بکلمة سیئة، و کان یدعو الأمراء أرباب الأشغال بألقابهم، و کانت همته علیة و سیاسته جیدة و حرمته عظیمة إلی الغایة، و معرفته بمهادنة الملوک لا مرمی وراءها، یبذل فی ذلک من الأموال ما لا یوصف کثرة، فکان کتّابه ینفذ أمره فی سائر أقطار الأرض کلها، و هو مع ما ذکرنا مؤید فی کلّ أموره مظفر فی جمیع أحواله مسعود فی سائر حرکاته، ما عانده أحد أو أضمر له سوأ إلّا و ندم علی ذلک أو هلک، و اشتهر فی حیاته بدیار مصر أنه إن وقعت قطرة من دمه علی الأرض لا یطلع نیل مصر مدّة سبع سنین، فمتعه اللّه من الدنیا بالسعادة العظیمة فی المدّة الطویلة مع کثرة الطمأنینة و الأمن وسعة الأموال، و اقتنی کلّ حسن و مستحسن من الخیل و الغلمان و الجواری، و ساعده الوقت فی کلّ ما یحب و یختار إلی أن أتاه الموت.

الجامع بالمشهد النفیسیّ

قال ابن المتوّج: هذا الجامع أمر بإنشائه الملک الناصر محمد بن قلاون، فعمر فی شهور سنة أربع عشرة و سبعمائة، و ولی خطابته علاء الدین محمد بن نصر اللّه بن الجوهریّ شاهد الخزانة السلطانیة، و أوّل خطبته فیه یوم الجمعة ثامن صفر من السنة المذکورة، و حضر أمیر المؤمنین المستکفی بالله أبو الربیع سلیمان و ولده و ابن عمه و الأمیر کهرداش متولی شدّ العمائر السلطانیة، و عمارة هذا الجامع و رواقاته و الفسقیة المستجدّة، و قیل أن جمیع المصروف علی هذا الجامع من حاصل المشهد النفیسیّ، و ما یدخل إلیه من النذور و من الفتوح.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 107

جامع الأمیر حسین

هذا الجامع کان موضعه بستانا بجوار غیظ العدّة، أنشأه الأمیر حسین بن أبی بکر بن إسماعیل بن حیدر بک مشرف الرومیّ، قدم مع أبیه من بلاد الروم إلی دیار مصر فی سنة خمس و سبعین و ستمائة، و تخصص بالأمیر حسام الدین لاجین المنصوریّ، قبل سلطنته، فکانت له منه مکانة مکینة، و صار أمیر شکار، و کان فیه برّ و له صدقة و عنده تفقد لأصحابه، و أنشأ أیضا القنطرة المعروفة بقنطرة الأمیر حسین علی خلیج القاهرة، و فتح الخوخة فی سور القاهرة بجوار الوزیریة، و جری علیه من أجل فتحها ما قد ذکر عند ذکرها فی الخوخ من هذا الکاتب، و توفی فی سابع المحرّم سنة تسع و عشرین و سبعمائة، و دفن بهذا الجامع.

جامع الماس

هذا الجامع بالشارع خارج باب زویلة، بناه الأمیر سیف الدین الماس الحاجب، و کمل فی سنة ثلاثین و سبعمائة، و کان الماس هذا أحد ممالیک السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون، فرقاه إلی أن صار من أکبر الأمراء، و لما أخرج الأمیر أرغون إلی نیابة حلب و بقی منصب النیابة شاغرا عظمت منزلة الماس، و صار فی منزلة النیابة، إلّا أنه لم یسمّ بالنائب، و یرکب الأمراء الأکابر و الأصاغر فی خدمته، و یجلس فی باب القلة من قلعة الجبل فی منزلة النائب، و الحجاب وقوف بین یدیه، و ما برح علی ذلک حتی توجه السلطان إلی الحجاز فی سنة اثنتین و ثلاثین و سبعمائة، فترکه فی القلعة هو و الأمیر جمال الدین أقوش نائب الکرک، و الأمیر أقبغا عبد الواحد، و الأمیر طشتمر حمص أخضر، هؤلاء الأربعة لا غیر، و بقیة الأمراء إما معله فی الحجاز، و إما فی إقطاعاتهم، و أمرهم أن لا یدخلوا القاهرة حتی یحضر من الحجاز، فلما قدم من الحجاز نقم علیه و أمسکه فی صفر سنة أربع و ثلاثین و سبعمائة، و کان لغضب السلطان علیه أسباب منها، أنه لما أقام فی غیبة السلطان بالقلعة کان یراسل الأمیر جمال الدین أقوش نائب الکرک و یوادده، و بدت منه فی مدّة الغیبة أمور فاحشة من معاشرة الشباب و من کلام فی حق السلطان، فوشی به أقبغا، و کان مع ذلک قد کثر ماله و زادت سعادته، فهوی شابا من أبناء الحسینیة یعرف بعمیر، و کان ینزل إلیه و یجمع الاویراتیة و یحضر الشباب و یشرب، فحرّک ذلک علیه ما کان ساکنا. و یقال أن السلطان لما مات الأمیر بکتمر الساقی وجد فی ترکته جزدان فیه جواب الماس إلی بکتمر الساقی، اننی حافظ القلعة إلی أن یرد علیّ منک ما أعتمده. فلما وقف السلطان علی ذلک أمر النشو بن هلال الدولة و شاهد الخزانة بإیقاع الحوطة علی موجوده، فوجدا له ستمائة ألف درهم فضة، و مائة ألف درهم فلوسا، و أربعة آلاف دینار ذهبا، و ثلاثین حیاصة ذهبا کاملة بکفتیاتها و خلعها، و جواهر و تحفا، و أقام الماس عند أقبغا عبد الوحد ثلاثة أیام، و قتل خنقا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 108
بمحبسه فی الثانی عشر من صفر سنة أربعة و ثلاثین و سبعمائة، و حمل من القلعة إلی جامعه فدفن به، و أخذ جمیع ما کان فی داره من الرخام فقلع منها و کان رخاما فاخرا إلی الغایة، و کان أسمر طوالا غتمیا لا یفهم شیئا بالعربیّ، ساذجا یجلس فی بیته فوق لباد علی ما اعتماده، و بهذا الجامع رخام کثیر نقله من جزائر البحر و بلاد الشام و الروم.

جامع قوصون

هذا الجامع بالشارع خارج باب زویلة، ابتدأ عمارته الأمیر قوصون فی سنة ثلاثین و سبعمائة، و کان موضعه دارا بجوار حارة المصامدة من جانبها الغربیّ، تعرف بدار أقوش نمیله، ثم عرفت بدار الأمیر جمال الدین قتال السبع الموصلیّ، فأخذها من ولده و هدمها و تولی بناءه شادّ العمائر، و استعمل فیه الأسری، کان قد حضر من بلاد توریز بناء فبنی مئذنتی هذا الجامع علی مثالث المئذنة التی عملها خواجا علی شاه، وزیر السلطان أبی سعید فی جامعه بمدینة توریز، و أوّل خطبة أقیمت فیه یوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثلاثین و سبعمائة، و خطب یومئذ قاضی القضاة جلال الدین القزوینیّ بحضور السلطان، و لما انقضت صلاة الجمعة أرکبه الملک الناصر بغلة بخلعة سنیة، ثم منعه السلطان الملک الناصر أن یستقرّ فی خطابته، فولی فخر الدین شکر.
قوصون: الأمیر الکبیر سیف الدین، حضر من بلاد برکة إلی مصر صحبة خوند ابنة أزبک امرأة الملک الناصر محمد بن قلاون فی ثالث عشری ربیع الآخر سنة عشرین و سبعمائة، و معه قلیل عصیّ و طسما و نحو ذلک مما قیمته خمسمائة درهم لیتجر فیه، فطاف بذلک فی أسواق القاهرة و تحت القلعة و فی داخل قلعة الجبل، فاتفق. فی بعض الأیام أنه دخل إلی الإصطبل السلطانیّ لیبیع ما معه، فأحبه بعض الأوشاقیة و کان صبیا جمیلا طویلا له من العمر ما یقارب الثمانی عشرة سنة، فصار یتردّد إلی الأوشاقیّ إلی أن رآه السلطان، فوقع منه بموقع، فسأل عنه فعرّف بأنه یحضر لیبیع ما معه، و أن بعض الأوشاقیة تولع به، فأمر بإحضاره إلیه و ابتاع منه نفسه لیصیر من جملة الممالیک السلطانیة، فنزله من جملة السقاة و شغف به و أحبه حبا کثیرا، فأسلمه للأمیر بکتمر الساقی و جعله أمیر عشرة، ثم أعطاه أمرة طبلخاناه، ثم جعله أمیر مائة مقدّم ألف، و رقاه حتی بلغه أعلی المراتب، فأرسل إلی البلاد و أحضر إخوته، سوسون و غیره من أقاربه، و أمر الجمیع و اختص به السلطان، بحیث لم ینل أحد عنده ما ناله، و زوّجه بابنته، و تزوّج السلطان أخته، فلما احتضر السلطان جعله وصیا علی أولاده، و عهد لابنه أبی بکر فأقیم فی الملک من بعده، و أخذ قوصون فی أسباب السلطنة، و خلع أبا بکر المنصور بعد شهرین و أخرج إلی مدینة قوص ببلاد الصعید، ثم قتله، و أقام کجک ابن السلطان و له من العمر خمس سنین، و لقبه بالملک الأشرف، و تقلد نیابة السلطنة بدیار مصر، فأمّر من حاشیته و أقاربه ستین أمیرا، و أکثر من العطاء و بذل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 109
الأموال و الأنعام، فصار أمر الدولة کله بیده، هذا و أحمد بن السلطان الملک الناصر مقیم بمدینة الکرک، فخافه قوصون و أخذ فی التدبیر علیه فلم یتم له ما أراد من ذلک، و حرّک علی نفسه ما کان ساکنا، فطلب أحمد الملک لنفسه و کاتب الأمراء و النوّاب بالمملکة الشامیة و المصریة فأذعنوا إلیه، و کان بمصر من الأمراء الأمیر أیدغمش و الأمیر آل ملک و قماری و الماردانیّ و غیرهم، فتخیل قوصون منهم و أخذ فی أسباب القبض علیهم، فعلموا بذلک و خافوا الفوت فرکبوا لحربه و حصروه بقلعة الجبل حتی قبضوا علیه فی لیلة الأربعاء آخر شهر رجب سنة اثنتین و أربعین و سبعمائة، و نهبت داره و سائر دور حواشیه و أسبابه، و حمل إلی الاسکندریة صحبة الأمیر قبلای فقتل بها، و کان کریما یفرّق فی کل سنة للأضحیة ألف رأس غنما، و ثلاثمائة بقرة، و یفرّق ثلاثین حیاصة ذهبا، و یفرّق کلّ سنة عدّة أملاک فیها ما یبلغ ثمنه ثلاثین ألف درهم، و له من الآثار بدیار مصر سوی هذا الجامع الخانقاه بباب القرافة، و الجامع تجاهها، و داره التی بالرمیلة تحت القلعة تجاه باب السلسلة و حکر قوصون.

جامع الماردانیّ

هذا الجامع بجوار خط التبانة خارج باب زویلة، کان مکانه أوّلا مقابر أهل القاهرة، ثم عمر أماکن. فلما کان فی سنة ثمان و ثلاثین و سبعمائة، أخذت الأماکن من أربابها و تولی شراءها النشو. فلم ینصف فی أثمانها، و هدمت و بنی مکانها هذا الجامع، فبلغ مصروفه زیادة علی ثلاثمائة ألف درهم، عنها نحو خمسة عشر ألف دینار، سوی ما حمل إلیه من الأخشاب و الرخام و غیره من جهة السلطنة، و أخذ ما کان فی جامع راشدة من العمد فعملت فیه، و جاء من أحسن الجوامع، و أوّل خطبة أقیمت فیه یوم الجمعة رابع عشری رمضان سنة أربعین و سبعمائة، و خطب فیه الشیخ رکن الدین عمر بن إبراهیم الجعبریّ، و لم یتناول معلوما.
ألطنبغا الماردانیّ الساقی: أمّره الملک الناصر محمد بن قلاون، و قدّمه و زوّجه ابنته، فلما مات السلطان و تلوی بعده ابنه الملک المنصور أبو بکر، ذکر أنه و شی بأمره إلی الأمیر قوصون و قال: قد عزم علی إمساکک. فتحیل قوصون و خلع أبا بکر و قتله بقوص، هذا مع أن الطنبغا کان قد عظم عند المنصور أکثر مما کان عند أبیه، فلما أقیم الأشرف کجک و ماج الناس و حضر الأمیر قطلوبغا من الشام و شغب الأمراء علی قوصون، کان ألطبغا أصل ذلک کله، ثم نزل إلی الأمیر أیدغمش أمیر أخور و اتفق معه علی أن یقبض علی قوصون، و طلع إلی قوصون و شاغله و خذله عن الحرکة طول اللیل و الأمراء الکبار المشایخ عنده، و ما زال یساهره حتی نام، و کان من قیالم الأمراء و رکوبهم علیه ما کان، إلی أن أمسک و أخرج إلی الاسکندریة، و لما قدم ألطنبغا نائب الشام و أقام، تقدّم الماردانیّ و قبض علی سیفه و لم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 110
یجسر غیره علی ذلک، فقویت بهذه الحرکان نفسه و صار یقف فوق التمرتاشیّ و هو اغاته فشق ذلک علیه و کتم فی نفسه إلی أن ملک الصالح إسماعیل، فتمکن حینئذ التمرتاشیّ و صار الأمر له، و عمل علی الماردانیّ فلم یشعر بنفسه إلا و قد أخرج علی خمسة أرؤس من خیل البرید إلی نیابة حماه فی شهر ربیع الأوّل سنة ثلاث و أربعین، فسار إلیها و بقی فیها نحو شهرین إلی أن مات ایدغمش نائب الشام، و نقل طقزدمر من نیابة حلب إلی نیابة دمشق، فنقل الماردانیّ من نیابة حماه إلی نیابة حلب، و سار إلیها فی أوّل رجب من السنة المذکورة، و جاء الأمیر یلبغا الیحیاویّ إلی نیابة حماه، فأقام الماردانیّ یسیرا فی حلب و مرض و مات مستهلّ صفر سنة أربع و أربعین و سبعمائة، و کان شابا طویلا رقیقا حول الصورة، لطیفا معشق الخطرة کریما صائب الحدس عاقلا.

جامع أصلم

هذا الجامع داخل الباب المحروق، أنشأه الأمیر بهاء الدین أصلم السلاحدار فی سنة ست و أربعین و سبعمائة.
أصلم: أحد ممالیک الملک المنصور قلاون الألفیّ، فلما فرّقت الممالیک السلطنیة فی نیابة کتبغا بعد قتل الملک الأشرف خلیل بن قلاون، و سلطنة الناصر محمد بن قلاون، کان أصلم من نصیب الأمیر سیف الدین أقوش المنصوریّ، ثم انتقل إلی الأمیر سلار، فلما حضر الملک الناصر محمد من الکرک بعد سلطنة بیبرس الجاشنکیر، خرج إلیه أصلم بمنجا الملک و بشره بهروب بیبرس، فأنعم علیه بإمرة عشرة، ثم تنقل إلی أن صار أمیر مائة مقدّم ألف، و خرج فی التجریدة إلی الیمن، فلما عاد اعتقله السلطان خمس سنین لکلام نقل عنه، ثم أخرجه و أعاده إلی منزلته، ثم جهزه لنیابة صفد، و مات الناصر و أصلم بصفد، فخرج الأمیر قوصون مع الطنبغا نائب الشام إلی حلب لإمساک طشتمر، فسار إلی قاری ثم رجع و انضمّ إلی الفخریّ و أقام عنده علی خان لاجین، و توجه معه صحبة عساکر الشام إلی مصر، فرسم له الملک الناصر أحمد بن محمد بن قلاون بامرة مائة فی مصر علی عادته، و کان أحد المشایخ، و یجلس رأس الحلقة، و یجید رمی النشاب مع سلامة صدر و خیر إلی أن مات فی یوم السبت عاشر شعبان سنة سبع و أربعین و سبعمائة، و نشأ بجوار هذا الجامع دارا سنیة، و حوض ماء للسبیل، و بهذا الجامع درس و له أوقاف، و هو من أحسن الجوامع.

جامع بشتاک

هذا الجامع خارج القاهرة بخط قبو الکرمانیّ علی برکة الفیل، عمره الأمیر بشتاک، فکمل فی شعبان سنة ست و ثلاثین و سبعمائة، و خطب فیه تاج الدین عبد الرحیم بن قاضی القضاة جلال الدین القزوینیّ، فی یوم الجمعة سابع عشرة، و عمر تجاهه خانقاه علی الخلیج
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 111
الکبیر، و نصب بینهما ساباطا یتوصل به من أحدهما إلی الآخر، و کان هذا الخط یسکنه جماعة من الفرنج و الأقباط، و یرتکبون من القبائح ما یلیق بهم، فلما عمر هذا الجامع و أعلن فیه بالأذان و إقامة الصلوات، اشمأزت قلوبهم لذلک و تحوّلوا من هذا الخط، و هو من أبهج الجوامع و أحسنها رخاما، و أنزهها. و ادرکناه إذا قویت زیادة ماء النیل فاضت برکة الفیل و غرّقته فیصیر لجة ماء، لکن منذ انحسر ماء النیل عن البلد إلی جهة الغرب بطل ذلک، و له من الآثار سوی ذلک، قصر بشتاک بین القصرین، و قد تقدّم ذکره.

جامع آق سنقر

هذا الجامع بسویقة السباعین علی البرکة الناصریة، عمره الأمیر آق سنقر شادّ العمائر السلطانیة، و إلیه تنسب قنطرة آق سنقر التی علی الخلیج الکبیر بخط قبو الکرمانیّ، قبالة الحبانیة، و أنشأ أیضا دارا جلیلة و حمامین بخط البرکة الناصریة، و کان من جملة الأوشاقیة فی أوّل أیام الملک الناصر محمد بن قلاون، ثم عمله أمیر أخور و نقله منها فجعله شادّ العمائر السلطانیة، و أقام فیها مدّة فأثری ثراء کبیرا، و عمر ما ذکر، و جعل علی الجامع عدّة أوقاف، فعزل و صودر و الخرج من مصر إلی حلب، ثم نقل منها إلی دمشق، فمات بها فی سنة أربعین و سبعمائة.

جامع آق سنقر

هذا الجامع قریب من قلعة الجبل فیما بین باب الوزیر و التبانة، کان موضعه فی القدیم مقابر أهل القاهرة، و أنشأه الأمیر آق سنقر الناصریّ، و بناه بالحجر و جعل سقوفه عقودا من حجارة، و رخمه و اهتمّ فی ثنائه اهتماما زائدا حتی کان یقعد علی عمارته بنفسه، و یشیل التراب مع الفعلة بیده، و یتأخر عن غدائه اشتغالا بذلک، و أنشأ بجانبه مکتبا لإقراء أیتام المسلمین القرآن، و حانوتا لسقی الناس الماء العذب، و وجد عند حفر أساس هذا الجامع کثیرا من الأموات، و جعل علیه ضیعة من قری حلب، تغلّ فی السنة مائة و خمسین ألف درهم فضة، عنها نحو سبعة آلاف دینار، و قرّر فیه درسا فیه عدّة من الفقهاء، و ولی الشیخ شمس الدین محمد بن اللبان الشافعیّ خطابته، و أقام له سائر ما یحتاج إلیه من أرباب الوظائف، و بنی بجواره مکانا لیدفن فیه، و نقل إلیه ابنه فدفنه هناک، و هذا الجامع من أجلّ جوامع مصر، إلّا أنه لما حدثت الفتن ببلاد الشام و خرجت النوّاب عن طاعة سلطان مصر منذ مات الملک الظاهر برقوق، امتنع حضور مغلّ وقف هذا الجامع لکونه فی بلاد حلب، فتعطل الجامع من أرباب وظائفه إلّا الاذان و الصلاة. و إقامة الخطبة فی الجمع و الأعیاد، و لما کانت سنة خمس عشرة و ثمانمائة أنشأ فی وسطه الأمیر طوغان الدوادار بکرة ماء، و سقفها و نصب علیها عمدا من رخام لحمل السقف، أخذها من جامع الخندق، فهدم الجامع بالخندق من أجل ذلک، و صار الماء ینقل إلی هذه البرکة من ساقیة الجامع التی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 112
کانت للمیضأة، فلما قبض الملک المؤید شیخ الظاهریّ علی طوغان فی یوم الخمیس تاسع عشر جمادی الأولی، سنة ست عشرة و ثمانمائة، و أخرجه إلی الاسکندریة و اعتقله بها، أخذ شخص الثور الذی کان یدیر الساقیة، فإن طوغان کان أخذه منه بغیر ثمن کما هی عادة أمرائنا، فبطل الماء من البرکة.
آق سنقر: السلاریّ، الأمیر شمس الدین أحد ممالیک السلطان الملک المنصور قلاون، و لما فرّقت الممالیک، فی نیابة کتبغا علی الأمراء، صار الأمیر آق سنقر إلی الأمیر سلار، فقیل له السلاریّ لذلک، و لما عاد الملک الناصر محمد بن قلاون من الکرک اختص به و رقاه فی الخدم حتی صار أحد الأمراء المقدّمین، و زوّجه بابنته و أخرجه لنیابة صفد، فباشرها بعفة إلی الغایة، ثم نقله من نیابة صفد إلی نیابة غزة، فلما مات الناصر و أقیم من بعده ابنه الملک المنصور أبو بکر، و خلع بالأشرف کجک و جاء الفخریّ لحصار الکرک، قام آق سنقر بنصرة أحمد ابن السلطان فی الباطن، و توجه الفخریّ إلی دمشق لما توجه الطنبغا إلی حلب لیطرد طشتمر نائب حلب، فاجتمع به و قوّی عزمه، و قال له توجه أنت إلی دمشق و املکها و أنا أحفظ لک غزة، و قام فی هذه الواقعة قیاما عظیما و أمسک الدروب، فلم یحضر أحد من الشام أو مصر من البرید و غیره إلّا و قبض علیه و حمل إلی الکرک، و حلف الناس للناصر أحمد، و قام بأمره ظاهرا و باطنا، ثم جاء إلی الفخریّ و هو علی خان لاجین و قوّی عزمه و عضذه، و ما زال عنده بدمشق إلی أن جاء الطنبغا من حلب و التقوا، و هرب الطنبغا فاتبعه اق سنقر إلی غزة و أقام بها، و وصلت العساکر الشامیة إلی مصر، فلما أمسک الناصر أحمد طشتمر النائب و توجه به إلی الکرک، أعطی نیابة دیار مصر لآق سنقر، فباشر النیابة و أحمد فی الکرک إلی أن ملک الملک الصالح إسماعیل بن محمد، فأقرّه علی النیابة و سار فیها سیرة مشکورة، فکان لا یمنع أحدا شیئا طلبه کائنا من کان، و لا یردّ سائلا یسأل و لو کان ذلک غیر ممکن، فارتزق الناس فی أیامه و اتسعت أحوالهم، و تقدّم من کان متأخرا حتی کان الناس یطلبون ما لا حاجة لهم به، ثم إن الصالح أمسکه هو و بیغرا أمیر جاندار، و أولاجا الحاجب، و قراجا الحاجب، من أجل أنهم نسبوا إلی الممالاة و المداجاة مع الناصر أحمد، و ذلک یوم الخمیس رابع المحرّم سنة أربع و أربعین و سبعمائة، و کان ذلک آخر العهد به، و استقرّ بعده فی النیابة الحاج آل ملک، ثم أفرج عن بیغرا، و أولاجا، و قراجا فی شهر رمضان سنة خمس و أربعین و سبعمائة.

جامع آل ملک

هذا الجامع فی الحسینیة خارج باب النصر، أنشأه الأمیر سیف الدین الحاج آل ملک، و کمل و أقیمت فیه الخطبة یوم الجمعة تاسع جمادی الأول سنة اثنتین و ثلاثین و سبعمائة، و هو من الجوامع الملیحة، و کانت خطته عامرة بالمساکن و قد خربت.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 113
آل ملک: الأمیر سیف الدین أصله مما أخذ فی أیام الملک الظاهر من کسب الأبلستین لما دخل إلی بلاد الروم فی سنة ست و سبعین و ستمائة، و صار إلی الأمیر سیف الدین قلاون و هو أمیر قبل سلطنته، فأعطاه لابنه الأمیر علیّ، و ما زال یترقی فی الخدم إلی أن صار من کبار الأمراء المشایخ رؤوس المشورة فی أیام الملک الناصر محمد بن قلاون، و کان لما خلع الناصر و تسلطن بیبرس یتردّد بینهما من مصر إلی الکرک، فأعجب الناصر عقله و تأنیه، و سیر من الکرک یقول للمظفر لا یعود یجی‌ء إلیّ رسولا غیر هذا فلما قدم الناصر إلی مصر عظمه و لم یزل کبیرا موقرا مبجلا، فلما ولی الناصر أحمد السلطنة أخرجه إلی نیابة خماه، فأقام بها إلی أن تولی الصالح اسماعیل، فأقدمه إلی مصر و أقام بها علی حاله إلی أن أمسک الأمیر آق سنقر السلاریّ نائب السلطنة بدیار مصر، فولاه النیابة مکانه، فشدّد فی الخمر إلی الغایة، و حدّ شاربها و هدم خزانة البنود و أراق خمورها، و بنی بها مسجدا و سکرها للناس، فسکنت إلی الیوم کما تقدّم ذکره، و أمسک الزمام زمانا، و کان یجلس للحکم فی الشباک بدار النیابة من قلعة الجبل طول نهاره لا یملّ ذلک و لا یسأم، و تروح أرباب الوظائف و لا یبقی عنده إلا النقباء البطالة، و کان له فی قلوب الناس مهابة و حرمة إلی أن تولی الکامل شعبان، فأخرجه أوّل سلطنته إلی دمشق نائبا بها عوضا عن الأمیر طقزدمر، فلما کان فی أوّل الطریق حضر إلیه من أخذه و توجه به إلی صفد نائبا بها، فدخلها آخر ربیع الآخر سنة سبع و أربعین و سبعمائة، ثم سأل الحضور إلی مصر فرسم له بذلک، فلما توجه و وصل إلی غزة أمسکه نائبها و وجهه إلی الاسکندریة فی سنة سبع و أربعین، فخنق بها. و کان خیرا فیه دین و عبادة یمیل إلی أهل الخیر و الصلاح، و تعتقد برکته، و خرّج له أحمد بن أیبک الدمیاطیّ مشیخة، و حدّث بها و قرئت علیه مرّات و هو جالس فی شباک النیابة بقلعة الجبل، و عمر هذا الجامع و دارا ملیحة عند المشهد الحسینیّ من القاهرة، و مدرسة بالقرب منها، و کان برکة من أحسن ما یکون، و خیله مشهورة موصوفة، و کان یقول کل أمیر لا یقوّم رمحه و یسکب الذهب إلی أن یساوی السنان ما هو أمیر، رحمة اللّه علیه.

جامع الفخر

فی ثلاثة مواضع، فی بولاق خارج القاهرة، و فی الروضة تجاه مدینة مصر، و فی جزیرة الفیل علی النیل ما بین بولاق و منیة السیرج. أمّا جامع الفخر بناحیة بولاق فإنه موجود تقام فیه الجمعة إلی الیوم، و کان أوّلا عند ابتداء بنائه یعرف موضعه بخط خص الکیالة، و هو مکان کان یؤخذ فیه مکس الغلال المبتاعة، و قد ذکر ذلک عند ذکر أقسام مال مصر من هذا الکاتب. و جامع الروضة باق تقام فیه الجمعة. و أما الجامع بجزیرة الفیل فإنه کان باقیا إلی نحو سنة تسعین و سبعمائة، و صلیت فیه الجمعة غیر مرّة، ثم خرب و موضعه باق بجوار دار تشرف علی النیل تعرف بدار الأمیر شهاب الدین أحمد بن عمر بن قطینة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 114
قریبا من الدار الحجازیة.
و الفخر: هذا هو محمد بن فضل اللّه القاضی فخر الدین ناظر الجیش، المعروف بالفخر، کان فی نصرانیته متألها، ثم أکره علی الإسلام فامتنع و همّ بقتل نفسه، و تغیب أیاما ثم أسلم و حسن إسلامه، و أبعد النصاری و لم یقرّب أحدا منهم، و حج غیر مرّة، و تصدّق فی آخر عمره مدّة فی کل شهر بثلاثة آلاف درهم نقرة، و بنی عدّة مساجد بدیار مصر، و أنشأ عدّة أحواض ماء للسبیل فی الطرقات، و بنی مارستانا بمدینة الرملة، و مارستانا بمدینة بلبیس، و فعل أنواعا من الخیر، و کان حنفیّ المذهب، و زار القدس عدّة مرار، و أحرم مرّة من القدس بالحج، و سار إلی مکة محرما، و کان إذا خدمه أحد مرّة واحدة صار صاحبه طول عمره، و کان کثیر الإحسان، لا یزال فی قضاء حوائج الناس مع عصبیة شدیدة لأصحابه، و انتفع به خلق کثیر لوجاهته عند السلطان، و إقدامه علیه، بحیث لم یک لأحد من أمراء الدولة عند الملک الناصر محمد بن قلاون ماله من الإقدام، و لقد قال السلطان مرّة لجندی طلب منه إقطاعا: لا تطوّل، و اللّه لو أنک ابن قلاون ما أعطاک القاضی فخر الدین حیزا یغلّ أکثر من ثلاثة آلاف درهم، و قال له السلطان فی یوم من الأیام و هو بدار العدل: یا فخر الدین تلک القضیة طلعت فاشوش. فقال له: ما قلت لک أنها عجوز نحس. یرید بذلک بنت کوکای امرأة السلطان عند ما ادّعت أنها حبلی، و له من الأخبار کثیر.
و کان أوّلا کاتب الممالیک السلطانیة، ثم صار من کتابة الممالیک إلی وظیفة نظر الجیش، و نال من الوجاهة ما لم ینله غیره فی زمانه، و کان الأمیر أرغون نائب السلطنة بدیار مصر یکرهه، و إذا جلس للحکم یعرض عنه و یدیر کتفه إلی وجه الفخر، فعمل علیه الفخر حتی سار للحج، فقال للسلطان: یا خوند ما یقتل الملوک إلّا النوّاب، بیدرا قتل أخاک الملک الأشرف، و لاجین قتل بسبب نائبه منکوتمر، و خیل للسلطان إلی أن أمر بمسیر الأمیر أرغون من طریق الحجاز إلی نیابة حلب، و حسن للسلطان أن لا یستوزر أحدا بعد الأمیر الجمالیّ، فلم یول أحدا بعده الوزارة، و صارت المملکة کلها من أحوال الجیوش، و أمور الأموال و غیرها متعلقة بالفخر، إلی أن غضب علیه السلطان و نکبه و صادره علی أربعمائة ألف درهم نقرة، و ولی وظیفة نظر الشیخ قطب الدین موسی بن شیخ السلامیة، ثم رضی عن الفخر و أمر بإعادة ما أخذ منه من المال إلیه، و هو أربعمائة ألف درهم نقرة، فامتنع و قال: أنا خرجت عنها للسلطان فلیبین بها جامعا، و بنی بها الجامع الناصریّ المعروف الآن بالجامع الجدید خارج مدینة مصر بموردة الحلفاء، و زار مرّة القدس و عبر کنیسة قمامة فسمع و هو یقول عند ما رأی الضوء بها: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هدیتنا. و باشر آخر عمره بغیر معلوم، و کان لا یأخذ من دیوان السلطان معلوما سوی کماجة، و یقول أتبرّک بها،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 115
و لما مات فی رابع عشر رجب سنة اثنتین و ثلاثین و سبعمائة و له من العمر ما ینیف علی سبعین سنة، و ترک موجودا عظیما إلی الغایة. قال: السلطان، لعنه اللّه، خمس عشرة سنة ما یدعنی أعمل ما أرید، و أوصی للسلطان بمبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، فأخذ من ترکته أکثر من ألف ألف درهم نقرة، و من حین مات الفخر کثر تسلط السلطان الملک الناصر، و أخذه أموال الناس، و إلی الفخر تنسب قنطرة الفخر التی علی فم الخلیج الناصریّ المجاور لمیدان السلطان بموردة الجبس، و قنطرة الفخر التی علی الخلیج المجاور للخلیج الناصریّ، و أدرکت ولده فقیرا یتکفف الناس بعد مال لا یحدّ کثرة.

جامع نائب الکرک

هذا الجامع بظاهر الحسینیة مما یلی الخلیج، کان عامرا و عمر ما حوله عمارة کبیرة، ثم خرب بخراب ما حوله من عهد الحوادث فی سنة ست و ثمانمائة، عمره الأمیر جمال الدین أقوش المعروف بنائب الکرک، و قد تقدّم ذکره عند ذکر الدور من هذا الکتاب.

جامع الخطیریّ ببولاق

هذا الجامع موضعه الآن بناحیة بولاق خارج القاهرة، کان موضعه قدیما مغمورا بماء النیل إلی نحو سنة سبعمائة، فلما انحسر ماء النیل عن ساحل المقس صار ما قدّام المقس رمالا لا یعلوها ماء النیل إلّا أیام الزیادة، ثم صارت بحیث لا یعلوها الماء البتة، فزرع موضع هذا الجامع بعد سنة سبعمائة، و صار منتزها یجتمع عنده الناس، ثم بنی هناک شرف الدین بن زنبور ساقیة و عمر بجوارها رجل یعرف بالحاج محمد بن عز الفرّاش دارا تشرف علی النیل، و تردّد إلیها، فلما مات أخذها شخص یقال له تاج الدین بن الأزرق ناظر الجهات و سکنها، فعرفت بدار الفاسقین لکثرة ما یجری فیها من أنواع المحرّمات، فاتفق أن النشو ناظر الخاص قبض علی ابن الأزرق و صادره، فباع هذه الدار فی جملة ما باعه من موجوده، فاشتراها منه الأمیر عز الدین أیدمر الخطیریّ و هدمها و بنی مکانها هذا الجامع و سماه جامع التوبة، و بالغ فی عمارته و تأنق فی رخامه، فجاء من أجلّ جوامع مصر و أحسنها، و عمل له منبرا من رخام فی غایة الحسن، و رکب فیه عدّة شبابیک من حدید تشرف علی النیل الأعظم، و جعل فیه خزانة کتب جلیلة نفیسة، و رتب فیه درسا للفقهاء الشافعیة، و وقف علیه عدّة أوقاف منها: دار العظیمة التی هی فی الدرب الأصفر تجاه خانقاه بیبرس، و کان جملة ما أنفق فی هذا الجامع أربعمائة ألف درهم نقرة، و کملت عمارته فی سنة سبع و ثلاثین و سبعمائة، و أقیمت به الجمعة فی یوم الجمعة عشری جمادی الآخر، فلما خلص ابن الأزرق من المصادرة، حضر إلی الأمیر الخطیریّ و ادّعی أنه باع داره و هو مکره، فدفع إلیه ثمنها مرّة ثانیة، ثم إن البحر قوی علی هذا الجامع و هدمه، فأعاد بناءه بجملة کثیرة من المال، و رمی قدّام زریبته ألف مرکب مملوءة بالحجارة، ثم انهدم بعد موته و أعیدت زریبته.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 116
ایدمر الخطیریّ: الأمیر عز الدین، مملوک شرف الدین أوحد بن الخطیریّ، الأمیر مسعود بن خطیر، انتقل إلی الملک الناصر محمد بن قلاون فرقاه حتی صار أحد أمراء الألوف، بعد ما حبسه بعد مجیئه من الکرک إلی مصر مدّة، ثم أطلقه و عظم مقداره إلی أن بقی یجلس رأس المیسرة و معه أمرة مائة و عشرین فارسا، و کان لا یمکنه السلطان من المبیت فی داره بالقاهرة، فینزل إلیها بکرة و یطلع إلی القلعة بعد العصر کذا أبدا، فکانوا یرون ذلک تعظیما له، و کان منوّر الشیبة کریما یحب التزوّج الکثیر و الفخر، بحیث أنه لما زوّج السلطان ابنته بالأمیر قوصون ضرب دینارین وزنهما أربعمائة مثقال ذهبا، و عشرة آلاف درهم فضة برسم نقوط امرأته فی العرس إذا طلعت إلی زفاف ابنة السلطان علی قوصون، و قیل له مرّة هذا السّکّر الذی یعمل فی الطعام ما یضرّ أن یعمل غیر مکرّر، فقال لا یعمل إلّا مکرّرا، فإنه یبقی فی نفسی أنه غیر مکرّر، و کان لا یلبس قباء مطرّزا و لا مصقولا، و لا یدع أحدا عنده یلبس ذلک، و کان یخرج الزکاة، و انشأ بجانب هذا الجامع ربعا کبیرا تنافس الناس فی سکناه، و لم یزل علی حاله حتی مات یوم الثلاثاء مستهلّ شهر رجب سنة سبع و ثلاثین و سبعمائة، و دفن بتربته خارج باب النصر، و لم یزل هذا الجامع مجمعا یقصده سائر الناس للتنزه فیه علی النیل، و یرغب کل أحد فی السکنی بجواره، و بلغت الأماکن التی بجواره من الأسواق و الدور الغایة فی العمارة، حتی صار ذلک الخط أعمر أخطاط مصر و أحسنها، فلما کانت سنة ست و ثمانمائة انحسر ماء النیل عما تجاه جامع الخطیریّ، و صار رملة لا یعلوها الماء إلّا فی أیام الزیادة، و تکاثر الرمل تحت شبابیک الجامع، و قربت من الأرض بعد ما کان الماء تحته لا یکاد یدرک قراره، و هو الآن عامر، إلّا أن الاجتماعات التی کانت فیه قبل انحسار النیل عما قبالته قلت، و اتضع حال ما یجاوره من السوق و الدور، و للّه عاقبة الأمور.

جامع قیدان

هذا الجامع خارج القاهرة علی جانب الخلیج الشرقیّ ظاهر باب الفتوح مما یلی قناطر الإوز تجاه أرض البعل، کان مسجدا قدیم البناء فجدّده الطواشی بهاء الدین قراقوش الأسدی فی محرّم سنة سبع و تسعین و خمسمائة، و جدّد حوض السبیل الذی فیه، ثم إن الأمیر مظفر الدین قیدان الرومیّ عمل به منبرا لإقامة الخطبة یوم الجمعة، و کان عامرا بعمارة ما حوله، فلما حدث الغلاء فی سنة ست و سبعین و سبعمائة، أیام الملک الأشرف شعبان بن حسین خرب کثیر من تلک النواحی، و بیعت أنقاضها، و کانت الغرقة أیضا، فصار ما بین القنطرة الجدیدة المجاورة لسوق جامع الظاهر، و بین قناطر الأوز المقابلة لأرض البعل یبابا لا عامر له و لا ساکن فیه، و خرب أیضا ما وراء ذلک من شرقیه إلی جامع نائب الکرک، و تعطل هذا الجامع و لم یبق منه غیر جدر آئلة إلی العدم، ثم جدّده مقدّم بعض الممالیک السلطانیة فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 117
حدود الثلاثین و الثمانمائة، ثم وسع فیه الشیخ أحمد بن محمد الأنصاریّ العقاد الشهیر بالأزراریّ، و مات فی ثانی عشر ربیع الأوّل سنة ثلاث و أربعین و ثمانمائة.

جامع الست حدق

هذا الجامع بخط المریس فی جانب الخلیج الکبیر مما یلی الغرب، بالقرب من قنطرة السدّ التی خارج مدینة مصر، أنشأته الست حدق دادة الملک الناصر محمد بن قلاون، و أقیمت فیه الخطبة یوم الجمعة لعشرین من جمادی الآخرة سنة سبع و ثلاثین و سبعمائة، و إلی حدق هذه ینسب حکر الست حدق الذی ذکر عند ذکر الأحکار من هذا الکتاب.

جامع ابن غازی

هذا الجامع خارج باب البحر من القاهرة بطریق بولاق، أنشأه نجم الدین بن غازی دلال الممالیک، و أقیمت فیه الخطبة فی یوم الجمعة ثانی عشر جمادی الأولی، سنة إحدی و أربعین و سبعمائة، و إلی الیوم تقام فیه الجمعة، و بقیة الأیام لا یزال مغلق الأبواب لقلة السکان حوله.

جامع الترکمانیّ

هذا الجامع فی المقس، و هو من الجوامع الملیحة البناء، أنشأه الأمیر بدر الدین محمد الترکمانیّ، و کان ما حوله عامرا عمارة زائدة، ثم تلاشی من الوقت الذی کان فیه الغلاء زمن الملک الأشرف شعبان بن حسین، و ما برح حاله یختل إلی أن کانت الحوادث و المحن من سنة ست و ثمانمائة، فخرب معظم ما هنالک، و فیه إلی الیوم بقایا عامر لا سیما بجوار هذا الجامع.
الترکمانیّ محمد، و ینعت بالأمیر بدر الدین محمد بن الأمیر فخر الدین عیسی الترکمانیّ، کان أوّلا شادّا، ثم ترقی فی الخدم حتی ولی الجیزة، و تقدّم فی الدولة الناصریة، فولاه السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون شادّ الدواوین، و الدولة حینئذ لیس فیها وزیر، فاستقلّ بتدبیر الدولة مدّة أعوام، و کان یلی نظر الدولة تلک الأیام کریم الدین الصغیر، فغص به و ما زال یدبر علیه حتی أخرجه السلطان من دیار مصر، و عمله شادّ الدواوین بطرابلس، فأقام هناک مدّة سنتین ثم عاد إلی القاهرة بشفاعة الأمیر تنکز نائب الشام، و ولی کشف الوجه البحریّ مدّة، ثم أعطی أمرة طبلخاناه، و أعطی أخوه علیّ أمرة عشرة، و ولده إبراهیم أیضا أمرة عشرة، و کان مهابا صاحب حرمة باسطة و کلمة نافذة، و مات عن سعادة طائلة بالمقس فی ربیع الأوّل سنة ثمان و ثلاثین و سبعمائة و هو أمیر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 118

جامع شیخو

هذا الجامع بسویقة منعم، فیما بین الصلیبة و الرمیلة تحت قلعة الجبل، أنشأه الأمیر الکبیر سیف الدین شیخو الناصریّ، رأس نوبة الأمراء فی سنة ست و خمسین و سبعمائة، و رفق بالناس فی العمل فیه و أعطاهم أجورهم، و جعل فیه خطبة و عشرین صوفیا، و أقام الشیخ أکمل الدین محمد بن محمود الرومیّ الحنفیّ شیخهم، ثم لما عمر الخانقاه تجاه الجامع نقل حضور الأکمل و الصوفیة إلیها، و زاد عدّتهم، و هذا الجامع من أجلّ جوامع دیار مصر.
شیخو: الأمیر الکبیر سیف الدین، أحد ممالیک الناصر محمد بن قلاون، حظی عند الملک المظفر حاجی بن محمد بن قلاون، و زادت وجاهته حتی شفع فی الأمراء و أخرجهم من سجن الإسکندریة، ثم إنه استقرّ فی أوّل دولة الملک الناصر حسن أحد أمراء المشورة، و فی آخر الأمر کانت القصص تقرأ علیه بحضرة السلطان فی أیام الخدمة، و صار زمام الدولة بیده، فساسها أحسن سیاسة بسکون و عدم شرّ، و کان یمنع کل حزب من الوثوب علی الآخر، فعظم شأنه إلی أن رسم السلطان بإمساک الأمیر یلبغاروس نائب السلطنة بدیار مصر و هو مسافر بالحجاز، و کان شیخو قد خرج متصیدا إلی ناحیة طنان بالغربیة، فلما کان یوم السبت رابع عشری شوّال سنة إحدی و خمسین و سبعمائة، أمسک السلطان الأمیر منجک الوزیر، و حلّف الأمراء لنفسه، و کتب تقلید شیخو بنیابة طرابلس، و جهزه إلیه مع الأمیر سیف الدین طینال الجاشنکیر، فسار إلیه و سفره من برّا، فوصل إلی دمشق لیلة الثلاثاء رابع ذی القعدة، فظهر مرسوم السلطان بإقامة شیخو فی دمشق علی إقطاع الأمیر بیلبک السالمیّ، و بتجهیز بیلبک إلی القاهرة، فخرج بیلبک من دمشق و أقام شیخو علی إقطاعه بها، فما وصل بیلبک إلی القاهرة إلّا و قد وصل إلی دمشق و أقام شیخو علی إقطاعه بها، فما وصل و تقیید ممالیکه و اعتقالهم بقلعة دمشق، فأمسک و جهّز مقیدا، فلما وصل إلی قطیا توجهوا به إلی الإسکندریة، فلم یزل معتقلا بها إلی أن خلع السلطان الملک الناصر حسن، و تولی أخوه الملک الصالح صالح، فأفرج عن شیخو و منجک الوزیر و عدّة من الأمراء، فوصلوا إلی القاهرة فی رابع شهر رجب سنة اثنتین و خمسین و سبعمائة، و أنزل فی الأشرفیة بقلعة الجبل، و استمرّ علی عادته، و خرج مع الملک الصالح إلی الشام فی واقعة یلبغاروس، و توجه إلی حلب هو و الأمیر طاز و أرغون الکاملیّ خلف یبلغاروس، و عاد مع السلطان إلی القاهرة و صمم حتی أمسک یلبغاروس و من معه من الأمراء بعد ما و صلوا إلی بلاد الروم، و حزت رؤسهم، و أمسک أیضا ابن دلغار و أحضر إلی القاهرة و وسّط و علّق علی باب زویلة، ثم خرج بنفسه فی طلب الأحدب الذی خرج بالصعید و تجاوز فی سفره قوص، و أمسک عدّة کثیرة و وسّطهم حتی سکنت الفتن بأرض مصر، و ذلک فی آخر سنة أربع و خمسین و أوّل سنة خمس و خمسین.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 119
ثم خلع الملک الصالح و أقام بدله الملک الناصر حسنا فی ثانی شوّال، و أخرج الأمیر طاز من مصر إلی حلب نائبا بها و معه إخوته، و صارت الأمور کلها راجعة إلیه، و زادت عظمته و کثرت أمواله و أملاکه و مستأجراته حتی کاد یکاثر أمواج البحر بما ملک، و قیل له قارون عصره. و عزیز مصره، و أنشأ خلقا کثیرا، فقوی بذلک حزبه و جعل فی کل مملکة من جهته عدّة أمراء، و صارت نوّابه بالشام و فی کل مدینة أمراء کبار، و خدموه حتی قیل کان یدخل کل یوم دیوانه من إقطاعه و أملاکه و مستأجراته بالشام و دیار مصر مبلغ مائتی ألف درهم نقرة، و أکثر، و هذا شی‌ء لم یسمع بمثله فی الدولة الترکیة، و ذلک سوی الإنعامات السلطانیة و التقادم التی ترد إلیه من الشام و مصر، و ما کان یأخذ من البراطیل علی ولایة الأعمال، و جامعه هذا و خانقاهه التی بخط الصلیبة لم یعمر مثلهما قبلهما، و لا عمل فی الدولة الترکیة مثل أوقافهما، و حسن ترتیب المعالیم بهما، و لم یزل علی حاله إلی أن کان یوم الخمیس ثامن شعبان سنة ثمان و خمسین و سبعمائة، فخرج علیه شخص من الممالیک السلطانیة المرتجعة عن الأمیر منجک الوزیر یقال له بای، فجاء و هو جالس بدار العدل و ضربه بالسیف فی وجهه و فی یده، فارتجت القلعة کلها و کثر هرج الناس حتی مات من الناس جماعة من الزحمة و رکب من الأمراء الکبار عشرة و هم بالسلاح علیهم إلی قبة النصر خارج القاهرة، ثم أمسک بای فجاء و قرّر فلم یعترف بشی‌ء علی أحد و قال: أنا قدّمت إلیه قصة لینقلنی من الجامکیة إلی الإقطاع فما قضی شغلی، فأخذت فی نفسی من ذلک، فسجن مدّة ثم سمّر و طیف به الشوارع، و بقی شیخو علیلا من تلک الجراحة لم یرکب إلی أن مات لیلة الجمعة سادس عشری ذی القعدة، سنة ثمان و خمسین و سبعمائة، و دفن بالخانقاه الشیخونیة و قبره بها یقرأ عنده القرآن دائما.

جامع الجاکیّ

هذا الجامع کان بدرب الجاکی عند سویقة الریش من الحکر فی برّ الخلیج الغربیّ، أصله مسجد من مساجد الحکر، ثم زاد فیه الأمیر بدر الدین محمد بن إبراهیم المهمندار، و جعله جامعا و أقام فیه منبرا فی سنة ثلاث عشرة و سبعمائة، فصار أهل الحکر یصلون فیه الجمعة إلی أن حدثت المحن من سنة ست و ثمانمائة، فخرب الحکر و بیعت أنقاض معظم الدور التی هناک، و تعطل هذا الجامع من ذکر اللّه و إقامة الصلاة لخراب ما حوله، فحکم بعض قضاة الحنفیة ببیع هذا الجامع، فاشتراه شخص من الوعاظ یعرف بالشیخ أحمد الواعظ الزاهد صاحب جامع الزاهد بخط المقس، و هدمه و أخذ أنقاضه فعملها فی جامعه الذی بالمقس فی أوّل سنة سبع عشرة و ثمانمائة.

جامع التوبة

هذا الجامع بجوار باب البرقیة فی خط بین السورین، کان موضعه مساکن أهل الفساد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 120
و أصحاب الرأی، فلما أنشأ الأمیر الوزیر علاء الدین مغلطای الجمالیّ خانقاهه المعروفة بالجمالیة قریبا من خزانة البنود بالقاهرة، کره مجاورة هذه الأماکن لداره و خانقاهه، فأخذها و هدمها و بنی هذا الجامع فی مکانها، و سماه جامع التوبة، فعرف بذلک إلی الیوم، و هو الآن تقام فیه الجمعة، غیر أنه لا یزال طول الأیام مغلق الأبواب لخلوّه من ساکن، و قد خرب کثیر مما یجاوره، و هناک بقایا من أماکن.

جامع صاروجا

هذا الجامع مطلّ علی الخلیج الناصریّ بالقرب من برکة الحاجب التی تعرف ببرکة الرطلی، کان خطة تعرف بجامع العرب، فأنشأ بها هذا الجامع ناصر الدین محمد أخو الأمیر صار و جانقیب الجیش، بعد سنة ثلاثین و سبعمائة، و کانت تلک الخطة قد عمرت عمارة زائدة، و أدرکت منها بقیة جیدة إلی أن دثرت، فصارت کیمانا، و تقام الجمعة إلی الیوم فی هذا الجامع أیام النیل.

جامع الطباخ

هذا الجامع خارج القاهرة بخط باب اللوق، بجوار برکة الشقاف، کان موضعه و موضع برکة الشقاف من جملة الزهریّ، أنشأه الأمیر جمال الدین أقوش، و جدّده الحاج علی، الطباخ فی المطبخ السلطانیّ أیام الملک الناصر محمد بن قلاون، و لم یکن له وقف، فقام بمصالحه من ماله مدّة، ثم إنه صودر فی سنة ست و أربعین و سبعمائة، فتعطل مدّة نزول الشدّة بالطباخ، و لم تقم فیه تلک المدّة الصلاة.
علیّ بن الطباخ: نشأ بمصر و خدم الملک الناصر محمد بن قلاون. و هو بمدینة الکرک، فلما قدم إلی مصر جعله خوان سلار، و سلمه المطبخ السلطانیّ، فکثر ماله لطول مدّته. و کثرة تمکنه، و لم یتفق لأحد من نظرائه ما اتفق له من السعادة الطائلة، و ذلک أن الأفراح و ما کان یصنع من المهمات و الأعراس و نحوها مما کان یعمل فی الدور السلطانیة و عند الأمراء و الممالیک و الحواشی مع کثرة ذلک فی طول تلک الأعوام، کانت کلها إنما یتولی أمرها هو بمفرده، فما اتفق له فی عمل مهم ابن بکتمر الساقی علی ابنة الأمیر تنکز نائب الشام، أن السلطان الملک الناصر استدعاه آخر النهار الذی عمل فیه المهم المذکور و قال له: یا حاج علیّ، اعمل لی الساعة لونا من طعام الفلاحین، و هو خروج رمیس یکون ملهوج، فولی و وجهه معبس، فصاح به السلطان ویلک مالک معبس الوجه؟ فقال: کیف ما أعبس و قد حرمتنی الساعة عشرین ألف درهم نقرة؟ فقال: کیف حرمتک؟ قال: قد تجمع عندی رؤس غنم و بقر و أکارع و کروش و أعضاد و سقط دجاج و أوز و غیر ذلک مما سرقته من المهمّ، و أرید أقعد و أبیعه، و قد قلت لی أطبخ و بینما أفرغ من الطبیخ تلف الجمیع، فتبسم السلطان و قال له: رح أطبخ و ضمان الذی ذکرت علیّ، و أمر بإحضار والی القاهرة و مصر،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 121
فلما حضرا ألزمهما بطلب أرباب الزفر إلی القلعة و تفرقة ما ناب الطباخ من المهمّ علیهم، و استخراج ثمنه، فللحال حضر المذکورون و بیع علیهم ذلک فبلغ ثمنه ثلاثة و عشرین ألف درهم نقرة، و هذا مهمّ واحد من ألوف مع الذی کان له من المعالیم و الجرایات و منافع المطبخ. و یقال أنه کان یتحصل له من المطبخ السلطانی فی کل یوم علی الدوام و الاستمرار مبلغ خمسمائة درهم نقرة، و لولده أحمد مبلغ ثلاثمائة درهم نقرة، فلما تحدّث النشو فی الدولة خرّج علیه تخاریج و أغری به السلطان، فلم یسمع فیه کلاما، و ما زال علی حاله إلی أن مات الملک الناصر و قام من بعده أولاده الملک المنصور أبو بکر، و الملک الأشرف کجک، و الملک الناصر أحمد، و الملک الصالح إسماعیل، و الملک الکامل شعبان، فصادره فی سنة ست و أربعین و سبعمائة، و أخذ منه مالا کثیرا، و مما وجد له خمس و عشرون دارا مشرفة علی النیل و غیره، فتفرقت حواشی الملک الکامل أملامه، فأخذت أم السلطان ملکه الذی کان علی البحر، و کانت دارا عظیمة جدّا، و أخذت أنقاض داره التی بالمحمودیة من القاهرة و أقیم عوضه بالمطبخ السلطانیّ و ضرب ابنه أحمد.

جامع الأسیوطیّ

هذا الجامع بطرف جزیرة الفیل مما یلی ناحیة بولاق، کان موضعه فی القدیم غامرا بماء النیل، فلما انحسر عن جزیرة الفیل و عمرت ناحیة بولاق، أنشأ هذا الجامع القاضی شمس الدین محمد بن إبراهیم بن عمر السیوطیّ ناظر بیت المال، و مات فی سنة تسع و أربعین و سبعمائة، ثم جدّد عمارته بعد ما تهدّم و زاد فیه ناصر الدین محمد بن محمد بن عثمان بن محمد المعروف بابن البارزیّ الحمویّ کاتب السرّ، و أجری فیه الماء و أقام فیه الخطبة یوم الجمعة سادس عشری جمادی الأولی سنة اثنتین و عشرین و ثمانمائة، فجاء فی أحسن هندام و أبدع زیّ، و صلّی فیه السلطان الملک المؤید شیخ الجمعة فی أول جمادی الآخرة سنة ثلاث و عشرین و ثمانمائة.

جامع الملک الناصر حسن

هذا الجامع یعرف بمدرسة السلطان حسن، و هو تجاه قلعة الجبل فیما بین القلعة و برکة الفیل، و کان موضعه بیت الأمیر یلبغا الیحیاوی الذی تقدّم ذکره عند ذکر الدور، و ابتدأ السلطان عمارته فی سنة سبع و خمسین و سبعمائة، و أوسع دوره و عمله فی أکبر قالب و أحسن هندام و أضخم شکل، فلا یعرف فی بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمین یحکی هذا الجامع، أقامت العمارة فیه مدّة ثلاث سنین لا تبطل یوما واحدا، و أرصد لمصروفها فی کل یوم عشرون ألف درهم، عنها نحو ألف مثقال ذهبا. و لقد أخبرنی الطواشی مقبل الشامیّ: أنه سمع السلطان حسنا یقول: انصرف علی القالب الذی بنی علیه عقد الإیوان الکبیر مائة ألف درهم نقرة، و هذا القالب مما رمی علی الکیمان بعد فراغ العقد المذکور.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 122
قال: و سمعت السلطان یقول لولا أن یقال ملک مصر عجز عن إتمام بناء بناه لترکت بناء هذا الجامع من کثرة ما صرف علیه، و فی هذا الجامع عجائب من البنیان منها: أن ذراع إیوانه الکبیر خمسة و ستون ذراعا فی مثلها، و یقال أنه أکبر من إیوان کسری الذی بالمدائن من العراق بخمسة أذرع، و منه القبلة العظیمة التی لم یبن بدیار مصر و الشام و العراق و المغرب و الیمن مثلها، و منها المنبر الرخام الذی لا نظیر له، و منها البوّابة العظیمة، و منها المدارس الأربع التی بدور قاعة الجامع إلی غیر ذلک. و کان السلطان قد عزم علی أن یبنی أربع منایر یؤذن علیها، فتمت ثلاث منایر إلی أن کان یوم السبت سادس شهر ربیع الآخر سنة اثنتین و ستین و سبعمائة، فسقطت المنارة التی علی الباب، فهلک تحتها نحو ثلاثمائة نفس من الأیتام الذین کانوا قد رتبوا بمکتب السبیل الذی هناک و من غیر الأیتام، و سلّم من الأیتام ستة أطفال، فأبطل السلطان بناء هذه المنارة و بناء نظیرتها، و تأخر هناک منارتان هما قائمتان إلی الیوم، و لما سقطت المنارة المذکورة لهجت عامّة مصر و القاهرة بأن ذلک منذر بزوال الدولة، فقال الشیخ بهاء الدین أبو حامد أحمد بن علیّ بن محمد السبکیّ فی سقوطها:
أبشر فسعدک یا سلطان مصر أتی‌بشیره بمقال سار کالمثل
إنّ المنارة لم تسقط لمنقصةلکن لسرّ خفیّ قد تبیّن لی
من تحتها قری‌ء القرآن فاستمعت‌فالوجد فی الحال أدّها إلی المیل
لو أنزل اللّه قرآنا علی جبل‌تصدّعت رأسه من شدّة الوجل
تلک الحجارة لم تنقضّ بل هبطت‌من خشیة اللّه لا للضعف و الخلل
و غاب سلطانها فاستوحشت و رمت‌بنفسها لجوی فی القلب مشتعل
فالحمد للّه حظّ العین زال بماقد کان قدّره الرحمن فی الأزل
لا یعتری البؤس بعد الیوم مدرسةشیدت بنیانها بالعلم و العمل
و دمت حتی تری الدنیا بها امتلأت‌علما فلیس بمصر غیر مشتغل
فاتفق قتل السلطان بعد سقوط المنارة بثلاثة و ثلاثین یوما، و مات السلطان قبل أن یتم رخام هذا الجامع، فأتمه من بعده الطواشی بشیر الجمدار، و کان قد جعل السلطان علی هذا الجامع أوقافا عظیمة جدّا، فلم یترک منها إلّا شی‌ء یسیر و أقطع أکثر البلاد التی وقفت علیه بدیار مصر و الشام لجماعة من الأمراء و غیرهم، و صار هذا الجامع ضدّا لقلعة الجبل، قلما تکون فتنة بین أهل الدولة إلّا و یصعد عدّة من الأمراء و غیرهم إلی أعلاه و یصیر الرمی منه علی القلعة، فلم یحتمل ذلک الملک الظاهر برقوق و أمر فهدمت الدرج التی کان یصعد منها إلی المنارتین و البیوت التی کان یسکنها الفقهاء، و یتوصل من هذه الدرج إلی السطح الذی کان یرمی منه علی القلعة، و هدمت البسطة العظیمة و الدرج التی کانت بجانبی هذه البسطة التی کانت قدّام باب الجامع، حتی لا یمکن الصعود إلی الجامع، و سدّ من وراء الباب النحاس الذی لم یعمل فیما عهد باب مثله، و فتح شباک من شبابیک أحد مدارس هذا الجامع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 123
لیتوصل منه إلی داخل الجامع عوضا عن الباب المسدود، فصار هذا الجامع تجاه باب القلعة المعروف بباب السلسلة، و امتنع صعود المؤذنین إلی المنارتین، و بقی الأذان علی درج هذا الباب، و کان ابتداء هدم ما ذکر فی یوم الأحد ثامن صفر سنة ثلاث و تسعین و سبعمائة، ثم لما شرع السلطان الملک المؤید شیخ فی عمارة الجامع بجوار باب زویلة اشتری هذا الباب النحاس و التنور النحاس الذی کان معلقا هناک بخمسمائة دینار، و نقلا فی یوم الخمیس سابع عشری شوّال سنة تسع عشرة و ثمانمائة، فرکب الباب علی البوّابة و علق التنور تجاه المحراب، فلما کان فی یوم الخمیس تاسع شهر رمضان سنة خمس و عشرین و ثمانمائة، أعید الأذان فی المئذنتین کما کان، و أعید بناء الدرج و البسطة، و رکب باب بدل الباب الذی أخذه المؤید، و استمرّ الأمر علی ذلک.
الملک الناصر أبو المعالی الحسن بن محمد بن قلاون: جلس علی تخت الملک و عمره ثلاث عشرة سنة فی یوم الثلاثاء رابع عشر شهر رمضان سنة ثمان و أربعین و سبعمائة بعد أخیه الملک المظفر حاجی، و أرکب من باب الستارة بقلعة الجبل و علیه شعار السلطنة و فی رکابه الأمراء إلی أن نزل بالإیوان السلطانیّ، و مدبر و الدولة یومئذ الأمیر یلبغاروس، و الأمیر ألجیبغا المظفریّ، و الأمیر شیخو، و الأمیر طاز، و أحمد شادّ الشرابخاناه، و أرغون الإسماعیلیّ فخلع علی یلبغاروس و استقرّ فی نیابة السلطنة بدیار مصر، عوضا عن الحاج أرقطای، و قرّر أرقطای فی نیابة السلطنة بحلب، و خلع علی الأمیر سیف الدین منجک الیوسفیّ و استقرّ فی الوزارة و الاستاداریة، و قرر الأمیر أرغون شاه فی نیابة السلطنة بدمشق.
فلما دخلت سنة تسع و أربعین، کثر انکشاف الأراضی من ماء النیل بالبرّ الشرقیّ فیما یلی بولاق إلی مصر، فاهتم الأمراء بسدّ البحر مما یلی الجیزة، و فوّض ذلک للأمیر منجک، فجمع مالا کثیرا و أنفقه علی ذلک، فلم یفد، فقبض علی منجک فی ربیع الأوّل، و حدث الوباء العظیم فی هذه السنة، و أخرج أحمد شادّ الشرابخاناه لنیابة صفد، و ألجیبغا لنیابة طرابلس، فاستمرّ أجلیبغا بها إلی شهر ربیع الأوّل سنة خمسین، فرکب إلی دمشق و قتل أرغون شاه بغیر مرسوم، فأنکر علیه و أمسک و قتل بدمشق. و فی سنة إحدی و خمسین سار من دمشق عسکر عدّته أربعة آلاف فارس، و من حلب ألفا فارس إلی مدینة سنجار، و معهم عدّة کثیرة من الترکمان، فحصروها مدّة حتی طلب أهلها الأمان، ثم عادوا. و ترشد السلطان و استبدّ بأمره و قبض علی منحک و یلبغاروس، و قبض بمکة علی الملک المجاهد صاحب الیمن، و قید و حمل إلی القاهرة، فأطلق ثم سجن بقلعة الکرک.
فلما کان یوم الأحد سابع عشر جمادی الآخرة رکب الأمراء علی السلطان و هم: طاز و إخوته و یبلغا الشمسیّ، و یبغوا، و وقفوا تحت القلعة و صعد الأمیر طاز و هو لابس إلی القلعة فی عدّة وافرة، و قبض علی السلطان و سجنه بالدور، فکانت مدّة ولایته ثلاث سنین و تسعة أشهر، و أقیم بدله أخوه الملک الصالح صالح فأقام السلطان حسن مجمعا علی الاشتغال
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 124
بالعلم، و کتب بخطه نسخة من کتاب دلائل النبوّة للبیهقیّ إلی یوم الاثنین ثانی شوّال سنة خمس و خمسین و سبعمائة، فأقامه الأمیر شیخو العمریّ فی السلطنة، و قبض علی الصالح، و کانت مدّة سجنه ثلاث سنین و ثلاثة أشهر و أربعة عشر یوما، فرسم بإمساک الأمیر طاز و إخراجه لنیابة حلب. و فی ربیع الأول سنة سبع و خمین هبت ریح عاصفة من ناحیة الغرب من أوّل النهار إلی آخر اللیل، اصفرّ منها الجوّ، ثم احمرّ، ثم اسودّ فتلف منها شی‌ء کثیر.
و فی شعبان سنة تسع و خمسین ضرب الأمیر شیخو بعض الممالیک بسیف فلم یزل علیلا حتی مات. و فی سنة تسع و خمسین کان ضرب الفلوس الجدد، فعمل کلّ فلس زنة مثقال، و قبض علی الأمیر طاز نائب حلب و سجن بالإسکندریة، و قرّر مکانه فی نیابة حلب الأمیر منجک الیوسفیّ، و أمسک الأمیر صرغتمش فی شهر رمضان منها، و کانت حرب بین ممالیکه و ممالیک السلطان، انتصر فیها الممالیک السلطانیة، و قبض علی عدّة أمراء، فأنعم السلطان علی مملوکه یلبغا العمریّ الخاصکیّ بتقدمة ألف عوضا عن تنکر بغا الماردانیّ أمیر مجلس بحکم وفاته. و فی سنة ستین فرّ منجک من حلب، فلم یوقف له علی خبر، فأقرّ علی نیابة حلب الأمیر بیدمر الخوارزمیّ، و سار لغزو سیس فأخذ أدنه بأمان و أخذ طرسوس و المصیصة و عدّة بلاد و أقام بها نوّابا و عاد، فلما کانت سنة اثنتین و ستین عدّی السلطان إلی برّ الجیزة و أقام بناحیة کوم برا مدّة طویلة لوباء کان بالقاهرة، فتنکر الحال بینه و بنی الأمیر یلبغا إلی لیلة الأربعاء تاسع جمادی الأولی، فرکب السلطان فی جماعة لیکبس علی الأمیر یلبغا، و کان قد أحسن بذلک و خرج عن الخیام و کمن بمکان و هو لابس فی جماعته، فلم یظفر السلطان به، و رجع فثار به یلبغا فانکسر بمن معه و فرّ یرید قلعة الجبل، فتبعه یلبغا و قد انضم إلیه جمع کثیر، و دخل السلطان إلی القلعة فلم یثبت، و رکب معه أیدمر الدوادار لیتوجه إلی بلاد الشام، و نزل إلی بیت الأمیر شرف الدین موسی بن الأزکشیّ أمیر حاجب، فبعث فی الحال إلی الأمیر یبلغا یعلمه بمجی‌ء السلطان إلیه، فبعث من قبضه هو و الأمیر أیدمر، و من حینئذ لم یوقف له علی خبر البتة مع کثرة فحص أتباعه و حواشیه عن قبره و ما آل إلیه أمره، فکانت مدّة ولایته هذه الثانیة ست سنین و سبعة أشهر و أیاما، و کان ملکا حازما مهابا شجاعا صاحب حرمة وافرة و کلمة نافذة و دین متین، حلف غیر مرّة أنه ما لاط و لا شرب خمرا و لا زنی، إلّا أنه کان یبخل و یعجب بالنساء، و لا یکاد یصبر عنهنّ، و یبالغ فی إعطائهنّ المال، و عادی فی دولته أقباط مصر، و قصد اجتثات أصلهم، و کره الممالیک، و شرع فی إقامة أولاد الناس أمراء، و ترک عشرة بنین و ست بنات، و کان أشقر أنمش، و قتل و له من العمر بضع و عشرون سنة، و لم یکن قبله و لا بعده فی الدولة الترکیة مثله.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 125

جامع القرافة

هذا الجامع یعرف الآن بجامع الأولیاء، و هو القرافة الکبری، و کان موضعه یعرف فی القدیم عند فتح مصر بخطة المغافر، و هو مسجد بنی عبد اللّه بن مانع بن مورع یعرف بمسجد القبة. قال القضاعیّ: کان القرّاء یحضرون فیه، ثم بنی علیه المسجد الجامع الجدید، بنته السیدة المعزیة فی سنة ست و ستین و ثلاثمائة و هی أمّ العزیز بالله نزار ولد المعز لدین اللّه، أمّ ولد من العرب یقال لها تغرید، و تدعی درزان، و بنته علی ید الحسن بن عبد العزیز الفارسیّ المحتسب فی شهر رمضان من السنة المذکورة، و هو علی نحو بناء الجامع الأزهر بالقاهرة، و کان بهذا الجامع بستان لطیف فی غربیه و صهریج، و بابه الذی یدخل منه ذو المصاطب الکبیر الأوسط تحت المنار العالی الذی علیه مصفح بالحدید إلی حضرة المحراب، و المقصورة من عدّة أبواب، و عدّتها أربعة عشر بابا مربعة مطوّبة الأبواب، قدّام کلّ باب قنطرة قوس علی عمودی رخام ثلاثة صفوف، و هو مکندج مزوّق باللازورد و الزنجفر و الزنجار و أنواع الأصباغ، و فیه مواضع مدهونة، و السقوف مزوّقة ملوّنة کلها، و الحنایا و العقود التی علی العمد مزوّقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصریین و بنی المعلم المزوّقین شیوخ الکتامیّ و النازوک، و کان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوّقة فی منحنی حافتیها شاذوران مدرّج بدرج و آلات سود و بیض و حمر و خضر و زرق و صفر، إذا تطلع إلیها من وقف فی سهم قوسها شائلا رأسه إلیها ظنّ أن المدرّج المزوّق کأنه خشب کالمقرنص، و إذا أتی إلی أحد قطری القوس نصف الدائرة و وقف عند أوّل القوس منها و رفع رأسه، رأی ذلک الذی توهمه مسطحا لا نتوء فیه، و هذه من أفخر الصنائع عند المزوّقین، و کانت هذه القنطرة من صنعة بنی المعلم، و کان الصناع یأتون إلیها لیعملوا مثلها، فما یقدرون، و قد جری مثل ذلک للقصیر و ابن عزیز فی أیام البازوریّ سید الوزراء الحسن بن علیّ بن عبد الرحمن، و کان کثیرا ما یحرّض بینهما و یغری بعضهما علی بعض لانه کان أحبّ ما إلیه کتاب مصوّرا، أو النظر إلی صورة، أو تزویق.
و لما استدعی ابن عزیز من العراق فأفسده، و کان قد أتی به فی محاربة القصیر لأنّ القصیر کان یشتط فی أجرته و یلحق عجب فیه صنعته، و هو حقیق بذلک لأنه فی عمل الصورة کابن مقلة فی الخط، و ابن عزیز کابن البوّاب، و قد أمعن شرح ذلک فی الکتاب المؤلف فیه، و هو طبقات المصوّرین المنعوت، بضوء النبراس و أنس الجلاس فی أخبار المزوّقین من الناس، و کان البازوریّ قد أحضر بمجلسه القصیر و ابن عزیز فقال ابن عزیز:
أنا أصوّر صورة إذا رآها الناظر ظنّ أنها خارجة من الحائط. فقال القصیر: لکن أنا أصوّرها فإذا نظرها الناظر ظنّ أنها داخلة فی الحائط، فقالوا هذا أعجب، فأمرهما أن یصنعا ما وعدا به، فصوّرا صورة راقصتین فی صورة حنیتین مدهونتین متقابلتین، هذه تری کأنها داخلة فی الحائط، و تلک تری کأنها خارجه من الحائط، فصوّر القصیر راقصة بثیاب بیض فی صورة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 126
حنیة دهنها أسود کأنها داخلة فی صورة الحنیة، و صوّر ابن عزیز راقصة بثیاب حمر فی صورة جنیة صفراء کأنها بارزة من الحنیة، فاستحسن البازوریّ ذلک و خلع علیهما و وهبهما کثیرا من الذهب.
و کان بدار النعمان بالقرافة من عمل الکتامیّ صورة یوسف علیه السّلام فی الجب و هو عریان، و الجب کله أسود، إذا نظره الإنسان ظنّ أن جسمه باب من دهن لون الجبّ، و کان هذا الجامع من محاسن البناء، و کان بنو الجوهریّ، یعظمون بهذا الجامع علی کرسیّ فی الثلاثة أشهر، فتمرّ لهم مجالس مبجلة تروق و تشوق، و یقوم خادمهم و زهر البان، و هو شیخ کبیر و معه زنجلة إذا توسط أحدهم فی الوعظ و یقول:
و تصدّقی لا تأمنی أن تسألی‌فإذا سالت عرفت ذلّ السائل
و یدور علی الرجال و النساء فیلقی له فی الزنجلة ما یسره اللّه تعالی، فإذا فرغ من التطواف وضع الزنجلة أمام الشیخ، فإذا فرغ من وعظه فرّق علی الفقراء ما قسم لهم، و أخذ الشیخ ما قسم له، و هو الباقی، و نزل عن الکرسیّ. و کان جماعة من الرؤساء یلزمون النوم بهذا الجامع و یجلسون به فی لیالی الصیف للحدیث فی القمر فی صحنه، و فی الشتاء ینامون عند المنبر، و کان یحصل لقیمه القاضی أبی حفص الأشربة و الحلوی و غیر ذلک.
قال الشریف محمد بن أسعد الجوّانیّ النسابة: حدّثنی الأمیر أبو علیّ تاج الملک جوهر المعروف بالشمس الجیوشیّ قال: اجتمعنا لیلة جمعة جماعة من الأمراء، بنو معز الدولة، و صالح، و حاتم، و راجح، و أولادهم، و غلمانهم، و جماعة ممن یلوذ بنا، کابن الموفق و القاضی ابن داود، و أبی المجد بن الصیرفیّ، و أبی الفضل روزبة، و أبی الحسن الرضیع، فعملنا سماطا و جلسنا و استدعینا بمن فی الجامع و أبی حفص، فأکلنا و رفعنا الباقی إلی بیت الشیخ أبی حفص قیم الجامع، ثم تحدّثنا و نمنا، و کانت لیلة باردة، فنمنا عند المنبر و إذا إنسان نصف اللیل ممن نام فی هذا الجامع من عابری السبیل قد قام قائما و هو یلطم علی رأسه و یصیح وامالاه وا مالاه، فقلنا له: ویلک ما شأنک و ما الذی دهاک و من سرقک و ما سرق لک؟ فقال: یا سیدی أنا رجل من أهل طرا یقال لی أبو کریت الحاوی، أمسی علیّ اللیل و نمت عندکم و أکلت من خیرکم، وسع اللّه علیکم، ولی جمعة أجمع فی سلتی من نواحی طرا و الحیّ الکبیر و الجبل، کل غریبة من الحیات و الأفاعی ما لم یقدر علیه قط حاو غیری، و قد انفتحت الساعة السلة و خرجت الأفاعی و أنا نائم لم أشعر. فقلت له:
إیش تقول: فقال: أی و اللّه یا للنجدات، فقلنا: یا عدوّ اللّه أهلکتنا و معنا صبیان و أطفال؟ ثم إنّا نبهنا الناس و هربنا إلی المنبر و طلعنا و ازدحمنا فیه، و منا من طلع علی قواعد العمد فتسلق و بقی واقفا، و أخذ ذلک الحاوی یحسس و فی یده کنف الحیات و یقول: قبضت الرقطاء، ثم یفتح السلة و یضع فیها، ثم یقول قبضت أم قرنین و یفتح و یضع فیها، و یقول قبضت الفلانیّ و الفلانیة من الثعابین و الحیات و هی معه بأسماء، و یقول أبو تلیس و أبو زعیر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 127
و نحن و نقول ایه؟ إلی أن قال: بس انزلوا ما بقی علیّ همّ، ما بقی یهمکم کبیر شی‌ء، قلنا کیف؟ قال ما بقی إلّا البتراء و رأسین انزلوا، فما علیکم منهما. قلنا کذا علیک لعنة اللّه یا عدوّ اللّه لا نزلنا للصبح فالمغرور من تغرّه. و صحنا بالقاضی أبی حفص القیم فأوقد الشمعة و لبس صباغات الخطیب خوفا علی رجلیه، و جاء فنزلنا فی الضوء و طلعنا المئذنة فنمنا إلی بکرة، و تفرّق شملنا بعد تلک اللیلة، و جمع القاضی القیم عیاله ثانی یوم و أدخلوا عصیا تحت المنبر و سعفا و شالوا الحصر فلم یظهر لهم شی‌ء، و بلغ الحدیث والی القرافة ابن شعلة الکتامیّ، فأخذ الحاوی فلم یزل به حتی جمع ما قدر علیه و قال: ما أخلیه إلّا إلی السلطان، و کان الوزیر إذ ذاک یانس الأرمنیّ.
و هذه القضیة تشبه قضیة جرت لجعفر بن الفضل بن الفرات وزیر مصر المعروف بابن جرابة، و ذلک أنه کان یهوی النظر إلی الحیات و الأفاعی و العقارب و أم أربعة و أربعین و ما یجری هذا المجری من الحشرات، و کان فی داره قاعة لطیفة مرخمة فیها سلل الحیات و لها قیم فرّاش حاو من الحواة، و معه مستخدمون برسم الخدمة و نقل السلال و حطها، و کان کلّ حاو فی مصر و أعمالها یصید ما یقدر علیه من الحیات، و یتباهون فی ذوات العجب من أجناسها، و فی الکبار و فی الغریبة المنظر، و کان الوزیر یثبهم علی ذلک أو فی ثواب، و یبذل لهم الجمل حتی یجتهدوا فی تحصیلها، و کان له وقت یجلس فیه علی دکه مرتفعة و یدخل المستخدمون و الحواة فیخرجون ما فی السلل و یطرحونه علی ذلک الرخام، و یحرّشون بین الهوام و هو یتعجب من ذلک و یستحسنه، فلما کان ذات یوم أنفذ رقعة إلی الشیخ الجلیل ابن المدبر الکاتب و کان من أعیان کتاب أیامه و دیوانه، و کان عزیزا عنده، و کان یسکن إلی جوار دار ابن الفرات یقول له فیها: نشعر الشیخ الجلیل أدام اللّه سلامته، أنه لما کان البارحة عرض علینا الحواة الحشرات الجاری بها العادات، انساب إلی داره منها الحیة البتراء، و ذات القرنین، و العقربان الکبیر، و أبو صوفة، و ما حصلوا لنا إلّا بعد عناء و مشقة و بجملة بذلناها للحواة، و نحن نأمر الشیخ وفقه اللّه بالتقدّم إلی حاشیته و صبیته بصون ما وجد منها إلی أن تنفذ الحواة لأخذها و ردّها إلی سللها، فلما وقف ابن المدبر علی الرقعة قلبها و کتب فی ذیلها، أتانی أمر سیدنا الوزیر خلد اللّه نعمته و حرس مدّته بما أشار إلیه فی أمر الحشرات، و الذی یعتمد علیه فی ذلک أن الطلاق یلزمه ثلاثا إن بات هو و أحد من أهله فی الدار و السلام.
و فی سنة ست عشرة و خمسائة أمر الوزیر أبو عبد اللّه محمد بن فاتک المنعوت بالأجلّ المأمون البطائحیّ، و کیله أبا البرکات محمد بن عثمان، برمّ شعث هذا الجامع و أن یعمر بجانبه طاحونا للسبیل، و یبتاع لها الدواب و یتخیر من الصالحین الساکنین بالقرافة من یجعله أمینا علیها، و یطلق له ما یکفیه مع علف الدواب و جمیع المؤن، و یشترط علیه أن یواسی بین الضعفاء و یحمل عنهم کلفة طحن أقواتهم، و یؤدّی الأمانة فیها، و لم یزل هذا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 128
الجامع علی عمارته إلی أن احترق فی السنة التی احترق فیها جامع عمرو بن العاص سنة أربع و ستین و خمسمائة، عند نزول مری ملک الفرنج علی القاهرة و حصارها کما تقدّم ذکره عند ذکر خراب الفسطاط من هذا الکتاب، و کان الذی تولی إحراق هذا الجامع ابن سماقة بإشارة الأستاذ مؤتمن الخلافة جوهر، و هو الذی أمر المذکور بحریق جامع عمرو بمصر، و سئل عن ذلک فقال: لئلا یخطب فیه لبنی العباس. و لم یبق من هذا الجامع بعد حریقه سوی المحراب الأخضر، و کان مؤذن هذا الجامع فی أیام المستنصر ابن بقاء المحدّث ابن بنت عبد الغنیّ بن سعید الحافظ، ثم جدّدت عمارة هذا الجامع فی أیام المستنصر بعد حریقه، و أدرکته لما کانت القرافة الکبری عامرة بسکنی السودان التکاررة، و هو مقصود للبرکة. فلما کانت الحوادث و المحن فی سنة ست و ثمانمائة، قلّ الساکن بالقرافة و صار هذا الجامع طول الأیام مغلوقا، و ربما أقیمت فیه الجمعة.

جامع الجیزة

بناه محمد بن عبد اللّه الخازن فی المحرّم سنة خمسین و ثلاثمائة بأمر الأمیر علیّ بن عبد اللّه بن الإخشید، فتقدّم کافور إلی الخازن ببنائه، فإنه کان قد هدمه النیل و سقط فی سنة أربعین و ثلاثمائة، و عمل له مستغلا، و کان الناس قبل ذلک بالجیزة یصلون الجمعة فی مسجد جامع همدان، و هو مسجد مزاحف بن عامر بن بکتل، و قیل أن عقبة بن عامر فی إمرته علی مصر أمرهم أن یجمعوا فیه. قال التمیمیّ: و شارف بناء جامع الجیزة مع أبی بکر الخازن أبو الحسن بن جعفر الطحاویّ، و احتاجوا إلی عمد للجامع، فمضی الخازن فی اللیل إلی کنیسة بأعمال الجیزة فقلع عمدها و نصب بدلها أرکانا، و حمل العمد إلی الجامع، فترک أبو الحسن بن الطحاویّ الصلاة فیه مذ ذاک تورّعا. قال التمیمی: و قد کان یعنی ابن الطحاویّ یصلی فی جامع الفسطاط القدیم و بعض عمده أو أکثرها و رخامه من کنائس الإسکندریة و أریاف مصر، و بعضه بناء قرّة بن شریک عامل الولید بن عبد الملک.

جامع منجک

هذا الجامع یعرف موضعه بالثغرة تحت قلعة الجبل خارج باب الوزیر، أنشأه الأمیر سیف الدین منجک الیوسفیّ فی مدّة وزارته بدیار مصر فی سنة إحدی و خمسین و سبعمائة، و صنع فیه صهریجا، فصار یعرف إلی الیوم بصهریج منجک، و رتب فیه صوفیة و قرّر لهم فی کل یوم طعاما و لحما و خبزا، و فی کلّ شهر معلوما، و جعل فیه منبرا و رتب فیه خطیبا یصلی بالناس فیه صلاة الجمعة، و جعل علی هذا الموضع عدّة أوقاف منها ناحیة بلقینة بالغربیة، و کانت مرصدة برسم الحاشیة، فقوّمت بخمسة و عشرین ألف دینار فاشتراها من بیت المال و جعلها وقفا علی هذا المکان.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 129
منجک: الأمیر سیف الدین الیوسفیّ، لما امتنع أحمد بن الملک الناصر محمد بن قلاون بالکرک و قام فی مملکة مصر بعده أخوه الملک الصالح عماد الدین إسماعیل، و کان من محاصرته بالکرک ما کان إلی أن أخذ، فتوجه إلیه و قطع رأسه و أحضرها إلی مصر، و کان حینئذ أحد السلاحداریة، فأعطی إمرة بدیار مصر و تنقل فی الدول إلی أن کانت سلطنة الملک المظفر حاجی بن الملک الناصر محمد بن قلاون، فأخرجه من مصر إلی دمشق و جعله حاجبا بها موضع ابن طغریل، فلما قتل الملک المظفر و أقیم بعده أخوه الملک الناصر حسن أقیم الأمیر سیف الدین یلبغاروس فی نیابة السلطنة بدیار مصر، و کان أخا منجک، فاستدعاه من دمشق و حضر إلی القاهرة فی ثامن شوّال سنة ثمان و أربعین و سبعمائة، فرسم له بإمرة تقدمة ألف، و خلع علیه خلع الوزارة فاستقرّ وزیرا و أستادارا، و خرج فی دست الوزارة و الأمراء فی خدمته من القصر إلی قاعة الصاحب بالقلعة، فجلس بالشباک و نفذ أمور الدولة، ثم اجتمع الأمراء و قرأ علیهم أوراقا تتضمن ما علی الدولة من المصروف، و وفر من جامکیة الممالیک مبلغ ستین ألف درهم فی الشهر، و قطع کثیرا من جوامک الخدم و الجواری و البیوتات السلطانیة، و نقص رواتب الدور من زوجات السلطان و جواریه، و قطع رواتب الأغانی، و عرض الإسطبل السلطانیّ و قطع منه عدّة أمیراخوریة و سراخوریة و سوّاس و غلمان، و وفر من راتب الشعیر نحو الخمسین إردبا فی کل یوم، و قطع جمیع الکلابزیة و کانوا خمسین جوقة، و أبقی منهم جوقتین، و وفر جماعة من الأسری و العتالین و المستخدمین فی العمائر، و أبطل العمارة من بیت السلطان، و کانت الحوائجخاناه تحتاج فی کل یوم إلی أحد و عشرین ألف درهم نقرة، فاقتطع منها مبلغ ثلاثة آلاف درهم، و بقی مصروفها فی الیوم ثمانیة عشر ألف درهم نقرة، فاقتطع منها مبلغ ثلاثة آلاف درهم، و بقی القاضی موفق الدین ناظر الدولة و علی القاضی علم الدین بن زنبور ناظر الخواص، و رسم أن لا یستقرّ فی المعاملات سوی شاهد واحد و عامل و شاد بغیر معلوم، و أغلظ علی الکتاب و الدواوین و هدّدهم و توعدهم فخافوه، و اجتمع بعضهم ببعض و اشتوروا فی أمرهم و اتفقوا علی مال یتوزعونه بینهم علی قدر حال کل منهم و حملوه إلی منجک سرّا، فلم یمض من استقراره فی الوزارة شهر حتی صار الکتاب و أرباب الدواوین أحباءه و أخلّاءه، و تمکنوا منه أعظم ما کانوا قبل وزارته، و حسنوا له أخذ الأموال، فطلب ولاة الأقالیم و قبض علی أقبغا والی الغربیة و ألزمه بحمل خمسمائة ألف درهم نقرة، و ولی عوضه الأمیر استدمر القلنجیّ، ثم صرفه و ولی بدله قطلیجا مملوک بکتمر، و استقرّ باستدمر القلنجی فی ولایة القاهرة، و أضاف له التحدّث فی الجهات، و ولی البحریة لرجل من جهته، و ولی قوص لآخر و أوقع الحوطة علی موجود إسماعیل الواقدی متولی قوص، و أخذ جمیع خواصه، و ولی طغای کشف الوجه القبلیّ عوضا عن علاء الدین علیّ بن الکورانیّ، و ولی ابن المزوق قوص و أعمالها، و ولی مجد الدین موسی الهدبانیّ الأشمونین عوضا عن ابن الأزکشیّ، و تسامعت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 130
الولاة و أرباب الأعمال بأن الوزیر فتح باب الأخذ علی الولایات، فهرع الناس إلیه من جهات مصر و الشام و حلب و قصدوا بابه، و رتب عنده جماعة برسم قضاء الأشغال، فأتاهم أصحاب الأشغال و الحوائج، و کان السلطان صغیرا حظه من السلطنة أن یجلس بالإیوان یومین فی الأسبوع و یجتمع أهل الحل و العقد مع سائر الأمراء فیه، فإذا انقضت خدمة الإیوان خرج الأمیر منکلیبغا الفخریّ، و الأمیر بیغرا، و الأمیر یبلغا تتر و المجدیّ، و أرلان و غیرهم من الأمراء، و یدخل إلی القصر الأمیر یلبغاروس نائب السلطنة، و الأمیر سیف الدین منجک الوزیر، و الأمیر سیف الدین شیخو العمریّ، و الأمیر الجیبغا المظفریّ، و الأمیر طیبرق، و یتفق الحال بینهم علی ما یرونه، هذا و الوزیر أخو النائب متمکن تمکنا زائدا، و قدم من دمشق جماعة للسعی عند الوزیر فی وظائف منهم ابن السلعوس و صلاح الدین بن المؤید و ابن الأجل و ابن عبد الحق، و تحدّثوا مع ابن الأطروش محتسب القاهرة فی أغراضهم، فسعی لهم حتی تقرّروا فیما عینوا.
و لما دخلت سنة تسع و أربعین عرف الوزیر السلطان و الأمراء أنه لما ولی الوزارة لم یجد فی الإهراء و لا فی بیت المال شیئا، و سأل أن یکون هذا بمحضر من الحکام، فرسم للقضاة بکشف ذلک فرکبوا إلی الإهراء بمصر، و إلی بیت المال بقلعة الجبل، و قد حضر الدواوین و سائر المباشرین و أشهدوا علیهم أن الأمیر منجک لما باشر الوزارة لم یکن بالإهراء و لا ببیت المال قدح غلة و لا دینار و لا درهم، و قرئت المحاضر علی السلطان و الأمراء، فلما کان بعد ذلک توقف أمر الدولة علی الوزیر فشکا إلی الأمراء من کثرة الرواتب، فاتفق الرأی علی قطع نحو ستین سوّاقا، فقطعهم و وفر لحومهم و علیقهم و سائر ما باسمهم من الکساوی و غیرها، و قطع من العرب الرکابة و النجابة، و من أرباب الوظائف فی بیت السلطان، و من الکتاب و المباشرین ما جملته فی الیوم أحد عشر ألف درهم و فتح باب المقایضات باقطاعات الأجناد، و باب النزول عن الإقطاعات بالمال، فحصل من ذلک مالا کثیرا، و حکم علی أخیه نائب السلطنة بسبب ذلک، و صار الجندیّ یبیع إقطاعه لکل من أراد، سواء کان المنزول له جنیدا أو عامّیا، و بلغ ثمن الإقطاع من عشرین ألف درهم إلی ما دونها. و أخذ یسعی أن تضاف وظیفة نظر الخاص إلی الوزارة، و أکثر من الحط علی ناظر الخاص، فاحترس ابن زنبور منه و شرع فی إبعاده مرّة بعد مرّة مع الأمیر شیخو، فمنع شیخو منجک من التحدّث فی الخاص و خرج علیه فشق ذلک علی منجک و افترقا عن غیر رضی، فتغیر یلبغاروس النائب علی شیخو رعایة لأخیه. و سأل أن یعفی من النیابة، و یعفی منجک من الوزارة، و استقراره فی الأستاداریة و التحدّث فی عمل حفر البحر، و أن یستقرّ أستدمر العمریّ المعروف برسلان بصل فی الوزارة، فطلب و کان قد حضر من الکشف و ألبس خلع الوزارة فی یوم الاثنین الرابع و العشرین من شهر ربیع الأوّل، و کان منجک قد عزل من الوزارة فی ثالث ربیع الأوّل المذکور، و تولی أمر شدّ البحر، فجبی من الأجناد من کل مائة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 131
دینار درهما، و من التجار و المتعیشین فی مصر و القاهرة من کل واحد عشرة دراهم إلی خمسة دراهم إلی درهم، و من أصحاب الأملاک و الدور فی مصر و القاهرة علی کل قاعة ثلاثة دراهم، و علی کل طبقة درهمین، و علی کل مخزن أو اصطبل درهما، و جعل المستخرج فی خان مسرور بالقاهرة، و المشدّ علی المستخرج الأمیر بیلک، فجبی مال کبیر، و أما استدمر فإن أحوال الدولة توقفت فی أیامه، فسأل فی الإعفاء فأعفی و أعید منجک إلی الوزارة بعد أربعین یوما، و قد تمنع تمنعا کبیرا، و لما عاد إلی الوزارة فتح باب الولایات بالمال، فقصده الناس و سعوا عنده، فولی و عزل و أخذ فی ذلک مالا کثیرا. فیقال أنه أخذ من الأمیر مازان لما نقله من المنوفیة إلی الغربیة، و من ابن الغسانیّ لما نقله من الأشمونین إلی البهنساویة، و من ابن سلمان لما ولاه منوف ستة آلاف دینار، و وفر إقطاع شادّ الدواوین و جعله باسم الممالیک السلطانیة، و وفر جوامکهم و رواتبهم، و شرع أوباش الناس فی السعی عنده فی الوظائف و المباشرات بمال، و أتوه من البلاد فقضی أشغالهم و لم یردّ أحدا طلب شیئا، و وقع فی أیامه الفناء العظیم، فانحلت إقطاعات کثیرة، فاقتضی رأی الوزیر أن یوفر الجوامک و الرواتب التی للحاشیة، و کتب لسائر أرباب الوظائف و أصحاب الأشغال و الممالیک السلطانیة مثالات بقدر جوامک کل منهم، و کذلک لأرباب الصدقات، فأخذ جماعة من الأقباط و من الکتاب و من الموقعین إقطاعات فی نظیر جوامکهم، و توفر فی الدولة مال کبیر عن الجوامک و الرواتب.
و لما دخلت سنة خمسین رسم الأمیر منجک الوزیر لمتولی القاهرة بطلب أصحاب الأرباع، و کتابة جمیع أملاک الحارات و الأزقة، و سائر أخطاط مصر و القاهرة، و معرفة أسماء سکانها، و الفحص عن أربابها لیعرف من توفر عنه ملک بموته فی الفناء، فطلبوا الجمیع و أمعنوا فی النظر، فکان یوجد فی الحارة الواحدة و الزقاق الواحد ما یزید علی عشرین دارا خالیة لا یعرف أربابها، فختموا علی ما وجدوه من ذلک و من الفنادق و الخانات و المخازن حتی یحضر أربابها. و فی شعبان عزل ولاة الأعمال و أحضرهم إلی القاهرة، و ولی غیرهم و أضاف إلی کل وال کشف الجسور التی فی عمله، و ضمن الناس سائر جهات القاهرة و مصر، بحیث أنه لا یتحدّث أحد معه من المقدّمین و الدواوین و الشادّین، و زاد فی المعاملات ثلاثمائة ألف درهم، و خلع علیه و نودی له بمصر و القاهرة، فاشتدّ ظلمه و عسفه و کثرت حوادثه. فلما کانت لیالی عید الفطر، عرّف الوزیر الأمراء أن سماط العید ینصرف علیه جملة و لا ینتفع به أحد، فأبطله و لم یعمل تلک السنة. و فی ذی القعدة توقف حال الدولة و وقف ممالیک السلطان و سائر المعاملین و الحوائجکاشیة، و انزعج السلطان و الأمراء بسبب ذلک علی الوزیر، فاحتج بکثرة الکلف، و طلب الموفق ناظر الدولة فقال: إن الإنعامات قد کثرت و الکلف تزایدت، و قد کانت الحوائجخاناه فی أیام الملک الناصر محمد بن قلاون فی الیوم ینصرف فیها مبلغ ثلاثة عشر ألف درهم، و الیوم ینصرف فیها اثنان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 132
و عشرون ألف درهم، فکتبت أوراق بمتحصل الدولة و مصروفها، و بمتحصل الخاص و مصروفه، فجاءت أوراق الدولة و متحصلها عشرة آلاف ألف درهم، و کلفها أربعة عشر ألف ألف درهم و ستمائة ألف درهم، و وجد الأنعام من الخاص و الجیش بما خرج من البلاد زیادة علی إقطاعات الأمراء، فکان زیادة علی عشرین ألف دینار سوی جملة من الغلال، و أن الذی استجدّ علی الدولة من حین وفاة الملک الناصر فی ذی الحجة سنة إحدی و أربعین إلی مستهل المحرّم سنة خمسین و سبعمائة. و کانت جملة الإنعامات و الإقطاعات بنواحی الصعید و الفیوم و بلاد الملک و الوجه البحریّ و ما أعطی من الرزق للخدّام و الجواری سبعمائة ألف ألف و ألف ألف و ستمائة ألف، معینة بأسماء أربابها من أمیر و خادم و جاریة، و کانت النساء قد أسرفن فی عمل القمصان و البغالطیق، حتی کان یفضل من القمیص کثیر علی الأرض، و سعة الکم ثلاثة أذرع، و یسمینه البهطلة، و کان یغرم علی القمیص ألف درهم و أکثر، و بلغ إزار المرأة إلی ألف درهم، و بلغ الخف و السرموزة إلی خمسمائة درهم، و ما دونها إلی مائة درهم. فأمر الوزیر منجک بقطع أکمام النساء و أخرق بهنّ، و أمر الوالی بتتبع ذلک، و نودی بمنع النساء من عمل ذلک، و قبض علی جماعة منهنّ، و رکب علی سور القاهرة صور نساء علیهنّ تلک القمصان بهیئة نساء قد قتلن عقوبة علی ذلک، فانکففن عن لبسها، و منع الأساکفة من عمل الأخفاف المثمنة، و نودی فی القیاسر من باع إزار حریر ماله للسلطان، فنودی علی إزار ثمنه سبعمائة و عشرون درهما فبلغ ثمانین درهما و لم یجسر أحد أن یشتریه، و بالغ الوزیر فی الفحص عن ذلک حتی کشف دکاکین غسالی الثیاب و قطع ما وجد من ذلک، فامتنع النساء من لبس ما أحدثنه من تلک المنکرات، و لما عظم ضرر الفار أیضا من کثرة شکایة الناس فیه، فلم یسمع فیه الوزیر قولا، و قام فی أمره الأمیر مغلطای أمیراخور، فاستوحش منه الوزیر، و اتفق أنه کان قد حج محمد بن یوسف مقدّم الدولة فی محمل کبیر بلغ علیق جماله فی الیوم مائتی علیقة، و لما قدم فی المحرّم مع الحاج أهدی للنائب و للوزیر و للأمیر طاز و للأمیر صرغتمش هدایا جلیلة، و لم یهد للأمیر شیخو، و لا للأمیر مغلطای شیئا، ثم لما عاب علیه الناس ذلک أهدی بعد عدّة أیام للأمیر شیخو هدیه فردّها علیه، ثم أنه أنکر علی الوزیر فی مجلس السلطان ما یفعله ولاة البر و ما علیه مقدّم الدولة من کثرة المال، و أغلظ فی القول، فرسم بعزل الولاة و القبض علی المقدّم محمد بن یوسف و ابن عمه المقدّم أحمد بن زید، فلم یسع الوزیر غیر السکوت.
فلما کان فی رابع عشری شوّال سنة إحدی و خمسین، قبض علی الوزیر منجک و قید و وقعت الحوطة علی سائر حواصله، فوجدت له زردخاناه حمل خمسین جملا، و لم یظهر من النقد کثیر مال، فأمر بعقوبته. فلما خوّف أقرّ بصندوق فیه جوهر و قال: سائر ما کان یتحصل لی من النقد کنت اشتری به أملاکا و ضیاعا و أصناف المتاجر، فأحیط بسائر أمواله و حمل إلی الإسکندریة مقیدا، و استقرّ الأمیر بلبان السنانیّ نائب الکبیرة أستادارا عوض منجک
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 133
بعد حضوره منها، و أضیفت الوزارة إلی القاضی علم الدین بن زنبور ناظر الخاص، فلم یزل منجک مسجونا بالإسکندریة إلی أن خلع الملک الناصر حسن و أقیم بدله فی المملکة أخوه الملک الصالح صالح، فأمر بالإفراج عن الأمیر شیخو و الأمیر منجک فحضرا إلی القاهرة فی رجب سنة اثنتین و خمسین، و لما استقرّ الأمیر منجک بالقاهرة بعث إلیه الأمیر شیخو خمس رؤوس خیل و ألفی دینار، و بعث إلیه جمیع الأمراء بالتقادم، و أقام بطالا یجلس علی حصیر فوقه ثوب سرج عتیق، و کلما أتاه أحد من الأمراء یبکی و یتوجع و یقول أخذ جمیع مالی حتی صرت علی الحصیر، ثم کتب فتوی تتضمن أن رجلا مسجونا فی قید هدّد بالقتل إن لم یبع أملاکه، و أنّه خشی علی نفسه القتل، فوکل فی بیعها. فکتب له الفقهاء لا یصح بیع المکره. و دار علی الأمراء و ما زال بهم حتی تحدّثوا له مع السلطان فی ردّ أملاکه علیه، فعارضهم الأمیر صرغتمش، ثم رضی أن یردّ علیه من أملاکه ما أنعم به السلطان علی ممالیکه، فاستردّ عدّة أملاک و أقام إلی أن قام یلبغاروس بحلب فاختفی منجک و طلب فلم یوجد، و أطلق النداء علیه بالقاهرة و مصر و هدّد من أخفاه، و ألزم عربان العائد باقتفاء أثره فلم یوقف له علی خبر، و کبس علیه عدّة أماکن بالقاهرة و مصر و فتش علیه حتی فی داخل الصهریج الذی بجامعه فأعیی أمره، و أدرک السلطان السفر لحرب یلبغاروس فشرع فی ذلک إلی یوم الخمیس رابع شعبان، فخرج الأمیر طاز بمن معه.
و فی یوم الاثنین سابعه، عرض الأمیر شیخو و الأمیر صرغتمش أطلابهما، و قد وصل الأمیرا طاز إلی بلبیس فحضر إلیه من أخبره أنه رأی بعض أصحاب منجک، فسیر إلیه و أحضره و فتشه فوجد معه کتاب منجک إلی أخیه یلبغاروس، و فیه أنه مختف عند الحسام الصفدیّ استاداره، فبعث الکتاب إلی الأمیر شیخو فوافاه و الأطلاب خارجة، فاستدعی بالحسام و سأله فأنکر فعاقبه الأمیر صرغتمش فلم یعترف، فرکب إلی بیت الحسام بجوار الجامع الأزهر و هجمه فإذا بمنجک و معه مملوک، فکتفه و سار به مشهورا بین الناس و قد هرعوا من کلّ مکان إلی القلعة، فسجن بالإسکندریة إلی أن شفع فیه الأمیر شیخو فأفرج عنه فی ربیع الأوّل سنة خمس و خمسین، و رسم أن یتوجه إلی صفد بطالا، فسار إلیها من غیر أن یعبر إلی القاهرة، فلما خلع الملک الصالح صالح و أعید السلطان حسن فی شوّال منها، نقل منجک من صفد و أنعم علیه بنیابة طرابلس عوضا عن أیتمش الناصریّ، فسار إلیها و أقام بها إلی أن قبض علی الأمیر طاز نائب حلب فی سنة تسع و خمسین، فولی منجک عوضا عنه و لم یزل بحلب إلی أن فرّ منها فی سنة ستین، فلم یعرف له خبر، و عوقب بسببه خلق کثیر، ثم قبض علیه بدمشق فی سنة إحدی و ستین فحمل إلی مصر و علیه بشت صوف عسلیّ، و علی رأسه مئزر صوف، فلم یؤاخذه السلطان و أعطاه إمرة طبلخاناه ببلاد الشام، و جعله طرخاناه یقیم حیث شاء من البلاد الإسلامیة، و کتب له بذلک. فلما قتل السلطان حسن و أقیم من بعده فی المملکة الملک المنصور محمد بن المظفر حاجی فی جمادی الأولی سنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 134
اثنتین و ستین، خامر الأمیر بیدمر نائب الشام علی الأمیر یلبغا العمریّ القائم بتدبیر دولة الملک المنصور، و وافقه جماعة من الأمراء منهم الأمیر منجک، فخرج الأمیر یلبغا بالمنصور و العساکر من قلعة الجبل إلی البلاد الشامیة، فوافی دمشق و مشی الناس بینه و بین الأمیر بیدمر حتی تمّ الصلح، و حلف الأمیر یلبغا أنه لا یؤذی بیدمر و لا منجک، فنزلا من قلعة دمشق و قیدهما و بعث بهما إلی الإسکندریة فسجنا بها إلی أن خلع الأمیر یلبغا المنصور و أقام بدله الملک الأشرف شعبان بن حسین و قتل الأمیر یلبغا، فأفرج الملک الأشرف عن منجک و ولاه نیابة السلطنة بدمشق عوضا عن الأمیر علیّ الماردانیّ فی جمادی الأولی سنة تسع و ستین، فلم یزل فی نیابة دمشق إلی أن حضر إلی السلطان زائرا فی سنة سبعین بتقادم کثیرة جلیلة، و عاد إلی دمشق و أقام بها إلی أن استدعاه السلطان فی سنة خمس و سبعین إلی مصر و فوّض إلیه نیابه السلطنة بدیار مصر، و عمله أتابک العساکر و جعل تدبیر المملکة إلیه، و أن یخرج الأمّهات للبلاد الشامیة، و أن یولی ولاة أقالیم مصر و الکشاف و یخرج الإقطاعات بمصر من عبرة ستمائة دینار إلی ما دونها، و کانت عادة النوّاب قبله أن لا یخرج من الإقطاعات إلّا ما عبرته أربعمائة دینار فما دونها، فعمل النیابة علی قالب جائر و حرمة وافرة إلی أن مات حتف أنفه فی یوم الخمیس التاسع و العشرین من ذی الحجة سنة ست و سبعین و سبعمائة، و له من العمر نیف و ستون سنة، و شهد جنازته سائر الأعیان، و دفن بتربته المجاورة لجامعه هذا، و له سوی الجامع المذکور من الآثار بدیار مصر خان منجک فی القاهرة، و دار منجک برأس سویقة العزی بالقرب من مدرسة السلطان حسن، و له بالبلاد الشامیة عدّة آثار من خانات و غیرها رحمه اللّه.

الجامع الأخضر

هذا الجامع خارج القاهرة بخط فم الخور، عرف بذلک لأنّ بابه و قبته فیهما نقوش و کتابات خضر، و الذی أنشأه خازندار الأمیر شیخو و اسمه ... .

جامع البکجریّ

هذا الجامع بحکر البکجریّ قریبا من الدکة، تعطلت الصلاة فیه منذ خربت تلک الجهات.

جامع السروجیّ

هذا الجامع بحکر ... .
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 135

جامع کرجی

هذا الجامع بحکر أقوش.

جامع الفاخریّ

هذا الجامع بسویقة الخادم الطواشی شهاب الدین فاخر المنصوریّ مقدّم الممالیک السلطانیة، و مات فی سابع ذی الحجة سنة سبع و ثمانمائة، و کان ذا مهابة و أخلاق حسنة مع سطوة شدیدة، و لهم بلبان الفاخریّ الأمیر سیف الدین نقیب الجیوش، مات فی سنة سبع و تسعین و ستمائة، و ولی نقابة الجیش بعد طیبرس الوزیریّ، و کان جوادا عارفا بأمر الأجناد خیرا کثیر الترف.

جامع ابن عبد الظاهر

هذا الجامع بالقرافة الصغری قبلیّ قبر اللیث بن سعد، کان موضعه یعرف بالخندق، أنشأه القاضی فتح الدین محمد بن عبد اللّه بن عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر الجذامیّ السعدیّ الروحیّ من ولد روح بن زنباع الجذامیّ، بجوار قبر أبیه، و أوّل ما أقیمت به الخطبة فی یوم الجمعة الرابع و العشرین من صفر سنة ثلاث و ثمانین و ستمائة، و کان یوما مشهودا لکثرة من حضر من الأعیان. ولد بالقاهرة فی ربیع الآخر سنة ثمان و ثلاثین و ستمائة، و سمع من ابن الجمیزیّ و غیره، و حدّث و کتب فی الإنشاء، و ساد فی دولة المنصور قلاون بعقله و رأیه و همته، و تقدّم علی والده القاضی محیی الدین و هو ماهر فی الإنشاء و الکتابة، بحیث کان من جملة من یصرّفهم بأمره و نهیه، و کان الملک المنصور یعتمد علیه و یثق به، و لما ولی القاضی فخر الدین بن لقمان الوزارة قال له الملک المنصور: من یلی عوضک کتابة السرّ؟ فقال القاضی: فتح الدین بن عبد الظاهر، فولّاه کتابة السرّ عوضا عن ابن لقمان، و تمکن من السلطان و حظی عنده، حتی أنّ الوزیر فخر الدین بن لقمان ناول السلطان کتابا فأحضر ابن عبد الظاهر لقراءته علی عادته، فلما أخذ الکتاب من السلطان أمر الوزیر أن یتأخر حتی یقرأه فتأخر الوزیر، ثم إن ابن لقمان صرف عن الوزارة و أعید إلی دیوان الإنشاء فتأدّب معه، فلما ولی وزارة الملک الأشرف خلیل بن قلاون شمس الدین بن السلعوس قال لفتح الدین: اعرض علیّ کل یوم ما تکتبه. فقال: لا سبیل لک إلی ذلک و لا یطلع علی أسرار السلطان إلّا هو، فإن اخترتم و إلّا عینوا عوضی، فلما بلغ السلطان ذلک قال: صدق و لم یزل علی حاله إلی أن مات، و أبوه حیّ بدمشق فی النصف من شهر رمضان سنة إحدی و تسعین و سبعمائة، فوجد فی ترکته قصیدة مرثیة قد عملها فی رفیقه تاج الدین أحمد بن سعید بن محمّد بن الأثیر لما مرض و طال مرضه، فاتفق أن عوفی ابن الأثیر و لم یتأخر ابن عبد الظاهر بعد عافیته سوی لیال یسیرة و مرض و مات، فرثاه ابن الأثیر بعد موته و ولی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 136
وظیفة کتابة السرّ عوضا عنه، و لم یکن ابن عبد الظاهر مجیدا فی صناعة الإنشاء إلّا أنه دبر الدیوان و باشره أحسن مباشرة و من شعره:
إن شئت تنظرنی و تنظر حالتی‌فانظر إذا هبّ النسیم قبولا
فتراه مثلی رقة و لطافةو لأجل قلبک لا أقول علیلا
فهو الرسول إلیک منی لیتنی‌کنت اتخذت مع الرسول سبیلا
و لم یزل هذا الجامع عامرا إلی أن حدثت المحن فی سنة ست و ثمانمائة، و اختلت القرافة لخراب ما حوله، و هو الیوم قائم علی أصوله.

جامع بساتین الوزیر التی علی برکة الحبس جامع الخندق

هذا الجامع بناحیة الخندق خارج القاهرة، و لم یزل عامرا بعمارة الخندق، فلما خربت مساکن الخندق تلاشی أمره و نقلت منه الجمعة و بقی معطلا إلی شعبان سنة خمس عشرة و ثمانمائة، فأخذ الأمیر طوغان الحسنیّ الدوادار عمده الرخام و سقوفه و ترک جدرانه و منارته، و هی باقیة و عما قلیل تدثر کما دثر غیرها مما حولها.

جامع جزیرة الفیل جامع الطواشی

هذا الجامع خارج القاهرة فیما بین باب الشعریة و باب البحر، أنشأه الطواشی جوهر السحرتیّ اللالا، و هو من خدّام الملک الناصر محمد بن قلاون، ثم إنه تأمّر فی تاسع عشری شهر رجب سنة خمس و أربعین و سبعمائة.

جامع کرای

هذا الجامع بالریدانیة خارج القاهرة، عمره الأمیر سیف الدین کرای المنصوریّ فی سنة إحدی و سبعمائة لکثرة ما کان هناک من السکان، فلما خربت تلک الأماکن تعطل هذا الجامع و هو الآن قائم و جمیع ما حوله داثر، و عما قلیل یدثر.

جامع القلعة

هذا الجامع بقلعة الجبل أنشأه الملک الناصر محمد بن قلاون فی سنة ثمان عشرة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 137
و سبعمائة، و کان أوّلا مکانه جامع قدیم و بجواره المطبخ السلطانیّ و الحوائجخاناه و الفراشخاناه، فهدم الجمیع و أدخلها فی هذا الجامع، و عمره أحسن عمارة و عمل فیه من الرخام الفاخر الملوّن شیئا کثیرا، و عمر فیه قبة جلیلة و جعل علیه مقصورة من حدید بدیعة الصنعة، و فی صدر الجامع مقصورة من حدید أیضا برسم صلاة السلطان، فلما تمّ بناؤه جلس فیه السلطان بنفسه و استدعی جمیع المؤذنین بالقاهرة و مصر و سائر الخطباء و القرّاء، و أمر الخطباء فخطب کلّ منهم بین یدیه، و قام المؤذنون فأذنوا، و قرأ القرّاء، فاختار الخطیب جمال الدین محمد بن محمد بن الحسن القسطلانیّ خطیب جامع عمرو و جعله خطیبا بهذا الجامع، و اختار عشرین مؤذنا رتبهم فیه، و جعل به قراء و درسا و قاری‌ء مصحف، و جعل له من الأوقاف ما یفضل عن مصارفه، فجاء من أجلّ جوامع مصر و أعظمها و به إلی الیوم یصلی سلطان مصر صلاة الجمعة، و الذی یخطب فیه و یصلی بالناس الجمعة قاضی القضاة الشافعیّ.

جامع قوصون

هذا الجامع داخل باب القرافة تجاه خانقاه قوصون، أنشأه الأمیر سیف الدین قوصون، و عمر بجانبه حماما، فعمرت تلک الجهة من القرافة بجماعة الخانقاه و الجامع، و هو باق إلی یومنا.

جامع کوم الریش

هذا الجامع عمارة دولات شاه.

جامع الجزیرة الوسطی

أنشأه الطواشی مثقال خادم تذکار ابنة الملک الظاهر بیبرس و هو عامر إلی یومنا هذا.

جامع ابن صارم

هذا الجامع بخط بولاق خارج القاهرة أنشأه محمد بن صارم شیخ بولاق فیما بین بولاق و باب البحر.

جامع الکیمختی

هذا الجامع یعرف الیوم بجامع الجنیّة، و هو بجانب موضع الکیمخت علی شاطی‌ء الخلیج من جملة أرض الطبالة، کان موضعه دارا اشتراها معلم الکیمخت، و کان یعرف بالحمویّ، و عملها جامعا فضمن المعلم بعده رجل یعرف بالرومی فوقف علیه مواضع و جدّد له مئذنة فی جمادی الأولی سنة اثنتین و ثمانمائة، و وسع فی الجامع قطعة کانت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 138
منشرا، و کان قبل ذلک قد جدّد عمارته شخص یعرف بالفقیه زین الدین ریحان بعد سنة تسعین و سبعمائة، و عمر بجانبه مساکن، و هو الآن عامر بعمارة ما حوله.

جامع الست مسکة

هذا الجامع بالقرب من قنطرة آق سنقر التی علی الخلیج الکبیر خارج القاهرة، أنشأته الست مسکة جاریة الملک الناصر محمد بن قلاون، و أقیمت فیه الجمعة عاشر جمادی الآخرة سنة إحدی و أربعین و سبعمائة، و قد ذکرت مسکة هذه عند ذکر الأحکار.

جامع ابن الفلک

هذا الجامع بسویقة الجمیزة من الحسینیة خارج القاهرة، أنشأه مظفر الدین بن الفلک.

جامع التکروریّ

هذا الجامع فی ناحیة بولاق التکروریّ، و هذه الناحیة من جملة قری الجیزة، کانت تعرف بمنیة بولاق، ثم عرف ببولاق التکروریّ، فإنه کان نزل بها الشیخ أبو محمد یوسف بن عبد اللّه التکروریّ، و کان یعتقد فیه الخیر و جرّبت برکة دعائه و حکیت عنه کرامات کثیرة، منها أن امرأة خرجت من مدینة مصر ترید البحر، فأخذ السودان ابنها و ساروا به فی مرکب و فتحوا القلع، فجرت السفینة و تعلقت المرأة بالشیخ تستغیث به، فخرج من مکانه حتی وقف علی شاطی‌ء النیل و دعا اللّه سبحانه و تعالی فسکن الریح و وقفت السفینة عن السیر، فنادی من فی المرکب یطلب منهم الصبیّ فدفعوه إلیه و ناوله لأمّه، و کان بمصر رجل دباغ أتاه عفص فأخذه منه أصحاب السلطان، فأتی إلی الشیخ و شکا إلیه ضرورته، فدعا ربه فردّ اللّه علیه عفصه بسؤال أصحاب السلطان له فی ذلک، و کان یقال له لم لا تسکن المدینة فیقول: إنی أشمّ رائحة کریهة إذا دخلتها. و یقال أنه کان فی خلافة العزیز بن المعز، و أن الشریف محمد بن أسعد الجوانیّ جمع له جزأ فی مناقبه، و لما مات بنی علیه قبة و عمل بجانبه جامع جدّده و وسعه الأمیر محسن الشهابیّ مقدّم الممالیک، و ولی تقدمة الممالیک عوضا عن الطواشی عنبر السحرتیّ، أوّل صفر سنة ثلاث و أربعین و سبعمائة و مات فی ... ثم أن النیل مال علی ناحیة بولاق هذه فیما بعد سنة تسعین و سبعمائة، و أخذ منها قطعة عظیمة کانت کلها مساکن، فخاف أهل البلدان أن یأخذ ضریح الشیخ و الجامع لقربهما منه، فنقلوا الضریح و الجامع إلی داخل البلد و هو باق إلی یومنا هذا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 139

جامع البرقیة

هذا الجامع بالقرب من باب البرقیة بالقاهرة، عمره الأمیر مغلطای الفخریّ أخو الأمیر الماس الحاجب، و کمل فی المحرّم سنة ثلاثین و سبعمائة، و کان ظالما عسوفا متکبرا جبارا، قبض علیه مع أخیه الماس فی سنة أربع و ثلاثین و سبعمائة و قتل معه.

جامع الحرّانیّ

هذا الجامع بالقرافة الصغری فی بحری الشافعیّ، عمره ناصر الدین بن الحرّانیّ الشرابیشیّ فی سنة تسع و عشرین و سبعمائة.

جامع برکة

هذا الجامع بالقرب من جامع ابن طولون، یعرف خطه بحدرة ابن قمیحة، عمره شخص من الجند یعرف ببرکة، کان یباشر أستاداریة الأمراء و مات بعد سنة إحدی و ثمانمائة.

جامع برکة الرطلیّ

هذا الجامع کان یعرف موضعه ببرکة الفول من جملة أرض الطبالة، فلما عمرت برکة الرطلیّ کما تقدّم ذکره أنشئ هذا الجامع، و کان ضیقا قصیر السقف، و فیه قبة تحتها قبر یزار، و هو قبر الشیخ خلیل بن عبد ربه خادم الشیخ عبد العال، و توفی فی المحرّم سنة اثنتین و أربعین و سبعمائة، فلما سکن الوزیر الصاحب سعد الدین إبراهیم بن برکة البشریّ بجوار هذا الجامع هدمه و وسع فیه و بناه هذا البناء فی سنة أربع عشرة و ثمانمائة. و ولد البشریّ فی سابع ذی القعدة سنة ست و ستین و سبعمائة، و تنقل فی الخدم الدیوانیة حتی ولی نظر الدولة إلی أن قتل الأمیر جمادی الدین یوسف الأستادار، فاستقرّ بعده فی الوزارة بسفارة فتح الدین فتح اللّه بن کاتب السرّ فی یوم الثلاثاء رابع عشر جمادی الأولی سنة اثنتی عشرة و ثمانمائة، فباشر الوزارة بضبط جید لمعرفته الحساب و الکتابة، إلّا أنها کانت أیام محن احتاج فیها إلی وضع یده و أخذ الأموال بأنواع الظلم، فلما قتل الملک الناصر فرج و استبدّ الملک المؤید شیخ صرفه عن الوزارة فی یوم الخمیس خامس جمادی الأولی سنة ست عشرة و ثمانمائة، و دفن بالقرافة، و هذا الجامع عامر بعمارة ما حوله.

جامع الضوة

هذا الجامع فیما بین الطبلخاناه السلطانیة و باب القلعة المعروف بباب المدرّج علی رأس الضوّة، أنشأه الأمیر الکبیر شیخ المحمودی لما قدم من دمشق بعد قتل الملک الناصر فرج، و إقامة الخلیفة أمیر المؤمنین المستعین بالله العباسیّ ابن محمد فی سنة خمس عشرة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 140
و ثمانمائة، و سکن بالإصطبل السلطانیّ فشرع فی بناء دار یسکنها، فلما استبدّ بسلطنة مصر و تلقب بالملک المؤید استغنی عن هذه الدار، و کانت لم تکمل، فعملها جامعا و خانقاه، و صارت الجمعة تقام به.

جامع الحوش

هذا الجامع فی داخل قلعة الجبل بالحوش السلطانیّ، أنشأه السلطان الملک الناصر فرج بن برقوق فی سنة اثنتی عشرة و ثمانمائة، فصار یصلی فیه الخدّام و أولاد الملوک من أولاد الملک الناصر محمد بن قلاون إلی أن قتل الناصر فرج.

جامع الاصطبل

هذا الجامع فی الإصطبل السلطانیّ من قلعة الجبل عمره ... .

جامع ابن الترکمانیّ

هذا الجامع بالمقس خارج القاهرة.

جامع ...

هذا الجامع بخط السبع سقایات فیما بین القاهرة و مصر یطلّ علی برکة قارون أنشأه ... .

جامع الباسطیّ

هذا الجامع فی بولاق خارج القاهرة، أدرکت موضعه و هو مطلّ علی النیل طول السنة، أنشأه شخص من عرض الفقهاء یعرف ... فی سنة سبع عشرة و ثمانمائة.

جامع الحنفیّ

هذا الجامع خارج القاهرة أنشأه الشیخ شمس الدین محمد بن حسن بن علیّ الحنفیّ، فی سنة سبع عشرة و ثمانمائة.

جامع ابن الرفعة

هذا الجامع خارج القاهرة بحکر الزهریّ، أنشأه الشیخ فخر الدین عبد المحسن بن الرفعة بن أبی المجد العدویّ.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 141

جامع الإسماعیلیّ

أنشأه الأمیر أرغون الإسماعیلیّ علی البرکة الناصریة فی شعبان سنة ثمان و أربعین و سبعمائة.

جامع الزاهد

هذا الجامع بخط المقس خارج القاهرة، کان موضعه کوم تراب فنقله الشیخ المعتقد أحمد بن ... المعروف بالزاهد، و أنشأ موضعه هذا الجامع، فکمل فی شهر رمضان سنة ثمان عشرة و ثمانمائة، و هدم بسببه عدّة مساجد قد خرب ما حولها، و بنی بأنقاضها هذا الجامع، و کان ساکنا مشهورا بالخیر یعظ الناس بالجامع الأزهر و غیره، و لطائفة من الناس فیه عقیدة حسنة، و لم یسمع عنه إلّا خیر، مات یوم الجمعة سابع عشر شهر ربیع الأوّل سنة تسع عشرة و ثمانمائة، أیام الطاعون و دفن بجامعه.

جامع ابن المغربیّ

هذا الجامع بالقرب من برکة قرموط مطلّ علی الخلیج الناصریّ، أنشأه صلاح الدین یوسف بن المغربیّ رئیس الأطباء بدیار مصر و بنی بجانبه قبة دفن فیها و عمل به درسا و قرّاء و منبرا یخطب علیه فی یوم الجمعة، و کان عامرا بعمارة ما حوله، فلما خرب خط برکة قرموط تعطل و هو آیل إلی أن ینقض و یباع کما بیعت أنقاض غیره.

جامع الفخریّ

هذا الجامع بجوار دار الذهب التی عرفت بدار بها در الأعسر المجاورة لقبو الذهب من خط بین السورین فیما بین الخوخة و باب سعادة، و یتوصل إلیه أیضا من درب العدّاس المجاورة لحارة الوزیریة، أنشأه الأمیر فخر الدین عبد الغنیّ بن الأمیر تاج الدین عبد الرزاق بن أبی الفرج الأستادار فی سنة إحدی و عشرین و ثمانمائة، و خطب فیه یوم الجمعة ثامن عشری شعبان من السنة المذکورة، و عمل فیه عدّة دروس، و أوّل من خطب فیه الشیخ ناصر الدین محمد بن عبد الوهاب بن محمد البارنباریّ الشافعیّ، ثم ترکه تنزها عنه، و فی یوم الأحد ثامن شهر رمضان جلس فیه الشیخ شمس الدین محمد بن عبد الدائم البرماویّ الشافعیّ للتدریس، و أضیف إلیه مشیخة التصوّف، و قرّر قاضی القضاة شمس الدین محمد الدیریّ المقدسیّ الحنفیّ فی تدریس الحنفیة، و فی تدریس المالکیة قاضی القضاة جمال الدین عبد اللّه بن مقداد المالکی، و حضر البرماویّ وظیفة التصوّف بعد عصر یومه، فمات الأمیر فخر الدین فی نصف شوّال منها و لم یکمل فدفن هناک.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 142

الجامع المؤیدی

هذا الجامع بجوار باب زویلة من داخله، کان موضعه خزانة شمائل حیث یسجن أرباب الجرائم، و قیساریة سنقر الأشقر، و درب الصفیرة، و قیساریة بهاء الدین أرسلان.
أنشأه السلطان الملک المؤید أبو النصر شیخ المحمودیّ الظاهری، فهو الجامع لمحاسن البنیان، الشاهد بفخامة أرکانه و ضخامة بنیانه، أن منشئه سید ملوک الزمان، یحتقر الناظر له عند مشاهدته عرش بلقیس و إیوان کسری أنو شروان، و یستصغر من تأمل بدیع أسطوانه الخورنق و قصر غمدان، و یعجب من عرف أوّلیته من تبدیل الأبدال، و تنقل الأمور من حال إلی حال بینا هو سجن تزهق فیه النفوس و یضام المجهود، إذ صار مدارس آیات و موضع عبادات و محل سجود، فاللّه یعمره ببقاء منشئه و یعلی کلمة الأیمان بدوام ملک بانیه.
همم الملوک إذا أراد و اذکرهامن بعدهم فبألسن البنیان
أو ما تری الهرمین قد بقیا و کم‌ملک محاه حوادث الأزمان
إنّ البناء إذا تعاظم قدره‌أضحی یدل علی عظیم الشان
و أوّل ما ابتدئ به فی أمر هذا الجامع، أن رسم فی رابع شهر ربیع الأوّل سنة ثمان عشرة و ثمانمائة، بانتقال سکان قیساریة سنقر الأشقر التی کانت تجاه قیساریة الفاضل، ثم نزل جماعة من أرباب الدولة فی خامسه من قلعة الجبل، و ابتدئ فی الهدم فی القیساریة المذکورة، و ما یجاورها، فهدمت الدور التی کانت هناک فی درب الصفیرة، و هدمت خزانة شمائل فوجد بها من رمم القتلی و رؤوسهم شی‌ء کثیر، و أفرد لنقل ما خرج من التراب عدّة من الجمال و الحمیر بلغت علائقهم فی کل یوم خمسمائة علیقة. و کان السبب فی اختیار هذا المکان دون غیره أن السلطان حبس فی خزانة شمائل هذه أیام تغلّب الأمیر منطاش و قبضه علی الممالیک الظاهریة، فقاسی فی لیلة من البق و البراغیث شدائد، فنذر للّه تعالی إن تیسر له ملک مصر أن یجعل هذه البقعة مسجدا للّه عز و جلّ، و مدرسة لأهل العلم، فاختار لذلک هذه البقعة وفاء لنذره.
و فی رابع جمادی الآخرة کان ابتداء حفر الأساس، و فی خامس صفر سنة تسع عشرة و ثمانمائة. وقع الشروع فی البناء، و استقرّ فیه بضع و ثلاثون بنّاء، و مائة فاعل، و وفیت لهم و لمباشریهم أجورهم من غیر أن یکلف أحد فی العمل فوق طاقته، و لا سخّر فیه أحد بالقهر، فاستمرّ العمل إلی یوم الخمیس سابع عشر ربیع الأوّل، فأشهد علیه السلطان أنه وقف هذا مسجدا للّه تعالی، و وقف علیه عدّة مواضع بدیار مصر و بلاد الشام، و تردّد رکوب السلطان إلی هذه العمارة عدّة مرار. و فی شعبان طلبت عمد الرخام و ألواح الرخام لهذا الجامع، فأخذت من الدور و المساجد و غیرها، و فی یوم الخمیس سابع عشری شوّال نقل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 143
باب مدرسة السلطان حسن بن محمد بن قلاون و التنور النحاس المکفت إلی هذه العمارة، و قد اشتراهما السلطان بخمسمائة دینار، و هذا الباب هو الذی عمل لهذا الجامع، و هذا التنور هو التنور المعلق تجاه المحراب، و کان الملک الظاهر برقوق قد سدّ باب مدرسة السلطان حسن و قطع البسطة التی کانت قدّامه کما تقدّم، فبقی مصراعا الباب و السدّ من ورائهما حتی نقلا مع التنور الذی کان معلقا هناک. و فی ثامن عشریة دفنت ابنة صغیرة للسلطان فی موضع القبة الغربیة من هذا الجامع، و هی ثانی میت دفن بها، و انعقدت جملة ما صرف فی هذه العمارة إلی سلخ ذی الحجة سنة تسع عشرة علی أربعین ألف دینار، ثم نزل السلطان فی عشری المحرّم إلی هذه العمارة و دخل خزانة الکتب التی عملت هناک، قد حمل إلیها کتبا کثیرة فی أنواع العلوم، کانت بقلعة الجبل، و قدّم له ناصر الدین محمد البارزیّ کاتب السرّ خمسمائة مجلد، قیمتها ألف دینار، فأقرّ ذلک بالخزانة و أنعم علی ابن البارزیّ بأن یکون خطیبا و خازن المکتب هو و من بعده من ذرّیته.
و فی سابع عشر شهر ربیع الآخر منها سقط عشرة من الفعلة، مات منهم أربعة و حمل ستة بأسوإ حال. و فی یوم الجمعة ثانی جمادی الأولی أقیمت الجمعة به، و لم یکمل منه سوی الإیوان القبلیّ، و خطب و صلّی بالناس عز الدین عبد السلام المقدسیّ أحد نوّاب القضاة الشافعیة نیابة عن ابن البارزیّ کاتب السرّ. و فی یوم السبت خامس شهر رمضان منها ابتدئ بهدم ملک بجوار ربع الملک الظاهر بیبرس، مما اشتراه الأمیر فخر الدین عبد الغنیّ بن أبی الفرج الاستادار لیعمل میضأة، و استمرّ العمل هناک و لازم الأمیر فخر الدین الإقامة بنفسه، و استعمل ممالیکه و الزامه فیه وجدّ فی العمل کلّ یوم، فکملت فی سلخه بعد خمسة و عشرین یوما، و وقع الشروع فی بناء حوانیت علی بابها من جهة تحت الربع، و یعلوها طباق، و بلغت النفقة علی الجامع إلی أخریات شهر رمضان هذا، سوی عمارة الأمیر فخر الدین المذکور، زیادة علی سبعین ألف دینار، و تردّد السلطان إلی النظر فی هذا الجامع غیر مرّة. فلما کان فی أثناء شهر ربیع الآخر سنة إحدی و عشرین ظهر بالمئذنة التی أنشئت علی بدنة باب زویلة التی تلی الجامع إعوجاج إلی جهة دار التفاح، فکتب محضر بجماعة المهندسین أنها مستحقة الهدم، و عرض علی السلطان فرسم بهدمها، فوقع الشروع فی الهدم یوم الثلاثاء رابع عشریة، و استمرّ فی کل یوم، فسقط یوم الخمیس سادس عشریة منها حجر هدم ملکا تجاه باب زویلة، هلک تحته رجل، فغلق باب زویلة خوفا علی المارّة من یوم السبت إلی آخر یوم الجمعة سادس عشری جمادی الأولی، مدّة ثلاثین یوما، و لم یعهد وقوع مثل هذا قط منذ بنیت القاهرة. و قال أدباء العصر فی سقوط المنارة المذکورة شعرا کثیرا، منه ما قاله حافظ الوقت شهاب الدین أحمد بن علیّ بن حجر الشافعیّ رحمه اللّه:
لجامع مولانا المؤید رونق‌منارته تزهو من الحسن و الزین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 144 تقول و قد مالت علیهم تمهّلوافلیس علی جسمی أضرّ من العین
فتحدّث الناس أنه فی قوله بالعین قصد التوریة لتخدم فی العین التی تصیب الأشیاء فتتلفها، و فی الشیخ بدر الدین محمود العینتابیّ فإنه یقال له العینیّ أیضا.
فقال المذکور یعارضه:
منارة کعروس الحسن إذ جلیت‌و هدمها بقضاء اللّه و القدر
قالوا أصیبت بعین قلت ذا غلطما أوجب الهدم إلّا خشیة الحجر
یعرّض بالشهاب ابن حجر و کل منهما لم یصب الغرض، فإن العینیّ بدر الدین محمودا ناظر الأحباس، و الشیخ شهاب الدین أحمد بن حجر، کل منهما لیس له فی المئذنة تعلق حتی تخدم التوریة، و أقعد منهما بالتوریة من قال:
علی البرج من بابی زویلة أسّست‌منارة بیت اللّه و المعهد المنجی
فأخلی بها البرج اللعین أمالهاألا فاصرخوا یا قوم باللّعن للبرج
و ذلک أن الذی ولی تدبیر أمر الجامع المؤیدیّ هذا، و ولی نظر عمارته بهاء الدین محمد بن البرجیّ، فخدمت التوریة فی البرجی کما تری، و تداول هذا الناس فقال آخر:
عتبنا علی میل المنار زویلةو قلنا ترکت الناس بالمیل فی هرج
فقال قرینی برج نحس أمالنی‌فلا بارک الرحمن فی ذلک البرج
و قال الأدیب شمس الدین محمد بن أحمد بن کمال الجوجریّ أحد الشهود:
منارة لثواب اللّه قد بنیت‌فکیف هدّت فقالوا نوضح الخبرا
أصابت العین أحجارا بها انفلقت‌و نظرة العین قالوا تفلق الحجرا
و قال آخر:
منارة قد هدمت بالقضاو الناس فی هرج و فی رهج
أمالها البرج فمالت به‌فلعنة اللّه علی البرج
و فی ثالث جمادی الأولی سنة اثنتین و عشرین استقرّ الشیخ شهاب الدین أبو الفضل أحمد بن علیّ بن حجر فی تدریس الشافعیة، و الشیخ یحیی بن محمد بن أحمد العجیسیّ البجائیّ المغربیّ فی تدریس المالکیة، و عز الدین عبد العزیز بن علیّ بن الفخر البغدادیّ فی تدریس الحنابلة، و خلع علیهم بحضرة السلطان، فدرس ابن حجر بالمحراب فی یوم الخمیس ثالث عشرة، و نزل السلطان و أقبل لیحضر عنده، و هو فی إلقاء الدرس و منعه من القیام له، فلم یقم و استمرّ فیما هو بصدده، و جلس السلطان عنده ملیا، ثم درّس یحیی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 145
المغربیّ فی یوم الخمیس خامس عشرة، و درّس فیه أیضا الفخر البغدادیّ، و حضر معهما قضاة القضاة و المشایخ. و فی سابع عشرة استقرّ بدر الدین محمود بن أحمد بن موسی بن أحمد العینتابیّ ناظر الأحباس فی تدریس الحدیث النبویّ، و استقرّ شمس الدین محمد بن یحیی فی تدریس القراءات السبع. و فی یوم الجمعة حادی عشرة شوّال منها نزل السلطان إلی هذا الجامع و قد تقدّم إلی المباشرین من أمسه بتهیئة السماط العظیم للمدّة فیه، و السّکّر الکثیر لتملأ البرکة التی بالصحن من السّکّر المذاب و الحلوی الکثیرة، فهیی‌ء ذلک کله و جلس السلطان بکرة النهار بالقرب من البرکة فی الصحن علی تخت، و استعرض الفقهاء فقرّر من وقع اختیاره علیه فی الدروس، و مدّ السماط العظیم بأنواع المطاعم، و ملئت البرکة بالسّکّر المذاب، فأکل الناس و نهبوا و ارتووا من السّکّر المذاب و حملوا منه و من الحلوی ما قدروا علیه. ثم طلب قاضی القضاة شمس الدین محمد بن سعد الدیریّ الحنفیّ و خلع علیه کاملیة صوف بفرو سمور، و استقرّ فی مشیخة التصوّف و تدریس الحنفیة، و جلس بالمحراب و السلطان عن یمینه و یلیه ابنه المقام الصارمیّ إبراهیم، و عن یساره قضاة القضاة و مشایخ العلم، و حضر أمراء الدولة و مباشروها، فألقی درسا مفیدا إلی أن قرب وقت الصلاة، فدعا بفض المجلس، ثم حضرت الصلاة فصعد ناصر الدین محمد بن البارزیّ کاتب السرّ المنبر فخطب و صلّی، ثم خلع علیه و استقرّ خطیبا و خازن الکتب، و خلع علی شهاب الدین أحمد الأذرعیّ الإمام و استقرّ فی إمامة الخمس و رکب السلطان و کان یوما مشهودا. و لما مات المقام الصارمیّ إبراهیم بن السلطان دفن بالقبة الشرقیة و نزل السلطان حتی شهد دفنه فی یوم الجمعة ثانی عشری جمادی الآخرة سنة ثلاث و عشرین، و أقام حتی صلّی به الخطیب محمد البارزیّ کاتب السرّ صلاة الجمعة بعد ما خطب خطبة بلیغة، ثم عاد إلی القلعة و أقام القرّاء علی قبره یقرءون القرآن أسبوعا و الأمراء و سائر أهل الدولة یتردّدون إلیه، و کانت لیالی مشهودة. و فی یوم السبت آخره استقرّ فی نظر الجامع المذکور الأمیر مقبل الدوادار و کاتب السرّ ابن البارزیّ، فنزلا إلیه جمیعا و تفقدا أحواله و نظرا فی أموره، فلما مات ابن البارزی فی ثامن شوّال منها انفرد الأمیر مقبل بالتحدّث إلی أن مات السلطان فی یوم الاثنین ثامن المحرّم سنة أربع و عشرین و ثمانمائة، فدفن بالقبة الشرقیة و لم تکن عمرت، فشرع فی عمارتها حتی کملت فی شهر ذی القعدة منها، و کذلک الدرج التی یصعد منها إلی باب هذا الجامع من داخل باب زویلة، لم تعمل إلّا فی شهر رمضان منها، و بقیت بقایا کثیرة من حقوق هذا الجامع لم تعمل منها القبة التی تقابل القبة المدفون تحتها السلطان و البیوت المعدّة لسکن الصوفیة و غیر ذلک، فأفرد لعمارتها نحو من عشرین ألف دینار و استقرّ نظر هذا الجامع بعد موت السلطان بید کاتب السرّ.

الجامع الأشرفیّ

هذا الجامع فیما بین المدرسة السیوفیة و قیساریة العنبر، کان موضعه حوانیت تعلوها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 146
رباع و من ورائها ساحات کانت قیاسر بعضها وقف علی المدرسة القطبیة، فابتدأ الهدم فیها بعد ما استبدلت بغیرها أوّل شهر رجب سنة ست و عشرین و ثمانمائة، و بنی مکانها، فلما عمر الإیوان القبلیّ أقیمت به الجمعة فی سابع جمادی الأولی سنة سبع و عشرین، و خطب به الحمویّ الواعظ و قد ولی الخطابة المذکورة.

الجامع الباسطیّ

هذا الجامع بخط الکافوریّ من القاهرة، کان موضعه من جملة أراضی البستان، ثم صار مما اختط کما تقدّم ذکره، فأنشأه القاضی زین الدین عبد الباسط بن خلیل بن إبراهیم الدمشقیّ ناظر الجیوش فی سنة اثنتین و عشرین و ثمانمائة، و لم یسخر أحدا فی عمله بل وفیّ لهم أجورهم حتی کمل فی أحسن هندام و أکیس قالب و أبدع زیّ ترتاح النفوس لرؤیته و تبتهج عند مشاهدته، فهو الجامع الزاهر و المعبد الباهی الباهر، ابتدئ فیه بإقامة الجمعة فی یوم الجمعة الثانی من صفر سنة ثلاث و عشرین، و رتب فی خطابته فتح الدین أحمد بن محمد بن النقاش أحد شهود الحوانیت و موقعی القضاة، ثم رتب به صوفیة، و ولی مشیخة التصوّف عز الدین عبد السلام بن داود بن عثمان المقدسیّ الشافعیّ، أحد نوّاب الحکم، فکان ابتداء حضورهم بعد عصر یوم السبت أوّل شهر رجب منها، و أجری للفقراء الصوفیة الخبز فی کلّ یوم، و المعلوم فی کلّ شهر، و بنی لهم مساکن و حفر صهریجا یملأ من ماء النیل و یسبل فی کل یوم، فعمّ نفعه و کثر خیره. ثم تجدّد فی بولاق جامع ابن الجابی و جامع ابن السنیتیّ، و تجدّد فی مصر جامع الحسنات بخط دار النحاس، و فی حکر الصبان الجامع المعروف بالمستجد، و بجامع الفتح، و فی حارة الفقراء جامع عبد اللطیف الطواشیّ الساقی. و تجدّد فی خارج القاهرة بسویقة صفیة جامع ابن درهم و نصف، و فی خط معدّیة فریج جماع کزل بغا، و فی رأس درب النیدیّ جامع حارس الطیر، و فی سویقة عصفور جامع القاضی أمین الدین بجانب زاویة الفقیه المعتقد أبی عبد اللّه محمد الفارقانیّ، بنی فی سنة اثنتین و ثلاثین و ثمانمائة، و بخط البراذعیین و رأس حارة الحرمین جامع الحاج محمد المعروف بالمسکین مهتار ناظر الخاص. و تجدّد فی المراغة جامع الشیخ أبی بکر المعرّف، بناه الحاج أحمد القماح، و أقیمت خطبة بخانکاه الأمیر جانی بک الأشرفیّ خارج باب زویلة، و توفی یوم الخمیس سابع عشری ربیع الأوّل سنة إحدی و ثلاثین و ثمانمائة، و بخط باب اللوق جامع مقدّم السقائین قریبا من جامع الست نصرة، و بخط تحت الربع خارج باب زویلة جامع.
و تجدّد بالصحراء قریبا من تربة الظاهر برقوق خطبة فی تربة السلطان الملک الأشرف برسبای الدقاقیّ. و تجدد فی آخر سویقة أمیر الجیوش بالقاهرة جامع أنشأه الفقیر المعتقد محمد الغمریّ، و أقیمت به الجمعة فی یوم الجمعة رابع ذی الحجة سنة ثلاث و أربعین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 147
و ثمانمائة قبل أن یکمل. و تجدّد فی زاویة الشیخ أبی العباس البصیر التی عند قنطرة الخرق خطبة. و تجدّد فی حدرة الکماجیین من أراضی اللوق خطبة بزاویة مطلة علی غیط العدّة، و تجدّد بالصحراء خطبة فی تربة الأمیر مشیر الدولة کافور الزمام، و توفی فی خامس عشر ربیع الآخر سنة ثلاثین و ثمانمائة. و تجدّد بخط الکافوریّ خطبة أحدثها بنو وفاء فی جامع لطیف جدّا. و تجدّد بمدرسة ابن البقریّ من القاهرة أیضا خطبة فی أیام المؤید شیخ. و تجدّد بحارة الدیلم خطبة فی مدرسة أنشأها الطواشی مشیر الدولة المذکور. و تجدّد عند قنطرة قدادار خطبة أنشأها شاکر البناء، و خطبة بالقرب منها فی جامع أنشأه الحاج إبراهیم البرددار الشهیر بالحمصانیّ، أحد الفقراء الأحمدیة السطوحیة فی حدود الثلاثین و الثمانمائة.

ذکر مذاهب أهل مصر و نحلهم منذ افتتح عمرو بن العاص رضی اللّه عنه أرض مصر إلی أن صاروا إلی اعتقاد مذاهب الأئمة رحمهم اللّه تعالی، و ما کان من الأحداث فی ذلک

اعلم أن اللّه عز و جل لما بعث نبینا محمدا صلّی اللّه علیه و سلّم رسولا إلی کافة الناس جمیعا عربهم و عجمهم، و هم کلهم أهل شرک و عبادة لغیر اللّه تعالی إلا بقایا من أهل الکتاب، کان من أمره صلّی اللّه علیه و سلّم مع قریش ما کان حتی هاجر من مکة إلی المدینة، فکانت الصحابة رضوان اللّه علیهم حوله صلّی اللّه علیه و سلّم یجتمون إلیه فی کلّ وقت مع ما کانوا فیه من ضنک المعیشة و قلة القوت، فمنهم من کان یحترف فی الأسواق، و منهم من کان یقوم علی نخله، و یحضر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی کل وقت، و منهم طائفة عند ما تجد أدنی فراغ مما هم بسبیله من طلب القوت، فإذا سئل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم عن مسألة، أو حکم بحکم، أو أمر بشی‌ء، أو فعل شیأ وعاه من حضر عنده من الصحابة، وفات من غاب عنه علم ذلک، ألا تری أن عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه قد خفی علیه ما علمه حمل بن مالک بن النابغة، من الأعراب من هذیل، فی دیة الجنین و خفی علیه. و کان یفتی فی زمن النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم من الصحابة أبو بکر و عمر و عثمان و علیّ و عبد الرحمن بن عوف و عبد اللّه بن مسعود و أبیّ بن کعب و معاذ بن جبل و عمار بن یاسر و حذیفة بن الیمان و زید بن ثابت و أبو الدرداء و أبو موسی الأشعریّ و سلمان الفارسیّ رضی اللّه عنهم.
فلما مات رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم و استخلف أبو بکر الصدّیق رضی اللّه عنه، تفرّقت الصحابة رضی اللّه عنهم، فمنهم من خرج لقتال مسیلمة و أهل الردّة، و منهم من خرج لقتال أهل الشام، و منهم من خرج لقتال أهل العراق، و بقی من الصحابة بالمدینة مع أبی بکر رضی اللّه عنه عدّة، فکانت القضیة إذا نزلت بأبی بکر رضی اللّه عنه قضی فیها بما عنده من العلم بکتاب اللّه أو سنة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، فإن لم یکن عنده فیها علم من کتاب اللّه و لا من سنة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، سأل من بحضرته من الصحابة رضی اللّه عنهم عن ذلک، فإن وجد عندهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 148
علما من ذلک رجع إلیه و إلّا اجتهد فی الحکم.
و لما مات أبو بکر و ولی أمر الأمّة من بعده عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، فتحت الأمصار و زاد تفرّق الصحابة رضی اللّه عنهم فیما افتتحوه من الأقطار، فکانت الحکومة تنزل بالمدینة أو غیرها من البلاد، فإن کان عند الصحابة الحاضرین لها فی ذلک أثر عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، حکم به، و إلّا اجتهد أمیر تلک البلدة فی ذلک، و قد یکون فی تلک القضیة حکم عن النبی صلّی اللّه علیه و سلّم موجود عند صاحب آخر، و قد حضر المدنیّ ما لم یحضر المصریّ، و حضر المصریّ ما لم یحضر الشامی، و حضر الشامیّ ما لم یحضر البصریّ، و حضر البصریّ ما لم یحضر الکوفیّ، و حضر الکوفیّ ما لم یحضر المدنیّ. کلّ هذا موجود فی الآثار، و فیما علم من مغیب بعض الصحابة عن مجلس النبی صلّی اللّه علیه و سلّم فی بعض الأوقات، و حضور غیره. ثم مغیب الذی حضر أمس و حضور الذی غاب، فیدری کلّ واحد منهم ما حضر، و یفوته ما غاب عنه، فمضی الصحابة رضی اللّه عنهم علی ما ذکرنا، ثم خلف بعدهم التابعون الآخرون عنهم و کل طبقة من التابعین فی البلاد التی تقدّم ذکرها، فإنما تفقهوا مع من کان عندهم من الصحابة، فکانوا لا یتعدّون فتاویهم إلّا الیسیر مما بلغهم عن غیر من کان فی بلادهم من الصحابة، رضی اللّه عنهم، کاتباع أهل المدینة فی الأکثر فتاوی عبد اللّه بن عمر رضی اللّه عنهما، و اتباع أهل الکوفة فی الأکثر فتاوی عبد اللّه بن مسعود رضی اللّه عنه، و اتباع أهل مکة فی الأکثر فتاوی عبد اللّه بن عباس رضی اللّه عنهما، و اتباع أهل مصر فی الأکثر فتاوی عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضی اللّه عنهما، ثم أتی من بعد التابعین رضی اللّه عنهم فقهاء الأمصار، کأبی حنیفة و سفیان و ابن أبی لیلی بالکوفة، و ابن جریج بمکة، و مالک و ابن الماجشون بالمدینة، و عثمان البتیّ و سوار بالبصرة، و الأوزاعیّ بالشام، و اللیث بن سعد بمصر. فجروا علی تلک الطریق من أخذ کل واحد منهم عن التابعین من أهل بلده، فیما کان عندهم و اجتهادهم فیما لم یجدوا عندهم، و هو موجود عند غیرهم.
و أما مذاهب أهل مصر: فقال أبو سعید بن یونس: إن عبید بن مخمر المغافریّ یکنی أبا أمیة، رجل من أصحاب النبی صلّی اللّه علیه و سلّم، شهد فتح مصر، روی عنه أبو قبیل. یقال أنه کان أوّل من أقرأ القرآن بمصر. و ذکر أبو عمرو الکندیّ أن أبا میسرة عبد الرحمن بن میسرة مولی الملامس الحضرمیّ کان فقیها عفیفا شریفا، ولد سنة عشر و مائة، و کان أوّل الناس إقراء بمصر بحرف نافع قبل الخمسین و مائة، و توفی سنة ثمان و ثمانین و مائة، و ذکر عن أبی قبیل و غیره أن یزید بن أبی حبیب أوّل من نشر العلم بمصر فی الحلال و الحرام، و فی روایة ابن یونس و مسائل الفقه، و کانوا قبل ذلک إنما یتحدّثون فی الفتن و الترغیب. و عن عون بن سلیمان الحضرمیّ قال: کان عمر بن عبد العزیز قد جعل الفتیا بمصر إلی ثلاثة رجال، رجلان من الموالی و رجل من العرب، فأما العربیّ فجعفر بن ربیعة، و أما المولیان فیزید بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 149
أبی حبیب، و عبد اللّه بن أبی جعفر. فکان العرب انکروا ذلک، فقال عمر بن عبد العزیز:
ما ذنبی إن کانت الموالی تسمو بأنفسها صعدا و أنتم لا تسمون. و عن ابن أبی قدید کانت البیعة إذا جاءت للخلیفة أوّل من یبایع عبد اللّه بن أبی جعفر و یزید بن أبی حبیب ثم الناس بعد. و قال أبو سعید بن یونس فی تاریخ مصر عن حیوة بن شریح قال: دخلت علی حسین بن شفی بن مانع الأصبحیّ و هو یقول: فعل اللّه بفلان. فقلت: ما له؟ فقال: عمد إلی کتابین کان شفی سمعهما من عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضی اللّه عنهما، أحدهما قضی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی کذا، و قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم کذا، و الآخر ما یکون من الأحداث إلی یوم القیامة، فأخذهما فرمی بهما بین الخولة و الرباب. قال أبو سعید بن یونس: یعنی بقوله الخولة و الرباب مرکبین کبیرین من سفن الجسر کانا یکونان عند رأس الجسر مما یلی الفسطاط یجوز من تحتهما لکبرهما المراکب. و ذکر أبو عمرو الکندیّ أن أبا سعید عثمان بن عتیق مولی غافق، أوّل من رحل من أهل مصر إلی العراق فی طلب الحدیث، توفی سنة أربع و ثمانین و مائة انتهی. و کان حال أهل الإسلام من أهل مصر و غیرها من الأمصار فی أحکام الشریعة علی ما تقدّم ذکره، ثم کثر الترحل إلی الآفاق و تداخل الناس و التقوا و انتدب أقوام لجمع الحدیث النبویّ و تقییده، فکان أوّل من دوّن العلم محمد بن شهاب الزهریّ، و کان أوّل من صنف و بوّب سعید بن عروبة و الربیع بن صبیح بالبصرة، و معمر بن راشد بالیمن، و ابن جریج بمکة، ثم سفیات الثوریّ بالکوفة، و حماد بن سلمة بالبصرة، و الولید بن مسلم بالشام، و جریر بن عبد الحمید بالریّ، و عبد اللّه بن المبارک بمرو و خراسان، و هشیم بن بشیر بواسط، و تفرّد بالکوفة أبو بکر بن أبی شیبة بتکثیر الأبواب و جودة التصنیف و حسن التألیف، فوصلت أحادیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم من البلاد البعیدة إلی من لم تکن عنده، و قامت الحجة علی من بلغه شی‌ء منها، و جمعت الأحادیث المبینة لصحة أحد التأویلات المتأوّلة من الأحادیث، و عرف الصحیح من السقیم، و زیف الاجتهاد المؤدّی إلی خلاف کلام رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و إلی ترک عمله، و سقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن ببلوغه إلیه، و قیام الحجة علیه، و علی هذا الطریق کان الصحابة رضی اللّه عنهم و کثیر من التابعین یرحلون فی طلب الحدیث الواحدة الأیام الکثیرة، یعرف ذلک من نظر فی کتب الحدیث، و عرف سیر الصحابة و التابعین. فلما قام هارون الرشید فی الخلافة، و ولی القضاء أبا یوسف یعقوب بن إبراهیم أحد أصحاب أبی حنیفة رحمه اللّه تعالی بعد سنة سبعین و مائة، فلم یقلد ببلاد العراق و خراسان و الشام و مصر إلّا من أشار به القاضی أبو یوسف رحمه اللّه، و اعتنی به، و کذلک لما قام بالأندلس الحکم المرتضی بن هشام بن عبد الرحمن بن معاویة بن هشام بن عبد الملک بن مروان بن الحکم بعد أبیه، و تلقب بالمنتصر فی سنة ثمانین و مائة، اختص بیحیی بن یحیی بن کثیر الأندلسیّ، و کان قد حج و سمع الموطأ من مالک إلّا أبوابا، و حمل عن ابن وهب و عن ابن القاسم و غیره علما کثیرا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 150
و عاد إلی الأندلس، فنال من الریاسة و الحرمة ما لم ینله غیره، و عادت الفتیا إلیه و انتهی السلطان و العامّة إلی بابه، فلم یقلد فی سائر أعمال الأندلس قاض إلّا بإشارته و اعتنائه، فصاروا علی رأی مالک بعد ما کانوا علی رأی الأوزاعیّ، و قد کان مذهب الإمام مالک أدخله إلی الأندلس زیاد بن عبد الرحمن الذی یقال له بسطور، قبل یحیی بن یحیی، و هو أوّل من أدخل مذهب مالک الأندلس، و کانت إفریقیة الغالب علیها السنن و الآثار إلی أن قدم عبد اللّه بن فروج أبو محمد الفارسیّ بمذهب أبی حنیفة، ثم غلب أسد بن الفرات بن سنان قاضی افریقیة بمذهب أبی حنیفة، ثم لما ولی سحنون بن سعید التنوخیّ قضاء افریقیة، بعد ذلک نشر فیهم مذهب مالک و صار القضاء فی أصحاب سحنون دولا یتصاولون علی الدنیا تصاول الفحول علی الشول إلی أن تولی القضاء بها بنو هاشم، و کانوا مالکیة، فتوارثوا القضاء کما تتوارث الضیاع.
ثم إن المعز بن بادیس حمل جمیع أهل إفریقیة علی التمسک بمذهب مالک و ترک ما عداه من المذاهب، فرجع أهل إفریقیة و أهل الأندلس کلهم إلی مذهب مالک إلی الیوم، رغبة فیما عند السلطان، و حرصا علی طلب الدنیا، إذ کان القضاء و الافتاء جمیع تلک المدن و سائر القری لا یکون إلّا لمن تسمی بالفقه علی مذهب مالک، فاضطرّت العامّة إلی أحکامهم و فتاواهم، ففشا هذا المذهب هناک فشوّا طبق تلک الأقطار، کما فشا مذهب أبی حنیفة ببلاد المشرق، حیث أن أبا حامد الاسفراینیّ لما تمکن من الدولة فی أیام الخلیفة القادر بالله أبی العباس أحمد، قرّر معه استخلاف أبی العباس أحمد بن محمد البارزیّ الشافعیّ عن أبی محمد بن الأکفانیّ الحنفیّ قاضی بغداد، فأجیب إلیه بغیر رضی الأکفانیّ و کتب أبو حامد إلی السلطان محمود بن سبکتکین و أهل خراسان أن الخلیفة نقل القضاء عن الحنفیة إلی الشافعیة، فاشتهر ذلک بخراسان و صار أهل بغداد حزبین، و قدم بعد ذلک أبو العلاء صاعد بن محمد قاضی نیسابور و رئیس الحنفیة بخراسان، فأتاه الحنفیة فثارت بینهم و بین أصحاب أبی حامد فتنة ارتفع أمرها إلی السلطان، فجمع الخلیفة القادر الأشراف و القضاة و أخرج إلیهم رسالة تتضمن: أن الاسفراینیّ أدخل علی أمیر المؤمنین مداخل أوهمه فیها النصح و الشفقة و الأمانة، و کانت علی أصول الدخل و الخیانة، فلما تبین له أمره و وضح عنده خبث اعتقاده فیما سأل فیه من تقلید البارزیّ الحکم بالحضرة من الفساد و الفتنة و العدول بأمیر المؤمنین عما کان علیه أسلافه من إیثار الحنفیة و تقلیدهم و استعمالهم، صرف البارزیّ و أعاد الأمر إلی حقه و أجراه علی قدیم رسمه، و حمل الحنفیین علی ما کانوا علیه من العنایة و الکرامة و الحرمة و الإعزاز، و تقدّم إلیهم بأن لا یلقوا أبا حامد و لا یقضوا له حقا و لا یردّوا علیه سلاما، و حلع علی أبی محمد الأکفانیّ، و انقطع أبو حامد عن دار الخلافة، و ظهر التسخط علیه و الانحراف عنه و ذلک فی سنة ثلاث و تسعین و ثلاثمائة و اتصل ببلاد الشام و مصر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 151
أوّل من قدم بعلم مالک: إلی مصر عبد الرحیم بن خالد بن یزید بن یحیی مولی جمح، و کان فقیها روی عنه اللیث و ابن وهب و رشید بن سعد، و توفی بالإسکندریة سنة ثلاث و ستین و مائة، ثم نشره بمصر عبد الرحمن بن القاسم، فاشتهر مذهب مالک بمصر أکثر من مذهب أبی حنیفة لتوفر اصحاب مالک بمصر، و لم یکن مذهب أبی حنیفة رحمه اللّه یعرف بمصر. قال ابن یونس: و قدم إسماعیل بن الیسع الکوفیّ قاضیا بعد ابن لهیعة، و کان من خیر قضاتنا، غیر أنه کان یذهب إلی قول أبی حنیفة، و لم یکن أهل مصر یعرفون مذهب أبی حنیفة، و کان مذهبه إبطال الأحباس، فثقل أمره علی أهل مصر و سئموه، و لم یزل مذهب مالک مشتهرا بمصر حتی قدم الشافعیّ محمد بن ادریس إلی مصر مع عبد اللّه بن العباس بن موسی بن عیسی بن موسی بن محمد بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس فی سنة ثمان و تسعین و مائة، فصحبه من أهل مصر جماعة من أعیانها کبنی عبد الحکم و الربیع بن سلیمان و أبی إبراهیم إسماعیل بن یحیی المزنی، و أبی یعقوب یوسف بن یحیی البویطیّ، و کتبوا عن الشافعیّ ما ألفه، و عملوا بما ذهب إلیه، و لم یزل أمر مذهبه یقوی بمصر و ذکره ینتشر.
قال أبو عمرو الکندیّ فی کتاب أمراء مصر: و لم یزل أهل مصر علی الجهر بالبسملة فی الجامع العتیق إلی سنة ثلاث و خمسین و مائتین. قال: و منع أرجون صاحب شرطة مزاحم بن خاقان أمیر مصر من الجهر بالبسملة فی الصلوات بالمسجد الجامع، و أمر الحسین بن الربیع إمام المسجد الجامع بترکها، و ذلک فی رجب سنة ثلاث و ستین و مائتین، و لم یزل أهل مصر علی الجهر بها فی المسجد الجامع منذ الإسلام إلی أن منع منها أرجون.
قال: و أمر أن تصلّی التراویح فی شهر رمضان خمس تراویح، و لم یزل أهل مصر یصلون ست تراویح حتی جعلها أرجون خمسا فی شهر رمضان سنة ثلاث و خمسین و مائتین، و منع من التثویب، و أمر بالأذان یوم الجمعة فی مؤخر المسجد، و أمر بالتغلیس بصلاة الصبح، و ذلک أنهم أسفروا بها، و ما زال مذهب مالک و مذهب الشافعیّ رحمهما اللّه تعالی یعمل بهما أهل مصر، و یولی القضاء من کان یذهب إلیهما أو إلی مذهب أبی حنیفة رحمه اللّه، إلی أن القائد جوهر من بلاد إفریقیة فی سنة ثمان و خمسین و ثلاثمائة بجیوش مولاه المعز لدین اللّه أبی تمیم معدّ و بنی مدینة القاهرة.
فمن حینئذ فشا بدیار مصر مذهب الشیعة و عمل به فی القضاء و الفتیا و أنکر ما خالفه، و لم یبق مذهب سواه، و قد کان التشیع بأرض مصر معروفا قبل ذلک. قال أبو عمرو الکندیّ فی کتاب الموالی عن عبد اللّه بن لهیعة أنه قال: قال یزید بن أبی حبیب: نشأت بمصر و هی علویة، فقلبتها عثمانیة. و کان ابتداء التشیع فی الإسلام أن رجلا من الیهود فی خلافة أمیر المؤمنین عثمان بن عفان رضی اللّه عنه أسلم، فقیل له عبد اللّه بن سبأ، و عرف بابن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 152
السوداء، و صار ینتقل من الحجاز إلی أمصار المسلمین یرید إضلالهم، فلم یطق ذلک فرجع إلی کید الإسلام و أهله، و نزل البصرة فی سنة ثلاث و ثلاثین فجعل یطرح علی أهلها مسائل و لا یصرّح، فأقبل علیه جماعة و مالوا إلیه و أعجبوا بقوله، فبلغ ذلک عبد اللّه بن عامر و هو یومئذ علی البصرة، فأرسل إلیه فلما حضر عنده سأله ما أنت فقال رجل من أهل الکتاب رغبت فی الإسلام و فی جوارک. فقال ما شی‌ء بلغنی عنک، أخرج عنی. فخرج حتی نزل الکوفة، فأخرج منها فسار إلی مصر و استقرّ بها و قال فی الناس العجب ممن یصدّق أن عیسی یرجع و یکذب أن محمدا یرجع، و تحدّث فی الرجعة حتی قبلت منه، فقال بعد ذلک:
أنه کان لکل نبیّ وصیّ، و علیّ بن أبی طالب وصیّ محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، فمن أظلم ممن لم یجز وصیة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی أن علی بن أبی طالب وصیه فی الخلافة علی أمّته، و اعلموا أن عثمان أخذ الخلافة بغیر حق، فانهضوا فی هذا الأمر و ابدؤوا بالطعن علی أمرائکم، فأظهروا الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر تستمیلوا به الناس، و بث دعاته و کاتب من مال إلیه من أهل الأمصار و کاتبوه و دعوا فی السرّ إلی ما علیه رأیهم، و صاروا یکتبون إلی الأمصار کتبا یضعونها فی عیب ولاتهم، فیکتب أهل کل مصر منهم إلی أهل المصر الآخر بما یضعون حتی ملوا بذلک الأرض إذاعة، و جاء إلی أهل المدینة من جمیع الأمصار، فأتوا عثمان رضی اللّه عنه فی سنة خمسة و ثلاثین و أعلموه ما أرسل به أهل الأمصار من شکوی عمالهم، فبعث محمد بن مسلمة إلی الکوفة، و أسامة بن زید إلی البصرة، و عمار بن یاسر إلی مصر، و عبد اللّه بن عمر إلی الشام، لکشف سیر العمال. فرجعوا إلی عثمان إلّا عمارا و قالوا: ما أنکرنا شیئا. و تأخر عمار فورد الخبر إلی المدینة بأنه قد استماله عبد اللّه ابن السوداء فی جماعة، فأمر عثمان عماله أن یوافوه بالموسم، فقدموا علیه و استشاروه، فکلّ أشار برأی، ثم قدم المدینة بعد الموسم فکان بینه و بین علیّ بن أبی طالب کلام فیه بعض الجفاء بسبب إعطائه أقاربه و رفعه لهم علی من سواهم، و کان المنحرفون عن عثمان قد تواعدوا یوما یخرجون فیه بأمصارهم إذ سار عنها الأمراء، فلم یتهیأ لهم الوثوب، و عند ما رجع الأمراء من الموسم تکاتب المخالفون فی القدوم إلی المدینة لینظروا فیما یریدون، و کان أمیر مصر من قبل عثمان رضی اللّه عنه، عبد اللّه بن سعد بن أبی سرح العامریّ، فلما خرج فی شهر رجب من مصر فی سنة خمس و ثلاثین استخلف بعده عقبة بن عامر الجهنیّ فی قول اللیث بن سعد. و قال یزید بن أبی حبیب: بل استخلف علی مصر السائب بن هشام العامریّ و جعل علی الخراج سلیم بن عنز التجیبیّ، فانتزی محمد بن أبی حذیفة بن عتیة بن ربیعة بن عبد شمس بن عبد مناف فی شوّال من السنة المذکورة، و أخرج عقبة بن عامر من الفسطاط، و دعا إلی خلع عثمان رضی اللّه عنه، و اسعر البلاد و حرّض علی عثمان بکلّ شی‌ء یقدر علیه، فکان یکتب الکتب علی لسان أزواج رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و یأخذ الرواحل فیضمرها و یجعل رجالا علی ظهور البیوت و وجوههم إلی وجه الشمس لتلوح وجوههم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 153
تلویح المسافر، ثم یأمرهم أن یخرجوا إلی طریق المدینة بمصر، ثم یرسلون رسلا یخبرون بهم الناس لیلقوهم، و قد أمرهم إذا لقیهم الناس أن یقولوا لیس عندنا خبر الخبر فی الکتب، فیجی‌ء رسول أولئک الذین دس فیذکر مکانهم فیتلقاهم ابن أبی حذیفة و الناس یقولون:
نتلقی رسل أزواج رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، فإذا لقوهم قالوا لهم ما الخبر؟ قالوا: لا خبر عندنا، علیکم بالمسجد لیقرأ علیکم کتاب أزواج النبی صلّی اللّه علیه و سلّم، فیجتمع الناس فی المسجد اجتماعا لیس فیه تقصیر، ثم یقوم القارئ بالکتاب فیقول: إنا نشکو إلی اللّه و إلیکم ما عمل فی الإسلام و ما صنع فی الإسلام، فیقوم أولئک الشیوخ من نواحی المسجد بالبکاء فیبکون، ثم ینزل عن المنبر و یتفرّق الناس بما قری‌ء علیهم.
فلما رأت ذلک شیعة عثمان رضی اللّه عنه اعتزلوا محمد بن أبی حذیقة و نابذوه، و هم معاویة بن خدیج، و خارجة بن حذاقة، و بسر بن أرطاة، و مسلمة بن مخلد، و عمرو بن قحزم الخولانیّ، و مقسم بن بجرة، و حمزة بن سرح بن کلال، و أبو الکنود سعد بن مالک الأزدیّ، و خالد بن ثابت الفهمیّ، فی جمع کثیر و بعثوا سلمة بن مخزمة التجیبیّ إلی عثمان لیخبره بأمرهم و بصنیع ابن أبی حذیفة، فبعث عثمان رضی اللّه عنه سعد بن أبی وقاص لیصلح أمرهم، فبلغ ذلک ابن أبی حذیفة فخطب الناس و قال: ألا إن الکذا و الکذا قد بعث إلیکم سعد بن مالک لیقلّ جماعتکم و یشتت کلمتکم و یوقع التجادل بینکم، فانفروا إلیه، فخرج منهم مائة أو نحوها، و قد ضرب فسطاطه و هو قائل:
فقلبوا علیه فسطاطه و شجوه و سبوه، فرکب راحلته و عاد راجعا من حیث جاء. و قال:
ضربکم اللّه بالذلّ و الفرقة، و شتت أمرکم، و جعل بأسکم بینکم، و لا أرضاکم بأمیر، و لا أرضاه عنکم. و أقبل عبد اللّه بن سعد حتی بلغ جسر القلزم، فإذا بخیل لابن أبی حذیفة، فمنعوه أن یدخل فقال: ویلکم دعونی أدخل علی جندی فأعلمهم بما جئت به، فإنی قد جئتهم بخیر. فأبوا أن یدعوه فقال: و اللّه لوددت أنی دخلت علیهم و أعلمتهم بما جئت به ثم مت، فانصرف إلی عسقلان. و أجمع محمد بن أبی حذیفة علی بعث جیش إلی أمیر المؤمنین عثمان بن عفان رضی اللّه عنه فقال: من یتشرّط فی هذا البعث؟ فکثر علیه من یشترط. فقال: إنما یکفینا منکم ستمائة رجل، فشرّط من أهل مصر ستمائة رجل علی کل مائة منهم رئیس و علی جماعتهم عبد الرحمن بن عدیس البلویّ، و هم کنانة بن بشر بن سلیمان التجیبیّ، و عروة بن سلیم اللیثیّ، و أبو عمرو بن بدیل بن ورقاء الخزاعیّ، و سودان بن ریان الأصبحیّ، و ذرع بن یشکر النافعیّ، و سجن رجال من أهل مصر فی دورهم منهم: فلما بلغ ذلک کنانة بن بشر و کان رأس الشیعة الأولی، دفع عن معاویة ما کره، ثم قتل عثمان رضی اللّه عنه فی ذی الحجة سنة خمس و ثلاثین، فدخل الرکب إلی مصر و هم یرتجزون:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 154 خذها إلیک و أحذرنّ أبا الحسن‌إنا نمرّ الحرب إمرار الوسن
بالسیف کی تخمد نیران الفتن فلما دخلوا المسجد صاحوا إنا لسنا قتلة عثمان و لکن اللّه قتله. فلما رأی ذلک شیعة عثمان قاموا و عقدوا لمعاویة بن خدیج علیهم و بایعوه علی الطلب بدم عثمان، فسار بهم معاویة إلی الصعید، فبعث إلیهم ابن أبی حذیفة فالتقوا بدقناس من کورة البهنسا فهزم أصحاب ابن أبی حذیفة، و مضی معاویة حتی بلغ برقة، ثم رجع إلی الاسکندریة فبعث ابن أبی حذیفة بحیش آخر علیهم قیس بن حرمل فاقتتلوا بخربتا أوّل شهر رمضان سنة ست و ثلاثین، فقتل قیس و سار معاویة بن أبی سفیان إلی مصر، فنزل سلمنت من کورة عین شمس فی شوّال، فخرج إلیه ابن أبی حذیفة فی أهل مصر، فمنعوه أن یدخلها، فبعث إلیه معاویة إنّا لا نرید قتال أحد إنما جئنا نسأل القود لعثمان، ادفعوا إلینا قاتلیه عبد الرحمن بن عدیس و کنانة بن بشر، و هما رأس القوم، فامتنع ابن أبی حذیفة و قال لو طلبت منا جدیا أرطب السرة بعثمان ما دفعناه إلیک. فقال معاویة بن أبی سفیان لابن أبی حذیفة: اجعل بیننا و بینکم رهنا، فلا یکون بیننا و بینکم حرب. فقال ابن أبی حذیفة: فإنی أرضی بذلک، فاستخلف ابن أبی حذیفة علی مصر الحکم بن الصلت بن مخرمة و خرج فی الرهن، هو و ابن عیسی. و کنانة بن بشر و أبو شمر بن أبرهة و غیرهم من قتلة عثمان، فلما بلغوا لدّ سجنهم بها معاویة و سار إلی دمشق، فهربوا من السجن، غیر أبی شمر بن أبرهة فإنه قال:
لا أدخله أسیرا و أخرج منه آبقا، و تبعهم صاحب فلسطین فقتلهم، و اتبع عبد الرحمن بن عدیس رجل من الفرس فقال له عبد الرحمن بن عدیس: اتق اللّه فی دمی فإنی بایعت النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم تحت الشجرة، فقال له: الشجر فی الصحراء کثیر فقتله.
و قال محمد بن أبی حذیفة فی اللیلة التی قتل فی صباحها عثمان: فإن یکن القصاص لعثمان فسنقتل من الغد، فقتل من الغد، و کان قتل ابن أبی حذیفة و عبد الرحمن بن عدیس و کنانة بن بشر و من کان معهم من الرهن فی ذی الحجة سنة ست و ثلاثین. فلما بلغ علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه مصاب بن أبی حذیفة، بعث قیس بن سعد بن عبادة الأنصاریّ علی مصر و جمع له الخراج و الصلاة، فدخلها مستهلّ شهر ربیع الأوّل سنة سبع و ثلاثین، و استمال الخارجیة بخربتا و دفع إلیهم أعطیاتهم، و وفد علیه وفدهم فأکرمهم و أحسن إلیهم، و مصر یومئذ من جیش علیّ رضی اللّه عنه إلّا أهل خربتا الخارجین بها. فلما ولی علی رضی اللّه عنه قیس بن سعد، و کان من ذوی الرأی، جهد معاویة بن أبی سفیان و عمرو بن العاص علی أن یخرجاه من مصر لیغلبا علی أمرها، فامتنع علیهما بالدهاء و المکایدة، فلم یقدرا علی أن یلجأ مصر حتی کان معاویة قیسا من قبل علیّ رضی اللّه عنه، فکان معاویة یحدّث رجالا من ذوی رأی قریش فیقول: ما ابتدعت من مکایدة قط أعجب إلیّ من مکایدة کدت بها قیس بن سعد حین امتنع منی، قلت لأهل الشام لا تسبوا قیسا و لا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 155
تدعوا إلی غزوة، فإن قیسا لنا شیعة تأتینا کتبه و نصیحته سرّا، ألا ترون ما ذا یفعل بإخوانکم النازلین عنده بخربتا یجری علیهم أعطیاتهم و أرزاقهم و یؤمّن سربهم و یحسن إلی کل راکب یأتیه منهم. قال معاویة: و طفقت أکتب بذلک إلی شیعتی من أهل العراق، فسمع بذلک جواسیس علیّ بالعراق فأنهاه إلیه محمد بن أبی بکر، و عبد اللّه بن جعفر، فاتّهم قیسا فکتب إلیه یأمره بقتال أهل خربتا، و بخربتا یومئذ عشرة آلاف، فأبی قیس أن یقاتلهم و کتب إلی علیّ رضی اللّه عنه أنهم وجوه أهل مصر و أشرافهم، و أهل الحفاظ منهم، و قد رضوا منی بأن أو من سربهم و اجری علیهم أعطیاتهم و أرزاقهم، و قد علمت أن هواهم مع معاویة، فلست بکائدهم بأمر أهون علیّ و علیک من الذی أفعل بهم، و هم أسود العرب، منهم بسر بن أرطاة، و سلمة بن مخلد، و معاویة بن خدیج. فأبی علیه إلّا قتالهم، فأبی قیس أن یقاتلهم. و کتب إلی علیّ رضی اللّه عنه، إن کنت تهتمنی فاعزلنی و ابعث غیری. و کتب معاویة رضی اللّه عنه إلی بعض بنی أمیة بالمدینة: أن جری اللّه قیس بن سعد خیرا فإنه قد کف عن إخواننا من أهل مصر الذین قاتلوا فی دم عثمان، و اکتموا ذلک فإننی أخاف أن یعزله علی إن بلغه ما بینه و بین شیعتنا، حتی بلغ علیا رضی اللّه عنه ذلک فقال: من معه من رؤساء أهل العراق و أهل المدینة بدّل قیس و تحوّل. فقال علیّ ویحکم إنه لم یفعل فدعونی. قالوا:
لتعزلنه، فإنه قد بدّل. فلم یزالوا به حتی کتب إلیه إنی قد احتجت إلی قربک، فاستخلف علی عملک و اقدم. فلما قرأ الکتاب قال: هذا من مکر معاویة، و لو لا الکذب لمکرت به مکرا یدخل علیه بیته، فولیها قیس بن سعد إلی أن عزل عنها أربعة أشهر و خمسة أیام، و صرف لخمس خلون من رجب سنة سبع و ثلاثین، ثم ولیها الاشتر مالک بن الحارث بن عبد یغوث النخعیّ من قبل أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، و ذلک أن عبد اللّه بن جعفر کان إذا أراد أن لا یمنعه علیّ شیئا قال له بحق جعفر. فقال له أسألک بحق جعفر الا بعثت الاشتر إلی مصر، فإن ظهرت فهو الذی تحب و إلّا استرحت منه. و یقال:
کان الأشتر قد ثقل علی علیّ رضی اللّه عنه و أبغضه و قلاه فولاه و بعثه، فلما قدم مصر لقی بما یلقی العمال به هناک، فشرب شربة عسل فمات. فلما أخبر علیّ بذلک قال للیدین و للفم، و سمع عمرو بن العاص بموت الأشتر فقال: إن للّه جنودا من عسل. أو قال إنّ للّه جنودا من العسل.
ثم ولیها محمد بن أبی بکر الصدّیق من قبل علیّ رضی اللّه عنهم، و جمع له صلاتها و خراجها، فدخلها للنصف من شهر رمضان سنة سبع و ثلاثین، فلقیه قیس بن سعد فقال له:
إنه لا یمنعنی نصحی لک عزله إیایّ، و لقد عزلنی عن غیر وهن و لا عجز، فاحفظ ما أوصیک به. یدم صلاح حالک: دع معاویة بن خدیج و مسلمة بن مخلد و بسر بن أرطاة و من ضوی إلیهم علی ما هم علیه، لا تکفهم عن رأیهم، فإن أتوک و لم یفعلوا فاقبلهم، و إن تخلفوا عنک فلا تطلبهم، و انظر هذا الحیّ من مضر، فأنت أولی بهم منی، فألن لهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 156
جناحک و قرّب علیهم مکانک و ارفع عنهم حجابک، و انظر هذا الحیّ من مدلج، فدعهم و ما غلبوا علیه یکفوا عنک شأنهم، و أنزل الناس من بعد علی قدر منازلهم، فإن استطعت أن تعود المرضی و تشهد الجنائز فافعل، فإنّ هذا لا ینقصک و لن تفعل، إنک و اللّه ما علمت لتظهر الخیلاء و تحب الریاسة و تسارع إلی ما هو ساقط عنک، و اللّه موفقک. فعمل محمد بخلاف ما أوصاه به قیس، فبعث إلی ابن خدیج و الخارجة معه یدعوهم إلی بیعته، فلم یجیبوه. فبعث إلی دور الخارجة فهدمها و نهب أموالهم و سجن ذراریهم فنصبوا له الحرب و هموا بالنهوض إلیه. فلما علم أنه لا قوّة له بهم أمسک عنهم ثم صالحهم علی أن یسیرهم إلی معاویة، و أن ینصب لهم جسر انتقیوس یجوزون علیه و لا یدخلون الفسطاط، ففعلوا و لحقوا بمعاویة.
فلما أجمع علیّ رضی اللّه عنه و معاویة علی الحکمین أغفل علیّ أن یشترط علی معاویة أن لا یقاتل أهل مصر. فلما انصرف علیّ إلی العراق بعث معاویة رضی اللّه عنه عمرو بن العاص رضی اللّه عنه فی جیوش أهل الشام إلی مصر، فاقتتلوا قتالا شدیدا انهزم فیه أهل مصر، و دخل عمرو بأهل الشام الفسطاط، و تغیب محمد بن أبی بکر، فأقبل معاویة بن خدیج فی رهط ممن یعینه علی من کان یمشی فی قتل عثمان، و طلب ابن أبی بکر فدلتهم علیه امرأة. فقال: احفظونی فی أبی بکر، فقال معاویة بن خدیج: قتلت ثمانین رجلا من قومی فی عثمان، و أترکک و أنت صاحبه؟ فقتله ثم جعله فی جیفة حمار میت، فأحرقه بالنار، فکانت ولایة محمد بن أبی بکر خمسة أشهر، و مقتله لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمان و ثلاثین. ثم ولی عمرو بن العاص مصر من بعده، فاستقبل بولایته هذه الثانیة شهر ربیع الأوّل، و جعل إلیه الصلاة و الخراج، و کانت مصر قد جعلها معاویة له طعمة بعد عطاء جندها و النفقة علی مصلحتها، ثم خرج إلی الحکومة و استخلف علی مصر ابنه عبد اللّه بن عمرو، و قتل خارجة بن حذافة و رجع عمرو إلی مصر فأقام بها، و تعاقد بنو ملجم عبد الرحمن و قیس و یزید علی قتل علیّ رضی اللّه عنه و عمرو و معاویة رضی اللّه عنهما، و تواعدوا علی لیلة من رمضان سنة أربعین، فمضی کل منهم إلی صاحبه، فلما قتل علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه و استقرّ الأمر لمعاویة کانت مصر جندها و أهل شوکتها عثمانیة، و کثیر من أهلها علویة. فلما مات معاویة و مات ابنه یزید بن معاویة کان علی مصر سعید بن یزید الأزدیّ علی صلاتها، فلم یزل أهل مصر علی الشنان له، و الإعراض عنه، و التکبر علیه، منذ ولاه یزید بن معاویة حتی مات یزید فی سنة أربع و ستین. و دعا عبد اللّه بن الزبیر إلی نفسه، فقامت الخوارج بمصر فی أمره، و أظهروا دعوته کانوا یحسبونه علی مذهبهم، و أوفدوا منهم وفدا إلیه، فسار منهم نحو الألفین من مصر و سألوه أن یبعث إلیهم بأمیر یقومون معه و یوازرونه، و کان کریب بن أبرهة الصباح و غیره من أشراف مصر یقولون: ما ذا نری من العجب أن هذه الطائفة المکتتمة تأمر فینا و تنهی و نحن لا نستطیع أن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 157
نردّ أمرهم، و لحق بابن الزبیر ناس کثیر من أهل مصر، و کان أوّل من قدم مصر برأی الخوارج حجر بن الحارث بن قیس المذحجیّ، و قیل حجر بن عمرو، و یکنی بأبی الورد، و شهد مع علیّ صفین، ثم صار من الخوارج و حضر مع الحروریة النهروان، فخرج و صار إلی مصر برأی الخوارج و أقام بها حتی خرج منها إلی ابن الزبیر فی إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاریّ علی مصر. فلما مات یزید بن معاویة و بویع ابن الزبیر بعده بالخلافة، بعث إلی مصر بعبد الرحمن بن جحدم الفهریّ، فقدمها فی طائفة من الخوارج فوثبوا علی سعید بن یزید فاعتزلهم، و استمرّ ابن جحدم، و کثرت الخوارج بمصر منها و ممن قدم من مکة، فأظهروا فی مصر التحکیم و دعوا إلیه، فاستعظم الجند ذلک و بایعه الناس علی غلّ فی قلوب ناس من شیعة بنی أمیة، منهم کریب بن أبرهة، و مقسم بن بجرة، و زیاد بن حناطة التجیبیّ، و عابس بن سعید و غیرهم، فصار أهل مصر حینئذ ثلاث طوائف، علویة و عثمانیة و خوارج. فلما بویع مروان بن الحکم بالشام فی ذی القعدة سنة أربع و ستین کانت شیعته من أهل مصر مع ابن جحدم، فکاتبوه سرّا حتی أتی مصر فی أشراف کثیرة، و بعث ابنه عبد العزیز بن مروان فی جیش إلی إیلة لیدخل من هناک مصر، و أجمع ابن جحدم علی حربه و منعه، فحفر الخندق فی شهر، و هو الخندق الذی بالقرافة، و بعث بمراکب فی البحر لیخالف إلی عیالات أهل الشام، و قطع بعثا فی البرّ و جهز جیشا آخر إلی إیلة لمنع عبد العزیز من المسیر منها، فغرقت المراکب و نجا بعضها و انهزمت الجیوش و نزل مروان عین شمس، فخرج إلیه ابن جحدم فی أهل مصر، فتحاربوا و استجرّ القتل فقتل من الفریقین خلق کثیر، ثم إن کریب بن أبرهة و عابس بن سعید و زیاد بن حناطة و عبد الرحمن بن موهب المغافریّ دخلوا فی الصلح بین أهل مصر و بین مروان، فتم و دخل مروان إلی الفسطاط لغرّة جمادی الأولی سنة خمس و ستین، فکانت ولایة ابن جحدم تسعة أشهر، و وضع العطاء فبایعه الناس إلّا نفرا من المغافر قالوا لا نخلع بیعة ابن الزبیر، فقتل منهم ثمانین رجلا، قدّمهم رجلا رجلا فضرب أعناقهم و هم یقولون إنا قد بایعنا ابن الزبیر طائعین، فلم نکن لننکث بیعته، و ضرب عنق الأکدر بن حمام بن عامر سید لخم و شیخها، و حضر هو و أبوه فتح مصر، و کانا ممن ثار إلی عثمان رضی اللّه عنه، فتنادی الجند قتل الأکدر، فلم یبق أحد حتی لبس سلاحه، فحضر باب مروان منهم زیادة علی ثلاثین ألفا، و خشی مروان و أغلق بابه حتی أتاه کریب بن أبرهة و ألقی علیه رداءه و قال للجند: انصرفوا أنا له جار، فما عطف أحد منهم و انصرفوا إلی منازلهم، و کان للنصف من جمادی الآخرة، و یومئذ مات عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فلم یستطع أحد أن یخرج بجنازته إلی المقبرة لشغب الجند علی مروان، و من حینئذ غلبت العثمانیة علی مصر فتظاهروا فیها بسب علیّ رضی اللّه عنه، و انکفت السنة العلویة و الخوارج.
فلما کانت ولایة قرّة بن شریک العبسیّ علی مصر من قبل الولید بن عبد الملک فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 158
سنة تسعین، خرج إلی الإسکندریة فی سنة إحدی و تسعین، فتعاقدت السراة من الخوارج بالإسکندریة علی الفتک به، و کانت عدّتهم نحوا من مائة، فعقدوا لرئیسهم المهاجر بن أبی المثنی التجیبیّ، أحد بنی فهم علیهم عند منارة الإسکندریة و بالقرب منهم رجل یکنی أبا سلیمان، فبلغ قرّة ما عزموا علیه، فأتی لهم قبل أن یتفرّقوا فأمر بحبسهم فی أصل منارة الإسکندریة، و أحضر قرّة وجوه الجند فسألهم فأقرّوا فقتلهم، و مضی رجل ممن کان یری رأیهم إلی أبی سلیمان فقتله، فکان یزید بن أبی حبیب إذا أراد أن یتکلم بشی‌ء فیه تقیة من السلطان تلفت و قال: احذروا أبا سلیمان، ثم قال الناس کلهم من ذلک الیوم أبو سلیمان. فلما قام عبد اللّه بن یحیی الملقب بطالب الحق فی الحجاز علی مروان بن محمد الجعدیّ، قدم إلی مصر داعیته و دعا الناس فبایع له ناس من تجیب و غیرهم، فبلغ ذلک حسان بن عتاهیة صاحب الشرطة فاستخرجهم، فقتلهم حوثرة بن سهیل الباهلیّ أمیر مصر من قبل مروان بن محمد، فلما قتل مروان و انقضت أیام بنی أمیة ببنی العباس فی سنة ثلاث و ثلاثین و مائة، خمدت جمرة أصحاب المذهب المروانیّ و هم الذین کانوا یسبون علیّ بن أبی طالب و یتبرّؤون منه، و صاروا منذ ظهر بنو العباس یخافون القتل و یخشون أن یطلع علیهم أحد إلّا طائفة کانت بناحیة الواحات و غیرها، فإنهم أقاموا علی مذهب المروانیة دهرا حتی فنوا، و لم یبق لهم الآن بدیار مصر وجود البتة.
فلما کان فی إمارة حمید بن قحطبة علی مصر من قبل أبی جعفر المنصور، قدم إلی مصر علیّ بن محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب داعیة لأبیه و عمه، فذکر ذلک لحمید فقال: هذا کذب، و دسّ إلیه أن تغیّب، ثم بعث إلیه من الغد فلم یجده، فکتب بذلک إلی أبی جعفر المنصور فعزل حمیدا و سخط علیه فی ذی القعدة سنة أربع و أربعین و مائة، و ولی یزید بن حاتم بن قبیصة بن المهلب بن أبی صفرة، فظهرت دعوة بنی حسن بن علیّ بمصر، و تکلم الناس بها و بایع کثیر منهم لعلیّ بن محمد بن عبد اللّه، و هو أوّل علویّ قدم مصر، و قام بأمر دعوته خالد بن سعید بن ربیعة بن حبیش الصدفیّ، و کان جدّه ربیعة بن حبیش من خاصة علیّ بن أبی طالب و شیعته، و حضر الدار فی قتل عثمان رضی اللّه عنه، فاستشار خالد أصحابه الذین بایعوا له، فأشار علیهم بعضهم أن یبیت یزید بن حاتم فی العسکر، و کان الأمراء قد صاروا منذ قدمت عساکر بنی العباس ینزلون فی العسکر الذی بنی خارج الفسطاط من شمالیه، کما ذکر فی موضعه من هذا الکتاب، و أشار علیه آخرون أن لا یحوز بیت المال، و أن یکون خروجهم فی الجامع، فکره خالد أن یبیت یزید بن حاتم، و خشی علی الیمانیة، و خرج منهم رجل قد شهد أمرهم حتی أتی إلی عبد اللّه بن عبد الرحمن بن معاویة بن خدیج و هو یومئذ علی الفسطاط، فخبّره أنهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 159
اللیلة یخرجون، فمضی عبد اللّه إلی یزید بن حاتم و هو بالعسکر، فکان من أمرهم ما کان لعشر من شوّال سنة خمس و أربعین و مائة، فانهزموا. ثم قدمت الخطباء برأس إبراهیم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسین فی ذی الحجة من السنة المذکورة إلی مصر و نصبوه فی المسجد الجامع، و قامت الخطباء فذکروا أمره، و حمل علیّ بن محمد إلی أبی جعفر المنصور و قیل إنه اختفی عند عسامة بن عمرو بقریة طره، فمرض بها و مات فقبر هناک، و حمل عسامة إلی العراق فحبس إلی أن ردّه المهدیّ محمد بن أبی جعفر إلی مصر، و ما زالت شیعة علیّ بمصر إلی أن ورد کتاب المتوکل علی اللّه إلی مصر یأمر فیه بإخراج آل أبی طالب من مصر إلی العراق، فأخرجهم إسحاق بن یحیی الختلیّ أمیر مصر و فرّق فیهم الأموال لیتجملوا بها، و أعطی کل رجل ثلاثین دینارا، و المرأة خمسة عشر دینارا، فخرجوا لعشر خلون من رجب سنة ست و ثلاثین و مائتین، و قدموا العراق فأخرجوا إلی المدینة فی شوّال منها، و استتر من کان بمصر علی رأی العلویة، حتی أن یزید بن عبد اللّه أمیر مصر ضرب رجلا من الجند فی شی‌ء وجب علیه فأقسم علیه بحق الحسن و الحسین إلا عفا عنه، فزاده ثلاثین درة، و رفع ذلک صاحب البرید إلی المتوکل، فورد الکتاب علی یزید بضرب ذلک الجندیّ مائة سوط، فضربها و حمل بعد ذلک إلی العراق فی شوّال سنة ثلاث و أربعین و مائتین، و تتبع یزید الروافض فحملهم إلی العراق، و دل فی شعبان علی رجل یقال له محمد بن علیّ بن الحسن بن علیّ بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب، أنه بویع له، فأحرق الموضع الذی کان به و أخذه فأقرّ علی جمع من الناس بایعوه، فضرب بعضهم بالسیاط، و أخرج العلوی هو و جمع من آل أبی طالب إلی العراق فی شهر رمضان.
و مات المتوکل فی شوّال، فقام من بعده ابنه محمد المستنصر، فورد کتابه إلی مصر بأن لا یقبل علویّ ضیعة، و لا یرکب فرسا، و لا یسافر من الفسطاط إلی طرف من أطرافها، و أن یمنعوا من اتخاذ العبید إلّا العبد الواحد، و من کان بینه و بین أحد من الطالبیین خصومة من سائر الناس قبل قول خصمه فیه و لم یطالب ببینة، و کتب إلی العمال بذلک، و مات المستنصر فی ربیع الآخر، و قام المستعین، فأخرج یزید ستة رجال من الطالبیین إلی العراق فی رمضان سنة خمسین و مائتین، ثم أخرج ثمانیة منهم فی رجب سنة إحدی و خمسین، و خرج جابر بن الولید المدلجیّ بأرض الإسکندریة فی ربیع الآخر سنة اثنتین و خمسین، و اجتمع إلیه کثیر من بنی مدلج فبعث إلیه محمد بن عبید اللّه بن یزید بجیش من الإسکندریة فهزمهم و ظفر بما معهم، و قوی أمره و أتاه الناس من کلّ ناحیة، و ضوی إلیه کل من یومی إلیه بشدّة و نجدة، فکان ممن أتاه عبد اللّه المریسیّ و کان لصا خبیثا، و لحق به جریج النصرانیّ و کان من شرار النصاری. و أولی بأسهم، و لحق به أبو حرملة فرج النوبیّ و کان فاتکا فعقد له جابر علی سنهور و سخا و شرقیون و بنا، فمضی أبو حرملة فی جیش عظیم، فأخرج العمال و جبی الخراج و لحق به عبد اللّه بن أحمد بن محمد بن إسماعیل بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 160
محمد بن عبد اللّه بن علیّ بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب الذی یقال له ابن الأرقط، فقوّده أبو حرملة و ضم إلیه الأعراب و ولاه بنا و بوصیر و سمنود، فبعث یزید أمیر مصر بجمع من الأتراک فی جمادی الآخرة فقاتلهم ابن الأرقط و قتل منهم، ثم ثبتوا له فانهزم و قتل من أصحابه کثیر و أسر منهم کثیر، و لحق ابن الأرقط بأبی حرملة فی شرقیون فصار إلی عسکر یزید فانهزم أبو حرملة. و قدم مزاحم بن خاقان من العراق فی جیش، فحارب أبا حرملة حتی أسر فی رمضان، و استأمن ابن الأرقط، فأخذ و أخرج إلی العراق فی ربیع الأوّل سنة ثلاث و خمسین و مائتین ففرّ منهم، ثم ظفر به و حبس، ثم حمل إلی العراق فی صفر سنة خمس و خمسین و مائتین بکتاب ورد علی أحمد بن طولون، و مات أبو حرملة فی السجن لأربع بقین من ربیع الآخر سنة ثلاث و خمسین، و أخذ جابر بعد حروب و حمل إلی العراق فی رجب سنة أربع و خمسین، و خرج فی إمرة أرجون الترکیّ رجل من العلویین یقال له بغا الأکبر، و هو أحمد بن إبراهیم بن عبد اللّه بن طباطبا بن إسماعیل بن إبراهیم بن حسن بن حسین بن علیّ بالصعید، فحاربه أصحاب أرجون و فرّ منهم فمات، ثم خرج بغا الأصغر و هو أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن طباطبا فیما بین الإسکندریة و برقة فی جمادی الأولی سنة خمس و خمسین و مائتین، و الأمیر یومئذ أحمد بن طولون، و سار فی جمع إلی الصعید فقتل فی الحرب و أتی برأسه إلی الفسطاط فی شعبان و خرج ابن الصوفیّ العلویّ بالصعید و هو إبراهیم بن محمد بن یحیی بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن علیّ بن أبی طالب، و دخل اسنا فی ذی القعدة سنة خمس و خمسین، و نهبها و قتل أهلها، فبعث إلیه ابن طولون بجیش فحاربوه فهزمهم فی ربیع الأوّل سنة ست و خمسین بهو، فبعث ابن طولون إلیه بجیش آخر فالتقیا بأخمیم فی ربیع الآخر فانهزم ابن الصوفیّ و ترک جمیع ما معه و قتلت رجالته، فأقام ابن الصوفیّ بالواح سنتین ثم خرج إلی الأشمونین فی المحرّم سنة تسع و خمسین و سار إلی أسوان لمحاربة أبی عبد الرحمن العمریّ، فظفر به العمریّ و بجمیع جیشه و قتل منهم مقتلة عظیمة، و لحق ابن الصوفیّ بأسوان فقطع لأهلها ثلاثمائة ألف نخلة، فبعث إلیه ابن طولون بعثا فاضطرب أمره مع أصحابه فترکهم و مضی إلی عیذاب، فرکب البحر إلی مکة فقبض علیه بها و حمل إلی ابن طولون فسجنه ثم أطلقه فصار إلی المدینة و مات بها.
و فی إمارة هارون بن خمارویه بن أحمد بن طولون أنکر رجل من أهل مصر أن یکون أحد خیّرا من أهل البیت، فوثبت إلیه العامّة فضرب بالسیاط یوم الجمعة فی جمادی الأولی سنة خمس و ثمانین و مائتین. و فی إمارة ذکا الأعور علی مصر کتب علی أبواب الجامع العتیق ذکر الصحابة و القرآن فرضیه جمع من الناس و کرهه آخرون، فاجتمع الناس فی رمضان سنة خمس و ثلاثمائة إلی دار ذکا یتشکرونه علی ما أذن لهم فیه، فوثب الجند بالناس فنهب قوم و جرح آخرون و محی ما کتب علی أبواب الجامع، و نهب الناس فی المسجد و الأسواق، و أفطر الجند یومئذ و ما زال أمر الشیعة یقوی بمصر إلی أن دخلت سنة خمسین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 161
و ثلاثمائة، ففی یوم عاشوراء کانت منازعة بین الجند و بین جماعة من الرعیة عند قبر کلثوم العلویة بسبب ذکر السلف و النوح، قتل فیها جماعة من الفریقین، و تعصب السودان علی الرعیة، فکانوا إذا لقوا أحدا قالوا له: من خالک؟ فإن لم یقل معاویة و إلّا بطشوا به و شلحوه، ثم کثر القول معاویة خال علیّ، و کان علی باب الجامع العتیق شیخان من العامّة ینادیان فی کل یوم جمعة فی وجوه الناس من الخاص و العام، معاویة خالی و خال المؤمنین، و کاتب الوحی، و ردیف رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و کان هذا أحسن ما یقولونه، و إلّا فقد کانوا یقولون معاویة خال علیّ من هاهنا، و یشیرون إلی أن أصل الإذن، و یلقون أبا جعفر مسلما الحسینیّ فیقولون له ذلک فی وجهه، و کان بمصر أسود یصیح دائما معاویة خال علیّ، فقتل بتنیس أیام القائد جوهر.
و لما ورد الخبر بقیام بنی حسن بمکة و محاربتهم الحاج و نهبهم، خرج خلق من المصریین فی شوّال فلقوا کافور الإخشیدیّ بالمیدان ظاهر مدینة مصر و ضجوا و صاحوا معاویة خال علیّ، و سألوه أن یبعث لنصرة الحاج علی الطالبیین. و فی شهر رمضان سنة ثلاث و خمسین و ثلاثمائة أخذ رجل یعرف بابن أبی اللیث الملطیّ ینسب إلی التشیع فضرب مائتی سوط و درة، ثم ضرب فی شوّال خمسمائة سوط و درة، و جعل فی عنقه غل و حبس و کان یتفقد فی کلّ یوم لئلا یخفف عنه و یبصق فی وجهه، فمات فی محبسه فحمل لیلا و دفن، فمضت جماعة إلی قبره لینبشوه و بلغوا إلی القبر فمنعهم جماعة من الإخشیدیة و الکافوریة، فأبوا و قالوا هذا قبر رافضیّ، فثارت فتنة و ضرب جماعة و نهبوا کثیرا حتی تفرّق الناس.
و فی سنة ست و خمسین کتب فی صفر علی المساجد ذکر الصحابة و التفضیل، فأمر الأستاذ کافور الإخشیدیّ بإزالته، فحدّثه جماعة فی إعادة ذکر الصحابة علی المساجد فقال:
ما أحدث فی أیامی ما لم یکن و ما کان فی أیام غیری فلا أزیله، و ما کتب فی أیامی أزیله، ثم أمر من طاف و أزاله من المساجد کلها. و لما دخل جوهر القائد بعساکر المعز لدین اللّه إلی مصر و بنی القاهرة أظهر مذهب الشیعة و أذن فی جمیع المساجد الجامعة و غیرها حیّ علی خیر العمل، و أعلن بتفضیل علیّ بن أبی طالب علی غیره، و جهر بالصلاة علیه و علی الحسن و الحسین و فاطمة الزهراء رضوان اللّه علیهم، فشکا إلیه جماعة من أهل المسجد الجامع أمر عجوز عمیاء تنشد فی الطریق، فأمر بها فحبست فسرّ الرعیة بذلک و نادوا بذکر الصحابة و نادوا معاویة خال علیّ و خال المؤمنین، فأرسل جوهر حین بلغه ذلک رجلا إلی الجامع فنادی: أیها الناس أقلوا القول و دعوا الفضول، فإنما حبسنا العجوز صیانة لها، فلا ینطقن أحد إلّا حلّت به العقوبة الموجعة، ثم أطلق العجوز.
و فی ربیع الأوّل سنة اثنتین و ستین عزر سلیمان بن عروة المحتسب جماعة من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 162
الصیارفة فشغبوا و صاحوا معاویة خال علیّ بن أبی طالب، فهمّ جوهر أن یحرق رحبة الصیارفة، لکن خشی علی الجامع، و أمر الإمام بجامع مصر أن یجهر بالبسملة فی الصلاة و کانوا لا یفعلون ذلک، و زید فی صلاة الجمعة القنوت فی الرکعة الثانیة، و أمر فی المواریث بالردّ علی ذوی الأرحام، و أن لا یرث مع البنت أخ و لا أخت و لا عم و لا جدّ و لا ابن أخ و لا ابن عم، و لا یرث مع الولد الذکر أو الأنثی إلّا الزوج أو الزوجة و الأبوان و الجدّة، و لا یرث مع الأمّ إلّا من یرث مع الولد، و خاطب أبو الطاهر محمد بن أحمد قاضی مصر القائد جوهرا فی بنت و أخ، و أنه کان حکم قدیما للبنت بالنصف و للأخ بالباقی، فقال لا أفعل فلما ألح علیه قال: یا قاضی هذا عداوة لفاطمة علیها السلام، فأمسک أبو الطاهر و لم یراجعه بعد فی ذلک، و صار صوم شهر رمضان و الفطر علی حساب لهم، فأشار الشهود علی القاضی أبی الطاهر أن لا یطلب الهلال، لأنّ الصوم و الفطر علی الرؤیة قد زال، فانقطع طلب الهلال من مصر و صام القاضی و غیره مع القائد جوهر کما یصوم، و أفطروا کما یفطر. و لما دخل المعز لدین اللّه إلی مصر و نزل بقصره من القاهرة المعزیة، أمر فی رمضان سنة اثنتین و ستین و ثلاثمائة فکتب علی سائر الأماکن بمدینة مصر خیر الناس بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السّلام. و فی صفر سنة خمس و ستین و ثلاثمائة جلس علیّ بن النعمان القاضی بجامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر و أملی مختصر أبیه فی الفقه عن أهل البیت، و یعرف هذا المختصر بالاقتصار، و کان جمعا عظیما و أثبت أسماء الحاضرین.
و لما تولی یعقوب بن کلس الوزارة للعزیز بالله نزار بن المعز رتب فی داره العلماء من الأدباء و الشعراء و الفقهاء و المتکلمین، و أجری لجمیعهم الأرزاق، و ألف کتابا فی الفقه و نصب له مجلسا و هو یوم الثلاثاء یجتمع فیه الفقهاء و جماعة من المتکلمین و أهل الجدل، و تجری بینهم المناظرات، و کان یجلس أیضا فی یوم الجمعة فیقرأ مصنفاته علی الناس بنفسه، و یحضر عنده القضاة و الفقهاء و القرّاء و النحاة و أصحاب الحدیث و وجوه أهل العلم و الشهود، فإذا انقضی المجلس من القراءة قام الشعراء لإنشاد مدائحهم فیه، و جعل للفقهاء فی شهر رمضان الأطعمة، و ألف کتابا فی الفقه یتضمن ما سمعه من المعز لدین اللّه و من ابنه العزیز بالله، و هو مبوّب علی أبواب الفقه یکون قدره مثل نصف صحیح البخاریّ، ملکته و وقفت علیه، و هو یشتمل علی فقه الطائفة الإسماعیلیة، و کان یجلس لقراءة هذا الکتاب علی الناس بنفسه و بین یدیه خواص الناس و عوامّهم و سائر الفقهاء و القضاة و الأدباء، و أفتی الناس به و درّسوا فیه بالجامع العتیق، و أجری العزیز بالله لجماعة من الفقهاء یحضرون مجلس الوزیر و یلازمونه أرزاقا تکفیهم فی کلّ شهر، و أمر لهم ببناء دار إلی جانب الجامع الأزهر، فإذا کان یوم الجمعة تحلقوا فیه بعد الصلاة إلی أن تصلّی صلاة العصر، و کان لهم من مال الوزیر أیضا صلة فی کلّ سنة، و عدّتهم خمسة و ثلاثون رجلا، و خلع علیهم العزیز
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 163
بالله فی یوم عید الفطر و حملهم علی بغال.
و فی سنة اثنتین و سبعین و ثلاثمائة أمر العزیز بن المعز بقطع صلاة التروایح من جمیع البلاد المصریة. و فی سنة إحدی و ثمانین و ثلاثمائة ضرب رجل بمصر و طیف به المدینة من أجل أنه وجد عنده کتاب الموطأ لمالک بن أنس رحمه اللّه. و فی شهر ربیع الأوّل سنة خمس و ثمانین و ثلاثمائة جلس القاضی محمد بن النعمان علی کرسیّ بالقصر فی القاهرة لقراءة علوم أهل البیت علی الرسم المتقدّم له و لأخیه بمصر، و لأبیه بالمغرب، فمات فی الزحمة أحد عشر رجلا. و فی جمادی الأولی سنة إحدی و تسعین و ثلاثمائة قبض علی رجل من أهل الشام سئل عن أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، فقال لا أعرفه، فاعتقله قاضی القضاة الحسن بن النعمان قاضی أمیر المؤمنین الحاکم بأمر اللّه علی القاهرة المعزیة و مصر و الشامات و الحرمین و المغرب، و بعث إلیه و هو فی السجن أربعة من الشهود و سألوه، فأقرّ بالنبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم و أنه نبیّ مرسل، و سئل عن علیّ بن أبی طالب فقال لا أعرفه، فأمر قائد القوّاد الحسین بن جوهر بإحضاره، فخلا به و رفق فی القول له فلم یرجع عن إنکاره معرفة علیّ بن أبی طالب، فطولع الحاکم بأمره فأمر بضرب عنقه فضرب عنقه و صلب. و فی سنة ثلاث و تسعین و ثلاثمائة قبض علی ثلاثة عشر رجلا و ضربوا و شهروا علی الجمال و حبسوا ثلاثة أیام من أجل أنهم صلوا صلاة الضحی.
و فی سنة خمس و تسعین و ثلاثمائة قری‌ء سجل فی الجوامع بمصر و القاهرة و الجزیرة بأن تلبس النصاری و الیهود الغیار و الزنار، و غیارهم السواد غیار العاصین العباسیین، و أن یشدّوا الزنار و فیه وقوع و فحش فی حق أبی بکر و عمر رضی اللّه عنهما، و قری‌ء سجل آخر فیه منع الناس من أکل الملوخیا المحببة کانت لمعاویة بن أبی سفیان، و منعهم من أکل البقلة المسماة بالجرجیر المنسوبة لعائشة رضی اللّه عنها، و من المتوکلیة المنسوبة إلی المتوکل، و المنع من عجین الخبز بالرجل، و المنع من أکل الدلینس و من ذبح البقر إلّا ذا عاهة ما، عدا أیام النحر، فإنه یذبح فیها البقر فقط، و الوعید للنخاسین متی باعوا عبدا أو أمة لذمیّ، و قری‌ء سجل آخر بأن یؤذن لصلاة الظهر فی أوّل الساعة السابعة، و یؤذن لصلاة العصر فی أوّل الساعة التاسعة، و قری‌ء أیضا سجل بالمنع من عمل الفقاع و بیعه فی الأسواق لما یؤثر عن علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه من کراهیة شرب الفقاع، و ضرب فی الطرقات و الأسواق بالحرس، و نودی أن لا یدخل أحد الحمام إلّا بمئزر، و لا تکشف امرأة وجهها فی طریق، و لا خلف جنازة، و لا تتبرّج، و لا یباع شی‌ء من السمک بغیر قشر، و لا یصطاده أحد من الصیادین، و قبض علی جماعة وجدوا فی الحمام بغیر مئزر فضربوا و شهروا. و کتب فی صفر من هذه السنة علی سائر المساجد و علی الجامع العتیق بمصر من ظاهره و باطنه من جمیع جوانبه، و علی أبواب الحوانیت و الحجر و علی المقابر و الصحراء سبّ السلف و لعنهم، و نقش ذلک و لوّن بالأصباغ و الذهب، و عمل ذلک علی أبواب الدور
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 164
و القیاسر، و أکره الناس علی ذلک، و تسارع الناس إلی الدخول فی الدعوة، فجلس لهم قاضی القضاة عبد العزیز بن محمد بن النعمان، فقدموا من سائر النواحی و الضیاع، فکان للرجال یوم الأحد، و للنساء یوم الأربعاء، و للأشراف و ذوی الأقدار یوم الثلاثاء، و ازدحم الناس علی الدخول فی الدعوة، فمات عدّة من الرجال و النساء. و لما وصلت قافلة الحاج مرّ بهم من سبّ العامّة و بطشهم ما لا یوصف، فإنهم أرادوا حمل الحاج علی سبّ السلف فأبوا، فحلّ بهم مکروه شدید. و فی جمادی الآخرة من هذه السنة فتحت دار الحکمة بالقاهرة و جلس فیها القرّاء، و حملت الکتب إلیها من خزائن القصور، و دخل الناس إلیها و جلس فیها القرّاء و الفقهاء و المنجمون و النحاة و أصحاب اللغة و الأطباء، و حصل فیها من الکتب فی سائر العلوم ما لم یر مثله مجتمعا، و أجری علی من فیها من الخدّام و الفقهاء الأرزاق السنیة، و جعل فیها ما یحتاج إلیه من الحبر و الأقلام و المحابر و الورق. و فی یوم عاشوراء من سنة ست و تسعین و ثلاثمائة کان من اجتماع الناس ما جرت به العادة، و أعلن بسبّ السلف فیه، فقبض علی رجل نودی علیه هذا جزاء من سبّ عائشة و زوجها صلّی اللّه علیه و سلّم، و معه من الرعاع ما لا یقع علیه حصروهم یسبون السلف، فلما تمّ النداء علیه ضرب عنقه، و استهل شهر رجب من هذه السنة بیوم الأربعاء، فخرج أمر الحاکم بأمر اللّه أن یؤرّخ بیوم الثلاثاء، و فی سنة سبع و تسعین و ثلاثمائة قبض علی جماعة ممن یعمل الفقاع و من السماکین و من الطباخین و کبست الحمامات فأخذ عدّة ممن وجد بغیر مئزر، فضرب الجمیع لمخالفتهم الأمر و شهروا. و فی تاسع ربیع الآخر أمر الحاکم بأمر اللّه بمحو ما کتب علی المساجد و غیرها من سبّ السلف، و طاف متولی الشرطة و ألزم کل أحد بمحو ما کتب علی المساجد من ذلک، ثم قری‌ء سجل فی ربیع الآخر سنة تسع و تسعین و ثلاثمائة بأن لا یحمل شی‌ء من النبیذ و المزر، و لا یتظاهر به و لا بشی‌ء من الفقاع و الدلینس و السمک الذی لا قشر له و الترمس العفن، و قری‌ء سجل فی رمضان علی سائر المنابر بأنه یصوم الصائمون علی حسابهم و یفطرون، و لا یعارض أهل الرؤیة فیما هم علیه صائمون و مفطرون، صلاة الخمس الدین، فبما جاءهم فیها یصلون، و صلاة الضحی و صلاة التراویح لا مانع لهم منها.
و لا هم عنها یدفعون، یخمّس فی التکبیر علی الجنائز المخمسون، و لا یمنع من التربیع علیها المربّعون، یؤذن بحیّ علی خیر العمل المؤذنون، و لا یؤذی من بها لا یؤذنون، و لا یسب أحد من السلف، و لا یحتسب علی الواصف فیهم بما وصف، و الحالف منهم بما حلف، لکلّ مسلم مجتهد فی دینه اجتهاده، و إلی اللّه ربه معاده عنده کتابه و علیه حسابه.
و فی صفر سنة أربعمائة شهر جماعة بعد ما ضربوا بسبب بیع الفقاع و الملوخیا و الدلینس و الترمس.
و فی تاسع عشر شهر شوّال أمر الحاکم بأمر اللّه برفع ما کان یؤخذ من الخمس و الزکاة و الفطرة و النجوی، و أبطل قراءة مجالس الحکمة فی القصر، و أمر بردّ التثویب فی الأذان،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 165
و أذّن للناس فی صلاة الضحی و صلاة التراویح، و أمر المؤذنین بأسرهم فی الأذان بأن لا یقولوا حیّ علی خیر العمل، و أن یقولوا فی الأذان للفجر الصلاة خیر من النوم، ثم أمر فی ثانی عشری ربیع الآخر سنة ثلاث و أربعمائة بإعادة قول حیّ علی خیر العمل فی الأذان، و قطع التثویب و ترک قولهم الصلاة خیر من النوم، ثم أمر فی ثانی عشری ربیع الآخر سنة ثلاث و أربعمائة بإعادة قول حیّ علی خیر العمل فی الأذان، و قطع التثویب و ترک قولهم الصلاة خیر من النوم، و منع من صلاة الضحی، و صلاة التراویح، و فتح باب الدعوة، و أعیدت قراءة المجالس بالقصر علی ما کانت، و کان بین المنع من ذلک و الأذن فیه خمسة أشهر، و ضرب فی جمادی من هذه السنة جماعة و شهروا بسبب بیع الملوخیا و السمک الذی لا قشر له و شرب المسکرات، و تتبع السکاری فضیق علیهم.
و فی یوم الثلاثاء سابع عشری شعبان سنة إحدی و أربعمائة وقع قاضی القضاة مالک بن سعید الفارقیّ إلی سائر الشهود و الأمناء بخروج الأمر المعظم، بأن یکون الصوم یوم الجمعة و العید یوم الأحد. و فی شعبان سنة اثنتین و أربعمائة قری‌ء سجل یشدّد فیه النکیر علی بیع الملوخیا و الفقاع و السمک الذی لا قشر له، و منع النساء من الاجتماع فی المآتم و من اتباع الجنائز، و أحرق الحاکم بأمر اللّه فی هذا الشهر الزبیب الذی وجد فی مخازن التجار، و أحرق ما وجد من الشطرنج، و جمع صیادی السمک و حلّفهم بالأیمان المؤکدة أن لا یصطادوا سمکا بغیر قشر، و من فعل ذلک ضربت عنقه، و أحرق فی خمسة عشر یوما ألفین و ثمانمائة و أربعین قطعة زبیب بلغ ثمن النفقة علیها خمسمائة دینار، و منع من بیع العنب إلّا أربعة أرطال فما دونها، و منع من اعتصاره، و طرح عنبا کثیرا فی الطرقات و أمر بدوسه، فامتنع الناس من التظاهر بشی‌ء من العنب فی الأسواق، و اشتدّ الأمر فیه، و غرق منه ما حمل فی النیل، و أحصی ما بالجیزة من الکروم، فقطف ما علیها من العنب و طرح ما جمعه من ذلک تحت أرجل البقر لتدوسه، و فعل مثل ذلک فی جهات کثیرة، و ختم علی مخازن العسل، و غرّق منه فی أربعة أیام خمسة آلاف جرّة و إحدی و خمسین جرّة فیها العسل، و غرق من عسل النحل قدر إحدی و خمسین زیرا. و فی جمادی الآخرة سنة ثلاث و أربعمائة، اشتدّ الإنکار علی الناس بسبب بیع الفقاع و الزبیب و السمک الذی لا قشر له، و قبض علی جماعة وجد عندهم زبیب فضربت أعناقهم و سجنت عدّة منهم و أطلقوا. و فی شوّال اعتقل رجل ثم شهر و نودی علیه هذا جزاء من سبّ أبا بکر و عمر و یثیر الفتن، فاجتمع خلق کثیر بباب القصر فاستغاثوا، لا طاقة لنا بمخالفة المصریین و لا بمخالفة الحشویة من العوام، و لا صبر لنا علی ما جری، و کتبوا قصصا فصرفوا و وعدوا بالمجی‌ء فی غد، فبات کثیر منهم بباب القصر، و اجتمعوا من الغد فصاحوا و ضجوا فخرج إلیهم قائد القوّاد غین، فنهاهم و أمرهم عن أمیر المؤمنین الحاکم بأمر اللّه أن یمضوا إلی معایشهم، فانصرفوا إلی قاضی القضاة مالک بن سعید الفارقیّ و شکوا إلیه، فتبرّم من ذلک فمضوا و فیهم من یسب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 166
السلف و یعرّض بالناس، فقری‌ء سجل فی القصر بالترحم علی السلف من الصحابة، و النهی عن الخوض فی ذلک، و رکب مرّة فرأی لوحا علی قیساریة فیه سب السلف فأنکره، و ما زال واقفا حتی قلع و ضرب بالحرس فی سائر طرقات مصر و القاهرة، و قری‌ء سجل بتتبع الألواح المنصوبة علی سائر أبواب القیاسر و الحوانیت و الدور و الخانات و الأرباع المشتملة علی ذکر الصحابة و السلف الصالح، رحمهم اللّه، بالسب و اللعن، و قلع ذلک و کسره و تعفیة أثره، و محو ما علی الحیطان من هذه الکتابة، و إزالة جمیعها من سائر الجهات حتی لا یری لها أثر فی جدار و لا نقش فی لوح، و حذّر فیه من المخالفة، و هدّد بالعقوبة، ثم انتقض ذلک کله و عاد الأمر إلی ما کان علیه إلی أن قتل الخلیفة الآمر بأحکام اللّه أبو علیّ منصور بن المستعلی بالله أبی القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبی تمیم معدّ.
و ثار أبو علیّ أحمد الملقب کتیفات ابن الأفضل شاهنشاه بن أمیر الجیوش، و استولی علی الوزارة فی شنة أربع و عشرین و خمسمائة، و سجن الحافظ لدین اللّه أبا المیمون عبد المجید بن الأمیر أبی القاسم محمد بن الخلیفة المستنصر بالله، و أعلن بمذهب الإمامیة و الدعوة للإمام المنتظر، و ضرب دراهم نقشها: اللّه الصمد الإمام محمد. و رتب فی سنة خمس و عشرین أربعة قضاة، اثنان أحدهما إمامیّ و الآخر إسماعیلیّ، و اثنان أحدهما مالکیّ و الآخر شافعیّ، فحکم کل منهما بمذهبه و ورّث علی مقتضاه، و أسقط ذکر إسماعیل بن جعفر الصادق و أبطل من الأذان حیّ علی خیر العمل، و قولهم محمد و علیّ خیر البشر، فلما قتل فی المحرّم سنة ست و عشرین عاد الأمر إلی ما کان علیه من مذهب الإسماعیلیة.
و ما برح حتی قدمت عساکر الملک العادل نور الدین محمود بن زنکی من دمشق، علیها أسد الدین شیرکوه، و ولی وزارة مصر للخلیفة العاضد لدین اللّه أبی محمد عبد اللّه بن الأمیر یوسف بن الحافظ لدین اللّه، و مات، فقام فی الوزارة بعده ابن أخیه السلطان الملک الناصر صلاح الدین یوسف بن أیوب فی جمادی الآخرة سنة أربع و ستین و خمسمائة، و شرع فی تغییر الدولة و إزالتها، و حجر علی العاضد و أوقع بأمراء الدولة و عساکرها، و أنشأ بمدینة مصر مدرسة للفقهاء الشافعیة، و مدرسة للفقهاء المالکیة، و صرف قضاة مصر الشیعة کلهم، و فوّض القضاء لصدر الدین عبد الملک بن درباس المارانیّ الشافعیّ، فلم یستنب عنه فی إقلیم مصر إلّا من کان شافعیّ المذهب، فتظاهر الناس من حینئذ بمذهب مالک و الشافعیّ، و اختفی مذهب الشیعة و الإسماعیلیة و الإمامیة حتی فقد من أرض مصر کلها، و کذلک کان السلطان الملک العادل نور الدین محمود بن عماد الدین زنکی بن آق سنقر حنیفا فیه تعصب، فنشر مذهب أبی حنیفة رحمه اللّه ببلاد الشام، و منه کثرت الحنفیة بمصر، و قدم إلیها أیضا عدّة من بلاد الشرق، و بنی لهم السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب المدرسة السیوفیة بالقاهرة، و ما زال مذهبهم ینتشر و یقوی و فقهاؤهم تکثر بمصر و الشام من حینئذ.
و أما العقائد فإن السلطان صلاح الدین حمل الکافة علی عقیدة الشیخ أبی الحسن علیّ بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 167
إسماعیل الأشعریّ، تلمیذ أبی علی الجبائیّ، و شرط ذلک فی أوقافه التی بدیار مصر، کالمدرسة الناصریة بجوار قبر الإمام الشافعیّ من القرافة، و المدرسة الناصریة التی عرفت بالشریفیة بجوار جامع عمرو بن العاص بمصر، و المدرسة المعروفة بالقمحیة بمصر، و خانکاه سعید السعداء بالقاهرة. فاستمرّ الحال علی عقیدة الأشعریّ بدیار مصر و بلاد الشام و أرض الحجاز و الیمن و بلاد المغرب أیضا، لإدخال محمد بن تومرت رأی الأشعریّ إلیها، حتی أنه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد، بحیث أن من خالفه ضرب عنقه، و الأمر علی ذلک إلی الیوم، و لم یکن فی الدولة الأیوبیة بمصر کثیر ذکر لمذهب أبی حنیفة و أحمد بن حنبل، ثم اشتهر مذهب أبی حنیفة و أحمد بن حنبل فی آخرها.
فلما کانت سلطنة الملک الظاهر بیبرس البندقداریّ، ولی بمصر و القاهرة أربعة قضاة، و هم شافعیّ و مالکیّ و حنفیّ و حنبلیّ. فاستمرّ ذلک من سنة خمس و ستین و ستمائة، حتی لم یبق فی مجموع أمصار الإسلام مذهب یعرف من مذاهب أهل الإسلام سوی هذه المذاهب الأربعة، و عقیدة الأشعریّ، و عملت لأهلها المدارس و الخوانک و الزوایا و الربط فی سائر ممالک الإسلام، و عودی من تمذهب بغیرها، و أنکر علیه، و لم یولّ قاض و لا قبلت شهادة أحد و لا قدّم للخطابة و الإمامة و التدریس أحد ما لم یکن مقلدا لأحد هذه المذاهب، و أفتی فقهاء هذه الأمصار فی طول هذه المدّة بوجوب اتباع هذه المذاهب و تحریم ما عداها، و العمل علی هذا إلی الیوم، و إذ قد بینا الحال فی سبب اختلاف الأمّة منذ توفی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم إلی أن استقرّ العمل علی مذهب مالک و الشافعیّ و أبی حنیفة و أحمد بن حنبل، رحمة اللّه علیهم، فلنذکر اختلاف عقائد أهل الإسلام منذ کان إلی أن التزم الناس عقیدة الشیخ أبی الحسن الأشعریّ رحمه اللّه و رضی عنه.

ذکر فرق الخلیقة و اختلاف عقائدها و تباینها

اعلم أن الذین تکلموا فی أصول الدیانات قسمان، هما من خالف ملة الإسلام، و من أقرّ بها. فأما المخالفون لملة الإسلام فهم عشر طوائف: الأولی الدهریة، و الثانیة أصحاب العناصر. و الثالثة الثنویة: و هم المجوس، و یقولون بأصلین هما النور و الظلمة، و یزعمون أن النور هو یزدان، و الظلمة هو أهرمن، و یقرّون بنبوّة إبراهیم علیه السّلام، و هم ثمان فرق: الکیومرتیة أصحاب کیومرت الذی یقال أنه آدم. و الزروانیة أصحاب زروان الکبیر، و الزرادشتیة أصحاب زراداشت بن بیورشت الحکیم، و الثنویة أصحاب الاثنین الأزلیین.
و المانویة أصحاب مانی الحکیم. و المزرکیة أصحاب مزرک الخارجی. و البیصانیة أصحاب بیصان القائل بالأصلین القدیمین. و الفرقونیة القائلون بالأصلین. و أنّ الشرّ خرج علی أبیه و أنه تولد من فکرة فکرها فی نفسه، فلما خرج علی أبیه الذی هو الإله بزعمهم عجز عنه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 168
ثم وقع الصلح بینهما علی ید الندمات و هم الملائکة، و منهم من یقول بالتناسخ، و منهم من ینکر الشرائع و الأنباء، و یحکمون العقول، و یزعمون أن النفوس العلویة تفیض علیهم الفضائل.
و الطائفة الرابعة الطبائعیون.
و الطائفة الخامسة الصابئة القائلون بالهیاکل و الأرباب السماویة و الأصنام الأرضیة، و إنکار النبوّات، و هم أصناف و بینهم و بین الحنفاء مناظرات و حروب مهلکة، و تولدت من مذاهبهم الحکمة الملطیة، و منهم أصحاب الروحانیات، و هم عباد الکواکب و أصنامها التی عملت علی تمثالها، و الحنفاء هم القائلون بأن الروحانیات منها ما وجودها بالقوّة، و منها ما وجودها بالفعل، فما هو بالقوّة یحتاج إلی من یوجده بالفعل. و یقرّون بنبوّة إبراهیم، و أنه منهم. و هم طوائف: الکاظمة أصحاب کاظم بن تارح، و من قوله أنّ الحق فی الجمع بین شریعة إدریس و شریعة نوح و شریعة إبراهیم علیهم السّلام، و منهم البیدانیة: أصحاب بیدان الأصغر، و من قوله اعتقاد نبوّة من یفهم عالم الروح، و أن النبوّة من أسرار الإلهیة. و منهم القنطاریة: أصحاب قنطار بن أرفخشد، و یقرّ بنبوّة نوح. و من فرق الصابئة أصحاب الهیاکل: و یرون أن الشمس إله کلّ إله. و الحرّانیة: و من قولهم المعبود واحد بالذات و کثیر بالأشخاص فی رأی العین، و هی المدبرات السبع من الکواکب و الأرضیة الجزئیة و العالمة الفاضلة.
و الطائفة السادسة الیهود. و السابعة النصاری.
و الثامنة أهل الهند القائلون بعبادة الأصنام، و یزعمون أنها موضوعة قبل آدم، و لهم حکم عقلیة و أحکام وضعها الشلم، أعظم حکامهم، و المهندم قبله، و البراهمة قبل ذلک.
فالبراهمة أصحاب برهام أوّل من أنکر نبوّة البشر، و منهم البردة زهاد عباد رجال الرماد الذی یهجرون اللذات الطبیعیة، و أصحاب الریاضة التامّة، و أصحاب التناسخ، و هم أقسام أصحاب الروحانیة و البهادریة و الناسوتیة و الباهریة و الکابلیة، أهل الجبل. و منهم الطبسیون أصحاب الریاضة الفاعلة، حتّی أن منهم من یجاهد نفسه حتی یسلطها علی جسده، فیصعد فی الهواء علی قدر قوّته، و فی الیهود عباد النار و عباد الشمس و القمر و النجوم و عباد الأوثان.
و الطائفة التاسعة الزنادقة و هم طوائف منهم القرامطة.
و العاشرة الفلاسفة أصحاب الفلسفة، و کلمة فیلسوف معناها محب الحکمة، فإن فیلو محب، و سوفا حکمة، و الحکمة قولیة و فعلیة، و علم الحکماء انحصر فی أربعة أنواع:
الطبیعیّ و المدنیّ و الریاضیّ و الإلهیّ. و المجموع ینصرف إلی علم ما، و علم کیف، و علم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 169
کم، فالعلم الذی یطلب فیه ماهیات الأشیاء هو الإلهیّ، و الذی یطلب فیه کیفیات الأشیاء هو الطبیعیّ، و الذی یطلب فیه کمیات الأشیاء هو الریاضیّ. و وضع بعد ذلک أرسطو صنعة المنطق، و کانت بالقوّة فی کلام القدماء، فأظهرها و رتبها. و اسم الفلاسفة یطلق علی جماعة من الهند، و هم الطبسیون و البراهمة، و لهم ریاضة شدیدة، و ینکرون النبوّة أصلا، و یطلق أیضا علی العرب بوجه أنقص، و حکمتهم ترجع إلی أفکارهم و إلی ملاحظة طبیعیة، و یقرّون بالنبوّات، و هم أضعف الناس فی العلوم، و من الفلاسفة حکماء الروم، و هم طبقات، فمنهم أساطین الحکمة، و هم أقدمهم، و منهم المشاؤون و أصحاب الرواق، و أصحاب أرسطو، و فلاسفة الإسلام. فمن فلاسفة الروم الحکماء السبعة، أساطین الحکمة، أهل ملطیة و قونیة و هم: تالیس الملطیّ، و انکساغورس، و انکسمالس، و ابنادفیس، و فیثاغورس، و سقراط، و أفلاطون. و دون هؤلاء فلوطس، و بقراط، و دیمقراطیس، و أسعر و النساس.
و منهم حکماء الأصول من القدماء، و لهم القول بالسیمیاء، و لهم أسرار الخواص و الحیل و الکیمیاء و الأسماء الفعالة و الحروف، و لهم علوم توافق علوم الهند، و علوم الیونانیین، و لیس من موضوع کتابنا هذا ذکر تراجمهم، فلذلک ترکناها.
القسم الثانی فرق أهل الإسلام. الذی عناهم النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم بقوله: «ستفترق أمّتی ثلاثا و سبعین فرقة، اثنتان و سبعون هالکة، و واحدة ناجیة» و هذا الحدیث أخرجه أبو داود و الترمذیّ و ابن ماجه من حدیث أبی هریرة رضی اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم: «افترقت الیهود علی إحدی و سبعین أو اثنتین و سبعین فرقة، و تفرّقت النصاری علی إحدی و سبعین أو اثنتین و سبعین فرقة، و تفترق أمّتی علی ثلاث و سبعین فرقة» قال البیهقیّ حسن صحیح، و أخرجه الحاکم و ابن حبان فی صحیحه بنحوه، فأخرجه فی المستدرک من طریق الفضل بن موسی، عن محمد بن عمر، عن أبی سلمة عن أبی هریرة به، و قال هذا حدیث کثیر فی الأصول، و قد روی عن سعد بن أبی وقاص، و عبد اللّه بن عمر، و عوف بن مالک عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم بمثله، و قد احتج مسلم بمحمد بن عمر، و عن أبی سلمة عن أبی هریرة، و اتفقا جمیعا علی الاحتجاج بالفضل بن موسی و هو ثقة.
و اعلم أن فرق المسلمین خمسة: أهل السنة، و المرجئة، و المعتزلة، و الشیعة، و الخوارج. و قد افترقت کلّ فرقة منها علی فرق، فأکثر افتراق أهل السنة فی الفتیا و نبذ یسیر من الاعتقادات، و بقیة الفرق الأربع منها من یخالف أهل السنة الخلاف البعید، و منهم من یخالفهم الخلاف القریب، فأقرب فرق المرجئة من قال: الإیمان إنما هو التصدیق بالقلب و اللسان معا فقط، و أن الأعمال إنما هی فرائض الإیمان و شرائعه فقط، و أبعدهم أصحاب جهم بن صفوان و محمد بن کرام. و أقرب فرق المعتزلة أصحاب الحسین النجار و بشر بن غیاث المریسیّ، و أبعدهم أصحاب أبی الهذیل العلاف. و أقرب مذاهب الشیعة أصحاب الحسن بن صالح بن حیّ، و أبعدهم الإمامیة. و أما الغالیة فلیسوا بمسلمین و لکنهم أهل ردّة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 170
و شرک. و أقرب فرق الخوارج أصحاب عبد اللّه بن یزید الإباضیّ، و أبعدهم الأزارقة. و أما البطیخیة و من جحد شیئا من القرآن أو فارق الإجماع من العجاردة و غیرهم فکفار بإجماع الأمّة، و قد انحصرت الفرق الهالکة فی عشر طوائف:
الفرقة الأولی المعتزلة: الغلاة فی نفی الصفات الإلهیة، القائلون بالعدل و التوحید، و أن المعارف کلها عقلیة، حصولا و وجوبا، قبل الشرع و بعده، و أکثرهم علی أن الإمامة بالاختیار، و هم عشرون فرقة: إحداها الواصلیة: أصحاب واصل بن عطاء أبی حذیفة الغزال، مولی بنی ضبة، و قیل مولی بنی مخزوم. ولد بالمدینة سنة ثمانین، و نشأ بالبصرة، و لقی أبا هاشم عبد اللّه بن محمد ابن الحنفیة، و لازم مجلس الحسن بن الحسین البصریّ، و أکثر من الجلوس بسوق الغزل لیعرف النساء المتعففات فیصرف إلیهنّ صدقته، فقیل له الغزال من أجل ذلک، و کان طویل العنق جدّا، حتی عابه عمرو بن عبید بذلک فقال: من هذه عنقه لا خیر عنده. فلما برع واصل، قال عمر: و ربما أخطأت الفراسة. و کان یلثغ بالراء، و مع ذلک کان فصیحا لسنا مقتدرا علی الکلام، قد أخذ بجوامعه، فلذلک أمکنه أن أسقط حرف الراء من کلامه، و اجتناب الحروف صعب جدّا، لا سیما مثل الراء لکثرة استعمالها، و له رسالة طویلة لم یذکر فیها حرف الراء، أحد بدائع الکلام، و کان لکثرة صمته یظنّ به الخرس، توفی سنة إحدی و ثلاثین و مائة، و له کتاب المنزلة بین المنزلتین، و کتاب الفتیا، و کتاب التوحید. و عنه أخذ جماعة، و أخباره کثیرة، و یقال لهم أیضا الحسنیة، نسبة إلی الحسن البصریّ. و أخذ واصل العلم عن أبی هاشم عبد اللّه بن محمد ابن الحنفیة، و خالفه فی الإمامة، و اعتزاله یدور علی أربع قواعد هی: نفی الصفات، و القول بالقدر، و القول بمنزلة بین المنزلتین، و أوجب الخلود فی النار علی من ارتکب کبیرة. فلما بلغ الحسن البصریّ عنه هذا قال: هؤلاء اعتزلوا، فسموا من حینئذ المعتزلة. و قیل أن تسمیتهم بذلک حدثت بعد الحسن، و ذلک أن عمرو بن عبید لما مات الحسن و جلس قتادة مجلسه اعتزله فی نفر معه، فسماهم قتادة المعتزلة. القاعدة الرابعة القول بأن إحدی الطائفتین من أصحاب الجمل و صفین مخطئة لا بعینها، و کان فی خلافة هشام بن عبد الملک.
و الثانیة العمرویة: أصحاب عمرو، و من قوله ترک قول علیّ بن أبی طالب و طلحة و الزبیر رضی اللّه عنهم. و قال ابن منبه: اعتزل عمرو بن عبید و أصحاب له الحسن، فسموا المعتزلة.
و الثالثة الهذلیة: اتباع أبی الهذیل محمد بن الهذیل العلاف شیخ المعتزلة، أخذ عن عثمان بن خالد الطویل، عن واصل بن عطاء، و نظر فی الفلسفة و وافقهم فی کثیر و قال:
جمیع الطاعات من الفرائض و النوافل إیمان، و انفرد بعشر مسائل و هی: أن علم اللّه و قدرته و حیاته هی ذاته، و أثبت إرادات لا محل لها یکون الباری مریدا لها. و قال: بعض کلام اللّه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 171
لا فی محل، و هو قوله کن. و بعضه فی محل، کالأمر و النهی. و قال فی أمور الآخرة.
کمذهب الجبریة. و قال تنتهی مقدورات اللّه حتی لا یقدر علی إحداث شی‌ء و لا علی إفناء شی‌ء و لا إحیاء شی‌ء و لا إماتة شی‌ء، و تنقطع حرکات أهل الجنة و النار و یصیرون إلی سکون دائم. و قال: الاستطاعة عرض من الأعراض نحو السلامة، و الصحة. و فرّق بین أعمال القلوب و أعمال الجوارح و قال: تجب معرفة اللّه قبل ورود السمع. و أن المرء المقتول إن لم یقتل مات فی ذلک الوقت، و لا یزاد العلم و لا ینقص بخلاف الرزق. و قال: إرادة اللّه عین المراد، و الحجة لا تقوم فیما غاب إلّا بخبر عشرین.
و الرابعة النظامیة: اتباع إبراهیم بن سیار النظّام، بتشدید الظاء المعجمة، زعیم المعتزلة و أحد السفهاء، انفرد بعدّة مسائل و هی: قوله أنّ اللّه تعالی لا یوصف بالقدرة علی الشرور و المعاصی، و أنها غیر مقدورة للّه. و قال: لیس للّه إرادة، و أفعال العباد کلها حرکات، و النفس و الروح هو الإنسان، و البدن إنما هو آلة فقط، و أن کل ما جاوز القدرة من الفعل فهو من اللّه، و هو فعله، و أنکر الجوهر الفرد، و أحدث القول بالطفرة، و قال: الجوهر مؤلف من أعراض اجتمعت، و زعم أنّ اللّه خلق الموجودات دفعة علی ما هی علیه، و أن الإعجاز فی القرآن من حیث الإخبار عن الغیب فقط، و أنکر أن یکون الإجماع حجة، و طعن فی الصحابة رضی اللّه تعالی عنهم. و قال قبحه اللّه: أبو هریرة أکذب الناس، و زعم أنه ضرب فاطمة ابنة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و منع میراث العترة، و أوجب معرفة اللّه بالفکر قبل ورود الشرع، و حرّم نکاح الموالی العربیات. و قال: لا تجوز صلاة التراویح، و نهی عن میقات الحج، و کذب بانشقاق القمر، و أحال رؤیة الجنّ، و زعم أن من سرق مائتی دینار فما دونها لم یفسق، و أن الطلاق بالکتابة لا یقع و إن کان بنیّة، و أنّ من نام مضطجعا لا ینتقض و ضوءه ما لم یخرج منه الحدث. و قال: لا یلزم قضاء الصلوات إذا فاتت.
و الخامسة الإسواریة: اتباع أبی علیّ عمرو بن قائد الإسواریّ، القائل أن اللّه تعالی لا یقدر أن یفعل ما علم أنه لا یفعله. و السادسة الإسکافیة: اتباع أبی جعفر محمد بن عبد اللّه الإسکافیّ، و من قوله أنّ اللّه تعالی لا یقدر علی ظلم العقلاء، و یقدر علی ظلم الأطفال و المجانبین، و أنه لا یقال أنّ اللّه خالق المعازف و الطنابیر و إن کان هو الذی خلق أجسامها.
و السابعة الجعفریة: اتباع جعفر بن حرب بن میسرة، و من قوله أنّ فی فسّاق هذه الأمّة من هو شرّ من الیهود و النصاری و المجوس، و أسقط الحدّ عن شارب الخمر، و زعم أن الصغائر من الذنوب توجب تخلید فاعلها فی النار، و أنّ رجلا لو بعث رسولا إلی امرأة لیخطبها فجاءته فوطئها من غیر عقد لم یکن علیه حدّ، و یکون وطؤه إیاها طلاقا لها.
و الثامنة البشریة: اتباع بشر بن المعتمر، و من قوله الطعم و اللون و الرائحة و الإدراکات کلها من السمع، یجوز أن تحصل متولدة، و صرف الاستطاعة إلی سلامة البنیة و الجوارح.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 172
و قال: لو عذب اللّه الطفل الصغیر لکان ظالما، و هو یقدر علی ذلک. و قال: إرادة اللّه من جملة أفعال، ثم هی تنقسم إلی صفة فعل و صفة ذات. و قال: باللطف المخزون، و أن اللّه لم یخلقه لأنّ ذلک یوجب علیه الثواب، و أن التوبة الأولی متوقفة علی الثانیة، و أنها لا تنفع إلّا بعدم الوقوع فی الذی وقع فیه، فإن وقع لم تنفعه التوبة الأولی.
و التاسعة المزداریة: أتباع أبی موسی عیسی بن صبیح المعروف بالمزدار، تلمیذ بشر بن المعتمر، و کان زاهدا، و قیل له راهب المعتزلة، و انفرد بمسائل منها. قوله أنّ اللّه قادر علی أن یظلم و یکذب، و لا یطعن ذلک فی الربوبیة، و جوّز وقوع الفعل الواحد من فاعلین علی سبیل التولد، و زعم أن القرآن مما یقدر علیه، و أن بلاغته و فصاحته لا تعجز الناس بل یقدرون علی الإتیان بمثلها و أحسن منها، و هو أصل المعتزلة فی القول بخلق القرآن. و قال: من أجاز رؤیة اللّه بالإبصار بلا کیف فهو کافر، و الشاکّ فی کفره کافر أیضا.
و العاشرة الهشامیة: أتباع هشام بن عمرو الفوطیّ، الذی یبالغ فی القدر و لا ینسب إلی اللّه فعلا من الأفعال، حتی أنه أنکر أن یکون اللّه هو الذی ألف بین قلوب المؤمنین، و أنه یحب الإیمان للمؤمنین، و أنه أضل الکافرین. و عاند ما فی القرآن من ذلک و قال: لا تنعقد الإمامیة فی زمن الفتنة و اختلاف الناس، و أن الجنة و النار غیر مخلوقتین. و منع أن یقال حسبنا اللّه و نعم الوکیل، و قال لأن الوکیل دون الموکل، و قال: لو أسبغ أحد الوضوء، و دخل فیه الصلاة بنیّة القربة للّه تعالی، و العزم علی إتمامها، و رکع و سجد مخلصا فی ذلک کله، إلّا أنّ اللّه علم أنه یقطعها فی آخرها، فإن أوّل صلاته معصیة. و منع أن یکون البحر انفلق لموسی، و أن عصاه انقلبت حیة، و أن عیسی أحیی الموتی، بإذن اللّه، و أن القمر انشق للنبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و أنکر کثیرا من الأمور التی تواترت، کحصر عثمان بن عفان رضی اللّه عنه، و قتله بالغلبة. و قال: إنما جاءته شرذمة قلیلة تشکو عمّاله و دخلوا علیه و قتلوه، فلا یدری قاتله. و قال: إنّ طلحة و الزبیر و علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنهم، ما جاؤوا للقتال فی حرب الجمل، و إنما برزوا للمشاورة، و تقاتل أتباع الفریقین فی ناحیة أخری، و أن الأمّة إذا اجتمعت کلها و ترکت الظلم و الفساد احتاجت إلی إمام یسوسها، فأما إذا عصت و فجرت و قتلت و الیها فلا تنعقد الإمامة لأحد، و بنی علی ذلک أنّ إمامة علیّ رضی اللّه عنه لم تنعقد، لأنها کانت فی حال الفتنة بعد قتل عثمان، و هو أیضا مذهب الأصم و واصل بن عطاء و عمرو بن عبید، و أنکر افتضاض الأبکار فی الجنة، و أنکر أن الشیطان یدخل فی الإنسان و إنما یوسوس له من خارج، و اللّه یوصل وسوسته إلی قلب ابن آدم. و قال: لا یقال خلق اللّه الکافر، لأنه اسم العبد و الکفر جمیعا، و أنکر أن یکون فی أسماء اللّه الضارّ النافع.
و الحادیة عشر الحائطیة: اتباع أحمد بن حائط أحد أصحاب إبراهیم بن سیار النظّام و له بدع شنیعة منها: أنّ للخلق إلهین، أحدهما خالق و هو الإله القدیم، و الآخر مخلوق
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 173
و هو عیسی ابن مریم، و زعم أن المسیح ابن اللّه، و أنه هو الذی یحاسب الخلق فی الآخرة، و أنه هو المعنیّ بقول اللّه تعالی فی القرآن: هَلْ یَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ یَأْتِیَهُمُ اللَّهُ فِی ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة/ 210] و زعم فی قول النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم: «إن اللّه خلق آدم علی صورته» أن معناه خلقه إیاه علی صورة نفسه. و أن معنی قوله علیه السلام: «إنکم سترون ربکم کما ترون القمر لیلة البدر» إنما أراد به عیسی، و زعم أن فی الدواب و الطیور و الحشرات حتی البق و البعوض و الذباب أنبیاء لقول اللّه سبحانه: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِیها نَذِیرٌ [فاطر/ 24] و قوله تعالی: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِی الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ یَطِیرُ بِجَناحَیْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُکُمْ ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْ‌ءٍ [الانعام/ 38] و لقول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم: «لو لا أن الکلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها» و ذهب مع ذلک إلی القول بالتناسخ، و زعم أن اللّه ابتدأ الخلق فی الجنة، و إنما خرج من خرج منها بالمعصیة، و طعن فی النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم من أجل تعدّد نکاحه و قال: إنّ أبا ذر الغفاریّ أنسک و أزهد منه قبحه اللّه، و زعم أنّ کل من نال خیرا فی الدنیا إنما هو بعمل کان منه، و من ناله مرض أو آفة فبذنب کان منه، و زعم أن روح اللّه تناسخت فی الأئمة.
و الثانیة عشر الحماریة: أتباع قوم من معتزلة عسکر مکرم، و من مذهبهم أن الممسوخ إنسان کافر معتقد الکفر، و أن النظر أوجب المعرفة، و هو لا فاعل له، و کذلک الجماع أوجب الولد، فشکّ فی خالق الولد، و أنّ الإنسان یخلق أنواعا من الحیوانات بطریق التعفین، و زعموا أنه یجوز أن یقدر اللّه العبد علی خلق الحیاة و القدرة.
و الثالثة عشر المعمریة: أتباع معمر بن عباد السلمیّ، و هو أعظم القدریة غلوّا، و بالغ فی رفع الصفات و القدرة بالجملة، و انفرد بمسائل منها: أنّ الإنسان یدبر الجسد و لیس بحال فیه، و الإنسان عنده لیس بطویل و لا عریض، و لا ذی لون و تألیف و حرکة، و لا حال و لا متمکن، و أنّ الإنسان شی‌ء غیر هذا الجسد، و هو حیّ عالم قادر مختار، و لیس هو بمتحرّک و لا ساکن. و لا متلوّن و لا یری و لا یلمس و لا یحلّ موضعا و لا یحویه مکان، فوصف الإنسان بوصف الإلهیة عنده، فإن مدبر العالم موصوف عنده کذلک، و زعم أن الإنسان منعم فی الحیاة و موزر فی النار، و لیس هو فی الجنة و لا فی النار حالا و لا متمکنا. و قال: أنّ اللّه لم یخلق غیر الأجسام، و الأعراض تابعة لها متولدة منها، و أنّ الأعراض لا تتناهی فی کل نوع، و أنّ الإرادة من اللّه للشی‌ء غیر اللّه و غیر خلقه، و أنّ اللّه لیس بقدیم، لأنّ ذلک أخذ من قدم یقدم فهو قدیم.
و الرابعة عشر الثمانیة: أتباع ثمامة بن أشرس النمیریّ، و جمع بین النقائض و قال:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 174
العلوم کلها ضروریة، فکلّ من لم یضطرّ إلی معرفة اللّه فلیس بمأمور بها، و هو کالبهائم و نحوها، و زعم أن الیهود و النصاری و الزنادقة یصیرون یوم القیامة ترابا کالبهائم لا نواب لهم و لا عقاب علیهم البتة، لأنهم غیر مأمورین، إذ هم غیر مضطرّین إلی معرفة اللّه تعالی، و زعم أنّ الأفعال کلها متولدة لا فاعل لها، و أنّ الاستطاعة هی السلامة و صحة الجوارح، و أن العقل هو الذی یحسن و یقبح، تجب معرفة اللّه قبل ورود الشرع و أن لا فعل للإنسان إلّا الإرادة، و ما عداها فهو حدث.
و الخامسة عشر الجاحظیة: أتباع أبی عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، و له مسائل تمیز بها عن أصحابه منها: أن المعارف کلها ضروریة، و لیس شی‌ء من ذلک من أفعال العباد، و إنما هی طبیعیة، و لیس للعباد کسب سوی الإرادة، و أنّ العباد لا یخلدون فی النار بل یصیرون من طبیعتها، و أنّ اللّه لا یدخل أحدا النار، و إنما النار تجذب أهلها بنفسها و طبیعتها، و أن القرآن المنزل من قبیل الأجساد، و یمکن أن یصیر مرّة رجلا و مرّة حیوانا، و أن اللّه لا یرید المعاصی، و أنه لا یری، و أن اللّه یرید بمعنی أنه لا یغلط، و لا یصح فی حقه السهو فقط، و أنه یستحیل العدم علی الجواهر من الأجسام.
و السادسة عشر الخیاطیة: أصحاب أبی الحسین بن أبی عمرو الخیاط شیخ أبی القاسم الکعبیّ من معتزلة بغداد، زعم أن المعدوم شی‌ء، و أنه فی العدم جسم إن کان فی حدوثه جسما، و عرض إن کان فی حدوثه عرضا.
و السابعة عشر الکعبیة: أتباع أبی القاسم عبد اللّه بن أحمد بن محمود البلخیّ المعروف بالکعبیّ من معتزلة بغداد، انفرد بأشیاء منها: أن إرادة اللّه لیست صفة قائمة بذاته، و لا هو مدبر لذاته، و لا إرادته حادثة فی محل، و إنما یرجع ذلک إلی العلم فقط، و السمع و البصر یرجع إلی ذلک أیضا، و أنکر الرؤیة و قال: إذا قلنا أنه یری المرئیات فإنما ذلک یرجع إلی علمه بها و تمییزها قبل أن یوجد.
و الثامنة عشر الجبائیة: أتباع أبی علیّ محمد بن عبد الوهاب الجبائیّ، من معتزلة البصرة، تفرّد بمقالات منها. أنّ اللّه تعالی یسمی مطیعا للعبد إذا فعل ما أراد العبد منه، و أن اللّه محبل للنساء بخلق الولد فیهنّ، و أن کلام اللّه عرض یوجد فی أمکنة کثیرة، و فی مکان بعد مکان من غیر أن یعدم من مکانه الأوّل، ثم یحدث فی الثانی و کان یقف فی فضل علیّ علی أبی بکر، و فضل أبی بکر علی علیّ، و مع ذلک یقول إنّ أبا بکر خیر من عمر و عثمان، و لا یقول أن علیا خیر من عمر و عثمان.
و التاسعة عشرة البهشمیة: أتباع أبی هاشم عبد السلام بن أبی علیّ الجبائی، انفرد ببدع فی مقالاته، منها القول باستحقاق الذم من غیر ذنب، و زعم أن القادر منا یجوز أن یخلو عن الفعل و الترک، و أن القادر المأمور المنهیّ إذا لم یفعل فعلا و لا ترک یکون عاصیا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 175
مستحق العقاب و الذم، لا علی الفعل لأنه لم یفعل ما أمر به، و أن اللّه یعذب الکافرین و العصاة لا علی فعل مکتسب، و لا علی محدث منه. و قال: التوبة لا تصح من قبیح مع الإصرار علی قبیح آخر یعلمه أو یعتقده قبیحا، و إن کان حسنا، و أنّ التوبة لا تصح مع الإصرار علی منع حسنة واجبة علیه، و أن توبة الزانی بعد ضعفه عن الجماع لا تصح، و زعم أن الطهارة غیر واجبة، و إنما أمر العبد بالصلاة فی حال کونه متطهرا و أن الطهارة تجزی‌ء بالماء المغصوب، و لا تجزی‌ء الصلاة فی الأرض المغصوبة، و زعم أن الزنج و الترک و الهنود قادرون علی أن یأتوا بمثل هذا القرآن، و قال أبو علیّ و ابنه أبو هاشم: الإیمان هو الطاعات المفروضة.
و الفرقة العشرون من المعتزلة الشیطانیة: أتباع محمد بن نعمان المعروف بشیطان الطاق، و هو من الروافض، شارک کلّا من المعتزلة و الروافض فی بدعهم، و قلما یوجد معتزلیّ إلّا و هو رافضیّ، إلّا قلیلا منهم، انفرد بطامّة، و هی أنّ اللّه لا یعلم الشی‌ء إلّا قدّره و أراده، و أما قبل تقدیره فیستحیل أن یعلّمه، و لو کان عالما بأفعال عباده لاستحال أن یمتحنهم و یختبرهم، و للمعتزلة إسام منها الثنویة، سموا بذلک لقولهم الخیر من اللّه و الشرّ من العبد، و منهم الکیسانیة، و الناکتیة، و الأحمدیة، و الوهمیة، و البتریة و الواسطیة، و الواردیة. سموا بذلک لقولهم لا یدخل المؤمنون النار، و إنما یردون علیها. و من أدخل النار لا یخرج منها قط، و منهم الحرقیة. لقولهم الکفار لا تحرق إلّا مرّة، و المفنیة القائلون بفناء الجنة و النار. و الواقفیة القائلون بالوقف فی خلق القرآن. و منهم اللفظیة القائلون ألفاظ القرآن غیر مخلوقة. و الملتزقة القائلون اللّه بکل مکان. و القبریة القائلون بإنکار عذاب القبر.
الفرقة الثانیة المشبهة: و هم یغلون فی إثبات صفات اللّه تعالی ضدّ المعتزلة، و هم سبع فرق: الهاشمیة: أتباع هشام بن الحکم، و یقال لهم أیضا الحکمیة، و من قولهم الإله تعالی کنور السبکیة الصافیة یتلألأ من جوانبه، و یرمون مقاتل بن سلیمان بأنه قال: هو لحم و دم علی صورة الإنسان، و هو طویل عریض عمیق، و أن طوله مثل عرضه و عرضه مثل عمقه، و هو ذو لون و طعم و رائحة، و هو سبعة أشبار یشبر نفسه، و لم یصح هذا القول عن مقاتل.
و الجولقیة: أتباع هشام بن سالم الجوالقیّ، و هو من الرافضة أیضا، و من شنیع قوله أن اللّه تعالی علی صورة الإنسان، نصفه الأعلی موف و نصفه الأسفل مصمت، و له شعر أسود، و لیس بلحم و دم، بل هو نور ساطع، و له خمس حواس کحواس الإنسان، و ید و رجل و فم و عیون و أذن و شعر أسود لا الفرج و اللحیة.
و البیانیة: أتباع بیان بن سمعان القائل هو علی صورة الإنسان، و یهلک کله إلّا وجهه، لظاهر الآیة کلّ شی‌ء هالک إلّا وجهه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 176
و المغیریة أتباع مغیرة بن سعید العجلیّ، و هو أیضا من الروافض، و من شنائعه قوله أن أعضاء معبودهم علی صورة حروف الهجاء، فالألف علی صورة قدمیه، و زعم أنه رجل من نور علی رأسه تاج من نور، و زعم أن اللّه کتب بإصبعه أعمال العباد من طاعة و معصیة، و نظر فیهما و غضب من معاصیهم فعرق، فاجتمع من عرقه بحران عذب و مالح، و زعم أنه بکلّ مکان، لا یخلو عنه مکان. و المنهالیة أصحاب منهال بن میمون. و الزراریة أتباع زرارة بن أعین.
و الیونسیة أتباع یونس بن عبد الرحمن القمیّ، و کلهم من الروافض، و سیأتی ذکرهم إن شاء اللّه تعالی، و منهم أیضا السابیة و الشاکیة و العملیة و المستثنیة و البدعیة و العشریة و الأتربة، و منهم الکرّامیة أتباع محمد بن کرّام السجستانیّ و هم طوائف الهیضمیة و الإسحاقیة و الجندیة و غیر ذلک، إلا أنهم یعدّون فرقة واحدة، لأنّ بعضهم لا یکفر بعضا و کلهم مجسمة، إلّا أن فیهم من قال: هو قائم بنفسه، و منهم من قال هو أجزاء مؤتلفة، و له جهات و نهایات، و من قول الکرّامیة أن الإیمان هو قول مفرد، و هو قول لا إله إلّا اللّه، و سواء اعتقد أو لا، و زعموا أن اللّه جسم و له حدّ و نهایة من جهة السفل، و تجوز علیه ملاقاة الأجسام التی تحته، و إنه علی العرش و العرش مماس له، و أنه محل الحوادث من القول و الإرادة و الإدراکات و المرئیات و المسموعات، و أن اللّه لو علم أحدا من عباده لا یؤمن به، لکان خلقه إیاهم عبثا، و أنه یجوز أن یعزل نبیا من الأنبیاء و الرسل، و یجوز عندهم علی الأنبیاء کل ذنب لا یوجب حدّا و لا یسقط عدالة، و أنه یجب علی اللّه تعالی تواتر الرسل، و أنه یجوز أن یکون إمامان فی وقت واحد، و أن علیا و معاویة کانا إمامین فی وقت واحد، إلّا أن علیا کان علی السنة و معاویة علی خلافها، و انفرد ابن کرّام فی الفقه بأشیاء منها أنّ المسافر یکفیه من صلاة الخوف تکبیرتان، و أجاز الصلاة فی ثوب مستغرق فی النجاسة، و زعم أن الصلاة و الصوم و الزکاة و الحج و سائر العبادات تصح بغیر نیة، و تکفی نیة الإسلام، و أن النیة تجب فی النوافل، و أنه یجوز الخروج من الصلاة بالأکل و الشرب و الجماع عمدا، ثم البناء علیها، و زعم بعض الکرّامیة أن للّه علمین أحدهما یعلم به جمیع المعلومات و الآخر یعلم به العلم الأوّل.
الفرقة الثالثة القدریة: الغلاة فی إثبات القدرة للعبد فی إثبات الخلق و الإیجاد، و أنه لا یحتاج فی ذلک إلی معاونة من جهة اللّه تعالی.
الفرقة الرابعة المجبرة: الغلاة فی نفی استطاعة العبد قبل الفعل و بعده و معه، و نفی الاختیار له، و نفی الکسب، و هاتان الفرقتان متضادّتان، ثم افترقت المجبرة علی ثلاث فرق.
الجهمیة أتباع جهم بن صفوان الترمذیّ مولی راسب، و قتل فی آخر دولة بنی أمیّة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 177
و هو ینفی الصفات الإلهیة کلها و یقول لا یجوز أن یوصف الباری تعالی بصفة یوصف بها خلقه، و أن الإنسان لا یقدر علی شی‌ء، و لا یوصف بالقدرة و لا الاستطاعة، و أن الجنة و النار یفنیان و تنقطع حرکات أهلهما، و أن من عرف اللّه و لم ینطق بالإیمان لم یکفر، لأن العلم لا یزول بالصمت، و هو مؤمن مع ذلک. و قد کفّره المعتزلة فی نفی الاستطاعة، و کفّره أهل السنة بنفی الصفات و خلق القرآن، و نفی الرؤیة، و انفرد بجواز الخروج علی السلطان الجائر، و زعم أن علم اللّه حادث لا بصفة یوصف بها غیره. و البکریة: أتباع بکر ابن أخت عبد الواحد، و هو یوافق النظّام فی أن الإنسان هو الروح، و یزعم أن الباری تعالی یری فی القیامة فی صورة یخلقها و یکلم الناس منها، و أن صاحب الکبیرة منافق فی الدرک الأسفل من النار، و حاله أسوأ من حال الکافر، و حرّم أکل الثوم و البصل، و أوجب الوضوء من قرقرة البطن.
و الضراریة: أتباع ضرار بن عمر، و انفرد بأشیاء منها أن اللّه تعالی یری فی القیامة بحاسة زائدة سادسة، و أنکر قراءة ابن مسعود، و شک فی دین عامّة المسلمین، و قال لعلهم کفار، و زعم أن الجسم أعراض مجتمعة، کما قالت النجاریة، و من جملة المجبرة.
البطیخیة: أتباع إسماعیل البطیخیّ. و الصباحیة: أتباع أبی صباح بن معمر. و الفکریة، و الخوفیة.
الفرقة الخامسة المرجئة: الإرجاء، إمّا مشتق من الرجاء لأنّ المرجئة یرجون لأصحاب المعاصی الثواب من اللّه تعالی، فیقولون لا یضرّ مع الإیمان معصیة، کما أنه لا ینفع مع الکفر طاعة، أو یکون مشتقا من الإرجاء و هو التأخیر، لأنهم أخروا حکم أصحاب الکبائر إلی الآخرة، و حقیقة المرجئة أنهم الغلاة فی إثبات الوعد و الرجاء، و نفی الوعید و الخوف عن المؤمنین، و هم ثلاثة أصناف: صنف جمعوا بین الرجاء و القدر، و هم غیلان و أبو شمر من بنی حنیفة. و صنف جمعوا بین الإرجاء و الجبر، مثل جهم بن صفوان.
و صنف قال بالأرجاء المحض، و هم أربع فرق.
الیونسیة أتباع یونس بن عمرو، و هو غیر یونس بن عبد الرحمن القمیّ الرافضیّ، زعم أن الإیمان معرفة اللّه و الخضوع له و المحبة و الإقرار بأنه واحد لیس کمثله شی‌ء.
و الغسانیة: أتباع غسان بن أبان الکوفیّ المنکر نبوّة عیسی علیه السّلام، و تلمذ لمحمد بن الحسن الشیبانیّ، و مذهبه فی الإیمان کمذهب یونس إلّا أنه یقول کل خصلة من خصال الإیمان تسمی بعض الإیمان، و یونس یقول کل خصلة لیست بإیمان و لا بعض إیمان، و زعم غسان أن الإیمان لا یزید و لا ینقص، و عند أبی حنیفة رحمه اللّه الإیمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان، فلا یزید و لا ینقص کقرص الشمس.
و الثوبانیة أتباع ثوبان المرجی. ثم الخارجیّ المعتزلیّ، و کان یقال له جامع النقائص،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 178
هاجر الخصائص، و من قوله الإیمان هو المعرفة و الإقرار، و الإیمان فعل ما یجب فی العقل فعله، فأوجب الإیمان بالعقل قبل ورود الشرع، و فارق الغسانیة و الیونسیة فی ذلک.
و التؤمنیة: أتباع أبی معاذ التؤمنیّ الفیلسوف، زعم أن من ترک فریضة لا یقال له فاسق علی الإطلاق، و لکن ترک الفریضة فسق، و زعم أن هذه الخصال التی تکون جملتها إیمانا، فواحدة لیست بإیمان، و لا بعض إیمان، و أن من قتل نبیا کفر لا لأجل القتل بل لاستخفافه به و بغضه له.
و من فرق المرجئة، المریسیة: أتباع بشر بن غیاث المریسیّ، کان عراقیّ المذهب فی الفقه، تلمیذ للقاضی أبی یوسف یعقوب الحضرمیّ، و قال بنفی الصفات و خلق القرآن، فأکفرته الصفاتیة بذلک، و زعم أن أفعال العباد مخلوقة للّه تعالی، و لا استطاعة مع الفعل، فأکفرته المعتزلة بذلک. و زعم أن الإیمان هو التصدیق بالقلب، و هو مذهب ابن الربوبدی، و لما ناظره الشافعیّ فی مسألة خلق القرآن و نفی الصفات قال له: نصفک کافر لقولک بخلق القرآن. و نفی الصفات، و نصفک مؤمن لقولک بالقضاء و القدر و خلق اکتساب العباد. و بشر معدود من المعتزلة لنفیه الصفات و قوله بخلق القرآن.
و من فرق المرجئة الصالحیة، أتباع صالح بن عمرو بن صالح و الجحدریة أتباع جحدر بن محمد التمیمیّ و الزیادیة أتباع محمد بن زیاد الکوفیّ و الشبیبیة أتباع محمد بن شبیب و النقاضیة و البهشمیة. و من المرجئة جماعة من الأئمة، کسعید بن جبیر، و طلق بن حبیب، و عمرو بن مرّة، و محارب بن دثار، و عمرو بن ذر، و حماد بن سلیمان، و أبی مقاتل. و خالفوا القدریة و الخوارج و المرجئة فی أنهم لم یکفروا بالکبائر، و لا حکموا بتخلید مرتکبها فی النار، و لا سبوا أحدا من الصحابة، و لا وقعوا فیهم.
و أوّل من وضع الإرجاء أبو محمد الحسن بن محمد المعروف بابن الحنفیة بن علیّ بن أبی طالب، و تکلم فیه و صارت المرجئة بعده أربعة أنواع: الأوّل مرجئة الخوارج، الثانی مرجئة القدریة، الثالث مرجئة الجبریة، الرابع مرجئة الصالحیة. و کان الحسن بن محمد ابن الحنفیة یکتب کتبه إلی الأمصار یدعو إلی الإرجاء، إلّا أنه لم یؤخر العمل عن الإیمان کما قال بعضهم، بل قال أداء الطاعات و ترک المعاصی لیس من الإیمان، لا یزول بزوالها. و قال ابن قتیبة أوّل من وضع الإرجاء بالبصرة حسان بن بلال بن الحارث المزنیّ، و ذکر بعضهم أن أوّل من وضع الإرجاء أبا سلت السمان، و مات سنة اثنتین و خمسین و مائة.
الفرقة السادسة الحروریة: الغلاة فی إثبات الوعید و الخوف علی المؤمنین، و التخلید فی النار مع وجود الإیمان، و هم قوم من النواصب الخوارج، و هم مضادّون المرجئة فی النفی و الإثبات و الوعد و الوعید، و من مفرداتهم أن من ارتکب کبیرة فهو مشرک، و مذهب عامّة الخوارج أنه کافر و لیس بمشرک. و قال بعضهم هو منافق فی الدرک الأسفل من النار،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 179
فعند الحروریة أن الاسم یتغیر بارتکاب الکبیرة الواحدة فلا یسمی مؤمنا بل کافرا مشرکا، و الحکم فیه أنه یخلد فی النار، و اتفقوا علی أن الإیمان هو اجتناب کل معصیة، و قیل لهم الحروریة لأنهم خرجوا إلی حروراء لقتال علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، و عدّتهم اثنا عشر ألفا، ثم سار علیّ رضی اللّه عنه إلیهم و ناظرهم، ثم قاتلهم و هم أربعة آلاف، فانضم إلیهم جماعة حتی بلغوا اثنی عشر ألفا.
الفرقة السابعة النجاریة: أتباع الحسن بن محمد بن عبد اللّه النجار أبی عبد اللّه، کان حائکا، و قیل أنه کان یعمل الموازین، و أنه کان من أهل قمّ، کان من جملة المجبرة و متکلمیهم، و له مع النظّام عدّة مناظرات منها أنه ناظرة مرّة فلما لم یلحن بحجته رفسه النظّام و قال له: قم أخزی اللّه من ینسبک إلی شی‌ء من العلم و الفهم، فانصرف محموما و اعتلّ حتی مات، و هم أکثر معتزلة الریّ و جهاتها، و هم یوافقون أهل السنة فی مسألة القضاء و القدر، و اکتساب العباد، و فی الوعد و الوعید، و إمامة أبی بکر رضی اللّه عنه، و یوافقون المعتزلة فی نفی الصفات و خلق القرآن، و فی الرؤیة، و هم ثلاث فرق البرغوثیة و الزعفرانیة و المستدرکة.
الفرقة الثامنة الجهمیة: أتباع جهم بن صفوان، و هم یوافقون أهل السنة فی مسألة القضاء و القدر مع میل إلی الجبر، و ینفون الصفات و الرؤیة، و یقولون بخلق القرآن، و هم فرقة عظیمة و عدادهم فی المعطلة المجبرة.
الفرقة التاسعة الروافض: الغلاة فی حب علیّ بن أبی طالب، و بغض أبی بکر و عمر و عثمان و عائشة و معاویة فی آخرین من الصحابة رضی اللّه عنهم أجمعین، و سموا رافضة لأنّ زید بن علیّ بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنهم، امتنع من لعن أبی بکر و عمر رضی اللّه عنهما، و قال: هما وزیرا جدّی محمد صلّی اللّه علیه و سلّم. فرفضوا رأیه، و منهم من قال لأنهم رفضوا رأی الصحابة رضی اللّه عنهم، حیث بایعوا أبا بکر و عمر رضی اللّه عنهما. و قد اختلف الناس فی الإمام بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، فذهب الجمهور إلی أنه أبو بکر الصدّیق رضی اللّه عنه، و قال العباسیة و الربوبدیة أتباع أبی هریرة الربوبدیّ، و قیل أتباع أبی العباس الربوبدیّ، هو العباس بن عبد المطلب رضی اللّه عنه، لأنه العمّ و الوارث، فهو أحق من ابن العمّ. و قال العثمانیة و بنو أمیة هو عثمان بن عفان رضی اللّه تعالی عنه، و ذهب آخرون إلی غیر ذلک. و قال الرافضة هو علیّ بن أبی طالب، ثم اختلفوا فی الإمامة اختلافا کثیرا، حتی بلغت فرقهم ثلاثمائة فرقة، و المشهور منها عشرون فرقة.
الزیدیة و الصباحیة أقرّوا إمامة أبی بکر رضی اللّه عنه، و رأوا أنه لا نص فی إمامة علیّ رضی اللّه عنه، و اختلفوا فی إمامة عثمان رضی اللّه عنه، فأنکرها بعضهم و أقرّ بعضهم أنه الإمام بعد عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، لکن قالوا علیّ أفضل من أبی بکر، و إمامة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 180
المفضول جائزة، و قال الغلاة هو علیّ بالنص، ثم الحسن و بعده الحسین، و صار بعد الحسین الأمر شوری. و قال بعضهم لم یرد النص إلّا بإمامة علیّ فقط، و قال آخرون نص علی علیّ بالوصف لا بالعین و الاسم. و قال بعضهم قد جاء النص علی إمامة اثنی عشر آخرهم المهدیّ المنتظر.
و فرقهم العشرون هی: الإمامیة: و هم مختلفون فی الإمامة بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، فزعم أکثرهم أن الإمامة فی علیّ بن أبی طالب و أولاده بنص النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و أن الصحابة کلهم قد ارتدّوا إلّا علیا و ابنیه الحسن و الحسین و أبا ذر الغفاریّ و سلمان الفارسیّ و طائفة یسیرة.
و أوّل من تکلم فی مذهب الإمامیة علیّ بن إسماعیل بن هیثم التمار، و کان من أصحاب علیّ بن أبی طالب، و ذهبت القطعیة منهم إلی أن الإمامة فی علیّ، ثم فی الحسن، ثم فی الحسین، ثم فی علیّ بن الحسین، ثم فی محمد بن علیّ، ثم فی جعفر بن محمد، ثم فی موسی بن جعفر، ثم فی علیّ بن موسی. و قطعوا الإمامة علیه فسموا القطعیة لذلک، و لم یکتبوا إمامة محمد بن موسی، و لا إمامة الحسن بن محمد بن علیّ بن موسی، و قالت الناووسیة جعفر بن محمد لم یمت و هو حیّ ینتظر، و قالت المبارکیة أتباع مبارک الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه إسماعیل بن جعفر، ثم محمد بن إسماعیل. و قالت الشمیطیة أتباع یحیی بن شمیط الأحمسیّ، کان مع المختار قائدا من قوّاده، فأنفذه أمیرا علی جیش البصرة یقاتل مصعب بن الزبیر، فقتل بالمدار: الإمامة بعد جعفر فی ابنه محمد و أولاده، و قالت المعمریة أتباع معمر: الإمامة بعد جعفر فی ابنه عبد اللّه بن جعفر و أولاده. و یقال لهم الفطحیة، لأنّ عبد اللّه بن جعفر کان أفطح الرجلین. و قالت الواقفیة: الإمام بعد جعفر ابنه موسی بن جعفر و هو حیّ لم یمت، و هو الإمام المنتظر، و سموا الواقفیة لوقوفهم علی إمامة موسی. و قالت الزراریة أتباع زرارة بن أعین الإمام: بعد جعفر ابنه عبد اللّه، إلّا أنّه سأله عن مسائل فلم یمکنه الجواب عنها فادّعی إمامة موسی بن جعفر من بعد أبیه. و قالت المفضلیة أتباع المفضل بن عمرو: الإمام بعد جعفر ابنه موسی، و أنه مات فانتقلت الإمامة إلی ابنه محمد بن موسی. و قالت المفوّضة من الإمامیة: إن اللّه تعالی خلق محمدا صلّی اللّه علیه و سلّم و فوّض إلیه خلق العالم و تدبیره. و قال بعضهم بل فوّض ذلک إلی علیّ بن أبی طالب.
و الفرقة الثانیة من فرق الروافض: الکیسانیة، أتباع کیسان مولی علیّ بن أبی طالب، و أخذ عن محمد ابن الحنفیة، و قیل بل کیسان اسم المختار بن عبید الثقفیّ الذی قام لأخذ ثأر الحسین رضی اللّه عنه. زعموا أن الإمام بعد علیّ ابنه محمد ابن الحنفیة، لأنه أعطاه الرایة یوم الجمل، و لأنّ الحسین أوصی إلیه عند خروجه إلی الکوفة، ثم اختلفوا فی الإمام بعد ابن الحنفیة، فقال بعضهم رجع الأمر بعده إلی أولاد الحسن و الحسین، و قیل بل انتقل إلی أبی هاشم عبد اللّه بن محمد ابن الحنفیة، و قالت الکربیة أتباع أبی کرب بأن ابن الحنفیة حیّ لم یمت، و هو الإمام المنتظر. و من قول الکیسانیة أن البدا جائز علی اللّه، و هو کفر صریح.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 181
و الفرقة الثالثة الخطابیة: أتباع أبی الخطاب محمد بن أبی ثور، و قیل محمد بن أبی یزید الأجدع، و مذهبه الغلوّ فی جعفر بن محمد الصادق، و هو أیضا من المشبهة، و أتباعه خمسون فرقة، و کلهم متفقون علی أن الأئمة مثل علیّ و أولاده کلهم أنبیاء، و أنه لا بدّ من رسولین لکلّ أمّة، أحدهما ناطق و الآخر صامت، فکان محمد ناطقا و علیّ صامتا، و أن جعفر بن محمد الصادق کان نبیا، ثم انتقلت النبوّة إلی أبی الخطاب الأجدع، و جوّزوا کلهم شهادة الزور لموافقیهم، و زعموا أنهم عالمون بما هو کائن إلی یوم القیامة، و قالت المعمریة: منهم الإمام بعد أبی الخطاب رجل اسمه معمر، و زعموا أن الدنیا لا تفنی، و أن الجنة هی ما یصیبه الإنسان من الخیر فی الدنیا، و النار ضدّ ذلک، و أباحوا شرب الخمر و الزنی و سائر المحرّمات، و دانوا بترک الصلاة، و قالوا بالتناسخ، و أن الناس لا یموتون و إنما ترفع أرواحهم إلی غیرهم. و قالت البزیغیة منهم: أن جعفر بن محمد إله و لیس هو الذی یراه الناس و إنما تشبه علی الناس، و زعموا أن کلّ مؤمن یوحی إلیه، و أنّ منهم من هو خیر من جبریل و میکائیل و محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، و زعموا أنهم یرون أمواتهم بکرة و عشیا. و قالت العمیریة منهم أتباع عمیر بن بیان العجلیّ مثل ذلک کله، و خالفوهم فی أن الناس لا یموتون، و افترقت الخطابیة بعد قتل أبی الخطاب فرقا، منها فرقة زعمت أن الإمام بعد أبی الخطاب، عمیر بن بیان العجلیّ، و مقالتهم کمقالة البزیغیة، إلّا أن هؤلاء اعترفوا بموتهم و نصبوا خیمة علی کناسة الکوفة یجتمعون فیها علی عبادة جعفر الصادق، فبلغ ذلک یزید بن عمیر، فصلب عمیر بن بیان فی کناسة الکوفة، و من فرقهم المفضلیة، أتباع مفضل الصیرفیّ، زعم أن جعفر بن محمد إله، فطرده و لعنه، و زعمت الخطابیة بأجمعها أن جعفر بن محمد الصادق أودعهم جلدا یقال له جفر، فیه کلّ ما یحتاجون إلیه من علم الغیب و تفسیر القرآن، و زعموا لعنهم اللّه، أن قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً معناه عائشة أمّ المؤمنین رضی اللّه عنها، القائلون بإمامته و إمامة من اجتمع فیه ست خصال، العلم و الزهد و الشجاعة، و أن یکون من أولاد فاطمة الزهراء رضی اللّه عنها حسنیا أو حسینیا، و منهم من زاد صباحة الوجه، و أن لا یکون فیه آفة، و هم یوافقون المعتزلة فی أصولهم کلها إلّا فی مسألة الإمامة، و أخذ مذهب زید بن علیّ عن واصل بن عطاء، و کان یفضل علیا علی أبی بکر و عمر مع القول بإمامتهما، و هم أربع فرق: الجارودیة، أتباع أبی الجارود، و یکنّی أبا النجم زیاد بن المنذر العبدیّ، زعم أن النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم نص علی إمامة علیّ بالوصف لا بالتسمیة، و أن الناس کفروا بترکهم مبایعة علیّ رضی اللّه عنه، و الحسن و الحسین و أولادهما. و الجریریة أتباع سلیم بن جریر، و من قوله لم یکفر الناس بترکهم مبایعة علیّ، بل أخطأوا بترک الأفضل و هو علیّ، و کفّروا الجارودیة بتکفیرهم الصحابة، إلا أنهم کفّروا عثمان بن عفان بالأحداث التی أحدثها و قالوا: لم ینص علیّ علی إمامة أحد، و صار الأمر من بعده شوری، و منهم البتریة أتباع الحسن بن صالح بن کثیر الأبتر، و قولهم أنّ علیا أفضل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 182
و أولی بالإمامة، غیر أن أبا بکر کان إماما، و لم تکن إمامته خطأ و لا کفرا، بل ترک علیّ الإمامة له، و أما عثمان فیتوقف فیه. و منهم الیعقوبیة أتباع یعقوب، و هم یقولون بإمامة أبی بکر و عمر، و یتبرّؤون ممن تبرّأ منهما، و ینکرون رجعة الأموات إلی الدنیا قبل یوم القیامة، و یتبرّؤون ممن دان بها، إلّا أنهم متفقون علی تفضیل علیّ علی أبی بکر و عمر من غیر تفسیقهما و لا تکفیرهما و لا لعنهما و لا الطعن علی أحد من الصحابة رضوان اللّه علیهم أجمعین.
و الفرقة الخامسة السبائیة: أتباع عبد اللّه بن سبأ الذی قال شفاها لعلیّ بن أبی طالب:
أنت الإله، و کان من الیهود. و یقول فی یوشع بن نون مثل قوله ذلک فی علیّ، و زعم أن علیا لم یقتل و أنه حیّ لم یمت، و أنه فی السحاب، و أن الرعد صوته و البرق سوطه، و أنه ینزل إلی الأرض بعد حین. قبحه اللّه.
و الفرقة السادسة: الکاملیة أتباع أبی کامل، اکفر جمیع الصحابة بترکهم بیعة علیّ، و کفر علیا بترکه قتالهم، و قال بتناسخ الأنوار الإلهیة فی الأئمة.
و الفرقة السابعة: البیانیة، أتباع بیان بن سمعان، زعم أن روح الإله حل فی الأنبیاء، ثم فی علیّ، و بعده فی محمد ابن الحنفیة، فی ابنه أبی هاشم عبد اللّه بن محمد، ثم حل بعد أبی هاشم فی بیان بن سمعان، یعنی نفسه، لعنه اللّه.
و الفرقة الثامنة: المغیریة، أتباع مغیرة بن سعید العجلیّ، مولی خالد بن عبد اللّه، طلب الإمامة لنفسه بعد محمد بن عبد اللّه بن الحسن، فخرج علی خالد بن عبد اللّه القسریّ بالکوفة فی عشرین رجلا فعطعطوا به، فقال خالد أطعمونی ماء و هو علی المنبر، فعیر بذلک. و المغیرة هذا قال بالتشبیه الفاحش، و ادّعی النبوّة، و زعم أن معجزته علمه بالاسم الأعظم، و أنه یحیی الموتی، و زعم أن اللّه لما أراد أن یخلق العالم کتب بإصبعه أعمال عباده، فغضب من معاصیهم، فعرق فاجتمع من عرقه بحران أحدهما مالح و الآخر عذب، فخلق من البحر العذب الشیعة، و خلق الکفرة من البحر الملح، و زعم أن المهدیّ یخرج و هو محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب.
و الفرقة التاسعة: الهشامیة، و هم صنفان: أحدهما أتباع هشام بن الحکم، و الثانی أتباع هشام الجولقیّ، و هما یقولان لا تجوز المعصیة علی الإمام، و تجوز علی الأنبیاء، و أن محمدا عصی ربه فی أخذ الفداء من أسری بدر کذبا، لعنهما اللّه، و هما أیضا مع ذلک من المشبهة.
و الفرقة العاشرة: الزراریة، أتباع زرارة بن أعین، أحد الغلاة فی الرفض، و یزعم مع ذلک أن اللّه تعالی لم یکن فی الأزل عالما و لا قادرا حتی اکتسب لنفسه جمیع ذلک.
قبحه اللّه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 183
و الفرقة الحادیة عشر: الجناحیة، أتباع عبد اللّه بن معاویة ذی الجناحین بن أبی طالب، و زعم أنه إله، و أن العلم ینبت فی قلبه کما تنبت الکمأة، و أن روح الإله دارت فی الأنبیاء کما کانت فی علیّ و أولاده، ثم صارت فیه، و مذهبهم استحلال الخمر و المیتة و نکاح المحارم، و أنکروا القیامة، و تأوّلوا قوله تعالی: لَیْسَ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِیما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ [المائدة/ 93] و زعموا أن کل ما فی القرآن من تحریم المیتة و الدم و لحم الخنزیر کنایة عن قوم یلزم بغضهم، مثل أبی بکر و عمر و عثمان و معاویة، و کل ما فی القرآن من الفرائض التی أمر اللّه بها، کنایة عمن یلزم موالاتهم، مثل علیّ و الحسن و الحسین و أولادهم.
و الثانیة عشر: المنصوریة، أتباع أبی منصور العجلیّ، أحد الغلاة المشبهة، زعم أن الإمامة انتقلت إلیه بعد محمد الباقر بن علیّ زین العابدین بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب، و أنه عرج به إلی السماء بعد انتقال الإمامة إلیه، و أن معبوده مسح بیده علی رأسه و قال له: یا بنیّ بلغ عنی آیة الکسف الساقط من السماء فی قوله تعالی: وَ إِنْ یَرَوْا کِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً یَقُولُوا سَحابٌ مَرْکُومٌ الآیة [الطور/ 44] و زعم أن أهل الجنة قوم تجب موالاتهم مثل علیّ بن أبی طالب و أولاده، و أن أهل النار قوم تجب معاداتهم مثل أبی بکر و عمر و عثمان و معاویة رضی اللّه عنهم.
و الثالثة عشر: الغرابیة، زعموا، لعنهم اللّه، أن جبریل أخطأ، فإنه أرسل إلی علیّ بن أبی طالب، فجاء إلی محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، و جعلوا شعارهم إذا اجتمعوا أن یقولوا: العنوا صاحب الریش، یعنون جبریل علیه السّلام و علیهم اللعنة.
و الرابعة عشر: الذمّیة، بفتح الذال المعجمة، زعموا، أخزاهم اللّه، أن علیّ بن أبی طالب بعثه اللّه نبیا، و أنه بعث محمدا صلّی اللّه علیه و سلّم لیظهر أمره، فادّعی النبوّة لنفسه، و أرضی علیا بأن زوّجه ابنته و موّله، و منهم العلیانیة: أتباع علیان بن ذراع السدوسیّ، و قیل الأسدیّ، کان یفضل علیا علی النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و یزعم أن علیا بعث محمدا، و کان، لعنه اللّه، یذم النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، لزعمه أن محمدا بعث لیدعو إلی علیّ، فدعا إلی نفسه، و من العلیانیة من یقول بإلهیة محمد و علیّ جمیعا، و یقدّمون محمدا فی الإلهیة، و یقال لهم المیمیة، و منهم من قال بإلهیة خمسة و هم أصحاب الکساء، محمد و علیّ و فاطمة و الحسن و الحسین، و قالوا خمستهم شی‌ء واحد، و الروح حالة فیهم بالسویة، لا فضل لواحد منهم علی الآخر، و کرهوا أن یقولوا فاطمة بالهاء، فقالوا فاطم، قال بعضهم:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 184 تولیت بعد اللّه فی الدین خمسةنبیا و سبطیه و شیخا و فاطما
و الخامسة عشر: الیونسیة، أتباع یونس بن عبد اللّه القمیّ، أحد الغلاة المشبهة.
و السادسة عشر: الرزامیة، أتباع رزام بن سابق، زعم أن الإمامة انتقلت بعد علیّ بن أبی طالب إلی ابنه محمد ابن الحنفیة، ثم إلی ابنه أبی هاشم، ثم إلی علیّ بن عبد اللّه بن عباس بالوصیة، ثم إلی ابنه محمد بن علیّ، فأوصی بها محمد إلی أبی العباس عبد اللّه بن محمد السفاح الظالم، المتردّد فی المذاهب، الجاهل بحقوق أهل البیت.
و السابعة عشر: الشیطانیة، أتباع محمد بن النعمان شیطان الطاق، و قد شارک المعتزلة و الرافضة فی جمیع مذهبهم، و انفرد بأعظم الکفر قاتله اللّه، و هو أنه زعم أن اللّه لا یعلم الشی‌ء حتی یقدّره، و قبل ذلک یستحیل علمه.
و الثامنة عشر: البسلمیة، و هم من الراوندیة، زعموا أن الإمامة بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم صارت فی علیّ و أولاده الحسن و الحسین و محمد ابن الحنفیة، ثم فی أبی هاشم عبد اللّه بن محمد ابن الحنفیة، و انتقلت منه إلی علیّ بن عبد اللّه بن عباس بوصیته إلیه، ثم إلی أبی العباس السفاح، ثم إلی أبی سلمة صاحب دولة بنی العباس، و قام بناحیة کش فیما وراء النهر رجل من أهل مرو أعور یقال له هاشم، ادّعی أن أبا سلمة کان إلها انتقل إلیه روح اللّه، ثم انتقل إلیه بعده، فانتشرت دعوته هناک، و احتجب عن أصحابه و اتخذ له وجها من ذهب، فعرف بالمصیغ، ثم إن أصحابه طلبوا رؤیته فوعدهم أن یریهم نفسه إن لم یحترقوا، و عمل تجاه مرآه مرآة محرقة تعکس شعاع الشمس، فلما دخلوا علیه احترق بعضهم و رجع الباقون، و قد فتنوا و اعتقدوا أنه إله لا تدرکه الأبصار، و نادوا فی حروبهم بإلهیته.
و التاسعة عشر: الجعفریة.
و العشرون: الصباحیة، و هم و الزیدیة أمثل الشیعة، فإنهم یقولون بإمامة أبی بکر، و أنه لا نص فی إمامة علیّ، مع أنه عندهم أفضل، و أبو بکر مفضول.
و من فرق الروافض، الخلویة و الشاعیة و الشریکیة، یزعمون أن علیا شریک محمد صلّی اللّه علیه و سلّم. و التناسخیة القائلون أن الأرواح تتناسخ، و اللاعنة و المخطئة الذین یزعمون أن جبریل أخطأ، و الإسحاقیة و الخلفیة الذین یقولون لا تجوز الصلاة خلف غیر الإمام.
و الرجعیة القائلون سیرجع علیّ بن أبی طالب و ینتقم من أعدائه. و المتربصیة الذین یتربصون خروج المهدیّ. و الأمریة و الجبیة و الجلالیة و الکریبیة، أتباع أبی کریب الضریر.
و الحزنیة أتباع عبد اللّه بن عمرو الحزنیّ.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 185
الفرقة العاشرة الخوارج: و یقال لهم النواصب، و الحروریة نسبة إلی حروراء، موضع خرج فیه أوّلهم علی علیّ رضی اللّه عنه، و هم الغلاة فی حب أبی بکر و عمر و بغض علیّ بن أبی طالب رضوان اللّه علیهم أجمعین، و لا أجهل منهم، فإنهم القاسطون المارقون، خرجوا علی علیّ رضی اللّه عنه و انفصلوا عنه بالجملة و تبرّءوا منه، و منهم من صحبه و منهم من کان فی زمنه، و هم جماعة قد دوّن الناس أخبارهم و هم عشرون فرقة:
الأولی یقال لهم الحکمیة، لأنهم خرجوا علی علیّ رضی اللّه عنه فی صفین، و قالوا لا حکم إلا للّه و لا حکم للرجال، و انحازوا عنه إلی حروراء، ثم إلی النهروان، و سبب ذلک أنهم حملوه علی التحاکم إلی من حکم بکتاب اللّه، فلما رضی بذلک و کانت قضیة الحکمین أبی موسی الأشعریّ، و هو عبد اللّه بن قیس، و عمرو بن العاص، غضبوا من ذلک و نابذوا علیا و قالوا فی شعارهم، لا حکم إلّا للّه و لرسوله، و کان إمامهم فی التحکیم عبد اللّه بن الکوّاء.
و الثانیة الأزارقة أتباع أبی راشد نافع بن الأزرق بن قیس بن نهار بن إنسان بن أسد بن صبرة بن ذهل بن الدول بن حنیفة، الخارج بالبصرة فی أیام عبد اللّه بن الزبیر، و هم علی التبرّی من عثمان و علیّ و الطعن علیهما، و أن دار مخالفیهم دار کفر، و أن من أقام بدار الکفر فهو کافر، و أن أطفال مخالفیهم فی النار، و یحل قتلهم، و أنکروا رجم الزانی و قالوا:
من قذف محصنة حدّ، و من قذف محصنا لا یحدّ، و یقطع السارق فی القلیل و الکثیر.
و الثالثة النجدات، و لم یقل فیهم النجدیة، لیفرّق بینهم و بین من انتسب إلی بلاد نجد، فإنهم أتباع نجد بن عویمر، و هو عامر الحنفیّ الخارج بالیمامة، و کان رأسا ذا مقالة مفردة، و تسمّی بأمیر المؤمنین، و بعث عطیة بن الأسود إلی سجستان فأظهر مذهبه بمرو، فعرفت أتباعه بالعطویة، و مذهبهم أن الدین أمران، أحدهما معرفة اللّه تعالی و معرفة رسوله و تحریم دماء المسلمین و أموالهم. و الثانی الإقرار بما جاء من عند اللّه تعالی جملة، و ما سوی ذلک من التحریم و التحلیل و سائر الشرائع، فإن الناس یعذرون بجهلها، و أنه لا یأثم المجتهد إذا أخطأ و أن من خالف أن یعذب المجتهد، فقد کفر و استحلوا دماء أهل الذمّة فی دار التقیة، و قالوا من نظر نظرة محرّمة أو کذب کذبة أو أصرّ علی صغیرة و لم یتب منها فهو کافر، و من زنی أو سرق أو شرب خمرا من غیر أن یصرّ علی ذلک فهو مؤمن غیر کافر.
و الرابعة الصفریة أتباع زیاد بن الأصفر، و یقال أتباع النعمان بن صفر، و قیل بل نسبوا إلی عبد اللّه بن صفار، و هو أحد بنی مقاعس، و هو الحارث بن عمرو بن کعب بن سعد بن زید مناة بن تمیم بن أدّ بن طابخة بن الیاس بن مضر بن نزار، و قیل عبد اللّه بن الصفار من بنی صویمر بن مقاعس، و قیل سموا بذلک لصفرة علتهم، و زعم بعضهم أن الصفریة بکسر الصاد، و قد وافق الصفریة الأزارقة فی جمیع بدعهم إلّا فی قتل الأطفال، و یقال للصفریة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 186
أیضا الزیادیة، و یقال لهم أیضا النکار من أجل أنهم ینقصون نصف علیّ و ثلث عثمان، و سدس عائشة رضی اللّه عنهم.
و الخامسة العجاردة أتباع عبد الکریم بن عجرد.
و السادسة المیمونیة أتباع میمون بن عمران، و هم طائفة من العجاردة، وافقوا الأزارقة إلّا فی شیئین، أحدهما قولهم تجب البراءة من الأطفال حتی یبلغوا و یصفوا الإسلام، و الثانی استحلال أموال المخالفین لهم، فلم تستحل المیمونیة مال أحد خالفهم ما لم یقتل المالک، فإذا قتل صار ماله فیئا، إلّا أنهم ازدادوا کفرا علی کفرهم، و أجازوا نکاح بنات البنات و بنات البنین و بنات أولاد الإخوة و بنات أولاد الأخوات فقط.
و السابعة الشعیبیة، و هم طائفة من العجاردة وافقوا المیمونیة فی جمیع بدعهم إلّا فی الاستطاعة و المشیئة، فإن المیمونیة مالت إلی القدریة.
و الثامنة الحمزیة، أتباع حمزة بن أدرک الشامیّ الخارج بخراسان فی خلافة هارون بن محمد الرشید، و کثر عیثه و فساده، ثم فض جموع عیسی بن علیّ عامل خراسان و قتل منهم خلقا کثیرا، فانهزم منه عیسی إلی کابل، و آل أمر حمزة إلی أن غرق فی کرمان بواد هناک، فعرفت أصحابه بالحمزیة، و کان یقول بالقدر فکفرته الأزارقة بذلک، و قال أطفال المشرکین فی النار، فکفّرته القدریة بذلک، و کان لا یستحل غنائم أعدائه بل یأمر بإحراق جمیع ما یغنمه منهم.
و التاسعة الحازمیة، و هم فرقة من العجاردة، قالوا فی القدر و المشیئة کقول أهل السنة، و خالفوا الخوارج فی الولایة و العداوة، فقالوا لم یزل اللّه تعالی محبا لأولیائه و مبغضا لأعدائه.
و العاشرة المعلومیة مع المجهولیة، تباینا فی مسألتین إحداهما قالت المعلومیة: من لم یعرف اللّه تعالی بجمیع أسمائه فهو کافر، و قالت المجهولیة: لا یکون کافرا. و الثانیة وافقت المعلومیة أهل السنة فی مسألة القدر و المشیئة، و المجهولیة وافقت القدریة فی ذلک.
و الحادیة عشر الصلتیة، أتباع عثمان بن أبی الصلت، و هم طائفة من العجاردة انفردوا بقولهم: من أسلم تولیناه لکن نتبرّأ من أطفاله، لأنه لیس للأطفال إسلام حتی یبلغوا.
و الثانیة عشر و الثالثة عشر الأحسنیة و المعبدیة، و هما فرقتان من الثعالبة أتباع ثعلبة بن عامر، و کان ثعلبة هذا مع عبد الکریم بن عجرد ثم اختلفا فی الأطفال. فقال عبد الکریم:
نتبرّأ منهم قبل البلوغ، و قال ثعلبة لا نتبرّأ منهم بل نقول نتولی الصغار. فلم تزل الثعالبة علی هذا إلی أن خرج رجل عرف بالأخنس فقال: نتوقف عن جمیع من فی دار التقیة إلّا من عرفنا منه إیمانا فإنا نتولاه، و من عرفنا منه کفرا تبرّأ منه، و لا یجوز أن نبدأ حدا بقتال،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 187
فتبرّأت منه الثعالبة و سموه بالأخنس لأنه خنس منهم، أی رجع عنهم، ثم خرجت فرقة من الثعالبة قیل لها المعبدیة أتباع معبد، فخالفت الثعالبة فی أخذ الزکاة من العبید و البهائم و کفّرت کلّ فرقة منهما الأخری.
و الرابعة عشر الشیبانیة، أتباع شیبان بن سلمة الخارج فی أیام أبی مسلم الخراسانیّ القائم بدعوة الخلفاء العباسیین، و کان معه. فتبرّأت منه الثعالبة لمعاونته لأبی مسلم، و هو أوّل من أظهر القول بالتشبیه تعالی اللّه عن ذلک.
و الخامسة عشر الشبیبیة، أتباع شبیب بن یزید بن أبی نعیم الخارج فی خلافة عبد الملک بن مروان، و صاحب الحروب العظیمة مع الحجاج بن یوسف الثقفیّ، و هم علی ما کانت علیه الحکمیة الأولی، إلّا أنهم انفردوا عن الخوارج بجواز إمامة المرأة و خلافتها، و استخلف شبیب هذا أمّه غزالة فدخلت الکوفة و قامت خطیبة و صلت الصبح بالمسجد الجامع، فقرأت فی الرکعة الأولی بالبقرة، و فی الثانیة بآل عمران، و أخبار شبیب طویلة.
و السادسة عشر الرشیدیة: أتباع رشید، یقال لهم أیضا العشریة من أجل أنهم کانوا یأخذون نصف العشر مما سقت الأنهار، فقال لهم زیاد بن عبد الرحمن یجب فیه العشر، فتبرّأت کل فرقة من الأخری و کفّرتها بذلک.
و السابعة عشر المکرمیة: أتباع أبی المکرم، و من قوله تارک الصلاة کافر، و لیس کفره لترک الصلاة، لکن لجهله بالله، و کذا قوله فی سائر الکبائر.
و الثامنة عشر الحفصیة: أتباع حفص بن المقدام أحد أصحاب عبد اللّه بن أباض، تفرّد بقوله من عرف اللّه تعالی و کفر بما سواه من رسول و غیره فهو کافر و لیس بمشرک، فأنکر ذلک الإباضیة و قالوا بل هو مشرک.
و التاسعة عشر الإباضیة، أتباع عبد اللّه بن أباض من بنی مقاعس، و اسمه الحرث بن عمرو، و یقال بل ینسبون إلی أباض بضم الهمزة، و هی قریة بالعرض من الیمامة نزل بها نجد بن عامر، و خرج عبد اللّه بن أباض فی أیام مروان، و کان من غلاة الحکمة.
و الفرقة العشرون الیزیدیة، أتباع یزید بن أبی أنیسة، و کان أباضیا، فانفرد ببدعة قبیحة، و هی أن اللّه تعالی سیبعث رسولا من العجم و ینزل علیه کتابا جملة واحدة ینسخ به شریعة محمد صلّی اللّه علیه و سلّم.
و من فرق الخوارج أیضا الحارثیة، و الأصومیة، أتباع یحیی بن أصوم، و البیهسیة أتباع أبی البیهس الهیصم بن خالد من بنی سعید بن ضبعة، کان فی زمن الحجاج، و قتل بالمدینة و صلب، و الیعقوبیة أتباع یعقوب بن علیّ الکوفیّ، و من فرقهم الفضلیة، أتباع فضل بن عبد اللّه، و الشمراخیة أتباع عبد اللّه بن شمراخ، و الضحاکیة أتباع الضحاک،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 188
و الخوارج یقال لهم الشراة، و أحدهم شاری، مشتق من شری الرجل إذا ألح، أو معناه یستشری بالشرّ، أو من قول الخوارج شرینا أنفسنا لدین اللّه فنحن لذلک شراة، و قیل أنه من قولهم شاریته أی لاححته و ماریته، و قیل شری الرجل غضبا إذا استطار غضبا، و قیل لهم هذا لشدّة غضبهم علی المسلمین.

ذکر الحال فی عقائد أهل الإسلام، منذ ابتداء الملة الإسلامیة إلی أن انتشر مذهب الأشعریة

اعلم أن اللّه تعالی لما بعث من العرب نبیه محمدا صلّی اللّه علیه و سلّم رسولا إلی الناس جمیعا، وصف لهم ربهم سبحانه و تعالی، بما وصف به نفسه الکریمة فی کتابه العزیز الذی نزل به علی قلبه صلّی اللّه علیه و سلّم الروح الأمین و بما أوحی إلیه ربه تعالی، فلم یسأله صلّی اللّه علیه و سلّم أحد من العرب بأسرهم، قرویهم و بدویهم عن معنی شی‌ء من ذلک، کما کانوا یسألونه صلّی اللّه علیه و سلّم عن أمر الصلاة و الزکاة و الصیام و الحج و غیر ذلک مما للّه فیه سبحانه أمر و نهی، و کما سألوه صلّی اللّه علیه و سلّم عن أحوال القیامة و الجنة و النار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شی‌ء من الصفات الإلهیة لنقل کما نقلت الأحادیث الواردة عنه صلّی اللّه علیه و سلّم فی أحکام الحلال و الحرام، و فی الترغیب و الترهیب، و أحوال القیامة و الملاحم و الفتن، و نحو ذلک مما تضمنته کتب الحدیث، معاجمها و مسانیدها و جوامعها، و من أمعن النظر فی دواوین الحدیث النبویّ، و وقف علی الآثار السلفیة، علم أنه لم یرد قط من طریق صحیح و لا سقیم عن أحد من الصحابة رضی اللّه عنهم، و علی اختلاف طبقاتهم و کثرة عددهم، أنه سأل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم عن معنی شی‌ء مما وصف الربّ، سبحانه به نفسه الکریمة فی القرآن الکریم، و علی لسان نبیه محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، بل کلهم فهموا معنی ذلک و سکتوا عن الکلام فی الصفات، نعم و لا فرّق أحد منهم بین کونها صفة ذات أو صفة فعل، و إنما أثبتوا له تعالی صفات أزلیة من العلم و القدرة و الحیاة و الإرادة و السمع و البصر و الکلام و الجلال و الإکرام و الجود و الإنعام و العز و العظمة، و ساقوا الکلام سوقا واحدا. و هکذا أثبتوا رضی اللّه عنهم ما أطلقه اللّه سبحانه علی نفسه الکریمة من الوجه و الید و نحو ذلک، مع نفی مماثلة المخلوقین، فأثبتوا رضی اللّه عنهم بلا تشبیه، و نزهوا من غیر تعطیل، و لم یتعرّض مع ذلک أحد منهم إلی تأویل شی‌ء من هذا، و رأوا بأجمعهم إجراء الصفات کما وردت، و لم یکن عند أحد منهم ما یستدل به علی وحدانیة اللّه تعالی، و علی إثبات نبوّة محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، سوی کتاب اللّه، و لا عرف أحد منهم شیئا من الطرق الکلامیة و لا مسائل الفلسفة، فمضی عصر الصحابة رضی اللّه عنهم علی هذا إلی أن حدث فی زمنهم القول بالقدر، و أنّ الأمر أنفة، أی أنّ اللّه تعالی لم یقدّر علی خلقه شیئا مما هم علیه.
و کان أوّل من قال بالقدر فی الإسلام، معبد بن خالد الجهنیّ، و کان یجالس الحسن بن الحسین البصریّ، فتکلم فی القدر بالبصرة، و هلک أهل البصرة مسلکه لما رأوا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 189
عمرو بن عبید ینتحله، و أخذ معبد هذا الرأی عن رجل من الأساورة یقال له أبو یونس سنسویه، و یعرف بالإسواریّ، فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج و صلبه بأمر عبد الملک بن مروان سنة ثمانین، و لما بلغ عبد اللّه بن عمر بن الخطاب رضی اللّه عنهما مقالة معبد فی القدر تبرّأ من القدریة، و اقتدی بمعبد فی بدعته هذه جماعة، و أخذ السلف رحمهم اللّه فی ذمّ القدریة، و حذروا منهم کما هو معروف فی کتب الحدیث، و کان عطاء بن یسار قاضیا یری القدر، و کان یأتی هو و معبد الجهنیّ إلی الحسن البصریّ فیقولان له: إنّ هؤلاء یسفکون الدماء و یقولون: إنما تجری أعمالنا علی قدر اللّه، فقال: کذب أعداء اللّه، فطعن علیه بهذا، و مثله. و حدث أیضا فی زمن الصحابة رضی اللّه عنهم مذهب الخوارج، و صرّحوا بالتکفیر بالذنب و الخروج علی الإمام و قتاله، فناظرهم عبد اللّه بن عباس رضی اللّه عنهما فلم یرجعوا إلی الحق، و قاتلهم أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، و قتل منهم جماعة کما هو معروف فی کتب الأخبار، و دخل فی دعوة الخوارج خلق کثیر، و رمی جماعة من أئمة الإسلام بأنهم یذهبون إلی مذهبهم، و عدّ منهم غیر واحد من رواة الحدیث کما هو معروف عند أهله، و حدث أیضا فی زمن الصحابة رضی اللّه عنهم مذهب التشیع لعلیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، و الغلوّ فیه، فلما بلغه ذلک أنکره و حرّق بالنار جماعة ممن غلا فیه و أنشد:
لمّا رأیت الأمر أمرا منکرااجّجت ناری و دعوت قنبرا
و قام فی زمنه رضی اللّه عنه عبد اللّه بن وهب بن سبأ، المعروف بابن السوداء السبأی، و أحدث القول بوصیة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم لعلیّ بالإمامة من بعده، فهو وصیّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم و خلیفته علی أمّته من بعده بالنص، و أحدث القول برجعة علیّ بعد موته إلی الدنیا، و برجعة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم أیضا، و زعم أنّ علیا لم یقتل، و أنه حیّ و أن فیه الجزء الإلهیّ، و أنه هو الذی یجی‌ء فی السحاب، و أن الرعد صوته و البرق سوطه، و أنه لا بدّ أن ینزل إلی الأرض فیملأها عدلا کما ملئت جورا. و من ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة، و صاروا یقولون بالوقف، یعنون أن الإمامة موقوفة علی أناس معینین، کقول الإمامیة بأنها فی الأئمة الاثنی عشر، و قول الإسماعیلیة بأنها فی ولد إسماعیل بن جعفر الصادق، و عنه أیضا أخذوا القول بفیئة الإمام، و القول برجعته بعد الموت إلی الدنیا، کما تعتقده الإمامیة إلی الیوم فی صاحب السرداب، و هو القول بتناسخ الأرواح، و عنه أخذوا أیضا القول بأن الجزء الإلهیّ یحلّ فی الأئمة بعد علیّ بن أبی طالب، و أنهم بذلک استحقوا الإمامة بطریق الوجوب، کما استحق آدم علیه السّلام سجود الملائکة، و علی هذا الرأی کان اعتقاد دعاة الخلفاء الفاطمیین ببلاد مصر، و ابن سبأ هذا هو الذی أثار فتنة أمیر المؤمنین عثمان بن عفان رضی اللّه عنه حتی قتل: کما ذکر فی ترجمة ابن سبأ من کتاب التاریخ الکبیر المقفی؛ و کان له عدّة أتباع فی عامّة الأمصار، و أصحاب کثیرون فی معظم الأقطار، فکثرت لذلک الشیعة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 190
و صاروا ضدّا للخوارج، و ما زال أمرهم یقوی و عددهم یکثر.
ثم حدث بعد عصر الصحابة رضی اللّه عنهم، مذهب جهم بن صفوان ببلاد المشرق، فعظمت الفتنة به. فإنه نفی أن یکون للّه تعالی صفة، و أورد علی أهل الإسلام شکوکا أثر فی الملة الإسلامیة آثارا قبیحة، تولد عنها بلاء کبیر. و کان قبیل المائة من سنی الهجرة، فکثر أتباعه علی أقواله التی تؤول إلی التعطیل، فأکبر أهل الإسلام بدعته و تمالؤا علی إنکارها و تضلیل أهلها. و حذروا من الجهمیة و عادوهم فی اللّه و ذمّوا من جلس إلیهم، و کتبوا فی الردّ علیهم ما هو معروف عند أهله، و فی أثناء ذلک حدث مذهب الاعتزال، منذ زمن الحسن بن الحسین البصریّ رحمه اللّه، بعد المائتین من سنی الهجرة، و صنفوا فیه مسائل فی العدل و التوحید و إثبات أفعال العباد، و أن اللّه تعالی لا یخلق الشرّ و جهلوا بأن اللّه لا یری فی الآخرة، و أنکروا عذاب القبر علی البدن، و أعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث، إلی غیر ذلک من مسائلهم، فتبعهم خلائق فی بدعهم، و أکثروا من التصنیف فی نصرة مذهبهم بالطرق الجدلیة، فنهی أئمة الإسلام عن مذهبهم، و ذمّوا علم الکلام، و هجروا من ینتحله، و لم یزل أمر المعتزلة یقوی و أتباعهم تکثر و مذهبهم ینتشر فی الأرض.
ثم حدث مذهب التجسیم المضادّ لمذهب الاعتزال، فظهر محمد بن کرّام بن عراق بن حزابة، أبو عبد اللّه السجستانیّ، زعیم الطائفة الکرّامیة بعد المائتین من سنی الهجرة، و أثبت الصفات حتی انتهی فیها إلی التجسیم و التشبیه، و حج و قدم الشام و مات بزغرة، فی صفر سنة ست و خمسین و مائتین، فدفن بالمقدس، و کان هناک من أصحابه زیادة علی عشرین ألفا علی التعبد و التقشف، سوی من کان منهم ببلاد المشرق، و هم لا یحصون لکثرتهم، و کان إماما لطائفتی الشافعیة و الحنفیة، و کانت بین الکرّامیة بالمشرق و بین المعتزلة مناظرات و مناکرات و فتن کثیرة متعدّدة أزماتها. هذا و أمر الشیعة یفشو فی الناس حتی حدث مذهب القرامطة، المنسوبین إلی حمدان الأشعث المعروف بقرمط، من أجل قصر قامته و قصر رجلیه و تقارب خطوه، و کان ابتداء أمر قرمط هذا فی سنة أربع و ستین و مائتین، و کان ظهوره بسواد الکوفة فاشتهر مذهبه بالعراق، و قام من القرامطة ببلاد الشام صاحب الحال و المدّثر و المطوّق، و قام بالبحرین منهم أبو سعید الجنابیّ من أهل جنابة، و عظمت دولته و دولة بنیه من بعده، حتی أوقعوا بعساکر بغداد و أخافوا خلفاء بنی العباس، و فرضوا الأموال التی تحمل إلیهم فی کل سنة علی أهل بغداد و خراسان و الشام و مصر و الیمن، و غزوا بغداد و الشام و مصر و الحجاز، و انتشرت دعاتهم بأقطار الأرض، فدخل جماعات من الناس فی دعوتهم و مالوا إلی قولهم الذی سموه علم الباطن، و هو تأویل شرائع الإسلام و صرفها عن ظواهرها إلی أمور زعموها من عند أنفسهم، و تأویل آیات القرآن و دعوا هم فیها تأویلا بعیدا انتحلوا القول به بدعا ابتدعوها بأهوائهم، فضلوا و أضلوا عالما کثیرا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 191
هذا و قد کان المأمون عبد اللّه بن هارون الرشید سابع خلفاء بنی العباس ببغداد، لما شغف بالعلوم القدیمة. بعث إلی بلاد الروم من عرّب له کتب الفلاسفة و أتاه بها فی أعوام بضع عشرة سنة و مائتین من سنی الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة فی الناس، و اشتهرت کتبهم بعامّة الأمصار، و أقبلت المعتزلة و القرامطة و الجهمیة و غیرهم علیها، و أکثروا من النظر فیها و التصفح لها، فانجرّ علی الإسلام و أهله من علوم الفلاسفة ما لا یوصف من البلاء و المحنة فی الدین، و عظم بالفلسفة ضلال أهل البدع و زادتهم کفرا إلی کفرهم. فلما قامت دولة بنی بویه ببغداد فی سنة أربع و ثلاثین و ثلاثمائة و استمرّوا إلی سنة سبع و ثلاثین و أربعمائة، و أظهروا مذهب التشیع، قویت بهم الشیعة و کتبوا علی أبواب المساجد فی سنة إحدی و خمسین و ثلاثمائة لعن اللّه معاویة بن أبی سفیان، و لعن من أغضب فاطمة، و من منع الحسن أن یدفن عند جدّه، و من نفی أبا ذر الغفاریّ، و من أخرج العباس من الشوری.
فلما کان اللیل حکه بعض الناس، فأشار الوزیر المهلبیّ أن یکتب بإذن معز الدولة، لعن اللّه الظالمین لأهل البیت، و لا یذکر أحد فی اللعن غیر معاویة. ففعل ذلک و کثرت ببغداد الفتن بین الشیعة و السنیة، و جهر الشیعة فی الأذان بحیّ علی خیر العمل فی الکرخ، و فشا مذهب الاعتزال بالعراق و خراسان و ما وراء النهر، و ذهب إلیه جماعة من مشاهیر الفقهاء، و قوی مع ذلک أمر الخلفاء الفاطمیین بأفریقیة و بلاد المغرب، و جهروا بمذهب الإسماعیلیة و بثوا دعاتهم بأرض مصر، فاستجاب لهم خلق کثیر من أهلها، ثم ملکوها سنة ثمان و خمسین و ثلاثمائة و بعثوا بعساکرهم إلی الشام فانتشرت مذاهب الرافضة فی عامّة بلاد المغرب و مصر و الشام و دیار بکر و الکوفة و البصرة و بغداد، و جمیع العراق، و بلاد خراسان، و ما وراء النهر مع بلاد الحجاز و الیمن و البحرین، و کانت بینهم و بین أهل السنة من الفتن و الحروب و المقاتل ما لا یمکن حصره لکثرته، و اشتهرت مذاهب الفرق من القدریة و الجهمیة و المعتزلة و الکرّامیة و الخوارج و الروافض و القرامطة و الباطنیة، حتی ملأت الأرض، و ما منهم إلّا من نظر فی الفلسفة و سلک من طرقها ما وقع علیه اختیاره، فلم تبق مصر من الأمصار و لا قطر من الأقطار، إلا و فیه طوائف کثیرة ممن ذکرنا.
و کان أبو الحسن علیّ بن إسماعیل الأشعریّ قد أخذ عن أبی علیّ محمد بن عبد الوهاب الجبائیّ، و لازمه عدّة أعوام، ثم بدا له فترک مذهب الاعتزال و سلک طریق أبی محمد عبد اللّه بن محمد بن سعید بن کلاب، و نسج علی قوانینه فی الصفات و القدر، و قال بالفاعل المختار، و ترک القول بالتحسین و التقبیح العقلیین، و ما قیل فی مسائل الصلاح و الأصلح، و أثبت أن العقل لا یوجب المعارف قبل الشرع، و أن العلوم و إن حصلت بالعقل فلا تجب به، و لا یجب البحث عنها إلّا بالسمع، و أن اللّه تعالی لا یجب علیه شی‌ء، و أن النبوّات من الجائزات العقلیة و الواجبات السمعیة إلی غیر ذلک من مسائله التی هی موضوع أصول الدین.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 192
و حقیقة مذهب الأشعریّ: رحمه اللّه، أنه سلک طریقا بین النفی الذی هو مذهب الاعتزال، و بین الإثبات الذی هو مذهب أهل التجسیم، و ناظر علی قوله هذا و احتج لمذهبه، فمال إلیه جماعة و عوّلوا علی رأیه، منهم القاضی أبو بکر محمد بن الطیب الباقلانیّ المالکیّ، و أبو بکر محمد بن الحسن بن فورک، و الشیخ أبو إسحاق إبراهیم بن محمد بن مهران الأسفراینیّ، و الشیخ أبو إسحاق إبراهیم بن علیّ بن یوسف الشیرازیّ، و الشیخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالیّ، و أبو الفتح محمد بن عبد الکریم بن أحمد الشهرستانیّ، و الإمام فخر الدین محمد بن عمر بن الحسین الرازیّ، و غیرهم ممن یطول ذکره، و نصروا مذهبه و ناظروا علیه و جادلوا فیه و استدلوا له فی مصنفات لا تکاد تحصر، فانتشر مذهب أبی الحسن الأشعریّ فی العراق من نحو سنة ثمانین و ثلاثمائة و انتقل منه إلی الشام، فلما ملک السلطان الملک الناصر صلاح الدین یوسف بن أیوب دیار مصر، کان هو و قاضیه صدر الدین عبد الملک بن عیسی بن درباس المارانیّ علی هذا المذهب، قد نشآ علیه منذ کانا فی خدمة السلطان الملک العادل نور الدین محمود بن زنکی بدمشق، و حفظ صلاح الدین فی صباه عقیدة ألفها له قطب الدین أبو المعالی مسعود بن محمد بن مسعود النیسابوریّ، و صار یحفظها صغار أولاده، فلذلک عقدوا الخناصر و شدّوا البنان علی مذهب الأشعریّ، و حملوا فی أیام دولتهم کافة الناس علی التزامه، فتمادی الحال علی ذلک جمیع أیام الملوک من بنی أیوب، ثم فی أیام موالیهم الملوک من الأتراک، و اتفق مع ذلک توجه أبی عبد اللّه محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلی العراق، و أخذ عن أبی حامد الغزالیّ مذهب الأشعریّ، فلما عاد إلی بلاد المغرب و قام فی المصامدة یفقههم و یعلمهم، وضع لهم عقیدة لقفها عنه عامّتهم، ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن علیّ القیسیّ، و تلقب بأمیر المؤمنین، و غلب علی ممالک المغرب هو و أولاده من بعد مدّة سنین، و تسموا بالموحدین، فلذلک صارت دولة الموحدین ببلاد المغرب تستبیح دماء من خالف عقیدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهدیّ المعصوم، فکم أراقوا بسبب ذلک من دماء خلائق لا یحصیها إلّا اللّه خالقها سبحانه و تعالی، کما هو معروف فی کتب التاریخ، فکان هذا هو السبب فی اشتهار مذهب الأشعریّ و انتشاره فی أمصار الإسلام، بحیث نسی غیره من المذاهب، و جهل حتی لم یبق الیوم مذهب یخالفه، إلّا أن یکون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبی عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل رضی اللّه عنه، فإنهم کانوا علی ما کان علیه السلف، لا یرون تأویل ما ورد من الصفات، إلی أن کان بعد السبعمائة من سنی الهجرة، اشتهر بدمشق و أعمالها تقیّ الدین أبو العباس أحمد بن عبد الحکم بن عبد السلام بن تیمیة الحرّانیّ، فتصدّی للانتصار لمذهب السلف و بالغ فی الردّ علی مذهب الأشاعرة، و صدع بالنکیر علیهم و علی الرافضة، و علی الصوفیة، فافترق الناس فیه فریقان، فریق یقتدی به و یعوّل علی أقواله و یعمل برأیه، و یری أنه شیخ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 193
الإسلام و أجلّ حفاظ أهل الملّة الإسلامیة. و فریق یبدّعه و یضلله و یزری علیه بإثباته الصفات، و ینتقد علیه مسائل منها ما له فیه سلف، و منها ما زعموا أنه خرق فیه الإجماع، و لم یکن له فیه سلف، و کانت له و لهم خطوب کثیرة، و حسابه و حسابهم علی اللّه الذی لا یخفی علیه شی‌ء فی الأرض و لا فی السماء، و له إلی وقتنا هذا عدّة أتباع بالشام و قلیل بمصر.
هذا و بین الأشاعرة و الماتریدیة أتباع أبی منصور محمد بن محمد بن محمود الماتریدیّ، و هم طائفة الفقهاء الحنفیة مقلد و الإمام أبی حنیفة النعمان بن ثابت، و صاحبیه أبی یوسف یعقوب بن إبراهیم الحضرمیّ، و محمد بن الحسن الشیبانیّ رضی اللّه عنهم، من الخلاف فی العقائد ما هو مشهور فی موضعه، و هو إذ تتبع یبلغ بضع عشرة مسألة، کان بسببها فی أوّل الأمر تباین و تنافر، و قدح کل منهم فی عقیدة الآخر، إلّا أن الأمر آل آخرا إلی الإغضاء، و للّه الحمد.
فهذا أعز اللّه بیان ما کانت علیه عقائد الأمّة من ابتداء الأمر إلی وقتنا هذا، قد فصّلت فیه ما أجمله أهل الأخبار، و أجملت ما فصلوا، فدونک طالب العلم تناول ما قد بذلت فیه جهدی و أطلت بسببه سهری و کدّی فی تصفح دواوین الإسلام و کتب الأخبار، فقد وصل إلیک صفوا و نلته عفوا بلا تکلف مشقة و لا بذل مجهول، و لکن اللّه یمنّ علی من یشاء من عباده.
أبو الحسن علیّ بن إسماعیل بن أبی بشر إسحاق بن سالم بن إسماعیل بن عبد اللّه بن موسی بن بلال بن أبی بردة عامر بن أبی موسی، و اسمه عبد اللّه بن قیس «الأشعریّ» البصریّ، ولد سنة ست و ستین و مائتین، و قیل سنة سبعین، و توفی ببغداد سنة بضع و ثلاثین و ثلاثمائة و قیل سنة أربع و عشرین و ثلاثمائة، سمع زکریا الساجی، و أبا خلیفة الجمحیّ، و سهل بن نوح، و محمد بن یعقوب القمریّ، و عبد الرحمن بن خلف الضبیّ المصریّ، و روی عنهم فی تفسیره کثیرا، و تلمذ لزوج أمّه أبی علیّ محمد بن عبد الوهاب الجبائیّ، و اقتدی برأیه فی الاعتزال عدّة سنین حتی صار من أئمة المعتزلة، ثم رجع عن القول بخلق القرآن و غیره من آراء المعتزلة، و صعد یوم الجمعة بجامع البصرة کرسیا و نادی بأعلی صوته، من عرفنی فقد عرفنی، و من لم یعرفنی فأنا أعرّفه بنفسی، أنا فلان بن فلان، کنت أقول بخلق القرآن و أن اللّه لا یری بالإبصار، و أن أفعال الشرّ أنا أفعلها، و أنا تائب مقلع معتقد الردّ علی المعتزلة، مبین لفضائحهم و معایبهم، و أخذ من حینئذ فی الردّ علیهم، و سلک بعض طریق أبی محمد عبد اللّه بن محمد بن سعید بن کلاب القاطن، و بنی علی قواعده. و صنف خمسة و خمسین تصنیفا منها. کتاب اللمع، و کتاب الموجز، و کتاب إیضاح البرهان، و کتاب التبیین علی أصول الدین، و کتاب الشرح و التفصیل فی الردّ علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 194
أهل الإفک و التضلیل، و کتاب الإبانة، و کتاب تفسیر القرآن، یقال أنه فی سبعین مجلدا.
و کانت غلته من ضیعة وقفها بلال بن أبی بردة علی عقبه، و کانت نفقته فی السنة سبعة عشر درهما، و کانت فیه دعابة و مزح کثیر. و قال مسعود بن شیبة فی کتاب التعلیم: کان حنفیّ المذهب، معتزلیّ الکلام، لأنه کان ربیب أبی علیّ الجبائیّ، و هو الذی رباه و علمه الکلام، و ذکر الخطیب أنه کان یجلس أیام الجمعات فی حلقة أبی إسحاق المروزیّ الفقیه فی جامع المنصور. و عن أبی بکر بن الصیرفیّ: کان المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتی أظهر اللّه تعالی الأشعریّ فحجزهم فی أقماع السماسم.
و جملة عقیدته أنّ اللّه تعالی عالم بعلم، قادر بقدرة، حیّ بحیاة، مرید بإرادة، متکلم بکلام، سمیع یسمع، بصیر یبصر، و أن صفاته أزلیة قائمة بذاته تعالی، لا یقال هی هو، و لا هی غیره، و لا هی هو، و لا غیره. و علمه واحد یتعلق بجمیع المعلومات، و قدرته واحدة تتعلق بجمیع ما یصح وجوده، و إرادته واحدة تتعلق بجمیع ما یقبل الاختصاص، و کلامه واحد هو أمر و نهی و خبر و استخبار و وعد و وعید، و هذه الوجوه راجعة إلی اعتبارات فی کلامه، لا إلی نفس الکلام و الألفاظ المنزلة علی لسان الملائکة إلی الأنبیاء، دلالات علی الکلام الأزلیّ، فالمدلول و هو القرآن المقروء، قدیم أزلیّ، و الدلالة و هی العبارات، و هی القراءة، مخلوقة محدثة. قال: و فرق بین القراء و المقروء، و التلاوة و المتلوّ، کما فرق بین الذکر و المذکور. قال: و الکلام معنی قائم بالنفس، و العبارة دالة علی ما فی النفس، و إنما تسمی العبارة کلاما مجازا. قال و أراد اللّه تعالی جمیع الکائنات خیرها و شرّها، و نفعها و ضرّها، و مال فی کلامه إلی جواز تکلیف ما لا یطاق، لقوله أنّ الاستطاعة مع الفعل، و هو مکلف بالفعل قبله، و هو غیر مستطیع قبله علی مذهبه. قال و جمیع أفعال العباد مخلوقة مبدعة من اللّه تعالی، مکتسبة للعبد، و الکسب عبارة عن الفعل القائم بمحل قدرة العبد. قال: و الخالق هو اللّه تعالی، حقیقة لا یشارکه فی الخلق غیره، فأخص وصفه هو القدرة و الاختراع، و هذا تفسیر اسمه البارئ.
قال و کلّ موجود یصح أن یری، و اللّه تعالی موجود، فیصح أن یری، و قد صح السمع بأن المؤمنین یرونه فی الدار الأخری فی الکتاب و السنة، و لا یجوز أن یری فی مکان، و لا صورة مقابلة، و اتصال شعاع، فإن ذلک کله محال، و ماهیة الرؤیة له فیها رأیان، أحدهما: أنه علم مخصوص یتعلق بالوجود دون العدم، و الثانی أنه إدراک وراء العلم، و أثبت السمع و البصر صفتین أزلیتین هما إدراکان وراء العلم، و أثبت الیدین و الوجه صفات خبریة، ورد السمع بها، فیجب الاعتراف به، و خالف المعتزلة فی الوعد و الوعید و السمع و العقل من کل وجه. و قال: الإیمان هو التصدیق بالقلب و القول باللسان و العمل بالأرکان فروع الإیمان، فمن صدّق بالقلب أی أقرّ بوحدانیة اللّه تعالی و اعترف بالرسل تصدیقا لهم فیما جاؤا به فهو مؤمن، و صاحب الکبیرة إذا خرج من الدنیا من غیر توبة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 195
حکمه إلی اللّه، أما أن یغفر له برحمته أو یشفع له رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و إمّا أن یعذبه بعدله ثم یدخله الجنة برحمته و لا یخلد فی النار مؤمن. قال و لا أقول أنه یجب علی اللّه سبحانه قبول توبته بحکم العقل، لأنه هو الموجب، لا یجب علیه شی‌ء أصلا، بل قد ورد السمع بقبول توبة التائبین، و إجابة دعوة المضطرّین، و هو المالک لخلقه یفعل ما یشاء و یحکم ما یرید، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم النار لم یکن جورا، و لو أدخلهم الجنة لم یکن حیفا، و لا یتصوّر منه ظلم، و لا ینسب إلیه جور، لأنه المالک المطلق، و الواجبات کلها سمعیة فلا یوجب العقل شیئا البتة، و لا یقتضی تحسینا و لا تقبیحا، فمعرفة اللّه تعالی و شکر المنعم، و إثابة الطائع، و عقاب العاصی، کلّ ذلک بحسب السمع دون العقل، و لا یجب علی اللّه شی‌ء لا صلاح و لا أصلح و لا لطف بل الثواب و الصلاح و اللطف و النعم کلها تفضل من اللّه تعالی، و لا یرجع إلیه تعالی نفع و لا ضرّ، فلا ینتفع بشکر شاکر، و لا یتضرّر بکفر کافر، بل یتعالی و یتقدّس عن ذلک، و بعث الرسل جائز لا واجب و لا مستحیل، فإذا بعث اللّه تعالی الرسول و أیده بالمعجزة الخارقة للعادة و تحدّی و دعا الناس، وجب الإصغاء إلیه و الاستماع منه و الامتثال لأوامره و الانتهاء عن نواهیه، و کرامات الأولیاء حق، و الإیمان بما جاء فی القرآن و السنة من الأخبار عن الأمور الغائبة عنا مثل اللوح و القلم و العرش و الکرسیّ و الجنة و النار حق و صدق، و کذلک الأخبار عن الأمور التی ستقع فی الآخرة، مثل سؤال القبر و الثواب و العقاب فیه و الحشر و المعاد و المیزان و الصراط و انقسام فریق فی الجنة و فریق فی السعیر، کلّ ذلک حق و صدق یجب الإیمان و الاعتراف به. و الإمامة تثبت بالاتفاق و الاختیار دون النص و التعیین علی واحد معین، و الأئمة مترتبون فی الفضل ترتبهم فی الإمامة. قال و لا أقول فی عائشة و طلحة و الزبیر رضی اللّه عنهم إلّا أنّهم رجعوا عن الخطأ، و أقول أن طلحة و الزبیر من العشرة المبشرین بالجنة، و أقول فی معاویة و عمرو بن العاص أنهما بغیا علی الإمام الحق علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنهم، فقاتلهم مقاتلة أهل البغی، و أقول أن أهل النهروان الشراة هم المارقون عن الدین، و أن علیا رضی اللّه عنه کان علی الحق فی جمیع أحواله، و الحق معه حیث دار.
فهذه جملة من أصول عقیدته التی علیها الآن جماهیر أهل الأمصار الإسلامیة، و التی من جهر بخلافها أریق دمه، و الأشاعرة یسمون الصفاتیة لإثباتهم صفات اللّه تعالی القدیمة، ثم افترقوا فی الألفاظ الواردة فی الکتاب و السنة، کالاستواء و النزول و الإصبع و الید و القدم و الصورة و الجنب، و المجی‌ء علی فرقتین، فرقة تؤول جمیع ذلک علی وجوه محتملة اللفظ، و فرقة لم یتعرّضوا للتأویل و لا صاروا إلی التشبیه، و یقال لهؤلاء الأشعریة الأسریة، فصار للمسلمین فی ذلک خمسة أقوال: أحدها اعتقاد ما یفهم مثله من اللغة، و ثانیها السکوت عنها مطلقا، و ثالثها السکوت عنها بعد نفی إرادة الظاهر، و رابعها حملها علی المجاز، و خامسها حملها علی الاشتراک، و لکلّ فریق أدلة و حجاج تضمنتهما کتب أصول
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 196
الدین، و لا یزالون مختلفین إلّا من رحم ربک، و لذلک خلقهم و اللّه یحکم بینهم یوم القیامة فیما کانوا فیه یختلفون.
فصل: اعلم أن اللّه سبحانه طلب من الخلق معرفته بقوله تعالی: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ [الذاریات/ 56] قال ابن عباس و غیره یعرفون، فخلق تعالی الخلق و تعرّف إلیهم بألسنة الشرائع المنزلة، فعرفه من عرفه، سبحانه، منهم علی ما عرّفهم فیما تعرّف به إلیهم، و قد کان الناس قبل إنزال الشرائع الرسل علیهم السلام، علمهم بالله تعالی إنما هو بطریق التنزیه له عن سمات الحدوث، و عن الترکیب، و عن الافتقار. و یصفونه سبحانه بالاقتدار المطلق، و هذا التنزیه هو المشهور عقلا، و لا یتعدّاه عقل أصلا، فلما أنزل اللّه شریعته علی رسوله محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، و أکمل دینه، کان سبیل العارف بالله أن یجمع فی معرفته بالله بین معرفتین، إحداهما المعرفة التی تقتضیها الأدلة العقلیة، و الأخری المعرفة التی جاءت بها الاخبارات الإلهیة، و أن یردّ علم ذلک إلی اللّه تعالی، و یؤمن به و بکل ما جاءت به الشریعة علی الوجه الذی أراده اللّه تعالی، من غیر تأویل بفکره و لا تحکم فیه برأیه، و ذلک أن الشرائع إنما أنزلها اللّه تعالی لعدم استقلال العقول البشریة بإدراک حقائق الأشیاء علی ما هی علیه فی علم اللّه، و أنّی لها ذلک و قد تقیدت بما عندها من إطلاق ما هنالک، فإن وهبها علما بمراده من الأوضاع الشرعیة، و منحها الاطلاع علی حکمه فی ذلک، کان من فضله تعالی، فلا یضیف العارف هذه المنة إلی فکره، فإن تنزیهه لربه تعالی بفکره و یجب أن یکون مطابقا لما أنزله سبحانه علی لسان رسوله صلّی اللّه علیه و سلّم من الکتاب و السنة، و إلّا فهو تعالی منزه عن تنزیه عقول البشر بأفکارها، فإنها مقیدة بأوطارها، فتنزیهها کذلک مقید بحسبها و بموجب أحکامها و آثارها، إلّا إذا خلت عن الهوی فإنها حینئذ یکشف اللّه لها الغطاء عن بصائرها، و یهدیها إلی الحق، فتنزه اللّه تعالی عن التنزیهات العرفیة بالأفکار العادیة، و قد أجمع المسلمون قاطبة علی جواز روایة الأحادیث الواردة فی الصفات و نقلها و تبلیغها من غیر خلاف بینهم فی ذلک، ثم أجمع أهل الحق منهم علی أن هذه الأحادیث مصروفة عن احتمال مشابهة الخلق، لقول اللّه تعالی: لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْ‌ءٌ وَ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ [الشوری/ 11] و لقول اللّه تعالی: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ یَلِدْ وَ لَمْ یُولَدْ وَ لَمْ یَکُنْ لَهُ کُفُواً أَحَدٌ [الاخلاص/ 2] و هذه السورة یقال لها سورة الاخلاص، و قد عظم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم شأنها، و رغّب أمته فی تلاوتها، حتی جعلها تعدل ثلث القرآن من أجل أنها شاهدة بتنزیه اللّه تعالی، و عدم الشبه و المثل له سبحانه، و سمیت سورة الإخلاص لاشتمالها علی إخلاص التوحید للّه عن أن یشوبه میل إلی تشبیهه بالخلق، و أمّا الکاف التی فی قوله تعالی: لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْ‌ءٌ [الشوری/ 11] فإنها زائدة، و قد تقرّر أن الکاف و المثل فی کلام العرب اتیا للتشبیه، فجمعهما اللّه تعالی ثم نفی بهما عنه ذلک، فإذا ثبت إجماع المسلمین علی جواز روایة هذه الأحادیث و نقلها، مع إجماعهم علی أنها مصروفة عن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 197
التشبیه، لم یبق فی تعظیم اللّه تعالی بذکرها إلّا نفی التعطیل، لکون أعداء المرسلین سموا ربهم سبحانه أسماء نفوا فیها صفاته العلا، فقال قوم من الکفار هو طبیعة، و قال آخرون منهم هو علة، إلی غیر ذلک من إلحادهم فی أسمائه سبحانه، فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم هذه الأحادیث المشتملة علی ذکر صفات اللّه العلا، و نقلها عنه أصحابه البررة، ثم نقلها عنهم أئمة المسلمین حتی انتهت إلینا، و کلّ منهم یرویها بصفتها من غیر تأویل لشی‌ء منها، مع علمنا أنهم کانوا یعتقدون أن اللّه سبحانه و تعالی لیس کمثله شی‌ء و هو السمیع البصیر، ففهمنا من ذلک أن اللّه تعالی أراد بما نطق به رسوله صلّی اللّه علیه و سلّم من هذه الأحادیث، و تناولها عنه الصحابة رضی اللّه عنهم و بلغوها لأمّته، أن یغص بها فی حلوق الکافرین، و أن یکون ذکرها نکتا فی قلب کلّ ضال معطل مبتدع یقفو أثر المبتدعة من أهل الطبائع و عباد العلل، فلذلک وصف اللّه تعالی نفسه الکریمة بها فی کتابه، و وصفه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم أیضا بما صح عنه و ثبت، فدل علی أن المؤمن إذا اعتقد أن اللّه لیس کمثله شی‌ء و هو السمیع البصیر، و أنه أحد صمد لم یلد و لم یولد و لم یکن له کفوا أحد، کان ذکره لهذه الأحادیث تمکین الإثبات، و شجا فی حلوق المعطلة، و قد قال الشافعیّ: رحمه اللّه «الإثبات أمکن» نقله الخطابیّ و لم یبلغنا عن أحد من الصحابة و التابعین و تابعیهم أنهم أوّلوا هذه الأحادیث، و الذی یمنع من تأویلها إجلال اللّه تعالی عن أن تضرب له الأمثال، و أنه إذا نزل القرآن بصفة من صفات اللّه تعالی، کقوله سبحانه: یَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَیْدِیهِمْ [الفتح/ 10] فإن نفس تلاوة هذا یفهم منها السامع المعنی المراد به، و کذا قوله تعالی: بَلْ یَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة/ 64] عند حکایته تعالی عن الیهود نسبتهم إیاه إلی البخل فقال تعالی: بَلْ یَداهُ مَبْسُوطَتانِ یُنْفِقُ کَیْفَ یَشاءُ [المائدة/ 64] فإن نفس تلاوة هذا مبینة للمعنی المقصود، و أیضا فإن تأویل هذه الأحادیث یحتاج أن یضرب للّه تعالی فیها المثل نحو قولهم فی قوله تعالی: الرَّحْمنُ عَلَی الْعَرْشِ اسْتَوی [طه/ 5] الاستواء الاستیلاء، کقولک استوی الأمیر علی البلد، و أنشدوا:
قد استوی بشر علی العراق فلزمهم تشبیه الباری تعالی ببشر، و أهل الإثبات نزهو إجلال اللّه عن أن یشبهوه بالأجسام حقیقة و لا مجازا، و علموا مع ذلک أن هذا النطق یشتمل علی کلمات متداولة بین الخالق و خلقه، و تحرّجوا أن یقولوا مشترکة، لأن اللّه تعالی لا شریک له، و لذلک: لم یتأول السلف شیئا من أحادیث الصفات، مع علمنا قطعا أنها عندهم مصروفة عما یسبق إلیه ظنون الجهال من مشابهتها الصفات المخلوقین، و تأمّل تجد اللّه تعالی لمّا ذکر المخلوقات المتولدة من الذکر و الأنثی فی قوله سبحانه: جَعَلَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً [الشوری/ 11] یذرؤکم فیه علم سبحانه ما یخطر بقلوب الخلق، فقال عز من قائل: لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْ‌ءٌ وَ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ [الشوری: 11].
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 198
و اعلم أن السبب فی خروج أکثر الطوائف عن دیانة الإسلام، أن الفرس کانت من سعة الملک و علوّ الید علی جمیع الأمم، و جلالة الخطر فی أنفسها، بحیث أنهم کانوا یسمون أنفسهم الأحرار و الأسیاد، و کانوا یعدّون سائر الناس عبیدا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم علی أیدی العرب، و کانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرا، تعاظمهم الأمر و تضاعفت لدیهم المصیبة، و راموا کید الإسلام بالمحاربة فی أوقات شتی، و فی کل ذلک یظهر اللّه تعالی الحق، و کان من قائمیهم سنفاد و اشنیس و المقفع و بابک و غیرهم، و قبل هؤلاء رام ذلک عمار الملقب خداشا، و أبو مسلم السروح، فرأوا أن کیده علی الحیلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام و استمالوا أهل التشیع بإظهار محبة أهل بیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و استبشاع ظلم علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، ثم سلکوا بهم مسالک شتی حتی أخرجوهم عن طریق الهدی، فقوم أدخلوهم إلی القول بأن رجلا ینتظر یدعی المهدیّ، عنده حقیقة الدین إذ لا یجوز أن یؤخذ الدین عن کفار، إذ نسبوا أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم إلی الکفر، و قوم خرجوا إلی القول بادعاء النبوّة لقوم سموهم به، و قوم سلکوا بهم إلی القول بالحلول و سقوط الشرائع، و آخرون تلاعبوا بهم فأوجبوا علیهم خمسین صلاة فی کل یوم و لیلة، و آخرون قالوا بل هی سبع عشرة صلاة فی کل صلاة خمس عشرة رکعة، و هو قول عبد اللّه بن عمرو بن الحارث الکندیّ، قبل أن یصیر خارجیا صفریا، و قد أظهر عبد اللّه بن سبأ الحمیریّ الیهودیّ الإسلام لیکید أهله، فکان هو أصل إثارة الناس علی عثمان بن عفان رضی اللّه عنه، و احرق علیّ رضی اللّه عنه منهم طوائف أعلنوا بإلهیته، و من هذه الأصول حدثت الإسماعیلیة و القرامطة.
و الحق الذی لا ریب فیه أن دین اللّه تعالی ظاهر لا باطن فیه، و جوهر لا سرّ تحته، و هو کله لازم کل أحد لا مسامحة فیه، و لم یکتم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم من الشریعة و لا کلمة، و لا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عمّ علی شی‌ء من الشریعة، کتمه عن الأحمر و الأسود و رعاة الغنم، و لا کان عنده صلّی اللّه علیه و سلّم سرّ و لا رمز و لا باطن غیر ما دعا الناس کلها إلیه، و لو کتم شیئا لما بلغ کما أمر، و من قال هذا فهو کافر بإجماع الأمّة، و أصل کلّ بدعة فی الدین البعد عن کلام السلف و الانحراف عن اعتقاد الصدر الأوّل، حتی بالغ القدریّ فی القدر فجعل العبد خالقا لأفعاله، و بالغ الجبریّ فی مقابلته فسلب عنه الفعل و الاختیار، و بالغ المعطل فی التنزیه فسلب عن اللّه تعالی صفات الجلال و نعوت الکمال، و بالغ المشبه فی مقابلته فجعله کواحد من البشر، و بالغ المرجئ فی سلب العقاب، و بالغ المعتزلیّ فی التخلید فی العذاب، و بالغ الناصبیّ فی دفع علیّ رضی اللّه عنه عن الإمامة، و بالغت الغلاة حتی جعلوه إلها، و بالغ السنیّ فی تقدیم أبی بکر رضی اللّه عنه، و بالغ الرافضیّ فی تأخیره حتی کفره، و میدان الظنّ واسع و حکم الوهم غالب، فتعارضت الظنون و کثرت الأوهام و بلغ کل فریق فی الشرّ و العناد و البغی و الفساد إلی أقصی غایة، و أبعد نهایة، و تباغضوا و تلاعنوا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 199
و استحلوا الأموال و استباحوا الدماء، و انتصروا بالدول و استعانوا بالملوک، فلو کان أحدهم إذا بالغ فی أمر نازع الآخر فی القرب منه، فإن الظنّ لا یبعد عن الظنّ کثیرا و لا ینتهی فی المنازعة إلی الطرف الآخر من طرفی التقابل، لکنهم أبو إلّا ما قدّمناه ذکره من التدابر و التقاطع، و لا یزالون مختلفین إلّا من رحم ربک.

ذکر المدارس

اشارة

قال ابن سیده: درس الکتاب یدرسه درسا و دراسة، و دارسه من ذلک کأنه عاوده، حتی انقاد لحفظه. و قری‌ء بهما و لیقولوا درست و دارست ذاکرتهم، و حکی درست أی قرئت و قری‌ء درست أی هذه أخبار قد عفت و انمحت، و درّست أشدّ مبالغة، و الدراس المدارسة، و قال ابن جنی: و درسته إیاه و أدرسته، و من الشاذ قراءة ابن حیوة، و بما کنتم تدرسون، و المدارس الموضع الذی یدرس فیه، و قد ذکر الواقدیّ أن عبد اللّه ابن أمّ مکتوم قدم مهاجرا إلی المدینة مع مصعب بن عمیر رضی اللّه عنهما، و قیل قدم بعد بدر بیسیر، فنزل دار القرّاء، و لما أراد الخلیفة المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق بالله أبی أحمد طلحة بن المتوکل علی اللّه جعفر بناء قصره فی الشماسیة ببغداد، استزاد فی الذرع بعد أن فرغ من تقدیر ما أراد، فسئل عن ذلک فذکر أنه یریده لیبنی فیه دورا و مساکن و مقاصیر، یرتب فی کل موضع رؤساء کلّ صناعة و مذهب من مذاهب العلوم النظریة و العملیة، و یجری علیهم الأرزاق السنیة، لیقصد کل من اختار علما أو صناعة رئیس ما یختاره فیأخذ عنه.
و المدارس مما حدث فی الإسلام، و لم تکن تعرف فی زمن الصحابة و لا التابعین، و إنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سنی الهجرة، و أوّل من حفظ عنه أنه بنی مدرسة فی الإسلام أهل نیسابور، فبنیت بها بالمدرسة البیهقیة، و بنی بها أیضا الأمیر نصر بن سبکتکین مدرسة، و بنی بها أخو السلطان محمود بن سبکتکین مدرسة، و بنی بها أیضا المدرسة السعیدیة، و بنی بها أیضا مدرسة رابعة، و أشهر ما بنی فی القدیم المدرسة النظامیة ببغداد، لأنّها أوّل مدرسة قرّر بها للفقهاء معالیم، و هی منسوبة إلی الوزیر نظام الملک أبی علیّ الحسن بن علیّ بن إسحاق بن العباس الطوسیّ، وزیر ملک شاه بن ألب أرسلان بن داود بن میکال بن سلجوق فی مدینة بغداد، و شرع فی بنائها فی سنة سبع و خمسین و أربعمائة، و فرغت فی ذی القعدة سنة تسع و خمسین و أربعمائة، و درس فیها الشیخ أبو إسحاق الشیرازیّ الفیروزآبادی، صاحب کتاب التنبیه فی الفقه علی مذهب الإمام الشافعیّ رضی اللّه عنه و رحمه، فاقتدی الناس به من حینئذ فی بلاد العراق و خراسان و ما وراء النهر و فی بلاد الجزیرة و دیار بکر. و أمّا مصر فإنها کانت حینئذ بید الخلفاء الفاطمیین، و مذهبهم مخالف لهذه الطریقة، و إنما هم شیعة إسماعیلیة کما تقدّم، و أوّل ما عرف إقامة درس من قبل السلطان بمعلوم جار لطائفة من الناس بدیار مصر، فی خلافة العزیز بالله نزار بن المعز،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 200
و وزارة یعقوب بن کلس، فعمل ذلک بالجامع الأزهر کما تقدّم ذکره، ثم عمل فی دار الوزیر یعقوب بن کاس مجلس یحضره الفقهاء، فکان یقرأ فیه کتاب فقه علی مذهبهم، و عمل أیضا مجلس بجامع عمرو بن العاص من مدینة فسطاط مصر لقراءة کتاب الوزیر، ثم بنی الحاکم بأمر اللّه أبو علیّ منصور بن العزیز دار العلم بالقاهرة کما ذکر فی موضعه من هذا الکتاب، فلما انقرضت الدولة الفاطمیة علی ید السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب أبطل مذاهب الشیعة من دیار مصر، و أقام بها مذهب الإمام الشافعیّ، و مذهب الإمام مالک، و اقتدی بالملک العادل نور الدین محمود بن زنکی، فإنه بنی بدمشق و حلب و أعمالهما عدّة مدارس للشافعیة و الحنفیة، و بنی لکل من الطائفتین مدرسة بمدینة مصر. و أوّل مدرسة أحدثت بدیار مصر المدرسة الناصریة بجوار الجامع العتیق بمصر، ثم المدرسة القمحیة المجاورة للجامع أیضا، ثم المدرسة السیوفیة التی بالقاهرة، ثم اقتدی بالسلطان صلاح الدین فی بناء المدارس بالقاهرة و مصر و غیرهما من أعمال مصر و بالبلاد الشامیة و الجزیرة أولاده، و أمراؤه، ثم حذا حذوهم من ملک مصر بعدهم من ملوک الترک و أمرائهم و أتباعهم إلی یومنا هذا، و سأذکر ما بدیار مصر من المدارس، و أعرّف بحال من بناها علی ما اعتدته فی هذا الکتاب من التوسط دون الإسهاب، و بالله استعین.

المدرسة الناصریة

بجوار الجامع العتیق من مدینة مصر من قبلیه، هذه المدرسة عرفت أوّلا بالمدرسة الناصریة، ثم عرفت بابن زین التجار، و هو أبو العباس أحمد بن المظفر بن الحسین الدمشقیّ، المعروف بابن زین التجار، أحد أعیان الشافعیة. درّس بهذه المدرسة مدّة طویلة، و مات فی ذی القعدة سنة إحدی و تسعین و خمسمائة، ثم عرفت بالمدرسة الشریفة، و هی إلی الآن تعرف بذلک، و کان موضعها یقال له الشرطة، و ذکر الکندیّ أنها خطة قیس بن سعد بن عبادة الأنصاریّ، و عرفت بدار الفلفل. و قال ابن عبد الحکم کانت فضاء قبل ذلک، و قیل کانت هی و الدار التی إلی جانبها لنافع بن عبد اللّه بن قیس الفهریّ، فأخذها منه قیس بن سعد، و سمّیت دار الفلفل لأن أسامة بن زید التنوخیّ صاحب الخراج بمصر، ابتاع من موسی بن وردان فلفلا بعشرین ألف دینار لیهدیه إلی صاحب الروم، فخزّنه فیها، و لما فرغ عیسی بن یزید الجلودیّ من بناء زیادة الجامع، بنی هذه الدار شرطة فی سنة ثلاث عشرة و مائتین، ثم صارت سجنا تعرف بالمعونة، فهدمها السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب فی أوّل المحرّم سنة ست و ستین و خمسمائة، و أنشأها مدرسة برسم الفقهاء الشافعیة، و کان حینئذ یتولی وزارة مصر للخلیفة العاضد، و کان هذا من أعظم ما نزل بالدولة، و هی أوّل مدرسة عملت بدیار مصر، و لما کملت وقف علیها الصاغة، و کانت بجوارها، و قد خربت و بقی منها شی‌ء یسیر قرأت علیها اسم الخلیفة العزیز بالله، و وقف علیها أیضا قریة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 201
تعرف ... و أول من ولی التدریس بها ابن زین التجار، فعرفت به، ثم درس بها بعدد ابن قطیطة بن الوزان، ثم من بعده کمال الدین أحمد بن شیخ الشیوخ، و بعده الشریف القاضی شمس الدین أبو عبد اللّه محمد بن الحسین بن محمد الحنفیّ قاضی العسکر الأرموی، فعرفت به. و قیل لها المدرسة الشریفة من عهده إلی الیوم، و لو لا ما یتناوله الفقهاء من المعلوم بها لخربت، فإن الکیمان ملاصقة لها بعد ما کان حولها أعمر موضع فی الدنیا، و قد ذکر حبس المعونة عند ذکر السجون من هذا الکتاب.

المدرسة القمحیة

هذه المدرسة بجوار الجامع العتیق بمصر، کان موضعها یعرف بدار الغزل، و هو قیساریة یباع فیها الغزل، فعدمها السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، و أنشأ موضعها مدرسة للفقهاء المالکیة، و کان الشروع فیها للنصف من المحرّم سنة ست و ستین و خمسمائة، و وقف علیها قیساریة الورّاقین، و علوها بمصر، و ضیعة بالفیوم تعرف بالحنبوشیة، و رتب فیها أربعة من المدرّسین عند کل مدرّس عدّة من الطلبة، و هذه المدرسة أجل مدرسة للفقهاء المالکیة، و یتحصل لهم من ضیعتهم التی بالفیوم قمح یفرّق فیهم، فلذلک صارت لا تعرف إلّا بالمدرسة القمحیة إلی الیوم، و قد أحاط بها الخراب، و لو لا ما یتحصل منها للفقهاء لدثرت. و فی شعبان سنة خمس و عشرین و ثمانمائة أخرج السلطان الملک الأشرف برسبای الدقماقیّ ناحیتی الاعلام و الحنبوشیة، و کانتا من وقف السلطان الملک الناصر صلاح الدین یوسف بن أیوب علی هذه المدرسة، و أنعم بهما علی مملوکین من ممالیکه لیکونا إقطاعا لهما.

مدرسة یازکوج

هذه المدرسة بسوق الغزل فی مدینة مصر، و هی مدرسة معلقة بناها ... .

مدرسة ابن الأرسوفیّ

هذه المدرسة کانت بالبزازین التی تجاور خط النخالین بمصر، عرفت بابن الأرسوفیّ التاجر العسقلانیّ، و کان بناؤها فی سنة سبعین و خمسمائة، و هو عفیف الدین عبد اللّه بن محمد الأرسوفیّ، مات بمصر فی یوم الاثنین حادی عشری ربیع الأوّل سنة ثلاث و تسعین و خمسمائة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 202

مدرسة منازل العز

هذه المدرسة کانت من دور الخلفاء الفاطمیین، بنتها أمّ الخلیفة العزیز بالله بن المعز، و عرفت بمنازل العز، و کانت تشرف علی النیل، و صارت معدّة لنزهة الخلفاء، و ممن سکنها ناصر الدولة حسین بن حمدان إلی أن قتل، و کان بجانبها حمّام یعرف بحمّام الذهب من جملة حقوقها، و هی باقیة. فلما زالت الدولة الفاطمیة علی ید السلطان صلاح الدین یوسف، أنزل فی منازل العز الملک المظفر تقیّ الدین عمر بن شاهنشاه بن أیوب فسکنها مدّة، ثم إنه اشتراها و الحمّام و الإصطبل المجاور لها من بیت المال فی شهر شعبان سنة ست و ستین و خمسمائة، و أنشأ فندقین بمصر بخط الملاحین، و أنشأ ربعا بجوار أحد الفندقین، و اشتری جزیرة مصر التی تعرف الیوم بالروضة، فلما أراد أن یخرج من مصر إلی الشام وقف منازل العز علی فقهاء الشافعیة، و وقف علیها الحمّام و ما حولها، و عمر الاصطبل فندقا عرف بفندق النخلة و وقفه علیها، و وقف علیها الروضة، و درّس بها شهاب الدین الطوسیّ و قاضی القضاة عماد الدین أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد العلیّ السکریّ، و عدّة من الأعیان. و هی الآن عامرة بعمارة ما حولها.
الملک المظفر تقیّ الدین أبو سعید عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن نجم الدین أیوب بن شادی بن مروان، و هو ابن أخی السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، قدم إلی القاهرة فی ... و استنابه السلطان علی دمشق فی المحرّم سنة إحدی و سبعین، ثم نقله إلی نیابة حماه، و سلّم إلیه سنجار لما أخذها فی ثانی رمضان سنة ثمان و سبعین، فأقام بها و لحق السلطان علی حلب فقدم علیه فی سابع صفر سنة تسع و سبعین، فأقام إلی أن بعثه إلی القاهرة نائبا عنه بدیار مصر عوضا عن الملک العادل أبی بکر بن أیوب، فقدمها فی شهر رمضان سنة تسع و سبعین، و أنعم علیه بالفیوم و أعمالها مع القایات و بوش، و أبقی علیه مدینة حماه. ثم خرج بعساکر مصر إلی السلطان و هو بدمشق فی سنة ثمانین لاجل أخذ الکرک من الفرنج، فسار إلیها و حصرها مدّة ثم رجع مع السلطان إلی دمشق، و عاد إلی القاهرة فی شعبان و قد أقام السلطان علی مملکة مصر ابنه الملک العزیز عثمان، و جعل الملک المظفر کافلا له و قائما بتدبیر دولته، فلم یزل علی ذلک إلی جمادی الأولی سنة اثنتین و ثمانین، فصرف السلطان أخاه الملک العادل عن حلب و أعطاه نیابة مصر، فغضب الملک المظفر و عبر بأصحابه إلی الجیزة یرید المسیر إلی بلاد المغرب و اللحاق بغلامه بهاء الدین قراقوش التقویّ، فبلغ السلطان ذلک فکتب إلیه و لم یزل به حتی زال ما به، و سار إلی السلطان فقدم علیه دمشق فی ثالث عشری شعبان، فأقرّه علی حماه و المعرّة و منبج، و أضاف إلیه میافارقین، فلحق به أصحابه ما خلا مملوکه زین الدین بوزیا، فإنه سار إلی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 203
بلاد المغرب، و کانت له فی أرض مصر و بلاد الشام أخبار و قصص، و عرفت له مواقف عدیدة فی الحرب مع الفرنج، و آثار فی المصافات، و له فی أبواب البرّ أفعال حسنة، و له بمدینة الفیوم مدرستان إحداهما للشافعیة و الأخری للمالکیة، و بنی مدرسة بمدینة الرها، و سمع الحدیث من السلفیّ و ابن عوف، و کان عنده فضل و أدب، و له شعر حسن، و کان جوادا شجاعا مقداما شدید البأس عظیم الهمة کثیر الإحسان، و مات فی نواحی خلاط لیلة الجمعة تاسع شهر رمضان سنة سبع و ثمانین و خمسمائة، و نقل إلی حماه فدفن بها فی تربة بناها علی قبره ابنه الملک المنصور محمد.

مدرسة العادل

هذه المدرسة بخط الساحل بجوار الربع العادلیّ من مدینة مصر الذی وقف علی الشافعیّ، عمرها الملک العادل أبو بکر بن أیوب أخو السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، درس بها قاضی القضاة تقیّ الدین أبو علیّ الحسین بن شرف الدین أبی الفضل عبد الرحیم بن الفقیه جلال الدین أبی محمد عبد اللّه بن نجم بن شاس بن نزار بن عشائر بن عبد اللّه بن محمد بن شاس. فعرفت به، و قیل لها مدرسة ابن شاس إلی الیوم، و هی عامرة، و عرف خطها بالقشاشین و هی للمالکیة.

مدرسة ابن رشیق

هذه المدرسة للمالکیة، و هی بخط حمّام الریش من مدینة مصر، کان الکاتم من طوائف التکرور لما وصلوا إلی مصر فی سنة بضع و أربعین و ستمائة، قاصدین الحج، دفعوا للقاضی علم الدین بن رشیق مالا بناها به، و درّس بها فعرفت به، و صار لها فی بلاد التکرور سمعة عظیمة، و کانوا یبعثون إلیها فی غالب السنین المال.

المدرسة الفائزیة

هذه المدرسة فی مصر بخط ... أنشأها الصاحب شرف الدین هبة اللّه بن صاعد بن وهیب الفائزیّ قبل وزارته، فی سنة ست و ثلاثین و ستمائة، و درّس بها القاضی محیی الدین عبد اللّه بن قاضی القضاة شرف الدین محمد بن عین الدولة، ثم قاضی القضاة صدر الدین موهوب الجزریّ، و هی للشافعیة.

المدرسة القطبیة

هذه المدرسة بالقاهرة فی خط سویقة الصاحب بداخل درب الحریریّ، کانت هی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 204
و المدرسة السیفیة من حقوق دار الدیباج التی تقدّم ذکرها، و أنشأ هذه المدرسة الأمیر قطب الدین خسرو بن بلبل بن شجاع الهدبانیّ، فی سنة سبعین و خمسمائة، و جعلها وقفا علی الفقهاء الشافعیة، و هو أحد أمراء السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب.

المدرسة السیوفیة

هذه المدرسة بالقاهرة، و هی من جملة دار الوزیر المأمون البطائجیّ، وقفها السلطان السید الأجل الملک الناصر صلاح الدین أبو المظفر یوسف بن أیوب علی الحنفیة، و قرّر فی تدریسها الشیخ مجد الدین محمد بن محمد الجبتی، و رتب له فی کل شهر أحد عشر دینارا، و باقی ریع الوقف یصرفه علی ما یراه للطلبة الحنفیة المقرّرین عنده علی قدر طبقاتهم، و جعل النظر للجبتی، و من بعده إلی من له النظر فی أمور المسلمین، و عرفت بالمدرسة السیوفیة، من أجل أن سوق السیوفیین کان حینئذ علی بابها، و هی الآن تجاه سوق الصنادقیین، و قدوهم القاضی محیی الدین عبد اللّه بن عبد الظاهر فإنه قال فی کتاب الروضة الزاهرة فی خطط المعزیة القاهرة: مدرسة السیوفیة و هی للحنفیة، وقفها عز الدین فرحشاه قریب صلاح الدین و ما أدری کیف وقع له هذا الوهم، فإن کتاب وقفها موجود، قد وقفت علیه و لخصت منه ما ذکرته، و فیه أن واقفها السلطان صلاح الدین و خطه علی کتاب الوقف و نصه: الحمد للّه و به توفیقی، و تاریخ هذا الکتاب تاسع عشری شعبان سنة اثنتین و سبعین و خمسمائة، و وقف علی مستحقیها اثنین و ثلاثین حانوتا بخط سویقة أمیر الجیوش و باب الفتوح و حارة برجوان، و ذکر فی آخر کتاب وقفها أن الواقف أذن لمن حضر مجلسه من العدول فی الشهادة و القضاء علی لفظه بما تضمنه المسطور، فشهدوا بذلک و أثبتوا شهادتهم آخره، و حکم حاکم المسلمین علی صحة هذا الوقف بعد ما خاصم رجل من أهل هذا الوقف فی ذلک، و أمضاه. لکنه لم یذکر فی الکاتب اسجال القاضی بثبوته بل ذکر رسم شهادة الشهود علی الواقف، و هم علیّ بن إبراهیم بن نجا بن غنائم الأنصاریّ الدمشقیّ، و القاسم بن یحیی بن عبد اللّه بن قاسم الشهرزوریّ، و عبد اللّه بن عمر بن عبد اللّه الشافعیّ، و عبد الرحمن بن علیّ بن عبد العزیز بن قریش المخزومیّ، و موسی بن حکر بن موسک الهدبانیّ فی آخرین. و هذه المدرسة هی أوّل مدرسة وقفت علی الحنفیة بدیار مصر، و هی باقیة بأیدیهم.

المدرسة الفاضلیة

هذه المدرسة بدرب ملوخیا من القاهرة، بناها القاضی الفاضل عبد الرحیم بن علیّ البیسانیّ، بجوار داره، فی سنة ثمانین و خمسمائة، و وقفها علی طائفتی الفقهاء الشافعیة و المالکیة، و جعل فیها قاعة للإقراء، أقرأ فیها الإمام أبو محمد الشاطبیّ ناظم الشاطبیة، ثم تلمیذه أبو عبد اللّه محمد بن عمر القرطبیّ، ثم الشیخ علیّ بن موسی الدهان و غیرهم، و رتب لتدریس فقه المذهبین الفقیه أبا القاسم عبد الرحمن بن سلامة الاسکندرانیّ، و وقف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 205
بهذه المدرسة جملة عظیمة من الکتب فی سائر العلوم، یقال أنها کانت مائة ألف مجلد، و ذهبت کلها. و کان أصل ذهابها أن الطلبة التی کانت بها، لما وقع الغلاء بمصر فی سنة أربع و تسعین و ستمائة، و السلطان یومئذ الملک العادل کتبغا المنصوریّ، مسهم الضرّ، فصاروا یبیعون کلّ مجلد برغیف خبز حتی ذهب معظم ما کان فیها من الکتب، ثم تداولت أیدی الفقهاء علیها بالعاریة، فتفرّقت، و بها إلی الآن مصحف قرآن کبیر القدر جدّا، مکتوب بالخط الأوّل الذی یعرف بالکوفیّ، تسمیه الناس مصحف عثمان بن عفان، و یقال أن القاضی الفاضل اشتراه بنیف و ثلاثین ألف دینار، علی أنه مصحف أمیر المؤمنین عثمان بن عفان رضی اللّه عنه، و هو فی خزانة مفردة له بجانب المحراب من غریبه، و علیه مهابة و جلالة، و إلی جانب المدرسة کتّاب برسم الأیتام، و کانت هذه المدرسة من أعظم مدارس القاهرة و أجلها، و قد تلاشت لخراب ما حولها.
عبد الرحیم: بن علیّ بن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد القاضی الفاضل محیی الدین أبو علیّ ابن القاضی الأشرف اللخمیّ العسقلانیّ البیسانیّ المصریّ الشافعیّ، کان أبوه یتقلد قضاء مدینة بیسان، فلهذا نسبوا إلیها، و کانت ولادته بمدینة عسقلان فی خامس عشر جمادی الآخرة سنة تسع و عشرین و خمسمائة، ثم قدم القاهرة و خدم الموفق یوسف بن محمد بن الجلال، صاحب دیوان الإنشاء فی أیام الحافظ لدین اللّه، و عنه أخذ صناعة الإنشاء، ثم خدم بالإسکندریة مدّة، فلما قام بوزارة مصر العادل رزیک بن الصالح طلائع بن رزیک، خرج أمره إلی والی الإسکندریة بتسییره إلی الباب، فلما حضر استخدمه بحضرته و بین یدیه فی دیوان الجیش، فلما مات الموفق بن الجلال فی سنة ست و ستین و خمسمائة، و کان القاضی الفاضل ینوب عنه فی دیوان الإنشاء، عینه الکامل بن شاور و سعی له عند أبیه الوزیر شاور بن مجیر، فأقرّه عوضا عن ابن الجلال فی دیوان الإنشاء، فلما ملک أسد الدین شیرکوه احتاج إلی کاتب فأحضره، و أعجبه اتقائه و سمته و نصحه، فاستکتبه إلی أن ملک صلاح الدین یوسف بن أیوب، فاستخلصه و حسن اعتقاده فیه، فاستعان به علی ما أراد من إزالة الدولة الفاطمیة حتی تم مراده، فجعله وزیره و مشیره، بحیث کان لا یصدر أمرا إلا عن مشورته، و لا ینفذ شیئا إلا عن رأیه، و لا یحکم فی قضیة إلا بتدبیره، فلما مات صلاح الدین استمرّ علی ما کان علیه عند ولده الملک العزیز عثمان فی المکانة و الرفعة، و تقلد الأمر، فلما مات العزیز و قام من بعده ابنه الملک المنصور بالملک و دبر أمره عمه الأفضل، کان معهما علی حاله إلی أن وصل الملک العادل أبو بکر بن أیوب من الشام لأخذ دیار مصر، و خرج الأفضل لقتاله، فمات منکوبا أحوج ما کان إلی الموت عند تولی الإقبال و إقبال الإدبار فی سحر یوم الأربعاء سابع عشر ربیع الآخر سنة ست و تسعین و خمسمائة، و دفن بتربته من القرافة الصغری.
قال ابن خلکان وزر للسلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، و تمکن منه غایة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 206
التمکن، و برز فی صناعة الإنشاء و فاق المتقدّمین، و له فیه الغرائب مع الإکثار. أخبرنی أحد الفضلاء الثقات المطلعین علی حقیقة أمره، أنّ مسودّات رسائله فی المجلدات و التعلیقات فی الأوراق، إذا جمعت ما تقصر عن مائة، و هو مجید فی أکثرها. و قال عبد اللطیف البغدادیّ: دخلنا علیه فرأیت شیخا ضئیلا کله رأس و قلب، و هو یکتب و یملی علی اثنین، و وجهه و شفتاه تلعب ألوان الحرکات لقوّة حرصه فی إخراج الکلام، و کأنه یکتب بجملة أعضائه، و کان لغرام فی الکتابة و تحصیل الکتب، و کان له الدین و العفاف و التقی و المواظبة علی أوراد اللیل، و الصیام و قراءة القرآن، و کان قلیل اللذات کثیر الحسنات دائم التهجد، و یشتغل بعلوم الأدب و تفسیر القرآن، غیر أنه کان خفیف البضاعة من النحو، و لکن قوّة الدرایة توجب له قلة اللحن، و کان لا یکاد یضیع من زمانه شیئا إلّا فی طاعة، و کتب فی الإنشاء ما لم یکتبه غیره.
و حکی لی ابن القطان أحد کتابه قال: لما خطب صلاح الدین بمصر للإمام المستضی‌ء بأمر اللّه، تقدّم إلی القاضی الفاضل بأن یکاتب الدیوان العزیز و ملوک الشرق، و لم یکن یعرف خطابهم و اصطلاحهم، فأوغر إلی العماد الکاتب أن یکتب، فکتب و احتفل و جاء بها مفضوضة لیقرأها الفاضل متبجحا بها فقال: لا أحتاج أن أقف علیها، و أمر بختمها و تسلیمها إلی النجاب و العماد یبصر. قال: ثم أمرنی أن ألحق النجاب ببلبیس و أن أفض الکتب و أکتب صدورها و نهایتها، ففعلت و رجعت بها إلیه، فکتب علی حذوها و عرضها علی السلطان فارتضاها و أمر بإرسالها إلی أربابها مع النجاب، و کان متقللا فی مطعمه و منکحه و ملبسه، و لباسه البیاض لا یبلغ جمیع ما علیه دینارین، و یرکب معه غلام و رکابیّ، و لا یمکن أحدا أن یصحبه، و یکثر زیارة القبور و تشییع الجنائز و عیادة المرضی، و له معروف فی السرّ و العلانیة، و أکثر أوقاته یفطر بعد ما یتهوّر اللیل، و کان ضعیف البنیة رقیق الصورة له حدبة یغطیها الطیلسان، و کان فیه سوء خلق یکمد به فی نفسه و لا یضرّ أحدا به، و لأصحاب الأدب عنده نفاق یحسن إلیهم و لا یمنّ علیهم، و یؤثر أرباب البیوت و الغرباء، و لم یکن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان إلیهم أو بالإعراض عنهم، و کان دخله فی کلّ سنة من إقطاع و رباع و ضیاع خمسین ألف دینار سوی متاجره للهند و المغرب و غیرهما، و کان یقتنی الکتب من کل فنّ و یجتلبها من کل جهة، و له نسّاخ لا یفترون، و مجلدون لا یبطلون. قال لی بعض من یخدمه فی الکتب: أنّ عددها قد بلغ مائة ألف و أربعة و عشرین ألفا، و هذا قبل موته بعشرین سنة. و حکی لی ابن صورة الکتبیّ: أن ابنه القاضی الأشرف التمس منی أن أطلب له نسخة الحماسة لیقرأها، فأعلمت القاضی الفاضل، فاستحضر من الخادم الحماسات، فأحضر له خمسا و ثلاثین نسخة، و صار ینفض نسخة نسخة و یقول: هذه بخط فلان، و هذه علیها خط فلان، حتی أتی علی الجمیع و قال: لیس فیها ما یصلح للصبیان، و أمرنی أن أشتری له نسخة بدینار.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 207

المدرسة الأزکشیة

هذه المدرسة بالقاهرة علی رأس السوق الذی کان یعرف بالخروقیین، و یعرف الیوم بسویقة أمیر الجیوش، بناها الأمیر سیف الدین أیازکوج الأسدیّ، مملوک أسد الدین شیرکوه، و أحد أمراء السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، و جعلها وقفا علی الفقهاء من الحنفیة فقط، فی سنة اثنتین و تسعین و خمسمائة، و کان أیازکوج رأس الأمراء الأسدیة بدیار مصر فی أیام السلطان صلاح الدین، و أیام ابنه الملک العزیز عثمان، و کان الأمیر فخر الدین جهارکس رأس الصلاحیة، و لم یزل علی ذلک إلی أن مات فی یوم الجمعة ثامن عشر ربیع الآخر سنة تسع و تسعین و خمسمائة، و دفن بسفح المقطم بالقرب من رباط الأمیر فخر الدین بن قزل.

المدرسة الفخریة

هذه المدرسة بالقاهرة فیما بین سویقة الصاحب و درب العدّاس، عمرها الأمیر الکبیر فخر الدین أبو الفتح عثمان بن قزل البارومیّ، أستادار الملک الکامل محمد بن العادل، و کان الفراغ منها فی سنة اثنتین و عشرین و ستمائة، و کان موضعها أخیرا یعرف بدار الأمیر حسام الدین ساروح بن أرتق شادّ الدواوین، و مولد الأمیر فخر الدین فی سنة إحدی و خمسین و خمسمائة بحلب، و تنقل فی الخدم حتی صار أحد الأمراء بدیار مصر، و تقدّم فی أیام الملک الکامل، و صار أستاداره و إلیه أمر المملکة و تدبیرها إلی أن سافر السلطان من القاهرة یرید بلاد المشرق، فمات بحرّان بعد مرض طویل فی ثامن عشر ذی الحجة سنة تسع و عشرین و ستمائة، و کان خیّرا کثیر الصدقة یتفقد أرباب البیوت، و له من الآثار سوی هذه المدرسة المسجد الذی تجاهها، و له أیضا رباط بالقرافة و إلی جانبه کتاب سبیل، و بنی بمکة رباطا.

المدرسة السیفیة

هذه المدرسة بالقاهرة فیما بین خط البندقانیین و خط الملحیین، و موضعها من جملة دار الدیباج، قال ابن عبد الظاهر کانت دارا و هی من المدرسة القطبیة، فسکنها شیخ الشیوخ، یعنی صدر الدین محمد بن حمویة، و بنیت فی وزارة صفیّ الدین عبد اللّه بن علیّ بن شکران سیف الإسلام، و وقفها و ولی فیها عماد الدین ولد القاضی صدر الدین، یعنی ابن درباس، و سیف الإسلام هذا اسمه طفتکین بن أیوب.
طفتکین: ظهیر الدین سیف الإسلام الملک المعز بن نجم الدین أیوب بن شادی بن مروان الأیوبیّ، سیّره أخوه صلاح الدین یوسف بن أیوب إلی بلاد الیمن فی سنة سبع و سبعین و خمسمائة، فملکها و استولی علی کثیر من بلادها، و کان شجاعا کریما مشکور السیرة حسن السیاسة، قصده الناس من البلاد الشاسعة یستمطرون إحسانه و برّه، و سار إلیه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 208
شرف الدین بن عنین و مدحه بعدّة قصائد بدیعة، فأجزل صلاته و أکثر من الإحسان إلیه، و اکتسب من جهته مالا وافرا، و خرج من الیمن، فلما قدم إلی مصر و السلطان إذ ذاک الملک العزیز عثمان بن صلاح الدین، ألزمه أرباب دیوان الزکاة بدفع زکاة ما معه من المتجر فعمل:
ما کلّ من یتسمی بالعزیز لهاأهل و لا کلّ برق سحبه غدقه
بین العزیزین فرق فی فعالهماهذّاک یعطی و هذا یأخذ الصدقه
و توفی سیف الإسلام فی شوّال سنة ثلاث و تسعین و خمسمائة بالمنصورة، و هی مدینة بالیمن اختطها رحمه اللّه تعالی.

المدرسة العاشوریة

هذه المدرسة بحارة زویلة من القاهرة، بالقرب من المدرسة القطبیة الجدیدة و رحبة کوکای. قال ابن عبد الظاهر: کانت دار الیهودیّ ابن جمیع الطبیب، و کان یکتب لقراقوش، فاشترتها منه الست عاشوراء بنت ساروج الأسدیّ، زوجة الأمیر أیازکوج الأسدیّ، و وقفتها علی الحنفیة، و کانت من الدور الحسنة، و قد تلاشت هذه المدرسة و صارت طول الأیام مغلوقة لا تفتح إلّا قلیلا، فإنها فی زقاق لا یسکنه إلّا الیهود و من یقرب منهم فی النسب.

المدرسة القطبیة

هذه المدرسة فی أوّل حارة زویلة برحبة کوکای، عرفت بالست الجلیلة الکبری عصمة الدین مؤنسة خاتون، المعروفة بدار إقبال العلائی، ابنة الملک العادل أبی بکر بن أیوب، و شقیقة الملک الأفضل قطب الدین أحمد، و إلیه نسبت، و کانت ولادتها فی سنة ثلاث و ستمائة، و وفاتها لیلة الرابع و العشرین من ربیع الآخر سنة ثلاث و تسعین و ستمائة، و کانت قد سمعت الحدیث و خرّج لها الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد الظاهریّ أحادیث ثمانیات حدّثت بها، و کانت عاقلة دینة فصیحة، لها أدب و صدقات کثیرة، و ترکت مالا جزیلا، و أوصت ببناء مدرسة یجعل فیها فقهاء و قرّاء، و یشتری لها وقف یغلّ، فبنیت هذه المدرسة، و جعل فیها درس للشافعیة و درس للحنفیة. و قرّاء، و هی إلی الیوم عامرة.

المدرسة الخرّوبیة

هذه المدرسة علی شاطی‌ء النیل من مدینة مصر، أنشأها تاج الدین محمد بن صلاح الدین أحمد بن محمد بن علی الخروبیّ، لما أنشأ بیتا کبیرا مقابل بیت أخیه عز الدین قبلیه علی شاطی‌ء النیل، و جعل فیه هذه المدرسة، و هی ألطف من مدرسة أخیه، و بجنبها مکتب سبیل، و وقف علیها أوقافا، و جعل بها مدرّس حدیث فقط، مات بمکة فی آخر المحرّم سنة خمس و ثمانین و سبعمائة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 209

مدرسة المحلیّ

هذه المدرسة علی شاطی‌ء النیل داخل صناعة التمر ظاهر مدینة مصر، أنشأها رئیس التجار برهان الدین إبراهیم بن عمر بن علیّ المحلیّ ابن بنت العلامة شمس الدین محمد بن اللبان، و ینتمی فی نسبه إلی طلحة بن عبید اللّه، أحد العشرة رضی اللّه عنهم، و جعل هذه المدرسة بجوار داره التی عمرها فی مدّة سبع سنین، و أنفق فی بنائها زیادة علی خمسین ألف دینار، و جعل بجوارها مکتب سبیل، لکن لم یجعل بها مدرّسا و لا طلبة، و توفی ثانی عشری ربیع الأوّل سنة ست و ثمانمائة عن مال عظیم، أخذ منه السلطان الملک الناصر فرج بن برقوق مائة ألف دینار، و کان مولده سنة خمس و أربعین و سبعمائة، و لم یکن مشکور السیرة فی الدیانة، و له من المآثر تجدید جامع عمرو بن العاص، فإنه کان قد تداعی إلی السقوط، فقام بعمارته حتی عاد قریبا مما کان علیه، شکر اللّه له ذلک.

المدرسة الفارقانیة

هذه المدرسة بابها شارع فی سویقة حارة الوزیریة من القاهرة، فتحت فی یوم الاثنین رابع جمادی الأولی سنة ست و سبعین و ستمائة، و بها درس للطائفة الشافعیة، و درس للطائفة الحنفیة، أنشأها الأمیر شمس الدین آق سنقر الفارقانیّ السلاحدار، کان مملوکا للأمیر نجم الدین أمیر حاجب، ثم انتقل إلی الملک الظاهر بیبرس، فترقّی عنده فی الخدم حتی صار أحد الأمراء الأکابر، و ولاه الأستاداریة، و ناب عنه بدیار مصر مدّة غیبته، و قدّمه علی العساکر غیر مرّة، و فتح له بلاد النوبة، و کان و سیما جسیما شجاعا مقداما حازما، صاحب درایة بالأمور و خبرة بالأحوال و التصرّفات، مدبرا للدول، کثیر البرّ و الصدقة، و لما مات الملک الظاهر و قام من بعده فی ملک مصر ابنه الملک السعید برکة قان، ولّاه نیابة السلطنة بدیار مصر بعد موت الأمیر بدر الدین بیلبک الخازندار، فأظهر الحزم و ضم إلیه طائفة منهم شمس الدین أقوش، و قطلیجا الرومیّ، و سیف الدین قلیج البغدادیّ، و سیف الدین بیجو البغدادیّ، و سیف الدین شعبان أمیر شکار، و بکتمر السلاحدار، و کانت الخاصکیة تکرهه فاتفقوا مع ممالیک بیلبک الخازندار علی القبض علیه، و تحدّثوا مع الملک السعید فی ذلک، و ما زالوا به حتی قبضوا علیه بمساعدة الأمیر سیف الدین کوندک الساقی لهم، و کان قد ربی مع السعید فی المکتب، فلم یشعر و هو قاعد بباب القلة من القلعة إلّا و قد سحب و ضرب و نتفت لحیته و جرّ، و قد ارتکب فی إهانته أمر شنیع، إلی البرج فسجن به لیالی قلیلة، أخرج منه میتا فی أثناء سنة ست و سبعین و ستمائة، و جهل قبره.

المدرسة المهذبیة

هذه المدرسة خارج باب زویلة من خط حارة حلب بجوار حمّام قماری، بناها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 210
الحکیم مهذب الدین أبو سعید محمد بن علم الدین بن أبی الوحش بن أبی الخیر بن أبی سلیمان بن أبی حلیقة، رئیس الأطباء، کان جدّه الرشید أبو الوحش نصرانیا متقدّما فی صناعة الطب، فأسلم ابنه علم الدین فی حیاته، و کان لا یولد له ولد فیعیش، فرأت أمّه و هی حامل به قائلا یقول: هیئوا له حلقة فضة قد تصدّق بوزنها، و ساعة یوضع من بطن أمّه تثقب أذنه و توضع فیها الحلقة. ففعلت ذلک فعاش، فعاهدت أمّه أباه أن لا یقلعها من أذنه، فکبر و جاءته أولاد و کلهم یموت، فولد له ابنه مهذب الدین أبو سعید، فعمل له حلقة فعاش، و کان سبب اشتهاره بأبی حلیقة أن الملک الکامل محمد بن العادل أمر بعض خدّامه أن یستدعی بالرشید الطبیب من الباب، و کان جماعة من الأطباء بالباب، فقال الخادم من هو منهم؟ فقال السلطان أبو حلیقة، فخرج فاستدعاه بذلک، فاشتهر بهذا الاسم، و مات الرشید فی سنة ست و سبعین و ستمائة.

المدرسة الخرّوبیة

هذه المدرسة بظاهر مدینة مصر تجاه المقیاس بخط کرسیّ الجسر، أنشأها کبیر الخرابیة بدر الدین محمد بن محمد بن علیّ الخروبیّ، بفتح الخاء المعجمة و تشدید الراء المهملة و ضمها ثم واو ساکنة بعدها باء موحدة ثم یاء آخر الحروف، التاجر فی مطابخ السکّر، و فی غیرها بعد سنة خمسین و سبعمائة، و جعل مدرّس الفقه بها الشیخ بهاء الدین عبد اللّه بن عبد الرحمن بن عقیل، و المعید الشیخ سراج الدین عمر البلقینی، و مات سنة اثنتین و ستین و سبعمائة، و أنشأ أیضا ربعین بخط دار النحاس من مصر البلقینی، و مات سنة و ربعین مقابل المقیاس بالقرب من مدرسته، و لبدر الدین هذا أخ من أبیه أسنّ منه یقال له صلاح الدین أحمد بن محمد بن علیّ الخرّوبیّ، عاش بعد أخیه و أنجب فی أولاده، و أدرکت لهم أولادا نجباء، و کان أوّلا قلیل المال، ثم تموّل و أنشأ تربة کبیرة بالقرافة، فیما بین تربة الإمام الشافعیّ و تربة اللیث بن سعد، مقابل السروتین، و جدّدها حفیده نور الدین علیّ بن عز الدین محمد بن صلاح الدین، و أضاف إلیها مطهرة حسنة، و مات سنة تسع و ستین و سبعمائة، و شرط بدر الدین فی مدرسته أن لا یلی بها أحد من العجم. وظیفة من الوظائف. فقال فی کل وظیفة منها، و یکون من العرب دون العجم، و کانت له مکارم، جهز مرّة ابن عقیل إلی الحج بنحو خمسمائة دینار.

المدرسة الخروبیة

هذه المدرسة بخط الشون قبلیّ دار النحاس من ظاهر مدینة مصر، أنشأها عز الدین محمد بن صلاح الدین أحمد بن محمد بن علیّ الخرّوبیّ، و هی أکبر من مدرسة عمه بدر الدین، إلّا أنه مات سنة ست و سبعین و سبعمائة قبل استیفاء ما أراد أن یجعل فیها، فلیس لها مدرّس و لا طلبة، و مولده سنة ست عشرة و سبعمائة، و نشأ فی دنیا عریضة رحمه اللّه تعالی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 211

المدرسة الصاحبیة البهائیة

هذه المدرسة کانت بزقاق القنادیل من مدینة مصر، قرب الجامع العتیق، أنشأها الوزیر الصاحب بهاء الدین علیّ بن محمد بن سلیم بن حنا فی سنة أربع و خمسین و ستمائة، و کان إذ ذاک زقاق القنادیل أعمر أخطاط مصر، و إنما قیل له زقاق القنادیل من أجل أنه کان سکن الأشراف، و کانت أبواب الدور یعلق علی کلّ باب منها قندیل. قال القضاعیّ: و یقال أنه کان به مائة قندیل توقد کلّ لیلة علی أبواب الأکابر.
و ابن حنا هذا هو علیّ بن محمد بن سلیم- بفتح السین المهملة و کسر اللام ثم یاء آخر الحروف بعدها میم- ابن حنا- بحاء مهملة مکسورة ثم نون مشدّدة مفتوحة بعدها ألف- الوزیر الصاحب بهاء الدین، ولد بمصر فی سنة ثلاث و ستمائة، و تنقلت به الأحوال فی کتابة الدواوین إلی أن ولی المناصب الجلیلة، و اشتهرت کفایته و عرفت فی الدولة نهضته و درایته، فاستوزره السلطان الملک الظاهر رکن الدین بیبرس البندقداریّ فی ثامن شهر ربیع الأوّل سنة تسع و خمسین و ستمائة، بعد القبض علی الصاحب زین الدین یعقوب بن الزبیر، و فوّض إلیه تدبیر المملکة و أمور الدولة کلها، فنزل من قلعة الجبل بخلع الوزارة و معه الأمیر سیف الدین بلبان الرومیّ الدوادار، و جمیع الأعیان و الأکابر، إلی داره، و استبدّ بجمیع التصرّفات، و أظهر عن حزم و عزم و جودة رأی، و قام بأعباء الدولة من ولایات العمال و عزلهم من غیر مشاورة السلطان و لا اعتراض أحد علیه، فصار مرجع جمیع الأمور إلیه و مصدرها عنه، و منشأ ولایات الخطط و الأعمال من قلمه، و زوالها عن أربابها لا یصدر إلا من قبله، و ما زال علی ذلک طول الأیام الظاهریة، فلما قام الملک السعید برکة قان بأمر المملکة بعد موت أبیه الملک الظاهر، أقرّه علی ما کان علیه فی حیاة والده، فدبر الأمور و ساس الأحوال، و ما تعرّض له أحد بعداوة و لا سوء، مع کثرة من کان یناویه من الأمراء و غیرهم إلّا و صدّه اللّه عنه، و لم یجد ما یتعلق به علیه، و لا ما یبلغ به مقصوده منه، و کان عطاؤه واسعا و صلاته و کلفه للأمراء و الأعیان و من یلوذ به، و یتعلق بخدمته تخرج عن الحدّ فی الکثرة، و تتجاوز القدر فی السعة مع حسن ظنّ بالفقراء و صدق العقیدة فی أهل الخیر و الصلاح، و القیام بمعونتهم و تفقد أحوالهم و قضاء أشغالهم، و المبادرة إلی امتثال أوامرهم، و العفة عن الأموال، حتی أنه لم یقبل من أحد فی وزارته هدیة إلّا أن تکون هدیة فقیر أو شیخ معتقد یتبرّک بما یصل من أثره، و کثرة الصدقات فی السرّ و العلانیة، و کان یستعین علی ما التزمه من المبرّات و لزمه من الکلف بالمتاجر، و قد مدحه عدّة من الناس فقبل مدیحهم و أجزل جوائزهم، و ما أحسن قول الرشید الفارقیّ فیه:
و قائل قال لی نبه لنا عمرافقلت إنّ علیا قد تنبه لی
مالی إذا کنت محتاجا إلی عمرمن حاجة فلینم حسبی انتباه علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 212
و قول سعد الدین بن مروان الفارقیّ فی کتاب الدرج المختص به أیضا:
یمم علیا فهو بحر الندی‌و ناده فی المضلع المعضل
فرفده بحر علی مجدب‌و وفده مفض إلی مفصل
یسرع إن سیل نداه و هل‌أسرع من سیل أتی من علی
إلّا أنه أحدث فی وزارته حوادث عظیمة، و قاس أراضی الأملاک بمصر و القاهرة و أخذ علیها مالا، و صادر أرباب الأموال و عاقبهم حتی مات کثیر منهم تحت العقوبة، و استخرج حوالی الذمّة مضاعفة، و رزی‌ء بفقد ولدیه الصاحب فخر الدین محمد، و الصاحب زین الدین، فعوّضه اللّه عنهما بأولادهما، فما منهم إلا نجیب صدر رئیس فاضل مذکور، و ما مات حتی صار جدّ جدّ، و هو علی المکانة وافر الحرمة، فی لیلة الجمعة مستهلّ ذی الحجة سنة سبع و سبعین و ستمائة، و دفن بتربته من قرافة مصر، و وزر من بعده الصاحب برهان الدین الخضر بن حسن بن علیّ السنجاریّ، و کان بینه و بین ابن حنا عداوة ظاهرة و باطنة، و حقود بارزة و کامنة، فأوقع الحوطة علی الصاحب تاج الدین محمد بن حنا بدمشق، و کان مع الملک السعید بها، و أخذ خطه بمائة ألف دینار، و جهزه علی البرید إلی مصر، لیستخرج منه و من أخیه زین الدین أحمد، و ابن عمه عز الدین تکملة ثلثمائة ألف دینار، و أحیط بأسبابه و من یلوذ به من أصحابه و معارفه و غلمانه، و طولبوا بالمال.
و أوّل من درّس بهذه المدرسة الصاحب فخر الدین محمد، ابن بانیها الوزیر الصاحب بهاء الدین إلی أن مات یوم الاثنین حادی عشری شعبان سنة ثمان و ستین و ستمائة، فولیها من بعده ابنه محیی الدین أحمد بن محمد إلی أن توفی یوم الأحد ثامن شعبان سنة اثنتین و سبعین و ستمائة، فدرّس فیها بعده الصاحب زین الدین أحمد بن الصاحب فخر الدین محمد بن الصاحب بهاء الدین إلی أن مات فی یوم الأربعاء سابع صفر سنة أربع و سبعمائة، فدرّس بها ولده الصاحب شرف الدین و توارثها أبناء الصاحب یلون نظرها و تدریسها إلی أن کان آخرهم صاحبنا الرئیس شمس الدین محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن الصاحب بهاء الدین، ولیها بعد أبیه عز الدین، و ولیها عز الدین بعد بدر الدین أحمد بن محمد بن محمد بن الصاحب بهاء الدین، فلما مات صاحبنا شمس الدین محمد بن الصاحب للیلة بقیت من جمادی الآخرة سنة ثلاث عشرة و ثمانمائة، وضع بعض نوّاب القضاة یده علی ما بقی لها من وقف، و أقامت هذه المدرسة مدّة أعوام معطلة من ذکر اللّه و إقام الصلاة، لا یأویها أحد لخراب ما حولها، و بها شخص یبیت بها کی لا یسرق ما بها من أبواب و رخام، و کان لها خزانة کتب جلیلة فنقلها شمس الدین محمد بن الصاحب و صارت تحت یده إلی أن مات، فتفرّقت فی أیدی الناس، و کان قد عزم علی نقلها إلی شاطی‌ء النیل بمصر، فمات قبل ذلک.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 213
و لما کان فی سنة اثنتی عشرة و ثمانمائة، أخذ الملک الناصر فرج بن برقوق عمد الرخام التی کانت بهذه المدرسة، و کانت کثیرة العدد جلیلة القدر، و عمل بدلها دعائم تحمل السقوف إلی أن کانت أیام الملک المؤید الشیخ، و ولی الأمیر تاج الدین الشوبکیّ الدمشقی ولایة القاهرة و مصر و حسبة البلدین و شدّ العمائر السلطانیة، فهدم هذه المدرسة فی أخریات سنة سبع عشرة و أوائل سنة ثمانی عشرة و ثمانمائة، و کانت من أجلّ مدارس الدنیا و أعظم مدرسة بمصر، یتنافس الناس من طلبة العلم فی النزول بها و یتشاحنون فی سکنی بیوتها، حتی یصیر البیت الواحد من بیوتها یسکن فیه الاثنان من طلبة العلم و الثلاثة، ثم تلاشی أمرها حتی هدمت و سیجهل عن قریب موضعها، و للّه عاقبة الأمور.

المدرسة الصاحبیة

هذه المدرسة بالقاهرة فی سویقة الصاحب، کان موضعها من جملة دار الوزیر یعقوب بن کلس، و من جملة دار الدیباج، أنشأها الصاحب صفیّ الدین عبد اللّه بن علیّ بن شکر، و جعلها وقفا علی المالکیة، و بها درس نحو و خزانة کتب، و ما زالت بید أولاده.
فلما کان فی شعبان سنة ثمان و خمسین و سبعمائة، جدّد عمارتها القاضی علم الدین إبراهیم بن عبد اللطیف بن إبراهیم المعروف بابن الزبیر، ناظر الدولة فی أیام الملک الناصر حسن بن محمد بن قلاون، و استجدّ فیها منبرا فصار یصلّی بها الجمعة إلی یومنا هذا، و لم یکن قبل ذلک بها منبر و لا تصلّی فیها الجمعة.
عبد اللّه بن علیّ بن الحسین بن عبد الخالق بن الحسین بن الحسن بن منصور بن إبراهیم بن عمار بن منصور بن علیّ صفیّ الدین أبو محمد الشنیبیّ الدمیریّ المالکیّ، المعروف بابن شکر، ولد بناحیة دمیرة إحدی قری مصر البحریة فی تاسع صفر سنة ثمان و أربعین و خمسمائة، و مات أبوه فتزوّجت أمّه بالقاضی الوزیر الأعز فخر الدین مقدام ابن القاضی الأجل أبی العباس أحمد بن شکر المالکیّ، فرباه و نوّه باسمه لأنه کان ابن عمه، فعرف به و قیل له ابن شکر، و سمع صفیّ الدین من الفقیه أبی الظاهر إسماعیل بن مکیّ بن عوف، و أبی الطیب عبد المنعم بن یحیی و غیره، و حدّث بالقاهرة و دمشق، و تفقه علی مذهب مالک، و برع فیه، و صنف کتابا فی الفقه کان کلّ من حفظه نال منه خطأ وافرا، و قصد بذلک أن یتشبه بالوزیر عون الدین بن هبیرة، کانت بدایة أمره أنه لما سلّم السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب أمر الأسطول لأخیه الملک العادل أبی بکر بن أیوب، و أفرد له من الأبواب الدیوانیة الزکاة بمصر و الجبس الجیوشی بالبرّین و النطرون و الخراج و ما معه من ثمن القرظ و ساحل السنط و المراکب الدیوانیة و اسنا و طنبدی، استخدم العادل فی مباشرة دیوان هذه المعاملة الصفیّ بن شکر هذا، و کان ذلک فی سنة سبع و ثمانین و خمسمائة، و من حینئذ اشتهر ذکره و تخصص بالملک العادل، فلما استقل بمملکة مصر فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 214
سنة ست و تسعین و خمسمائة عظم قدره، ثم استوزره بعد الصنیعة بن النجار، فحل عنده محل الوزراء الکبار و العلماء المشاورین، و باشر الوزارة بسطوة و جبروت و تعاظم، و صادر کتاب الدولة و استصفی أموالهم، ففرّ منه القاضی الأشرف ابن القاضی الفاضل إلی بغداد، و استشفع بالخلیفة الناصر، و أحضر کتابه إلی الملک العادل یشفع فیه، و هرب منه القاضی علم الدین إسماعیل بن أبی الحجاج صاحب دیوان الجیش، و القاضی الأسعد أسعد بن مماتی صاحب دیوان المال، و التجآ إلی الملک الظاهر بحلب، فأقاما عنده حتی ماتا، و صادر بنی حمدان و بنی الحباب و بنی الجلیس، و أکابر الکتاب، و السلطان لا یعارضه فی شی‌ء، و مع ذلک فکان یکثر التغضب علی السلطان و یتجنی علیه و هو یحتمله إلی أن غضب فی سنة سبع و ستمائة، و حلف أنه ما بقی یخدم، فلم یحتمله، و ولی الوزارة عوضا عنه القاضی الأعز فخر الدین مقدام بن شکر، و أخرجه من مصر بجمیع أمواله و حرمه و غلمانه، و کان نقله علی ثلاثین جملا، و أخذ أعداؤه فی إغراء السلطان به و حسنوا له أن یأخذ ماله، فأبی علیهم و لم یأخذ منه شیئا، و سار إلی آمد فأقام بها عند ابن أرتق إلی أن مات الملک العادل فی سنة خمسین و ستمائة، فطلبه الملک الکامل محمد بن الملک العادل لما استبدّ بسلطنة دیار مصر بعد أبیه، و هو فی نوبة قتال الفرنج علی دمیاط حین رأی أن الضرورة داعیة لحضوره بعد ما کان یعادیه، فقدم علیه فی ذی القعدة منها و هو بالمنزلة العادلیة قریبا من دمیاط، فتلقاه و أکرمه و حادثه فیما نزل به من موت أبیه و محاربة الفرنج و مخالفة الأمیر عماد الدین أحمد بن المشطوب، و اضطراب أرض مصر بثورة العربان، و کثرة خلافهم، فشجعه و تکفل له بتحصیل المال و تدبیر الأمور، و سار إلی القاهرة فوضع یده فی مصادرات أرباب الأموال بمصر و القاهرة من الکتاب و التجار، و قرّر علی الأملاک مالا، و أحدث حوادث کثیرة، و جمع مالا عظیما أمدّ به السلطان، فکثر تمکنه منه و قویت یده و توفرت مهابته، بحیث أنه لما انقضت نوبة دمیاط و عاد الملک الکامل إلی قلعة الجبل کان ینزل إلیه و یجلس عنده بمنظرته التی کانت علی الخلیج، و یتحدّث معه فی مهمات الدولة، و لم یزل علی ذلک إلی أن مات بالقاهرة و هو وزیر فی یوم الجمعة ثامن شعبان سنة اثنتین و عشرین و ستمائة، و کان بعید الغور جماعا للمال ضابطا له من الإنفاق فی غیر واجب، قد ملأت هیبته الصدور، و انقاد له علی الرغم و الرضی الجمهور، و أخمد جمرات الرجال، و أضرم رمادا لم یخطر إیقاده علی بال، و بلغ عند الملک الکامل بحیث أنه بعث إلیه بابنیه الملک الصالح نجم الدین أیوب، و الملک العادل أبی بکر لیزوراه فی یوم عید فقاما علی رأسه قیاما، و أنشد زکیّ الدین أبو القاسم عبد الرحمن بن وهیب القوصیّ قصیدة زاد فیها حین رأی الملکین قیاما علی رأسه:
لو لم تقم للّه حقّ قیامه‌ما کنت تقعد و الملوک قیام
و قطع فی وزارته الأرزاق، و کانت جملتها أربعمائة ألف دینار فی السنة، و تسارع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 215
أرباب الحوائج و الأطماع و من کان یخافه إلی بابه، و ملؤا طرقاته و هو یهینهم، و لا یحفل بشیخ منهم و هو عالم، و أوقع بالرؤساء و أرباب البیوت حتی استأصل شأفتهم عن آخرهم، و قدّم الأراذل فی مناصبهم، و کان جلدا قویا حل به مرّة دوسطاریا قویة و أزمنت فیئس منه الأطباء، و عند ما اشتدّ به الوجع و أشرف علی الهلاک، استدعی بعشرة من وجوه الکتاب کانوا فی حبسه و قال: أنتم فی راحة و أنا فی الألم، کلّا و اللّه، و استحضر المعاصیر و آلات العذاب و عذبهم فصاروا یصرخون من العذاب و هو یصرخ من الألم طول اللیل إلی الصبح، و بعد ثلاثة أیام رکب و کان یقول کثیرا: لم یبق فی قلبی حسرة إلّا کون البیسانیّ لم تتمرّغ شیبته علی عتباتی، یعنی القاضی الفاضل عبد الرحیم البیسانیّ، فإنه مات قبل وزارته، و کان دریّ اللون تعلوه حمرة، و مع ذلک فکان طلق المحیا حلو اللسان حسن الهیئة، صاحب دهاء مع هوج، و خبث فی طیش، و رعونة مفرطة، و حقد لا تخبو ناره، ینتقم و یظنّ أنه لم ینتقم، فیعود، و کان لا ینام عن عدوّه و لا یقبل معذرة أحد، و یتخذ الرؤساء کلهم أعداءه و لا یرضی لعدوّه بدون الهلاک و الاستئصال، و لا یرحم أحدا إذا انتقم منه، و لا یبالی بعاقبة، و کان له و لأهله کلمة یرونها و یعملون بها. کما یعمل بالأقوال الإلهیة، و هی إذا کنت دقماقا فلا تکن وتدا، و کان الواحد منهم یعیدها فی الیوم مرّات و یجعلها حجة عند انتقامه، و کان قد استولی علی الملک العادل ظاهرا و باطنا، و لا یمکن أحدا من الوصول إلیه، حتّی الطبیب و الحاجب و الفرّاش علیهم عیون له لا یتکلم أحد منهم فضل کلمة خوفا منه، و کان أکبر أغراضه إبادة أرباب البیوت و محو آثارهم و هدم دیارهم و تقریب الأسقاط و شرار الفقهاء، و کان لا یأخذ من مال السلطان فلسا و لا ألف دینار، و یظهر أمانة مفرطة، فإذا لاح له مال عظیم احتجنه، و بلغ إقطاعه فی السنة مائة ألف دینار و عشرین ألف دینار، و کان قد عمی فأخذ یظهر جلدا عظیما و عدم استکانة، و إذا حضر إلیه الأمراء و الأکابر و جلسوا علی خوانه یقول: قدّموا اللون الفلانیّ للأمیر فلان و الصدر فلان، و القاضی فلان، و هو یبنی أموره فی معرفة مکان المشار إلیه برموز و مقدّمات، یکابر فیها دوائر الزمان، و کان یتشبه فی ترسله بالقاضی الفاضل، و فی محاضراته بالوزیر عون الدین بن هبیرة، حتی اشتهر عنه ذلک، و لم یکن فیه أهلیة هذا لکنه کان من دهاة الرجال، و کان إذا لحظ شخصا لا یقنع له إلا بکثرة الغنی و نهایة الرفعة، و إذا غضب علی أحد لا یقنع فی شأنه إلا بمحو أثره من الوجود، و کان کثیرا ما ینشد:
إذا حقّرت امرأ فاحذر عداوته‌من یزرع الشوک لم یحصد به عنبا
و ینشد کثیرا:
تودّ عدوّی ثمّ تزعم أننی‌صدیقک إنّ الرأی عنک لعازب
و أخذه مرّة مرض من حمی قویة، و حدث به النافض، و هو فی مجلس السلطان ینفذ الأشغال، فما تأثر و لا ألقی جنبه إلی الأرض حتی ذهبت و هو کذلک، و کان یتعزز علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 216
الملوک الجبابرة، و تقف الرؤساء علی بابه من نصف اللیل و معهم المشاعل و الشمع، و عند الصباح یرکب فلا یراهم و لا یرونه، لأنه إمّا أن یرفع رأسه إلی السماء تیها، و إمّا أن یعرّج إلی طریق غیر التی هم بها، و إمّا أن یأمر الجنادرة التی فی رکابه بضرب الناس و طردهم من طریقه. و یکون الرجل قد وقف علی بابه طول اللیل، إمّا من أوّله أو من نصفه بغلمانه و دوابه، فیطرد عنه و لا یراه، و کان له بوّاب یأخذ من الناس مالا کثیرا و مع ذلک یهینهم إهانة مفرطة، و علیه للصاحب فی کل یوم خمسة دنانیر، منها دیناران برسم الفقاع، و ثلاثة دنانیر برسم الحلوی، و کسوة غلمانه و نفقاته علیه أیضا، و مع ذلک اقتنی عقارا و قری، و لما کان بعد موت الصاحب قدم من بغداد رسول الخلیفة الظاهر، و هو محیی الدین أبو المظفر بن الجوزیّ، و معه خلعة الخلیفة للملک الکامل، و خلع لأولاده، و خلعة للصاحب صفیّ الدین، فلبسها فخر الدین سلیمان کاتب الإنشاء، و قبض الملک الکامل علی أولاده تاج الدین یوسف، و عز الدین محمد و حبسهما، و أوقع الحوطة علی سائر موجوده رحمه اللّه و عفا عنه.

المدرسة الشریفیة

هذه المدرسة بدرب کرکامة علی رأس حارة الجودریة من القاهرة، وقفها الأمیر الکبیر الشریف فخر الدین أبو نصر إسماعیل بن حصن الدولة فخر العرب ثعلب بن یعقوب بن مسلم بن أبی جمیل دحیة بن جعفر بن موسی بن إبراهیم بن إسماعیل بن جعفر بن محمد بن علیّ بن عبد اللّه بن جعفر بن أبی طالب رضی اللّه عنه، الجعفریّ الزینبیّ، أمیر الحاج و الزائرین، و أحد أمراء مصر فی الدولة الأیوبیة، و تمت فی سنة اثنتی عشرة و ستمائة، و هی من مدارس الفقهاء الشافعیة.
قال ابن عبد الظاهر: و جری له فی وقفها حکایة مع الفقیه ضیاء الدین بن الورّاق، و ذلک أن الملک العادل سیف الدین أبا بکر، یعنی ابن أیوب، لما ملک مصر و کان قد دخلها علی أنه نائب للملک المنصور محمد بن العزیز عثمان بن صلاح الدین یوسف، فقوی علیه و قصد الاستبداد بالملک، فأحضر الناس للحلف، و کان من جملتهم الفقیه ضیاء الدین بن الورّاق، فقوی علیه و قصد الاستبداد بالملک، فأحضر الناس للحلف، و کان من جملتهم الفقیه ضیاء الدین بن الورّاق، فلما شرع الناس فی الحلف قال الفقیه ضیاء الدین: ما هذا الحلف، بالأمس حلفتم للمنصور، فإن کانت تلک الأیمان باطلة، فهذه باطلة، و إن کانت تلک صحیحة فهذه باطلة.
فقال الصاحب صفیّ الدین بن شکر للعادل: أفسد علیک الأمور هذا الفقیه. و کان الفقیه لم یحضر إلی ابن شکر و لا سلّم علیه، فأمر العادل بالحوطة علی جمیع موجود الفقیه و ماله و أملاکه، و اعتقاله بالرصد مرسما علیه فیه، لأنه کان مسجده، فأقام مدّة سنین علی هذه الصورة، فلما کان فی بعض الأیام وجد غرّة من المترسمین فحضر إلی دار الوزارة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 217
بالقاهرة، فبلغ العادل حضوره، فخرج إلیه. فقال له الفقیه: اعلم و اللّه أنی لا حاللتک و لا أبرأتک، أنت تتقدّمنی إلی اللّه فی هذه المدّة، و أنا بعدک أطالبک بین یدی اللّه تعالی. و ترکه و عاد إلی مکانه، فحضر الشریف فخر الدین بن ثعلب إلی الملک العادل فوجده متألما حزینا، فسأله، فعرّفه. فقال: یا مولانا و لم تجرّد السم فی نفسک؟ فقال: خذ کل ما وقعت الحوطة علیه و کلّ ما استخرج من أجرة أملاکه و طیب خاطره، و أما الفقیه ضیاء الدین فإنه أصبح و حضرت إلیه جماعة من الطلبة للقراءة علیه. فقال لهم: رأیت البارحة النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم و هو یقول: یکون فرجک علی ید رجل من أهل بیتی صحیح النسب، فبینما هم فی الحدیث و إذا بغبرة ثارت من جهة القرافة، فانکشفت عن الشریف ابن ثعلب و معه الموجود کله، فلما حضر عرّفه الجماعة المنام، فقال: یا سیدی اشهد علی أن جمیع ما أملکه وقف و صدقة، شکرا لهذه الرؤیا. و خرج عن کل ما یملکه، و کان من جملة ذلک المدرسة الشریفیة لأنها کانت مسکنه و وقف علیها أملاکه، و کذلک فعل فی غیرها، و لم یحالل الفقیه الملک العادل، و مات الملک العادل بعد ذلک، و مات الفقیه بعده بمدّة، و مات الشریف إسماعیل بن ثعلب بالقاهرة فی سابع عشر رجب سنة ثلاث عشرة و ستمائة.

المدرسة الصالحیة

هذه المدرسة بخط بین القصرین من القاهرة، کان موضعها من جملة القصر الکبیر الشرقیّ، فبنی فیه الملک الصالح نجم الدین أیوب بن الکامل محمد بن العادل أبی بکر بن أیوب هاتین المدرستین، فابتدأ بهدم موضع هذه المدارس فی قطعة من القصر فی ثالث عشر ذی الحجة سنة تسع و ثلاثین و ستمائة، و دک أساس المدارس فی رابع عشر ربیع الآخر سنة أربعین، و رتب فیها دروسا أربعة للفقهاء المنتمین إلی المذاهب الأربعة فی سنة إحدی و أربعین و ستمائة، و هو أوّل من عمل بدیار مصر دروسا أربعة فی مکان، و دخل فی هذه المدارس باب القصر المعروف بباب الزهومة، و موضعه قاعة شیخ الحنابلة الآن، ثم اختط ما وارء هذه المدارس فی سنة بضع و خمسین و ستمائة، و جعل حکر ذلک للمدرسة الصالحیة، و أوّل من درّس بها من الحنابلة قاضی القضاة شمس الدین أبو بکر محمد بن العماد إبراهیم بن عبد الواحد بن علیّ بن سرور المقدسیّ الحنبلیّ الصالحیّ، و فی یوم السبت ثالث عشری شوّال سنة ثمان و أربعین و ستمائة، أقام الملک المعز عز الدین أیبک الترکمانیّ الأمیر علاء الدین أیدکین البندقداریّ الصالحیّ فی نیابة السلطنة بدیار مصر، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحیة هذه مع نوّاب دار العدل، و انتصب لکشف المظالم، و استمرّ جلوسه بها مدّة. ثم إن الملک السعید ناصر الدین محمد برکة خان ابن الملک الظاهر بیبرس، وقف الصاغة التی تجاهها، و أماکن بالقاهرة و بمدینة المحلة الغربیة، و قطع أراضی جزائر بالأعمال الجیزیة و الأطفیحیة علی مدرسین أربعة، عند کل مدرّس معیدان و عدّة طلبة. و ما یحتاج إلیه من أئمة و مؤذنین و قومة و غیر ذلک، و ثبت وقف ذلک علی ید
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 218
قاضی القضاة تقیّ الدین محمد بن الحسین بن رزین الشافعیّ، و نفذه قاضی القضاة شمس الدین أبو البرکات محمد بن هبة اللّه بن شکر المالکیّ، و ذلک فی سنة سبع و سبعین و ستمائة، و هی جاریة فی وقفها إلی الیوم. فلما کان فی یوم الجمعة حادی عشری ربیع الأوّل سنة ثلاثین و سبعمائة، رتب الأمیر جمال الدین أقوش المعروف بنائب الکرک جمال الدین الغزاویّ خطیبا بإیوان الشافعیة من هذه المدرسة، و جعل له فی کل شهر خمسین درهما، و وقف علیه و علی مؤذنین وقفا جاریا، فاستمرّت الخطبة هناک إلی یومنا هذا.
قبة الصالح: هذه القبة بجوار المدرسة الصالحیة، کان موضعها قاعة شیخ المالکیة، بنتها عصمة الدین والدة خلیل شجرة الدر، لأجل مولاها الملک الصالح نجم الدین أیوب عندما مات، و هو علی مقاتلة الفرنج بناحیة المنصورة، فی لیلة النصف من شعبان سنة سبع و أربعین و ستمائة، فکتمت زوجته شجرة الدر موته خوفا من الفرنج و لم تعلم بذلک أحدا سوی الأمیر فخر الدین بن یوسف بن شیخ الشیوخ، و الطواشی جمال الدین محسن فقط، فکتما موته عن کلّ أحد، و بقیت أمور الدولة علی حالها، و شجرة الدرّ تخرج المناشیر و التواقیع و الکتب و علیها علامة بخط خادم یقال له سهیل، فلا یشک أحد فی أنه خط السلطان، و أشاعت أن السلطان مستمرّ المرض و لا یمکن الوصول إلیه، فلم یجسر أحد أن یتفوّه بموت السلطان إلی أن أنفذت إلی حصن کیفا و أحضرت الملک المعظم توران شاه بن الصالح، و أما الملک الصالح فإن شجرة الدرّ أحضرته فی حراقة من المنصورة إلی قلعة الروضة تجاه مدینة مصر من غیر أن یشعر به أحد إلّا من أیتمنته علی ذلک، فوضع فی قاعة من قاعات قلعة الروضة إلی یوم الجمعة السابع و العشرین من شهر رجب سنة ثمان و أربعین و ستمائة، فنقل إلی هذه القبة بعد ما کانت شجرة الدرّ قد عمرتها علی ما هی علیه، و خلعت نفسها من سلطنة مصر و نزلت عنها لزوجها عز الدین أیبک قبل نقله، فنقله الملک المعز أیبک و نزل و معه الملک الأشرف موسی ابن الملک المسعود و سائر الممالیک البحریة و الجمداریة و الأمراء من قلعة الجبل إلی قلعة الروضة، و أخرج الملک الصالح فی تابوت و صلّی علیه بعد صلاة الجمعة، و سائر الأمراء و أهل الدولة قد لبسوا البیاض حزنا علیه، و قطع الممالیک شعور رؤوسهم و ساروا به إلی هذه الدولة قد لبسوا البیاض حزنا علیه، السلطانان و نزلا إلی القبة، و حضر القضاة و سائر الممالیک و أهل الدولة و کافة الناس و غلقت الأسواق بالقاهرة و مصر، و عمل عزاء للملک الصالح بین القصرین بالدفوف مدّة ثلاثة أیام، آخرها یوم الاثنین. و وضع عند القبر سناجق السلطان و بقجته و ترکاشه و قوسه، و رتب عنده القرّاء علی ما شرطت شجرة الدرّ فی کتاب وقفها، و جعلت النظر فیها للصاحب بهاء الدین علیّ بن حنا و ذریته، و هی بیدهم إلی الیوم، و ما أحسن قول الأدیب جمال الدین أبی المظفر عبد الرحمن بن أبی سعید محمد بن محمد بن عمر بن أبی القاسم بن تخمش الواسطیّ، المعروف بابن السنیرة الشاعر، لما مرّ هو و الأمیر نور الدین تکریت بالقاهرة بین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 219
القصرین و نظر إلی تربة الملک الصالح هذه، و قد دفن بقاعة شیخ المالکیة فأنشد:
بنیت لأرباب العلوم مدارسالتنجو بها من هول یوم المهالک
و ضاقت علیک الأرض لم تلق منزلاتحلّ به إلّا إلی جنب مالک
و ذلک أن هذه القبة التی فیها قبر الملک الصالح، مجاورة لإیوان الفقهاء المالکیة المنتمین إلی الإمام مالک بن أنس رضی اللّه عنه، فقصد التوریة بمالک الإمام المشهور، و مالک خازن النار، أعاذنا اللّه منها.

المدرسة الکاملیة

هذه المدرسة بخط بین القصرین من القاهرة، و تعرف بدار الحدیث الکاملیة، أنشأها السلطان الملک الکامل ناصر الدین محمد ابن الملک العادل أبی بکر بن أیوب بن شادی بن مروان فی سنة اثنتین و عشرین و ستمائة، و هی ثانی دار عملت للحدیث. فإن أوّل من بنی دارا علی وجه الأرض، الملک العادل نور الدین محمود بن زنکی بدمشق، ثم بنی الکامل هذه الدار و وقفها علی المشتغلین بالحدیث النبویّ، ثم من بعدهم علی الفقهاء الشافعیة، و وقف علیها الربع الذی بجوارها علی باب الخرنشف، و یمتدّ إلی الدرب المقابل للجامع الأقمر، و هذا الربع من إنشاء الملک الکامل، و کان موضع من جملة القصر الغربیّ، ثم صار موضعا یسکنه القماحون. و کان موضع المدرسة سوقا للرقیق و دارا تعرف بابن کستول.
و أوّل من ولی تدریس الکاملیة الحافظ أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علیّ بن دحیة، ثم أخوه أبو عمرو عثمان بن الحسن بن علیّ بن دحیة، ثم الحافظ عبد العظیم المندریّ، ثم الرشید العطار. و ما برحت بید أعیان الفقهاء إلی أن کانت الحوادث و المحن منذ سنة ست و ثمانمائة، فتلاشت کما تلاشی غیرها، و ولی تدریسها صبیّ لا یشارک الأناسیّ إلّا بالصورة، و لا یمتاز عن البهیمة إلّا بالنطق، و استمرّ فیها دهرا لا یدرّس بها حتی نسیت أو کادت تنسی دروسها، و لا حول و لا قوّة إلّا بالله.
الملک الکامل: ناصر الدین أبو المعالی محمد بن الملک العادل سیف الدین أبی بکر محمد بن نجم الدین أیوب بن شادی بن مروان الکردیّ الأیوبیّ، خامس ملوک بنی أیوب الأکراد بدیار مصر، ولد فی خامس عشری ربیع الأوّل سنة ست و سبعین و خمسمائة، و خلف أباه الملک العادل علی بلاد الشرق، فلما استولی علی مملکة مصر، قدم الملک الکامل إلی القاهرة فی سنة ست و تسعین و خمسمائة، و نصبه أبوه نائبا عنه بدیار مصر، و أقطعه الشرقیة و جعله ولیّ عهده، و حلف له الأمراء، و أسکنه قلعة الجبل، و سکن العادل فی دار الوزارة بالقاهرة و صار یحکم بدیار مصر مدّة غیبة الملک العادل ببلاد الشام و غیرها بمفرده. فلما مات الملک العادل ببلاد الشام، استقل الملک الکامل بمملکة مصر فی جمادی الآخرة سنة خمس عشرة و ستمائة و هو علی محاربة الفرنج بالمنزلة العادلیة قریبا من دمیاط،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 220
و قد ملکوا البرّ الغربیّ. فثبت لقتالهم مع ما حدث من الوهن بموت السلطان، و ثارت العربان بنواحی أرض مصر و کثر خلافهم و اشتدّ ضررهم، و قام الأمیر عماد الدین أحمد ابن الأمیر سیف الدین أبی الحسین علیّ بن أحمد الهکاریّ، المعروف بابن المشطوب، و کان أجلّ الأمراء الأکابر، و له لفیف من الأکراد الهکاریة، یرید خلع الملک الکامل و تملیک أخیه الملک الفائز إبراهیم بن العادل، و وافقه علی ذلک کثیر من الأمراء، فلم یجد الکامل بدّا من الرحیل فی اللیل جریدة، و سار من العادلیة إلی أشموم طناح و نزل بها و أصبح العسکر بغیر سلطان، فرکب کل واحد هواه و لم یعرّج واحد منهم علی آخر، و ترکوا أثقالهم و سائر ما معهم، فاغتنم الفرنج الفرصة و عبروا إلی برّ دمیاط و استولوا علی جمیع ما ترکه المسلمون، و کان شیئا عظیما، و همّ الملک الکامل بمفارقة أرض مصر، ثم إن اللّه تعالی ثبته و تلاحقت العساکر، و بعد یومین قدم علیه أخوه الملک المعظم عیسی صاحب دمشق باشموم، فاشتدّ عضده بأخیه، و أخرج ابن المشطوب من العسکر إلی الشام، ثم أخرج الفائز إبراهیم إلی الملوک الأیوبیة بالشام و الشرق یستنفرهم لجهاد الفرنج، و کتب الملک الکامل إلی أخیه الملک الأشرف موسی شاه یستحثه علی الحضور، و صدّر المکاتبة بهذه الأبیات:
یا مسعدی إن کنت حقا مسعفی‌فانهض بغیر تلبث و توقف
و احثت قلوصک مرقلا أو موجفا بتجشم فی سیرها و تعسف
و اطو المنازل ما استطعت و لا تنخ‌إلّا علی باب الملیک الأشرف
و اقر السلام علیه من عبد له‌متوقع لقدومه متشوّف
و إذا وصلت إلی حماه فقل له‌عنی بحسن توصل و تلطف
إن تأت عبدک عن قلیل تلقه‌ما بین کلّ مهند و مثقف
أو تبط عن إنجاده فلقاؤه‌بک فی القیامة فی عراص الموقف
و جدّ الکامل فی قتال الفرنج و أمر بالنفیر فی دیار مصر، و أتته الملوک من الأطراف، فقدّر اللّه أخذ الفرنج لدمیاط بعد ما حاصروها ستة عشر شهرا و اثنین و عشرین یوما، و وضعوا السیف فی أهلها، فرحل الکامل من أشموم و نزل بالمنصورة و بعث یستنفر الناس، و قوی الفرنج حتی بلغت عدّتهم نحو المائتی ألف راجل، و عشرة آلاف فارس، و قدم عامّة أهل أرض مصر، و أتت النجدات من البلاد الشامیة و غیرها، فصار المسلمون فی جمع عظیم إلی الغایة بلغت عدّة فرسانهم خاصة نحو الأربعین ألفا، و کانت بین الفریقین خطوب آلت إلی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 221
وقوع الصلح، و تسلم المسلمون مدینة دمیاط فی تاسع عشری رجب سنة ثمان عشرة و ستمائة، بعد ما أقامت بید الفرنج سنة و أحد عشر شهرا تنقص ستة أیام، و سار الفرنج إلی بلادهم، و عاد السلطان إلی قلعة الجبل. و أخرج کثیرا من الأمراء الذین وافقوا ابن المشطوب من القاهرة إلی الشام، و فرّق أخبازهم علی ممالیکه، ثم تخوّف من أمرائه فی سنة إحدی و عشرین بمیلهم إلی أخیه الملک المعظم، فقبض علی جماعة منهم و کاتب أخاه الملک الأشرف فی موافقته علی المعظم، فقویت الوحشة بین الکامل و المعظم، و اشتدّ خوف الکامل من عسکره و همّ أن یخرج من القاهرة لقتال المعظم فلم یجسر علی ذلک، و قدم الأشرف إلی القاهرة فسرّ بذلک سرورا کثیرا و تحالفا علی المعاضدة، و سافر من القاهرة فمال مع المعظم، فتحیر الکامل فی أمره و بعث إلی ملک الفرنج یستدعیه إلی عکا، و وعده بأن یمکنه من بلاد الساحل، و قصد بذلک أن یشغل سرّ أخیه المعظم.
فلما بلغ ذلک المعظم خطب للسلطان جلال الدین الخوارزمیّ و بعث یستنجد به علی الکامل، و أبطل الخطبة للکامل، فخرج الکامل من القاهرة یرید محاربته فی رمضان سنة أربع و عشرین، و سار إلی العباسة، ثم عاد إلی قلعة الجبل و قبض علی عدّة من الأمراء و ممالیک أبیه لمکاتبتهم المعظم، و أنفق فی العسکر، فاتفق موت الملک المعظم فی سلخ ذی القعدة، و قیام ابنه الملک الناصر داود بسلطنة دمشق، و طلبه من الکامل الموادعة، فبعث إلیه خلعة سنیة و سنجقا سلطانیا و طلب منه أن ینزل له عن قلعة الشوبک، فامتنع الناصر من ذلک، فوقعت المنافرة بینهما و عهد الملک الکامل إلی ابنه الملک الصالح نجم الدین أیوب و أرکبه بشعار السلطنة و أنزله بدار الوزارة، و خرج من القاهرة فی العساکر یرید دمشق، فأخذنا بلس و القدس، فخرج الناصر داود من دمشق و معه عمه الأشرف، و سارا إلی الکامل یطلبان منه الصلح، فلما بلغ ذلک الکامل رحل من نابلس یرید القاهرة، فقدمها الناصر و الأشرف، و أقام بها الناصر و سار الأشرف و المجاهد إلی الکامل فأدرکاه بتل العجوز، فأکرمهما و قرّر مع الأشرف انتزاع دمشق من الناصر و إعطاءها للأشرف، علی أن یکون للکامل ما بین عقبة أفیق إلی القاهرة، و للأشرف من دمشق إلی عقبة أفیق، و أن یعین بجماعة من ملوک بنی أیوب، فاتفق قدوم الملک الأنبرطور إلی عکا باستدعاء الملک الکامل له، فتحیر الکامل فی أمره لعجزه عن محاربته و أخذ یلاطفه، و شرع الفرنج فی عمارة صیدا و کانت مناصفة بین المسلمین و الفرنج و سورها خراب، فلما بلغ الناصر موافقة الأشرف للکامل عاد من نابلس إلی دمشق و استعدّ للحرب، فسار إلیه الأشرف من تل العجوز و حاصره بدمشق، و أقام الکامل بتل العجوز و قد تورط مع الفرنج فلم یجد بدّا من إعطائهم القدس علی أن لا یجدّد سوره و أن تبقی الصخرة و الأقصی مع المسلمین، و یکون حکم قری القدس إلی المسلمین، و أن القری التی فیما بین عکا و یافا و بین لد و القدس للفرنج، و انعقدت الهدنة علی ذلک لمدّة عشر سنین و خمسة أشهر و أربعین یوما، أولها ثامن ربیع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 222
الأوّل سنة ست و عشرین، و نودی فی القدس بخروج المسلمین منه و تسلیمه إلی الفرنج، فکان أمرا مهولا من شدّة البکاء و الصراخ، و خرجوا بأجمعهم فصاروا إلی مخیم الکامل و أذنوا علی بابه فی غیر وقت الأذان، فشق علیه ذلک و أخذ منهم الستور و قنادیل الفضة و الآلات و زجرهم، و قیل لهم امضوا حیث شئتم، فعظم علی المسلمین هذا و کثر الإنکار علی الملک الکامل و شنعت المقالة فیه، و عاد الأنبرطور إلی بلاده بعد ما دخل القدس، و کان مسیره فی آخر جمادی الآخرة سنة ست و عشرین. و سیّر الکامل إلی الآفاق بتسکین قلوب المسلمین و انزعاجهم لأخذ الفرنج القدس، و رحل من تل العجوز یرید دمشق و الأشرف علی محاصرتها، فجدّ فی القتال و اشتدّ الأمر علی الناصر إلی أن ترامی فی اللیل علی الملک الکامل، فأکرمه و أعاده إلی قلعة دمشق، و بعث من تسلمها منه و عوّضه عن دمشق الکرک و الشوبک و الصلت و البلقاء و الأغوار و نابلس و أعمال القدس، ثم ترک الشوبک للکامل مع عدّة مما ذکر، و تسلم الکامل دمشق فی أوّل شعبان و أعطاها للأشرف، و أخذ منه ما معه من بلاد الشرق، و هی حران و الرّها و سروج و غیر ذلک، ثم سار الکامل فأخذ حماه و توجه منها فقطع الفرات، ثم سار إلی جعبر و الرقة و دخل حران و الرّها و رتب أمورها، و أتته الرسل من ماردین و آمد و الموصل و أربل و غیر ذلک، و أقیمت له الخطبة بماردین، و بعث یستدعی عساکر الشام لقتال الخوارزمیّ و هو بخلاط، ثم رحل الکامل من حرّان لأمور حدثت و سار إلی مصر فدخلها فی شهر رجب سنة سبع و عشرین، و قد تغیر علی ولده الملک الصالح نجم الدین أیوب و خلعه من ولایة العهد، و عهد إلی ابنه الملک العادل أبی بکر، ثم سار إلی الإسکندریة فی سنة ثمان و عشرین، ثم عاد إلی مصر و حفر بحر النیل فیما بین المقیاس و برّ مصر، و عمل فیه بنفسه و استعمل فیه الملوک من أهله و الأمراء و الجند، فصار الماء دائما فیما بین مصر و المقیاس، و انکشف البرّ فیما بین المقیاس و الجیزة فی أیام احتراق النیل، و خرج من القاهرة إلی بلاد الشام فی آخر جمادی الآخرة سنة تسع و عشرین، و استخلف علی دیار مصر ابنه العادل و أسکنه قلعة الجبل، و أخذ الصالح معه فدخل دمشق من طریق الکرک، و خرج منها لقتال التتر، و جعل ابنه الصالح علی مقدّمته، فسار إلی حران فرحل التتر عن خلاط، ثم رحل إلی الرها و سار إلی آمد و نازلها حتی أخذها، و أنعم علی ابنه الصالح بحصن کیفا، و بعثه إلیه و عاد إلی مصر فی سنة ثلاثین، فقبض علی عدّة من الأمراء.
ثم خرج فی سنة إحدی و ثلاثین إلی دمشق و سار منها و دخل الدربند، و قد أعجبته کثرة عساکره، فإنه اجتمع معه ثمانیة عشر طلبا لثمانیة عشر ملکا. و قال هذه العساکر لم تجتمع لأحد من ملوک الإسلام، و نزل علی النهر الأزرق بأوّل بلد الروم، و قد نزلت عساکر الروم و أخذت علیه رأس الدربند و منعوه فتحیر لقلة الأقوات عنده و لاختلاف ملوک بنی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 223
أیوب علیه، و رحل إلی مصر و قد فسد ما بینه و بین الأشرف و غیره، و أخذ ملک الروم الرها و حران بالسیف، فتجهز الکامل و خرج بعساکره من القاهرة فی سنة ثلاث و ثلاثین و سار إلی الرها و نازلها حتی أخذها و هدم قلعتها، و أخذ حران بعد قتال شدید، و بعث بمن کان فیها من الروم إلی القاهرة فی القیود و کانوا زیادة علی ثلاثة آلاف نفس، ثم خرج إلی دنیسر و عاد إلی دمشق و سار منها إلی القاهرة فدخلها فی سنة أربع و ثلاثین، ثم خرج فی سنة خمس و ثلاثین و نزل علی دمشق و قد امتنعت علیه، فضایقها حتی أخذها من أخیه الملک الصالح إسماعیل، و عوّضه عنها بعلبک و بصری و غیرهما فی تاسع عشر جمادی الأولی، و نزل بالقلعة و أخذ یتجهز لأخذ حلب، و قد نزل به زکام فدخل فی ابتدائه الحمّام فاندفعت الموادّ إلی معدته فتورم و ثارت فیه حمّی، فنهاه الأطباء عن القی‌ء و حذروه منه فلم یصبر و تقیأ فمات لوقته فی آخر نهار الأربعاء حادی عشری رجب سنة خمس و ثلاثین و ستمائة، عن ستین سنة منها ملکه أرض مصر نحو أربعین سنة، استبدّ فیها بعد موت أبیه مدّة عشرین سنة و خمسة و أربعین یوما.
و کان یحب العلم و أهله و یؤثر مجالستهم، و شغف بسماع الحدیث النبویّ، و حدّث و بنی دار الحدیث الکاملیة بالقاهرة، و کان یناظر العلماء و یمتحنهم بمسائل غریبة من فقه و نحو، فمن أجاب عنها حظی عنده، و کان یبیت عنده بقلعة الجبل عدّة من أهل العلم علی أسرّة بجانب سریره لیسامروه، و کان للعلم و الأدب عنده نفاق، فقصده الناس لذلک، و صار یطلق الأرزاق الدارة لمن یقصده لهذا، و کان مهابا حازما سدید الرأی حسن التدبیر عفیفا عن الدماء، و کان یباشر أمور مملکته بنفسه من غیر اعتماد علی وزیر و لا غیره، و لم یستوزر بعد الصاحب صفیّ الدین عبد اللّه بن علیّ بن شکر أحدا، و إنما کان ینتدب من یختاره لتدبیر الأشغال و یحضر عنده الدواوین و یحاسبهم بنفسه، و إذا ابتدأت زیادة النیل خرج و کشف الجسور و رتب الأمراء لعملها، فإذا انتهی عمل الجسور خرج ثانیا و تفقدها بنفسه، فإن وقف فیها علی خلل عاقب متولیها أشدّ العقوبة، فعمرت أرض مصر فی أیامه عمارة جیدة، و کان یخرج من زکوات الأموال التی تجبی من الناس سهمی الفقراء و المساکین، و یعین مصرف ذلک لمستحقیه شرعا، و یفرز منه معالیم الفقهاء و الصلحاء، و کان یجلس کلّ لیلة جمعة مجلسا لأهل العلم فیجتمعون عنده للمناظرة، و کان کثیر السیاسة حسن المداراة، و أقام علی کل طریق خفراء لحفظ المسافرین، إلّا أنه کان مغرما بجمع المال مجتهدا فی تحصیله، و أحدث فی البلاد حوادث سماها الحقوق لم تعرف قبله، و من شعره قوله رحمه اللّه تعالی:
إذا تحققتم ما عند صاحبکم‌من الغرام فداک القدر یکفیه
أنتم سکنتم فؤادی و هو منزلکم‌و صاحب البیت أدری بالذی فیه
و قال له الطبیب علم الدین أبو النصر جرجس بن أبی حلیقة فی الیوم الذی مات فیه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 224
کیف نوم السلطان فی لیلته فأنشد:
یا خلیلیّ خبرانی بصدق‌کیف طعم الکری فإنی نسیت
و دفن أوّلا بقلعة دمشق، ثم نقل إلی جوار جامع بنی أمیة و قبره هناک رحمه اللّه تعالی.

المدرسة الصیرمیة

هذه المدرسة من داخل باب الجملون الصغیر بالقرب من رأس سویقة أمیر الجیوش، فیما بینها و بین الجامع الحاکمیّ، بجوار الزیادة، بناها الأمیر جمال الدین شویخ بن صیرم، أحد أمراء الملک الکامل محمد بن أبی بکر بن أیوب، و توفی فی تاسع عشر صفر سنة ست و ثلاثین و ستمائة.

المدرسة المسروریة

هذه المدرسة بالقاهرة داخل درب شمس الدولة، کانت دار شمس الخواص مسرور، أحد خدّام القصر، فجعلت مدرسة بعد وفاته بوصیته، و أن یوقف الفندق الصغیر علیها، و کان بناؤها من ثمن ضیعة بالشام کانت بیده بیعت بعد موته، و تولی ذلک القاضی کمال الدین خضر، و درّس فیها، و کان مسرور ممن اختص بالسلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، فقدّمه علی حلقته و لم یزل مقدّما إلی الأیام الکاملیة، فانقطع إلی اللّه تعالی و لزم داره إلی أن مات، و دفن بالقرافة إلی جانب مسجده، و کان له برّ و إحسان و معروف، و من آثاره بالقاهرة فندق یعرف الیوم بخان مسرور الصفدیّ و له ربع بالشارع.

المدرسة القوصیة

هذه المدرسة بالقاهرة فی درب سیف الدولة بالقرب من درب ملوخیا، أنشأها الأمیر الکردیّ والی قوص.

مدرسة بحارة الدیلم المدرسة الظاهریة

هذه المدرسة بالقاهرة من جملة خط بین القصرین، کان موضعها من القصر الکبیر یعرف بقاعة الخیم، و قد تقدّم ذکرها فی أخبار القصر. و مما دخل فی هذه المدرسة باب الذهب المذکور فی أبواب القصر، فلما أوقع الملک الظاهر بیبرس البندقداریّ الحوطة علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 225
القصور و المناظر، کما تقدّم ذکره، نزل القاضی کمال الدین ظاهر ابن الفقیه نصر وکیل بیت المال، و قوّم قاعة الخیم هذه، و ابتاعها الشیخ شمس الدین محمد بن العماد إبراهیم المقدسیّ شیخ الحنابلة و مدرّس المدرسة الصالحیة النجمیة، ثم باعها المذکور للسلطان، فأمر بهدمها و بناء موضعها مدرسة، فابتدی‌ء بعمارتها فی ثانی ربیع الآخر سنة ستین و ستمائة، و فرغ منها فی سنة اثنتین و ستین و ستمائة، و لم یقع الشروع فی بنائها حتی رتب السلطان وقفها، و کان بالشام، فکتب بما رتبه إلی الأمیر جمال الدین بن یغمور، و أن لا یستعمل فیها أحدا بغیر أجرة، و لا ینقص من أجرته شیئا، فلما کان یوم الأحد خامس صفر سنة اثنتین و ستین و ستمائة، اجتمع أهل العلم بها و قد فرغ منها و حضر القرّاء و جلس أهل الدروس کلّ طائفة فی إیوان، منها الشافعیة بالإیوان القبلیّ و مدرّسهم الشیخ تقیّ الدین محمد بن الحسن بن رزین الحمویّ، و الحنفیة بالإیوان البحریّ و مدرّسهم الصدر مجد الدین عبد الرحمن بن الصاحب کمال الدین عمر بن العدیم الحلبیّ، و أهل الحدیث بالإیوان الشرقیّ و مدرّسهم الشیخ شرف الدین عبد المؤمن بن خلف الدمیاطیّ، و القرّاء بالقراءات السبع بالإیوان الغربیّ و شیخهم الفقیه کمال الدین المحلیّ، و قرّروا کلهم الدروس و تناظروا فی علومهم، ثم مدّت الأسمطة لهم فأکلوا، و قام الأدیب أبو الحسین الجزار فأنشد:
ألا هکذا یبنی المدارس من بنی‌و من یتغالی فی الثواب و فی الثنا
لقد ظهرت للظاهر الملک همةبها الیوم فی الدارین قد بلغ المنا
تجمّع فیها کلّ حسن مفرّق‌فراقت قلوبا للأنام و أعینا
و مذ جاورت قبر الشهید فنفسه النفیسة منها فی سرور و فی هنا
و ما هی إلّا جنة الخلد أزلفت‌له فی غد فاختار تعجیلها هنا
و قال السراج الورّاق أیضا قصیدة منها:
ملیک له فی العلم حبّ و أهله‌فلله حبّ لیس فیه ملام
فشیّدها للعلم مدرسة غداعراق إلیها شیّق و شآم
و لا تذکرن یوما نظّامیّة لهافلیس یضاهی ذا النظّام نظّام
و لا تذکرن ملکا فبیبرس مالک‌و کلّ ملیک فی یدیه غلام
و لما بناها زعزعت کلّ بیعةمتی لاح صبح فاستقرّ ظلام
و قد برزت کالروض فی الحسن انبأت‌بأنّ یدیه فی النوال غمام
الم تر محرابا کأنّ أزاهراتفتّح عنهنّ الغداة کمام
و قال الشیخ جمال الدین یوسف بن الخشاب:
قصد الملوک حماک و الخلفاءفافخر فإن محلک الجوزاء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 226 أنت الذی أمراؤه بین الوری‌مثل الملوک و جنده أمراء
ملک تزینت الممالک باسمه‌و تجمّلت بمدیحه الفصحاء
و ترفّعت لعلاه خیر مدارس‌حلّت بها العلماء و الفضلاء
یبقی کما یبقی الزمان و ملکه‌باق له و لحاسدیه فناء
کم للفرنج و للتتار ببابه‌رسل مناها العفو و الإعفاء
و طریقه لبلادهم موطوءةو طریقهم لبلاده عذراء
دامت له الدنیا و دام خلداما أقبل الإصباح و الإمساء
فلما فرغ هؤلاء الثلاثة من إنشادهم أفیضت علیهم الخلع، و کان یوما مشهودا، و جعل بها خزانة کتب تشتمل علی أمهات الکتب فی سائر العلوم، و بنی بجانبها مکتبا لتعلیم أیتام المسلمین کتاب اللّه تعالی، و أجری لهم الجرایات و الکسوة، و أوقف علیها ربع السلطان خارج باب زویلة فیما بین باب زویلة و باب الفرج، و یعرف ذلک الخط الیوم به فیقال خط تحت الربع، و کان ربعا کبیرا لکنه خرب منه عدّة دور فلم تعمر، و تحت هذا الربع عدّة حوانیت هی الآن من أجلّ الأسواق، و للناس فی سکناها رغبة عظیمة و یتنافسون فیها تنافسا یرتفعون فیه إلی الحاکم، و هذه المدرسة من أجلّ مدارس القاهرة، إلّا أنها قد تقادم عهدها فرثت و بها إلی الآن بقیة صالحة، و نظرها تارة یکون بید الحنفیة و أحیانا بید الشافعیة، و ینازع فی نظرها أولاد الظاهر فیدفعون عنه، و للّه عاقبة الأمور.

المدرسة المنصوریة

هذه المدرسة من داخل باب المارستان الکبیر المنصوریّ بخط بین القصرین بالقاهرة، أنشأها هی و القبة التی تجاهها و المارستان، الملک المنصور قلاون الألفیّ الصالحیّ، علی ید الأمیر علم الدین سنجر الشجاعیّ، و رتب بها دروسا أربعة لطوائف الفقهاء الأربعة، و درسا للطب، و رتب بالقبة درسا للحدیث النبویّ، و درسا لتفسیر القرآن الکریم، و میعادا، و کانت هذه التداریس لا یلیها إلّا أجل الفقهاء المعتبرین، ثم هی الیوم کما قیل:
تصدّر للتدریس کلّ مهوّس‌بلیسد یسمی بالفقیه المدرّس
فحقّ لأهل العلم أن یتمثلواببیت قدیم شاع فی کلّ مجلس
لقد هزلت حتی بدا من هزالهاکلاها و حتّی سامها کلّ مفلس
القبة المنصوریة: هذه القبة تجاه المدرسة المنصوریة، و هما جمیعا من داخل باب المارستان المنصوریّ، و هی من أعظم المبانی الملوکیة و أجلّها قدرا، و بها قبر تضمن الملک المنصور سیف الدین قلاون، و ابنه الملک الناصر محمد بن قلاون، و الملک الصالح عماد الدین إسماعیل بن محمد بن قلاون. و بها قاعة جلیلة فی وسطها فسقیة یصل إلیها الماء من قوّارة بدیعة الزی، و سائر هذه القاعة مفروش بالرخام الملوّن، و هذه القاعة معدّة لإقامة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 227
الخدّام الملوکیة الذین یعرفون الیوم فی الدولة الترکیة بالطواشیة، و أحدهم طواشی، و هذه لفظة ترکیة، أصلها بلغتهم طابوشی، فتلاعبت بها العامة و قالت طواشی، و هو الخصیّ، و لهؤلاء الخدّام فی کلّ یوم ما یکفیهم من الخبز النقیّ و اللحم المطبوخ، و فی کلّ شهر من المعالیم الوافرة ما فیه غنیة لهم، و أدرکتهم و لهم حرمة وافرة و کلمة نافذة و جانب مرعیّ، و یعدّ شیخهم من أعیان الناس، یجلس علی مرتبة، و بقیة الخدّام فی مجالسهم لا یبرحون فی عبادة، و کان یستقرّ فی وظائف هذه الخدمة أکابر خدّام السلطان، و یقیمون عنهم نوّابا یواظبون الإقامة بالقبة، و یرون مع سعة أحوالهم و کثرة أموالهم من تمام فخرهم و کمال سیادتهم، انتماءهم إلی خدمة القبة المنصوریة، ثم تلاشی الحال بالنسبة إلی ما کان، و الخدّام بهذه القاعة إلی الیوم، و قصد الملوک بإقامة الخدّام فی هذه القاعة التی یتوصل إلی القبة منها، إقامة ناموس الملک بعد الموت کما کان فی مدّة الحیاة، و هم إلی الیوم لا یمکنون أحدا من الدخول إلی القبة، إلّا من کان من أهلها، و للّه دریحی بن حکم البکریّ الجیانیّ المغربیّ الملقب بالغزال لجماله حیث یقول:
أری أهل الثراء إذا توفوابنوا تلک المقابر بالصخور
أبو إلّا مباهاة و تیهاعلی الفقراء حتی فی القبور
و فی هذه القبة دروس للفقهاء علی المذاهب الأربعة، و تعرف بدروس وقف الصالح، و ذلک أنّ الملک الصالح عماد الدین إسماعیل بن محمد بن قلاون، قصد عمارة مدرسة فاخترمته المنیة دون بلوغ غرضه، فقام الأمیر ارغون العلائیّ زوج أمه فی وقف قریة تعرف بدهمشا الحمام من الأعمال الشرقیة عن أمّ الملک الصالح، فاثبته بطریق الوکالة عنها، و رتب ما کان الملک الصالح إسماعیل قرّره فی حیاته لو أنشأ مدرسة، و جعل ذلک الأمیر أرغون مرتبا لمن یقوم به فی القبة المنصوریة، و هو وقف جلیل یتحصل منه فی کل سنة نحو الأربعة آلاف دینار ذهبا. ثم لما کانت الحوادث و خربت الناحیة المذکورة، تلاشی أمر وقف الصالح و فیه إلی الیوم بقیة، و کان لا یلی تدریس دروسه إلا قضاة القضاة، فولیه الآن الصبیان و من لا یؤهل لو کان الإنصاف له. و فی هذه القبة أیضا قرّاء یتناوبون القراءة بالشبابیک المطلة علی الشارع طول اللیل و النهار، و هم من جهة ثلاثة أوقاف، فطائفة من جهة وقف الملک الصالح إسماعیل، و طائفة من جهة الوقف السیفیّ، و هو منسوب إلی الملک المنصور سیف الدین أبی بکر ابن الملک الناصر محمد بن قلاون. و بهذه القبة إمام راتب یصلّی بالخدّام و القرّاء و غیرهم الصلوات الخمس، و یفتح له باب فیما بین القبة و المحراب یدخل منه من یصلّی من الناس، ثم یغلق بعد انقضاء الصلاة. و بهذه القبة خزانة جلیلة کان فیها عدّة أحمال من الکتب فی أنواع العلوم، مما وقفه الملک المنصور و غیره، و قد ذهب معظم هذه الکتب و تفرّق فی أیدی الناس. و فی هذه القبة خزانة بها ثیاب المقبورین بها، و لهم فرّاش معلوم بمعلوم لتعهدهم، و یوضع ما یتحصل من مال أوقاف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 228
المارستان بهذه القبة تحت أیدی الخدّام، و کانت العادة أنه إذا أمّر السلطان أحدا من أمراء مصر و الشام فإنه ینزل من قلعة الجبل و علیه التشریف و الشر بوش و توقد له القاهرة، فیمرّ إلی المدرسة الصالحیة بین القصرین، و عمل ذلک من عهد سلطنة المعز أیبک و من بعده، فنقل ذلک إلی القبة المنصوریة و صار الأمیر یحلف عند القبر المذکور، و یحضر تحلیفه صاحب الحجاب، و تمدّ أسمطة جلیلة بهذه القبة، ثم ینصرف الأمیر و یجلس له فی طول شارع القاهرة إلی القلعة أهل الأغانی لتزفه فی نزوله و صعوده، و کان هذا من جملة منتزهات القاهرة، و قد بطل ذلک منذ انقرضت دولة بنی قلاون. و من جملة أخبار هذه القبة: أنه لما کان فی یوم الخمیس مستهل المحرّم سنة تسعین و ستمائة، بعث الملک الأشرف صلاح الدین خلیل بن قلاون بجملة مال تصدّق به فی هذه القبة، ثم أمر بنقل أبیه من القلعة، فخرج سائر الأمراء و نائب السلطنة الأمیر بیدرا بدر الدین، و الوزیر الصاحب شمس الدین محمد بن السلعوس التنوخیّ، و حضروا بعد صلاة العشاء الآخرة و مشوا بأجمعهم قدّام تابوت الملک المنصور إلی الجامع الأزهر، و حضر فیه القضاة و مشایخ الصوفیة، فتقدّم قاضی القضاة تقیّ الدین بن دقیق العید و صلّی علی الجنازة، و خرج الجمیع أمامها إلی القبة المنصوریة حتی دفن فیها، و ذلک فی لیلة الجمعة ثانی المحرّم، و قیل عاشره، ثم عاد الوزیر و النائب من الدهلیز خارج القاهرة إلی القبة المنصوریة لعمل مجتمع بسبب قراءة ختمة کریمة فی لیلة الجمعة ثامن عشری صفر منها، و حضر المشایخ و القرّاء و القضاة فی جمع موفور، و فرّق فی الفقراء صدقات جزیلة، و مدّت أسمطة کثیرة، و تفرّقت الناس أطعمتها حتی امتلأت الأیدی بها، و کانت إحدی اللیالی الغرّ، کثر الدعاء فیها للسلطان و عساکر الإسلام بالنصر علی أعداء الملة، و حضر الملک الأشرف بکرة یوم الجمعة إلی القبة المنصوریة و فرّق مالا کثیرا، و کان الملک الأشرف قد برز یرید المسیر لجهاد الفرنج و أخذ مدینة عکا، فسار لذلک و عاد فی العشرین من شعبان و قد فتح اللّه له مدینة عکا عنوة بالسیف و خرّب أسوارها، و کان عبوره إلی القاهرة من باب النصر و قد زینت القاهرة زینة عظیمة، فعند ما حاذی باب المارستان نزل إلی القبة المنصوریة و قد غصت بالقضاة و الأعیان و القرّاء و المشایخ و الفقهاء، فتلقوة کلهم بالدعاء حتی جلس فأخذ القرّاء فی القراءة، و قام نجم الدین محمد بن فتح الدین محمد بن عبد اللّه بن مهلهل بن غیاث بن نصر المعروف بابن العنبریّ الواعظ، و صعد منبرا نصب له فجلس علیه و افتتح ینشد قصیدة تشتمل علی ذکر الجهاد و ما فیه من الأجر، فلم یسعد فیها بحظ، و ذلک أنه افتتحها بقوله:
زرو الدیک وقف علی قبریهمافکأننی بک قد نقلت إلیهما
فعند ما سمع الأشرف هذا البیت تطیر منه و نهض قائما و هو یسب الأمیر بیدرا نائب السلطنة لشدّة حنقه و قال: ما وجد هذا شیئا یقوله سوی هذا البیت فاخذ بیدرا فی تسکین حنقه و الاعتذار له عن ابن العنبریّ، بأنه قد انفرد فی هذا الوقت بحسن الوعظ و لا نظیر له
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 229
فیه، إلّا أنه لم یرزق سعادة فی هذا الوقت، فلم یصغ السلطان إلی قوله و سار فانفض المجلس علی غیر شی‌ء، و صعد السلطان إلی قلعة الجبل، ثم بعد أیام سأل السلطان عن وقف المارستان و أحب أن یجدّد له وقفا من بلاد عکا التی افتتحها بسیفه، فاستدعی القضاة و شاورهم فیما همّ به من ذلک، فرغّبوه فیه و حثوه علی المبادرة إلیه، فعین أربع ضیاع من ضیاع عکار و صور لیقفها علی مصالح المدرسة و القبة المنصوریة ما تحتاج إلیه من ثمن زیت و شمع و مصابیح و بسط و کلفة الساقیة، و علی خمسین مقرئا یرتبون لقراءة القرآن الکریم بالقبة، و إمام راتب یصلّی بالناس الصلوات الخمس فی محراب القبة، و ستة خدّام یقیمون بالقبة، و هی الکابرة و تل الشیوخ و کردانة و ضواحیها من عکا و من ساحل صور معرکة و صدفین، و کتب بذلک کتاب وقف و جعل النظر فی ذلک لوزیره الصاحب شمس الدین محمد بن السلعوس.
فلما تمّ ذلک تقدّم بعمل مجتمع بالقبة لقراءة ختمة کریمة. و ذلک لیلة الاثنین رابع ذی القعدة سنة تسعین و ستمائة، فاجتمع القرّاء و الوعاظ و المشایخ و الفقراء و القضاة لذلک، و خلع علی عامة أرباب الوظائف و الوعاظ، و فرّقت فی الناس صدقات جمة و عمل مهم عظیم احتفل فیه الوزیر احتفالا زائدا، و بات الأمیر بدر الدین بیدرا نائب السلطنة و الأمیر الوزیر شمس الدین محمد بن السلعوس بالقبة، و حضر السلطان و معه الخلیفة الحاکم بأمر اللّه أحمد و علیه سواده، فخطب الخلیفة خطبة بلیغة حرّض فیها علی أخذ العراق من التتار، فلما فرغ من المهمّ أفاض السلطان علی الوزیر تشریفا سنیا، و فی یوم الخمیس حادی عشر ربیع الأوّل سنة إحدی و تسعین و ستمائة، اجتمع القرّاء و الوعاظ و الفقهاء و الأعیان بالقبة المنصوریة لقراءة ختمة شریفة، و نزل السلطان الملک الأشرف و تصدّق بمال کثیر، و آخر من نزل إلی القبة المنصوریة من ملوک بنی قلاون السلطان الملک الناصر حسن بن محمد بن قلاون فی سنة إحدی و ستین و سبعمائة، و حضر عنده بالقبة مشایخ العلم و بحثوا فی العلم، و زار قبر أبیه و جدّه، ثم خرج فنظر فی أمر المرضی بالمارستان و توجه إلی قلعة الجبل.
هذه المدرسة بجوار القبة المنصوریة من شرقیها، کان موضعها حمّاما، فأمر السلطان الملک العادل زین الدین کتبغا المنصوریّ بإنشاء مدرسة موضعها، فابتدی‌ء فی عملها و وضع أساسها و ارتفع بناؤها عن الأرض إلی نحو الطراز المذهب الذی بظاهرها، فکان من خلعه ما کان، فلما عاد السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون إلی مملکة مصر، فی سنة ثمان و تسعین و ستمائة، أمر بإتمامها، فکملت فی سنة ثلاث و سبعمائة، و هی من أجلّ مبانی القاهرة، و بابها من أعجب ما عملته أیدی بنی آدم، فإنه من الرخام الأبیض البدیع الزیّ. المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت ؛ ج‌4 ؛ ص229
فائق الصناعة، و نقل إلی القاهرة من مدینة عکا، و ذلک أن الملک الأشرف خلیل بن قلاون لما فتح عکا عنوة فی سابع عشر جمادی الأولی، سنة تسعین و ستمائة، أقام الأمیر علم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 230
الدین سنجر الشجاعیّ لهدم أسوارها و تخریب کنائسها، فوجد هذه البوّابة علی باب کنیسة من کنائس عکا، و هی من رخام، قواعدها و أعضادها و عمدها، کل ذلک متصل بعضه ببعض، فحمل الجمیع إلی القاهرة و أقام عنده إلی أن قتل الملک الأشرف، و تمادی الحال علی هذا أیام سلطنة الملک الناصر محمد الأولی، فلما خلع و تملک کتبغا، أخذ دار الأمیر سیف الدین بلبان الرشیدیّ لیعملها مدرسة، فدل علی هذه البوّابة فأخذها من ورثة الأمیر بیدرا، فإنها کانت قد انتقلت إلیه، و عملها کتبغا علی باب هذه المدرسة. فلما خلع من الملک و أقیم الناصر محمد، اشتری هذه المدرسة قبل إتمامها و الإشهاد بوقفها، و ولی شراءها وصیه قاضی القضاة زین الدین علیّ بن مخلوف المالکیّ، و أنشأ بجوار هذه المدرسة من داخل بابها قبة جلیلة، لکنها دون قبة أبیه، و لما کملت نقل إلیها أمّه بنت سکبای بن قراجین، و وقف علی هذه المدرسة قیساریة أمیر علی بخط الشرابشیین من القاهرة، و الربع الذی یعلوها، و کان یعرف بالدهیشة، و وقف علیها أیضا حوانیت بخط باب الزهومة من القاهرة، و دار الطعم خارج مدینة دمشق، فلما مات ابنه انوک من الخاتون طغای فی یوم الجمعة سابع عشر ربیع الأوّل سنة إحدی و أربعین و سبعمائة، و عمره ثمانی عشرة سنة، دفنه بهذه القبة و عمل علیها وقفا یختص بها، و هو باق إلی الیوم یصرف لقرّاء و غیر ذلک.
و أوّل من رتّب فی تدریس المدرسة الناصریة من المدرّسین، قاضی القضاة زین الدین علیّ بن مخلوف المالکیّ، لیدرّس فقه المالکیة بالإیوان الکبیر القبلی، و قاضی القضاة شرف الدین عبد الغنیّ الحرّانیّ، لیدرّس فقه الحنابلة بالإیوان الغربیّ، و قاضی القضاة أحمد بن السروجیّ الحنفیّ، لیدرّس فقه الحنفیة بالإیوان الشرقیّ، و الشیخ صدر الدین محمد بن المرحل المعروف بابن الوکیل الشافعیّ، لیدرّس فقه الشافعیة بالإیوان البحریّ. و قرّر عند کلّ مدرّس منهم عدّة من الطلبة، و أجری علیهم المعالیم، و رتب بها إماما یؤمّ بالناس فی الصلوات الخمس، و جعل بها خزانة کتب جلیلة، و أدرکت هذه المدرسة و هی محترمة إلی الغایة، یجلس بدهلیزها عدّة من الطواشیة، و لا یمکن غریب أن یصعد إلیها، و کان یفرّق بها علی الطلبة و القرّاء و سائر أرباب الوظائف بها السکّر فی کلّ شهر، لکل أحد منهم نصیب، و یفرّق علیهم لحوم الأضاحی فی کلّ سنة، و قد بطل ذلک و ذهب ما کان لها من الناموس، و هی الیوم عامرة من أجلّ المدارس.

المدرسة الحجازیة

هذه المدرسة برحبة باب العید من القاهرة، بجوار قصر الحجازیة، کان موضعها بابا من أبواب القصر یعرف بباب الزمرّذ، أنشأتها الست الجلیلة الکبری خوند تتر الحجازیة، ابنة السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون، زوجة الأمیر بکتمر الحجازیّ، و به عرفت.
و جعلت بهذه المدرسة درسا للفقهاء الشافعیة، قرّرت فیه شیخنا شیخ الإسلام سراج الدین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 231
عمر بن رسلان البلقینیّ، و درسا للفقهار المالکیة، و جعلت بها منبرا یخطب علیه یوم الجمعة، و رتبت لها إماما راتبا یقیم بالناس الصلوات الخمس، و جعلت بها خزانة کتب، و أنشأت بجوارها قبة من داخلها لتدفن تحتها، و رتبت بشباک هذه القبة عدّة قرّاء یتناوبون قراءة القرآن الکریم لیلا و نهارا، و أنشأت بها منارا عالیا من حجارة لیؤذن علیه، و جعلت بجوار المدرسة مکتبا للسبیل فیه عدّة من أیتام المسلمین، و لهم مؤدّب یعملهم القرآن الکریم، و یجری علیهم فی کلّ یوم لکل منهم من الخبز النقیّ خمسة أرغفة، و مبلغ من الفلوس، و یقام لکل منهم بکسوتی الشتاء و الصیف، و جعلت علی هذه الجهات عدّة أوقاف جلیلة یصرف منها لأرباب الوظائف المعالیم السنیة، و کان یفرّق فیهم کل سنة أیام عید الفطر الکعک و الخشکنانک، و فی عید الأضحی اللحم، و فی شهر رمضان یطبخ لهم الطعام، و قد بطل ذلک و لم یبق غیر المعلوم فی کل شهر، و هی من المدارس الکبسة، و عهدی بها محترمة إلی الغایة یجلس عدّة من الطواشیة، و لا یمکنون أحدا من عبور القبة التی فیها قبر خوند الحجازیة إلّا القرّاء فقط وقت قراءتهم خاصة. و اتفق مرّة أن شخصا من القرّاء کان فی نفسه شی‌ء من أحد رفقائه، فأتی إلی کبیر الطواشیة بهذه القبة و قال له: أن فلانا دخل الیوم إلی القبة و هو بغیر سراویل، فغضب الطواشی من هذا القول و عدّ ذلک ذنبا عظیما و فعلا محذورا، و طلب ذلک المقرئ و أمر به فضرب بین یدیه و صار یقول له: تدخل علی خوند بغیر سراویل، و همّ بإخراجه من وظیفة القراءة لو لا ما حصل من شفاعة الناس فیه، و کان لا یلی نظر هذه المدرسة إلّا الأمراء الأکابر، ثم صار یلیها الخدّام و غیرهم، و کان إنشاؤها فی سنة احدی و ستین و سبعمائة، و لما ولی الأمیر جمال الدین یوسف البحاسیّ وظیفة أستاداریة السلطان الملک الناصر فرج بن برقوق، و عمر بجانب هذه المدرسة البحاسیّ وظیفة أستاداریة السلطان الملک الناصر فرج بن برقوقو، و عمر بجانب هذه المدرسة داره، ثم مدرسته، صار یحبس فی المدرسة الحجازیة من یصادره أو یعاقبه حتی امتلأت بالمسجونین و الأعوان المرسمین علیهم، فزالت تلک الأبهة و ذهب ذلک الناموس، و اقتدی بجمال الدین من سکن بعده من الأستاداریة فی داره، و جعلوا هذه المرسة سجنا، و مع ذلک فهی من أبهج مدارس القاهرة إلی الآن.

المدرسة الطیبرسیة

هذه المدرسة بجوار الجامع الأزهر من القاهرة، و هی غریبة مما یلی الجهة البحریة، أنشأها الأمیر علاء الدین طیبرس الخازنداریّ نقیب الجیوش، و جعلها مسجدا للّه تعالی زیادة فی الجامع الأزهر، و قرّر بها درسا للفقهاء الشافعیة، و أنشأ بجوارها میضأة و حوض ماء سبیل ترده الدواب، و تأنق فی رخامها و تذهیب سقوفها حتی جاءت فی أبدع زی و أحسن قالب و أبهج ترتیب، لما فیها من إتقان العمل و جودة الصناعة بحیث أنه لم یقدر أحد علی محاکاة ما فیها من صناعة الرخام، فان جمیعه أشکال المحاریب، و بلغت النفقة علیها جملة کثیرة، و انتهت عمارتها فی سنة تسع و سبعمائة، و لها بسط تفرش فی یوم الجمعة کلها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 232
منقوشة بأشکال المحاریب أیضا، و فیها خزانة کتب و لها إمام راتب.
طیبرس: بن عبد اللّه الوزیریّ، کان فی ملک الأمیر بدر الدین بیلبک مملوک الخارندار الظاهریّ نائب السلطنة، ثم انتقل إلی الأمیر بدر الدین بیدرا، و تنقل فی خدمته حتی صار نائب الصبیبة، و رأی مناما للمنصور لاجین یدل علی أنه یصیر سلطان مصر، و ذلک قبل أن یتقلد السلطنة و هو نائب الشام، فوعده إن صارت إلیه السلطنة أن یقدّمه و ینوّه به، فلما تملک لاجین استدعاه و ولاه نقابة الجیش بدیار مصر عوضا عن بلبان الفاخریّ، فی سنة سبع و تسعین و ستمائة، فباشر النقابة مباشرة مشکورة إلی الغایة، من إقامة الحرمة و أداء الأمانة و العفة المفرطة، بحیث أنه ما عرف عنه أنه قبل من أحد هدیة البتة مع التزام الدیانة و المواظبة علی فعل الخیر و الغنی الواسع، و له من الآثار الجمیلة الجامع و الخانقاه بأراضی بستان الخشاب المطلة علی النیل خارج القاهرة، فیما بینها و بین مصر بجوار المنشأة، و هو أوّل من عمر فی أراضی بستان الخشاب، و قد تقدّم ذکر ذلک، و من آثاره أیضا هذه المدرسة البدیعة الزی، و له علی کل من هذه الأماکن أوقاف جلیلة، و لم یزل فی نقابة الجیش إلی أن مات فی العشرین من شهر ربیع الآخر سنة تسع عشرة و سبعمائة، و دفن فی مکان بمدرسته هذه، و قبره بها إلی وقتنا هذا، و وجد له من بعده مال کثیر جدّا، و أوصی إلی الأمیر علاء الدین علیّ الکوارنیّ، و جعل الناظر علی وصیته الأمیر أرغون نائب السلطنة، و اتفق انه لما فرغ من بناء هذه المدرسة أحضر إلیه مباشروه حساب مصروفها، فلما قدّم إلیه استدعی بطشت فیه ماء و غسل أوراق الحساب بأسرها من غیر أن یقف علی شی‌ء منها و قال: شی‌ء خرجنا عنه للّه تعالی لا نحاسب علیه، و لهذه المدرسة شبابیک فی جدار الجامع تشرف علیه، و یتوصل من بعضها إلیه، و ما عمل ذلک حتی استفتی الفقهاء فیه فأفتوه بجواز فعله، و قد تداولت أیدی نظار السوء علی أوقاف طیبرس هذا فخرب أکثرها و خرب الجامع و الخانقاه، و بقیت هذه المدرسة عمرها اللّه بذکره.

المدرسة الأقبغاویة

هذه المدرسة بجوار الجامع الأزهر علی یسرة من یدخل إلیه من بابه الکبیر البحریّ، و هی تشرف بشبابیک علی الجامع مرکبة فی جداره، فصارت تجاة المدرسة الطیبرسیة. کان موضعها دار الأمیر الکبیر عز الدین أیدمر الحلیّ نائب السلطنة فی أیام الملک الظاهر بیبرس، و میضأة للجامع، فأنشأها الأمیر علاء الدین أقبغا عبد الواحد أستادار الملک الناصر محمد بن قلاون، و جعل بجوارها قبة و منارة من حجارة منحوتة، و هی أوّل مئذنة عملت بدیار مصر من الحجر بعد المنصوریة، و إنما کانت قبل ذلک تبنی بالآجر، بناها هی و المدرسة المعلم ابن السیوفیّ رئیس المهندسین فی الأیام الناصریة، و هو الذی تولی بناء جامع الماردینیّ خارج باب زویلة، و بنی مئذنته أیضا. و هی مدرسة مظلمة لیس علیها من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 233
بهجة المساجد و لا أنس بیوت العبادات شی‌ء البتة، و ذلک أن أقبغا عبد الواحد اغتصب أرض هذه المدرسة بأن أقرض ورثة أیدمر الحلیّ مالا، و أمهل حتی تصرّفوا فیه ثم أعسفهم فی الطلب و ألجأهم إلی أن أعطوه دارهم، فهدمها و بنی موضعها هذه المدرسة، و أضاف إلی اغتصاب البقعة أمثال ذلک من الظلم، فبناها بأنواع من الغصب و العسف، و أخذ قطعة من سور الجامع حتی ساوی بها المدرسة الطیبرسیة، و حشر لعملها الصناع من البنائین و النجارین و الحجارین و المرخمین و الفعلة، و قرّر مع الجمیع أن یعمل کل منهم فیها یوما فی کلّ أسبوع بغیر أجرة، فکان یجتمع فیها فی کل أسبوع سائر الصناع الموجودین بالقاهرة و مصر، فیجدّون فی العمل نهارهم کله بغیر أجرة، و علیهم مملوک من ممالیکه ولّاه شدّ العمارة، لم یر الناس أظلم منه و لا أعتی و لا أشدّ بأسا و لا أقسی قلبا و لا أکثر عنتا، فلقی العمال منه مشقات لا توصف، و جاء مناسبا مولاه. و حمل مع هذا إلی هذه العمارة سائر ما یحتاج إلیه من الأمتعة و أصناف الآلات و أنواع الاحتیاجات من الحجر و الخشب و الرخام و الدهان و غیره من غیر أن یدفع فی شی‌ء منه ثمنا البتة، و إنما کان یأخذ ذلک إما بطریق الغصب من الناس، أو علی سبیل الخیانة من عمائر السلطان. فإنه کان من جملة ما بیده شدّ العمائر السلطانیة، و ناسب هذه الأفعال أنه ما عرف عنه قط أنه نزل إلی هذه العمارة إلّا و ضرب فیها من الصناع عدّة ضربا مؤلما، فیصیر ذلک الضرب زیادة علی عمله بغیر أجرة، فیقال فیه: کملت خصالک هذه بعماری.
فلما فرغ من بنائها جمع فیها سائر الفقهاء و جمیع القضاة، و کان الشریف شرف الدین علیّ بن شهاب الدین الحسین بن محمد بن الحسین نقیب الأشراف و محتسب القاهرة حینئذ، یؤمّل أن یکون مدرّسها، و سعی عنده فی ذلک فعمل بسطا علی قیاسها بلغ ثمنها ستة آلاف درهم فضة، و رشاه بها ففرشت هناک، و لما تکامل حضور الناس بالمدرسة و فی الذهن أنّ الشریف یلی التدریس، و عرف أنه هو الذی أحضر البسط التی قد فرشت، قال الأمیر أقبغا لمن حضر: لا أولی فی هذه الأیام أحدا، و قام فتفرّق الناس، و قرّر فیها درسا للشافعیة ولی تدریسه ... و درسا للحنفیة ولی تدریسه ... و جعل فیها عدّة من الصوفیة و لهم شیخ، و قرّر بها طائفة من القرّاء یقرءون القرآن بشباکها، و جعل فیها عدّة من الصوفیة و لهم و فرّاشین و قومة و مباشرین، و جعل النظر للقاضی الشافعیّ بدیار مصر، و شرط فی کتاب وقفه أن لا یلی النظر أحد من ذریته، و وقف علی هذه الجهات حوانیت خارج باب زویلة بخط تحت الربع، و قریة بالوجه القبلی. و هذه المدرسة عامرة إلی یومنا هذا، إلّا أنه تعطل منها المیضأة و أضیفت إلی میضأة الجامع لتغلّب بعض الأمراء بمواطأة بعض النظار علی بئر الساقیة التی کانت برسمها.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 234
اقبغا عبد الواحد: الأمیر علاء الدین، أحضره إلی القاهرة التاجر عبد الواحد بن بدال، فاشتراه منه الملک الناصر محمد بن قلاون و لقبه باسم تاجره الذی أحضره، فحظی عنده و عمله شادّ العمائر، فنهض فیها نهضة أعجب منه السلطان و عظمه حتی عمله أستادار السلطان بعد الأمیر مغلطای الجمالیّ، فی المحرّم سنة اثنتین و ثلاثین و سبعمائة، و ولاه مقدّم الممالیک، فقویت حرمته و عظمت مهابته حتی صار سائر من فی بیت السلطان یخافه و یخشاه، و ما برح علی ذلک إلی أن مات الملک الناصر و قام من بعده ابنه الملک المنصور أبو بکر، فقبض علیه فی یوم الاثنین سلخ المحرّم سنة اثنتین و أربعین و سبعمائة، و أمسک أیضا ولدیه و أحیط بماله و سائر أملاکه، و رسم علیه الأمیر طیبغا المجدیّ و بیع موجوده من الخیل و الجمال و الجواری و القماش و الأسلحة و الأوانی، فظهر له شی‌ء عظیم إلی الغایة، من ذلک أنه بیع بقلعة الجبل، و بها کانت تعمل حلقات مبیعة سراویل امرأته بمبلغ مائتی ألف درهم فضة، عنها نحو عشرة آلاف دینار ذهب، و بیع له أیضا قبقاب و شرموزة و خف نسائیّ بمبلغ خمسة و سبعین ألف درهم فضة، عنها زیادة علی ثلاثة آلاف دینار، و بیعت بدلة مقانع بمائة ألف درهم، و کثرت المرافعات علیه من التجار و غیرهم، فبعث السلطان إلیه شادّ الدواوین یعرّفه أنه أقسم بتربة الشهید، یعنی أباه، أنه متی لم یعط هؤلاء حقهم و إلّا سمّرتک علی جمل و طفت بک المدینة، فشرع أقبغا فی استرضائهم و أعطاهم نحو المائتی ألف درهم فضة، ثم نزل إلیه الوزیر نجم الدین محمود بن سرور المعروف بوزیر بغداد و معه الحاج إبراهیم بن صابر مقدّم الدولة، لمطالبته بالمال، فأخذا منه لؤلؤا و جواهر نفیسة و صعدا بها إلی السلطان، و کان سبب هذه النکبة أنه کان قد تحکم فی أمور الدولة السلطانیة و أرباب الأشغال أعلاهم و أدناهم بما اجتمع له من الوظائف، و کان عنده فرّاش غضب علیه و أوجعه ضربا، فانصرف من عنده و خدم فی دار الأمیر أبی بکر ولد السلطان، فبعث أقبغا یستدعی بالفرّاش إلیه، فمنعه منه أبو بکر و أرسل إلیه مع أحد ممالیکه یقول له:
إنی أرید أن تهبنی هذا الغلام و لا تشوّش علیه، فلما بلّغه المملوک الرسالة اشتدّ حنقه و سبه سبا فاحشا و قال له: قل لأستاذک یسیّر الفرّاش و هو جید له. و کان قبل ذلک اتفق أن الأمیر أبا بکر خرج من خدمة السلطان إلی بیته، فإذا الأمیر أقبغا قد بطح مملوکا و ضربه، فوقف أبو بکر بنفسه و سأل أقبغا فی العفو عن المملوک و شفع فیه، فلم یلتفت أقبغا إلیه و لا نظر إلی وجهه، فخجل أبو بکر من الناس لکونه وقف قائما بین یدی أقبغا و شفع عنده فلم یقم من مجلسه لوقوفه، بل استمرّ قاعدا و أبو بکر واقف علی رجلیه، و لا قبل مع ذلک شفاعته، و مضی و فی نفسه منه حنق کبیر. فلما عاد إلیه مملوکه و بلّغه کلام أقبغا بسبب هذا الفرّاش، أکد ذلک عنده ما کان من الأحنة، و أخذ فی نفسه إلی أن مات أبوه الملک الناصر و عهد إلیه من بعده، و کان قد التزم أنه إن ملّکه اللّه، لیصادرنّ أقبغا و لیضربنّه بالمقارع.
و قال للفراش: اقعد فی بیتی، و إذا حضر أحد لأخذک عرفت ما أعمل معه. و أخذ أقبغا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 235
یترقب الفرّاش، و أقام أناسا للقبض علیه فلم یتهیأ له مسکه.
فلما أفضی الأمر إلی أبی بکر، استدعی الأمیر قوصون و کان هو القائم حینئذ بتدبیر أمور الدولة، و عرّفه ما التزمه من القبض علی أقبغا و أخذ ماله و ضربه بالمقارع، و ذکر له و لعدّة من الأمراء ما جری له منه، و کان لقوصون بأقبغا عنایة، فقال للسلطان: السمع و الطاعة، یرسم السلطان بالقبض علیه و مطالبته بالمال، فإذا فرغ ماله یفعل السلطان ما یختاره. و أراد بذلک تطاول المدّة فی أمر أقبغا، فقبض علیه و وکل به رسل ابن صابر، حتی أنه بات لیلة قبض علیه من غیر أن یأکل شیئا، و فی صبیحة تلک اللیلة تحدّث الأمراء مع السلطان فی نزوله إلی داره محتفظا به حتی یتصرّف فی ماله و یحمله شیئا بعد شی‌ء، فنزل مع المجدی و باع ما یملکه و أورد المال. فلما قبض علی الحاج إبراهیم بن صار و أقیم ابن شمس موضعه، أرسله السلطان إلی بیت أقبغا لیعصره و یضربه بالمقارع و یعذبه، فبلغ ذلک الأمیر قوصون، فمنع منه و شنّع علی السلطان کونه أمر بضربه بالمقارع، و أمر بمراجعته، فحنق من ذلک و أطلق لسانه علی الأمیر قوصون، فلم یزل به من حضره من الأمراء حتی سکت علی مضض.
و کان قوصون یدبر فی انتقاض دولة أبی بکر إلی أن خلعه و أقام بعده أخاه الملک الأشرف کجک بن محمد بن قلاون، و عمره نحو السبع سنین، و تحکم فی الدولة. فأخرج أقبغا هو و ولده من القاهرة و جعله من جملة أمراء الدولة بالشام، فسار من القاهرة فی تاسع ربیع الأوّل سنة اثنتین و أربعین و سبعمائة علی حیز الأمیر مسعود بن خطیر بدمشق و معه عیاله، فأقام بها إلی أن کانت فتنة الملک الناصر أحمد بن محمد بن قلاون و عصیانه بالکرک علی أخیه الملک الصالح عماد الدین إسماعیل بن محمد بن قلاون، فاتهم أقبغا بأنه بعث مملوکا من ممالیکه إلی الکرک، و أن الناصر أحمد خلع علیه، و ضربت البشائر بقلعة الکرک و أشاع أن أمراء الشام قد دخلوا فی طاعته و حلفوا له، و أن أقبغا قد بعث إلیه مع مملوکه یبشره بذلک، فلما وصل إلی الملک الصالح کتاب عساف أخی شطی بذلک، وصل فی وقت وروده کتاب نائب الشام الأمیر طقزدمر یخبر فیه بأن جماعة من أمراء الشام قد کاتبوا أحمد بالکرک و کاتبهم، و قد قبض علیهم و من جملتهم أقبغا عبد الواحد، فرسم بحمله مقیدا، فحمل من دمشق إلی الإسکندریة و قتل بها فی آخر سنة أربع و أربعین و سبعمائة.
و کان من الظلم و الطمع و التعاظم علی جانب کبیر، و جمع من الأموال شیئا کثیرا، و أقام جماعة من أهل الشرّ لتتبع أولاد الأمراء و تعرّف أحوال من افتقر منهم أو احتاج إلی شی‌ء، فلا یزالون به حتی یعطوه مالا علی سبیل القرض بفائدة جزیلة إلی أجل، فإذا استحق المال أعسفه فی الطلب و ألجأه إلی بیع ماله من الأملاک، و حلها إن کانت وقفا بعنایته به، و عین لعمل هذه الحیل شخصا یعرف بابن القاهریّ، و کان إذا دخل لأحد من القضاة فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 236
شراء ملک أو حل وقف لا یقدر علی مخالفته و لا یجد بدّا من موافقته. و من غریب ما یحکی عن طمع أقبغا، أن مشدّ الحاشیة دخل علیه و فی إصبعه خاتم بفص أحمر من زجاج له بریق، فقال له أقبغا: إیش هو هذا الخاتم، فأخذ یعظمه و ذکر أنه من ترکة أبیه. فقال:
بکم حسبوه علیک؟ فقال: بأربعمائة درهم. فقال: أرنیه. فناوله إیاه فأخذه و تشاغل عنه ساعة ثم قال له: و اللّه فضیحة أن نأخذ خاتمک، و لکن خذه أنت و هات ثمنه، و دفعه إلیه و ألزمه بإحضار الأربعمائة درهم، فما وسعه إلّا أن أحضرها إلیه، فعاقبه اللّه بذهاب ماله و غیره، و موته غریبا.

المدرسة الحسامیة

هذه المدرسة بخط المسطاح من القاهرة قریبا من حارة الوزیریة، بناها الأمیر حسام الدین طرنطای المنصوریّ نائب السلطنة بدیار مصر، إلی جانب داره، و جعلها برسم الفقهاء الشافعیة، و هی فی وقتنا هذا تجاه سوق الرقیق، و یسلک منها إلی درب العدّاس و إلی حارة الوزیریة و إلی سویقة الصاحب و باب الخوخة و غیر ذلک، و کان بجانبها طبقة لخیاط فطلبت منه بثلاثة أمثال ثمنها فلم یبعها، و قیل لطرنطای لو طلبته لاستحیی منک، فلم یطلبه و ترکه و طبقته و قال: لا أشوّش علیه.
طرنطای: بن عبد اللّه الأمیر حسام الدین المنصوریّ، رباه الملک المنصور قلاون صغیرا و رقاه فی خدمه إلی أن تقلد سلطنة مصر، فجعله نائب السلطنة بدیار مصر عوضا عن الأمیر عز الدین أیبک الأفرم الصالحیّ، و خلع علیه فی یوم الخمیس رابع عشر رمضان سنة ثمان و سبعین و ستمائة، فباشر ذلک مباشرة حسنة إلی أن کانت سنة خمس و ثمانین، فخرج من القاهرة بالعساکر إلی الکرک و فیها الملک المسعود نجم الدین خضر و أخوه بدر الدین سلامش، ابنا الملک الظاهر بیبرس، فی رابع المحرّم، و سار إلیها فوافاه الأمیر بدر الدین الصوّانیّ بعساکر دمشق فی ألفی فارس، و نازلا الکرک و قطعا المیرة عنها و استفسدا رجال الکرک حتی أخذا خضرا و سلامش بالأمان فی خامس صفر، و تسلم الأمیر عز الدین طرنطای الموصلیّ نائب الشوبک مدینة الکرک و استقرّ فی نیابة السلطنة بها، و بعث الأمیر طرنطای بالبشارة إلی قلعة الجبل، فوصل البرید بذلک فی ثامن صفر، ثم قدم بابنی الظاهر، فخرج السلطان إلی لقائه فی ثانی عشر ربیع الأوّل و أکرم الأمیر طرنطای و رفع قدره ثم بعثه إلی أخذ صهیون و بها سنقر الأشقر، فسار بالعساکر من القاهرة فی سنة ست و ثمانین، و نازلها و حصرها حتی نزل إلیه سنقر بالأمان و سلّم إلیه قلعة صهیون، و سار به إلی القاهرة، فخرج السلطان إلی لقائه و أکرمه.
و لم یزل علی مکانته إلی أن مات الملک المنصور و قام فی السلطنة بعده ابنه الأشرف صلاح الدین خلیل بن قلاون، فقبض علیه فی یوم السبت ثالث عشر ذی القعدة سنة تسع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 237
و ثمانین، و عوقب حتی مات یوم الاثنین خامس عشرة بقلعة الجبل، و بقی ثمانیة أیام بعد قتله مطروحا بحبس القلعة، ثم أخرج فی لیلة الجمعة سادس عشری ذی القعدة و قد لف فی حصیر و حمل علی جنویة إلی زاویة الشیخ أبی السعود بالقرافة، فغسله الشیخ عمر السعودیّ شیخ الزوایة و کفنه من ماله و دفنه خارج الزاویة لیلا، و بقی هناک إلی سلطنة العادل کتبغا، فأمر بنقل جثته إلی تربته التی أنشأها بمدرسته هذه.
و کان سبب القبض علیه و قتله، أن الملک الأشرف کان یکرهه کراهة شدیدة، فإنه کان یطرح جانبه فی أیام أبیه، و یغض منه و یهین نوّابه و یؤذی من یخدمه، لأنه کان یمیل إلی أخیه الملک الصالح علاء الدین علیّ بن قلاون، فلما مات الصالح علیّ و انتقلت ولایة العهد إلی الأشرف خلیل بن قلاون، مال إلیه من کان ینحرف عنه فی حیاة أخیه إلّا طرنطای، فإنه ازداد تمادیا فی الإعراض عنه و جری علی عادته فی أذی من ینسب إلیه، و أغری الملک المنصور بشمس الدین محمد بن السلعوس ناظر دیوان الأشرف حتی ضربه و صرفه عن مباشرة دیوانه، و الأشرف مع ذلک یتأکد حنقه علیه و لا یجد بدّا من الصبر إلی أن صار له الأمر بعد أبیه، و وقف الأمیر طرنطای بین یدیه فی نیابة السلطنة علی عادته و هو منحرف عنه لما أسلفه من الإساءة علیه، و أخذ الأشرف فی التدبیر علیه إلی أن نقل له عنه أنه یتحدّث سرّا فی إفساد نظام المملکة و إخراج الملک عنه، و أنه قصد أن یقتل السلطان و هو راکب فی المیدان الأسود الذی تحت قلعة الجبل عند ما یقرب من باب الإصطبل، فلم یحتمل ذلک.
و عندها سیر أربعة میادین و الأمیر طرنطای و من وافقه عند باب ساریة حتی انتهی إلی رأس المیدان و قرب من باب الإصطبل، و فی الظنّ أنه یعطف إلی باب ساریة لیکمل التسییر علی العادة، فعطف إلی جهة القلعة و أسرع و دخل من باب الإصطبل، فبادر الأمیر طرنطای عندما عطف السلطان و ساق فیمن معه لیدرکوه، ففاتهم و صار بالإصطبل فیمن خف معه من خواصه، و ما هو إلّا أن نزل الأشرف من الرکوب فاستدعی بالأمیر طرنطای، فمنعه الأمیر زین الدین کتبغا المنصوریّ عن الدخول إلیه و حذره منه و قال له: و اللّه إنی أخاف علیک منه فلا تدخل علیه إلا فی عصبة تعلم أنهم یمنعونک منه إن وقع أمر تکرهه، فلم یرجع إلیه و غرّه أن أحدا لا یجسر علیه لمهابته فی القلوب و مکانته من الدولة، و أن الأشرف لا یبادره بالقبض علیه و قال لکتبغا: و اللّه لو کنت نائما ما جسر خلیل ینبهنی. و قام و مشی إلی السلطان و دخل و معه کتبغا، فلما وقف علی عادته بادر إلیه جماعة قد أعدّهم السلطان و قبضوا علیه، فأخذه اللکم من کلّ جانب و السلطان یعدّد ذنوبه و یذکر له إساءته و یسبه.
فقال له یا خوند: هذا جمیعه قد عملته معک، و قدّمت الموت بین یدیّ، و لکن و اللّه لتندمنّ من بعدی. هذا و الأیدی تتناوب علیه حتی أنّ بعض الخاصکیة قلع عینه و سحب إلی السجن، فخرج کتبغا و هو یقول: إیش أعمل و یکرّرها، فأدرکه الطلب و قبض علیه أیضا، ثم آل آمر کتبغا بعد ذلک إلی أن ولی سلطنة مصر، و أوقع الأشرف الحوطة علی أموال طرنطای
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 238
و بعث إلی داره الأمیر علم الدین سنجر الشجاعیّ، فوجد له من العین ستمائة ألف دینار، و من الفضة سبعة عشر ألف رطل و مائة رطل مصری، عنها زیادة علی مائة و سبعین قنطارا فضة سوی الأوانی، و من العدد و الأسلحة و الأقمشة و الآلات و الخیول و الممالیک ما یتعذر إحصاء قیمته، و من الغلات و الأملاک شی‌ء کثیر جدّا، و وجد له من البضائع و الأموال المسفرة علی اسمه و الودائع و المقارضات و القنود و الأعسال و الأبقار و الأغنام و الرقیق و غیر ذلک شی‌ء یجل وصفه، هذا سوی ما أخفاه مباشروه بمصر و الشام، فلما حملت أمواله إلی الأشرف جعل یقلبها و یقول:
من عاش بعد عدوّه‌یوما فقد بلغ المنی
و اتفق بعد موت طرنطای أن ابنه سأل الدخول علی السلطان الأشرف فأذن له، فلما وقف بین یدیه جعل المندیل علی وجهه و کان أعمی، ثم مدّ یده و بکی و قال: شی‌ء للّه، و ذکر أنّ لأهله أیاما ما عندهم ما یأکلونه، فرق له و أفرج عن أملاک طرنطای و قال: تبلغوا بریعها، فسبحان من بیده القبض و البسط.

المدرسة المنکوتمریة

هذه المدرسة بحارة بهاء الدین من القاهرة، بناها بجوار داره الأمیر سیف الدین منکوتمر الحسامیّ نائب السلطنة بدیار مصر، فکملت فی صفر سنة ثمان و تسعین و ستمائة، و عمل بها درسا للمالکیة قرّر فیه الشیخ شمس الدین محمد بن أبی القاسم بن عبد السلام بن جمیل التونسیّ المالکیّ، و درسا للحنفیة درّس فیه ... و جعل فیها خزانة کتب و جعل علیها وقفا ببلاد الشام، و هی الیوم بید قضاة الحنفیة یتولون نظرها، و أمرها متلاش و هی من المدارس الحسنة.
منکوتمر: هو أحد ممالیک الملک المنصور حسام الدین لاجین المنصوریّ، ترقی فی خدمته و اختص به اختصاصا زائدا إلی أن ولی مملکة مصر بعد کتبغا، فی سنة ست و تسعین و ستمائة، فجعله أحد الأمراء بدیار مصر، ثم خلع علیه خلع نیابة السلطنة عوضا عن الأمیر شمس الدین قراسنقر المنصوریّ، یوم الأربعاء النصف من ذی القعدة، فخرج سائر الأمراء فی خدمته إلی دار النیابة و باشر النیابة بتعاظم کثیر، و أعطی المنصب حقه من الحرمة الوافرة و المهابة التی تخرج عن الحدّ، و تصرّف فی سائر أمور الدولة من غیر أن یعارضه السلطان فی شی‌ء البتة، و بلغت عبرة إقطاعه فی السنة زیادة علی مائة ألف دینار.
و لما عمل الملک المنصور الروک المعروف بالروک الحسامیّ، فوّض تفرقة منالات
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 239
إقطاعات الأجناد له، فجلس فی شباک دار النیابة بقلعة الجبل، و وقف الحجاب بین یدیه، و أعطی لکل تقدمة منالات، فلم یجسر أحد أن یتحدّث فی زیادة و لا نقصان خوفا من سوء خلقه و شدّة حمقه، و بقی أیاما فی تفرقة المنالات و الناس علی خوف شدید. فإنّ أقلّ الإقطاعات کان فی أیام الملک المنصور قلاون عشرة آلاف درهم فی السنة، و أکثره ثلاثین ألف درهم. فرجع فی الروک الحسامیّ أکثر إقطاعات الحلقة إلی مبلغ عشرین ألف درهم و ما دونها، فشق ذلک علی الأجناد، و تقدّم طائفة منهم و رموا منالاتهم التی فرّقت علیهم، لأن الواحد منهم وجد مناله بحق النصف مما کان له قبل الروک، و قالوا لمنکوتمر: إما أن تعطونا ما یقوم بکلفنا و إلّا فخذوا أخبازکم و نحن نخدم الأمراء أو نصیر بطالین. فغضب منکوتمر و أخرق بهم و تقدّم إلی الحجاب فضربوهم، و أخذوا سیوفهم و أودعوهم السجون، و أخذ یخاطب الأمراء بفحش و یقول: أیما قوّاد شکا من خبزه؟ و یقول نقول للسلطان فعلت به، و فعلت إیش یقول للسلطان، إن رضی یخدم و إلّا إلی لعنة اللّه، فشق ذلک علی الأمراء و أسرّوا له الشرّ، ثم إنه لم یزل بالسلطان حتی قبض علی الأمیر بدر الدین بیسری، و حسن له إخراج أکابر الأمراء من مصر، فجرّدهم إلی سیس، و أصبح و قد خلا له الجوّ، فلم یرض بذلک حتی تحدّث مع خوشداشیته بأنه لا بدّ أن ینشئ له دولة جدیدة و یخرج طفجی و کرجی من مصر، ثم إنه جهز حمدان بن صلغای إلی حلب فی صورة أنه یستعجل العساکر من سیس، و قرّر معه القبض علی عدّة من الأمراء، و أمّر عدّة أمراء جعلهم له عدّة و ذخرا، و تقدّم إلی الصاحب فخر الدین الخلیلیّ بأن یعمل أوراقا تتضمن أسماء أرباب الرواتب لیقطع أکثرها، فلم تدخل سنة ثمان و تسعین حتی استوحشت خواطر الناس بمصر و الشام من منکوتمر، وزاد حتی أراد السلطان أن یبعث بالأمیر طغا إلی نیابة طرابلس، فتنصل طغا من ذلک، فلم یعفه السلطان منه، و ألح منکوتمر فی إخراجه و أغلظ للأمیر کرجی فی القول، و حط علی سلار و بیبرس الجاشنکیر و أنظارهم، و غض منهم، و کان کرجی شرس الأخلاق ضیق العطن سریع الغضب، فهمّ غیر مرّة بالفتک بمنکوتمر، و طفجی یسکن غضبه، فبلغ السلطان فساد قلوب الأمراء و العسکر، فبعث قاضی القضاة حسام الدین الحسن بن أحمد بن الحسن الرومیّ الحنفیّ إلی منکوتمر یحدّثه فی ذلک و یرجعه عما هو فیه، فلم یلتفت إلی قوله و قال: أنا مالی حاجة بالنیابة، أرید أخرج مع الفقراء فلما بلغ السلطان عنه ذلک استدعاه و طیب خاطره و وعده بسفر طفجی بعد أیام، ثم القبض علی کرجی بعده، فنقل هذا للأمراء، فتحالفوا و قتلوا السلطان کما قد ذکر فی خبره، و أوّل من بلغه خبر مقتل السلطان الأمیر منکوتمر، فقام إلی شباک النیابة بالقلعة فرأی باب القلة و قد انفتح و خرج الأمراء و الشموع تقد و الضجة قد ارتفعت فقال: و اللّه قد فعلوها، و أمر فغلقت أبواب دار النیابة، و ألبس ممالیکه آلة الحرب، فبعث الأمراء إلیه بالأمیر الحسام أستادار، فعرّفه بمقتل السلطان و تلطف به حتی نزل و هو مشدود الوسط بمندیل، و سار به إلی باب القلة و الأمیر طفجی قد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 240
جلس فی مرتبة النیابة، فتقدّم إلی طفجی و قبل یده، فقام إلیه و أجلسه بجانبه، و قام الأمراء فی أمر منکوتمر یشفعون فیه، فأمر به إلی الجب و أنزلوه فیه، و عندما استقرّ به أدلیت له القفة التی نزل فیها، و تصایحوا علیه بالصعود فطلع علیهم، و إذا کرجی قد وقف علی رأس الجبّ فی عدّة من الممالیک السلطانیة، فأخذ یسب منکوتمر و یهینه و ضربه بلت ألقاه، و ذبحه بیده علی الجبّ و ترکه و انصرف، فکان بین قتل أستاذه و قتله ساعة من اللیل، و ذلک فی لیلة الجمعة عاشر ربیع الأوّل سنة ثمان و تسعین.

المدرسة القراسنقریة

هذه المدرسة تجاه خانقاه الصلاح سعید السعداء، فیما بین رحبة باب العید و باب النصر، کان موضعها و موضع الربع الذی بجانبها الغربیّ مع خانقاه بیبرس، و ما فی صفها إلی حمام الأعسر و باب الجوّانیة، کلّ ذلک من دار الوزارة الکبری التی تقدّم ذکرها، أنشأها الأمیر شمس الدین قراسنقر المنصوریّ نائب السلطنة، سنة سبعمائة. و بنی بجوار بابها مسجدا معلقا و مکتبا لإقراء أیتام المسلمین کتاب اللّه العزیز، و جعل بهذه المدرسة درسا للفقهاء، و وقف علی ذلک داره التی بحارة بهاء الدین و غیرها، و لم یزل نظر هذه المدرسة بید ذرّیة الواقف إلی سنة خمس عشرة و ثمانمائة، ثم انقرضوا. و هی من المدارس الملیحة، و کنا نعهد البریدیة إذا قدموا من الشام و غیرها لا ینزلون إلّا فی هذه المدرسة حتی یتهیأ سفرهم، و قد بطل ذلک من سنة تسعین و سبعمائة.
قراسنقر بن عبد اللّه: الأمیر شمس الدین الجوکندار المنصوریّ، صار إلی الملک المنصور قلاون و ترقی فی خدمته إلی أن ولاه نیابة السلطنة بحلب فی شعبان سنة اثنتین و ثمانین و ستمائة، عوضا عن الأمیر علم الدین سنجر الباشقردیّ، فلم یزل فیها إلی أن مات الملک المنصور و قام من بعده ابنه الملک الأشرف خلیل بن قلاون، فلما توجه الأشرف إلی فتح قلعة الروم عاد بعد فتحها إلی حلب و عزل قراسنقر عن نیابتها، و ولی عوضه الأمیر سیف الدین بلبان الطناحیّ، و ذلک فی أوائل شعبان سنة إحدی و تسعین، و کانت ولایته علی حلب تسع سنین. فلما خرج السلطان من مدینة حلب خرج فی خدمته و توجه مع الأمیر بدر الدین بیدرا نائب السلطنة بدیار مصر فی عدّة من الأمراء لقتال أهل جبال کسروان، فلما عاد سار مع السلطان من دمشق إلی القاهرة و لم یزل بها إلی أن ثار الأمیر بیدرا علی الأشرف، فتوجه معه و أعان علی قتله، فلما قتل بیدرا فرّ قراسنقر و لاجین فی نصف المحرّم سنة ثلاث و تسعین و ستمائة. و اختفیا بالقاهرة إلی أن استقرّ الأمر للملک الناصر محمد بن قلاون، و قام فی نیابة السلطنة و تدبیر الدولة الأمیر زین الدین کتبغا، فظهرا فی یوم عید الفطر و کانا عند فرارهما یوم قتل بیدرا أطلعا الأمیر بیحاص الزینیّ مملوک الأمیر کتبغا نائب السلطنة علی حالهما، فأعلم استاذه بأمرهما و تلطف به حتی تحدّث فی شأنهما مع السلطان، فعفا عنهما،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 241
ثم تحدّث مع الأمیر بکتاش الفخریّ إلی أن ضمن له التحدّث مع الأمراء، و سعی فی الصلح بینهما و بین الأمراء و الممالیک حتی زالت الوحشة، و ظهرا من بیت الأمیر کتبغا، فأحضرهما بین یدی السلطان و قبلا الأرض و أفیضت علیهما التشاریف و جعلهما أمراء علی عادتهما، و نزلا إلی دورهما فحمل إلیهما الأمراء ما جرت العادة به من التقادم، فلم یزل قراسنقر علی إمرته إلی أن خلع الملک الناصر محمد بن قلاون من السلطنة و قام من بعده الملک العادل زین الدین کتبغا، فاستمرّ علی حاله إلی أن ثار الأمیر حسام الدین لاجین نائب السلطنة بدیار مصر علی الملک العادل کتبغا بمنزلة العوجاء من طریق دمشق، فرکب معه قراسنقر و غیره من الأمراء إلی أن فرّ کتبغا، و استمرّ الأمر لحسام الدین لاجین و تلقب بالملک المنصور، فلما استقرّ بقلعة الجبل خلع علی الأمیر قراسنقر و جعله نائب السلطنة بدیار مصر فی صفر سنة ست و تسعین و ستمائة، فباشر النیابة إلی یوم الثلاثاء للنصف من ذی القعدة، فقبض علیه و أحیط بموجوده و حواصله و نوّابه و دواوینه بدیار مصر و الشام، و ضیق علیه و استقرّ فی نیابة السلطنة بعده الأمیر منکوتمر، و عدّ السلطان من أسباب القبض علیه إسرافه فی الطمع و کثرة الحمایات و تحصیل الأموال علی سائر الوجوه، مع کثرة ما وقع من شکایة الناس من ممالیکه و من کاتبه شرف الدین یعقوب، فإنه کان قد تحکم فی بیته تحکما زائدا، و عظمت نعمته و کثرت سعادته، و أسرف فی اتخاذ الممالیک و الخدم، و انهمک فی اللعب الکثیر، و تعدّی طوره و قراسنقر لا یسمع فیه کلاما، و حدّثه السلطان بسببه و أغلظ فی القول و ألزمه بضربه و تأدیبه أو إخراجه من عنده، فلم یعبأ بذلک. و ما زال قراسنقر فی الاعتقال إلی أن قتل الملک المنصور لاجین و أعید الملک الناصر محمد بن قلاون إلی السلطنة فأفرج عنه و عن غیره من الأمراء و رسم له بنیابة الصبیبة فخرج إلیها ثم نقل منها إلی نیابة حماه بعد موت صاحبها الملک المظفر تقیّ الدین محمود بسفارة الأمیر بیبرس الجاشنکیر، و الأمیر سلار، ثم نقل من نیابة حماه بعد ملاقاة التتر إلی نیابة حلب، و استقرّ عوضه فی نیابة حماه الأمیر زین الدین کتبغا الذی تولی سلطنة مصر و الشام، و ذلک فی سنة تسع و تسعین و ستمائة، و شهد وقعة شقحب مع الملک الناصر محمد بن قلاون، و لم یزل علی نیابة حلب إلی أن خلع الملک الناصر و تسلطن الملک المظفر بیبرس الجاشنکیر و صاحب الناصر فی الکرک، فلما تحرّک لطلب الملک و استدعی نوّاب الممالک، أجابه قراسنقر و أعانه برأیه و تدبیره، ثم حضر إلیه و هو بدمشق و قدّم له شیئا کثیرا و سار معه إلی مصر حتی جلس علی تخت ملکه بقلعة الجبل، فولاه نیابة دمشق عوضا عن الأمیر عز الدین الأفرم فی شوّال سنة تسع و سبعمائة، و خرج إلیها فسار إلی غزة فی عدّة من النوّاب و قبضوا علی المظفر بیبرس الجاشنکیر و سار به هو و الأمیر سیف الدین الحاج بهادر إلی الخطارة، فتلقاهم الأمیر استدمر کرجی، فتسلم منهم بیبرس و قیده و أرکبه بغلا و أمر قراسنقر و الحاج بهادر بالسیر إلی مصر، فشق علی قراسنقر تقیید بیبرس، و توهم الشرّ من الناصر، و انزعج لذلک انزعاجا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 242
کثیرا و ألقی کلوتته عن رأسه إلی الأرض و قال لفرّاشه: الدنیا فانیة، یا لیتنا متنا و لا رأینا هذا الیوم، فترجل من حضر من الأمراء و رفعوا کلوتته و وضعوها علی رأسه، و رجع من فوره و معه الحاج بهادر إلی ناحیة الشام و قد ندم علی تشییع المظفر بیبرس، فجدّ فی سیره إلی أن عبر دمشق، و فی نفس السلطان منه کونه لم یحضر مع بیبرس، و کان قد أراد القبض علیه، فبعث الأمیر نوغای القبجاقیّ أمیرا بالشام لیکون له عینا علی الأمیر قراسنقر، ففطن قراسنقر لذلک و شرع نوغای یتحدّث فی حق قراسنقر بما لا یلیق حتی ثقل علیه مقامه، فقبض علیه بأمر السلطنة و سجن بقلعة دمشق، ثم إن السلطان صرفه عن نیابة دمشق و ولاه نیابة حلب بسؤاله، و ذلک فی المحرّم سنة إحدی عشرة و سبعمائة، و کتب السلطان إلی عدّة من الأمراء بالقبض علیه مع الأمیر أرغون الدوادار، فلم یتمکن من التحدّث فی ذلک لکثرة ما ضبط قراسنقر أموره و لازمه عند قدومه علیه بتقلید نیابة حلب، بحیث لم یتمکن أرغون من الحرکة إلی مکان إلّا و قراسنقر معه، فکثر الحدیث بدمشق أن أرغون إنما حضر لمسک قراسنقر، حتی بلغ ذلک الأمراء، و سمعه قراسنقر، فاستدعی بالأمراء و حضر الأمیر أرغون فقال قراسنقر: بلغنی کذا و ها أنا أقول إن کان حضر معک مرسوم بالقبض علیّ فلا حاجة إلی فتنة، أنا طائع السلطان، و هذا سیفی خذه، و مدّ یده و حل سیفه من وسطه. فقال أرغون و قد علم أن هذا الکلام مکیدة و أن قراسنقر لا یمکن من نفسه: إنی لم أحضر إلا بتقلید الأمیر نیابة حلب بمرسوم السلطان، و سؤال الأمیر، و حاشا للّه أن السلطان یذکر فی حق الأمیر شیئا من هذا. فقال قراسنقر: غدا نرکب و نسافر. و انفض المجلس فبعث إلی الأمراء أن لا یرکب أحد منهم لوداعه، و لا یخرج من بیته، و فرّق ما عنده من الحوائص و من الدراهم علی ممالیکه لیتحملوا به علی أوساطهم، و أمرهم بالاحتراس، و قدّم غلمانه و حواشیه فی اللیل و رکب وقت الصباح فی طلب عظیم، و کانت عدّة ممالیکه ستمائة مملوک قد جعلهم حوله ثلاث حلقات، و أرکب أرغون إلی جانبه و سار علی غیر الجادّة حتی قارب حلب، ثم عبرها فی العشرین من المحرّم و أعاد أرغون بعد ما أنعم علیه بألف دینار و خلعة و خیل و تحف، و أقام بمدینة حلب خائفا یترقب، و شرع یعمل الحیلة فی الخلاص، و صادق العربان، و اختص بالأمیر حسام الدین مهنا أمیر العرب و بابنه موسی، و أقدمه إلی حلب و أوقفه علی کتب السلطان إلیه بالقبض علیه، و أنه لم یفعل ذلک و لم یزل به حتی أفسد ما بینه و بین السلطان، ثم أنه بعث یستأذن السلطان فی الحج، فأعجب السلطان ذلک و ظنّ أنه بسفره یتم له التدبیر علیه لما کان فیه من الاحتراز الکبیر، و أذن له فی السفر و بعث إلیه بألفی دینار مصریة، فخرج من حلب و معه أربعمائة مملوک معدّة بالفرس و الجنیب و الهجن، و سار حتی قارب الکرک، فبلغه أن السلطان کتب إلی النوّاب و أخرج عسکرا من مصر إلیه، فرجع من طریق السماوة إلی حلب و بها الأمیر سیف الدین قرطای نائب الغیبة، فمنعه من العبور إلی المدینة و لم یمکن أحدا من ممالیک قراسنقر أن یخرج إلیه، و کانت مکاتبة السلطان قد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 243
قدمت علیه بذلک، فرحل حینئذ إلی مهنا أمیر العرب و استجار به، فأکرمه و بعث إلی السلطان یشفع فیه، فلم یجد السلطان بدّا من قبول شفاعة مهنا، و خیّر قراسنقر فیما یرید، ثم أخرج عسکرا من مصر و الشام لقتال مهنا، و أخذ قراسنقر فبلغه ذلک فاحترس علی نفسه و کتب إلی السلطان یسأله فی صرخد، و قصد بذلک المطاولة، فأجابه إلی ذلک و مکنه من أخذ حواصله التی بحلب، و أعطی مملوکه ألف دینار، فلما قدم علیه لم یطمئن و عبر إلی بلاد الشرق فی سنة اثنتی عشرة و سبعمائة، فی عدّة من الأمراء یرید خربندا، فلما وصل إلی الرحبة بعث بابنه فرج و معه شی‌ء من أثقاله و خیوله و أمواله إلی السلطان بمصر، لیعتذر من قصده خربندا، و رحل بمن معه إلی ماردین فتلقاه المغل، و قام له نوّاب خربندا بالإقامات إلی أن قرب الأردوا، فرکب خربندا إلیه و تلقاه و أکرمه و من معه و أنزلهم منزلا یلیق بهم، و أعطی قراسنقر المراغة من عمل أذربیجان، و أعطی الأمیر جمال الدین أقوش الأفرم همدان، و ذلک فی أوائل سنة اثنتی عشرة و سبعمائة، فلم یزل هناک إلی أن مات خربندا و قام من بعده أبو سعید برکة بن خربندا، فشق ذلک علی السلطان و أعمل الحیلة فی قتل قراسنقر و الأفرم و سیر إلیهما الفداویة، فجرت بینهم خطوب کثیرة، و مات قراسنقر بالإسهال ببلد المراغة فی سنة ثمان و عشرین و سبعمائة، یوم السبت سابع عشری شوّال، قبل موت السلطان بیسیر، فلما بلغ السلطان موته فی حادی عشر ذی القعدة عند ورود الخبر إلیه قال:
ما کنت أشتهی یموت إلّا من تحت سیفی، و أکون قد قدرت علیه و بلغت مقصودی منه، و ذلک أنه کان قد جهز إلیه عددا کثیرا من الفداویة، قتل منهم بسببه مائة و عشرون فداویا بالسیف، سوی من فقد و لم یوقف له علی خیر، و کان قراسنقر جسیما جلیلا صاحب رأی و تدبیر و معرفة، و بشاشة وجه، و سماحة نفس، و کرم زائد، بحیث لا یستکثر علی أحد شیئا مع حسن الشاکلة و عظم المهابة و السعادة الطائلة، و بلغت عدّة ممالیکه ستمائة مملوک، ما منهم إلا من له نعمة ظاهرة و سعادة وافرة، و له من الآثار بالقاهرة هذه المدرسة و دار جلیلة بحارة بهاء الدین فیها کان سکنه.

المدرسة الغزنویة

هذه المدرسة برأس الموضع المعروف بسویقة أمیر الجیوش تجاه المدرسة الیازکوجیة، بناها الأمیر حسام الدین قایماز النجمیّ، مملوک نجم الدین أیوب، والد الملوک، و أقام بها الشیخ شهاب الدین أبو الفضل أحمد بن یوسف بن علیّ بن محمد الغزنویّ البغدادیّ المقرئ الفقیه الحنفیّ، و درس بها فعرفت به، و کان إماما فی الفقه و سمع علی الحافظ السلفیّ و غیره، و قرأ بنفسه و سکن مصر آخر عمره، و کان فاضلا حسن الطریقة متدینا، و حدّث بالقاهرة بکتاب الجامع لعبد الرزاق بن همام، فرواه عنه جماعة، و جمع کتابا فی الشیب و العمر، و قرأ علیه أبو الحسن السخاویّ، و أبو عمرو بن الحاجب، و مولده ببغداد فی ربیع الأوّل سنة اثنتین و عشرین و خمسمائة، و توفی بالقاهرة یوم الاثنین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 244
النصف من ربیع الأوّل سنة تسع و تسعین و خمسمائة، و هی من مدارس الحنفیة.

المدرسة البوبکریة

هذه المدرسة بجوار درب العباسی قریبا من حارة الوزیریة بالقاهرة، بناها الأمیر سیف الدین اسنبغا بن الأمیر سیف الدین بکتمر البوبکری الناصریّ، و وقفها علی الفقهاء الحنفیة، و بنی بجانبها حوض ماء للسبیل و سقایة و مکتبا للأیتام، و ذلک فی سنة اثنتین و سبعین و سبعمائة، و بنی قبالتها جامعا، فمات قبل إتمامه و کان یسکن دار بدر الدین الأمیر طرنطای المجاورة للمدرسة الحسامیة، تجاه سوق الجواری، فلذلک أنشأ هذه المدرسة بهذا المکان لقربه منه، ثم لما کانت سنة خمس عشرة و ثمانمائة، جدّد بهذه المدرسة منبرا و صار یقام بها الجمعة. اسنبغا بن بکتمر الأمیر ... .

المدرسة البقریة

هذه المدرسة فی الزقاق الذی تجاه باب الجامع الحاکمیّ المجاور للمنبر، و یتوصل من هذا الزقاق إلی ناحیة العطوف، بناها الرئیس شمس الدین شاکر بن غزیل، تصغیر غزال، المعروف بابن البقریّ، أحد مسالمة القبط و ناظر الذخیرة فی أیام الملک الناصر الحسن بن محمد بن قلاون، و هو خال الوزیر الصاحب سعد الدین نصر اللّه بن البقریّ، و أصله من قریة تعرف بدار البقر، إحدی قری الغربیة، نشأ علی دین النصاری، و عرف الحساب و باشر الخراج إلی أن أقدمه الأمیر شرف الدین بن الأزکشیّ استادار السلطان و مشیر الدولة فی أیام الناصر حسن، فاسلم علی یدیه، و خاطبه بالقاضی شمس الدین، و خلع علیه و استقرّ به فی نظر الذخیرة السلطانیة، و کان نظرها حینئذ من الرتب الجلیلة، و أضاف إلیه نظر الأوقاف و الأملاک السلطانیة، و رتبه مستوفیا بمدرسة الناصر حسن، فشکرت طریقته و حمدت سیرته و أظهر سیادة و حشمة، و قرّب أهل العلم من الفقهاء، و تفضل بأنواع من البرّ، و أنشأ هذه المدرسة فی أبدع قالب و أبهج ترتیب، و جعل بها درسا للفقهاء الشافعیة، و قرّر فی تدریسها شیخنا سراج الدین عمر بن علیّ الأنصاریّ، المعروف بابن الملقن الشافعیّ، و رتب فیها میعادا و جعل شیخه صاحبنا الشیخ کمال الدین بن موسی الدمیریّ الشافعیّ، و جعل إمام الصلوات بها المقرئ الفاضل زین الدین أبا بکر بن الشهاب أحمد النحویّ، و کان الناس یرحلون إلیه فی شهر رمضان لسماع قراءته فی صلاة التراویح لشجا صوته، و طیب نغمته، و حسن أدائه، و معرفته بالقراءات السبع و العشر و الشواذ، و لم یزل ابن البقریّ علی حال السیادة و الکرامة إلی أن مرض مرض موته، فأبعد عنه من یلوذ به من النصاری، و أحضر الکمال الدمیریّ و غیره من أهل الخیر، فما زالوا عنده حتی مات و هو یشهد شهادة الإسلام
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 245
فی سنة ست و سبعین و سبعمائة، و دفن بمدرسته هذه و قبره بها تحت قبة فی غایة الحسن، و ولی نظر الذخیرة بعده أبو غالب، ثم استجدّ فی هذه المدرسة منبر و أقیمت بها الجمعة فی تاسع جمادی الأولی سنة أربع و عشرین و ثمانمائة بإشارة علم الدین داود الکوبر کاتب السرّ.

المدرسة القطبیة

هذه المدرسة بأوّل حارة زویلة مما یلی الخرنشف فی رحبة کوکای، عرفت بالست الجلیلة عصمة الدین خاتون مؤنسة القطبیة، المعروفة بدار إقبال العلائی، ابنة السلطان الملک العادل سیف الدین أبی بکر بن أیوب بن شادی، و کان وقفها فی سنة خمس و ستمائة، و بها درس للفقهاء الشافعیة، و تصدیر قراءات و فقهاء یقرءون.

مدرسة ابن المغربیّ

هذه المدرسة آخر درب الصقالبة فیما بین سویقة المسعودیّ و حارة زویلة، بناها صلاح الدین یوسف بن ... ابن المغربی رئیس الأطباء، تجاه داره، و مات قبل إکمالها فدفن بعد موته فی قبة تجاه جامعه المطلّ علی الخلیج الناصریّ بقرب برکة قرموط، و صارت هذه المدرسة قائمة بغیر إکمال إلی أن هدمها بعض ذریته فی سنة أربع عشرة و ثمانمائة، و باع أنقاضها فصار موضعها طاحونة.

المدرسة البیدریة

هذه المدرسة برحبة الأیدمریّ بالقرب من باب قصر الشوک، فیما بینه و بین المشهد الحسینیّ، بناها الأمیر بیدر الأیدمریّ.

المدرسة البدیریة

هذه المدرسة بجوار باب سرّ المدرسة الصالحیة النجمیة، کان موضعها من جملة تربة القصر التی تقدّم ذکرها، فنبش شخص من الناس یعرف بناصر الدین محمد بن محمد بن بدیر العباسیّ ما هنالک من قبور الخلفاء، و أنشأ هذه المدرسة فی سنة ثمان و خمسین و سبعمائة، و عمل فیها درس فقه للفقهاء الشافعیة، درس فیه شیخنا شیخ الإسلام سراج الدین عمر بن نصیر بن رسلان البلقینیّ، و هی مدرسة صغیرة لا یکاد یصعد إلیها أحد، و العباسیّ هذا من قریة بطرف الرمل یقال لها العباسیة، و له فی مدینة بلبیس مدرسة و قد تلاشت بعد ما کانت عامرة ملیحة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 246

المدرسة الملکیة

هذه المدرسة بخط المشهد الحسینیّ من القاهرة، بناها الأمیر الحاج سیف الدین آل ملک الجوکندار تجاه داره، و عمل فیها درسا للفقهاء الشافعیة، و خزانة کتب معتبرة، و جعل لها عدّة أوقاف، و هی إلی الآن من المدارس المشهورة، و موضعها من جملة رحبة قصر الشوک، و قد تقدّم ذکرها عند ذکر الرحاب من هذا الکتاب، ثم صار موضع هذه المدرسة دارا تعرف بدار ابن کرمون صهر الملک الصالح.

المدرسة الجمالیة

هذه المدرسة بجوار درب راشد من القاهرة علی باب الزقاق المعروف قدیما بدرب سیف الدولة نادر، بناها الأمیر الوزیر علاء الدین مغلطای الجمالیّ، و جعلها مدرسة للحنفیة، و خانقاه للصوفیة، و ولی تدریسها و مشیخة التصوّف بها الشیخ علاء الدین علیّ بن عثمان الترکمانیّ الحنفیّ، و تداولها ابنه قاضی القضاة جمال الدین عبد اللّه الترکمانیّ الحنفیّ، و ابنه قاضی القضاة صدر الدین محمد بن عبد اللّه بن علیّ الترکمانیّ الحنفیّ، ثم قریبهم حمید الدین حماد، و هی الآن بید ابن حمید الدین المذکور، و کان شأن هذه المدرسة کبیرا یسکنها أکابر فقهاء الحنفیة، و تعدّ من أجلّ مدارس القاهرة، و لها عدّة أوقاف بالقاهرة و ظواهرها و فی البلاد الشامیة، و قد تلاشی أمر هذه المدرسة لسوء ولاة أمرها، و تخریبهم أوقافها، و تعطل منها حضور الدرس و التصوّف، و صارت منزلا یسکنه أخلاط ممن ینسب إلی اسم الفقه، و قرب الخراب منها، و کان بناؤها فی سنة ثلاثین و سبعمائة.
مغلطای: ابن عبد اللّه الجمالیّ، الأمیر علاء الدین، عرف بخرز، و هی بالترکیة عبارة عن الدیک بالعربیة، اشتراه الملک الناصر محمد بن قلاون و نقله و هو شاب من الجامکیة إلی الأمرة علی إقطاع الأمیر صارم الدین إبراهیم الإبراهیمیّ نقیب الممالیک السلطانیة، المعروف بزیر الأمرة، فی صفر سنة ثمان عشرة و سبعمائة، و صار السلطان ینتدبه فی التوجه إلی المهمات الخاصة به، و یطلعه علی سرّه، ثم بعثه أمیر الرکب إلی الحجاز فی هذه السنة، فقبض علی الشریف أسد الدین رمیتة بن أبی نمیّ صاحب مکة، و أحضره إلی قلعة الجبل فی ثامن عشر المحرّم سنة تسع عشرة و سبعمائة مع الرکب، فأنکر علیه السلطان سرعة دخوله لما أصاب الحاج من المشقة فی الإسراع بهم، ثم إنه جعل إستادار السلطان لما قبض علی القاضی کریم الدین عبد الکریم بن المعلم هبة اللّه ناظر الخواص، عند وصوله من دمشق بعد سفره إلیها لإحضار شمس الدین غبریال، فیوم حضر خلع علیه و جعل استادارا عوضا عن الأمیر سیف الدین بکتمر العلائیّ، و ذلک فی جمادی الأولی سنة ثلاث و عشرین و سبعمائة، ثم أضاف إلیه الوزارة و خلع علیه فی یوم الخمیس ثامن رمضان سنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 247
أربع و عشرین عوضا عن الصاحب أمین الملک عبد اللّه بن الغنام بعد ما استعفی من الوزارة، اعتذر بأنه رجل غتمیّ، فلم یعفه السلطان و قال: أنا أخلی من یباشر معک و یعرّفک ما تعمل، و طلب شمس الدین غبریال ناظر دمشق منها و جعله ناظر الدولة، رفیقا للوزیر الجمالیّ، فرفعت قصة إلی السلطان و هو فی القصر من القلعة، فیها الحط علی السلطان بسبب تولیة الجمالیّ الوزارة و الماس حاجبا، و أنه بسبب ذلک أضاع أوضاع المملکة و أهانها و فرّط فی أموال المسلمین و الجیش، و أن هذا لم یفعله أحد من الملوک، فقد ولیت الحجابة لمن لا یعرف یحکم و لا یتکلم بالعربیّ و لا یعرف الإحکام الشرعیة، و ولیت الوزارة و الاستاداریة لشاب لا یعرف یکتب اسمه، و لا یعرف ما یقال له، و لا یتصرّف فی أمور المملکة و لا فی الأموال الدیوانیة إلا أرباب الأقلام، فإنهم یأکلون المال و یحیلون علی الوزیر. فلما وقف السلطان علیها، أوقف علیها القاضی فخر الدین محمد بن فضل اللّه، المعروف بالفخر ناظر الجیش. فقال: هذه ورقة الکتّاب البطالین، ممن انقطع رزقه و کثر حسده، و قرّر مع السلطان أن یلزم الوزیر ناظر الدولة و ناظر الخواص بإحضار أوراق فی کل یوم تشتمل علی أصل الحاصل، و ما حمل فی ذلک الیوم من البلاد و الجهات، و ما صرف.
و أنه لا یصرف لأحد شی‌ء البتة إلّا بأمر السلطان و علمه.
فلما حضر الوزیر الجمالیّ أنکر علیه السلطان و قال له: إن الدواوین تلعب بک، و أمر فأحضر التاج إسحاق، و غبریال، و مجد الدین بن لعیبة، و قرّر معهم أن یحضروا آخر کلّ یوم أوراقا بالحاصل و المصروف، و قد فصلت بأسماء ما یحتاج إلی صرفه و إلی شرائه و بیعه، فصاروا یحضرون کلّ یوم الأوراق إلی السلطان و تقرأ علیه، فیصرف ما یختار و یوقف ما یرید، و رسم أیضا أن مال الجیزة کله یحمل إلی السلطان و لا یصرف منه شی‌ء.
ثم لما کانت الفتنة بثغر الإسکندریة بین أهلها و بین الفرنج، و غضب السلطان علی أهل الإسکندریة، بعث بالجمالیّ إلیها، فسار من القاهرة فی أثناء رجب سنة سبع و عشرین و سبعمائة، و دخل إلیها فجلس بالخمس و استدعی بوجوه أهل البلد، و قبض علی کثیر من العامّة، و وسط بعضهم و قطع أیدی جماعة و أرجلهم، و صادر أرباب الأموال حتی لم یدع أحدا له ثروة، حتی ألزمه بمال کثیر، فباع الناس حتی ثیاب نسائهم فی هذه المصادرة، و أخذ من التجار شیئا کثیرا مع ترفقه بالناس فیما یرد علیه من الکتب بسفک الدماء، و أخذ الأموال، ثم أحضر العدد التی کانت بالثغر مرصدة برسم الجهاد، فبلغت ستة آلاف عدّة، و وضعها فی حاصل و ختم علیه و خرج من الإسکندریة بعد عشرین یوما و قد سفک دماء کثیرة، و أخذ منها مائتی ألف دینار للسلطان و عاد إلی القاهرة، فلم یزل علی حاله إلی أن صرف عن الوزارة فی یوم الأحد ثانی شوّال سنة ثمان و عشرین، و رسم أن توفر وظیفة الوزارة من ولایة وزیر، فلم یستقرّ أحد فی الوزارة و بقی الجمالیّ علی وظیفة الأستاداریة، و کان سبب عزله عن الوزارة توقف حال الدولة و قلة الواصل إلیها، فعمل علیه الفخر ناظر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 248
الجیش و التاج إسحاق بسبب تقدیمه لمحمد بن لعیبة، فإنه کان قد استقرّ فی نظر الدولة و الصحبة و البیوت و تحکم فی الوزیر و تسلم قیاده، فکتبت مرافعات فی الوزیر و أنه أخذ مالا کثیرا من مال الجیزة، فخرج الأمیر أیتمش المجدیّ بالکشف علیه، و همّ السلطان بإیقاع الحوطة به، فقام فی حقه الأمیر بکتمر الساقی حتی عفی عنه و قبض علی کثیر من الدواوین.
ثم إنه سافر إلی الحجاز، فلما عاد توفی بسطح عقبة إیلة فی یوم الأحد سابع عشر المحرّم سنة اثنتین و ثلاثین و سبعمائة. فصبّر و حمل إلی القاهرة و دفن بهذه الخانقاه فی یوم الخمیس حادی عشری المحرّم المذکور بعد ما صلّی علیه بالجامع الحاکمیّ، و ولی السلطان بعده الأستاداریة الأمیر أقبغا عبد الواحد، و کان ینوب عن الجمالیّ فی الأستاداریة الطنقش مملوک الأفرم، نقله إلیها من ولایة الشرقیة، و کان الجمالیّ حسن الطباع یمیل إلی الخیر مع کثرة الحشمة، و مما شکر علیه فی وزارته أنه لم یبخل علی أحد بولایة مباشرة، و أنشأ ناسا کثیرا، و قصد من سائر الأعمال، و کان یقبل الهدایا و یحب التقادم، فحلت له الدنیا و جمع منها شیئا کثیرا، و کان إذا أخذ من أحد شیئا علی ولایة لا یعزله حتی یعرف أنه قد اکتسب قدر ما وزنه له، و لو أکثر علیه فی السعی، فإذا عرف أنه أخذ ما غرمه عزله و ولی غیره، و لم یعرف عنه أنه صادر أحدا و لا اختلس مالا، و کانت أیامه قلیلة الشرّ، إلّا أنه کان یعزل و یولی بالمال، فتزاید الناس فی المناصب، و کان له عقب بالقاهرة غیر صالحین و لا مصلحین.

المدرسة الفارسیة

هذه المدرسة بخط الفهادین من أوّل العطوفیة بالقاهرة، کان موضعها کنیسة تعرف بکنیسة الفهادین، فلما کانت واقعة النصاری فی سنة ست و خمسین و سبعمائة، هدمها الأمیر فارس الدین البکیّ، قریب الأمیر سیف الدین آل ملک الجو کندار، و بنی هذه المدرسة و وقف علیها وقفا یقوم بما تحتاج إلیه.

المدرسة السابقیة

هذه المدرسة داخل قصر الخلفاء الفاطمیین من جملة القصر الکبیر الشرقیّ الذی کان داخل دار الخلافة، و یتوصل إلی هذه المدرسة الآن من تجاه حمّام البیسریّ بخط بین القصرین، و کان یتوصل إلیها أیضا من باب القصر المعروف بباب الریح من خط الرکن المخلق، و موضعه الآن قیساریة الأمیر جمال الدین یوسف الأستادار. بنی هذه المدرسة الطواشی الأمیر سابق الدین مثقال الأنوکیّ مقدّم الممالیک السلطانیة الأشرفیة، و جعل بها درسا للفقهاء الشافعیة، قرّر فی تدریسه شیخنا شیخ الشیوخ سراج الدین عمر بن علیّ الأنصاریّ، المعروف بابن الملقن الشافعیّ، و جعل فیها تصدیر قراءات و خزانة کتب، و کتابا یقرأ فیه أیتام المسلمین، و بنی بینها و بین داره التی تعرف بقصر سابق الدین حوض ماء للسبیل، هدمه الأمیر جمال الدین یوسف الأستادار لما بنی داره المجاورة لهذه المدرسة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 249
ولی سابق الدین تقدمة الممالیک بعد الطواشی شرف الدین مختصر الطغتمریّ، فی صفر سنة ثلاث و ستین و سبعمائة، ثم تنکر علیه الأمیر یلبغا الخاصکیّ القائم بدولة الملک الأشرف شعبان بن حسین و ضربه ستمائة عصا و سجنه و نفاه إلی أسوان، فی آخر شهر ربیع الأوّل سنة ثمان و ستین، فلم یکن غیر قلیل حتی قتل الأمیر یلبغا، فاستدعی الأشرف سابق الدین من قوص، و صرف ظهیر الدین مختارا المعروف بشاذروان عن التقدمة، و أعاده إلیها، فاستمرّ إلی أن مات سنة ست و سبعین و سبعمائة.

المدرسة القیسرانیة

هذه المدرسة بجوار المدرسة الصاحبیة بسویقة الصاحب، فیما بینها و بین باب الخوخة، کانت دارا یسکنها القاضی الرئیس شمس الدین محمد بن إبراهیم القیسرانیّ أحد موقعی الدست بالقاهرة، فوقفها قبل موته مدرسة، و ذلک فی ربیع الأوّل سنة إحدی و خمسین و سبعمائة، و توفی سنة اثنتین و خمسین و سبعمائة، و کان حشما کبیر الهمة، سعی بالأمیر سیف الدین بهادر الدمرداشیّ فی کتابة السرّ بالقاهرة، مکان علاء الدین علیّ بن فضل اللّه العمریّ، فلم یتم ذلک، و مات الأمیر بهادر فانحط جانبه، و کانت دنیاه واسعة جدّا، و له عدّة ممالیک یتوصل بهم إلی السعی فی أغراضه عند أمراء الدولة، و کان ینسب إلی شح کبیر.

المدرسة الزمامیة

هذه المدرسة بخط رأس البندقانیین من القاهرة، فیما بین البندقانیین و سویقة الصاحب، بناها الأمیر الطواشی زین الدین مقبل الرومیّ، زمام الآدر الشریفة للسلطان الظاهر برقوق فی سنة سبع و تسعین و سبعمائة، و جعل بها درسا و صوفیة و منبرا یخطب علیه فی کل جمعة، و بینها و بین المدرسة الصاحبیة دون مدی الصوت، فیسمع کلّ من صلّی بالموضعین تکبیر الآخر، و هذا و أنظاره بالقاهرة من شنیع ما حدث فی غیر موضع، و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العلیّ العظیم علی إزالة هذه المبتدعات.

المدرسة الصغیرة

هذه المدرسة فیما بین البندقانیین و طواحین الملحیین، و یعرف خطها ببیت محب الدین ناظر الجیوش، و یعرف أیضا بخط بین العوامید، بنتها الست أیدیکن زوجة الأمیر سیف الدین بکجا الناصریّ، فی سنة إحدی و خمسین و سبعمائة.

مدرسة تربة أمّ الصالح

هذه المدرسة بجوار المدرسة الأشرفیة بالقرب من المشهد النفیسیّ، فیما بین القاهرة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 250
و مصر، موضعها من جملة ما کان بستانا، أنشأها الملک المنصور قلاون، علی ید الأمیر علم الدین سنجر الشجاعیّ فی سنة اثنتین و ثمانین و ستمائة، برسم أمّ الملک الصالح علاء الدین علیّ بن الملک المنصور قلاون، فلما کمل بناؤها نزل إلیها الملک المنصور و معه ابنه الصالح علیّ، و تصدّق عند قبرها بمال جزیل، و رتب لها وقفا حسنا علی قرّاء و فقهاء. و غیر ذلک. و کانت وفاتها فی سادس عشر شوّال سنة ثلاث و ثمانین و ستمائة.

مدرسة ابن عرّام

هذه المدرسة بجوار جامع الأمیر حسین بحکر جوهر النوبیّ من برّ الخلیج الغربیّ خارج القاهرة، أنشأها الأمیر صلاح الدین خلیل بن عرّام، و کان من فضلاء الناس، تولی نیابة الإسکندریة و کتب تاریخا و شارک فی علوم، فلما قتل الأمیر برکة بسجن الإسکندریة ثارت ممالیکه علی الأمیر الکبیر برقوق حنقا لقتله، فأنکر الأمیر برقوق قتله و بعث الأمیر یونس النوروزیّ دواداره لکشف ذلک، فنبش عنه قبره فإذا فیه ضربات عدّة إحداهنّ فی رأسه، فاتهم ابن عرّام بقتله من غیر إذن له فی ذلک، فأخرج برکة من قبره و کان بثیابه من غیر غسل و لا کفن، و غسله و کفنه، و أحضر ابن عرّام معه فسجن بخزانة شمائل داخل باب زویلة من القاهرة، ثم عصر و أخرج یوم الخمیس خامس عشر رجب سنة اثنتین و ثمانین و سبعمائة، من خزانة شمائل، و أمر به فسمّر عریان بعد ما ضرب عند باب القلة بالمقارع ستة و ثمانین بحضرة الأمیر قطلودمر الخازندار، و الأمیر مامور حاجب الحجاب، فلما أنزل من القلعة و هو مسمر علی الجمل أنشد:
لک قلبی بحلّه فدمی لم تحلّه‌لک من قلبی المکان فلم لا تحلّه
قال إن کنت مالکا فلی الأمر کلّه و ما هو إلّا أن وقف بسوق الخیل تحت القلعة و إذا بممالیک برکة قد أکبت علیه تضربه بسیوفها حتی تقطع قطعا و حز رأسه، و علّق علی باب زویلة و تلاعبت أیدیهم، فأخذوا حد أذنه، و أخذوا حد رجله، و اشتری آخر قطعة من لحمه و لاکها، ثم جمع ما وجد منه و دفن بمدرسته هذه. فقال فی ذلک صاحبنا الأدیب شهاب الدین أحمد بن العطار:
بدت أجزاء عرّام خلیل‌مقطعة من الضرب الثقیل
و أبدت أبحر الشعر المراثی‌محرّرة بتقطیع الخلیل

المدرسة المحمودیة

هذه المدرسة بخط الموازنیین خارج باب زویلة تجاه دار القردمیة، یشبه أن موضعها کان فی القدیم من جملة الحارة التی کانت تعرف بالمنصوریة، أنشأها الأمیر جمال الدین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 251
محمود بن علیّ الأستادار فی سنة سبع و تسعین و سبعمائة، و رتب بها درسا، و عمل فیها خزانة کتب لا یعرف الیوم بدیار مصر و لا الشام مثلها، و هی باقیة إلی الیوم لا یخرج لأحد منها کتاب إلّا أن یکون فی المدرسة، و بهذه الخزانة کتب الإسلام من کلّ فنّ، و هذه المدرسة من أحسن مدارس مصر.
محمود بن علیّ بن أصفر، عینه الأمیر جمال الدین الأستادار ولی شدّ باب رشید بالإسکندریة مدّة، و کانت واقعة الفرنج بها فی سنة سبع و ستین و سبعمائة، و هو مشدّ، فیقال إنّ ماله الذی وجد له حصله یومئذ، ثم إنه سار إلی القاهرة فلما کانت أیام الظاهر برقوق خدم أستادارا عند الأمیر سودون باق، ثم استقرّ شادّ الدواوین إلی أن مات الأمیر بهادر المنجکیّ أستادار السلطان، فاستقرّ عوضا عنه فی وظیفة الأستاداریة یوم الثلاثاء ثالث جمادی الآخرة سنة تسعین و سبعمائة، ثم خلع علیه فی یوم الخمیس خامسة، و استقرّ مشیر الدولة، فصار یتحدّث فی دواوین السلطنة الثلاثة، و هی الدیوان المفرد الذی یتحدّث فیه الأستادار، و دیوان الوزارة و یعرف بالدولة، و دیوان الخاص المتعلق بنظر الخواص، و عظم أمره و نفذت کلمته لتصرّفه فی سائر أمور المملکة. فلما زالت دولة الملک الظاهر برقوق بحضور الأمیر یلبغا الناصریّ نائب حلب، فی یوم الاثنین خامس جمادی الآخرة سنة إحدی و تسعین و سبعمائة بعساکر الشام إلی القاهرة، و اختفی الظاهر ثم أمسکه، هرب هو و ولده، فنهبت دوره، ثم إنه ظهر من الاستتار فی یوم الخمیس ثامن جمادی الآخرة، و قدّم للأمیر یلبغا الناصریّ مالا کثیرا فقبض علیه و قیده و سجنه بقلعة الجبل و أقیم بدله فی الأستاداریة الأمیر علاء الدین أقبغا الجوهریّ. فلما زالت دولة یلبغا الناصریّ بقیام الأمیر منطاش علیه، قبض علی أقبغا الجوهریّ فیمن قبض علیه من الأمراء، و أفرج عن الأمیر محمود فی یوم الاثنین ثامن شهر رمضان، و ألبسه قباء مطرّزا بذهب و أنزله إلی داره، ثم قبض علیه و سجن بخزانة الخاص فی یوم الأحد سادس عشر ذی الحجة فی عدّة من الأمراء و الممالیک، عند عزم منطاش علی السفر لحرب برقوق عند خروجه من الکرک و مسیره إلی دمشق، فکانت جملة ما حمله الأمیر محمود من الذهب العین للأمیر یلبغا الناصریّ و للأمیر منطاش ثمانیة و خمسین قنطارا من الذهب المصریّ، منها ثمانیة عشر قطنارا فی لیلة واحدة، فلم یزل فی الاعتقال إلی أن خرج الممالیک مع الأمیر بوطا فی لیلة الخمیس ثانی صفر سنة اثنتین و تسعین و سبعمائة، فخرج معهم و أقام بمنزله إلی أن عاد الملک الظاهر برقوق إلی المملکة فی رابع عشر صفر، فخلع علیه و استقرّ أستادار السلطان علی عادته فی یوم الاثنین تاسع عشری جمادی الأولی من السنة المذکورة، عوضا عن الأمیر قرقماس الطشتمریّ بعد وفاته، ثم خلع علی ولده الأمیر ناصر الدین محمد بن محمود فی یوم الخمیس ثانی عشری صفر سنة أربع و تسعین و سبعمائة، و استقرّ نائب السلطنة بثغر الإسکندریة عوضا عن الأمیر ألطنبغا المعلم، فقویت حرمة الأمیر محمود و نفذت کلمته إلی یوم الاثنین حادی عشر رجب من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 252
السنة المذکورة، فثار علیه الممالیک السلطانیة بسبب تأخر کسوتهم، و رموه من أعلی القلعة بالحجارة و أحاطوا به و ضربوه یریدون قتله، لو لا أن شاء اللّه أغاثه بوصول الخبر إلی الأمیر الکبیر ایتمش، و کان یسکن قریبا من القلعة، فرکب بنفسه و ساق حتی أدرکه و فرّق عنه الممالیک، و سار به إلی منزله حتی سکنت الفتنة، ثم شیعه إلی داره. فکانت هذه الواقعة مبدأ انحلال أمره، فإن السلطان صرفه عن الأستاداریة و ولی الأمیر الوزیر رکن الدین عمر بن قایماز فی یوم الخمیس رابع عشرة، و خلع علی الأمیر محمود قباء بطرز ذهب، و استقرّ علی أمرته، ثم صرف ابن قایماز عن الأستاداریة و أعید محمود فی یوم الاثنین خامس عشر رمضان، و أنعم علی ابن قایماز بإمرة طلبخاناه، فجدّد بثغر الإسکندریة دار ضرب عمل فیها فلوس ناقصة الوزن، و من حینئذ اختل حال الفلوس بدیار مصر. ثم لما خرج الملک الظاهر إلی البلاد الشامیة فی سنة ست و تسعین، سار فی رکابه، ثم حضر إلی القاهرة فی یوم الأربعاء سابع صفر سنة سبع و تسعین و سبعمائة قبل حضور السلطان، و کان دخوله یوما مشهودا، فلما عاد السلطان إلی قلعة الجبل حدث منه تغیر علی الأمیر محمود فی یوم السبت ثالث عشری ربیع الأوّل، و همّ بالإیقاع به، فلما صار إلی داره بعث إلیه الأمیر علاء الدین علیّ بن الطبلاویّ یطلب منه خمسمائة ألف دینار، و إن توقف یحیط به و یضربه بالمقارع، فنزل إلیه و قرّر الحال علی مائة و خمسین ألف دینار، فطلع علی العادة إلی القلعة فی یوم الاثنین خامس عشریه، فسبه الممالیک السلطانیة و رجموه، ثم إن السلطان غضب علیه و ضربه فی یوم الاثنین ثالث ربیع الآخر بسبب تأخر النفقة، و أخذ أمره ینحل، فولی السلطان الأمیر صلاح الدین محمد ابن الأمیر ناصر الدین محمد بن الأمیر تنکز أستاداریة الأملاک السلطانیة، فی یوم الاثنین خامس رجب، و ولی علاء الدین علیّ بن الطبلاویّ فی رمضان التحدّث فی دار الضرب بالقاهرة و الإسکندریة، و التحدّث فی المتجر السلطانیّ، فوقع بینه و بین الأمیر محمود کلام کثیر و رافعه ابن الطبلاویّ بحضرة السلطان، و خرّج علیه من دار الضرب ستة آلاف درهم فضة، فألزم السلطان محمودا بحمل مائة و خمسین ألف دینار، فحملها و خلع علیه عند تکمیله حملها فی یوم الأحد تاسع عشری رمضان، و خلع أیضا علی ولده الأمیر ناصر الدین، و علی کاتبه سعد الدین إبراهیم بن غراب الإسکندرانیّ، و علی الأمیر علاء الدین علیّ بن الطبلاویّ، ثم إن محمود أوعک بدنه فنزل إلیه السلطان فی یوم الاثنین ثالث عشر ذی القعدة یعوده، فقدّم له عدّة تقادم قبل بعضها و ردّ بعضها، و تحدّث الناس أنه استقلها. فلما کان یوم السبت سادس صفر سنة ثمان و تسعین بعث السلطان إلی الأمیر محمود الطواشی شاهین الحسنی فأخذ زوجتیه و کاتبه سعد الدین إبراهیم بن غراب، و أخذ مالا و قماشا علی حمالین و صار بهما إلی القلعة، هذا و محمود مریض لازم الفراش، ثم عاد من یومه و أخذ الأمیر ناصر الدین محمد بن محمود و حمله إلی القلعة، ثم نزل ابن غراب و معه الأمیر الی بای الخازندار فی یوم الأحد سابعه، و أخذا من ذخیرة بدار محمود خمسین ألف دینار، و فی یوم الخمیس حادی عشرة صرف محمود عن الأستاداریة و استقرّ عوضه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 253
الأمیر سیف الدین قطلوبک العلائیّ أستادار الأمیر الکبیر ایتمش، و قرّر سعد الدین بن غراب ناظر الدیوان المفرد، فاجتمع مع ابن الطبلاویّ علی عداوة محمود و السعی فی إهلاکه، و سلّم ابن محمود إلی ابن الطبلاویّ فی تاسع عشر ربیع الأوّل لیستخلص منه مائة ألف دینار، و نزل الطواشی صندل المنجکیّ، و الطواشی شاهین الحسنیّ فی ثالث عشریة، و معهما ابن الطبلاویّ، فأخذا من خربة خلف مدرسة محمود زیرین کبیرین و خمسة أزیار صغارا وجد فیها ألف ألف درهم فضة، فحملت إلی القلعة، و وجد أیضا بهذه الخربة جرّتان فی إحداهما ستة آلاف دینار و فی الأخری أربعة آلاف درهم فضة و خمسمائة درهم، و قبض علی مباشری محمود و مباشری ولده، و عوقب محمود، ثم أوقعت الحوطة علی موجود محمود فی یوم الخمیس سابع جمادی الأولی، و رسم علیه ابن الطبلاویّ فی داره، و أخذ ممالیکه و أتباعه، و لم یدع عنده غیر ثلاث ممالیک صغار، و ظهرت أموال محمود شیئا بعد شی‌ء، ثم سلّم إلی الأمیر فرج شادّ الدواوین فی خامس جمادی الآخرة فنقله إلی داره و عاقبه و عصره فی لیلته، ثم نقل فی شعبان إلی دار ابن الطبلاویّ فضربه و سعطه و عصره، فلم یعترف بشی‌ء، و حکی عنه أنه قال لو عرفت أنی أعاقب ما اعترفت بشی‌ء من المال، و ظهر منه فی هذه المحنة ثبات و جلد و صبر مع قوّة نفس و عدم خضوع، حتی أنه کان یسب ابن الطبلاویّ إذا دخل إلیه و لا یرفع له قدرا، ثم إن السلطان استدعاه إلی ما بین یدیه یوم السبت أوّل صفر سنة تسع و تسعین، و حضر سعد الدین بن غراب فشافهه بکل سوء و رافعه فی وجهه حتی استغضب السلطان علی محمود، و أمر بمعاقبته حتی یموت، فأنزل إلی بیت الأمیر حسام الدین حسین ابن أخت الفرس شادّ الدواوین، و کان أستادار محمود، فلم یزل عنده فی العقوبة إلی أن نقل من داره إلی خزانة شمائل فی لیلة الجمعة ثالث جمادی الأولی و هو مریض، فمات بها فی لیلة الأحد تاسع رجب سنة تسع و تسعین و سبعمائة، و دفن من الغد بمدرسته و قد أناف علی الستین سنة، و کان کثیر الصلاة و العبادة مواظبا علی قیام اللیل، إلّا أنه کان شحیحا مسیکا شرها فی الأموال، رمی الناس منه فی رمایة البضائع بداوه إذا نسبت إلی ما حدث من بعده، کانت عافیة و نعمة، و أکثر من ضرب الفلوس بدیار مصر حتی فسد بکثرتها حال إقلیم مصر، و کان جملة ما حمل من ماله بعد نکبته هذه مائة قنطار ذهبا و أربعین قنطارا، عنها ألف ألف دینار و أربعمائة ألف دینار عینا، و ألف ألف درهم فضة، و أخذ له من البضائع و الغلال و القنود و الأعسال ما قیمته ألف ألف درهم و أکثر.

المدرسة المهذبیة

هذه المدرسة بحارة حلب خارج القاهرة عند حمام قماریّ، بناها الحکیم مهذب الدین محمد بن أبی الوحش المعروف بابن أبی حلیقة، تصغیر حلقة، رئیس الأطباء بدیار مصر، ولی ریاسة الأطباء فی حادی عشر رمضان سنة أربع و ثمانین و ستمائة، و استقرّ مدرّس الطب بالمارستان المنصوریّ.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 254

المدرسة السعدیة

هذه المدرسة خارج القاهرة بقرب حدرة البقر علی الشارع المسلوک فیه من حوض ابن هنس إلی الصلیبة، و هی فیما بین قلعة الجبل و برکة الفیل، کان موضعها یعرف بخط بستان سیف الإسلام، و هی الآن فی ظهر بیت قوصون المقابل لباب السلسلة من قلعة الجبل، بناها الأمیر شمس الدین سنقر السعدیّ نقیب الممالیک السلطانیة، فی سنة خمس عشرة و سبعمائة، و بنی بها أیضا رباطا للنساء، و کان شدید الرغبة فی العمائر محبا للزراعة، کثیر المال ظاهر الغنی، و هو الذی عمر القریة التی تعرف الیوم بالنحریریة من أعمال الغربیة، و کان إقطاعه، ثم إنه أخرج من مصر بسبب نزاع وقع بینه و بین الأمیر قوصون فی أرض أخذها منه، فسار إلی طرابلس و بها مات فی سنة ثمان و عشرین و سبعمائة.

المدرسة الطفجیة

هذه المدرسة بخط حدرة البقر أیضا، أنشأها الأمیر سیف الدین طفجی الأشرفیّ، و لها وقف جید.
طفجی: الأمیر سیف الدین، کان من جملة ممالیک الملک الأشرف خلیل بن قلاون، ترقّی فی خدمته حتی صار من جملة أمراء دیار مصر، فلما قتل الملک الأشرف قام طفجی فی الممالیک الأشرفیة و حارب الأمیر بیدرا المتولی لقتل الأشرف حتی أخذه و قتله، فلما أقیم الملک الناصر محمد بن قلاون فی المملکة بعد قتل بیدرا، صار طفجی من أکابر الأمراء، و استمرّ علی ذلک بعد خلع الملک الناصر بکتبغا مدّة أیامه إلی أن خلع الملک العادل کتبغا و قام فی سلطنة مصر الملک المنصور لاجین، و ولی مملوکه الأمیر سیف الدین منکوتمر نیابة السلطنة بدیار مصر، فأخذ یواحش أمراء الدولة بسوء تصرّفه، و اتفق أن طفجی حج فی سنة سبع و تسعین و ستمائة، فقرّر منکوتمر مع المنصور أنه إذا قدم من الحج یخرجه إلی طرابلس و یقبض علی أخیه الأمیر سیف الدین کرجی، فعندما قدم طفجی من الحجاز فی صفر سنة ثمان و تسعین و ستمائة، رسم له بنیابة طرابلس، فثقل علیه ذلک و سعی بإخوته الأشرفیة حتی أعفاه السلطان من السفر، فسخط منکوتمر و أبی الإسفر طفجی و بعث إلیه یلزمه بالسفر، و کان لاجین منقادا لمنکوتمر لا یخالفه فی شی‌ء، فتواعد طفجی و کرجی مع جماعة من الممالیک و قتلوا لاجین، و تولی قتله کرجی، و خرج فإذا طفجی فی انتظاره علی باب القلة من قلعة الجبل، فسرّ بذلک و أمر بإحضار من بالقلعة من الأمراء، و کانوا حینئذ یبیتون بالقلعة دائما، و قتل منکوتمر فی تلک اللیلة و عزم علی أنه یتسلطن و یقیم کرجی فی نیابة السلطنة، فخذله الأمراء. و کان الأمیر بدر الدین بکتاش الفخریّ أمیر سلاح قد خرج فی غزاة و قرب حضوره، فاستمهلوه بما یرید إلی أن یحضر، فأخر سلطنته و بقی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 255
الأمراء فی کل یوم یحضرون معه فی باب القلة، و یجلس فی مجلس النیابة و الأمراء عن یمینه و شماله، و یمدّ سماط السلطان بین یدیه، فلما حضر أمیر سلاح بمن معه من الأمراء، نزل طفجی و الأمراء إلی لقائهم بعد ما امتنع امتناعا کثیرا، و ترک کرجی یحفظ القلعة بمن معه من الممالیک الأشرفیة، و قد نوی طفجی الشرّ للأمراء الذین قد خرج إلی لقائهم، و عرف ذلک الأمراء المقیمون عنده فی القلعة، فاستعدّوا له. و سار هو و الأمراء إلی أن لقوا الأمیر بکتاش و معه من الأشرفیة أربعمائة فارس تحفظه حتی یعود من اللقاء إلی القلعة، فعندما وافاه بقبة النصر و تعانقا أعلمه بقتل السلطان، فشقّ علیه، و للوقت جرّد الأمراء سیوفهم و ارتفعت الضجة، فساق طفجی من الحلقة و الأمراء وراءه إلی أن أدرکه قراقوش الظاهریّ و ضربه بسیف ألقاه عن فرسه إلی الأرض میتا، ففرّ کرجی، ثم أخذ و قتل و حمل طفجی فی مزبلة من مزابل الحمّامات علی حمار إلی مدرسته هذه فدفن بها، و قبره هناک إلی الیوم.
و کان قتله فی یوم الخمیس سادس عشر ربیع الأوّل سنة ثمان و تسعین و ستمائة، بعد خمسة أیام من قتل لاجین و منکوتمر.

المدرسة الجاولیة

هذه المدرسة بجوار الکبش، فیما بین القاهرة و مصر، أنشأها الأمیر علم الدین سنجر الجاولیّ فی سنة ثلاث و عشرین و سبعمائة، و عمل بها درسا و صوفیة، و لها إلی هذه الأیام عدّة أوقاف.
سنجر بن عبد اللّه الأمیر علم الدین الجاولیّ، کان مملوک جاولی أحد أمراء الملک الظاهر بیبرس، و انتقل بعد موت الأمیر جاولی إلی بیت قلاون، و خرج فی أیام الأشرف خلیل بن قلاون إلی الکرک، و استقرّ فی جملة البحریة بها إلی أیام العادل کتبغا، فحضر من عند نائب الکرک و معه حوائجخاناه، فرفعه کتبغا و أقامه علی الخوشخاناه السلطانیة، و صحب الأمیر سلار و واخاه فتقدّم فی الخدمة، و بقی أستادارا صغیرا فی أیام بیبرس و سلار، فصار یدخل علی السلطان الملک الناصر و یخرج و یراعی مصالحه فی أمر الطعام و یتقرّب إلیه، فلما حضر من الکرک جهزه إلی غزة نائبا فی جمادی الأولی سنة إحدی عشرة و سبعمائة، عوضا عن الأمیر سیف الدین قطلوا أقتمر عبد الخالق بعد إمساکه، و أضاف إلیه مع غزة الساحل و القدس و بلد الخلیل و جبل نابلس، و أعطاه إقطاعا کبیرا بحیث کان للواحد من ممالیکه إقطاع یعمل عشرین ألفا و خمسة و عشرین ألفا، و عمل نیابة غزة علی القالب الجائر إلی أن وقعت بینه و بین الأمیر تنکز نائب الشام بسبب دار کانت له تجاه جامع تنکز خارج دمشق من شمالها، أراد تنکز أن یبتاعها منه فأبی علیه، فکتب فیه إلی الملک الناصر محمد بن قلاون فأمسکه فی ثامن عشری شعبان سنة عشرین و سبعمائة، و اعتقله نحوا من ثمان سنین، ثم أفرج عنه فی سنة تسع و عشرین، و أعطاه أمرة أربعین، ثم بعد مدّة أعطاه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 256
أمرة مائة و قدّمه علی ألف و جعله من أمراء المشورة، فلم یزل علی هذا إلی أن مات الملک الناصر، فتولی غسله و دفنه. فلما ولی الملک الصالح إسماعیل بن محمد بن قلاون سلطنة مصر أخرجه إلی نیابة حماه، فأقام بها مدّة ثلاثة أشهر ثم نقله إلی نیابة غزة، فحضر إلیها و أقام بها نحو ثلاثة أشهر أیضا، ثم أحضره إلی القاهرة و قرّره علی ما کان علیه، و ولی نظر المارستان بعد نائب الکرک عند ما أخرج إلی نیابة طرابلس، ثم توجه لحصار الناصر أحمد بن محمد بن قلاون و هو ممتنع فی الکرک، فأشرف علیه فی بعض الأیام الناصر أحمد من قلعة الکرک و سبه و شیخه، فقال له الجاولیّ: نعم أنا شیخ نحس، و لکن الساعة تری حالک مع الشیخ النحس، و نقل المنجنیق إلی مکان یعرفه و رمی به فلم یخطئ القلعة و هدم منها جانبا، و طلع بالعسکر و أمسک أحمد و ذبحه صبرا. و بعث برأسه إلی الصالح إسماعیل، و عاد إلی مصر فلم یزل علی حاله إلی أن مات فی منزله بالکبش یوم الخمیس تاسع رمضان سنة خمس و أربعین و سبعمائة، و دفن بمدرسته، و کانت جنازته حافلة إلی الغایة.
قد سمع الحدیث و روی و صنف شرحا کبیرا علی مسند الشافعیّ رحمه اللّه، و أفتی فی آخر عمره علی مذهب الشافعیّ، و کتب خطه علی فتاوی عدیدة، و کان خبیرا بالأمور، عارفا بسیاسة الملک، کفوا لما ولیه من النیابات و غیرها، لا یزال یذکر أصحابه فی غیبتهم عنه و یکرمهم إذا حضروا عنده، و انتفع به جماعة من الکتاب و العلماء و الأکابر، و له من الآثار الجمیلة الفاضلة جامع بمدینة غزة فی غایة الحسن، و له بها أیضا حمّام ملیح، و مدرسة للفقهاء الشافعیة، و خان للسبیل، و هو الذی مدّن غزة و بنی بها أیضا مارستانا، و وقف علیه عن الملک الناصر أوقافا جلیلة، و جعل نظره لنواب غزة و عمر بها أیضا المیدان و القصر، و بنی ببلد الخلیل علیه السّلام جامعا سقفه منه حجر نقر، و عمل الخان العظیم بقاقون، و الخان بقریة الکثیب، و القناطر بغابة أرسوف، و خان رسلان فی حمراء بیسان، و دارا بالقرب من باب النصر داخل القاهرة، و دارا بجوار مدرسته علی الکبش، و سائر عمائره ظریفة أنیقة محکمة متقنة ملیحة، و کان ینتمی إلی الأمیر سلار و یجل ذکره.

المدرسة الفارقانیة

هذه المدرسة خارج باب زویلة من القاهرة، فیما بین حدرة البقر و صلیبة جامع ابن طولون، و هی الآن بجوار حمّام الفارقانیّ تجاه البندقداریة، بناها و الحمام المجاور لها الأمیر رکن الدین بیبرس الفارقانیّ، و هو غیر الفارقانیّ المنسوب إلیه المدرسة الفارقانیة بحارة الوزیریة من القاهرة.

المدرسة البشیریة

هذه المدرسة خارج القاهرة بحکر الخازن المطل علی برکة الفیل، کان موضعها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 257
مسجدا یعرف بمسجد سنقر السعدیّ الذی بنی المدرسة السعدیة، فهدمه الأمیر الطواشی سعد الدین بشیر الجمدار الناصریّ، و بنی موضعه هذه المدرسة فی سنة إحدی و ستین و سبعمائة، و جعل بها خزانة کتب، و هی من المدارس اللطیفة.

المدرسة المهمنداریة

هذه المدرسة خارج باب زویلة فیما بین جامع الصالح و قلعة الجبل، یعرف خطها الیوم بخط جامع الماردانیّ خارج الدرب الأحمر، و هی تجاه مصلّی الأموات علی یمنة من سلک من الدرب الأحمر طالبا جامع الماردانیّ، و لها باب آخر فی حارة الیانسیة بناها الأمیر شهاب الدین أحمد بن أقوش العزیزیّ المهمندار، و نقیب الجیوش فی سنة خمس و عشرین و سبعمائة، و جعلها مدرسة و خانقاه، و جعل طلبة درسها من الفقهاء الحنفیة، و بنی إلی جانبها القیساریة و الربع الموجودین الآن.

مدرسة ألجای

هذه المدرسة خارج باب زویلة بالقرب من قلعة الجبل، کان موضعها و ما حولها مقبرة، و یعرف الآن خطها بخط سویقة العزی، أنشأها الأمیر الکبیر سیف الدین الجای فی سنة ثمان و ستین و سبعمائة، و جعل بها درسا للفقهاء الشافعیة، و درسا للفقهاء الحنفیة، و خزانة کتب، و أقام بها منبرا یخطب علیه یوم الجمعة، و هی من المدارس المعتبرة الجلیلة، و درّس بها شیخنا جلال الدین البنانیّ الحنفیّ، و کانت سکنه.
ألجای بن عبد اللّه الیوسفیّ الأمیر سیف الدین، تنقل فی الخدم حتی صار من جملة الأمراء بدیار مصر، فلما أقام الأمیر الأستدمر الناصریّ بأمر الدولة بعد قتل الأمیر یلبغا الخاصکی العمریّ، فی شوّال سنة ثمان و ستین و سبعمائة، قبض علی الجای فی عدّة من الأمراء و قیدهم و بعث بهم إلی الإسکندریة، فسجنوا إلی عاشر صفر سنة تسع و ستین، فأفرج الملک الأشرف شعبان بن حسین عنه و أعطاه أمرة مائة، و تقدمة ألف، و جعله أمیر سلاح برّانی، ثم جعله أمیر سلاح أتابک العساکر، و ناظر المارستان المنصوریّ عوضا عن الأمیر منکلی بغا الشمسیّ، فی سنة أربع و سبعین و سبعمائة، و تزوّج بخوند برکة أم السلطان الملک الأشرف، فعظم قدره و اشتهر ذکره، و تحکم فی الدولة تحکما زائدا إلی یوم الثلاثاء سادس المحرّم سنة خمس و سبعین و سبعمائة، فرکب یرید محاربة السلطان بسبب طلبه میراث أمّ السلطان بعد موتها، فرکب السلطان و أمراؤه و بات الفریقان لیلة الأربعاء علی الاستعداد للقتال إلی بکرة نهار الأربعاء تواقع الجای مع أمراء السلطان إحدی عشرة وقعة انکسر فی آخرها الجای و فرّ إلی جهة برکة الحبش، و صعد من الجبل من عند الجبل الأحمر إلی قبة النصر و وقف هناک، فاشتدّ علی السلطان فبعث إلیه خلعة بنیابة حماه، فقال لا أتوجه إلّا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 258
و معی ممالیکی کلهم و جمیع أموالی، فلم یوافقه السلطان علی ذلک، و بات الفریقان علی الحرب، فانسلّ أکثر ممالیک الجای فی اللیل إلی السلطان، و عند ما طلع النهار یوم الخمیس بعث السلطان عساکره لمحاربة الجای بقبة النصر، فلم یقاتلهم و ولی منهزما و الطلب وراءه إلی ناحیة الخرقانیة بشاطئ النیل، قریبا من قلیوب، فتحیر و قد أدرکه العسکر، فألقی نفسه بفرسه فی البحر یرید النجاة إلی البرّ الغربیّ فغرق بفرسه. ثم خلص الفرس و هلک الجای، فوقع النداء بالقاهرة و ظواهرها علی إحضار ممالیکه، فأمسک منهم جماعة و بعث السلطان الغطاسین إلی البحر تتطلبه فتبعوه حتی أخرجوه إلی البرّ فی یوم الجمعة تاسع المحرّم سنة خمس و سبعین و سبعمائة، فحمل فی تابوت علی لباد أحمر إلی مدرسته هذه و غسل و کفن و دفن بها، و کان مهابا جبارا عسوفا عتیا، تحدّث فی الأوقاف فشدّد علی الفقهاء و أهان جماعة منهم، و کان معروفا بالإقدام و الشجاعة.

مدرسة أمّ السلطان

هذه المدرسة خارج باب زویلة بالقرب من قلعة الجبل، یعرف خطها الآن بالتبانة، و موضعها کان قدیما مقبرة لأهل القاهرة، أنشأتها الست الجلیلة الکبری برکة أمّ السلطان الملک الأشرف شعبان بن حسین فی سنة إحدی و سبعین و سبعمائة، و عملت بها درسا للشافعیة، و درسا للحنفیة، و علی بابها حوض ماء للسبیل. و هی من المدارس الجلیلة، و فیها دفن ابنها الملک الأشرف بعد قتله.
برکة: الست الجلیلة خوند أمّ الملک الأشرف شعبان بن حسین، کانت أمة مولدة، فلما أقیم ابنها فی مملکة مصر عظم شأنها و حجت فی سنة سبعین و سبعمائة بتجمل کثیر و برج زائد، و علی محفتها العصائب السلطانیة و الکؤسات تدق معها، و سار فی خدمتها من الأمراء المقدّمین: بشتاک العمریّ رأس نوبة، و بهادر الجمالیّ، و مائة مملوک من الممالیک السلطانیة أرباب الوظائف، و من جملة ما کان معها قطار جمال محملة محائر قد زرع فیها البقل و الخضراوات إلی غیر ذلک مما یجل وصفه، فلما عادت فی سنة إحدی و سبعین و سبعمائة خرج السلطان بعساکره إلی لقائها، و سار إلی البویب فی سادس عشر المحرّم، و تزوّجت بالأمیر الکبیر الجای الیوسفیّ، و بها طال و استطال، ماتت فی ثامن عشر ذی القعدة سنة أربع و سبعین و سبعمائة، و کانت خیرة عفیفة لها برّ کثیر و معروف معروف، تحدّث الناس بحجتها عدّة سنین لما کان لها من الأفعال الجمیلة فی تلک المشاهد الکریمة، و کان لها اعتقاد فی أهل الخیر و محبة فی الصالحین، و قبرها موجود بقبة هذه المدرسة، و أسف السلطان علی فقدها، و وجد وجدا کبیرا لکثرة حبه لها، و اتفق أنها لما ماتت أنشد الأدیب شهاب الدین أحمد بن یحیی الأعرج السعدی:
فی ثامن العشرین من ذی قعدةکانت صبیحة موت أمّ الأشرف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 259 فاللّه یرحمها و یعظم أجره‌و یکون فی عاشور موت الیوسفیّ
فکان کما قال؛ و غرق الجای الیوسفیّ کما تقدّم ذکره فی یوم عاشوراء.

المدرسة الأیتمشیة

هذه المدرسة خارج القاهرة داخل باب الوزیر تحت قلعة الجبل برأس التبانة، أنشأها الأمیر الکبیر سیف الدین ایتمش البجاسیّ، ثم الظاهریّ فی سنة خمس و ثمانین و سبعمائة، و جعل بها درس فقه للحنفیة، و بنی بجانبها فندقا کبیرا یعلوه ربع، و من ورائها خارج باب الوزیر حوض ماء للسبیل و ربعا، و هی مدرسة ظریفة.
ایتمش بن عبد اللّه الأمیر الکبیر سیف الدین البجاسیّ ثم الظاهریّ، کان أحد الممالیک الیلبغاویة.

المدرسة المجدیة الخلیلیة

هذه المدرسة بمصر، یعرف موضعها بدرب البلاد، عمرها الشیخ الإمام مجد الدین أبو محمد عبد العزیز بن الشیخ الإمام أمین الدین أبی علیّ الحسین بن الحسن بن إبراهیم الخلیلیّ الداریّ، فتمت فی شهر ذی الحجة سنة ثلاث و ستین و ستمائة، و قرّر فیها مدرّسا شافعیا و معیدین و عشرین نفرا طلبة، و إماما راتبا، و مؤذنا، و قیما لکنسها و فرشها و وقود مصابیحها. و إدارة ساقیتها، و أجری الماء إلی فسقیتها، و وقف علیها غیطا بناحیة بارنبار من أعمال المزاحمیتین، و بستانا بمحلة الأمیر من المزاحمیتین بالغربیة، و غیطا بناحیة نطوبس، و ربع غیط بظاهر ثغر رشید، و بستانا و نصف بستان بناحیة بلقس، و رباعا بمدینة مصر.
و مجد الدین هذا هو والد الصاحب الوزیر فخر الدین عمر بن الخلیلیّ، و درّس بهذه المدرسة الصاحب فخر الدین إلی حین وفاته، و توفی مجد الدین بدمشق فی ثالث عشر ربیع الآخر سنة ثمانین و ستمائة، و کان مشهورا بالصلاح.

المدرسة الناصریة بالقرافة

هذه المدرسة بجوار قبة الإمام محمد بن إدریس الشافعیّ رضی اللّه عنه من قرافة مصر، أنشأها السلطان الملک الناصر صلاح الدین یوسف بن أیوب، و رتب بها مدرّسا یدرّس الفقه علی مذهب الشافعیّ، و جعل له فی کل شهر من المعلوم عن التدریس أربعین دینارا، معاملة صرف کل دینار ثلاثة عشر درهما و ثلث درهم، و عن معلوم النظر فی أوقاف المدرسة عشرة دنانیر، و رتب له من الخبز فی کل یوم ستین رطلا بالمصریّ، و راویتین من ماء النیل، و جعل فیها معیدین و عدّة من الطلبة، و وقف علیها حمّاما بجوارها، و فرنا تجاهها، و حوانیت بظاهرها، و الجزیرة التی یقال لها جزیرة الفیل ببحر النیل خارج القاهرة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 260
و ولی تدریسها جماعة من الأکابر الأعیان، ثم خلت من مدرّس ثلاثین سنة، و اکتفی فیها بالمعیدین و هم عشرة أنفس، فلما کانت سنة ثمان و سبعین و ستمائة ولی تدریسها قاضی القضاة تقیّ الدین محمد بن رزین الحمویّ بعد عزله من وظیفة القضاء، و قرّر له نصف المعلوم. فلما مات ولیها الشیخ تقیّ الدین بن دقیق العید بربع المعلوم، فلما ولی الصاحب برهان الدین الخضر السنجاریّ التدریس قرّر له المعلوم الشاهد به کتاب الوقف.

المدرسة المسلمیة

هذه المدرسة بمدینة مصر فی خط السیوریین، أنشأها کبیر التجار ناصر الدین محمد بن مسلّم- بضم المیم و فتح السین المهملة و تشدید اللام- البالسیّ الأصل ابن بنت کبیر التجار شمس الدین محمد بن بسیر- بفتح الباء أوّل الحروف و کسر السین المهملة ثم یاء آخر الحروف بعدها راء- و مات فی سنة ست و سبعین و سبعمائة، قبل أن تتمّ. فوصی بتکملتها و أفرد لها مالا و وقف علیها دورا و أرضا بناحیة قلیوب، و شرط أن یکون فیها مدرس مالکیّ و مدرّس شافعیّ و مؤدّب أطفال و غیر ذلک، فکملها مولاه و وصیه الکبیر کافور الخصیّ الرومیّ بعد وفاة استاذه، و هی الآن عامرة، و بلغ ابن مسلَّم هذا من وفور المال و عظم السعادة ما لم یبلغه أحد ممن أدرکناه، بحیث أنه جاء نصیب أحد أولاده نحو مائتی ألف دینار مصریة، و کان کثیر الصدقات علی الفقراء، مقترا علی نفسه إلی الغایة، و له أیضا مطهرة عظیمة بالقرب من جامع عمرو بن العاص، و نفعها کبیر، و له أیضا دار جلیلة علی ساحل النیل بمصر، و کان أبوه تاجرا سفارا بعد ما کان حمالا، فصاهر ابن بسیر و رزق محمدا هذا من ابنته، فنشأ علی صیانة و رزق الحظ الوافر فی التجارة و فی العبید، فکان یبعث أحدهم بمال عظیم إلی الهند، و یبعث آخر بمثل ذلک إلی بلاد التکرور ، و یبعث آخر إلی بلاد الحبشة، و یبعث عدّة آخرین إلی عدّة جهات من الأرض، فما منهم من یعود إلّا و قد تضاعفت فوائد ماله أضعافا مضاعفة.

مدرسة اینال

هذه المدرسة خارج باب زویلة بالقرب من باب حارة الهلالیة بخط القماحین، کان موضعها فی القدیم من حقوق حارة المنصورة، أوصی بعمارتها الأمیر الکبیر سیف الدین اینال الیوسفیّ، أحد الممالیک الیلبغاویة. فابتدأ بعملها فی سنة أربع و تسعین، و فرغت فی سنة خمس و تسعین و سبعمائة، و لم یعمل فیها سوی قرّاء یتناوبون قراءة القرآن علی قبره، فإنه لما مات فی یوم الأربعاء رابع عشر جمادی الآخرة سنة أربع و تسعین و سبعمائة دفن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 261
خارج باب النصر حتی انتهت عمارة هذه المدرسة، فنقل إلیها و دفن فیها.
و إینال هذا ولی نیابة حلب و صار فی آخر عمره أتابک العساکر بدیار مصر حتی مات، و کانت جنازته کثیرة الجمع مشی فیها السلطان الملک الظاهر برقوق و العساکر.

مدرسة الأمیر جمال الدین الأستادار

هذه المدرسة برحبة باب العید من القاهرة، کان موضعها قیساریة یعلوها طباق کلها وقف، فأخذها و هدمها و ابتدأ بشق الأساس فی یوم السبت خامس جمادی الأولی سنة عشر و ثمانمائة، و جمع لها الآلات من الأحجار و الأخشاب و الرخام و غیر ذلک، و کان بمدرسة الملک الأشرف شعبان بن حسین بن محمد بن قلاون التی کانت بالصوة تجاه الطبلخاناه من قلعة الجبل، بقیة من داخلها، فیها شبابیک من نحاس مکفت بالذهب و الفضة و أبواب مصفحة بالنحاس البدیع الصنعة المکفت، و من المصاحف و الکتب فی الحدیث و الفقه و غیره من أنواع العلوم جملة، فاشتری ذلک من الملک الصالح المنصور حاجی بن الأشرف بمبلغ ستمائة دینار، و کانت قیمتها عشرات أمثال ذلک، و نقلها إلی داره. و کان مما فیها عشرة مصاحف طول کل مصحف منها أربعة أشبار إلی خمسة فی عرض یقرب من ذلک، أحدها بخط یاقوت، و آخر بخط ابن البوّاب، و باقیها بخطوط منسوبة، و لها جلود فی غایة الحسن معمولة فی أکیاس الحریر الأطلس، و من الکتب النفیسة عشرة أحمال جمیعها مکتوب فی أوّله الإشهاد علی الملک الأشرف بوقف ذلک، و مقرّه فی مدرسته.
فلما کان یوم الخمیس ثالث شهر رجب سنة إحدی عشرة و ثمانمائة و قد انتهت عمارتها، جمع بها الأمیر جمال الدین القضاة و الأعیان، و أجلس الشیخ همام الدین محمد بن أحمد الخوارزمیّ الشافعیّ علی سجادة المشیخة و عمله شیخ التصوّف، و مدرّس الشافعیة، و مدّ سماطا جلیلا أکل علیه کلّ من حضر، و ملأ البرکة التی توسط المدرسة ماء قد أذیب فیه سکر مزج بماء اللیمون، و کان یوما مشهودا، و قرّ فی تدریس الحنفیة بدر الدین محمود بن محمد المعروف بالشیخ زاده الخرزیانیّ، و فی تدریس المالکیة شمس الدین محمد بن البساطیّ، و فی تدریس الحنابلة فتح الدین أبا الفتح محمد بن نجم الدین محمد بن الباهلیّ، و فی تدریس الحدیث النبویّ شهاب الدین أحمد بن علیّ بن حجر، و فی تدریس التفسیر شیخ الإسلام قاضی القضاة جلال الدین عبد الرحمن بن البلقینیّ. فکان یجلس من ذکرنا واحدا بعد واحد فی کل یوم إلی أن کان آخرهم شیخ التفسیر، و کان مسک الختام، و ما منهم إلّا من یحضر معه و یلبسه ما یلیق به من الملابس الفاخرة، و قرّر عند کلّ من المدرّسین الستة طائفة من الطلبة، و أجری لکل واحد ثلاثة أرطال من الخبز فی کل یوم، و ثلاثین درهما فلوسا فی کل شهر، و جعل لکل مدرّس ثلاثمائة درهم فی کل شهر، و رتب بها إماما وقومة و مؤذنین و فرّاشین و مباشرین، و أکثر من وقف الدور علیها، و جعل فائض
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 262
وقفها مصروفا لذریته، فجاءت فی أحسن هندام و أتم قالب و أفخر زیّ و أبدع نظام، إلّا أنها و ما فیها من الآلات و ما وقف علیها أخذ من الناس غصبا، و عمل فیها الصناع بأبخس أجرة مع العسف الشدید.
فلما قبض علیه السلطان و قتله فی جمادی الأولی سنة اثنتی عشرة و ثمانمائة، و استولی علی أمواله، حسّن جماعة للسلطان أن یهدم هذه المدرسة و رغبوه فی رخامها، فإنه غایة فی الحسن، و أن یسترجع أوقافها، فإن متحصلها کثیر. فمال إلی ذلک و عزم علیه. فکرّه ذلک للسلطان الرئیس فتح الدین فتح اللّه کاتب السرّ، و استشنع أن یهدم بیت بنی علی اسم اللّه یعلن فیه بالأذان خمس مرّات فی الیوم و اللیلة، و تقام به الصلوات الخمس فی جماعة عدیدة، و یحضره فی عصر کل یوم مائة و بضعة عشر رجلا یقرءون القرآن فی وقت التصوّف، و یذکرون اللّه و یدعونه، و تتحلق به الفقهاء لدرس تفسیر القرآن الکریم و تفسیر حدیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و فقه الأئمة الأربعة، و یعلّم فیه أیتام المسلمین کتاب اللّه عز و جلّ، و یجری علی هؤلاء المذکورین الأرزاق فی کل یوم، و من المال فی کل شهر، و رأی أن إزالة مثل هذا وصمة فی الدین، فتجرّد له و ما زال بالسلطان یرغّبه فی إبقائها علی أن یزال منها اسم جمال الدین و تنسب إلیه، فإنه من الفتن هدم مثلها. و نحو ذلک، حتّی رجع إلی قوله و فوّض أمرها إلیه، فدبر ذلک أحسن تدبیر.
و هو أنّ موضع هذه المدرسة کان وقفا علی بعض الترب، فاستبدل به جمال الدین أرضا من جملة أراضی الخراج بالجیزة، و حکم له قاضی القضاة کمال الدین عمر بن العدیم بصحة الاستبدال، و هدم البناء و بنی موضعه هذه المدرسة، و تسلّم متولی موضعها الأرض المستبدل بها، إلی أن قتل جمال الدین و أحیط بأمواله، فدخل فیما أحیط به هذه الأرض المستبدل بها، و ادّعی السلطان أن جمال الدین افتأت علیه فی أخذ هذه الأرض، و أنه لم یأذن فی بیعها من بیت المال، فأفتی حینئذ محمد شمس الدین المدنیّ المالکیّ بأن بناء هذه المدرسة الذی وقفه جمال الدین علی الأرض التی لم یملکها بوجه صحیح لا یصح، و أنه باق علی ملکه إلی حین موته، فندب عند ذلک شهود القیمة إلی تقویم بناء المدرسة، فقوّموها باثنی عشر ألف دینار ذهبا، و أثبتوا محضر القیمة علی بعض القضاة، فحمل المبلغ إلی أولاد جمال الدین حتی تسلموه و باعوا بناء المدرسة للسلطان، ثم استردّ السلطان منهم المبلغ المذکور و أشهد علیه أنه وقف أرض هذه المدرسة بعد ما استبدل بها، و حکم حاکم حنفیّ بصحة الاستبدال، ثم وقف البناء الذی اشتراه و حکم بصحته أیضا، ثم استدعی بکتاب وقف جمال الدین و لخصه، ثم مزقه و جدّد کتاب وقف یتضمن جمیع ما قرّره جمال الدین فی کتاب وقفه من أرباب الوظائف و مالهم من الخبز فی کل یوم و من المعلوم فی کل شهر، و أبطل ما کان لأولاد جمال الدین من فائض الوقف، و أفرد لهذه المدرسة مما کان جمال الدین جعله وقفا علیها عدّة مواضع تقوم بکفایة مصروفها، و زاد فی أوقافها أرضا بالجیزة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 263
و جعل ما بقی من أوقاف جمال الدین علی هذه المدرسة، بعضه وقفا علی أولاده، و بعضه وقفا علی التربة التی أنشأها فی قبة أبیه الملک الظاهر برقوق خارج باب النصر، و حکم القضاة الأربعة بصحة هذا الکتاب بعد ما حکموا بصحة کتاب وقف جمال الدین، ثم حکموا ببطلانه، ثم لما تمّ ذلک محی من هذه المدرسة اسم جمال الدین ورنکه، و کتب اسم السلطان الملک الناصر فرج بدائر صحنها من أعلاه، و علی قنادیلها و بسطها و سقوفها، ثم نظر السلطان فی کتبها العلمیة الموقوفة بها فأقرّ منها جملة کتب بظاهر کل سفر منها فصل یتضمن وقف السلطان له، و حمل کثیر من کتبها إلی قلعة الجبل، و صارت هذه المدرسة تعرف بالناصریة بعد ما کان یقال لها الجمالیة.
و لم تزل علی ذلک حتی قتل الناصر و قدم الأمیر شیخ إلی القاهرة و استولی علی أمور الدولة، فتوصل شمس الدین محمد أخو جمال الدین و زوّج ابنته لشرف الدین أبی بکر بن العجمیّ موقع الأستادار الأمیر شیخ، حتی أحضر قضاة القضاة و حکم الصدر علیّ بن الأدمیّ قاضی القضاة الحنفیّ بردّ أوقاف جمال الدین إلی ورثته من غیر استیفاء الشروط فی الحکم بل تهوّر فیه و جازف. و لذلک أسباب منها: عنایة الأمیر شیخ بجمال الدین الأستادار، فإنه لما انتقل إلیه إقطاع الأمیر بحاس بعد موت الملک الظاهر برقوق، استقرّ جمال الدین استاداره کما کان أستادار بحاس، فخدمه خدمة بالغة، و خرج الأمیر شیخ إلی بلاد الشام و استقرّ فی نیابة طرابلس، ثم فی نیابة الشام، و خدمة جمال الدین له و لحاشیته و من یلوذ به مستمرّة، و أرسل مرّة الأمیر شیخ من دمشق بصدر الدین بن الأدمیّ المذکور فی الرسالة إلی الملک الناصر و جمال الدین حینئذ عزیز مصر، فأنزله و أکرمه و أنعم علیه و ولاه قضاء الحنفیة و کتابة السرّ بدمشق، و أعاده إلیه و ما زال معتنیا بأمور الأمیر شیخ، حتی أنه اتهم بأنه قد مالأه علی السلطان، فقبض علیه السلطان الملک الناصر بسبب ذلک و نکبه، فلما قتل الناصر و استولی الأمیر شیخ علی الأمور بدیار مصر، ولی قضاء الحنفیة بدیار مصر لصدر الدین علیّ بن الأدمیّ المذکور، و ولی أستاداره بدر الدین حسن بن محب الدین الطرابلسیّ أستادار السلطان، فخدم شرف الدین أبو بکر بن العجمیّ زوج ابنة أخی جمال الدین عنده موقعا، و تمکن منه فأغراه بفتح الدین فتح اللّه کاتب السرّ حتی أثخن جراحه عند الملک المؤید شیخ، و نکبه بعد ما تسلطن، و استعان أیضا بقاضی القضاة صدر الدین بن الأدمیّ، فإنه کان عشیره و صدیقه من أیام جمال الدین، ثم استمال ناصر الدین محمد بن البارزیّ موقع الأمیر الکبیر شیخ، فقام الثلاثة مع شمس الدین أخی جمال الدین حتی أعید إلی مشیخة خانکاه بیبرس و غیرها من الوظائف التی أخذت منه، عند ما قبض علیه الملک الناصر و عاقبه، و تحدّثوا مع الأمیر الکبیر فی ردّ أوقاف جمال الدین إلی أخیه و أولاده، فإن الناصر غصبها منهم و أخذ أموالهم و دیارهم بظلمه إلی أن فقدوا القوت، و نحو هذا من القول حتی حرّکوا منه حقدا کامنا علی الناصر، و علموا منه عصبته لجمال الدین هذا، و غرض القوم فی الباطن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 264
تأخیر فتح الدین و الإیقاع به، فإنه ثقل علیهم وجوده معهم، فأمر عند ذلک الأمیر الکبیر بعقد مجلس حضره قضاة القضاة و الأمراء و أهل الدولة عنده بالحراقة من باب السلسلة، فی یوم السبت تاسع عشری شهر رجب سنة خمس عشرة، و تقدّم أخو جمال الدین لیدّعی علی فتح الدین فتح اللّه کاتب السرّ، و کان قد علم بذلک و وکل بدر الدین حسنا البردینیّ أحد نوّاب الشافعیة فی سماع الدعوی و ردّ الأجوبة، فعند ما جلس البردینیّ للمحاکمة مع أخی جمال الدین، نهره الأمیر الکبیر و أقامه و أمر بأن یکون فتح اللّه هو الذی یدّعی علیه، فلم یجد بدّا من جلوسه، فما هو إلّا أن ادّعی علیه أخو جمال الدین بأنه وضع یده علی مدرسة أخیه جمال الدین و أوقافه بغیر طریق، فبادر قاضی القضاة صدر الدین علیّ بن الأدمیّ الحنفیّ و حکم برفع یده و عود أوقاف جمال الدین و مدرسته إلی ما نص علیه جمال الدین، و نفذ بقیة القضاة حکمه و انفضوا علی ذلک، فاستولی أخو جمال الدین و صهره شرف الدین علی حاصل کبیر کان قد اجتمع بالمدرسة من فاضل ربعها و من مال بعثه الملک الناصر إلیها، و فرّقوه حتی کتبوا کتابا اخترعوه من عند أنفسهم جعلوه کتاب وقف المدرسة، زادوا فیه أن جمال الدین اشترط النظر علی المدرسة لأخیه شمس الدین المذکور و ذریته، إلی غیر ذلک مما لفقوه بشهادة قوم استمالوهم فمالوا، ثم أثبتوا هذا الکتاب علی قاضی القضاة صدر الدین بن الأدمیّ، و نفذه بقیة القضاة، فاستمرّ الأمر علی هذا البهتان المختلق و الإفک المفتری مدّة، ثم ثار بعض صوفیة هذه المدرسة و أثبت محضرا بأن النظر لکاتب السرّ، فلما ثبت ذلک نزعت ید أخی جمال الدین عن التصرّف فی المدرسة، و تولی نظرها ناصر الدین محمد بن البارزی کاتب السرّ، و استمر الأمر علی هذا، فکانت قصة هذه المدرسة من أعجب ما سمه به فی تناقض القضاة و حکمهم بإبطال ما صححوه، ثم حکمهم بتصحیح ما أبطلوه، کل ذلک میلا مع الجاه و حرصا علی بقاء ریاستهم، ستکتب شهادتهم و یسألون.

المدرسة الصرغتمشیة

هذه المدرسة خارج القاهرة بجوار جامع الأمیر أبی العباس أحمد بن طولون، فیما بینه و بین قلعة الجبل، کان موضعها قدیما من جملة قطائع ابن طولون، ثم صار عدّة مساکن، فأخذها الأمیر سیف الدین صرغتمش الناصریّ رأس نوبة النوب و هدمها و ابتدأ فی بناء المدرسة یوم الخمیس من شهر رمضان سنة ست و خمسین و سبعمائة، و انتهت فی جمادی الأولی سنة سبع و خمسین، و قد جاءت من أبدع المبانی و أجلها و أحسنها قالبا و أبهجها منظرا، فرکب الأمیر صرغتمش فی یوم الثلاثاء تاسعه و حضر إلیه الأمیر سیف الدین شیخو العمریّ مدبر الدولة، و الأمیر طاشتمر القاسمیّ حاجب الحجاب، و الأمیر توقتای الدوادار، و عامّة أمراء الدولة، و قضاة القضاة الأربعة، و مشایخ العلم، و رتب مدرّس الفقه بها قوام الدین أمیر کاتب بن أمیر عمر العمید بن العمید أمیر غازی الاتقانیّ، فألقی القوام الدرس، ثم مدّ سماط جلیل بالهمة الملوکیة، و ملئت البرکة التی بها سکّرا قد أذیب بالماء،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 265
فأکل الناس و شربوا و أبیح ما بقی من ذلک للعامّة فانتهبوه، و جعل الأمیر صرغتمش هذه المدرسة وقفا علی الفقهاء الحنفیة الآفاقیة، و رتب بها درسا للحدیث النبویّ، و أجری لهم جمیعا المعالیم من وقف رتّبه لهم، و قال أدباء العصر فیها شعرا کثیرا. فقال العلامة شمس الدین محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفیّ:
لیهنک یا صرغتمش ما بنیته‌لآخراک فی دنیاک من حسن بنیان
به یزدهی الترخیم کالزهر بهجةفللّه من زهر و للّه من بانی
و خلع فی هذا الیوم علی القوام خلعة سنیة و أرکبه بغلة رائعة، و أجازه بعشرة آلاف درهم علی أبیات مدحه بها فی غایة السماجة و هی:
أ رأیتم من حاز الرتباو أتی قربا و نفی ریبا
فبدا علما و سما کرماو ما قدما و لقد غلبا
بتقی و هدی و ندا و جدافعدا و سدی و جبی و حبا
بدی سننا أحیی سنناحلّی زمنا عند الأدبا
هذا صرغتمش قد سکبت‌أیام إمارته السحبا
و أزال الجدب إلی خصب‌و الضنک إلی رغد قلبا
بإعانة جبّار ربی‌ذی العرش و قد بذل النشبا
ملک فطن رکن لسن‌حسن بسن ربی الأدبا
لک الکبرا ملک الأمراملک العلما ملک الأدبا
بحر طام غیث هام‌قد رسام حامی الغربا
ببشاشته و سماحته‌و حماسته جلّی الکربا
و دیانته و صیانته‌و أمانته حاز الرتبا
أبهی أصلا أسنی نسلاأعطی فضلا مأوی الغربا
نعم المأوی مصر لمّاشملت قوما نبلا نجبا
فنمت نورا و سمت نوراو علت دورا و أرت طربا
نسقت دررا و سقت درراو دعت غررا و حوت أدبا
و خطابته افتخرت و علت‌و سمت وزرت و حوت أدبا
جدّد درسا ثم اجن جنّی‌منها و منی فمعی طلبا
من نازعنی نسبی علنافاراب لنا نعمت نسبا
کنون أبا لحنفیة ثمّ قوام الدین بدا لقبا
عش فی رحب لتری عجبامن منتجب عجب عجبا
صرغتمش: الناصریّ الأمیر سیف الدین رأس نوبة، جلبه الخواجا الصوّاف فی سنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 266
سبع و ثلاثین و سبعمائة، فاشتراه السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون بمائتی ألف درهم فضة، ثمنها یومئذ نحو أربعة آلاف مثقال ذهبا، و خلع علی الخواجا تشریفا کاملا بحیاصة ذهب، و کتب له توقیعا بمسامحة مائة ألف درهم من متجره، فلم یعبأ به السلطان، و صار فی أیامه من جملة الجمداریة، و حکی عن القاضی شرف الدین عبد الوهاب ناظر الخاص أنّ السلطان أنعم علی صرغتمس هذا بعشر طاقات أدیم طائفیّ، فلما جاء إلی النشو تردّد إلیه مرارا حتی دفعها إلیه، و لم یزل خامل الذکر إلی أن کانت أیام المظفر حاجی بن محمد بن قلاون، فبعثه مسفرا مع الأمیر فخر الدین إیاز السلاح دار لما استقرّ فی نیابة حلب، فلما عاد من حلب ترقی فی الخدمة و تمکن عند المظفر و توجه فی خدمة الصالح بن محمد بن قلاون إلی دمشق فی نوبة یلبغاروس، و صار السلطان یرجع إلی رأیه، فلما عاد من دمشق أمسک الوزیر علم الدین عبد اللّه بن زنبور بغیر أمر السلطان و أخذ أمواله، و عارض فی أمره الأمیر شیخو و الأمیر طاز، و من حینئذ عظم و لم یزل حتی خلع السلطان الملک الصالح و أعید الناصر حسن بن محمد بن قلاون، فلما أخرج الأمیر شیخو انفرد صرغتمش بتدبیر أمور المملکة و فخم قدره و نفذت کلمته، فعزل قضاة مصر و الشام و غیّر النوّاب بالممالیک، و السلطان یحقد علیه إلی أن أمسکه فی العشرین من شهر رمضان سنة تسع و خمسین، و قبض معه علی الأمیر طشتمر القاسمیّ حاجب الحجاب، و الأمیر ملکتمر المحمدیّ و جماعة و حملهم إلی الإسکندریة فسجنوا بها، و بها مات صرغتمش بعد شهرین و اثنی عشر یوما من سجنه فی ذی الحجة سنة تسع و خمسین و سبعمائة. و کان ملیح الصورة جمیل الهیئة، یقرأ القرآن الکریم و یشارک فی الفقه علی مذهب الحنفیة، و یبالغ فی التعصب لمذهبه، و یقرّب العجم و یکرمهم و یجلهم إجلالا زائدا، و یشدو طرفا من النحو، و کانت أخلاقه شرسة و نفسه قویة، فإذا بحث فی الفقه أو اللغة اشتط، و لما تحدّث فی الأوقاف و فی البرید خاف الناس منه، فلم یکن أحد یرکب خیل البرید إلّا بمرسومه، و منع کل من یرکب البرید أن یحمل معه قماشا و دراهم علی خیل البرید، و اشتدّ فی أمر الأوقاف فعمرت فی مباشرته، و لما قبض علیه أخذ السلطان أمواله و کانت شیئا کثیرا یکلّ عنه الوصف.

ذکر المارستانات

اشارة

قال الجوهریّ فی الصحاح: و المارستان بیت المرضی، معرّب عن ابن السکیت، و ذکر الأستاذ إبراهیم بن وصیف شاه فی کتاب أخبار مصر: أن الملک مناقیوش بن أشمون أحد ملوک القبط الأول بأرض مصر، أوّل من عمل البیمارستانات لعلاج المرضی، و أودعها العقاقیر و رتب فیها الأطباء و أجری علیهم ما یسعهم، و مناقیوش هذا هو الذی بنی مدینة أخمیم، و بنی مدینة سنتریه. و قال زاهد العلماء أبو سعید منصور بن عیسی: أوّل من اخترع المارستان و أوجده بقراط بن أبو قلیدس، و ذلک أنه عمل بالقرب من داره فی موضع من بستان کان له، موضعا مفردا للمرضی، و جعل فیه خدما یقومون بمداواتهم و سماه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 267
اصدولین، أی مجمع المرضی، و أوّل من بنی المارستان فی الإسلام و دار المرضی الولید بن عبد الملک، و هو أیضا أوّل من عمل دار الضیافة، و ذلک فی سنة ثمان و ثمانین، و جعل فی المارستان الأطباء و أجری لهم الأرزاق، و أمر بحبس المجذمین لئلا یخرجوا، و أجری علیهم، و علی العمیان الأرزاق. و قال جامع السیرة الطولونیة: و قد ذکر بناء جامع ابن طولون و عمل فی مؤخره میضأة و خزانة شراب، فیها جمیع الشرابات و الأدویة، و علیها خدم، و فیها طبیب جالس یوم الجمعة لحادث یحدث للحاضرین للصلاة.

مارستان ابن طولون

هذا المارستان موضعه الآن فی أرض العسکر، و هی الکیمان و الصحراء التی فیما بین جامع ابن طولون و کوم الجارح، و فیما بین قنطرة السدّ التی علی الخلیج ظاهر مدینة مصر، و بین السور الذی یفصل بین القرافة و بین مصر. و قد دثر هذا المارستان فی جملة ما دثر و لم یبق له أثر. و قال أبو عمر الکندیّ فی کتاب الأمراء: و أمر أحمد بن طولون أیضا ببناء المارستان للمرضی، فبنی لهم فی سنة تسع و خمسین و مائتین. و قال جامع السیرة الطولونیة: و فی سنة إحدی و ستین و مائتین بنی أحمد بن طولون المارستان، و لم یکن قبل ذلک بمصر مارستان، و لما فرغ منه حبس علیه دار الدیوان و دوره فی الأساکفة و القیساریة و سوق الرقیق، و شرط فی المارستان أن لا یعالج فیه جندیّ و لا مملوک، و عمل حمّامین للمارستان، إحداهما للرجال و الأخری للنساء، حبسهما علی المارستان و غیره، و شرط أنه إذا جی‌ء بالعلیل تنزع ثیابه و نفقته و تحفظ عند أمین المارستان، ثم یلبس ثیابا و یفرش له و یغدی علیه و یراح بالأدویة و الأغذیة و الأطباء حتی یبرأ، فإذا أکل فرّوجا و رغیفا أمر بالانصراف و أعطی ماله و ثیابه، و فی سنة اثنتین و ستین و مائتین کان ما حبسه علی المارستان و العین و المسجد فی الجبل الذی یسمی بتنور فرعون، و کان الذی أنفق علی المارستان و مستغله ستین ألف دینار، و کان یرکب بنفسه فی کل یوم جمعة و یتفقد خزائن المارستان و ما فیها و الأطباء، و ینظر إلی المرضی و سائر الأعلّاء و المحبوسین من المجانین، فدخل مرّة حتی وقف بالمجانین، فناداه واحد منهم مغلول: أیّها الأمیر اسمع کلامی، ما أنا بمجنون، و إنما عملت علیّ حیلة، و فی نفسی شهوة رمانة عریشیة أکبر ما یکون، فأمر له بها من ساعته، ففرح بها و هزها فی یده ورازها ثم غافل أحمد بن طولون و رمی بها فی صدره، فنضحت علی ثیابه، و لو تمکنت منه لأتت علی صدره، فأمرهم أن یحتفظوا به، ثم لم یعاود بعد ذلک النظر فی المارستان.

مارستان کافور

هذا المارستان بناه کافور الإخشیدیّ، و هو قائم بتدبیر دولة الأمیر أبی القاسم أنوجور بن محمد الإخشید بمدینة مصر فی سنة ست و أربعین و ثلاثمائة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 268

مارستان المغافر

هذا المارستان کان فی خطة المغافر التی موضعها ما بین العامر من مدینة مصر و بین مصلّی خولان التی بالقرافة، بناه الفتح بن خاقان فی أیام أمیر المؤمنین المتوکل علی اللّه، و قد باد أثره.

المارستان الکبیر المنصوریّ

هذا المارستان بخط بین القصرین من القاهرة، کان قاعة ست الملک ابنة العزیز بالله نزار بن المعز لدین اللّه أبی تمیم معدّ، ثم عرف بدار الأمیر فخر الدین جهارکس بعد زوال الدولة الفاطمیة، و بدار موسک، ثم عرف بالملک المفضل قطب الدین أحمد بن الملک العادل أبی بکر بن أیوب، و صار یقال لها لدار القطبیة، و لم تزل بید ذریته إلی أن أخذها الملک المنصور قلاون الألفیّ الصالحیّ من مؤنسة خاتون ابنة الملک العادل المعروفة بالقطبیة، و عوّضت عن ذلک قصر الزمرّد برحبة باب العید فی ثامن عشری ربیع الأوّل سنة اثنتین و ثمانین و ستمائة، بسفارة الأمیر علم الدین سنجر الشجاعیّ مدبر الممالک، و رسم بعمارتها مارستانا و قبة و مدرسة، فتولی الشجاعیّ أمر العمارة، و أظهر من الاهتمام و الاحتفال ما لم یسمع بمثله حتی تم الغرض فی أسرع مدّة، و هی أحد عشر شهرا و أیام، و کان ذرع هذه الدار عشرة آلاف و ستمائة ذراع و خلفت ست الملک بها ثمانیة آلاف جاریة و ذخائر جلیلة، منها قطعة یاقوت أحمر زنتها عشرة مثاقیل، و کان الشروع فی بنائها مارستانا أوّل ربیع الآخر سنة ثلاث و ثمانین و ستمائة.
و کان سبب بنائه أنّ الملک المنصور لما توجه و هو أمیر إلی غزاة الروم فی أیام الظاهر بیبرس سنة خمس و سبعین و ستمائة، أصابه بدمشق قولنج عظیم، فعالجه الأطباء بأدویة أخذت له من مارستان نور الدین الشهید فبرأ، و رکب حتی شاهد المارستان فأعجب به، و نذران آتاه اللّه الملک أن یبنی مارستانا، فلما تسلطن أخذ فی عمل ذلک فوقع الاختیار علی الدار القطبیة، و عوّض أهلها عنها قصر الزمرّذ، و ولی الأمیر علم الدین سنجر الشجاعیّ أمر عمارته، فأبقی القاعة علی حالها و عملها مارستانا، و هی ذات إیوانات أربعة، بکلّ إیوان شاذروان، و بدور قاعتها فقیة یصیر إلیها من الشاذروانات الماء، و اتفق أن بعض الفعلة کان یحفر فی أساس المدرسة المنصوریة فوجد حق اشنان من نحاس، و وجد رفیقه قمقما نحاسا مختوما برصاص، فأحضرا ذلک إلی الشجاعیّ، فإذا فی الحق فصوص ماس و یاقوت و بلخش و لؤلؤ ناصع یدهش الأبصار، و وجد فی القمقم ذهبا، کان جملة ذلک نظیر ما غرم علی العمارة، فحمله إلی أسعد الدین کوهیا الناصریّ العدل، فرفعه إلی السلطان. و لما نجزت العمارة وقف علیها الملک المنصور من الأسلاک بدیار مصر و غیرها ما یقارب ألف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 269
ألف درهم فی کلّ سنة، و رتب مصارف المارستان و القبة و المدرسة و مکتب الأیتام، ثم استدعی قدحا من شراب المارستان و شربه و قال: قد وقفت هذا علی مثلی فمن دونی، و جعلته وقفا علی الملک و المملوک و الجندیّ و الأمیر و الکبیر و الصغیر و الحرّ و العبد الذکور و الإناث، و رتب فیه العقاقیر و الأطباء و سائر ما یحتاج إلیه من به مرض من الأمراض، و جعل السلطان فیه فرّاشین من الرجال و النساء لخدمة المرضی، و قرّر لهم المعالیم، و نصب الأسرّة للمرضی و فرشها بجمیع الفرش المحتاج إلیها فی المرض، و أفرد لکل طائفة من المرضی موضعا، فجعل أواوین المارستان الأربعة للمرضی بالحمیات و نحوها، و أفرد قاعة للرمدی، و قاعة للجرحی، و قاعة لمن به إسهال، و قاعة للنساء، و مکانا للمبرودین ینقسم بقسمین قسم للرجال و قسم للنساء، و جعل الماء یجری فی جمیع هذه الأماکن، و أفرد مکانا لطبخ الطغام و الأدویة و الأشربة، و مکانا لترکیب المعاجین و الأکحال و الشیافات و نحوها، و مواضع یخزن فیها الحواصل، و جعل مکانا یفرق فیه الأشربة و الأدویة، و مکانا یجلس فیه رئیس اطباء لإلقاء درس طب، و لم یحص عدّة المرضی بل جعله سبیلا لکل من یرد علیه من غنیّ و فقیر، و لا حدّد مدّة لإقامة المریض به، بل یرتب منه لمن هو مریض بداره سائر ما یحتاج إلیه، و وکل الأمیر عز الدین أیبک الأفرم الصالحیّ أمیر جندار فی وقف ما عینه من المواضع، و ترتیب أرباب الوظائف و غیرهم، و جعل النظر لنفسه أیام حیاته، ثم من بعده لأولاده، ثم من بعدهم لحاکم المسلمین الشافعیّ، فضمن وقفه کتابا تاریخه یوم الثلاثاء ثالث عشری صفر سنة ثمانین و ستمائة، و لما قری‌ء علیه کتاب الوقف قال للشجاعیّ: ما رأیت خط الأسعد کاتبی مع خطوط القضاة، أبصر إیش فیه زغل حتی ما کتب علیه، فما زال یقرّب لذهنه أن هذا مما لا یکتب علیه إلّا قضاة الإسلام حتی فهم ذلک، فبلغ مصروف الشراب منه فی کل یوم خمسمائة رطل سوی السکّر، و رتب فیه عدّة ما بین أمین و مباشر، و جعل مباشرین للإدارة، و هم الذین یضبطون ما یشتری من أوصناف، و ما یحضر منها إلی المارستان، و مباشرین لاستخراج مال الوقف، و مباشرین فی المطبخ، و مباشرین فی عمارة الأوقاف التی تتعلق به، و قرّر فی القبة خمسین مقرئا یتناوبون قراءة القرآن لیلا و نهارا، و رتب بها إماما راتبا، و جعل بها رئیسا للمؤذنین عند ما یؤذنون فوق منارة لیس فی إقلیم مصر أجلّ منها، و رتب بهذه القبة درسا لتفسیر القرآن فیه مدرّس و معیدان و ثلاثون طالبا، و درس حدیث نبویّ، و جعل بها خزانة کتب و ستة خدّام طواشیة لا یزالون بها، و رتب بالمدرسة إماما راتبا و متصدّرا لإقراء القرآن، و دروسا أربعة للفقه علی المذاهب الأربعة، و رتب بمکتب السبیل معلمین یقرءان الأیتام، و رتب للأیتام رطلین من الخبز فی کلّ یوم لکلّ یتیم، مع کسوة الشتاء و الصیف.
فلما ولی الأمیر جمال الدین أقوش نائب الکرک نظر المارستان، أنشأ به قاعة للمرضی، و نحت الحجارة المبنیّ بها الجدر کلها حتی صارت کأنها جدیدة، و جدّد تذهیب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 270
الطراز بظاهر المدرسة و القبة، و عمل خمیة تظل الأقفاص طولها مائة ذراع، قام بذلک من ماله دون مال الوقف، و نقل أیضا حوض ماء کان برسم شرب البهائم من جانب باب المارستان و أبطله لتاذی الناس بنتن رائحة ما یجتمع قدّامه من الأوساخ، و أنشأ سبیل ماء یشرب منه الناس عوض الحوض المذکور، و قد تورّع طائفة من أهل الدیانة عن الصلاة فی المدرسة المنصوریة و القبة، و عابوا المارستان لکثرة عسف الناس فی عمله، و ذلک أنه لما وقع اختیار السلطان علی عمل الدار القطبیة مارستانا ندب الطواشی حسام الدین بلالا المغیثیّ للکلام فی شرائها، فساس الأمر فی ذلک حتی أنعمت مؤنسة خاتون ببیعها علی أن تعوّض عنها بدار تلمها و عیالها، فعوّضت قصر الزمرّذ برحبة باب العید مع مبلغ مال حمل إلیها، و وقع البیع علی هذا، فندب السلطان الأمیر سنجر الشجاعیّ للعمارة، فأخرج النساء من القطبیة من غیر مهلة، و أخذ ثلاثمائة أسیر و جمع صناع القاهرة و مصر و تقدّم إلیهم بأن یعملوا بأجمعهم فی الدار القطبیة، و منعهم أن یعملوا لأحد فی المدینتین شغلا، و شدّد علیهم فی ذلک، و کان مهابا، فلازموا العمل عنده، و نقل من قلعة الروضة ما احتاج إلیه من العمد الصوّان و العمد الرخام و القواعد و الأعتاب و الرخام البدیع و غیر ذلک، و صار یرکب إلیها کلّ یوم و ینقل الأنقاض المذکورة علی العجل إلی المارستان، و یعود إلی المارستان فیقف مع الصناع علی الأساقیل حتی لا یتوانوا فی عملهم، و أوقف ممالیکه بین القصرین، فکان إذا مرّ أحد و لو جلّ ألزموه أن یرفع حجرا و یلقیه فی موضع العمارة، فینزل الجندیّ و الرئیس عن فرسه حتی یفعل ذلک، فترک أکثر الناس المرور من هناک، و رتبوا بعد الفراغ من العمارة، و ترتیب الوقف فتیا صورتها ما یقول أئمة الدین فی موضع أخرج أهله منه کرها، و عمر بمستحثین یعسفون الصناع، و أخرب ما عمره الغیر و نقل إلیه ما کان فیه فعمر به، هل تجوز الصلاة فیه أم لا، فکتب جماعة من الفقهاء لا تجوز فیه الصلاة، فما زال المجد عیسی بن الخشاب حتی أوقف الشجاعیّ علی ذلک، فشق علیه، و جمع القضاة و مشایخ العلم بالمدرسة المنصوریة و أعلمهم بالفتیا فلم یجبه أحد منهم بشی‌ء سوی الشیخ محمد المرجانیّ فإنه قال: أنا أفتیت بمنع الصلاة فیها، و أقول الآن أنه یکره الدخول من بابها، و نهض قائما فانفض الناس. و اتفق أیضا أن الشجاعیّ ما زال بالشیخ محمد المرجانیّ، یلح فی سؤاله أن یعمل میعاد وعظ بالمدرسة المنصوریة حتی أجاب بعد تمنع شدید، فحضر الشجاعیّ و القضاة، و أخذ المرجانیّ فی ذکر ولاة الأمور من الملوک و الأمراء و القضاة، و ذمّ من یأخذ الأراضی غصبا، و یستحث العمال فی عمائره و ینقص من أجورهم و ختم بقوله تعالی: وَ یَوْمَ یَعَضُّ الظَّالِمُ عَلی یَدَیْهِ یَقُولُ یا لَیْتَنِی اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِیلًا یا وَیْلَتی لَیْتَنِی لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِیلًا [الفرقان/ 27] و قام، فسأله الشجاعیّ الدعاء له فقال: یا علم الدین قد دعا لک و دعا علیک من هو خیر منی، و ذکر قول النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم: «اللهمّ من ولی من أمر أمّتی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 271
شیئا فرفق بهم فارفق به و من شق علیهم فاشقق علیه» و انصرف. فصار الشجاعیّ: من ذلک فی قلق، و طلب الشیخ تقیّ الدین محمد بن دقیق العید و کان له فیه اعتقاد حسن و فاوضه فی حدیث الناس فی منع الصلاة فی المدرسة، و ذکر له أن السلطان إنما أراد محاکاة نور الدین الشهید و الاقتداء به لرغبته فی عمل الخیر، فوقع الناس فی القدح فیه، و لم یقدحوا فی نور الدین. فقال له: إن نور الدین أسر بعض ملوک الفرنج و قصد قتله، ففدی نفسه بتسلیم خمسة قلاع و خمسمائة ألف دینار حتی أطلقه، فمات فی طریقه قبل وصوله مملکته، و عمر نور الدین بذلک المال مارستانه بدمشق من غیر مستحث، فمن أین یا علم الدین تجد مالا مثل هذا المال و سلطانا مثل نور الدین، غیر أن السلطان له نیته، و أرجو له الخیر بعمارة هذا الموضع، و أنت إن کان وقوفک فی عمله بنیة نفع الناس فلک الأجر، و إن کان لأجل أن یعلم أستاذک علوّ همتک فما حصلت علی شی‌ء. فقال الشجاعیّ: اللّه المطلع علی النیات، و قرّر ابن دقیق العید فی تدریس القبة.
قال مؤلفه: إن کان التحرّج من الصلاة لأجل أخذ الدار القطبیة من أهلها بغیر رضاهم و إخراجهم منها بعسف و استعمال أنقاض القلعة بالروضة، فلعمری ما تملک بنی أیوب الدار القطبیة و بناؤهم قلعة الروضة و إخراجهم أهل القصور من قصورهم التی کانت بالقاهرة و إخراج سکان الروضة من مساکنهم، إلّا کأخذ قلاون الدار المذکورة و بنائها بما هدمه من القلعة المذکورة و إخراج مؤنسة و عیالها من الدار القطبیة، و أنت إن أمعنت النظر و عرفت ما جری تبین لک أن ما القوم إلّا سارق من سارق، و غاصب من غاصب، و إن کان التحرّج من الصلاة لأجل عسف العمال و تسخیر الرجال، فشی‌ء آخر بالله عرّفنی، فإنی غیر عارف من منهم لم یسلک فی أعماله هذا السبیل، غیر أن بعضهم أظلم من بعض، و قد مدح غیر واحد من الشعراء هذه العمارة، منهم شرف الدین البوصیریّ فقال:
و مدرسة ود الخورنق أنّه‌لدیها خطیر و السدیر غدیر
مدینة علم و المدارس حولهاقری أو نجوم بدر هنّ منیر
تبدّت فأخفی الظاهریة نورهاو لیس یظهر للنجوم ظهور
بناء کأنّ النحل هندس شکله‌و لانت له کالشمع فیه صخور
بناها سعید فی بقاع سعیدةبها سعدت قبل المدارس نور
و من حیثما وجّهت وجهک نحوهاتلقّتک منها نضرة و سرور
إذا قام یدعو اللّه فیها مؤذن‌فما هو إلّا للنجوم سمیر

المارستان المؤیدی

هذا المارستان فوق الصوّة تجاه طبلخاناه قلعة الجبل، حیث کانت مدرسة الأشرف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 272
شعبان بن حسین التی هدمها الناصر فرج بن برقوق، و بابه هو حیث کان باب المدرسة، إلّا أنه ضیق عما کان، أنشأه المؤید شیخ فی مدّة أوّلها جمادی الآخرة سنة إحدی و عشرین و ثمانمائة، و آخرها رجب سنة ثلاث و عشرین، و نزل فیه المرضی فی نصف شعبان، و عملت مصارفه من جملة أوقاف الجامع المؤیدیّ المجاور لباب زویلة، فلما مات الملک المؤید فی ثامن المحرّم سنة أربع و عشرین تعطل قلیلا، ثم سکنه طائفة من العجم المستجدّین فی ربیع الأوّل منها، و صار منزلا للرسل الواردین من البلاد إلی السلطان، ثم عمل فیه منبر و رتب له خطیب و إمام و مؤذنون و بوّاب و قومة، و أقیمت به الجمعة فی شهر ربیع الآخر سنة خمس و عشرین و ثمانمائة، فاستمرّ جامعا تصرف معالیم أرباب وظائفه المذکورین من وقف الجامع المؤیدی.

ذکر المساجد

اشارة

قال ابن سیده: المسجد الموضع الذی یسجد فیه. و قال الزجاج: کلّ موضع یتعبد فیه فهو مسجد، ألا تری أن النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم قال: «جعلت لی الأرض مسجدا و طهورا» و قوله عز و جلّ: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ [البقرة/ 114] المعنی علی هذا المذهب أنه من أظلم ممن خالف قبلة الإسلام، و قد کان حکمه أن لا یجی‌ء علی مفعل، لأن حق اسم المکان و المصدر من فعل یفعل أن یجی‌ء علی مفعل، و لکنه أحد الحروف التی شذت فجاءت علی مفعل. قال سیبویه: و أما المسجد فإنهم جعلوه اسما للبیت، و لم یأت علی فعل یفعل، کما قال فی المدق: أنه اسم للجود، یعنی أنه لیس علی الفعل، و لو کان علی الفعل لقیل مدق لأنه آلة و الآلات تجی‌ء علی مفعل کمخزن و مکنس و مکسح، و المسجدة الجمرة المسجود علیها، و قوله تعالی و إن المساجد للّه، قیل هی مواضع السجود من الإنسان، الجبهة و الیدان و الرکبتان و الرجلان. و قال الشریف محمد بن أسعد الجوّانیّ فی کتاب النقط علی الخطط عن القاضی أبی عبد اللّه القضاعیّ: أنه کان فی مصر الفسطاط من المساجد ستة و ثلاثون ألف مسجد. و قال المسبحیّ فی حوادث سنة ثلاث و أربعمائة: و أحصی أمیر المؤمنین الحاکم بأمر اللّه المساجد التی لا غلة لها فکانت ثمانمائة مسجد، فأطلق لها فی کلّ شهر من بیت المال تسعة آلاف و مائتین و عشرین درهما، و فی سنة خمس و أربعمائة حبس الحاکم بأمر اللّه سبع ضیاع منها، اطفیح و طوخ علی القرّاء.
و المؤذنین بالجوامع، و علی مل‌ء المصانع و المارستان، و فی ثمن الأکفان. و ذکر ابن المتوّج أن عدّة المساجد بمصر فی زمنه أربعمائة و ثمانون مسجدا ذکرها.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 273

المسجد بجوار دیر البعل

قد تقدّم فی أخبار الکنائس و الدیارات من هذا الکتاب خبر دیر البعل، و أنه یعرف بدیر الفطیر، و لما کان فی سنة خمس و سبعین و ستمائة خرج جماعة من المسلمین إلی دیر البعل فرأوا آثار محاریب بجوار الدیر فعرّفوا الصاحب بهاء الدین بن حنا ذلک، فسیر المهندسین لکشف ما ذکر، فعادوا إلیه و أخبروه أنه آثار مسجد، فشاور الملک الظاهر بیبرس و عمره مسجدا بجانب الدیر، و هو عامر إلی الآن، و بتّ به و هو من أحسن مشترقات مصر، و له وقف جید و مرتب یقوم به نصاری الدیر.

مسجد ابن الجباس

هذا المسجد خارج باب زویلة بالقرب من مصلّی الأموات دون باب الیانسیة، عرف بالشیخ أبی عبد اللّه محمد بن علیّ بن أحمد بن محمد بن جوشن المعروف بابن الجباس بجیم و باء موحدة بعدها ألف و سین مهملة- القرشیّ العقیلیّ الفقیه الشافعیّ المقرئ، کان فاضلا صالحا زاهدا عابدا مقرئا، کتب بخطه کثیرا و سمع الحدیث النبویّ، و مولده یوم السبت سابع عشر ذی القعدة سنة اثنتین و ثلاثین و ستمائة بالقاهرة، و وفاته ...

مسجد ابن البناء

هذا المسجد داخل باب زویلة، و تسمیه العوامّ سام بن نوح النبیّ علیه السّلام، و هو من مختلفاتهم التی لا أصل لها، و إنما یعرف بمسجد ابن البناء، و سام بن نوح لعله لم یدخل أرض مصر البتة، فإن اللّه سبحانه و تعالی لما نجّی نبیه نوحا من الطوفان خرج معه من السفینة أولاده الثلاثة، و هم سام و حام و یافث، و من هذه الثلاثة ذرأ اللّه سائر بنی آدم کما قال تعالی: وَ جَعَلْنا ذُرِّیَّتَهُ هُمُ الْباقِینَ [الصافات/ 77] فقسم نوح الأرض بین أولاده الثلاثة، فصار لسام بن نوح العراق و فارس إلی الهند ثم إلی حضر موت و عمان و البحرین و عالج و یبرین و الدوووبار و الدهناء و سائر أرض الیمن و الحجاز، و من نسله الفرس و السریانیون و العبرانیون و العرب و النبط و العمالیق. و صار لحام بن نوح الجنوب مما یلی أرض مصر مغرّبا إلی المغرب الأقصی، و من نسله الحبشة و الزنج و القبط سکان مصر و أهل النوبة و الأفارقة أهل إفریقیة و أجناس البربر، و صار لیافث بن نوح بحر الخرز مشرّقا إلی الصین، و من نسله الصقالبة و الفرنج و الروم و الغوط و أهل الصین و الیونانیون و الترک.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 274
و قد بلغنی أن هذا المسجد کان کنیسة للیهود القرّایین تعرف بسام بن نوح، و أن الحاکم بأمر اللّه أخذ هذه الکنیسة لما هدم الکنائس و جعلها مسجدا، و تزعم الیهود القرّایون الآن بمصر أن سام بن نوح مدفون هنا، و هم إلی الآن یحلفون من أسلم منهم بهذا المسجد.
أخبرنی به قاضی الیهود إبراهیم بن فرج اللّه بن عبد الکافی الداودیّ العانانیّ، و لیس هذا بأوّل شی‌ء اختلقته العامّة.
و ابن البناء: هذا هو محمد بن عمر بن أحمد بن جامع بن البناء أبو عبد اللّه الشافعیّ المقرئ، سمع من القاضی مجلی، و أبی عبد اللّه الکیزانیّ و غیره، و حدّث و أقرأ القرآن، و انتفع به جماعة. و هو منقطع بهذا المسجد، و کان یعرف خطه بخط بین البابین، ثم عرف بخط الأقفالیین، ثم هو الآن یعرف بخط الضبیین و باب القوس. و مات ابن البناء هذا فی العشر الأوسط من شهر ربیع الآخر سنة إحدی و تسعین و خمسمائة، و اتفق لی عند هذا المسجد أمر عجیب، و هو أنی مررت من هناک یوما أعوام بضع و ثمانین و سبعمائة، و القاهرة یومئذ لا یمرّ الإنسان بشارعها حتی یلقی عناء من شدّة ازدحام الناس لکثرة مرورهم رکبانا و مشاة، فعند ما حاذیت أوّل هذا المسجد إذا برجل یمشی أمامی و هو یقول لرفیقه: و اللّه یا أخی ما مررت بهذا المکان قط إلّا و انقطع نعلی، فو اللّه ما فرغ من کلامه حتی وطئ شخص من کثرة الزحام علی مؤخر نعله و قد مدّ رجله لیخطو فانقطع تجاه باب المسجد، فکان هذا من عجائب الأمور و غرائب الاتفاق.

مسجد الحلبیین

هذا المسجد فیما بین باب الزهومة و درب شمس الدولة، علی یسرة من سلک من حمّام خشیبة طالبا البندقانیین. بنی علی المکان الذی قتل فیه الخلیفة الظاهر نصر بن عباس الوزیر و دفنه تحت الأرض، فلما قدم طلائع بن رزیک من الأشمونین إلی القاهرة باستدعاء أهل القصر له لیأخذ بثار الخلیفة، و غلب علی الوزارة، استخرج الظافر من هذا الموضع و نقله إلی تربة الصر و بنی موضعه هذا المسجد و سماه المشهد، و عمل له بابین أحدهما هذا الباب الموجود، و الباب الثانی کان یتوصل منه إلی دار المأمون البطائحیّ التی هی الیوم مدرسة تعرف بالسیوفیة. و قد سدّ هذا الباب، و ما برح هذا المسجد یعرف بالمشهد إلی أن انقطع فیه محمد بن أبی الفضل بن سلطان بن عمار بن تمام أبو عبد اللّه الحلبیّ الجعبریّ المعروف بالخطیب، و کان صالحا کثیر العبادة زاهدا منقطعا عن الناس، و رعا و سمع الحدیث و حدّث، و کان مولده فی شهر رجب سنة أربع و عشرین و ستمائة بقلعة جعبر، و وفاته بهذا المسجد، و قد طالت إقامته فیه یوم الاثنین سادس عشر جمادی الآخرة سنة ثلاث عشرة و سبعمائة، و دفن بمقابر باب النصر رحمه اللّه، و هذا المسجد من أحسن مساجد القاهرة و أبهجها.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 275

مسجد الکافوریّ

هذا المسجد کان فی البستان الکافوریّ من القاهرة بناه الوزیر المأمون أبو عبد اللّه محمد بن فاتک البطائحیّ، فی سنة ست عشرة و خمسمائة، و تولی عمارته وکیله أبو البرکات محمد بن عثمان، و کتب اسمه علیه، و هو باق إلی الیوم بخط الکافوریّ، و یعرف هناک بمسجد الخلفاء، و فیه نخل و شجر و هو مرخم برخام حسن.

مسجد رشید

هذا المسجد خارج باب زویلة بخط تحت الربع علی یسرة من سلک من دار التفاح یرید قنطرة الخرق، بناه رشید الدین البهائیّ.

المسجد المعروف بزرع النوی

هذا المسجد خارج باب زویلة بخط سوق الطیور، علی یسرة من سلک من رأس المنجبیة طالبا جامع قوصون و الصلیبة، و تزعم العامّة أنه بنی علی قبر رجل یعرف بزرع النوی، و هو من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم. و هذا أیضا من افتراء العامّة الکذب، فإن الذین أفردوا أسماء الصحابة رضی اللّه عنهم کالإمام أبی عبد اللّه محمد بن إسماعیل البخاریّ فی تاریخه الکبیر، و ابن أبی خیثمة، و الحافظ أبی عبد اللّه بن منذر، و الحافظ أبی نعیم الأصفهانیّ، و الحافظ أبی عمر بن عبد البرّ، و الفقیه الحافظ أبی محمد علیّ بن أحمد بن سعید بن حزم، لم یذکر أحد منهم صحابیا یعرف بزرع النوی. و قد ذکر فی أخبار القرافة من هذا الکتاب من قبر بمصر من الصحابة، و ذکر فی أخبار مدینة فسطاط مصر أیضا من دخل مصر من الصحابة، و لیس هذا منهم، و هذا إن کان هناک قبر فهو لأمین الأمناء أبی عبد اللّه الحسین بن طاهر الوزان، و کان من أمره أن الخلیفة الحاکم بأمر اللّه أبا علیّ منصور بن العزیز بالله خلع علیه للوساطة بینه و بین الناس، و التوقیع عن الحضرة فی شهر ربیع الأوّل سنة ثلاث و أربعمائة، و کان قبل ذلک یتولی بیت المال فاستخدم فیه أخاه أبا الفتح مسعودا، و کان قد ظفر بمال یکون عشرات و صیاغات و أمتعة و طرائف و فرش و غیر ذلک فی عدّة آدر بمصر، و جمیعه مما خلفه قائد القوّاد الحسین بن جوهر القائد، فباع المتاع و أضاف ثمنه إلی العین، فحصل منه مال کثیر، و طالع الحاکم بأمر اللّه به أجمع لورثة قائد القوّاد، و لم یتعرّض منه لشی‌ء، و کثرت صلات الحاکم و عطاؤه و توقیعاته، فانطلق فی ذلک فاتصل به عن أمین الأمناء بعض التوقف، فخرجت إلیه رقعة بخطه فی الثامن و العشرین من شهر رجب سنة ثلاث و أربعمائة نسختها، بسم اللّه الرحمن الرحیم الحمد للّه کما هو أهله:
أصبحت لا أرجو و لا أتقی‌إلّا إلهی و له الفضل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 276 جدّی نبیّ و إمامی أبی‌و دینی الإخلاص و العدل
ما عندکم ینفد و ما عند اللّه باق، المال مال اللّه عز و جلّ، و الخلق عیال اللّه، و نحن أمناؤه فی الأرض، أطلق أزراق الناس و لا تقطعها و السلام. و لم یزل علی ذلک إلی أن بطل أمره فی جمادی الآخرة من سنة خمس و أربعمائة، و ذلک أنه رکب مع الحاکم علی عادته، فلما حصل بحارة کتامة خارج القاهرة ضرب رقبته هناک و دفن فی هذا الموضع تخمینا، و استحضر الحاکم جماعة الکتّاب بعد قتله و سأل رؤساء الدواوین عما یتولاه کل واحد منهم، و أمرهم بلزوم دواوینهم و توفرهم علی الخدمة، و کانت مدّة نظر ابن الوزان فی الوساطة و التوقیع عن الحضرة، و هی رتبة الوزارة، سنتین و شهرین و عشرین یوما، و کان توقیعه عن الحضرة الإمامیة الحمد للّه و علیه توکلی.

مسجد الذخیرة

هذا المسجد تحت قلعة الجبل بأوّل الرمیلة تجاه شبابیک مدرسة السلطان حسن بن محمد بن قلاون التی تلی بابها الکبیر الذی سدّه الملک الظاهر برقوق، أنشأه ذخیرة الملک جعفر متولی الشرطة. قال ابن المأمون فی تاریخه: فی هذه السنة، یعنی سنة ست عشرة و خمسمائة، استخدم ذخیرة الملک جعفر فی ولایة القاهرة و الحسبة بسجل أنشأه ابن الصیرفیّ، و جری من عسفه و ظلمه ما هو مشهور، و بنی المسجد الذی ما بین الباب الجدید إلی الجبل الذی هو به معروف، و سمّی مسجد لا بالله، بحکم أنه کان یقبض الناس من الطریق و یعسفهم، فیحلفونه و یقولون له لا بالله، فیقیدهم و یستعملهم فیه بغیر أجرة، و لم یعمل فیه منذ أنشأه إلّا صانع مکره، أو فاعل مقید، و کتبت علیه هذه الأبیات المشهورة:
بنی مسجدا للّه من غیر حله‌و کانّ بحمد اللّه غیر موفق
کمطعمة الأیتام من کدّ فرجهالک الویل لا تزنی و لا تتصدّقی
و کان قد أبدع فی عذاب الجناة و أهل الفساد، و خرج عن حکم الکتّاب فابتلی بالأمراض الخارجة عن المعتاد، و مات بعد ما عجل اللّه له ما قدّمه، و تجنب الناس تشییعه و الصلاة علیه، و ذکر عنه فی حالتی غسله و حلوله بقبره ما یعیذ اللّه کلّ مسلم من مثله. و قال ابن عبد الظاهر: مسجد الذخیرة تحت قلعة الجبل، و ذکر ما تقدّم عن ابن المأمون.

مسجد رسلان

هذا المسجد بحارة الیانسیة، عرف بالشیخ الصالح رسلان لإقامته به، و قد حکیت عنه کرامات، و مات به فی سنة إحدی و تسعین و خمسمائة، و کان یتقوّت من أجرة خیاطته للثیاب، و ابنه عبد الرحمن بن محمد بن رسلان أبو القاسم کان فقیها محدّثا مقرئا، مات فی سنة سبع و عشرین و ستمائة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 277

مسجد ابن الشیخیّ

هذا المسجد بخط الکافوریّ مما یلی باب القنطرة وجهة الخلیج مجاور لدار ابن الشیخی، أنشأه المهتار ناصر الدین محمد بن علاء الدین علیّ الشیخیّ مهتار السلطان بالإصطبلات السلطانیة، و قرّر فیه شیخنا تقیّ الدین محمد بن حاتم، فکان یعمل فیه میعادا یجتمع الناس فیه لسماع وعظه، و کان ابن الشیخی هذا حشما فخورا خیّرا یحب أهل العلم و الصلاح، و یکرمهم. و لم نر بعده فی رتبته مثله، و مات لیلة الثلاثاء أوّل یوم من شهر ربیع الأوّل سنة ثلاث و تسعین و سبعمائة.

مسجد یانس

هذا المسجد کان تجاه باب سعادة خارج القاهرة. قال ابن المأمون فی تاریخه: و کان الأجلّ المأمون یعنی الوزیر محمد بن فاتک البطائحیّ، قد ضم إلیه عدّة من ممالیک الأفضل بن أمیر الجیوش، من جملتهم یانس، و جعله مقدّما علی صبیان جلسه، و سلّم إلیه بیت ماله، و میزه فی رسومه. فلما رأی المذکور فی لیلة النصف من شهر رجب، یعنی سنة ست عشرة و خمسمائة، ما عمل فی المسجد المستجدّ قبالة باب الخوخة من الهمة و وفور الصدقات و ملازمة الصلوات، و ما حصل فیه من المثوبات، کتب رقعة یسأل فیها أن یفسح له فی بناء مسجد بظاهر باب سعادة، فلم یجبه المأمون إلی ذلک و قال له: ما ثم مانع من عمارة المساجد، و أرض اللّه واسعة، و إنما هذا الساحل فیه معونة للمسلمین و موردة للسقائین، و هو مرسی مراکب الغلة، و المضرّة فی مضایقة المسلمین فیه منه، و لو لم یکن المسجد المستجدّ قبالة باب الخوخة محرسا لما استجدّ، حتی إنّا لم نخرج بساحته الأولی، فإن أردت أن تبنی قبلیّ مسجد الریفی أو علی شاطی‌ء الخلیج فالطریق ثم سهلة. فقبّل الأرض و امتثل الأمر، فلما قبض علی المأمون و أمّرّ الخلیفة یانس المذکور و لم یزل ینقله إلی أن استخدمه فی حجبة بابه، سأله فی مثل ذلک فلم یجبه، إلی أن أخذ الوزارة فبناه فی المکان المذکور. و کانت مدّته یسیرة، فتوفی قبل إتمامه و إکماله، فکمله أولاده بعد وفاته.
انتهی. و قد تقدّم خبر وزارة أبی الفتح ناظر الجیوش یانس الأرمنیّ هذا عند ذکر الحارة الیانسیة من هذا الکتاب.

مسجد باب الخوخة

هذا المسجد تجاه باب الخوخة بجوار مدرسة أبی غالب. قال ابن المأمون فی تاریخه من حوادث سنة ست عشرة و خمسمائة: و لما سکن المأمون الأجلّ دار الذهب و ما معها، یعنی فی أیام النیل للنزهة عند سکن الخلیفة الآمر بأحکام اللّه بقصر اللؤلؤة المطل علی الخلیج، رأی قبالة باب الخوخة محرسا، فاستدعی وکیله و أمره بأن یزیل المحرس المذکور
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 278
و یبنی موضعه مسجدا، و کان الصناع یعملون فیه لیلا و نهارا، حتی أنه تفطر بعد ذلک و احتیج إلی تجدیده.

المسجد المعروف بمعبد موسی

هذا المسجد بخط الرکن المخلق من القاهرة تجاه باب الجامع الأقمر المجاور لحوض السبیل، و علی یمنة من سلک من بین القصرین طالبا حبة باب العید. أوّل من اختطه القائد جوهر عندما وضع القاهرة. قال ابن عبد الظاهر: و لما بنی القائد جوهر القصر دخل فیه دیر العظام، و هو المکان المعروف الآن بالرکن المخلق، قبالة حوض الجامع الأقمر، و قریب دیر العظام، و المصریون یقولون بئر العظمة، فکره أن یکون فی القصر دیر فنقل العظام التی کانت به و الرّمم إلی دیر بناه فی الخندق، لأنه کان یقال إنها کانت عظام جماعة من الحواریین، و بنی مکانها مسجدا من داخل السور، یعنی سور القصر. و قال جامع سیرة الظاهر بیبرس: و فی ذی الحجة سنة ستین و ستمائة ظهر بالمسجد الذی بالرکن المخلق من القاهرة حجر مکتوب علیه. هذا معبد موسی بن عمران علیه السلام، فجدّدت عمارته و صار یعرف بمعبد موسی من حینئذ، و وقف علیه ربع بجانبه، و هو باق إلی وقتنا هذا.

مسجد نجم الدین

هذا المسجد ظاهر باب النصر، أنشأه الملک الأفضل نجم الدین أبو سعید أیوب بن شادی یعقوب بن مروان الکردیّ، والد السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، و جعل إلی جانبه حوض ماء للسبیل ترده الدواب فی سنة ست و ستین و خمسمائة، و نجم الدین هذا قدم هو و أخوه أسد الدین شیرکوه من بلاد الأکراد إلی بغداد، و خدم بها و ترقی فی الخدم حتی صار دزدارا بقلعة تکریت و معه أخوه، ثم إنه انتقل عنها إلی خدمة الملک المنصور عماد الدین أتابک زنکی بالموصل، فخدمه حتی مات، فتعلق بخدمة ابنه الملک العادل نور الدین محمود بن زنکی فرقّاه و أعطاه بعلبک، و حج من دمشق سنة خمس و خمسمائة، فلما قدم ابنه صلاح الدین یوسف بن أیوب معه عمه أسد الدین شیرکوه من عند نور الدین محمود إلی القاهرة، و صار إلی وزارة العاضد بعد موت شیرکوه، قدم علیه أبوه نجم الدین فی جمادی الآخرة سنة خمس و ستین و خمسمائة، و خرج العاضد إلی لقائه و أنزله بمناظر اللؤلؤة، فلما استبدّ صلاح الدین بسلطنة مصر بعد موت الخلیفة العاضد أقطع أباه نجم الدین الإسکندریة البحیرة إلی أن مات بالقاهرة، فی یوم الثلاثاء لثلاث بقین من ذی الحجة، سنة ثمان و ستین و خمسمائة، و قیل فی ثامن عشرة من سقطة عن ظهر فرسه خارج باب النصر، فحمل إلی داره فمات بعد أیام، و کان خیّرا جوادا متدینا محبا لأهل العلم و الخیر، و ما مات حتی رأی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 279
من أولاده عدّة ملوک، و صار یقال له أبو الملوک، و مدحه العماد الأصبهانیّ بعدّة قصائد، و رثاه الفقیه عمارة بقصیدته التی أوّلها:
هی الصدمة الأولی فمن بان صبره‌علی هول ملقاه تعاظم أمره

مسجد صواب

هذا المسجد خارج القاهرة بخط الصلیبة، عرف بالطواشی شمس الدین صواب مقدّم الممالیک السلطانیة، و مات فی ثامن رجب سنة اثنتین و أربعین و ستمائة، و دفن به و کان خیرا دینا فیه صلاح.

المسجد بجوار المشهد الحسینیّ

هذا المسجد أنهیّ فی مستهل شهر رجب سنة اثنتین و ستین و ستمائة، للملک الظاهر رکن الدین بیبرس، و هو بدار العدل، أن مسجدا علی باب مشهد السید الحسین علیه السلام، و إلی جانبه مکان من حقوق القصر بیع و حمل ثمنه للدیوان، و هو ستة آلاف درهم، فسأل السلطان عن صورة المسجد و هذا الموضع، و هل کل منهما بمفرده أو علیهما حائط دائر، فقیل له إن بینهما زرب قصب، فأمر بردّ المبلغ و أبقی الجمیع مسجدا، و أمر بعمارة ذلک مسجدا للّه تعالی.

مسجد الفجل

هذا المسجد بخط بین القصرین تجاه بیت البیسریّ، أصله من مساجد الخلفاء الفاطمیین، أنشأه علی ما هو علیه الآن الأمیر بشتاک أخذ قصر أمیر سلاح، و دار أقطوان الساقی، و أحد عشر مسجدا، و أربعة معابد کانت من عمارة الخلفاء و أدخلها فی عمارته التی تعرف الیوم بقصر بشتاک، و لم یترک من المساجد و المعابد سوی هذا المسجد فقط، و یجلس فیه بعض نوّاب القضاة المالکیة للحکم بین الناس، و تسمیه العامّة مسجد الفجل، و تزعم أن النیل الأعظم کان یمرّ بهذا المکان، و أن الفجل کان یغسل موضع هذا المسجد فعرف بذلک، و هذا القول کذب لا أصل له، و قد تقدّم فی هذا الکتاب ما کان علیه موضع القاهرة قبل بنائها، و ما علمت أن النیل کان یمرّ هناک أبدا، و بلغنی أنه عرف بمسجد الفجل من أجل أن الذی کان یقوم به کان یعرف بالفجل، و اللّه أعلم.

مسجد تبر

هذا المسجد خارج القاهرة مما یلی الخندق، عرف قدیما بالبئر، و الجمیزة، و عرف بمسجد تبر، و تسمیه العامّة مسجد التبن و هو خطأ، و موضعه خارج القاهرة قریبا من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 280
المطریة. قال القضاعیّ: مسجد تبر بنی علی رأس إبراهیم بن عبد اللّه بن حسن بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، أنفذه المنصور فسرقه أهل مصر و دفنوه هناک، و ذلک فی سنة خمس و أربعین و مائة، و یعرف بمسجد البئر و الجمیزة. و قال الکندیّ فی کتاب الأمراء: ثم قدمت الخطباء إلی مصر برأس إبراهیم بن عبد اللّه بن حسن بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب فی ذی الحجة سنة خمس و أربعین و مائة، لینصبوه فی المسجد الجامع، و قامت الخطباء فذکروا أمره.
و تبر هذا أحد الأمراء الأکابر فی أیام الأستاذ کافور الإخشیدیّ، فلما قدم جوهر القائد من المغرب بالعساکر ثار تبر الإخشیدیّ هذا فی جماعة من الکافوریة و الإخشیدیة و حاربه، فانهزم بمن معه إلی أسفل الأرض، فبعث جوهر یستعطفه فلم یجب و أقام علی الخلاف، فسیر إلیه عسکرا حاربه بناحیة صهرجت فانکسر و صار إلی مدینة صور التی کانت علی الساحل فی البحر، فقبض علیه بها و أدخل إلی القاهرة علی فیل، فسجن إلی صفر سنة ستین و ثلاثمائة، فاشتدّت المطالبة علیه، و ضرب بالسیاط و قبضت أمواله، و حبس عدّة من أصحابه بالمطبق فی القیود إلی ربیع الآخر منها، فجرح نفسه و أقام أیاما مریضا و مات، فسلخ بعد موته و صلب عند کرسی الجبل. و قال ابن عبد الظاهر أنه حشی جلدة تبنا و صلب، فربما سمت العامّة مسجده بذلک لما ذکرناه، و قیل أن تبرا هذا خادم الدولة المصریة، و قبره بالمسجد المذکور. قال مؤلفه: هذا وهم و إنما هو تبر الإخشیدیّ.

مسجد القطبیة

هذا المسجد کان حیث المدرسة المنصوریة بین القصرین و اللّه أعلم.

ذکر الخوانک

اشارة

الخوانک جمع خانکاه، و هی کلمة فارسیة معناها بیت، و قیل أصلها خونقاه، أی الموضع الذی یأکل فیه الملک. و الخوانک حدثت فی الإسلام فی حدود الأربعمائة من سنی الهجرة، و جعلت لتخلی الصوفیة فیها لعبادة اللّه تعالی. قال الأستاذ أبو القاسم عبد الکریم بن هوازن القشیریّ رحمه اللّه: اعلموا أن المسلمین بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم لم یتسمّ أفاضلهم فی عصرهم بتسمیة علم سوی صحبة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، إذ لا فضیلة فوقها، فقیل لهم الصحابة، و لما أدرک أهل العصر الثانی، سمیّ من صحب الصحابة التابعین، و رأوا ذلک أشرف سمة. ثم قیل لمن بعدهم أتباع التابعین، ثم اختلف الناس و تباینت المراتب، فقیل لخواص خواص الناس ممن لهم شدّة عنایة بأمر الدین الزهّاد و العبّاد، ثم ظهرت البدع و حصل التداعی بین الفرق، فکلّ فریق ادّعوا أنّ فیهم زهادا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع اللّه الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوّف، و اشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأکابر قبل المائتین من الهجرة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 281
قال: و هذه التسمیة غلبت علی هذه الطائفة، فیقال رجل صوفیّ، و للجماعة الصوفیة، و من یتوصل إلی ذلک یقال له متصوّف، و للجماعة المتصوّفة، و لیس یشهد لهذا الاسم من حیث العربیة قیاس و لا اشتقاق، و او ظهر فیه أنه کاللّقب، فأمّا قول من قال أنه من الصوف، و تصوف إذا لبس الصوف کما یقال تقمص إذا لبس القمیص، فذلک وجه، و لکن القوم لم یختصوا بلبس الصوف. و من قال: إنهم ینسبون إلی صفة مسجد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، فالنسبة إلی الصفة لا تجی‌ء علی نحو الصوفیّ. و من قال إنه من الصفاء، فاشتقاق الصوفیّ من الصفاء بعید فی مقتضی اللغة، و قول من قال أنه مشتق من الصف، فکأنهم فی الصف الأوّل بقلوبهم من حیث المحاضرة مع اللّه تعالی، فالمعنی صحیح، لکنّ اللغة لا تقتضی هذه النسبة من الصف، ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن یحتاج فی تعیینهم إلی قیاس لفظ و استحقاق اشتقاق، و اللّه أعلم. و قال الشیخ شهاب الدین أبو حفص عمر بن محمد السهروردیّ رحمه اللّه: و الصوفیّ یضع الأشیاء فی مواضعها، و یدبر الأوقات و الأحوال کلها بالعلم، یقیم الخلق مقامهم، و یقیم أمر الحق مقامه، و یستر ما ینبغی أن یستر، و یظهر ما ینبغی أن یظهر، و یأتی بالأمور من مواضعها بحضور عقل و صحة توحید و کمال معرفة و رعایة صدق و إخلاص، فقوم من المفتونین لبسوا ألبسة الصوفیة لینسبوا إلیهم و ما هم منهم بشی‌ء، بل هم فی غرور و غلط، یتسترون بلبسة الصوفیة توقیا تارة و دعوة أخری، و ینتهجون مناهج أهل الإباحة و یزعمون أن ضمائرهم خلصت إلی اللّه تعالی، و أن هذا هو الظفر بالمراد و الارتسام بمراسم الشریعة، رتبة العوام و القاصرین الإفهام، و هذا هو عین الإلحاد و الزندقة و الإبعاد، و للّه در القائل:
تنازع الناس فی الصوفیّ و اختلفوافیه و ظنوه مشتقا من الصوف
و لست انحل هذا الاسم غیر فتی‌صافی و صوفی حتی سمیّ الصوفی
قال مؤلفه: ذهب و اللّه ما هنالک و صارت الصوفیة. کما قال الشیخ فتح الدین محمد بن محمد بن سید الناس الیعمری:
ما شروط الصوفی فی عصرنا الیوم سوی ستة بغیر زیاده
و هی نیک العلوق و السکر و السطلة و الرقص و الغنا و القیاده
و إذا ما هذی و أبدی اتحاداو حلولا من جهله أو إعاده
و أتی المنکرات عقلا و شرعافهو شیخ الشیوخ ذو السجّاده
ثم تلاشی الآن حال الصوفیة و مشایخها حتی صاروا من سقط المتاع، لا ینسبون إلی علم و لا دیانة، و إلی اللّه المشتکی. و أوّل من اتخذ بیتا للعبادة زید بن صوحان بن صبرة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 282
و ذلک أنه عمد إلی رجال من أهل البصرة قد تفرّغوا للعبادة و لیس لهم تجارات و لا غلات، فبنی لهم دورا و أسکنهم فیها و جعل لهم ما یقوم بمصالحهم من مطعم و مشرب و ملبس و غیره، فجاء یوما لیزورهم فسأل عنهم فإذا عبد اللّه بن عامر عامل البصرة لأمیر المؤمنین عثمان بن عفان رضی اللّه عنه قد دعاهم. فأتاه فقال له: یا ابن عامر ما ترید من هؤلاء القوم؟ قال: أرید أن أقرّبهم فیشفعوا فأشفعهم، و یسألوا فأعطیهم، و یشیروا علیّ فأقبل منهم. فقال: لا و لا کرامة، فتأتی إلی قوم قد انقطعوا إلی اللّه تعالی فتدنسهم بدنیاک و تشرکهم فی أمرک، حتی إذا ذهبت أدیانهم أعرضت عنهم فطاحوا لا إلی الدنیا و لا إلی الآخرة، قوموا فارجعوا إلی مواضعکم. فقاموا، فأمسک ابن عامر فما نطق بلفظة. ذکره أبو نعیم.

الخانکاه الصلاحیة، دار سعید السعداء، دویرة الصوفیة

هذه الخانکاه بخط رحبة باب العید من القاهرة، کانت أوّلا دارا تعرف فی الدولة الفاطمیة بدار سعید السعداء، و هو الأستاذ قنبر، و یقال عنبر. و ذکر ابن میسر أن اسمه بیان، و لقبه سعید السعداء، أحد الأستاذین المحنکین خدّام القصر، عتیق الخلیفة المستنصر، قتل فی سابع شعبان سنة أربع و أربعین و خمسمائة، و رمی برأسه من القصر، ثم صلبت جثته بباب زویلة من ناحیة الخرق، و کانت هذه الدار مقابل دار الوزارة. فلما کانت وزارة العادل رزیک بن الصالح طلائع بن رزیک سکنها و فتح من دار الوزارة إلیها سردابا تحت الأرض لیمرّ فیه، ثم سکنها الوزیر شاور بن مجیر فی أیام وزارته، ثم ابنه الکامل. فلما استبدّ الناصر صلاح الدین یوسف بن أیوب بن شادی بملک مصر بعد موت الخلیفة العاضد، و غیر رسوم الدولة الفاطمیة، و وضع من قصر الخلافة، و أسکن فیه أمراء دولته الأکراد، عمل هذه الدار برسم الفقراء الصوفیة الواردین من البلاد الشاسعة، و وقفها علیهم فی سنة تسع و ستین و خمسمائة، و ولی علیهم شیخا، و وقف علیهم بستان الحبانیة بجوار برکة الفیل خارج القاهرة، و قیساریة الشراب بالقاهرة، و ناحیة دهمر، و من البهنساویة، و شرط أنّ من مات من الصوفیة و ترک عشرین دینارا فما دونها کانت للفقراء، و لا یتعرّض لها الدیوان السلطانیّ، و من أراد منهم السفر یعطی تسفیره، و رتّب للصوفیة فی کلّ یوم طعاما و لحما و خبزا، و بنی لهم حمّاما بجوارهم، فکانت أوّل خانکاه عملت بدیار مصر. و عرفت بدویرة الصوفیة، و نعت شیخها بشیخ الشیوخ، و استمرّ ذلک بعده إلی أن کانت الحوادث و المحن منذ سنة ست و ثمانمائة، و اتضعت الأحوال و تلاشت الرتب، فلقب کل شیخ خانکاه بشیخ الشیوخ، و کان سکانها من الصوفیة یعرفون بالعلم و الصلاح و ترجی برکتهم، و ولی مشیختها الأکابر و الأعیان کأولاد شیخ الشیوخ بن حمویه، مع ما کان لهم من الوزارة و الإمارة و تدبیر الدولة و قیادة الجیوش و تقدمة العساکر. و ولیها ذو الریاستین الوزیر الصاحب قاضی القضاة تقیّ الدین عبد الرحمن بن ذی الریاستین الوزیر الصاحب قاضی القضاة تاج الدین ابن بنت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 283
الأعز، و جماعة من الأعیان، و نزل بها الأکابر من الصوفیة.
و أخبرنی الشیخ أحمد بن علیّ القصار رحمه اللّه: أنه أدرک الناس فی یوم الجمعة یأتون من مصر إلی القاهرة لیشاهدوا صوفیة خانقاه سعید السعداء عند ما یتوجهون منها إلی صلاة الجمعة بالجامع الحاکمیّ، کی تحصل لهم البرکة و الخیر بمشاهدتهم، و کان لهم فی یوم الجمعة هیئة فاضلة، و ذلک أنه یخرج شیخ الخانقاه منها و بین یدیه خدّام الربعة الشریفة قد حملت علی رأس أکبرهم، و الصوفیة مشاة بسکون و خفر إلی باب الجامع الحاکمیّ الذی یلی المنبر، فیدخلون إلی مقصورة کانت هناک علی یسرة الداخل من الباب المذکور تعرف بمقصورة البسملة، فإنه بها إلی الیوم بسملة قد کتبت بحروف کبار، فیصلی الشیخ تحیة المسجد تحت سحابة منصوبة له دائما، و تصلی الجماعة، ثم یجلسون و تفرّق علیهم أجزاء الربعة فیقرؤون القرآن حتی یؤذن المؤذنون، فتؤخذ الأجزاء منهم و یشتغلون بالترکع و استماع الخطبة، و هم منصتون خاشعون، فإذا قضیت الصلاة و الدعاء بعدها قام قاری‌ء من قرّأ الخانقاه و رفع صوته بقراءة ما تیسر من القرآن، و دعا للسلطان صلاح الدین، و لواقف الجامع و لسائر المسلمین، فإذا فرغ قام الشیخ من مصلاه و سار من الجامع إلی الخانقاه و الصوفیة معه کما کان توجههم إلی الجامع، فیکون هذا من أجمل عواید القاهرة، و ما برح الأمر علی ذلک إلی أن ولی الأمیر یلبغا السالمیّ نظر الخانقاه المذکورة فی یوم الجمعة ثامن عشر جمادی الآخرة سنة سبع و تسعین و سبعمائة، فنزل إلیها و أخرج کتاب الوقف، و أراد العمل بما فیه من شرط الواقف، فقطع من الصوفیة المنزلین بها عشرات ممن له منصب و من هو مشهور بالمال، و زاد الفقراء المجرّدین و هم المقیمون بها فی کلّ یوم رغیفا من الخبز، فصار لکلّ مجرّد أربعة أرغفة بعد ما کانت ثلاثة، و رتب بالخانقاه وظیفتی ذکر بعد صلاة العشاء الآخرة و بعد صلاة الصبح، فکثر النکیر علی السالمیّ ممن أخرجهم، و زاد الإشلاء.
فقال بعض أدباء العصر فی ذلک:
یا أهل خانقة الصلاح أراکم‌ما بین شاک للزمان و شاتم
یکفیکم ما قد أکلتم باطلامن وقفها و خرجتم بالسّالم
و کان سبب ولایة السالمیّ نظر الخانقاه المذکورة، أن العادة کانت قدیما أنّ الشیخ هو الذی یتحدّث فی نظرها، فلما کانت أیام الظاهر برقوق ولی مشیختها شخص یعرف بالشیخ محمد البلالیّ قدم من البلاد الشامیة، و صار للأمیر سودون الشیخونیّ نائب السلطنة بدیار مصر فیه اعتقاد، فلما سعی له فی المشیخة و استقرّ فیها بتعیینه، سأله أن یتحدّث فی النظر إعانة له، فتحدّث، و کانت عدّة الصوفیة بها نحو الثلاثمائة رجل، لکلّ منهم فی الیوم ثلاثة أرغفة زنتها ثلاثة أرطال خبز، و قطعة لحم زنتها ثلث رطل فی مرق، و یعمل لهم الحلوی فی کلّ شهر، و یفرّق فیهم الصابون، و یعطی کلّ منهم فی السنة عن ثمن کسوة قدر أربعین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 284
درهما، فنزّل الأمیر سودون عندهم جماعة کثیرة عجز ریع الوقف عن القیام لهم بجمیع ما ذکر، فقطعت الحلوی و الصابون و الکسوة، ثم إن ناحیة دهمر و شرقّت فی سنة تسع و تسعین لقصور ماء النیل، فوقع العزم علی غلق مطبخ الخانقاه و إبطال الطعام، فلم تحتمل الصوفیة ذلک و تکرّرت شکواهم للملک الظاهر برقوق، فولّی الأمیر یلبغا السالمیّ النظر، و أمره أن یعمل بشرط الواقف.
فلما نزل إلی الخانقاه و تحدّث فیها، اجتمع بشیخ الإسلام سراج الدین عمر بن رسلان البلقینیّ و أوقفه علی کتاب الوقف، فأفتاه بالعمل بشرط الواقف، و هو أن الخانقاه تکون وقفا علی الطائفة الصوفیة الواردین من البلاد الشاسعة و القاطنین بالقاهرة و مصر، فإن لم یوجدوا کانت علی الفقراء من الفقهاء الشافعیة و المالکیة الأشعریة الاعتقاد، ثم إنه جمع القضاة و شیخ الإسلام و سائر صوفیة الخانقاه بها و قرأ علیهم کتاب الوقف، و سأل القضاة عن حکم اللّه فیه، فانتدب للکلام رجلان من الصوفیة، هما زین الدین أبو بکر القمنیّ، و شهاب الدین أحمد العبادیّ الحنفیّ، و ارتفعت الأصوات و کثر اللغط، فأشار القضاة علی السالمیّ أن یعمل بشرط الواقف و انصرفوا، فقطع منهم نحو الستین رجلا، منهم المذکوران، فامتعض العبادیّ و غضب من ذلک و شنّع بأنّ السالمیّ قد کفر، و بسط لسانه بالقول فیه، و بدت منه سماجات فقبض علیه السالمیّ و هو ماش بالقاهرة، فاجتمع عدّة من الأعیان و فرّقوا بینهما، فبلغ ذلک السلطان فأحضر القضاة و الفقهاء و طلب العبادیّ فی یوم الخمیس ثامن شهر رجب و ادّعی علیه السالمیّ، فاقتضی الحال تعزیره، فعزر و کشف رأسه و أخرج من القلعة ماشیا بین یدی القضاة و والی القاهرة إلی باب زویلة، فسجن بحبس الدیلم، ثم نقل منه إلی حبس الرحبة، فلما کان یوم السبت حادی عشرة، استدعی إلی دار قاضی القضاة جمال الدین محمود القیصریّ الحنفیّ، و ضرب بحضرة الأمیر علاء الدین علیّ بن الطبلاویّ والی القاهرة نحو الأربعین ضربة بالعصا تحت رجلیه، ثم أعید إلی الحبس، و أفرج عنه فی ثامن عشرة بشفاعة شیخ الإسلام فیه، و لما جدّد الأمیر یلبغا السالمیّ الجامع الأقمر، و عمل له منبرا و أقیمت به الجمعة فی شهر ربیع الأوّل سنة إحدی و ثمانمائة، الزم الشیخ بالخانقاه و الصوفیة أن یصلوا الجمعة به، فصاروا یصلّون الجمعة فیه إلی أن زالت أیام السالمیّ، فترکوا الاجتماع بالجامع الأقمر، و لم یعودوا إلی ما کانوا علیه من الاجتماع بالجامع الحاکمیّ، و نسی ذلک. و لم یکن بهذه الخانقاه مئذنة، و الذی بنی هذه المئذنة شیخ ولی مشیختها فی سنة بضع و ثمانین و سبعمائة، یعرف بشهاب الدین أحمد الأنصاریّ، و کان الناس یمرّون فی صحن الخانقاه بنعالهم، فجدّد شخص من الصوفیة بها یعرف بشهاب الدین أحمد العثمانیّ هذا الدرابزین و غرس فیه هذه الأشجار، و جعل علیها وقفا لمن یتعاهدها بالخدمة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 285

خانقاه رکن الدین بیبرس

هذه الخانقاه من جملة دار الوزارة الکبری التی تقدّم ذکرها عند ذکر القصر من هذا الکتاب، و هی أجلّ خانقاه بالقاهرة بنیانا، و أوسعها مقدارا و أتقنها صنعة، بناها الملک المظفر رکن الدین بیبرس الجاشنکیر المنصوریّ قبل أن یلی السلطنة، و هو أمیر. فبدأ فی بنائها فی سنة ست و سبعمائة، و بنی بجانبها رباطا کبیرا یتوصل إلیه من داخلها، و جعل بجانب الخانقاه قبة بها قبره، و لهذه القبة شبابیک تشرف علی الشارع المسلوک فیه من رحبة باب العید إلی باب النصر، من جملتها الشباک الکبیر الذی حمله الأمیر أبو الحارث البساسیریّ من بغداد، لما غلب الخلیفة القائم العباسیّ و أرسل بعمامته و شباکه الذی کان بدار الخلافة فی بغداد، و تجلس الخلفاء فیه، و هو هذا الشباک کما ذکر فی أخبار دار الوزارة من هذا الکتاب. فلما ورد هذا الشباک من بغداد عمل بدار الوزارة و استمر فیها إلی أن عمر الأمیر بیبرس الخانقاه المذکورة فجعل هذا الشباک بقبة الخانقاه، و هو بها إلی یومنا هذا، و إنه لشباک جلیل القدر. حشم یکاد یتبین علیه أبهة الخلافة. و لما شرع فی بنائها رفق بالناس و لا طفهم و لم یعسف فیها أحدا فی بنائها و لا أکره صانعا و لا غصب من آلاتها شیئا، و إنما اشتری دار الأمیر عز الدین الأفرم التی کانت بمدینة مصر، و اشتری دار الوزیر هبة اللّه بن صاعد الفائزیّ، و أخذ ما کان فیهما من الأنقاض، و اشتری أیضا دار الأنماط التی کانت برأس حارة الجودریة من القاهرة و نقضها و ما حولها، و اشتری أملاکا کانت قد بنیت فی أرض دار الوزارة من ملاکها بغیر إکراه و هدمها، فکان قیاس أرض الخانقاه و الرباط و القبة نحو فدّان و ثلث.
و عندما شرع فی بنائها حضر إلیه الأمیر ناصر الدین محمد ابن الأمیر بکتاش الفخریّ أمیر سلاح، و أراد التقرّب لخاطره، و عرّفه أن بالقصر الذی فیه سکن أبیه مغارة تحت الأرض کبیرة یذکر أنّ فیها ذخیرة من ذخائر الخلفاء الفاطمیین، و أنهم لما فتحوها لم یجدوا بها سوی رخام کثیر فسدّوها و لم یتعرّضوا لشی‌ء مما فیها، فسرّ بذلک و بعث عدّة من الأمراء فتحوا المکان فإذا فیه رخام جلیل القدر عظیم الهیئة، فیه ما لا یوجد مثله لعظمه، فنقله من المغارة و رخم منه الخانقاه و القبة و داره التی بالقرب من البندقانیین و حارة زویلة، و فضل منه شی‌ء کثیر عهدی أنه مختزن بالخانقاه، و أظنه أنه باق هناک. و لما کملت فی سنة تسع و سبعمائة، قرّر بالخانقاه أربعمائة صوفیّ، و بالرباط مائة من الجند و أبناء الناس الذین قعد بهم الوقت، و جعل بها مطبخا یفرّق علی کلّ منهم فی کلّ یوم اللحم و الطعام و ثلاثة أرغفة من خبز البرّ، و جعل لهم الحلوی، و رتب بالقبة درسا للحدیث النبویّ له مدرّس، و عنده عدّة من المحدّثین، و رتب القرّاء بالشباک الکبیر یتناوبون القراءة فیه لیلا و نهارا، و وقف علیها عدّة ضیاع بدمشق و حماه و منیة المخلص
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 286
بالجیزة من أرض مصر و بالصعید و الوجه البحریّ و الربع و القیساریة بالقاهرة.
فلما خلع من السلطنة و قبض علیه الملک الناصر محمد بن قلاون و قتله، أمر بغلقها فغلقت، و أخذ سائر ما کان موقوفا علیها و محا اسمه من الطراز الذی بظاهرها فوق الشبابیک، و أقامت نحو عشرین سنة معطلة، ثم إنه أمر بفتحها فی أوّل سنة ست و عشرین و سبعمائة، ففتحت، و أعاد إلیها ما کان موقوفا علیها، و استمرّت إلی أن شرقت أراضی مصر لقصور مدّ النیل أیام الملک الأشرف شعبان بن حسین فی سنة ست و سبعین و سبعمائة، فبطل طعامها و تعطل مطبخها، و استمرّ الخبز و مبلغ سبعة دراهم لکلّ واحد فی الشهر بدل الطعام، ثم صار لکلّ واحد منهم فی الشهر عشرة دراهم، فلما قصر مدّ النیل فی سنة ست و تسعین و سبعمائة، بطل الخبز أیضا و غلق المخبز من الخانقاه، و صار الصوفیة یأخذون فی کلّ شهر مبلغا من الفلوس معاملة القاهرة، و هم علی ذلک إلی الیوم. و قد أدرکتها و لا یمکّن بوّابها غیر أهلها من العبور إلیها و الصلاة فیها لما لها فی النفوس من المهابة، و یمنع الناس من دخولها حتی الفقهاء و الأجناد، و کان لا ینزل بها أمرد، و فیها جماعة من أهل العلم و الخیر، و قد ذهب ما هنالک فنزل بها الیوم عدّة من الصغار و من الأساکفة و غیرهم من العامّة، إلّا أن أوقافها عامرة و أرزاقها دارّة بحسب نقود مصر، و من حسن بناء هذه الخانقاه أنه لم یحتج فیها إلی مرمّة منذ بنیت إلی وقتنا هذا، و هی مبنیة بالحجر و کلها عقود محکمة بدل السقوف الخشب، و قد سمعت غیر واحد یقول إنه لم تبن خانقاه أحسن من بنائها.
الملک المظفر رکن الدین بیبرس الجاشنکیر المنصوریّ: اشتراه الملک المنصور قلاون صغیرا و رقاه فی الخدم السلطانیة إلی أن جعله أحد الأمراء، و أقامه جاشنکیر و عرف بالشجاعة. فلما مات الملک المنصور خدم ابنه الملک الأشرف خلیلا إلی أن قتله الأمیر بیدرا بناحیة تروجة، فکان أوّل من رکب علی بیدرا فی طلب ثار الملک الأشرف، و کان مهابا بین خشداشیته فرکبوا معه، و کان من نصرتهم علی بیدرا و قتله ما قد ذکر فی موضعه، فاشتهر ذکره و صار أستادار السلطان فی أیام الملک الناصر محمد بن قلاون فی سلطنته الثانیة، رفیقا للأمیر سلار نائب السلطنة، و به قویت الطائفة البرجیة من الممالیک و اشتدّ بأسهم، و صار الملک الناصر تحت حجر بیبرس و سلار إلی أن أنف من ذلک و سار إلی الکرک، فأقیم بیبرس فی السلطنة یوم السبت ثالث عشری شوّال سنة ثمان و سبعمائة، فاستضعف جانبه و انحط قدره و نقصت مهابته، و تغلب علیه الأمراء و الممالیک، و اضطربت أمور المملکة لمکان الأمیر سلار و کثرة حاشیته و میل القلوب إلی الملک الناصر، و فی أیامه عمل الجسر من قلیوب إلی مدینة دمیاط و هو مسیرة یومین طولا فی عرض أربع قصبات من أعلاه، و ست قصبات من أسفله، حتی أنه کان یسیر علیه ستة من الفرسان معا بحذاء بعضهم، و أبطل سائر الخمارات من السواحل و غیرها من بلاد الشام، و سامح بما کان من المقرّر علیها للسلطان، و عوّض الأجناد بدله، و کبست أماکن الریب و الفواحش بالقاهرة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 287
و مصر، و أریقت الخمور و ضرب أناس کثیر فی ذلک بالمقارع، و تتبع أماکن الفساد و بالغ فی إزالته، و لم یراع فی ذلک أحدا من الکتاب و لا من الأمراء، فخف المنکر و خفی الفساد، إلا أن اللّه أراد زوال دولته، فسوّلت له نفسه أن بعث إلی الملک الناصر بالکرک یطلب منه ما خرج به معه من الخیل و الممالیک، و حمل الرسول إلیه بذلک مشافهة أغلظ علیه فیها، فحنق من ذلک و کاتب نوّاب الشام و أمراء مصر فی السرّ یشکو ما حلّ به، و ترفق بهم و تلطف بهم فرقوا له و امتعضوا لما به، و نزل الناصر من الکرک و برز عنها، فاضطرب الأمر بمصر و اختلّ الحال من بیبرس و أخذ العسکر یسیر من مصر إلی الناصر شیئا بعد شی‌ء، و سار الناصر من ظاهر الکرک یرید دمشق فی غرّة شعبان سنة تسع و سبعمائة، فعندما نزل الکسوة خرج الأمراء و عامّة أهل دمشق إلی لقائه، و معهم شعار السلطنة، و دخلوا به إلی المدینة و قد فرحوا به فرحا کثیرا، فی ثانی عشر شعبان، و نزل بالقلعة و کاتب النوّاب فقدموا علیه و صارت ممالک الشام کلها تحت طاعته یخطب له بها و یجبی إلیه مالها، ثم خرج من دمشق بالعساکر یرید مصر، و أمر بیبرس کلّ یوم فی نقص إلی أن کان یوم الثلاثاء سادس عشر رمضان، فترک بیبرس المملکة و نزل من قلعة الجبل و معه خواصه إلی جهة باب الفراقة، و العامّة تصیح علیه و تسبه و ترجمه بالحجارة، عصبیة للملک الناصر و حبا له، حتّی سار عن القرافة، و دعا الحرس بالقلعة فی یوم الأربعاء للملک الناصر، فکانت مدّة سلطنة بیبرس عشرة أشهر و أربعة و عشرین یوما، و قدم الملک الناصر إلی قلعة الجبل أوّل یوم من شوّال، و جلس علی تخت المملکة و استولی علی السلطنة مرّة ثالثة، و نزل بیبرس بأطفیح ثم سار منها إلی أخمیم، فلما صار بها تفرّق عنه من کان معه من الأمراء و الممالیک فصاروا إلی الملک الناصر، فتوجه فی نفر یسیر علی طریق السویس یرید بلاد الشام فقبض علیه شرقیّ غزة و حمل مقیدا إلی الملک الناصر، فوصل قلعة الجبل یوم الأربعاء ثالث عشر ذی القعدة، و أوقف بین یدی السلطان و قبّل الأرض، فعنفه و عدّد علیه ذنوبا و وبخه، ثم أمر به فسجن فی موضع إلی لیلة الجمعة خامس عشرة، و فیها لحق بربه تعالی، فحمل إلی القرافة و دفن فی تربة الفارس أقطای، ثم نقل منها بعد مدّة إلی تربته بسفح المقطم فقبر بها زمانا طویلا، ثم نقل منها ثالث مرّة إلی خانقاهه و دفن بقبتها، و قبره هناک إلی یومنا هذا.، و أدرکت بالخانقاه المذکورة شیخا من صوفیتها أخبرنی أنه حضر نقله من ترتبه بالقرافة إلی قبة الخانقاه، و أنه تولی وضعه فی مدفنه بنفسه، و کان رحمه اللّه خیّرا عفیفا کثیر الحیاء وافر الحرمة جلیل القدر عظیما فی النفوس مهاب السطوة فی أیام أمرته، فلما تلقب بالسلطنة و وسم باسم الملک، اتضع قدره و استضعف جانبه، و طمع فیه، و تغلب علیه الأمراء و الممالیک، و لم تنجح مقاصده و لا سعد فی شی‌ء من تدبیره إلی أن انقضت أیامه و أناخ به حمامه. رحمه اللّه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 288

الخانقاه الجمالیة

هذه الخانقاه بالقرب من درب راشد، یسلک إلیها من رحبة باب العید، بناها الأمیر الوزیر مغلطای الجمالیّ فی سنة ثمانین و سبعمائة، و قد تقدّم ذکرها عند ذکر المدارس من هذا الکتاب.

الخانقاه الظاهریة

هذه الخانقاه بخط بین القصرین فیما بین المدرسة الناصریة و دار الحدیث الکاملیة، أنشأها الملک الظاهر برقوق فی سنة ست و ثمانین و سبعمائة، و قد ذکرت عند ذکر الجوامع من هذا الکتاب.

الخانقاه الشرابیشیة

هذه الخانقاه فیما بین الجامع الأقمر و حارة برجوان فی آخر المنحر الذی کان للخلفاء، و هو یعرف الیوم بالدرب الأصفر، و یتوصل منها إلی الدرب الأصفر تجاه خانقاه بیبرس، و بابها الأصلیّ من زقاق ضیق بوسط سوق حارة برجوان، أنشأها الصدر الأجل نور الدین علیّ بن محمد بن محاسن الشرابیشیّ، و کان من ذوی الغنی و الیسار، صاحب ثراء متسع، وله عدّة أوقاف علی جهات البرّ و القربات و مات فی ... .

الخانقاه المهمنداریة

هذه الخانقاه خارج باب زویلة فیما بین رأس حارة الیانسیة و جامع الماردینیّ، بناها الأمیر شهاب الدین أحمد بن أقوش العزیزیّ المهمندار، و نقیب الجیوش، فی سنة خمس و عشرین و سبعمائة، و قد ذکرت فی المدارس من هذا الکتاب.

خانقاه بشتاک

هذه الخانقاه خارج القاهرة علی جانب الخلیج من البرّ الشرقیّ تجاه جامع بشتاک، أنشأها الأمیر سیف الدین بشتاک الناصریّ، و کان فتحها أوّل یوم من ذی الحجة سنة ست و ثلاثین و سبعمائة، و استقرّ فی مشیختها شهاب الدین القدسیّ، و تقرّر عنده عدّة من الصوفیة و أجری لهم الخبز و الطعام فی کلّ یوم، فاستمرّ ذلک مدّة ثم بطل، و صار یصرف لأربابها عوضا عن ذلک فی کلّ شهر مبلغ، و هی عامرة إلی وقتنا هذا، و قد نسب إلیها جماعة منهم الشیخ الأدیب البارع بدر الدین محمد بن إبراهیم المعروف بالبدر البشتکی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 289

خانقاه ابن غراب

هذه الخانقاه خارج القاهرة علی الخلیج الکبیر من برّه الشرقیّ بجوار جامع بشتاک من غریبه، أنشأها القاضی الأمیر سعد الدین إبراهیم بن عبد الرزاق بن غراب الإسکندرانیّ، ناظر الخاص و ناظر الجیوش و أستادار السلطان، و کاتب السرّ، و أحد أمراء الألوف الأکابر، أسلم جد غراب و باشر بالإسکندریة حتی ولی نظر الثغر، و نشأ ابنه عبد الرزاق هناک، فولی أیضا نظر الإسکندریة، و ولد له ماجد و إبراهیم. فلما تحکم الأمیر جمال الدین محمود بن علیّ فی الأموال أیام الملک الظاهر برقوق، اختص بإبراهیم و حمله إلی القاهرة و هو صبیّ و اعتنی به و استکتبه فی خاص أمواله حتی عرفها، فتنکر محمود علیه لأمر بدا منه فی ماله، و همّ به فبادر إلی الأمیر علاء الدین علیّ بن الطبلاویّ و ترامی علیه، و هو یومئذ قد نافس محمودا فأوصله بالسلطان و أمکنه من سماع کلامه، فملأ أذنه بذکر أموال محمود و وغر صدره علیه حتی نکبه و استصفی أمواله، کما ذکر فی خبره عند ذکر مدرسة محمود من هذا الکتاب، و ولی ابن غراب نظر الدیوان المفرد فی حادی عشر صفر سنة ثمان و تسعین و سبعمائة، و عمره عشرون سنة أو نحوها، و هی أوّل وظیفة ولیها، فاختص بابن الطبلاویّ و لازمه و ملأ عینه بکثرة المال، فتحدّث له فی وظیفة نظر الخاص عوضا عن سعد الدین أبی الفرج بن تاج الدین موسی، فولیها فی تاسع عشر ذی القعدة، و غص بمکان ابن الطبلاویّ فعمل علیه عند السلطان حتی غیره علیه و ولاه أمره، فقبض علیه فی داره و علی سائر أسبابه فی شعبان فی سنة ثمانمائة، ثم أضیف إلیه نظر الجیوش عوضا عن شرف الدین محمد الدمامینیّ فی تاسع ذی القعدة سنة ثمانمائة، فعفّ عن تناول الرسوم و أظهر من الفخر و الحشمة و المکارم أمرا کبیرا، و قدّر اللّه موت السلطان فی شوّال سنة إحدی و ثمانمائة بعد ما جعله من جملة أوصیائه، فباطن الأمیر یشبک الخازندار علی إزالة الأمیر الکبیر أیتمش القائم بدولة الناصر فرج بن برقوق، و عمل لذلک أعمالا حتی کانت الحرب بعد موت السلطان الملک الظاهر بین الأمیر أیتمش و بین الأمیر یشبک، فی ربیع الأوّل سنة اثنتین و ثمانمائة، التی انهزم فیها أیتمش و عدّة من الأمراء إلی الشام، و تحکم الأمیر یشبک فاستدعی عند ذلک ابن غراب أخاه فخر الدین ماجدا من الإسکندریة، و هو یلی نظرها إلی قلعة الجبل، و فوّضت إلیه وزارة الملک الناصر فرج بن برقوق، فقاما بسائر أمور الدولة إلی أن ولی الأمیر یلبغا السالمیّ الأستاداریة، فسلک معه عادته من المنافسة، و سعی به عند الأمیر یشبک حتی قبض علیه، و تقلد وظیفة الأستاداریة عوضا عن السالمیّ فی رابع عشر رجب سنة ثلاث و ثمانمائة، مضافا إلی نظر الخاص و نظر الجیوش، فلم یغیر زیّ الکتاب، و صار له دیوان کدواوین الأمراء، و دقت الطبول علی بابه، و خاطبه الناس و کاتبوه بالأمیر، و سار فی ذلک سیرة ملوکیة من کثرة العطاء و زیادة الأسمطة و الاتساع فی الأمور، و الازدیاد من الممالیک
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 290
و الخیول، و الاستکثار من الخول و الحواشی، حتی لم یکن أحد یضاهیه فی شی‌ء من أحواله، إلی أن تنازع الأمیران حکم و سودون طاز مع الأمیر یشبک، فکان هو المتولی کبر تلک الحروب، ثم إنه خرج من القاهرة مغاضبا لأمراء الدولة، و صار إلی ناحیة تروجة یرید جمع العربان و محاربة الدولة، فلم یتم له ذلک. و عاد فدخل القاهرة علی حین غفلة، فنزل عند جمال الدین یوسف الأستادار، فقام بإصلاح أمره مع الأمراء حتی حصل له الغرض، فظهر و استولی علی ما کان علیه إلی أن تنکرت رجال الدولة علی الملک الناصر فرج، فقام مع الأمیر یشبک بحرب السلطان إلی أن انهزم الأمیر یشبک بأصحابه إلی الشام، فخرج معه فی سنة تسع و ثمانمائة، و أمدّه و من معه بالأموال العظیمة حتی صاروا عند الأمیر شیخ نائب الشام، و استفز العساکر لقتال الملک الناصر و حرّضهم علی المسیر إلی حربه، و خرج من دمشق مع العساکر یرید القاهرة، و کان من وقعة السعیدیة ما کان علی ما هو مذکور فی خبر الملک الناصر عند ذکر الخانقاه الناصریة من هذا الکتاب، فاختفی الأمیر یشبک و طائفة من الأمراء بالقاهرة، و لحق ابن غراب بالأمیر اینال پای بن قجماس، و هو یومئذ أکبر الأمراء الناصریة، و ملأ عینه بالمال، فتوسط له مع الملک الناصر حتی أمنه و أصبح فی داره و جمیع الناس علی بابه، ثم تقلد وظیفة نظر الجیوش و اختص بالسلطان، و ما زال به حتی استرضاه علی الأمیر یشبک و من معه من الأمراء، و ظهروا من الاستتار و صاروا بقلعة الجبل، فخلع علیهم السلطان و أمّرهم و صاروا إلی دورهم، فثقل علی ابن غراب مکان فتح الدین فتح اللّه کاتب السرّ، فسعی به حتی قبض علیه و ولی مکانه کتابة السرّ لیتمکن من أغراضه. فلما استقرّ فی کتابة السرّ أخذ فی نقض دولة الناصر إلی أن تم له مراده، و صارت الدولة کلها علی الناصر، فخلا به و خیل له و حسّن له الفرار، فانقاد له و ترامی علیه، فأعدّ له رجلین أحدهما من ممالیکه و معهما فرسان، و وقفا بهما وراء القلعة، و خرج الناصر وقت القائلة و معه مملوک من ممالیکه یقال له بیغوت، و رکبا الفرسین و سارا إلی ناحیة طرا، ثم عادا مع قاصدی ابن غراب فی مرکب من المراکب النیلیة لیلا إلی دار ابن غراب و نزلا عنده، و قد خفی ذلک علی جمیع أهل الدولة، و قام ابن غراب بتولیة عبد العزیز بن برقوق و أجلسه علی تخت الملک عشاء، و لقبه بالملک المنصور، و دبر الدولة کما أحب مدّة سبعین یوما إلی أن أحس من الأمراء بتغیر، فأخرج الناصر لیلا و جمع علیه عدّة من الأمراء و الممالیک و رکب معه بلامة الحرب إلی القلعة، فلم یلبث أصحاب المنصور و انهزموا و دخل الناصر إلی القلعة و استولی علی المملکة ثانیا، فألقی مقالید الدولة إلی ابن غراب و فوّض إلیه ما وراء سریره و نظمه فی خاصته، و جعله من أکابر الأمراء و ناط به جمیع الأمور، فأصبح مولی نعمة کلّ من السلطان و الأمراء، یمنّ علیهم بأنه أبقی لهم مهجهم، و أعاد إلیهم سائر ما کانوا قد سلبوه من ملکهم، و أمدّهم بما له وقت حاجتهم وفاقتهم إلیه، و یفخر و یتکثر بأنه أقام دولة و أزال دولة، ثم أزال ما أقام و أقام ما أزال من غیر حاجة و لا ضرورة ألجأته إلی شی‌ء من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 291
ذلک، و أنه لو شاء أخذ الملک لنفسه، و ترک کتابة السرّ لغلامه و أحد کتابه فخر الدین بن المزوق ترفعا عنها و احتقارا بها، و لبس هیئة الأمراء، و هی الکلوتة و القباء و شدّ السیف فی وسطه، و تحوّل من داره التی علی برکة الفیل إلی دار بعض الأمراء بحدرة البقر، فغاضبه القضاة، و کان عند الانتهاء الانحطاط، و نزل به مرض الموت فنال فی مرضه من السعادة ما لم یسمع بمثله لأحد من أبناء جنسه، و صار الأمیر یشبک و من دونه من الأمراء یتردّدون إلیه، و أکثرهم إذا دخل علیه وقف قائما علی قدمیه حتی ینصرف إلی أن مات یوم الخمیس تاسع عشر شهر رمضان سنة ثمان و ثمانمائة، و لم یبلغ ثلاثین سنة.
و کانت جنازته أحد الأمور العجیبة بمصر لکثرة من شهدها من الأمراء و الأعیان و سائر أرباب الوظائف، بحیث استأجر الناس السقائف و الحوانیت لمشاهدتها، و نزل السلطان للصلاة علیه، و صعد إلی القلعة، فدفن خارج باب المحروق، و کان من أحسن الناس شکلا و أحلاهم منظرا و أکرمهم یدا مع تدین و تعفف عن القاذورات، و بسط ید بالصدقات، إلّا أنه کان غدّارا لا یتوانی عن طلب عدوّه، و لا یرضی من نکبته بدون إتلاف النفس، فکم ناطح کبشا و تل عرشا و عالج جبالا شامخة و اقتلع دولا من أصولها الراسخة، و هو أحد من قام بتخریب إقلیم مصر، فإنه ما زال یرفع سعر الذهب حتی بلغ کلّ دینار إلی مائتی درهم و خمسین درهما من الفلوس، بعد ما کان بنحو خمسة و عشرین درهما، ففسدت بذلک معاملة الإقلیم و قلت أمواله و غلت أسعار المبیعات، و ساءت أحوال الناس، إلی أن زالت البهجة و انطوی بساط الرقة، و کاد الإقلیم یدمر کما ذکر ذلک عند ذکر الأسباب التی نشأ عنها خراب مصر من هذا الکتاب، عفا اللّه عنه و سامحه، فلقد قام بمواراة آلاف من الناس الذین هلکوا فی زمان المحنة، سنة ست و سنة سبع و ثمانمائة، و تکفینهم، فلم ینس اللّه له ذلک و ستره کما ستر المسلمین، و ما کان ربک نسیا.

الخانقاه البندقداریة

هذه الخانقاه بالقرب من الصلیبة، کان موضعها یعرف قدیما بدویرة مسعود، و هی الآن تجاه المدرسة الفارقانیة و حمّام الفارقانی. أنشأها الأمیر علاء الدین أیدکین البندقداریّ الصالحیّ النجمیّ، و جعلها مسجدا للّه تعالی، و خانقاه، و رتب فیها صوفیة و قرّاء فی سنة ثلاث و ثمانین و ستمائة، و فی سنة ثمان و أربعین و ستمائة استنابه الملک المعز أیبک، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحیة مع نوّاب دار العدل، و إلی أیدکین هذا ینسب الملک الظاهر بیبرس البندقداریّ، لأنه کان أوّلا مملوکه، ثم انتقل منه إلی الملک الصالح نجم الدین أیوب، فعرف بین الممالیک البحریة ببیبرس البندقداریّ، و عاش أیدکین إلی أن صار بیبرس سلطان مصر و ولاه نیابة السلطنة بحلب، فی سنة تسع و خمسین و ستمائة، و کان الغلاء بها شدیدا، فلم تطل أیامه و فارقها بدمشق بعد محاربة سنقر الأشقر و القبض علیه، فی حادی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 292
عشر صفر سنة تسع و خمسین و ستمائة، فأقام فی النیابة نحو شهر، و صرفه الأمیر علاء الدین طیبرس الوزیریّ. فلما خرج السلطان إلی الشام فی سنة إحدی و ستین و ستمائة، و أقام بالطور، أعطاه أمرة بمصر و طبلخاناه فی ربیع الآخر منها، و مات فی ربیع الآخر سنة أربع و ثمانین و ستمائة، و دفن بقبة هذه الخانقاه.

خانقاه شیخو

هذه الخانقاه فی خط الصلیبة خارج القاهرة تجاه جامع شیخو، أنشأها الأمیر الکبیر سیف الدین شیخو العمریّ فی سنة ست و خمسین و سبعمائة، کان موضعها من جملة قطائع أحمد بن طولون، و آخر ما عرف من خبره أنه کان مساکن للناس، فاشتراها الأمیر شیخو من أربابها و هدمها فی المحرّم من هذه السنة، فکانت مساحة أرضها زیادة علی فدّان، فاختط فیها الخانقاه و حمّامین و عدّة حوانیت یعلوها بیوت لسکنی العامّة، و رتب بها دروسا عدّة، منها أربعة دروس لطوائف الفقهاء الأربعة، و هم الشافعیة و الحنفیة و المالکیة و الحنابلة، و درسا للحدیث النبویّ، و درسا لإقراء القرآن بالروایات السبع، و جعل لکلّ درس مدرّسا و عنده جماعة من الطلبة، و شرط علیهم حضور الدرس و حضور وظیفة التصوّف، و أقام شیخنا أکمل الدین محمد بن محمود فی مشیخة الخانقاه، و مدرّس الحنفیة، و جعل إلیه النظر فی أوقاف الخانقاه، و قرّر فی تدریس الشافعیة الشیخ بهاء الدین أحمد بن علیّ السبکیّ، و فی تدریس المالکیة الشیخ خلیلا، و هو متجند الشکل و له إقطاع فی الحلقة. و فی تدریس الحنابلة قاضی القضاة موفق الدین الحنبلیّ، و رتب لکل من الطلبة فی الیوم الطعام و اللحم و الخبز، و فی الشهر الحلوی و الزیت و الصابون، و وقف علیها الأوقاف الجلیلة، فعظم قدرها و اشتهر فی الأقطار ذکرها، و تخرّج بها کثیر من أهل العلم، و أربت فی العمارة علی کل وقف بدیار مصر إلی أن مات الشیخ أکمل الدین فی شهر رمضان سنة ست و ثمانین و سبعمائة، فولیها من بعده جماعة، و لما حدثت المحن کان بها مبلغ کبیر من المال الذی فاض عن مصروفها، فأخذه الملک الناصر فرج، و أخذت أحوالها تتناقص حتی صار المعلوم یتأخر صرفه لأرباب الوظائف بها عدّة أشهر، و هی إلی الیوم علی ذلک.

الخانقاه الجاولیة

هذه الخانقاه علی جبل یشکر بجوار مناظر الکبش، فیما بین القاهرة و مصر، أنشأها الأمیر علم الدین سنجر الجاولیّ فی سنة ثلاث و عشرین و سبعمائة، و قد تقدّم ذکرها فی المدارس.

خانقاه الجیبغا المظفری

هذه الخانقاه خارج باب النصر فیما بین قبة النصر و تربة عثمان بن جوشن السعودیّ، أنشأها الأمیر سیف الدین الجیبغا المظفریّ، و کان بها عدّة من الفقراء یقیمون بها و لهم فیها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 293
شیخ، و یحضرون فی کل یوم وظیفة التصوّف، و لهم الطعام و الخبز، و کان بجانبها حوض ماء لشرب الدواب، و سقّایة بها الماء العذب لشرب الناس، و کتّاب یقرأ فیه أطفال المسلمین الأیتام کتاب اللّه تعالی، و یتعلمون الخط، و لهم فی کلّ یوم الخبز و غیره، و ما برحت علی ذلک إلی أن أخرج الأمیر برقوق أوقافها، فتعطلت و أقام بها جماعة من الناس مدّة ثم تلاشی أمرها، و هی الآن باقیة من غیر أن یکون فیها سکان، و قد تعطل حوضها و بطل مکتب السبیل.
الجیبغا المظفریّ: الخاصکی، تقدّم فی أیام الملک المظفر حاجی بن الملک الناصر محمد بن قلاون، تقدّما کثیرا، بحیث لم یشارکه أحد فی رتبته. فلما قام الملک الناصر حسن بن محمد بن قلاون فی السلطنة أقرّه علی رتبته، و صار أحد أمراء المشورة الذین یصدر عنهم الأمر و النهی، فلما اختلف أمراء الدولة أخرج إلی دمشق فی ربیع الأوّل سنة تسع و أربعین و سبعمائة، و أقام بدمشق إلی شعبان، و سار إلی نیابة طرابلس عوضا عن الأمیر بدر الدین مسعود بن الخطیریّ، فلم یزل علی نیابتها إلی شهر ربیع الأوّل سنة خمسین و سبعمائة، فکتب إلی الأمیر أرغون شاه نائب دمشق یستأذنه فی التصید إلی الناعم ، فأذن له و سار من طرابلس و أقام علی بحیرة حمص أیاما یتصید، ثم رکب لیلا بمن معه و ساق إلی خان لاجین ظاهر دمشق، فوصله أوّل النهار و أقام به یومه، ثم رکب منه بمن معه لیلا و طرق أرغون شاه و هو بالقصر الأبلق، و قبض علیه و قیده فی لیلة الخمیس ثالث عشری شهر ربیع الأوّل، و أصبح و هو بسوق الخیل، فاستدعی الأمراء و أخرج لهم کتاب السلطان بإمساک أرغون شاه، فأذعنوا له و استولی علی أموال أرغون شاه. فلما کان یوم الجمعة رابع عشریه، أصبح أرغون شاه مذبوحا، فأشاع الجیبغا أن أرغون شاه ذبح نفسه، و فی یوم الثلاثاء أنکر الأمراء أمره و ثاروا لحربه، فرکب و قاتلهم و انتصر علیهم و قتل جماعة منهم و أخذ الأموال و خرج من دمشق و سار إلی طرابلس، فأقام بها، و ورد الخبر من مصر إلی دمشق بإنکار کل ما وقع و الاجتهاد فی مسک الجیبغا، فخرجت عساکر الشام إلیه ففرّ من طرابلس، فأدرکه عسکر طرابلس عند بیروت و حاربوه حتی قبضوا علیه، و حمل إلی عسکر دمشق فقید و سجن بقلعة دمشق فی لیلة السبت سادس عشر ربیع الآخر، هو و فخر الدین إیاس، ثم وسط بمرسوم السلطان تحت قلعة دمشق بحضور عساکر دمشق، و وسط معه الأمیر فخر الدین إیاس و علقا علی الخشب، فی ثامن عشر ربیع الآخر سنة خمسین و سبعمائة، و عمره دون العشرین سنة، فما طرّ شاربه و کأنه البدر حسنا و الغصن اعتدالا.

خانقاه سریاقوس

هذه الخانقاه خارج القاهرة من شمالیها علی نحو برید منها، بأوّل تیه بنی إسرائیل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 294
بسماسم سریاقوس، أنشأها السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون، و ذلک أنه لما بنی المیدان و الأحواش فی برکة الجبّ، کما ذکر فی موضعه من هذا الکتاب عند ذکر برکة الجب، اتفق أنه رکب علی عادته للصید هناک، فأخذه ألم عظیم فی جوفه کاد یأتی علیه و هو یتجلد و یکتم ما به حتی عجز، فنزل عن الفرس و الألم یتزاید به، فنذر للّه إن عافاه اللّه لیبنین فی هذا الموضع موضعا یعبد اللّه تعالی فیه، فخف عنه ما یجده، و رکب فقضی نهمته من الصید و عاد إلی قلعة الجبل، فلزم الفراش مدّة أیام ثم عوفی، فرکب بنفسه و معه عدّة من المهندسین، و اختط علی قدر میل من ناحیة سریاقوس هذه الخانقاه، و جعل فیها مائة خلوة لمائة صوفیّ، و بنی بجانبها مسجدا تقام به الجمعة، و بنی بها حمّاما و مطبخا، و کان ذلک فی ذی الحجة سنة ثلاث و عشرین و سبعمائة. فلما کانت سنة خمس و عشرین و سبعمائة، کمل ما أراد من بنائها، و خرج إلیها بنفسه و معه الأمراء و القضاة و مشایخ الخوانک، و مدّت هناک أسمطة عظیمة بداخل الخانقاه فی یوم الجمعة سابع جمادی الآخرة، و تصدّر قاضی القضاة بدر الدین محمد بن جماعة الشافعیّ لإسماع الحدیث النبویّ، و قرأ علیه ابنه عز الدین عبد العزیز عشرین حدیثا تساعیا، و سمع السلطان ذلک، و کان جمعا موفورا، و أجاز قاضی القضاة الملک الناصر و من حضر بروایة ذلک. و جمیع ما یجوز له روایته، و عند ما انقضی مجلس السماع قرّر السلطان فی مشیخة هذه الخانکاه الشیخ مجد الدین موسی بن أحمد بن محمود الأقصرائی، و لقّبه بشیخ الشیوخ، فصار یقال له ذلک و لکلّ من ولی بعده، و کان قبل ذلک لا یلقب بشیخ الشیوخ إلّا شیخ خانقاه سعید السعداء، و أحضرت التشاریف السلطانیة فخلع علی قاضی القضاة بدر الدین، و علی ولده عز الدین، و علی قاضی القضاة المالکیة، و علی الشیخ مجد الدین أبی حامد موسی بن أحمد بن محمود الأقصرائی شیخ الشیوخ، و علی الشیخ علاء الدین القونویّ شیخ خاقناه سعید السعداء، و علی الشیخ قوام الدین أبی محمد عبد المجید بن أسعد بن محمد الشیرازیّ، شیخ الصوفیة بالجامع الجدید الناصریّ، خارج مدینة مصر، و علی جماعة کثیرة. و خلع علی سائر الأمراء و أرباب الوظائف، و فرّق بها ستین ألف درهم فضة و عاد إلی قلعة الجبل، فرغب الناس فی السکنی حول هذه الخانقاه و بنو الدور و الحوانیت و الخانات، حتی صارت بلدة کبیرة تعرف بخانقاه سریاقوس، و تزاید الناس بها حتی أنشئ فیها سوی حمّام الخانقاه عدّة حمّامات، و هی إلی الیوم بلدة عامرة، و لا یؤخذ بها مکس البتة مما یباع من سائر الأصناف احتراما لمکان الخانقاه، و یعمل هناک فی یوم الجمعة سوق عظیم ترد الناس إلیه من الأماکن البعیدة، یباع فیه الخیل و الجمال و الحمیر و البقر و الغنم و الدجاج و الأوز و أصناف الغلات و أنواع الثیاب و غیر ذلک، و کانت معالیم هذه الخانکاه من أسنی معلوم بدیار مصر، یصرف لکل صوفیّ فی الیوم من لحم الضأن السلیج رطل قد طبخ فی طعم شهیّ، و من الخبز النقیّ أربعة أرطال و یصرف له فی کل شهر مبلغ أربعین درهما فضة عنها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 295
دیناران و رطل حلوی و رطلان زیتا من زیت الزیتون، و مثل ذلک من الصابون، و یصرف له ثمن کسوة فی کلّ سنة، و توسعة فی کل شهر رمضان، و فی العیدین، و فی مواسم رجب و شعبان و عاشوراء، و کلما قدمت فاکهة یصرف له مبلغ لشرائها، و بالخانقاه خزانة بها السکّر و الأشربة و الأدویة، و بها الطبائعیّ و الجرائحیّ و الکحال و مصلح الشعر، و فی کلّ رمضان یفرّق علی الصوفیة کیزان لشرب الماء، و تبیّض لهم قدورهم النحاس، و یعطون حتی الأسنان لغسل الأیدی من وضر اللحم، یصرف ذلک من الوقف لکل منهم، و بالحمّام الحلاق لتدلیک أبدانهم و حلق رؤوسهم، فکان المنقطع بها لا یحتاج إلی شی‌ء غیرها و یتفرّغ للعبادة، ثم استجدّ بعد سنة تسعین و سبعمائة بها حمّام أخری برسم النساء، و ما برحت علی ما ذکرنا إلی أن کانت المحن من سنة ست و ثمانمائة، فبطل الطعام و صار یصرف لهم فی ثمنه مبلغ من نقد مصر، و هی الآن علی ذلک، و أدرکت من صوفیتها شخصا شیخا یعرف بأبی طاهر، ینام أربعین یوما بلیالیها لا یستیقظ فیها البتة، ثم یستیقظ أربعین یوما لا ینام فی لیلها و لا نهارها، أقام علی ذلک عدّة أعوام، و خبره مشهور عند أهل الخانقاه، و أخبرنی أنه لم یکن فی النوم إلّا کغیره من الناس، ثم کثر نومه حتی بلغ ما تقدّم ذکره، و مات بهذه الخانقاه فی نحو سنة ثمانمائة، و مما قیل فی الخانقاه و ما أنشأه السلطان بها:
سر نحو سریاقوس و انزل بفناأرجاءها یا ذا النّهی و الرشد
تلق محلا للسرور و الهنافیه مقام للتقی و الزهد
نسیمه یقول فی مسیره‌تنبهی یا عذبات الرند
و روضه الریان من خلیجه‌یقول دع ذکر أراضی نجد

خانقاه أرسلان

هذه الخانقاه فیما بین القاهرة و مصر من جملة أراضی منشأة المهرانیّ، أنشأها الأمیر بهاء الدین أرسلان الدوادار.
أرسلان: الأمیر بهاء الدین الدوادار الناصریّ، کان أوّلا عند الأمیر سلار أیام نیابته مصر، خصیصا به حظیا عنده. فلما قدم الملک الناصر محمد بن قلاون من الکرک بعساکر الشام، و نزل بالریدانیة ظاهر القاهرة فی شهر رمضان سنة تسع و سبعمائة، أطلع أرسلان علی أن جماعة قد اتفقوا علی أن یهجموا علی السلطان و یفتکوا به یوم العید، أوّل شوّال، فجاء إلیه و عرّفه الحال و قال له: اخرج الساعة و اطلع القلعة و املکها. فقام السلطان و فتح باب سر الدهلیز و خرج من غیر الباب، و صعد قلعة الجبل و جلس علی سریر الملک، فرعی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 296
السلطان له هذه المناصحة، و لما أخرج الأمیر عز الدین أیدمر الدوادار من وظیفته، رتّب أرسلان فی الدواداریة، و کان یکتب خطا ملیحا، و درّبه القاضی علاء الدین بن عبد الظاهر و خرّجه، و هذبه، فصار یکتب بخطه إلی کتاب السرّ عن السلطان فی المهمات بعبارة مسدّدة وافیة بالمقصود، و استولی علی السلطان بحیث لم یکن لغیره فی أیامه ذکر، و لم یشتهر فخر الدین و کریم الدین بعظمة إلّا بعده، و اجتهدا فی إبعاده فما قدرا علی ذلک، و فی أیام تولیته الدواداریة السلطانیة أنشأ هذه الخانکاه علی شاطی‌ء النیل، و کان ینزل فی کل لیلة ثلاثاء إلیها من القلعة و یبیت بها، و یحتفل الناس للحضور إلیها، و یرسل عن السلطان إلی مهنا أمیر العرب، و نفع الناس نفعا کبیرا و قلدهم مننا جسیمة، و مات فی ثالث عشری شهر رمضان سنة سبع عشرة و سبعمائة، فوجد فی ترکته ألف ثوب أطلس، و نفائس کثیرة، و عدّة تواقیع و مناشیر معلمة، فأنکر السلطان معرفتها و نسب إلیها اختلاسها، و أوّل من ولی مشیختها تقیّ الدین أبو البقاء محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الرحیم الشریف الحسینیّ القنائی الشافعیّ، جدّ الشیخ عبد الرحیم القنائیّ الصالح المشهور، و أبوه ضیاء الدین جعفر، کان فقیها شافعیا، و کان أبو البقاء هذا عالما عارفا زاهدا قلیل التکلف متقللا من الدنیا، سمع الحدیث و أسمعه، و ولد فی سنة خمس و أربعین و ستمائة، و مات لیلة الاثنین رابع عشر جمادی الأولی، سنة ثمان و عشرین و سبعمائة، و دفن بالقرافة، فتداول مشیختها القضاة الأخنائیة إلی أن کانت آخرا بید شیخنا قاضی القضاة صدر الدین عبد الوهاب بن أحمد الأخنائیّ. فلما مات فی سنة تسع و ثمانین و سبعمائة، تلقاها عنه عز الدین بن الصاحب، ثم ولیها من بعده ابنه شمس الدین محمد بن الصاحب، رحمه اللّه.

خانقاه بکتمر

هذه الخانقاه بطرف القرافة فی سفح الجبل مما یلی برکة الحبش، أنشأها الأمیر بکتمر الساقی، و ابتدأ الحضور بها فی یوم الثلاثاء ثامن شهر رجب سنة ست و عشرین و سبعمائة، و أوّل من استقرّ فی مشیختها الشمسیّ شمس الدین الرومیّ، و رتب له عن معلوم المشیخة فی کل شهر مائة درهم، و عن معلوم الإمامة مبلغ خمسین درهما، و رتب معه عشرین صوفیا لکل منهم فی الشهر مبلغ ثلاثین درهما، فجاءت من أجلّ ما بنی بمصر، و رتب بها صوفیة و قرّاء، و قرّر لهم الطعام و الخبز فی کل یوم، و الدراهم و الحلوی و الزیت و الصابون فی کل شهر، و بنی بجانبها حمّاما، و أنشأ هناک بستانا، فعمرت تلک الخطة و صار بها سوق کبیر و عدّة سکان، و تنافس الناس فی مشیختها إلی أن کانت المحن من سنة ست و ثمانمائة، فبطل الطعام و الخبز منها و انتقل السکان منها إلی القاهرة و غیرها، و خربت الحمام و البستان و صار یصرف لأرباب وظائفها مبلغ من نقد مصر، و أقام فیها رجل یحرسها، و تمزق ما کان فیها من الفرش و الآلات النحاس و الکتب و الربعات و القنادیل النحاس المکفت و القنادیل الزجاج المذهب، و غیر ذلک من الأمتعة و النفائس الملوکیة، و خرب ما حولها لخلوّه من السکان.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 297
بکتمر الساقی: الأمیر سیف الدین، کان أحد ممالیک الملک المظفر بیبرس الجاشنکیر، فلما استقرّ الملک الناصر محمد بن قلاون فی المملکة بعد بیبرس، أخذه فی جملة من أخذ من ممالیک بیبرس و رقاه حتی صار أحد الأمراء الأکابر، و کتب إلی الأمیر تنکز نائب السلطنة بدمشق بعد أن قبض علی الأمیر سیف الدین طغای الکبیر یقول له: هذا بکتمر الساقی یکون لک بدلا من طغای، اکتب إلیه بما ترید من حوائجک، فعظم بکتمر و علا محله و طار ذکره، و کان السلطان لا یفارقه لیلا و لا نهارا إلّا إذا کان فی الدور السلطانیة، ثم زوّجه بجاریته و حظیته، فولدت لبکتمر ابنه أحمد، و صار السلطان لا یأکل إلّا فی بیت بکتمر مما تطبخه له أمّ أحمد فی قدر من فضة، و ینام عندهم و یقوم، و اعتقد الناس أن أحمد ولد السلطان لکثرة ما یطیل حمله و تقبیله، و لما شاع ذکر بکتمر و تسامع الناس به قدّموا إلیه غرائب کلّ شی‌ء، و أهدوا إلیه کل نفیس، و کان السلطان إذا حمل إلیه أحد من النوّاب تقدمة لا بدّ أن یقدّم لبکتمر مثلها أو قریبا منها، و الذی یصل إلی السلطان یهب له غالبه، فکثرت أمواله و صارت إشارته لا تردّ، و هو عبارة عن الدولة، و إذا رکب کان بین یدیه مائتا عصا نقیب، و عمر له السلطان القصر علی برکة الفیل.
و لما مات بطریق الحجاز فی سنة ثلاث و ثلاثین و سبعمائة، خلف من الأموال و القماش و الأمتعة و الأصناف و الزردخاناه ما یزید علی العادة و الحدّ، و یستحی العاقل من ذکره، فأخذ السلطان من خیله أربعین فرسا و قال: هذه لی ما وهبته إیاها، و بیع الباقی من الخیل علی ما أخذه الخاصکیة بثمن بخس بمبلغ ألف ألف درهم فضة، و مائتی ألف درهم و ثمانین ألف درهم فضة، خارجا عما فی الجشارات، و أنعم السلطان بالزردخاناه و السلاحخاناه التی له علی الأمیر قوصون بعد ما أخذ منها سرجا واحدا و سیفا، القیمة عن ذلک ستمائة ألف دینار، و أخذ له السلطان ثلاثة صنادیق جوهرا مثمنا لا تعلم قیمة ذلک، و بیع له من الصینی و الکتب و الختم و الربعات، و نسخ البخاریّ و الدوایات الفولاذ و المطعمة و البصم بسقط الذهب و غیر ذلک، و من الوبر و الأطلس و أنواع القماش السکندریّ و البغدادیّ و غیر ذلک شی‌ء کثیر إلی الغایة المفرطة، و دام البیع لذلک مدّة شهور.
و امتنع القاضی شرف الدین النشو ناظر الخاص من حضور البیع و استعفی من ذلک، فقیل له لأیّ شی‌ء فعلت ذلک؟ قال: ما أقدر أصبر علی غبن ذلک، لأن المائة درهم تباع بدرهم. و لما خرج مع السلطان إلی الحجاز خرج بتجمل زائد و حشمة عظیمة و هو ساقة الناس کلهم، و کان ثقله و جماله نظیر ما للسلطان، و لکن یزید علیه بالزرکش و آلات الذهب، و وجد فی خزانته بطریق الحجاز بعد موته خمسمائة تشریف، منها ما هو أطلس بطرز زرکش و ما دون ذلک من خلع أرباب السیوف و أرباب الأقلام، و وجد معه قیود و جنازیر، و تنکر السلطان له فی طریق الحجاز و استوحش کلّ منهما من صاحبه، فاتفق أنهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 298
فی العود مرض ولده أحمد و مرض من بعده، فمات ابنه قبله بثلاثة أیام، فحمل فی تابوت مغشی بجلد جمل، و لما مات بکتمر دفن مع ولده بنخل، و حث السلطان فی المسیر و کان لا ینام فی تلک السفرة إلّا فی برج خشب، و بکتمر عنده، و قوصون علی الباب و الأمراء المشایخ کلهم حول البرج بسیوفهم، فلما مات بکتمر ترک السلطان ذلک، فعلم الناس أن احترازه کان خوفا من بکتمر. و یقال أن السلطان دخل علیه و هو مریض فی درب الحجاز فقال له: بینی و بینک اللّه. فقال له: کل من فعل شیئا یلتقیه. و لما مات صرخت زوجته أمّ ابنه أحمد و بکت و أعولت إلی أن سمعها الناس تتکلم بالقبیح فی حق السلطان، من جملته: أنت تقتل مملوکک، أنا ابنی ایش کان؟ فقال لها: بس، تفشرین، هاتی مفاتیح صنادیقه، فأنا أعرف کل شی‌ء أعطیته من الجواهر. فرمت بالمفاتیح إلیه فأخذها، و لما وصل السلطان إلی قلعة الجبل أظهر الحزن و الندامة علیه، و أعطی أخاه قماری أمرة مائة و تقدمة ألف، و کان یقول ما بقی یجیئنا مثل بکتمر، و أمر فحملت جثته و جثة ابنه إلی خانقاهه هذه و دفنتا بقبتها، و بدت من السلطان أمور منکرة بعد موت بکتمر، فإنه کان یحجر علی السلطان و یمنعه من مظالم کثیرة، و کان یتلطف بالناس و یقضی حوائجهم و یسوسهم أحسن سیاسة، و لا یخالفه السلطان فی شی‌ء، و مع ذلک فلم یکن له حمایة و لا رعایة و لا لغلمانه ذکر، و من المغرب یغلق باب إصطبله، و کان ممّا له علی السلطان من المرتب فی کل یوم مخفیتان، یأخذ عنهما من بیت المال کل یوم سبعمائة درهم، عن کل مخفیة ثلاثمائة و خمسین درهما، و کان السلطان إذا أنعم علی أحد بشی‌ء أو ولّاه وظیفة قال له: روح إلی الأمیر بکتمر و بوس یده، و کان جید الطباع حسن الأخلاق لین الجانب سهل الانقیاد رحمه اللّه.

خانقاه قوصون

هذه الخانقاه فی شمالیّ القرافة مما یلی قلعة الجبل تجاه جامع قوصون، أنشأها الأمیر سیف الدین قوصون، و کملت عمارتها فی سنة ست و ثلاثین و سبعمائة، و قرّر فی مشیختها الشیخ شمس الدین أبا الثناء محمود بن أبی القاسم أحمد الأصفهانیّ، و رتب له معلوما سنیا من الدراهم و الخبز و اللحم و الصابون و الزیت و سائر ما یحتاج إلیه، حتی جامکیة غلام بغلته، و استقرّ ذلک فی الوقف من بعده لکل من ولی المشیخة بها، و قرّر بها جماعة کثیرة من الصوفیة، و رتب لهم الطعام و اللحم و الخبز فی کل یوم، و فی الشهر المعلوم من الدراهم و من الحلوی و الزیت و الصابون، و ما زالت علی ذلک إلی أن کانت المحن من سنة ست و ثمانمائة، فبطل الطعام و الخبز منها و صار یصرف لمستحقیها مال من نقد مصر، و تلاشی أمرها من بعد ما کانت من أعظم جهات البرّ، و أکثرها نفعا و خیرا، و قد تقدّم ذکر قوصون عند ذکر جامعه من هذا الکتاب.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 299

خانقاه طغای النجمیّ

هذه الخانقاه بالصحراء خارج باب البرقیة فیما بین قلعة الجبل و قبة النصر، أنشأها الأمیر طغای تمر النجمیّ، فجاءت من المبانی الجلیلة، و رتب بها عدّة من الصوفیة و جعل شیخهم الشیخ برهان الدین الرشیدی، و بنی بجانبها حمّاما و غرس فی قبلیها بستانا، و عمل بجانب الحمّام حوض ماء للسبیل ترده الدواب، و وقف علی ذلک عدّة أوقاف، ثم إن الحمّام و الحوض تعطلا مدّة. فلما ماتت أرزبای زوجة القاضی فتح الدین فتح اللّه کاتب السرّ فی سنة ثمان و ثمانمائة، دفنها خارج باب النصر و أحبّ أن یبنی علی قبرها و یوقف علیها أوقافا، ثم بدا له فنقلها إلی هذه الخانقاه و دفنها بالقبة التی فیها، و أدار الساقیة و ملأ الحوض و رتب لقرّاء هذه الخانقاه معلوما، و عزم علی تجدید ما تشعث من بنائها و إدارة حمامها، ثم بدا له فأنشأ بجانب هذه الخانقاه تربة و نقل زوجته مرّة ثالثة إلیها، و جعل أملاکه وقفا علی تربته.
طغای تمر النجمیّ: کان دوادار الملک الصالح إسماعیل بن محمد بن قلاون، فلما مات الصالح استقرّ علی حاله فی أیام أخویه الملک الکامل شعبان، و الملک المظفر حاجی، و کان من أحسن الأشکال و أبدع الوجوه، تقدّم فی الدول و صارت له وجاهة عظیمة، و خدمه الناس و لم یزل علی حاله إلی أن لعب به أغرلوا فیمن لعب و أخرجه إلی الشام و ألحقه بمن أخذه من غزة، و ذلک فی أوائل جمادی الآخرة سنة ثمان و أربعین و سبعمائة، و طغای هذا أوّل دوادار أخذ أمرة مائة و تقدمة ألف، و ذلک فی أوّل دولة المظفر حاجی، و لما کانت واقعة الأمیر ملکتمر الحجازیّ و الأمیر آق سنقر و عدّة من الأمراء فی تاسع عشر ربیع الآخر سنة ثمان و أربعین و سبعمائة، رمی طغای تمر سیفه و بقی بغیر سیف بعض یوم، ثم إن المظفر أعطاه سیفه و استمرّ فی الدواداریة نحو شهر، و أخرج هو و الأمیر نجم الدین محمود الوزیر، و الأمیر سیف الدین بیدمر البدریّ علی الهجن إلی الشام، فأدرکهم الأمیر سیف الدین منجک و قتلهم فی الطریق.

خانقاه أمّ أنوک

هذه الخانقاه خارج باب البرقیة بالصحراء، التی أنشأتها الخاتون طغای تجاه تربة الأمیر طاشتمر الساقی، فجاءت من أجلّ المبانی، و جعلت بها صوفیة و قرّاء، و وقفت علیها الأوقاف الکثیرة، و قرّرت لکل جاریة من جواریها مرتبا یقوم بها.
طغای الخوندة الکبری: زوجة السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون، و أمّ ابنه الأمیر أنوک، کانت من جملة إمائه، فأعتقها و تزوّجها، و یقال أنها أخت الأمیر أقبغا عبد الواحد، و کانت بدیعة الحسن باهرة الجمال، رأت من السعادة ما لم یره غیرها من نساء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 300
الملوک الترک بمصر، و تنعمت فی ملاذّ ما وصل سواها لمثلها، و لم یدم السلطان علی محبة امرأة سواها، و صارت خونده بعد ابنه توکای و أکبر نسائه، حتی من ابنة الأمیر تنکز. و حج بها القاضی کریم الدین و احتفل بأمرها و حمل لها البقول فی محایر طین علی ظهور الجمال، و أخذ لها الأبقار الحلابة، فسارت معها طول الطریق لأجل اللبن الطریّ، و عمل الجبن، و کان یقلی لها الجبن فی الغداء و العشاء، و ناهیک بمن وصل إلی مداومة البقل و الجبن فی کل یوم، و هما أخس ما یؤکل، فما عساه یکون بعد ذلک. و کان القاضی کریم الدین، و الأمیر مجلس، و عدّة من الأمراء یترجلون عند النزول و یمشون بین یدی محفتها و یقبلون الأرض لها کما یفعلون بالسلطان، ثم حج بها الأمیر بشتاک فی سنة تسع و ثلاثین و سبعمائة، و کان الأمیر تنکز إذا جهز من دمشق تقدمة إلی السلطان لا بدّ أن یکون لخوند طغای منها جزء وافر، فلما مات السلطان الملک النصار استمرّت عظمتها من بعده إلی أن ماتت فی شهر شوّال سنة تسع و أربعین و سبعمائة، أیام الوباء، عن ألف جاریة، و ثمانین خادما خصیا، و أموال کثیرة جدّا، و کانت عفیفة طاهرة کثیرة الخیر و الصدقات و المعروف، جهزت سائر جواریها و جعلت علی قبر ابنها بقبة المدرسة الناصریة بین القصرین قرّاء، و وقفت علی ذلک وقفا، و جعلت من جملته خبزا یفرّق علی الفقراء، و دفنت بهذه الخانقاه، و هی من أعمر الأماکن إلی یومنا هذا.

خانقاه یونس

هذه الخانقاه من جملة میدان القبق بالقرب من قبة النصر خارج باب النصر، أدرکت موضعها و به عوامید تعرف بعوامید السباق، و هی أوّل مکان بنی هناک، أنشأها الأمیر یونس النوروزیّ الدوادار کان من ممالیک الأمیر سیف الدین جرجی الإدریسیّ، أحد الأمراء الناصریة، و أحد عتقائه، فترقی فی الخدم من آخر أیام الملک الناصر محمد بن قلاون إلی أن صار من جملة الطائفة الیلبغاویة، فلما قتل الأمیر یلبغا الخاصکیّ خدم بعده الأمیر استدمر الناصریّ الأتابک، و صار من جملة دواداریته، و ما زال یتنقل فی الخدم إلی أن قام الأمیر برقوق بعد قتل الملک الأشرف شعبان، فکان ممن أعانه و قاتل معه، فرعی له ذلک و رقّاه إلی أن جعله أمیر مائة مقدّم ألف، و جعله دواداره لما تسلطن، فسلک فی ریاسته طریقة جلیلة، و لزم حالة جمیلة من کثر الصیام و الصلاة، و إقامة الناموس الملوکیّ، و شدّة المهابة، و الإعراض عن اللعب، و مداومة العبوس، و طول الجلوس، و قوّة البطش لسرعة غضبه، و محبة الفقراء، و حضور السماع و الشغف به، و إکرام الفقهاء و أهل العلم.
و أنشأ بالقاهرة ربعا و قیساریة بخط البندقانیین، و تربة خارج باب الوزیر تحت القلعة، و أنشأ بظاهر دمشق مدرسة بالشرف الأعلی، و أنشأ خانا عظیما خارج مدینة غزة، و جعل بجانب هذه الخانقاه مکتبا یقرأ فیه أیتام المسلمین کتاب اللّه تعالی، و بنی بها صهریجا ینقل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 301
إلیه ماء النیل، و ما زال علی وفور حرمته و نفوذ کلمته إلی أن خرج الأمیر یلبغا الناصریّ نائب حلب علی الملک الظاهر برقوق، فی سنة إحدی و تسعین و سبعمائة، و جهز السلطان الأمیر أیتمش، و الأمیر یونس هذا، و الأمیر جهارکس الخلیلیّ، و عدّة من الأمراء و الممالیک لقتاله، فلقوه بدمشق و قاتلوه فهزمهم، و قتل الخلیلیّ و فرّ أیتمش إلی دمشق، و نجا یونس بنفسه یرید مصر، فأخذه الأمیر عیفا بن شطی أمیر الأمراء و قتله یوم الثلاثاء ثانی عشری شهر ربیع الآخر، سنة إحدی و تسعین و سبعمائة، و لم یعرف له قبر بعد ما أعدّ لنفسه عدّة مدافن فی غیر ما مدینة من مصر و الشام.

خانقاه طیبرس

هذه الخانقاه من جملة أراضی بستان الخشاب، فیما بین القاهرة و مصر علی شاطی‌ء النیل، أنشأها الأمیر علاء الدین طیبرس الخازندار نقیب الجیوش فی سنة سبع و سبعمائة، بجوار جامعه المقدّم ذکره عند ذکر الجوامع من هذا الکتاب. و قرّر بها عدّة من الصوفیة، و جعل لهم شیخا و أجری لهم المعالیم، و لم تزل عامرة إلی أن حدثت المحن من سنة ست و ثمانمائة، فابتاع شخص الوکالة و الربعین المعروفین بربع بکتمر و الحمامین، و نقض ذلک فخرب الخط و صار مخوفا. فلما کان فی سنة أربع عشرة و ثمانمائة، نقل الحضور من هذه الخانقاه إلی المدرسة الطیبرسیة بجوار الجامع الأزهر، و هی الآن بصدد أن تدثر و تمحی آثارها.

خانقاه أقبغا

هذه الخانقاه هی موضع من المدرسة الأقبغاویة بجوار الجامع الأزهر، أفرده الأمیر أقبغا عبد الواحد و جعل فیه طائفة یحضرون وظیفة التصوّف، و أقام لهم شیخا و أفرد لهم وقفا یختص بهم، و هی باقیة إلی یومنا هذا، و له أیضا خانقاه بالقرافة.

الخانقاه الخروبیة

هذه الخانقاه بساحل الجیزة تجاه المقیاس، کانت منظرة من أعظم الدور و أحسنها، أنشأها زکیّ الدین أبو بکر بن علیّ الخرّوبیّ کبیر التجار، ثم توارثها من بعده أولاد الخرّوبیّ التجار بمصر، فلم تزل بأیدیهم، إلی أن نزلها السلطان المؤید شیخ فی یوم الاثنین ثانی عشر شهر رجب الفرد، سنة اثنتین و عشرین و ثمانمائة، و أقام بها فاقتضی رأیه أن یجعلها خانقاه، فاستدعی بابن الخرّوبیّ لیشتریها منه، فتبرّع بما یخصه منها، و صار إلیه باقیها، فتقدّم إلی الأمیر سیف الدین أبی بکر بن المسروق الاستادار بعملها خانقاه، و سار منها فی یوم الأربعاء سادس عشرة، فأخذ الأمیر أبو بکر فی عملها حتی کملت فی آخر السنة، و استقرّ فی مشیختها شمس الدین محمد بن الحمتی الدمشقیّ الحنبلیّ، و خلع علیه یوم السبت سنة ثلاث و عشرین و ثمانمائة، و رتب له فی کل یوم عشرة مؤیدیة، عنها مبلغ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 302
سبعین درهما فلوسا، سوی الخبز و السکن، و قرّر عنده عشرة من الفقراء لکل منهم مع الخبز مؤیدیّ فی کل یوم، فجاءت من أحسن شی‌ء.

ذکر الربط

اشارة

الربط جمع رباط، و هو دار یسکنها أهل طریق اللّه. قال ابن سیده: الرباط من الخیل، الخمس فما فوقها. و الرباط و المرابطة ملازمة ثغر العدوّ، و أصله أن یربط کل واحد من الفریقین خیله، ثم صار لزوم الثغر رباطا. و ربما سمیت الخیل نفسها رباطا، و الرباط و الرباط المواظبة علی الأمر. قال الفارسیّ هو ثان من لزوم الثغر، و لزوم الثغر ثان من رباط الخیل و قوله تعالی: وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا قیل معناه جاهدوا، و قیل واظبوا علی مواقیت الصلاة. و قال أبو حفص السهروردیّ فی کتاب عوارف المعارف: و أصل الرباط ما تربط فیه الخیول، ثم قیل لکل ثغر یدفع أهله عمن وراءهم رباط، فالمجاهد المرابط یدفع عمن وراءه، و المقیم فی الرباط علی طاعة اللّه یدفع بدعائه البلاء عن العباد، و البلاد. و روی داود بن صالح قال: قال لی أبو سلمة بن عبد الرحمن: یا ابن أخی، هل تدری فی أیّ شی‌ء نزلت هذه الآیة: اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا قلت: لا. قال: یا ابن أخی لم یکن فی زمن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم غزو تربط فیه الخیل، و لکنه انتظار الصلاة بعد الصلاة، فالرباط جهاد النفس، و المقیم فی الرباط مرابط مجاهد نفسه، و اجتماع أهل الربط إذ صح علی الوجه الموضوع له الربط، و تحقق أهل الربط بحسن المعاملة و رعایة الأوقات، و توقی ما یفسد الأعمال، و یصحح الأحوال، عادت البرکة علی البلاد و العباد، و شرائط سکان الرباط قطع المعاملة مع الخلق، و فتح المعاملة مع الحق، و ترک الاکتساب اکتفاء بکفالة مسبب الأسباب، و حبس النفس عن المخالطات، و اجتناب التبغات، و مواصلة اللیل و النهار بالعبادة متعوّضا بها عن کل عادة، و الاشتغال بحفظ الأوقات و ملازمة الأوراد و انتظار الصلوات، و اجتناب الغفلات، لیکون بذلک مرابطا مجاهدا. و الرباط هو بیت الصوفیة و منزلهم، و لکل قوم دار، و الرباط دارهم، و قد شابهوا أهل الصفة فی ذلک، فالقوم فی الرباط مرابطون متفقون علی قصد واحد و عزم واحد و أحوال متناسبة، و وضع الرباط لهذا المعنی. قال مؤلفه رحمه اللّه:
و لاتخاذ الربط و الزوایا أصل من السنة، و هو أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، اتخذ لفقراء الصحابة الذین لا یأوون إلی أهل و لا مال مکانا من مسجده، کانوا یقیمون به عرفوا بأهل الصفة.

رباط الصاحب

هذا الرباط مطل علی برکة الحبش، أنشأه الصاحب فخر الدین أبو عبد اللّه محمد بن الوزیر الصاحب بهاء الدین أبی الحسن علیّ بن محمد بن سلیم بن حنا، و وقف علیه أبوه الصاحب بهاء الدین بعد موته عقارا بمدینة مصر، و شرط أن یسکنه عشرة من الفقراء المجرّدین غیر المتأهلین، و ذلک فی ذی الحجة سنة ثمان و ستین و ستمائة، و هو باق إلی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 303
یومنا هذا، و لیس فیه أحد، و یستأدی ریع وقفه من لا یقوم بمصالحه.

رباط الفخری

هذا الرباط خارج باب الفتوح فیما بینه و بین النصر، بناه الأمیر عز الدین أیبک الفخریّ، أحد أمراء الملک الظاهر بیبرس.

رباط البغدادیة

هذا الرباط بداخل الدرب الأصفر تجاه خانقاه بیبرس، حیث کان المتجر الذی ذکر عند ذکر القصر من هذا الکتاب، و من الناس من یقول رواق البغدادیة، و هذا الرباط بنته الست الجلیلة تذکاریای خاتون ابنة الملک الظاهر بیبرس فی سنة أربع و ثمانین و ستمائة، للشیخة الصالحة زینت ابنة أبی البرکات، المعروفة ببنت البغدادیة، فأنزلتها به و معها النساء الخیرات، و ما برح إلی وقتنا هذا یعرف سکانه من النساء بالخیر، و له دائما شیخه تعظ النساء و تذکرهنّ و تفقههنّ، و آخر من أدرکنا فیه الشیخة الصالحة سیدة نساء زمانها أمّ زینب فاطمة بنت عباس البغدادیة، توفیت فی ذی الحجة سنة أربع عشرة و سبعمائة، و قد أنافت علی الثمانین، و کانت فقیهة وافرة العلم، زاهدة قانعة بالیسیر، عابدة واعظة حریصة علی النفع و التذکیر، ذات إخلاص و خشیة، و أمر بالمعروف، انتفع بها کثیر من نساء دمشق و مصر، و کان لها قبول زائد و وقع فی النفوس، و صار بعدها کلّ من قام بمشیخة هذا الرباط من النساء یقال لها البغدادیة، و أدرکنا الشیخة الصالحة البغدادیة أقامت به عدّة سنین علی أحسن طریقة إلی أن ماتت یوم السبت لثمان بقین من جمادی الآخرة سنة ست و تسعین و سبعمائة، و أدرکنا هذا الرباط و تودع فیه النساء اللاتی طلّقن أو هجرن حتی یتزوّجن أو یرجعن إلی أزواجهنّ صیانة لهنّ، لما کان فیه من شدّة الضبط و غایة الاحتراز و المواظبة علی وظائف العبادات، حتی أن خادمة الفقیرات به کانت لا تمکن أحدا من استعمال إبریق ببزبوز، و تؤدّب من خرج عن الطریق بما تراه، ثم لما فسدت الأحوال من عهد حدوث المحن بعد سنة ست و ثمانمائة، تلاشت أمور هذا الرباط و منع مجاوروه من سجن النساء المعتدّات به، و فیه إلی الآن بقایا من خیر، و یلی النظر علیه قاضی القضاة الحنفیّ.

رباط الست کلیلة

هذا الرباط خارج درب بطوط من جملة حکر سنجر الیمنیّ، ملاصقة للسور الحجر بخط سوق الغنم و جامع أصلم، وقفه الأمیر علاء الدین البراباه علی الست کلیلة، المدعوّة دولای، ابنة عبد اللّه التتاریة، زوج الأمیر سیف الدین البرلیّ السلاحدار الظاهریّ، و جعله مسجدا و رباطا، و رتب فیه إماما و مؤذنا، و ذلک فی ثالث عشری شوّال سنة أربع و تسعین و ستمائة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 304

رباط الخازن

هذا الرباط بقرب قبة الإمام الشافعیّ رحمة اللّه علیه. من قرافة مصر، بناه الأمیر علم الدین سنجر بن عبد اللّه الخازن. والی القاهرة، و فیه دفن، و هذا الخازن هو الذی ینسب إلیه حکر الخازن خارج القاهرة.

الرباط المعروف برواق ابن سلیمان

هذا الرواق بحارة الهلالیة خارج باب زویلة، عرف بأحمد بن سلیمان بن أحمد بن سلیمان بن إبراهیم بن أبی المعالی بن العباس الرحبی البطائحیّ الرفاعیّ، شیخ الفقراء الأحمدیة الرفاعیة بدیار مصر، کان عبدا صالحا له قبول عظیم من أمراء الدولة و غیرهم، و ینتمی إلیه کثیر من الفقراء الأحمدیة، و روی الحدیث عن سبط السلفیّ و حدّث، و کانت وفاته لیلة الاثنین سادس ذی الحجة سنة إحدی و تسعین و ستمائة بهذا الرواق.

رباط داود بن إبراهیم

هذا الرباط بخط برکة الفیل بنی فی سنة ثلاث و ستین و ستمائة.

رباط ابن أبی المنصور

هذا الرباط بقرافة مصر عرف، بالشیخ صفیّ الدین الحسین بن علیّ بن أبی المنصور الصوفیّ المالکیّ، کان من بیت وزارة، فتجرّد و سلک طریق أهل اللّه علی ید الشیخ أبی العباس أحمد بن أبی بکر الجزار التحبیبیّ المغربیّ، و تزوّجابنته و عرف بالبرکة، و حکیت عنه کرامات، و صنف کتاب الرسالة ذکر فیها عدّة من المشایخ، و روی الحدیث و حدّث و شارک فی الفقه و غیره، و کانت ولادته فی ذی القعدة سنة خمس و تسعین و خمسمائة، و وفاته برباطه هذا یوم الجمعة ثانی عشر شهر ربیع الآخر سنة اثنتین و ثمانین و ستمائة.

رباط المشتهی

هذا الرباط بروضة مصر یطل علی النیل و کان به الشیخ المسلک ... و للّه درّ شیخنا العارف الأدیب شهاب الدین أحمد بن أبی العباس الشاطر الدمنهوریّ حیث یقول:
بروضة المقیاس صوفیّةهم منیة الخاطر و المشتهی
لهم علی البحر أیاد علت‌و شیخهم ذاک له المنتهی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 305
و قال الإمام العلامة شمس الدین محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفیّ:
یا لیلة مرّت بنا حلوةإن رمت تشبیها لها عبتها
لا یبلغ الواصف فی وصفهاحدّا و لا یلقی له منتهی
بت مع المعشوق فی روضةو نلت من خرطومه المشتهی

رباط الآثار

هذا الرباط خارج مصر بالقرب من برکة الحبش مطلّ علی النیل و مجاور للبستان المعروف بالمعشوق. قال ابن المتوّج: هذا الرباط عمره الصاحب تاج الدین محمد بن الصاحب فخر الدین محمد ولد الصاحب بهاء الدین علیّ بن حنا بجوار بستان المعشوق، و مات رحمه اللّه قبل تکملته، و وصّی أن یکمل من ریع بستان المعشوق، فإذا کملت عمارته یوقف علیه و وصّی الفقیه عز الدین بن مسکین فعمر فیه شیئا یسیرا و أدرکه الموت إلی رحمة اللّه تعالی، و شرع الصاحب ناصر الدین محمد ولد الصاحب تاج الدین فی تکملته، فعمر فیه شیئا جیدا انتهی.
و إنما قیل له رباط الآثار لأنّ فیه قطعة خشب و حدید یقال أن ذلک من أثار رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، اشتراها الصاحب تاج الدین المذکور بمبلغ ستین ألف درهم فضة من بنی إبراهیم أهل ینبع، و ذکروا أنها لم تزل عندهم موروثة من واحد إلی آخر إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و حملها إلی هذا الرباط و هی به إلی الیوم یتبرّک الناس بها و یعتقدون النفع بها، و أدرکنا لهذا الرباط بهجة، و للناس فیه اجتماعات، و لساکنه عدّة منافع ممن یتردّد إلیه أیام کان ماء النیل تحته دائما. فلما انحسر الماء من تجاهه و حدثت المحن من سنة ست و ثمانمائة قلّ تردّد الناس إلیه، و فیه إلی الیوم بقیة، و لما کانت أیام الملک الأشرف شعبان بن حسین بن محمد بن قلاون قرّر فیه درسا للفقهاء الشافعیة، و جعل له مدرّسا، و عنده عدّة من الطلبة، و لهم جار فی کل شهر من وقف وقفه علیهم و هو باق أیضا، و فی أیام الملک الظاهر برقوق وقف قطعة أرض لعمل الجسر المتصل بالرباط، و لهذا الرباط حزانة کتب و هو عامر بأهله.
الوزیر الصاحب: تاج الدین محمد بن الصاحب فخر الدین محمد بن الوزیر الصاحب بهاء الدین علیّ بن سلیم بن حنا، ولد فی سابع شعبان سنة أربعین و ستمائة، و سمع من سبط السلفیّ و حدّث و انتهت إلیه ریاسة عصره، و کان صاحب صیانة و سؤدد و مکارم، و شاکلة حسنة و بزة فاخرة إلی الغایة، و کان یتناهی فی المطاعم و الملابس و المناکح و المساکن، و یجود بالصدقات الکثیرة مع التواضع و محبة الفقراء و أهل المصلاح و المبالغة فی اعتقادهم، و نال فی الدنیا من العز و الجاه ما لم یره جدّه الصاحب الکبیر بهاء الدین، بحیث أنّه لما تقلد الوزیر الصاحب فخر الدین بن الخلیلیّ الوزارة، و سار من قلعة الجبل و علیه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 306
تشریف الوزارة إلی بیت الصاحب تاج الدین و قبل یده و جلس بین یدیه، ثم انصرف إلی داره، و ما زال علی هذا القدر من وفور العز إلی أن تقلد الوزارة فی یوم الخمیس رابع عشری صفر سنة ثلاث و تسعین و ستمائة، بعد قتل الوزیر الأمیر سنجر الشجاعیّ، فلم ینجب، و توقفت الأحوال فی أیامه حتی احتاج إلی إحضار تقاوی النواحی المرصدة بها للتخضیر و استهلکها، ثم صرف فی یوم الثلاثاء خامس عشری جمادی الأولی سنة أربع و تسعین و ستمائة بفخر الدین عثمان بن الخلیلیّ، و أعید الوزارة مرّة ثانیة، فلم ینجح، و عزل و سلّم مرّة للشجاعیّ فجرّده من ثیابه و ضربه شیبا واحدا بالمقارع فوق قمیصه، ثم أفرج عنه علی مال، و مات فی رابع جمادی الآخرة سنة سبع و سبعمائة، و دفن فی تربتهم بالقرافة، و کان له شعر جید، و للّه درّ شیخنا الأدیب جلال الدین محمد بن خطیب داریا الدمشقیّ البیسانیّ حیث یقول فی الآثار:
یا عین إن بعد الحبیب و داره‌و نأت مرابعه و شطّ مزاره
فلقد ظفرت من الزمان بطائل‌إن لم تریه فهذه آثاره
و قد سبقه لذلک الصلاح خلیل بن أیبک الصفدیّ فقال:
أکرم بآثار النبیّ محمدمن زاره استوفی السرور مزاره
یا عین دونک فانظری و تمتعی‌إن لم تریه فهذه آثاره
و اقتدی بهما فی ذلک أبو الحزم المدنیّ فقال:
یا عین کم ذا تسفحین مدامعاشوقا لقرب المصطفی و دیاره
إن کان صرف الدهر عاقک عنهمافتمتعی یا عین فی آثاره

رباط الأفرم

هذا الرباط بسفح الجرف الذی علیه الرصد، و هو یشرف علی برکة الحبش، و کان من أحسن منتزهات أهل مصر. أنشأه الأمیر عز الدین أیبک الأفرم أمیر خازندار الصالحیّ النجمیّ، و رتب فیه صوفیة و شیخا و إماما، و جعل فیه منبرا یخطب علیه للجمعة. و العیدین، و قرّر لهم معالیم من أوقاف أرصدها لهم، و ذلک فی سنة ثلاث و ستین و ستمائة، و هو باق إلّا أنّه لم یبق به ساکن لخراب ما حوله، و له إلی الیوم متحصل من وقفه، و الأفرم هذا هو الذی ینسب إلیه جسر الأفرم خارج مصر، و قد ذکر عند ذکر الجسور من هذا الکتاب.

الرباط العلائی

هذا الرباط خارج مصر بخط بین الزقاقین شرقیّ الخلیج الکبیر، یعرف الیوم بخانقاه المواصلة، و هو آیل إلی الدثور لخراب ما حوله، أنشأه الملک علاء الدین أبو الحسن علیّ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 307
ابن الملک المجاهد سیف الدین إسحاق صاحب الجزیرة، بن الملک الرحیم بدر الدین لؤلؤ صاحب الموصل، بجوار داره و حمّامه و طاحونه، و جعل له فیه مدفنا و وقف علیه بستان الجرف و بستانا بناحیة شبرا، و عدّة حصص من قری فلسطین و الساحل، و أحکارا و دورا بجانب الرباط. و مات یوم الجمعة ثامن ربیع الآخر سنة إحدی و ثلاثین و سبعمائة، و مولده یوم الجمعة ثامن عشری المحرّم سنة سبع و خمسین و ستمائة، بجزیرة ابن عمرو، و کان من الحلقة و سمع الحدیث من النجیب الحرّانیّ، و ابن عرنین، و ابن علاف. و دفن فیه و به إلی الآن بقیة، و یحضره الفقهاء یوما فی الأسبوع و هم عشرة شیخهم منهم و منهم قاری‌ء میعاد و قرّاء، و کان أوّلا معمورا بسکنی أهله دائما فیه، و فی هذا الوقت لا یمکن سکناه لکثرة الخوف من السرّاق.

ذکر الزوایا

زاویة الدمیاطیّ

هذه الزاویة فیما بین خط السبع سقایات و قطنرة السدّ خارج مصر إلی جانب حوض السبیل المعدّ لشرب الدواب، أنشأها الأمیر عز الدین أیبک الدمیاطیّ الصالحیّ النجمیّ، أحد الأمراء المقدّمین الأکابر فی أیام الملک الظاهر بیبرس، و بها دفن لمّا مات بالقاهرة لیلة الأربعاء تاسع شعبان سنة ست و تسعین و ستمائة، و إلی الآن یعرف الحوض المجاور لها بحوض الدمیاطی.

زاویة الشیخ خضر

هذه الزاویة خارج باب الفتوح من القاهرة بخط زقاق الکحل. تشرف علی الخلیج الکبیر، عرفت بالشیخ خضر بن أبی بکر بن موسی المهرانیّ العدویّ، شیخ السلطان الملک الظاهر بیبرس، کان أوّلا قد انقطع بجبل المزة خارج دمشق، فعرفه الأمیر سیف الدین قشتمر العجمیّ و تردّد إلیه فقال له: لا بدّ أن یتسلطن الأمیر بیبرس البندقاریّ، فأخبر بیبرس بذلک، فلما صارت المملکة إلیه بعد قتل الملک المظفر قطز، اشتمل علی اعتقاده و قرّبه، و بنی له زاویة بجبل المزة، و زاویة بظاهر بعلبک، و زاویة بحماه، و زاویة بحمص، و هذه الزاویة خارج القاهرة. و وقف علیها أحکارا تغل فی السنة نحو الثلاثین ألف درهم، و أنزله بها و صار ینزل إلیه فی الأسبوع مرّة أو مرّتین و یطلعه علی غوامض أسراره و یستشیره فی أموره، و لا یخرج عما یشیر به، و یأخذه معه فی أسفاره، و أطلق یده و صرّفه فی مملکته، فهدم کنیسة الیهود بدمشق، و هدم کنیسة للنصاری بالقدس، کانت تعرف بالمصلبة، و عملها زاویة، و قتل قسیسها بیده، و هدم کنیسة للروم بالإسکندریة کانت من کراسی النصاری، و یزعمون أن بها رأس یحیی بن زکریا، و عملها مسجدا سماه الخضر، فاتقی جانبه الخاص
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 308
و العام حتی الأمیر بدر الدین بیلبک الخازندار نائب السلطنة، و الصاحب بهاء الدین علیّ بن حنا، و ملوک الأطراف، و کان یکتب إلی صاحب حماه و جمیع الأمراء إذا طلب حاجة ما مثاله: الشیخ خضر نیاک الحمارة، و کان ربع القامة کث اللحیة یتعمم، عسراویّ و فی لسانه عجمة، مع سعة صدر و کرم شمائل و کثرة عطاء من تفرقة الذهب و الفضة، و عمل الأسمطة الفاخرة، و کانت أحواله عجیبة لا تتکیف، و أقوال الناس فیه مختلفة، منهم من یثبت صلاحه و یعتقده، و منهم من یرمیه بالعظائم. و کان یخبر السلطان بأمور تقع، منها أنه لما حاصر أرسوف و هی أوّل فتوحاته، قال له: متی نأخذ هذه المدینة؟ فعین له یوما یأخذها فیه، فأخذها فی ذلک الیوم بعینه، و اتفق له مثل ذلک فی فتح قیساریة، فلذلک کثر اعتقاده فیه، و ما أحسن قول الشریف محمد بن رضوان الناسخ فی ملازمة السلطان له أسفاره:
ما الظاهر السلطان إلّا مالک الدنیا بذاک لنا الملاحم تخبر
و لنا دلیل واضح کالشّمس فی‌وسط السماء لکلّ عین تنظر
لما رأینا الخضر یقدم جیشه‌أبدا علمنا أنّه الإسکندر
و ما برح علی رتبته إلی ثامن عشر شوّال سنة إحدی و سبعین ستمائة، فقبض علیه و اعتقل بقلعة الجبل و منح الناس من الاجتماع به. و یقال أن ذلک بسبب أنّ السلطان کان أعطاه تحفا قدمت من الیمن، منها کرّ یمنیّ ملیح إلی الغایة، فأعطاه خضر لبعض المردان، فبلغ ذلک الأمیر بدر الدین الخازندار النائب، و کان قد ثقل علیه بکثرة تسلطه، حتی لقد قال له مرّة بحضرة السلطان: کأنک تشفق علی السلطان و علی أولاده مثل ما فعل قطز بأولاد المعز، فأسرّها فی نفسه، و بلغ خبر الکرّ الیمنیّ إلی السلطان، فاستدعاه و حضر جماعة حاققوه علی أمور کثیرة منکرة، کاللواط و الزنا و نحوه، فاعتقله و رتب له ما یکفیه من مأکول و فاکهة و حلوی، و لما سافر السلطان إلی بلاد الروم قال خضر لبعض أصحابه إنّ السلطان یظهر علی الروم و یرجع إلی دمشق فیموت بها بعد أن أموت أنا بعشرین یوما. فکان کذلک، و مات خضر فی محبسه بقلعة الجبل فی سادس المحرّم أو سابعه من سنة ست و سبعین و ستمائة، و قد أناف علی الخمسین، فسلّم إلی أهله و حملوه إلی زاویته هذه و دفنوه فیها، و کان السلطان قد کتب بالانفراج عنه، فقدم البرید بعد موته، و مات السلطان بدمشق فی سابع عشری المحرّم المذکور بعد خضر بعشرین یوما، و هذه الزاویة باقیة إلی الیوم.

زاویة ابن منظور

هذه الزاویة خارج القاهرة بخط الدکة بجوار المقس، عرفت بالشیخ جمال الدین محمد بن أحمد بن منظور بن یس بن خلیفة بن عبد الرحمن أبو عبد اللّه الکتانیّ العسقلانیّ الشافعیّ الصوفیّ، الإمام الزاهد، کانت له معارف و اتباع و مریدون و معرفة بالحدیث، حدّث عن أبی الفتوح الجلالیّ و روی عنه الدمیاطیّ و الدواداریّ و عدّة من الناس، و نظر فی الفقه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 309
و اشتهر بالفضیلة، و کانت له ثروة و صدقات. و مولده فی ذی القعدة سنة سبع و تسعین و خمسمائة، و وفاته بزاویته فی لیلة الثانی و العشرین من شهر رجب الفرد، سنة ست و تسعین و ستمائة، و کانت هذه الزاویة أوّلا تعرف بزاویة شمس الدین بن کرا البغدادیّ.

زاویة الظاهری

هذه الزاویة خارج باب البحر ظاهر القاهرة عند جمّام طرغای علی الخلیج الناصریّ، کانت أوّلا تشرف طاقاتها علی بحر النیل الأعظم، فلما انحسر الماء عن ساحل المقس، و حفر الملک الناصر محمد بن قلاون الخلیج الناصریّ صارت تشرف علی الخلیج المذکور من برّه الشرقیّ، و اتصلت المناظر هناک إلی أن کانت الحوادث من سنة ست و ثمانمائة، فخربت حمّام طرغای و بیعت أنقاضها و أنقاض کثیر مما کان هناک من المناظر، و أنشئ هناک بستان عرف أوّلا بعبد الرحمن صیرفیّ الأمیر جمال الدین الأستادار، لأنه أوّلا أنشأه ثم انتقل عنه.
و الظاهریّ هذا هو أحمد بن محمد عبد اللّه أبو العباس جمال الدین الظاهریّ، کان أبوه محمد بن عبد اللّه عتیق الملک الظاهر شهاب الدین غازی، و برع حتی صار إماما حافظا و توفی لیلة الثلاثاء لاربع بقین من ربیع الأوّل سنة ست و تسعین و ستمائة بالقاهرة، و دفن بتربته خارج باب النصر. و ابنه عثمان بن أحمد بن محمد بن عبد اللّه فخر الدین بن جمال الدین الظاهریّ الحلبیّ، الإمام العلامة المحدّث الصالح، ولد فی سنة سبعین و ستمائة، و أسمعه أبو بدیار مصر و الشام، و کان مکثرا و مات بزاویته هذه فی سنة ثلاثین و سبعمائة.

زاویة الجمیزة

هذه الزاویة موضعها من جملة أراضی الزهریّ، و هی الآن خارج باب زویلة بالقرب من معدّیة فریج، أنشأها الأمیر سیف الدین جیرک السلاحدار المنصوریّ أحد أمراء الملک المنصور قلاون، فی سنة اثنتین و ثمانین و ستمائة، و جعل فیها عدّة من الفقراء الصوفیة.

زاویة الحلاوی

هذه الزاویة بخط الأبارین من القاهرة بالقرب من الجامع الأزهر، أنشأها الشیخ مبارک الهندیّ السعودیّ الحلاویّ، أحد الفقراء من أصحاب الشیخ أبی السعود بن أبی العشائر البارینیّ الواسطیّ، فی سنة ثمان و ثمانین و ستمائة، و أقام بها إلی أن مات و دفن فیها، فقام من بعده ابنه الشیخ عمر بن علیّ بن مبارک، و کانت له سماعات و مرویات، ثم قام من بعده ابنه شیخنا جمال الدین عبد اللّه بن الشیخ عمر بن علیّ بن الشیخ مبارک الهندیّ، و حدّث فسمعنا علیه بها إلی أن مات فی صفر سنة ثمان و ثمانمائة، و بها الآن ولده، و هی من الزوایا المشهورة بالقاهرة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 310

زاویة نصر

هذه الزاویة خارج باب النصر من القاهرة، أنشأها الشیخ نصر بن سلیمان أبو الفتح المنبجیّ الناسک القدوة، و حدّث بها عن إبراهیم بن خلیل و غیره، و کان فقیها معتزلا عن الناس متخلیا للعبادة، یتردّد إلیه أکابر الناس و أعیان الدولة، و کان للأمیر رکن الدین بیبرس الجاشنکیر فیه اعتقاد کبیر، فلما ولی سلطنة مصر أجلّ قدره و أکرم محله، فهرع الناس إلیه و توسلوا به فی حوائجهم، و کان یتغالی فی محبة العارف محیی الدین محمد بن عربی الصوفیّ، و لذلک کانت بینه و بین شیخ الإسلام أحمد بن تیمیة مناکرة کبیرة، و مات رحمه اللّه عن بضع و ثمانین سنة، فی لیلة السابع و العشرین من جمادی الآخرة، سنة تسع عشرة و سبعمائة و دفن بها.

زاویة الخدّام

هذه الزاویة خارج باب النصر، فیما بین شقة باب الفتوح من الحسینیة و بین شقة الحسینیة خارج باب النصر، أنشأها الطواشی بلال الفرّاجیّ و جعلها وقفا علی الخدّام الحبش الأجناد، فی سنة سبع و أربعین و ستمائة.

زاویة تقی الدین

هذه الزاویة تحت قلعة الجبل، أنشأها الملک الناصر محمد بن قلاون بعد سنة عشرین و سبعمائة، لسکنی الشیخ تقیّ الدین رجب بن أشیرک العجمیّ، و کان وجیها محترما عند أمراء الدولة، و لم یزل بها إلی أن مات یوم السبت ثامن شهر رجب سنة أربع عشرة و سبعمائة، و ما زالت منزلا لفقراء العجم إلی وقتنا هذا.

زاویة الشریف مهدی

هذه الزاویة بجوار زاویة الشیخ تقیّ الدین المذکور، بناها الأمیر صرغتمش فی سنة ثلاث و خمسین و سبعمائة.

زاویة الطراطریة

هذه الزاویة بالقرب من موردة البلاط، بناها الملک الناصر محمد بن قلاون بوساطة القاضی شرف الدین النشو ناظر الخاص برسم الشیخین الأخوین محمد و أحمد المعروفین بالطراطریة، فی سنة أربعین و سبعمائة، و کانا من أهل الخیر و الصلاح، و نزلا أوّلا فی مقصورة بالجامع الأزهر، فعرفت بهما، ثم عرفت بعدهما بمقصورة الحسام الصفدیّ والد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 311
الأمیر الوزیر ناصر الدین محمد بن الحسام، و هذه المقصورة بآخر الرواق الأوّل مما یلی الرکن الغربیّ، و لم تزل هذه الزاویة عامرة إلی أن کانت المحن من سنة ست و ثمانمائة، و خرب خط زریبة قوصون و ما فی قبلیه إلی منشأة المهرانیّ، و ما فی بحریه إلی قرب بولاق.

زاویة القلندریة

القلندریة طائفة تنتمی إلی الصوفیة، و تارة تسمی أنفسها ملامتیة، و حقیقة القلندریة أنهم قوم طرحوا التقید بآداب المجالسات و المخاطبات، و قلت أعمالهم من الصوم و الصلاة إلّا الفرائض، و لم یبالوا بتناول شی‌ء من اللذات المباحة، و اقتصروا علی رعایة الرخصة، و لم یطلبوا حقائق العزیمة، و التزموا أن لا یدّخروا شیئا، و ترکوا الجمع و الاستکثار من الدنیا و لم یتقشفوا و لا زهدوا و لا تعبدوا، و زعموا أنهم قد قنعوا بطیب قلوبهم مع اللّه تعالی، و اقتصروا علی ذلک و لیس عندهم تطلع إلی طلب مزید سوی ما هم علیه من طیب القلوب.
و الفرق بین الملامتیّ و القلندریّ، أن الملامتیّ یعمل فی کتم العبادات، و القلندریّ یعمل فی تخریب العادات، و الملامتیّ یتمسک بکل أبواب البرّ و الخیر و یری الفضل فیه، إلّا أنه یخفی أحواله و أعماله، و یوقف نفسه موقف العوام فی هیئته، و ملبوسه تسترا للحال، حتی لا یفطن له، و هو مع ذلک متطلع إلی المزید من العبادات. و القلندریّ لا یتقید بهیئة و لا یبالی بما یعرف من حاله و ما لا یعرف، و لا ینعطف إلّا علی طیب القلوب، و هو رأس مال.
هذه الزاویة خارج باب النصر من القاهرة من الجهة التی فیها الترب و المقابر التی تلی المساکن، أنشأها الشیخ حسن الجوالقیّ القلندریّ، أحد فقراء العجم القلندریة علی رأی الجوالقة، و لما قدم إلی دیار مصر تقدّم عند أمراء الدولة الترکیة، و أقبلوا علیه و اعتقدوه فأثری ثراء زائدا فی سلطنة الملک العادل کتبغا، و سافر معه من مصر إلی الشام، فاتفق أن السلطان اصطاد غزالا و دفعه إلیه لیحمله إلی صاحب حماه، فلما أحضره إلیه ألبسه تشریفا من حریر طرز وخش و کلوتة زرکش، فقدم بذلک علی السلطان، فأخذ الأمراء فی مداعبته و قالوا له علی سبیل الإنکار: کیف تلبس الحریر و الذهب و هما حرام علی الرجال؟ فأین التزهد و سلوک طریق الفقراء و نحو ذلک؟ فعندما حضر صاحب حماه إلی مجلس السلطان علی العادة قال له: یا خوند أیش عملت معی، الأمراء أنکروا علیّ، و الفقراء تطالبنی. فأنعم علیه بألف دینار، فجمع الفقراء و الناس و عمل وقتا عظیما بزاویة الشیخ علیّ الحریریّ خارج دمشق، و کان سمح النفس جمیل العشرة لطیف الروح، یحلق لحیته و لا یعتم، ثم إنه ترک الحلق و صارت له لحیة و تعمم عمامة صوفیة، و کانت له عصبة، و فیه مروءة و عصبیة، و مات بدمشق فی سنة اثنتین و عشرین و سبعمائة.
و ما زالت هذه الزاویة منزلا لطائفة القلندریة، و لهم بها شیخ، و فیها منهم عدد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 312
موفور، و فی شهر ذی القعدة سنة إحدی و ستین و سبعمائة، حضر السلطان الملک الناصر حسن بن محمد بن قلاون بخانقاه أبیه الملک الناصر فی ناحیة سریاقوس خارج القاهرة، و مدّ له شیخ الشیوخ سماطا کان من جملة من وقف علیه بین یدی السلطان الشریف علیّ شیخ زاویة القلندریة هذه، فاستدعاه السلطان و أنکر علیه حلق لحیته، و استتابه و کتب له توقیعا سلطانیا منع فیه هذه الطائفة من تحلیق لحاهم، و أنّ من تظاهر بهذه البدعة قوبل علی فعله المحرّم، و أن یکون شیخا علی طائفته کما کان ما دام و داموا متمسکین بالسنة النبویة، و هذه البدعة لها منذ ظهرت ما یزید علی أربعمائة سنة، و أوّل ما ظهرت بدمشق فی سنة بضع عشرة و ستمائة، و کتب إلی بلاد الشام بإلزام القلندریة بترک زیّ الأعاجم و المجوس، و لا یمکن أحد من الدخول إلی بلاد الشام حتی یترک هذا الزیّ المبتدع و اللباس المستبشع، و من لا یلتزم بذلک یعزر شرعا و یقلع من قراره قلعا فنودی بذلک فی دمشق و أرجائها یوم الأربعاء سادس عشر ذی الحجة.

قبة النصر

هذه القبة زاویة یسکنها فقراء العجم، و هی خارج القاهرة بالصحراء تحت الجبل الأحمر بآخر میدان القبق من بحریه، جدّدها الملک الناصر محمد بن قلاون علی ید الأمیر جمال الدین أقوش نائب الکرک.

زاویة الرکراکی

هذه الزاویة خارج القاهرة فی أرض المقس، عرفت بالشیخ المعتقد أبی عبد اللّه محمد الرکراکیّ المغربیّ المالکیّ، لإقامته بها، و کان فقیها مالکیا متصدّیا لأشغال المغاربة، یتبرّک الناس به إلی أن مات بها یوم الجمعة ثانی عشر جمادی الأولی سنة أربع و تسعین و سبعمائة، و دفن بها. و الرکراکیّ نسبة إلی رکراکة، بلدة بالمغرب هی أحد مراسی سواحل المغرب بقرب البحر المحیط، تنزل فیه السفن فلا تخرج إلّا بالریاح العاصفة فی زمن الشتاء عند تکدّر الهواء.

زاویة إبراهیم الصائغ

هذه الزاویة بوسط الجسر الأعظم تطلّ علی برکة الفیل، عمرها الأمیر سیف الدین طغای بعد سنة عشرین و سبعمائة، و أنزل فیها فقیرا عجمیا من فقراء الشیخ تقیّ الدین رجب یعرف بالشیخ عز الدین العجمیّ، و کان یعرف صناعة الموسیقی و له نغمة لذیذة و صوت مطرب و غناء جید، فأقام بها إلی أن مات فی سنة ثلاث و عشرین و سبعمائة، فغلب علیها الشیخ إبراهیم الصائغ إلی أن مات، یوم الاثنین رابع عشر شهر رجب سنة أربع و خمسین و سبعمائة، فعرفت به.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 313

زاویة الجعبری

هذه الزاویة خارج باب النصر من القاهرة، تنسب إلی الشیخ برهان الدین بن معضاد بن شدّاد بن ماجد الجعبریّ، المعتقد الواعظ، کان یجلس للوعظ فتجتمع إلیه الناس و یذکرهم و یروی الحدیث، و یشارک فی علم الطب و غیره من العلوم، و له شعر حسن، و روی عن السخاویّ، و حدّث عن البزارکیّ، و کان له أصحاب یبالغون فی اعتقاده و یغلون فی أمره، و کان لا یراه أحد إلّا أعظم قدره و أجله و أثنی علیه، و حفظت عنه کلمات طعن علیه بسببها، و عمر حتی جاوز الثمانین سنة، فلما مرض أمر أن یخرج به إلی مکان قبره، فلما وقف علیه قال: قبیر و حال دبیر. و مات بعد ذلک بیوم، فی یوم السبت رابع عشری المحرّم سنة سبع و ثمانین و ستمائة، و الجعابرة عدّة منهم.

زاویة أبی السعود

هذه الزاویة خارج باب القنطرة من القاهرة علی حافة الخلیج، عرفت بالشیخ المبارک أیوب السعودیّ، کان یذکر أنه رأی الشیخ أبا السعود بن أبی العشائر و سلک علی یدیه، و انقطع بهذه الزاویة و تبرّک الناس به و اعتقدوا إجابة دعائه، و عمّر و صار یحمل لعجزه عن الحرکة حتی مات عن مائة سنة، أوّل صفر سنة أربع و عشرین و سبعمائة.

زاویة الحمصی

هذه الزاویة خارج القاهرة بخط حکر خزائن السلاح و الأوسیة علی شاطی‌ء خلیج الذکر من أرض المقس بجوار الدکة، أنشأها الأمیر ناصر الدین محمد، و یدعی طیقوش ابن الأمیر فخر الدین الطنبغا الحمصی، أحد الأمراء فی الأیام الناصریة، کان أبوه من أمراء الظاهر بیبرس، و رتب بهذه الزاویة عشرة من الفقراء شیخهم منهم، و وقف علیها عدّة أماکن فی جوارها، و حصة من قریة بورین من قری ساحل الشام. و غیر ذلک، فی سنة تسع و سبعمائة، فلما خرب ما حولها و ارتدم خلیج الذکر تعطلت، و هی الآن قد عزم مستحقو ریعها علی هدمها لکثرة ما أحاط بها من الخراب من سائر جهاتها، و صار السلوک إلیها مخوفا بعد ما کانت تلک الخطة فی غایة العمارة، و فی جمادی سنة عشرین و سبعمائة هدمت.

زاویة المغربل

هذه الزاویة خارج القاهرة بدرب الزراق من الحکر، عرفت بالشیخ المعتقد علیّ المغربل، و مات فی یوم الجمعة خامس جمادی الأولی سنة اثنتین و تسعین و سبعمائة، و لما کانت الحوادث من سنة ست و ثمانمائة خربت الحکورة و هدم درب الزراق و غیره.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 314

زاویة القصری

هذه الزاویة بخط المقس خارج القاهرة، عرفت بالشیخ أبی عبد اللّه محمد بن موسی عبد اللّه بن حسن القصری الرجل الصالح الفقیه المالکیّ المغربیّ، قدم من قصر کتامة بالمغرب إلی القاهرة و انقطع بهذه الزاویة علی طریقة جمیلة من العبادة، و طلب العلم إلی أن مات بها فی التاسع من شهر رجب سنة ثلاث و ثلاثین و ستمائة.

زاویة الجاکی

هذه الزاویة فی سویقة الریش من الحکورة خارج القاهرة بجانب الخلیج الغربیّ، عرفت بالشیخ المعتقد حسین بن إبراهیم بن علیّ الجاکی، و مات بها فی یوم الخمیس العشرین من شوّال سنة سبع و ثلاثین و سبعمائة، و دفن خارج باب النصر، و کانت جنازته عظیمة جدّا، و أقام الناس یتبرّکون بزیارة قبره إلی أن کانت سنة سبع عشرة و ثمانمائة، فأقبل الناس إلی زیارة قبره و کان لهم هناک مجتمع عظیم فی کلّ یوم، و یحملون النذور إلی قبره، و یزعمون أن الدعاء عنده لا یردّ فتنة أضلّ الشیطان بها کثیرا من الناس، و هم علی ذلک إلی یومنا هذا.

زاویة الأبناسیّ

هذه الزاویة بخط المقس، عرفت بالشیخ الفقیه برهان الدین إبراهیم بن حسین بن موسی بن أیوب الأبناسیّ الشافعیّ، قدم من الریف و برع فی الفقه، و اشتهر بسلامة الباطن، و عرف بالخیر و الصلاح، و کتب علی الفتوی، و درس بالجامع الأزهر و غیره، و تصدّی لأشغال الطلبة عدّة سنین، و ولی مشیخة الخانقاه الصلاحیة سعید السعداء، و طلبه الأمیر سیف الدین برقوق و هو یومئذ أتابک العساکر حتی یقلده قضاء القضاة بدیار مصر، فغیب فرارا من ذلک و تنزها عنه، إلی أن ولی غیره، و کانت ولادته قبیل سنة خمس و عشرین و سبعمائة، و وفاته بمنزلة المویلح من طریق الحجاز بعد عوده من الحج، فی ثامن المحرّم سنة اثنتین و ثمانمائة، و دفن بعیون القصب.

زاویة الیونسیة

هذه الزاویة خارج القاهرة بالقرب من باب اللوث تنزلها الطائفة الیونسیة، و أحدهم یونسیّ- بضم الیاء المعجمة باثنتین من تحتها و بعد الیاء واو ثم نون بعدها سین مهملة فی آخرها یاء آخر الحروف- نسبة إلی یونس، و یونس المنسوب إلیه الطائفة الیونسیة غیر واحد، فمنهم یونس بن عبد الرحمن القمیّ مولی آل یقطین، و هو الذی یزعم أن معبوده علی عرشه تحمله ملائکته، و إن کان هو أقوی منها، کالکرکیّ تحمله رجلاه و هو أقوی منهما، و قد کفر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 315
من زعم ذلک، فإن اللّه تعالی هو الذی یحمل العرش و حملته، و هذه الطائفة الیونسیة من غلاة الشیعة و الیونسیة أیضا فرقة من المرجئة ینتمون إلی یونس السمویّ، و کان یزعم أن الإیمان هو المعرفة بالله و الخضوع له، و هو ترک الاستکبار علیه و المحبة له، فمن اجتمعت فیه هذه الخلال فهو مؤمن، و زعم أن إبلیس کان عارفا بالله غیر أنه کفر باستکباره علیه، و لهم یونس بن یونس بن مساعد الشیبانیّ، ثم المخارقیّ شیخ الفقراء الیونسیة، شیخ صالح له کرامات مشهورة، و لم یکن له شیخ بل کان مجذوبا جذب إلی طریق الخیر توفی بأعمال دارا فی سنة تسع عشرة و سبعمائة، و قد ناهز تسعین سنة، و قبره مشهور یزار و یتبرّک به، و إلیه تنسب هذه الطائفة الیونسیة.

زاویة الخلاطی

هذه الزاویة خارج باب النصر من القاهرة بالقرب من زاویة الشیخ نصر المنجیّ، عرفت ... و کانت لهم وجاهة، منهم ناصر الدین محمد بن علاء الدین علیّ بن محمد بن حسین الخلاطیّ، مات فی نصف جمادی الأولی سنة سبع و ثلاثین و سبعمائة و دفن بها.

الزاویة العدویة

هذه الزاویة بالقرافة، تنسب إلی الشیخ عدیّ بن مسافر بن إسماعیل بن موسی بن مروان بن الحسن بن مروان الهکاریّ القرشیّ الأمویّ. و کان قد صحب عدّة من المشایخ، کعقیل المنبجیّ، و حماد الدباس، و عبد القادر السهروردیّ، و عبد القادر الجیلیّ. ثم انقطع فی جبل الهکاریة من أعمال الموصل، و بنی له زاویة، فمال إلیه أهل تلک النواحی کلها میلا لم یسمع لأرباب الزوایا مثله، حتی مات سنة سبع و قیل سنة خمس و خمسین و خمسمائة، و دفن فی زاویته، و قدم ابن أخیه إلی هذه البلاد، و هو زین الدین، فأکرم و أنعم علیه بإمرة، ثم ترکها و انقطع فی قریة بالشام تعرف ببیت فار، علی هیئة الملوک من اقتناء الخیول المسوّمة و الممالیک و الجواری و الملابس، و عمل الأسمطة الملوکیة، فافتتنت به بعض نساء الطائفة القیمریة. و بالغت فی تعظیمه، و بذلت له أموالا عظیمة، و حاشیتها تلومها فیه، فلا تصغی إلی قولهم، فاحتالوا حتی أوقفوها علیه و هو عاکف علی المنکرات، فما زادها ذلک إلّا ضلالا و قالت: أنتم تنکرون هذا علیه. إنما الشیخ یتدلل علی ربه، و أتاه الأمیر الکبیر علم الدین سنجر الدوادار و معه الشهاب محمود لتحلیفه فی أوّل دولة الأشرف خلیل بن قلاون إلی قریته، فإذا هو کالملک فی قلعته، للتجمل الظاهر و الحشمة الزائدة، و الفرش الأطلس، و آنیة الذهب و الفضة و النضار الصینیّ، و أشیاء تفوت العدّ، إلی غیر ذلک من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 316
الأشربة المختلفة الألوان، و الأطعمة المنوّعة. فلما دخلا علیه لم یحتفل بهما، و قبّل الأمیر سنجریده و هو جالس لم یقم، و بقی قائما قدامه یحدثه، و زین الدین یسأله ساعة، ثم أمره أن یجلس فجلس علی رکبتیه متأدّیا بین یدیه، فلما حلفاه أنعم علیهما بما یقارب خمسة عشر ألف درهم، و تخلف من طائفته الشیخ عز الدین أمیران، و أنعم علیه بإمرة دمشق، ثم نقل إلی إمرة بصفد، ثم أعید إلی دمشق و ترک الإمرة و انقطع بالمرّة، و تردّد إلیه الأکراد من کل قطر و حملوا إلیه الأموال، ثم أنه أراد أن یخرج علی السلطان بمن معه من الأکراد فی کلّ بلد، فباعوا أموالهم و اشتروا الخیل و الملاح، و وعد رجاله بنیابات البلاد، و نزل بأرض اللجون. فبلغ ذلک السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون، فکتب إلی الأمیر تنکز نائب الشام بکشف أخبارهم، و أمسک السلطان من کان بهذه الزاویة العدویة، و درک علی أمیر طبر، و اختلفت الأخبار فقیل أنهم یریدون سلطنة مصر، و قیل یریدون ملک الیمن، فقلق السلطان لأمرهم و أهمه إلی أن أمسک الأمیر تنکز عز الدین المذکور و سجنه فی سنة ثلاث و ثلاثین و سبعمائة حتی مات، و فرّق الأکراد، و لو لم یتدارک لأوشک أن یکون لهم نوبة.

زاویة السدّار

هذه الزاویة برأس حارة الدیلم، بناها الفقیر المعتقد علیّ بن السدّار فی سنة سبعین و سبعمائة، و توفی سنة ثلاث و سبعین و سبعمائة.

ذکر المشاهد التی یتبرّک الناس بزیارتها مشهد زین العابدین

اشارة

هذا المشهد فیما بین الجامع الطولونیّ و مدینة مصر، تسمیه العامّة مشهد زین العابدین، و هو خطأ، و إنما هو مشهد رأس زید بن علیّ المعروف بزین العابدین بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب علیه السلام، و یعرف فی القدیم بمسجد محرس الخصیّ.
قال القضاعیّ: مسجد محرس الخصیّ بنی علی رأس زید بن علیّ بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب حین أنفذه هشام بن عبد الملک إلی مصر، و نصب علی المنبر بالجامع، فسرقه أهل مصر و دفنوه فی هذا الموضع.
و قال الکندیّ فی کتاب الأمراء: و قدم إلی مصر فی سنة اثنتین و عشرین و مائة أبو الحکم بن أبی الأبیض القیسیّ خطیبا برأس زید بن علیّ رضوان اللّه علیه، یوم الأحد لعشر خلون من جمادی الآخرة، و اجتمع الناس إلیه فی المسجد.
و قال الشریف محمد بن أسعد الجوّانیّ فی کتاب الجوهر المکنون فی ذکر القبائل و البطون: و بنو زید بن علیّ زین العابدین بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب علیهم السلام
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 317
الشهید بالکوفة، و لم یبق له علیه السلام غیر رأسه التی بالمشهد الذی بین الکومین بمصر بطریق جامع ابن طولون و برکة الفیل، و هو من الخطط، یعرف بمسجد محرس الخصیّ، و لما صلب کشفوا عورته فنسج العنکبوت فسترها. ثم إنه بعد ذلک أحرق و ذری فی الریح و لم یبق منه إلّا رأسه التی بمصر، و هو مشهد صحیح لأنه طیف بها بمصر، ثم نصبت علی المنبر بالجامع بمصر فی سنة اثنتین و عشرین و مائة، فسرقت و دفنت فی هذا الموضع إلی أن ظهرت، و بنی علیها مشهد.
و ذکر ابن عبد الظاهر أن الأفضل بن أمیر الجیوش لما بلغته حکایة رأس زید أمر بکشف المسجد، و کان وسط الأکوام، و لم یبق من معالمه إلّا محراب، فوجد هذا العضو الشریف. قال محمد بن منجب بن الصیرفیّ: حدّثنی الشریف فخر الدین أبو الفتوح ناصر الزیدیّ خطیب مصر، و کان من جملة حضر الکشف قال: لما خرج هذا العضو رأیته، و هو هامة وافرة، و فی الجبهة أثر فی سعة الدرهم، فضمّخ و عطّر و حمل إلی دار حتی عمر هذا المشهد، و کان وجد أنه یوم الأحد تاسع عشری ربیع الأوّل سنة خمس و عشرین و خمسمائة، و کان الوصول به فی یوم الأحد، و وجدانه فی یوم الأحد.
زید بن علی: بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب، و کنیته أبو الحسن الإمام، الذی تنسب إلیه الزیدیة إحدی طوائف الشیعة، سکن المدینة و روی عن أبیه علیّ بن الحسین الملقب زین العابدین، و عن أبان بن عثمان، و عبید اللّه بن أبی رافع، و عروة بن الزبیر و روی عنه محمد بن شهاب الزهریّ، و زکریا بن أبی زائدة، و خلق ذکره ابن حبان فی الثقات. و قال: رأی جماعة من الصحابة، و قیل لجعفر بن محمد الصادق عن الرافضة أنهم یتبرّؤن من عمک زید. فقال: بری‌ء اللّه ممن تبرّأ من عمی، کان و اللّه أقرأنا لکتاب اللّه، و أفقهنا فی دین اللّه، و أوصلنا للرحم، و اللّه ما ترک فینا لدینا و لا لآخرة مثله.
و قال أبو إسحاق السبیعیّ: رأیت زید بن علیّ فلم أر فی أهله مثله، و لا أعلم منه، و لا أفضل، و کان أفصحهم لسانا، و أکثرهم زهدا و بیانا.
و قال الشعبیّ: و اللّه ما ولد النساء أفضل من زید بن علیّ، و لا أفقه و لا أشجع و لا أزهد. و قال أبو حنیفة: شاهدت زید بن علیّ کما شاهدت أهله، فما رأیت فی زمانه أفقه منه، و لا أعلم، و لا أسرع جوابا، و لا أبین قولا لقد کان منقطع القرین. و قال الأعمش: ما کان فی أهل زید بن علیّ مثل زید، و لا رأیت فیهم أفضل منه، و لا أفصح و لا أعلم و لا أشجع، و لقد و فی له من تابعه لإقامتهم علی المنهج الواضح. و سئل جعفر بن محمد الصادق عن خروجه فقال: خرج علی ما خرج علیه آباؤه و کان یقال لزید حلیف القرآن، و قال خلوت بالقرآن ثلاث عشرة سنة أقرأه و أتدبره، فما وجدت فی طلب الرزق رخصة، و ما وجدت، ابتغوا من فضل اللّه إلّا العبادة و الفقه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 318
و قال عاصم بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب: لقد أصیب عندکم رجل ما کان فی زمانکم مثله، و لا أراه یکون بعده مثله، زید بن علیّ، لقد رأیته و هو غلام حدث، و إنه لیسمع الشی‌ء من ذکر اللّه فیغشی علیه حتی یقول القائل ما هو بعائد إلی الدنیا. و کان نقش خاتم زید، اصبر تؤجر اصدق تنج، و قرأ مرّة قوله تعالی: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَکُمْ ثُمَّ لا یَکُونُوا أَمْثالَکُمْ [محمد/ 38] فقال: إنّ هذا لوعید و تهدید من اللّه. ثم قال: اللهمّ لا تجعلنا ممن تولی عنک فاستبدلت به بدلا. و کان إذا کلمه إنسان و خاف أن یهجم علی أمر یخاف منه مأثما، قال له: یا عبد اللّه أمسک أمسک، کف کف، إلیک إلیک، علیک بالنظر لنفسک. ثم یکف عنه و لا یکلمه.
و قد اختلف فی سبب قیام زید و طلبه الأمر لنفسه، فقیل أن زید بن علیّ، و داود بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس، و محمد بن عمر بن علیّ بن أبی طالب، قدموا علی خالد بن عبد اللّه القسریّ بالعراق فأجازهم و رجعوا إلی المدینة، فلما ولی یوسف بن عمر العراق بعد عزل خالد، کتب إلی هشام بن عبد الملک و ذکر له أن خالد ابتاع أرضا بالمدینة من زید بعشرة آلاف دینار، ثم ردّ الأرض علیه. فکتب هشام إلی عامل المدینة أن یسیرهم إلیه، ففعل. فسألهم هشام عن ذلک، فأقرّوا بالجائزة و أنکروا ما سوی ذلک، و حلفوا فصدّقهم، و أمرهم بالمسیر إلی العراق لیقابلوا خالدا، فساروا علی کره و قابلوا خالدا فصدّقهم و عادوا نحو المدینة. فلما نزلوا القادسیة راسل أهل الکوفة زیدا فعاد إلیهم، و قیل بل ادّعی خالد القسریّ أنه أودع زیدا و داود بن علیّ و نفرا من قریش مالا. فکتب یوسف بن عمر بذلک إلی الخلیفة هشام بن عبد الملک، فأحضرهم هشام من المدینة و سیرهم إلی یوسف لیجمعهم و خالدا، فقدموا علیه، فقال یوسف لزید: إن خالدا زعم أنه أودع عندک مالا. فقال زید:
کیف یودعنی و هو یشتم آبائی علی منبره؟ فأرسل إلی خالد فأحضره فی عباءة و قال له: هذا زید قد أنکر أنّک أودعته شیئا. فنظر خالد إلیه و إلی داود و قال لیوسف: أ ترید أن تجمع إثمک مع إثمنا فی هذا؟ کیف أودعه و أنا أشتم آباءه و أشتمه علی المنبر؟ فقال زید لخالد: ما دعاک إلی ما صنعت؟ فقال: شدّد علیّ العذاب فادّعیت ذلک، و أملت أن یأتی اللّه بفرج قبل قدومک.
فرجعوا و أقام زید و داود بالکوفة، و قیل أن یزید بن خالد القسریّ هو الذی ادّعی أن المال ودیعة عند زید، فلما أمرهم هشام بالمسیر إلی العراق إلی یوسف استقالوه خوفا من شرّ یوسف و ظلمه. فقال: أنا أکتب إلیه بالکف عنکم و ألزمهم بذلک. فساروا علی کره، فجمع یوسف بینهم و بین یزید فقال یزید: لیس لی عندهم قلیل و لا کثیر. فقال له یوسف:
أ تهزأ بأمیر المؤمنین؟ فعذبه یومئذ عذابا کاد یهلکه، ثم أمر بالقرشیین فضربوا، و ترک زیدا.
ثم اتسحلفهم و أطلقهم فلحقوا بالمدینة، و أقام زید بالکوفة، و کان زید قال لهشام لما أمره
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 319
بالمسیر إلی یوسف: و اللّه ما آمن من إن بعثتنی إلیه أن لا نجتمع أنا و أنت حبیبین أبدا. قال:
لا بدّ من المسیر إلیه. فسار إلیه.
و قیل کان السبب فی ذلک أن زیدا کان یخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسین بن علیّ فی وقوف علیّ رضی اللّه عنه، فزید یخاصم عن بنی حسین، و جعفر یخاصم عن بنی حسن، فکانا یبلغان کل غایة، و یقومان فلا یعیدان مما کان بینهما، حرفا، فلما مات جعفر نازعه عبد اللّه بن الحسن بن الحسن، فتنازعا یوما بین یدی خالد بن عبد الملک بن الحارث بالمدینة، فأغلظ عبد اللّه لزید و قال: یا ابن السندیة. فضحک زید و قال:
قد کان إسماعیل علیه السلام ابن أمة، و مع ذلک فقد صبرت أمی بعد وفاة سیدها. و لم یصبر غیرها، یعنی فاطمة بنت الحسین أمّ عبد اللّه، فإنها تزوّجت بعد أبیه الحسن بن الحسن. ثم إنّ زیدا ندم و استحیی من فاطمة، فإنها عمته، و لم یدخل إلیها زمانا. فأرسلت إلیه: یا ابن أخی إنی لأعلم أن أمّک عندک کأمّ عبد اللّه عنده، و قالت لعبد اللّه: بئسما قلت لأمّ زید، أما و اللّه لنعم دخیلة القوم کانت، و ذکر أن خالدا قال لهما: اغدوا علینا غدا فلست ابن عبد الملک إن لم أفصل بینکما، فباتت المدینة تغلی کالمرجل. یقول قائل: قال زید کذا، و یقول قائل: قال عبد اللّه کذا، فلما کان من الغد جلس خالد فی المسجد و اجتمع الناس، فمن بین شامت و مهموم، فدعا بهما خالد و هو یحبّ أن یتشاتما، فذهب عبد اللّه یتکلم، فقال زید: لا تعجّل یا أبا محمد، أعتق زید کلّ ما یملک إن خاصمک إلی خالد أبدا. ثم أقبل إلی خالد فقال له: لقد جمعت ذریة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم لأمر ما کان یجمعهم علیه أبو بکر و لا عمر. فقال خالد: أما لهذا السفیه أحد؟ فتکلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم فقال: یا ابن أبی تراب و ابن حسین السفیه، أما تری، لوال علیک حقا و لا طاعة؟ فقال زید: اسکت أیها القحطانیّ، فإنّا لا نجیب مثلک. قال: و لم ترغب عنی؟ فو اللّه إنی لخیر منک و خیر من أبیک، و أمی خیر من أمّک، فتضاحک زید و قال: یا معشر قریش، هذا الدین قد ذهب أفتذهب الأحساب؟ فوا اللّه لیذهب دین القوم و ما تذهب أحسابهم. فقام عبد اللّه بن واقد بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب فقال: کذبت و اللّه أیها القحطانیّ، فو اللّه لهو خیر منک نفسا و أبا و أمّا و محتدا، و تناوله بکلام کثیر و أخذ کفا من حصباء و ضرب بها الأرض و قال: و اللّه إنه ما لنا علی هذا من صبر و قام.
ثم شخص زید إلی هشام بن عبد الملک، فجعل هشام لا یأذن له، و هو یرفع إلیه القصص، فکلما رفع قصة یکتب هشام فی أسفلها ارجع إلی منزلک. فیقول زید: و اللّه لا أرجع إلی خالد أبدا، ثم إنه أذن له یوما بعد طول حبس، فصعد زید و کان بائنا فوقف فی بعض الدرج و هو یقول: و اللّه لا یحب الدنیا أحد إلّا ذلّ، ثم صعد و قد جمع له هشام أهل الشام، فسلّم ثم جلس، فرمی علیه هشام طویلة، فحلف لهشام علی شی‌ء. فقال هشام: لا أصدّقک. فقال: یا أمیر المؤمنین، إنّ اللّه لم یرفع أحدا عن أن یرضی بالله، و لم یضع أحدا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 320
عن أن لا یرضی بذلک منه. فقال هشام: أنت زید المؤمّل للخلافة، و ما أنت و الخلافة، لا أمّ لک و أنت ابن أمة. فقال زید: لا أعلم أحدا عند اللّه أفضل من نبیّ بعثه، و لقد بعث اللّه نبیا و هو ابن أمة، و لو کان به تقصیر عن منتهی غایة لم یبعث، و هو إسماعیل بن إبراهیم، و النبوّة أعظم منزلة من الخلافة عند اللّه، ثم لم یمنعه اللّه من أن جعله أبا للعرب، و أبا لخیر البشر، محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، و ما یقصّر برجل أبوه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و بعد أمی فاطمة لا أفخر بأم.
فوثب هشام من مجلسه و تفرّق الشامیون عنه، و قال لحاجبه: لا یبیت هذا فی عسکری أبدا.
فخرج زید و هو یقول: ما کره قوم قط جرّ السیوف إلّا ذلوا، و سار إلی الکوفة. فقال:
له محمد بن عمر بن علیّ بن أبی طالب: أذکرک اللّه یا زید لما لحقت بأهلک و لا تأت أهل الکوفة، فإنهم لا یفون لک، فلم یقبل و قال: خرج بنا هشام أسراء علی غیر ذنب من الحجاز إلی الشام، ثم إلی الجزیرة، ثم إلی العراق، ثم إلی تیس ثقیف، یلعب بنا. و أنشد:
بکرت تخوّفنی الحتوف کأننی‌أصبحت عن عرض الحیاة بمعزل
فأجبتها إنّ المنیة منزل‌لا بدّ أن أسقی بکاس المنهل
إنّ المنیة لو تمثل مثّلت‌مثلی إذا نزلوا بصیق المنزل
فاثنی حبالک لا أبا لک و اعلمی‌أنی امرؤ سأموت إن لم أقتل
أستودعک اللّه، و إنی أعطی اللّه عهدا، إن دخلت یدی فی طاعة هؤلاء ما عشت.
و فارقه و أقبل إلی الکوفة فأقام بها مستخفیا یتنقل فی المنازل، فأقبلت الشیعة تختلف إلیه تبایعه، فبایعه جماعة من وجوه أهل الکوفة، و کانت بیعته: إنا ندعوکم إلی کتاب اللّه و سنة نبیه، و جهاد الظالمین، و الدفع عن المستضعفین، و إعطاء المحرومین، و قسم هذا الفی‌ء بین أهله بالسواء، و ردّ المظالم، و أفعال الخیر، و نصرة أهل البیت، أ تبایعون علی ذلک؟ فإذا قالوا نعم وضع یده علی أیدیهم، و یقول: علیک عهد اللّه و میثاقه و ذمّته و ذمّة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، لتؤمنن ببیعتی، و لتقاتلنّ عدوّی، و لتنصحنّ لی فی السرّ و العلانیة، فإذا قال نعم مسح یده علی یده ثم قال: اللهمّ فاشهد. فبایعه خمسة عشر ألفا، و قیل أربعون ألفا، و أمر أصحابه بالاستعداد، فأقبل من یرید أن یفی و یخرج معه یستعدّ و یتهیأ، فشاع أمره فی الناس، هذا علی قول من زعم أنه أتی الکوفة من الشام و اختفی بها یبایع الناس.
و أما علی قول من زعم أنه أتی إلی یوسف بن عمر لمرافعة خالد بن عبد اللّه القسریّ أو ابنه یزید بن خالد، فإنه قال: أقام زید بالکوفة ظاهرا و معه داود بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس، و أقبلت الشیعة تختلف إلیه و تأمره بالخروج و یقولون: إنا لنرجو أن تکون أنت المنصور، و أنّ هذا الزمان الذی یهلک فیه بنو أمیة، فأقام بالکوفة و یوسف بن عمر یسأل عنه فیقال هو هاهنا، و یبعث إلیه لیسیر فیقول نعم و یعتلّ بالوجع، فمکث ما شاء اللّه، ثم أرسل إلیه یوسف بالمسیر عن الکوفة، فاحتج بأنه یحاکم آل طلحة بن عبید اللّه بملک بینهما
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 321
بالمدینة، فأرسل إلیه لیوکل وکیلا و یرحل عنها، فلما رأی الجدّ من یوسف فی أمره سار حتی أتی القادسیة، و قیل الثعلبیة، فتبعه أهل الکوفة و قالوا له: نحن أربعون ألفا لم یتخلف عنک أحد، نضرب عنک بأسیافنا، و لیس هاهنا من أهل الشام إلّا عدّة یسیرة و بعض قبائلنا یکفیهم بإذن اللّه، و حلفوا له بالأیمان المغلظة، فجعل یقول: إنی أخاف أن تخذلونی و تسلمونی کفعلکم بأبی و جدّی، فیحلفون له، فقال له داود بن علیّ: لا یغرّک یا ابن عمی هؤلاء، ألیس قد خذلوا من کان أعز علیهم منک، جدّ علیّ بن أبی طالب حتی قتل، و الحسن من بعده بایعوه ثم وثبوا علیه و انتزعوا رداءه و جرحوه، أو لیس قد أخرجوا جدّک الحسین و حلفوا له ثم خذلوه و أسلموه و لم یرضوا بذلک حتی قتلوه، فلا ترجع معهم.
فقالوا: یا زید إنّ هذا لا یرید أن تظهر أنت، و یزعم أنه و أهل بیته أولی بهذا الأمر منکم.
فقال زید لداود: إن علیا کان یقاتله معاویة بذهبه، و إنّ الحسین قاتله یزید، و الأمر مقبل علیهم. فقال له داود: إنی أخاف إن رجعت معهم أن لا یکون أحد أشدّ علیک منهم، و أنت أعلم، و مضی داود إلی المدینة و رجع زید إلی الکوفة.
فأتاه سلمة بن کهیل فذکر له قرابته من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم و حقه فأحسن ثم قال له:
نشدتک اللّه کم بایعک؟ قال: أربعون ألفا. قال: فکم بایع جدّک؟ قال: ثمانون ألفا. قال:
فکم حصل معه؟ قال: ثلثمائة. قال: نشدتک اللّه أنت خیر أم جدّک؟ قال: جدّی. قال:
فهذا القرن خیر أم ذلک القرن؟ قال: ذلک القرن. قال: أفتطمع أن یفی لک هؤلاء و قد غدر أولئک بجدّک؟ قال: قد بایعونی و وجبت البیعة فی عنقی و عنقهم. قال: أفتأذن لی أن أخرج من هذا البلد، فلا آمن أن یحدث حدث فأهلک نفسی. فأذن له فخرج إلی الیمامة.
و کتب عبد اللّه بن الحسن بن الحسن إلی زید: أما بعد، فإن أهل الکوفة نفج العلانیة حور السریرة هوج فی الرد، أجزع فی اللقاء، تقدمهم ألسنتهم و لا تتابعهم قلوبهم، و لقد تواترت کتبهم إلیّ بدعوتهم فصممت عن ندائهم، و ألبست قلبی غشاء عن ذکرهم یأسا منهم و إطراحا لهم، و ما لهم مثل إلّا ما قال علیّ بن أبی طالب صلوات اللّه علیه: إن أهملتم خضتم، و إن خوّرتم خرتم، و إن اجتمع الناس و یتجهز للخروج، و تزوّج بالکوفة امرأتین، و کان ینتقل تارة عند هذه فی بنی سلمة قومها، و تارة عند هذه فی الأزد قومها، و تارة فی بنی عبس، و تارة فی بنی تغلب، و غیرهم إلی أن ظهر فی سنة اثنتین و عشرین و مائة، فأمر أصحابه بالاستعداد، و أخذ من کان یرید الوفاء بالبیعة یتجهز، فبلغ ذلک یوسف بن عمر، فبعث فی طلب زید فلم یوجد، و خاف زید أن یؤخذ، فتعجل قبل الأجل الذی جعله بینه و بین أهل الکوفة، و علی الکوفة یومئذ الحکم بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 322
الصلت فی ناس من أهل الشام، و یوسف بن عمر بالحیرة.
فلما علم أصحاب زید أن یوسف بن عمر قد بلغه الخبر و أنه یبحث عن زید، اجتمع إلی زید جماعة من رؤوسهم فقالوا: رحمک اللّه ما قولک فی أبی بکر و عمر، فقال زید رحمهما اللّه و غفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بیتی یقول فیهما إلّا خیرا، و إنّ أشدّ ما أقول فیما ذکرتم إنا کنا أحق بسلطان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم من الناس أجمعین، فدفعونا عنه، و لم یبلغ ذلک عندنا بهم کفرا، و قد ولّوا فعدلوا فی الناس و عملوا بالکتاب و السنة. قالوا فلم یظلمک هؤلاء إذا، کان أولئک لم یظلموا، و إذا کان هؤلاء لم یظلموا، فلم تدعو إلی قتالهم؟ فقال: إنّ هؤلاء لیسوا کأولئک، هؤلاء ظالمون لی و لأنفسهم و لکم، و إنما ندعوهم إلی کتاب اللّه و سنة نبیه محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، و الی السنن أن تحیی، و إلی البدع أن تطفأ، فإن أجبتمونا سعدتم، و إن أبیتم فلست علیکم بوکیل. ففارقوه و نکثوا بیعته و قالوا: قد سبق الإمام، یعنون محمدا الباقر، و کان قد مات. و قالوا جعفر ابنه إمامنا الیوم بعد أبیه، فسماهم زید الرافضة، و هم یزعمون أن المغیرة سماهم الرافضة حین فارقوه، و کانت طائفة قد أتت جعفر بن محمد الصادق قبل قیام زید و أخبروه ببیعته فقال: بایعوه، لهو و اللّه أفضلنا و سیدنا. فعادوا و کتموا ذلک، و کان زید قد واعد أصحابه أوّل لیلة من صفر، فبلغ ذلک یوسف بن عمر، فبعث إلی الحکم عامله علی الکوفة یأمره بأن یجمع الناس بالمسجد الأعظم یحصرهم فیه، فجمعهم، و طلبوا زیدا فخرج لیلا من دار معاویة بن إسحاق بن زید بن حارثة الأنصاریّ، و کان بها، و رفعوا النیران و نادوا یا منصور حتی طلع الفجر، فلما أصبحوا نادی أصحاب زید بشعارهم و ثاروا، فأغلق الحکم دروب السوق و أبواب المسجد علی الناس، و بعث إلی یوسف بن عمر و هو بالحیرة فأخبره الخبر، فأرسل إلیه خمسین فارسا لیعرفوا الخبر، فساروا حتی عرفوا الخبر و عادوا إلیه، فسارت الحیرة بأشراف الناس، و بعث ألفین من الفرسان و ثلاثمائة رجالة معهم النشاب، و أصبح زید فکان جمیع من وافاه تلک اللیلة مائتی رجل و ثمانیة عشر رجلا، فقال: سبحان اللّه أین الناس؟ فقیل إنهم فی المسجد الأعظم محصورون. فقال: و اللّه ما هذا بعذر لمن بایعنا. و أقبل فلقیه علی جبانة الصایدیین خمسمائة من أهل الشام فحمل علیهم فیمن معه حتی هزمهم، و انتهی إلی دار أنس بن عمر الأزدیّ، و کان فیمن بایعه و هو فی الدار، فنودی فلم یجب، فناداه زید فلم یخرج إلیه. فقال زید: ما أخلفکم قد فعلتموها، اللّه حسیبکم. ثم سار و یوسف بن عمر ینظر إلیه و هو فی مائتی رجل، فلو قصده زید لقتله، و الریان یتبع آثار زید بالکوفة فی أهل الشام، فأخذ زید فی المسیر حتی دخل الکوفة، فسار بعض أصحابه إلی الجبانة و واقعوا أهل الشام، فأسر أهل الشام منهم رجلا و مضوا به إلی یوسف بن عمر فقتله، فلما رأی زید خذلان الناس إیاه قال: قد فعلوها، حسبی اللّه، و سار و هو یهزم من لقیه حتی انتهی إلی باب المسجد، فجعل أصحابه یدخلون رایاتهم من فوق الباب و یقولون: یا أهل المسجد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 323
اخرجوا من الذل إلی العز، اخرجوا إلی الدین و الدنیا، فإنکم لستم فی دین و لا دنیا. و زید یقول: و اللّه ما خرجت و لا قمت مقامی هذا حتی قرأت القرآن، و أتقنت الفرائض، و أحکمت السنن و الآداب، و عرفت التأویل کما عرفت التنزیل، و فهمت الناسخ و المنسوخ، و المحکم و المتشابه، و الخاص و العام، و ما تحتاج إلیه الأمّة فی دینها مما لا بدّ لها منه و لا غنی لها عنه، و إنی لعلی بینة من ربی، فرماهم أهل المسجد بالحجارة من فوق المسجد، فانصرف زید فیمن معه، و خرج إلیه ناس من أهل الکوفة، فنزل دار الرزق فأتاه الریان و قاتله، و خرج أهل الشام مساء یوم الأربعاء أسوأ شی‌ء ظنا، فلما کان من الغد أرسل یوسف بن عمر عدّة علیهم العباس بن سعد المزنیّ، فلقیهم زید فاقتتلوا قتالا شدیدا، فانهزم أصحاب العباس و قتل منهم نحو من سبعین، فلما کان العشیّ عبّی یوسف بن عمر الجیوش و سرّحهم، فالتقاهم زید بمن معه و حمل علیهم حتی هزمهم و هو یتبعهم، فبعث یوسف طائفة من الماشیة فرموا أصحاب زید و هو یقاتل حتی دخل اللیل، فرمی بسهم فی جبهته الیسری ثبت فی دماغه، فرجع أصحابه، و لا یظنّ أهل الشام أنهم رجعوا للمساء و اللیل، فأنزلوا زیدا فی دار و أتوه بطبیب فانتزع النصل فضج زید و مات، رحمه اللّه، للیلتین خلتا من صفر سنة اثنتین و عشرین و مائة، و عمره اثنتان و أربعون سنة.
و لما مات اختلف أصحابه فی أمره، فقال بعضهم نطرحه فی الماء. و قال بعضهم بل نحز رأسه و نلقیه فی القتلی. فقال ابنه یحیی بن زید: و اللّه لا یأکل لحم أبی الکلاب.
و قال بعضهم ندفنه فی الحفرة التی یؤخذ منها الطین و نجعل علیه الماء، ففعلوا ذلک و أجروا علیه الماء، و کان معه مولی سندیّ فدلّ علیه، و قیل رآهم قصّار فدل علیه، و تفرّق الناس من أصحاب زید، و سار ابنه یحیی نحو کربلاء، و تتبع یوسف بن عمر الجرحی فی الدور حتی دلّ علی زید فی یوم جمعة، فأخرجه و قطع رأسه و بعث به إلی هشام بن عبد الملک، فدفع لمن وصل به عشرة آلاف درهم، و نصبه علی باب دمشق، ثم أرسله إلی المدینة و سار منها إلی مصر، و أما جسده فإن یوسف بن عمر صلبه بالکناسة و معه ثلاثة ممن کانوا معه، و أقام الحرس علیه، فمکث زید مصلوبا أکثر من سنتین حتی مات هشام و ولی الولید من بعده، و بعث إلی یوسف بن عمر أن أنزل زیدا و أحرقه بالنار، فأنزله و أحرقه و ذرّی رماده فی الریح، و کان زید لما صلب و هو عریان استرخی بطنه علی عورته حتی ما یری من سوءته شی‌ء، و مرّ زید مرّة بمحمد ابن الحنفیة فنظر إلیه و قال: أعیذک بالله أن تکون زید بن علیّ المصلوب بالعراق، و قال عبد اللّه بن حسین بن علیج بن الحسین بن علیّ: سمعت أبی یقول: اللهمّ إنّ هشاما رضی بصلب زید فاسلبه ملکه، و إن یوسف بن عمر أحرق زیدا اللهمّ فسلط علیه من لا یرحمه، اللهمّ و أحرق هشاما فی حیاته إن شئت، و إلّا فأحرقه بعد موته.
قال فرأیت و اللّه هشاما محرقا لما أخذ بنو العباس دمشق، و رأیت یوسف بن عمر بدمشق مقطعا، علی کلّ باب من أبواب دمشق منه عضو. فقلت یا أبتاه وافقت دعوتک لیلة القدر،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 324
فقال لا یا بنیّ، بل صمت ثلاثة أیام من شهر رجب، و ثلاثة أیام من شعبان، و ثلاثة أیام من شهر رمضان، کنت أصوم الأربعاء و الخمیس و الجمعة، ثم أدعو اللّه علیهما من صلاة العصر یوم الجمعة حتی أصلی المغرب، و بعد قتل زید انتقض ملک بنی أمیة و تلاشی إلی أن أزالهم اللّه تعالی ببنی العباس.
و هذا المشهد باق بین کیمان مدینة مصر یتبرّک الناس بزیارته و یقصدونه لا سیما فی یوم عاشوراء، و العامّة تسمیه زین العابدین، و هو وهم، و إنما زین العابدین أبوه، و لیس قبره بمصر، بل قبره بالبقیع، و لما قتل الإمام زید سوّدت الشیعة، أی لبست السواد، و کان أوّل من سوّد علی زید شیخ بنی هاشم فی وقته الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربیعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، و رثاه بقصیدة طویلة، و شعره حجة احتج به سیبویه، توفی سنة تسع و عشرین و مائة.

مشهد السیدة نفیسة

قال الشریف النقیب النسابة شرف الدین أبو علیّ محمد بن أسعد بن علیّ بن معمر بن عمر الحسینیّ الجوانیّ المالکیّ فی کتاب الروضة الأنیسة بفضل مشهد السیدة نفیسة رضی اللّه عنها: نفیسة ابنة الحسن بن زید بن الحسن بن علیّ بن أبی طالب علیهم السلام، أمّها أمّ ولد، و أخوتها القاسم و محمد و علیّ و إبراهیم و زید و عبید اللّه و یحیی و إسماعیل و إسحاق و أمّ کلثوم، أولاد الحسن بن زید بن الحسن بن علیّ، فأمّهم أمّ سلمة، و اسمها زینب ابنة الحسن بن الحسن بن علیّ، و أمّها أمّ ولد تزوّج أمّ کلثوم أخت نفیسة، عبد اللّه بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس رضی اللّه عنهم، ثم خلف علیها الحسن بن زید بن علیّ بن الحسن بن علیّ. و أما علیّ و إبراهیم و زید أخوة نفیسة من أبیها، فأمّهم أمّ ولد تدعی أمّ عبد الحمید، و أما عبید اللّه بن الحسن بن زید فأمّه الزائدة بنت بسطام بن عمیر بن قیس الشیبانیّ، و أما إسماعیل و إسحاق فهما لأمی ولد، و کان إسماعیل من أهل الفضل و الخیر، صاحب صوم و نسک، و کان یصوم یوما و یفطر یوما. و أما یحیی بن زید فله مشهد معروف بالمشاهد، یأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی، و تزوّج بنفیسة رضی اللّه عنها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علیّ زین العابدین بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب علیهم السلام، و کان یقال له إسحاق المؤتمن، و کان من أهل الصلاح و الخیر و الفضل و الدین، روی عنه الحدیث، و کان ابن کاسب إذا حدّث عنه یقول: حدّثنی الثقة الرضی إسحاق بن جعفر، و کان له عقب بمصر منهم بنو الرقی، و بحلب بنو زهرة. و ولدت نفیسة من إسحاق ولدین هما القاسم و أمّ کلثوم لم یعقبا.
و أما جدّ نفیسة و هو زید بن الحسن بن علیّ، فروی عن أبیه و عن جابر و ابن عباس، و روی عنه ابنه، و کانت بینه و بین عبد اللّه بن محمد ابن الحنفیة خصومة وفدا لأجلها علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 325
الولید بن عبد الملک، و کان یأتی الجمعة من ثمانیة أمیال، و کان إذا رکب نظر الناس إلیه و عجبوا من عظم خلقه و قالوا: جدّه رسول اللّه. و کتب إلیه الولید بن عبد الملک یسأله أن یبایع لابنه عبد العزیز و یخلع سلیمان بن عبد الملک، ففرق منه و أجابه، فلما استخلف سلیمان وجد کتاب زید بذلک إلی الولید، فکتب إلی أبی بکر بن حزم أمیر المدینة: ادع زید بن الحسن فأقره الکتاب، فإن عرفه فاکتب إلیّ، و إن هو نکل فقدّمه فأصب یمینه عند منبر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم إنه ما کتبه و لا أمر به، فخاف زیدا للّه و اعترف. فکتب بذلک أبو بکر، فکتب سلیمان أن یضربه مائة سوط و أن یدرعه عباءة و یمشیه حافیا، فحبس عمر بن عبد العزیز الرسول و قال: حتی أکلم أمیر المؤمنین فیما کتب به فی حق زید. فقال للرسول: لا تخرج فإن أمیر المؤمنین مریض. فمات سلیمان و أحرق عمر الکتاب.
و أما والد نفیسة و هو الحسن بن زید، فهو الذی کان والی المدینة النبویة من قبل أبی جعفر عبد اللّه بن محمد المنصور، و کان فاضلا أدیبا عالما، و أمّه أمّ ولد. توفی أبوه و هو غلام، و ترک علیه دینا أربعة آلاف دینار، فحلّف الحسن ولده أن لا یظل رأسه سقف إلّا سقف مسجد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، أو بیت رجل یکلمه فی حاجة حتی یقضی دین أبیه، فوفاه و قضاه بعد ذلک. و من کرمه أنه أتی بشاب شارب متأدّب، و هو عامل علی المدینة فقال: یا ابن رسول اللّه لا أعود و قد قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم: «أقیلوا ذوی الهیآت عثراتهم» و أنا ابن أبی أمامة بن سهل بن حنیف، و قد کان أبی مع أبیک، کما قد علمت. قال: صدقت، فهل أنت عائد؟ قال: لا و اللّه. فأقاله و أمر له بخمسین دینارا و قال له: تزوّج بها وعد إلیّ. فتاب الشاب و کان الحسن بن زید یجری علیه النفقة.
و کانت نفیسة من الصلاح و الزهد علی الحدّ الذی لا مزید علیه، فیقال أنها حجت ثلاثین حجة، و کانت کثیرة البکاء، تدیم قیام اللیل و صیام النهار، فقیل لها: ألا ترفقین بنفسک؟ فقالت: کیف أرفق بنفسی و أمامی عقبة لا یقطعها إلّا الفائزون. و کانت تحفظ القرآن و تفسیره، و کانت لا تأکل إلا فی کلّ ثلاث لیال أکلة واحدة، و لا تأکل من غیر زوجها شیئا، و قد ذکر أنّ الإمام الشافعیّ محمد بن إدریس کان زارها و هی من وراء الحجاب و قال لها: ادعی لی، و کان صحبته عبد اللّه بن عبد الحکم. و ماتت رضی اللّه عنها بعد موت الإمام الشافعیّ رحمة اللّه علیه بأربع سنین، لأنّ الشافعیّ توفی سلخ شهر رجب سنة أربع و مائتین.
و قیل أنها کانت فیمن صلّی علی الإمام الشافعیّ. و توفیت السیدة نفیسة فی شهر رمضان سنة ثمان و مائتین، و دفنت فی منزلها، و هو الموضع الذی به قبرها الآن، و یعرف بخط درب السباع، و درب بزرب. و أراد إسحاق بن الصادق و هو زوجها أن یحملها لیدفنها بالمدینة، فسأله أهل مصر أن یترکها و یدفنها عندهم لأجل البرکة، و قبر السیدة نفیسة أحد المواضع المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت ؛ ج‌4 ؛ ص325
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 326
المعروفة بإجابة الدعاء بمصر، و هی أربعة مواضع: سجن نبیّ اللّه یوسف الصدّیق علیه السلام، و مسجد موسی صلوات اللّه علیه، و هو الذی بطرا، و مشهد السیدة نفیسة رضی اللّه عنها، و المخدع الذی علی یسار المصلّی فی قبلة مسجد الإقدام بالقرافة. فهذه المواضع لم یزل المصریون ممن أصابته مصیبة أو لحقته فاقة أو جائحة یمضون إلی أحدها، فیدعون اللّه تعالی فیستجیب لهم، مجرّب ذلک. انتهی.
و یقال أنها حفرت قبرها هذا و قرأت فیه تسعین و مائة ختمة، و أنها لما احتضرت خرجت من الدنیا و قد انتهت فی حزبها إلی قوله تعالی: قُلْ لِمَنْ ما فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ کَتَبَ عَلی نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام/ 12] ففاضت نفسها رحمها اللّه تعالی مع قوله الرحمة، و یقال أن الحسن بن زید والد السیدة نفیسة کان مجاب الدعوة ممدوحا، و أن شخصا و شی به إلی أبی جعفر المنصور أنه یرید الخلافة لنفسه، فإنه کان قد انتهت إلیه ریاسة بنی حسن، فأحضره من المدینة و سلبه ماله، ثم إنه ظهر له کذب الناقل عنه، فمنّ علیه و ردّه إلی المدینة مکرّما، فلما قدمها بعث إلی الذی و شی به بهدیة و لم یعتبه علی ما کان منه. و یقال أنه کان مجاب الدعوة، فمرّت به امرأة و هو فی الأبطح، و معها ابن لها علی یدها فاختطفه عقاب، فسألت الحسن بن زید أن یدعو اللّه لها بردّه، فرفع یدیه إلی السماء و دعا ربه، فإذا بالعقاب قد ألقی الصغیر من غیر أن یضرّه بشی‌ء، فأخذته أمّه. و کان یعدّ بألف من الکرام.
و لما قدمت السیدة نفیسة إلی مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر نزلت بالمنصوصة، و کان بجوارها دار فیها قوم من أهل الذمّة، و لهم ابنة مقعدة لم تمش قط، فلما کان فی یوم من الأیام ذهب أهلها فی حاجة من حوائجهم و ترکوا المقعدة عند السیدة نفیسة، فتوضأت وصبت من فضل وضوئها علی الصبیة المقعدة و سمت اللّه تعالی، فقامت تسعی علی قدمیها لیس بها بأس البتة، فلما قدم أهلها و عاینوها تمشی أتوا إلی السیدة نفیسة و قد تیقنوا أنّ مشی ابنتهم کان ببرکة دعائها، و أسلموا بأجمعهم علی یدیها، فاشتهر ذلک بمصر و عرف أنه من برکاتها. و توقف النیل عن الزیادة فی زمنها فحضر الناس إلیها و شکوا إلیها ما حصل من توقف النیل، فدفعت قناعها إلیهم و قالت لهم: ألقوه فی النیل، فألقوه فیه، فزاد حتی بلغ اللّه به المنافع. و أسر ابن لامرأة ذمّیة فی بلاد الروم، فأتت إلی السیدة نفیسة و سألتها الدعاء أن یردّ اللّه ابنها علیها، فلما کان اللیل لم تشعر الذمّیة إلّا بابنها و قد هجم علیها دارها، فسألته عن خبره فقال: یا أمّاه لم أشعر إلّا و ید قد وقعت علی القید الذی کان فی رجلیّ و قائل یقول: أطلقوه قد شفعت فیه نفیسة بنت الحسن. فو الذی یحلف به یا أمّاه لقد کسر قیدی و ما شعرت بنفسی إلّا و أنا واقف بباب هذه الدار. فلما أصبحت الذمّیة أتت إلی السیدة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 327
نفیسة و قصت علیها الخبر و أسلمت هی و ابنها و حسن إسلامهما.
و ذکر غیر واحد من علماء الأخبار بمصر أن هذا قبر السیدة نفیسة بلا خلاف، و قد زار قبرها من العلماء و الصالحین خلق لا یحصی عددهم. و یقال أن أوّل من بنی علی قبر السیدة نفیسة عبید اللّه بن السری بن الحکم أمیر مصر، و مکتوب فی اللوح الرخام الذی علی باب ضریحها، و هو الذی کان مصفحا بالحدید بعد البسملة ما نصه، نصر من اللّه و فتح قریب، لعبد اللّه و ولیه معدّ أبی تمیم الإمام المستنصر بالله أمیر المؤمنین، صلوات اللّه علیه و علی آبائه الطاهرین و أبنائه المکرّمین، أمر بعمارة هذا الباب السید الأجل أمیر الجیوش سیف الإسلام ناصر الأنام کافل قضاة المسلمین و هادی دعاة المؤمنین عضّد اللّه به الدین و أمتع بطول بقائه المؤمنین و أدام قدرته و أعلی کلمته، و شدّ عضده بولده الأجل الأفضل سیف الإمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدین خلیل أمیر المؤمنین، زاد اللّه فی علائه و أمتع المؤمنین بطول بقائه فی شهر ربیع الآخر سنة اثنتین و ثمانین و أربعمائة، و القبة التی علی الضریح جدّدها الخلیفة الحافظ لدین اللّه فی سنة اثنتین و ثلاثین و خمسمائة، و أمر بعمل الرخام الذی بالمحراب.

مشهد السیدة کلثوم

هی کلثوم بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علیّ زین العابدین بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب، موضعه بمقابر قریش بمصر بجوار الخندق، و هی أمّ جعفر بن موسی بن إسماعیل بن موسی الکاظم بن جعفر الصادق، کانت من الزاهدات العابدات.

سنا و ثنا

یقال أنهما من أولاد جعفر بن محمد الصادق، کانتا تتلوان القرآن الکریم فی کلّ لیلة، فماتت إحداهما، فصارت الأخری تتلو و تهدی ثواب قراءتها لأختها حتی ماتت.

ذکر مقابر مصر و القاهرة المشهورة

القبر مدفن الإنسان، و جمعه قبور، و المقبرة موضع القبر. قال سیبویه: المقبرة لیس علی الفعل، و لکنه اسم، و قبره یقبره: دفنه. و أقبره جعل له قبرا. و اعلم أنّ لأهل مدینة مصر و لأهل القاهرة عدّة مقابر و هی: القرافة، فما کان منها فی سفح الجبل یقال له القرافة الصغری، و ما کان منها فی شرقیّ مصر بجوار المساکن یقال له القرافة الکبری، و فی القرافة الکبری کانت مدافن أموات المسلمین منذ افتتحت أرض مصر و اختط العرب مدینة الفسطاط، و لم یکن لهم مقبرة سواها، فلما قدم القائد جوهر من قبل المعز لدین اللّه و بنی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 328
القاهرة و سکنها الخلفاء، اتخذوا بها تربة عرفت بتربة الزعفران، قبروا فیها أمواتهم، و دفن رعیتهم من مات منهم فی القرافة إلی أن اختطت الحارات خارج باب زویلة، فقبر سکانها موتاهم خارج باب زویلة مما یلی الجامع، فیما بین جامع الصالح و قلعة الجبل، و کثرت المقابر بها عند حدوث الشدّة العظمی أیام الخلیفة المستنصر، ثم لما مات أمیر الجیوش بدر الجمالیّ دفن خارج باب النصر، فاتخذ الناس هنالک مقابر موتاهم، و کثرت مقابر أهل الحسینیة فی هذه الجهة، ثم دفن الناس الأموات خارج القاهرة فی الموضع الذی عرف بمیدان القبق، فیما بین قلعة الجبل و قبة النصر، و بنوا هناک الترب الجلیلة، و دفن الناس أیضا خارج القاهرة فیما بین باب الفتوح و الخندق، و لکل مقبرة من هذه المقابر أخبار سوف أقص علیک من أنبائها ما انتهت إلی معرفته قدرتی إن شاء اللّه تعالی. و یذکر أهل العنایة بالأمور المتقادمة أن الناس فی الدهر الأوّل لم یکونوا یدفنون موتاهم إلی أن کان زمن دونای الذی یدعی سید البشر لکثرة ما علّم الناس من المنافع، فشکا إلیه أهل زمانه ما یأتذون به من خبث موتاهم، فأمرهم أن یدفنوهم فی خوابی و یسدّوا رؤسها، ففعلوا ذلک، فکان دونای أوّل من دفن الموتی، و ذکر أن دونای هذا کان قبل آدم بدهر طویل مبلغه عشرون ألف سنة، و هی دعوی لا تصح، و فی القرآن الکریم ما یقتضی أن قابیل ابن آدم أوّل من دفن الموتی، و اللّه أصدق القائلین. و قد قال الشافعیّ رحمه اللّه: و أکره أن یعظّم مخلوق حتی یجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة علیه و علی من بعده.

ذکر القرافة

روی الترمذیّ من حدیث أبی طیبة عبد اللّه بن مسلم، عن عبد اللّه بن بریدة، عن أبیه رفعه: من مات من أصحابی بأرض بعث قائدا و نورا لهم یوم القیامة. قال: و هذا حدیث غریب. و قد روی عن أبی طیبة، عن ابن بریدة مرسلا، و هذا أصح، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد الحکم فی کتاب فتوح مصر: حدّثنا عبد اللّه بن صالح، حدّثنا اللیث ابن سعد قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن یبیعه سفح المقطم بسبعین ألف دینار، فعجب عمرو من ذلک و قال: أکتب فی ذلک إلی أمیر المؤمنین، فکتب بذلک إلی عمر رضی اللّه عنه، فکتب إلیه عمر سله لم أعطاک به ما أعطاک و هی لا تزدرع و لا یستنبط بها ماء. و لا ینتفع بها. فسأله فقال: إنا لنجد صفتها فی الکتب أنّ فیها غراس الجنة، فکتب بذلک إلی عمر رضی اللّه عنه، فکتب إلیه عمر إنّا لا نعلم غراس الجنة إلّا المؤمنین، فأقبر فیها من مات قبلک من المسلمین و لا تبعه بشی‌ء. فکان أوّل من دفن فیها رجل من المغافر یقال له عامر، فقیل عمرت. فقال المقوقس لعمرو: و ما ذلک، و لا علی هذا عاهدتنا، فقطع لهم الحدّ الذی بین المقبرة و بینهم.
و عن ابن لهیعة أن المقوقس قال لعمرو: إنا لنجد فی کتابنا أن ما بین هذا الجبل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 329
و حیث نزلتم ینبت فیه شجر الجنة. فکتب بقوله إلی عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه فقال:
صدق، فاجعلها مقبرة للمسلمین، فقبر فیها ممن عرف من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم خمسة نفر، عمرو بن العاص السهمیّ، و عبد اللّه بن حذافة السهمیّ، و عبد اللّه بن جزء الزبیدیّ، و أبو بصیرة الغفاریّ، و عقبة بن عامر الجهنیّ. و یقال و مسلمة بن مخلد الأنصاریّ انتهی.
و یقال أن عامرا هو الذی کان أوّل من دفن بالقرافة، قبره الآن تحت حائط مسجد الفتح الشرقیّ. و قالت فیه امرأة من العرب:
قامت بواکیه علی قبره‌من لی من بعدک یا عامر
ترکتنی فی الدار ذا غربةقد ذلّ من لیس له ناصر
و روی أبو سعید عبد الرحمن بن أحمد بن یونس فی تاریخ مصر من حدیث حرملة بن عمران قال: حدّثنی عمیر بن أبی مدرک الخولانیّ عن سفیان بن وهب الخولانیّ قال: بینما نحن نسیر مع عمرو بن العاص فی سفح هذا الجبل و معنا المقوقس، فقال له عمرو: یا مقوقس ما بال جبلکم هذا أقرع لیس علیه نبات و لا شجر علی نحو بلاد الشام؟ فقال: لا أدری، و لکنّ اللّه أغنی أهله بهذا النیل عن ذلک، و لکنه نجد تحته ما هو خیر من ذلک.
قال: و ما هو؟ قال لیدفنن تحته أو لیقبرنّ تحته قوم یبعثهم اللّه یوم القیامة لا حساب علیهم، قال عمرو: اللهمّ اجعلنی منهم. قال حرملة بن عمران: فرأیت قبر عمرو بن العاص، و قبر أبی بصیرة، و قبر عقبة بن عامر فیه. و خرّج أبو عیسی الترمذیّ من حدیث أبی طیبة عبد اللّه بن مسلم، عن عبد اللّه بن بریدة، عن أبیه رفعه: «من مات من أصحابی بأرض بعث قائدا لهم و نورا یوم القیامة»، و قال القاضی أبو عبد اللّه محمد بن سلامة القضاعیّ: القرافة هم بنو غض بن سیف بن وائل بن المغافر، و فی نسخة بنو غصن. و قال أبو عمرو الکندیّ:
بنو جحض بن سیف بن وائل بن الجیزیّ بن شراحیل بن المغافر بن یغفر. و قیل أن قرافة اسم أمّ عزافر، و جحض ابنی سیف بن وائل بن الجیزیّ. قد صحف القضاعیّ فی قوله غصن بالغین المعجمة، و الأقرب ما قاله الکندیّ، لأنه أقعد بذلک. و قال یاقوت و القرافة- بفتح القاف وراء مخففة و ألف خفیفة و فاء- الأوّل مقبرة بمصر مشهورة مسماة بقبیلة من المغافر یقال لهم بنو قرافة، الثانی القرافة محلة بالإسکندریة منسوبة إلی القبیلة أیضا. و قال الشریف محمد بن أسعد الجوانیّ فی کتاب النقط: و قد ذکر جامع القرافة الذی یقال له الیوم جامع الأولیاء، و کان جماعة من الرؤساء یلزمون النوم بهذا الجامع و یجلسون فی لیالی الصیف یتحدّثون فی القمر، فی صحنه، و فی الشتاء ینامون عند المنبر، و کان یحصل لقیمه الأشربة و الحلوی و الجرایات، و کان الناس یحبون هذا الموضع و یلزمونه لأجل من یحضر من الرؤساء، و کانت الطفیلیة یلزمون المبیت فیه لیالی الجمع، و کذلک أکثر المساجد التی بالقرافة و الجبل و المشاهد لأجل ما یحمل إلیها و یعمل فیها من الحلاوات و اللحومات و الأطعمة، و قال موسی بن محمد بن سعید فی کتاب المعرب عن أخبار المغرب: و بت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 330
لیالی کثیرة بقرافة الفسطاط، و هی فی شرقیها بها منازل الأعیان بالفسطاط و القاهرة، و قبور علیها مبان معتنی بها، و فیها القبة العالیة العظیمة المزخرفة التی فیها قبر الإمام الشافعیّ رضی اللّه عنه، و بها مسجد جامع و ترب کثیرة علیها أوقاف للقرّاء، و مدرسة کبیرة للشافعیة، و لا تکاد تخلو من طرب، و لا سیما فی اللیالی المقمرة، و هی معظم مجتمعات أهل مصر، و أشهر منتزهاتهم و فیها أقول:
إنّ القرافة قد حوت ضدّین من‌دنیا و أخری فهی نعم المنزل
یغشی الخلیع بها السماع مواصلاو یطوف حول قبورها المتبتل
کم لیلة بتنا بها و ندیمنالحن یکاد یذوب منه الجندل
و البدر قد ملأ البسیطة نوره‌فکأنما قد فاض منه جدول
و بدا یضاحک أوجها حاکینه‌لما تکامل وجهه المتهلل
و فوق القرافة من شرقیها جبل المقطم، و لیس له علوّ و لا علیه اخضرار، و إنما یقصد للبرکة، و هو نبیه الذکر فی الکتب، و فی سفحه مقابر أهل الفسطاط و القاهرة، و الإجماع علی أنه لیس فی الدنیا مقبرة أعجب منها و لا أبهی و لا أعظم و لا أنظف من أبنیتها و قبابها و حجرها، و لا أعجب تربة منها، کأنها الکافور و الزعفران مقدّسة فی جمیع الکتب، و حین تشرف علیها تراها کأنها مدینة بیضاء، و المقطم عال علیها کأنه حائط من ورائها، و قال شافع بن علیّ:
تعجبت من أمر القرافة إذ غدت‌علی وحشة الموتی لها قلبنا یصبو
فألفیتها مأوی الأحبة کلهم‌و مستوطن الأحباب یصبو له القلب
و قال الأدیب أبو سعید محمد بن أحمد العمیدیّ:
إذا ما ضاق صدری لم أجد لی‌مقرّ عبادة إلّا القرافه
لئن لم یرحم المولی اجتهادی‌و قلة ناصری لم ألف رأفه
و اعلم أن الناس فی القدیم إنما کانوا یقبرون موتاهم فیما بین مسجد الفتح و سفح المقطم، و اتخذوا الترب الجلیلة أیضا فیما بین مصلّی خولان و خط المغافر التی موضعها الآن کیمان تراب، و تعرف الآن بالقرافة الکبری. فلما دفن الملک الکامل محمد بن العادل أبی بکر بن أیوب ابنه فی سنة ثمان و ستمائة بجوار قبر الإمام محمد بن إدریس الشافعیّ، و بنی القبة العظیمة علی قبر الشافعیّ، و أجری لها الماء من برکة الحبش بقناطر متصلة منها، نقل الناس الأبنیة من القرافة الکبری إلی ما حول الشافعیّ، و أنشأوا هناک الترب، فعرفت بالقرافة الصغری، و أخذت عمائرها فی الزیادة و تلاشی أمر تلک، و أما القطعة التی تلی قلعة الجبل فتجدّدت بعد السبعمائة من سنی الهجرة، و کان ما بین قبة الإمام الشافعیّ، رحمة اللّه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 331
علیه، و باب القرافة میدانا واحدا تتسابق فیه الأمراء و الأجناد، و یجتمع الناس هنالک للتفرّج علی السباق، فتصیر الأمراء تسابق علی حدة، و الأجناد تسابق فی جهة و هم منفردون عن الأمراء، و الشرط فی السباق من تربة الأمیر بیدرا إلی باب القرافة، ثم استجدّ أمراء دولة الناصر محمد بن قلاون فی هذه الجهة الترب، فبنی الأمیر یلبغا الترکمانیّ، و الأمیر طقتمر الدمشقیّ، و الأمیر قوصون و غیرهم من الأمراء، و تبعهم الجند و سائر الناس، فبنوا الترب و الخوانک و الأسواق و الطواحین و الحمامات، حتی صارت العمارة من برکة الحبش إلی باب القرافة، و من حدّ مساکن مصر إلی الجبل، و انقسمت الطرق فی القرافة و تعدّدت بها الشوارع، و رغب کثیر من الناس فی سکناها العظم القصور التی أنشأت بها، و سمیت بالترب، و لکثرة تعاهد أصحاب الترب لها و تواتر صدقاتهم و مبرّاتهم لأهل القرافة، و قد صنف الناس فیمن قبر بالقرافة، و أکثروا من التألیف فی ذلک، و لست بصدد شی‌ء مما صنفوا فی ذلک، و إنما غرضی أن أذکر ما تشتمل علیه القرافة. و فی سنة ثلاث و ثلاثین و أربعمائة ظهر بالقرافة شی‌ء یقال له القطربة، تنزل من جبل المقطم، فاختطفت جماعة من أولاد سکانها حتی رحل أکثرهم خوفا منها، و کان شخص من أهل کبارة مصر یعرف بحمید الفوّال خرج من أطفیح علی حماره، فلما وصل إلی حلوان عشاء رأی امرأة جالسة علی الطریق فشکت إلیه ضعفا و عجزا، فحملها خلفه فلم یشعر بالحمار إلّا و قد سقط، فنظر إلی المرأة فإذا بها قد أخرجت جوف الحمار بمخالیبها، ففرّ و هو یعدو إلی والی مصر و ذکر له الخبر، فخرج بجماعته إلی الموضع فوجد الدابة قد أکل جوفها، ثم صارت بعد ذلک تتبع الموتی بالقرافة و تنبش قبورهم و تأکل أجوافهم و تترکهم مطروحین، فامتنع الناس من الدفن فی القرافة زمنا حتی انقطعت تلک الصورة.

ذکر المساجد الشهیرة بالقرافة الکبیرة

اشارة

اعلم أن القرافة بمصر اسم لموضعین، القرافة الکبیرة حیث الجامع الذی یقال له جامع الأولیاء، و القرافة الصغیرة و بها قبر الإمام الشافعیّ، و کانتا فی أوّل الأمر خطتین لقبیلة من الیمن هم من المغافر بن یغفر، یقال لهم بنو قرافة. ثم صارت القرافة الکبیرة جبانة، و هی حیث مصلّی خولان و البقعة و ما هو حول جامع الأولیاء، فإنه کان یشتمل علی مساجد و ربط و سوق و عدّة مساکن، منها ما خرب و منها ما هو باق، و ستری من ذلک ما یتیسر ذکره.

مسجد الأقدام

هذا المسجد بالقرافة بخط المغافر. قال القضاعیّ: ذکر الکندیّ أن الجند بنوع و لیس من الخطط، و سمی بالأقدام لأنّ مروان بن الحکم لما دخل مصر و صالح أهلها و بایعوه، امتنع من بیعته ثمانون رجلا من المغافر سوی غیرهم، و قالوا لا ننکث بیعة ابن الزبیر، فأمر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 332
مروان بقطع أیدیهم و أرجلهم و قتلهم علی بئر المغافر فی هذا الموضع، فسمی المسجد بهم لأنه بنی علی آثارهم. و الآثار الأقدام، یقال جئت علی قدم فلان أی علی أثره، و قیل بل أمرهم بالبراءة من علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه فلم یتبرّؤوا منه فقتلهم هناک. و قیل إنما سمی مسجد الأقدام لأنّ قبیلتین اختلفتا فیه، کلّ تدّعی أنه من خطتها، فقیس ما بینه و بین کلّ قبیلة بالأقدام و جعل لأقربهما منه. و القدیم من هذا المسجد هو محرابه و الأروقة المحیطة به، و أما خارجه فزیادة الإخشید، و الزیادة الجدیدة التی فی بحریه لسمعون الملقب بسهم الدولة متولی الستارة، و کان من أهل السنة و الخیر. و یقال إنما سمی مسجد الأقدام لأنه کان یتداوله العباد، و کانت حجارته کذانا ، فأثر فیها موضع أقدامهم، فسمی لذلک مسجد الأقدام.

مسجد الرصد

هذا المسجد بناه الأفضل أبو القاسم شاهنشاه بن أمیر الجیوش بدر الجمالیّ بعد بنائه للجامع المعروف بجامع الفیلة، لأجل رصد الکواکب بالآلة التی یقال لها ذات الحلق، کما ذکر فیما تقدّم.

مسجد شقیق الملک

هذا المسجد بجوار مسجد الرصد، بناه شقیق الملک خسروان صاحب بیت المال، أحد خدّام القصر فی أیام الخلیفة الحافظ لدین اللّه فی سنة إحدی و أربعین و خمسمائة، و عمل فیه للحافظ ضیافة عظیمة حضر فیها بنفسه، و معه الأمراء و الأستاذون و کافة الرؤساء، و کان فیه کرم و سموّ همة، و کان لمساجد القرافة و الجبل عنده روزنامج بأسماء أربابها، فینفد إلیهم فی أیام العنب و التین لکلّ مسجد قفص رطب، و یرسل فی کلّ لیلة من لیالی الوقود لکلّ مسجد خروف شواء و سطل جوذآب و جام حلوی، و لا سیما إذا کان بائتا فی هذا المسجد، فإنه لا یأکل حتی یسیر ذلک لمن اسمه عنده، و کان یعمل جفان القطائف المحشوّة باللوز و السکر و الکافور و المسک، و فیها ما فیه بدل اللوز الفستق، و یستدعی من لا یقدر علی ذلک من أهل الجبل و القرافة و ذوی البیوت المنقطعین و یأمر إذا حضروا بسکب الحلو و الشیرج علیه بالجرار، و یأمرهم بالأکل منه، و الحمل معهم، و کان أحبهم إلیه من یأکل طعامه و یستدعی برّه و أنعامه رحمه اللّه.

مسجد الانطاکیّ

هذا المسجد کان أیضا بالرصد، و ما برحت هذه المساجد الثلاثة بالرصد یسکنها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 333
الناس إلی ما بعد سنة ثمانین و سبعمائة، ثم خربت و صار الرصد من الأماکن المخوفة بعد ما أدرکته منتزها للعامّة.

مسجد النارنج

هذا المسجد عامر إلی یومنا هذا فیما بین الرصد و القرافة الکبری، بجانب سقایة ابن طولون المعروفة بعفصة الکبری، غربیها إلی البحریّ قلیلا، و هو المطلّ علی برکة الحبش شرقیّ الکتفی و قبلیّ القرافة. بنته الجهة الآمریة المعروفة بجبهة الدار الجدیدة فی سنة اثنتین و عشرین و خمسمائة، أخرجت له اثنی عشر ألف دینار علی ید الأستاذین افتخار الدولة یمن، و معز الدولة الطویل، المعروف بالوحش. و تولی العمارة و الإنفاق علیه الشریف أبو طالب موسی بن عبد اللّه بن هاشم بن مشرف بن جعفر بن المسلم بن عبید اللّه بن جعفر بن محمد بن إبراهیم بن محمد الیمانیّ بن عبید اللّه بن موسی الکاظم الحسینیّ الموسویّ، المعروف بابن أخی الطیب بن أبی طالب الورّاق، و سمی مسجد النارنج لأنّ نارنجه لا ینقطع أبدا.

مسجد الأندلس

هذا المسجد فی شرقیّ القرافة الصغری بجانب مسجد الفتح، فی الموضع الذی یعرف عند الزوّار بالبقعة، و هو مصلّی المغافر علی الجنائز. و یقال أنه بنی عند فتح مصر، و قیل بنی فی خلافة معاویة بن أبی سفیان، ثم بنته جهة مکنون، و اسمها علم الآمریة أمّ ابنة الآمر التی یقال لها ست القصور، فی سنة ست و عشرین و خمسمائة، علی ید المعروف بالشیخ أبی تراب.
و جهة مکنون هذه: کان الخلیفة الآمر بأحکام اللّه کتب صداقها و جعل المقدّم منه أربعة عشر ألف دینار، و کان لها صدقات و برّ و خیر و فضل، و عندها خوف من اللّه، و کانت تبعث إلی الأشراف بصلات جزیلة، و ترسل إلی أرباب البیوت و المستورین أموالا کثیرة، و لما وهب الآمر لهزار الملوک و لبرغش فی کلّ یوم مائتی ألف دینار عینا، لکل منهما مائة ألف دینار، حضر، إلیها عشاء علی عادته، فأغلقت باب مقصورتها قبل دخوله و قالت له:
و اللّه ما تدخل إلیّ أو تهب لی مثل ما وهبت لواحد من غلامیک. فقال: الساعة: ثم استدعی بالفرّاشین فحضروا فقال: هاتوا مائة ألف دینار الساعة، و لم یزل واقفا إلی أن حضرت عشرة کیسة فی کل کیس عشرة آلاف دینار، و یحمل عشرة من الفرّاشین. ففتحت له الباب و دخل إلیها. و مکنون هذا هو الأستاذ الذی کان برسم خدمتها، و یقال له مکنون القاضی لسکونه و هدئه، و کان فیه خبر و برّ کبیر، و بجانب مسجد الأندلس هذا رباط من غریبه بنته جهة مکنون هذه فی سنة ست و عشرین و خمسمائة، برسم العجائز الأرامل. فلما کان فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 334
سنة أربع و سبعین و خمسمائة، بنی الحاجب لؤلؤ العادلیّ برحبة الأندلس و الرباط بستانا و أحواضا و مقعدا، و جمع بین مصلّی الأندلس و بین الرباط بحائط بینهما، و عمل ذلک لحلول العفیف حاتم بن مسلم المقدسیّ الشافعیّ به، و لما مات السلطان الملک الظاهر رکن الدین بیبرس البندقداریّ بدمشق فی المحرّم سنة ست و سبعین و ستمائة، و قام من بعده فی السلطنة ابنه الملک السعید محمد برکة خان، عمل لأبیه عزاء بالأندلس هذا، فاجتمع هناک القرّاء و الفقهاء و أقیمت المطابح و هیئت المطاعم الکثیرة و فرّقت علی الزوایا و مدّت أسمطة عظیمة بالخیام التی ضربت حول الأندلس، فأکل الناس علی اختلاف طبقاتهم، و قرأ القرّاء ختمة شریفة، و عدّ هذا الوقت من المهمات العظیمة المشهورة بدیار مصر، و کان ذلک فی المحرّم سنة سبع و سبعین و ستمائة، علی رأس سنة من موت الملک الظاهر، فقال فی ذلک القاضی محیی الدین عبد اللّه بن عبد الظاهر.
یا أیها الناس اسمعواقولا بصدق قد کسی
إنّ عزا السلطان فی‌غرب و شرق ما نسی
أ لیس ذا مأتمه‌یعمل فی الأندلس
ثم عمل بعد ذلک مجتمع فی المدرسة الناصریة بجوار قبة الشافعیّ من القرافة، و مجتمع بجامع ابن طولون، و مجتمع بجامع الظاهر من الحسینیة خارج القاهرة، و مجتمع بالمدرسة الظاهریة بین القصرین، و مجتمع بالمدرسة الصالحیة، و مجتمع بدار الحدیث الکاملیة، و مجتمع بالخانقاه الصلاحیة لسعید السعداء، و مجتمع بالجامع الحاکمیّ، و أقیم فی کلّ واحد من هذه المجتمعات الأطعمة الکثیرة، و عمل للتکاررة خوان، و للفقراء خوان، حضره کثیر من أهل الخیل و الصلاح فقیل فی ذلک:
فشکرا لها أوقات برّ نقبلت‌لقد کان فیها الخیر و البرّ أجمعا
لقد عمّت النعمی بها کلّ موطن‌سقتها الغوادی مربعا ثم مربعا
و لما مضی السلطان لما یمض جوده‌و خلّف فینا برّه متنوّعا
فتی عیش فی معروفه بعد موته‌کما کان بعد السیل مجراه مرتعا
فدام له منّا الدعاء مکرّرامدی دهرنا و اللّه یسمع من دعا

مسجد البقعة

هذا المسجد مجاور لمسجد الفتح من غربیه، بناه الأمیر أبو منصور صافی الأفضلی.

مسجد الفتح

هذا المسجد المشهور بجوار قبر الناطق، بناه شرف الإسلام سیف الإمام یانس الرومیّ وزیر مصر، و سمی بالفتح لأن منه کان انهزام الروم إلی قصر الشمع حین قدم الزبیر بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 335
العوّام، و المقداد بن الأسود فیمن سواهما مددا لعمرو بن العاص، و کان الفتح، و یقال أنّ محرابه اللطیف الذی بجانبه الشرقیّ قدیم، و أنّ تحت حائطه الشرقیّ قبر عامر الذی کان أوّل من دفن بالقرافة، و محراب مسجد الفتح منحرف عن خط سمت القبلة إلی جهة الجنوب انحرافا کثیرا، کما ذکر عند ذکر محاریب مصر من هذا الکتاب، و استشهد یومئذ جماعة دفنوا فی مجری الحصا، فکان یری علی قبورهم فی اللیل نور.

مسجد أمّ عباس جهة العادل بن السلار

هذا المسجد کان بجوار مصلّی خولان بالمغافر غربیّ المقابر، بنته بلاوة زوج العادل بن السلار سلطان مصر، فی خلافة الظافر سنة سبع و أربعین و خمسمائة، علی ید المعروف بالشریف عز الدولة الرضویّ بن القفاص، و کانت بلاوة مغربیة، و هی أمّ الوزیر عباس الصنهاجیّ البادیسیّ و قد دثر هذا المسجد.

مسجد الصالح

هذا المسجد کان بخط جامع القرافة المعروف بجامع الأولیاء، عرف بمسجد بنی عبید اللّه، و بمسجد القبة، و بمسجد العزاء، و الذی بناه الصالح طلائع بن رزیک وزیر مصر، و کان فی أعلاه مناظر و عمارته متقنة الزیّ، و أدرکته عامرا إلی ما بعد سنة ثمانمائة.

مسجد ولیّ عهد أمیر المؤمنین

هو الأمیر أبو هاشم العباس بن شعیب بن داود المهدیّ، أحد الأقارب فی الأیام الحاکمیة، کان إلی جانب مسجد الصالح، و بجانبه تربته، و کان المسجد من حجر و بابه محمول علی أربع حنایا، و تحت الحنایا باب المسجد، و فی شرقیه أیضا أربع حنایا، و کانت دار أبی هاشم هذا بمصر دار الأفراح، و من ولده الشریف الأمیر الکبیر أبو الحسن علیّ ابن الأمیر عباس بن شعیب بن أبی هاشم المذکور، و یعرف بالشریف الطویل و بالنباش.

مسجد الرحمة

هذا المسجد کان فی صدر القرافة الکبری بالقرب من تربة رکن الإسلام محمود ابن أخت الملک الصالح طلائع بن رزیک. قال الکندیّ: و منها مسجد القرافة، و هو بنو محصن بن سیف بن وائل بن الجیزیّ، قبلیّ القرافة علی یمینک إذا أممت مسجد الأقدام، مقابله فسقیة صغیرة، و له منارة، یعرف بمسجد الرحمة، و عرف هذا المسجد بأبی تراب الصوّاف وکیل الجهة التی بنت مسجد الأندلس و رباطه، و مسجد رقیة. و أبو تراب هذا تولی بناءه، و کان یقوم بخدمته الشیخ نسیم، و أبو تراب هو الذی أخرج إلیه ولد الآمر فی قفة من خوص، فیها حوائج طبیخ من کرّاث و بصل و جزر و هو طفل فی القماط فی أسفل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 336
القفة، و الحوائج فوقه، و وصل به إلی القرافة و أرضعته المرضعة بهذا المسجد و خفی أمره عن الحافظ حتی کبر، و صار یسمی قفیفة. فلما حان نفعه نمّ علیه أبو عبد اللّه الحسین بن أبی الفضل عبد اللّه بن الحسین الجوهریّ الواعظ، بعد ما مات الشیخ أبو تراب، عند الحافظ. فأخذ الصبیّ و قصده فمات. و خلع علی ابن الجوهریّ، ثم نفی إلی دمیاط فمات بها فی جمادی سنة ثمان و عشرین و خمسمائة.

مسجد مکنون

هو بجانب مسجد الرحمة، بناه الأستاد مکنون القاضی الذی تقدّم ذکره فی مسجد الأندلس.

مسجد جهة ریحان

هذا المسجد کان فی وجه مسجد أبی تراب قبالة دار البقر من القرافة الکبری، و جدّده أستاذ الجهة الحافظیة، و اسمه ریحان، فی سنة اثنتین و أربعین و خمسمائة.

مسجد جهة بیان

هذا المسجد کان فی بطحاء مسجد الأقدام بجوار ترب المادرانیین، بنته الجهة الحافظیة المعروفة بجهة بیان الحسامیّ، علی ید أبی الفضل الصعیدیّ المعروف بابن الموفق، و حکی الخلیفة عن هذه الجهة خبرا عجیبا. قال القاضی المکین أبو الطاهر إسماعیل بن سلامة: قال لی أمیر المؤمنین الحافظ یوما: یا قاضی أبا الطاهر. قلت لبیک یا أمیر المؤمنین. قال: أحدّثک بحدیث عجیب قلت نعم. قال لما جری من أبی علیّ بن الأفضل ما جری بینما أنا فی الموضع الذی کنت معتقلا فیه، رأیت کأنی قد جلست فی مجلس من مجالس القصر أعرفه، و کان الخلافة قد أعیدت إلیّ، و کأنّ المغنیات قد دخلن یهنیننی و یغنین بین یدی، و فی جملتهنّ جاریة معها عود، یعنی هذه الجاریة المذکورة، فأنشأت تغنی قول أبی العتاهیة:
أتته الخلافة منقادةإلیه تجرّر أذیالها
فلم تک تصلح إلّا له‌و لم یک یصلح إلّا لها
و لو نالها أحد غیره‌لزلزلت الأرض زلزالها
و کأنی قمت إلی خزانة بالمجلس أخذت منها حقة فیها جوهر. فملأت فمها منه، ثم استیقظت. فو اللّه یا قاضی ما کان إلّا یومان حتی کسر علیّ الحبس لما قتل أبو علیّ بن الأفضل و قیل لی السلام علی أمیر المؤمنین، فلما خرجت و أقمت أیاما جلست فی ذلک المجلس الذی رأیته فی النوم، و دخل الجواری یهنیننی، فغنت إحداهنّ و هی ذات عود ذلک
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 337
الصوت بعینه، فقلت لها: علی رسلک حتی نقضی نحن أیضا من حقک ما یجب علینا، و قمت إلی الخزانة و أخذت الحق الذی فیه الجوهر، ثم جئت إلیها و قلت لها افتحی فاک، ففتحته، و حشوته جوهرا و قلت لها إنّ لک علینا فی کلّ سنة فی مثل هذا الیوم مثل ذلک.

مسجد توبة

هو ابن میسرة الکتامیّ، مغنی المستنصر، کان فی شرقیّ الأقهوب، و قبالته تربة تنسب إلی الطبالة صاحبة أرض الطبالة، و کلاهما فی القرافة الکبری.

مسجد دری

هذا المسجد کان فی القرافة الکبری فی رحبة الأقهوب، بناه شهاب الدولة دری، غلام المظفر أخی الأفضل ابن أمیر الجیوش، فی سنة ثلاث و ثلاثین و خمسمائة، و کان أرمنیا فأسلم و صار من المتشدّدین فی مذهب الإمامیة، و قرأ الجمل للزجاجیّ فی النحو، و اللمع لابن جنی، و کانت له خرائط من القطن الأبیض یلبسها فی یدیه و رجلیه، و کان یتولی خزائن الکسوات، و لا یدخل علی بسط السلاطین و لا علی بسط الخلیفة الحافظ لدین اللّه، و لا یدخل مجلسه إلّا بالخرائط فی رجلیه، و لا یأخذ من أحد رقعة إلّا و فی یده خریطة، یظنّ أنّ من لمسه نجسه، وسوسة منه. فإن اتفق أنه صافح أحدا، أو أمسک رقعة بیده من غیر خریطة، لا یمس ثوبه و لا بدنه حتی یغسلها، فإن مس ثوبه غسل الثوب. و کان الأستاذون یعبثون به و یرمون فی بساط الخلیفة الحافظ العنب، فإذا مشی علیه و انفجر و وصل ماؤه إلی رجلیه سبهم و حرد، فیضحک الخلیفة و لا یؤاخذه، و عمل مرّة الوزیر رضوان بن ولخشیّ دواة حلیتها ألف دینار مرصعة، فدخل علیه شهاب الدولة دری الصغیر هذا، و قد أحضرت الدواة المذکورة، فقال له: یا مولانا أحسن من مداد هذه الدواة و وقع علی هذه، فیکون ذلک زکاتها إذ للّه فیه رضی و لنبیه، و ناوله رقعة الشریف القاضی سنا الملک أسعد الجوّانیّ النحویّ، یطلب فیها راتبا لابنه الشریف أبی عبد اللّه محمد فی الشهر ثلاثة دنانیر، فوقع علیها. فلما کان فی اللیل رأی فی نومه أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه و هو یقول: جزاک اللّه خیرا علی فعلک الیوم.

مسجد ست غزال

هذا المسجد کان فی القرافة الکبری بجوار تربة النعمان، بنته ست غزال فی سنة ست و ثلاثین و خمسمائة، و کانت غزال هذه صاحبة دواة الخلیفة، لا تعرف شیئا إلّا أحکام الدوی و اللیق و مسح الأقلام و الدواة، و کان برسم خدمتها الأستاذ مأمون الدولة الطویل.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 338

مسجد ریاض

هو لوقافة الحافظ لدین اللّه، کانت تقف بین یدیه بالقصر، و کان بجوار المصنعة الصغری الطولونیة التی یجی‌ء الماء إلیها من عفصة الکبری، و کان فیه حوش به عدّة بیوت للنساء المنقطعات.

مسجد عظیم الدولة

هذا المسجد کان معلقا بخط سوق القرافة الکبری، واکن عظیم الدولة هذا صقلبیا صاحب الستر و حامل المظلة، و کان بجوار هذا المسجد مسجد التمساح، و مسجد السدرة، و مسجد جهة مراد، و کان القاضی أبو عبد اللّه محمد بن أبی الفرج هبة اللّه بن المیسر، لما عمل قدّامة منارة النحاس الرومیة ذات السواعد، و اجتاز بها من تحت سدرة المسجد فی لیلة الوقود، نصف شهر رجب سنة ثلاثین و خمسمائة، عاقتها السدرة فأمر بقطع بعضها، فقیل له: لا تفعل، فإنّ قطع السدر محذور. و قد روی أبو داود فی کتاب السنن له، أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم قال: «من قطع سدرة صوّب اللّه رأسه فی النار» فقطعها علی رکوب نصف شعبان، فما أسنی و صرف فیّ المحرّم و فنی إلی تنیس و قتل.

مسجد أبی صادق

هذا المسجد کان غربیّ مسجد الأقدام، بناه ابن سعدون أبو الحسن علیّ بن محمد البغدادیّ، بعد سنة عشرین و أربعمائة، و جدّده أخوه أبو عبد اللّه الحسین بن محمد بن الحسن بن سعدون البغدادیّ سنة ثلاث و أربعین و أربعمائة، و هو مسجد أبی صادق مرشد المدینیّ المالکیّ المحدّث، و کان قاری‌ء المصحف بالجامع، و مصلیا به، و مصدّرا فیه لإقراء السبع، و کان فیه حنة علی الحیوانات لا سیما علی القطط و الکلاب، و کان مشارف الجامع و جعل علیه جاریا من الغدد کلّ یوم لأجل القطط، و کان عند داره بزقاق الأقفال من مصر کلاب یطعمها و یسقیها، و ربما تبع دابته منها شی‌ء یمشی معه فی الأسواق، قال الشریف محمد بن أسعد الجوّانیّ النسابة فی کتاب النقط علی الخطط: حدّثنی الشیخ منجب غلام أبی صادق قال: کان لمولای الشیخ أبی صادق کلب لا یفارقه أبدا، إذا کان راکبا یمشی خلفه، فإذا وقفت بغلته قام تحت یدیها، فإذا رآه الناس قالوا هذا أبو صادق و کلبه.
و حدّثنی قال: ولدت کلبة فی مستوقد حمّام، و کان المؤذن یأتی خلف مولای سحرا کل یوم لقراءة المصحف، و کان مولای یأخذ فی کمه کلّ یوم رغیفا، فإذا حاذی موضع الکلبة قلع طیلسانه و قطع الخبز للکلبة و یرمی لها بنفسه إلی أن تأکل، ثم یستدعی الوقاد و یعطیه قیراطا و یقول له: اغسل قدحها و املأه ماء حلوا، و یستحلفه علی ذلک. فلما کبر أولادها صار یأخذ بعد رغیفین إلی أن کبروا و تفرّقوا. و حدّثنی قال: کان قد جعل کراء حانوت برسم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 339
القطاط بالجامع العتیق من الأحباس، و کان یؤتی بالغدد مقطعة، فیجلس و یقسم علیها، و إن قطة کانت تحمل شیئا من ذلک و تمضی به، و فعلت ذلک مرارا، فقال مولای للشیخ أبی الحسن بن فرج امض خلف هذه القطة و انظر إلی أین تؤدّی ذلک، فمضی ابن فرج فإذا بها تؤدّیه إلی أولادها، فعاد إلیه و أخبره، فکان بعد ذلک یقطع غددا صغارا علی قدر مساغ القطط الصغار، و غددا کبار للکبار، و یرسل بجزء الصغار إلیهم إلی أن کبروا،

مسجد الفرّاش

هذا المسجد کان بالقرافة الکبری، بناه أحمد فرّاش الأفضل بن أمیر الجیوش، و بجواره مسجد بناء زید بن حسام، و مسجد الإجابة القدیم، و تربة العطار، و دار البقر، و قناطر الأطفیحیّ، کلّ ذلک بالقرب من جامع القرافة.

مسجد تاج الملوک

هذا المسجد قدّام دار النعمان و تربته من القرافة الکبری، بناه تاج الملوک بدران بن أبی الهیجاء الکردیّ الماردانیّ، و هو أخو سیف الدین حسین بن أبی الهیجاء، صهر بنی رزیک، و کان مجتمع أهل مصر عنده فی الأعیاد و المواسم و لیالی الوقود.

مسجد الثمار

هذا المسجد کان ملاصقا للزیادة التی فی بحریّ مسجد الأقدام، و فیه قبور بنی الثمار.

مسجد الحجر

هذا المسجد کان بحریّ مسجد عمار بن یونس مولی المغافر، و شرقیّ قصر الزجاج من القرافة الکبری، بنته مولاة علیّ بن یحیی بن طاهر المعروف بابن أبی الخارجیّ الموصلیّ، فی ربیع الأوّل سنة ثلاثین و أربعمائة.

مسجد القاضی یونس

هذا المسجد کان غربیّ مسجد الحجر المذکور، بناه الشیخ عدی الملک بن عثمان صاحب دار الضیافة، ثم صار بید قاضی القضاة بمصر، الموفق کمال الدین أبی الفضائل یونس بن محمد بن الحسن المعروف بجوامرد، خطیب القدس القرشیّ، و کان من الأعیان، و لم یشرب قط من ماء النیل بل من ماء الآبار، و لم یأکل قط للسلطان خبزا، و کان یروی الحدیث عن جده.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 340

مسجد الوزیریة

هذا المسجد کان بالقرافة الکبری، و له منارة بجوار باب رباط الحجازیة، و کانت الحجازیة واعظة زمانها، و کانت من الخیّرات، لها القبول التام، و تدعی أمّ الخیر، و کان لها من الصیت کما کان لابن الجوهریّ، و کانت علی غایة من الکرم و حسن الأخلاق و الشیم، و من مکارم أخلاقها و حسن طباعها و کیاسة انطباعها ما حکاه الجوّانیّ النسابة فی کتاب النقط علی الخطط قال: حدّثنی الشیخ أبو الحسن بن السراج المؤذن بالجامع بمصر قال: کان قدّام الباب الأوّل من أبواب جامع مصر یباع رطب یقعد علی الأرض و بین یدیه اقفاص رطب من أحسن الأرطاب، فبینما الحجازیة الواعظة هذه ذات یوم قد قاربت الخروج من باب الجامع، و هی فی حفدتها و جواریها، و إذا ذلک الرطاب ینادی علی قفص رطب قدّامه، معاشر الناس اشتروا الطیبة الحجازیة علی أربعة، علی أربعة. یرید علی أربعة أرطال رطب بدرهم. فلما سمعته الحجازیة وقفت قبل أن تخرج من باب الجامع و أنفذت إلیه بعض الجواری فصاحت به، فلما أتاها قالت له: یا أخی قولک الحجازیة علی أربعة مشکل، لا ترجع تنادی کذا، و هذا رباعی هدیة منی لک ربح هذا القفص، و لا تناد کذا، فأخذه و قبل یدهل و قال السمع و الطاعة.

مسجد ابن العکر

هذا المسجد غربیّ مسجد أبی صادق، بحضرة مسجد الأقدام، قبالة قصر الکتفی و بحذاء مسجد النارنج. بناه القاضی العادل بن العکر.

مسجد ابن کباس

هذا المسجد کان مجاور للقناطر الأطفیحیة علی یسار من أمّ طریق الجامع، بناه القاضی ابن کباس.

مسجد الشهمیة

هذا المسجد کان شرقیّ مسجد الأقدام، و غربیّ قناطر ابن طولون، مجاورا لتربة القاضی ابن قابوس، کان یعرف بمسجد الفقاعة من الکلاع، و یعرف أیضا بمسجد شادن الفضلیّ، غلام الوزیر جعفر بن الفضل بن الفرات.

مسجد زنکادة

هذا المسجد کان غربیّ مسجد عمار بن یونس، بناه زنکادة المخنث بعد ما تاب فی سنة خمس و ثلاثین و خمسمائة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 341

جامع القرافة

هذا الجامع یعرف الیوم بجامع الأولیاء، و هو مسجد بنی عبد اللّه بن مانع بن مزروع، و یعرف بمسجد القبة، و قد ذکر عند ذکر الجوامع من هذا الکتاب.

مسجد الأطفیحیّ

هذا المسجد کان فی البطحاء، بحریّ مجری جامع الفیلة إلی الشرق، مخالطا لخطط الکلاع و رعین و الأکنوع و الأکحول. و یقال له مسجد و حاطة بن سعد الأطفیحیّ، من أهل أطفیح، شیخ له سمت، و کتب الحدیث فی سنة ثمان و خمسین و أربعمائة، و ما قبلها، و سمع من الحباک و هو فی طبقته، و هو رفیق الفرّاء و ابن مشرف و ابن الحظیة و أبی صادق، و سلک طریق أهل القناعة و الزهد و العزلة کأبی العباس ابن الحظیة و کان الأفضل الکبیر شاهنشاه صاحب مصر قد لزمه، و اتخذ السعی إلیه مفرتضا، و الحدیث معه شهوة. و غرضا لا ینقطع عنه. و کان فکه الحدیث، قد وقف من أخبار الناس و الدول علی القدیم و الحدیث، و قصده الناس لأجل حلول السلطان عنده لقضاء حوائجهم فقضاها، و صار مسجده موئلا للحاضر و البادی. و صدی لإجابة صوت النادی، و شکا الشیخ إلی الأفضل تعذر الماء و وصوله إلیه، فأمر ببناء القناطر التی کانت فی عرض القرافة من المجری الکبیرة الطولونیة، فبنیت إلی المسجد الذی به الأطفیحیّ، و مضی علیها من النفقة خمسة آلاف دینار، و عمل الأطفیحیّ صهریج ماء شرقیّ المسجد، عظیما محکم الصنعة، و حمّاما و بستانا کان به نخلة سقطت بعد سنة خمسین و خمسمائة. و عمل الأفضل له مقعدا بحذاء المسجد إلی الشرق، علو زیادة فی المسجد شرقیه، و قاعة صغیرة مرخمة إذا جاء عنده جلس فیها و خلا بنفسه و اجتمع معه و حادثه، و کان هذا المقعد علی هیئة المنظرة بغیر ستائر، کلّ من قصد الأطفیحیّ من الکتفی یراه، و کان الأفضل لا یأخذه عنه القرار، یخرج فی أکثر الأوقات من دار الملک باکرا أو ظهرا أو عصرا بغتة، فیترجل و یدق الباب و قارا للشیخ، کما کان الصحابة رضی اللّه عنهم یقرعون أبواب النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم بظفر الإبهام و المسبحة، کما یحصب بهما الحاصب، فإن کان الشیخ یصلی لا یزال واقفا حتی یخرج من الصلاة و یقول من فیقول ولدک شاهنشاه. فیقول نعم. ثم یفتح فیصافحه الأفضل و یمرّ بیده التی لمس بها ید الشیخ علی وجهه، و یدخل فیقول الشیخ: نصرک اللّه، أیدک اللّه، سدّدک اللّه، هذه الدعوات الثلاثة لا غیر أبدا. فیقول الأفضل آمین، و بنی له الأفضل المصلّی ذات المحاریب الثلاثة شرقیّ المسجد إلی القبلیّ قلیلا، و یعرف بمصلّی الأطفیحیّ، کان یصلّی فیه علی جنائز موتی القرافة، و کان سبب اختصاص الأفضل بهذا الشیخ، أنه لما کان محاصرا نزار بن المستنصر بالإسکندریة، و ناصر الدولة أفتکین الأرمنیّ، أحد ممالیک أمیر الجیوش بدر، و کانت أمّ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 342
الأفضل إذ ذاک و هی عجوز لها سمت و وقار، تطوف کلّ یوم و فی الجمعة الجوامع و المساجد و الرباطات و الأسواق، و تستقص الأخبار، و تعلم محب ولدها الأفضل من مبغضه، و کان الأطفیحیّ قد سمع بخبرها، فجاءت یوم جمعة إلی مسجده و قالت له: یا سیدی ولدی فی العسکر مع الأفضل، اللّه یأخذ لی الحق منه، فإنی خائفة علی ولدی، فادع اللّه لی أن یسلمه. فقال لها الشیخ: یا أمة اللّه أما تستحیین تدعین علی سلطان اللّه فی أرضه، المجاهد عن دینه، اللّه تعالی ینصره و یظفره و یسلّمه، و یسلم ولدک، ما هو إن شاء اللّه إلّا منصور مؤید مظفر، کأنک به و قد فتح الإسکندریة و أسر أعداءه و أتی علی أحسن قضیة و أجمل طویة، فلا تشغلی لک سرّا، فما یکون إلّا خیرا إن شاء اللّه تعالی، ثم إنها اجتازت بعد ذلک بالفار الصیرفیّ بالقاهرة بالسرّاجین، و هو والد الأمیر عبد الکریم الآمریّ صاحب السیف، و کان عبد الکریم قد ولی مصر بعد ذلک فی الأیام الحافظیة، و کان عبد الکریم هذا له فی أیام الآمر وجاهة عظیمة و صولة، ثم افتقر.
فوقفت أمّ الأفضل علی الصیرفیّ تصرف دینارا و تسمع ما یقول، لأنه کان إسماعیلیا متغالیا، فقالت له: ولدی مع الأفضل؛ و ما أدری ما خبره. فقال لها الفار المذکور، لعن اللّه المذکور الأرمنیّ الکلب العبد السوء ابن العبد السوء، مضی یقاتل مولاه و مولی الخلق، کأنک و اللّه یا عجوز برأسه جائزا من هاهنا علی رمح قدّام مولاه نزار و مولای ناصر الدولة إن شاء اللّه تعالی، و اللّه یلطف بولدک، من قال لک تخلیه یمضی مع هذا الکلب المنافق، و هو لا یعرف من هی.
ثم وقفت علی ابن بابان الحلبیّ و کان بزازا بسوق القاهرة فقالت له مثل ما قالت للفار الصیرفیّ ... و قال لها مثل ما قال لها. فلما أخذ الأفضل نزارا و ناصر الدولة و فتح الإسکندریة، حدّثته والدته الحدیث و قالت: إن کان لک أب بعد أمیر الجیوش فهذا الشیخ الأطفیحیّ. فلما خلع علیه المستعلی بالقصر و عاد إلی دار الملک بمصر، اجتاز بالبزازین یوما، فلما نظر إلی ابن بابان الحلبیّ قال: انزلوا بهذا فنزلوا به، فقال: رأسه. فضربت عنقه تحت دکانه. ثم قال لعبد علی أحد مقدّمی رکابه: قف هاهنا لا یضیع له شی‌ء إلی أن یأتی أهله فیتسلموا قماشه، ثم وصل إلی دکان الفار الصیرفیّ فقال: انزلوا بهذا، فنزلوا به، فقال: رأسه. فضربت عنقه تحت دکانه. و قال لیوسف الأصغر أحد مقدّمی الرکاب اجلس علی حانوته إلی أن یأتی أهله و یتسلموا موجوده، و إیاک و ماله و صندوقه، و إن ضاع منه درهم ضربت عنقک مکانه، کان لنا خصم أخذناه و قد فعلنا به ما یردع غیره عن فعله، و ما لنا ماله، و لا فقر أهله، ثم أتی الأفضل إلی الشیخ أبی طاهر الأطفیحیّ و قرّبه و خصصه إلی أن کان من أمره مما شرحناه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 343

مسجد الزیات

هذا المسجد مجاور بیت الخوّاص غربیه. و مسجد ابن أبی الردّاد، یعرف بمسجد الأنطاکیّ، و مسجد الفاخوریّ. یعرف بمسجد البطحاء، و مسجد ابن أبی الصغیر، قبلیّ مسجد بنی مانع، و هو جامع القرافة، و مسجد الشریفة بنی فی سنة إحدی و خمسمائة، و مسجد ابن أبی کامل الطرابلسیّ، کان بحارة الفرن بناه الأعز بن أبی کامل، و المعبد الذی کان علی رأس العقبة التی یتوصل منها إلی الرصد، بناه أبو محمد عبد اللّه الطباخ، و یقال أنه کان بالقرافة اثنا عشر ألف مسجد.
القصر المعروف بباب لیون بالشرف: هذا القصر کان علی طرف الجبل بالشرف الذی یعرف الیوم ... . و جاء الفتح و هو مبنیّ بالحجارة، ثم صار فی موضعه مسجد عرف بمسجد المقس، و المقس ضیعة کانت تعرف بأمّ دنین، سمیت المقس لأنّ العاشر کان یقعد بها، و صاحب المکس، فقلب فقیل المقس، و لیون اسم بلد بمصر بلغة السودان و الروم، و قد ذکر المقس عند ذکر ظواهر القاهرة من هذا الکتاب، و اللّه تعالی أعلم.

ذکر الجواسیق التی بالقرافة

اشارة

قال ابن سیده: الجوسق، الحصن. و قیل هو شبیه بالحصن معرّب، و قال الشریف محمد بن أسعد الجوّانیّ النسابة فی کتاب النقط علی الخطط: الجواسق بالقرافة و الجبانة کانت تسمی القصور، و کان بالقرافة قصر الکتفیّ، و قصر بنی کعب، و قصر بنی عقبة، و قصر أبی قبیل، و قصر العزیز، و قصر البغدادیّ، و قصر یشب، و قصر ابن کرامة.
جوسق بنی عبد الحکم: کان جوسقا کبیرا له حوش، و کان فی وسط القرافة بحضرة مسجد بنی سریع الذی یقال له الجامع العتیق، و هو أحد الجواسق الثلاثة، و هو جوسق عبد اللّه بن عبد الحکم الفقیه الإمام، و جدّد هذا الجوسق ابن اللهیب المغربی.
جوسق بنی غالب، و یعرف ببنی بابشاد: کان بالمغافر، بنی فی سنة ثلاث و خمسین و أربعمائة، و إلی جانبه قبر الشیخ أبی الحسن طاهر بن بابشاد.
جوسق ابن میسر: کان بجوار جوسق بنی غالب، بناه أبو عبد اللّه محمد ابن القاضی أبی الفرج هبة اللّه، و کان أبو الفرج هو الخطیب بجامع مصر، و یوم الغدیر، و هو شافعیّ المذهب، و هو هبة اللّه بن المیسر. و ذلک فی جمادی الآخرة سنة خمس عشرة و خمسمائة، و أبو عبد اللّه هذا هو الذی کان بعد ذلک قاضی القضاة بمصر، و هو الذی حبس القیاسر التی کانت فی القشاشین بمصر، و کان یحمل قدّامه المنارة الرومیة النحاس ذات السواعد التی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 344
علیها الشمع لیالی الوقودات، و کان فیه کرم، سمع بأن المادرانیّ عمل فی أیامه الکعک الصغیر المحشوّ بالسکر المسمی أفطن له، فأمر هو بعمل لب الفستق الملبس بالسکر الأبیض الفانیذ المطیب بالمسک، و عمل منه فی أوّل الحال شیئا عوّض لبه لب ذهب فی صحن واحد، فمضی فیه جملة، و خطف قدّامه، تخاطفه الحاضرون. و لم یعد لعمله بل الفستق الملبس. و هو أوّل من أخرجه بمصر، و کان قد سمع فی سیرة أبی بکر المادرانیّ أنه عمل هذا الأفطن له، و جعل فی کلّ واحد خمسة دنانیر، و وقف أستاذ علی السماط فقال لأحد الجلساء: افطن له. و کان علی السماط عدّة صحون من ذلک الجنس، لکن ما فیها ما فیه دنانیر إلّا صحن واحد، فلما رمز الأستاذ لأحد الجلساء علی سماط المادرانیّ بقوله افطن له، و أشار إلی الصحن، تناول الرجل منه فأصاب لک، فاعتمد له جملة، و رآه الناس و هو إذا أکل یخرج شیئا من فمه و یجمع بیده و یحط فی حجره، فتنبهوا و تزاحموا علیه. فقیل لذلک المعمول من ذلک الوقت أفطن له، و قتل هذا القاضی فی تنیس فی أیام بهرام الوزیر النصرانیّ الأرمنی، سنة ست و عشرین و خمسمائة.
جوسق ابن مقشر: کان جوسقا طویلا ذا تربة إلی جانبه.
جوسق الشیخ أبی محمد: عامل دیوان الأشراف الطالبیین، و جوسق ابن عبد المحسن بخط الأکحول، و جوسق البغدادیّ الجرجرای، کان قبره إلی جانبه، خرب فی سنة عشرین و خمسمائة، و جوسق الشریف أبی إسماعیل إبراهیم بن نسیب الدولة الکلتمیّ الموسوی نقیب مصر.
جوسق المادرانیّ: هذا الجوسق لم یبق من جواسق القرافة غیره، و هو جوسق کبیر جدّا علی هیئة الکعبة بالقرب من مصلی خولان فی بحریه، علی جانبه الممرّ من مقطع الحجارة، بناه أبو بکر محمد بن علیّ المادرانیّ فی وسط قبورهم من الجبانة، و کان الناس یجتمعون عند هذا الجوسق فی الأعیاد، و یوقد جمیعه فی لیلة النصف من شعبان کل سنة وقودا عظیما، و یتحلق القرّاء حوله لقراءة القرآن، فیمرّ للناس هنالک أوقات فی تلک اللیلة و فی الأعیاد بدیعة حسنة.
جوسق حب الورقة: کان هذا الجوسق بحضرة تربة ابن طباطبا، أدرکته عامرا، و قد خرب فیما خرّبه السفهاء من ترب القرافة و جواسقها، زعما منهم أن فیها خبایا، و کان أکابر أمراء المغافر و من بعدهم و من یجری مجراهم، لکلّ منهم جوسق بالقرافة یتنزه فیه و یعبد اللّه تعالی هناک، و کان من هذه الجواسق ما تحته حوض ماء لشرب الدواب و فسقیة و بستان، و کان بالقرافة عدّة قصور، و هی التی تسمی بالجواسق، لها مناظر و بساتین، إلّا أن الجواسق أکثرها بغیر بساتین و لا بئر، بل مناظر مرتفعة، و یقال لها کلها قصور.
قصر القرافة: بنته السیدة تغرید أمّ العزیز بالله فی سنة ست و ستین و ثلاثمائة، علی ید
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 345
الحسن بن عبد العزیز الفارسیّ المحتسب، هو و الحمّام الذی کان فی غربیه، و بنت البئر و البستان المعروف بالتاج، المعروف بحصن أبی المعلوم، و بنت جامع القرافة، ثم جدّده الآمر بأحکام اللّه و بیضه فی سنة عشرین و خمسمائة، و عمل شرقیّ بابه مصطبة للصوفیة، و کان مقدّمهم الشیخ أبو إسحاق إبراهیم المعروف بالمادح، و کان الآمر یجلس فی الطاق بالمنظر الذی بناه بأعلی القصر، و یرقص أهل الطریقة قدّامه، و قد ذکر هذا القصر عند ذکر مناظر الخلفاء من هذا الکتاب، و لم یزل هذا القصر إلی ربیع الآخر سنة سبع و ستین و خمسمائة.

ذکر الرباطات التی کانت بالقرافة

کان بالقرافة الکبیرة عدّة دور یقال للدار منها رباط، علی هیئة ما کانت علیه بیوت أزواج النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، یکون فیها العجائز و الأرامل العابدات، و کانت لها الجرایات و الفتوحات، و کان لها المقامات المشهورة من مجالس الوعظ.
رباط بنت الخوّاص: کان تجاه مسجد بید الفقیه مجلی بن جمیع بن نجا الشافعیّ، مؤلف کتاب الذخائر، و قاضی القضاة بمصر.
رباط الأشراف: کان برحبة جامع القرافة، یعرف بالقرّاء، و ببنی عبد اللّه، و بمسجد القبة، و هو شرقیّ بستان ابن نصر، بناه أبو بکر محمد بن علیّ المادرانیّ و وقفه علی نساء الأشراف.
رباط الأندلس: بنته الجهة المعروفة بجهة مکنون الآمریة کما تقدّم.
رباط ابن العکاریّ: کان بحضرة مسجد بنی سریع المعروف بالجامع العتیق.
رباط الحجازیة: بنته و حبسته علی الحجازیة، فوز جاریة علیّ بن أحمد الجرجرای الوزیر، هو و المسجد الذی تقدّم ذکره.
رباط ریاض: کان بجوار مسجد الحاجة ریاض.

ذکر المصلّیات و المحاریب التی بالقرافة

و کان فی القرافة عدّة مصلّیات و عدّة محاریب.
منها:
مصلّی الشریفة: کان بدرب القرافة بحدرة الجباسین و خطة الصدف، بناه أبو محمد عبد اللّه بن الأرسوفیّ الشامیّ التاجر، سنة سبع و سبعین و خمسمائة.
مصلّی المغافر: و هو الأندلس، جدّده ابن برک الإخشیدیّ، ثم بنته جهة مکنون الآمریة فی سنة ست و عشرین و خمسمائة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 346
مصلّی عقبة القرافة، یعرف بمصلّی الأندلسیّ: کان ذا مصطبة مربعة علی یسرة الطالع إلی القرافة، بناه یوسف بن أحمد الأندلسیّ الأنصاریّ، فی شهر رمضان سنة خمس عشرة و خمسمائة.
مصلّی القرافة: جدّده الفقیه ابن الصباغ المالکیّ، فی سنة عشرین و خمسمائة، و کان بحضرة مسجد أبی تراب تجاه دار التبر.
مصلّی الفتح: کان ملاصقا لمسجد الفتح، بناه أبو محمد القلعیّ المغربیّ المنجم الحافظیّ.
مصلّی جهة العادل: أبی الحسن بن السلار وزیر مصر.
مصلّی الأطفیحیّ: بجوار مسجد الأطفیحیّ الذی تقدّم ذکره.
مصلّی الجرجانیّ: بناه الوزیر علیّ بن أحمد الجرجانیّ، و کانت بالقرافة الکبری و الجبانة عدّة محاریب خربت کلها.
مصلّی خولان: هذه المصلّی عرفت بطائفة من العرب الذین شهدوا فتح مصر یقال لهم خولان، و هم من قبائل الیمن، و اسمه نکل بن عمرو بن مالک بن زید بن عریب، و فی هذه المصلّی مشهد الأعیاد، و یؤمّ الناس و یخطب لهم بها فی یوم العید خطیب جامع عمرو بن العاص، و لیست هذه المصلّی هی التی أنشأها المسلمون عند فتح أرض مصر، و إنما کانت مصلّی العید فی أوّل الإسلام غیر هذه. قال القضاعی: مصلّی العید کان مصلی عمرو بن العاص مقابل الیحموم، و هو الجبل المطلّ علی القاهرة. فلما ولی عبد اللّه بن سعد بن أبی سرح مصر، أمر بتحویله. فحوّل إلی موضعه المعروف الیوم بالمصلّی القدیم عند درب السباع، ثم زاد فیه عبد اللّه بن طاهر سنة عشر و مائتین، ثم بناه أحمد بن طولون فی سنة ست و خمسین و مائتین، و اسمه باق علیه إلی الیوم.
قال الکندیّ: و لما قدم شفی الأصبحیّ إلی مصر، و أهل مصر قد اتخذوا مصلّی بحذاء ساقیة أبی عون عند العسکر قال: ما لهم وضعوا مصلّاهم فی الجبل الملعون و ترکوا الجبل المقدّس، یعنی المقطم. قال: فقدّموا مصلّاهم إلی موضعه الذی هو به الیوم، یعنی المصلّی القدیم المذکور. و قال الکندیّ: ثم ضاق المصلّی بالناس فی إمارة عنبسة بن إسحاق الضبیّ علی مصر، فی أیام المتوکل علی اللّه، فأمر عنبسة بابتناء المصلّی الجدید، فابتدی‌ء ببنائه فی العشر الأخیر من شهر رمضان سنة أربعین و مائتین، و صلّی فیه یوم النحر من هذه السنة.
و عنبسة هو آخر عربیّ ولی مصر، و آخر أمیر صلّی بالناس فی المسجد، و هو المصلّی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 347
الذی بالصحراء عند الجارودیّ، ثم جدّده الحاکم و زاد فیه و جعل له قبة، و ذلک فی سنة ثلاث و أربعمائة، و کان أمراء مصر إذا خرجوا إلی صلاة العید بالمصلّی أوقفوا جیشا فی سفح الجبل مما یلی برکة الحبش، لیراعی الناس حتی ینصرفوا من الصلاة، خوفا من البجة. فإنهم قدموا غیر مرّة رکبانا علی النجب حتی کبسوا الناس فی مصلاهم و قتلوا و نهبوا ثم رجعوا من حیث أتوا، فخرج عبد الحمید بن عبد اللّه بن عبد العزیز بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب غضبا للّه و للمسلمین مما أصابهم من البجة، فکمن لهم بالصعید فی طریقهم حتی أقبلوا کعادتهم فی أخذ الناس فی مصلّی العید، فکبسهم و قتل الأعور رئیسهم بعد ما أقبلوا إلی المصلّی فی العید، فی سنة ست و خمسین و مائتین، و أمیره مصر أحمد بن طولون علی النجب، و کبسوا الناس فی مصلّاهم و قتلوا و نهبوا منهم و عادوا سالمین، ثم دخل العمریّ إلی بلاد البجة غازیا، فقتل منهم مقتلة عظیمة و ضایقهم فی بلادهم إلی أن أعطوه الجزیة، و لم یکونوا أعطوا أحدا قبله الجزیة، و سار فی المسلمین و أهل الذمّة سیرة حسنة، و سالم النوبة إلی أن بدأ النوبة بالغدر فی الموضع المعروف بالمریس، فمال علیهم و حاربهم و خرّب دیارهم و سبی منهم عالما کثیرا، حتی کان الرجل من أصحابه یبتاع الحاجة من الزیات و البقال بنوبیّ أو نوبیة لکثرتهم معهم، فجاؤا إلی أحمد بن طولون و شکوا له من العمریّ، فبعث إلیه جیشا لیحاربه، فأوقع بالجیش و هزمهم، و کانت لهم أنباء و قصص إلی أن قتله غلامان من أصحابه و أحضرا رأسه إلی أحمد بن طولون، فأنکر فعلهما و ضرب أعناقهما و غسل الرأس و دفنه.

ذکر المساجد و المعابد التی بالجبل و الصحراء

و کان بجبل المقطم و بالصحراء التی تعرف الیوم بالقرافة الصغری عدّة مساجد و عدّة مغایر، ینقطع العباد بها، و منها ما قد دثر و منه شی‌ء قد بقی أثره.
مسجد التنور: هذا المسجد فی أعلی جبل المقطم من وراء قلعة الجبل فی شرقیها، أدرکته عامرا و فیه من یقیم به. قال القضاعیّ: المسجد المعروف بالتنور بالجبل، هو موضع تنور فرعون، کان یوقد له علیه، فإذا رأوا النار عملوا برکوبه فاتخذوا له ما یرید، و کذلک إذا رکب منصرفا من عین شمس. ثم بناه أحمد بن طولون مسجدا فی صفر سنة تسع و خمسین و مائتین، و وجدت فی کتاب قدیم أنّ یهودا بن یعقوب أخا یوسف علیه السلام، لما دخل مع إخوته علی یوسف و جری من أمر الصواع ما جری، تأخر عن إخوته و أقام فی ذروة الجبل المقطم فی هذا المکان، و کان مقابلا لتنور فرعون الذی کان یوقد له فیه النار. ثم خلا ذلک الموضع إلی زمن أحمد بن طولون، فأخبر بفضل الموضع و بمقام یهودا فیه، فابتنی فیه هذا المسجد و المنارة التی فیه، و جعل فیه صهریجا فیه الماء، و جعل الإنفاق علیه مما وقفه علی البیمارستان بمصر و العین التی بالمغافر و غیر ذلک. و یقال أنّ تنور فرعون لم یزل فی هذا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 348
الموضع بحاله إلی أن خرج إلیه قائد من قوّاد أحمد بن طولون یقال له وصیف قاطرمیز، فهدمه و حفر تحته، و قدّر أن تحته مالا فلم یجد فیه شیئا، و زال رسم التنور و ذهب، و أنشد أبو عمرو الکندیّ فی کتاب أمراء مصر من أبیات لسعید القاضی:
و تنور فرعون الذی فوق قلةعلی جبل عال علی شاهق و عر
بنی مسجدا فیه یروق بناءه‌و یهدی به فی اللیل إن ضلّ من یسری
تخال سنا قندیله و ضیاءه‌سهیلا إذا ما لاح فی اللیل للسفر
القرقوبیّ: قال القضاعیّ المسجد المعروف بالقرقوبیّ، هو علی قرنة الجبل المطل علی کهف السودان، بناه أبو الحسن القرقوبیّ الشاهد، وکیل التجار بمصر، فی سنة خمس عشرة و أربعمائة، و کان فی موضعه محراب حجارة یعرف بمحراب ابن الفقاعیّ الرجل الصالح، و هو علی یسار المحراب.
مسجد أمیر الأمراء: رفق المستنصریّ علی قرنة الجبل البحریة المطلة علی وادی مسجد موسی علیه السلام.
کهف السودان: مغار فی الجبل لا یعلم من أحدثه، و یقال أن قوما من السودان نقروه فنسب إلیهم، و کان صغیرا مظلما، فبناه الأحدب الأندلسیّ القزاز، و زاد فی سفله مواضع نقرها، و بنی علوه. و یقال أنه أنفق فیه أکثر من ألف دینار، و وسع المجاز الذی یسلک منه إلیه، و عمل الدرج النقر التی یصعد علیها إلیه، و بدأ فی بنیانه مستهل سنة إحدی و عشرین و أربعمائة، و فرغ منه فی شعبان من هذه السنة.
العارض: هذا المکان مغارة فی الجبل، عرفت بأبی بکر محمد جدّ مسلم القاری، لأنه نقرها، ثم عمرت بأمر الحاکم بأمر اللّه، و أنشئت فیها منارة هی باقیة إلی الیوم، و تحت العارض قبر الشیخ العارف عمر بن الفارض رحمه اللّه، و للّه در القائل:
جزبا لقرافة تحت ذیل العارض‌و قل السلام علیک یا ابن الفارض
و قد ذکر القضاعیّ أربع عشرة مغارة فی الجبل، منها. ما هو باق، و لیس فی ذکرها فائدة.
اللؤلؤة: هذا المکان مسجد فی سفح الجبل منها. باق إلی یومنا هذا، کان مسجدا خرابا، فبناه الحاکم بأمر اللّه و سماه اللؤلؤة، قیل کان بناؤه فی سنة ست و أربعمائة، و هو بناء حسن.
مسجد الهرعاء: فیما بین اللؤلؤة و مسجد محمود، و هو مسجد قدیم یتبرّک بالصلاة فیه، و قد ذکر مسجد محمود عند ذکر الجوامع من هذا الکتاب، لأنه تقام فیه الجمعة.
دکة القضاة: قال القضاعیّ: هی دکة مرتفعة عن المساجد فی الجبل، کان القضاة بمصر یخرجون إلیها لنظر الأهلّة کل سنة، ثم بنی علیها مسجد.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 349
مسجد فائق: مولی خمارویه بن أحمد بن طولون، کان فی سفح الجبل مما یلی طریق مسجد موسی علیه السلام.
مسجد موسی: بناه الوزیر أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات.
مسجد زهرون بالصحراء: هو مسجد أبی محمد الحسن بن عمر الخولانیّ، ثم عرف بابن المبیض، و کان زهرون قیمه فنسب إلیه.
مسجد الفقاعیّ: هو أبو الحسن علیّ بن الحسن بن عبد اللّه، کان أبوه فقاعیا بمصر، و هو مسجد کبیر بناه کافور الإخشیدیّ، ثم جدّده و زاد فیه مسعود بن محمد صاحب الوزیر أبی القاسم علیّ بن أحمد الجرجرایّ، و کان فی وسط هذا المسجد محراب مبنیّ بطوب یقال أنه من بناء حاطب بن أبی بلتعة رسول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم إلی المقوقس، و یقال أنه أوّل محراب اختط فی مصر، و کان أبو الحسن التمیمیّ قد زاد فیه ببناء قبل ذلک.
مسجد الکنز: هذا المسجد کان شرقیّ الخندق و بحریّ قبر ذی النون المصریّ، و کان مسجدا صغیرا یعرف بالزمام، و مات قبل تمامه، فهدمه أبو طاهر محمد بن علیّ القرشیّ القرقوبیّ و وسعه و بناه، و حکی أنه لما هدمه رأی قائلا یقول فی المنام: علی أذرع من هذا المسجد کنز، فاستیقظ و قال: هذا من الشیطان، فرأی هذا القائل ثلاث مرّات، فلما أصبح أمر بحفر الموضع فإذا فیه قبر، و ظهر له لوح کبیر تحته میت فی لحد کأعظم ما یکون من الناس جثة و رأسا، و أکفانه طریة لم یبل منها إلا ما یلی جمجمة الرأس، فإنه رأی شعر رأسه قد خرج من الکفن، و إذا له جمة، فراعه ما رأی و قال: هذا هو الکنز بلا شک، و أمر بإعادة اللوح و التراب کما کان، و أخرج القبر عن سائر الحیطان، و أبرزه للناس فصار یزار و یتبرّک به.
مسجد فی غربیّ الخندق: أنشأه أبو الحسن بن النجار الزیات فی سنة إحدی و أربعین و أربعمائة.
مسجد لؤلؤ الحاجب: بالقرافة الصغری، بنی بجانبه مقبرة، و حفر عندها بئرا حتی انتهی الحفار إلی قرب الماء، فقال الحفار: إنی أجد فی البئر شیئا کأنه حجر. فقال له لؤلؤ تسبب فی قلعه، فلما قلعه فار الماء و أخرجه، و إذا هو اسطام مرکب، و هو الخشبة التی تبنی علیها السفینة، و هذا یصدّق ما قاله أرسطاطالیس فی کتاب الآثار العلویة، قال: إن أهل مصر یسکنون فیما انحسر عنه البحر الأحمر، یعنی بحر الشام، و قد ذکر خبر لؤلؤ هذا عند ذکر حمام لؤلؤ.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 350
مقام المؤمن: قیل أنه مؤمن آل فرعون، لأنه أقام فیه، و هذا بعید من الصحة.
قناطر ابن طولون و بئره: هذه القناطر قائمة إلی الیوم من بئر أحمد بن طولون التی عند برکة الحبش، و تعرف هذه البئر عندنا ببئر عفصة، و لا تزال هذه القناطر إلی أثناء القرافة الکبری، و من هناک خفیت لتهدّمها، و هی من أعظم المبانی.
قال القضاعیّ: قناطر أحمد بن طولون و بئره بظاهر المغافر، کان السبب فی بنائها هذه القناطر أن أحمد بن طولون رکب فمرّ بمسجد الأقدام وحده، و تقدّم عسکره و قد کدّه العطش، و کان فی المسجد خیاط فقال: یا خیاط أعندک ماء؟ فقال: نعم. فأخرج له کوزا فیه ماء و قال: اشرب و لا تمدّ، یعنی لا تشرب کثیرا، فتبسم أحمد بن طولون و شرب فمدّ فیه حتی شرب أکثره، ثم ناوله إیاه و قال: یا فتی سقیتنا و قلت لا تمدّ. فقال: نعم، أعزک اللّه، موضعنا ههنا منقطع، و إنما أخیط جمعتی حتی أجمع ثمن راویة. فقال هل:
و الماء عندکم ههنا معوز؟ فقال: نعم. فمضی أحمد بن طولون، فلما حصل فی داره قال:
جیؤنی بخیاط فی مسجد الأقدام. فما کان بأسرع من أن جاؤوا به، فلما رأه قال: سر مع المهندسین حتی یخطّوا عندک موضع سقایة و یجروا الماء، و هذه ألف دینار خذها، و ابتدأ فی الأنفاق و أجری علی الخیاط فی کلّ شهر عشرة دنانیر و قال له: بشرنی ساعة یجری الماء فیها، فجدّوا فی العمل، فلمّا جری الماء أتاه مبشرا، فخلع علیه و حمله و اشتری له دارا یسکنها، و أجری علیه الرزق السنیّ الدارّ، و کان قد أشیر علیه بأن یجری الماء من عین أبی خلید المعروفة بالنعش. فقال: هذه العین لا تعرف أبدا إلّا بأبی خلید، و إنی أرید أن أستنبط بئرا، فعدل عن العین إلی الشرق فاستنبط بئره هذه و بنی علیها القناطر، و أجری الماء إلی الفسقیة التی بقرب درب سالم.
و قال جامع السیرة الطولونیة: و أما رغبته فی أبواب الخیر فکانت ظاهرة بینة واضحة، فمن ذلک بناء الجامع و البیمارستان، ثم العین التی بناها بالمغافر، و بناها بنیة صحیحة و رغبة قویة حتی أنها لیس لها نظیر، و لهذا اجتهد المادرانیون و أنفقوا الأموال الخطیرة لیحکوها، فأعجزهم ذلک لأنها وقعت فی موضع جیرانه کلهم محتاجون إلیها، و هی مفتوحة طول النهار لمن کشف وجهه للأخذ منها، و لمن کان له غلام أو جاریة، و اللیل للفقراء و المساکین، فهی حیاة و معونة. و اتخذ لها مستغلا فیه فضل و کفایة لمصالحها، و الذی تولی لأحمد بن طولون بناء هذه العین رجل نصرانیّ حسن الهندسة حاذق بها، و إنه دخل إلی أحمد بن طولون فی عشیة من العشایا فقال له: إذا فرغت مما تحتاج إلیه فأعلمنی لنرکب إلیها فنراها، فقال: یرکب الأمیر إلیها فی غد، فقد فرغت، و تقدّم النصرانیّ فرأی موضعا بها یحتاج إلی قصریة جیر و أربع طوبات، فبادر إلی عمل ذلک، و أقبل أحمد بن طولون یتأمّل العین فاستحسن جمیع ما شاهده فیها، ثم أقبل إلی الموضع الذی فیه قصریة الجیر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 351
فوقف بالاتفاق علیها، فلرطوبة الجیر غاصت ید الفرس فیه فکبا بأحمد، و لسوء ظنه قدّر أنّ ذلک لمکروه أراده به النصرانیّ، فأمر به فشق عنه ما علیه من الثیاب و ضربه خمسمائة سوط، و أمر به إلی المطبق، و کان المسکین یتوقع من الجائزة مثل ذلک دنانیر، فاتفق له اتفاق سوء. و انصرف أحمد بن طولون و أقام النصرانیّ إلی أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع، فقدّر له ثلاثمائة عمود فقیل له ما تجدها، أو تنفذ إلی الکنائس فی الأریاف و الضیاع الخراب، فتحمل ذلک. فأنکره و لم یختره، و تعذب قلبه بالفکر فی أمره، و بلغ النصرانیّ و هو فی المطبق الخبر، فکتب إلیه: أنا أبنیه لک کما تحب و تختار بلا عمد إلّا عمودی القبلة، فأحضره و قد طال شعره حتی تدلی علی وجهه، فبناه.
قال: و لما بنی أحمد بن طولون هذه السقایة بلغه أن قوما لا یستحلون شرب مائها، قال محمد بن عبد اللّه بن عبد الحکم الفقیه: کنت لیلة فی داری إذ طرقت بخادم من خدّام أحمد بن طولون فقال لی: الأمیر یدعوک، فرکبت مذعورا مرعوبا، فعدل بی عن الطریق فقلت: أین تذهب بی، فقال: إلی الصحراء و الأمیر فیها. فأیقنت بالهلاک و قلت للخادم:
اللّه اللّه فیّ، فإنی شیخ کبیر ضعیف مسنّ، فتدری ما یراد منی فارحمنی. فقال لی: احذر أن یکون لک فی السقایة قول. و سرت معه و إذا بالمشاعل فی الصحراء و أحمد بن طولون راکب علی باب السقایة و بین یدیه الشمع، فنزلت و سلمت علیه فلم یردّ علیّ، فقلت: أیّها الأمیر إنّ الرسول أعنتنی و کدّنی و قد عطشت فیأذن لی الأمیر فی الشرب، فأراد الغلمان أن یسقونی فقلت: أنا آخذ لنفسی، فاستقیت و هو یرانی، و شربت و ازددت فی الشرب حتی کدت أنشق ثم قلت: أیها الأمیر سقاک اللّه من أنهار الجنة، فلقد أرویت و أغنیت، و لا أدری ما أصف أطیب الماء، فی حلاوته و برده أم صفاءه أم طیب ریح السقایة، قال: فنظر إلیّ و قال:
أریدک لأمر و لیس هذا وقته، فاصرفوه. فصرفت. فقال لی الخادم: أصبت. فقلت:
أحسن اللّه جزاءک، فلو لاک لهلکت. و کان مبلغ النفقة علی هذه العین فی بنائها و مستغلها أربعین ألف دینار، و أنشد أبو عمرو الکندیّ فی کتاب الأمراء لسعید القاص أبیاتا فی رثاء دولة بنی طولون، منها فی العین و السقایة:
و عین معین الشرب عین زکیةو عین أجاج للرّواة و للطهر
کأنّ وفود النیل فی جنباتهاتروح و تغدو بین مدّ إلی جزر
فأرک بها مستنبطا لمعینهامن الأرض من بطن عمیق إلی ظهر
بناء لو أنّ الجنّ جاءت بمثله‌لقیل لقد جاءت بمستفظع نکر
یمرّ علی أرض المغافر کلهاو شعبان و الأحمور و الحیّ من بشر
قبائل لا نوء السحاب یمدّهاو لا النیل یرویها و لا جدول یجری
و قال الشریف محمد بن أسعد الجوّانیّ النسابة فی کتاب الجوهر المکنون فی ذکر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 352
القبائل و البطون: سریع فخذ من الأشعریین، هم ولد سریع بن ماتع من بنی الأشعر بن أدد بن زید بن یشجب بن عریب بن زید بن کهلان بن سبأ بن یشجب بن یعرب بن قحطان، و هم رهط أبی قبیل التابعیّ، الذی خطته الیوم الکوم، شرقیّ قناطر سقایة أحمد بن طولون، المعروفة بعفصة الکبیرة بالقرافة.
الخندق: هذا الخندق کان بقرافة مصر، قد دثر، و علی شفیره الغربیّ قبر الإمام الشافعیّ رضی اللّه عنه، و کان من النیل إلی الجبل، حفر مرّتین، مرّة فی زمن مروان بن الحکم، و مرّة فی خلافة الأمین محمد بن هارون الرشید. ثم حفره أیضا القائد جوهر. قال القضاعیّ: الخندق هو الخندق الذی فی شرقیّ الفسطاط فی المقابر، کان الذی أثار حفره مسیر مروان بن الحکم إلی مصر، و ذلک فی سنة خمس و ستین، و علی مصر یومئذ عبد الرحمن بن عقبة بن جحدم الفهریّ، من قبل عبد اللّه بن الزبیر رضی اللّه عنه. فلما بلغه مسیر مروان إلی مصر أعدّ و استعدّ و شاور الجند فی أمره، فأشاروا علیه بحفر الخندق، و الذی أشار به علیه ربیعة بن حبیش الصدفیّ، فأمر ابن جحدم بإحضار المحاریث من الکور لحفر الخندق علی الفسطاط، فلم تبق قریة من قری مصر إلا حضر من أهلها النفر، و کان ابتداء حفره غرّة المحرّم سنة خمس و ستین، فما کان شی‌ء أسرع من فراغهم منه، حفروه فی شهر واحد. و کانت الحرب من ورائه یغدون إلیها و یروحون، فسمیت تلک الأیام أیام الخندق و التراویح، لرواحهم إلی القتال، و کانت المغافر أکثر قبائل أهل مصر عددا، کانوا عشرین ألفا، و نزل مروان عین شمس لعشر خلون من شهر ربیع الآخر سنة خمس و ستین، فی اثنی عشر ألفا، و قیل فی عشرین ألفا، فخرج أهل مصر إلی مروان فحاربوه یوما واحدا بعین شمس، ثم تحاجزوا و رجع أهل مصر إلی خندقهم فتحصنوا به، و صحبتهم جیوش مروان علی باب الخندق، فاصطف أهل مصر علی الخندق، فکانوا یخرجون إلی أصحاب مروان فیقاتلونهم نوبا نوبا، و أقاموا علی ذلک عشرة أیام و مروان مقیم بعین شمس، و کتب مروان إلی شیعته من أهل مصر، کریب بن أبرهة بن الصباح الحمیریّ، و زیاد بن حناطة التجیبیّ، و عابس بن سعید المرادیّ یقول: إنکم ضمنتم لی ضمانا لم تقوموا به، و قد طالت الأیام و الممانعة، فقام کریب و زیاد و عابس إلی ابن جحدم فقالوا له: أیّها الأمیر إنه لا قوام لنا بما تری، و قد رأینا أن نسعی فی الصلح بینک و بین مروان و قد مل الناس الحرب و کرهوها، و قد خفنا أن یسلمک الناس إلی مروان فیکون محکما فیک، فقال: و من لی بذلک؟ فقال کریب:
أنا لک به، فسعی کریب و صاحبناه فی الصلح علی أمان کتبه مروان لأهل مصر و غیرهم ممن شرب ماء النیل، و علی أن یسلم لابن جحدم من بیت المال عشرة آلاف دینار، و ثلاثمائة ثوب بقطریة، و مائة ریطة، و عشرة أفراس، و عشرین بغلا، و خمسین بعیرا. فتم الصلح علی ذلک، و دخل مروان الفسطاط مستهل جمادی الأولی سنة خمس و ستین، فنزل دار الفلفل و دفع إلی ابن جحدم جمیع ما صالحه علیه، و سار ابن جحدم إلی الحجاز و لم یلق کلّ واحد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 353
منهما الآخر، و تفرّق المصریون و أخذوا فی دفن قتلاهم و البکاء علیهم، فسمع مروان البکاء فقال: ما هذه النوادب؟ فقیل: علی القتلی. قال: لا أسمع نائحة تنوح إلّا أحللت بمن هی فی داره العقوبة. فسکتن عند ذلک و دفن أهل مصر قتلاهم فیما بین الخندق و المقطم، و هی المقابر التی یسمیها المصریون مقابر الشهداء، و دفن أهل الشام قتلاهم فیما بین الخندق و منیة الأصبغ، و کان قتلی أهل مصر ما بین الستمائة إلی السبعمائة، و قتلی أهل الشام نحو الثلاثمائة، و لما برز مروان من الفسطاط سائرا إلی الشام، سمع وجبة النساء یندبن قتلاهنّ، قال: ویحهن ما هذا؟ قالوا: النساء علی مقابرهنّ یندبن قتلاهنّ، فعرّج علیهنّ، فأمر بالانصراف. قالوا: کذا هنّ کلّ یوم. قال: فامنعوهنّ إلّا من سبب، و خرج مروان من مصر إلی الشام لهلال رجب سنة خمس و ستین، و کان مقامه بالفسطاط شهرین، و استخلف ابنه عبد العزیز علی مصر، و ضم إلیه بشر بن مروان، و کان حدثا، ثم ولی عبد الملک بشرا بعد ذلک البصرة، قال: ثم دثر هذا الخندق إلی أیام خلع الأمین بمصر و بیعة المأمون، و ولی البلد عباد بن محمد بن حبان مولی کندة من قبل المأمون، فکتب الأمین بمصر إلی أهل الحوفین فی القیام ببیعته و قتال: عباد و أهل مصر. فتجمع أهل الحوف لذلک و استعدّوا، و بلغ أهل مصر فأشاروا علی عباد بحفر الخندق، فحفروا خندقا من النیل إلی الجبل و احتفروا هذا الخندق العتیق، فکان القتال علیه أیاما متفرّقة إلی أن قتل الأمین و تمت بیعة المأمون، ثم لم یحفر بعد ذلک إلی یومنا هذا.
و ذکر ابن زولاق أن القائد جوهرا لما اختط القاهرة و کثر الإرجاف بمسیر القرامطة إلی مصر، حفر خندق السریّ بن الحکم بباب مدینة مصر، و عمل علیه بابا فی ذی القعدة سنة ستین و ثلاثمائة، و حفر خندقا فی وسط مقبرة مصر، و هو الخندق الذی حفره ابن جحدم، ابتدأ حفره من برکة الحبش حتی وصله بخندق عبد الرحمن بن جحدم، حتی بلغ به قبر محمد بن إدریس الشافعیّ، ثم حفر من الجبل إلی أن وصل الخندق ابن جحدم وسط المقابر، و بدأ به یوم السبت التاسع من شوّال سنة إحدی و ستین و ثلاثمائة، و فرغ منه فی مدّة یسیرة.
القباب السبع: هذه القباب بآخر القرافة الکبری مما یلی مدینة مصر. قال ابن سعید فی کتاب المغرب: و القباب السبع المشهورة بظاهر الفسطاط، هی مشاهد علی سبعة من بنی المغربیّ قتلهم الخلیفة الحاکم بعد فرار الوزیر أبی القاسم الحسین بن علیّ بن المغربیّ إلی أبی الفتوح حسن بن جعفر بمکة، و فی ذلک یقول أبو القاسم بن المغربیّ:
إذا شئت أن ترنو إلی الطّف باکیافدونک فانظر، نحو أرض المقطّم
تجد من رجال المغربیّ عصابةمضمّخة الأجسام من حلل الدّم
فکم ترکوا محراب آی معطّل‌و کم ترکوا من سورة لم تختم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 354
و قد ذکرت أخبار بنی المغربیّ عند ذکر بساتین الوزیر من برکة الحبش، و یتعلق بهذا الموضع من خبرهم أن أبا الحسن علیّ بن الحسین بن علیّ بن محمد بن المغربیّ، لما خرج من بغداد و صار إلی مصر فی أیام العزیز بالله بن المعز لدین اللّه فی سنة إحدی و ثمانین و ثلاثمائة رتب له فی کلّ سنة ستة آلاف دینار، و صار من شیوخ الدولة. فقال یوما لمؤدّب ولده أبی القاسم حسین، و هو علیّ بن منصور بن طالب، المعروف بأبی الحسن دوخلة بن القادح سرّا: أنا أخاف همة ابنی أبی القاسم أن تنزو به إلی أن یوردنا مورد الأصدر عنه، فإن کانت الأنفاس مما تحفظ و تکتب فاکتبها و احفظها و طالعنی بها. فقال أبو القاسم فی بعض الأیام لمؤدّبه هذا: إلی متی نرضی بالخمول الذی نحن فیه؟ فقال له: و أیّ خمول هذا، تأخذون من مولانا فی کل سنة ستة آلاف دینار، و أبوکم من شیوخ الدولة؟ فقال: أرید أن تصار إلی أبوابنا الکتائب و المواکب و المقانب، و لا أرضی بأن یجری علینا کالولدان و النسوان، فأعاد ذلک علی أبیه فقال: ما أخوفنی أن یخضب أن أبو القاسم هذه من هذه، و قبض علی لحیته و هامته، و علم ذلک أبو القاسم فصارت بینه و بین مؤدّبه وحشة، و کان ذلک فی خلافة الحاکم بأمر اللّه منصور بن العزیز، و تحدّث القائد أبی عبد اللّه الحسین بن جوهر، و کان الحاکم قد أکثر من قتل رؤساء دولته، و صار یبعث إلی القائد کلما قتل رئیسا برأسه و یقول: هذا عدوّی و عدوّک، فقبض علی أبی الحسن علیّ بن الحسین المغربیّ والد الوزیر أبی القاسم الحسین، و علی أخیه أبی عبد اللّه محمد بن الحسین، و علی محسن و محمد أخوی الوزیر المذکور، لثلاث خلون من ذی القعدة سنة أربعمائة، و فرّ الوزیر أبو القاسم الحسین بن المغربیّ من مصر فی زیّ حمّال، للیال من ذی القعدة، و لحق بحسان بن الجرّاح، و کان من أمره ما کان.

ذکر الأحواض و الآبار التی بالقرافة

حوض القرافة: أمر ببنائه السیدة ست الملک، عمّة الحاکم بأمر اللّه، ابنة المعز لدین اللّه، فی شعبان سنة ست و ستین و ثلاثمائة و اختلّ فی أیام العادل أبی الحسن بن السلار وزیر مصر فی سنة ست و أربعین و خمسمائة، فأمر بعمارته، ثم انشق فی سنة ثمانین و خمسمائة، فجدّده القاضی السعید ثقة الثقات ذو الرّیاستین، أبو الحسن علیّ بن عثمان بن یوسف بن إبراهیم بن یوسف بن أحمد بن یعقوب بن مسلم بن منبه، أحد بنی عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبی ربیعة بن المغیرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم المخزومیّ، صاحب النظر فی دیوان مصر، و مصنف کتاب المنهاج فی أحکام الخراج. و هو کتاب جلیل الفائدة، و لم تزل آثار هذا القاضی حمیدة و مقاصده سدیدة، و عنده نخوة قرشیة، و مروءة و عصبیة، و هو و إن طاب أصولا، فقد زکا فروعا، و إن تفرّقت فی سواه فضائل فقد جمعها اللّه فیه جمیعا، و لم یزل مذ کان یسعی فی الأمانة علی صراط مستقیم، آخذا بقوله تعالی أخبارا عن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 355
الکریم ابن الکریم اجعلنی علی خزائن الأرض إنی حفیظ علیم.
الحوض بجوار قصر القرافة: فی ظهر الحمّام العزیزی بحضرة فرن القرافة، أمرت ببنائه أمّ الخلیفة الظاهر لإعزاز دین اللّه، و اسمها السیدة رصد، علی ید وکیلها الشریف المحدّث أبی إبراهیم أحمد بن القاسم بن المیمون بن حمزة الحسینیّ العبدلیّ شیخ الفرّاء، و ابن الخطاب و الفلکیّ.
حوض بحضرة الأشعوب: و هو قصر بنی عقیب.
حوض فی داخل قصر أبی المعلوم: مجاور للبئر الکبیرة ذات الدوالیب، بناه المحتسب الفارسیّ مع عمارة البئر و المیضأة فی أیام السیدة أمّ العزیز، و یقال أن الحوض و البئر من بناء المادرانیّ، و إنما جدّدته عمة الحاکم.
حوض: بقصر بنی کعب و بجانبه بئر، أنشأه الحاجب لؤلؤ، و هو من حقوق قصر بنی کعب، و قد خربت هذه الأحواض و دثرت.

ذکر الآبار التی ببرکة الحبش و القرافة

بئر أبی سلامة: و تعرف ببئر الغنم، و هی قبلیّ النوبیة، و موضعها أحسن موضع فی البرکة، و هی التی عنی أبو الصلت أمیة بن عبد العزیز بقوله:
للّه یومی ببرکة الحبش‌و الأفق بین الضیاء و الغبش
و النیل تحت الریاح مضطرب‌کصارم فی یمین مرتعش
و نحن فی روضة مفوّفة دبج بالنور عطفها و وشی
قد نسجتها ید الغمام لنافنحن من نسجها علی فرش
و أثقل الناس کلهم رجل‌دعاه داعی الهوی فلم یطش
فعاطنی الراح إنّ تارکهامن سورة الهمّ غیر منتعش
و اسقنی بالکبار مترعةفهنّ أشفی لشدّة العطش
بئر غربیّ دیر مرحنا و بستان العبیدیّ: و دیر مرحنا یعرف الیوم فی زماننا بدیر الطین، و هو عامر بالنصاری.
بئر الدرج: شرقیّ بساتین الوزیر، لها درج ینزل به إلیها، عملها الحاکم بأمر اللّه، و شرقیها قبور النصاری، و بعدهم إلی جهة الجبل قبور الیهود، و البستان المجاور لعفصة الصغری أوّل برکة الحبش علی لسان الجبل الخارج إلی البرکة، مجاورة لبئر النعش و بئر السقایین، و هی المعروفة ببئر أبی موسی خلید، و قد صار هذا البستان إلی المهذب بن الوزیر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 356
بئر الزقاق: شرقیّ بئر عفصة الصغری، و الزقاق معروف إذ ذاک فی الجبل، و فی أوّله بئر مربعة کان یسقی منها البقر و الغنم.

ذکر السبعة التی تزار بالقرافة

اعلم أن زیارة القرافة کانت أوّلا یوم الأربعاء، ثم صارت لیلة الجمعة، و أمّا زیارة یوم السبت فقیل إنها قدیمة، و قیل متأخرة، و أوّل من زار یوم الأربعاء و ابتدأ بالزیارة من مشهد السیدة نفیسة، الشیخ الصالح أبو محمد عبد اللّه بن رافع بن یزحم بن رافع السارعیّ الشافعیّ المغافریّ الزوّار، المعروف بعابد، و مولده سنة إحدی و ستین و خمسمائة، و وفاته بالهلالیة خارج باب زویلة، فی لیلة الثانی و العشرین من شعبان سنة ثمان و ثلاثین و ستمائة. و دفن بسفح المقطم علی تربة بنی نهار، بحریّ تربة الردینیّ. و أوّل من زار لیلة الجمعة، الشیخ الصالح المقری أبو الحسن علیّ بن أحمد بن جوشن المعروف بابن الجباس، والد شرف الدین محمد بن علیّ بن أحمد بن الجباس، فجمع الناس و زار بهم فی لیلة الجمعة فی کلّ أسبوع، و زار معه فی بعض اللیالی السلطان الملک الکامل ناصر الدین أبو المعالی محمد بن العادل أبی بکر بن أیوب، و مشی معه أکابر العلماء. و کان سبب تجرّد أبی الحسن بن الجباس و انقطاعه إلی اللّه تعالی، أنه دولب مطبخ سکّر شرکة رجل، فوقف علیهما مال للدیوان، فسجنا بالقصر، فقرأ ابن الجباس فی بعض اللیالی سورة الرعد، فسمعه السلطان الملک العادل أبو بکر بن أیوب، فقام حتی وقف علیه و سأله عن خبره، فأعلمه بأنه سجن علی مبلغ کذا، فأمر بالإفراج عنه، فأبی إلّا أن یفرج عن رفیقه أیضا، فأفرج عنهما جمیعا.
و اتفق أنه مرّ فی بعض لیالی الزیارة بزاویة الفخر الفارسیّ، فخرج و قال له: ما هذه البدعة؟
فی غد أبطلها. ثم دخل الزاویة و خرج بعد ساعة و أمر بردّ ابن الجباس، فلما جاءه قال: دم علی ما أنت علیه، فإنی رأیت الساعة قوما فقالوا: هل تعطینا ما یعطینا ابن الجباس فی لیالی الجمع؟ فعلمت أن ذلک هو الدعاء و القراءة. و أمّا زیارة یوم السبت، فقد تقدّم أنه اختلف فیها، و حکی الموفق بن عثمان عن القضاعیّ أنه کان یحث علی زیارة سبعة قبور، و أن رجلا شکا إلیه ضیق حاله. و الدین. فقال له: علیک بزیارة سبعة قبور. أوّلهم: الشیخ أبو الحسن علیّ بن محمد بن سهل بن الصائغ الدینوریّ، و توفی لیلة الثلاثاء، لثلاث عشرة بقیت من شهر رجب سنة إحدی و ثلاثین و ثلاثمائة. و الثانی: عبد الصمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن إبراهیم البغدادیّ، صاحب الخلفاء، و توفی سنة خمس و ثلاثین و ثلاثمائة.
و الثالث: أبو إبراهیم إسماعیل بن ... المزنیّ، و توفی سنة أربع و ستین و مائتین.
و الرابع: القاضی بکار بن قتیبة، و توفی سنة سبعین و مائتین. و الخامس: القاضی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 357
المفضل بن فضالة، و توفی سنة اثنتین و خمسین و مائتین. و السادس: القاضی أبو بکر عبد الملک بن الحسن القمنیّ، و توفی فی ذی الحجة سنة اثنتین و ثلاثین و أربعمائة. و السابع:
أبو الفیض ذو النون ثوبان بن إبراهیم المصریّ، و توفی سنة خمس و أربعین و مائتین.
و کانوا أوّلا یزورون بعد صلاة الصبح و هم مشاة علی أقدامهم إلی أن کانت أیام شیخ الزوّار محمد العجمیّ السعودیّ، فزار راکبا فی یوم السبت بعد طلوع الشمس، لأنّ رجلیه کانتا معوجتین لا یستطیع المشی علیهما، و ذلک فی أواخر سنة ثمانمائة، و توفی فی عاشر شهر رمضان سنة تسع و ثمانمائة. فجاء بعده الزائر شمس الدین محمد بن عیسی المرجوشیّ السعودیّ، و محیی الدین عبد القادر بن علاء الدین محمد بن علم الدین بن عبد الرحمن الشهیر بابن عثمان، ففعلا ذلک، و مات ابن عثمان فی سابع شهر ربیع الآخر سنة خمس عشرة و ثمانمائة، فاستمرّت الزیارة علی ذلک.
و قد حکی صاحب کتاب محاسن الأبرار و مجالس الأخیار سبعة غیر من ذکرنا و سماهم المحققین و هم: صلة بن مؤمّل، و أبو محمد عبد العزیز بن أحمد بن علیّ بن جعفر الخوارزمیّ، و سالم العفیف، و أبو الفضل بن الجوهریّ، و أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن الحسین، عرف بالبزار، و أبو الحسن علیّ، عرف بطیر الوحش، و أبو الحسن علیّ بن صالح الأندلسیّ الکحال، و ذکر أیضا سبعة أخر و هم: عقبة بن عامر الجهنیّ، و الإمام أبو عبد اللّه محمد بن إدریس الشافعیّ، و أبو بکر الدقاق، و أبو إبراهیم إسماعیل المزنیّ، و أبو العباس أحمد الجزار، و الفقیه ابن دحیة، و الفقیه ابن فارس اللخمیّ، و زیارتهم یوم الجمعة بعد صلاة الصبح، و العمل علیها فی الزیارة الآن، إلّا أنهم یجتمعون طوائف، لکلّ طائفة شیخ، و یقیمون مناور کبارا و صغارا و یخرجون فی لیالی الجمع و فی کلّ سبت بکرة النهار، و فی کلّ یوم أربعاء بعد الظهر، و هم یذکرون اللّه، فیزورون. و یجتمع معهم من الرجال و النساء خلائق لا تحصی، و منهم من یعمل میعاد وعظ، و یقال لشیخ کل طائفة الشیخ الزائر، فتمرّ لهم فی الزیارة أمور منها ما یستحسن و منها ما ینکر، و لکلّ عبد ما نوی.
فمن أشهر مزارات القرافة:
قبر الإمام أبی عبد اللّه محمد بن إدریس الشافعیّ.
رحمة اللّه و رضوانه علیه، و توفی یوم الجمعة آخر یوم من شهر رجب، سنة أربع و مائتین بفسطاط مصر، و حمل علی الأعناق حتی دفن فی مقبرة بنی زهرة، أولاد عبد اللّه بن عبد الرحمن بن عوف الزهریّ رضی اللّه عنه، و عرفت أیضا بتربة أولاد ابن عبد الحکم. قال القضاعیّ: و قد جرّب الناس خیر هذه التربة المبارکة و القبر المبارک، و ینقل عن المزنیّ أنه قال فیه:
سقی اللّه هذا القبر من وبل مزنه‌من العفو ما یغنیه عن طلل المزن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 358 لقد کان کفؤا للعداة و معقلاو رکنا لهذا الدین بل أیّما رکن
هکذا وقفت علیه، ثم رأیت بعد ذلک أن المزنیّ، رحمه اللّه، لما دفن مرّ رجل علی قبره و إذا بهاتف یقول: فذکر البیتین. و قال آخر:
للّه درّ الثری کم ضمّ من کرم‌بالشافعیّ حلیف العلم و الأثر
یا جوهر الجوهر المکنون من مضرو من قریش و من ساداتها الأخر
لما تولیت ولّی العلم مکتئباو ضرّ موتک أهل البدو و الحضر
و لآخر:
أکرم به رجلا ما مثله رجل‌مشارک لرسول اللّه فی نسبه
أضحی بمصر دفینا فی مقطمهانعم المقطّم و المدفون فی تربة
و مناقب الشافعیّ رحمه اللّه کثیرة، قد صنف الأئمة فیها عدّة مصنفات، و له فی تاریخی الکبیر المقفی ترجمة کبیرة، و من أبدع ما حکی من مناقبه: أنّ الوزیر نظام الملک أبا علیّ الحسن بن علیّ بن إسحاق، لما بنی المدرسة النظامیة ببغداد فی سنة أربع و سبعین و أربعمائة، أحب أن ینقل الإمام الشافعیّ من مقبرته بمصر إلی مدرسته، و کتب إلی أمیر الجیوش بدر الجمالیّ وزیر الإمام المستنصر بالله معدّ یسأله فی ذلک، و جهز له هدیة جلیلة، فرکب أمیر الجیوش فی موکبه و معه أعیان الدولة و وجوه المصریین من العلماء و غیرهم، و قد اجتمع الناس لرؤیته، فلما نبش القبر شق ذلک علی الناس، و ماجوا و کثر اللغط و ارتفعت الأصوات و هموا برجم أمیر الجیوش و الثورة به، فسکّتهم و بعث یعلم الخلیفة أمیر المؤمنین المستنصر بصورة الحال، فأعاد جوابه بإمضاء ما أراد نظام الملک، فقری‌ء کتابه بذلک علی الناس عند القبر و طردت العامّة و الغوغاء من حوله، و وقع الحفر حتی انتهوا إلی اللحد، فعندما أرادوا قلع ما علیه من اللبن خرج من اللحد رائحة عطرة أسکرت من حضر فوق القبر حتی وقعوا صرعی، فما أفاقوا إلّا بعد ساعة، فاستغفروا مما کان منهم و أعادوا ردم القبر کما کان و انصرفوا، و کان یوما من الأیام المذکورة، و تزاحم الناس علی قبر الشافعیّ یزورونه مدّة أربعین یوما بلیالیها، حتی کان من شدّة الازدحام لا یتوصل إلیه إلّا بعناء و مشقة زائدة، و کتب أمیر الجیوش محضرا بما وقع و بعث به و بهدیة عظیمة مع کتابه إلی نظام الملک، فقری‌ء هذا المحضر و الکتاب بالنظامیة ببغداد، و قد اجتمع العالم علی اختلاف طبقاتهم لسماع ذلک، فکان یوما مشهودا ببغداد، و کتب نظام الملک إلی عامّة بلدان المشرق من حدود الفرات إلی ما وراء النهر بذلک، و بعث مع کتبه بالمحضر و کتاب أمیر الجیوش، فقرئت فی تلک الممالک بأسرها، فزاد قدر الإمام الشافعیّ عند کافة أهل الأقطار، و عامّة جمیع أهل الأمصار بذلک.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 359
و قد أوردت فی کتاب إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء و الأحوال و الحفدة و المتاع صلّی اللّه علیه و سلّم، نظیر هذه الواقعة، وقع لضریح رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و لم یزل قبر الشافعیّ یزار و یتبرّک به إلی أن کان یوم الأحد لسبع خلت من جمادی الأولی سنة ثمان و ستمائة، فانتهی بناء هذه القبة التی علی ضریحه، و قد أنشأها الملک الکامل المظفر المنصور أبو المعالی ناصر الدین محمد ظهیر أمیر المؤمنین ابن السلطان الملک العادل سیف الدین أبی بکر بن أیوب، و بلغت النفقة علیها خمسین ألف دینار مصریة، و أخرج فی وقت بنائها بعظام کثیرة من مقابر کانت هناک، و دفنت فی موضع من القرافة، و بهذه القبة أیضا قبر السلطان الملک العزیز عثمان بن السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، و قبر أمّه شمسة، و قیل فیها عدّة أشعار، منها قول الأدیب الکاتب ضیاء الدین أبی الفتح موسی بن ملهم:
مررت علی قبّة الشافعیّ‌فعاین طرفی علیها العشاری
فقلت لصحبی لا تعجبوافإنّ المراکب فوق البحار
و قال علاء الدین أبو علیّ عثمان بن إبراهیم النابلسی:
لقد أصبح الشافعیّ الإمام فینا له مذهب مذهب
و لو لم یکن بحر علم لماغدا و علی قبره مرکب
و قال آخر:
أتیت لقبر الشافعیّ أزوره‌تعرّضنا فلک و ما عنده بحر
فقلت تعالی اللّه تلک إشارةتشیر بأنّ البحر قد ضمّه القبر
و قال شرف الدین أبو عبد اللّه محمد بن سعید بن حماد البوصیریّ صاحب البردة:
بقبة قبر الشافعیّ سفینةرست فی بناء محکم فوق جلمود
و مذ غاض طوفان العلوم بقبره استوی الفلک من ذاک الضریح علی الجودی و منها
قبر الإمام اللیث بن سعد: رحمه اللّه، قد اشتهر قبره عند المتأخرین، و أوّل ما عرفته من خبر هذا القبر أنه وجدت مصطبة فی آخر قباب الصدف، و کانت قباب الصدف أربعمائة قبة فیما یقال، علیها مکتوب الإمام الفقیه الزاهد العالم اللیث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصریّ مفتی أهل مصر، کما ذکر فی کتاب هادی الراغبین فی زیارة قبور الصالحین، لأبی محمد عبد الکریم بن عبد اللّه بن عبد الکریم بن علیّ بن محمد بن علیّ بن طلحة، و فی کتاب مرشد الزوّار للموفق ابن عثمان. و ذکر الشیخ محمد الأزهریّ فی کتابه فی الزیارة: أن أوّل من بنی علیه و حیز کبیر التجار أبو زید المصریّ، بعد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 360
سنة أربعین و ستمائة، و لم یزل البناء یتزاید إلی أن جدّد الحاج سیف الدین المقدّم علیه قبته فی أیام الأشرف شعبان بن حسین بن محمد بن قلاون، قبیل سنة ثمانین و سبعمائة، ثم جدّدت فی أیام الناصر فرج بن الظاهر برقوق، علی ید الشیخ أبی الخیر محمد ابن الشیخ سلیمان المادح، فی محرّم سنة إحدی عشرة و ثمانمائة. ثم جدّدت فی سنة اثنتین و ثلاثین و ثمانمائة علی ید امرأة قدمت من دمشق فی أیام المؤید شیخ، عرفت بمرحبا بنت إبراهیم بن عبد الرحمن، أخت عبد الباسط. و کان لها معروف و برّ، توفیت فی تاسع عشری ذی القعدة سنة أربعین و ثمانمائة، و یجتمع بهذ القبة فی لیة کلّ سبت جماعة من القرّاء، فیتلون القرآن الکریم تلاوة حسنة حتی یختسموا ختمة کاملة عند السحر، و یقصد المبیت عندهم للتبرّک بقراءة القرآن عدّة من الناس، ثم تفاحش الجمع، و أقبل النساء و الأحداث و الغوغاء، فصار أمرا منکرا، لا ینصتون لقراءة و لا یتعظون بمواعظ، بل یحدث منهم علی القبور ما لا یجوز. ثم زادوا فی التعدّی حتی حفروا ما هنالک خارج القبة من القبور، و بنوا مبانی اتخذوها مراحیض و سقایات ماء، و یزعم من لا علم عنده أن هذه القراءة فی کل لیلة سبت عند قبر اللیث بزعمهم قدیمة من عهد الإمام الشافعیّ، و لیس ذلک بصحیح، و إنما حدثت بعد السبعمائة من سنی الهجرة، بمنام ذکر بعضهم أنه رآه، و کانوا إذ ذاک یجتمعون للقراءة عند قبر أبی بکر الأدفویّ.

ذکر المقابر خارج باب النصر

اعلم أن المقابر التی هی الآن خارج باب النصر، إنما حدثت بعد سنة ثمانین و أربعمائة، و أوّل تربة بنیت هناک تربة أمیر الجیوش بدر الجمالیّ لما مات و دفن فیها، و کان خطها یعرف برأس الطابیة، قال الشریف أمین الدولة أبو جعفر محمد بن هبة اللّه العلویّ الأفطسیّ، و قد مرّ بتربة الأفضل:
أجری دما أجفانیه‌جدث برأس الطابیه
صدع الزمان صفاتیه ...........
بال و ما بلیت أیادیه علیّ الباقیه
و یخارج باب النصر فی أوائل المقابر قبر زینب بنت أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن جعفر ابن الحنفیة، یزار و تسمیه العامّة مشهد الست زینب، ثم تتابع دفن الناس موتاهم فی الجهة التی هی الیوم من بحری مصلّی الأموات إلی نحو الریدانیة، و کان ما فی شرقیّ هذه المقبرة إلی الجبل براحا واسعا یعرف بمیدان القبق، و میدان العید، و المیدان الأسود، و هو ما بین قلعة الجبل إلی قبة النصر تحت الجبل الأحمر. فلما کان بعد سنة عشرین و سبعمائة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 361
ترک الملک الناصر محمد بن قلاون النزول إلی هذا المیدان و هجره، فأوّل من ابتدأ فیه بالعمارة الأمیر شمس الدین قراسنقر، فاختط تربته التی تجاور الیوم تربة الصوفیة، و بنی حوض ماء للسبیل، و جعل فوقه مسجدا، و هذا الحوض بجوار باب تربة الصوفیة، أدرکته عامرا هو و ما فوقه، و قد تهدّم و بقیت منه بقیة. ثم عمر بعده نظام الدین آدم أخو الأمیر سیف الدین سلار، تجاه تربة قراسنقر مدفنا و حوض ماء للسبیل و مسجدا معلقا، و تتابع الأمراء و الأجناد و سکان الحسینیة فی عمارة الترب هناک، حتی انسدّت طریق المیدان، و عمروا الجوّانیة أیضا، و أخذ صوفیة الخانقاه الصلاحیة لسعید السعداء قطعة قدر فدّانین، و أداروا علیها سورا من حجر، و جعلوها مقبرة لمن یموت منهم، و هی باقیة إلی یومنا هذا، و قد وسعوا فیها بعد سنة تسعین و سبعمائة بقطعة من تربة قراسنقر، و ما برح الناس یقصدون تربة الصوفیة هذه لزیارة من فیها من الأموات، و یرغبون فی الدفن بها، إلی أن تولی مشیخة الخانقاه الشیخ شمس الدین محمد البلالیّ، فسمح لکلّ أحد أن یقبر میته بها علی مال یأخذه منه، فقبر بها کثیر من أعوان الظلمة، و من لم یشکر طریقته، فصارت مجمع نسوان، و مجلس لعب.
و عمر أیضا بجوار تربة الصوفیة الأمیر مسعود بن خطیر تربة، و عمل لها منارة من حجارة لا نظیر لها فی هیئتها، و هی باقیة. و عمر أیضا مجد الدین السلامیّ تربة، و عمر الأمیر سیف الدین کوکای تربة، و عمر الأمیر طاجای الدوادار علی رأس القبق مقابل قبة النصر تربة، و عمر الأمیر سیف الدین طشتمر الساقی علی الطریق تربة، و بنی الأمراء إلی جانبه عدّة ترب، و بنی الطواشی محسن البهاء تربة عظیمة، و بنت خوند طغای تربة تجاه تربة طشتمر الساقی، و جعلت لها وقفا. و بنی الأمیر طغای تمر النجمیّ الدوادار تربة، و جعلها خانقاه، و أنشأ بجوارها حمّاما و حوانیت، و أسکنها للصوفیة و القرّاء، و بنی الأمیر منکلی بغا الفخریّ تربة، و الأمیر طشتمر طللیه تربة، و الأمیر أرنان تربة، و بنی کثیر من الأمراء و غیرهم الترب، حتی اتصلت العمارة من میدان القبق إلی تربة الروضة خارج باب البرقیة. و ما مات الملک الناصر حتی بطل من المیدان السباق بالخیل، و منعت طریقه من کثرة العمائر، و أدرکت بعد سنة ثمانین و سبعمائة عدّة عوامید من رخام منصوبة یقال لها عوامید السباق، فیما بین قبة النصر و قریب من القلعة.
و أوّل من عمر فی البراح الذی کان فیه عوامید السباق، الأمیر یونس الدوادار، فی أیام الملک الظاهر، تربته الموجودة هناک. ثم عمر الأمیر فجماس ابن عمّ الملک الظاهر برقوق تربة بجانب تربة یونس، و أحیط علی قطعة کبیرة حائط، و قبر فیها من مات من ممالیک السلطان، و قبر فیها الشیخ علاء الدین السیرامیّ شیخ الخانقاه. الظاهریة، و الشیخ المعتقد طلحة، و الشیخ المعتقد أبو بکر البجائی. فلما مرض الملک الظاهر برقوف أوصی أن یدفن تحت أرجل هؤلاء الفقراء. و أن یبنی علی قبره تربة، فدفن حیث أوصی، و أخذت قطعة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 362
مساحتها عشرة آلاف ذراع و جعلت خانقاه، و جعل فیها قبة علی قبر السلطان و قبور الفقراء المذکورین، و تجدّد من حینئذ هناک عدّة ترب جلیلة، حتی صار المیدان شوارع و أزقة، و نقل الملک الناصر فرج بن برقوق سوق الجمال و سوق الحمیر من تحت القلعة إلی تجاه التربة التی عمرها علی قبر أبیه، فاستمرّ ذلک أیاما فی سنة أربع عشرة و ثمانمائة، ثم أعیدت الأسواق إلی مکانها، و کان قصده أن یبنی هناک خانا کبیرا ینزل فیه المسافرون، و یجعل بجانبه سوقا، و بنی طاحونا و حمّاما و فرنا لتعمر تلک الجهة بالناس، فمات قبل بناء الخان، و خلت الحمّام و الطاحون و الفرن بعد قتله.

ذکر کنائس الیهود

اشارة

قال اللّه عز و جل: لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِیَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ یُذْکَرُ فِیهَا اسْمُ اللَّهِ کَثِیراً [الحج/ 40] قال المفسرون: الصوامع للصابئین، و البیع للنصاری، و الصلوات کنائس الیهود، و المساجد للمسلمین. قاله ابن قتیبة: و الکنیس کلمة عبرانیة معناها بالعربیة الموضع الذی یجتمع فیه للصلاة، و لهم بدیار مصر عدة کنائس، منها کنیسة دموة بالجیزة، و کنیسة جوجر من القری الغربیة، و بمصر الفسطاط کنیسة بخط المصاصة فی درب الکرمة، و کنیستان بخط قصر الشمع، و بالقاهرة کنیسة بالجودریة، و فی حارة زویلة خمس کنائس.
کنیسة دموه: هذه الکنیسة أعظم مبعد للیهود بأرض مصر، فإنهم لا یختلفون فی أنها الموضع الذی کان یأوی إلیه موسی بن عمران صلوات اللّه علیه، حین کان یبلغ رسالات اللّه عز و جلّ إلی فرعون مدّة مقامة بمصر، منذ قدم من مدین إلی أن خرج ببنی إسرائیل من مصر. و یزعم یهود أنها بنیت هذا البناء الموجود بعد خراب بیت المقدس الخراب الثانی علی ید طیطش ببعض و أربعین سنة، و ذلک قبل ظهور الملة الإسلامیة بما ینیف علی خمسمائة سنة، و بهذه الکنیسة شجرة زیزلخت فی غایة الکبر لا یشکون فی أنها من زمن موسی علیه السلام، و یقولون أنّ موسی علیه السلام غرس عصاه فی موضعها فأنبت اللّه هناک هذه الشجرة، و أنها لم تزل ذات أغصان نضرة، و ساق صاعد فی السماء، مع حسن استواء، و ثخن فی استقامة، إلی أن أنشأ الملک الأشرف شعبان بن حسین مدرسته تحت القلعة، فذکر له حسن هذه الشجرة، فتقدّم بقطعها لینتفع بها فی العمارة، فمضوا إلی ما أمروا به من ذلک، فأصبحت و قد تکوّرت و تعقفت و صارت شنیعة المنظر فترکوها، و استمرّت کذلک مدّة، فاتفق أن زنی یهودی بیهودیة تحتها، فتهدّلت أغصانها و تحاتّ ورقها و جفت حتی لم یبق بها ورقة خضراء، و هی باقیة کذلک إلی یومنا هذا و لهذه الکنیسة عید یرحل الیهود
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 363
بأهالیهم إلیها فی عید الخطاب، و هو فی شهر سیوان، و یجعلون ذلک بدل حجهم إلی القدس، و قد کان لموسی علیه السلام أنباء قد قصها اللّه تعالی فی القرآن الکریم و فی التوراة، و روی أهل الکتاب و علماء الأخبار من المسلمین کثیرا منها، و سأقص علیک فی هذا الموضع منها ما فیه کفایة، إذ کان ذلک من شرط هذا الکتاب.
موسی بن عمران: و فی التوراة عمرام بن قاهث بن لاوی بن یعقوب بن إسحاق بن إبراهیم خلیل الرحمن صلوات اللّه و سلامه علیهم، أمّه یوحانذ بنت لاوی، فهی عمة عمران والد موسی، ولد بمصر فی الیوم السابع من شهر آذار سنة ثلاثین و مائة لدخول یعقوب علی یوسف علیهما السلام بمصر، و کان بنو إسرائیل منذ مات لاوی بن یعقوب فی سنة أربع و تسعین لدخول یعقوب مصر فی البلاء مع القبط، و ذلک أن یوسف علیه السلام لما مات فی سنة ثمانین من قدوم یعقوب مصر، کان الملک إذ ذاک بمصر دارم بن الریان، و هو الفرعون الرابع عندهم، و تسمیه القبط دریموس، فاستوزر بعده رجلا من الکهنة یقال له بلاطس، فحمله علی أذی الناس و خالف ما کان علیه یوسف، و ساءت سیرة الملک حتی اغتصب کلّ امرأة جمیلة بمدینة منف و غیرها من النواحی، فشق ذلک من فعله علی الناس و همّوا بخلعه من الملک، فقام الوزیر بلاطس فی الوساطة بینه و بین الناس و أسقط عنهم الخراج لثلاث سنین، و فرّق فیهم مالا حتی سکنوا، و اتفق أن رجلا من الإسرائیلیین ضرب بعض سدنة الهیاکل فأدماه، و عاب دین الکهنة، فغضب القبط و سألوا الوزیر أن یخرج بنی إسرائیل من مصر، فأبی. و کان دارم الملک قد خرج إلی الصعید، فبعث إلیه یخبره بأمر الإسرائیلیّ و ما کان من القبط فی طلبهم إخراج بنی إسرائیل من مصر، فأرسل إلیه أن لا یحدث فی القوم حدثا دون موافاته، فشغب القبط و أجمعوا علی خلع الملک و إقامة غیره، فسار إلیهم الملک و کانت بینه و بینهم حروب قتل فیها خلق کثیر، ظفر فیها الملک و صلب ممن خالفه بحافتی النیل طوائف لا تحصی، و عاد إلی أکثر مما کان علیه من ابتزاز النساء و أخذ الأموال و استخدام الأشراف الوجوه من القبط و من بنی إسرائیل، فأجمع الکلّ علی ذمّه.
و اتفق أنه رکب فی النیل فهاجت به الریح و أغرقه اللّه و من معه، و لم توجد جثته إلّا عند شطنوف.
فأقام الوزیر من بعده فی الملک ابنه معادیوش، و کان صبیا، و یسمیه بعضهم معدان، فاستقام الأمر له و ردّ النساء اللاتی اغتصبهنّ أبوه، و هو خامس الفراعنة، فکثر بنو إسرائیل فی زمنه و لهجوا بثلب الأصنام و ذمّها، و هلک بلاطس الوزیر و قام من بعده فی الوزارة کاهن یقال له أملاده، فأمر بإفراد بنی إسرائیل ناحیة فی البلد، بحیث لا یختلط بهم غیرهم، فأقطعوا موضعا فی قلبیّ مدینة منف، صاروا إلیه و بنوا فیه معبدا کانوا یتلون به صحف إبراهیم علیه السلام، فخطب رجل من القبط بعض نسائهم فأبوا أن ینکحوه، و قد کان هویها. فأکبر القبط فعلهم و صاروا إلی الوزیر و شکوا من بنی إسرائیل و قالوا: هؤلاء قوم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 364
یعیبوننا و یرغبون عن مناکحتنا، و لا نحب أن یجاورونا ما لم یدینوا بدیننا. فقال لهم الوزیر: قد علمتم إکرام طوطیس الملک لجدّهم و نهر اوش من بعده، و قد علمتم برکة یوسف حتی جعلتم قبره وسط النیل فأخصب جانبا مصر بمکانه، و أمرهم بالکف عن بنی إسرائیل، فأمسکوا إلی أن احتجب معدان و قام من بعده فی الملک ابنه اکسامس الذی یسمیه بعضهم کاسم ابن معدان بن الریان بن الولید بن دومع العملیقیّ، و هو السادس من فراعنة مصر، و کان أوّلهم یقال له فرعان، فصار اسما لکلّ من تجبر و علا أمره، و طالت أیام کاسم و مات وزیر أبیه، فأقام من بعده رجلا من بیت المملکة یقال له ظلما بن قومس، و کان شجاعا ساحرا کاهنا کاتبا حکیما دهیا متصرّفا فی کل فنّ، و کانت نفسه تنازعه الملک، و یقال أنه من ولد أشمون الملک، و قیل من ولد صا. فأحبه الناس، و عمر الخراب و بنی مدنا من الجانبین، و رأی فی نجومه أنّه سیکون حدث و شدّة، و سکا القبط إلیه من الإسرائیلیین فقال: هم عبیدکم. فکان القبطیّ إذا أراد حاجة سخّر الإسرائیلیّ و ضربه فلا یغیر علیه أحد و لا ینکر علیه ذلک. فإن ضرب الإسرائیلیّ أحدا من القبط قتل البتة، و کذلک کانت تفعل نساء القبط بالنساء الإسرائیلیات، فکانت أوّل شدّة و ذلّ أصاب بنی إسرائیل و کثر ظلمهم و أذاهم من القبط، و استبدّ الوزیر ظلما بأمر البلد کما کان العزیز مع نهراوش.
و توفی اکسامس الملک، فأنّهم ظلمان بأنه سمّه، ترکب فی سلاحه و أقام لاطس الملک مکان أبیه، و کان ابنه جریئا معجبا، فصرف ظلما بن قومس عما کان علیه من خلافته، و استخلف رجلا یقال له لاهوق من ولد صا، و أنفذ ظلما عاملا علی الصعید و سیر معه جماعة من الإسرائیلیین، و زاد تجبره و عتوّه، و أمر الناس جمیعا أن یقوموا علی أرجلهم فی مجلسه، و مدّ یده إلی الأموال و منع الناس من فضول ما بأیدیهم، و قصرهم علی القوت، و ابتز کثیرا من النساء و فعل أکثر مما فعله ملک تقدّمه، و استعبد بنی إسرائیل فأبغضه الخاص و العام، و کان ظلما لما صرف عن الوزارة و خرج إلی الصعید، أراد إزالة الملک و الخروج عن طاعته، فجبی المال و امتنع من حمله، و أخذ المعادن لنفسه و همّ أن یقیم ملکا من ولد قبطرین و یدعو الناس إلی طاعته، ثم انصرف عن ذلک و دعا لنفسه، و کاتب الوجوه و الأعیان، فافترق الناس و تطاول کل واحد من أبناء الملوک إلی الملک و طمع فیه، و یقال أنّ روحانیا ظهر لظلما و قال له: إن أطعتنی قلدتک مصر زمانا طویلا، فأجابه و قرّب إلیه أشیاء منها غلام من بنی إسرائیل، فصار عونا له، و بلغ الملک خبر خروج ظلما عن طاعته، فوجّه إلیه قائدا قلده مکانه و أمره أن یقبض علی ظلما. و یبعث به إلیه موثقا، فسار إلیه و خرج ظلما للقائه و حاربه فظفر به و استولی علی ما معه، فجهز إلیه الملک قائدا آخر فهزمه و سار فی إثره و قد کثف جمعه، فبرز إلیه الملک و احتربا، فکانت لظلما علی الملک، فقتله و استولی علی مدینة منف و نزل قصر المملکة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 365
و هذا هو فرعون موسی علیه السلام، و بعضهم یسمیه الولید بن مصعب، و قیل هو من العمالقة و هو سابع الفراعنة. و یقال أنه کان قصیرا طویل اللحیة أشهل العینین صغیر العین الیسری، فی جبینه شامة، و کان أعرج، و قیل أنه کان یکنّی بأبی مرّة، و أن اسمه الولید بن مصعب، و أنه أوّل من خضب بالسواد لما شاب، دله علیه إبلیس. و قیل أنه کان من القبط، و قیل أنه دخل منف علی أتان یحمل النطرون لیبیعه، و کان الناس قد اضطربوا فی تولیة الملک، فحکّموه و رضوا بتولیة من یولیه علیهم، و ذلک أنهم خرجوا إلی ظاهر مدینة منف ینتظرون أوّل من یظهر علیهم لیحکّموه، فکان هو أوّل من أقبل بحماره، فلما حکّموه و رضوا بحکمه أقام نفسه ملکا علیهم، و انکر قوم هذا و قالوا: کان القوم أدهی من أن یقلدوا ملکهم من هذه سبیله فلمّا جلس فی الملک اختلف الناس علیه فبذل لهم الأموال، و قتل من خالفه بمن أطاعه حتی اعتدل أمره، و رتب المراتب و شید الأعمال و بنی المدن و خندق الخنادق و بنی بناحیة العریش حصنا، و کذلک علی جمیع حدود مصر، و استخلف هامان، و کان یقرب منه فی نسبه، و أثار الکنوز و صرفها فی بناء المدائن و العمارات، و حفر خلیج سردوس و غیره، و بلغ الخراج بمصر فی زمنه سبعة و تسعین ألف ألف دینار بالدینار الفرعونیّ، و هو ثلاثة مثاقیل.
و فرعون هو أوّل من عرّف العرفاء علی الناس، و کان ممن صحبه من بنی إسرائیل رجل یقال له أمری، و هو الذی یقال له بالعبرانیة عمرام، و بالعربیة عمران بن قاهث بن لاوی، و کان قدم مصر مع یعقوب علیه السلام فجعله حرسا لقصره یتولی حفظه، و عنده مفاتیحه و أغلاقه باللیل، و کان فرعون قد رأی فی کهانته و نجومه أنه یجری هلاکه علی ید مولود من الإسرائیلیین، فمنعهم من المناکحة ثلاث سنین التی رأی أن ذلک المولود یولد فیها، فأتت امرأة أمری إلیه فی بعض اللیالی بشی‌ء قد أصلحته له فواقعها، فاشتملت منه علی هارون، و ولدته لثلاث و سبعین من عمره، فی سنة سبع و عشرین و مائة لقدوم یعقوب إلی مصر، ثم أتته مرّة أخری فحملت بموسی لثمانین سنة من عمره، و رأی فرعون فی نجومه أنه قد حمل بذلک المولود، فأمر بذبح الذکران من بنی إسرائیل، و تقدّم إلی القوابل بذلک، فولد موسی علیه السلام فی سنة ثلاثین و مائة لقدوم یعقوب إلی مصر، و فی سنة أربع و عشرین و أربعمائة لولادة إبراهیم الخلیل علیه السلام، و لمضیّ ألف و خمسمائة و ست سنین من الطوفان، و کان من أمره ما قصه اللّه سبحانه من قذف أمّه له فی التابوت، فألقاه النیل إلی تحت قصر الملک، و قد أرصدت أمّه أخته علی بعد لتنظر من یلتقطه، فجاءت ابنة فرعون إلی البحر مع جواریها فرأته و استخرجته من التابوت فرحمته و قالت: هذا من العبرانیین من لنا بظئر ترضعه؟ فقالت لها أخته أنا آتیک بها، و جاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون إلی أن فصل، فأتت به إلی ابنة فرعون و سمته موسی و تبنته، و نشأ عندها، و قیل بل أخذته امرأة فرعون و استرضعت أمّه و منعت فرعون من قتله إلی أن کبر و عظم شأنه فردّ إلیه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 366
فرعون کثیرا من أمره و جعله من قوّاده، و کانت له سطوة، ثم وجهه لغزو الیونانیین و قد عاثوا فی أطراف مصر، فخرج فی جیش کثیف و أوقع بهم فأظفره اللّه و قتل منهم کثیرا و أسر کثیرا و عاد غانما، فسرّ ذلک فرعون و أعجب به هو و امرأته، و استولی موسی و هو غلام علی کثیر من أمر فرعون، فأراد فرعون أن یستخلفه، حتی قتل رجلا من أشراف القبط له قرابة من فرعون فطلبه، و ذلک أنه خرج یوما یمشی فی الناس و له صولة بما کان له فی بیت فرعون من المربی و الرضاع، فرأی عبرانیا یضرب، فقتل المصریّ الذی ضربه و دفنه، و خرج یوما آخر فإذا برجلین من بنی إسرائیل و قد سطا أحدهما علی الآخر، فزجره. فقال له: و من جعل لک هذا، أ ترید أن تقتلنی کما قتلت المصریّ بالأمس، و نما الخبر إلی فرعون فطلبه، و ألقی اللّه فی نفسه الخوف لما یرید من کرامته، فخرج من منف ولحق بمدین عند عقبة أیلة، و بنو مدین أمّة عظیمة من بنی إبراهیم علیه السلام، کانوا ساکنین هناک، و کان فراره و له من العمر أربعون سنة، فنزل عند بیرون، و هو شعیب علیه السلام من ولد مدین بن إبراهیم، و کان من تزویجه ابنته و رعایته غنمه ما کان، فأقام هنالک تسعا و ثلاثین سنة نکح فیها صفوراء ابنة شعیب، و بنوا إسرائیل مع فرعون و أهل مصر کما قال تعالی: «یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذابِ و یستعبدونهم» .
فلما مضی من سنة الثمانین لموسی شهر و أسبوع، کلمه اللّه جلّ اسمه، و کان ذلک فی الیوم الخامس عشر من شهر نیسان، و أمره أن یذهب إلی فرعون، و شدّ عضده بأخیه هارون و أیده بآیات منها قلب العصا حیة و بیاض یده من غیر سوء و غیر ذلک من الآیات العشر التی أحلها اللّه بفرعون و قومه، و کان مجی‌ء الوحی من اللّه تعالی إلیه و هو ابن ثمانین سنة، ثم قدم مصر فی شهر أیار و لقی أخاه هارون، فسرّ به و أطعمه جلبانا فیه ثرید، و تنبأ هارون و هو ابن ثلاث و ثمانین سنة، و غدا به إلی فرعون و قد أوحی إلیهما أن یأتیا إلی فرعون لیبعث معهما بنی إسرائیل فیستنقذ أنهم من هلکة القبط و جور الفراعنة، و یخرجون إلی الأرض المقدّسة التی وعدهم اللّه بملکها علی لسان إبراهیم و إسحاق و یعقوب، فأبلغا ذلک بنی إسرائیل عن اللّه، فأمنوا بموسی و اتبعوه، ثح حضرا إلی فرعون فأقاما ببابه أیاما و علی کل منهما جبة صوف، و مع موسی عصاه، و هما لا یصلان إلی فرعون لشدّة حجابه، حتی دخل علیه مضحک کان یلهو به فعرّفه أن بالباب رجلین یطلبان الاذن علیک، بزعمان أن إلههما قد أرسلهما إلیک، فأمر بإدخالهما. فلما دخلا علیه خاطبه موسی بما قصه اللّه فی کتابه، و أراه آیة العصا و آیته فی بیاض الید، فغاظ فرعون ما قاله موسی و همّ بقتله، فمنعه اللّه سبحانه بأن رأی صورة قد أقبلت و مسحت علی أعینهم فعموا، ثم أنه لما فتح عن عینیه أمر قوما آخرین بقتل موسی فأتتهم نار أحرقتهم، فازداد غیظه و قال لموسی: من أین ذلک هذه النوامیس
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 367
العظام؟ اسحرة بلدی علموک هذا أم تعلمته بعد خروجک من عندنا؟ فقال: هذا ناموس السماء و لیس من نوامیس الأرض. قال فرعون: و من صاحبه؟ قال: صاحب البنیة العلیا.
قال: بل تعلمتها من بلدی، و أمر بجمع السحرة و الکهنة و أصحاب النوامیس و قال:
اعرضوا علیّ أرفع أعمالکم فإنی أری نوامیس هذا الساحر رفیعة جدّا. فعرضوا علیه أعمالهم فسرّه ذلک، و أحضر موسی و قال له: لقد وقفت علی سحرک و عندی من یفوق علیک.
فواعدهم یوم الزینة، و کان جماعة من البلد قد اتبعوا موسی فقتلهم فرعون، ثم إنه جمع بین موسی و بین سحرته، و کانوا مائتی ألف و أربعین ألفا یعملون من الأعمال ما یحیر العقول و یأخذ القلوب، من دخن ملوّنات تری الوجوه مقلوبة مشوّهة، منها الطویل و العریض و المقلوب جبهته إلی أسفل. و لحیته إلی فوق، و منها ما له قرون و منها ما له خرطوم و أنیاب ظاهرة کأنیاب الفیلة، و منها ما هو عظیم فی قدر الترس الکبیر، و منها ما له آذان عظام و شبه وجوه القرود بأجساد عظیمة تبلغ السحاب و أجنحة مرکبة علی حیات عظیمة تطیر فی الهواء، و یرجع بعضها علی بعض فیبتلعه، و حیات یخرج من أفواهها نار تنتشر فی الناس، و حیات تطیر و ترجع فی الهواء و تنحدر علی کلّ من حضر لتبتلعه. فیتهارب الناس منها، و عصی تحلق فی الهواء فتصیر حیات برؤس و شعور و أذناب تهمّ بالناس أن تنهشهم، و منها ما له قوائم، و منها تماثیل مهولة، و عملوا له دخنا تغشی أبصار الناس عن النظر فلا یری بعضهم بعضا، و دخنا تطهر صورا کهیئة النیران فی الجوّ علی دواب یصدم بعضها بعضا و یسمع لها ضجیج، و صورا خضرا علی دواب خضر، و صورا سودا علی دواب سود هائلة.
فلما رأی فرعون ذلک سرّه ما رأی هو و من حضره و اغتم موسی و من آمن به، حتی أوحی اللّه إلیه لا تخف إنک أنت الأعلی، و ألق ما فی یمینک تلقف ما صنعوا. و کان للحسرة ثلاثة رؤساء، و یقال بل کانوا سبعین رئیسا، فأسرّ إلیهم موسی: قد رأیت ما صنعتم، فإن قهرتکم أ تؤمنون بالله؟ فقالوا نفعل. فغاظ فرعون مسارّة موسی لرؤساء السحرة، هذا و الناس یسخرون من موسی و أخیه و یهزؤون بهما، و علیهما دراعتان من صوف و قد احتز ما بلیف، فلوّح موسی بعصاه حتی غابت عن الأعین و أقبلت فی هیئة تنین عظیم له عینان یتوقدان، و النار تخرج من فیه و منخریه، فلا یقع علی أحد إلّا برص، و وقع من ذلک علی ابنة فرعون فبرصت، و صار التنین فاغرا فاه فالتقط جمیع ما عملته السحرة، و مائتی مرکب کانت مملوءة حبالا و عصیا و سائر من فیها من الملاحین، و کانت فی النهر الذی یتصل بدار فرعون، و ابتلع عمدا کثیرة و حجارة قد کانت حملت إلی هناک لیبنی بها، و مرّ التنین إلی قصر فرعون لیبتلعه، و کان فرعون جالسا فی قبة علی جانب القصر لیشرف علی عمل السحرة، فوضع نابه تحت القصر و رفع نابه الآخر إلی أعلاه، و لهب النار یخرج من فیه حتی أحرق مواضع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 368
من القصر، فصاح فرعون مستغیثا بموسی علیه السلام، فزجر موسی التنین فانعطف لیبتلع الناس، ففرّوا کلهم من بین یدیه، و انساب یریدهم. فأمسکه موسی و عاد فی یده عصا کما کان، و لم یر الناس من تلک المراکب و ما کان فیها من الحبال و العصیّ و الناس، و لا من العمد و الحجارة و ما شربه من ماء النهر حتی بانت أضه أثرا.
فعند ذلک قالت السحرة: ما هذه من عمل الآدمیین، و إنّما هو من فعل جبار قدیر علی الأشیاء. فقال لهم موسی: أوفوا بعهدکم و إلّا سلطته علیکم یبتلعکم کما ابتلع غیرکم، فآمنوا بموسی و جاهروا فرعون و قالوا: هذا من فعل إله السماء و لیس هذا من فعل أهل الأرض. فقال: قد عرفت أنکم قد واطأتموه علیّ و علی ملکی حسدا منکم لی، و أمر فقطعت أیدیهم و أرجلهم من خلاف و صلبوا، و جاهرته امرأته و المؤمن الذی کان یکتم إیمانه، و انصرف موسی فأقام بمصر یدعو فرعون أحد عشر شهرا، من شهر أیار إلی شهر نیسان المستقبل و فرعون لا یجیبه، بل اشتدّ جوره علی بنی إسرائیل و استعبادهم و اتخاذهم سخریا فی مهنة الأعمال، فأصابت فرعون و قومه الجوائح العشر، واحدة بعد أخری، و هو یثبت لهم عند وقوعها و یفزع إلی موسی فی الدعاء بانجلائها، ثم یلح عند انکشافها، فإنها کانت عذابا من اللّه عز و جلّ، عذّب اللّه بها فرعون و قومه.
فمنها أنّ ماء مصر صار دما حتی هلک أکثر أهل مصر عطشا، و کثرت علیهم الضفادع حتی و سخت جمیع مواضعهم و قذرت علیهم عیشهم و جمیع مآکلهم، و کثر البعوض حتی حبس الهواء و منع النسیم، و کثر علیهم ذباب الکلاب حتی جرّح أبدانهم و نغص علیهم حیاتهم، و ماتت دوابهم و أغنامهم فجأة، و عمّ الناس الجرب و الجدریّ حتی زاد منظرهم قبحا علی مناظر الجذمیّ، و نزل من السماء برد مخلوط بصواعق أهلک کل ما أدرکه من الناس و الحیوانات. و ذهب بجمیع الثمار، و کثر الجراد و الجنادب التی أکلت الأشجار و استقصت أصول النبات، و أظلمت الدنیا ظلمة سوداء غلیظة حتی کانت من غلظها تحسّ بالأجسام، و بعد ذلک کله نزل الموت فجأة علی بکور أولادهم بحیث لم یبق لأحد منهم ولد بکر إلّا فجع به فی تلک اللیلة، لیکون لهم فی ذلک شغل عن بنی إسرائیل، و کانت اللیلة الخامسة عشر من شهر نیسان سنة إحدی و ثمانین لموسی، فعند ذلک سارع فرعون إلی ترک بنی إسرائیل، فخرج موسی علیه السلام من لیلته هذه و معه بنو إسرائیل من عین شمس، و فی التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن یذبح أهل کل بیت حملا من الغنم إن کان کفایتهم، أو یشترکون مع جیرانهم إن کان أکثر، و أن ینضحوا من دمه علی أبوابهم لیکون علامة، و أن یأکلوا شواه رأسه و أطرافه و معاه و لا یکسروا منه عظما، و لا یدعوا منه شیئا خارج البیوت، و لیکن خبزهم فطیرا. و ذلک فی الیوم الرابع عشر من فصل الربیع، و لیأکلوا بسرعة و أوساطهم مشدودة و خفافهم فی أرجلهم و عصیهم فی أیدیهم، و یخرجوا لیلا. و ما فضل من عشائهم ذلک أحرقوه بالنار، و شرّع هذا عیدا لهم و لأعقابهم، و یسمی هذا عید الفصح،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 369
و فیها أنهم أمروا أن یستعیروا منهم حلیا کثیرا یخرجون به، فاستعاروه و خرجوا فی تلک اللیلة بما معهم من الدواب و الأنعام، و أخرجوا معهم تابوت یوسف علیه السلام، استخرجه موسی من المدفن الذی کان فیه بإلهام من اللّه تعالی، و کانت عدّتهم ستمائة ألف رجل محارب سوی النساء و الصبیان و الغرباء، و شغل القبط عنهم بالمآتم التی کانوا فیها علی موتاهم، فساروا ثلاث مراحل لیلا و نهارا حتی وافوا إلی فوهة الجبروت، و تسمی نار موسی، و هو ساحل البحر بجانب الطور، فانتهی خبرهم إلی فرعون فی یومین و لیلة، فندم بعد خروجهم و جمع قومه و خرج فی کثرة کفاک عن مقدارها قول اللّه عز و جل أخبارا عن فرعون أنه قال عن بنی إسرائیل و عدّتهم ما قد ذکر علی ما جاء فی التوراة، أن هؤلاء لشرذمة قلیلون، و أنهم لنا لغائطون، و لحق بهم فی الیوم الحادی و العشرین من نیسان، فأقام العسکران لیلة الواحد و العشرین علی شاطی‌ء البحر، و فی صبیحة ذلک الیوم أمر موسی أن یضرب البحر بعصاه و یقتحمه، ففلق اللّه لبنی إسرائیل البحر اثنی عشر طریقا، عبر کلّ سبط من طریق، و صارت المیاه قائمة عن جانبهم کأمثال الجبال، و صیرقاع البحر طریقا مسلوکا لموسی و من معه، و تبعهم فرعون و جنوده، فلما خاض بنو إسرائیل إلی عدوة الطور انطبق البحر علی فرعون و قومه، فأغرقهم اللّه جمیعا و نجا موسی و قومه، و نزل بنو إسرائیل جمیعا فی الطور و سجوا مع موسی بتسبیح طویل قد ذکر فی التوراة، و کانت مریم أخت موسی و هارون تأخذ الدف بیدیها، و نساء بنی إسرائیل فی أثرها بالدفوف و الطبول، و هی ترتل التسبیح لهنّ.
ثم ساروا فی البرّ ثلاثة أیام، و أقفرت مصر من أهلها، و مرّ موسی بقومه ففنی زادهم فی الیوم الخامس من أیار فضجوا إلی موسی، فدعا ربه فنزل لهم المنّ من السماء، فلما کان الیوم الثالث و العشرون من أیار عطشوا و ضجوا إلی موسی، فدعا ربه ففجر له عینا من الصخرة، و لم یزل یسیر بهم حتی وافوا طور سینین غرّة الشهر الثالث لخروجهم من مصر، فأمر اللّه موسی بتطهیر قومه و استعدادهم لسماع کلام اللّه سبحانه، فطهرهم ثلاثة أیام، فلما کان فی الیوم الثالث و هو السادس من الشهر، رفع اللّه الطور و أسکنه نوره و ظلل حوالیه بالغمام و أظهر فی الآفاق الرعود و البروق و الصواعق، و أسمع القوم من کلامه عشر کلمات و هی: أنا اللّه ربکم واحد لا یکم لکم معبود من دونی، لا تحلف باسم ربک کاذبا، اذکر یوم السبت و احفظه، برّ والدیک و أکرمهما، لا تقتل النفس، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بشهادة زور، لا تحسد أخاک فیما رزقه. فصاح القوم و ارتعدوا و قالوا لموسی: لا طاقة لنا باستماع هذا الصوت العظیم، کن السفیر بیننا و بین ربنا، و جمیع ما یأمرنا به سمعنا و أطعنا، فأمرهم بالإنصراف و صعد موسی إلی الجبل فی الیوم الثانی عشر، فأقام فیه أربعین یوما، و دفع اللّه إلیه اللوحین الجوهر المکتوب علیهما العشر کلمات و نزل فی الیوم الثانی و العشرین من شهر تموز، فرأی العجل، فارتفع الکتاب و ثقلا علی یدیه فألقاهما و کسرهما، ثم برد العجل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 370
و ذرّاه علی الماء و قتل من القوم من استحق القتل، و صعد إلی الجبل فی الیوم الثالث و العشرین من تموز لیشفع فی الباقین من القوم، و نزل فی الیوم الثانی من أیلول بعد الوعد من اللّه له بتعویضه لوحین آخرین مکتوبا علیهما ما کان فی اللوحین الأوّلین، فصعد إلی الجبل و أقام أربعین لیلة أخری، و ذلک من ثالث أیلول إلی الیوم الثانی عشر من تشرین، ثم أمره اللّه بإطلاح القبة و کان طولها ثلاثین ذراعا فی عرض عشرة أذرع و ارتفاع عشرة أذرع، و لها سرادق مضروب حوالیها مائة ذراع فی خمسین ذراعا و ارتفاع خمسة أذرع. فأخذ القوم فی إصلاحها و ما تزین به من الستور من الذهب و الفضة و الجواهر ستة أشهر الشتاء کله، و لما فرغ منها نصبت فی الیوم الأوّل من نیسان فی أوّل السنة الثانیة، و یقال أنّ موسی علیه السلام حارب هنالک العرب، مثل طسم و جدیس و العمالیق و جرهم و أهل مدین حتی أفناهم جمیعا، و أنه وصل إلی جبل فاران، و هو مکة، فلم ینج منهم إلّا من اعتصم بملک الیمن أو انتمی إلی بنی إسماعیل علیه السلام، و فی ثلثی الشهر الباقی من هذه السنة ظعن القوم فی برّیة الطور بعد أن نزلت علیهم التوراة، و جملة شرائعها ستمائة و ثلاث عشرة شریعة، و فی آخر الشهر الثالث حرّمت علیهم أرض الشام أن یدخلوها، و حکم اللّه تعالی علیهم أن یتیهوا فی البرّیة أربعین سنة، لقولهم نخاف أهلها لأنهم جبارون، فأقاموا تسع عشرة سنة فی رقیم، و تسع عشرة سنة فی أحد، و أربعین موضعا مشروحة فی التوراة، و فی الیوم السابع من شهر أیلول من السنة الثانیة خسف اللّه بقارون و بأولیائه بدعاء موسی علیه السلام علیهم لما کذبوا، و فی شهر نیسان من السنة الأربعین توفیت مریم ابنة عمران أخت موسی علیه السلام، و لها مائة و ست و عشرون سنة.
و فی شهر آب منها مات هارون علیه السلام و له مائة و ثلاث و عشرون سنة، ثم کان حرب الکنعانیین و سیحون و العوج صاحب البثنیة من أرض حوران. فی الشهور التی بعد ذلک إلی شهر شباط، فلما أهلّ شباط أخذ موسی فی إعادة التوراة علی القوم، و أمرهم بکتب نسختها و قراءتها و حفظ ما شاهدوه من آثاره و ما أخذوه عنه من الفقه، و کان نهایة ذلک فی الیوم السادس من آذار، و قال لهم فی الیوم السابع منه: إنی فی یومی هذا استوفیت عشرین و مائة سنة، و إنّ اللّه قد عرّفنی أنه یقبضنی فیه، و قد أمرنی أن أستخلف علیکم یوشع بن نون و معه السبعون رجلا الذین اخترتهم قبل هذا الوقت، و معهم العازر بن هارون أخی فاسمعوا له و أطیعوا، و أنا أشهد علیکم اللّه الذی لا إله إلّا هو، و الأرض و السماوات، أن تعبدوا اللّه و لا تشرکوا به شیئا و لا تبدّلوا شرائع التوراة بغیرها، ثم فارقهم و صعد الجبل فقبضه اللّه تعالی هناک و أخفاه، و لم یعلم أحد منهم قبره و لا شاهده، و کان بین وفاة موسی و بین الطوفان ألف و ستمائة و ست و عشرون سنة، و ذلک فی أیام منوجهر ملک الفرس، و زعم قوم أن موسی کان ألثغ، فمنهم من جعل ذلک خلقة، و منهم من زعم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 371
أنه إنما اعتراه حین قالت امرأة فرعون لفرعون لا تقتل طفلا لا یعرف الجمر من التمر.
فلما دعا له فرعون بهما جمیعا تناول جمرة فأهوی بها إلی فیه، فاعتراه من ذلک ما اعتراه، و ذکر محمد بن عمر الواقدیّ: أن لسان موسی کانت علیه شامة فیها شعرات، و لا یدل القرآن علی شی‌ء من ذلک، فلیس فی قوله تعالی: وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِی [طه/ 27] دلیل علی شی‌ء من ذلک دون شی‌ء، فأقاموا بعده ثلاثین یوما یبکون علیه إلی أن أوحی اللّه تعالی إلی یوشع بن نون بترحیلهم، فقادهم و عبر بهم الأردن فی الیوم العاشر من نیسان، فوافوا أریحا، فکان منهم ما هو مذکور فی مواضعه، فهذه جملة خبر موسی علیه السلام.
کنیسة جوجر: هذه الکنیسة من أجلّ کنائس الیهود، و یزعمون أنها تنسب لنبیّ اللّه إلیاس علیه السلام، و أنه ولد بها و کان یتعاهدها فی طول إقامته بالأرض إلی أن رفعه اللّه إلیه الیاس: هو فینحاس بن العازر بن هارون علیه السلام، و یقال الیاسین بن یاسین عیزار بن هارون، و یقال هو إلیاهو، و هی عبرانیة معناها قادر أزلیّ، و عرّب فقیل إلیاس، و یذکر أهل العلم من بنی إسرائیل أنه ولد بمصر، و خرج به أبوه العازر من مصر مع موسی علیه السلام و عمره نحو الثلاث سنین، و أنه هو الخضر الذی وعده اللّه بالحیاة، و أنه لما خرج بلعام بن باعورا لیدعو علی موسی، صرف اللّه لسانه حتی یدعو علی نفسه و قومه، و کان من زنا بنی إسرائیل بنساء الأمورانیین و أهل مواب ما کان، فغضب اللّه تعالی علیهم و أوقع فیهم الوباء، فمات منهم أربعة و عشرون ألفا إلی أن هجم فینحاس هذا علی خباء فیه رجل علی امرأة یزنی بها، فنظمهما جمیعا برمحه و خرج و هو رافعهما و شهرهما غضبا للّه، فرحمهم اللّه سبحانه و رفع عنهم الوباء، و کانت له أیضا آثار مع نبی اللّه یوشع بن نون، و لما مات یوشع قام من بعده فینحاس هذا هو و کالأب بن یوفنا، فصار فینحاس إماما و کالأب یحکم بینهم، و کانت الأحداث فی بنی إسرائیل، فساح إلیاس و لبس المسوح و لزم القفار، و قد وعده اللّه عز و جل فی التوراة بدوام السلامة، فأوّل ذلک بعضهم بأنه لا یموت، فامتدّ عمره إلی أن ملک یهوشا فاط بن أسا بن افیا بن رحبم بن سلیمان بن داود علیهما السلام علی سبط یهودا فی بیت المقدس، و ملک أحؤب بن عمری علی الأسباط من بنی إسرائیل بمدینة شمرون، المعروفة الیوم بنابلس، و ساءت سیرة أحؤب حتی زادت فی القبح علی جمیع من مضی قبله من ملوک بنی إسرائیل، و کان أشدّهم کفرا و أکثرهم رکونا للمنکر، بحیث أربی فی الشرّ علی أبیه و علی سائر من تقدّمه، و کانت له امرأة یقال لها سیصیال ابنة أشاعل ملک صیدا، أکفر منه بالله، و أشدّ عتوّا و استکبارا، فعبدا وثن بعل الذی قال اللّه فیه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 372
جلّ ذکره أ تدعون بعلا و تذرون أحسن الخالقین اللّه ربکم و ربّ آبائکم الأوّلین، و أقاما له مذبحا بمدینة شمرون، فأرسل اللّه عز و جل إلی أحؤب عبده إلیاس رسولا لینهاه عن عبادة وثن بعل، و یأمره بعبادة اللّه تعالی وحده، و ذلک قول اللّه عز و جل من قائل: وَ إِنَّ إِلْیاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِینَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِینَ اللَّهَ رَبَّکُمْ وَ رَبَّ آبائِکُمُ الْأَوَّلِینَ فَکَذَّبُوهُ [الصافات/ 123- 126] و لما أیس من أیمانهم بالله و ترکهم عبادة الوثن، أقسم فی مخاطبته أحؤب أن لا یکون مطر و لا ندا، ثم ترکه. فأمره اللّه سبحانه أن یذهب ناحیة الأردن، فمکث هناک مختفیا، و قد منع اللّه قطر السماء حتی هلکت البهائم و غیرها، فلم یزل إلیاس مقیما فی استتاره إلی أن جف ما کان عنده من الماء، و فی طول إقامته کان اللّه جلّ جلاله یبعث إلیه بغربان تحمل له الخبز و اللحم.
فلما جف ماؤه الذی کان یشرب منه لامتناع المطر أمره اللّه أن یسیر إلی بعض مدائن صیدا، فخرج حتی وافی باب المدینة، فإذا امرأة تحتطب، فسألها ماء یشربه و خبزا یأکله، فأقسمت له أن ما عندها إلّا مثل غرفة دقیق فی إناء، و شی‌ء من زیت فی جرّة، و أنها تجمع الحطب لتقتات منه هی و ابنها، فبشرها إلیاس علیه السلام و قال لها لا تجزعی و افعلی ما قلت لک، و اعملی لی خبزا قلیلا قبل أن تعملی لنفسک و لولدک، فإن الدقیق لا یعجز من الإناء، و لا الزیت من الجرّة حتی ینزل المطر، ففعلت ما أمرها به و أقام عندها، فلم ینقص الدقیق و لا الزیت بعد ذلک إلی أن مات ولدها و جزعت علیه، فسأل إلیاس ربه تعالی فأحیی الولد، و أمره اللّه أن یسیر إلی أحؤب ملک بنی إسرائیل لینزل المطر عند إخباره له بذلک، فسار إلیه و قال له: أجمع بنی إسرائیل و أبناء بعال. فلما اجتمعوا قال لهم إلیاس: إلی متی هذا الضلال، إن کان الرب اللّه فاعبدوه، و إن کان بعال هو اللّه فارجعوا بنا إلیه، و قال:
لیقرّب کلّ منا قربانا، فأقرّب أنا للّه، و قرّبوا أنتم لبعال، فمن تقبل منه قربانه و نزلت نار من السماء فأکلته فإلهه الذی یعبد فلما رضوا بذلک أحضروا ثورین و اختاروا أحدهما و ذبحوه، و صاروا ینادون علیه یال بعال یال بعال، و إلیاس یسخر بهم و یقول: لو رفعتم أصواتکم قلیلا فلعلّ إلهکم نائم أو مشغول، و هم یصرخون و یجرحون أیدیهم بالسکاکین، و دماءهم تسیل.
فلما أیسوا من أن تنزل النار و تأکل قربانهم، دعا إلیاس القوم إلی نفسه، و أقام مذبحا و ذبح ثوره و جعله علی المذبح و صبّ الماء فوقه ثلاث مرّات، و جعل حول المذبح خندقا محفورا، فلم یزل یصب الماء فوق اللحم حتی امتلأ الخندق من الماء، و قام یدعو اللّه عزّ اسمه و قال فی دعائه: اللهمّ أظهر لهذه الجماعة أنک الربّ، و أنی عبدک عامل بأمرک. فأنزل اللّه سبحانه نارا من السماء أکلت القربان و حجارة المذبح التی کان فوقها اللحم و جمیع الماء الذی صبّ حوله. فسجد القوم أجمعون و قالوا نشهد أن الربّ اللّه. فقال إلیاس: خذوا أبناء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 373
بعال، فأخذوا و جی‌ء بهم فذبحهم کلهم ذبحا، و قال لأحؤب انزل و کل و اشرب، فإن المطر نازل، فنزل المطر علی ما قال، و کان الجهد قد اشتدّ لانقطاع المطر مدّة ثلاث سنین و أشهر، و غزر المطر حتی لم یستطع أحؤب أن ینصرف لکثرته.
فغضبت سیصیال امرأة احؤب لقتل أبناء بعال و حلفت بآلهتها لتجعلنّ روح إلیاس عوضهم، ففزع إلیاس و خرج إلی المفاوز و قد اغتم غما شدیدا، فأرسل اللّه إلیه ملکا معه خبز و لحم و ماء، فأکل و شرب و قوّاه اللّه حتی مکث بعد هذه الأکلة أربعین یوما لا یأکل و لا یشرب، ثم جاءه الوحی بأن یمضی إلی دمشق، فسار إلیها و صحب الیسع بن شابات، و یقال ابن حظور، فصار تلمیذ، فخرج من أریحا و معه الیسع حتی وقف علی الأردن، فنزع رداءه و لفه و ضرب به ماء الأردن فافترق الماء عن جانبیه، و صار طریقا. فقال إلیاس حینئذ للیسع اسأل ما شئت قبل أن یحال بینی و بینک. فقال الیسع: أسأل أن یکون روحک فیّ مضاعفا.
فقال: لقد سألت جسیما، و لکن إن أبصرتنی إذا رفعت عنک یکون ما سألت، و إن لم تبصرنی لم یکن. و بینما هما یتحدّثان إذ ظهر لهما کالنار، فرّق بینهما و رفع إلیاس إلی السماء، و الیسع ینظره. فانصرف و قام فی النبوّة مقام إلیاس، و کان رفع إلیاس فی زمن یهورام بن یهوشافاط، و بین وفاة موسی علیه السلام و بین آخر أیام یهورام خمسمائة و سبعون سنة، و مدّة نبوّة موسی علیه السلام أربعون سنة، فعلی هذا یکون مدّة عمر إلیاس من حین ولد بمصر إلی أن رفع بالأردن إلی السماء ستمائة سنة. و بضع سنین، و الذی علیه علماء أهل الکتاب و جماعة من علماء المسلمین، أنّ إلیاس حیّ لم یمت، إلّا أنهم اختلفوا فیه، فقال بعضهم أنه هو فینحاس کما تقدّم ذکره، و منع هذا جماعة و قالوا هما اثنان، و اللّه أعلم.
کنیسة المصاصة: هذه الکنیسة یجلّها الیهود، و هی بخط المصاصة من مدینة مصر، و یزعمون أنها رممت فی خلافة أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، و موضعها یعرف بدرب الکرمة، و بنیت فی سنة خمس عشرة و ثلثمائة للإسکندر، و ذلک قبل الملة الإسلامیة بنحو ستمائة و إحدی و عشرین سنة، و یزعم الیهود أن هذه الکنیسة کانت مجلسا لنبیّ اللّه إلیاس.
کنیسة الشامیین: هذه الکنیسة بخط قصر الشمع من مدینة مصر، و هی قدیمة مکتوب علی بابها بالخط العبرانیّ حفرا فی الخشب، أنها بنیت فی سنة ست و ثلاثین و ثلاثمائة للإسکندر، و ذلک قبل خراب بیت المقدس الخراب الثانی الذی خرّبه طیطش بنحو خمس و أربعین سنة، و قبل الهجرة بنحو ستمائة سنة، و بهذه الکنیسة نسخة من التوراة لا یختلفون فی أنها کلها بخط عزرا النبیّ الذی یقال له بالعربیة العزیز.
کنیسة العراقیین: هذه الکنیسة أیضا بخط قصر الشمع.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 374
کنیسة بالجودریة: هذه الکنیسة بحارة الجودریة من القاهرة، و هی خراب منذ أحرق الخلیفة الحاکم بأمر اللّه حارة الجودریة علی الیهود، کما تقدّم ذکر ذلک فی الحارات فانظره.
کنیسة القرّائین: هذه الکنیسة کان یسلک إلیها من تجاه باب سرّ المارستان المنصوریّ فی حدرة ینتهی إلیها بحارة زویلة، و قد سدّت الخوخة التی کانت هناک، فصار لا یتوصل إلیها إلّا من حارة زویلة، و هی کنیسة تختص بطائفة الیهود القرّائین.
کنیسة دار الحدرة: هذه الکنیسة بحارة زویلة فی درب یعرف الآن بدرب الرایض، و هی من کنائس ... .
کنیسة الربانیین: هذه الکنیسة بحارة زویلة بدرب یعرف الآن بدرب البنادین، یسلک منه إلی تجاه السبع قاعات، و إلی سویقة المسعودیّ و غیرها، و هی کنیسة تختص بالربانیین من الیهود.
کنیسة ابن شمیخ: هذه الکنیسة بجوار المدرسة العاشوریة من حارة زویلة، و هی مما یختص به طائفة القرّائین.
کنیسة السمرة: هذه الکنیسة بحارة زویلة فی خط درب ابن الکورانیّ، تختص بالسمرة، و جمیع کنائس القاهرة المذکورة محدثة فی الإسلام بلا خلاف.

ذکر تاریخ الیهود و أعیادهم

قد کانت الیهود أوّلا تؤرخ بوفاة موسی علیه السلام، ثم صارت تؤرخ بتاریخ الإسکندر بن فیلبش، و شهور سنتهم اثنا عشر شهرا، و أیام السنة ثلاثمائة و أربعة و خمسون یوما. فأما الشهور فإنها تشری، مر حشوان، کسلیو، طبیث، شفط، آذر، نیس، أیار، سیوان، تموز، آب، أیلول. و أیام سنتهم أیام سنة القمر، و لو کانوا یستعملونها علی حالها لکانت أیام سنتهم و عدد شهورهم شیئا واحدا، و لکنه لما خرج بنو إسرائیل من مصر مع موسی علیه السلام إلی التیه، و تخلصوا من عذاب فرعون، و ما کانوا فیه من العبودیة، و ائتمروا بما أمروا به کما وصف فی السّفر الثانی من التوراة، اتفق ذلک لیلة الیوم الخامس عشر من نیس، و القمر تام الضوء، و الزمان ربیع. فأمروا بحفظ هذا الیوم کما قال فی السفر الثانی من التوراة، احفظوا هذا الیوم سنة لخلوفکم إلی الدهر فی أربعة عشر من الشهر الأوّل، و لیس معنی الشهر الأوّل هذا شهر تشری، و لکنه عنی به شهر نیس، من أجل أنهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 375
أمروا أن یکون شهر الناسخ رأس شهورهم و یکون أوّل السنة، فقال موسی علیه السلام للشعب: اذکروا الیوم الذی خرجتم فیه من التعبد، فلا تأکلوا خمیرا فی هذا الیوم فی الشهر الذی ینضر فیه الشجر. فلذلک اضطرّوا إلی استعمال سنة الشمس لیقع الیوم الرابع عشر من شهر نیس فی أوان الربیع حین تورق الأشجار و تزهو الثمار، و إلی استعمال سنة القمر لیکون جرمه فیه بدرا تام الضوء فی برج المیزان، و أحوجهم ذلک إلی إلحاق الأیام التی یتقدّم بها عن الوقت المطلوب بالشهور إذا استوفیت أیام شهر واحد، فألحقوها بها شهرا تاما سمّوه آذار الأوّل، و سموا آذار الأصل آذار الثانی، لأنه ردف سمیا له و تلاه، و سموا السنة الکبسة عبورا، اشتقاقا من معبار، و هی المرأة الحبلی بالعبرانیة، لأنهم شبهوا دخول الشهر الزائد فی السنة بحمل المرأة ما لیس من جملتها، و لهم فی استخراج ذلک حسابات کثیرة مذکورة فی الأزباج.
و هم فی عمل الأشهر مفترقون فرقتین، إحداهما الربانیة: و استعمالهم إیّاها علی وجه الحساب بمسیر الشمس و القمر الوسط، سواء رؤی الهلال أو لم یر، فان الشهر عندهم هو مدّة مفروضة تمضی من لدن الاجتماع الکائن بین الشمس و القمر فی کل شهر، و ذلک أنهم کانوا وقت عودهم من الجالیة ببابل إلی بیت المقدس ینصبون علی رؤس الجبال دبادب، و یقیمون رقباء للفحص عن الهلال، و ألزموهم بإیقاد النار و تدخین دخان یکون علامة لحصول الرؤیة، و کانت بینهم و بین السامرة العداوة المعروفة، فذهبت السامرة و رفعوا الدخان فوق الجبل قبل الرؤیة بیوم، و والوا بین ذلک شهورا، اتفق فی أوائلها أن السماء کانت متغیمة، حتی فطن لذلک من فی بیت المقدس، و رأوا الهلال غداة الیوم الرابع أو الثالث من الشهر مرتفعا عن الأفق من جهة المشرق، فعرفوا أن السامرة فتنتهم، فالتجأوا إلی أصحاب التعالیم فی ذلک الزمان لیأمنوا بما یتلقونه من حسابهم مکاید الأعداء، و اعتلوا لجواز العمل بالحساب و نیابته عن العمل بالرؤیة بعلل ذکروها، فعمل أصحاب الحساب لهم الأدوار، و علّموهم استخراج الاجتماعات و رؤیة الهلال، و أنکر بعض الربانیة حدیث القرباء و رفعهم الدخان، و زعموا أن سبب استخراج هذا الحساب هو أن علماءهم علموا أن آخر أمرهم إلی الشتات، فخافوا إذا تفرّقوا فی الأقطار و عوّلوا علی الرؤیة أن تختلف علیهم فی البلدان المختلفة فیتشاجروا، فلذلک استخرجوا هذه الحسبانات و اعتنی بها الیعازر بن فروح، و أمروهم بالتزامها و الرجوع إلیها حیث کانوا.
و الفرقة الثانیة هم المیلادیة الذین یعملون مبادی الشهور من الاجتماع، و یسمّون القرّاء و الأسمعیة، لأنهم یراعون العمل بالنصوص دون الالتفات إلی النظر و القیاس، و لم یزالوا علی ذلک إلی أن قدم عاتان رأس الجالوت من بلاد المشرق فی نحو الأربعین و مائة من الهجرة إلی دار السلام بالعراق، فاستعمل الشهور برؤیة الأهلة علی مثل ما شرع فی الإسلام، و لم یبال أی أیّ یوم وقع من الأسبوع، و ترک حساب الربانیین، و کبس الشهور بأن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 376
نظر کل سنة إلی زرع الشعیر بنواحی العراق و الشام فیما بین أوّل شهر نیسن إلی أن یمضی منه أربعة عشر یوما، فإن وجد باکورة تصلح للفریک و الحصاد ترک السنة بسیطة، و إن وجدها لم تصلح لذلک کبسها حینئذ، و تقدّمت المعرفة بهذه الحالة، و إنّ من أخذ برأیه یخرج لسبعة تبقی من شفط، فینظر بالشام و البقاع المشابهة له فی المزاج إلی زرع الشعیر، فإن وجد السفا و هو شوک السنبل قد طلع، عدّ منه إلی الفاسح خمسین یوما، و إن لم یره طالعا کبسها بشهر، فبعضهم یردف الکبس بشفط، فیکون فی السنة شفط و شفط مرّتین، و بعضهم یردفه بآذر فیکون آذر و آذر فی السنة مرّتین، و أکثر استعمال العانانیة لشفط دون آذر، کما أن الربانیة تستعمل آذر دون غیره.
فمن یعتمد من الربانیة عمل الشهور بالحساب یقول: إن شهر تشری لا یکون أوّله یوم الأحد و الأربعاء، و عدّته عندهم ثلاثون یوما أبدا، و فیه عید رأس السنة، و هو عید البشارة بعتق الأرقاء، و هذه العید فی أوّل یوم منه، و لهم أیضا فی الیوم العاشر منه صوم الکبور، و معناه الاستغفار، و عند الربانیین أن هذا الصوم لا یکون أبدا یوم الأحد و لا الثلاثاء و لا الجمعة، و عند من یعتمد فی الشهور الرؤیة أن ابتداء هذا الصوم من غروب الشمس فی لیلة العاشر إلی غروبها من لیلة الحادی عشر، و ذلک أربع و عشرون ساعة. و الربانیون یجعلون مدّة الصوم خمسا و عشرین ساعة، إلی أن تشتبک النجوم، و من لم یصم منهم هذا الصوم قتل شرعا، و هم یعتقدون أن اللّه یغفر لهم فیه جمیع الذنوب ما خلا الزنا بالمحصنات، و ظلم الرجل أخاه، و جحد الربوبیة، و فیه أیضا عید المظلة، و هو سبعة أیام یعیدون فی أولها و لا یخرجون من بیوتهم کما هو العمل یوم السبت و عدّة أیام المظلة إلی آخر الیوم الثانی و العشرین، تمام سبعة أیام، و الیوم الثامن یقال له عید الاعتکاف، و هم یجلسون فی هذه الأیام السبعة التی أوّلها خامس عشر تشری تحت ظلال سعف النخل الأخضر و أغصان الزیتون و نحوها من الأشجار التی لا یتناثر ورقها علی الأرض، و یرون أن ذلک تذکار منهم لإظلال اللّه آباءهم فی التیه بالغمام، و فیه أیضا عید القرّائین خاصة صوم فی الیوم الرابع و العشرین منه، یعرف بصوم کدلیا، و عند الربانیین یکون هذا الصوم فی ثالثه.
و شهر مر حشوان ربما کان ثلاثین یوما، و ربما کان تسعة و عشرین یوما، و لیس فیه عید.
و کسلیو ربما کان ثلاثین یوما، و ربما کان تسعة و عشرین یوما و لیس فیه عید، إلّا أن الربانیین یسرجون علی أبوابهم لیلة الخامس و العشرین منه، و هو مدّة أیام یسمونها الحنکة، و هو أمر محدث عندهم، و ذلک أن بعض الجبابرة تغلب علی بیت المقدس، و قتل من کان فیه من بنی إسرائیل، و افتض أبکارهم، فوثب علیه أولاد کاهنهم و کانوا ثمانیة فقتله
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 377
أصغرهم، و طلب الیهود زیتا لوقود الهیکل فلم یجدوا إلّا یسیرا، و زعوه علی عدد ما یوقدونه من السرج فی کل لیلة إلی ثمان لیال، فاتخذوا هذه الأیام عیدا و سموها أیام الحنکة، و هی کلمة مأخوذة من التنظیف، لأنهم نظفوا فیها الهیکل من أقذار أشیاع ذلک الجبار، و القرّاء لا یعملون ذلک لأنهم لا یعوّلون علی شی‌ء من أمر البیت الثانی.
و شهر طبیث عدد أیامه تسعة و عشرون یوما، و فی عاشره صوم سببه أنه فی ذلک الیوم کان ابتداء محاصرة بخت نصر لمدینة بیت المقدس، و محاصرة طیطش لها أیضا فی الخراب الثانی.
و شفط أیامه أبدا ثلاثون یوما و لیس فیه عید. و شهر آذر عند الربانیین کما تقدّم یکون مرّتین فی کلّ سنة فآذر الأوّل عدد أیامه ثلاثون یوما إن کانت السنة کبیسة، و إن کانت بسیطة فأیامه تسعة و عشرون یوما، و لیس فیه عید عندهم. و آذر الثانی أیامه تسعة و عشرون یوما أبدا و فیه عند الربانیین صوم الفوز فی الیوم الثالث عشر منه، و الفوز فی الیوم الرابع عشر و الیوم الخامس عشر، و أما القرّاؤون فلیس عندهم فی السنة شهر آذر سوی مرّة واحدة، و یجعلون صوم الفور فی ثالث عشرة و بعده إلی الخامس عشر، و هذا أیضا محدث، و ذلک أن بخت نصر لما أجلی بنی إسرائیل من بیت المقدس و خرّبه ساقهم جلایة إلی بلاد العراق، و أسکنهم فی مدینة خی التی یقال لها أصبهان، فلما ملک أزد شیر بن بابک ملک الفرس، و تسمیة الیهود أحشوارش، کان له وزیر یسمی هیمون، و کان للیهود حینئذ حبر یقال له مردوخای، فبلغ أزدشیر أن له ابنة عمّ جمیلة الصورة، فتزوّجها و حظیت عنده، و استدنی مردوخای ابن عمها و قرّبه، فحسده الوزیر هیمون و عمل علی هلاکه و هلاک الیهود الذین فی مملکة أزدشیر، و رتب مع نوّاب أزدشیر فی سائر أعماله أن یقتلوا کلّ یهودیّ عندهم فی یوم عینه لهم، و هو الثالث عشر من آذر، فبلغ ذلک مردوخای فأعلم ابنة عمه بما دبره الوزیر و حثها علی إعمال الحیلة فی تخلیص قومها من الهلکة، فأعلمت أزدشیر بحسد الوزیر لمردوخای علی قربه من الملک و إکرامه، و ما کتب به إلی العمال من قتل الیهود، و ما زالت به تغریه علی الوزیر إلی أن أمر بقتله، و قتل أهله، و کتب للیهود أمانا، فاتخذ الیهود هذا الیوم من کلّ سنة عیدا و صاموه شکرا للّه تعالی، و جعلوا من بعده یومین اتخذوهما أیام فرح و سرور و لهو و مهاداة من بعضهم لبعض، و هم علی ذلک إلی الیوم، و ربما صوّر بعضهم فی هذا الیوم صورة هیمون الوزیر، و هم یسمونه هامان، فإذا صوّروه ألقوه بعد العبث به فی النار حتی یحترق.
و شهر نیسن عدد أیامه ثلاثون یوما أبدا، و فیه عید الفاسح الذی یعرف الیوم عند النصاری بالفسح، و یکون فی الخامس عشر منه، و هو سبعة أیام یأکلون فیها الفطیر و ینظفون بیوتهم من أجل أن اللّه سبحانه خلص بنی إسرائیل من أسر فرعون فی هذه الأیام حتی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 378
خرجوا من مصر مع نبی اللّه موسی بن عمران علیه السلام، و تبعهم فرعون فأغرقه اللّه و من معه، و سار موسی ببنی إسرائیل إلی التیه، و لما خرجوا من مصر مع موسی کانوا یأکلون اللحم و الخبز و الفطیر و هم فرحون بخلاصهم من ید فرعون، فأمروا باتخاذ الفطیر و أکله فی هذه الأیام لیذکروا أنه ما منّ اللّه علیهم به من انقاذهم من العبودیة، و فی آخر هذه الأیام السبعة کان غرق فرعون، و هو عندهم یوم کبیر، و لا یکون أوّل هذا الشهر عند الربانیین أبدا یوم الاثنین و لا یوم الأربعاء و لا یوم الجمعة، و یکون أوّل الخمسینیات من نصفه.
و شهر أیار عدد أیامه تسعة و عشرون یوما، و فیه عید الموقف، و هو حج الأسابیع، و هی الأسابیع التی فرضت علی بنی إسرائیل فیها الفرائض، و یقال لهذا العید فی زمننا عید العنصرة، و عید الخطاب، و یکون بعد عید الفطر و فیه خوطب بنو إسرائیل فی طور سیناء، و یکون هذا العید فی السادس منه، و فیه أیضا یوم الخمیس و هو آخر الخمسینیات، و لا یکون عید العنصرة عند الربانیین أبدا یوم الثلاثاء و لا یوم الخمیس و لا یوم السبت. و شهر تموز أیامه تسعة و عشرون یوما، و لیس فیه عید، لکنهم یصومون فی تاسعه لأنّ فیه هدم سور بیت المقدس عند محاصرة بخت نصر له، و الربانیون خاصة یصومون یوم السابع عشر منه، لأنّ فیه هدم طیطش سور بیت المقدس و خرّب البیت البیت الخراب الثانی.
و شهر آب ثلاثون یوما، و فیه عید القرّائین، صوم فی الیوم السابع و الیوم العاشر، لأنّ بیت المقدس خرب فیهما علی ید بخت نصر، و فیه أیضا کان إطلاق بخت نصر النار فی مدینة القدس و فی الهیکل، و یصوم الربانیون الیوم التاسع منه، لأنّ فیه خرب البیت علی ید طنطش الخراب الثانی.
و شهر أیلول تسعة و عشرون یوما أبدا، و لیس فیه عید و اللّه تعالی أعلم.

ذکر معنی قولهم یهودی

اعلم أن یعقوب بن إسحاق بن إبراهیم صلوات اللّه علیهم أجمعین، سماه اللّه إسرائیل، و معنی ذلک الذی رأسه القادر، و کان له من الولد اثنا عشر ذکرا یقال لکلّ واحد منهم سبط، و یقال لمجموعهم الأسباط، و هذه أسماؤهم روبیل، و شمعون، و لاوی، و یهوذا، و یساخر، و زبولون. و الستة أشقاء، أمّهم لیا بنت لابان بن بتویل بن ناحور أخی إبراهیم الخلیل. و کان و اشار، ودان، و نفتالی، و یوسف، و بنیامین. فلما کبر هؤلاء الأسباط الاثنا عشر قدّم علیهم أبوهم یعقوب و هو إسرائیل، ابنه یهوذا، و جعله حاکما علی إخوته الأحد عشر سبطا، فاستمرّ رئیسا و حاکما علی إخوته إلی أن مات، فورثت أولاد یهوذا ریاسة الأسباط من بعده، إلی أن أرسل اللّه تعالی موسی ابن عمران بن قاهاث بن لاوی بن یعقوب إلی فرعون، بعد وفاة یوسف بن یعقوب علیهما السلام، بمائة و أربع و أربعین سنة، و هم رؤساء الأسباط. فلما نجی اللّه موسی و قومه بعد غرق فرعون و من معه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 379
رتّب علیه السلام بنی إسرائیل الاثنی عشر سبطا أربع فرق، و قدّم علی جمیعهم سبط یهوذا، فلم یزل سبط یهوذا مقدّما علی سائر الأسباط أیام حیاة موسی علیه السلام، و أیام حیاة یوشع بن نون. فلما مات یوشع، سأل بنو إسرائیل اللّه تعالی و ابتهلوا إلیه فی قبة الشمشار أن یقدّم علیهم واحدا منهم، فجاء الوحی من اللّه بتقدیم عثنیئال بن قناز من سبط یهوذا، فتقدّم علی سائر الأسباط، و صار بنو یهوذا مقدّمین علی سائر الأسباط من حینئذ إلی أن ملّک اللّه علی بنی إسرائیل نبیه داود، و هو من سبط یهوذا، فورث ملک بنی إسرائیل من بعده ابنه سلمان بن داود علیهما السلام. فلما مات سلیمان افترق ملک بنی إسرائیل من بعده، و صار لمدینة شمرون التی یقال لها الیوم نابلس عشرة أسباط، و بقی بمدینة القدس سبطان. هما سبط یهوذا و سبط بنیامین، و کان یقال لسکان شمرون بنو إسرائیل و یقال لسکان القدس بنو یهوذا، إلی أن انقرضت دولة بنی إسرائیل من مدینة شمرون بعد مائتین و إحدی و خمسین سنة، فصاروا کلهم بالقدس تحت طاعة الملوک من بنی یهودا، إلی أن قدم بخت نصر و خرّب القدس وجلا جمیع بنی إسرائیل إلی بابل، فعرفوا هناک بین الأمم ببنی یهوذا، و استمرّ هذا سمة لهم بین الأمم بعد ذلک إلی أن جاء اللّه بالإسلام، فکان یقال للواحد منهم یهوذی بذال معجمة نسبة إلی سبط یهوذا، و تلاعب العرب بذلک علی عادتهم فی التلاعب بالأسماء المعجمة، و قالوها بدال مهملة، و سموا طائفة بنی إسرائیل الیهود، و بهذه اللغة نزل القرآن، و یقال أنّ أوّل من سمّی بنی إسرائیل الیهود بخت نصر، و اللّه یعلم و أنتم لا تعلمون.

ذکر معتقد الیهود و کیف وقع عندهم التبدیل

اعلم أن اللّه سبحانه لما أنزل التوراة علی نبیه موسی علیه السلام، ضمنها شرائع الملة الموسویة، و أمر فیها أن یکتب لکلّ من یلی أمر بنی إسرائیل کتاب یتضمن أحکام الشریعة لینظر فیه. و یعمل به، و سمی هذا الکتاب بالعبرانیة مشنا، و معناه استخراج الأحکام من النص الإلهیّ، و کتب موسی علیه السلام، بخط یده مشنا کأنه تفسیر لما فی التوراة من الکلام الإلهیّ، فلما مات موسی علیه السلام، و قام من بعده بأمر بنی إسرائیل یوشع بن نون، و من بعده إلی أن کانت أیام یهویاقیم ملک القدس، غزاهم بخت نصر الغزوة الأولی، و هم یکتبون لکل من ملکهم مشنا، ینقلونها من المشنا التی بخط موسی و یجعلونها باسمه، فلما جلا بخت نصر یهویاقیم الملک و معه أعیان بنی إسرائیل و کبراء بیت المقدس، و هم فی زیادة علی عشرة آلاف نفس، ساروا و معهم نسخ المشنا التی کتبت لسائر ملوک بنی إسرائیل بأجمعها إلی بلاد المشرق، فلما سار بخت نصر من باب الکرّة الثانیة لغزو القدس، و خرّبه، و جلا جمیع من فیه و فی بلاد بنی إسرائیل من الأسباط الاثنی عشر إلی باب أقاموا بها، و بقی القدس خرابا لا ساکن فیه مدّة سبعین سنة، ثم عادوا من بابل بعد سبعین سنة و عمروا القدس، و جدّدوا بناء البیت ثانیا و معهم جمیع نسخ المشنا التی خرجوا بها أوّلا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 380
فلما مضت من عمارة البیت الثانی بعد الجلایة ثلاثمائة و نیف من السنین، اختلف بنو إسرائیل فی دینهم اختلافا کثیرا، فخرج طائفة من آل داود علیه السلام من بیت المقدس و ساروا إلی الشرق، کما فعل آباؤهم أوّلا، و أخذوا معهم نسخا من المشنا التی کتبت للملوک من مشنا موسی التی بخطه، و عملوا بما فیها ببلاد الشرق، من حین خرجوا من القدس إلی أن جاء اللّه بدین الإسلام، و قدم عانان رأس الجالوت من المشرق إلی العراق فی خلافة أمیر المؤمنین أبی جعفر المنصور، سنة ست و ثلاثین و مائة من سنی الهجرة المحمدیة.
و أما الذین أقاموا بالقدس من بنی إسرائیل بعد خروج من ذکرنا إلی الشرق من آل داود، فإنهم لم یزالوا فی افتراق و اختلاف فی دینهم إلی أن غزاهم طیطش، و خرّب القدس الخراب الثانی بعد قتل یحیی بن زکریا و رفع المسیح عیسی بن مریم علیهما السلام، و سبی جمیع من فیه و فی بلاد بنی إسرائیل بأسرهم، و غیب نسخ المشنا التی کانت عندهم، بحیث لم یبق معهم من کتب الشریعة سوی التوراة، و کتب الأنبیاء، و تفرّق بنو إسرائیل من وقت تخریب طیطش بیت المقدس فی أقطار الأرض، و صاروا ذمّة إلی یومنا هذا، ثم إن رجلین ممن تأخروا إلی قبیل تخریب القدس یقال لهما شمای و هلال، نزلا مدینة طبریة و کتبا کتابا سمیاه مشنا، باسم مشنا موسی علیه السلام، و ضمنا هذا المشنا الذی وضعاه أحکام الشریعة، و وافقهما علی وضع ذلک عدّة من الیهود، و کان شمای و هلال فی زمن واحد، و کانا فی أواخر مدّة تخریب البیت الثانی، و کان لهلال ثمانون تلمیذا، أصغرهم یوحانان بن زکای، و أدرک یوحانان بن زکای خراب البیت الثانی علی ید طیطش، و هلال و شمای أقوالهما مذکورة فی المشنا، و هی فی ستة أسفار تشتمل علی فقه التوراة، و إنما رتبها النوسیّ من ولد داود النبیّ بعد تخریب طیطش للقدس بمائة و خمسین سنة، و مات شمای و هلال و لم یکملا المشنا فأکمله رجل منهم یعرف بیهودا من ذریة هلال و حمل الیهود علی العمل بما فی هذا المشنا، و حقیقته أنه یتضمن کثیرا مما کان فی مشنا النبیّ موسی علیه السلام، و کثیرا من آراء أکابرهم. فلما کان بعد وضع هذا المشنا بنحو خمسین سنة، قام طائفة من الیهود یقال لهم السنهدوین، و معنی ذلک الأکابر، و تصرّفوا فی تفسیر هذا المشنا برأیهم، و عملوا علیه کتابا اسمه التلمود، أخفوا فیه کثیرا مما کان فی ذلک المشنا، و زادوا فیه أحکاما من رأیهم، و صاروا منذ وضع هذا التلمود الذی کتبوه بأیدیهم و ضمنوه ما هو من رأیهم ینسبون ما فیه إلی اللّه تعالی، و لذلک ذمّهم اللّه فی القرآن الکریم بقوله تعالی: فَوَیْلٌ لِلَّذِینَ یَکْتُبُونَ الْکِتابَ بِأَیْدِیهِمْ ثُمَّ یَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِیَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِیلًا فَوَیْلٌ لَهُمْ مِمَّا کَتَبَتْ أَیْدِیهِمْ وَ وَیْلٌ لَهُمْ مِمَّا یَکْسِبُونَ [البقرة/ 79] و هذا التلمود نسختان مختلفتان فی الأحکام، و العمل إلی الیوم علی هذا التلمود عند فرقة الربانیین بخلاف القرّائین، فإنهم لا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 381
یعتقدون العمل بما فی هذا التلمود. فلما قدم عانان رأس الجالوت إلی العراق، أنکر علی الیهود عملهم بهذا التلمود، و زعم أن الذی بیده هو الحق، لأنه کتب من النسخ التی کتبت من مشنا موسی علیه السلام الذی بخطه، و الطائفة الربانیون، و من وافقهم لا یعوّلون من التوراة التی بأیدیهم إلّا علی ما فی هذا التلمود، و ما خلف ما فی التلمود لا یعبأون به، و لا یعوّلون علیه، کما أخبر تعالی إذ یقول حکایة عنهم: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلی أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلی آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف/ 22] و من اطلع علی ما بأیدیهم و ما عندهم من التوراة تبین له أنهم لیسوا علی شی‌ء، و أنهم إن یتبعون إلّا الظنّ و ما تهوی الأنفس، و لذلک لما نبغ فیهم موسی بن میمون القرطبیّ، عوّلوا علی رأیه، و عملوا بما فی کتاب الدلالة و غیره من کتبه، و هم علی رأیه إلی زمننا.

ذکر فرق الیهود الآن

اعلم أن الیهود الذین قطعهم اللّه فی الأرض أمما أربع فرق، کلّ فرقة تخطّی‌ء الطوائف الأخر، و هی طائفة الربانیین، و طائفة القرّائین، و طائفة العانانیة، و طائفة السمرة. و هذا الاختلاف حدث لهم بعد تخریب بخت نصر بیت المقدس و عودهم من أرض بابل بعد الجلایة إلی القدس، و عمارة البیت ثانیا. و ذلک أنهم فی إقامتهم بالقدس أیام العمارة الثانیة افترقوا فی دینهم، و صاروا شیعا. فلما ملکهم الیونان بعد الإسکندر بن فیلبش، و قام بأمرهم فی القدس هور قانوس بن شمعون بن مشیثا، و استقام أمره فسمی ملکا، و کان قبل ذلک هو و جمیع من تقدّمه ممن ولی أمر الیهود فی القدس بعد عودهم من الجلایة إنما یقال له الکوهن الأکبر، فاجتمع لهور قانوس منزلة الملک و منزلة الکهونیة، و اطمأنّ الیهود فی أیامه و أمنوا سائر أعدائهم من الأمم، فبطروا معیشتهم و اختلفوا فی دینهم و تعادوا بسبب الاختلاف، و کان من جملة فرقهم إذ ذاک طائفة یقال لهم الفروشیم، و معناه المعتزلة، و من مذهبهم القول بما فی التوراة علی معنی ما فسره الحکماء من أسلافهم. و طائفة یقال لهم الصدوفیة بفاء، نسبوا إلی کبیر لهم یقال له صدوف، و مذهبهم القول بنص التوراة و ما دلّ علیه القول الإلهیّ فیها دون ما عداه من الأقوال، و طائفة یقال لهم الجسدیم، و معناه الصلحاء، و مذهبهم الاشتغال بالنسک و عبادة اللّه سبحانه و الأخذ بالأفضل و الأسلم فی الدین، و کانت الصدوفیة تعادی المعتزلة عداوة شدیدة، و کان الملک هور قانوس أوّلا علی رأی المعتزلة، و هو مذهب آبائه، ثم إنه رجع إلی مذهب الصدوفیة و باین المعتزلة و عاداهم، و نادی فی سائر مملکته بمنع الناس جملة من تعلم رأی المعتزلة، و الأخذ عن أحد منهم، و تتبعهم و قتل منهم کثیرا. و کانت العامّة بأسرها مع المعتزلة، فثارت الشرور بین الیهود و اتصلت الحروب بینهم، و قتل بعضهم بعضا إلی أن خرب البیت علی ید طیطش الخراب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 382
الثانی بعد رفع عیسی صلوات اللّه علیه، و تفرّق الیهود من حینئذ فی أقطار الدنیا و صاروا ذمّة، و النصاری تقتلهم حیثما ظفرت بهم إلی أن جاء اللّه بالملة الإسلامیة، و هم فی تفرّقهم ثلاث فرق، الربانیون و القرّاء و السمرة.
فأما الربانیة: فیقالهم بنو مشنو، و معنی مشنو الثانی، و قیل لهم ذلک لأنهم یعتبرون أمر البیت الذی بنی ثانیا بعد عودهم من الجلایة و خرّبه طیطش و ینزلونه فی الاحترام و الإکرام و التعظیم منزلة البیت الأوّل الذی ابتدأ عمارته داود و أتمه ابنه سلیمان علیهما السلام، و خرّبه بخت نصر. فصار کأنه یقال لهم أصحاب الدعوة الثانیة، و هذه الفرقة هی التی کانت تعمل بما فی المشنا الذی کتب بطبریة بعد تخریب طیطش القدس، و تعوّل فی أحکام الشریعة علی ما فی التلمود إلی هذا الوقت الذی نحن فیه، و هی بعیدة عن العمل بالنصوص الإلهیة متبعة لآراء من تقدّمها من الأحبار، و من اطلع علی حقیقة دینها، تبین له أن الذی ذمّهم اللّه به فی القرآن الکریم حق لا مریة فیه، و أنه لا یصح لهم من اسم الیهودیة إلّا مجرّد الانتماء فقط، لا إنهم فی الإتباع علی الملة الموسویة، لا سیما منذ ظهر فیهم موسی بن میمون القرطبیّ بعد الخمسمائة من سنی الهجرة المحمدیة، فإنه ردّهم مع ذلک معطلة، فصاروا فی أصول دینهم و فروعه أبعد الناس عما جاء به أنبیاء اللّه تعالی من الشرائع الإلهیة.
و أما القرّاء: فإنهم بنو مقرا، و معنی مقرا الدعوة، و هم لا یعوّلون علی البیت الثانی جملة، و دعوتهم إنما هی لما کان علیه العمل مدّة البیت الأوّل، و کان یقال لهم أصحاب الدعوة الأولی، و هم یحکمون نصوص التوراة و لا یلتفتون إلی قول من خالفها، و یقفون مع النص دون تقلید من سلف، و هم مع الربانیین من العداوة بحیث لا یتناکحون و لا یتجاورون و لا یدخل بعضهم کنیسة بعض، و یقال للقرّائین أیضا المبادیة، لأنهم کانوا یعملون مبادی الشهور من الاجتماع الکائن بین الشمس و القمر، و یقال لهم أیضا الأسمعیة، لأنهم یراعون العمل بنصوص التوراة دون العمل بالقیاس و التقلید.
و أما العانانیة: فإنهم ینسبون إلی عانان رأس الجالوت الذی قدم من المشرق فی أیام الخلیفة أبی جعفر المنصور، و معه نسخ المشنا الذی کتب من الخط الذی کتب من خط النبیّ موسی، و أنه رأی ما علیه الیهود من الربانیین و القرّائین یخالف ما معه، فتجرّد لخلافهم و طعن علیهم فی دینهم، و ازدری بهم، و کان عظیما عندهم یرون أنه من ولد داود علیه السلام، و علی طریق فاضلة من النسک علی مقتضی ملتهم، بحیث یرون أنه لو ظهر فی أیام عمارة البیت لکان نبیا، فلم یقدروا علی مناظرته، لما أوتی مع ما ذکرنا من تقریب الخلیفة له و إکرامه، و کان مما خالف فیه الیهود استعمال الشهور برؤیة الأهلة علی مثل ما شرع فی الملة الإسلامیة، و لم یبال فی أیّ یوم وقع من الأسبوع، و ترک حساب الربانیین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 383
و کبس الشهور و خطأهم فی العمل بذلک، و اعتمد علی کشف زرع الشعیر، و أجمل القول فی المسیح عیسی ابن مریم علیه السلام، و أثبت نبوّة نبینا محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، و قال: هو نبیّ أرسل إلی العرب، إلّا أن التوراة لم تنسخ، و الحق أنه أرسل إلی الناس کافة صلّی اللّه علیه و سلّم.
ذکر السمرة: اعلم أن طائفة السمرة لیسوا من بنی إسرائیل البتة، و إنما هم قوم قدموا من بلاد المشرق و سکنوا بلاد الشام و تهوّدوا، و یقال أنهم من بنی سامرک بن کفرکا بن رمی، و هو شعب من شعوب الفرس، خرجوا إلی الشام و معهم الخیل و الغنم و الإبل و القسیّ و النشاب و السیوف و المواشی، و منهم السمرة الذین تفرّقوا فی البلاد. و یقال أن سلیمان بن داود لما مات افترق ملک بنی إسرائیل من بعده، فصار رحبعم بن سلیمان علی سبط یهودا بالقدس، و ملک یربعم بن نیاط علی عشرة أسباط من بنی إسرائیل، و سکن خارجا عن القدس، و اتخذ عجلین دعا الأسباط العشرة إلی عبادتهما من دون اللّه إلی أن مات، فولیّ ملک بنی إسرائیل من بعده عدّة ملوک علی مثل طریقته فی الکفر بالله و عبادة الأوثان، إلی أن ملکهم عمری بن نوذب من سبط منشا بن یوسف، فاشتری مکانا من رجل اسمه شامر بقنطار فضة، و بنی فیه قصرا و سماه باسم اشتقه من اسم شامر الذی اشتری منه المکان، و صیر حول هذا القصر مدینة و سماها مدینة شمرون، و جعلها کرسیّ ملکه إلی أن مات، فاتخذها ملوک بنی إسرائیل من بعده مدینة للملک، و ما زالوا فیها إلی أن ولی هو شاع بن إیلا، و هم علی الکفر بالله، و عبادة وثن بعل و غیره من الأوثان، مع قتل الأنبیاء، إلی أن سلط اللّه علیهم سنجاریب ملک الموصل، فحاصرهم بمدینة شمرون ثلاث سنین، و أخذ هو شاع أسیرا و جلاه و معه جمیع من فی شمرون من بنی إسرائیل، و أنزلهم بهراه و بلخ و نهاوند و حلوان، فانقطع من حینئذ ملک بنی إسرائیل من مدینة شمرون بعد ما ملکوا من بعد سلیمان علیه السلام مدّة مائتی سنة و إحدی و خمسین سنة، ثم إن سنجاریب ملک الموصل نقل إلی شمرون کثیرا من أهل کوشا و بابل و حماه، و أنزلهم فیها لیعمروها، فبعثوا إلیه یشکون من کثرة هجوم الوحش علیهم یشمرون، فسیر إلیهم من علمهم التوراة، فتعلموها علی غیر ما یجب، و صاروا یقرءونها ناقصة أربعة أحرف، الألف و الهاء و الخاء و العین، فلا ینطقون بشی‌ء من هذه الأحرف فی قراءتهم التوراة، و عرفوا بین الأمم بالسامرة لسکناهم بمدینة شمرون.
و شمرون هذه هی مدینة نابلس، و قیل لها سمرون بسین مهملة، و لسکانها سامرة، و یقال معنی السمرة حفظة و نواطیر، فلم تزل السمرة بنابلس إلی أن غزا بخت نصر القدس و أجلی الیهود منه إلی بابل، ثم عادوا بعد سبعین سنة و عمروا البیت ثانیا إلی أن قام الإسکندر من بلاد الیونان، و خرج یرید غزو الفرس، فمرّ علی القدس و خرج منه یرید عمان، فاجتاز علی نابلس و خرج إلیه کبیر السمرة بها، و هو سنبلاط السامریّ، فأنزله و صنع له و لقوّاده و عظماء أصحابه صنیعا عظیما، و حمل إلیه أموالا جمة و هدایا جلیلة، و استأذنه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 384
فی بناء هیکل للّه علی الجبل الذی یسمی عندهم طوربریک، فأذن له و سار عنه إلی محاربة دارا ملک الفرس، فبنی سنبلاط هیکلا شبیها بهیکل القدس، لیستمیل به الیهود، و موّه علیهم بأن طوربریک هو الموضع الذی اختاره اللّه تعالی و ذکره فی التوراة بقوله فیها: اجعل البرکة علی طوربریک، و کان سنبلاط قد زوّج ابنته بکاهن من کهان بیت المقدس یقال له منشا، فمقت الیهود منشا علی ذلک، و أبعدوه و حطوه عن مرتبته عقوبة له علی مصاهرة سنبلاط، فأقام سنبلاط منشا زوج ابنته کاهنا فی هیکل طوربریک، و آتته طوائف من الیهود و ضلوا به، و صاروا یحجون إلی هیکله فی الأعیاد، و یقرّبون قرا بینهم إلیه، و یحملون إلیه نذورهم و أعشارهم، و ترکوا قدس اللّه و عدلوا عنه فکثرت الأموال فی هذا الهیکل، و صار ضدّ البیت المقدس، و استغنی کهنته و خدّامه و عظم أمر منشا و کبرت حالته. فلم تزل هذه الطائفة تحج إلی طور بریک حتی کان زمن هور قانوس بن شمعون الکوهن، من بنی حثمتای فی بیت المقدس، فسار إلی بلاد السمرة و نزل علی مدینة نابلس و حصرها مدّة و أخذها عنوة، و خرّب هیکل طور بریک إلی أساسه، و کانت مدّة عمارته مائتی سنة، و قتل من کان هناک من الکهنة، فلم تزل السمرة بعد ذلک إلی یومنا هذا تستقبل فی صلاتها حیثما کانت من الأرض طور بریک بجبل نابلس، و لهم عبادات تخالف ما علیه الیهود، و لهم کنائس فی کل بلد تخصهم، و السمرة ینکرون نبوّة داود و من تلاه من الأنبیاء، و أبوا أن یکون بعد موسی علیه السلام نبیّ و جعلوا رؤساءهم من ولد هارون علیه السلام، و أکثرهم یسکن فی مدنیة نابلس، و هم کثیر فی مدائن الشام، و یذکر أنهم الذین یقولون لا مساس، و یزعمون أن نابلس هی بیت المقدس، و هی مدینة یعقوب علیه السلام، و هناک مراعیه.
و ذکر المسعودیّ أن السمرة صنفان متباینان، أحدهما یقال له الکوشان، و الآخر الروشان، أحد الصنفین یقول بقدم العالم. و السامرة تزعم أن التوراة التی فی أیدی الیهود لیست التوراة التی أوردها موسی علیه السلام و یقولون توراة موسی حرّفت و غیّرت و بدّلت، و أن التوراة هی ما بأیدیهم دون غیرهم. و ذکر أبو الریحان محمد بن أحمد البیروتیّ أنّ السامرة تعرف بالأمساسیة. قال: و هم الأبدال الذین بدّلهم بخت نصر بالشام حین أسر الیهود و أجلاها، و کانت السامرة أعانوه و دلوه علی عورات بنی إسرائیل، فلم یحربهم و لم یقتلهم و لم یسبهم و أنزلهم فلسطین من تحت یده، و مذاهبهم ممتزجة من الیهودیة و المجوسیة، و عامّتهم یکونون بموضع من فلسطین یسمی نابلس، و بها کنائسهم، و لا یدخلون حدّ بیت المقدس منذ أیام داود النبی علیه السلام، لأنهم یدّعون إنه ظلم و اعتدی و حوّل الهیکل المقدّس من نابلس إلی إیلیا، و هو بیت المقدس، و لا یمسون الناس، و إذا مسوهم اغتسلوا، و لا یقرّون بنبوّة من کان بعد موسی علیه السلام من أنبیاء بنی إسرائیل.
و فی شرح الإنجیل: إنّ الیهود انقسمت بعد أیام داود إلی سبع فرق.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 385
الکتاب: و کانوا یحافظون علی العادات التی أجمع علیها المشایخ مما لیس فی التوراة.
و المعتزلة: و هم الفریسیون، و کانوا یظهرون الزهد و یصومون یومین فی الأسبوع، و یخرجون العشر من أموالهم، و یجعلون خیوط القرمز فی رؤس ثیابهم، و یغسلون جمیع أوانیهم، و یبالغون فی إظهار النظافة.
و الزنادقة: و هم من جنس السامرة، و هم من الصدوفیة، فیکفرون بالملائکة و البعث بعد الموت و بجمیع الأنبیاء ما خلا موسی فقط، فإنهم یقرّون بنبوّته.
و المتظهرون: و کانوا یغتسلون کلّ یوم و یقولون لا یستحق حیاة الأبد إلّا من یتطهر کلّ یوم.
و الإسابیون: و معناه الغلاظ الطباع، و کانوا یوجبون جمیع الأوامر الإلهیة، و ینکرون جمیع الأنبیاء سوی موسی علیه السلام، و یتعبدون بکتب غیر الأنبیاء.
و المتقشفون: و کانوا یمنعون أکثر المآکل و خاصة اللحم، و یمنعون من التزوّج بحسب الطاقة، و یقولون بأن التوراة لیست کلها لموسی، و یتمسکون بصحف منسوبة إلی أخنوخ و إبراهیم علیه السلام، و ینظرون فی علم النجوم و یعملون بها.
و الهیرذوسیون: سموا أنفسهم بذلک لموالاتهم هیرذوس ملکهم، و کانوا یتبعون التوراة و یعملون بما فیها انتهی.
و ذکر یوسف بن کریون فی تاریخه أن الیهود کانوا فی زمن ملکهم هور قانوس، یعنی فی زمن بناء البیت بعد عودهم من الجلایة ثلاث فرق: الفروشیم: و معناه المعتزلة، و مذهبهم القول بما فی التوراة و ما فسره الحکماء من سلفهم. و الصدوفیة: أصحاب رجل من العلماء یقال له صدوف، و مذهبهم القول بنص التوراة و ما دلت علیه دون غیره.
و الجسدیم و معناه الصلحاء، و هم المشتغلون بالعبادة و النسک، الآخذون فی کل أمر بالأفضل و الأسلم فی الدین انتهی. و هذه الفرقة هی أصل فرقتی الربانیین و القرّاء.
فصل: زعم بعضهم أن الیهود عانانیة و شمعونیة، نسبة إلی شمعون الصدّیق، ولی القدس عند قدوم أبی الإسکندر، و جالوتیة و فیومیة و سامریة و عکبریة و أصبهانیة و عراقیة و مغاربة و شرشتانیة و فلسطینیة و مالکیة و ربانیة. فالعانانیة تقول بالتوحید و العدل و نفی التشبیه، و الشمعونیة تشبه، و تبالغ الجالوتیة فی التشبیه، و أما الفیومیة فإنها تنسب إلی أبی سعید الفیومیّ، و هم یفسرون التوراة علی الحروف المقطعة. و السامریة ینکرون کثیرا من شرائعهم و لا یقرّون بنبوّة من جاء بعد یوشع، و العکبریة أصحاب أبی موسی البغدادیّ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 386
العبکریّ، و إسماعیل العکبریّ، یخالفون أشیاء من السبت و تفسیر التوراة، و الأصبهانیة أصحاب أبی عیسی الأصبهانی، و ادّعی النبوّة و أنه عرج به إلی السماء فمسح الرب علی رأسه، و إنه رأی محمدا صلّی اللّه علیه و سلّم فآمن به، و یزعم یهود أصبهان أنه الدجال، و أنه یخرج من ناحیتهم، و العراقیة تخالف الخراسانیة فی أوقات أعیادهم و مدد أیامهم، و الشرشتانیة أصحاب شرشتان، زعم أنه ذهب من التوراة ثمانون سوقة، أی آیة، و ادّعی أن للتوراة تأویلا باطنا مخالفا للظاهر، و أما یهود فلسطین فزعموا أن العزیر ابن اللّه تعالی، و أنکر أکثر الیهود هذا القول، و المالکیة تزعم أن اللّه تعالی لا یحیی یوم القیامة من الموتی إلّا من احتج علیه بالرسل و الکتب، و مالک هذا هو تلمیذ عانان. و الربانیة تزعم أن الحائض إذا مست ثوبا بین ثیاب وجب غسل جمیعها، و العراقیة تعمل رؤس الشهور بالأهلة، و آخرون بالحساب یعملون و اللّه أعلم.
فصل: و هم یوجبون الإیمان بالله وحده و بموسی علیه السلام و بالتوراة، و لا بدّ لهم من درسها و تعلمها، و یغتسلون و یتوضؤون و لا یمسحون رؤوسهم فی وضوئهم، و یبدؤون بالرجل الیسری، و فی شی‌ء منه خلاف بینهم، و عانان یری أن الاستنجاء قبل الوضوء، و یری أشمعث أن الاستنجاء بعد الوضوء، و لا یتوضؤون بما تغیر لونه أو طعمه أو ریحه، و لا یجیزون الطهارة من غدیر ما لم یکن عشرة أذرع فی مثلها، و النوم قاعدا لا ینقض الوضوء عندهم ما لم یضع جنبه الأرض، إلّا العانانیة فإن مطلق النوم عندهم ینقض، و من أحدث فی صلاته من قی‌ء أو رعاف أو ریح انصرف و توضأ و بنی علی صلاته، و لا تجوز صلاة الرجل فی أقلّ من ثلاثة أثواب، قمیص و سراویل و ملاءة یتردّی بها، فإن لم یجد الملاءة صلّی جالسا، فإن لم یجد القمیص و السراویل صلّی بقلبه، و لا تجوز صلاة المرأة فی أقل من أربعة أثواب، و علیهم فریضة ثلاث صلوات فی الیوم و اللیلة، عند الصبح و بعد الزوال إلی غروب الشمس و وقت العتمة إلی ثلث اللیل، و یسجدون فی دبر کل صلاة سجدة طویلة، و فی یوم السبت و أیام الأعیاد یزیدون خمس صلوات علی تلک الثلاث. و لهم خمسة أعیاد:
عید الفطر: و هو الخامس عشر من نیسن، یقیمون سبعة أیام لا یأکلون سوی الفطیر، و هی الأیام التی تخلصوا فیها من فرعون و أغرقه اللّه.
و عید الأسابیع: بعد الفطیر بسبعة أسابیع، و هو الیوم الذی کلم اللّه تعالی فیه بنی إسرائیل من طور سیناء.
وعید رأس الشهر: و هو أوّل تشری، و هو الذی فدی فیه إسحاق علیه السلام من الذبح، و یسمونه عید رأس هشایا، أی رأس الشهر. و عید صوماریا: یعنی الصوم العظیم.
و عید المظلة: یستظلون سبعة أیام بقضبان الآس و الخلاف. و یجب علیهم الحج فی کل سنة ثلاث مرّات لما کان الهیکل عامرا، و یوجبون صوم أربعة أیام. أوّلها: سابع عشر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 387
تموز من الغروب إلی الغروب، و عند العانانیة هو الیوم الذی أخذ فیه بخت نصر البیت.
و الثانی: عشر آب. و الثالث: عاشر کانون الأول. و الرابع: ثالث عشر آذار. و یتشدّدون فی أمر الحائض بحیث یعتزلونها و ثیابها و أوانیها و ما مسته من شی‌ء فإنه ینجّس و یجب غسله، فإن مست لحم القربان أحرق بالنار، و من مسها أو شیئا من ثیابها وجب علیه الغسل، و ما عجنته أو خبزته أو طبخته أو غسلته فکله نجس حرام علی الطاهرین حلّ للحیض، و من غسل میتا نجس سبعة أیام لا یصلی فیها، و هم یغسلون موتاهم و لا یصلون علیهم، و یوجبون إخراج العشر من جمیع ما یملک، و لا یجب حتی یبلغ وزنه أو عدده مائة، و لا یخرج العشر إلّا مرّة واحدة، ثم لا یعاد إخراجه، و لا یصح النکاح عندهم إلّا بولیّ و خطبة و ثلاثة شهود و مهر مائتی درهم للبکر، و مائة للثیب لا أقل من ذلک، و یحضر عند عقد النکاح کأس خمر وباقة مرسین، فیأخذ الإمام الکأس و یبارک علیه و یخطب خطبة النکاح ثم یدفعه إلی الختن و یقول: قد تزوّجت فلانة بهذه الفضة أو بهذا الذهب و هو خاتم فی یده، و بهذا الکأس من الخمر، و بمهر کذا، و یشرب جرعة من الخمر، ثم ینهضون إلی المرأة و یأمرونها أن تأخذ الخاتم و المرسلین و الکأس من ید الختن، فإذا أخذت و شربت جرعة وجب عقد النکاح، و یضمن أولیاء المرأة البکارة، فإذا زفت إلیه وکّل الولیّ من یقف بباب الخلوة و قد فرشت ثیاب بیض حتی یشاهد الوکیل الدم، فإن لم توجد بکرا رجمت، و لا یجوز عندهم نکاح الإماء حتی یعتقن، ثم ینکحن، و العبد یعتق بعد خدمته لسنین معلومة، و هی ست سنین، و منهم من یجوّز بیع صغار أولاده إذا احتاج، و لا یجوّزون الطلاق إلا بفاحشة أو سحر أو رجوع عن الدین، و علی من طلق خمسة و عشرون درهما للبکر، و نصف ذلک للثیب، و ینزل فی کتابها طلاقها بعد أن یقول الزوج أنت طالق منی مائة مرّة، و مختلعة منی، و فی سعة أن تتزوّجی من شئت، و لا یقع طلاق الحامل أبدا، نعم، إلّا أن یجوّزوه و یراجع الرجل امرأته ما لم تتزوج، فإن تزوّجت حرّمت علیه إلی الأبد. و الخیار بین المتبایعین ما لم ینقل المبیع إلی البائع. و الحدود عندهم علی خمسة أوجه، حرق و رجم و قتل و تعزیر و تغریم، فالحرق علی من زنی بأمّ امرأته أو ربیبته أو بامرأة أبیه أو امرأة ابنه، و القتل علی من قتل. و الرجم علی المحصن إذا زنی أو لاط، و علی المرأة إذا مکنت من نفسها بهیمة. و التعزیر علی من قذف، و التغریم علی من سرق، و یرون أن البینة علی المدّعی، و الیمین علی من أنکر.
و عندهم أنّ من أتی بشی‌ء من سبعة و ثلاثین عملا فی یوم السبت أو لیلته استحق القتل و هی: کرب الأرض، و زرعها، و حصاد الزرع، و سیاقة الماء إلی الزرع، و حلب اللبن، و کسر الحطب، و إشعال النار، و عجن العجین، و خبزه، و خیاطة الثوب، و غسله، و نسج
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 388
سلکین، و کتابة حرفین أو نحوهما، و أخذ الصید، و ذبح الحیوان، و الخروج من القریة، و الانتقال من بیت إلی آخر، و البیع، و الشراء، و الدق، و الطحن، و الاحتطاب، و قطع الخبز، و دق اللحم، و إصلاح النعل إذا انقطعت، و خلط علف الدابة، و لا یجوز للکاتب أن یخرج یوم السبت من منزله و معه قلمه، و لا الخیاط و معه إبرته، و کل من عمل شیئا استحق به القتل فلم یسلم نفسه فهو ملعون .

ذکر قبط مصر و دیاناتهم القدیمة، و کیف تنصروا ثم صاروا ذمّة للمسلمین، و ما کان لهم فی ذلک من القصص و الأنباء، و ذکر الخبر عن کنائسهم و دیاراتهم، و کیف کان ابتداؤها و مصیر أمرها

اشارة

اعلم أن جمیع أهل الشرائع اتباع الأنبیاء علیهم السلام من المسلمین و الیهود و النصاری قد أجمعوا علی أن نوحا علیه السلام هو الأب الثانی للبشر، و أن العقب من آدم علیه السلام انحصر فیه، و منه ذرأ اللّه تعالی جمیع أولاد آدم، فلیس أحد من بنی آدم إلّا و هو من أولاد نوح، و خالفت القبط و المجوس و أهل الهند و الصین ذلک، فأنکروا الطوفان و زعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث فی إقلیم بابل و ما وراءه من البلاد الغربیة فقط، و أن أولاد کیومرت الذی هو عندهم الإنسان الأوّل کانوا بالبلاد الشرقیة من بابل، فلم یصل الطوفان إلیهم و لا إلی الهند و الصین. و الحق ما علیه أهل الشرائع، و أن نوحا علیه السلام لما أنجاه اللّه و من معه بالسفینة نزل بهم و هم ثمانون رجلا سوی أولاده، فماتوا بعد ذلک و لم یعقبوا، و صار العقب من نوح فی أولاده الثلاثة، و یؤید هذا قول اللّه تعالی عن نوح:
وَ جَعَلْنا ذُرِّیَّتَهُ هُمُ الْباقِینَ [الصافات/ 77] و کان من خبر ذلک أن أولاد نوح الثلاثة، و هم سام و حام و یافث اقتسموا الأرض. فصار لبنی سام بن نوح أرض العراق و فارس إلی الهند، ثم إلی حضرموت و عمان و البحرین. و عالج و یبرین و وبار و الدو والد هنا و جمیع أرض الیمن و أرض الحجاز.
و صار لبنی حام بن نوح جنوب الأرض مما یلی أرض مصر مغربا إلی بلاد المغرب الأقصی.
و صار لبنی یافث بن نوح بحر الخزر مشرقا إلی الصین.
فکان من ذریة سام بن نوح القضاعیون و الفرس و السریانیون و العبرانیون و العرب المستعربة و النبط و عاد و ثمود و الأمورانیون و العمالیق و أمم الهند و أهل السند و عدّة أمم قد بادت.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 389
و کانت ذریة حام بن نوح من أربعة أولاده الذین هم: کوش و مصرایم و قفط و کنعان، فمن کوش الحبشة و الزنج، و من مصرایم قبط مصر و النوبة، و من قفط الأفارقة أهل إفریقیة و من جاورهم إلی المغرب الأقصی، و من کنعان أمم کانت بالشام حاربهم موسی بن عمران علیه السلام و قومه من بنی إسرائیل، و منهم أجناس عدیدة من البربر درجوا. و کانت مساکن بنی حام من صیدا إلی أرض مصر، ثم إلی آخر إفریقیة نحو البحر المحیط، و انتشروا فیما بین ذلک إلی الجنوب و هم ثلاثون جنسا.
و کان من ذریة یافث بن نوح: الصقلب و الفرنجة و الغاللیون من قبائل الروم و الغوط و أهل الصین و قوم عرفوا بالمادنیین و الیونانیون و الروم الفریقیون و قبائل الأتراک و یأجوج و مأجوج و أهل قبرس و ردوس، و عدّة بنی یافث خمسة عشر جنسا، سکنوا القطر الشمالیّ إلی البحر المحیط، فضاقت بهم بلادهم و لم تسعهم لکثرتهم، فخرجوا منها و تغلبوا علی کثیر من بلاد بنی سام بن نوح.
و ذکر الأستاذ إبراهیم بن وصیف شاه الکاتب، أنّ القبط تنسب إلی قبطیم بن مصرایم بن مصر بن حام بن نوح، و أن قبطیم أوّل من عمل العجائب بمصر و أثار بها المعادن و شق الأنهار لما ولی أرض مصر بعد أبیه مصرایم، و أنه لحق بلبلة الألسن، و خرج منها و هو یعرف اللغة القبطیة، و أنه ملک مدّة ثمانین سنة و مات، فاغتمّ لموته بنوه و أهله و دفنوه فی الجانب الشرقیّ من النیل بسرب تحت الجبل الکبیر، فقام من بعده فی ملک مصر ابنه قفطیم بن قبطیم، و زعم بعض النسابة أن مصر بن حام بن نوح، و یقال له مصرایم، و یقال بل مصریم بن هرمس بن هردوس جدّ الإسکندر، و قیل بل قفط بن حام بن نوح نکح بخت بنت یتاویل بن ترسل بن یافث بن نوح، فولدت له بوقیر، و قبط أبا قبط مصر. قال ابن إسحاق: و من هاهنا قالوا إن مصر بن حام بن نوح، و إنما هو مصر بن هرمس بن هردوس بن میطون بن رومی بن لیطی بن یونان، و به سمیت مصر، فهی مقدونیة، و قیل القبط من ولد قبط بن مصر بن قفط بن حام بن نوح، و بمصر هذا سمیت مصر.

ذکر دیانة القبط قبل تنصرهم

اعلم أن قبط مصر کانوا فی غابر الدهر أهل شرک بالله، یعبدون الکواکب و یقرّبون قرابینهم و یقیمون علی أسمائها التماثیل، کما هی أفعال الصابئة. و ذکر ابن وصیف شاه: أن عبادة الأصنام أوّل ما عرفت بمصر أیام قفطریم بن قبطیم بن مصرایم بن بیصر بن حام بن نوح، و ذلک أن إبلیس أثار الأصنام التی غرّقها الطوفان و زین للقبط عبادتها، و أن البودشیر بن قبطیم أوّل من تکهن و عمل بالسحر، و أن مناوش بن منقاوش أوّل من عبد البقر من أهل مصر. و ذکر الموفق أحمد بن أبی القاسم بن خلیفة المعروف بابن أبی أصیبعة أنه کان للقبط مذهب مشهور من مذاهب الصابئة، و لهم هیاکل علی أسماء الکواکب یحج إلیها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 390
الناس من أقطار الأرض، و کانت الحکماء و الفلاسفة ممن سواهم تتهافت علیهم و ترید التقرّب إلیهم، لما کان عندهم من علوم السحر و الطلسمات و الهندسة و النجوم و الطب و الحساب و الکیمیاء، و لهم فی ذلک أخبار کثیرة، و کانت لهم لغة یختصون بها، و کانت خطوطهم ثلاثة أصناف: خط العامّة، و خط الخاصة، و هو خط الکهنة المختصر، و خط الملوک. و قال ابن وصیف شاه: کانت کهنة مصر أعظم الکهان قدرا و أجلها علما بالکهانة، و کانت حکماء الیونانیین تصفهم بذلک و تشهد لهم به، فیقولون اختبرنا حکماء مصر بکذا و کذا، و کانوا ینحون بکهانتهم نحو الکواکب و یزعمون أنها هی التی تفیض علیهم العلوم و تخبرهم بالغیوب، و هی التی تعلمهم أسرار الطوالع و صفة الطلاسم، و تدلهم علی العلوم المکتومة و الأسماء الجلیلة المخزونة، فعملوا الطلسمات المشهورة و النوامیس الجلیلة، و ولدوا الأشکال الناطقة و صوّروا الصور المتحرّکة، و بنوا العالی من البنیان، و زبروا علومهم فی الحجارة، و عملوا من الطلسمات ما دفعوا به الأعداء عن بلادهم، فحکمهم باهرة، و عجائبهم ظاهرة، و کانت أرض مصر خمسا و ثمانین کورة منها: أسفل الأرض خمس و أربعون کورة، و منها بالصعید أربعون کورة، و کان فی کل کورة رئیس من الکهنة و هم السحرة، و کان الذی یتعبد منهم للکواکب السبعة السیارة سبع سنین یسمونه باهر، و الذی یتعبد منهم لها تسعا و أربعین سنة لکلّ کوکب سبع سنین یسمونه قاطر، و هذا یقوم له الملک إجلالا و یجلسه معه إلی جانبه، و لا یتصرّف إلّا برأیه، و تدخل الکهنة و معهم أصحاب الصنائع فیقفون حذاء القاطر، و کان کلّ کاهن منهم ینفرد بخدمة کوکب من الکواکب السبعة السیارة لا یتعدّاه إلی سواه، و یدعی بعبد ذلک الکوکب فیقال: عبد القمر، عبد عطارد، عبد الزهرة، عبد الشمس، عبد المریخ، عبد المشتری، عبد زحل. فإذا وقفوا جمیعا قال القاطر لأحدهم: أین صاحبک الیوم؟ فیقول فی برج کذا و درجة کذا و دقیقة کذا. ثم یقول للآخر کذلک، فیجیبه حتی یأتی علی جمیعهم، و یعرف أماکن الکواکب من فلک البروج ثم یقول للملک ینبغی أن تعمل الیوم کذا، أو تأکل کذا، أو تجامع فی وقت کذا، أو ترکب وقت کذا، إلی آخر ما یحتاج إلیه، و الکاتب قائم بین یدیه یکتب ما یقول، ثم یلتفت القاطر إلی أهل الصناعات و یخرجهم إلی دار الحکمة فیضعون أیدیهم فی الأعمال التی یصلح عملها فی ذلک الیوم، ثم یؤرخ ما جری فی ذلک الیوم فی صحیفة و تخزن فی خزائن الملک، و کان الملک إذا همه أمر جمع الکهان خارج مدینة منف، و قد اصطف الناس لهم بشارع المدینة، ثم یدخل الکهان رکبانا علی قدر مراتبهم و الطبل بین أیدیهم، و ما منهم إلّا من أظهر أعجوبة قد عملها، فمنهم من یعلو وجهه نور کهیئة نور الشمس لا یقدر أحد علی النظر إلیه، و منهم من علی بدنه جواهر مختلفة الألوان قد نسجت علی ثوب، و منهم من یتوشح بحیات عظیمة، و منهم من یعقد فوقه قبة من نور، إلی غیر ذلک من بدیع أعمالهم، و یصیرون کذلک إلی حضرة الملک فیخبرهم بما نزل به، فیجیلون رأیهم فیه حتی یتفقوا علی ما یصرفونه به،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 391
و هذا أعزک اللّه من خبرهم لما کان الملک فیهم، فلما استولت العمالیق علی ملک مصر و ملکتها الفراعنة، ثم تداولتها من بعدهم أجناس أخر، تناقصت علوم القبط شیئا بعد شی‌ء إلی أن تنصروا، فغادروا عوائد أهل الشرک، و اتبعوا ما أمروا به من دین النصرانیة، کما ستقف علیه تلو هذا إن شاء اللّه تعالی.

ذکر دخول قبط مصر فی دین النصرانیة

اعلم أن النصاری اتباع عیسی نبیّ اللّه ابن مریم علیه السلام، سموا نصاری، لأنهم ینتسبون إلی قریة الناصرة من جبل الجلیل، بالجیم، و یعرف هذا الجبل بجبل کنعان، و هو الآن فی زمننا من جملة معاملة صفد، و الأصل فی تسمیتهم نصاری: أنّ عیسی ابن مریم علیه السلام لما ولدته أمّه مریم ابنة عمران ببیت لحم خارج مدینة بیت المقدس، ثم سارت به إلی أرض مصر و سکنتها زمانا، ثم عادت به إلی أرض بنی إسرائیل قومها، نزلت قریة الناصرة، فنشأ عیسی بها و قیل له یسوع الناصریّ، فلما بعثه اللّه تعالی رسولا إلی بنی إسرائیل، و کان من شأنه ما ستراه، إلی أن رفعه اللّه إلیه، تفرّق الحواریون، و هم الذین آمنوا به، فی أقطار الأرض یدعون الناس إلی دینه، فنسبوا إلی ما نسب إلیه نبیهم عیسی ابن مریم، و قیل لهم الناصریة، ثم تلاعب العرب بهذه الکلمة و قالوا نصاری.
قال ابن سیده: و نصری و ناصرة و نصوریة: قریة بالشام، و النصاری منسوبون إلیها، هذا قول أهل اللغة، و هو ضعیف. إلّا أن نادر النسب یسیغه، و أما سیبویه فقال: أما النصاری فذهب الخلیل إلی أنه جمع نصری و نصران، کما قالوا ندمان و ندامی و لکنهم حذفوا إحدی الیائین کما حذفوا من أثقیة و أبدلوا مکانها ألفا. قال: و أما الذی نوجهه نحن علیه فإنه جاء علی نصران، لأنه قد تکلم به، فکأنک جمعت و قلت نصاری کما قلت ندامی، فهذا أقیس، و الأوّل مذهب، و إنما کان أقیس لأنا لم نسمعهم قالوا نصری، و التنصر الدخول فی دین النصرانیة، و نصره جعله کذلک، و الأنصر الأقلف، و هو من ذلک، لأنّ النصاری قلف، و فی شرح الإنجیل أن معنی قریة ناصرة الجدیدة، و النصرانیة التجدّد، و النصرانیّ المجدّد، و قیل نسبوا إلی نصران، و هو من أبنیة المبالغة، و معناه أن هذا الدین فی غیر عصابة صاحبه، فهو دین من ینصره من أتباعه. و إذا تقرّر هذا فاعلم «أنّ المسیح روح اللّه و کلمته ألقاها إلی مریم» (عیسی) و أصل اسمه بالعبرانیة التی هی لغة أمّه و آبائها إنما هو یاشوع، و سمته النصاری یسوع، و سماه اللّه تعالی و هو أصدق القائلین عیسی، و معنی یسوع فی اللغة السریانیة المخلّص، قاله فی شرح الإنجیل، و نعته بالمسیح، و هو الصدّیق، و قیل لأنه کان لا یمسح بیده صاحب عاهة إلّا برأ، و قیل لأنه کان یمسح رؤوس الیتامی، و قیل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 392
لأنه خرج من بطن أمّه ممسوحا بالدهن، و قیل لأن جبریل علیه السلام مسحه بجناحه عند ولادته صونا له من مس الشیطان، و قیل المسیح اسم مشتق من المسح، أی الدهن، لأنّ روح القدس قام بجسد عیسی مقام الدهن الذی کان عند بنی إسرائیل یمسح به الملک، و یمسح به الکهنوت، و قیل لأنه مسح بالبرکة، و قیل لأنه أمسح الرجلین، لیس لرجلیه أخمص، و قیل لأنه یمسح الأرض بسیاحته، لا یستوطن مکانا، و قیل هی کلمة عبرانیة أصلها ماسیح، فتلاعبت بها العرب و قالت مسیح.
و کان من خبره علیه السلام أن مریم ابنة عمران بینما هی فی محرابها إذ بشرها اللّه تعالی بعیسی، فخرجت من بیت المقدس و قد اغتسلت من المحیض فتمثل لها الملک بشرا فی صورة یوسف بن یعقوب النجار أحد خدّام القدس، فنفخ فی جیبها فسرت النفخة إلی جوفها فحملت بعیسی کما تحمل النساء، بغیر ذکر، بل حلت نفخة الملک منها محل اللقاح، ثم وضعت بعد تسعة أشهر و قیل بل وضعت فی یوم حملها بقریة بیت لحم من عمل مدینة القدس فی یوم الأربعاء خامس عشری کانون الأوّل، و تاسع عشری کیهک سنة تسع عشرة و ثلاثمائة للإسکندر، فقدمت رسل ملک فارس فی طلبه و معهم هدیة لها فیها ذهب و مرّ و لبان، فطلبه هیرودس ملک الیهود بالقدس لیقتله، و قد أنذر به، فسارت أمه مریم به و عمره سنتان علی حمار و معها یوسف النجار حتی قدموا إلی أرض مصر فسکنوها مدّة أربع سنین، ثم عادوا، و عمر عیسی ست سنین، فنزلت به مریم قریة الناصرة من جبل الجلیل فاستوطنتها فنشأ بها عیسی حتی بلغ ثلاثین سنة، فسار هو و ابن خالته یحیی بن زکریا علیهما السلام إلی نهر الأردن، فاغتسل عیسی فیه فحلت علیه النبوّة، فمضی إلی البرّیة و أقام بها أربعین یوما لا یتناول طعاما و لا شرابا فأوحی اللّه إلیه بأن یدعو بنی إسرائیل إلی عبادة اللّه تعالی، فطاف القری و دعا الناس إلی اللّه تعالی، و أبرأ الأکمه و الأبرص و أحیی الموتی بإذن اللّه، و بکّت الیهود و أمرهم بالزهد فی الدنیا و التوبة من المعاصی، فآمن به الحواریون و کانوا قوما صیادین و قیل قصارین و قیل ملاحین و عددهم اثنا عشر رجلا و صدقوا بالإنجیل الذی أنزله اللّه تعالی علیه، و کذّبه عامّة الیهود و ضللوه و اتهموه بما هو بری‌ء منه، فکانت له و لهم عدّة مناظرات آلت بهم إلی أن اتفق أحبارهم علی قتله، و طرقوه لیلة الجمعة، فقیل أنه رفع عند ذلک، و قیل بل أخذوه و أتوا به إلی بلاطس النبطیّ شحنة القدس من قبل الملک طیباریوس قیصر، و راودوه علی قتله و هو یدفعهم عنه حتی غلبوه علی رأیه، بأن دینهم اقتضی قتله، فأمکنهم منه، و عندما أدنوه من الخشبة لیصلبوه رفعه اللّه إلیه، و ذلک فی الساعة السادسة من یوم الجمعة خامس عشر شهر نیسن، و تاسع عشری شهر برمهات، و خامس عشر شهر آذار، و سابع عشر شهر ذی القعدة، و له من العمر ثلاث
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 393
و ثلاثون سنة و ثلاثة أشهر، فصلبوا الذی شبه لهم، و صلبوا معه لصین و سمروهم بمسامیر الحدید، و اقتسم الجند ثیاب المصلوب، فغشیت الأرض ظلمة دامت ثلاث ساعات حتی صار النهار شبه اللیل و رؤیت النجوم، و کان مع ذلک هزة و زلزلة، ثم أنزل المصلوب عن الخشبة بکرة یوم السبت و دفن تحت صخرة فی قبر جدید، و وکل بالقبر من یحرسه لئلا یأخذ المقبور أصحابه، فزعم النصاری أن المقبور قام من قبره لیلة الأحد سحرا، و دخل عشیة ذلک الیوم علی الحواریین و حادثهم و وصاهم، ثم بعد الأربعین یوما من قیامه صعد إلی السماء و الحواریون یشاهدونه، فاجتمعوا بعد رفعه بعشرة أیام فی علیة صیون التی یقال لها الیوم صهیون خارج القدس، و ظهرت لهم خوارق، فتکلموا بجمیع الألسن فآمن بهم فیما یذکر زیادة علی ثلاثة آلاف إنسان . فأخذهم الیهود و حبسوهم، فظهرت کرامتهم و فتح اللّه لهم باب السجن لیلا ، فخرجوا إلی الهیکل و طفقوا یدعون الناس، فهمّ الیهود بقتلهم، و قد آمن بهم نحو الخمسة آلاف إنسان، فلم یتمکنوا من قتلهم، فتفرّق الحواریون فی أقطار الأرض یدعون إلی دین المسیح ، فسار بطرس رأس الحواریین و معه شمعون الصفا إلی أنطاکیة و رومیة، فاستجاب لهم بشر کثیر، و قتل فی خامس أبیب، و هو عید القصریة. و سار أندراوس أخوه إلی نیقیة و ما حولها، فآمن به کثیر، و مات فی بزنطیة فی رابع کیهک، و سار یعقوب بن زبدی أخو یوحنا الإنجیلیّ إلی بلد ابدینیة، فتبعه جماعة و قتل فی سابع عشر برمودة، و سار یوحنا الإنجیلیّ إلی آسیا و أفسیس و کتب انجیله بالیونانیّ بعد ما کتب متی و مرقص و لوقا أناجیلهم، فوجدهم قد قصروا فی أمور فتکلم علیها، و کان ذلک بعد رفع المسیح بثلاثین سنة، و کتب ثلاث رسائل و مات، و قد أناف علی مائة سنة، و سار فیلبس إلی قیساریة و ما حولها و قتل بها فی ثامن هاتور، و قد اتبعه جماعات من الناس.
و سار برتولوماوس إلی أرمینیة و بلاد البربر و واحات مصر، فآمن به کثیر، و قتل و سار توما إلی الهند فقتل هناک. و سار متی العشار إلی فلسطین و صور و صیدا و مدینة بصری و کتب إنجیله بالعبرانیّ بعد رفع المسیح بتسع سنین، و نقله یوحنا إلی اللغة الرومیة، و قتل متی بقرطاجنة فی ثامن عشر بابه بعد ما استجاب له بشر کثیر. و سار یعقوب بن حلفا إلی بلاد الهند و رجع إلی القدس و قتل فی عاشر امشیر. و سار یهوذا بن یعقوب من أنطاکیة إلی الجزیرة فآمن به کثیر من الناس و مات فی ثانی أبیب. و سار شمعون إلی سمیساط و حلب و منبج و بزنطیة و قتل فی سابع أبیب. و سارمیتاس إلی بلاد الشرق و قتل فی ثامن عشر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 394
برمهات. و سار بولص الطرسوسیّ إلی دمشق و بلاد الروم و رومیة فقتل فی خامس أبیب.
و تفرّق أیضا سبعون رسولا أخر فی البلاد، فآمن بهم الخلائق، و من هؤلاء السبعین:
مرقص الإنجیلیّ، و کان اسمه أوّلا یوحنا، فعرف ثلاثة ألسن، الفرنجیّ و العبرانیّ و الیونانیّ، و مضی إلی بطرس برومیة و صحبه و کتب الإنجیل عنده بالفرنجیة بعد رفع المسیح باثنتی عشرة سنة، و دعا الناس برومیة و مصر و الحبشة و النوبة، و أقام حنانیا أسقفا علی الإسکندریة، و خرج إلی برقة فکثرت النصاری فی أیامه، و قتل فی ثانی عید الفسح بالإسکندریة. و من السبعین أیضا لوقا الإنجیلیّ الطبیب، تلمیذ بولص، کتب الإنجیل بالیونانیة عن بولص بالإسکندریة بعد رفع المسیح بعشرین سنة، و قیل باثنتین و عشرین سنة، و لما فرّ بطرس رأس الحواریین من حبس رومیة و نزل بأنطاکیة أقام بها داریوس بطرکا، و أنطاکیة أحد الکراسی الأربعة التی للنصاری و هی: رومیة و الإسکندریة و القدس و أنطاکیة، فأقام داریوس بطرک أنطاکیة سبعا و عشرین سنة و هو أوّل بطارکتها، و توارث من بعده البطارکة بها البطرکیة واحدا بعد واحد. و دعا شمعون الصفا برومیة خمسا و عشرین سنة، فآمنت به بطرکیة و سارت إلی القدس، و کشفت عن خشبات الصلیب و سلمتها إلی یعقوب بن یوسف الأسقف و بنت هناک کنیسة و عادت إلی رومیة، و قد اشتدّت علی دین النصرانیة، فآمن معها عدّة من أهلها. و اجتمع الرسل بمدینة رومیة و وضعوا القوانین و أرسلوها علی ید قلیموس تلمیذ بطرس، فکتبوا فیها عدد الکتب التی یجب قبولها من العتیقة و الجدیدة، فأمّا العتیقة فالتوراة، و کتاب یوشع بن نون، و کتاب القضاة، و کتاب راغون، و کتاب یهودیت، و سیر الملوک، و سفر بنیامین، و کتب المقانین، و کتاب عزرة، و کتاب أستیر، و قصة هامان، و کتاب أیوب، و کتاب مزامیر داود، و کتب سلیمان بن داود، و کتب الأنبیاء و هی ستة عشر کتابا، و کتاب یوشع بن شیراخ، و أما الکتب الحدیثة:
فالأناجیل الأربعة، و کتاب القلیتلیقون، و کتاب بولص، و کتاب الأبرکسیس، و هو قصص الحواریین، و کتاب قلیموس، و فیه ما أمر به الحواریون و ما نهوا عنه.
و لما قتل الملک نیرون قیصر بطرس رأس الحواریین برومیة، أقیم من بعده أریوس بطرک رومیة، و هو أوّل بطرک صار علی رومیة، فأقام فی البطرکیة اثنتی عشرة سنة، و قام من بعده البطارکة بها واحدا بعد واحد إلی یومنا هذا الذی نحن فیه.
و لما قتل یعقوب اسقف القدس علی ید الیهود، هدموا بعده البیعة و أخذوا خشبة الصلیب و الخشبتین معها و دفنوها و ألقوا علی موضعها ترابا کثیرا، فصار کوما عظیما حتی أخرجتها هیلانة أم قسطنطین کما ستراه قریبا إن شاء اللّه تعالی. و أقیم بعد قتل یعقوب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 395
سمعان ابن عمه أسقف القدس، فمکث اثنتین و أربعین سنة أسقفا. و مات، فتداول الأساقفة بعده الأسقفیة بالقدس واحدا بعد آخر.
و لما أقام مرقص حناینا و یقال أناینو بطرک الإسکندریة، جعل معه اثنی عشر قسا و أمرهم إذا مات البطرک أن یجعلوا عوضه واحدا منهم، و یقیموا بدل ذلک القس واحدا من النصاری حتی لا یزالوا أبدا اثنی عشر قسا، فلم تزل البطارکة تعمل من القسوس إلی أن اجتمع ثلاثمائة و ثمانیة عشر کما ستراه إن شاء اللّه تعالی، و کان بطرک الإسکندریة یقال له البابا من عهد حنانیا هذا أوّل بطارکة الإسکندریة إلی أن أقیم دیمتریوس، و هو الحادی عشر من بطارکة الإسکندریة، و لم یکن بأرض مصر أساقفة، فنصب الأساقفة بها و کثروا، فغزاها فی بطرکیته هرقل، و صار الأساقفة یسمون البطرک الأب، و القسوس و سائر النصاری یسمون الأسقف الأب، و یجعلون لفظة البابا تختص ببطرک الإسکندریة، و معناها أبو الآباء، ثم انتقل هذا الاسم عن کرسی الإسکندریة إلی کرسی رومیة، من أجل أنه کرسی بطرس رأس الحواریین، فصار بطرک رومیة یقال له البابا، و استمرّ علی ذلک إلی زمننا الذی نحن فیه، و أقام أناینو و هو حناینا فی بطرکیة الإسکندریة اثنتین و عشرین سنة و مات فی عشری هاتور، سنة سبع و ثمانین لظهور المسیح، فأقیم بعده مینیو، فأقام اثنتی عشرة سنة و تسعة أشهر و مات، و فی أثناء ذلک ثار الیهود علی النصاری و أخرجوهم من القدس، فعبروا الأردن و سکنوا تلک الأماکن، فکان بعد هذا بقلیل خراب القدس و جلایة الیهود و قتلهم علی ید طیطش. و یقال طیطوس، بعد رفع المسیح بنحو أربع و أربعین سنة، فکثرت النصاری فی أیام بطرکیة مینیو و عاد کثیر منهم إلی مدینة القدس بعد تخریب طیطش لها و بنوا بها کنیسة و أقاموا علیها سمعان أسقفا، ثم أقیم بعد مینیو فی الإسکندریة فی البطرکیة کرتیانو، و فی أیام الملک اندیانوس قیصر أصاب النصاری منه بلاء کثیر، و قتل منهم جماعة کثیرة، و استعبد باقیهم، فنزل بهم بلاء لا یوصف فی العبودیة حتی رحمهم الوزراء و أکابر الروم و شفعوا فیهم، فمنّ علیهم قیصر و أعتقهم، و مات کرتیانو بطرک الإسکندریة فی حادی عشر برمودة بعد ما دبر الکرسیّ إحدی عشرة سنة، و کان حمید السیرة، فقدم بعده ایریمو، فأقام اثنتی عشرة سنة، و مات فی ثالث مسری، و اشتدّ الأمر علی النصاری فی أیام الملک أریدویانوس و قتل منهم خلائق لا یحصی عددهم، و قدم مصر فأفنی من بها من النصاری، و خرّب ما بنی فی مدینة القدس من کنیسة النصاری و منعهم من التردّد إلیها، و أنزل عوضهم بالقدس الیونانیین، و سمی القدس إیلیا، فلم یتجاسر نصرانی أن یدنو من القدس، و أقیم بعد موت إیریمو بطرک الإسکندریة بسطس، فأقام إحدی عشرة سنة، و مات فی ثانی عشر بؤنة، فخلف بعده أرمانیون فأقام عشر سنین و أربعة أشهر و مات فی عاشر بابة، فأقیم بعده موقیانو بطرک الإسکندریة تسع سنین و ستة أشهر و مات فی سادس طوبه، فقدم بعده علی الإسکندریة کلوتیانو فأقام أربع عشرة سنة و مات فی تاسع أبیب، و فی أیامه اشتدّ الملک أولیانوس قیصر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 396
علی النصاری و قتل منهم خلقا کثیرا، و قدّم علی کرسیّ الإسکندریة بعد کلوتیانو غرنبو بطرکا، فأقام اثنتی عشرة سنة و مات فی خامس أمشیر، و فی أیام بطرکیته اتفق رأی البطارکة بجمیع الأمصار علی حساب فصح النصاری و صومهم، و رتبوا کیف یستخرج، و وضعوا حساب الأبقطی، و به یستخرجون معرفة وقت صومهم و فصحهم، و استمرّ الأمر علی ما رتبوه فیما بعد، و کانوا قبل ذلک یصومون بعد الغطاس أربعین یوما کما صام المسیح علیه السلام، و یفطرون. و فی عید الفسح یعملون الفسح مع الیهود فنقل هؤلاء البطارکة الصوم و أوصلوه بعید الفسح، لأنّ عید الفسح کانت فیه قیامة المسیح من الأموات بزعمهم، و کان الحواریون قد أمروا أن لا یغیر عن وقته و أن یعملوه کلّ سنة فی ذلک الوقت، ثم أقیم بکرسی الإسکندریة بعد غرنبو فی البطرکیة بولیانوس، فأقام عشر سنین و مات فی ثامن برمهات، فاستخلف بعده دیمتریوس، فأقام بعده فی البطرکیة ثلاثا و ثلاثین سنة و مات، و کان فلاحا أمیّا و له زوجة ذکر عنه أنه لم یجامعها قط، و فی أیامه أثار الملک سوریانوس قیصر علی النصاری بلاء کبیرا فی جمیع مملکته، و قتل منهم خلقا کثیرا، و قدم مصر و قتل جمیع من فیها من النصاری و هدم کنائسهم، و بنی بالإسکندریة هکیلا لأصنامه، ثم أقیم بعده فی بطرکیة الإسکندریة بارکلا، فأقام ست عشرة سنة و مات فی ثامن کیهک، فلقی النصاری من الملک مکسیموس قیصر شدّة عظیمة، و قتل منهم خلقا کثیرا، فلما ملک فیلبش قیصر، أکرم النصاری و قدّم علی بطرکیة الإسکندریة دیوسیوس، فأقام تسع عشرة سنة و مات فی ثالث توت، و فی أیامه کان الراهب انطونیوس المصریّ، و هو أوّل من ابتدأ بلبس الصوف، و ابتدأ بعمارة الدیارات فی البراری، و أنزل بها الرهبان، و لقی النصاری من الملک داقیوس قیصر شدّة، فإنه أمرهم أن یسجدوا لأصنامه، فأبوا من السجود لها فقتلهم أبرح قتلة، و فرّ منه الفتیة أصحاب الکهف من مدینة أفسس و اختفوا فی مغارة فی جبل شرقیّ المدینة، و ناموا فضرب اللّه علی آذانهم فلم یزالوا نائمین ثلاثمائة سنین و ازدادوا تسعا، فقام من بعده بالإسکندریة مکسیموس و أقام بطرکا اثنتی عشرة سنة و مات فی رابع عشر برمودة، فأقیم بعده تؤوبا بطرکا مدّة سبع سنین و تسعة أشهر و مات، و کانت النصاری قبله تصلّی بالإسکندریة خفیة من الروم خوفا من القتل، فلاطف تؤوبا الروم و أهدی إلیهم تحفا جلیلة حتی بنی کنیسة مریم بالإسکندریة، فصلی بها النصاری جهرا، و اشتدّ الأمر علی النصاری فی أیام الملک طیباریوس قیصر، و قتل منهم خلقا کثیرا، فلما کانت أیام دقلطیانوس قیصر خالف علیه أهل مصر و الإسکندریة، فقتل منهم خلقا کثیرا، و کتب بغلق کنائس النصاری، و أمر بعبادة الأصنام، و قتل من امتنع منها، فارتدّ خلائق کثیرة جدّا، و أقام فی البطرکیة بعد تؤوبا بطرس، فأقام إحدی عشرة سنة و قتل فی الإسکندریة بالسیف، و قتل معه امرأته و ابنتاه لامتناعهم من السجود للأصنام، فقام بعده تلمیذه ارشلاوش، فأقام ستة أشهر و مات، و بدقلطیانوس هذا و قتله لنصاری مصر یؤرخ قبط مصر إلی یومنا هذا، کما قد ذکرناه فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 397
تاریخ القبط عند ذکر التواریخ من هذا الکتاب، فراجعه. ثم قام من بعده مکسیمانوس قیصر، فاشتدّ علی النصاری و قتل منهم خلقا کثیرا، حتی کانت القتلی منهم تحمل علی العجل و ترمی فی البحر، ثم قام بعد أرشلاوش فی بطرکیة الإسکندریة اسکندروس تلمیذ بطرس الشهید، فأقام ثلاثا و عشرین سنة و مات فی ثانی عشری برمودة، و فی بطرکیته کان مجمع النصاری بمدینة نیقیة، و فی أیامه کتب النصاری و غیرهم من أهل رومیة إلی قسطنطین، و کان علی مدینة بزنطیة یحثونه علی أن ینقذهم من جور مکسیمانوس، و شکوا إلیه عتوّه، فأجمع علی المسیر لذلک، و کانت أمّه هیلانی من أهل قری مدینة الرها قد تنصرت علی ید أسقف الرها، و تعلمت الکتب، فلما مرّ بقریتها قسطس صاحب شرطة دقلطیانوس رآها فأعجبته فتزوّجها و حملها إلی بزنطیة، مدینته، فولدت له قسطنطین، و کان جمیلا، فأنذر دقلطیانوس منجموه بأن هذا الغلام قسطنطین سیملک الروم و یبدّل دینهم، فأراد قتله، ففرّ منه إلی الرها و تعلم بها الحکمة الیونانیة حتی مات دقلطیانوس، فعاد إلی بزنطیة فسلمها له أبوه قسطس و مات، فقام بأمرها بعد أبیه إلی أن استدعاه أهل رومیة، فأخذ یدبر فی مسیره، فرأی فی منامه کواکب فی السماء علی هیئة الصلیب، و صوت من السماء یقول له احمل هذه العلامة تنتصر علی عدوّک، فقص رؤیاه علی أعوانه و عمل شکل الصلیب علی أعلامه و بنوده و سار لحرب مکسیمانوس برومیة، فبرز إلیه و حاربه فانتصر قسطنطین علیه و ملک رومیة و تحوّل منها فجعل دار ملکه قسطنطینیة، فکان هذا ابتداء رفع الصلیب و ظهوره فی الناس، فاتخذه النصاری من حینئذ و عظموه حتی عبدوه، و أکرم قسطنطین النصاری و دخل فی دینهم بمدینة نیقومدیا فی السنة الثانیة عشرة من ملکه علی الروم، و أمر ببناء الکنائس فی جمیع ممالکه و کسر الأصنام، و هدم بیوتها، و عمل المجمع بمدینة نیقیة، و سببه أن الإسکندروس بطرک الإسکندریة منع آریوس من دخول الکنیسة و حرمه لمقاتلته، و نقل عن بطرس الشهید بطرک إسکندریة أنه قال عن آریوس أنّ إیمانه فاسد، و کتب بذلک إلی جمیع البطارکة، فمضی آریوس إلی الملک قسطنطین و معه أسقفان، فاستغاثوا به و شکوا الإسکندروس فأمر بإحضاره من الإسکندریة، فحضر هو و آریوس و جمع له الأعیان من النصاری لیناظروه، فقال آریوس کان الأب إذ لم یکن الابن، ثم أحدث الابن فصار کلمة له، فهو محدث مخلوق فوّض إلیه الأب کلّ شی‌ء، فخلق الابن المسمی بالکلمة کلّ شی‌ء من السماوات و الأرض و ما فیهما، فکان هو الخالق بما أعطاه الأب، ثم إن تلک الکلمة تجسدت من مریم و روح القدس فصار ذلک مسیحا، فإذا المسیح معنیان کلمة و جسد، و هما جمیعا مخلوقان. فقال الإسکندروس أیما أوجب، عبادة من خلقنا أو عبادة من لم یخلقنا؟
فقال آریوس بل عبادة من خلقنا أوجب. فقال الإسکندروس: فإن کان الابن خلقنا کما وصفت و هو مخلوق فعبادته أوجب من عبادة الأب الذی لیس بمخلوق، بل تکون عبادة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 398
الخالق کفرا و عبادة المخلوق إیمانا، و هذا أقبح القبیح، فاستحسن الملک قسطنطین کلام اسکندروس و أمره أن یحرم آریوس فحرمه. و سأل اسکندروس الملک أن یحضر الأساقفة، فأمر بهم فأتوه من جمیع ممالکه، و اجتمعوا بعد ستة أشهر بمدینة نیقیة و عدّتهم ألفان و ثلاثمائة و أربعون أسقفا مختلفون فی المسیح، فمنهم من یقول الابن من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة أخری فلم تنقص الأولی بانفصال الثانیة عنها، و هذه مقالة سیلیوس الصعیدیّ و من تبعه، و منهم من قال إن مریم لم تحمل بالمسیح تسعة أشهر بل مرّ بأحشائها کمرور الماء بالمیزاب، و هذا قول إلیان و من تبعه، و منهم من قال المسیح بشر مخلوق و أن ابتداء الابن من مریم، ثم إنه اصطفی فصحبته النعمة الإلهیة بالمحبة و المشیئة، و لذلک سمی ابن اللّه تعالی عن ذلک، و مع ذلک فاللّه واحد قیوم و أنکر هؤلاء الکلمة و الروح فلم یؤمنوا بهما، و هذا قول بولص السمیساطیّ بطرک أنطاکیة و أصحابه، و منهم من قال الآلهة ثلاثة صالح و طالح و عدل بینهما، و هذا قول مرقیون و أتباعه، و منهم من قال المسیح و أمه إلهان من دون اللّه، و هذا قول المرائمة من فرق النصاری، و منهم من قال بل اللّه خلق الابن و هو الکلمة فی الأزل کما خلق الملائکة روحا طاهرة مقدّسة بسیطة مجرّدة عن المادّة، ثم خلق المسیح فی آخر الزمان من أحشاء مریم البتول الطاهرة، فاتحد الابن المخلوق فی الأزل بإنسان المسیح فصارا واحدا، و منهم من قال الابن مولود من الأب قبل کل الدهور، غیر مخلوق، و هو جوهر من جوهره، و نور من نوره، و أن الابن اتحد بالإنسان المأخوذ من مریم فصارا واحدا و هو المسیح، و هذا قول الثلاثمائة و ثمانیة عشر، فتحیر قسطنطین فی اختلافهم و کثر تعجبه من ذلک و أمر بهم فأنزلوا فی أماکن و أجری لهم الأرزاق و أمرهم أن یتناظروا حتی یتبین له صوابهم من خطأهم، فثبت الثلاثمائة و ثمانیة عشر علی قولهم المذکور و اختلف باقیهم فمال قسطنطین إلی قول الأکثر و أعرض عما سواه و أقبل علی الثلاثمائة و أمر لهم بکراسی و أجلسهم علیها، و دفع إلیهم سیفه و خاتمه، و بسط أیدیهم فی جمیع مملکته، فبارکوا علیه و وضعوا له کتاب قوانین الملوک و قوانین الکنیسة، و فیه ما یتعلق بالمحاکمات و المعاملات و المناکحات، و کتبوا بذلک إلی سائر الممالیک، و کان رئیس هذا المجمع الإسکندروس بطرک الإسکندریة، و اسطارس بطرک أنطاکیة، و مقاریوس أسقف القدس، و وجه سلطوس بطرک رومیة بقسیسین اتفقا معهم علی حرمان آریوس فحرموه و نفوه، و وضع الثلاثمائة و ثمانیة عشر الأمانة المشهورة عندهم، و أوجبوا أن یکون الصوم متصلا بعید الفسح علی ما رتبه البطارکة فی أیام الملک أورالیانوس قیصر کما تقدّم، و منعوا أن یکون للأسقف زوجة، و کان الأساقفة قبل ذلک إذا کان مع أحدهم زوجة لا یمنع منها إذا عمل أسقفا بخلاف البطرک، فإنه لا یکون له امرأة البتة، و انصرفوا من مجلس قسطنطین بکرامة جلیلة، و الإسکندروس هذا هو الذی کسر الصنم النحاس الذی کان فی هیکل زحل بالإسکندریة، و کانوا یعبدونه و یجعلون له عیدا فی ثانی عشر هتور، و یذبحون له الذبائح
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 399
الکثیرة، فأراد الإسکندروس کسر هذا الصنم فمنعه أهل الإسکندریة، فاحتال علیهم و تلطف فی حیلته إلی أن قرب العید، فجمع الناس و وعظهم و قبح عندهم عبادة الصنم و حثهم علی ترکه، و أن یعمل هذا العید لمیکائیل رئیس الملائکة الذی یشفع فیهم عند الإله، فإن ذلک خیر من عمل العید للصنم، فلا یتغیر عمل العید الذی جرت عادة أهل البلد بعمله، و لا تبطل ذبائحهم فیه، فرضی الناس بهذا و وافقوه علی کسر الصنم، فکسره و أحرقه و عمل بیته کنیسة علی اسم میکائیل، فلم تزل هذه الکنیسة بالإسکندریة إلی أن حرّقها جیوش الإمام المعز لدین اللّه أبی تمیم معدّ، لما قدموا فی سنة ثمان و خمسین و ثلاثمائة و استمرّ عید میکائیل عند النصاری بدیار مصر باقیا یعمل فی کلّ سنة.
و فی السنة الثانیة و العشرین من ملک قسطنطین سارت أمّه هیلانی إلی القدس و بنت به کنائس للنصاری، فدلها مقاریوس الأسقف علی الصلیب و عرّفها ما عملته الیهود، فعاقبت کهنة الیهود حتی دلوها علی الموضع، فحفرته فإذا قبر و ثلاث خشبات، زعموا أنهم لم یعرفوا الصلیب المطلوب من الثلاث خشبات إلّا بأن وضعت کل واحدة منها علی میت قد بلی، فقام حیا عندما وضعت علیه خشبة منها، فعملوا لذلک عیدا مدّة ثلاثة أیام عرف عندهم بعید الصلیب، و من حینئذ عبد النصاری الصلیب، و عملت له هیلانی غلافا من ذهب و بنت کنیسة القیامة التی تعرف الیوم بکنیسة قمامة، و أقامت مقاریوس الأسقف علی بناء بقیة الکنائس، و عادت إلی بلادها، فکانت مدّة ما بین ولادة المسیح و ظهور الصلیب ثلاثمائة و ثمان و عشرین سنة، ثم قام فی بطرکیة الإسکندریة بعد اسکندروس تلمیذه ایناسیوس الرسولیّ، فأقام ستا و أربعین سنة و مات بعد ما ابتلی بشدائد، و غاب عن کرسیه ثلاث مرّات، و فی أیامه جرت مناظرات طویلة مع أوسانیوس للأسقف آلت إلی ضربه و فراره، فإنه تعصب لآریوس و قال: إنه لم یقل إن المسیح خلق الأشیاء، و إنما قال به خلق کل شی‌ء لأنه کلمة اللّه التی بها خلق السماوات و الأراض، و إنما خلق اللّه تعالی جمیع الأشیاء بکلمته، فالأشیاء به کوّنت لا أنه کوّنها، و إنما الثلاثمائة و ثمانیة عشر تعدّوا علیه، و فی أیامه تنصر جماعة من الیهود و طعن بعضهم فی التوراة التی بأیدی الیهود، و أنهم نقصوا منها، و أن الصحیحة هی التی فسرها السبعون، فأمر قسطنطین الیهود بإحضارها، و عاقبهم علی ذلک حتی دلوه علی موضعها بمصر، فکتب بإحضارها فحملت إلیه، فإذا بینها و بین توراة الیهود نقص ألف و ثلاثمائة و تسع و ستین سنة، زعموا أنهم نقصوها من موالید من ذکر فیها لأجل المسیح، و فی أیامه بعثت هیلانی بمال عظیم إلی مدینة الرها فبنی به کنائسها العظیمة، و أمر قسطنطین بإخراج الیهود من القدس و ألزمهم بالدخول فی دین النصرانیة، و من امتنع منهم قتل، فتنصر کثیر منهم و امتنع أکثرهم فقتلوا، ثم امتحن من تنصر منهم بأن جمعهم یوم الفسح فی الکنیسة و أمرهم بأکل لحم الخنزیر، فأبی أکثرهم أن یأکل منه، فقتل منهم فی ذلک الیوم خلائق کثیرة جدّا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 400
و لما قام قسطنطین بن قسطنطین فی الملک بعد أبیه، غلبت مقالة آریوس علی القسطنطینیة و أنطاکیة و الإسکندریة، و صار أکثر أهل الإسکندریة و أرض مصر آریوسیین و منانیین، و استولوا علی ما بها من الکنائس، و مال الملک إلی رأیهم، و حمل الناس علیه، ثم رجع عنه و زعم ابریس أسقف القدس أنه ظهر من السماء علی القبر الذی بکنیسة القیامة شبه صلیب من نور فی یوم عید العنصرة، لعشرة أیام من شهر أیار فی الساعة الثالثة من النهار، حتی غلب نوره علی نور الشمس، و رآه جمیع أهل القدس عیانا، فأقام فوق القبر عدّة ساعات و الناس تشاهده، فآمن یومئذ من الیهود و غیرهم عدّة آلاف کثیرة. ثم لما ملک مولیهانوس ابن عم قسطنطین اشتدّت نکایته للنصاری و قتل منهم خلقا کثیرا، و منعهم من النظر فی شی‌ء من الکتب، و أخذ أوانی الکنائس و الدیارات، و نصب مائدة کبیرة علیها أطعمة مما ذبحه لأصنامه، و نادی من أراد المال فلیضع البخور علی النار، و لیأکل من ذبائح الحنفاء، و یأخذ ما یرید من المال، فامتنع کثیر من الروم و قالوا نحن نصاری، فقتل منهم خلائق و محا الصلیب من أعلامه و بنوده، و فی أیامه سکن القدّیس أریانوس برّیة الأردن و بنی بها الدیارات، و هو أوّل من سکن برّیة الأردن من النصاری. فلما ملک یوسیانوس علی الروم و کان متنصرا، عاد کل من کان فرّ من الأساقفة إلی کرسیه، و کتب إلی أبناسیوس بطرک الإسکندریة أن یشرح له الأمانة المستقیمة، فجمع الأساقفة و کتبوا له أن یلزم أمانة الثلاثمائة و ثمانیة عشر. فثار أهل الإسکندریة علی إیناسیوس لیقتلوه، ففرّ. و أقاموا بدله لوقیوس، و کان آریوسیا، فاجتمع مع الأساقفة بعد خمسة أشهر و حرموه و نفوه، و أعادوا ایناسیوس إلی کرسیه، فأقام بطرکا إلی أن مات، فخلفه بطرس ثم وثب الآریسیون علیه بعد سنتین ففرّ منهم و أعادوا لوقیوس، فأقام بطرکا ثلاث سنین، و وثب علیه أعداؤه ففرّ منهم، فردّوا بطرس فی العشرین من أمشیر، فأقام سنة. و قدم فی أیام والیس ملک الروم آریوس أسقف أنطاکیة إلی الإسکندریة بإذن الملک، و أخرج منها جماعة من الروم، و حبس بطرس بطرکها و نصب بدله آریوس السمیساطیّ، ففرّ بطرس من الحبس إلی رومیة و استجار ببطرکها، و کان والیس آریوسیا، فسار إلی زیارة کنیسة مارتوما بمدینة الرها و نفی أسقفها و جماعة معه إلی جزیرة رودس، و نفی سائر الأساقفة لمخالفتهم لرأیه ما عدا اثنین، و أقام فی بطرکیة الإسکندریة طیماتاوس، فأقام سبع سنین و مات. و فی أیامه کان المجمع الثانی من مجامع النصاری بقسطنطینیة فی سنة اثنتی عشرة و مائة لدقلطیانوس، فاجتمع مائة و خمسون أسقفا و حرموا مقدینون عدوّ روح القدس، و کلّ من قال بقوله. و سبب ذلک أنه قال أنّ روح القدس مخلوق، و حرموا معه غیر واحد لعقائد شنیعة تظاهروا بها فی المسیح، و زاد الأساقفة فی الأمانة التی رتبها الثلاثمائة و ثمانیة عشر: و نؤمن بالروح القدس الرب المحیی المنبثق من الأب، قلت تعالی اللّه عما یقولون علوّا کبیرا، و حرّموا أن یزاد فیها بعد ذلک شی‌ء أو ینقص منها شی‌ء، و کان هذا المجمع بعد مجمع نیقیة بثمان و خمسین سنة، و فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 401
أیامه بنیت عدّة کنائس بالإسکندریة، و استتیب جماعة کثیرة من مقالة آریوس، و فی أیامه أطلق للأساقفة و الرهبان أکل اللحم یوم الفسح لیخالفوا الطائفة المنانیة، فإنهم کانوا یحرّمون أکل اللحم مطلقا، و ردّ الملک أغرادیانوس کلّ من نفاه والیس من الأساقفة، و أمر أن یلزم کلّ واحد دینه ما خلا المنانیة، ثم أقیم بکرسی الإسکندریة تاوفیلا، فأقام سبعا و عشرین سنة و مات فی ثامن عشر بابه، و فی أیامه ظهر الفتیة أهل الکهف، و کان تاوداسیوس إذ ذاک ملکا علی الروم، فبنی علیهم کنیسة و جعل لهم عیدا فی کل سنة، و اشتدّ الملک تاوداسیوس علی الأریسیین و ضیّق علیهم، و أمر فأخذت منهم کنائس النصاری بعد ما حکموها نحو أربعین سنة، و أسقط من جیشه من کان آریوسیا، و طرد من کان فی دیوانه و خدمه منهم، و قتل من الحنفاء کثیرا، و هدم بیوت الأصنام بکلّ موضع، و فی أیامه بنیت کنیسة مریم بالقدس، و فی أیام الملک ارغادیوس بنی دیر القصر المعروف الآن بدیر البغل فی جبل المقطم شرقیّ طرا خارج مدینة فسطاط مصر. ثم أقیم فی بطرکیة الإسکندریة کرلص، فأقام اثنتین و ثلاثین سنة و مات فی ثالث أبیب، و هو أوّل من أقام القومة فی کنائس الإسکندریة و أرض مصر. و فی أیامه کان المجمع الثالث من مجامع النصاری بسبب نسطورس بطرک قسطنطین، فإنه منع أن تکون مریم أمّ عیسی و قال: إنما ولدت مریم إنسانا اتحد بمشیئة الإله، یعنی عیسی، فصار الاتحاد بالمشیئة خاصة لا بالذات، و أن إطلاق الإله علی عیسی لیس هو بالحقیقة بل بالموهبة و الکرامة، و قال: إن المسیح حلّ فیه الابن الأزلیّ و إنی أعبده لأنّ الإله حلّ فیه، و إنه جوهران و أقنومان و مشیئة واحدة، و قال فی خطبته یوم المیلاد: أن مریم ولدت إنسانا، و أنا لا أعتقد فی ابن شهرین و ثلاثة الإلهیة، و لا أسجد له سجودی للإله، و کان هذا هو اعتقاد تادروس و دیوادارس الأسقفین، و کان من قولهما أن المولود من مریم هو المسیح، و المولود من الأب هو الابن الأزلیّ، و أنه حلّ فی المسیح فسمی ابن اللّه بالموهبة و الکرامة، و أن الاتحاد بالمشیئة و الإرادة، و أثبتوا للّه تعالی عن قولهم ولدین، أحدهما بالجوهر و الآخر بالنعمة، فلما بلغ کرلص بطرک الإسکندریة مقالة نسطورس کتب إلیه یرجعه عنها فلم یرجع، فکتب إلی أکلیمس بطرک رومیة، و إلی یوحنا بطرک أنطاکیة، و إلی یونالیوس أسقف القدس یعرّفهم بذلک، فکتبوا بأجمعهم إلی نسطورس لیرجع عن مقالته فلم یرجع، فتواعد البطارکة علی الاجتماع بمدینة أفسس، فاجتمع بها مائتا أسقف، و لم یحضر یوحنا بطرک أنطاکیة، و امتنع نسطورس من المجی‌ء إلیهم بعد ما کرّروا الإرسال فی طلبه غیر مرّة، فنظروا فی مقالته و حرموه و نفوه، فحضر بعد ذلک یوحنا فعز علیه فصل الأمر قبل قدومه و انتصر لنسطورس و قال قد حرموه بغیر حق، و تفرّقوا من أفسس علی شرّ، ثم اصطلحوا و کتب المشرقیون صحیفة بأمانتهم و بحرمان نسطورس، و بعثوا بها إلی کرلص فقبلها و کتب إلیهم بأن أمانته علی ما کتبوا، فکان بین المجمع الثانی و بین هذا المجمع خمسون، و قیل خمس و خمسون سنة، و أما نسطورس فإنه نفی إلی صعید مصر،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 402
فنزل مدینة اخمیم و أقام بها سبع سنین و مات، فدفن بها، و ظهرت مقالته فقبلها برصوما أسقف نصیبین، و دان بها نصاری أرض فارس و العراق و الموصل و الجزیرة إلی الفرات، و عرفوا إلی الیوم بالنسطوریة.
ثم قدّم تاوداسیوس ملک الروم فی الثانیة من ملکه دیسقورس بطرکا بالإسکندریة، فظهر فی أیامه مذهب أوطاخی، أحد القنومیین بالقسطنطینیة، و زعم أن جسد المسیح لطیف غیر مساو لأجسادنا، و أن الابن لم یأخذ من مریم شیئا، فاجتمع علیه مائة و ثلاثون أسقفا و حرموه، و اجتمع بالإسکندریة کثیر من الیهود فی یوم الفسح و صلبوا صنما علی مثال المسیح و عبثوا به، فثار بینهم و بین النصاری شرّ قتل فیه بین الفریقین خلق کثیر، فبعث إلیهم ملک الروم جیشا قتل أکثر یهود الإسکندریة، و کان المجمع الرابع من مجامع النصاری بمدینة خلقدونیة، و سببه أن دیسقورس بطرک الإسکندریة قال أن المسیح جوهر من جوهرین، و قنوم من قنومین، و طبیعة من طبیعتین، و مشیئة من مشیئتین، و کان رأی مرقیانوس ملک الروم أنه جسد، و أهل مملکته أنه جوهران و طبیعتان و مشیئتان و قنوم واحد، فلما رأی الأساقفة أن هذا رأی الملک خافوه فوافقوه علی رأیه ما خلا دیسقورس و ستة أساقفة، فإنهم لم یوافقوا الملک، و کتب من عداهم من الأساقفة خطوطهم بما اتفقوا علیه، فبعث دیسقورس یطلب منهم الکتاب لیکتب فیه، فلما وصل إلیه کتابهم کتب فیه أمانته هو، و حرمهم و کل من یخرج عنها، فغضب الملک مرقیانوس و همّ بقتله، فأشیر علیه بإحضاره و مناظرته، فأمر به فحضر و حضر ستمائة و أربعة و ثلاثون أسقفا، فأشار الأساقفة و البطارکة علی دیسقورس بموافقة رأی الملک، و استمراره علی ریاسته، فدعا للملک، و قال لهم:
الملک لا یلزمه البحث فی هذه الأمور الدقیقة، بل ینبغی له أن یشتغل بأمور مملکته و تدبیرها، و یدع الکهنة یبحثون عن الأمانة المستقیمة، فإنهم یعرفون الکتب، و لا یکون له هوی مع أحد، و یتبع الحق، فقالت بلخاریة زوجة الملک مرقیانوس و کانت جالسة بإزائه، یادیسقورس قد کان فی زمان أمی إنسان قویّ الرأس مثلک، و حرموه و نفوه عن کرسیه، تعنی یوحنا فم الذهب بطرک قسطنطینیة، فقال لها قد عملت ما جری لأمّک و کیف ابتلیت بالمرض الذی تعرفینه إلی أن مضت إلی جسد یوحنا فم الذهب و استغفرت فعوفیت، فحنقت من قوله و لکمته فانقلع له ضرسان، و تناولته أیدی الرجال فنتفوا أکثر لحیته، و أمر الملک بحرمانه و نفیه عن کرسیه، فاجتمعوا علیه و حرموه و نفوه، و أقیم عوضه برطاوس، و من هذا المجمع افترق النصاری و صاروا ملکیة علی مذهب مرقیانوس الملک، و یعقوبیة علی رأی دیسقورس، و ذلک فی سنة ثلاث و تسعین و مائة لدقلطیانوس، و کتب مرقیانوس إلی جمیع مملکته أن کل من لا یقول بقوله یقتل، فکان بین المجمع الثالث و بین هذا المجمع إحدی و عشرون سنة، و أما دیسقورس فإنه أخذ ضرسیه و شعر لحیته و أرسلها إلی الإسکندریة و قال: هذه ثمرة تعبی علی الأمانة، فتبعه أهل إسکندریة و مصر، و توجه فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 403
نفیه فعبر علی القدس و فلسطین و عرّفهم مقالته فتبعوه، و قالوا بقوله، و قدّم عدّة أساقفة یعقوبیة، و مات و هو منفیّ فی رابع توت، فکانت مدّة بطرکیته أربع عشرة سنة، و بقی کرسیّ المملکة بغیر بطرک مدّة مملکة مرقیانوس، و قیل بل قدّم برطاوس، و قد اختلف فی تسمیة الیعقوبیة بهذا، فقیل إن دیسقورس کان یسمی قبل بطرکیة یعقوب، و أنه کان یکتب و هو منفیّ إلی أصحابه بأن یثبتوا علی أمانة المسکین المنفیّ یعقوب، و قیل بل کان له تلمیذ اسمه یعقوب، و کان یرسله و هو منفیّ إلی أصحابه فنسبوا إلیه، و قیل بل کان یعقوب تلمیذ ساویرس بطرک أنطاکیة، و کان علی رأی دیسقورس، فکان ساویرس یبعث یعقوب إلی النصاری و یثبتهم علی أمانة دیسقورس فنسبوا إلیه، و قیل بل کان یعقوب کثیر العبادة و الزهد یلبس خرق البراذع، فسمی یعقوب البراذعیّ من أجل ذلک، و أنه کان یطوف البلاد و یردّ الناس إلی مقالة دیسقورس، فنسب من اتبع رأیه إلیه و سموا یعقوبیة. و یقال لیعقوب أیضا یعقوب السروجیّ.
و فی أیام مرقیانوس کان سمعان الحبیس صاحب العمود، و هو أوّل راهب سکن صومعة، و کان مقامه بمغارة فی جبل أنطاکیة، و لما مات مرقیانوس وثب أهل الإسکندریة علی برطاوس البطرک و قتلوه فی الکنیسة و حملوا جسده إلی الملعب الذی بناه بطلیموس و أحرقوه بالنار من أجل أنه ملکیّ الاعتقاد فکانت مدّة بطرکیته ست سنین، و أقاموا عوضه طیماتاوس، و کان یعقوبیا، فأقام ثلاث سنین، و قدم قائد من قسطنطینیة فنفاه، و أقام عوضه ساویرس، و کان ملکیا، فأقام اثنتین و عشرین سنة و مات فی سابع مسری. فلما ملک زنبون بن لاون الروم، أکرم الیعقوبیة و أعزهم لأنه کان یعقوبیا، و کان یحمل إلی دیر یوقنا کلّ سنة ما یحتاج إلیه من القمح و الزیت، و هرب ساویرس من کرسیّ الإسکندریة إلی وادی هیب، و رجع طیماتاوس من نفیه، فأقام بطرکا سنتین و مات. فأقیم بعده بطرس فأقام ثمانی سنین و سبعة أشهر و ستة أیام و مات فی رابع هتور، فأقیم بعده اثناسیوس، فأقام سبع سنین و مات فی العشرین من توت، و فی أیامه احترق الملعب الذی بناه بطلمیوس. و أقیم یوحنا فی بطرکیة الإسکندریة، و کان یعقوبیا، فأقام تسع سنین و مات فی رابع بشنس، فخلا الکرسیّ بعده سنة، ثم أقیم یوحنا الحبیس، فأقام إحدی و عشرین سنة و مات فی سابع عشری بشنس. فأقیم بعده دیسقورس الجدید، فأقام سنتین و خمسة أشهر و مات فی سابع عشر بابه، و کتب إیلیا بطرک القدس إلی نسطاس ملک الروم بأن یرجع عن مقالة الیعقوبیة إلی مقالة الملکیة، و بعث إلیه جماعة من الرهبان بهدیة سنیة، فقبل هدیته و أجاز الرهبان بجوائز جلیلة و جهز له مالا جزیلا لعمارة الکنائس و الدیارات و الصدقات، فتوجه ساویرس إلی نسطاس و عرّفه أن الحق هو اعتقاد الیعقوبیة، فأمر أن یکتب إلی جمیع مملکته بقبول قول دیسقورس و ترک المجمع الخلقدونیّ، فبعث إلیه بطرک أنطاکیة بأن هذا الذی فعلته غیر واجب، و أن المجمع الخلقدونیّ هو الحق، فغضب الملک و نفاه و أقام بدله، فأمر إیلیا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 404
بطرک القدس بجمع الرهبان و رؤساء الدیارات، فاجتمع له منهم عشرة آلاف نفس و حرموا نسطاس الملک، و من یقول بقوله، فأمر نسطاس بنفی إیلیا إلی مدینة إیلة، فاجتمع بطارکة الملکیة و أساقفتهم و حرموا الملک نسطاس و من یقول بقوله، و فی أیام نسطایوس الملک ألزم الحنفاء أهل حرّان و هم الصابئة بالتنصر، فتنصر کثیر منهم، و قتل أکثرهم علی امتناعهم من دین النصرانیة، و ردّ جمیع من نفاه نسطاس من الملکیة، فإنه کان ملکیا، و أقیم طیماتاوس فی بطرکیة الإسکندریة، و کان یعقوبیا، فأقام ثلاث سنین و نفی، و أقیم بدله أبو لیناریوس و کان ملکیا، فجدّ فی رجوع النصاری بأجمعهم إلی رأی الملکیة، و بذل جهده فی ذلک و ألزم نصاری مصر بقبول الأمانة المحدثة. فوافقوه و وافقه رهبان دیارات بومقار بوادی هبیب، هذا و یعقوب البراذعیّ یدور فی کلّ موضع و یثبت أصحابه علی الأمانة التی زعم أنها مستقیمة، و أمر الملک جمیع الأساقفة بعمل المیلاد فی خامس عشری کانون الأوّل، و بعمل الغطاس لست تخلو من کانون الثانی، و کان کثیر منهم یعمل المیلاد و الغطاس فی یوم واحد، و هو سادس کانون الثانی، و علی هذا الرأی الأرمن إلی یومنا هذا، و فی هذه الأیام ظهر یوحنا النحویّ بالإسکندریة و زعم أن الأب و الابن و روح القدس ثلاثة آلهة و ثلاث طبائع و جوهر واحد، و ظهر یولیان و زعم أن جسد المسیح نزل من السماء و أنه لطیف روحانیّ لا یقبل الآلام إلّا عند مقارفة الخطیئة، و المسیح لم یقارف خطیئته، فلذلک لم یصلب حقیقة و لم یتألم و لم یمت، و إنما ذلک کله خیال، فأمر الملک البطرک طیماتاوس أن یرجع إلی مذهب الملکیة فلم یفعل، فأمر بقتله. ثم شفع فیه و نفی و أقیم بدله بولص، و کان ملکیا، فأقام سنتین فلم یرضه الیعاقبة، و قیل أنهم قتلوه و صیروا عوضه بطرکا دیلوس، و کان ملکیا فأقام خمس سنین فی شدّة من التعب و أرادوا قتله فهرب، و أقام فی هربه خمس سنین و مات، فبلغ ملک الروم یوسطیانوس أن الیعقوبیة قد غلبوا علی الإسکندریة و مصر، و أنهم لا یقبلون بطارکته، فبعث أثولیناریوس أحد قوّاده و ضم إلیه عسکرا کبیرا إلی الإسکندریة، فلما قدمها و دخل الکنیسة نزع عنه ثیاب الجند و لبس ثیاب البطارکة و قدّس، فهمّ ذلک الجمع برجمه فانصرف. و جمع عسکره و أظهر أنه قد أتاه کتاب الملک لیقرأه علی الناس، و ضرب الجرس فی الإسکندریة یوم الأحد، فاجتمع الناس إلی الکنیسة حتی لم یبق أحد، فطلع المنبر و قال: یا أهل الإسکندریة، إن ترکتم مقالة الیعقوبیة و إلّا أخاف أن یرسل الملک فیقتلکم و یستبیح أموالکم و حریمکم، فهموا برجمه، فأشار إلی الجند فوضعوا السیف فیهم، فقتل من الناس ما لا یحصی عدده، حتی خاض الجند فی الدماء، و قیل إنّ الذی قتل یومئذ مائتا ألف إنسان، و فرّ منهم خلق إلی الدیارات بوادی هبیب، و أخذ الملکیة کنائس الیعاقبة، و من یومئذ صار کرسیّ الیعقوبیة فی دیر بومقار بوادی هبیب.
و فی أیامه ثارت السامرة علی أرض فلسطین و هدموا کنائس النصاری، و أحرقوا ما فیها، و قتلوا جماعة من النصاری، فبعث الملک جیشا قتلوا من السامرة خلقا کثیرا، و وضع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 405
من خراج فلسطین جملة، و جدّد بناء الکنائس و أنشأ مارستانا ببیت المقدس للمرضی، و وسع فی بناء کنیسة بیت لحم، و بنی دیرا بطور سیناء، و عمل علیه حصنا حوله عدّة قلالی و رتب فیها حرسا لحفظ الرهبان. و فی أیامه کان المجمع الخامس من مجامع النصاری، و سببه أن أریحانس أسقف مدینة منبج قال بتناسخ الأرواح، و قال کلّ من أسقف أنقرة و أسقف المصیصة و أسقف الرها أن جسد المسیح خیال لا حقیقیّ، فحملوا إلی القسطنطینیة و جمع بینهم و بین بطرکها أوطس و ناظرهم و أوقع علیهم الحرمان، فأمر الملک أن یجمع لهم مجمع، و أمر بإحضار البطارکة و الأساقفة، فاجتمع مائة و أربعون أسقفا و حرموا هؤلاء الأساقفة و من یقول بقولهم، فکان بین المجمع الرابع الخلقدونیّ و بین هذا المجمع مائة و ثلاث و ستون سنة. و لما مات القائد الذی عمل بطرک الإسکندریة بعد سبع عشرة سنة، أقیم بعده یوحنا، و کان منانیا، فأقام ثلاث سنین و مات، و قدّم الیعاقبة بطرکا اسمه تاوداسیوس، أقام مدّة اثنتین و ثلاثین سنة، و قدّم الملکیة بطرکا اسمه داقیوس، فکتب الملک إلی متولی الإسکندریة أن یعرض علی بطرک الیعاقبة أمانة المجمع الخلقدونیّ، فإن لم یقبلها أخرجه، فعرض علیه ذلک فلم یقبله، فأخرجه و أقام بعده بولص التنیسیّ فلم یقبله أهل الإسکندریة، و مات فغلقت کنائس القبط الیعاقبة، و أصابهم من الملکیة شدائد کثیرة، و استجدّ الیعاقبة بالإسکندریة کنیستین فی سنة ثمان و أربعین و مائتین لدقلطیانوس، و مات تاوداسیوس ثامن عشری بؤنة بعد اثنتین و ثلاثین سنة من بطرکیته، منها مدة أربع سنین مدة نفیه فی صعید مصر و أقیم بعده بطرس و کان یعقوبیا فی خفیة بدیر الزجاج بالإسکندریة قدّمه ثلاثة أساقفة، فأقام سنتین و مات فی خامس عشری بؤنة ... من الیعاقبة سنة واحدة.
و فی سنة إحدی و ثمانین و ثمانمائة، أقیم دامیانو بطرکا بالإسکندریة، و کان یعقوبیا، فأقام ستا و ثلاثین سنة و مات، فی ثامن عشری بؤنة، و فی أیامه خربت الدیارات، و أقام الملکیة لهم بالإسکندریة بطرکا منانیا اسمه أتناس، فأقام خمس سنین و مات، فأقیم بعده یوحنا و کان منانیا، و لقب القائم بالحق، فأقام خمسة أشهر و مات، فأقیم بعده یوحنا القائم بالأمر، و کان ملکیا فأقام إحدی عشرة سنة و مات، و فی أیام الملک طیباریوس ملک الروم بنی النصاری بالمدائن، مدائن کسری، هیکلا، و بنوا أیضا بمدینة واسط هیکلا آخر. و فی أیام الملک موریق قیصر، زعم راهب اسمه مارون، أن المسیح علیه السلام طبیعتان و مشیئة واحدة و اقنوم واحد، فتبعه علی رأیه أهل حماه و قنسرین و العواصم و جماعة من الروم و دانوا بقوله، فعرفوا بین النصاری بالمارونیة، فلما مات مارون بنوا علی اسمه دیر مارون بحماه.
و فی أیام فوقا ملک الروم بعث کسری ملک فارس جیوشه إلی بلاد الشام و مصر، فخرّبوا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 406
کنائس القدس و فلسطین و عامّة بلاد الشام، و قتلوا النصاری بأجمعهم، و أتوا إلی مصر فی طلبهم، فقتلوا منهم أمّة کبیرة و سبوا منهم سبیا لا یدخل تحت حصر، و ساعدهم الیهود فی محاربة النصاری و تخریب کنائسهم، و أقبلوا نحو الفرس من طبریة و جبل الجلیل و قریة الناصرة و مدینة صور و بلاد القدس، فنالوا من النصاری کلّ منال، و أعظموا النکایة فیهم، و خرّبوا لهم کنیستین بالقدس، و حرّقوا أماکنهم، و أخذوا قطعة من عود الصلیب، و أسروا بطرک القدس و کثیرا من أصحابه، ثم مضی کسری بنفسه من العراق لغزو قسطنطینیة تخت ملک الروم، فحاصرها أربع عشرة سنة، و فی أیام فوقا أقیم یوحنا الرحوم بطرک الإسکندریة علی الملکیة، فدبر أرض مصر کلها عشر سنین و مات بقبرص، و هو فارّ من الفرس، فخلا کرسیّ اسکندریة من البطرکیة سبع سنین لخلوّ أرض مصر و الشام من الروم، و اختفی من بقی بها من النصاری خوفا من الفرس، و قدّم الیعاقبة نسطاسیوس بطرکا، فأقام اثنتی عشرة سنة و مات فی ثانی عشری کیهک، سنة ثلاثین و ثلاثمائة لدقلطیانوس، فاستردّ ما کانت الملکیة قد استولت علیه من کنائس الیعاقبة، و رمّ ما شعثه الفرس منها، و کانت إقامته بمدینة الإسکندریة، فأرسل إلیه انباسیوس بطرک أنطاکیة هدیة صحبة عدّة کثیرة من الأساقفة، ثم قدم علیه زائرا فتلقاه و سرّ بقدومه، و صارت أرض مصر فی أیامه جمیعها یعاقبة لخلوّها من الروم، فثارت الیهود فی أثناء ذلک بمدینة صور و راسلوا بقیتهم فی بلادهم، و تواعدوا علی الإیقاع بالنصاری و قتلهم، فکانت بینهم حرب اجتمع فیها من الیهود نحو عشرین ألفا، و هدموا کنائس النصاری خارج صور، فقوی النصاری علیهم و کاثروهم، فانهزم الیهود هزیمة قبیحة و قتل منهم خلق کثیر، و کانه هرقل قد ملک الروم بقسطنطینیة و غلب الفرس بحیلة دبرها علی کسری حتی رحل عنهم، ثم سار من قسطنطینیة لیمهد ممالک الشام و مصر و یجدّد ما خرّبه الفرس منها، فخرج إلیه الیهود من طبریة و غیرها و قدّموا له الهدایا الجلیلة و طلبوا منه أن یؤمّنهم و یحلف لهم علی ذلک، فأمّنهم و حلف لهم، ثم دخل القدس و قد تلقاه النصاری بالأناجیل و الصلبان و البخور و الشموع المشعلة، فوجد المدینة و کنائسها و قمامتها خرابا، فساءه ذلک و توجع له، و أعلمه النصاری بما کان من ثورة الیهود مع الفرس و إیقاعهم بالنصاری و تخریبهم الکنائس، و أنهم کانوا أشدّ نکایة لهم من الفرس، و قاموا قیاما کبیرا فی قتلهم عن آخرهم، و حثوا هرقل علی الوقیعة بهم، و حسنوا له ذلک، فاحتج علیهم بما کان من تأمینه لهم و حلفه، فأفتاه رهبانهم و بطارکتهم و قسیسوهم بأنه لا حرج علیه فی قتلهم، فإنهم عملوا علیه حیلة حتی أمّنهم من غیر أن یعلم بما کان منهم، و أنهم یقومون عنه بکفارة یمینه بأن یلتزموا و یلزموا النصاری بصوم جمعة فی کلّ سنة عنه علی ممرّ الزمان و الدهور، فمال إلی قولهم و أوقع بالیهود وقیعة شنعاء أبادهم جمیعهم فیها، حتی لم یبق فی ممالک الروم بمصر و الشام منهم إلّا من فرّ و اختفی، فکتب البطارقة و الأساقفة إلی جمیع البلاد بإلزام النصاری بصوم أسبوع فی السنة، فالتزموا صومه إلی الیوم، و عرفت عندهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 407
بجمعة هرقل، و تقدّم هرقل بعمارة الکنائس و الدیارات و أنفق فیها مالا کبیرا. و فی أیامه أقیم ادراسلون بطرک الیعاقبة بالإسکندریة، فأقام ست سنین و مات فی ثامن طوبه، فخربت الدیارات فی مدّة بطرکیته، و أقیم بعده علی الیعاقبة بنیامین، فعمر الدیر الذی یقال له دیر أبو بشای، و دیر سیدة أبو بشای، و هما فی وادی هبیب، فأقام تسعا و ثلاثین سنة، ملک الفرس منها مصر عشر سنین، ثم قدم هرقل فقتل الفرس بمصر و أقام فیرش بطرک الإسکندریة، و کان منانیا، و طلب بنیامین لیقتله فلم یقدر علیه لفراره منه، و کان هرقل مارونیا فظفر بمینا أخی بنیامین فأحرقه بالنار عداوة للیعاقبة، و عاد إلی القسطنطینیة فأظهر اللّه دین الإسلام فی أیامه، و خرج ملک مصر و الشام من ید النصاری، و صار النصاری ذمّة للمسلمین، فکانت مدّة النصاری منذ رفع المسیح إلی أن فتحت مصر و صار النصاری من القبط ذمّة للمسلمین ... منها مدّة کونهم تحت أیدی الروم یقتلونهم أبرح قتل بالصلب و التحریق بالنار و الرجم بالحجارة و تقطیع الأعضاء ... و منها مدّة استیلائهم بتنصر الملوک.

ذکر دخول النصاری من قبط مصر فی طاعة المسلمین و أدائهم الجزیة، و اتخاذهم ذمّة لهم، و ما کان فی ذلک من الحوادث و الأنباء

اعلم أن أرض مصر لما دخلها المسلمون کانت بأجمعها مشحونة بالنصاری، و هم علی قسمین متباینین فی أجناسهم و عقائدهم، أحدهما أهل الدولة و کلهم روم من جند صاحب القسطنطینیة ملک الروم، و رأیهم و دیانتهم بأجمعهم دیانة الملکیة، و کانت عدّتهم تزید علی ثلاثمائة ألف رومیّ. و القسم الآخر عامّة أهل مصر، و یقال لهم القبط، و أنسابهم مختلطة لا یکاد یتمیز منهم القبطیّ من الحبشیّ من النوبیّ من الإسرائیلیّ الأصل من غیره، و کلهم یعاقبة، فمنهم کتاب المملکة و منهم التجار و الباعة، و منهم الأساقفة و القسوس و نحوهم، و منهم أهل الفلاحة و الزرع، و منهم أهل الخدمة و المهنة، و بینهم و بین الملکیة أهل الدولة من العداوة ما یمنع مناکحتهم، و یوجب قتل بعضهم بعضا، و یبلغ عددهم عشرات آلاف کثیرة جدّا، فإنهم فی الحقیقة أهل أرض مصر أعلاها و أسفلها، فلما قدم عمرو بن العاص بجیوش المسلمین معه إلی مصر، قاتلهم الروم حمایة لملکهم و دفعا لهم عن بلادهم، فقاتلهم المسلمون و غلبوهم علی الحصن کما تقدّم ذکره، فطلب القبط من عمرو المصالحة علی الجزیة فصالحهم علیها و أقرّهم علی ما بأیدیهم من الأراضی و غیرها، و صاروا معه عونا للمسلمین علی الروم، حتی هزمهم اللّه تعالی و أخرجهم من أرض مصر، و کتب عمرو لبنیامین بطرک الیعاقبة أمانا فی سنة عشرین من الهجرة، فسرّه ذلک و قدم علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 408
عمرو و جلس علی کرسیّ بطرکیته بعد ما غاب عنه ثلاث عشرة سنة، منها فی ملک فارس لمصر عشر سنین، و باقیها بعد قدوم هرقل إلی مصر، فغلبت الیعاقبة علی کنائس مصر و دیاراتها کلها، و انفردوا بها دون الملکیة، و یذکر علماء الأخبار من النصاری أن أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، لما فتح مدینة القدس کتب للنصاری أمانا علی أنفسهم و أولادهم و نسائهم و أموالهم و جمیع کنائسهم لا تهدم و لا تسکن، و أنه جلس فی وسط صحن کنیسة القمامة، فلما حان وقت الصلاة خرج و صلّی خارج الکنیسة علی الدرجة التی علی بابها بمفرده، ثم جلس و قال للبطرک: لو صلیت داخل الکنیسة لأخذها المسلمون من بعدی، و قالوا ههنا صلّی عمر، و کتب کتابا یتضمن أنه لا یصلی أحد من المسلمین علی الدرجة إلّا واحد واحد، و لا یجتمع المسلمون بها للصلاة فیها، و لا یؤذنون علیها، و أنه أشار علیه البطرک باتخاذ موضع الصخرة مسجدا، و کان فوقها تراب کثیر، فتناول عمر رضی اللّه عنه من التراب فی ثوبه، فبادر المسلمون لرفعه حتی لم یبق منه شی‌ء، و عمر المسجد الأقصی أمام الصخرة، فلما کانت أیام عبد الملک بن مروان أدخل الصخرة فی حرم الأقصی، و ذلک سنة خمس و ستین من الهجرة، ثم إن عمر رضی اللّه عنه أتی بیت لحم و صلّی فی کنیسته عند الخشبة التی ولد فیها المسیح، و کتب سجلا بأیدی النصاری أن لا یصلی فی هذا الموضع أحد من المسلمین إلّا رجل بعد رجل، و لا یجتمعوا فیه للصلاة، و لا یؤذنوا علیه، و لما مات البطرک بنیامین فی سنة تسع و ثلاثین من الهجرة بالإسکندریة فی إمارة عمرو الثانیة، قدّم الیعاقبة بعده أغانو فأقام سبع عشرة سنة و مات سنة ست و خمسین، و هو الذی بنی کنیسة مرقص بالإسکندریة، فلم تزل إلی أن هدمت فی سلطنة الملک العادل أبی بکر بن أیوب، و کان فی أیامه الغلاء مدّة ثلاث سنین، و کان یهتم بالضعفاء، فأقیم بعده إیساک و کان یعقوبیا، فأقام سنتین و أحد عشر شهرا و مات، فقدّم الیعاقبة بعده سیمون السریانیّ، فأقام سبع سنین و نصفا و مات، و فی أیامه قدم رسول أهل الهند فی طلب أسقف یقیمه لهم، فامتنع من ذلک حتی یأذن له السلطان، و أقام غیره و خلا بعد موته کرسی الإسکندریة ثلاث سنین بغیر بطرک، ثم قدّم الیعاقبة فی سنة إحدی و ثمانین الإسکندروس، فقام أربعا و عشرین سنة و نصفا، و قیل خمسا و عشرین سنة و مات سنة ست و مائة، و مرّت به شدائد صودر فیها مرّتین، أخذ منه فیهما ستة آلاف دینار، و فی أیامه أمّر عبد العزیز بن مروان، فأمر بإحصاء الرهبان فأحصوا و أخذت منهم الجزیة عن کلّ راهب دینار، و هی أوّل جزیة أخذت من الرهبان.
و لما ولی مصر عبد اللّه بن عبد الملک بن مروان اشتدّ علی النصاری، و اقتدی به قرّة بن شریک أیضا فی ولایته علی مصر، و أنزل بالنصاری شدائد لم یبتلوا قبلها بمثلها، و کان عبد اللّه بن الحبحاب متولی الخراج قد زاد علی القبط قیراطا فی کلّ دینار، فانتقض علیه عامّة الحوف الشرقیّ من القبط، فحاربهم المسلمون و قتلوا منهم عدّة وافرة فی سنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 409
سبع و مائة، و اشتدّ أیضا أسامة بن زید التنوخیّ متولی الخراج علی النصاری، و أوقع بهم و أخذ أموالهم، و وسم أیدی الرهبان بحلقة حدید فیها اسم الراهب و اسم دیره و تاریخه، فکل من وجده بغیر و سم قطع یده، و کتب إلی الأعمال بأن من وجد من النصاری و لیس معه منشور أن یؤخذ منه عشرة دنانیر، ثم کبس الدیارات و قبض علی عدّة من الرهبان بغیر وسم، فضرب أعناق بعضهم و ضرب باقیهم حتی ماتوا تحت الضرب، ثم هدمت الکنائس و کسرت الصلبان و محیت التماثیل و کسرت الأصنام بأجمعها، و کانت کثیرة فی سنة أربع و مائة، و الخلیفة یومئذ یزید بن عبد الملک، فلما قام هشام بن عبد الملک فی الخلافة، کتب إلی مصر بأن یجری النصاری علی عوایدهم و ما بأیدیهم من العهد، فقدم حنظلة بن صفوان أمیرا علی مصر فی ولایته الثانیة، فتشدّد علی النصاری و زاد فی الخراج، و أحصی الناس و البهائم، و جعل علی کلّ نصرانیّ و سما صورة أسد، و تتبعهم، فمن وجده بغیر وسم قطع یده، ثم أقام الیعاقبة بعد موت الإسکندروس بطرکا اسمه قسیما، فأقام خمسة عشر شهرا و مات، فقدّموا بعده تادرس فی سنة تسع و مائة بعد إحدی عشرة سنة. و فی أیامه أحدثت کنیسة یوقنا بخط الحمراء ظاهر مدینة مصر، فی سنة سبع عشرة و مائة، فقام جماعة من المسلمین علی الولید بن رفاعة أمیر مصر بسببها.
و فی سنة عشرین و مائة قدّم الیعاقبة میخائیل بطرکا، فأقام ثلاثا و عشرین سنة و مات.
و فی أیامه انتقض القبط بالصعید و حاربوا العمال فی سنة إحدی و عشرین، فحوربوا و قتل کثیر منهم، ثم خرج بجنس بسمنود و حارب و قتل فی الحرب، و قتل معه قبط کثیر فی سنة اثنتین و ثلاثین و مات، ثم خالفت القبط برشید، فبعث إلیهم مروان بن محمد لما قدم مصر و هزمهم و قبض عبد الملک بن موسی بن نصیر أمیر مصر علی البطرک میخائیل، فاعتقله و ألزمه بمال، فسار بأساقفته فی أعمال مصر یسأل أهلها، فوجدهم فی شدائد، فعاد إلی الفسطاط و دفع إلی عبد الملک ما حصل له، فأفرج عنه، فنزل به بلاء کبیر من مروان، و بطش به و بالنصاری، و أحرق مصر و غلاتها و أسر عدّة من النساء المترهبات ببعض الدیارات، و راود واحدة منهنّ عن نفسها، فاحتالت علیه و دفعته عنها بأن رغبته فی دهن معها إذا ادّهن به الإنسان لا یعمل فیه السلاح، و أوثقته بأن مکنته من التجربة فی نفسها، فتمت حیلتها علیه، و أخرجت زیتا ادّهنت به، ثم مدّت عنقها فضربها بسیفه أطار رأسها، فعلم أنها اختارت الموت علی الزنا، و ما زال البطرک و النصاری فی الحدید مع مروان إلی أن قتل ببوصیر، فأفرج عنهم. و أما الملکیة فإن ملک الروم لاون أقام قسیما بطرک الملکیة بالإسکندریة فی سنة سبع و مائة، فمضی و معه هدیة إلی هشام بن عبد الملک، فکتب له بردّ کنائس الملکیة إلیهم، فأخذ من الیعاقبة کنیسة البشارة، و کان الملکیة أقاموا سبعا و سبعین سنة بغیر بطرک فی مصر، من عهد عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه إلی خلافة هشام بن عبد الملک، فغلب الیعاقبة فی هذه المدّة علی جمیع کنائس مصر و أقاموا بها منهم أساقفة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 410
و بعث إلیهم أهل بلاد النوبة فی طلب أساقفة، فبعثوا إلیهم من أساقفة الیعاقبة، فصارت النوبة من ذلک العهد یعاقبة.
ثم لما مات میخائیل قدّم الیعاقبة فی سنة ست و أربعین و مائة انبامسنا، فأقام سبع سنین و مات. و فی أیامه خرج القبط بناحیة سخا و أخرجوا العمال فی سنة خمسین و مائة و صاروا فی جمع، فبعث إلیهم یزید بن حاتم بن قبیصة أمیر مصر عسکرا، فأتاهم القبط لیلا و قتلوا عدّة من المسلمین و هزموا باقیهم، فاشتدّ البلاء علی النصاری و احتاجوا إلی أکل الجیف، و هدمت الکنائس المحدثة بمصر، فهدمت کنیسة مریم المجاورة لأبی شنودة بمصر، و هدمت کنائس محارس قسطنطین، فبذل النصاری لسلیمان بن علیّ أمیر مصر فی ترکها خمسین ألف دینار، فأبی، فلما ولی بعده موسی بن عیسی أذن لهم فی بنائها فبنیت کلها بمشورة اللیث بن سعد، و عبد اللّه بن لهیعة قاضی مصر، و احتجا بأنّ بناءها من عمارة البلاد، و بأن الکنائس التی بمصر لم تبن إلّا فی الإسلام فی زمن الصحابة و التابعین، فلما مات انبامسنا قدّم الیعاقبة بعده یوحنا، فأقام ثلاثا و عشرین سنة و مات. و فی أیامه خرج القبط ببلهیت سنة ست و خمسین فبعث إلیهم موسی بن علیّ أمیر مصر و هزمهم، و قدّم بعده الیعاقبة مرقص الجدید، فأقام عشرین سنة و سبعین یوما و مات. و فی أیامه کانت الفتنة بین الأمین و المأمون، فانتهبت النصاری بالإسکندریة و أحرقت لهم مواضع عدیدة، و أحرقت دیارات وادی هبیب و نهبت، فلم یبق بها من رهبانها إلّا نفر قلیل. و فی أیامه مضی بطرک الملکیة إلی بغداد و عالج بعض خطایا أهل الخلیفة، فإنه کان حاذقا بالطب، فلما عوفیت کتب له بردّ کنائس الملکیة التی تغلب علیها الیعاقبة بمصر، فاستردّها منهم، و أقام فی بطرکیة الملکیة أربعین سنة و مات، ثم قدّم الیعاقبة بعد مرقص یعقوب فی سنة إحدی عشرة و مائتین، فأقام عشر سنین و ثمانیة أشهر و مات. و فی أیامه عمرت الدیارات و عاد الرهبان إلیها، و عمرت کنیسة بالقدس لمن یرد من نصاری مصر، و قدم علیه دیونوسیس بطرک أنطاکیة، فأکرمه حتی عاد إلی کرسیه، و فی أیامه انتقض القبط فی سنة ست عشرة و مائتین، فأوقع بهم الأفشین حتی نزلوا علی حکم أمیر المؤمنین عبد اللّه المأمون، فحکم فیهم بقتل الرجال و بیع النساء و الذریة فبیعوا، و سبی أکثرهم، و من حینئذ ذلت القبط فی جمیع أرض مصر، و لم یقدر أحد منهم بعد ذلک علی الخروج علی السلطان، و غلبهم المسلمون علی عامّة القری، فرجعوا من المحاربة إلی المکایدة و استعمال المکر و الحیلة و مکایدة المسلمین، و عملوا کتاب الخراج، فکانت لهم و للمسلمین أخبار کثیرة یأتی ذکرها إن شاء اللّه تعالی.
ثم قدّم الیعاقبة سیماون بطرکا فی سنة اثنتین و عشرین و مائتین، فأقام سنة و مات، و قیل بل أقام سبعة أشهر و ستة عشر یوما، فخلا کرسیّ البطارکة بعده سنة و سبعة و عشرین یوما، و قدّم الیعاقبة یوساب فی دیر بومقار بوادی هبیب فی سنة سبع و عشرین و مائتین،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 411
فأقام ثمانی عشرة سنة و مات. و فی أیامه قدم مصر یعقوب مطران الحبشة و قد نفته زوجة ملکهم. و أقامت عوضه أسقفا، فبعث ملک الحبشة یطلب إعادته من البطرک، فبعث به إلیه و بعث أیضا عدّة أساقفة إلی إفریقیة. و فی أیامه مات بطرک أنطاکیة الوارد إلی مصر فی السنة الخامسة عشرة من بطرکیته. و فی أیامه أمر المتوکل علی اللّه فی سنة خمس و ثلاثین و مائتین أهل الذمّة بلبس الطیالسة العسلیة و شدّ الزنانیر و رکوب السروج بالرکب الخشب، و عمل کرتین فی مؤخر السرج، و عمل رقعتین علی لباس رجالهم تخالفان لون الثوب، قدر کلّ واحدة منهما أربع أصابع، و لون کلّ واحدة منهما غیر لون الأخری، و من خرج من نسائهم تلبس إزارا عسلیا، و منعهم من لباس المناطق، و أمر بهدم بیعهم المحدثة، و بأخذ العشر من منازلهم، و أن یجعل علی أبواب دورهم صور شیاطین من خشب، و نهی أن یستعان بهم فی أعمال السلطان، و لا یعلمهم مسلم، و نهی أن یظهروا فی شعانینهم صلیبا، و أن لا یشعلوا فی الطریق نارا، و أمر بتسویة قبورهم مع الأرض، و کتب بذلک إلی الآفاق، ثم أمر فی سنة تسع و ثلاثین أهل الذمّة بلبس دراعتین عسلیتین علی الذراریع و الأقبیة، و بالاقتصار فی مراکبهم علی رکوب البغال و الحمیر دون الخیل و البراذین. فلما مات یوساب فی سنة اثنتین و أربعین و مائتین خلا الکرسیّ بعده ثلاثین یوما، و قدّم الیعاقبة قسیسا بدیر بحنس یدعی بمیکائیل فی البطرکیة، فأقام سنة و خمسة أشهر و مات، فدفن بدیر بومقار، و هو أوّل بطرک دفن فیه، فخلا الکرسیّ بعده أحدا و ثمانین یوما، ثم قدّم الیعاقبة فی سنة أربع و أربعین و مائتین شماسا بدیر بومقار اسمه قسیما، فأقام فی البطرکیة سبع سنین و خمسة أشهر و مات، فخلا الکرسیّ بعده أحدا و خمسین یوما. و فی أیامه أمر نوفیل بن میخائیل ملک الروم بمحو الصور من الکنائس، و أن لا تبقی صورة فی کنیسة، و کان سبب ذلک أنه بلغه عن قیم کنیسة أنه عمل فی صورة مریم علیها السلام شبه ثدی یخرج منه لبن ینقط فی یوم عیدها، فکشف عن ذلک فإذا هو مصنوع لیأخذ به القیم المال، فضرب عنقه و أبطل الصور من الکنائس، فبعث إلیه قسیما بطرک الیعاقبة و ناظره حتی سمح بإعادة الصور علی ما کانت علیه، ثم قدّم الیعاقبة ساتیر بطرکا، فأقام تسع عشرة سنة و مات، فأقیم یوسانیوس فی أوّل خلافة المعتز، فأقام إحدی عشرة سنة و مات، و عمل فی بطرکیته مجاری تحت الأرض بالإسکندریة یجری بها الماء من الخلیج إلی البیوت.
و فی أیامه قدم أحمد بن طولون مصر أمیرا علیها، ثم قدّم الیعاقبة میخائیل فأقام خمسا و عشرین سنة و مات بعد ما ألزمه أحمد بن طولون بحمل عشرین ألف دینار، باع فیها رباع الکنائس الموقوفة علیها، و أرض الحبش ظاهر فسطاط مصر، و باع الکنیسة بجوار المعلقة من قصر الشمع للیهود، و قرّر الدیاریة علی کلّ نصرانیّ قیراطا فی السنة، فقام بنصف المقرّر علیه. و فی أیامه قتل الأمیر أبو الجیش خمارویه بن أحمد بن طولون، فلما مات شغر کرسیّ الإسکندریة بعده من البطارکة أربع عشرة سنة، و فی یوم الاثنین ثالث شوّال سنة ثلاثمائة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 412
أحرقت الکنیسة الکبری المعروفة بالقیامة فی الإسکندریة، و هی التی کانت هیکل زحل، و کانت من بناء کلابطرة. و فی سنة إحدی و ثلاثمائة قدّم الیعاقبة غبریال بطرکا، فأقام إحدی عشرة سنة و مات، و أخذت فی أیامه الدیاریة علی الرجال و النساء، و قدّم بعده الیعاقبة فی سنة إحدی عشرة و ثلاثمائة قسیما فأقام اثنتی عشرة سنة و مات. و فی یوم السبت النصف من شهر رجب سنة اثنتی عشرة و ثلاثمائة أحرق المسلمون کنیسة مریم بدمشق، و نهبوا ما فیها من الآلات و الأوانی و قیمتها کثیرة جدّا، و نهبوا دیرا للنساء بجوارها، و شعثوا کنائس النسطوریة و الیعقوبیة. و فی سنة ثلاث عشرة و ثلاثمائة قدم الوزیر علیّ بن عیسی بن الجرّاح إلی مصر، فکشف البلد و ألزم الأساقفة و الرهبان و ضعفاء النصاری بأداء الجزیة، فأدّوها، و مضی طائفة منهم إلی بغداد و استغاثوا بالمقتدر بالله، فکتب إلی مصر بأن لا یؤخذ من الأساقفة و الرهبان و الضعفاء جزیة، و أن یجروا علی العهد الذی بأیدیهم. و فی سنة ثلاث و عشرین و ثلاثمائة قدّم الیعاقبة بطرکا اسمه ... فأقام عشرین سنة و مات، و فی أیامه ثار المسلمون بالقدس سنة خمس و عشرین و ثلاثمائة و حرّقوا کنیسة القیامة و نهبوها و خرّبوا منها ما قدروا علیه. و فی یوم الاثنین آخر شهر رجب سنة ثمان و عشرین و ثلاثمائة مات سعید بن بطریق بطرک الإسکندریة علی الملکیة بعد ما أقام فی البطرکیة سبع سنین و نصفا فی شرور متصلة مع طائفته، فبعث الأمیر أبو بکر محمد بن طفج الإخشید أبا الحسین من قوّاده فی طائفة من الجند إلی مدینة تنیس، حتی ختم علی کنائس الملکیة و أحضر آلاتها إلی الفسطاط، و کانت کثیرة جدّا فافتکها الأسقف بخمسة آلاف دینار باعوا فیها من وقف الکنائس، ثم صالح طائفته و کان فاضلا و له تاریخ مفید، و ثار المسلمون أیضا بمدینة عسقلان و هدموا کنیسة مریم الخضراء، و نهبوا ما فیها، و أعانهم الیهود حتی أحرقوها، ففرّ أسقف عسقلان إلی الرملة و أقام بها حتی مات، و قدّم الیعاقبة فی سنة خمس و أربعین و ثلاثمائة تاوفانیوس بطرکا، فأقام أربع سنین و ستة أشهر و مات، فأقیم بعده مینا، فأقام إحدی عشرة سنة و مات، فخلا الکرسیّ بعده سنة، ثم قدّم الیعاقبة افراهام بعده مینا، فأقام ست و ستین و ثلاثمائة فأقام ثلاث سنین و ستة أشهر و مات مسموما من بعض کتاب النصاری، و سببه أنه منعه من التسرّی، فخلا الکرسی بعده ستة أشهر، و أقیم فیلایاوس فی سنة تسع و ستین، فأقام أربعا و عشرین سنة و مات، و کان مترفا. و فی أیامه أخذت الملکیة کنیسة السیدة المعروفة بکنیسة البطرک، تسلمها منهم بطرک الملکیة أرسانیوس فی أیام العزیز بالله نزار بن المعز، و فی سنة ثلاث و تسعین و ثلاثمائة قدّم الیعاقبة زخریس بطرکا، فأقام ثمانی و عشرین سنة، منها فی البلایا مع الحاکم بأمر اللّه أبی علیّ منصور بن العزیز بالله تسع سنین، اعتقله فیها ثلاثة أشهر، و أمر به فألقی للسباع هو و سوسنة النوبیّ، فلم تضرّه، فیما زعم النصاری. و لما مات خلا الکرسیّ بعده أربعة و سبعین یوما، و فی بطرکیته نزل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 413
بالنصاری شدائد لم یعهدوا مثلها، و ذلک أن کثیرا منهم کان قد تمکن فی أعمال الدولة حتی صاروا کالوزراء و تعاظموا لاتساع أحوالهم و کثرة أموالهم، فاشتدّ بأسهم و تزاید ضررهم و مکایدتهم للمسلمین، فأغضب الحاکم بأمر اللّه ذلک، و کان لا یملک نفسه إذا غضب، فقبض علی عیسی بن نسطورس النصرانیّ، و هو إذ ذاک فی رتبة تضاهی رتب الوزراء و ضرب عنقه، ثم قبض علی فهد بن إبراهیم النصرانیّ کاتب الأستاذ برجوان و ضرب عنقه، و تشدّد علی النصاری و ألزمهم بلبس ثیاب الغیار، و شدّ الزنار فی أوساطهم و منعهم من عمل الشعانین و عید الصلیب و التظاهر بما کانت عادتهم فعله فی أعیادهم من الاجتماع و اللهو، و قبض علی جمیع ما هو محبس علی الکنائس و الدیارات و أدخله فی الدیوان، و کتب إلی أعماله کلها بذلک، و أحرق عدّة صلبان کثیرة، و منع النصاری من شراء العبید و الإماء، و هدم الکنائس التی بخط راشدة ظاهر مدینة مصر، و أخرب کنائس المقس خارج القاهرة، و أباح ما فیها للناس، فانتهبوا منها ما یجل وصفه، و هدم دیر القصیر و انهب العامة ما فیه، و منع النصاری من عمل الغطاس علی شاطی‌ء النیل بمصر، و أبطل ما کان یعمل فیه من الاجتماع للهو، و ألزم رجال النصاری بتعلیق الصلبان الخشب التی زنة کل صلیب منها خمسة أرطال فی أعناقهم، و منعهم من رکوب الخیل، و جعل لهم أن یرکبوا البغال و الحمیر بسروج و لجم غیر محلاة بالذهب و الفضة، بل تکون من جلود سود، و ضرب بالحرس فی القاهرة و مصر أن لا یرکب أحد من المکاریة ذمّیا، و لا یحمل نوتیّ مسلم أحدا من أهل الذمة، و أن تکون ثیاب النصاری و عمائهم شدیدة السواد، و رکب سروجهم من خشب الجمیز، و أن یعلق الیهود فی أعناقهم خشبا مدوّرا زنة الخشبة منها خمسة أرطال، و هی ظاهرة فوق ثیابهم، و أخذ فی هدم الکنائس کلها و أباح ما فیها، و ما هو محبس علیها للناس نهبا و إقطاعا، فهدمت بأسرها و نهب جمیع أمتعتها و أقطع أحباسها، و بنی فی مواضعها المساجد، و أذن بالصلاة فی کنیسة شنودة بمصر، و أحیط بکنیسة المعلقة فی قصر الشمع، و أکثر الناس من رفع القصص بطلب کنائس أعمال مصر و دیاراتها، فلم یردّ قصة منها إلّا و قد وقع علیها بإجابة رافعها لما سأل، فأخذوا أمتعة الکنائس و الدیارات و باعوا بأسواق مصر ما وجدوا من أوانی الذهب و الفضة و غیر ذلک، و تصرّفوا فی أحباسها، و وجد بکنیسة شنودة مال جلیل، و وجد فی المعلقة من المصاغ و ثیاب الدیباج أمر کثیر جدّا إلی الغایة، و کتب إلی ولاة الأعمال بتمکین المسلمین من هدم الکنائس و الدیارات فعمّ الهدم فیها من سنة ثلاث و أربعمائة حتی ذکر من یوثق به فی ذلک أن الذی هدم إلی آخر سنة خمس و أربعمائة بمصر و الشام و أعمالهما من الهیاکل التی بناها الروم نیث و ثلاثون ألف بیعة، و نهب ما فیها من آلات الذهب و الفضة، و قبض علی أوقافها، و کانت أوقافا جلیلة علی مبان عجیبة، و ألزم النصاری أن تکون الصلبان فی أعناقهم إذا دخلوا الحمام، و ألزم الیهود أن یکون فی أعناقهم الأجراس إذا دخلوا الحمام، ثم ألزم الیهود و النصاری بخروجهم کلهم من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 414
أرض مصر إلی بلاد الروم، فاجتمعوا بأسرهم تحت القصر من القاهرة و استغاثوا و لاذوا بعفو أمیر المؤمنین حتی أعفوا من النفی، و فی هذه الحوادث أسلم کثیر من النصاری.
و فی سنة سبع و أربعمائة و ثب بعض أکابر البلغر علی ملکهم قمطورس فقتله و ملک عوضه، و کتب إلی باسیل ملک قسطنطینیة بطاعته فأقرّه، ثم قتل بعد سنة فسار الملک باسیل إلیهم فی شوّال سنة ثمان و أربعمائة و استولی علی مملکة البلغر و أقام فی قلاعها عدّة من الروم، و عاد إلی قسطنطینیة فاختلط الروم بالبغر و نکحوا منهم و صاروا یدا واحدة بعد شدّة العداوة، و قدّم الیعاقبة علیهم سابونین بطرکا بالإسکندریة فی سنة إحدی و عشرین و أربعمائة، فی یوم الأحد ثالث عشری برمهات، فأقام خمس عشرة سنة و نصفا و مات فی طوبه، و کان محبا للمال، و أخذ الشرطونیة فخلا الکرسیّ بعده سنة و خمسة أشهر، ثم قدّم الیعاقبة أخر سطودیس بطرکا فی سنة تسع و ثلاثین و أربعمائة، فأقام ثلاثین سنة و مات بالمعلقة من مصر، و هو الذی جعل کنیسة بومرقوره بمصر، و کنیسة السیدة بحارة الروم من القاهرة فی أیام بطرکیته، فلم یقم بعده بطرک اثنین و سبعین یوما، ثم أقام الیعاقبة کیرلص، فأقام أربع عشرة سنة و ثلاثة أشهر و نصفا و مات بکنیسة المختار من جزیة مصر المعروفة بالروضة، فی سلخ ربیع الآخر سنة خمس و ثمانین و أربعمائة، و عمل بدلة للبطارکة من دیباج أزرق و بلاریة دیباج أحمر بتصاویر ذهب، و قطع الشرطونیة فلم یول بعده بطرک مدّة مائة و أربعة و عشرین یوما، ثم أقیم میخائیل الحبیس بسنجار فی سنة اثنتین و ثمانین و أربعمائة، فأقام تسع و سنین و ثمانیة أشهر و مات فی المعلقة بمصر، و کان المستنصر بالله لما نقص نیل مصر بعثه إلی بلاد الحبشة بهدیة سنیة، فتلقاه ملکها و سأله عن سبب قدومه، فعرّفه نقص النیل و ضرر أهل مصر بسبب ذلک، فأمر بفتح سدّ یجری منه الماء إلی أرض مصر، ففتح و زاد النیل فی لیلة واحدة ثلاثة أذرع، و استمرّت الزیادة حتی رویت البلاد و زرعت، ثم عاد البطرک فخلع علیه المستنصر و أحسن إلیه.
و فی سنة اثنتین و تسعین و أربعمائة قدّم الیعاقبة مقاری بطرکا بدیر بومقار، و کمل بالإسکندریة و عاد إلی مصر، ثم مضی إلی دیر بومقار فقدّس به ثم جاء إلی مصر فقدّس بالمعلقة، فأقام ستا و عشرین سنة و أحدا و أربعین یوما و مات. فخلت مصر من بطرک الیعاقبة سنتین و شهرین، و فی أیامه حدثت زلزلة عظیمة بمصر هدم فیها کنیسة المختار بالروضة، و اتهم الأفضل بن أمیر الجیوش بهدمها، فإنها کانت فی بستانه. و فی أیامه أبطل عواید کثیرة للنصاری، فبطلت بعده. ثم قدّم الیعاقبة غیریال المکنی بأبی العلا صاعد بن تربک الشماس بکنیسة مرقوریوس فی سنة خمس و عشرین و خمسمائة بالمعلقة، و کمل بالإسکندریة و قدّس بالأدیرة بوادی هبیب، و أقام أربع عشرة سنة و مات، فخلا بعده کرسیّ الیعاقبة ثلاثة أشهر.
ثم قدّم الیعاقبة میخائیل بن التقدوسیّ الراهب بقلایة دمشری بطرکا، فأقام مدّة سنة و سبعین یوما، ثم أقیم یونس أبو الفتح بطرکا بالمعلقة، و کمل بالإسکندریة، فأقام تسع عشرة سنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 415
و مات، فی سابع عشری جمادی الآخرة، سنة إحدی و خمسین و خمسمائة، فخلا الکرسیّ بعده ثلاثة و أربعین یوما، و قدم مرقص بن زرعة المکنی بأبی الفرج بطرک الیعاقبة بمصر، و کمل بالإسکندریة، فأقام اثنتین و عشرین سنة و ستة أشهر و خمسة و عشرین یوما و مات، و فی أیامه انتقل مرقص بن قنبر و جماعة من القنابرة إلی رأی الملکیة، ثم عاد إلی الیعقوبیة، فقبل. ثم عاد إلی الملکیة و رجع فلم یقبل، و کان هذا البطرک له همة و مروءة. و فی أیامه کان حریق شاور الوزیر لمصر، فی ثامن عشر هتور، فاحترقت کنیسة بومرقورة، و خلا بعده کرسیّ البطارکة سبعة و عشرین یوما، ثم قدّم الیعاقبة یونس بن أبی غالب بطرکا فی یوم الأحد عاشر ذی الحجة سنة أربع و ثمانین و خمسمائة، و کمل بالإسکندریة، فأقام ستا و عشرین سنة و أحد عشر شهرا و ثلاثة عشر یوما، و مات یوم الخمیس رابع عشر شهر رمضان سنة اثنتی عشرة و ستمائة بالمعلقة بمصر، و دفن بالحبش، و کان فی ابتداء أمره تاجرا یتردّد إلی الیمن فی البحر حتی کثر ماله، و کان معه مال لأولاد الخباب فاتفق أنه غرق فی بحر الملح، و ذهب ماله و نجا بنفسه إلی القاهرة، و قد آیس أولاد الخباب من مالهم، فلما لقیهم أعلمهم أن مالهم قد سلّم، فإنه کان قد عمله فی نقائر خشب مسمرة فی المرکب، فصار لهم به عنایة، فلما مات مرقص بن زرعة سعی یونس هذا للقس أبی یاسر فقال له أولاد الخباب: خذ أنت البطرکیة و نحن نزکیک، فوافقهم و أقیم بطرکا، فشق ذلک علی أبی یاسر و هجره بعد صحبة طویلة، و کان معه لما استقرّ فی البطرکیة سبعة عشر ألف دینار مصریة، أنفقها علی الفقراء، و أبطل الدیاریة و منع الشرطونیة، و لم یأکل لأحد من النصاری خبزا و لا قبل من أحد هدیة.
فلما مات قام أبو الفتوح نشو الخلیفة بن المیقاط کاتب الجیش مع السلطان الملک العادل أبی بکر بن أیوب فی ولایة القس داود بن یوحنا بن لقلق الفیومیّ، فإنه کان خصیصا به، فأجابه و کتب توقیعه من غیر أن یعلم الملک الکامل محمد ابن السلطان، فشق ذلک علی النصاری، و قام منهم الأسعد بن صدقة کاتب دار التفاح بمصر و معه جماعة، و توجهوا سحرا و معهم الشموع إلی تحت قلعة الجبل حیث کان سکن الملک الکامل و استغاثوا به، و وقعوا فی القس و قالوا لا یصلح، و فی شریعتنا أنه لا یقدّم البطرک إلا باتفاق الجمهور علیه، فبعث الملک الکامل یطیب خواطرهم، و کان القس قد رکب بکرة و معه الأساقفة و عالم کثیر من النصاری لیقدّموه بالمعلقة بمصر، و ذلک یوم الأحد، فرکب الملک الکامل بشجو کبیر من القلعة إلی أبیه بدار الوزارة من القاهرة حیث سکنه، و أوقف ولایة القس، فبعث السلطان فی طلب الأساقفة لیتحقق الأمر منهم، فوافقهم الرسل مع القس فی الطریق فأخذوهم، و دخل القس إلی کنیسة بوجرج التی بالحمراء و بطلت بطرکیته، و أقامت مصر بغیر بطرک تسع عشرة سنة و مائة و ستین یوما. ثم قدّم هذا القس بطرکا فی یوم الأحد تاسع عشری شهر رمضان سنة ثلاث و ثلاثین و ستمائة، فأقام سبع سنین و تسعة أشهر و عشرة أیام و مات یوم الثلاثاء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 416
سابع عشر شهر رمضان سنة أربعین و ستمائة، و دفن بدیر الشمع بالجیزة، و کان عالما بدینه محبا للریاسة، و أخذ الشرطونیة فی بطرکیته، و کانت الدیارات بأرض مصر قد خلت من الأساقفة، فقدم جماعة أساقفة کثیرة بمال کثیر أخذه منهم و قاسی شدائد، و رافعه الراهب عماد المرشال و وکل علیه و علی أقاربه و ألزامه، و ساعده الراهب السنی بن الثعبان، و أشاع مثالبه و قال لا یصح له کونیة لأنه یقدّم بالرشوة، و أخذ الشرطونیة و جمع علیه طائفة کثیرة، و عقد مجلسا عند الصاحب معین الدین حسن بن شیخ الشیوخ فی أیام الملک الصالح نجم الدین أیوب، و أثبت علی البطرک قوادح، فقام الکتاب النصاری فی أمره مع الصاحب بمال یحمله إلی السلطان حتی استمر علی بطرکیته، و خلا کرسیّ البطارکة بعده سبع سنین و ستة أشهر و ستة و عشرین یوما.
ثم قدّم الیعاقبة ابناسیوس ابن القس أبی المکارم بن کلیل بالمعلقة فی یوم الأحد رابع شهر رجب سنة ثمان و أربعین و ستمائة، و کمل بالإسکندریة، فأقام إحدی عشرة سنة و خمسة و خمسین یوما، و مات یوم الأحد ثالث المحرّم سنة ستین و ستمائة، فخلت مصر من البطرکیة خمسة و ثمانین یوما. و فی أیامه أخذ الوزیر الأسعد شرف الدین هبة اللّه بن صاعد الفائزی الجوالی من النصاری مضاعفة، و فی أیامه ثارت عوامّ دمشق و خربت کنیسة مریم بدمشق بعد إحراقها و نهب ما فیها، و قتل جماعة من النصاری بدمشق، و نهب دورهم، و خرابها فی سنة ثمان و خمسین و ستمائة بعد وقعة عین جالوت و هزیمة المغل. فلما دخل السلطان الملک المظفر قطز إلی دمشق قرّر علی النصاری بها مائة ألف و خمسین ألف درهم، جمعوها من بینهم و حملوها إلیه بسفارة الأمیر فارس الدین أقطای المستعرب، أتابک العسکر.
و فی سنة اثنتین و ثمانین و ستمائة کانت واقعة النصاری، و من خبرها أن الأمیر سنجر الشجاعیّ کانت حرمته وافرة فی أیام الملک المنصور قلاون، فکان النصاری یرکبون الحمیر بزنانیر فی أوساطهم، و لا یجسر نصرانیّ یحدّث مسلما و هو راکب، و إذا مشی فبذلة، و لا یقدر أحد منهم یلبس ثوبا مصقولا، فلما مات الملک المنصور و تسلطن من بعده ابنه الملک الأشرف خلیل، خدم الکتاب النصاری عند الأمراء الخاصکیة و قوّوا نفوسهم علی المسلمین، و ترفعوا فی ملابسهم و هیآتهم، و کان منهم کاتب عند خاصکیّ یعرف بعین الغزال، فصدف یوما فی طریق مصر سمسار شونة مخدومه، فنزل السمسار عن دابته و قبّل رجل الکاتب، فأخذ یسبه و یهدّده علی مال قد تأخر علیه من ثمن غلة الأمیر، و هو یترفق له و یعتذر، فلا یزیده ذلک علیه إلّا غلظة، و أمر غلامه فنزل و کتف السمسار و مضی به و الناس تجتمع علیه حتی صار إلی صلیبة جامع أحمد بن طولون، و معه عالم کبیر، و ما منهم إلّا من یسأله أن یخلی عن السمسار و هو یمتنع علیهم، فتکاثروا علیه و ألقوه عن حماره و أطلقوا السمسار، و کان قد قرب من بیت أستاذه، فبعث غلامه لینجده بمن فیه، فأتاه بطائفة من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 417
غلمان الأمیر و أوجاقیته فخلصوه من الناس و شرعوا فی القبض علیهم لیفتکوا بهم، فصاحوا علیهم ما یحل و مرّوا مسرعین إلی أن وقفوا تحت القلعة، و استغاثوا نصر اللّه السلطان، فأرسل یکشف الخبر فعرّفوه ما کان من استطالة الکاتب النصرانیّ علی السمسار، و ما جری لهم، فطلب عین الغزال و رسم للعامّة بإحضار النصاری إلیه، و طلب الأمیر بدر الدین بیدرا النائب، و الأمیر سنجر الشجاعیّ، و تقدّم إلیهما بإحضار جمیع النصاری بین یدیه لیقتلهم، فما زالا به حتی استقرّ الحال علی أن ینادی فی القاهرة و مصر، أن لا یخدم أحد من النصاری و الیهود عند الأمیر، و أمر الأمراء بأجمعهم أن یعرضوا علی من عندهم من الکتاب النصاری الإسلام، فمن امتنع من الإسلام ضربت عنقه، و من أسلم استخدموه عندهم، و رسم للنائب بعرض جمیع مباشری دیوان السلطان و یفعل فیهم ذلک، فنزل الطلب لهم و قد اختفوا، فصارت العامّة تسبق إلی بیوتهم و تنهبها، حتی عمّ النهب بیوت النصاری و الیهود بأجمعهم، و أخرجوا نساءهم مسبیات، و قتلوا جماعة بأیدیهم، فقام الأمیر بیدرا النائب مع السلطان فی أمر العامّة، و تلطف به حتی رکب و إلی القاهرة و نادی من نهب بیت نصرانیّ شنق، و قبض علی طائفة من العامّة و شهرهم بعد ما ضربهم، فانکفوا عن النهب بعد ما نبهوا کنیسة المعلقة بمصر و قتلوا منها جماعة، ثم جمع النائب کثیرا من النصاری کتاب السلطان و الأمراء و أوقفهم بین یدی السلطان عن بعد منه، فرسم للشجاعیّ و أمیر جاندار أن یأخذا عدّة معهما و ینزلوا إلی سوق الخیل تحت القلعة، و یحفروا حفیرة کبیرة و یلقوا فیها الکتاب الحاضرین، و یضرموا علیهم الحطب نارا، فتقدّم الأمیر بیدرا و شفع فیهم فأبی أن یقبل شفاعته و قال: ما أرید فی دولتی دیوانا نصرانیا، فلم یزل به حتی سمح بأن من أسلم منهم یستقرّ فی خدمته، و من امتنع ضربت عنقه، فأخرجهم إلی دار النیابة و قال لهم: یا جماعة ما وصلت قدرتی مع السلطان فی أمرکم إلّا علی شرط، و هو أن من اختار دینه قتل، و من اختار الإسلام خلع علیه و باشر، فابتدره المکین بن السقاعیّ أحد المستوفین و قال: یا خوند و أینا قوّاد یختار القتل علی هذا الدین الخراء، و اللّه دین نقتل و نموت علیه یروح، لا کتب اللّه علیه سلامة، قولوا لنا الذی تختاروه حتی نروح إلیه، فغلب بیدرا الضحک و قال له: ویلک، أ نحن نختار غیر دین الإسلام؟ فقال یا خوند: ما نعرف، قولوا و نحن نتبعکم، فأحضر العدول و استسلمهم، و کتب بذلک شهادات علیهم، و دخل بها علی السلطان فألبسهم تشاریف و خرجوا إلی مجلس الوزیر الصاحب شمس الدین محمد بن السلعوس، فبدأ بعض الحاضرین بالمکین بن السقاعیّ و ناوله ورقة لیکتب علیها و قال: یا مولانا القاضی اکتب علی هذه الورقة. فقال: یا بنیّ ما کان لنا هذا القضاء فی خلد، فلم یزالوا فی مجلس الوزیر إلی العصر، فجاءهم الحاجب و أخذهم إلی مجلس النائب و قد جمع به القضاة فجدّدوا إسلامهم بحضرتهم، فصار الذلیل منهم بإظهار الإسلام عزیزا، یبدی من إذلال المسلمین و التسلط علیهم بالظلم ما کان یمنعه نصرانیته من إظهاره، و ما هو إلا کما
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 418
کتب به بعضهم إلی الأمیر بیدرا النائب:
أسلم الکافرون بالسیف قهراو إذا ما خلوا فهم مجرمونا
سلموا من رواح مال و روح‌فهم سالمون لا مسلمونا
و فی أخریات شهر رجب سنة سبعماءة قدم وزیر متملک المغرب إلی القاهرة حاجا، و صار یرکب إلی الموکب السلطانیّ و بیوت الأمراء، فبینما هو ذات یوم بسوق الخیل تحت القلعة، إذا هو برجل راکب علی فرس و علیه عمامة بیضاء و فرجیة مصقولة، و جماعة یمشون فی رکابه و هم یسألونه و یتضرّعون إلیه و یقبلون رجلیه، و هو معرض عنهم و ینهرهم و یصیح بغلمانه أن یطردوهم عنه. فقال له بعضهم یا مولای الشیخ بحیاة ولدک النشو تنظر فی حالنا، فلم یزده ذلک إلّا عتوّا و تحامقا، فرقّ المغربیّ لهم و همّ بمخاطبته فی أمرهم، فقیل له و أنه مع ذلک نصرانیّ، فغضب لذلک و کاد أن یبطش به، ثم کف عنه و طلع إلی القلعة و جلس مع الأمیر سلار نائب السلطان، و الأمیر بیبرس الجاشنکیر، و أخذ یحادثهم بما رآه و هو یبکی رحمة للمسلمین بما نالهم من قسوة النصاری، ثم وعظ الأمراء و حذرهم نقمة اللّه، و تسلیط عدوّهم علیهم من تمکین النصاری من رکوب الخیل، و تسلطهم علی المسلمین و إذلالهم إیاهم، و أن الواجب إلزامهم الصغار، و حملهم علی العهد الذی کتبه أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، فمالوا إلی قوله و طلبوا بطرک النصاری و کبراءهم و دیان الیهود، فجمعت نصاری کنیسة المعلقة و نصاری دیر البغل و نحوهم، و حضر کبراء الیهود و النصاری، و قد حضر القضاة الأربعة و ناظروا النصاری و الیهود، فأذعنوا إلی التزام العهد العمریّ، و ألزم بطرک النصاری طائفته النصاری بلبس العمائم الزرق و شدّ الزنار فی أوساطهم، و منعهم من رکوب الخیل و البغال، و التزام الصغار، و حرّم علیهم مخالفة ذلک أو شی‌ء منه، و أنه بری‌ء من النصرانیة إن خالف. ثم اتبعه دیان الیهود بأن أوقع الکلمة علی من خالف من الیهود ما شرط علیه، من لبس العمائم الصفر و التزام العهد العمریّ، و کتب بذلک عدّة نسخ سیرت إلی الأعمال، فقام المغربیّ فی هدم الکنائس، فلم یمکنه قاضی القضاة تقی الدین محمد بن دقیق العید من ذلک، و کتب خطه بأنه لا یجوز أن یهدم من الکنائس إلّا ما استجدّ بناؤه، فغلقت عدّة کنائس بالقاهرة و مصر مدّة أیام، فسعی بعض أعیان النصاری فی فتح کنیسة حتی فتحها، فثارت العامة و وقفوا للنائب و الأمراء و استغاثوا بأن النصاری قد فتحوا الکنائس بغیر إذن، و فیهم جماعة تکبروا عن لبس العمائم الزرق، و احتمی کثیر منهم بالأمراء، فنودی فی القاهرة و مصر أن یلبس النصاری بأجمعهم العمائم الزرق، و یلبس الیهود بأسرهم العمائم الصفر، و من لم یفعل ذلک نهب ماله و حلّ دمه، و منعوا جمیعا من الخدمة فی دیوان السلطان و دواوین الأمراء حتی یسلموا، فتسلطت الغوغاء علیهم و تتبعوهم، فمن رأوه بغیر الزیّ الذی رسم به ضربوه بالنعال و صفعوا عنقه حتی یکاد یهلک، و من مرّ بهم و قد رکب و لا یثنی رجله ألقوه عن دابته و أوجعوه ضربا،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 419
فاختفی کثیر منهم، و ألجأت الضرورة عدّة من أعیانهم إلی إظهار الإسلام أنفة من لبس الأزرق و رکوب الحمیر، و قد أکثر شعراء العصر فی ذکر تغییر زیّ أهل الذمّة، فقال علاء الدین علیّ بن مظفر الوداعیّ:
لقد ألزم الکفار شاشات ذلةتزیدهم من لعنة اللّه تشویشا
فقلت لهم ما ألبسوکم عمائماو لکنهم قد ألزموکم براطیشا
و قال شمس الدین الطیبی:
تعجبوا للنصاری و الیهود معاو السامریین لما عمموا الخرقا
کأنما بات بالأصباغ منسهلانسر السماء فأضحی فوقهم زرقا
فبعث ملک برشلونة فی سنة ثلاث و سبعمائة هدیة جلیلة زائدة عن عادته، عمّ بها جمیع أرباب الوظائف من الأمراء مع ما خص به السلطان، و کتب یسأل فی فتح الکنائس، فاتفق الرأی علی فتح کنیسة حارة زویلة للیعاقبة، و فتح کنیسة البندقانیین من القاهرة، ثم لما کان یوم الجمعة تاسع شهر ربیع الآخر سنة إحدی و عشرین و سبعمائة، هدمت کنائس أرض مصر فی ساعة واحدة، کما ذکر فی أخبار کنیسة الزهریّ، و فی سنة خمس و خمسین و سبعمائة، رسم بتحریر ما هو موقوف علی الکنائس من أراضی مصر، فأناف علی خمسة و عشرین ألف فدان، و سبب الفحص عن ذلک، کثرة تعاظم النصاری و تعدّیهم فی الشرّ و الإضرار بالمسلمین، لتمکنهم من أمراء الدولة و تفاخرهم بالملابس الجلیلة، و المغالاة فی أثمانها، و التبسط فی المآکل و المشارب، و خروجهم عن الحدّ فی الجراءة و السلاطة، إلی أن اتفق مرور بعض کتاب النصاری علی الجامع الأزهر من القاهرة، و هو راکب بخف و مهماز و بقباء إسکندریّ طرح علی رأسه، و قدّامه طرّادون یمنعون الناس من مزاحمته، و خلفه عدّة عبید بثیاب سریة علی أکادیش فارهة، فشق ذلک علی جماعة من المسلمین، و ثاروا به و أنزلوه عن فرسه و قصدوا قتله، و قد اجتمع عالم کبیر، ثم خلوا عنه، و تحدّد جماعة مع الأمیر طاز فی أمر النصاری و ما هم علیه، فوعدهم بالإنصاف منهم، فرفعوا قصة علی لسان المسلمین قرئت علی السلطان الملک الصالح صالح بحضرة الأمراء و القضاة و سائر أهل الدولة، تتضمن الشکوی من النصاری، و أن یعقد لهم مجلس لیلتزموا بما علیهم من الشروط، فرسم بطلب بطرک النصاری و أعیان أهل ملتهم، و بطلب رئیس الیهود و أعیانهم، و حضر القضاة و الأمراء بین یدی السلطان، و قرأ القاضی علاء الدین علیّ بن فضل اللّه کاتب السرّ العهد الذی کتب بین المسلمین و بین أهل الذمّة، و قد أحضروه معهم، حتی فرغ منه، فالتزم من حضر منهم بما فیه و أقرّوا به، فعدّدت لهم أفعالهم التی جاهروا بها و هم علیها، و أنهم لا یرجعون عنها غیر قلیل، ثم یعودن إلیها کما فعلوه غیر مرّة فیما سلف، فاستقرّ الحال علی أن یمنعوا من المباشرة بشی‌ء من دیوان السلطان و دواوین الأمراء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 420
و لو أظهروا الإسلام، و أن لا یکره أحد منهم علی إظهار الإسلام، و یکتب بذلک إلی الأعمال. فتسلطت العامّة علیهم و تتبعوا آثارهم و أخذوهم فی الطرقات، و قطعوا ما علیهم من الثیاب، و أوجعوهم ضربا، و لم یترکوهم حتی یسلموا، و صاروا یضرمون لهم النار لیلقوهم فیها، فاختفوا فی بیوتهم و لم یتجاسروا علی المشی بین الناس، فنودی بالمنع من التعرّض لأذاهم، فأخذت العامّة فی تتبع عوراتهم و ما علوه من دورهم علی بناء المسلمین فهدموه، و اشتدّ الأمر علی النصاری باختفائهم، حتی أنهم فقدوا من الطرقات مدّة، فلم یر منهم و لا من الیهود أحد، فرفع المسلمون قصة قرئت فی دار العدل فی یوم الاثنین رابع عشر شهر رجب، تتضمن أن النصاری قد استجدّوا عمارات فی کنائسهم و وسعوها، هذا و قد اجتمع بالقلعة عالم عظیم و استغاثوا بالسلطان من النصاری، فرسم برکوب والی القاهرة و کشفه علی ذلک، فلم تتمهل العامّة و مرّت بسرعة فخرّبت کنیسة بجوار قناطر السباع، و کنیسة بطریق مصر للأسری، و کنیسة الفهادین بالجوّانیة من القاهرة، و دیر نهیا من الجیزة، و کنیسة بناحیة بولاق التکروریّ، و نهبوا حواصل ما خرّبوه من ذلک، و کانت کثیرة، و أخذوا أخشابها و رخامها و هجموا کنائس مصر و القاهرة، و لم یبق إلّا أن یخرّبوا کنیسة البندقانیین بالقاهرة، فرکب الوالی و منعهم منها، و اشتدّت العامة و عجز الحکام عن کفهم، و کان قد کتب إلی جمیع أعمال مصر و بلاد الشام أن لا یستخدم یهودیّ و لا نصرانیّ و لو أسلم، و أنه من أسلم منهم لا یمکن من العبور إلی بیته و لا من معاشرة أهله إلّا أن یسلموا و أن یلزم من أسلم منهم بملازمة المساجد و الجوامع لشهود الصلوات الخمس و الجمع، و أنّ من مات من أهل الذمة یتولی المسلمون قسمة ترکته علی ورثته إن کان له وارث، و إلّا فهی لبیت المال، و کان یلی ذلک البطرک، و کتب بذلک مرسوم قری‌ء علی الأمراء، ثم نزل به الحاجب فقرأه فی یوم الجمعة سادس عشری جمادی الآخرة بجوامع القاهرة و مصر، فکان یوما مشهودا.
ثم أحضر فی أخریات شهر رجب من کنیسة شبرا بعدما هدمت، إصبع الشهید الذی کان یلقی فی النیل حتی یزید، بزعمهم، و هو فی صندوق، فأحرق بین یدی السلطان بالمیدان من قلعة الجبل و ذری رماده فی البحر خشیة من أخذ النصاری له، فقدمت الأخبار بکثرة دخول النصاری من أهل الصعید و الوجه البحریّ فی الإسلام. و تعلمهم القرآن، و إن أکثر کنائس الصعید هدمت و بنیت مساجد، و أنه أسلم بمدینة قلیوب فی یوم واحد أربعمائة و خمسون نصرانیا، و کذلک بعامة الأریاف، مکرا منهم و خدیعة حتی یستخدموا فی المباشرات، و ینکحوا المسلمات، فتم لهم مرادهم و اختلطت بذلک الأنساب حتی صار أکثر الناس من أولادهم، و لا یخفی أمرهم علی من نوّر اللّه قلبه، فإنه یظهر من آثارهم القبیحة إذا تمکنوا من الإسلام و أهل ما یعرف به الفطن سوء أصلهم، و قدیم معاداة أسلافهم للدین و حملته.
النصاری فرق کثیرة، الملکانیة، و النسطوریة، و الیعقوبیة، و البرذعانیة، و المرقولیة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 421
و هم الرهاویون الذین کانوا بنواحی حرّان و غیر هؤلاء. فمنهم من مذهبه مذهب الحرّانیة، و منهم من یقول بالنور و الظلمة، و الثنویة کلهم یقرّون بنبوّة المسیح علیه السلام و منهم من یعتقد مذهب أرسطاطالیس. و الملکانیة و الیعقوبیة و النسطوریة متفقون علی أن معبودهم ثلاثة أقانیم ، و هذه الأقانیم الثلاثة شی‌ء واحد، و هو جوهر قدیم، و معناه أب و ابن و روح القدس إله واحد، و أن الابن نزل من السماء فتدرّع جسدا من مریم، و ظهر للناس یحیی و یبروئ و ینبی، ثم قتّل و صلب و خرج من القبر لثلاث، فظهر لقوم من أصحابه فعرفوه حق معرفته، ثم صعد إلی السماء فجلس عن یمین أبیه هذا الذی یجمعهم اعتقاده، ثم إنهم یختلفون فی العبارة عنه.
فمنهم من یزعم أنّ القدیم جوهر واحد یجمعه ثلاثة أقانیم، کل أقنوم منها جوهر خاص، فأحد هذه الأقانیم أب واحد غیر مولود، و الثالث روح فائضة منبثقة بین الأب و الابن، و أن الابن لم یزل مولودا من الأب، و أن الأب لم یزل والدا للابن، لا علی جهة النکاح و التناسل، لکن علی جهة تولد ضیاء الشمس من ذات الشمس، و تولد حرّ النار من ذات النار.
و منهم من یزعم أن معنی قولهم إن الإله ثلاثة أقانیم، أنها ذات لها حیاة و نطق، فالحیاة هی روح القدس، و النطق هو العلم و الحکمة، ... و النطق و العلم و الحکمة و الکلمة عبارة عن الابن، کما یقال الشمس و ضیاؤها، و النار و حرّها، فهو عبارة عن ثلاثة أشیاء ترجع إلی أصل واحد.
و منهم من یزعم أنه لا یصحّ له أن یثبت الإله فاعلا حکیما، إلّا أنه یثبته حیا ناطقا، و معنی الناطق عندهم العالم الممیز، لا الذی یخرج الصوت بالحروف المرکبة، و معنی الحیّ عندهم من له حیاة بها یکون حیا، و معنی العالم من له علم به یکون عالما. قالوا فذاته و علمه و حیاته ثلاثة أشیاء و الأصل واحد، فالذات هی العلة للاثنین اللذین هما العلم و الحیاة، و الاثنان هما المعلولان للعلة، و منهم من یتنزه عن لفظ العلة و المعلول فی صفة القدیم، و یقول أب و ابن و والدة و روح و حیاة و علم و حکمة و نطق. قالوا و الابن اتحد بإنسان مخلوق، فصار هو و ما اتحد به مسیحا واحدا، و أن المسیح هو إله العباد و ربهم، ثم اختلفوا فی صفة الاتحاد، فزعم بعضهم أنه وقع بین جوهر لاهوتیّ و جوهر ناسوتیّ اتحاد، فصارا مسیحا واحدا، و لم یخرج الاتحاد کلّ واحد منهما عن جوهریته و عنصره، و أن المسیح إله معبود، و أنه ابن مریم الذی حملته و ولدته، و أنه قتل و صلب، و زعم قوم أن المسیح بعد الاتحاد جوهران، أحدهما لاهوتیّ و الآخر ناسوتیّ، و أن القتل و الصلب وقعا به من جهة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 422
ناسوته لا من جهة لاهوته، و أن مریم حملت بالمسیح و ولدته من جهة ناسوته، و هذا قول النسطوریة، ثم یقولون أن المسیح بکماله إله معبود، و أنه ابن اللّه، تعالی اللّه عن قولهم، و زعم قوم أنّ الاتحاد وقع بین جوهرین لاهوتیّ و ناسوتیّ، فالجوهر اللاهوتیّ بسیط غیر منقسم و لا متجزئ، و زعم قوم أن الاتحاد علی جهة حلول الابن فی الجسد و مخالطته إیاه، و منهم من زعم أن الاتحاد علی جهة الظهور، کظهور کتابة الخاتم و النقش إذا وقع علی طین أو شمع، و کظهور صورة الإنسان فی المرآة، إلی غیر ذلک من الاختلاف الذی لا یوجد مثله فی غیرهم، حتی لا تکاد تجد اثنین منهم علی قول واحد.
و الملکانیة تنسب إلی ملک الروم، و هم یقولون أنّ اللّه اسم لثلاثة معان، فهو واحد ثلاثة و ثلاثة واحد. و الیعقوبیة تقول أنه واحد قدیم، و أنه کان لا جسم و لا إنسان، ثم تجسم و تأنس. و المرقولیة قالوا اللّه واحد و علمه غیره قدیم معه، و المسیح ابنه علی جهة الرحمة، کما یقال إبراهیم خلیل اللّه، و المرقولیة تزعم أن المسیح یطوف علیهم کل یوم و لیلة، و البوزغانیة تزعم أن المسیح هو الذی یحشر الموتی من قبورهم و یحاسبهم.
و عندهم لا بدّ من تنصیر أولادهم، و ذلک أنهم یغمسون المولود فی ماء قد أغلی بالریاحین و ألوان الطیب فی إجانة جدیدة، و یقرءون علیه من کتابهم، فیزعمون أنه حینئذ ینزل علیه روح القدس، و یسمون هذا الفعل المعمودیة، و طهارتهم إنما هی غسل الوجه و الیدین فقط، و لا یختتن منهم إلّا الیعقوبیة، و لهم سبع صلوات یستقبلون فیها المشرق، و یحجون إلی بیت المقدس، و زکاتهم العشر من أموالهم، و صیامهم خمسون یوما، فالثانی و الأربعون منه عید الشعانین، و هو الیوم الذی نزل فیه المسیح من الجبل و دخل بیت المقدس، و بعده بأربعة أیام عید الفصح، و هو الیوم الذی خرج فیه موسی و قومه من مصر، و بعده بثلاثة أیام عید القیامة، و هو الیوم الذی خرج فیه المسیح من القبر بزعمهم، و بعده بثمانیة أیام عید الجدید، و هو الیوم الذی ظهر فیه المسیح لتلامذته بعد خروجه من القبر، و بعده بثمانیة و ثلاثین یوما عید السلاق، و هو الیوم الذی صعد فیه المسیح إلی السماء. و لهم عید الصلیب، و هو الیوم الذی وجدوا فیه خشیة الصلیب، و زعموا أنها وضعت علی میت فعاش، و لهم أیضا عید المیلاد و عید الذبح، و لهم قرابین و کهنة، فالشماس فوقه القس، و فوق القس الأسقف، و فوق الأسقف المطران، و فوق المطران البطریق، و السکر عندهم حرام، و لا یحلّ لهم أکل اللحم و لا الجماع فی الصوم، و کل ما یباع فی السوق و لم تعفه أنفسهم یباح أکله، و لا یصحّ النکاح إلّا بحضور شماس و قس و عدول و مهر، و یحرّمون من النساء ما یحرّمه المسلمون، و لا یحلّ الجمع بین امرأتین، و لا التسرّی بالإماء إلّا أن یعتقن و یتزوّج بهنّ، و إذا خدم العبد سبع سنین عتق، و لا یحل طلاق المرأة إلّا أن تأتی بفاحشة مبینة فتطلق، و لا تحل للزوج أبدا، و حدّ المحصن إذا زنی الرجم، فإن زنی غیر محصن و حملت منه المرأة تزوّج بها، و من قتل عمدا قتل، و من قتل خطأ یهرّب و لا یحل طلبه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 423
و أکثر أحکامهم من التوراة، و قد لعن منهم من لاط أو شهد بالزور أو قامر أو زنی أو سکر.

ذکر دیارات النصاری

اشارة

قال ابن سیده: الدیر خان النصاری، و الجمع أدیار، و صاحبه دیار و دیرانیّ. قلت الدیر عند النصاری یختص بالنساک المقیمین به، و الکنیسة مجتمع عامتهم للصلاة.
القلایة بمصر: هذه القلایة بجانب المعلقة التی تعرف بقصر الشمع فی مدینة مصر، و هی مجمع أکابر الرهبان و علماء النصاری، و حکمها عندهم حکم الأدیرة.
دیر طرا: و یعرف بدیر أبی جرج، و هو علی شاطی‌ء النیل. و أبو جرج هذا هو جرجس، و کان ممن عذبه الملک دقلطیانوس لیرجع عن دین النصرانیة، و نوّع له العقوبات من الضرب و التحریق بالنار، فلم یرجع، فضرب عنقه بالسیف فی ثالث تشرین و سابع بابه.
دیر شعران: هذا الدیر فی حدود ناحیة طرا، و هو مبنیّ بالحجر و اللبن، و به نخل و به عدّة رهبان، و یقال إنما هو دیر شهران بالهاء، و أنّ شهران کان من حکماء النصاری، و قیل بل کان ملکا، و کان هذا الدیر یعرف قدیما بمرقوریوس الذی یقال له مرقورة، و أبو مرقورة، ثم لما سکنه برصوما بن التبان عرف بدیر برصوما، و له عید یعمل فی الجمعة الخامسة من الصوم الکبیر، فیحضره البطرک و أکابر النصاری، و ینفقون فیه مالا کبیرا. و مرقوریوس هذا کان ممن قتله دقلطیانوس فی تاسع عشر تموز، و خامس عشری أبیب، و کان جندیا.
دیر الرسل: هذا الدیر خارج ناحیة الصف و الودی، و هو دیر قدیم لطیف.
دیر بطرس و بولص: هذا الدیر خارج اطفیح من قبلیها، و هو دیر لطیف و له عید فی خامس أبیب یعرف بعید القصریة. و بطرس هذا هو أکبر الرسل الحواریین، و کان دباغا، و قیل صیادا، قتله الملک نبرون فی تاسع عشری حزیران، و خامس أبیب. و بولص هذا کان یهودیا فتنصر بعد رفع المسیح علیه السلام، و دعا إلی دینه، فقتله الملک نیرون بعد قتله بطرس بسنة.
دیر الجمیزة: و یعرف بدیر الجود، و یسمی موضعه البحارة جزائر الدیر، و هو قبالة المیمون، و هو عزبة لدیر العزبة، بنی علی اسم انطونیوس، و یقال انطونة، و کان من أهل قمن، فلما انقضت أیام الملک دقلطیانوس و فاتته الشهادة أحب أن یتعوّض عنها بعبادة توصل ثوابها أو قریبا من ذلک، فترهب، و کان أوّل من أحدث الرهبانیة للنصاری عوضا عن الشهادة، و واصل أربعین یوما لیلا و نهارا طاویا لا یتناول طعاما و لا شرابا مع قیام اللیل، و کان هکذا یفعل فی الصیام الکبیر کل سنة.
دیر العزبة: هذا الدیر یسار إلیه فی الجبل الشرقیّ ثلاثة أیام بسیر الإبل، و بینه و بین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 424
بحر القلزم مسافة یوم کامل، و فیه غالب الفواکه مزدرعة، و به ثلاثة أعین تجری، و بناه أنطونیوس المقدّم ذکره، و رهبان هذا الدیر لا یزالون دهرهم صائمین، لکن صومهم إلی العصر فقط ثم یفطرون، ما خلا الصوم الکبیر و البرمولات، فإن صومهم فی ذلک إلی طلوع النجم، و البرمولات هی الصوم کذلک بلغتهم.
دیر أنبابولا: و کان یقال له أوّلا دیر بولص، ثم قیل له دیر بولا، و یعرف بدیر النمورة أیضا، و هذا الدیر فی البرّ الغربیّ من الطور علی عین ماء یردها المسافرون، و عندهم أن هذه العین تطهرت منها مریم أخت موسی علیهما السلام عند نزول موسی ببنی إسرائیل فی برّیة القلزم. و انبابولا هذا کان من أهل الإسکندریة، فلما مات أبوه ترک له و لأخیه مالا جما، فخاصمه أخوه فی ذلک و خرج مغاضبا له، فرأی میتا یقبر، فاعتبر به و مرّ علی وجهه سائحا حتی نزل علی هذه العین، فأقام هناک و اللّه تعالی یرزقه، فمرّ به انطونیوس و صحبه حتی مات، فبنی هذا الدیر علی قبره، و بین هذا الدیر و البحر ثلاث ساعات، و فیه بستان فیه نخل و عنب و به عین ماء تجری أیضا.
دیر القصیر: قال أبو الحسن علیّ بن محمد الشابشتی فی کتاب الدیارات: و هذا الدیر فی أعلی الجبل علی سطح فی قلته، و هو دیر حسن البناء محکم الصنعة نزه البقعة، و فیه رهبان مقیمون به، و له بئر منقورة فی الحجر یستقی له منها الماء، و فی هیکله صورة مریم علیها السلام فی لوح، و الناس یقصدون الموضع للنظر إلی هذه الصورة، و فی أعلاه غرفة بناها أبو الجیش خمارویه بن أحمد بن طولون، لها أربع طاقات إلی أربع جهات، و کان کثیر الغشیان لهذا الدیر معجبا بالصورة التی فیه، یستحسنها و یشرب علی النظر إلیها، و فی الطریق إلی هذا الدیر من جهة مصر صعوبة، و أما من قبلیه فسهل الصعود و النزول، و إلی جانبه صومعة لا تخلو من حبیس یکون فیها، و هو مطلّ علی القریة المعروفة بشهران، و علی الصحراء و البحر، و هی قریة کبیرة عامرة علی شاطی‌ء البحر، و یذکرون أن موسی صلوات اللّه علیه ولد فیها، و منها ألقته أمّه إلی البحر فی التابوت، و به أیضا دیر یعرف بدیر شهران، و دیر القصیر هذا أحد الدیارات المقصودة، و المنتزهات المطروقة لحسن موضعه و إشرافه علی مصر و أعمالها، و قد قال فیه شعراء مصر و وصفوه فذکروا طیبه و نزهته، و لأبی هریرة بن أبی عاصم فیه من المنسرح:
کم لی بدیر القصیر من قصف‌مع کل ذی صبوة و ذی ظرف
لهوت فیه بشادن غنج‌تقصر عنه بدائع الوصف
و قال ابن عبد الحکم فی کتاب فتوح مصر: و قد اختلف فی القصیر فعن ابن لهیعة قال: لیس بقصیر موسی النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و لکنه موسی الساحر، و عن المفضل بن فضالة عن أبیه قال: دخلنا علی کعب الأحبار فقال لنا: ممن أنتم؟ قلنا فتیان من أهل مصر. فقال: ما
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 425
تقولون فی القصیر؟ قلنا قصیر موسی. فقال: لیس بقصیر موسی، و لکنه قصیر عزیز مصر، کان إذا جری النیل یترفع فیه. و علی ذلک إنه لمقدّس من الجبل إلی البحر. قال: و یقال بل کان موقدا یوقد فیه لفرعون إذا هو رکب من منف إلی عین شمس، و کان علی المقطم موقد آخر، فإذا رأوا النار علموا برکوبه فأعدّوا له ما یرید، و کذلک إذا رکب منصرفا من عین شمس، و اللّه أعلم، و ما أحسن قول کشاجم:
سلام علی دیر القصیر و سفحه‌بجنات حلوان إلی النخلات
منازل کانت لی بهنّ مآرب‌و کنّ مواخیری و منتزهاتی
إذا جئتها کان الجیاد مراکبی‌و منصرفی فی السفن منحدرات
فأقبض بالأسحار وحشیّ عینهاو أقتنص الأنسیّ فی الظلمات
معی کلّ بسام أغرّ مهذب‌علی کل ما یهوی الندیم مواتی
و لحمان مما أمسکته کلابناعلینا و مما صید فی الشبکات
و کأس و ابریق و نای و مزهرو ساق غریر فاتر اللحظات
کأنّ قضیب البان عند اهتزازه‌تعلم من أعطافه الحرکات
هنالک تصفو لی مشارب لذتی‌و تصحب أیام السرور حیاتی
و قال علماء الأخبار من النصاری: إن أرقادیوس ملک الروم طلب أرسانیوس لیعلّم ولده، فظنّ أنه یقتله، ففرّ إلی مصر و ترهب، فبعث إلیه أمانا و أعلمه أن الطلب من أجل تعلیم ولده، فاستعفی و تحوّل إلی الجبل المقطم شرقیّ طرا، و أقام فی مغارة ثلاث سنین و مات، فبعث إلیه أرقادیوس فإذا هو قد مات، فأمر أن یبنی علی قبره کنیسة، و هو المکان المعروف بدیر القصیر، و یعرف الآن بدیر البغل، من أجل أنه کان به بغل یستقی علیه الماء، فإذا خرج من الدیر أتی الموردة، و هناک من یملأ علیه، فإذا فرغ من الماء ترکه فعاد إلی الدیر. و فی رمضان سنة أربعمائة أمر الحاکم بأمر اللّه بهدم دیر القصیر، فأقام الهدم و النهب فیه مدّة أیام.
دیر مرحنا: قال الشابشتی: دیر مرحنا علی شاطی‌ء برکة الحبش، و هو قریب من النیل، و إلی جانبه بساتین أنشأ بعضها الأمیر تمیم بن المعز، و مجلس علی عمد، حسن البناء ملیح الصنعة مسوّر، أنشأه الأمیر تمیم أیضا، و بقرب الدیر بئر تعرف ببئر مماتی، علیها جمیزة کبیرة یجتمع الناس إلیها و یشربون تحتها، و هذا الموضع من مغانی اللعب و مواطن القصف و الطرب، و هو نزه فی أیام النیل و زیادة البحر و امتلاء البرکة، حسن المنظر فی أیام الزرع و النواویر، لا یکاد حینئذ یخلو من المتنزهین و المتطربین، و قد ذکرت الشعراء حسنه و طیبه، و هذا الدیر یعرف الیوم بدیر الطین بالنون.
دیر أبی النعناع: هذا الدیر خارج انصنا، و هو من جملة عماراتها القدیمة، و کنیسته
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 426
فی قصره لا فی أرضه، و هو علی اسم أبی بخنس القصیر، و عیده فی العشرین من بابه، و سیأتی ذکر أبی بخنس هذا.
دیر مغارة شقلقیل: هو دیر لطیف معلق فی الجبل، و هو نقر فی الحجر علی صخرة تحتها عقبة لا یتوصل إلیه من أعلاه و لا من أسفله و لا سلّم له، و إنما جعلت له نقور فی الجبل، فإذا أراد أحد أن یصعد إلیه أرخیت له سلبة فأمسکها بیده و جعل رجلیه فی تلک النقور و صعد، و به طاحونة یدیرها حمار واحد، و یطلّ هذا الدیر علی النیل تجاه منفلوط و تجاه أمّ القصور، و تجاهه جزیرة یحیط بها الماء، و هی التی یقال لها شقلقیل، و بها قریتان إحداهما شقلقیل و الأخری بنی شقیر، و لهذا الدیر عید یجتمع فیه النصاری، و هو علی اسم یومینا، و هو من الأجناد الذین عاقبهم دیقلطیانوس لیرجع عن النصرانیة و یسجد للأصنام، فثبت علی دینه، فقتله فی عاشر حزیران و سادس عشر بابه.
دیر بقطر: بحاجر أبنوب من شرقیّ بنی مرّ تحت الجبل، علی مائتی قصبة منه، و هو دیر کبیر جدّا، و له عید یجتمع فیه نصاری البلاد شرقا و غربا، و یحضره الأسقف. و بقطر هذا هو ابن رومانوس، کان أبوه من وزراء دیقلطیانوس، و کان هو جمیلا شجاعا له منزلة من الملک، فلما تنصر وعده الملک و مناه لیرجع إلی عبادة الأصنام فلم یفعل، فقتله فی ثانی عشری نیسان، و سابع عشری برمودة.
دیر بقطرشق: فی بحریّ أبنوب، و هو دیر لطیف خال، و إنما تأتیه النصاری مرّة فی کل سنة. و بقطرشق ممن عذبه دیقلطیانوس لیرجع عن النصرانیة فلم یرجع، فقتله فی العشرین من هتور، و کان جندیا.
دیر بوجرج: بنی علی اسم بوجرج، و هو خارج المعیصرة بناحیة شرق بنی مرّو، تارة یخلو من الرهبان و تارة یعمر بهم، و له وقت یعمل العید فیه.
دیر حماس: و حماس اسم بلد هو بحربها، و له عیدان فی کل سنة و جموعات متعدّدة.
دیر الطیر: هذا الدیر قدیم، و هو مطلّ علی النیل، و له سلالم منحوتة فی الجبل، و هو قبالة سملوط. و قال الشابشتی و بنواحی أخمیم دیر کبیر عامر یقصد من کل موضع، و هو بقرب الجبل المعروف بجبل الکهف، و فی موضع من الجبل شق فإذا کان یوم عید هذا الدیر لم یبق فی البلد بوقیر حتی یجی‌ء إلی هذا الموضع، فیکون أمرا عظیما بکثرتها و اجتماعها و صیاحها عند الشق، و لا یزال الواحد بعد الواحد یدخل رأسه فی ذلک الشق و یصیح و یخرج، و یجی‌ء غیره إلی أن یعلق رأس أحدها و ینشب فی الموضع، فیضطرب حتی یموت، و تتفرّق حینئذ الباقیة فلا یبقی منها طائر. و قال القاضی: أبو جعفر القضاعیّ: و من عجائبها یعنی مصر، شعب البوقیرات بناحیة أشموم من أرض الصعید، و هو شعب فی جبل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 427
فیه صدع تأتیه البوقیرات فی یوم من السنة کان معروفا، فتعرض أنفسها علی الصدع، فکلما أدخل بوقیر منها منقاره فی الصدع مضی لطیته، فلا تزال تفعل ذلک حتی یلقتی الصدع علی بوقیر منها فیحبسه، و تمضی کلها و لا یزال ذلک الذی تحبسه معلقا حتی یتساقط. قال مؤلفه رحمه اللّه تعالی: و قد بطل هذا. فی جملة ما بطل.
دیر أبی هرمینة: بحریّ فاو الخراب، و بحریه بربافاو، و هی مملوءة کتبا و حکما، و بین دیر الطین و هذا الدیر نحو یومین و نصف، و أبو هرمینة هذا من قدماء الرهبان المشهورین عند النصاری.
دیر السبعة جبال باخمیم: هذا الدیر داخل سبعة أودیة، و هو دیر عال بین جبال شامخة، و لا تشرق علیه الشمس إلّا بعد ساعتین من الشروق لعلوّ الجبل الذی هو فی لحفه، و إذا بقی للغروب نحو ساعتین خیل لمن فیه أن الشمس قد غابت و أقبل اللیل، فیشعلون حینئذ الضوء فیه، و علی هذا الدیر من خارجه عین ماء تظلها صفصافة، و یعرف هذا الموضع الذی فیه دیر الصفصافة بوادی الملوک، لأن فیه نباتا یقال له الملوکة، و هو شبه الفجل، و ماؤه أحمر قان یدخل فی صناعة علم أهل الکیمیاء، و من داخل هذا الدیر دیر القرقس:
و هو فی أعلی جبل، قد نقر فیه، و لا یعلم له طریق، بل یصعد إلیه فی نقور فی الجبل، و لا یتوصل إلیه إلّا کذلک، و بین دیر الصفصافة و دیر القرقس ثلاث ساعات، و تحت دیر القرقس عین ماء عذب و أشجار بان.
دیر صبرة: فی شرقیّ اخمیم، عرف بعرب یقال لهم بنی صبرة، و هو علی اسم میخائیل الملک، و لیس به غیر راهب واحد. المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت ؛ ج‌4 ؛ ص427
ر أبی بشادة الأسقف: قریب من ناحیة انقه، و هو بالحاجر، و تجاهه فی الغرب منشأة اخمیم، و کان أبو بشادة هذا من علماء النصاری.
دیر بوهر الراهب: و یعرف بدیر سوادة، و سوادة عرب تنزل هناک، و هو قبالة منیة بنی خصیب، خرّبته العرب، و هذه الأدیرة کلها فی الشرق من النیل، و جمیعها للیعاقبة، و لیس فی الجانب الشرقیّ الآن سواها، و أما الجانب الغربیّ من النیل فإنه کثیر الدیارات لکثرة عمارته.
دیر دموة بالجیزة: و تعرف بدموة السباع، و هو علی اسم قزمان و دمیان، و هو دیر لطیف، و تزعم النصاری أن بعض الحکماء کان یقال له سبع أقام بدموة، و أن کنیسة دموة التی بأیدی الیهود الآن کانت دیرا من دیارات النصاری، فابتاعته منهم الیهود فی ضائقة نزلت بهم، و قد تقدّم ذکر کنیسة دموة و قزمان و دمیان من حکماء النصاری و رهبانهم العباد، و لهما أخبار عندهم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 428
دیر نهیا: قال الشابشتی: و نهیا بالجیزة، و دیرها هذا من أحسن دیارات مصر، و أنزهها و أطیبها موضعا، و أجلها موقعا، عامر برهبانه و سکانه، و له فی أیام النیل منظر عجیب، لأن الماء یحیط به من جمیع جهاته، فإذا انصرف الماء و زرعت الأرض أظهرت أراضیه غرائب النواویر و أصناف الزهر، و هو من المنتزهات الموصوفة و البقاع المستحسنة، و له خلیج یجتمع فیه سائر الطیر، فهو أیضا متصید ممنع، و قد وصفته الشعراء و ذکرت حسنه و طیبه، قلت و قد خرب هذا الدیر.
دیر طمویه: قال یاقوت: طمویه- بفتح الطاء و سکون المیم و فتح الواو ساکنة- قریتان بمصر، إحداهما فی کورة المرتاحیة، و الأخری بالجیزة، قال الشابشتی: و طمویه فی الغرب بإزاء حلوان، و الدیر راکب البحر، حوله الکروم و البساتین و النخل و الشجر، و هو نزه عامر آهل، و له فی النیل منظر حسن، و حین تخضرّ الأرض یکون فی بساطین من البحر و الزرع، و هو أحد منتزهات أهل مصر المذکورة، و مواضع لهوها المشهورة. و لابن أبی عاصم المصریّ فیه من البسیط:
و اشرب بطمویه من صهباء صافیةتزری بخمر قری هیت و عانات
علی ریاض من النوّار زاهرةتجری الجداول فیها بین جنات
کأن نبت الشقیق العصفریّ بهاکاسات خمر بدت فی إثر کاسات
کأنّ نرجسها من حسنه حدق‌فی خفیة یتناجی بالإشارات
کأنما النیل فی مرّ النسیم به‌مستلئم فی دروع سابریات
منازل کنت مفتونا بها شغفاو کنّ قدما مواخیری و حاناتی
إذ لا أزال ملما بالصبوح علی‌ضرب النواقیس صبّا بالدیارات
قلت هذا الدیر عند النصاری علی اسم بوجرج و یجتمع فیه النصاری من النواحی:
دیر أقفاص: و صوابها أقفهس و قد خرب.
دیر خارج ناحیة منهری: خامل الذکر لأنهم لا یطعمون فیه أحدا.
دیر الخادم: علی جانب المنهی بأعمال البهنسا، علی اسم غبریال الملک، به بستان فیه نخل و زیتون.
دیر أشنین: عرف بناحیة أشنین، فإنه فی بحریها، و هو لطیف علی اسم السیدة مریم، و لیس به سوی راهب واحد.
دیر ایسوس: و معنی ایسوس یسوع، و یقال له دیر أرجنوس، و له عید فی خامس عشری بشنس، فإذا کان لیلة هذا الیوم سدّت بئر فیه تعرف ببئر ایسوس، و قد اجتمع الناس
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 429
إلی الساعة السادسة من النهار، ثم کشفوا الطابق عن البئر فإذا بها قد فاض ماؤها ثم ینزل، فحیث وصل الماء قاسوا منه إلی موضع استقرّ فیه الماء، فما بلغ کانت زیادة النیل فی تلک السنة من الأذرع.
دیر سدمنت: علی جانب المنهی بالحاجر بین الفیوم و الریف علی اسم بوجرج، و قد ضعفت أحواله عما کان علیه و قل ساکنه.
دیر النقلون: و یقال له دیر الخشبة، و دیر غبریال الملک، و هو تحت مغارة فی الجبل الذی یقال له طارف الفیوم، و هذه المغارة تعرف عندهم بمظلة یعقوب، یزعمون أن یعقوب علیه السلام لما قدم مصر کان یستظل بها، و هذا الجبل مطلّ علی بلدین یقال لهما اطفیح شیلا، و شلا. و یملأ الماء لهذا الدیر من بحر المنهی و من تحت دیر سدمنت، و لهذا الدیر عید یجتمع فیه نصاری الفیوم و غیرهم، و هو علی السکة التی تنزل إلی الفیوم و لا یسکلها إلّا القلیل من المسافرین.
دیر القلمون: هذا الدیر فی برّیة تحت عقبة القلمون، یتوصل المسافر منها إلی الفیوم، یقال لها عقبة الغریق، و بنی هذا الدیر علی اسم صمویل الراهب، و کان فی زمن الفترة ما بین عیسی و محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، و مات فی ثامن کیهک، و فی هذا الدیر نخل کثیر یعمل من تمره العجوة، و فیه أیضا شجر البلخ، و لا یوجد إلّا فیه، و ثمره بقدر اللیمون، طعمه حلو فی مثل طعم الرامخ، ولنواه عدّة منافع، و قال أبو حنیفة فی کتاب النبات: و لا ینبت اللبخ إلّا بأنصنا، و هو عود تنشر منه ألواح السفن، و ربما أرعف ناشرها، و یباع اللوح منها بخمسین دینارا و نحوها، و إذا شدّ لوح منها بلوح و طرحا فی الماء سنة التأما و صارا لوحا واحدا، و فی هذا الدیر قصران مبنیان بالحجارة، و هما عالیان کبیران لبیاضهما إشراق، و فیه أیضا عین ماء تجری، و فی خارجه عین أخری، و بهذا الوادی عدّة معابد قدیمة، و ثمّ واد یقال له الأمیلح فیه عین ماء تجری و نخیل مثمرة تأخذ العرب ثمرها، و خارج هذا الدیر ملّاحة یبیع رهبان الدیر ملحها فیعم تلک الجهات.
دیر السیدة مریم: خارج طنبدی، لیس فیه سوی راهب واحد و هو علی غیر الطریق المسلوک، و کان بأعمال البهنسا عدّة دیارات خربت.
دیر برقانا: بحریّ بنی خالد، و هو مبنیّ بالحجر و عمارته حسنة، و هو من أعمال المنیة، و کان به فی القدیم ألف راهب، و لیس به الآن سوی راهبین، و هو فی الحاجر تحت الجبل.
دیر بالوجه: علی جنب المنهی، و هو لأهل دلجة، و هو من الأدیرة الکبار، و قد خرب حتی لم یبق به سوی راهب أو راهبین، و هو بإزاء دلجة بینه و بینها نحو ساعتین.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 430
دیر مرقورة: و یقال أبو مرقورة، هذا الدیر تحت دلجة بخارجها من شرقیها و لیس به أحد.
دیر صنبو: فی خارجها من بحریها علی اسم السیدة مریم و لیس به أحد.
دیر تادرس: قبلیّ صنبو و قد تلاشی أمره لاتضاع حال النصاری.
دیر الریرمون: فی شرقیّ ناحیة الریرمون، و هو شرقیّ ملوی و غربیّ أنصنا، و هو علی اسم الملک غبریال.
دیر المحرق: تزعم النصاری أن المسیح علیه السلام أقام فی موضعه ستة أشهر و أیاما، و له عید عظیم یعرف بعید الزیتونة و عید العنصرة یجتمع فیه عالم کثیر.
دیر بنی کلب: عرف بذلک لنزول بنی کلب حوله، و هو علی اسم غبریال، و لیس فیه أحد من الرهبان و إنما هو کنیسة لنصاری منفلوط و هو غربیها.
دیر الجاولیة: هذا الدیر ناحیة الجاولیة من قبلیها، و هو علی اسم الشهید مرقورس الذی یقال له مرقورة، و علیه رزق محبسة، و تأتیه النذورات و العوائد و له عیدان فی کل سنة.
دیر السبعة جبال: هذا الدیر علی رأس الجبل الذی غربیّ سیوط، علی شاطی‌ء النیل، و یعرف بدیر بخنس القصیر، و له عدّة أعیاد، و خرب فی سنة إحدی و عشرین و ثمانمائة من منسر طرقه لیلا. بخنس: و یقال أبو بخنس القصیر، کان راهبا قمصا، له أخبار کثیرة منها: أنه غرس خشبة یابسة فی الأرض بأمر شیخه له، و سقاها الماء مدّة فصارت شجرة مثمرة تأکل منها الرهبان، و سمیت شجرة الطاعة و دفن فی دیره.
دیر المطل: هذا الدیر علی اسم السیدة مریم، و هو علی طرف الجبل تحت دیر السبعة جبال قبالة سیوط، و له عید یحضره أهل النواحی و لیس به أحد من الرهبان.

أدیرة أدرنکة

اعلم أن ناحیة أدرنکة هی من قری النصاری الصعایدة، و نصاراها أهل علم فی دینهم، و تفاسیرهم فی اللسان القبطیّ، و لهم أدیرة کثیرة فی خارج البلد من قبلیها مع الجبل، و قد خرب أکثرها و بقی منها:
دیر بوجرج: و هو عامر البناء و لیس به أحد من الرهبان و یعمل فیه عید فی أوانه.
دیر أرض الحاجر و دیر میکائیل و دیر کرفونه: علی اسم السیدة مریم، و کان یقال له ارافونه و اغرافونا و معناه النساخ، فإن نساخ علوم النصاری کانت فی القدیم تقیم به و هو علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 431
طرف الجبل، و فیه مغایر کثیرة منها ما یسیر الماشی بجنبه نحو یومین.
دیر أبی بغام: تحت دیر کرفونة بالحاجر، و قد کان أبو بغام جندیا فی أیام دیقلطیانوس فتنصر و عذب لیرجع عن دینه، ثم قتل فی ثامن عشری کانون الأوّل، و ثانی کیهک.
دیربوساویرس: بحاجر أدرنکة، کان علی اسم السیدة مریم، و کان ساویرس من عظماء الرهبان فعمل بطرکا، و ظهرت آیة عند موته، و ذلک أنه أنذرهم لما سار إلی الصعید بأنه إذا مات ینشق الجبل و تقع منه قطعة عظیمة علی الکنیسة فلا تضرّها، فلما کان فی بعض الأیام سقطت قطعة عظیمة من الجبل کما قال، فعلم رهبان هذا الدیر بأن ساویرس قد مات، فأرخوا ذلک فوجدوه وقت موته فسموا الدیر حینئذ باسمه.
دیر تادرس: تحت دیر بوساویرس، و تادرس اثنان کانا من أجناد دیقلطیانوس، أحدهما یقال له قاتل التنین و الآخر الاسفهسلار، و قتلا کما قتل غیرهما.
دیر منسی آک: و یقال منساک، و بنی ساک وایساآک، و معنی ذلک إسحاق، و کان علی اسم السیدة ماریهام یعنی مار مریم، ثم عرف بمنساک، و کان راهبا قدیما له عندهم شهرة، و بهذا الدیر بئر تحته فی الحاجر منها شرب الرهبان فإذا زاد النیل شربوا من مائه.
دیر الرسل: تحت دیر منساک، و یعرف بدیر الأثل، و هو لأعمال بوتیج، و دیر منساک لأهل ربقة هو و دیر ساویرس، و دیر کرفونة لأهل سیوط، و دیر بوجرج لأهل أدرنکة، و دیر الأئل کان فی خراب فعمر بجانبه کفر لطیف عرف بمنشأة الشیخ، لأن الشیخ أبا بکر الشاذلیّ أنشأه و أنشأ بستانا کبیرا، و قد وجد موضعه بئرا کبیرة وجد بها کنزا، أخبرنی من شاهد من ذهبه دنانیر مربعة بأحد وجهیها صلیب وزنة الدینار مثقال و نصف. و أدیرة أدرنکة المذکورة قریب بعضها من بعض، و بینها مغایر عدیدة منقوش علی ألواح فیها نقوشات من کتابة القدماء کما علی البرابی، و هی مزخرفة بعدّة أصباغ، ملوّنة تشتمل علی علوم شتی، و دیر السبعة جبال و دیر المطل و دیر النساخ خارج سیوط فی المقابر، و یقال أنه کان فی الحاجرین ثلاثمائة و ستون دیرا، و أن المسافر کان لا یزال من البدرشین إلی أصفون فی ظل البساتین، و قد خرب ذلک و باد أهله.
دیر موشه: و موشه خارج سیوط من قبلیها بنی علی اسم توما الرسول الهندی، و هو بین الغیطان قریب من ربقة، و فی أیام النیل لا یوصل إلیه إلّا فی مرکب، و له أعیاد و الأغلب علی نصاری هذه الأدیرة معرفة القبطیّ الصعیدیّ، و هو أصل اللغة القبطیة، و بعدها اللغة القبطیة البحریة، و نساء نصاری الصعید و أولادهم لا یکادون یتکلمون إلّا بالقبطیة الصعیدیة، و لهم أیضا معرفة تامّة باللغة الرومیة.
دیر أبی مقروفة: و أبو مقروفة اسم للبلدة التی بها هذا الدیر، و هو منقور فی لحف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 432
الجبل و فیه عدّه مغایر و هو علی اسم السیدة مریم، و بمقروفة نصاری کثیرة غنامة و رعاة أکثرهم همج، و فیهم قلیل من یقرأ و یکتب، و هو دیر معطش.
دیر بومغام: خارج طما و أهلها نصاری و کانوا قدیما أهل علم.
دیر بوشنوده: و یعرف بالدیر الأبیض، و هو غربیّ ناحیة سوهای و بناؤه بالحجر و قد خرب و لم یبق منه إلا کنیسته، و یقال إن مساحته أربعة فدادین و نصف و ربع، و الباقی منه نحو فدّان و هو دیر قدیم.
الدیر الأحمر: و یعرف بدیر أبی بشای، و هو بحریّ الدیر الأبیض بینهما نحو ثلاث ساعات، و هو دیر لطیف مبنیّ بالطوب الأحمر، و أبو بشای هذا من الرهبان المعاصرین لشنوده، و هو تلمیذه، و صار من تحت یده ثلاث آلاف راهب، و له دیر آخر فی برّیة شبهات.
دیر أبی میساس: و یقال أبو میسیس، و اسمه موسی، و هذا الدیر تحت البلینا و هو دیر کبیر. و أبو میسیس هذا کان راهبا من أهل البلینا و له عندهم شهرة، و هم ینذرونه و یزعمون فیه مزاعم، و لم یبق بعد هذا الدیر إلا أدیرة بحاجر اسنا و نقادة قلیلة العمارة، و کان بأصفون دیر کبیر و کانت أصفون من أحسن بلاد مصر و أکثر نواحی الصعید فواکه، و کان رهبان دیرها معروفین بالعلم و المهارة، فخربت أصفون و خرب دیرها. و هذا آخر أدیرة الصعید و هی کلها یحمل متلاشیة آئلة إلی الدثور بعد کثرة عمارتها و وفور أعداد رهبانها وسعة أرزاقهم، و کثرة ما کان یحمل إلیهم.
و أما
الوجه البحری: فکان فیه أدیرة کثیرة خربت و بقی منها بقیة، فکان بالمقس خارج القاهرة من بحریها عدّة کنائس هدمها الحاکم بأمر اللّه أبو علیّ منصور فی تاسع عشر ذی الحجة سنة تسع و تسعین و ثلاثمائة و أباح ما کان فیها، فنهب منها شی‌ء کثیر جدّا بعد ما أمر فی شهر ربیع الأوّل منها بهدم کنائس راشدة خارج مدینة مصر من شرقیها، و جعل موضعها الجامع المعروف براشدة، و هدم أیضا فی سنة أربع و تسعین کنیستین هناک، و ألزم النصاری بلبس السواد و شدّ الزنار، و قبض علی الأملاک التی کانت محبسة علی الکنائس و الأدیرة و جعلها فی دیوان السلطان، و أحرق عدّة کثیرة من الصلبان، و منع النصاری من إظهار زینة الکنائس فی عید الشعانین، و تشدّد علیهم و ضرب جماعة منهم، و کانت بالروضة کنیسة بجوار المقیاس فهدمها السلطان الملک الصالح نجم الدین أیوب فی سنة ثمان و ثلاثین و ستمائة، و کان فی ناحیة أبی النمرس من الجیزة کنیسة قام فی هدمها رجل من الزیالعة، لأنه سمع أصوات النواقیس یجهر بها فی لیلة الجمعة بهذه الکنیسة، فلم یتمکن من ذلک فی أیام الأشرف شعبان بن حسین لتمکن الأقباط فی الدولة، فقام فی ذلک مع الأمیر الکبیر برقوق، و هو یومئذ القائم بتدبیر الدولة، حتی هدمها علی ید القاضی جمال الدین محمود
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 433
العجمیّ محتسب القاهرة فی ثامن عشر رمضان سنة ثمانین و سبعمائة، و عملت مسجدا.
دیر الخندق: ظاهر القاهرة من بحریها، عمره القائد جوهر عوضا عن دیر هدمه فی القاهرة، کان بالقرب من الجامع الأقمر حیث البئر التی تعرف الآن ببئر العظمة، و کانت إذ ذاک تعرف ببئر العظام من أجل أنه نقل عظاما کانت بالدیر و جعلها بدیر الخندق، ثم هدم دیر الخندق فی رابع عشری شوّال سنة ثمان و سبعین و ستمائة، فی أیام المنصور قلاون، ثم جدّد هذا الدیر الذی هناک بعد ذلک، و عمل کنیستین یأتی ذکرهما فی الکنائس.
دیر سریاقوس: کان یعرف بأبی هور، و له عید یجتمع فیه الناس، و کان فیه أعجوبة ذکرها الشابشتی، و هو أن من کان به خنازیر أخذه رئیس هذا الدیر و أضجعه و جاءه بخنزیر فلحس موضع الوجع، ثم أکل الخنازیر التی فیه فلا یتعدّی ذلک إلی الموضع الصحیح، فإذا نظف الموضع ذرّ علیه رئیس الدیر من رماد خنزیر فعل مثل هذا الفعل من قبل و دهنه بزیت قندیل البیعة، فإنه یبرأ ثم یؤخذ ذلک الخنزیر الذی أکل خنازیر العلیل فیذبح و یحرق، و یعدّ رماده لمثل هذه الحالة، فکان لهذا الدیر دخل عظیم ممن یبرأ من هذه العلة، و فیه خلق من النصاری.
دیر اتریب: و یعرف بماری مریم، و عیده فی حادی عشری بؤنه، و ذکر الشابشتی أن حمامة بیضاء تأتی فی ذلک العید فتدخل المذبح، لا یدرون من أین جاءت و لا یرونها إلی یوم مثله. و قد تلاشی أمر هذا الدیر حتی لم یبق به إلّا ثلاثة من الرهبان، لکنهم یجتمعون فی عیده، و هو علی شاطی‌ء النیل قریب من بنها العسل.
دیر المغطس: عند الملاحات قریب من بحیرة البراس، و تحج إلیه النصاری من قبلیّ أرض مصر، و من بحریها، مثل حجهم إلی کنیسة القیامة، و ذلک یوم عیده، و هو فی بشنس و یسمونه عید الظهور من أجل أنهم یزعمون أن السیدة مریم تظهر لهم فیه مزاعم کلها من أکاذیبهم المختلفة، و لیس بحذاء هذا الدیر عمارة سوی منشأة صغیرة فی قبلیه بشرق، و بقربه الملاحة التی یؤخذ منها الملح الرشیدیّ، و قد هدم هذا الدیر فی شهر رمضان سنة إحدی و أربعین و ثمانمائة بقیام بعض الفقراء المعتقدین.
دیر العسکر: فی أرض السباخ علی یوم من دیر المغطس، علی اسم الرسل، و بقربه ملاحة الملح الرشیدیّ و لم یبق به سوی راهب واحد.
دیر جمیانة: علی اسم بوجرج قریب من دیر العسکر علی ثلاث ساعات منه، و عیده عقب عید دیر المغطس و لیس به الآن أحد.
دیر المیمنة: بالقرب من دیر العسکر، کانت له حالات جلیلة، و لم یکن فی القدیم دیر بالوجه البحریّ أکثر رهبانا منه، إلّا أنه تلاشی أمره و خرب، فنزله الحبش و عمروه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 434
و لیس فی السباخ سوی هذه الأربعة الأدیرة. و أما وادی هبیب و هو وادی النطرون، و یعرف ببرّیة شیهات و ببرّیة الأسقط و بمیزان القلوب، فإنه کان بها فی القدیم مائة دیر، ثم صارت سبعة ممتدّة غربا علی جانب البرّیة القاطعة بین بلاد البحیرة و الفیوم، و هی فی رمال منقطعة و سباخ مالحة و برار منقطعة معطشة و قفار مهلکة، و شارب أهلها من حفائر، و تحمل النصاری إلیهم النذور و القرابین، و قد تلاشت فی هذا الوقت بعدما ذکر مؤرخو النصاری أنه خرج إلی عمرو بن العاص من هذه الأدیرة سبعون ألف راهب بید کل واحد عکاز، فسلموا علیه و أنه کتب لهم کتابا هو عندهم.
فمنها
دیر أبی مقار الکبیر: و هو دیر جلیل عندهم، و بخارجه أدیرة کثیرة خربت، و کان دیر النساک فی القدیم، و لا یصح عندهم بطرکیة البطرک حتی یجلسوه فی هذا الدیر بعد جلوسه بکرسیّ اسکندریة، و یذکر أنه کان فیه من الرهبان ألف و خمسمائة لا تزال مقیمة به، و لیس به الآن إلّا قلیل منهم، و المقارات ثلاثة: أکبرهم صاحب هذا الدیر، ثم أبو مقار الإسکندرانیّ، ثم أبو مقار الأسقف. و هؤلاء الثلاثة قد وضعت رممهم فی ثلاث أنابیب من خشب، و تزورها النصاری بهذا الدیر، و به أیضا الکتاب الذی کتبه عمرو بن العاص لرهبان وادی هبیب بجرانة نواحی الوجه البحری علی ما أخبرنی من أخبر برؤیته فیه.
أبو مقار الأکبر: هو مقاریوس، أخذ الرهبانیة عن أنطونیوس، و هو أوّل من لبس عندهم القلنسوة و الاشکیم، و هو سیر من جلد فیه صلیب یتوشح به الرهبان فقط، و لقی انطونیوس بالجبل الشرقیّ من حیث دیر العزبة، و أقام عنده مدّة، ثم ألبسه لباس الرهبانیة و أمره بالمسیر إلی وادی النطرون لیقیم هناک، ففعل ذلک و اجتمع عنده الرهبان الکثیرة العدد، و له عندهم فضائل عدیدة منها: أنه کان لا یصوم الأربعین إلّا طاویا فی جمیعها لا یتناول غذاء و لا شرابا البتة، مع قیام لیلها. و کان لا یعمل الخوص و یتقوّت منه، و ما أکل خبزا طریا قط، بل یأخذ القراقیش فیبلها فی نقاعة الخوص و یتناول منها هو و رهبان الدیر ما یمسک الرمق من غیر زیادة، هذا قوتهم مدّة حیاتهم حتی مضوا لسبیلهم، و أما أبو مقار الإسکندرانیّ فإنه ساح من الإسکندریة إلی مقاریوس المذکور و ترهب علی یدیه، ثم کان أبو مقار الثالث و صار أسقفا.
دیر أبی بخنس القصیر: یقال أنه عمر فی أیام قسطنطین بن هیلانة، و لأبی بخنس هذا فضائل مذکورة، و هو من أجل الرهبان، و کان لهذا الدیر حالات شهیرة و به طوائف من الرهبان، و لم یبق به الآن إلّا ثلاثة رهبان.
دیر الیاس: علیه السلام، و هو دیر للحبشة، و قد خرب دیر بخنس کما خرب دیر الیاس، أکلت الأرضة أخشابهما فسقطا، و صار الحبشة إلی دیر سیدة بوبخنس القصیر، و هو دیر لطیف بجوار دیر بوبخنس القصیر. و بالقرب من هذه الأدیرة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 435
دیر انبانوب: و قد خرب هذا الدیر أیضا انبانوب هذا من أهل سمنود قتل فی الإسلام و وضع جسده فی بیت بسمنود.
دیر الأرمن: قریب من هذه الأدیرة و قد خرب. و بجوارها أیضا:
دیر بوبشای: و هو دیر عظیم عندهم، من أجل أن بوبشای هذا کان من الرهبان الذین فی طبقة مقاریوس و بخنس القصیر، و هو دیر کبیر جدّا.
دیر بإزاء دیر بوبشای: کان بید الیعاقبة، ثم ملکته رهبان السریان من نحو ثلاثمائة سنة، و هو بیدهم الآن، و مواضع هذه الأدیرة یقال لها برکة الأدیرة.
دیر سیدة برموس: علی اسم السیدة مریم فیه بعض رهبان. و بإزائه:
دیر موسی: و یقال أبو موسی الأسود، و یقال برمؤس، و هذا الدیر لسیدة برمؤس، فبرموس اسم الدیر و له قصة حاصلها أن مکسیموس و دومادیوس کانا ولدی ملک الروم، و کان لهما معلم یقال له ارسانیوس، فسار المعلم من بلاد الروم إلی أرض مصر، و عبر برّیة شیهات هذه، و ترهب و أقام بها حتی مات، و کان فاضلا. و أتاه فی حیاته ابنا الملک المذکوران و ترهبا علی یدیه، فلما ماتا بعث أبوهما فبنی علی اسمهما کنیسة برموس. و أبو موسی الأسود کان لصا فاتکا قتل مائة نفس، ثم إنه تنصر و ترهب و صنف عدّة کتب، و کان ممن یطوی الأربعین فی صومه و هو بربریّ.
دیر الزجاج: هذا الدیر خارج مدینة الإسکندریة، و یقال له الهایطون، و هو علی اسم بوجرج الکبیر، و من شرط البطرک أنه لا بدّ أن یتوجه من المعلقة بمصر إلی دیر الزجاج هذا، ثم إنهم فی هذا الزمان ترکوا ذلک، فهذه أدیرة الیعاقبة.
و للنساء دیارات تختص بهنّ: فمنها دیر الراهبات بحارة زویلة من القاهرة، و هو دیر عامر بالإبکار المترهبات و غیرهنّ من نساء النصاری.
دیر البنات: بحارة الروم بالقاهرة عامر بالنساء المترهبات.
دیر المعلقة: بمدینة مصر، و هو أشهر دیارات النساء عامر بهنّ.
دیر بربارة: بمصر بجوار کنیسة بربارة عامر بالبنات المترهبات بربارة: کانت قدّیسة فی زمان دقلطیانوس، فعذبها لترجع عن دیانتها و تسجد للأصنام، فثبتت علی دینها و صبرت علی عذاب شدید و هی بکر لم یمسها رجل، فلما یئس منها ضرب عنقها و عنق عدّة من النساء معها و للنصاری الملکیة قلایة بطرکهم بجوار کنیسة میکائیل بالقرب من جسر الأفرم خارج مصر، و هی مجمع الرهبان الواردین من بلاد الروم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 436
دیر بخنس القصیر: المعروف بالقصیّر، و صوابه عندهم دیر القصیر علی وزن شهید، و حرّف فقیل دیر القصیّر، بضم القاف و فتح الصاد و تشدید الیاء، فسماه المسلمون دیر القصیر بضم القاف و فتح الصاد و إسکان الیاء آخر الحروف، کأنه تصغیر قصیر، و أصله کما عرّفتک دیر القصیر الذی هو ضدّ الطویل، و سمی أیضا دیر هر قل، و دیر البغل، و قد تقدّم ذکره. و کان من أعظم دیارات النصاری و لیس به الآن سوی واحد یحرسه، و هو بید الملکیة.
دیر الطور: قال ابن سیده: الطور الجبل، و قد غلب علی طور سیناء جبل بالشام، و هو بالسریانیة طوری و النسب إلیه طوریّ و طواری. و قال یاقوت: طور سبعة مواضع:
الأوّل طور زیتا بلفظ الزیت من الأدهان مقصور علم لجبل بقرب رأس عین. الثانی طور زیت أیضا جبل بالبیت المقدّس، و هو شرقیّ سلوان. الثالث الطور علم لجبل بعینه مطلّ علی مدینة طبریة بالأردن. الرابع الطور علم لجبل کورة تشتمل علی عدّة قری بأرض مصر من الجهة القبلیة بین مصر و جبل فاران. الخامس طور سیناء اختلفوا فیه فقیل هو جبل بقرب إیلة، و قیل جبل بالشام، و قیل سیناء حجازیة، و قیل سحرتیة. السادس طور عبدین بفتح العین و سکون الباء الموحدة و کسر الدال المهملة و یاء آخر الحروف و نون، اسم لبلدة من نواحی نصیبین فی بطن الجبل المشرف علیها المتصل بجبل جودیّ. السابع طور هارون أخی موسی علیهما السلام. و قال الواحدیّ: فی تفسیره، و قال الکلبیّ و غیره: و الجبل فی قوله تعالی، و لکن انظر إلی الجبل أعظم جبل بمدین یقال له زبیر، و ذکر الکلبیّ أن الطور سمی بیطور بن إسماعیل. قال السهیلیّ: فلعله محذوف الیاء إن کان صح ما قاله.
و قال عمر بن شیبة: أخبرنی عبد العزیز عن أبی معشر عن سعید بن أبی سعید عن أبیه عن أبی هریرة رضی اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم: «أربعة أنهار فی الجنة و أربعة أجبل و أربع ملاحم فی الجنة، فأما الأنهار فسیحان و جیحان و النیل و الفرات، و أما الأجبل فالطور و لبنان و أحد و ورقان، و سکت عن الملاحم». و عن کعب الأحبار معاقل المسلمین ثلاثة: فمعقلهم من الروم دمشق، و معقلهم من الدجال الأردن، و معقلهم من یأجوج و مأجوج الطور. و قال شعبة عن أرطاة بن المنذر: إذا خرج یأجوج و مأجوج أوحی اللّه تعالی إلی عیسی بن مریم علیه السلام أنی قد أخرجت خلقا من خلقی لا یطیقهم أحد غیری. فمرّ بمن معک إلی جبل الطور، فیمرّ و معه من الذراری اثنا عشر ألفا. و قال طلق بن حبیب عن زرعة: أردت الخروج إلی الطور فأتیت عبد اللّه بن عمر رضی اللّه عنهما فقلت له: فقال إنما تشدّ الرحال إلی ثلاثة مساجد: إلی مسجد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و المسجد الحرام، و المسجد الأقصی. فدع عنک الطور فلا تأته. و قال القاضی أبو عبد اللّه محمد بن سلامة القضاعیّ، و قد ذکر کور أرض مصر: و من کور القبلة قری الحجاز و هی: کورة الطور و فاران، و کورة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 437
رایة و القلزم، و کورة إیلة و حیزها، و مدین و حیزها، و العویبد و الحوراء و حیزهما، ثم کورة بدا و شعیب. قلت لا خلاف بین علماء الأخبار من أهل الکتاب أن جبل الطور هذا هو الذی کلم اللّه تعالی نبیه موسی علیه السلام علیه، أو عنده، و به إلی الآن دیر بید الملکیة و هو عامر و فیه بستان کبیر به نخل و عنب و غیر ذلک من الفواکه. و قال الشابشتیّ: و طور سینا هو الجبل الذی تجلّی فیه النور لموسی بن عمران علیه السلام، و فیه صعق، و الدیر فی أعلی الجبل مبنیّ بحجر أسود، عرض حصنه سبع أذرع، و له ثلاثة أبواب حدید، و فی غربیه باب لطیف، و قدّامه حجر أقیم إذا أرادوا رفعه رفعوه، و إذا قصدهم أحد أرسلوه فانطبق علی الموضع فلم یعرف مکان الباب، و داخل الدیر عین ماء، و خارجه عین أخری، و زعم النصاری أن به نارا من أنواع النار التی کانت ببیت المقدس، یقدمون منها فی کلّ عشیة، و هی بیضاء لطیفة ضعیفة الحرّ لا تحرق، ثم تقوی إذا أوقد منها السراج، و هو عامر بالرهبان، و الناس یقصدونه، و هو من الدیارات الموصوفة. قال ابن عامر فیه:
یا راهب الدیر ما ذا الضوء و النورفقد أضاء بما فی دیرک الطور
هل حلّت الشمس فیه دون أبرجهاأو غیّب البدر فیه و هو مستور
فقال ما حلّه شمس و لا قمرلکن تقرّب فیه الیوم قوریر
قلت ذکر مؤرخو النصاری أنّ هذا الدیر أمر بعمارته یوسطیانوس ملک الروم بقسطنطینیة، فعمل علیه حصن فوقه عدّة قلالی، و أقیم فیه الحرس لحفظ رهبانه من قوم یقال لهم بنو صالح من العرب، و فی أیام هذا الملک کان المجمع الخامس من مجامع النصاری، و بینه و بین القلزم، و کانت مدینة، طریقان إحداهما فی البرّ و الأخری فی البحر، و هما جمیعا یؤدّیان إلی مدینة فاران، و هی من مدائن العمالقة، ثم منها إلی الطور مسیرة یومین، و من مدینة مصر إلی القلزم ثلاثة أیام، و یصعد إلی جبل الطور بستة آلاف و ستمائة و ست و ستین مرقاة، و فی نصف الجبل کنیسة لإیلیاء النبیّ، و فی قلته کنیسة علی اسم موسی علیه السلام بأساطین من رخام، و أبواب من صفر، و هو الموضع الذی کلم اللّه تعالی فیه موسی، و قطع منه الألواح و لا یکون فیها إلّا راهب واحد للخدمة، و یزعمون أنه لا یقدر أحد أن یبیت فیها، بل یهیأ له موضع من خارج یبیت فیه، و لم یبق لهاتین الکنیستین وجود.
دیر البنات بقصر الشمع بمصر: و هو علی اسم بوجرج، و کان مقیاس النیل قبل الإسلام، و به آثار ذلک إلی الیوم، فهذا ما للنصاری الیعاقبة، و الملکیة رجالهم و نسائهم من الدیارات بأرض مصر قبلیها و بحریها، و عدّتها ستة و ثمانون دیرا منها للیعاقبة ... دیرا و للملکیة ... .
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 438

ذکر کنائس النصاری

اشارة

قال الأزهریّ: کنیسة الیهود جمعها کنائس، و هی معرّبة أصلها کنشت. انتهی. و قد نطقت العرب بذکر الکنیسة. قال العباس بن مرداس السلمیّ:
بدورون بی فی ظل کلّ کنیسةو ما کان قومی یبنون الکنائسا
و قال ابن قیس الرقیات: کأنها دمیة مصوّرة فی بیعة من کنائس الروم.
کنیستا الخندق: ظاهر القاهرة، إحداهما علی اسم غبریال الملاک، و الأخری علی اسم مرقوریوس، و عرفت برویس، و کان راهبا مشهورا بعد سنة ثمانمائة، و عند هاتین الکنیستین یقبر النصاری موتاهم، و تعرف بمقبرة الخندق، و عمرت هاتان الکنیستان عوضا عن کنائس المقس فی الأیام الإسلامیة.
کنیسة حارة زویلة بالقاهرة: کنیسة عظیمة عند النصاری الیعاقبة، و هی علی اسم السیدة، و زعموا أنها قدیمة تعرف بالحکیم زایلون، و کان قبل الملة الإسلامیة بنحو مائتین و سبعین سنة، و أنه صاحب علوم شتی، و أن له کنزا عظیما یتوصل إلیه من بئر هناک.
کنیسة تعرف بالمغیئة: بحارة الروم من القاهرة علی اسم السیدة مریم، و لیس للیعاقبة بالقاهرة سوی هاتین الکنیستین، و کان بحارة الروم أیضا کنیسة أخری یقال لها کنیسة بربارة هدمت فی سنة ثمان عشرة و سبعمائة، و سبب ذلک أن النصاری رفعوا قصة للسلطان الملک الناصر محمد بن قلاون یسألون الإذن فی إعادة ما تهدّم منها، فأذن لهم فی ذلک فعمروها أحسن ما کانت، فغضبت طائفة من المسلمین و رفعوا قصة للسلطان بأن النصاری أحدثوا بجانب هذه الکنیسة بناء لم یکن فیها، فرسم للأمیر علم الدین سنجر الخازن، والی القاهرة بهدم ما جدّدوه، فرکب و قد اجتمع الخلائق، فبادروا و هدموا الکنیسة کلها فی أسرع وقت، و أقاموا فی موضعها محرابا و أذنوا و صلوا و قرؤا القرآن، کل ذلک بأیدیهم، فلم تمکن معارضتهم خشیة الفتنة، فاشتدّ الأمر علی النصاری و شکوا أمرهم للقاضی کریم الدین ناظر الخاص، فقام و قعد غضبا لدین أسلافه، و ما زال بالسلطان حتی رسم بهدم المحراب فهدم، و صار موضعه کوم تراب و مضی الحال علی ذلک.
کنیسة بومنا: هذه الکنیسة قریبة من السدّ فیما بین الکیمان بطریق مصر، و هی ثلاث کنائس متجاورة، إحداها للیعاقبة، و الأخری للسریان، و أخری للأرمن، و لها عید فی کل سنة تجتمع إلیه النصاری.
کنیسة المعلقة: بمدینة مصر فی خط قصر الشمع، علی اسم السیدة، و هی جلیلة القدر عندهم، و هی غیر القلایة التی تقدّم ذکرها.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 439
کنیسة شنوده: بمصر، نسبت لأبی شنودة الراهب القدیم، و له أخبار منها: أنه کان ممن یطوی فی الأربعین إذا صام، و کان تحت یده ستة آلاف راهب یتقوّت هو و إیاهم من عمل الخوص، و له عدّة مصنفات.
کنیسة مریم: بجوار کنیسة شنودة، هدمها علیّ بن سلیمان بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس أمیر مصر لما ولی من قبل أمیر المؤمنین الهادی موسی، فی سنة تسع و ستین و مائة، و هدم کنائس محرس قسطنطین، و بذل له النصاری فی ترکها خمسین ألف دینار فامتنع، فلما عزل بموسی بن عیسی بن موسی بن محمد بن علی بن عبد اللّه بن عباس فی خلافة هارون الرشید، أذن موسی بن عیسی للنصاری فی بنیان الکنائس التی هدمها علیّ بن سلیمان، فبنیت کلها بمشورة اللیث بن سعد، و عبد اللّه بن لهیعة. و قالا هو من عمارة البلاد، و احتجا بأن الکنائس التی بمصر لم تبن إلّا فی الإسلام فی زمن الصحابة و التابعین.
کنیسة بوجرج الثقة: هذه الکنیسة فی درب بخط قصر الشمع بمصر یقال له درب الثقة، و یجاورها کنیسة سیدة بوجرج.
الثقة، و یجاورها کنیسة سیدة بوجرج.
کنیسة بربارة: بمصر، کبیرة جلیلة عندهم، و هی تنسب إلی القدیسة بربارة الراهبة، و کان فی زمانها راهبتان بکران، و هما ایسی و تکلة، و یعمل لهنّ عید عظیم بهذه الکنیسة یحضره البطریق.
کنیسة بوسرحه: بالقرب من بربارة بجوار زاویة ابن النعمان، فیها مغارة یقال أن المسیح و أمّه مریم علیها السلام جلسا بها.
کنیسة بابلیون: فی قبلیّ قصر الشمع بطریق جسر الأفرم، و هذه الکنیسة قدیمة جدّا، و هی لطیفة، و یذکر أن تحتها کنز بابلیون و قد خرب ما حولها.
کنیسة تاودورس الشهید: بجوار بابلیون، نسبت للشهید تاودورس الإسفهسلار.
کنیسة بومنا بجوار بابلیون أیضا: و هاتان الکنیستان مغلوقتان لخراب ما حولهما.
کنیسة بومنا: بالحمراء، و تعرف الحمراء الیوم بخط قناطر السباع، فیما بین القاهرة و مصر، و أحدثت هذه الکنیسة فی سنة سبع عشرة و مائة من سنی الهجرة بإذن الولید بن رفاعة أمیر مصر، فغضب و هیب الیحصبیّ و خرج علی السلطان و جاء إلی ابن رفاعة لیفتک به، فأخذ و قتل، و کان وهیب مدریا من الیمن، قدم إلی مصر فخرج القرّاء علی الولید بن رفاعة غضبا لوهیب و قاتلوه، و صارت معونة امرأة وهیب تطوف لیلا علی منازل القرّاء تحرّضهم علی الطلب بدمه، و قد حلقت رأسها، و کانت امرأة جزلة، فأخذ ابن رفاعة أبا عیسی مروان بن عبد الرحمن الیحصبیّ بالقرّاء، فاعتذر و خلی ابن رفاعة عنهم، فسکنت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 440
الفتنة بعد ما قتل جماعة، و لم تزل هذه الکنیسة بالحمراء إلی أن کانت واقعة هدم الکنائس فی أیام الناصر محمد بن قلاون علی ما یأتی ذکر ذلک، و الخبر عن هدم جمیع کنائس أرض مصر و دیارات النصاری فی وقت واحد.
کنیسة الزهری: کانت فی الموضع الذی فیه الیوم البرکة الناصریة بالقرب من قناطر السباع فی برّ الخلیج الغربیّ، غربیّ اللوق، و اتفق فی أمرها عدّة حوادث، و ذلک أن الملک الناصر محمد بن قلاون لما أنشأ میدان المهاری المجاور لقناطر السباع، فی سنة عشرین و سبعمائة، قصد بناء زریبة علی النیل الأعظم بجوار الجامع الطیبرسیّ، فأمر بنقل کوم تراب کان هناک، و حفر ما تحته من الطین لأجل بناء الزریبة، و أجری الماء إلی مکان الحفر، فصار یعرف إلی الیوم بالبرکة الناصریة، و کان الشروع فی حفر هذه البرکة من آخر شهر ربیع الأوّل سنة إحدی و عشرین و سبعمائة، فلما انتهی الحفر إلی جانب کنیسة الزهریّ، و کان بها کثیر من النصاری لا یزالون فیها، و بجانبها أیضا عدّة کنائس فی الموضع الذی یعرف الیوم بحکر أقبغا، ما بین السبع سقایات و بین قنطرة السدّ خارج مدینة مصر، أخذ الفعلة فی الحفر حول کنیسة الزهریّ حتی بقیت قائمة فی وسط الموضع الذی عینه السلطان لیحفر، و هو الیوم برکة الناصریة، و زاد الحفر حتی تعلقت الکنیسة، و کان القصد من ذلک أن تسقط من غیر قصد لخرابها، و صارت العامّة من غلمان الأمراء العمالین فی الحفر و غیرهم فی کل وقت یصرخون علی الأمراء فی طلب هدمها و هم یتغافلون عنهم إلی أن کان یوم الجمعة التاسع من شهر ربیع الآخر من هذه السنة، وقت اشتغال الناس بصلاة الجمعة، و العمل من الحفر بطال، فتجمع عدّة من غوغاء العامّة بغیر مرسوم السلطان و قالوا بصوت عال مرتفع اللّه أکبر، و وضعوا أیدیهم بالمساحی و نحوها فی کنیسة الزهری و هدموها حتی بقیت کوما، و قتلوا من کان فیها من النصاری، و أخذوا جمیع ما کان فیها، و هدموا کنیسة بومنا التی کانت بالحمراء، و کانت معظمة عند النصاری من قدیم الزمان، و بها عدّة من النصاری قد انقطعوا فیها، و یحمل إلیهم نصاری مصر سائر ما یحتاج إلیه، و یبعث إلیها بالنذور الجلیلة و الصدقات الکثیرة، فوجد فیها مال کثیر ما بین نقد و مصاغ و غیره، و تسلق العامّة إلی أعلاها و فتحوا أبوابها و أخذوا منها مالا و قماشا و جرار خمر، فکان أمرا مهولا.
ثم مضوا من کنیسة الحمراء بعد ما هدموها إلی کنیستین بجوار السبع سقایات تعرف إحداهما بکنیسة البنات، کان یسکنها بنات النصاری و عدّة من الرهبان، فکسروا أبواب الکنیستین و سبوا البنات و کنّ زیادة علی ستین بنتا، و أخذوا ما علیهنّ من الثیاب و نهبوا سائر ما ظفروا به، و حرّقوا و هدموا تلک الکنائس کلها، هذا و الناس فی صلاة الجمعة، فعندما خرج الناس من الجوامع شاهدوا هولا کبیرا من کثرة الغبار و دخان الحریق و مرج الناس و شدّة حرکاتهم، و معهم ما نهبوه، فما شبه الناس الحال لهوله إلّا بیوم القیامة، و انتشر الخبر و طار إلی الرمیلة تحت قلعة الجبل، فسمع السلطان ضجة عظیمة ورجة منکرة أفزعته،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 441
فبعث لکشف الخبر، فلما بلغه ما وقع انزعج انزعاجا عظیما و غضب من تجری العامّة و إقدامهم علی ذلک بغیر أمره، و أمر الأمیر أیدغمش أمیراخور أن یرکب بجماعة الأوشاقیة و یتدارک هذا الخلل، و یقبض علی من فعله، فأخذ أیدغمش یتهیأ للرکوب و إذا بخبر قد ورد من القاهرة أن العامّة ثارت فی القاهرة و خرّبت کنیسة بحارة الروم، و کنیسة بحارة زویلة، و جاء الخبر من مدینة مصر أیضا بأن العامّة قامت بمصر فی جمع کثیر جدّا و زحفت إلی کنیسة المعلقة بقصر الشمع فأغلقها النصاری و هم محصورون بها و هی علی أن توخذ، فتزاید غضب السلطان و همّ أن یرکب بنفسه و یبطش بالعامّة، ثم تأخر لمّا راجعه الأمیر أیدغمش و نزل من القلعة فی أربعة من الأمراء إلی مصر، و رکب الأمیر بیبرس الحاجب، و الأمیر الماس الحاجب إلی موضع الحفر، و رکب الأمیر طینال إلی القاهرة، و کل منهم فی عدّة وافرة، و قد أمر السلطان بقتل من قدروا علیه من العامّة، بحیث لا یعفو عن أحد، فقامت القاهرة و مصر علی ساق، و فرّت النهابة، فلم یظفر الأمراء منهم إلّا بمن عجز عن الحرکة بما غلبه من السکر بالخمر الذی نهبه من الکنائس، و لحق الأمیر أیدغمش بمصر و قد رکب الوالی إلی المعلقة قبل وصوله لیخرج من زقاق المعلقة من حضر للنهب، فأخذه الرجم حتی فرّ منهم، و لم یبق إلّا أن یحرق باب الکنیسة، فجرّد أیدغمش و من معه السیوف یریدون الفتک بالعامّة، فوجدوا عالما لا یقع علیه حصر، و خاف سوء العاقبة، فأمسک عن القتل و أمر أصحابه بإرجاف العامّة من غیر إهراق دم، و نادی منادیة: من وقف حلّ دمه.
ففرّ سائر من اجتمع من العامّة و تفرّقوا، و صار أیدغمش واقفا إلی أن أذّن العصر خوفا من عود العامّة، ثم مضی و ألزم والی مصر أن یبیت بأعوانه هناک، و ترک معه خمسین من الأوشاقیة.
و أما الأمیر الماس فإنه وصل إلی کنائس الحمراء و کنائس الزهریّ لیتدارکها، فإذا بها قد بقیت کیمانا لیس بها جدار قائم، فعاد و عاد الأمراء، فردّوا الخبر علی السلطان و هو لا یزداد إلّا حنقا، فما زالوا به حتی سکن غضبه، و کان الأمر فی هدم هذه الکنائس عجبا من العجب، و هو أن الناس لما کانوا فی صلاة الجمعة من هذا الیوم بجامع قلعة الجبل، فعندما فرغوا من الصلاة قام رجل موله و هو یصیح من وسط الجامع: اهدموا الکنیسة التی فی القلعة، اهدموها. و أکثر من الصیاح المزعج حتی خرج عن الحدّ، ثم اضطرب. فتعجب السلطان و الأمراء من قوله، و رسم لنقیب الجیوش و الحاجب بالفحص عن ذلک، فمضیا من الجامع إلی خرائب التتر من القلعة، فإذا فیها کنیسة قد بنیت فهدموها، و لم یفرغوا من هدمها حتی وصل الخبر بواقعة کنائس الحمراء و القاهرة، فکثر تعجب السلطان من شأن ذلک الفقیر، و طلب فلم یوقف له علی خبر، و اتفق أیضا بالجامع الأزهر أن الناس لما اجتمعوا فی هذا الیوم لصلاة الجمعة، أخذ شخصا من الفقراء مثل الرعدة، ثم قام بعد ما أذن قبل أن یخرج الخطیب و قال: اهدموا کنائس الطغیان و الکفرة، نعم اللّه أکبر، فتح اللّه و نصر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 442
و صار یزعج نفسه و یصرخ من الأساس إلی الأساس، فحدّق الناس بالنظر إلیه و لم یدروا ما خبره، و افترقوا فی أمره. فقائل هذا مجنون، و قائل هذه إشارة لشی‌ء. فلما خرج الخطیب أمسک عن الصیاح، و طلب بعد انقضاء الصلاة فلم یوجد. و خرج الناس إلی باب الجامع فرأوا النهابة و معهم أخشاب الکنائس و ثیاب النصاری و غیر ذلک من النهوب، فسألوا عن الخبر فقیل: قد نادی السلطان بخراب الکنائس، فظنّ الناس الأمر کما قیل، حتی تبین بعد قلیل أن هذا الأمر إنما کان من غیر أمر السلطان، و کان الذی هدم فی هذا الیوم من الکنائس بالقاهرة، کنیسة بحارة الروم، و کنیسة بالبندقانیین، و کنیستین بحارة زویلة. و فی یوم الأحد الثالث من یوم الجمعة الکائن فیه هدم کنائس القاهرة و مصر، ورد الخبر من الأمیر بدر الدین بیلبک المحسنیّ والی الإسکندریة، بأنه لما کان یوم الجمعة تاسع ربیع الآخر بعد صلاة الجمعة، وقع فی الناس هرج، و خرجوا من الجامع و قد وقع الصیاح: هدمت الکنائس- فرکب المملوک من فوره فوجد الکنائس قد صارت کوما، و عدّتها أربع کنائس، و أن بطاقة وقعت من والی البحیرة بأن کنیستین فی مدینة دمنهور هدمتا و الناس فی صلاة الجمعة من هذا الیوم، فکثر التعجب من ذلک، إلی أن ورد فی یوم الجمعة سادس عشرة الخبر من مدینة قوص بأن الناس عند ما فرغوا من صلاة الجمعة فی الیوم التاسع من شهر ربیع الآخر، قام رجل من الفقراء و قال یا فقراء اخرجوا إلی هدم الکنائس، و خرج فی جمع من الناس فوجدوا الهدم قد وقع فی الکنائس، فهدمت ست کنائس کانت بقوص و ما حولها فی ساعة واحدة، و تواتر الخبر من الوجه القبلیّ و الوجه البحریّ بکثرة ما هدم فی هذا الیوم وقت صلاة الجمعة و ما بعدها من الکنائس و الأدیرة، فی جمیع إقلیم مصر کله، ما بین قوص و الإسکندریة و دمیاط، فاشتدّ حنق السلطان علی العامّة خوفا من فساد الحال، و أخذ الأمراء فی تسکین غضبه و قالوا: هذا الأمر لیس من قدرة البشر فعله، و لو أراد السلطان وقوع ذلک علی هذه الصورة لما قدر علیه، و ما هذا إلّا بأمر اللّه سبحانه، و بقدره لما علم من کثرة فساد النصاری و زیادة طغیانهم، لیکون ما وقع نقمة و عذابا لهم، هذا و العامّة بالقاهرة و مصر قد اشتدّ خوفهم من السلطان لما کان یبلغهم عنه من التهدید لهم بالقتل، ففرّ عدّة من الأوباش و الغوغاء، و أخذ القاضی فخر الدین ناظر الجیش فی ترجیع السلطان عن الفتک بالعامّة و سیاسة الحال معه، و أخذ کریم الدین الکبیر ناظر الخاص یغریه بهم إلی أن أخرجه السلطان إلی الإسکندریة بسبب تحصیل المال، و کشف الکنائس التی خربت بها.
فلم یمض سوی شهر من یوم هدم الکنائس حتی وقع الحریق بالقاهرة و مصر فی عدّة مواضع، و حصل فیه من الشناعة أضعاف ما کان من هدم الکنائس، فوقع الحریق فی ربع بخط الشوّایین من القاهرة، فی یوم السبت عاشر جمادی الأولی، و سرت النار إلی ما حوله و استمرّت إلی آخر یوم الأحد، فتلف فی هذا الحریق شی‌ء کثیر، و عند ما أطفی‌ء وقع الحریق بحارة الدیلم فی زقاق العریسة بالقرب من دور کریم الدین ناظر الخاص، فی خامس عشری
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 443
جمادی الأولی، و کانت لیلة شدیدة الریح، فسرت النار من کلّ ناحیة حتی وصلت إلی بیت کریم الدین، و بلغ ذلک السلطان فانزعج انزعاجا عظیما لما کان هناک من الحواصل السلطانیة، و سیّر طائفة من الأمراء لإطفائه، فجمعوا الناس لإطفائه و تکاثروا علیه و قد عظم الخطب من لیلة الاثنین إلی لیلة الثلاثاء، فتزاید الحال فی اشتعال النار و عجز الأمراء و الناس عن إطفائها لکثرة انتشارها فی الأماکن و قوّة الریح التی ألقت باسقات النخل، و غرّقت المراکب، فلم یشکّ الناس فی حریق القاهرة کلّها، و صعدوا المآذن، و برز الفقراء و أهل الخیر و الصلاح و ضجوا بالتکبیر و الدعاء، و جأروا و کثر صراخ الناس و بکاؤهم، و صعد السلطان إلی أعلی القصر فلم یتمالک الوقوف من شدّة الریح، و استمرّ الحریق و الاستحثاث یرد علی الأمراء من السلطان فی إطفائه إلی یوم الثلاثاء، فنزل نائب السلطان و معه جمیع الأمراء و سائر السقائین، و نزل الأمیر بکتمر الساقی، فکان یوما عظیما لم یر الناس أعظم منه و لا أشدّ هولا، و وکل بأبواب القاهرة من یردّ السقائین إذا خرجوا من القاهرة لأجل إطفاء النار، فلم یبق أحد من سقائی الأمراء و سقائی البلد إلّا و عمل، و صاروا ینقلون الماء من المدارس و الحمامات، و أخذ جمیع النجارین و سائر البنائین لهدم الدور، فهدم فی هذه النوبة ما شاء اللّه من الدور العظیمة و الرباع الکبیرة، و عمل فی هذا الحریق أربعة و عشرون أمیرا من الأمراء المقدّمین، سوی من عداهم من أمراء الطبلخانات و العشراوات و الممالیک، و عمل الأمراء بأنفسهم فیه، و صار الماء من باب زویلة إلی حارة الدیلم فی الشارع بحرا من کثرة الرجال و الجمال التی تحمل الماء، و وقف الأمیر بکتمر الساقی و الأمیر أرغون النائب علی نقل الحواصل السلطانیة من بیت کریم الدین إلی بیت ولده بدرب الرصاصیّ، و خرّبوا ستة عشر دارا من جوار الدار و قبالتها، حتی تمکنوا من نقل الحواصل، فما هو إلا أن کمل إطفاء الحریق و نقل الحواصل، و إذا بالحریق قد وقع فی ربع الظاهر خارج باب زویلة، و کان یشتمل علی مائة و عشرین بیتا، و تحته قیساریة تعرف بقیساریة الفقراء، وهب مع الحریق ریح قویة، فرکب الحاجب و الوالی لإطفائه و هدموا عدّة دور من حوله حتی انطفأ، فوقع فی ثانی یوم حریق بدار الأمیر سلار فی خط بین القصرین، ابتدأ من الباذهنج، و کان ارتفاعه عن الأرض مائة ذراع بالعمل، فوقع الاجتهاد فیه حتی أطفی‌ء، فأمر السلطان الأمیر علم الدین سنجر الخازن والی القاهرة، و الأمیر رکن الدین بیبرس الحاجب، بالاحتراز و الیقظة، و نودی بأن یعمل عند کلّ حانوت دنّ فیه ماء، أو زیر مملوء بالماء، و أن یقام مثل ذلک فی جمیع الحارات و الأزقة و الدروب، فبلغ ثمن کل دنّ خمس دراهم بعد درهم، و ثمن الزیر ثمانیة دراهم، و وقع حریق بحارة الروم و عدّة مواضع، حتی أنه لم یخل یوم من وقوع الحریق فی موضع، فتنبه الناس لما نزل بهم، و ظنوا أنه من أفعال النصاری، و ذلک أن النار کانت تری فی منابر الجوامع و حیطان المساجد و المدارس، فاستعدّوا للحریق و تتبعوا الأحوال حتی وجدوا هذا الحریق من نفط قد لف علیه خرق مبلولة بزیت و قطران. فلما کان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 444
لیلة الجمعة النصف من جمادی، قبض علی راهبین عند ما خرجا من المدرسة الکهاریة بعد العشاء الآخرة، و قد اشتعلت النار فی المدرسة، و رائحة الکبریت فی أیدیهما، فحملا إلی الأمیر علم الدین الخازن والی القاهرة، فأعلم السلطان بذلک فأمر بعقوبتهما، فما هو إلّا أن نزل من القلعة و إذا بالعامّة قد أمسکوا نصرانیا وجد فی جامع الظاهر و معه خرق علی هیئة الکعکة، فی داخلها قطران و نفط، و قد ألقی منها واحدة بجانب المنبر، و ما زال واقفا إلی أن خرج الدخان فمشی یرید الخروج من الجامع، و کان قد فطن به شخص و تأمّله من حیث لم یشعر به النصرانیّ، فقبض علیه و تکاثر الناس فجرّوه إلی بیت الوالی و هو بهیئة المسلمین، فعوقب عند الأمیر رکن الدین بیبرس الحاجب، فاعترف بأن جماعة من النصاری قد اجتمعوا علی عمل نفط و تفریقه مع جماعة من أتباعهم، و أنه ممن أعطی ذلک و أمر بوضعه عند منبر جامع الظاهر، ثم أمر بالراهبین فعوقبا فاعترفا أنهما من سکان دیر البغل، و أنهما هما اللذان أحرقا المواضع التی تقدّم ذکرها بالقاهرة، غیرة و حنقا من المسلمین لما کان من هدمهم للکنائس، و أن طائفة النصاری تجمعوا و أخرجوا من بینهم مالا جزیلا لعمل هذا النفط. و اتفق وصول کریم الدین ناظر الخاص من الإسکندریة، فعرّفه السلطان ما وقع من القبض علی النصاری، فقال: النصاری لهم بطرک یرجعون إلیه و یعرف أحوالهم، فرسم السلطان بطلب البطرک عند کریم الدین لیتحدّث معه فی أمر الحریق و ما ذکره النصاری من قیامهم فی ذلک، فجاء فی حمایة والی القاهرة فی اللیل خوفا من العامّة، فلما أن دخل بیت کریم الدین بحارة الدیلم و أحضر إلیه الثلاثة النصاری من عند الوالی، قالوا لکریم الدین بحضرة البطرک و الوالی جمیع ما اعترفوا به قبل ذلک، فبکی البطرک عند ما سمع کلامهم و قال: هؤلاء سفهاء النصاری، قصدوا مقابلة سفهاء المسلمین علی تخریبهم الکنائس، و انصرف من عند کریم الدین مبجلا مکرّما، فوجد کریم الدین قد أقام له بغلة علی بابه لیرکبها، فرکبها و سار، فعظم ذلک علی الناس و قاموا علیه یدا واحدة، فلو لا أن الوالی کان یسایره و إلّا هلک، و أصبح کریم الدین یرید الرکوب إلی القلعة علی العادة، فلما خرج إلی الشارع صاحت به العامّة ما یحلّ لک یا قاضی تحامی للنصاری و قد أحرقوا بیوت المسلمین و ترکبهم بعد هذا البغال، فشق علیه ما سمع و عظمت نکایته، و اجتمع بالسلطان، فأخذ یهوّن أمر النصاری الممسوکین و یذکر أنهم سفهاء و جهال، فرسم السلطان للوالی بتشدید عقوبتهم، فنزل و عاقبهم عقوبة مؤلمة، فاعترفوا بأن أربعة عشر راهبا بدیر البغل قد تحالفوا علی إحراق دیار المسلمین کلها، و فیهم راهب یصنع النفط، و أنهم اقتسموا القاهرة و مصر، فجعل للقاهرة ثمانیة، و لمصر ستة، فکبس دیر البغل و قبض علی من فیه و أحرق من جماعته أربعة بشارع صلیبة جامع ابن طولون فی یوم الجمعة، و قد اجتمع لمشاهدتهم عالم عظیم، فضری من حینئذ جمهور الناس علی النصاری و فتکوا بهم، و صاروا یسلبون ما علیهم من الثیاب حتی فحش الأمر و تجاوزوا فیهم المقدار، فغضب السلطان من ذلک و همّ أن یوقع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 445
بالعامّة، و اتفق أنه رکب من القلعة یرید المیدان الکبیر فی یوم السبت، فرأی من الناس أمما عظیمة قد ملأت الطرقات و هم یصیحون نصر اللّه الإسلام، أنصر دین محمد بن عبد اللّه.
فخرج من ذلک، و عندما نزل المیدان أحضر إلیه الخازن نصرانیین قد قبض علیهما و هما یحرقان الدور، فأمر بتحریقهما، فأخرجا و عمل لهما حفرة و أحرقا بمرأی من الناس، و بینا هم فی إحراق النصرانیین إذا بدیوان الأمیر بکتمر الساقی قد مرّ یرید بیت الأمیر بکتمر، و کان نصرانیا، فعندما عاینه العامّة ألقوه عن دابته إلی الأرض و جرّدوه من جمیع ما علیه من الثیاب و حملوه لیلقوه فی النار، فصاح بالشهادتین و أظهر الإسلام، فأطلق.
و اتفق مع هذا مرور کریم الدین، و قد لبس التشریف، من المیدان، فرجمه من هنالک رجما متتابعا و صاحوا به: کم تحامی للنصاری و تشدّ معهم، و لعنوه و سبّوه، فلم یجد بدّا من العود إلی السلطان و هو بالمیدان، و قد اشتدّ ضجیج العامّة و صیاحهم حتی سمعهم السلطان، فلما دخل علیه و أعلمه الخبر امتلأ غضبا و استشار الأمراء، و کان بحضرته منهم الأمیر جمال الدین نائب الکرک، و الأمیر سیف الدین البوبکریّ، و الخطیریّ، و بکتمر الحاجب فی عدّة أخری، فقال الأبوبکریّ: العامة عمی و المصلحة أن یخرج إلیهم الحاجب و یسألهم عن اختیارهم حتی یعلم. فکره هذا من قوله السلطان، و أعرض عنه. فقال نائب الکرک: کل هذا من أجل الکتاب النصاری، فإن الناس أبغضوهم، و الرأی أن السلطان لا یعمل فی العامة شیئا، و إنما یعزل النصاری من الدیوان. فلم یعجبه هذا الرأی أیضا، و قال للأمیر الماس الحاجب: امض و معک أربعة من الأمراء وضع السیف فی العامّة من حین تخرج من باب المیدان إلی أن تصل إلی باب زویلة، و اضرب فیهم بالسیف من باب زویلة إلی باب النصر، بحیث لا ترفع السیف عن أحد البتة. و قال لوالی القاهرة: ارکب إلی باب اللوق و إلی باب البحر، و لا تدع أحدا حتی تقبض علیه و تطلع به إلی القلعة، و متی لم تحضر الذین رجموا وکیلی، یعنی کریم الدین، و إلّا و حیاة رأسی شنقتک عوضا عنهم، و عین معه عدّة من الممالیک السلطانیة، فخرج الأمراء بعد ما تلکئوا فی المسیر حتی اشتهر الخبر، فلم یجدوا أحدا من الناس حتی و لا غلمان الأمراء و حواشیهم، و وقع القول بذلک فی القاهرة، فغلقت الأسواق جمیعها، و حل بالناس أمر لم یسمع بأشدّ منه، و سار الأمراء فلم یجدوا فی طول طریقهم أحدا إلی أن بلغوا باب النصر، و قبض الوالی من باب اللوق و ناحیة بولاق و باب البحر کثیرا من الکلابزیة و النواتیة و أسقاط الناس، فاشتدّ الخوف و عدّی کثیر من الناس إلی البرّ الغربیّ بالجیزة، و خرج السلطان من المیدان فلم یجد فی طریقه إلی أن صعد قلعة الجبل أحدا من العامّة، و عند ما استقرّ بالقلعة سیّر إلی الوالی یستعجل حضوره، فما غربت الشمس حتی أحضر ممن أمسک من العامّة نحو مائتی رجل، فعزل منهم طائفة أمر بشنقهم، و جماعة رسم بتوسیطهم، و جماعة رسم بقطع أیدیهم، فصاحوا بأجمعهم: یا خوند ما یحلّ لک، ما نحن الذین رجمنا، فبکی الأمیر بکتمر الساقی و من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 446
حضر من الأمراء رحمة لهم، و ما زالوا بالسلطان إلی أن قال للوالی: اعزل منهم جماعة، و انصب الخشب من باب زویلة إلی تحت القلعة بسوق الخیل، و علّق هؤلاء بأیدیهم. فلما أصبح یوم الأحد علق الجمیع من باب زویلة إلی سوق الخیل، و کان فیهم من له بزة و هیئة، و مرّ الأمراء بهم فتوجعوا لهم و بکوا علیهم، و لم یفتح أحد من أرباب الحوانیت بالقاهرة و مصر فی هذا الیوم حانوتا، و خرج کریم الدین من داره یرید القلعة علی العادة فلم یستطع المرور علی المصولبین، و عدل عن طریق باب زویلة، و جلس السلطان فی الشباک و قد أحضر بین یدیه جماعة ممن قبض علیهم الوالی فقطع أیدی و أرجل ثلاثة منهم و الأمراء لا یقدرون علی الکلام معه فی أمرهم لشدّة حنقه، فتقدّم کریم الدین و کشف رأسه و قبّل الأرض و هو یسأل العفو، فقبل سؤاله و أمر بهم أن یعملوا فی حفیر الجیزة، فأخرجوا و قد مات ممن قطع أیدیهم اثنان، و أنزل المعلقون من علی الخشب.
و عند ما قام السلطان من الشباک وقع الصوت بالحریق فی جهة جامع ابن طولون، و فی قلعة الجبل، و فی بیت الأمیر رکن الدین الأحمدیّ بحارة بهاء الدین، و بالفندق خارج باب البحر من المقس و ما فوقه من الربع، و فی صبیحة یوم هذا الحریق قبض علی ثلاثة من النصاری و جد معهم فتائل النفط، فأحضروا إلی السلطان و اعترفوا بأن الحریق کان منهم، و استمرّ الحریق فی الأماکن إلی یوم السبت، فلما رکب السلطان إلی المیدان علی عادته، وجد نحو عشرین ألف نفس من العامّة قد صبغوا خرقا بلون أزرق و علموا فیها صلبانا بیضا، و عند ما رأوا السلطان صاحوا بصوت عال واحد لا دین إلّا دین الإسلام، نصر اللّه دین محمد بن عبد اللّه، یا ملک الناصر، یا سلطان الإسلام انصرنا علی أهل الکفر، و لا تنصر النصاری. فارتجت الدنیا من هول أصواتهم، و أوقع اللّه الرعب فی قلب السلطان و قلوب الأمراء، و سار و هو فی فکر زائد حتی نزل بالمیدان و صراخ العامة لا یبطل، فرأی أن الرأی فی استعمال المداراة، و أمر الحاجب أن یخرج و ینادی بین یدیه: من وجد نصرانیا فله ماله و دمه. فخرج و نادی بذلک، فصاحت العامّة و صرخت: نصرک اللّه. و ضجوا بالدعاء، و کان النصاری یلبسون العمائم البیض، فنودی فی القاهرة و مصر من وجد نصرانیا بعمامة بیضاء حلّ له دمه و ماله، و من وجد نصرانیا راکبا حلّ له دمه و ماله، و خرج مرسوم بلبس النصاری العمامة الزرقاء، و أن لا یرکب أحد منهم فرسا و لا بغلا، و من رکب حمارا فلیرکبه مقلوبا، و لا یدخل نصرانیّ الحمام إلّا و فی عنقه جرس، و لا یتزیا أحد منهم بزیّ المسلمین، و منع الأمراء من استخدام النصاری، و أخرجوا من دیوان السلطان. و کتب لسائر الأعمال بصرف جمیع المباشرین من النصاری، و کثر إیقاع المسلمین بالنصاری حتی ترکوا السعی فی الطرقات، و أسلم منهم جماعة کثیرة، و کان الیهود قد سکت عنهم فی هذه المدّة، فکان النصرانیّ إذا أراد أن یخرج من منزله یستعیر عمامة صفراء من أحد من الیهود و یلبسها، حتی یسلم من العامّة، و اتفق أن بعض دواوین النصاری کان له عند یهودیّ مبلغ أربعة آلاف درهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 447
نقرة، فصار إلی بیت الیهودیّ و هو متنکر فی اللیل لیطالبه، فأمسکه الیهودی و قال: أنا بالله و بالمسلمین، و صاح. فاجتمع الناس لأخذ النصرانیّ، ففرّ إلی داخل بیت الیهودیّ و استجار بامرأته، و أشهد علیه بإبراء الیهودیّ حتی خلص منه، و عثر علی طائفة من النصاری بدیر الخندق یعملون النفط لإحراق الأماکن، فقبض علیهم و سمروا و نودی فی الناس بالأمان، و أنهم یتفرّجون علی عادتهم عند رکوب السلطان إلی المیدان، و ذلک أنهم کانوا قد تخوّفوا علی أنفسهم لکثرة ما أوقعوا بالنصاری، و زادوا فی الخروج عن الحدّ، فاطمأنوا و خرجوا علی العادة إلی جهة المیدان، و دعوا للسلطان، و صاروا یقولون نصرک اللّه یا سلطان الأرض، اصطلحنا اصطلحنا، و أعجب السلطان ذلک و تبسم من قولهم، و فی تلک اللیلة وقع حریق فی بیت الأمیر الماس الحاجب من القلعة، و کان الریح شدیدا، فقویت النار و سرت إلی بیت الأمیر ایتمش، فانزعج أهل القلعة و أهل القاهرة و حسبوا أن القلعة جمیعها احترقت، و لم یسمع بأشنع من هذه الکائنة، فإنه احترق علی ید النصاری بالقاهرة ربع فی سوق الشوّایین، و زقاق العریسة بحارة الدیلم، و ستة عشر بیتا بجوار بیت کریم الدین، و عدّة أماکن بحارة الروم، و دار بهادر بجوار المشهد الحسینیّ، و أماکن باصطبل الطارمة و بدرب العسل، و قصر أمیر سلاح، و قصر سلار بخط بین القصرین، و قصر بیسری، و خان الحجر، و الجملون، و قیساریة الادم، و دار بیبرس بحارة الصالحیة، و دار ابن المغربیّ بحارة زویلة، و عدّة أماکن بخط بئر الوطاویط و بیشکر و فی قلعة الجبل و فی کثیر من الجوامع و المساجد إلی غیر ذلک من الأماکن بمصر و القاهرة یطول عددها.
و خرب من الکنائس کنیسة بخرائب التتر من قلعة الجبل، و کنیسة الزهری فی الموضع الذی فیه الآن البرکة الناصریة، و کنیسة الحمراء، و کنیسة بجوار السبع سقایات تعرف بکنیسة البنات، و کنیسة أبی المنیا، و کنیسة الفهادین بالقاهرة، و کنیسة بحارة الروم، و کنیسة بالبندقانیین، و کنیستان بحارة زویلة، و کنیسة بخزانة البنود، و کنیسة بالخندق، و أربع کنائس بثغر الإسکندریة، و کنیستان بمدینة دمنهور الوحش، و أربع کنائس بالغربیة، و ثلاث کنائس بالشرقیة، و ست کنائس بالبهنساویة، و بسیوط و منفلوط و منیة الخصیب ثمان کنائس، و بقوص و أسوان إحدی عشرة کنیسة، و بالأطفیحیة کنیسة، و بسوق وردان من مدینة مصر، و بالمصاصة و قصر الشمع من مصر ثمان کنائس، و خرب من الدیارات شی‌ء کثیر، و أقام دیر البغل و دیر شهران مدّة لیس فیهما أحد، و کانت هذه الخطوب الجلیلة فی مدّة یسیرة. قلما یقع مثلها فی الأزمان المتطاولة، هلک فیها من الأنفس و تلف فیها من الأموال و خرب من الأماکن ما لا یمکن وصفه لکثرته، و للّه عاقبة الأمور.
کنیسة میکائیل: هذه الکنیسة کانت عند خلیج بنی وائل خارج مدینة مصر قبلیّ عقبة یحصب، و هی الآن قریبة من جسر الأفرم، أحدثت فی الإسلام و هی ملیحة البناء.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 448
کنیسة مریم: فی بساتین الوزیر قبلیّ برکة الحبش خالیة لیس بها أحد.
کنیسة مریم: بناحیة العدویة من قبلیها قدیمة و قد تلاشت.
کنیسة أنطونیوس: بناحیة بیاض قبلیّ اطفیح، و هی محدثة. و کان بناحیة شرنوب عدّة کنائس خربت، و بقی بناحیة أهریت الجبل قبلیّ بیاض بیومین. کنیسة السیدة: بناحیة أشکر و علی بابها برج مبنیّ بلبن کبار یذکر أنه موضع ولد موسی بن عمران علیه السلام.
کنیسة مریم: بناحیة الخصوص و هی بیت فعملوه کنیسة لا یعبأ بها.
کنیسة مریم و
کنیسة بخنس القصیر و
کنیسة غبریال: هذه الکنائس الثلاث بناحیة أبنوب.
کنیسة أسبوطیر و معناه المخلص: هذه الکنیسة بمدینة اخمیم، و هی کنیسة معظمة عندهم، و هی علی اسم الشهداء، و فیها بئر إذا جعل ماؤها فی القندیل صار أحمر قانیا کأنه الدم.
کنیسة میکائیل: بمدینة أخمیم أیضا، و من عادة النصاری بهاتین الکنیستین إذا عملوا عید الزیتونة المعروف بعید الشعانین أن یخرج القسوس و الشمامسة بالمجامر و البخور و الصلبان و الأناجیل و الشموع المشتعلة و یقفوا علی باب القاضی، ثم أبواب الأعیان من المسلمین، فیبخروا و یقرءوا فصلا من الإنجیل، و یطرحوا له طرحا، یعنی یمدحونه.
کنیسة بوبخوم: بناحیة اتفه، و هی آخر کنائس الجانب الشرقیّ، و بخوم و یقال بخومیوس، کان راهبا فی زمن بوشنودة، و یقال له أبو الشرکة من أجل أنه کان یربی الرهبان، فیجعل لکل راهبین معلما، و کان لا یمکن من دخول الخمر و لا اللحم إلی دیره، و یأمر بالصوم إلی آخر التاسعة من النهار، و یطعم رهبانه الحمص المصلوق، و یقال له عندهم حمص القلة، و قد خرب دیره و بقیت کنیسته هذه باتفه قبلیّ اخمیم.
کنیسة مرقص الإنجیلیّ: بالجیزة، خربت بعد سنة ثمانمائة ثم عمرت. و مرقص هذا أحد الحواریین، و هو صاحب کرسیّ مصر و الحبشة.
کنیسة بوجرج: بناحیة أبی النمرس من الجیزة، هدمت فی سنة ثمانین و سبعمائة، کما تقدّم ذکره ثم أعیدت بعد ذلک.
کنیسة بوفار: آخر أعمال الجیزة.
کنیسة شنودة: بناحیة هربشت.
کنیسة بوجرج: بناحیة ببا، و هی جلیلة عندهم یأتونها بالنذور و یحلفون بها، و یحکون لها فضائل متعدّدة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 449
کنیسة ماروطا القدّیس: بناحیة شمسطا، و هم یبالغون فی ماروطا هذا، و کان من عظماء رهبانهم، و جسده فی انبوبة بدیر بوبشاء من برّیة شیهات، یزورونه إلی الیوم.
کنیسة مریم بالبهناس: و یقال أنه کان بالبهنسا ثلاثمائة و ستون کنیسة خربت کلها، و لم یبق بها إلّا هذه الکنیسة لا غیر.
کنیسة صمویل: الراهب بناحیة شبری.
کنیسة مریم: بناحیة طنبدی و هی قدیمة.
کنیسة میخائیل: بناحیة طنبدی و هی کبیرة قدیمة، و کان هناک کنائس کثیرة خربت، و أکثر أهل طنبدی نصاری أصحاب صنائع.
کنیسة الأیصطولی: أعنی الرسل، بناحیة أشنین، و هی کبیرة جدّا.
کنیسة مریم: بناحیة اشنین أیضا و هی قدیمة.
کنیسة میخائیل و
کنیسة غبریال: بناحیة اشنین أیضا، و کان بهذه الناحیة مائة و ستون کنیسة خربت کلها إلّا هذه الکنائس الأربع، و أکثر أهل اشنین نصاری، و علیهم الدرک فی الخفارة، و بظاهرها آثار کنائس یعملون فیها أعیادهم، منها کنیسة بوجرج، و کنیسة مریم، و کنیسة ماروطا، و کنیسة بربارة، و کنیسة کفریل، و هو جبریل علیه السلام.
و فی منیة ابن خصیب ست کنائس: کنیسة المعلقة و هی کنیسة السیدة، و کنیسة بطرس و بولص، و کنیسة میکائیل، و کنیسة بوجرج، و کنیسة انیابولا الطمویهیّ، و کنیسة الثلاث فتیة، و هم حنانیا و عزاریا و میصائیل، و کانوا أجنادا فی أیام بخت نصر فعبدوا اللّه تعالی خفیة، فلما عثروا علیهم راودهم بخت نصر أن یرجعوا إلی عبادة الأصنام فامتنعوا من ذلک، فسجنهم مدّة لیرجعوا فلم یرجعوا، فأخرجهم و ألقاهم فی النار فلم تحرقهم، و النصاری تعظمهم، و إن کانوا قبل المسیح بدهر.
کنیسة بناحیة طحا: علی اسم الحواریین الذین یقال لهم عندهم الرسل.
کنیسة مریم: بناحیة طحا أیضا.
کنیسة الحکیمین: بناحیة منهری، لها عید عظیم فی بشنس یحضره الأسقف، و یقام هناک سوق کبیر فی العید، و هذان الحیکمان هما قزمان و دمیان الراهبان.
کنیسة السیدة: بناحیة بقرقاس قدیمة کبیرة.
و بناحیة ملوی کنیسة کنیسة الرسل، و کنیستان خراب، إحداهما علی اسم بوجرج، و الأخری علی اسم الملک میخائیل. و بناحیة دلجة کنائس کثیرة لم یبق منها إلّا ثلاث
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 450
کنائس: کنیسة السیدة، و هی کبیرة. و کنیسة شنودة، و کنیسة مرقورة، و قد تلاشت کلها.
و بناحیة صنبو کنیسة انبابولا، و کنیسة بوجرج، و صنبو کثیرة النصاری. و بناحیة ببلاو و هی بحریّ صنبو کنیسة قدیمة بجانبها الغربیّ علی اسم جرجس، و بها نصاری کثیرون فلاحون.
و بناحیا دروط کنیسة و فی خارجها شبه الدیر علی اسم الراهب ساراماتون، و کان فی زمان شنودة، و عمل أسقفا، و له أخبار کثیرة. و بناحیة بوق بنی زید کنیسة کبیرة علی اسم الرسل، و لها عید. و بالقوصیة کنیسة مریم، و کنیسة غبریال، و بناحیة دمشیر کنیسة الشهید مرقوریوس، و هی قدیمة و بها عدّة نصاری. و بناحیة أمّ القصور کنیسة بوبخنس القصیر و هی قدیمة. و بناحیة بلوط من ضواحی منفلوط کنیسة میخائیل و هی صغیرة. و بناحیة البلاعزة من ضواحی منفلوط کنیسة صغیرة یقیم بها القسیس بأولاده. و بناحیة شقلقیل ثلاث کنائس کبار قدیمة إحداها علی اسم الرسل، و أخری باسم میخائیل، و أخری باسم بومنا. و بناحیة منشأة النصاری کنیسة میخائیل. و بمدینة سیوط کنیسة بوسدرة و کنیسة الرسل، و بخارجها کنیسة بومینا. و بناحیة درنکة کنیسة قدیمة جدّا علی اسم الثلاثة فتیة حنانیا و عزاریا و میصائیل، و هی مورد لفقراء النصاری، و درنکة أهلها من النصاری یعرفون اللغة القبطیة، فیتحدّث صغیرهم و کبیرهم بها، و یفسرونها بالعربیة. و بناحیة ریفة کنیسة بوقلتة الطبیب الراهب صاحب الأحوال العجیبة فی مداواة الرمدی من الناس، و له عید یعمل بهذه الکنیسة. و بها کنیسة میخائیل أیضا، و قد أکلت الأرضة جانب ریفة الغربیّ. و بناحیة موشة کنیسة مرکبة علی حمام علی اسم الشهید بقطر، و بنیت فی أیام قسطنطین ابن هیلانة، و لها رصیف عرضه عشرة أذرع، و لها ثلاث قباب ارتفاع کل منها نحو الثمانین ذراعا، مبنیة بالحجر الأبیض کلها، و قد سقط نصفها الغربیّ، و یقال أنّ هذه الکنیسة علی کنز تحتها، و یذکر أنه کان من سیوط إلی موشة هذه ممشاة تحت الأرض.
و بناحیة بقور من ضواحی بوتیج کنیسة قدیمة للشهید اکلودیس، و هو یعدل عندهم مرقوریوس، و جاأرجیوس، و هو أبو جرج و الإسفهسلارتا أدروس و میتاوس، و کان أکلودیوس أبوه من قوّاد دیقلطیانوس، و عرف هو بالشجاعة فتنصر، فأخذه الملک و عذبه لیرجع إلی عبادة الأصنام، فثبت حتی قتل و له أخبار کثیرة.
و بناحیة القطیعة کنیسة علی اسم السیدة، و کان بها أسقف یقال له الدوین، بینه و بینهم منافرة فدفنوه حیا، و هم من شرار النصاری معروفون بالشرّ، و کان منهم نصرانیّ یقال له جرجس ابن الراهبة، تعدّی طوره فضرب رقبته الأمیر جمال الدین یوسف الأستادار بالقاهرة فی أیام الناصر فرج بن برقوق.
و بناحیة بوتیج کنائس کثیرة قد خربت، و صار النصاری یصلون فی بیت لهم سرّا، فإذا طلع النهار خرجوا إلی آثار کنیسة و عملوا لها سیاجا من جرید شبه القفص و أقاموا هناک عباداتهم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 451
و بناحیة مقروفه کنیسة قدیمة لمیخائیل، و لها عید فی کل سنة، و أهل هذه الناحیة نصاری، أکثرهم رعاة غنم و هم همج رعاع.
و بناحیة دوینة کنیسة علی اسم بوبخنس القصیر، و هی قبة عظیمة و کان بها رجل یقال له یونس، عمل أسقفا و اشتهر بمعرفة علوم عدیدة فتعصبوا علیه حسدا منهم له علی علمه و دفنوه حیا، و قد توعک جسمه.
و بالمراغة التی بین طهطا و طما کنیسة.
و بناحیة قلفا کنیسة کبیرة، و تعرف نصاری هذه البلدة بمعرفة السحر و نحوه، و کان بها فی أیام الظاهر برقوق شماس یقال له أبصاطیس له فی ذلک ید طولی، و یحکی عنه ما لا أحب حکایته لغرابته، و بناحیة فرشوط کنیسة میخائیل، و کنیسة السیدة مارت مریم، و بمدینة هوّ کنیسة السیدة و کنیسة بومنا. و بناحیة بهجورة کنیسة الرسل. و باسنا کنیسة مریم و کنیسة میخائیل و کنیسة یوحنا المعمدانیّ، و هو یحیی بن زکریا علیهما السلام. و بنقادة کنیسة السیدة، و کنیسة یوحنا المعمدانیّ، و کنیسة غبریال، و کنیسة یوحنا الرحوم، و هو من أهل أنطاکیة ذوی الأموال، فزهد و فرّق ماله کله فی الفقراء و ساح و هو علی دین النصرانیة فی البلاد، فعمل أبواه عزاءه و ظنوا أنه قد مات، ثم قدم أنطاکیة فی حالة لا یعرف فیها، و أقام فی کوخ علی مزبلة، و أقام رمقه بما یلقی علی تلک المزبلة حتی مات، فلما عملت جنازته کان ممن حضرها أبوه، فعرف غلاف إنجیله، ففحص عنه حتی عرف أنه ابنه، فدفنه و بنی علیه کنیسة أنطاکیة. و بمدینة قفط کنیسة السیدة، و کان بأصفون عدّة کنائس خربت بخرابها، و بمدینة قوص عدّة أدیرة و عدّة کنائس خربت بخرابها، و بقی بها کنیسة السیدة و لم یبق بالوجه القبلیّ من الکنائس سوی ما تقدّم ذکرنا له.

و أما الوجه البحریّ:

ففی منیة صرد من ضواحی القاهرة کنیسة السیدة مریم، و هی جلیلة عندهم. و بناحیة سندوة کنیسة محدثة علی اسم بوجرج، و بمر صفا کنیسة مستجدّة علی اسم بوجرج أیضا، و بسمنود کنیسة علی اسم الرسل عملت فی بیت، و بسنباط کنیسة جلیلة عندهم علی اسم الرسل، و بصندفة کنیسة معتبرة عندهم علی اسم بوجرج، و بالریدانیة کنیسة السیدة و لها قدر جلیل عندهم، و فی دمیاط أربع کنائس للسیدة و لمیخائیل و لیوحنا المعمدانیّ و لماری جرجس، و لها مجد عندهم. و بناحیة سبک العبید کنیسة محدثة فی بیت مخفیّ علی اسم السیدة، و بالنحراویة کنیسة محدثة فی بیت مخفی، و فی لقانة کنیسة بوبخنس القصیر، و بدمنهور کنیسة محدثة فی بیت مخفی علی اسم میخائیل، و بالإسکندریة المعلقة علی اسم السیدة و کنیسة بوجرج و کنیسة یوحنا المعمدانی و کنیسة الرسل، فهذه کنائس الیعاقبة بأرض مصر، و لهم بغزة کنیسة مریم، و لهم بالقدس القمامة و کنیسة صهیون.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 452
و أما الملکیة فلهم بالقاهرة کنیسة ماری نقولا بالبندقانیین، و بمصر کنیسة غبریال الملاک بخط قصر الشمع، و بها قلایة لبطرکهم، و کنیسة السیدة بقصر الشمع أیضا، و کنیسة الملاک میخائیل بجوار بربارة بمصر، و کنیسة مار یوحنا بخط دیر الطین، و اللّه أعلم.
و هذا أخر الجزء الثانی و بتمامه تم الکتاب و الحمد للّه وحده و صلّی اللّه علی من لا نبیّ بعده و سلّم و رضی اللّه عن أصحاب رسول اللّه أجمعین و حسبنا اللّه و نعم الوکیل، و لا عدوان إلّا علی الظالمین.
قول المستعین بربه القویّ، محمد ابن المرحوم الشیخ عبد الرحمن قطة العدوی، مصحح دار الطباعة المصریة، بلغه اللّه من الخیر کلّ أمنیة: إن من جملة المحاسن الممدوحة بکلّ لسان، و أحاسن الآثار الغنیّ فضلها عن البیان، التی ظهرت فی أیام صاحب العز و الإقبال، من طبع علی المرحمة و العدالة فی الأقوال و الأفعال، و اختص بحسن التبصر و سداد النظر، و رعایة المصالح العامّة لأهل البدو و الحضر، و وهب من صفات الکمال و کمال الصفات، ما تقصر دون تعداده العبارات و الإشارات، من هو الفرقد الثانی، فی أفق الصدارة العثمانیّ، عزیز الدیار المصریة، ذی المناقب الفاخرة السنیة، حضرة أفندینا الحاج عباس باشا، لا زال بصولة عدله جیش المظالم یتلاشی، و لا برح قریر العین بأنجاله، محفوظ الجناب نافذ القول فی حاله و استقباله، و لا فتی‌ء لواء عزه منشورا، و لا انفک سعیه مشکورا، طبع کتاب الخطط للعلامة المقریزیّ الشهیر، المجمع علی فضله و عموم نفعه بلا نکیر، کیف لا وقد جمع من تخطیط الحکومة المصریة، و ما یتعلق بها من الموادّ الجغرافیة و التاریخیة، و ذکر أصناف أهلها و ولاتها، و ما عرض لها من تقلبات الأزمان و تغیراتها، و ما تضمنته من الأخلاق و العوائد، الصحیح منها و الفاسد، و ما توارد علیها من الدول و الحکومات، و اختلاف الملل و الدیانات، و غیر ذلک من الفوائد، و صحیح الأدلة و الشواهد، و عجائب الأخبار، و غرائب الآثار، ما یغنی الحاذق اللبیب، و یکفی الماهر الأریب، و یعتبر به المعتبرون، و یتفکه به المتآمرون، بل هو الندیم الذی لا یمل، و الأنیس الذی فی استصحابه تهون الکرائم و تبذل، بید أنه یتحفک من تاریخ مصر بأظرف تحفه، و یمنحک من طریف جغرافیتها و تلیدها ألطف طرقه، و یسکنک من قصور أنبائها علی غرفه، و ینشقک من زهر روض أخبارها شمیمه و عرفه، غیر أنه لما کان فنّ التاریخ مع جلیل نفعه، و جزیل فائدته عند أرباب المعارف و عظیم وقعه، قد رمیت سوقه فی هذه الأزمان بالکساد، و تقاصرت عنه الهمم من کل حاضر و باد، کان هذا الکتاب مما خیمت علیه عناکب النسیان، و عزت نسخه فی دیارنا حتی کاد لا یعثر بها إنسان، فإنها فیها قلیلة محصورة، متروکة الاستعمال مهجورة، فکانت مع قلتها عاریة عن صحتها، فکم فیها من تحریف فاحش و سقط متفاحش، و غلط مخل، و خطا مضجر و ممل، و یفضی بالقاری إلی الملل، و یعوّضه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 453
عن النشاط الکسل، لکن بحمد اللّه و عونه، و عظیم فضله و منه، و بذل المجهود فی التصحیح، و استفراغ الوسع فی التحریر و التنقیح، جاءت النسخة المطبوعة صحیحة حسب الإمکان، جدیرة بأن تحل محل القبول و الاستحسان، فإنّ ما کان من عباراته بالتحریف سقیما، و لم یفهم معنی مستقیما، أجلت فیه ذهنی مع قصوره، و کلفته التسلق علی قصوره، فإن فتح له باب الرشاد، و ألهم المعنی المراد، حمدت ربی، حیث نلت أربی، و إن کانت الأخری، و کبا زند الفهم و ما أوری، نبهت علی وجه التوقف فی الحاشیة بالعبارة، أو رقمت فیها رقما هندیا لیکون إلی التوقف إشارة، و ربما أشرت إلی الصواب، لکن علی سبیل الرجاء فی الاستصواب، و ربما مرّ بک تعداد بعض أشیاء یشم منها مخالفة العربیة، و تفصیل أمور تأباه بحسب الظاهر القواعد النحویة، و عذرنا فی ذلک، أن المؤلف تقلها کذلک، عمن نقلها عن جریدة حساب، و أثبتها علی ما هی علیه فی تقییدات الکتاب، فأبقیناها علی حالها، و لم ننسجها علی غیر منوالها، حرصا علی عدم التغییر فی عبارات المؤلفین، حسبما نص علیه أئمة الدین، لا سیما و المعنی معه ظاهر، لا یخفی علی السامع و الناظر، ثم إنه لبعض الأسباب، فاتنی تصحیح نحو اثنتین و عشرین ملزمة من أوّل الجزء الأوّل، و مثلها من أوّل الثانی من هذا الکتاب، لکن إن شاء اللّه تعالی یحصل الاطلاع علیها، و النظر بعین التأمل إلیها، فإن عثر فیها علی ما یلزم التنبیه علیه، و الإشارة إلیه، نبهت علیه و أثبت ما یخص کلّ جزء بلصقه، لیکون کلّ منهما مستوفیا لحقه، هذا و کأنی بمتشقشق متشدّق، یعجل ببذاءة اللسان و لا یحقق، قد استولی علیه الحسد فأعمی بصیرته، و رفع بالذمّ و التشنیع عقیرته، قائلا ما لا یلیق إلا به، مذیعا ما هو أولی به، و ما دری الجهول أن فنّ التصحیح خطر دقیق، و صاحبه بضدّ ما تبجح به جدیر حقیق، و لو ذاق لعرف، و بالعجز أقرّ و اعترف، و بالجملة فذمّه یشهد لی بالکمال، أخذا بقول من قول:
و إذا أتتک مذمّتی من ناقص‌فهی الشهادة لی بأنی کامل
علی أنی و اللّه معترف بقلة البضاعة، و عدم الأهلیة لهذه الصناعة، و لکنما هی إقامات، و إنما الأعمال بالنیات.
و أفوّض أمری إلی اللطیف الخبیر، فإنه نعم المولی و نعم النصیر، و کان طبع هذا الکتاب بدار الطباعة المصریة، المنشأة ببولاق القاهرة المعزیة، لا زالت بأنفاس الحضرة الآصفیة، منبعا لنشر الکتب النافعة العلمیة، تحت ملاحظة صاحب نظارتها، القائم بتدبیرها و إدارتها، رب القلم الذی لا یباری، و الإنشاء الذی لا یجاری، من أحرز قصب السبق فی میدان البراعة، و انقاد له کلّ معنی أبیّ و أطاعه، حضرة علیّ أفندی جودة، بلغه اللّه فی الدارین مأموله و قصده، و کان طبعه علی ذمة ملتزمة، المتسبب بعد الطیّ فی نشر علمه، و اشتهاره فی الأقطار، و استعماله عند أهل القری و الأمصار، الباذل فی ذلک نفائس الکرائم،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌4، ص: 454
المستصغر فی استحصاله الصعائب و العظائم، المستنصر بمولاه فی حالتی الضعف و الأید الخواجة رفائیل عبید، و قد وافق تاریخ تمامه، و انتهاء الطبع إلی حدّ ختامه، یوم الاثنین التاسع عشر، من شهر الیمن و الخیر صفر، الذی هو من شهور سنة ألف و مائتین و سبعین، من هجرة سید النبیین و المرسلین صلّی اللّه و سلّم علیه و علیهم أجمعین، و علی کلّ الصحابة و التابعین، و رزقنا بجاههم الاعتصام بحبله علی الدوام، و منحنا التوفیق لما یرضیه، و الفوز بحسن الختام. آمین.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.