المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، المجلد 2

اشارة

نام کتاب: المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت
نویسنده: مقریزی، احمد بن علی
تاریخ وفات مؤلف: 845 ه. ق
موضوع: جغرافیای شهرها
زبان: عربی
تعداد جلد: 4
ناشر: دار الکتب العلمیة
مکان چاپ: بیروت
سال چاپ: 1418 ه. ق
نوبت چاپ: اول
رده بندی کنگره:
DT۷۷/ م۷م۸۱۳۷۶
almwaa'th walaa'tbar bthkr alkhtt wala'thar alma'rouf balkhtt almkriziah
تألیف: تقدی الدین العبیدی المقریزی تاریخ النشر: 01/01/1998
ترجمة، تحقیق: خلیل المنصور الناشر: دار الکتب العلمیة
النوع: ورقی غلاف فنی، حجم: 24×17، عدد الصفحات: 1832 صفحة الطبعة: 1 مجلدات: 4

الجزء الثانی

ذکر تاریخ الخلیقة

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحیم اعلم: أنه لما کانت الحوادث لا بدّ من ضبطها، و کان لا یضبط ما بین العصور، و بین أزمنة الحوادث إلّا بالتاریخ المستعمل العام الذی لا ینکره الجماعة أو أکثرها، و ذلک أنّ التاریخ المجمع علیه، لا یکون إلّا من حادث عظیم یملأ ذکره الأسماع، و کانت زیادة ماء النیل، و نقصانه، إنما یعتبرهما أهل مصر، و یحسبون أیامهما بأشهر القبط، و کذلک خراج أراضی مصر إنما یحسبون أوقاته بذلک، و هکذا زراعات الأراضی، إنما یعتمدون فی أوقاتها أیام الأشهر القبطیة عادة، و سلکوا فیها سبیل أسلافهم، و اقتفوا مناهج قدمائهم، و ما برح الناس من قدیم الدهر أسراء العوائد.
احتیج فی هذا الکتاب إلی إیراد جملة من تاریخ الخلیقة لتعیین موقع تاریخ القبط منها، فإنّ بذکر ذلک یتمّ الغرض. فأقول: التاریخ عبارة عن یوم، ینسب إلیه ما یأتی بعده، و یقال أیضا: التاریخ عبارة عن مدّة معلومة تعدّ من أوّل زمن مفروض لتعرف بها الأوقات المحدودة، و لا غنی عن التاریخ فی جمیع الأحوال الدنیویة، و الأمور الدینیة، و لکل أمّة من أمم البشر تاریخ تحتاج إلیه فی معاملاتها، و فی معرفة أزمنتها تنفرد به دون غیرها من بقیة الأمم.
و أوّل الأوائل القدیمة و أشهرها هو، کون مبدأ البشر، و لأهل الکتاب من الیهود و النصاری و المجوس فی کیفیته، و سیاقة التاریخ منه خلاف لا یجوز مثله فی التواریخ، و کلّ ما تتعلق معرفته ببدء الخلق، و أحوال القرون السالفة، فإنه مختلط بتزویرات و أساطیر لبعد العهد، و عجز المعتنی به عن حفظه، و قد قال اللّه سبحانه و تعالی: أَ لَمْ یَأْتِکُمْ نَبَؤُا الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِینَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا یَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ [إبراهیم/ 9]. فالأولی أن لا یقبل من ذلک إلا ما یشهد به کتاب أنزل من عند اللّه یعتمد علی صحته لم یرد فیه نسخ، و لا طرقه تبدیل، أو خبر ینقله الثقات، و إذا نظرنا فی التاریخ وجدنا فیه بین الأمم خلافا کثیرا، و سأتلو علیک من ذلک ما لا أظنک تجده مجموعا فی کتاب، و أقدّم بین یدی هذا القول ما قیل فی مدّة بقاء الدنیا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 4

ذکر ما قیل فی مدّة أیام الدنیا ماضیها و باقیها

اعلم: أنّ الناس قد اختلفوا قدیما و حدیثا فی هذه المسألة، فقال قوم من القدماء الأول: بالأکوار و الأدوار و هم الدهریة، و هؤلاء هم القائلون بعود العوالم کلها علی ما کانت علیه بعد ألوف من السنین معدودة، و هم فی ذلک غالطون من جهة طول أدوار النجوم، و ذلک أنهم وجدوا قوما من الهند و الفرس قد عملوا أدوارا للنجوم لیصححوا بها فی کل وقت مواضع الکواکب فظنوا أنّ العدد المشترک لجمیعها هو عدد سنی العالم أو أیام العالم، و إنه کلما مضی ذلک العدد عادت الأشیاء إلی حالها الأوّل.
و قد وقع فی هذا الظنّ ناس کثیر مثل، أبی معشر و غیره، و تبع هؤلاء خلق و أنت تقف علی فساد هذا الظن إن کنت تخبر من العدد شیئا ما، و ذلک أنک إذا طلبت عددا مشترکا بعده أعداد معلومة، فإنک تقدر أن تضع لکل زیج أیاما معلومة کالذی وضعه الهند و الفرس، فهؤلاء حیث جهلوا صورة الحال فی هذه الأدوار، ظنوا أنها عدد أیام العالم، فتفطن ترشد.
و عند هؤلاء أنّ الدور هو أخذ الکواکب من نقطة و هی سائر حتی تعود إلی تلک النقطة، و أن الکور هو استئناف الکواکب فی أدوارها سیرا آخر إلی أن تعود إلی مواضعها مرّة بعد أخری.
و زعم أهل هذه المقالة، أنّ الأدوار منحصرة فی أنواع خمسة:
الأوّل: أدوار الکواکب السیارة فی أفلاک تداویرها.
الثانی: أدوار مراکز أفلاک التدویر فی أفلاکها الحاملة.
الثالث: أدوار أفلاکها الحالة فی فلک البروج.
الرابع: أدوار الکواکب الثابتة فی فلک البروج.
الخامس: أدوار الفلک المحیط بالکل حول الأرکان الأربعة، و هذه الأدوار المذکورة، منها ما یکون فی کل زمان طویل مرّة واحدة، و منها ما یکون فی کل زمان قصیر مرّة واحدة، فأقصر هذه الأدوار، أدوار الفلک المحیط بالکل حول الأرکان الأربعة فإنه یدور فی کل أربع و عشرین ساعة، دورة واحدة، و باقی الأدوار یکون فی أزمنة أخر أطول من هذه لا حاجة بنا فی هذه المسألة إلی ذکرها.
قالوا: و أدوار الکواکب الثابتة فی فلک البروج تکون فی کلّ ستّة و ثلاثین ألف سنة شمسیة مرّة واحدة، و حینئذ تنتقل أوجات الکواکب، و جوز هراتها إلی مواضع حضیضها، و نوبهراتها و بالعکس، فیوجب ذلک عندهم، عود العوالم کلها إلی ما کانت علیه من الأحوال فی الزمان و المکان و الأشخاص و الأوضاع، بحیث لا یتخالف ذرة واحدة، و هم مع ذلک
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 5
مختلفون فی کمیة ما مضی من أیام العالم، و ما بقی.
فقال البراهمة من الهند فی ذلک قولا غریبا، و هو ما حکاه عنهم الأستاذ أبو الریحان محمد بن أحمد البیرونی فی کتاب القانون المسعودیّ: إنهم یسمون الطبیعة باسم ملک یقال له: إبراهیم، و یزعمون أنه محدث محصور الموت بین مبدأ و انتهاء عمره کعمرها مائة سنة برهمویة، کل سنة منها ثلثمائة و ستون یوما زمان النهار، منها بقدر مدّة دوران الأفلاک، و الکواکب لإثارة الکون و الفساد، و هذه المدّة بقدر ما بین کل اجتماعین للکواکب السبعة فی أوّل برج الحمل بأوجاتها، و جوز هراتها، و مقدارها: أربعة آلاف ألف سنة، و ثلثمائة ألف ألف سنة و عشرون ألف ألف سنة شمسیة، و هو زمان اثنی عشر ألف دورة للکواکب الثابتة علی أنّ زمان الدورة الواحدة، ثلثمائة ألف سنة و ستون ألف سنة شمسیة، و اسم هذا النهار بلغتهم الکلیة، و زمان اللیل عندهم کزمان النهار، و فی اللیل تسکن المتحرّکات، و تستریح الطبیعة من إثارة الکون و الفساد، ثم یثور فی مبدأ الیوم الثانی بالحرکة و التکوّن، فیکون زمان الیوم بلیلته من سنی الناس، ثمانیة آلاف ألف سنة و ستمائة ألف ألف سنة و أربعین ألف ألف سنة، فإذا ضربنا ذلک فی ثلثمائة و ستین تبلغ سنو أیام السنة البرهمویة، ثلاثة آلاف ألف ألف ألف سنة، و عشرة آلاف ألف ألف سنة، و أربعمائة ألف ألف سنة شمسیة، فإذا ضربناها فی مائة یبلغ عمر الملک الطبیعیّ البرهمویّ من سنی الناس، ثلثمائة ألف ألف ألف ألف سنة، و أحد عشر ألف ألف ألف سنة و أربعین ألف ألف سنة شمسیة، فإذا تمت هذه السنون بطل العالم عن الحرکة، و التکوین ما شاء اللّه، ثم یستأنف من جدید علی الوضع المذکور.
و قسموا زمان النهار المذکور إلی تسع و عشرین قطعة، سموا کل أربع عشرة قطعة منها نوبا، و سموا الخمس عشرة قطعة الباقیة فصولا، و جعلوا کل نوبة محصورة بین فصلین، و کل فصل محصورا بین نوبتین، و قدّموا زمان الفصل علی النوبة إلی تمام المدّة، و زمان الفصل هو خمسا الدور و الدور جزء من ألف جزء من المدّة، فإذا قسمنا المدّة علی ألف تحصل زمان الدور، أربعة آلاف ألف سنة، و ثمانیة و عشرون ألف سنة، و زمان النوبة عندهم أحد و سبعون دورا مقدارها من السنین ثلثمائة ألف ألف سنة، و ستة آلاف ألف سنة و سبعمائة ألف سنة و عشرون ألف سنة.
و قد قسّموا الدور أیضا بأربع قطع، أوّلها أعظمها، و هی مدّة الفصل المذکور و ثانیها ثلاثة أرباع الفصل، و مدّتها ألف ألف سنة، و مائتا ألف سنة و ستة و تسعون ألف سنة، و ثالثها نصف الفصل، و مدّته ثمانمائة ألف سنة و أربعة و ستون ألف سنة، و رابعها ربع الفصل، و هو عشر الدور المذکور، و مدّته أربعمائة ألف سنة و اثنان و ثلاثون ألف سنة.
و لکل واحد من هذه القطع الأربع اسم یعرف به، فاسم القطعة الرابعة عندهم، کلکال
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 6
لأنهم یزعمون أنهم فی زمانها، و إنّ الذی مضی من عمر الملک الطبیعیّ علی زعم حکیمهم الأعظم المسمی عندهم: برهمکوت ثمان سنین و خمسة أشهر و أربعة أیام.
و نحن الآن فی نهار الیوم الخامس من الشهر السادس من السنة التاسعة، و مضی من النهار الخامس ست نوب، و سبعة فصول و سبعة و عشرون دورا من النوبة السابعة، و ثلاث قطع من الدور المذکور أعنی تسعة أعشاره، و مضی من القطعة الرابعة أعنی من أوّل کلکال إلی هلاک، شککال عظیم ملوکهم الواقع فی آخر سنة ثمان و ثمانینة و ثلثمائة للإسکندر ثلاثة آلاف سنة و مائة سنة و تسع و سبعون سنة، و قال: إنما عرفنا هذا الزمان من علم إلهیّ، وقع إلینا من عظماء أنبیائنا المتألهین بروایاتهم جیلا بعد جیل علی ممرّ الدهور و الأزمان، و زعموا أن فی مبدأ کل دور أو فصل أو قطعة أو نوبة، تتجدّد أزمنة العوالم، و تنتقل من حال إلی حال، و أن الماضی من أوّل کلکال إلی شککال ثلاثة آلاف، و مائة و تسع و سبعون سنة، و الماضی من النهار المذکور إلی آخر سنة ثمان و ثمانین و ثلثمائة للإسکندر ألف ألف ألف سنة، و تسعمائة ألف ألف سنة، و اثنان و سبعون ألف ألف سنة، و تسعمائة ألف سنة و سبعة و أربعون ألف سنة، و مائة سنة و سبع و سبعون سنة.
فیکون الماضی من عمر الملک الطبیعیّ إلی آخر هذه السنة ستة، و عشرین ألف ألف ألف ألف سنة، و ثلثمائة ألف ألف ألف سنة و خمسة عشر ألف ألف ألف سنة، و سبعمائة ألف ألف سنة، و اثنین و ثلاثین ألف ألف سنة، و تسعمائة ألف سنة، و سبعة و أربعین ألف سنة و مائة سنة و تسعا و سبعین سنة، فإذا زدنا علیها الباقی من تاریخ الإسکندر بعد نقصان السنین المذکورة منه تحصل الماضی من عمر الملک بالوقت المفروض، و اللّه أعلم بحقیقة ذلک.
و قال الخطا و الایعز فی ذلک قولا أعجب من قول الهند، و أغرب علی ما نقلته من زیج أدوار الأنوار، و قد لخص هذا القول من کتب أهل الصین، و ذلک أنهم جعلوا مبادی سنیهم مبنیة علی ثلاثة أدوار: الأوّل: یعرف بالعشریّ مدّته عشر سنین لکل سنة منها اسم یعرف به، و الثانی: یعرف بالدور الاثنی عشریّ، و هو أشهرها خصوصا فی بلاد الترک یسمون سنیه بأسماء حیوانات بلغتی الخطا و الایعز، و الثالث: مرکب من الدورین جمیعا و مدّته ستون سنة، و به یؤرخون سنی العالم و أیامه و یقوم عندهم مقام أیام الأسبوع عند العرب و غیرها، و اسم کل سنة منها مرکب من اسمیها فی الدورین جمیعا، و کذلک کل یوم من أیام السنة.
و لهذا الدور ثلاثة أسماء، و هی: شانکون، و جونکون، و خاون، و یصیر بحسبها مرّة أعظم و مرّة أوسط، و مرّة أصغر، فیقال: دور شانکون الأعظم، و دور: جونکون الأوسط، و دور: خاون الأصغر، و بهذه الأدوار یعتبرون سنی العالم و أیامه، و جملتها مائة و ثمانون
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 7
سنة، ثم تدور الأدوار الثلاثة علیها مرة أخری. و اتفق وقوع مبدأ الدور الأعظم فی الشهر الأوّل من سنة ثلاث و ثلاثین و ستمائة: لیزدجرد، و اسمه بلغتهم: کادره، و بلغة العرب: سنة الغار، و کان دخول أوّل افرودین هذه السنة من سنی العرب یوم الخمیس، و هو بلغتهم: سن جن، و من هذا الیوم و علی هذا التاریخ تترتب مبادی سنیهم و أیامهم فی الماضی و المستقبل، و شهورهم اثنا عشر شهرا، لکل شهر منها اسم بلغة: الخطا، و بلغة الایعز لا حاجة بنا هنا إلی ذکره.
و یقسمون الیوم الأوّل بلیلته اثنی عشر قسما، کل قسم منها یقال له: جاغ، و کل جاغ ثمانیة أقسام، کل قسم منها یقال له: که، و یقسمون الیوم بلیلته أیضا عشرة آلاف فنک، و کل فنک منها: مائة میاو، فیصیب کل جاغ: ثمانمائة و ثلاثة و ثلاثین فنکا و ثلث فنک، و کل: که مائة و أربعة أفناک و سدس فنک، و ینسبون، کل جاغ إلی صورة من الصور الاثنتی عشرة، و مبدأ الیوم بلیلته عندهم من نصف اللیل، و فی منتصف جاغ کسکو یتغیر أوّل النهار و آخره بحسب الطول و القصر من قبل أنّ کل جاغ ساعتان مستویتان، و فی منتصف النهار ینتصف جاغ یوند، و هم یکبسون فی کل ثلاث سنین قمریة شهرا واحدا یسمونه: سیون لیحفظوا بالکبس مبادی سنی الشمس فی زمان واحد من سنة أخری، و یکبسون أحد عشر شهرا فی کل ثلاثین سنة قمریة، و لا یقع عندهم شهر الکبس فی موضع واحد بعینه من السنة، بل یقع فی کل موضع منها، و کل شهر عدّة أیامه إما ثلاثون یوما أو تسعة و عشرون یوما، و لا یمکن عندهم أکثر من ثلاثة أشهر متوالیة تامّة، و لا أکثر من شهرین ناقصین.
و مبادی شهورهم، یوم الاجتماع إن وقع اجتماع النیرین نهارا، فإن وقع الاجتماع لیلا کان أوّل الشهر فی الیوم الذی بعد الاجتماع و زمان السنة الشمسیة بحسب أرصادهم، ثلثمائة و خمسة و ستون یوما و ألفان و أربعمائة و ستة و ثلاثون فنکا، و السنة أربعة و عشرون قسما، کل قسم منها: خمسة عشر یوما و ألفان و مائة و أربعة و ثمانون فنکا و خمسة أسداس فنک، و لکل قسم من هذه الأقسام اسم، و کل ستة أقسام منها فصل من فصول السنة، فاسم أوّل قسم من فصولها الحن، و أوّله أبدا، حیث تکون الشمس فی ست عشرة درجة من برج الدلو و هکذا أوائل کل فصل، إنما تکون فی حدود أواسط البروج الثابتة، و کان بعد مدخل الحن من أوّل الدور الستینیّ فی السنة المذکورة أحد عشر یوما، و سبعة آلاف و ستمائة و ستین فنکا، و اسم مدخله بی خاینی، و کان بعد دخول السنة الفارسیة المذکورة بنحو عشرین یوما، و یبعد مدخله عن أوّل الدور الستینیّ، و یتفاضل البعد بینهما فی کل سنة بقدر فضل سنة الشمس علی سنة القمر التی هی ثلثمائة و أربعة و خمسون یوما، و ثلاثة آلاف و ستمائة و اثنان و سبعون فتکا، و مقدار الفضل بینهما عشرة أیام و ثمانیة آلاف و سبعمائة و أربعة و ستون فنکا، فإن زادت الأیام علی زمان الشهر القمریّ الأوسط الذی هو تسعة و عشرون یوما، و خمسة آلاف و ثمانمائة و ستة أفناک، نقص منها هذا العدد، و احتسب بالباقی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 8
فإذا عرفت هذا من حسابهم، فاعلم أنّ عمر العالم عندهم ثلثمائة ألف ونّ و ستون ألف ونّ، و کل ونّ: عشرة آلاف سنة. مضی من ذلک إلی أوّل سنة ثلاث و ثلاثین و ستمائة لیزدجرد، و هی دور: شانکون الأعظم: ثمانیة آلاف ونّ و ثمانمائة ونّ و ثلاثة و ستون ونا، و تسعة آلاف و سبعمائة، و أربعون سنة، فتکون المدّة العظمی علی هذا: ثلاثة آلاف ألف ألف ألف ألف سنة و ستمائة ألف ألف ألف ألف سنة بهذه الصورة 3600000000 و الماضی منها إلی السنة المذکورة: ثمانیة، و ثمانون ألف ألف سنة و ستمائة ألف سنة و تسعة و ثلاثون ألف سنة، و سبعمائة سنة و أربعون سنة بهذه الصورة 88639740 و للّه غیب السماوات و الأرض و إلیه یرجع الأمر کله.
و إنما ذکرت طرفا من حساب سنی البراهمة، و طرفا من حساب سنی الخطا و الایعز المستخرج من حساب الصین لیعلم المنصف أنّ ذلک لم یضعه حکماؤهم عبثا، و لأمر ما جدع قصیر أنفه، و کم من جاهل بالتعالیم إذا سمع أقوالهم فی مدّة سنی العالم یبادر إلی تکذیبهم من غیر علم بدلیلهم علیه، و طریق الحق أن یتوقف، فیما لا یعلمه حتی یتبین أحد طرفیه فیرجحه علی الآخر، و اللّه یعلم و أنتم لا تعلمون.
و قال أصحاب السند هند: و معناه: الدهر الداهر أنّ الکواکب و أوجاتها و جوز هراتها تجتمع کلها فی أوّل برج الحمل عند کل أربعة آلاف ألف ألف سنة و ثلثمائة ألف ألف سنة و عشرین ألف ألف سنة شمسیة، و هذه مدّة سنی العالم.
قالوا: و إذا جمعت برأس الحمل فسدت المکوّنات الثلاث التی یحویها عالم الکون و الفساد المعبر عنه بالحیاة الدنیا، و هذه المکوّنات هی: المعدن و النبات و الحیوان، فإذا فسدت بقی العالم السفلیّ خرابا دهرا طویلا إلی أن تتفرّق الکواکب، و الأوجات و الجوزهرات فی بروج الفلک، فإذا تفرّقت فیها بدأ الکون بعد الفساد، فعادت أحوال العالم السفلیّ إلی الأمر الأوّل، و هذا یکون عودا بعد بدء إلی غیر نهایة، قالوا: و لکل واحد من الکواکب و الأوجات و الجوزهرات عدّة أدوار فی هذه المدّة یدل کل دور منها علی شی‌ء من المکوّنات، کما هو مذکور فی کتبهم مما لا حاجة بنا هنا إلی ذکره، و هذا القول منتزع من قول البراهمة الذی تقدّم ذکره.
و قال أصحاب الهازروان من قدماء الهند: إنّ کل ثلثمائة ألف سنة و ستین ألف سنة شمسیة: یهلک العالم بأسره و یبقی مثل هذه المدّة، ثم یعود بعینه، و یعقبه البدل، و هکذا أبدا یکون الحال لا إلی نهایة.
قالوا: و مضی من أیام العالم المذکورة إلی طوفان نوح علیه السلام: مائة ألف و ثمانون ألف سنة شمسیة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 9
و مضی من الطوفان إلی سنة الهجرة المحمدیة ثلاثة آلاف و سبعمائة و ثلاث و عشرون سنة، و أربعة أشهر و أیام.
و بقی من سنی العالم حتی یبتدئ و یفنی مائة ألف و بضع و سبعون ألف سنة شمسیة، أوّلها تاریخ الهجرة الذی یؤرخ به أهل الإسلام.
و قال أصحاب الأزجهیر: مدّة العالم التی تجتمع فیها الکواکب برأس الحمل هی و أوجاتها و جوزهراتها: جزء من ألف جزء من مدّة: السند هند، و هذا أیضا منتزع من قول البراهمة.
و قال أبو معشر، و ابن بو بخت: إنّ بعض الفرس یری أنّ عمر الدنیا اثنا عشر ألف سنة بعدّة البروج، لکل برج ألف سنة، فکان ابتداء أمر الدنیا فی أوّل ألف الحمل، لأنّ الحمل و الثور و الجوزاء تسمی: أشرف الشرف، و ینسب إلی الحمل: الفصل، و فیها تکون الشمس فی شرفها، و علوّها، و طول نهارها، و لذلک کانت الدنیا کانت إلی ثلاثة آلاف سنة: علویة روحانیة طاهرة، و لأن السرطان و الأسد و السنبلة: منتقصة، فإنّ الشمس تنحط من علوّها فی أوّل دقیقة من السرطان، و کان قدر الدنیا و أبنائا منحطا فی الثلاثة آلاف الثانیة، و لأن المیزان أهبط الهبوط، و بئر الآبار، و ضدّ البرج الذی فیه شرف الشمس دل علی أنه أصابت الدنیا و اکتسب أهلها المعصیة، و المیزان و العقرب و القوس إذا نزلتها الشمس لم تزدد إلّا انحطاطا، و الأیام إلّا نقصانا. فلذلک دلت علی البلایا و الضیق، و الشدّة و الشرّ، و حیث تبلغ الآلاف إلی أوّل الجدی الذی فیه أوّل ارتفاع الشمس، و إشرافها علی شرفها، و فیه تزداد الأیام طولا، و الدلو و الحوت اللذان تزداد الشمس فیهما صعودا، حتی تصل لشرفها فیدل علی ظهور الخیر، و ضعف الشرّ، و ثبات الدین و العقل و العمل بالحق و العدل، و معرفة فضل العلم و الأدب فی تلک الثلاثة الآلاف سنة، و ما یکون فی ذلک فعلی قدر صاحب الألف و المائة و العشرة، و علی حسب اتفاق الکواکب فی أوّل سلطان صاحب الألف، فلا یزال ذلک فی زیادة حتی یعود أمر الدنیا فی آخرها إلی مثل ما کان علیه ابتداؤها، و هی فی ألف الحمل و کلما تقارب آخر کل ألف من هذه الألوف اشتدّ الزمان، و کثرت البلایا لأنّ أواخر البرج فی حدود النحوس، و کذلک فی آخر المئین و العشرات، فعلی هذا الانقضاء للدنیا إذا کان الزمان یعود إلی الحمل کما بدأ أوّل مرّة.
و زعموا أن ابتداء الخلق بالتحرّک کان و الشمس فی ابتداء المسیر، فدار الفلک، و جرت المیاه، و هبت الریاح، و اتقدت النیران، و تحرّک سائر الخلائق بما هم علیه من خیر و شرّ، و الطالع تلک الساعة تسع عشرة درجة من برج السرطان، و فیه المشتری، و فی البیت الرابع الذی هو بیت العافیة، و هو برج المیزان زحل، و کان الذنب فی القوس، و المرّیخ و الجدی و الزهرة و عطارد فی الحوت، و وسط السماء برج الحمل، و فی أوّل دقیقة منه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 10
الشمس، و کان القمر فی الثور و فی بیت السعادة، و کان الرأس فی برج الجوزاء، و هو بیت الشقاء، و فی تلک الدقیقة من الساعة کان استقبال أمر الدنیا، فکان خیرها و شرّها و انحطاطها و ارتفاعها، و سائر ما فیها علی قدر مجاری البروج و النجوم، و ولایة أصحاب الألوف، و غیر ذلک من أحوالها. و لأنّ المشتری کان فی السرطان فی شرفه و زحل فی المیزان فی شرفه و المرّیخ و الشمس و القمر فی إشرافها دلت علی کائنة جلیلة، فکان نشوء العالم، و انبرز زحل.
فتولی الألف هو و المیزان و کان المشتری فی الطالع مقبولا. و کذلک جمیع الکواکب کانت مقبولة، فدل علی نماء العالم و حسن نشوءه، و کان زحل هو المستولی و العالی فی الفلک و البرج طویل المطالع، فطالت أعمار تلک الألف و قویت أبدانهم، و کثرت میاههم و کون المیزان تحت الأرض دل علی خفاء أوّل حدوث العالم، و علی أنّ أهل ذلک الزمان ینظرون فی عمارة الأرضین و تشیید البنیان. ثم ولی الألف الثانی العقرب و المریخ، و کان فی الطالع المرّیخ، فدل علی القتل فی ذلک الألف و سفک الدماء، و السبی و الظلم و الجور و الخوف و الهمّ و الأحزان و الفساد و جور الملوک، و ولی الألف الثالث القوس و شارکه عطارد و الزهرة بطلوعهما، و کان الذنب فی القوس، فدل المشتری علی النجدة فی تلک الألف و الشدّة و الجلد و البأس و الریاسة و العدل، و تقسیم الملوک الدنیا، و سفک الدماء بسبب ذلک، و دلت الزهرة علی ظهور بیت العبادة و علی الأنبیاء، و دل عطارد علی ظهور العقل و الأدب و الکلام، و کون البرج مجسدا دلّ علی انقلاب الخیر و الشرّ فی تلک الألف مرّات، و علی ظهور ألوان من آیات الحق و العدل و الجور.
ثم ولی الألف الرابع الجدی، و کان فیه المرّیخ فدل علی ما کان فی تلک الألف من إهراق الدماء، و دلت الشمس علی ظهور الخیر و العلم، و معرفة اللّه تعالی، و عبادته و طاعته و طاعة أنبیائه، و الرغبة فی الدین مع الشجاعة و الجلد، و کون البرج منقلبا هو و البرج الذی فیه الشمس دلّ علی انقلاب ذلک فی آخرها، و ظهور الشرّ و التفرّق و القسم و القتل و سفک الدماء و الغصب فی أصناف کثیرة، و تحوّل ذلک و تلوّنه، و کون الجدی منحطا دلّ علی أنه یظهر فی آخر تلک الألف الحسن الشبیه بصفة زحل و المریخ و انقطاع العظماء و الحکماء، و بوارهم و ارتفاع السفلة، و خراب العامر، و عمارة الخراب، و کثرة تلوّن الأشیاء، و ولی الألف الخامس الدلو بطلوع القمر، و کان القمر فی الثور، فدل الدلو لبرودته و عسره علی سقوط العماء و عطلة أمرهم، و ارتفاع السفلة و العبید، و محمدة البخلاء، و ظهور الجیش الأسود و السواد، و علی کثرة التفتیش، و التفکر و ظهور الکلام فی الأدیان و محبة الخصومات و کون القمر فی شرفه یدل علی قهر الملوک، و ظهور ولاة الحق، و نفاذ الخیر، و ظهور بیوت العبادة و الکف عن الدماء، و الراحة و السعادة فی العامّة و ثبات ما یکون من العدل و الخیر، و طول المدّة فیه و کون البرج مائیا یدل علی کثرة الأمطار و الغرق و آفة من البرد یهلک فیها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 11
الکثیر، و یلی الألف السادس برج الحوت بطلوع المشتری و الرأس فیدل علی المحمدة فی الناس عامّة و علی الصلاح و الخیر و السرور، و ذهاب الشرّ، و حسن العیش، و لکل واحد من الکواکب ولایة ألف سنة، فصار عطارد خاتما فی برج السنبلة.
و زعم ابن بوبخت: أنّ من یوم سارت الشمس إلی تمام خمس و عشرین من ملک أنوشروان ثلاثة آلاف و ثمانمائة و سبع و ستون سنة، و ذلک فی ألف الجدی و تدبیر الشمس، و منه إلی الیوم الأوّل من الهجرة سبع و ثمانون سنة شمسیة و ستة و عشرون یوما، و من الهجرة إلی قیام یزدجرد تسع سنین و ثلثمائة و سبعة و ثلاثون یوما فذلک الجمیع إلی أن قام یزدجرد ثلاثة آلاف و تسعمائة و ست و ستون سنة.
و قال أبو معشر: و زعم قوم من الفرس أنّ عمر الدنیا سبعة آلاف سنة بعدّة الکواکب السبعة. و زعم أبو معشر: أنّ عمر الدنیا ثلثمائة ألف سنة و ستون ألف سنة، و أنّ الطوفان کان فی النصف من ذلک علی رأس مائة ألف و ثمانین ألف سنة.
و قال قوم: عمر الدنیا تسعة آلاف سنة لکل کوکب من الکواکب السبعة السیارة ألف سنة، و للرأس ألف سنة، و للذنب ألف سنة و شرّها ألف الذنب، و إنّ الأعمار طالت فی تدبیر آلاف الثلاثة العلویة، و قصرت فی آلاف الکواکب السفلیة.
و قال قوم: عمر الدنیا تسعة عشر ألف سنة بعدد البروج الاثنی عشر لکل برج ألف سنة و بعدد الکواکب السبعة السیارة لکل کوکب ألف سنة.
و قال قوم: عمر الدنیا أحد و عشرون ألف سنة بزیادة ألف للرأس، و ألف للذنب.
و قال قوم: عمر الدنیا ثمانیة و سبعون ألف سنة فی تدبیر برج الحمل اثنا عشر ألف سنة، و فی تدبیر برج الثور أحد عشر ألف سنة، و فی تدبیر الجوزاء عشرة آلاف سنة، فکانت الأعمار فی هذا الربع أطول، و الزمان أجدّ، ثم تدبیر الربع الثانی مدّة أربعة و عشرین ألف سنة، فتکون الأعمار دون ما کانت فی الربع الأوّل، و تدبیر الربع الثالث خمسة عشر ألف سنة، و تدبیر الربع الرابع ستة آلاف سنة.
و قال قوم: کانت المدّة من آدم إلی الطوفان ألفین و ثمانین سنة و أربعة أشهر و خمسة عشر یوما، و من الطوفان إلی إبراهیم علیه السلام تسعمائة و اثنتین و أربعین سنة و سبعة أشهر و خمسة عشر یوما، فذلک ثلاثة آلاف، و مائتان و ثلاث و عشرون سنة.
و قال قوم من الیهود: عمر الدنیا سبعون ألف سنة منحصرة فی ألف جیل و لفقوا ذلک من قول موسی علیه السلام فی صلاته: إنّ الجیل سبعون سنة، و من قوله فی الزبور: إنّ إبراهیم علیه السلام قطع معه اللّه تعالی عهد البقاء البشر ألف جیل، فجاء من ذلک أنّ مدّة الدنیا سبعون ألف سنة، و استظهروا لقولهم هذا بما فی التوراة من قوله، و اعلم أنّ اللّه إلهک
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 12
هو القادر المهیمن الحافظ العهد و الفضل لمحبیه و حافظی وصایاه لألف جیل.
و ذکر أبو الحسن علیّ بن الحسین المسعودیّ فی کتاب أخبار الزمان عن الأوائل:
أنهم قالوا: کان فی الأرض ثمان و عشرون ذات أرواح و أید و بطش و صور مختلفات بعدد منازل القمر لکل منزلة أمّة منفردة تعرف بها تلک الأمّة، و یزعمون أن تلک الأمم کانت الکواکب الثابتة تدبرها، و کانوا یعبدونها، و یقال: لما خلق اللّه تعالی البروج الاثنی عشر قسم دوامها فی سلطانها، فجعل للحمل اثنی عشر ألف عام، و للثور أحد عشر ألف عام، و للجوزاء عشرة آلاف عام، و للسرطان تسعة آلاف عام، و للأسد ثمانیة آلاف عام، و للسنبلة سبعة آلاف عام، و للمیزان ستة آلاف عام، و للعقرب خمسة آلاف عام، و للقوس أربعة آلاف عام، و للجدی ثلاثة آلاف عام، و للدلو ألفی عام، و للحوت ألف عام، فصار الجمیع ثمانیة و سبعین ألف عام، فلم یکن فی عالم الحمل و الثور و الجوزاء حیوان، و ذلک ثلاثة و ثلاثون ألف عام، فلما کان عالم السرطان تکوّنت دواب الماء و هوامّ الأرض.
فلما کان عالم الأسد تکوّنت ذوات الأربع من الوحش و البهائم، و ذلک بعد تسعة آلاف عام من خلق دواب الماء و الهوام، فلما کان عالم السنبلة، تکوّن الإنسانان الأوّلان، و هما:
أدمانوس، و حنوانواس، و ذلک لتمام سبعة عشر ألف عام لخلق دواب الماء، و هوامّ الأرض و لتمام ثمانیة آلاف عام من خلق ذوات الأرض، و خلقت الأرض فی عالم المیزان، و یقال:
بل خلقت الأرض أوّلا، و أقامت خالیة ثلاثة و ثلاثین ألف عام لیس فیها حیوان و لا عالم روحانیّ، ثم خلق اللّه تعالی هوامّ الماء، و دواب الأرض، و ما بعد ذلک علی ما تقدّم ذکره، فلما تمّ أربعة و عشرون ألف عام لخلق دواب الماء و هوامّ الأرض، و لتمام خمسة عشر ألف عام من خلق ذوات الأربع، و لتتمة سبعة آلاف عام من لدن تکوّن الإنسانین خلقت الطیور.
و یقال: إنّ مدّة مقام الإنسانین و نسلهما فی الأرض مائة ألف و ثلاثة و ثلاثون ألف عام منها لزحل: ستة و خمسون ألف عام، و للمشتری أربعة و أربعون ألف عام، و للمرّیخ ثلاثة و ثلاثون ألف عام، و یقال: إنّ الأمم المخلوقات قبل آدم هی کانت الجبلة الأولی، و هی ثمان و عشرون أمّة بإزاء منازل القمر خلقت من أمزجة مختلفة أصلها: الماء، و الهواء، و الأرض، و النار، فتباین خلقها، فمنها أمّة خلقت طوالا زرقا ذوات أجنحة کلامهم قرقعة علی صفة الأسود، و منها أمّة أبدانهم أبدان الأسود و رؤوسهم رؤوس الطیر لهم شعور، و آذان طوال، و کلامهم دویّ، و منها أمّة لها وجهان: وجه أمامها، و وجه خلفها، و لها أرجل کثیرة، و کلامهم کلام الطیر، و منها أمّة ضعیفة فی صور الکلاب لها أذناب، و کلامهم همهمة لا یعرف، و منها أمّة تشبه بنی آدم أفواههم فی صدورهم یصفرون إذا تکلموا تصفیرا، و منها أمّة یشبهون نصف إنسان لهم عین واحدة، و رجل یقفزون بها قفزا، و یصیحون کصیاح الطیر، و منها أمّة لها وجوه کوجوه الناس و أصلاب کأصلاب السلاحف فی رؤوسهم قرون
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 13
طوال لا یفهم کلامهم، و منها أمّة مدوّرة الوجوه لهم شعور بیض، و أذناب کأذناب البقر و رؤوسهم فی صدورهم لهم شعور و ثدیّ، و هم أناس کلهنّ لیس فیهنّ ذکر یلقحن من الریح، و یلدن أمثالهنّ، و لهنّ أصوات مطربة یجتمع إلیهنّ کثیر من هذه الأمم لحسن أصواتهنّ، و منها أمّة علی خلق بنی آدم سود وجوههم، و رؤوسهم کرؤوس الغربان، و منها أمّة فی خلق الهوام و الحشرات إلا أنها عظیمة الأجسام تأکل، و تشرب مثل الأنعام، و منها أمّة کوجوه دواب البحر لها أنیاب کأنیاب الخنازیر، و آذان طوال، و یقال: إنّ هذه الثمانیة و العشرین أمّة تناکحت، فصارت مائة و عشرین أمّة.
و سئل أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه: هل کان فی الأرض خلق قبل آدم یعبدون اللّه تعالی؟ فقال: نعم خلق اللّه الأرض، و خلق فیها الجنّ یسبحون اللّه و یقدّسونه لا یفترون، و کانوا یطیرون إلی السماء، و یلقون الملائکة، و یسلمون علیهم و یستعملون منهم خبر ما فی السماء، ثم إنّ طائفة منهم تمرّدت، و عتت عن أمر ربها، و بغت فی الأرض بغیر الحق، و عدا بعضهم علی بعض، و جحدوا الربوبیة، و کفروا بالله، و عبدوا ما سواه، و تغایروا علی الملک حتی سفکوا الدماء، و أظهروا فی الأرض الفساد، و کثر تقاتلهم، و علا بعضهم علی بعض، و أقام المطیعون للّه تعالی علی دینهم، و کان إبلیس من الطائفة المطیعة للّه و المسبحین له، و کان یصعد إلی السماء، فلا یحجب عنها لحسن طاعته.
و یروی: أنّ الجنّ کانت تفترق علی إحدی و عشرین قبیلة، و أنّ بعد خمسة آلاف سنة ملکوا علیهم ملکا یقال له: شملال بن ارس، ثم افترقوا فملکوا علیهم: خمسة ملوک، و أقاموا علی ذلک دهرا طویلا، ثم أغار بعضهم علی بعض، و تحاسدوا، فکانت بینهم وقائع کثیرة، فأهبط اللّه تعالی إلیهم إبلیس، و کان اسمه بالعربیة: الحارث، و کنیته أبو مرّة، و معه عدد کثیر من الملائکة، فهزمهم و قتلهم، و صار إبلیس ملکا علی وجه الأرض، فتکبر و طغی، و کان من امتناعه من السجود لآدم ما کان، فأهبطه اللّه تعالی إلی الأرض، فسکن البحر، و جعل عرشه علی الماء، فألقیت علیه شهوة الجماع، و جعل لقاحه لقاح الطیر و بیضه.
و یقال: إنّ قبائل الجنّ من الشیاطین خمس و ثلاثون قبیلة، خمس عشرة قبیلة تطیر فی الهواء و عشر قبائل مع لهب النار، و ثلاثون قبیلة یسترقون السمع من السماء، و لکل قبیلة ملک موکل بدفع شرّها، و منهم صنف من السعالی یتصوّرون فی صور النساء الحسان، و یتزوّجن برجال الأنس و یلدن منهم، و منهم صنف علی صور الحیات إذا قتل أحد منهم واحدة هلک من وقته، فإن کانت صغیرة هلک ولده أو عزیز عنده.
و عن ابن عباس رضی اللّه عنهما أنه قال: إنّ الکلاب من الجنّ فإذا رأوکم تأکلون،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 14
فألقوا إلیهم من طعامکم، فإنّ لهم أنفسا یعنی إنهم یأخذون بالعین.
و قد روی: أنّ الأرض کانت معمورة بأمم کثیرة منهم: الطمّ، و الرمّ، و الجنّ، و البن، و الحسن، و البسن، و أنّ اللّه تعالی لما خلق السماء عمّرها بالملائکة، و لما خلق اللّه الأرض عمرها بالجنّ، فعاثوا و سفکوا الدماء، فأنزل اللّه إلیهم جندا من الملائکة، فأتوا علی أکثرهم قتلا و أسرا، فکان ممن أسر إبلیس، و کان اسمه عزازیل، فلما صعد به إلی السماء أخذ نفسه بالاجتهاد فی العبادة و الطاعة رجاء أن یتوب اللّه علیه، فلما لم یجد ذلک علیه شیئا خامر الملائکة القنوط، فأراط اللّه أن یظهر لهم خبث طویته، و فساد نیته، فخلق آدم فامتحنه بالسجود له لیظهر للملائکة تکبره، و إبانة ما خفی عنهم من مکتوم أنبائه، و إلی عمارة الأرض قبل آدم ممن أفسد فیها أشار بقوله تعالی حکایة عن الملائکة: أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ [البقرة/ 30] یعنون کما فعل بها من قبل، و اللّه أعلم بمراده. و قال أبو بکر بن أحمد بن علیّ بن وحشیة فی کتاب الفلاحة: إنه عرّب هذا الکتاب، و نقله من لسان الکلدانیین إلی اللغة العربیة، و إنه وجده من وضع ثلاثة حکماء قدماء و هم: صعریت و سوساد و فوقای ابتدأه الأوّل، و کان ظهوره فی الألف السابعة من سبعة آلاف سنی زحل، و هی الألف التی یشارک فیها زحل القمر، و تممه الثانی، و کان ظهوره فی آخر هذه الألف، و أکمله الثالث، و کان ظهوره بعد مضیّ أربعة آلاف سنة من دور الشمس الذی هو سبعة آلاف سنة، و إنه نظر إلی ما بین زمان الأوّل و الثالث، فکان ثمانیة عشر ألف سنة شمسیة، و بعض الألف التاسعة عشر، و قد اختلف أهل الإسلام فی هذه المسألة أیضا، فروی سعید بن جبیر عن ابن عباس رضی اللّه عنهما أنه قال: الدنیا جمعة من جمع الآخرة، و الیوم ألف سنة، فذلک سبعة آلاف سنة، و روی سفیان عن الأعمش عن أبی صالح قال: قال کعب الأحبار: الدنیا ستة آلاف سنة.
و عن وهب بن منبه أنه قال: قد خلا من الدنیا خمسة آلاف سنة و ستمائة سنة إنی لأعرف کل زمان منها، و من فیه من الأنبیاء، فقیل له: فکم الدنیا؟ قال: ستة آلاف سنة.
و روی عبد اللّه بن دینار عن عبد اللّه بن عمر رضی اللّه عنهما أنه قال: سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم یقول: «أجلکم فی أجل من کان قبلکم من صلاة العصر إلی مغرب الشمس».
و فی حدیث أبی هریرة: الحقب ثمانون عاما الیوم منها سدس الدنیا، و الحقب هنا بکسر الحاء و ضمها.
قال أبو محمد الحسن بن أحمد بن یعقوب الهمدانیّ فی کتاب الإکلیل: و کأن الدنیا جزء من أربعة آلاف و سبعمائة و ثلاثة و عشرین جزءا و ثلث جزء من الحقب، علی أنّ السنة القمریة ثلثمائة و أربعة و خمسون یوما و خمس و سدس یوم، فإذا کانت الدنیا ستة آلاف سنة، و الیوم ألف سنة تکون سنین قمریة ستة آلاف ألف سنة، فإذا جعلناه جزءا و ضربناه فی أجزاء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 15
الحقب، و هی أربعة آلاف و سبعمائة سنة و ثلاث و عشرون و ثلث خرج من السنین: ثمانیة و عشرون ألف ألف ألف و ثلثمائة ألف ألف و أربعون ألف ألف، و إذا کانت جمعة من جمع الآخرة زدنا مع هذا العدد مثل سدسه، و هذا عدد الحقب.
و قال أبو جعفر محمد بن جریر الطبریّ: الصواب من القول ما دل علی صحته الخبر الوارد، فذکر قوله علیه السلام: «أجلکم فی أجل من کان قبلکم من صلاة العصر إلی مغرب الشمس»، و قوله علیه السلام: «بعثت أنا و الساعة کهاتین» و أشار بالسبابة و الوسطی، و قوله علیه السلام: «بعثت أنا و الساعة جمیعا إن کادت لتسبقنی». قال: فمعلوم إن کان الیوم أوّله طلوع الشمس، و آخره غروب الشمس، و کان صحیحا عن النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم قوله: «أجلکم فی أجل من کان قبلکم من صلاة العصر إلی مغرب الشمس»، و قوله: «بعثت أنا و الساعة کهاتین» و أشار بالسبابة و الوسطی، و کان قدر ما بین أوسط أوقات العصر، و ذلک إذا صار ظل کل شی‌ء مثلیه علی التحرّی إنما یکون قدر نصف سبع الیوم یزید قلیلا أو ینقص قلیلا، و کذلک فضل ما بین الوسطی و السبابة، إنما یکون نحوا من ذلک، و کان صحیحا مع ذلک قوله علیه السلام: «لن یعجز اللّه أن یؤخر هذه الأمّة نصف یوم» یعنی نصف الیوم الذی مقداره ألف سنة، فأولی القولین اللذین أحدهما عن ابن عباس و الآخر عن کعب. قول ابن عباس:
إنّ الدنیا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف، و إذا کان کذلک، و کان قد جاء عنه علیه السلام: أنّ الباقی من ذلک فی حیاته نصف یوم، و ذلک خمسمائة عام إذا کان ذلک نصف یوم من الأیام التی قدر الواحد منها ألف عام کان معلوما أنّ الماضی من الدنیا إلی وقت قوله علیه السلام: «ستة آلاف سنة و خمسمائة سنة» أو نحو ذلک، و قد جاء عنه علیه السلام خبر یدل علی صحة قول من قال: إنّ الدنیا کلها ستة آلاف سنة لو کان صحیحا لم یعد القول به إلی غیره، و هو حدیث أبی هریرة یرفعه الحقب ثمانون عاما الیوم منها سدس الدنیا، فتبین من هذا الخبر أن الدنیا کلها ستة آلاف سنة، و ذلک أنه حیث کان الیوم الذی هو من أیام الآخرة مقداره ألف سنة من سنی الدنیا، و کان الیوم الواحد من ذلک سدس الدنیا، کان معلوما أن جمیعها ستة أیام من أیام الآخرة، و ذلک ستة آلاف سنة، و قال أبو القاسم السهیلیّ : و قد مضت الخمسمائة من وفاته صلّی اللّه علیه و سلّم إلی الیوم بنیف علیها، و لیس فی قوله: لن یعجز اللّه أن یؤخّر هذه الأمّة نصف یوم، ما ینفی الزیادة علی النصف، و لا فی قوله: بعثت أنا و الساعة کهاتین، ما یقطع به علی صحة تأویله، یعنی الطبری، فقد نقل فی تأویله غیر هذا و هو أنه لیس بینه و بین الساعة نبیّ، و لا شرعة غیر شرعته مع التقریب لحینها، کما قال تعالی: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر/ 1]، و قال: أَتی أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل/ 1] و لکن إذا قلنا: إنه علیه السلام إنما بعث فی الألف الآخر بعد ما مضت منه سنون
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 16
و نظرنا إلی الحروف المقطعة فی أوائل السور وجدناها أربعة عشر حرفا یجمعها قولک. (ألم یسطع نص حق کره). ثم تأخذ العدد علی حساب أبی جاد، فیجی‌ء تسعمائة و ثلاثة، و لم یسمّ اللّه تعالی أوائل السور إلا هذه الحروف، فلیس یبعد أن یکون من بعض مقتضیاتها، و بعض فوائدها الإشارة إلی هذا العدد من السنین لما قدّمناه من حدیث الألف السابع الذی بعث علیه السلام فیه غیر أن الحساب یحتمل أن یکون من مبعثه أو من وفاته أو من هجرته و کل قریب بعضه من بعض، فقد جاء أشراطها، و لکن لا تأتیکم إلا بغتة، و قد روی أنه علیه السلام قال: «إن أحسنت أمّتی فبقاؤها یوم من أیام الآخرة» و ذلک ألف سنة، و إن أساءت فنصف یوم. ففی الحدیث تتمیم للحدیث المتقدّم، و بیان له، إذ قد نقضت الخمسمائة و الأمة باقیة، و قال شادان البلخیّ المنجم: مدّة ملة الإسلام ثلثمائة و عشرین سنین، و قد ظهر کذب قوله و للّه الحمد، و قال أبو معشر: یظهر بعد المائة و الخمسین من سنی الهجرة اختلاف کثیر.
و قال حراس: إنّ المنجمین أخبروا کسری أنوشروان بتملک العرب، و ظهور النبوّة فیهم، و أنّ دلیلهم الزهرة، و هی فی شرفها، و الزهرة دلیل العرب، فتکون مدّة ملک نبوّتهم ألفا و ستین سنة، و لأنّ طالع القرآن الدال علی ذلک برج المیزان و الزهرة صاحبته فی شرفها، قال: و سأل کسری وزیره بزرجمهر عن ذلک، فأعلمه أن الملک یخرج من فارس، و ینتقل إلی العرب، و تکون ولادة القائم بإمرة العرب لخمس و أربعین سنة من وقت القران، و أنّ العرب تملک المشرق و المغرب من أجل أن المشتری دلیل فارس قد قبل تدبیر الزهرة دلیل العرب، و القران قد انتقل من المثلثة الهوائیة إلی المثلثة المائیة، و إلی برج العقرب منها، و هو دلیل العرب أیضا، و هذه الأدلة تقتضی بقاء الملة الإسلامیة بقدر دور الزهرة، و هو ألف و ستون سنة شمسیة.
و قال نفیل الرومیّ: و کان فی أیام بنی أمیة تبقی ملة الإسلام، بقدر مدّة القران الکبیرة، و هی تسعمائة و ستون سنة شمسیة، فإذا عاد القران بعد هذه المدة إلی برج العقرب کما کان فی ابتداء الملة، و تغیر وضع تشکیل الفلک عن هیئته فی الابتداء، فحینئذ یفتر العمل، و یتجدّد ما یوجب خلاف الظنّ.
قال: و اتفقوا علی أنّ خراب العالم یکون باستیلاء الماء و النار حتی تهلک المکوّنات بأسرها، و ذلک إذا قطع قلب الأسد أربعا و عشرین درجة من برج الأسد الذی هو حدّ المرّیخ بعد تسعمائة و ستین سنة شمسیة من قران الملة، و یقال: إنّ ملک رابلستان و هی عزبة بعث إلی عبد اللّه أمیر المؤمنین المأمون بحکیم اسمه دوبان فی جملة هدیة، فأعجب به المأمون، و سأله عن مدّة ملک بنی العباس، فأخبره بخروج الملک عن عقبه، و اتصاله فی عقب أخیه، و أنّ العجم تغلبهم علی الخلافة، فیتغلب الدیلم أوّلا ثم یسوء حالهم، حتی یظهر الترک من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 17
شمال المشرق، فیملکون الفرات و الروم و الشام، و قال یعقوب بن إسحاق الکندیّ: مدّة ملة الإسلام ستمائة و ثلاث و تسعون سنة.
و قال الفقیه الحافظ أبو محمد علیّ بن أحمد بن سعید بن حزم : و أما اختلاف الناس فی التاریخ، فإنّ الیهود یقولون: أربعة آلاف سنة، و النصاری یقولون: الدنیا خمسة آلاف سنة، و أما نحن یعنی أهل الإسلام، فلا نقطع علی علم عدد معروف عندنا، و من ادّعی فی ذلک سبعة آلاف سنة أو أکثر أو أقلّ فقد قال ما لم یأت قط عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فیه لفظة تصح، بل صح عنه علیه السلام خلافه، بل نقطع علی أن للدنیا أمدا لا یعلمه إلا اللّه تعالی، قال اللّه تعالی: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [الکهف/ 51]، و قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم: «ما أنتم فی الأمم قبلکم إلا کالشعرة البیضاء فی الثور الأسود و الشعرة السوداء فی الثور الأبیض». و هذه نسبة من تدبرها، و عرف مقدار عدد أهل الإسلام، و نسبة ما بأیدیهم من معمور الأرض، و إنه الأکثر علم أن للدنیا أمدا لا یعلمه إلا اللّه تعالی، و کذلک قوله علیه السلام: «بعثت أنا و الساعة کهاتین» و ضم أصبعیه المقدّستین السبابة و الوسطی، و قد جاء النص: بأن الساعة لا یعلم متی تکون إلا اللّه تعالی لا أحد سواه، فصح أنه صلّی اللّه علیه و سلّم، إنما عنی شدّة القرب لا فضل السبابة علی السباحة إذ لو أراد ذلک لأخذت نسبة ما بین الإصبعین، و نسب من طول الأصبع، فکان یعلم بذلک متی تقوم الساعة، و هذا باطل و أیضا فکان تکون نسبته صلّی اللّه علیه و سلّم إیانا من قبلنا بأننا کالشعرة فی الثور کذبا، و معاذ اللّه من ذلک، فصح أنه علیه السلام، إنما أراد شدّة القرب، و له صلّی اللّه علیه و سلّم منذ بعث أربعمائة عام و نیف، و اللّه تعالی أعلم بما بقی للدنیا، فإذا کان هذا العدد العظیم لا نسبة له عندما سلف لقتله، و تفاهته بالإضافة إلی ما مضی، فهو الذی قاله صلّی اللّه علیه و سلّم من أننا فیمن مضی کالشعرة فی الثور أو الرقمة فی ذراع الحمار.
و قد رأیت بخط الأمیر أبی محمد عبد اللّه بن الناصر قال: حدّثنی محمد بن معاویة القرشیّ أنه رأی بالهند بلدا له اثنتان و سبعون ألف سنة، و قد وجد محمود بن سبکتکین بالهند مدینة یؤرخون بأربعمائة ألف سنة، قال أبو محمد: إلا أن لکل ذلک أوّلا، و لا بدّ و نهایة لم یکن شی‌ء من العالم موجودا قبله، و للّه الأمر من قبل و من بعد، و اللّه أعلم.

ذکر التواریخ التی کانت للأمم قبل تاریخ القبط

التاریخ: کلمة فارسیة أصلها: ماروز، ثم عرّب.
قال محمد بن أحمد بن محمد بن یوسف البلخیّ فی کتاب مفاتیح العلوم، و هو
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 18
کتاب جلیل القدر، و هذا اشتقاق بعید لو لا أنّ الروایة جاءت به، و قال قدامة بن جعفر فی کتاب الخراج: تاریخ کل شی‌ء آخره، و هو فی الوقت غایته، یقال: فلان تاریخ قومه، أی إلیه ینتهی شرفهم، و یقال: ورّخت الکتاب توریخا و أرخته تأریخا، اللغة الأولی لتمیم، و الثانیة لقیس، و لکل أهل ملة تاریخ، فکانت الأمم تؤرخ أوّلا بتاریخ الخلیقة، و هو ابتداء کون النسل من آدم علیه السلام، ثم أرخت بالطوفان، و أرخت ببخت نصر، و أرخت بفیلبس، و أرخت بالإسکندر، ثم بأغشطش، ثم بأنطیس، ثم بدقلطیانوس، و به تؤرخ القبط، لم یکن بعد تاریخ القبط إلا تاریخ الهجرة، ثم تاریخ یزدجرد، فهذه تواریخ الأمم المشهورة، و للناس تواریخ أخر قد انقطع ذکرها.
فأما تاریخ الخلیقة، و یقال له: ابتداء کون النسل، و بعضهم یقول: بدو التحرّک، فإنّ لأهل الکتاب من الیهود و النصاری و المجوس فی کیفیته، و سیاقة التاریخ منه خلافا کثیرا، قال المجوس و الفرس: عمر العالم اثنا عشر ألف عام علی عدد بروج الفلک و شهور السنة، و زعموا أنّ زرادشت صاحب شریعتهم قال: إن الماضی من الدنیا إلی وقت ظهوره ثلاثة آلاف و مائتا سنة و ثمان و خمسون سنة، و إذا حسبنا من أوّل یوم کیومرت الذی هو عندهم الإنسان الأوّل، و جمعنا مدّة کل من ملک بعده، فإنّ الملک ملصق فیهم غیر منقطع عنهم، کان العدد منه إلی الإسکندریة ثلاثة آلاف و ثلثمائة و أربعا و خمسین سنة، فإذا لم یتفق التفصیل مع الجملة، و قال قوم: الثلاثة الآلاف الماضیة إنما هی من خلق کیومرت فإنه مضی قبله ألف سنة، و الفلک فیها واقف غیر متحرّک، و الطبائع غیر مستحیلة، و الأمّهات غیر متمازجة، و الکون و الفساد غیر موجود فیها، و الأرض غیر عامرة، فلما تحرّک الفلک حدث الإنسان الأوّل فی معدن النهار، و تولد الحیوان و توالد و تناسل الإنس فکثروا، و امتزجت أجزاء العناصر للکون و الفساد، فعمرت الدنیا، و انتظم العالم.
و قال الیهود: الماضی من آدم إلی الإسکندریة ثلاثة آلاف و أربعمائة و ثمان و أربعون سنة.
و قال النصاری: المدّة بینهما خمسة آلاف و مائة و ثمانون سنة، و زعموا أن الیهود نقصوها، لیقع خروج عیسی ابن مریم علیه السلام فی الألف الرابع وسط السبعة آلاف التی هی مقدار العالم عندهم، حتی تخالف ذلک الوقت الذی سبقت البشارة من الأنبیاء الذین کانوا بعد موسی بن عمران علیه السلام، بولادة المسیح عیسی، و إذا جمع ما فی التوراة التی بید الیهود من المدّة التی بین آدم علیه السلام، و بین الطوفان، کانت ألفا و ستمائة و ستا و خمسین سنة، و عند النصاری فی إنجیلهم ألفان و مائتا سنة و اثنتان و أربعون سنة، و تزعم الیهود أن توراتهم بعیدة عن التخالیط، و تزعم النصاری: أن توراة السبعین التی هی بأیدیهم لم یقع فیها تحریف، و لا تبدیل، و تقول الیهود: فیها خلاف ذلک، و تقول السامریة: بأنّ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 19
توارثهم هی الحقّ، و ما عداها باطل، و لس فی اختلافهم ما یزیل الشک بل یقوّی الجالبة له، و هذا الاختلاف بعینه بین النصاری أیضا فی الإنجیل، و ذلک أنّ له عند النصاری أربع نسخ مجموعة فی مصحف واحد، أحدهما إنجیل متی، و الثانی لمارقوس، و الثالث للوقا، و الرابع لیوحنا، قد ألف کل من هؤلاء الأربعة إنجیلا علی حسب دعوته فی بلاده، و هی مختلفة اختلافا کثیرا، حتی فی صفات المسیح علیه السلام، و أیام دعوته، و وقت الصلب بزعمهم، و فی نسبه أیضا، و هذا الاختلاف لا یحتمل مثله، و مع هذا فعند کل من أصحاب مرقیون، و أصحاب ابن دیصان إنجیل یخالف بعضه هذا الأناجیل، و لأصحاب مانی إنجیل علی حدة یخالف ما علیه النصاری من أوّله إلی آخره، و یزعمون أنه هو الصحیح، و ما عداه باطل.
و لهم أیضا إنجیل یسمی: إنجیل السبعین ینسب إلی تلامس، و النصاری و غیرهم ینکرونه، و إذا کان الأمر من الاختلاف بین أهل الکتاب، کما قد رأیت و لم یکن للقیاس و الرأی مدخل فی تمییز حق ذلک من باطله امتنع الوقوف علی حقیقة ذلک من قبلهم، و لم یعوّل علی شی‌ء من أقوالهم فیه، و أما غیر أهل الکتاب، فإنهم أیضا مختلفون فی ذلک.
قال أسوش: بین خلق آدم و بین لیلة الجمعة أوّل الطوفان ألفا سنة و مائتا سنة و ست و عشرون سنة و ثلاثة و عشرون یوما و أربع ساعات، و قال ما شاه: و اسمه منشا بن أثری منجم المنصور و المأمون فی کتاب القرانات: أوّل قران وقع بین زحل و المشتری فی بدء التحرّک، یعنی ابتداء النسل من آدم کان علی مضیّ خمسمائة و تسع سنین و شهرین و أربعة و عشرین یوما مضت من ألف المریخ، فوقع القران فی برج الثور من المثلثة الأرضیة علی سبع درج و اثنتین و أربعین دقیقة، و کان انتقال الممرّ من برج المیزان، و مثلثته الهوائیة إلی برج العقرب، و مثلثته المائیة بعد ذلک بألفی سنة و أربعمائة سنة و اثنتی عشرة سنة و ستة أشهر و ستة و عشرین یوما، و وقع الطوفان فی الشهر الخامس من السنة الأولی من القران الثانی من قرانات هذه المثلثة المائیة، و کان بین وقت القران الأوّل الکائن فی بدء التحرّک، و بین الشهر الذی کان فیه الطوفان ألفان و أربعمائة و ثلاث و عشرون سنة و ستة أشهر و اثنا عشر یوما، قال: و فی کل سبعة آلاف سنة و سنتین و عشرة أشهر و ستة أیام یرجع القران إلی موضعه من برج الثور الذی کان فی بدء التحرّک، و هذا القول أعزک اللّه هو الذی اشتهر، حتی ظنّ کثیر من الملل، أنّ مدّة بقاء الدنیا سبعة آلاف سنة فلا تغترّ به، و تنبه إلی أصله تجده أوهی من بیت العنکبوت فاطرحه.
و قیل: کان بین آدم و بین الطوفان ثلاثة آلاف و سبعمائة و خمس و ثلاثون سنة، و قیل:
کانت بینهما مدّة ألفین و مائتین و ست و خمسین سنة، و قیل: ألفان و ثمانون سنة.
و أما تاریخ الطوفان: فإنه یتلو تاریخ الخلیقة، و فیه من الاختلاف ما لا یطمع فی حقیقته من أجل الاختلاف فیما بین آدم و بینه و فیما بینه و بین تاریخ الإسکندر، فإن الیهود
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 20
عندهم أنّ بین الطوفان، و بین الإسکندر ألفا و سبعمائة و اثنتین و تسعین سنة، و عند النصاری بینهما ألفا سنة و تسعمائة و ثمان و ثلاثون سنة، و الفرس و سائر المجوس، و الکلدانیون أهل بابل، و الهند، و أهل الصین، و أصناف الأمم المشرقیة ینکرون الطوفان، و أقرّ به بعض الفرس، لکنهم قالوا: لم یکن الطوفان بسوی الشام و المغرب، و لم یعمّ العمران کله و لا غرّق إلا بعض الناس، و لم یتجاوز عقبة حلوان، و لا بلغ إلی ممالک المشرق، قالوا: و وقع فی زمان طمهورت، و إنّ أهل المغرب لما أنذر حکماؤهم بالطوفان اتخذوا المبانی العظیمة کالهرمین بمصر، و نحوهما لیدخلوا فیها عند حدوثه، و لما بلغ طمهورت الإنذار بالطوفان قبل کونه بمائة و إحدی و ثلاثین سنة، أمر باختیار مواضع فی مملکته صحیحة الهواء و التربة، فوجد ذلک بأصبهان ، فأمر بتجلید العلوم، و دفنها فیها فی أسلم المواضع، و یشهد لهذا ما وجد بعد الثلاثمائة من سنی الهجرة فی حیّ من مدینة أصبهان من التلال التی انشقت عن بیوت مملوءة أعد الأعدّة کثیرة قد ملئت من لحاء الشجر التی تلبس بها القسیّ ، و تسمی:
التور مکتوبة بکتابة لم یدر أحد ما هی؟.
و أما المنجمون: فإنهم صححوا هذه السنین من القران الأوّل من قرانات العلویین:
زحل و المشتری التی أثبت علماء أهل بابل، و الکلدانیین مثلها إذا کان الطوفان ظهوره من ناحیتهم، فإنّ السفینة استقرّت علی الجودیّ و هو غیر بعید من تلک النواحی، قالوا: و کان هذا القران قبل الطوفان بمائتین و عشرین سنة و مائة و ثمانیة أیام، و اعتنوا بأمرها و صححوا ما بعدها، فوجدوا ما بین الطوفان، و بین أوّل ملک بخت نصر الأوّل ألفی سنة و ستمائة و أربع سنین، و بین بخت نصر هذا، و بین الإسکندر أربعمائة و ست و ثلاثون سنة، و علی ذلک بنی أبو معشر أوساط الکواکب فی زیجه، و قال: کان الطوفان عند اجتماع الکواکب فی آخر برج الحوت، و أوّل برج الحمل، و کان بین وقت الطوفان، و بین تاریخ الإسکندر قدر ألفی سنة و سبعمائة و تسعین سنة مکبوسة و سبعة أشهر و ستة و عشرین یوما، و بینه و بین یوم الخمیس أوّل المحرّم من السنة الأولی من سنی الهجرة النبویة ألف ألف یوم و ثلثمائة ألف یوم و تسعة و خمسون ألف یوم و تسعمائة یوم و ثلاثة و سبعون یوما، یکون من السنین الفارسیة المصریة ثلاثة آلاف سنة، و سبعمائة و خمسا و عشرین سنة، و ثلثمائة یوم و ثمانیة و أربعین یوما.
و منهم من یری أنّ الطوفان کان یوم الجمعة، و عند أبی معشر أنه کان یوم الخمیس، و لما تقرّر عنده الجملة المذکورة، و خرجت له المدّة التی تسمی: أدوار الکواکب، و هی بزعمهم ثلثمائة ألف و ستون ألف سنة شمسیة، و أوّلها متقدّم علی وقت الطوفان بمائة ألف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 21
و ثمانین ألف سنة شمسیة، حکم بأنّ الطوفان کان فی مائة ألف و ثمانین ألف سنة، و سیکون فیما بعد کذلک، و مثل هذا لا یقبل إلّا بحجة أو من معصوم.
و أما تاریخ بخت نصر: فإنه علی سنی القبط، و علیه یعمل فی استخراج مواضع الکواکب من کتاب المجسطی، ثم أدوار قاللیس، و أوّل أدواره فی سنة ثمانی عشرة و أربعمائة لبخت نصر، و کل دور منها ست و سبعون سنة شمسیة، و کان قاللیس من جلّة أصحاب التعالیم، و بخت نصر هذا لیس هو الذی خرّب بیت المقدس، و إنما هو آخر کان قبل بخت نصر مخرّب بیت المقدس، بمائة و ثلاث و أربعین سنة، و هو اسم فارسیّ أصله بخت برسی، و معناه کثیر البکاء و الأنین، و یقال له بالعبرانیة: نصار، و قیل تفسیره: عطارد، و هو ینطق و ذلک لتحیبه علی الحکمة، و تغریب أهلها ثم عرّب فقیل: بخت نصر.
و أما تاریخ فیلبس: فإنه علی سنی القبط، و کثیرا ما یستعمل هذا التاریخ من موت الإسکندر البناء المقدونیّ، و کلا الأمرین سواء، فإن القائم بعد البناء هو فیلبس فسواء کان من موت الأوّل أو من قیام الآخر، فإن الحالة المؤرخة هی کالفصل المشترک بینهما، و فیلبس هذا هو أبو الإسکندر المقدونیّ، و یعرف هذا التاریخ: بتاریخ الإسکندرانیین، و عله بنی تاون الإسکندرانیّ فی تاریخه المعروف بالقانون، و أعلم.
و أما تاریخ الإسکندریة فإنه علی سنی الروم علیه یعمل أکثر الأمم إلی وقتنا هذا من أهل الشام، و أهل بلاد الروم، و أهل المغرب و الأندلس، و الفرنج و الیهود، و قد تقدّم الکلام علیه عند ذکر الإسکندریة من هذا الکتاب.
و أما تاریخ أغشطش فإنه لا یعرف الیوم أحد یستعمله، و أغشطش هذا هو أوّل القیاصرة، و معنی قیصر بالرومیة شقّ عنه، فإنّ أغشطش هذا لما حملت به أمّه ماتت فی المخاض، فشق بطنها حتی أخرج منه، فقیل: قیصر، و به یلقب من بعده من ملوک الروم، و یزعم النصاری أنّ المسیح علیه السلام: ولد لأربعین سنة من ملکه، و فی هذا القول نظر، فإنه لا یصح عند سیاقه السنین، و التواریخ بل یجی‌ء تعدیل ولادته علیه السلام فی السنة السابعة عشر من ملکه. و أما تاریخ أنطینس: فإن بطلیموس صحح الکواکب الثابتة فی کتابه المعروف بالمجسطیّ لأوّل ملکه علی الروم و سنو هذا التاریخ رومیة.

ذکر تاریخ القبط

إعلم: أن السنة الشمسیة عبارة عن عود الشمس فی فلک البروج إذا تحرّکت علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 22
خلاف حرکة الکل إلی أیّ نقطة فرضت، ابتداء حرکتها، و ذلک أنها تستوفی الأزمنة الأربعة التی هی الربیع، و الصیف، و الخریف، و الشتاء، و تحوز طبائعها الأربع، و تنتهی إلی حیث بدأت، و فی هذه المدّة یستوفی القمر اثنتی عشرة عودة، و أقلّ من نصف عودة، و یستهل اثنتی عشرة مرّة، فجعلت المدّة التی فیها عودات القمر الاثنتا عشرة فی فلک البروج سنة للقمر علی جهة الاصطلاح، و أسقط الکسر الذی هو أحد عشر یوما بالتقریب، فصارت السنة علی قسمین: سنة شمسیة، و سنة قمریة، و جمیع من علی وجه الأرض من الأمم أخذوا تواریخ سنیهم من مسیر الشمس و القمر، فالآخذون بسیر الشمس خمس أمم و هم:
الیونانیون، و السریانیون، و القبط، و الروم، و الفرس، و الآخذون بسیر القمر خمس أمم هم:
الهند، و العرب، و الیهود، و النصاری، و المسلمون.
فأهل قسنطینیة و الإسکندریة، و سائر الروم و السریانیون و الکلدانیون، و أهل مصر، و من یعمل برأی المعتضد أخذوا بالسنة الشمسیة التی هی ثلثمائة و خمسة و ستون یوما و ربع یوم بالتقریب، و صیروا السنة ثلثمائة و خمسة و ستین یوما، و ألحقوا الأرباع بها فی کل أربع سنین یوما حتی انجبرت السنة، و سمّوا تلک السنة کبیسة لانکباس الأرباع فیها.
و أما قبط مصر القدماء: فإنهم کانوا یترکون الأرباع حتی یجتمع منها أیام سنة تامّة، و ذلک فی کل ألف و أربعمائة و ستین سنة، ثم یکبسونها سنة واحدة، و یتفقون حینئذ فی أوّل تلک السنة مع أهل الإسکندریة و قسطنطینیة.
و أما الفرس: فإنهم جعلوا السنة ثلثمائة و خمسة و ستین یوما من غیر کبس حتی اجتمع لهم من ربع الیوم فی مائة و عشرین سنة أیام شهر تامّ، و من خمس الساعة الذی یتبع ربع الیوم عندهم، یوم واحد، فألحقوا الشهر التامّ بها فی کل مائة و ست عشرة سنة، و اقتفی أثرهم فی هذا أهل خوارزم القدماء و الصفد، و من دان بدین فارس، و کانت الملوک البیشدادیة منهم، و هم الذین ملکوا الدنیا بحذافیرها یعملون السنة ثلثمائة و خمسة و ستین یوما کل شهر منها: ثلاثون یوما سواء، و کانوا یکبسون السنة کل ست سنین بیوم، و یسمونها کبیسة، و کل مائة و عشرین سنة بشهرین أحدهما بسبب خمسة الأیام، و الثانی بسبب ربع الیوم، و کانوا یعظمون تلک السنة و یسمونها المبارکة.
و أما قدماء القبط: و أهل فارس فی الإسلام، و أهل خوارزم و الصفد فترکوا الکسور أعنی الربع، و ما یتبعه أصلا. و أما العبرانیون، و جمیع بنی إسرائیل، و الصابئون، و الحرّانیون فإنهم أخذوا السنة من مسیر الشمس، و شهورها من مسیر القمر لتکون أعیادهم، و صیامهم علی حساب قمریّ، و تکون مع ذلک حافظة لأوقاتها من السنة، فکبسوا کل تسع عشرة سنة قمریة بستة أشهر، و وافقهم النصاری فی صومهم، و بعض أعیادهم لأن مدار أمرهم علی نسخ الیهود، و خالفوهم فی الشهور إلی مذهب الروم و السریانیین، و کانت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 23
العرب فی جهالتها تنظر إلی فضل ما بین سنتهم، و سنة القمر، و هو عشرة أیام و إحدی و عشرون ساعة و خمس ساعة، فیلحقون ذلک بها شهرا کلما تمّ منها ما یستوفی أیام شهر، و لکنهم کانوا یعملون علی أنه عشرة أیام و عشرون ساعة، و کان یتولی ذلک النّسأة من بنی کنانة المعروفون بالقلامس، و أحدهم قلمس، و هو البحر الغزیر، و هو أبو تمام جنادة بن عوف بن أمیة بن قلع، و أوّل من فعل ذلک منهم: حذیفة بن عبد فقیم، و آخر من فعله أبو تمامة، و أخذ العرب الکبس من الیهود قبل مجی‌ء دین الإسلام بنحو المائتی سنة، و کانوا یکبسون فی کل أربعة و عشرین سنة، تسعة أشهر حتی تبقی أشهر السنة ثابتة مع الأزمنة علی حالة واحدة لا تتأخر عن أوقاتها، و لا تتقدّم إلی أن حج رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و أنزل اللّه تعالی علیه: إِنَّمَا النَّسِی‌ءُ زِیادَةٌ فِی الْکُفْرِ یُضَلُّ بِهِ الَّذِینَ کَفَرُوا یُحِلُّونَهُ عاماً وَ یُحَرِّمُونَهُ عاماً لِیُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَیُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُیِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللَّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْکافِرِینَ [التوبة/ 37]، فخطب صلّی اللّه علیه و سلّم و قال: «إنّ الزمان قد استدار کهیئته یوم خلق اللّه السماوات و الأرض فبطل النسی‌ء، و زالت شهور العرب عما کانت علیه، و صارت أسماؤها غیر دالة علی معانیها».
و أما أهل الهند فإنهم یستعملون رؤیة الأهلة فی شهورهم، و یکبسون کل تسعمائة سنة و سبعین یوما بشهر قمریّ، و یجعلون ابتداء تاریخهم: اتفاق اجتماع فی أوّل دقیقة من برج ما، و أکثر طلبهم لهذا الاجتماع أن یتفق فی إحدی نقطتی الاعتدالین، و یسمون السنة الکبیسة بذمات فهذه آراء الخلیقة فی السنة.
و أما الیوم فإنه عبارة عن عود الشمس بدوران الکل إلی دائرة قد فرضت، و قد اختلف فیه فجعله العرب من غروب الشمس إلی غروبها من الغد، و من أجل أنّ شهور العرب مبنیة علی مسیر القمر، و أوائلها مقیدة برؤیة الهلال، و الهلال یری لدن غروب الشمس، صارت اللیلة عندهم قبل النهار، و عند الفرس و الروم، الیوم بلیلته من طلوع الشمس بارزة من أفق المشرق إلی وقت طلوعها من الغد، فصار النهار عندهم قبل اللیل، و احتجوا علی قولهم:
بأنّ النور وجود، و الظلمة عدم، و الحرکة تغلب علی السکون لأنها وجود لا عدم، و حیاة لا موت، و السماء أفضل من الأرض، و العامل الشاب أصح، و الماء الجاری لا یقبل عفونة کالراکد، و احتج الآخرون بأن الظلمة أقدم من النور، و النور طاری‌ء علیها، فالأقدم یبدأ به، و غلبوا السکون علی الحرکة بإضافة الراحة و الدعة إلیه، و قالوا: الحرکة إنما هی الحاجة و الضرورة، و التعب تنتجه الحرکة، و السکون إذا دام فی الاستقصاءات مدّة لم یولد فسادا، فإذا دامت الحرکة فی الاستقصاءات و استحکمت أفسدت، و ذلک کالزلازل و العواصف، و الأمواج و شبهها، و عند أصحاب التنجیم أن الیوم بلیلته من موافاة الشمس فلک نصف النهار إلی موافاتها إیاه فی الغد، و ذلک من وقت الظهر إلی وقت العصر، و بنوا علی ذلک حساب أزیاجهم، و بعضهم ابتدأ بالیوم من نصف اللیل، و هو صاحب زیج شهر بارازانساه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 24
و هذا هو حدّ الیوم علی الإطلاق إذا اشترط اللیلة فی الترکیب فأمّا علی التفصیل: فالیوم بانفراده، و النهار بمعنی واحد، و هو من طلوع جرم الشمس إلی غروب جرمها، و اللیل خلاف ذلک و عکسه، و حدّ بعضهم أوّل النهار بطلوع الفجر و آخره بغروب الشمس لقوله تعالی: وَ کُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الْخَیْطُ الْأَبْیَضُ مِنَ الْخَیْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّیامَ إِلَی اللَّیْلِ [البقرة/ 187] و قال: هذان الحدّان هما طرفا النهار، و عورض بأنّ الآیة إنما فیها بیان طرفی الصوم لا تعریف أوّل النهار، و بأن الشفق من جهة المغرب نظیر الفجر من جهة المشرق، و هما متساویان فی العلة، فلو کان طلوع الفجر أوّل النهار، لکان غروب الشفق آخره، و قد التزم ذلک بعض الشیعة، فإذا تقرّر ذلک، فنقول تاریخ القبط یعرف عند نصاری مصر الآن بتاریخ الشهداء، و یسمیه بعضهم، تاریخ دقلطیانوس.

ذکر دقلطیانوس الذی یعرف تاریخ القبط به

اشارة

إعلم: أنّ دقلطیانوس هذا: أحد ملوک الروم المعروفین بالقیاصرة ملک فی منتصف سنة خمس و تسعین و خمسمائة من سنی الإسکندر، و کان من غیر بیت الملک، فلما ملک تجبر و امتدّ ملکه إلی مدائن الأکاسرة، و مدینة بابل، فاستخلف ابنه علی مملکة رومة، و اتخذ تخت ملکه بمدینة أنطاکیة، و جعل لنفسه بلاد الشام و مصر إلی أقصی المغرب، فلما کان فی السنة التاسعة عشر من ملکه، و قیل: الثانیة عشر خالف علیه أهل مصر، و الإسکندریة، فبعث إلیهم و قتل منهم خلقا کثیرا، و أوقع بالنصاری فاستباح دماءهم و غلق کنائسهم، و منع من دین النصاری، و حمل الناس علی عبادة الأصنام، و بالغ فی الإسراف فی قتل النصاری، و أقام ملکا إحدی و عشرین سنة، و هلک بعد علل صبعة دوّد منها بدنه، و سقطت أسنانه، و هو آخر من عبد الأصنام من ملوک الروم، و کل من ملک بعده فإنما کان علی دین النصرانیة، فإن الذی ملک بعده ابنه سنة واحدة، و قیل: أکثر من ذلک، ثم ملک قسطنطین الأکبر، فأظهر دین النصرانیة، و نشره فی الأرض، و یقال: إن رجلا ثار بمصر، یقال له: أجله، و خرج عن طاعة الروم، فسار إلیه دقلطیانوس و حصر الإسکندریة دار الملک یومئذ ثمانیة أشهر، حتی أخذ أجله و قتله، و عمّ أرض مصر کلها بالسبی و القتل، و بعث قائده، فحارب سابور ملک فارس، و قتل أکثر عسکره، و هزمه و أسر امرأته و إخوته و أثخن فی بلاده، و عاد بأسری کثیرة من رجال فارس، ثم أوقع بعامّة بلاد رومة، فأکثر فی قتلهم و سبیهم، فکانت أیامه شنعة، قتل فیها من أصناف الأمم، و هدم من بیوت العبادات ما لا یدخل تحت حصر، و کانت واقعته بالنصاری هی الشدّة العاشرة، و هی أشنع شدائدهم،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 25
و أطولها لأنها دامت علیهم مدّة عشر سنین لا یفتر یوما واحدا یحرق فیها کنائسهم، و یعذب رجالهم، و یطلب من استتر منهم أو هرب لیقتل، یرید بذلک قطع أثر النصاری، و إبطال دین النصرانیة من الأرض، فلهذا اتخذوا ابتداء ملک دقلطیانوس تاریخا، و کان ابتداء ملکه یوم الجمعة، و بینه و بین یوم الاثنین أوّل یوم من توت، و هو أوّل أیام ملک الإسکندر بن فیلبس المقدونیّ خمسمائة و أربع و تسعون سنة، و أحد عشر شهرا، و ثلاثة أیام، و بین یوم الجمعة أوّل یوم من تاریخ دقلطیانوس، و بین یوم الخمیس أوّل یوم من سنة الهجرة النبویة ثلثمائة و ثمان و ثلاثون سنة قمریة و تسعة و ثلاثون یوما، و جعلوا شهور السنة القبطیة اثنی عشر شهرا کل شهر منها عدده ثلاثون یوما سواء، فإذا تمت الأشهر الاثنا عشر أتبعوها بخمسة أیام زیادة علی عدد أیامها، و سموا هذه الخمسة الأیام أبو عمنا، و تعرف الیوم: بأیام النسی‌ء، فیکون الحال فی النسی‌ء علی ذلک ثلاث سنین متوالیات، فإذا کان فی السنة الرابعة جعلوا النسی‌ء ستة أیام، فتکون سنوهم ثلاث سنین متوالیات کل سنة ثلثمائة و خمسة و ستون یوما و الرابعة یصیر عددها ثلثمائة و ستة و ستین یوما، و یرجع حکم سنتهم إلی حکم سنة الیونانیین بأن تصیر سنتهم الوسطی ثلثمائة و خمسة و ستین یوما و ربع یوم إلا أن الکبس یختلف، فإذا کان کبس القبط فی سنة کان کبس الیونانیین فی السنة الداخلة.
و أسماء شهور القبط : توت، بابه. هتور، کهیک، طوبه، أمشیر، برمهات، برموده، بشنس، بؤونة، أبیب، مسری؛ فهذه اثنا عشر شهرا کل شهر منها عدده ثلاثون یوما، و إذا کانت عدّة شهر مسری، و هو الشهر الثانی عشر زادوا أیام النسی‌ء بعد ذلک، و عملوا النوروز أوّل یوم من شهر توت.

ذکر أسابیع الأیام

إعلم: أن القدماء من الفرس و الصفد و قبط مصر الأول یم یکونوا یستعملون الأسابیع من الأیام فی الشهور، و أوّل من استعملها أهل الجانب الغربیّ من الأرض لا سیما أهل الشام، و ما حوالیه من أجل ظهور الأنبیاء علیهم السلام فیما هنا لک، و أخبارهم عن الأسبوع الأوّل و بدء العالم فیه، و إنّ اللّه خلق السماوات و الأرض فی ستة أیام من الأسبوع، ثم انتشر ذلک منهم فی سائر الأمم، و استعملته العرب العاربة بسبب تجاوز دیارهم، و دیار أهل الشام، فإنهم کانوا قبل تحوّلهم إلی الیمن ببابل، و عندهم أخبار نوح علیه السلام، ثم بعث اللّه تعالی إلیهم هودا، ثم صالحا علیهما السلام، و أنزل فیهم إبراهیم خلیل الرحمن ابنه إسماعیل علیهما السلام، فتعرّب إسماعیل، و کانت القبط الأول تستعمل أسماء الأیام الثلاثین من کل شهر، فتجعل لکل یوم منها اسما، کما هو العمل فی تاریخ الفرس،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 26
و ما زالت القبط علی هذا إلی أن ملک مصر أغشطش بن بوحس، فأراد أن یحملهم علی کبس السنین لیوافقوا الروم أبدا فیها، فوجدوا الباقی حینئذ إلی تمام السنة الکبیسة الکبری خمس سنین، فانتظر حتی مضی من ملکه خمس سنین، ثم حملهم علی کبس الشهور فی کل أربع سنین بیوم، کما تفعل الروم، فترک القبط من حینئذ استعمال أسماء الأیام الثلاثین، لاحتیاجهم فی یوم الکبس إلی اسم یخصه، و انقرض بعد ذلک مستعملو أسماء الأیام الثلاثین من أهل مصر، و العارفون بها، و لم یبق لها ذکر یعرف فی العالم بین الناس، بل دثرت کما دثر غیرها من أسماء الرسوم القدیمة، و العادات الأول سنة اللّه فی الذین خلوا من قبل، و کانت أسماء شهور القبط فی الزمن القدیم: توت، بؤونی، أتور، سواق، طوبی، ماکیر، فامینوت، برموتی، باحون، باونی، افیعی، ابیقا؛ و کل شهر منها ثلاثون یوما، و لکل یوم اسم یخصه، ثم أحدث بعض رؤساء القبط بعد استعمالهم الکبس الأسماء التی هی الیوم متداولة بین الناس بمصر، إلا أن من الناس من یسمی کیهک کیاک، و یقول فی برمهات برمهوط، و فی بشنس بشانس، و فی مسری ماسوری، و من الناس من یسمی الخمسة الأیام الزائدة أیام النسی‌ء، و منهم من یسمیها أبو عمنا، و معنی ذلک الشهر الصغیر، و هی کما تقدّم تلحق فی آخر مسری، و فیه یزاد الیوم الکبیس، فیکون أبو عمنا ستة أیام حینئذ، و یسمون السنة الکبیسة النقط، و معناه العلامة، و من خرافات القبط أنّ شهورهم هی شهور سنی نوح و شیث و آدم منذ ابتداء العالم، و إنها لم تزل علی ذلک إلی أن خرج موسی ببنی إسرائیل من مصر، فعملوا أوّل سنتهم خامس عشر نیسان، کما أمروه به فی التوراة إلی أن نقل الإسکندر رأس سنتهم إلی أوّل تشرین، و کذلک المصریون نقل بعض ملوکهم أوّل سنتهم إلی أوّل یوم من ملکه، فصار أوّل توت عندهم یتقدّم أوّل یوم خلق فیه العالم بمائتین و ثمانیة أیام أوّلها یوم الثلاثاء، و آخرها یوم السبت، و کان توت أوّله فی ذلک الوقت یوم الأحد، و هو أوّل یوم خلق اللّه فیه العالم الذی یقال له الآن: تاسع عشری برمهات و ذلک أنّ أوّل من ملک علی الأرض بعد الطوفان نمرود بن کنعان بن حام بن نوح، فعمر بابل، و هو أبو الکلدانیین، و ملک بنو مصرایم بن حام بن نوح علیه السلام: متش فبنی منف بمصر علی النیل، و سماها باسم جدّه مصرایم، و هو ثانی ملک ملک علی الأرض، و هذان الملکان استعملا تاریخ جدّهما نوح علیه السلام، و استن بسنتهم من جاء بعدهم حتی تغیرت کما تقدّم.

ذکر أعیاد القبط من النصاری بدیار مصر

روی یونس عن عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه أنه قال: اجتنبوا عید الیهود و النصاری، فإنّ السخط ینزل علیهم فی مجامعهم، و لا تتعلموا رطانتهم فتخلقوا ببعض خلقهم.
و عن ابن عباس فی قوله تعالی: وَ الَّذِینَ لا یَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 27
کِراماً [الفرقان/ 72] قال: أعیاد المشرکین، فقیل له: أو ما هذا فی الشهادة بالزور، فقال:
لا إنما أیة شهادة الزور، و لا تقف ما لیس لک به علم إنّ السمع و البصر و الفؤاد کل أولئک کان عنه مسئولا.
اعلم: أنّ نصاری مصر من القبط ینحلون مذهب الیعقوبیة کما تقدّم ذکره، و أعیادهم الآن التی هی مشهورة بدیار مصر أربعة عشر عیدا فی کل سنة من سنیهم القبطیة منها سبعة أعیاد یسمونها أعیادا کبارا، و سبعة یسمونها أعیادا صغارا. فالأعیاد الکبار عندهم: عید البشارة، و عید الزیتونة، و عید الفصح، و عید خمیس الأربعین، و عید الخمیس، و عید المیلاد، و عید الغطاس.
و الأعیاد الصغار: عید الختان، و عید الأربعین، و خمیس العهد، و سبت النور، و أحد الحدود، و التجلی، و عید الصلیب، و لهم مواسم أخر لیست هی عندهم من الأعیاد الشرعیة لکنها عندهم من المواسم العادیة، و هو یوم النوروز، و سأذکر من خبر هذه الأعیاد ما لا تجده مجموعا فی غیر هذا الکتاب علی ما استخرجته من کتب النصاری، و تواریخ أهل الإسلام.
عید البشارة: هذا العید عید النصاری أصله بشارة جبریل مریم بمیلاد المسیح علیهما السلام، و هم یسمون جبریل غبریال، و یقولون: مارت مریم، و یسمون المسیح: یاشوع، و ربما قالوا: السید یشوع، و هذا العید تعمله نصاری مصر فی الیوم التاسع و العشرین من شهر برمهات .
عید الزیتونة: و یعرف عندهم: بعید الشعانین، و معناه التسبیح، و یکون فی سابع أحد من صومهم و سنتهم فی عید الشعانین أن یخرجوا سعف النخل من الکنیسة، و یرون أنه یوم رکوب المسیح العنو، و هو الحمار فی القدس، و دخوله إلی صهیون، و هو راکب و الناس بین یدیه یسبحون، و هو یأمر بالمعروف، و یحث علی عمل الخیر، و ینهی عن المنکر، و یباعد عنه، و کان عید الشعانین من مواسم النصاری بمصر التی تزین فیها کنائسهم، فلما کان لعشر خلون من شهر رجب سنة ثمان و سبعین و ثلثمائة، کان عید الشعانین فمنع الحاکم بأمر اللّه أبو علیّ منصور بن العزیز بالله النصاری من تزیین کنائسهم، و حملهم الخوص علی ما کانت عادتهم، و قبض علی عدّة ممن وجد معه شیئا من ذلک، و أمر بالقبض علی ما هو محبس علی الکنائس من الأملاک، و أدخلها فی الدیوان، و کتب لسائر الأعمال بذلک، و أحرقت عدّة من صلبانهم علی باب الجامع العتیق و الشرطة.
عید الفصح: هذا العید عندهم هو العید الکبیر، و یزعمون أنّ المسیح علیه السلام،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 28
لما تمالأ الیهود علیه، و اجتمعوا علی تضلیله و قتله، قبضوا علیه، و أحضروه إلی خشبة لیصلب علیها، فصلب علی خشبة علیها لصان، و عندنا و هو الحق أنّ اللّه تعالی رفعه إلیه، و لم یصلب، و لم یقتل و أنّ الذی صلب علی الخشبة مع اللصین غیر المسیح ألقی اللّه علیه شبه المسیح، قالوا: و اقتسم الجند ثیابه، و غشی الأرض ظلمة من الساعة السادسة من النهار إلی الساعة التاسعة من یوم الجمعة خامس عشر هلال نیسان للعبرانیین، و تاسع عشری برمهات، و خامس عشری آذار سنة و دفن الشبیه آخر النهار بقبر، و أطبق علیه حجر عظیم، و ختم علیه رؤساء الیهود، و أقاموا علیه الحرس باکر یوم السبت، کیلا یسرق فزعموا أنّ المقبور قام من القبر لیلة الأحد سحرا، و مضی بطرس، و یوحنا التلمیذان إلی القبر، و إذا الثیاب التی کانت علی المقبور بغیر میت، و علی القبر ملاک اللّه بثیاب بیض، فأخبرهما بقیام المقبور من القبر، قالوا: و فی عشیة یوم الأحد هذا، دخل المسیح علی تلامیذه، و سلّم علیهم، و أکل معهم، و کلمهم و أوصاهم، و أمرهم بأمور قد تضمنها إنجیلهم، و هذا العید عندهم بعد عید الصلبوت بثلاثة أیام.
خمیس الأربعین: و یعرف عند أهل الشام بالمسلاق، و یقال له أیضا: عید الصعود، و هو الثانی و الأربعون من الفطر، و یزعمون أنّ المسیح علیه السلام بعد أربعین یوما من قیامته خرج إلی بیت عینا، و التلامیذ معه، فرفع یدیه و بارک علیهم، و صعد إلی السماء، و ذلک عند إکماله ثلاثا و ثلاثین سنة و ثلاثة أشهر، فرجع التلامذة إلی أوراسلیم یعنی بیت المقدس، و قد وعدهم باشتهار أمرهم، و غیر ذلک مما هو معروف عندهم، فهذا اعتقادهم فی کیفیة رفع المسیح، و من أصدق من اللّه حدیثا.
عید الخمیس: و هو العنصرة، و یعملونه بعد خمسین یوما من یوم القیام، و زعموا أن بعد عشرة أیام من الصعود و خمسین یوما من قیامة المسیح، اجتمع التلامیذ فی علیة صهیون، فتجلی لهم روح القدس فی شبه ألسنة من نار، فامتلأوا من روح القدس، و تکلموا بجمیع الألسن، و ظهرت علی أیدیهم آیات کثیرة، فعاداهم الیهود، و حبسوهم فنجاهم اللّه منهم، و خرجوا من السجن، فساروا فی الأرض متفرّقین یدعون الناس إلی دین المسیح.
عید المیلاد: یزعمون أنه الیوم الذی ولد فیه المسیح، و هو یوم الاثنین فیحیون عشیة لیلة المیلاد، و سنتهم فیه کثرة الوقود بالکنائس، و تزیینها، و یعملونه بمصر فی التاسع و العشرین من کیهک و لم یزل بدیار مصر من المواسم المشهورة، فکان یفرّق فیه أیام الدولة الفاطمیة علی أرباب الرسوم من الأستاذین المحنکین، و الأمراء المطوّقین، و سائر الموالی من الکتاب و غیرهم، الجامات من الحلاوة القاهریة، و المثارد التی فیها السمیذ،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 29
و قربات الجلاب، و طمافیر الزلابیة، و السمک المعروف بالبوریّ، و من رسم النصاری فی المیلاد اللعب بالنار. و من أحسن ما قیل:
ما اللعب بالنار فی المیلاد من سفه‌و إنما فیه للإسلام مقصود
ففیه بهت النصاری أنّ ربهم‌عیسی ابن مریم مخلوق و مولود
و أدرکنا المیلاد بالقاهرة و مصر، و سائر إقلیم مصر موسما جلیلا یباع فیه من الشموع المزهرة بالأصباغ الملیحة، و التماثیل البدیعة بأموال لا تنحصر، فلا یبقی أحد من الناس أعلاهم و أدناهم حتی یشتری من ذلک لأولاده و أهله، و کانوا یسمونها: الفوانیس، و احدها فانوس، و یعلقون منها فی الأسواق بالحوانیت شیئا یخرج عن الحدّ فی الکثرة و الملاحة، و یتنافس الناس فی المغالات فی أثمانها حتی لقد أدرکت شمعة عملت فبلغ مصروفها: ألف درهم و خمسمائة درهم فضة عنها یومئذ ما ینیف علی سبعین مثقالا من الذهب و اعرف السؤال فی الطرقات أیام هذه المواسم، و هم یسألون اللّه أن یتصدّق علیهم بفانوس، فیشتری لهم من صغار الفوانیس، ما یبلغ ثمنه الدرهم، و ما حوله ثم لما اختلت أمور مصر، کان من جملة ما بطل من عواید الترف، عمل الفوانیس فی المیلاد إلّا قلیلا.
الغطاس: و یعمل بمصر فی الیوم الحادی عشر من شهر طوبه ، و أصله عند النصاری، أنّ یحیی بن زکریاء علیهما السلام المعروف عندهم بیوحنا المعمدانیّ: عمّد المسیح أی غسله فی بحیرة الأردن، و عندما خرج المسیح علیه السلام من الماء، اتصل به روح القدس، فصار النصاری لذلک یغمسون أولادهم فی الماء فی هذا الیوم، و ینزلون فیه بأجمعهم، و لا یکون ذلک إلا فی شدّة البرد، و یسمونه یوم الغطاس، و کان له بمصر موسم عظیم إلی الغایة.
قال المسعودیّ: و للیلة الغطاس بمصر شأن عظیم عند أهلها لا ینام الناس فیها، و هی لیلة الحادی عشر من طوبه، و لقد حضرت سنة ثلاثین و ثلثمائة لیلة الغطاس بمصر، و الإخشید محمد بن طفج أمیر مصر فی داره المعروفة بالمختار فی الجزیرة الراکبة للنیل، و النیل یطیف بها، و قد أمر فأسرج فی جانب الجزیرة، و جانب الفسطاط ألف مشعل غیر ما أسرج أهل مصر من المشاعل و الشمع، و قد حضر بشاطئ النیل فی تلک اللیلة آلاف من الناس من المسلمین، و من النصاری منهم فی الزواریق، و منهم فی الدور الدانیة من النیل، و منهم علی سائر الشطوط لا یتناکرون کل ما یمکنهم إظهاره من المآکل و المشارب و الملابس، و آلات الذهب و الفضة، و الجوهر و الملاهی، و العزف و القصف، و هی أحسن لیلة تکون بمصر، و أشملها سرورا، و لا تغلق فیها الدروب، و یغطس أکثرهم فی النیل، و یزعمون أنّ ذلک أمان من المرض و نشزة للداء.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 30
و قال المسبحیّ فی تاریخه: من حوادث سنة سبع و ستین و ثلثمائة: منع النّصاری من إظهار ما کانوا یفعلونه فی الغطاس من الاجتماع، و نزول الماء، و إظهار الملاهی، و نودی أن من عمل ذلک نفی من الحضرة، و قال فی سنة ثمان و ثمانین و ثلثمائة: کان الغطاس فضربت الخیام و المضارب و الأسرّة فی عدّة مواضع علی شاطی‌ء النیل، و نصبت أسرّة للرئیس فهد بن إبراهیم النصرانیّ کاتب الأستاذ برجوان ، و أوقدت له الشموع و المشاعل، و حضر المغنون و الملهون، و جلس مع أهله یشرب إلی أن کان وقت الغطاس، فغطس و انصرف.
و قال: فی سنة إحدی و أربعمائة، و فی ثامن عشری جمادی الأولی، و هو عاشر طوبه منع النصاری من الغطاس، فلم یغطس أحد منهم فی البحر، و قال: فی حوادث سنة خمس عشرة و أربعمائة، و فی لیلة الأربعاء رابع ذی القعدة، کان غطاس النصاری، فجری الرسم من الناس فی شراء الفواکه و الضأن و غیره، و نزل أمیر المؤمنین الظاهر لإعزاز دین اللّه لقصر جدّه العزیز بالله فی مصر، لنظر الغطاس، و معه الحرم، و نودی أن لا یختلط المسلمون مع النصاری عند نزولهم فی البحر فی النیل، و ضرب بدر الدولة الخادم الأسود متولی الشرطتین، خیمة عند الجسر، و جلس فیها و أمر أمیر المؤمنین بأن توقد النار و المشاعل فی اللیل، و کان وقیدا کثیرا، و حضر الرهبان و القسوس بالصلبان و النیران، فقسسوا هناک طویلا إلی أن غطسوا، و قال ابن المأمون فی تاریخه: من حوادث سنة سبع عشرة و خمسمائة، و ذکر الغطاس، ففرّق أهل الدولة ما جرت به العادة لأهل الرسوم من الأترج و النارنج و اللیمون فی المراکب، و أطنان القصب و البوری بحسب الرسوم المقرّرة بالدیوان لکل واحد.
الختان: یعمل فی سادس شهر بؤونة ، و یزعمون أنّ المسیح ختن فی هذا الیوم، و هو الثامن من المیلاد، و القبط من دون النصاری تختن بخلاف غیرهم.
الأربعون: و هو عندهم دخول المسیح الهیکل، و یزعمون أنّ سمعان الکاهن: دخل بالمسیح مع أمّه، و بارک علیه، و یعمل فی ثامن شهر أمشیر .
خمیس العهد: و یعمل قبل الفصح بثلاثة أیام، و سنتهم فیه أن یملئوا إناء من ماء، و یزمزمون علیه، ثم یغسل للتبرّک به أرجل سائر النصاری، و یزعمون أنّ المسیح فعل هذا بتلامذته فی مثل هذا الیوم کی یعلمهم التواضع، ثم أخذ علیهم العهد أن لا یتفرّقوا، و أن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 31
یتواضع بعضهم لبعض، و عوامّ أهل مصر فی وقتنا یقولون: خمیس العدس من أجل أنّ النصاری تطبخ فیه العدس المصفی، و یقول أهل الشام: خمیس الأرز و خمیس البیض، و یقول أهل الأندلس: خمیس أبریل، و أبریل اسم شهر من شهورهم، و کان فی الدولة الفاطمیة تضرب فی خمیس العدس هذا خمسمائة دینار، فتعمل خراریب تفرّق فی أهل الدولة برسوم مفردة کما ذکر فی أخبار القصر من القاهرة عند ذکر دار الضرب من هذا الکتاب، و أدرکنا خمیس العدس هذا فی القاهرة و مصر، و أعمالها من جملة المواسم العظیمة، فیباع فی أسواق القاهرة من البیض المصبوغ عدّة ألوان ما یتجاوز حدّ الکثرة، فیقامر به العبید و الصبیان و الغوغاء، و ینتدب لذلک من جهة المحتسب من یردعهم فی بعض الأحیان، و یهادی النصاری بعضهم بعضا، و یهدون إلی المسلمین أنواع السمک المنوّع مع العدس المصفی، و البیض، و قد بطل ذلک لما حلّ بالناس و بقیت منه بقیة.
سبت النور: و هو قبل الفصح بیوم، و یزعمون: أنّ النور یظهر علی قبر المسیح بزعمهم فی هذا الیوم بکنیسة القیامة من القدس، فتشعل مصابیح الکنیسة کلها، و قد وقف أهل الفصح، و التفتیش علی أنّ هذا من جملة مخاریق النصاری، لصناعة یعملونها، و کان بمصر هذا الیوم من جملة المواسم، و یکون ثالث یوم من خمیس العدس، و من توابعه.
حدّ الحدود: و هو بعد الفصح بثمانیة أیام فیعمل أوّل أحد بعد الفطر لأن الآحاد قبله مشغولة بالصوم، و فیه یجدّون الآلات و الأثاث و اللباس، و یأخذون فی المعاملات، و الأمور الدنیویة و المعاش.
عید التجلی: یعمل فی ثالث عشر شهر مسری یزعمون أن المسیح تجلی لتلامیذه بعد ما رفع، و تمنوا علیه أن یحضر لهم إیلیاء، و موسی علیهما السلام، فأحضرهما إلیهم بمصلی بیت المقدس، ثم صعد إلی السماء و ترکهم.
عید الصلیب: و یعمل فی الیوم السابع عشر من شهر توت ، و هو من الأعیاد المحدثة، و سببه ظهور الصلیب بزعمهم علی ید هیلانة أم قسطنطین، و له خبر طویل عندهم ملخصه ما أنت تراه.
ذکر قسطنطین: و قسطنطین هذا: هو ابن قسطنش بن و لیطنوش بن أرشمیوش بن دقبون بن کلودیش بن عایش بن کتبیان اعسب الأعظم الملقب قیصر، و هو أوّل من ثبت دین النصرانیة، و أمر بقطع الأوثان، و هدم هیاکلها، و بنیان البیع، و آمن من الملوک بالمسیح، و کانت أمّه هیلانة من مدینة الرها، فنشأ بها مع أمّه، و تعلم العلوم، و لم یزل فی غایة من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 32
الظفر و السعادة معانا منصورا علی کل من حاربه، و کان فی أوّل أمره علی دین المجوس شدیدا علی النصاری ماقتا لدینهم، و کان سبب رجوعه عن ذلک إلی دین النصرانیة أنه ابتلی بجذام ظهر علیه، فاغتمّ لذلک غما شدیدا، و جمع الحذاق من الأطباء، فاتفقوا علی أدویة دبّروها له، و أوجبوا أن یستنقع بعد أخذ تلک الأدویة فی صهریج مملوء من دماء أطفال رضع ساعة یسیل منهم، فتقدّم أمره بجمع جملة من أطفال الناس، و أمر بذبحهم فی صهریج لیستنقع فی دمائهم، و هی طریة، فجمعت الأطفال لذلک، و برز لیمضی فیهم ما تقدّم به من ذبحهم، فسمع ضجیج النساء اللّاتی أخذ أولادهنّ، فرحمهنّ و أمر فدفع لکل واحدة ابنها، و قال: احتمال علّتی أولی بی، و أوجب من هلاک هذه العدّة العظیمة من البشر، فانصرف النساء بأولادهنّ، و قد سررن سرورا کثیرا، فلما صار من اللیل إلی مضجعه رأی فی منامه شیخا یقول له: إنک رحمت الأطفال و أمّهاتهم، و رأیت احتمال علتک أولی من ذبحهم، فقد رحمک اللّه، و وهبک السلامة من علتک، فابعث إلی رجل من أهل الإیمان یدعی: شلبشقر، قد فرّ خوفا منک، وقف عندما یأمرک به، و التزم ما یخصک علیه تتم لک العافیة، فانتبه مذعورا، و بعث فی طلب شلبشقر الأسقف، فأتی به إلیه و هو یظنّ أنه یرید قتله، لما عهده من غلظته علی النصاری، و مقته لدینهم، فعندما رآه تلقاه بالبشر، و أعلمه بما رآه فی منامه، قفص علیه دین النصرانیة، و کانت له معه أخبار طویلة مذکورة عندهم، فبعث قسطنطین فی جمع الأساقفة المنفیین، و المسیرین و التزم دین النصرانیة، و شفاه اللّه من الجذام، فأید الدیانة، أعلن بالإیمان بدین المسیح، و بینا هو فی ذلک إذ توقع و ثوب أهل رومة علیه، و إیقاعهم به، فخرج عنها و بنی مدینة قسطنطینیة بنیانا جلیلا فعرفت به، و سکنها فصارت موضع تخت الملک من عهده، و قد کان النصاری من لدن زمان بیرون الملک الذی قبل الحواریین، و من بعده ممن ملک رومة فی کل وقت یقتلون، و یحبسون و یشرّدون بالنفی، فلما سکن قسطنطین مدینة قسطنطینیة جمع إلی نفسه أهل المسیح، و قوّی وجوههم و أذلّ عبّاد الأوثان، فشق ذلک علی أهل رومة، و خلعوا طاعته، و قدّموا علیهم ملکا، فأهمه ذلک، و مرّت له معهم عدّة أخبار مذکورة فی تاریخ رومة، ثم إنه خرج من قسطنطینیة یرید رومة، و قد استعدّوا لحربه، فلما قاربهم أذعنوا له، و التزموا طاعته، فدخلها فأقام إلی أن رجع لحرب الفرس، و خرج إلیهم، فقهرهم و دانت له أکثر ممالک الدنیا، فلما کان فی عشرین سنة من دولته، خرجت الفرس علی بعض أطرافه، فغزاهم و أخرجهم عن بلاده، و رأی فی منامه کأن بنودا شبه الصلیب قد رفعت، و قائلا یقول له: إن أردت أن تظفر بمن خالفک، فاجعل هذه العلامات علی جمیع برکک، و سکک، فما انتبه أمر بتجهیز أمه هیلانة إلی بیت المقدس فی طلب آثار المسیح علیه السلام، و بناء الکنائس، و إقامة شعائر النصرانیة، فسارت إلی بیت المقدس، و بنت الکنائس، فیقال: إنّ الأسقف مقاریوس دلّها علی الخشبة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 33
التی زعموا أن المسیح صلب علیها، و قد قص علیها ما عمل به الیهود، فحفرت فإذا قبر و ثلاث خشبات علی شکل الصلیب، فزعموا أنهم ألقوا الثلاث خشبات علی میت واحدة بعد واحدة، فقام حیّا عندما وضعت علیه الخشبة الثالثة منها، فاتخذوا ذلک الیوم عیدا، و سمّوه: عید الصلیب، و کان فی الیوم الرابع عشر من أیلول و السابع عشر من توت، و ذلک بعد ولادة المسیح بثلاثمائة و ثمان و عشرین سنة، و جعلت هیلانة لخشبات الصلیب غلافا من ذهب، و بنت کنیسة القیامة ببیت المقدس علی قبر المسیح بزعمهم، و کانت لها مع الیهود أخبار کثیرة قد ذکرت عندهم، ثم انصرفت بالصلیب معها إلی ابنها، و ما زال قسطنطین علی ممالک الروم إلی أن مات بعد أربع و عشرین سنة من ولایته، فقام من بعده بممالک الروم ابنه قسطنطین الأصغر، و قد کان لعید الصلیب بمصر موسم عظیم یخرج الناس فیه إلی بنی وائل بظاهر فسطاط مصر، و یتظاهرون فی ذلک الیوم بالمنکرات من أنواع المحرّمات، و یمرّ لهم فیه ما یتجاوز الحدّ، فلما قدمت الدولة الفاطمیة إلی دیار مصر، و بنوا القاهرة، و استوطنوها، و کانت خلافة أمیر المؤمنین العزیز بالله أمر فی رابع شهر رجب فی سنة إحدی و ثمانین و ثلثمائة، و هو یوم الصلیب، فمنع الناس من الخروج إلی بنی وائل و ضبط الطرق و الدروب، ثم لما کان عید الصلیب فی الیوم الرابع عشر من شهر رجب سنة اثنتین و ثمانین و ثلثمائة خرج الناس فیه إلی بنی وائل، و جروا علی عادتهم فی الاجتماع و اللهو، و فی صفر سنة اثنتین و أربعمائة قری‌ء فی سابعه سجل بالجامع العتیق و فی الطرقات کتب عن الحاکم بأمر اللّه یشتمل علی منع النصاری من الاجتماع علی عمل عید الصلیب، و أن لا یظهروا بزینتهم فیه، و لا یقربوا کنائسهم، و أن یمنعوا منها ثم بطل ذلک، حتی لم یکد یعرف الیوم بدیار مصر البتة.
النیروز: هو أوّل السنة القبطیة بمصر، و هو أوّل یوم من توت، و سنتهم فیه إشعال النیران، و التراش بالماء، و کان من مواسم لهم المصریین قدیما و حدیثا. قال ابن وهب:
بردت النار فی اللیلة التی ألقی فیها إبراهیم، و فی صبیحتها علی الأرض کلها، فلم ینتفع بها أحد فی الدنیا تلک اللیلة، و ذلک الصباح، فمن أجل ذلک بات الناس علی النار فی تلک اللیلة التی رمی فیها إبراهیم علیه السلام، و وثبوا علیها، و تبخروا بها، و سموا تلک اللیلة:
نیروزا، و النیروز فی اللسان السریانی: العید. و سئل ابن عباس عن النیروز لم اتخذوه عیدا، فقال: إنه أوّل السنة المستأنفة و آخر السنة المنقطعة، فکانوا یستحبون أن یقدموا فیه علی ملوکهم بالطرف، و الهدایا، فاتخذته الأعاجم سنّة.
قال الحافظ أبو القاسم علیّ بن عساکر فی تاریخ دمشق من طریق ابن عباس رضی اللّه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 34
عنهما، قال: إنّ فرعون لما قال للملأ من قومه: إن هذا لساحر علیم، قالوا له: ابعث إلی السحرة، فقال فرعون لموسی: یا موسی اجعل بیننا و بینک موعدا لا نخلفه نحن، و لا أنت، فتجتمع أنت و هارون و تجتمع السحرة، فقال موسی: موعدکم یوم الزینة، قال:
و وافق ذلک یوم السبت فی أوّل یوم من السنة، و هو یوم النیروز، و فی روایة: أن السحرة قالوا لفرعون: أیها الملک واعد الرجل، فقال: قد واعدته یوم الزینة، و هو عیدکم الأکبر، و وافق ذلک یوم السبت، فخرج الناس لذلک الیوم، قال: و النوروز أوّل سنة الفرس، و هو الرابع عشر من آذار، و فی شهر برمهات، و یقال: أوّل من أحدثه جمشید من ملوک الفرس، و إنه ملک الأقالیم السبعة، فلما کمل ملکه، و لم یبق له عدوّ اتخذ ذلک الیوم عیدا، و سماه نوروزا فی الیوم الجدید، و قیل: إن سلیمان بن داود علیهما السلام، أوّل من وضعه فی الیوم الذی رجع إلیه فیه خاتمه، و قیل: هو الیوم الذی شفی فیه أیوب علیه السلام، و قال اللّه سبحانه و تعالی له: ارْکُضْ بِرِجْلِکَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ [ص/ 42] فجعل ذلک الیوم عیدا، و سنّوا فیه رش الماء، و یقال: کان بالشام سبط من بنی إسرائیل أصابهم الطاعون، فخرجوا إلی العراق، فبلغ ملک العجم خبرهم، فأمر أن تبنی علیهم حظیرة یجعلون فیها، فلما صاروا فیها ماتوا، و کانوا أربعة آلاف رجل، ثم إن اللّه تعالی أوحی إلی نبیّ ذلک الزمان أ رأیت بلاد کذا و کذا، فحاربهم بسبط بنی فلان، فقال: یا رب کیف أحارب بهم، و قد ماتوا، فأوحی اللّه إلیه: إنی أحییهم لک، فأمطرهم اللّه لیلة من اللیالی فی الحظیرة، فأصبحوا أحیاء فهم الذین قال اللّه فیهم: أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ خَرَجُوا مِنْ دِیارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْیاهُمْ [البقرة/ 243] فرفع أمرهم إلی ملک فارس، فقال: تبرّکوا بهذا الیوم، و لیصب بعضکم علی بعض الماء، فکان ذلک الیوم یوم النوروز، فصارت سنّة إلی الیوم، و سئل الخلیفة المأمون عن رش الماء فی النوروز، فقال قول اللّه تعالی: أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ خَرَجُوا مِنْ دِیارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْیاهُمْ [البقرة/ 243] هؤلاء قوم أجدبوا تقول مات فلان هزالا فغیثوا فی هذا الیوم برشة من مطر فعاشوا، فأخصب بلدهم، فلما أحیاهم اللّه بالغیث، و الغیث یسمی الحیا جعلوا صب الماء فی مثل هذا الیوم سنّة یتبرّکون بها إلی یومنا هذا.
و قد روی: أن الذین خرجوا من دیارهم و هم ألوف قوم من بنی إسرائیل فرّوا من الطاعون، و قیل: أمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتل فی الجهاد، فخرجوا من دیارهم فرارا من ذلک، فأماتهم اللّه لیعرّفهم أنه لا ینجیهم من الموت شی‌ء، ثم أحیاهم علی ید حزقیل أحد أنبیاء بنی إسرائیل فی خبر طویل قد ذکره أهل التفسیر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 35
و قال علیّ بن حمزة الأصفهانیّ فی کتاب أعیاد الفرس: إنّ أوّل من اتخذ النیروز، جمشید، و یقال: جمشاد أحد ملوک الفرس الأول، و معنی النوروز الیوم الجدید، و النوروز عند الفرس یکون یوم الاعتدال الربیعیّ، کما أنّ المهرجان أوّل الاعتدال الخریفیّ، و یزعمون أن النوروز أقدم من المهرجان، فیقولون: إن المهرجان کان فی أیام أفریدون، و إنه أوّل من عمله لما قتل الضحاک، و هو بیوراست، فجعل یوم قتله عیدا سماه المهرجان، و کان حدوثه بعد النوروز بألفی سنة و عشرین سنة.
و قال ابن وصیف شاه فی ذکر مناوش بن منقاوش أحد ملوک القبط فی الدهر القدیم:
و هو أوّل من عمل النوروز بمصر، فکانوا یقیمون سبعة أیام یأکلون و یشربون إکراما للکواکب.
و قال ابن رضوان: و لمّا کان النیل هو السبب الأعظم فی عمارة أرض مصر، رأی المصریون القدماء، و خاصة الذین کانوا فی عهد قلدیانوس الملک أن یجعلوا أوّل السنة فی أوّل الخریف عند استکمال النیل الحاجة فی الأمر الأکثر، فجعلوا أوّل شهورهم توت، ثم بابه ثم هاتور، و علی هذا الولاء بحسب المشهور من ترتیب هذه الشهور.
و قال ابن زولاق: و فی هذه السنة، یعنی سنة ثلاث و ستین و ثلثمائة، منع أمیر المؤمنین المعز لدین اللّه من وقود النیران لیلة النوروز فی السکک، و من صبّ الماء یوم النوروز.
و قال: فی سنة أربع و ستین، و فی یوم النوروز زاد اللعب بالماء، و وقود النیران، و طاف أهل الأسواق، و عملوا فیه و خرجوا إلی القاهرة بلعبهم، و لعبوا ثلاثة أیام، و أظهروا السماجات و الحلی فی الأسواق، ثم أمر المعز بالنداء بالکف، و أن لا توقد نار، و لا یصب ماء، و أخذ قوم فحبسوا، و أخذ قوم فطیف بهم علی الجمال. و قال ابن المأمون فی تاریخه:
و حلّ موسم النوروز فی الیوم التاسع من رجب سنة سبع عشرة و خمسمائة، و وصلت الکسوة المختصة بالنوروز من الطراز، و ثغر الإسکندریة مع ما یتبعها من الآلات المذهبة، و الحریری و السوادج، و أطلق جمیع ما هو مستقرّ من الکسوات الرجالیة و النسائیة و العین و الورق، و جمیع الأصناف المختصة بالموسم علی اختلافها بتفصیلها، و أسماء أربابها، و أصناف النوروز البطیخ و الرمان، و عناقید الموز، و أفراد البسر، و أقفاص التمر القوصی، و أقفاص السفرجل، و بکل الهریسة المعمولة من لحم الدجاج، و من لحم الضأن، و من لحم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 36
البقر من کل لون بکلة مع حبریر مارق، قال: و أحضر کاتب الدفتر الحسابات بما جرت به العادة من إطلاق العین و الورق، و الکسوات علی اختلافها فی یوم النوروز، و غیر ذلک من جمیع الأصناف، و هو أربعة آلاف دینار ذهبا و خمسة عشر ألف درهم فضة، و الکسوات عدّة کثیرة من شقق دیبقیة مذهبات و حریریات، و معاجر و عصائب نسائیات ملوّنات و سقولاد مذهب و حریری، و مسفع، و فوط دیبقیة حریریة، فأما العین و الورق و الکسوات، فذلک لا یخرج عمن تحوزه القصور، و دار الوزارة و الشیوخ و الأصحاب، و الحواشی و المستخدمین و رؤساء العشاریات، و بحاریها، و لم یکن لأحد من الأمراء علی اختلاف درجاتهم فی ذلک نصیب.
و أما الأصناف من البطیخ و الرّمان و البسر و الموز و السفرجل و العناب و الهرائس علی اختلافها، فیشمل ذلک جمیع من تقدّم ذکرهم، و یشرکهم فیه جمیع الأمراء أرباب الأطواق و الإنصاف و غیرهم من الأماثل، و الأعیان من له جاه، و رسم فی الدولة.
و قال القاضی الفاضل فی متجدّدات سنة أربع و ثمانین و خمسمائة یوم الثلاثاء رابع عشر رجب یوم النوروز القبطیّ، و هو مستهلّ توت، و توت أوّل سنتهم، و قد کان بمصر فی الأیام الماضیة و الدولة الخالیة من مواسم بطالاتهم، و مواقیت ضلالاتهم، فکانت المنکرات ظاهرة فیه، و الفواحش صریحة فیه، و یرکب فیه أمیر موسوم بأمیر النوروز، و مه جمع کثیر، و یتسلط علی الناس فی طلب رسم رتبه، و یرسم علی دور الأکابر بالجمل الکبار، و یکتب مناشیر، و یندب مرسمین کل ذلک یخرج مخرج الطیر، و یقنع بالمیسور من الهبات، و یجتمع المغنون، و الفاسقات تحت قصر اللؤلؤ بحیث یشاهدهم الخلیفة، و بأیدیهم الملاهی، و ترتفع الأصوات، و یشرب الخمر و المزر شربا ظاهرا بینهم، و فی الطرقات، و یتراش الناس بالماء، و بالماء و الخمر، و بالماء ممزوجا بالأقذار، و إن غلط مستور، و خرج من بیته لقیه من یرشه، و یفسد ثیابه، و یستخف بحرمته، فإمّا أن یفدی نفسه، و إمّا أن یفضح، و لم یجر الحال علی هذا، و لکن قد رش الماء فی الحارات، و قد أحیی المنکرات فی الدور أرباب الخسارات.
و قال فی متجدّدات سنة اثنتین و تسعین و خمسمائة: و جری الأمر فی النوروز علی العادة من رش الماء، و استجدّ فیه هذا العام التراجم بالبیض، و التصافع بالأنطاع، و انقطع الناس عن التصرّف، و من ظفر به فی الطریق رش بمیاه نجسة، و خرق به، و ما زال یوم النوروز یعمل فیه ما ذکر من التراش بالماء، و التصافع بالجلود، و غیرها إلی أن کانت أعوام بضع و ثمانین و سبعمائة، و أمر الدولة بدیار مصر، و تدبیرها إلی الأمیر الکبیر برقوق قبل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 37
أن یجلس علی سریر الملک، و یتسمی بالسلطان، فمنع من لعب النوروز، و هدّد من لعبه بالعقوبة، فانکف الناس عن اللعب فی القاهرة، و صاروا یعملون شیئا من ذلک فی الخلجان، و البرک، و نحوها من مواضع التنزه، بعد ما کانت أسواق القاهرة تتعطل فی یوم النوروز زمن البیع و الشراء، و یتعاطی الناس فیه من اللهو و اللعب ما یخرجون عن حدّ الحیاء و الحشمة إلی الغایة من الفجور و العهور، و قلما انقضی یوم نوروز إلّا و قتل فیه قتیل أو أکثر، و لم یبق الآن للناس من الفراغ ما یقتضی ذلک، و لا من الرفه و البطر ما یوجب لهم عمله، و ما أحسن قول بعضهم:
کیف ابتهاجک بالنوروز یا سکنی‌و کل ما فیه یحکینی و أحکیه
فتارة کلهیب النار فی کبدی‌و تارة کتوالی دمعتی فیه
و قال آخر:
نوروز الناس و نورزت و لکن بدموعی‌و ذکت نارهم و النار ما بین ضلوعی
و قال آخر:
و لما أتی النوروز یا غایة المنی‌و أنت علی الأعراض و الهجر و الصدّ
بعثت بنار الشوق لیلا إلی الحشافنورزت صبحا بالدموع علی الخدّ

ذکر ما یوافق أیام الشهور القبطیة من الأعمال فی الزراعات، و زیادة النیل، و غیر ذلک علی ما نقله أهل مصر عن قدمائهم و اعتمدوا علیه فی أمورهم

اعلم: أنّ المصریین القدماء اعتمدوا فی تاریخهم السنة الشمسیة کما تقدّم ذکره لیصیر الزمان محفوظا، و أعمالهم واقعة فی أوقات معلومة من کل سنة، لا یتغیر وقت عمل من أعمالهم بتقدیم و لا تأخیر البتة.
توت: بالقبطیّ هو أیلول، و کانت عادة مصر مذ عهد فراعنتها فی استخراج خراجها، و جبایة أموالها إنه لا یستتم استیفاء الخراج من أهلها، إلّا عند تمام الماء، و افتراشه علی سائر أرضها، و یقع إتمامه فی شهر توت، فإذا کان کذلک، و ربما کانت زیادة عن ذلک أطلق الماء فی جمیع نواحیها من ترعها، ثم لا یزال یترجح فی الزیادة و النقصان، حتی یفرغ توت، و فی أوّل یکون یوم النوروز، و رابعه أوّل أیلول، و سابعه یلقط الزیتون، و ثانی عشره
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 38
یطلع الفجر بالصرفة ، و سابع عشره عید الصلیب، فیشرط البلسان، و یستخرج دهنه، و یفتح ما یتأخر من الأبحر و الترع، و ترتب المدامسة لحفظ الجسور، و فی ثامن عشرة تنقل الشمس إلی برج المیزان، فیدخل فصل الخریف، و فی خامس عشریه یطلع الفجر بالعوّا ، و یکبر صغار السمک، و فی هذا الشهر یعم ماء النیل أراضی مصر، و فیه تسجل النواحی، و تسترفع السجلات و القوانین، و تطلق التقاوی من الغلال لتخضیر الأراضی، و فیه یدرک الرّمان و البسر و الرطب و الزیتون و القطن و السفرجل، و فیه یکون هبوب ریح الشمال أقوی من هبوب ریح الجنوب، و هبوب الصبا أقوی من الدبور، و کان قدماء المصریین لا ینصبون فیه أساسا و فیه یکثر بمصر العنب الشتویّ و تبذر المحمضات.
بابه: فی أوّله یحصد الأرز، و یزرع الفول و البرسیم، و سائر الحبوب التی لا تشق لها الأرض، و فی رابعه أوّل تشرین الأوّل، و فی ثامنه طلوع الفجر بالسماک ، و هو نهایة زیادة النیل، و ابتداء نقصه، و قد لا یتم الماء فیه، فیعجز بعض الأرض عن أن یرکبها الماء، فیکون من ذلک نقص الخراج عن الکمال، و فی تاسعه یکون مجی‌ء الکراکی إلی أرض مصر، و فی عاشره یزرع الکتان، و فی ثانی عشره یکون ابتداء شق الأرض بصعید مصر لبذر القمح، و الشعیر، و فی ثامن عشره تنقل الشمس إلی برج العقرب، و یقطع الخشب، و فی تاسع عشره یکون ابتداء نقص ماء النیل، و یکثر البعوض، و فی حادی عشریه یطلع الفجر بالغفر .
و فی هذا الشهر تصرف المیاه عن الأراضی، و یخرج المزارعون لتخضیر الأراضی فیبدأون ببذر زراعة القرط، ثم بزراعة الغلة البدریة أوّلا فأوّلا، و فیه یستخرج دهن الآس، و دهن النیلوفر، و یدرک التمر و الزبیب و السمسم و القلقاس، و فیه یکثر صغار السمک، و یقل کباره، و یسمن الرای، و الأبرمیس من السمک خاصة، و تستحکم حلاوة الرّمان، و یکون فیه أطیب منه فی سائر الشهور التی یکون فیها، و یضع الضأن و المعز و البقر الخیسیة، و فیه یملح السمک المعروف بالبوری، و یهزل الضأن و المعز و البقر، و لا تطیب لحومها، و تدر المحمضات، و فیه یجب کتابة التذاکر بالأعمال القوصیة، و فیه یغرس المنثور، و یزرع السلجم.
هاتور: فی خامسه یکون أوّل تشرین الثانی، و یطلع الفجر بالزبانا فی رابعه، و فی سادسه یزرع الخشخاش، و فی سابعه یصرف ماء النیل عن أراضی الکتان، و یبذر فی النصف منه، و بعد تمام شهر یسبخ، و فی ثامنه أوان المطر الموسمی، و فی حادی عشره تهب ریح الجنوب، و فی خامس عشره تبرد المیاه بمصر، و فی سابع عشره یطلع الفجر بالإکلیل ، و فی ثامن عشره تحل الشمس برج القوس، و فی تاسع عشره یغلق
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 39
البحر الملح، و فی سابع عشریه تهب الریاح اللواقح.
و فی هذا الشهر یلبس أهل مصر الصوف من سابعه، و فیه یکسر ما یحتاج إلیه من قصب السکر برسم المعاصر، و براح الغلة فی جمیع ما یحتاج إلیه فیها، و یهتم بعلف أبقارها و جمالها بعد بیع شارفها و عاجزها، و التعویض عنه بغیره، و أفراد الأتیان برسم وقود القنود، و ترتیب القوامصة لعمل الأبالیح و القوادیس، و الأمطار برسم القنود، و الأعسال، و فیه یدرک البنفسج، و النیلوفر، و المنثور، و من البقولات الإسباناخ و البلسان، و اختار قدماء المصریین فی هاتور نصب الأساسات، و زرع القمح، و أطیب حملان السنة حمله، و فیه یکثر العنب الذی کان یحمل من قوص.
کهیک: أوّله الأربعینات بمصر، و یدخل الطیر وکره، و فی سادسه بشارة مریم بحمل عیسی علیهما السلام، و فی سابعه أوّل کانون الأول، و فی عاشره آخر اللیالی البلق، و أوّلها أوّل هاتور، و فی حادی عشره أوّل اللیالی السود، و یدخل النمل الأحجرة، و فی ثالث عشره یطلع الفجر بالشولة ، و تظهر البراغیث، و یسخن باطن الأرض، و فی سادس عشره یسقط ورق الشجر، و فی سابع عشرة تنقل الشمس إلی برج الجدی، فیدخل فصل الشتاء، و یزرع الهلیون، و فی حادی عشریه یکون آخر اللیالی البلق، و فی ثانی عشریه عید البشارة، و فی ثالث عشریه تزرع الحلبة و الترمس، و فی سادس عشریه یطلع الفجر بالنعائم ، و فی ثامن عشریه یبیض النعام، و فی تاسع عشریه المیلاد.
و فی هذا الشهر یزرع الخیار بعد إغراق أرضه، و فیه یتکامل بذر القمح و الشعیر و البرسیم الحراثیّ، و فیه یستخرج خراج البرسیم بدار الوجه القبلیّ، و فیه ترتب حراس الطیر، و فیه کسر قصب السکر و اعتصاره، و استخدام الطباخین لطبخ القنود، و فیه یکون إدراک النرجس، و المحمضات، و الفول الأخضر، و الکرنب و الجزر و الکرّاث الأبیض و اللفت، و فیه یقل هبوب ریح الشمال، و یکثر هبوب ریح الجنوب، و فیه یجود الجدا، و یکون أطیب منها فی جمیع الشهور التی یکون فیها، و فیه یزرع أکثر حبوب الحرث، و لا یزرع بعده فی شی‌ء من أرض مصر غیر السمسم، و المقاثی و القطن.
طوبه: فی ثالثه ابتداء زراعة الحمص و الجلبان و العدس، و فی سادسه أوّل کانون الثانی، و فی تاسعه یطلع الفجر بالبلد ، و عاشره صوم الغطاس، و حادی عشره الغطاس، و فی ثانی عشره یشتدّ البرد، و فی رابع عشره یرتفع الوباء بمصر، و یغرس النخل، و فی سابع عشره تحل الشمس أوّل برج الدلو، و یکثر الندی، و یکون ابتداء غرس الأشجار، و فی العشرین منه یکون آخر اللیالی السود، و حادی عشریه اللیالی البلق الثانیة، و فی ثانی عشریه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 40
یطلع الفجر بسعد الذابح ، و فی ثالث عشریه تهب الریاح الباردة، و فی رابع عشریه تفرخ جوارح الطیر، و فی خامس عشریه یکون نتاج الإبل المحمودة، و فی سابع عشریه یصفو ماء النیل، و فی ثامن عشریه یتکامل إدراک القرط.
و فی هذا الشهر تقلم الکروم، و ینظف زرع الغلة من اللبسان و غیره، و ینظف زرع الکتان من الفجل و غیره، و فیه تبرش الأراضی أوّل سکة برسم الصیافی و المقائی و القطن و السمسم، و ینتهی برشها فی أوّل أمشیر، و فیه تسقی أرض القلقاس و القصب، و تشق الجسور فی آخره، و فیه تستخرج أراضی الخرس، و یکسر القصب الراس بعد إفراز ما یحتاج إلیه من الزریعة، و هو لکل فدّان طین قیراط طیب قصب راس، و فیه یهتم بعمارة السواقی و حفر الآبار، و ابتیاع الأبقار، و فیه یظهر اللوز الأخضر و النبق و الهلیون، و فیه أیضا یکون هبوب ریح الجنوب أکثر من هبوب الشمال، و هبوب الصبا أکثر من هبوب الدبور، و فیه یکون الباقلا الأخضر و الجزر أطیب منهما فی غیره، و فیه یتناهی ماء النیل فی صفائه، و یخزن فلا یتغیر فی أوانیه، و لو طال لبثه فیها، و فیه تطیب لحوم الضأن أطیب منها فی سائر الشهور، و فیه تربط الخیول و البغال علی القرط من أجل ربیعها، و بطوبه یطالب الناس بافتتاح الخراج، و محاسبة المتقبلین علی الثمن من السجلات من جمیع ما بأیدیهم من المحلول و المعقود.
أمشیر: فی أوّله تختلف الریاح، و فی خامسه یطلع الفجر بسعد بلع ، و فی سادسه یکون أوّل شباط، و فی تاسعه یجری الماء فی العود، و حادی عشره أوّل جمرة باردة، و سادس عشره تحل الشمس بأوّل برج الحوت، و فی سابع عشره یخرج النمل من الأحجرة، و فی ثامن عشره یطلع الفجر بسعد السعود ، و فی العشرین منه ثانی جمرة فاترة، و فی ثالث عشریه تقلم الکروم، و خامس عشریه یفرخ النحل، و سابع عشریه ثالث جمرة حامیة، و یورق الشجر، و هو آخر غرسها، و فی آخره یکون آخر اللیالی البلق.
و فی هذا الشهر یقلع السلجم، و یستخرج خراجه، و فیه یثنی برش الصیافی و تبرش أیضا ثالث سکة، و فیه یعمل مقاطع الجسور، و تمسح الأراضی، و یرقد البیض فی المعامل أربعة أشهر آخرها بشنس، و فیه یکون ریح الشمال أکثر الریاح هبوبا، و فیه ینبغی أن تعمل أوانی الخزف للماء لتستعمل فیه طول السنة، فإنّ ما عمل فیه من أوانی الخزف یبرّد الماء فی الصف أکثر من تبرید ما یعمل فی غیره من الشهور، و فیه یتکامل غرس الشجر، و تقلیم الکروم، و فیه یدرک النبق و اللوز الأخضر، و یکثر البنفسج و المنثور.
و یقال: أمشیر یقول للزرع سیر، و یلحق بالطویل القصیر، و فیه یقل البرد، و یهب الهواء الذی فیه سخونة ما، و فی أمشیر یؤخذ الناس فیه بإتمام ربع الخراج من السجلات.
برمهات: أوّل یوم منه یطلع الفجر بالأخبیة ، و فی خامسه یحضن دود القز،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 41
و سادسه یزرع السمسم، و ثانی عشره یقلع الکتان، و رابع عشره یکون أوّل الأعجاز، و یطلع الفجر بالفرغ المقدّم ، و فی سادس عشره تفتح الحیات أعینها، و فی سابع عشره تنقل الشمس إلی برج الحمل، و هو أوّل فصل الربیع، و رأس سنة الجند، و رأس سنة العالم، و فی العشرین منه یکون آخر الإعجاز، و ثانی عشریه نتاج الخیل المحمودة و ثالث عشریه یظهر الذباب الأزرق، و خامس عشریه تظهر هوام الأرض، و سابع عشریه یطلع الفجر بالفرغ المؤخر ، و فی آخره یتفرّق السحاب.
و فی هذا الشهر تجری المراکب السفریة فی البحر الملح إلی دیار مصر من المغرب و الروم، و یهتم فیه بتجرید الأجناد إلی الثغور کالإسکندریة و دمیاط و تنیس و رشید، و فیه کانت تجهز الأساطیل، و مراکب الشوانی لحفظ الثغور، و فیه زرع المقائی و الصیفیّ، و یدرک الفول و العدس، و یقلع الکتان، و تزرع أقصاب السکر فی الأرض المبروشة المختارة لذلک البعیدة العهد عن الزراعة، و یأخذ المقشرون فی تنظیف الأرض المزروعة من القش فی وقت الزراعة، و یأخذ القطاعون فی قطع الزریعة، و یأخذ المزارعون فی رمی قطع القصب، و فیه یؤخذ فی تحصیل النطرون و حمله من وادی هبیت إلی الشونة السلطانیة، و فیه یکون ریح الشمال أکثر الریاح هبوبا، و فیه تزهر الأشجار، و ینعقد أکثر ثمارها، و فیه یکون اللبن الرائب أطیب منه فی جمیع الشهور التی یعمل فیها، و فی برمهات یطالب الناس بالربع الثانی، و الثمن من الخراج.
برموده: فی سادسه أوّل نیسان، و فی عاشره یطلع الفجر بالرشاء ، و فی ثانی عشره یقلع الفجل، و فی سابع عشره تحل الشمس أوّل برج الثور، و فی ثالث عشریه یطلع الفجر بالشرطین ، و هو رأس الحمل، و أوّل منازل القمر، و فیه ابتداء کسار الفول، و حصاد القمح، و هو ختام الزرع.
و فی هذا الشهر یهتم بقطع خشب السنط من الخراج الذی کان بمصر فی القدیم أیام الدولة الفاطمیة و الأیوبیّة، و یجرّ إلی السواحل لتیسر حمله فی زمن النیل إلی ساحل مصر لیعمل شوانی و أحطابا برسم الوقوع فی المطابخ السلطانیة، و فیه یکثر الورد، و یزرع الخیار شنبر و الملوخیا و الباذنجان، و فیه یقطف أوائل عسل النحل، و ینفض بزر الکتان، و أحسن ما یکون الورد فیه من جمیع زمانه، و فیه یظهر البطن الأوّل من الجمیز، و فیه تقع المساحة علی أهل الأعمال، و یطالب الناس بإغلاق نصف الخراج من سجلاتهم، و یحصد بدریّ الزرع.
بشنس: فی خامسه تکثر الفاکهة، و سادسه أوّل أیار، و فیه طلوع الفجر بالبطین ،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 42
و ثامنه عید الشهید، و تاسعه انفتاح البحر المالح، و رابع عشره یزرع الأرز، و ثامن عشره تحل الشمس أوّل بزرج الجوزاء، و فیه یطیب الحصاد، و فی تاسع عشره یطلع الفجر بالثریا ، و فیه زراعة الأرز و السمسم، و رابع عشریه یکون عید البلسان بالمطریة، و یزعمون أنه الیوم الذی دخلت فیه مریم إلی مصر.
و فی هذا الشهر یکون دراس الغلة، و هدار الکتان، و نفض البزر، و النقاوی و الأتبان، و حملها، و فیه زراعة البلسان و تقلیمه و سقیه، و تکریم أراضیه من بؤونة إلی آخر هاتور، و استخراج دهنه بعد شرطه فی نصف توت، و إن کان فی أوّله، فهو أصلح إلی آخر هاتور، و صلاح أیامه أیام الندی، و یقیم فی الندی سنة کاملة إلی أن یشرب إعکاره، و أوساخه، و یطبخ الدهن فی الفصل الربیعیّ فی شهر برمهات، فیعمل لکل رطل مصریّ أربعة و أربعون رطلا من مائة، فیحصل منه قدر عشرین درهما، و ما حولها من الدهن.
و فی هذا الشهر أکثر ما یهب من الریاح الشمالیة، و فیه یدرک التفاح القاسمی، و یبتدی فیه التفاح المسکی، و البطیخ العبدلی، و یقال: إنه أوّل ما عرف بمصر عندما قدم إلیها عبد اللّه بن طاهر بعد المائتین من سنی الهجرة، فنسب إلیه، و قیل له العبدلیّ، و فیه أیضا یبتدئ البطیخ الجربیّ و المشمس و الخوخ الزهریّ، و یجنی الورد الأبیض، و فیه تقرّر المساحة، و یطالب الناس بما یضاف إلی المساحة من أبواب، وجوه المال کالصرف و الجهبذة، و حق المراعی و القرط و الکتان علی رسوم کل ناحیة، و یستخرج فیه إتمام الربع مما تقرّرت علیه العقود، و المساحة و یطلق الحصاد لجمیع الناس.
بؤونة: فی ثانیة یطلع الفجر بالدبران ، و فی خامسه یتنفس النیل، و فی تاسعه أوان قطف النحل، و فی حادی عشره تهب ریاح السموم، و فی ثانی عشره عید میکائیل، فیؤخذ قاع النیل، و فی ثالث عشره یشتدّ الحرّ، و فی خامس عشره یطلع الفجر بالهنعة ، و فی عشریه تحل الشمس أوّل برج السلطان، و هو أوّل فصل الصیف، و فی سابع عشریه ینادی علی النیل بما زاده من الأصابع، و فی ثامن عشریه یطلع الفجر بالهقعة .
و فی هذا الشهر تسفر المراکب لإحضار الغلال و التبن و القنود و الأعسال، و غیر ذلک من الأعمال القوصیة، و نواحی الوجه البحریّ، و فیه یقطف عسل النحل، و تخرّص الکروم، و یستخرج زکاتها، و فیه یندّی الکتان، و یقلب أربعة أوجه فی بؤونة و أبیب، و فیه زراعة النیلة بالصعید الأعلی، و تحصد بعد مائة یوم، ثم تترک و تحصد فی کل مائة یوم حصدة، و یحصل فی أوّل کیهک و طوبة و أمشیر و برمهات، و یطلع فی برمودة، و تحصد فی عشرة أیام من أبیب، و تقیم فی الأرض الجیدة ثلاث سنین، و تسقی کل عشرة أیام دفعتین، و ثانی سنة ثلاث دفعات، و ثالث سنة أربع دفعات، و فی هذا الشهر یکون التین الفیومیّ و الخوخ الزهریّ و الکمثری و القراصیا و القثاء و البلح و الحصرم، و یبتدئ إدراک العصفر، و فیه یدخل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 43
بعض العنب و یطیب التوت الأسود، و یقطف جمهور العسل، فتکون ریاحه قلیلة و التین یکون فیه أطیب منه فی سائر الشهور، و فیه یطلع النخل، و فیه یستخرج تمام نصف الخراج مما بقی بعد المساحة.
أبیب: فی سابعه أوّل تموز، و فی عاشره آخر قطع الخشب، و فی حادی عشره یطلع الفجر بالذراع ، و ثانی عشره ابتداء تعطین الکتان، و فی خامس عشره یقلّ ماء الآبار، و تدرک الفواکه، و یموت الدود، و فی حادی عشریه تحل الشمس بأوّل برج الأسد، و تذهب البراغیث و یبرد باطن الأرض، و تهیج أوجاع العین، و فی خامس عشریه یطلع الفجر بالنثرة ، و فی سادس عشریه تطلع الشعری العبور الیمانیة.
و فی هذا الشهر أکثر ما یهب من الریاح الشمال، و یکثر فیه العنب، و یجود، و فیه یطیب التین المقرون بمجی‌ء العنب، و یتغیر البطیخ العبدلیّ، و تقل حلاوته، و تکثر الکمثری السکریة، و یطیب البلخ، و فیه یقطف بقایا عسل النحل، و تقوی زیادة ماء النیل، فیقال: فی أبیب یدب الماء دبیب، و فیه ینقع الکتان بالمبلات، و یباع برسیم البذر برسم زراعة القرط و الکتان، و فیه تدرک ثمرة العنب، و یحصد القرطم، و فیه تستتم ثلاثة أرباع الخراج.
مسری: فی سابعه یطلع الفجر بالطرف ، و فی ثامنه أوّل آب، و فی حادی عشره یجمع القطن، و فی رابع عشره یحمی الماء، و لا یبرد، و فی سابع عشره استکمال الثمار، و فی عشریه یطلع الفجر بالجبهة ، و فی حادی عشریه تحلّ الشمس برج السنبلة، و فی ثالث عشریه یتغیر طعم الفاکهة لغلبة ماء النیل علی الأرض، و فی خامس عشریه یکون آخر السموم، و فی تاسع عشریه یطلع سهیل بمصر.
و فی هذا الشهر یکون وفاء النیل ستة عشر ذراعا فی غالب السنین، حتی قیل: إن لم یوف النیل فی مسری فانتظره فی السنة الأخری، و فیه یجری ماء النیل فی خلیج الإسکندریة، و یسافر فیه المراکب بالغلال و البهار و السکر، و سائر أصناف المتاجر، و فیه یکثر البسر، و کانوا یخرّصون النخل، و یخرجون زکاة الثمار فی هذا الشهر عندما کانت الزکوات یجیبها السلطان من الرعیة، و أکثر ما یهب فی هذا الشهر ریح الشمال، و فیه یعصر قبط مصر الخمر، و یعمل الخل من العنب، و فیه یدرک الموز و أطیب ما یکون الموز بمصر فی هذا الشهر، و فیه یدرک اللیمون التفاحی، و کان من جملة أصناف اللیمون بأرض مصر لیمون یقال له: التفاحیّ یؤکل بغیر سکر لقلة حمضه، و لذة طعمه، و فیه یکون ابتداء إدراک الرّمان، و إذا انقضت أیام مسری ابتدأت أیام النسی‌ء ففی أوّلها ابتداء هیج النعام، و فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 44
رابعها یطلع الفجر بالخراتان، و فی مسری یغلق الفلاحون خراج أراضی زراعاتهم، و کانوا یؤخرون البقایا علی دق الکتان فی مسری و أبیب، لأنّ الکتان یبلّ فی توت، و یدق فی بابه.

ذکر تحویل السنة الخراجیة القبطیة إلی السنة الهلالیة العربیة

و کیف عمل ذلک فی الإسلام؟ قد تقدّم فیما سلف من هذا الکتاب التعریف بالسنة الشمسیة، و السنة القمریة، و ما للأمم فی کبس السنین من الآراء، فما جاء اللّه تعالی بالإسلام تحرّز المسلمون من کبس السنین خشیة الوقوع فی النسی‌ء الذی قال اللّه سبحانه و تعالی فیه: إِنَّمَا النَّسِی‌ءُ زِیادَةٌ فِی الْکُفْرِ یُضَلُّ بِهِ الَّذِینَ کَفَرُوا [التوبة/ 37]، ثم لما رأوا تداخل السنین القمریة فی السنین الشمسیة، أسقطوا عند رأس کل اثنتین و ثلاثین سنة قمریة، و سموا ذلک الازدلاق لأنّ لکل ثلاث و ثلاثین سنة قمریة، اثنتین و ثلاثین سنة شمسیة بالتقریب، و سأتلوا علیک من نبأ ذلک ما لم أره مجموعا.
قال أبو الحسین عبد اللّه بن أحمد بن أبی طاهر فی کتاب أخبار أمیر المؤمنین المعتضد بالله أبی العباس أحمد بن أبی أحمد طلحة الموفق ابن المتوکل، و منه نقلت، و خرج أمر المعتضد فی ذی الحجة سنة إحدی و ثمانین، و مائتین بتصییر النوروز لإحدی عشرة لیلة خلت من حزیران رأفة بالرعیة، و إیثارا لإرقاقها، و قالوا: خرج التوقیع فی المحرّم سنة اثنتین و ثمانین و مائتین بإنشاء الکتب إلی جمیع العمال فی النواحی و الأمصار بترک افتتاح الخراج فی النوروز الفارسیّ الذی یقع یوم الجمعة لإحدی عشرة لیلة خلت من صفر، و أن یجعل ما یفتتح من خراج سنة اثنتین و ثمانین و مائتین یوم الأربعاء لثلاث عشرة لیلة تخلو من شهر ربیع الآخر من هذه السنة، و هو الیوم الحادی عشر من حزیران، و یسمی هذا النوروز المعتضدیّ ترفیها لأهل الخراج و نظرا لهم.
و نسخة التوقیع الخارج فی تصییر افتتاح الخراج فی حزیران: أمّا بعد: فإنّ اللّه لما حوّل أمیر المؤمنین للمحل الذی أحله به من أمور عباده و بلاده، رأی أن من حق اللّه علیه أن لا یکلفها إلا ما به بالعدل و الإنصاف لها، و السیرة القاصدة، و أن یتولی لها إصلاح أمورها، و یستقرئ السیر و المعاملات التی کانت تعامل بها، و یقرّ منها ما أوجب الحق إقراره، و یزیل ما أوجب إزالته غیر مستکثر لها کثیر ما یسقطه العدل، و لا مستقل لها قلیل ما یلزمه إیاها الجور، و قد وفق اللّه أمیر المؤمنین لما یرجو أن یکون لحق اللّه فیها قاضیا و لنصیبها من العدل موازیا، و بالله یستعین أمیر المؤمنین علی حفظ ما استرعاه منها، و حیاطة ما قلده من أمورها، و هو خیر موفق و معین، و إن أبا القاسم عبید اللّه رفع إلی أمیر المؤمنین، فیما أمر أمیر المؤمنین من ردّ النوروز الذی یفتتح به الخراج بالعراق و المشرق، و ما یتصل بهما، و یجری مجراهما من الوقت الذی صار فیه من الزمان إلی الوقت الذی کان علیه متقدّما مع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 45
ما أمر به فی مستقبل السنین من الکبس، حتی یصیر العدل عامّا فی الزمان کله باقیا علی غابر الدهر، و مرّ الأیام مؤامرة أمیر المؤمنین، فأمر بتسجیلها لک فی آخر کتابه مع ما وقع به فیها لتمثیله، فافعل ذلک إن شاء اللّه تعالی و السلام علیک و رحمة اللّه و برکاته، و کتب یوم الخمیس لثلاث عشرة خلت من ذی الحجة سنة إحدی و ثمانین و مائتین.
نسخة المؤامرة أنهیت إلی أمیر المؤمنین أن مما أنعم اللّه به علی رعیته، و رزقها إیاه من رأفته، و حسن نظره، و إقامته علیها من عدله، و إنصافه و رفعه عنها فی خلافته من الظلم الشامل ما کان الأقصی و الأدنی، و الصغیر و الکبیر، و المسلم و الذمیّ فیه سواء ما حرّرته من نقل کتب الخراج عن السنة التی کانت تنسب إلیها من سنی الهجرة إلی السنة التی فیها تدرک الغلات، و یستخرج المال، و إن ذلک ما کان بعض أهل الجهل حاوله، و بعض المتغلبین استعمله من تثبیت الخراج علی أهله، و مطالبتهم به قبل وقت الزراعة، و إعیائهم بذکر سنة من السنتین اللتین ینسب الخراج لإحداهما، و تدرک الغلات، و یقع الاستخراج فی الأخری منهما فی حساب شهور الفرس التی علیها یجری العمل فی الخراج بالسواد، و ما یلیه، و الأهواز و فارس و الجبل، و ما یتصل به من جمیع نواحی المشرق، و ما یضاف إلیه إذا کان عمل الشأم و الجزیرة و الموصل، جری علی حساب شهور الروم الموافقة للأزمنة، فلیست تختلف أوقاتها مع الکبیسة المستعملة فیها، و العمل فی خراج مصر، و ما والاها علی شهور القبط الموافقة لشهور الروم، و کانت من شهور الفرس قد خالفت موافقها من الزمان بما ترک من الکبس منذ أزال اللّه ملک فارس، و فتح للمسلمین بلادهم، فصار النوروز الذی کان الخراج یفتتح فیه بالعراق و المشرق قد تقدّم فی ترک الکبس شهرین و صارا بینه و بین إدراک الغلة، فأمر أمیر المؤمنین بما جبل اللّه علیه رأیه فی التوصل إلی کل ما عاد بصلاح رعیته.
و حسما للأسباب المؤدّیة إلی إعیائها بتأخیر النوروز الذی یقع فی شهور سنة اثنتین و ثمانین و مائتین من سنی الهجرة عن الوقت الذی یتفق فیه أیام سنة الفرس، و هو یوم الجمعة لإحدی عشر تخلو من صفر مثل عدّة أیام الشهرین من شهور الفرس التی ترک کبسها، و هی ستون یوما، حتی یکون نوروز السنة واقعا یوم الأربعاء لثلاث عشرة لیلة تخلو من شهر ربیع الآخر سنة اثنتین و ثمانین و مائتین، و هو الحادی عشر من حزیران، و هو یتصل بهما، و یجری مجراهما، و ینسب و یضاف إلیهما، و بسائر أعمالهم، و بما یعمله أصحاب الحساب من التقویمات و جمیع الأعمال، و ما یعدّه الفرس من شهورهم إلی شهوره الکبیسة الأول و الأخر، ثم یکبس بعد ذلک فی کل أربع سنین من سنی الفرس، و لا یقع تفاوت بینه و بینها علی مرور الأیام، و لیکن أبدا واقعا فی حزیران، و غیر خارج عنه، و أن یلغی ذکر کل سنة من أربع سنین تنسب إلی الخراج بالعراق، و فی المشرق و المغرب، و سائر النواحی و الآفاق إذ کان مقدار سنی أیام الهجرة، و السنة الجامعة للأزمنة التی تتکامل فیها الغلات، و أن یخرج التوقیع بذلک لتنشأ الکتب به من دیوان الرسائل إلی ولاة المعاون و الأحکام،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 46
و تقرأ علی المنابر، و یحمل أصحاب المعاون الرعیة علیه، و تأخذها بامتثال ما أمر به أمیر المؤمنین، و سنة الحکام فی دیوان حکمهم لتمثیل الضمان و المقاطعین ذلک علی حسبه، و استطلع رأی أمیر المؤمنین فی ذلک، فرأی أمیر المؤمنین فی ذلک موفق إن شاء اللّه تعالی، و تکتب نسخة التوقیع بتنفیذ ذلک إن شاء اللّه تعالی، و کتب فی شهر ذی الحجة سنة إحدی و ثمانین و مائتین.
قال: و کان السبب فی نقل الخراج إلی حزیران فی أیام المعتضد ما حدّثنی به أبو أحمد یحیی بن علیّ بن یحیی المنجم القدیم قال: کنت أحدّث أمیر المؤمنین المعتضد، فذکرت خبر المتوکل فی تأخیر النوروز، فاستحسنه، و قال لی: کیف کان ذلک؟
قلت: حدّثنی أبی قال: دخل المتوکل قبل تأخیر النوروز بعض بساتینه الخاصة التی کانت فی یدی و هو متوکئ علیّ یحادثنی، و ینظر إلی ما أحدث فی ذلک البستان، فمرّ بزرع فرآه أخضر، فقال: یا علیّ، إنّ الزرع اخضرّ بعد ما أدرک، و قد استأمرنی عبید اللّه بن یحیی فی استفتاح الخراج، فکیف کانت الفرس تستفتح الخراج فی النوروز و الزرع لم یدرک بعد؟
قال: فقلت له: لیس یجری الأمر الیوم علی ما کان یجری علیه فی أیام الفرس، و لا النوروز فی هذه الأیام فی وقته الذی کان فی أیامها، قال: و کیف ذاک؟ فقلت: لأنها کانت تکبس فی کل مائة و عشرین سنة شهرا.
و کان النوروز إذا تقدّم شهرا، و صار فی خمس من حزیران کبست ذلک الشهر، فصار فی خمس من أیار، و أسقطت شهرا، وردته إلی خمس من حزیران، فکان لا یتجاوز هذا، فلما تقلّد العراق خالد بن عبد اللّه القسری، و حضر الوقت الذی تکبس فیه الفرس منعها من ذلک، و قال: هذا من النسی‌ء الذی نهی اللّه عنه، فقال: إنما النسی‌ء زیادة فی الکفر و أنا لا أطلقه حتی أستأمر فیه أمیر المؤمنین، فبذلوا علی ذلک مالا جلیلا، فامتنع علیهم من قبوله.
و کتب إلی هشام بن عبد الملک یعرّفه ذلک، و یستأمره، و یعلمه أنه من النسی‌ء الذی نهی اللّه عنه، فأمر بمنعهم من ذلک، فلما امتنعوا من الکبس تقدّم النوروز تقدّما شدیدا حتی صار یقع فی نیسان و الزرع أخضر، فقال له المتوکل: فاعمل لهذا یا علیّ عملا تردّ النوروز فیه إلی وقته الذی کان یقع فیه أیام الفرس، و عرّف بذلک عبید اللّه بن یحیی، و أدّ إلیه رسالة منی فی أن یجعل استفتاح الخراج فیه، قال: فصرت إلی أبی الحسن عبید اللّه بن یحیی، و عرّفته ما جری بینی و بین المتوکل، و أدّیت إلیه رسالته، فقال لی: یا أبا الحسن قد و اللّه فرّجت عنی، و عن الناس، و عملت عملا کثیرا یعظم ثوابک علیه، و کسبت لأمیر المؤمنین أجرا و شکرا، فأحسن اللّه جزاءک، فمثلک من یجالس الخلفاء، و أحب أن یتقدّم بالعمل الذی أمر به المتوکل، و ینفذه إلیّ حتی أجری الأمر علیه، و أتقدّم فی کتب الکتب، باستفتاح الخراج، قال: فرجعت، و حرّرت الحساب، فوجدت النوروز لم یکن یتقدّم فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 47
أیام الفرس أکثر من شهر یتقدّم من خمس تخلو من حزیران، فیصیر فی خمسه أیام تخلو أیار، فتکبس سنتها، و تردّه إلی خمسة أیام من حزیران، و أنفذته إلی عبید اللّه بن یحیی، فأمر أن یستفتح الخراج فی خمس من حزیران، و تقدّم إلی إبراهیم بن العباس فی أن ینشئ کتابا عن أمیر المؤمنین فی ذلک ینفذ نسخته إلی النواحی، فعمل إبراهیم بن العباس کتابه المشهور فی أیدی الناس.
قال أبو أحمد: فقال لی المعتضد: یا یحیی، هذا و اللّه فعل حسن، و ینبغی أن یعمل به، فقلت: ما أحد أولی بفعل الحسن، و إحیاء السنن الشریفة من سیدنا، و مولانا أمیر المؤمنین لما جمعه اللّه فیه من المحاسن، و وهبه له من الفضائل، فدعا بعبید اللّه بن سلیمان، و قال له: اسمع من یحیی ما یخبرک به، و امض الأمر فی استفتاح الخراج علیه، قال: فصرت مع عبید اللّه بن سلیمان إلی الدیوان، و عرّفته الخبر، فأحب تأخیره عن ذلک لئلا یجری الأمر المجری الأوّل بعینه، فجعله فی أحد عشر من حزیران، و استأمر المعتضد فی ذلک فأمضاه فقلت فی ذلک شعرا أنشدته للمعتضد فی هذا المعنی:
یوم نوروزک یوم‌واحد لا یتأخر
من حزیران یوافی‌أبدا فی أحد عشر
قال: و أخبرنی بعض مشایخ الکتاب قال: و کانت الخلفاء تؤخر النوروز عن وقته عشرین یوما، و أقل و أکثر لیکون ذلک سببا لتأخیر افتتاح الخراج علی أهله.
و أمّا المهرجان فلم تکن تؤخره عن وقته یوما واحدا، فکان أوّل من قدّمه عن وقته بیوم المعتمد بمدینة السلام فی سنة خمس و ستین و مائتین، و أمر المعتضد بتأخیر النوروز عن وقته ستین یوما.
و قال أبو الریحان محمد بن أحمد البیرونیّ فی کتاب الآثار الباقیة عن القرون الخالیة:
و منه نقلت ما ذکر ابن أبی طاهر و زاد، و نفذت الکتب إلی الآفاق یعنی عن المتوکل فی محرّم سنة ثلاث و أربعین و مائتین، و قتل المتوکل، و لم یتم له ما دبر، و استمرّ الأمر حتی قام المعتضد، فاحتذی ما فعله المتوکل فی تخیر النوروز غیر أنه نظر فإذا المتوکل أخذ ما بین سنته، و بین أوّل تاریخ یزدجرد، فأخذ المعتضد ما بین سنته، و بین السنة التی زال فیها ملک الفرس بهلاک یزدجرد، ظنا أن إهمالهم أمر الکبس من ذلک الوقت، فوجده مائتی سنة، و ثلاثا و أربعین سنة، حصتها من الأرباع ستون یوما و کسر، فزاد ذلک علی النوروز فی سنة، و جعله منتهی تلک الأیام، و هو من خردادماه فی تلک السنة، و کان یوم الأربعاء، و یوافقه الیوم الحادی عشر من حزیران، ثم وضع النوروز علی شهور الروم لتکبس شهوره إذا کبست الروم شهورها.
و قال القاضی السعید ثقة الثقات ذو الریاستین أبو الحسن علیّ بن القاضی المؤتمن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 48
ثقة الدولة أبی عمرو عثمان بن یوسف المخزومی فی کتاب المنهاج فی علم الخراج: و السنة الخراجیة مرکبة علی حکم السنة الشمسیة لأنّ السنة الشمسیة ثلثمائة و خمسة و ستون یوما و ربع یوم، و رتب المصریون سنتهم علی ذلک لیکون أدار الخراج عند إدراک الغلات من کل سنة، و وافقها السنة القبطیة، لأنّ أیام شهورها ثلثمائة و ستون یوما، و یتبعها خمسة أیام النسی‌ء و ربع یوم بعد تقضی مسری، و فی کل أربع سنین تکون أیام النسی‌ء ستة أیام، لینجبر الکسر.
و یسمون تلک السنة کبیسة، و فی کل ثلاث و ثلاثین سنة تسقط سنة، فیحتاج إلی نقلها لأجل الفصل بین السنین الشمسیة و السنین الهلالیة، لأنّ السنة الشمسیة ثلثمائة و خمسة و ستون یوما و ربع یوم، و السنة الهلالیة ثلثمائة و أربعة و خمسون یوما و کسر، و لما کان کذلک احتیج إلی استعمال النقل الذی تطابق به إحدی السنتین الأخری، و قد قال أبو الحسن علیّ بن الحسن الکاتب رحمه اللّه: عهدت جبایة أموال الخراج فی سنین قبل سنة إحدی و أربعین و مائتین من خلافة أمیر المؤمنین المتوکل علی اللّه رحمة اللّه علیه، تجری کل سنة فی السنة التی بعدها، بسبب تأخیر الشهور الشمسیة عن الشهور القمریة فی کل سنة أحد عشر یوما و ربع یوم، و زیادة الکسر علیه، فلما دخلت سنة اثنتین و أربعین و مائتین، کان قد انقضی من السنین التی قبلها ثلاث و ثلاثون سنة، أوّلهنّ سنة ثمان و مائتین من خلافة أمیر المؤمنین المأمون رحمة اللّه علیه، و اجتمع من هذا المتأخر فیها أیام سنة شمسیة کاملة، و هی ثلثمائة و خمسة و ستون یوما و ربع یوم، و زیادة الکسر، و بها إدراک غلات، و ثمار سنة إحدی و أربعین و مائتین فی صفر سنة اثنتین و أربعین و مائتین، و أمر أمیر المؤمنین المتوکل علی اللّه رحمة اللّه علیه، بإلغاء ذکر سنة إحدی و أربعین و مائتین، إذ کانت قد انقضت، و ینسب الخراج إلی سنة اثنتین و أربعین و مائتین، فجرت الأعمال علی ذلک سنة بعد سنة، إلی أن انقضت ثلاث و ثلاثون سنة آخرهنّ انقضاء سنة أربع و سبعین و مائتین، فلم ینبه کتاب أمیر المؤمنین المعتمد علی اللّه رحمة اللّه علیه علی ذلک، إذ کان رؤساؤهم فی ذلک الوقت إسماعیل بن بلبل و بنی الفرات، و لم یکونوا عملوا فی دیوان الخراج و الضیاع فی خلافة أمیر المؤمنین المتوکل علی اللّه رحمة اللّه علیه و لا کانت أسنانهم أسنانا بلغت معرفتهم معها هذا النقل، بل کان مولد أحمد بن محمد بن الفرات قبل هذه السنة بخمس سنین، و مولد علیّ أخیه فیها، و کان إسماعیل بن بلبل یتعلم فی مجلس لم یبلغ أن ینسخ، فلما تقلدت لناصر الدین أبی أحمد طلحة الموفق رحمه اللّه أعمال الضیاع بقزوین و نواحیها، لسنة ست و سبعین و مائتین، و کان مقیما بأذربیجان ، و خلیفته بالجبل جرادة بن محمد،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 49
و أحمد بن محمد کاتبه، و احتجت إلی رفع جماعتی إلیه ترجمتها بجماعة سنة ست و سبعین و مائتین التی أدرکت غلاتها و ثمارها فی سنة سبع و سبعین و مائتین، و وجب إلغاء ذکر سنة ست و سبعین و مائتین، فلما وقفا علی هذه الترجمة أنکراها، و سألانی عن السبب فیها، فشرحت لهما، و أکدت ذلک بأن عرّفتهما إنی قد استخرجت حساب السنین الشمسیة، و السنین القمریة من القرآن الکریم بعد ما عرضته علی أصحاب التفسیر، فذکروا أنه لم یأت فیه شی‌ء من الأثر، فکان ذلک أوکد فی لطف استخراجی، و هو أنّ اللّه تعالی قال فی سورة الکهف: وَ لَبِثُوا فِی کَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِینَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً [الکهف/ 25] فلم أجد أحدا من المفسرین عرف معنی قوله: و ازدادوا تسعا، و إنما خاطب اللّه عز و جل نبیه صلّی اللّه علیه و سلّم بکلام العرب، و ما تعرفه من الحساب، فمعنی هذه التسع أنّ الثلاثمائة کانت شمسیة بحساب العجم، و من کان لا یعرف السنین القمریة، فإذا أضیف إلی الثلاثمائة القمریة زیادة التسع، کانت سنین شمسیة صحیحة، فاستحسناه، فلما انصرف جرادة مع الناصر لدین اللّه إلی مدینة السلام، و توفی الناصر رحمه اللّه، و تقلد القاسم عبید اللّه بن سلیمان کتابة أمیر المؤمنین المعتضد بالله أجری له جرادة ذکر هذا النقل، و شرح له سببه تقرّبا إلیه و طعنا علی أبی القاسم عبید اللّه فی تأخیره إیاه، فلما وقف المعتضد علی ذلک تقدّم إلی أبی القاسم بإنشاء الکتب بنقل سنة ثمان و سبعین إلی سنة تسع و سبعین و مائتین، و کان هذا النقل بعد أربع سنین من وجوبه، ثم مضت السنون سنة بعد سنة إلی أن انقضت الآن ثلاث و ثلاثون سنة، أولاهنّ السنة التی کان النقل وجب فیها، و هی سنة خمس و سبعین و مائتین، و آخرتهنّ انقضاء سنة سبع و ثلثمائة، و قد تهیأ إدراک الغلات، و الثمار فی صدر سنة ثمان و ثلثمائة، و نسبته إلیها، و قد عملت نسخة هذا النقل نسختها تحت هذا الموضع لیوقف علیها، و قد کان أصحاب الدواوین فی أیام المتوکل لما نقل سنة إحدی و أربعین و مائتین إلی سنة اثنتین و أربعین و مائتین جبوا الجوالی و الصدقات لسنتی إحدی و اثنتین و أربعین و مائتین فی وقت واحد، لأنّ الجوالی بسرّمن‌رأی ، و مدینة السلام ، و قصب المدن المشهورة کانت تجبی علی شهور الأهلة، و ما کان من جماجم أهل القری فی الخراج و الضیاع و الصدقات و المستغلات، کان یجبی علی شهور الشمس، و فی ثلاث و ثلاثین سنة اجتمعت أیام سنة شمسیة کاملة، فألزم أهل الذمّة خاصة بالجوالی، و رفعها العمال فی حساباتهم فمن لم یرفعها ألزموه بجوالی السنة الزائدة، فأحفظ أنه اجتمع من ذلک ألوف دراهم، ثم جدّدت الکتب إلی العمال بأن تکون حساباتهم الجوالی علی شهور الأهلة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 50
فجری الأمر علی ذلک، قال القاضی أبو الحسن: و قد کان النقل أغفل فی الدیار المصریة، حتی کانت سنة تسع و تسعین و أربعمائة الهلالیة تجری مع سنة سبع و تسعین الخراجیة، فنقلت سنة سبع و تسعین و أربعمائة إلی سنة إحدی و خمسمائة، هکذا رأیت فی تعلیقات أبی رحمه اللّه، و آخر ما نقلت السنة فی وقتنا هذا سنة خمس و ستین و خمسمائة إلی سنة سبع و ستین و خمسمائة الهلالیة، فتطابقت السنتان، و ذلک أننی لما قلت للقاضی الفاضل أبی علیّ عبد الرحیم بن علیّ البیسانیّ: أنه قد آن نقل السنة، فأنشأ سجلا بنقلها نسخ الدواوین، و حمل الأمر علی حکمه، و ما برح الملوک و الوزراء یعتنون بنقل السنین فی أحیانها.
و قال أبو الحسین هلال بن المحسن الصابی: حدّثنی أبو علیّ قال: لما أراد الوزیر أبو محمد المهلبیّ نقل سنة خمس و ثلثمائة الهلالیة أمر أبا إسحاق والدی و غیره من کتابة فی الخراج، و الرسائل بإنشاء کتاب عن المطیع للّه فی هذا المعنی، فکتب کل منهم، و کتب والدی الکتاب الموجود فی رسائله، و عرضت النسخ علی الوزیر، فاختاره منها، و تقدّم بأن یکتب إلی أصحاب الأطراف، و قال لأبی الفرج بن أبی هشام خلیفته: اکتب إلی العمال بذلک کتبا محققه، و انسخ فی أواخرها هذا الکتاب السلطانیّ، فغاظ أبا الفرج وقوع التفضیل و الاختیار لکتاب والدی، و قد کان عمل نسخة اطرحت فی جملة ما اطرح و کتب، قد رأینا نقل سنة خمسین إلی إحدی و خمسین، فاعمل علی ذلک، و لم ینسخ الکتاب السلطانیّ، و عرف الوزیر ما کتب به أبو الفرج، فقال له: لماذا أغفلت نسخ الکتاب السلطانیّ فی آخر الکتب إلی العمال، و إثباته فی الدیوان، فأجاب جوابا علک فیه، فقال له: یا أبا الفرج ما ترکت ذلک إلّا حسدا لأبی إسحاق، و هو و اللّه فی هذا الفنّ أکتب أهل زمانه، فأعد الآن الکتب، و انسخ الکتاب فی أواخرها، قال القاضی أبو الحسن: و أنا أذکر بمشیئة اللّه نسخة الکتاب الذی أشار إلیه أبو الحسن علیّ بن الحسن الکاتب، و کتاب أبی إسحاق، و کتاب القاضی الفاضل، لیستبین للناظر طریق نقل السنین الخراجیة إلی السنین الهلالیة، فإذا قاربت الموافقة، و حسنت فیها المطابقة، فالکتاب الفاضلیّ أکثر نجازا، و أعظم إعجازا، و لا یخفی علی المتأمّل قدر ما أورد فیه من البلاغة، کما لا یخفی علی العارف قدر ما تضمنه کتاب الصابی من الصناعة.
نسخة الکتاب الذی أشار إلیه أبو الحسن الکاتب: إنّ أولی ما صرف إلیه أمیر المؤمنین عنایته، و أعمل فیه فکره و رویته، و شغل فیه تفقده، و رعایته أمر الفی‌ء الذی خصه اللّه به، و ألزمه جمعه، و توفیره و حیاطته، و تکثیره و جعله عماد الدین، و قوام أمر المسلمین،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 51
و فیما یصرف منه إلی أعطیات الأولیاء و الجنود، و من یستعان به لتحصین البیضة، و الذب عن الحریم، و حج البیت، و جهاد العدوّ، و سدّ الثغور، و أمن السبیل، و حقن الدماء، و إصلاح ذات البیت، و أمیر المؤمنین یسأل اللّه تعالی، راغبا إلیه و متوکلا علیه أن یحسن عونه علی ما حمله منه، و یدیم توفیقه بما أرضاه، و إرشاده إلی أن یقضی عنه و له، و قد نظر أمیر المؤمنین فیما کان یجری علیه أمر جبایة هذا الفی‌ء فی خلافة آبائه الراشدین صلوات اللّه علیهم، فوجده علی حسب ما کان یدرک من الغلات و الثمار من کل سنة أوّلا أوّلا علی مجاری شهور سنی الشمس فی النجوم التی یحل مال کل صنف منها فیها، و وجد شهور السنة الشمسیة تتأخر عن شهور السنة الهلالیة أحد عشر یوما و ربعا، و زیادة علیه، و یکون إدراک الغلات و الثمار فی کل سنة بحسب تأخرها، فلا تزال السنون تمضی علی ذلک سنة بعد سنة حتی تنقضی منها ثلاث و ثلاثون سنة، و تکون عدّة الأیام المتأخرة منها أیام سنة شمسیة کاملة، و هی ثلثمائة و خمسة و ستون یوما و ربع یوم و زیادة علیه.
فحینئذ یتهیأ بمشیئة اللّه تعالی و قدرته إدراک الغلات التی تجری علیها الضرائب، و الطسوق فی استقبال المحرّم من سنی الأهلة، و یجب مع ذلک إلغاء السنة الخارجة إذا کانت قد انقضت، و نسبتها إلی السنة التی أدرکت الغلات و الثمار فیها، لأنه وجد ذلک قد کان وقع فی أیام أمیر المؤمنین المتوکل علی اللّه رحمة اللّه علیه عند انقضاء ثلاث و ثلاثین سنة آخرتهنّ سنة إحدی و أربعین و مائتین، فجرت المکاتبات و الحسبانات، و سائر الأعمال بعد ذلک سنة بعد سنة إلی أن مضت ثلاث و ثلاثون سنة آخرتهنّ انقضاء سنة أربع و سبعین و مائتین، و وجب إنشاء الکتب بإلغاء ذکر سنة أربع و سبعین و مائتین، و نسبتها إلی سنة خمس و سبعین و مائتین، فذهب ذلک علی کتاب أمیر المؤمنین المعتمد علی اللّه، و تأخر الأمر أربع سنین إلی أن أمر أمیر المؤمنین المعتضد بالله رحمة اللّه علیه فی سنة سبع و سبعین و مائتین بنقل خراج سنة ثمان و سبعین إلی سنة تسع و سبعین و مائتین.
فجری الأمر علی ذلک إلی أن انقضت فی هذا الوقت ثلاث و ثلاثون سنة: أولاهنّ السنة التی کان یجب نقلها فیها، و هی سنة خمس و سبعین و مائتین، و آخرتهنّ انقضاء شهور خراج سنة سبع و ثلثمائة، و وجب افتتاح خراج ما یجری علی الضرائب و الطسوق فی أوّلها، و إن من صواب التدبیر و استقامة الأعمال، و استعمال ما یخف علی الرعیة معاملتها به، نقل سنة الخراج سنة سبع و ثلثمائة إلی سنة ثمان و ثلثمائة، فرأی أمیر المؤمنین لما یلزمه نفسه، و یؤاخذها به من العنایة بهذا الفی‌ء، و حیاطة أسبابه، و إجرائها مجاریها، و سلوک سبیل آبائه الراشدین رحمة اللّه علیهم أجمعین فیها، أن یکتب إلیک، و إلی سائر العمال فی النواحی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 52
بالعمل علی ذلک، و أن یکون ما یصدر إلیکم من الکتب، و تصدرونه منکم، و تجری علیه أعمالکم و رفوعکم و حسباناتکم، و سائر مناظراتکم علی هذا النقل، فاعلم ذلک من رأی أمیر المؤمنین، و اعمل به مستشعرا فیه، و فی کل مضنة تقوی اللّه، و طاعته و مستعملا علیه ثقات الأعوان و کفاتهم، و مشرفا علیهم، و مقوّما لهم، و اکتب بما یکون منک فی ذلک إن شاء اللّه تعالی.
نسخة أبی إسحاق الصابی: أما بعد: فإنّ أمیر المؤمنین لا زال مجتهدا فی مصالح المسلمین، و باعثا لهم علی مراشد الدنیا و الدین، و مهیأ لهم أحسن الاختیار فیما یوردون و یصدرون، و أصوب الرأی فیما یبرمون و ینقضون، فلا یلوح له خلة داخلة علی أمورهم إلّا سدّها، و تلافاها و لا حال عائدة بحظ علیهم إلا اعتمدها، و أتاها، و لا سنة عادلة إلا أخذهم بإقامة رسمها، و إمضاء حکمها، و الاقتداء بالسلف الصالح فی العمل بها، و الإتباع لها، و إذا عرض من ذلک ما تعلمه الخاصة بوفور ألبابها، و تجهله العامّة بقصور أفهامها، و کانت أوامره فیه خارجة إلیک، و إلی أمثالک من أعیان رجاله، و أماثل عماله الذین یکتفون بالإشارة، و یجتزون بیسیر الإبانة و العبارة لم یدع أن یبلغ من تخلیص اللفظ، و إیضاح المعنی إلی الحدّ الذی یلحق المتأخر بالمتقدّم، و یجمع بین العالم و المتعلم، و لا سیما إذا کان ذلک فیما یتعلق بمعاملات الرعیة، و من لا یعرف إلّا الظواهر الجلیة دون البواطن الخفیة، و لا یسهل علیه الانتقال عن العادات المتکرّرة إلی الرسوم المتغیرة لیکون القول بالمشروح لمن برز فی المعرفة مذکرا، و لمن تأخر فیها مبصرا، و لأنه لیس من الحق أن تمنع هذه الطبقة من برد الیقین فی صدورها، و لا أن یقتصر علی اللمحة الدالة فی مخاطبة جمهورها، حتی إذا استوت الأقدام بطوائف الناس فی فهم ما أمروا به و فقه ما دعوا إلیه، و صاروا علی حکمه سواء لا یعترضهم شک الشاکین، و لا استرابة المستریبین، اطمأنت قلوبهم، و انشرحت صدورهم، و سقط الخلاف بینهم، و استمرّ الاتفاق بهم، و استیقنوا أنهم مؤسسون علی استقامة من المنهاج، و محروسون من حزائز الزیغ و الاعوجاج، فکان الانقیاد منهم، و هم دارون عالمون لا مقلدون مسلمون، و طائعون مختارون لا مکرهون، و لا مجبرون.
و أمیر المؤمنین یستمدّ اللّه تعالی فی جمیع أغراضه، و مرامیه و مطالبه، و مغازیه مادّة من صنعه یقف بها علی سنن الصلاح، و یفتح له أبواب النجاح، و ینهضه بما أهّله لحمله من الأعباء التی لا یدّعی الاستقلال بها إلا بتوفیقه، و معونته، و لا یتوجه فیها إلّا بدلالته و هدایته، و حسب أمیر المؤمنین اللّه، و نعم الوکیل یری أنّ أولی الأقوال أن یکون سدادا، و أحری الأفعال أن یکون رشادا ما وجد له فی السابق من حکم اللّه أصول و قواعد، و فی النص من کتابه آیات و شواهد، و کان منصبا بالأمّة إلی قوام من دین أو دنیا، و وفاق فی آخره أو أولی، فذلک هو البناء الذی یثبت، و یعلو، و الغرس الذی ینبت و یزکو، و السعی الذی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 53
تنجح مبادیه و هوادیه، و تبهج عواقبه و توالیه، و تستنیر سبله لسالکیها، و توردهم موارد السعود فی مقاصدهم فیها غیر ضالین و لا عادلین، و لا منحرفین و لا زائلین، و قد جعل اللّه عز و جل لعباده من هذه الأفلاک الدائرة، و النجوم السائرة، فیما تنقلب علیه من اتصال و افتراق و یتعاقب علیها من اختلاف، و اتفاق منافع تظهر فی کرور الشهور و الأعوام، و مرور اللیالی و الأیام، و تفاوت الضیاء و الظلام، و اعتدال المسالک و الأوطان، و تغایر الفصول و الأزمان، و نشو النبات و الحیوان، مما لیس فی نظام ذلک خلل، و لا فی صنعه زلل بل هو منوط بعضه ببعض، و محوط من کل تلمة و نقض.
قال اللّه تعالی: هُوَ الَّذِی جَعَلَ الشَّمْسَ ضِیاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِینَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِکَ إِلَّا بِالْحَقِ [یونس/ 5]، و قال جلّ من قائل: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ یُولِجُ اللَّیْلَ فِی النَّهارِ وَ یُولِجُ النَّهارَ فِی اللَّیْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ کُلٌّ یَجْرِی إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ [الرعد/ 2]، و قال تعالی: وَ الشَّمْسُ تَجْرِی لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِکَ تَقْدِیرُ الْعَزِیزِ الْعَلِیمِ [یس/ 38]، و قال عزت قدرته: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّی عادَ کَالْعُرْجُونِ الْقَدِیمِ [یس/ 39]، ففضل اللّه تعالی بهذه الآیات بین الشمس و القمر، و أنبأنا فی الباهر من حکمه، و المعجز من کلامه أن لکل منهما طریقا سخر فیها، و طبیعة جبل علیها و أن تلک المباینة و المخالفة فی المسیر یؤدّیان إلی موافقة، و ملازمة فی التدبیر، فمن هنا لک زادت السنة الشمسیة.
فصارت ثلثمائة و خمسة و ستین یوما و ربعا بالتقریب المعمول علیه، و هی المدّة التی تقطع الشمس فیها الفلک مرّة واحدة، و نقصت الهلالیة، فصارت ثلثمائة و أربعة و خمسین یوما، و هی المدّة التی یجامع القمر فیها الشمس اثنتی عشرة مرّة، و احتیج إذا انساق هذا الفضل إلی استعمال النقل الذی یطابق إحدی السنتین بالأخری إذا افترقنا، و یدانی بینهما إذا تفاوتتا، و ما زالت الأمم السالفة تکبس زیادات السنین علی افتنان من طرقها و مذاهبها، و فی کتاب اللّه عز و جل شهادة بذلک إذ یقول فی قصة أهل الکهف: وَ لَبِثُوا فِی کَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِینَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً [الکهف/ 25]، فکانت هذه الزیادة بأنّ الفضل فی السنین المذکورة علی تقریب التقریب.
فأما الفرس: فإنهم أجروا معاملاتهم علی السنة المعتدلة التی شهورها اثنا عشر شهرا، و أیامها ثلثمائة و ستون یوما، و لقبوا الشهور باثنی عشر لقبا، و سموا أیام الشهر منها بثلاثین اسما، و أفردوا الخمسة الأیام الزائدة، و سموها المسترقة، و کبسوا الربع فی کل مائة و عشرین سنة شهرا، فلما انقرض ملکهم بطل فی کبس هذا الربع تدبیرهم، و زال نوروزهم عن سنته، و انفرج ما بینه، و بین حقیقة وقته انفراجا هو زائد لا یقف، و دائر لا ینقطع، حتی إن موضوعهم فی النوروز أن یقع فی مدخل الصیف، و سینتهی إلی أن یقع فی مدخل الشتاء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 54
و یتجاوز ذلک، و موضوعهم فی المهرجان أن یقع فی مدخل الشتاء، و ینتهی إلی أن یقع فی مدخل الصیف، و یتجاوز.
و أما الروم: فکانوا أتقن منهم حکمة، و أبعد نظرا فی العاقبة لأنهم رتبوا شهور السنة علی أرصاد شهروها، و أنواء عرفوها، و فضوا الخمسة الأیام علی الشهور، و ساقوها علی الدهور، و کبسوا الربع فی کل أربع سنین یوما، و رسموا أن یکون إلی شباط مضافا، فقرّبوها ما بعّده غیرهم، و سهّلوا علی الناس أن یقتفوا أثرهم، لا جرم أن المعتضد بالله رحمه اللّه علی أصولهم بنی، و لمثالهم احتذی فی تصییره نوروزه الیوم الحادی عشر من حزیران، حتی سلم مما لحق النواریز فی سالف الأزمان، و تلافوا الأمر فی عجز سنی الهلال عن سنی الشمس بأن جبروها بالکبس، فکلما اجتمع من فصول سنی الشمس، و ما بقی تمام شهر جعلوا السنة الهلالیة، یتفق ذلک فیها ثلاثة عشر هلالا، فربما تمّ الشهر الثالث عشر فی ثلاث سنین، و ربما تمّ فی سنتین بحسب ما یوجبه الحساب، فتصیر سنتا الشمس و الهلال عندهم متقاربتین أبدا لا یتباعد ما بینهما.
و أمّا العرب: فإنّ اللّه تعالی فضّلها علی الأمم الماضیة، و ورثها ثمرات مشاقها المتعبة، و أجری شهر صیامها، و مواقیت أعیادها، و زکاة أهل ملتها، و جزیة أهل ذمّتها علی السنة الهلالیة، و تعبدها فیها برؤیة الأهلة إرادة منه أن تکون مناهجها واضحة، و أعلامها لائحة، فیتکافأ فی معرفة الغرض، و دخول الوقت الخاص منها و العام، و الناقص الفقه و التام، و الأنثی و الذکر، و الصغیر و الکبیر و الأکبر، فصاروا حینئذ یحسبون فی سنة الشمس حاصل الغلات المقسومة، و خراج الأرض الممسوحة، و یجبون فی سنة الهلال الجوالی، و الصدقات و الأرجاء، و المقاطعات و المستغلات، و سائر ما یجری علی المشاهرات، و حدث من التداخل بین السنین ما لو استمرّ لقبح جدا، و ازداد بعدا إذ کانت الجبایة الخراجیة فی السنة التی ینتهی إلیها تنسب إلی الشمسیة، و إلی ما قبلها، فوجب مع هذا أن تطرح تلک السنة، و تلغی و یتجاوز إلی ما بعدها، و یتخطی، و لم یجز لهم أن یعتدّوا لمخالفتهم فی کبس السنة الهلالیة بشهر ثالث عشر، و لأنهم لو فعلوا ذلک لزحزحت الأشهر الحرم عن موافقها، و ارتجت المناسک عن حقائقها، و نقصت الجبایة فی سنی الأهلة القبطیة بقسط ما استغرقه الکبس منها، فانتظروا بذلک الفضل إلی أن تتم السنة، و أوجب الحساب المقرّب أن یکون کل اثنتین و ثلاثین سنة شمسیة ثلاثا و ثلاثین هلالیة، فنقلوا المتقدّمة إلی المتأخرة نقلا لا یتجاوز الشمسیة.
و کانت هذه الکلفة فی دنیاهم مستسهلة مع تلک النعمة فی دینهم، و قد رأی أمیر المؤمنین نقل سنة خمسین و ثلثمائة الخراجیة إلی سنة إحدی و خمسین و ثلثمائة الهلالیة جمعا بینهما، و لزوما لتلک السنة فیهما، فاعمل بما ورد به أمر أمیر المؤمنین علیک،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 55
و تضمنه کتابه هذا إلیک، و مر الکتاب قبلک أن یحتذوا رسمه فیما یکتبون به إلی عمال نواحیک، و یخلدونه فی الدواوین من ذکورهم و رفوعهم، و یعدونه من خروج الأموال و ینظمونه فی الدواوین و الأعمال، و یثبتون علیه الجماعات و الحسبانات، و یوغرون بکتبه من الروزنامجات، و البراءات و لیکن المنسوب من ذلک إلی سنة خمسین و ثلثمائة التی وقع النقل إلیها، و أقم فی نفوس من بحضرتک من أصناف الجند و الرعیة، و أهل الملة و الذمة أن هذا النقل لا یغیر لهم رسما، و لا یلحق بهم ثلما، و لا یعود علی قابضی العطاء بنقصان ما استحقوا قبضه، و لا علی مؤدّی حق بیت المال بإغضاء عما وجب أداؤه، فإنّ قرائح أکثرهم فقیرة إلی إفهام أمیر المؤمنین الذی آثر أن تزاح فیه العلة، و یسدّ بهم سهم الخلة إذ کان هذا الشأن لا یتجدّد إلا فی المدد الطوال التی فی مثلها یحتاج إلی تعریف الناسی، و أجب بما یکون منک جوابا یحسن موقعه لک إن شاء اللّه تعالی.
و قال ابن المأمون فی تاریخه: من حوادث سنة إحدی و خمسمائة، و أوّل ما تحدّث فیه نقل السنة الشمسیة إلی العربیة، و کان قد حصل بینهما تفاوت أربع سنین، فتحدّث القائد أبو عبد اللّه محمد بن فاتک البطائحیّ مع الأفضل بن أمیر الجیوش فی ذلک، فأجاب إلیه، و خرج أمره إلی الشیخ أبی القاسم بن الصیرفیّ بإنشاء سجل به.
فأنشأ ما نسخته: بسم اللّه الرحمن الرحیم، الحمد للّه الذی ارتضی أمیر المؤمنین أمینه فی أرضه و خلیفته، و ألهمه أن یعمّ بحسن التدبیر عبیده و خلیقته، و وفقه لمصالح یستمدّ أسبابها، و یفتح بحسن نظره أبوابها، و أورثه مقام آبائه الراشدین الذین اختصهم بشرف المفخر، و جعل اعتقاد موالاتهم سبب النجاة فی المحشر، و عناهم بقوله: یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ، و أعلی منار سلطانه بمدبر أفلاکک دولته، و مبید أعداء مملکته، و أشرف من نصب للجند علما و رایة، و وقف علی مصلحة البریة نظره و رأیه، و أرشد بهداتیه الألباب الحائرة، و أذهب بمعدلته الأحکام الجائرة السید الأجل الأفضل، و نتمم النعوت بالدعاء للذی کمل تدبیره نظام الصلاح و تممه، و سدّد تقریره الأمور فی کل ما قصده و یممه، و نبّه فی السیاسة علی ما أهمله من سبقه، و أغفله من تقدّمه، و تتبع أحوال المملکة، فلم یدع مشکلا إلا أوضحه و بین الواجب فیه، و لا خللا إلا أصلحه، و بادر بتلافیه، و لا مهملا إلا استعمله علی ما یوافق الصواب، و لا ینافیه إیثارا لعمارة الأعمال، و قصدا لما یقضی بتوفیر الأموال.
و توخیا لما عاد بضروب الاستغلال، و اعتناء برجال الدولة العلویة و أجنادها، و اهتماما
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 56
بمصالحهم التی ضعفت قواهم عن ارتیادها، و رعایة لمن ضمنه أقطار المملکة من الرعایا، و حملا لهم علی أعدل السنن، و أفضل القضایا یحمده أمیر المؤمنین علی ما أعانه علیه من حسن النظر للأمّة، و ادّخره لأیامه من الفضائل التی صفت بها ملابس النعمة، و وفقه لما یعود علی الکافة بشمول الانتفاع، حتی صار استبدال الحقوق بواجبات الشریعة الواضحة الأدلة و استیفاؤها بمقتضی المعدلة، فیما یجری علی أحکام الخراج، و أوضاع الأهلة، و یرغب إلیه بالصلاة علی محمد الذی میزه بالحکمة، و فصل الخطاب، و بین به ما استیهم من سبل الصواب، و أنزل علیه فی محکم الکتاب: هُوَ الَّذِی جَعَلَ الشَّمْسَ ضِیاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِینَ وَ الْحِسابَ [یونس/ 5] صلی اللّه علیه، و علی أخیه و ابن عمه أبینا أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب کافیه فیما أعضل لمّا عدم المساعد، و واقیه بنفسه لما تخاذل الکف و الساعد، و علی الأئمة من ذریتهما العاملین برضی اللّه تعالی فیما یقولون و یفعلون، و الذین یهددون بالحق، و به یعدلون، و إنّ أولی ما أولاه أمیر المؤمنین حظا وافیا من تفقده، و أسهم له جزءا وافرا من کریم تعهده، و نظر إلیه بعین اهتمامه، و اختصه بالقسم الأجزل من استمالة أمر الأموال التی یستعان بها علی سدّ الخلل، و برجائها یستدفع ما یطرق من الحادث الجلل، و بوفورها تستثبت شؤون المملکة، و تستقیم أحوال الدول، و باستخراجها علی حکم العدل الشامل، و وصیة إنصاف المعامل تکون العمارة التی هی أصل زیادتها، و مادة کثرتها و غزارتها.
و لما کانت جبایاتها علی حکمین: أحدهما: یجی‌ء هلالیا، و ذلک ما لا یدخله عارض و لا إشکال، و لا إبهام، و لا یحتاج فیه إلی إیضاح و لا إفهام، لأن شهور الهلال یشترک فی معرفتها الأمیر و المقصر، و یستوی فی الفهم بها المتقدّم فی العلم و المتأخر، إذ کان الناس آلفین لأزمنة متعبداتهم السنین مما یحفظ لهم نظام مرسوم، و الآخر یجی‌ء خراجیا و یثبت بنسبته إلی الخراج لأنها تضبط أوقات ما یجری ذلک لأجله من النیل المبارک، و الزراعة و تحفظ أحیانه دون السنة الهلالیة، و تحرس أوضاعه، و لا یستقل بمعرفته إلا من باشره، و عرف موارده و مصادره، فوجب أن یقصر علی السنة الخراجیة النظر، و یفعل فیها ما تعظم به الفائدة، و یحسن فیه الأثر و یعتمد فی إیضاح أمرها، و تقدیم حکمها علی ما تتحلی به التواریخ، و تزین به السیر، و یکون ذلک شاهدا لمساعی السید الأجل الأفضل الذی لا یزال ساهرا لیله فی حیاطه الهاجعین شاهرا لسیفه فی حمایة الوادعین مطلعا للدولة بدور السعادة، و شموسها مذللا صعب الحوادث، و شموسها ناطقة تارة بأن أمّة هو راعیها قد فضل اللّه سائسها، و أسعد مسوسها، و هذا حین التبصیر و الإرشاد، و أوان التبیین للغرض و المراد، لتتساوی العامّة و الخاصة فی علمه و تسعهم الفائدة فی معرفة حکمه، و تتحقق المنفعة لهم فیما یمنع من تداخل السنین و استقبالها، و تتیقن المعدلة علیهم فیما یؤمن من المضار التی یحتاج إلی استدراکها.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 57
و معلوم أنّ أیام السنة الخراجیة، و هی السنة الشمسیة بخلاف السنة الهلالیة لأن أیام السنة الخراجیة من استقبال النوروز إلی آخر النسی‌ء ثلثمائة و خمسة و ستون یوما و ربع یوم، و أیام السنة الهلالیة لاستقبال المحرّم إلی آخر ذی الحجة ثلثمائة و أربعة و خمسون یوما، و الخلاف فی کل سنة بالتقریب أحد عشر یوما، و فی کل ثلاث و ثلاثین سنة سنة واحدة علی حکم التقریب و یتقضیه ما تقدّم من الترتیب، فإذا اتفق أن یکون أوّل الهلالیة موافقا لمدخل السنة الخراجیة، و کانت نسبتهما واحدة استمرّ اتفاق التسمیة فیهما، و بقی ذلک جاریا علیهما، و لم یزالا متداخلین لکون مدخل الخراجیة فی أثناء شهور الهلالیة إلی انقضاء ثلاث و ثلاثین سنة، فإذا انقضت هذه المدّة بطلت المداخلة، و خلت السنة الهلالیة من نوروز یکون فیها، و بحکم ذلک بطل اتفاق التسمیة، و یکون التفاوت سنة واحدة للعلّة المقدّم ذکرها، و من أین یستمرّ بینهما ائتلاف، أو یعدم لهما اختلاف، أم کیف یعتقد ذلک أحد من البشر.
و اللّه تعالی یقول: لَا الشَّمْسُ یَنْبَغِی لَها أَنْ تُدْرِکَ الْقَمَرَ [یس/ 40] فقد وضح دلیل التباعد بما جاء منصوصا فی الکتاب، و ظهر برهانه بما اقتضاه موجب الحساب، فیحتاج بحکم ذلک إلی نقل السنة الشمسیة إلی التی تلیها لتکون موافقة للهلالیة، و جاریة معها، و فائدة النقل أن لا تخلو السنة الهلالیة من مال خاص ینسب إلی السنة الموافقة لها، لأنّ واجبات العسکریة علی عظمها، و اتساعها و أرزاق المرتزقة علی اختلاف أجناسها، و أوضاعها جاریة علی أحکام الهلالیة غیر معدول بها عن ذلک فی حال من الأحوال، و المحافظة علی ثمرة ارتفاعها متعینة، و منفعة العنایة بما تجری علیه واضحة مبینة، و لما أهلت سنة إحدی و خمسمائة، و دخلت فیها سنة تسع و تسعین و أربعمائة الخراجیة المواقة لسنة إحدی و خمسمائة الهلالیة کان فی ذلک من التباین، و التعارض و التفاوت، و التنافر بحکم إهمال النقل فیما تقدّم ما صارت السنة الهلالیة الحاضرة لا یجبی خراج ما یوافقها فیها، و لا تدرک غلّات السنة المجری ما لها علیها إلّا فی السنة التی تلیها، فهی تستهل و تنقضی.
و لیس لها فی الخراجیّ ارتفاع و الأعمال تطیف بالزراعة، و لا حظ لها فی ذلک، و لا انتفاع، و هذه الحال المضرّة بها علی بیت المال غیر خفیة، و الأذیة فیها للرجال المقطعین بادیة، و أسباب لحوقها إیاهم مستمرّة متمادیة، و لا سیما من وقع له بإثبات و أنعم علیه بزیادات، فإنّهم یتعجلون الاستقبال، و یتأجلون الاستغلال، و متی لم تنقل هذه السنة الخراجیة کانت متداخلة بین سنین هلالیة، و هی موافقة لغیرها، و ما لها یجری علی سنة تجری بینهما لأنّ مدخلها فی الیوم العاشر من المحرّم سنة إحدی و خمسمائة، و انقضاؤها فی العشرین من المحرّم سنة اثنتین و خمسمائة، و هی متداخلة بین هاتین السنتین، و ما لهما یجری علی سنة إحدی و خمسمائة، و الحال فی ذلک لا ینتهی إلی أمد، و لا یزال الفساد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 58
یتزاید طول الأبد، و قد رأی أمیر المؤمنین و بالله توفیقه ما خرج به أمره إلی السید الأجل الأفضل الذی نبه علی هذا الأمر، و کشف غامضه، و أزال بحسن توصله تنافیه، و تناقضه أن یوعز إلی دیوان الإنشاء بکتب هذا السجل مضمنا ما رآه و دبره مودعا إنفاذ ما أحکمه، و قرّره من نقل سنة تسع و تسعین و أربعمائة إلی سنة إحدی و خمسمائة، لتکون موافقة لها.
و یجری علیها ما لها، و یکون ما یستأدونه من إقطاعاتهم، و یستخرجونه من واجباتهم جاریا علی نظام محروس، و نطاق محیط غیر منحوس، و شاهدا بنصیب موفی غیر منقوص، و یتضح ما أبهم إشکاله التعمیة، و یزول الاستکراه فی اختلاف التسمیة، و یستمرّ الوفاق بین السنین الهلالیة و الخراجیة إلی سنة أربع و ثلاثین و خمسمائة، و ینسب مال الخراج و المقاسمات، و ما یستغلّ، و یجبی من الإقطاعات مما کان جاریا علی ذکر سنة تسع و تسعین و أربعمائة إلی سنة إحدی و خمسمائة، و تجری الإضافة إلیها مجری ما یرتفع من الهلالیّ فیها لتکون سنة إحدی من هذه مشتملة علی ما یخصها من مالها، و علی مال السنة الخراجیة بما یشرح من انتقالها، و کذلک نقل سنة تسع و تسعین و أربعمائة الخراجیة الثابتة بالتسمیة إلی سنة إحدی و خمسمائة المشار إلیها، و یکون مالها جاریا علیها، فلیعتمد ذلک فی الدواوین بالحضرة، و فی سائر أعمال الدولة قاصیها و دانیها، و فارسها و شامیها، و لیتنبه کافة الکتاب و المستخدمین، و جمیع العمال و المتصرّفین إلی اقتفاء هذه السنن و أتباعه، و لیحذروا الخروج عن أحکامه المقرّرة و أوضاعه، و لیبادروا إلی امتثال المرسوم فیه، و لیحذروا من تجاوزه و تعدّیه، و لینسخ فی دواوین الأموال و الجیوش المنصورة، و لیخلد بعد ذلک فی بیوت المال المعمورة، و کتب فی محرّم سنة إحدی و خمسمائة.
و قال القاضی الفاضل فی متجدّدات سنة سبع و ستین و خمسمائة و من خطه نقلت مستهلّ المحرّم نسخ منشور بنقل السنة الخراجیة إلی السنة الهلالیة، و المطابقة بین اسمهما لموافقة الشهور العربیة للشهور القبطیة، و خلوّ سنة سبع من نوروز، فنقلت سنة خمس و ستین و خمسمائة الخراجیة إلی هذه السنة، و کان آخر نقل نقلته هذه السنة فی الأیام الأفضلیة، فإنّ سنة ثمان و تسعین و أربعمائة، و سنة تسع و تسعین الخراجیتین نقلتا إلی سنة إحدی و خمسمائة الخراجیة، و سبب هذا الانفراج بینهما زیادة عدد السنة الشمسیة علی عدد الهلالیة أحد عشر یوما، و إغفال النقل فی سنة ثلاث و ثلاثین فی أیام الوزیر الأفضل رضوان بن و لخشی، و انسحب ذیل هذه الزیادة، و تداخل السنین بعضها فی بعض إلی أن صار التفاوت بینهما سنتین فی هذه السنة فنقلت، و هو انتقال لا یتعدّی التسمیة، و لا یتجاوز اللفظ، و لا ینقص مالا لدیوان، و لا لمقطع، و إنما یقصد به إزالة الإلباس، و حل الإشکال.
و قال القاضی أبو الحسین: و نسخة الکتاب الذی أنشأه القاضی الفاضل خرجت الأوامر الملکیة الناصریة زاد اللّه فی إعلائها بإبداع هذا المنشور إنا نؤثر من حسن النظر ما
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 59
یؤثر أحسن الخبر، و لا ینصرف بنا الفکر عمّا تحلی به السیر، و تجلی به الغیر، و لا تزال خواطرنا تعتلی فتطلع الدراری، و تغوص فتخرج الدرر، و إنّ أولی ما استحدّت به البصائر، و حرست فیه المصائر کل أمر یصحح المعاملات و یشرحها، و یطلق عقولهم من عقول الإشکال، و یسرّحها، و لما وجب نقل السنة الخراجیة، و المطابقة بینها و بین الهلالیة، لانفراجهما بسنتین، و موافقة الشهور الخراجیة و الهلالیة فی هذه السنة مطلع المستهلین أمضینا هذه السنة الخالیة فی هذه السنة الآتیة، و استخرنا اللّه تعالی فی نقل سنتی خمس و ست و ستین و خمسمائة إلی سنة سبع و ستین و خمسمائة التی سمیت بهذا النقل هلالیة خراجیة نفیا للأمور المشتبهة، و التسمیة المموّهة، و تنزیها لسنی الإسلام عن التکبیس، و لتاریخه عن ملابسة التلبیس، و إعلاما بالوفاق الذی استشعرته آباؤها و بنوها، و إعلانا باتباعه عنایة بعواید السلف التی خلفوها للخلف و بنوها، و فی ذلک ما تحمد به العواقب، و تنفسخ به المذاهب، و تتیسر به المطالب، و یزول به الإشکال، و یؤمن به الاختلال، و ینحسم به الغلط فی الحساب، و یؤلف بین السنین المتلفة الأنساب، و یحفظ علی القمر معاملته، و یبعد عن التاریخ معاطلته، و یقرّب علی الکاتب محاولته، و یصرف عن نعمة اللّه هجنة کونها مقدّمة فی التسنیة مؤخرة فی التسمیة، و عن معاملة بیت المال و صمة کونها معذوقة بالمطل، و قد بالغت فی التوفیه لأنّ من أعطی فی سنة سبع و ستین و خمسمائة استحقاق سنة خمس، فلا ریب أنه قد مطل بحکم السمع، و إن کان قد أنجز بحکم الشرع فتوسم هذه السنة المبارکة بالهلالیة الخراجیة، و ترفع الحسبانات بهذا الوضع، و یعمل فی التقریرات و التسجیلات علی هذا، فلیفعل فی ذلک ما یقضی بإرتاج هذا الانفراج، و جبر هذا الصدع، و لیعلم فی الدواوین علمه، و لینفذ فیها حکمه بعد ثبوته إلی حیث یثبت مثله إن شاء اللّه تعالی.
و أما تاریخ العرب: فإنه لم یزل فی الجاهلیة و الإسلام یعمل بشهور الأهلة، و عدّة شهور السنة عندهم: اثنا عشر شهرا، إلا أنهم اختلفوا فی أسمائها، فکانت العرب العاربة تسمیها: ناتق، و نقیل، و طلیق، واسخ، أنخ، و حلک، و کسح، و زاهر، و نوط، و حرف، و بغش. فناتق هو: المحرّم، و نقیل هو: صفر، و هکذا ما بعده علی سرد الشهور.
و کانت ثمود تسمیها: موجب، و موجر، و مورد، و ملزم، و مصد، و هوبر، و هوبل، و موها، و دیمر، و دابر، و حیقل، و مسیل، فموجب هو: المحرّم، و موجر: صفر، إلا أنهم کانوا یبدأون بالشهور من دیمر، و هو شهر رمضان، فیکون أوّل شهور السنة عندهم، ثم کانت العرب تسمیها بأسماء أخر هی: مؤتمر، و ناجر، و خوّان، و صوان، و حنتم، و زبا، و الأصم، و عادل، و بایق، و وعل، و هواع، و برک، و معنی المؤتمر: أنه یأتمر بکل شی‌ء مما تأتی به السنة من أقضیتها، و ناجر: من النجر، و هو شدّة الحرّ، و خوّان: فعال من الخیانة، و صوان، بکسر الصاد و ضمها: فعال من الصیانة، و الزبا: الداهیة العظیمة المتکاثفة سمی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 60
بذلک لکثرة القتال فیه، و منهم من یقول: بعد صوان الزبا، و بعد الزبا بائدة، و بعد بائدة الأصم، ثم واغل، و باطل، و عادل، ورنه، وبرک، فالبائد من القتال إذ کان فیه یبید کثیر من الناس، و جری المثل بذلک فقیل العجب کل العجب بین جمادی و رجب، و کانوا یستعجلون فیه و یتوخون بلوغ النار و الغارات قبل رجب فإنه شهر حرام، و یقولون له الأصم لأنهم کانوا یکفون فیه عن القتال، فلا یسمع فیه صوت السلاح، و الواغل الداخل علی شرب و لم یدعوه، و ذلک لأنه تهجم علی شهر رمضان، و کان یکثر فی شهر رمضان شربهم الخمر لأن الذی یتلوه هی شهور الحج، و باطل هو مکیال الخمر سمی به لإفراطهم فیه فی الشرب، و کثرة استعمالهم لذلک المکیال، و أما العادل فهو من العدل لأنه من أشهر الحج، و کانوا یشتغلون فیه عن الباطل، و أما الزبا فلأن الأنعام کانت تزب فیه لقرب النحر، و أما برک فهو لبروک الإبل إذا حضرت المنحر.
و قد روی: أنهم کانوا یسمون المحرّم: مؤتمر، و صفر: ناجر، و ربیع الأوّل: نصار، و ربیع الآخر: خوان، و جمادی الأولی: حمتن، و جمادی الآخرة: الرنة، و رجب: الأصم و هو شهر مضر، و کانت العرب تصومه فی الجاهلیة، و کانت تمتار فیه، و تمیر أهلها، و کان یأمن بعضهم بعضا فیه، و یخرجون إلی الأسفار، و لا یخافون، و شعبان: عادل، و رمضان:
ناتق، و شوّال: واغل، و ذو القعدة: هواع، و ذو الحجة: برک، و یقال فیه أیضا: أبروک، و کانوا یسمونه المیمون، ثم سمت العرب أشهرها بالمحرّم، و صفر، و ربیع الأوّل، و ربیع الآخر، و جمادی الأولی، و جمادی الآخرة، و رجب، و شعبان، و رمضان، و شوّال، و ذی القعدة، و ذی الحجة، و اشتقوا أسماءها من أمور اتفق وقوعها عند تسمیتها، فالمحرّم کانوا یحرّمون فیه القتال، و صفر کانت تصفر فیه بیوتهم لخروجهم إلی الغزو، و شهرا ربیع کانا زمن الربیع، و شهرا جمادی کانا یجمد فیهما الماء لشدّة البرد، و رجب الوسط، و شعبان یشعب فیه القتال، و رمضان من الرمضاء لأنه کان یأتی فیه القیظ، و شوّال تشیل فیه الإبل أذنابها، و ذو القعدة لقعودهم فی دورهم، و ذو الحجة لأنه شهر الحج، و أنت إذا تأمّلت اشتقاق أسماء شهور الجاهلیة أوّلا، ثم اشتقاقها ثانیا تبین لک أنّ بین التسمیتین زمانا طویلا، فإنّ صفر فی أحدهما هو: صمیم الحروب، و فی الآخر: رمضان، و لا یمکن ذلک فی وقت واحد أو وقتین متقاربین، و کانت العرب أوّلا تستعمل هذه الشهور علی نحو ما یستعمله أهل الإسلام إما بطریق إلهیّ، أو لأنّ العرب لم یکن لها درایة بمراعاة حساب حرکات النیرین، فاحتاجت إلی استعمال مبادی الشهور لرؤیة الأهلة، و جعلت زمان الشهر بحسب ما یقع بین کل هلالین، فربما کان بعض الشهور تامّا أعنی ثلاثین یوما، و ربما کان ناقصا أعنی تسعة و عشرین یوما، و ربما کانت أشهر متوالیة تامّة أکثرها أربعة، و هذا نادر، و ربما کانت أشهر متوالیة ناقصة أکثرها ثلاثة، و کان یقع حج العرب فی أزمنة السنة کلها، و هو أبدا عاشر ذی الحجة من عهد إبراهیم و إسماعیل علیهما السلام، فإذا انقضی موسم الحج تفرّقت العرب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 61
طالبة أماکنها، و أقام أهل مکة بها، فلم یزالوا علی ذلک دهرا طویلا إلی أن غیروا دین إبراهیم و إسماعیل، فأحبوا أن یتوسعوا فی معیشتهم، و یجعلوا حجهم فی وقت إدراک شغلهم من الأدم و الجلود و الثمار و نحوها، و أن یثبت ذلک علی حالة واحدة فی أطیب الأزمنة، و أخصبها فتعلموا کبس الشهور من الیهود الذین نزلوا یثرب من عهد شمویل نبیّ بنی إسرائیل، و عملوا النسی‌ء قبل الهجرة بنحو مائتی سنة، و کان الذی یلی النسی‌ء یقال له: القلمس یعنی الشریف، و قد اختلف فی أول من أنسأ الشهور منهم فقیل: القلمس هو:
عدیّ بن زید، و قیل: القلمس هو: سریر بن ثعلبة بن الحارث بن مالک بن کنانة، و إنه قال:
أری شهور الأهلة ثلثمائة و أربعة و خمسین یوما، و أری شهور العجم ثلثمائة و خمسة و ستین یوما، فبیننا و بینهم أحد عشر یوما، ففی کل ثلاث سنین ثلاثة و ثلاثون یوما، ففی کل ثلاث سنین شهر، و کان إذا جاءت ثلاث سنین قدّم الحج فی ذی القعدة، فإذا جاءت ثلاث سنین أخر فی المحرّم، و کانت العرب إذا حجت قلّدت الإبل النعال، و ألبستها الجلال، و أشعرتها، فلا یتعرّض لها أحد إلّا خثعم، و کان النسی‌ء فی بنی کنانة، ثم فی بنی ثعلبة بن مالک بن کنانة، و کان الذی یلی ذلک منهم: أبو ثمامة المالکیّ، ثم من بنی فقیم، و بنو فقیم هم النساءة، و هو منسی‌ء الشهور، و کان یقوم علی باب الکعبة، فیقول: إنّ إلهتکم العزی قد أنسأت صفر الأوّل، و کان یحله عاما و یحرّمه عاما، و کان إتباعهم علی ذلک غطفان و هوازن و سلیم و تمیم، و آخر النساءة: جنادة بن عوف بن أمیة بن قلع بن عباد بن حذیفة بن عبد بن فقیم.
و قیل: القلمس هو: حذیفة بن عبد بن فقیم بن عدیّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالک بن کنانة، ثم توارث ذلک منه بنوه من بعده، حتی کان آخرهم الذی قام علیه السلام أبو ثمامة جنادة، و کانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إلیه فأحلّ لهم من الشهور، و حرّم، فأحلوا ما أحلّ و حرّموا ما حرّم، و کان إذا أراد أن ینسئ منها شیئا أحل المحرّم، فأحلوه، و حرّم مکانه صفر فحرّموه لیواطئوا عدّة الأربعة، فإذا أرادوا الهدی اجتمعوا إلیه، فقال: اللهم إنی لا أجاب، و لا أعاب فی أمری و الأمر لما قضیت، اللهم إنی قد أحللت دماء المحلین من طی و خثعم، فاقتلوهم حیث ثقفتموهم أی ظفرتم به، اللهم إنی قد أحللت أحد الصفرین الصفر الأوّل و أنسأت الآخر من العام المقبل، و إنما أحل دم طی و خثعم لأنهم کانوا یعدون علی الناس فی الشهر الحرام من بین جمیع العرب.
و قیل: أوّل من أنسأ سریر بن ثعلبة، و انقرض فأنسأ من بعده ابن أخیه: القلمس و اسمه عدیّ بن عامر بن ثعلبة بن الحرث بن کنانة، ثم صار النسی‌ء فی ولده، و کان آخرهم أبو ثمامة جنادة، و قیل: عوف بن أمیة بن قلع عن أبیه أمیة بن قلع عن جدّه قلع بن عباد عن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 62
جدّ أبیه عباد بن حذیفة عن جدّ جدّه حذیفة بن عبد بن فقیم، و کان یقال لحذیفة القلمس، و هو أوّل من أنسأ الشهور علی العرب، فأحل منها ما أحل و حرّم ما حرّم، ثم کان بعد عوف المذکور ولده أبو ثمامة جنادة بن عوف، و علیه قام الإسلام، و کان أبعدهم ذکرا، و أطولهم أمدا یقال: إنه أنسأ أربعین سنة، و لهم یقول عمیر بن قیس جذل الطعان یفتخر:
و أیّ الناس لم یسبق بوترو أیّ الناس لم یعلک لجاما
ألسنا الناسئین علی معدّشهور الحل نجعلها حراما
و قال آخر:
أ تزعم أنی من فقیم بن مالک‌لعمری لقد غیرت ما کنت أعلم
لهم ناسئ یمشون تحت لوائه‌یحل إذا شاء الشهور و یحرم
و قیل: کانت العرب تکبس فی کل أربع و عشرین سنة قمریة بتسعة أشهر، فکانت شهورهم ثابتة مع الأزمنة جاریة علی سنن واحد لا تتأخر عن أوقاتها، و لا تتقدّم و کان النسی‌ء الأوّل للمحرّم، فسمی صفر باسمه، و شهر ربیع الأوّل باسم صفر، ثم والوا بین أسماء الشهور، فکان النسی‌ء الثانی بصفر، فسمی الذی کان یتلوه بصفر أیضا، و کذلک حتی دار النسی‌ء فی الشهور الاثنی عشر، و عاد إلی المحرّم، فأعادوا فعلهم الأوّل، و کانوا یعدّون أدوار النسی‌ء، و یحدّون بها الأزمنة، فیقولون: قد دارت السنون من لدن زمان کذا إلی زمان کذا: و کذا دورة، فإن ظهر لهم مع ذلک تقدّم شهر عن فصله من الفصول الأربعة لما یجتمع من کسور سنة الشمس بقیة فضل ما بینها، و بین سنة القمر الذی ألحقوه بها کبسوها کبسا ثانیا، و کان یظهر لهم ذلک بطلوع منازل القمر، و سقوطها حتی هاجر النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و کانت نوبة النسی‌ء بلغت شعبان، فسمی: محرّما، و شهر رمضان: صفر، و قیل: إن الناسی‌ء الأوّل نسأ المحرّم، و جعله کبسا، و أخر المحرّم إلی صفر، و صفر إلی ربیع الأوّل، و کذا بقیة الشهور، فوقع لهم فی تلک السنة عاشر المحرّم، و جعل تلک السنة ثلاثة عشر شهرا، و نقل الحج بعد کل ثلاث سنین شهرا فمضی علی ذلک مائتان و عشر سنین، و کان انقضاؤها سنة حجة الوداع، و کان وقوع الحج فی السنة التاسعة من الهجرة عاشر ذی القعدة، و هی السنة التی حج فیها أبو بکر الصدّیق رضی اللّه عنه بالناس، ثم حجر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی السنة العاشرة حجة الوداع لوقوع الحج فیها عاشر ذی الحجة کما کان فی عهد إبراهیم و إسماعیل، و لذلک قال صلّی اللّه علیه و سلّم فی حجته هذه: «إنّ الزمان قد استدار کهیئته یوم خلق اللّه السماوات و الأرض» یعنی رجوع الحج و الشهور إلی الوضع، و أنزل اللّه تعالی إبطال النسی‌ء بقوله تعالی: إِنَّمَا النَّسِی‌ءُ زِیادَةٌ فِی الْکُفْرِ یُضَلُّ بِهِ الَّذِینَ کَفَرُوا یُحِلُّونَهُ عاماً وَ یُحَرِّمُونَهُ عاماً لِیُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَیُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُیِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ [التوبة/ 37] فبطل ما أحدثته الجاهلیة من النسی‌ء، و استمرّ وقوع الحج و الصوم برؤیة الأهلة، و للّه الحمد.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 63
و کانت العرب لها تواریخ معروفة عندها قد بادت، فما کانت تؤرخ به، إنّ کنانة أرخت من موت کعب بن لؤیّ حتی کان عام الفیل، فأرخوا به، و هو عام مولد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و کان بین کعب بن لؤیّ، و الفیل خمسمائة و عشرون سنة، و کان بین الفیل، و بین الفجار أربعون سنة، ثم عدّوا من الفجار إلی وفاة هشام بن المغیرة، فکان ست سنین، ثم عدّوا من وفاة هشام بن المغیرة إلی بنیان الکعبة، فکان تسع سنین، ثم کان بین بنائها، و بین هجرة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم خمس عشرة سنة.
ثم وقع التاریخ من الهجرة النبویة، فعن سعید بن المسیب قال: جمع عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه الناس فسألهم من أیّ یوم یکتب التاریخ؟ فقال علیّ بن أبی طالب:
من یوم هاجر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و ترک أرض الشرک، ففعله عمر، و عن سهل بن سعد الساعدیّ قال: أخطأ الناس فی العدد ما عدّوا من مبعثه، و لا من وفاته إنما عدّوا من مقدمه المدینة، و عن ابن عباس رضی اللّه عنهما قال: کان التاریخ من السنة التی قدم فیها رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم المدینة، و قال قرّة بن خالد عن محمد: کان عند عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه عامل جاء من الیمن فقال لعمر: أما تؤرخون؟ تکتبون فی سنة کذا و کذا من شهر کذا و کذا، فأراد عمر و الناس أن یکتبوا من مبعث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، ثم قالوا: من عند وفاته، ثم أرادوا أن یکون ذلک من الهجرة، ثم قالوا: من أی شهر، فأرادوا أن یکون من رمضان، ثم بدا لهم، فقالوا:
من المحرّم. و قال میمون بن مهران: رفع إلی أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، صکّ محله شعبان، فقال: أیّ شعبان هو؟ أشعبان الذی نحن فیه أو الآتی؟ ثم جمع وجوه الصحابة فقال: إنّ الأموال قد کثرت، و ما قسمنا منها غیر مؤقت، فکیف التوصل إلی ما یضبط به ذلک، فقالوا: یجب أن یعرف ذلک من رسوم الفرس، فعندها استحضر عمر رضی اللّه عنه الهرمزان، و سأله عن ذلک، فقال: إنّ لنا حسابا نسمیه: ماه روز، معناه:
حساب الشهور و الأیام، فعرّبوا الکلمة، و قالوا: مؤرخ، ثم جعلوه اسم التاریخ و استعملوه، ثم طلبوا وقتا یجعلونه أوّلا لتاریخ دولة الإسلام، فاتفقوا علی أن یکون المبدأ من سنة الهجرة، و کانت الهجرة النبویة من مکة إلی المدینة، و قد تصرّم من شهور السنة، و أیامها المحرّم و صفر، و أیام من ربیع الأوّل، فلما عزموا علی تأسیس الهجرة رجعوا القهقری ثمانیة و ستین یوما، و جعلوا التاریخ من أوّل محرّم هذه السنة، ثم أحصوا من أوّل یوم فی المحرّم إلی آخر عمر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، فکان عشر سنین و شهرین، و أما إذا حسب عمره المقدّس من الهجرة حقیقة، فیکون قد عاش صلّی اللّه علیه و سلّم بعدها تسع سنین، و أحد عشر شهرا و اثنین و عشرین یوما، و کان بین مولده صلّی اللّه علیه و سلّم و بین مولد المسیح علیه السلام، خمسمائة و ثمان و سبعون سنة تنقص شهرین و ثمانیة أیام.
و ابتداء تاریخ الهجرة یوم الخمیس أوّل شهر اللّه المحرّم، و بینه و بین الطوفان ثلاثة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 64
آلاف و سبعمائة، و خمس و ثلاثون سنة، و عشرة أشهر و اثنان و عشرون یوما علی ما عرّفناه من الخلاف فی ذلک، و بینه و بین تاریخ الإسکندر بن فیلیبس المقدونیّ الرومیّ: تسعمائة و إحدی و ستون سنة قمریة و أربعة و خمسون یوما لتکون من السنین الشمسیة تسعمائة و اثنتین و ثلاثین سنة، و مائتین و تسعة و ثمانین یوما عنها تسعة أشهر و تسعة عشر یوما، و بینه و بین تاریخ القبط: ثلثمائة و سبع و ثلاثون سنة و تسعة و ثلاثون یوما.
و قال ابن ماشا اللّه : إنّ انتقال المرمن المثلثة الهوائیة التی هی برج الجوزاء دولتها إلی برج السرطان، و مثلثته المائیة التی کانت دولة الإسلام فیها عند تمام ستة آلاف و ثلثمائة و خمس و أربعین سنة و ثلاثة أشهر و عشرین یوما من وقت القران الأوّل الواقع فی بدء التحرّک یعنی خلق آدم علیه السلام، و إن القران من هذه المثلثة وقع فی أربع درج و دقیقة واحدة من برج العقرب، و هو قران الملة الإسلامیة، قال: و فی السنة الثانیة من هذا القران ولد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم و کان بین دخول الشمس برج الحمل فی هذه السنة، و بین أوّل یوم من سنة الهجرة سنون فارسیة عدّتها إحدی و خمسون سنة، و ثلاثة أشهر و ثمانیة أیام و ست عشرة ساعة، فکان من وقت الطوفان إلی وقت قران الملة ثلاثة آلاف و تسعمائة و اثنتا عشرة سنة، و ستة أشهر و أربعة عشر یوما.
و زعمت الیهود أنّ من آدم علیه السلام إلی سنة الهجرة أربعة آلاف و اثنتین و أربعین سنة و ثلاثة أشهر.
و زعمت النصاری أن بینهما خمسة آلاف و تسعمائة و تسعین سنة و ثلاثة أشهر.
و زعمت المجوس أعنی الفرس أن بینهما أربعة آلاف و مائة و اثنتین و ثمانین سنة و عشرة أشهر، و تسعة عشر یوما، و قد عرفت أنّ شهور تاریخ الهجرة قمریة، و أیام کل سنة منها عدّتها ثلثمائة و أربعة و خمسون یوما، و خمس و سدس یوم، و جمیع الأحکام الشرعیة مبنیة علی رؤیة الهلال عند جمیع فرق الإسلام ما عدا الشیعة، فإنّ الأحکام مبنیة عندهم علی عمل شهور السنة بالحساب علی ما ستراه فی ذکر القاهرة و خلفائها، ثم لما احتاج منجمو الإسلام إلی استخراج من لا بدّ منه من معرفة الأهلة، و سمت القبلة، و غیر ذلک بنوا أزیاجهم علی التاریخ العربیّ، و جعلوا شهور السنة العربیة شهرا کاملا، و شهرا ناقصا، و ابتدأوا بالمحرّم اقتداء بالصحابة رضی اللّه عنهم، فجعلوا المحرّم ثلاثین یوما، و صفر تسعة و عشرین یوما، و ربیعا الأوّل ثلاثین یوما، و ربیعا الآخر تسعة و عشرین یوما، و جمادی الأولی ثلاثین یوما، و جمادی الآخرة تسعة و عشرین یوما، و رجب ثلاثین یوما، و شعبان تسعة و عشرین یوما، و رمضان ثلاثین یوما، و شوّالا تسعة و عشرین یوما، و ذا القعدة ثلاثین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 65
یوما، و ذا الحجة تسعة و عشرین یوما، و زادوا من أجل کسر الیوم الذی هو خمس و سدس یوما فی ذی الحجة إذا صار هذا الکسر أکثر من نصف یوم، فیکون شهر ذی الحجة فی تلک السنة ثلاثین یوما، و یسمون تلک السنة کبیسة، و یصیر عددها ثلثمائة و خمسة و خمسین یوما، و یجتمع فی کل ثلاثین من الکبس أحد عشر یوما، و اللّه أعلم.
و أما تاریخ الفرس، و یعرف أیضا بتاریخ یزدجرد، فإنه من ابتداء تملک یزدجرد بن شهربار بن کسری أبرویز، أرخ به الفرس من أجل أن یزدجرد قام فی المملکة بعد ما تبدّد ملک فارس، و استولی علیه النساء، و المتغلبون، و هو أیضا آخر ملوک فارس، و بقتله تمزق ملکهم، و أوّل هذا التاریخ یوم الثلاثاء، و بینه و بین تاریخ الهجرة تسع سنین، و ثلثمائة و ثمانیة و ثلاثون یوما، و أیام سنة هذا التاریخ تنقص عن السنة الشمسیة ربع یوم، فیکون فی کل مائة و عشرین سنة شهرا واحدا، و لهم فی کبس السنة آراء لیس هذا موضع إیرادها، و علی هذا التاریخ یعتمد فی زمننا أهل العراق و بلاد العجم، و للّه عاقبة الأمور.

ذکر فسطاط مصر

اشارة

قال الجوهریّ: الفسطاط بیت من شعر، قال: و منه فسطاط مدینة مصر، إعلم: أن فسطاط مصر اختط فی الإسلام بعد ما فتحت أرض مصر، و صارت دار إسلام، و قد کانت بید الروم، و القبط و هم نصاری ملکانیة، و یعقوبیة و میانیة، و حین اختط المسلمون الفسطاط انتقل کرسیّ المملکة من مدینة الإسکندریة بعد ما کانت منزل الملک، و دار الإمارة زیادة علی تسعمائة سنة، و صار من حینئذ الفسطاط دار إمارة ینزل به أمراء مصر، فلم یزل علی ذلک حتی بنی العسکر بظاهر الفسطاط، فنزل فیه أمراء مصر، و سکنوه، و ربما سکن بعضهم الفسطاط، فلما أنشأ الأمیر أبو العباس أحمد بن طولون القطائع بجانب العسکر سکن فیها، و اتخذها الأمراء من بعده منزلا إلی أن انقرضت دولة بنی طولون، فصار أمراء مصر من بعد ذلک ینزلون بالعسکر خارج الفسطاط، و ما زالوا علی ذلک حتی قدمت عساکر الإمام المعز لدین اللّه أبی تمیم معدّ الفاطمیّ مع کاتبه جوهر القائد، فبنی القاهرة، و صارت خلافة، و استمرّ سکنی الرعیة بالفسطاط، و بلغ من وفور العمارة، و کثرة الخلائق، ما أربی علی عامّة مدن المعمور حاشا بغداد، و ما زال علی ذلک، حتی تغلب الفرنج علی سواحل البلاد الشامیة، و نزل مخری ملک الفرنج بجموعه الکثیرة علی برکة الحبش یرید الاستیلاء علی مملکة مصر، و أخذ الفسطاط و القاهرة، فعجز الوزیر شاور ابن مجیر السعدیّ عن حفظ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 66
البلدین معا، فأمر الناس بإخلاء مدینة الفسطاط، و اللحاق بالقاهرة للامتناع من الفرنج، و کانت القاهرة إذ ذاک من الحصانة، و الامتناع بحیث لا ترام، فارتحل الناس من الفسطاط، و ساروا بأسرهم إلی القاهرة، و أمر شاور، فألقی العبید النار فی الفسطاط، فلم تزل به بضعا و خمسین یوما حتی احترقت أکثر مساکنه، فلما رحل مری عن القاهرة، و استولی شیرکوه علی الوزارة تراجع الناس إلی الفسطاط، و رموا بعض شعثه، و لم یزل فی نقص و خراب إلی یومنا هذا، و قد صار الفسطاط یعرف فی زمننا بمدینة مصر، و اللّه أعلم.

ذکر ما کان علیه موضع الفسطاط قبل الإسلام إلی أن اختطه المسلمون مدینة

اعلم: أنّ موضع الفسطاط الذی یقال له الیوم: مدینة مصر کان فضاء و مزارع فیما بین النیل، و الجبل الشرقیّ الذی یعرف بالجبل المقطم، لیس فیه من البناء، و العمارة سوی حصن یعرف الیوم بعضه: بقصر الشمع، و بالمعلقة ینزل به شحنة الروم المتولی علی مصر من قبل القیاصر ملوک الروم عند مسیره من مدینة الإسکندریة، و یقیم فیه ما شاء، ثم یعود إلی دار الإمارة، و منزل الملک من الإسکندریة، و کان هذا الحصن مطلا علی النیل، و تصل السفن فی النیل إلی بابه الغربیّ الذی کان یعرف بباب الحدید، و منه رکب المقوقس فی السفن فی النیل من بابه الغربیّ حین غلبه المسلمون علی الحصن المذکور، و صار فیه إلی الجزیرة التی تجاه الحصن، و هی التی تعرف الیوم: بالروضة قبالة مصر، و کان مقیاس النیل بجانب الحصن.
و قال ابن المتوّج: و عمود المقیاس موجود فی زقاق مسجد ابن النعمان قلت: و هو باق إلی یومنا هذا، أعنی سنة عشرین و ثمانمائة، و کان هذا الحصن لا یزال مشحونا بالمقاتلة، و سیرد فی هذا الکتاب خبره إن شاء اللّه تعالی، و کان بجوار هذا الحصن من بحریه، و هی الجهة الشمالیة أشجار و کروم صار موضعها الجامع العتیق، و فیما بین الحصن و الجبل عدّة کنائس، و دیارات للنصاری فی الموضع الذی یعرف الیوم براشدة، و بجانب الحصن فیما بین الکروم التی کانت بجانبه، و بین الجرف الذی یعرف الیوم: بجبل یشکر، حیث جامع ابن طولون، و الکبش عدّة کنائس، و دیارات للنصاری فی الموضع الذی کان یعرف فی أوائل الإسلام بالحمراء، و عرف الآن بخط قناطر السباع و السبع سقایات، و بقی بالحمراء عدّة من الدیارات إلی أن هدمت فی سلطنة الملک الناصر محمد بن قلاون علی ما ذکر فی هذا الکتاب عند ذکر کنائس النصاری، فلما افتتح عمرو بن العاص مدینة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 67
الإسکندریة الفتح الأوّل نزل بجوار هذا الحصن، و اختط الجامع المعروف بالجامع العتیق، و بجامع عمرو بن العاص، و اختطت قبائل العرب من حوله، فصارت مدینة عرفت بالفسطاط، و نزل الناس بها، فانحسر بعد الفتح بأعوام ماء النیل عن أرض تجاه الحصن و الجامع العتیق، فصار المسلمون یوقفون هناک دوابهم، ثم اختطوا فیه المساکن شیئا بعد شی‌ء، و صار ساحل البلد حیث الموضع الذی یقال له الیوم فی مصر: المعاریج مارّا إلی الکوم الذی علی یسرة الداخل من باب مصر بحدّ الکبارة، و فی موضع هذا الکوم کانت الدور المطلة علی النیل، و یمرّ الساحل من باب مصر المذکور إلی حیث بستان ابن کیسان الذی یعرف الیوم: ببستان الطواشی فی أوّل مراغة مصر، و جمیع الأماکن التی تعرف الیوم:
بمراغة مصر و بالجرف إلی الخلیج عرضا، و من حیث قنطرة السدّ إلی سوق المعاریج طولا، کان غامرا بماء النیل إلی أن انحسر عنه ماء النیل بعد سنة ستمائة من سنی الهجرة، فصار رملة، ثم اختط فیه الأمراء مما یلی النیل آدرا عند ما عمر الملک الصالح نجم الدین أیوب قلعة الروضة، و اختط بعضه شونا إلی أن أنشأ الملک الناصر محمد بن قلاون جامعه المعروف بالجامع الجدید الناصری ظاهر مصر، فعمر ما حوله، و قد کان عند فتح مصر سائر المواضع التی من منشأة المهرانیّ إلی برکة الحبش طولا، و من ساحل النیل بموردة الحلفاء، و تجاه الجامع الجدید إلی سوق المعاریج، و ما علی سمته إلی تجاه المشهد الذی یقال له: مشهد الراس، و تسمیه العامّة الیوم: مشهد زین العابدین کلها بحرا لا یحول بین الحصن و الجامع، و ما علی سمتهما إلی الحمراء الدنیا التی منها الیوم: خط قناطر السباع، و بین جزیرة مصر التی تعرف الیوم: بالروضة شی‌ء سوی ماء النیل، و جمیع ما فی هذه المواضع من الأبنیة انکشف عنه النیل قلیلا قلیلا، و اختط علی ما یتبین لک فی هذا الکتاب.

ذکر الحصن الذی یعرف بقصر الشمع

اعلم: أن هذا القصر أحدث بعد خراب مصر علی ید بخت نصر، و قد اختلف فی الوقت الذی بنی فیه، و من أنشأه من الملوک، فذکر الواقدیّ: أن الذی بناه اسمه: الریان بن الولید بن أرسلاوس، و کان هذا القصر یوقد علیه الشمع فی رأس کل شهر، و ذلک أنه إذا حلّت الشمس فی برج من البروج أوقد فی تلک اللیلة الشمع علی رأس ذلک القصر، فیعلم الناس بوقود الشمع أنّ الشمس انتقلت من البرج الذی کانت فیه إلی برج آخر غیره، و لم یزل القصر علی حاله، إلی أن خربت مصر زمن بخت نصر بن نیروز الکلدانیّ، فأقام خرابا خمسمائة سنة، و لم یبق منه إلا أثره فقط، فلما غلب الروم علی مصر، و ملکوها من أیدی الیونانیین، ولی مصر من قبلهم رجل یقال له: أرجالیس بن مقراطیس فبنی القصر علی ما وجد من أساسه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 68
و قال ابن سعید: و صارت مصر و الشام بعد بخت نصر فی مملکة الفرس، فولیها منهم: کشرجوش الفارسیّ بانی قصر الشمع، و بعده طخارست الطویل الولایة، و توالت بعده نوّاب الفرس إلی ظهور الإسکندر، و قال غیره: إن الذی بناه طخشاشت أحد ملوک الفرس عند ما سار لمحاربة أهل مصر، فلما غلب قسطو ملک مصر الذی یعرف بفرعون سابان، و فرّ منه إلی مقدونیة غلب علی ملک مصر، و استولی علیها و بنی للفرس قصرا، و جعل فیه بیت نار علی شاطی‌ء النیل الشرقیّ، و عرف بقصر الشمع لأنه کان له باب یقال له: باب الشمع، و جعل فی القصر بیت نار و هو باق.
و قال ابن عبد الحکم عن اللیث بن سعد: و کانت الفرس قد أسست بناء الحصن الذی یقال له: باب الیون ، و هو الحصن الذی بفسطاط مصر الیوم، فلما انکشفت جموع فارس عن الروم، و أخرجتهم الروم من الشام أتمت بناء ذلک الحصن، و أقامت به، فلم تزل مصر فی ملک الروم حتی فتحها اللّه تعالی علی المسلمین قال: و کان أبو الأسود نصر بن عبد الجبار یقولها بالمیم، یعنی باب الیوم، و یقال: إنما سمی کذا لأنهم کانوا یقولون: من یقاتل الیوم.
و قال القضاعیّ: ذکر الحصن المعروف بقصر الشمع یقال: إن فارس لما ظهرت علی الروم و ملکت علیهم الشام، و ملکت مصر بدأت ببناء هذا القصر، و بنت فیه هیکلا لبیت النار، و لم یتم بناؤه علی أیدیهم إلی أن ظهرت الروم علیهم، فتممت بناءه و حصنته، و لم تزل فیه إلی حین الفتح، و هیکل الناس هو القبة المعروفة الیوم بقبة الدخان، و بحضرتها مسجد معلق أحدثه المسلمون.
و قال أبو عبید البکریّ: باب الیون بمصر إن کان عربیا، فإنه مثل یوم، و یوح مما فاؤه یاء، و عینه واو، و قد یجوز أن یکون فعلا من بین، و هو اسم موضع علی مذهب أبی الحسن فی فعل من البیع بوع قال: و لیست الألف و اللام فیه للتعریف، فعلی هذا یجب أن تثبت فی الرسم. و قال أبو صخر:
و حلوا تهامی أرضنا و تبدّلوابمکة باب الیون و الربط بالعصب
و الروایة فی شعر کثیر عزّة فی قوله:
جری بین باب الیون و العصب دونه‌ریاح أشفت بالنقی و أشمت
بالباء، و بفتح النون غیر مجرور للعجمة علی أن همزته مقطوعة، وصلها للضرورة. و قال الحازمیّ: باب البون بالباء اسم مدینة مصر فتحها المسلمون، و سموها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 69
الفسطاط، و قال عبد الملک بن هشام بابلیون المنسوب إلیه مصر هو: بابلیون بن سبا بن یشجب بن یعرب بن قحطان و أن من ولده عمرو بن امرئ القیس بن بابلیون بن سبا، و هو الملک علی مصر لما قدم إلیها إبراهیم خلیل الرحمن صلوات اللّه علیه، و القبط تسمی عمرا هذا: طوطیس، و من ولده حلوان بن بابلیون بن عمرو بن امرئ القیس، و به سمیت حلوان.
و قال القاضی القضاعیّ: فی ظاهر الفسطاط القصر المعروف بباب لیون بالشرف، لیون اسم بلد مصر بلغة السودان و الروم، و قد بقیت من بنائه بقیة مبنیة بالحجارة علی طرف الجبل بالشرف، و علیه الیوم مسجد.
قال المؤلف: فهذا کما تری صریح فی أن قصر باب الیون غیر قصر الشمع، فإنّ قصر الشمع فی داخل الفسطاط، و قصر باب الیون هذا عند القضاعیّ علی الجبل المعروف بالشرف، و الشرف خارج الفسطاط، و هو خلاف ما قاله ابن عبد الحکم فی کتاب فتوح مصر، و اللّه أعلم. و یقال: إنّ فی زمن ناحور بن شاروع، و هو الثامن عشر من آدم ملک مصر رجل اسمه: أفطوطس مدّة اثنتین و ثلاثین سنة، و أنه أوّل من أظهر علم الحساب و السحر، و حمل کتب ذلک من بلاد الکلدانیین إلی مصر، و فی ذلک الزمان بنیت بابلیون علی بحر النیل بمصر، و ذلک لتمام ثلاثة آلاف و ثلثمائة و تسعین للعالم، و قال ابن سعید فی کتاب المعرب: و أما فسطاط مصر، فإنّ مبانیها کانت فی القدیم متصلة بمبانی مدینة عین شمس، و جاء الإسلام، و بها بناء یعرف: بالقصر حوله مساکن، و علیه نزل عمرو بن العاص، و ضرب فسطاطه حیث المسجد الجامع المنسوب إلیه، و هذا و هم من ابن سعید، فإنّ فسطاط عمرو إنما کان مضروبا عند درب حمام شموط بخط الجامع هکذا هو بخط الشریف محمد بن أسعد الجوانی النسابة، و هو أقعد بخطط مصر، و أعرف من ابن سعید، و أما موضع الجامع، فکان کروما و جنانا، و حاز موضعه قیسبة التجیبیّ، ثم تصدّق به علی المسلمین، فعمل المسجد، و ستقف علی هذا إن شاء اللّه تعالی فی ذکر جامع عمرو عند ذکر الجوامع من هذا الکتاب.
و قال ابن المتوّج: خط قصر الشمع هذا الخط یعرف بقصر الشمع، و فیه قصر الروم و فیه أزقة و دروب، قال: و کنیسة المعلقة بمصر بباب القصر، و هو قصر الروم.
و قال ابن عبد الحکم: و أقرّ عمرو بن العاص القصر لم یقسمه و وقفه.
و قال أبو عمرو الکندیّ فی کتاب الأمراء: و قد ذکر قیام علیّ بن محمد بن عبد اللّه بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 70
الحسن بن علیّ بن أبی طالب، و طروق المسجد فی إمارة یزید بن حاتم بن قبیصة بن المهلب بن أبی صفرة علی مصر، و ورد کتاب أبی جعفر المنصور علی یزید بن حاتم یأمره بالتحوّل من العسکر إلی الفسطاط، و أن یجعل الدیوان فی کنائس القصر، و ذلک فی سنة ست و أربعین و مائة، و اللّه أعلم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 71

ذکر حصار المسلمین للقصر و فتح مصر

اشارة

اختلف الناس فی فتح مصر، فقال محمد بن إسحاق، و أبو معشر، و محمد بن عمرو الواقدیّ، و یزید بن أبی حبیب، و أبو عمرو الکندیّ: فتحت سنة عشرین، و قال سیف بن عمر: فتحت سنة ست عشرة، و قیل: فتحت سنة ست و عشرین، و قیل: سنة إحدی و عشرین، و قیل: سنة اثنتین و عشرین، و الأوّل أصح و أشهر.
قال ابن عبد الحکم: لما قدم عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، الجابیة قام إلیه عمرو بن العاص، فخلا به، فقال: یا أمیر المؤمنین ائذن لی أن أسیر إلی مصر، و حرّضه علیها، و قال: إنک إن فتحتها کانت قوّة للمسلمین، و عونا لهم، و هی أکثر الأرض أموالا، و أعجز عن القتال و الحرب.
فتخوّف عمر بن الخطاب، و کره ذلک، فلم یزل عمرو یعظم أمرها عند عمر بن الخطاب، و یخبره بحالها، و یهوّن علیه فتحها حتی رکن لذلک، فعقد له علی أربعة آلاف رجل، کلّهم من عک، و یقال: بل ثلاثة آلاف و خمسمائة، و قال له عمر: سر و أنا مستخیر اللّه فی مسیرک، و سیأتیک کتابی سریعا إن شاء اللّه تعالی، فإن أدرکک کتابی آمرک فیه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها، أو شیئا من أرضها، فانصرف، و إن أنت دخلتها قبل أن یأتیک کتابی فامض لوجهک، و استعن بالله و استنصره.
فسار عمرو بن العاص من جوف اللیل، و لم یشعر به أحد من الناس، و استخار عمر اللّه، فکأنه تخوّف علی المسلمین فی وجههم ذلک، فکتب إلی عمرو بن العاص أن ینصرف بمن معه من المسلمین، فأدرک عمرا الکتاب إذ هو برفج فتخوّف عمرو إن هو أخذ الکتاب، و فتحه أن یجد فیه الانصراف کما عهد إلیه عمر، فلم یأخذ الکتاب من الرسول، و دافعه و سار کما هو حتی نزل قریة فیما بین رفج و العریش، فسأل عنها فقیل: إنها من مصر، فدعا بالکتاب فقرأه علی المسلمین، فقال عمرو لمن معه: أ لستم تعلمون أنّ هذه القریة من مصر؟ قالوا: بلی، قال: فإنّ أمیر المؤمنین عهد إلیّ، و أمرنی إن لحقنی کتابه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 72
و لم أدخل أرض مصر أن أرجع، و لم یلحقنی کتابه حتی دخلنا أرض مصر، فسیروا، و امضوا علی برکة اللّه.
و یقال: بل کان عمرو بفلسطین، فتقدّم عمرو بأصحابه إلی مصر بغیر إذن، فکتب فیه إلی عمر رضی اللّه عنه، فکتب إلیه عمر و هو دون العریش، فحبس الکتاب فلم یقرأه حتی بلغ العریش، فقرأه فإذا فیه من عمر بن الخطاب إلی العاصی ابن العاصی: أما بعد، فإنک سرت إلی مصر، و من معک و بها جموع الروم، و إنما معک نفر یسیر، و لعمری لو نکل بک ما سرت بهم، فإن لم تکن بلغت مصر، فارجع. فقال عمرو: الحمد للّه أیة أرض هذه؟
قالوا: من مصر فتقدّم کما هو، و یقال: بل کان عمرو فی جنده علی قیساریة مع من کان بها من أجناد المسلمین، و عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه إذ ذاک بالجابیة، فکتب سرّا فاستأذن أن یسیر إلی مصر، و أمر أصحابه، فتنحوا کالقوم الذین یریدون أن یتنحوا من منزل إلی منزل قریب، ثم سار بهم لیلا، فلما فقده أمراء الأجناد استنکروا الذی فعل، و رأوا أن قد غدر، فرفعوا ذلک إلی عمر بن الخطاب، فکتب إلیه عمر إلی العاصی ابن العاصی: أما بعد، فإنک قد غررت بمن معک، فإن أدرکک کتابی، و لم تدخل مصر فارجع، و إن أدرکک، و قد دخلت فامض، و اعلم أنّی ممدّک.
و یقال: إنّ عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، کتب إلی عمرو بن العاص بعد ما فتح الشام: أن اندب الناس إلی المسیر معک إلی مصر، فمن خف معک فسر به، و بعث به مع شریک بن عبدة، فندبهم عمرو، فأسرعوا إلی الخروج مع عمرو، ثم إنّ عثمان بن عفان رضی اللّه عنه دخل علی عمر بن الخطاب، فقال عمر: کتبت إلی عمرو بن العاص یسیر إلی مصر من الشام، فقال عثمان: یا أمیر المؤمنین إنّ عمر لجری‌ء و فیه إقدام و حبّ للإمارة، فأخشی أن یخرج فی غیر ثقة و لا جماعة، فیعرّض المسلمین للهلکة رجاء فرصة لا یدری تکون أم لا؟ فندم عمر علی کتابه إلی عمرو، و أشفق مما قال عثمان، فکتب إلیه: إن أدرکک کتابی قبل أن تدخل إلی مصر، فارجع إلی موضعک، و إن کنت دخلت، فامض لوجهک.
فلما بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلی مصر توجه إلی موضع الفسطاط، فکان یجهز علی عمرو الجیوش، و کان علی القصر رجل من الروم یقال له: الأعیرج، والیا علیه، و کان تحت المقوقس، و أقبل عمرو حتی إذا کان بجبل الجلال نفرت معه راشدة، و قبائل من لخم فتوجه عمرو حتی إذا کان بالعریش أدرکه النحر، فضحی عن أصحابه یومئذ بکبش، و تقدّم، فکان أوّل موضع قوتل فیه الفرما قاتلته الروم قتالا شدیدا نحوا من شهر، ثم فتح
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 73
2 للّه علیه، و کان عبد اللّه بن سعد علی میمنة عمرو منذ توجه من قیساریة إلی أن فرغ من حربه، و کان بالإسکندریة أسقف للقبط یقال له: أبو میامین، فلما بلغه قدوم عمرو إلی مصر کتب إلی القبط یعلمهم أنه لا یکون للروم دولة، و إنّ ملکهم قد انقطع، و یأمرهم بتلقی عمرو.
فیقال: إنّ القبط الذین کانوا بالفرما کانوا یومئذ لعمرو أعوانا، ثم توجه عمرو لا یدافع إلا بالأمر الخفیف، حتی نزل القواصر، فسمع رجل من لخم نفرا من القبط یقول بعضهم لبعض: أ لا تعجبون من هؤلاء القوم یقدمون علی جموع الروم، و إنما هم فی قلة من الناس، فأجابه رجل منهم فقال: إن هؤلاء القوم لا یتوجهون إلی أحد إلّا ظهروا علیه، حتی یقتلوا خیرهم، و تقدّم عمرو لا یدافع إلا بالأمر الخفیف حتی أتی بلبیس فقاتلوه بها نحوا من الشهر حتی فتح اللّه علیه، ثم مضی لا یدافع إلا بالأمر الخفیف، حتی أتی أم دنین ، فقاتلوه بها قتالا شدیدا، و أبطأ علیه الفتح، فکتب إلی عمر یستمدّه فأمدّه بأربعة آلاف تمام ثمانیة آلاف، و قیل: بل أمدّه باثنی عشر ألفا، فوصلوا إلیه أرسالا یتبع بعضهم بعضا.
فکان فیهم أربعة آلاف علیهم أربعة: الزبیر بن العوّام، و المقداد بن الأسود، و عبادة بن الصامت، و مسلمة بن مخلد. و قیل: إنّ الرابع: خارجة بن حذافة دون مسلمة، ثم أحاط المسلمون بالحصن، و أمیره یومئذ المندقور الذی یقال له: الأعیرج من قبل المقوقس بن قرقت الیونانیّ، و کان المقوقس ینزل الإسکندریة و هو فی سلطان هرقل غیر أنه کان حاضرا لحصن حین حاصره المسلمون، فقاتل عمرو بن العاص من بالحصن، و جاء رجل إلی عمرو فقال: اندب معی خیلا حتی آتی من دیاراتهم عند القتال، فأخرج معه خمسمائة فارس علیهم: خارجة بن حذافة فی قول، فساروا من وراء الجبل حتی دخلوا مغار بنی وائل قبل الصبح، و کانت الروم قد خندقوا خندقا، و جعلوا له أبوابا، و بنوا فی أفنیتها حسک الحدید، فالتقی القوم حین أصبحوا، و خرج خارجة من ورائهم، فانهزموا حتی دخلوا الحصن، و کانوا قد خندقوا حوله، فنزل عمرو علی الحصن، و قاتلهم قتالا شدیدا یصبحهم و یمسیهم، و قیل: إنه لما أبطأ الفتح علی عمرو کتب إلی عمر بن الخطاب یستمدّه، و یعلمه بذلک، فأمدّه بأربعة آلاف رجل علی کل ألف رجل منهم مقام الألف الزبیر بن العوّام، و المقداد بن عمرو، و عبادة بن الصامت، و مسلمة بن مخلد، و قیل: بل خارجة بن حذافة لا یعدّون مسلمة. و قال عمر: إعلم أنّ معک اثنی عشر ألفا، و لا تغلب اثنا عشر ألفا من قلة.
و قیل: قدم الزبیر فی اثنی عشر ألفا، و إن عمرا لما قدم من الشام کان فی عدّة قلیلة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 74
فکان یفرّق أصحابه لیری العدوّ أنهم أکثر مما هم، فلما انتهی إلی الخندق نادوه أن قد رأینا ما صنعت، و إنما معک من أصحابک کذا و کذا، فلم یخطئوا برجل واحد، فأقام عمرو علی ذلک أیاما یغدو فی السحر، فیصف أصحابه علی أفواه الخندق علیهم السلاح، فبینا هو علی ذلک إذ جاءه خبر الزبیر بن العوام، أنه قدم فی اثنی عشر ألفا، فتلقاه عمرو، ثم أقبلا یسیران، ثم لم یلبث الزبیر أن رکب، ثم طاف بالخندق، ثم فرّق الرجال حول الخندق، و ألح عمرو علی القصر، و وضع علیه المنجنیق، و دخل عمرو إلی صاحب الحصن، فتناظرا فی شی‌ء مما هم فیه، فقال عمرو: أخرج و أستشیر أصحابی، و قد کان صاحب الحصن أوصی الذی علی الباب إذا مرّ به عمرو أن یلقی علیه صخرة فیقتله، فمرّ عمرو، و هو یرید الخروج برجل من العرب، فقال له: قد دخلت، فانظر کیف تخرج؟ فرجع عمرو إلی صاحب الحصن، فقال له: إنی أرید أن آتیک بنفر من أصحابی حتی یسمعوا منک مثل الذی سمعت، فقال العلج فی نفسه: قتل جماعة أحب إلیّ من قتل واحد.
و أرسل إلی الذی کان أمره بما أمره به من قتل عمرو أن لا یتعرّض له، رجاء أن یأتیه بأصحابه، فیقتلهم، فخرج عمرو و عبادة بن الصامت فی ناحیة یصلی و فرسه عنده، فرآه قوم من الرّوم، فخرجوا إلیه، و علیهم حلیة و بزة، فلما دنوا منه سلّم من صلاته، و وثب علی فرسه، ثم حمل علیهم، فلما رأوه ولّوا راجعین فأتبعهم، فجعلوا یلقون مناطقهم و متاعهم، لیشغلوه بذلک عن طلبهم، و هو لا یلتفت إلیه حتی دخلوا الحصن، و رمی عبادة من فوق الحصن بالحجارة، فرجع، و لم یتعرّض لشی‌ء مما طرحوا من متاعهم حتی رجع إلی موضعه الذی کان به، فاستقبل الصلاة، و خرج الروم إلی متاعهم یجمعونه، فلما أبطأ الفتح علی عمرو قال الزبیر: إنی أهب اللّه نفسی، أرجو أن یفتح اللّه بذلک علی المسلمین، فوضع سلّما إلی جانب الحصن من ناحیة سوق الحمام، ثم صعد، فأمرهم إذا سمعوا تکبیره أن یجیبوه جمیعا، فما شعروا إلّا و الزبیر علی رأس الحسن یکبر، و معه السیف، و تحامل الناس علی السلم، حتی نهاهم عمرو خوفا من أن ینکسر، و کبر الزبیر، فکبرت الناس معه، و أجابهم المسلمون من خارج، فلم یشک أهل الحصن أن العرب قد اقتحموا جمیعا، فهربوا، و عمد الزبیر و أصحابه إلی باب الحصن، ففتحوه، و اقتحم المسلمون الحصن، فخاف المقوقس علی نفسه، و من معه.
فحینئذ سأل عمرو بن العاص الصلح، و دعاه إلیه علی أن یفرض للعرب علی القبط دینارین علی کل رجل منهم، فأجابه عمرو إلی ذلک و کان مکثهم علی باب القصر حتی فتحوه سبعة أشهر، قال: و قد سمعت فی فتح القصر وجها آخر، هو أنّ المسلمین لما حصروا باب الیون کان به جماعة من الروم، و أکابر القبط و رؤسائهم، و علیهم المقوقس، فقاتلوهم شهرا، فلما رأی القوم الجدّ من العرب علی فتحه و الحرص، و رأوا من صبرهم علی القتال، و رغبتهم فیه خافوا أن یظهروا علیهم، فتنحی المقوقس و جماعة من أکابر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 75
القبط، و خرجوا من باب القصر القبلیّ، و دونهم جماعة یقاتلون العرب، فلحقوا بالجزیرة موضع الصناعة، و أمروا بقطع الجسر، و ذلک فی جری النیل.
و یقال: إنّ الأعیرج تخلف فی الحصن بعد المقوقس، و قیل: خرج معهم، فلما خاف فتح الحصن رکب هو و أهل القوّة و الشرف، و کانت سفنهم ملصقة بالحصن، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزیرة، فأرسل المقوقس إلی عمرو: إنکم قوم قد ولجتم فی بلادنا، و ألححتم علی قتالنا و طال مقامکم فی أرضنا، و إنما أنتم عصبة یسیرة، و قد أظلتکم الروم، و جهزوا إلیکم، و معهم من العدة و السلاح، و قد أحاط بکم هذا النیل، و إنما أنتم أساری فی أیدینا، فابعثوا إلینا رجالا منکم نسمع من کلامهم، فلعله أن یأتی الأمر فیما بیننا و بینکم علی ما تحبون و نحب، و ینقطع عنا و عنکم القتال قبل أن تغشاکم جموع الروم، فلا ینفعنا الکلام، و لا نقدر علیه، و لعلکم أن تندموا إن کان الأمر مخالفا لطلبتکم، و رجائکم فابعثوا إلینا رجالا من أصحابکم نعاملهم علی ما نرضی نحن و هم به من شی‌ء.
فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس، حبسهم عنده یومین و لیلتین، حتی خاف علیهم المقوقس، فقال لأصحابه: أ ترون أنهم یقتلون الرسل، و یستحلون ذلک فی دینهم؟
و إنما أراد عمرو بذلک أن یروا حال المسلمین فردّ علیهم عمرو مع رسله، أنه لیس بینی و بینکم إلّا إحدی ثلاث خصال: إما أن دخلتم فی الإسلام، فکنتم إخواننا، و کان لکم ما لنا، و إن أبیتم فأعطیتم الجزیة عن ید و أنتم صاغرون، و إما أن جاهدناکم بالصبر و القتال حتی یحکم اللّه بیننا و بینکم، و هو خیر الحاکمین، فلما جاءت رسل المقوقس إلیه، قال:
کیف رأیتم هؤلاء؟ قالوا: رأینا قوما الموت أحب إلی أحدهم من الحیاة، و التواضع أحب إلی أحدهم من الرفعة، لیس لأحدهم فی الدنیا رغبة، و لا نهمة، إنما جلوسهم علی التراب، و أکلهم علی رکبهم، و أمیرهم کواحد منهم ما یعرف رفیعهم من وضیعهم، و لا السید منهم من العبد، و إذا حضرت الصلاة لم یتخلف عنها منهم أحد یغسلون أطرافهم بالماء، و یخشعون فی صلاتهم، فقال عند ذلک المقوقس: و الذی یحلف به لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، و ما یقوی علی قتال هؤلاء أحد، و لئن لم نغتنم صلحهم الیوم، و هم محصورون بهذا النیل لم یجیبوا بعد الیوم إذ أمکنتهم الأرض، وقووا علی الخروج من موضعهم، فردّ إلیهم المقوقس رسله: ابعثوا إلینا رسلا منکم نعاملهم، و نتداعی نحن و هم إلی ما عساه أن یکون فیه صلاح لنا و لکم.
فبعث عمرو بن العاص: عشرة نفر، أحدهم: عبادة بن الصامت، و کان طوله عشرة أشبار، و أمره أن یکون متکلم القوم، و لا یجیبهم إلی شی‌ء دعوه إلیه إلّا إحدی هذه الثلاث خصال، فإن أمیر المؤمنین قد تقدّم إلیّ فی ذلک، و أمرنی أن لا أقبل شیئا سوی خصلة من هذه الثلاث خصال، و کان عبادة أسود، فلما رکبوا السفن إلی المقوقس، و دخلوا علیه تقدّم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 76
عبادة، فهابه المقوقس لسواده، و قال: نحوا عنی هذا الأسود، و قدّموا غیره یکلمنی، فقالوا جمیعا: إنّ هذا الأسود أفضلنا رأیا و علما، و هو سیدنا و خیرنا، و المقدّم علینا، و إنما نرجع جمیعا إلی قوله و رأیه، و قد أمره الأمیر دوننا بما أمره، و أمرنا أن لا نخالف رأیه و قوله، قال: و کیف رضیتم أن یکون هذا الأسود أفضلکم، و إنما ینبغی أن یکون هو دونکم؟ قالوا:
کلا إنه و إن کان أسود کما تری فإنه من أفضلنا موضعا و أفضلنا سابقة و عقلا و رأیا، و لیس ینکر السواد فینا، فقال المقوقس لعبادة: تقدّم یا أسود، و کلمنی برفق، فإنی أهاب سوادکم و إن اشتدّ کلامک علیّ ازددت لک هیبة، فتقدّم علیه عبادة، فقال:
قد سمعت مقالتک، و إنّ فیمن خلفت من أصحابی ألف رجل أسود کلهم أشدّ سوادا منی و أفظع منظرا، و لو رأیتهم لکنت أهیب لهم منک لی، و أنا قد ولّیت و أدبر شبابی، و إنی مع ذلک بحمد اللّه، ما أهاب مائة رجل من عدوّی لو استقبلونی جمیعا، و کذلک أصحابی، و ذلک إنما رغبتنا و همتنا الجهاد فی اللّه، و إتباع رضوانه، و لیس غزونا عدوّنا ممن حارب اللّه لرغبة فی دنیا، و لا طلب للاستکثار منها إلا أنّ اللّه عز و جل، قد أحل لنا ذلک، و جعل ما غنمنا من ذلک حلالا، و ما یبالی أحدنا إن کان له قنطار من ذهب أم کان لا یملک إلا درهما، لأنّ غایة أحدنا من الدنیا أکلة یأکلها یسدّ بها جوعه للیلة و نهاره و شملة یلتحفها، فإن کان أحدنا لا یملک إلا ذلک کفاه، و إن کان له قنطار من ذهب أنفقه فی طاعة اللّه، و اقتصر علی هذا الذی بیده، و یبلغه ما کان فی الدنیا لأن نعیم الدنیا لیس بنعیم، و رخاءها لیس برخاء، إنما النعیم و الرخاء فی الآخرة، و بذلک أمرنا اللّه، و أمرنا به نبینا، و عهد إلینا أن لا تکون همة أحدنا من الدنیا إلّا ما یمسک جوعته، و یستر عورته، تکون همته و شغله فی رضوانه و جهاد عدوّه.
فلما سمع المقوقس ذلک منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل کلام هذا الرجل قط؟
لقد هبت منظره، و إنّ قوله لأهیب عندی من منظره، إنّ هذا و أصحابه أخرجهم اللّه لخراب الأرض ما أظنّ ملکهم إلّا سیغلب علی الأرض کلها، ثم أقبل المقوقس علی عبادة بن الصامت، فقال له: أیها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتک، و ما ذکرت عنک و عن أصحابک، و لعمری ما بلغتم ما بلغتم إلّا بما ذکرت، و ما ظهرتم علی من ظهرتم علیه إلا لحبهم الدنیا، و رغبتهم فیها، و قد توجه إلینا لقتالکم من جمع الروم، ما لا یحصی عدده قوم معروفون بالنجدة و الشدّة ما یبالی أحدهم من لقی، و لا من قاتل، و إنا لنعلم أنکم لن تقدروا علیهم، و لن تطیقوهم لضعفکم و قلتکم، و قد أقمتم بین أظهرنا أشهرا، و أنتم فی ضیق و شدّة من معاشکم و حالکم، و نحن نرق علیکم لضعفکم و قلتکم، و قلة ما بین أیدیکم، و نحن تطیب أنفسنا أن نصالحکم علی أن نفرض لکل رجل منکم دینارین دینارین،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 77
و لأمیرکم مائة دینار، و لخلیفتکم ألف دینار، فتقبضونها و تنصرفون إلی بلادکم قبل أن یغشاکم ما لا قوام لکم به. فقال عبادة بن الصامت: یا هذا لا تغرنّ نفسک، و لا أصحابک أمّا ما تخوّفنا به من جمع الروم و عددهم و کثرتهم، و أنا لا نقوی علیهم، فلعمری ما هذا بالذی تخوّفنا به، و لا بالذی یکسرنا عما نحن فیه، و إن کان ما قلتم حقا، فذلک و اللّه أرغب ما یکون فی قتالهم، و أشدّ لحرصنا علیهم لأن ذلک أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا علیه، إن قتلنا عن آخرنا کان أمکن لنا فی رضوانه و جنته، و ما شی‌ء أقرّ لأعیننا، و لا أحب لنا من ذلک، و إنا منکم حینئذ لعلی إحدی الحسنیین: إما أن تعظم لنا بذلک غنیمة الدنیا إن ظفرنا بکم، أو غنیمة الآخرة إن ظفرتم بنا، و لأنها أحب الخصلتین إلینا بعد الاجتهاد منا، و إن اللّه عز و جلّ قال لنا فی کتابه: کَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِیلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِینَ [البقرة/ 249].
و ما منا رجل إلا و هو یدعو ربه صباحا و مساء أن یرزقه الشهادة، و أن لا یردّه إلی بلده، و لا إلی أرضه، و لا إلی أهله و ولده، و لیس لأحد منا همّ فیمات خلفه، و قد استودع کل واحد منا ربّه أهله و ولده، و إنما همنا ما أمامنا، و أما قولک: إنا فی ضیق و شدّة من معاشنا و حالنا، فنحن فی أوسع السعة لو کانت الدنیا کلها لنا، ما أردنا منها لأنفسنا أکثر مما نحن علیه، فانظر الذی ترید فیه فبینه لنا، فلیس بیننا و بینک خصلة نقبلها منک، و لا نجیبک إلیها إلّا خصلة من ثلاث، فاختر أیتها شئت، و لا تطمع نفسک فی الباطل، بذلک أمرنی الأمیر، و بها أمره أمیر المؤمنین و هو عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم من قبل إلینا، إما إن أجبتم إلی الإسلام الذی هو الدین القیم الذی لا یقبل اللّه غیره، و هو دین أنبیائه و رسله و ملائکته، أمرنا اللّه تعالی أن نقاتل من خالفه، و رغب عنه حتی یدخل فیه، فإن فعل کان له ما لنا، و علیه ما علینا، و کان أخانا فی دین اللّه، فإن قبلت ذلک أنت و أصحابک، فقد سعدتم فی الدنیا و الآخرة، و رجعنا عن قتالکم، و لم نستحل أذاکم، و لا التعرّض لکم، و إن أبیتم إلّا الجزیة، فأدّوا إلینا الجزیة عن ید و أنتم صاغرون، و أن نعاملکم علی شی‌ء نرضی به نحن، و أنتم فی کل عام أبدا ما بقینا، و بقیتم و نقاتل عنکم من ناواکم، و عرض لکم فی شی‌ء من أرضکم و دمائکم و أموالکم، و نقوم بذلک عنکم إذ کنتم فی ذمتنا، و کان لکم به عهد علینا، و إن أبیتم فلیس بیننا و بینکم إلّا المحاکمة بالسیف، حتی نموت من آخرنا أو نصیب ما نرید منکم، هذا دیننا الذی ندین اللّه تعالی به، و لا یجوز لنا فیما بیننا و بینه غیره، فانظروا لأنفسکم.
فقال المقوقس: هذا ما لا یکون أبدا ما تریدون إلّا أن تتخذونا عبیدا ما کانت الدنیا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 78
فقال له عبادة: هو ذاک، فاختر لنفسک ما شئت. فقال المقوقس: أ فلا تجیبونا إلی خصلة غیر هذه الثلاث خصال؟ فرفع عبادة یدیه إلی السماء فقال: لا و رب هذه السماء، و رب هذه الأرض، و رب کل شی‌ء ما لکم عندنا خصلة غیرها، فاختاروا لأنفسکم.
فالتفت المقوقس عند ذلک إلی أصحابه فقال: قد فرغ القوم، فما ترون؟ فقالوا:
أو یرضی أحد بهذا الذل! أمّا ما أرادوا من دخولنا فی دینهم، فهذا لا یکون أبدا أن نترک دین المسیح ابن مریم، و ندخل فی دین غیره لا نعرفه، و أمّا ما أرادوا أن یسبونا و یجعلونا عبیدا، فالموت أیسر من ذلک لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطیناهم مرارا کان أهون علینا.
فقال المقوقس لعبادة: قد أبی القوم، فما تری فراجع صاحبک علی أن نعطیکم فی مرّتکم هذه، ما تمنیتم و تنصرفون، فقال عبادة و أصحابه: لا، فقال المقوقس عند ذلک:
أطیعونی و أجیبوا القوم إلی خصلة من هذه الثلاث، فو اللّه ما لکم بهم طاقة، و لئن لم تجیبوا إلیها طائعین لتجیبنهم إلی ما هو أعظم کارهین، فقالوا: و أیّ خصلة تجیبهم إلیها؟ قال: إذا أخبرکم، أمّا دخولکم فی غیر دینکم فلا آمرکم به، و أمّا قتالهم فأنا أعلم أنکم لن تقووا علیهم، و لن تصبروا صبرهم، و لا بدّ من الثالثة، قالوا: فنکون لهم عبیدا أبدا؟ قال: نعم تکونون عبیدا مسلطین فی بلادکم آمنین علی أنفسکم و أموالکم و ذراریکم خیر لکم من أن تموتوا من آخرکم، و تکونوا عبیدا تباعوا، و تمزقوا فی البلاد مستعبدین أبدا أنتم، و أهلیکم و ذراریکم، قالوا: فالموت أهون علینا، و أمروا بقطع الجسر من الفسطاط، و بالجزیرة و بالقصر من جمع القبط و الروم کثیر.
فألح المسلمون عند ذلک بالقتال علی من بالقصر حتی ظفروا بهم، و أمکن اللّه منهم، فقتل منهم خلق کثیر، و أسر من أسر و انجرّت السفن کلها إلی الجزیرة، و صار المسلمون یراقبونهم، و قد أحدق بهم الماء من کل وجه لا یقدرون علی أن ینفذوا نحو الصعید، و لا إلی غیر ذلک من المدن و القری، و المقوقس یقول لأصحابه: أ لم أعلمکم و أخافه علیکم! ما تنتظرون! فو اللّه لتجیبنهم إلی ما أرادوا طوعا أو لتجیبنهم إلی ما هو أعظم منه کرها، فأطیعونی من قبل أن تندموا، فلما رأوا منهم ما رأوا، و قال لهم المقوقس ما قال، أذعنوا بالجزیة و رضوا بذلک علی صلح یکون بینهم یعرفونه.
و أرسل المقوقس إلی عمرو بن العاص: إنی لم أزل حریصا علی إجابتکم إلی خصلة من تلک الخصال التی أرسلت إلیّ بها، فأبی علیّ من حضرنی من الروم و القبط، فلم یکن لی أن أفتات علیهم فی أموالهم، و قد عرفوا نصحی لهم، و حبی صلاحهم، و رجعوا إلی قولی، فأعطنی أمانا أجتمع أنا و أنت، أنا فی نفر من أصحابی، و أنت فی نفر من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 79
أصحابک، فإن استقام الأمر بیننا تمّ ذلک جمیعا، و إن لم یتمّ رجعنا إلی ما کنا علیه.
فاستشار عمرو أصحابه فی ذلک فقالوا: لا نجیبهم إلی شی‌ء من الصلح و لا الجزیة حتی یفتح اللّه علینا، و تصیر الأرض کلها لنا فیئا و غنیمة، کما صار لنا القصر و ما فیه، فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إلیّ أمیر المؤمنین فی عهده، فإن أجابوا إلی خصلة من الخصال الثلاث التی عهد إلیّ فیها أجبتهم إلیها، و قبلت منهم مع ما قد حال هذا الماء بیننا، و بین ما نرید من قتالهم فاجتمعوا علی عهد بینهم، و اصطلحوا علی أن یفرض لهم علی جمیع من بمصر أعلاها و أسفلها من القبط دیناران دیناران عن کل نفس شریفهم و وضیعهم، ممن بلغ منهم الحلم لیس علی الشیخ الفانی، و لا علی الصغیر الذی لم یبلغ الحلم، و لا علی النساء شی‌ء، و علی أن للمسلمین علیهم لنزل بجماعتهم حیث نزلوا، و من نزل علیه ضیف واحد من المسلمین أو أکثر من ذلک کانت لهم ضیافة ثلاثة أیام مفترضة علیهم، و أنّ لهم أرضهم و أموالهم لا تعرّض لهم فی شی‌ء منها، فشرط ذلک کله علی القبط خاصة، و أحصوا عدد القبط یومئذ خاصة من بلغ منهم الجزیة، و فرض علیهم الدیناران، رفع ذلک عرفاؤهم بالإیمان المؤکدة، فکان جمیع من أحصی یومئذ بمصر أعلاها و أسفلها من جمیع القبط فیما أحصوا، و کتبوا و رفعوا أکثر من ستة آلاف ألف نفس، فکانت فریضتهم یومئذ اثنی عشر ألف ألف دینار فی کل سنة.
و قال ابن لهیعة عن یحیی بن میمون الحضرمیّ: لما فتح عمرو مصر صالح عن جمیع من فیها من الرجال من القبط، ممن راهق الحلم إلی ما فوق ذلک لیس فیهم امرأة، و لا شیخ و لا صبیّ، فأحصوا بذلک علی دینارین دینارین، فبلغت عدّتهم ثمانیة آلاف ألف، قال: و شرط المقوقس للروم أن یخیروا، فمن أحب منهم أن یقیم علی مثل هذا، أقام علی ذلک لازما له مفترضا علیه ممن أقام بالإسکندریة، و ما حولها من أرض مصر کلها، و من أراد الخروج منها إلی أرض الروم خرج، و علی أن للمقوقس الخیار فی الروم خاصة، حتی یکتب إلی ملک الروم، و یعلمه ما فعل، فإن قبل ذلک، و رضیه جاز علیهم، و إلا کانوا جمیعا علی ما کانوا علیه، و کتبوا به کتابا، و کتب المقوقس إلی ملک الروم کتابا یعلمه بالأمر کله.
فکتب إلیه ملک الروم: یقبح رأیه، و یعجزه و یردّ علیه ما فعل، و یقول فی کتابه: إنما أتاک من العرب اثنا عشر ألفا، و بمصر من بها من کثرة عدد القبط ما لا یحصی، فإن کان القبط کرهوا القتال، و أحبوا أداء الجزیة إلی العرب، و اختاروهم علینا، فإن عندکم بمصر من الروم و بالإسکندریة، و من معک أکثر من مائة ألف معهم العدّة و القوّة و العرب و حالهم،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 80
و ضعفهم علی ما قد رأیت، فعجزت عن قتالهم، و رضیت أن تکون أنت و من معک من الروم فی حال القبط أذلاء فقاتلهم أنت و من معک من الروم، حتی تموت أو تظهر علیهم، فإنهم فیکم علی قدر کثرتکم، و قوّتکم و علی قدر قلتهم، و ضعفهم کاکلة، ناهضهم القتال، و لا یکن لک رأی غیر ذلک، و کتب ملک الروم بمثل ذلک کتابا إلی جماعة الروم، فقال المقوقس لما أتاه کتاب ملک الروم: و اللّه أعلم إنهم علی قلتهم و ضعفهم أقوی و أشدّ منا علی قوّتنا، و کثرتنا إن الرجل الواحد منهم لیعدل مائة رجل منا، و ذلک أنهم قوم الموت أحب إلی أحدهم من الحیاة یقاتل الرجل منهم، و هو مستقبل یتمنی أن لا یرجع إلی أهله و لا بلده، و لا ولده و یرون أن لهم أجرا عظیما فیمن قتلوه منا، و یقولون أنهم إن قتلوا دخلوا الجنة، و لیس لهم رغبة فی الدنیا، و لا لذة إلّا قدر بلغة العیش من الطعام، و اللباس، و نحن قوم نکره الموت، و نحب الحیاة و لذتها، فکیف نستقیم نحن و هؤلاء؟ و کیف صبرنا معهم، و اعلموا معشر الروم، و اللّه إنی لا أخرج مما دخلت فیه، و لا صالحت العرب علیه، و إنی لأعلم أنکم سترجعون غدا إلی قولی و رأیی و تتمنون أن لو کنتم أطعتمونی، و ذلک أنی قد عاینت و رأیت، و عرفت ما لم یعاین الملک، و لم یره، و لم یعرفه أما یرضی أحدکم أن یکون آمنا فی دهره علی نفسه، و ماله و ولده بدینارین فی السنة.
ثم أقبل المقوقس إلی عمرو، فقال له: إنّ الملک قد کره ما فعلت، و عجّزنی و کتب إلیّ و إلی جماعة الروم: أن لا نرضی بمصالحتک، و أمرهم بقتالک حتی یظفروا بک أو تظفر بهم، و لم أکن لأخرج عما دخلت فیه، و عاقدتک علیه، و إنما سلطانی علی نفسی، و من أطاعنی و قد تمّ صلح القبط فیما بینک و بینهم، و لم یأت من قبلهم نقض، و أنا متمّ لک علی نفسی، و القبط متمون لک علی الصلح الذی صالحتهم علیه و عاقدتهم، و أمّا الروم فأنا منهم بری‌ء، و أنا أطلب إلیک أن تعطینی ثلاث خصال، لا تنقض بالقبط، و أدخلنی معهم، و ألزمنی ما لزمهم، و قد اجتمعت کلمتی و کلمتهم علی ما عاقدتک علیه، فهم متمون لک علی ما تحب، و أمّا الثانیة إن سألک الروم بعد الیوم أن تصالحهم، فلا تصالحهم حتی تجعلهم فیئا و عبیدا، فإنهم أهل ذلک لأنی نصحتهم فاستغشونی، و نظرت لهم، فاتهمونی و أما الثالثة: أطلب إلیک إن أنا مت أن تأمرهم أن یدفنونی بجسر الإسکندریة، فأنعم له عمرو بذلک، و أجابه إلی ما طلب علی أن یضمنوا له الجسرین جمیعا، و یقیموا لهم الأنزال و الضیافة، و الأسواق و الجسور، ما بین الفسطاط إلی الإسکندریة، ففعلوا.
و صارت لهم القبط أعوانا کما جاء فی الحدیث. و قال ابن وهب فی حدیثه عن عبد الرحمن بن شریح: فسار عمرو بمن معه حتی نزل علی الحصن، فحاصرهم حتی سألوه أن یسیر منهم بضعة عشر أهل بیت، و یفتحوا له الحصن، ففعل ذلک ففرض علیهم عمرو لکل رجل من أصحابه دینارا وجبة و برنسا و عمامة و خفین، و سألوه: أن یأذن لهم أن یهیئوا له و لأصحابه صنیعا، ففعل، و أمر عمرو أصحابه فتهیئوا و لبسوا البرود، ثم أقبلوا فلما فرغوا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 81
من طعامهم سألهم عمرو: کم أنفقتم؟ قالوا: عشرین ألف دینار، قال عمرو: لا حاجة لنا بصنیعکم بعد الیوم أدّوا إلینا عشرین ألف دینار، فجاءه النفر من القبط، فاستأذنوه إلی قراهم و أهلیهم، فقال لهم عمرو: کیف رأیتم أمرنا؟ قالوا: لم نر إلّا حسنا، فقال الرجل الذی قال فی المرّة الأولی: إنکم لن تزالوا تظهرون علی کل من لقیتم حتی تقتلوا خیرکم رجلا، فغضب عمرو، و أمر به فطلب إلیه أصحابه، و أخبروه أنه لا یدری ما یقول، حتی خلصوه.
فلما بلغ عمرا قتل عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، أرسل فی طلب ذلک القبطیّ، فوجدوه قد هلک، فعجب عمرو من قوله و یقال: إنّ عمرو بن العاص قال: فلما طعن عمر بن الخطاب، قلت هو ما قال القبطیّ، فلما حدّثت أنه إنما قتله أبو لؤلؤة رجل نصرانیّ قلت: لم یعن هذا إنما عنی من قتله المسلمون، فلما قتل عثمان عرفت أن ما قال الرجل حق، فلما فرغ القبط من صنیعهم، أمر عمرو بن العاص بطعام، فصنع لهم و أمرهم أن یحضروا لذلک، فصنع لهم الثرید و العراق، و أمر أصحابه بلباس الأکسیة، و اشتمال الصمّاء و القعود علی الرکب، فلما حضرت الروم، وضعوا کراسی الدیباج، فجلسوا علیها، و جلست العرب إلی جوانبهم، فجعل الرجل من العرب یلتقم اللقمة العظیمة من الثرید، و ینهش من ذلک اللحم، فیتطایر علی من إلی جنبه من الروم، فبشعت الروم ذلک، و قالت:
أین أولئک الذین کانوا أتونا قبل؟ فقیل لهم: أولئک أصحاب المشورة، و هؤلاء أصحاب الحرب.
و قال الکندیّ: و ذکر یزید بن أبی حبیب: أنّ عدد الجیش الذین کانوا مع عمرو بن العاص خمسة عشر ألفا و خمسمائة، و ذکر عبد الرحمن بن سعید بن مقلاص: أنّ الذی جرت سهمانهم فی الحصن من المسلمین اثنا عشر ألفا و ثلثمائة بعد من أصیب منهم فی الحصار بالقتل و الموت، و یقال: إنّ الذین قتلوا فی هذا الحصار من المسلمین دفنوا فی أصل الحصن.
و ذکر القضاعیّ: أنّ مصر فتحت یوم الجمعة مستهلّ المحرّم سنة عشرین، و قیل:
فتحت سنة ست عشرة، و هو قول الواقدیّ، و قیل: فتحت و الإسکندریة سنة خمس و عشرین، و الأکثر علی أنها فتحت قبل عام الرّمادة، و کانت الرّمادة فی آخر سنة سبع عشرة، و أول ثمان عشرة.

ذکر ما قیل فی مصر هل فتحت بصلح أو عنوة؟

و قد اختلف فی فتح مصر، فقال قوم: فتحت صلحا، و قال آخرون: إنما فتحت عنوة، فأمّا الذین قالوا کان فتح مصر بصلح، فإنّ حسین بن شفی قال: لما فتح عمرو بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 82
العاص الإسکندریة بقی من الأساری بها ممن بلغ الخراج، و أحصی یومئذ ستمائة ألف سوی النساء و الصبیان، فاختلف الناس علی عمرو فی قسمهم، فکان أکثر المسلمین یرید قسمها، فقال عمرو: لا أقدر علی قسمها، حتی أکتب إلی أمیر المؤمنین، فکتب إلیه یعلمه بفتحها و شأنها، و أنّ المسلمین طلبوا قسمها، فکتب إلیه عمر رضی اللّه عنه: لا تقسمها، و ذرهم یکون خراجهم فیئا للمسلمین، و قوّة لهم علی جهاد عدوّهم، فأقرّها عمرو، و أحصی أهلها، و فرض علیهم الخراج، فکانت مصر کلها صلحا بفریضة: دینارین دینارین، إلّا أنه یلزم بقدر ما یتوسع فیه من الأرض و الزرع إلّا الإسکندریة فإنهم کانوا یؤدّون الخراج و الجزیة علی قدر ما یری من ولیهم، لأنّ الإسکندریة فتحت عنوة بغیر عهد، و لا عقد، و لم یکن لهم صلح و لا ذمّة.
و قال اللیث عن یزید بن أبی حبیب: مصر کلها صلح إلّا الإسکندریة فإنها فتحت عنوة.
و قال عبد اللّه بن أبی جعفر: حدّثنی رجل ممن أدرک عمرو بن العاص قال: للقبط عهد عند فلان، و عهد عن فلان، فسمی ثلاثة نفر، و فی روایة: إنّ عهد أهل مصر کان عند کبرائهم، و فی روایة: سألت شیخا من القدماء عن فتح مصر، قلت له: فإن ناسا یذکرون أنه لم یکن لهم عهد، فقال: ما یبالی أن لا یصلی من قال: إنه لیس لهم عهد، فقلت: فهل کان لهم کتاب؟ فقال: نعم، کتب ثلاثة: کتاب عند ظلما صاحب إخنا، و کتاب عند قرمان صاحب رشید، و کتاب عند بحنس صاحب البرلس؛ قلت: کیف کان صلحهم؟ قال:
دینارین علی کل إنسان جزیة، و أرزاق المسلمین، قلت: فتعلم ما کان من الشروط؟ قال:
نعم، ستة شروط: لا یخرجون من دیارهم، و لا تنزع نساؤهم، و لا کفورهم، و لا أراضیهم، و لا یزاد علیهم.
و قال یزید بن أبی حبیب عن أبی جمعة مولی عقبة قال: کتب عقبة بن عامر إلی معاویة بن أبی سفیان رضی اللّه عنه: یسأله أرضا یسترفق بها عند قریة عقبة، فکتب له معاویة: بألف ذراع فی ألف ذراع، فقال له مولی له کان عنده: انظر أصلحک اللّه أرضا صالحة، فقال له عقبة: لیس لنا ذلک إنّ فی عهدهم شروطا ستة لا یؤخذ من أنفسهم شی‌ء، و لا من نسائهم، و لا من أولادهم، و لا یزاد علیهم، و یدفع عنهم موضع الخوف من عدوّهم، و أنا شاهد لهم بذلک.
و عن یزید بن أبی حبیب عن عوف بن حطان: أنه کان لقریات من مصر منهنّ:
أم دنین و بلهیت عهد، و إنّ عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه لما سمع بذلک، کتب إلی عمرو یأمره أن یخبرهم، فإن دخلوا فی الإسلام فذاک، و إن کرهوا فارددهم إلی قراهم، و قال یحیی بن أیوب و خالد بن حمید: ففتح اللّه أرض مصر کلها بصلح غیر الإسکندریة، و ثلاث
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 83
قریات ظاهرت الروم علی المسلمین سلطیس و مصیل و بلهیت ، فإنه کان للروم جمع، فظاهروا الروم علی المسلمین، فلما ظهر علیها المسلمون استحلوها، و قالوا: هؤلاء لنا فی‌ء مع الإسکندریة، فکتب عمرو بن العاص بذلک إلی عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، فکتب إلیه عمر: أن یجعل الإسکندریة، و هؤلاء الثلاث قریات ذمّة للمسلمین، و یضربون علیهم الخراج، و یکون خراجهم، و ما صالح علیه القبط کله قوّة للمسلمین لا یجعلون فیئا، و لا عبیدا، ففعلوا ذلک إلی الیوم.
و قال آخرون: بل فتحت مصر عنوة بلا عهد، و لا عقد. قال سفیان بن وهب الخولانیّ: لما افتتحنا مصر بغیر عهد، و لا عقد، قام الزبیر بن العوّام فقال: اقسمها یا عمرو بن العاص، فقال عمرو: و اللّه لا أقسمها، فقال الزبیر: و اللّه لنقسمنها، کما قسم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم خیبر، فقال عمرو: و اللّه لا أقسمها حتی أکتب إلی أمیر المؤمنین، فکتب إلی عمر، فکتب إلیه عمر: أقرّها حتی یغزو منها حبل الحبلة، و صولح الزبیر علی شی‌ء أرضی به، و قال ابن لهیعة عن عبد اللّه بن هبیرة: إنّ مصر فتحت عنوة، و عن عبد الرحمن بن زیاد بن أنعم قال: سمعت أشیاخنا یقولون: إنّ مصر فتحت عنوة بغیر عهد، و لا عقد منهم، أبی یحدّثنا عن أبیه، و کان فیمن شهد فتح مصر، و عن أبی الأسود عن عروة: إنّ مصر فتحت عنوة، و عن عمرو بن العاص أنه قال: لقد قعدت مقعدی هذا، و ما لأحد من قبط مصر علیّ عهد، و لا عقد إلّا أهل أنطابلس کان لهم عهد یوفی به إن شئت قبلت، و إن شئت خمست، و إن شئت بعت. و عن ربیعة بن أبی عبد الرحمن: أنّ عمرو بن العاص فتح مصر بغیر عهد، و لا عقد، و أنّ عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه حبس درها و ضرعها أن یخرج منه شی‌ء نظرا للإسلام و أهله.
و عن یزید بن أسلم قال: کان تابوت لعمر بن الخطاب فیه کل عهد کان بینه و بین أحد ممن عاهده، فلم یوجد فیه لأهل مصر عهد، فمن أسلم منهم أقامه و من أقام منهم قوّمه، و کتب حیان بن شریح إلی عمر بن عبد العزیز یسأله أن یجعل جزیة موتی القبط علی أحیائهم، فسأل عمر عراک بن مالک، فقال عراک: ما سمعت لهم بعهد و لا عقد، و إنما أخذوا عنوة بمنزلة العبید، فکتب عمر إلی حیّان: أن یجعل جزیة موتی القبط علی أحیائهم، و قال یحیی بن عبد اللّه بن بکیر: خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن یرید الإسکندریة فی سفینة، فاحتاج إلی رجل یجذف، فسخر رجلا من القبط، فکلم فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 84
ذلک، فقال: إنما هم بمنزلة العبید إن احتجنا إلیهم.
و قال ابن لهیعة عن الصلت بن أبی عاصم: إنه قرأ کتاب عمر بن عبد العزیز إلی حیان بن شریح: أنّ مصر فتحت عنوة بغیر عهد و لا عقد.
و عن عبید اللّه بن أبی جعفر: أن کاتب حیان حدّثه: أنه احتیج إلی خشب لصناعة الجزیرة، فکتب حیان إلی عمر بن عبد العزیز یذکر ذلک له، و أنه وجد خشبا عند بعض أهل الذمّة، و أنه کره أن یأخذها منهم حتی یعلمه، فکتب إلیه عمر: خذها منهم بقیمة عدل، فإنی لم أجد لأهل مصر عهدا أفی لهم به، و قال عمر بن عبد العزیز لسالم: أنت تقول لیس لأهل مصر عهد؟ قال: نعم. و عن عمرو بن شعیب عن أبیه عن جدّه: أنّ عمرو بن العاص کتب إلی عمر بن الخطاب فی رهبان یترهبون بمصر، فیموت أحدهم، و لیس له وارث، فکتب إلیه عمر: أن من کان منهم له عقب، فادفع میراثه إلی عقبه، فإن لم یکن له عقب، فاجعل ماله فی بیت مال المسلمین، فإن ولاءه للمسلمین.
و قال ابن شهاب: کان فتح مصر بعضها بعهد و ذمّة، و بعضها عنوة، فجعلها عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه جمیعها ذمّة، و حملهم علی ذلک، فمضی ذلک فیهم إلی الیوم، و اشتری اللیث بن سعد شیئا من أرض مصر لأنه کان یحدّث عن یزید بن أبی حبیب: أن مصر صلح، و کان مالک بن أنس ینکر علی اللیث ذلک، و أنکر علیه أیضا عبد اللّه بن لهیعة، و نافع بن یزید لأنّ مصر عندهم کانت عنوة.

ذکر من شهد فتح مصر من الصحابة رضی اللّه عنهم

قال ابن عبد الحکم: و کان من حفظ من الذین شهدوا فتح مصر من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم من قریش و غیرهم، و ممن لم یکن له برسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم صحبة الزبیر بن العوّام، و سعد بن أبی وقاص، و عمرو بن العاص، و کان أمیر القوم، و عبد اللّه بن عمرو، و خارجة ابن حذاقة العدویّ، و عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، و قیس بن أبی العاص السهمیّ، و المقداد بن الأسود، و عبد اللّه بن أبی سعد بن أبی سرح العامری، و نافع بن عبد قیس الفهریّ، و یقال: بل هو عقبة بن نافع، و أبو عبد الرحمن یزید بن أنیس الفهریّ، و أبو رافع مولی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و ابن عبدة، و ابن عبد الرحمن و ربیعة ابنا شرحبیل بن حسنة، و وردان مولی عمرو بن العاص، و کان حامل لواء عمرو بن العاص و قد اختلف فی سعد بن أبی وقاص، فقیل: إنما دخلها بعد الفتح، و شهد الفتح من الأنصار عبادة بن الصامت، و قد شهد بدرا و بیعة العقبة، و محمد بن مسلمة الأنصاریّ، و قد شهد بدرا و هو الذی بعثه عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه إلی مصر، فقاسم عمرو بن العاص ماله، و هو أحد من کان صعد الحصن مع الزبیر بن العوّام، و مسلمة بن مخلد الأنصاریّ، یقال له: صحبة، و أبو أیوب خالد بن زید الأنصاریّ، و أبو الدرداء عویمر بن عامر، و قیل: عویمر بن زید، و من أحیاء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 85
القبائل أبو نصرة جمیل بن نصرة الغفاریّ، و أبو ذر جندب بن جنادة الغفاریّ، و شهد الفتح مع عمرو بن العاص: هبیب بن معقل، و إلیه ینسب وادی هبیب الذی بالمغرب، و عبد اللّه ابن الحارث ابن جزء الزبیدیّ، و کعب بن ضبة العبسیّ، و یقال: کعب بن یسار بن ضبة، و عقبة بن عامر الجهنیّ، و هو کان رسول عمر بن الخطاب إلی عمرو بن العاص حین کتب إلیه یأمره أن یرجع إلی لم یکن دخل أرض مصر، و أبو زمعة البلویّ و برح بن حسکل و یقال: برح بن عسکر.
و شهد فتح مصر و اختط بها، و جنادة بن أبی أمیة الأزدیّ، و سفیان بن وهب الخولانیّ، و له صحبة، و معاویة بن خدیج الکندیّ، و هو کان رسول عمرو بن العاص إلی عمر بن الخطاب بفتح الإسکندریة، و قد اختلف فیه، فقال قوم: له صحبة، و قال آخرون:
لیست له صحبة، و عامر مولی حمل الذی یقال له: عامر حمل شهد الفتح، و هو مملوک، و عمار بن یسار، و لکن دخل بعد الفتح فی أیام عثمان وجهه إلیها فی بعض أموره. و قال ابن عبد الحکم: منهم من اختط بالبلد، فذکرنا خطته، و منهم من لم یذکر له خطة، قال:
فاختط عمرو بن العاص داره التی عند باب المسجد بینهما الطریق، و داره الأخری اللاصقة إلی جنبها، و فیها دفن عبد اللّه بن عمرو، فیما زعم بعض مشایخ البلد لحدث کان یومئذ فی البلد، و الحمام الذی یقال له حمام الفار، و إنما قیل له: حمام الفار لأنّ حمامات الروم کانت دیماسات کبارا، فلما نبی هذا الحمام، و رأوا صغره قالوا: من یدخل هذا؟ هذا حمام الفار.

ذکر السبب فی تسمیة مدینة مصر بالفسطاط

اشارة

قال ابن عبد الحکم عن یزد بن أبی حبیب: أنّ عمرو بن العاص لما فتح الإسکندریة، و رأی بیوتها، و بناءها مفروغا منها، همّ أن یسکنها، و قال: مساکن قد کفیناها، فکتب إلی عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه یستأذنه فی ذلک، فسأل عمر الرسول: هل یحول بینی و بین المسلمین ماء؟ قال: نعم یا أمیر المؤمنین، إذا جری النیل، فکتب عمر إلی عمرو: إنی لا أحب أن تنزل بالمسلمین منزلا یحول الماء بینی و بینهم فی شتاء و لا صیف، فتحوّل عمرو من الإسکندریة إلی الفسطاط، قال: و کتب عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه إلی سعد بن أبی وقاص، و هو نازل بمدائن کسری، و إلی عامله بالبصرة، و إلی عمرو بن العاص، و هو نازل بالإسکندریة: أن لا تجعلوا بینی و بینکم ماء متی أردت أن أرکب إلیکم راحلتی حتی أقدم علیکم قدمت، فتحوّل سعد من مدائن کسری إلی الکوفة، و تحوّل صاحب البصرة من المکان الذی کان فیه، فنزل البصرة، و تحوّل عمرو بن العاص من الإسکندریة إلی الفسطاط.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 86
قال: و إنما سمیت الفسطاط لأنّ عمرو بن العاص لما أراد التوجه إلی الإسکندریة لقتال من بها من الروم، أمر بنزع فسطاطه، فإذا فیه یمام قد فرّخ، فقال عمرو: لقد تحرّم منا بمتحرّم، فأمر به فأقرّ کما هو، و أوصی به صاحب القصر، فلما قفل المسلمون من الإسکندریة قالوا: أین ننزل؟ قالوا: الفسطاط، لفسطاط عمرو الذی کان خلفه، و کان مضروبا فی موضع الدار التی تعرف الیوم بدار الحصار عند دار عمرو الصغیرة.
قال الشریف محمد بن أسعد الجوّانیّ: کان فسطاط عمرو عند درب حمام شمول بخط الجامع، و قال ابن قتیبة فی کتاب غریب الحدیث فی حدیث النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم أنه قال:
«علیکم بالجماعة فإنّ ید اللّه علی الفسطاط» یرویه سوید بن عبد العزیز عن النعمان بن المنذر عن مکحول عن أبی هریرة عن النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم.
و الفسطاط: المدینة، و کل مدینة: فسطاط، و لذلک قیل لمصر: فسطاط. و قال البکریّ: الفسطاط بضم أوّله و کسره و إسکان ثانیه: اسم لمصر، و یقال: فسطاط و بسطاط.
قال المطرّزی: و فصطاد، و فستاد، و بکسر أوائل جمیعها، فهی عشر لغات. و قال ابن قتیبة:
کل مدینة فسطاط، و ذکر حدیث: علیکم بالجماعة، فإنّ ید اللّه علی الفسطاط، و أخبرنی أبو حاتم عن الأصمعیّ أنه قال: حدّثنی رجل من بنی تمیم قال: قرأت فی کتاب رجل من قریش: هذا ما اشتری فلان بن فلان من عجلان مولی زیاد، اشتری منه خمسمائة جریب حیال الفسطاط، یرید البصرة، و منه قول الشعبیّ فی الآبق إذا أخذ فی الفسطاط عشرة، و إذا أخذ خارجا عن الفسطاط أربعون، و أراد أن ید اللّه علی أهل الأمصار و أنّ من شذ عنهم، و فارقهم فی الرأی فقد خرج عن ید اللّه، و فی ذلک آثار، و اللّه أعلم.

ذکر الخطط التی کانت بمدینة الفسطاط

اعلم: أنّ الخطط التی کانت بمدینة فسطاط مصر، بمنزلة الحارات التی هی الیوم بالقاهرة، فقیل لتلک فی مصر: خطة، و قیل لها فی القاهرة: حارة.
قال القضاعیّ: و لما رجع عمرو من الإسکندریة، و نزل موضع فسطاطه، انضمت القبائل بعضها إلی بعض، و تنافسوا فی المواضع، فولی عمرو علی الخطط: معاویة بن خدیج التجیبیّ، و شریک بن سمیّ الغطیفیّ، و عمرو بن قحزم الخولانیّ، و حیویل بن ناشزة المغافریّ، و کانوا هم الذین أنزلوا الناس، و فصلوا بین القبائل، و ذلک فی سنة إحدی و عشرین.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 87
خطة أهل الرایة: أهل الرایة جماعة من قریش، و الأنصار و خزاعة، و أسلم، و غفار، و مزینة، و أشجع، و جهینة، و ثقیف، و دوس، و عبس بن بغیض، و حرش من بنی کنانة، و لیث بن بکر، و العتقاء منهم إلا أنّ منزل العتقاء فی غیر الرایة، و إنما سموا أهل الرایة، و نسبت الخطة إلیهم لأنهم جماعة لم یکن لکل بطن منهم من العدد ما ینفرد بدعوة من الدیوان، فکره کل بطن منهم أن یدعی باسم قبیلة غیر قبیلته، فجعل لهم عمرو بن العاص رایة، و لم ینسبها إلی أحد فقال: یکون موقفکم تحتها، فکانت لهم کالنسب الجامع، و کان دیوانهم علیها، و کان اجتماع هذه القبائل لما عقده رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم من الولایة بینهم، و هذه الخطة محیطة بالجامع من جمیع جوانبه، ابتدأوا من المصف الذی کانوا علیه فی حصارهم الحصن، و هو باب الحصن الذی یقال له: باب الشمع، ثم مضوا بخطتهم إلی حمام الفار، و شرعوا بغربیها إلی النیل، فإذا بلغت إلی النحاسین، فالجانبان لأهل الرایة إلی باب المسجد الجامع المعروف: بباب الوراقین، ثم یسلک علی حمام شمول، و فی هذه الخطة زقاق القنادیل إلی تربة عفان إلی سوق الحمام إلی باب القصر الذی بدأنا بذکره.
خطة مهرة: بن حیدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالک بن حمیر: و خطة مهرة هذه قبلیّ خطة الرایة، و اختطت مهرة أیضا علی سفح الجبل الذی یقال له: جبل یشکر مما یلی الخندق إلی شرقیّ العسکر إلی جنان بنی مسکین، و من جملة خطة مهرة الموضع الذی یعرف الیوم بمساطب الطباخ، و اسمه حمد، و یقال: إنّ الخطة التی لهم قبلیّ الرایة کانت حوزا لهم یربطون فیها خیلهم إذا رجعوا إلی الجمعة، ثم انقطعوا إلیها، و ترکوا منازلهم بیشکر.
خطة تجیب: و تجیب هم بنو عدیّ، و سعد ابنی الأشرس بن شبیب بن السکن بن الأشرس بن کندة، فمن کان من ولد عدیّ، و سعد یقال لهم: تجیب، و تجیب: أمّهم، و هذه الخطة تلی خطة مهرة، و فیها درب الممصوصة آخره حائط من الحصن الشرقیّ.
و
خطط لخم فی موضعین: فمنها خطة لخم بن عدیّ بن مرّة بن أدد، و من خالطها من جذام، فابتدأت لخم بخطتها من الذی انتهت إلیه خطة الرایة و أصعدت ذات الشمال، و فی هذه الخطة سوق بربر، و شارعه مختلط فیما بین لخم، و الرایة و لهم خطتان أخریان، إحداهما منسوبة إلی بنی ریة بن عمرو بن الحارث بن وائل بن راشدة من لخم، و أوّلها شرقیّ الکنیسة المعروفة: بمکائیل التی عند خلیج بنی وائل، و هذا الموضع الیوم وراقات یعمل فیها الورق بالقرب من باب القنطرة خارج مصر، و الخطة الثانیة: خطة راشدة بن أدب بن جزیلة من لخم، و هی متاخمة للخطة التی قبلها، و فی هذه الخطة جامع راشدة، و جنان کهمس بن معمر الذی عرف: بالمادرانیّ، ثم عرف بجنان الأمیر تمیم، و هو الیوم یقال له: المعشوق بجوار الآثار النبویة، و لهم مواضع مع اللفیف، و خطط أیضا بالحمراء.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 88
خطط اللفیف: إنما سموا بذلک لالتفات بعضهم ببعض، و سبب ذلک: أنّ عمرو بن العاص، لما فتح الإسکندریة أخبر أنّ مراکب الروم قد توجهت إلی الإسکندریة لقتال المسلمین، فبعث عمرو بعمرو بن جمالة الأزدیّ الحجریّ لیأتیه بالخبر، فمضی و أسرعت هذه القبائل التی تدعی اللفیف، و تعاقدوا علی اللحاق به، و استأذنوا عمرو بن العاص فی ذلک، فأذن لهم و هم جمع کثیر، فلما رآهم عمرو بن جمالة استکثرهم، و قال: تاللّه ما رأیت قوما قد سدّوا الأفق مثلکم، و إنکم کما قال اللّه تعالی: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِکُمْ لَفِیفاً [الإسراء/ 104] فبذلک سموا من یومئذ اللفیف، و سألوا عمرو بن العاص: أن یفرد لهم دعوة فامتنعت عشائرهم من ذلک، فقالوا لعمرو: فإنا نجتمع فی المنزل حیث کنا، فأجابهم إلی ذلک، فکانوا مجتمعین فی المنزل متفرّقین فی الدیوان إذا دعی کل بطن منهم، انضم إلی بنی أبیه.
قال قتادة و مجاهد و الضحاک بن مزاحم فی قوله: جِئْنا بِکُمْ لَفِیفاً [الإسراء/ 104] قال: جمیعا، و کان عامتهم من الأزد من الحجر، و من غسان، و من شجاعة، و التف بهم نفر من جذام و لخم و الزحاف، و تنوخ من قضاعة، فهم مجتمعون فی المنزل متفرّقون فی الدیوان، و هذه الخطة أوّلها مما یلی الرایة سالکا ذات الشمال إلی نقاشی البلاط، و فیها دار ابن عشرات إلی نحو من سوق وردان. المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت ؛ ج‌2 ؛ ص88
ط أهل الظاهر: إنما سمی هذا المنزل بالظاهر، لأنّ القبائل التی نزلته کانت بالإسکندریة، ثم قفلت بعد قفول عمرو بن العاص، و بعد أن اختط الناس خططهم، فخاصمت إلی عمرو، فقال لهم معاویة بن خدیج: و کان ممن یتولی الخطط یومئذ أری لکم أن تظهروا علی أهل هذه القبائل، فتتخذوا منزلا فسمی الظاهر بذلک، و کانت القبائل التی نزلت الظاهر العتقاء، و هم جماع من القبائل، کانوا یقطعون علی أیام النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، فبعث إلیهم، فأتی بهم أسری، فأعتقهم، فقیل لهم: العتقاء، و دیوانهم مع أهل الرایة، و خطتهم بالظاهر متوسطة فیه، و کان فیهم طوائف من الأزد و فهم، و أوّل هذه الخطة من شرقیّ خطة لخم، و تتصل بموضع العسکر، و من هذه الخطة سویقة العراقیین، و عرفت بذلک ونّ زیادا لما ولاه معاویة بن أبی سفیان البصرة، غرّب جماعة من الأزد إلی مصر، و بها مسلمة بن مخلد فی سنة ثلاث و خمسین، فنزل منهم هنا نحو من مائة و ثلاثین، فقیل لموضعهم من خطة الظاهر: سویقة العراقیین.
خطط غافق: هو غافق بن الحارث بن عک بن عدنان بن عبد اللّه بن الأزد، و هذه الخطة تلی خطة لخم إلی خطة الظاهر، بجوار درب الأعلام.
خطط الصدف: و اسمه مالک بن سهل بن عمرو بن قیس بن حمیر، و دعوتهم مع کندة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 89
خطط الفارسیین: و استبدّ بخطة خولان من حضر فتح مصر من الفارسیین، و هم بقایا جند باذان عامل کسری علی الیمن قبل الإسلام، أسلموا بالشأم، و رغبوا فی الجهاد، فنفروا مع عمرو بن العاص إلی مصر، فاختطوا بها، و أخذوا فی سفح الجبل الذی یقال له: جبل باب البون، و هذا الجبل الیوم شرقیّ من وراء خطة جامع ابن طولون تعرف أرضه بالأرض الصفراء، و هی من جملة العسکر.
خطة مذحج: بالحاء قبل الجیم، و هو مالک بن مرّة بن أدد بن زید بن کهلان.
خطة غطیف: بن مراد.
خطة و علان: بن قرن بن ناجیة بن مراد، و کلهم من مذحج، فاختطت و علان من الزقاق الذی فیه الصنم المعروف بسریة فرعون، و هذا الزقاق أوّله باب السوق الکبیر، و اختطت أیضا بجولان، ثم انفردت و علان بخططها مقابل المسجد المعروف: بالدینوریّ، و أسندت إلی خولان، و هذه الخطة الیوم: کیمان تطلّ علی قبر القاضی بکار.
خطة یحصب: بن مالک بن أسلم بن زید بن غوث، و هذه الخطة موضعها: کیمان، و هی تتصل بالشرف الذی یعرف الیوم: بالرصد المطلّ علی راشدة.
خطة رعین: بن زید بن سهل.
خطة ذی الکلاع: بن شرحبیل بن سعد من حمیر.
خطة المغافر: بن یعفر بن مرّة بن أدد، و هذه الخطة من الرصد إلی قایة بن طولون، و هی القناطر التی تطلّ علی عفصة، و تفصل بین القرافتین و القناطر للمغافر، و لهم إلی مصلی خولان، و إلی الکوم المشرف علی المصلی.
خطة سبا و خطة الرحبة: بن زرعة بن کعب.
خطة السلف بن سعد: فیما بین الکوم المطلّ علی القاضی بکار، و بین المغافر.
خطة بنی وائل: بن زید مناة بن أفصی بن إیاس بن حرام بن جذام بن عدیّ، و هی من سفح الشرف المعروف بالرصد إلی خطة الجولان.
خطة القبض: بالتحریک، بن مرثد، و هی بجانب خطة بنی وائل إلی نحو برکة الحبش، قال: و کان سبب نزول بنی وائل، و القبض و ریة و راشدة و الفارسیین هذه المواضع أنهم کانوا فی طوالع عمرو بن العاص، فنزلوا فی مقدّمة الناس، و حازوا هذه المواضع قبل الفتح.
خطط الحمراوات الثلاث: قال الکندیّ: و کانت الحمراء علی ثلاثة: بنو نبه و روبیل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 90
و الأزرق، و کانوا ممن سار مع عمرو بن العاص من الشام إلی مصر من عجم الشأم ممن کان رغب فی الإسلام من قبل الیرموک، و من أهل قیساریة و غیرهم.
قال القضاعیّ: و إنما قیل الحمراء لنزول الروم بها، و هط خطط بلیّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة و فهم و عدوان، و بعض الأزد و هم ثراد، و بنی بحر، و بنی سلامان و یشکر بن لخم و هذیل بن مدرکة بن إلیاس بن مضر و بنی نبه، و بنی الأزرق، و هم من الروم، و بنی روبیل، و کان یهودیا، فأسلم. فأوّل ذلک الحمراء الدنیا خطة بلیّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، و منها خطة ثراد من الأزد، و خطة فهم بن عمرو بن قیس عیلان، و منها خطة بنی بحر بن سوادة من الأزد.
و من ذلک الحمراء الوسطی: منها خطة بنی نبه، و هم قوم من الروم حضر الفتح منهم مائة رجل، و منها خطة هذیل بن مدرکة بن إلیاس بن مضر، و منها خطة بنی سلامان من الأزد، و منها خطة عدوان.
و من ذلک الحمراء القصوی، و هی خطة بنی الأزرق، و کان رومیا حضر الفتح منهم أربعمائة، و خطة بنی روبیل، و کان یهودیا فأسلم، و حضر الفتح منهم ألف رجل، و خطة بنی یشکر بن جزیلة بن لخم و کانت منازل یشکر مفرّقة فی الجبل، فدثرت قدیما، و عادت صحراء حتی جاءت المسودّة، یعنی جیوش بنی العباس، فعمروها، و هی الآن خراب.
و قال ابن المتوّج: الحمراوات ثلاث: أولی، و وسطی، و قصوی. فأمّا الأولی:
فتجمع جابر الأور، و عقبة العدّاسین، و سوق وردان، و خطة الزبیر إلی نقاشی البلاط طولا و عرضا علی قدر ذلک، و أمّا الوسطی: فمن درب نقاشی البلاط إلی درب معانی طولا و عرضا علی قدره، و أمّا القصوی فمن درب معانی إلی القناطر الظاهریة یعنی قناطر السباع، و هی حدّ ولایة مصر من القاهرة، و کانت هذه الحمراوات جلّ عمارة مصر فی زمن الروم، فإذا الحمراء الأولی و الوسطی هما الآن خراب، و موضعهما فیما بین سوق المعاریج، و حمام طن من شرقیهما إلی ما یقابل المراغة فی الشرق، و أما الحمراء الدنیا فهی الآن تعرف بخط قناطر السباع، و بخط السبع سقایات، و بحکر الخلیلیّ، و حکر أقبغا و الکوم، حیث الأسری و منها أیضا خط الکبش، و خط الجامع الطولونیّ و العسکر، و منها حدرة ابن قمیحة إلی حیث قنطرة السدّ، و بستان الطواشی، و ما فی شرقیه إلی مشهد الرأس المعروف بزین العابدین، و سیأتی لذلک مزید بیان إن شاء اللّه تعالی عند ذکر العسکر، و کانت مدینة الفسطاط علی قسمین هما: عمل فوق، و عمل أسفل.
فعمل فوق له طرفان غربیّ و شرقیّ، فالغربیّ من شاطی‌ء النیل فی الجهة القبلیة، و أنت مار فی الشرف المعروف الیوم بالرصد إلی القرافة الکبری، و الشرقیّ من القرافة الکبری إلی العسکر، و عمل أسفل ما عدا ذلک إلی حدّ القاهرة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 91

ذکر أمراء الفسطاط من حین فتحت مصر إلی أن بنی العسکر

اعلم: أنّ عدّة من ولی مصر من الأمراء فی الإسلام منذ فتحت، و سکن الفسطاط إلی أن بنی العسکر تسعة و عشرون أمیرا فی مدّة مائة و ثلاث عشرة سنة و سبعة أشهر، أوّلها یوم الجمعة مستهل المحرّم سنة عشرین من الهجرة النبویة، و هو یوم فتح مصر، و آخرها سلخ شهر رجب سنة ثلاث و مائة آخر ولایة صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس علی مصر، و أوّل ولایة أبی عون عبد الملک، و هو أوّل من سکن العسکر من أمراء مصر.
و أوّل أمراء الفسطاط بعد الفتح علی ما ذکر الکندیّ و غیره: عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعید بن سهم بن عمرو بن هصیص بن کعب بن لؤیّ بن غالب بن فهر بن مالک: أبو عبد اللّه، کان تاجرا فی الجاهلیة، و کان یختلف بتجارته إلی مصر، و هی الأدم و العطر، ثم ضرب الدهر ضرباته حتی فتح المسلمون الشأم، فخلا بعمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، فاستأذنه فی المسیر إلی مصر، فسار فی سنة تسع عشرة، و أتی الحصن، فحاصره سبعة أشهر إلی أن فتحه فی یوم الجمعة مستهل المحرّم سنة عشرین، و قیل: کان فتح مصر فی ثانی عشر بؤنة سنة سبع و خمسین و ثلثمائة لدقلطیانوس، فعلی هذا یکون فتح مصر فی سنة تسع عشرة من الهجرة، و تحریر ذلک أن الذی بین یوم الجمعة أوّل یوم من ملک دقلطیانوس، و بین یوم الخمیس أوّل سنة الهجرة ثمان و ثلاثون و ثلثمائة سنة فارسیة، و تسعة و ثلاثون یوما، فإذا ألغینا ذلک من تاریخ مصر فی ثانی عشر بؤنة سنة سبع و خمسین و ثلثمائة بقی ثمان عشر سنة، و ثمانیة أشهر و ثلاثة أیام، و هذه سنون شمسیة عنها من سنی القمر تسع عشر سنة و شهر و ثلاثة عشر یوما، فیکون ذلک فی ثالث عشر ربیع الأوّل سنة عشرین، فلعل الوهم وقع فی الشهر القبطیّ، و حاز الحصن بما فیه، و سار إلی الإسکندریة فی ربیع الأوّل منها، فحاصرها ثلاثة أشهر، ثم فتحها عنوة، و هو الفتح الأوّل، و یقال: بل فتحها مستهل سنة إحدی و عشرین، ثم سار عنها إلی برقة، فافتتحها عنوة فی سنة اثنتین و عشرین، و قیل: فی سنة ثلاث و عشرین، و قدم علی أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه قدمتین استخلف فی إحداهما زکریا بن جهم العبدریّ، و فی الثانیة ابنه عبد اللّه، و توفی عمر رضی اللّه عنه فی ذی الحجة سنة ثلاث و عشرین، و بویع أمیر المؤمنین عثمان بن عفان رضی اللّه عنه، فوفد علیه عمرو، و سأله عزل عبد اللّه بن سعد بن أبی سرح عن صعید مصر، و کان عمر ولاه الصعید، فامتنع من ذلک عثمان، و عقد لعبد اللّه بن سعد علی مصر کلها، فکانت ولایة عمرو علی مصر: صلاتها و خراجها، منذ افتتحها إلی أن صرف عنها أربع سنین و أشهرا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 92
عبد اللّه بن سعد بن أبی سرح، و اسمه الحسام بن الحارث بن حبیب بن جذیمة بن نصر بن مالک بن حسل بن عامر بن لؤیّ، ولی من قبل أمیر المؤمنین عثمان رضی اللّه عنه، فجاءه الکتاب بالفیوم، فجعل لأهل أطواف جعلا فقدموا به الفسطاط، ثم إن منویل الخصیّ سار إلی الإسکندریة فی سنة أربع و عشرین، فسأل أهل مصر: عثمان أن یردّ عمرو بن العاص لمحاربته، فردّه والیا علی الإسکندریة، فحارب الروم بها حتی افتتحها، و عبد اللّه بن سعد مقیم بالفسطاط، حتی فتحت الإسکندریة الفتح الثانی عنوة فی سنة خمس و عشرین، ثم جمع لعبد اللّه بن سعد أمیر مصر صلاتها و خراجها، و مکث أمیرا مدّة ولایة عثمان رضی اللّه عنه کلها، محمودا فی ولایته، و غزا ثلاث غزوات کلها لها شأن، غزا إفریقیة سنة سبع و عشرین، و قتل ملکها جرجیر، و غزا غزوة الأساود حتی بلغ دنقلة فی سنة إحدی و ثلاثین، و غزا ذا الصواری فی سنة أربع و ثلاثین، فلقیهم قسطنطین بن هرقل فی ألف مرکب، و قیل: فی سبعمائة مرکب و المسلمون فی مائتی مرکب، فهزم اللّه الروم، و إنما سمیت غزوة ذی الصواری لکثرة صواری المراکب، و اجتماعها، و وفد علی عثمان حین تکلم الناس بالطعن علی عثمان، و استخلف عقبة بن عامر الجهنیّ، و قیل: السائب بن هشام العامریّ، و جعل علی خراجها سلیمان بن عتر التجیبی، و کان ذلک سنة خمس و ثلاثین فی رجب.
محمد بن أبی حذیفة بن عتبة بن ربیعة بن عبد شمس بن عبد مناف. أمّر فی شوال سنة خمس و ثلاثین علی عقبة بن عامر خلیفة عبد اللّه بن سعد، فأخرجه من الفسطاط، و دعا إلی خلع عثمان، و أسعر البلاد، و حرّض علی عثمان بکل شرّ یقدر علیه، فاعتزله شیعة عثمان، و نابذوه، و هم: معاویة بن خدیج، و خارجة بن حذافة، و بسر بن أرطأة، و مسلمة بن مخلد فی جمع کثیر، و بعثوا إلی عثمان بأمرهم، و بصنیع ابن أبی حذیفة، فبعث سعد بن أبی وقاص: لیصلح أمرهم، فخرج إلیه جماعة، فقلبوا علیه فسطاطه، و شجوه و سبوه، فرکب و عاد راجعا، و دعا علیهم، و أقبل عبد اللّه بن سعد، فمنعوه أن یدخل، فانصرف إلی عسقلان، و قتل عثمان رضی اللّه عنه، و ابن سعد بعسقلان، ثم أجمع ابن أبی حذیفة علی بعث جیش إلی عثمان، فجهز إلیه ستمائة رجل علیهم عبد الرحمن بن عدیس البلویّ، ثم قتل عثمان فی ذی الحجة منها، فثار شیعة عثمان بمصر، و عقدوا لمعاویة بن خدیج ، و بایعوه علی الطلب بدم عثمان، و ساروا إلی الصعید، فبعث إلیهم ابن أبی حذیفة خیلا، فهزمت، و مضی ابن خدیج إلی برقة، ثم رجع إلی الإسکندریة، فبعث
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 93
إلیه ابن أبی حذیفة بجیش آخر فاقتتلوا بخربتا فی أوّل شهر رمضان سنة ست و ثلاثین، فانهزم الجیش، و أقامت شیعة عثمان بخربتا.
و قدم معاویة بن أبی سفیان یرید الفسطاط، فنزلت سلمنت فی شوّال، فخرج إلیه ابن أبی حذیفة فی أهل مصر، فمنعوه ثم اتفقا علی أن یجعلا رهنا، و یترکا الحرب، فاستخلف ابن أبی حذیفة علی مصر: الحکم بن الصلت، و خرج فی الرهن هو و ابن عدیس، و عدّة من قتلة عثمان، فلما بلغوا لدّا سجنهم معاویة بها، و سار إلی دمشق، فهربوا من السجن، و تبعهم أمیر فلسطین، فقتلهم فی ذی الحجة سنة ست و ثلاثین.
قیس بن سعد بن عبادة الأنصاری: ولاه أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، لما بلغه مصاب ابن أبی حذیفة، و جمع له الخراج و الصلاة، فدخل مصر مستهل ربیع الأوّل سنة سبع و ثلاثین، فاستمال الخارجیة بخربتا شیعة عثمان، و بعث إلیهم أعطیاتهم، و وفد علیهم وفدهم، فأکرمهم، و کان من ذوی الرأی، فجهد عمرو بن العاص، و معاویة بن أبی سفیان علی أن یخرجاه من مصر لیغلبا علی أمرها، فإنها کانت من جیش علیّ رضی اللّه عنه، فامتنع منهما بالدهاء و المکایدة، فلم یقدرا علی مصر، حتی کاد معاویة قیسا من قبل علیّ رضی اللّه عنه، فأشاع أن قیسا من شیعته، و أنه یبعث إلیه بالکتب و النصیحة سرّا، فسمع ذلک جواسیس علیّ رضی اللّه عنه، و ما زال به محمد بن أبی بکر، و عبد اللّه بن جعفر، حتی کتب إلی قیس بن سعد یأمره بالقدوم إلیه، فولیها إلی أن عزل أربعة أشهر و خمسة أیام، و صرف لخمس خلون من رجب سنة سبع و ثلاثین، فولیها:
الأشتر مالک بن الحارث بن خالد النخعیّ من قبل أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب، فلما قدم القلزم شرب عسلا فمات، فبلغ ذلک عمرا و معاویة، فقال عمرو: إن للّه جنودا من عسل.
ثم ولیها: محمد بن أبی بکر الصدّیق من قبل علیّ رضی اللّه عنه، و جمع له صلاتها و خراجها، فدخلها للنصف من رمضان سنة سبع و ثلاثین، فهدم دور شیعة عثمان، و نهب أموالهم و سجن ذراریهم، فنصبوا له الحرب، ثم صالحهم علی أن یسیرهم إلی معاویة، فلحقوا بمعاویة بالشام، فبعث معاویة عمرو بن العاص فی جیوش أهل الشام إلی الفسطاط و تغیب ابن أبی بکر، فظفر به معاویة بن خدیج فقتله، ثم جعله فی جیفة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 94
حمار میت، و أحرقه بالنار لأربع عشرة خلت من صفر سنة ثمان و ثلاثین، فکانت ولایته خمسة أشهر.
ثم ولیها: عمرو بن العاص: ولایته الثانیة من قبل معاویة بن أبی سفیان رضی اللّه عنه، فاستقبل بولایته شهر ربیع الأوّل سنة ثمان و ثلاثین، و جعل إلیه الصلاة و الخراج جمیعا، و جعلت مصر له طعمة بعد عطاء جندها، و النفقة فی مصلحتها، ثم خرج عمرو للحکومة، و استخلف علی مصر ابنه عبد اللّه، و قیل: بل خارجة بن حذافة، و رجع إلی مصر، و تعاقد بنو لخم عبد الرحمن و قیس و یزید علی قتل علیّ و معاویة و عمرو، و تواعدوا لیلة من رمضان سنة أربعین، فمضی کل منهم إلی صاحبه، و کان یزید هو صاحب عمرو، فعرضت لعمرو علة منعته من حضور المسجد، فصلی خارجة بالناس، فشدّ علیه یزید فضربه، حتی قتله، فدخل به علی عمرو، فقال: أما و اللّه ما أردت غیرک یا عمرو، قال عمرو: و لکن اللّه أراد خارجة، و للّه در القائل:
ولیتها إذ فدت عمرا بخارجةفدت علیا بمن شاءت من البشر
و عقد عمرو لشریک بن سمیّ علی غزو لواتة من البربر، فغزاهم فی سنة أربعین، و صالحهم ثم انتقضوا، فبعث إلیهم عقبة بن نافع فی سنة إحدی و أربعین، فغزاهم حتی هزمهم، و عقد لعقبة أیضا علی غزوة هوّارة، و عقد لشریک بن سمیّ: علی غزوة لبدة ، فغزواهما فی سنة ثلاث و أربعین، فقفلا، و عمرو شدید الدنف فی مرض موته، و توفی لیلة الفطر، فغسله عبد اللّه بن عمرو، و أخرجه إلی المصلی و صلی علیه، فلم یبق أحد شهد العید إلّا صلی علیه، ثم صلی بالناس صلاة العید، و کان أبوه استخلفه، و خلف عمرو بن العاص سبعین بهارا دنانیر، و البهار: جلد ثور، و مبلغه أردبان بالمصریّ، فلما حضرته الوفاة أخرجه، و قال: من یأخذه بما فیه، فأبی ولده أخذه، و قالا: حتی تردّ إلی کل ذی حق حقه، فقال: و اللّه ما أجمع بین اثنین منهم، فبلغ معاویة، فقال: نحن نأخذه بما فیه.
ثم ولیها: عتبة بن أبی سفیان من قبل أخیه معاویة بن أبی سفیان علی صلاتها، فقدم فی ذی القعدة سنة ثلاث و أربعین، و أقام شهرا، ثم وفد علی أخیه، و استخلف عبد اللّه بن قیس بن الحارث، و کان فیه شدّة، فکره الناس ولایته، و امتنعوا منها، فبلغ ذلک عتبة، فرجع إلی مصر، و صعد المنبر فقال: یا أهل مصر قد کنتم تعذرون ببعض المنع منکم لبعض الجور علیکم، و قد ولیکم من إذا قال فعل، فإن أبیتم درأکم بیده، فإن أبیتم درأکم بسیفه، ثم رجا فی الأمیر ما أدرک فی الأوّل أن البیعة شائعة لنا علیکم السمع، و لکم علینا العدل،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 95
و أینا غدر، فلا ذمّة له عند صاحبه، فناداه المصریون من جنبات المسجد سمعا سمعا فناداهم عدلا عدلا، ثم نزل ثم جمع له معاویة الصلات و الخراج، و عقد عتبة لعلقمة بن زید علی الإسکندریة فی اثنی عشر ألفا من أهل الدیوان تکون لها رابطة، ثم خرج إلیها مرابطا فی ذی الحجة سنة أربع و أربعین، فمات بها و استخلف علی مصر عقبة بن عامر الجهنیّ، فکانت ولایته ستة أشهر.
ثم ولیها: عقبة بن عامر بن عبس الجهنیّ من قبل معاویة، و جعل له صلاتها و خراجها، و کان قارئا فقیها مفرضا شاعرا، له الهجرة و الصحبة و السابقة، ثم وفد مسلمة بن محمد الأنصاریّ علی معاویة، فولاه مصر، و أمره أن یکتم ذلک عن عقبة بن عامر، و جعل عقبة علی البحر، و أمره أن یسیر إلی رودس، فقدم مسلمة، فلم یعلم بإمارته، و خرج مع عقبة إلی الإسکندریة، فلما توجه سائرا استوی مسلمة علی سریر إمارته، فبلغ ذلک عقبة فقال: أخلعا و غربة، و کان صرفه لعشر بقین من ربیع الأوّل سنة سبع و أربعین، و کانت ولایته سنتین و ثلاثة أشهر.
فولی مسلمة بن مخلد بن صامت بن نیار الأنصاریّ من قبل معاویة، و جمع له الصلات و الخراج و الغزو، فانتظمت غزواته فی البر و البحر، و فی إمارته نزلت الروم البرلس فی سنة ثلاث و خمسین، فاستشهد یومئذ: وردان مولی عمرو بن العاص فی جمع من المسلمین، و هدم ما کان عمرو بن العاص بناه من المسجد، و بناه و أمر بابتناء منارات المساجد کلها إلا خولان و تجیب، و خرج إلی الإسکندریة فی سنة ستین، و استخلف عابس بن سعید، و مات معاویة بن أبی سفیان فی رجب منها، و استخلف ابنه یزید بن معاویة، فأقرّ مسلمة، و کتب إلیه بأخذ البیعة، فبایعه الجند إلّا عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فدعا عابس بالنار لیحرق علیه بابه! فحینئذ بایع لیزید، و قدم مسلمة من الإسکندریة، فجمع لعابس مع الشرط القضاء فی سنة إحدی و ستین، و قال مجاهد: صلیت خلف مسلمة بن مخلد، فقرأ سورة البقرة، فما ترک ألفا و لا واوا، و قال ابن لهیعة عن الحرث بن یزید: کان مسلمة بن مخلد یصلی بنا، فیقوم فی الظهر، فربما قرأ الرجل البقرة، و توفی مسلمة، و هو وال لخمس بقین من رجب سنة اثنتین و ستین، فکانت ولایته خمس عشرة سنة و أربعة أشهر، و استخلف عابس بن سعید.
ثم ولیها سعید بن یزید بن علقمة بن یزید بن عوف الأزدی من أهل فلسطین، فقدم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 96
مستهلّ رمضان سنة اثنتین و ستین فتلقاه عمرو بن قحزم الخولانیّ، فقال: یغفر اللّه لأمیر المؤمنین أما کان فینا مائة شاب کلهم مثلک، یولی علینا أحدهم، و لم تزل أهل مصر علی الشنآن له، و الإعراض عنه، و التکبر علیه حتی توفی یزید بن معاویة، و دعا عبد اللّه بن الزبیر رضی اللّه عنه إلی نفسه، فقامت الخوارج الذین بمصر، و أظهروا دعوته، و سار منهم إلیه، فبعث لعبد الرحمن بن جحدم، فقدم و اعتزل سعیدا، فکانت ولایته سنتین غیر شهر.
ثم ولیها: عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم من قبل عبد اللّه بن الزبیر، فدخل فی شعبان سنة أربع و ستین فی جمع کثیر من الخوارج، فأظهروا التحکیم، و دعوا إلیه، فاستعظم الجند ذلک، و بایعه الناس علی غل فی قلوب شیعة بنی أمیة، ثم بویع مروان بن الحکم بالخلافة فی أهل الشام، و أهل مصر معه فی الباطن، فسار إلیها، و بعث ابنه عبد العزیز فی جیش إلی أیلة لیدخل مصر من هناک، و أجمع ابن جحدم علی حربه، و حفر الخندق فی شهر، و هو الذی فی شرقیّ القرافة، و قدم مروان، فحاربه ابن جحدم، و قتل بینهما کثیر من الناس ثم اصطلحا، و دخل مروان لعشر من جمادی الأولی سنة خمس و ستین، فکانت مدّة ابن جحدم تسعة أشهر، و وضع مروان العطاء، فبایعه الناس إلّا نفرا من المغافر قالوا: لا نخلع بیعة ابن الزبیر، فضرب أعناقهم، و کانوا ثمانین رجلا، و ذلک للنصف من جمادی الآخرة، یومئذ مات عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فلم یستطع أن یخرج بجنازته إلی المقبرة لشغب الجند علی مروان، و جعل مروان صلات مصر، و خراجها إلی ابنه عبد العزیز، و سار و قد أقام بها شهرین لهلال رمضان.
عبد العزیز بن مروان بن الحکم بن أبی العاص أبو الأصبغ ولی من قبل أبیه لهلال رجب سنة خمس و ستین علی الصلات و الخراج، و مات أبوه، و بویع من بعده عبد الملک بن مروان، فأقرّ أخاه عبد العزیز، و وقع الطاعون بمصر سنة سبعین، فخرج عبد العزیز منها، و نزل حلوان، فاتخذها دارا و سکنها، و جعل بها الأعوان، و بنی بها الدور و المساجد، و عمرها أحسن عمارة، و غرس نخلها و کرمها، و عرّف بمصر، و هو أول من عرّف بها فی سنة إحدی و سبعین، و جهز البعث فی البحر لقتال ابن الزبیر فی سنة اثنتین و سبعین، ثم مات لثلاث عشرة خلت من جمادی الأولی سنة ست و ثمانین، فکانت ولایته عشرین سنة، و عشرة أشهر و ثلاثة عشر یوما.
فولی: عبد اللّه بن عبد الملک بن مروان من قبل أبیه علی صلاتها و خراجها، فدخل یوم الاثنین لإحدی عشرة خلت من جمادی الآخرة سنة ست و ثمانین، و هو ابن تسع و عشرین سنة، و قد تقدّم إلیه أبوه أن یقتفی آثار عمه عبد العزیز، فاستبدل بالعمال و بالأصحاب، و مات عبد الملک، بویع ابنه الولید بن عبد الملک، فأقرّ أخاه عبد اللّه، و أمر عبد اللّه، فنسخت دواوین مصر بالعربیة، و کانت بالقبطیة، و فی ولایته غلت الأسعار،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 97
فتشاءم الناس به، و هی أوّل شدّة رأوها بمصر، و کان یرتشی، ثم وفد علی أخیه فی صفر سنة ثمان و ثمانین، و استخلف عبد الرحمن بن عمرو بن قحزم الخولانیّ، و أهل مصر فی شدّة عظیمة، و رفع سقف المسجد الجامع فی سنة تسع و ثمانین، ثم صرف، فکانت ولایته ثلاث سنین و عشرة أشهر.
فولی: قرّة بن شریک بن مرثد بن الحرث العبسیّ للولید بن عبد الملک علی صلات مصر و خراجها، فقدمها یوم الاثنین لثلاث عشرة خلت من ربیع الأوّل سنة تسعین، و خرج عبد اللّه بن عبد الملک من مصر بکل ما ملکه، فأحیط به فی الأردن، و أخذ سائر ما معه، و حمل إلی أخیه، و أمر الولید بهدم ما بناه عبد العزیز فی المسجد، فهدم أوّل سنة اثنتین و تسعین، و بنی و استنبط قرّة بن شریک: برکة الحبش من الموات و أحیاها، و غرس فیها القصب، فقیل لها: اصطبل قرّة، و اصطبل القاش، ثم مات و هو وال لیلة الخمیس لست بقین من ربیع الأوّل سنة ست و تسعین، و استخلف علی الجند و الخراج عبد الملک بن رفاعة، فکانت ولایته ست سنین و أیاما.
ثم ولی: عبد الملک بن رفاعة بن خالد بن ثابت الفهمیّ: من قبل الولید بن عبد الملک علی صلاتها، و توفی الولید، و استخلف سلیمان بن عبد الملک، فأقرّ ابن رفاعة، و توفی سلیمان، و بویع عمر بن عبد العزیز، فعزل ابن رفاعة، فکانت ولایته ثلاث سنین.
ثم ولی: أیوب بن شرحبیل بن أکسوم بن أبرهة بن الصباح، من قبل عمر بن عبد العزیز علی صلاتها فی ربیع الأوّل سنة تسع و تسعین، فورد کتاب أمیر المؤمنین:
عمر بن عبد العزیز بالزیادة فی أعطیات الناس عامّة، و خمرت الخمر، و کسرت و عطلت حاناتها، و قسم للغارمین بخمسة و عشرین ألف دینار، و نزعت مواریث القبط عن الکور، و استعمل المسلمون علیها، و منع الناس الحمامات، و توفی عمر بن عبد العزیز، و استخلف یزید بن عبد الملک، فأقرّ أیوب علی الصلات إلی أن مات لإحدی عشرة، و قیل: لسبع عشرة خلت من رمضان سنة إحدی و مائة، فکانت ولایته سنتین و نصفا.
فولی: بشر بن صفوان الکلبیّ: من قبل یزید بن عبد الملک قدمها لسبع عشرة خلت من رمضان سنة إحدی و مائة، و فی إمرته نزل الروم تنیس، ثم ولاه یزید علی إفریقیة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 98
فخرج إلیها فی شوّال سنة اثنتین و مائة، و استخلف أخاه حنظلة.
فولی: حنظلة بن صفوان باستخلاف أخیه، فأقرّه یزید بن عبد الملک، و خرج إلی الإسکندریة فی سنة ثلاث و مائة، و استخلف عقبة بن مسلمة التجیبیّ، و کتب یزید بن عبد الملک فی سنة أربع و مائة بکسر الأصنام و التماثیل، فکسرت کلها، و محیت التماثیل، و مات یزید بن عبد الملک، و بویع هشام بن عبد الملک، فصرف حنظلة فی شوّال سنة خمس و مائة، فکانت ولایته ثلاث سنین.
و ولی: محمد بن عبد الملک بن مروان بن الحکم من قبل أخیه هشام بن عبد الملک علی الصلات، فدخل مصر لإحدی عشرة خلت من شوّال سنة خمس و مائة، و وقع و باء شدید بمصر، فترفع محمد إلی الصعید هاربا من الوباء أیاما، ثم قدم و خرج عن مصر لم یلها إلّا نحوا من شهر، و انصرف إلی الأردن.
فولی: الحرّ بن یوسف بن یحیی بن الحکم من قبل هشام بن عبد الملک علی صلاتها، فدخل لثلاث خلون من ذی الحجة سنة خمس و مائة، و فی إمرته کان أوّل انتفاض القبط فی سنة سبع و مائة، و رابط بدمیاط ثلاثة أشهر، ثم وفد إلی هشام بن عبد الملک، فاستخلف حفص بن الولید، و قدم فی ذی القعدة من سنة سبع، و انکشف النیل عن الأرض فبنی فیها، و صرف فی ذی القعدة سنة ثمان و مائة، باستعفائه لمغاضبة کانت بینه و بین عبد اللّه بن الحبحاب متولی خراج مصر، فکانت ولایته ثلاث سنین سواء.
و ولی: حفص بن الولید بن سیف بن عبد اللّه من قبل هشام بن عبد الملک، ثم صرف بعد جمعتین یوم الأضحی بشکوی ابن الحبحاب منه، و قیل: صرف سلخ ثمان و مائة.
فولی: عبد الملک بن رفاعة ثانیا علی الصلات، فقدم من الشام علیلا لثنتی عشرة بقیت من المحرّم سنة تسع و مائة، و کان أخوه الولید یخلفه من أوّل المحرّم، و قیل: بل ولی أوّل المحرّم، و مات للنصف منه، و کانت ولایته خمس عشرة لیلة.
ثم ولی أخوه: الولید بن رفاعة باستخلاف أخیه، فأقرّه هشام بن عبد الملک علی الصلات، و فی ولایته نقلت قیس إلی مصر، و لم یکن بها أحد منهم، و خرج وهیب الیحصبیّ شاردا فی سنة سبع عشرة و مائة من أجل أنّ الولید أذن للنصاری فی ابتناء کنیسة یوحنا بالحمراء، و توفی و هو وال أوّل جمادی الآخرة سنة سبع عشرة، و استخلف عبد الرحمن بن خالد، فکانت إمرته تسع سنین و خمسة أشهر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 99
فولی: عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمیّ أبو الولید من قبل هشام بن عبد الملک علی صلاتها، و فی إمرته نزل الروم علی تروجة ، فحاصروها، ثم اقتتلوا فأسروا، فصرفه هشام، فکانت ولایته سبعة أشهر.
و ولی: حنظلة بن صفوان ثانیا فقدم لخمس خلون من المحرّم سنة تسع و مائة، فانتفض القبط، و حاربهم فی سنة إحدی و عشرین و مائة، و قدم رأس زید بن علیّ إلی مصر فی سنة اثنتین و عشرین و مائة، ثم ولاه هشام إفریقیة، فاستخلف حفص بن الولید بإمرة هشام، و خرج لسبع خلون من ربیع الآخر سنة أربع و عشرین و مائة، فکانت ولایته هذه خمس سنین و ثلاثة أشهر.
و ولی: حفص بن الولید الحضرمیّ ثانیا باستخلاف حنظلة له علی صلاتها، فأقرّه هشام بن عبد الملک إلی لیلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من شعبان سنة أربع و عشرین، فجمع له الصلات و الخراج جمیعا، و استسقی بالناس، و خطب و دعا، ثم صلی بهم، و مات هشام بن عبد الملک، و استخلف من بعده: الولید بن یزید، فأقرّ حفصا علی الصلات و الخراج، ثم صرف عن الخراج بعیسی بن أبی عطاء لسبع بقین من شوّال سنة خمس و عشرین و مائة، و انفرد بالصلات، و وفد علی الولید بن یزید، و استخلف عقبة بن نعیم الرعینی، و قتل الولید بن یزید، و حفص بالشام، و بویع یزید بن الولید بن عبد الملک، فأمر حفصا باللحاق بجنده، و أمّره علی ثلاثین ألفا و فرض الفروض، و بعث بیعة أهل مصر إلی یزید بن الولید، ثم توفی یزید و بویع إبراهیم بن الولید، و خلعه مروان بن محمد الجعدی، فکتب حفص یستعفیه من ولایة مصر، فأعفاه مروان، فکانت ولایة حفص هذه ثلاث سنین إلا شهرا.
و ولی: حسان بن عتاهیة بن عبد الرحمن التجیبیّ و هو بالشام، فکتب إلی خیر بن نعیم باستخلافه، فسلم حفص إلی خیر، ثم قدم حسان لثنتی عشرة خلت من جمادی الآخرة سنة سبع و عشرین و مائة علی الصلات، و عیسی بن أبی عطاء علی الخراج، فأسقط حسان فروض حفص کلها، فوثبوا به، و قالوا: لا نرضی إلّا بحفص، و رکبوا إلی المسجد، و دعوا إلی خلع مروان و حصروا حسان فی داره، و قال له: اخرج عنا، فإنک لا تقیم معنا ببلد، و أخرجوا عیسی بن أبی عطاء صاحب الخراج، و ذلک فی آخر جمادی الآخرة، و أقاموا حفصا، فکانت ولایة حسان ستة عشر یوما.
فولی: حفص بن الولید الثالثة: کرها أخذه قوّاد الفروض بذلک، فأقام علی مصر رجب و شعبان، و لحق حسان بمروان، و قدم حنظلة بن صفوان من إفریقیة، و قد أخرجه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 100
أهلها فنزل الجیزة، و کتب مروان بولایته علی مصر، فامتنع المصریون من ولایة حنظلة، و أظهروا الخلع، و أخرجوا حنظلة إلی الحوف الشرقیّ، و منعوه من المقام بالفسطاط، و هرب ثابت بن نعیم من فلسطین یرید الفسطاط، فحاربوه و هزموه، و سکت مروان عن مصر بقیة سنة سبع و عشرین و مائة، ثم عزل حفصا مستهل سنة ثمان و عشرین.
و ولی: الحوثرة بن سهیل بن العجلان الباهلیّ: فسار إلیها فی آلاف، و قدم أوّل المحرّم، و قد اجتمع الجند علی منعه، فأبی علیهم حفص، فخافوا حوثرة، و سألوه الأمان، فأمّنهم، و نزل ظاهر الفسطاط، و قد اطمأنوا إلیه فخرج إلیه حفص، و وجوه الجند، فقبض علیهم، و قیدهم، فانهزم الجند و دخل معه عیسی بن أبی عطاء علی الخراج لثنتی عشرة خلت من المحرّم، و بعث فی طلب رؤساء الفتنة، فجمعوا له و ضرب أعناقهم، و قتل حفص بن الولید، ثم صرف فی جمادی الأولی سنة إحدی و ثلاثین و مائة، و بعثه مروان إلی العراق فقتل، و استخلف علی مصر حسان بن عتاهیة، و قیل: أبا الجرّاح بشر بن أوس، و خرج لعشر خلون من رجب، و کانت ولایته ثلاث سنین و ستة أشهر.
ثم ولی: المغیرة بن عبید اللّه بن المغیرة الفزاریّ علی الصلاة من قبل مروان، فقدم لست بقین من رجب سنة إحدی و ثلاثین، و خرج إلی الإسکندریة، و استخلف أبا الجرّاح الحرشی، و توفی لثنتی عشرة خلت من جمادی الأولی سنة اثنتین و ثلاثین و مائة، فکانت ولایته عشرة أشهر، و استخلف ابنه الولید بن المغیرة، ثم صرف الولید فی النصف من جمادی الآخرة.
و ولی: عبد الملک بن مروان بن موسی بن نصیر من قبل مرون علی الصلات و الخراج، و کان والیا علی الخراج قبل أن یولی الصلات فی جمادی الآخرة سنة اثنتین و ثلاثین و مائة، فأمر باتخاذ المنابر فی الکور، و لم تکن قبله، و إنما کانت ولاة الکور یخطبون علی العصیّ إلی جانب القبلة، و خرج القبط فحاربهم، و قتل کثیرا منهم، و خالف عمرو بن سهیل بن عبد العزیز بن مروان علی مروان، و اجتمع علیه جمع من قیس فی الحوف الشرقیّ، فبعث إلیهم عبد الملک بجیش، فلم یکن حرب، و سار مروان بن محمد إلی مصر منهزما من بنی العباس، فقدم یوم الثلاثاء لثمان بقین من شوّال سنة اثنتین و ثلاثین و مائة، و قد سوّد أهل الحوف الشرقیّ، و أهل الإسکندریة، و أهل الصعید و أسوان، فعزم مروان علی تعدیه النیل، و أحرق دار آل مروان المذهبة، ثم رحل إلی الجیزة، و خرق الجسرین، و بعث بجیش إلی الإسکندریة، فاقتتلوا بالکریون ، و خالفت القبط برشید،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 101
فبعث إلیهم و هزمهم، و بعث إلی الصعید، فقدم صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس فی طلب مروان هو و أبو عون عبد الملک بن یزید یوم الثلاثاء للنصف من ذی الحجة، فأدرک صالح مروان ببوصیر من الجیزة بعد ما استخلف علی الفسطاط معاویة بن بحیرة بن ریسان، فحارب مروان حتی قتل ببوصیر یوم الجمعة لسبع بقین من ذی الحجة، و دخل صالح إلی الفسطاط یوم الأحد لثمان خلون من المحرّم سنة ثلاث و ثلاثین و مائة، و بعث برأس مروان إلی العراق، و انقضت أیام بنی أمیة.
فولی: صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس، ولی من قبل أمیر المؤمنین أبی العباس عبد اللّه بن محمد السفاح، فاستقبل بولایته المحرّم سنة ثلاث و ثلاثین و مائة، و بعث بوفد أهل مصر إلی أبی العباس السفاح ببیعة أهل مصر، و أسر عبد الملک بن موسی بن نصیر و جماعة، و قتل کثیرا من شیعة بنی أمیة، و حمل طائفة منهم إلی العراق، فقتلوا بقلنسوة من أرض فلسطین، و أمر للناس بأعطیاتهم للمقاتلة و العیال، و قسمت الصدقات علی الیتامی و المساکین، و زاد صالح فی المسجد، و ورد علیه کتاب أمیر المؤمنین السفاح، بإمارته علی فلسطین و الاستخلاف علی مصر، فاستخلف أبا عون مستهلّ شعبان سنة ثلاث و ثلاثین، و سار و معه عبد الملک بن نصیر ملزما، و عدّة من أهل مصر صحابة لأمیر المؤمنین، و أقطع الذین سوّدوا قطائع منها: منیة بولاق، و قری إهناس، و غیرها ثم من بعد صالح بن علیّ.
سکن أمراء مصر العسکر، و أوّل من سکنه أبو عون، و اللّه تعالی أعلم.

ذکر العسکر الذی بنی بظاهر مدینة فسطاط مصر

اعلم: أن موضع العسکر قد کان یعرف فی صدر الإسلام بالحمراء القصوی، و قد تقدّم أن الحمراء القصوی کانت خطة بنی الأزرق، و بنی روبیل، و بنی یشکر بن جزیلة، ثم دثرت هذه الخطط بعد العمارة بتلک القبائل، حتی صارت صحراء، فلما قدم مروان بن محدم آخر خلفاء بنی أمیة إلی مصر منهزما من بنی العباس نزلت عساکر صالح بن علیّ، و أبی عون عبد الملک بن یزید فی هذه الصحراء، حیث جبل یشکر حتی ملؤوا الفضاء، و أمر أبو عون أصحابه بالبناء فیه، فبنوا و ذلک فی سنة ثلاث و ثلاثین و مائة.
فلما خرج صالح بن علیّ من مصر خرب أکثر ما بنی فیه إلی زمن موسی بن عیسی الهاشمیّ فابتنی فیه دارا أنزل فیها حشمة و عبیده، و عمر الناس، ثم ولی: السریّ بن الحکم، فأذن للناس فی البناء، فابتنوا فیه و صار مملوکا بأیدیهم، و اتصل بناؤه ببناء الفسطاط، و بنیت فیه دار الإمارة، و مسجد جامع عرف بجامع العسکر، ثم عرف بجامع ساحل الغلة، و عملت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 102
الشرطة أیضا فی العسکر، و قیل لها: الشرطة العلیا، و إلی جانبها بنی أحمد بن طولون جامعه الموجود الآن، و سمی من حینئذ ذلک الفضاء بالعسکر، و صار أمراء مصر إذا ولوا ینزلون به من بعد أبی عون، فقال الناس من یومئذ: کنا بالعسکر، و خرجنا إلی العسکر، و کتب من العسکر، و صار مدینة ذات محال، و أسواق و دور عظیمة، و فیه بنی أحمد بن طولون مارستانه ، فأنفق علیه، و علی مستغله ستین ألف دینار، و کان بالقرب من برکة قارون التی صارت کیمانا، و بعضها برکة علی یسرة من سار من حدرة ابن قمیحة یرید قنطرة السدّ، و علی برکة قارون هذه کانت جنان بنی مسکین، و بنی کافور الإخشیدی دارا أنفق علیها مائة ألف دینار، و سکنها فی رجب سنة ست و أربعین و ثلثمائة، و انتقل منها بعد أیام علیها مائة ألف دینار، و سکنها فی رجب سنة ست و أربعین و ثلثمائة، و انتقل منها بعد أیام لوباء وقع فی غلمانه من بخار البرکة، و عظمت العمارة فی العسکر جدّا إلی أن قدم أحمد بن طولون من العراق إلی مصر، فنزل بدار الإمارة من العسکر، و کان لها باب إلی جامع العسکر، و ینزلها الأمراء منذ بناها صالح بن علیّ بعد قتله مروان، و ما زال بها أحمد بن طولون إلی أن بنی القصر، و المیدان بالقطائع، فتحوّل من العسکر، و سکن قصره بالقطائع، فلما ولی أبو الجیش خمارویه بن أحمد بن طولون بعد أبیه، جعل دار الإمارة دیوان الخراج، ثم فرّقت حجرا بعد دخول محمد بن سلیمان الکاتب إلی مصر، و زوال دولة بنی طولون، فسکن محمد بن سلیمان بدار الإمارة فی العسکر عند المصلی القدیم، و کان المصلی القدیم حیث الکوم المطلّ الآن علی قبر القاضی بکار، و ما زالت الأمراء تنزل بالعسکر إلی أن قدم القائد جوهر من المغرب، و بنی القاهرة المعزیة، و لما بنی أحمد بن طولون القطائع اتصلت مبانیها بالعسکر، و بنی جامعه علی جبل یشکر، فعمرها هنا لک عمارة عظیمة تخرج عن الحدّ فی الکثرة، و قدم جوهر القائد بعساکر مولاه المعز لدین اللّه فی سنة ثمان و خمسین و ثلثمائة، و العسکر عامر إلّا أنه منذ بنیت القطائع هجر اسم العسکر، و صار یقال: مدینة الفسطاط و القطائع، و ربما قیل: و العسکر أحیانا، فلما خرّب محمد بن سلیمان قصر ابن طولون، و میدانه بقی فی القطائع مساکن جلیلة حیث کان العسکر، و أنزل المعز لدین اللّه عمه أبا علیّ فی دار الإمارة، فلم یزل أهله بها إلی أن خربت القطائع فی الشدّة العظمی التی کانت فی خلافة المستنصر أعوام بضع و خمسین و أربعمائة، فیقال: إنه کان هناک زیادة علی مائة ألف دار سوی البساتین، و ما هذا ببعید، فإنّ ذلک کان ما بین سفح الشرف الذی علیه الآن قلعة الجبل، و بین ساحل مصر القدیم حیث الآن الکبارة خارج مصر، و ما علی سمتها إلی کوم الجارح، و من کوم الجارح إلی جامع ابن طولون، و خط
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 103
قناطر السباع، و خط السبع سقایات إلی قنطرة السدّ، و مراغة مصر إلی المعاریج بمصر، و إلی کوم الجارح، ففی هذه المواضع کان العسکر و القطائع، و یخص العسکر من بین ذلک ما بین قناطر السباع، و حدرة ابن قمیحة إلی کوم الجارح حیث الفضاء الذی یتوسط ما بین قنطرة السدّ، و بین سور القرافة الذی یعرف بباب المجدم، فهذا هو العسکر، و لما استولی الخراب فی المحنة أمر ببناء حائط یستر الخراب عن نظر الخلیفة إذا سار من القاهرة إلی مصر، فیما بین العسکر و القطائع، و بین الطریق، و أمر ببناء حائط آخر عند جامع ابن طولون.
فلما کان فی خلافة الآمر بأحکام اللّه أبی علیّ منصور بن المستعلی أمر وزیره أبو عبد اللّه محمد بن فاتک المنعوت بالأجل المأمون بن البطائحی، فنودی مدّة ثلاثة أیام فی القاهرة و مصر، بأنّ من کان له دار فی الخراب، أو مکان فلیعمره، و من عجز عن عمارته یبیعه أو یؤجره من غیر نقل شی‌ء من أنقاضه، و من تأخر بعد ذلک، فلا حق له و لا حکر یلزمه، و أباح تعمیر جمیع ذلک بغیر طلب حق، و کان سبب هذا النداء أنه لما قدم أمیر الجیوش بدر الجمالیّ فی آخر الشدّة العظمی، و قام بعمارة إقلیم مصر، أخذ الناس فی نقل ما کان بالقطائع و العسکر من أنقاض المساکن حتی أتی علی معظم ما هنا لک الهدم، فصار موحشا، و خرب ما بین القاهرة و مصر من المساکن، و لم یبق هنا لک إلّا بعض البساتین، فلما نادی الوزیر المأمون عمّر الناس ما کان من ذلک، مما یلی القاهرة من جهة المشهد النفیسیّ إلی ظاهر باب زویلة، کما یرد خبر ذلک فی موضعه من هذا الکتاب إن شاء اللّه تعالی، و نقلت أنقاض العسکر کما تقدّم، فصار هذا الفضاء الذی یتوصل إلیه من مشهد السیدة نفیسة، و من الجامع الطولونیّ، و من قنطرة السدّ، و من باب المجدم فی سور القرافة، و یسلک فی هذا الفضاء إلی کوم الجارح، و لم یبق الآن من العسکر ما هو عامر سوی جبل یشکر الذی علیه جامع ابن طولون، و ما حوله من الکبش، و حدرة ابن قمیحة إلی خط السبع سقایات، و خط قناطر السباع إلی جامع ابن طولون، و أما سوق الجامع من قبلیه، و ما وراء ذلک إلی المشهد النفیسیّ، و إلی القبیبات، و الرمیلة تحت القلعة، فإنما هو من القطائع کما ستقف علیه عند ذکر القطائع، و عند ذکر هذه الخطط، إن شاء اللّه تعالی، و طالما سلکت هذا الفضاء الذی بین جامع ابن طولون، و کوم الجارح، حیث کان العسکر، و تذکرت ما کان هنا لک من الدور الجلیلة و المنازل العظیمة، و المساجد و الأسواق و الحمامات و البساتین و البرکة البدیعة، و المارستان العجیب، و کیف بادت حتی لم یبق لشی‌ء منها أثر البتة فأنشدت أقول:
و بادوا فلا مخبر عنهم‌و ماتوا جمیعا و هذا الخبر
فمن کان ذا عبرة فلیکن‌فطینا ففی من مضی معتبر
و کان لهم أثر صالح‌فأین هم ثم أین الأثر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 104
و سیأتی لذلک مزید بیان عند ذکر القطائع، و عند ذکر خط قناطر السباع، و غیره من هذا الکتاب إن شاء اللّه تعالی.

ذکر من نزل العسکر من أمراء مصر من حین بنی إلی أن بنیت القطائع

إعلم: أنّ أمراء مصر ما برحوا ینزلون فسطاط مصر منذ اختط بعد الفتح إلی أن بنی أب عون العسکر، فصارت أمراء مصر من عهد أبی عون إنما ینزلون بالعسکر، و ما برحوا علی ذلک إلی أن أنشأ الأمیر أبو العباس أحمد بن طولون القصر و المیدان و القطائع، فتحوّل من العسکر إلی القصر، و سکن فیه و سکنه الأمراء من أولاده بعده إلی أن زالت دولتهم، فسکن الأمراء بعد ذلک العسکر إلی أن زالت دولة الإخشیدیة بقدوم جوهر القائد من المغرب.
و أوّل من سکن العسکر من أمراء مصر: أبو عون: عبد الملک بن یزید من أهل جرجان ولی صلاة مصر و خراجها، باستخلاف صالح بن علیّ له، فی مستهل شعبان سنة ثلاث و ثلاثین و مائة، و وقع الوباء بمصر، فهرب أبو عون إلی یشکر، و استخلف صاحب شرطته عکرمة بن عبد اللّه بن عمرو بن قحزم، و خرج إلی دمیاط فی سنة خمس و ثلاثین و مائة، و استخلف عکرمة، و جعل علی الخراج: عطاء بن شرحبیل، و خرج القبط بسمنود، فبعث إلیهم و قتلهم، و ورد الکتاب بولایة صالح بن علیّ علی مصر و فلسطین و المغرب، جمعلت له، و وردت الجیوش من قبل أمیر المؤمنین السفاح لغزو المغرب.
فولی: صالح بن علیّ الثانیة علی الصلاة و الخراج، فدخل لخمس خلون من ربیع الآخر سنة ست و ثلاثین و مائة، فأقرّ عکرمة علی شرطة الفسطاط، و جعل علی شرطته بالعسکر: یزید بن هانی الکندیّ، و ولی أبا عون جیوش المغرب، و قدّم أمامه دعاة لأهل إفریقیة، و خرج أبو عون فی جمادی الآخرة، و جهزت المراکب من الإسکندریة إلی برقة، فمات السفاح فی ذی الحجة، و استخلف أبو جعفر عبد اللّه بن محمد المنصور، فأقرّ صالحا، و کتب إلی أبی عون بالرجوع، و ردّ الدعاة، و قد بلغوا شبرت ، و بلغ أبو عون برقة، فأقام بها أحد عشر یوما، ثم عاد إلی مصر فی جیشه، فجهزه صالح إلی فلسطین لحربه فغلب، و سیر إلی مصر ثلاثة آلاف رأس، ثم خرج صالح إلی فلسطین، و استخلف ابنه الفضل، فبلغ بلبیس و رجع، ثم خرج لأربع خلون من رمضان سنة سبع و ثلاثین، فلقی أبا عون بالفرما، فأمّره علی مصر صلاتها و خراجها، و مضی فدخل أبو عون الفسطاط لأربع بقین من رمضان.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 105
فولی: أبو عون ولایته الثانیة من قبل صالح بن علیّ، ثم أفرده أبو جعفر بولایتها، و قدم أبو جعفر بیت المقدس، و کتب إلی أبی عون بأن یستخلف علی مصر، و یخرج إلیه، فاستخلف عکرمة علی الصلاة، و عطاء علی الخراج، و خرج للنصف من ربیع الأوّل سنة إحدی و أربعین و مائة، فلما صار إلی أبی جعفر ببیت المقدس، بعث أبو جعفر: موسی بن کعب فکانت ولایة أبی عون هذه ثلاث سنین، و ستة أشهر.
فولیها: موسی بن کعب بن عیینة ابن عائشة أبو عیینة من تمیم من قبل أبی جعفر المنصور، و کان أحد نقباء بنی العباس، فدخلها لأربع عشرة بقیت من ربیع الآخر سنة إحدی و أربعین و مائة علی صلاتها و خراجها، و نزل العسکر و بها الناس من الجند یغدون، و یروحون إلیه، کما کانوا یفعلون بالأمراء قبله، فانتهوا عنه حتی لم یکن أحد یلزم بابه، و کان قد اتهم فی خراسان بأمر أبی مسلم، فأمر به أسد بن عبد اللّه البجلیّ والی خراسان، فألجم بلجام، ثم کسرت أسنانه، فکان یقول بمصر کانت لنا أسنان و لیس عندنا خبز، فلما جاء الخبز ذهبت الأسنان. و کتب إلیه أبو جعفر: إنی عزلتک من غیر سخطة، و لکن بلغنی أنّ غلاما یقتل بمصر یقال له: موسی، فکرهت أن تکونه، فکان ذلک موسی بن مصعب زمن المهدیّ، کما یأتی إن شاء اللّه تعالی، فولی موسی بن کعب سبعة أشهر، و صرف فی ذی القعدة، و استخلف علی الجند ابن خاله ابن حبیب، و علی الخراج نوفل بن الفرات، و خرج لست بقین منه.
فولی: محمد بن الأشعث بن عقبة الخزاعیّ من قبل أبی جعفر علی الصلاة و الخراج، و قدم لخمس خلون من ذی الحجة سنة إحدی و أربعین و مائة، و بعث أبو جعفر إلی نوفل بن الفرات: أن اعرض علی محمد بن الأشعث ضمان خراج مصر، فإن ضمنه فأشهد علیه، و اشخص إلیّ، و إن أبی فاعمل علی الخراج، فعرض علیه ذلک فأبی، فانتقل نوفل الدواوین، فافتقد ابن الأشعث الناس، فقیل له: هم عند صاحب الخراج، فندم علی تسلیمه، و عقد علی جیش بعث به إلی المغرب لحربه فانهزم، و خرج ابن الأشعث یوم الأضحی سنة اثنتین و أربعین، و توجه إلی الإسکندریة، و استخلف محمد بن معاویة بن بجیر بن رسان صاحب شرطته، ثم صرف ابن الأشعث، فکانت ولایته سنة و شهرا.
و ولی: حمید بن قحطبة بن شبیب بن خالد بن سعدان الطائیّ من قبل أبی جعفر علی الصلاة و الخراج، فدخل فی عشرین ألفا من الجند لخمس خلون من رمضان سنة ثلاث
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 106
و أربعین و مائة، ثم قدم عسکر آخر فی شوّال، و قدم علیّ بن محمد بن عبد اللّه بن حسن بن الحسن داعیة لأبیه و عمه، فدس إلیه حمید، فتغیب، فکتب بذلک إلی أبی جعفر، فصرفه فی ذی القعدة، و خرج لثمان بقین من ذی القعدة سنة أربع و أربعین.
فولی: یزید بن حاتم بن قبیصة بن المهلب بن أبی صفرة من قبل أبی جعفر علی الصلاة و الخراج، فقدم علی البرید للنصف من ذی القعدة، فاستخلف علی الخراج معاویة بن مروان بن موسی بن نصیر، و فی إمرته ظهرت دعوة بنی الحسن بن علیّ بمصر، و تکلم بها الناس، و بایع کثیر منهم لعلیّ بن محمد بن عبد اللّه، و طرق المسجد لعشر خلون من شوّال سنة خمس و أربعین، کما یذکر فی موضعه من هذا الکتاب إن شاء اللّه تعالی، ثم قدمت الخطباء برأس إبراهیم بن عبد اللّه بن حسن بن الحسن بن علیّ فی ذی الحجة، فنصبت فی المسجد، و ورد کتاب أبی جعفر بأمر یزید بن حاتم بالتحوّل من العسکر إلی الفسطاط، و أن یجعل الدیوان فی کنائس القصر، و ذلک فی سنة ست و أربعین و مائة من أجل لیلة المسجد، و منع یزید أهل مصر من الحج سنة خمس و أربعین، فلم یحج أحد منهم، و لا من أهل الشام، لما کان بالحجاز من الاضطراب بأمر بنی حسن، ثم حج یزید فی سنة سبع و أربعین، و استخلف عبد اللّه بن عبد الرحمن بن معاویة بن خدیج صاحب شرطته، و بعث جیشا لغزو الحبشة من أجل خارجیّ ظهر هناک، فظفر به الجیش، و قدم رأسه فی عدّة رؤوس، فحملت إلی بغداد، و ضم یزید برقة إلی عمل مصر، و هو أوّل من ضمها إلی مصر، و ذلک فی سنة ثمان و أربعین، و خرج القبط بسخا فی سنة خمسین و مائة، فبعث إلیهم جیشا، فشتته القبط و رجع منهزما، فصرفه أبو جعفر فی ربیع الآخر سنة اثنتین و خمسین و مائة، فکانت ولایته سبع سنین و أربعة أشهر.
و ولی: عبد اللّه بن عبد الرحمن بن معاویة بن حدیج من قبل أبی جعفر علی الصلاة لثنتی عشرة بقیت من ربیع الآخر، و هو أوّل من خطب بالسواد، و خرج إلی أبی جعفر لعشر بقین من رمضان سنة أربع و خمسین و مائة، و استخلف أخاه محمدا، و رجع فی آخرها، و مات و هو وال مستهلّ صفر سنة خمس و خمسین و مائة، و استخلف أخاه محمدا، فکانت ولایته سنتین و شهرین.
فولی: محمد بن عبد الرحمن بن معاویة بن خدیج باستخلاف أخیه، فأقرّه أبو جعفر علی الصلاة، و مات و هو وال للنصف من شوّال، فکانت ولایته ثمانیة أشهر و نصفا، و استخلف موسی بن علیّ.
فولی: موسی بن علیّ بن رباح باستخلاف محمد بن خدیج، فأقرّه أبو جعفر علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 107
الصلاة و خرج القبط بهبیب فی سنة ست و خمسین، فبعث إلیهم و هزمهم، و کان یروح إلی المسجد ماشیا، و صاحب شرطته بین یدیه یحمل الحربة، و إذا أقام صاحب الشرطة الجدود یقول له: ارحم أهل البلاد، فیقول: أیها الأمیر ما یصلح الناس إلا ما یفعل بهم، و کأن یحدّث، فیکتب الناس عنه، و مات أبو جعفر لست خلون من ذی الحجة سنة ثمان و خمسین و مائة، و بویع ابنه محمد المهدیّ، فأقرّ موسی بن علیّ إلی سابع عشر ذی الحجّة سنة إحدی و ستین و مائة، فکانت ولایته ست سنین و شهرین.
و ولی: عیسی بن لقمان بن محمد الجمحیّ: من قبل المهدیّ علی الصلاة و الخراج، فقدم لثلاث عشرة بقیت من ذی الحجة سنة إحدی و ستین و مائة، و صرف لثنتی عشرة بقیت من جمادی الأولی سنة اثنتین و ستین و مائة فولیها أربعة أشهر.
ثم ولی: واضح مولی أبی جعفر من قبل المهدیّ علی الصلاة و الخراج، فدخل لست بقین من جمادی الأولی و صرف فی رمضان.
فولی: منصور بن یزید بن منصور الرعینیّ، و هو ابن خال المهدیّ علی الصلاة، فقدم لإحدی عشرة خلت من رمضان سنة اثنتین و ستین و مائة، و صرف للنصف من ذی الحجة، فکان مقامه شهرین و ثلاثة أیام.
ثم ولی: یحیی بن داود أبو صالح من أهل خراسان من قبل المهدیّ علی الصلاة و الخراج، فقدم فی ذی الحجة، و کان أبوه ترکیا، و هو من أشدّ الناس، و أعظمهم هیبة، و أقدمهم علی الدم، و أکثرهم عقوبة، فمنع من غلق الدروب باللیل، و من غلق الحوانیت حتی جعلوا علیها شرائح القصب لمنع الکلاب، و منع حرّاس الحمامات أن یجلسوا فیها، و قال: من ضاع له شی‌ء، فعلیّ أداؤه، و کان الرجل یدخل الحمام، فیضع ثیابه، و یقول: یا أبا صالح احرسها، فکانت الأمور علی هذا مدّة ولایته، و أمر الأشراف و الفقهاء، و أهل النوبات بلبس القلانس الطوال، و الدخول بها علی السلطان یوم الاثنین و الخمیس بلا أردیة، و کان أبو جعفر المنصور إذا ذکره قال: هو رجل یخافنی، و لا یخاف اللّه، فولی إلی المحرّم سنة أربع و ستین.
و قدم: سالم بن سوادة التمیمیّ من قبل المهدیّ علی الصلاة، و معه أبو قطیعة إسماعیل بن إبراهیم علی الخراج لثنتی عشرة خلت من المحرّم.
ثم ولی: إبراهیم بن صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس من قبل المهدیّ علی الصلاة و الخراج، فقدم لإحدی عشرة خلت من المحرّم سنة خمس و ستین، و ابتنی دارا عظیمة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 108
بالموقف من العسکر، و خرج دحیة بن المعصب بن الأصبغ بن عبد العزیز بن مروان بالصعید، و نابذ، و دعا إلی نفسه بالخلافة، فتراخی عنه إبراهیم، و لم یحفل بأمره حتی ملک عامّة الصعید، فسخط المهدیّ لذلک، و عزله عزلا قبیحا لسبع خلون من ذی الحجة سنة سبع و ستین، فولیها ثلاث سنین.
ثم ولی: موسی بن مصعب بن الربیع من أهل الموصل علی الصلاة و الخراج من قبل المهدیّ، فقدم لسبع خلون من ذی الحجة المذکور، فردّ إبراهیم، و أخذ منه و ممن عمل له ثلثمائة ألف دینار، ثم سیره إلی بغداد، و شدّد موسی فی استخراج الخراج، و زاد علی کل فدّان ضعف ما یقبل به، و ارتشی فی الأحکام، و جعل خرجا علی أهل الأسواق، و علی الدواب، فکرهه الجند و نابذوه، و ثارت قیس و الیمانیة، و کاتبوا أهل الفسطاط، فاتفقوا علیه و بعث بجیش إلی قتال دحیة بالصعید، و خرج فی جند مصر کلهم لقتال أهل الحوف.
فلما التقوا انهزم عنه أهل مصر بأجمعهم، و أسلموه فقتل من غیر أن یتکلم أحد من أهل مصر لتسع خلون من شوّال سنة ثمان و ستین و مائة، فکانت ولایته عشرة أشهر، و کان ظالما غاشما سمعه اللیث بن سعد یقرأ فی خطبته:: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِینَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها، فقال اللیث: اللهم لا تمقتنا.
ثم ولی: عسامة بن عمرو باستخلاف موسی بن مصعب، و بعث إلی دحیة جیشا مع أخیه بکار بن عمرو، فحارب یوسف بن نصیر، و هو علی جیش دحیة، فتطاعنا و وضع یوسف الرمح فی خاصرة بکار، و وضع بکار الرمح فی خاصرة یوسف فقتلا معا، و رجع الجیشان منهزمین، و ذلک فی ذی الحجة، و صرف عسامة لثلاث عشرة خلت من ذی الحجة بکتاب ورد علیه من الفضل بن صالح بأنه ولی مصر، و قد استخلفه، فخلعه إلی سلخ المحرّم سنة تسع و ستین و مائة.
ثم قدم الفضل بن صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس سلخ المحرّم المذکور فی جیوش الشام، و مات المهدیّ فی المحرّم هذا، و بویع موسی الهادی، فأقرّ الفضل، و قدم مصر یضطرب من أهل الخوف و من خروج دحیة، فإنّ الناس کانوا قد کاتبوه و دعوه، فسیر العساکر حتی هزم دحیة، و أسر و سیق إلی الفسطاط فضربت عنقه، و صلب فی جمادی الآخرة سنة تسع و ستین، فکان الفضل یقول: أنا أولی الناس بولایة مصر، لقیامی فی أمر دحیة، و قد عجز عنه غیری فعزل، و ندم علی قتل دحیة، و الفضل هو الذی بنی الجامع بالعسکر فی سنة تسع و ستین، فکانوا یجمعون فیه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 109
ثم ولی: علیّ بن سلیمان بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس من قبل الهادی علی الصلاة و الخراج، فدخل فی سنة تسع و ستین و مائة، و مات الهادی للنصف من ربیع الأوّل سنة سبعین و مائة، و بویع هارون بن محمد الرشید، فأقرّ علیّ بن سلیمان، و أظهر فی ولایته الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، و منع الملاهی و الخمور، و هدم الکنائس المحدثة بمصر، و بذل له فی ترکها خمسون ألف دینار، فامتنع و کان کثیر الصدقة فی اللیل، و أظهر أنه تصلح له الخلافة، و طمع فیها، فسخط علیه هارون الرشید، و عزله لأربع بقین من ربیع الأوّل سنة إحدی و سبعین و مائة.
ثم ولی: موسی بن عیسی بن موسی بن محمد بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس من قبل الرشید علی الصلاة، فأذن للنصاری فی بنیان الکنائس التی هدمها علیّ بن سلیمان، فبنیت بمشورة اللیث بن سعد، و عبد اللّه بن لهیعة، ثم صرف لأربع عشرة خلت من رمضان سنة اثنتین و سبعین و مائة، فکانت ولایته سنة و خمسة أشهر و نصفا.
ثم ولی: مسلمة بن یحیی بن قرّة بن عبید اللّه البجلیّ من أهل جرجان من قبل الرشید علی الصلاة، ثم صرف فی شعبان سنة ثلاث و سبعین، فولیها أحد عشر شهرا.
ثم ولی: محمد بن زهیر الأزدی علی الصلاة و الخراج لخمس خلون من شعبان، فبادر الجند لعمر بن غیلان صاحب الخراج، فلم یدفع عنه، فصرف بعد خمسة أشهر فی سلخ ذی الحجة سنة ثلاث و سبعین و مائة.
فولی: داود بن یزید بن حاتم بن قبیصة بن المهلب بن أبی صفرة، و قدم هو و إبراهیم بن صالح بن علیّ، فولی داود الصلاة، و بعث بإبراهیم لإخراج الجند الذین ثاروا من مصر، فدخل لأربع عشرة خلت من المحرّم سنة أربع و سبعین و مائة، فأخرجت الجند العدیدة إلی المشرق و المغرب فی عالم کثیر، فساروا فی البحر فأسرتهم الروم، و صرف لست خلون من المحرّم سنة خمس و سبعین، فکانت ولایته سنة و نصف شهر.
ثم ولی: موسی بن عیسی بن موسی بن محمد بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس علی الصلاة و الخراج من قبل الرشید، فدخل لسبع خلون من صفر سنة خمس و سبعین، و صرف للیلتین بقیتا من صفر سنة ست و سبعین و مائة، فولی سنة واحدة.
ثم ولی: إبراهیم بن صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس ثانیا من قبل الرشید، فکتب إلی عسامة بن عمرو، فاستخلفه، ثم قدم نصر بن کلثوم خلیفته علی الخراج مستهلّ ربیع الأوّل، و توفی عسامة لسبع بقین من ربیع الآخر، فقدم روح بن روح بن زنباع خلیفة لإبراهیم علی الصلاة و الخراج، ثم قدم إبراهیم للنصف من جمادی الأولی، و توفی و هو وال لثلاث خلون من شعبان، فکان مقامه بمصر شهرین و ثمانیة عشر یوما، و قام بالأمر بعده ابنه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 110
صالح بن إبراهیم، مع صاحب شرطته خالد بن یزید.
ثم ولی: عبد اللّه بن المسیب بن زهیر بن عمرو الضبیّ من قبل الرشید علی الصلاة لإحدی عشرة بقیت من رمضان سنة ست و سبعین و مائة، و صرف فی رجب سنة سبع و سبعین و مائة.
فولی: إسحاق بن سلیمان بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس من قبل الرشید علی الصلاة و الخراج مستهلّ رجب، فکشف أمر الخراج، و زاد علی المزارعین زیادة أجحفت بهم، فخرج علیه أهل الحوف، فحاربهم، فقتل کثیر من أصحابه، فکتب إلی الرشید بذلک، فعقد لهرثمة بن أعین فی جیش عظیم، و بعث به فنزل الحوف، فتلقاه أهله بالطاعة، و أذعنوا فقبل منهم، و استخرج الخراج کله، فکان صرف إسحاق فی رجب سنة ثمان و سبعین و مائة.
فولی: هرثمة بن أعین من قبل الرشید علی الصلاة و الخراج للیلتین خلتا من شعبان ثم سار إلی إفریقیة لثنتی عشر خلت من شوّال، فأقام بمصر شهرین و نصفا.
ثم ولی: عبد الملک بن صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس من قبل الرشید علی الصلاة و الخراج، فلم یدخل مصر، و استخلف عبد اللّه بن المسیب بن زهیر الضبیّ، و صرف فی سلخ سنة ثمان و سبعین و مائة.
فولی: عبید اللّه بن المهدیّ محمد بن عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه بن عباس من قبل الرشید علی الصلاة و الخراج فی یوم الاثنین لثنتی عشرة خلت من المحرّم سنة تسع و سبعین و مائة، فاستخلف ابن المسیب، ثم قدم لإحدی عشرة خلت من ربیع الأول، و صرف فی شهر رمضان، فولی تسعة أشهر و خرج من مصر للیلتین خلتا من شوّال. فأعاد الرشید موسی بن عیسی و ولاه مرّة ثالثة علی الصلاة، فقدم ابنه یحیی بن موسی خلیفة له لثلاث خلون من رمضان، ثم قدم آخر ذی القعدة، و صرف فی جمادی الآخرة سنة ثمانین و مائة.
فولی الرشید عبید اللّه بن المهدیّ ثانیا علی الصلاة، فقدم داود بن حباش خلیفة له لسبع خلون من جمادی الآخرة، ثم قدم لأربع خلون من شعبان، و صرف لثلاث خلون من رمضان سنة إحدی و ثمانین و مائة.
فولی: إسماعیل بن صالح بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس علی الصلاة لسبع خلون من رمضان، فاستخلف عون بن وهب الخزاعیّ، ثم قدم لخمس بقین منه. قال ابن عفیر:
ما رأیت علی هذه الأعواد أخطب من إسماعیل بن صالح، ثم صرف فی جمادی الآخرة سنة اثنتین و ثمانین و مائة.
فولی: إسماعیل بن عیسی بن موسی بن محمد بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس من قبل الرشید علی الصلاة، فقدم لأربع عشرة بقیت من جمادی الآخرة، و صرف فی رمضان.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 111
فولی: اللیث بن الفضل البیوردیّ من أهل بیورد علی الصلاة و الخراج، و قدم لخمس خلون من شوّال، ثم خرج إلی الرشید لسبع بقین من رمضان سنة ثلاث و ثمانین و مائة بالمال و الهدایا، و استخلف أخاه الفضل بن علیّ، ثم عاد فی آخر السنة، و خرج ثانیا بالمال لتسع بقین من رمضان سنة خمس و ثمانین، و استخلف هاشم بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن معاویة بن حدیج، و قدم لأربع عشرة خلت من المحرّم سنة ست و ثمانین، فکان کلما غلق خراج سنة، و فرغ من حسابها خرج بالمال إلی أمیر المؤمنین هارون الرشید، و معه الحساب، ثم خرج علیه أهل الحوف، و ساروا إلی الفسطاط، فخرج إلیهم فی أربعة آلاف لیومین بقیا من شعبان سنة ست و ثمانین و مائة، و استخلف عبد الرحمن بن موسی بن علیّ بن رباح علی الجند و الخراج، فواقع أهل الحوف، و انهزم عنه الجند، فبقی فی نحو المائتین فحمل بهم، و هزم القوم من أرض الجبّ إلی غیفة ، و بعث إلی الفسطاط بثمانین رأسا، و قدم فرجع أهل الحوف، و منعوا الخراج، فخرج لیث إلی الرشید، و سأله أن یبعث معه بالجیوش، فإنه لا یقدر علی استخراج الخراج من أهل الأحواف إلّا بجیش، فرفع محفوظ بن سلیمان أنه یضمن خراج مصر عن آخره بغیر سوط و لا عصا، فولاه الرشید الخراج، و صرف لیثا عن الصلاة و الخراج، و بعث أحمد بن إسحاق علی الصلاة، مع محفوظ، و کانت ولایة لیث أربع سنین، و سبعة أشهر.
فولی: أحمد بن إسماعیل بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس من قبل الرشید علی الصلاة و الخراج، و قدم لخمس بقین من جمادی الآخرة سنة سبع و ثمانین، ثم صرف لثمان عشرة خلت من شعبان سنة تسع و ثمانین، فولی سنتین و شهرا و نصفا.
ثم ولی: عبید اللّه بن محمد بن إبراهیم بن محمد بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس علی الصلاة، و استخلف لهیعة بن عیسی بن لهیعة الحضرمیّ، ثم قدم للنصف من شوّال، و صرف لإحدی عشرة بقیت من شعبان سنة تسعین و مائة، و خرج و استخلف هاشم بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن معاویة بن خدیج.
و ولی: الحسین بن جمیل من قبل الرشید علی الصلاة، و قدم لعشر خلون من رمضان، ثم جمع له الخراج مع الصلاة فی رجب سنة إحدی و تسعین، و خرج أهل الحوف، و امتنعوا من أداء الخراج، و خرج أبو النداء بأیلة فی نحو ألف رجل، فقطع الطریق
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 112
بأیلة ، و شعیب، و مدین ، و أغار علی بعض قری الشام، و ضوی إلیه من جذام جماعة، فبلغ من النهب و القتل مبلغا عظیما، فبعث الرشید من بغداد جیشا لذلک، و بعث الحسین بن جمیل من مصر: عبد العزیز بن الوزیر بن صابی الجرویّ فی عسکر، فالتقی العسکران بأیلة، فظفر عبد العزیز بأبی النداء، و سار جیش الرشید إلی بلبیس فی شوّال سنة إحدی و تسعین و مائة، فأذعن أهل الحوف بالخراج، و صرف ابن جمیل لثنتی عشرة خلت من ربیع الآخر سنة اثنتین، و تسعین و مائة.
فولی: مالک بن دلهم بن عمیر الکلبیّ علی الصلاة و الخراج، و قدم لسبع بقین من ربیع الآخر، و فرغ یحیی بن معاذ أمیر جیش الرشید من أمر الحوف، و قدم الفسطاط لعشر بقین من جمادی الآخرة، فکتب إلی أهل الأحواف أن اقدموا حتی أوصی بک مالک بن دلهم، فدخل الرؤساء من الیمانیة و القیسیة، فأخذت علیهم الأبواب، و قیدوا، و سار بهم للنصف من رجب، و صرف مالک لأربع خلت من صفر سنة ثلاث و تسعین و مائة.
فولی الحسن بن التختاح بن التختکان علی الصلاة و الخراج، فاستخلف العلاء بن عاصم الخولانیّ، و قدم لثلاث خلون من ربیع الأوّل، ثم مات الرشید، و استخلف ابنه محمد الأمین، فثار الجند بمصر، و وقعت فتنة عظیمة قتل فیها عدّة، و سیر الحسن مال مصر، فوثب أهل الرملة، و أخذوه، و بلغ الحسن عزله، فسار من طریق الحجاز لفساد طریق الشام لثمان بقین من ربیع الأوّل سنة أربع و تسعین و مائة، و استخلف عوف بن وهب علی الصلاة، و محمد بن زیاد بن طبق القیسیّ علی الخراج.
فولی حاتم بن هرثمة بن أعین من قبل الأمین علی الصلاة و الخراج، و قدم فی ألف من الأبناء، فنزل بلبیس، فصالحه أهل الأحواف علی خراجهم، و ثار علیه أهل تنو و تمی ، و عسکروا، فبعث إلیهم جیشا، فانهزموا، و دخل حاتم إلی الفسطاط، و معه نحو مائة من الرهائن لأربع خلون من شوّال، و صرف فی جمادی الآخرة سنة خمس و تسعین و مائة.
فولی جابر بن الأشعث بن یحیی الطائیّ من قبل الأمین علی الصلاة و الخراج لخمس بقین من جمادی الآخرة، و کان لینا، فلما حدثت فتنة الأمین و المأمون، قام السریّ بن الحکم غضبا للمأمون، و دعا الناس إلی خلع الأمین، فأجابوه و بایعوا المأمون
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 113
لثمان بقین من جمادی الآخرة سنة ست و تسعین، و أخرجوا جابر بن الأشعث، و کانت ولایته سنة.
فولی عباد بن محمد بن حیان أبو نصر من قبل المأمون علی الصلاة و الخراج، لثمان خلون من رجب بکتاب هرثمة بن أعین، و کان وکیله علی ضیاعه بمصر فی الثامن من رجب سنة ست و تسعین، فبلغ الأمین ما کان بمصر، فکتب إلی ربیعة بن قیس بن الزبیر الجرشی رئیس قیس الحوف بولایة مصر، و کتب إلی جماعة بمعاونته، فقاموا ببیعة الأمین، و خلعوا المأمون، و ساروا لمحاربة أهل الفسطاط، فخندق عباد، و کانت حروب، فقتل الأمین، و صرف عباد فی صفر سنة ثمان و تسعین و مائة، فکانت ولایته سنة و سبعة أشهر.
فولی المطلب بن عبد اللّه بن مالک الخزاعیّ من قبل المأمون علی الصلاة و الخراج، فدخل من مکة للنصف من ربیع الأوّل، فکانت فی أیامه حروب، و صرف فی شوّال بعد سبعة أشهر.
فولی العباس بن موسی بن عیسی بن موسی بن محمد بن علیّ بن عبد اللّه بن عباس من قبل المأمون علی الصلاة و الخراج، فقدم ابنه عبد اللّه، و معه الحسین بن عبید بن لوط الأنصاریّ فی آخر شوّال، فسجنا المطلب، فثار الجند مرارا، فمنعهم الأنصاریّ أعطیاتهم و تهدّدهم، و تحامل علی الرعیة و عسفها، و تهدّد الجمیع، فثاروا، و أخرجوا المطلب من الحبس، و أقاموه لأربع عشرة خلت من المحرّم سنة تسع و تسعین و مائة، و أقبل العباس، فنزل بلبیس، و دعا قیسا إلی نصرته، و مضی إلی الجرویّ بتنیس، ثم عاد فمات فی بلبیس لثلاث عشرة بقیت من جمادی الآخرة، و یقال: إن المطلب دسّ إلیه سما فی طعامه فمات منه، و کانت حروب و فتن، فکانت ولایة المطلب هذه سنة و ثمانیة أشهر.
ثم ولی السری بن الحکم بن یوسف من قوم الزط و من أهل بلخ بإجماع الجند علیه عند قیامه علی المطلب فی مستهلّ رمضان سنة مائتین.
ثم ولی سلیمان بن غالب بن جبریل البجلیّ علی الصلاة و الخراج بمبایعة الجند له لأربع خلون من ربیع الأوّل سنة إحدی و مائتین، فکانت حروب، ثم صرف بعد خمسة أشهر.
و أعید السری بن الحکم ثانیا من قبل المأمون علی الصلاة و الخراج، فذمّت ولایته، و أخرجه الجند من الحبس لثنتی عشرة خلت من شعبان، و تتبع من حاربه، و قوی أمره و مات، و هو وال لانسلاخ جمادی الأولی سنة خمس و مائتین، فکانت ولایته هذه ثلاث سنین و تسعة أشهر و ثمانیة عشر یوما.
فولی ابنه محمد بن السریّ أبو نصر أوّل جمادی الآخرة علی الصلاة و الخراج، و کان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 114
الجروی قد غاب علی أسفل الأرض فجرت بینهما حروب، ثم مات لثمان خلون من شعبان سنة ست و مائتین، و کانت ولایته أربعة عشر شهرا.
ثم ولی عبید اللّه بن السریّ بن الحکم بمبایعة الجند لتسع خلون من شعبان علی الصلاة و الخراج، فکانت بینه و بین الجرویّ حروب إلی أن قدم عبد اللّه بن طاهر، و أطعن له عبید اللّه فی آخر صفر سنة إحدی عشرة و مائتین.
فولی عبد اللّه بن طاهر بن الحسین بن مصعب من قبل المأمون علی الصلاة و الخراج، فدخل یوم الثلاثاء للیلتین خلتا من ربیع الأوّل سنة إحدی عشرة و مائتین، و أقام فی معسکره حتی خرج عبد اللّه بن السریّ إلی بغداد للنصف من جمادی الأولی، ثم سار إلی الإسکندریة مستهلّ صفر سنة اثنتی عشرة، و استخلف عیسی بن یزید الجلودیّ، فحصرها بضع عشرة لیلة، و رجع فی جمادی الآخرة، و أمر بالزیادة فی الجامع العتیق، فزید فیه مثله، و رکب النیل متوجها إلی العراق لخمس بقین من رجب، و کان مقامه بمصر والیا سبعة عشر شهرا، و عشرة أیام.
ثم ولی عیسی بن یزید الجلودیّ باستخلاف ابن طاهر علی صلاتها إلی سابع عشر ذی القعدة سنة ثلاث عشرة، فصرف ابن طاهر، و ولی الأمیر أبو إسحاق بن هارون الرشید مصر، فأقرّ عیسی علی الصلاة فقط، و جعل علی الخراج: صالح بن شیرازاد، فظلم الناس، و زاد علیهم فی خراجهم، فانتفض أهل أسفل الأرض، و عسکروا، فبعث عیسی بابنه محمد فی جیش، فحاربوه فانهزم، و قتل أصحابه فی صفر سنة أربع عشرة.
فولی عمیر بن الولید التمیمیّ باستخلاف أبی إسحاق بن الرشید علی الصلاة لسبع عشرة خلت من صفر، و خرج و معه عیسی الجلودیّ لقتال أهل الحوف فی ربیع الآخر، و استخلف ابنه محمد بن عمیر فاقتتلوا، و کانت بینهم معارک قتل فیها عمیر لست عشرة خلت من ربیع الآخر، فکانت مدّة إمرته ستین یوما.
فولی عیسی الجلودیّ ثانیا لأبی إسحاق علی الصلاة، فحارب أهل الحوف بمنیة مطر، ثم انهزم فی رجب، و أقبل أبو إسحاق إلی مصر فی أربعة آلاف من أتراکه، فقاتل أهل الحوف فی شعبان، و دخل إلی مدینة الفسطاط لثمان بقین منه، و قتل أکابر الحوف، ثم خرج إلی الشام غرّة المحرّم سنة خمس عشرة و مائتین فی أتراکه، و معه جمع من الأساری فی ضر و جهد شدید.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 115
و ولی علی مصر عبدویه بن جبلة من الأبناء علی الصلاة، فخرج ناس بالحوف فی شعبان، فبعث إلیهم و حاربهم حتی ظفر بهم، ثم قدم الأفشین حیدر بن کاوس الصفدیّ إلی مصر لثلاث خلون من ذی الحجة، و معه علیّ بن عبد العزیز الجرویّ لأخذ ماله، فلم یدفع إلیه شیئا، فقتله، و صرف عبدویه، و خرج إلی برقة.
و ولی عیسی بن منصور بن موسی بن عیسی الرافعیّ، فولی من قبل أبی إسحاق أوّل سنة ست عشرة علی الصلاة، فانتقضت أسفل الأرض عربها، و قبطها فی جمادی الأولی، و أخرجوا العمال لسوء سیرتهم، و خلعوا الطاعة، فقدم الأفشین من برقة للنصف من جمادی الآخرة، ثم خرج هو و عیسی فی شوّال، فأوقعا بالقوم، و أسرا منهم و قتلا، و مضی الأفشین و رجع عیسی، فسار الأفشین إلی الحوف، و قتل جماعتهم، و کانت حروب إلی أن قدم أمیر المؤمنین عبد اللّه المأمون لعشر خلون من المحرّم سنة سبع عشرة و مائتین، فسخط علی عیسی و حلّ لواءه، فأخذه بلباس البیاض، و نسب الحدث إلیه، و إلی عماله و سیر الجیوش و أوقع بأهل الفساد و سبی القبط، و قتل مقاتلتهم، ثم رحل لثمان عشرة خلت من صفر بعد تسعة و أربعین یوما.
و ولی کیدر و هو نصر بن عبد اللّه أبو مالک الصفدیّ، فورد کتاب المأمون علیه بأخذ الناس بالمحنة فی جمادی الآخرة سنة ثمان عشرة، و القاضی بمصر یومئذ هارون بن عبد اللّه الزهریّ، فأجاب، و أجاب الشهود، و من وقف منهم سقطت شهادته، و أخذ بها القضاة و المحدّثون و المؤذنون، فکانوا علی ذلک من سنة ثمان عشرة إلی سنة اثنتین و ثلاثین، و مات المأمون فی رجب سنة ثمان عشرة، و بویع أبو إسحاق المعتصم، فورد کتابه علی کیدر ببیعته، و یأمره بإسقاط من فی الدیوان من العرب، و قطع العطاء عنهم، ففعل ذلک، فخرج یحیی بن الوزیر الجرویّ فی جمع من لخم و جذام، و مات کیدر فی ربیع الآخر سنة تسع عشرة و مائتین.
فولی ابنه المظفر بن کیدر باستخلاف أبیه و خرج إلی یحیی بن وزیر، و قاتله و أسره فی جمادی الآخرة، ثم صرفت مصر إلی أبی جعفر أشناس فدعی له بها، و صرف مظفر فی شعبان.
فولی موسی بن أبی العباس ثابت من قبل أشناس علی الصلاة مستهلّ شهر رمضان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 116
سنة تسع عشرة، و صرف فی ربیع الآخرة سنة أربع و عشرین و مائتین، فکانت ولایته أربع سنین، و سبعة أشهر.
فولی مالک بن کیدر بن عبد اللّه الصفدیّ من قبل أشناس علی الصلاة و قدم لسبع بقین من ربیع الآخر، و صرف لثلاث خلون من ربیع الآخر سنة ست و عشرین، فولی سنتین و أحد عشر یوما، و توفی لعشر خلون من شعبان سنة ثلاث و ثلاثین و مائتین.
فولی علیّ بن یحیی الأرمنیّ من قبل أشناس علی صلاتها، و قدم لسبع خلون من ربیع الآخر سنة ست و عشرین و مائتین، و مات المعتصم فی ربیع الأوّل سنة سبع و عشرین، و بویع: الواثق بالله، فأقرّه إلی سابع ذی الحجة سنة ثمان و عشرین و مائتین، فکانت ولایته سنتین و ثلاثة أشهر.
ثم ولی عیسی بن منصور الثانیة من قبل أشناس علی صلاتها، فدخل لسبع خلون من المحرّم سنة تسع و عشرین و مائتین، و مات أشناس سنة ثلاثین، و جعل مکانه إیتاخ، فأقرّ عیسی، و مات الواثق، و بویع المتوکل، فصرف عیسی للنصف من ربیع الأوّل سنة ثلاث و ثلاثین و مائتین، و قدم علیّ بن مهرویه خلیفة هرثمة بن النضر، ثم مات عیسی فی قبة الهواء بعد عزله لإحدی عشرة خلت من ربیع الآخر.
فولی هرثمة بن نضر الجبلیّ من أهل الجبل لإیتاخ علی الصلاة، و قدم لست خلون من رجب سنة ثلاث و ثلاثین و مائتین، فورد کتاب المتوکل یترک الجدال فی القرآن لخمس خلون من جمادی الآخرة سنة أربع و ثلاثین و مائتین، و مات هرثمة، و هو وال لسبع بقین من رجب سنة أربع، و استخلف ابنه حاتم بن هرثمة.
فولی حاتم بن هرثمة بن النضر باستخلاف أبیه له علی الصلاة، و صرف لست خلون من رمضان.
فولی علیّ بن یحیی بن الأرمنیّ الثانیة من قبل إیتاخ علی الصلاة لست خلون من رمضان، و صرف إیتاخ فی المحرّم سنة خمس و ثلاثین، و استصفیت أمواله بمصر، و ترک الدعاء له، و دعی للمنتصر مکانه، و صرف علیّ فی ذی الحجة منها.
فولی إسحاق بن یحیی بن معاذ بن مسلم الجبلیّ من قبل المنتصر ولیّ عهد أبیه المتوکل علی اللّه علی الصلاة و الخراج، فقدم لإحدی عشرة خلت من ذی الحجة، فورد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 117
کتاب المتوکل و المنتصر بإخراج الطالبیین من مصر إلی العراق، فأخرجوا، و مات إسحاق بعد عزله أوّل ربیع الآخر سنة سبع و ثلاثین و مائتین.
فولی خوط عبد الواحد بن یحیی بن منصور بن طلحة بن زریق من قبل المنتصر علی الصلاة و الخراج، فقدم لتسع بقین من ذی القعدة سنة ست و ثلاثین و مائتین، و صرف عن الخراج لتسع خلون من صفر سنة سبع و ثلاثین، و أقرّ علی الصلاة، ثم صرف سلخ صفر سنة ثمان و ثلاثین بخلیفته عنبسة علی الصلاة و الشرکة فی الخراج مستهل ربیع الأوّل.
فولی عنبسة بن إسحاق بن شمر عبس أبو جابر من قبل المنتصر علی الصلاة، و شریکا لأحمد بن خالد الضریقسیّ صاحب الخراج، فقدم لخمس خلون من ربیع الآخر سنة ثمان و ثلاثین و مائتین و أخذ العمال بردّ المظالم، و أقامهم للناس، و أنصف منهم، و أظهر من العدل ما لم یسمع بمثله فی زمانه، و کان یروح ماشیا إلی المسجد الجامع من العسکر، و کان ینادی فی شهر رمضان السحور، و کان یرمی بمذهب الخوارج، و فی ولایته نزل الروم دمیاط، و ملکوها و ما فیها، و قتلوا بها جمعا کثیرا من الناس و سبوا النساء و الأطفال، فنفر إلیهم یوم النحر من سنة ثمان و ثلاثین فی جیشه، و کثیر من الناس، فلم یدرکهم، و أضیف له الخراج مع الصلاة، ثم صرف عن الخراج أوّل جمادی الآخرة سنة إحدی و أربعین، و أفرد بالصلاة، و ورد الکتاب بالدعاء للفتح بن خاقان فی ربیع الأوّل سنة اثنتین و أربعین، فدعا له، و عنبسة هذا آخر من ولی مصر من العرب، و آخر أمیر صلی بالناس فی المسجد الجامع، و صرف أوّل رجب منها، فقدم العباس بن عبد اللّه بن دینار خلیفة یزید بن عبد اللّه بولایة یزید، و کانت ولایة عنبسة أربع سنین، و أربعة أشهر، و خرج إلی العراق فی رمضان سنة أربع و أربعین.
فولی یزید بن عبد اللّه بن دینار أبو خالد من الموالی، ولاه: المنتصر علی الصلاة، فقدم لعشر بقین من رجب سنة اثنتین و أربعین، فأخرج المؤنثین من مصر، و ضربهم و طاف بهم، و منع من النداء علی الجنائز، و ضرب فیه، و خرج إلی دمیاط مرابطا فی المحرّم سنة خمس و أربعین و رجع فی ربیع الأوّل، فبلغه نزول الروم الفرما، فرجع إلیها، فلم یلقهم، و عطل الرهان و باع الخیل التی تتخذ للسلطان، فلم تجر إلی سنة تسع و أربعین، و تتبّع الروافض، و حملهم إلی العراق، و بنی مقیاس النیل فی سنة سبع و أربعین، و جرت علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 118
العلویین فی ولایته شدائد، و مات المتوکل فی شوّال، و بویع ابنه محمد المنتصر، و مات الفتح بن خاقان، فأقرّ المنتصر یزید علی مصر، ثم مات المنتصر فی ربیع الأوّل سنة ثمان و أربعین، و بویع المستعین، فورد کتابه بالاستسقاء لقحط کان بالعراق، فاستسقوا السبع عشرة خلت من ذی القعدة، و استسقی أهل الآفاق فی یوم واحد، و خلع المستعین فی المحرّم سنة اثنتین و خمسین، و بویع المعتز، فخرج جابر بن الولید بأرض الإسکندریة، و کانت هناک حروب ابتدأت من ربیع الآخر، فقدم مزاحم بن خاقان من العراق معینا لیزید فی جیش کثیف لثلاث عشرة بقیت من رجب، فواقعهم حتی ظفر بهم، ثم صرف یزید، و کانت مدّته عشر سنین، و سبعة أشهر و عشرة أیام.
فولی مزاحم بن خاقان بن عرطوج أبو الفوارس الترکیّ لثلاث خلون من ربیع الأوّل سنة ثلاث، و خمسین و مائتین علی الصلاة من قبل المعتز، و خرج إلی الحوف، فأوقع بأهله و عاد، ثم خرج إلی الجیزة، فسار إلی تروجة، فأوقع بأهلها، و أسر عدّة من أهل البلاد، و قتل کثیرا، و سار إلی الفیوم، فطاش سیفه، و کثر إیقاعه بسکان النواحی و عاد.
و ولی الشرطة أرجوز، فمنع النساء من الحمامات و المقابر، و سجن المؤنثین و النوائح، و منع من الجهر بالبسملة فی الصلاة بالجامع فی رجب سنة ثلاث و خمسین، و لم یزل أهل مصر علی الجهر بها فی الجامع منذ الإسلام إلی أن منع منها: أرجوز، و أخذ أهل الجامع بتمام الصفوف، و وکل بذلک رجلا من العجم یقوم بالسوط من مؤخر المسجد، و أمر أهل الحلق بالتحوّل إلی القبلة قبل إقامة الصلاة، و منع من المساند التی یستند إلیها، و من الحصر التی کانت للمجالس فی الجامع، و أمر أن تصلی التراویح فی رمضان خمس تراویح، و لم یزل أهل مصر یصلونها ستا إلی شهر رمضان سنة ثلاث و خمسین و مائتین، و منع من التثویب، و أمر بالأذان یوم الجمعة فی مؤخر المسجد، و أن یغلس بصلاة الصبح، و نهی أن یشق ثوب علی میت أو یسوّد وجه، أو یحلق شعر، أو تصیح امرأة، و عاقب فی ذلک، و شدّد فیه، ثم مات مزاحم لخمس مضین من المحرّم سنة أربع و خمسین.
فاستخلف ابنه أحمد بن مزاحم، فولی باستخلاف أبیه علی الصلاة إلی أن مات لسبع خلون من ربیع الآخر، فکانت ولایته شهرین و یوما، فاستخلف أرجوز بن أولع طرخان الترکیّ علی الصلاة، فولی خمسة أشهر و نصفا، و خرج أوّل ذی القعدة بعد أن صرف بأحمد بن طولون فی شهر رمضان سنة أربع و خمسین و مائتین، و إلیه کان أمر البلد جمیعه، من أیام مزاحم، و فی أیام ابنه أحمد أیضا، و اللّه تعالی أعلم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 119

ذکر القطائع و دولة بنی طولون

اعلم: أنّ القطائع قد زالت آثارها، و لم یبق لها رسم یعرف، و کان موضعها: من قبة الهواء التی صار مکانها قلعة الجبل إلی جامع ابن طولون، و هذا أشبه أن یکون طول القطائع، و أمّا عرضها: فإنه من أوّل الرمیلة تحت القلعة إلی الموضع الذی یعرف الیوم بالأرض الصفراء عند مشهد الرأس الذی یقال له الآن: زین العابدین، و کانت مساحة القطائع میلا فی میل، فقبة الهواء کانت فی سطح الجرف الذی علیه قلعة الجبل.
و تحت قبة الهواء: قصر ابن طولون، و موضع هذا القصر: المیدان السلطانیّ تحت القلعة و الرمیلة التی تحت القلعة مکان سوق الخیل و الحمیر و الجمال. کانت بستانا، و یجاورها المیدان فی الموضع الذی یعرف الیوم: بالقبیبات، فیصیر المیدان، فیما بین القصر و الجامع الذی أنشأه أحمد بن طولون، و بحذاء الجامع: دار الأمارة فی جهته القبلیة، و لها باب من جدار الجامع یخرج منه إلی المقصورة المحیطة بمصلی الأمیر إلی جوار المحراب، و هناک أیضا دار الحرم، و القطائع: عدّة قطع، تسکن فیها عبید ابن طولون، و عساکره و غلمانه، و کل قطیعة لطائفة، فیقال: قطیعة السودان، و قطیعة الروم، و قطیعة الفرّاشین، و نحو ذلک، فکانت کل قطیعة لسکنی جماعة بمنزلة الحارات التی بالقاهرة، و کان ابتداء عمارة هذه القطائع، و سببها: أنّ أمیر المؤمنین المعتصم بالله أبا إسحاق محمد بن هارون الرشید، لما اختص بالأتراک، و وضع من العرب، و أخرجهم من الدیوان، و أسقط أسماءهم، و منعهم العطاء، و جعل الأتراک أنصار دولته، و أعلام دعوته. کان من عظمت عنده منزلته قلّده الأعمال الجلیلة الخارجة عن الحضرة فیستخلف علی ذلک العمل الذی تقلده من یقوم بأمره، و یحمل إلیه ماله، و یدعی له علی منابره کما یدعی للخلیفة، و کانت مصر عندهم بهذه السبیل.
و قصد المعتصم، و من بعده من الخلفاء بذلک، العمل مع الأتراک محاکاة ما فعله الرشید، بعبد الملک بن صالح، و المأمون بطاهر بن الحسین، ففعل المعتصم مثل ذلک بالأتراک، فقلد أشناس، و قلّد الواثق إیتاخ، و قلد المتوکل نقا و وصیف، و قلد المهتدی ماجور، و غیر من ذکرنا من أعمال الأقالیم ما قد تضمنته کتب التاریخ، فتقلد باکباک مصر، و طلب من یخلفه علیها، و کان أحمد بن طولون قد مات أبوه فی سنة أربعین و مائتین، و لأحمد عشرون سنة منذ ولد من جاریة کانت تدعی قاسم، و کان مولده فی سنة عشرین و مائتین، و ولدت أیضا أخاه موسی و حبسیة و سمانة، و کان طولون من الطغرغر مما حمله نوح بن أسد عامل بخاری إلی المأمون فیما کان موظفا علیه من المال، و الرقیق و البراذین، و غیر ذلک فی کل سنة، و ذلک فی سنة مائتین، فنشأ أحمد بن طولون نشأ جمیلا غیر نش‌ء أولاد العجم، فوصف بعلوّ الهمة، و حسن الأدب و الذهاب بنفسه عما کان یترامی إلیه أهل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 120
طبقته، و طلب الحدیث، و أحب الغزو، و خرج إلی طرسوس مرّات، و لقی المحدّثین، و سمع منهم، و کتب العلم، و صحب الزّهاد و أهل الورع، فتأدّب بآدابهم، و ظهر فضله، فاشتهر عند الأولیاء، و تمیز علی الأتراک، و صار فی عداد من یوثق به، و یؤتمن علی الأموال و الأسرار، فزوّجه ماجور ابنته، و هی أم ابنه العباس، و ابنته فاطمة.
ثم إنه سأل الوزیر عبید اللّه بن یحیی أن یکتب له برزقه علی الثغر، فأجابه و خرج إلی طرسوس، فأقام بها و شق علی أمّه مفارقته، فکاتبته بما أقلقه، فلما قفل الناس إلی سرّ من رأی سار معهم إلی لقاء أمّه، و کان فی القافلة، نحو خمسمائة رجل، و الخلیفة إذ ذاک:
المستعین بالله أحمد بن المعتصم، و کان قد أنفذ خادما إلی بلاد الروم لعمل أشیاء نفیسة، فلما عاد بها، و هی: وقر بغل إلی طرسوس، خرج مع القافلة، و کان من رسم الغزاة أن یسیروا متفرّقین، فطرق الأعراب بعض سوادهم، و جاء الصائح: فبدر أحمد بن طولون لقتالهم و تبعوه، فوضع السیف فی الأعراب، و رمی بنفسه فیهم حتی استنفذ منهم جمیع ما أخذوه، و فرّوا منه، و کان من جملة ما استنفذ من الأعراب البغل المحمل بمتاع الخلیفة، فعظم أحمد بما فعل عند الخادم، و کبر فی أعین القافلة، فلما وصلوا إلی العراق، و شاهد المستعین ما أحضره الخادم أعجب به، و عرّفه الخادم خروج الأعراب، و أخذهم البغل بما علیه، و ما کان من صنع أحمد بن طولون، فأمر له بألف دینار، و سلم علیه مع الخادم، و أمره أن یعرّفه به إذا دخل مع المسلمین، ففعل ذلک، و توالت علیه صلاة الخلیفة حتی حسنت حاله، و وهبه جاریة اسمها: میاس استولدها ابنه خمارویه فی النصف من المحرّم سنة خمسین و مائتین، فلما خلع المستعین، و بویع المعتز أخرج المستعین إلی واسط، و اختار الأتراک أحمد بن طولون أن یکون معه، فسلم إلیه و مضی به، فأحسن عشرته، و أطلق له التنزه و الصید، و خشی أن یلحقه منه احتشام، فألزمه کاتبه أحمد بن محمد الواسطیّ، و هو إذ ذاک غلام حسن الشاهد حاضر النادرة، فأنس به المستعین.
ثم إن فتیحة أم المعتز کتبت إلی أحمد بن طولون بقتل المستعین، و قلدته واسط، فامتنع من ذلک، و کتب إلی الأتراک یخبرهم بأنه لا یقتل خلیفة له فی رقبته بیعة، فزاد محله عند الأتراک بذلک، و وجهوا سعید الحاجب، و کتبوا إلی ابن طولون بتسلیم المستعین له، فتسلمه منه و قتله، و واراه ابن طولون، و عاد إلی سرّ من رأی، و قد تقلد باکباک مصر، و طلب من یوجهه إلیها، فذکر له أحمد بن طولون، فقلده خلافته، و ضم إلیه جیشا، و سار إلی مصر، فدخلها یوم الأربعاء لسبع بقین من شهر رمضان سنة أربع و خمسین و مائتین متقلّدا للقصبة دون غیرها من الأعمال الخارجة عنها، کالإسکندریة و نحوها، و دخل معه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 121
أحمد بن محمد الواسطیّ، و جلس الناس لرؤیته، فسأل بعضهم غلام أبی قبیل: صاحب الملاحم، و کان مکفوفا عما یجده فی کتبهم، فقال: هذا رجل نجد صفته کذا و کذا و أنه یتقلد الملک هو و ولده قریبا من أربعین سنة، فما تمّ کلامه حتی أقبل أحمد بن طولون، و إذا هو علی النعت الذی قال.
و لما تسلم أحمد بن طولون مصر کان علی الخراج أحمد بن محمد بن المدبر، و هو من دهاة الناس، و شیاطین الکتاب، فأهدی إلی أحمد بن طولون هدایا قیمتها عشرة آلاف دینار بعد ما خرج إلی لقائه هو و شقیر الخادم غلام فتیحة أم المعتز، و هو یتقلد البرید، فرأی ابن طولون بین یدی ابن المدبر مائة غلام من الغور، قد انتخبهم و صیرهم عدّة و جمالا، و کان لهم خلق حسن و طول أجسام، و بأس شدید، و علیهم أقبیة و مناطق تقال عراض، و بأیدیهم مقارع غلاظ علی طرف کل مقرعة مقمعة من فضة، و کانوا یقفون بین یدیه فی حافتی مجلسه إذا جلس، فإذا رکب رکبوا بین یدیه، فیصیر له بهم هیبة عظیمة فی صدور الناس، فلما بعث ابن المدبر بهدیته إلی ابن طولون ردّها علیه، فقال ابن المدبر: إنّ هذه لهمة عظیمة، من کانت هذه همته لا یؤمن علی طرف من الأطراف، فخافه و کره مقامه بمصر معه، و سار إلی شقیر الخادم صاحب البرید، و اتفقا علی مکاتبة الخلیفة بإزالة ابن طولون، فلم یکن غیر أیام حتی بعث ابن طولون إلی ابن المدبر یقول له: قد کنت أعزک اللّه أهدیت لنا هدیة وقع الغنی عنها، و لم یجز أن یغتنم مالک کثّره اللّه، فرددتها توفیرا علیک، و نحب أن تجعل العوض منها الغلمان الذین رأیتهم بین یدیک، فأنا إلیهم أحوج منک، فقال ابن المدبر: لما بلغته الرسالة هذه أخری أعظم مما تقدّم قد ظهرت من هذا الرجل إذ کان یردّ الأعراض، و الأموال و یستهدی الرجال، و یثابر علیهم، و لم یجد بدّا من أن بعثهم إلیه، فتحوّلت هیبة ابن المدبر إلی ابن طولون، و نقصت مهابة ابن المدبر بمفارقة الغلمان مجلسه.
فکتب ابن المدبر فیه إلی الحضرة یغری به، و یحرّض علی عزله، فبلغ ذلک ابن طولون، فکتم فی نفسه، و لم یبده و اتفق موت المعتز فی رجب سنة خمس و خمسین، و قیام المهتدی بالله محمد بن الواثق، و قتل باکباک، و ردّ جمیع ما کان بیده إلی ماجور الترکیّ حموا بن طولون، فکتب إلیه: تسلم من نفسک لنفسک، و زاده الأعمال الخارجة عن قصبة مصر، و کتب إلی إسحاق بن دینار، و هو یتقلد الإسکندریة أن یسلمها لأحمد بن طولون، فعظمت لذلک منزلته، و کثر قلق ابن المدبر و غمه، و دعته ضرورة الخوف من ابن طولون إلی ملاطفته، و التقرّب من خاطره، و خرج ابن طولون إلی الإسکندریة و تسلمها من إسحاق بن دینار، و أقرّه علیها، و کان أحمد بن عیسی بن شیخ الشیبانیّ یتقلد جندی فلسطین و الأردن.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 122
فلما مات وثب ابنه علی الأعمال، و استبدّ بها، فبعث ابن المدبر سبعمائة ألف و خمسین ألف دینار حملا من مال مصر إلی بغداد، فقبض ابن شیخ علیها، و فرّقها فی أصحابه، و کانت الأمور قد اضطربت ببغداد، فطمع ابن شیخ فی التغلب علی الشامات، و أشیع أنه یرید مصر، فلما قتل المهتدی فی رجب سنة ست و خمسین، و بویع المعتمد بالله أحمد بن المتوکل لم یدع ابن شیخ له، و لا بایع هو، و لا أصحابه، فبعث إلیه بتقلید أرمینیة زیادة علی ما معه من بلاد الشام، و فسح له فی الاستخلاف علیها، و الإقامة علی عمله، فدعا حینئذ للمعتمد، و کتب إلی ابن طولون أن یتأهب لحرب ابن شیخ، و أن یزید فی عدّته، و کتب لابن المدبر أن یطلق له من المال ما یرید، فعرض ابن طولون الرجال، و أثبت من یصلح، و اشتری العبید من الروم و السودان، و عمل سائر ما یحتاج إلیه، و خرج فی تجمل کبیر و جیش عظیم، و بعث إلی ابن شیخ یدعوه إلی طاعة الخلیفة، و ردّ ما أخذ من المال، فأجاب بجواب قبیح، فسار لست خلون من جمادی الآخرة، و استخلف أخاه موسی بن طولون علی مصر، ثم رجع من الطریق بکتاب ورد علیه من العراق، و دخل الفسطاط فی شعبان.
و قدم من العراق: ماجور الترکیّ لمحاربة ابن شیخ، فلقیه أصحاب ابن شیخ، و علیهم ابنه، فانهزموا منه، و قتل الابن، و استولی ماجور علی دمشق، و لحق ابن شیخ بنواحی أرمینیة، و تقلد ماجور أعمال الشام کله، و صار أحمد بن طولون من کثرة العبید، و الرجال و الآلات بحال یضیق به داره، و لا یتسع له فرکب إلی سفح الجبل فی شعبان، و أمر بحرث قبور الیهود و النصاری، و اختط موضعها فبنی القصر و المیدان، و تقدّم إلی أصحابه و غلمانه و أتباعه أن یختطوا لأنفسهم حوله، فاختطوا و بنوا حتی اتصل البناء لعمارة الفسطاط، ثم قطعت القطائع، و سمیت کل قطیعة باسم من سکنها، فکانت للنوبة قطیعة مفردة تعرف بهم، و للروم قطیعة مفردة تعرف بهم، و للفرّاشین قطیعة مفردة تعرف بهم، و لکل صنف من الغلمان قطیعة مفردة تعرف بهم.
و بنی القوّاد مواضع متفرّقة، فعمرت القطائع عمارة حسنة، و تفرّقت فیها السکک و الأزقة، و بنیت فیها المساجد الحسان و الطواحین و الحمامات و الأفران، و سمیت أسواقها، فقیل: سوق العیارین، و کان یجمع العطارین و البزازین، و سوق الفامیین، و یجمع الجزارین و البقالین و الشوّایین، فکان فی دکاکین الفامیین جمیع ما فی دکاکین نظرائهم فی المدینة.
و أکثر و أحسن، و سوق الطباخین، و یجمع الصیارف، و الخبازین و الحلوانیین، و لکل من الباعة سوق حسن عامر، فصارت القطائع مدینة کبیرة، أعمر و أحسن من الشام، و بنی ابن طولون قصره و وسعه و حسنه، و جعل له میدانا کبیرا یضرب فیه بالصوالجة، فسمی القصر کله المیدان، و کان کل من أراد الخروج من صغیر و کبیر إذا سئل عن ذهابه یقول:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 123
إلی المیدان، و عمل للمیدان أبوابا لکل باب اسم، و هی باب المیدان، و منه کان یدخل و یخرج معظم الجیش، و باب الصوالجة، و باب الخاصة، و لا یدخل منه إلا خاصة ابن طولون، و باب الجبل لأنه مما یلی جبل المقطم، و باب الحرم، و لا یدخل منه إلا خادم خصیّ أو حرمة، و باب الدرمون لأنه کان یجلس عنه حاجب أسود عظیم الخلقة یتقلد جنایات الغلمان السودان الرجالة فقط یقال له: الدرمون، و باب دعناج لأنه کان یجلس عنده حاجب یقال له: دعناج، و باب الساج لأنه عمل من خشب الساج، و باب الصلاة لأنه کان فی الشارع الأعظم، و منه یتوصل إلی جامع ابن طولون، و عرف هذا الباب أیضا بباب السباع، لأنه کان علیه صورة سبعین من جبس، و کان الطریق الذی یخرج منه ابن طولون، و هو الذی یعرج منه إلی القصر طریقا واسعا فقطعه بحائط و عمل فیه ثلاثة أبواب کأکبر ما یکون من الأبواب، و کانت متصلة بعضها ببعض واحدا بجانب الآخر.
و کان ابن طولون إذا رکب یخرج معه عسکر متکاثف الخروج علی ترتیب حسن بغیر زحمة، ثم یخرج ابن طولون من الباب الأوسط من الأبواب الثلاثة بمفرده من غیر أن یختلط به أحد من الناس، و کانت الأبواب المذکورة تفتح کلها فی یوم العید، أو یوم عرض الجیش، أو یوم صدقة، و ما عدا هذه الأیام لا تفتح إلا بترتیب فی أوقات معروفة، و کان القصر له مجلس یشرف منه ابن طولون یوم العرض، و یوم الصدقة لینظر من أعلاه من یدخل و یخرج، و کان الناس یدخلون من باب الصوالجة، و یخرجون من باب السباع، و کان علی باب السباع مجلس یشرف منه ابن طولون لیلة العید علی القطائع لیری حرکات الغلمان، و تأهبهم و تصرّفهم فی حوائجهم، فإذا رأی فی حال أحد منهم نقصا أو خللا، أمر له بما یتسع به، و یزید فی تجمله، و کان یشرف منه أیضا علی البحر، و علی باب مدینة الفسطاط، و ما یلی ذلک.
فکان منتزها حسنا، و بنی الجامع، فعرف بالجامع الجدید، و بنی العین و السقایة بالمغافر، و بنی تنور فرعون فوق الجبل، و اتسعت أحواله و کثرت اصطبلاته و کراعه، و عظم صیته، فخافه ماجور، و کتب فیه إلی الحضرة یغری به، و کتب فیه ابن المدبر و شقیر الخادم، و کانت لابن طولون أعین، و أصحاب أخبار یطالعونه بسائر ما یحدث، فلما بلغه ذلک تلطف أصحاب الأخبار له ببغداد عند الوزیر، حتی سیر إلی ابن طولون بکتب ابن المدبر، و کتب شقیر من غیر أن یعلما بذلک، فإذا فیها: أنّ أحمد بن طولون عزم علی التغلب علی مصر و العصیان بها، فکتم خبر الکتب و ما زال بشقیر حتی مات و کتب إلی الحضرة یسأل صرف ابن المدبر عن الخراج، و تقلید هلال فأجیب إلی ذلک، و قبض علی ابن المدبر و حبسه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 124
و کات له معه أمور آلت إلی خروج ابن المدبر عن مصر، و تقلد ابن طولون خراج مصر مع المعونة و الثغور الشامیة، فأسقط المعاون و المرافق، و کانت بمصر خاصة فی کل سنة مائة ألف دینار، فأظفره اللّه عقیب ذلک، بکنز فیه ألف ألف دینار: بنی منه المارستان، و خرج إلی الشام، و قد تقلدها فتسلم دمشق و حمص، و نازل أنطاکیة حتی أخذها، و کانت صدقاته علی أهل المسکنة و الستر، و علی الضعفاء و الفقراء، و أهل التجمل متواترة، و کان راتبه لذلک فی کل شهر ألفی دینار سوی ما یطرأ علیه من النذور، و صدقات الشکر علی تجدید النعم، و سوی مطابخه التی أقیمت فی کل یوم للصدقات فی داره و غیرها. یذبح فیها البقر و الکباش، و یغرف للناس فی القدور و الفخار و القصاع علی کل قدر أو قصعة لکل مسکین أربعة أرغفة فی اثنین منها فالوذج، و الاثنان الآخران علی القدر، و کانت تعمل فی داره، و ینادی من أحبّ أن یحضر دار الأمیر فلیحضر، و تفتح الأبواب و یدخل الناس المیدان، و ابن طولون فی المجلس الذی تقدّم ذکره ینظر إلی المساکین، و یتأمل فرحهم بما یأکلون و یحملون، فیسرّه ذلک، و یحمد اللّه علی نعمته.
و لقد قال له مرّة إبراهیم ابن قراطغان، و کان علی صدقاته: أیّد اللّه الأمیر إنّا نقف فی المواضع التی تفرّق فیها الصدقة، فتخرج لنا الکف الناعمة المخضوبة نقشا، و المعصم الرائع فیه الحدیدة، و الکف فیها الخاتم فقال: یا هذا کل من مدّ یده إلیک، فأعطه فهذه هی اللطیفة المستوردة التی ذکرها اللّه سبحانه و تعالی فی کتابه فقال: یَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِیاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة/ 273] فاحذر أن تردّ یدا امتدّت إلیک، و أعط کل من یطلب منک.
فلما مات أحمد بن طولون، و قام من بعده ابنه خمارویه أقبل علی قصر أبیه، و زاد فیه، و أخذ المیدان الذی کان لأبیه، فجعله کله بستانا، و زرع فیه أنواع الریاحین، و أصناف الشجر، و نقل إلیه الودی اللطیف الذی ینال ثمره القائم، و منه ما یتناوله الجالس من أصناف خیار النخل، و حمل إلیه کل صنف من الشجر المطعم العجیب، و أنواع الورد، و زرع فیه الزعفران، و کسا أجسام النخل نحاسا مذهبا حسن الصنعة، و جعل بین النحاس، و أجساد النخل مزاریب الرصاص، و أجری فیها الماء المدبر، فکان یخرج من تضاعیف، قائم النخل عیون الماء، فتنحدر إلی فساقی معمولة، و یفیض منها الماء إلی مجار تسقی سائر البستان، و غرس فیه من الریحان المزروع علی نقوش معمولة، و کتابات مکتوبة یتعاهدها البستانیّ بالمقراض حتی لا تزید ورقة علی ورقة، و زرع فیه النیلوفر الأحمر، و الأزرق و الأصفر و الجنوی العجیب، و أهدی إلیه من خراسان و غیرها، کل أصل عجیب، و طعموا له شجر المشمش باللوز، و أشباه ذلک من کل ما یستظرف و یستحسن، و بنی فیه برجا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ، لیقوم مقام الأقفاص، و زوّقه بأصناف الأصباغ و بلط أرضه، و جعل فی تضاعیفه أنهارا لطافا جدا و لها یجری فیها الماء مدبرا من السواقی التی تدور علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 125
الآبار العذبة، و یسقی منها الأشجار و غیرها، و سرّح فی هذا البرج من أصناف القماری و الدباسی و النونیات، و کل طائر مستحسن حسن الصوت، فکانت الطیر تشرب، و تغتسل من تلک الأنهار الجاریة فی البرج، و جعل فیه أوکارا فی قوادیس لطیفة ممکنة فی جوف الحیطان، لتفرخ الطیور فیها، و عارض لها فیه عیدانا ممکنة فی جوانبه لتقف علیها إذا تطایرت حتی یجاوب بعضها بعضا بالصیاح، و سرّح فی البستان من الطیر العجیب کالطواویس، و دجاج الحبش، و نحوها شیئا کثیرا.
و عمل فی داره مجلسا برواقة سماه بیت الذهب طلی حیطانه کلها بالذهب المجاول باللازورد المعمول فی أحسن نقش، و أظرف تفصیل، و جعل فیه علی مقدار قامة و نصف صورا فی حیطانه بارزة من خشب معمول علی صورته، و صور حظایاه، و المغنیات اللّاتی تغنینه بأحسن تصویر، و أبهج تزویق، و جعل علی رؤوسهنّ الأکالیل من الذهب الخالص الإبریز الرزین، و الکوادن المرصعة بأصناف الجواهر، و فی آذانها الأجراس الثقال الوزن، المحکمة الصنعة، و هی مسمرة فی الحیطان، و لوّنت أجسامها بأصناف أشباه الثیاب من الأصباغ العجیبة.
فکان هذا البیت من أعجب مبانی الدنیا و جعل بین یدی هذا البیت فسقیة مقدّرة و ملأها زئبقا، و ذلک أنه شکا إلی طبیبه کثرة السهر، فأشار علیه بالتغمیر ، فأنف من ذلک، و قال: لا أقدر علی وضع ید أحد علیّ، فقال له: تأمر بعمل برکة من زئبق، فعمل برکة یقال: إنها خمسون ذراعا طولا فی خمسین ذراعا عرضا، و ملأها من الزئبق، فأنفق فی ذلک أموالا عظیمة، و جعل فی أرکان البرکة سککا من الفضة الخالصة، و جعل فی السکک زنانیر من حریر محکمة الصنعة فی حلق من الفضة، و عمل فرشا من أدم یحشی بالریح حتی ینتفخ، فیحکم حینئذ شدّة، و یلقی علی تلک البرکة الزئبق، و تشدّ زنانیر الحریر التی فی حلق الفضة بسکک الفضة، و ینام علی هذا الفرش، فلا یزال الفرش یرتج و یتحرّک بحرکة الزئبق، ما دام علیه، و کانت هذه البرکة من أعظم ما سمع به من الهمم الملوکیة، فکان یری لها فی اللیالی المقمرة منظر عجیب، إذا تألف نور القمر بنور الزئبق، و لقد أقام الناس بعد خراب القصر مدّة یحفرون لأخذ الزئبق من شقوق البرکة، و ما عرف ملک قط تقدّم خمارویه فی عمل مثل هذه البرکة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 126
و بنی أیضا فی القصر قبة تضاهی قبة الهواء سماها الدکة، فکانت أحسن شی‌ء بنی، و جعل لها الستر التی تقی الحرّ و البرد، فتسبل إذا شاء، و ترفع إذا أحب، و فرش أرضها بالفرش السریة، و عمل لکل فصل فرشا یلیق به، و کان کثیرا ما یجلس فی هذه القبة لیشرف منها علی جمیع ما فی داره من البستان و غیره، و یری الصحراء و النیل و الجبل، و جمیع المدینة، و بنی میدانا آخر أکبر من میدان أبیه، و کان أحمد بن طولون، قد اتخذ حجرة بقربه فیها رجال سمّاهم بالمکبرین عدّتهم اثنا عشر رجلا یبیت منهم فی کل لیلة أربعة یتعاقبون اللیل نوبا یکبرون و یسبحون و یحمدون، و یهللون و یقرءون القرآن تطریبا بألحان، و یتوسلون بقصائد زهدیة، و یؤذنون أوقات الأذان، فلما ولی خمارویه: أقرّهم علی حالهم، و أجراهم علی رسمهم، و کان یجلس للشرب مع حظایاه فی اللیل، و قیناته تغنین، فإذا سمع أصوات هؤلاء یذکرون اللّه، و القدح فی یده وضعه بالأرض، و أسکت مغنیاته، و ذکر اللّه معهم أبدا، حتی یسکت القوم لا یضجره ذلک، و لا یغیظه أن قطع علیه ما کان فیه من لذته بالسماع.
و بنی أیضا فی داره: دارا للسباع عمل فیها بیوتا بآزاج، کل بیت یسع سبعا، و لبوته، و علی تلک البیوت أبواب تفتح من أعلاها بحرکات، و لکل بیت منها طاق صغیر یدخل منه الرجل الموکل بخدمة ذلک البیت یفرشه بالزبل، و فی جانب کل بیت حوض من رخام بمیزاب من نحاس یصب فیه المال، و بین یدی هذه البیوت قاعة فسیحة متسعة فیها رمل مفروش بها، و فی جانبها حوض کبیر من رخام یصب فیه ماء من میزاب کبیر، فإذا أراد سائس سبع من تلک السباع تنظیف بیته أو وضع وظیفة اللحم التی لغذائه، رفع الباب بحیلة من أعلی البیت، و صاح بالسبع، فیخرج إلی القاعة المذکورة، و یردّ الباب، ثم ینزل إلی البیت من الطاق، فیکنس الزبل، و یبدّل الرمل بغیره مما هو نظیف، و یضع الوظیفة من اللحم فی مکان معدّ لذلک بعدما یخلص ما فیه من الغدد، و یقطعه لهما، و یغسل الحوض، و یملأه ماء، ثم یخرج و یرفع الباب من أعلاه، و قد عرف السبع ذاک، فحال ما یرفع السائس باب البیت دخل إلیه الأسد، فأکل ما هیئ له من اللحم، حتی یستوفیه، و یشرب من الماء کفایته، فکانت هذه مملوءة من السباع، و لهم أوقات یفتح فیها سائر بیوت السباع، فتخرج إلی القاعة، و تتمشی فیها و تمرح و تلعب، و یهارش بعضها بعضا، فتقیم یوما کاملا إلی العشیّ، فیصبح بها السّواس، فیدخل کل سبع إلی بیته لا یتخطاه إلی غیره.
و کان من جملة هذه السباع: سبع أزرق العینین یقال له: زریق قد أنس بخمارویه، و صار مطلقا فی الدار لا یؤذی أحدا، و یقام له بوظیفته من الغذاء فی کل یوم، فإذا نصبت مائدة خمارویه أقبل زریق معها، و ربض بین یدیه، فرمی إلیه بیده الدجاجة بعد الدجاجة، و الفضلة الصالحة من الجدی، و نحو ذلک مما علی المائدة، فیتفکه به.
و کانت له لبوة لم تستأنس کما أنس، فکانت مقصورة فی بیت، و لها وقت معروف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 127
یجتمع معها فیه، فإذا نام خمارویه جاء زریق لیحرسه، فإن کان قد نام علی سریر ربض بین یدی السریر، و جعل یراعیه، ما دام نائما، و إن کان إنما نام علی الأرض بقی قریبا منه، و تفطن لمن یدخل، و یقصد خمارویه لا یغفل عن ذلک لحظة واحدة، و کان علی ذلک دهره قد ألف ذلک، و درب علیه، و کان فی عنقه طوق من ذهب، فلا یقدر أحد من أن یدنو من خمارویه ما دام نائما لمراعاة زریق له، و حراسته إیاه حتی إذا شاء اللّه إنفاذ قضائه فی خمارویه کان بدمشق، و زریق غائب عنه بمصر، لیعلم أنه لا یغنی حذر من قدر، و بنی أیضا دار الحرم، و نقل إلیها أمهات أولاد أبیه، مع أولادهنّ، و جعل معهنّ المعزولات من أمهات أولاده، و أفرد لکل واحدة حجرة واسعة نزل فی کل حجرة منها بعد زوال دولتهم قائد جلیل فوسعته، و فضل عنه منها شی‌ء، و أقام لکل حجرة من الأنزال و الوظائف الواسعة، ما کان یفضل عن أهلها منه شی‌ء کثیر، فکان الخدم الموکلون بالحرم من الطباخین، و غیرهم یفضل لکل منهم مع کثرة عددهم بعد التوسع فی قوته الزلة الکبیرة، و التی فیها العدّة من الدجاج، فمنها ما قلع فخذها، و منها ما قد تشعب صدرها، و من الفراخ مثل ذلک مع القطع الکبار من الجدی و لحوم الضأن، و العدّة من ألوان عدیدة، و القطع الصالحة من الفالوذج، و الکثیر من اللوزینج، و القطائف و الهرائس من العصیدة التی تعرف الیوم فی وقتنا هذا بالمامونیة، و أشباه ذلک مع الأرغفة الکبار، و اشتهر بمصر بیعهم لذلک، و عرفوا به، فکان الناس یتناوبونهم لذلک، و أکثر ما تباع الزلة الکبیرة منها بدرهمین، و منها ما یباع بدرهم، فکان کثیر من الناس یتفکهون من هذه الزلات، و کان شیئا موجودا فی کل وقت لکثرته، و اتساعه بحیث إنّ الرجل إذا طرقه ضیف، خرج من فوره إلی باب دار الحرم، فیجد ما یشتریه لیتجمل به لضیفه، مما لا یقدر علی عمل مثله، و لا یتهیأ له من اللحوم، و الفراخ و الدجاج و الحلوی مثل ذلک.
و اتسعت أیضا اصطبلات خمارویه، فعمل لکل صنف من الدواب اصطبلا مفردا، لکان للخیل الخاص اصطبل مفرد و لدواب الغلمان اصطبلات عدّة، و لبغال القباب اصطبلات، و لبغال النقل غیر بغال القباب اصطبلات، و للنجائب و البخاتی اصطبلات لکل صنف اصطبل مفرد للاتساع فی المواضع و التفنن فی الأثقال، و عمل للنمور دارا مفردة، و للفهود دارا مفردة، و للفیلة دارا، و للزرافات دارا، کل ذلک سوی الاصطبلات التی بالجیزة، فإنه کان له عدّة ضیاع من الجیزة اصطبلات مثل: نهیا، و وسیم، و سفط، و طهرمس، و غیرها، و کانت هذه الضیاع لا تزرع إلا القرط برسم الدواب، و کان للخلیفة أیضا بمصر اصطبلات سوی ما ذکر تنتج فیها الخیل: لحلبة السباق، و للرباط فی سبیل اللّه تعالی برسم الغزو، و کان لکل دار من الدور المذکورة، و لکل اصطبل وکلاء لهم الرزق
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 128
السنیّ و الوظائف الکثیرة و الأموال المتسعة، و بلغ رزق الجیش فی أیام خمارویه تسعمائة ألف دینار فی کل سنة، و قام مطبخه المعروف بمطبخ العامة بثلاثة و عشرین ألف دینار فی کل شهر، سوی ما هو موظف لجواریه و أرزاق من یخدمهنّ و یتصرّف فی حوائجهنّ.
و کان قد اتخذ لنفسه من ولد الحوف و شناترة الضیاع قوما معروفین بالشجاعة، و البأس لهم خلق عظیم تامّ، و عظم أجسام، و أدرّ علیهم الأرزاق، و وسع لهم فی العطاء، و شغلهم عما کانوا فیه من قطع الطریق، و أذیة الناس بخدمته، و ألبسهم الأقبیة، و جواشن الدیباج، و صاغ لهم المناطق العراض الثقال، و قلّدهم السیوف المحلاة یضعونها علی أکتافهم، فإذا مشوا بین یدیه، و موکبه علی ترتیبه، و مضت أصناف العسکر و طوائفه تلاهم السودان، و عدّتهم ألف أسود لهم درق من حدید، محکم الصنعة، و علیهم أقبیة سود، و عمائم سود، فیخالهم الناظر إلیهم بحرا أسود یسیر، لسواد ألوانهم، و سواد قیابهم، و یصیر لبریق درقهم و حلی سیوفهم و البیض التی تلمع علی رؤوسهم من تحت العمائم زیّ بهج، فإذا مضی السودان قدم خمارویه، و قد انفرد عن موکبه، و صار بینه و بین الموکب نحو نصف غلوة سهم و المختارة تحف به، و کان تامّ الظهر، و یرکب فرسا تامّا، فیصیر کالکوکب إذا أقبل لا یخفی علی أحد، کأنه قطعة جبل فی وسط المختارة، و کان مهابا ذا سطوة، و قد وقع فی قلوب الکافة أنه متی أشار إلیه أحد بإصبعه، أو تکلم أو قرب من، لحقه مکروه عظیم، فکان إذا أقبل کما ذکرنا لا یسمع من أحد کلمة، و لا سعلة و لا عطسة، و لا نحنحة البتة، کأنما علی رؤوسهم الطیر، و کان یتقلد فی یوم العید سیفا بحمائل، و لا یزال یتفرّج و یتنزه و یخرج إلی مواضع لم یکن أبوه یهش إلیها، کالأهرام، و مدینة العقاب، و نحو ذلک لأجل الصید، فإنه کان مشغوفا به لا یکاد یسمع بسبع، إلا قصده، و معه رجال علیهم لبود، فیدخلون إلی الأسد و یتناولونه بأیدیهم من غابه عنوة، و هو سلیم فیضعونه فی أقفاص من خشب محکمة الصنعة یسع الواحد منها السبع، و هو قائم فإذا قدم خمارویه من الصید سار القفص، و فیه السبع بین یدیه، و کانت حلبة السباق فی أیامهم تقوم مقام الأعیاد، لکثرة الزینة و رکوب سائر الغلمان، و العساکر علی کثرتهم بالسلاح التام، و العدد الکاملة، فیجلس الناس لمشاهدة ذلک، کما یجلسون فی الأعیاد و تطلق الخیل من غایتها، فتمرّ متفاوتة یقدم بعضها بعضا حتی یتم السبق.
قال القضاعیّ: المنظر بناه أحمد بن طولون فی ولایته لعرض الخیل، و کان عرض الخیل من عجائب الإسلام الأربعة التی منها هذا العرض، و رمضان بمکة، و العید کان بطرسوس، و الجمعة ببغداد، فبقی من هذه الأربعة، شهر رمضان بمکة، و الجمعة ببغداد، و ذهبت اثنتان، قال کاتبه: و قد ذهبت الجمعة ببغداد أیضا بعد القضاعیّ، بقتل هولاکو للخلیفة المستعصم، و زوال شعائر الإسلام من العراق، و بقیت مکة شرّفها اللّه تعالی، و لیس فی شهر رمضان الآن بها ما یقال فیه أنه من عجائب الإسلام، و لما تکامل عزّ خمارویه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 129
و انتهی أمره بدأ یسترجع منه الدهر ما أعطاه، فأوّل ما طرقه موت خطیبته بوران التی من أجلها بنی بیت الذهب، و صوّر فیه صورتها و صورته، کما تقدّم، و کان یری أن الدنیا لا تطیب له إلا بسلامتها و بنظره إلیها، و تمتعه بها فکدّر موتها عیشه، و انکسر انکسارا بان علیه، ثم إنه أخذ فی تجهیز ابنته، فجهزها جهازا ضاهی به نعم الخلافة، فلم یبق خطیرة و لا طرفة من کل لون و جنس إلا حمله معها، فکان من جملته: دکة أربع قطع من ذهب علیها قبة من ذهب مشبک فی کل عین من التشبیک قرط معلق فیه حبة جوهر لا یعرف لها قیمة، و مائة هون من ذهب.
قال القضاعیّ: و عقد المعتضد النکاح علی ابنته، یعنی ابنة خمارویه: قطر الندی، فحملها أبو الجیش خمارویه مع عبد اللّه بن الخصاص، و حمل معها ما لم یر مثله، و لا یسمع به، و لما دخل إلیه ابن الخصاص یودّعه، قال له خمارویه: هل بقی بینی و بینک حساب؟ فقال: لا، فقال: انظر حسابک، فقال: کسر بقی من الجهاز، فقال: أحضروه، فأخرج ربع طومار فیه سبت ذکر النفقة، فإذا هی أربعمائة ألف دینار، قال محمد بن علیّ المادرانیّ، فنظرت فی الطومار، فإذا فیه و ألف تکة الثمن عنها عشرة آلاف دینار، فأطلق له الکل.
قال القضاعیّ: و إنما ذکرت هذا الخبر لتستدل به علی أشیاء منها سعة نفس أبی الجیش، و منها کثرة ما کان یملکه ابن الخصاص حتی أنه قال: کسر بقی من الجهاز، و هو أربعمائة ألف دینار، لو لم یقتضه ذلک، لم یذکره، و منها میسور ذلک الزمان لما طلب فیه ألف تکة من أثمان عشرة دنانیر قدر علیها فی أیسر وقت، و بأهون سعی، و لو طلب الیوم خمسون، لم یقدر علیها، قال کاتبه: و لا یعرف الیوم فی أسواق القاهرة و مصر تکة بعشرة دنانیر، إذا طلبت توجد فی الحال، و لا بعد شهر، إلّا أن یتعنی بعملها، فتعمل، و لما فرغ خمارویه من جهاز ابنته أمر فبنی لها علی رأس کل مرحلة تنزل بها قصر، فیما بین مصر و بغداد، و أخرج معها أخاه شیبان بن أحمد بن طولون فی جماعة مع ابن الخصاص، فکانوا یسیرون بها سیر الطفل فی المهد، فإذا وافت المنزل وجدت قصرا قد فرش فیه جمیع ما یحتاج إلیه، و علقت فیه الستور، و أعدّ فیه کل ما یصلح لمثلها فی حال الإقامة، فکانت فی مسیرها من مصر إلی بغداد علی بعد الشقة، کأنها فی قصر أبیها تنتقل من مجلس إلی مجلس، حتی قدمت بغداد أوّل المحرّم سنة اثنتین و ثمانین و مائتین، فزفت علی الخلیفة المعتضد.
و بعد ذلک قتل خمارویه بدمشق، و کانت مدّة بنی طولون بمصر سبعا و ثلاثین سنة، و ستة أشهر و اثنین و عشرین یوما.
و ولی منهم خمسة أمراء أوّلهم: أحمد بن طولون، ولی مصر من قبل المعتز علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 130
صلاتها، فدخل یوم الخمیس لسبع بقین من شهر رمضان سنة أربع و خمسین و مائتین، و خرج بغا الأصفر و هو أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن طباطبا، فیما بین برقة و الإسکندریة فی جمادی الأولی سنة خمس و خمسین، و سار إلی الصعید، فقتل فی الحرب، و حمل رأسه إلی الفسطاط لإحدی عشرة بقیت من شعبان، و خرج ابن الصوفی العلویّ، و هو إبراهیم بن محمد بن یحیی بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن علیّ بن أبی طالب، و دخل إسنا فی ذی القعدة، فنهب و قتل، فبعث إلیه ابن طولون جیشا، فهزم الجیش فی ربیع الأوّل سنة ست و خمسین، فبعث بجیش آخر، فواقعه بإخمیم فی ربیع الآخر، فانهزم ابن الصوفیّ إلی الواح، فأقام به، و خرج أحمد بن طولون یرید حرب عیسی بن الشیخ، ثم عاد، فابتدأ فی أبناء المیدان، و قدم العباس و خمارویه ابنا أحمد بن طولون من العراق علی طریق مکة سنة سبع و خمسین، و ورد کتاب ماجور بتسلم أحمد بن طولون الأعمال الخارجة عن یده من أرض مصر، فتسلم الإسکندریة، و خرج إلیها لثمان خلون من شهر رمضان، و استخلف طفج صاحب الشرط، ثم قدم لأربع عشرة بقیت من شوّال، و سخط علی أخیه موسی، و أمره بلباس البیاض.
و خرج إلی الإسکندریة ثانیا لثمان بقین من شعبان سنة تسع و خمسین، و استخلف ابنه العباس، و قدم لثمان خلون من شوّال، و أمر ببناء المسجد الجامع علی الجبل فی صفر سنة تسع و خمسین، و ببناء المارستان للمرضی، و ورد کتاب المعتمد یستحثه فی حمل الأموال، فکتب إلیه لست أطیق ذلک، و الخراج بید غیری، فأنفذ المعتمد نفیسا الخادم بتقلید أحمد بن طولون الخراج، و بولایته علی الثغور الشامیة، فأقرّ أبا أیوب أحمد بن محمد بن شجاع علی الخراج خلیفة له علیه، و عقد لطخشی بن بلبرد علی الثغور، فخرج فی جمادی الأولی سنة أربع و ستین، و تقدّم أبو أحمد الموفق إلی موسی بن بغا فی صرف أحمد بن طولون، و تقلیدها ماجور الترکی والی دمشق، فکتب إلیه بذلک، فتوقف لعجزه عن مقاومة ابن طولون، فخرج موسی بن بغا، و نزل الرقة، فبلغ ابن طولون أنه سائر إلیه فابتدأ فی بناء الحصن بالجزیرة، لیکون معقلا لماله و حرمه فی سنة ثلاث و ستین، و اجتهد فی عمل المراکب الحربیة، و أظافها بالجزیرة، فأقام موسی بالرقة عشرة أشهر، و اضطربت أموره، و مات فی صفر سنة أربع و ستین، و مات ماجور بدمشق، و استخلف ابنه علیّ بن ماجور، فحرّک ذلک أحمد بن طولون علی المسیر، و کتب إلی ابن ماجور أنه سائر إلیه، و أمره بإقامة الأنزال و المیرة، فأجاب بجواب حسن، و شکا أهل مصر إلی ابن طولون ضیق المسجد الجامع یوم الجمعة بجنده و سودانه، فأمر ببناء المسجد الجامع بجبل یشکر، فابتدأ ببنائه فی سنة أربع و تم فی سنة ست و ستین و مائتین، و خرج فی جیوشه لثمان بقین من شعبان سنة أربع و ستین، و استخلف ابنه العباس، و ضم إلیه أحمد بن محمد الواسطیّ مدبرا و وزیرا، فبلغ الرملة، و تلقاه محمد بن رافع والیها، و أقام له بها الدعوة، فأقرّه و مضی إلی دمشق،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 131
فتلقاه علیّ بن ماجور، و أقام له بها الدعوة، فأقام بها حتی استوثق له أمرها، و مضی إلی حمص فتسلمها، و بعث إلی سیما الطویل، و هو بأنطاکیة یأمره بالدعاء له فأبی، فسار إلیه فی جیش عظیم، و حاصره، و رماه بالمجانیق، حتی دخلها فی المحرّم سنة خمس و ستین، فقتل سیما، و استباح أمواله و رجاله، و مضی إلی طرسوس، فدخلها فی ربیع الأوّل، فضاقت به، و غلا السعر بها، فنابذه أهلها، فقاتلهم و أمر أصحابه أن ینهزموا عن أهل طرسوس لیبلغ طاغیة الروم، فیعلم أنّ جیوش ابن طولون مع کثرتها و شدّتها، لم تقم لأهل طرسوس، فانهزموا، و خرج عنهم و استخلف علیها طخشی، فورد الخبر علیه بأنّ ابنه العباس قد خالف علیه، فأزعجه ذلک، و سار فخاف العباس، و قید الواسطیّ، و خرج بطائفته إلی الجیزة لثمان خلون من شعبان سنة خمس و ستین و مائتین، فعسکر بها، و استخلف أخاه ربیعة بن أحمد، و أظهر أنه یرید الإسکندریة، و سار إلی برقة، فقدم أحمد بن طولون من الشام لأربع خلون من رمضان، لأنفذ القاضی بکار بن قتیبة فی نفر بکتابه إلی العباس، فساروا إلیه ببرقة، فأبی أن یرجع، و عاد بکار فی أوّل ذی الحجة، و مضی العباس یرید إفریقیة فی جمادی الأولی سنة ست و ستین، فنهب لبدة ، و قتل من أهلها عدّة، و ضجت نساؤهم، فاجتمع علیه: جیش ابن الأغلب و الإباضیة، فقاتلهم بنفسه، و حسن بلاؤه یومئذ و قال:
للّه درّی إذ أعدوا علی فرسی‌إلی الهیاج و نار الحرب تستعر
و فی یدی صارم أفری الرءوس به‌فی حدّه الموت لا یبقی و لا یذر
إن کنت سائلة عنی و عن خبری‌فها أنا اللیث و الصمصامة الذکر
من آل طولون أصلی إن سألت فمافوقی لمفتخر بالجود مفتخر
لو کنت شاهدة کرّی بلبدة إذبالسیف أضرب و الهامات تبتذر
إذا لعاینت منی ما تبادره‌عنی الأحادیث و الأنباء و الخبر
و قتل یومئذ صنادید عسکره، و وجوه أصحابه، و نهبت أمواله، و فرّ إلی برقة فی ضرّ.
و عقد أحمد بن طولون علی جیش، و بعث به إلی برقة فی رمضان سنة سبع و ستین، ثم خرج بنفسه فی عسکر عظیم یقال: إنه بلغ مائة ألف لثنتی عشر خلت من ربیع الأوّل سنة ثمان و ستین، فأقام بالإسکندریة، و فرّ إلیه أحمد بن محمد الواسطیّ من عند العباس، فصغر عنده أمر العباس، فعقد علی جیش سیّره إلی برقة، فواقعوا أصحاب العباس و هزموهم، و قتلوا منهم کثیرا، و أدرکوا العباس لأربع خلون من رجب و عاد أحمد إلی الفسطاط لثلاث عشرة خلت منه، و قدم العباس و الأسری فی شوّال، ثم أخرجوا أوّل ذی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 132
القعدة، و قد بنیت لهم دکة عالیة، فضربوا و ألقوا من أعلاها، ثم بعث بلؤلؤ فی جیش إلی الشام، فخالف علی أحمد، و مال مع الموفق، و صار إلیه، فخرج أحمد، و استخلف ابنه خمارویه فی صفر سنة تسع و ستین، فنزل دمشق، و معه ابنه العباس مقیدا، فخالف علیه أهل طرسوس، فخرج یرید محاربتهم ثم توقف لورود کتاب المعتمد علیه، أنه قادم علیه لیلتجئ إلیه، فخرج کالمتصید من بغداد، و توجه نحو الرقة، فبلغ أبا أحمد الموفق مسیره، و هو محارب لصاحب الزنج، فعمل علیه حتی عاد إلی سامراء، و وکل به جماعة، و عقد لإسحاق بن کنداخ الخزریّ علی مصر، فبلغ ذلک ابن طولون، فرجع إلی دمشق، و أحضر القضاة و الفقهاء من الأعمال، و کتب إلی مصر کتابا قرئ علی الناس بأنّ: أبا أحمد الموفق نکث بیعة المعتمد، و أسره فی دار أحمد بن الخصیب، و إنّ المعتمد قد صار من ذلک إلی ما لا یجوز ذکره، و إنه بکی بکاء شدیدا، فلما خطب الخطیب یوم الجمعة، ذکر ما نیل من المعتمد، و قال: اللهم فاکفه من حصره و ظلمه، و خرج من مصر بکار بن قتیبة ، و جماعة إلی دمشق، و قد حضر أهل الشامات و الثغور، فأمر ابن طولون بکتاب فیه: خلع الموفق من ولایة العهد، لمخالفة المعتمد، و حصره إیاه، و کتب فیه: إنّ أبا أحمد الموفق خلع الطاعة، و بری‌ء من الذمّة، فوجب جهاده علی الأمّة، و شهد علی ذلک جمیع من حضر إلّا بکار بن قتیبة و آخرین.
و قال بکار: لم یصح عندی ما فعله أبو أحمد، و لم أعلمه، و امتنع من الشهادة و الخلع، و کان ذلک لإحدی عشرة خلت من ذی القعدة، فبلغ ذلک الموفق، فکتب إلی عماله: بلعن أحمد بن طولون علی المنابر، فلعن علیه بما صیغته: اللهم العنه لعنا یفلّ حدّه، و یتعس جدّه، و اجعله مثلا للغابرین إنک لا تصلح عمل المفسدین، و مضی أحمد إلی طرسوس، فنازلها، و کان البرد شدیدا، ثم رحل عنها إلی أذنة ، و سار إلی المصیصة ، فنزلت به علة الموت، فأعدّ السیر یرید مصر، حتی بلغ الفرما، فرکب النیل إلی الفسطاط، فدخل لعشر بقین من جمادی الآخری سنة سبعین، فأوقف بکار بن قتیبة، و بعث به إلی السجن، و تزایدت به العلة، حتی مات لیلة الأحد لعشر خلون من ذی القعدة سنة سبعین و مائتین، فلما بلغ المعتمد موته اشتدّ وجده و جزعه علیه، و قال یرثیه:
إلی اللّه أشکو أسی‌عرانی کوقع الأسل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 133 علی رجل أروع یری منه فضل الوجل
شهاب خبا وقده‌و عارض غیث أفل
شکت دولتی فقده‌و کان یزین الدول
فقام بعده ابنه: أبو الجیش خمارویه بن أحمد بن طولون، و بایعه الجند یوم الأحد لعشر خلون من ذی القعدة، فأمر بقتل أخیه العباس لامتناعه من مبایعته، و عقد لأبی عبد اللّه أحمد الواسطیّ، علی جیش إلی الشام لست خلون من ذی الحجة، و عقد لسعد الأعسر علی جیش آخر، و بعث بمراکب فی البحر لتقیم علی السواحل الشامیة، فنزل الواسطیّ فلسطین، و هو خائف من خمارویه أن یوقع به، لأنه کان أشار علیه بقتل أخیه العباس، فکتب إلی أبی أحمد الموفق: یصغر أمر خمارویه، و یحرّضه علی المسیر إلیه، فأقبل من بغداد، و انضمّ إلیه إسحاق بن کنداح، و محمد بن أبی الساج، و نزل الرقة، فتسلم قنسرین و العواصم و سار إلی شیرز ، فقاتل أصحاب خمارویه، و هزمهم و دخل دمشق، فخرج خمارویه فی جیش عظیم لعشر خلون من صفر سنة إحدی و سبعین، فالتقی مع أحمد بن الموفق بنهر أبی بطرس المعروف بالطواحین من أرض فلسطین، فاقتتلا فانهزم أصحاب خمارویه، و کان فی سبعین ألفا، و ابن الموفق فی نحو أربعة آلاف، و احتوی علی عسکر خمارویه بما فیه، و مضی خمارویه إلی الفسطاط، و أقبل کمین له علیه: سعد الأعسر، و لم یعلم بهزیمة خمارویه، فحارب ابن الموفق، حتی أزاله عن المعسکر، و هزمه اثنی عشر میلا و مضی إلی دمشق، فلم یفتح له، و دخل خمارویه إلی الفسطاط لثلاث خلون من ربیع الأوّل، و سار سعد الأعسر و الواسطیّ، فملکا دمشق، و خرج خمارویه من مصر لسبع بقین من رمضان، فوصل إلی فلسطین، ثم عاد لاثنتی عشرة بقیت من شوّال، ثم خرج فی ذی القعدة سنة اثنتین و سبعین، فقتل سعدا الأعسر، و دخل دمشق لسبع خلون من المحرّم سنة ثلاث و سبعین، و سار لقتال ابن کنداح، فکانت علی خمارویه، فانهزم أصحابه، و ثبت هو فی طائفة، فهزم ابن کنداح، و أتبعه حتی بلغ أصحابه سرّ من رأی، ثم اصطلحا و تظاهرا، و أقبل إلی خمارویه، فأقام فی عسکره، و دعا له فی أعماله التی بیده، و کاتب خمارویه أبا أحمد الموفق فی الصلح، فأجابه إلی ذلک، و کتب له بذلک کتابا، فورد علیه به: فالق الخادم إلی مصر فی رجب ذکر فیه: أنّ المعتمد و الموفق و ابنه کتبوه بأیدیهم، و بولایة خمارویه و ولده ثلاثین سنة علی مصر و الشامات، ثم قدم خمارویه سلخ رجب،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 134
فأمر بالدعاء لأبی أحمد الموفق، و ترک الدعاء علیه، و جعل علی المظالم بمصر: محمد بن عبدة بن حرب، و بلغه مسیر محمد بن أبی الساج إلی أعماله، فخرج إلیه فی ذی القعدة، و لقیه شیبة العقاب من دمشق، فانهزم أصحاب خمارویه و ثبت هو، فحاربه حتی هزمه أقبح هزیمة، و عاد إلی مصر فدخلها لست بقین من جمادی الآخرة سنة ست و سبعین، ثم خرج إلی الإسکندریة لأربع خلون من شوّال، و ورد الخبر أنه دعی له بطرسوس فی جمادی الآخرة سنة سبع و سبعین، و خرج إلی الشام لسبع عشرة من ذی القعدة، و مات الموفق فی سنة ثمان و سبعین، ثم مات المعتمد فی رجب سنة تسع و سبعین، و بویع المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفق، فبعث إلیه خمارویه بالهدایا، و قدم من الشام لست خلون من ربیع الأوّل سنة ثمانین، فورد کتاب المعتضد بولایة خمارویه علی مصر هو و ولده ثلاثین سنة، من الفرات إلی برقة، و جعل له الصلاة و الخراج و القضاء و جمیع الأعمال، علی أن یحمل فی کل عام مائتی ألف دینار عما مضی، و ثلثمائة ألف للمستقبل، ثم قدم رسول المعتضد بالخلع، و هی اثنتا عشرة خلعة و سیف و تاج و وشاح مع خادم فی رمضان، و عقد المعتضد نکاح قطر الندی بنت خمارویه فی سنة إحدی و ثمانین، و فیها خرج خمارویه إلی نزهته ببربوط فی شعبان، و مضی إلی الصعید فبلغ سیوط، ثم رجع من الشرق إلی الفسطاط أوّل ذی القعدة، و خرج إلی الشام لثمان خلون من شعبان سنة اثنتین و ثمانین، فأقام بمنیة الأصبغ، و منیة مطر، ثم رحل حتی أتی دمشق، فقتل بها علی فراشه، ذبحه جواریه و خدمه، و حمل فی صندوق إلی مصر، و کان لدخول تابوته یوم عظیم، و استقبله جواریه، و جواری غلمانه، و نساء قوّاده، و نساء القطائع بالصیاح، و ما یصنع فی المآتم، و خرج الغلمان، و قد حلوا أقبیتهم، و فیهم من سوّد ثیابه و شققها، و کانت فی البلد ضجة عظیمة، و صرخة تتعتع القلوب حتی دفن، و کانت مدّته اثنتی عشرة سنة، و ثمانیة عشر یوما.
ثم ولی أبو العساکر بن خمارویه بن أحمد بن طولون للیلة بقیت من ذی القعدة سنة اثنتین و ثمانین و مائتین بدمشق، فسار إلی مصر، و اشتمل علی أمور أنکرت علیه، فاستوحش من عظماء الجند و تنکر لهم، فخافوه و دأبوا فی الفساد، فخرج منتزها إلی منیة الأصبغ، ففرّ جماعة من عظماء الدولة إلی المعتضد، و خلعه أحمد بن طغان، و کان علی الثغر، و خلعه طغج بن جف بدمشق، فوثب جیش علی عمه مضر بن أحمد بن طولون فقتله، فوثب علیه الجیش، و خلعوه و جمعوا الفقهاء و القضاة، فتبرّأ من بیعته و حللهم منها، و کان خلعه لعشر خلون من جمادی الآخرة سنة ثلاث و ثمانین، فولی ستة أشهر و اثنی عشر یوما، و مات فی السجن بعد أیام.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 135
ثم ولی أبو موسی هارون بن خمارویه یوم خلع جیش، فقام طائفة من الجند، و کاتبوا ربیعة بن أحمد بن طولون، و کان بالإسکندریة، و دعوه، و وعدوه بالقیام معه، فجمع جمعا کثیرا من أهل البحیرة، و من البربر و غیرهم، و سار حتی نزل ظاهر فسطاط مصر، فخذله القوم، و خرج إلیه القوّاد، فقاتلوه و أسروه لإحدی عشرة لیلة خلت من شعبان سنة أربع و ثمانین، و ضرب ألف سوط و مائتی سوط فمات، و مات المعتضد فی ربیع الآخر سنة تسع و ثمانین، و بویع ابنه محمد المکتفی بالله، و خرج القرمطیّ بالشام فی سنة تسعین، فخرج القوّاد من مصر و حاربوه، فهزمهم، و بعث المکتفی محمد بن سلیمان الکاتب ، فنزل حمص، و بعث بالمراکب من الثغر إلی سواحل مصر، و أقبل إلی فلسطین، فخرج هارون یوم الترویة سنة إحدی و تسعین، و سیر المراکب الحربیة، فالتقوا بمراکب محمد بن سلیمان فی تنیس، فغلبوا، و ملک أصحاب محمد بن سلیمان تنیس و دمیاط، فسار هارون إلی العباسة، و معه أهله و أعمامه فی ضیق و جهد، فتفرّق عنه کثیر من أصحابه و بقی فی نفر یسیر، و هو متشاغل باللهو، فأجمع عمّاه: شیبان و عدیّ: ابنا أحمد بن طولون علی قتله، فدخلا علیه و هو ثمل، فقتلاه لیلة الأحد لإحدی عشرة بقیت من صفر سنة اثنتین و تسعین، و سنه یومئذ اثنان و عشرون سنة، فکانت ولایته ثمان سنین و ثمانیة أشهر و أیاما.
ثم ولی شیبان بن أحمد بن طولون أبو المواقیت لعشر بقین من صفر، فرجع إلی الفسطاط، و بلغ طفج بن جف، و غیره من القوّاد قتل هارون، فأنکروه، و خالفوا علی شیبان، و بعثوا إلی محمد بن سلیمان فأمنهم، و حرّکوه علی المسیر إلی مصر، فسار حتی نزل العباسة، فلقیه طفج فی ناس من القوّاد کثیر، فساروا به إلی الفسطاط، و أقبل إلیهم عامّة أصحاب شیبان، فخاف حینئذ شیبان، و طلب الأمان فأمنه محمد بن سلیمان، و خرج إلیه للیلة خلت من ربیع الأوّل سنة اثنتین و تسعین و مائتین، و کانت ولایته اثنی عشر یوما، و دخل محمد بن سلیمان یوم الخمیس أوّل ربیع الأوّل، فألقی النار فی القطائع، و نهب أصحابه الفسطاط، و کسروا السجون، و أخرجوا من فیها، و هجموا الدور، و استباحوا الحریم، و هتکوا الرعیة، و افتضوا الأبکار، و ساقوا النساء، و فعلوا کل قبیح من إخراج الناس من دورهم، و غیر ذلک، و أخرج ولد أحمد بن طولون، و هم عشرون إنسانا، و أخرج قوّادهم، فلم یبق بمصر منهم أحد یذکر، و خلت منهم الدیار، و عفت منهم الآثار، و تعطلت منهم المنازل، و حلّ بهم الذل بعد العز، و التطرید و التشرید بعد اجتماع الشمل، و نضرة الملک، و مساعدة الأیام، ثم سیق أصحاب شیبان إلی محمد بن سلیمان، و هو راکب،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 136
فذبحوا بین یدیه، کما تذبح الشیاه، و قتل من السودان سکان القطائع خلقا کثیرا فقال أحمد بن محمد الحبیشیّ:
الحمد للّه إقرارا بما وهباقد لمّ بالأمن شعب الحق فانشعبا
اللّه أصدق هذا الفتح لا کذب‌فسوء عاقبة المثوی لمن کذبا
فتح به فتح الدنیا محمدهاو فرّج الظلم و الإظلام و الکربا
لا ریب رب هیاج یقتضی دعةو فی القصاص حیاة تذهب الریبا
رمی الإمام به عذراء غادره‌فاقتض عذرتها بالسیف و اقتضبا
محمد بن سلیمان أعزهم‌نفسا و أکرمهم فی الذاهبین أبا
سری بأسد الشری لو لم یروا بشراأضحی عرینهم الخطیّ لا القضبا
جمّ الفضاء علی الیحموم حین أتوامثل الزبا یمتحون الزبیة الذأبا
أیها علوت علی الأیام مرتبةأبا علیّ تری من دونها الرتبا
لما أطال بنو طولون خطبتهم‌من الخطوب و عافت منهم الخطبا
هارت بهارون من ذکراک بقعته‌و شیّب الرعب شیبانا و قد رعبا
و کم تری لهم من جنة أنف‌و من نعیم جنی من غدرهم عطبا
فأصبحوا لا تری إلا مساکنهم‌کأنها من زمان غابر ذهبا
و قال أحمد بن یعقوب:
إن کنت تسأل عن جلالة ملکهم‌فارتع و عج بمرابع المیدان
و انظر إلی تلک القصور و ما حوت‌و اسرح بزهرة ذلک البستان
و إن اعتبرت ففیه أیضا عبرةتنبیک کیف تصرّف العصران
یا قتل هارون اجتثثت أصولهم‌و أشبت رأس أمیرهم شیبان
لم یغن عنکم بأس قیس إذا غدافی جحفل لجب و لا غسان
و عدیه البطل الکمیّ و خزرج‌لم ینصرا بأخیهما عدنان
زفت إلی آل النبوّة و الهدی‌و تمزقت عن شیعة الشیطان
و قال إسماعیل بن أبی هاشم:
قف وقفة بقباب باب الساج‌و القصر ذی الشرفات و الأبراج
و ربوع قوم أزعجوا عن دارهم‌بعد الإقامة أیما إزعاج
کانوا مصابیحا لدی ظلم الدجی‌یسری بها السارون فی الإدلاج
و کأنّ أوجههم إذا أبصرتهامن فضة بیضاء أو من عاج
کانوا لیوثا لا یرام حماهم‌فی کل ملحمة و کل هیاج
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 137 فانظر إلی آثارهم تلقی لهم‌علما بکل ثنیة و فجاج
و علیهم ما عشت لا أدع البکامع کل ذی نظر و طرف ساجی
و قال سعید القاص:
تجری دمعه ما بین سحر إلی نحرو لم یجر حتی أسلمته ید الصبر
و بات و قیذا للذی خامر الحشایئنّ کما أنّ الأسیر من الأسر
و هل یستطیع الصبر من کان ذا أسی‌یبیت علی جمر و یضحی علی جمر
تتابع أحداث یضیعن صبره‌و غدر من الأیام و الدهر ذو غدر
أصاب علی رغم الأنوف وجدعهاذوی الدین و الدنیا بقاصمة الظهر
طوی زینة الدنیا و مصباح أهلهابفقد بنی طولون و الأنجم الزهر
و فقد بنی طولون فی کل موطن‌أمرّ علی الإسلام فقدا من القطر
فبادوا و أضحوا بعد عز و منعةأحادیث لا تخفی علی کل ذی حجر
و کان أبو العباس أحمد ماجداجمیل المحیّا لا یبیت علی وتر
کأنّ لیالی الدهر کانت لحسنهاو إشرافها فی عصره لیلة القدر
یدل علی فضل ابن طولون همةمحلقة بین المساکین و الغفر
فإن کنت تبغی شاهدا ذا عدالةیخبر عنه بالجلیّ من الأمر
فبالجبل الغربیّ خطة یشکرله مسجد یغنی عن المنطق الهذر
یدل ذوی الألباب أن بناءه‌و بانیه لا بالضنین و لا الغمر
بناه بآجرّ و ساج و عرعرو بالمرمر المسنون و الجص و الصخر
بعید مدی الأقطار سام بناؤه‌وثیق المبانی من عقود و من جدر
فسیح رحاب یحصر الطرف دونه‌رقیق نسیم طیب العرف و النشر
و تنور فرعون الذی فوق قلةعلی جبل عال علی شاهق و عر
بنی مسجدا فیه یروق بناؤه‌و یهدی به فی اللیل إن ضلّ من یسری
تخال سنا قندیله و ضیاءه‌سهیلا إذا ما لاح فی اللیل للسفر
و عین معین الشرب عین زکیةو عین أجاج للرواة و للطهر
کأن وفود النیل فی جنباتهاتروح و تغدو بین مدّ إلی جزر
فأرک بها مستنبطا لمعینهامن الأرض من بطن عمیق إلی ظهر
بناء لو أنّ الجنّ جاءت بمثله‌لقیل لقد جاءت بمستفظع نکر
یمرّ علی أرض المغافر کلهاو شعبان و الأحمور و الحیّ من بشر
قبائل لا نوء السحاب یمدّهاو لا النیل یرویها و لا جدول یجری
و لا تنس مارستانه و اتساعه‌و توسعة الأرزاق للحول و الشهر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 138 و ما فیه من قوّامه و کفاته‌و رفقتهم بالمعتفین ذوی الفقر
فللمیت المقبور حسن جهازه‌و للحیّ رفق فی علاج و فی جبر
و إن جئت رأس الجسر فانظر تأمّلاإلی الحصن أو فاعبر إلیه علی الجسر
تری أثرا لم یبق من یستطیعه‌من الناس فی بدو البلاد و لا حضر
مآثر لا تبلی و إن باد أهلهاو مجد یؤدی وارثیه إلی الفخر
لقد ضمن القبر المقدّر ذرعه‌أجلّ إذا ما قیس من قبتی حجر
و قام أبو الجیش ابنه بعد موته‌کما قام لیث الغاب فی الأسل السمر
أتته المنایا و هو فی أمن داره‌فأصبح مسلوبا من النهی و الأمر
کذاک اللیالی من أعارته بهجةفیا لک من ناب حدید و من ظفر
و ورث هارون ابنه تاج ملکه‌کذاک أبو الأشبال ذو الناب و الهصر
و قد کان جیش قبله فی محله‌و لکنّ جیشا کان مستقصر العمر
فقام بأمر الملک هارون مدّةعلی کظظ من ضیق باع و من حصر
و ما زال حتی زال و الدهر کاشح عقاربه من کل ناحیة تسری
تذکرتهم لما مضوا فتتابعواکما أرفض سلک من جمان و من شذر
فمن یبک شیئا ضاع من بعد أهله‌لفقدهم فلیبک حزنا علی مصر
لیبک بنی طولون إذ بان عصرهم‌فبورک من دهر و بورک من عصر
و قال أیضا:
من لم یر الهدم للمیدان لم یره‌تبارک اللّه ما أعلی و أقدره
لو أن عین الذی أنشأه تبصره‌و الحادثات تعادیه لأکبره
کانت عیون الوری تعشوا لهیبته‌إذا أضاف إلیه الملک عسکره
أین الملوک التی کانت تحلّ به‌و أین من کان بالإنفاذ دبره
و أین من کان یحمیه و یحرسه‌من کل لیث یهاب اللیث منظره
صاح الزمان بمن فیه ففرّقهم‌وحط ریب البلی فیه فدعثره
و أخلق الدهر منه حسن جدّته‌مثل الکتاب محا العصر أن أسطره
دکت مناظره و اجتثّ جوسقه‌کأنما الخسف فاجأه فدمّره
أو هبّ إعصار نار فی جوانبه‌فعاد معروفه للعین منکره
کم کان یأوی إلیه فی مقاصره‌أحوی أغنّ غضیض الطرف أحوره
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 139 کم کان فیه لهم من مشرب غدق‌فعب صرف الردی فیه فکدّره
أین ابن طولون بانیه و ساکنه‌أماته الملک الأعلی فأقبره
ما أوضح الأمر لو صحت لنا فکرطوبی لمن خصه رشد فذکره
و قال أحمد بن إسحاق الجفر:
و إذا ما أردت أعجوبة الدهر تراها فانظر إلی المیدان
تنظر البین و الهموم و أنواعا توالت به من الأشجان
یعلم العالم المبصر أن الدهر فیما یراه ذو ألوان
أین ما فیه من نعیم و من عیش رخیّ و نضرة و حسان
أین ذاک المسک الذی دیف بالعنبر بحتا و علّ بالزعفران
أین ذاک الخز المضاعف و الوشی‌و ما استخلصوا من الکتان
أین تلک القیان تشدو علی العرس بما استحسنوا من الألحان
حوّز الدهر آل طولون فی هوّةنقر مسکونها غیر دان
و أعاض المیدان من بعد أهلیه‌ذئابا تعوی بتلک المغانی
ثم أمر الحسین بن أحمد المادرانی متولی خراج مصر بهدم الدیوان، فابتدی‌ء فی هدمه فی شهر رمضان سنة ثلاث و تسعین و مائتین، و بیعت أنقاضه، و دثر کأنه لم یکن. فقال محمد بن طسویه:
و کأنّ المیدان ثکلی أصیبت‌بحبیب قد ضاع لیلة عرس
تتغشی الریاح منه محلاکان للصون فی ستور الدمقس
و بفرش الأضریج و البسط الدیباج فی نعمة و فی لین لمس
و وجوه من الوجوه حسان‌و خدود مثل اللآلئ ملس
و کل نجلاء کالغزال و بخلاو رداح من بین حور و لعس
آل طولون کنتم زینة الأرض فأضحی الجدید أهدام لبس
و قال ابن أبی هاشم:
یا منزلا لبنی طولون قد دثراسقاک صرف الغوادی القطر و المطرا
یا منزلا صرت أجفوه و أهجره‌و کان یعدل عندی السمع و البصرا
بالله عندک علم من أحبتناأم هل سمعت لهم من بعدنا خبرا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 140
و قال:
ألا فاسأل المیدان ثم اسأل الجبل‌عن الملک الماضی ابن طولون ما فعل
و عن ابنه العباس إن کنت سائلاو أین أبو الجیش الفصافصة البطل
و جیش و هارون الذی قام بعده‌و شیبان بالأمس الذی خانه الأمل
و من قبله أردی ربیعة یومه‌و کان هزبرا لا یطاق إذا حمل
و أین ذراریهم و أین جموعهم‌و کیف تقضی عنهم الملک فاضمحل
و أین بناء القصر و الجوسق الذی‌عهدناه معمور الفناء له زجل
لقد ملکوه برهة من زماننابدولتهم ثم انقضوا بانقضا الدول
فما منهم خلق یحس و لا یری‌بذکر طوال الدهر لما انقضی الأجل
و صاروا أحادیثا لمن جاء بعدهم‌و کان بهم فی ملکهم یضرب المثل
و قال:
قف وقفة و انظر إلی المیدان‌و القصر ذی الشرفات و الإیوان
و الجوسق العالی المنیف بناؤه‌ما باله قفر من السکان
أین الذین لهوا به و عنوا به‌زمنا مع القینات و النسوان
یجبی الخراج إلیهم فی دارهم‌لا یرهبون غوائل الحدثان
جمعوا الجموع مع الجموع فأکثرواو استأثروا بالروم و السودان
فانظر إلی ما شیدوا من بعدهم‌هل فیه غیر البوم و الغربان
أین الأولی حفروا العیون بأرضه‌و تأنقوا فیه و فی البنیان
غرسوا صنوف النخل فی ساحاته‌و غرائب الأعناب و الرّمان
و الزعفران مع البهاء بأرضه‌و الورد بین الآس و الریحان
کانوا ملوک الأرض فی أیامهم‌کبراء کل مدینة و مکان
فتمزقوا و تفرّقوا فهناک هم‌تحت الثری یبلون فی الأکفان
إلا أغیلمة أساری بعدهم‌فی دار مضیعة و دار هوان
متلذذین بأسرهم قد شرّدواو نفوا عن الأهلین و الأوطان
و اللّه وارث کل حیّ بعدهم‌و له البقاء و کل شی‌ء فان
و قال:
إن فی قبة الهواء لذی اللب معتبرو القصور المشیدات مع الدور و الحجر
و البساتین و المجالس و البیت و الزهرو الجواری المغنیات ذوی الدل و الخفر
یتبخترن فی الحریر و فی الوشی و الحبرو ملوک عبیدهم عدد الشوک و الشجر
و جیوش مؤیدوون لدی البأس بالظفرمن صنوف السودان و الترک و الروم و الخزر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 141 عمروا الأرض مدّة ثم صاروا إلی الحفرو استبدّ الزمان من عاش منهم فلم یذر
فهم فی الهوان و الذل أسری علی خطرو هم بعد صفو عیش من الذل فی کدر
یا آل طولون ما لکم صرتم للوری سمریا آل طولون کنتم خبرا فانقضی الخبر
و قال:
مررت علی المیدان معتبرا به‌فنادیته أین الجبال الشوامخ
خمار و عباس و أحمد قبلهم‌و أین تری شبانهم و المشایخ
و أین ذراری آل طولون بعدهم‌أما فیک منهم أیها الربع صارخ
و أین ثیاب الخز و الوشی و الحلی‌و أربابها أم أین تلک المطابخ
و أین فتات المسک و العنبر الذی‌عنیت به دهرا و تلک اللطائخ
لقد غالک الدهر الخؤون بصرفه‌فأصبحت منحطا و غیرک باذخ
و قال:
مررت علی المیدان بالأمس ضاحیافأبصرته قفر الجناب فراعنی
فنادیت فیه یا آل طولون ما لکم‌فهود فما حلق بحرف أجابنی
فأذریت عینا ذات دمع غزیرةو رحت کئیب القلب مما أصابنی
و إنی علیهم ما بقیت لموجع‌و لست أبالی من لحانی و عابنی
و حدّث محمد بن أبی یعقوب الکاتب قال: لما کانت لیلة عید الفطر من سنة اثنتین و تسعین و مائتین تذکرت ما کان فیه آل طولون فی مثل هذه اللیلة من الزیّ الحسن بالسلاح، و ملوّنات البنود و الأعلام، و شهرة الثیاب، و کثرة الکراع و أصوات الأبواق و الطبول، فاعترانی لذلک فکرة، و نمت فی لیلتی، فسمعت هاتفا یقول: ذهب الملک التملک و الزینة لما مضی بنو طولون.
و قال القاضی أبو عمرو عثمان النابلسیّ فی کتاب حسن السیرة فی اتخاذ الحصن بالجزیرة: رأیت کتابا قدر اثنتی عشرة کراسة مضمونة فهرست شعراء المیدان الذی لأحمد بن طولون قال: فإذا کانت أسماء الشعراء فی ثنتی عشرة کراسة، کم یکون شعرهم؟ مع أنه لم یوجد من لک الآن دیوان واحد. و قال أبو الخطاب بن دحیة فی کتاب النبراس: و خربت قطائع أحمد بن طولون، یعنی فی الشدّة العظمی زمن الخلیفة المستنصر، و هلک جمیع من کان بها من الساکنین، و کانت نیفا علی مائة ألف دار نزهة للناظرین محدقة بالجنان و البساتین، و اللّه یرث الأرض و من علیها، و هو خیر الوارثین.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 142

ذکر من ولی مصر من الأمراء بعد خراب القطائع إلی أن بنیت قاهرة المعز علی ید القائد جوهر

و کان أوّل من ولی مصر بعد زوال دولة بنی طولون و خراب القطائع.
محمد بن سلیمان الکاتب کاتب لؤلؤ غلام أحمد بن طولون دخل مصر یوم الخمیس مستهلّ ربیع الأوّل سنة اثنتین و تسعین و مائتین، و دعا علی المنبر لأمیر المؤمنین المکتفی بالله وحده، و جعل أبا علیّ الحسین بن أحمد المادرانیّ علی الخراج عوضا عن أحمد بن علیّ المادرانیّ.
ثم ورد کتاب المکتفی بولایة: عیسی بن محمد النوشریّ أبی موسی، فولی علی الصلاة، و دخل خلیفته لأربع عشرة خلت من جمادی الأولی، فتسلم الشرطتین و سائر الأعمال، ثم قدم عیسی لسبع خلون من جمادی الآخرة، و خرج محمد بن سلیمان مستهلّ رجب، و کان مقامه بمصر أربعة أشهر، فأخرج کل من بقی من الطولونیة، فلما بلغوا دمشق، انخنس عنهم محمد بن علیّ الخلیج فی جمع کثیر ممن کره مفارقة مصر من القوّاد، فعقدوا له علیهم، و بایعوه بالإمرة فی شعبان، و رجع إلی مصر، فبعث إلیه النوشریّ بجیش أوّل رمضان، و قد دخل أرض مصر، ثم خرج إلیه النوشری، و عسکر بباب المدینة أوّل ذی القعدة، و سار إلی العباسة، ثم رجع لثلاث عشرة خلت منه، و خرج إلی الجیزة من غده و أحرق الجسرین، و سار یرید الإسکندریة، ففرّ عنه طائفة إلی ابن الخلیج، فبعث إلیه بجیش، فهزمه و سار إلی الصعید.
و دخل محمد بن الخلیج الفسطاط لأربع عشرة بقیت من ذی القعدة، فوضع العطاء، و فرض الفروض، و قدم أبو الأعز من قبل المکتفی فی طلب ابن الخلیج، فخرج إلیه لثلاث خلون من المحرّم سنة ثلاث و تسعین و حاربه، فانهزم منه أبو الأعز، و أسر من أصحابه جمعا کثیرا، و عاد لثمان بقین منه، فقدم فاتک المعتضدی من بغداد فی البرّ، فعسکر و قدم دمیانة فی المراکب، فنزل فاتک النویرة ، فخرج ابن الخلیج و عسکر بباب المدینة، و قام فی اللیل بأربعة آلاف من أصحابه لیبیت فاتکا، فأضلوا الطریق، و أصبحوا قبل أن یبلغوا النویرة، فعلم بهم فاتک، فنهض بأصحابه، و حارب ابن الخلیج، فانهزم عنه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 143
أصحابه، و ثبت فی طائفة، ثم انهزم إلی الفسطاط لثلاث خلون من رجب، فاستتر، و دخل دمیانة فی مراکب الثغور، و أقبل عیسی النوشری، و معه الحسین المادرانیّ، و من کان معهما لخمس خلون منه، فعاد النوشری إلی ما کان علیه من صلاتها، و المادرانیّ إلی ما کان علیه من الخراج، و عرف النوشریّ بمکان ابن الخلیج، فهجم علیه و قیده لست خلون من رجب، و کانت مدّة ابن الخلیج بمصر سبعة أشهر و عشرین یوما، و دخل فاتک فی عسکره إلی الفسطاط لعشر خلون من رجب، فأخرج ابن الخلیج فی البحر لست خلون من شعبان، فلما قدم بغداد طیف به و بأصحابه و هم ثلاثون نفرا، فکان یوما مذکورا، و ابتدئ فی هدم میدان بنی طولون فی شهر رمضان، و بیعت أنقاضه، و خرج فاتک إلی العراق للنصف من جمادی الأولی سنة أربع و تسعین، و أمر النوشری بنفی المؤنثین، و منع النوح و النداء علی الجنائز، و أمر بإغلاق المسجد الجامع فیما بین الصلاتین، ثم أمر بفتحه بعد أیام، و مات المکتفی فی ذی القعدة سنة خمس و تسعین، فشغب الجند بمصر، و حاربوا النوشریّ علی طلب مال البیعة، فظفر بجماعة منهم، و بویع جعفر المقتدر، فأقرّ النوشری علی الصلاة، و قدم زیادة اللّه بن إبراهیم بن الأغلب أمیر إفریقیة مهزوما من أبی عبد اللّه الشیعیّ فی رمضان سنة ست و تسعین إلی الجیزة، فمنعه النوشری من العبور، و کانت بین أصحابه، و بین جند مصر منافسة، ثم أذن له أن یعبر وحده، و مات النوشری لأربع بقین من شعبان سنة سبع و تسعین، و هو وال، فکانت ولایته خمس سنین و شهرین و نصفا، منها مدّة ابن الخلیج سبعة أشهر و عشرون یوما، و قام من بعده ابنه أبو الفتح محمد بن عیسی.
ثم ولی تکین الخزریّ أبو منصور، من قبل المقتدر علی الصلاة، فدعی له بها یوم الجمعة لإحدی عشرة خلت من شوّال، و قدم خلیفته لسبع بقین منه، ثم قدم تکین للیلتین خلتا من ذی الحجة، و تقدّم إلیه بالجدّ فی أمر المغرب، و الاحتراس منه، فبعث جیشا إلی برقة علیه أبو الیمن، فحاربه حباسة بن یوسف بعساکر المهدیّ عبید اللّه الفاطمیّ صاحب إفریقیة، و استولی علی برقة، و سار إلی الإسکندریة فی زیادة علی مائة ألف، فدخلها فی المحرّم سنة اثنتین و ثلثمائة، فقدمت الجیوش من العراق مددا لتکین فی صفر، و قدم الحسین المادرانیّ، و أحمد بن کیغلغ فی جمع من القوّاد، و برزت العساکر إلی الجیزة فی جمادی الأولی، و خرج تکین، فکانت واقعة حباسة:
قتل فیها آلاف من الناس، و عاد حباسة إلی المغرب، و قدم مونس الحادم من بغداد فی جیوشه للنصف من رمضان، و معه جمع من الأمراء، فنزل الحمراء، و لقی الناس منهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 144
شدائد، و خرج ابن کیغلغ إلی الشام فی رمضان، و صرف تکین لأربع عشرة خلت من ذی القعدة صرفه مؤنس، فخرج لسبع خلون من ذی الحجة، و أقام مونس یدعی و یخاطب بالأستاذ.
ثم ولی: ذکا الرومیّ أبو الحسن الأعور من قبل المقتدر علی الصلاة، فدخل لثنتی عشرة خلت من صفر سنة ثلاث و ثلثمائة، و خرج موسی بجمیع جیوشه لثمان خلون من ربیع الآخر، و خرج ذکا إلی الإسکندریة فی المحرّم سنة أربع و ثلثمائة، ثم عاد فی ثامن ربیع الأوّل، و تتبع کل من یومأ إلیه بمکاتبة المهدیّ صاحب إفریقیة، فسجن منهم، و قطع أیدی أناس، و أرجلهم، و جلا أهل لوبیة و مراقیة إلی الإسکندریة خوفا من صاحب برقة، و سیر العساکر إلی الإسکندریة، ثم فسد ما بینه و بین الرعیة بسبب سب الصحابة رضی اللّه عنهم، و سب القرآن، و قدمت عساکر المهدیّ صاحب إفریقیة إلی لوبیة و مراقیة علیها أبو القاسم، فدخل الإسکندریة ثامن صفر سنة سبع و ثلثمائة، و فرّ الناس من مصر إلی الشام فی البرّ و البحر، فهلک أکثرهم، و أخرج ذکا الجند المخالفون له، فعسکر بالجیزة، و قدم أبو الحسن بن المادرانیّ والیا علی الخراج، فوضع العطاء، و جدّ ذکا فی أمر الحرب، و احتفر خندقا علی عسکره بالجیزة، فمرض و مات لإحدی عشرة خلت من ربیع الأوّل بالجیزة، فکانت إمرته أربع سنین و شهرا.
فولی: تکین مرّة ثانیة من قبل المقتدر، و قدمت جیوش العراق علیها، محمود بن حمل، و إبراهیم بن کیغلغ فی ربیع الأوّل، و دخل تکین لإحدی عشرة خلت من شعبان، فنزل الجیزة، و حفر خندقا ثانیا، و أقبلت مراکب المغرب، فظفر بها فی شوّال، و قدم مونس الخادم من بغداد بعساکره لخمس خلون من المحرّم سنة ثمان و ثلثمائة، فنزل الجیزة، و کان فی نحو ثلاثة آلاف و سیّر ابن کیغلغ إلی الأشمونین، فمات بالبهنساء أوّل ذی القعدة، و ملک أصحاب المهدیّ الفیوم، و جزیرة الأشمونین، فقدم جنی الخادم من بغداد فی عسکر آخر ذی الحجة، فعسکر بالجیزة، فکانت حروب مع أصحاب المهدیّ بالفیوم و الإسکندریة، و رجع أبو القاسم بن المهدیّ إلی برقة، و صرف تکین لثلاث عشرة خلت من ربیع الأوّل سنة تسع و ثلثمائة.
فولّی مونس: أبا قابوس محمود بن حمل، فأقام ثلاثة أیام، و عزله ورد تکین لخمس بقین من ربیع الأوّل، ثم صرفه بعد أربعة أیام، و أخرجه إلی الشام فی أربعة آلاف من أهل الدیوان.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 145
ثم ولی: هلال بن بدر من قبل المقتدر علی الصلاة، فدخل لست خلون من ربیع الآخر، و خرج مونس لثمان عشرة خلت منه و معه ابن حمل، فشغب الجند علی هلال، و خرجوا إلی منیة الأصبغ، و معهم محمد بن طاهر صاحب الشرط، فکثر النهب و القتل و الفساد بمصر، إلی أن صرف عنها فی ربیع الآخر سنة إحدی عشرة و ثلثمائة و خرج فی نفر من أصحابه.
فولی: أحمد بن کیغلغ من قبل المقتدر علی الصلاة، و قدم ابنه أبو العباس خلیفة له أوّل جمادی الأولی، ثم قدم و معه محمد بن الحسین بن عبد الوهاب المادرانیّ علی الخراج فی رجب، فأحضرا الجند، و وضعا العطاء، و أسقطا کثیرا من الرجالة، و کان ذلک بمنیة الأصبغ، فثار الرجالة به، ففرّ إلی فاقوس ، و أدخل المادرانیّ إلی المدینة لثمان خلون من شوال، و أقام ابن کیغلغ بفاقوس إلی أن صرف بقدوم رسول تکین فی ثالث ذی القعدة.
فولی: تکین المرّة الثالثة من قبل المقتدر علی الصلاة، و خلفه ابن منجور إلی أن قدم یوم عاشوراء سنة اثنتی عشرة و ثلثمائة، فأسقط کثیرا من الرجالة، و کانوا أهل الشرّ و النهب، و نادی ببراءة الذمّة، ممن أقام منهم بالفسطاط، و صلی الجمعة فی دار الإمارة بالعسکر، و ترک حضور الجمعة فی مسجد العسکر، و المسجد الجامع العتیق فی سنة سبع عشرة، و لم یصلّ قبله أحد من الأمراء فی دار الإمارة الجمعة، ثم قتل المقتدر فی شوّال سنة عشرین، و بویع أبو منصور القاهر بالله، فأقرّ تکین حتی مات فی سادس عشر ربیع الأوّل سنة إحدی و عشرین و ثلثمائة، فحمل إلی بیت المقدس، و کانت إمرته هذه تسع سنین و شهرین و خمسة أیام.
فقام ابنه محمد بن تکین موضعه، و قام أبو بکر محمد بن علیّ المادرانیّ بأمر البلد کله، و نظر فی أعماله فشغب الجند علیه فی طلب أرزاقهم، و أحرقوا دوره، و دور أهله، فخرج ابن تکین إلی منیة الأصبغ، فبعث إلیه المادرانیّ یأمره بالخروج من أرض مصر، و عسکر بباب المدینة، و أقام هناک بعدما رحل ابن تکین إلی سلخ ربیع الأوّل، فلحق ابن تکین بدمشق، ثم أقبل یرید مصر، فمنعه المادرانیّ.
ثم ولی: محمد بن طغج بن جف الفرغانیّ أبو بکر من قبل القاهر بالله علی الصلاة، فورد کتابه لسبع خلون من رمضان سنة إحدی و عشرین، و دعی له، و هو بدمشق
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 146
مدّة اثنتین و ثلاثین یوما إلی أن قدم رسول أحمد بن کیغلغ بولایته الثانیة من قبل القاهر بالله لتسع خلون من شوّال، و استخلف أبا الفتح بن عیسی النوشریّ، فشغب الجند فی أرزاقهم علی المادرانیّ صاحب الخراج، فاستتر منهم، فأحرقوا دوره و دور أهله، و کانت فتن قتل فیها جماعة إلی أن أتاهم محمد بن تکین من فلسطین لثلاث عشرة خلت من ربیع الأوّل سنة اثنتین و عشرین، فأنکر المادرانیّ ولایته، و تعصب له طائفة، و دعی له بالإمارة، و خرج قوم إلی الصعید فیهم: ابن النوشریّ، فأمّروه علیهم و هم علی الدعاء لابن کیغلغ، فنزل منیة الأصبغ لثلاث خلون من رجب، فلحق به کثیر من أصحاب تکین، ففرّ ابن تکین لیلا، و دخل ابن کیغلغ المدینة لست خلون منه، و کان مقام ابن تکین بالفسطاط مائة یوم و اثنی عشر یوما، و خلع القاهر، و بویع أبو العباس الراضی بالله، فعاد ابن تکین، و أظهر أنّ الراضی ولّاه فخرج إلیه العسکر، و حاربوه فیما بین بلبیس و فاقوس، فانهزم وجی‌ء به إلی المدینة، فحمل إلی الصعید، فورد الخبر بأنّ محمد بن طفج سار إلی مصر بولایة الراضی له، فبعث إلیه ابن کیغلغ بجیش لیمنعوه من دخول الفرما، فأقبلت مراکب ابن طغج إلی تنیس، و سارت مقدّمته فی البرّ، و کانت بینهما حروب فی تاسع عشر شعبان سنة ثلاث و عشرین کانت لأصحاب ابن طفج، و أقبلت مراکبه إلی الفسطاط سلخ شعبان، و أقبل فعسکر ابن کیغلغ للنصف من رمضان، و لاقاه لسبع بقین منه، فسلم ابن کیغلغ إلی محمد بن طفج من غیر قتال.
و ولی: محمد بن طغج الثانیة من قبل الراضی علی الصلاة و الخراج، فدخل لست بقین من رمضان، و قدم أبو الفتح الفضل بن جعفر بن محمد بن فرات بالخلع لمحمد بن طغج، و کانت حروب مع أصحاب ابن کیغلغ انهزموا منها إلی برقة، و ساروا إلی القائم بأمر اللّه محمد بن المهدیّ بالمغرب، فحرّضوه علی أخذ مصر، فجهز جیشا إلی مصر، فبعث ابن طغج عسکره إلی الإسکندریة و الصعید، ثم ورد الکتاب من بغداد بالزیارة فی اسم الأمیر محمد بن طغج، فلقب الإخشید و دعی له بذلک علی المنبر فی رمضان سنة سبع و عشرین، و سار محمد بن رائق إلی الشامات، ثم سار فی المحرّم سنة ثمان و عشرین، و استخلف أخاه الحسن بن طغج، فنزل الفرما، و ابن رائق بالرملة، فسفر بینهما الحسن بن طاهر بن یحیی العلویّ فی الصلح، حتی تمّ، و عاد إلی الفسطاط مستهل جمادی الأولی، ثم أقبل ابن رائق من دمشق فی شعبان، فسیر إلیه الإخشید الجیوش، ثم خرج لست عشرة خلت من شعبان، و التقیا للنصف من رمضان بالعریش، فکانت بینهما وقعة عظیمة انکسرت فیها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 147
میسرة الإخشید، ثم حمل بنفسه، فهزم أصحاب ابن رائق، و أسر کثیرا منهم، و أثخنهم قتلا و أسرا، و مضی ابن رائق فقتل الحسین بن طغج باللجون ، و دخل الإخشید الرملة بخمسمائة أسیر، فتداعی ابن طغج و ابن رائق إلی الصلح، فمضی ابن رائق إلی دمشق علی صلح، و قدم الإخشید محمد بن طغج إلی مصر لثلاث خلون من المحرّم سنة تسع و عشرین، و مات الراضی بالله، و بویع المتقی للّه إبراهیم فی شعبان، فأقرّ الإخشید، و قتل محمد بن رائق بالموصل، قتله بنو حمدان فی شعبان سنة ثلاثین و ثلثمائة، فبعث الإخشید بجیوشه إلی الشام، ثم سار لست خلون من شوّال، و استخلف أخاه أبا المظفر الحسن بن طغج، و دخل دمشق، ثم عاد لثلاث عشرة خلت من جمادی الأولی سنة إحدی و ثلاثین، فنزل البستان الذی یعرف الیوم بالکافوریّ من القاهرة، ثم دخل داره، و أخذ البیعة لابنه أبی القاسم أونوجور علی جمیع القوّاد، آخر ذی القعدة، و سار المتقی للّه إلی بلاد الشام، و معه بنو حمدان، فسار الإخشید لثمان خلون من رجب سنة اثنتین و ثلاثین، و استخلف أخاه الحسن، فلقی المتقی، ثم رجع فنزل البستان لأربع خلون من جمادی الأولی سنة ثلاث و ثلاثین، و خلع المتقی، و بویع عبد اللّه المستکفی لسبع خلون من جمادی الآخرة، فأقرّ الإخشید، و بعث الإخشید بحانک و کافور فی الجیوش إلی الشام.
ثم خرج لخمس خلون من شعبان سنة ست و ثلاثین، و استخلف أخاه الحسن، فلقی علیّ بن عبد اللّه بن حمدان بأرض قنسرین و حاربه، و مضی فأخذ منه حلب، و خلع المستکفی، و دعی للمطیع للّه الفضل بن جعفر فی شوّال سنة أربع و ثلاثین، فأقرّ الإخشید إلی أن مات بدمشق یوم الجمعة لثمان بقین من ذی الحجة.
فولی بعده ابنه (أونوجور) أبو القاسم باستخلافه إیاه، و قبض علی أبی بکر محمد بن علیّ بن مقاتل فی ثالث المحرّم سنة خمس و ثلاثین، و جعل مکانه علی الخراج محمد بن علیّ المادرانیّ، و قدم العسکر من الشام أوّل صفر، فلم یزل أونوجور والیا إلی أن مات لسبع خلون من ذی القعدة سنة سبع و أربعین و ثلثمائة، و حمل إلی القدس، فدفن عند أبیه، و کان کافور متحکما فی أیامه، و یطلق له فی السنة أربعمائة ألف دینار، فلما مات، قوی کافور، و کانت ولایته أربع عشرة سنة و عشرة أشهر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 148
فأقام کافور أخاه علیّ بن الإخشید أبا الحسن لثلاث عشرة خلت من ذی القعدة، فأقرّ المطیع للّه علی الحرب و الخراج بمصر و الشام و الحرمین، و صار خلیفته علی ذلک کافور غلام أبیه، و أطلق له ما کان یطلق لأخیه فی کل سنة، و فی سنة إحدی و خمسین ترفع السعر، و اضطربت الإسکندریة و البحیرة بسبب المغاربة الواردین إلیها، و تزاید الغلاء، و عز وجود القمح، و قدم القرمطیّ إلی الشام فی سنة ثلاث و خمسین، و قلّ ماء النیل، و نهبت ضیاع مصر، و تزاید الغلاء، و سار ملک النوبة إلی أسوان، و وصل إلی إخمیم، فقتل و نهب و أحرق، و اشتدّ اضطراب الأعمال، و فسد ما بین کافور و بین علیّ بن الإخشید، فمنع کافور من الاجتماع به، و اعتلّ علیّ بعد ذلک علة أخیه، و مات لإحدی عشرة خلت من المحرّم سنة خمس و خمسین و ثلثمائة، فحمل إلی القدس، و بقیت مصر بغیر أمیر أیاما، و لم یدع بها إلّا للمطیع للّه وحده، و کافور یدبر أمورها، و معه أبو الفضل جعفر بن الفرات.
ثم ولی کافور الخصیّ الأسود مولی الإخشید من قبل المطیع علی الحرب و الخراج، و جمیع أمور مصر و الشام و الحرمین، فلم یغیر لقبه، و إنما کان یدعی و یخاطب بالأستاذ ، و أخرج کتاب المطیع بولایته لأربع بقین من المحرّم سنة خمس و خمسین، فلم یزل إلی أن توفی لعشر بقین من جمادی الأولی سنة سبع و خمسین و ثلثمائة.
فولی أحمد بن علیّ الإخشید أبو الفوارس و سنة إحدی عشرة سنة فی یوم وفاة کافور، و جعل الحسین بن عبید اللّه بن طغج یخلفه، و أبو الفضل جعفر بن الفرات یدبر الأمور و سمول الإخشیدیّ العساکر إلی أن قدم جوهر القائد من المغرب بجیوش المعز لدین اللّه فی سابع عشر شعبان سنة ثمان و خمسین و ثلثمائة، ففرّ الحسین بن عبید اللّه، و تسلم جوهر البلاد، کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی، فکانت مدّة الدعاء لبنی العباس بمصر، منذ ابتدئت دولتهم إلی أن قدم القائد جوهر إلی مصر: مائتی سنة، و خمسا و عشرین سنة، و مدّة الدولة الإخشیدیة بها أربعا و ثلاثین سنة و عشرة أشهر، و أربعة و عشرین یوما، و منذ افتتحت مصر إلی أن انتقل کرسیّ الإمارة منها إلی القاهرة ثلثمائة سنة و سبع و ثلاثون سنة و أشهر، و اللّه تعالی أعلم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 149

ذکر ما کانت علیه مدینة الفسطاط من کثرة العمارة

قال ابن یونس عن اللیث بن سعد: أن حکیم بن أبی راشد حدّثه عن أبی سلمة بن عبد الرحمن: أنه وقف علی جزار، فسأله عن السعر؟ فقال: بأربعة أفلس الرطل، فقال له أبو سلمة: هل لک أن تعطینا بهذا السعر ما بدا لنا و بدا لک؟ قال: نعم، فأخذ منه أبو سلمة، و مرّ فی القصبة، حتی إذا أراد أن یوفیه، قال: بعثنی بدینار، ثم قال: اصرفه فلوسا، ثم وفه.
و قال الشریف أبو عبد اللّه محمد بن أسعد الجوانیّ النسابة فی کتاب النقط علی الخطط: سمعت الأمیر تأیید الدولة تمیم بن محمد المعروف بالضمضام یقول: فی سنة تسع و ثلاثین و خمسمائة، و حدّثنی القاضی أبو الحسین علیّ بن الحسین الخلعیّ عن القاضی أبی عبد اللّه القضاعیّ قال: کان فی مصر الفسطاط من المساجد، ستة و ثلاثون ألف مسجد، و ثمانیة آلاف شارع مسلوک، و ألف و مائة، و سبعون حماما، و إن حمام جنادة فی القرافة ما کان یتوصل إلیها إلّا بعد عناء من الزحام، و إن قبالتها فی کل یوم جمعة خمسمائة درهم.
و قال القاضی أبو عبد اللّه محمد بن سلامة القضاعیّ فی کتاب الخطط: إنه طلب لقطر الندی ابنة خمارویه بن أحمد بن طولون ألف تکة بعشرة آلاف دینار من أثمان کل تکة بعشرة دنانیر، فوجدت فی السوق فی أیسر وقت، و بأهون سعی، و ذکر عن القاضی أبی عبید: أنه لما صرف عن قضاء مصر کان فی المودع مائة ألف دینار، و إنّ فائقا مولی أحمد بن طولون اشتری دارا بعشرین ألف دینار، و سلم الثمن إلی البائعین، و أجلهم شهرین، فلما انقضی الأجل سمع فائق صیاحا عظیما و بکاء فسأل عن ذلک؟ فقیل: هم الذین باعوا الدار، فدعاهم و سألهم عن ذلک؟ فقالوا: إنما نبکی علی جوارک، فأطرق و أمر بالکتب، فردّت علیهم، و وهب لهم الثمن، و رکب إلی أحمد بن طولون، فأخبره فاستصوب رأیه، و استحسن فعله.
و یقال: إنه کان لفائق ثلثمائة فرشة کل فرشة لحظیة مثمنة، و إنّ دار الحرم بناها خمارویه لحرمه، و کان أبوه اشتراها له، فقام علیه الثمن و أجرة الصناع و البناء بسبعمائة ألف دینار، و إنّ عبد اللّه بن أحمد بن طباطبا الحسینیّ دخل الجامع، فلم یجد مکانا فی الصفّ الأوّل، فوقف فی الصف الثانی، فالتفت أبو حفص بن الجلاب، فلما رآه تأخر، و تقدّم الشریف مکانه، فکافأه علی ذلک بنعمة حملها إلیه، و دارا ابتاعها له، و نقل أهله إلیها بعد أن کساهم و حلّاهم.
و ذکر غیر القضاعیّ: أنه دفع إلیه خمسمائة دینار قال: و یقال: إنه أهدی إلی أبی جعفر الطحاویّ کتبا قیمتها ألف دینار، و إنّ رشیقا الإخشیدیّ استحجبه أبو بکر محمد بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 150
علیّ المادرانیّ، فلما مضت علیه سنة رفع فیه أنه کسب عشرة آلاف دینار، فخاطبه فی ذلک، فحلف بالإیمان الغلیظة علی بطلان ذلک، فأقسم أبو بکر المادرانیّ بمثل ما أقسم به لئن خرجت سنتنا هذه، و لم تکسب هذه الجملة لأصحبتنی، و لم یزل فی صحبته إلی أن صودر أبو بکر، فأخذ منه، و من رشیق مال جزیل، و ذکر: أن الحسن بن أبی المهاجر موسی بن إسماعیل بن عبد الحمید بن بحر بن سعد کان علی البرید فی زمن أحمد بن طولون، و قتله خمارویه، و سبب ذلک ما کان فی نفس علیّ بن أحمد المادرانیّ منه، فأغری خمارویه به، و قال: قد بقی لأبیک مال غیر الذی ذکره فی وصیته، و لم یقف علیه غیر ابن مهاجر، فطالبه، فلم یزل خمارویه بابن مهاجر إلی أن وصف له موضع المال من دار خمارویه، فأخرج فکان مبلغه ألف ألف دینار، فسلمه إلی أحمد المادرانیّ، فحمله إلی داره، و أقبلت توقیعات خمارویه فأخرج، فکان مبلغه ألف ألف دنار، فسلمه أموال الضیاع و المرافق، و حصلت له تلک الأموال، و لم یضع یده علیها إلی أن قتل، و صودر أبو بکر محمد بن علیّ فی أیام الإخشید، و قبضت ضیاعه، فعاد إلی تلک الألف ألف دینار مع ما سواها من ذخائره و أعراضه و عقده، فما ظنک برجل ذخیرته ألف ألف دینار، سوی ما ذکر عن أبی بکر محمد بن علیّ المادرانیّ أنه قال: بعث إلیّ أبو الجیش خمارویه أن أشتری له أردیة و أقنعة للجواری، و عمل دعوة خلا فیها بنفسه و بهم، و غدوت متعرّفا لخبره، فقیل له: إنه طرب لما هو فیه، فنثر دنانیر علی الجواری و الغلمان، و تقدّم إلیهم أنّ ما سقط من ذلک فی البرکة، فهو لمحمد بن علیّ کاتبی، فلما حضرت، و بلغنی ذلک أمرت الغلمان، فنزلوا فی البرکة، فأصعدوا إلیّ منها سبعین ألف دینار، فما ظنک بمال نثر علی أناس فتطایر منه إلی برکة ماء هذا المبلغ.
و قال ابن سعید فی کتاب المعرب فی حل المغرب: و فی الفسطاط دار تعرف بعبد العزیز یصب فیها لمن بها فی کل یوم أربعمائة راویة ماء، و حسبک من دار واحدة یحتاج أهلها فی کل یوم إلی هذا القدر من الماء.
و قال ابن المتوّج فی کتاب إیقاظ المتغفل و اتعاظ المتأمّل عن ساحل مصر، و رأیت من نقل عمن نقل عمن رأی الأسطال التی کانت بالطاقات المطلة علی النیل، و کان عددها ستة عشر ألف سطل مؤبدة ببکر، و أطناب بها ترخی و تملأ. أخبرنی بذلک من أثقل بنقله، قال:
و کان بالفسطاط فی جهته الشرقیة حمام من بناء الروم عامرة زمن أحمد بن طولون. قال الراوی: دخلتها فی زمن خمارویه بن أحمد بن طولون، و طلبت بها صانعا یخدمنی، فلم أجد فیها صانعا متفرّغا لخدمتی، و قیل لی: إن کل صانع معه اثنان یخدمهم و ثلاثة، فسألت کم فیها من صانع؟ فأخبرت: أنّ بها سبعین صانعا قلّ من معه دون ثلاثة، سوی من قضی حاجته، و خرج قال: فخرجت و لم أدخله لعدم من یخدمنی بها، ثم طفت غیرها، فلم أقدر علی من أجده فارغا إلّا بعد أربع حمامات، و کان الذی خدمنی فیها نائبا، فانظر رحمک اللّه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 151
ما اشتمل علیه هذا الخبر، مع ما ذکره القضاعیّ من عدد الحمامات، و أنها ألف و مائة و سبعون حماما، تعرف من ذلک کثرة ما کان بمصر من الناس، هذا و السعر راخ و القمح کل خمسة أرادب بدینار، و بیعت عشرة أرادب بدینار فی زمن أحمد بن طولون.
قال ابن المتوّج: خطة مسجد عبد اللّه أدرکت بها آثار دار عظیمة، قیل: إنها کانت دار کافور الإخشیدیّ، و یقال: إن هذه الخطة تعرف بسوق العسکر، و کان به مسجد الزکاة، و قیل: إنه کان منه قصبة سوق متصلة إلی جامع أحمد بن طولون، و أخبرنی بعض المشایخ العدول عن والده، و کان من أکابر الصلحاء أنه قال: عددت من مسجد عبد اللّه إلی جامع ابن طولون ثلثمائة و تسعین قدر حمص مصلوق بقصبة هذا السوق بالأرض، سوی المقاعد و الحوانیت التی بها الحمص، فتأمّل أعزک اللّه ما فی هذا الخبر مما یدل علی عظمة مصر، فإن هذا السوق کان خارج مدینة الفسطاط، و موضعه الیوم الفضاء الذی بین کوم الجارح و بین جامع ابن طولون، و من المعروف أن الأسواق التی تکون بداخل المدینة أعظم من الأسواق التی هی خارجها، و مع ذلک ففی هذا السوق من صنف واحد من المآکل هذا القدر، فکم تری تکون جملة ما فیه من سائر أصناف المآکل، و قد کان إذ ذاک بمصر عشرة أسواق کلها أو أکثرها أجلّ من هذا السوق، قال: و درب السفافیر بنی فیه زقاق بنی الرصاص، کان به جماعة إذا عقد عندهم عقد لا یحتاجون إلی غریب، و کانوا هم و أولادهم نحوا من أربعین نفسا.
و قال ابن زولاق فی کتاب سیرة المادرانیین: و لما قدم الأستاذ مونس الخادم من بغداد إلی مصر استدعی أبو علیّ الحسین بن أحمد المادرانیّ المعروف بأبی زنبور الدقاق، و هو الذی نسمیه الیوم الطحان، و قال: إن الأستاذ مؤنسا قد وافی، ولی بمشتول قدر ستین ألف أردب قمحا، فإذا وافی، فقم له بالوظیفة، فکان یقوم له بما یحتاج إلیه من دقیق حواری مدّة شهر، فلما کمل الشهر قال کاتب مونس للدقاق: کم لک حتی ندفعه إلیک؟
فأعلمه الخبر، فقال: ما أحسب الأستاذ یرضی أن یکون فی ضیافة أبی علیّ، و أعلم مونسا بذلک، فقال: أنا آکل خبز حسین؟! لا یبرح الرجل حتی یقبض ماله، فمضی الدقاق و علم أبا زنبور، فقام من فوره إلی مونس، فأکب علی رجلیه، فاحتشم منه، و قال: و اللّه لا أجیبک إلا هذا الشهر الذی مضی و لا تعاود، ثم رجع فقال الدقاق: قم له بالوظیفة فی المستقبل و اعمل ما یریده؟ قال: فجئته و قد فرغ القمح، و معی الحساب، و أربعمائة دینار قال:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 152
إیش هذا؟ فقلت: بقیة ذلک القمح، فقال: أعفنی منه و ترکه، فتأمّل ما اشتمل علیه هذا الخبر من سعة حال کاتب من کتاب مصر، کیف کان له فی قریة واحدة هذا القدر من صنف القمح، و کیف صار مما یفضل عنه، حتی یجعله ضیافة، و کیف لم یعبأ بأربعمائة دینار، حتی وهبها لدقاق قمح، و ما ذاک إلا من کثرة المعاش، و قس علیه باقی الأحوال.
و قال عن أبی بکر محمد بن علیّ المادرانیّ: أنه حج اثنتین و عشرین حجة متوالیة، أنفق فی کل حجة مائة ألف دینار، و خمسین ألف دینار، و أنه کان یخرج معه بتسعین ناقعة لقبته التی یرکبها، و أربعمائة لجهازه و میرته، و معه المحامل فیها أحواض البقل، و أحواض الریاحین، و کلاب الصید، و ینفق علی الأشراف، و أولاد الصحابة، و لهم عنده دیوان بأسمائهم، و أنه أنفق فی خمس حجات أخر ألفی ألف دینار، و مائتی ألف دینار، و کانت جاریته تواصل معه الحج، و معها لنفسها ثلاثون ناقة لقبتها، و مائة و خمسون عربیا لجهازها، و أحصی ما یعطیه کل شهر لحاشیته، و أهل الستر، و ذوی الأقدار جرایة من الدقیق الحواری، فکان بضعا و ثمانین ألف رطل، و کان سنة القرمطیّ بمکة، فمن جملة ما ذهب له به مائتا قمیص دیبقی ثمن کل ثوب منها خمسون دینارا، و قال مرّة: و هو فی عطلته أخذ منی محمد بن طفج الإخشید عینا و عرضا یبلغ نیفا و ثمانین و یبة دنانیر، فاستعظم من حضر ذلک، فقال ابنه الذی أخذ أکثر: و أنا أوقفه علیه، ثم قال لأبیه: یا مولای ألیس نکتب ثلاث مرّات؟ قال: قریب منها، قال: و عرض و عین؟ قال: کذلک، فأمر بعض الحساب بضبط ذلک، فجاء ما ینیف عن ثلاثین أردبا من ذهب؟! فانظر ما تضمنته أخبار المادرانیّ، و قس علیها بقیة أحوال مصر، فما کان سوی کاتب الخراج، و هذه أمواله کما قد رأیت.
و قال الشریف الجوانیّ: إن أبا عبد اللّه محمد بن مفسر قاضی مصر سمع بأن المادرانیّ عمل فی أیامه الکعک المحشوّ بالسکر، و القرص الصغار المسمی افطن له، فأمرهم بعمل الفستق الملبس بالسکر الأبیض الفانید المطیب بالمسک، و عمل منه فی أوّل الحال أشیاء عوض لبه: لب ذهب فی صحن واحد، فمضی علیه جملة، و خطف قدّامه تخاطفه الحاضرون، و لم یعد لعمله بل الفستق الملبس، و کان قد سمع فی سیرة المادرانیین أنه عمل له هذا الإفطن له، و فی کل واحدة خمسة دنانیر، و وقف أستاذ علی السماط، فقال لأحد الجلساء: افطن له، و کان عمل علی السماط عدّة صحون من ذلک الجنس، لکن ما فیه الدنانیر صحن واحد، فلما رمز الأستاذ لذلک الرجل بقوله: افطن له، و أشار إلی الصحن تناول ذلک الرجل منه، فأصاب الذهب، و اعتمد علیه، فحصل له جملة، و رآه الناس و هو إذا أکل یخرج من فمه، و یجمع بیده، و یحط فی حجره، فتنبهوا له، و تزاحموا علیه فقیل لذلک من یومئذ: افطن له.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 153
و قال أبو سعید عبد الرحمن بن أحمد بن یونس فی تاریخ مصر: حدّثنی بعض أصحابنا بتفسیر رؤیا رآها غلام ابن عقیل الخشاب عجیبة، فکانت حقا، کما فسرت، فسألت غلام ابن عقیل عنها؟ فقال لی: أنا أخبرک، کان أبی فی سوق الخشابین فأنفق بضاعته، ورثت حاله و ماله، فأسلمتنی أمی إلی ابن عقیل، و کان صدیقا لأبی، فکنت أخدمه، و أفتح حانوته و أکنسها، ثم أفرش ما یجلس علیه، فکان یجری علیّ رزقا أتقوّت به، فأتی یوما فی الحانوت، و قد جلس أستاذی ابن عقیل، فجاء ابن العسال مع رجل من أهل الریف یطلب عود خشب لطاحونة، فاشتری من ابن عقیل عود طاحونة بخمسة دنانیر، فسمعت قوما من أهل السوق یقولون: هذا ابن العسال المفسر للرؤیا عند ابن عقیل، فجاء منهم قوم، و قصوا علیه منامات رأوها، ففسرها لهم، فذکرت رؤیا رأیتها فی لیلتی، فقلت له: إنی رأیت البارحة فی نومی کذا و کذا، فقصصت علیه الرؤیا، فقال لی: أیّ وقت رأیتها من اللیل، فقلت: انتبهت بعد رؤیای فی وقت کذا، فقال لی: هذه رؤیا لست أفسرها إلّا بدنانیر کثیرة، فألححت علیه، فقال أستاذی ابن عقیل: إن قرّبت علینا وزنت أنا لک ذلک من عندی، فلم یزل به ینزله، حتی قال: و اللّه لا آخذ أقل من ثمن العود الخشب خمسة دنانیر، فقال له ابن عقیل: إن صحت الرؤیا دفعت إلیک العود بلا ثمن، فقال له: یأخذ مثل هذا الیوم ألف دینار، قال أستاذی: فإذا لم یصح هذا، فقال: یکون العود عندک إلی مثل هذا الیوم، فإن کان لم یصح أخذ ما قلت له فی ذلک الیوم، فلیس لی عندک شی‌ء، و لا أفسر رؤیا أبدا، فقال له أستاذی: قد أنصفت و مضت الجمعة، فلما کان مثل ذلک الیوم غدوت مثل ما کنت أغدو إلی دکان أستاذی، ففتحتها و رششتها، و استلقیت علی ظهری أفکر فیما قال لی، و من أین یمکن أن یصیر إلیّ ألف دینار، فقلت: لعل سقف المکان ینفرج، فیسقط منه هذا المال، و جعلت أجیل فکری، و إنی کذلک إلی ضحی إذ وقف علیّ جماعة من أعوان الخراج معهم ناس، فقالوا: هذه دکان ابن عقیل؟ ثم قالوا لی: قم، فقلت لهم:
لست ابن عقیل، أنا غلامه، فقالوا: بل أنت ابنه، و جبذونی، فأخرجونی من الدکان، فقلت: إلی أین؟ فقالوا: إلی دیوان الأستاذ أبی علیّ الحسین بن أحمد یعنون أبا زنبور، فقلت: و ما یصنع بی؟ فقالوا: إذا جئت سمعت کلامه، و ما یریده منک، و کنت بعقب علة ضعیف البدن، فقلت: ما أقدر أمشی، فقالوا: اکتر حمارا ترکبه، و لم یکن معی ما أکتری به حمارا، فنزعت تکة سراویلی من وسطی، و دفعتها علی درهمین لمن أکرانی الحمار، و مضیت معهم، فجاءوا بی إلی دار أبی زنبور، فلما دخلت قال لی: أنت ابن عقیل؟
فقلت: لا یا سیدی، أنا غلام فی حانوته، قال،: أفلیس تبصر قیمة الخشب؟ قلت: بلی، قال: فاذهب مع هؤلاء، فقوّم لنا هذا الخشب، فانظر بحیث لا یزید و لا ینقص، فمضیت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 154
معهم، فجاءوا بی إلی شط البحر إلی خشب کثیر من أثل و سنط جاف، و غیر ذلک مما یصلح لبناء المراکب، فقوّمته تقویم جزع، حتی بلغت قیمته ألفی دینار، فقالوا لی: انظر هذا الموضع الآخر فیه من الخشب أیضا، فنظرت فإذا هو أکثر مما قوّمت بنحو مرّتین فأعجلونی، و لم أضبط قیمة الخشب، فردّونی إلی أبی زنبور، فقال لی: قوّمت الخشب کما أمرتک؟ ففزعت، فقلت: نعم، فقال: هات کم قوّمته، فقلت: ألفا دینار، فقال: انظر لا تغلط، فقلت: هو قیمته عندی، فقال لی: فخذه أنت بألفی دینار، فقلت: أنا فقیر لا أملک دینارا واحدا، فکیف لی بقیمته، قال: أ لست تحسن تدبیره و تبیعه؟ فقلت: بلی، قال:
فدبره و بعه و نحن نصبر علیک بالثمن إلی أن تبیع شیئا شیئا، و تؤدّی ثمنه، فقلت: أفعل، فأمر بکتاب یکتب علیّ فی الدیوان بالمال، فکتب علیّ، و رجعت إلی الشط أعرف عدد الخشب، و أوصی به الحرّاس، فوافیت جماعة أهل سوقنا، و شیوخهم قد أتوا إلی موضع الخشب، فقالوا لی: إیش صنعت؟ قوّمت الخشب؟ قلت: نعم، قالوا: بکم قوّمته؟ فقلت:
بألفی دینار، فقالوا لی: و أنت تحسن تقوّم؟ لا یساوی هذا هذه القیمة، فقلت لهم: قد کتب علیّ کتاب فی الدیوان، و هو عندی یساوی أضعاف هذا، فقالوا لی: اسکت لا یسمعک أحد، و کانوا قد قوّموه قبلی لأبی زنبور بألف دینار، فقال بعضهم لبعض: أعطوا هذا ربحه، و تسلموه أنتم، فقال قائل: أعطوه ربحه خمسمائة دینار، فقلت: لا و اللّه لا آخذ، فقالوا: قد رأی رؤیا، فزیدوه، فقلت: لا و اللّه لا آخذ أقلّ من ألف دینار، قالوا: فلک ألف دینار، فحوّل اسمک من الدیوان نعطک إذا بعنا ألف دینار، فقلت: لا و اللّه لا أفعل حتی آخذ الألف دینار فی وقتی هذا، فمضوا إلی حوانیتهم، و إلی منازلهم حتی جاءونی بألف دینار، فقلت: لا آخذها إلا بنقد الصیرفیّ و میزانه، فمضیت معهم إلی صیرفیّ الناحیة، حتی وزنوا عنده الألف دینار، و نقدتها و أخذتها فشددتها فی طرف رداءی، فمضیت معهم إلی الدیوان، و حوّلت أسماءهم مکان اسمی، و وفوا حتی الدیوان من عندهم، و رجعت وقت الظهر إلی أستاذی، فقال لی: قبضت ألف دینار منهم؟ فقلت: نعم ببرکتک، و ترکت الدنانیر بین یدیه، و قلت له: یا أستاذ خذ ثمن العود الخشب، فقال: لا و اللّه لا آخذ منک شیئا أنت عندی مقام ابنی، و جاء فی الوقت ابن العسال، فدفع إلیه أستاذی العود الخشب، فمضی، فهذا خبر رؤیای و تفسیرها، فتأمّل أعزک اللّه ما یشتمل علیه من عظم ما کانت علیه مصر، وسعة حال الدیوان، و کیف فضل فیه خشب یساوی آلافا من الذهب، و نحن الیوم فی زمن إذا احتیج فیه إلی عمارة شی‌ء من الأماکن السلطانیة بخشب أو غیره أخذ من الناس إما بغیر ثمن أو بأخس القیم، مع ما یصیب مالکه من الخوف و الخسارة للأعوان، و کیف لما قوّم هذا الخشب لم یکلف المشتری دفع المال فی الحال، و فی زمننا إذا طرحت البضاعة السلطانیة علی الباعة یکلفون حمل ثمنها بالسرعة، حتی أنّ فیهم من یبیعها بأقلّ من نصف ما اشتراها به، و یکمل الثمن إمّا من ماله، أو یقترضه بربح، و کیف لما علم أهل السوق أن الخشب بیع بدون القیمة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 155
لم یمضوا إلی الدیوان، و یدفعون فیه زیادة إمّا لقلة شره الناس إذ ذاک و ترکهم الأخلاق الرذیلة من الحسد و نحوه أو لعلمهم بعدل السلطان، و إنه لا ینکث ما عقده، و فی زمننا لو ادّعی عدوّ علی عدوّه أنّ البضاعة التی کان اشتراها من الدیوان قیمتها أکثر مما أخذها به لقبل قوله، و رغم زیادة علی ما ادّعاه عدوّه من قلة القیمة جملة أخری لا جرم أنه تظاهر سفهاء الناس بکل رذیلة و ذمیمة من الأخلاق، فإنّ الملک سوق یجبی إلیه ما نفق به، و کیف لما علم ابن عقیل أنّ غلامه استفاد علی اسمه ألف دینار، لم یشره إلی أخذها بل دفع عنه خمسة الدنانیر، و ما ذاک إلا من انتشار الخیر فی الناس، و کثرة أموالهم، وسعة حال کل أحد بحسبه و طیب نفوس الکافة، و لعمری لو سمع زمننا أحد من الأمراء و الوزراء فضلا عن الباعة، أنّ غلاما من غلمانه أخذ علی اسمه عشر هذا المبلغ لقامت قیامته، و کیف اتسعت أحوال الخشابین حتی وزنوا ألف دینار فی ساعة، و إنه لیعسر الیوم علی الخشابین أن یزنوا فی یوم مائة دینار، و هذا کله من وفور غنی الناس بمصر، و عظم أمرهم، و کثرة سعاداتهم، و کان الفسطاط نحو ثلث بغداد، و مقداره فرسخ علی غایة العمارة، و الخصب و الطیبة، و اللذة، و کانت مساکن أهلها خمس طبقات و ستا و سبعا و ربما سکن فی الدار الواحدة المائتان من الناس، و کان فیه دار عبد العزیز بن مروان یصب فیها لمن فی کل یوم أربعمائة راویة ماء، و کان فیها خمسة مساجد و حمامان، و عدّة أفران یخبز بها عجین أهلها، و قد قال أبو داود فی کتاب السنن: شبرت قثاءة بمصر: ثلاثة عشر شبرا، و رأیت أترجة علی بعیر قطعتین: قطعت، و صیرت علی مثل عدلین، ذکره فی باب صدقة الزرع من کتاب الزکاة، قلت: و قد ذکر أن هذا کان فی جنان بنی سنان البصریّ خارج مدینة الفسطاط، و کانت بحیث لم یر أبدع منها، فلما قدم أمیر المؤمنین عبد اللّه المأمون بن هارون الرشید مصر:
سنة سبع عشرة و مائتین، رأی جنان بنی سنان هذه؟ فأعجب بها، و سأل إبراهیم بن سنان:
کم علیه من الخراج لجنانه؟ فذکر أنه یحمل إلی الدیوان فی کل سنة عشرین ألف دینار، فقال المأمون: و کم ترد علیک هذه الجنان؟ قال: لا أستطیع حصره إلا أن ما زاد علی مائة ألف دینار، أتصدّق به و لو درهما هذا، و له ولد اسمه أحمد بن إبراهیم بن سنان یوصف بعلم و زهد، و اللّه تعالی أعلم.

ذکر الآثار الواردة فی خراب مصر

روی قاسم بن أصبغ عن کعب الأحبار قال: الجزیرة آمنة من الخراب، حتی تخرب أرمینیة، و مصر آمنة من الخراب حتی تخرب الجزیرة، و الکوفة آمنة من الخراب، حتی تکون الملحمة، و لا یخرج الدجال حتی تفتح القسطنطینیة.
و عن وهب بن منبه أنه قال: الجزیرة آمنة من الخراب، حتی تخرب أرمینیة، و أرمینیة آمنة من الخراب حتی تخرب مصر، و مصر آمنة من الخراب، حتی تخرب الکوفة، و لا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 156
تکون الملحمة الکبری حتی تخرب الکوفة، فإذا کانت الملحمة الکبری، فتحت القسطنطینیة علی یدی رجل من بنی هاشم، و خراب الأندلس من قبل الزنج، و خراب إفریقیة من قبل الأندلس، و خراب مصر من انقطاع النیل، و اختلاف الجیوش فیها، و خراب العراق من قبل الجوع و السیف، و خراب الکوفة من قبل عدوّ من ورائهم یخفرهم، حتی لا یستطیعوا أن یشربوا من الفرات قطرة، و خراب البصرة من قبل العراق، و خراب الأبلة من قبل عدوّ یخفرهم مرّة برّا، و مرّة بحرا، و خراب الریّ من قبل الدیلم، و خراب خراسان من قبل التبت، و خراب التبت من قبل الصین، و خراب الصین من قبل الهند، و خراب الیمن من قبل الجراد و السلطان، و خراب مکة من قبل الحبشة، و خراب المدینة من قبل الجوع، و فی روایة: و خراب أرمینیة من قبل الرجف و الصواعق، و خراب الأندلس، و خراب الجزیرة من سنابک الخیل، و اختلاف الجیوش.
و عن عبد اللّه بن الصامت قال: إن أسرع الأرضین خرابا البصرة و مصر، فقیل له: و ما یخربهما و فیهما عیون الرجال و الأموال؟ فقال: یخربهما القتل الأحمر و الجوع الأغبر، کأنی بالبصرة: کأنها نعامة جاثمة، و أما مصر: فإنّ نیلها ینضب، أو قال: ییبس، فیکون ذلک خرابها، و عن الأوزاعیّ: إذا دخل أصحاب الرایات الصفر مصر، فلتحفر أهل الشام أسرابا تحت الأرض.
و عن کعب: علامة خروج المهدیّ ألویة تقبل من قبل المغرب علیها رجل من کندة أعرج، فإذا ظهر أهل المغرب علی مصر، فبطن الأرض یومئذ خیر لأهل الشام.
و عن سفیان الثوریّ قال: یخرج عنق من البربر، فویل لأهل مصر. و قال ابن لهیعة عن أبی الأسود عن مولی لشرحبیل بن حسنة أو لعمرو بن العاص قال: سمعته یوما، و استقبلنا فقال: إیها لک مصر إذا رمیت بالقسیّ الأربع: قوس الأندلس، و قوس الحبشة، و قوس الترک، و قوس الروم.
و عن قاسم بن أصبغ: حدّثنا أحمد بن زهیر حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة عن الشیبانیّ قال: تهلک مصر غرقا، أو حرقا.
و عن عبد اللّه بن مغلا أنه قال لابنته: إذا بلغک أن الإسکندریة قد فتحت، فإن کان خمارک بالمغرب، فلا تأخذیه حتی تلحقی بالمشرق.
و ذکر مقاتل بن حیان عن عکرمة عن ابن عباس یرفعه قال: أنزل اللّه تعالی من الجنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 157
إلی الأرض خمسة أنهار: سیحون، و هو نهر الهند، و جیحون، و هو نهر بلخ، و دجلة و الفرات، و هما نهرا العراق، و النیل و هو نهر مصر، أنزلها اللّه تعالی من عین واحدة من عیون الجنة من أسفل درجة من درجاتها علی جناحی جبریل علیه السلام، و استودعها الجبال، و أجراها فی الأرض، و جعل فیها منافع للناس فی أصناف معایشهم، و ذلک قوله عز و جل: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْکَنَّاهُ فِی الْأَرْضِ [المؤمنون/ 18] فإذا کان عند خروج یأجوج و مأجوج أرسل اللّه تعالی جبریل علیه السلام، فرفع من الأرض القرآن کله، و العلم کله، و الحجر من رکن البیت، و مقام إبراهیم، و تابوت موسی بما فیه، و هذه الأنهار الخمسة، فیرفع کل ذلک إلی السماء، فذلک قوله تعالی: وَ إِنَّا عَلی ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [المؤمنون/ 18] فإذا رفعت هذه الأشیاء من الأرض فقدت أهلها خیر الدنیا و الدین، و قال ابن لهیعة عن عقبة بن عامر الحضرمیّ عن حیان بن الأعین عن عبد اللّه بن عمرو قال: إنّ أوّل مصر خرابا أنطابلس، و قال اللیث بن سعد عن یزید بن أبی حبیب عن سالم بن أبی سالم عن عبد اللّه بن عمرو قال: إنی لأعلم السنة التی تخرجون فیها من مصر قال: فقلت له: ما یخرجنا منها یا أبا محمد، أعدوّ؟ قال: لا، و لکن یخرجکم منها نیلکم هذا، یغور فلا تبقی منه قطرة حتی تکون فیه الکثبان من الرمل، و تأکل سباع الأرض حیتانه.

ذکر خراب الفسطاط

و کان لخراب مدینة فسطاط مصر سببان: أحدهما: الشدّة العظمی التی کانت فی خلافة المستنصر بالله الفاطمی، و الثانی: حریق مصر فی وزارة شاور بن مجیر السعدیّ.
فأما الشدّة العظمی: فإنّ سببها أنّ السعر ارتفع بمصر فی سنة ست و أربعین و أربعمائة، و تبع الغلاء، و باء، فبعث الخلیفة المستنصر بالله أبو تمیم معدّ بن الظاهر لإعزاز دین اللّه أبی الحسن علیّ إلی متملک الروم بقسطنطینیة أن یحمل الغلال إلی مصر، فأطلق أربعمائة ألف أردب، و عزم علی حملها إلی مصر، فأدرکه أجله و مات قبل ذلک، فقام فی الملک بعده امرأة، و کتبت إلی المستنصر تسأله أن یکون عونا لها، و یمدّها بعساکر مصر إذا ثار علیها أحد، فأبی أن یسعفها فی طلبتها، فجردت لذلک، و عاقت الغلال عن المسیر إلی مصر، فخنق المستنصر، و جهز العساکر، و علیها مکین الدولة الحسن بن ملهم، و سارت إلی اللاذقیة، فحاربتها بسبب نقض الهدنة و إمساک الغلال عن الوصول إلی مصر، و أمدّها بالعساکر الکثیرة، و نودی فی بلاد الشام بالغزو، فنزل ابن ملهم قریبا من فامیة ، و ضایق أهلها، و جال فی أعمال أنطاکیة، فسبی و نهب، فأخرج صاحب قسطنطینیة ثمانین قطعة فی البحر، فحاربها ابن ملهم عدّة مرار، و کانت علیه، و أسر هو و جماعة کثیرة فی شهر ربیع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 158
الأوّل منها، فبعث المستنصر فی سنة سبع و أربعین: أبا عبد اللّه القضاعیّ برسالة إلی القسطنطینیة فوافی إلیها رسول طغربل السلجوقیّ من العراق بکتابة یأمر متملک الروم بأن یمکن الرسول من الصلاة فی جامع القسطنطینیة، فأذن له فی ذلک، فدخل إلیه و صلی فیه صلاة الجمعة.
و خطب للخلیفة القائم بأمر اللّه العباسیّ، فبعث القاضی القضاعیّ إلی المستنصر یخبره بذلک، فأرسل إلی کنیسة قمامة بیت المقدس، و قبض علی جمیع ما فیها، و کان شیئا کثیرا من أموال النصاری، ففسد من حینئذ ما بین الروم و المصریین، حتی استولوا علی بلاد الساحل کلها، و حاصروا القاهرة کما یرد فی موضعه إن شاء اللّه تعالی، و اشتدّ فی هذه السنة الغلاء، و کثر الوباء بمصر و القاهرة، و أعمالها إلی سنة أربع و خمسین و أربعمائة، فحدث مع ذلک الفتنة العظیمة التی خرب بسببها إقلیم مصر کله، و ذلک أنّ المستنصر لما خرج علی عادته فی کل سنة علی النجب مع النساء، و الحشم إلی أرض الجب خارج القاهرة، و جرّد بعض الأتراک سیفا، و هو سکران علی أحد عبید الشراء، فاجتمع علیه کثیر من العبید و قتلوه، فحنق لقتله الأتراک، و ساروا بجمیعهم إلی المستنصر.
و قالوا: إن کان هذا عن رضاک، فالسمع و الطاعة، و إن کان من غیر رضی أمیر المؤمنین، فلا نرضی بذلک، فتبرّأ المستنصر مما جری و أنکره، فتجمع الأتراک لمحاربة العبید، و کانت بینهما حروب شدیدة بناحیة کوم شریک قتل فیها عدّة من العبید.
و انهزم من بقی منهم، فشق ذلک علی أمّ المستنصر، فإنها کانت السبب فی کثرة العبید السود بمصر، و ذلک أنها کانت جاریة سوداء، فأحبت الاستکثار من جنسها، و اشترتهم من کل مکان، و عرفت رغبتها فی هذا الجنس، فجلبت الناس إلی مصر منهم، حتی یقال: إنه صار فی مصر إذ ذاک علی زیادة علی خمسین ألف عبد أسود، فلما کانت وقعة کوم شریک أمدّت العبید بالأموال و السلاح سرّا، و کانت أمّ المستنصر قد تحکمت فی الدولة، و حقدت علی الأتراک، و حثت علی قتلهم مولاها أبا سعد التستریّ، فقویت العبید لذلک، حتی صار الواحد منهم یحکم بما یختار، فکرهت الأتراک ذلک، و کان ما ذکر، فظفر بعض الأتراک یوما بشی‌ء من المال و السلاح قد بعثت به أمّ المستنصر إلی العبید تمدّهم به بعد انهزامهم من کوم شریک، فاجتمعوا بأسرهم، و دخلوا علی المستنصر، و أغلظوا فی القول، فحلف أنه لم یکن عنده علم بما ذکر، و صار إلی أمه، فأنکرت ما فعلت، و خرج الأتراک، فصار السیف قائما، و وقعت الفتنة ثانیا فانتدب المستنصر: أبا الفرج ابن المغربیّ لیصلح بین الطائفتین، فاصطلحه علی غلّ، و خرج العبید إلی شبرا دمنهور، فکان هذا أوّل اختلال أحوال أهل مصر، و دبت عقارب العداوة بین الفئتین إلی سنة تسع و خمسین، فقویت شوکة الأتراک، و ضروا علی المستنصر، و زاد طمعهم فیه، و طلبوا منه الزیادة فی واجباتهم، و ضاقت أحوال
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 159
العبید، و اشتدّت ضرورتهم، و کثرت حاجتهم، و قلّ مال السلطان، و استضعف جانبه، فبعثت أم المستنصر إلی قوّاد العبید تغریهم بالأتراک، فاجتمعوا بالجیزة، و خرج إلیهم الأتراک، و مقدّمهم ناصر الدین حسین بن حمدان ، فاقتتلا عدّة مرار ظهر فی آخرها الأتراک علی العبید، و هزموهم إلی بلاد الصعید، فعاد ابن حمدان إلی القاهرة، و قد عظم أمره، و قوی جأشه، و کبرت نفسه، و استخف بالخلیفة، فجاءه الخبر: أنه قد تجمع من العبید ببلاد الصعید نحو خمسة عشر ألف فارس، فقلق و بعث بمقدّمی الأتراک إلی المستنصر، فأنکر ما کان من اجتماع العبید، و جفوا فی خطابهم، و فارقوه علی غیر رضی منهم، فبعثت أم المستنصر إلی من بحضرتها من العبید، تأمرهم بالإیقاع علی غفلة بالأتراک، فهجموا علیهم، و قتلوا منهم عدّة، فبادر ابن حمدان إلی الخروج ظاهر القاهرة، و تلاحق به الأتراک، و برز إلیهم العبید المقیمون بالقاهرة و مصر، و حاربوهم عدّة أیام، فحلف ابن حمدان أنه لا ینزل عن فرسه حتی ینفصل الأمر إمّا له أو علیه، و جدّ کل من الفریقین فی القتال، فظهرت الأتراک علی العبید، و أثخنوا فی قتلهم و أسرهم، فعادوا إلی القاهرة، و تتبع ابن حمدان من فی البلد منهم، حتی أفنی معظمهم، هذا و العبید ببلاد الصعید علی حالهم، و بالإسکندریة أیضا منهم جمع کثیر، فسار ابن حمدان إلی الإسکندریة، و حاصرهم فیها مدّة حتی سألوه الأمان، فأخرجهم، و أقام فیها من یثق به، و انقضت هذه السنة کلها فی قتال العبید، و دخلت سنة ستین و أربعمائة، و قد خرق الأتراک ناموس المستنصر، و استهانوا به، و استخفوا بقدره، و صار مقرّرهم فی کل شهر أربعمائة ألف دینار بعدما کان ثمانیة و عشرین ألف دینار، و لم یبق فی الخزائن مال، فبعثوا یطالبونه بالمال، فاعتذر إلیهم بعجزه عما طلبوه، فلم یعذروه، و قالوا: بع ذخائرک، فلم یجد بدّا من إجابتهم، و أخرج ما کان فی القصر من الذخائر، فصاروا یقوّمون ما یخرج إلیهم بأخس القیم، و أقل الأثمان، و یأخذون ذلک فی واجباتهم.
و تجهز ابن حمدان، و سار إلی الصعید یرید قتال العبید، و کانت شرورهم قد کثرت، و ضررهم و فسادهم قد تزاید، فلقیهم و واقعهم غیر مرّة، و الأتراک تنکسر منهم، و تعود إلی محاربتهم إلی أن حمل العبید علیهم حملة انهزموا فیها إلی الجیزة، فأفحشوا عند ذلک فی أمر المستنصر، و نسبوه إلی مباطنة العبید، و تقویتهم، فأنکر ذلک، و حلف علیه، فأخذوا فی إصلاح شأنهم، و لمّ شعثهم و ساروا لقتال العبید، و ما زالوا یلحون فی قتالهم حتی انکسرت العبید کسرة شنیعة، و قتل منهم خلق کثیر، و فرّ من بقی، فذهبت شوکتهم، و زالت دولتهم، و رجع ابن حمدان، و قد کشف قناع الحیاء، و جهر بالسوء للمستنصر، و استبدّ بسلطنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 160
البلاد، و دخلت سنة إحدی و ستین و ابن حمدان مستبدّ بالأمر مجاف للمستنصر، فنقل مکانه علی الأتراک، و تفرّغوا من العبید، و التفتوا إلیه، و قد استبدّ بالأمور دونهم، و استأثر بالأموال علیهم، ففسد ما بینهم و بینه، و شکوا منهم إلی الوزیر خطیر الملک، فأغراهم به، و لامهم علی ما کان من تقویته، و حسن لهم الثورة به، فصاروا إلی المستنصر، و وافقوه علی ذلک، فبعث إلی ابن حمدان یأمره بالخروج عن مصر، و یهدّده إن امتنع، فلم یقدر علی الامتناع منه، لفساد الأتراک علیه، و میلهم مع المستنصر، فخرج إلی الجیزة، و انتهب الناس دوره و دور حواشیه، فلما جنّ علیه اللیل عاد من الجیزة سرّا إلی دار القائد تاج الملوک شادی، و ترامی علیه، و قبل رجلیه، و سأله النصرة علی الذکر و الوزیر الخطیر، فإنهما قاما بهذه الفتنة، فأجابه إلی ذلک، و وعده بقتل المذکورین و فارقه ابن حمدان، فلما کان من الغد رکب شادی فی أصحابه، و أخذ یسیر بین القصرین بالقاهرة، و أقبل الوزیر الخطیر، فی موکبه، فبادره شادی علی حین غفلة و قتله، ففرّ الذکر إلی القصر، و التجأ بالمستنصر، فلم یکن بأسرع من قدوم ابن حمدان، و قد استعدّ للحرب، فیمن معه فرکب المستنصر بلأمة الحرب، و اجتمع إلیه الأجناد و العامّة، و صار فی عدد لا ینحصر، و برزت الفرسان، فکانت بین الخلیفة، و ابن حمدان حروب آلت إلی هزیمة ابن حمدان، و قتل کثیر من أصحابه، فمضی فی طائفة إلی البحیرة، و ترامی علی بنی سیس، و تزوّج منها، فعظم الأمر بالقاهرة و مصر من شدّة الغلاء، و قلة الأقوات لما فسد من الأعمال بکثرة النهب، و قطع الطریق حتی أکل الناس الجیف و المیتات، و وقف أرباب الفساد فی الطریق، فصاروا یقتلون من ظفروا به فی أزقة مصر، فهلک من أهل مصر فی هذه الحروب و الفتن ما لا یمکن حصره، و امتدّ ذلک إلی أن دخلت سنة ثلاث و ستین، فجهز المستنصر عساکره لقتال ابن حمدان بالبحیرة، فسارت إلیه و لم یوفق فی محاربته، فکسرها کلها، و احتوی علی ما کان معها من سلاح و کراع و مال، فتقوّی به، و قطع المیرة عن البلد، و نهب أکثر الوجه البحریّ، و قطع منه الخطبة للمستنصر، و دعا للخلیفة القائم بأمر اللّه العباسیّ بالإسکندریة و دمیاط، و عامّة الوجه البحریّ، فاشتدّ الجوع، و تزاید الموتان بالقاهرة و مصر حتی أنه کان یموت الواحد من أهل البیت، فلا یمضی یوم و لیلة من موته، حتی یموت سائر من فی ذلک البیت، و لا یوجد من یستولی علیه، و مدّت الأجناد أیدیها إلی النهب، فخرج الأمر عن الحدّ، و نجا أهل القوّة بأنفسهم من مصر، و ساروا إلی الشام و العراق، و خرج من خزائن القصر ما یجل وصفه، و قد ذکر طرف من ذلک فی أخبار القاهرة عند ذکر خزائن القصر، فاضطرّ الأجناد ما هم فیه من شدّة الجوع إلی مصالحة ابن حمدان بشرط أن یقیم فی مکانه، و یحمل إلیه مال مقرّر، و ینوب عنه شادی بالقاهرة، فرضی بذلک، و سیر الغلال إلی القاهرة و مصر، فسکن ما بالناس من شدّة الجوع قلیلا، و لم یکن ذلک إلا نحو شهر، و وقع الاختلاف علیه، فقدم من البحیرة إلی مصر، و حاصرها و انتهبها، و أحرق دورا عدیدة بالساحل، و رجع إلی البحیرة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 161
فدخلت سنة أربع و ستین، و الحال علی ذلک، و شادی قد استبدّ بأمر الدولة، و فسد ما بینه و بین ابن حمدان، و منعه من المال الذی تقرّر له و شح به علیه، فلم یوصله إلی القلیل، فجرد من ذلک ابن حمدان، و جمع العربان، و سار إلی الجیزة، و خادع شادی حتی صار إلیه لیلا فی عدّة من الأکابر، فقبض علیه و علیهم، و بعث أصحابه فنهبوا مصر، و أطلقوا فیها النار، فخرج إلیهم عسکر المستنصر من القاهرة، و هزموهم، فعاد إلی البحیرة، و بعث رسولا إلی الخلیفة القائم بأمر اللّه ببغداد بإقامة الخطبة له، و سأله الخلع و التشاریف فاضمحل أمر المستنصر، و تلاشی ذکره، و تفاقم الأمر فی الشدّة من الغلاء، حتی هلکوا فسار ابن حمدان إلی البلد، و لیس فی أحد قوّة یمنعه بها، فملک القاهرة و امتنع المستنصر بالقصر، فسیر إلیه رسولا یطلب منه المال، فوجده، و قد ذهب سائر ما کان یعهده من أبهة الخلافة، حتی جلس علی حصیر، و لم یبق معه سوی ثلاثة من الخدم، فبلغه رسالة ابن حمدان، فقال المستنصر للرسول: ما یکفی ناصر الدولة أن اجلس فی مثل هذا البیت علی هذا الحال؟ فبکی الرسول رقة له، و عاد إلی ابن حمدان فأخبره بما شاهد من اتضاع أمر المستنصر، و سوء حاله، فکف عنه، و أطلق له فی کل شهر مائة دینار، و امتدّت یده و تحکم و بالغ فی إهانة المستنصر مبالغة عظیمة، و قبض علی أمه و عاقبها أشد العقوبة، و استصفی أموالها، فحاز منها شیئا کثیرا، فتفرّق حینئذ عن المستنصر جمیع أقاربه، و أولاده من الجوع فمنهم من سار إلی المغرب، و منهم من سار إلی الشام و العراق.
قال الشریف محمد بن أسعد الجوانیّ النسابة فی کتاب النقط: حلّ بمصر غلاء شدید، فی خلافة المستنصر بالله فی سنة سبع و خمسین و أربعمائة، و أقام إلی سنة أربع و ستین و أربعمائة، و عمّ مع الغلاء و باء شدید، فأقام ذلک سبع سنین، و النیل یمدّ و ینزل، فلا یجد من یزرع، و شمل الخوف من العسکریة، و فساد العبید، فانقطعت الطرقات برّا و بحرا إلّا بالخفارة الکثیرة مع رکوب الغرر، و نزا المارقون بعضهم علی بعض، و استولی الجوع لعدم القوت، و صار الحال إلی أن بیع رغیف من الخبز الذی وزنه رطل بزقاق القنادیل:
کبیع الطرف فی النداء بأربعة عشر درهما، و بیع أردب من القمح بثمانین دینارا، ثم عدم ذلک، و أکلت الکلاب و القطاط، ثم تزاید الحال حتی أکل الناس بعضهم بعضا، و کان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سکنوا بیوتا قصیرة السقوف قریبة ممن یسعی فی الطرقات و یطوف، و قد أعدّوا سلبا، و خطاطیف فإذا مرّ بهم أحد شالوه فی أقرب وقت، ثم ضربوه بالأخشاب، و شرّحوا لحمه و أکلوه.
قال: و حدّثنی بعض نسائنا الصالحات قالت: کانت لنا من الجارات امرأة ترینا أفخاذها، و فیها کالحفر، فکنا نسألها، فتقول: أنا ممن خطفنی أکلة الناس فی الشدّة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 162
فأخذنی إنسان، و کنت ذات جسم و سمن، فأدخلنی إلی بیت فیه سکاکین و آثار الدماء، و زفرة القتلی، فأضجعنی علی وجهی، و ربط فی یدیّ و رجلیّ سلبا إلی أوتاد حدید عریانة، ثم شرّح من أفخاذی شرائح و أنا أستغیث، و لا أحد یجیبنی، ثم أضرم الفحم و شوی من لحمی، و أکل أکلا کثیرا، ثم سکر حتی وقع علی جنبه لا یعرف أین هو، فأخذت فی الحرکة إلی أن انحل أحد الأوتاط، و أعان اللّه علی الخلاص، و تخلصت و حللت الرباط، و أخذت خرقا من داره، و لففت بها أفخاذی، و زحفت إلی باب الدار، و خرجت أزحف إلی أن وقعت إلی المأمن، و جئت إلی بیتی، و عرّفتهم بموضعه، فمضوا إلی الوالی، فکبس علیه و ضرب عنقه، و أقام الدواء فی أفخاذی سنة إلی أن ختم الجرح، و بقی کذا حفرا، و بسبب هذا الغلاء خرب الفسطاط، و خلا موضع العسکر و القطائع، و ظاهر مصر، مما یلی القرافة حیث الکیمان الآن إلی برکة الحبش، فلما قدم أمیر الجیوش بدر الجمالیّ إلی مصر، و قام بتدبیر أمرها نقلت أنقاض ظاهر مصر مما یلی القاهرة حیث کان العسکر و القطائع، و صار فضاء و کیمانا، فیما بین مصر و القاهرة، و فیما بین مصر و القرافة، و تراجعت أحوال الفسطاط بعد ذلک حتی قارب ما کان علیه قبل الشدّة.
و أما حریق مصر: فکان سببه: أنّ الفرنج لما تغلبوا علی ممالک الشام، و استولوا علی الساحل حتی صار بأیدیهم ما بین ملطیة إلی بلبیس إلّا مدینة دمشق فقط، و صار أمر الوزارة بدیار مصر: لشاور بن مجیر السعدیّ، و الخلیفة یومئذ العاضد لدین اللّه عبد اللّه بن یوسف، اسم لا معنی له، و قام فی منصب الوزارة بالقوّة فی صفر سنة ثمان و خمسین و خمسمائة، و تلقب بأمیر الجیوش، و أخذ أموال بنی رزیک وزراء مصر، و ملوکها من قبله، فلما استبدّ بالإمرة حسده ضرغام صاحب الباب، و جمع جموعا کثیرة، و غلب شاور علی الوزارة فی شهر رمضان منها، فسار شاور إلی الشام، و استقل ضرغام بسلطنة مصر، فکان بمصر فی هذه السنة ثلاثة وزراء هم: العادل بن رزیک بن طلائع بن رزیک، و شاور بن مجیر، و ضرغام، فأساء ضرغام السیرة فی قتل أمراء الدولة، و ضعفت من أجل ذلک دولة الفاطمیین بذهاب رجالها الأکابر، ثم إن شاور استنجد بالسلطان: نور الدین محمود بن زنکی صاحب الشام، فأنجده و بعث معه عسکرا کثیرا فی جمادی الأولی سنة تسع و خمسین، و قدم علیه أسد الدین شیرکوه علی أن یکون لنور الدین إذا عاد شاور إلی منصب الوزارة ثلث خراج مصر بعد إقطاعات العساکر، و أن یکون شیرکوه عنده بعساکره فی مصر، و لا یتصرّف إلا بأمر نور الدین، فخرج ضرغام بالعسکر، و حاربه فی بلبیس فانهزم، و عاد إلی مصر، فنزل شاور بمن معه عند التاج خارج القاهرة، و انتشر عسکره فی البلاد، و بعث
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 163
ضرغام إلی أهل البلاد، فأتوه خوفا من الترک القادمین معه، و أتته الطائفة الریحانیة و الطائفة الجیوشیة، فامتنعوا بالقاهرة، و تطاردوا مع طلائع شاور بأرض الطبالة، فنزل شاور فی المقس، و حارب أهل القاهرة فغلبوه، و حتی ارتفع إلی برکة الحبش، فنزل علی الرصد و استولی علی مدینة مصر، و أقام أیاما فمال الناس إلیه، و انحرفوا عن ضرغام لأمور، فنزل شاور باللوق، و کانت بینه و بین ضرغام حروب آلت إلی إحراق الدور من باب سعادة إلی باب القنطرة خارج القاهرة، و قتل کثیر من الفریقین، و اختلّ أمر ضرغام، و انهزم، فملک شاور القاهرة، و قتل ضرغام آخر جمادی الآخرة سنة تسع و خمسین، فأخلف شیرکوه ما وعد به السلطان نور الدین، و أمره بالخروج عن مصر، فأبی علیه و اقتتلا.
و کان شیرکوه قد بعث بابن أخیه صلاح الدین یوسف بن أیوب إلی بلبیس، لیجمع له الغلال و غیرها من الأموال، فحشد شاور، و قاتل الشامیین، فجرت وقائع، و احترق وجه الخلیج خارج القاهرة بأسره، و قطعة من حارة زویلة، فبعث شاور إلی الفرنج و استنجد بهم فطمعوا فی البلاد، و خرج ملکهم مری من عسقلان بجموعه، فبلغ ذلک شیرکوه، فرحل عن القاهرة بعد طول محاصرتها، و نزل بلبیس فاجتمع علی قتاله بها شاور و ملک الفرنج، و حصروه بها، و کانت إذا ذاک حصینة ذات أسوار، فأقام محصورا مدّة ثلاثة أشهر، و بلغ ذلک نور الدین، فأغار علی ما قرب منه من بلاد الفرنج، و أخذها من أیدیهم، فخافوه، و وقع الصلح مع شیرکوه علی عوده إلی الشام، فخرج فی ذی الحجة، و لحق بنور الدین، فأقام و فی نفسه من مصر أمر عظیم إلی أن دخلت سنة اثنتین و ستین، فجهزه نور الدین إلی مصر فی جیش قویّ فی ربیع الأوّل، و سیره فبلغ ذلک شاور، فبعث إلی مری ملک الفرنج مستنجدا به، فسار بجموع الفرنج، حتی نزل بلبیس، فوافاه شاور و أقام حتی قدم شیرکوه إلی أطراف مصر، فلم یطق لقاء القوم، فسار حتی خرج من إطفیح إلی جهة بلاد الصعید من ناحیة بحر القلزم، فبلغ شاور أنّ شیرکوه قد ملک بلاد الصعید، فسقط فی یده، و نهض للفور من بلبیس و معه الفرنج، فکان من حروبه مع شیرکوه ما کان حتی انهزم بالأشمونین، و سار منها بعد الهزیمة إلی الإسکندریة فملکها، و أقرّ بها ابن أخیه صلاح الدین، و خرج إلی الصعید، فخرج شاور بالفرنج و حصر الإسکندریة أشدّ حصار، فسار شیرکوه من قوص و نزل علی القاهرة، و حاصرها، فرحل إلیه شاور، و کانت أمور آلت إلی الصلح و سار شیرکوه بمن معه إلی الشام فی شوّال، فطمع مری فی البلاد، و جعل له شحنة بالقاهرة، و صارت أسوارها بید فرسان الفرنج، و تقرّر لهم فی کل سنة مائة ألف دینار، ثم رحل إلی بلاده، و ترک بالقاهرة من یثق به من الفرنج، و سار شیرکوه إلی الشام، فتحکم الفرنج فی القاهرة حکما جائرا، و رکبوا المسلمین بالأذی العظیم، و تیقنوا عجز الدولة عن مقاومتهم، و انکشفت لهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 164
عورات الناس إلی أن دخلت سنة أربع و ستین، فجمع مری جمعا عظیما من أجناس الفرنج، و أقطعهم بلاد مصر، و سار یرید أخذ مصر، فبعث إلیه شاور یسأله عن سبب مسیره، فاعتل بأنّ الفرنج غلبوه علی قصد دیار مصر، و أنه یرید ألفی ألف دینار یرضیهم بها، و سار فنزل علی بلبیس، و حاصرها حتی أخذها عنوة فی صفر، فسبی أهلها، و قصد القاهرة، فسیر العاضد کتبه إلی نور الدین، و فیها شعور نسائه و بناته یسأله إنقاذ المسلمین من الفرنج، و سار مری من بلبیس، فنزل علی برکة الحبش، و قد انضم الناس من الأعمال إلی القاهرة، فنادی شاور بمصر أن لا یقیم بها أحد، و أزعج الناس فی النقلة منها، فترکوا أموالهم و أثقالهم و نجوا بأنفسهم، و أولادهم و قد ماج الناس و اضطربوا کأنما خرجوا من قبورهم إلی المحشر لا یعبأ والد بولده، و لا یلتفت أخ إلی أخیه، و بلغ کراء الدابة من مصر إلی القاهرة بضعة عشر دینارا، و کراء الحمل إلی ثلاثین دینارا، و نزلوا بالقاهرة فی المساجد، و الحمامات و الأزقة و علی الطرقات، فصاروا مطروحین بعیالهم و أولادهم، و قد سلبوا سائر أموالهم، و ینتظرون هجوم العدوّ علی القاهرة بالسیف، کما فعل بمدینة بلبیس، و بعث شاور إلی مصر بعشرین ألف قارورة نفط، و عشرة آلاف مشعل نار، فرّق ذلک فیها، فارتفع لهب النار و دخان الحریق إلی السماء، فصار منظرا مهولا، فاستمرّت النار تأتی علی مساکن مصر من الیوم التاسع و العشرین من صفر لتمام أربعة و خمسین یوما، و النّهابة من العبید، و رجال الأسطول و غیرهم بهذه المنازل فی طلب الخبایا، فلما وقع الحریق بمصر، رحل مری من برکة الحبش، و نزل بظاهر القاهرة، مما یلی باب البرقیة، و قاتل أهلها قتالا کثیرا، حتی زلزلوا زلزالا شدیدا، و ضعفت نفوسهم، و کادوا یؤخذون عنوة، فعاد شاور إلی مقاتلة الفرنج، و جرت أمور آلت إلی الصلح علی مال، فبینا هم فی جبایته إذ بلغ الفرنج مجی‌ء أسد الدین شیرکوه بعساکر الشام من عند السلطان نور الدین محمود، فرحلوا فی سابع ربیع الآخر إلی بلبیس، و ساروا منها إلی فاقوس، فصاروا إلی بلادهم بالساحل، و نزل شیرکوه بالمقس خارج القاهرة، و کان من قتل شاور، و استیلاء شیرکوه علی مصر ما کان، فمن حینئذ خربت مصر الفسطاط هذا الخراب الذی هو الآن: کیمان مصر، و تلاشی أمرها، و افتقر أهلها، و ذهبت أموالهم، و زالت نعمهم، فلما استبدّ شیرکوه بوزارة العاضد، أمر بإحضار أعیان أهل مصر الذین خلوا عن دیارهم فی الفتنة، و صاروا بالقاهرة، و تغمم لمصابهم و سفه رأی شاور فی إحراق المدینة، و أمرهم بالعود إلیها، فشکوا إلیه ما بهم من الفقر و الفاقة و خراب المنازل، و قالوا: إلی أیّ مکان نرجع؟ و فی أیّ مکان ننزل و نأوی؟
و قد صارت کما تری، و بکوا و أبکوا، فوعدهم جمیلا، و ترفق بهم و أمر، فنودی فی الناس بالرجوع إلی مصر، فتراجع إلیها الناس قلیلا و عمروا ما حول الجامع إلی أن کانت المحنة من الغلاء و الوباء العظیم فی سلطنة الملک العادل أبی بکر بن أیوب لسنتی خمس و خمسمائة فخرب من مصر جانب کبیر، ثم تحایا الناس بها، و أکثروا من العمارة بجانب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 165
مصر الغربیّ علی شاطی‌ء النیل، لمّا عمّر الملک الصالح نجم الدین أیوب قلعة الروضة، و صار بمصر عدّة آدار جلیلة، و أسواق ضخمة، فلما کان غلاء مصر و الوباء الکائن فی سلطنة الملک العادل: کتبغا سنة ست و تسعین و ستمائة خرب کثیر من مساکن مصر، و تراجع الناس بعد ذلک فی العمارة إلی سنة تسع و أربعین و سبعمائة، فحدث الفناء الکبیر الذی أقفر منه معظم دور مصر، و خربت ثم تحایا الناس من بعد الوباء، و صار ما یحیط بالجامع العتیق، و ما علی شط النیل عامرا إلی سنة ست و سبعین و سبعمائة، فشرقت بلاد مصر، و حدث الوباء بعد الغلاء، فخرب کثیر من عامر مصر، و لم یزل یخرب شیئا بعد شی‌ء إلی سنة تسعین و سبعمائة، فعظم الخراب فی خط زقاق القنادیل، و خط النحاسین، و شرع الناس فی هدم دور مصر، و بیع أنقاضها، حتی صارت علی ما هی علیه الآن، و تلک القری أهلکناهم لما ظلموا و جعلنا لمهلکهم موعدا.

ذکر ما قیل فی مدینة فسطاط مصر

قال ابن رضوان: و المدینة الکبری الیوم بأرض مصر ذات أربعة أجزاء: الفسطاط، و القاهرة، و الجزیرة، و الجیزة، و بعد هذه المدینة عن خط الاستواء ثلاثون درجة، و الجبل المقطم فی شرقیها، و بینها و بین مقابر المدینة.
و قد قالت الأطباء: إن أردأ المواضع ما کان الجبل فی شرقیه یعوق ریح الصبا عنه، و أعظم أجزائها: هو الفسطاط، و یلی الفسطاط من الغرب: النیل، و علی شط النیل الغربیّ أشجار طوال و قصار، و أعظم أجزاء الفسطاط: موضع فی غور، فإنه یعلوه من المشرق المقطم، و من الجنوب الشرف، و من الشمال الموضع العالی من عمل فوق، أعنی الموقف و العسکر و جامع ابن طولون، و متی نظرت إلی الفسطاط من الشرق أو من مکان آخر عال:
رأیت وضعها فی غور. و قد بیّن أبقراط أن المواضع المتسفلة: أسخن من المواضع المرتفعة، و أردأ هواء لاحتقان البخار فیها، و لأن ما حولها من المواضع العالیة یعوق تحلیل الریاح لها، و أزقة الفسطاط و شوارعها ضیقة، و أبنیتها عالیة، و قد قال روفس: إذا دخلت مدینة، فرأیتها ضیقة الأزقة مرتفعة البناء، فاهرب منها لأنها و بیئة أراد أن البخار لا ینحل منها کما ینبغی لضیق الأزقة و ارتفاع البناء.
و من شأن أهل الفسطاط أن یرموا ما یموت فی دورهم من السنانیر و الکلاب، و نحوها من الحیوان الذی یخالط الناس فی شوارعهم و أزقتهم فتعفن، و تخالط عفونتها الهواء، و من شأنهم أیضا: أن یرموا فی النیل الذی یشربون منه فضول حیواناتهم و جیفها، و خرّارا کنفهم تصب فیه، و ربما انقطع جری الماء، فیشربون هذه العفونة باختلاطها بالماء، و فی خلال الفسطاط مستوقدات عظیمة یصعد منها فی الهواء دخان مفرط، و هی أیضا کثیرة الغبار لسخانة أرضها، حتی أنک تری الهواء فی أیام الصیف کدرا یأخذ بالنفس، و یتسخ الثوب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 166
النظیف فی الیوم الواحد، و إذا مرّ الإنسان فی حاجة لم یرجع إلّا و قد اجتمع فی وجهه و لحیته غبار کثیر، و یعلوها فی العشیات خاصة فی أیام الصیف بخار کدر أسود و أغبر، سیّما إذا کان الهواء سلیما من الریاح، و إذا کانت هذه الأشیاء کما وصفنا، فمن البیّن أنه یصیر الروح الحیوانیّ الذی فیها حالة کهذه الحال، فیتولد إذا فی البدن من هذه الأعراض فضول کثیرة، و استعدادات نحو العفن إلّا أنّ ألف أهل الفسطاط لهذه الحال، و أنسهم بها یعوق عنهم أکثر شرّها، و إن کانوا علی کل حال أسرع أهل مصر وقوعا فی الأمراض، و ما یلی النیل من الفسطاط، یجب أن یکون أرطب مما یلی الصحراء، و أهل الشرق أصلح حالا لتخرّق الریاح لدورهم، و کذلک عمل فوق و الحمراء، إلّا أن أهل الشرف الذی یشربونه أجود لأنه یستقی قبل أن تخالطه عفونة الفسطاط، فأمّا القرافة فأجود هذه المواضع، لأن المقطم یعوق بخار الفسطاط من المرور بها، و إذا هبت ریح الشمال مرّت بأجزاء کثیرة من بخار الفسطاط، و القاهرة علی الشرف، فغیرت حاله، و ظاهر أن المواضع المکشوفة فی هذه المدینة هی أصح هواء، و کذلک حال المواضع المرتفعة، و أردأ موضع فی المدینة الکبری هو ما کان من الفسطاط حول الجامع العتیق إلی ما یلی النیل و السواحل، و إذا کان فی الشتاء و أوّل الربیع حمل من بحر الملح سمک کثیر، فیصل إلی هذه المدینة، و قد عفن، و صارت له رائحة منکرة جدّا، فساغ فی القاهرة، و یأکله أهلها و أهل الفسطاط، فیجتمع فی أبدانهم منه فضول کثیرة عفنة، فلو لا الاعتدال أمزجتهم و صحة أبدانهم فی هذا الزمان لکان ذلک یولد فی أبدانهم أمراضا کثیرة، قاتلة، إلّا أن قوّة الاستمرار تعوق عن ذلک، و ربما انقطع النیل فی آخر الربیع، و أوّل الصیف من جهة الفسطاط، فیعفن بکثرة ما یلقی فیه إلی أن یبلغ عفنه إلی أن تصیر له رائحة منکرة محسوسة، و ظاهر أن هذا الماء إذا صار علی هذه الحال، غیّر مزاج الناس تغیرا محسوسا. قال: فمن البیّن أن أهل هذه المدینة الکبری بأرض مصر أسرع وقوعا فی الأمراض من جمیع أهل هذه الأرض ما خلا أهل الفیوم، فإنها أیضا قریبة، و أردأ ما فی المدینة: الموضع الغائر من الفسطاط، و لذلک غلب علی أهلها الحین، و قلة الکرم، و أنه لیس أحد منهم یغیث، و لا یضیف الغریب إلا فی النادر، و صاروا من السعایة و الاغتیاب علی أمر عظیم، و لقد بلغ بهم الجبن إلی أنّ خمسة أعوان تسوق منهم مائة رجل و أکثر، و یسوق الأعوان المذکورین: رجل واحد من أهل البلدان الأخر، و ممن قد تدرّب فی الحرب، فقد استبان إذا العلة و السبب فی أن صار أهل المدینة الکبری بأرض مصر أسرع وقوعا فی الأمراض من جمیع أهل هذه الأرض، و أضعف أنفسا، و لعل لهذا السبب اختار القدماء: اتخاذ المدینة فی غیر هذا الموضع، فمنهم من جعلها بمنف، و هی: مصر القدیمة، و منهم من جعلها بالإسکندریة، و منهم من جعلها بغیر هذه المواضع، و یدل علی ذلک آثارهم.
و قال ابن سعید عن کتاب الکمائم: و أما فسطاط مصر فإنّ مبانیها کانت فی القدیم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 167
متصلة بمبانی مدینة عین شمس، و جاء الإسلام، و بها بناء یعرف بالقصر حوله مساکن، و علیه نزل عمرو بن العاص، و ضرب فسطاطه حیث المسجد الجامع المنسوب إلیه، ثم لما فتحها: قسم المنازل علی القبائل، و نسبت المدینة إلیه، فقیل: فسطاط عمرو، و تداولت علیها بعد ذلک ولاة مصر، فاتخذوها سریرا للسلطنة و تضاعفت عمارتها، فأقبل الناس من کل جانب إلیها، و قصروا أمانیهم علیها إلی أن رسخت بها دولة بنی طولون، فبنوا إلی جانبها المنازل المعروفة بالقطائع، و بها کان مسجد ابن طولون الذی هو الآن إلی جانب القاهرة، و هی مدینة مستطیلة یمرّ النیل مع طولها، و یحط فی ساحلها المراکب الآتیة من شمال النیل، و جنوبه بأنواع الفوائد، و لها منتزهات، و هی فی الإقلیم الثالث، و لا ینزل فیها مطر إلّا فی النار، و ترابها تثیره الأرجل، و هو قبیح اللون تتکدّر منه أرجاؤها و یسوء بسببه هواؤها، و لها أسواق ضخمة إلّا أنّها ضیقة و مبانیها بالقصب، و الطوب طبقة علی طبقة، و مذ بنیت القاهرة، ضعفت مدینة الفسطاط، و فرّط فی الاغتباط بها بعد الإفراط، و بینهما نحو میلین، و أنشد فیها الشریف العقیلی:
أحنّ إلی الفسطاط شوقا و إننی‌لأدعو لها أن لا یحلّ بها القطر
و هل فی الحیا من حاجة لجنابهاو فی کل قطر من جوانبها نهر
تبدّت عروسا و المقطم تاجهاو من نیلها عقد کما انتظم الدر
و قال عن کتاب آخر: فالفسطاط هی قصبة مصر، و الجبل المقطم شرقها، و هو متصل بجبل الزمرّذ.
و قال عن کتاب ابن حوقل: و الفسطاط مدینة حسنة ینقسم النیل لدیها، و هی کبیرة نحو ثلث بغداد، و مقدارها نحو فرسخ علی غایة العمارة و الطیبة و اللذة، ذات رحاب فی محالها، و أسواق عظام فیها ضیق، و متاجر فخام، و لها ظاهر أنیق و بساتین نضرة، و منتزهات علی ممرّ الأیام خضرة، و فی الفسطاط قبائل، و خطط للعرب تنسب إلیها کالبصرة و الکوفة إلا أنها أقل من ذلک، و هی سبخة الأرض غیر نقیة التربة، و تکون بها الدار سبع طبقات و ستا و خمسا، و ربما یسکن فی الدار المائتان من الناس، و معظم بنیانهم بالطوب، و أسفل دورهم غیر مسکون، و بها مسجدان للجمعة: بنی أحدهما عمرو بن العاص فی وسط الفسطاط، و الآخر علی الموقف بناه أحمد بن طولون، و کان خارج الفسطاط أبنیة بناها أحمد بن طولون میلا فی میل یسکنها جنده تعرف بالقطائع، کما بنی بنو الأغلب خارج القیروان و قادة، و قد خربتا فی وقتنا هذا، و أخلف اللّه بدل القطائع بظاهر مدینة الفسطاط القاهرة.
قال ابن سعید: و لما استقررت بالقاهرة تشوّقت إلی معاینة الفسطاط، فسار معی أحد أصحاب العزمة، فرأیت عند باب زویلة من الحمیر المعدّة لرکوب من یسیر إلی الفسطاط
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 168
جملة عظیمة لا عهد لی بمثلها فی بلد، فرکب منها حمارا، و أشار إلیّ أن ارکب حمارا آخر، فأنفت من ذلک جریا علی عادة ما خلّفته فی بلاد المغرب، فأعلمنی أنه غیر معیب علی أعیان مصر، و عاینت الفقهاء و أصحاب البزة و السادة الظاهرة یرکبونها فرکبت، و عندما استویت راکبا أشار المکاری علی الحمار، فطار بی، و أثار من الغبار الأسود، ما أعمی عینی، و دنس ثیابی، و عاینت ما کرهته، و لقلة معرفتی برکوب الحمار، و شدّة عدوه علی قانون لم أعهده، و قلة رفق المکاری، وقفت فی تلک الظلمة المثارة من ذلک العجاج فقلت:
لقیت بمصر أشدّ البواررکوب الحمار و کحل الغبار
و خلفی مکار یفوق الریاح لا یعرف الرفق بهمی استطار
أنادیه مهلا فلا یرعوی‌إلی أن سجدت سجود العثار
و قد مدّ فوقی رواق الثری‌و ألحد فیه ضیاء النهار
فدفعت إلی المکاری أجرته، و قلت له: إحسانک إلیّ أن تترکنی أمشی علی رجلیّ، و مشیت إلی أن بلغتها، و قدّرت الطریق بین القاهرة و الفسطاط، و حققت بعد ذلک نحو المیلین، و لما أقبلت علی الفسطاط أدبرت عنی المسرّة، و تأمّلت أسوار مثلمة سوداء، و آفاقا مغبرّة، و دخلت من بابها، و هو دون غلق مفض إلی خراب معمور بمبان سیئة الوضع غیر مستقیمة الشوارع، قد بنیت من الطوب الأدکن و القصب، و النخیل طبقة فوق طبقة، و حول أبوابها من التراب الأسود، و الأزبال ما یقبض نفس النظیف، و یغض طرف الطریف، فسرت و أنا معاین لاستصحاب تلک الحال إلی أن سرت فی أسواقها الضیقة، فقاسیت من ازدحام الناس فیها بحوائج السوق و الروایا التی علی الجمال ما لا یفی به إلّا مشاهدته و مقاساته إلی أن انتهیت إلی المسجد الجامع، فعاینت من ضیق الأسواق التی حوله ما ذکرت به ضدّه فی جامع إشبیلیة، و جامع مراکش، ثم دخلت إلیه فعاینت جامعا کبیرا قدیم البناء غیر مزخرف، و لا محتفل فی حصره التی تدور مع بعض حیطانه، و تبسط فیه، و أبصرت العامّة رجالا و نساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم یجوزون فیه من باب إلی باب لیقرب علیهم الطریق، و البیاعون یبیعون فیه أصناف المکسرات و الکعک، و ما جری مجری ذلک، و الناس یأکلون منه فی أمکنة عدیدة غیر محتشمین لجری العادة عندهم بذلک، و عدّة صبیان بأوانی ماء یطوفون علی من یأکل قد جعلوا ما یحصل لهم منهم رزقا، و فضلات مآکلهم مطروحة فی صحن الجامع، و فی زوایاه و العنکبوت قد عظم نسجه فی السقوف و الأرکان و الحیطان، و الصبیان یلعبون فی صحنه، و حیطانه مکتوبة بالفحم، و الحمرة بخطوط قبیحة مختلفة من کتب فقراء العامّة إلّا أن مع هذا کله علی الجامع المذکور من الرونق، و حسن القبول، و انبساط النفس، ما لا تجده فی جامع إشبیلیة مع زخرفته، و البستان الذی فی صحنه، و قد تأمّلت ما وجدت فیه من الارتیاح و الأنس دون منظر یوجب ذلک، فعلمت أنه سرّ مودع من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 169
وقوف الصحابة رضوان اللّه علیهم فی ساحته عند بنائه، و استحسنت ما أبصرته فیه من حلق المصدّرین لإقراء القرآن و الفقه و النحو فی عدّة أماکن، و سألت عن موارد أرزاقهم، فأخبرت أنها من فروض الزکاة، و ما أشبه ذلک. ثم أخبرت أن اقتضاءها یصعب إلا بالجاه و التعب، ثم انفصلنا من هنالک إلی ساحل النیل، فرأیت ساحلا کدر التربة غیر نظیف، و لا متسع الساحة، و لا مستقیم الاستطالة، و لا علیه سور أبیض، إلّا أنه مع ذلک کثیر العمارة بالمراکب، و أصناف الأرزاق التی تصل من جمیع أقطار الأرض و النیل، و لئن قلت إنی لم أبصر علی نهر ما أبصرته علی ذلک الساحل، فإنی أقول حقا و النیل هنا لک ضیق لکون الجزیرة التی بنی فیها سلطان الدیار المصریة الآن قلعته قد توسطت الماء و مالت إلی جهة الفسطاط، و بحسن سورها المبیض الشامخ: حسن منظر الفرجة فی ذلک الساحل، و قد ذکر ابن حوقل الجسر الذی یکون ممتدّا من الفسطاط إلی الجزیرة، و هو غیر طویل، و من الجانب الآخر إلی البرّ الغربیّ المعروف ببرّ الجیزة جسر آخر من الجزیرة إلیه، و أکثر جواز الناس بأنفسهم و دوابهم فی المراکب لأن هذین الجسرین قد احترما بحصولهما فی حیز قلعة السلطان، و لا یجوز أحد علی الجسر الذی بین الجزیرة و الفسطاط راکبا احتراما لموضع السلطان، و یتنافی لیلة ذلک الیوم بطیارة مرتفعة علی جانب النیل فقلت:
نزلنا من الفسطاط أحسن منزل‌بحیث امتداد النیل قد دار کالعقد
و قد جمعت فیه المراکب سحرةکسرب قطا أضحی یزف علی ورد
و أصبح یطغی الموج فیه و یرتمی‌و یطغو حنانا و هو یلعب بالنرد
غدا ماؤه کالریق ممن أحبه‌فمدّت علیه حلیة من حلی الخدّ
و قد کان مثل الزهر من قبل مدّةفأصبح لما زاده المدّ کالورد
قلت: هذا لأنی لم أذق فی المیاه أحلی من مائه، و أنه یکون قبل المدّ الذی یزی به، و یفیض علی أقطاره أبیض، فإذا کان عباب النیل صار أحمر. و أنشدنی علم الدین فخر الترک أیدمر عتیق وزیر الجزیرة فی مدح الفسطاط و أهلها:
حبذا الفسطاط من والدةجنبت أولادها درّ الجفا
یرد النیل إلیها کدرافإذا مازج أهلیها صفا
لطفوا فالمزن لا یألفهم‌خجلا لما رآهم ألطفا
و لم أر فی أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط، حتی أنهم ألطف من أهل القاهرة، و بینهما نحو میلین، و جملة الحال أن أهل الفسطاط فی نهایة من اللطافة و اللین فی الکلام،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 170
و تحت ذلک من الملق، و قلة المبالاة برعایة قدم الصحبة، و کثرة الممازجة و الألفة ما یطول ذکره، و أما ما یرد علی الفسطاط من متاجر البحر الإسکندرانیّ، و البحر الحجازی، فإنه فوق ما یوصف، و بها مجمع ذلک لا بالقاهرة، و منها تجهز إلی القاهرة، و سائر البلاد، و بالفسطاط مطابخ السکر و الصابون، و معظم ما یجری هذا المجری، لأن القاهرة بنیت للاختصاص بالجند، کما أنّ جمیع زیّ الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط و کذلک ما ینسج، و یصاغ و سائر ما یعمل من الأشیاء الرفیعة السلطانیة، و الخراب فی الفسطاط کثیر، و القاهرة أجدّ و أعمر، و أکثر زحمة بسبب انتقال السلطان إلیها، و سکنی الأجناد فیها، و قد نفخ روح الاعتناء و النموّ فی مدینة الفسطاط الآن لمجاورتها للجزیرة الصالحیة، و کثیر من الجند قد انتقل إلیها للقرب من الخدمة، و بنی علی سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر، یعنی ابن سعید: ما بنی علی شقة مصر من جهة النیل.

ذکر ما علیه مدینة مصر الآن وصفتها

قد تقدّم من الأخبار جملة تدل علی عظم ما کان بمدینة فسطاط مصر من المبانی و کثرتها، ثم الأسباب التی أوجبت خرابها، و آخر ما رأیت من الکتب التی صنفت فی خطط مصر کتاب إیقاظ المتغفل، و اتعاظ المتأمّل تألیف: القاضی الرئیس تاج الدین محمد بن عبد الوهاب بن المتوّج الزبیریّ رحمه اللّه، و قطع علی سنة خمس و عشرین و سبعمائة، فذکر من الأخطاط المشهورة بذاتها لعهده اثنین و خمسین خطا، و من الحارات ثنتی عشرة حارة، و من الأزقة المشهورة: ستة و ثمانین زقاقا، و من الدروب المشهورة: ثلاثة و خمسین دربا، و من الخوخ المشهورة: خمسا و عشرین خوخة، و من الأسواق المشهورة: تسعة عشر سوقا، و من الخطط المشهورة بالدور: ثلاثة عشر خطا، و من الرحاب المشهورة: خمس عشرة رحبة، و من العقبات المشهورة: إحدی عشرة عقبة، و من الکیمان المسماة: ستة کیمان، و من الأقباء: عشرة أقباء، و من البرک: خمس برک، و من السقائف: خمسا و ستین سقیفة، و من القیاسر: سبع قیاسر، و من مطابخ السکر العامرة: ستة و ستین مطبخا، و من الشوارع: ستة شوارع، و من المحارس: عشرین محرسا، و من الجوامع التی تقام فیها الجمعة بمصر، و ظاهرها من الجزیرة، و القرافة: أربعة عشر جامعا، و من المساجد: أربعمائة و ثمانین مسجدا، و من المدارس: سبع عشرة مدرسة، و من الزوایا: ثمانی زوایا، و من الربط التی بمصر و القرافة: بضعا و أربعین رباطا، و من الأحباس و الأوقاف کثیرا، و من الحمامات:
بضعا و سبعین حماما، و من الکنائس و دیارات النصاری: ثلاثین ما بین دیر و کنیسة، و قد باد أکثر ما ذکره و دثر، و سیرد ما قاله من ذلک فی مواضعه من هذا الکتاب إن شاء اللّه تعالی.
فأقول: إنّ مدینة مصر محدودة الآن بحدود أربعة: فحدّها الشرقیّ الیوم: من قلعة الجبل، و أنت آخذ إلی باب القرافة، فتمرّ من داخل السور الفاصل بین القرافة، و مصر إلی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 171
کوم الجارح، و تمرّ من کوم الجارح، و تجعل کیمان مصر کلها عن یمینک حتی تنتهی إلی الرصد حیث أوّل برکة الحبش، فهذا طول مصر من جهة المشرق، و کان یقال لهذه الجهة عمل فوق.
و حدّها الغربی: من قناطر السباع خارج القاهرة إلی موردة الحلفاء، و تأخذ علی شاطی‌ء النیل إلی دیر الطین، فهذا أیضا طولها من جهة المغرب. و حدّها القبلیّ من شاطی‌ء النیل بدیر الطین حیث ینتهی الحدّ الغربیّ إلی برکة الحبش تحت الرصد، حیث انتهی الحدّ الشرقیّ، فهذا عرض مصر من جهة الجنوب التی تسمیها أهل مصر الجهة القبلیة.
و حدّها البحریّ: من قناطر السباع حیث ابتداء الحدّ الغربیّ إلی قلعة الجبل، حیث ابتداء الحدّ الشرقیّ، فهذا عرض مصر من جهة الشمال التی تعرف بمصر بالجهة البحریة، و ما بین هذه الجهات الأربع فإنه یطلق علیه الآن مصر، فیکون أوّل عرض مصر فی الغرب بحر النیل، و آخر عرضها فی الشرق أوّل القرافة، و أوّل طولها من قناطر السباع، و آخره برکة الحبش، فإذا عرفت ذلک ففی الجهة الغربیة خط السبع سقایات، و یجاوره الخلیج، و علیه من شرقیه حکر أقبغا، و من غربیه المریس، و منشأه المهرانیّ، و یحاذی المنشأة من شرقیّ الخلیج خط قنطرة السدّ، و خط بین الزقّاقین، و خط موردة الحلفاء، و خط الجامع الجدید، و من شرقیّ خط الجامع الجدید خط المراغة، و یتصل به خط الکبارة، و خط المعاریج، و یجاوز خط الجامع الجدید من بحریه الدور التی تطلّ علی النیل، و هی متصلة إلی جسر الأفرم المتصل بدیر الطین و ما جاوره إلی برکة الحبش، و هذه الجهة هی أعمر ما فی مصر الآن، و أما الجهة الشرقیة، فلیس فیها شی‌ء عامر إلّا قلعة الجبل، و خط المراغة المجاور لباب القرافة إلی مشهد السیدة نفیسة، و یجاور خط مشهد السیدة نفیسة من قبلیه الفضاء الذی کان موضع الموقف، و العسکر إلی کوم الجارح، ثم خط کوم الجارح، و ما بین کوم الجارح إلی آخر حدّ طول مصر عند برکة الحبش تحت الرصد، فإنه کیمان، و هی الخطط التی ذکرها القضاعیّ، و خربت فی الشدّة العظمی زمن المستنصر، و عند حریق شاور لمصر کما تقدّم، و أما عرض مصر الذی من قناطر السباع إلی القلعة، فإنه عامر و یشتمل علی برکة الفیل الصغری، بجوار خط السبع سقایات، و یجاور الدور التی علی هذه البرکة من شرقیها خط الکبش، ثم خط جامع أحمد بن طولون، ثم خط القبیبات، و ینتهی إلی الفضاء الذی یتصل بقلعة الجبل، و أما عرض مصر الذی من شاطی‌ء النیل بخط دیر الطین إلی تحت الرصد حیث برکة الحبش، فلیس فیه عمارة سوی خط دیر الطین، و ما عدا ذلک فقد خرب بخراب الخطط، و کان فیه خط بنی وائل، و خط راشدة، فأما خط السبع سقایات: فإنه من جملة الحمراء الدنیا، و سیرد عند ذکر الأخطاط إن شاء اللّه تعالی، و ما عدا ذلک فإنه یتبین من ذکر ساحل مصر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 172

ذکر ساحل النیل بمدینة مصر

قد تقدّم أنّ مدینة فسطاط مصر اختطها المسلمون حول جامع عمرو بن العاص، و قصر الشمع، و أنّ بحر النیل کان ینتهی إلی باب قصر الشمع الغربیّ المعروف بالباب الجدید، و لم یکن عند فتح أرض مصر بین جامع عمرو و بین النیل حائل، ثم انحسر ماء النیل عن أرض تجاه الجامع، و قصر الشمع، فابتنی فیها عبد العزیز بن مروان، و حاز منه بشر بن مروان لما قدم علی أخیه عبد العزیز، ثم حاز منه هشام بن عبد الملک فی خلافته، و بنی فیه، فلما زالت دولة بنی أمیة قبض ذلک فی الصوافی، ثم أقطعه الرشید السریّ بن الحکم، فصار فی ید ورثته من بعده یکترونه، و یأخذون حکره، و ذلک أنه کان قد اختط فیها المسلمون شیئا بعد شی‌ء و صار شاطی‌ء النیل بعد انحساره ماء النیل عن الأرض المذکورة حیث الموضع الذی یعرف الیوم بسوق المعاریج.
قال القضاعیّ: کان ساحل أسفل الأرض بإزاء المعاریج القدیم، و کانت آثار المعاریج قائمة سبع درج حول ساحل البیما إلی ساحل البوریّ الیوم، فعرف ساحل البوریّ بالمعاریج الجدید، یعنی بالمعاریج الجدید: موضع سوق المعاریج الیوم، و کان من جملة خطط مدینة فسطاط مصر: الحمراوات الثلاث، فالحمراء الأولی من جملتها سوق وردان، و کان یشرف بغربیه علی النیل، و یجاوره: الحمراء الوسطی، و من بعضها الموضع الذی یعرف الیوم بالکبارة، و کانت علی النیل أیضا، و بجانب الکبارة: الحمراء القصوی، و هی من بحریّ الحمراء الوسطی إلی الموضع الذی هو الیوم: خط قناطر السباع، و من جملة الحمراء القصوی: خط خلیج مصر من حدّ قناطر السباع إلی تجارة قنطرة السدّ من شرقیها، و بآخر الحمراء القصوی: الکبش و جبل یشکر، و کان الکبش یشرف علی النیل من غربیه، و کان الساحل القدیم، فیما بین سوق المعاریج الیوم إلی دار التفاح بمصر، و أنت مارّ إلی باب مصر بجوار الکبارة، و موضع الکوم المجاور لباب مصر من شرقیه، فلما خربت مصر بحریق شاور بن مجیر إیاها صار هذا الکوم من حینئذ، و عرف بکوم المشانیق، فأنه کان یشنق بأعلاه أرباب الجرائم، ثم بنی الناس فوقه دورا فعرف إلی یومنا هذا بکوم الکبارة، و کان یقال لما بین سوق المعاریج، و هذا الکوم لما کان ساحل النیل القالوص .
قال القضاعیّ: رأیت بخط جماعة من العلماء القالوص: بألف، و الذی یکتب فی هذا الزمان القلوص بحذف الألف، فأما القلوص: بحذف الألف، فهی من الإبل و النعام الشابة، و جمعها قلص، و قلاص و قلائص، و القلوص من الحباری الأنثی الصغیرة، فلعل هذا المکان سمی بالقلوص لأنه فی مقابلة الجمل الذی کان علی باب الریحان الذی یأتی ذکره فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 173
عجائب مصر، و أما القالوص بالألف: فهی کلمة رومیة و معناها بالعربیة: مرحبا بک، و لعل الروم کانوا یصفقون لراکب هذا الجمل، و یقولون هذه الکلمة علی عاداتهم. و قال ابن المتوّج: و الساحل القدیم أوّله من باب مصر المذکور یعنی المجاور للکبارة، و إلی المعاریج جمیعه کان بحرا یجری فیه ماء النیل، و قیل: إنّ سوق المعاریج کان موردة سوق السمک یعنی ما ذکره القضاعیّ من أنه کان یعرف بساحل البوریّ، ثم عرف بالمعاریج الجدید.
قال ابن المتوّج : و نقل أنّ بستان الجرف المقابل لبستان حوض ابن کیسان کان صناعة العمارة، و أدرکت أنا فیه بابها، و رأیت زریبة من رکن المسجد المجاور للحوض من غربیه تتصل إلی قبالة مسجد العادل الذی بمراغة الدواب الآن.
قال مؤلفه رحمه اللّه: بستان الجرف یعرف بذلک إلی الیوم، و هو علی یمنة من سلک إلی مصر من طریق المراغة، و هو جار فی وقف الخانقاه التی تعرف بالواصلة بین الزقاقین، و حوض ابن کیسان یعرف الیوم: بحوض الطواشی، تجاه غیط الجرف المذکور، یجاوره بستان ابن کیسان الذی صار صناعة، و قد ذکر خبر هذه الصناعة عند ذکر مناظر الخلفاء، و یعرف بستان ابن کیسان الیوم ببستان الطواشی أیضا، و بین بستان الجرف، و بستان الطواشی هذا مراغة مصر المسلوک منها إلی الکبارة، و باب مصر.
قال ابن المتوّج: و رأیت من نقل عمن نقل عمن رأی هذا القلوص یتصل إلی آدر الساحل القدیم، و أنه شاهد ما علیه من العمائر المطلة علی بحر النیل من الرباع و الدور المطلة، و عدّ الأسطال التی کانت بالطاقات المطلة علی بحر النیل، فکانت عدّتها ستة عشر ألف سطل مؤبدة ببکر مؤبدة فیها أطناب ترخی بها و تملأ أخبرنی بذلک من أثق بنقله، و قال: إنه أخبره به من یثق به متصلا بالمشاهد له الموثوق به، قال: و باب مصر الآن بین البستان الذی قبلیّ الجامع الجدید یعنی بستان العالمة، و بین کوم المشانیق یعنی کوم الکبارة، و رأیت السور یتصل به إلی دار النحاس، و جمیع ما بظاهره شون، و لم یزل هذا السور القدیم الذی هو قبلیّ بستان العالمة موجودا أراه و أعرفه إلی أن اشتری أرضه من باب مصر إلی موقف المکاریة بالخشابین القدیمة الأمیر حسام الدین طرنطای المنصوری، فأجّر مکانه للعامة، و صار کل من استأجر قطعة هدم ما بها من البناء بالطوب اللبن، و قلع الأساس الحجر، و بنی به، فزال السور المذکور، ثم حدث الساحل الجدید.
قال مؤلفه رحمه اللّه: و هذا الباب الذی ذکره ابن المتوّج کان یقال له: باب الساحل، و أوّل حفر ساحل مصر فی سنة ست و ثلاثین و ثلثمائة، و ذلک أنه جف النیل عن برّ مصر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 174
حتی احتاج الناس أن یستقوا من بحر الجیزة الذی هو فیما بین جزیرة مصر التی تدعی الآن بالروضة، و بین الجیزة، و صار الناس یمشون هم و الدواب إلی الجزیرة، فحفر الأستاذ کافور الإخشیدیّ، و هو یومئذ مقدّم أمراء الدولة لأونوجور بن الإخشید خلیجا حتی اتصل بخلیج بنی وائل، و دخل الماء إلی ساحل مصر، ثم إنه لما کان قبل سنة ستمائة تقلص الماء عن ساحل مصر القدیمة، و صار فی زمن الاحتراق یقل حتی تصیر الطریق إلی المقاییس یبسا، فلما کان فی سنة ثمان و عشرین و ستمائة خاف السلطان الملک الکامل محمد بن العادل أبی بکر بن أیوب من تباعد البحر عن العمران بمصر، فاهتم بحفر البحر من دار الوکالة بمصر إلی صناعة التمر الفاضلیة، و عمل فیه بنفسه فوافقه علی العمل فی ذلک الجمّ الغفیر، و استوی فی المساعدة السوقة، و الأمیر، و قسط مکان الحفر علی الدور بالقاهرة و مصر و الروضة و المقیاس، فاستمرّ العمل فیه من مستهلّ شعبان إلی سلخ شوّال مدّة ثلاثة أشهر حتی صار الماء یحیط بالمقیاس، و جزیرة الروضة دائما بعد ما کان عند الزیادة یصیر جدولا رقیقا فی ذیل الروضة، فإذا اتصل ببحر بولاق فی شهر أبیب کان ذلک من الأیام المشهودة بمصر، فلما کانت أیام الملک الصالح، و عمر قلعة الروضة، أراد أن یکون الماء طول السنة کثیرا فیما دار بالروضة، فأخذ فی الاهتمام بذلک، و غرّق عدّة مراکب مملوءة بالحجارة فی برّ الجیزة تجاه باب القنطرة خارج مدینة مصر، و من قبلیّ جزیرة الروضة، فانعکس الماء، و جعل البحر حینئذ یمرّ قلیلا قلیلا، و تکاثر أوّلا فأوّلا فی برّ مصر من دار الملک إلی قریب المقس، و قطع المنشأة الفاضلیة.
قال ابن المتوّج عن موضع الجامع الجدید: و کان فی الدولة الصالحیة، یعنی الملک الصالح نجم الدین أیوب: رملة تمرّغ الناس فیها الدواب فی زمن احتراق النیل، و جفاف البحر الذی هو أمامها، فلما عمر السلطان الملک الصالح قلعة الجزیرة، و صار فی کل سنة یحفر هذا البحر بجنده و نفسه، و یطرح بعض رمله فی هذه البقعة، شرع خواص السلطان فی العمارة علی شاطی‌ء هذا البحر، فذکر من عمّر علی هذا البحر من قبالة موضع الجامع الجدید الآن إلی المدرسة المعزیة، و ذکر ما وراء هذه الدور من بستان العالمة المطل علیه الجامع الجدید و غیره، ثم قال: و إنما عرف بالعالمة لأنه کان قد حله السلطان الملک الصالح لهذه العالمة، فعمرت بجانبه منظرة لها، و کان الماء یدخل من النیل لباب المنظرة المذکورة، فلما توفیت بقی البستان مدّة فی ید ورثتها، ثم أخذ منهم، و ذکر أن بقعة الجامع الجدید کانت قبل عمارته شونا للأتبان السلطانیة، و کذلک ما یجاورها، فلما عمر السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون الجامع الجدید کثرت العمائر من حدّ موردة الحلفاء علی شاطی‌ء النیل، حتی اتصلت بدیر الطین، و عمر أیضا ما وراء الجامع من حدّ باب مصر الذی کان بحرا کما تقدّم إلی حدّ قنطرة السدّ، و أدرکنا ذلک کله علی غایة العمارة، و قد اختل منذ الحوادث بعد سنة ست و ثمانمائة، فخرب خط بین الزقاقین المطل من غربیه علی الخلیج،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 175
و من شرقیه علی بستان الجرف، و لم یبق به إلا القلیل من الدور، و موضعه کما تقدّم کان فی قدیم الزمان غامرا بماء النیل، ثم ربی جرفا، و هو بین الزقاقین المذکور، فعمر عمارة کبیرة، ثم خرب الآن و خرب أیضا خط موردة الحلفاء، و کان فی القدیم غامرا بالماء، فلما ربی النیل الجرف المذکور، و تربت الجزیرة قدّام الساحل القدیم الذی هو الآن البکارة إلی المعاریج، و أنشأ الملک الناصر محمد بن قلاون الجامع الجدید عمرت موردة الحلفاء هذه، و اتصلت من بحریها بمنشأة المهرانیّ، و من قبلیها بالأملاک التی تمتدّ من تجاه الجامع الجدید إلی دیر الطین، و صارت موردة الحلفاء عظیمة تقف عندها المراکب بالغلال و غیرها، و یملأ منها الناس الروایا، و کان البحر لا یبرح طول السنة هناک، ثم صار ینشّف فی فصل الربیع و الصیف، و استمرّ علی ذلک إلی یومنا هذا، و خراب ما خلف الجامع الجدید أیضا من الأماکن التی کانت بحرا تجاه الساحل القدیم، ثم لما انحسر الماء صارت مراغة للدواب، فعرفت الیوم بالمراغة و هی من آخر خط قنطرة السدّ إلی قریب من الکبارة، و یحصرها من غربیها بستان الجرف المقدّم ذکره، و عدّة دور کانت بستانا و شونا إلی باب مصر، و من شرقیها بستان ابن کیسان الذی صار صناعة، و عرف الآن ببستان الطواشی، و لم یبق الآن بخط المراغة إلّا مساکن یسیرة حقیرة.

ذکر المنشأة

اعلم أن خلیج مصر کان یخرج من بحر النیل، فیمرّ بطریق الحمراء القصوی، و کان فی الجانب الغربیّ من هذا الخلیج عدّة بساتین من جملتها بستان، عرف ببستان الخشاب، ثم خرب هذا البستان، و موضعه الآن یعرف: بالمریس، فلما کان بعد الخمسمائة من سنی الهجرة انحسر النیل عن أرض فیما بین میدان اللوق الآتی ذکره فی الأحکار ظاهر القاهرة إن شاء اللّه تعالی، و بین بستان الخشاب المذکورة، فعرفت هذه الأرض بمنشأة الفاضل، لأنّ القاضی الفاضل عبد الرحیم بن علیّ البیسانیّ أنشأ بها بستانا عظیما کان یمیر أهل القاهرة من ثماره و أعنابه، و عمر بجانبه جامعا، و بنی حوله فقیل لتلک الخطة منشأة الفاضل، و کثرت بها العمارة، و أنشأ بها موفق الدین محمد بن أبی بکر المهدویّ العثمانیّ الدیباجیّ بستانا دفع له فیه ألف دینار فی أیام الظاهر بیبرس، و کان الصرف قد بلغ کل دینار ثمانیة و عشرین درهما و نصفا، فاستولی البحر علی بستان الفاضل و جامعه، و علی سائر ما کان بمنشأة الفاضل من البساتین و الدور، و قطع ذلک حتی لم یبق لشی‌ء منه أثر، و ما برح باعة العنب بالقاهرة و مصر تنادی علی العنب بعد خراب بستان الفاضل هذا عدّة سنین: رحم اللّه الفاضل یا عنب، إشارة لکثرة أعناب بستان الفاضل و حسنها، و کان أکل البحر لمنشأة الفاضل هذه بعد سنة ستین و ستمائة، و کان الموفق الدیباجیّ المذکور یتولی خطابة جامع الفاضل الذی کان بالمنشأة، فلم تلف الجامع باستیلاء النیل علیه سأل: الصاحب بهاء الدین بن حنا، و ألحّ علیه و کان من ألزامه، حتی قام فی عمارة الجامع بمنشأة المهرانیّ، و منشأة المهرانیّ هذه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 176
موضعها فیما بین النیل و الخلیج، و فیها من الحمراء القصوی فوهة الخلیج انحسر عنها ماء النیل قدیما و عرف موضعها بالکوم الأحمر من أجل أنه کان یعمل فیها أقمنة الطوب، فلما سأل الصاحب بهاء الدین بن حنا الملک الظاهر بیبرس فی عمارة جامع بهذا المکان لیقوم مقام الجامع الذی کان بمنشأة الفاضل أجابه إلی ذلک، و أنشأ الجامع بخط الکوم الأحمر کما ذکر فی خبره عند ذکر الجوامع، فأنشأ هناک الأمیر سیف الدین بلبان المهرانیّ دارا و سکنها، و بنی مسجدا، فعرفت هذه الخطة به، و قیل لها: منشأة المهرانیّ، فإنّ المهرانیّ المذکور أوّل من ابتنی فیها بعد بناء الجامع، و تتابع الناس فی البناء بمنشأة المهرانیّ و أکثروا من العمائر حتی یقال: إنه کان بها فوق الأربعین من أمراء الدولة سوی من کان هناک من الوزراء، و أماثل الکتاب، و أعیان القضاة، و وجوه الناس، و لم تزل علی ذلک حتی انحسر الماء عن الجهة الشرقیة فخربت، و بها الآن بقیة یسیرة من الدور، و یتصل بخط الجامع الجدید خط دار النحاس، و هو مطلّ علی النیل، و دار النحاس هذه من الدور القدیمة، و قد دثرت، و صار الخط: یعرف بها.
قال القضاعیّ:
دار النحاس اختطها: وردان مولی عمرو بن العاص، فکتب مسلمة بن مخلد، و هو أمیر مصر إلی معاویة یسأله أن یجعلها دیوانا، فکتب معاویة إلی وردان یسأله فیها، و عوّضه فیها دار وردان التی بسوقه الآن، و قال ربیعة: کانت هذه الدار من خطة الحجر من الأزد، فاشتراها عمر بن مروان، و بناها، فکانت فی ید ولده، و قبضت عنهم و بیعت فی الصوافی سنة ثمان و ثلثمائة، ثم صارت إلی شمول الإخشیدیّ، فبناها قیساریة و حماما، فصارت دار النحاس قیساریة شمول.
و قال ابن المتوّج: دار النحاس خط نسب لدار النحاس، و هو الآن فندق الأشراف ذو البابین أحدهما من رحبة أمامه، و الثانی شارع بالساحل القدیم، و بآخر هذه الشقة التی تطل علی النیل (جسر الأفرم)، و هو فی طرف مصر فیما بین المدرسة المعزیة، و بین رباط الآثار کان مطلا علی النیل دائما، و الآن ینحسر الماء عنه عند هبوط النیل، و عرف بالأمیر عز الدین أیدمر الأفرم الصالحیّ النجمیّ أمیر جندار، و ذلک أنه لما استأجر برکة الشعیبیة، کما ذکر عند ذکر البرک من هذا الکتاب جعل منها فدّانین من غربیها أذن للناس فی تحکیرها، فحکرت و بنی علیها عدّة دور بلغت الغایة فی إتقان العمارة، و تنافس عظماء دولة الناصر محمد بن قلاون من الوزراء، و أعیان الکتاب فی المساکن بهذا الجسر، و بنوا و تأنقوا، و تفننوا فی بدع الزخرفة، و بالغوا فی تحسین الرخام، و خرجوا عن الحدّ فی کثرة إنفاق الأموال العظیمة علی ذلک بحیث صار خط الجسر خلاصة العامر من إقلیم مصر، و سکانه أرق الناس عیشا، و أترف المتنعمین حیاة، و أوفرهم نعمة، ثم خرب هذا الجسر بأسره، و ذهبت دوره.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 177
و أما الجهة الشرقیة من مصر: ففیها قلعة الجبل، و قد أفردنا لها خبرا مستقلا یحتوی علی فوائد کثیرة تضمنه هذا الکتاب فانظره، و یتصل آخر قلعة الجبل بخط باب القرافة، و هو من أطراف القطائع و العسکر، و یلی خط باب القرافة الفضاء الذی کان یعرف بالعسکر، و قد تقدّم ذکره، و کان بأطراف العسکر مما یلی کوم الجارح.
الموقف قال ابن وصیف شاه فی أخبار الریان بن الولید: و هو فرعون نبیّ اللّه یوسف صلوات اللّه علیه، و دخل إلی البلد فی أیامه غلام من أهل الشام احتال علیه إخوته و باعوه، و کانت قوافل الشام تعرّس بناحیة الموقف الیوم، فأوقف الغلام، و نودی علیه، و هو یوسف بن یعقوب بن إسحاق بن إبراهیم خلیل الرحمن صلوات اللّه علیهم، فاشتراه أطفین العزیز، و یقال: إنّ الذی أخرج یوسف من الجب: مالک بن دعر بن حجر بن جزیلة بن لخم بن عدیّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زید بن یشجب بن یعرب بن قحطان.
و قال القضاعیّ: کان الموقف فضاء لأم عبد اللّه بن مسلمة بن مخلد، فتصدّقت به علی المسلمین، فکان موقفا تباع فیه الدواب، ثم ملک بعد و قد ذکرته فی الظاهر یعنی فی خطط أهل الظاهر، فإنّ الموقف من جملة خطط أهل الظاهر.
و قال ابن المتوّج: بقعة (خط الصفاء) هذا الخط دثر جمیعه، و لم یبق له أثر، و هو قبلیّ الفسطاط أوّله بجوار المصنع، و خط الطحانین أدرکته، کان صفین طواحین متلاصقة متصلة من درب الصفاء إلی کوم الجارح، و أدرکت به جماعة من أکابر المصریین أکثرهم عدول، و کان المار بین هذین الصفین لا یسمع حدیث رفیقه إذا حدّثه لقوّة دوران الطواحین، و کان من جملتها طاحون واحد فیه سبعة أحجار، دثر جمیع ذلک، و لم یبق له أثر.
قال: و
بقعة درب الصفاء هو الدرب الذی کان باب مصر، و قیل: إنه کان بظاهره سوق یوسف علیه السلام، و کان بابا بمصراعین یعلوهما عقد کبیر، و هو بعتبة کبیرة سفلی من صوّان، و کان بجوار المصنع الخراب الموجود الآن، و کان حول المصنع عمد رخام بدائرة حاملة الساباط یعلوه مسجد معلق، هدم ذلک جمیعه فی ولایة سیف الدین المعروف بابن سلار، والی مصر فی دولة الظاهر بیبرس، و هذا الدرب یسلک منه إلی درب الصفاء، و الطحانین.
قال مؤلفه رحمه اللّه: کان هذا الباب المذکور أحد أبواب مدینة مصر، و بابها الآخر من ناحیة الساحل الذی موضعه الیوم باب مصر بجوار الکبارة، و أنا أدرکت آثار درب الصفاء المذکور و المصنع الخراب، و کان یصب فیه الماء للسبیل، و هو قریب من کوم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 178
الجارح، و سیأتی ذکر کوم الجارح فی ذکر الکیمان من هذا الکتاب إن شاء اللّه تعالی.
و أما الذی یلی کوم الجارح إلی آخر حدّ طول مصر عند برکة الحبش، فإنها الخطط القدیمة، و أدرکتها عامرة لا سیما خط النخالین، و خط زقاق القنادیل، و خط المصاصة، و قد خرب جمیع ذلک، و بیعت أنقاضه من بعد سنة تسعین و سبعمائة.
و أما
الجهة القبلیة من مصر: فإن» خط دیر الطین حدثت العمارة فیه بعد سنة ستمائة لما أنشأ الصاحب فخر الدین محمد بن الصاحب بهاء الدین علیّ بن حنا الجامع هناک، و عمّر الناس فی جسر الأفرم، و کان قبل ذلک آخر عمارة مدینة مصر دار الملک التی موضعها الآن بجوار المدرسة المعزیة، و أما موضع الجسر فإنه کان برکة ماء، تتصل بخط راشدة حیث جامع راشدة، و من قبلیّ هذه البرکة البستان الذی کان یعرف ببستان الأمیر تمیم بن المعز، و یعرف الیوم: بالمعشوق، و هو علی رباط الآثار، و یجاور المعشوق برکة الحبش، و ما بین خط دیر الطین، و آخر عرض مصر من الجهة القبلیة طرف خط راشدة.
و أما
الجهة البحریة من مصر: فإنه یتصل بخط السبع سقایات الدور المطلّة علی البرکة التی یقال لها برکة قارون، و هی التی تجاور الآن حدرة ابن قمیحة، و هی من جملة الحمراء القصوی، و بقبلیّ البرکة المذکورة الکوم المعروف بالأسری، و هو من جملة العسکر، و سیرد إن شاء اللّه تعالی ذکره عند ذکر الکیمان، و یجاور البرکة المذکورة خط الکبش، و قد ذکر فی الجبال، و یأتی إن شاء اللّه تعالی له خبر عند ذکر الأخطاط، و یلی خط الکبش خط الجامع الطولونیّ، و یلی خط الجامع القبیبات، و خط المشهد النفیسیّ، و جمیع ذلک إلی قلعة الجبل من جملة القطائع.

ذکر أبواب مدینة مصر

و کان لفسطاط مصر أبواب فی القدیم خربت، و تجدّد لها بعد ذلک أبواب أخر.
باب الصفاء: هذا الباب کان هو فی الحقیقة باب مدینة مصر، و هی فی کمالها، و منه تخرج العساکر، و تعبر القوافل، و موضعه الآن بالقرب من کوم الجارح، و هدم فی أیام الملک الظاهر بیبرس.
باب الساحل: کان یفضی بسالکه إلی ساحل النیل القدیم، و موضعه قریب من الکبارة.
باب مصر: هذا الباب هو الذی بناه قراقوش، و منه یسلک الآن من دخل إلی مدینة مصر من الطریق التی تعرف بالمراغة، و هو مجاور للکوم الذی یقال له: کوم المشانیق، و یعرف الیوم بالکبارة، و کان موضع هذا الباب غامرا بماء النیل، فلما انحسر الماء عن ساحل مصر صار الموضع المعروف بالمراغة، و الموضع المعروف بغیط الجرف، إلی موردة المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت ؛ ج‌2 ؛ ص179
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 179
الحلفاء فضاء لا یصل إلیه ماء النیل البتة، فأحب السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب أن یدیر سورا یجمع فیه القاهرة و مصر و قلعة الجبل، فزاد فی سور القاهرة علی ید قراقوش من باب القنطرة إلی باب الشعریة، و إلی باب البحر یرید أن یمدّ السور من باب البحر إلی الکوم الأحمر الذی هو الیوم حافة خلیج مصر تجاه خط بین الزقاقین لیصل أیضا من الکوم الأحمر إلی باب مصر هذا، فلم یتهیأ له هذا، و انقطع السور من عند جامع المقس، و زاد فی سور القاهرة أیضا من باب النصر إلی قلعة الجبل، فلم یکمل له و مدّ السور من قلعة الجبل إلی باب القنطرة خارج مصر، فصار هذا الباب غیر متصل بالسور.
باب القنطرة: هذا الباب فی قبلیّ مدینة مصر عرف بقنطرة بنی وائل التی کانت هناک، و هو أیضا من بناء قراقوش.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 180

ذکر القاهرة قاهرة المعز لدین اللّه

اشارة

اعلم: أن القاهرة المعزیة رابع موضع انتقل سریر السلطنة إلیه من أرض مصر فی الدولة الإسلامیة، و ذلک أن الإمارة کانت بمدینة الفسطاط، ثم صار محلها العسکر خارج الفسطاط، فلما عمرت القطائع صارت دار الإمارة إلی أن خربت، فسکن الأمراء بالعسکر إلی أن قدم القائد جوهر بعساکر مولاه الإمام المعز لدین اللّه معدّ، فبنی القاهرة حصنا، و معقلا بین یدی المدینة، و صارت القاهرة دار خلافة ینزلها الخلیفة بحرمه، و خواصه إلی أن انقرضت الدولة الفاطمیة.
فسکنها من بعدهم: السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، و ابنه الملک العزیز عثمان، و ابنه الملک المنصور محمد، ثم الملک العادل أبو بکر بن أیوب، و ابنه الملک الکامل محمد، و انتقل من القاهرة إلی قلعة الجبل، فسکنها بحرمه و خواصه، و سکنها الملوک من بعده إلی یومنا هذا، فصارت القاهرة مدینة سکنی بعد ما کانت حصنا یعتقل به، و دار خلافة یلتجأ إلیها، فهانت بعد العز، و ابتذلت بعد الاحترام، و هذا شأن الملوک ما زالوا یطمسون آثار من قبلهم، و یمیتون ذکر أعدائهم، فقد هدموا بذلک السبب أکثر المدن و الحصون، و کذلک کانوا أیام العجم، و فی جاهلیة العرب، و هم علی ذلک فی أیام الإسلام، فقد هدم عثمان بن عفان صومعة غمدان، و هدم الآطام التی کانت بالمدینة، و قد هدم زیاد کل قصر، و مصنع کان لابن عامر، و قد هدم بنو العباس مدن الشام لبنی مروان:
و إذا تأمّلت البقاع وجدتهاتشقی کما تشقی الرجال و تسعد
و سیأتی من أخبار القاهرة، و الکلام علی خططها و آثارها ما تنتهی إلیه قدرتی، و یصل إلی معرفته علمی و فوق کل ذی علم علیم.

ذکر ما قیل فی نسب الخلفاء الفاطمیین بناة القاهرة

اشارة

اعلم: أن القوم کانوا ینسبون إلی الحسین بن علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنهما، و الناس فریقان فی أمرهم: فریق یثبت صحة ذلک، و فریق یمنعه، و ینفیهم عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و یزعم أنهم أدعیاء من ولد دیصان البونیّ الذی ینسب إلیه النوبة، و إنّ دیصان کان له ابن اسمه: میمون القدّاح کان له مذهب فی الغلوّ، فولد میمون: عبد اللّه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 181
و کان عبد اللّه عالما بجمیع الشرائع، و السنن و المذاهب.
و أنه رتب سبع دعوات یندرج الإنسان فیها حتی ینحل عن الأدیان کلها، و یصیر معطلا إباحیا لا یرجو ثوابا، و لا یخاف عقابا، و یری أنه، و أهل نحلته علی هدی، و جمیع من خالفهم أهل ضلالة، و إنه قصد بذلک أن یجعل له أتباعا، و کان یدعو إلی الإمام من آل البیت محمد بن إسماعیل بن جعفر الصادق، و أنه کان من الأهواز، و اشتهر بالعلم و التشیع، و صار له دعاة، و قصد بالمکروه، ففرّ إلی البصرة، فاشتهر أمره، و سار منها إلی سلمیة من أرض الشام، فولد له ابن بها اسمه: أحمد، و مات فقام من بعده أحمد، و بعث بالحسین الأهوازیّ داعیة إلی العراق، فلقی أحمد بن الأشعث المعروف: بقرمط فی سواد الکوفة، و دعاه إلی مذهبه، فأجابه، و قام هناک بالأمر، و إلی قرمط هذا تنسب القرامطة، و ولد لأحمد بن عبد اللّه بن میمون القدّاح: الحسین، و محمد المعروف بأبی الشعلع، فلما مات أحمد خلفه ابنه الحسین فی الدعوة حتی مات، فقام من بعده أخوه: أبو الشعلع، و کان لأحمد بن عبد اللّه ولد اسمه سعید، فصار تحت حجر عمه، و بعث أبو الشعلع بداعیین إلی المغرب و هما: أبو عبد اللّه و أخوه أبو العباس، فنزلا فی البربر، و دعوها، و اشتهر سعید بسلمیة بعد موت عمه، و کثر ماله فطلبه السلطان ففر من سلمیة إلی مصر یرید المغرب، و کان علی مصر عیسی النوشریّ، فورد علیه کتاب الخلیفة ببغداد بالقبض علیه، ففاته، و صار بسلجماسة فی زیّ التجار، فبعث المعتضد من بغداد فی طلبه، فأخذ و حبس حتی أخرجه أبو عبد اللّه الشیعیّ من محبسه، فتسمی حینئذ بعبید اللّه، و تکنی بأبی محمد، و تلقب بالمهدیّ، و صار إماما علویا من ولد محمد بن جعفر الصادق، و إنما هو: سعید بن الحسین بن أحمد بن عبد اللّه بن میمون القدّاح بن دیصان البونیّ الأهوازیّ، و أصله من المجوس، فهذا قول من ینکر نسبهم.
و بعض منکری نسبهم فی العلویة یقول: إنّ عبید اللّه من الیهود، و إنّ الحسین بن أحمد المذکور تزوّج امرأة یهودیة من نساء سلمیة کان لها ابن من یهودیّ حدّاد، مات و ترکه لها، فرباه الحسین، و أدّبه و علمه، ثم مات عن غیر ولد فعهد إلی ابن امرأته هذا، فکان هو:
عبید اللّه المهدیّ، و هذه أقوال إن أنصفت تبین لک أنها موضوعة، فإن بنی علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، قد کانوا إذ ذاک علی غایة من وفور العدد و جلالة القدر عند الشیعة، فما الحامل لشیعتهم علی الإعراض عنهم، و الدعاء لابن مجوسیّ، أو لابن یهودی، فهذا مما لا یفعله أحد، و لو بلغ الغایة فی الجهل و السخف، و إنما جاء ذلک من قبل ضعفة خلفاء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 182
بنی العباس عندما غصوا بمکان الفاطمیین، فإنهم کانوا قد اتصلت دولتهم نحوا من مائتین و سبعین سنة، و ملکوا من بنی العباس: بلاد المغرب و مصر و الشام و دیار بکر و الحرمین و الیمن، و خطب لهم ببغداد نحو أربعین خطبة، و عجزت عساکر بنی العباس عن مقاومتهم، فلاذت حینئذ بتنفیر الکافة عنهم بإشاعة الطعن فی نسبهم، و بث ذلک عنهم خلفاؤهم، و أعجب به أولیاؤهم، و أمراء دولتهم الذین کانوا یحاربون عساکر الفاطمیین کی یدفعوا بذلک عن أنفسهم و سلطانهم معرّة العجز عن مقاومتهم و دفعهم عما غلبوا علیه من دیار مصر و الشام و الحرمین، حتی اشتهر ذلک ببغداد، و أسجل القضاة بنفیهم من نسب العلویین.
و شهد بذلک من أعلام الناس جماعة منهم الشریفان: الرضی و المرتضی، و أبو حامد الإسفراینیّ و القدوریّ فی عدّة وافرة عندما جمعوا لذلک فی سنة اثنتین و أربعمائة أیام القادر، و کانت شهادة القوم فی ذلک علی السماع لما اشتهر و عرف بین الناس ببغداد، و أهلها، إنما هم شیعة بنی العباس الطاعنون فی هذا النسب، و المتطیرون من بنی علیّ بن أبی طالب الفاعلون فیهم منذ ابتداء دولتهم الأفاعیل القبیحة، فنقل الإخباریون و أهل التاریخ ذلک کما سمعوه، و رووه حسب ما تلقوه من غیر تدبر، و الحق من وراء هذا، و کفاک بکتاب المعتضد من خلائف بنی العباس حجة، فإنه کتب فی شأن عبید اللّه إلی ابن الأغلب بالقیروان، و ابن مدرار بسلجماسة بالقبض علی عبید اللّه، فتفطن أعزک اللّه لصحة هذا الشاهد، فإنّ المعتضد لولا صحة نسب عبید اللّه عنده ما کتب لمن ذکرنا بالقبض علیه إذ القوم حینئذ لا یدعون لدعیّ البتة، و لا یذعنون له بوجه، و إنما ینقادون لمن کان علویا، فخاف مما وقع، و لو کان عنده من الأدعیاء لما مرّ له بفکر، و لا خافه علی ضیعة من ضیاع الأرض، و إنما کان القوم أعنی بنی علیّ بن أبی طالب تحت ترقب الخوف من بنی العباس، لتطلبهم لهم فی کل وقت، و قصدهم إیاهم دائما بأنواع من العقاب، فصاروا ما بین طرید شرید، و بین خائف یترقب، و مع ذلک فإن لشیعتهم الکثیرة المنتشرة فی أقطارهم من المحبة لهم، و الإقبال علیهم، ما لا مزید علیه، و تکرّر قیام الرجال منهم مرّة بعد مرّة، و الطلب علیهم من ورائهم، فلاذوا بالاختفاء، و لم یکادوا یعرفون حتی تسمی محمد بن إسماعیل الإمام جدّ عبید اللّه المهدیّ بالمکتوم سماه بذلک الشیعة عند اتفاقهم علی إخفائه حذرا من المتغلبین علیهم.
و کانت الشیعة فرقا فمنهم: من کان یذهب إلی أنّ الإمام من ولد جعفر الصادق هو إسماعیل ابنه، و هؤلاء یعرفون ممن بین فرق الشیعة: بالإسماعیلیة من أجل أنهم یرون أنّ الإمام من بعد جعفر ابنه إسماعیل، و أنّ الإمام بعد إسماعیل بن جعفر الصادق هو ابنه محمد المکتوم، و بعد ابنه محمد المکتوم ابنه جعفر الصادق، و من بعد جعفر الصادق ابنه محمد الحبیب، و کانوا أهل غلوّ فی دعاویهم فی هؤلاء الأئمة، و کان محمد بن جعفر هذا یؤمّل ظهوره، و أنه یصیر له دولة، و کان بالیمن من أهل هذا المذهب کثیر یعدن بإفریقیة، و فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 183
کتامة ، و نقرة ، تلقوا ذلک من عهد جعفر الصادق، فقدم علی محمد بن جعفر والد عبید اللّه رجل من شیعته بالیمن، فبعث معه الحسن بن حوشب فی سنة ثمان و ستین و مائتین، فأظهرا أمرهما بالیمن، و أشهرا الدعوة فی سنة سبعین، و صار لابن حوشب دولة بصنعاء، و بث الدعاة بأقطار الأرض، و کان من جملة دعاته أبو عبد اللّه الشیعیّ، فسیره إلی المغرب، فلقی کتامة و دعاهم، فلما مات محمد بن جعفر عهد لابنه عبید اللّه، فطلبه المکتفی العباسیّ، و کان یسکن عسکر مکرّم، فسار إلی الشام، ثم سار إلی المغرب، فکان من أمره ما کان، و کانت رجال هذه الدولة الذین قاموا ببلاد المغرب، و دیار مصر عشر رجلا هذه خلاصة أخبارهم فی أنسابهم، فتفطن و لا تغترّ بزخرف القول الذی لفقوه من الطعن فیهم، و اللّه یهدی من یشاء.

ذکر الخلفاء الفاطمیین

و کان ابتداء الدولة الفاطمیة أن أبا عبد اللّه الحسین بن أحمد بن محمد بن زکریاء الشیعیّ سار إلی أبی القاسم الحسین بن فرج بن حوشب الکوفیّ القائم ببلاد الیمن، و صار من کبار أصحابه و له علم، و عنده دهاء و مکر، فورد علی ابن حوشب من المغرب، خبر موت الحلوانیّ داعیة فی المغرب و رفیقه، فقال لأبی عبد اللّه الشیعیّ: قد خرّب الحوانیّ، و أبو یوسف بلاد المغرب، و قد ماتا، و لیس للبلاد إلّا أنت فإنها موطأة ممهدة، فخرج أبو عبد اللّه إلی مکة، و قصد حجاج کتامة، فجلس قریبا منهم، و سمعهم یتحدّثون بفضائل البیت، فحدّثهم فی معناه، فمالوا إلیه، و سألوه أن یأذن لهم فی زیارته، فلما زاروه سألوه عن مقصده، فلم یخبرهم، و أوهمهم أنه یرید مصر، فسرّوا بصحبته، و رحلوا، و هو رفیقهم فشاهدوا من عبادته، و زهده ما زادهم رغبة فیه، هذا و هو یسألهم عن أحوالهم و قبائلهم، حتی صار یعرف جمیع أمورهم، فلما وصلوا مصر همّ بمفارقتهم، فقالوا: أیّ شی‌ء تطلب من مصر؟ فقال: أطلب التعلیم بها، فقالوا: إذا کان قصدک هذا، فبلادنا أنفع لک، و ما زالوا به حتی سار معهم، فلما وصلوا بلادهم اقترعوا فیمن یضیفه منهم، و من بقیة أصحابهم، و وصلوا به أرض کتامة للنصف من ربیع الأوّل سنة ثمان و ثمانین و مائتین، و کادوا یحتربون علیه أیّهم ینزل عنده، فأبی أن ینزل عندهم، و قال: أین یکون فج الأخیار؟ فعجبوا لذلک! إذ لم یکونوا ذکروه له قط، فدلوه علیه، فسار إلیه، و قال: هذا فج الأخیار، و ما سمی إلا بکم، و لقد جاء فی الآثار للمهدیّ هجرة عن الأوطان ینصره فیها الأخیار من أهل ذلک الزمان قوم اسمهم مشتق من الکتمان، و بخروجکم فی هذا الفج سمی فج الأخیار،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 184
فتسامعت به القبائل، و أتوه فعظم أمره و هو لا یذکر اسم المهدیّ البتة، فبلغ خبره إبراهیم بن أحمد بن الأغلب أمیر إفریقیة، فبعث یسأل عن خبره، و کانت له معه قصص آلت إلی قیام أبی عبد اللّه و محاربته لمن خالفه، فظفر بهم، و صارت إلیه أموالهم، و غلب علی مدائن، و هزم جیوش ابن الأغلب، و قتل کثیرا من أصحابه، فمات إبراهیم بن الأغلب، و ولی زیادة اللّه بن الأغلب، و کان کثیر اللهو، فقوی أمر أبی عبد اللّه، و انتشرت جنوده فی البلاد، و صار یقول: المهدیّ یخرج فی هذه الأیام، و یملک الأرض فیا طوبی لمن هاجر إلیّ، و أطاعنی و یغری الناس بزیادة اللّه بن الأغلب و یعیبه، و کان أکثر خواص زیادة اللّه شیعة، فلم یکن یسوءهم ظفر أبی عبد اللّه، و أکثر من ذکر کرامات المهدیّ، و الإرسال إلی أصحاب زیادة اللّه إلی أن تمکن، فبعث برجال من کتامة إلی سلمیة من أرض الشام، فقدموا علی عبید اللّه، و أخبروه بما فتح اللّه علیه، و کان قد اشتهر هناک، و طلبه الخلیفة المکتفی، فخرج من سلمیة فارا، و معه ابنه أبو القاسم نزار، و معهما أهلهما و موالیهما، فأقاما بمصر مستترین، فوردت علی عیسی النوشریّ أمیر مصر الکتب من بغداد بصفة عبید اللّه و حلیته، و إنه یأخذ علیه الطریق و یقبضه، فبلغ ذلک عبید اللّه، فخرج و الأعوان فی طلبه، و یقال: إنّ النوشریّ ظفر به، فناشده اللّه فی أمره، فخلی عنه و وصله، فسار إلی طرابلس، و قد سبق خبره إلی زیادة اللّه، فسار إلی قسطیلیة ، فقدم کتاب زیادة اللّه بن الأغلب إلی عامل طرابلس بأخذ عبید اللّه و قد فاتهم، فلم یدرکوه، فرحل إلی سلجماسة، و أقام بها، و قد أقیمت له المراصد بالطرقات، فتلطف بالیسع بن مدرار صاحب سلجماسة، و أهدی إلیه فکف عنه، و وافاه کتاب زیادة اللّه بالقبض علی عبید اللّه، فلم یجد بدّا من أن قبض علیه و سجنه، و اشتغل زیادة اللّه بجمع العساکر لمحاربة أبی عبد اللّه و تجهیزهم إلیه فغلبهم أبو عبد اللّه، و غنم سائر ما معهم، و قتل أکثرهم، و بلغه ما کان من سجن عبید اللّه، فکتب إلیه یبشره، فوصل إلیه الکتاب، و هو بالسجن مع قصاب دخل به إلیه، و هو یبیع اللحم، و ما زال أبو عبد اللّه یضایق زیادة اللّه إلی أن فرّ إلی مصر، و قام من بعده إبراهیم بن الأغلب، فلم یتم له أمر، و ملک أبو عبد اللّه القیروان، و نزل برقادة مستهل رجب سنة ست و تسعین و مائتین، فأمر و نهی، و بث العمال فی الأعمال، و قتل من یخاف شرّه، و أمر فنقش علی السکة فی أحد الوجهین: بلغت حجة اللّه، و فی الآخر: تفرّق أعداء اللّه و نقش علی السلاح عدّة فی سبیل اللّه، و وسم الخیل علی أفخاذها: الملک للّه، و أقام علی ما کان علیه من لبس الخشن الدون، و تناول القلیل الغلیظ من الطعام، فلما دخل شهر رمضان سار من رقادة فی جیوش عظیمة اهتز لها المغرب بأسره یرید سلجماسة، فحاربه الیسع یوما کاملا إلی اللیل، ثم فرّ فی خاصته، فدخل أبو عبد اللّه من الغد إلی البلد، و أخرج عبید اللّه و ابنه، و مشی فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 185
رکابهما بجمیع رؤساء القبائل، و هو یقول للناس: هذا مولاکم، و هو یبکی من شدّة الفرح حتی وصل بهما إلی فسطاط ضربه فی العسکر، فأنزلهما فیه، و بعث الخیل فی طلب الیسع، فأدرکته و جاءت به فقتله، و أقام عبید اللّه بسلجماسة أربعین یوما، ثم سار إلی إفریقیة فی ربیع الآخر سنة سبع و تسعین، و نزل برقادة، و أمر یوم الجمعة أن یذکر فی الخطبة و تلقب بالمهدیّ أمیر المؤمنین، فدعی له فی جمیع البلاد بذلک، و جلس بعد الصلاة الدعاة و دعوا الناس کافة إلی مذهبهم، فمن أجاب قبل منه، و من أبی قتل، و عرض جواری زیادة اللّه، و اختار منهنّ لنفسه و لولده، و فرّق ما بقی علی وجوه کتامة، و قسم علیهم أعمال إفریقیة، و دوّن الدواوین، وجبی الأموال و دانت له البلاد، فشق ذلک علی أبی عبد اللّه، و نافس المهدیّ، و حسده من أجل أنه کف یده، و یده، و ید أخیه أبی العباس، فعظم علیه الفطام عن الأمر و النهی و الأخذ و العطاء، و أقبل أبو العباس یرزی علی المهدیّ فی مجلس أخیه، و یؤنب أخاه علی ما فعل حتی أثر فی نفسه، فسأل المهدیّ: أن یفوّض إلیه الأمور و یجلس فی القصر، و کان قد بلغ المهدیّ ما یجهر به أبو العباس من السوء فی حقه، فردّ أبا عبد اللّه ردّا لطیفا، و أسرّها فی نفسه، و أکثر أبو العباس من قوله حتی أغری المقدّمین بالمهدیّ، و قال:
ما هذا بالذی کنا نعتقد طاعته، و ندعو إلیه لأنّ المهدیّ یأتی بالآیات الباهرة، فمال إلیه جماعة، و واجه بعضهم المهدیّ بذلک، و قال له: إن کنت المهدیّ، فأظهر لنا آیة، فقد شککنا فیک، فبعد ما بین المهدیّ، و بین أبی عبد اللّه، و أوجس کلّ منهما فی نفسه خیفة من الآخر، و أخذ أبو العباس یدبر فی قتل المهدیّ، و المهدیّ یحلّ ما کان یبرمه، و ثم رتب رجالا، فلما رکب أبو عبد اللّه، و أخوه إلی قصر المهدیّ ثار بهما الرجال، فقال أبو عبد اللّه:
لا تفعلوا، فقالوا له: إنّ الذی أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلک، فقتل هو و أخوه للنصف من جمادی الآخرة سنة ثمان و تسعین و مائتین بمدینة رقادة، فثارت فتنة بسبب قتلهما، فرکب المهدیّ حتی سکنت و تتبع جماعة منهم، فقتلهم فلما استقام له الأمر عهد إلی ابنه أبی القاسم، و تتبع بنی الأغلب، فقتل منهم جماعة، و جهز فی سنة إحدی و ثلثمائة ابنه أبا القاسم بالعساکر إلی مصر، فأخذ برقة و الإسکندریة و الفیوم، و کانت له مع عساکر مصر، و عساکر العراق الواردة إلی مصر مع مؤنس الخادم عدّة حروب، و عاد إلی الغرب، فجهز المهدیّ فی سنة اثنتین و ثلثمائة: حباسة بجیوش إلی مصر، فغلب علی الإسکندریة، و کان من أمره ما تقدّم ذکره.
و کان للمهدی ببلاد المغرب عدّة حروب، و کان یوجد فی الکتب خروج أبی یزید النکاریّ علی دولته، فبنی المهدیة، و أدار علیها سورا جعل فیه أبوابا زنة کل مصراع منها، مائة قنطار من حدید، و کان ابتداء بنائها فی ذی القعدة سنة ثلاث و ثلثمائة، و بنی المصلی بظاهرها، و قال: إلی هنا یصل صاحب الحمار، یعنی أبا یزید، فکان کذلک، و أنشأ صناعة فیها تسعمائة شونة، و قال: إنما بنیت هذه لتعتصم الفواطم بها ساعة من نهار، فکان کذلک،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 186
ثم إنه جهز ابنه أبا القاسم فی سنة ست و ثلثمائة علی جیش إلی مصر، فأخذ الإسکندریة، و ملک جزیرة الأشمونین، و کثیرا من صعید مصر، و کانت هناک حروب مع عساکر مصر و العراق، ثم عاد إلی المغرب، و خرج أبو القاسم فی سنة خمس عشرة بالجیوش إلی المغرب، فحارب قوما و عاد، فمات عبید اللّه فی لیلة الثلاثاء منتصف شهر ربیع الأوّل سنة اثنتین و عشرین و ثلثمائة بالمهدیة من القیروان عن ثلاث و ستین سنة، و کانت خلافته أربعا و عشرین سنة و شهرا و عشرین یوما، و لما مات: أخفی ابنه موته.
و قام من بعد عبید اللّه المهدیّ ولیّ عهده: القائم بأمر اللّه أبو القاسم محمد، و یقال:
کان اسمه بالمشرق: عبد الرحمن، فتسمی فی بلاد المغرب: بمحمد، و ذلک بسلمیة فی المحرّم سنة ثمانین و مائتین، فلما فرغ من جمیع ما یریده، و تمکن أظهر موت أبیه، و استقل بالأمر، و له سبع و أربعون سنة، و تبع سیرة أبیه و ثار علیه جماعة، فظفر بهم و بث جیوشه فی البرّ و البحر، فسبوا و غنموا من بلد جنوة، و بعث جیشا إلی مصر، فملکوا الإسکندریة و الإخشید یومئذ أمیر مصر، فلما کان فی سنة ثلاث و ثلاثین و ثلثمائة، خرج علیه أبو یزید مخلد بن کندار النکاریّ الخارجیّ بإفریقیة، و اشتدّت شوکته، و کثرت أتباعه، و هزم جیوش القائم غیر مرّة، و کان مذهبه تکفیر أهل الملة، و إراقة دمائهم دیانة، فملک باجة ، و حرّقها، و قتل الأطفال، و سبی النسوان، ثم ملک القیروان، فاضطرب القائم، و خاف الناس و هموا بالنقلة من زویلة، و قوی أمر أبی یزید، و نازل المهدیة، و حصر القائم بها، و کاد أن یغلب علیها، فلما بلغ المصلی حیث أشار المهدیّ أنه یصل هزمه أصحاب القائم، و قتلوا کثیرا من أصحابه، و کانت له قصص، و أنباء إلی أن مات القائم لثلاث عشرة خلت من شوّال سنة أربع و ثلاثین و ثلثمائة عن أربع و خمسین سنة و تسعة أشهر، و لم یرق منبرا، و لا رکب دابة لصید مدّة خلافته، حتی مات و صلی مرّة علی جنازة، و صلی بالناس العید مرّة واحدة، و کانت مدّة خلافته اثنتی عشرة سنة و ستة أشهر و أیاما، و ترک أبا الظاهر إسماعیل، و أبا عبد اللّه جعفرا، و حمزة و عدنان، و عدّة أخر.
و قام من بعده ابنه: المنصور بنصر اللّه أبو الظاهر إسماعیل، و کتم موت أبیه خوفا أن یعلم أبو یزید فإنه کان قریبا منه، و أبقی الأمور علی حالها، و لم یتسمّ بالخلیفة، و لا غیر السکة، و لا الخطبة و لا البنود، و جدّ فی حرب أبی یزید حتی ظفر به و حمل إلیه، فمات من جراحات کانت به سلخ المحرّم سنة ست و ثلاثین و ثلثمائة، و لم یزل المنصور إلی أن مات سلخ شوّال سنة إحدی و أربعین و ثلثمائة عن إحدی و أربعین سنة و خمسة أشهر، و کانت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 187
مدّة خلافته ثمان سنین، و قیل: سبع سنین و عشرة أیّام، و قد اختلف فی تاریخ ولادته، فقیل: ولد أوّل لیلة من جمادی الآخرة سنة ثلاث و ثلثمائة بالمهدیة، و قیل: بل ولد فی سنة اثنتین، و قیل: سنة إحدی و ثلثمائة، و کان خطیبا بلیغا یرتجل الخطبة لوقته شجاعا عاقلا.
و قام من بعده ابنه: المعز لدین اللّه أبو تمیم معدّ، و عمره نحو أربع و عشرین سنة، فإنه ولد للنصف من رمضان سنة سبع عشرة و ثلثمائة، فانقاد إلیه البربر، و أحسن إلیهم فعظم أمره، و اختص من موالیه: بجوهر، و کناه بأبی الحسین و أعلی قدره، و صیره فی رتبة الوزارة، و عقد له علی جیش کثیف فیهم: الأمیر زیری بن مناد الصنهاجیّ، فدوّخ المغرب و افتتح مدنا، و قهر عدّة أکابر و أسرهم حتی أتی البحر المحیط، فأمر باصطیاد سمکة منه، و سیّرها فی قلة من ماء إلی المعز إشارة إلی أنه ملک حتی سکان البحر المحیط الذی لا عمارة بعده، ثم قدم غانما مظفرا، فعظم قدره عند المعز، و لما کان فی بعض الأیام استدعی المعز فی یوم شات عدّة من شیوخ کتامة، فدخلوا علیه فی مجلس قد فرش باللبود، و حوله کساء، و علیه جبة، و حوله أبواب مفتحة تفضی إلی خزائن کتب، و بین یدیه دواة و کتب.
فقال: یا إخواننا أصبحت الیوم فی مثل هذا الشتاء و البرد، فقلت لأمّ الأمراء، و إنها الآن بحیث تسمع کلامی: أ تری إخواننا یظنون أنا فی مثل هذا الیوم نأکل و نشرب، و نتقلب فی المثقل و الدیباج و الحریر، و الفنک و السمور و المسک و الخمر، و القباء کما یفعل أرباب الدنیا، ثم رأیت أن أنفذ إلیکم فأحضرتکم لتشاهدوا حالی إذا خلوت دونکم، و احتجبت عنکم، و إنی لا أفضلکم فی أحوالکم إلّا بما لا بدّ لی منه من دنیاکم، و بما خصنی اللّه به من إمامتکم، و إنی مشغول بکتب ترد علیّ من المشرق و المغرب أجیب عنها بخطی، و إنی لا أشتغل بشی‌ء من ملاذ الدنیا إلا بما یصون أرواحکم، و یعمر بلادکم، و یذل أعداءکم، و یقمع أضدادکم، فافعلوا یا شیوخ فی خواتکم مثل ما أفعله، و لا تظهروا التکبر و التجبر، فینزع اللّه النعمة عنکم، و ینقلها إلی غیرکم، و تحننوا علیّ من وراءکم ممن لا یصل إلیّ، کتحننی علیکم لیتصل فی الناس الجمیل، و یکثر الخیر، و ینتشر العدل، و أقبلوا بعدها علی نسائکم و الزموا الواحدة التی تکون لکم، و لا تشرهوا إلی التکثر منهنّ و الرغبة فیهنّ، فیتنغص عشیکم، و تعود المضرّة علیکم، و تنهکوا أبدانکم و عقولکم، و اعلموا أنکم إذا لزمتم ما آمرکم به رجوت أن یقرّب اللّه علینا أمر المشرق کما قرّب أمر المغرب بکم انهضوا رحمکم اللّه و نصرکم، فخرجوا عنه، و استدعی یوما أبا جعفر حسین بن مهذب صاحب بیت المال، و هو فی وسط القصر قد جلس علی صندوق، و بین یدیه ألوف صنادیق مبدّدة، فقال له: هذه صنادیق مال، و قد شذ عنی ترتیبها فانظرها و رتبها قال: فأخذت أجمعها إلی أن صارت مرتبة، و بین یدیه جماعة من خدّام بیت المال، و الفرّاشین، فأنفذت إلیه أعلمه فأمر برفعها فی الخزائن علی ترتیبها، و أن یغلق علیها، و تختم بخاتمه، و قال: قد خرجت عن خاتمنا و صارت إلیک، فکانت جملتها أربعة و عشرین ألف ألف دینار، و ذلک فی سنة سبع و خمسین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 188
و ثلثمائة، فأنفقها أجمع علی العساکر التی سیرها إلی مصر من سنة ثمان و خمسین إلی سنة اثنتین و ستین و ثلثمائة.
و لما أخذ فی تجهیز جوهر بالعساکر إلی أخذ دیار مصر، حتی تهیأ أمره، و برز للمسیر، بعث المعز خفیفا الصقلبیّ إلی شیوخ کتامة یقول: یا إخواننا قد رأینا أن ننفذ رجالا إلی بلدان کتامة یقیمون بینهم، و یأخذون صدقاتهم، و مراعیهم و یحفظونها علیهم فی بلادهم، فإذا احتجنا إلیها أنفذنا خلفها، فاستعنا بها علی ما نحن بسبیله، فقال بعض شیوخهم لخفیف لما بلغه ذلک، قل لمولانا و اللّه لا فعلنا هذا أبدا، کیف تؤدّی کتامة الجزیة، و یصیر علیها فی الدیوان ضریبة، و قد أعزها اللّه قدیما بالإسلام، و حدیثا معکم بالإیمان و سیوفنا بطاعتکم فی المشرق و المغرب، فعاد خفیف إلی المعز بذلک، فأمر بإحضار جماعة کتامة، فدخلوا علیه، و هو راکب فرسه، فقال: ما هذا الجواب الذی صدر عنکم؟ فقالوا: هذا جواب جماعتنا ما کنا یا مولانا بالذی یؤدّی جزیة تبقی علینا، فقام المعز فی رکابه، و قال: بارک اللّه فیکم فهکذا أرید أن تکونوا، و إنما أردت أن أختبرکم، فانظر کیف أنتم بعدی، فسار جوهر، و أخذ مصر، کما قد ذکر فی ترجمته عند ذکر سور القاهرة من هذا الکتاب.
فلما ثبتت قدم جوهر بمصر کتب إلیه المعز جوابا عن کتابه، و أما ما ذکرت یا جوهر، من أن جماعة بنی حمدان وصلت إلیک کتبهم یبذلون الطاعة، و یعدون بالمسارعة فی المسیر إلیک، فاسمع لما أذکره لک، احذر أن تبتدی‌ء أحدا من آل حمدان بمکاتبة ترهیبا له، و لا ترغیبا، و من کتب إلیک کتابا منهم، فأجبه بالحسن الجمیل، و لا تستدعه إلیک، و من ورد إلیک منهم، فأحسن إلیه، و لا تمکن أحدا منهم من قیادة جیش، و لا ملک طرف، فبنو حمدان یتظاهرون بثلاثة أشیاء علیها مدار العالم، و لیس لهم فیها نصیب، یتظاهرون بالدین، و لیس لهم فیه نصیب، و یتظاهرون بالکرم، و لیس لواحد منهم کرم فی اللّه، و یتظاهرون بالشجاعة، و شجاعتهم للدنیا لا للآخرة، فاحذر کل الحذر من الاستناد إلی أحد منهم.
و لما عزم المعز علی المسیر إلی مصر أجال فکره، فیمن یخلفه فی بلاد المغرب، فوقع اختیاره علی جعفر بن علیّ الأمیر، فاستدعاه، و أسرّ إلیه أنه یرید استخلافه بالمغرب، فقال: تترک معی أحد أولادک أو إخوتک یجلس فی القصر، و أنا أدبر، و لا تسألنی عن شی‌ء من الأموال، لأنّ ما أجیبه یکون بإزاء ما أنفقه من الأموال، و إذا أردت أمرا فعلته من غیر أن أنتظر ورود أمرک فیه لبعد ما بین مصر و المغرب، و یکون تقلید القضاء و الخراج و غیره إلیّ، فغضب المعز، و قال: یا جعفر عزلتنی عن ملکی؟ و أردت أن تجعل لی فیه شریکا فی أمری؟ و استبددت بالأعمال و الأموال دونی؟ قم فقد أخطأت حظک، و ما أصبت رشدک، فخرج عنه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 189
ثم إنه استدعی یوسف بن زیری الصنهاجیّ، و قال له: تأهب لخلافة المغرب، فأکبر ذلک، و قال: یا مولانا، أنت و آباؤک الأئمة من ولد رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلّم ما صفا لکم المغرب، فکیف یصفو لی، و أنا صنهاجیّ بربری؟ قتلتنی یا مولانا بغیر سیف و لا رمح، فما زال به المعز حتی أجاب بشریطة أنّ المعز یولی القضاء و الخراج لمن یراه و یختاره، و یجعل الحیز لمن یثق به، و یجعله قائما بین أیدی هؤلاء، فمن استعصی علیهم یأمره هؤلاء به حتی یعمل به ما یجب، و یکون الأمر لهم و یصیر کالخادم بین أولئک، فأحب المعز ما قال و شکره، فلما انصرف قال أبو طالب بن القائم بأمر اللّه للمعز: یا مولانا، و تثق بهذا القول من یوسف، و إنه یقوم بوفاء ما ذکر، فقال المعز: یا عمنا کم بین قول یوسف، و قول جعفر، فاعلم یا عمّ أن الأمر الذی طلبه جعفر ابتداء، هو آخر ما یصیر إلیه أمر یوسف، و إذا تطاولت المدّة سینفرد بالأمر، و لکن هذا أوّلا أحسن، و أجود عند ذوی العقل، و هو نهایة ما یفعله، و کانت أم الأمراء قد وجهت من المغرب صبیة لتباع بمصر، فعرضها وکیلها فی مصر للبیع، و طلب فیها ألف دینار، فحضر إلیه فی بعض الأیام امرأة شابة علی حمار لتقلب الصبیة، فساومته ففیها، و ابتاعتها منه بستمائة دینار، فإذا هی ابنة الإخشید محمد بن طفج، و قد بلغها خبر هذه الصبیة.
فلما رأتها شغفتها حبا، فاشترتها لتستمتع بها، فعاد الوکیل إلی المغرب، و حدّث المعز بذلک، فأحضر الشیوخ، و أمر الوکیل فقص علیهم خبر ابنة الإخشید مع الصبیة إلی آخره، فقال المعز: یا إخواننا انهضوا إلی مصر، فلن یحول بینکم و بینها شی‌ء، فإنّ القوم قد بلغ بهم الترف إلی أن صارت امرأة من بنات الملوک فیهم تخرج بنفسها، و تشتری جاریة لتتمتع بها، و ما هذا إلّا من ضعف نفوس رجالهم، و ذهاب غیرتهم، فانهضوا لمسیرنا إلیهم، فقالوا: السمع و الطاعة، فقال: خذوا فی حوائجکم، فنحن نقدّم الاختیار لمسیرنا إن شاء اللّه تعالی. و کان قیصر، و مظفر الصقلبیان قد بلغا رتبة عظیمة عند المنصور والد المعز، و کان المظفر یدل علی المعز من أجل أنه علمه الخط فی صغره، فحرد علیه مرّة، و ولی فسمعه المعز یتکلم بکلمة صقلبیة استراب منها، و لقنها منه، و أنفت نفسه من السؤال عن معناها، فأخذ یحفظ اللغات، فابتدأ بتعلم اللغة البربریة، حتی أحکمها، ثم تعلم الرومیة و السودانیة حتی أتقنهما، ثم أخذ یتعلم الصقلبیة، فمرّت به تلک الکلمة، فإذا هی سب قبیح، فأمر بمظفر، فقتل من أجل تلک الکلمة، و بلغه أمر الحرب التی کانت بین بنی حسن، و بنی جعفر بالحجاز، حتی قتل من بنی حسن أکثر ممن قتل من بنی جعفر، فأنفذ مالا و رجالا فی السرّ ما زالوا بالطائفتین حتی اصطلحتا، و تحمل الرجال عن کل منهما
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 190
الحمالات، فجاء الفاضل فی القتلی لبنی حسن عند بنی جعفر نحو سبعین قتیلا، فأدّوا عنهم و عقدوا بینهم الصلح فی الحرم تجاه الکعبة، و تحملوا عنهم الدیات من مال المعز، و کان ذلک فی سنة ثمان و أربعین و ثلثمائة، فصارت هذه الفعلة یدا عند بنی حسن للمعز، فلما ملک جوهر مصر: بادر حسن بن جعفر الحسنیّ بالدعاء للمعز فی مکة، و بعث إلی جوهر بالخبر، فسیر إلی المعز یعرّفه بإقامة الدعوة له بمکة، فأنفذ إلیه بتقلیده الحرم و أعماله.
و سار المعز بعساکره من المغرب حتی نزل بالجیزة فعقد له جوهر جسرا جدیدا عند المختار بالجزیرة، فسار علیه، و قد زینت له مدینة الفسطاط، فلم یشقها و دخل إلی القاهرة بجمیع أولاده و إخوته و سائر أولاد عبید اللّه المهدیّ، و بتوابیت آبائه، و ذلک لسبع خلون من رمضان سنة اثنتین و ستین و ثلثمائة، فعندما دخل القصر صلی رکعتین، فاقتدی به من حضر، و بات به ثم أصبح فجلس للهناء، و أمر فکتب فی سائر مدینة مصر: خیر الناس بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و سلّم أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب، و أثبت اسم المعز لدین اللّه، و اسم أبیه عبد اللّه الأمیر، و جلس فی القصر علی السریر الذهب، و صلی بالناس صلاة عید الفطر فی المصلی، فسبح فی کل رکعة، و فی کل سجدة ثلاثین تسبیحة، ثم خطب بعد الصلاة، و رکب لفتح خلیج مصر یوم الوفاء، و عمل عید غدیر خم، و مات بعض بنی عمه، فصلی علیه، و کبر سبعا، و کبر علی میت آخر خمسا، و قدمت القرامطة إلی مصر، فسیر إلیهم الجلوس و هزموهم، و ما زال إلی أن توفی من علة اعتلها بعد دخوله إلی القاهرة بسنتین و سبعة أشهر و عشرة أیام، و عمره خمس و أربعون سنة و ستة أشهر تقریبا، فإنّ مولده بالمهدیة فی حادی عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة و ثلثمائة، و وفاته بالقاهرة لأربع عشرة خلت من ربیع الآخر سنة خمس و ستین و ثلثمائة، و کانت مدّة خلافته بالمغرب، و دیار مصر، ثلاثا و عشرون سنة و عشرة أیام، و هو أوّل الخلفاء الفاطمیین بمصر، و إلیه تنسب القاهرة المعزیة لأنّ عبده جوهر القائد بناها حسب ما رسم له کما ذکر فی خبر بنائها.
و کان المعز عالما فاضلا جوادا حسن السیرة منصفا للرعیة مغرما بالنجوم أقیمت له الدعوة بالمغرب کله و دیار مصر و الشام، و الحرمین، و بعض أعمال العراق.
و قام من بعده ابنه: العزیز بالله أبو منصور نزار، فأقام فی الخلافة إحدی و عشرین سنة و خمسة أشهر و نصفا، و مات و عمره اثنتان و أربعون سنة و ثمانیة أشهر و أربعة عشر یوما فی الثامن و العشرین من رجب سنة ست و ثمانین و ثلثمائة بمدینة بلبیس، و حمل إلی القاهرة.
و قام من بعده ابنه: الحاکم بأمر اللّه أبو علیّ منصور، و کانت مدّة خلافته إلی أن فقد خمسا و عشرین سنة و شهرا، و فقد و عمره ست و ثلاثون سنة و سبعة أشهر فی لیلة السابع و العشرین من شوّال سنة إحدی عشرة و أربعمائة، و قد بسطت خبر العزیز و الحاکم عند ذکر الجوامع من هذا الکتاب.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 191
و قام من بعده ابنه: الظاهر لإعزاز دین اللّه أبو الحسین علیّ بن الحاکم، بأمر اللّه، ولد بالقاهرة یوم الأربعاء، لعشر خلون من رمضان سنة خمس و تسعین و ثلثمائة، و بویع له بالخلافة یوم عید النحر، سنة إحدی عشرة و أربعمائة، و عمره ست عشرة سنة، فخرج إلی صلاة العید، و علی رأسه المظلة، و حوله العساکر، و صلی بالناس فی المصلی، و عاد فکتب بخلافته إلی الأعمال، و شرب الخمر و رخص فیه للناس، و فی سماع الغناء، و شرب الفقاع، و أکل الملوخیا و جمیع الأسماک، فأقبل الناس علی اللهو، و وزر له الخطیر رئیس الرؤساء أبو الحسن عمار بن محمد، و کان یلی دیوان الإنشاء و غیره، و استوزره بعده بدر الدولة أبا الفتوح موسی بن الحسین، و کان یتولی الشرطة، ثم ولی دیوان الإنشاء بعد ابن حیران، و صرف عن الوزارة فی المحرّم سنة ثلاث عشرة، و قبض علیه فی شوّال، و قتل فوجد له من العین ستمائة ألف دینار و عشرون ألف دینار، و ولی بعده الأزارة الأمیر شمس الملوک المکین مسعود بن طاهر.
و فی سنة أربع عشرة قلد منتخب الدولة الدریزی متولی قیساوریة ولایة فلسطین، فکانت له مع حسان بن مفرح بن جراح الطائیّ حروب، و فیها نزع السعر بمصر، و تعذر وجود الخبز، و فی المحرّم سنة خمس عشرة لقب الخادم الأسود معضاد ، بالقائد عز الدولة و سنائها أبی الفوارس معضاد الظاهر، و خلع علیه، و ثار رجل من بنی الحسین ببلاد الصعید، فقبض علیه، و أقرّ أنه قتل الحاکم بأمر اللّه، و وجد معه قطعة من جلد رأسه، و قطعة من الفوطة التی کانت علیه، فسئل عن سبب قتله إیاه؟ فقال: غرت للّه و للإسلام، ثم قتل نفسه بسکین کانت معه، فقطعت رأسه، و سیرت إلی القاهرة، و فیها اشتدّ الغلاء بمصر، و کثر نقص النیل.
و فیها قرّر الشریف الکبیر العجمیّ، و الشیخ نجیب الدولة الجرجرای ، و الشیخ العمید محسن بن بدوس، مع القائد معضاد أن لا یدخل علی الظاهر أحد غیرهم، و کانوا یدخلون کل یوم خلوة و یخرجون، فیتصرّفون فی سائر أمور الدولة، و الظاهر مشغول بلذاته، و صار شمس الملوک مظفر صاحب المظلمة، و ابن حیران صاحب الإنشاء، و داعی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 192
الدعاة، و نقیب نقباء الطالبیین، و قاضی القضاة، ربما دخلوا علی الظاهر فی کل عشرین یوما مرّة، و من عداهم لا یصل إلی الظاهر البتة، و الثلاثة الأول هم الذین یقضون الأشغال، و یمضون الأمور بعد الاجتماع عند القائد معضاد، و منع الناس من ذبح الأبقار لقلتها، و عزت الأقوات بمصر، و قلت البهائم کلها حتی بیع الرأس البقر بخمسین دینارا، و کثر الخوف فی ظواهر البلد، و کثر اضطراب الناس، و تحدّث زعماء الدولة بمصادرة التجار، فاختلف بعضهم علی بعض، و کثر ضجیج طوائف العسکر من الفقر و الحاجة، فلم یجابوا و تحاسد زعماء الدولة، فقبض علی العمید محسن، و ضرب عنقه و اشتدّ الغلاء، و فشت الأمراض، و کثر الموت فی الناس، و فقد الحیوان، فلم یقدر علی دجاجة، و لا فروج و عز الماء لقلة الظهر، فعمّ البلاء من کل جهة، و عرض الناس أمتعتهم للبیع، فلم یوجد من یشتریها، و خرج الحاج فقطع علیهم الطریق بعد رحیلهم من برکة الجب، و أخذت أموالهم، و قتل منهم کثیر و عاد من بقی، فلم یحج أحد من أهل مصر، و تفاقم الأمر فی شدّة الغلاء، فصاح الناس بالظاهر: الجوع الجوع یا أمیر المؤمنین؟ لم یصنع بنا هذا أبوک و لا جدّک، فاللّه اللّه فی أمرنا، و طرقت عساکر ابن جراح الفرما، ففرّ أهلها إلی القاهرة، و أصبح الناس بمصر علی أقبح حال من الأمراض و الموتان، و شدّة الغلاء، و عدم الأقوات، و کثر الخوف من الذعار التی تکبس حتی أنه لما عمل سماط عید النحر بالقصر کبس العبید علی السماط، و هم یصیحون: الجوع، و نهبوا سائر ما کان علیه، و نهبت الأریاف و کثر طمع العبید و نهبهم، و جرت أمور من العامّة قبیحة، و احتاج الظاهر إلی القرض، فحمل بعض أهل الدولة إلیه مالا، و امتنع آخرون، و اجتمع نحو الألف عبد لتنهب البلد من الجوع، فنودی بأن من تعرّض له أحد من العبید، فلیقتله و ندب جماعة لحفظ البلد، و استعدّ الناس، فکانت نهبات بالساحل، و وقائع مع العبید احتاج الناس فیها إلی أن خندقوا علیهم خنادق، و عملوا الدروب علی الأزقّة و الشوارع، و خرج معضاد فی عسکر، فطردهم و قبض علی جماعة منهم ضرب أعناقهم، و أخذ العبید فی طلب الحرحرای و غیره من وجوه الدولة، فحرسوا أنفسهم، و امتنعوا فی دورهم و انقضت السنة، و الناس فی أنواع من البلاء.
و فی سنة ست عشرة أمر الظاهر، فأخرج من بمصر من الفقهاء المالکیة و غیرهم، و أمر الدعاة أن یحفظوا الناس کتاب دعائم الإسلام، و مختصر الوزیر، و جعل لمن حفظ ذلک مالا.
و فی سنة سبع عشرة ثار بمصر رعاف عظیم بالناس، و کثرت زیادة النیل عن العادة، و تصدّق الظاهر بمائة ألف دینار من أجل أنه سقط عن فرسه و سلم.
و فی سنة ثمان عشرة وقعت الهدنة مع صاحب الروم، و خطب للظاهر فی بلاده، و أعاد الجامع بقسطنطینیة، و عمل فیه مؤذنا، فأعاد الظاهر کنیسة قمامة بالقدس، و أذن لمن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 193
أظهر الإسلام فی أیام الحاکم أن یعود إلی النصرانیة، فرجع إلیها کثیر منهم، و صرف الظاهر وزیره عمید الدولة، و ناصحها أبا محمد الحسن بن صالح الروذبادی، و أقام بدله أبا القاسم علیّ بن أحمد الحرحرای.
و فی سنة عشرین کانت فتنة بین المغاربة و الأتراک قتل فیها کثیر.
و فی سنة إحدی و عشرین بویع لابن الظاهر بولایة العهد، و عمره ثمانیة أشهر، و أنفق علی ذلک فی خلع لأهل الدولة، و طعام و نثار للعامة ما یجل وصفه.
و فی سنة اثنتین و عشرین تحرّک السعر لنقص ماء النیل، ثم زاد بعد أوانه بأربعة أشهر.
و فی سنة ثلاث و عشرین قتل الظاهر أحد الدعاة، فاضطربت الرعیة و الجند، و تحدّث الناس بخلعه، ثم سکنت الفتنة بعد إنفاق مال جزیل.
و فی سنة أربع و عشرین رکب ولیّ العهد من القاهرة إلی مصر، و قد زینت الطرقات، فکان إذا مرّ بقوم قبلوا له الأرض، و نثر یومئذ علی العامّة مبلغ خمسة آلاف دینار، فکان یوما عظیما.
و فی سنة خمس و عشرین بث الظاهر دعاته ببغداد عند اختلاف الأتراک بها، فکثرت دعاته هناک، و استجاب لهم خلق کثیر، فلما کان فی سنة ست و عشرین کثر الوباء بمصر، و مات الظاهر للنصف من شعبان سنة سبع و عشرین و أربعمائة عن اثنتین و ثلاثین سنة إلّا أیاما، فکانت مدّة خلافته خمس عشرة سنة و ثمانیة أشهر و أیاما، و کان مشغوفا باللهو محبا للغناء، فتأنق الناس فی أیامه بمصر، و اتخذوا المغنیات و الرقاصات، و بلغوا من ذلک مبلغا عظیما، و اتخذ حجرا لممالیکه و علمهم أنواع العلوم، و سائر فنون الحرب، و اتخذ خزانة البنود، و أقام فیها ثلاثة آلاف صانع، و راسل الملوک و استکثر من شراء الجواهر، و کانت مملکته بإفریقیة و مصر و الشام و الحجاز، و غلب صالح بن مرداس علی حلب فی أیامه، و استولی علی ما یلیها، و تغلّب حسان بن جرّاح علی أکثر بلاد الشام، فتضعضعت الدولة.
و قام من بعده ابنه و لیّ العهد، و بویع له و هو: المستنصر بالله أبو تمیم معدّ، و مولده فی السادس عشر من جمادی الآخرة سنة عشرین و أربعمائة، و بویع بالخلافة للنصف من شعبان سنة سبع و عشرین، و عمره یومئذ سبع سنین، فأقام ستین سنة و أشهرا فی الخلافة کانت فیها أنباء، و قصص شنیعة بدیار مصر منها: أنّ أمّه کانت أمة سوداء لتاجر یهودیّ یقال له:
أبو سعد سهل بن هارون التستریّ، فابتاعها منه الظاهر، و استولدها المستنصر، فلما أفضت الخلافة إلیه استدنت أمّه أبا سعد، و رقته درجة علیّة، و کان الوزیر یومئذ أبا القاسم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 194
الحرحرای، فلم یتمکن أبو سعد من إظهار ما فی نفسه حتی مات الحرحرای، و تولی أبو منصور صدقة بن یوسف العلاجیّ الوزارة، فانبسطت ید أبی سعد، و صار العلاجیّ یأتمر بأمر، فعمل علیه و قتله کما ذکر فی خبر خزانة البنود، فحقدت أم المستنصر علی العلاجیّ، و صرفته عن الوزارة و استقر أبو البرکات صفیّ الدین الحسین بن محمد بن أحمد الحرحرای فی الوزارة.
و فی سنة أربعین سار ناصر الدولة الحسین بن حمدان متولی دمشق بالعساکر إلی حلب، و حارب متولیها: ثمال بن صالح بن مرداس، ثم رجع بغیر طائل، فقلد مظفر الصقلبیّ دمشق، و قبض علی ابن حمدان، و صادره و اعتقله بصور، ثم بالرملة، و خرج أمیر الأمراء: رفق الخادم علی عسکر تبلغ عدّته نحو الثلاثین ألفا بلغت النفقة علیه أربعمائة ألف دینار یرید الشام، و محاربة بنی مرداس.
و فی المحرّم سنة إحدی و أربعین صرف قاضی القضاة قاسم بن عبد العزیز بن النعمان عن القضاء بعدما باشره ثلاث عشرة سنة و شهر أو أربعة أیام، و تقلد وظیفة القضاء بعده القاضی الأجل خطیر الملک أبو محمد البازوریّ.
و فیها حارب رفق بنی مرداس، فظفروا به و أسروه، فمات بقلعة حلب، فأفرج عن ابن حمدان، و بقی بالحضرة، و قبض علی الوزیر أبی البرکات الحرحرای، و نفی إلی الشام، و عمل أبو المفضل صاعد بن مسعود واسطة لا وزیرا، ثم قلد القضاة أبو محمد البازوریّ الوزارة مع وظیفة القضاء، و لقب بسید الوزراء.
و فی سنة اثنتین و أربعین کانت حروب البحیرة، و إخراج بنی قرّة منها، و إنزال بنی سنیس بعدهم بها، و فیها دعا علیّ بن محمد الصلیحیّ بالیمن للمستنصر، و بعث إلیه بمال النجوة و الهدن.
و فی سنة أربع و أربعین کتب ببغداد محاضر بالقدح فی نسب الخلفاء المصریین، و نفیهم من الانتساب إلی علیّ بن أبی طالب، و سیرت إلی الآفاق و قصر مدّ النیل، فتحرّک السعر بمصر، ثم قصر أیضا مدّ النیل فی سنة ست و أربعین، فقوی الغلاء، و کثر الموت فی الناس.
و فی سنة ثمان و أربعین خرج أبو الحارث البساسیری من بغداد منتمیا للمستنصر،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 195
فسیرت إلیه الأموال و الخلع.
و فی سنة ثمان و أربعین عادت حلب إلی مملکة المستنصر.
و فی سنة خمسین قبض علی الوزیر الناصر للدین أبی محمد البازوریّ، و تقلد بعده الوزارة أبو الفرج محمد بن جعفر المغربی بن عبد اللّه بن محمد، و ولی القضاء بعد البازوریّ أبو علیّ أحمد بن عبد الحکم، ثم صرف بعبد الحاکم الملیحیّ، و فیها أخذ البساسیری بغداد، و أقام فیها الخطبة للمستنصر، و فرّ الخلیفة القائم بأمر اللّه العباسیّ إلی قریش بن بدران، فبعث به إلی غانة، و سیرت ثیاب القائم، و عمامته و غیر ذلک من الأموال إلی مصر، و فیها سار ناصر الدولة إلی دمشق أمیرا علیها.
و فی سنة إحدی و خمسین أقیمت دعوة المستنصر بالبصرة و واسط و جمیع تلک الأعمال، فقدم طغریل إلی بغداد، و أعاد الخلیفة القائم بعد ما خطب للمستنصر ببغداد أربعون خطبة، و قتل البساسیریّ، و فیها قطعت خطبة المستنصر أیضا من حلب، فسار إلیها ابن حمدان، و حارب أهلها، فانکسر کسرة شدیدة شنیعة، و عاد إلی دمشق، و فیها صرف أبو الفرج بن المغربیّ عن الوزارة، و عبد الحاکم عن القضاء، و أعید إلی الوزارة أبو الفرج البابلیّ، و استقرّ فی وظیفة القضاء أحمد بن أبی زکری.
و فی سنة ثلاث و خمسین کثر صرف الوزراء و القضاة، و ولایتهم لکثرة مخالطة الرعاع للخلیفة، و تقدّم الأراذل بحیث کان یصل إلیه فی کل یوم ثمانمائة رقعة فیها المرافعات و السعایات، فاشتبهت علیه الأمور، و تناقضت الأحوال، و وقع الاختلاف بین عبید الدولة، و ضعفت قوی الوزراء عن التدبیر لقصر مدّة کل منهم، و خربت الأعمال، و قلّ ارتفاعها، و تغلب الرجال علی معظمها مع کثرة النفقات و الاستخفاف بالأمور، و طغیان الأکابر إلی أن آل الأمر إلی حدوث الشدّة العظمی، کما قد ذکر فی موضعه من هذا الکتاب، و کان من قدوم أمیر الجیوش بدر الجمالیّ فی سنة ست و ستین و أربعمائة، و قیامه بسلطنة مصر ما ذکر فی ترجمته عند ذکر أبواب القاهرة، فلم یزل المستنصر مدّة أمیر الجیوش ملجما عن التصرّف إلی أن مات فی سنة سبع و ثمانین، فأقام العسکر من بعده فی الوزارة ابنه الأفضل شاهنشاه، فباشر الأمور یسیرا، و مات المستنصر لیلة الخمیس للیلتین بقیتا من ذی الحجة سنة سبع و ثمانین عن سبع، و ستین سنة و خمسة أشهر منها فی الخلافة ستون سنة، و أربعة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 196
أشهر و ثلاثة أیام مرّت فیها أهوال عظیمة، و شدائد آلت به إلی أن جلس علی نخ، و فقد القوت فلم یقدر علیه حتی کانت امرأة من الأشراف تتصدّق علیه فی کل یوم بقعب فیه فتیت، فلا یأکل سواه مرّة فی کل یوم، و قد مرّ فی غیر موضع من هذا الکتاب کثیر من أخباره، فلما مات المستنصر أقام الأفضل بن أمیر الجیوش فی الخلافة من بعده ابنه:
المستعلی بالله أبا القاسم أحمد، و کان مولده فی العشرین من المحرّم سنة سبع و ستین و أربعمائة، فحالف علیه أخوه نزار، و فرّ إلی الإسکندریة و کان القائم بالأمور کلها الأفضل، فحاربه حتی ظفر به، و قتله کما تقدّم فی خبر أفتکین عند خزائن القصر.
و فی سنة تسعین وقع بمصر غلاء و وباء و قطعت الخطبة من دمشق للمستعلی، و خطب بها للعباسیّ، و خرج الفرنج من قسطنطینیة لأخذ سواحل الشام، و غیرها من أیدی المسلمین فملکوا أنطاکیة.
و فی سنة إحدی و تسعین خرج الأفضل بعسکر عظیم من القاهرة، فأخذ بیت المقدس من الأرمن، و عاد إلی القاهرة.
و فی سنة اثنتین و تسعین ملک الفرنج الرملة و بیت المقدس، فخرج الأفضل بالعساکر، و سار إلی عسقلان، فسار إلیه الفرنج و قاتلوه، و قتلوا کثیرا من أصحابه، و غنموا منه شیئا کثیرا و حصروه، فنجا بنفسه فی البحر، و صار إلی القاهرة.
و فی سنة ثلاث و تسعین عمّ الوباء أکثر البلاد، فهلک بمصر عالم عظیم.
و فی سنة أربع و تسعین خرج عسکر مصر لقتال الفرنج، و کانت بینهما حروب کثیرة.
و فی سنة خمس و تسعین و أربعمائة مات المستعلی بالله لثلاث عشرة بقیت من صفر، و عمره سبع و عشرون سنة و سبعة و عشرون یوما، و مدّة خلافته سبع سنین و شهران، و فی أیامه اختلت الدولة، و انقطعت الدعوة من أکثر مدن الشام، فإنها صارت بین الأتراک و الفرنج، و صارت الإسماعیلیة فرقتین: فرقة نزاریة تطعن فی إمامة المستعلی، و فرقة تری صحة خلافته، و لم یکن للمستعلی مع الأفضل أمر و لا نهی، و لا نفوذ کلمة، و قیل: إنه سمّ، و قیل: بل قتل سرّا.
فلما مات أقام الأفضل من بعده فی الخلافة ابنه: الآمر بأحکام اللّه أبا علیّ منصورا، و عمره خمس سنین و شهر و أیام، فقتل الأفضل فی أیامه، و أقام فی الخلافة تسعا و عشرین سنة و ثمانیة أشهر و نصفا، و قد ذکرت ترجمته عند ذکر الجامع الأقمر فی ذکر الجوامع من هذا الکتاب، و لما قتل الآمر بأحکام اللّه.
أقیم من بعده: الحافظ لدین اللّه أبو المیمون عبد المجید ابن الأمیر أبی القاسم محمد بن المستنصر بالله، و کان قد ولد بعسقلان فی المحرّم سنة سبع، و قیل: فی سنة ثمان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 197
و تسعین و أربعمائة لما أخرج المستنصر ابنه أبا القاسم مع بقیة أولاده فی أیام الشدّة، فلذلک کان یقال له فی أیام الآمر بأحکام اللّه الأمیر عبد المجید العسقلانیّ ابن عمّ مولانا.
و لما قتل النزاریة: الخلیفة الآمر أقام برغش و هزار الملوک الأمیر عبد المجید فی دست الخلافة، و لقباه بالحافظ لدین اللّه، و أنه یکون کفیلا لمنتظر فی بطن أمّه من أولاد الآمر، و استقرّ هزاز الملوک وزیرا، فثار العسکر، و أقاموا أبا علیّ بن الأفضل وزیرا، و قتل هزار الملوک، و نهب شارع القاهرة، و ذلک کله فی یوم واحد، فاستبدّ أبو علیّ بالوزارة یوم السادس عشر من ذی القعدة سنة أربع و عشرین و خمسمائة، و قبض علی الحافظ، و سجنه مقیدا، فاستمرّ إلی أن قتل أبو علیّ فی سادس عشر المحرّم سنة ست و عشرین، فأخرج من معتقله، و أخذ له العهد علی أنه ولیّ عهد کفیل لمن یذکر اسمه، فاتخذ الحافظ هذا الیوم عیدا سماه عید النصر، و صار یعمل کل سنة، و نهبت القاهرة یومئذ و قام یانس صاحب الباب بالوزارة إلی أن هلک فی ذی الحجة منها بعد تسعة أشهر، فلم یستوزر الحافظ بعده أحدا، و تولی الأمور بنفسه إلی سنة ثمان و عشرین، فأقام ابنه سلیمان ولیّ عهده مقام وزیر، فلم تطل أیامه سوی شهرین و مات، فجعل مکانه ابن حیدرة، فخنق ابنه حسن، و ثار بالفتنة، و کان من أمره ما ذکر فی خبر الحارة الیانسیة من هذا الکتاب، فلما قتل حسن قام بهرام الأرمنیّ، و أخذ الوزارة فی جمادی الآخرة سنة تسع و عشرین، و کان نصرانیا، فاشتدّ ضرر المسلمین من النصاری، و کثرت أذیتهم فسار رضوان بن ولخشی، و هو یومئذ متولی الغربیة، و جمع الناس لحرب بهرام، و سار إلی القاهرة، فانهزم بهرام، و دخل رضوان القاهرة، و استولی علی الوزارة فی جمادی الأولی سنة إحدی و ثلاثین، فأوقع بالنصاری و أذلهم، فشکره الناس إلا أنه کان خفیفا عجولا، فأخذ فی إهانة حواشی الخلیفة، و همّ بخلع، و قال: ما هو بإمام، و إنما هو کفیل لغیره، و ذلک الغیر لم یصح، فتوحش الحافظ منه، و ما زال یدبر علیه حتی ثارت فتنة انهزم فیها رضوان، و خرج إلی الشام، فجمع و عاد فی سنة أربع و ثلاثین، فجهز له الحافظ العساکر لمحاربته، فقاتلهم و انهزم منهم إلی الصعید فقبض علیه، و اعتقل، فلم یستوزر الحافظ أحدا بعده إلی أن کانت سنة ست و ثلاثین، فغلت الأسعار بمصر و کثر الوباء، و امتدّ إلی سنة سبع و ثلاثین، فعظم الوباء.
و فی سنة اثنتین و أربعین خلص رضوان من معتقله بالقصر، و خرج من نقب، و ثار بجماعة، و کانت فتنة آلت إلی قتله.
و فی سنة أربع و أربعین ثارت فتنة بالقاهرة بین طوائف العسکر، فمات الحافظ لیلة الخامس من جمادی الآخرة عن سبع و سبعین سنة منها مدّة خلافته ثمان عشرة سنة و أربعة أشهر و تسعة یوما، أصابته فیها شدائد کثیرة، و کان حازما سیوسا کثیر المداراة عارفا جماعا للمال مغری بعلم النجوم یغلب علیه الحلم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 198
فلما مات و الفتنة قائمة أقیم ابنه: الظاهر بأمر اللّه أبو منصور إسماعیل، و مولده للنصف من ربیع الآخر سنة سبع و عشرین و خمسمائة، فأقام فی الخلافة أربع سنین و ثمانیة أشهر إلا خمسة أیام، و کان محکوما علیه من الوزارة، و فی أیامه أخذت عسقلان، فظهر الخلل فی الدولة، و قد ذکرت أخباره فی خط الخشیبة عند ذکر الخطط من هذا الکتاب.
فلما قتل أقیم من بعده ابنه: الفائز بنصر اللّه أبو القاسم عیسی، أقامه فی الخلافة بعد مقتل أبیه الوزیر عباس، و عمره خمس سنین، فقدم طلائع بن رزیک والی الأشمونین بجموعه إلی القاهرة، ففرّ عباس، و استولی طلائع علی الوزارة، و تلقب بالصالح، و قام بأمر الدولة إلی أن مات الفائز لثلاث عشرة بقیت من رجب سنة خمس و خمسین عن إحدی عشرة سنة، و ستة أشهر و یومین منها فی الخلافة ست و ستین و خمسة أشهر و أیام، لم یر فیها خیرا فإنه لما أخرج لیقام خلیفة رأی أعمامه قتلی، و سمع الصراخ، فاختلّ عقله، و صار یصرخ حتی مات.
فأقام الصالح بن رزیک فی الخلافة بعده: العاضد لدین اللّه أبا محمد عبد اللّه بن الأمیر یوسف بن الحافظ لدین اللّه، و مولده لعشر بقین من المحرّم سنة ست و أربعین و خمسمائة، و کان عمره یوم بویع نحو إحدی عشرة سنة، و قام الصالح بتدبیر الأمور إلی أن قتل فی رمضان سنة ست و خمسین کما ذکر فی خبره عند ذکر الجوامع، فقام من بعده ابنه رزیک بن طلائع، و حسنت سیرته، فعزل شاور بن مجیر السعدیّ عن ولایة قوص، فلم یقبل العزل، و حشد و سار علی طریق الواحات فی البریة إلی تروجة، فجمع الناس، و سار إلی القاهرة، فلم یثبت رزیک، و فرّ فقبض علیه بإطفیح، و استقرّ شاور فی الوزارة لأیام خلت من صفر سنة ثمان و خمسین، فأقام إلی أن ثار ضرغام صاحب الباب، ففرّ منه إلی الشام، و استبدّ ضرغام بالوزارة، فقتل أمراء الدولة، و أضعفها بسبب ذهاب أکابرها، فقدم الفرنج، و نازلوا مدینة بلبیس مدّة، و دافعهم المسلمون عدّة مرار، حتی عادوا إلی بلادهم بالساحل، و رجع العسکر إلی القاهرة، و قد قتل منهم کثیر، فوصل شاور بعساکر الشام فی جمادی الآخرة سنة تسع و خمسین، فحاربه ضرغام علی بلبیس بعساکر مصر، و کانت لهم منه معارک انهزموا فی آخرها، و غنم شاور و من معه سائر ما خرجوا به، و کان شیئا جلیلا، فسرّوا بذلک، و ساروا إلی القاهرة فکانت بین الفریقین حروب آلت إلی هزیمة ضرغام، و قتله فی شهر رمضان منها.
فاستولی شاور علی الوزارة مرّة ثانیة، و اختلف مع الغزاة القادمین معه من الشام، و کانت له معهم حروب آلت إلی أن شاور کتب إلی مری ملک الفرنج یستدعیه إلی القاهرة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 199
لیعینه علی محاربة شیرکوه، و من معه من الغز، فحضر، و قد صار شیرکوه فی مدینة بلبیس، فخرج شاور من القاهرة، و نزل هو و مری علی بلبیس، و حصرا شیرکوه ثلاثة أشهر، ثم وقع الصلح، فسار شیرکوه بالغز إلی الشام، و رحل الفرنج، و عاد شاور إلی القاهرة فی سنة ستین و خمسمائة، فلم یزل إلی أن قدم شیرکوه من الشام بالعساکر مرّة ثانیة فی ربیع الآخر، فخرج شاور من القاهرة إلی لقائه، و استدعی مری ملک الفرنج، فسار شیرکوه علی الشرق، و خرج من إطفیح، فسار إلیه شاور بالفرنج، و کانت له معه الوقعة المشهورة، فسار شیرکوه بعد الوقعة من الأشمونین، و أخذ الإسکندریة بعد أن استخلف علیها ابن أخیه صلاح الدین یوسف بن أیوب، و لم یزل یسیر من الإسکندریة إلی قوص، و هو یجبی البلاد، فخرج شاور من القاهرة بالفرنج، و نازل الإسکندریة، فبلغ شیرکوه ذلک، فعاد من قوص إلی القاهرة، و حصرها.
ثم کانت أمور آخرها مسیر شیرکوه و أصحابه من أرض مصر إلی الشام فی شوّال، و قد طمع الفرنج فی البلاد و تسلموا أسوار القاهرة، و أقاموا فیها شحنة معه عدّة من الفرنج لمقاسمة المسلمین ما یتحصل من مال البلد، و فحش أمر شاور، و ساءت سیرته، و کثر تجرّیه علی الدماء، و إتلافه للأموال، فلما کان فی سنة أربع و ستین قوی تمکن الفرنج فی القاهرة، و جاروا فی حکمهم بها، و رکبوا المسلمین بأنواع الإهانة.
فسار مری یرید أخذ القاهرة، و نزل علی مدینة بلبیس، و أخذها عنوة، فکتب العاضد إلی نور الدین محمود بن زنکی صاحب الشام یستصرخه، و یحثه علی نجدة الإسلام، و إنقاذ المسلمین من الفرنج، فجهز أسد الدین شیرکوه فی عسکر کثیر، و جهزهم و سیرهم إلی مصر، و قد أحرق شاور مدینة مصر، کما تقدّم و نزل مری ملک الفرنج علی القاهرة، و ألحّ فی قتال أهلها حتی کاد أن یأخذها عنوة، فسیر إلیها شاور و خادعه حتی رضی بمال یجمعه له، فشرع فی جبایته، و إذا بالخبر ورد بقدوم شیرکوه، فرحل الفرنج عن القاهرة فی سابع ربیع الآخر، ونز شیرکوه علی القاهرة بالغز ثالث مرّة، فخلع علیه العاضد، و أکرمه، فأخذ شاور یفتک بالغز علی عادته، فکان من قتله ما ذکر فی موضعه، و ذلک فی سابع عشر ربیع الآخر المذکور، و تقلد شیرکوه وزارة العاضد، و قام بالدولة شهرین و خمسة أیام، و مات فی الثانی و العشرین من جمادی الآخرة، ففوّض العاضد الوزارة لصلاح الدین یوسف بن أیوب، فساس الأمور، و دبر لنفسه، فبذل الأموال، و أضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم یزل أمره فی ازدیاد.
و أمر العاضد فی نقصان، و صار یخطب من بعد العاضد للسلطان محمود نور الدین، و أقطع أصحابه البلاد، و أبعد أهل مصر، و أضعفهم، و استبدّ بالأمور، و منع العاضد من التصرّف حتی تبین للناس ما یریده من إزالة الدولة إلی أن کان من واقعة العبید ما ذکرنا،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 200
فأبادهم و أفناهم، و من حینئذ تلاشی العاضد، و انحلّ أمره، و لم یبق له سوی إقامة ذکره فی الخطبة فقط، هذا و صلاح الدین یوالی الطلب منه فی کل یوم لیضعفه، فأتی علی المال و الخیل و الرقیق و غیر ذلک حتی لم یبق عند العاضد غیر فرس واحد، فطلب منه، و ألجأه إلی إرساله، و أبطل رکوبه من ذلک الوقت.
و صار لا یخرج من القصر البتة، و تتبع صلاح الدین جند العاضد، و أخذ دور الأمراء و إقطاعاتهم، فوهبها لأصحابه، و بعث إلی أبیه و إخوته و أهله، فقدموا من الشام علیه، فلما کان فی سنة ست و ستین أبطل المکوس من دیار مصر، و هدم دار المعونة بمصر، و عمرها مدرسة للشافعیة، و أنشأ مدرسة أخری للمالکیة، و عزل قضاة مصر الشیعة، و قلد القضاء صدر الدین بن عبد الملک بن درباس الشافعیّ، و جعل إلیه الحکم فی إقلیم مصر کله، فعزل سائر القضاة، و استتاب قضاة شافعیة، فتظاهر الناس من تلک السنة بمذهب مالک و الشافعیّ رضی اللّه عنهما، و اختفی مذهب الشیعة إلی أن نسی من مصر، و أخذ فی غزو الفرنج، فخرج إلی الرملة، و عاد فی ربیع الأوّل، ثم سار إلی أیلة، و نازل قلعتها، حتی أخذها من الفرنج فی ربیع الآخر، ثم سار إلی الإسکندریة، و لمّ شعث سورها، و عاد و سیر توران شاه ، فأوقع بأهل الصعید، و أخذ منهم ما لا یمکن وصفه کثرة، و عاد فکثر القول من صلاح الدین، و أصحابه فی ذم العاضد، و تحدّثوا بخلعه، و إقامة الدعوة العباسیة بالقاهرة و مصر، ثم قبض علی سائر من بقی من أمراء الدولة، و أنزل أصحابه فی دورهم فی لیلة واحدة، فأصبح فی البلد من العویل و البکاء، ما یذهل، و تحکم أصحابه فی البلد بأیدیهم، و أخرج إقطاعات سائر المصریین لأصحابه، و قبض علی بلاد العاضد، و منع عنه سائر موادّه، و قبض علی القصور، و سلمها إلی الطواشی بهاء الدین قراقوش الأسدیّ، و جعله زمامها، فضیق علی أهل القصر، و صار العاضد معتقلا تحت یده، و أبطل من الأذان: حیّ علی خیر العمل، و أزال شعار الدولة، و خرج بالعزم علی قطع خطبة العاضد، فمرض و مات، و عمره إحدی و عشرون سنة إلّا عشرة أیام منها فی الخلافة إحدی عشرة سنة و ستة أشهر و سبعة أیام، و ذلک فی لیلة یوم عاشوراء سنة سبع و ستین و خمسمائة بعد قطع اسمه من الخطبة، و الدعاء للمستنجد العباسیّ بثلاثة أیام، و کان کریما لین الجانب مرّت به مخاوف و شدائد، و هو آخر الخلفاء الفاطمیین بمصر، و کانت مدّتهم بالمغرب و مصر منذ قام عبید اللّه المهدیّ إلی أن مات العاضد مائتی سنة و اثنتین و سبعین سنة و أیاما بالقاهرة، منها مائتان و ثمانی سنین، فسبحان الباقی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 201

ذکر ما کان علیه موضع القاهرة قبل وضعها

إعلم أن
مدینة الإقلیم منذ کان فتح مصر علی ید عمرو بن العاص رضی اللّه عنه کانت مدینة الفسطاط المعروفة فی زماننا بمدینة: مصر قبلیّ القاهرة، و بها کان محل الأمراء، و منزل ملکهم، و عالیها تجبی ثمرات الأقالیم، و تأوی الکافة، و کانت قد بلغت من وفور العمارة، و کثرة الناس و سعة الأرزاق و التفنن فی أنواع الحضارة، و التأنق فی النعیم ما أربت به علی کل مدینة فی المعمور حاشا بغداد، فإنها کانت سوق العالم، و قد زاحمتها مصر، و کادت أن تسامیها إلّا قلیلا، ثم لما انقضت الدولة الإخشیدیة من مصر، و اختلّ حال الإقلیم بتوالی الغلوات، و تواتر الأوباء، و الفنوات حدثت مدینة القاهرة عند قدوم جیوش المعز لدین اللّه أبی تمیم معدّ أمیر المؤمنین علی ید عبده، و کاتبه القائد جوهر، فنزل حیث القاهرة الآن، و أناخ هناک، و کانت حینئذ رملة، فیما بین مصر و عین شمس یمرّ بها الناس عند مسیرهم من الفسطاط إلی عین شمس، و کانت فیما بین الخلیج المعروف فی أوّل الإسلام بخلیج أمیر المؤمنین، ثم قیل له خلیج القاهرة، ثم هو الآن یعرف بالخلیج الکبیر، و بالخلیج الحاکمیّ، و بین الخلیج المعروف بالیحامیم، و هو الجبل الأحمر، و کان الخلیج المذکور فاصلا بین الرملة المذکورة، و بین القریة التی یقال لها: أم دنین، ثم عرفت الآن بالمقس، و کان من یسافر من الفسطاط إلی بلاد الشام ینزل بطرف هذه الرملة فی الموضع الذی کان یعرف بمنیة الأصبغ، ثم عرف إلی یومنا بالخندق، و تمرّ العساکر و التجار، و غیرهم من منیة الأصبغ إلی بنی جعفر علی غیفة و سلمنت إلی بلبیس، و بینها و بین مدینة الفسطاط أربعة و عشرون میلا، و من بلبیس إلی العلاقمة إلی الفرما، و لم یکن الدرب الذی یسلک فی وقتنا من القاهرة إلی العریش فی الرمل یعرف فی القدیم، و إنما عرف بعد خراب تنیس و الفرما، و إزاحة الفرنج عن بلاد الساحل بعد تملکهم له مدّة من السنین، و کان من یسافر فی البرّ من الفسطاط إلی الحجاز ینزل بجب عمیرة المعروف الیوم ببرکة الجب، و ببرکة الحاج، و لم یکن عند نزول جوهر بهذه الرملة فیها بنیان سوی أماکن هی بستان الإخشید محمد بن ظفج المعروف الیوم بالکافوریّ من القاهرة، و دیر للنصاری یعرف بدیر:
العظام، تزعم النصاری أنّ فیه بعض من أدرک المسیح علیه السلام، و بقی الآن بئر هذا الدیر، و تعرف ببئر العظام و العامة تقول بئر العظمة، و هی بجوار الجامع الأقمر من القاهرة، و منها ینقل الماء إلیه، و کان بهذه الرملة أیضا مکان ثالث یعرف بقصیّر الشوک بصیغة التصغیر تنزله بنو عذرة فی الجاهلیة، و صار موضعه عند بناء القاهرة یعرف بقصر الشوک من جملة القصور الزاهرة، هذا الذی اطلعت علیه أنه کان فی موضع القاهرة قبل بنائها بعد الفحص و التفتیش، و کان النیل حینئذ بشاطئ المقس یمرّ من موضع الساحل القدیم بمصر الذی هو الآن سوق المعاریج، و حمام طن و المراغة، و بستان الجرف، و موردة الحلفاء، و منشأة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 202
المهرانیّ علی ساحل الحمراء، و هی موضع قناطر السباع، فیمرّ النیل بساحل الحمراء إلی المقس موضع جامع المقس الآن، و فیما بین الخلیج، و بین ساحل النیل بساتین الفسطاط، فإذا صار النیل إلی المقس حیث الجامع الآن مرّ من هناک علی طرف الأرض التی تعرف الیوم بأرض الطبالة من الموضع المعروف الیوم بالجرف، و صار إلی البعل، و مرّ علی طرف منیة الأصبغ من غربیّ الخلیج إلی المنیة، و کان فیما بین الخلیج و الجبل مما یلی بحریّ موضع القاهرة مسجد بنی علی رأس إبراهیم بن عبد اللّه بن حسن بن الحسین بن علیّ بن أبی طالب، ثم مسجد تبر الإخشیدیّ، فعرف بمسجد تبر، و العامّة تقول: مسجد التبن، و لم یکن الممرّ من الفسطاط إلی عین شمس، و إلی الحوف الشرقیّ، و إلی البلاد الشامیة إلّا بحافة الخلیج، و لا یکاد یمرّ بالرملة التی فی موضعها الآن مدینة القاهرة کثیر جدا، و لذلک کان بها دیر للنصاری إلّا أنه لما عمر الإخشید البستان المعروف: بالکافوریّ، أنشأ بجانبه میدانا، و کان کثیرا ما یقیم به، و کان کافور أیضا یقیم به، و کان فیما بین موضع القاهرة، و مدینة الفسطاط مما یلی الخلیج المذکور: أرض تعرف فی القدیم منذ فتح مصر بالحمراء القصوی، و هی موضع قناطر السباع، و جبل یشکر حیث الجامع الطولونیّ، و ما دار به، و فی هذه الحمراء عدّة کنائس، و دیارات للنصاری خربت شیئا بعد شی‌ء إلی أن خرب آخرها فی أیام الملک الناصر محمد بن قلاوون، و جمیع ما بین القاهرة و مصر مما هو موجود الآن من العمائر، فإنه حادث بعد بناء القاهرة، و لم یکن هناک قبل بنائها شی‌ء البتة، سوی کنائس الحمراء، و سیأتی بیان ذلک مفصلا فی موضعه من هذا الکتاب إن شاء اللّه تعالی.

ذکر حدّ القاهرة

قال ابن عبد الظاهر فی کتاب الروضة البهیة الزاهرة فی خطط المعزیة القاهرة الذی استقرّ علیه الحال أنّ حدّ القاهرة من مصر من السبع سقایات، و کان قبل ذلک من المجنونة إلی مشهد السیدة رقیة عرضا، ا ه. و الآن تطلق القاهرة علی ما حازه السور الحجر الذی طوله من باب زویلة الکبیر إلی باب الفتوح و باب النصر، و عرضه من باب سعادة، و باب الخوخة إلی باب البرقیة و الباب المحروق، ثم لما توسع الناس فی العمارة بظاهر القاهرة، و بنوا خارج باب زویلة حتی اتصلت العمائر بمدینة فسطاط مصر، و بنوا خارج باب الفتوح، و باب النصر إلی أن انتهت العمائر إلی الریدانیة، و بنوا خارج باب القنطرة إلی حیث الموضع الذی یقال له بولاق حیث شاطی‌ء النیل، و امتدّوا بالعمارة من بولاق علی الشاطئ إلی أن اتصلت بمنشأة المهرانیّ، و بنوا خارج باب البرقیة، و الباب المحروق إلی سفح الجبل بطول السور، فصار حینئذ العامر بالسکنی علی قسمین: أحدهما یقال له: القاهرة، و الآخر یقال له: مصر. فأما مصر: فإنّ حدّها علی ما وقع علیه الاصطلاح فی زمننا هذا الذی نحن فیه من حدّ أوّل قناطر السباع إلی طرف برکة الحبش القبلیّ، مما یلی بساتین الوزیر، و هذا هو
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 203
طول حدّ مصر، و حدّها فی العرض من شاطی‌ء النیل الذی یعرف قدیما بالساحل الجدید حیث فم الخلیج الکبیر، و قنطرة السدّ إلی أوّل القرافة الکبری.
و أما حدّ القاهرة، فإنّ طولها من قناطر السباع إلی الریدانیة، و عرضه من شاطی‌ء النیل ببولاق إلی الجبل الأحمر، و یطلق علی ذلک کله مصر و القاهرة، و فی الحقیقة قاهرة المعز التی أنشأها القائد جوهر عند قدومه من حضرة مولاه المعز لدین اللّه أبی تمیم معدّ إلی مصر فی شعبان سنة ثمان و خمسین و ثلثمائة إنما هی ما دار علیه السور فقط غیر أن السور المذکور الذی أداره القائد جوهر تغیر، و عمل منذ بنیت إلی زمننا هذا ثلاث مرّات، ثم حدثت العمائر فیما وراء السور من القاهرة، فصار یقال لداخل السور: القاهرة، و لما خرج عن السور ظاهر القاهرة، و ظاهر القاهرة أربع جهات: الجهة القبلیة، و فیها الآن معظم العمارة، و حدّ هذه الجهة طولا من عتبة باب زویلة إلی الجامع الطولونیّ، و ما بعد الجامع الطولونیّ، فإنه من حدّ مصر، و حدّها عرضا من الجامع الطیبرسیّ بشاطئ النیل غربیّ المریس إلی قلعة الجبل، و فی الاصطلاح الآن أن القلعة من حکم مصر، و الجهة البحریة، و کانت قبل السبعمائة من سنی الهجرة، و بعدها إلی قبیل الوباء الکبیر فیها أکثر العمائر و المساکن، ثم تلاشت من بعد ذلک، و طول هذه الجهة من باب الفتوح، و باب النصر إلی الریدانیة، و عرضها من منیة الأمراء المعروفة فی زمننا الذی نحن فیه بمنیة الشیرج إلی الجبل الأحمر، و یدخل فی هذا الحدّ مسجد تبر و الریدانیة، و الجهة الشرقیة فإنها حیث ترب أهل القاهرة، و لم تحدث بها العمر من التربة إلا بعد سنة اثنتی عشرة و سبعمائة، و حدّ هذه الجهة طولا من باب القلعة المعروف بباب السلسلة إلی ما یحاذی مسجد تبر فی سفح الجبل، و حدّها عرضا فیما بین سور القاهرة، و الجبل و الجهة الغربیة، فأکثر العمائر بها لم یحدث أیضا إلّا بعد سنة اثنتی عشرة و سبعمائة، و إنما کانت بساتین و بحرا، و حدّ هذه الجهة طولا من منیة الشیرج إلی منشأة المهرانیّ بحافة بحر النیل، و حدّها عرضا من باب القنطرة، و باب الخوخة و باب سعادة إلی ساحل النیل، و هذه الأربع جهات من خارج السور یطلق علیها: ظاهر القاهرة.
و تحوی مصر و القاهرة من الجوامع، و المساجد، و الربط و المدارس، و الزوایا، و الدور العظیمة، و المساکن الجلیلة، و المناظر البهجة، و القصور الشامخة، و البساتین النضرة، و الحمامات الفاخرة، و القیاسر المعمورة بأصناف الأنواع، و الأسواق المملوءة مما تشتهی الأنفس، و الخانات المشحونة بالواردین، و الفنادق الکاظة بالسکان و الترب التی تحکی القصور ما لا یمکن حصره، و لا یعرف ما هو قدره إلا أن قدر ذلک بالتقریب الذی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 204
یصدّقه الاختبار طولا بریدا ، و ما یزید علیه، و هو من مسجد تبر إلی بساتین الوزیر قبلیّ برکة الحبش، و عرضا یکون نصف برید فما فوقه، و هو من ساحل النیل إلی الجبل، و یدخل فی هذا الطول و العرض برکة الحبش، و ما داربها و سطح الجرف المسمی: بالرصد، و مدینة الفسطاط التی یقال لها: مدینة مصر، و القرافة الکبری و الصغری، و جزیرة الحصن المعروف الیوم: بالروضة، و منشأة المهرانیّ، و قطائع ابن طولون التی تعرف الآن بحدرة ابن قمیحة، و خط جامع ابن طولون و الرمیلة تحت القلعة، و القبیبات و قلعة الجبل و المیدان الأسود الذی هو الیوم مقابر أهل القاهرة خارج باب البرقیة إلی قبة النصر، و القاهرة المعزیة، و هو ما دار علیه السور الحجر، و الحسینیة و الریدانیة، و الخندق و کوم الریش، و جزیرة الفیل، و بولاق، و الجزیرة الوسطی المعروفة بجزیرة أروی ، و زریبة قوصون، و حکر ابن الأثیر، و منشأة الکاتب، و الأحکار التی فیما بین القاهرة، و ساحل النیل، و أراضی اللوق، و الخلیج الکبیر الذی تسمیه العامّة بالخلیج الحاکمیّ، و الحبانیة و الصلیبة و التبانة، و مشهد السیدة نفیسة، و باب القرافة، و أرض الطبالة، و الخلیج الناصریّ، و المقس و الدکة، و غیر ذلک مما یأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی، و قد أدرکنا هذه المواضع، و هی عامرة، و المشیخة تقول: هی خراب بالنسبة لما کانت علیه قبل حدوث طاعون سنة تسع و أربعین و سبعمائة الذی یسمیه أهل مصر: الفناء الکبیر، و قد تلاشت هذه الأماکن، و عمها الخراب منذ کانت الحوادث بعد سنة ست و ثمانمائة، و للّه عاقبة الأمور.

ذکر بناء القاهرة و ما کانت علیه فی الدولة الفاطمیة

و ذلک أن القائد جوهر الکاتب: لمّا قدم الجیزة بعساکر مولاه الإمام المعز لدین اللّه أبی تمیم معدّ أقبل فی یوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان و خمسین و ثلثمائة، و سارت عساکره بعد زوال الشمس، و عبرت الجسر أفواجا، و جوهر فی فرسانه إلی المناخ الذی رسم له المعز موضع القاهرة الآن، فاستقرّ هناک، و اختط القصر، و بات المصریون، فلما أصبحوا حضروا للهناء، فوجدوه قد حفر أساس القصر باللیل، و کانت فیه ازورارات غیر معتدلة، فلما شاهدها جوهر لم یعجبه، ثم قال: قد حفر فی لیلة مبارکة، و ساعة سعیدة، فترکه علی حاله، و أدخل فیه دیر العظام، و یقال: إن القاهرة اختطها جوهر فی یوم السبت لست بقین من جمادی الآخرة، سنة تسع و خمسین، و اختطت کل قبیلة خطة عرفت بها: فزویلة بنت الحارة المعروفة بها، و اختطت جماعة من أهل برقة الحارة البرقیة، و اختطت الروم حارتین: حارة الروم الآن، و حارة الروم الجوّانیة بقرب باب النصر، و قصد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 205
جوهر باختطاط القاهرة حیث هی الیوم أن تصیر حصنا فیما بین القرامطة، و بین مدینة مصر لیقاتلهم من دونها، فأدار السور اللبن علی مناخه الذی نزل فیه بعساکره، و أنشأ من داخل السور جامعا، و قصرا، و أعدّها معقلا یتحصن به، و تنزله عساکره، و احتفر الخندق من الجهة الشامیة لیمنع اقتحام عساکر القرامطة إلی القاهرة، و ما وراءها من المدینة، و کان مقدار القاهرة حینئذ أقل من مقدارها الیوم، فإن أبوابها کانت من الجهات الأربعة، ففی الجهة القبلیة التی تفضی بالسالک منها إلی مدینة مصر: بابان متجاوران یقال لهما: بابا زویلة، و موضعهما الآن بحذاء المسجد الذی تسمیه العامّة: بسام بن نوح، و لم یبق إلی هذا العهد سوی عقده، و یعرف باب القوس، و ما بین باب القوس هذا، و باب زویلة الکبیر لیس هو من المدینة التی أسسها القائد جوهر، و إنما هی زیادة حدثت بعد ذلک، و کان فی جهة القاهرة البحریة، و هی التی یسلک منها إلی عین شمس بابان أحدهما، باب النصر، و موضعه بأوّل الرحبة التی قدّام الجامع الحاکمیّ الآن، و أدرکت قطعة منه کانت قدّام الرکن الغربیّ من المدرسة القاصدیة، و ما بین هذا المکان، و باب النصر الآن مما زید فی مقدار القاهرة بعد جوهر، و الباب الآخر من الجهة البحریة: باب الفتوح، و عقده باق إلی یومنا هذا، مع عضادته الیسری، و علیه أسطر مکتوبة بالقلم الکوفیّ، و موضع هذا الباب الآن بآخر سوق المرحلین، و أوّل رأس حارة بهاء الدین مما یلی باب الجامع الحاکمیّ، و فیما بین هذا العقد، و باب الفتوح من الزیادات التی زیدت فی القاهرة من بعد جوهر، و کان فی الجهة الشرقیة من القاهرة، و هی الجهة التی یسلک منها إلی الجبل بابان: أحدهما یعرف الآن:
بالباب المحروق، و الآخر یقال له: باب البرقیة، و موضعهما دون مکانهما إلی الآن و یقال لهذه الزیادة من هذه الجهة: بین السورین، و أحد البابین القدیمین موجود إلی الآن اسکفته، و کان فی الجهة الغربیة من القاهرة، و هی المطلة علی الخلیج الکبیر بابان أحدهما: باب سعادة، و الآخر باب الفرج، و باب ثالث یعرف: بباب الخوخة، أظنه حدث بعد جوهر، و کان داخل سور القاهرة یشتمل علی قصرین، و جامع یقال لأحد القصرین: القصر الکبیر الشرقیّ، و هو منزل سکنی الخلیفة، و محل حرمه، و موضع جلوسه لدخول العساکر، و أهل الدولة، و فیه الدواوین و بیت المال، و خزائن السلاح، و غیر ذلک، و هو الذی أسسه القائد جوهر، و زاد فیه المعز، و من بعده من الخلفاء، و الآخر تجاه هذا القصر، و یعرف: بالقصر الغربیّ، و کان یشرف علی البستان الکافوریّ، و یتحوّل إلیه الخلیفة فی أیام النیل للنزهة علی الخلیج، و علی ما کان إذ ذاک بجانب الخلیج الغربیّ من البرکة التی یقال لها بطن البقرة، و من البستان المعروف بالبغدادیة، و غیره من البساتین التی کانت تتصل بأرض اللوق، و جنان الزهریّ، و کان یقال لمجموع القصرین: القصور الزاهرة، و یقال للجامع:
جامع القاهرة، و الجامع الأزهر.
فأما
القصر الکبیر الشرقیّ: فإنه کان من باب الذهب الذی موضعه الآن محراب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 206
المدرسة الظاهریة التی أنشأها الظاهر رکن الدین بیبرس البندقداریّ ، و کان یعلو عقد باب الذهب منظرة یشرف الخلیفة فیها من طاقات فی أوقات معروفة، و کان باب الذهب هذا هو أعظم أبواب القصر، و یسلک من باب الذهب المذکور إلی باب البحر، و هو الباب الذی یعرف الیوم: بباب قصر بشتاک، مقابل المدرسة الکاملیة، و هو من باب البحر إلی الرکن المخلق، و منه إلی باب الریح، و قد أدرکنا منه عضادتیه، و اسکفته، و علیها أسطر بالقلم الکوفیّ، و جمیع ذلک مبنیّ بالحجر إلی أن هدمه الأمیر الوزیر المشیر جمال الدین یوسف الإستادار، و فی موضعه الآن قیساریة أنشأها المذکور بجوار مدرسته من رحبة باب العید، و یسلک من باب الریح المذکور إلی باب الزمرّذ، و هو موضع المدرسة الحجازیة الآن، و من باب الزمرّذ إلی باب العید، و عقده باق، و فوقه قبة إلی الآن فی درب السلامی بخط رحبة باب العید، و کان قبالة باب العید هذا رحبة عظیمة فی غایة الاتساع تقف فیها العساکر الکثیرة من الفارس و الراجل فی یومی العیدین تعرف: برحبة العید، و هی من باب الریح إلی خزانة البنود، و کان یلی باب العید السفینة، و بجوار السفینة خزانة البنود، و یسلک من خزانة البنود إلی باب قصر الشوک، و أدرکت منه قطعة من أحد جانبیه کانت تجاه الحمام التی عرفت بحمام الأیدمریّ، ثم قیل لها فی زمننا: حمام یونس بجوار المکان المعروف: بخزانة البنود، و قد عمل موضع هذا الباب زقاق یسلک منه إلی المارستان العتیق، و قصر الشوک، و درب السلامی و غیره، و یسلک من باب قصر الشوک إلی باب الدیلم، و موضعه الآن المشهد الحسینیّ، و کان فیما قصر الشوک، و باب الدیلم رحبة عظیمة تعرف برحبة قصر الشوک، أوّلها من رحبة خزانة البنود، و آخرها حیث المشهد الحسینیّ الآن، و کان قصر الشوک یشرف علی اصطبل الطارمة، و یسلک من باب الدیلم إلی باب تربة الزعفران، و هی مقبرة أهل القصر من الخلفاء، و أولادهم و نسائهم، و موضع باب تربة الزعفران فندق الخلیلیّ فی هذا الوقت، و یعرف بخط الزراکشة العتیق، و کان فیما بین باب الدیلم، و باب تربة الزعفران الخوخ السبع التی یتوصل منها الخلیفة إلی الجامع الأزهر فی لیالی الوقدات، فیجلس بمنظرة الجامع الأزهر، و معه حرمه لمشاهدة الوقید و الجمع، و بجوار الخوخ السبع اصطبل الطارمة، و هو برسم الخیل الخاص المعدّة لرکاب الخلیفة، و کان مقابل باب الدیلم، و من وراء اصطبل الطارمة الجامع المعدّ لصلاة الخلیفة بالناس أیام الجمع، و هو الذی یعرف فی وقتنا هذا بالجامع الأزهر، و یسمی فی کتب التاریخ: بجامع القاهرة، و قدّام هذا الجامع رحبة متسعة من حدّ اصطبل الطارمة إلی الموضع الذی یعرف الیوم:
بالأکفانیین، و یسلک من باب تربة الزعفران إلی باب الزهومة، و موضعه الآن باب سرّ قاعة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 207
مدرسة الحنابلة من المدارس الصالحیة، و فیما بین تربة الزعفران، و باب الزهومة دراس العلم، و خزانة الدرق، و یسلک من من باب الزهومة إلی باب الذهب المذکور أوّلا، و هذا هو دور القصر الشرقیّ الکبیر، و کان بحذاء رحبة باب العید: دار الضیافة، و هی الدار المعروفة: بدار سعید السعداء التی هی الیوم: خانقاه للصوفیة، و یقابلها: دار الوزارة، و هی حیث الزقاق المقابل لباب سعید السعداء، و المدرسة القراسنقریة، و خانقاه بیبرس، و ما یجاورها إلی باب الجوّانیة، و ما وراء هذه الأماکن، و بجوار دار الوزارة الحجر، و هی من حذاء دار الوزارة بجوار باب الجوّانیة إلی باب النصر القدیم، و من وراء دار الوزارة:
المناخ السعید، و یجاوره حارة العطوفیة، و حارة الروم الجوّانیة، و کان جامع الخطبة الذی یعرف الیوم بجامع الحاکم خارجا عن القاهرة، و فی غربیه الزیادة التی هی باقیة إلی الیوم، و کانت أهراء لخزن الغلال التی تدّخر بالقاهرة، کما هی عادة الحصون، و کان فی غربیّ الجامع الأزهر: حارة الدیلم، و حارة الروم البرّانیة، و حارة الأتراک، و هی تعرف الیوم:
بدرب الأتراک، و حارة الباطلیة، و فیما بین باب الزهومة، و الجامع الأزهر، و هذه الحارات خزائن القصر، و هی خزانة الکتب، و خزانة الأشربة، و خزانة السروج، و خزانة الخیم، و خزائن الفرش، و خزائن الکسوات، و خزائن دار أفتکین، و دار الفطرة، و دار التعبیة، و غیر ذلک من الخزائن هذا ما کان فی الجهة الشرقیة من القاهرة.
و أما
القصر الصغیر الغربیّ: فإنه موضع المارستان الکبیر المنصوریّ إلی جوار حارة برجوان، و بین هذا القصر، و بین القصر الکبیر الشرقیّ فضاء متسع یقف فیه عشرة آلاف من العساکر ما بین فارس و راجل یقال له: بین القصرین، و بجوار القصر الغربیّ المیدان، و هو الموضع الذی یعرف بالخرنشف، و اصطبل الطارمة، و بحذاء المیدان البستان الکافوریّ المطل من غربیه علی الخلیج الکبیر، و یجاور المیدان، دار برجوان العزیزیّ، و بحذائها رحبة الأفیال، و دار الضیافة القدیمة، و یقال لهذه المواضع الثلاثة: حارة برجوان، و یقال دار برجوان المنحر، و موضعه الآن یعرف: بالدرب الأصفر، و یدخل إلیه من قبالة خانقاه بیبرس، و فیما بین ظهر المنحر، و باب حارة برجوان سوق أمیر الجیوش، و هو من باب حارة برجوان الآن إلی باب الجامع الحاکمیّ، و یجاور حارة برجوان من بحریها اصطبل الحجریة، و هو متصل بباب الفتوح الأوّل، و موضع باب اصطبل الحجریة یعرف الیوم:
بخان الوراقة، و القیساریة تجاه الجملون الصغیر، و سوق المرحلین، و تجاه اصطبل الحجریة الزیادة، و فیما بین الزیادة و المنحر درب الفرنجیة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 208
و بجوار البستان الکافوری حارة زویلة، و هی تتصل بالخلیج الکبیر من غربیها، و تجاه حارة زویلة اصطبل الجمیزة، و فیه خیول الخلیفة أیضا، و فی هذا الاصطبل بئر زویلة، و موضعها الآن قیساریة معقودة علی البئر المذکورة یعلوها ربع یعرف: بقیساریة یونس من خط البندقانیین، فکان اصطبل الجمیزة المذکور فیما بین القصر الغربیّ من بحریه، و بین حارة زویلة، و موضعه الآن قبالة باب سرّ المارستان المنصوریّ إلی البندقانیین، و بحذاء القصر الغربیّ من قبیلة مطبخ القصر تجاه باب الزهومة المذکور، و المطبخ موضعه الآن الصاغة قبالة المدارس الصالحیة، و بجوار المطبخ الحارة العدویة، و هی من الموضع الذی یعرف بحمام خشیبة إلی حیث الفندق الذی یقال له فندق الزمام، و بجوار العدویة، حارة الأمراء، و یقال لها الیوم: سوق الزجاجین، و سوق الحریریین الشراربیین.
و یجاور الصاغة القدیمة: حبس المعونة، و هو موضع قیساریة العنبر، و تجاه حبس المعونة، عقبة الصباغین، و سوق القشاشین، و هو یعرف الیوم: بالخرّاطین، و یجاور حبس المعونة دکة الحسبة، و دار العیار، و یعرف موضع دکة الحسبة الآن، بالإبزاریین، و فیما بین دکة الحسبة و حارتی الروم و الدیلم: سوق السرّاجین، و یقال له الآن: الشوّایین، و بطرف سوق السرّاجین مسجد ابن البناء الذی تسمیه العامّة: سام بن نوح، و یجاور هذا المسجد:
باب زویلة، و کان من حذاء حارة زویلة من ناحیة باب الخوخة: دار الوزیر یعقوب بن کلس، و صارت بعده: دار الدیباج، و دار الاستعمال و موضعها الآن المدرسة الصالحیة، و ما وراءها و یتصل دار الدیباج بالحارة الوزیریة، و إلی جانب الوزیریة: المیدان الآخر إلی باب سعادة، و فیما بین باب سعادة و باب زویلة أهراء أیضا و سطاح. هذا ما کانت علیه صفة القاهرة فی الدولة الفاطمیة، و حدّثت هذه الأماکن شیئا بعد شی‌ء، و لم تزل القاهرة دار خلافة، و منزل ملک، و معقل قتال لا ینزلها إلّا الخلیفة و عساکره، و خواصه الذین یشرّفهم بقربه فقط.
و أما ظاهر القاهرة من جهاتها الأربع: فإنه کان فی الدولة الفاطمیة علی ما أذکر.
أما الجهة القبلیة: و هی التی فیما بین باب زویلة و مصر طولا، و فیما بین الخلیج الکبیر و الجبل عرضا، فإنها کانت قسمین: ما حاذی یمینک إذا خرجت من باب زویلة ترید مصر، و ما حاذی شمالک إذا خرجت منه نحو الجبل، فأما: ما حاذی یمینک، و هی المواضع التی تعرف الیوم بدار التفاح، و تحت الربع و القشاشین، و قنطرة باب الخرق، و ما علی حافتی الخلیج من جانبیه طولا إلی الحمراء التی یقال لها الیوم: خط قناطر السباع، و یدخل فی ذلک سویقة عصفور، و حارة الحمزیین، و حارة بنی سوس إلی الشارع، و برکة الفیل، و الهلالیة و المحمودیة إلی الصلیبة، و مشهد السیدة نفیسة، فإنّ هذه الأماکن کلها کانت بساتین تعرف بجنان الزهریّ، و بستان سیف الإسلام، و غیر ذلک، ثم حدث فی الدولة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 209
هناک حارات للسودان، و عمر الباب الجدید، و هو الذی یعرف الیوم بباب القوس من سوق الطیور فی الشارع عند رأس ، و حدثت الحارة الهلالیة، و الحارة المحمودیة، و أما: ما حاذی شمالک حیث الجامع المعروف: بجامع الصالح، و الدرب الأحمر إلی قطائع ابن طولون التی هی الآن الرمیلة، و المیدان تحت القلعة فإن ذلک کان مقابر أهل القاهرة.
و أما جهة القاهرة الغربیة: و هی التی فیها الخلیج الکبیر، و هی من باب القنطرة إلی المقس، و ما جاور ذلک، فإنها کانت بساتین من غربیها النیل، و کان ساحل النیل بالمقس حیث الجامع الآن، فیمرّ من المقس إلی المکان الذی یقال له الجرف، و یمضی علی شمالیّ أرض الطبالة إلی البعل، و موضع کوم الریش إلی المنیة، و مواضع هذه البساتین الیوم أراضی اللوق و الزهری، و غیرها من الحکورة التی فی برّ الخلیج الغربیّ إلی برکة قرموط، و الخور، و بولاق، و کان فیما بین باب سعادة، و باب الخوخة، و باب الفرج، و بین الخلیج فضاء لا بنیان فیه، و المناظر تشرف علی ما فی غربیّ الخلیج من البساتین التی وراءها بحر النیل، و یخرج الناس فیما بین المناظر و الخلیج للنزهة، فیجتمع هناک من أرباب البطالة، و اللهو ما لا یحصی عددهم، و یمرّ لهم هنالک من اللذات و المسرّات ما لا تسع الأوراق حکایته خصوصا فی أیام النیل عند ما یتحوّل الخلیفة إلی اللؤلؤة، و یتحوّل خاصته إلی دار الذهب، و ما جاورها، فإنه یکثر حینئذ الملاذ بسعة الأرزاق، و إدرار النعم فی تلک المدّة، کما یأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی.
و أما جهة القاهرة البحریة، فإنها کانت قسمین: خارج باب الفتوح، و خارج باب النصر، أما خارج باب الفتوح: فإنه کان هناک منظرة من مناظر الخلفاء، و قدّامها البستانان الکبیران، و أوّلهما من زقاق الکحل، و آخرهما منیة مطر التی تعرف الیوم: بالمطریة، و من غربیّ هذه المنظرة فی جانب الخلیج الغربیّ منظرة البعل فیما بین أرض الطبالة، و الخندق، و بالقرب منها مناظر الخمس وجوه، و التاج ذات البساتین الأنیقة المنصوبة لتنزه الخلیفة، و أما خارج باب النصر: فکان به مصلی العید التی عمل من بعضها مصلی الأموات لا غیر، و الفضاء من المصلی إلی الریدانیة، و کان بستانا عظیما، ثم حدث فیما خرج من باب النصر تربة أمیر الجیوش بدر الجمالی، و عمر الناس الترب بالقرب منها، و حدث فیما خرج عن باب الفتوح عمائر منها: الحسینیة، و غیرها.
و أما جهة القاهرة الشرقیة، و هی ما بین السور و الجبل، فإنه کان فضاء ثم أمر الحاکم بأمر اللّه أن تلقی أتربة القاهرة من وراء السور، لتمنع السیول أن تدخل إلی القاهرة، فصار منها الکیمان التی تعرف بکیمان البرقیة، و لم تزل هذه الجهة خالیة من العمارة إلی أن انقرضت الدولة الفاطمیة، فسبحان الباقی بعد فناء خلقه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 210

ذکر ما صارت إلیه القاهرة بعد استیلاء الدولة الأیوبیة علیها

قد تقدّم أن القاهرة إنما وضعت منزل سکنی للخلیفة، و حرمه، و جنده، و خواصه، و معقل قتال یتحصن بها، و یلتجأ إلیها، و إنها ما برحت هکذا حتی کانت السنة العظمی فی خلافة المستنصر، ثم قدم أمیر الجیوش بدر الجمالی، و سکن القاهرة، و هی یباب دائرة خاویة علی عروشها غیر عامرة، فأباح للناس من العسکریة، و الملحیة، و الأرمن، و کل من وصلت قدرته إلی عمارة بأن یعمر ما شاء فی القاهرة مما خلا من فسطاط مصر، و مات أهله، فأخذ الناس ما کان هناک من أنقاض الدور، و غیرها، و عمروا به المنازل فی القاهرة، و سکنوها فمن حینئذ سکنها أصحاب السلطان إلی أن انقرضت الدولة الفاطمیة باستیلاء السلطان الملک الناصر صلاح الدین یوسف بن أیوب بن شادی فی سنة سبع و ستین و خمسمائة.
فنقلها عما کانت علیه من الصیانة، و جعلها مبتذلة لسکن العامّة و الجمهور، و حط من مقدار قصور الخلافة، و أسکن فی بعضها، و تهدّم البعض، و أزیلت معالمه، و تغیرت معاهده، فصارت خططا و حارات، و شوارع و مسالک، و أزقة، و نزل السلطان منها فی دار الوزارة الکبری حتی بنیت قلعة الجبل، فکان السلطان صلاح الدین یتردّد إلیها، و یقیم بها، و کذلک ابنه الملک العزیز عثمان، و أخوه الملک العادل، أبو بکر، فلما کان الملک الکامل ناصر الدین محمد بن العادل أبی بکر بن أیوب تحوّل من دار الوزارة إلی القلعة، و سکنها و نقل سوق الخیل و الجمال و الحمیر إلی الرمیلة تحت القلعة، فلما خرب المشرق و العراق بهجوم عساکر التتر منذ کان جنکیزخان فی أعوام بضع عشرة و ستمائة إلی أن قتل الخلیفة المستعصم ببغداد فی صفر سنة ست و خمسین و ستمائة، کثر قدوم المشارقة إلی مصر، و عمرت حافتی الخلیج الکبیر، و ما دار علی برکة الفیل، و عظمت عمارة الحسینیة، فلما کانت سلطنة الملک الناصر محمد بن قلاون الثالثة بعد سنة إحدی عشرة و سبعمائة، و استجدّ بقلعة الجبل المبانی الکثیرة من القصور و غیرها، حدثت فیما بین القلعة و قبة النصر عدّة ترب بعد ما کان ذلک المکان فضاء یعرف: بالمیدان الأسود و میدان القبق، و تزایدت العمائر بالحسینیة، حتی صارت من الریدانیة إلی باب الفتوح، و عمر جمیع ما حول برکة الفیل، و الصلیبة إلی جامع ابن طولون، و ما جاوره إلی المشهد النفیسیّ، و حکر الناس أرض الزهریّ، و ما قرب منها، و هو من قناطر السباع إلی منشاة المهرانیّ، و من قناطر السباع إلی البرکة الناصریة إلی اللوق إلی المقس، فلما حفر الملک الناصر محمد بن قلاون الخلیج الناصریّ اتسعت الخطة فیما بین المقس، و الدکة إلی ساحل النیل، و أنشأ الناس فیها البساتین العظیمة، و المساکن الکثیرة، و الأسواق و الجوامع و المساجد، و الحمامات و الشون، و هی من المواضع التی من باب البحر خارج المقس إلی ساحل النیل المسمی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 211
ببولاق، و من بولاق إلی منیة الشیرج، و منه فی القبلة إلی منشأة المهرانیّ، و عمر ما خرج عن باب زویلة یمنة و یسرة من قنطرة الخرق إلی الخلیج، و من باب زویلة إلی المشهد النفیسیّ، و عمرت القرافة من باب القرافة إلی برکة الحبش طولا، و من القرافة الکبری إلی الجبل عرضا، حتی أنه استجدّ فی أیام الناصر بن قلاون بضع و ستون حکرا، و لم یبق مکان یحکر، و اتصلت عمائر مصر و القاهرة، فصارا بلدا واحدا یشتمل علی البساتین و المناظر و القصور، و الدور و الرباع، و القیاسر، و الأسواق، و الفنادق، و الخانات، و الحمامات، و الشوارع، و الأزقة، و الدروب، و الخطط و الحارات، و الأحکار و المساجد، و الجوامع، و الزوایا و الربط، و المشاهد و المدارس، و الترب و الحوانیت، و المطابخ و الشون، و البرک و الخلجان و الجزائر و الریاض، و المنتزهات متصلا جمیع ذلک بعضه ببعض من مسجد تبر إلی بساتین الوزیر قبلیّ برکة الحبش، و من شاطی‌ء النیل بالجیزة إلی الجبل المقطم، و ما زالت هذه الأماکن فی کثرة العمارة، و زیادة العدد تضیق بأهلها لکثرتها، و تختال عجبا بهم لما بالغوا فی تحسینها، و تأنقوا فی جودتها، و تنمیقها إلی أن حدث الفناء الکبیر فی سنة تسع و أربعین و سبعمائة، فخلا کثیر من هذه المواضع، و بقی کثیر أدرکناه، فلما کانت الحوادث من سنة ست و ثمانمائة، و قصر جری النیل فی مدّة، و خربت البلاد الشامیة بدخول الطاغیة تیمور لنک، و تحریقها، و قتل أهلها و ارتفاع أسعار الدیار المصریة، و کثرة الغلاء فیها، و طول مدّته، و تلاف النقود المتعامل بها، و فسادها، و کثرة الحروب و الفتن بین أهل الدولة، و خراب الصعید، و جلاء أهله عنه، و تداعی أسفل أرض مصر من البلاد الشرقیة و الغربیة إلی الخراب، و اتضاع أمور ملوک مصر، و سوء حال الرعیة، و استیلاء الفقر و الحاجة و المسکنة علی الناس، و کثرة تنوّع المظالم الحادثة من أرباب الدولة بمصادرة الجمهور، و تتبع أرباب الأموال، و احتجاب ما بأیدیهم من المال بالقوّة و القهر و الغلبة، و طرح البضائع مما یتجر فیه السلطان، و أصحابه علی التجار و الباعة بأغلی الأثمان إلی غیر ذلک مما لا یتسع لأحد ضبطه، و لا تسع الأوراق حکایته، کثر الخراب بالأماکن التی تقدّم ذکرها، و عمّ سائرها، و صارت کیمانا، و خرائب موحشة مقفرة یأویها البوم و الرخم أو مستهدمة واقعة، أو آئلة إلی السقوط و الدثور، سنة اللّه التی قد خلت فی عباده، و لن تجد لسنة اللّه تبدیلا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 212

ذکر طرف مما قیل فی القاهرة و منتزهاتها

قال أبو الحسن علیّ بن رضوان الطبیب: ویلی الفسطاط فی العظم، و کثرة الناس القاهرة، و هی فی شمال الفسطاط، و فی شرقیها أیضا الجبل المقطم یعوق عنها ریح الصبا، و النیل منها أبعد قلیلا، و جمیعها مکشوف للهواء، و إن کان عمل فوق ربما عاق عن بعض ذلک، و لیس ارتفاع الأبنیة بها کارتفاع الفسطاط، لکن دونها کثیرا، و أزقتها و شوارعها بالقیاس إلی أزقة الفسطاط، و شوارعها أنظف، و أقل و سخا، و أبعد عن العفن، و أکثر شرب أهلها من میاه الآبار، و إذا هبت ریح الجنوب أخذت من بخار الفسطاط علی القاهرة شیئا کثیرا، و قرب میاه آبار القاهرة من وجه الأرض مع سخافتها موجب ضرورة أن تکون یصل إلیها بالرشح من عفونة الکتف شی‌ء ما، و بین القاهرة و الفسطاط بطائح تمتلی‌ء من رشح الأرض فی أیام فیض النیل، و یصب فیها بعض خرّارات القاهرة، و میاه البطائح هذه ردیئة وسخة أرضها، و ما یصب فیها من العفونة یقتضی أن یکون البخار المرتفع منها علی القاهرة، و الفسطاط زائدا فی رداءة الهواء بهما، و یطرح فی جنوب القاهرة قذر کثیر نحو حارة الباطلیة، و کذلک یطرح فی وسط حارة العبید إلّا أنه إذا تأمّلنا حال القاهرة، کانت بالإضافة إلی الفسطاط أعدل و أجود هواء، و أصلح حالا، لأنّ أکثر عفوناتهم ترمی خارج المدینة و البخار ینحل منها أکثر، و کثیر أیضا من أهل القاهرة یشرب من ماء النیل، و خاصة فی أیام دخوله الخلیج، و هذا الماء یستقی بعد مروره بالفسطاط، و اختلاطه بعفوناتها.
قال: و قد اقتصر أمر الفسطاط و الجیزة و الجزیرة، فظاهر أن أصح أجزاء المدینة الکبری: القرافة، ثم القاهرة، و الشرف، و عمل فوق مع الحمراء و الجیزة، و شمال القاهرة أصح من جمیع هذه لبعده عن بخار الفسطاط، و قربه من الشمال، و أرقی موضع فی المدینة الکبری هو ما کان من الفسطاط حول الجامع العتیق إلی ما یلی النیل، و السواحل، و إلی جانب القاهرة من الشمال الخندق، و هو فی غور فهو یتغیر أبدا لهذا السبب، فأما المقس فمجاورته للنیل تجعله أرطب. و قال ابن سعید فی کتاب المعرب فی حلی المغرب عن البیهقیّ: و أما مدینة القاهرة، فهی الحالیة الباهرة التی تفنن فیها الفاطمیون، و أبدعوا فی بنائها، و اتخذوها وطنا لخلافتهم، و مرکزا لأرجائها، فنسی الفسطاط، و زهد فیه بعد الاغتباط.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 213
قال: و سمیت القاهرة، لأنها تقهر من شذّ عنها، و رام مخالفة أمیرها، و قدّروا أن منها یملکون الأرض، و یستولون علی قهر الأمم، و کانوا یظهرون ذلک، و یتحدّثون به.
قال ابن سعید: هذه المدینة اسمها أعظم منها، و کان ینبغی أن تکون فی ترتیبها و مبانیها علی خلاف ما عاینته، لأنها مدینة بناها المعز أعظم خلفاء العبیدیین، و کان سلطانه، قد عمّ جمیع طول المغرب من أوّل الدیار المصریة إلی البحر المحیط، و خطب له فی البحرین من جزیرة عند القرامطة، و فی مکة و المدینة، و بلاد الیمن، و ما جاورها، و قد علت کلمته، و سارت مسیر الشمس فی کل بلدة، وهبت الریح فی البرّ و البحر، لا سیما، و قد عاین مبانی أبیه المنصور فی مدینة المنصوریة التی إلی جانب القیروان، و عاین المهدیة مدینة جدّه عبید اللّه المهدیّ لکن الهمة السلطانیة ظاهرة علی قصور الخلفاء بالقاهرة، و هی ناطقة إلی الآن بألسن الآثار و للّه درّ القائل:
هم الملوک إذا أرادوا ذکرهامن بعدهم فبألسن البنیان
إن البناء إذا تعاظم شأنه‌أضحی یدل علی عظیم الشأن
و اهتم من بعد الخلفاء المصریون بالزیادة فی تلک القصور، و قد عاینت فیها إیوانا یقولون: إنه بنی علی قدر إیوان کسری الذی بالمدائن، و کان یجلس فیه خلفاؤهم، و لهم علی الخلیج الذی بین الفسطاط و القاهرة مبان عظیمة جلیلة الآثار، و أبصرت فی قصورهم حیطانا علیها طاقات عدید من الکلس و الجبس، ذکر لی أنهم کانوا یجدّدون تبییضها فی کل سنة، و المکان المعروف فی القاهرة ببین القصرین هو من الترتیب السلطانیّ، لأنّ هناک ساحة متسعة للعسکر، و المتفرّجین ما بین القصرین، و لو کانت القاهرة عظیمة القدر کاملة الهمة السلطانیة، و لکن ذلک أمد قلیل، ثم تسیر منه إلی أمد ضیق، و تمرّ فی ممرّ کدر حرج بین الدکاکین إذا ازدحمت فیه الخیل مع الرجالة کان ذلک ما تضیق منه الصدور، و تسخن منه العیون، و لقد عاینت یوما وزیر الدولة، و بین یدیه أمراء الدولة، و هو فی موکب جلیل، و لقد لقی فی طریقه عجلة بقر تحمل حجارة، و قد سدّت جمیع الطرق بین یدی الدکاکین، و وقف الوزیر و عظم الازدحام، و کان فی موضع طباخین و الدخان فی وجه الوزیر، و علی ثیابه، و قد کاد یهلک المشاة، و کدت أهلک فی جملتهم.
و أکثر دروب القاهرة ضیقة مظلمة کثیرة التراب، و الأزبال، و المبانی علیها من قصب و طین مرتفعة قد ضیقت مسلک الهواء و الضوء بینهما، و لم أر فی جمیع بلاد المغرب أسوأ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 214
حالا منها فی ذلک، و لقد کنت إذا مشیت فیها بضیق صدری، و یدرکنی وحشة عظیمة حتی أخرج إلی بین القصرین.
و من عیوب القاهرة: أنها فی أرض النیل الأعظم، و یموت الإنسان فیها عطشا لبعدها عن مجری النیل لئلا یصادرها، و یأکل دیارها، و إذا احتاج الإنسان إلی فرجة فی نیلها مشی فی مسافة بعیدة بظاهرها بین المبانی التی خارج السور إلی موضع یعرف: بالمقس، و جوّها لا یبرح کدرا، بما تثیره الأرجل من التراب الأسود، و قد قلت فیها حین أکثر علیّ رفاقی من الحض علی العود فیها:
یقولون سافر إلی القاهرةو ما لی بها راحة ظاهره
زحام و ضیق و کرب و ماتثیر بها أرجل السائره
و عند ما یقبل المسافر علیها، یری سورا أسود کدرا، و جوّا مغبرّا، فتنقبض نفسه، و یفرّ أنسه، و أحسن موضع فی ظواهرها للفرجة أرض الطبالة، لا سیما أرض القرط و الکتان فقلت:
سقی اللّه أرضا کلما زرت أرضهاکساها و حلّاها بزینته القرط
تجلت عروسا و المیاه عقودهاو فی کل قطر من جوانبها قرط
و فیها خلیج لا یزال یضعف بین خضرتها حتی یصیر کما قال الرصافی:
ما زالت الأنحال تأخذه‌حتی غدا کذؤابة النجم
و قلت فی نوّار الکتان علی جانبی هذا الخلیج:
انظر إلی النهر و الکتان یرمقه‌من جانبیه بأجفان لها حدق
رأته سیفا علیه للصبا شطب‌فقابلته بأحداق بها أرق
و أصبحت فی ید الأرواح تنسجهاحتی غدت حلقا من فوقها حلق
فقم وزرها و وجه الأفق متضح‌أو عند صفرته إن کنت تغتبق
و أعجبنی فی ظاهرها برکة الفیل لأنها دائرة کالبدر، و المناظرة فوقها کالنجوم، و عادة السلطان أن یرکب فیها باللیل، و تسرج أصحاب المناظر علی قدر همتهم، و قدرتهم فیکون بذلک لها منظر عجیب و فیها أقول:
انظر إلی برکة الفیل التی اکتنفت‌بها المناظر کالأهداب للبصر
کأنما هی و الأبصار ترمقهاکواکب قد أداروها علی القمر
و نظرت إلیها و قد قابلتها الشمس بالغدوّ فقلت:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 215 انظر إلی برکة الفیل التی نحرت‌لها الغزالة نحرا من مطالعها
و خل طرفک مجنونا ببهجتهاتهیم وجدا و حبا فی بدائعها
و الفسطاط أکثر أرزاقا، و أرخص أسعارا من القاهرة لقرب النیل من الفسطاط، فالمراکب التی تصل بالخیرات تحط هناک، و یباع ما یصل فیها بالقرب منها، و لیس یتفق ذلک فی ساحل القاهرة، لأنه بعید عن المدینة، و القاهرة هی أکثر عمارة، و احتراما و حشمة من الفسطاط، لأنها أجلّ مدارس، و أضخم خانات، و أعظم دثارا لسکنی الأمراء فیها لأنها المخصوصة بالسلطنة لقرب قلعة الجبل منها، فأمور السلطنة کلها فیها أیسر، و أکثر، و بها الطراز و سائر الأشیاء التی تتزین بها الرجال و النساء، إلّا أنّ فی هذا الوقت لما اعتنی السلطان الآن ببناء قلعة الجزیرة التی أمام الفسطاط، و صیرها سریر السلطنة عظمت عمارة الفسطاط، و انتقل إلیها کثیر من الأمراء، و ضخمت أسواقها و بنی فیها للسلطان أمام الجسر الذی للجزیرة قیساریة عظیمة تنقل إلیها من القاهرة سوق الأجناد التی یباع فیها الفراء و الجوخ، و ما أشبه ذلک.
و معاملة القاهرة و الفسطاط بالدراهم المعروفة بالسوداء، کل درهم منها ثلث من الدرهم الناصریّ، و فی المعاملة بها شدّة و خسارة فی البیع و الشراء، و مخاصمة مع الفریقین، و کان بها فی القدیم الفلوس، فقطعها الملک الکامل فبقیت إلی الآن مقطوعة منها، و هی فی الإقلیم الثالث، و هواءها ردی‌ء لا سیّما إذا هبّ المریسی من جهة القبلة، و أیضا رمد العین فیها کثیر، و المعایش فیها متعذرة نزرة، لا سیّما أصناف الفضلاء و جوامک المدارس قلیلة کدرة، و أکثر ما یتعیش بها الیهود و النصاری فی کتابة الخراج و الطب، و النصاری بها یمتازون بالزنار فی أوساطهم، و الیهود بعلامة صفراء فی عمائمهم، و یرکبون البغال، و یلبسون الملابس الجلیلة، و مآکل أهل القاهرة الدمیس، و الصیر، و الصحناة، و البطارخ، و لا تصنع النیدة، و هی حلاوة القمح إلا بها و بغیرها من الدیار المصریة، و فیها جوار طباخات أصل تعلیمهن من قصور الخلفاء الفاطمیین لهنّ فی الطبخ صناعة عجیبة و ریاسة متقدّمة، و مطابخ السکر، و المطابخ التی یصنع فیها الورق المنصوری مخصوصة بالفسطاط دون القاهرة، و یصنع فیها من الأنطاع المستحسنة، ما یسفر إلی الشام و غیرها، و لها من الشروب الدمیاطیة و أنواعها، ما اختصت به، و فیها صناع للقسیّ کثیرون متقدّمون، و لکن قسیّ دمشق بها یضرب المثل و إلیها النهایة، و یسفر من القاهرة إلی الشام ما یکون من أنواع الکمرانات، و خرائط الجلد، و السیور، و ما أشبه ذلک و هی الآن عظیمة آهلة یجبی إلیها من الشرق و الغرب و الجنوب و الشمال، و لا ترسیما و عذابا، و لا یطلب برفیق له إذا مات فیقال له: ترک عندک مالا، فربما سجن فی شأنه أو ضرب و عصر، و الفقیر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 216
المجرّد فیها مستریح من جهة رخص الخبز و کثرته، و وجود السماعات، و الفرج فی ظواهرها و دواخلها، و قلة الاعتراض علیه، فیما تذهب إلیه نفسه یحکم فیها کیف شاء من رقص فی السوق أو تجرید، أو سکر من حشیشة أو غیرها أو صحبة المردان، و ما أشبه ذلک بخلاف غیرها من بلاد المغرب، و سائر الفقراء لا یعترضون بالقبض للأسطول إلّا المغاربة، فذلک وقف علیهم لمعرفتهم بمعاناة البحر، فقد عمّ ذلک من یعرف معاناة البحر منهم، و من لا یعرف، و هم فی القدوم علیها بین حالین إن کان المغربیّ غنیا طولب بالزکاة، و ضیقت علیه أنفاسه حتی یفرّ منها، و إن کان مجرّدا فقیرا حمل إلی السجن حتی یجی‌ء وقت الأسطول، و فی القاهرة أزاهیر کثیرة غیر منقطعة الاتصال، و هذا الشأن فی الدیار المصریة تفضل به کثیرا من البلاد، و فی اجتماع النرجس و الورد فیها أقول:
من فضل النرجس و هو الذی‌یرضی بحکم الورد إذ یرأس
أما تری الورد غدا قاعداو قام فی خدمته النرجس
و أکثر ما فیها من الثمرات و الفواکه: الرمان و الموز و التفاح، و أما الإجاص فقلیل غال، و کذلک الخوخ، و فیها الورد و النرجس و النسرین و اللینوفر و البنفسج و الیاسمین و اللیمون الأخضر و الأصفر، و أما العنب و التین فقیل غال و لکثرة ما یعصرون العنب فی أریاف النیل لا یصل منه إلا القلیل، و مع هذا فشراؤه عندهم فی نهایة الغلاء، و عامّتها یشربون المزر الأبیض المتخذ من القمح، حتی أن القمح یطلع عندهم سعره بسببه، فینادی المنادی من قبل الوالی بقطعه، و کسر أوانیه، و لا ینکر فیها إظهار أوانی الخمر، و لا آلات الطرب ذوات الأوتار، و لا تبرّج النساء العواهر، و لا غیر ذلک مما ینکر فی غیرها من بلاد المغرب، و قد دخلت فی الخلیج الذی بین القاهرة و مصر، و معظم عمارته فیما یلی القاهرة، فرأیت فیه من ذلک العجائب، و ربما وقع فیه قتل بسبب السکر، فیمنع فیه الشرب، و ذلک فی بعض الأحیان، و هو ضیق علیه فی الجهتین مناظر کثیرة العمارة بعالم الطرب و التهکم، و المخالفة حتی إنّ المحتشمین و الرؤساء لا یجیزون العبور به فی مرکب، و للسرج فی جانبیه اللیل منظر فتان، و کثیرا ما یتفرّج فیه أهل الستر باللیل، و فی ذلک أقول:
لا ترکبن فی خلیج مصرإلا إذا أسدل الظلام
فقد علمت الذی علیه‌من عالم کلهم طغام
صفان للحرب قد أظلاسلاح ما بینهم کلام
یا سیدی لا تسر إلیه‌إلا إذا هوّم النیام
و اللیل ستر علی التصابی‌علیه من فضله لثام
و السرج قد بدّدت علیه‌منها دنانیر لا ترام
و هو قد امتدّ و المبانی‌علیه فی خدمة قیام
للّه کم دوحة جنیناهناک أثمارها الآثام
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 217
انتهی. و فیه تحامل کثیر. و قال زکی الدین الحسین من رسالة کتبها من مصر فی شهر رجب سنة اثنتین و ستین و سبعمائة إلی أخیه، و هو بدمشق یتشوّق إلیها، و یذکر ما فیها من المواضع، و المنتزهات، و یذم من مصر بقوله: فکیف یبقی لمن حلّ فی جنة النعیم و ریاضها، و یرتع فی میادین المسرّات، و غیاضها تلفت إلی من سلمته ید الأقدار إلی أرض لیست بذات قرار، و بدّلوا بجنتهم ذات البان المتفاوح، و الورق المتصادح، و النشر المتقادح، و الماء المطلق المسلسل، و النسیم الصحیح العلیل جنتین ذواتی أکل خمط ، و أثل و شی‌ء من سدر قلیل، و تقصدتهم ید القضاء، فأخذتهم بالبأساء و الضرّاء، و أوقعتهم بمصر و شموسها، و حمیمها و غمومها، و حزونها، و وعورها، و حرورها، و زفیرها، و سعیرها، و کیمانها، و نیرانها، و سودانها، و فلاحیها، و ملاحیها، و مشاربها، و مساربها، و مسالکها، و مهالکها، و صحناتها، و عصفورها، و بوریها، و صقورها، و مخاوف نوروها، و حرارة تموزها، و دارس طلولها، و رائس أسطولها، و تعکر مائها، و تکدّر هوائها، فلو تراهم فی أرجائها القصوی کالأباعر الهمل، و هم یصطخرون فیها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غیر الذی کنا نعمل.
فأجابه من دمشق بکتاب من جملته علی لسان دمشق، کأنها تخاطبه: و یا أیها الولد العزیز کیف سمحت فطرتک السلیمة، و مروءتک الکریمة، و سیرتک المستقیمة، و صبرک المحافظ، و دینک المراقب الملاحظ بذم من جنیت نعمها، و سکنت حرمها، و قلت مصر و شموسها، و سقت علیها القول من کل جانب، و استعرت لها التکدیر حتی فی المشارب و المسارب، و هلا ذکرتها، و قد باکرها نیل نیل النعیم، بمغیثة بلیل النسیم بکأس من تسنیمه، و طما البحر علیها زاخرا، فأغناها عن بکاء السحاب و تجهیمه، و عمّ معظم أرضها، و عبّ عبابه فی طولها و عرضها، حتی کاد یعلو رفیع قصورها، و یتسوّر بسورته شامخ سورها، و مع ذا لا تراه جسورا علی ضعاف جسورها، و قد طبق التهائم و الأنجاد، و غرّق الآکام و الوهاد، و علا أعلی الصعید و الصعاد، و أعاد البرّ سلطانه بحرا بالازدیاد، فإذا ارتوی أوام أکباد البلاد، و روی السهل و الوعر و الهضاب و الوهاد، و ذهب إملاق الأرض بکل ملقة و خلیج، و انجاب عنها فاهتزت و ربت و أنبتت من کلزوج بهیج، بدت روضة نضرة بأملاق مقطعة، کزمرّذة أخضر بلآل مرصعة، فکم من غدیر مستدیر کبدر منیر، و دقیق مستطیل کسیف صقیل، و کم من قلیب قلاب بماء کجلاب، و کم من عظیم برکة حرّکها النسیم بلطفه، و طیبها عبیر عنبرها، فضمّخها بکفه، و زهت بزهو نیلوفرها، فعرّفها بعرفه، و کم تری من ملقة لبقة، علیها عیون النرجس محدّقة، کصحن خدّ عروس منمقة، و النوّار
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 218
قد دارت بمدام الندی کؤوسه، و جالت فی مراح الأفراح نفوسه، و نجم نجمه و ابتسم عروسه، و سامره الرذاذ المنهل، و باکره الطل، فکلله بلؤلؤه و قلده، و زاره النسیم المعتل فأقامه و أقعده، و نمق أرضه و روضه، فذهّبه و فضّضه، قد تاهت بریاضها الغناء، و زهت بزخرفها و زینتها الحسناء، و امتدّ بساطها الزمرّدی، و انبسط مدادها الزبرجدی، فلا یدرک أقصاه ناظر مسافر، و لا یحیط بمنتهاه خیال و لا خاطر، فللّه درّها من روضة مرن، و کعبة حسن، و مقطعات بماء غیر آسن، و حرم بحر لحجاج طیره آمن، آتاها حجیج الطیر من کل فج عمیق، ملبیا داعی حسنها من کل مکان سحیق، قد امتطی رکبها متون الریاح، و علا جثمانها عالم الأرواح، و وصلن الإدلاج بالصباح، و قطعن أجناح اللیل بخفاق الجناح، کأنهن الدراری السواری، أو المنشآت الجواری، أو المطایا المهاری:
تواصل من جوّ حوائض نیله‌صعود علی حکم الطریق نزول
رفاق تعاهدن علی الوفاء، و تحالفن علی النعماء و البلاء، خرجن مهاجرات من الأوطان ألوفا، و قدمن صافات کالمصلین صفوفا، یقدمهن دلیل کأنه إمام، قد قتل طرق الآفاق خبرا و استوی لدیه الإضواء و الإظلام، أبصر من زرقاء الیمامة، و أطیر من الورقاء و الهامة، و أهدی من النجم، و أشدّ من السهم، یتناجین بلغات أعجمیات، سبحات بألحان مطربات، فطفن فی حرمها الآمن، و اعتمرن بتلک المحاسن، فتراها عند إقبال نوّها، و حومها فی جوّها، ما تستقیم خطا مستقیما، و إن کانت تصطف صفا عظیما، فمنها ما یستهل هلالا، و منها ما یحکی بنات نعس حالا، و منها ما ینثنی بإدلاله دالا، و منها ما یخط نونا نونا، فیحکی حاجبا مقرونا، و منها ما یکتب زینا، فیعیدها عینا، و منها ما یصوّر میم الهجاء، فیشاهد مبسم السماء، و منها ما یأتی زرافات و وحدانا، فیبدع فی إعجابه حسنا و إحسانا، فکم من حبل أوز معلق بالسماء، یحلق إلی ذلک الماء، و أوانس عرّیسات، أنیسات کیّسات و صور صور، کأمثال حور، و طیر لغلغ ، مکتس بدیباج مصبغ، و جلیل حبرج ، کعلج متوّج، و کرکیّ عریض طویل، کبعیر کبیر جمیل، و غریر غرّ، مغرّر متغیر، و سبیطر شدید شویطر، و کم ضخم الدسیعة جوّال، ککوهی بالقوّة المنیعة صوّال، و رخام مرزم کذی إمرة محتشم، و جلالة نسر فی الشائع الذائع، و الحاضر الواقع، أبهی من النسر الطائر و الواقع، و عظم عقاب تمّ الحسن بحسنه، و کل الصید فی ضمنه، و کم من خضاری و حرمان، و بلشون و شهرمان، صنوان و غیر صنوان، و کم من بط علی شط و خلط، و قطقط منقط، و غرّ و غرنوق، و کرسوغ ممشوق، و نورس مستأنس، و قد امتلأت بهنّ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 219
الآفاق و تکللت بنجومهنّ الأملاق، و شربن من جریالها، فأسکرهنّ الاصطباح و الاغتباق ، فکم من مسودّ کخال بخدّ، و أزرق کلا زورد، و أشقر کزهر ورد، أحمر ناصع، و أصفر فاقع، و أبیض ذی خضاب عندمی، بلطیف منقار بقمی، و مبرقش و مبقع، و معمم و مقتنع، و أشقر منقش، و أرقش مرشش، و عودی، و هندی، و صینی مسنی، و عینین کیاقوتتین، قد رصعتا فی لجین، و کم من طائر أبهی من قمر سائر بفرق مثل صبح سافر، فتراهنّ فی الماء صموتا وقوفا، صفوفا عکوفا، کصور أصنام، أو حجارة مبدّدة فی آکام، و کم من أطیار ظراف، ملاح لطاف، ذوات ألحان، و نضرة و ألوان، و خلق و أخلاق، و نطق و أطواق، و إیناس مع شماس، قد ازدانت الأرض بأصواتها، و اختلاف لغاتها و عجائب صفاتها، فبرزت بأنواع الأعاجیب، و تجلت بأجمل الجلابیب، و أبدعت فی صور الإحسان، و تصوّرت فی بدائع الألوان، فإذا بدت زرقاء فی زهر کتانها، مذهبة بأزهار لبسانها، مفضضة بنجوم أقحوانها، خلعت السماء علیها خلعة جمیل أردانها ، و إذا فاح نشر نوّار قرطها، شممت المسک الذکیّ من مرطها ، و رأیت لآلی‌ء سمطها، مبسوطة علی خضر بسطها، و مغالاتها بغالیة نور فولها، و هزاتها إذا رفل النسیم فی ذیولها، قد رصعت أغصانه بفصوص لجینها، و نقطته من حسنها بسواد عینها، فعیونه کعیون غزلانها فی فتکها، و أحداقه کأحداق ولدانها من ترکها، و کم لها من طرّة معتبرة، و جبهة منوّرة، و وجنة مزعفرة، و ملاءة منشورة معصفرة، و خدّ مورّد، و طرف مهند، و لماها صیغ من عقیق الشقیق، و سکرها من ذلک الریق علی التحقیق، و أین بزوغ بشنینها، و امتداد یقطینها، و أین حلاوة عرائس نخلاتها، و طلاوة أوانس قاماتها، بمشابهتها فی صفاتها، و غرائس فسیلاتها ، و أین نضید طلعها، و حمید فرعها، و مدید جذعها، و فرّ جمارها، عن غرّة جمارها، و اخضرار أکمامها، و احمرار لثامها، و بنان بسرها المطرف، و بنان نشرها المشرف، و انتظام سرورها، بابتسام منثورها، و ورد وادیها و منحناها، و ندی ندّها و تمرحناها، و آسی آسها، و طبیب طیب أنفاسها، و تبرّجها بأترجها، و تبهرجها بنارنجها، و تختمها بمختمها، و تبسمها عن بلسمها، و تشقق أبرادها، عن نهود کبادها، و تضاعف أرجها، بمضعف بنفسجها، و جلالة مقدارها، إذا فتحت أزرارها عن جل نارها، و طیب شمیمها من أشمومها، و نسیمها و وسیمها بأوسیمها، و جنان قلیوبها، و حرمان قلیبها، و أحواضها، ببهنیها و ریاضها، و طربتها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 220
بمطریتها، و نفیس أنسها بمقسها ، و غریب غرسها ببلقسها، و عظیم آسها بمحلق مقیاسها، و کریم تحیتها من قبل الیمن هبوب أنفاسها، و اجتماع أسعدها، و ارتفاع رصدها، و سواقیها الحنانة فی سجعها، الهتانة بسکبها من دمعها، و جنة لوقها، و لجة بولاقها، و برکة فیلها، من برکة نیلها، و جزیرة ذهبها، و قلعة الجزیرة بذهبها، من عجبها حکت فلکها فی بحرها، و أحکمت مملکتها فی برّها، و عظم جللها بقلعة جبلها، و اتلاء أعلامها، ببناء أهرامها، و إذا نظرت إلی سعود صعودها، إلی سعید صعیدها، و اغتباطها بانحطاطها، إلی صوب سکندریتها و دمیاطها، ألهتک عن حسن الثریا و مناطها، و لا تنس الجواری المنشآت فی البحر کالأعلام، التی تسبق عند طیاب الریاح مفوّقات السهام، و إعجابها بغربانها البحریة، و حراقاتها الحربیة، و شوانیها و حول مبانیها، و جلال شکلها و جمال معانیها، تبدو موشاة بالنضار الأحمر، منقشة باللون الأفخر، فهی کالأرقم المنمر، أو کمتلوّن الثمر، أو الطاوس الذکر أو الناوس لبنی الأصفر، معمرة بیأس الحدید و الأحجار، محمولة علی سیح الماء التیار، مشحونة بالرجال، منصورة عند القتال، مصونة بالمجنّ و النبال تبرز مذکرة بالآیة النوحیة، و تضمن إحراز الهمة العلیة الفتحیة، حصون أمنع من أعز قلاع، تطیر إذا فتح لها جناح القلاع، فتسبق وفد الریح عند الإسراع، و تفوق سرعة السحاب عند الاتساع، فهن مع العقبان فی النیق حوّم، و هن مع البنیان فی البحر عوّم، لو أقسم من رآها، و لو قال مشاهد معناها، إن اللّه نفخ فیها الروح فأحیاها، لبرّ فی یمینه التی أقسم و تلاها، و کم من مرکب لحسنه معجب، و کم من سفین قویّ أمین، و خضاری جلیل، و عشاری طویل، و مسماری طویل جمیل و فستراوی، عکاوی، و لکة و درمونة، و معدّیة مکینة، و سلور دقیق، و شختور رشیق، و قرقور رقیق، و زورق ذی زواریق، و طریدة بخیل الطراد معمورة، دهماء بحمل الجیاد و الأجناد مشهورة، و مخلوف فی الآفاق بالمعروف معروف، و ما أحلی بنان رطبها المخضب، و رشیق قامة قصبها المقصب، و بهجة فوز ما بطلح موزها، و خضر أعلام أوراقها، و صفر کرام إعلاقها، فلا البلاغة تبلغ من إحصاء فضلها مراما، و لا الفصاحة تصوغ لوصف تشبیهها کلاما، فنسأل اللّه تعالی أن یکنفها برکنه الذی لا یرام، و یحرسها بعینه التی لا تنام بمنه و کرمه.
و قال الرئیس شهاب الدین أحمد بن یحیی بن فضل اللّه العمری کاتب السرّ:
لمصر فضل باهربعیشها الرغد النضر
فی کل سفح یلتقی‌ماء الحیاة و الخضر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 221
و قال إبراهیم بن القاسم الکاتب الملقب بالرشیق یتشوّق إلی مصر، و قد خرج عنها فی سنة ست و ثمانین و ثلثمائة من قصیدة:
هل الریح إن سارت مشرّقة تسری‌تؤدّی تحیاتی إلی ساکنی مصر
فما خطرت إلّا بکیت صبابةو حملتها ما ضاق عن حمله صدری
لأنی إذا هبت قبولا بنشرهم‌شممت نسیم المسک من ذلک النشر
فکم لی بالأهرام أو دیر نهیةمصاید غزلان المطاید و القفر
إلی جیزة الدنیا و ما قد تضمنت‌جزیرتها ذات المواخر و الجسر
و بالمقس و البستان للعین منظرأنیق إلی شاطی‌ء الخلیج إلی القصر
و فی بئر دوس مستراد و ملعب‌إلی دیر محنا إلی ساحل البحر
فکم بین بستان الأمیر و قصره‌إلی البرکة النضراء من زهر نضر
تراها کمرآة بدت فی رفارف‌من السندس الموشی تنشر للتجر
و کم لیلة بالقرافة خلتهالما نلت من لذاتها لیلة القدر
و قال أحمد بن رستم بن إسفهسلار الدیلمیّ: یخاطب الوزیر نجم الدین أبا یوسف بن الحسین المجاور، و توفی فی رابع عشر ذی الحجة سنة إحدی و عشرین و ستمائة:
حیّ الدیار بشاطئی مقیاسهافالمقسم الفیاح بین دهاسها
فالروضتین و قد تضوّع عرفهاأرج البنفسج فی غضارة أسها
فمنازل العین المنیفة أصبحت‌یغنی سناها عن سنا نبراسها
فخلیجها لذاته مطلوبةتسمو محاسنه علا بأناسها
حافاته محفوفة بمنازل‌نزلت بها الآرام دون کناسها
و قال العلامة جلال الدین محمد الشیرازیّ المعروف بإمام منکلی بغا:
حیّا الحیا مصرا و سکانهاو باکر الوسمیّ کثبانها
و جاد صوب المزن من أرضهامعاهد الأنس و أوطانها
معاهد بالأنس معمورةلم أنس مهما عشت إحسانها
کم أیقظتنی فی ذرا دوحهاعجماء لا تفقه ألحانها
و کم نعیم قد تخیلته‌فیها و کم غازلت غزلانها
و عاینت عینی بها أغیدامنعس المقلة و سنانها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 222 تسحر بالتفتیر ألحاظه‌کأنّ من بابل شیطانها
و کم شجت قلبی بها غادةقد کحلت بالغنج أجفانها
إذا دعت صبا إلی حبهالا یستطیع الصب عصیانها
و کم لیال لی بها قد مضت‌تسحب بالإعجاب أردانها
و ألهف نفسی کیف شطت بهاحوادث قوّضن بنیانها
فارقتها لا عن قلی صدّنی‌عنها فراق الروح جسمانها
و اعتضت عن غزلانها و المهانعاج جیرون و ثیرانها
یا سائلی عن حالتی بعدهاها أنا ذا أذکر عنوانها
ما حال من فارق أصحابه‌و فارق الدنیا و جیرانها
تقلب فوق الجمر أحشاؤه‌تؤجج الأشواق نیرانها
و العین لا تنفک من عبرةترسل فوق الخدّ طوفانها
یا سائق النوق یبث الثری‌کمثل بث السحب تهتانها
حیّ ربا مصر و جناتهاو حورها العین و ولدانها
و دورها الزهر و ساحاتهاو بین قصریها و میدانها
و أرضها المخصب أرجاؤهاو نیلها الزاهی و خلجانها
و الروضة الفیحاء تلک التی‌تجلو عن الأنفس أحزانها
و منیة الشیرج لا تنسهاو قرطها الأحوی و کتانها
و التاج الخمس وجوه التی‌أضحت من الأعین إنسانها
و حیّ یا برق وجد بالحیاجزیرة الفیل و غیطانها
و بانها الغض و نسرینهاو وردها البکر و ریحانها
و ظلها الضافی و أزهارهاو ماءها الصافی و غدرانها
و المعهد المأنوس من ربعهاو حیّ أهلیها و سکانها
لم أنس لا أنسی اصطباحی بهاو لا اغتباقاتی و إبانها
و لا أویقات التصابی و لاتلک الخلاعات و أزمانها
أیام لا انفک من صبوةأهوی اللذا ذات و إعلانها
أخطر تیها فی ریاض الصبامرنح الأعطاف کسلانها
و خیل لهوی فی میادینهاتجرجر الصبوة أرسانها
و دوحتی ناضرة غضةتعطف ریح اللهو أغصانها
حاشای أن أنقض عهدا لهاحاشای أن أصبح خوّانها
حاشای أن أهجرها قالیاحاشای أن أحدث سلوانها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 223 حاشای أن أرضی بدیلا بهاروابی الشام و قیعانها
و ماءها الثج و حصباءهاو صخرها الصلد و صوّانها
قد تاقت النفس إلی الفهاو حثت الأشواق أظعانها
و ادّکرت فی البعد أحبابهافهیّج التبریح أشجانها
و ما لها غیرک من ملتجایا أوحد الدنیا و إنسانها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 224

ذکر ما قیل فی مدّة بقاء القاهرة و وقت خرابها

قال المعارف محیی الدین محمد بن العربیّ الطائیّ الحاتمیّ فی الملحمة المنسوبة إلیه قاهرة تعمر فی سنة ثمان و خمسین و ثلثمائة، و تخرب سنة ثمانین و سبعین، و وقفت لها علی شرح لم أعرف تصنیف من هو، فإنه لم یسمّ فی النسخة التی وقفت علیها، و هو شرح لطیف قلیل الفائدة، فإنه ترک کلام المصنف فیما مضی علی ما هو معروف فی کتب التاریخ، و لم یبین مراده، فیما یستقبل، و کانت الحاجة ماسة إلی معرفة ما یستقبل أکثر من المعرفة بحال ما مضی، لکن أخبرنی غیر واحد من الثقات، أنه وقف لهذه الملحمة علی شرح کبیر فی مجلدین، قال هذا الشارح: کانت بدایة عمارة القاهرة و النّیران فی شرفهما: الشمس فی برج الحمل، و القمر فی برج الثور، و هو برج ثابت. قال: فعمّر القاهرة، و مدّتها أربعمائة، و إحدی و ستون سنة، قال فی الأصل: و إذا نزل زحل برج الجوزاء عزت الأقوات بمصر، و قلّ أغنیاؤهم، و کثر فقراءهم و یکون الموت فیهم و یخرج أهل برقة عن أوطانهم، لا سیما إذا قارن زحل الجوزهر، فإنّ الحال یکون أشدّ و أقوی.
قال الشارح: کان ذلک فی سنة أربع و ستین و ستمائة فی أیام الملک الظاهر رکن الدین بیبرس، فإنه نزل زحل برج الجوزاء، فوقع الغلاء، و فی آخر سنة أربع، و أوّل سنة خمس و تسعین و ستمائة، فی أیام الملک العادل: کتبغا حلّ زحل فی برج الجوزاء، و کان معه الجوزهر، فکانت أشدّ و أقوی و کثر الغلاء و الوباء.
قال: سئل المعز عن الترک ما هم؟ فقال: قوم مسلمون یأمرون بالمعروف، و ینهون عن المنکر، و یقیمون الحدود و الواجبات، و یقاتلون فی سبیل اللّه أعداء اللّه، فقیل له:
أ تطول مدّتهم؟ قال: لا تطول مدّتهم، قیل: فکیف یکون زوالهم؟ قال: یکون هکذا، و کان إلی جانبه طبق کیزان، فحرّکه حرکة شدیدة، فتکسرت الکیزان، فقال: هکذا یکون زوالهم یقتل بعضهم بعضا، قال:
احذر بنیّ من القران العاشرو ارحل بأهلک قبل نقر الناقر
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 225
قال الشارح: أوّل القران العاشر فی سنة خمس و ثمانین و سبعمائة، و فیه تکون حالات ردیئة بأرض مصر، و هذا یوافق ما فی القول عن القاهرة، و تخرب فی سنة خمس و ثمانین و سبعمائة، یعنی بدایة انحطاطها من سنة خمس و ثمانین و سبعمائة التی فیها القران العاشر، و یثبت فی عشرین سنة التی هی أیام القران، و قد ذکر فی الربع الآخر أربعمائة، و إحدی و ستین سنة، و قد تخیلت أنها مدّة عمر القاهرة، فإذا زدتها علی تاریخ عمارتها بلغ ذلک ثمانمائة و تسع عشرة سنة، و فی ذلک الوقت یکون زوالها، و هو ما بین سنة ثمانین، و سبعمائة إلی سنة تسع عشرة و ثمانمائة، و یکون ذلک سببه قحط عظیم، و قلة خیر، و کثرة شرّ حتی تتخرّب و یضعف أهلها.
قال: قران زحل و المرّیخ فی برج الجدی یکون فی سنة سبعین و سبعمائة، فتعدّ لکل مائة سنة من سنی الهجرة ثلاث سنین، فیکون ثلاثا و عشرین سنة تزیدها علی سبعمائة و سبعین سنة تبلغ سبعمائة، و ثلاثا و تسعین سنة، ففی مثلها من سنی الهجرة یکون أوّل أوقات خراب القاهرة، انتهی.
و تهذیب هذا القول: أنّ زحل کلما حلّ برج الجوزاء،. اتضعت أحوال مصر، و قلت أموالهم، و کثر الغلاء و الفناء عندهم، بحسب الأوضاع الفلکیة، و زحل یحلّ فی برج الجوزاء کل ثلاثین سنة شمسیة، فیقیم فیه نحوا من ثلاثین شهرا، و أنت إذا اعتبرت أمور العالم وجدت الحال کما ذکرنا، فإنه کلما حلّ زحل برج الجوزاء وقع الغلاء بمصر، و ذکر أنّ القران العاشر تتضع فیه أحوال القاهرة، و رأینا الأمر کما ذکرنا، فإنّ القران العاشر کان فی سنة ست و ثمانین و سبعمائة، و مدّة سنینه عشرون سنة شمسیة، آخرها سابع عشر رجب سنة سبع و ثمانمائة، و فی هذه المدّة اتضع حال القاهرة و أهلها، اتضاعا قبیحا، و من الأوقات المحذورة لها أیضا اقتران زحل و المریخ فی برج السرطان، و یکون ذلک فی کل ثلاثین سنة شمسیة، و یقترنان فی سنة ثمان عشرة و ثمانمائة، و فی مدّته تنقضی الأربعمائة و الإحدی و الستون سنة التی ذکر أنها عمر القاهرة فی سنة تسع عشرة و ثمانمائة، و شواهد الحال الیوم تصدّق ذلک لما علیه أهل القاهرة الآن من الفقر و الفاقة، و قلة المال و خراب الضیاع و القری، و تداعی الدور للسقوط، و شمول الخراب أکثر معمور القاهرة، و اختلاف أهل الدولة، و قرب انقضاء مدّتهم و غلاء سائر الأسعار.
و لقد سمعت عمن یرجع إلیه فی مثل ذلک: أنّ العمارة تنتقل من القاهرة إلی برکة الحبش، فیصیر هناک مدینة، و اللّه تعالی أعلم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 226

ذکر مسالک القاهرة و شوارعها علی ما هی علیه الآن

و قبل أن نذکر خطط القاهرة، فلنبتدی‌ء بذکر شوارعها، و مسالکها: المسلوک منها إلی الأزقة، و الحارات لتعرف بها الحارات و الخطط و الأزقة و الدروب، و غیر ذلک مما ستقف علیه إن شاء اللّه تعالی.
فالشارع الأعظم: قصبة القاهرة من باب زویلة إلی بین القصرین، علیه باب الخرنفش أو الخرنشف، و من باب الخرنفش ینفرق من هنالک طریقان ذات الیمین، و یسلک منها إلی الرکن المخلق، و رحبة باب العید إلی باب النصر، و ذات الیسار، و یسلک منها إلی الجامع الأقمر، و إلی حارة برجوان إلی باب الفتوح، فإذا ابتدأ السالک بالدخول من باب زویلة، فإنه یجد یمنة الزقاق الضیق الذی یعرف الیوم: بسوق الخلعیین، و کان قدیما یعرف:
بالخشابین، و یسلک من هذا الزقاق إلی حارة الباطلیة، و خوخة حارة الروم البرّانیة، ثم یسلک الداخل أمامه، فیجد علی یسرته سجن متولی القاهرة المعروف: بخزانة شمایل، و قیساریة سنقر الأشقر، و درب الصفیرة، ثم یسلک أمامه، فیجد علی یمنته: حمام الفاضل المعدّة لدخول الرجال، و علی یسرته تجاه هذه الحمام: قیساریة الأمیر بهاء الدین رسلان الدوادار الناصریّ إلی أن ینتهی بین الحوانیت، و الرباع فوقها إلی بابی زویلة الأوّل، و لم یبق منهما سوی عقد أحدهما، و یعرف الآن: بباب القوس، ثم یسلک أمامه فیجد علی یسرته الزقاق المسلوک فیه إلی سوق الحدّادین، و الحجارین المعروف الیوم بسوق الأنماطیین، و سکن الملاهی، و إلی المحمودیة، و إلی سوق الأخفافیین، و حارة الجودریة و الصوّافین، و القصارین و الفحامین و غیر ذلک، و یجد تجاه هذا الزقاق عن یمینه المسجد المعروف قدیما، بابن البناء و تسمیه العامّة الآن: بسام بن نوح، و هو فی وسط سوق الغرابلیین و المناخلیین، و من معهم من الضببیین، ثم یسلک أمامه فیجد سوق السرّاجین، و یعرف الیوم: بالشوّایین، و فی هذا السوق علی یمینه: الجامع الظافریّ المعروف بجامع الفکاهین، و بجانبه الزقاق المسلوک منه إلی حارة الدیلم، و سوق القفاصین، و سوق الطیوریین، و الأکفانیین القدیمة المعروفة الآن بسکنی دقاقی الثیاب، و یجد علی یسرته الزقاق المسلوک منه إلی حارة الجودریة، و درب کرکامة، و دکة الحسبة المعروفة قدیما بسوق الحدّادین و سوق الورّاقین القدیمة، و إلی سوق الفامیین المعروف الیوم: بالأبازرة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 227
و إلی غیر ذلک، ثم یسلک أمامه إلی سوق الحلاویین الآن، فیجد عن یمینه الزقاق المسلوک فیه إلی سوق الکعکیین المعروف قدیما بالقطانیین، و سکنی الأساکفة، و إلی بابی قیساریة جهارکس، و عن یسرته: قیساریة الشرب، ثم یسلک أمامه إلی سوق الشرابشیین المعروف قدیما یسکن الحالقیین، و عن یمنته درب قیطون، ثم یسلک أمامه شاقا فی سوق الشرابشیین، فیجد عن یمنته قیساریة أمیر علی، و یجد عن یسرته سوق الجملون الکبیر المسلوک فیه إلی قیساریة ابن قریش، و إلی سوق العطارین و الوراقین، و إلی سوق الکفتیین، و الصیارف، و الأخفافیین، و إلی بئر زویلة و البندقانیین، و إلی غیر ذلک، ثم یسلک أمامه، فیجد عن یمینه الزقاق المسلوک فیه إلی سوق الفرّایین الآن، و کان یعرف أوّلا بدرب البیضاء، و إلی درب الأسوانی، و إلی الجامع الأزهر، و غیر ذلک، و یجد عن یسرته قیساریة بنی أسامة، ثم یسلک أمامه شاقا فی سوق الجوخیین و اللجمیین، فیجد عن یمینه قیساریة السروج، و عن یسرته قیساریة ثم یسلک أمامه إلی سوق السقطیین و المهامزیین، فیجد عن یمینه درب الشمسیّ، و یقابله باب قیساریة الأمیر علم الدین الخیاط، و تعرف الیوم: بقیساریة العصفر، ثم یسلک أمامه شاقا فی السوق المذکور، فیجد عن یمینه الزقاق المسلوک فیه إلی سوق القشاشین، و عقبة الصباغین المعروف الیوم بالخرّاطین، و إلی سوق الخیمیین، و إلی الجامع الأزهر، و غیر ذلک و یجد قبالة هذا الزقاق عن یسرته قیساریة العنبر المعروفة قدیما بحبس المعونة، ثم یسلک أمامه، فیجد علی یسرته الزقاق المسلوک فیه إلی سوق الورّاقین، و سوق الحریریین الشراربیین المعروف قدیما بسوق الصاغة القدیمة، و إلی درب شمس الدولة، و إلی سوق الحریریین، و إلی بئر زویلة و البندقانیین، و إلی سویقة الصاحب، و الحارة الوزیریة، و إلی باب سعادة و غیر ذلک، ثم یسلک أمامه شاقا فی بعض سوق الحریریین، و سوق المتعیشین، و کان قدیما سکنی الدجاجین و الکعکیین، و قبل ذلک أوّلا سکنی السیوفیین، فیجد عن یمینه قیساریة الصنادقیین، و کانت قدیما تعرف بفندق الدبابلیین، و یجد عن یسرته مقابلها، دار المأمون البطائحی المعروفة بمدرسة الحنفیة، ثم عرفت الیوم بالمدرسة السیوفیة، لأنها کانت فی سوق السیوفیین، ثم یسلک أمامه فی سوق السیوفیین الذی هو الآن سوق المتعیشین، فیجد عن یمینه خان مسرور، و حجرتی الرقیق، و کدة الممالیک بینهما، و لم تزل موضعا لجلوس من یعرض من الممالیک الترک و الروم، و نحوهم للبیع إلی أوائل أیام الملک الظاهر برقوق، ثم بطل ذلک، و یجد عن یسرته قیساریة الرماحین، و خان الحجر، و یعرف الیوم هذا الخط بسوق باب الزهومة، ثم یسلک أمامه، فیجد عن یسرته الزقاق و الساباط المسلوک فیه إلی حمام خشیبة، و درب شمس الدولة، و إلی حارة العدویة المعروفة الیوم بفندق الزمام، و إلی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 228
حارة زویلة و غیر ذلک، و یجد بعد هذا الزقاق قریبا منه فی صفة درب السلسلة، و من هنا ابتداء خط بین القصرین، و کان قدیما فی أیام الدولة الفاطمیة مراحا واسعا لیس فیه عمارة البتة، یقف فیه عشرة آلاف فارس، و القصران هما موضع سکنی الخلیفة أحدهما شرقیّ، و هو القصر الکبیر، و کان علی یمنة السالک من موضع خان مسرور طالبا باب النصر و باب الفتوح، و موضعه الآن المدارس الصالحیة النجمیة، و المدرسة الصاهریة الرکنیة، و ما فی صفها من الحوانیت، و الرباع إلی رحبة العید، و ما وراء ذلک إلی البرقیة، و یقابل هذا القصر الشرقیّ القصر الغربیّ، و هو القصر الصغیر، و مکانه الآن المارستان المنصوریّ، و ما فی صفه من المدارس و الحوانیت، إلی تجاه باب الجامع الأقمر، فإذا ابتدأ السالک بدخول بین القصرین من جهة خان مسرور، فإنه یجد علی یسرته درب السلسلة، ثم یسلک أمامه، فیجد علی یمینه الزقاق المسلوک فیه إلی سوق الأمشاطیین المقابل لمدرسة الصالحیة التی للحنفیة و الحنابلة، و إلی الزقاق الملاصق لسور المدرسة المذکورة المسلوک فیه إلی خط الزراکشة العتیق حیث خان الخلیلیّ، و خان منج، و إلی الخوخ السبع حیث الآن سوق الأبارین، و إلی الجامع الأزهر، و إلی المشهد الحسینیّ و غیر ذلک، ثم یسلک أمامه شاقا فی سوق السیوفیین الآن، فیجد علی یساره دکاکین السیوفیین، و علی یمینه دکاکین النقلیین ظاهر سوق الکتبیین الآن، و علی یساره سوق الصیارف برأس باب الصاغة، و کان قدیما مطبخ القصر قبالة باب الزهومة، ثم یسلک أمامه فیجد علی یمینه باب المدارس الصالحیة تجاه باب الصاغة، ثم یسلک أمامه فیجد عن یمینه القبة الصالحیة، و بجوارها المدرسة الطاهریة الرکنیة، و یجد علی یساره باب المارستان المنصوری، و فی داخله القبة المنصوریة التی فیها قبور الملوک، و تحت شبابیکها دکک القفصیات التی فیها الخواتیم و نحوها، فیما بین القبة المذکورة، و المدرسة الظاهریة المذکورة، و فی داخله أیضا المدرسة المنصوریة، و تحت شبابیکها أیضا، دکک القفصیات فیما بین شبابیکها، و شبابیک المدرسة الصالحیة التی للشافعیة و المالکیة، و تحتها خیمة الغلمان بجوار قبة الصالح، و فی داخله أیضا المارستان الکبیر المنصوریّ المتوصل من باب سرّه إلی حارة زویلة، و إلی الخرنشف، و إلی الکافوری و إلی البندقانیین، و غیر ذلک، ثم یسلک باب المارستان، فیجد علی یمنته سوق السلاح و النشابین الآن تحت الربع المعروف: بوقف أمیر سعید، و یجد علی یسرته المدرسة الناصریة الملاصقة لمئذنة القبة المنصوریة، ثم یسلک أمامه، فیجد علی یمنته: خان بشتاک، و فوقه الربع و عرف الآن هذا الخان: بالمستخرج، و یجد علی یسرته: المدرسة الظاهریة الجدیدة بجوار المدرسة الناصریة، و کانت قبل إنشائها مدرسة فندقا یعرف: بخان الزکاة، ثم یسلک أمامه، فیجد علی یمنته، باب قصر بشتاک، و یجد علی یسرته المدرسة الکاملیة المعروفة:
بدار الحدیث، و هی ملاصقة للمدرسة الظاهریة الجدیدة، ثم یسلک أمامه، فیجد علی یمنته الزقاق المسلوک فیه إلی بیت أمیر سلاح المعروف بقصر أمیر سلاح، و هو الأمیر فخر الدین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 229
بکتاش الفخریّ الصالحیّ النجمیّ، و إلی دار الأمیر سلار نائب السلطنة، و إلی دار الطواشی سابق الدین، و مدرسته التی یقال لها المدرسة السابقیة، و کان فی داخل هذا الزقاق مکان یتوصل إلیه من تحت قبو المدرسة السابقیة یعرف بالسودوس فیه عدّة مساکن صارت کلها الیوم دارا واحدة إنشاء الأمیر جمال الدین الإستادار، و کان تجاه باب المدرسة السابقیة ربع تحته فرن، و من ورائه عدّة مساکن یعرف مکانها بالحدرة، فهدم الأمیر جمال الدین المذکور الربع، و ما وراءه، و حفر فیه صهریجا و أنشأ به عدة آدر هی الآن جاریة فی أوقافه.
و کان یسلک من باب السابقیة علی باب الربع، و الفرن المذکورین إلی دهلیز طویل مظلم ینتهی إلی باب القصر، تجاه سور سعید السعداء، و منه یخرج السالک إلی رحبة باب العید، و إلی الرکن المخلق، فهدمه الأمیر جمال الدین، و جعل مکانه قیساریة، و رکب علی رأس هذا الزقاق تجاه حمام البیسریّ، دربا فی داخله دروب لیصون أمواله، و انقطع التطرّق من هذا الزقاق، و صار دربا غیر نافذ، و یجد السالک عن یسرته قبالة هذا الزقاق، و صار دربا مدربا باب قصر البیسریة، و قد بنی فی وجهه حوانیت بجانبها حمام البیسری، و من هنا ینقسم شارع القاهرة المذکورة إلی طریقین: إحداهما ذات الیمین، و الأخری ذات الیسار، فأمّا ذات الیسار، فإنها تتمة القصبة المذکورة، فإذا مرّ السالک من باب حمام الأمیر بیسری، فإنه یجد علی یسرته باب الخرنشف المسلوک فیه إلی باب سرّ البیسریة، و إلی باب حارة برجوان، الذی یقال له: أبو تراب، و إلی الخرنشف، و اصطبل القطبیة، و إلی الکافوری، و إلی حارة زویلة، و إلی البندقانیین، و غیر ذلک، ثم یسلک أمامه فیجد سوقا یعرف أخیرا بالوزارزین و الدجاجین یباع فیه الأوز، و الدجاج و العصافیر، و غیر ذلک من الطیور، و أدرکناه عامرا سوقا کبیرا من جملته دکان لا یباع فیها غیر العصافیر، فیشتریها الصغار للعب بها.
و فی هذا السوق علی یمنة السالک: قیساریة یعلوها ربع کانت مدّة سوقا یباع فیه الکتب، ثم صارت لعمل الجلود، و کانت من جملة أوقاف المارستان المنصوری، فهدمها بعض من کان یتحدّث فی نظره عن الأمیر أیتمش فی سنة إحدی و ثمانمائة، و عمرها علی ما هی علیه الآن، و علی یسرة السالک فی هذا السوق ربع یجری فی وقف المدرسة الکاملیة، و کان هذا السوق یعرف قدیما بالتبانین و القماحین، ثم یمرّ سالکا أمامه، فیجد سوق الشماعین متصلا بسوق الدجاجین، و کان سوقا کبیرا فیه صفان عن الیمین و الشمال من حوانیت باعة الشمع أدرکته عامرا، و قد بقی منه الآن یسیر، و فی آخر هذا السوق علی یمنة السالک: الجامع الأقمر، و کان موضعه قدیما سوق القماحین، و قبالته درب الخضریّ،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 230
و بجانب الجامع الأقمر من شرقیه الزقاق الذی یعرف بالمحایریین و یسلک فیه إلی الرکن المخلق و غیره، و قبالة هذا الزقاق بئر الدلاء، ثم یسلک المارّ أمامه، فیجد علی یمنته زقاقا ضیقا، ینتهی إلی دور و مدرسة تعرف بالشرابشیة، یتوصل من باب سرّها إلی الدرب الأصفر تجاه خانقاه بیبرس، ثم یسلک أمامه فی سوق المتعیشین، فیجد علی یسرته باب حارة برجوان، ثم یسلک أمامه شاقا فی سوق المتعیشین، و قد أدرکته سوقا عظیما لا یکاد یعدم فیه شی‌ء مما یحتاج إلیه من المأکولات، و غیرها بحیث إذا طلب منه شی‌ء من ذلک فی لیل أو نهار وجد.
و قد خرب الآن، و لم یبق منه إلا الیسیر، و کان هذا السوق قدیما یعرف بسوق أمیر الجیوش، و بآخره خان الروّاسین، و هو زقاق علی یمنة السالک غیر نافذ، و یقابل هذا الزقاق علی یسرة السالک إلی باب الفتوح شارع یسلک فیه إلی سوق یعرف الیوم بسویقة أمیر الجیوش، و کان قبل الیوم یعرف بسوق الخروقیین، و یسلک من هذا السوق إلی باب القنطرة فی شارع معمور بالحوانیت من جانبیه، و یعلوها الرباع، و فیما بین الحوانیت دروب ذات مساکن کثیرة، ثم یسلک أمامه من رأس سویقة أمیر الجیوش، فیجد علی یمینه الجملون الصغیر المعروف بجملون ابن صیرم، و کان مسکنا للبزازین فیه عدّة حوانیت عامرة بأصناف الثیاب أدرکتها عامرة، و فیه مدرسة ابن صیرم المعروفة بالمدرسة الصیرمیة، و فی آخره باب زیادة الجامع الحاکمیّ، و کان علی بابها عدّة حوانیت تعمل فیها الضبب التی برسم الأبواب، و یخرج من هذا الجملون إلی طریقین: إحداهما یسلک فیها إلی درب الفرنجیة، و إلی دار الوکالة و شارع باب النصر، و الأخری إلی درب الرشیدیّ النافذ إلی درب الجوّانیة، ثم یسلک أمامه فیجد علی یمنته شباک المدرسة الصیرمیة، و یقابله باب قیساریة خوانداردکین الأشرفیة، ثم یسلک أمامه شاقا فی سوق المرحلین، و کان صفین من حوانیت عامرة فیها جمیع ما یحتاج إلیه فی ترحیل الجمال، و قد خرب و بقی منه قلیل، و فی هذا السوق علی یسرة السالک زقاق یعرف بحارة الورّاقة، و فیه أحد أبواب قیساریة خوند المذکورة، و عدّة مساکن و کان مکانه یعرف قدیما باصطبل الحجریة، ثم یسلک أمامه فیجد علی یمنته أحد أبواب الجامع الحاکمیّ و میضأته، و یجد باب الفتوح القدیم، و لم یبق منه سوی عقدته، و شی‌ء من عضادته، و بجواره شارع علی یسرة السالک یتوصل منه إلی حارة بهاء الدین، و باب القنطرة، ثم یسلک أمامه شاقا فی سوق المتعیشین، فیجد علی یمینه بابا آخر من أبواب الجامع الحاکمیّ، ثم یسلک أمام، فیجد عن یسرته زقاقا بسایاط ینفذ إلی حارة بهاء الدین فیه کثیر من المساکن، ثم یسلک أمامه، فیجد عن یمینه باب الجامع الحاکمی الکبیر، و یجد عن یساره فندق العادل، و یشق فی سوق عظیم إلی باب الفتوح، و هو آخر قصبة القاهرة، و أما ذات الیمین من شارع بین القصرین، فإن المارّ إذا سلک من الدرب الذی یقابل حمام البیسری طالبا الرکن المخلق، فإنه یشق فی سوق القصاصین، و سوق الحصریین إلی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 231
الرکن المخلق، و یباع فیه الآن النعال، و به حوض فی ظهر الجامع الأقمر لشرب الدواب تسمیه العامة حوض النبی، و یقابله مسجد یعرف بمراکع موسی، و ینتهی هذا السوق إلی طریقین: إحداهما إلی بئر العظام التی تسمیها العامة: بئر العظمة، و منها ینقل الماء إلی الجامع الأقمر و الحوض المذکور بالرکن المخلق، و یسلک منه إلی المحایریین و الطریق الأخری تنتهی إلی الدنق المعروف بقیساریة الجلود، و یعلوها ربع أنشأت ذلک خوند برکة أمّ الملک الأشرف شعبان بن حسین، و بجوار هذه القیساریة بوّابة عظیمة، قد سترت بحوانیت یتوصل منها إلی ساحة عظیمة هی من حقوق المنحر کانت خوند المذکورة، قد شرعت فی عمارتها قصرا لها، فماتت دون إکماله، ثم یسلک أمامه فیجد الرباع التی تعلو الحوانیت، و القیساریة المستجدّة فی مکان باب القصر الذی کان ینتهی إلی مدرسة سابق الدین، و بین القصرین، و کان أحد أبواب القصر، و یعرف بباب الریح، و هذه الرباع و القیساریة من جملة إنشاء الأمیر جمال الدین الإستادار، و کانت قبله حوانیت و رباعا، فهدمها و أنشأها علی ما هی علیه الیوم، ثم یسلک أمامه فیجد عن یمینه مدرسة الأمیر جمال الدین المذکور، و کان موضعها خانا، و ظاهره حوانیت، فبنی مکانها مدرسة و حوضا للسبیل، و غیر ذلک، و یقال لهذه الأماکن رحبة باب العید، و یسلک منها إلی طریقین:
إحداهما ذات الیمین، و الأخری ذات الیسار، فأما ذات الیمین فإنها تنتهی إلی المدرسة الحجازیة، و إلی درب قراصیا، و إلی حبس الرحبة، و إلی درب السلامیّ المسلوک منه إلی باب العید الذی تسمیه العامة بالقاهرة، و إلی المارستان العتیق، و إلی قصر الشوک، و دار الضرب، و إلی باب سرّ المدارس الصالحیة، و إلی خزانة البنود، و یسلک من رأس درب السلامیّ هذا فی رحبة باب العید إلی السفینة، و خط خزانة البنود، و رحبة الأید مریّ، و المشهد الحسینیّ، و درب الملوخیا، و الجامع الأزهر، و الحارة الصالحیة، و الحارة البرقیة إلی باب البرقیة، و الباب المحروق، و الباب الجدید. و أما ذات الیسار من رحبة باب العید، فإنّ المارّ یسلک من باب مدرسة الأمیر جمال الدین إلی باب زاویة الخدّام إلی باب الخانقاه المعروفة بدار سعید السعداء، فیجد عن یمینه زقاقا بجوار سور دار الوزارة یسلک فیه إلی خرائب تتر، و إلی خط الفهادین، و إلی درب ملوخیا، و غیر ذلک. ثم یسلک أمامه فیجد عن یمینه المدرسة القراسنقریة، و خانقاه رکن الدین بیبرس، و هما من جملة دار الوزارة، و ما جاور الخانقاه إلی باب الجوّانیة، و تجاه خانقاه بیبرس الدرب الأصفر، و هو المنحر الذی کانت الخلفاء تنحر فیه الأضاحی، ثم یسلک أمامه، فیجد علی یمنته دار الأمیر قزمان بجوار خانقاه بیبرس، و بجوارهما دار الأمیر شمس الدین سنقر الأعسر الوزیر، و قد عرفت الآن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 232
بدار خوند طولوبای زوجة السلطان الملک الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، و بجوارها حمام الأعسر المذکور، و جمیع هذا من دار الوزارة، و یجد علی یسرته: درب الرشیدی تجاه حمام الأعسر المسلوک فیه إلی درب الفرنجیة و جملون بن صیرم، ثم یسلک أمامه، فیجد علی یمینه الشارع المسلوک فیه إلی الجوّانیة، و إلی خط الفهادین، و إلی درب ملوخیا، و إلی العطوفیة، و قد خربت هذه الأماکن و یجد علی یسرته الوکالة المستجدّة من إنشاء الملک الظاهر برقوق، ثم یسلک أمامه، فیجد علی یسرته زقاقا یسلک فیه إلی جملون ابن صیرم، و إلی درب الفرنجیة، ثم یسلک أمامه فیجد علی یمنته: دار الأمیر شهاب الدین أحمد، ابن خالة الملک الناصر محمد بن قلاوون، و دار الأمیر علم الدین سنجر الجاولی، و هما من حقوق الحجرانتی کانت بها ممالیک الخلفاء، و أجنادهم، و یجد علی یسرته: وکالة الأمیر قوصون ثم یسلک من باب الوکالة، فیجد مقابل باب قاعة الجاولی: خان الجاولی، و بعدها باب النصر القدیم، و أدرکت فیه قطعة کانت تجاه رکن المدرسة الفاصدیة الغربیّ، و قد زال و یسلک منه إلی رحبة الجامع الحاکمی، فیجد علی یمنته المدرسة القاصدیة، و علی یسرته بابی الجامع الحاکمیّ، و تجاه أحدهما الشارع المسلوک فیه إلی حارة العبدانیة، و حارة العطوفیة، و غیر ذلک، و من باب الجامع الحاکمیّ ینتهی إلی باب النصر، فیما بین حوانیت و رباع و دور، فهذه صفة القاهرة الآن، و ستقف إن شاء اللّه تعالی علی کیفیة ابتداء موضع هذه الأماکن، و ما صارت إلیه، و ذکر التعریف بمن نسبت إلیه أو عرفت به علی ما التقطت ذلک من کتب التواریخ، و مجامع الفضلاء، و وقفت علیه بخطوط الثقات، و أخبرنی بذلک من أدرکته من المشیخة، و ما شاهدته من ذلک سالکا فیه سبیل التوسط فی القول بین الإکثار و الاختصار، و اللّه الموفق بمنه و کرمه لا إله غیره.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 233

ذکر سور القاهرة

اعلم أن القاهرة مذ أسست عمل سورها ثلاث مرّات: الأولی: وضعه القائد جوهر، و المرّة الثانیة: وضعه أمیر الجیوش بدر الجمالیّ فی أیام الخلیفة المستنصر، و المرّة الثالثة:
بناه الأمیر الخصیّ بهاء الدین قراقوش الأسدیّ فی سلطنة الملک الناصر صلاح الدین یوسف بن أیوب أوّل ملوک القاهرة.
السور الأوّل: کان من لبن وضعه جوهر القائد علی مناخه الذی نزل به هو و عساکره حیث القاهرة الآن، فأداره علی القصر و الجامع، و ذلک أنه لما سار من الجیزة بعد زوال الشمس، من یوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان و خمسین و ثلثمائة بعساکره، و قصد إلی مناخه الذی رسمه له مولاه الإمام المعز لدین اللّه أبو تمیم معدّ، و استقرّت به الدار اختط القصر، و أصبح المصریون یهنونه، فوجدوه قد حفر الأساس فی اللیل، فأدار السور اللبن، و سماها المنصوریة إلی أن قدم المعز لدین اللّه من بلاد المغرب إلی مصر، و نزل بها فسماها: القاهرة.
و یقال فی سبب تسمیتها: إن القائد جوهرا لما أراد بناءها أحضر المنجمین، و عرّفهم أنه یرید عمارة بلد ظاهر مصر لیقیم بها الجند، و أمرهم باختیار طالع سعید لوضع الأساس بحیث لا یخرج البلد عن نسلهم أبدا، فاختاروا طالعا لوضع الأساس، و طالعا لحفر السور، و جعلوا بدائر السور قوائم خشب بین کل قائمتین حبل فیه أجراس، و قالوا للعمال: إذا تحرّکت الأجراس، فارموا ما بأیدیکم من الطین و الحجارة، فوقفوا ینتظرون الوقت الصالح لذلک، فاتفق أنّ غرابا وقع علی حبل من تلک الحبال التی فیها الأجراس، فتحرّکت کلها، فظن العمال أن المنجمین قد حرّکوها، فألقوا ما بأیدیهم من الطین و الحجارة، و بنوا فصاح المنجمون: القاهرة فی الطالع فمضی ذلک، وفاتهم ما قصدوه.
و یقال: إنّ المرّیخ کان فی الطالع عند ابتداء وضع الأساس، و هو قاهر الفلک، فسموها: القاهرة، و اقتضی نظرهم أنها لا تزال تحت القهر، و أدخل فی دائر هذه السور بئر العظام، و جعل القاهرة حارات للواصلین صحبته، و صحبة مولاه المعز، و عمّر القصر بترتیب ألقاه إلیه المعز.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 234
و یقال: إنّ المعز لما رأی القاهرة لم یعجبه مکانها، و قال الجوهر: لما فاتک عمارة القاهرة بالساحل، کان ینبغی عمارتها بهذا الجبل یعنی سطح الجرف الذی یعرف الیوم بالرصد المشرف علی جامع راشدة، و رتب فی القصر جمیع ما یحتاج إلیه الخلفاء بحیث لا تراهم الأعین فی النقلة من مکان إلی مکان، و جعل فی ساحاته البحرة و المیدان، و البستان و تقدّم بعمارة المصلی بظاهر القاهرة، و قد أدرکت من هذا السور اللبن قطعا، و آخر ما رأیت منه قطعة کبیرة کانت فیما بین باب البرقیة، و درب بطوط هدمها شخص من الناس فی سنة ثلاث و ثمانمائة، فشاهدت من کبر لبنها ما یتعجب منه فی زمننا، حتی أنّ اللبنة تکون قدر ذراع فی ثلثی ذراع، و عرض جدار السور: عدّة أذرع یسع أن یمر به فارسان، و کان بعیدا عن السور الحجر الموجود الآن، و بینهما نحو الخمسین ذراعا، و ما أحسب أنه بقی الآن من هذا السور اللبن شی‌ء.
و جوهر هذا: مملوک رومیّ رباه المعز لدین اللّه أبو تمیم معدّ، و کناه بأبی الحسن، و عظم محله عنده فی سنة سبع و أربعین و ثلثمائة، و صار فی رتبة الوزارة، فصیره قائد جیوشه و بعثه فی صفر منها، و معه عساکر کثیرة فیهم الأمیر: زیری بن مناد الصنهاجی و غیره من الأکابر، فسار إلی تاهرت و أوقع بعدّة أقوام، و افتتح مدنا و سار إلی فاس، فنازلها مدّة، و لم ینل منها شیئا، فرحل عنها إلی سجلماسة، و حارب ثائرا، فأسره بها، و انتهی فی مسیره إلی البحر المحیط، و اصطاد منه سمکا، و بعثه فی قلة ماء إلی مولاه المعز، و أعلمه أنه قد استولی علی ما مرّ به من المدائن و الأمم، حتی انتهی إلی البحر المحیط، ثم عاد إلی فاس، فألح علیه بالقتال إلی أن أخذها عنوة، و أسر صاحبها، و حمله هو و الثائر بسجلماسة فی قفصین، مع هدیة إلی المعز، و عاد فی أخریات السنة، و قد عظم شأنه و بعد صیته، ثم لما قوی عزم المعز علی تسییر الجیوش لأخذ مصر، و تهیأ أمرها، فقدّم علیها القائد جوهرا، و برز إلی رمادة، و معه ما ینیف علی مائة ألف فارس، و بین یدیه أکثر من ألف صندوق من المال، و کان المعز یخرج إلیه فی کل یوم و یخلو به، و أطلق یده فی بیوت أمواله، فأخذ منها ما یرید زیادة علی ما حمله معه، و خرج إلیه یوما، فقام جوهر بین یدیه، و قد اجتمع الجیش، فالتفت المعز إلی المشایخ الذین وجههم مع جوهر، و قال: و اللّه لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر، و لتدخلن إلی مصر بالأردیة من غیر حرب، و لتنزلن فی خرابات ابن طولون، و تبنی مدینة تسمی القاهرة تقهر الدنیا، و أمر المعز بإفراغ الذهب فی هیئة الأرحیة، و حملها مع جوهر علی الجمال ظاهرة، و أمر أولاده و إخوانه الأمراء، و ولیّ العهد، و سائر أهل الدولة أن یمشوا فی خدمته، و هو راکب و کتب إلی سائر عماله یأمرهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 235
إذا قدم علیهم جوهر أن یترجلوا مشاة فی خدمته، فلما قدم برقة افتدی صاحبها من ترجله و مشیه فی رکابه بخمسین ألف دینار ذهبا، فأبی جوهر إلّا أن یمشی فی رکابه، و ردّ المال فمشی، و لمّا رحل من القیروان إلی مصر فی یوم السبت رابع عشر ربیع الأوّل سنة ثمان و خمسین و ثلثمائة أنشد محمد بن هانی‌ء، فی ذلک:
رأیت بعینی فوق ما کنت أسمع‌و قد راعنی یوم من الحشر أروع
غداة کأن الأفق سدّ بمثله‌فعاد غروب الشمس من حیث تطلع
فلم أدر إذ ودّعت کیف أودع‌و لم أدر إذا شیّعت کیف أشیع
إلا أن هذا حشد من لم یذق له‌غرار الکری جفن و لا بات یهجع
إذا حلّ فی أرض بناها مدائناو إن سار عن أرض غدت و هی بلقع
تحلّ بیوت المال حیث محله‌و جمّ العطایا و الرواق المرفع
و کبّرت الفرسان للّه إذ بداو ظل السلاح المنتضی یتقعقع
و عب عباب الموکب الفخم حوله‌ورق کما رق الصباح الملمع
رحلت إلی الفسطاط أوّل رحلةبأیمن فأل بالذی أنت تجمع
فإن یک فی مصر ظماء لموردفقد جاءهم نیل سوی النیل یهرع
و یمّمهم من لا یغار بنعمةفیسلبهم لکن یزید فیوسع
و لما دخل إلی مصر و اختط القاهرة، و کتب بالبشارة إلی المعز قال ابن هانی‌ء:
تقول بنو العباس قد فتحت مصرفقل لبنی العباس قد قضی الأمر
و قد جاوز الإسکندریة جوهرتصاحبه البشری و یقدمه النصر
و لم یزل معظما مطاوعا، و له حکم ما فتح من بلاد الشام، حتی ورد المعز من المغرب إلی القاهرة، و کان جعفر بن فلاح یری نفسه أجلّ من جوهر، فلما قدم معه إلی مصر سیره جوهر إلی بلاد الشام فی العساکر، فأخذ الرملة، و غلب الحسن بن عبد اللّه بن طفج، و سار فملک طبریة و دمشق.
فلما صارت الشام له شمخت نفسه عن مکاتبة جوهر، فأنفذ کتبه من دمشق إلی المعز، و هو بالمغرب سرّا من جوهر یذکر فیها طاعته، و یقع فی جوهر، و یصف ما فتح اللّه للمعز علی یده، فغضب المعز لذلک، و ردّ کتبه کما هی مختومة، و کتب إلیه: قد أخطأت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 236
الرأی لنفسک، نحن قد أنفذناک مع قائدنا جوهر، فاکتب إلیه فما وصل منک إلینا علی یده قرأناه، و لا تتجاوزه بعد، فلسنا نفعل لک ذلک علی الوجه الذی أردته، و إن کنت أهله عندنا، و لکنا لا نستفسد جوهرا مع طاعته لنا، فزاد غضب جعفر بن فلاح، و انکشف ذلک لجوهر، فلم یبعث ابن فلاح لجوهر یسأله نجدة خوفا أن لا ینجده بعسکر، و أقام مکانه لا یکاتب جوهرا بشی‌ء من أمره إلی أن قدم علیه الحسن بن أحمد القرمطیّ، و کان من أمره ما قد ذکر فی موضعه.
و لما مات المعز و استخلف من بعده ابنه العزیز، و ورد إلی دمشق: هفتکین الشرابیّ من بغداد، ندب العزیز بالله جوهرا القائد إلی الشام، فخرج إلیها بخزائن السلاح، و الأموال و العساکر العظیمة، فنزل علی دمشق لثمان بقین من ذی القعدة سنة خمس و ستین و ثلثمائة، فأقام علیها، و هو یحارب أهلها إلی أن قدم الحسن بن أحمد القرمطیّ من الإحساء إلی الشام، فرحل جوهر فی ثالث جمادی الأولی سنة ست و ستین، فنزل علی الرملة و القرمطیّ فی إثره فهلک، و قام من بعده جعفر القرمطیّ، فحارب جوهرا، و اشتدّ الأمر علی جوهر، و سار إلی عسقلان، و حصره هفتکین بها حتی بلغ من الجهد مبلغا عظیما، فصالح هفتکین، و خرج من عسقلان إلی مصر بعد أن أقام بها، و بظاهر الرملة نحوا من سبعة عشر شهرا، فقدم علی العزیز، و هو یرید الخروج إلی الشام.
فلما ظفر العزیز بهفتکین، و اصطنعه فی سنة ثمانین و ثلثمائة، و اصطنع منجوتکین الترکیّ أیضا، أخرجه راکبا من القصر وحده فی سنة إحدی و ثمانین، و القائد جوهر و ابن عمار، و من دونهما من أهل الدولة مشاة فی رکابه، و کانت ید جوهر فی ید ابن عمار، فزفر ابن عمار زفرة کاد أن ینشق لها، و قال: لا حول و لا قوّ إلا بالله، فنزع جوهر یده منه، و قال: قد کنت عندی یا أبا محمد أثبت من هذا، فظهر منک إنکار فی هذا المقام، لأحدّثنک حدیثا عسی یسلیک عما أنت فیه، و اللّه ما وقف علی هذا الحدیث أحد غیری.
لما خرجت إلی مصر و أنفذت إلی مولانا المعز من أسرته، ثم حصل فی یدی آخرون اعتقلتهم، و هم نیف علی ثلثمائة أسیر من مذکوریهم و المعروفین فیهم، فلما ورد مولانا المعز إلی مصر أعلمته بهم، فقال: أعرضهم علیّ، و اذکر فی کل واحد حاله، ففعلت، و کان فی یده کتاب مجلد یقرأ فیه، فجعلت آخذ الرجل من ید الصقالبة، و أقدّمه إلیه، و أقول: هذا فلان، و من حاله و حاله، فیرفع رأسه، و ینظر إلیه، و یقول: یجوز و یعود إلی قراءة ما فی الکتاب حتی أحضرت له الجماعة، و کان آخرهم غلاما ترکیا، فنظر إلیه و تأمّله، و لما ولی أتبعه بصره، فلما لم یبق أحد قبلت الأرض، و قلت: یا مولانا رأیتک فعلت لما رأیت هذا الترکیّ ما لم تفعله مع من تقدّمه، فقال: یا جوهر یکون عندک مکتوما حتی تری أنه یکون لبعض ولدنا غلام من هذا الجنس تنفق له فتوحات عظیمة فی بلاد کثیرة، و یرزقه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 237
اللّه علی یده ما لم یرزقه أحد منا مع غیره، و أنا أظنّ أنه ذاک الذی قال لی مولانا المعز، و لا علینا إذا فتح اللّه لموالینا علی أیدینا أو علی ید من کان، یا أبا محمد، لکل زمان دولة و رجال، أ نرید نحن أن نأخذ دولتنا و دولة غیرنا، لقد أرجل لی مولانا المعز لما سرت إلی مصر أولاده و إخوته، و ولیّ عهده، و سائر أهل دولته، فتعجب الناس من ذلک، و ها أنا الیوم أمشی راجلا بین یدی منجوتکین، أعزونا و أعزوا بنا غیرنا، و بعد هذا، فأقول: اللهم قرّب أجلی و مدّتی فقد أنفت علی الثمانین، أو أنا فیها، فمات فی تلک السنة، و ذلک أنه اعتلّ، فرکب إلیه العزیز بالله عائدا أو حمل إلیه قبل رکوبه خمسة آلاف دینار و مرتبة مثقل، و بعث إلیه الأمیر منصور بن العزیز بالله خمسة آلاف دینار، توفی یوم الاثنین لسبع بقین من ذی القعدة سنة إحدی و ثمانین و ثلثمائة، فبعث إلیه العزیز بالحنوط و الکفن، و أرسل إلیه الأمیر منصور بن العزیز أیضا الکفن، و أرسلت إلیه السیدة العزیزیة الکفن، فکفن فی سبعین ثوبا ما بین مثقل و وشی مذهب، و صلی علیه العزیز بالله، و خلع علی ابنه الحسین، و حمله و جعله فی مرتبة أبیه، و لقبه بالقائد ابن القائد، و مکنه من جمیع ما خلفه أبوه، و کان جوهر عاقلا محسنا إلی الناس کاتبا بلیغا، فمن مستحسن توقیعاته علی قصة رفعت إلیه بمصر:
سوء الاجترام، أوقع بکم حلول الانتقام، و کفر الإنعام أخرجکم من حفظ الذمام، فالواجب فیکم ترک الإیجاب، و اللازم لکم ملازمة الاحتساب، لأنکم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعدّیتم، فابتداؤکم ملوم، و عودکم مذموم، و لیس بینهما فرجة إلا تقتضی الذم لکم و الإعراض عنکم لیری أمیر المؤمنین صلوات اللّه علیه رأیه فیکم، و لما مات رثاه کثیر من الشعراء.
السور الثانی: بناه أمیر الجیوش بدر الجمالیّ فی سنة ثمانین و أربعمائة، و زاد فیه الزیادات التی فیما بین بابی زویلة، و باب زویلة الکبیر، و فیما بین باب الفتوح الذی عند حارة بهاء الدین، و باب الفتوح الآن، و زاد عند باب النصر أیضا جمیع الرحبة التی تجاه جامع الحاکم الآن إلی باب النصر، و جعل السور من لبن، و أقام الأبواب من حجارة، و فی نصف جمادی الآخرة سنة ثمانی عشرة و ثمانمائة ابتدئ بهدم السور الحجر، فیما بین باب زویلة الکبیر، و باب الفرج عندما هدم الملک المؤید شیخ الدور لیبنی جامعه، فوجد عرض السور فی الأماکن نحو العشرة أذرع.
السور الثالث: ابتدأ فی عمارته السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب فی سنة ست و ستین و خمسمائة، و هو یومئذ علی وزارة العاضد لدین اللّه، فلما کانت سنة تسع و ستین، و قد استولی علی المملکة، انتدب لعمل السور الطواشی بهاء الدین قراقوش الأسدی، فبناه بالحجارة علی ما هو علیه الآن، و قصد أن یجعل علی القاهرة و مصر و القلعة سورا واحدا، فزاد فی سور القاهرة القطعة التی من باب القنطرة إلی باب الشعریة، و من باب الشعریة إلی باب البحر، و بنی قلعة المقس، و هی برج کبیر، و جعله علی النیل بجانب جامع المقس، و انقطع السور من هناک، و کان فی أمله مدّ السور من المقس إلی أن یتصل بسور مصر، و زاد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 238
فی سور القاهرة قطعة مما یلی باب النصر ممتدّة إلی باب البرقیة، و إلی درب بطوط، و إلی خارج باب الوزیر لیتصل بسور قلعة الجبل، فانقطع من مکان یقرب الآن من الصوّة تحت القلعة لموته، و إلی الآن آثار الجد و ظاهرة لمن تأمّلها فیما بین آخر السور إلی جهة القلعة، و کذلک لم یتهیأ له أن یصل سور قلعة الجبل بسور مصر، و جاء دور هذا السور المحیط بالقاهرة الآن تسعة و عشرین ألف ذراع و ثلثمائة ذراع و ذراعین بذراع العمل، و هو الذراع الهاشمیّ، من ذلک ما بین قلعة المقس علی شاطی‌ء النیل، و البرج بالکوم الأحمر بساحل مصر عشرة آلاف ذراع و خمسمائة ذراع، و من قلعة المقس إلی حائط قلعة الجبل بمسجد سعد الدولة ثمانیة آلاف و ثلثمائة و اثنان و تسعون ذراعا، و من جانب حائط قلعة الجبل من جهة مسجد سعد الدولة إلی البرج بالکوم الأحمر سبعة آلاف، و مائتا ذراع، و من وراء القلعة بحیال مسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف، و مائتان و عشرة أذرع، و ذلک طول قوسه فی أبراجه من النیل إلی النیل، و قلعة المقس المذکور کانت برجا مطلا علی النیل فی شرقیّ جامع المقس، و لم تزل إلی أن هدمها الوزیر الصاحب شمس الدین عبد اللّه المقسیّ، عندما جدّد الجامع المذکور فی سنة سبعین و سبعمائة، و جعل فی مکان البرج المذکور جنینته، و ذکر أنه وجد فی البرج مالا، و أنه إنما جدّد الجامع منه، و العامّة تقول الیوم جام المقسیّ بالإضافة و کان یحیط بسور القاهرة خندق شرع فی حفره من باب الفتوح إلی المقس فی المحرّم سنة ثمان و ثمانین و خمسمائة، و کان أیضا من الجهة الشرقیة خارج باب النصر إلی باب البرقیة، و ما بعده، و شاهدت آثار الخندق باقیة، و من ورائه سور بأبراج له عرض کبیر مبنیّ بالحجارة، إلّا أنّ الخندق انطمّ، و تهدّمت الأسوار التی کانت من ورائه، و هذا السور هو الذی ذکره القاضی الفاضل فی کتابه إلی السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، فقال: و اللّه یحیی المولی حتی یستدیر بالبلدین نطاقه، و یمتدّ علیهما رواقه، فما عقیلة ما کان معصمها لیترک بغیر سوار، و لا خصرها لیتحلی بغیر منطقة تضار، و الآن قد استقرّت خواطر الناس، و أمنوا به من ید تتخطف، و من ید مجرم یقدم، و لا یتوقف.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 239

ذکر أبواب القاهرة

اشارة

و کان للقاهرة من جهتها القبلیة: بابان متلاصقان یقال لهما: باب زویلة، و من جهتها البحریة: بابان متباعدان، أحدهما: باب الفتوح، و الآخر: باب النصر، و من جهتها الشرقیة: ثلاثة أبواب متفرقة: أحدها: یعرف الآن بباب البرقیة، و الآخر: بالباب الجدید، و الآخر: بالباب المحروق، و من جهتها الغربیة ثلاثة أبواب: باب القنطرة، و باب الفرج، و باب سعادة، و باب آخر یعرف: باب الخوخة، و لم تکن هذه الأبواب علی ما هی علیه الآن، و لا فی مکانها عندما وضعها جوهر.

باب زویلة

کان باب زویلة عندما وضع القائد جوهر القاهرة بابین متلاصقین بجوار المسجد المعروف الیوم: بسام ابن نوح، فلما قدم المعز إلی القاهرة دخل من أحدهما، و هو الملاصق للمسجد الذی بقی منه إلی الیوم عقد، و یعرف بباب القوس، فتیامن الناس به، و صاروا یکثرون الدخول و الخروج منه، و هجروا الباب المجاور له، حتی جری علی الألسنة أن من مرّ به لا تقضی له حاجة، و قد زال هذا الباب، و لم یبق له أثر الیوم إلّا أنه یفضی إلی الموضع الذی یعرف الیوم: بالحجارین، حیث تباع آلات الطرب من الطنابیر، و العیدان و نحوهما، و إلی الآن مشهور بین الناس أن من یسلک من هناک لا تقضی له حاجة، و یقول بعضهم: من أجل أن هناک آلات المنکر، و أهل البطالة من المغنین و المغنیات، و لیس الأمر کما زعم، فإنّ هذا القول جار علی ألسنة أهل القاهرة من حین دخل المعز إلیها قبل أن یکون هذا الموضع سوقا للمعازف، و موضعا لجلوس أهل المعاصی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 240
فلما کان فی سنة خمس و ثمانین و أربعمائة، بنی أمیر الجیوش بدر الجمالیّ: وزیر الخلیفة المستنصر بالله باب زویلة الکبیر الذی هو باق إلی الآن، و علی أبراجه، و لم یعمل له باشورة، کما هی عادة أبواب الحصون من أن یکون فی کل باب عطف، حتی لا تهجم علیه العساکر فی وقت الحصار، و یتعذر سوق الخیل، و دخولها جملة لکنه عمل فی بابه زلاقة کبیرة من حجارة صوّان عظیمة بحیث إذا هجم عسکر علی القاهرة لا تثبت قوائم الخیل علی الصوّان، فلم تزل هذه الزلاقة باقیة إلی أیام السلطان الملک الکامل ناصر الدین محمد ابن الملک العادل أبی بکر بن أیوب، فاتفق مروره من هنا لک، فاختلّ فرسه، و زلق به، و أحسبه سقط عنه، فأمر بنقضها، فنقضت، و بقی منها شی‌ء یسیر ظاهر، فلما ابتنی الأمیر جمال الدین یوسف الإستادار المسجد المقابل لباب زویلة، و جعله باسم الملک الناصر فرج ابن الملک الظاهر برقوق، ظهر عند حفرة الصهریج الذی به بعض هذه الزلاقة، و أخرج منها حجارة من صوّان لا تعمل فیها العدّة الماضیة، و أشکالها فی غایة من الکبر لا یستطیع جرّها إلّا أربعة أرؤس بقر، فأخذ الأمیر جمال الدین منها شیئا، و إلی الآن حجر منها ملقی تجاه قبو الخرنشف من القاهرة.
و یذکر أن ثلاثة إخوة قدموا من الرها بنائین بنوا: باب زویلة، و باب النصر، و باب الفتوح، و کل واحد بنی بابا، و أن باب زویلة هذا بنی فی سنة أربع و ثمانین و أربعمائة، و أن باب الفتوح بنی فی سنة ثمانین و أربعمائة.
و قد ذکر ابن عبد الظاهر فی کتاب خطط القاهرة: أن باب زویلة هذا بناه العزیز بالله نزار بن المعز، و تممه أمیر الجیوش، و أنشد لعلیّ بن محمد النیلی:
یا صاح لو أبصرت باب زویلةلعلمت قدر محله بنیانا
باب تأزر بالمجرّة و ارتدی الشعری ولاث برأسه کیوانا
لو أنّ فرعونا بناه لم یردصرحا و لا أوصی به هامانا
ا ه. و سمعت غیر واحد یذکر أنّ فردتیه یدوران فی سکرجتین من زجاج.
و ذکر جامع سیرة الناصر محمد بن قلاوون: أن فی سنة خمس و ثلاثین و سبعمائة رتب أیدکین والی القاهرة فی أیام الملک الناصر محمد بن قلاوون علی باب زویلة خلیلیة تضرب کل لیلة بعد العصر.
و قد أخبرنی من طاف البلاد، و رأی مدن الشرق، أنه لم یشاهد فی مدینة من المدائن عظم باب زویلة، و لا یری مثل بدنتیه اللتین عن جانبیه، و من تأمّل الأسطر التی قد کتبت علی أعلاه من خارجه، فإنه یجد فیها اسم أمیر الجیوش، و الخلیفة المستنصر، و تاریخ بنائه، و قد کانت البدنتان أکبر مما هما الآن بکثیر، هدم أعلاهما الملک المؤید شیخ لما أنشأ الجامع داخل باب زویلة، و عمر علی البدنتین منارتین، و لذلک خبر تجده
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 241
فی ذکر الجوامع، عند ذکر الجامع المؤیدی.

باب النصر

کان باب النصر أوّلا دون موضعه الیوم، و أدرکت قطعة من أحد جانبیه، کانت تجاه رکن المدرسة القاصدیة الغربیّ، بحیث تکون الرحبة التی فیما بین المدرسة القاصدیة، و بین بابی جامع الحاکم القبلیین خارج القاهرة، و لذلک تجد فی أخبار الجامع الحاکمیّ أنه وضع خارج القاهرة، فلما کان فی أیام المستنصر، و قدم علیه أمیر الجیوش بدر الجمالیّ من عکا، و تقلد وزارته، و عمر سور القاهرة، نقل باب النصر، من حیث وضعه القائد جوهر إلی حیث هو الآن، فصار قریبا من مصلی العید، و جعل له باشورة أدرکت بعضها إلی أن احتفرت أخت الملک الظاهر برقوق الصهریج السبیل تجاه باب النصر، فهدمته، و أقامت السبیل مکانه، و علی باب النصر مکتوب بالکوفیّ فی أعلاه: لا إله إلّا اللّه محمد رسول اللّه علیّ ولیّ اللّه صلوات اللّه علیهما.

باب الفتوح

وضعه القائد جوهر دون موضعه الآن، و بقی منه إلی یومنا هذا عقده، و عضادته الیسری، و علیه أسطر من الکتابة بالکوفیّ، و هو برأس حارة بهاء الدین من قبلیها دون جدار الجامع الحاکمیّ، و أما الباب المعروف الیوم: بباب الفتوح، فإنه من وضع أمیر الجیوش، و بین یدیه باشورة، قد رکبها الآن الناس بالبنیان، لما عمر ما خرج عن باب الفتوح.
أمیر الجیوش: أبو النجم بدر الجمالیّ کان مملوکا أرمنیا لجمال الدولة بن عمار، فلذلک عرف: بالجمالیّ، و ما زال یأخذ بالجدّ من زمن سبیه فیما یباشره، و یوطن نفسه علی قوّة العزم، و یتنقل فی الخدم، حتی ولی إمارة دمشق من قبل المستنصر فی یوم الأربعاء ثالث عشری ربیع الآخر سنة خمس و ستین و أربعمائة، ثم سار منها کالهارب فی لیلة الثلاثاء لأربع عشرة خلت من رجب سنة ست و خمسین، ثم ولیها ثانیا یوم الأحد سادس شعبان سنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 242
ثمان و خمسین، فبلغه قتل ولده شعبان بعسقلان، فخرج فی شهر رمضان سنة ستین و أربعمائة، فثار العسکر، و أخربوا قصره، و تقلد نیابة عکا، فلما کانت الشدّة بمصر من شدّة الغلاء، و کثرة الفتن، و الأحوال بالحضرة قد فسدت، و الأمور قد تغیرت، و طوائف العسکر قد شغبت، و الوزراء یقنعون بالاسم دون نفاذ الأمر و النهی، و الرخاء قد أیس منه، و الصلاح لا مطمع فیه، و لواته قد ملکت الریف، و الصعید بأیدی العبید، و الطرقات قد انقطعت برّا و بحرا إلّا بالخفارة الثقیلة، فلما قتل بلدکوش : ناصر الدولة حسین بن حمدان، کتب المستنصر إلیه یستدعیه لیکون المتولی لتدبیر دولته، فاشترط أن یحضر معه من یختاره من العساکر، و لا یبقی أحدا من عسکر مصر، فأجابه المستنصر إلی ذلک، فاستخدم معه عسکرا، و رکب البحر من عکا فی أوّل کانون، و سار بمائة مرکب بعد أن قیل له: إنّ العادة لم تجر برکوب البحر فی الشتاء لهیجانه، و خوف التلف، فأبی علیهم، و أقلع فتمادی الصحو، و السکون مع الریح الطیبة مدّة أربعین یوما، حتی کثر التعجب من ذلک، و عدّ من سعادته، فوصل إلی تنیس و دمیاط، و اقترض المال من تجارها و میاسیرها، و قام بأمر ضیافته، و ما یحتاج إلیه من الغلال: سلیمان اللواتیّ کبیر أهل البحیرة، و سار إلی قلیوب، فنزل بها و أرسل إلی المستنصر یقول: لا أدخل إلی مصر حتی تقبض علی بلدکوش، و کان أحد الأمراء، و قد اشتدّ علی المستنصر بعد قتل ابن حمدان، فبادر المستنصر، و قبض علیه، و اعتقله بخزانة البنود، فقدم بدر عشیة الأربعاء للیلتین بقیتا من جمادی الأولی سنة خمس و ستین و أربعمائة، فتهیأ له أن قبض علی جمیع أمراء الدولة، و ذلک أنه لما قدم لم یکن عند الأمراء علم من استدعائه، فما منهم إلّا من أضافه، و قدّم إلیه، فلما انقضت نوبهم فی ضیافته استدعاهم إلی منزله فی دعوة صنعها لهم، و بیت مع أصحابه أن القوم إذا أجنهم اللیل، فإنهم لا بدّ یحتاجون إلی الخلاء، فمن قام منهم إلی الخلاء یقتل هناک، و وکل بکل واحد واحدا من أصحابه، و أنعم علیه بجمیع ما یترکه ذلک الأمیر من دار و مال، و إقطاع و غیره، فصار الأمراء إلیه و ظلوا نهارهم عنده، و باتوا مطمئنین، فما طلع ضوء النهار حتی استولی أصحابه علی جمیع دور الأمراء، و صارت رؤوسهم بین یدیه، فقویت شوکته، و عظم أمره، و خلع علیه المستنصر بالطیلسان المقوّر، و قلده وزارة السیف و القلم، فصارت القضاة و الدعاة، و سائر المستخدمین من تحت یده، و زید فی ألقابه أمیر الجیوش کافل قضاة المسلمین، و هادی دعاة المؤمنین، و تتبع المفسدین، فلم یبق منهم أحدا حتی قتله، و قتل من أماثل المصریین، و قضاتهم و وزرائهم جماعة، ثم خرج إلی الوجه البحریّ، فأسرف فی قتل من هنا لک من لواتة، و استصفی أموالهم، و أزاح المفسدین و أفناهم بأنواع القتل، و صار
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 243
إلی البرّ الشرقیّ، فقتل منه کثیرا من المفسدین، و نزل إلی الإسکندریة، و قد ثار بها جماعة مع ابنه الأوحد، فحاصرها أیاما من المحرّم سنة سبع و سبعین و أربعمائة، إلی أن أخذها عنوة، و قتل جماعة ممن کان بها، و عمر جامع العطارین من مال المصادرات، و فرغ من بنائه فی ربیع الأوّل سنة تسع و سبعین و أربعمائة، ثم سار إلی الصعید، فحارب جهینة و الثعالبة، و أفتی أکثرهم بالقتل، و غنم من الأموال، ما لا یعرف قدره کثرة، فصلح به حال الإقلیم بعد فساده، ثم جهز العساکر لمحاربة البلاد الشامیة، فصارت إلیها غیر مرّة، و حاربت أهلها، و لم یظفر منها بطائل، و استناب ولده شاهنشاه، و جعله ولیّ عهده.
فلما کان فی سنة سبع و ثمانین و أربعمائة مات فی ربیع الآخر، و قیل: فی جمادی الأولی منها، و قد تحکم فی مصر تحکم الملوک، و لم یبق للمستنصر معه أمر، و استبدّ بالأمور، فضبطها أحسن ضبط، و کان شدید الهیبة، وافر الحرمة مخوف السطوة قتل من مصر خلائق لا یحصیها إلا خالقها، منها أنه قتل من أهل البحیرة نحو العشرین ألف إنسان إلی غیر ذلک من أهل دمیاط و الإسکندریة، و الغربیة و الشرقیة، و بلاد الصعید و أسوان، و أهل القاهرة و مصر، إلّا أنه عمر البلاد، و أصلحها بعد فسادها و خرابها، بإتلاف المفسدین من أهلها، و کان له یوم مات نحو الثمانین سنة، و کانت له محاسن منها: أنه أباح الأرض للمزارعین ثلاث سنین، حتی ترفهت أحوال الفلاحین، و استغنوا فی أیامه، و منها حضور التجار إلی مصر لکثرة عدله بعد انتزاحهم منها فی أیام الشدّة، و منها کثرة کرمه، و کانت مدّة أیامه بمصر إحدی و عشرین سنة، و هو أوّل وزراء السیوف الذین حجروا علی الخلفاء بمصر.
و من آثاره الباقیة بالقاهرة: باب زویلة، و باب الفتوح، و باب النصر، و قام من بعده بالأمر ابنه شاهنشاه الملقب بالأفضل بن أمیر الجیوش، و به و بابنه الأفضل أبهة الخلفاء الفاطمیة بعد تلاشی أمرها، و عمرت الدیار المصریة بعد خرابها، و اضمحلال أحوال أهلها، و أظنه هو الذی أخبر عنه المعز فیما تقدّم من حکایة جوهر عنه، فإنه لم یتفق ذلک لأحد من رجال دولتهم غیره، و اللّه یعلم و أنتم لا تعلمون.

باب القنطرة

عرف بذلک لأنّ جوهر القائد بنی هناک قنطرة فوق الخلیج الذی بظاهر القاهرة لیمشی علیها إلی المقس عند مسیر القرامطة إلی مصر فی شوّال سنة ستین و ثلثمائة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 244

باب الشعریة

یعرف بطائفة من البربر یقال لهم: بنو الشعریة، هم و مزانة و زیارة و هوارة من أحلاف لواتة الذین نزلوا بالمنوفیة.

باب سعادة

عرف بسعادة بن حیان، غلام المعز لدین اللّه، لأنه لما قدم من بلاد المغرب بعد بناء القائد جوهر القاهرة نزل بالجیزة، و خرج جوهر إلی لقائه، فلما عاین سعادة جوهرا ترجل و سار إلی القاهرة فی رجب سنة ستین و ثلثمائة، فدخل إلیها من هذا الباب، فعرف به، و قیل له: باب سعادة، و وافی سعادة هذا القاهرة بجیش کبیر معه، فلما کان فی شوّال سیره جوهر فی عسکر مجر عند ورود الخبر من دمشق بمجی‌ء الحسین بن أحمد القرمطیّ المعروف:
بالأعصم، إلی الشام، و قتل جعفر بن فلاح، فسار سعادة یرید الرملة، فوجد القرمطیّ قد قصدها، فانحاز بمن معه إلی یافا، و رجع إلی مصر، ثم خرج إلی الرملة، فملکها فی سنة إحدی و ستین، فأقبل إلیه القرمطیّ، ففرّ منه إلی القاهرة، و بها مات لخمس بقین من المحرّم سنة اثنتین و ستین و ثلثمائة، و حضر جوهر جنازته، و صلی علیه الشریف أبو جعفر مسلم، و کان فیه برّ و إحسان.

الباب المحروق

کان یعرف قدیما بباب القرّاطین، فلما زالت دولة بنی أیوب، و استقل بالملک: الملک المعز عز الدین أیبک الترکمانیّ ، أوّل من ملک من الممالیک بمملکة مصر فی سنة خمسین و ستمائة، کان حینئذ أکبر الأمراء البحریة ممالیک، الملک الصالح نجم الدین أیوب، الفارس أقطای الجمدار، و قد استفحل أمره، و کثرت أتباعه، و نافس المعز أیبک، و تزوّج بابنة الملک المظفر صاحب حماه، و بعث إلی المعز بأن ینزل من قلعة الجبل، و یخلیها له، حتی یسکنها بامرأته المذکورة، فقلق المعز منه، و أهمّه شأنه، و أخذ یدبر علیه، فقرّر مع عدّة من ممالیکه أن یقفوا بموضع من القلعة عینه لهم، و إذا جاء الفارس أقطای فتکوا به، و أرسل إلیه وقت القائلة یستدعیه لیشاوره فی أمر مهمّ، فرکب فی قائلة یوم الاثنین حادی عشری شعبان سنة اثنتین و خمسین و ستمائة فی نفر من ممالیکه، و هو آمن مطمئن بما
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 245
صار له فی الأنفس من الحرمة و المهابة، و بما یثق به من شجاعته، فلما صار بقلعة الجبل، و انتهی إلی قاعة العوامید عوّق من معه من الممالیک عن الدخول معه، و وثب به الممالیک الذین أعدّهم المعزّ، و تناولوه بالسیوف، فهلک لوقته، و غلقت أبواب القلعة، و انتشر الصوت بقتله فی البلد، فرکب أصحابه و خشداشیته ، و هم نحو السبعمائة فارس إلی تحت القلعة، و فی ظنهم أنّ الفارس أقطای لم یقتل، و إنما قبض علیه السلطان، و إنهم یقاتلونه حتی یطلقه لهم، فلم یشعروا إلّا برأس الفارس أقطای، و قد ألقیت علیهم من القلعة، فانفضوا لوقتهم، و تواعدوا علی الخروج من مصر إلی الشام، و أکابرهم یومئذ بیبرس البندقداریّ، و قلاون الإلفیّ، و سنقر الأشقر، و بیسری، و سکز، و برامق، فخرجوا فی اللیل من بیوتهم بالقاهرة إلی جهة باب القرّاطین، و من العادة أن تغلق أبواب القاهرة باللیل، فألقوا النار فی الباب حتی سقط من الحریق، و خرجوا منه، فقیل له من ذلک الوقت: الباب المحروق و عرف به، و أما القوم فإنهم ساروا إلی الملک الناصر یوسف بن العزیز صاحب الشام، فقبلهم و أنعم علیهم، و أقطعهم إقطاعات، و استکثر بهم، و أصبح المعز، و قد علم بخروجهم إلی الشام، فأوقع الحوطة علی جمیع أموالهم و نسائهم و أولادهم و عامّة تعلقاتهم، و سائر أسبابهم، و تتبعهم و نادی علیهم فی الأسواق بطلب البحریة، و تحذیر العامّة من إخفائهم، فصار إلیه من أموالهم ما ملأ عینه، و استمرّت البحریة فی الشام إلی أن قتل المعز أیبک، و خلع ابنه المنصور، و تسلطن الأمیر قطز، فتراجعوا فی أیامه إلی مصر، و آلت أحوالهم إلی أن تسلطن منهم: بیبرس و قلاون، و للّه عاقبة الأمور.

باب البرقیة

المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 246

ذکر قصور الخلفاء و مناظرهم و الإلماع بطرف من مآثرهم و ما صارت إلیه أحوالها من بعدهم

اشارة

إعلم أنه کان للخلفاء الفاطمیین بالقاهرة، و ظواهرها: قصور و مناظر، منها: القصر الکبیر الشرقیّ الذی وضعه القائد جوهر عندما أناخ فی موضع القاهرة، و منها: القصر الصغیر الغربیّ، و القصر الیافعیّ، و قصر الذهب، و قصر الأقیال، و قصر الظفر، و قصر الشجرة، و قصر الشوک، و قصر الزمرّذ، و قصر النسیم، و قصر الحریم، و قصر البحر، و هذه کلها قاعات، و مناظر من داخل سور القصر الکبیر، و یقال لها: القصور الزاهرة، و یسمی مجموعها: القصر، و کان بجوار القصر الغربیّ: المیدان و البستان الکافوریّ، و کان لهم عدّة مناظر و آدر سلطانیة غیر هذه القصور، منها: دار الضیافة، و دار الوزارة، و دار الوزارة القدیمة، و دار الضرب، و المنظرة بالجامع الأزهر، و المنظرة بجوار الجامع الأقمر، و منظرة اللؤلؤة علی الخلیج بظاهر القاهرة، و منظرة الغزالة، و دار الذهب، و منظرة المقس، و منظرة الدکة و البعل، و الخمس وجوه، و التاج و قبة الهواء، و البساتین الجیوشیة، و البستان الکبیر، و منظرة السکرة، و المنظرة ظاهر باب الفتوح، و دار الملک بمدینة مصر، و منازل العز بها، و منظرة الصناعة بالساحل، و منظرة بجوار جامع القرافة الکبری المعروف الیوم: بجامع الأولیاء و الأندلس بالقرافة، و المنظرة ببرکة الحبش، و سأذکر من أخبار هذه الأماکن فی مدّة الدولة الفاطمیة، و ما آل إلیه حالها بحسب ما انتهی إلیّ علمه إن شاء اللّه تعالی.

القصر الکبیر

اشارة

هذا القصر کان فی الجهة الشرقیة من القاهرة، فلذلک یقال له: القصر الکبیر الشرقیّ، و یسمی: القصر المعزی لأنّ المعز لدین اللّه أبا تمیم معدّا هو الذی أمر عبده، و کاتبه جوهرا ببنائه، حین سیره من رمادة أحد بلاد إفریقیة بالعساکر إلی مصر، و ألقی إلیه ترتیبه، فوضعه علی الترتیب الذی رسمه له، و یقال: إن جوهرا لما أسسه فی اللیلة التی أناخ قبلها فی موضعه، و أصبح رأی فیه ازورارات غیر معتدلة لم تعجبه، فقیل له فی تغییرها، فقال: قد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 247
حفر فی لیلة مبارکة، و ساعة سعیدة، فترکه علی حاله.
و کان ابتداء وضعه مع وضع أساس سور القاهرة فی لیلة الأربعاء الثامن عشر من شعبان سنة ثمان و خمسین و ثلثمائة، و رکّب علیه بابان یوم الخمیس لثلاث عشرة خلت من جمادی الأولی سنة تسع و خمسین، ثم إنه أدار علیه سورا محیطا به فی سنة ستین و ثلثمائة، و هذا القصر کان دار الخلافة، و به سکن الخلفاء إلی آخر أیامهم، فلما انقرضت الدولة علی ید السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب، أخرج أهل القصر منه و أسکن فیه الأمراء، ثم خرب أوّلا فأوّلا.
و ذکر ابن عبد الظاهر فی کتاب خطط القاهرة عن مرهف بوّاب باب الزهومة أنه قال: أعلم هذا الباب المدّة الطویلة، و ما رأیته دخل إلیه حطب، و لا رمی منه تراب قال:
و هذا أحد أسباب خرابة، لوقود أخشابه، و تکوین ترابه، قال: و لما أخذه صلاح الدین، و أخرج من کان به کان فیه اثنا عشر ألف نسمة، لیس فیهم فحل إلا الخلیفة، و أهله و أولاده، فأسکنهم دار المظفر بحارة برجوان ، و کانت تعرف: بدار الضیافة، قال: و وجد إلی جانب القصر بئر تعرف ببئر الصنم، کان الخلفاء یرمون فیها القتلی، فقیل: إنّ فیها مطلبا، و قصد تغویرها، فقیل: إنها معمورة بالجانّ، و قتل عمارها جماعة من أشیاعه، فردمت و ترکت، انتهی.
و کان صلاح الدین لما أزال الدولة أعطی هذا القصر الکبیر لأمراء دولته، و أنزلهم فیه، فسکنوه و أعطی القصر الصغیر الغربیّ لأخیه الملک العادل سیف الدین أبی بکر بن أیوب، فسکنه و فیه ولد له ابنه الکامل ناصر الدین محمّد، و کان قد أنزل والده نجم الدین أیوب بن شادی فی منظرة اللؤلؤة، و لما قبض علی الأمیر داود ابن الخلیفة العاضد، و کان ولیّ عهد أبیه، و ینعت بالحامد للّه اعتقله و جمیع إخوته، و هم: أبو الأمانة جبریل، و أبو الفتوح، و ابنه أبو القاسم، و سلیمان بن داود بن العاضد، و عبد الوهاب بن إبراهیم بن العاضد، و إسماعیل بن العاضد، و جعفر بن أبی الطاهر بن جبریل، و عبد الظاهر بن أبی الفتوح بن جبریل بن الحافظ و جماعة، فلم یزالوا فی الاعتقال بدار المظفر و غیرها إلی أن انتقل الکامل محمد بن العادل من دار الوزارة بالقاهرة إلی قلعة الجبل، فنقل معه ولد العاضد و إخوته
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 248
و أولاد عمه، و اعتقلهم بها، و فیها مات داود بن العاضد، و لم یزل بقیتهم معتقلین بالقلعة، إلی أن استبدّ السلطان الملک الظاهر رکن الدین بیبرس البندقداریّ، فأمر فی سنة ستین بالإشهاد علی کمال الدین إسماعیل بن العاضد، و عماد الدین أبی القاسم ابن الأمیر أبی الفتوح بن العاضد، و بدر الدین عبد الوهاب بن إبراهیم بن العاضد أن جمیع المواضع التی قبلیّ المدارس الصالحیة من القصر الکبیر، و الموضع المعروف بالتربة باطنا و ظاهرا بخط الخوخ السبع، و جمیع الموضع المعروف بالقصر الیافعی بالخط المذکور، و جمیع الموضع المعروف بالجباسة بالخط المذکور، و جمیع الموضع المعروف بالجباسة بالخط المذکور، و جمیع الموضع المعروف: بخزائن السلاح السلطانیة، و ما هو بخطه، و جمیع الموضع المعروف بسکن أولاد شیخ الشیوخ و غیرهم من القصر الشارع بابه قبالة دار الحدیث النبویّ الکاملیة، و جمیع الموضع المعروف بالقصر الغربیّ، و جمیع الموضع المعروف بدار القنطرة بخط المشهد الحسینیّ، و جمیع الموضع المعروف بدار الضیافة بحارة برجوان، و جمیع الموضع المعروف بدار الذهب بظاهر القاهرة، و جمیع الموضع المعروف باللؤلؤة ، و جمیع قصر الزمرّذ، و جمیع البستان الکافوریّ، ملک لبیت المال بالنظر المولویّ السلطانیّ الملکیّ الظاهریّ من وجه صحیح شرعیّ، لا رجعة لهم فیه، و لا لواحد منهم فی ذلک، و لا فی شی‌ء منه ولاء، و لا شبهة بسبب ید و لا ملک، و لا وجه من الوجوه کلها خلا ما فی ذلک من مسجد للّه تعالی أو مدفن لآبائهم، فأشهدوا علیهم بذلک، و ورخوا الإشهاد بالثالث عشر من جمادی الأولی سنة ستین و ستمائة، و أثبت علی ید قاضی القضاة الصاحب تاج الدین عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعیّ، و تقرّر مع المذکورین أنه مهما کان قبضوه من أثمان بعض الأماکن المذکورة التی عاقد علیها و کلاؤهم، و اتصلوا إلیه یحاسبوا به من جملة ما تحرّر ثمنه عند وکیل بیت المال، و قبضت أیدی المذکورین عن التصرّف فی الأماکن المذکورة، و غیرها مما هو منسوب إلی آبائهم، و رسم ببیع ذلک، فباعه وکیل بیت المال کمال الدین ظافر شیئا بعد شی‌ء، و نقضت تلک المبانی، و ابتنی فی مواضعها علی غیر تلک الصفة من المساکن و غیرها کما یأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی، و کان هذا القصر یشتمل علی مواضع منها:
قاعة الذهب: و کان یقال لقاعة الذهب: قصر الذهب، و هو أحد قاعات القصر الذی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 249
هو قصر المعز لدین اللّه معدّ، و بنی قصر الذهب العزیز بالله نزار بن المعز، و کان یدخل إلیه من باب الذهب الذی کان مقابلا للدار القطبیة التی هی الیوم المارستان المنصوریّ، و یدخل إلیه أیضا من باب البحر الذی هو الآن تجاه المدرسة الکاملیة، و جدّد هذا القصر من بعد العزیز الخلیفة المستنصر فی سنة ثمان و عشرین و أربعمائة، و بهذه القاعة کانت الخلفاء تجلس فی الموکب یوم الاثنین، و یوم الخمیس، و بها کان یعمل سماط شهر رمضان للأمراء، و سماط العیدین، و بها کل سریر الملک.
هیئة جلوس الخلیفة بمجلس الملک: قال الفقیه أبو محمد الحسن بن إبراهیم بن زولاق فی کتاب سیرة المعز: و کان وصول المعز لدین اللّه إلی قصره بمصر فی یوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر رمضان سنة اثنتین و ستین و ثلثمائة، و لما وصل إلی قصره خرّ ساجدا، ثم صلی رکعتین و صلی بصلاته کل من دخل معه، و استقرّ فی قصره بأولاده و حشمه، و خواص عبیده، و القصر یومئذ یشتمل علی ما فیه من عین، و ورق، و جوهر، و حلی، و فرش، و أوان، و ثیاب و سلاح، و أسفاط و أعدال، و سروج و لجم، و بیت المال بحاله بما فیه، و فیه جمیع ما یکون للملوک، و للنصف من رمضان جلس المعجز فی قصره علی السریر الذهب الذی عمله عبده القائد جوهر فی الإیوان الجدید، و أذن بدخول الأشراف أوّلا، ثم أذن بعدهم للأولیاء، و لسائر وجوه الناس، و کان القائد جوهر قائما بین یدیه یقدّم الناس قوما بعد قوم، ثم مضی القائد جوهر، و أقبل بهدیته التی عباها ظاهرة یراها الناس، و هی:
من الخیل مائة و خمسون فرسا مسرجة ملجمة منها مذهب، و منها مرصع، و منها معنبر، و إحدی و ثلاثون قبة علی نوق بخاتی بالدیباج، و المناطق و الفرش منها تسعة بدیباج مثقل، و تسع نوق مجنوبة مزینة بمثقل، و ثلاثة و ثلاثون بغلا منها سبعة مسرجة ملجمة، و مائة و ثلاثون بغلا للنقل، و تسعون نجیبا، و أربعة صنادیق مشبکة، یری ما فیها، و فیها أوانی الذهب و الفضة، و مائة سیف محلی بالذهب و الفضة، و درجان من فضة مخرقة فیها جوهر، و شاشیة مرصعة فی غلاف و تسعمائة ما بین سفط و تخت فیها سائر ما أعدّ له من ذخائر مصر.
و فی یوم عرفة نصب المعز الشمسیة التی عملها للکعبة علی إیوان قصره، وسعتها:
اثنا عشر شبرا فی اثنی عشر شبرا، و أرضها دیباج أحمر، و دورها اثنا عشر هلال ذهب، فی کل هلال أترجة ذهب مسبک، جوف کل أترجة خمسون درة کبار کبیض الحمام، و فیها الیاقوت الأحمر، و الأصفر، و الأزرق، و فی دورها کتابة آیات الحج بزمرّذ أخضر قد فسر، و حشو الکتابة در کبیر لم یر مثله، و حشو الشمسیة: المسک المسحوق یراها الناس فی القصر، و من خارج القصر لعلوّ موضعها، و إنما نصبها عدّة فرّاشین، و جرّوها لثقل وزنها.
و قال فی کتاب الذخائر و التحف: و ما کان بالقصر من ذلک إن وزن ما استعمل من الذهب الإبریز الخالص فی سریر الملک الکبیر، مائة ألف مثقال و عشرة آلاف مثقال و وزن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 250
ما حلی به الستر الذی أنشأه سید الوزراء أبو محمد البازوری من الذهب أیضا ثلاثون ألف مثقال، و إنه رصع بألف و خمسمائة و ستین قطعة جوهر من سائر ألوانه، و ذکر أن فی الشمسیة الکبیرة ثلاثین ألف مثقال ذهبا، و عشرین ألف درهم مخرّقة، و ثلاثة آلاف و ستمائة قطعة جوهر من سائر ألوانه و أنواعه، و أن فی الشمسیة التی لم تتمّ من الذهب سبعة عشر ألف مثقال.
و قال المرتضی أبو محمد عبد السلام بن محمد بن الحسن بن عبد السلام بن الطویر الفهریّ القیسرانیّ: الکاتب المصریّ فی کتاب نزهة المقلتین فی أخبار الدولتین الفاطمیة و الصلاحیة، الفصل العاشر فی ذکر هیئتهم فی الجلوس العام بمجلس الملک، و لا یتعدّی ذلک یومی الاثنین و الخمیس، و من کان أقرب الناس إلیهم، و لهم خدم لا تخرج عنهم، و ینتظر لجلوس الخلیفة أحد الیومین المذکورین، و لیس علی التوالی بل علی التفاریق، فإذا تهیأ ذلک فی یوم من هذه الأیام استدعی الوزیر من داره صاحب الرسالة علی الرسم المعتاد فی سرعة الحرکة، فیرکب فی أبهته، و جماعته علی الترتیب المقدّم ذکره یعنی فی ذکر الرکوب أوّل العام، و سیأتی إن شاء اللّه تعالی فی موضعه من هذا الکتاب، فیسیر من مکان ترجله عن دابته بدهلیز العمود إلی مقطع الوزارة، و بین یدیه أجلاء أهل الإمارة، کل ذلک بقاعة الذهب التی کان یسکنها السلطان بالقصر، و کان الجلوس قبل ذلک بالإیوان الکبیر الذی هو خزائن السلاح فی صدره علی سیر الملک، و هو باق فی مکانه إلی الآن من هذا المکان إلی آخر أیام المستعلی، ثم إنّ الآمر نقل الجلوس فی هذا المکان، و اسمه مکتوب بأعلی باذهنجه إلی الیوم، و یکون المجلس المذکور معلقا فیه ستور الدیباج شتاء، و الدبیقیّ صیفا، و فرش الشتاء بسط الحریر عوضا عن الصوف مطابقا لستور الدیباج، و فرش الصیف مطابقا لستور الدیبقیّ، ما بین طبری و طبرستانی مذهب معدوم المثل، و فی صدره:
المرتبة المؤهلة لجلوسه فی هیئة جلیلة علی سریر الملک المغشی بالقرقوبیّ، فیکون وجه الخلیفة علیه قبالة وجوه الوقوف بین یدیه، فإذا تهیأ الجلوس استدعی الوزیر من المقطع إلی باب المجلس المذکور، و هو مغلق و علیه ستر، فیقف بحذائه، و عن یمینه زمام القصر، و عن یساره زمام بیت المال، فإذا انتصب الخلیفة علی المرتبة وضع أمین الملک مفلح أحد الأستاذین المحنکین الخواص الدواة مکانها من المرتبة، و خرج من المقطع الذی یقال له فردا لکم، فإذا الوزیر واقف أمام باب المجلس، و حوالیه الأمراء المطوّقون أرباب الخدم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 251
الجلیلة، و غیرهم، و فی خلالهم قرّاء الحضرة، فیشیر صاحب المجلس إلی الأستاذین، فیرفع کل منهم جانب الستر، فیظهر الخلیفة جالسا بمنصبه المذکور، فتستفتح القرّاء بقراءة القرآن الکریم، و یسلم الوزیر بعد دخوله إلیه، فیقبل یدیه و رجلیه، و یتأخر مقدار ثلاثة أذرع، و هو قائم قدر ساعة زمانیة، ثم یؤمر بأن یجلس علی الجانب الأیمن، و تطرح له مخدّة تشریفا، و یقف الأمراء فی أماکنهم المقرّرة، فصاحب الباب، و اسفهسلار العساکر من جانبی الباب یمینا و یسارا، و یلیهم من خارجه لاصقا بعتبته زمام الآمریة و الحافظیة کذلک، ثم یرتبهم علی مقادیرهم، فکل واحد لا یتعدّی مکانه هکذا إلی آخر الرواق، و هو الإفریز العالی عن أرض القاعة، و یعلوه الساباط علی عقود القناطر التی علی العهد هناک، ثم أرباب القصب و العماریات یمنة و یسرة کذلک، ثم الأماثل، و الأعیان من الأجناد المترشحین للتقدمة، و یقف مستندا للصدر الذی یقابل باب المجلس: بوّاب الباب، و الحجاب، و لصاحب الباب فی ذلک المحل الدخول و الخروج، و هو الموصل عن کل قائل ما یقول، فإذا انتظم ذلک النظام، و استقرّ بهم المقام، فأوّل ماثل للخدمة بالسلام: قاضی القضاة، و الشهود المعروفون بالاستخدام، فیجیز صاحب الباب القاضی دون من معه، فیسلم متأدّبا، و یقف قریبا، و معنی الأدب فی السلام، أنه یرفع یده الیمنی، و یشیر بالمسبحة، و یقول بصوت مسموع: السلام علی أمیر المؤمنین، و رحمة اللّه و برکاته، فیتخصص بهذا الکلام دون غیره من أهل السلام، ثم یسلم بالأشراف الأقارب زمامهم، و هو من الأستاذین المحنکین، و بالأشراف الطالبیین نقیبهم، و هو من الشهود المعدّلین، و تارة یکون من الأشراف الممیّزین، فیمضی علیهم کذلک ساعتان زمانیتان أو ثلاث، و یخص بالسلام فی ذلک الوقت خلع علیه: لقوص، أو الشرقیة أو الغربیة أو الإسکندریة، فیشرّفون بتقبیل القبة، فإن دعت حاجة الوزیر إلی مخاطبة الخلیفة فی أمر قام من مکانه، و قرب منه منحنیا علی سیفه، فیخاطبه مرّة أو مرّتین، ثم یؤمر الحاضرون، فیخرجون حتی یکون آخر من یخرج الوزیر بعد تقبیل ید الخلیفة و رجله، و یخرج فیرکب علی عادته إلی داره، و هو مخدوم بأولئک، ثم یرخی الستر، و یغلق باب المجلس إلی یوم مثله، فیکون الحال کما ذکر، و یدخل الخلیفة إلی مکانه المستقرّ فیه، و معه خواص أستاذیه، و کان أقرب الناس إلی الخلفاء: الأستاذون المحنکون، و هم أصحاب الأنس لهم، و لهم من الخدم ما لا یتطرّق إلیه سواهم، و منهم زمام القصر، و شاد التاج الشریف، و صاحب بیت المال، و صاحب الدفتر، و صاحب الرسالة، و زمام الأشراف الأقارب، و صاحب المجلس، و هم المطلعون علی أسرار الخلیفة، و کانت لهم طریقة محمودة فی بعضهم بعضا، منها: أنه متی ترشح أستاذ للتحنیک، و حنک: حمل إلیه کل واحد من المحنکین بدلة من ثیاب، و مندیلا و فرشا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 252
و سیفا، فیصبح لاحقا بهم، و فی یدیه مثل ما فی أیدیهم، و کان لا یرکب أحد فی القصر إلا الخلیفة، و لا ینصرف لیلا و نهارا إلا کذلک، و له فی اللیل شدّادات من النساء یخدمن البغلات و الحمیر الإناث للجواز فی السرادیب القصیرة الأقباء، و الطلوع علی الزلاقات إلی أعالی المناظر و الأماکن، و فی کل محلة من محلات القصر فسقیة مملوءة بالماء خیفة من حدوث حریق فی اللیل.

کیفیة سماط شهر رمضان بهذه القاعة

اشارة

قال ابن الطویر: فإذا کان الیوم الرابع من شهر رمضان، رتب عمل السماط کل لیلة بالقاعة بالقصر إلی السادس و العشرین منه، و یستدعی له: قاضی القضاة لیالی الجمع توقیرا له، فأما الأمراء، ففی کل لیلة منهم قوم بالنوبة، و لا یحرمونهم الإفطار مع أولادهم، و أهالیهم، و یکون حضورهم بمسطور یخرج إلی صاحب الباب، و أسفهسلاره، فیعرف صاحب کل نوبة لیلته، فلا یتأخر و یحضر الوزیر، فیجلس صدره، فإن تأخر کان ولده أو أخوه، و إن لم یحضر أحد من قبله کان صاحب الباب، و یهتم فیه اهتماما عظیما تاما بحیث لا یفوته شی‌ء من أصناف المأکولات الفائقة، و الأغذیة الرائقة، و هو مبسوط فی طول القاعة، مادّ من الرواق إلی ثلثی القاعة المذکورة، و الفرّاشون قیام لخدمة الحاضرین، و حواشی الأستاذین یحضرون الماء المبخر فی کیزان الخزف برسم الحاضرین، و یکون انفصالهم العشاء الآخرة، فیعمهم ذلک، و یصل منه شی‌ء إلی أهل القاهرة من بعض الناس لبعض، و یأخذ الرجل الواحد ما یکفی جماعة، فإذا حضر الوزیر أخرج إلیه مما هو بحضرة الخلیفة، و کانت یده فیه تشریفا له، و تطییبا لنفسه، و ربما حمل لسحوره من خاص ما یعین لسحور الخلیفة نصیب وافر، ثم یتفرّق الناس إلی أماکنهم بعد العشاء الآخرة بساعة أو ساعتین، قال: و مبلغما ینفق فی شهر رمضان لسماطه مدّة سبعة و عشرین یوما ثلاثة آلاف دینار.

عمل سماط عید الفطر بهذه القاعة

قال الأمیر المختار عز الملک بن عبید اللّه بن أحمد بن إسماعیل بن عبد العزیز المسبحیّ فی تاریخه الکبیر: و فی آخر یوم منه یعنی شهر رمضان سنة ثمانین و ثلثمائة، حمل یانس الصقلبی صاحب الشرطة السفلی السماط، و قصور السکر و التماثیل، و أطباقا فیها تماثیل حلوی، و حمل أیضا علیّ بن سعد المحتسب القصور و تماثیل السکر.
و قال ابن الطویر: فأما الأسمطة الباطنة التی یحضرها الخلیفة بنفسه، ففی یوم عید الفطر: اثنان، و یوم عید النحر: واحد، فأما الأوّل من عبید الفطر، فإنه یعین فی اللیل بالإیوان قدّام الشباک الذی یجلس فیه الخلیفة، فیمدّ ما مقداره ثلثمائة ذراع فی عرض سبعة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 253
أذرع من الخشکنان، و الفانیذ، و البسندود المقدّم ذکر عمله بدار الفطرة، فإذا صلی الفجر فی أوّل الوقت حضر إلیه الوزیر، و هو جالس فی الشباک، و مکن الناس من ذلک الممدود، فأخذ و حمل و نهب، فیأخذه من یأکله فی یومه، و من یدّخره لغده، و من لا حاجة له به، فیبیعه و یتسلط علیه أیضا حواشی القصر المقیمون هناک، فإذا فرغ من ذلک، و قد بزغت الشمس رکب من باب الملک بالإیوان، و خرج من باب العید إلی المصلی، و الوزیر معه کما وصفنا فی هیئة رکوب هذا العید فی فصله مخلیا لقاعة الذهب لسماط الطعام، فینصب له سریر الملک قدّام باب المجلس فی الرواق، و ینصب فیه مائدة من فضة، و یقال لها:
المدوّرة، و علیها أوانی الفضیات و الذهبیات، و الصینی الحاویة للأطعمة الخاص الفائحة الطیب الشهیة من غیر خضراوات، سوی الدجاج الفائق المسمن المعمول بالأمزجة الطیبة النافعة، ثم ینصب السماط أمام السریر إلی باب المجلس قبالته، و یعرف بالمحول طول القاعة، و هو الیوم الباب الذی یدخل منه إلیها من باب البحر الذی هو باب القصر الیوم، و السماط خشب مدهون شبه الدکک اللاطیة، فیصیر من جمعه للأوانی سماطا عالیا فی ذلک الطول، و بعرض عشرة أذرع، فیفرش فوق ذلک الأزهار، و یرص الخبز علی حافتیه سوامیذ کل واحد ثلاثة أرطال من نقیّ الدقیق، و یدهن وجهها عند خبزها بالماء، فیحصل لها بریق، و یحسن منظرها، و یعمر داخل ذلک السماط علی طوله بأحد و عشرین طبقا فی کل طبق أحد و عشرون ثنیا سمینا مشویا، و فی کل من الدجاج و الفراریج و فراخ الحمام ثلثمائة و خمسون طائرا، فیبقی طائلا مستطیلا، فیکون کقامة الرجل الطویل، و یسوّر بشرائح الحلواء الیابسة، و یزین بألوانها المصبغة، ثم یسدّ خلل تلک الأطباق بالصحون الخزفیة التی فی کل واحد منها سبع دجاجات، و هی مترعة بالألوان الفائقة من الحلواء المائعة و الطباهجة المشققة، و الطیب غالب علی ذلک کله، فلا یبعد أن تناهز عدّة الصحون المذکورة خمسمائة صحن، و یرتب ذلک أحسن ترتیب من نصف اللیل بالقاعة إلی حین عود الخلیفة من المصلی، و الوزیر معه، فإذا دخل القاعة، وقف الوزیر علی باب دخول الخلیفة، لینزع عنه الثیاب العیدیة التی فی عمامتها السمة، و یلبس سواها من خزائن الکسوات الخاصة التی قدّمنا ذکرها، و قد عمل بدار الفطرة، قصران من حلی فی کلواحد سبعة عشر قنطارا، و حملا، فمنهما واحد یمضی به من طریق قصر الشوک إلی باب الذهب، و الآخر یشق به بین القصرین یحملهما العتالون، فینصبان أوّل السماط و آخره، و هما شکل ملیح مدهونان بأوراق الذهب، و فیهما شخوص ناتئة کأنها مسبوکة فی قوالب لوحا لوحا، فإذا عبر الخلیفة راکبا، و نزل علی السریر الذی علیه المدوّرة الفضة، و جلس قام علی رأسه أربعة من کبار الأستاذین المحنکین، و أربعة من خواص الفرّاشین، ثم یستدعی الوزیر، فیطلع إلیه و یجلس عن یمینه، و یستدعی الأمراء المطوّقین، و من یلیهم من الأمراء دونهم،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 254
فیجلسون علی السماط کقیامهم بین یدیه، فیأکل من أراد من غیر إلزام، فإنّ فی الحاضرین من لا یعتقد الفطر فی ذلک الیوم، فیستولی علی ذلک المعمول الآکلون، و ینقل إلی دار أرباب الرسوم، و یباح فلا یبقی منه إلا السماط فقط، فیعم أهل القاهرة و مصر من ذلک نصیب وافر، فإذا انقضی ذلک عند صلاة الظهر، انفض الناس، و خرج الوزیر إلی داره مخدوما بالجماعة الحاضرین، و قد عمل سماطا لأهله و حواشیه، و من یعز علیه لا یلحق بأیسر یسیر من سماط الخلیفة، و علی هذا العمل یکون سماط عید النحر أوّل یوم منه، و رکوبه إلی المصلی، کما ذکرنا، و لا یخرج عن هذا المنوال و لا ینقص عن هذا المثال، و یکون الناس کلهم مفطرین، و لا یفوت أحدا منهم شی‌ء، کما ذکرنا فی عید الفطر.
قال: و مبلغ ما ینفق فی سماطی الفطر، و الأضحی أربعة آلاف دینار، و کان یجلس علی أسمطة الأعیاد فی کل سنة رجلان من الأجناد یقال لأحدهما: ابن فائز، و الآخر الدیلمیّ یأکل کل واحد منهما خروفا مشویا، و عشر دجاجات محلاة، و جام حلوی عشرة أرطال، و لهما رسوم تحمل إلیهما بعد ذلک من الأسمطة لبیوتهما و دنانیر وافرة علی حکم الهبة، و کان أحدهما أسر بعسقلان فی تجریدة جرّد إلیها، و أقام مدّة فی الأسر فاتفق أنه کان عندهم عجل سمین فیه عدّة قناطیر لحم، فقال له الذی أسره و هو یداعبه: إن أکلت هذا العجل أعتقتک، ثم ذبحه، و سوّی لحمه، و أطعمه حتی أتی علی جمیعه، فوفی له و أعتقه، فقدم علی أهله بالقاهرة، و رأیته یأکل علی السماط.

الإیوان الکبیر

قال القاضی الرئیس محیی الدین عبد اللّه بن عبد الظاهر الروحی الکاتب فی کتاب الروضة البهیة الزهراء فی خطط المعزیة القاهرة، الإیوان الکبیر بناه العزیز بالله أبو منصور نزار بن المعز لدین اللّه معدّ فی سنة تسع و ستین و ثلثمائة، انتهی.
و کان الخلفاء أولا یجلسون به فی یومی الاثنین و الخمیس إلی أن نقل الخلیفة الآمر بأحکام اللّه الجلوس منه فی الیومین المذکورین إلی قاعة الذهب کما تقدّم، و بصدر هذا الإیوان کان الشباک الذی یجلس فیه الخلیفة، و کان یعلو هذا الشباک قبة، و فی هذا الإیوان، کان یمدّ سماط الفطرة بکرة یوم عید الفطر کما تقدّم به، و به أیضا کان یعمل الاجتماع، و الخطبة فی یوم عید الغدیر، و کان بجانب هذا الإیوان الدواوین، و کان بهذا الإیوان ضلعا سمکة إذا أقیما واریا الفارس بفرسه، و لم یزالا حتی بعثهما السلطان صلاح الدین یوسف إلی بغداد فی هدیة.
عید الغدیر : إعلم أن عید الغدیر لم یکن عیدا مشروعا، و لا عمله أحد من سالف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 255
الأمّة المقتدی بهم، و أوّل ما عرف فی الإسلام بالعراق أیام معز الدولة علیّ بن بویه، فإنه أحدثه فی سنة اثنتین و خمسین و ثلثمائة، فاتخذه الشیعة من حینئذ عیدا، و أصلهم فیه، ما خرّجه الإمام أحمد فی مسنده الکبیر من حدیث البراء بن عازب رضی اللّه عنه قال: کنا مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی سفر لنا، فنزلنا بغدیر خم، و نودی الصلاة جامعة و کسح لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم تحت شجرتین، فصلی الظهر، و أخذ بید علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، فقال: «أ لستم أنی أولی بالمؤمنین من أنفسهم؟ قالوا: بلی، قال: أ لستم تعلمون أنی أولی بکل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلی، فقال: من کنت مولاه فعلیّ مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه».
قال: فلقیه عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، فقال: هنیئا لک یا ابن أبی طالب أصبحت مولی کل مؤمن و مؤمنة.
و
غدیر خم: علی ثلاثة أمیال من الجحفة یسرة الطریق، و تصب فیه عین، و حوله شجر کثیر، و من سنتهم فی هذا العید، هو أبدا یوم الثامن عشر من ذی الحجة أن یحیوا لیلته بالصلاة، و یصلوا فی صبیحته رکعتین قبل الزوال، و یلبسوا فیه الجدید، و یعتقوا الرقاب، و یکثروا من عمل البرّ، و من الذبائح، و لما عمل الشیعة هذا العید بالعراق أرادت عوامّ السنیة مضاهاة فعلهم، و نکایتهم، فاتخذوا فی سنة تسع و ثمانین و ثلثمائة بعد عید الغدیر بثمانیة أیام عیدا، أکثروا فیه من السرور و اللهو، و قالوا: هذا یوم دخول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم الغار هو و أبو بکر الصدّیق رضی اللّه عنه، و بالغوا فی هذا الیوم فی إظهار الزینة، و نصب القباب، و إیقاد النیران، و لهم فی ذلک أعمال مذکورة فی أخبار بغداد ... و قال ابن زولاق: و فی یوم ثمانیة عشر من ذی الحجة سنة اثنتین و ستین و ثلثمائة، و هو یوم الغدیر: تجمع خلق من أهل مصر و المغاربة، و من تبعهم للدعاء لأنه یوم عید، لأنّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم عهد إلی أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب فیه، و استخلفه، فأعجب المعز ذلک من فعلهم، و کان هذا أوّل ما عمل بمصر.
قال المسبحیّ، و فی یوم الغدیر، و هو ثامن عشر ذی الحجة اجتمع الناس بجامع القاهرة و القرّاء و الفقهاء، و المنشدون، فکان جمعا عظیما أقاموا إلی الظهر، ثم خرجوا إلی القصر، فخرجت إلیهم الجائزة، و ذکر أن الحاکم بأمر اللّه، کان قد منع من عمل عید الغدیر، قال ابن الطویر: إذا کان العشر الأوسط من ذی الحجة اهتمّ الأمراء، و الأجناد برکوب عید الغدیر، و هو فی الثامن عشر منه، و فیه خطبة و رکوب الخلیفة بغیر مظلمة، و لا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 256
سمة، و لا خروج عن القاهرة، و لا یخرج لأحد شی‌ء، فإذا کان ذلک الیوم رکب الوزیر بالاستدعاء الجاری به العادة، فیدخل القصر، و فی دخوله بروز الخلیفة لرکوبه من الکرسیّ علی عادته، فیخدم و یخرج و یرکب من مکانه من الدهلیز، و یخرج فیقف قبالة باب القصر، و یکون ظهره إلی دار فخر الدین جهارکس الیوم، ثم یخرج الخلیفة راکبا أیضا، فیقف فی الباب، و یقال له: القوس، و حوالیه الأستاذون المحنکون رجالة، و من الأمراء المطوّقین من یأمره الوزیر بإشارة خدمة الخلیفة علی خدمته، ثم یجوز زیّ کل من له زیّ علی مقدار همته، فأوّل ما یجوز زیّ الخلیفة، و هو الظاهر فی رکوبه، فتجد الجنائب الخاص التی قدّمنا ذکرها أوّلا، ثم زیّ الأمراء المطوّقین لأنهم غلمانه واحدا فواحدا بعددهم، و أسلحتهم، و جنائبهم إلی آخر أرباب القصب و العماریات، ثم طوائف العسکر أزمّتها أمامها، و أولادهم مکانهم لأنهم فی خدمة الخلیفة وقوف بالباب طائفة طائفة، فیکونون أکثر عددا من خمسة آلاف فارس، ثم المترجلة الرماة بالقسیّ بالأیدی و الأرجل، و تکون عدّتهم قریبا من ألف، ثم الراجل من الطوائف الذین قدّمنا ذکرهم فی الرکوب، فتکون عدّتهم قریبا من سبعة آلاف کل منهم بزمام و بنود و رایات و غیرها، بترتیب ملیح مستحسن، ثم یأتی زیّ الوزیر مع ولده، أو أحد أقاربه، و فیه جماعته و حاشیته فی جمع عظیم، و هیئة هائلة، ثم زیّ صاحب الباب، و هم أصحابه و أجناده، و نوّاب الباب، و سائر الحجاب، ثم یأتی زیّ اسفهسلار العساکر بأصحابه، و أجناده فی عدّة وافرة، ثم یأتی زیّ والی القاهرة، و زیّ والی مصر، فإذا فرغا خرج الخلیفة من الباب و الوقوف بین یدیه مشاة فی رکابه خارجا عن صبیان رکابه الخاص، فإذا وصل إلی باب الزهومة بالقصر، انعطف علی یساره داخلا من الدرب هناک جائزا علی الخوخ ، فإذا وصل إلی باب الدیلم الذی داخله المشهد الحسینیّ، فیجد فی دهلیز ذلک الباب: قاضی القضاة و الشهود، فإذا وازاهم خرجوا للخدمة و السلام علیه، فیسلم القاضی کما ذکرنا من تقبیل رجله الواحدة التی تلیه، و الشهود أمام رأس الدابة بمقدار قصبة، ثم یعودون و یدخلون من ذلک الدهلیز إلی الإیوان الکبیر، و قد علق علیه الستور القرقوبیة جمیعه علی سعته، و غیر القرقوبیة سترا فسترا، ثم یعلق بدائرة علی سعته ثلاث صفوف: الأوسط طوارق فارسیات مدهونة، و الأعلی و الأسفل درق، و قد نصب فیه کرسیّ الدعوة، و فیه تسع درجات لخطابة الخطیب فی هذا العید، فیجلس القاضی و الشهود تحته، و العالم من الأمراء، و الأجناد، و المتشیعین، و من یری هذا الرأی من الأکابر و الأصاغر، فیدخل الخلیفة من باب العید إلی الإیوان إلی باب الملک، فیجلس بالشباک، و هو ینظر القوم، و یخدمه الوزیر عندما ینزل، و یأتی هو و من معه، فیجلس بمفرده علی یسار منبر الخطیب، و یکون قد سیر لخطیبه بدلة حریر یخطب فیها، و ثلاثون دینارا، و یدفع له کرّاس
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 257
محرّر من دیوان الإنشاء یتضمن نص الخلافة من النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم إلی أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب کرّم اللّه وجهه و رضی عنه بزعمهم، فإذا فرغ و نزل صلی قاضی القضاة بالناس رکعتین، فإذا قضیت الصلاة، قام الوزیر إلی الشباک، فیخدم الخلیفة، و ینفض الناس بعد التهانی من الإسماعیلیة بعضهم بعضا، و هو عندهم أعظم من عید النحر، و ینحر فیه أکثرهم.
قال: و کان الحافظ لدین اللّه أبو المیمون عبد المجید: لما سلم من ید أبی علیّ بن الأفضل الملقب کتیفات، لما وزر له، و خرج علیه عمل عیدا فی ذلک الیوم، و هو السادس عشر من المحرّم من غیر رکوب، و لا حرکة بل إنّ الإیوان باق علی فرشه، و تعلیقه من یوم الغدیر، فیفرش المجلس المحوّل الیوم فی الإیوان الذی بابه خورنق.
و کان یقابل الإیوان الکبیر الذی هو الیوم: خزائن السلاح، بأحسن فرش، و ینصب له مرتبة هائلة قریبا من باذهنجه، فیجتمع أرباب الدولة سیفا و قلما، و یحضرون إلی الإیوان إلی باب الملک المجاور للشباک، فیخرج الخلیفة راکبا إلی المجلس، فیترجل علی بابه، و بین یدیه الخواص، فیجلس علی المرتبة، و یقفون بین یدیه صفین إلی باب المجلس، ثم یجعل قدّامه کرسیّ الدعوة، و علیه غشاء قرقوبیّ، و حوالیه الأمراء الأعیان، و أرباب الرتب، فیصعد قاضی القضاة، و یخرج من کمه کراسة مسطحة تتضمن فصولا، کالفرج بعد الشدّة بنظم ملیح، یذکر فیه کل من أصابه من الأنبیاء و الصالحین و الملوک شدّة، و فرّج اللّه عنه واحدا فواحدا، حتی یصل إلی الحافظ، و تکون هذه الکراسة محمولة من دیوان الإنشاء، فإذا تکاملت قراءتها، نزل عن المنبر، و دخل إلی الخلیفة، و لا یکون عنده من الثیاب أجلّ مما لبسه، و یکون قد حمل إلی القاضی قبل خطابته بدلة ممیزة یلبسها للخطابة، و یوصل إلیه بعد الخطابة خمسون دینارا.
و قال الأمیر جمال الدین أبو علیّ موسی بن المأمون أبی عبد اللّه محمد بن فاتک بن مختار الطائحیّ فی تاریخه، و استهل عید الغدیر یعنی من سنة ست عشرة و خمسمائة، و هاجر إلی باب الأجل یعنی الوزیر المأمون البطائحی الضعفاء و المساکین من البلاد، و من انضمّ إلیهم من العوالی، و الأدوان علی عادتهم فی طلب الحلال، و تزویج الأیامی، و صار موسما یرصده کل أحد، و یرتقبه کل غنیّ و فقیر، فجری فی معروفه علی رسمه، و بالغ الشعراء فی مدحه بذلک، و وصلت کسوة العید المذکور، فحمل ما یختص بالخلیفة و الوزیر، و أمر بتفرقة ما یختص بأزمّة العساکر فارسها و راجلها من عین و کسوة، و مبلغ ما یختص بهم من العین سبعمائة و تسعون دینارا، و من الکسوات مائة و أربع و أربعون قطعة، و الهیئة المختصة بهذا العید، برسم کبراء الدولة، و شیوخها و أمرائها و ضیوفها، و الأستاذین المحنکین و الممیزین منهم خارجا عن أولاد الوزیر و إخوته، و یفرّق من مال الوزیر بعد الخلع علیه ألفان و خمسمائة دینار و ثمانون دینارا، و أمر بتعلیق جمیع أبواب القصور،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 258
و تفرقة المؤذنین بالجوامع و المساجد علیها، و تقدّم بأن تکون الأسمطة بقاعة الذهب علی حکم سماط أوّل یوم من عید النحر، و فی باکر هذا الیوم توجه الخلیفة إلی المیدان، و ذبح ما جرت به العادة، و ذبح الجزارون بعده مثل عدد الکباش المذبوحة فی عید النحر، و أمر بتفرقة ذلک للخصوص دون العموم، و جلس الخلیفة فی المنظرة و خدمت الرهجیة .
و تقدّم الوزیر و الأمراء، و سلموا، فلما حان وقت الصلاة و المؤذنون علی أبواب القصر یکبرون تکبیر العید إلی أن دخل الوزیر، فوجد الخطیب علی المنبر قد فرغ، فتقدّم القاضی أبو الحجاج یوسف بن أیوب فصلی به و بالجماعة صلاة العید، و طلع الشریف بن أنس الدولة، و خطب خطبة العید، ثم توجه الوزیر إلی باب الملک، فوجد الخلیفة قد جلس قاصدا للقائه، قد ضربت المقدّمة، فأمره بالمضیّ إلیها، و خلع علیه خلعة مکملة من بدلات النحر و ثوبها أحمر بالشدّة الدائمیة، و قلده سیفا مرصعا بالیاقوت و الجواهر، و عندما نهض لیقبل الأرض وجده قد أعدّ له العقد الجوهر، و ربطه فی عنقه بیده، و بالغ فی إکرامه، و خرج من باب الملک فتلقاه المقرّبون، و سارع الناس إلی خدمته، و خرج من باب العید و أولاده و إخوته و الأمراء الممیزون بحجبه، و خدمت الرهجیة، و ضربت العربیة و الموکب جمیعه بزیه، و قد اصطفت العساکر، و تقدّم إلی ولده بالجلوس علی أسمطته و تفرّقتها برسومها، و توجه إلی القصر، و استفتح المقرئون، فسلم الحاضرون، و جری الرسم فی السماط الأوّل و الثانی، و تفرقة الرسوم و الموائد علی حکم أوّل یوم من عید النحر، و توجه الخلیفة بعد ذلک إلی السماط الثالث الخاص بالدار الجلیلة لأقاربه و جلسائه.
و لما انقضی حکم التعیید جلس الوزیر فی مجلسه، و استفتح المقرئون، و حضر الکبراء و بیاض البلدین لتهنی‌ء بالعید و الخلع، و خرج الرسم، و تقدّم الشعراء، فأنشدوا و شرحوا الحال، و حضر متولی خزائن الکسوة الخاص بالثیاب التی کانت علی المأمون قبل الخلع، و قبضوا الرسم الجاری به العادة، و هو مائة دینار، و حضر متولی بیت المال، و صحبته صندوق فیه خمسة آلاف دینار برسم فکاک العقد الجوهر و السیف المرصع، فأمر الوزیر المأمون الشیخ أبا الحسن بن أبی أسامة: کاتب الدست الشریف بکتب مطالعة إلی الخلیفة بما حمل إلیه من المال برسم مندیل الکم، و هو ألف دینار، و رسم الأخوة و الأقارب ألف دینار، و تسلم متولی الدولة بقیة المال لیفرّق علی الأمراء المطوّقین و الممیزین و الضیوف و المستخدمین.
المحول: قال ابن عبد الظاهر: المحول هو مجلس الداعی ، و یدخل إلیه من باب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 259
الریح، و بابه من باب البحر، و یعرف بقصر البحر، و کان فی أوقات الاجتماع یصلی الداعی بالناس فی رواقه.
و قال المسبحیّ: و فی ربیع الأوّل یعنی من سنة خمس و ثمانین و ثلثمائة، جلس القاضی محمد بن النعمان علی کرسیّ بالقصر لقراءة علوم آل البیت علی الرسم المعتاد المتقدّم له و لأخیه بمصر، و لأبیه بالمغرب، فمات فی الزحمة أحد عشر رجلا، فکفنهم العزیز بالله، و قال ابن الطویر: و أما داعی الدعاة فإنه یلی قاضی القضاة فی الرتبة، و یتزیا بزیه فی اللباس و غیره، و وصفه أنه یکون عالما بجمیع مذاهب أهل البیت یقرأ علیه، و یأخذ العهد علی من ینتقل من مذهبه إلی مذهبهم، و بین یدیه من نقباء المعلمین اثنا عشر نقیبا، و له نوّاب کنوّاب الحکم فی سائر البلاد، و یحضر إلیه فقهاء الدولة، و لهم مکان یقال له:
دار العلم ، و لجماعة منهم علی التصدیر بها أرزاق واسعة، و کان الفقهاء منهم یتفقون علی دفتر یقال له: مجلس الحکمة فی کل یوم اثنین و خمیس، و یحضر مبیضا إلی داعی الدعاة فینفذه إلیهم، و یأخذه منهم، و یدخل به إلی الخلیفة فی هذین الیومین المذکورین، فیتلوه علیه إن أمکن، و یأخذ علامته بظاهره، و یجلس بالقصر لتلاوته علی المؤمنین فی مکانین للرجال علی کرسیّ الدعوة بالإیوان الکبیر، و للنساء بمجلس الداعی، و کان من أعظم المبانی و أوسعها.
فإذا فرغ من تلاوته علی المؤمنین و المؤمنات حضروا إلیه، لتقبیل یدیه، فیمسح علی رؤوسهم بمکان العلامة، أعنی خط الخلیفة، و له أخذ النجوی من المؤمنین بالقاهرة و مصر و أعمالهما، لا سیما الصعید، و مبلغها ثلاثة دراهم و ثلث، فیجتمع من ذلک شی‌ء کثیر یحمله إلی الخلیفة بیده بینه، و بینه، و أمانته فی ذلک مع اللّه تعالی، فیفرض له الخلیفة منه ما یعینه لنفسه و للنقباء، و فی الإسماعیلیة المموّلین من یحمل ثلاثة و ثلاثین دینارا و ثلثی دینار علی حکم النجوی، و صحبة ذلک رقعة مکتوبة باسمه، فیتمیز فی المحول فیخرج له علیها خط الخلیفة بارک اللّه فیک، و فی مالک و ولدک و دینک، فیدّخر ذلک، و یتفاخر به، و کانت هذه الخدمة متعلقة بقوم یقال لهم: بنو عبد القویّ أبا عن جدّ آخرهم الجلیس، و کان الأفضل بن أمیر الجیوش نفاهم إلی المغرب، فولد الجلیس بالمغرب، و ربی به، و کان یمیل إلی مذهب أهل السنة، و ولی القضاء مع الدعوة، و أدرکه أسد الدین شیرکوه، و أکرمه و جعله واسطة عند الخلیفة العاضد، و کان قد حجر علی العاضد و لولاه لم یبق فی الخزائن شی‌ء لکرمه، و کأنه علم أنه آخر الخلفاء.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 260
قال المسبحیّ: و کان الداعی یواصل الجلوس بالقصر لقراءة ما یقرأ علی الأولیاء، و الدعاوی المتصلة، فکان یفرد للأولیاء مجلسا، و للخاصة و شیوخ الدولة، و من یختص بالقصور من الخدم و غیرهم مجلسا، و لعوام الناس، و للطارئین علی البلد مجلسا، و للنساء فی جامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر مجلسا، و للحرم و خواص نساء القصر مجلسا، و کان یعمل المجالس فی داره، ثم ینفذها إلی من یختص بخدمة الدولة، و یتخذ لهذه المجالس کتبا یبیضونها بعد عرضها علی الخلیفة، و کان یقبض فی کل مجلس من هذه المجالس ما یتحصل من النجوی من کل من یدفع شیئا من ذلک عینا و ورقا من الرجال و النساء، و یکتب أسماء من یدفع شیئا علی ما یدفعه، و کذلک فی عید الفطر یکتب ما یدفع عن الفطرة، و یحصل من ذلک مال جلیل، یدفع إلی بیت المال شیئا بعد شی‌ء، و کانت تسمی مجالس الدعوة: مجالس الحکمة، و فی سنة أربعمائة کتب سجل عن الحاکم بأمر اللّه فیه رفع الخمس و الزکاة و الفطرة و النجوی التی کانت تحمل، و یتقرّب بها، و تجری علی أیدی القضاة، و کتب سجل آخر بقطع مجالس الحکمة التی تقرأ علی الأولیاء یوم الخمیس و الجمعة، انتهی. و وظیفة داعی الدعاة کانت من مفردات الدولة الفاطمیة، و قد لخصت من أمر الدعوة طرفا أحببت إیراده هنا.
وصف الدعوة و ترتیبها: و کانت الدعوة مرتبة علی منازل: دعوة بعد دعوة.
الدعوة الأولی: سؤال الداعی لمن یدعوه إلی مذهبه عن المشکلات، و تأویل الآیات، و معانی الأمور الشرعیة، و شی‌ء من الطبیعیات، و من الأمور الغامضة، فإن کان المدعوّ عارفا سلم له الداعی و إلّا ترکه یعمل فکره فیما ألقاه علیه من الأسئلة، و قال له: یا هذا، إنّ الدین لمکتوم، و إنّ الأکثر له منکرون، و به جاهلون، و لو علمت هذه الأمّة ما خص اللّه به الأئمة من العلم، لم تختلف؟ فیتشوق حینئذ المدعوّ إلی معرفة ما عند الداعی من العلم فإذا علم منه الإقبال أخذ فی ذکر معانی القراءات و شرائع الدین، و تقریر أنّ الآفة التی نزلت بالأمّة، و شتت الکلمة، و أورثت الأهواء المضلة، ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم، و أقیموا حافظین لشرائعهم یؤدونها علی حقیقتها، و یحفظون معانیها، و یعرفون بواطنها غیر أنّ الناس لما عدلوا عن الأئمة، و نظروا فی الأمور بعقولهم، و اتبعوا ما حسن فی رأیهم، و قلدوا أسفلتهم، و أطاعوا سادتهم و کبراءهم اتباعا للملوک، و طلبا للدنیا التی هی أیدی متبعی لإثم و أجناد الظلمة، و أعوان الفسقة الذین یحبون العاجلة، و یجتهدون فی طلب الرئاسة علی الضعفاء و مکایدة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی أمّته و تغییر کتاب اللّه عزّ و جلّ، و تبدیل سنة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و مخالفة دعوته، و إفساد شریعته، و سلوک غیر طریقته، و معاندة الخلفاء الأئمة من بعده بختر من قبل ذلک، و صار الناس إلی أنواع الضلالات، فإنّ دین محمد صلّی اللّه علیه و سلّم ما جاء بالتحلی، و لا بأمانیّ الرجال، و لا شهوات الناس، و لا بما خف علی الألسنة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 261
و عرفته دهماء العامّة، و لکنه صعب مستصعب، و أمر مستقبل، و علم خفیّ غامض ستره اللّه فی حجبه، و عظم شأنه عن ابتذال أسراره، فهو سرّ اللّه المکتوم، و أمره المستور الذی لا یطیق حمله، و لا ینهض بأعبائه، و ثقله إلّا ملک مقرّب، أو نبیّ مرسل، أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للتقوی، فإذا ارتبط المدعوّ علی الداعی، و أنس له، نقله إلی غیر ذلک.
فمن مسائلهم ما معنی: رمی الجمار؟ و العدو بین الصفا و المروة؟ و لم کانت الحائض تقضی الصوم، و لا تقضی الصلاة؟ و ما بال الجنب یغتسل من ماء دافق یسیر؟ و لا یغتسل من البول النجس الکثیر القذر؟ و ما بال اللّه خلق الدنیا فی ستة أیام؟ أعجز عن خلقها فی ساعة واحدة؟ و ما معنی الصراط المضروب فی القرآن مثلا؟ و الکاتبین الحافظین و ما لنا لا نراهما؟
أخاف أن نکابره، و نجاحده حتی أدلی العیون، و أقام علینا الشهود، و قید ذلک فی القرطاس بالکتابة، و ما تبدیل الأرض غیر الأرض؟ و ما عذاب جهنم؟ و کیف یصح تبدیل جلد مذنب بجلد لم یذنب حتی یعذب؟ و ما معنی: و یحمل عرش ربک فوقهم یومئذ ثمانیة؟ و ما إبلیس؟
و ما الشیاطین؟ و ما وصفوا به و أین مستقرّهم؟ و ما مقدار قدرهم؟ و ما یأجوج و مأجوج و هاروت و ماروت و أین مستقرّهم؟ و ما سبعة أبواب النار؟ و ما ثمانیة أبواب الجنة؟ و ما شجرة الزقوم النابتة فی الجحیم؟ و ما دابة الأرض و رؤس الشیاطین؟ و الشجرة الملعونة فی القرآن؟ و التین و الزیتون؟ و ما الخنس الکنس؟ و ما معنی ألم و المص؟ و ما معنی کهیعص و حمعسق، و لم جعلت السماوات سبعا و الأرضون سبعا، و المثانی من القرآن سبع آیات، و لم فجرت العیون اثنتی عشرة عینا، و لم جعلت الشهور اثنی عشر شهرا، و ما یعمل معکم عمل الکتاب و السنة، و معانی الفرائض اللازمة؟ فکروا أوّلا فی أنفسکم أین أرواحکم؟
و کیف صورها؟ و أن مستقرّها؟ و ما أوّل أمرها و الإنسان ما هو؟ و ما حقیقته؟ و ما الفرق بین حیاته و حیاة البهائم؟ و فضل ما بین حیاة البهائم و حیاة الحشرات؟ و ما الذی بانت به حیاة الحشرات من حیاة النبات؟ و ما معنی قول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم: «خلقت حوّاء من ضلع آدم»؟ و ما معنی قول الفلاسفة: الإنسان عالم صغیر و العالم إنسان کبیر؟ و لم کانت قامة الإنسان منتصبة دون غیره من الحیوانات؟ و لم کان فی یدیه من الأصابع عشر، و فی رجلیه عشر أصابع؟ و فی کل أصبع من أصابع یدیه ثلاثة شقوق إلا الإبهام، فإنّ فیه شقین فقط؟ و لم کان فی وجهه سبع ثقب؟ و فی سائر بدنه ثقبان؟ و لم کان فی ظهره اثنتا عشرة عقدة و فی عنقه سبع عقد؟
و لم جعل عنقه صورة میم، و یداه: حاء، و بطنه: میما، و رجلاه: دالا حتی صار ذلک کتابا مرسوما یترجم عن محمد، و لم جعلت قامته إذا انتصب صورة ألف، و إذا رکع صارت صورة: لام، و إذا سجد صارت صورة هاء، فکان کتابا یدل علی اللّه، و لم جعلت أعداد عظام الإنسان کذا؟ و أعداد أسنانه کذا؟ و الأعضاء الرئیسة کذا إلی غیر ذلک من التشریح، و القول فی العروق و الأعضاء، و وجوه منافع الحیوان، ثم یقول الداعی: ألا تتفکرون فی حالکم، و تعتبرون و تعلمون أنّ الذی خلقکم حکیم غیر مجازف، و أنه فعل جمیع ذلک
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 262
لحکمة، و له فیها أسرار خفیة، حتی جمع ما جمع، و فرّق ما فرّق، فکیف یسعلکم الإعراض عن هذه الأمور، و أنتم تسمعون قول اللّه عز و جل: وَ فِی الْأَرْضِ آیاتٌ لِلْمُوقِنِینَ وَ فِی أَنْفُسِکُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ [الذاریات/ 20، 21]، وَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ [إبراهیم/ 25]، سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی الْآفاقِ وَ فِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ [فصلت/ 53]. فأیّ شی‌ء رآه الکفار فی أنفسهم و فی الآفاق، حتی عرفوا أنه الحق، و أیّ حق عرفه من جحد الدیانة، ألا یدلکم هذا علی أنّ اللّه جل اسمه أراد أن یرشدکم إلی بواطن الأمور الخفیة، و أسرار فیها مکتومة لو نبهتم لها، و عرفتموها لزالت عنکم کل حیرة، و دحضت کل شبهة، و ظهرت لکم المعارف السنیة، ألا ترون أنکم جهلتم أنفسکم التی من جهلها، کان حریا أن لا یعلم غیرها، أ لیس اللّه تعالی یقول: وَ مَنْ کانَ فِی هذِهِ أَعْمی فَهُوَ فِی الْآخِرَةِ أَعْمی وَ أَضَلُّ سَبِیلًا [الإسراء/ 72] و نحو ذلک من تأویل القرآن، و تفسیر السنن و الأحکام، و إیراد أبواب من التجویز و التعلیل، فإذا علم الداعی أن نفس المدعوّ قد تعلقت بما سأله عنه، و طلب منه الجواب عنها قال له: حینئذ لا تعجل فإنّ دین اللّه أعلی و أجل من أن یبذل لغیر أهله، و یجعل غرضا للعب و جرت عادة اللّه، و سنته فی عباده عند شرع من نصبه أن یأخذ العهد علی من یرشده، و لذلک قال: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِیِّینَ مِیثاقَهُمْ وَ مِنْکَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِیمَ وَ مُوسی وَ عِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِیثاقاً غَلِیظاً [الأحزاب/ 7]، و قال عز و جلّ: مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِیلًا [الأحزاب/ 23]، و قال جلّ جلاله: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة/ 1]، و قال: وَ لا تَنْقُضُوا الْأَیْمانَ بَعْدَ تَوْکِیدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَیْکُمْ کَفِیلًا إِنَّ اللَّهَ یَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ وَ لا تَکُونُوا کَالَّتِی نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْکاثاً [النحل/ 91]، و قال: لَقَدْ أَخَذْنا مِیثاقَ بَنِی إِسْرائِیلَ [المائدة/ 70]. و من أمثال هذا فقد أخبر اللّه تعالی أنه لم یملک حقه إلا لمن أخذ عهده فأعطنا صفقة یمینک، و عاهدنا بالموکد من أیمانک و عقودک، أن لا تفشی لنا سرّا، و لا تظاهر علینا أحدا، و لا تطلب لنا غیلة، و لا تکتمنا نصحا، و لا توالی لنا عدوّا، فإذا أعطی العهد قال له الداعی: أعطنا جعلا من مالک نجعله مقدّمة أمام کشفنا لک الأمور، و تعریفک إیاها، و الرسم فی هذا الجعل بحسب ما یراه الداعی، فإن امتنع المدعوّ أمسک عنه الداعی، و إن أجاب و أعطی نقله إلی الدعوة الثانیة، و إنما سمیت الإسماعیلیة بالباطنیة لأنهم یقولون: لکل ظاهر من الأحکام الشرعیة باطن، و لکل تنزیل تأویل.
الدعوة الثانیة: لا تکون إلّا بعد تقدّم الدعوی الأولی، فإذا تقرّر فی نفس المدعوّ جمیع ما تقدّم، و أعطی الجعل، قال له الداعی: إنّ اللّه تعالی لم یرض فی إقامة حقه، و ما شرعه لعباده إلّا أن یأخذوا ذلک عن أئمة نصبهم للناس، و أقامهم لحفظ شریعته علی ما أراده اللّه تعالی، و یسلک فی تقریر هذا، و یستدل علیه بأمور مقرّرة فی کتبهم، حتی یعلم أن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 263
اعتقاد الأئمة قد ثبت فی نفس المدعوّ، فإذا اعتقد ذلک، نقله إلی الدعوة الثالثة.
الدعوة الثالثة: مرتبة علی الثانیة، و ذلک أنه إذا علم الداعی ممن دعاه، أنّ ارتباطه علی دین اللّه لا یعلم إلّا من قبل الأئمة، قرّر حینئذ عنده أن الأئمة سبعة، قد رتبهم الباری تعالی کما رتب الأمور الجلیلة، فإنه جعل الکواکب السیارة سبعة، و جعل السماوات سبعا، و جعل الأرضین سبعا، و نحو ذلک مما هو سبع من الموجودات.
و هؤلاء الأئمة السبعة هم: علیّ بن أبی طالب، و الحسن بن علیّ، و الحسین بن علیّ، و علیّ بن الحسین الملقب زین العابدین، و محمد بن علیّ، و جعفر بن محمد الصادق، و السابع هو: القائم صاحب الزمان.
و هم أعنی الشیعة مختلفون فی هذا القائم، فمنهم من یجعله: محمد بن إسماعیل بن جعفر الصادق، و یسقط إسماعیل بن جعفر، و منهم من یعدّ إسماعیل بن جعفر إماما، ثم یعدّ ابنه محمد بن إسماعیل، فإذا تقرّر عند المدعوّ أن الأئمة سبعة انحل عن معتقد الإمامیة من الشیعة القائلین بإمامة اثنی عشر إماما، و صار إلی معتقد الإسماعیلیة، بأنّ الإمامة انتقلت إلی محمد بن إسماعیل بن جعفر، فإذا علم الداعی ثبات هذا العقد فی نفس المدعوّ، شرع فی ثلب بقیة الأئمة الذین قد اعتقد الإمامیة فیهم الإمامة، و قرّر عند المدعوّ أنّ محمد بن إسماعیل عنده علم المستورات، و بواطن المعلومات التی لا یمکن أن توجد عند أحد غیره، و أنّ عنده أیضا علم التأویل، و معرفة تفسیر ظاهر الأمور، و عنده سرّ اللّه تعالی فی وجه تدبیره المکتوم، و إتقان دلالته فی کل أمر یسأل عنه فی جمیع المعدومات، و تفسیر المشکلات، و بواطن الظاهر کله و التأویلات، و تأویل التأویلات، و أنّ دعاته هم: الوارثون لذلک کله من بین سائر طوائف الشیعة لأنهم أخذوا عنه، و من جهته رووا، و إنّ أحدا من الناس المخالفین لهم لا یستطیع أن یساویهم، و لا یقدر علی التحقق بما عندهم إلّا منهم، و یحتج لذلک بما هو معروف فی کتبهم مما لا یسع هذا الکتاب حکایته لطوله، فإذا انقاد المدعوّ، و أذعن لما تقرّر، نقله إلی الدعوة الرابعة.
الدعوة الرابعة: لا یشرع الداعی فی تقریرها حتی یتیقن صحة انقیاد المدعوّ لجمیع ما تقدّم، فإذا تیقن منه صحة الانقیاد، قرّر عنده أنّ عدد الأنبیاء الناسخین للشرائع المبدّلین لأحکامها، أصحاب الأدوار، و تقلیب الأحوال، الناطقین بالأمور، سبعة فقط، کعدد الأئمة سواء، و کل واحد من هؤلاء الأنبیاء لا بدّ له من صاحب یأخذ عنه دعوته، و یحفظها علی أمّته، و یکون معه ظهیرا له فی حیاته، و خلیفة له من بعد وفاته، إلی أن یبلغ شریعته إلی أحد یکون سبیله معه، کسبیله هو مع نبیه الذی اتبعه، ثم کذلک کل مستخلف خلیفة إلی أن یأتی منهم علی تلک الشریعة، سبعة أشخاص.
و یقال لهؤلاء السبعة: الصامتون لثباتهم علی شریعة اقتفوا فیها أثر واحد هو أوّلهم،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 264
و یسمی الأوّل من هؤلاء السبعة: السوس، و أنه لا بدّ عند انقضاء هؤلاء السبعة، و نفاذ دورهم من استفتاح دور ثان یظهر فیه نبیّ ینسخ شرع من مضی من قبله، و تکون الخلفاء من بعده أمورهم تجری کأمر من کان قبلهم، ثم یکون من بعدهم نبیّ ناسخ یقوم من بعده سبعة صمت أبدا، و هکذا حتی یقوم النبیّ السابع من النطقاء، فینسخ جمیع الشرائع التی کانت قبله، و یکون صاحب الزمان الأخیر.
فکان أوّل هؤلاء الأنبیاء النطقاء: آدم علیه السلام، و کان صاحبه وسوسه ابنه شیث، و عدوّ إتمام السبعة الصامتین علی شریعة آدم.
و کان الثانی من الأنبیاء النطقاء نوح علیه السلام فإن نطق بشریعة، نسخ بها شریعة آدم، و کان صاحبه وسوسه ابنه سام، و تلاه بقیة السبعة الصامتین علی شریعة نوح.
ثم کان الثالث من الأنبیاء النطقاء إبراهیم خلیل الرحمن صلوات اللّه علیه، فإنه نطق بشریعة نسخ بها شریعة نوح و آدم علیهما السلام، و کان صاحبه وسوسه فی حیاته، و الخلیفة القائم من بعده المبلغ شریعته ابنه إسماعیل علیه السلام، و لم یزل یخلفه صامت بعد صامت علی شریعة إبراهیم، حتی تمّ دور السبعة الصمت.
و کان الرابع من الأنبیاء النطقاء: موسی بن عمران علیه السلام، فإنه نطق بشریعة نسخ بها شریعة آدم و نوح و إبراهیم، و کان صاحبه وسوسه أخوه هارون، و لما مات هارون فی حیاة موسی، قام من بعد موسی، یوشع بن نون خلیفة له صمت علی شریعته، و بلغها فأخذها عنه واحد بعد واحد إلی أن کان آخر الصمت علی شریعة موسی، یحیی بن زکریاء و هو آخر الصمت.
ثم کان الخامس من الأنبیاء النطقاء المسیح عیسی ابن مریم صلوات اللّه علیه، فإنه نطق بشریعة نسخ بها شرائع من کان قبله، و کان صاحبه وسوسه: شمعون الصفا، و من بعده تمام السبعة الصمت علی شریعة المسیح.
إلی أن کان السادس من الأنبیاء النطقاء نبینا محمد صلّی اللّه علیه و سلّم، فإنه نطق بشریعة نسخ بها جمیع الشرائع التی جاء بها الأنبیاء من قبله، و کان صاحبه وسوسه علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، ثم من بعد علیّ ستة صمتوا علی الشریعة المحمدیة، و قاموا بمیراث أسرارها، و هم: ابنه الحسن، ثم ابنه الحسین، ثم علیّ بن الحسین، ثم محمد بن علیّ، ثم جعفر بن محمد، ثم إسماعیل بن جعفر الصادق، و هو آخر الصمت من الأئمة المستورین و السابع من النطقاء هو صاحب الزمان.
و عند هؤلاء الإسماعیلیة أنه: محمد بن إسماعیل بن جعفر و أنه الذی انتهی إلیه علم الأوّلین، و قام بعلم بواطن الأمور و کشفها، و إلیه المرجع فی تفسیرها دون غیره، و علی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 265
جمیع الکافة أتباعه و الخضوع له، و الانقیاد إلیه، و التسلیم له، لأنّ الهدایة فی موافقته و أتباعه، و الضلال و الحیرة إلی فی العدول عنه، فإذا تقرّر ذلک عند المدعوّ انتقل الداعی إلی الدعوة الخامسة.
الدعوة الخامسة: مترتبة علی ما قبلها، و ذلک أنه إذا صار المدعوّ فی الرتبة الرابعة من الاعتقاد أخذ الداعی یقرّر أنه لا بدّ مع کل إمام قائم فی کل عصر حجج متفرّقون فی جمیع الأرض علیهم تقوم، و عدّة هؤلاء الحجج أبدا اثنا عشر رجلا فی کل زمان کما أنّ عدد الأئمة سبعة، و یستدل لذلک بأمور منها: أنّ اللّه تعالی لم یخلق شیئا عبثا، و لا بدّ فی خلق کل شی‌ء من حکمة، و إلّا فلم خلق النجوم التی بها قوام العالم سبعة، و جعل أیضا السماوات سبعا، و الأرضین سبعا، و البروج اثنی عشر، و الشهور اثنی عشر شهرا، و نقباء بنی إسرائیل اثنی عشر نقیبا، و نقباء رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم من الأنصار اثنی عشر نقیبا، و خلق تعالی فی کف کل إنسان أربع أصابع، و فی کل أصبع ثلاث شقوق تکون جملتها اثنی عشر شقا، علی أنه فی ید کل إبهام شقان، دلالة علی أنّ الإنسان بدنه کالأرض، و أصابعه کالجزائر الأربع و الشقوق التی فی الأصابع کالحجج، و الإبهام الذی به قوام جمیع الکف، و سداد الأصابع، کالذی یقوّم الأرض بقدر ما فیها، و الشقان اللذان فی الإبهام إشارة إلی أنّ الإمام وسوسة لا یفترقان، و لذلک صار فی ظهر الإنسان: اثنتا عشرة خرزة، إشارة إلی الحجج الاثنی عشر، و صار فی عنقه: سبع، فکان العنق عالیا فی خرزات الظهر، و ذلک إشارة إلی الأنبیاء النطقاء، و الأئمة السبعة، و کذلک الأثقاب السبعة التی فی وجه الإنسان العالی علی بدنه، و أشیاء من هذا النوع کثیرة، فإذا تمهد عند المدعوّ ما دعاه إلیه الداعی، و تقرّر نقله حینئذ إلی الدعوة السادسة.
الدعوة السادسة: لا تکون إلا بعد ثبوت جمیع ما تقدّم فی نفس المدعوّ، و ذلک أنه إذا صار إلی الرتبة الخامسة، أخذ الداعی فی تفسیر معانی شرائع الإسلام من الصلاة و الزکاة و الحج و الطهارة، و غیر ذلک من الفرائض بأمور مخالفة للظاهر، بعد تمهید قواعد تبین فی أزمنة من غیر عجلة تؤدّی إلی أنّ هذه الأشیاء، وضعت علی جهة الرموز لمصلحة العامة، و سیاستهم حتی یشتغلوا بها عن بغی بعضهم علی بعض، و تصدّهم عن الفساد فی الأرض، حکمة من الناصبین للشرائع، و قوّة فی حسن سیاستهم لأتباعهم، و إتقانا منهم لما رتبوه من النوامیس و نحو ذلک، حتی یتمکن هذا الاعتقاد فی نفس المدعوّ، فإذا طال الزمان، و صار المدعوّ یعتقد أنّ أحکام الشریعة کلها وضعت علی سبیل الرمز لسیاسة العامّة، و أنّ لها معانی أخر غیر ما یدل علیه الظاهر، و نقله الداعی إلی الکلام فی الفلسفة، و حضه علی النظر فی کلام أفلاطون، و أرسطو، و فیثاغورس، و من فی معناهم، و نهاه عن قبول الأخبار، و الاحتجاج بالسمعیات، و زین له الاقتداء بالأدلة العقلیة، و التعویل علیها، فإذا استقرّ ذلک عنده و اعتقده، نقله بعد ذلک إلی الدعوة السابعة، و یحتاج ذلک إلی زمان طویل.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 266
الدعوة السابعة: لا یفصح بها الداعی ما لم یکثر أنسه بمن دعاه، و یتیقن أنه قد تأهل إلی الانتقال إلی رتبة أعلی مما هو فیه، فإذا علم ذلک منه قال: إنّ صاحب الدلالة، و الناصب للشریعة، لا یستغنی بنفسه، و لا بدّ له من صاحب معه یعبر عنه لیکون أحدهما الأصل و الآخر عنه کان و صدر، و هذا إنما هو إشارة العام السفلیّ، لما یحویه العالم العلویّ، فإنّ مدبر العالم فی أصل الترتیب، و قوام النظام صدر عنه أوّل موجود بغیر واسطة، و لا سبب نشأ عنه، و إلیه الإشارة بقوله تعالی: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ [یس/ 82] إشارة إلی الأوّل فی الرتبة، و الآخر هو القدر الذی قال فیه: إِنَّا کُلَّ شَیْ‌ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر/ 49] و هذا معنی ما نسمعه من أنّ اللّه: أوّل ما خلق القلم، فقال للقلم: اکتب، فکتب فی اللوح ما هو کائن، و أشیاء من هذا النوع موجودة فی کتبهم، و أصلها مأخوذ من کلام الفلاسفة القائلین: الواحد لا یصدر عنه إلّا واحد، و قد أخذ هذا المعنی المتصوّفة، و بسطوه بعبارات أخر فی کتبهم، فإن کنت ممن ارتاض و عرف مقالات الناس تبین ذلک ما ذکرت، و لا یحتمل هذا الکتاب بسط القول فی هذا المعنی، و إذا تقرّر ما ذکر فی هذه الدعوة عند المدعوّ، نقله الداعی إلی الدعوة الثامنة.
الدعوة الثامنة: متوقفة علی اعتقاد سائر ما تقدّم، فإذا استقرّ ذلک عند المدعوّ، دینا له، قال له الداعی: اعلم أن أحد المذکورین اللذین هما مدبر الوجود و الصادر عنه، إنما تقدّم السابق علی اللاحق، تقدّم العلة علی المعلول، فکانت الأعیان کلها ناشئة، و کائنة عن الصادر الثانی، بترتیب معروف فی بعضهم، و مع ذلک فالسابق عندهم: لا اسم له، و لا صفة، و لا یعبر عنه، و لا یقید فلا یقال هو موجود، و لا معدوم، و لا عالم، و لا جاهل، و لا قادر، و لا عاجز، و کذلک سائر الصفات، فإنّ الإثبات عندهم یقتضی شرکة بینه و بین المحدثات، و التقی یقتضی التعطیل، و قالوا: لیس بقدیم، و لا محدث، بل القدیم أمره و کلمته و المحدث خلقه و فطرته، کما هو مبسوط فی کتبهم، فإذا استقرّ ذلک عند المدعوّ قرر عنده الداعی، أن التالی یدأب فی أعماله حتی یلحق بمنزلة السابق، و أنّ الصامت فی الأرض یدأب فی أعماله حتی یصیر بمنزلة الناطق سواء، و أنّ الداعی یدأب فی أعماله حتی یبلغ منزلة السوس، و حالة سواء.
و هکذا تجری أمور العالم فی أکواره و أدواره، و لهذا القول بسط کثیر، فإذا اعتقده المدعوّ قرّر عنده الداعی أنّ معجزة النبیّ الصادق الناطق لیست غیر أشیاء ینتظم بها سیاسة الجمهور، و تشمل الکافة مصلحتها بترتیب من الحکمة تحوی معانی فلسفیة تنبی‌ء عن حقیقة أنیة السماء و الأرض، و ما یشتمل العالم علیه بأسره من الجواهر و الأعراض، فتارة برموز یعقلها العالمون، و تارة بإفصاح یعرفه کل أحد، فینتظم بذلک للنبیّ شریعة یتبعها الناس، و یقرّر عنده أیضا أنّ القیامة، و القرآن، و الثواب، و العقاب، معناها: سوی ما یفهمه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 267
العامّة، و غیر ما یتبادر الذهن إلیه، و لیس هو إلّا حدوث أدوار عند انقضاء أدوار من أدوار الکواکب، و عوالم اجتماعاتها من کون، و فساد جاء علی ترتیب الطباع، کما قد بسطه الفلاسفة فی کتبهم، فإذا استقرّ هذا العقد عند المدعوّ، نقله الداعی إلی الدعوة التاسعة.
الدعوة التاسعة: هی النتیجة التی یحاول الداعی بتقریر جمیع ما تقدّم رسوخها فی نفس من یدعوه، فإذا تیقن أنّ المدعوّ تأهل لکشف السرّ، و الإفصاح عن الرموز أحاله علی ما تقرّر فی کتب الفلاسفة من علم الطبیعیات، و ما بعد الطبیعة و العلم الإلهی، و غیر ذلک من أقسام العلوم الفلسفیة، حتی إذا تمکن المدعوّ من معرفة ذلک، کشف الداعی قناعه و قال اذکر من الحدوث، و الأصول رموز إلی معانی المبادی‌ء، و تقلب الجواهر، و أنّ الوحی إنما هو صفاء النفس، فیجد النبیّ فی فهمه ما یلقی إلیه، و یتنزل علیه، فیبرزه إلی الناس، و یعبر عنه بکلام اللّه الذی ینظم به النبیّ شریعته بحسب ما یراه من المصلحة فی سیاسة الکافة، و لا یجب حینئذ العمل بها إلّا بحسب الحاجة من رعایة مصالح الدهماء، بخلاف العارف، فإنه لا یلزمه العمل بها، و یکفیه معرفته، فإنها الیقین الذی یجب المصیر إلیه و ما عدا المعرفة من سائر المشروعات، فإنما هی أثقال و آصار حملها الکفار أهل الجهالة لمعرفة الأعراض و الأسباب. و من جملة المعرفة عندهم: أن الأنبیاء النطقاء أصحاب الشرائع، إنّما هم لسیاسة العامّة، و إنّ الفلاسفة أنبیاء حکمة الخاصة، و إنّ الإمام إنما وجوده فی العالم الروحانی، إذا صرنا بالریاضة فی المعارف إلیه، و ظهوره الآن إنما هو ظهور أمره و نهیه علی لسان أولیائه، و نحو ذلک مما هو مبسوط فی کتبهم، و هذا حاصل علم الداعی، و لهم فی ذلک مصنفات کثیرة، منها اختصرت ما تقدّم ذکره.
ابتداء هذه الدعوة: إعلم أنّ هذه الدعوة منسوبة إلی شخص کان بالعراق یعرف:
بمیمون القدّاح، و کان من غلاة الشیعة، فولد ابنا عرف: بعبد اللّه بن میمون، اتسع علمه و کثرت معارفه، و کاد أن یطلع علی جمیع مقالات الخلیقة، فرتب له مذهبا، و جعله فی تسع دعوات، و دعا الناس إلی مذهبه، فاستجاب له خلق، و کان یدعو إلی الإمام محمد بن إسماعیل، و ظهر من الأهواز، و نزل بعسکر مکرّم، فصار له مال، و اشتهرت دعاته، فأنکر الناس علیه، و هموا به ففرّ إلی البصرة، و معه من أصحابه الحسین الأهوازیّ، فلما انتشر ذکره بها طلب، فصار إلی بلاد الشام، و أقام بسلمیة، و بها ولد له ابنه أحمد، فقام من بعد أبیه عبد اللّه بن میمون فسیر الحسین الأهوازیّ داعیة له إلی العراق، فلقی حمدان بن الأشعث المعروف: بقرمط بسواد الکوفة، فدعاه و استجاب له، و أنزله عنده، و کان من أمره ما هو مذکور فی أخبار القرامطة من کتابنا هذا، عند ذکر المعز لدین اللّه معدّ، ثم إنه ولد لأحمد بن عبد اللّه: ابنه الحسین و محمد المعروف: بأبی الشلعلع، فلما هلک أحمد خلفه ابنه الحسین، ثم قام من بعده أخوه أبو الشلعلع، و کان من أمرهم ما هو مذکور فی موضعه، فانتشرت الدعاة فی أقطار الأرض، و تفقهوا فی الدعوة، حتی وضعوا فیها الکتب الکثیرة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 268
و صارت علما من العلوم المدوّنة، ثم اضمحلت الآن، و ذهبت بذهاب أهلها، و لهذا یقال:
إنّ أصل دعوة الإسماعیلیة مأخوذ من القرامطة، و نسبوا من أجلها إلی الإلحاد.
صفة العهد الذی یؤخذ علی المدعوّ: و هو إنّ الداعی یقول لمن یأخذ علیه العهد و یحلفه: جعلت علی نفسک عهد اللّه و میثاقه، و ذمّة رسوله، و أنبیائه، و ملائکته، و کتبه، و رسله، و ما أخذه علی النبیین من عقد، و عهد، و میثاق إنک تستر جمیع ما تسمعه، و سمعته، و علمته، و تعلمه، و عرفته، و نعرفه من أمری، و أمر المقیم بهذا البلد لصاحب الحق الإمام الذی عرّفت إقراری له، و نصحی لمن عقد ذمّته، و أمور إخوانه و أصحابه و ولده، و أهل بیته المطیعین له علی هذا الدین، و مخالصته له من الذکور و الإناث، و الصغار و الکبار، فلا تظهر من ذلک شیئا قلیلا، و لا کثیرا، و لا شیئا یدل علیه إلا ما أطلقت لک أن تتکلم به، أو أطلقه لک صاحب الأمر المقیم بهذا البلد، فتعمل فی ذلک بأمرنا و لا تتعدّاه، و لا تزید علیه، و لیکن ما تعمل علیه قبل العهد، و بعده بقولک، و فعلک أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شریک له و تشهد أن محمدا عبده و رسوله، و تشهد أن الجنة حقّ، و أن النار حقّ، و أن الموت حق، و أن البعث حق، و أن الساعة آتیة لا ریب فیها، و أنّ اللّه یبعث من فی القبور، و تقیم الصلاة لوقتها، و تؤتی الزکاة لحقها، و تصوم رمضان، و تحج البیت الحرام، و تجاهد فی سبیل اللّه حق جهاده علی ما أمر اللّه به و رسوله، و توالی أولیاء اللّه، و تعادی أعداء اللّه، و تقوم بفرائض اللّه و سننه، و سنن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم و علی آله الطاهرین ظاهرا و باطنا، و علانیة سرّا و جهرا فإنّ ذلک یؤکد هذا العهد، و لا یهدمه، و یثبته، و لا یزیله، و یقرّ به، و لا یباعده، و یشدّه، و لا یضعفه، و یوجب ذلک، و لا یبطله و یوضحه، و لا یعمیه، کذلک هو الظاهر و الباطن، و سائر ما جاء به النبییون من ربهم صلوات اللّه علیهم أجمعین علی الشرائط المبینة فی هذا العهد، جعلت علی نفسک الوفاء بذلک، قل: نعم، فیقول المدعوّ: نعم.
ثم یقول الداعی له: و الصیانة له بذلک، و أداء الأمانة علی أن لا تظهر شیئا أخذ علیک فی هذا العهد فی حیاتنا، و لا بعد وفاتنا لا فی غضب، و لا علی حال رضی، و لا علی رغبة، و لا فی حال رهبة، و لا عند شدّة، و لا فی حال رخاء، و لا علی طمع، و لا علی حرمان، تلقی اللّه علی الستر لذلک، و الصیانة له علی الشرائط المبینة فی هذا العهد، و جعلت علی نفسک عهد اللّه و میثاقه، و ذمّته و ذمة رسوله صلّی اللّه علیه و سلّم، أن تمنعنی و جمیع من أسمیه لک، و أثبته عندک مما تمنع منه نفسک، و تنصح لنا و لولیک ولیّ اللّه نصحا ظاهرا و باطنا، فلا تخن اللّه و ولیه، و لا أحدا من إخواننا و أولیائنا، و من تعلم أنه منا بسبب فی أهل و لا مال، و لا رأی، و لا عهد، و لا عقد تتأوّل علیه بما یبطله، فإن فعلت شیئا من ذلک، و أنت تعلم أنک قد خالفته، و أنت علی ذکر منه فأنت بری‌ء من اللّه خالق السماوات و الأرض الذی سوّی خلقک، و ألف ترکیبک، و أحسن إلیک فی دینک و دنیاک، و آخرتک، و تبرأ من رسله الأوّلین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 269
و الآخرین، و ملائکته المقرّبین الکروبیین، و الروحانیین و الکلمات التامّات، و السبع المثانی، و القرآن العظیم، و تبرأ من التوراة، و الإنجیل، و الزبور، و الذکر الحکیم، و من کل دین ارتضاه اللّه فی مقدّم الدار الآخرة، و من کل عبد رضی اللّه عنه، و أنت خارج من حزب اللّه، و حزب أولیائه و خذلک اللّه خذلانا بینا، یعجل لک بذلک النقمة و العقوبة، و المصیر إلی نار جهنم التی لیس لله فیها رحمة، و أنت بری‌ء من حول اللّه و قوّته، و ملجأ إلی حول نفسک، و قوّتک، و علیک لعنة اللّه التی لعن اللّه بها إبلیس، و حرّم علیه بها الجنة و خلده فی النار، إن خالقت شیئا من ذلک، و لقیت اللّه یوم تلقاه، و هو علیک غضبان، و للّه علیک أن تحج إلی بیته الحرام ثلاثین حجة حجا واجبا ماشیا حافیا، لا یقبل اللّه منک إلّا الوفاء بذلک، و کل ما تملک فی الوقت الذی تخالفه فیه، فهو صدقة علی الفقراء و المساکین الذین لا رحم بینک، و بینهم لا یأجرک اللّه علیه، و لا یدخل علیک بذلک منفعة و کل مملوک لک من ذکر و أنثی فی ملکک، أو تستفیده إلی وقت وفاتک إن خالفت شیئا من ذلک، فهم أحرار لوجه اللّه عز و جل، و کل امرأة لک أو تتزوّجها إلی وقت وفاتک إن خالفت شیئا من ذلک، فهنّ طوالق ثلاثا بتة، طلاق الحرج لا مثوبة لک، و لا خیار، و لا رجعة، و لا مشیئة، و کل ما کان لک من أهل و مال و غیرهما، فهو علیک حرام، و کل ظهار فهو لازم لک، و أنا المستحلف لک لإمامک، و حجتک، و أنت الحالف لهما، و إن نوت أو عقدت أو أضمرت، خلاف ما أحملک علیه، و أحلفک به، فهذه الیمین من أوّلها إلی آخرها مجدّدة علیک لازمة لک، لا یقبل اللّه منک، إلّا الوفاء بها و القیام بما عاهدت بینی و بینک. قل: نعم، فیقول: نعم، و لهم مع ذلک وصایا کثیرة أضربنا عنها خشیة الإطالة و فیما ذکرناه کفایة لمن عقل.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 270

الدواوین

اشارة

و کانت دواوین الدولة الفاطمیة لما قدم المعز لدین اللّه إلی مصر، و نزل بقصره فی القاهرة، محلها بدار الإمارة من جوار الجامع الطولونیّ.
فلما مات المعز، و قلد العزیز بالله الوزارة، لیعقوب بن کلس نقل الدواوین إلی داره، فلما مات یعقوب نقلها العزیز بعد موته إلی القصر، فلم تزل به إلی أن استبدّ الأفضل بن أمیر الجیوش، و عمر دار الملک بمصر فنقل إلیها الدواوین، فلما قتل عادت من بعده إلی القصر، و ما زالت هناک حتی زالت الدولة.
قال فی کتاب الذخائر و التحف: و حدّثنی من أثق به، قال: کنت بالقاهرة یوما من شهور سنة تسع و خمسین و أربعمائة، و قد استفحل أمر المارقین، و قویت شوکتهم، و امتدّت أیدیهم إلی أخذ الذخائر المصونة فی قصر السلطان بغیر أمره، فرأیت و قد دخل من باب الدیلم أحد أبواب القصور المعمورة الزاهرة المعروف بتاج الملوک شادی، و فخر العرب علیّ بن ناصر الدولة بن حمدان، و رضی الدولة بن رضی الدولة، و أمیر الأمراء بحتکین ابن بسکتکین، و أمیر العرب بن کیغلغ و الأعز بن سنان، و عدّة من الأمراء أصحابهم البغدادیین و غیرهم، و صاروا فی الإیوان الصغیر، فوقفوا عند دیوان الشام لکثرة عددهم و جماعتهم، و کان معهم أحد الفرّاشین المستخدمین برسم القصور المعمورة، فدخلوا إلی حیث کان الدیوان النظریّ فی الدیوان المذکور، و صحبتهم فعلة، و انتهوا إلی حائط مجیّر، فأمروا الفعلة بکشف الجیر عنه، فظهرت حنیة باب مسدود، فأمروا بهدمه، فتوصلوا منه إلی خزانة، ذکر أنها عزیزیة من أیام العزیز بالله فوجدوا فیها من السلاح ما یروق الناظر، و من الرماح العزیزیة المطلیة أسنتها بالذهب، ذات مهارک فضة مجراة بسواد ممسوح، و فضة بیاض ثقیلة الوزن عدّة رزم، أعوادها من الزان الجید، و من السیوف المجوهرة النصول و من النشاب الخلنجیّ و غیره، و من الدرق اللمطیّ، و الجحف التینیّ و غیر ذلک، و من الدروع المکلل سلاح بعضها و المحلّی بعضها بالفضة المرکبة علیه، و من التخافیف، و الجواشن، و الکراعیدات الملبسة دیباجا المکوکبة بکواکب فضة، و غیر ذلک، مما ذکر أنّ قیمته تزید علی عشرین ألف دینار، فحملوا جمیع ذلک بعد صلاة المغرب.
و لقد شاهدت بعض حواشیهم، و رکابیاتهم یکسرون الرماح، و یتلفون بذلک أعوادها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 271
الزان، لیأخذوا المهارک الفضة و منهم من یجعل ذلک فی سراویله، و عمامته، و جیبه، و منهم من یستوهب من صاحب السیف الثمین، و کان فیها من الرماح الطوال الخطیة السمر الجیاد عدّة، حملوا منها ما قدروا علیه، و بقی منها ما کسره الرکابیة، و من یجری مجراهم کانوا یبیعونه للمغازلیین، و لصناع المرادن، حتی کثر هذا الصنف بالقاهرة، و لم تعترضهم الدولة، و لا التفتت إلی قدر ذلک، و لا احتفلت به، و جعلته هو و غیره فداء لأموال المسلمین، و حفظا لما فی منازلهم.

دیوان المجلس

قال ابن الطویر: دیوان المجلس، هو أصل الدواوین قدیما، و فیه علوم الدولة بأجمعها، و فیه عدّة کتاب، و لکل واحد مجلس مفرد، و عنده معین أو معینان، و صاحب هذا الدیوان، هو المتحدّث فی الإقطاعات، و یلحق بدیوان النظر و یخلع علیه و ینشأ له السجل، و له المرتبة و المسند و الدواة و الحاجب إلی غیر ذلک.
قال: ذکر خدمهم الخاصة المتصلة بهم، فأوّلها دفتر المجلس، و صاحبه من الأستاذین المحنکین، ثم یتولاه أجلّ کتاب الدولة ممن یکون مترشحا لرأس الدواوین، و یتضمن ذلک الدفتر، و له مکان دیوان بالقصر الباطن من الإنعام فی العطایا، و الظاهر من الرسوم المعروفة فی غرّة السنة، و الضحایا و المرتب من الکسوات للأولّاد، و الأقارب و الجهات، و أرباب الرتب علی اختلاف الطبقات، و ما یرد من ملوک الدنیا من التحف و الهدایا، و ما یرسل إلیهم من الملاطفات، و مقادیر الصلات للمترسلین بالمکاتبات، و ما یخرج من الأکفان لمن یموت من أرباب الجهات المحترمات، ثم یضبط ما ینفق فی الدولة من المهمات لیعلم ما بین کل سنة من التفاوت، فالصرّة المنعم بها فی أوّل العام من الدنانیر، و الرباعیة و القراریط تقرب من ثلاثة آلاف دینار، و ثمن الضحایا یقرّب من ألفی دینار، و ما ینفق فی دار الفطرة فیما یفرّق علی الناس سبعة آلاف دینار، و ما ینفق فی دار الطراز للاستعمالات الخاص، و غیرها فی کل سنة عشرة آلاف دینار، و ما ینفق فی مهمّ فتح الخلیج غیر المطاعم ألفا دینار، و ما ینفق فی شهر رمضان فی سماطه ثلاثة آلاف دینار، و ما ینفق فی سماطی الفطر، و النخر أربعة آلاف دینار، و هذا خارج عما یطلق للناس أصنافا من خزائنه من المآکل و المشارب و المواصلة من الهبات، و ما تخرج به الخطوط من التشریفات ، و المسامحات ، و ما یطلق من الأهراء من الغلات حتی لا یفوتهم علم شی‌ء من هذه المطلقات، و فی هذه الخدمة کاتب مستقل بین یدی صاحب دیوانه الأصلیّ، و معه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 272
کاتبان آخران لتنزیل ذلک فی الدفتر، و الدفتر عبارة عن جرائد مسطوحات ینزل ذلک فیها فی أوقاته من غیر فوات.
قال: و إذا انقضی عید النحر من کل سنة تقدّم بعمل الاستیمار لتلک السنة تمام ذی الحجة منها، فیجتمع کتاب دیوان الرواتب عند متولیه، و تحمل العروض إلیه، فإذا تحرّرت نسخة التحریر: بیّضت بعد أن یستدعی من المجلس أوراق بالإدرار الذی یقبض بغیر حرج، و فی الإدرار ما هو مستقرّ بالوجهین، فیضاف هذا المبلغ بجهاته إلی المبالغ المعلومة بدیوان الرواتب و جهاتها، حتی لا یفوت من الاستیمار شی‌ء من کل ما تقرّر شرحه، و یعلم مقداره عینا و ورقا، و غلة و غیر ذلک، فیحرّر ذلک کله بأسماء المرتزقین، و أوّلهم: الوزیر، و من یلوذ به، و علی ذلک إلی أن ینتهی الجمیع إلی أرباب الضرّ، فإذا تکمل استدعی له من خزانة الفرش وطاء حریر لشدّه، و شرابة لمسکه، إمّا خضراء أو حمراء، و یعمل له صدر من الکلام اللائق بما بعده، و هذا کله خارج عن الکسوات المطلقة لأربابها، و الرسوم المعدّة فی کل سنة، و ما یحمل من دار الفطرة من الأصناف برسم عید الفطر، و عما یشهد به دفتر المجلس من العطایا الخافیة و الرسوم، و قد انعقد مرّة، و أنا أتولی دیوان الرواتب علی ما مبلغه نیف و مائة ألف دینار أو قریب من مائتی ألف دینار، و من القمح و الشعیر علی عشرة آلاف أردب، فإذا فرغ من مسکه فی الشرابة حمل إلی صاحب دیوان النظر إن کان، و إلّا فلصاحب دیوان المجلس لیعرضه علی الخلیفة، إن کان یعنی مستبدّا أو الوزیر لاستقبال المحرّم من السنة الآتیة فی أوقات معلومة، فیتأخر فی العرض، و ربما یستوعب المحرّم لیحیط العلم بما فیه، فإذا کمل العرض أخرج إلی الدیوان، و قد شطب علی بعضه، و کانوا یتحرّجون من الإقامات علی مال الدولة التی لا أصل لها، و علی غیر متوفر، و یتنجزها أربابها بالمستقبلات علی الخلفاء و الوزراء، و ینقص قوم للاستکثار، و یزاد قوم للاستحقاق، و یصرف قوم، و یستخدم آخرون علی ما تقتضیه الآراء فی ذلک الوقت، ثم یسلم لرب هذا الدیوان فیحمل الأمر علی ما شطب علیه، و علامة الإطلاق خروجه من العرض.
و قیل: إنه عمل مرّة فی أیام المستنصر بالله، فلما استؤذن علی عرضه، قال: هل وقع أحد بما فیه غیرنا؟ قیل له: معاذ اللّه یا مولانا، ما تمّ إنعام إلّا لک، و لا رزق إلّا من اللّه علی یدیک، فقال: ما ینقص به أمرنا، و لا خطنا، و ما صرفناه فی دولتنا بإذننا، و تقدّم إلی ولیّ الدولة بن جبران کاتب الإنشاء بإمضائه للناس من غیر عرض، و حمل الأمر علی حکمه، و وقع عن الخلیفة بظاهره: الفقر مرّ المذاق، و الحاجة تذل الأعناق، و حراسة النعم بإدرار الأرزاق، فلیجروا علی رسومهم فی الإطلاق ما عندکم ینفد، و ما عند اللّه باق.
و وقع فی خلافة الحافظ لدین اللّه علی استیمار الرواتب ما نصه: أمیر المؤمنین لا یستکثر فی ذات اللّه کثیرا لإعطاء، و لا یکدّره بالتأخیر له، و التسویف، و الإبطاء، و لما انتهی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 273
إلیه ما أرباب الرواتب علیه من القلق للامتناع من إیجاباتهم، و حمل خروجاتهم، قد ضعفت قلوبهم، و قنطت نفوسهم، و ساءت ظنونهم، شملهم برحمته و رأفته، و أمنهم مما کانوا وجلین من مخافته، و جعل التوقیع بذلک بخط یده تأکیدا للإنعام و المنّ، و تهنئة بصدقة لا تتبع بالأذی و المنّ، فلیعتمد فی دیوان الجیوش المنصورة إجراء ما تضمنت هذه الأوراق ذکرهم علی ما ألفوه، و عهدوه من رواتبهم، و إیجابها علی سیاقها لکافتهم من غیر تأوّل، و لا تعنت و لا استدراک و لا تعقب و لیجروا فی نسبیاتهم علی عادتهم لا ینقض من أمرهم ما کان مبرما، و لا ینسخ من رسمهم ما کان محکما، کرما من أمیر المؤمنین، و فعلا مبرورا، و عملا بما أخبر به عز و جل فی قوله تعالی: إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً وَ لا شُکُوراً [الإنسان/ 9] و لینسخ فی جمیع الدواوین بالحضرة إن شاء اللّه تعالی.
و قال فی کتاب کنز الدرر: إن فی سنة ست و أربعمائة: عرض علی الحاکم بأمر اللّه الاستیمار باسم المتفقهین، و القرّاء، و المؤذنین بالقاهرة و مصر، و کانت الجملة فی کل سنة: أحدا و سبعین ألف دینار، و سبعمائة، و ثلاثة و ثلاثین دینارا و ثلثی دینار و ربع دینار، فأمضی جمیع ذلک.
و قال ابن المأمون: و أما الاستیمار، فبلغنی ممن أثق به أنه کان فی الأیام الأفضلیة اثنی عشر ألف دینار، و صار فی الأیام المأمونیة لاستقبال سنة ست عشرة، و خمسمائة ستة عشر ألف دینار، و أما تذکر الطراز، فالحکم فیها مثل الاستیمار، و الشائع فیها أنها کانت تشمل فی الأیام الأفضلیة علی أحد و ثلاثین ألف دینار، ثم اشتملت فی الأیام المأمونیة علی ثلاثة و أربعین ألف دینار، و تضاعفت فی الأیام الآمریة، و عرض روزنامج بما أنفق عینا من بیت المال فی مدّة أوّلها محرّم سنة سبع و عشرة و خمسمائة، و آخرها: سلخ ذی الحجة منها فی العساکر المسیرة لجهاد الفرنج برّا، و الأساطیل بحرا، و المنفق فی أرباب النفقات من الحجریة و المصطیعیة و السودان علی اختلاف قبوضهم، و ما ینصرف برسم خزانة القصور الزاهرة، و ما یبتاع من الحیوان برسم المطابخ، و ما هو برسم مندیل الکمّ الشریف فی کل سنة، مائة دینار، و المطلق فی الأعیاد و المواسم، و ما ینعم به عند الرکوبات من الرسوم و الصدقات، و عند العود منها، و ثمن الأمتعة المبتاعة من التجار علی أیدی الوکلاء و المطلق برسم الرسل، و الضیوف، و من یصل متسأمنا، و دار الطراز، و دار الدیباج، و المطلق برسم الصلاة و الصدقات، و من یعتدی للإسلام، و ما ینعم به علی الولاة عند استدامهم فی الخدم، و نفقات بیت المال، و العمائر و هو من العین: أربعمائة ألف و ثمانیة و ستون ألفا، و سبعمائة و سبعة و تسعون دینارا و نصف من جملة: خمسمائة ألف و سبعة و ستین و ألفا، و مائة و أربعین دینارا و نصف، یکون الحاصل بعد ذلک مما یحمل إلی الصنادیق الخاص برسم المهمات لما یتجدّد من تسفیر العساکر، و ما یحمل إلی الثغور عند نفاد ما بها: ثمانیة و تسعین ألفا، و مائة و سبعة و تسعین دینارا و ربعا و سدسا، و لم یکن یکتب من بیت المال وصول، و لا مجری و لا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 274
تعرّف، و ذلک خارج عما یحمل مشاهرة برسم الدیوان المأمونیّ، و الأجلاء إخوته، و أولاده، و ما أنعم به علی ما تضمنت اسمه مشاهرة من الأصحاب، و الحواشی، و أرباب الخدم، و الکتاب، و الأطباء، و الشعراء، و الفرّاشین الخاص و الجوق، و المؤدبین، و الخیاطین، و الرفائین، و صبیان بیت المال، و نوّاب الباب، و نقباء الرسائل، و أرباب الرواتب المستقرّة من ذوی النسب، و البیوتات و الضعفاء، و الصعالیک من الرجال و النساء عن مشاهرتهم، ستة عشر ألفا، و ستمائة و اثنان و ثمانون دینارا و ثلثا دینار یکون فی السنة:
مائتی ألف و مائة دینار، فتکون الجملة سبمائة ألف و سبعة و ستین ألفا و مائتین و أربعة و تسعین دینارا و نصفا.
قال: و فی هذا الوقت، یعنی شوّال، سنة سبع عشرة و خمسمائة: وقعت مرافعة فی أبی البرکات بن أبی اللیث متولی دیوان المجلس صورتها المملوک یقبل الأرض، و ینهی إنه ما واصل إنهاء حال هذا الرجل، و ما یعتمده لأنه أهل أن ینال خدمته، و إنما هی نصیحة تلزمه فی حق سلطانه، و قد حصل له من الأموال و الذخائر ما لا عدد له و لا قیمة علیه، و یضرب المملوک عن وجوه الجنایة التی هی ظاهرة، لأن السلطان لا یرضی بذکرها فی عالی مجلسه و لا سماعها فی دولته، و له و لأهله مستخدمون فی الدولة ست عشرة سنة بالجاری الثقیل لکل منهم.
و یذکر المملوک ما وصلت قدرته إلی علمه، ما هو باسمه خاصة دون من هو مستخدم فی الدواوین من أهله، و أصحابه، و یبدأ بما باسمه میاومة إدرارا من بیت المال، و الخزائن و دار التعبیة، و المطابخ، و شون الحطب، و هو ما یبین برسم البقولات و التوابل: نصف دینار، و من الضأن: رأس واحد، و من الحیوان: ثلاثة أطیار، و من الحطب: حملة واحدة، و من الدقیق: خمسة و عشرون رطلا، و من الخبز: عشرون وظیفة، و من الفاکهة: ثمرة زهرة قصریتان و شمامة، و فی کل اثنین و خمیس من السماط بقاعة الذهب: طیفور خاص و صحن من الأوائل، و خمسة و عشرون رغیفا من الخبز الموائدی و السمیذ، و فی کل یوم أحد و أربعاء من الأسمطة بالدار المأمونیة مثل ذلک، و فی کل یوم سبت و ثلاثاء من أسمطة الرکوبات: خروف مشویّ، و جام حلوی و رباعی عنبا، و یحضر إلیه فی کل یوم من الإصطبلات بغلة بمرکوب محلی و بغلة برسم الراجل، و فراشین من الجوق برسم خدمته، و تبیت علی بابه، و إذا خرج من بین یدی السلطان فی اللیل، کان له شمعة من الموکبیات توصله إلی داره وزنها: سبعة عشر رطلا، و لا تعود، و برسم ولده: فی کل یوم ثلاثة أرطال لحم، و عشرة أرطال دقیق، و فی أیام الرکوبات رباعی، و المشاهرة جاری دیوان الخاص،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 275
و المجلس برسمه: مائة و عشرون دینارا، و برسم ولده: راتبا عشرة دنانیر و أثبت أربعة غلمان نصاری، و نسبهم للإسلام فی جملة المستخدمین فی الرکاب، و لم یخدموا لا فی اللیل، و لا فی النهار بما مبلغه سبعة دنانیر، و من السکر خمسة عشر رطلا، و من عسل النحل:
عشرة أرطال، و من قلب الفستق: ثلاثة أرقال، و قلب البندق: خمسة أرطال، و قلب اللوز:
أربعة أرطال، و ورد مربی: رطلان، زیت طیب: عشرة أرطال، شیرج: خمسة أرطال، زیت حار: ثلاثون رطلا، خل: ثلاث جرار، أرز: نصف ویبة، سماق: أربعة أرطال، حصرم و کشک، و حب رمّان، و قراصیا بالسویة: اثنا عشر رطلا، سدر و أشنا: ویبة، و من الکیزان:
عشرون شربة عزیزیة و ثلجیة واحدة، و من الشمع ست شمعات منهنّ: اثنتان منویات، و أربعة رطلیات، و المسانهة فی بکور الغرّة برسم الخاصة: خمسة دنانیر، و خمسة رباعیة، و عشرة قراریط جدد، و برسم ولده: دینار و رباعی، و ثلاثة قراریط، و خروف مقموم، و خمسة أرؤس، و ربع قنطار خبز برماذق، و صحن أرز بلبن و سکر، و من السماط بالقصر فی الیوم المذکور خروف شواء، و زبادی، و جام حلوی و الخبز، و قطعة منفوخ، و من القمح: ثلثمائة أردب، و من الشعیر: مائة و خمسون أردبا.
و فی الموالید الأربعة: أربع صوانی فطرة، و کسوة الشتاء، برسمه خاصة مندیل حریری و شقة دیبقیّ حریر و شقة دیباج، و رداء أطلس، و شقة دیباج داری، و شقتان سقلاطون إحداهما اسکندرانیة و شقتان عتابیّ و شقتان خز مغربیّ، و شقتان اسکندرانیّ، و شقتان دمیاطیّ، و شقة طلی مرش، و فوطة خاص.
و برسم ولده: شقة سقلاطون داری، و شقة عتابیّ داری، و شقة خز مغربیّ، و شقتان دمیاطیّ، و شقتان اسکندرانیّ، و شقة طلی و فوطة.
و برسم من عنده: مندیلا کم أحدهما خزائنیّ خاص، و نصفی أردیة دیبقی، و شقة سقلاطون داری و شقة عتابیّ، و شقة سوسیّ، و شقة دمیاطیّ، و شقتان اسکندرانیّ، و فوطة، و برسمه أیضا فی عید الفطر: طیفوران، فطرة مشورة، و مائة حبة بوری، و بدلة مذهبة مکملة، و لولده: بدلة حریر، و برسم من عنده حلة مذهبة، و فی عید النحر: رسمه مثل عید الفطر، و یزید عنه هبة مائة دینار، و لولده: مثل عید الفطر و زیادة عشرة دنانیر، و یساق إلیه من الغنم ما لم یکن باسمه.
و فی موسم فتح الخلیج: أربعون دینارا، و صینیة فطرة، و طیفور خاص من القصر، و خروف شواء، و حام حلواء، و برسم ولده: خمسة دنانیر، و لخاصه فی النوروز: ثلاثون دینارا، و شقة دیبقی حریری، و شقة لاذ و معجر حریری، و مندیل کم حریری، و فوطة، و مائة بطیخة، و سبعمائة حبة رمان، و أربعة عناقید موز، و فرد بسر و ثلاثة أقفاص تمر قوصیّ، و قفصان سفرجل، و ثلاث بکالی هریسة، واحدة بدجاج، و أخری بلحم ضان،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 276
و الثالثة بلحم بقریّ، و أربعون رطلا خبز برماذق، و لولده: خمسة دنانیر و حوائج النوروز بما تقدّم ذکره، و برسم الغیطاس: خمسمائة حبة ترنج و نارنج و لیمون مرکب، و خمسة عشر طنّ قصب، و عشر حبات بوری، و باسمه فی عید الغدیر من السماط بالقصر مثل عید النحر، و له هبة عن رسم الخلع من المجلس المأمونیّ، یعنی مجلس الوزارة ثلاثون دینارا، و لولده خمسة دنانیر، و من تکون هذه رسومه فی أیّ وجه تنصرف أمواله، و الذی باسم أخیه نظیر ذلک، و کذلک صهره فی دیوان الوزارة و ابن أخیه فی الدیوان التاجیّ، و وجوه الأموال من کل جهة واصلة إلیهم، و الأمانة مصروفة عنهم.
و قد اختصر المملوک فیما ذکر، و الذی باسمه أکثر، و إذا أمر بکشف ذلک من الدواوین تبین صحة قول المملوک، و علم أنه ممن یتجنب قول المحال، و لا یرضاه لنفسه سیما أن رفعه إلی المقام الکریم، و شنع ذلک بکثرة القول فیهم، و عرّض بالقبض علیهم، و أوجب علی نفسه أنه یثبت فی جهاتهم من الأموال التی تخرج عن هذا الإنعام ما یجده حاضرا مدخورا عند من یعرفه مائة ألف دینار، فلم یسمع کلامه إلی أن ظهر الراهب فی الأیام الآمریة، فوجد هو و غیره الفرصة فیهم، و کثر الوقائع علیهم، فقبض علیهم عن آخرهم، و من یعرفهم، و أخذ منهم الجملة الکبیرة، ثم بعد ذلک عادوا إلی خدمهم بما کان من أسمائهم، و تجدّد من جاههم، و انتقامهم من أعدائهم أکثر مما کان أوّلا، انتهی.
فانظر أعزک اللّه إلی سعة أحوال الدولة من معلوم رجل واحد من کتاب دواوینها، یتبین لک بما تقدّم ذکره فی هذه المرافعة من عظم الشأن و کثر العطاء، ما یکون دلیلا علی باقی أحوال الدولة.

دیوان النظر

قال ابن الطویر: أما دواوین الأموال، فإنّ أجلّها من یتولی النظر علیهم، و له العزل، و الولایة، و من یده عرض الأوراق فی أوقات معروفة علی الخلیفة أو الوزیر، و لم یر فیه نصرانیّ، إلّا الأحزم، و لم یتوصل إلیه إلّا بالضمان، و له الاعتقال بکل مکان یتعلق بنوّاب الدولة، و له الجلوس بالمرتبة، و المسند، و بین یدیه حاجب من أمراء الدولة، و تخرج له الدواة بغیر کرسی، و هو یندب المترسلین لطلب الحساب، و الحث علی طلب الأموال، و مطالبة أرباب الدولة، و لا یعترض فیما یقصده من أحد من الدولة.

دیوان التحقیق

هو دیوان مقتضاه المقابلة علی الدواوین، و کان لا یتولاه إلّا کاتب خبیر، و له الخلع المرتبة، و الحاجب، و یلحق برأس الدیوان یعنی متولی النظر، و یفتقر إلیه فی أکثر الأوقات.
و قال ابن المأمون: و فی هذه السنة یعنی سنة إحدی و خمسمائة: فتح دیوان المجلس،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 277
قال: و لما کثرت الأموال عند ابن أبی اللیث صاحب الدیوان، رغب فی التبجح علی الأفضل بن أمیر الجیوش ینهضه، و یسأله أن یشاهده قبل حمله، و ذکر أنه سبعمائة ألف دینار خارجا عن نفقات الرجال، فجعلت الدنانیر فی صنادیق بجانب، و الدراهم فی صنادیق بجانب، و قام ابن أبی اللیث بین الصفین، فلما شاهد الأفضل بن أمیر الجیوش ذلک، قال لابن أبی اللیث: یا شیخ تفرّحنی بالمال؟ و تربة أمیر الجیوش إن بلغنی أن بئرا معطلة، أو أرضا بائرة، أو بلدا خراب، لأضربنّ عنقک، فقال: و حق نعمتک لقد حاشا اللّه أیامک أن یکون فیها بلد خراب، أو بئر معطلة، أو أرض بور، فأبی أن یکشف عما ذکر انتهی.
و قتل ابن أبی اللیث فی سنة ثمان عشرة و خمسمائة.

دیوان الجیوش و الرواتب

قال ابن الطویر: أما الخدمة فی دیوان الجیوش، فتنقسم قسمین: الأوّل دیوان الجیش، و فیه مستوف أصیل و لا یکون إلّا مسلما، و له مرتبة علی غیره لجلوسه بین یدی الخلیفة داخل عتبة باب المجلس، و له الطرّاحة، و المسند، و بین یدیه الحاجب، و ترد علیه أمور الأجناد، له العرض و الحلی و الثیاب.
و لهذا الدیوان خازنان برسم رفع الشواهد، و إذا عرض أحد الأجناد، و رضی به عرض دوابه، فلا یثبت له إلّا الفرس الجید من ذکور الخیل، و إناثها، و لا یترک لأحد منهم برذون و لا بغل، و إن کان عندهم البراذین و البغال، و لیس لهم تغییر أحد من الأجناد إلّا بمرسوم، و کذلک إقطاعهم، و یکون بین یدی هذا المستوفی: نقباء الأمراء ینهون إلیه متجدّدات الأجناد من الحیاة و الموت و المرض و الصحة، و کان قد فسح للأجناد فی مقایضة بعضهم بعضا فی الإقطاع بالتوقیعات بغیر علامة، بل بتخریج صاحب دیوان المجلس، و من هذا الدیوان تعمل أوراق أرباب الجرایات، و ما کان لأمیر، و إن علا قدره بلد مقور إلّا نادرا.
و أما القسم الثانی من هذا الدیوان: فهو دیوان الرواتب، و یشتمل علی أسماء کل مرتزق، و جار، و جاریة، و فیه کاتب أصیل بطرّاحة، و فیه من المعینین و المبیضین نحو عشرة أنفس و التعریفات واردة علیه من کل عمل باستمرار من هو مستمرّ، و مباشرة من استجدّ، و موت من مات لیوجب استحقاقه علی النظام المستقیم.
و فی هذا الدیوان عدّة عروض، العرض الأوّل: یشتمل علی راتب الوزیر، و هو فی الشهر خمسة آلاف دینار، و من یلیه من ولد، و أخ من ثلثمائة دینار إلی مائتی دینار، و لم یقرّر لولد وزیر خمسمائة دینار سوی شجاع بن شاور، المنعوت: بالکامل، حواشیهم علی مقتضی عدّتهم، من خمسمائة إلی أربعمائة إلی ثلثمائة خارجا عن الإقطاعات.
العرض الثانی حواشی الخلیفة، و أوّلهم: الأستاذون المحنکون علی رتبهم، و جواری
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 278
خدمهم التی لا یباشرها سواهم، فزمام القصر، و صاحب بیت المال، و حامل الرسالة، و صاحب الدفتر، و مشاد التاج، و زمام الأشراق الأقارب، و صاحب المجلس لکل واحد منهم: مائة دینار فی کل شهر، و من دونهم ینقص عشرة دنانیر حتی یکون آخرهم من له فی کل شهر عشرة دنانیر، و تزید عدّتهم علی ألف نفس، و لطبیبی الخاص لکل واحد: خمسون دینارا، و لمن دونهما من الأطباء برسم المقیمین بالقصر، لکل واحد عشرة دنانیر.
العرض الثالث: یتضمن أرباب الرتب بحضرة الخلیفة، فأوّله کاتب الدست الشریف، و جاریة: مائة و خمسون دینارا، و لکل واحد من کتابه ثلاثون دینارا، ثم صاحب الباب و جاریة: مائة و عشرون دینارا، ثم حامل السیف و حامل الرمح لکل منهما: سبعون دینارا و بقیة الأزمّة علی العساکر و السودان: من خمسین إلی أربعین دینارا إلی ثلاثین دینارا.
العرض الرابع: یشتمل علی المستقرّ لقاضی القضاة، و من یلی قاضی القضاة: مائة دینار، و داعی الدعاة: مائة دینار، و لکل من قرّاء الحضرة: عشرون دینارا إلی خمسة عشر إلی عشرة، و الخطباء الجوامع: من عشرین دینارا إلی عشرة، و للشعراء من عشرین دینارا إلی عشرة دنانیر.
العرض الخامس: یشتمل علی أرباب الدواوین، و من یجری مجراهم، و أوّلهم: من یتولی دیوان النظر و جاریه: سبعون دینارا، و دیوان التحقیق جاریه: خمسون دینارا، و دیوان المجلس: أربعون دینارا، و صاحب دفتر المجلس: خمسة و ثلاثون دینارا، و کاتبه: خمسة دنانیر، و دیوان لجیوش و جاریه: أربعون دینارا، و الموقع بالقلم الجلیل: ثلاثون دینارا، و لجمیع أصحاب الدواوین الجاری فیها المعاملات لکل واحد: عشرون دینارا، و لکل معین: من عشرة دنانیر إلی سبعة إلی خمسة دنانیر.
العرض السادس: یشتمل علی المستخدمین بالقاهرة و مصر لکل احد من المستخدمین فی ولایة القاهرة، و ولایة مصر فی الشهر: خمسون دینارا، و الحماة بالإهراء، و المناخات و الجوالی و البساتین، و الأملاک و غیرها لکل منهم: من عشرین دینارا إلی خمسة عشر إلی عشرة إلی خمسة دنانیر.
العرض السابع: الفرّاشون بالقصور برسم خدمها و تنظیفها خارجا و داخلا و نصب الستائر المحتاج إلیها، و خدمة المناظر الخارجة عن القصر، فمنهم خاص برسم خدمة الخلیفة، و عدّتهم: خمسة عشر رجلا منهم: صاحب المائدة، و حامی المطابخ: من ثلاثین دینارا إلی ما حولها، و لهم رسوم متمیزة، و یقربون من الخلیفة فی الأسمطة التی یجلس علیها، و یلیهم الرشاشون داخل القصر و خارجه، و لهم عرفاء، و یتولی أمرهم أستاذ من خواص الخلیفة و عدّتهم: نحو الثلاثمائة رجل، و جار بهم: من عشرة دنانیر إلی خمسة دنانیر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 279
العرض الثامن: صبیان الرکاب، و عدّتهم: تزید علی ألفی رجل، و مقدّموهم أصحاب رکاب الخلیفة، و عدّتهم: اثنا عشر مقدّما، منهم: مقدّم المقدّمین، و هو صاحب الرکاب الیمین، و لکل من هؤلاء المقدّمین فی کل شهر: خمسون دینارا، و لهم نقباء من جهة المذکورین یعرفونهم و هم مقرّرون جوقا علی قدر جواریهم، جوقة لکل منهم: خمسة عشر دینارا، و جوقة لکل منهم: عشرة دنانیر، و جوقة لکل منهم: خمسة دنانیر، و منهم من ینتدب فی الخدم السلطانیة، و یکون لهم نصیب فی الأعمال التی یدخلونها، و هم الذین یحملون الملحقات لرکوب الخلیفة فی المواسم و غیرها.
و أوّل من قرّر العطاء لغلمانه، و خدمه، و أولادهم الذکور و الإناث، و لنسائهم، و قرّر لهم أیضا الکسوة: العزیز بالله نزار بن المعز.

دیوان الإنشاء و المکاتبات

و کان لا یتولاه إلّا أجل کتاب البلاغة، و یخاطب: بالشیخ الأجل، و یقال له: کاتب الدست الشریف، و یسلم المکاتبات الواردة مختومة، فیعرضها علی الخلیفة من بعده، و هو الذی یأمر بتنزیلها، و الإجابة عنها للکتاب، و الخلیفة یستشیره فی أکثر أموره، و لا یحجب عنه متی قصد المثول بین یدیه، و هذا أمر لا یصل إلیه غیره، و ربما بات عند الخلیفة لیالی و کان جاریه: مائة و عشرین دینارا فی الشهر، و هو أوّل أرباب الإقطاعات، و أرباب الکسوة، و الرسوم و الملاطفات و لا سبیل أن یدخل إلی دیوانه بالقصر، و لا یجتمع بکتابه أحد إلّا الخواص، و له حاجب من الأمراء الشیوخ، و فرّاشون و له المرتبة الهائلة، و المخادّ، و المسند، و الدواة لکنها بغیر کرسیّ، و هی من أخص الدوی، و یحملها أستاذ من أستاذی الخلیفة.

التوقیع بالقلم الدقیق فی المظالم

و کان لا بدّ للخلیفة من جلیس یذاکره ما یحتاج إلیه من کتاب اللّه، و تجوید الخط، و أخبار الأنبیاء، و الخلفاء، فهو یجتمع به فی أکثر الأیام، و معه أستاذ من المحنکین مؤهل لذلک، فیکون الأستاذ ثالثهما، و یقرأ علی الخلیفة ملخص السیر، و یکرّر علیه: ذکر مکارم الأخلاق، و له بذلک رتبة عظیمة تلحق برتبة کاتب الدست، و یکون صحبته للجلوس دواة محلاة، فإذا فرغ من المجالسة، ألقی فی الدواة کاغد: فیه عشرة دنانیر، و قرطاس: فیه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 280
ثلاثة مثاقیل ندّ مثلث خاص لیتبخر به عند دخوله علی الخلیفة ثانی مرة، و له منصب التوقیع بالقلم الدقیق، و له طرّاحة، و مسند، و فرّاش یقدّم إلیه ما یوقع علیه، و له موضع من حقوق دیوان المکاتبات، لا یدخل إلیه أحد إلّا بإذن، و هو یلی صاحب دیوان المکاتبات فی الرسوم، و الکساوی و غیرها.

التوقیع بالقلم الجلیل

و هی رتبة جلیلة، و یقال لها: الخدمة الصغری، و لها الطرّاحة، و المسند بغیر حاجب، بل الفرّاش لترتیب ما یوقع فیه. المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت ؛ ج‌2 ؛ ص280

مجلس النظر فی المظالم

کانت الدولة إذا خلت من وزیر صاحب سیف، جلس صاحب الباب فی باب الذهب بالقصر، و بین یدیه النقباء و الحجاب، فینادی المنادی بین یدیه: یا أرباب الظلامات، فیحضرون، فمن کانت ظلامته مشافهة أرسلت إلی الولاة و القضاة رسالة بکشفها، و من تظلم ممن لیس من أهل البلدین أحضر قصة بأمره، فیتسلمها الحاجب منه، فإذا جمعها أحضرها إلی الموقع بالقلم الدقیق، فیوقع علیها، ثم تحمل إلی الموقع بالقلم الجلیل، فیبسط ما أشار إلیه الموقع الأوّل، ثم تحمل فی خریطة إلی الخلیفة، فیوقع علیها، ثم تخرج فی الخریطة إلی الحاجب، فیقف علی باب القصر، و یسلم کل توقیع لصاحبه، فإن کان وزیره صاحب سیف: جلس للمظالم بنفسه، و قبالته: قاضی القضاة، و من جانبیه شاهدان معتبران، و من جانب الوزیر: الموقع بالقلم الدقیق، و یلیه: صاحب دیوان المال، و بین یدیه صاحب الباب و اسفهسلار العساکر، و بین أیدیهما النوّاب، و الحجاب علی طبقاتهم، و یکون الجلوس بالقصر فی مجلس المظالم فی یومین من الأسبوع، و کان الخلیفة إذا رفعت إلیه القصة، وقع علیها: یعتد ذلک إن شاء اللّه تعالی، و یوقع فی الجانب الأیمن منها، یوقع بذلک، فتخرج إلی صاحب دیوان المجلس، فیوقع علیها جلیلا، و یخلی مکان العلامة فیعلم علیها الخلیفة و تثبت، و کانت علامتهم أبدا: الحمد للّه رب العالمین، و کان الخلیفة یوقع فی المسامحة، و التسویغ و التحبیس: قد أنعمنا بذلک، و قد أمضینا ذلک، و کان إذا أراد أن یعلم ذلک الشی‌ء الذی أنهی وقع لیخرج الحال فی ذلک، فإذا أحضر إلیه إخراج الحال، علم علیه فإن کان حینئذ وزیر وقع الخلیفة بخطه، وزیرنا السید الأجل و ذکر نعته المعروف به أمتعنا اللّه ببقائه یتقدّم بنجاز ذلک إن شاء اللّه تعالی، فیکتب الوزیر تحت خط
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 281
الخلیفة: یمتثل أمر مولانا أمیر المؤمنین صلوات اللّه علیه، و یثبت فی الدواوین.

رتب الأمراء

کان أجل خدم الأمراء: أرباب السیوف، خدم الباب، و یقال لمتولی هذه الخدمة:
صاحب الباب، و ینعت أوّلا بالمعظم، و أوّل من خدم بها: المعظم خمرتاش فی أیام الخلیفة الحافظ، و کان من العقلاء، و ناب عن الحافظ فی مرضه، فلما عوفی أراده علی الوزارة، فامتنع، و له نائب یقال له: النائب، و تسمی الخدمة فیها: بالنیابة الشریفة و مقتضاها أنها ممیزة، و لا یلیها إلّا أعیان العدول، و أرباب العمائم، و ینعت أبدا بعدی الملک، و هو الذی یتلقی الرسل الواصلة من الدول، و معه نوّاب الباب فی خدمته، و یحفظهم ینزلهم بالأماکن المعدّة لهم، و یقدّمهم للسلاح علی الخلیفة، و الوزیر مع صاحب الباب، فیکون صاحب الباب یمینا، و هو یسار، و یتولی افتقادهم، و الحث علی ضیافتهم، و لا یمکن من التقصیر فی حقوقهم، و اجتماع الناس بهم، و الاطلاع علی ما جاؤوا فیه، و لا من ینقل الأخبار إلیهم، و یلی رتبة صاحب الباب، الإسفهسلار، و هو زمام کل زمام، و إلیه أمور الأجناد، ثم یلیه حامل سیف الخلیفة أیام الرکوب بالمظلة و الیتیمة، ثم من یزم طائفتی الحافظیة، و الآمریة، و هما وجه الأجناد، و هؤلاء أرباب الأطواق، و یلیهم: أرباب القصب، و العماریات، و هی الأعلام، ثم زی الطوائف، ثم من یترشح لذلک من الأماثل و کانت الدولة لا تسند ذلک إلّا إلی أرباب الشجاعة، و النجدة، و لهذا دخل فیه أخلاط الناس من الأرمن و الروم و غیرهم، و علی ذلک کان عملهم لا للزینة و التباهی.

قاضی القضاة

و کان من عادة الدولة، أنه إذا کان وزیر: رب سیف، فإنه یقلد القضاء رجلا نیابة عنه، و هذا إنما حدث من عهد أمیر الجیوش بدر الجمالیّ، و إذا کان الخلیفة مستبدّا قلد القضاء رجلا، و نعته بقاضی القضاة، و تکون رتبته أجل رتب أرباب العمائم، و أرباب الأقلام، و یکون فی بعض الأوقات داعیا، فیقال له حینئذ: قاضی القضاة، و داعی الدعاة و لا یخرج شی‌ء من الأمور الدینیة عنه، و یجلس السبت و الثلاثاء، بزیادة جامع عمرو بن العاص بمصر علی طرّاحة و مسند حریر.
فلما ولی ابن عقیل القضاء، رفع المرتبة و المسند، و جلس علی طرّاحات السامان، فاستمرّ هذا الرسم و یجلس الشهود حوالیه یمنة و یسرة بحسب تاریخ عدالتهم، و بین یدیه خمسة من الحجاب اثنان بین یدیه، و اثنان علی باب المقصورة، و واحد ینفذ الخصوم إلیه، و له أربعة من الموقعین بین یدیه: اثنان یقابلان اثنین، و له کرسیّ الدواة، و هی دواة محلاة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 282
بالفضة تحمل إلیه من خزائن القصور، و لها حامل بجامکیة فی الشهر علی الدولة، و یقدّم له من الإصطبلات برسم رکوبه علی الدوام: بغلة شهباء، و هو مخصوص بهذا اللون من البغال دون أرباب الدولة، و علیها من خزانة السروج، سرج محلی ثقیل وراء دفتر فضة، و مکان الجلد حریر، و تأتیه فی المواسم الأطواق، و یخلع علیه الخلع المذهبة بلا طبل، و لا بوق إلّا إذا ولی الدعوة مع الحکم، فإنّ للدعوة فی خلعها الطبل، و البوق، و البنود الخاص و هی نظیر البنود التی یشرّف بها الوزیر صاحب السیف، و إذا کان للحکم خاصة کان حوالیه القرّاء رجالة، و بین یدیه المؤذنون یعلنون بذکر الخلیفة، و الوزیر إن کان، ثم و یحمل بنوّاب الباب و الحجاب، و لا یتقدّم علیه أحد فی محضر هو حاضره من رب سیف و قلم، و لا یحضر لأملاک و لا جنازة إلا بإذن، و لا سبیل إلی قیامه لأحد، و هو فی مجلس الحکم و لا یعدّل شاهد إلّا بأمره، و یجلس بالقصر فی یومی الاثنین و الخمیس، أوّل النهار للسلام علی الخلیفة، و نوّابه لا یفترون عن الأحکام، و یحضر إلیه وکیل بیت المال، و کان له النظر فی دیوان الضرب لضبط ما یضرب من الدنانیر فکان یحضر مباشرة التغلیق بنفسه، و یختم علیه، و یحضر لفتحه، و کان القاضی لا یصرف إلّا بجنحة، و لا یعدّل أحد إلّا بتزکیة عشرین شاهدا: عشرة من مصر، و عشرة من القاهرة، و رضی الشهود به، و لا یحتمی أحد علی الشرع و من فعل ذلک أدب.

قاعة الفضة

و هی من جملة قاعات القصر.

قاعة السدرة

کانت بجوار المدرسة، و التربة الصالحیة، و اشتراها قاضی القضاة: شمس الدین محمد بن ابراهیم بن عبد الواحد بن علیّ بن سرور المقدسیّ الحنبلیّ، مدرس الحنابلة بالمدرسة الصالحیة: بألف و خمسة و تسعین دینارا فی رابع شهر ربیع الآخر: سنة ستین و ستمائة من کمال الدین ظافر بن الفقیه نصر وکیل بیت المال، ثم باعها شمس الدین المذکور للملک الظاهر بیبرس فی حادی عشری ربیع الآخر المذکور، و کان یتوصل إلیها من باب البحر.

قاعة الخیم

کانت شرقیّ قاعة السدرة، و قد دخلت قاعة السدرة، و قاعة الخیم فی مکان المدرسة الظاهریة العتیقة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 283

المناظر الثلاث

استجدّهن الوزیر المأمون البطائحی، وزیر الخلیفة الآمر بأحکام اللّه: إحداهن بین باب الذهب، و باب البحر و الأخری: علی قوس باب الذهب، و منظرة ثالثة، و کان یقال لها: الزاهرة، و الفاخرة، و الناضرة، و کان یجلس الخلیفة فی إحداها لعرض العساکر یوم عید الغدیر، و یقف الوزیر فی قوس باب الذهب.

قصر الشوک

قال ابن عبد الظاهر کان منزلا لبنی عذرة قبل القاهرة یعرف: بقصر الشوک، و هو الآن أحد أبواب القصر انتهی، و العامّة تقول: قصر الشوق، و أدرکت مکانه دارا استجدّت بعد الدولة الفاطمیة، هدمها الأمیر جمال الدین یوسف الإستادار فی سنة إحدی عشرة و ثمانمائة، لینشئها دارا، فمات قبل ذلک، و موضعه الیوم بالقرب من دار الضرب فیما بینه، و بین المارستان العتیق.

قصر أولاد الشیخ

هذا المکان من جملة القصر الکبیر، و کان قاعة، فسکنها الوزیر الصاحب الأمیر الکبیر: معین الدین حسین بن شیخ الشیوخ صدر الدین بن حمویه فی أیام الملک الصالح:
نجم الدین أیوب، فعرف به، و أدرکت هذا المکان خطا یعرف: بالقصر یتوصل إلیه من زقاق تجاه حمام بیسری، و فیه عدّة دور منها: دار الطواشی سابق الدین، و مدرسته المعروفة بالمدرسة السابقیة، و کان یتوصل إلیه من الرکن المخلق أیضا من الباب المظلم تجاه سور سعید السعداء بالمعروف قدیما: بباب الریح، ثم عرف: بقصر ابن الشیخ، و عرف فی زمننا: بباب القصر إلی أن هدمه جمال الدین الإستادار کما یأتی إن شاء اللّه تعالی.

قصر الزمرّد

هو من جملة القصر الکبیر، و عرف أخیرا: بقصر قوصون، ثم عرف فی زمننا: بقصر الحجازیة، و قیل له: قصر الزمرّد لأنه کان بجوار: باب الزمرد، أحد أبواب القصر، و وجد به فی سنة بضع و سبعین و سبعمائة تحت التراب عمودان عظیمان من الرخام الأبیض، فعمل لهما ابن عابد رئیس الحراریق السلطانیة أساقیل، و جرّهما إلی المدرسة التی أنشأها الملک الأشرف شعبان بن حسین تجاه: الطبلخاناة من قلعة الجبل، و أدرکنا لجرّ هذین العمودین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 284
أوقاتا فی أیام تجمع الناس فیها من کل أوب لمشاهدة ذلک، و لهجوا بذکرهما زمنا، و قالوا فیهما شعرا، و غناء کثیرا، و عملوا نموذجات من ثیاب الحریر، و تطریز المنادیل عرفت بجرّ العمود، و کانت الأنفس حینئذ منبسطة، و القلوب خالیة من الهموم و للناس إقبال علی اللهو لکثرة نعمهم، و طول فراغهم، و کان العمودان المذکوران، مما ارتدم من أنقاض القصر فسبحان الوارث.

الرکن المخلق

موضعه الآن: تجاه حوض الجامع الأقمر علی یمنة من أراد الدخول إلی المسجد المعروف الآن: بمعبد موسی و قیل له: الرکن المخلق لأنه ظهر فی: سنة ستین و ستمائة فی هذا الموضع حجر مکتوب علیه: هذا مسجد موسی علیه السلام، فخلق بالزعفران، و سمی من ذلک الیوم بالرکن المخلق، و أخبرنی الأمیر الوزیر أبو المعالی یلبغا السالمیّ، أنه قرأ فی الأسطر المکتوبة: بأسکفة باب الجامع الأقمر کلاما من جملته، و الحوانیت التی بالرکن المخوّق: بواو بعد الخاء، فرأیت بعد ذلک فی الأمالی للقالی، و قال أبو عبیدة عن أبی عمر، و الخوقاء: الصحراء التی لا ماء بها، و یقال: الواسعة و أخوق: واسع، فلعله سمی: المخوّق بمعنی الاتساع، فکان رکنا متسعا، و فی بناء واسع أو یکون المخلق باللام من قولهم قدح مخلق بضم المیم، و فتح الخاء، و تشدید اللّام، و فتحها أی: مستو أملس، و کل ما لین و ملس، فقد خلق، فکل مملس مخلق، و سمته العامة بعد ذلک: الرکن المخلق عندما خلقوه بالزعفران، و اللّه أعلم.

السقیفة

و کان من جملة القصر الکبیر موضع یعرف: بالسقیفة یقف عنده المتظلمون، و کانت عادة الخلیفة أن یجلس هناک کل لیلة لمن یأتیه من المتظلمین، فإذا ظلم أحد وقف تحت السقیفة، و قال بصوت عال: لا إله إلّا اللّه محمد رسول اللّه علیّ ولیّ اللّه، فیسمعه الخلیفة، فیأمر بإحضاره إلیه، أو یفوّض أمره إلی الوزیر أو القاضی أو الوالی، و من غریب ما وقع أن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 285
الموفق بن الخلال: لما کان یتحدّث فی أمور الدواوین أیام الخلیفة الحافظ لدین اللّه، و خرج من انتدب بعد انحطاط النیل من العدول، و النصاری الکتاب إلی الأعمال لتحریر ما شمله الریّ، و زرع من الأراضی و کتابة المکلفات، فخرج إلی بعض النواحی من یمسحها من شادّ، و ناظر، و عدول، و تأخر الکاتب النصرانیّ، ثم لحقهم و أراد التعدیة إلی الناحیة، فحمله ضامن تلک المعدّیة إلی البرّ، و طلب منه أجرة التعدیة، فنفر فیه النصرانیّ و وسبّه، و قال: أنا ماسح هذه البلدة، و ترید منی حق التعدیة، فقال له الضامن: إن کان لی زرع خذه، و قلع لجام بغلة النصرانیّ، و ألقاه فی معدّیته، فلم یجد النصرانی بدّا من دفع الأجرة إلیه، حین أخذ لجام بغلته، فلما تمم مساحة البلد، و بیض مکلفة المساحة لیحملها إلی دواوین الباب، و کانت عادتهم حینئذ، کتب الجملة بزیادة عشرین فدّانا ترک بیاضا فی بعض الأوراق، و قابل العدول علی المکلفة، و أخذ الخطوط علیها بالصحة، ثم کتب فی البیاض الذی ترکه: أرض اللجام باسم ضامن المعدّیة عشرین فدانا، قطیعة کل فدّان: أربعة دنانیر، عن ذلک ثمانون دینارا، و حمل المکلفة إلی دیوان الأصل و کانت العادة إذا مضی من السنة الخراجیة أربعة أشهر ندب من الجند من فیه حماسة، و شدّة، و من الکتاب العدول، و کاتب نصرانیّ، فیخرجون إلی سائر الأعمال لاستخراج ثلث الخراج علی ما تشهد به المکلفات المذکورة فینفق فی الأجناد، فإنه لم یکن حینئذ للأجناد إقطاعات، کما هو الآن، و کان من العادة أن یخرج إلی کل ناحیة ممن ذکر من لم یکن خرج وقت المساحة، بل ینتدب قوم سواهم، فلما خرج الشادّ و الکاتب و العدول لاستخراج ثلث مال الناحیة استدعوا أرباب الزرع علی ما تشهد به المکلفة، و من جملتهم ضامن المعدّیة، فلما حضر: ألزم بستة و عشرین دینارا و ثلثی دینار عن نظیر ثلث المال الثمانین دینارا التی تشهد بها المکلفة، عن خراج أرض اللجام فأنکر الضامن أن تکون له زراعة بالناحیة، و صدّقه أهل البلد، فلم یقبل الشادّ ذلک، و کان عسوفا، و أمر به فضرب بالمقارع و احتج بخط العدول علی المکلفة، و ما زال به حتی باع معدّیته و غیرها، و أورد ثلث المال الثابت فی المکلفة و سار إلی القاهرة، فوقف تحت السقیفة، و أعلن بما تقدّم ذکره، فأمر الخلیفة الحافظ بإحضاره، فلما مثل بحضرته قص علیه ظلامته مشافهة، و حکی له ما اتفق منه فی حق النصرانیّ، و ما کاده به، فأحضر ابن الخلال، و جمیع أرباب الدواوین، و أحضرت المکلفات التی عملت للناحیة المذکورة فی عدّة سنین ماضیة، و تصفحت بین یدیه سنة سنة، فلم یوجد لأرض اللجام ذکر البتة، فحینئذ أمر الخلیفة الحافظ: بإحضار ذلک النصرانیّ، و سمر فی مرکب و أقام له من یطعمه و یسقیه، و تقدّم بأن یطاف به سائر الأعمال، و ینادی علیه، ففعل ذلک، و أمر بکف أیدی النصرانیة کلها عن الخدم فی سائر المملکة، فتعطلوا مدّة إلی أن ساءت أحوالهم.
و کان الحافظ مغرما بعلم النجوم و له عدّة من المنجمین من جملتهم: شخص صار إلیه عدّة من أکابر کتاب النصاری، و دفعوا إلیه جملة من المال، و معهم رجل منهم یعرف:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 286
بالأخرم بن أبی زکریا، و سألوه أن یذکر للحافظ فی أحکام تلک السنة حلیة هذا الرجل، فإنه إن أقامه فی تدبیر دولته زاد النیل، و نما الارتفاع، و زکت الزروع، و نتجت الأغنام، و درّت الضروع، و تضاعفت الأسماک، و ورد التجار، و جرت قوانین المملکة علی أجمل الأوضاع، فطمع ذلک المنجم فی کثرة ما عاینه من الذهب و عمل ما قرّره النصاری معه، فلما رأی الحافظ ذلک تعلقت نفسه بمشاهدة تلک الصفة، فأمر بإحضار الکتاب من النصاری، صار یتصفح وجوههم من غیر أن یطلع أحدا علی ما یریده، و هم یؤخرون الأخرم عن الحضور إلیه قصدا منهم، و خشیة أن یفطن بمکرهم إلی أن اشتدّ إلزامهم بإحضار سائر من بقی منهم، فأحضروه بعد أن وضعوا من قدره، فلما رآه الحافظ: رأی فیه الصفات التی عینها منجمه، فاستدناه إلیه، و قربه و آل أمره إلی أن ولّاه أمیر الدواوین، فأعاد کتاب النصاری أوفر ما کانوا علیه، و شرعوا فی التجبر، و بالغوا فی إظهار الفخر، و تظاهروا بالملابس العظیمة، و رکبوا البغلات الرائعة، و الخیول المسوّمة بالسروج المحلاة، و اللجم الثقیلة، و ضایقوا المسلمین فی أرزاقهم و استولوا علی الأحباس الدینیة، الأوقاف الشرعیة، و اتخذوا العبید و الممالیک، و الجواری من المسلمین و المسلمات، و صودر بعض کتاب المسلمین، فألجأته الضرورة إلی بیع أولاده و بناته، فیقال: إنه اشتراهم بعض النصاری، و فی ذلک یقول ابن الخلال:
إذا حکم النصاری فی الفروج‌و غالوا بالبغال و بالسروج
و ذلت دولة الإسلام طرّاو صار الأمر فی أیدی العلوج
فقل للأعور الدجال هذازمانک إن عزمت علی الخروج
و موضع السقیفة فیما بین درب السلامی، و بین خزانة البنود یتوصل إلیه من تجاه البئر التی قدّام دار کانت تعرف: بقاعة ابن کتیلة، ثم استولی علیها جمال الدین الإستادار، و جعلها مسکنا لأخیه ناصر الدین الخطیب و غیر بابها.

دار الضرب

هذا المکان الذی هو الآن: دار الضرب من بعض القصر، فکان خزانة بجوار الإیوان الکبیر سجن بها الخلیفة الحافظ لدین اللّه أبو المیمون عبد المجید ابن الأمیر أبی القاسم محمد بن المستنصر بالله أبی تمیم معدّ، ذلک أنّ الآمر لما قتل فی یوم الثلاثاء: رابع عشر ذی القعدة سنة أربع و عشرین خمسمائة، قام العادل برغش، و هزار الملوک جوامرد ، و کانا أخص غلمان الآمر بالأمیر عبد المجید، و نصباه خلیفة، و نعتاه بالحافظ لدین اللّه، و هو
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 287
یومئذ أکبر الأقارب سنا، و ذکر أن الآمر، قال قبل أن یقتل بأسبوع عن نفسة المسکین المقتول بالسکین، و إنه أشار إلی أن بعض جهاته حامل منه، و أنه رأی أنها ستلذ ذکرا، و هو الخلیفة من بعده، و أن کفالته للأمیر عبد المجید، فجلس علی أنه کافل للمذکور، و ندب هزار الملوک للوزارة، و خلع علیه، فلم ترض الأجناد به، و ثاروا بین القصرین، و کبیرهم رضوان بن ولخشی، و قاموا بأبی علیّ بن الأفضل الملقب: بکتیفات، و قالوا: لا نرضی إلّا أن یصرف هزار الملوک و تفوّض الوزارة لأحمد بن الأفضل فی سادس عشرة، فکان أوّل ما بدأ به أن أحاط علی الخلیفة الحافظ، و سجنه بالقاعة المذکورة، و قیده، و همّ بخلعه، فلم یتأت له ذلک، و کان إمامیا، فأبطل ذکر الحافظ من الخطبة، و صار یدعو للقائم المنتظر، و نقش علی السکة: اللّه الصمد الإمام محمد، فلما قتل فی یوم الثلاثاء سادس عشر المحرّم سنة ست و عشرین و خمسمائة بالمیدان خارج باب الفتوح، سارع صبیان الخاص الذین تولوا قتله إلی الحافظ، و أخرجوه من الخزانة المذکورة و فکوا عنه قیده، و کان کبیرهم: یانس ، و أجلسوه فی الشباک علی منصب الخلافة، و طیف برأس أحمد بن الأفضل، و خلع علی:
یانس خلع الوزارة، و ما زالت الخلافة فی ید الحافظ، حتی مات لیلة الخمیس لخمس خلون من جمادی الآخرة سنة أربع و أربعین، و خمسمائة عن: سبع و ستین سنة منها: خلیفة من حین قتل ابن الأفضل: ثمان عشرة سنة، و أربعة أشهر و أیام.

خزائن السلاح

کانت بالإیوان الکبیر الذی تقدّم ذکره فی صدر الشباک الذی یجلس فیه الخلیفة تحت القبة التی هدمت فی سنة سبع و ثمانین و سبعمائة کما تقدّم، و خزائن السلاح المذکورة هی الآن باقیة بجوار دار الضرب خلف المشهد الحسینیّ، و عقد الإیوان باق، و قد تشعث.

المارستان العتیق

قال القاضی الفاضل فی متجدّدات سنة سبع و سبعین و خمسمائة فی تاسع ذی القعدة:
أمر السلطان یعنی صلاح الدین یوسف بن أیوب بفتح: مارستان للمرضی و الضعفاء، فاختیر له مکان بالقصر، و أفرد برسمه من أجرة الرباع الدیوانیة مشاهرة، مبلغها مائتا دینار، و غلات جهاتها الفیوم، و استخدم له أطباء، و طبائعیین، و جرایحیین، و مشارف، و عاملا، و خداما،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 288
و وجد الناس به رفقا، و إلیه مستروحا، و به نفعا، و کذلک بمصر أمر: بفتح مارستانها القدیم و أفرد برسمه من دیوان الأحباس ما تقدیر ارتفاعه: عشرون دینارا، و استخدم له طبیب، و عامل و مشارف، و ارتفق به الضعفاء، و کثر بسبب ذلک الدعاء.
و قال ابن عبد الظاهر: کان قاعة بناها العزیز بالله فی سنة أربع و ثمانین و ثلثمائة، و قیل: إن القرآن مکتوب فی حیطانها، و من خواصها أنه لا یدخلها ثمل لطلسم بها، و لما قیل ذلک لصلاح الدین رحمه اللّه قال: هذا یصلح أن یکون مارستانا، و سألت مباشریه عن ذلک، فقالوا: إنه صحیح، و کان قدیما المارستان، فیما بلغنی القشاشین، و أظنه المکان المعروف: بدار الدیلم انتهی، و القشاشین المذکورة تعرف الیوم: بالخرّاطین المسلوک فیها إلی الخیمیین، و الجامع الأزهر.

التربة المعزیة

کان من جملة القصر الکبیر: التربة المعزیة، و فیها دفن المعز لدین اللّه، آباءه الذین أحضرهم فی توابیت معه من بلاد المغرب، و هم الإمام المهدی عبید اللّه، و ابنه القائم بأمر اللّه محمد، و ابنه الإمام المنصور بنصر اللّه إسماعیل، و استقرّت مدفنا یدفن فیه الخلفاء، و أولادهم، و نساءهم، و کانت تعرف: بتربة الزعفران، و هو مکان کبیر من جملتها الموضع الذی یعرف الیوم: بخط الزراکشة العتیق، و من هناک بابها، و لما انشأ الأمیر: جهارکس الخلیلیّ خانه المعروف به فی الخط المذکور، أخرج ما شاء اللّه من عظامهم، فألقیت فی المزابل علی کیمان البرقیة، و یمتدّ من هناک من حیث المدرسة البدیریة خلف المدارس الصالحیة النجمیة، و بها إلی الیوم بقایا من قبورهم، و کان لهذه التربة عواید و رسوم منها:
أن الخلیفة کلما رکب بمظلة، و عاد إلی القصر لا بدّ أن یدخل إلی زیارة آبائه بهذه التربة، و کذلک لا بدّ أن یدخل فی یوم الجمعة دائما، و فی عیدی الفطر و الأضحی مع صدقات و رسوم تفرّق.
قال ابن المأمون: و فی هذا الشهر یعنی شوّالا سنة ست عشرة و خمسمائة، تنبه ذکر الطائفة النزاریة، و تقرّر بین یدی الخلیفة الآمر بأحکام اللّه أن یسیر رسول إلی صاحب الموق بعد أن جمعوا الفقهاء من الإسماعیلیة، و الإمامیة، و قال لهم الوزیر المأمون البطائحیّ ما لکم من الحجة فی الرد علی هؤلاء الخارجین علی الإسماعیلیة؟ فقال کل منهم: لم یکن لنزار إمامة و من اعتقد هذا، فقد خرج عن المذهب، و ضلّ، و وجب قتله، و ذکروا حجتهم، فکتب الکتاب، و وصلت کتب من خواص الدولة تتضمن أن القوم قویت شوکتهم، و اشتدّت فی البلاد طمعتهم، و أنهم سیروا الآن ثلاثة آلاف برسم النجوی و برسم المؤمنین الذین تنزل الرسل عندهم، و یختفون فی محلهم، فتقدّم الوزیر بالفحص عنهم، و الاحتراز التام علی الخلیفة فی رکوبه، و منتزهاته، و حفظ الدور و الأسواق، و لم یزل البحث فی طلبهم إلی أن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 289
وجدوا، فاعترفوا بأن خمسة منهم هم الرسل الواصلون بالمال فصلبوا.
و أما المال و هو ألفا دینار، فإنّ الخلیفة أبی قبوله، و أمر أن ینفق فی السودان عبید الشراء، و أحضر من بیت المال نظیر المبلغ، و تقدّم بأن یصاغ به قندیلان من ذهب، و قندیلان من فضة، و أن یحمل منها قندیل ذهب، و قندیل فضة إلی مشهد الحسین بثغر عسقلان، و قندیل إلی التربة المقدّسة تربة الأئمة بالقصر، و أمر الوزیر المأمون: بإطلاق ألفی دینار من ماله، و تقدّم بأن یصاغ بها قندیل ذهب، و سلسلة فضة برسم المشهد العسقلانیّ، و أن یصاغ علی المصحف الذی بخط أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب بالجامع العتیق بمصر من فوق الفضة ذهب، و أطلق حاصل الصنادیق التی تشتمل علی مال النجاوی برسم الصدقات عشرة آلاف درهم تفرّق فی الجوامع الثلاثة: الأزهر بالقاهرة، و العتیق بمصر، و جامع القرافة، و علی فقراء المؤمنین علی أبواب القصور، و أطلق من الاهراء ألفی أردب قمحا، و تصدّق علی عدّة من الجهات بجملة کثیرة، و اشتریت عدّة جوار من الحجر، و کتب عتقهن للوقت، و أطلق سراحهن، و قال فی کتاب الذخائر: إنّ الأتراک طلبوا من المستنصر نفقة فی أیام الشدّة، فماطلهم و إنهم هجموا علی التربة المدفون فیها أجداده، فأخذوا ما فیها من قنادیل الذهب و کانت قیمة ذلک، مع ما اجتمع إلیه من الآلات الموجودة هناک مثل المداخن، و المجامر و حلی المحاریب و غیر ذلک خمسین ألف دینار.

القصر النافعیّ

قال ابن عبد الظاهر: القصر النافعیّ قرب التربة یقرب من جهة السبع خوخ کان فیه عجائز من عجائز القصر و أقارب الأشراف انتهی.
و موضع هذا القصر الیوم فندق المهمندار الذی یدق فیه الذهب، و ما فی قبلیه من خان منجک، و دار خواجا عبد العزیز المجاورة للمسجد الذی بحذاء خان منجک، و ما بجوار دار خواجا من الزقاق المعروف: بدرب الحبشیّ، و کان حدّ هذا القصر الغربیّ ینتهی إلی الفندق الذی بالخیمیین المعروف قدیما: بخان منکورس، و یعرف الیوم: بخان القاضی، و اشتری بعض هذا القصر لما بیع بعد زوال الدولة، الأمیر ناصر الدین عثمان بن سنقر الکاملیّ المهمندار الذی یعرف: بفندق المهمندار بعد أن کان اصطبلا له، و اشتری بعضه الأمیر حسام الدین لاجین الإیدمری المعروف: بالدر قیل دوادار الملک الظاهر بیبرس، و عمّره اصطبلا، و دارا، و هی الدار التی تعرف الیوم: بخواجا عبد العزیز علی باب درب الحبشی، ثم عمل الإصطبل الخان الذی یعرف الیوم: بخان منجک، و ابتنی الناس فی مکان درب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 290
الحبشیّ الدور، و زال أثر القصر، فلم یبق منه شی‌ء البتة.

الخزائن التی کانت بالقصر

اشارة

و کانت بالقصر الکبیر عدّة خزائن منها: خزانة الکتب، و خزانة البنود، و خزائن السلاح، و خزائن الدرق، و خزائن السروج، و خزانة الفرش، و خزانة الکسوات، و خزانة الأدم، و خزائن الشراب، و خزنة التوابل، و خزائن الخیم، و دار التعبیة، و خزائن دار أفتکین، و دار الفطرة، و دار العلم، و خزانة الجوهر و الطیب، و کان الخلیفة یمضی إلی موضع من هذه الخزائن، و فی کل خزانة دکة علیها طرّاحة، و لها فرّاش یخدمها، و ینظفها طول السنة، و له جار فی کل شهر، فیطوفها کلها فی السنة.

خزانة الکتب

قال المسبحیّ: و ذکر عند العزیز بالله، کتاب العین للخلیل بن أحمد، فأمر خزان دفاتره، فأخرجوا من خزانته نیفا و ثلاثین نسخة من کتاب العین، منها نسخة بخط الخلیل بن أحمد، و حمل إلیه رجل نسخة من کتاب تاریخ الطبری: اشتراها بمائة دینار، فأمر العزیز الخزان، فأخرجوا من الخزانة ما ینیف عن عشرین نسخة من تاریخ الطبریّ، منها نسخة بخطه.
و ذکر عنده کتاب: الجمهرة لابن درید، فأخرج من الخزانة مائة نسخة منها، و قال فی کتاب الذخائر: عدّة الخزائن التی برسم الکتب فی سائر العلوم بالقصر: أربعون خزانة، خزانة من جملتها ثمانیة عشر ألف کتاب من العلوم القدیمة، و إن الموجود فیها من جملة الکتب المخرجة فی شدّة المستنصر ألفان و أربعمائة ختمة قرآن فی ربعات بخطوط منسوبة زائدة الحسن محلاة بذهب و فضة، و غیرهما، و إنّ جمیع ذلک کله ذهب فیما أخذه الأتراک فی واجباتهم ببعض قیمته، و لم یبق فی خزائن القصر البرانیة منه شی‌ء بالجملة دون خزائن القصر الداخلة التی لا یتوصل إلیها، و وجدت صنادیق مملوءة أقلاما مبریة من برایة ابن مقلة، و ابن البوّاب و غیرهما.
قال: و کنت بمصر فی العشر الأول من محرّم سنة إحدی و ستین و أربعمائة، فرأیت فیها خمسة و عشرین جملا موقرة کتبا محمولة إلی دار الوزیر أبی الفرج محمد بن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 291
جعفر المغربیّ، فسألت عنها، فعرفت أنّ الوزیر أخذها من خزائن القصر هو، و الخطیر ابن الموفق فی الدین بإیجاب وجبت لهما عما یستحقانه، و غلمانهما من دیوان الجبلیین، و إن حصة الوزیر أبی الفرج منها قوّمت علیه من جاری ممالیکه، و غلمانه بخمسة آلاف دینار، و ذکر لی من له خبرة بالکتب أنها تبلغ أکثر من مائة ألف دینار، و نهب جمیعها من داره یوم انهزم ناصر الدولة بن حمدان من مصر فی صفر من السنة المذکورة مع غیرها، مما نهب من دور من سار معه من الوزیر أبی الفرج، و ابن أبی کدینة، و غیرهما هذا سوی ما کان فی خزائن دار العلم بالقاهرة، و سوی ما صار إلی عماد الدولة أبی الفضل بن المحترق بالإسکندریة، ثم انتقل بعد مقتله إلی المغرب، و سوی ما ظفرت به لواتة محمولا مع ما صار إلیه بالابتیاع، و الغصب فی بحر النیل إلی الاسکندریة فی سنة إحدی و ستین و أربعمائة، و مما بعدها من الکتب الجلیلة المقدار، المعدومة المثل فی سائر الأمصار صحة، و حسن خط، و تجلید، و غرابة التی أخذ جلودها عبیدهم، و إماؤهم برسم عمل ما یلبسونه فی أرجلهم، و أحرق ورقها تأوّلا منهم أنها خرجت من قصر السلطان أعز اللّه أنصاره، و إنّ فیها کلام المشارقة الذی یخالف مذهبهم سوی ما غرق، و تلف، و حمل إلی سائر الأقطار، و بقی منها ما لم یحرق، و سفت علیه الریاح التراب، فصار تلالا باقیة إلی الیوم فی نواحی آثار تعرف: بتلال الکتب.
و قال ابن الطویر: خزانة الکتب کانت فی أحد مجالس المارستان الیوم یعنی:
المارستان العتیق، فیجی‌ء الخلیفة راکبا، و یترجل علی الدکة المنصوبة، و یجلس علیها، و یحضر إلیه من یتولاها، و کان فی ذلک الوقت الجلیس بن عبد القویّ، فیحضر إلیه المصاحف بالخطوط المنسوبة، و غیر ذلک مما یقترحه من الکتب، فإن عنّ له أخذ شی‌ء منها أخذه، ثم یعیده، و تحتوی هذه الخزانة علی عدّة رفوف فی دور ذلک المجلس العظیم، و الرفوف مقطعة بحواجز، و علی کل حاجز باب مقفل بمفصلات، و قفل و فیها من أصناف الکتب ما یزید علی مائتی ألف کتاب من المجلدات، و یسیر من المجرّدات، فمنها الفقه علی سائر المذاهب، و النحو، و اللغة، و کتب الحدیث و التواریخ، و سیر الملوک، و النجامة، و الروحانیات، و الکیمیاء من کل صنف النسخ، و منها النواقص التی ما تممت کل ذلک بورقة مترجمة ملصقة علی کل باب خزانة، و ما فیها من المصاحف الکریمة فی مکان فوقها، و فیها من الدروج بخط ابن مقلة، و نظائره کابن البوّاب و غیره، و تولی بیعها ابن صورة فی أیام الملک الناصر صلاح الدین، فإذا أراد الخلیفة الانفصال مشی فیها مشیة لنظرها، و فیها ناسخان، و فرّاشان صاحب المرتبة. و آخر، فیعطی الشاهد عشرین دینارا،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 292
و یخرج إلی غیرها، و قال ابن أبی طی بعد ما ذکر استیلاء صلاح الدین علی القصر، و من جملة ما باعوه: خزانة الکتب، و کانت من عجائب الدنیا، و یقال: إنه لم یکن فی جمیع بلاد الإسلام دار کتب أعظم من التی کانت بالقاهرة فی القصر، و من عجائبها: أنه کان فیها ألف، و مائتا نسخة من تاریخ الطبریّ إلی غیر ذلک، و یقال: إنها کانت تشتمل علی ألف و ستمائة ألف کتاب، و کان فیها من الخطوط المنسوبة أشیاء کثیرة انتهی، و مما یؤید ذلک أن القاضی الفاضل عبد الرحیم بن علیّ: لما أنشأ المدرسة الفاضلیة بالقاهرة، جعل فیها من کتب القصر مائة ألف کتاب مجلد، و باع ابن صورة دلال الکتب منها جملة فی مدّة أعوام، فلو کانت کلها مائة ألف لما فضل عن القاضی الفاضل منها شی‌ء، و ذکر ابن أبی واصل: أن خزانة الکتب کانت تزید علی مائة و عشرین ألف مجلد.

خزانة الکسوات

قال ابن أبی طی: و عمل یعنی لمعز الدین اللّه دارا، و سماها: دار الکسوة کان یفصل فیها من جمیع أنواع الثیاب و البز، و یکسو بها الناس علی اختلاف أصنافهم کسوة الشتاء و الصیف، و کانت لأولاد الناس، و نسائهم کذلک و جعل ذلک رسما یتوارثونه فی الأعقاب، و کتب بذلک کتبا، و سمی هذا الموضع: خزانة الکسوة، و قال عند ذکر انقراض الدولة.
و من أخبارهم: أنهم کانوا یخرجون من خزائن الکسوة إلی جمیع خدمهم و حواشیهم، و من یلوذ بهم من صغیر و کبیر، و رفیع، و حقیر کسوات الصیف و الشتاء من العمامة إلی السراویل، و ما دونه من الملابس و المندیل من فاخر الثیاب، و نفیس الملبوس، و یقومون لهم بجمیع ما یحتاجون إلیه من نفیس المطعومات و المشروبات، و سمعت من یقول: إنه حضر کسا القصر التی تخرج فی الصیف و الشتاء، فکان مقدارها ستمائة ألف دینار و زیادة، و کانت خلعهم علی الأمراء الثیاب الدیبقیّ، و العمائم بالطراز الذهب، و کان طراز الذهب و العمامة من خمسمائة دینار، و یخلع علی أکابر الأمراء الأطواق و الأسورة و السیوف المحلاة، و کان یخلع علی الوزیر عوضا عن الطوق عقد جوهر.
و قال ابن المأمون: و جلس الأجلّ یعنی الوزیر المأمون فی مجلس الوزارة لتنفیذ الأمور، و عرض المطالعات، و حضر الکتاب، و من جملتهم ابن أبی اللیث کاتب الدفتر، و معه ما کان أمر به من عمل جرائد الکسوة للشتاء بحکم حلوله، و أوان تفرقتها، فکان ما اشتمل علیه المنفق فیها لسنة ست عشرة و خمسمائة: من الأصناف أربعة عشر ألفا و ثلثمائة و خمس قطع، و إنّ أکثر ما أنفق عن مثل ذلک فی الأیام الأفضلیة فی طول مدّتها لسنة ثلاث عشرة، و خمسمائة: ثمانیة آلاف و سبعمائة و خمس و سبعون قطعة، یکون الزائد عنها بحکم ما رسم به فی منفق سنة، ست عشرة: خمسة آلاف و ستمائة و أربعا و ثلاثین قطعا، و وصلت الکسوة المختصة بالعید فی آخر الشهر، و قد تضاعفت عما کانت علیه فی الأیام
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 293
الأفضلیة لهذا الموسم، و هی تشتمل علی ذهوب و سلف دون العشرین ألف دینار، و هو عندهم الموسم الکبیر، و یسمی: بعید الحلل، لأنّ الحلل فیه تعمّ الجماعة، و فی غیره للأعیان خاصة، فأحضر الأمیر: افتخار الدولة مقدّم خزانة الکسوة الخاص لیتسلم ما یختص بالخلیفة، و هو برسم الموکب: بدلة خاص جلیلة مذهبة، ثوبها موشح مجاوم مذایل عدّتها باللفافتین إحدی عشرة قطعة، السلف عنها مائة و ستة و سبعون دینارا و نصف، و من الذهب العالی المغزول: ثلثمائة و سبعون و خمسون مثقالا و نصف، کل مثقال أجرة غزله ثمن دینار، و من الذهب العراقی: ألفان و تسعمائة و أربع و تسعون قصبة.
تفصیل ذلک: شاشیة طمیم السلف: دیناران، و سبعون قصبة ذهبا عراقیا مندیل بعمود ذهب السلف: سبعون و ألفان و مائتان و خمسون قصبة ذهبا عراقیا، فإن کان الذهب نظیر المصریّ، کان الذی یرقم فیه: ثلثمائة و خمسة و عشرین مثقالا، لأنّ کل مثقال نظیر تسع قصبات ذهبا عراقیا وسط سرب بطانة للمندیل السلف: عشرة دنانیر و سبعون قصبة ذهبا عراقیا ثوب موشح مجاوم مطرّف السلف: خمسون دینارا و ثلثمائة و أحد و خمسون مثقالا و نصف ذهبا عالیا، أجرة کل مثقال ثمن دینار، تکون جملة مبلغه، و قیمة ذهبه: ثلثمائة و أربعة و تسعین دینارا و نصفا، ثوب دیبقیّ حریریّ و سلطانیّ السلف: اثنا عشر دینارا، غلالة دیبقیّ حریریّ السلف: عشرون دینارا، مندیل کم أوّل مذهب السلف: خمسة دنانیر و مائتان و أربع قصبات ذهبا عراقیا، مندیل کم ثان حریریّ السلف: خمسة دنانیر، حجرة السلف:
أربعة دنانیر، عرضیّ مذهب السلف: خمسة دنانیر و خمسة عشر مثقالا ذهبا عالیا، عرضی لفافة للتخت دینار واحد و نصف، بدلة ثانیة برسم الجلوس علی السّماط عدّتها باللفافتین، عشر قطع السلف: مائة و أربعة عشر دینارا، و من الذهب العالی خمسة و خمسون مثقالا، و من الذهب العراقیّ: سبعمائة و أربعون قصبة.
تفصیل ذلک: شاشیة طمیم السلف: دیناران، و سبعون قصبة ذهبا عراقیا، مندیل السلف: ستون دینارا، و ستمائة قصبة ذهبا عراقیا، شقة و کم السلف: ستة عشر دینارا، و خمسة و خمسون مثقالا ذهبا عالیا، أجرة کل مثقال ثمن دینار شقة دیبقیّ حریریّ و سلطانیّ:
اثنا عشر دینارا، شقة دیبقیّ غلالة ثمانیة دنانیر، مندیل الکمّ الحریریّ: خمسة دنانیر، حجرة أربعة دنانیر، عرضی خمسة دنانیر، عرضی برسم التخت دینار واحد و نصف، و هذه البدلة لم تکن فیما تقدّم فی أیام الأفضل لأنه لم یکن ثم سماط یجلس علیه الخلیفة، فإنه کان قد نقل ما یعمل فی القصور من الأسمطة، و الدواوین إلی داره، فصاره یعمل هناک، ما هو برسم الأجل أبی الفضل: جعفر أخی الخلیفة الآمر بدلة مذهبة مبلغها: تسعون دینارا و نصف، و خمسة و عشرون مثقالا ذهبا عالیا، و أربعمائة و سبعون قصبة ذهبا عراقیا، تفصیل ذلک: مندیل السلف: عشرة دنانیر، شقة غلالة دیبقیّ السلف: ثمانیة دنانیر، حجرة: ثلاثة دنانیر و ثلث، عرضی دیبقیّ: ثلاثة دنانیر، الجهة العالیة بالدار الجدیدة التی یقوم بخدمتها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 294
جوهر: حلة مذهبة موشح مجاوم مذایل مطرّف عدّتها: خمس عشرة قطعة سلفها: ستة آلاف و ثلثمائة و ثلاثون قصبة، تفصیل ذلک: مذهب مکلف موشح مجاوم السلف: خمسة عشر دینارا، و ستمائة و ستون قصبة، سداسیّ مذهب السلف: ثمانیة عشر دینارا، و مائتا قصبة معجر أوّل مذهب موشح مجاوم مطرّف السلف: خمسون دینارا، و ألف و تسعمائة قصبة. معجز ثان حریریّ السلف: خمسة و ثلاثون دینارا و نصف، رداء حریریّ أوّل السلف:
عشرة دنانیر و نصف، رداء حریریّ ثان، السلف: تسعة دنانیر، دراعة موشح مجاوم مذایل مذهبة السلف: خمسة و تسعون دینارا، و من الذهب العراقیّ ألفان و ستمائة و خمس و خمسون قصبة، شقة دیبقیّ حریریّ و سطانی السلف: عشرون دینارا و نصف، شقة دیبقیّ بغیر رقم برسم عجز التفصیل: ثلاثة دنانیر، ملاءة دیبقیّ السلف: أربعة و عشرون دینارا و ستمائة قصبة، مندیل کم أوّل السلف: ستة دنانیر، و مائة و ستون قصبة، مندیل کم ثان السلف: خمسة دنانیر، و مائة و ستون قصبة مندیل کم ثالث السلف: خمسة دنانیر، حجرة:
ثلاثة دنانیر، عرضی دیبقیّ: ثلاثة دنانیر، جهة مکنون القاضی بمثل ذلک علی الشرح، و العدّة جهة مرشد: حلة مذهبة عدّتها، أربع عشرة قطعة السلف: مئة و أحد و أربعون دینارا، و من الذهب العراقیّ: ألف و ستمائة و تسع و ثمانون قصبة، جهة عنبر مثل ذلک.
السیدة جهة ظل: مثل ذلک، جهة منجب: مثل ذلک، الأمیر أبو القاسم عبد الصمد:
بدلة مذهبة، الأمیر داود مثله، السیدة العمة حلة مذهبة، السیدة العابدة العمة مثل ذلک، الموالی الجلساء من بنی الأعمام، و هم أبو المیمون بن عبد المجید، و الأمیر أبو الیسر ابن الأمیر محسن، و الأمیر أبو علیّ ابن الأمیر جعفر، و الأمیر حیدرة ابن الأمیر عبد المجید، و الأمیر موسی ابن الأمیر عبد اللّه، و الأمیر أبو عبد اللّه ابن الأمیر داود لکل منهم: بدلة مذهبة، البنون و البنات من بنی الأعمام غیر الجلساء لکل منهم: بدلة حریریّ، ست سیدات لکل منهنّ حلة حریریّ، جهة المولی أبی الفضل جعفر التی یقوم بخدمتها ریحان حلة مذهبة، جهة المولی عبد الصمد حلة حریری، ما یختص بالدار الجیوشیة و المظفریة فعلی ما کان بأسمائهم، المستخدمات لخزانة الکسوة الخاص زین الخزان المقدّمة: حلة مذهبة، ست خزان لکل منهنّ حلة حریریّ، عشر وقافات لکل منهنّ کذلک، المعلمة مقدّمة المائدة کذلک، رایات مقدّمة خزانة الشراب کذلک، المستخدمات من أرباب الصنائع من القصوریات، و ممن انضاف إلیهنّ من الأفضلیات مائة و سبعون حلة مذهبة و حریریّ علی التفصیل المتقدّم، المستخدمات عند الجهات العالیة، جهة جوهر عشرون حلة مذهبة و حریریّ، و کذلک المستخدمات عند مکنون الأمراء.
الأستاذون المحنکون: الأمیر الثقة زمام القصور: بدلة مذهبة، الأمیر نسیب الدولة مرشد متولی الدفتر کذلک، الأمیر خاصة الدولة ریحان متولی بیت المال کذلک، الأمیر عظیم الدولة، و سیفها حامل المظلة کذلک، الأمیر صارم الدولة صاف متولی الستر کذلک.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 295
و فیّ الدولة إسعاف متولی المائدة مثله، الأمیر افتخار الدولة جندب بدلة مذهبة، نظیر البدلة المختصة بالأمیر الثقة و لکل من غیر هؤلاء المذکورین: حلة حریریّ أربع قطع و لفافة فوطة، مختار الدولة ظل بدلة حریریّ، ستة أستاذین فی خزانة الکسوة الخاص عند الأمیر افتخار الدولة جندب لکل منهم بدلة مذهبة، جوهر زمام الدار الجدیدة بدلة حریریّ، تاج الملک أمین بیت المال مثله، مفلح برسم الخدمة فی المجلس مثله، مکنون متولی خدمة الجهة العالیة مثله، فنون متولی خدمة التربة مثله، مرشد الخاصی مثله، النوّاب عن الأمیر الثقة فی زمان القصور، و عدّتهم أربعة لکل منهم بدلة حریریّ خسروانی، العظمی مقدّم خزانة الشراب، و رفیقه لکل منهما بدلة. کذلک الصقالبة أرباب المداب، و عدّتهم أربعة لکل منهم: بدلة حریریّ و شقة و فوطة، نائب الستر مثل ذلک. الأستاذون برسم خدمة المظلة، و عدّتهم خمسة لکل منهم: مندیل سوسیّ، و شقة دمیاطیّ، و شقة اسکندرانیّ، و فوطة، الأستاذون الشدّادون برسم الدواب، و عدّتهم ستة کذلک، ما حمل برسم السید الأجل المأمون یعنی الوزیر: بدلة خاصة مذهبة کبیرة موکبیة عدّتها: إحدی عشرة، و ما هو برسم جهاته و برسم أولاده: الأجل تاج الریاسة، و تاج الخلافة، و سعد الملک محمود، و شرف الخلافة جمال الملک موسی، و هو صاحب التاریخ نظیر ما کان باسم أولاد الأفضل بن أمیر الجیوش، و هم: حسن، و حسین، و أحمد الأجل المؤتمن سلطان الملوک یعنی أخا الوزیر عن تقدمة العساکر، و زم الأزمّة و برسم الجهة المختصة به، و رکن الدولة عزا الملوکأ بو الفضل جعفر عن حمل السیف الشریف خارجا عما له من حمایة خزانة الکسوات، و صنادیق النفقات، و ما یحمل أیضا للخزائن المأمونیة مما ینفق منها علی من یحسن فی الرأی من الحاشیة المأمونیة: ثلاثون بدلة.
الشیخ الأجل أبو الحسن بن أبی أسامة کاتب الدست الشریف: بدلة مذهبة عدّتها خمس قطع و کمّ و عرضی، الأمیر فخر الخلافة حسام الملک متولی حجبیة الباب: بدلة مذهبة، کذلک القاضی ثقة الملک ابن النائب فی الحکم: بدلة مذهبة عدّتها أربع قطع و کمّ و عرضی، الشیخ الداعی ولیّ الدولة بن أبی الحقیق: بدلة مذهبة، الأمیر الشریف أبو علیّ أحمد بن عقیل نقیب الأشراف : بدلة حریری ثلاث قطع و فوطة، الشریف أنس الدولة متولی دیوان الإنشاء بدلة کذلک، دیوان المکاتبات الشیخ أبو الرضی ابن الشیخ الأجل أبی الحسن النائب عن والده فی الدیوان المذکور: بدلة مذهبة عدّتها ثلاث قطع و کمّ، أبو المکارم: هبة اللّه أخوه بدلة مذهبة ثلاث قطع و فوطة، أبو محمد حسن أخوهما کذلک أخوهم أبو الفتح بدلة حریریّ قطعتان و فوطة، الشیخ أبو الفضل یحیی بن سعید الندمیّ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 296
منشئ ما یصدر عن دیوان المکاتبات، و محرّر ما یؤمر به من المهمات: بدلة مذهبة عدّتها ثلاث قطع و کم و مزنر، أبو سعید الکاتب: بدلة حریریّ، أبو الفضل الکاتب کذلک، الحاج موسی المعین فی الإلصاق کذلک.
و أما الکتاب بدیوان الإنشاء فلم یتفق وجود الحساب الذی فیه أسماؤهم، فیذکروا، و من القیاس أن یکونوا قریبا من ذلک، الشیخ ولیّ الدولة أبو البرکات متولی دیوان المجلس و الخاص: بدلة مذهبة عدّتها خمس قطع و کم و عرضی، و لامرأته حلة مذهبة. الشیخ أبو الفضائل هبة اللّه بن أبی اللیث متولی الدفتر، و ما جمع إلیه بدلة، أبو المجد ولده بدلة حریریّ، عدی الملک أبو البرکات متولی دار الضیافة: بدلة مذهبة، و بعده الضیوف الواردون إلی الدولة جمیعهم، منهم من له بدلة مذهبة و منهم من له بدلة حریریّ، و کذلک من یتفق حضوره من الرسل علی هذا الحکم.
مقدّمو الرکاب: عفیف الدولة مقبل بدلة مذهبة، القائد موفق و القائد تمیم مثل ذلک، أربعة من المقدّمین برسم الشکیمة لکل منهم: بدلة حریری الروّاض عدّتهم ثلاثة لکل منهم:
بدلة حریری، الخاص من الفرّاشین، و هم اثنان و عشرون رجلا منهم أربعة ممیزون لکل منهم: بدلة مذهبة، و بقیتهم لکل واحد بدلة حریریّ.
الأطباء: الشدید أبو الحسن علیّ بن أبی الشدید: بدلة حریری، أبو الفضل النسطوری بدلة حریری، و کذلک الفئة المستخدمون برسم الحمام، و هم ثمانیة مقدّمهم: بدلة مذهبة، و بقیتهم لکل واحد بدلة حریریّ، والی القاهرة، و والی مصر لکل منهما بدلة مذهبة.
المستخدمون فی المواکب: الأمیر کوکب الدولة حامل الرمح الشریف وراء الموکب، و الدرقة المعزیة: بدلة حریریّ، حاملا الرمحین المعزیة أیضا أمام الموکب بغیر درق لکل منهما: مندیل و شقة و فوطة، و هؤلاء الثلاثة رماح ما هی عربیة بل هی خشوت قدم بها المعز من المغرب، حاملا لواء الحمد المختصان بالخلیفة عن یمینه و یساره لکل منهما بدلة، متولی بغل الموکب الذی یحمل علیه جمیع العدّة المغربیة بدلة حریری، متولی حمل المظلة کذلک، عشرة نفر من صبیان الخاص برسم حمل العشرة رماح العربیة المغشاة بالدیباج وراء الموکب لکل منهم: مندیل و شقة و فوطة، حامل السبع وراء الموکب: بدلة حریری.
المقدّمون من صبیان الخاص، و هم عشرون لکل منهم: بدلة، عرفاء الفرّاشین الذین ینحطون عن فرّاشی الخاص، و فرّاشی المجلس، و فرّاشی خزائن الکسوة الخاص لکل منهم: بدلة حریری، الفرّاشون فی خزائن الکسوات المستخدمون بالإیوان، و هم الذین یشدّون ألویة الحمد بین یدی الخلیفة لیلة الموسم فإنها لا تشدّ إلّا بین یدیه، و یبدأ هو باللف علیها بیده علی سبیل البرکة، و یکمل المستخدمون بقیة شدّها، و ما سوی ذلک من القضب الفضة، و ألویة الوزارة، و غیرها، و عدّتهم: سبعة لکل منهم: مندیل سوسی، و شقتان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 297
اسکندرانیّ. المستخدمون برسم حمل القضب الفضة، و لوائی الوزارة أربعة عشر کذلک، مشارف خزانة الطیب، و کانت من الخدم الجلیلة، و کان بها أعلام الجوهر التی یرکب بها الخلیفة فی الأعیاد، و یستدعی منها عند الحاجة، و یعاد إلیها عند الغنی عنها، و کذلک السیف و الثلاثة رماح المعزیة، مشارف خزائن السروج بدلة حریری، مشارف خزائن الفرش، و کاتب بیت المال، و مشارف خزائن الشراب، و مشارف خزائن الکتب کل منهم:
بدلة حریری، و برکات الأدمی و المستخدمون بالدولة بالباب، و سنان الدولة مز الکرکندیّ عن زم الرهجیة، و المبیت علی أبواب القصور و کانت من الخدم الجلیلة، و الصبیان الحجریة المشدّون بلواء الموکب بعد المقرّبین، و عدّتهم عشرون لکل منهم الکسوة فی الشتاء، و العیدین و غیرهما، و عدّة الذین یقبضون الکسوة فی العیدین من الفرّاشین أکثر من صبیان الرکاب، و ذلک أنهم یتولون الأسمطة، و یقفون فی تقدمتها، و ینفرد عنهم المستخدمون فی الرکاب بما لهم من المتحصل فی المخلفات فی العیدین، و هو ما مبلغه ستة آلاف دینار ما لأحد معهم فیها نصیب، و کان یکتب فی کل کسوة هی برسم وجوه الدولة رقعة من دیوان الانشاء.
فمما کتب به من إنشاء ابن الصیرفیّ مقترنة بکسوة عید الفطر من سنة: خمس و ثلاثین و خمسمائة، و لم یزل أمیر المؤمنین منعما بالرغائب، مولیا إحسانه کل حاضر من أولیائه، و غائب مجزلا حظهم من منائحه و مواهبه، موصلا إلیهم من الحباء ما یقصر شکرهم عن حقه و واجبه، و إنک أیها الأمیر لأولاهم من ذلک بجسیمه، و أحراهم باستنشاق نسیمه، و أخلقهم بالجزء الأوفی منه عند فضه و تقسیمه، إذ کنت فی سماء المسابقة بدرا، و فی جرائد المناصحة صدرا، و ممن أخلص فی الطاعة سرّا و جهرا، و حظی فی خدمة أمیر المؤمنین بما عطر له وصوفا و سیر له ذکرا، و لما أقبل هذا العید السعید، و العادة فیه أن یحسن الناس هیآتهم و یأخذوا عند کل مسجد زینتهم، و من وظائف کرم أمیر المؤمنین تشریف أولیائه و خدمه فیه، و فی المواسم التی تجاریه، بکسوات علی حسب منازلهم تجمع بین الشرف و الجمال، و لا یبقی بعدها مطمع للآمال، و کنت من أخص الأمراء المقدّمین.
قال: و وصلت الکسوة المختصة بغرّة شهر رمضان، و جمعتیه برسم الخلیفة للغرّة بدلة کبیرة موکبیة مکملة مذهبة، و برسم الجامع الأزهر للجمعة الأولی من الشهر: بدلة موکبیة حریریّ مکملة مندیلها و طیلسانها بیاض، و برسم الجامع الأنور للجمعة الثانیة بدلة مندیلها و طیلسانها شعری، و ما هو برسم أخی الخلیفة للغرّة خاصة بدلة مذهبة، و یرسم له مع جهات الخلیفة أربع حلل مذهبات، و برسم الوزیر للغرّة بدلة مذهبة مکملة موکبیة، و برسم الجمعتین بدلتان حریری، و لم یکن لغیر الخلیفة، و أخیه الوزیر فی ذلک شی‌ء فیذکر، و وصلت الکسوة المختصة بفتح الخلیج، و هی برسم الخلیفة تختان ضمنهما بدلتان إحداهما: مندیلها و طیلسانها طمیم برسم المضیّ، و الأخری جمیعها حریریّ، برسم العود، و کذلک ما یختص بإخوته، و جهاته بدلتان مذهبتان و أربع حلل مذهبة، و برسم الوزیر بدلة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 298
موکبیة مذهبة فی تخت، و برسم أولاده الثلاثة: ثلاث بدلات مذهبة، و برسم جهته حلة مذهبة فی تخت و بقیة ما یخص المستخدمین، و ابن أبی الردّاد فی تخوت کل تخت: عدّة بدلات، و حضر متولی الدفتر، و استأذن علی ما یحمل برسم الخلیفة، و ما یفرّق و یفصل برسم الخلع، و ما یخرج من حاصل الخزائن عن الواصل، و هو ما یفصل برسم الخاص من الغلمان برسم: سبعمائة قباء و خمسمائة و شقین سقلاطون داری، و برسم رؤساء العشاریات من الشقق الدمیاطیّ، و المنادیل السوسیّ، و الفوط الحریر الحمر، و برسم النواتیة التی برسم الخاص من العشاریة من الشقق الإسکندرانیّ، و الکلوتات، و قد تقدّم تفصیل الکسوات جمیعها، و عددها و أسماء المستمرّین لقبضها.
و قال فی کتاب الذخائر: و حدّثنی من أثق به عن ابن عبد العزیز أنه قال: قوّمنا ما أخرج من خزائن القصر یعنی فی سنی الشدّة أیام المستنصر، من سائر ألوان الخسروانی، ما یزید علی خمسین ألف قطعة أکثرها مذهب، و سألت ابن عبد العزیز، فقال: أخرج من الخزائن مما حرّرت قیمته علی یدی، و بحضرتی أکثر من ألف قطعة.
و حدّثنی أبو الفضل یحیی بن دینار البغدادیّ: أحد أصحاب الدواوین بالحضرة أن الذی تولی أبو سعید النهاوندی المعروف: بالمعتمد بیعه خاصة من مخرج القصر دون غیره من الأمناء فی مدّة یسیرة: ثمانیة عشر ألف قطعة من بلور، و یحکم منها ما یساوی الألف دینار إلی عشرة دنانیر و نیف، و عشرون ألف قطعة خسروانی. و حدّثنی عمید الملک أبو الحسن علیّ بن عبد الکریم فخر الوزراء بن عبد الحاکم، أن ناصر الدولة أرسل یطالب المستنصر بما بقی لغلمانه، فذکر أنه لم یبق عنده شی‌ء إلّا ملابسه، فأخرج ثمانمائة بدلة من ثیابه بجمیع آلاتها کاملة فقوّمت و حملت إلیه.
و قال ابن الطویر: الخدمة فی خزائن الکسوات لها رتبة عظیمة فی المباشرات، و هما خزانتان، فالظاهرة یتولاها خاصة أکبر حواشی الخلیفة إمّا أستاذ أو غیره، و فیها من الحواصل ما یدل علی إسباغ نعم اللّه تعالی علی من یشاء من خلقه من الملابس الشروب، و الخاص الدیبقیّ الملوّنة، رجالیة و نسائیة، و الدیباج الملوّنة، و السقلاطون و إلیها یحمل ما یستعمل فی دار الطراز بتنیس و دمیاط و إسکندریة من خاص المستعمل و بها صاحب المقص، و هو مقدّم الخیاطین، و لأصحابه مکان لخیاطتهم، و التفصیل یعمل علی مقدار الأوامر و ما تدعو الحاجة إلیه، ثم ینقل إلی خزانة الکسوة الباطنة ما هو خاص للباس الخلیفة، و یتولاها امرأة تنعت: بزین الخزان أبدا، و بین یدیها ثلاثون جاریة، فلا یغیر الخلیفة أبدا ثیابه إلّا عندها، و لباسه خافیا الثیاب الداریة وسعة أکمامها سعة نصف أکمام الظاهر، و لیس فی جهة من جهاته ثیاب أصلا، و لا یلبس إلّا من هذه الخزانة، و کان برسم هذه الخزانة بستان من أملاک الخلیفة علی شاطی‌ء الخلیج یعنی أبدا فیه النسرین، و الیاسمین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 299
فیحمل فی کل یوم منه شی‌ء فی الصیف و الشتاء، لا ینقطع البتة برسم الثیاب و الصنادیق، فإذا کان أوان التفرقة الصیفیة أو الشتویة شدّ لمن تقدّم ذکره من أولاد الخلیفة، و جهاته و أقاربه، و أرباب الرواتب و الرسوم من کل صنف شدّة علی ترتیب الفروض من شقق الدیباج الملوّن، و السقلاطون إلی السوسیّ، و الإسکندرانیّ علی مقدار الفصول من الزمان، ما یقرب من مائتی شدّة، فالخواص فی العراضی الدیبقی، و دونهم فی أوطیة حریر، و دونهم فی فوط إسکندریة، و یدخل فی ذلک: کتاب دیوانی الإنشاء، و المکاتبات دون غیرهم من الکتاب علی مقدارهم، و ذلک یخرج من الجواری فی الشهر المطلقات.
و قال القاضی الفاضل فی متجدّدات سنة سبع و ستین و خمسمائة بعد وفاة العاضد:
و کشف حاصل الخزائن الخاصة بالقصر، فقیل: إن الموجود فیها: مائة صندوق کسوة فاخرة من موشی، و مرصع، و عقود ثمینة، و ذخائر فخمة، و جواهر نفیسة، و غیر ذلک من ذخائر عظیمة الخطر، و کان الکاشف بهاء الدین قراقوش.

خزائن الجوهر و الطیب و الطرائف

قال ابن المأمون: و کان بها الأعلام و الجوهر التی یرکب بها الخلیفة فی الأعیاد و یستدعی منها عند الحاجة، و یعاد إلیها عند الغنی عنها، و کذلک السیف الخاص، و الثلاثة رماح المعزیة، و قال فی کتاب الذخائر و التحف: و ذکر بعض شیوخ دار الجوهر بمصر: أنه استدعی یوما هو و غیره من الجوهریین من أهل الخبرة بقیمة الجوهر إلی بعض خزائن القصر یعنی فی أیام الشدّة زمن المستنصر، فأخرج صندوق کیل منه: سبعة أمداد زمرّد قیمتها، علی الأقل: ثلثمائة ألف دینار، و کان هناک جالسا فخر العرب بن حمدان، و ابن سنان، و ابن أبی کدینة، و بعض المخالفین فقال بعض من حضر من الوزراء المعطلین للجوهریین: کم قیمة هذا الزمرّد؟ فقالوا: إنما نعرف قیمة الشی‌ء إذا کان مثله موجودا، و مثل هذا لا قیمة له، و لا مثل! فاغتاظ، و قال ابن أبی کدینة: فخر العرب کثیر المؤنة، و علیه خرج، فالتفت إلی کتاب الجیش، و بیت المال، فقال: یحسب علیه فیه خمسمائة دینار، فکتب ذلک، و قبضه و أخرج عقد جوهر قیمته علی الأقل: من ثمانین ألف دینار فصاعدا، فتحرّیا فیه، فقال: یکتب بألفی دینار، و تشاغلوا بنظر ما سواه، و انقطع سلکه فتناثر حبّه، فأخذوا واحد منهم واحدة، فجعلها فی جیبه، و أخذ ابن أبی کدینة أخری، و أخذ فخر العرب بعض الحب، و باقی المخالفین التقطوا ما بقی منه، و غاض کأن لم یکن، و أخذ ما کان أنفذه: الصلیحی من نفیس الدرّ الرفیع الرائع وکیله علی ما ذکر سبع و یبات، و أخذوا ألفا و مائتی خاتم ذهبا و فضة فصوصها من سائر أنواع الجوهر المختلف الألوان و القیم و الأثمان، و الأنواع مما کان لأجداده و له، و صار إلیه من وجوه دولته منها ثلاثة خواتم ذهب مربعة علیها ثلاثة فصوص أحدها زمرّذ، و الاثنان یاقوت سماقیّ، و رمّانیّ بیعت باثنی عشر ألف دینار بعد ذلک.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 300
و أحضر خریطة فیها نحو ویبة جوهر، و أحضر الخبراء من الجوهریین، و تقدّم إلیهم بقیمتها، فذکروا أن لا قیمة لها، و لا یشتری مثلها إلّا الملوک، فقوّمت: بعشرین ألف دینار، فدخل جوهر الکاتب المعروف: بالمختار عز الملک إلی المستنصر، و أعلمه أن هذا الجوهر اشتراه جدّه: بسبعمائة ألف دینار و استرخصه، فتقدّم بإنفاقه فی الأتراک، فقبض کل واحد منهم جزء بقیمة الوقت، و فرّق علیهم.
قال: فأمّا ما أخذ مما فی خزائن البلور، و المحکم و المینا المجری بالذهب و المجرود، و البغدادی و الخیار، و المدهون، و الخلنج، و العینیّ، و الدهیمیّ، و الآمدیّ، و خزائن الفرش و البسط، و الستور، و التعالیق فلا یحصی کثرة.
و حدّثنی من أثق به من المستخدمین فی بیت المال: أنه أخرج یوما فی جملة ما أخرج من خزائن القصر عدّة صنادیق، و إنّ واحدا منها فتح، فوجد فیه علی مثال کیزان الفقاع من صافی البلور المنقوش و المجرود شی‌ء کثیر، و إنّ جمیعها مملوء من ذلک و غیره، و حدثنی من أثق به أنه رأی: قدح بلور بیع مجرودا بمائتین و عشرین دینارا، و رأی خردادی بلور بیع:
بثلاثمائة و ستین دینارا، و کوز بلور بیع: بمائتین و عشرة دنانیر، و رأی صحون مینا کثیرة تباع من: المائة دینار إلی ما دونها.
و حدّثنی من أثق بقوله أنه رأی بطرابلس قطعتین من البلور الساذج، الغایة فی النقاء، و حسن الصنعة إحداهما خردادی، و الأخری باطیة مکتوب علی جانب کل واحدة منهما:
اسم العزیز بالله، تسع الباطیة سبعة أرطال بالمصری ماء، و الخردادی تسعة، و إنه عرضهما علی جلال الملک أبی الحسن علیّ بن عمار، فدفع فیهما: ثمانمائة دینار، فامتنع من بیعهما، و کان اشتراهما من مصر من جملة ما أخرج من الخزائن، و إن الذی تولی بیعه: أبو سعید النهاندی من مخرج القصر دون غیره من الأمناء فی مدیدة یسیرة، ثمانیة عشر ألف قطعة من بلور، و یحکم منها ما یساوی: الألف دینار إلی عشرة دنانیر.
و أخرج من صوانی الذهب المجراة بالمینا، و غیر المجراة المنقوشة بسائر أنواع النقوش المملوء جمیعها من سائر أنواعه، و ألوانه، و أجناسه شی‌ء کثیر جدّا، و وجد فیما وجد غلف خیار مبطنة بالحریر محلاة بالذهب مختلفة الأشکال خالیة مما فیها من الأوانی عدّتها: سبعة عشر ألف غلاف؛ کان فی کل قطعة إما بلور مجرود أو محکم أو ما یشاکله، و وجد أکثر من مائة کأس باد زهر، و نصب، و أشباهها، علی أکثرها اسم هارون الرشید و غیره.
و وجد فی خزائن القصر عدّة صنادیق کثیرة مملوءة سکاکین مذهبة، و مفضضة بنصب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 301
مختلفة من سائر الجواهر و صنادیق کثیرة مملوءة من أنواع الدوی المربعة، و المدوّرة و الصغار، و الکبار المعمولة من الذهب و الفضة و الصندل و العود، و الأبنوس الزنجیّ، و العاج، و سائر أنواع الخشب المحلاة بالجوهر، و الذهب و الفضة، و سائر الأنواع الغریبة، و الصنعة المعجزة الدقیقة بجمیع آلاتها فیها ما یساوی: الألف دینار، و الأکثر و الأقل سوی ما علیها من الجواهر، و صنادیق مملوءة مشارب ذهب و فضة مخرقة بالسواد صغار، و کبار مصنوعة بأحسن ما یکون من الصنعة، و عدّة أزیار صینیّ کبار، مختلفة الألوان مملوءة:
کافورا قیصوریا، و عدّة من جماجم العنبر الشحریّ، و نوافج المسک التبتی، و قواریره و شجر العود و قطعه.
و وجد للسیدة رشیدة ابنة المعز حین ماتت فی سنة اثنتین و أربعین و أربعمائة: ما قیمته ألف ألف دینار و سبعمائة ألف دینار من جملته: ثلاثون ثوب خز مقطوع و اثنا عشر ألفا من الثیاب المصمت ألوانا، و مائة قاطرمیز مملوءة کافورا قیصوریا، و مما وجد لها معممات بجواهرها من أیام المعز، و بیت هرون الرشید الخز الأسود الذی مات فیه بطوس، و کان من ولی من الخلفاء ینتظرون وفاتها، فلم یقض ذلک إلّا للمستنصر بالله، فحازه فی خزانته.
و وجد لعبدة بنت المعز: أیضا و ماتت فی سنة اثنتین و أربعین و أربعمائة ما لا یحصی.
حدّثنی بعض خزان القصر: أن خزائن السیدة عبدة، و مقاصیرها و صنادیقها، و ما یجب أن یختم علیه ذهب من الشمع فی خواتیمه علی الصحة و المشاهدة أربعون رطلا بالمصریّ و إنّ بطائق المتاع الموجود کتبت: فی ثلاثین رزمة ورق، و مما وجد لها أیضا: أربعمائة قمطرة ، و ألف و ثلثمائة قطعة مینا فضة مخرّقة زنة کل مینا: عشرة آلاف درهم، و أربعمائة سیف محلی بالذهب، و ثلاثون ألف شقة صقلیة، و من الجوهر ما لا یحدّ کثرة، و زمرذ کیله: أردب واحد، و أن سید الوزراء أبا محمد البازوری وجد فی موجوداتها: طستا و إبریقا، فلفرط استحسانه لهما، سأل المستنصر فیهما، فوهبهما له، و وجد مدهن یاقوت أحمر وزنه: سبعة و عشرون مثقالا، و أخرج أیضا: تسعون طستا و تسعون إبریقا من صافی البلور، و وجد فی القصر خزائن مملوءة من سائر أنواع الصینی منها: أجاجین صینی کبار محلاة، کل إجانة منها علی ثلاثة أرجل علی صورة الوحوش، و السباع قیمة کل قطعة منها:
ألف دینار، معمولة لغسل الثیاب، و وجد عدّة أقفاص مملوءة ببیض صینیّ معمول علی هیئة البیض فی خلقته، و بیاضه یجعل فیها ماء البیض النیمبرشت یوم الفصاد، و وجد حصیر ذهب وزنها: ثمانیة عشر رطلا ذکر أن الحصیر التی جلیت علیها: بوران بنت الحسن بن سهل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 302
علی المأمون، و أخرج ثمان و عشرون صینیة مینا مجرابا لذهب بکعوب، کان أرسلها ملک الروم إلی العزیز بالله، قوّمت کل صینیة منها: بثلاثة آلاف دینار، أنفذ جمیعها إلی ناصر الدولة.
و وجد عدّة صنادیق مملوءة مرائی حدید من صینی، و من زجاج المینا لا یحصی ما فیها کثرة، جمیعها محلی بالذهب المشبک و الفضة، و منها المکلل بالجوهر فی غلف الکیمخت، و سائر أنواع الحریر و الخیزران و غیره، مضبب بالذهب و الفضة، و لها المقابض من العقیق و غیره، و أخرج من المظال و قضبها الفضة و الذهب شی‌ء کثیر، و أخرج من خزائن الفضة ما یقارب: الألف درهم من الآلات المصنوعة من الفضة المجراة بالذهب فیها: ما زنة القطعة الواحدة منه، خمسة آلاف درهم، الغریبة النقش و الصنعة التی تساوی خمسة دراهم بدینار، و إنّ جمیعه بیع کل عشرین درهما بدینار، سوی ما أخذ من العشاریات الموکبیة، و أعمدة الخیام، و قضب المظال و المتحوقات، و الأعلام و القنادیل، و الصنادیق، و التوقات، و الروّازین و السروج و اللجم و المناطق التی للعماریات، و القباب و غیرها مثل ذلک و أضعافه.
و أخرج من الشطرنج و النرد المعمولة من سائر أنواع الجوهر، و الذهب، و الفضة، و العاج و الآبنوس برقاع الحریر، و المذهب ما لا یحدّ کثرة و نفاسة، و أخرج آلات فضة وزنها: ثلثمائة ألف و نیف، و أربعون ألف درهم تساوی ستة دراهم بدینار، و أخرج أقفاص مملوءة من سائر آلات مصوغة مجراة بالذهب عدّتها أربعمائة قفص کبار، سبکت جمیعها، و فرّقت علی المخالفین، و أخرجت أربعة آلاف نرجسیة مجوّفة بالذهب، یعمل فیها النرجس، و ألفا بنفسجیة کذلک، و أخرج من خزانة الطرائف: ستة و ثلاثون ألف قطعة من محکم و بلور، و قوّم السکاکین بأقل القیم، فجاءت قیمتها علی ذلک: ستة و ثلاثین ألف دینار و أخرج من تماثیل العنبر: اثنان و عشرون ألف قطعة، أقل تمثال منها وزنه: اثنا عشر منا، و أکبره یجاوز ذلک، و من تماثیل الخلیفة ما لا یحدّ، من جملتها ثمانمائة بطیخة کافور.
و أخرجت الکلوتة المرصعة بالجوهر، و کانت من غریب ما فی القصر، و نفیسه، ذکر أن قیمتها: ثلاثون ألف دینار، و مائة ألف دینار، قوّمت: بثمانین ألف دینار، و کان وزن ما فیها من الجوهر: سبعة عشر رطلا اقتسمها فخر العرب، و تاج الملوک، فصار إلی فخر العرب منها قطعة بلخش وزنها: ثلاثة و عشرون مثقالا، و صار إلی تاج الدین مما وقع إلیه حبات درّ، کل حبة: ثلاثة مثاقیل، عدّتها مائة حبة فلما کانت هزیمتهم من مصر نهبت،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 303
و أخرج من خزائن الطیب: خمسة صواری عود هندی، کل واحد من تسعة أذرع إلی عشرة أذرع، و کافور قیصوری زنة کل حبة: من خمسة مثاقیل إلی ما دونها، و قطع عنبر وزن القطعة: ثلاثة آلاف مثقال، و أخرج متارد صینی محمولة علی ثلاثة أرجل مل‌ء کل وعاء منها: مائتا رطل من الطعام، و عدّة قطع شب و باد زهر منها: جام سعته ثلاثة أشبار و نصف، و عمقه شبر، ملیح الصنعة، و قاطرمیز بلور فیه: صور ثابتة تسع سبعة عشر رطلا، و بلوجة بلور مجرود تسع عشرین رطلا، و قصریة نصب کبیرة جدّا، و طابع ندّ فیه ألف مثقال، کان فخر الدولة أبو الحسن علیّ بن رکن الدولة بن بویه الدیلمیّ عمله مکتوب فی وسطه فخر الدولة شمس الملة، و أبیات منها:
و من یکن شمس أهل الأرض قاطبةفندّه طابع من ألف مثقال
و طاوس ذهب مرصع بنفیس الجوهر، عیناه من یاقوت أحمر، و ریشه من الزجاج المینا المجری بالذهب علی ألوان ریش الطاوس، و دیک من الذهب له عرف مفروق کأکبر ما یکون من أعراف الدیوک من الیاقت الأحمر مرصع بسائر الدر، و الجوهر، و عیناه یاقوت، و غزال مرصع بنفیس الدر و الجوهر، و بطنه أبیض، قد نظم من در رائع، و مجمع سکارج من بلور تخرج منه و تعود فیه، فتحته أربعة أشبار، ملیح الصنعة فی غلاف خیزران، و بطیخة من الکافور فی شباک ذهب مرصعة وزنها خالصة سبعون مثقالا من کافور، و قطعة عنبر تسمی:
الخروف وزنها سوی ما یمسکها من الذهب: ثمانون منا، و بطیخة کافور أیضا وجد ما علیها من الذهب: ثلاثة آلاف مثقال، و مائدة نصب کبیرة واسعة قوائمها منها، و بیضة بلخش وزنها: سبعة و عشرون مثقالا أشدّ صفاء من الیاقوت الأحمر، و قاطر میز بلور ملیح التقدیر، یسع مروقتین قوّم فی المخرج: بثمانمائة دینار دفع إلی تاج الملوک فیه بعد ذلک ألفا دینار، فامتنع من بیعه، مائدة جزع یقعد علیها جماعة، قوائمها مخروطة منها، و نخلة ذهب مکللة بالجوهر، و بدیع الدرّ فی إجانة ذهب تجمع الطلع و البلح، و الرطب بشکله، و لونه و علی صفته، و هیأته من الجواهر لا قیمة لها، و کوز زیر بلور یحمل عشرة أرطال ماء، و دارج مرصع بنفیس الجوهر لا قیمة له، و مزیرة مکللة بحب لؤلؤ نفیس، و قبة العشاریّ، و کارته و کسوة رحله الذی استعمله علیّ بن أحمد الجرجرای، و فیه مائة ألف و سبعة و ستون ألفا، و سبعمائة درهم نقرة، و أطلق للصناع عن أجرة صیاغته، و ثمن ذهب للطلاء: ألفان و تسعمائة دینار، و کان سعر الفضة حینئذ: کل مائة درهم بستة دنانیر و ربع، سعر ستة عشر درهما بدینار، و أخرج العشاریّ الفضی الذی استعمله علیّ بن أحمد لأمّ المستنصر، و کان فیه مائة ألف، و عشرون ألف درهم نقرة، و صرف أجرة صیاغة، و طلاء ألفان و أربعمائة دینار، و کسوة بمال جلیل، و أخرج جمیع کسا العشاریات التی برسم البریة و البحریة، و عدّتها، و مناطقها و رؤوس منحرفات و أهلة، و صفریات و کانت أربعمائة ألف دینار لستة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 304
و ثلاثین عشاریا، و عدّة میاکیم فضة فیها ما وزنه مائة و تسعة أرطال فضة، و أخرج بستان أرضه فضة مخرقة مذهبة و طینة ندّ، و أشجاره فضة مذهبة مصوغة و أثماره عنبر، و غیره وزنه ثلثمائة و ستة أرطال، و بطیخة کافور وزنها ستة عشر ألف مثقال، و قطع یاقوت أزرق زنة کل قطعة: سبعون درهما، قطع زمرّذ زنة کل قطعة ثمانون درهما، و نصاب مرآة من زمرّذ له طول و ثخن کل ذلک أخذه المخالفون.

خزائن الفرش و الأمتعة

قال فی کتاب الذخائر: و حدّثنی من أثق به عن ابن عبد العزیز الأنماطیّ قال: قوّمنا ما أخرج من خزائن القصر من سائر الخسروانی، ما یزید علی خمسین ألف قطعة أکثرها مذهب، و سألت ابن عبد العزیز، فقال: أخرج من الخزائن ما حرّرت قیمته علی یدی و بحضرتی أکثر من مائة ألف قطعة، و أخرج مرتبة خسروانی حمراء بیعت: بثلاثة آلاف و خمسمائة دینار، و مرتبة قلمونی بیعت: بألفین و أربعمائة دینار، و ثلاثون سندسیة بیعت کل واحدة منها: بثلاثین دینارا، و نیف و عشرون ألف قطعة خسروانی فی هدبه لم یقطع منها شی‌ء، و کانت قیمة العرض المبیع بأقل القیم، و أبرز الأثمان فی مدّة خمسة عشر یوما من صفر سنة ستین و أربعمائة سوی ما نهب و سرق ثلاثون ألف ألف دینار قبض جمیعها الجند، و الأتراک لیس لأحد منهم درهم واحد قبضه عن استحقاق.
و حدّثنی الأمیر أبو الحسن علیّ بن الحسن أحد مقدّمی الخیمیین بالقصر: أنّ الفرّاشین دخلوا إلی بعض خزائن الفرش لما اشتدّت مطالبة المارقیّ للمستنصر بالمال إلی الخزانة المعروفة: بخزانة الرفوف، و سمیت بذلک لکثرة رفوفها، لکل رف منها سلم مفرد، فأنزلوا منها ألفی عدل شقق طمیم بهدبها من سائر أنواع الخسروانی و غیره لم تستعمل بعد، و جمیع ما فیها مذهب معمول بسائر الأشکال، و الصور، و أنهم فتحوا عدلا منها، فوجدوا ما فیه أجلة معمولة للفیلة من خسروانی أحمر مذهب کأحسن ما یکون من العمل، و موضع نزول أفخاذ الفیل، و رجلیه ساذجة بغیر ذهب. و أخرج من بعض الخزائن ثلاثة آلاف قطعة خسروانی أحمر مطرّز بأبیض فی هدبها لم یفصل من کسا بیوت کاملة بجمیع آلاتها و مقاطعها، و کل بیت یشتمل علی مسانده، و مخادّه، و مساوره، و مراتبه، و بسطه و عتبه مقاطعه و ستوره، و کل ما یحتاج إلیه فیه.
قال: و أخرج من خزائن الفرش من البیوت الکاملة الفرش من القلمونیّ و الدیبقیّ من سائر ألوانه، و أنواعه المخمل، و الخسروانی، و الدیباج الملکیّ، و الخز و سائر الحریر من جمیع ألوانه و أنواعه ما لا یحصی کثرة، و لا یعرف قدره نفاسة، و أخرج من الحصر، و الأنخاخ السامان المطرّزة بالذهب و الفضة و غیر المطرّزة من المخرمة، و الطیور و الفیلة المصوّرة بسائر أنواع الصور شی‌ء کثیر، و التمس بعض الأتراک من المستنصر مقرمة یعنی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 305
ستارة سندس أخضر مذهبة، فأخرج عدل منها مکتوب علیه: مائة و ثمانیة و ثمانون من جملة أعداد أعدال، فیها من المتاع، و وجد من الستور الحریر المنسوجة بالذهب علی اختلاف ألوانها و أطوالها عدّة مئین تقارب الألف فیها: صور الدول و ملوکها، و المشاهیر فیها مکتوب علی صورة کل واحد اسمه و مدّة أیامه و شرح حاله.
و أخرج من خزائن الفرش أربعة آلاف رزمة خسروانیّ مذهب فی کل رزمة فرش مجلس ببسطه و تعالیقه، و سائر آلاته منسوجة فی خیط واحد باقیة علی حالها لم تمس، و صار إلی فخر العرب مقطع من الحریر الأزرق التستریّ القرقوبیّ غریب الصنعة منسوج بالذهب، و سائر ألوان الحریر، کان المعز لدین اللّه أمر بعمله فی سنة ثلاث و خمسین و ثلثمائة، فیه صورة أقالیم الأرض و جبالها، و بحارها، و مدنها، و أنهارها، و مسالکها شبه جغرافیا، و فیه صورة مکة و المدینة مبینة للناظر مکتوب علی کل مدینة، و جبل و بلد و نهر، و بحر، و طریق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحریر، و فی آخره مما أمر بعمله المعز لدین اللّه شوقا إلی حرم اللّه، و إشهارا لمعالم رسول اللّه فی سنة ثلاث و خمسین و ثلثمائة، و النفقة علیه: اثنان و عشرون ألف دینار، و صار إلی تاج الملوک: بیت أرمنیّ أحمر منسوج بالذهب، عمل للمتوکل علی اللّه لا مثل له و لا قیمة، و بساط خسروانیّ دفع إلیه فیه ألف دینار، فامتنع من بیعه.
و قال ابن الطویر: خزانة الفرش، و هی قریبة من باب الملک یحضر إلیها الخلیفة من غیر جلوس، و یطوف فیها و یستخبر عن أحوالها، و یأمر بإدامة الاستعمال، و کان من حقوقها استعمال السامان فی أماکن خارجها بالقاهرة و مصر، و یعطی مستخدمها: خمسة عشر دینارا یعنی یوم یطوف بها الخلیفة.

خزائن السلاح

قال فی کتاب الذخائر: فأما خزائن السیوف، و الآلات، و السلاح فإنّ بعضها أخذ، و قسم بین العشرة الثائرین علی المستنصر، و هم ناصر الدولة بن حمدان، و أخواه، و بلد کوس، و ابن سبکتکین، و سلام علیک، و شاور بن حسین. حتی صار ذو الفقار: إلی تاج الملوک، و صمصامة عمرو بن معدی کرب، و سیف عبد اللّه بن وهب الراسیّ، و سیف کافور، و سیف المعز، و سیف أبی المعز إلی: الأعز بن سنان، و درع المعز لدین اللّه، و کانت تساوی ألف دینار، و سیف الحسین بن علیّ بن أبی طالب علیهما السلام، و درقة حمزة بن عبد المطلب رضی اللّه عنه، و سیف جعفر الصادق رضی اللّه عنه، و من الخود و الدروع، و التخافیف، و السیوف المحلاة بالذهب، و الفضة، و السیوف الحدیدیة، و صنادیق النصول، و جعاب السهام الخلنج، و صنادیق القسیّ، و رزم الرماح الزان الخطیة، و شدات القسا الطوال و الزرد و البیض مئین ألوف، و کان کل صنف منها مفردا عشرات ألوف.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 306
و قال ابن الطویر: خزانة السلاح یدخل إلیها الخلیفة، و یطوفها قبل جلوسه علی السریر هناک، و یتأمّل حواصلها من الکراغندات المدفونة بالزرد المغشاة بالدیباج المحکمة الصناعة، و الجواشن المبطنة المذهبة، و الزردیات السابلة برءوسها، و الخود المحلاة بالفضة و کذلک أکثر الزردیات، و السیوف علی اختلافها من العربیات، و القلجوریات، و الرماح القنا، و القنطاریات المدهونة و المذهبة، و الأسنة البرصانیة، و القسیّ لرمایة الید المنسوبة إلی صناعها مثل الخطوط المنسوبة إلی أربابها، فیحضر إلیه منها ما یجرّبه، و یتأمّل النشاب، و کانت نصوله مثلثة الأرکان علی اختلافها، ثم قسیّ الرجل و الرکاب، و قسیّ اللولب الذی زنة نصله: خمسة أرطال، و یرمی من کل سهم بین یدیه، فینظر کیف مجراه، و النشاب الذی یقال له: الجراد، و طوله: شبر یرمی به عن قسیّ فی مجار معمولة برسمه، فلا یدری به الفارس أو الراجل إلّا و قد نفذ، فإذا فرغ من نظر ذلک کله، خرج من خزانة الدرق، و کانت فی المکان الذی هو خان مسرور، و هی برسم الاستعمالات للأساطیل من الکبورة الخرجیة، و الخود الجلودیة إلی غیر ذلک، فیعطی مستخدمها: خمسة و عشرون دینارا، و یخلع علی متقدّم الاستعمالات جوکانیة مزید حریرا، و عمامة لطیفة.

خزائن السروج

قال فی کتاب الذخائر: أخرج فیما أخرج: صنادیق سروج محلاة بفضة مجراة بسواد ممسوحة وجد علی صندوق منها: الثامن و التسعون و الثلاثمائة، و عدّة ما فیها زیادة علی أربعة آلاف سرج، و أخرج المستنصر من خزائن السروج: خمسة آلاف سرج کان أبو سعد إبراهیم بن سهل التستریّ دخرها له فیها، و تقدّم بحفظها کل سرج منها یساوی: من سبعة آلاف دینار إلی ألف، و أکثرها عال سبک جمیعها، و فرّق فی الأتراک کان برسم رکابه منها أربعة آلاف سرج، و أخذ من خزائن السیدة والدته: أربعة آلاف سرج مثلها، و دونها صنع بها مثل ذلک. و قال ابن الطویر: خزانة السروج تحتوی علی ما لا یحتوی علیه مملکة من الممالک، و هی قاعة کبیرة بدورها مصطبة علوها ذراعان، و مجالسها کذلک، و علی تلک المصطبة متکآت مخلصة الجانبین علی کل متکأ ثلاثة سروج متطابقة، و فوقه فی الحائط وتد مدهون مضروب فی الحائط قبل تبییضه، و هو بارز بروزا متکئا علیه المرکبات الحلی علی لجم تلک السروج الثلاثة من الذهب خاصة أو الفضة خاصة أو الذهب، و الفضة، و قلائدها و أطواقها لأعناق الخیل، و هی لخاص الخلیفة، و أرباب الرتب ما یزید علی ألف سرج، و منها لجام هو الخاص و منها الوسط، و منها الدون، و هی خیار غیرها برسم العواری لأرباب الرتب و الخدم، و منها ما هو قریب من الخاص فیکون عند المستخدم بشداده الدائم، و جاریه علی الخلیفة ما دام مستخدما، و العلف مطلق من الأهراء و أما الصاغة: فإنّ فیها منهم و من المرکبین و الخرّازین عددا جمادا ثمین لا یفترون عن العمل، و کل مجلس
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 307
مضبوط بعدد متکآته، و ما علیها من السروج، و الأوتاد و اللجم، و کل مجلس لذلک عند مستخدمیه فی العرض، فلا یختل علیهم منها شی‌ء، و کذلک وسط قاعدتها بعدّة متوالیة أیضا، و الشدّادون مطلوبون بالنقائص منها أیام المواسم و هم یحضرونها أو قیمتها فیعرض و یرکب، و یحضر إلیها الخلیفة، و یطوفها من غیر جلوس، و یعطی حامیها للتفرقة فی المستخدمین عشرین دینارا.
و یقال: إنّ الحافظ لدین اللّه عرضت له فیها حاجة، فجاء إلیها مع الحامی، فوجد الشاهد غیر حاضر و ختمه علیها، فرجع إلی مکانه، و قال: لا یفک ختم العدل إلّا هو، و نحن نعود فی وقت حضوره انتهی.
و کان الخلیفة الآمر بأحکام اللّه تحدّثه نفسه بالسفر إلی المشرق و الغارة علی بغداد، فأعدّ لذلک شروجا مجوّفة القرابیص، و بطنها بصفائح من قصدیر لیجعل فیها الماء، و جعل لها فما فیه صفارة، فإذا دعت الحاجة إلی الماء شرب منه الفارس، و کان کل سرج منها یسع سبعة أرطال ماء، و عمل عدّة مخال للخیل من دیباج، و قال فی ذلک:
دع اللوم عنی لست منی بموثق‌فلا بدّ لی من صدمة المتحقّق
و أسقی جیادی من فرات و دجلةو أجمع شمل الدین بعد التفرّق
و أوّل من رکب المتصرّفین فی دولته من یخوله بالمراکب الذهب فی المواسم:
العزیز بالله نزار بن المعز.

خزائن الخیم

قال فی کتاب الذخائر: و أخبرنی سماء الرؤساء أبو الحسن علیّ بن أحمد بن مدبر وزیر ناصر الدولة قال: أخرج فیما أخرج من خزائن القصر عدّة لم تحص من أعدال الخیم، و المضارب، و الفازات، و المسطحات، و الجرکاوات، و الحصون، و القصور، و الشراعات، و المشارع، و الفساطیط المعمولة من الدیبقیّ، و المخمل و الخسرانیّ، و الدیباج الملکیّ، و الأرمنیّ، و البهنساویّ، و الکردوانیّ و الجید من الحلبیّ، و ما أشبه ذلک من سائر ألوانه، و أنواعه، و من السندس و الطمیم أیضا منها المفیل، و المسبع، و المخیل، و المطوّس و المطیر، و غیر ذلک من سائر الوحوش، و الطیر و الآدمیین من سائر الأشکال، و الصور البدیعة الرائعة، و منها الساذج و المنقوش فی ظاهره بغرائب النقوش بجمیع آلاتها من الأعمدة الملبسة أنابیب الفضة، و الثیاب المذهبة، و غیر المذهبة من سائر أنواعها، و ألوانها، و الصفریات الفضة علی أقدارها، و الحبال الملبسة القطن، و الحریر، و الأوتاد، و سائر ما یحتاج إلیه من جمیع آلاتها و عدّتها المبطن جمیعها بالدیبقیّ الطمیم المذهب، و الخسروانیّ المذهب، و ثیاب الحریر الصینیّ، و التستریّ، و المضبب، و الرجیح، و الشرفیّ، و الشعریّ،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 308
و الدیباج و المریش، و سائر أنواع الحریر من سائر الألوان، و أنواعها کبارا و صغارا منها ما یحمل خرقه، و أوتاده، و عمده، و سائر عدّته علی عشرین بعیرا، و دون ذلک، و فوقه.
فالمسطح بیت مربع له أربع حیطان، و سقف بستة أعمدة منها عمودان للحائط الواحد المرفوع للدخول و الخروج، و الخیمة ظهرها حائط مربع و سقیفتها إلی الباب حائط مربع، و أرکانها شوارک من الجانبین علی قدر القائم، و فیها أربعة أعمدة اثنان فی الباب و اثنان فی وسطها، و کلما زادت زاد عمدها و سقفها، لها حدان مشروکان من الجانبین، و الشراع حائط فی الظهر مسقف علی الرأس بعمودین من أیّ موضع دارت الشمس حوّل إلی ناحیة الشمس، و المشرعة فیه مثل المظلة علی عمود واحد تامّ، و شراع سابل خلفها من أیّ موضع دارت الشمس أدیر، و القبة علی حالها.
و حدّثنی أبو الحسن علیّ بن الحسن الخیمیّ قال: أخرجنا فی جملة ما أخرج من خزائن القصر أیام المارقین حین اشتدّت المطالبة علی السلطان: فسطاطا کبیرا أکبر ما یکون یسمی: المدورة الکبیرة یقوم علی فرد عمود طوله: خمسة و ستون ذراعا بالکبیر، و دائر فلکته: عشرون ذراعا، و قطرها: ستة أذرع و ثلثا ذراع، و دائره خمسمائة ذراع، و عدّة قطع خرقه: أربع و ستون قطعة کل قطعة منها تحزم فی عدل واحد یجمع بعضه إلی بعض بعری و شراریب حتی ینصب، یحمل خرقه و حباله، و عدّته علی: مائة جمل، و فی صفریته المعمولة من الفضة ثلاثة قناطیر مصریة یحملها من داخل قضبان حدید من سائر نواحیها، تمتلی‌ء ماء من راویة جمل قد صوّر فی رفرفه کل صورة حیوان فی الأرض، و کل عقد ملیح، و شکل ظریف، و فیه باذهنج طوله: ثلاثون ذراعا. فی أعلاه، کان أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن البازوری أمر بعمله أیام وزارته، فعمله الصناع، و عدّتهم: مائة و خمسون صانعا فی مدّة تسع سنین، و اشتملت النفقة علیه علی ثلاثین ألف دینار، و کان عمله علی مثال القاتول الذی کان العزیز بالله أمر بعمله أیام خلافته إلّا أن هذا أعلی عمودا منه، و أوسع، و أعظم، و أحسن، و کان الخلیفة أنفذ إلی متملک الروم فی طلب عمودین للفسطاط طول کل واحد منهما: سبعون ذراعا بعد أن غرم علیهما ألف دینار أحدهما فی هذا الفسطاط بعد أن قطع منه خمسة أذرع، و الآخر حمله ناصر الدولة بن حمدان حین خرج علی الخلیفة المستنصر بالله إلی الاسکندریة، و ما أدری ما فعل به.
قال: و أقمنا مدّة طویلة فی تفصیل بعضه من بعض، و تقطیعه خرقا و شققا قوّمت علی المذکورین بأقل القیم، و تفرّق فی الآفاق، و قال لی أیضا: أخرجنا مسطحا قلمونیا مخملا موجها من جانبیه، عمل بتنیس للعزیز بالله یسمی: دار البطیخ، وسطه بکنیس علی ستة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 309
أعمدة، أربعة منها فی أرکان الکنیس، و فی أربعة الأرکان أربع قباب، و من القبة إلی القبة رواق دائر علیه، و القباب دونه، و فی کل قبة أربعة أعمدة ذول کل عمود من أعمدة الکنیس ثمانیة عشر ذراعا، و کذلک طول قائم القباب، و فعلنا به مثل ما فعلنا فی الأوّل.
و قال لی: أخرجنا مسطحا عمل للظاهر لإعزاز دین اللّه: بتنیس ذهب فی ذهب طمیم، قائم علی عمود له: ست صفاری بلور، و ستة أعمدة فضة أنفق علیه أربعة عشر ألف دینار، و مسطحا دیبقیا کبیرا مذهبا بدوائر کردوانی منقوش، و أخرجنا قصورا تحیط بالخیام بشرفات من المخمل و القلمونیّ، و الدیبقیّ ، و الدیباج الخسروانیّ، و الحریر من سائر أنواعه، و ألوانه المذهبة المنقوشة بحیاضها، و دککها، و مصاطبها، و قدورها، و زجاجها، و سائر عددها.
و أخرجنا من الخیام الکردوانی شیئا کثیرا، و أخرجنا خیمة کبیرة مدوّرة کردوانیّ ملیحة النقش و الصنعة، عدّتها قطع کثیرة طول عمودها خمسة و ثلاثون ذراعا فعلنا بجمیعها مثل ما فعلنا بالأوّل، و أخرج فی جملتها الفسطاط الکبیر المعروف بالمدوّرة الکبیرة المتولی عمله بحلب أبو الحسن علیّ بن أحمد المعروف بابن الأیسر فی سنی نیف و أربعین و أربعمائة المنفق علی خرقه، و نقشه و عمله، و عدّته ثلاثون ألف دینار الذی عموده أثول ما یکون من صواری درامین الروم البنادقة أربعون ذراعا، و دائر فلکة عوده أربعة و عشرون شبرا، و یحمل علی سبعین جملا، و وزن صفریته الفضة قنطاران سوی أنابیب عمده، و یتولی إتقان عمده، و نصبه مائتا رجل من فرّاش و معین، و هو شبیه بالقاتول العزیزیّ، و سمی بالقاتول: لأنه ما نصب قط إلّا، و قتل رجلا أو رجلین ممن یتولی إتقانه من فرّاش و غیره.
قال: و وجد فی خزائن مملوءة من سائر أنواع الصوانی المدهونة ببغداد المذهبة التی حشیت، کل واحدة منها بما دونها فی السعة إلی ما سعته دون الدرهم، و من سائر أنواع الأطباق الخلع الرازی فی هذه السعة، و فوق ذلک و دونه قد حشیت بطونها بما دونها فی السعة، إلی ما سعته دون الدینار، و من الموائد القوائمیة الصغار، و الکبار ألوف، و من موائد الکرم، و ما أشبهها شی‌ء کثیر، و من الجفان الحور الواسعة التی قد عملت مقابضها من الفضة، و حلیت بأنواع الحلی التی لا یقدر الجمل القویّ علی حمل جفنتین منها، لعظمها تساوی الواحدة منها: مائة دینار، و فوقها، و دونها شی‌ء کثیر، و وجد من الدکک، و المحاریب، و الأسرّة العود، و الصندل، و العاج و الأبنوس، و البقم شی‌ء کثیر ملیح الصنعة.
و قال ابن میسر: و عمل الأفضل بن أمیر الجیوش خیمة سماها: خیمة الفرح اشتملت علی:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 310
ألف ألف و أربعمائة ألف ذراع، و قائمها ارتفاعه خمسون ذراعا بذراع العمل، صرف علیها:
عشرة آلاف دینار، و مدحها جماعة من الشعراء.

خزانة الشراب

قال ابن المأمون: و لم یکن فی الإیوان فیما تقدّم شراب حلو، بل إنها قرّرت لاستقبال النظر المأمونیّ، و أطلق لها من السکر: مائة و خمسة عشر قنطارا، و برسم الورد المربی خمسة عشر قنطارا، و أما ما یستعمل بالکافوریّ من الحلو الفانیذ و الحامض، فالمبلغ فی ذلک علی ما حصره شاهده فی السنة: ستة آلاف و خمسمائة دینار، و ما یحمل للکافوریّ أیضا برسم کرک الماورد ما یستدعیه متولی الشراب.
و قال ابن الطویر: خزانة الشراب، و هی أحد مجالسه أیضا یعنی القاعة التی هی الآن:
المارستان العتیق، فإذا جلس الخلیفة علی السریر عرض علیه ما فیها حامیها، و هو من کبار الأستاذین و شاهدها، فیحضر إلیه فرّاشوها بین یدی مستخدمها من عیون الأصناف العالیة من المعاجین العجیبة فی الصینیّ، و الطیافیر الخلنج، فیذوق ذلک شاهدها بحضرته، و یستخبر عن أحوالها بحضور أطباء الخاص، و فیها من الآلات، و الأزیاء الصینیّ، و البرابی عدّة عظیمة للورد، و البنفسج، و المرسین، و أصناف الأدیة من الراوند الصینی، و ما یجری مجراه، مما لا یقدر أحد علی مثله إلّا هناک، و ما یدخل فی الأدویة من آلات العطر إلی ذلک، و یسأل عن الدریاق الفاروق، و یأمرهم بتحصیل أصنافه لیستدرک عمله قبل انقطاع الحاصل منه، و یؤکد فی ذلک تأکیدا عظیما، و یستأذن علی ما یطلق منها برقاع أطباء الخاص للجهات، و حواشی القصر، فیأذن فی ذلک، و یعطی الحامی للتفرقة فی الجماعة: ثلاثین دینارا.

خزانة التوابل

و قال ابن المأمون: فأما التوابل العالی منها و الدون، فإنها جملة کثیرة، و لم یقع لی شاهد بها، بل إننی اجتمعت بأحد من کان مستخدما فی خزانة التوابل، فذکر أنها تشتمل علی: خمسین ألف دینار فی السنة، و ذلک خارج عما یحمل من البقولات، و هی باب مفرد مع المستخدم فی الکافوری، و الذی استقرّ إطلاقه علی حکم الاستیمار من الجرایات المختصة بالقصور، و الرواتب المستجدّة، و المطلق من الطیب، و یذکر الطراز، و ما یبتاع من الثغور، و یستعمل بها و غیر ذلک.
فأوّلها: جرایة القصور، و ما یطلق لها من بیت المال إدرارا لاستقبال النظر المأمونیّ:
ستة آلاف و ثلثمائة و ثلاثة و أربعون دینارا، تفصیله: مندیل الکم الخاص الآمری فی الشهر:
ثلاثة آلاف دینار، عن مائة دینار کل یوم أربع جمع الحمام فی کل جمعة: مائة دینار
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 311
أربعمائة دینار، و برمس الإخوة و الأخوات، و السیدة الملکة، و السیدات، و الأمیر أبی علیّ، و إخوته، و الموالی، و المستخدمات، و من استجدّ من الأفضلیات ألفان و تسعمائة و ثلاثة و أربعون دینارا، و لم یکن للقصور فی الأیام الأفضلیة من الطیب راتب فیذکر، بل کان إذا وصلت الهدیة و الجاوی من البلاد الیمنیة تحمل برمّتها إلی الإیوان، فینقل منها بعد ذلک للأفضل، و الطیب المطلق للخلیفة من جملتها فانفسخ هذا الحکم.
و صار المرتب من الطیب میاومة، و مشاهرة علی ما یأتی ذکره ما هو برسم الخاص الشریف فی کل شهر ندّ مثلث: ثلاثون مثقالا، عود صیفیّ: مائة و خمسة دراهم، کافور قدیم: خمسة عشر درهما، عنبر خام: عشرة مثاقیل، زعفران: عشرون درهما، ماء ورد:
ثلاثون رطلا، برسم بخور المجلس الشریف فی کل شهر فی أیام السلام، ندّ مثلث: عشرة مثاقیل، عود صیفی: عشرون درهما، کافور قدیم: ثمانیة دراهم، زعفران شعر: عشرة دراهم، ما هو برسم بخور الحمام فی کل لیلة جمعة عن أربع جمع فی الشهر، ندّ مثلث:
أربعة مثاقیل، عود صیفی: عشرة مثاقیل، ما هو برسم السیدات، و الجهات، و الأخوة فی کل شهر: ندّ مثلث خمسة و ثلاثون مثقالا، عود صیفی: مائة و عشرون درهما، زعفران شعر: خمسون درهما، عنبر خام: عشرون مثقالا، کافور قدیم: عشرون درهما، مسک:
خمسة عشر مثقالا، ماء ورد: أربعون رطلا، ما هو برسم المائدة الشریفة ما تستلمه المعلمة مسک خمسة عشر مثقالا، ماء ورد: خمسة عشر رطلا، ما هو برسم خزانة الشراب الخاص مسک: ثلاثة مثاقیل، ندّ ثلث سبعة مثاقیل، عود صیفی: خمسة و ثلاثون درهما، ماء ورد:
عشرون رطلا، ما هو برسم بخور المواکب الستة، و هی الجمعتان الکائنتان فی شهر رمضان، برسم الجامعین بالقاهرة یعنی الجامع الأزهر، و الجامع الحاکمی، و العیدان، و غید الغدیر، و أوّل السنة بالجوامع و المصلی، ندّ خاص جملة کثیرة لم تتحقق فتذکر، و لم یکن للغرّتین غرّة السنة، و غرّة شهر رمضان، و فتح الخلیج بخور فیذکر، و عدّة المبخرین فی المواکب ستة: ثلاثة عن الیمین، و ثلاثة عن الشمال، و کل منهم مشدود الوسط، و فی کمه فحم برسم تعجیل المدخنة، و المداخن فضة، و حامل الدرج الفضة الذی فیه البخور أحد مقدّمی بیت المال، و هو فیما بین المبخرین طول الطریق، و یضع بیده البخور فی المدخنة، و إذا مات أحد هؤلاء المبخرین لا یخدم عوضا عنه إلّا من یتبرّع بمدخنة فضة، لأنّ لهم رسوما کثیرة فی المواسم مع قربهم فی المواکب من الخلیفة، و من الوقت الذی یتبرّع فیه بالمدخنة یرجع فی حاصل بیت المال، و إذا توفی حاملها لا ترجع لورثته، و عدّة ما یبخر فی الجوامع و المصلی غیر هؤلاء فی مداخن کبار، فی صوانی فضة: ثلاث صوان، فی المحراب إحداهنّ، و عن یمین المنبر، و شماله اثنتان، و فی الموضع الذی یجلس فیه الخلیفة إلی أن تقام الصلاة صینیة رابعة.
و أما البخور المطلق برسم المأمون فهو فی کل شهر: ندّ مثلث: خمسة عشر مثقالا،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 312
عود صیفیّ: ستون درهما، عنبر خام: ستة مثاقیل، کافور: ثمانیة دراهم، زعفران شعر:
عشرة دراهم، ماء ورد: خمسة عشر رطلا و منها مقرّر الحلوی، و الفستق، و مما استجدّ ما یعمل فی الإیوان برسم الخاص فی کل یوم من الحلوی: اثنا عشر جاما رطبة و یابسة نصفین وزن کل جام من الرطب: عشرة أرطال، و من الیابس: ثمانیة أرطال، و مقرّر الخشکنانج و البسندود فی کل لیلة علی الاستمرار برسم الخاص الآمریّ، و المأمونیّ: قنطار واحد سکر، و مثقالان مسک و دیناران برسم المؤن لعمل خشکنانج و بسندود فی قعبان و سلال صفصاف، و یحمل ثلثا ذلک إلی القصر و الثلث إلی الدار المأمونیة.
قال و جرت مفاوضة بین متولی بیت المال، و دار الفطرة بسبب الأصناف، و من جملتها: الفستق، و قلة وجوده و تزاید سعره إلی أن بلغ رطل و نصف: بدینار، و قد وقف منه لأرباب الرسوم ما حصل شکواهم بسببه، فجاوبه متولی الدیوان، بأن قال: ما تمّ موجب الإنفاق لما هو راتب من الدیوان، و طالعا المقام العالی بأنه لما رسم لهما: ذکرا جمیع ما اشتمل علیه ما هو مستقرّ الإنفاق من قلب الفستق و الذی یطلق من الخزائن من قلب الفستق إدرارا مستقرّا بغیر استدعاء، و لا توقیع میاومة، کل یوم حسابا فی الشهر التام عن ثلاثین یوما خمسمائة و خمسة و ثمانون رطلا، و فی الشهر الناقص عن تسعة و عشرین یوما خمسمائة و خمسة و ستون رطلا حسابا عن کل: یوم تسعة عشر رطلا و نصف من ذلک ما یستلمه الصناع الحلاویون، و المستخدمون بالإیوان مما یصنع به خاص خارجا عما یصنع بالمطابخ الآمریة عن اثنی عشر جام حلوی خاص وزنها: مائة و ثمانیة أرطال منها: رطب ستون رطلا، و یابس و غیره: ثمانیة و أربعون رطلا مما یحمل فی یومه و ساعته، منها ما یحمل مختوما برسم المائدتین الآمریتین بالباذهنج ، و الدار الجدیدة اللتین ما یحضرهما إلّا من کبرت منزلته، و عظمت وجاهته جامان رطبا و یابسا، و ما یفرّق فی العوالی من الموالی، و الجهات علی أوضاع مختلفة تسع جامات، و ما یحمل إلی الدار المأمونیة برسم المائدة بالداردون السماط: جام واحد.
تتمة المیاومة المذکورة ما یتسلمه الشاهد، و المشارف علی المطابخ الآمریة، مما یصنع فیها برسم الجامات الحلوی، و غیره مما یکون علی المدورة فی الأسمطة المستمرّة بقاعة الذهب فی أیام السلام، و فی أیام الرکوبات، و حلول الرکاب بالمناظر أربعة أرطال،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 313
و ما یتسلمه الحاج مقبل الفرّاش برسم المائدة المأمونیة، مما یوصله لزمام الدار دون المطابخ الرجالیة رطلان الحکم الثانی یطلق مشاهرة بغیر توقیع، و لا استدعاء بأسماء کبراء الجهات، و المستخدمین من الأصحاب، و الحواشی فی الخدم الممیزة، و هو فی الشهر ثلاثة عشر رطلا، و الدیوان شاهد بأسماء أربابه، و ما یطلق من هذه الخزائن السعیدة بالاستدعاءات و المطالعات، و یوقع علیه بالإطلاق من هذا الصنف فی کل سنة علی ما یأتی ذکره، و ما یستدعی برسم التوسعة فی الراتب عند تحویل الرکاب العالی إلی اللؤلؤة مدّة أیام النیل المبارک فی کل یوم رطلان، و ما یستدعی برسم الصیام مدّة تسعة و خمسین یوما رجب و شعبان حسابا عن کل یوم: رطلان مائة و ثمانیة عشر رطلا و ما یستدعی لما یصنع بدار الفطرة فی کل لیلة برسم الخاص خشکنانج لطیفة، و بسندود، و جوارشات، و نواطف، و یحمل فی سلال صفصاف لوقته، عن مدّة أوّلها مستهل رجب، و آخرها سلخ رمضان عن تسعة و ثمانین یوما مائة و ثمانیة و سبعون رطلا، لکل لیلة: رطلان، و یسمی ذلک: بالتعبیة، و ما یستدعیه صاحب بیت المال، و متولی الدیوان.
فیما یصنع بالإیوان الشریف برسم الموالد الشریفة الأربعة: النبویّ، و العلویّ، و الفاطمیّ، و الآمریّ مما هو برسم الخاص، و الموالی، و الجهات بالقصور الزاهرة، و الدار المأمونیة، و الأصحاب، و الحواشی خارجا عما یطلق مما یصنع بدر الوکالة، و یفرّق علی الشهود، و المتصدّرین و الفقراء، و المساکین مما یکون حسابه من غیر هذه الخزائن عشرون رطلا قلب فستق حسابا لکل یوم مؤبد منها: خمسة أرطال.
ما یستدعی برسم لیالی الوقود الأربع الکائنات فی رجب و شعبان، مما یعمل بالإیوان برسم الخاصیین، و القصور خاصة: عشرون رطلا لکل لیلة خمسة أرطل.
و أما ما ینصرف فی الأسمطة، و اللیالی المذکورات فی الجامع الأزهر بالقاهرة، و الجامع الظاهریّ بالقرافة فالحکم فی ذلک یخرج عن هذه الخزائن، و یرجع إلی مشارف الدار السعیدة، و کذلک ما یستدعیه المستخدمون فی المطابخ الآمریة من التوسعة من هذا الصنف المذکور فی جملة غیره برسم الأسمطة لمدّة تسعة و عشرین یوما من شهر رمضان و سلخه لأسماط فیه، و فی الأعیاد جمیعها بقاعة الذهب، و ما یستدعیه النائب برسم ضیافة من یصرف من الأمراء فی الخدم الکبار، و یعود إلی الباب، و من یرد إلیه من جمیع الضیوف، و ما یستدعیه المستخدمون فی دار الفطرة برسم فتح الخلیج، و هی الجملتان الکبیرتان، فجمیع ذلک لم یکن فی هذه الخزائن محاسبته، و لا ذکر جملته، و المعاملة فیه مع مشارف الدار السعیدة، و أما: ما یطلق من هذا الصنف من هذه الخزائن فی هذه الولائم، و الأفراح، و إرسال الأنعام فهو شی‌ء لم تتحقق أوقاته، و لا مبلغ استدعائه، أنهی المملوکان ذلک، و المجلس فضل السموّ، و القدرة فیما یأمر به إن شاء اللّه تعالی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 314

دار التعبیة

قال ابن المأمون: دار التعبیة کانت فی الأیام الأفضلیة تشتمل علی مبلغ یسیر، فانتهی الأمر فیها إلی عشرة دنانیر کل یوم خارجا عما هو موظف علی البساتین السلطانیة، و هو النرجس و النینوفران الأصفر، و الأحمر، و النخل الموقوف برسم الخاص، و ما یصل إلیه من الفیوم، و ثغر الإسکندریة، و من جملتها تعبیة للجهات، و الخاص و السیدات، و لدار الوزارة، و تعبیة المناظر فی الرکوبات إلی الجمع فی شهر رمضان خارجا عن تعبیة الحمامات، و ما یحمل کل یوم من الزهرة، و برسم خزانة الکسوة الخاص، و برسم المائدة، و تفرقة الثمرة الصیفیة فی کل سنة علی الجهات، و الأمراء، و المستخدمین، و الحواشی، و الأصحاب، و ما یحمل لدار الوزارة، و الضیوف و حاشیة دار الوزارة.

خزانة الأدم

قال: و أما الراتب من عند برکات الأدمیّ، فإنه فی کل شهر ثمانون زوجا أو طیة من ذلک، برسم الخاص: ثلاثون زوجا، برسم الجهات: أربعون زوجا، برسم الوزارة: عشرة أزواج خارجا عن السباعیات، فإنها تستدعی من خزانة الکسوة، و فی کل موسم تکون مذهبة.

خزائن دار أفتکین

قال ابن الطویر: و کانت لهم دار کبری یسکنها: نصر الدولة أفتکین الذی رافق نزار بن المستنصر بالإسکندریة جعلوها: برسم الخزن، فقیل: خزائن دار أفتکین، و تحتوی علی أصناف عدیدة من الشمع المحمول من الإسکندریة و غیرها، و جمیع القلوب المأکولة من الفستق و غیره، و الأعسال علی اختلاف أصنافها، و السکر، و القند، و الشیرج، و الزیت، فیخرج من هذه الخزائن بید حامیها، و هو من الأستاذین الممیزین و مشارفها، و هو من المعدّلین راتب المطابخ: خاصا و عامّا أو لأیام، ینفق منها للمستخدمین، ثم لأرباب التوقیعات من الجهات، و أرباب الرسوم فی کل شهر من أرباب الرتب حتی لا یخرج عما یحتاجونه فیها إلا اللحم، و الخضراوات، فهی أبدا معمورة بذلک انتهی. خبر نزار و أفتکین:
لما مات الخلیفة المستنصر بالله أبو تمیم معدّ بن الإمام الظاهر لإعزاز دین اللّه أبی الحسن علیّ بن الحاکم بأمر اللّه أبی علیّ منصور: فی لیلة الخمیس الثامن عشر من ذی الحجة سنة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 315
سبع و ثمانین و أربعمائة، بادر الأفضل شاهنشاه بن أمیر الجیوش بدر الجمالی إلی القصر، و أجلس: أبا القاسم أحمد بن المستنصر فی منصب الخلافة، و لقبه: بالمستعلی بالله، و سیر إلی الأمیر نزار، و الأمیر عبد اللّه، و الأمیر إسماعیل: أولاد المستنصر فجاؤوا إلیه، فإذا أخوهم أحمد، و هو أصغرهم قد جلس علی سریر الخلافة، فامتعضوا لذلک، و شق علیهم.
و أمرهم الأفضل بتقبیل الأرض، و قال لهم: قبلوا الأرض لمولانا المستعلی بالله، و بایعوه فهو الذی نص علیه الإمام المستنصر قبل وفاته بالخلافة من بعده، فامتنعوا من ذلک، و قال کل منهم: إن أباه قد وعده بالخلافة، و قال نزار: لو قطعت ما بایعت من هو أصغر منی سنا، و خط والدی عندی بأنی ولیّ عهده، و أنا أحضره، و خرج مسرعا لیحضر الخط، فمضی لا یدری به أحد، و توجه إلی الاسکندریة.
فلما أبطأ مجیئه بعث الأفضل إلیه لیحضر بالخط، فلم یعلم له خبرا. فانزعج لذلک انزعاجا عظیما، و کانت نفرة نزار من الأفضل لأمور منها: أنه خرج یوما فإذا بالأفضل قد دخل من باب القصر، و هو راکب، فصاح به نزار: انزل یا أرمنیّ الجنس ، فحقدها علیه، و صار کل منهما یکره الآخر، و منها: أنّ الأفضل: کان یعارض نزارا فی أیام أبیه، و یستخف به، و یضع من حواشیه، و أسبابه، و یبطش بغلمانه، فلما مات المستنصر خافه، لأنه کان رجلا کبیرا، و له حاشیة، و أعوان، فقدّم لذلک أحمد بن المستنصر بعد ما اجتمع بالأمراء و خوّفهم من نزار، و ما زال بهم حتی وافقوه علی الإعراض عنه، و کان من جملتهم:
محمود بن مصال، فسیر خفیة إلی نزار، و أعلمه بما کان من اتفاق الأفضل مع الأمراء علی إقامة أخیه أحمد، و إدارته لهم عنه، فاستعدّ إلی المسیر إلی الاسکندریة هو و ابن مصال، فلما فارق الأفضل، لیحضر إلیه بخط أبیه، خرج من القصر متنکرا، و سار هو و ابن مصال إلی الاسکندریة، و بها الأمیر نصر الدولة أفتکین أحد ممالیک أمیر الجیوش بدر الجمالی، و دخلا علیه لیلا و أعلماه بما کان من الأفضل، و ترامیا علیه، و وعده نزار بأن یجعله وزیرا مکان الأفضل، فقبلهما أتمّ قبول، و بایع نزارا، و أحضر أهل الثغر لمبایعته فبایعوه، و نعته بالمصطفی لدین اللّه، فبلغ ذلک الأفضل، فأخذ یتجهز لمحاربتهم و خرج فی آخر المحرّم سنة ثمان و ثمانین بعسکره، و سار إلی الاسکندریة، فبرز إلیه نزار و أفتکین، و کانت بین الفریقین عدّة حروب شدیدة انکسر فیها الأفضل، و رجع بمن معه منهزما إلی القاهرة، فقوی نزار و أفتکین، و صار إلیهما کثیر من العرب، و اشتدّ أمر نزار، و عظم و استولی علی بلاد الوجه البحریّ، و أخذ الأفضل یتجهز ثانیا إلی المسیر لمحاربة نزار، و دس إلی أکابر العربان، و وجوه أصحاب نزار و أفتکین، و صاروا إلی الاسکندریة، فنزل الأفضل إلیها، و حاصرها حصارا شدیدا، و ألحّ فی مقاتلتهم، و بعث إلی أکابر أصحاب نزار، و وعدهم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 316
فلما کان فی ذی القعدة و قد اشتدّ البلاء من الحصار جمع ابن مصال ماله، و فرّ فی البحر إلی جهة بلاد المغرب، ففت ذلک فی عضد نزار و تبین فیه الانکسار، و اشتدّ الأفضل، و تکاثرت جموعه، فبعث نزار و أفتکین إلیه یطلبان الأمان منه، فأمنهما و دخل الاسکندریة، و قبض علی نزار و أفتکین، و بعث بهما إلی القاهرة، فأما نزار: فإنه قتل فی القصر بأن أقیم بین حائطین بنیا علیه فمات بینهما، و أما أفتکین، فإنه قتله الأفضل بعد قدومه، و دار أفتکین هذه کانت خارج القصر و موضعها الآن حیث مدرسة القاضی الفاضل، و آدره بدرب ملوخیا.

خزانة البنود

البنود: هی الرایات و الأعلام، و یشبه أن تکون هی التی یقال لها فی زمننا: العصائب السلطانیة، و کانت خزانة البنود ملاصقة للقصر الکبیر، و من حقوقه فیما بین قصر الشوک، و باب العید بناها: الخلیفة الظاهر لإعزاز دین اللّه أبو هاشم علیّ بن الحاکم بأمر اللّه، و کان فیها ثلاثة آلاف صانع مبرزین فی سائر الصنائع، و کانت أیام الظاهر هذا سکونا و طمأنینة، و کان مشتغلا بالأکل و الشرب، و النزه، و سماع الأغانی.
و فی زمانه تأنق أهل مصر و القاهرة فی اتخاذ الأغانی و الرقاصات، و بلغ من ذلک المبالغ العجیبة، و اتخذت له حجرة الممالیک، و کانوا یعلمونهم فیها أنواع العلوم و أنواع آلة الحرب، و صنوف حیلها من الرمایة، و المطاعنة، و المسابقة و غیر ذلک.
و قال فی کتاب الذخائر و التحف: و لما وهب السلطان یعنی الخلیفة المستنصر لسعد الدولة المعروف بسلام علیک ما فی خزانة البنود من جمیع المتاع و الآلات، و غیر ذلک فی الیوم السادس من صفر سنة إحدی و ستین و أربعمائة، حمل جمیعه لیلا، و کان فیما وجد سعد الدولة فیها ألفا و تسعمائة درقة إلی ما سوی ذلک من آلات الحرب و ما سواه، و غیر ذلک من القضب الفضة و الذهب و البنود، و ما سواه، و فی خلال ذلک سقط من بعض الفرّاشین: مقط شمع موقد نارا، فصادف هناک أعدال کتان، و متاعا کثیرا، فاحترق جمیعه، و کانت لتلک غلبة عظیمة، و خوف شدید فیما یلیها من القصر، و دور العامّة و الأسواق.
و أعلمنی من له خبرة بما کان فی خزانة البنود أن مبلغ ما کان فیها من سائر الآلات، و الأمتعة، و الذخائر لا یعرف له قیمة عظما، و إنّ المنفق فیها کل سنة: من سبعین ألف دینار إلی ثمانین ألف دینار من وقت دخول القائد جوهر، و بناء القصر من سنة ثمان و خمسین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 317
و ثلثمائة إلی هذا الوقت، و ذلک زائد عن مائة سنة، و إنّ جمیعه باق فیها علی الأیام لم یتغیر، و إنّ جمیعه احترق حتی لم یبق منه باقیة، و لا أثر، و إنه احترق فی هذه اللیلة من قربات النفط عشرات ألوف، و من زراقات النفط أمثالها، فأما الدرق و السیوف و الرماح و النشاب، فلا تحصی بوجه، و لا سبب مع ما فیها من قضب الفضة، و ثیابها المذهبة و غیرها، و البنود المجملة، و سروج و لجم و ثیاب الفرحیة المصبغات و البنادین، و غیرها بعد أن أخذوا ما قدروا علیه، حتی لواء الحمد ، و سائر البنود، و جمیع العلامات، و الألویة.
و حدّثنی من أثق به أیضا: أنه احترق فیها من السیوف عشرات ألوف، و ما لا یحصی کثرة، و إن السلطان بعد ذلک بمدّة طویلة احتاج إلی إخراج شی‌ء من السلاح لبعض مهماته، فأخرج من خزانة واحدة مما بقی و سلم خمسة عشر ألف سیف مجوهرة سوی غیرها.
حدّثنی بجمیعه الأجل: عظیم الدولة متولی الستر الشریف انتهی.
و جعلت خزانة البنود بعد هذا الحریق حبسا، و فیها یقول القاضی المهذب بن الزبیر لما اعتقل بها، و کتب بها للکامل بن شاور:
أیا صاحبی سجن الخزانة خلیانسیم الصبا یرسل إلی کبدی نفحا
و قولا لضوء الصبح هل أنت عائدإلی نصری أم لا أری بعدها صبحا
و لا تیأسا من رحمة اللّه أن أری‌سریعا بفضل الکامل العفو و الصفحا
و قال:
أیا صاحبی سجن الخزانة خلیامن الصبح ما یبدو سناه لناظری
فو اللّه ما أدری أطرفی ساهرعلی طول هذا اللیل أم غیر ساهر
و ما لی من أشکو إلیه إذا کماسوی ملک الدنیا شجاع بن شاور
و استثمرت سجنا للأمراء، و الوزراء، و الأعیان إلی أن زالت الدولة، فاتخذها ملوک بنی أیوب أیضا سجنا، تعتقل فیه الأمراء و الممالیک.
و من غریب ما وقع بها أن الوزیر: أحمد بن علیّ الجرجرائی : لما توفی طلب الوزارة: الحسن بن علیّ الأنباری: فأجیب إلیها، فتعجل من سوء التدبیر قبل تمامه ما فوّته مراده، و ضیع ماله و نفسه، و ذلک أنه کان قد نبغ فی أیام الحاکم بأمر اللّه أخوان یهودیان:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 318
بتصرّف أحدهما فی التجارة، و الآخر فی الصرف، و بیع ما یحمله التجار من العراق.
و هما: أبو سعد إبراهیم، و أبو نصر هارون ابنا سهل التستریّ، و اشتهر من أمرهما فی البیوع و إظهار ما یحصل عندهما من الودائع الخفیة لمن یفقد من التجار فی القرب و البعد، ما ینشأ به جمیل الذکر فی الآفاق، فاتسع حالهما لذلک، و استخدم الخلیفة الظاهر لإعزار دین اللّه: أبا سعد إبراهیم بن سهل التستریّ فی ابتیاع ما یحتاج إلیه من صنوف الأمتعة، و تقدّم عنده، فباع له جاریة سوداء، فتحظی بها الظاهر، و أولدها: ابنه المستنصر، فرعت لأبی سعد ذلک، فلما أفضت الخلافة إلی المستنصر ولدها قدّمت: أبا سعد، و تخصصت به فی خدمتها.
فلما مات الوزیر الجرجرائی، و تکلم ابن الأنباری فی الوزارة قصده أبو نصر أخو أبی سعد، فجبهه أحد أصحابه بکلام مؤلم، فظنّ أبو نصر أن الوزیر ابن الأنباری إذا بلغه ذلک ینکر علی غلامه، و یعتذر إلیه، فجاء منه خلاف ما ظنه، و بلغه عنه أضعاف ما سمعه من الغلام، فشکا ذلک إلی أخیه أبی سعد، و أعلمه بأنّ الوزیر متغیر النیة لهما، فلم یفتر أبو سعد عن ابن الأنباریّ، و أغری به أمّ المستنصر مولاته، فتحدّثت مع ابنها الخلیفة المستنصر فی أمره حتی عزله عن الوزارة فسعی أبو سعد عند أمّ المستنصر: لأبی نصر صدقة بن یوسف الفلاحیّ فی الوزارة، فاستوزره المستنصر، و تولی أبو سعد الإشراف علیه، و صار الوزیر الفلاحیّ منقادا لأبی سعد تحت حکمه، و أخذ الفلاحی یعمل علی ابن الأنباری و یغری به، و یصنع علیه دیونا، و یذکر عنه ما یوجب الغضب علیه، حتی تمّ له ما یرید، فقبض علیه، و خرّج علیه من الدواوین أموالا کثیرة، مما کان یتولاه قدیما، و ألزمه بحملها، و نوّع له أصناف العذاب، و استصفی أمواله، و هو معتقل بخزانة البنود، ثم قتله فی یوم الاثنین الخامس من المحرّم سنة أربعین و أربعمائة بها، فاتفق أن الفلاحی لما صرف عن الوزارة، اعتقل بخزانة البنود حیث کان ابن الأنباری، قم قتل بها، و حفر له لیدفن، فظهر فی الحفر رأس ابن الأنباری قبل أن یمضی فیه القتل، فقال لا إله إلّا اللّه: هذا رأس ابن الأنباری أنا قتلته، و دفنته ههنا و أنشد:
رب لحد قد صار لحدا مراراضاحکا من تزاحم الأضداد
فقتل، و دفن فی تلک الحفرة مع ابن الأنباری، فعدّ ذلک من غرائب الاتفاق.
ثم إن خزانة البنود جعلت منازل للأسری من الفرنج المأسورین من البلاد الشامیة أیام المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 319
کانت محاربة المسلمین لهم، فأنزل بها الملک الناصر محمد بن قلاون: الأساری بعد حضوره من الکرک، و أبطل السجن بها، فلم یزالوا فیها بأهالیهم، و أولادهم فی أیام السلطان الملک الناصر محمد بن قلاون، فصار لهم فیها أفعال قبیحة، و أمور منکرة شنیعة من التجاهر: ببیع الخمر، و التظاهر بالزنا و اللیاطة، و حمایة من یدخل إلیها من أرباب الدیون، و أصحاب الجرائم و غیرهم، فلا یقدر أحد، و لو جلّ علی أخذ من صار إلیهم و احتمی بهم.
و السلطان یغضی عنهم لما یری فی ذلک من مراعاة المصلحة، و السیاسة التی اقتضاها الحال من مهادنة ملوک الفرنج، و کان یسکن بالقرب منها الأمیر الحاج آل ملک الجوکندار، و یبلغه ما یفعله الفرنج من العظائم الشنیعة، فلا یقدر علی منعهم، و فحش أمرهم، فرفع الخبر إلی السلطان، و أکثر من شکایتهم غیر مرّة و السلطان یتغافل عن ذلک إلی أن کثرت مفاوضة الحاج آل ملک للسلطان فی أمرهم، فقال له السلطان: أ تنقل أنت عنهم یا أمیر؟
فلم یسعه إلّا الإعراض عن ذلک، و عمّر داره التی بالحسینیة، و الإصطبل، و الجامع المعروف: بآل ملک و الحمام و الفندق، و انتقل من داره التی کان فیها بجوار خزانة البنود، و سکن بالحسینیة إلی أن مات السلطان الملک الناصر فی أخریات سنة إحدی و أربعین و سبعمائة، و تنقل الملک فی أولاده إلی أن جلس الملک الصالح عماد الدین إسماعیل ابن الملک الناصر محمد بن قلاون، و ضرب شوری علی من یکون نائب السلطنة بالدیار المصریة یدبر أحوال المملکة، کما کانت العادة فی ذلک مدّة الدلة الترکیة، فأشیر بتولیة الأمیر: بدر الدین جنکل بن البابا، فتنصل من ذلک، و أبی قبوله، فعرضت النیابة علی الأمیر الحاج آل مالک فاستبشر و قال: لی شروط أشرطها علی السلطان، فإن أجابنی إلیها فعلت ما یرسم به.
و هی أن لا یفعل شی‌ء فی المملکة إلا برأیی، و أن یمنع الناس من شرب الخمر، و یقام منار الشرع، و لا یعترض علی أمر من الأمور، فأجیب إلی ما سأل، و أحضرت التشاریف، فأفیضت علیه بالجامع من قلعة الجبل فی یوم الجمعة الثانی عشر من المحرّم سنة أربع و أربعین و سبعمائة، و أصبح یوم السبت جالسا فی دار النیابة من القلعة، و حکم بین الناس، و أوّل ما بدأ به: أن أمر والی القاهرة بالنزول إلی خزانة البنود، و أن یحتاط علی جمیع ما فیها من الخمر و الفواحش، و یخرج الأسری منها، و یهدمها حتی یجعلها دکا، و یسوّی بها الأرض، فنزل إلیها و معه الحاجب فی عدّة وافرة، و هجموا علی من فیها، و هم آمنون، و أحاطوا بسائر ما تشتمل علیه، و قد اجتمع من العامّة و الغوغاء، ما لا یقع علیه حصر، فأراقوا منها خمورا کثیرة تتجاوز الحدّ فی الکثرة، و أخرج من کان فیها من النساء البغایا، و غیرهنّ من الشباب، و أرباب الفساد، و قبض علی الفرنج و الأرمن، و هدمها حتی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 320
لم یبق لها أثر، و نودی فی الناس، فحکروها و بنوا فیها الدور و الطواحین علی ما هی علی الآن، و أمر بالأسری، فأنزلوا بالقرب من المشهد النفیسیّ، بجوار کیمان مصرفهم هناک إلی الآن، و أنزل من کان منهم أیضا بقلعة الجبل، فأسکنوا معهم و طهر اللّه تلک الأرض منهم، و أراح العباد من شرّهم، فإنها کانت شرّ بقعة من بقاع الأرض یباع فیها لحم الخنزیر علی الوضم، کما یباع لحم الضأن، و یعصر فیها من الخمور فی کل سنة ما لا یستطیع أحد حصره، حتی یقال: إنه کان یعصر بها فی کل سنة: اثنان و ثلاثون ألف جرّة خمر، و یباع فیها الخمر نحو: اثنی عشر رطلا بدرهم إلی غیر ذلک من سائر أنواع الفسوق.

دار الفطرة

قال ابن الطویر: دار الفطرة خارج القصر، بناها: العزیز بالله، و هو أوّل من بناها، و قرّر فیها ما یعمل مما یحمل إلی الناس فی العید، و هی قبالة باب الدیلم من القصر الذی یدخل منه إلی المشهد الحسینیّ، و یکون مبدأ الاستعمال فیها، و تحصیل جمیع أصنافها من السکر و العسل، و القلوب، و الزعفران، و الطیب، و الدقیق لاستقبال النصف الثانی من شهر رجب کل سنة لیلا و نهارا، من الخشکنانج و البسندود، و أصناف الفانیذ الذی یقال له:
کعب الغزال، و البرماورد، و الفستق، و هو شوابیر مثال الصنج، و المستخدمون یرفعون ذلک إلی أماکن وسیعة مصونة فیحصل منه فی الحاصل شی‌ء عظیم هائل، بید مائة صانع للعلاویین مقدّم، و للخشکانیین آخر، ثم یندب لها مائة فرّاش لحمل طیافیر للتفرقة علی أرباب الرسوم خارجا عمن هو مرتب لخدمتها من الفرّاشین الذین یحفظون رسومها و مواعینها الحاصلة بالدائم، و عدّتهم: خمسة فیحضر إلیها الخلیفة، و الوزیر معه، و لا یصحبه فی غیرها من الخزائن لأنها خارج القصر، و کلها للتفرقة فیجلس علی سریره بها، و یجلس الوزیر علی کرسی ملین علی عادته فی النصف الثانی من شهر رمضان، و یدخل معه قوم من الخواص، ثم یشاهد ما فیها من تلک الحواصل المعمولة المعباة مثل الجبال من کل صنف، فیفرّقها من ربع قنطار إلی عشرة أرطال إلی رطل واحد، و هو أقلها.
ثم ینصرف الخلیفة و الوزیر بعد أن ینعم علی مستخدمیها بستین دینارا، ثم یحضر إلی حامیها و مشارفها الأدعیة المعمولة المخرجة من دفتر المجلس، کل دعو لتفریق فریق من خاص، و غیره حتی لا یبقی أحد من أرباب الرسوم إلّا و اسمه وارد فی دعو من تلک الأدعیة، و یندب صاحب الدیوان الکتاب المسلمین فی الدیوان، فیسیرهم إلی مستخدمیها، فیسلم کل کاتب دعوا أو دعوین أو ثلاثة علی کثرة ما یحتویه و قلته، و یؤمر بالتفرقة من ذلک
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 321
الیوم، فیقدمون أبدا مائتی طیفور من العالی و الوسط و الدون، فیحملها الفرّاشون برقاع من کتاب الأدعیة باسم صاحب ذلک الطیفور علا، أو دنا، و ینزل اسم الفرّاش بالدعو، أو عریفه حتی لا یضیع منها شی‌ء، و لا یختلط، و لا یزال الفرّاشون یخرجون بالطیافیر ملأی و یدخلون بها فارغة، فبمقدار ما تحمل المائة الأولی عبیت المائة الثانیة، فلا یفتر ذلک طول التفرقة، فأجل الطیافیر ما عدد خشکنانه مائة حبة، ثم إلی سبعین و خمسین، و یکون علی صاحب المائة طرحة فوق قوّارته، ثم إلی خمسین ثم إلی ثلاث و ثلاثین، ثم إلی خمس و عشرین، ثم إلی عشرین، و نسبة منثور کل واحد علی عدد خشکنانه، ثم العبید السودان بغیر طیافیر، کل طائفة یتسلمه لها عرفاؤها فی أفراد الخواص، لکل طائفة علی مقدارها الثلاثة الأفراد و الخمسة و السبعة إلی العشرة فلا یزالون کذلک إلی أن ینقضی شهر رمضان، و لا یفوت أحدا شی‌ء من ذلک و یتهاداه الناس فی جمیع الإقلیم.
قال: و ما ینفق فی دار الفطرة فیما یفرّق علی الناس منها: سبعة آلاف دینار. و قال ابن عبد الظاهر: دار الفطرة بالقاهرة قبالة مشهد الإمام الحسین علیه السلام، و هی الفندق الذی بناه الأمیر سیف الدین بهادر الآن فی سنة: ست و خمسین و ستمائة، أوّل من رتبها الإمام العزیز بالله، و هو أوّل من سنّها، و کانت الفطرة قبل أن ینتقل الأفضل إلی مصر تعمل بالإیوان، و تفرّق منه، و عند ما تحوّل إلی مصر نقل الدواوین من القصر إلیها، و استجدّ لها مکانا قبالة دار الملک بإیوانی المکاتبات، و الانشاء، فإنهما کانا بقرب الدار و یتوصل إلیهما من القاعة الکبری التی فیها جلوسه، ثم استجدّ للفطرة دارا عملت بعد ذلک وراقة، و هی الآن دار الأمیر عز الدین الأفرم بمصر قبالة: دار الوکالة، و عملت بها الفطرة مدّة، و فرّق منها إلّا ما یخص الخلیفة و الجهات و السیدات و المستخدمات، و الأستاذین، فإنه کان یعمل بالإیوان علی العادة.
و لما توفی الأفضل، و عادت الدواوین إلی مواضعها أنهی: خاصة الدولة ریحان، و کان یتولی بیت المال، إنّ المکان بالإیان یضیق بالفطرة، فأمره المأمون أن یجمع المهندسین، و یقطع قطعة من اصطبل الطارمة، یبنیه دار الفطرة، فأنشأ الدار المذکورة قبالة مشهد الحسین، و الباب الذی بمشهد الحسین یعرف: بباب الدیلم، و صار یعمل بها ما استجدّ من رسوم الموالید و الوقودات، و عقد لها جملتان إحداهما: وجدت فسطرت، و هی عشرة آلاف دینار خارجا عن جواری المستخدمین، و الجملة الثانیة: فصلت فیها الأصناف، و شرحها: دقیق ألف حملة، سکر: سبعمائة قنطار، قلب فستق: ستة قناطیر، قلب لوز:
ثمانیة قناطیر، قلب بندق: أربعة قناطیر، تمر: أربعمائة إردب، زبیب: ثلثمائة أردب، خل: ثلاثة قناطیر، عسل نحل: خمسة عشر قنطارا، شیرج: مائتا قنطار، حطب: ألف و مائتا حملة، سمسم أردبان، آنیسون أردبان، زیت طیب برسم الوقود ثلاثون قنطارا، ماء ورد خمسون رطلا، مسک خمس نوافج، کافور قدیم عشرة مثاقیل، زعفران مطحون مائة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 322
و خمسون درهما، و بید الوکیل برسم المواعین و البیض و السقائین، و غیر ذلک من المؤن علی ما یحاسب به، و برفع المحازیم خمسمائة دینار.
و وجدت بخط ابن ساکن قال: کان المرتب فی دار الفطرة، و لها ما یذکر، و هو زیت طیب برسم القنادیل خمسة عشر قنطارا: مقاطع سکندری برسم القوارات: ثلثمائة مقطع، طیافیر جدد: برسم السماط ثلثمائة طیفور، شمع برسم السماط، و تودیع الأمراء ثلاثون قنطارا، أجرة الصناع ثلثمائة دینار، جاری الحامی: مائة و عشرون دینارا، جاری العامل، و المشارف مائة و ثمانون دینارا، و شقة دیبقیّ، بیاض حریری، و مندیل دیبقی کبیر حیری، و شقة سقلاطون أندلسی یلبسها قدّام الفطرة یوم حملها لیفرّق طیافیر الفطرة علی الأمراء، و أرباب الرسومات، و علی طبقات الناس حتی یعمّ الکبیر و الصغیر، و الضعیف و القوی، و یبدأ بها من أوّل رجب إلی آخر رمضان.
ذکر ما اختص من صفة الطیافیر: الأعلی منها: طیفور فیه مائة حبة خشکنانج وزنها مائة رطل، و خمسة عشر قطعة حلاوة زنتها مائة رطل، سکر سلیمانیّ، و غیره عشرة أرطال، قلوبات ستة أرطال، بسندود عشرون حبة، کعک و زبیب و تمر قنطار، جملة الطیفور ثلاثة قناطیر و ثلث إلی ما دون ذلک علی قدر الطبقات إلی عشر حبات.
و قال ابن أبی طیّ: و عمل المعز لدین اللّه دارا سماها: دار الفطرة، فکان یعمل فیها من الخشکنانج، و الحلواء، و البسندود، و الفانیذ، و الکعک و التمر و البندق شی‌ء کثیر من أوّل رجب إلی نصف رمضان، فیفرّق جمیع ذلک فی جمیع الناس الخاص و العام علی قدر منازلهم فی أوان لا تستعاد، و کان قبل لیلة العید یفرّق علی الأمراء الخیول بالمراکب الذهب، و الخلع النفیسة، و الطراز الذهب، و الثیاب برسم النساء.

المشهد الحسینیّ

قال الفاضل محمد بن علیّ بن یوسف بن میسر: و فی شعبان سنة إحدی و تسعین و أربعمائة، خرج الأفضل بن أمیر الجیوش بعساکر جمة إلی بیت المقدس، و به: سکان و ابلغازی ابنا ارتق فی جماعة من أقاربهما، و رجالهما و عساکر کثیرة من الأتراک، فراسلهما الأفضل یلتمس منهما تسلیم القدس إلیه بغیر حرب، فلم یجیباه لذلک، فقاتل البلد، و نصب علیها المجانیق، و هدم منها جانبا، فلم یجدا بدّا من الإذعان له، و سلّماه إلیه، فخلع علیهما، و أطلقهما، و عاد فی عساکره، و قد ملک القدس، فدخل عسقلان.
و کان بها مکان دارس فیه رأس الحسین بن علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنهما فأخرجه و عطره، و حمله فی سفط إلی أجلّ دار بها، و عمّر المشهد، فلما تکامل، حمل الأفضل الرأس الشریف علی صدره و سعی به ماشیا إلی أن أحله فی مقرّه، و قیل: إنّ المشهد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 323
بعسقلان بناه: أمیر الجیوش بدر الجمالیّ، و کمله ابنه الأفضل و کان حمل الرأس إلی القاهرة من عسقلان، و وصوله إلیها فی یوم الأحد ثامن جمادی الآخرة سنة ثمان و أربعین و خمسمائة، و کان الذی وصل بالرأس من عسقلان: الأمیر سیف المملکة تمیم والیها کان، و القاضی المؤتمن بن مسکین مشارفها، و حصل فی القصر یوم الثلاثاء العاشر من جمادی الآخرة المذکور.
و یذکر أنّ هذا الرأس الشریف لما أخرج من المشهد بعسقلان وجد دمه لم یجف، و له ریح کریح المسک، فقدم به الأستاذ مکنون فی عشاری من عشاریات الخدمة، و أنزل به إلی الکافوری، ثم حمل فی السرداب إلی قصر الزمرّذ، ثم دفن عند قبة الدیلم بباب دهلیز الخدمة، فکان کل من یدخل الخدمة یقبل الأرض أمام القبر، و کانوا ینحرون فی یوم عاشوراء عند القبر الإبل و البقر و الغنم، و یکثرون النوح و البکاء، و یسبون من قتل الحسین، و لم یزالوا علی ذلک حتی زالت دولتهم.
و قال ابن عبد الظاهر: مشهد الإمام الحسین صلوات اللّه علیه، قد ذکرنا أن طلائع بن رزیک المنعوت بالصالح، کان قد قصد نقل الرأس الشریف من عسقلان لما خاف علیها من الفرنج، و بنی جامعه خارج باب زویلة لیدفنه به، و یفوز بهذا الفخار، فغلبه أهل القصر علی ذلک، و قالوا: لا یکون ذلک إلّا عندنا، فعمدوا إلی هذا المکان، و بنوه له، و نقلوا الرخام إلیه، و ذلک فی خلافة الفائز علی ید طلائع فی سنة تسع و أربعین و خمسمائة.
و سمعت من یحکی حکایة یستدل بها علی بعض شرف هذا الرأس الکریم المبارک، و هی أن السلطان الملک الناصر رحمه اللّه، لما أخذ هذا القصر و شی إلیه بخادم له قدر فی الدولة المصریة، و کان زمام القصر، و قیل له: إنه یعرف الأموال التی بالقصر و الدفائن، فأخذ و سئل، فلم یجب بشی‌ء، و تجاهل، فأمر صلاح الدین نوّابه بتعذیبه، فأخذه متولی العقوبة، و جعل علی رأسه خنافس و شدّ علیها قرمزیة، و قیل: إن هذه أشدّ العقوبات، و إنّ الإنسان لا یطیق الصبر علیها ساعة إلّا تنقب دماغه و تقتله ففعل ذلک به مرارا، و هو لا یتأوّه، و توجد الخنافس میتة، فعجب من ذلک، و أحضره، و قال له: هذا سرّ فیک، و لا بدّ أن تعرّفنی به؟ فقال: و اللّه ما سبب هذا إلا أنی لما وصلت رأس الإمام الحسین حماتها، قال: و أیّ سرّ أعظم من هذا و راجع فی شأنه فعفا عنه.
و لما ملک السلطان الملک الناصر جعل به حلقة تدریس و فقهاء، و فوّضها للفقیه البهاء الدمشقیّ، و کان یجلس للتدریس عند المحراب الذی الضریح خلفه، فلما وزر معین الدین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 324
حسین بن شیخ الشیوخ بن حمویه، و ردّ إلیه أمر هذا المشهد بعد إخوته، جمع من أوقاته ما بنی به إیوان التدریس الآن، و بیوت الفقهاء العلویة خاصة، و احترق هذا المشهد فی الأیام الصالحیة فی سنة بضع و أربعین و ستمائة، و کان الأمیر جمال الدین بن یعمور نائبا عن الملک الصالح فی القاهرة، و سببه أن أحد خزان الشمع دخل لیأخذ شیئا، فسقطت منه شعلة، فوقف الأمیر جمال الدین المذکور بنفسه حتی طفی‌ء و أنشدته حینئذ فقلت:
قالوا تعصب للحسین و لم یزل‌بالنفس للهول المخوف معرّضا
حتی انضوی ضوء الحرق و أصبح المسودّ من تلک المخاوف أبیضا
أرضی الإله بما أتی فکأنه‌بین الأنام بفعله موسی الرضی
قال: و لحفظة الآثار، و أصحاب الحدیث، و نقلة الأخبار ما إذا طولع وقف منه علی المسطور، و علم منه ما هو غیر المشهور، و إنما هذه البرکات مشاهدة مرئیة، و هی بصحة الدعوی ملیة، و العمل بالنیة.
و قال فی کتاب الدر النظیم فی أوصاف القاضی الفاضل عبد الرحیم، و من جملة مبانیه المیضأة قریب مشهد الإمام الحسین بالقاهرة و المسجد و الساقیة، و وقف علیها أراضی قریب الخندق فی ظاهر القاهرة، و وقفها دارّ جار، و الانتفاع بهذه المثوبة عظیم، و لما هدم المکان الذی بنی موضعه مئذنة وجد فیه شی‌ء من طلسم لم یعلم لأیّ شی‌ء هو، فیه اسم الظاهر بن الحاکم، و اسم أمّه رصد.
خبر الحسین: هو الحسین بن علیّ بن أبی طالب، و اسمه عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصیّ، أبو عبد اللّه، و أمّه فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع، و قیل: سنة ثلاث، و عق عنه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم یوم سابعه بکبش، و حلق رأسه، و أمر أن یتصدّق بزنته فضة، و قال: أرونی ابنی ما سمیتموه؟ فقال علیّ بن أبی طالب: حربا، فقال: بل هو حسین و کان أشبه الناس بالنبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم ما کان أسفل من صدره، و کان فاضلا دینا کثیر الصوم و الصلاة و الحج، و قتل یوم الجمعة لعشر خلون من المحرّم یوم عاشوراء، سنة إحدی و ستین من الهجرة بموضع یقال له: کربلاء من أرض العراق بناحیة الکوفة، و یعرف الموضع أیضا: بالطف، قتله سنان بن أنس الیحصبی ، و قیل: قتله رجل من مذحج، و قیل: قتله شمر بن ذی الجوشن، و کان أبرص، و أجهز علیه خولی بن یزید الأصبحیّ من حمیر، حزّ رأسه، و أتی عبید اللّه بن زیاد، و قال:
أوقر رکابی فضة و ذهباإنی قتلت الملک المحجبا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 325 قتلت خیر الناس أمّا و أباو خیرهم إذ ینسبون نسبا
و قیل: قتله عمرو بن سعد بن أبی وقاص، و کان الأمیر علی الخیل التی أخرجها عبید اللّه بن زیاد إلی قتل الحسین، و أمّر علیهم: عمرو بن سعد، و وعده أن یولیه الریّ إن ظفر بالحسین و قتله.
و قال ابن عباس رضی اللّه عنهما: رأیت النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم فیما یری النائم نصف النهار، و هو قائم أشعث أغبر بیده قارورة فیها دم، فقلت: بأبی أنت و أمی ما هذا؟ قال: هذا دم الحسین لم أزل ألتقطه منذ الیوم، فوجدته قد قتل فی ذلک الیوم، و هذا البیت زعموا قدیما لا یدری قائله:
أ ترجو أمّه قتلت حسیناشفاعة جدّه یوم الحساب
و قتل مع الحسین: سبعة عشر رجلا کلهم من ولد فاطمة، و قد قتل معه من أهل بیته، و إخوته ثلاثة و عشرون رجلا. و کان سبب قتله أنه لما مات معاویة بن أبی سفیان رضی اللّه عنه فی سنة ستین، وردت بیعة الیزید علی الولید بن عقبة بالمدینة، لیأخذ البیعة علی أهلها، فأرسل إلی الحسین بن علیّ، و إلی عبد اللّه بن الزبیر لیلا فأتی بهما، فقال: بایعا، فقالا:
مثلنا لا یبایع سرّا، و لکنا نبایع علی رؤوس الناس إذا أصبحنا، فرجعا إلی بیوتهما، و خرجا من لیلهما إلی مکة، و ذلک لیلة الأحد للیلتین بقیتا من رجب، فأقام الحسین بمکة شعبان و رمضان و شوّالا و ذو القعدة، و خرج یوم الترویة یرید الکوفة، و بکتب أهل العراق.
فلما بلغ عبید اللّه بن زیاد مسیر الحسین من مکة بعث الحصین بن تمیم التمیمی صاحب شرطته، فنزل القادسیة، و نظم الخیل ما بینها، و بین جبل لعلع، فبلغ الحسین الحاجز له عن البلاد فکتب إلی أهل الکوفة، یعرّفهم بقدومه مع قیس بن مسهر، فظفر به الحصین، و بعث به إلی ابن زیاد فقتله، و أقبل الحسین یسیر نحو الکوفة، فأتاه خبر قتل مسلم بن عقیل، و خبر قتل أخیه من الرضاعة ، فقام حتی أعلم الناس بذلک و قال: قد خذلنا شیعتنا، فمن أحب أن یتصرف، فلیتصرف، فلیس علیه ذمام منا فتفرّقوا، حتی بقی فی أصحابه الذین جاءوا معه من مکة و سار، فأدرکته الخیل، و هم ألف فارس مع الحرّ بن یزید التمیمیّ.
و نزل الحسین، فوقفوا تجاهه و ذلک فی نحر الظهیرة، فسقی الحسین الخیل، و حضرت صلاة الظهر، فأذن مؤذنه و خرج، فحمد اللّه، و أثنی علیه ثم قال: أیها الناس، إنها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 326
معذرة إلی اللّه، و إلیکم إنی لم آتکم، حتی أتتنی کتبکم و رسلکم، أن أقدم علینا، فلیس لنا إمام، لعل اللّه أن یجمعنا بک علی الهدی، و قد جئتکم، فإن تعطونی ما أطمئنّ إلیه من عهودکم أقدم مصرکم، و إن لم تفعلوا و کنتم لمقدمی کارهین، انصرفت عنکم إلی المکان الذی أقبلت منه فسکتوا، و قال للمؤذن: أقم، فأقام و قال الحسین للحرّ: أ ترید أن تصلی أنت بأصحابک؟ قال: بل صلّ أنت، و نصلی بصلاتک، فصلی بهم، و دخل فاجتمع إلیه أصحابه و انصرف الحرّ إلی مکانه، ثم صلی بهم العصر، و استقبلهم فحمد اللّه، و أثنی علیه، و قال: یا أیها الناس إنکم إن تتقوا اللّه و تعرفوا الحق لأهله یکن أرضی للّه، و نحن أهل البیت أولی بولایة هذا الأمر من هؤلاء المدّعین ما لیس لهم السائرین فیکم بالجور و العدوان، فإن أنتم کرهتمونا، و جهلتم حقنا، و کان رأیکم غیر ما أتتنی به کتبکم انصرفت عنکم، فقال الحرّ: إنا و اللّه ما ندری ما هذه الکتب و الرسل التی تذکر، فأخرج خرجین مملوءین صحفا، فنشرها بین أیدیهم، فقال الحرّ: إنا لسنا من هؤلاء الذین کتبوا إلیک، و قد أمرنا إذا نحن لقیناک أن لا نفارقک حتی نقدمک الکوفة علی عبید اللّه بن زیاد، فقال الحسین: الموت أدنی إلیک من ذلک، ثم أمر أصحابه لینصرفوا فرکبوا، فمنعهم الحرّ من ذلک، فقال له الحسین: ثکلتک أمّک ما ترید، فقال له: و اللّه لو کان غیرک من العرب یقولها، ما ترکت ذکر أمّه بالثکل کائنا من کان، و اللّه ما لی إلی ذکر أمّک من سبیل إلّا بأحسن ما نقدر علیه، فقال له الحسین: ما ترید؟ قال: أرید أن أنطلق بک إلی ابن زیادة، و ترادّ الکلام، فقال له الحرّ:
إنی لم أومر بقتالک، و إنما أمرت أن لا أفارقک حتی أدخلک الکوفة، فخذ طریقا لا تدخلک الکوفة، و لا تزول إلی المدینة، حتی أکتب إلی ابن زیاد، و تکتب أنت إلی یزید، أو إلی ابن زیاد، فلعل اللّه أن یأتی بأمر یرزقنی فیه العافیة من أن أبتلی بشی‌ء من أمرک، فتیاسر عن طریق العذیب و القادسیة، و الحرّ یسایره.
فلما کان یوم الجمعة الثالث من المحرّم سنة إحدی و ستین، قدم عمرو بن سعد بن أبی وقاص من الکوفة فی أربعة آلاف، و بعث إلی الحسین رسولا یسأله ما الذی جاء به، فقال: کتب إلیّ أهل مصر کم هذا أن أقدم علیهم، فإذا کرهونی، فأنا أنصرف عنهم، فکتب عمرو إلی ابن زیاد یعرّفه ذلک، فکتب إلیه أن یعرض علی الحسین بیعة یزید، فإن فعل رأینا فیه رأینا، و إلّا نمنعه، و من معه الماء، فأرسل عمرو بن سعد خمسمائة فارس، فنزلوا علی الشریعة، و حالوا بین الحسین، و بین الماء، و ذلک قبل قتله بثلاثة أیام، و نادی مناد:
یا حسین ألا تنظر الماء لا تری منه قطرة حتی تموت عطشا، ثم التقی الحسین بعمرو بن سعد مرارا، فکتب عمرو بن سعد إلی عبید اللّه بن زیاد: أما بعد، فإنّ اللّه قد أطفأ الثائرة، و جمع الکلمة، و قد أعطانی الحسین أن یرجع إلی المکان الذی أتی منه، أو أن تسیره إلی أیّ ثغر من الثغور شاء، أو أن یأتی یزید أمیر المؤمنین، فیضع یده فی یده، و فی هذا الکم رضی، و للأمّة صلاح.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 327
فقال ابن زیاد لشمر بن ذی الجوشن: اخرج بهذا الکتاب إلی عمرو فلیعرض علی الحسین و أصحابه النزول علی حکمی، فإن فعلوا فلیبعث بهم، و إن أبوا، فلیقاتلهم، فإن فعل فاسمع له، و أطع و إن أبی فأنت الأمیر علیه، و علی الناس، و اضرب عنقه و ابعث إلیّ برأسه.
و کتب إلی عمرو بن سعد: أمّا بعد، فإنی لم أبعثک إلی الحسین لتکف عنه، و لا لتنمیه، و لا لتطاوله و لا لتقعد له عندی شافعا أنظر، فإنّ نزل حسین و أصحابه علی الحکم، و استسلموا فابعث بهم إلیّ سلما، و إن أبوا فازحف إلیهم حتی تقتلهم، و تمثل بهم، فإنهم لذلک مستحقون، فإن قتل الحسین، فأوطی‌ء الخیل صدره و ظهره، فإنه عاق شاق قاطع ظلوم، فإن أنت مضیت لأمرنا جزیناک جزاء السامع المطیع، و إن أنت أبیت، فاعتزل جندنا، و خل بین شمر و بین العسکر و السلام.
فلما أتاه الکتاب رکب و الناس معه بعد العصر، فأرسل إلیهم الحسین: ما لکم؟
فقالوا: جاء أمر الأمیر بکذا، فاستمهلهم إلی غدوة، فلما أمسوا، قام الحسین و من معه اللیل کله یصلون و یستغفرون و یدعون و یتضرّعون، فلما صلی عمرو بن سعد الغداة یوم السبت، و قیل: یوم الجمعة یوم عاشوراء، خرج فیمن معه، و عبی‌ء الحسین أصحابه، و کان معه اثنان و ثلاثون فارسا، و أربعون راجلا، و رکب و معه مصحف بین یدیه وضعه أمامه، و اقتتل أصحابه بین یدیه، و أخذ عمرو بن سعد سهما، فرمی به، و قال: اشهدوا أنّی أوّل من رمی الناس، و حمل أصحابه فصرعوا رجالا، و أحاطوا بالحسین من کل جانب، و هم یقاتلون قتالا شدیدا، حتی انتصف النهار، و لا یقدرون یأتونهم إلّا من وجه واحد، و حمل شمر حتی بلغ فسطاط الحسین، و حضر وقت الصلاة، فسأل الحسین أن یکفوا عن القتال حتی یصلی، ففعلوا، ثم اقتتلوا بعد الظهر أشدّ قتال، و وصل إلی الحسین، و قد صرعت أصحابه، و مکث طویلا من النهار، کلما انتهی إلیه رجل من الناس رجع عنه، و کره أن یتولی قتله.
فأقبل علیه رجل من کندة یقال له: مالک فضربه علی رأسه بالسیف، قطع البرنس و أدماه، فأخذ الحسین دمه بیده، فصبه فی الأرض ثم قال: اللهمّ إن کنت حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلک لما هو خیر و انتقم من هؤلاء الظالمین، و اشتدّ عطشه، فدنا لیشرب فرماه حصین بن تمیم بسهم، فوقع فی فمه، فتلقی الدم بیده، و رمی به إلی السماء، ثم قال بعد حمد اللّه و الثناء علیه: اللهمّ إنی أشکو إلیک ما یصنع بابن بنت نبیک، اللهم أحصهم عددا و اقتلهم بددا، و لا تبقی منهم أحدا، فأقبل شمر فی نحو عشرة إلی منزل الحسین، و حالوا بینه و بین رحله، و أقدم علیه و هو یحمل علیهم، و قد بقی فی ثلاثة، و مکث طویلا من النهار و لو شاءوا أن یقتلوه لقتلوه، و لکنهم کان یتقی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 328
بعضهم ببعض، و یحب هؤلاء أن یکفیهم هؤلاء.
فنادی شمر فی الناس: و یحکم؟ ما تنتظرون بالرجل اقتلوه ثکلتکم أمّکم! فحملوا علیه من کل جانب، فضرب زرعة بن شریک التمیمی کفه الأیسر، و ضرب عاتقه، و هو یقوم و یکبو، فحمل علیه فی تلک الحال سنان بن أنس النخعیّ، فطعنه بالرمح، فوقع و قال لخولی بن یزید الأصبحیّ: احتز رأسه، فأرعد و ضعف، فنزل علیه، و ذبحه، و أخذ رأسه، فدفعه إلی خولی، و سلب الحسین ما کان علیه حتی سراویله، و مال الناس، فانتهبوا ثقله و متاعه، و ما علی النساء.
و وجد بالحسین: ثلاث و ثلاثون طعنة، و أربع و أربعون ضربة، و نادی عمرو بن سعد فی أصحابه: من ینتدب للحسین فیوطئه فرسه، فانتدی عشر فداسوا الحسین بخیولهم، حتی رضوا ظهره و صدره، و کان عدّة من قتل معه: اثنین و سبعین رجلا، و من أصحاب عمرو بن سعد: ثمانیة و ثمانین رجلا غیر الجرحی، و دفن أهل الغاضریة من بنی أسد الحسین بعد قتله بیوم و بعد أن أخذ عمرو بن سعد رأسه، و رؤوس أصحابه و بعث بها إلی ابن زیاد، فأحضر الرءوس بین یدیه، و جعل ینکث بقضیب ثنایا الحسین، و زید بن أرقم حاضر، و أقام ابن سعد بعد قتل الحسین یومین، ثم رحل إلی الکوفة، و معه ثیاب الحسین و إخوانه، و من کان معه من الصبیان، و علیّ بن الحسین مریض، فأدخلهم علی زیاد، و لما مرّت زینب بالحسین صریعا صاحت: یا محمداه هذا حسین بالعراء! مزمل بالدماء! مقطع الأعضاء! یا محمد بناتک سبایا، و ذریتک مقتلة فأبکت کل عدوّ و صدیق، و طیف برأسه بالکوفة علی خشبة، ثم أرسل بها إلی یزید بن معاویة، و أرسل النساء و الصبیان، و فی عنق علیّ بن الحسین و یدیه الغل، و حملوا علی الأقتاب، فدخل بعض بنی أمة علی یزید، فقال: أبشر یا أمیر المؤمنین، فقد أمکنک اللّه من عدوّ اللّه، و عدوّک قد قتل، و وجه برأسه إلیک، فلم یلبث إلّا أیاما حتی جی‌ء برأس الحسین، فوضع بین یدی یزید فی طشت، فأمر الغلام فرفع الثوب الذی کان علیه، فحین رآه خمر وجهه بکمه کأنه شمّ منه رائحة، و قال: الحمد للّه الذی کفانا المؤنة بغیر مؤنة، کلما أوقدوا نارا للحرب أطفأ اللّه، قالت ریّا حاضنة یزید، فدنوت منه، فنظرت إلیه و به ردغ من حناء، و الذی أذهب نفسه، و هو قادر علی أن یغفر له، لقد رأیته یقرع ثنایاه بقضیب فی یده، و یقول أبیاتا من شعر ابن الزبعری، و مکث الرأس مصلوبا بدمشق ثلاثة أیام، ثم أنزل فی خزائن السلاح، حتی ولی سلیمان بن عبد الملک الملک، فبعث إلیه، فجی‌ء به، و قد محل، و بقی عظما أبیض، فجعله فی سفط، و طیبه و جعل علیه ثوبا، و دفنه فی مقابر المسلمین.
فلما ولی عمر بن عبد العزیز بعث إلی خازن بیت السلاح أن وجه إلیّ برأس الحسین ابن علیّ، فکتب إلیه: إنّ سلیمان أخذه و جعله فی سفط، و صلی علیه، و دفنه، فلما دخلت
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 329
المسودّة سألوا عن موضع الرأس الکریمة الشریفة، فنبشوه و أخذوه، و اللّه أعلم ما صنع به.
و قال السریّ: لما قتل الحسین بن علیّ بکت السماء علیه، و بکاؤها حمرتها، و عن عطاء فی قوله تعالی: فَما بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ [الدخان/ 29] قال: بکاؤها حمرة أطرافها. و عن علیّ بن مسهر قال: حدّثتنی جدّتی قالت: کنت أیام الحسین جاریة شابة، فکانت السماء أیاما کأنها علقة. و عن الزهری بلغنی: أنه لم یقلب حجر من أحجار بیت المقدس یوم قتل الحسین إلّا وجد تحته دم عبیط.
و یقال: إنّ الدنیا أظلمت یوم قتل ثلاثا، و لم یمس أحد من زعفرانهم شیئا، فجعله علی وجهه إلّا احترق و أنهم أصابوا إبلا فی عسکر الحسین یوم قتل، فنحروها و طبخوها فصارت مثل العلقم، فما استطاعوا أن یسیغوا منها شیئا، و روی: أن السماء أمطرت دما، فأصبح کل شی‌ء لهم ملآن دما.

ما کان یعمل فی یوم عاشوراء

قال ابن زولاق فی کتاب سیرة المعز لدین اللّه فی یوم عاشوراء من سنة ثلاث و ستین و ثلثمائة، انصرف خلق من الشیعة، و أشیاعهم إلی المشهدین: قبر کلثوم و نفیسة، و معهم جماعة من فرسان المغاربة، و رجالتهم بالنیاحة و البکاء علی الحسین علیه السلام، و کسروا أوانی السقائین فی الأسواق، و شققوا الروایا، و سبوا من ینفق فی هذا الیوم، و نزلوا حتی بلغوا مسجد الریح، و ثارت علیهم جماعة من رعیة أسفل، فخرج أبو محمد الحسین بن عمار، و کان یسکن هناک فی دار محمد بن أبی بکر، و أغلق الدرب، و منع الفریقین، و رجع الجمیع، فحسن موقع ذلک عند المعز، و لو لا ذلک لعظمت الفتنة، لأنّ الناس قد غلقوا الدکاکین و أبواب الدور، و عطلوا الأسواق، و إنما قویت أنفس الشیعة بکون المعز بمصر، و قد کانت مصر لا تخلو منهم فی أیام الإخشیدیة، و الکافوریة فی یوم عاشوراء عند قبر کلثوم، و قبر نفیسه؟ و کان السودان و کافور یتعصبون علی الشیعة، و تتعلق السودان فی الطرقات بالناس، و یقولون للرجل: من خالک؟ فإن قال: معاویة، أکرموه، و إن سکت لقی المکروه، و أخذت ثیابه، و ما معه حتی کان کافور قد وکل بالصحراء و منع الناس من الخروج.
و قال المسبحیّ: و فی یوم عاشوراء، یعنی من سنة ست و تسعین و ثلثمائة جری الأمر فیه علی ما یجری کل سنة من تعطیل الأسواق، و خروج المنشدین إلی جامع القاهرة، و نزولهم مجتمعین بالنوح و النشید ثم جمع بعد هذا الیوم قاضی القضاة عبد العزیز من النعمان، سائر المنشدین الذین یتکسبون بالنوح و النشید و قال لهم: لا تلزموا الناس أخذ شی‌ء منهم إذا وقفتم علی حوانیتهم، و لا تؤذوهم، و لا تتکسبوا بالنوح و النشید، و من أراد ذلک فعلیه بالصحراء، ثم اجتمع بعد ذلک طائفة منهم یوم الجمعة فی الجامع العتیق بعد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 330
الصلاة، و أنشدوا، و خرجوا علی الشارع بجمعهم، و سبّوا السلف، فقبضوا علی رجل، و نودی علیه: هذا جزاء من سب عائشة، و زوجها صلّی اللّه علیه و سلّم، و قدّم الرجل بعد النداء، و ضرب عنقه.
و قال ابن المأمون: و فی یوم عاشوراء، یعنی من سنة خمس عشرة و خمسمائة عبی‌ء السماط بمجلس العطایا من دار الملک بمصر، التی کان یسکنها الأفصل بن أمیر الجیوش، و هو السماط المختص بعاشوراء، و هو یعبئ فی غیر المکان الجاری به العادة فی الأعیاد، و لا یعمل مدورة خشب بل سفرة کبیرة من أدم، و السماط یعلوها من غیر مرافع نحاس، و جمیع الزبادی أجبان، و سلائط و مخللات، و جمیع الخبز من شعیر، و خرج الأفضل من باب فردالکم، و جلس علی بساط صوف من غیر مشورة، و استفتح المقرئون، و استدعی الأشراف علی طبقاتهم، و حمل السماط لهم، و قد عمل فی الصحن الأول الذی بین یدی الأفضل إلی آخر السماط عدس أسود، ثم بعده عدس مصفی إلی آخر السماط، ثم رفع و قدّمت صحون جمیعها عسل نحل.
و لما کان یوم عاشوراء من سنة ست عشرة و خمسمائة جلس الخلیفة الآمر بأحکام اللّه علی باب الباذهنج یعنی من القصر بعد قتل الأفضل و عود الأسمطة إلی القصر علی کرسیّ جرید بغیر مخدّة متلثما هو و جمیع حاشیته، فسلم علیه الوزیر المأمون و جمیع الأمراء الکبار، و الصغار بالقیرامیز، و أذن للقاضی، و الداعی، و الأشراف، و الأمراء بالسلام علیه، و هم بغیر منادیل ملثمون حفاة، و عبی‌ء السماط فی غیر موضعه المعتاد، و جمیع ما علیه خبز الشعیر و الحواضر علی ما کان فی الأیام الأفضلیة، و تقدّم إلی والی مصر و القاهرة بأن لا یمکنا أحدا من جمع و لا قراءة مصرع الحسین، و خرج الرسم المطلق للمتصدّرین و القرّاء الخاص، و الوعاظ، و الشعراء، و غیرهم علی ما جرت به عادتهم.
قال: و فی لیلة عاشوراء من سنة سبع عشرة و خمسمائة: اعتمد الأجل الوزیر المأمون علی السنة الأفضلیة من المضیّ فیها إلی التربة الجیوشیة، و حضور جمیع المتصدّرین، و الوعاظ، و قرّاء القرآن إلی آخر اللیل، و عوده إلی داره، و اعتمد فی صبیحة اللیلة المذکورة مثل ذلک، و جلس الخلیفة علی الأرض متلثما یری به الحزن، و حضر من شرف بالسلام علیه، و الجلوس علی السماط بما جرت به العادة.
قال ابن الطویر: إذا کان الیوم العاشر من المحرّم: احتجب الخلیفة عن الناس فإذا علا النهار رکب قاضی القضاة، و الشهود، و قد غیروا زیهم فیکونون کما هم الیوم، ثم صاروا إلی المشهد الحسینیّ، و کان قبل ذلک یعمل فی الجامع الأزهر، فإذا جلسوا فیه، و من معهم من قرّاء الحضرة، و المتصدّرین فی الجوامع جاء الوزیر، فجلس صدرا، و القاضی و الداعی من جانبیه، و القرّاء یقرءون نوبة بنوبة، و ینشد قوم من الشعراء غیر شعراء الخلیفة شعرا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 331
یرثون به أهل البیت علیهم السلام، فإن کان الوزیر رافضیا تغالوا، و إن کان سنیا اقتصدوا، و لا یزالون کذلک إلی أن تمضی ثلاث ساعات، فیستدعون إلی القصر بنقباء الرسائل، فیرکب الوزیر، و هو بمندیل صغیر إلی داره، و یدخل قاضی القضاة و الداعی، و من معهما إلی باب الذهب، فیجدون الدهالیز قد فرشت مصاطبها بالحصر بدل البسط، و ینصب فی الأماکن الخالیة من المصاطب دکک لتلحق بالمصاطب لتفرش، و یجدون صاحب الباب جالسا هناک، فیجلس القاضی و الداعی إلی جانبه، و الناس علی اختلاف طبقاتهم، فیقرأ القرّاء و ینشد المنشدون أیضا ثم یفرش علیهم سماط الحزن مقدار ألف زبدیة من العدس، و الملوحات، و المخللات، و الأجبان و الألبان الساذجة و الأعسال النحل، و الفطیر و الخبز المغیر لونه، فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب، و صاحب المائدة، و أدخل الناس للأکل منه، فیدخل القاضی و الداعی، و یجلس صاحب الباب نیابة عن الوزیر، و المذکوران إلی جانبه، و فی الناس من لا یدخل، و لا یلزم أحد بذلک، فإذا فرغ القوم انفصلوا إلی أماکنهم رکبانا بذلک الزی الذی ظهروا فیه، و طاف النوّاح بالقاهرة ذلک الیوم، و أغلق البیاعون حوانیتهم إلی جواز العصر، فیفتح الناس بعد ذلک أو یتصرّفون.

ذکر أبواب القصر الکبیر الشرقی

و کان لهذا القصر الکبیر الشرقیّ تسعة أبواب أکبرها و أجلها: باب الذهب، ثم باب البحر، ثم باب الریح، ثم باب الزمرّذ، ثم باب العید، ثم باب قصر الشوک، ثم باب الدیلم، ثم باب تربة الزعفران، ثم باب الزهومة.
باب الذهب : و هو باب القصر الذی تدخل منه العساکر، و جمیع أهل الدولة فی یومی الاثنین و الخمیس للموکب المقدّم ذکره بقاعة الذهب.
قال ابن أبی طی‌ء عن المعز لدین اللّه: أنه لما خرج من بلاد المغرب أخرج أموالا کانت له ببلاد المغرب، و أمر بسبکها أرحیة کأرحیة الطواحین، و أمر بها حین دخل إلی مصر فألقیت علی باب قصره، و هی التی کان الناس یسمونها: الحشرات، و لم تزل علی باب القصر إلی أن کان زمن الغلاء فی أیام الخلیفة المستنصر بالله، فلما ضاق بالناس الأمر أذن لهم أن یبردوا منها بمبارد، فاتخذ الناس مبارد حادّة و غرّهم الطمع، حتی ذهبوا بأکثرها، فأمر بحمل الباقی إلی القصر فلم تر بعد ذلک.
و قال ابن میسر: إن المعز لما قدم إلی القاهرة کان معه مائة جمل علیها الطواحین من الذهب، و قال غیره: کانت خمسمائة جمل علی کل جمل: ثلاثة أرحیة ذهبا، و إنه عمل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 332
عضادتی الباب من تلک الأرحیة واحدة فوق أخری، فسمی: باب الذهب.
جلوس الخلیفة فی الموالد بالمنظرة علو باب الذهب: قال ابن المأمون فی أخبار سنة ست عشرة و خمسمائة: و فی الثانی عشر من المحرّم، کان المولد الآمریّ، و اتفق کونه فی هذا الشهر یوم الخمیس، و کان قد تقرّر أن یعمل أربعون صینیة خشکنانج، و حلوی و کعک، و أطلق برسم المشاهد المحتویة علی الضرائح الشریفة لکل مشهد سکر و عسل و لوز و دقیق و شیرج، و تقدّم بأن یعمل خمسمائة رطل حلوی، و تفرّق علی المتصدّرین، و القرّاء و الفقراء للمتصدّرین، و من معهم فی صحون، و للفقراء علی أرغفة السمیذ، ثم حضر فی اللیلة المذکورة القاضی و الداعی، و الشهود، و جمیع المتصدّرین و قرّاء الحضرة، و فتحت الطاقات التی قبلیّ باب الذهب، و جلس الخلیفة و سلموا علیه، ثم خرج متولی بیت المال بصندوق مختوم، ضمنه عینا مائة دینار، و ألف و ثمانمائة و عشرون درهما برسم أهل القرافة، و ساکنیها و غیرهم، و فرّقت الصوانی بعد ما حمل منها للخاص، و زمام القصر و متولی الدفتر خاصة و إلی دار الوزارة، و الأجلاء الأخوة، و الأولاد، و کاتب الدست، و متولی حجبة الباب، و القاضی و الداعی، و مفتی الدولة و متولی دار العلم، و المقرئین الخاص، و أئمة الجوامع بالقاهرة و مصر، و بقیة الأشراف.
قال: و خرج الآمر، یعنی فی سنة سبع عشرة و خمسمائة بإطلاق ما یخص المولد الآمریّ برسم المشاهد الشریفة من سکر و عسل و شیرج و دقیق، و ما یصنع مما یفرّق علی المساکین بالجامعین الأزهر بالقاهرة، و العتیق بمصر، و بالقرافة خمسة قناطیر حلوی و ألف رطل دقیق، و ما یعمل بدار الفطرة، و یحمل للأعیان، و المستخدمین من بعد القصور، و الدار المأمونیة صینیة خشکنانج، و حضر القاضی و الداعی، و المستخدمون بدار العید، و الشهود فی عشیة الیوم المذکور، و قطع سلوک الطریق بین القصرین، و جلس الخلیفة فی المنظرة، و قبلوا الأرض بین یدیه، و المقرئون الخاص جمیعهم یقرءون القرآن و تقدّم الخطیب، و خطب خطبة وسع القول فیها، و ذکر الخلیفة و الوزیر، ثم حضر من أنشد، و ذکر فضیلة الشهر و المولود فیه، ثم خرج متولی بیت المال، و معه صندوق من مال النجاوی خاصة مما یفرّق علی الحکم المتقدّم ذکره. قال: و استهلّ ربیع الأوّل، و نبدأ بما شرّف به الشهر المذکور، و هو ذکر مولد سید الأوّلین و الآخرین محمد صلّی اللّه علیه و سلّم لثلاث عشرة منه، و أطلق ما هو برسم الصدقات من مال النجاوی خاصة ستة آلاف درهم، و من الأصناف من دار الفطرة أربعون صینیة فطرة، و من الخزائن برسم المتولین، و السدنة للمشاهد الشریفة التی بین الجبل و القرافة التی فیها أعضاء آل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم، و لوز عسل، و شیرج لکل مشهد، و ما یتولی تفرقته: سنا الملک ابن میسر أربعمائة رطل حلاوة، و ألف رطل خبز.
قال: و کان الأفضل بن أمیر الجیوش قد أبطل أمر الوالد الأربعة: النبویّ، و العلویّ،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 333
و الفاطمیّ، و الإمام الحاضر، و ما یهتمّ به، و قدم العهد به حتی نسی ذکرها، فأخذ الأستاذون یجدّدون ذکرها للخلیفة الآمر بأحکام اللّه، و یردّدون الحدیث معه فیها، و یحسنون له معارضة الوزیر بسببها، و إعادتها، و إقامة الجواری و الرسوم فیها، فأجاب إلی ذلک، و عمل ما ذکر.
و قال ابن الطویر: ذکر جلوس الخلیفة فی الموالد الستة فی تواریخ مختلفة، و ما یطلق فیها، و هی مولد النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و مولد أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب، و مولد فاطمة علیها السلام، و مولد الحسن، و مولد الحسین علیهما السلام، و مولد الخلیفة الحاضر، و یکون هذا الجلوس فی المنظرة التی هی أنزل المناظر، و أقرب إلی الأرض قبالة دار فخر الدین جهارکس، و الفندق المستجدّ، فإذا کان الیوم الثانی عشر من ربیع الأوّل، تقدّم بأن یعمل فی دار الفطرة عشرون قنطارا من السکر الیابس حلواء یابسة من طرائفها، و تعبی فی ثلثمائة صینیة من النحاس، و هو مولد النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، فتفرّق تلک الصوانی فی أرباب الرسوم من أرباب الرتب، و کل صینیة فی قوارة من أوّل النهار إلی ظهره.
فأوّل أرباب الرسوم قاضی القضاة، ثم داعی الدعاة، و یدخل فی ذلک القرّاء بالحضرة، و الخطباء و المتصدّرون بالجوامع بالقاهرة، و قومة المشاهد، و لا یخرج ذلک مما یتعلق بهذا الجانب بدعو یخرج من دفتر المجلس کما قدّمناه، فإذا صلی الظهر رکب قاضی القضاة، و الشهود بأجمعهم إلی الجامع الأزهر، و معهم أرباب تفرقة الصوانی، فیجلسون مقدار قراءة الختمة الکریمة، ثم یستدعی قاضی القضاة، و من معه فإن کانت الدعوة مضافة إلیه، و إلّا حضر الداعی معه بنقباء الرسائل، فیرکبون و یسیرون إلی أن یصلوا إلی آخر المضیق من السیوفیین قبل الابتداء بالسلوک بین القصرین، فیقفون هناک، و قد سلکت الطریق علی السالکین من الرکن المخلق، و من سویقة أمیر الجیوش عند الحوض هناک، و کنست الطریق فیما بین ذلک، و رشت بالماء رشا خفیفا، و فرش تحت المنظرة المذکورة بالرمل الأصفر.
ثم یستدعی صاحب الباب من دار الوزارة، و والی القاهرة ماض، و عائد لحفظ ذلک الیوم من الازدحام علی نظر الخلیفة، فیکون بروز صاحب الباب من الرکن المخلق هو وقت استدعاء القاضی و من معه من مکان وقوفهم، فیقربون من المنظرة، یترجلون قبل الوصول إلیها بخطوات، فیجتمعون تحت المنظرة دون الساعة الزمانیة بسمت و تشوّف لانتظار الخلیفة، فتفتح إحدی الطاقات، فیظهر منها وجهه، و ما علیه من المندیل، و علی رأسه عدّة من الأستاذین المحنکین، و غیرهم من الخواص منهم، و یفتح بعض الأستاذین طاقة، و یخرج منها رأسه و یده الیمنی فی کمه، و یشیر به قائلا: أمیر المؤمنین یردّ علیکم السلام، فیسلم بقاضی القضاة أوّلا بنعوته و بصاحب الباب بعده کذلک، و بالجماعة الباقیة جملة جملة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 334
من غیر تعیین أحد، فیستفتح قرّاء الحضرة بالقراءة و یکونون قیاما فی الصدر وجوههم للحاضرین، و ظهورهم إلی حائط المنظرة، فیقدّم خطیب الجامع الأنور المعروف بجامع الحاکم، فیخطب کما یخطب فوق المنبر إلی أن یصل إلی ذکر النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، فیقول: و إنّ هذا یوم مولده إلی ما منّ اللّه به علی ملة الإسلام من رسالته، ثم یختم کلامه بالدعاء للخلیفة، ثم یؤخر و یقدّم خطیب الجامع الأزهر، فیخطب کذلک، ثم خطیب الجامع الأقمر فیخطب کذلک، و القرّاء فی خلال خطابة الخطباء یقرءون. فإذا انتهت خطابة الخطباء أخرج الأستاذ رأسه، و یده فی کمه من طاقته، و ردّ علی الجماعة السلام، ثم تغلق الطاغتان، فتنفض الناس و یجری أمر الموالد الخمسة الباقیة علی هذا النظام إلی حین فراغها علی عدّتها من غیر زیادة و لا نقص، انتهی.
و هذا الباب صار بعد زوال الدولة الفاطمیة یقابل دار الأمیر فخر الدین جهارکس الصلاحیّ التی عرفت بعد ذلک بالدار القطبیة، و هی الآن المارستان المنصوری، و صار موضع هذا الباب محراب مدرسة الظاهر رکن الدین بیبرس.
باب البحر : هو من إنشاء الحاکم بأمر اللّه أبی علیّ منصور، و هدم فی أیام الملک الظاهر رکن الدین بیبرس البندقداریّ، و شوهد فیه أمر عجیب.
قال جامع السیرة الظاهریة: لما کان یوم عاشوراء یعنی من سنة اثنتین و سبعین و ستمائة رسم بنقض علو أحد أبواب القصر المسمی بباب البحر، قبالة المدرسة دار الحدیث الکاملیة لأجل نقل عمدة فیه لبعض العمائر السلطانیة، فظهر صندوق فی حائط مبنیّ علیه، فللوقت أحضرت الشهود و جماعة کثیرة، و فتح الصندوق، فوجد فیه صورة من نحاس أصفر مفرغ علی کرسیّ شبه الهرام، ارتفاعه قدر شبر له أربعة أرجل تحمل الکرسیّ، و الصنم جالس متورّکا، و له یدان مرفوعتان ارتفاعا جیدا یحمل صحیفة دورها: قدر ثلاثة أشبار، و فی هذه الصحیفة أشکال ثابتة، و فی الوسط صورة رأس بغیر جسد، و دائرة مکتوب کتابة بالقبطیّ، و بالقلفطیریات و إلی جانبها فی الصحیفة شکل له قرنان یشبه شکل السنبلة، و إلی الجانب الآخر شکل آخر، و علی رأسه صلیب، و الآخر فی یده عکاز، و علی رأسه صلیب، و تحت أرجلهم أشکال طیور، و فوق رؤوس الأشکال کتابة، و وجد مع هذا الصنم فی الصندوق لوح من ألواح الصبیان التی یکتبون فیها بالمکاتب مدهون وجهه الواحد أبیض، و وجهه الواحد أحمر، و فیه کتابة قد تکشط أکثرها من طول المدّة، و قد بلی اللوح و ما بقیت الکتابة تلتئم، و لا الخط یفهم.
و هذا نص ما فیه، و أخلیت مکان کتابته التی تکشطت، و أمّا الوجه الأبیض: فهو
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 335
مکتوب بقلم الصحیفة القبطیّ، و المکتوب فی الوجه الأحمر علی هذه الصورة: السطر الأوّل بقی منه مکتوبا الإسکندر ، السطر الثانی: الأرض وهبها له، السطر الثالث:
و جرب لکل ، السطر الرابع: أصحاب ، السطر الخامس: و هو یحرس ، السطر السادس: و احترازه بقوّة، السطر السابع: الملک مرجو، و أبواب السطر الثامن غیر بیته سبعة ، السطر التاسع: عالم حکیم عالم فی عقله، السطر العاشر: وصفها فلا تفسد، السطر الحادی عشر: طارد کل سوء، و الذی صاغها النساء، السطر الثانی: عشر سد أیضا کل آثار اسدیة بیبرس، و هی أحد ، السطر الثالث عشر: بیبرس ملک الزمان و الحکمة کلمة اللّه عز و جل، هذا صورة ما وجد فی اللوح مما بقی من الکتابة و البقیة قد تکشط.
و قیل: إنّ هذا اللوح بخط الخلیفة الحاکم، و أعجب ما فیه اسم السلطان، و هو بیبرس، و لما شاهد السلطان ذلک: أمر بقراءته، فعرض علی قرّاء الأقلام، فقری‌ء، و ذلک بالقلم القبطیّ، و مضمونه طلسم عمل للظاهر بن الحاکم، و اسم أمّه رصد، و فیه أسماء الملائکة، و عزائم ورقی و أسماء روحانیة، و صور ملائکة أکثره حرس لدیار مصر و ثغورها، و صرف الأعداء عنها، و کفهم عن طروقهم إلیها، و ابتهال إلی اللّه تعالی بأقسام کثیرة لحمایة الدیار المصریة، و صونها من الأعداء، و حفظها من کل طارق من جمیع الأجناس، و تضمن هذا الطلسم: کتابة بالقلفطیریات، و أوفاقا، و صورا، و خواص لا یعلمها إلّا اللّه تعالی، و حمل هذا الطلسم إلی السلطان، و بقی فی ذخائره. قال: و رأیت فی کتاب عتیق رث سماه مصنفه: وصیة الإمام العزیز بالله، والد الإمام الحاکم بأمر اللّه لولده المذکور، و قد ذکر فیه الطلسمات التی علی أبواب القصر، و من جملتها: إنّ أوّل البروج: الحمل، و هو بیت المریخ و شرف الشمس، و له القوّة علی جمیع سلطان الفلک، لأنه صاحب السیف، و اسفهسلاریة العسکر بین یدی الشمس الملک، و له الأمر و الحرب و السلطان و القوّة، و المستولی لقوّة روحانیته علی مدینتنا، و قد أقمنا طلسما لساعته و یومه لقهر الأعداء، و ذل المنافقین فی مکان أحکمناه علی إشرافه علیه، و الحصن الجامع لقصر مجاور الأوّل باب بنیناه، هذا نص ما رأیته، انتهی.
و لعل معنی کتابة بیبرس فی هذا اللوح إشارة إلی أن هدم هذا الباب یکون علی زمان بیبرس، فإنّ القوم کانت لهم معارف کثیرة، و عنایتهم بهذا الفنّ وافرة کبیرة، و اللّه أعلم، و موضع باب البحر هذا الیوم یعرف: بباب قصر بشتاک، قبالة المدرسة الکاملیة.
باب الریح : کان علی ما أدرکته تجاه سور سعید السعداء علی یمنة السالک من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 336
الرکن المخلق إلی رحبة باب العید، و کان بابا مربعا، یسلک فیه من دهلیز مستطیل مظلم إلی حیث المدرسة السابقیة، و دار الطواشی سابق الدین، و قصر أمیر السلاح، و ینتهی إلی ما بین القصرین تجاه حمام البیسری، و عرف هذا الباب فی الدولة الأیوبیة: بباب قصر ابن الشیخ، و ذلک أن الوزیر: الصاحب معین الدین حسین بن شیخ الشیوخ، وزیر الملک الصالح نجم الدین أیوب: کان یسکن بالقصر الذی فی داخل هذا الباب، ثم قیل له فی زمننا: باب القصر، و کان علی حاله، له عضادتان من حجارة، و یعلوه اسکفة حجر مکتوب فیها نقرا فی الحجر عدّة أسطر، بالقلم الکوفیّ لم یتهیأ لی قراءة ما فیها، و کان دهلیز هذا الباب عریضا یتجاوز عرضه فیما أقدّر: العشرة أذرع فی طول کبیر جدّا، و یعلو هذا الباب دور للسکنی تشرف علی الطریق، و ما زال علی ذلک، إلی أن أنشأ الأمیر الوزیر المشیر جمال الدین یوسف الإستادار مدرسته برحبة باب العید، و اغتصب لها أملاک الناس، و کان مما اغتصب ما بجوار المدرسة المذکورة من الحوانیت، و الرباع التی فوقها، و ما جاوز ذلک، و هدمها لیبنیها علی ما یرید، فهدم هذا الباب فی صفر سنة إحدی عشرة و ثمانمائة، و بنی فی مکانه، و مکان الدهلیز المظلم الذی کان ینتهی بالسالک فیه من هذا الباب إلی المدرسة السابقیة: هذه القیساریة الکبیرة ذات الحوانیت، و السقیفة و الأبواب الجدیدة، و دخل فیها بعض مما کان بجانبی هذا الباب من الحوانیت و علوها، و لما هدم هذا الباب ظهر فی داخل بنیانه شخص، و بلغنی ذلک فسرت إلی الأمیر المذکور، و کان بینی و بین صحبة، لأشاهد هذا الشخص المذکور، و التمست منه إحضاره، فأخبرنی أنه أحضر إلیه شخص من حجارة: قصیر القامة إحدی عینیه أصغر من الأخری، فقلت: لا بدّ لی من مشاهدته، فأمر بإحضاره الموکل بالعمارة، و أنا معه إذ ذاک فی موضع الباب، و قد هدم ما کان فیها من البناء، فذکر أنه رماه بین أحجار العمارة، و أنه تکسر و صار فیما بینها، و لا یستطیع تمییزه منها، فأغلظ علیه و بالغ فی الفحص عنه، فأعیاهم إحضاره.
فسألت الرجل حینئذ فقال لی: إنهم لما انتهوا فی الهدم إلی حیث کان هذا الشخص إذا بدائرة فیها کتابة و بوسطها شخص قصیر، صغیر إحدی العینین من حجارة، و هذه کانت صفة جمال الدین فإنه کان قصیر القامة، إحدی عینیه أصغر من الأخری، و یشبه، و اللّه أعلم، أن یکون قد عین فی تلک الکتابة التی کانت حول الشخص، أنّ هذا الباب یهدمه من هذه صفته، کما وجد فی باب البحر اسم بیبرس الذی هدم علی یدیه، و بأمره، و قد ظفر جمال الدین هذا بأموال عظیمة وجدها فی داخل هذا القصر، لما أنشأ داره الأولی فی الحدرة من داخل هذا الباب فی سنة ست و تسعین و سبعمائة، و کان لکثرة هذا المال لا یستطیع کتمانه، و من شدّة خوفه یومئذ من الظاهر برقوق أن یظهر علیه، لا یقدر أن یصرّح به، فکان یقول لأصحابه و خواصه: وجدت فی هذا المکان سبعین قفة من حدید.
أخبرنی اثنان رئیسان من أعیان الدولة عنه: إنه قال لهما هذا القول، و کنت إذ ذاک أیام
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 337
عمارته لهذه القاعة أتردّد لشیخنا سراج الدین عمر بن الملقن رحمه اللّه تعالی بالمدرسة السابقیة، و بها کان یسکن، فتعرّفت بجمال الدین منه، و کان یومئذ من عرض الجند، و یعرف: باستادار نحاس، فاشتهر هناک أنه وجد حال هدمه و عمارته القاعة، و الرواق بالحدرة مکانا مبنیا تحت الأرض مبیض الحیطان، فیه مال فما کان عندی شک أنه من أموال خبایا الفاطمیین، فإنه قد ذکر غیر واحد من الإخباریین، أن السلطان صلاح الدین لما استولی علی القصر بعد موت العاضد لم یظفر بشی‌ء من الخبایا، و عاقب جماعة، فلم یوقفوه علی أمرها.
باب الزمرد : سمی بذلک لأنه کان یتوصل منه إلی قصر الزمرذ، و موضعه الآن المدرسة الحجازیة بخط رحبة باب العید.
باب العید : هذا الباب مکانه الیوم فی داخل درب السلامی بخط رحبة باب العید، و هو عقد محکم البناء و یعلوه قبة قد عملت مسجدا، و تحتها حانوت یسکنه سقّاء، و یقابله مصطبة، و أدرکت العامّة، و هم یسمون هذه القبة بالقاهرة، و یزعمون أن الخلیفة کان یجلس بها، و یرخی کمه فتأتی الناس و تقبله، و هذا غیر صحیح، و قیل لهذا الباب: باب العید، لأنّ الخلیفة کان یخرج منه فی یومی العید إلی المصلی بظاهر باب النصر، فیخطب بعد أن یصلی بالناس صلاة العید، کما ستقف علیه عند ذکر المصلی إن شاء اللّه تعالی، و فی سنة إحدی و ستین و ستمائة: بنی الملک الظاهر بیبرس خانا للسبیل بظاهر مدینة القدس، و نقل إلیه باب العید هذا، فعمله بابا له، و تم بناؤه فی سنة اثنتین و ستین.
باب قصر الشوک : و هو الذی کان یتوصل منه إلی قصر الشوک، و موضعه الآن تجاه حمام عرفت بحمام الإیدمریّ، و یقال لها الیوم: حمام یونس عند موقف المکاریة، بجوار خزانة البنود علی یمنة السالک منها إلی رحبة الإیدمریّ، و هو الآن زقاق ینتهی إلی بئر یسقی منها بالدلاء، و یتوصل من هناک إلی المارستان العتیق و غیره، و أدرکت منه قطعة من جانبه الأیسر.
باب الدیلم : و کان یدخل منه إلی المشهد الحسینیّ، و موضعه الآن درج ینزل منها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 338
إلی المشهد تجاه الفندق الذی کان دار الفطرة، و لم یبق لهذا الباب أثر البتة.
باب تربة الزعفران : مکانه الآن بجوار خان الخلیلی من بحریه، مقابل فندق المهمندار الذی یدق فیه ورق الذهب، و قد بنی بأعلاه طبقة، و رواق و لا یکاد یعرفه کثیر من الناس، و علیه کتابة بالقلم الکوفیّ، و هذا الباب کان یتوصل منه إلی تربة القصر المذکورة فیما تقدّم.
باب الزهومة : کان فی آخر رکن القصر، مقابل خزانة الدرق التی هی الیوم: خان مسرور، و قیل له: باب الزهومة لأن اللحوم و حوائج الطعام التی کانت تدخل إلی مطبخ القصر الذی للحوم إنما یدخل بها من هذا الباب. فقیل له: باب الزهومة یعنی باب الزفر، و کان تجاهه أیضا درب السلسلة الآتی ذکره إن شاء اللّه تعالی. و موضعه الآن: باب قاعة الحنابلة من المدارس الصالحیة، تجاه فندق مسرور الصغیر، و من بعد باب الزهومة المذکور باب الذهب الذی تقدّم ذکره، فهذه أبواب القصر الکبیر التسعة.

ذکر المنحر

و کان بجوار هذا القصر الکبیر: المنحر، و هو الموضع الذی اتخذه الخلفاء لنحر الأضاحی فی عید النحر، و عید الغدیر و کان تجاه رحبة باب العید، و موضعه الآن یعرف:
بالدرب الأصفر تجاه خانقاه بیبرس، و صار موضعه ما فی داخل هذا الدرب من الدور و الطاحون و غیرها، و ظاهره تجاه رأس حارة برجوان یفصل بینه و بین حارة برجوان الحوانیت التی تقابل باب الحارة، و من جملة المنحر الساحة العظیمة التی عملت لها خوند برکة أمّ السلطان الملک الأشرف شعبان بن حسین، البوّابة العظیمة بخط الرکن المخلق بجوار قیساریة الجلود التی عمل فیها حوانیت الأساکفة، و کان الخلیفة إذا صلی صلاة عید النحر، و خطب ینحر بالمصلی، ثم یأتی المنحر المذکور، و خلفه المؤذنون یجهرون بالتکبیر، و یرفعون أصواتهم کلما نحر الخلیفة شیئا، و تکون الحربة فی ید قاضی القضاة، و هو بجانب الخلیفة لیناوله إیاها إذا نحر، و أوّل من سنّ منهم إعطاء الضحایا، و تفرقتها فی أولیاء الدولة علی قدر رتبهم: العزیز بالله نزار.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 339
ما کان یعمل فی عید النحر: قال المسبحیّ: و فی یوم عرفة یعنی من سنة ثمانین و ثلثمائة حمل یانس صاحب الشرطة السماط، و حمل أیضا علیّ بن سعد المحتسب سماطا آخر، و رکب العزیز بالله یوم النحر، فصلی و خطب علی العادة، ثم نحر عدّة نوق بیده، و انصرف إلی قصره، فنصب السماط، و الموائد، و أکل و نحر بین یدیه، و أمر بتفرقة الضحایا علی أهل الدولة، و ذکر مثل ذلک فی باقی السنین.
و قال ابن المأمون فی عید النحر من سنة خمس عشرة و خمسمائة: و أمر بتفرقة عید النحر، و الهبة و جملة العین، ثلاثة آلاف و ثلثمائة و سبعون دینارا، و من الکسوات مائة قطعة، و سبع قطع برسم الأمراء المطوّقین، و الأستاذین المحنکین، و کاتب الدست، و متولی حجبة الباب، و غیرهم من المستخدمین، و عدّة ما ذبح: ثلاثة أیام النحر فی هذا العید، و عید الغدیر: ألفان و خمسمائة و أحد و ستون رأسا.
تفصیله: نوق مائة و سبعة عشر رأسا، یقر أربعة و عشرون رأسا، جاموس عشرون رأسا، هذا الذی ینحره و یذبحه الخلیفة بیده فی المصلی و النحر، و باب الساباط، و یذبح الجزارون من الکباش ألفین و أربعمائة رأس، و الذی اشتملت علیه نفقات الأسمطة فی الأیام المذکورة خارجا عما یعمل بالدار المأمونیة من الأسمطة، و خارجا عن أسمطة القصور عند الحرم، و خارجا عن القصور الحلواء، و القصور المنفوخ المصنوعة بدار الفطرة: ألف و ثلثمائة و ستة و عشرون دینارا، و ربع و سدس دینار، و من السکر برسم القصور، و القطع المنفوخ أربعة و عشرون قنطارا.
تفصیله عن قصرین فی أوّل یوم خاصة اثنا عشر قنطارا المنفوخ عن ثلاثة الأیام اثنا عشر قنطارا، و قال فی سنة ست عشرة و خمسمائة: و حضر وقت تفرقة کسوة عید النحر و وصل ما تأخر فیها بالطراز، و فرّقت الرسوم علی من جرت عادته خارجا عما أمر به من تفرقة العین المختص بهذا العید و أضحیته، و خارجا عما یفرّق علی سبیل المناخ، و من باب الساباط مذبوحا، و منحورا ستمائة دینار و سبعة عشر دینارا، و فی التاسع من ذی الحجة، جلس الخلیفة الآمر بأحکام اللّه علی سریر الملک، و حضر الوزیر، و أولاده و قاموا بما یجب من السلام، و استفتح المقرئون، و تقدّم حامل المظلة، و عرض ما جرت عادته من المظال الخمسة التی جمیعها مذهب، و سلم الأمراء علی طبقاتهم، و ختم المقرئون، و عرضت الدواب جمیعها، و العماریات و الوحوش و عاد الخلیفة إلی محله، فلما أسفر الصبح: خرج الخلیفة، و سلم علی من جرت عادته بالسلام علیه، و لم یخرج شی‌ء عما جرت به العادة فی الرکوب و العود، و غیر الخلیفة ثیابه، و لبس ما یختص بالنحر، و هی البدلة الحمراء بالشدّة التی تسمی: بشدّة الوفار، و العلم الجوهر فی وجهه بغیر قضیب ملک فی یده إلی أن دخل المنحر، و فرشت الملاءة الدیبقیّ الحمراء و ثلاث بطائن
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 340
مصبوغة حمر، لیتقی بها الدم مع کون کل من الجزارین، بیده مکبة صفاف مدهونة یلقی بها الدم عن الملاءة، و کبر المؤذنون، و نحر الخلیفة أربعا و ثلاثین ناقة، و قصد المسجد الذی آخر صف المنحر، و هو مغلق بالشروب و الفاکهة المعبأة فیه بمقدار ما غسل یدیه، ثم رکب من فوره، و جملة ما نحره، و ذبحه الخلیفة خاصة فی المنحر، و باب الساباط دون الأجل الوزیر المأمون، و أولاده، و إخوته فی ثلاثة الأیام ما عدّته: ألف و تسعمائة و ستة و أربعون رأسا.
تفصیله: نوق مائة و ثلاث عشرة ناقة، نحر منها فی المصلی عقیب الخطبة، ناقة و هی التی تهدی و تطلب من آفاق الأرض للتبرّک بلحمها، و نحر فی المناخ مائة ناقة، و هی التی یحمل منها للوزیر، و أولاده و إخوته و الأمراء، و الضیوف، و الأجناد، و العسکریة و الممیزین من الراجل، و فی کل یوم یتصدّق منها علی الضعفاء و المساکین بناقة واحدة، و فی الیوم الثالث من العید تحمل ناقة منحورة للفقراء فی القرافة، و ینحر فی باب الساباط ما یحمل إلی من حوته القصور، و إلی داره الوزارة، و إلی الأصحاب، و الحواشی اثنتا عشرة ناقة، و ثمانی عشرة بقرة و خمس عشرة جاموسة، و من الکباش ألف و ثمانمائة رأس، و یتصدّق کل یوم فی باب الساباط بسقط ما یذبح من النوق و البقر.
و أما مبلغ المنصرف علی الأسمطة فی ثلاثة الأیام خارجا عن الأسمطة بالدار المأمونیة، فألف و ثلثمائة و ستة و عشرون دینارا و ربع و سدس دینار، و من السکر برسم قصور الحلاوة، و القطع المنفوخ المصنوعة بدار الفطرة خارجا عن المطابخ ثمانیة و أربعون قنطارا.
و قال ابن الطویر: فإذا انقضی ذو القعدة، و أهلّ ذو الحجة، اهتمّ بالرکوب فی عید النحر، و هو یوم عاشره، فیجری حاله کما جری فی عید الفطر من الزی، و الرکوب إلی المصلی، و یکون لباس الخلیفة فیه: الأحمر الموشح، و لا ینخرم منه شی‌ء، و رکوبه ثلاثة أیام متوالیة، فأوّلها: یوم الخروج إلی المصلی و الخطابة، کعید الفطر، و ثانی یوم و ثالثه إلی المنحر، و هو المقابل لباب الریح الذی فی رکن القصر المقابل لسور دار سعید السعداء، الخانقاه الیوم، و کان براحا خالیا لا عمارة فیه، فیخرج من هذا الباب الخلیفة بنفسه، و یکون الوزیر واقفا علیه، فیترجل و یدخل ماشیا بین یدیه بقربه، هذا بعد انفصالهما من المصلی، و یکون قد قیّد إلی هذا المنحر أحد و ثلاثون فصیلا و ناقة أمام مصطبة مفروشة یطلع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 341
علیها الخلیفة و الوزیر، ثم أکابر الدولة، و هو بین الأستاذین المحنکین، فیقدّم الفرّاشون له إلی المصطبة رأسا، و یکون بیده حربة، من رأسها الذی لا سنان فیه و ید قاضی القضاة فی أصل سنانها، فیجعله القاضی فی نحر النحیرة، و یطعن بها الخلیفة، و تجرّ من بین یدیه، حتی یأتی علی العدّة المذکورة، فأوّل نحیرة هی التی تقدّد، و تسیر إلی داعی الیمن، و هو الملک فیه، فیفرّقها علی المعتقدین من وزن نصف درهم إلی ربع درهم، ثم یعمل ثانی یوم کذلک فیکون عدد ما ینحر: سبعا و عشرین، ثم یعمل فی الیوم الثالث کذلک و عدّة ما ینحر ثلاث و عشرون.
هذا: و فی مدّة هذه الأیام الثلاثة یسیر رسم الأضحیة إلی أرباب الرتب و الرسوم کما سیرت الغرّة فی أوّل السنة من الدنانیر بغیر رباعیة، و لا قراریط علی مثال الغرّة من عشرة دنانیر إلی دینار، و أما لحم الجزور، فإنه یفرّق فی أرباب الرسوم للتبرّک فی أطباق مع أدوان الفرّاشین، و أکثر ذلک تفرقة قاضی القضاة و داعی الدعاة للطلبة بدار العلم، و المتصدّرین بجوامع القاهرة، و نقباء المؤمنین بها من الشیعة للتبرّک، فإذا انقضی ذلک خلع الخلیفة علی الوزیر ثیابه الحمر التی کانت علیه، و مندیلا آخر بغیر السمة، و العقد المنظوم من القصر عند عود الخلیفة من المنحر، فیرکب الوزیر من القصر بالخلع المذکورة شاقا القاهرة، فإذا خرج من باب زویلة انعطف علی یمینه سالکا علی الخلیج، فیدخل من باب القنطرة إلی دار الوزارة، و بذلک انفصال عید النحر.
و قال ابن أبی طیّ: عدّة ما یذبح فی هذا العید فی ثلاثة أیام النحر، و فی یوم عید الغدیر: ألفان و خمسمائة و أحد و ستون رأسا، و تفصیله: نوق مائة و سبعة عشر رأسا، بقر أربعة و عشرون رأسا، جاموس عشرون رأسا، هذا الذی ینحره الخلیفة، و یذبحه بیده فی المصلی، و المنحر، و باب الساباط، و یذبح الجزارون بین یدیه من الکباش ألفا و أربعمائة رأس.
و قال ابن عبد الظاهر: کان الخلیفة ینحر بالمنحر: مائة رأس، و یعود إلی خزانة الکسوة فیغیر قماشه، و یتوجه إلی المیدان، و هو الخرنشف بباب الساباط للنحر و الذبح، و یعود بعد ذلک إلی الحمام و یغیر ثیابه للجلوس علی الأسمطة، و عدّة ما یذبحه ألف و سبعمائة و ستة و أربعون رأسا: مائة و ثلاث عشر ناقة و الباقی بقر و غنم.
قال ابن الطویر: و ثمن الضحایا علی ما تقرّر ما یقرب من ألفی دینار، و کانت تخرج المخلقات إلی الأعمال بشائر برکوب الخلیفة فی یوم عید النحر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 342
فمما کتب به الأستاذ البارع أبو القسم علیّ بن منجیب بن سلیمان الکاتب المعروف:
بابن الصیرفیّ المنعوت: بتاج الریاسة، أما بعد: فالحمد للّه الذی رفع منار الشرع، و حفظ نظامه و نشر رایة هذا الدین، و أوجب إعظامه، و أطلع بخلافة أمیر المؤمنین کواکب سعوده، و أظهر للمؤالف و المخالف عزة أحزابه و قوّة جنوده، و جعل فرعه سامیا نامیا، و أصله ثابتا راسخا، و شرّفه علی الأدیان بأسرها و کان لعراها فاصما و لأحکامها ناسخا، یحمده أمیر المؤمنین أن الزم طاعته الخلیقة، و جعل کراماته الأسباب الجدیرة بالإمارة الخلیقة، و یرغب إلیه فی الصلاة علی جدّه محمد الذی حاز الفخار أجمعه، و ضمن الجنة لمن آمن به و اتبع النور الذی أنزل معه، و رفعه إلی أعلی منزلة تخیر له منها المحل، و أرسله بالهدی و دین الحق، فزهق الباطل، و خمدت ناره و اضمحل، صلی اللّه علیه، و علی أخیه و ابن عمه أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب خیر الأمّة و إمامها، و حبر الملة و بدر تمامها، و الموفی یومه فی الطاعات علی ماضی أمسه، و من أقامه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم فی المباهلة مقام نفسه، و اختصه بأبعد غایة فی سورة براءة، فنادی فی الحج بأوّلها، و لم یکن غیره ینفذ نفاذه و لا یسدّ مکانه، لأنه قال: «لا یبلغ عنی إلّا رجل من أهل بیتی» عملا فی ذلک بما أمر اللّه به سبحانه، و علی الأئمة من ذریتهما خلفاء اللّه فی أرضه، و القائمین فی سیاسة خلقه بصریح الإیمان و محضه، و المحکمین من أمر الدین ما لا وجه لحله، و لا سبیل إلی نقضه، و سلم علیهم أجمعین سلاما یتصل دوامه، و لا یخشی انصرامه، و مجد و کرّم، و شرّف و عظم، و کتاب أمیر المؤمنین هذا إلیک یوم الأحد عید النحر من سنة ست و ثلاثین و خمسمائة الذی تبلج فجره عن سیئات محصت، و نفوس من آثار الذنوب خلصت، و رحمة امتدّت ظلالها و انتشرت و مغفرة هنأت و نشرت، و کان من خبر هذا الیوم: أن أمیر المؤمنین برز لکافة من بحضرته من أولیائه، متوجها لقضاء حق هذا العید السعید و أدائه، فی عترة راسخة قواعدها متمکنة، و عساکر جمة تضیق عنها ظروف الأمکنة، و مواکب تتوالی کتوالی السیل، و تهاب هیبة مجیئه فی اللیل، بأسلحة تحسر لها الأبصار و تبرق و ترتاع الأفئدة منها و تفرق، فمن مشرفیّ إذا ورد تورّد، و من سمهریّ إذا قصد تقصد، و من عمد إذا عمدت تبرّأت المغافر من ضمانها، و من قسیّ إذا أرسلت بنانها وصلت إلی القلوب بغیر استئذانها، و لم یزل سائرا فی هدی الإمامة و أنوارها، و سکینة الخلافة و وقارها، إلی أن وصل إلی المصلی قدام المحراب، و أدّی الصلاة إذ لم یکن بینه و بین التقبیل حجاب، ثم علا المنبر فاستوی علی ذروته، ثم هلل اللّه و کبر، و أثنی علی عظمته و أحسن إلی الکافة بتبلیغ موعظته، و توجه إلی ما أعدّ من البدن فنحره تکمیلا لقربته، و انتهی فی ذلک إلی ما أمر اللّه عز و جل، و عاد إلی قصوره المکرّمة، و منازله المقدّسة، قد رضی اللّه عمله، و شکر فعله و تقبله، أعلمک أمیر المؤمنین بذلک، لتشکر اللّه علی النعمة فیه، و تذیعه قبلک علی الرسم مما تجاریه، فاعلم هذا، و اعمل به إن شاء اللّه تعالی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 343

ذکر دار الوزارة الکبری

و کان بجوار هذا القصر الکبیر الشرقیّ تجاه رحبة باب العید، دار الوزارة الکبری، و یقال لها: الدار الأفضلیة و الدار السلطانیة.
قال ابن عبد الظاهر: دار الوزارة بناها: بدر الجمالیّ أمیر الجیوش، ثم لم یزل یسکنها من یلی إمرة الجیوش إلی أن انتقل الأمر عن المصریین، و صار إلی بنی أیوب، فاستقرّ سکن الملک الکامل بقلعة الجبل خارج القاهرة، و سکنها السلطان الملک الصالح ولده، ثم أرصدت دار الوزارة لمن یرد من الملوک، و رسل الخلیفة إلی هذا الوقت، و کانت دار الوزارة قدیما تعرف بدار القباب، و أضافها الأفضل إلی دور بنی هریسة، و عمرها دارا و سماها دار الوزارة، انتهی.
و الذی تدل علیه کتب ابتیاعات الأملاک القدیمة التی بتلک الخطة أنها من بناء الأفضل، لا من عمارة أبیه بدر، و الدار التی عمرها أمیر الجیوش بدر هی داره: بحارة برجوان التی قیل لها دار المظفر، و ما زال وزراء الدولة الفاطمیة أرباب السیوف من عهد الأفضل بن أمیر الجیوش یسکنون بدار الوزارة هذه إلی أن زالت الدولة فاستقرّ بها السلطان الملک الناصر صلاح الدین یوسف بن أیوب، و ابنه من بعده: الملک العزیز عثمان، ثم ابنه الملک المنصور، ثم الملک العادل أبو بکر بن أیوب، ثم ابنه الملک الکامل، و صاروا یسمونها الدار السلطانیة، و أوّل من انتقل عنها من الملوک، و سکن بالقلعة الملک الکامل ناصر الدین محمد ابن الملک العادل أبی بکر بن أیوب، و جعلها منزلا للرسل، فلما ولی قطز سلطنة دیار مصر، و تلقب بالملک العادل فی سنة سبع و خمسین و ستمائة، و حضر إلیه البحریة و فیهم بیبرس البندقداریّ، و قلاون الألفیّ من الشام، خرج الملک العادل قطز إلی لقائهم، و أنزل الأمیر رکن الدین بیبرس بدار الوزارة، فلم یزل بها، حتی سافر صحبة قطز إلی الشام، و قتله و عاد إلی مصر فتسلطن، و سکن بقلعة الجبل. و فی سنة ثلاث و تسعین و ستمائة، لما قتل الأشرف خلیل بن قلاون فی واقعة بیدرا ، ثم قتل بیدرا، و أجلس الملک الناصر محمد علی تخت الملک، و ثارت الأشرفیة من الممالیک علی الأمراء، و قتل من قتل منهم، خاف بقیة الأمراء من شرّ الممالیک الأشرفیة، فقبض منهم علی نحو الستمائة مملوک، و أنزل بهم من القلعة، و أسکن منهم نحو: الثلاثمائة بدار الوزارة، و أسکن منهم کثیر فی مناظر الکبش، و أجریت علیهم الرواتب، و منعوا من الرکوب إلی أن کان من أمرهم ما هو مذکور فی موضعه من هذا الکتاب.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 344
و لما کانت سنة سبعمائة: أخذ الأمیر شمس الدین قرا سنقر المنصوری نائب السلطنة فی أیام الملک المنصور حسام الدین لاجین: قطعة من دار الوزارة، فبنی بها الربع المقابل خانقاه سعید السعداء، ثم بنی المدرسة المعروفة: بالقراسنقریة، و مکتب الأیتام، فلما کانت دولة البرجیة بنی الأمیر رکن الدین بیبرس الجاشنکیر: الخانقاه الرکنیة، و الرباط بجانبها من جملة دار الوزارة، و ذلک فی سنة تسع و سبعمائة، ثم استولی الناس علی ما بقی من دار الوزارة، و بنوا فیها، فمن حقوقها الربع تجاه الخانقاه الصلاحیة دار سعید السعداء، و المدرسة القراسنقریة، و خانقاه رکن الدین بیبرس، و ما بجوارها من دار قزمان و دار الأمیر شمس الدین سنقر الأعسر الوزیر، المعروفة: بدار خوند طولوبای الناصریة، جهة الملک الناصر حسن بن محمد بن قلاون، و حمام الأعسر التی بجانبها، و الحمام المجاور لها، و ما وراء هذه الأماکن من الآدر و غیرها. و هی الفرن و الطاحون التی قبلیّ المدرسة القراسنقریة، و من الآدر و الخربة التی قبلیّ ربع قراسنقر، و ما جاور باب سرّ المدرسة القراسنقریة من الآدر، و خربة أخری هناک، و الدار الکبری المعروفة بدار الأمیر سیف الدین برلغی الصغیر صهر الملکک المظفر بیبرس الجاشنکیر المعروفة الیوم: بدار الغزاوی، و فیها السرداب الذی کان رزیک بن الصالح رزیک فتحه فی أیام وزارته من دار الوزارة إلی سعید السعداء، و هو باق إلی الآن فی صدر قاعتها، و ذکر أنّ فیه حیة عظیمة، و من حقوق دار الوزارة المناخ المجاور لهذه القاعة، و کان علی دار الوزارة: سور مبنیّ بالحجارة و قد بقی الآن منه قطعة فی حدّ دار الوزارة الغربیّ، و فی حدّها القبلیّ، و هو الجدار الذی فیه باب الطاحون و الساقیة تجاه باب سعید السعداء من الزقاق الذی یعرف الیوم: بخرائب تتر، و منه قطعة فی حدّها الشرقیّ عند باب الحمام، و المستوقد بباب الجوّانیة، و کان بدار الوزارة هذا الشباک الکبیر المعمول من الحدید فی القبة التی دفن تحتها بیبرس الجاشنکیر من خانقاهه، و هو الشباک الذی یقرأ فیه القرّاء، و کان موضوعا فی دار الخلافة ببغداد یجلس فیه الخلفاء من بنی العباس.
فلما استولی الأمیر أبو الحرث البساسیری علی بغداد، و خطب فیها للخلیفة المستنصر بالله الفاطمیّ أربعین جمعة، و انتهب قصر الخلافة، و صار الخلیفة القائم بأمر اللّه العباسیّ إلی عانة، و سیر البساسیریّ الأموال، و التحف من بغداد إلی المستنصر بالله بمصر فی سنة سبع و أربعین و أربعمائة: کان من جملة ما بعث به مندیل الخلیفة القائم بأمر اللّه الذی عممه بیده فی قالب من رخام، قد وضع فیه کما هو حتی لا تتغیر شدّته، و مع هذا المندیل رداءه، و الشباک الذی کان یجلس فیه، و یتکئ علیه، فاحتفظ بذلک إلی أن عمرت دار الوزارة علی ید الأفضل بن أمیر الجیوش، فجعل هذا الشباک بها، یجلس فیه الوزیر،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 345
و یتکئ علیه، و ما زال بها إلی أن عمر الأمیر رکن الدین بیبرس الجاشنکیر الخانقاه الرکنیة، و أخذ من دار الوزارة أنقاضا منها هذا الشباک، فجعله فی القبة، و هو شباک جلیل، و أما العمامة و الرداء: فما زالا بالقصر حتی مات العاضد، و تملک السلطان صلاح الدین دیار مصر، فسیرهما فی جملة ما بعث من مصر إلی الخلیفة المستضی‌ء بالله العباسیّ ببغداد، و معهما الکتاب الذی کتبه الخلیفة القائم علی نفسه، و أشهد علیه العدول فیه أنه لا حق لبنی العباس، و لا له من جملتهم فی الخلافة مع وجود بنی فاطمة الزهراء علیها السلام.
و کان البساسیریّ ألزمه حتی أشهد علی نفسه بذلک، و بعث بالأشهاد إلی مصر، فأنفذه صلاح الدین إلی بغداد مع ما سیر به من التحف التی کانت بالقصر، و أخبرنی شیخ معمر:
یعرف بالشیخ علیّ السعودیّ ولد فی سنة سبع و سبعمائة قال: رأیت مرّة، و قد سقط من ظهر الرباط المجاور لخانقا هبیبرس من جملة ما بقی من سور دار الوزارة جانب، ظهرت منه علبة فیها رأس إنسان کبیر، و عندی أن هذا الرأس من جملة رؤوس الأمراء البرقیة الذین قتلهم ضرغام فی أیام وزارته للعاضد بعد شاور، فإنه کان عمل الحیلة علیهم بدار الوزارة، و صار یستدعی واحدا بعد واحد إلی خزانة بالدار، و یوهم أنه یخلع علیهم، فإذا صار واحد منهم فی الخزانة قتل، و قطع رأسه، و ذلک فی سنة ثمان و خمسین و خمسمائة، و کانت دار الوزارة فی الدولة الفاطمیة تشتمل علی عدّة قاعات، و مساکن و بستان و غیره، و کان فیها مائة و عشرون مقسما للماء الذی یجری فی برکها، و مطابخها و نحو ذلک.

ذکر رتبة الوزارة، و هیئة خلعهم، و مقدار جاریهم، و ما یتعلق بذلک

أما المعز لدین اللّه: أوّل الخلفاء الفاطمیین بدیار مصر، فإنه لم یوقع اسم الوزارة علی أحد فی أیامه، و أوّل من قیل له الوزیر فی الدولة الفاطمیة، الوزیر یعقوب بن کاس وزیر العزیز بالله أبی منصور نزار بن المعز، و إلیه تنسب الحارة الوزیریة، کما ستقف علیه، عند ذکر الحارات من هذا الکتاب، فلما مات ابن کاس، لم یستوزر العزیز بالله بعده أحدا، و إنما کان رجل یلی الوساطة، و السفارة، فاستقرّ فی ذلک جماعة کثیرة بقیة أیام العزیز، و سائر أیام ابنه أبی علیّ منصور الحاکم بأمر اللّه، ثم ولی الوزارة: أحمد بن علیّ الجرجرأیّ فی أیام الظاهر أبی هاشم علیّ بن الحاکم، و ما زال الوزراء من بعده واحدا بعد واحد، و هم أرباب أقلام حتی قدم أمیر الجیوش بدر الجمالیّ.
قال ابن الطویر: و کان من زیّ هؤلاء الوزراء، أنهم یلبسون المنادیل الطبقیات بالأحناک تحت حلوقهم، مثل العدول الآن، و ینفردون بلباس ثیاب قصار، یقال لها:
الذراریع، واحدها: ذراعة، و هی مشقوقة أمام وجهه إلی قریب من رأس الفؤاد بأزرار و عری، و منهم من تکون أزراره ممن ذهب مشبک، و منهم من أزراره لؤلؤ، و هذه علامة الوزارة، و یحمل له الدواة المحلاة بالذهب، و یقف بین یدیه الحجاب، و أمره نافذ فی أرباب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 346
السیوف من الأجناد و أرباب الأقلام، و کان آخرهم الوزیر: ابن المغربیّ الذی قدم علیه أمیر الجیوش بدر الجمالیّ من عکا، و وزر للمستنصر: وزیر سیف، و لم یتقدّمه فی ذلک أحد، انتهی.
و ترتیب وزارته بأن تکون وزارته وزارة صاحب سیف بأن تکون الأمور کلها مردودة إلیه، و منه إلی الخلیفة، دون سائر خدمه، فعقد له هذا العقد، و أنشئ له السجل، و نعت بالسید الأجل أمیر الجیوش، و هو النعت الذی کان لصاحب ولایة دمشق و أضیف إلیه: کافل قضاة المسلمین و هادی دعاة المؤمنین، و جعل القاضی و الداعی نائبین عنه، و مقلدین من قبله.
و کتب له فی سجله، و قد قلدک أمیر المؤمنین: جمیع جوامع تدبیره، و ناط بک النظر فی کل ما وراء سریره، فباشر ما قلدک أمیر المؤمنین من ذلک مدبرا للبلاد، و مصلحا للفساد، و مدمرا أهل العناد، و خلع علیه بالعقد المنظوم بالجوهر مکان الطوق، و زید له الحنک مع الذؤابة المرخاة، و الطیلسان المقوزریّ قاضی القضاة، و ذلک فی سنة سبع و ستین و أربعمائة، فصارت الوزارة من حینئذ وزارة تفویض، و یقال لمتولیها: أمیر الجیوش، و بطل اسم الوزارة، فلما قام شاهنشاه بن أمیر الجیوش من بعد أبیه، و مات الخلیفة المستنصر، و لقبه بالمستعلی، صار یقال له: الأفضل و من بعده صار من یتولی هذه الرتبة یتلقب به أیضا.
و أوّل من لقب بالملک منهم مضافا إلی بقیة الألقاب: رضوان بن و لخشی، عندما وزر للحافظ لدین اللّه، فقیل له: السید الأجل الملک الأفضل، و ذلک فی سنة ثلاثین و خمسمائة، و فعل ذلک من بعده، فتلقب طلائع بن رزیک: بالملک المنصور، و تلقب ابنه رزیک بن طلائع: بالملک العادل و تلقب شاور بالملک المنصور، و تلقب آخرهم: صلاح الدین یوسف بن أیوب بالملک الناصر، و صار وزیر السیف من عهد أمیر الجیوش بدر إلی آخر الدولة، هو سلطان مصر، و صاحب الحل و العقد، و إلیه الحکم فی الکافة من الأمراء و الأجناد، و القضاة، و الکتاب، و سائر الرعیة، و هو الذی یولی أرباب المناصب الدیوانیة، و الدینیة، و صار حال الخلیفة معه کما هو حال ملوک مصر من الأتراک إذا کان السلطان صغیرا و القائم بأمره من الأمراء، و هو الذی یتولی تدبیر الأمور، کما کان الأمیر یلبغا الخاصکیّ مع الأشرف شعبان، و کما أدرکنا الأمیر برقوق قبل سلطنته مع ولدی الأشرف، و کما کان الأمیر أیتمش مع الملک الناصر فرج بعد موت الظاهر برقوق.
قال ابن أبی طی: و کانت خلعهم یعنی الخلفاء الفاطمیین علی الأمراء: الثیاب الدیبقیّ، و العمائم الصب بالطراز الذهب، و کان طراز الذهب، و العمامة من خمسمائة دینار، و یخلع علی أکابر الأمراء: الأطواق الذهب، و الأسورة و السیوف المحلاة، و کان یخلع علی الوزیر عوضا عن الطوق عقد جوهر.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 347
قال ابن الطویر : و خلع علیه، یعنی علی أمیر الجیوش بدر الجمالیّ بالعقد المنظوم بالجوهر مکان الطوق، و زید له الحنک، مع الذؤابة المرخاة، و الطیلسان المقوّر زی قاضی القضاة، و هذه الخلع تشابه خلع الوزراء، و أرباب الأقلام فی زمننا هذا، غیر أنه لقصور أحوال الدولة جعل عوض العقد الجوهر الذی کان للوزیر، و یفک بخمسة آلاف مثقال ذهبا قلادة من عنبر مغشوش یقال لها: العنبریة، و یتمیز بها الوزیر خاصة، و یلبس أیضا:
الطیلسان المقوّر، و یسمی الیوم: بالطرحة، و یشارکه فیها جمیع أرباب العمائم، إذا خلع علیهم، فإنه تکون خلعهم بالطرحة، و ترک أیضا الیوم من خلعة الوزیر، و غیره الذؤابة المرخاة، و هی العذبة و صارت الآن من زی القضاة فقط، و هجرها الوزوراء، و یشبه، و اللّه أعلم، أن یکون وضعها فی الدولة الفاطمیة للوزیر فی خلعه إشارة إلی أنه کبیر أرباب السیوف، و الأقلام، فإنه کان مع ذلک یتقلد بالسیف و کذلک ترک فی الدولة الترکیة من خلع الوزارة تقلید السیف لأنه لا حکم له علی أرباب السیوف، و لما قام الأفضل بن أمیر الجیوش خلع أیضا علیه بالسیف و الطیلسان المقوّر، و بعد الأفضل لم یخلع علی أحد من الوزراء کذلک إلی أن قدم طلائع بن رزیک، و لقب بالملک الصالح عندما خلع علیه للوزارة، و جعل فی خلعته السیف و الطیلسان المقوّر.
قال ابن المأمون: و فی یوم الجمعة ثانیة، یعنی ثانی ذی الحجة یعنی سنة خمس عشرة و خمسمائة: خلع علی القائد ابن فاتک البطائحی من الملابس الخاص الشریفة فی فردکم مجلس الکعبة، و طوّق بطوق ذهب مرصع و سیف ذهب کذلک، و سلم علی الخلیفة الآمر بأحکام اللّه، و أمر الخلیفة الأستاذین المحنکین بالخروج بین یدیه و أن یرکب من المکان الذی کان الأفضل بن أمیر الجیوش یرکب منه، و مشی فی رکابه القوّاد علی دعاة من تقدّمه و خرج بتشریف الوزارة یعنی: من باب الذهب، و دخل من باب العید راکبا، و جری الحکم فیه علی ما تقدّم للأفضل و وصل إلی داره، فضاعف الرسوم، و أطلق الهبات.
و لما کان یوم الاثنین خامس ذی الحجة اجتمع أمراء الدولة لتقبیل الأرض بین یدی الخلیفة الآمر علی العادة التی قرّرها مستجدّة، و استدعی الشیخ أبا الحسن بن أبی أسامة، فلما حضر أمر بإحضار السجل للأجل الوزیر المأمون من یده، فقبله و سلمه لزمام القصر، و أمر الخلیفة الوزیر المأمون بالجلوس عن یمینه، و قری‌ء السجل علی باب المجلس، و هو أوّل سجل قری‌ء فی هذا المکان، و کانت سجلات الوزراء قبل ذلک تقرأ بالإیوان، و رسم للشیخ أبی الحسن أن ینقل النسبة للأمراء، و المحنکین من الأمراء إلی المأمونی للناس أجمع، و لم یکن أحد منهم ینتسب للأفضل، و لا لأمیر الجیوش، و قدّمت الدواة للمأمون، فعلم فی مجلس الخلیفة، و تقدّمت الأمراء، و الأجناد فقبلوا الأرض، و شکروا علی هذا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 348
الإحسان، و أمر الخلیفة بإحضار الخلع لحاجب الحجاب حسام الملک، و طوّق بطوق ذهب، و سیف ذهب، و منطقة ذهب، ثم أمر بالخلع للشیخ أبی الحسن بن أبی أسامة باستمراره علی ما بیده من کتابة الدست الشریف، و شرفه بالدخول إلی مجلس الخلیفة، ثم استدعی الشیخ أبا البرکات بن أبی اللیث، و خلع علیه بدلة مذهبة، و کذلک أبو الرضی سالم ابن الشیخ أبی الحسن، و کذلک أبو المکارم أخوه، و أبو محمد أخوهما، ثم أبو الفضل بن المیدمیّ، و وهبه دنانیر کثیرة بحکم أنه الذی قرأ السجل، و خلع علی الشیخ أبی الفضائل بن أبی اللیث، صاحب دفتر المجلس، ثم استدعی عدی الملک سعید بن عماد الضیف متولی أمور الضیافات، و الرسل الواصلین إلی الحضرة من مجلس الأفضل، و لا یصل لعتبته أحد لا حاجب الحجاب، و لا غیره سوی عدی الملک هذا، فإنه کان یقف من داخل العتبة، و کانت هذه الخدمة فی ذلک الوقت من أجل الخدم و أکبرها، ثم عادت من أهون الخدم، و أقلها، فعند ذلک قال القاضی أبو الفتح بن قادوس: یمدح الوزیر المأمون عند مثوله بین یدیه و قد زید فی نعوته:
قالوا أتاه النعت و هو السید المأمون حقا و الأجلّ الأشرف
و مغیث أمة أحمد و مجیرهاما زادنا شیئا علی ما نعرف
قال: و لما استمرّ حسن نظر المأمون للدولة، و جمیل أفعاله، بلغ الخلیفة الآمر بأحکام اللّه، فشکره و أثنی علیه فقال له المأمون: ثمّ کلام یحتاج إلی خلوة، فقال الخلیفة:
تکون فی هذا الوقت، و أمر بخلوّ المجلس، فعند ذلک مثل بین یدی الخلیفة، و قال له: یا مولانا امتثالنا الأمر صعب، و مخالفته أصعب، و ما یتسع خلافه قدّام أمراء دولته، و هو فی دست خلافته، و منصب آبائه و أجداده، و ما فی قوای ما یرومه منی، و یکفینی هذا المقدار، و هیهات أن أقوم به و الأمر کبیر، فعند ذلک تغیر الخلیفة، و أقسم إن کان لی وزیر غیرک، و هو فی نفسی من أیام الأفضل، و هو مستمرّ علی الاستعفاء، إلی أن بان له التغیر فی وجه الخلیفة، و قال: ما اعتقدت أنک تخرج عن أمری، و لا تخالفنی فقال له المؤمون عند ذلک:
لی شروط، و أنا أذکرها، فقال له: مهما شئت اشترط، فقال له: قد کنت بالأمس مع الأفضل و کان قد اجتهد فی النعوت، و حل المنطقة، فلم أفعل فقال الخلیفة: علمت ذلک فی وقته، قال: و کان أولاده یکتبون إلیه بما یعلمه مولای من کونی قد خنته فی المال و الأهل، و ما کان و اللّه العظیم ذلک منی یوما قط، ثم مع ذلک معاداة الأهل جمیعا و الأجناد، و أرباب الطیالس، و الأقلام، و هو یعطینی کل رقعة تصل إلیه منهم، و ما سمع کلام أحد منهم فیّ، فعند ذلک، قال له الخلیفة: فإذا کان فعل الأفضل معک ما ذکرته إیش یکون فعلی أنا، فقال المأمون: یعرّفنی المولی ما یأمر به، فأمتثله بشرط أن لا یکون علیه زائد، فأوّل ما ابتدأ به أن قال: أرید الأموال لا تجبی إلا بالقصر و لا تصل الکسوات من الطراز و الثغور إلّا إلیه، و لا تفرّق إلّا منه، و تکون أسمطة الأعیاد فیه، و یوسع فی رواتب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 349
القصور من کل صنف و زیادة رسم مندیل الکمّ، فعند ذلک قال له المأمون: سمعا و طاعة، أما الکسوات و الجبایة من الأسمطة، فما تکون إلّا بالقصور، و أما توسعة الرواتب فما ثم من یخالف الأمر، و أما زیادة رسم مندیل الکم، فقد کان الرسم فی کل یوم ثلاثین دینارا، یکون فی کل یوم مائة دینار، و مولانا سلام اللّه علیه یشاهد ما یعمل بعد ذلک فی الرکوبات، و أسمطة الأعیاد، و غیرها فی سائر الأیام، ففرح الخلیفة، و عظمت مسرّته، ثم قال المأمون: أرید بهذا مسطورا بخط أمیر المؤمنین، و یقسم لی فیه بآبائه الطاهرین أن لا یلتفت لحاسد، و لا مبغض، و مهما ذکر فیّ یطلعنی علیه، و لا یأمر فیّ بأمر سرّا، و لا جهرا، یکون فیه ذهاب نفسی، و انحطاط قدری، و هذه الإیمان باقیة إلی وقت وفاتی فإذا توفیت تکون لأولادی، و لمن أخلفه بعدی، فحضرت الدواة، و کتب ذلک جمیعه، و أشهد اللّه تعالی فی آخرها علی نفسه، فعندما حصل الخط بید المأمون وقف، و قبل الأرض، و جعله علی رأسه، و کان الخط بالأیمان نسختین: إحداهما فی قصبة فضة، قال: فلما قبض علی المأمون فی شهر رمضان سنة تسع و عشرین و خمسمائة أنفذ الخلیفة الآمر بأحکام اللّه یطلب الإیمان، فنفذ له التی فی القصبة الفضة، فحرّقها لوقتها، و بقیت النسخة الأخری عندی، فعدمت فی الحرکات التی جرت.
و قال ابن میسر: فی حوادث سنة خمس عشرة و خمسمائة، و فیها: تشرّف القائد أبو عبد اللّه محمد ابن الأمیر نور الدولة أبی شجاع فاتک ابن الأمیر منجد الدولة أبی الحسن مختار المستنصری المعروف: بابن البطائحیّ فی الخامس من ذی الحجة، و کان قبل ذلک عند الأفضل استاداره، و هو الذی قدّمه إلی هذه المرتبة، و استقرّت نعوته فی سجله المقرّر علی کافة الأمراء، و الأجناد بالأجل المأمون، تاج الخلافة، عز الإسلام، فخر الأنام، نظام الدین و الدنیا، ثم نعت بما کان ینعت به الأفضل، و هو السید الأجل المأمون أمیر الجیوش سیف الإسلام، ناصر الأنام، کافل قضاة المسلمین، و هادی دعاة المؤمنین.
و لما کان یوم الثلاثاء التاسع من ذی الحجة، و هو یوم الهناء بعید النحر، جلس المأمون فی داره عند أذان الصبح، و جاء الناس لخدمته للهناء علی طبقاتهم من أرباب السیوف، و الأقلام، ثم الأمراء، و الأستاذون المحنکون، و الشعراء بعدهم، فرکب إلی القصر، و أتی باب الذهب، فوجد المرتبة المختصة بالوزارة، و قد هیئت له فی موضعها الجاری به العادة، و أغلق الباب الذی عندها علی الرسم المعتاد لوزراء السیوف و الأقلام، و هذا الباب یعرف: بباب السرداب، فعند ما شاهد الحال فی المرتبة توقف عن الجلوس علیها، لأنها حالة لم یجر معه حدیث فیها، ثم ألجأته الضرورة لأجل حضور الأمراء إلی الجلوس فجلس علیها، و جلس أولاده الثلاثة عن یمینه، و أخواه عن یساره، و الأمراء المطوّقون خاصة دون غیرهم قیام بین یدیه، فإنه لا یصل أحد إلی هذا المکان سواهم، فلم یکن بأسرع من أن فتح الباب، و خرج عدّة من الأستاذین المحنکین بسلام أمیر المؤمنین،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 350
و خرج إلیه الأمیر الثقة متولی الرسالة، و زمام القصور، فعند حضوره وقف له أولاد المأمون، و أخواه فطلع عند خروجه قبالة المرتبة، و قال أمیر المؤمنین یردّ علی السید الأجل المأمون السلام، فوقف عند ذلک المأمون، و قبل الأرض، و عاد فجلس مکانه، و تأخر الأمیر إلی أن نزل من المصطبة، و قبل الأرض، و قبل ید المأمون، و دخل من فوره من الباب، و أغلق الباب علی حاله علی ما کان علیه الأفضل، و کان الأفضل یقول: ما أزال أعدّ نفسی سلطانا حتی أجلس علی تلک المرتبة، و الباب یغلق فی وجهی و الدخان فی أنفی، فإن الحمام کانت من حلف الباب فی السرداب، ثم فتح الباب، و عاد الثقة، و أشار بالدخول إلی القصر فدخل إلی المکان الذی هیئ له، و عاد لمجلس الوزارة، و بقی الأمراء بالدهالیز إلی أن جلس الخلیفة.
و استفتح القرّاء، و استدعی المأمون، فحضر بین یدیه و سلم علیه أولاده، و إخوته و أحلّ الأمراء علی قدر طبقاتهم، أوّلهم: أرباب الأطواق، و یلیهم أرباب العماریات، و الأقصاب، ثم الضیوف و الأشراف، ثم دخل دیوان المکاتبات و سلم بهم الشیخ أبو الحسن ابن أبی أسامة، ثم دیوان الإنشاء، و سلم بهم الشریف ابن أنس الدولة، ثم بقیة الطالبیین من الأشراف، ثم سلم القاضی ابن الرسعنیّ بشهوده و الداعی ابن عبد الحق بالمؤمنین، ثم سلم القائد مقبل مقدّم الرکاب الآمری، بجمیع المقدّمین الآمریة، ثم سلم بعدهم الشیخ أبو البرکات بن أبی اللیث متولی دیوان المملکة ثم دخل الأجناد من باب البحر، و سلم کل طائفة بمقدّمها، فلما انقضی ذلک دخل والی القاهرة، و والی مصر و سلم کل منهما ببیاض أهل البلدین.
ثمّ دخل البطرک بالنصاری، و فیهم کتاب الدولة من النصاری، و رئیس الیهود، و معه الکتاب من الیهود، ثم سلم المقربون، و قد قارب القصر، و دخل الشعراء علی طبقاتهم، و أنشد کل منهم ما سمحت به قریحته.
قال: فکان هذا رتبة الوزیر المأمون، قال ابن المأمون: و أما ما قرّر للوزارة عینا فی الشهر بغیر إیجاب بل یقبض من بیت المال، فهو ثلاثة آلاف دینار. تفصیلها: ما هو علی حکم النیابة فی العلامة: ألف دینار، و ما هو علی حکم الراتب: ألف و خمسمائة دینار، و ما هو عن مائة غلام برسم مجلسه، و خدمته لکل غلام: خمسة دنانیر فی الشهر، فأما الغلمان الرکابیة، و غیرهم من الفرّاشین و الطباخین، فعلی حکم ما یرغب فی إثباته، و فی السنة من الإقطاعات: خمسون ألف دینار منها: دهشور، و جزیرة الذهب، و بقیة الجملة صفقات، و من البساتین ثلاثة: بستان لأمیر تمیم، و بستانان بکوم أشفین.
و من القوت یعنی القمح، و من القضم یعنی الشهیر و البرسیم فی السنة: عشرون ألف إردب قمحا و شعیرا، و من الغنم برسم مطابخه، ساقه من المراحات ثمانیة آلاف رأس، و أما
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 351
الحیوان و الأحطاب، و جمیع التوابل العال منها و الدون، فمهما استدعاه متولی المطابخ یطلق من دار أفتکین، و شون الأحطاب، و غیر ذلک، و قد تقدّم مقرّر کسوة الوزارة فی العیدین، و فصلی الشتاء و الصیف، و موسم عید الغدیر و فتخ الخلیج، و غیر ذلک من غرّتی شهر رمضان، و أوّل العام و غیره، کما سیرد فی موضعه من هذا الکتاب، إن شاء اللّه تعالی.
و قد استقصیت سیر الوزراء فی کتابی الذی سمیته تلقیح العقول، و الآراء فی تنقیح أخبار الجلة الوزراء. فانظره.

ذکر الحجر التی کانت برسم الصبیان الحجریة

و کان بجوار دار الوزارة مکان کبیر یعرف: بالحجر: جمع حجرة فیها الغلمان المختصون بالخلفاء، کما أدرکنا بالقلعة البیوت التی کان یقال لها: الطباق، و کانت هذه الحجر من جانب حارة الجوّانیة، و إلی حیث المسجد الذی یعرف: بمسجد القاصد تجاه باب الجامع الحاکمیّ الذی یفضی إلی باب النصر، فمن حقوق هذه الحجر: دار الأمیر بهادر الیوسفیّ السلاحدار الناصریّ، التی تجاور المسجد الکائن علی یمنة من سلک من باب الجوّنیة طالبا باب النصر، و منها الحوض المجاور لهذه الدار، و دار الأمیر أحمد قریب الملک الناصر محمد بن قلاون، و المسجد المعروف بالنخلة، و ما بجواره من القاعتین اللتین تعرف إحداهما: بقاعة الأمیر علم الدین سنجر الجاولیّ، و ما فی جانبها إلی مسجد القاصد، و ما وراء هذه الدور، و کان لهؤلاء الحجریة: إصطبل برسم دوابهم سیأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی.
و ما زالت هذه الحجر باقیة بعد انقضاء دولة الخلفاء الفاطمیین إلی ما بعد السبعمائة، فهدمت و ابتنی الناس مکانها الأماکن المذکورة.
قال ابن أبی طیّ: عن المعز لدین اللّه، و جعل کل ماهر فی صنعة صانعا للخاص، و أفرد لهم مکانا برسمهم، و کذلک فعل بالکتاب و الأفاضل، و شرط علی ولاة الأعمال عرض أولاد الناس بأعمالهم، فمن کان ذا شهامة، و حسن خلقة أرسله لیخدم فی الرکاب، فسیروا إلیه عالما من أولاد الناس، فأفرد لهم دورا، و سماها الحجر.
و قال ابن الطویر: و کوتب الأفضل بن أمیر الجیوش من عسقلان باجتماع الفرنج، فاهتمّ للتوجه إلیها، فلم یبق ممکنا من مال و سلاح، و خیل و رجال و استناب أخاه المظفر:
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 352
أبا محمد جعفر بن أمیر الجیوش بدر بین یدی الخلیفة مکانه، و قصد استنفاذ الساحل من ید الفرنج، فوصل إلی عسقلان، و زحف علیها بذلک العسکر، فخذل من جهة عسکره، و هی نوبة النصة، و علم أنّ السبب فی ذلک من جنده، و لما غلب حرّق جمیع ما کان معه من الآلات، و کان عند الفرنج شاعر منتجع إلیهم فقال: یخاطب صنجل ملک الفرنج:
نصرت بسیفک دین المسیح‌فللّه درک من صنجل
و ما سمع الناس فیما رووه‌بأقبح من کسرة الأفضل
فتوصل الأفضل إلی ذبح هذا الشاعر، و لم ینتفع بعد هذه النوبة أحد من الأجناد بالأفضل، و حظر علیهم النعوت و لم یسمع لأحد منهم کلمة، و أنشأ سبع حجر، و اختار من أولاد الأجناد ثلاثة آلاف راجل، و قسمهم فی الحجر، و جعل لکل مائة زمانا، و نقیبا، وزم الکل بأمیر یقال له: الموفق، و أطلق لکل منهم ما یحتاج إلیه من خیل و سلاح، و غیره.
و عنی بهؤلاء الأجناد، فکان إذا دهمه أمر مهمّ جهزهم إلیه مع الزمام الأکبر.
و قال ابن المأمون: و کان من جملة الحجریة الذین یحضرون السماط رجل یعرف بابن زحل، و کان یأکل خروفا کبیرا مشویا، و یستوفیه إلی آخره، ثم یقدّم له صحن کبیر من القصور المعمولة بالسکرة، و جمیع صنوف الحیوانات علی اختلاف أجناسها، ما لم یعمل قط مثله من الأطعمة، فیأکل معظمه، و کان یقعد فی طرف المدوّرة، حتی یکون بالقرب من نظر الخلیفة، لا لمیزته، و کان من الأجناد و أسر فی أیام الأفضل، و قیده الفرنجیّ الذی أسره، و عذبه و طالت مدّته فی الأسر، و کان فقیرا، فاتفق أن ذکر للفرنجیّ کثرة أکله، فأراد أن یمتحنه، فقال له: أحضر لی عجلا أکبر عجل عندکم آکله إلی آخره، فضحک منه الفرنجیّ، و نقص عقله و أتاه بعجل کبیر، و یقال: بخنزیر، فقال له: اذبحه و اشوه و ائتنی معه بجرّة خل، ثم قال: إذا أکلته ما یکون لی عندک، فغلط الفرنجیّ، و قال له: أطلقک حتی تمضی إلی أهلک، فاستحلفه علی ذلک، و غلظ علیه الیمین، و أحضر الفرنجیّ عدّة من أصحابه لیشاهدوا فعله، فلما استوفی العجل جمیعه صلّب کل من الحاضرین علی وجهه و تعجب من فعله، و أطلقه، فقال: أخاف من أن یعتقد أننی هربت فأرد إلیکم، فأحضر الفرنجیّ من العربان من سلمه إلیهم، و لم یشعر به إلّا بباب عسقلان، فطلع منها، و أعفی بعد ذلک من السفر، و بقی برسم الأسمطة.
و قال ابن عبد الظاهر: الحجر قریب من باب النصر، و هو مکان کبیر فی صف دار الوزارة إلی جانبه باب القوس الذی یسمی: باب النصر قدیما علی یمنة الخارج من القاهرة، کان تربی فیه جماعة من الشباب یسمون: صبیان الحجر، یکونون فی جهات متعدّدة، و هم یناهزون خمسة آلاف نسمة، و لکل حجرة اسم تعرف به، و هی المنصورة، و الفتح و الجدیدة، و غیر ذلک مفردة لهم، و عندهم سلاحهم، فإذا جرّوا خرج کل منهم لوقته لا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 353
یکون له ما یمنعه، و کانوا فی ذلک علی مثال الذؤابة، و الأستار، و کانوا إذا سمی الرجل منهم: بعقل و شجاعة خرج من هناک إلی الأمرة، أو التقدمة مثل علیّ بن السلار، و غیره، و لا یأوی أحد منهم إلا بحجرته بفرسه، و عدّته و قماشه، و للصبیان الحجریة حجرة مفردة، علیهم أستاذون یبیتون عندهم، و خدّام برسمهم.

ذکر المناخ السعید

و کان من وراء القصر الکبیر فیما یلی ظهر دار الوزارة الکبری و الحجر: المناخ، و هو موضع برسم طواحین القمح التی تطحن جرایات القصور، و برسم مخازن الأخشاب، و الحدید و نحو ذلک.
قال ابن الطویر: و أما المناخات ففیها من الحواصل، ما لا یحصره، إلّا القلم من الأخشاب، و الحدید، و الطواحین النجدیة، و الغشیمة، و آلات الأساطیل من الأسلحة المعمولة بید الفرنج القاطنین فیه، و القنب، و الکتان، و المنجنیقات المعدّة، و الطواحین الدائرة برسم الجرایات المقدّم ذکرها، و الزفت فی المخازن الذی علیه الأتربة، و لا ینقطع إلّا بالمعاول، و قد أدرکت هذه الدولة، یعنی دولة بنی أیوب منه شیئا کثیرا فی هذا المکان انتفع به، و إلیه یأوی الفرنج فی بیوت برسمهم، و کانت عدّتهم کثیرة، ففیه من النجارین و الجزارین، و الدهانین و الخبازین و الخیاطین، و الفعلة، و من العجانین، و الطحانین فی تلک الطواحین، و الفرّانین فی أفران الجرایات، و فی هذا المکان مادّة أکثر أهل الدولة، و حامیة أمیر من الأمراء و مشارفه من العدول، و فیه أیضا شاهد النفقات، و عامل یتولی التنفیذ مع المشارف، و عامل برسم نظم الحساب من تعلقاتهما بجار غیر جواریهم، لأنّ أوقاتهم مستغرقة فی مباشرة الإطلاقات و غیرها، و ذکر ابن الطویر: أن المأمون بن البطائحیّ استجدّ طواحین برسم الرواتب.

ذکر اصطبل الطارمة

الطارمة: بیت من خشب، و هو دخیل، و کان بجوار القصر الکبیر، تجاه باب الدیلم من شرقیّ الجامع الأزهر اصطبل.
قال ابن الطویر: و کان لهم اصطبلان أحدهما یعرف بالطارمة یقابل قصر الشوک، و الآخر بحارة زویلة یعرف بالجمیزة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 354
و کان للخلیفة الحاضر ما یقرب من ألف رأس فی کل اصطبل، النصف من ذلک منها، ما هو برسم الخاص، و منها ما یخرج برسم العواری لأرباب الرتب، و المستخدمین دائما، و منها ما یخرج أیام المواسم، و هی التغیرات المتقدّم ذکر إرسالها لأرباب الرتب، و الخدم، و المرتب لکل اصطبل منها لکل: ثلاثة أرؤس سائس واحد ملازم، و لکل واحد منها: شدّاد برسم تسییرها، و فی کل اصطبل بئر بساقیة، تدور إلی أحواض، و مخازن فیها الشعیر، و الأقراط الیابسة المحمولة من البلاد إلیها، و لکل عشرین رجلا من السّواس: عریف یلتزم درکهم بالضمان لأنهم الذین یتسلمون من خزائن السروج المرکبات بالحلی، و یعیدونها إلیها کما تقدّم ذکره فی خزائن السروج و لکل من الاصطبلین: رائض کأمیر أخور، و لهما میرة، و جامکیة متسعة، و للعرفاء علی السّواس میرة، و للجماعات الجرایات من القمح، و الخبز خارجا عن الجامکیات، فإذا بقی لأیام المواسم التی یرکب فیها الخلیفة بالمظلة مدّة أسبوع أخرج إلی کل رائض فی الإصطبل مع أستاذ مظلة دیبقیّ مرکبة علی قنطاریة مدهونة، و یختص الرائض علی ما یرکبه الخلیفة إما فرسین أو ثلاثة، و علیهما المرکبات الحلی التی یرکبها الخلیفة، فیرکبها الرائض بحائل بینه و بین السرج، و یرکب الأستاذ بغلة مظلة، و یحمل تلک المظلة، و یسیر فی براح الاصطبل، و فیه سعة عظیمة مارّا، و عائدا و حولها البوق و الطبل، فیکرّر ذلک عدّة دفعات فی کل یوم مدّة ذلک الأسبوع، لیستقرّ ما یرکبه الخلیفة من الدواب علی ذلک، و لا ینفر منه فی حال الرکوب علیه، فیعمل کذلک فی کل اصطبل من الاصطبلین، و الدواب البغلة التی تتهیأ، هی التی یرکبها الخلیفة، و صاحب المظلة یوم الموسم، و لا یختل ذلک.
و یقال: إنه ما راثت دابة و لا بالت، و الخلیفة راکبها، و لا بغلة صاحب المظلة أیضا إلی حین نزولهما عنهما، و کان فی الساحل بطریق مصر من القاهرة فی البساتین المنسوبة إلی ملک صارم الدین حللبا: شونتان مملوءتان تبنا معبیتان کتعبیته فی المراکب کالجبلین الشاهقین، و لهما مستخدمون حام، و مشارف، و عامل بجامکیة جیدة تصل بذلک المراکب التبانة المؤهلة له، من موظف الأتبان بالبلاد الساحلیة و غیرها، مما یدخل إلیه فی أیام النیل، و لها رؤساء، و أمرها جار فی دیوان العمائر، و الصناعة، و الإنفاق منها بالتوقیعات السلطانیة للاصطبلات المذکورة و غیرها من الأواسی الدیوانیة، و عوامل بساتین الملک، و إذا جری بین المستخدمین خلف فی الشنف التبن المعتبر، عادوا إلی قبضه بالوزن، فیکون الشنف التبن: ثلثمائة و ستین رطلا بالمصریّ، نقیا و إذا أنفقوا دریسا قد تغیرت صورة قته کان عن القتة اثنا عشر رطلا، و لم یزل ذلک کذلک إلی آخر وقته، و مما یخبر عنهم أنهم لم یرکبوا حصانا أدهم قط، و لا یرون إضافته إلی دوابهم بالاصطبلات، و قال ابن عبد الظاهر:
اصطبل الطارمة: کان اصطبلا للخلیفة، فلما زالت تلک الأیام اختط و بنی آدرا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 355

ذکر دار الضرب و ما یتعلق بها

و کان بجوار خزانة الدرق التی هی الیوم: خان مسرور الکبیر، دار الضرب، و موضعها حینئذ کان بالقشاشین التی تعرف الیوم: بالخرّاطین، و صار مکان دار الضرب الیوم: درب یعرف بدرب: الشمسیّ فی وسط سوق السقطیین المهامزیین، و باب هذا الدرب: تجاه قیساریة العصفر، فإذا دخلت هذا الدرب، فما کان علی یسارک من الدور فهو موضع دار الضرب، و بجوارها دار الوکالة الحافظیة، فجعلت الحوانیت التی علی یمنة من سلک من رأس الخرّاطین تجاه سوق العنبر طالبا الجامع الأزهر فی ظهر دار الضرب، و أنشأ هذه الحوانیت، و ما کان یعلوها من البیوت الأمیر المعظم: خمرتاش الحافظیّ، و جعلها وقفا، و قال فی کتاب وقفها: و حدّ هذه الحوانیت الغربیّ ینتهی إلی دار الضرب، و إلی دار الوکالة، و قد صارت هذه الحوانیت الآن من جملة أوقاف المدرسة الجمالیة مما اغتصب من الأوقاف، و ما زالت دار الضرب هذه فی الدولة الفاطمیة باقیة إلی أن استبدّ السلطان صلاح الدین، فصارت دار الضرب حیث هی الیوم، کما تقدّم ذکره، و کان لدار الضرب المذکورة فی أیامهم أعمال و یعمل بها دنانیر الغرّة، و دنانیر خمیس العدس، و یتولاها قاضی القضاة لجلالة قدرها عندهم.
قال ابن المأمون: و فی شوّال منها، و هی سنة ست عشرة و خمسمائة أمر الأجل ببناء دار الضرب بالقاهرة المحروسة لکونها مقرّ الخلافة و موطن الإمامة، فبنیت بالقشاقشین:
قبالة المارستان، و سمیت بالدار الآمریة، و استخدم لها العدول، و صار دینارها أعلی عیارا من جمیع ما یضرب بجمیع الأمصار، انتهی.
و کانت دار الضرب المذکورة تجاه المارستان، فکان المارستان، بجوار خزانة الدرق، فما عن یمینک الآن إذا سلکت من رأس الخرّاطین، فهو موضع دار الضرب، و دار الوکالة هکذا إلی الحمام التی بالخرّاطین، و ما وراءها، و ما عن یسارک، فهو موضع المارستان.
قال ابن عبد الظاهر: فی أیام المأمون بن البطائحی وزیر الآمر بأحکام اللّه بنیت دار الضرب فی القشاشین قبالة المارستان الذی هناک و سمیت بالدار الآمریة.
دار العلم الجدیدة : و کان بجوار القصر الکبیر الشرقیّ: دار فی ظهر خزانة الدرق من باب تربة الزعفران لما أغلق الأفضل بن أمیر الجیوش دار العلم التی کان الحاکم بأمر اللّه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 356
فتحها فی باب التبانین اقتضی الحال بعد قتله إعادة دار العلم، فامتنع الوزیر المأمون من إعادتها فی موضعها، فأشار الثقة زمام القصور بهذا الموضع، فعمل دار العلم فی شهر ربیع الأوّل سنة سبع عشرة و خمسمائة، و ولاها لأبی محمد حسن بن أدم، و استخدم فیها مقرئین و لم تزل دار العلم عامر حتی زالت الدولة الفاطمیة.
قال ابن عبد الظاهر: رأیت فی بعض کتب الأملاک القدیمة ما یدل علی أنها قریبة من القصر النافعیّ، و کذا ذکر لی السید الشریف الحلبیّ، أنها دار ابن أزدمر المجاورة لدار سکنی الآن، خلف فندق مسرور الکبیر، و کذلک قال لی والدی رحمه اللّه، و قد بناها جمال الدین الإستادار الحلبیّ: دارا عظیمة غرم علیها مائة ألف، و أکثر من ذلک علی ما ذکره، انتهی. و موضع دار العلم هذه دار کبیرة ذات زلاقة بجوار درب ابن عبد الظاهر قریبا من خان الخلیلی، بخط الزراکشة العتیق.
موسم أوّل العام: قال ابن المأمون، و أسفرت غرّة سنة سبع عشرة، و خمسمائة، و بادر المستخدمون فی الخزائن، و صنادیق الإنفاق بحمل ما یحضر بین یدی الخلیفة من عین، و ورق من ضرب السنة المستجدّة، و رسم جمیع من یختص به من إخوته، و جهاته، و قرابته، و أرباب الصنائع، و المستخدمات، و جمیع الأستاذین العوالی و الأدوان، و ثنوا بحمل ما یختص بالأجلّ المأمون، و أولاده، و إخوته، و استأذنوا علی تفرقة ما یختص بالأجلّ المأمون، و أولاده، و الأصحاب و الحواشی و الأمراء، و الضیوف، و الأجناد، فأمروا بتفرقته، و الذی اشتمل علیه المبلغ فی هذه السنة نظیر ما کان قبلها، و جلس المأمون باکرا علی السماط بداره، و فرّقت الرسوم علی أرباب الخدم و الممیزین من جمیع أصنافه علی ما تضمنته الأوراق، و حضرت التعاشیر، و التشریفات، و زی الموکب إلی الدار المأمونیة، و تسلم کل من المستخدمین المدارج بأسماء من شرف بالحجبة، و مصفات العساکر، و ترتیب الأسمطة، و أصمد کل منهم إلی شغله، و توجه لخدمته، ثم رکب الخلیفة، و استدعی الوزیر المأمون، ثم خرج من باب الذهب، و قد نشرت مظلته، و خدمت الرهجیة، و رتب الموکب و الجنائب، و مصفات العساکر عن یمینه و شماله، و جمیع تجار البلدین من الجوهریین و الصیارف، و الصاغة، و البزازین، و غیرهم قد زینوا الطریق بما تقتضیه تجارة کل منهم، و معاشه لطلب البرکة بنظر الخلیفة.
و خرج من باب الفتوح، و العساکر فارسها و راجلها بتجملها و زیها، و أبواب حارات العبید معلقة بالستور، و دخل من باب النصر و الصدقات تعمّ المساکین، و الرسوم تفرّق علی المستقرّین إلی أن دخل من باب الذهب، فلقیه المقرئون بالقرآن الکریم فی طول الدهالیز إلی أن دخل خزانة الکسوة الخاص، و غیر ثیاب الموکب بغیرها، و توجه إلی تربة آبائه للترحیم علی عادته، و بعد ذلک إلی ما رآه من قصوره علی سبیل الراحة، و عبیت الأسمطة،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 357
و جری الحال فیها، و فی جلوس الخلیفة، و من جرت عادته، و تهیئة قصور الخلافة، و تفرقة الرسوم علی ما هو مستقرّ.
و توجه الأجلّ المأمون إلی داره، فوجد الحال فی الأسمطة علی ما جرت به العادة و التوسعة فیها أکثر مما تقدّمها، و کذلک الهناء فی صبیحة الموسم بالدار المأمونیة و القصور، و حضر من جرت العادة بحضوره للهناء و بعدهم الشعراء علی طبقاتهم، و عادت الأمور فی أیام السلام، و الرکوبات، و ترتیبها علی المعهود، و أحضر کل من المستخدمین فی الدواوین ما یتعلق بدیوانه من التذاکر، و المطالعات مما تحتاج إلیه الدولة فی طول السنة، و ینعم به و یتصدّق و یحمل إلی الحرمین الشریفین من کل صنف علی ما فصل فی التذاکر علی ید المندوبین، و یحمل إلی الثغور و یخزن من سائر الأصناف ما یستعمل، و یباع فی الثغور و البلاد و الاستیمار و جریدة الأبواب، و تذکرة الطراز و التوقیع علیها.
و قال ابن الطویر: فإذا کان العشر الأخیر من ذی الحجة فی کل سنة انتصب کل من المستخدمین بالأماکن لإخراج آلات الموکب من الأسلحة و غیرها، فیخرج من خزائن الأسلحة ما یحمله صبیان الرکاب حول الخلیفة من الأسلحة، و هو الصماصم المصقولة المذهبة، مکان السیوف المحدّبة، و الدبابیس الکیمخت الأحمر و الأسود، و رؤوسها مدوّرة مضرّسة، و اللتوت کذلک و رؤوسها مستطیلة مضرّسة أیضا، و آلات یقال لها:
المستوفیات، و هی عمد حدید من طول ذراعین مربة الأشکال بمقابض مدوّرة فی أیدیهم بعدّة معلومة من کل صنف، فیتسلمها نقباؤهم، و هی فی ضمانهم، و علیهم إعادتها إلی الخزائن بعد تقضی الخدمة بها، و یخرج للطائفة من العبید الأقویاء السودان الشباب، و یقال لهم: أرباب السلاح الصفر، و هم ثلثمائة عبد لکل واحد حربتان بأسنة مصقولة تحتها جلب فضة کل اثنتین فی شرابة و ثلثمائة درقة بکوامخ فضة، یتسلم ذلک عرفاؤهم علی ما تقدّم، فیسلمونه للعبید لکل واحد حربتان و درقة.
ثم یخرج من خزانة التجمل، و هی من حقوق خزائن السلاح القصب الفضة برسم تشریف الوزیر، و الأمراء أرباب الرتب، و أزمّة العساکر، و الطوائف من الفارس، و الراجل و هی رماح ملبسة بأنابیب الفضة المنقوشة بالذهب إلّا ذراعین منها، فیشدّ فی ذلک الخالی من الأنابیب عدّة من المعاجر الشرب الملوّنة، و یترک أطرافها المرقومة مسبلة کالصناجق ، و برءوسها رمامین منفوخة فضة مذهبة و أهلة مجوّفة کذلک، و فیها جلاجل لها حس إذا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 358
تحرّکت، و تکون عدّتها ما یقرب من مائة، و من العماریات ، و هی شبه الکخاوات من الدیباج الأحمر، و هو أجلها و الأصفر و القرقوبیّ، و السقلاطون مبطنة مضبوطة بزنانیر حریر، و علی دائر التربیع منها: مناطق بکوامخ فضة مسمورة فی جلد نظیر عدد القصب، فیسیر من القصب عشرة، و من العماریات مثلها من الحمر خاصة، و یخرج للوزیر خاصة لواءان علی رمحین طویلین ملبسین، بمثل تلک الأنابیب و نفس اللواء ملفوف غیر منشور، و هذا التشریف یسیر أمام الوزیر، و هو للأمراء من ورائهم، ثم یسیر للأمراء أرباب الرتب فی الخدم، و أوّلهم صاحب الباب، و هو أجلهم خمس قصبات، و خمس عماریات، و یرسل لأسفهسلار العساکر أربع قصبات، و أربع عماریات من عدّة ألوان، و من سواهما من الأمراء علی قدر طبقاتهم: ثلاث ثلاث و اثنتان اثنتان، و واحدة واحدة، ثم یخرج من البنود الخاص الدیبقیّ المرقوم الملوّن برماح ملبسة بالأنابیب، و علی رؤوسها الرمامین، و الأهلة للوزیر خاصة، و دون هذه البنود مما هو من الحریر علی رماح غیر ملبسة و رؤوسها و رمامینها من نحاس مجوّف مطلیّ بالذهب، فتکون هذه أمام الأمراء المذکورین من تسعة إلی سبعة أذرع برأسها طلعة مصقولة، و هی من خشب القنطاریات داخلة فی الطلعة، و عقبها حدید مدوّر أسفل، فهی فی کف حاملها الأیمن، و هو یفتلها فیه فتلا متدارک الدوران، و فی یده الیسری تشابه کبیر یخطر بها، و عدّتها ستون مع ستین رجلا یسیرون رجالة فی الموکب یسیرون یمنة و یسرة.
ثم یخرج من النقارات حمل عشرین بغلا علی کل بغل ثلاث مثل نقارات الکوسات بغیر کوسات یقال لها طبول، فیتسلمها صناعها، و یسیرون فی الموکب اثنین اثنین و لها حس مستحسن، و کان لها میزة عندهم فی التشریف، ثم یخرج لقوم متطوّعین بغیر جار، و لا جرایة تقرب عدّتهم من مائة رجل لکل واحد درقة من درق اللمط ، و هی واسعة و سیف، و یسیرون أیضا رجالة فی الموکب هذا وظیفة خزائن السلاح.
ثم یحضر حامی خزائن السروج و هو من الأستاذین المحنکین إلیها مع مشارفها، و هو من الشهود المعدّلین، فیخرج منها برسم خاص الخلیفة من المرکبات الحلی ما هو برسم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 359
رکوبه، و ما یجنب فی موکبه مائة سرج، منها سبعون علی سبعین حصانا، و منها ثلاثون علی ثلاثین بغلة کل مرکب مصوغ من ذهب أو من ذهب و فضة، أو من ذهب منزل فیه المینا، أو من فضة منزلة بالمینا، و روادفها و قرابیسها من نسبتها، و منها ما هو مرصع بالجواهر الفائقة، و فی أعناقها الأطواق الذهب، و قلائد العنبر، و ربما یکون فی أیدی و أرجل أکثرها خلاخل مسطوحة دائرة علیها، و مکان الجلد من السروج الدیباج الأحمر و الأصفر، و غیرهما من الألوان و السقلاطون المنقوش بألوان الحریر، قیمة کل دابة، و ما علیها من العدّة ألف دینار، فیشرّف الوزیر من هذه بعشرة حصن لرکوبه و أولاده و إخوته، و من یعز علیه من أقاربه، و یسلم ذلک لعرفاء الاصطبلات بالعرض علیهم من الجرائد التی هی ثابتة فیها بعلاماتها فی أماکنها، و أعدادها، و عدد کل مرکب منقوش علیه مثل: أوّل و ثان و ثالث إلی آخرها کما هو مسطور فی الجرائد، فیعرف بذلک قطعة قطعة، و یسلمها العرفاء للشدّادین بضمان عرفائهم إلی أن تعود، و علیهم غرامة ما نقص منها، و إعادتها برمّتها.
ثم یخرج من الخزائن المذکورة لأرباب الدواوین المرتبین فی الخدم علی مقادیرهم مرکبات أیضا من الحلیّ دون ما تقدّم ذکره، و ما تقرب عدّته من ثلثمائة مرکب علی خیل و بغلات، و بغال یتسلمها العرفاء المتقدّم ذکرهم علی الوجه المذکور، و ینتدب حاجب یحضر علی التفرقة لفلان، و فلان من أرباب الخدم سیفا و قلما، فیعرّف کل شدّاد صاحبه، فیحضر إلیه بالقاهرة و مصر سحر یوم الرکوب، و لهم من الرکاب رسوم من دینار إلی نصف دینار إلی ثلث دینار، فإذا تکمل هذا الأمر، و سلم أیضا الجمالون بالمناخات أغشیة العماریات، و یکون إراحة فی ذلک کله إلی آخر الثامن و العشرین من ذی الحجة، و أصبح الیوم التاسع و العشرون من سلخه علی رأی القوم، عزم الخلیفة علی الجلوس فی الشباک لعرض دوابه الخاص المقدّم ذکرها، و یقال له: یوم عرض الخیل، فیستدعی الوزیر بصاحب الرسالة، و هو من کبار الأستاذین المحنکین، و فصحائهم و عقلائهم و محصلیهم، فیمضی إلی استدعائه فی هیئة المسرعین علی حصان دهراج امتثالا لأمر الخلیفة بالإسراع علی خلاف حرکته المعتادة، فإذا عاد مثل بین یدی الخلیفة، و أعلمه باستدعائه الوزیر، فیخرج راکبا من مکانه فی القصر و لا یرکب أحد فی القصر إلّا الخلیفة، و ینزل فی السدلا بدهلیز باب الملک الذی فیه الشباک، و علیه من ظاهره للناس ستر، فیقف من جانبه الأیمن زمام القصر ، و من جانبه الأیسر صاحب بیت المال، و هما من الأستاذین المحنکین فیرکب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 360
الوزیر من داره، و بین یدیه الأمراء، فإذا وصل إلی باب القصر ترجل الأمراء، و هو راکب، و یکون دخوله فی هذا الیوم من باب العید، و لا یزال راکبا إلی أوّل باب من الدهالیز الطوال، فینزل هناک، و یمشی فیها، و حوالیه حاشیته، و غلمانه و أصحابه، و من یراه من أولاده، و أقاربه و یصل إلی الشباک فیجد تحته کرسیا کبیرا من کراسی البلق الجید، فیجلس علیه، و رجلاه تطأ الأرض، فإذا استوی جالسا رفع کل أستاذ الستر من جانبه، فیری الخلیفة جالسا فی المرتبة الهائلة، فیقف و یسلم و یخدم بیده إلی الأرض ثلاث مرات، ثم یؤمر بالجلوس علی کرسیه، فیجلس و یستفتح القرّاء بالقراءة قبل کل شی‌ء بآیات لائقة بذلک الحال، مقدار نصف ساعة، ثم یسمر الأمراء، و یسرع فی عرض الخیل، و البغال الخاص المقدّم ذکرها دابة دابة، و هی هادئة کالعرائس بأیدی شدّادیها إلی أن یکمل عرضها، فیقرأ القرّاء لختم ذلک الجلوس، و یرخی الأستاذان الستر، فیقدّم الوزیر و یدخل إلیه، و یقبل یدیه و رجلیه و ینصرف عنه إلی داره، فیرکب من مکان نزوله، و الأمراء بین یدیه لوداعه إلی داره رکبانا و مشاة، إلی قریب المکان فإذا صلی الخلیفة الظهر بعد انفضاض ما تقدّم، جلس لعرض ما یلبسه فی عید تلک اللیلة، و هو یوم افتتاح العام بخزائن الکسوات الخاص، و یکون لباسه فیه البیاض غیر الموشح فیعین علی مندیل خاص و بدلة، فأما المندیل: فیسلم الشادّ التاج الشریف، و یقال له شدّة الوقار ، و هو من الأستاذین المحنکین، و له میزة لممارسة ما یعلو تاج الخلیفة فیشدّها شدّة غریبة لا یعرفها سواه، شکل الإهلیلجة، ثم یحضر إلیه الیتیمة، و هی جوهرة عظیمة لا یعرف لها قیمة فتنظم هی و حوالیها ما دونها من الجواهر، و هی موضوعة فی الحافر، و هو شکل الهلال من یاقوت أحمر لیس له مثال فی الدنیا، فتنظم علی خرقة حریر أحسن وضع، و یخیطها شادّ التاج بخیاطة خفیفة ممکنة، فتکون بأعلی جبهة الخلیفة.
و یقال: إنّ زنة الجوهرة سبعة دراهم، وزنة الحافر: أحد عشر مثقالا، و بدائرها قصبة زمرّذ ذبابی له قدر عظیم ثم یؤمر بشدّ المظلة التی تشابهها تلک البدلة المحضرة بین یدیه، و هی مناسبة للثیاب، و لها عندهم جلالة لکونها تعلو رأس الخلیفة، و هی اثنا عشر شوزکا عرض سفل کل شوزک شبر، و طوله ثلاثة أذرع و ثلث، و آخر الشورک من فوق دقیق جدّا، فیجتمع ما بین الشوازک فی رأس عودها بدائره، و هو قنطاریة من الزان ملبسة بأنابیب الذهب، و فی آخر أنبوبة تلی الرأس من جسمه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 361
فلکة بارزة مقدار عرض إبهام فیشدّ آخر الشوارک فی حلقة من ذهب، و یترک متسعا فی رأس الرمح، و هو مفروض فتلقی تلک الفلکة، فتمنع المظلة من الحدور فی العمود المذکور و لها أضلاع من خشب الخلنج مربعات مکسوّة بوزن الذهب علی عدد الشوارک خفاف فی الوزن طولها طول الشوارک، و فیها خطاطیف لطاف، و حلق یمسک بعضها بعضا، و هی تنضم و تنفتح علی طریقة شوکات الکیزان، و لها رأس شبه الرمانة، و یعلوه رمانة صغیرة، کلها ذهب مرصع بجوهر یظهر للعیان، و لها رفرف دائر یفتحها من نسبتها عرضه أکثر من شبر و نصف، و سفل الرمانة فاصل یکون مقداره ثلاث أصابع، فإذا أدخلت الحلقة الذهب الجامعة لآخر شوارک المظلة فی رأس العمود رکبت الرمانة علیها، و لفت فی عرض دیبقیّ مذهب، فلا یکشفها منه إلا حاملها عند تسلیمها إلیه أوّل وقت الرکوبة.
ثم یؤمر بشدّ لواءی الحمد المختصین بالخلیفة، و هما رمحان طویلان ملبسان بمثل أنابیب عمود المظلة إلی حدّ نصفهما، و هما من الحریر الأبیض المرقوم بالذهب، و غیر منشورین بل ملفوفین علی جسم الرمحین، فیشدّان لیخرجا بخروج المظلة إلی أمیرین من حاشیة الخلیفة، برسم حملهما و یخرج إحدی و عشرون رایة لطاف من الحریر المرقوم ملوّنة بکتابة تخالف ألوانها من غیره.
و نص کتابتها: نصر من اللّه و فتح قریب، علی رماح مقوّمة من القنا المنتقی، طول کل رایة ذراعان فی عرض ذراع و نصف فی کل واحدة ثلاث طرازات، فتسلم لأحد و عشرین رجلا من فرسان صبیان الخاص ، و لهم بشارة عود الخلیفة سالما عشرون دینارا، ثم یخرج رمحان رؤوسهما أهلة من ذهب صامتة فی کل واحد سبع من دیباج أحمر و أصفر، و فی فمه طارة مستدیرة یدخل فیها الریح، فینفتحان فیظهر شکلهما، و یتسلمهما فارسان من صبیان الخاص، فیکونان أمام الرایات، ثم یخرج السیف الخاص، و هو من صاعقة وقعت علی ما یقال، و جلبته ذهب مرصعة بالجوهر فی خریطة مرقومة بالذهب لا یظهر إلا رأسه، لیسلم إلی حامله، و هو أمیر عظیم القدر، و هذه عندهم رتبة جلیلة المقدار، و هو أکبر حامل، ثم یخرج الرمح و هو رمح لطیف فی غلاف منظوم من اللؤلؤ، و له سنان مختصر بحلیة ذهب، و درقة بکوامخ ذهب فیها سعة منسوبة إلی حمزة بن عبد المطلب رضی اللّه عنه فی غشاء من حریر لتخرج إلی حاملها، و هو أمیر ممیز، و لهذه الخدمة و صاحبها عندهم جلالة.
ثم تشعر الناس بطریق الموکب، و سلوکه لا یتعدّی دورتین إحداهما کبری، و الأخری
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 362
صغری، أما الکبری: فمن باب القصر إلی باب النصر مارّا إلی حوض عز الملک نبا، و مسجده هناک، و هو أقصاها ثم ینعطف علی یساره طالبا باب الفتوح إلی القصر، و الأخری إذا خرج من باب النصر سار حافا بالسور، و دخل من باب الفتوح، فیعلم الناس بسلوک إحداهما، فیشیرون إذا رکب الخلیفة فیها من غیر تبدیل للموکب و لا تشویش، و لا اختلال، فلا یصبح الصبح من یوم الرکوب إلّا و قد اجتمع من بالقاهرة و مصر من أرباب الرتب و أرباب التمیزات من أرباب السیوف، و الأقلام قیاما بین القصرین، و کان براحا واسعا خالیا من البناء الذی فیه الیوم، فیسع القوم لانتظار الخلیفة، و یبکر الأمراء إلی الوزیر إلی داره، فیرکب إلی القصر من غیر استدعاء لأنها خدمة لازمة للخلیفة، فیسیر أمامه تشریفه المقدّم ذکره، و الأمراء بین یدیه رکبانا و مشاة، و أمامه أولاده و إخوته و کل منهم مرخی الذؤابة بلا حنک، و هو فی أبهة عظیمة من الثیاب الفاخرة، و المندیل، و هو بالحنک، و یتقلد بالسیف المذهب، فإذا وصل القصر ترجل قبله أهله فی أخص مکان لا یصل الأمراء إلیه، و دخل من باب القصر، و هو راکب دون الحاضرین إلی دهلیز یقال له دهلیز العمود، فیترجل علی مصطبة هناک، و یمشی بقیة الدهلیز إلی القاعة فیدخل مقطع الوزارة هو و أولاده و إخوته، و خواص حاشیته، و یجلس الأمراء بالقاعة علی دکک معدّة لذلک مکسوّة فی الصیف بالحصر السامان، و فی الشتاء بالبسط الجهرمیة المحفورة، فإذا أدخلت الدابة لرکوب الخلیفة و أسندت إلی الکرسیّ الذی یرکب علیه من باب المجلس، أخرجت المظلة إلی حاملها، فیکشفها مما هی ملفوفة فیه غیر مطویة، فیتسلمها بإعانة أربعة من الصقالبة برسم خدمتها، فیرکزها فی آلة حدید متخذة شکل القرن و هو مشدود فی رکاب حاملها الأیمن بقوّة و تأکید، فیمسک العمود بحاجز فوق یده، فیبقی و هو منتصف واقف و لم یذکر قط أنها اضطربت فی ریح عاصف، ثم یخرج بالسیف، فیتسلمه حامله فإذا تسلمه أرخیت ذؤابته ما دام حاملا له، ثم تخرج الدواة، فتسلم لحاملها، و هو من الأستاذین المحنکین. المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت ؛ ج‌2 ؛ ص362
کان الوزراء حملوها لقوم من الشهود المعدّلین، و هی الدواة التی کانت من أعاجیب الزمان، و هی فی نفسها من الذهب، و حلیتها مرجان، و هی ملفوفة فی مندیل شرب بیاض مذهب، و قد قال فیها بعض الشعر: یخاطب الخلیفة التی صنعت حلیة المرجان فی وقته و هذا من أغرب ما یکون ذکر ذلک فی بیتین و هما:
ألین لداود الحدید کرامةفقدّر منه السرد کیف یرید
و لأن لک المرجان و هو حجارةو مقطعه صعب المرام شدید
فیخرج الوزیر، و من کان معه من المقطع، و تنضم إلیه الأمراء، و یقفون إلی جانب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 363
الرایة، فیرفع صاحب المجلس الستر فیخرج من کان عند الخلیفة للخدمة منهم، و فی إثرهم یبرز الخلیفة بالهیئة للشروح حالها فی لباسه الثیاب المعروضة علیه، و المندیل الحامل للیتیمة بأعلی جبهته، و هو محنک مرخی الذؤابة مما یلی جانیه الأیسر، و یتقلد بالسیف المغربی و بیده قضیب الملک، و هو طول شبر و نصف من عود مکسوّ بالذهب المرصع بالدرر و الجوهر، فیسلم علی الوزیر قوم مرتبون لذلک، و علی أهله علی الأمراء بعدهم، ثم یخرج أولئک أوّلا فأوّلا، و الوزیر یخرج بعد الأمراء فیرکب و یقف قبالة باب القصر بهیئته.
و یخرج الخلیفة و حوالیه الأستاذون و دابته ماشیة علی بسط مفروشة خیفة من زلقها علی الرخام، فإذا قارب الباب، و ظهر وجهه ضرب رجل ببوق لطیف من ذهب معوج الرأس یقال له: الغربیة، بصوت عجیب یخالف أصوات البوقات، فإذا سمع ذلک ضربت الأبواق فی الموکب، و نشرت المظلة، و برز الخلیفة من الباب، و وقف وقفة یسیرة بمقدار رکوب الأستاذین المحنکین و غیرهم من أرباب الرتب الذین کانوا بالقاعة للخدمة، و سار الخلیفة و علی یساره صاحب المظلة، و هو یبالغ أن لا یزول عنها ظلها، ثم یکتنف الخلیفة مقدّمو صبیان الرکاب منهم، اثنان فی الشکیمة، و اثنان فی عنق الدابة من الجانبین، و اثنان فی رکابه فالأیمن مقدّم المقدّمین، و هو صاحب المقرعة التی یتناولها، و یناولها، و هو المؤدّی عن الخلیفة مدّة رکوبه الأوامر، و النواهی، و یسیر الموکب بالحث.
فأوّله الأمراء و أولادهم، و أخلاط بعض العسکر الأماثل إلی أرباب القصر إلی أرباب الأطواق إلی الأستاذین المحنکین إلی حامل اللوائین من الجانبین إلی حامل الدواة، و هی بینه و بین قربوس السرج إلی صاحب السیف، و هما فی الجانب الأیسر کل واحد ممن تقدّم ذکره بین عشرة إلی عشرین من أصحابه، و یحجبه أهل الوزیر المقدّم ذکرهم من الجانب الأیمن بعد الأستاذین المحنکین، ثم یأتی الخلیفة، و حوالیه صبیان الرکاب المذکورة، تفرقة السلاح فیهم، و هم أکثر من ألف رجل، و علیهم المنادیل الطبقیات، و یتقلدون بالسیوف، و أوساطهم مشدودة بمنادیل، و فی أیدیهم السلاح مشهور، و هم من جانبی الخلیفة کالجناحین المادّین و بینهما فرجة لوجه الفرس لیس فیها أحد، و بالقرب من رأس الصقلبیان الحاملان للمذبتین، و هما مرفوعتان کالنخلتین لما یسقط من طائر و غیره، و هو سائر علی تؤدة، و رفق و فی طول الموکب من أوّله إلی آخره والی القاهرة مارّ و عائد، یفسح الطرقات و یسیر الرکبان فیلقی فی عوده الإسفهسلار کذلک مارا و عائدا لحث الأجناد فی الحرکة و الإنکار علی المزاحمین المعترضین، و یلقی فی عوده صاحب الباب، و مروره فی زمرة الخلیفة إلی أن یصل إلی الإسفهسلار، فیعود لترتیب الموکب، و حراسة طرقات الخلیفة، و فی ید کل منهم دبوس، و هو راکب خیر دوابه و أسرعها، هذا لمن أمام الموکب، ثم یسیر خلف دابة الخلیفة قوم من صبیان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 364
الرکاب لحفظ أعقابه، ثم عشرة یحملون عشرة سیوف فی خرائط دیباج أحمر و أصفر بشراریب غزیرة یقال لها: سیوف الدم برسم ضرب الأعناق ثم یسیر بعدهم صبیان السلاح الصغیر، أرباب الفرنجیات المقدّم ذکرهم.
ثم یأتی الوزیر فی هیبة، و فی رکابه من أصحابه قوم یقال لهم: صبیان الزرد من أقویاء الأجناد یختارهم لنفسه ما مقداره خمسمائة رجل من جانبیه بفرجة لطیفة أمامه، دون فرجة الخلیفة، و کأنه علی وفز من حراسة الخلیفة، و یجتهد أن لا یغیب عن نظره، و خلفه الطبول و الصنوج و الصفافیر، و هو مع عدّة کثیرة تدوی بأصواتها و حسّها الدنیا، ثم یأتی حامل الرمح المقدّم ذکره و درقته حمراء.
ثم طوائف الراجل من الرکابیة و الجیوشیة، و قبلهما المصامدة، ثم الفرنجیة، ثم الوزیریة زمرة زمرة فی عدّة وافرة تزید علی أربعة آلاف فی الوقت الحاضر، و هم أضعاف ذلک، ثم أصحاب الرایات و السبعین، ثم طوائف العساکر من الآمریة و الحجریة الکبار، و الحافظیة، و الحجریة الصغار المنقولین، و الأفضلیة و الجیوشیة، ثم الأتراک المصطنعون، ثم الدیلم، ثم الأکراد، ثم الغز المصطنعة، و قد کان تقدّم هؤلاء الفرسان عدّة وافرة من المترجلة أرباب قسیّ الید، و قسیّ الرجل فی أکثر من خمسمائة، و هم المعدّون للأساطیل، و یکون من الفرسان المقدّم ذکرهم ما یزید علی ثلاثة آلاف، و هذا کله بعض من کل.
فإذا انتهی الموکب إلی المکان المحدود، عادوا علی أدراجهم، و یدخلون من باب الفتوح، و یقفون بین القصرین بعد الرجوع، کما کانوا قبله، فإذا وصل الخلیفة إلی الجامع الأقمر بالقماحین الیوم وقف وقفة بجملته فی موکبه، و انفرج الموکب للوزیر، فیتحرّک مسرعا لیصیر أمام الخلیفة، حتی یدخل بین یدیه فیمرّ الخلیفة، و یسکع له سکعة ظاهرة، فیشیر الخلیفة للسلام علیه إشارة خفیة، و هذه أعظم مکارمة تصدر عن الخلیفة، و لا تکون إلّا للوزیر صاحب السیف، و سبقه إلی دخول باب القصر راکبا علی عادته إلی موضعه، و یکون الأمراء، قد نزلوا قبله لأنهم فی أوائل الموکب، فإذا وصل الخلیفة إلی باب القصر، و دخله ترجل الوزیر، و دخل قبله الأستاذون المحنکون، و أحدقوا به، و الوزیر أمام وجه الفرس مکان ترجله إلی الکرسیّ الذی رکب منه، فینزل علیه و یدخل إلی مکانه بعد خدمة المذکورین له، فیخرج الوزیر، و یرکب من مکانه الجاری به علی عادته، و الأمراء بین یدیه، و أقاربه حوالیه، فیرکبون من أماکنهم و یسیرون صحبته إلی داره، فیدخل و ینزل أیضا إلی مکانه علی کرسیّ فتخدمه الجماعة بالوداع، و یتفرّق الناس إلی أماکنهم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 365
فیجدون قد أحضر إلیهم الغرّة ، و هو أنه یقدّم الخلیفة بأن یضرب بدار الضرب فی العشر الآخر من ذی الحجة بتاریخ السنة التی رکب أوّلها فی هذا الیوم جملة من الدنانیر و الرباعیة و الدراهم المدوّرة المقسقلة، فیحمل إلی الوزیر منها ثلثمائة و ستون دینارا، و ثلثمائة و ستون رباعیا و ثلثمائة و ستون قیراطا، و إلی أولاده، و إخوته من کل صنف من ذلک خمسون، و إلی أرباب الرتب من أصحاب السیوف، و الأقلام من عشرة دنانیر، و عشر رباعیات، و عشرة قراریط إلی دینار واحد، و رباعیّ واحد، و قیراط واحد، فیقبلون ذلک علی حکم البرمکیة من مبلغ الخلیفة قال: و مبلغ الغرّة التی ینعم بها فی أوّل العام المقدّم ذکره من الدنانیر و الرباعیات و القراریط ما یربط من ثلاثة آلاف دینار، و اللّه تعالی أعلم.

ذکر ما کان یضرب فی خمیس العدس من خراریب الذهب

قال ابن المأمون: و أحضر الأجل المأمون کاتب الدفتر، و أمره بالکشف عما کان یضرب برسم خمیس العدس من الخراریب الذهب، و هو خمسمائة دینار عن عشرین ألف خروبة، و استدعی کاتب بیت المال، و وقع له بإطلاق ألف دینار، و أمره بإحضار مشارف دار الضرب، و سلمها إلیه، فاعتمد ذلک، و ضربت عشرون ألف خروبة و أحصرها، فأمر بحملها إلی الخلیفة، فسیر الخلیفة منها إلی المأمون ثلثمائة دینار، و ذکر أنها لم تضرب فی مدّة خلافة الحافظ لدین اللّه غیر سنة واحدة، ثم بطل حکمها، و نسی ذکرها.
قال: و صار ما یضرب باسم الخلیفة یعنی الآمر بأحکام اللّه فی ستة مواضع: القاهرة، و مصر، و قوص، و عسقلان، و صور، و الإسکندریة.
و قال ابن عبد الظاهر: خمیس العدس کان یضرب فیه خمسمائة، تعمل عشرة آلاف خروبة، کان الأفضل بن أمیر الجیوش یحمل منها للخلیفة مائتی دینار، و البقیة برسمه، ثم جعلت فی الأیام المأمونیة ألف دینار، و ربما زادت أو نقصت یسیرا، و قد تقدّم أنّ قاضی القضاة کان یتولی عیار دار الضرب، و یحضر التغلیق بنفسه، و یختم علیه و یحضر للموعد الآخر لفتحه.

ذکر دار الوکالة الآمریة

کانت دار الوکالة المذکورة، بجانب دار الضرب، و موضعها الآن علی یمنة السالک
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 366
من رأس الخرّاطین إلی سوق الخیمیین، و الجامع الأزهر.
قال ابن المأمون: فی شوّال سنة ست عشرة و خمسمائة، ثم أنشأ، یعنی المأمون بن البطائحیّ، وزیر الخلیفة الآمر بأحکام اللّه دار الوکالة بالقاهرة المحروسة، لمن یصل من العراقیین و الشامیین و غیرهما من التجار، و لم یسبق إلی ذلک.

ذکر مصلی العید

و کان فی شرقیّ القصر الکبیر مصلی العید من خارج باب النصر، و هذا المصلی بناه القائد جوهر لأجل صلاة العید فی شهر رمضان سنة: ثمان و خمسین و ثلثمائة، ثم جدّده العزیز بالله، و بقی بقی إلی الآن بعض هذا المصلی، و اتخذ فی جانب منه موضع مصلی الأموات الیوم.

ذکر هیئة صلاة العید و ما یتعلق بها

قال ابن زولاق: و رکب المعز لدین اللّه، یوم الفطر لصلاة العید إلی مصلی القاهرة التی بناها القائد جوهر، و کان محمد بن أحمد بن الأدرع الحسنیّ، قد بکر و جلس فی المصلی تحت القبة فی موضع، فجاء الخدم و أقاموه، و أقعدوا موضعه أبا جعفر مسلما، و أقعدوه هو دونه، و کان أبو جعفر مسلم، خلف المعز عن یمینه، و هو یصلی و أقبل المعز فی زیه و بنوده و قبابه، و صلی بالناس صلاة العید تامّة طویلة، قرأ فی الأولی بأمّ الکتاب، و هل أتاک حدیث الغاشیة، ثم کبر بعد القراءة، و رکع فأطال، و سجد فأطال، أنا سبحت خلفه فی کل رکعة، و فی کل سجدة نیفا و ثلاثین تسبیحة.
و کان القاضی النعمان بن محمد یبلغ عنه التکبیر، و قرأ فی الثانیة بأمّ الکتاب، و سورة و الضحی، ثم کبر أیضا بعد القراءة، و هی صلاة جدّه علیّ بن أبی طالب علیه السلام، و أطال أیضا فی الثانیة الرکوع و السجود، أنا سبحت خلفه نیفا و ثلاثین تسبیحة فی کل رکعة، و فی کل سجدة، و جهر ببسم اللّه الرحمن الرحیم فی کل سورة، و أنکر جماعات یتوسمون بالعلم قراءة قبل التکبیر لقلة علمهم، و تقصیرهم فی العلوم.
حدّثنا محمد بن أحمد قال: حدّثنا عمر بن شیبة، ثنا عبد اللّه، و رجاء عن إسرائیل، عن أبی إسحاق عن الحارث عن علیّ علیه السلام: أنه کان یقرأ فی صلاة العید قبل التکبیر، فلما فرغ المعز من الصلاة، صعد المنبر و سلم علی الناس یمینا و شمالا، ثم ستر بالسترین اللذین کانا علی المنبر، فخطب وراءهما علی رسمه، و کان فی أعلی درجة من المنبر و سادة دیباج مثقل، فجلس علیها بین الخطبتین، و استفتح الخطبة: ببسم اللّه الرحمن الرحیم، و کان معه علی المنبر القائد جوهر، و عمار بن جعفر، و شفیع صاحب المظلة، ثم قال: اللّه أکبر اللّه أکبر و استفتح بذلک، و خطب و أبلغ، و أبکی الناس، و کانت خطبة بخشوع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 367
و خضوع، فلما فرغ من خطبته، انصرف فی عساکره و خلفه أولاده الأربعة بالجواشن و الخود علی الخیل بأحسن زیّ، و ساروا بین یدیه بالفیلین، فلما حضر فی قصره أحضر الناس، فأکلوا و قدّمت إلیهم السمط، و نشطهم إلی الطعام، و عتب علی من تأخر، و هدّد من بلغه عنه صیام العید.
و قال المسبحیّ فی حوادث آخر یوم من رمضان: سنة ثمانین و ثلثمائة، و بقیت مصاطب ما بین القصور و المصلی الجدیدة ظاهر باب النصر علیها المؤذنون، حتی یتصل التکبیر من المصلی إلی القصر، و فیه تقدّم أمر القاضی محمد بن النعمان، بإحضار المتفقهة و المؤمنین یعنی الشیعة، و أمرهم بالجلوس یوم العید علی هذه المصاطب و لم یزل یرتب الناس، و کتب رقاعا فیها أسماء الناس، فکانت تخرج رقعة رقعة، فیجلس الناس علی مصطبة مصطبة بالترتیب.
و فی یوم العید: رکب العزیز بالله لصلاة العید، و بین یدیه الجنائب، و القباب الدیباج بالحلیّ و العسکر فی زیه من الأتراک، و الدیلم و العزیزیة، و الإخشیدیة، و الکافوریة، و أهل العراق بالدیباج المثقل و السیوف، و المناطق الذهب، و علی الجنائب السروج الذهب بالجوهر، و السروج بالعنبر، و بین یدیه الفیلة علیها الرجالة بالسلاح، و الزرّاقة، و خرج بالمظلة الثقیلة بالجوهر، و بیده قضیب جدّه علیه السلام، فصلی علی رسمه و انصرف.
و قال ابن المأمون: و لما توفی أمیر الجیوش بدر الجمالیّ، و انتقل الأمر إلی ولده:
الأفضل بن أمیر الجیوش جری علی سنن والده فی صلاة العید، و یقف فی قوس باب داره الذی عند باب النصر یعنی: دار الوزارة فلما سکن بمصر صار یطلع من مصر باکرا، و یقف علی باب داره علی الحالة الأولی، حتی تستحق الصلاة، فیدخل من باب العید إلی الإیوان، و یصلی به القاضی ابن الرسعنیّ، ثم یجلس بعد الصلاة علی المرتبة إلی أن تنقضی الخطبة فیدخل من باب الملک، و یسلم علی الخلیفة، بحیث لا یراه أحد غیره، ثم یخلع علیه، و یتوجه إلی داره بمصر، فیکون السماط بها مدی الأعیاد، فلما قتل الأفضل، و استقرّ بعده المأمون بن البطائحیّ فی الوزارة قال: هذا نقص فی حق العید، و لا یعلم السبب فی کون الخلیفة لا یظهر، فقال له الخلیفة الآمر بأحکام اللّه: فما تراه أنت؟ فقال: یجلس مولانا فی المنظرة التی استجدّت بین باب الذهب، و باب البحر، فإذا جلس مولانا فی المنظرة، و فتحت الطاقات، وقف المملوک بین یدیه فی قوس باب الذهب، و تجوز العساکر فارسها و راجلها، و تشملها برکة نظر مولانا إلیها، فإذا حان وقت الصلاة توجه المملوک بالموکب و الزیّ و جمیع الأمراء و الأجناد، و اجتاز بأبواب القصر، و دخل الإیوان، فاستحسن ذلک منه، و استصوب رأیه، و بالغ فی شکره، ثم عاد المأمون إلی مجلسه، و أمر بتفرقة کسوة العید و الهبات، یعنی فی عید النحر، سنة خمس عشرة و خمسمائة، و جملة العین: ثلاثة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 368
آلاف و ثلثمائة دینار و سبعة دنانیر و من الکسوات: مائة قطعة و سبع قطع برسم الأمراء المطوّقین، و الأستاذین المحنکین، و کاتب الدست، و متولی حجبة الباب و غیرهم.
قال: و وصلت الکسوة المختصة بالعید فی آخر شهر رمضان یعنی من سنة ست عشرة و خمسمائة و هی تشتمل علی دون العشرین ألف دینار، و هو عندهم الموسم الکبیر، و یسمی بعید الحلل، لأنّ الحلل فیه تعم الجماعة، و فی غیره للأعیان خاصة، و قد تقدّم تفصیلها عند ذکر خزانة الکسوة من هذا الکتاب.
قال: و لما کان فی التاسع و العشرین من شهر رمضان، خرجت الأوامر بأضعاف ما هو مستقرّ للمقرئین و المؤذنین فی کل لیلة برسم السحور بحکم أنها لیلة ختم الشهر، و حضر المأمون فی آخر النهار إلی القصر للفطور مع الخلیفة، و الحضور علی الأسمطة علی العادة و حضر إخوته و عمومته، و جمیع الجلساء، و حضر المقرئون و المؤذنون، و سلّموا علی عادتهم و جلسوا تحت الروشن ، و حمل من عند معظم الجهات و السیدات، و الممیزات من أهل القصور بلاحی و موکبیات مملوءة ماء ملفوفة فی عراضی دیبقی، و جعلت أمام المذکورین، لیشملها برکة ختم القرآن، و استفتح المقرئون من الحمد إلی خاتمة القرآن تلاوة، و تطریبا ثم وقف بعد ذلک من خطب فأسمع، و دعا فأبلغ، و رفع الفرّاشون ما أعدّوه برسم الجهات، ثم کبر المؤذنون، و هللوا، و أخذوا فی الصوفیات إلی أن نثر علیهم من الروشن دراهم و دنانیر و رباعیات، و قدّمت جفان القطائف علی الرسم مع الحلوی، فجروا علی عادتهم، و ملأوا أکمامهم، ثم خرج أستاذ من باب الدار الجلیلة بخلع خلعها علی الخطیب و غیره، و دراهم تفرّق علی الطائفتین من المقرئین و المؤذنین، و رسم أن تحمل الفطرة إلی قاعة الذهب، و أن تکون التعبیة فی مجلس الملک، و تعبی الطیافیر المشورة الکبار من السریر إلی باب المجلس، و تعبی من باب المجلس إلی ثلثی القاعة سماطا واحدا مثل سماط الطعام، و یکون جمیعه سدا واحدا من حلاوة الموسم، و یزین بالقطع المنفوخ، فامتثل الأمر، و حضر الخلیفة إلی الإیوان، و استدعی المأمون، و أولاده و إخوته، و عرضت المظال المذهبة المحاومة، و کان المقرئون یلوّحون عند ذکرها بالآیات التی فی سورة النحل و اللّه جعل لکم مما خلق ظلالا إلی آخرها.
و جلس الخلیفة و رفعت الستور، و استفتح المقرئون، و جدّد المأمون السلام علیه، و جلس علی المرتبة عن یمینه، و سلم الأمراء جمیعهم علی حکم منازلهم لا یتعدّی أحد منهم مکانه و النوّاب جمیعهم یستدعونهم بنعوتهم، و ترتیب وقوفهم، و سلم الرسل الواصلون من جمیع الأقالیم، و وقفوا فی آخر الإیوان، و ختم المقرئون، و سلموا، و خدمت الرهجیة، و تقدّم متولی کل اصطبل من الروّاض و غیرهم یقبل الأرض، و یقف و دخلت الدواب من باب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 369
الدیلم و المستخدمون فی الرکاب بالمنادیل یتسلمونها من الشدّادین و یدورون بها حول الإیوان، و دواب المظلة متمیزة عن غیرها یتسلمها الأستاذون، و المستخدمون فی الرکاب و یعلون بها إلی قریب من الشباک الذی فیه الخلیفة، و کلما عرض دواب اصطبل قبل الأرض متولیه. و انصرف. و تقدّم متولی غیره علی حکمه إلی أن یعرض جمیع ما أحضروه، و هو ما یزید علی ألف فارس خارجا عن البغال و ما تأخر من العشاریات و الحجور و المهارة، و لما عرضت الدواب أبطلت الرهجیة، و عاد استفتاح المقرئین، و کانوا محسنین فیما ینتزعونه من القرآن الکریم، مما یوافق الحال، مثل الآیة من آل عمران: زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ إلی آخرها، ثم بعدها: قُلِ اللَّهُمَّ مالِکَ الْمُلْکِ تُؤْتِی الْمُلْکَ مَنْ تَشاءُ، إلی آخرها.
و عرضت الوحوش بالأجلة الدیباج و الدیبقیّ بقباب الذهب، و المناطق، و الأهلة و بعدها النجب، و البخاتی بالأقتاب الملبسة بالدیبقیّ الملوّن المرقوم، و عرض السلاح، و آلات الموکب جمیعها، و نصبت الکسوات علی باب العید، و ضربت طول اللیل و حملت الفطرة الخاص التی یفطر علیها الخلیفة بأصناف الجوارشات بالمسک، و العود و الکافور و الزعفران و التمور المصبغة التی یستخرج ما فیها، و تحشی بالطیب و غیره، و تسدّ، و تختم و سلمت للمستخدمین فی القصور، و عبیت فی مواعین الذهب المکللة بالجواهر، و خرجت الأعلام و البنود.
و رکب المأمون، فلما حصل بقاعة الذهب أخذ فی مشاهدة السماط من سریر الملک إلی آخرها، و خرج الخلیفة لوقته من الباذهنج، و طلع إلی سریر ملکه، و بین یدیه الصوانی المقدّم ذکرها، و استدعی بالمأمون، فجلس عن یمینه بعد أداء حق السلام، و أمر بإحضار الأمراء الممیزین و القاضی و الداعی و الضیوف، و سلم کل منهم علی حکم میزته، و قدمت الرسل، و شرّفوا بتقبیل الأرض و المقرئون یتلون، و المؤذنون یهللون و یکبرون، و کشفت القوّارات الشرب المذهبات، عما هو بین یدی الخلیفة فبدأ و کبر، و أخذ بیده تمرة، فأفطر علیها، و ناول مثلها الوزیر، فأظهر الفطر علیها، و أخذ الخلیفة فی أن یستعمل من جمیع ما حضر، و یناول وزیره منه، و هو یقبله و یجعله فی کمه، و تقدّمت الأجلاء إخوة الوزیر و أولاده من تحت السریر، و هو یناولهم من یده، فیجعلونه فی أکمامهم بعد تقبیله، و أخذ کل من الحاضرین کذلک، و یومئ بالفطور و یجعله فی کمه علی سبیل البرکة، فمن کان رأیه الفطور أفطر، و من لم یکن رأیه أومأ، و جعله فی کمه لا ینتقد علی أحد فعله.
ثم قال المأمون بعد ذلک: ما علی من یأخذ من هذا المکان نقیصة بل له به الشرف و المیزة، و مدّ یده، و أخذ من الطیفور الذی کان بین یدیه عود نبات، و جعله فی کمه بعد تقبیله، و أشار إلی الأمراء، فاعتمد کل من الحاضرین ذلک و ملأوا أکمامهم، و دخل الناس، فأخذوا جمیع ذلک، ثم خرج الوزیر إلی داره و الجماعة فی رکابه، فوجد التعبیة فیها من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 370
صدر المجلس إلی آخره علی ما أمر به، و لم یعدم مما کان بالقصر غیر الصوانی الخاص، فجلس علی مرتبته و الأجلاء أولاده، و استدعی بالعوالی من الأمراء، و القاضی و الداعی، و الضیوف، فحضروا و شرّفوا بجلوسهم معه، و حصل من مسرّتهم بذلک ما بسطهم، و رفعوا الیسیر مما حضر علی سبیل الشرف، ثم انصرفوا و حضرت الطوائف، و الرسل علی طبقاتهم إلی أن حمل جمیع ما کان بالدار بأسره، و انقضی حکم الفطور.
و عاد للتنفیذ فی غیره، و ضربت الطبول، و الأبواق علی أبواب القصور، و الدار المأمونیة، و أحضرت التغاییر، و فرّقت علی أربابها من الأجناد و المستخدمین، و خرجت أزمة العساکر فارسها و راجلها، و ندب الحاجب الذی بیده الدعوة لترتیب صفوفها من باب القصر إلی المصلی، ثم حضر إلی الدار المأمونیة الشیوخ الممیزون، و جلس المأمون فی مجلسه و أولاده بهیئة العید و زینته، و رفعت الستور، و ابتدأ المقرئون، و سلم متولی الباب و الشیوخ، و لم یدخل المجلس غیر کاتب الدست، و متولی الحجبة، و بالغ کل منهما فی زیه و ملبوسه، و جروا علی رسمهم فی تقبیل الأرض و عتبة المجلس، و وصل إلی الدار المأمونیة التجمل الخاص الذی برسم الخلیفة جمیعه، القصب الفضة و الأعلام و المنجوقات، و العقبات و العماریات، و لواء الوزارة لرکوب الخلیفة بالمظلة بالطمیم، و المراکیب الذهب المرصعة بالجواهر، و غیر ذلک من التجملات.
و رکب المأمون من داره و جمیع التشاریف الخاص بین یدیه، و خدمت الرهجیة، و من جملتهم الغربیة و هی أبواق لطاف عجیبة غریبة الشکل تضرب کل وقت یرکب فیه الخلیفة و لا تضرب قدّام الوزیر إلّا فی المواسم خاصة و فی أیام الخلع علیه و الأمراء مصطفون عن یمینه، و عن شماله، و یلیهم إخوته و بعدهم أولاده، و دخل إلی الإیوان، و جلس علی المرتبة المختصة به، و عن یمینه جمیع الأجلاء و الممیزون وقوف أمامه، و من انحط عنهم من باب الملک إلی الإیوان قیام، و یخرج خاصة الدولة ریحان إلی المصلی بالفرش الخاص، و آلات الصلاة، و علق المحراب بالشروب المذهبة، و فرش فیه ثلاث سجادات متراکبة، و أعلاها السجادة اللطیفة التی کانت عندهم معظمة، و هی قطعة من حصیر ذکر أنها من جملة حصیر:
لجعفر بن محمد الصادق علیهما السلام، یصلی علیها، و فرش الأرض جمیعها بالحصر المحاریب، ثم علق علی جانبی المنبر، و فرش جمیع درجه، و جعل أعلاه المخادّ التی یجلس علیها الخلیفة، و علق اللواءان علیه، و قعد تحت القبة خاصة الدولة ریحان و القاضی و أطلق البخور.
و لم یفتح من أبوابه إلّا باب واحد، و هو الذی یدخل منه الخلیفة، و یقعد الداعی فی الدهلیز و نقباء المؤمنین بین یدیه، و کذلک الأمراء، و الأشراف، و الشیوخ، و الشهود، و من سواهم من أرباب الحرف و لا یمکن من الدخول إلّا من یعرفه الداعی، و یکون فی ضمانه،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 371
و استفتحت الصلاة، و أقبل الخلیفة من قصوره بغایة زیه، و العلم الجوهر فی مندیله، و قضیب الملک بیده، و بنو عمه، و إخوته و أستاذوه فی رکابه، و تلقاه المقرئون عند وصوله و الخواص، و استدعی بالمأمون، فتقدّم بمفرده، و قبل الأرض، و أخذ السیف و الرمح من مقدّمی خزائن الکسوة، و الرهجیة تخدم، و حمل لواء الحمد بین یدیه إلی أن خرج من باب العید، فوجد المظلة قد نشرت عن یمینه، و الذی بیده المدعو فی ترتیب الحجبة لمن شرّف بها، لا یتعدّی أحد حکمه، و سائر المواکب بالجنائب الخاص، و خیل التخافیف، و مصفات العساکر و الطوائف جمیعها بزیها، و رایاتها وراء الموکب إلی أن وصل إلی قریب المصلی، و العماریات و الزرافات، و قد شدّ علی الفیلة بالأسرّة مملوءة رجالا مشیکة بالسلاح لا یتبین منهم إلّا الأحداق، و بأیدیهم السیوف المجرّدة، و الدرق الحدید الصینی، و العساکر قد اجتمعت و ترادفت صفوفا من الجانبین إلی باب المصلی، و النظارة قد ملأت الفضاء لمشاهدة ما لم یبلغوه، و الموکب سائر بهم، و قد أحاط بالخلیفة و الوزیر صبیان الخاص، و بعدهم الأجناد بالدروع المسبلة، و الزردیات بالمغافر ملثمة، و البروک الحدید بالصماصم و الدبابیس.
و لما طلع الموکب من ربوة المصلی ترجل متولی الباب، و الحجاب و وقف الخلیفة بجمعه بالمظلة إلی أن اجتاز المأمون راکبا بمن حول رکابه، و ردّ الخلیفة السلام علیه بکمه، و صار أمامه، و ترجل الأمراء الممیزون و الأستاذون المحنکون بعدهم، و جمیع الأجلاء، و صار کل منهم یبدأ بالسلام علی الوزیر، ثم علی الخلیفة إلی أن صار الجمیع فی رکابه، و لم یدخل من باب المصلی راکبا غیر الوزیر خاصة، ثم ترجل علی بابه الثانی إلی أن وصل الخلیفة إلیه فاستدعی به، سلم و أخذ الشکیمة بیده إلی أن ترجل الخلیفة فی الدهلیز الآخر، و قصد المحراب و المؤذنون یکبرون قدّامه، و استفتح الخلیفة فی المحراب و سامته فیه:
وزیره و القاضی، و الداعی عن یمینه و شماله لیوصلوا التکبیر لجماعة المؤذنین من الجانبین، و یتصل منهم التکبیر إلی مؤذنی مصلی الرجال و النساء الخارجین عن المصلی الکبیر، و کاتب الدست و أهله، و متولی دیوان الإنشاء یصلون تحت عقد المنبر، و لا یمکن غیرهم أن یکون معهم.
و لما قضی الخلیفة الصلاة، و هی رکعتان قرأ فی الأولی بفاتحة الکتاب، و هل أتاک حدیث الغاشیة، و کبر سبع تکبیرات، و رکع و سجد، و فی الثانیة بالفاتحة، و سورة و الشمس و ضحاها، و کبر خمس تکبیرات، و هذه سنة الجمیع و من ینوب عنهم فی صلاة العیدین علی الاستمرار و سلم، و خرج من المحراب، و عطف عن یمینه، و الحرص علیه شدید و لا یصل إلیه إلّا من کان خصیصا به، و صعد المنبر بالخشوع و السکینة، و جمیع من بالمصلی و التربة لا یسأم نظره و یکثرون من الدعاء له، و لما حصل فی أعلی المنبر أشار إلی المأمون، فقبل الأرض و سارع فی الطلوع إلیه، و أدّی ما یجب من سلامه، و تعظیم مقامه، و وقف بأعلی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 372
درجة، و أشار إلی القاضی، فتقدّم و قبل کل درجة إلی أن یصل إلی الدرجة الثالثة، وقف عندها، و أخرج الدعو من کمه، و قبله و وضعه علی رأسه، و أعلی بما تضمنه و هو ما جرت به العادة من تسمیة یوم العید، و سنته و الدعاء للدولة.
و کانت الحال فی أیام وزراء الأقلام و السیوف إذا حصل الخلیفة فی أعلی المنبر بقی الوزیر مع غیره، و أشار الخلیفة إلی القاضی، فیقبل الأرض، و یطلع إلی الدرجة الثالثة و یخرج الدعو من کمه و یقبله، و یضعه علی رأسه، و یذکر یوم العید، و سنته و الدعاء للدولة، ثم یستدعی بالوزیر بعد ذلک فیصعد بعد القاضی، فراعی الخلیفة ذلک الأمر فی حق الوزیر، فجعل الإشارة منه إلیه أوّلا، و رفعه عن أن یکون مأمورا مثل غیره، و جعلها له میزة علی غیره ممن تقدّمه، و استمرّت فیما بعد، و استفتح الخلیفة بالتکبیر الجاری به العادة فی الفطر، و الخطبتین إلی آخرهما، و کبر المؤذنون، و رفع اللواءان، و ترجل کل أحد من موضعه کما کان رکوبه، و صار الجمیع فی رکاب الخلیفة، و جری الأمر فی رجوعه علی ما تقدّم شرحه، و مضی إلی تربة آبائه، و هی سنتهم فی کل رکبة بمظلة، و فی کل یوم جمعة مع صدقات، و رسوم تفرّق.
و أمّا الوزیر المأمون فإنه توجه و خرج من باب العید، و الأمراء بین یدیه إلی أن وصل إلی باب الذهب، فدخل منه بعد أن أمر ولده الأکبر بالوصول إلی داره و الجلوس علی سماط العید علی عادته، و لما دخل المأمون بقاعة الذهب وجد السروع قد وقع من المستخدمین بتعبیة السماط، فأمر بتفرقة الرسوم علی أربابها، و هو ما یحمل إلی مجلس الوزارة برسم الحاشیة، و لکل من حاشیة أولاده و إخوته، و کاتب الدست، و متولی حجبة الباب، و متولی الدیوان، و کاتب الدفتر، و النائب لکل منهم رسم یصرف قبل جلوس الخلیفة، و عند انقضاء الأسمطة لغیر المذکورین علی قدر منزلة کل منهم، ثم حضر أبو الفضائل ابن أبی اللیث، و استأذن علی طیافیر الفطرة الکبار التی فی مجلس الخلیفة فأمره الوزیر بأن یعتمد فی تفرقتها علی ما کان یعتمده فی الأیام الأفضلیة، و هو لکل من یصعد المنبر مع الخلیفة طیفور.
فلما أخذ الخلیفة راحة بعد مضیه إلی التربة جلس علی السریر، و بین یدیه المائدة اللطیفة الذهب بالمینا، معبأة بالزبادی الذهب، و استدعی الوزیر و اصطف الناس من المدورة إلی آخر السماط من الجانبین علی طبقاتهم، و رفعت الستور، و استفتح المقرئون، و وفیّ الدولة إسعاف متولی المائدة مشدود الوسط، و مقدّم خزانة الشراب، بیده شربة فی مرفع ذهب، و غطاء مرصعین بالجوهر و الیاقوت، و متولی خزائن الإنفاق بیده خریطة مملوءة دنانیر لمن یقف یطلب صدقة، و إنعاما فیؤمر بما یدفع إلیه، و تفرقة الرسوم الجاری بها العادة، و لعبت المنافقون، و التحساریة، و تناوب القرّاء، و المنشدون، و أرخیت الستور و عبی‌ء السماط ثانیا علی ما کان علیه أوّلا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 373
ثم رفعت الستور، و جلس علی المدورة و السماط من جرت العبادة به، و فرّقت الدنانیر علی المقرئین، و المنشدین و التحساریة و المنافقین، و من هو معروف بکثرة الأکل، و نهبت قصور الخلافة، و فرّق من الأصناف ما جرت به العادة، و أرخیت الستور، و أحضر متولی خزانة الکسوة الخاص للخلیفة: بدلة إلی أعلی السریر حسبما کان أمره، فلبسها و خلع الثیاب التی کانت علیه علی الوزیر بعد ما بالغ فی شکره، و الثناء علیه، و توجه إلی داره، فوصل إلیه من الخلیفة الصوانی الخاص المکللة معبأة علی ما کانت بین یدیه، و غیرها من الموائد، و کذلک إلی أولاده و إخوته صینیة صینیة، و لکاتب الدست، و متولی حجبة الباب مثل ذلک و یکبر الوزیر بجلوسه فی داره معلنا، و تسارع الناس علی طبقاتهم بالعید، و الخلع و بما جری فی صعود المنبر، و حضر الشعراء، و أسنیت لهم الجوائز، و جری الحال یومئذ فی جلوس الخلیفة، و فی السلام لجمیع الشیوخ و القضاة و الشهود و الأمراء، و الکتاب، و مقدّمی الرکاب و المتصدّرین بالجوامع، و الفقهاء، و القاهریین، و المصریین، و الیهود برئیسهم، و النصاری ببطریقهم علی ما جرت به عادتهم، و ختم المقرئون، و قدمت الشعراء علی طبقاتهم إلی آخرهم و جدّد لکل من الحاضرین سلامه، و انکفأ الخلیفة إلی الباذهنج لأداء فریضة الصلاة و الراحة بمقدار ما عبیت المائدة الخاص، و استحضر المأمون، و أولاده و إخوته علی عادتهم، و استدعی من شرّف بحضور المائدة، و هم الشیخ أبو الحسن کاتب الدست، و أبو الرضی سالم ابنه، و متولی حجبة الباب، و ظهیر الدین الکنانیّ علی ما کان علیه الحال قبل الصیام، و انقضی حکم العید.
و قال ابن الطویر: إذا قرب آخر العشر الآخر من شهر رمضان خرج الزی من أماکنه، علی ما وصفنا فی رکوب أوّل العام، و لکن فیه زیادات یأتی ذکرها، و یرکب فی مستهلّ شوّال بعد تمام شهر رمضان، و عدّته عندهم أبدا ثلاثون یوما، فإذا تهیأت الأمور من الخلیفة، و الوزیر و الأمراء، و أرباب الرتب علی ما تقدّم، و صار الوزیر بجماعته إلی باب القصر، رکب الخلیفة بهیئة الخلافة من المظلة و الیتیمة و الآلات المقدّم ذکرها، و لباسه فی هذا الیوم الثیاب البیاض الموشحة المحومة، و هی أجل لباسهم، و المظلة کذلک، فإنها أبدا تابعة لثیابه کیف کانت الثیاب، و یکون خروجه من باب العید إلی المصلی، و الزیادة ظاهرة فی هذا الیوم فی العساکر، و قد انتظم القوم له صفین من باب القصر إلی باب المصلی، و یکون صاحب بیت المال قد تقدّم علی الرسم، لفرش المصلی، فیفرش الطرّاحات علی رسمها فی المحراب مطابقة، و یعلق سترین یمنة و یسرة فی الأیمن: البسملة و الفاتحة، و سبح اسم ربک الأعلی، و فی الأیسر: مثل ذلک، و هل أتاک حدیث الغاشیة، ثم یرکز فی جانب المصلی لواءین مشدودین علی رمحین ملبسین بأنابیب الفضة، و هما مستوران مرخیان، فیدخل الخلیفة من شرقیّ المصلی إلی مکان یستریح فیه دقیقة، ثم یخرج محفوظا، کما یحفظ فی جامع القاهرة، فیصیر إلی المحراب، و یصلی صلاة العید،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 374
بالتکبیرات المسنونة، و الوزیر وراءه و القاضی، و یقرأ فی کل رکعة، ما هو مرقوم فی السترین فإذا فرغ و سلم صعد المنبر للخطابة العیدیة یوم الفطر، فإذا جلس فی الذروة و هناک طرّاحة سامان أو دیبقیّ علی قدرها و باقیة یستر بیاض علی مقداره فی تقطیع درجه، و هو مضبوط لا یتغیر، فیراه أهل ذلک الجمع جالسا فی الذروة و یکون قد وقف أسفل المنبر الوزیر، و قاضی القضاة، و صاحب الباب إسفهسلار العساکر، و صاحب السیف و صاحب الرسالة، و زمام القصر، و صاحب دفتر المجلس، و صاحب المظلة، و زمام الأشراف الأقارب، و صاحب بیت المال، و حامل الرمح، و نقیب الأشراف الطالبیین، و وجه الوزیر إلیه فیشیر إلیه فیصعد، و یقرب وقوفه منه، و یکون وجهه موازیا رجلیه، فیقبلهما بحیث یراه العالم، ثم یقوم و یقف علی یمینه، فإذا وقف أشار إلی قاضی القضاة، فیصعد إلی سابع درجة، و یتطلع إلیه صاغیا لما یقول، فیشیر إلیه فیخرج من کمه مدرجا قد أحضر إلیه أمس من دیوان الإنشاء بعد عرضه علی الخلیفة و الوزیر، فیعلن بقراءة مضمونه.
و یقول: بسم اللّه الرحمن الرحیم: ثبت بمن شرّف بصعوده المنبر الشریف فی یوم کذا، و هو عید الفطر من سنة کذا من عبید أمیر المؤمنین صلوات اللّه علیه، و علی آبائه الطاهرین، و أبنائه الأکرمین بعد صعود السید الأجل، و نعوته المقرّرة و دعائه المحرّر، فإن أراد الخلیفة أن یشرّف أحدا من أولاد الوزیر، و إخوته استدعاه القاضی بالنعت المذکور، ثم یتلو ذلک ذکر القاضی و هو القارئ، فلا یتسع له أن یقول عن نفسه نعوته و لا دعاءه، بل یقول: المملوک فلان بن فلان، و قرأه مرّة القاضی ابن أبی عقیل.
فلما وصل إلی اسمه قال: العبد الذلیل المعترف بالصنع الجمیل فی المقام الجلیل أحمد بن عبد الرحمن بن أبی عقیل، فاستحسن ذلک منه، ثم حذا حذوه الأعز بن سلامة، و قد استقضی فی آخر الوقت، فقال المملوک فی محل الکرامة الذی علیه من الولاء أصدق علامة: حسن بن علیّ بن سلامة، ثم یستدعی من ذکرنا وقوفهم علی باب المنبر بنعوتهم، و ذکر خدمهم و دعائهم علی الترتیب، فإذا طلع الجماعة و کل منهم یعرف مقامه فی المنبر یمنة و یسرة أشار الوزیر إلیهم، فأخذ هو من کل جانب بیده نصیبا من اللواء الذی بجانبه، فیستر الخلیفة، و یسترون و ینادی فی الناس بأن ینصتوا، فیخطب الخلیفة من المسطور علی العادة، و هی خطبة بلیغة موافقة لذلک الیوم، فإذا فرغ ألقی کل من فی یده من اللواء شی‌ء خارج المنبر، فینکشفون و ینزلون أوّلا فأوّلا، الأقرب فالأقرب إلی القهقری فإذا خلا المنبر منهم، قام الخلیفة هابطا، و دخل إلی المکان الذی خرج منه، فلبث یسیرا و رکب فی زیه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 375
المفخم و عاد من طریقه بعینها إلی إن یصل إلی قریب القصر، فیتقدّمه الوزیر کما شرحنا، ثم یدخل من باب العید، فیجلس فی الشباک، و قد نصب منه إلی فسقیة کانت فی وسط الإیوان مقدار عشرین قصبة سماط من الخشکنان و البسندود و البرماورد مثل الجبل الشاهق، و فیه القطعة وزنها من ربع قنطار إلی رطل، فیدخل ذلک الجمع إلیه، و یفطر منه من یفطر، و ینقل منه من ینقل، و یباح و لا یحجر علیه، و لا مانع دونه، فیمرّ ذلک بأیدی الناس و لیس هو مما یعتدّ به و لا یعبئ مما یفرّق للناس، و یحمل إلی دورهم، و یعمل فی هذا الیوم سماط من الطعام فی القاعة یحضر علیه الخلیفة و الوزیر، فإذا انقضی ذو القعدة، و هلّ هلال ذی الحجة، اهتمّ برکوب عید النحر، فیجری حاله کما جری فی عید الفطر من الزی و الرکوب إلی المصلی، و یکون لباس الخلیفة فیه الأحمر الموشح، و لا ینخرم منه شی‌ء، انتهی.
و صعد مرّة الخلیفة الحافظ لدین اللّه أبو المیمون عبد المجید المنبر یوم عید، فوقف الشریف ابن أنس الدولة بإزائه، و قال مشیرا إلی الحاضرین:
خشوعا فإنّ اللّه هذا مقامه‌و همسا فهذا وجهه و کلامه
و هذا الذی فی کل وقت بروزه‌تحیاته من ربنا و سلامه
فضرب الحافظ الجانب الأیسر من المنبر، فرقی إلیه زمام القصر، فقال له: قل للشریف حسبک، قضیب حاجتک، و لم یدعه یقول شیئا آخر، و کانت تکبت المخلقات برکوب أمیر المؤمنین لصلاة العید، و یبعث بها إلی الأعمال.
فمما کتب به من إنشاء ابن الصیرفی: أمّا بعد، فالحمد للّه الذی رفع بأمیر المؤمنین، عماد الإیمان، و ثبت قواعده و أعز بخلافته معتقده، و أذل بمعابته معانده، و أظهر من نوره مان انبسط فی الآفاق، و زال معه الإظلام، و نسخ به ما تقدّمه من الملل، فقال: إنّ الدین عند اللّه الإسلام، و جعل المعتصم بحبله مفضلا علی من یفاخره، و یباهیه و أوجب دخول الجنة، و خلودها لمن عمل بأوامره و نواهیه، و صلی اللّه علی سیدنا محمد نبیه الذی اصطفی له الدین و بعثه إلی الأقربین و الأبعدین، و أیده فی الإرشاد حتی صار العاصی مطیعا، و دخل الناس فی التوحید فرادی و جمیعا، و غدوا بعروته الوثقی متمسکین، و أنزل علیه قل إننی هدانی ربی إلی صراط مستقیم دینا قیما ملة إبراهیم حنیفا، و ما کان من المشرکین، و علی أخیه و ابن عمه أبینا أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب إمام الأمّة، و کاشف الغمة، و أوجه الشفعاء لشیعته یوم العرض، و من الإخلاص فی ولائه قیام بحق و أداء فرض، و علی الأئمة من ذریتهما سادة البریة، و العادلین فی القضیة، و العاملین بالسیرة المرضیة، و سلم و کرم،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 376
و شرّف و عظم و کتاب أمیر المؤمنین هذا إلیک یوم الثلاثاء: عید الفطر من سنة ست و ثلاثین و خمسمائة، و قد کان من قیام أمیر المؤمنین بحقه و أدائه، و جریه فی ذلک علی عادته، و عادة من قبله من آبائه، ما ینبئک به، و یطلعک علی مستوره عنک و مغیبه، و ذلک أن دنس ثوب اللیل لما بیضه الصباح، و عاد المحرّم المحظور بما أطلقه المحلل المباح، توجهت عساکر أمیر المؤمنین من مظانها إلی بابه، و أفطرت بین یدیه بعد ما حازته من أجر الصیام و ثوابه، ثم انثنت إلی مصافها فی الهیئات، التی یقصر عنها تجرید الصفات، و تغنی مهابتها عن تجرید المرهفات، و تشهد أسلحتها و عددها بالتنافس فی الهمم، و تلق مواضیها فی أغمادها شوقا إلی الطلی و القمم، و قد امتلأت الأرض بازدحام الرجل و الخیل، و ثار العجاج فلم یر أغرب من اجتماع النهار و اللیل، و برز أمیر المؤمنین من قصوره، و ظهر للأبصار علی أنه محتجب بضیائه و نوره، و توجه إلی المصلی فی هدی جدّه و أبیه، و الوقار الذی ارتفع فیه عن النظیر و الشبیه، و لما انتهی إلیه قصد المحراب و استقبله، و أدّی الصلاة علی وضع رضیه اللّه و تقبله، و أجری أمرها علی أفضل المعهود، و وفاها حقها من القراءة و التکبیر و الرکوع و السجود، و انتهی إلی المنبر، فعلا و کبر اللّه، و هلله علی ما أولاه، و ذکر الثواب علی إخراج الفطرة و بشر به، و إنّ المسارعة إلیه من وسائل المحافظة علی الخیر و قربه، و وعظ وعظا ینتفع قابله فی عاجلته و منقلبه، ثم عاد إلی قصوره الزاهرة مشمولا بالوقایة، مکنوفا بالکفایة، منتهیا فی إرشاد عبیده، و رعایاه أقصی الغایة، أعلمک أمیر المؤمنین خبر هذا الیوم، لتعلم منه ما تسکن إلیه و تعلن بتلاوته علی الکافة لیشترکوا فی معرفته، و یشکروا اللّه علیه، فاعلم هذا، و اعمل به إن شاء اللّه تعالی. و کان من أهل برقة طائفة تعرف بصبیان الخف لها إقطاعات و جرایات، و کسوات و رسوم فإذا رکب الخلیفة فی العیدین مدّوا حبلین مسطوحین من أعلی باب النصر إلی الأرض حبلا عن یمین الباب، و حبلا عن شماله، فإذا عاد الخلیفة من المصلی، نزل علی الحبلین طائفة من هؤلاء علی أشکال خیل من خشب، مدهون و فی أیدیهم رایات، و خلف کل واحد منهم ردیف، و تحت رجلیه آخر معلق بیدیه و رجلیه، و یعملون أعمالا تذهل العقول، و یرکب منهم جماعة فی الموکب علی خیول، فیرکضون و هم یتقلبون علیها، و یخرج الواحد منهم من تحت إبط الفرس، و هو یرکض، و یعود یرکب من الجانب الآخر، و یعود، و هو علی حاله لا یتوقف، و لا یسقط منه شی‌ء إلی الأرض، و منهم من یقف علی ظهر الحصان، فیرکض به، و هو واقف.

ذکر القصر الصغیر الغربی

اشارة

و کان تجاه القصر الکبیر الشرقیّ الذی تقدّم ذکره فی غریبه قصر آخر صغیر یعرف بالقصر الغربی، و مکانه الآن حیث المارستان المنصوری، و ما فی صفّه من المدارس، و دار الأمیر بیسری، و باب قبو الخرنشف، و ربع الملک الکامل المطل علی سوق الدجاجین الیوم المعروف قدیما بالتبانین، و ما یجاوره من الدرب المعروف الیوم بدرب الخضیری تجاه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 377
الجامع الأقمر، و ما وراء هذه الأماکن إلی الخلیج، و کان هذا القصر الغربیّ یعرف أیضا بقصر البحر و الذی بناه العزیز بالله نزار بن المعز.
قال المسبحی: و لم یبن مثله فی شرق، و لا فی غرب.
و قال ابن أبی طیّ فی أخبار سنة سبع و خمسین و أربعمائة، ففیها تمم الخلیفة المستنصر بناء القصر الغربیّ، و سکنه، و غرم علیه ألفی ألف دینار و کان ابتداء بنیانه فی سنة خمسین و أربعمائة، و کان سبب بنائه أنه غرم علی أن یجعله منزلا للخلیفة القائم بأمر اللّه صاحب بغداد، و یجمع بنی العباس إلیه، و یجعله کالمجلس لهم، فخانه أمله، و تممه فی هذه السنة، و جعله لنفسه و سکنه.
و قال ابن میسر: إن ست الملک أخت الحاکم کانت أکبر من أخیها الحاکم، و إنّ والدها العزیز بالله کان قد أفردها بسکنی القصر الغربیّ، و جعل لها طائفة برسمها کانوا یسمون: بالقصریة، و هذا یدلک علی أنّ القصر الغربیّ کان قد بنی قبل المستنصر، و هو الصحیح، و کان هذا القصر یشتمل أیضا علی عدّة أماکن:
المیدان: و کان بجوار القصر الغربیّ، و من حقوقه المیدان، و یعرف هذا المیدان الیوم بالخرنشف و اصطبل القطبیة.
البستان الکافوری: و کان من حقوق القصر الصغیر الغربیّ: البستان الکافوریّ، و کان بستانا أنشأه الأمیر أبو بکر محمد بن طفج بن جف الإخشید أمیر مصر، و کان مطلا علی الخلیج، فاعتنی به الإخشید، و جعل له أبوابا من حدید، و کان ینزل به، و یقیم فیه الأیام، و اهتمّ بشأنه من بعد الإخشید ابناه: الأمیر أبو القاسم أونوجور بن الإخشید، و الأمیر أبو الحسن علیّ بن الإخشید فی أیام إمهارتهما بعد أبیهما، فلما استبدّ من بعدهما الأستاذ أبو المسک کافور الإخشیدیّ بإمارة مصر کان کثیرا ما یتنزه به، و یواصل الرکوب إلی المیدان الذی کان فیه و کانت خیوله بهذا المیدان.
فلما قدم القائد جوهر من المغرب بجیوش مولاه المعز لدین اللّه لأخذ دیار مصر، أناخ بجوار هذا البستان، و جعله من جملة القاهرة، و کان منتزها للخلفاء الفاطمیین مدّة أیامهم، و کانوا یتوصلون إلیه من سرادیب مبنیة تحت الأرض، ینزلون إلیها من القصر الکبیر الشرقیّ، و یسیرون فیها بالدواب إلی البستان الکافوریّ، و مناظر اللؤلؤة، بحیث لا تراهم الأعین، و ما زال البستان عامرا إلی أن زالت الدولة، فحکر و بنی فیه فی سنة إحدی و خمسین و ستمائة، کما یأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی، عند ذکر الحارات و الخطط من هذا الکتاب، و أما الأقباء و السرادیب، فإنها عملت أسربة للمراحیض، و هی باقیة إلی یومنا هذا تصب فی الخلیج.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 378
القاعة: و کان من جملة القصر الغربیّ قاعة کبیرة هی الآن المارستان المنصوری، حیث المرضی، کانت سکن ست الملک أخت الحاکم بأمر اللّه، و کانت أحوالها متسعة جدّا.
قال فی کتاب الذخائر و التحف: و أهدت السیدة الشریفة ست الملک أخت الحاکم بأمر اللّه إلی أخیها یوم الثلاثاء التاسع من شعبان سنة سبع و ثمان و ثلثمائة: هدایا من جملتها: ثلاثون فرسا بمرکبها ذهبا، منها: مرکب واحد مرصع، و مرکب من حجر البلور و عشرون بغلة بسروحها و لحمها، و خمسون خادما منهم عشرة صقالبة، و مائة تخت من أنواع الثیاب، و فاخرها، و تاج مرصع بنفیس الجوهر، و بدیعه و شاشیة مرصعة، و أسفاط کثیرة من طیب من سائر أنواعه، و بستان من الفضة مزروع من أنواع الشجر.
قال: و خلفت حین ماتت فی مستهل جمادی الآخرة من سنة خمس و عشرین و أربعمائة ما لا یحصی کثرة، و کان إقطاعها فی کل سنة یغل خمسین ألف دینار، و وجد لها بعد وفاتها ثمانیة آلاف جاریة منها بنیات ألف و خمسمائة، و کانت سمحة نبیلة کریمة الأخلاق و الفعل، و کان فی جملة موجودها نیف و ثلاثون زیرا صینیا مملوءا جمیعها مسکا مسحوقا، و وجد لها جوهر نفیس من جملته قطعة یاقوت ذکر أن فیها عشرة مثاقیل.
قال المسبحیّ: ولدت بالمغرب فی ذی القعدة سنة خمس و ثلثمائة، و لما زالت الدولة عرفت هذه الدار: بالأمیر فخر الدین جهارکس موسک ثم بالملک المفضل قطب الدین بن الملک العادل، فلما کان فی شهر ربیع الآخر من سنة ثلاث و ثمانین و ستمائة، شرع الملک المنصور قلاون الألفی فی بنائها مارستانا، و مدرسة و تربة، و تولی عمارتها الأمیر علم الدین سنجر الشجاعیّ، مدبر الممالک، و یقال: إن ذرع هذه الدار عشرة آلاف و ستمائة ذراع.

أبواب القصر الغربیّ

کان لهذا القصر عدّة أبواب: منها: باب الساباط، و باب التبانین، و باب الزمرّذ.
باب الساباط: هذا الباب موضعه الآن باب سرّ المارستان المنصوری الذی یخرج منه الآن إلی الخرنشف و کان من الرسم، أن یذبح فی باب الساباط المذکور، مدّة أیام النحر، و فی عید الغدیر عدّة ذبائح تفرّق علی سبیل الشرف.
قال ابن المأمون: فی سنة ست عشرة و خمسمائة، و جملة ما نحره الخلیفة الآمر بأحکام اللّه، و ذبحه خاصة فی المنحر، و باب الساباط دون المأمون، و أولاده و إخوته فی ثلاثة الأیام: ألف و سبعمائة و ستة و أربعون رأسا، فذکر ما کان بالمنحر قال: و فی باب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 379
الساباط مما یحمل إلی من حوته القصور، و إلی دار الوزارة، و الأصحاب و الحواشی اثنتا عشرة ناقة، و ثمانیة عشر رأس بقر، و خمسة عشر رأس جاموس، و من الکباش: ألف و ثمانمائة رأس، و یتصدّق کل یوم فی باب الساباط بسقط ما یذبح من النوق و البقر.
و قال ابن عبد الظاهر: کان فی القصر باب یعرف بباب الساباط، کان الخلیفة فی العبید یخرج منه إلی المیدان، و هو الخرنشف الآن لینحر فیه الضحایا.
باب التبانین: هذا الباب، مکان باب الخرنشف الآن، و جعل فی موضعه دار العلم التی بناها الحاکم الآتی ذکرها إن شاء اللّه تعالی.
باب الزمرّذ: کان موضع اصطبل القطبیة قریبا من باب البستان الکافوریّ الموجود الآن.

ذکر دار العلم

و کان بجوار القصر الغربیّ من بحریه دار العلم، و یدخل إلیها من باب التبانین الذی هو الآن یعرف: بقبو الخرنشف، و صار مکان دار العلم الآن، الدار المعروفة: بدار الخضیری الکائنة بدرب الخضیری المقابل للجامع الأقمر و دار العلم هذه، اتخذها الحاکم بأمر اللّه، فاستمرّت إلی أن أبطلها الأفضل بن أمیر الجیوش.
قال الأمیر المختار عز الملک محمد بن عبد اللّه المسبحیّ: و فی یوم السبت هذا یعنی العاشر من جمادی الآخرة سنة خمس و تسعین و ثلثمائة: فتحت الدار الملقبة بدار الحکمة بالقاهرة، و جلس فیها الفقهاء، و حملت الکتب إلیها من خزائن القصور المعمورة و دخل الناس إلیها، و نسخ کل من التمس نسخ شی‌ء مما فیها مما التمسه، و کذلک من رأی قراءة شی‌ء مما فیها، و جلس فیها القرّاء و المنجمون، و أصحاب النحو و اللغة، و الأطباء بعد أن فرشت هذه الدار، و زخرفت و علقت علی جمیع أبوابها و ممرّاتها الستور، و أقیم قوّام و خدّام و فرّاشون، و غیرهم و سموا بخدمتها، و حصل فی هذه الدار من خزائن أمیر المؤمنین الحاکم بأمر اللّه من الکتب التی أمر بحملها إلیها من سائر العلوم، و الآداب و الخطوط المنسوبة ما لم یر مثله مجتمعا لأحد قط من الملوک.
و أباح ذلک کله لسائر الناس، علی طبقاتهم ممن یؤثر قراءة الکتب، و النظر فیها فکان ذلک من المحاسن المأثورة أیضا، التی لم یسمع بمثلها من إجراء الرزق السنیّ، لمن رسم له بالجلوس فیها، و الخدمة لها من فقیه و غیره، و حضرها الناس علی طبقاتهم، فمنهم من یحضر لقراءة الکتب، و منهم من یحضر للنسخ، و منهم من یحضر للتعلم، و جعل فیها ما یحتاج الناس إلیه من الحبر، و الأقلام، و الورق و المحابر، و هی الدار المعروفة بمختار الصقلبیّ. قال: و فی سنة ثلاث و أربعمائة: أحضر جماعة من دار العلم من أهل الحساب
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 380
و المنطق و جماعة من الفقهاء منهم: عبد الغنیّ بن سعید، و جماعة من الأطباء إلی حضرة الحاکم بأمر اللّه، و کانت کل طائفة تحضر علی انفرادها للمناظرة بین یدیه، ثم خلع علی الجمیع و وصلهم، و وقف الحاکم بأمر اللّه أماکن فی فسطاط مصر علی عدّة مواضع، و ضمنها کتابا ثبت علی قاضی القضاة: مالک بن سعید، و قد ذکر عند ذکر الجامع الأزهر، و قال فیه: و قد ذکر دار العلم، و یکون العشر و ثمن العشر لدار الحکمة لما یحتاج إلیه فی کل سنة من العین المغربیّ: مائتان و سبعة و خمسون دینارا، من ذلک الثمن الحصر العبدانیّ، و غیرها لهذه الدار عشرة دنانیر، و من ذلک لورق الکاتب یعنی الناسخ تسعون دینارا، و من ذلک للخازن بها ثمانیة و أربعون دینارا، و من ذلک لثمن الماء اثنا عشر دینارا، و من ذلک للفرّاش خمسة عشر دینارا، و من ذلک للورق و الحبر، و الأقلام لمن ینظر فیها من الفقهاء اثنا عشر دینارا، و من ذلک لمرمّة الستارة: دینار واحد، و من ذلک لمرمة ما عسی أن یتقطع من الکتب و ما عساه أن یسقط من ورقها: اثنا عشر دینارا، و من ذلک لثمن لبود للفرش فی الشتاء خمسة دنانیر، و من ذلک لثمن طنافس فی الشتاء أربعة دنانیر.
و قال ابن المأمون: و فی هذا الشهر یعنی شهر ذی الحجة سنة ست عشرة و خمسمائة جرت نوبة القصار، و هی طویلة، و أوّلها من الأیام الأفضلیة، و کان فیهم رجلان یسمی أحدهما: برکات، و الآخر: حمید بن مکیّ الإطفیحیّ القصار، مع جماعة یعرفون بالبدیعیة، و هم علی الإسلام و المذاهب الثلاثة المشهورة، و کانوا یجتمعون فی دار العلم بالقاهرة، فاعتمد برکات من جملتهم أن استفسد عقول جماعة، و أخرجهم عن الصواب، و کان ذلک فی أیام الأفضل فأمر للوقت بغلق دار العلم، و القبض علی المذکور، فهرب، و کان من جملة من استفسد عقله برکات المذکور: أستاذان من القصر.
فلما طلب برکات المذکور، و استتر دقق الأستاذان الحیلة إلی أن دخلاه عندهما فی زیّ جاریة اشتریاها، و قاما بحقه، و جمیع ما یحتاج إلیه، و صار أهله یدخلون إلیه فی بعض الأوقات، فمرض برکات عند الأستاذین، فحارا فی أمره و مداواته، و تعذر علیهما إحضار طبیب له، و اشتدّ مرضه، و مات، فأعملا الحیلة، و عرّفا زمام القصر، أنّ إحدی عجائزهما قد توفیت، و أن عجائزهما یغسلنها علی عادة القصور، و یشیعنها إلی تربة النعمان بالقرافة، و کتبا عدّة من یخرج، ففسح لهما فی العدّة، و أخذا فی غسله، و ألبساه ما أخذاه من أهله، و هو ثیاب معلمة، و شاشیة و مندیل، و طیلسان مقوّر، و أدرجوه فی الدیبقیّ، و توجه مع التابوت الأستاذان المشار إلیهما، فلما قطعوا به بعض الطریق أرادا تکمیل الأجر له علی قدر عقولهما، فقالا للحمالین: هو رجل تربیته عندنا فنادوا علیه: نداء الرجال، و اکتموا الحال، و هذه أربعة دنانیر لکم، فسرّ الحمالون بذلک، فلما عادوا إلی صاحب الدکان عرّفوه بما جری، و قاسموه الدنانیر، فخافت نفسه، و علم أنها قضیة لا تخفی، فمضی بهم إلی الوالی، و شرح له القضیة فأودعهم فی الاعتقال، و أخذ الذهب منهم، و کتب مطالعة بالحال.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 381
فمن أوّل ما سمع القائد أبو عبد اللّه بن فاتک الذی قیل له بعد ذلک: المأمون بالقضیة، و کان مدبر الأمور فی الأیام الأفضلیة قال: هو برکات المطلوب، و أمر بإحضار الأستاذین و الکشف عن القضیة، و إحضار الحمالین، و الکشف عن القبر بحضورهم، فإذا تحققوه أمرهم بلعنه، فمن أجاب إلی ذلک منهم أطلقوه، و من أبی أحضروه، فحققوا معرفته، فمنهم من بصق فی وجهه، و تبرّأ منه، و منهم من همّ بتقبیله، و لم یتبرّأ منه، فجلس الأفضل و استدعی الوالی و السیاف، و استدعی من کان تحت الحوطة من أصحابه، فکل من تبرّأ منه، و لعنه أطلق سبیله، و بقی من الجماعة ممن لم یتبرّأ منه: خمسة نفر و صبیّ لم یبلغ الحلم، فأمر بضرب رقابهم، و طلب الأستاذین، فلم یقدر علیهما، و قال للصبیّ: من لفظه تبرّأ منه، و أنعم علیک، و أطلق سبیلک فقال له: اللّه یطالبک إن لم تلحقنی بهم، فإنی مشاهد ما هم فیه، و أخذ بسیفه علی الأفضل، فأمر بضرب عنقه، فلما توفی الأفضل أمر الخلیفة الآمر بأحکام اللّه: وزیره المأمون بن البطائحیّ باتخاذ دار العلم، و أفسد عقل أستاذ و خیاط، و جماعة، و ادّعی الربوبیة فحضر الداعی ابن عبد الحقیق إلی الوزیر المأمون، و عرّفه بأنّ هذا قد تعرّف بطرف من علم الکلام، علی مذهب أبی الحسن الأشعریّ، ثم انسلخ عن الإسلام، و سلک طریق الحلاج فی التمویه فاستهوی من ضعف عقله، و قلة بصیرته، فإنّ الحلاج فی أوّل أمره کان یدّعی أنه: داعیة المهدیّ، ثم ادّعی أنه المهدیّ ثم ادّعی الإلهیة، و أنّ الجنّ تخدمه، و أنه أحیی عدّة من الطیور، و کان هذا القصار شیعیّ الدین، و جرت له أمور فی الأیام الأفضلیة، و نفی دفعة و اعتقل أخری، ثم هرب بعد ذلک، ثم حضر و صار یواصل طلوع الجبل، و استصحب من استهواء من أصحابه، فإذا أبعد قال لبعضهم بعد أن یصلی رکعتین: نطلب شیئا تأکله أصحابنا فیمضی، و لا یلبث دون أن یعود، و معه ما کان أعدّه مع بعض خاصته الذین یطلعون علی باطنه، فکانوا یهابونه و یعظمونه حتی أنهم یخافون الإثم فی تأمّل صورته، فلا ینفکون مطرقین بین یدیه، و کان قصیرا دمیم الخلقة، و ادّعی مع ذلک الربوبیة و کان ممن اختص بحمید رجل خیاط و خصیّ، فرسم المأمون بالقبض علی المذکور، و علی جمیع أصحابه فهرب الخیاط، و طلب فلم یوجد، و نودی علیه و بذل لمن یحضر به مال، فلم یقدر علیه، و اعتقل القصار و أصحابه، و قرّروا فلم یقرّوا بشی‌ء من حاله، و بعد أیام تماوت فی الحبس.
فلما استؤمر علیه أمر بدفنه، فلما حمل لیدفن ظهر أنه حیّ، فأعید إلی الاعتقال، و بقی کل من لم یتبرّأ منه معتقلا ما خلی الخصیّ، فإنه لم یتبرّأ منه، و ذکر أن القتل لا یصل إلیه فأمر بقطع لسانه، و رمی قدّامه، و هو مصرّ علی ما فی نفسه، فأخرج القصار، و الخصیّ، و من لم یتبرّأ منه من أصحابه فصلبوا علی الخشب، و ضربوا بالنشاب، فماتوا لوقتهم، ثم نودی علی الخیاط ثانیا، فاحضر و فعل به ما فعل بأصحابه بعد أن قیل له: ها أنت تنظره، فلم یتبرّأ منه، و صلب إلی جانبه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 382
و ذکر أن بعض أصحاب هذا القصار ممن لم یعرف أنه کان یشتری الکافور، و یرمیه بالقرب من خشبته التی هو مصلوب علیها، فیستقبل رائحته من سلک تلک الطریق و یقصد بذلک أن یربط عقول من کان القصار قد أضله، فأمر المأمون أن یحطوا عن الخشب، و أن تخلط رممهم و یدفنوا متفرّقین، حتی لا یعرف قبر القصار من قبورهم، و کان قتلهم فی سنة سبع عشرة و خمسمائة، و ابتداء هذه القضیة سنة ثلاث عشرة و خمسمائة.
قال: و کان الشریف عبد اللّه یحدّث عن صدیق له مأمول القول: إنه أخبره أنه لما شاع خبر هذا القصار، و ما ظهر منه أراد أن یمتحنه، فتسبب إلی أن خالطه، و صار فی جملة أصحابه، و من یعظمه و یطلع معه إلی الجبل، فأفسد عقله، و غیر معتقده، و أخرجه عن الإسلام، و أنه لامه علی ذلک، و ردعه فحدّثه بعجائب منها أنه قال: و اللّه ما من الجماعة الذین یطلعون معه إلی الجبل أحد إلّا و یسأله، و یستدعیه ما یرید علی سبیل الامتحان فیحضره إلیه لوقته، و إنّ بیده سکینا لا تقطع إلّا بیده، و إذا أمسک طائرا، و قبضه أحد من الحاضرین یدفع السکین التی معه له، و یقول له: اذبحه، فلا تمشی فی یده، فیأخذها هو و یذبحه بها و یجری دمه، ثم یعود و یمسکه بیده، و یسرّحه فیطیر، و یقول: إنّ الحدید لا یعمل فیه، و یوسع القول فیما یشاهده منه، و یسمعه، فلما اعتقل القصار بقی هذا الرجل مصرّا علی اعتقاده، فلما قتل و خرج إلیه و شاهده، و تحقق موته علم أن ما کان فیه سحر، و زور و إفک، فتصدّق بجملة من ماله، و عاد إلی مذهبه، و صحّ معتقده.
و قال ابن عبد الظاهر: دار العلم کان الأفضل بن أمیر الجیوش قد أبطلها، و هی بجوار باب التبانین، و هی متصلة بالقصر الصغیر، و فیها مدفون الداعی: المؤید فی الدین هبة اللّه بن موسی الأعجمیّ، و کان لإبطالها أمور سببها اجتماع الناس، و الخوض فی المذاهب و الخوف من الاجتماع علی المذهب النزاریّ، و لم یزل الخدّام یتوصلون إلی الخلیفة الآمر بأحکام اللّه، حتی تحدّث فی ذلک مع الوزیر المأمون فقال: أین تکون هذه الدار؟ فقال بعض الخدّام: تکون بالدار التی کانت أوّلا، فقال المأمون: هذا لا یکون لأنه باب صار من جملة أبواب القصر، و برسم الحوائج، و لا یمکن الاجتماع و لا یؤمن من غریب یتحصل به، فأشار کل من الأستاذین بشی‌ء، فأشار بعضهم أن تکون فی بیت المال القدیم، فقال المأمون: یا سبحان اللّه قد منعنا أن تکون متاخمة للقصر الکبیر الذی هو سکن الخلیفة نجعلها ملاصقة؟ فقال الثقة زمام القصور: فی جواری موضع لیس ملاصقا للقصر، و لا مخالطا له یجوز أن یعمر، و یکون دار العلم، فأجاب المأمون إلی ذلک و قال: بشرط أن یکون متولیها رجلا دینا، و الداعی الناظر فیها، و یقام فیها متصدّرون برسم قراءة القرآن، فاستخدم فیها أبو محمد حسن بن آدم، فتولاها، و شرط علیه ما تقدّم ذکره، و استخدم فیها مقرئون.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 383

ذکر دار الضیافة

خرّج مالک فی الموطأ: عن یحیی بن سعید عن سعید بن المسیب أنه قال: کان إبراهیم علیه السلام أوّل من ضیّف الضیف، و أوّل من اتخذ دار ضیافة الإسلام أمیر المؤمنین عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه فی سنة سبع عشرة، و أعدّ فیها الدقیق و السمن و العسل و غیره، و جعل بین مکة و المدینة من یحمل المنقطعین من ماء إلی ماء حتی یوصلهم إلی البلد، فلما استخلف عثمان بن عفان رضی اللّه عنه، أقام الضیافة لأبناء السبیل، و المتعبدین فی المسجد و أوّل من بنی دار الضیافة بمصر للناس: عثمان بن قیس بن أبی العاص السهمیّ، أحد من شهد فتح مصر من الصحابة، و کان میدان القصر الغربیّ الذی هو الآن الخرنشف دار الضیافة بحارة برجوان ، و کانت هذه الدار أوّلا تعرف: بدار الأستاذ برجوان، و فیها کان یسکن حیث الموضع المعروف بحارة برجوان، ثم لما قدم أمیر الجیوش بدر الجمالیّ فی أیام الخلیفة المستنصر من عکا، و استبدّ بأمر الدولة أنشأ هناک دارا عظیمة، و سکنها و لم یسکن بدار الدیباج التی کانت دار الوزارة القدیمة.
فلما مات أمیر الجیوش بدر، و استولی سلطنة دیار مصر ابنه الأفضل شاهنشاه بن أمیر الجیوش، و أنشأ دار القباب التی عرفت: بدار الوزارة الکبری قریبا من رحبة باب العید، أقرّ أخاه أبا محمد جعفرا المنعوت: بالمظفر ابن أمیر الجیوش، بدار أمیر الجیوش من حارة برجوان، فعرفت: بدار المظفر، و ما زال بها حتی مات، و قبر بها، و إلی الیوم قبره بها، و تسمیه العامّة: جعفرا الصادق. و لما مات المظفر اتخذت داره المذکورة دار ضیافة برسم الرسل الواردین من الملوک، و استمرّت کذلک إلی أن انقرضت الدولة، فأنزل بها السلطان صلاح الدین أولاد العاضد إلی أن نقلهم إلی قلعة الجبل، الملک الکامل محمد بن العادل أبی بکر بن أیوب.
فلما کان فی سنة تسع و سبعین و ستمائة، تقدّم أمر الملک المنصور قلاون لوکیل بیت المال القاضی: مجد الدین عیسی بن الخشاب ببیع دار المظفر، فباع القاعة الکبری، و ما هو من حقوقها، و بیعت دار المظفر الصغری، و هدمها الناس، و بنوا فی مکانها دورا، و موضعها الآن دار قاضی القضاة شمس الدین محمد الطرابلسیّ الحنفیّ، و ما بجوارها إلی الدار التی بها سکنی الیوم، و هی من حقوق دار المظفر الصغری، علی ما فی کتبها القدیمة، و لما أنشأ قاضی القضاة شمس الدین المذکور داره: فی سنة سبع أو سنة ثمان و ثمانین و سبعمائة، ظهر من تحت الأرض عند حفر الأساس حجر عظیم، قیل: إنه عتبة دار المظفر الکبری، و کان إذ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 384
ذاک الأمیر جهارکس الخلیلیّ یتولی عمارة مدرسة الملک الظاهر برقوق، التی فی خط بین القصرین، فلما بلغه خبر هذا الحجر بعث إلیه، و أمر بجرّه إلی العمارة، فعمل عتبة باب المزمّلة، التی للمدرسة و کان من وراء هذه الدار، رحبة الأفیال أدرکتها ساحة ثم عمر فیها.
قال ابن الطویر: الخدمة المعروفة: بالنیابة للقاء المرسلین، و هی خدمة جلیلة یقال لمتولیها النائب، و ینعت بعدی الملک، و هو ینوب عن صاحب الباب فی لقاء الرسل الوافدین علی مسافة، و إنزال کل واحدة فی دار تصلح له، و یقیم له من یقوم بخدمته، و له نظیر فی دار الضیافة، و هو یسمی الیوم بمهمندار، و یرتب لهم ما یحتاجون إلیه، و لا یمکن أحدا من الاجتماع بهم، و یذکر صاحب الباب بهم، و یبالغ فی نجاز ما وصلوا فیه، و هو الذی یسلم بهم أبدا عند الخلیفة و الوزیر، و ینفذ بهم، و یستأذن علیهم، و یدخل الرسول و صاحب الباب قابض علی یده الیمنی، و النائب بیده الیسری، فیحفظ ما یقولون، و ما یقال لهم، و یجتهد فی انفصالهم علی أحسن الوجوه، و بین یدیه من الفرّاشین المقدّم ذکرهم عدّة لإعانته و إذا غاب أقام عنه نائبا إلی أن یعود و له من الجاری خمسون دینارا فی کل شهر، و فی الیوم نصف قنطار خبز، و قد یهدی إلیه المرسلون طرفا فلا یتناولها إلّا بإذن، انتهی.
و فی هذه الدولة الترکیة یقال لمتولی هذه الوظیفة: مهمندار، و لا یلیها عندهم إلّا صاحب سیف من الأمراء العشراوات، و کانت فی الدولة الفاطمیة علی ما ذکره ابن الطویر:
لا یلیها إلّا أعیان العدول، و أرباب العمائم، و ینعت أبدا بعدی الملک، و أصل هذه الکلمة الفارسیة: مهمان دار (و معناها ملتقی الضیوف).

ذکر اصطبل الحجریّة

و کان بجوار دار الضیافة: اصطبل الصبیان الحجریة المقدّم ذکرهم، و موضع هذا الاصطبل الیوم یعرف: بخان الوراقة داخل باب الفتوح القدیم، بسوق المرحلین، علی یسرة من أراد الخروج من باب الفتوح القدیم، تجاه زیادة الجامع الحاکمیّ، و من حقوق هذا الاصطبل أیضا الموضع الذی فیه الآن القیساریة المعروفة بقیساریة الست التی هی الیوم تجاه المدرسة الصیرمیة، و الجملون الصغیر، و کانت بهذه الإصطبل خیول الصبیان الحجریة إحدی طوائف العساکر فی زمن الخلفاء الفاطمیین.
ذکر مطبخ القصر
و کان بجوار القصر الغربیّ قبالة باب الزهومة من القصر الکبیر: مطبخ القصر، و موضعه الآن: الصاغة تجاه المدارس الصالحیة، و لما کانت مطبخا، کان یخرج إلیه من باب الزهومة، و ذکر ابن عبد الظاهر: أنه کان یخرج من المطبخ المذکورة مدّة شهر رمضان:
ألف و مائتا قدر من جمیع ألوان الطعام، تفرّق کل یوم علی أرباب الرسوم و الضعفاء.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 385
درب السلسلة: و کان بجوار مطبخ القصر: درب السلسلة، قال ابن الطویر: و یبیت خارج باب القصر فی کل لیلة خمسون فارسا، فإذا أذن بالعشاء الآخرة داخل القاعة، و صلی الإمام الراتب بها بالمقیمین فیها من الأستاذین و غیرهم وقف علی باب القصر أمیر یقال له: سنان الدولة بن الکرکندیّ، فإذا علم بفراغ الصلاة، أمر بضرب النوبات من الطبل و البوق، و لوائقهما من عدّة وافرة بطرائق مستحسنة مدّة ساعة زمانیة، ثم یخرج بعد ذلک أستاذ برسم هذه الخدمة، فیقول أمیر المؤمنین یردّ علی سنان الدولة السلام، فیصقع و یغرس حربة علی الباب ثم یرفعها بیده، فإذا رفعها أغلق الباب، و سار حوالی القصر سبع دورات، فإذا انتهی ذلک جعل علی الباب البیاتین و الفرّاشین المقدّم ذکرهم، و انصرف المؤذنون إلی خزانتهم هناک، و ترمی السلسلة عند المضیق آخر بین القصرین من جانب السیوفیین، فینقطع المار من ذلک المکان إلی أن تضرب النوبة سحرا قرب الفجر، فتنصرف الناس من هناک بارتفاع السلسلة.
و قال ابن عبد الظاهر: درب السلسلة الذی هو الآن إلی جانب السیوفیین کانت عنده سلسلة منه إلی قبالته، تعلق کل یوم من الظهر، حتی لا یعبر راکب تحت القصر، و هذا الدرب یعرف: بسنان الدولة بن الکرکندیّ، و هذا الدرب هو المختص بالتقفیزة، و هذه التقفزیة أمرها مستظرف، لا من قبل الحسن، بل من قبل التعجب من العقول.
و لها خمسة أوقات، و هی: لیالی العیدین، و غرّة السنة، و غرّة شهر رمضان و یوم فتح الخلیج، و هو: أنه یقف راکبا فی وسط الزلاقة التی لباب الذهب، قبالة الدار القطبیة، فیخرج إلیه السلام من الخلیفة، ثم یخدم الرهجیة، ثم یصعد علی کندرة باب الزهومة، و قدّامه دواب المظلة یمنة و یسرة، و الرهجیة تخدم و أرباب الضوء، و مستخدمو الطرق علی السلسلة، فإذا کان الطرف وصلوا إلیه، و اجتمعت الرهجیة کلهم، و رکب فرسا و علیه ثیاب حسنة، و کشف عن رایاته، و أخذ بیده رمحا، و اجتمعت الرهجیة حوله، و یعبر مشورا، و أولئک خلفه بالصراخ و الصیاح بشعار الإمام، ثم یسیر بذاک الجمع و خیل المظلة إلی أبواب القصر، فیقف عند کل باب تخدم الرهجیة إلی أن یعودوا إلی باب الذهب، ثم إلی دار الوزارة للهناء، فلم یزالوا کذلک إلی ولایة ابن الکرکندی فبطلت هذه السنة فی الأیام الآمریة، و صاحب التقفیزة: ممن واصل آباؤه صحبة المعز لدین اللّه من بلاد المغرب فکانت هذه سنتهم.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 386

ذکر الدار المأمونیة

و کان بجوار درب السلسلة الدار المأمونیة، و هی المدرسة السیوفیة، و کانت هذه الدار سکن المأمون ابن البطائحی، و عرفت قدیما، بقوام الدولة حبوب، ثمجدّدها المأمون محمد ابن فاتک.
المأمون البطائحی: هو أبو عبد اللّه محمد ابن الأمیر نور الدولة أبی شجاع فاتک بن الأمیر منجد الدولة أبی الحسن مختار المستنصری، اتصل بخدمة الأفضل بن أمیر الجیوش فی شهر شوّال سنة إحدی و خمسمائة، عند ما تغیر علی تاج المعالی المختار الذی کان اصطنعه، و فخم أمره و سلم إلیه خزائن أمواله، و کسواته، و سلم ما کان بیده من الخدمة لمحمد بن فاتک، فتصرّف فیها، و قرّر له الأفضل ما کان باسم مختار من العین خاصة دون الإقطاع، و هو مائة دینار فی کل شهر، و ثلاثون دینارا عن جاری الخزائن مضافا إلی الأصناف الراتبة میاومة و مشاهرة و مسانهة فحسن عند الأفضل موقع خدمته، فاعتمد علیه و سلم له جمیع أموره، و صرّفه فی کل أحواله.
فلما کثر علیه الشغل استعان بأخویه أبی تراب حیدرة، و أبی الفضل جعفر، فأطلق الأفضل لهما ما وسع به علیهما من المیاومة و المشاهرة و المسانهة، و نعته الأفضل بالقائد، فصار یخاطب بالقائد، و یکاتب به، و صار عنده بمنزلة الأستادار ، فلما قتل الأفضل لیلة عید الفطر من سنة خمس عشرة و خمسمائة، قام القائد أبو عبد اللّه بن فاتک لخدمة الخلیفة الآمر بأحکام اللّه و أطلعه علی أموال الأفضل، و بالغ فی مناصحته، حتی لقد اتهم أنه هو الذی دبر فی قتل الأفضل بإشارة الخلیفة، فخلع علیه الآمر فی مستهل ذی القعدة، بمجلس اللعبة من القصر، و هو المجلس الذی یجلس فیه الخلیفة، و لم یخلع قبله علی أحد فیه، و حل المنطقة من وسطه، و خلع علی ولده، و حل منطقته، و خلع علی إخوته، و استمرّ تنفیذ الأمور إلیه إلی أن استهل ذو الحجة، ففی یوم الجمعة ثانیة، خلع علیه من الملابس الخاص فی فرد کمّ مجلس اللعبة طوق ذهب مرصع، و سیف ذهب کذلک، و سلم علی الخلیفة، و تقدّم الأمر للأمراء، و کافة الأستاذین المحنکین بالخروج بین یدیه، و أن یرکب من المکان الذی کان الأفضل یرکب منه، و مشی فی رکابه القوّاد، علی عادة من تقدّمه، و خرج بتشریف الوزارة، و دخل من باب العید راکبا، و وصل إلی داره، فضاعف الرسوم، و أطلق الهبات.
فلما کان یوم الاثنین خامسه اجتمع الأمراء بین یدی الخلیفة، و أحضر السجل فی لفافة خاص مذهبة، فسلمه الخلیفة له من یده فقبله، و سلمه لزمام القصر، فأمره الخلیفة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 387
بالجلوس إلی جانبه عن یمینه، و قری‌ء السجل علی باب المجلس، و هو أوّل سجل قری‌ء هناک، و کانت سجلات الوزراء قبل ذلک تقرأ بالإیوان، و رسم للشیخ أبی الحسن بن أبی أسامة کاتب الدست أن ینقل نسبة الأمراء، و المحنکین من الآمریّ إلی المأمونیّ، و کذا الناس أجمع، و لم یکن أحد ینتسب إلی الأفضل، و لا لأمیر الجیوش، و قدّمت له الدواة، فعلم فی مجلس الخلیفة، و نعت بالسید الأجل، المأمون تاج الخلافة و وجیه الملک، فخر الصنائع، ذخر أمیر المؤمنین، عز الإسلام، فخر الأنام، نظام الدین، أمیر الجیوش سیف الإسلام، ناصر الأنام، کافل قضاة المسلمین، و هادی دعاة المؤمنین، و کان یجلس بداره فی یومی الأحد و الأربعاء للراحة و النفقة فی العسکر البساطیة إلی الظهر، ثم یرفع النفقة، و یحط السماط، و یجلس بعد العصر، و الکتاب بین یدیه، فینفق فی الراجل إلی آخر النهار، و فی یوم الجمعة یطلق للمقرئین بحضرته خمسة دنانیر، و لکل من هو مستمرّ القراءة علی بابه من الضعفاء، و الأجراء مما هو ثابت بأسمائهم: خمسمائة درهم، و لبقیة الضعفاء و المساکین: خمسمائة درهم أخری.
فإذا توجه یوم الجمعة إلی القرافة یکون المبلغ المذکور مستقرّا لأربابه، و لم یزل إلی لیلة السبت الرابع من رمضان سنة تسع عشرة و خمسمائة، فقبض الآمر المذکور علیه، و علی إخوته الخمسة مع ثلاثین رجلا من خواصه و أهله، و اعتقله ثم صلبه مع إخوته فی سنة اثنتین و عشرین.
قیل: إن سبب القبض علیه ما بلغ الآمر عنه أنه بعث إلی الأمیر جعفر بن المستعلی یغریه بقتل أخیه، لیقیمه مکانه فی الخلافة، و کان الذی بلّغ الآمر ذلک الشیخ أبا الحسن بن أبی أسامة، و بلغه أیضا عنه أنه: سیر نجیب الدولة أبا الحسن إلی الیمن لیضرب سکة علیها، الإمام المختار محمد بن نزار، و ذکر عنه أنه سمّ شیئا، و دفعه لقصاد الخلیفة، فنمّ علیه القصاد.
و کان مولد المأمون فی سنة ثمان و سبعین و أربعمائة، و کان من ذوی الآراء، و المعرفة التامّة بتدبیر الدول کریما واسع الصدر سفاکا للدماء، کثیر التحرّز و التطلع إلی معرفة أحوال الناس من العامّة و الجند، فکثر الوشاة فی أیامه.
حبس المعونة: و کان بجوار الدار المأمونیة حبس المعونة، و موضعه الیوم: قیساریة العنبر.
قال ابن المأمون فی سنة سبع عشرة و خمسمائة: تقدّم أمر المأمون إلی الوالیین بمصر و القاهرة بإحضار عرفاء السقائین و أخذ الحج علی المتعیشین منهم بالقاهرة بحضورهم، متی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 388
دعت الحاجة إلیهم لیلا و نهارا، و کذلک یعتمد فی القربیین، و أن یبیتوا علی باب کل معونة، و معهم عشرة من الفعلة بالطواری‌ء و المساحی، و أن یقوما لهم بالعشاء من أموالهما بحکم فقرهم، انتهی.
و کان حبس المعونة هذا یسجن فیه أرباب الجرائم، کما هو الیوم السجن المعروف:
بخزانة شمائل، و أما الأمراء، و الأعیان، فیسجنون: بخزانة البنود، کما تقدّم، و لم یزل هذا الموضع سجنا مدّة الدولة الفاطمیة، و مدّة دولة بنی أیوب إلی أن عمره: الملک المنصور قلاون قیساریة، أسکن فیها العنبرانیین فی سنة ثمانین و ستمائة.

ذکر الحسبة و دار العیار

و کان بجوار حبس المعونة: دکة الحسبة، و مکانها الیوم یعرف: بالإبازرة، و مکسر الحطب بجوار سوق القصارین و الفحامین.
قال ابن الطویر: و أما الحسبة، فإنّ من تسند إلیه لا یکون إلّا من وجوه المسلمین و أعیان المعدّلین لأنها خدمة دینیة، و له استخدام النوّاب عنه بالقاهرة و مصر، و جمیع أعمال الدولة، کنوّاب الحکم، و له الجلوس بجامعی القاهرة و مصر یوما بعد یوم، و یطوف نوّابه علی أرباب الحرف، و المعایش و یأمر نوّابه بالختم علی قدور الهرّاسین، و نظر لحمهم و معرفة من جزاره، و کذلک الطباخون و یتتبعون الطرقات، و یمنعون من المضایقة فیها، و یلزمون رؤساء المراکب أن لا یحملوا أکثر من وسق السلامة، و کذلک مع الحمالین علی البهائم و یأمرون السقائین بتغطیة الروایا بالأکسیة، و لهم عیار: و هو أربعة و عشرون دلوا، کل دلو: أربعون رطلا، و أن یلبسوا السراویلات القصیرة الضابطة لعوراتهم، و هی زرق، و ینذرون معلمی المکاتب بأن لا یضربوا الصبیان ضربا مبرّحا، و لا فی مقتل، و کذلک معلمو العلوم بتحذیرهم من التغریر بأولاد الناس، و یقفون علی من یکون سی‌ء المعاملة، فینهونه بالردع و الأدب، و ینظرون المکاییل و الموازین، و للمحتسب النظر فی دار العیار، و یخلع علیه و یقرأ سجله بمصر و القاهرة علی المنبر، و لا یحال بینه، و بین مصلحة إذا رآها، و الولاة تشدّ معه إذا احتاج إلی ذلک و جاریه: ثلاثون دینارا فی کل شهر، انتهی.
و کان للعیار: مکان یعرف بدار العیار تعیر فیه الموازین بأسرها، و جمیع الصنج، و کان ینفق علی هذه الدار من الدیوان السلطانیّ، فیما تحتاج إلیه من الأصناف کالنحاس و الحدید و الخشب و الزجاج، و غیر ذلک من الآلات، و أجر الصناع و المشارفین و نحوهم،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 389
و یحضر المحتسب أو نائبه إلی هذه الدار لیعیر المعمول فیها بحضوره، فإن صح ذلک أمضاه، و إلّا أمر بإعادة عمله، حتی یصح، و کان بهذه الدار أمثلة یصحح بها العیار، فلا تباع الصنج، و الموازین و الأکیال، إلّا بهذه الدار، و یحضر جمیع الباعة إلی هذه الدار باستدعاء المحتسب لهم، و معهم موازینهم، و صنجهم و مکاییلهم، فتعیر فی کل قلیل، فإن وجد فیها الناقص استهلک، و أخذ من صاحبه لهذه الدار، و ألزم بشراء نظیره، مما هو محرّر بهذه الدار، و القیام بثمنه، ثم سومح الناس و صار یلزم من یظهر فی میزانه أو صنجه خلل بإصلاح ما فیها من فساط فقط، و القیام بأجرته فقط، و ما زالت هذه الدار باقیة جمیع الدولة الفاطمیة.
فلما استولی صلاح الدین علی السلطنة أقرّ هذه الدار، و جعلها وقفا علی سور القاهرة مع کان جاریا فی أوقاف السور من الرباع و النواحی الجاریة فی دیوان الأسوار، و ما زالت هذه الدار باقیة.
اصطبل الجمیزة: و کان بجوار القصر الغربیّ من قبلیه اصطبل الجمیزة من جانب باب الساباط الذی هو الآن: باب سرّ المارستان المنصوریّ، و قیل له: اصطبل الجمیزة من أجل أنه کان فی وسطه شجرة جمیز کبیرة، و کان موضع هذا الاصطبل، تجاه من یخرج من باب الساباط، فینزل من الحدرة التی هی الآن تجاه باب سرّ المارستان المتوصل منها إلی حارة زویلة، و یمتدّ فیما حاذاه یسارک، إذا وقفت بأوّل هذه الحدرة، حیث الطاحون الکبیرة التی هی الآن فی أوقاف المارستان، و ما وراءها و یحاذیها إلی الموضع المعروف الیوم:
بالبندقانیین، و کانت بئره تعرف: ببئر زویلة، و علیها ساقیة تنقل الماء لشرب الخیول، و موضع هذا البئر الیوم: قیساریة تعرف بقیساریة یونس تجاه درب الأنجب، و قد شاهدت هذه البئر، لما أنشأ الأمیر یونس الدوا دار هذه القیساریة و الربع علوها، فرأیت بئرا کبیرة جدّا، و قد عقد علی فوهتها عقد رکب فوقه بعض القیساریة، و ترک منها شی‌ء، و منها الآن الناس تسقی بالدلاء، و ما زال هذا الاصطبل باقیا إلی أن انقرضت الدولة الفاطمیة، فحکر و بنی فی مکانه الآدار التی هی موجودة الآن، و حکره جار فی أوقاف الصلاح الأزبکیّ، و قد تقدّم ذکر هذا الاصطبل عند ذکر اصطبل الطارمة، فانظر رسومه هناک.
دار الدیباج : و کان بجوار اصطبل الطارمة من غربیه: دار الدیباج، و هی حیث المدرسة الصاحبیة بسویقة الصاحب و ما جاورها من جانبها، و ما خلفها إلی الوزیریة، و کانت هی: دار الوزارة القدیمة، و أوّل من أنشأها: الوزیر یعقوب بن یونس بن کاس وزیر العزیز بالله، ثم سکنها الوزیر الناصر للدین قاضی القضاة، و داعی الدعاة علم المجد أبو
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 390
محمد الحسن بن علیّ بن عبد الرحمن البازوریّ، و ما زالت سکن الوزراء إلی أن قدم أمیر الجیوش بدر الجمالیّ من عکا، و وزره المستنصر، و صار وزیرا مستبدّا، فأنشأ داره: بحارة برجوان، و سکنها و سکن من بعده ابنه الأفضل ابن أمیر الجیوش بدار القباب التی عرفت:
بدار الوزارة الکبری، و صارت هذه الدار تعرف: بدار الدیباج، لأنه یعمل فیها الحریر الدیباج، و یتولاها الأماثل و الأعیان.
فمن ولیها أبو سعید بن قرقة الطبیب متولی خزائن السلاح، و خزائن السروج و الصناعات، فلما انقرضت الدولة الفاطمیة بنی الناس فی مکان دار الدیباج المدرسة السیفیة، و ما وراءها من المواضع التی تعرف أماکنها الیوم: بدرب الحریریّ، و ما جاور هذا الدرب إلی المدرسة الصاحبیة، و ما بجوارها و ما هو فی ظهرها، فصار یعرف خط دار الدیباج فی زمننا بخط سویقة الصاحب.
الأهراء السلطانیة : و کانت أهراء الغلال السلطانیة فی دولة الخلفاء الفاطمیین حیث المواضع التی فیها الآن خزانة شمائل، و ما وراءها إلی قرب الحارة الوزیریة.
قال ابن الطویر: و أما الأهراء فإنها کانت فی عدّة أماکن بالقاهرة و هی الیوم:
اصطبلات و مناخات، و کانت تحتوی علی ثلثمائة ألف أردب من الغلات، و أکثر من ذلک.
و کان فیها مخازن یسمی أحدها: بغدای، و آخر: الفول، و آخر: القرافة، و لها الحماة من الأمراء و المشارفین من العدول، و المراکب واصلة إلیها بأصناف الغلات إلی ساحل مصر، و ساحل المقس، و الحمالون یحملون ذلک إلیها بالرسائل علی ید رؤساء المراکب، و أمنائها من کل ناحیة سلطانیة، و أکثر ذلک من الوجه القبلیّ، و منها إطلاق الأقوات لأرباب الرتب و الخدم و أرباب الصدقات، و أرباب الجوامع، و المساجد، و جرایات العبید السودان بتعریفات، و ما ینفق فی الطواحین برسم خاص الخلیفة، و هی طواحین مدارها سفل، و طواحینها علو حتی لا تقارب زبل الدواب، و یحمل دقیقها للخاص، و ما یختص بالجهات فی خرائط من شقق حلبیة.
و من الأهراء تخرج جرایات رجال الأسطول، و فیها ما هو قدیم یقطع بالمساحی، و یخلط فی بعض الجرایات بالجدید بجرایات المذکورین و جرایات السودان، و منها ما یستدعی بدار الضیافة لإخباز الرسل، و من یتبعهم، و ما یعمل من القمح برسم الکعک لزاد الأسطول، فلا یفتر مستخدموها من دخل و خرج و لهم جامکیة ممیزة، و جرایات برسم أقواتهم، و شعیر لدوابهم و ما یقبض من الواصلین بالغلال إلّا ما یماثل العیون المختومة معهم، و إلّا ذرّی، و طلب العجز بالنسبة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 391
و ذکر ابن المأمون: أن غلّات الوجه القبلیّ، کانت تحمل إلی الأهراء، و أما الأعمال البحریة، و البحیرة و الجزیرتان و الغربیة و الکفور، و الأعمال الشرقیة، فیحمل منها الیسیر، و یحمل باقیها إلی الإسکندریة، و دمیاط و تنیس لیسیر إلی ثغر عسقلان، و ثغر صور، و إنه کان یسیر إلیهما فی کل سنة مائة و عشرون ألف أردب، منها العسقلان خمسون ألفا، و لصور: سبعون ألفا، فیصیر هناک ذخیرة، و یباع منها عند الغنی عنها.
قال: و کان متحصل الدیوان فی کل سنة ألف ألف أردب.
و ذکر جامع السیرة البازوریة: أن المتجر کان یقام به للدیوان من الغلة، و أن الوزیر أبا محمد البازوریّ قال للخلیفة المستنصر: و هو یومئذ یتقلّد وظیفة قاضی القضاة، و قد قصر النیل فی سنة أربع و أربعین و أربعمائة و لم یکن بالمخازن السلطانیة غلال، فاشتدّت المسغبة بأمیر المؤمنین: إنّ المتجر الذی یقام بالغلة فیه أو فی مضرّة علی المسلمین، و ربما أقحط السعر من مشتراها، و لا یمکن بیعها، فتتغیر فی المخازن و تتلف، و إنه یقام متجر لا کلفة فیه علی الناس، و یفید أضعاف فائدة الغلة، و لا یخشی علیه من تغیر فی المخازن، و لا انحطاط سعر، و هو الصابون و الخشب و الحدید، و الرصاص، و العسل، و ما أشبه ذلک، فأمضی الخلیفة ما رآه، و استمرّ ذلک و دام الرخاء علی الناس و توسعوا.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 392

ذکر المناظر التی کانت للخلفاء الفاطمیین، و مواضع نزههم ما کان لهم فیها من أمور جمیلة

اشارة

و کان للخلفاء الفاطمیین: مناظر کثیرة بالقاهرة و مصر، و الروضة، و القرافة، و برکة الحبش، و ظواهر القاهرة، و کانت لهم عدّة منتزهات أیضا فمن مناظرهم التی بالقاهرة:
منظرة الجامع الأزهر، و منظرة اللؤلؤة علی الخلیج، و منظرة الدکة، و منظرة المقس، و منظرة باب الفتوح، و منظرة البعل، و منظرة التاج، و الخمس وجوه، و منظرة الصناعة بمصر، و دار الملک، و منازل العز، و الهودج بالروضة، و منظرة برکة الحبش، و الأندلس بالقرافة و قبة الهواء، و منظرة السکرة، و کان من منتزهاتهم کسر خلیج أبی المنجا، و قصر الورد بالخرقانیة، و برکة الجب.
منظرة الجامع الأزهر: و کان بجوار الجامع الأزهر من قبلیه: منظرة تشرف علی الجامع الأزهر یجلس الخلیفة فیها لمشاهدة لیالی الوقود.
ذکر لیالی الوقود : قال المسبحیّ فی حوادث شهر رجب من سنة ثمانین و ثلثمائة:
و فیه خرج الناس فی لیالیه علی رسمهم فی لیالی الجمع، و لیلة النصف إلی جامع القاهرة یعنی الجامع الأزهر عوضا عن القرافة، و زید فیه فی الوقید علی حافات الجامع، و حول صحنه التنانیر، و القنادیل، و الشمع علی الرسم فی کل سنة، و الأطعمة، و الحلوی و البخور فی مجامر الذهب و الفضة، و طیف بها، و حضر القاضی محمد بن النعمان فی لیلة النصف بالمقصورة، و معه شهوده و وجوه البلد، و قدّمت إلیه سلال الحلوی و الطعام، و جلس بین یدیه القرّاء، و غیرهم و المنشدون، و الناحة و أقام إلی نصف اللیل، و انصرف إلی داره بعد أن قدّم إلی من معه أطعمة من عنده و بخرهم.
و قال فی شعبان و کان الناس فی کل لیلة جمعة، و لیلة النصف علی مثل ما کانوا علیه فی رجب، و أزید، و فی لیلة النصف من شعبان: کان الناس جمع عظیم بجامع القاهرة من الفقهاء، و القرّاء، و المنشدین، و حضر القاضی محمد بن النعمان فی جمیع شهوده، و وجوه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 393
البلد، و وقدت التنانیر و المصابیح علی سطح الجامع، و دور صحنه، و وضع الشمع علی المقصورة و فی مجالس العلماء، و حمل إلیهم العزیز بالله بالأطعمة، و الحلوی و البخور، فکان جمعا عظیما.
قال: و فی شهر رجب سنة اثنتین و أربعمائة: قطع الرسم الجاری من الخبز، و الحلوی الذی یقام فی هذه الثلاثة الأشهر لمن یبیت بجامع القاهرة فی لیالی الجمع، و الأنصاف و حضر قاضی القضاة مالک بن سعید الفارقیّ إلی جامع القاهرة لیلة النصف من رجب، و اجتمع الناس بالقرافة علی ما جرت به رسومهم من کثرة اللعب و المزاح.
روی الفاکهیّ فی کتاب مکة: أن عمر بن الخطاب رضی اللّه عنه، کان یصیح فی أهل مکة، و یقول: یا أهل مکة أوقدوا لیلة هلال المحرّم فأوضحوا فجاجکم لحاج بیت اللّه، و احرسوهم لیلة هلال المحرّم، حتی یصبحوا، و کان الأمر علی ذلک بمکة فی هذه اللیلة، حتی کانت ولایة عبد اللّه بن محمد بن داود علی مکة، فأمر الناس أن یوقدوا لیلة هلال رجب، فیحرسوا عمار أهل الیمن، ففعلوا ذلک فی ولایته، ثم ترکوه بعد.
و فی لیلة النصف من رجب سنة خمس عشرة و أربعمائة: حضر الخلیفة الظاهر لإعزاز دین اللّه أبو هاشم علیّ بن الحاکم بأمر اللّه، و معه السیدات، و خدم الخاصة و غیرهم، و سائر العامّة و الرعایا، فجلس الخلیفة فی المنظرة، و کان فی لیلة شعبان أیضا اجتماع لم یشهد مثله من أیام العزیز بالله، و أوقدت المساجد کلها أحسن و قید، و کان مشهدا عظیما بعد عهد الناس بمثله، لأنّ الحاکم بأمر اللّه کان أبطل ذلک، فانقطع عمله.
و قال ابن المأمون: و لما کانت لیلة مستهل رجب، یعنی من سنة ست عشرة و خمسمائة عملت الأسمطة الجاری بها العادة، و جلس الخلیفة الآمر بأحکام اللّه علیها، و الأجلّ المأمون الوزیر، و من جرت عادته بین یدیه، و أظهر الخلیفة من المسرّة و الانشراح، ما لم تجریه عادته، و بالغ فی شکره وزیره، و إطرائه و قال: قد أعدت لدولتی بهجتها، و جدّدت فیها من المحاسن ما لم یکن، و قد أخذت الأیام نصیبها من ذلک، و بقیت اللیالی و قد کان بها مواسم قد زال حکمها، و کان فیها توسعة و برّ و نفقات، و هی لیالی الوقود الأربع، و قد آن وقتهنّ فأشتهی نظرهنّ، فامتثل الأمر و تقدّم بأن یحمل إلی القاضی خمسون دینارا یصرفها فی ثمن الشمع.
و أن یعتمد الرکوب فی الأربع اللیالی و هی: لیلة مستهل رجب، و لیلة نصفه، و لیلة مستهل شعبان، و لیلة نصفه، و أن یتقدّم إلی جمیع الشهود بأن یرکبوا صحبته، و أن یطلق
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 394
للجوامع و المساجد توسعة فی الزیت برسم الوقود، و یتقدّم إلی متولی بیت المال بأن یهتمّ برسم هذه اللیالی من أصناف الحلاوات مما یجب برسم القصور، و دار الوزارة خاصة.
و قال فی سنة سبع عشرة و خمسمائة: و فی اللیلة التی صبیحتها مستهل رجب، حضر القاضی أبو الحجاب یوسف بن أیوب المغربیّ، و وقع له بما استجدّ إطلاقه فی العام الماضی، و هو خمسون دینارا من بیت المال، لابتیاع الشمع برسم أوّل لیلة من رجب، و استدعی ما هو برسم التعبیتین، إحداهما: للمقصورة، و الأخری: للدار المأمونیة بحکم الصیام من مستهل رجب إلی سلخ رمضان ما یصنع فی دار الفطرة خشکنانج صغیر و بسندود فی کل یوم قنطار سکر و مثقالان مسکا، و دیناران مؤنة.
و کان یطلق فی أربع لیالی الوقود برسم الجوامع الستة: الأزهر و الأقمر و الأنور بالقاهرة، و الطولونیّ، و العتیق بمصر، و جامع القرافة، و المشاهد التی تضمنت الأعضاء الشریفة، و بعض المساجد التی لأربابها و جاهة جملة کبیرة من الزیت الطیب، و یختص بجامع راشدة، و جامع ساحل الغلة بمصر و الجامع بالمقس یسیر قال: و لقد حدّثنی القاضی المکین بن حیدرة، و هو من أعیان الشهود أنّ من جملة الخدم التی کانت بیده مشارفة الجامع العتیق، و أن القومة بأجمعهم کانوا یجتمعون قبل لیلة الوقود بمدّة إلی أن یکملوا ثمانیة عشر ألف فتیلة، و أنّ المطلق برسمه خاصة فی کل لیلة برسم وقوده: أحد عشر قنطارا و نصف قنطار زیت طیب. و ذکر رکوب القاضی و الشهود فی اللیلة المذکورة علی جاری العادة.
قال: و توجه الوزیر المأمون یوم الجمعة ثانی الشهر بموکبه إلی مشهد السیدة نفیسة، و ما بعده من المشاهد، ثم إلی جامع القرافة، و بعده إلی الجامع العتیق بمصر، و قد عمّ معروفه جمیع الضعفاء، و قومة المساجد و المشاهد، و صلی الجمعة و عند انقضاء الصلاة، احضر إلیه الشریف الخطیب المصحف الذی بخط أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، فوقع بإطلاق ألف دینار من ماله، و أن یصاغ علیه فوق حلیة الفضة حلیة ذهب، و کتب علیه اسمه، و فی الخامس عشر من الشهر المذکور لیلة الوقود جری الحال فی رکوب القاضی، و شهوده علی الترتیب الذی تقدّم فی أوّل الشهر، و لما وصل إلی الجامع وجده قد عبی‌ء فی الرواق الذی عن یمین الخارج منه سماط کعک، و خشکنانج، و حلوی، فجلس علیه بشهود، و نهبه الفقراء، و المساکین، و توجه بعده إلی ما سواه من جامع القرافة و غیره، فوجد فی رواق الجامع المذکور سماطا مثل السماط المذکور، فاعتمد فیه علی ما ذکره، و له أیضا رسم صدقة فی هذا النصف للفقراء، و أهل الربط، مما یفرّقه القاضی عشرة دنانیر یفرّقها القاضی.
و قال ابن الطویر: إذا مضی النصف من جمادی الآخرة، و کان عدده عندهم تسعة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 395
و عشرین یوما، أمر أن یسبک فی خزائن دار أفتکین: ستون شمعة وزن کل شمعة منها:
سدس قنطار بالمصریّ، و حملت إلی دار قاضی القضاة لرکوب لیلة مستهل رجب، فإذا کان بعد صلاة العصر من ذلک الیوم اهتمّ الشهود أیضا، فمنهم من یرکب بثلاث شمعات إلی اثنتین إلی واحدة، و یمضی أهل مصر منهم إلی القاهرة، فیصلون المغرب فی الجوامع و المساجد، ثم ینتظرون رکوب القاضی، فیرکب من داره بهیئته، و أمامه الشمع المحمول إلیه موقودا مع المندوبین لذلک من الفرّاشین من الطبقة السفلی، من کل جانب: ثلاثون شمعة، و بینهما المؤذنون بالجوامع یذکرون اللّه تعالی، و یدعون للخلیفة و الوزیر، بترتیب مقدّر محفوظ، و یندب فی حجبته: ثلاثة من نوّاب الباب، و عشرة من الحجاب، خارجا عن حجاب الحکم المستقرّین، و عدّتهم: خمسة فی زیّ الأمراء، و فی رکابه القرّاء یطرّبون بالقراءة و الشهود وراءه علی الترتیب فی جلوسهم بمجلس الحکم، الأقدم فالأقدم، و حوالی کل واحد ما له من شمع، فیشقون من أوّل شارع فیه دار القاضی إلی بین القصرین، و قد اجتمع من العالم فی وقت جوازهم ما لا یحصی کثرة رجالا و نساء، و صبیانا بحیث لا یعرف الرئیس من المرؤوس، و هو مارّ إلی أن یأتی هو و الشهود باب الزمرّذ من أبواب القصر فی الرحبة الوسیعة تحت المنظرة العالیة فی السعة العظیمة من الرحبة المذکورة، و هی التی تقابل درب قراصیا، فیحضر صاحب الباب، و والی القاهرة و القرّاء، و الخطباء کما شرحنا فی الموالید الستة و یترجلون تحتها ریثما یجلس الخلیفة فیها، و بین یدیه شمع و یبین شخصه، و یحضر بین یدیه الخطباء الثلاثة، و یخطبون کالموالید، و یذکرون استهلال رجب، و أن هذا الرکوب علامته.
ثم یسلم الأستاذ من الطاقة الأخری استفتاحا و انصرافا کما ذکرنا، ثم یرکب الناس إلی دار الوزارة، فیدخل القاضی و الشهود إلی الوزیر، فیجلس لهم فی مجلسه و یسلمون علیه، و یخطب الخطباء أیضا بأخف من مقام الخلیفة، و یدعون له و یخرجون عنه، فیشق القاضی و الجماعة القاهرة، و ینزل علی باب کل جامع بها، و یصلی رکعتین، ثم یخرج من باب زویلة طالبا مصر بغیر نظام و والی القاهرة فی خدمته الیوم مستکثرا من الأعوان، و الحفظة فی الطرقات إلی جامع ابن طولون، فیدخل القاضی إلیه للصلاة، فیجد والی مصر عنده للقاء القوم و خدمتهم، فیدخل المشاهد التی فی طریقه أیضا، فإذا وصل إلی باب مصر ترتب کما ترتب فی القاهرة، و سار شاقا الشارع الأعظم إلی باب الجامع من الزیادة التی یحکم فیها، فیوقد له التنور الفضة الذی کان معلقا فیه، و کان ملیحا فی شکله، و تعلیقه غیر منافر فی الطول و العرض واسع التدویر فیه عشر مناطق فی کل منطقة: مائة و عشرون بزاقة، و فیه سروات بارزة مثل النخیل فی کل واحدة عدّة بزاقات تقرب عدّة ذلک من ثلثمائة، و معلق بدائر سفله: مائة قندیل نجومیة، و یخرج له الحاکم فإن کان ساکنا بمصر استقرّ بها و إن کان ساکنا بالقاهرة وقف له والی القاهرة بجامع ابن طولون، فیودّعه والی مصر، و یسیر معه والی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 396
القاهرة إلی داره، فإذا مضی من رجب أربعة عشر یوما: رکب لیلة الخامس عشر کذلک، و فیه زیارة طلوعه بعد صلاته بجامع مصر إلی القرافة لیصلی فی جامعها، و الناس یجتمعون له لینظروه، و من معه فی کل مکان، و لا یملون من ذلک فإذا انقضت هذه اللیلة: استدعی منه الشمع لیکمل بعضه، حتی یرکب به فی أوّل شعبان، و نصفه علی الهیئة المذکورة و الأسواق معمورة بالحلواء، و یتفرّغ الناس لذلک هذه الأربع اللیالی.
منظرة للؤلؤة: و کان للخلفاء الفاطمیین، منظرة تعرف: بقصر اللؤلؤة، و بمنظرة اللؤلؤة علی الخلیج بالقرب من باب القنطرة، و کان قصرا من أحسن القصور، و أعظمها زخرفة، و هو أحد منتزهات الدنیا المذکورة، فإنه کان یشرف من شرقیه علی البستان الکافوریّ، و یطل من غربیه علی الخلیج، و کان غربیّ الخلیج، إذ ذاک لیس فیه من المبانی شی‌ء، و إنما کان فیه بساتین عظیمة، و برکة تعرف ببطن البقرة، فیری الجالس فی قصر اللؤلؤة جمیع أرض الطبالة ، و سائر أرض اللوق ، و ما هو من قبلیها، و یری بحر النیل من وراء البساتین.
قال ابن میسر: هذه المنظرة بناها العزیز بالله، و لما ولی برجوان الحاکم بأمر اللّه بعد أمین الدولة بن عمار الکتامیّ: سکن بمنظرة اللؤلؤة فی جمادی الأولی سنة ثمان و ثمانین و ثلثمائة، إلی أن قتل، و فی السادس و العشرین من ربیع الآخر سنة اثنتین و أربعمائة: أمر الحاکم بأمر اللّه بهدم اللؤلؤة، و نهبها، فهدمت، و نهبت و بیع ما فیها.
و قال المسبحیّ: و فی سادس عشری ربیع الآخر، یعنی سنة اثنتین و أربعمائة: أمر الحاکم بأمر اللّه بهدم الموضع المعروف: باللؤلؤة علی الخلیج موازاة المقس، و أمر بنهب أنقاضه، فنهبت کلها، ثم قبض علی من وجد عنده شی‌ء من نهب أنقاض اللؤلؤة و اعتقلوا.
و قال ابن المأمون: و لما وقع الاهتمام بسکن اللؤلؤة، و المقام فیها مدّة النیل علی الحکم الأوّل یعنی قبل وزارة أمیر الجیوش بدر و ابنه الأفضل، أمر بإزالة ما لم تکن العادة جاریة به من مضایقها بالبناء، و لما بدت زیادة النیل، و عوّل الخلیفة الآمر بأحکام اللّه علی السکن باللؤلؤة أمر الأجلّ الوزیر المأمون: بأخذ جماعة الفرّاشین الموقوفین برسم خدمتها بالمبیت بها علی سبیل الحراسة لا علی سبیل السکن بها، و عندما بلغ النیل: ستة عشر ذراعا أمر بإخراج الخیم.
و عندما قارب النیل الوفاء: تحوّل الخلیفة فی اللیل من قصوره بجمیع جهاته و إخوته،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 397
و أعمامه، و السیدات کرائمه، و عماته إلی اللؤلؤة، و تحوّل المأمون إلی دار الذهب، و أسکن الشیخ أبا الحسن محمد بن أبی أسامة الغزالة علی شاطی‌ء الخلیج، و سکن حسام الملک:
حاجب الباب داره علی الخلیج، و أمر متولی المعونة أن یکشف الآدر المطلة علی الخلیج قبلیّ اللؤلؤة، و لا یمکن أحدا من السکن فی شی‌ء منها إلّا من کان له ملک، و من کان ساکنا بالأجرة ینقل، و یقام بالأجرة لرب الملک لیسکن بها حواشی الخلیفة مدّة سنة، و قرّر من التوسعة فی النفقات، و ما یکون برسم المستخدمین فی المبیتات ما یختص برواتب القصور مدّة المقام فی اللؤلؤة فی أیام النیل میاومة من الغنم و الحیوان، و جمیع الأصناف، و هی جملة کبیرة و أمر متولی الباب أن یندب فی کل یوم خروف شواء، و قنطار خبز، و کذلک جمیع الدروب من یحرسها، و یطلق لهم برسم الغداء مثل ذلک، و تکون نوبة دائرة بینهم، و بقیة مستخدمی الرکاب ملازمون لأبواب القصر علی رسمهم، و فی یومی الرکوب یجتمعون للخدمة إلّا من هو فی نوبته فیما رسم له، و أمر متولی زمام الممالیک الخاص أن یکونوا بأجمعهم، حیث یکون الخلیفة، و فی اللیل یبیت منهم عدّة برسم الخدمة تحت اللؤلؤة، و لهم فی کل یوم مثل ما تقدّم، و الرهجیة تقسم قسمین أحدهما: علی أبواب القصور، و الآخر: علی أبواب اللؤلؤة، و أصحاب الضوء مثل ذلک، و قرّر للجماعة المقدّم ذکرها فی اللیل عن رسم المبیت، و عن ثمن الوقود ما یخرج إلیهم مختوما بأسماء کل منهم و یعرضهم متولی الباب فی کل لیلة بنفسه عند رواحه و عوده، و کذلکما یختص بدار الذهب من الحرس علیها من باب سعادة، و من باب الخوخة، و لهم رسوم کما تقدّم لغیرهم و المتفرّجون یخرجون کل لیلة للنزهة علیهم، و یقیمون إلی بعض اللیل حتی ینصرفوا من غیر خروج فی شی‌ء من ذلک عما یوجبه الشرع، و فی یومی السلام یمضی الخلیفة من قصوره، بحیث لا یراه، إلّا أستاذوه و خواصه إلی قاعة الذهب من القصر الکبیر الشرقیّ، و یحضر الوزیر علی عادته إلیه، فیکون السلام بها علی مستمرّ العادة، و الأسمطة بها فی یومی الاثنین و الخمیس، و تکون الرکوبات من اللؤلؤة فی یومی السبت و الثلاثاء إلی المنتزهات.
و قال فی سنة سبع عشرة و خمسمائة، و لما جری النیل، و بلغ خمسة عشر ذراعا: أمر بإخراج الخیام، و المضارب الدیبقیّ، و الدیباج و تحوّل الخلیفة الآمر بأحکام اللّه إلی اللؤلؤة بحاشیته و أطلقت التوسعة فی کل یوم لما یخص الخاص، و الجهات و الأستاذین من جمیع الأصناف، و انضاف إلیها ما یطلق کل لیلة عینا و ورقا، و أطعمة للبیاتین بالنوبة برسم الحرس بالنهار، و الشهر فی طول اللیل من باب القنطرة بما دار إلی مسجد اللیمونة من التزین من صبیان الخاص و الرکاب، و الرهجیة و السودان، و الحجاب کل طائفة بنقیبها و العرض من متولی الباب واقع بالعدّة فی طرفی کل لیلة، و لا یمکن بعضهم بعضا من المنام و الرهجیة تخدم علی الدوام، و تحوّل الوزیر المأمون إلی دار الذهب، وی 4 لقت التوسعة، و الحال فی إطلاق الأسمطة لهم فی اللیل و النهار مستمرّ.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 398
و قال ابن عبد الظاهر : المنظرة المعروفة باللؤلؤة علی برّ الخلیج بناها: الظاهر لإعزاز دین اللّه بن الحاکم یعنی بعدما هدمها أبوه الحاکم، و کانت معدّة لنزهة الخلفاء، و کان التوصل إلیها من القصر یعنی القصر الغربیّ، من باب مراد، و أظنه فیما ذکر لی: علم الدین بن مماتی الوراق، لأنه شاهد فی کتب دار ابن کوخیا التیقة أنه بابها، و کان عادة الخلفاء أن یقیموا بها أیام النیل، و لما حصل التوهم من النزاریة، و الحشیشیة قبل تصرّفهم لا سیما لصغر سنّ الخلیفة، و قلة حواشیه، أمر بسدّ باب مراد المذکور الذی یتوصل منه إلی الکافوریّ، و إلی اللؤلؤة، و أسکن فی بعضها فرّاشین لحفظها، فإن کان فی صبیحة کسر الخلیج استؤذن الأفضل ابن أمیر الجیوش فی فتح باب مراد الذی یتوصل منه إلی اللؤلؤة و غیرها، فیفتح و یروح الخلیفة لیتفرّج هو و أهله من النساء، ثم یعود، و یسدّ الباب هذا إلی آخر أیام الأفضل، فلما راجع الوزیر المأمون فی ذلک سارع إلیه، فأصلحت و أزیل ما کان أنشئ قبالتها علی ما سیذکر فی مکانه إن شاء اللّه تعالی.
و مات بقصر اللؤلؤة من خلفاء الفاطمیین: الآمر بأحکام اللّه، و الحافظ لدین اللّه، و الفائز، و حملوا إلی القصر الکبیر الشرقیّ من السرادیب. و لما قدم نجم الدین أیوب بن شادی من الشام علی ولده: صلاح الدین یوسف، و خرج الخلیفة العاضد لدین اللّه إلی لقائه بصحراء الهلیلج بآخر الحسینیة عند مسجد تبر ، أنزل بمنظرة اللؤلؤة، فسکنها حتی مات فی سنة سبع و ستین و خمسمائة، و اتفق أن حضر یوما عنده الفقیه نجم الدین عمارة الیمنیّ، و الرضی أبو سالم یحیی الأحدب بن أبی حصیبة الشاعر فی قصر اللؤلؤة بعد موت الخلیفة العاضد، فأنشد ابن أبی حصیبة نجم الدین أیوب فقال:
یا مالک الأرض لا أرضی له طرفامنها و ما کان منها لم یکن طرفا
قد عجل اللّه هذی الدار تسکنهاو قد أعدّ لک الجنات و الغرفا
تشرّفت بک عمن کان یسکنهافالبس بها العزّ و لتلبس بک الشرفا
کانوا بها صدقا و الدار لؤلؤةو أنت لؤلؤة صارت لها صدفا
فقال الفقیه عمارة یرد علیه:
أثمت یا من هجا السادات و الخلفاو قلت ما قلته فی ثلبهم سخفا
جعلتهم صدفا حلوا بلؤلؤةو العرف ما زال سکنی اللؤلؤ الصدفا
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 399 و إنما هی دار حل جوهرهم‌فیها وشف فأسناها الذی وصفا
فقال لؤلؤة عجبا ببهجتهاو کونها حوت الأشراف و الشرفا
فهم بسکناهم الآیات إذ سکنوافیها و من قبلها قد أسکنوا الصحفا
و الجوهر الفرد نور لیس یعرفه‌من البریة إلا کل من عرفا
لو لا تجسمهم فیه لکان علی‌ضعف البصائر للأبصار مختطفا
فالکلب یا کلب أسنی منک مکرمةلأن فیه حفاظا دائما و وفا
فللّه درّ عمارة لقد قام بحق الوفاء، و وفی بحسن الحفاظ، کما هی عادته، لا جرم أنه قتل فی واجب من یهوی کما هی سنة المحبین فاللّه یرحمه و یتجاوز عنه.
منظرة الغزالة : و کان بجوار منظرة اللؤلؤة منظرة تعرف: بالغزالة علی شاطی‌ء الخلیج تقابل حمام ابن قرقة و قد خربت هذه المنظرة أیضا، و موضعها الآن تجاه باب جامع ابن المغربیّ الذی من ناحیة الخلیج، و قد خربت أیضا حمام ابن قرقة، و صار موضعها فندقا بجوار حمام السلطان التی هناک یعرف بفندق عماد، و موضع منظرة الغزالة الیوم ربع یعرف بربع غزالة إلی جانب قنطرة الموسکیّ فی الحدّ الشرقیّ، و کان یسکن بهذه المنظرة الأمیر أبو القاسم بن المستنصر والد الحافظ لدین اللّه، ثم سکنها أبو الحسن بن أبی أسامة کاتب الدست، و کان بعد ذلک ینزلها من یتولی الخدمة فی الطراز أیام الخلفاء.
قال ابن المأمون: لما ذکر تحوّل الخلیفة الأمر بأحکام اللّه إلی اللؤلؤة: و أسکن الشیخ أبا الحسن بن أبی أسامة کاتب الدست الغزالة التی علی شاطی‌ء الخلیج، و لم یسکن أحد فیها قبله ممن یجری مجراه و لا کانت إلّا سکن الأمیر أبی القاسم ولد المستنصر، ولد الإمام الحافظ.
قال: و أما ما یذکره الطرّاز، فالحکم فیه مثل الاستیمار و الشائع فیها أنها کانت تشتمل فی الأیام الأفضلیة علی أحد و ثلاثین ألف دینار، فمن ذلک السلف خاصة خمسة عشر ألف دینار قیمة الذهب العراقیّ، و المصریّ ستة عشر ألف دینار، ثم اشتملت فی الأیام المأمونیة علی ثلاثة و أربعین ألف دینار، و تضاعفت فی الأیام الآمریة.
و قال ابن الطویر: الخدمة فی الطراز، و ینعت بالطراز الشریف، و لا یتولاه إلّا أعیان المستخدمین من أرباب العمائم و السیوف، و له اختصاص بالخلیفة دون کافة المستخدمین، و مقامه بدمیاط، و تنیس و غیرهما و جاریة أمیر الجواری، و بین یدیه من المندوبین مائة رجل لتنفیذ الاستعمالات بالقری، و له عشاریّ دتماس مجرّد معه، و ثلاثة مراکب من الدکاسات،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 400
و لها رؤساء، و نواتیة لا یبرحون و نفقاتهم جاریة من مال الدیون، فإذا وصل بالاستعمالات الخاصة التی منها المظلة، و بدلتها و البدنة و اللباس الخاص الجمعیّ، و غیره هیئ بکرامة عظیمة، و ندب له دابة من مراکیب الخلیفة لا تزال تحته حتی یعود إلی خدمته و ینزل فی الغزالة علی شاطی‌ء الخلیج، و کانت من المناظر السلطانیة، و جدّدها شعاع بن شاور، و لو کان لصاحب الطراز فی القاهرة عشرة دور، لا یمکن من نزوله إلّا بالغزالة، و تجری علیه الضیافة کالغرباء الواردین علی الدولة، فیمتثل بین یدی الخلیفة بعد حمل الأسفاط المشدودة علی تلک الکساوی العظیمة، و یعرض جیع ما معه، و هو ینبه علی شی‌ء فشی‌ء بید فراشی الخاص فی دار الخلیفة مکان سکنه، و لهذا حرمة عظیمة، و لا سیما إذا وافق استعماله غرضهم. فإذا انقضی عرض ذلک بالمدرج الذی یحضر سلم لمستخدم الکسوات، و خلع علیه بین یدی الخلیفة باطنا و لا یخلع علی أحد کذلک سواه، ثم ینکفئ إلی مکانه، و له فی بعض الأوقات التی لا یتسع له الانفصال نائب یصل عنه بذلک غیر غریب منه، و لا یمکن أن یکون إلّا ولدا أو أخا، فإن الرتبة عظیمة، و المطلق له من الجامکیة فی الشهر سبعون دینارا، و لهذا النائب: عشرون دینارا، لأنه یتولی عنه إذا وصل بنفسه، و یقوم إذا غاب فی الاستعمال مقامه و من أدواته أنه إذا عبی‌ء ذلک فی الأسفاط: استدعی والی ذلک المکان لیشاهد عند ذلک، و یکوعن الناس کلهم قیاما لحلول نفس المظلة، و ما یلیها من خاص الخلیفة فی مجلس دار الطراز، و هو جالس فی مرتبته، و الوالی واقف علی رأسه خدمة لذلک، و هذا من رسوم خدمته و میزتها.
دار الذهب: و کان بجوار الغزالة: دار الذهب، و موضعها الآن علی یسرة الخارج من باب الخوخة، فیما بینه و بین باب سعادة، و کانت مطلة علی الخلیج فی مکانها الیوم دار تعرف: ببهادر الأعسر، و بقی منها عقد بجوار دار الأعسر یعرف الآن: بقبو الذهب من خطة بین السورین.
قال ابن المأمون: لما ذکر تحوّل الخلیفة الآمر بأحکام اللّه إلی اللؤلؤة: ثم أحضر الوزیر المأمون وکیله أبا البرکات محمد بن عثمان، و أمره أن یمضی إلی داری الفلک و الذهب اللتین علی شاطی‌ء الخلیج، فالدار الأولی التی من حیز باب الخوخة بناها فلک الملک، و ذکر أنه من الأستاذین الحاکمیة و لم تکن تعرف إلّا بدار الفلک، و لما بنی الأفضل ابن أمیر الجیوش، الدار الملاصقة لها التی من حیز باب سعادة، و سماها دار الذهب غلب الاسم علی الدارین، و یصلح ما فسد منهما، و یضیف إلیهما دار الشابورة، و ذکر أن هذه الدار لم تسمّ بهذا الاسم إلّا لأن جزءا منها بیع فی أیام الشدّة فی زمن المستنصر بشابورة.
قال: و عندما قارب النیل أقاربه، تحوّل الخلیفة فی اللیل من قصوره بجمیع جهاته و إخوته و أعمامه و السیدات کرائمه، و عماته إلی اللؤلؤة، و تحوّل الأجل المأمون بالأجلاء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 401
أولاده، إلی دار الذهب، و ما أضیف إلیها.
و قال ابن عبد الظاهر: دار الذهب بناها: الأفضل بن أمیر الجیوش، و کانت عادة الأفضل أن یستریح بها إذا کان الخلیفة باللؤلؤة یکون هو بدار الذهب و کذلک کان المأمون من بعده، و کان حرس دار الذهب یسلم للوزیریة من باب سعادة یسلم لهم، و من باب الخوخة للمصامدة أرباب الشعور، و صبیان الخاص، و کان المقرّر لهم فی کل یوم سماطین، أحدهما بقاعة الفلک للممالیک الخاص، و الحاشیة، و أرباب الرسوم، و الآخر علی باب الدار برسم المصامدة حتی أنه من اجتاز و رأی أنه یجلس معهم علی السماط لا یمنع، و الضعفاء، و الصعالیک یقعدون بعدهم، و فی أوّل اللیل بمثل ذلک، و لکل منهم رسم لجمیع من یبیت من أرباب الضوء إلی الأعلی.
منظرة السکرة: و کان من جملة مناظر الخلفاء، منظرة تعرف بمنظرة السکرة فی برّ الخلیج الغربیّ یجلس فیها الخلیفة یوم فتح الخلیج، و کان لها بستان عظیم بناها العزیز بالله بن المعز، و قد دثرت هذه المنظرة، و یشبه أن یکون موضعها فی المکان الذی یقال له الیوم:
المریس قریبا من قنطرة السدّ، و کانت السکرة من جنات الدنیا المزخرفة، و فیها عدّة أماکن معدّة لنزول الوزیر، و غیره من الأستاذین.

ذکر ما کان یعمل یوم فتح الخلیج

قال ابن زولاق فی کتاب سیرة المعز لدین اللّه: و فی ذی القعدة، یعنی من سنة اثنتین و ستین و ثلثمائة، و هی السنة التی قدم فیها الخلیفة المعز لدین اللّه إلی القاهرة من بلاد المغرب، رکب المعز لدین اللّه علیه السلام، لکسر خلیج القنطرة، فکسر بین یدیه، ثم سار علی شاطی‌ء النیل، حتی بلغ إلی بنی وائل، و مرّ علی سطح الجرف فی موکب عظیم و خلفه وجوه أهل الدولة، و معه أبو جعفر أحمد بن نصر یسیر معه، و یعرّفه بالمواضع التی یجتاز علیها، و نجعت له الرعیة بالدعاء، ثم عطف علی برکة الحبش، ثم علی الصحراء علی الخندق الذی حفره القائد جوهر، و مرّ علی قبر کافور و علی قبر عبد اللّه بن أحمد بن طباطبا الحسنیّ و عرّفه، ثم عاد إلی قصره.
و ذکر الأمیر المسبحیّ فی تاریخه الکبیر: رکوب العزیز بالله بن المعز، و رکوب الحاکم بأمر اللّه بن العزیز، و رکوب الظاهر لإعزاز دین اللّه بن الحاکم فی کل سنة لفتح الخلیج.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 402
و قال ابن المأمون: فی سنة ست عشرة و خمسمائة، و عندما بلغ النیل ستة عشر ذراعا أمر بإخراج الخیم، و أن یضرب الثوب الکبیر الأفضلیّ المعروف بالقاتول، و هو أعظم ما فی الحاصل بأربعة دهالیز و أربع قاعات خارجا عن القاعة الکبیرة، و مساحته علی ما ذکر: ألف ألف ذراع، و أربعمائة ذراع بالذراع الکبیر خارجا عن القاعة الکبیرة، منه ارتفاعه: خمسون ذراعا، و لما کمل استعماله فی أیام الأفضل، و نصب تأذی منه جماعة، و مات رجلان، فسمی: بالقاتول لأجل ذلک، و ما زال لا یضرب إلّا بحضور المهندسین، و تنصب له أساقیل عدّة بأخشاب کثیرة، و المستخدمون یکرهون ضربه، و یرغبون فی ضرب أحد الثوبین الجیوشیین، و إن کانا عظیمین، إلّا أنهما لا یصلان بجملتهما إلی مقایسته، و لا مؤنته، و لا صنعته.
و أقام هذا الثوب فی الاستعمال عدّة سنین مع جمع الصناع علیه، و ما یضرب منه سوی القاعة الکبیرة لا غیر، و أربعة الدهالیز، و بعض السرادق الذی هو سور علیه لضیق المکان الذی یضرب فیه، و کونه لا یسعه بجملته.
قال: و وصلت کسوة موسم فتح الخلیج، و هی ما یختص بالخلیفة، و أخیه، و بعض جهاته و الوزیر.
فأما ما یختص بالخلیفة خاصة: فبدلة شرحها بدنة طمیم مندیل سلفه: مائة و عشرون دینارا، و أحد طرفیه ثلاثة عشر ذراعا ذهبا عراقیا دمجا لوحا واحدا، و الثانی ثلاثة أذرع سلفه أربعة و عشرون دینارا، ثوب طمیم سلفه: خمسون دینارا، و الذهب الذی فی الثوب و المندیل و الحنک ألف دینار، و خمسة دنانیر، فتکون جملتها بالسلف: ألف دینار، و مائة و خمسة و سبعین دینارا، شاشیة طمیم للسلف: دیناران و سبعون قصبة ذهبا عراقیا، فتکون جملة سلفها، و قیمة ذهبها ثمانیة دنانیر، مندیل سلام سلفه: دیناران، و سبعون قصبة قیمته کذلک، وسط برسم المندیل بخوص ذهب سلفه اثنا عشر دینارا و سبعون قصبة قیمة ذلک عشرون دینارا، شقة دیبقیّ و سطانیّ حریریّ السلف: اثنا عشر دینارا، غلالة دیبقی حریریّ السلف: عشرة دنانیر، مندیل کم ثان حریری: خمسة دنانیر، حجره: أربعة دنانیر، عرضیّ لفافة خاص: خمسة دنانیر و ستة عشر مثقالا ذهبا مصریا، فتکون سلفه و ذهبه: خمسة و عشرین دینارا، عرضی ثان برسم تغطیة التخت: دینار واحد و نصف، تخت ثان ضمنه:
بدلة خاص حریریّ برسم العود من السکرة شرحها مندیل حریریّ سلفه: ستون دینارا، وسط شرب رسمه اثنا عشر دینارا، شقة دیبقیّ: و کم و عشرون دینارا، شقة و سطانی اثنا عشر دینارا، غلالة: خمسة عشر دینارا، و غلالة: عشرة دنانیر، مندیل سلام دیناران، مندیل کم خمسة دنانیر، مندیل کم ثان أیضا خمسة دنانیر، شاشیة حریریّ دیناران، حجره أربعة دنانیر، عرضی لفافة خمسة دنانیر، عرضی ثان برسم لفافة التخت دینار واحد و نصف.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 403
قال: و رأیت شاهدا أن قیمة کل حلة من هذه الحلل، و سلفها إذا کانت حریریّ ثلثمائة و ستة دنانیر، و إذا کانت مذهبة ألف دینار، و اختصر ما باسم أبی الفضل جعفر أخی الخلیفة و أربع جهات.
و أما ما یختص بالوزیر: فبدلة مذهبة شرحها مندیل سلفه سبعون دینارا، و خمسمائة و سبعون قصبة عراقی جملة سلفه و ذهبه: مائة و أربعة عشر دینارا، شقة دیبقیّ و کم السلف ستة عشر دینارا و ثمانیة و عشرون مثقالا ذهبا عالیا تکون جملة ذلک خمسین دینارا، تصف شقة دیبقیّ وسطانیّ اثنا عشر دینارا و نصف، شقة وسطانیّ برسم العود ثلاثة دنانیر، غلالة دیبقیّ سبعة دنانیر و نصف، شقة برسم الغلالة دیناران و نصف، مندیل کم سبعة دنانیر و اثنا عشر مثقالا ذهبا، تکون قیمته تسعة عشر دینارا، حجره ثلاثة دنانیر، عرضی أربعة دنانیر و أحد عشر مثقالا تکون سلفه و ذهبه سبعة عشر دینارا.
ثم ذکر بعد ذلک ما یکون لجهة الوزیر، و ما یکون برسم صبیان الحمام، و ما یفصل برسم الممالیک الخاص: صبیان الرایات، و الرماح خمسمائة، شقة سقلاطون داری تکون قیمتها: سبعمائة و خمسین، قباء یحمل منها برسم غلمان الوزیر مائة قباء، و یفرّق جمیع ذلک.
قال: و لم یکن لأحد من الأصحاب، و الحواشی و غیرهم فی هذا الموسم شی‌ء فیذکر، بل لهم من الهبات العین و الرسوم الخارجة عن ذلک ما یأتی ذکره فی موضعه، و فی صبیحة هذا الموسم خلع علی ابن أبی الردّاد، و علی رؤساء المراکب، و غیرهم، و حمل إلی المقیاس برسم المبیت، و رکوب الخلیفة بتجمله، و مواکبه إلی السکرة ما فصله، و بینه مما یطول ذکره.
و قال: فی سنة سبع عشرة و خمسمائة، و لما جری النیل، و بلغ خمسة عشر ذراعا، أمر بإخراج الخیام و المضارب الدیبقیّ، و الدیباج و تحوّل الخلیفة إلی اللؤلؤة بحاشیته، و تحوّل المأمون إلی دار الذهب، و وصلت کسوة الموسم المذکور من الطراز و إن کانت یسیرة العدّة فهی کثیرة القیمة، و لم تکن للعموم من الحاشیة، و المستخدمین بل للخلیفة خاصة، و إخوته و أربع من خواص جهاته، و الوزیر و أولاده، و ابن أبی الردّاد، فلما وفی النیل ستة عشر ذراعا رکب الخلیفة، و الوزیر إلی الصناعة بمصر العشریات بین أیدیهما، ثم عدّیا فی إحداها إلی المقیاس ، وصلیا و نزل الثقة صدقة بن أبی الردّاد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 404
منزلته، و خلّق العمود ، و دعا الخلیفة علی فوره، و رکب البحر فی العشاری الفضیّ، و الوزیر صحبته، و الرهجیة تخدم برّا و بحرا، و العساکر طول البرّ قبالته إلی أن وصل إلی المقس، و رتب الموکب، و قدم العشاری بالخلیفة الآمر بأحکام اللّه، و الوزیر المأمون، و سار الموکب، و الرهجیة تخدم، و الصدقات، و الرسوم تفرّق، و دخل من باب القنطرة، و قصد باب العید، و اعتمد ما جرت به العادة من تقدیم الوزیر، و ترجله فی رکابه إلی أن دخل من باب العید إلی قصره، و تقدّم بالخلع علی ابن أبی الردّاد: بدلة مذهبة، و ثوب دیبقیّ حریریّ، و طیلسان مقوّر، و بیاض مذهب، و شقة سقلاطون، و شقة تحتانیّ، و شقة خز، و شقة دیبقیّ، و أربعة أکیاس دراهم، و نشرت قدّامه الأعلام الخاص الدیبقیّ المحاومة بالألوان المختلفة التی لا تری إلّا قدّامه لأنها من جملة تجمل الخلیفة، و أطلق له برسم المبیت من البخور و الشموع، و الأغنام، و الحلاوات کثیر.
قال: و هیئت المقصورة فی منظرة السکرة برسم راحة الخلیفة، و تغییر ثیابه و قد وقعت المبالغة فی تعلیقها، و فرشها و تعبیتها، و قدّم بین یدیه الصوانی الذهب التی وقع التناهی فیها من همم الجهات من أشکال الصور الآدمیة، و الوحشیة من الفیلة، و الزرافات، و نحوها المعمولة من الذهب و الفضة و العنبر و المرسین المشدود و المظفور علیها المکلل باللؤلؤ، و الیاقوت و الزبرجد من الصور الوحشیة ما یشبه الفیلة. جمیعها عنبر معجون کخلفة الفیل، و ناباه فضة، و عیناه جوهرتان کبیرتان فی کل منهما مسمار ذهب مجری سواده و علیه سریر منجور من عود بمتکآت فضة و ذهب، و علیه عدّة من الرجال رکبان، و علیهم اللبوس تشبه الزردیات و علی رؤوسهم الخود، و بأیدیهم السیوف المجرّدة، و الدرق و جمیع ذلک فضة، ثم صور السباع منجورة من عود، و عیناه یاقوتتان حمراوان، و هو علی فریسته، و بقیة الوحوش، و أصناف تشدّ من المرسین المکلل باللؤلؤ شبه الفاکهة.
قال: و من جملة ما وقع الاهتمام به فی هذا الموسم ما صار یستعمل فی الطراز، و إن لم یتقدّم نظیره للولائم التی تتخذ برسم تغطیة الصوانی عدّة من عراضی دیبقیّ، ثم قوّارات شرب تکون من تحت العراضی علی الصوانی مفتح کل قوّارة منهنّ دون أربعة أشبار سلف کل واحدة منهنّ خمسة عشر دینارا، و رقم فی کل منهنّ سجف ذهب عراقیّ ثمنه: من أربعین إلی ثلاثین دینارا، تکون الواحدة بخمسین دینارا، و یستعمل أیضا برسم الطرح من فوق القوّارات الإسکندرانیّ التی تشدّ علی الموائد التی تحمل من عند کل جهة قوّارات دیبقیّ مقصور من کل لون محاومة بالرقم الحریریّ، مفتح کل قوّارة أربعة أذرع یکون الثمن عن کل واحدة: أربعین دینارا، و لقد بیعت عدّة من القوّارات الشرب، فسارع التجار
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 405
العراقیون إلی شرائها، و نهایة ما بلغ ثمن کل واحدة منهن: ستة عشر دینارا، و سافروا بها إلی البلاد، فلم یبع لهم منها سوی اثنتین، و عادوا بالبقیة إلی الدیار المصریة فی سنة ست و ثمانین و خمسمائة و حفظوا منهنّ شیئا عن السوق، فلم یحفظ لهم رأس مالهنّ.
قال: و کان ما تقدّم من الزبادی فی الطیافیر من الصینی إلی آخر أیام الأفضل بن أمیر الجیوش، و أیام المأمون، و إنما استجدّت الأوانی الذهب فی أواخر الأیام الآمریة و الذی یعبئ بین یدیه الخلیفة قوائمیة ضمنها: عدّة من الطیافیر المحمولة بالمرافع الفضة برسم الأطباق الحارة، و لیس فی المواسم مائدة بغیر سماط للأمراء، و یجلس علیها الخلیفة غیر هذا الموسم، و إن کان یجری مجری الأعیاد، و له البخور مطلق مثلها، و ینفرد بالجلوس معه الجلساء الممیزون و المستخدمون، و عند کمال تعبیتها، و بخورها جلس الخلیفة علیها عن یمینه: وزیره، و عن یساره: أخوه، و من شرّف بحضوره، و فی آخرها فرّق منها ما جرت به العادة علی سبیل البرکة.
و قال: فی سنة ثمان عشرة و خمسمائة، و وصلت الکسوة المختصة بفتح الخلیج و هی برسم الخلیفة، تختان ضمنهما بدلتان إحداهما مندیلها، و ثوبها طمیم برسم المضیّ، و الأخری جمیعها حریریّ برسم العود، و کذلک ما یخص إخوته و جهاته: بدلتان مذهبتان، و أربع حلل مذهبة، و برسم الوزیر بدلة موکبیة مذهبة فی تخت، و برسم أولاده الثلاثة ثلاث بدلات مذهبة، و برسم جهته حلة مذهبة فی تخت، و هؤلاء الممیزون لکل منهم تخت، و بقیة ما یخص المستخدمین و ابن أبی الردّاد فی تخوت کل تخت فیه: عدّة بدلات، و حضر متولی الدفتر و استأذن علی ما یحمل، برسم الخلیفة، و ما یفرّق، و ما یفصل برسم الخلع، و ما یخرج من حاصل الخزائن غیر الواصل، و هو ما یفصل برسم الغلمان الخاص عن سبعمائة قباء: خمسمائة، و شقتان سقلاطون داری و برسم رؤساء العشاریّ من الشقق الدمیاطیّ و المنادیل السوسیّ، و الفوط الحریر الأحمر، و برسم النواتیة التی برسم الخاص من العشاریة من الشقق الإسکندرانیّ، و الکلوتات فوقع بإنفاق جمیع ذلک، و تفصیل ما یجب منه، ثم ابتیع ذلک بمطالعة ثانیة برسم ما هو مستمرّ العموم من النقد العین و الورق للموسم المذکورة، و هو من العین: أربعة آلاف و خمسمائة دینار و من الورق: خمسة عشر ألف درهم، فوقع بإطلاق ذلک.
و ذکر تفصیل الکسوات و الهبات بأسماء أربابها و حضر متولی المائدة الآمریة بمطالعة یستدعی ما جرت به العادة فی هذا الموسم من الحیوان، و الضأن، و البقر، و غیر ذلک من الأصناف برسم التفرقة، و الأسمطة، و حضر متولی دار التعبیة یستدعی ما یبتاع به الثمرة و الزهرة، و هیئة المتعینین لتعبیة السکرة لأجل حلول الرکاب بها، و مقامه فیها، و تعبیة جمیع مقاصیرها التی برسم الأستاذین، و الأصحاب، و الحواشی، و هو: مائة دینار، فوقع
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 406
بإطلاقها، و فی العاشر من الشهر المذکور یعنی شهر رجب، و فی النیل: ستة عشر ذراعا، فتوجه المأمون إلی صناعة العمائر بمصر، و رمیت العشاریات بین یدیه و قد حدّدت و زینت جمیعها بالستور الدیبقیّ الملوّنة، و الکوامخ ، و الأهلة الذهب و الفضة، و شمل الإنعام أرباب الرسوم علی عادتهم، و عدّی فی إحدی العشاریات إلی المقیاس، و خلّق العمود بما جرت به عادتهم من الطیب و فرّقت رسوم الإطلاق، و انکفأ إلی دار الذهب، و أمر بإطلاق ما یخص المبیت فی المقیاس بجمیع الشهود و المتصدّرین، و هی العشرات من الخبز: عشرة قناطیر، و عشرة خراف شوی، و عشر جامات حلوی، و عشر شمعات و أوّل من یحضر المبیت: الشریف الخطیب سید المقرّبین، و إمام المتصدّرین، و له و للجماعة من الدراهم التی تفرّق أوفی نصیب.
قال: و خرج الخلیفة بزی الخلافة، و وقارها و ناموسها بالثیاب الطمیم التی تذهل الأبصار و المندیل بالشدّة العربیة التی ینفرد بلباسها فی الأعیاد، و المواسم خاصة لا علی الدوام، و کانت تسمی عندهم: شدّة الوقار مرصعة بغالی الیاقوت و الزمرذ و الجوهر، و عند لباسها تخفق لها الأعلام، و یتجنب الکلام، و یهاب و لا یکون سلام قریب منه، و خلیل غیر الوزیر إلّا بتقبیل الأرض من بعید من غیر دنوّ، ثم بین یدیه من مقدّمی خزائنه من یحمل سیفه، و رمحه المرصعین بأفخر ما یکون ثم المذاب التی کل منها عمودها ذهب، و ینفرد بحملها الصقالبة، و یمشی بین الصفین المرتبین راجلا علی بسط حریر فرشت له، و کل من الصفین یتناهی فی مواصلة تقبیل الأرض إلی أن وصل إلی مجلس خلافته، و صعد علی الکرسی المغشی بالدیباج المنصوب رسم رکوبه، و قد صفّت الروّاض، و أزمّة الاصطبلات خیل المظلة بعد أن أزالت الأغشیة الحریر، و الشقق الدیبقیّ المذهبة عن السروج، و بقیت کما وصفها اللّه تعالی فی کتابه، فقدّم إلیه ما وقع اختیاره علیه، و أمر بأن یجنب البقیة فی الموکب بین یدیه.
و لما علا ما قدّم إلیه استفتح مقرئو الحضرة، و تسلم جمیع مقدّمی الرکاب رکابه، و الروّاض الشکیمة، و زال حکم الأستاذین المستخدمین فی الرکاب، و عادت الموالی و الأقارب إلی محالهم، و استدعی بالوزیر بجمیع نعوته فواصل تقبیل الأرض إلی أن قبل رکابه، و شرّفه بتقبیل یده بحکم خلوّها من قضیب الملک فی هذه المواسم، و لما أدّی ما یجب من فرض السلام، أخذ السیف من الأمیر افتخار الدولة أحد الأمراء الأستاذین الممیزین المحنکین متولی خزانة الکسوة الخاص، و سلّمه بعد أن قبّله لأخیه الذی یتولی حمله فی الموکب بعد أن أرخیت عذبته تشریفا له مدّة حمله خاصة، و ترفع بعد ذلک، و شدّ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 407
وسطه بالمنطقة الذهب تأدّبا و تعظیما لما معه، و سلم الرمح و الدرقة لمن یتولی حملهما بلواء الموکب.
و لم یکن للخدمة المذکورة عذبة مرخاة، و لا منطقة، و استدعی رکوب الوزیر و أولاده من عند باب قاعة الذهب، و خرج الخلیفة من القاعة المذکورة إلی أوّل دهلیز، فتلقته جماعة صبیان رکابه العشرة المقدّمین أرباب المیمنة و المیسرة، و صبیان وراء صبیان الرسائل، و صبیان السلام کل منهم فی الخدمة المعینة لا یخرج عنها لسواها، و جمیعهم بالمنادیل الشروب المعلمة، و بأوساطهم العراض الدیبقیّ المقصورة، و لیس الجمیع عبیدا بشراء و لا سودان، بل مولدة، و أولاد أعیان، و أهل فهم و لسان، ثم احتاط برکابه بعدهم من هو علی غیر زیهم بل بالقنابیز المفرّجة، و المنادیل السوسیّ، و هم المتولون لحمل السلاح الخاص الذی لا یکون إلّا فی موکبه خاصة علی الاستمرار من الصواری، و الفرنجیات و الدبابیس، و اللتوت، و الصماصم بالدرق الصینیّ، و الیمنیّ بالکوامخ الفضة، و الذهب، و یحصل الاستدعاء من صبیان السلام فی مسافة الدهالیز لکل من هو مستخدم فی الموکب رکوبه من محل حجبته، إلی أن خرج الخلیفة من باب الذهب، و قد ضربت الغربیة، و أبواق السلام و اجتمع الرهج من کل مکان، و نشرت المظلة، فاجتمع إلیها الزویلیة بالعدد الغریبة، و ظلل بها، و سارت بسیره، و القرآن الکریم عن یمینه و یساره، و الحجریة الصبیان المنشدون، و اجتمع الموکب بجملته علی ما ذکر أوّلا، و الترتیب أمامه لمتولی الباب و حجابه، و تلوه لمتولی الستر، و کل منهم علی حکم المدارج التی وصلت إلیه لا سبیل إلی الخروج عما رسم فیها، و سار بجملة موکبه علی ترتیب أوضاعه، بین حصنین مانعین من طوارق عساکره فارسها، و راجلها کل طائفة یقدمها زمامها، و قد ازدحموا فی المصفات بالعدد المذهبة الحربیة، و الآلات المانعة المضیئة و لیس بینهم طریق لسالک، و قد زین لهم جمیع ما یکون أمامهم من الطرق جمیعها حوانیتها، و آدرها، و جمیع مساکنها، و أبواب حاراتها، بأنواع من الستور، و الدیباج و الدیبقیّ علی اختلاف أجناسها، ثم بأصناف السلاح و ملأت النظارة الفجاج و البطاح، والوها و الربا، و الصدقات، و الرسوم تعمّ أهل الجانبین من أرباب الجوامع و المساجد، و بوّابی الأبواب، و السقائین، و الفقراء، و المساکین فی طول الطریق إلی أن أظل علی الخیام المنصوبة. فوقف بموکبه، و استدعی الوزیر بعده من مقدّمی رکابه، فاجتاز راکبا بمفرده، و جمع حاشیته بسلاحهم رجالة فی رکابه بعد أن بالغ فی الإیماء بتقبیل الأرض أمامه، فردّ علیه بکمه السلام.
و عاد الخلیفة فی سیره بالموکب بعد أن حصل الوزیر أمامه، و ترجل جمیع من شرّف بحجبته فی رکابه، و آخرهم متولی حمل سیفه، و رمحه و صبیان السلام یستدعون کل منهم إلی تقبیل الأرض بجمیع نعوته إکبارا له، و تمییزا و احتاطوا برکابه، و وصل إلی المضارب فی الحرس الشدید علی أبوابها، و سرادقاتها من کل جانب، و قد تبین و جاهة من حصل بها،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 408
و مکن من الدخول إلیها، و ترجل الوزیر فی الدهلیز الثالث من دهالیزها، و تقدّم إلی الخلیفة، و أخذ شکیمة الفرس من ید الروّاض، و شق به الخیام التی جمعت جمع الصور الآدمیة و الوحشیة، و قد فرشت جمیعها بالبسط الجهرمیة و الأندلسیة إلی أن وصل إلی القاعة الکبری فیها، و ترجل علی سریر خلافته، و جلس فی محل عظمته، و أجلس وزیره علی الکرسیّ الذی أعدّ له، و احتاط به المستخدمون من جملة السلاح المنتصب جمیعه، و حجبوا العیون عن النظر إلیه وصف بین یدیه الأمراء و الضیوف، و المشرّفون بحجبته، و ختم المقرئون القرآن العظیم، و قدّم عدی الملک النائب: شعراء المجلس علی طبقاتهم، و عند انقضاء خدمة آخرهم عادت المستخدمون، و الروّاض مقدّمة ما أمروا به من الدواب، فعلاه الخلیفة و الوزیر یمسک الشکیمة بیده، و انتظم موکبا عظیما و القرّاء عوض الرهجیة، و الجماعة فی رکابه رجالة علی حکم ما کانوا علیه أوّلا، و صعد من القاعة التی فی دهالیز الباب القبلیّ منها، فخرج منه، و انفصلت خدمة جمیع الأمراء و الضیوف من رکابه بأحسن وداع من تقبیل الأرض.
و صعد الخلیفة و وزیره، و أولاده و إخوته و الأصحاب و الحواشی إلی السکرة، و هی من جنات الدنیا المزخرفة، و تلقاه أخوه بعظمة سلامه، و تقبیل الأرض بین یدیه، و جلس لوقته، و فتحت الطاقات التی فی المنظرة، و عن یمینه وزیره، و عن یساره أخوه جالسان، و اعتمد الناس جمیعهم عند مشاهدته تقبیل الأرض له، و إدامة النظر نحوه، و المستخدمون جمیعهم علی السدّ مشدودی الأوساط واقفین علیه.
فلما أمرهم الوزیر أن یکسروه: قبلوا الأرض جمیعا، و انصرفوا عنه، و تولته الفعلة فی البساتین السلطانیة بالفتح من الحانیین، و القرآن و التکبیر من الجانب الغربیّ، حیث الخلیفة و الرهج و اللعب من الجانب الشرقیّ، و لما کمل فتحه: انحدرت العشاریات عن آخرها اللطیف منها یقدم الکبیر، و الجمیع مزینة بالذهب و الفضة، و الستور المرقومة، و رؤساؤهم و خدّامهم بالکسوات الجمیلة، و بعد ذلک غلقت الطاقات، و حلّ الخلیفة بالمقصورة التی لراحته، و کذلک الوزیر، و أولاده و إخوته، و جمیع الأمراء الأستاذین، و الأصحاب و الحواشی و استدعی للوقت والی مصر من البرّ الشرقیّ، و خلع علیه بدلة مندیلها و ثوبها مذهبان، و ثوبان عتابیّ و سقلاطون، و قبّل الأرض من تحت المنظرة، و عدّی فی البحر إلی حفظ مکانه.
ثم استدعی بعده حامی البساتین و مشارفها، فخلع علیهما بدلتین حریریّ و ثوبین سقلاطون، و عتابیّ، ثم متولی دیوان العمائر کذلک، ثم مقدّمی الرؤساء کذلک، و اعتمد کل من سلم إلیه الإثباتات المشتملة علی أصناف الأنعام من العین و الورق، و صوانی الفطرة و الموائد التی یهتمّ بها جمیع الجهات، و الخراف المشویة، و الجامات الحلواء، تفرقة ذلک
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 409
علی ما رسم، و هو شامل غیر مخصص من أخی الخلیفة، و الوزیر إلی الأصحاب و الحواشی من أرباب السیوف و الأقلام، ثم الأمراء المستخدمین و الضیوف الممیزین من الأجناد، و غیرهم من الأدوان ممن یتعلق به خدمة تختص بالموسم من البحارة، و أرباب اللعب و غیرهم، و عبیت الأسمطة فی المسطحات المنصوبة لها بالجانب من الباب الغربیّ، من الخیام.
و أمر الوزیر أخاه: بالمضیّ إلیها و الجلوس علیها، فتوجه و بین یدیه متولی حجبة الباب، و نوّابه و المعروفیة، و الحجاب و استدعت الأمراء و الضیوف بالسقاة من خیامهم، و أجلس کل منهم علی السماط فی موضعه علی عادتهم، و تلاهم العساکر علی طبقاتهم، و لم یمنع حضورهم ما یسیر لکل منهم من جمیع ما ذکر علی حکم میزته. و لما انقضی حکم الأسمطة المختصة بالأمراء الکبار، عاد أخو الوزیر إلی حیث مقرّ الخلافة، و بقی متولی الباب جالسا لأسمطة العبید، و جمیع المستخدمین من الراجل و السودان، و عبیت المائدة الخاص بالسکرة التی ما یحضرها إلّا العوالی الخاص المستخدمون فی الخدم الکبار، و یجمع له حالتان حضوره فی أشرف مقام. و جلوسه فی محل یحصل له به حرمة، و ذمام.
و جلس الخلیفة علیها، و أخوه علی شماله، و وزیره علی یمینه بعد أن أدّی کل منهما ما یجب من سلامه و تعظیمه، و حضر أولاد الوزیر، و إخوته و الشیخ أبو الحسن: کاتب الدست، و ابنه سالم، و من الأستاذین المحنکین أرباب الخدم، و جری الحال فی المائدة الشریفة علی ما هو مألوف، و فرّق من جملتها لکل من أرباب الخدم الذین لم یحضروا علیها، ما هو لکل منهم علی سبیل الشرف، و تمیز فی ذلک الیوم خاصة ما یختص بالقاضی و شهوده، و الداعی و ابن خاله الذین یخصصون عن سواهم بمقامهم دون غیرهم فی قاعة الخیمة الکبری، أمام سریر الخلافة المنصوب مدّة النهار، مع ما یحمل إلیهم من الموائد، و غیرها مما هو بأسمائهم فی الإثباتات مذکور و لما تکامل وضع المائدة، و انقضی حکمها قبل کل من الحاضرین الأرض، و انصرف بعد أن استصحب منها ما تقتضیه نفسه علی حکم الشرف و البرکة.
و یقضی بعد ذلک الفرائض الواجبة فی وقتها، و لا بدّ من راحة بعدها و حضر مقدّما الرکاب، و حاسبا کاتب الدفتر علی ما معهما برسم تفرقة الرسوم، و الصدقات فی مسافة الطریق فکمل لهما علی ما بقی معهما مثل ما کان أوّلا، و لما استحق العود عاد کل من المستخدمین إلی شغلة من ترتیب الموکب، و مصفات العساکر، و ترتیب من یشرّف بالحضرة من الأمراء و الضیوف، و فرّقت الصوانی الخاص التی تکون بین یدی الخلیفة مدّة النهار، الجامعة للثروة من کل جهة و الزینة من کل معنی، و الغرابة من کل صنف، و قد جمعت ملاذ جمیع الحواس، و العدّة منها یسیرة، و لیس ذلک لتقصیر من هم الجهات التی تتنوّع فیها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 410
بالغرائب بل للتعب الشدید علیها، ثم لضیق الزمان، لأنّ کلا منها لا مندوحة أن یکون فیه زهرة و ثمرة، و طول المکث کذلک یتلف ما فیها، و إذا شملت مع قلتها من له الوجاهة العالیة من أخی الخلیفة، و الوزیر لم یکن له غیر صینیة واحدة، و أخذ کل من الحاشیة أهبة تجمله لموضع میزته، و غیر الخلیفة ثیابه بما یقتضیه الموکب، و هو بدلة حریریّ، بشدّة الوقار، و علم الجوهر، و سیر إلی الوزیر صحبة مقدّم خزانة الکسوة الخاص علی ید المستخدمین عنده من الأستاذین من جملة بدلات الجمع التی یتوجه منها إلی زیه، ما یؤمر به من السعی إلیه بدلة مکملة حریریّ و مندیلها بیاض بالشدّة الدانیة غیر العربیة.
و لما لبس ما سیر إلیه و حضر بین یدیه لشکر نعمته، أمره برکوب أخیه فی إحدی العشریات، فامتثل أمره، و توجه صحبته من السکرة بجمیع خواصه و حواشیه، و فتح لهم الباب الذی هو منها بشاطئ الخلیج، و قدّم له إحدی العشاریات الموکبیة، و فیها مقدّم ریاسة البحریة، فرکب فیها بجمعه، و الوزیر واقف راجل علی شاطی‌ء الخلیج خدمة له إلی أن انحدرت العشاریات جمیعها قدّامه، و مراکب اللعب بغیر أحد من أرباب الرهج، و المستخدمون فی البرّین یمنعون من یقاربه، و المتفرّجون لا یصدّهم و یردّهم ما یحل بهم بل یرمون أنفسهم من علی الدواب، و یسیرون بسیره.
و عاد الوزیر إلی السکرة، فلما شاهد الخلیفة الدواب الخاص التی برسم رکوبه، أمره بما وقع علیه اختیاره منها، و علاه فاحتاط برکابه، مقدّمو الرکاب و استفتح القرّاء و خرج من باب السکرة و دخل من باب الخلیفة القبلیّ و شق قاعتها علی سریر مملکته و خص بالسلام فیها شیوخ الکتاب العوالی، و القاضی و الداعی، و من معهما، و لهم بذلک میزة عظیمة یختصون بها دون غیرهم، و خرج منها إلی البستان المعروف. بنزار، و سار فی میدانه، و جمیعه من الجانبین سور معقود من شجر نارنج أصولها مفترقة، و فروعها مجتمعة، و ظللت الطریق، و علیها من الثمرة التی أخرجها من وقته إلی هذا الیوم و قد خرجت بهجتها عن المعتاد، و حصل علیها ثمرة سنتین إحداهما انتهت، و الأخری فی الابتداء، و هو بهیئته و زیه و ترتیب عساکره و أمرائه، و خرج من الباب بعد أن عمّ من له رسم بإنعامه، و عاد الرهج و الموکب علی ما کان علیه. فلما وصل إلی السدّ الذی علی برکة الحبش کسر بین یدیه.
و قال فی کتاب الذخائر: إن مما أخرج من القصر فی سنة إحدی و ستین و أربعمائة فی خلافة المستنصر قبة العشاریّ و قاربه، و کسوة رحله، و هو مما استعمله الوزیر أحمد بن علیّ الجرجرای فی سنة ست و ثلاثین و أربعمائة، و کان فیه مائة ألف و سبعة و ستون ألفا و سبعمائة درهم فضة نقرة، و إن المطلق لصناع الصاغة عن أجرة ذلک، و فی ثمن لطلائه خاصة، ألفان و سبعمائة دینار، و عمل أبو سهل التستریّ لوالدة المستنصر عشاریا یعرف بالفضیّ و حلی رواقة بفضة تقدیرها مائة ألف و ثلاثون ألف درهم، و لزم ذلک أجرة الصناعة، و لطلاء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 411
بعضه: ألفان و أربعمائة دینار، و استعمل کسوة برسمه بمال جلیل، و أنفق علی العشاریات التی برسم النزه البحریة التی عدّتها ستة و ثلاثون عشاریا بالتقدیر بجمیع آلاتها، و کساها و حلاها من مناطق، و رؤوس منجوقات، و أهلة و صفریات، و غیر ذلک: أربعمائة ألف دینار.
و قال ابن الطویر: إذا أذن اللّه سبحانه و تعالی بزیادة النیل المبارک: طالع ابن أبی الردّاد بما استقرّ علیه أذرع القاع فی الیوم الخامس و العشرین من بؤونة ، و أرخه بما یوافقه من أیام الشهور العربیّ، فعلم ذلک من مطالعته و أخرجت إلی دیوان المکاتبات، فنزلت فی السیر المرتب بأصل القاع، و الزیادة بعد ذلک فی کل یوم، تؤرخ بیومه من الشهر العربیّ، ما وافقه من أیام الشهر القبطیّ لا یزال کذلک، و هو محافظ علی کتمان ذلک لا یعلم به أحد قبل الخلیفة، و بعده الوزیر، فإذا انتهی فی ذراع الوفاء، و هو السادس عشر إلی أن یبقی منه أصبع أو أصبعان و علم ذلک من مطالعته.
أمر أن یحمل إلی المقیاس فی تلک اللیلة من المطابخ: عشرة قناطیر من الخبز السمیذ و عشرة من الخراف المشویة، و عشرة من الجامات الحلواء، و عشر شمعات، و یؤمر بالمبیت فی تلک اللیلة بالمقیاس فیحضر إلیه قرّاء الحضرة، و المتصدّرون بالجوامع بالقاهرة و مصر، و من یجری مجراهم، فیستعملون ذلک و یقدون الشمع علیهم من العشاء الآخرة، و هم یتلون القرآن برفق، و یطرّبون بمکان التطریب، فیختمون الختمة الشریفة و یکون هذا الاجتماع فی جامع المقیاس، فیوفی الماء ستة عشر ذراعا فی تلک اللیلة، و لوفاء النیل عندهم قدر عظیم، و یبتهجون به ابتهاجا زائدا، و ذلک لأنه عمارة الدیار، و به التئام الخلق علی فضل اللّه، فیحسن عند الخلیفة موقعه، و یهتمّ بأمره اهتماما عظیما أکثر من کل المواسم، فإذا أصبح الصبح من هذا الیوم، و حضرت مطالعة ابن أبی الردّاد إلیه بالوفاء، رکب إلی المقیاس لتخلیقه، فیستدعی الوزیر علی العادة، فیحضر إلی القصر، فیرکب الخلیفة بزیّ أیام الرکوب من غیر مظلة، و لا ما یجری مجراها بل فی هیئة عظیمة من الثیاب، و الوزیر تابعه فی الجمع الهائل علی ترتیب الموکب، و یخرج شاقا من باب زویلة، و سالکا الشارع إلی آخر الرکن من بستان عباس المعروف الیوم: بسیف الإسلام، فیعطف سالکا علی جامع ابن طولون، و الجسر الأعظم بین الرکنین إلی الساحل بمصر إلی الطریق المسلوکة علی طرف الخشابین الشرقیّ علی دار الفاضل إلی باب الصاغة بجوارها، و له دهلیز مادّ بمصاطب مفروشة بالحصر العبدانیّ بسطا و تأزیرا، فیشقها و الوزیر تابعه، فیخرج منها منعطفا علی الصناعة الأخری، و کانت برسم المکس إلی السیوفیین، ثم علی منازل العز التی هی الیوم مدرسة، ثم إلی دار الملک فیدخل من الباب المقابل لسلوکه، فیترجل الوزیر عنده للدخول بین یدیه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 412
ماشیا إلی المکان المعدّ له، و یکون قد حمل أمس ذلک الیوم من القصر البیت المتخذ للعشاریّ الخاص، و هو بیت مثمن من عاج و أبنوس عرض کل جزء ثلاثة أذرع، و طوله قامة رجل تامّ، فیجمع بین الأجزاء الثمانیة، فیصیر بیتا دوره أربعة و عشرون ذراعا و علیه قبة من خشب محکم الصناعة، و هو بقبته ملبس بصفائح الفضة، و الذهب، فیتسلمه رئیس العشاریات الخاص و یرکبه علی العشاریّ المختص بالخلیفة، و یجعل باکر ذلک الیوم الذی یرکب فیه الخلیفة علی الباب الذی یخرج منه للرکوب إلی المقیاس.
فإذا استقرّ الخلیفة بالمنظرة بدار الملک التی یخرج من بابها إلی العشاریّ، و أسند إلیه استدعی الوزیر من مکانه، فیحضر إلیه و یخرج بین یدیه إلی أن یرکب فی العشاریّ، فیدخل البیت المذهب وحده، و معه من الأستاذین المحنکین من یأمره من ثلاثة إلی أربعة، ثم یطلع فی العشاریّ خواص الخلیفة خاصة و رسم الوزیر اثنان أو ثلاثة من خواصه، و لیس فی العشاریّ من هو جالس سوی الخلیفة باطنا، و الوزیر ظاهرا فی رواق من باب البیت الذی هو بعرانیس من الجانبین قائمة مخروطة من أخف الخشب، و هی مدهونة مذهبة و علیها من جانبیها ستور معمولة برسمها علی قدرها.
فإذا اجتمع فی العشاریّ من جرت عادته بالاجتماع اندفع من باب القنطرة طالبا باب المقیاس العالی علی الدرج التی یعلوها النیل، فیدخل الوزیر، و معه الأستاذون بین یدی الخلیفة إلی الفسقیة، فیصلی هو و الوزیر رکعات کل واحد بمفرده، فإذا فرغ من صلاته أحضرت الآلة التی فیها الزعفران و المسک، فیدیفها بیده بآلة، و یتناولها صاحب بیت المال، فیناولها لابن أبی الردّاد، فیلقی نفسه فی الفسقیة، و علیه غلالته، و عمامته، و العمود قریب من درج الفسقیة، فیتعلق فیه برجلیه، و یده الیسری، و یخلقه بیده الیمنی، و قرّاء الحضرة من الجانب الآخر یقرءون القرآن نوبة بنوبة، ثم یخرج علی فوره راکبا فی العشاری المذکور، و هو بالخیار إما أن یعود إلی دار الملک، و یرکب منها عائدا إلی القاهرة، أو ینحدر فی العشاریّ إلی المقس فیتبعه الموکب إلی القاهرة، و یکون فی البحر فی ذلک الیوم ألف قرقورة مشحونة بالعالم، فرحا بوفاء النیل، و بنظر الخلیفة.
فإذا استقرّ بالقصر اهتمّ برکوب فتح الخلیج، و فیه همة عظیمة ظاهرة للابتهاج بذلک، ثم یصیر ابن أبی الردّاد باکر ثانی ذلک الیوم إلی القصر بالإیوان الکبیر الذی فی الشباک إلی باب الملک بجواره، فیجد خلعة معبأة هناک، فیؤمر بلبسها و یخرج من باب العید شاقا بها بین القصرین من أوّله قصدا لإشاعة ذلک، فإنّ ذلک من علامة وفاء النیل، و لأهل البلاد إلی ذلک تطلع، و تکون خلعة مذهبة، و کان من العدول المحنکین، فیشرّف فی الخلعة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 413
بالطیلسان المقوّر، و یندب له من التغییرات، و لمن یریده خمس تغییرات مرکبات بالحلی، و یحمل أمامه علی أربع بغال مع أربعة من مستخدمی بیت المال، أربعة أکیاس فی کل کیس خمسمائة درهم ظاهرة فی أکفهم و بصحبته أقاربه، و بنو عمه و أصدقاؤه، و یندب له الطبل و البوق، و یکتنف به عدّة کثیرة من المتصرّفین الرجالة، فیخرج من باب العید، و یرکب إحدی التغییرات، و هی أمیزها، و شرّف أمامه بجملین من النقارات التی قدّمنا ذکرها یعنی فی رکوب أوّل العام من زیّ الموکب، فیسیر شاقا القاهرة، و الأبواق تضرب أمامه کبارا و صغارا، و البطل وراءه مثل الأمراء، و ینزل علی کل باب یدخل منه الخلیفة، و یخرج من باب القصر فیقبله و یرکب.
و هکذا یعمل کل من یخلع علیه من کبیر، و صغیر من الأمراء المطوّقین إلی من دونهم سیفا و قلما، و یخرج من باب زویلة طالبا مصر من الشارع الأعظم إلی مسجد عبد اللّه إلی دار الأنماط ، جائزا علی الجامع إلی شاطی‌ء البحر، فیعدّی إلی المقیاس بخلعه، و أکیاسه، و هذه الأکیاس معدّة لأرباب الرسوم علیه فی خلعه و لنفسه، و لبنی عمه بتقریر من أوّل الزمان، فإذا انقضی هذا الشأن، شرع فی الرکوب إلی فتح الخلیج ثانی یوم، و قد کان وقع الاهتمام به، منذ دخلت زیادة النیل ذراع الوفاء اهتماما عظیما، فیعمل فی بیت المال من التماثیل شکل الوحوش من الغزلان، و السباع، و الفیلة، و الزرافات: عدّة وافرة، منها ما هو ملبس بالعنبر، و منها ما هو ملبس بالصندل، ثم شکل التفاح، و الأترج اللطیف، و الوحوش مفسرة الأعین و الأعضاء بالذهب إلی غیر ذلک.
ثم تخرج الخیمة التی یقال لها القاتول لأنّ فرّاشا سقط من أعلی عمودها فمات، فسمیت بلک، و طوله سبعون ذراعا، و أعلاه صفریة فضة تسع راویة ماء، و علیه الفلکة التی کانت فی الإیوان إلی قریب الوقت، ثم یعمل فی أوّل العمود شقة دائرة، ثم أوسع منها، و یتوالی ذلک إلی إحدی عشرة شقة، فتصیر سعة الخیمة، ما یزید علی فدّانین مستدیرة، و تنصب فی برّ الخلیج الغربیّ علی حافته مکان بستان الحلیّ الیوم، و کانت ثمّ منظرة یقال لها السکرة برسم جلوس الخلیفة لفتح الخلیج فی مثل هذا الیوم، و ینصب أرباب الرتب من الأمراء من بحریّ تلک لخیمة الکبری خیاما کثیرة، و یتمایزون فیها علی قدر هممهم و ضربهم إیاها فی الأماکن الأقرب فالأقرب علی قدر رتبهم، فإذا تمّ ذلک و عزم الخلیفة علی الرکوب ثالث یوم التخلیق أو رابعه أخرج کل من المستخدمین فی المواضع المقدّم ذکرها فی رکوب أوّل العام: آلات الموکب علی عادته، و یزاد فیه إخراج أربعین بوقا عشرة من الذهب،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 414
و ثلاثون من الفضة، و یکون بوّاقوها رکبانا، و أرباب الأبواق النحاس مشاة، و من الطبول الکبار التی مکان خشبها فضة عشرة. فإذا حضر الوزیر إلی باب القصر، خرج الخلیفة فی هیئة عظیمة، و همة عالیة، و قد تضاعفت هم الأجناد فی ذلک الیوم فارسها و راجلها، و یخرج زیّ الخلیفة من المظلة، و السیف و الرمح و الألویة، و الدواة، و غیر ذلک من الأستاذین المحنکین، و یرکب فی ذلک الیوم من الأقارب المقیمین بالقصر: عشرون أو ثلاثون، و هم بالنوبة فی کل سنة فیتقدّمون إلی المنظرة فی مکان لهم صحبة أستاذین لخدمتهم، و حفظهم، و یکون قد لف عمود الخیمة الکبری المشار إلیها إما بدیباج أبیض، أو أحمر، أو أصفر من أعلاه إلی أسفله، و ینصب مسندا إلیه سریر الملک، و یغشی بقرقوبیّ و عرانیسه ذهب ظاهرة.
فیخرج الخلیفة للرّکوب، و یرکب فیخرج من باب القصر، و علیه ثوب یقال له: البدنة و هو کله ذهب و حریر مرقوم، و المظلة من شکله، و لا یلبس هذا الثوب فی غیر هذا الیوم، و یسیر بالموکب الهائل شاقا القاهرة من الطریق التی رکب منها لتخلیق المقیاس، إلّا أنه لا یدخل طرق مصر من الخشابین، بل خارجها من طریق الساحل، فإذا جاز علی جامع ابن طولون، وجد قد ربط من رأس المنارة من مکان العشاریّ النحاس حبل طویل قویّ، موضوع آخره فی الطریق، و فیه قوم یقال لهم: التحتباریة واحد فی زیّ فارس علی شکل فرس و فی یده رمح، و بکتفه درقة، فینحدر علی بکرة، و فی رجلیه آخر ممسکها، و هو یتقلب فی الهواء بطنا و ظهرا، حتی یصل إلی الأرض، و یکون قاضی القضاة، و أعیان الشهود جلوسا فی باب الجامع من هذه الجهة، فإذا وازاهم الخلیفة و کانوا قد رکبوا، وقف لهم وقفة، فیسلم علی القاضی، ثم یدخل، فیقبل الرجل التی من جانبه لا غیر، و یدخل بالشهود فی الفرجة أمام وجه الدابة بمقدار قصبة المساحة، فیسلم علیهم و یرجعون إلی دوابهم، فیرکبون، و یکون قد نصب لهم بالقرب من الخیمة الکبری: خیمتان، إحداهما دیباج أحمر، و الأخری دیبقی أبیض بصفاری فضة لکل واحدة فیتم الخلیفة بهیئته إلی أن یدخل من باب الخیمة، و یکون الوزیر قد تقدّمه علی العادة لیخدمه، فیجده راجلا علی باب الخیمة، فیمشی بین یدیه إلی سریر الملک، فینزل و یجلس علی المرتبة المنصوبة فیه، و یحیط به الأستاذون المحنکون و الأمراء المطوّقون بعدهم، و یوضع للوزیر الکرسیّ الجاری به عادته، فیجلس علیه، و رجلاه تحک الأرض و یقف أرباب الرتب صافین من ناحیة سریر الملک إلی ناحیة الخیمة، و القرّاء یقرءون القرآن ساعة زمانیة، فإذا ختموا قراءتهم، استأذن صاحب الباب علی حضور الشعراء للخدمة بما یطلق هذا الیوم، فیؤمر بتقدیمهم واحدا بعد واحد، و لهم منازل علی مقدار أقدارهم، فالواحد یتقدّم الواحد بخطوة فی الإنشاد، و هو أمر معروف عند مستخدم یقال له النائب، و تقدّم شاعر یقال له ابن جبر، و أنشأ قصیدة منها:
فتح الخلیج فسال منه الماءو علت علیه الرایة البیضاء
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 415 فصفت موارده لنا فکأنه‌کف الإمام فعرفها الإعطاء
فانتقد الناس علیه فی قوله، فسال منه الماء، و قالوا: أیّ شی‌ء یخرج من البحر غیر الماء، فضیع ما قاله بعد هذا المطلع، و تقدّم شاعر یقال له مسعود الدولة بن جریر، و أنشد:
ما زال هذا السدّ ینظر فتحه‌إذن الخلیفة بالنوال المرسل
حتی إذا برز الإمام بوجهه‌وسطا علیه کل حامل معول
فجری کأن قد دیف فیه عنبریعلوه کافور بطیب المندل
فانتقدوا علیه أیضا قوله فی البیت الثانی، و قالوا: أهلک وجه الإمام بسطوات المعاول علیه، و إن کان قصد فتح السدّ بالمعاول، لکنه ما نظمه إلا قلقا، ثم تقدّم له شاعر شاهد یقال له: کافی الدولة أبو العباس أحمد، و أنشد قصیدة شهد له جماعة منهم القاضی الأثیر بن سنان، فإنه عملها بحضوره بدیها:
لمن اجتماع الخلق فی ذا المشهدللنیل أم لک یا ابن بنت محمد
أم لاجتماعکما معا فی موطن‌وافیتما فیه لأصدق موعد
لیس اجتماع الخلق إلّا للذی‌حاز الفضیلة منکما فی المولد
شکروا لکلّ منکما لوفائه‌بالسعی لکن میلهم للأجود
و لمن ذا اعتمد الوفاء ففعله‌بالقصد لیس له کمن لم یقصد
هذا یفی و یعود ینقص تارةو تسدّ أنت النقص إن لم یردد
و قواه إن بلغ النهایة قصرت‌و إذا بلغت إلی النهایة تبتدی
فالآن قد ضاقت مسالک سعیه‌بالسدّ فهو به بحال مقید
فإذا أردت صلاحه فافتح لیری جنابا مخصبا و تری ندی
و أمر بفصد العرق منه فما شکاجسم فصیح الجسم إن لم یقصد
و اسلم إلی أمثال یومک هذافی عیش مغبوط و عز مخلد
فأمر له علی الفور بخمسین دینارا، و خلع علیه، و زید فی جاریه، ثم یقوم الخلیفة عن السریر راکبا، و الوزیر بین یدیه حتی یطلع علی المنظرة المعروفة بالسکرة، و قد فرشت بالفرش المعدّة لها، فیجلس فیها، و یتهیأ أیضا للوزیر مکان یجلس فیه، و یحیط بالسدّ حامی البساتین و مشارفها لأنه من حقوق خدمتهما، فتفتح إحدی طاقات المنظرة، و یطل منها الخلیفة علی الخلیج، و طاقة تقاربها یتطلع منها أستاذ من الخواص، و یشیر بالفتح، فیفتح بأیدی عمال البساتین بالمعاول و یخدم بالطبل و البوق من البرّین.
فإذا اعتدل الماء فی الخلیج، دخلت العشاریات اللطاف، و یقال لها السماویات و کأنها
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 416
خدم بین یدی العشاریّ الذهبیّ المقدّم ذکره، ثم العشاریات الخاص الکبار، و هی ستة:
الذهبیّ المذکور و الفضیّ، و الأحمر، و الأصفر، و اللازوردی، و الصقلی، و کان أنشأه نجار من رأساء الصناعة صقلیّ، و زاد فیه علی الإنشاء المعتاد، فنسب إلیه، و هذه العشاریات لا تخرج عن خاص الخلیفة فی أیام النیل، و تحوّله إلی اللؤلؤة للفرجة، و سارت فی الخلیج، و علی بیت کل منهما الستور الدیبقیّ الملوّنة، و برءوسها و فی أعناقها الأهلة، و قلائد من الخرز، فتسند إلی البرّ الذی فیه المنظرة الجالس فیها الخلیفة، فإذا استقرّ جلوس الخلیفة، و الوزیر بالمنظرة، و دخل قاضی القضاة، و الشهود الخیمة الدیبقی البیضاء، وصلت المائدة من القصر فی الجانب الغربیّ من الخلیج علی رؤوس الفرّاشین صحبة صاحب المائدة، و عدّتها مائة شدّة فی الطیافیر الواسعة، و علیها القوّارات الحریر، و فوقها الطرّاحات، و لها رواء عظیم و مسک فاتح، فتوضع فی خیمة واسعة منصوبة لذلک و یحمل للوزیر ما هو مستقرّ له بعادة جاریة، و من صوانی التماثیل المذکورة: ثلاث صوان، و یخصص منها أیضا لأولاده، و إخوته خارجا عن ذلک إکراما و افتقادا، و یحمل إلی قاضی القضاة، و الشهود شدّة من الطعام الخاص من غیر تماثیل توقیرا للشرع، و یحمل إلی کل أمیر فی خیمته شدّة طعام، و صینیة تماثیل، و یصل بمن ذلک إلی الناس شی‌ء کثیر، و لا یزالون کذلک إلی أن یؤذن بالظهر، فیصلون و یقیمون إلی العصر، فإذا أذن به صلی، و رکب الموکب کله لانتظار رکوب الخلیفة.
فیرکب لابسا غیر البدنة بل بهیئته، و المظلة مناسبة لثیابه التی علیه، و الیتیمة و الترتیب بأجمعه علی حاله، و یسیر فی البرّ الغربیّ من الخلیج شاقا البساتین هناک، حتی یدخل من باب القنطرة إلی القصر، و الوزیر تابعه علی الرسم المعتاد، و یمرّ فیه لقوم أحسن الأیام، و یمضی الوزیر إلی داره مخدوما علی العادة.
و قال فی کتاب الذخائر و التحف: إنّ المستعمل من الفضة قبة العشاری المعروف بالمقدّم، و قاربه و کسوة رحله فی سنة ست و ثلاثین و أربعمائة فی وزارة علیّ بن أحمد الجرجرائی: مائة ألف و سبعة، و ستون ألفا، و سبعمائة درهم نقرة، و إنّ المطلق للصناع عن أجرة الصناعة، و فی ثمن ذهب لطلائه خاصة: ألفان و تسعمائة دینار و سبعون، و کانت الفضة فی ذلک الوقت، کل مائة درهم: بستة دنانیر و ربع، سعر ستة عشر درهما بدینار.
و لما تولی أبو سعید سهل التستریّ الوساطة سنة ست و ثلاثین و أربعمائة، استعمل لأمّ المستنصر عشاریا یعرف: بالفضیّ و حلّی رواقه بفضة تقدیرها: مائة ألف و ثلاثون ألف درهم، و لزم ذلک أجرة الصناعة، و لطلاء بعضه: ألفان و أربعمائة دینار، سوی کسوة له بمال جلیل، و المنفق علی ستة و ثلاثین عشاریا برسم النزه البحریة، لآلاتها و حلاها من مناطق، و رؤوس منجوقات و أهله و صفریات و غیر ذلک: أربعمائة ألف دینار، و کانت العادة عندهم
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 417
إذا حصل وفاء النیل أن یکتب إلی العمال.
فمما کتب من إنشاء تاج الریاسة أبی القاسم علیّ بن منجب بن سلیمان الصیرفی :
أمّا بعد: فإن أحق ما أوجبت به التهنئة و البشری، و غدت المسارّ منتشرة تتوالی و تتری، و کان من اللطائف التی غمرت بالمنة العظمی، و النعمة الجسیمة الکبری، ما استدعی الشکر لموجد العالم و خالقه، و ظلت النعمة به عامّة لصامت الحیوان و ناطقه، و تلک الموهبة بوفاء النیل المبارک الذی یسره اللّه تعالی، و له الحمد یوم کذا، فإن هذه العطیة تؤدّی إلی خصب البلاد و عمارتها، و شمول المصالح و غزارتها، و تفضی بتضاعف المنافع و الخیرات، و تکاثر الأرزاق، و الأقوات و یتساهم الفائدة فیها جمیع العباد، و تنتهی البرکة بها إلی کل دان و ناء و کل حاضر و باد، فأذع هذه النعمة قبلک، و انشرها فی کل من یتدبر عملک، و حثهم علی مواصلة الشکر لهذه الألطاف الشاملة لهم، و لک، فاعلم هذا و اعمل به إن شاء اللّه تعالی.
و کتب أیضا: إن أولی ما تضاعف به الابتهاج و الجذل، و انفتح فیه الرجاء، و اتسع الأمل، ما عمّ نفقه صامت الحیوان و ناطقه، و أحدث لکل أحد اغتباطا لزمه، و آلی أن لا یفارقه، و ذلک ما منّ اللّه به من وفاء النیل المبارک الذی تحیی به کل أرض موات، و تکتسی بعد اقشعرارها حلة النبات و یکون سببا لتوافر الأقوات، فإنه و فی المقدار الذی یحتاج إلیه، فلتذع هذه المنة فی القاضی و الدانی، لتستعمل الکافة بینهم ضروب البشائر و التهانی إن شاء اللّه تعالی.
و کتب أیضا: من لطف اللّه الواجب حمده، اللازم شکره و فضله، الذی لا یمل بشره، و لا یسأم ذکره، و منّه، الذی استبشر به الأنام، و تضاعف فیه الإنعام، و مثل اللّه الحیاة به فی قوله تعالی: إِنَّما مَثَلُ الْحَیاةِ الدُّنْیا کَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا یَأْکُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ [یونس/ 24] أمر النیل المبارک الذی یعمّ النجود و التهائم، و تنتفع به الخلائق، و ترتع فیما یظهره البهائم، و قد توجه إلیک بهذا الکتاب بهذه البشری فلان، فأجره علی رسمه فی إظهاره مجملا، و إیصاله إلی رسمه مکملا، و إذاعة هذه النعمة علی الکافة لیتساهموا الاغتباط بها، و یبالغوا فی الشکر للّه سبحانه و تعالی بمقتضاها، و علی حسبها فاعلم ذلک، و اعمل به إن شاء اللّه تعالی.
منظرة الدکة: و کان من جملة مناظر الخلفاء الفاطمیین، منظرة تعرف: بالدکة لها بستان عظیم بجوار المقس فیما بینه، و بین أراضی اللوق، و ما زالت باقیة، حتی زالت الدولة، و حکر مکان البستان، و صار خطة تعرف إلی الیوم بخط الدکة، فخربت المنظرة، و زال أثرها.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 418
قال ابن عبد الظاهر: الدکة بالمقس، کانت بستانا، و کان الخلیفة إذا رکب من کسر الخلیج من السکرة بمظلته یسیر فی البرّ الغربیّ، و مضارب الناس و الأمراء، و خیمهم عن یمینه و شماله إلی أن یصل إلی هذا البستان المعروف بالدکة: و قد غلقت أبوابه و دهالیزه، فیدخل إلیه بمفرده، و یسقی منه الفرس الذی تحته، و هی قضیة، ذکر المؤرخ للسیرة المأمونیة: أنهم کانوا یعتمدونها إلی آخر وقت، و لم یعلم سببها، ثم یخرج و یسیر إلی أن یقف علی الترعة الآتی ذکرها، و یدخل من باب القنطرة، و ینزل إلی القصر، و الدکة الآن:
آدر و حارات شهرتها تغنی عن وصفها، فسبحان من لا یتغیر.
و قال ابن الطویر عن الظاهر لإعزاز دین اللّه أبی هاشم علیّ بن الحاکم بأمر اللّه: کان بمنظرة یقال لها: الدکة بساحل المقس یعنی أنه مات بها.
منظرة المقس : و کان من جملة مناظرهم أیضا: منظرة بجوار جامع المقس الذی تسمیه العامّة الیوم: جامع المقسی، و کانت هذه المنظرة بحری الجامع المذکور، و هی مطلة علی النیل الأعظم، و کان حینئذ ساحل النیل بالمقس و کانت هذه المنظرة: معدّة لنزول الخلیفة بها عند تجهیز الأسطول إلی غزو الفرنج، فتحضر رؤساء المراکب بالشوانی، و هی مزینة بأنواع العدد، و السلاح، و یلعبون بها فی النیل حیث الآن الخلیج الناصری تجاه الجامع و ما وراء الخلیج من غربیه.
قال ابن المأمون: و ذکر تجهیز العساکر فی البرّ، عند ورود کتب صاحبی دمشق و حلب فی سنة سبع عشرة و خمسمائة، ما یحث علی غزو الفرنج، و مسیرها مع حسام الملک، و رکب الخلیفة الآمر بأحکام اللّه، و توجه إلی الجامع بالمقس، و جلس بالمنظرة فی أعلاه، و استدعی مقدّم الأسطول الثانی، و خلع علیه، و انحدرت الأساطیل مشحونة بالرجال، و العدد، و الآلات، و الأسلحة، و اعتمد ما جرت العادة به من الإنعام علیهم، و عاد الخلیفة إلی البستان المعروف بالبعل إلی آخر النهار، و توجه إلی قصره بعد تفرقة جمیع الرسوم، و الصدقات و الهبات الجاری بها العادة فی الرکوبات.
و قال ابن الطویر: فإذا تکملت النفقة، و تجهزت المراکب، و تهیأت للسفر رکب الخلیفة و الوزیر إلی ساحل المقس، و کان هناک علی شاطی‌ء البحر بالجامع، منظرة یجلس فیها الخلیفة برسم وداعه یعنی الأسطول، و لقائه إذا عاد، فإذا جلس هو و الوزیر للوداع، جاءت القوّاد بالمراکب من مصر إلی هناک للحرکات فی البحر بین یدیه و هی مزینة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 419
بأسلحتها، و لبوسها، و فیها المنجنیقات تلعب فتنحدر و تقلع بالمجاذیف کما یفعل فی لقاء العدوّ بالبحر الملح، و یحضر بین یدی الخلیفة المقدّم و الرئیس، فیوصیهما، و یدعو للجماعة بالنصرة و السلامة، و یعطی المقدّم مائة دینار، و الرئیس: عشرین دینارا، و تنحدر إلی دمیاط، و تخرج إلی البحر الملح، فیکون لها ببلاد العدوّ صیب و هیبة، فإذا وقع لهم مرکب لا یسألون عما فیه سوی الصغار و الرجال و النساء، و السلاح و ما عدا ذلک فللأسطول.
و اتفق مرّة أن قدّم علی الأسطول سیف الملک الجمل، فکسب بطشة عظیمة فیها ألف و خمسمائة شخص، بعد أن بعث علیهم بالقتال، و قتل منهم نحوا من مائة و عشرین رجلا، و حضر إلی القاهرة، ففرح الخلیفة، و رکب إلی المقس، و جلس بالمنظرة للقائهم، و أطلقوا الأسری بین یدیه تحت المنظرة من جانب البرّ فاستدعیت الجمال لرکوبهم، و شق بهم القاهرة و مصر، و هم کل اثنین علی جمل، ظهر الظهر، و عاد الخلیفة إلی القصر فجلس فی إحدی مناظره لنظرهم فی جوازهم، فلما عادوا بهم من مصر صاروا بهم إلی المناخات، فصح منهم ألف رجل، فانضافوا إلی من فی المناخ، و أمّا النساء و الصبیان فإنهم دخلوا بهم إلی القصر بعد أن حمل منهم للوزیر نصیب وافر، و أخذ الجهات، و الأقارب بقیتهنّ، فیستخدمونهنّ، و یعلمونهنّ الصنائع، و یتولی الأستاذون تربیة الصبیان، و تعلیمهم الخط و الرمایة، و یقال لهم: الترابی، و من استریب به من الأسری، و نبه علیه بقوّة أوقع به، و الشیخ الذی لا ینتفع به یمضی فیه حکم السیف بمکان یقال له: بئر المنامة فی الخراب قریب مصر، و لم یسمع علی الدولة قط أنها فادت أسیرا بمال، و لا بأسیر مثله، و هذه الحال فی کل سنة آخذة فی الزیادة لا النقص، و قدّم علی الأسطول مرّة أمیر یقال له: حرب بن فور، صاحب الحاجب لؤلؤ، فکسب بطشة حصل فیها: خمسمائة رجل، انتهی.
و قد خربت هذه المنظرة، و کان موضعها برج کبیر صار یعرف فی الدولة الأیوبیة بقلعة المقس مشرف علی النیل، فلما جدّد الصاحب الوزیر شمس الدین عبد اللّه المقسی جامع المقس علی ما هو علیه الآن فی سنة سبعین و سبعمائة، هدم هذا البرج، و جعل مکانه جنینة شرقیّ الجامع، و تحدّث الناس أنه وجد فیه مالا، و اللّه أعلم.
منظرة البعل: و کان من مناظرهم بظاهر القاهرة منظرة فی بستان أنیق یعرف: بالبعل أنشأه الأفضل شاهنشاه بن أمیر الجیوش بدر الجمالیّ، و موضع هذا البستان إلی الیوم یعرف بالبعل، و صارت أرضه مزرعة فی جانب الخلیج الغربیّ، بحریّ أرض الطبالة فی کوم الریش، مقابل قناطر الأزر، و قد خربت المنظرة و بقی منها آثار أدرکتها، یعطن بها الکتان تدل علی عظمها، و جلالتها فی حال عمارتها، و کانت منظرة البعل من أجلّ منتزهاتهم، و کان لهم بها أوقات عمیمة المبرّات جلیلة الخیرات.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 420
قال ابن المأمون: فأمّا یوم السبت و الثلاثاء فیکون رکوب الوزیر من داره بالرهجیة، و یتوجه إلی القصر، فیرکب الخلیفة إلی ضواحی القاهرة للنزهة فی مثل الروضة، و المشتهی، و دار الملک، و التاج، و البعل، و قبة الهواء، و الخمسة وجوه، و البستان الکبیر، و کان لکل منظرة منهنّ فرش معلوم مستقرّ فیها من الأیام الأفضلیة للصیف و الشتاء، و تفرّق الرسوم و یسلم لمقدّمی الرکاب الیمین و الشمال لکل واحد عشرون دینارا، و خمسون رباعیا، و لتالی مقدّم الرکاب الیمین مائة کاغدة فی کل کاغدة ثلاثة دراهم، و مائة کاغدة فی کل کاغدة درهمان، و لتالی مقدّم الشمال مثل ذلک، فأمّا الدنانیر، فلکل باب یخرج منه من البلد دینار، و لکل باب یدخل منه دینار، و لکل جامع یجتاز علیه دینار، ما خلا جامع مصر، فإن رسمه خمسة دنانیر، و لکل مسجد یجتاز علیه رباعیّ، و لکل من یقف و یتلو القرآن:
کاغدة، و الفقراء و المساکین من الرجال و النساء، لکل من یقف کاغدة، و لکل من یرکب الخلیفة دیناران، و یکون مع هذا متولی صنادیق الإنفاق یحجب الخلیفة و بیده خریطة دیباج فیها خمسمائة دینار لما عساه یؤمر به.
فإذا حصل فی إحدی المناظر المذکورة، فرّق من العین ما مبلغه: سبعة و خمسون دینارا، و من الرباعیة: مائة و ستة و ثمانون دینارا للحواشی، و الأستاذین و أصحاب الدواوین و الشعراء، و المؤذنین، و المقرئین، و المنجمین و غیرهم، و من الخزاف الشواء: خمسون رأسا منها طبقان حارّة مکملة مشورة، برسم المائدة الخاص مضافا لما یحضر من القصور من الموائد الخاص، و الحلاوات و طبق واحد، برسم مائدة الوزیر، و بقیة ذلک بأسماء أربابه، و رأسا بقر برسم الهرائس، فإذا جلس الخلیفة علی المائدة استدعی الوزیر، و خواصه، و من جرت العادة بجلوسه معه، و من تأخر عن المائدة، ممن جرت عادته بحضورها حمل إلیه من بین یدی الخلیفة علی سبیل التشریف، و عند عود الخلیفة إلی القصر یحاسب متولی الدفتر مقدّمی الرکاب علی ما أنفق علیه فی مسافة الطریق من جامع، و مسجد و باب و دابة.
و أمّا تفرقة الصدقات فهم فیها علی حکم الأمانة، قال: و إذا وقع الرکوب إلی المیادین جری الحال فیها علی الرسم المستقرّ من الإنعام و یؤمر متولی خزائن الخاص، و صنادیق الإنفاق أن یکون معه خریطة فی السرج دیباج تسمی خریطة الموکب فیها ألف دینار معدّة لمن یؤمر بالإنعام علیه فی حال الرکوب.
منظرة التاج: هی من جملة المناظر التی کانت الخلفاء تنزلها للنزهة بناها الأفضل بن أمیر الجیوش و کان لها فرش معدّ لها للشتاء و الصیف، و قد خربت، و لم یبق لها سوی أثر کوم، توجد تحته الحجارة الکبار و ما حول هذا الکوم، صار مزارع من جملة أراضی منیة الشیرج.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 421
قال ابن عبد الظاهر: و أمّا التاج فکان حوله البساتین عدّة، و أعظم ما کان حوله: قبة الهواء، و بعدها الخمس وجوه التی هی باقیة.
منظرة الخمس وجوه: کانت أیضا من مناظرهم التی یتنزهون فیها، و هی من إنشاء الأفضل بن أمیر الجیوش و کان لها فرش معدّ لها، و بقی منها آثار بناء جلیل علی بئر متسعة، کان بها: خمسة أوجه من المحال الخشب التی تنقل الماء لسقی البستان، العظیم الوصف البدیع الزیّ، البهیج الهیئة، و العامّة تقول التاج، و السبع وجوه إلی الآن و موضعها إلی وقتنا هذا من أعظم متفرّجات القاهرة، و ینبت هناک فی أیام النیل عندما یعمّ تلک الأراضی البشنین فتفتن رؤیته، و تبهج النفوس نضارته، و زینته، فإذا نضب ماء النیل، زرعت تلک البسطة قرطا، و کتانا یقصر الوصف عن تعداد حسنه، و أدرکت حول الخمس وجوه: غروسا من نخل، و غیره تشبه أن تکون من بقایا البستان القدیم، و قد تلاشت الآن، ثم إنّ السلطان الملک المؤید شیخ المحمودیّ الظاهریّ جدّد عمارة منظرة: فوق الخمس وجوه، ابتدأ بناءها فی یوم الاثنین أوّل شهر ربیع الآخر سنة ثلاث و عشرین و ثمانمائة.
منظرة باب الفتوح: و کان للخلفاء الفاطمیین منظرة خارج باب الفتوح، و کان یومئذ خرج عن باب الفتوح براحا فیما بین الباب، و بین البساتین الجیوشیة، و کانت هذه المنظرة معدّة لجلوس الخلیفة فیها عند عرض العساکر، و وداعها إذا سارت فی البرّ إلی البلاد الشامیة.
قال ابن المأمون: و فی هذا الشهر یعنی المحرّم سنة سبع عشرة و خمسمائة، وصلت رسل ظهیر الدین طفدکین صاحب دمشق، و آق سنقر صاحب حلب، بکتب إلی الخلیفة الآمر بأحکام اللّه، و إلی الوزیر المأمون إلی القصر، فاستدعوا لتقبیل الأرض کما جرت العادة من إظهار التجمل، و کان مضمون الکتب بعد التصدیر، و التعظیم، و السؤال، و الضراعة أنّ الأخبار تظافرت بقلة الفرنج بالأعمال الفلسطینیة، و الثغور الساحلیة، و أنّ الفرصة قد أمکنت فیهم، و اللّه قد أذن بهلاکهم، و أنهم ینتظرون إنعام الدولة العلویة، و عواید أفضالها، و یستنصرون بقوّتها، و یحثون علی نصرة الإسلام، و قطع دابر الکفر و تجهیز العساکر المنصورة، و الأساطیل المظفرة، و المساعدة علی التوجه نحوهم لئلا یتواصل مددهم، و تعود إلی القوّة شوکتهم، فقوی العزم علی النفقة فی العساکر فارسها و راجلها، و تجریدها، و تقدّم إلی الأزمّة بإحضار الرجال الأقویاء، و ابتدئ بالنفقة فی الفرسان بین یدی الخلیفة فی قاعة الذهب، و أحضر الوزانون، و صنادیق المال و أفرغت الأکیاس علی البساط، و استمرّ الحال بعد ذلک فی الدار المأمونیة.
و تردّد الرأی فیمن یتقدّم، فوقع الاتفاق علی حسام الملک البرنی، و أحضر مقدّم الأساطیل الثانیة، لأن الأساطیل توجهت فی الغزو و خلع علیه، و أمر بأن ینزل إلی الصناعتین
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 422
بمصر و الجزیرة، و ینفق فی أربعین شینیا ، و یکمل نفقاتها و عددها، و یکون التوجه بها صحبة العسکر، و أنفق فی عشرین من الأمراء للتوجه صحبته، فکملت النفقة فی الفارس و الراجل، و فی الأمراء السائرین، و فی الأطباء، و المؤذنین و القرّاء، و ندب من الحجاب عدّة، و جعل لکل منهم خدمة، فمنهم من یتولی خزانة الخیام، و سیر معه من حاصل الخزائن برسم ضعفاء العسکر، و من لا یقدر علی خیمة خیم، و منهم حاجب علی خزائن السلاح، و أنفق فی عدّة من کتاب دیوان الجیش لعرض العساکر، و فی کتاب العربان:
و أحضر مقدّمو الحراسین بالخفار، و تقدّم إلیها بأنه من تأخر عن العرض بعسقلان، و قبض النفقة، فلا واجب له، و لا إقطاع، و کتبت الکتب إلی المستخدمین بالثغور الثلاثة:
الإسکندریة، و دمیاط، و عسقلان بإطلاق، و ابتیاع ما یستدعی برسم الأسمطة علی ثغر عسقلان للعساکر و العربان من الأصناف، و الغلال.
و وقع الاهتمام بنجاز أمر الرسل الواصلین، و کتبت الأجوبة عن کتبهم، و جهز المال و الخلع المذهبات، و الأطواق، و السیوف، و المناطق الذهب، و الخیل بالمراکب الحلی الثقال، و غیر ذلک من التجملات، و خلع علی الرسل، و أطلق لهم التغییر، و سلمت إلیهم الکتب، و التذاکر و توجهوا صحبة العسکر.
و رکب الخلیفة الآمر بأحکام اللّه إلی باب الفتوح، و نظر بالمنظرة، و استدعی حسام الملک، و خلع علیه بدلة جلیلة مذهبة، و طوّقه بطوق ذهب، و قلده و منطقه بمثل ذلک، ثم قال الوزیر المأمون للأمراء: بحیث یسمع الخلیفة، هذا الأمیر مقدّمکم، و مقدّم العساکر کلها، و ما وعد به أنجزته، و ما قرّره أمضیته، فقبلوا الأرض، و خرجوا من بین یدیه، و سلم متولی بیت المال، و خزائن الکسوة لحسام الملک الکتب بما ضمنته الصنادیق من المال، و أعدال الکسوات، و حملت قدّامه، و فتحت طاقات المنظرة، فلما شاهد العساکر الخلیفة قبلوا الأرض، فأشار إلیهم بالتوجه، فساروا بأجمعهم، و رکب الخلیفة، و توجه إلی الجامع بالمقس، و جلس بالمنظرة، و استدعی مقدّم الأسطول، و خلع علیه، و انحدرت الأساطیل مشحونة بالرجال و العدّة.
منظرة الصناعة: و کان من جملة مناظر الخلفاء منظرة بالصناعة فی الساحل القدیم من مصر یجلس بها الخلیفة تارة حتی تقدّم له العشاریات، فیرکبها و یسیر للمقیاس، حتی یخلق بین یدیه عند الوفاء، و کان بهذه الصناعة دیوان العمائر.
و أنشأ هذه المنظرة، و الصناعة التی هی فیها: الوزیر المأمون، لم تزل إلی آخر الدولة، و دهلیزها مادّ بمصاطب مفروشة بالحصر العبدانی بسطا و تأزیرا، و قد خربت هذه
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 423
الصناعة و المنظرة، و صار موضعهما الآن بستانا کان یعرف ببستان ابن کیسان، و یعرف فی زمننا هذا الذی نحن فیه الآن ببستان الطواشی، و هو بأوّل مراغة مصر، تجاه غیط الجرف علی یسرة من یسلک من المراغة یرید الکیارة، و باب مصر.
قال ابن المأمون: و کانت جمیع مراکب الأساطیل ما تنشأ إلّا بالصناعة التی بالجزیرة، فأنکر الوزیر المأمون ذلک، و أمر بأن یکون إنشاء الشوانی، و غیرها من المراکب النیلة الدیوانیة بالصناعة بمصر، و أضاف إلیها دار الزبیب، و أنشأ المنظرة بها و اسمه باق إلی الآن علیها، و قصد بذلک أن یکون حلول الخلیفة یوم تقدمة الأساطیل، و رمیها بالمنظرة المذکورة و أن یکون ما ینشأ من الجرانی، و الشلندیات فی الصناعة بالجزیرة.
قال: و لما و فی النیل ستة عشر ذراعا رکب الخلیفة و الوزیر إلی الصناعة بمصر، و رمیت العشاریات بین أیدیهما، ثم عدّیا فی إحداها إلی المقیاس.
و قال ابن الطویر: الخدمة فی دیوان الجهاد، و یقال له: دیوان العمائر، و کان محله بصناعة الإنشاء بمصر للأسطول و المراکب الحاملة للغلات السلطانیة، و الأحطاب و غیرها، و کانت تزید علی خمسین عشاریا، و یلیها عشرون دیماسا ، منها عشرة برسم خاص الخلیفة أیام الخلیج و غیرها، و لکل منها رئیس، و نواتیّ لا یبرحون ینفق فیهم من مال هذا الدیوان، و بقیة العشاریات الدوامیس برسم ولاة الأعمال الممیزة، فهی تجرّ لهم، و ینفق فی رؤسائها و رجالها أینما کانوا من مال هذا الدیوان، و تقیم مع أحدهم مدّة مقامه، فإذا صرف عاد فیه، و خرج المتولی الجدید فی العشاری المرسی بالصناعة، و لا یخرج إلا بتوقیع بإطلاقه، و الإنفاق فیه، و للمشارفین بالأعمال عشاریات دون هذه، و فی هذا الدیوان برسم خدمة ما یجری فی الأساطیل نائبان من قبل مقدّم الأسطول، و فیه من الحواصل لعمارة المراکب شی‌ء کثیر، و إذا لم یف ارتفاعه بما یحتاج إلیه استدعی له من بیت المال یسدّ خلله.
قال: و کان من أهم أمورهم احتفالهم بالأساطیل و الأجناد، و مواصلة إنشاء المراکب بمصر و الإسکندریة و دمیاط من الشوانی الحربیة و الشلندیات، و المسطحات إلی بلاد الساحل حین کانت بأیدیهم مثل صور و عکا و عسقلان، و کانت جریدة قوّاده أکثر من خمسة آلاف مدوّنة منهم عشرة أعیان تصل جامکیة کل منهم إلی عشرین دینارا، ثم إلی خمسة عشر، ثم إلی عشرة دنانیر، ثم إلی ثمانیة، ثم إلی دینارین، و هی أقلها، و لهم إقطاعات
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 424
تعرف: بأبواب الغزاة بما فیه من النطرون فیصل دینارهم بالمناسبة إلی نصف دینار و حوالیه، و یعین من هؤلاء القوّاد العشرة من یقع الإجماع علیه لرئاسة الأسطول المتوجه للغزو، فیکون معه الفانوس، و کلهم یهتدون به، و یقلعون بإقلاعه، و یرسون بإرسائه، و یقدّم علی الأسطول أمیر کبیر من أعیان الأمراء، و أقواهم جنانا، و یتولی النفقة فیهم للغزو الخلیفة بنفسه بحضور الوزیر، فإذا أراد النفقة فیما تعین من عدّة المراکب السائرة.
و کانت آخر وقت تزید علی خمسة و سبعین شینیا، و عشر مسطحات، و عشر حمالة، فیتقدّم إلی النقباء بإحضار الرجال، و یسمع بذلک من هو خارج مصر و القاهرة، فیدخل إلیها و لهم المشاهرة و الجرایات المتقرّرة مدّة أیام السفر، و هم معروفون عند عشرین نقیبا، و لا یعترض أحد أحدا إلّا من رغب فی ذلک من نفسه، فإذا اجتمعت العدّة المغلقة للمراکب المطلوبة أعلم المقدّم بذلک الوزیر، فطالع الخلیفة بالحال، و فرز یوم للنفقة، فحضر الوزیر بالاستدعاء علی العادة، فیجلس الخلیفة علی هیئته فی مجلس، و یجلس الوزیر فی مکانه، و یحضر صاحبا دیوان الجیش، و هما المستوفی و هو أمیرهما، و یجلس داخل عتبة المجلس، و هذه رتبة له ممیزة، و کاتب الجیش الأصل، و یجلس بجانبه تحت العتبة علی حصر مفروشة بالقاعة، و لا یخلو المستوفی أن یکون عدلا أو من أعیان الکتاب المسلمین، و أما کاتب الجیش: فیهودیّ فی الأغلب، و یفرش أمام المجلس أنطاع تصب علیها الدراهم، و یحضر الوزانون ببیت المال لذلک، فإذا تهیأ الإنفاق أدخل القابضون مائة مائة، و یقفون فی آخر الوقوف بین یدی الخلیفة من جانب واحد نقابة نقابة، و تکون أسماؤهم قد رتبت فی أوراق لاستدعائهم بین یدی الخلیفة، و یستدعی مستوفی الجیش من تلک الأوراق واحدا واحدا، فإذا خرج اسمه عبر من الجانب الذی هو فیه إلی الجانب الخالی، فإذا تکمل عشرة رجال:
وزن الوزانون لهم النفقة، و کانت لکل واحد خمسة دنانیر صرف، کل دینار ستة و ثلاثون درهما، فیستلمها النقیب، و تکتبت بیده و باسمه، و تمضی النفقة کذلک إلی آخرها، فإذا تمّ ذلک الیوم، رکب الوزیر من بین یدی الخلیفة، و انفض ذلک الجمع، فیحمل من عند الخلیفة مائدة یقال لها: غداء الوزیر، هی سبع مجیفات أوساط إحداها بلحم دجاج و فستق، و البقیة من شواء، و هی مکمورة بالأزهار، فتکون هذه عدّة أیام تارة متوالیة، و تارة متفرّقة، فإذا تکملت النفقة، و تجهزت المراکب، و تهیؤت للسفر: رکب الخلیفة و الوزیر إلی ساحل المقس، و ذکر ابن أبی طی: أنّ المعز لدین اللّه، أنشأ ستمائة مرکب، لم یر مثلها فی البحر علی مدینة و عمل دار صناعة بالمقس.
دار الملک: و کان من جملة مناظرهم: دار الملک بمصر، و هی من إنشاء الأفضل بن أمیر الجیوش ابتدأ فی بنائها و إنشائها فی سنة إحدی و خمسمائة، فلما کملت تحوّل إلیها من دار القباب بالقاهرة، و سکنها، و حوّل إلیها الدواوین من القصر، فصارت بها، و جعل فیها الأسمطة، و اتخذ بها مجلسا سماه: مجلس العطایا، کان یجلس فیه، فلما قتل الأفضل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 425
صارت دار الملک هذه من جملة منتزهات الخلفاء، و کان بها بستان عظیم، و ما زالت عظیمة إلی أن انقرضت الدولة، فجعلها الملک الکامل محمد بن العادل أبی بکر بن أیوب دار متجر، ثم عملت فی أیام الظاهر رکن الدین بیبرس البندقداری: دار وکالة، و موضع دار الملک: ما وراء حبة الخرّوب، بجوار المدرسة المعزی، و بقی منها جدار یجلس تحته بیاعو الحناء.
قال ابن المأمون: و من جملة ما قرّره القائد أبو عبد اللّه من تعظیم المملکة، و تفخیم أمر السلطنة أنّ المجلس الذی یجلس فیه الأفضل بدار الملک یسمی: مجلس العطایا، فقال القائد: مجلس یدعی بهذا الاسم ما یشاهد فیه دینار؟ یدفع لمن یسأل، و أمر بتفصیل ثمان ظروف دیباج أطلس، من کل لون اثنین، و جعل فی سبعة منها خمسة و ثلاثین ألف دینار و فی کل ظرف: خمسة آلاف دینار سکب، و بطاقة بوزنه، و عدده، و شرّابة حریر کبیرة من ذلک ستة ظروف دنانیر بالسویة عن الیمین و الشمال فی مجلس العطایا الذی برسم الجلوس، و عند مرتبة الأفضل بقاعة اللؤلؤة: ظرفان، أحدهما دنانیر، و الآخر دراهم جدد، فالذی فی اللؤلؤة برسم ما یستدعیه الأفضل إذا کان عند الحرم، و أمّا الذی فی مجلس العطایا، فإنّ جمیع الشعراء لم یکن لهم فی الأیام الأفضلیة، و لا فیما قبلها علی الشعر جار و إنما کان لهم إذا اتفق طرب السلطان، و استحسانه لشعر من أنشد منهم ما یسهله اللّه علی حکم الجائزة، فرأی القائد أن یکون ذلک من بین یدیه من الظروف، و کذلک من یتضرّع و یسأل فی طلب صدقة، أو ینعم علیه ابتداء بغیر سؤال، یخرج ذلک من الظروف.
و إذا انصرف الحاضرون، نزل القائد المبلغ بخطه فی البطاقة، و یکتب علیه الأفضل بخطه: صح، و یعاد إلی الظرف، و یختم علیه، فلما استهلّ رجب من سنة اثنتی عشرة و خمسمائة، و جلس الأفضل فی مجلس العطایا علی عادته، و حضر الأجلّ المظفر أخوه للهناء، و جلس بین یدیه، و شاهد الظروف و القائد، و ولده، و أخوه قیام علی رأسه، و تقدّمت الشعراء علی طبقاتهم، أمر لکل منهم بجائزة، و شاع خبر الظروف و کثر القول فیها، و استعظم أمرها، و ضوعف مبلغها، و اتسع هذا الإنعام بالصدقات الجاری بها العادة فی مثل هذا الشهر لفقهاء مصر، و الرباطات بالقرافة و فقرائها.
و قال ابن الطویر: و قد ذکر رکوب الخلیفة فی أوّل العام و حضور العزّة، و ینقطع الرکوب بعد هذا الیوم الذی هو أوّل العام، فیرکبون فی آحاد الأیام إلی أن یکمل شهر و لا یتعدّی ذلک یومی السبت و الثلاثاء، فإذا عزم الخلیفة علی الرکوب فی أحد هذه الأیام أعلم بذلک، و علامته إنفاق الأسلحة فی صبیان الرکاب من خزانة السلاح خاصة دون ما سواها، و أکثر ذلک إلی مصر، و یرکب الوزیر صحبته من ورائه علی أخصر من النظام المتقدّم یعنی فی رکوب أوّل العام، و أقل جمع، فیخرج شاقا القاهرة و شوارعها علی الجامع الطولونیّ
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 426
علی المشاهد إلی درب الصفاء، و یقال له: الشارع الأعظم إلی دار الأنماط إلی الجامع العتیق، فإذا وصل إلی بابه، وجد الشریف الخطیب قد وقف علی مصطبة بجانبه فیها محراب مفروشة بحصر معلق علیها سجادة، و فی یده المصحف المنسوب خطه إلی علیّ بن أبی طالب، رضی اللّه عنه، و هو من حاصله فإذا وازاه وقف فی موضعه، و ناوله المصحف من یده، فیتسمله منه، و یقبله و یتبرّک به مرارا، و یعطیه صاحب الخریطة المرسومة للصلات: ثلاثین دینارا، و هی رسمه متی اجتاز به، فیوصلها الشریف إلی مشارف الجامع، فیکون نصیبهما منها خمسة عشر دینارا، و الباقی للقومة و المؤذنین دون غیرهم.
و یسیر إلی أن یصل دار الملک، فینزلها و الوزیر معه و منذ یخرج من باب القصر إلی أن یصل إلی دار الملک لا یمرّ بمسجد إلا أعطی قیمة من الخریطة دینارا، فلا یزال بدار الملک نهاره فتأتیه المائدة من القصر، و عدّتها: خمسون شدّة علی رؤوس الفرّاشین مع صاحب المائدة، و هو أستاذ جلیل غیر محنک، و کل شدّة فیها: طیفور فیها الأوانی الخاص، و فیها من الأطعمة الخاص من کل نوع شهیّ، و کل صنف من المطاعم العالیة، و لها رواء، و رائحة المسک فائحة منها، و علی کل شدّة طرحهة حریر تعلو القوّارة التی هی الشدّة، فیحمل إلی الوزیر منها جزء وافر، و لمن صحبه و للأمراء، و لکافة الحاضرین فی الخدمة، و یصل منها إلی الناس بمصر ممن بعضهم بعضا شی‌ء کثیر، و لا یزال إلی أن یؤذن علیه بالعصر، فیصلی و یتحرّک إلی العود إلی القاهرة، و الناس فی طریقه لنظره، فیرکب و زیه فی هذه الأیام أنه یلبس الثیاب المذهبة البیاض، و الملوّنة و المندیل من النسبة، و هو مشدود شدّة مفردة عن شدّات الناس، و ذؤابته مرخاة من جانبه الأیسر، و یتقلد بالسیف العربی المجوهر بغیر حنک، و لا مظلة، و لا یتیمة، فإنّ ذلک فی أوقات مخصومة، و لا یمرّ أیضا بمسجد فی سلوکه فی هذه الطریق بالساحل إلّا، و یعطی قیّمه دینارا أیضا، کما جری فی الرواح، و ینعطف من باب الخرق، و یدخل من باب زویلة شاقا القاهرة حتی یدخل القصر، فیکون ذلک من المحرّم إلی شهر رمضان، إمّا أربع مرّات أو خمس مرّات، و من شعر الأسعد أسعد بن مهذب بن زکریا بن أبی ملیح مما فی دار الملک هذه:
حللت بدار الملک و النیل آخذبأطرافها و الموج یوسعها ضربا
فخیلته قد غار لما وطئتهاعلیها فأضحی عند ذاک لها خربا

منازل العز

بنتها السیدة تغرید أمّ العزیز بالله بن المعز، و لم یکن بمصر أحسن منها، و کانت مطلة علی النیل لا یحجبها شی‌ء عن نظره، و ما زال الخلفاء من بعد المعز یتداولونها، و کانت معدّة لنزهتهم، و کان بجوارها حمام، و لها منها باب و موضعها الآن مدرسة تعرف: بالمدرسة التقویة منسوبة للملک المظفر تقیّ الدین عمرو بن شاهنشاه بن نجم الدین أیوب بن شادی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 427
الهودج: و کان من منتزهاتهم العظیمة البناء العجیبة البدیعة الزی بناء فی جزیرة الفسطاط التی تعرف الیوم: بالروضة، یقال له: الهودج، بناه الخلیفة الآمر بأحکام اللّه لمحبوبته البدویة التی غلب علیه حبها بجوار البستان المختار، و کان یتردد إلیه کثیرا، و قتل و هو متوجه إلیه و ما زال منتزها للخلفاء من بعده.
قال ابن سعید فی کتاب المحلی بالأشعار: قال القرطبیّ فی تاریخه: تذاکر الناس فی حدیث البدویة، و ابن میاح من بنی عمها و ما یتعلق بذلک من ذکر الآمر، حتی صارت روایاتهم فی هذا الشأن کأحادیث البطال، و ألف لیلة و لیلة و ما أشبه ذلک.
و الاختصار منه أن یقال: إنّ الآمر کان قد بلی بعشق الجواری العربیات، و صارت له عیون بالبوادی، فبلغه أن جاریة بالصعید من أکمل العرب، و أظرفهم شاعرة جمیلة، فیقال: إنه تزیا بزیّ بداة الأعراب و کان یجول فی الأحیاء إلی أن انتهی إلی حیّها، و بات هناک فی ضائقة، و تحیل حتی عاینها هنالک، فما ملک صبره و رجع إلی مقرّ ملکه، و أرسل إلی أهلها یخطبها، و تزوّجها، فلما وصلت صعب علیها مفارقة ما اعتادته، و أحبت أن تسرّح طرفها فی الفضاء، و لا تنقبض نفسها تحت حیطان المدینة، فبنی لها البناء المشهور فی جزیرة الفسطاط المعروف بالهودج، و کان غریب الشکل علی شط النیل، و بقیت متعلقة الخاطر بابن عم لها، ربیت معه یعرف: بابن میاح، فکتبت إلیه من قصر الآمر:
یا ابن میاح إلیک المشتکی‌مالک من بعد قد ملکا
کنت فی حیی مطاعا آمرانائلا ما شئت منکم مدرکا
فأنا الآن بقصر مرصدلا أری إلّا خبیثا ممسکا
کم تثنینا کأغصان اللواحیث لا نخشی علینا درکا
فأجابها:
بنت عمی و التی غذیتهابالهوی حتی علا و احتبکا
بحت بالشکوی و عندی ضعفهالو غدا ینفع منا المشتکی
مالک الأمر إلیه أشتکی‌مالک و هو الذی قد ملکا
قال: و للناس فی طلب ابن میاح، و اختفائه أخبار تطول، و کان من عرب طیّ فی قصر الآمر: طراد بن مهلهل السنبسی فبلغته هذه القضیة، فقال:
ألا بلغوا الآمر المصطفی‌مقال طراد و نعم المقال
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 428 قطعت الألیفین عن ألفةبها سمر الحیّ بین الرجال
کذا کان آباؤک الأکرمون‌سالت فقل لی جواب السؤال
فقال الخلیفة الآمر: لما بلغته الأبیات، جواب سؤاله قطع لسانه علی فضوله، و طلب فی أحیاء العرب، فلم یوجد، فقالت العرب: ما أخسر صفقة طراد، باع أبیات الحیّ بثلاثة أبیات، و کان بالإسکندریة: مکین الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجید بن أحمد بن الحسن بن حدید له مروءة عظیمة، و یحتذی أفعال البرامکة، و للشعراء فیه أمداح کثیرة مدحه ظافر الحدّاد، و أمیة بن أبی الصلت، و غیرهما. و کان له بستان یتفرّج فیه به جرن کبیر من رخام، و هو قطعة واحدة و ینحدر فیه الماء فیبقی کالبرکة من کبره، و کان یجد فی نفسه برؤیته زیادة علی أهل التنعم، و المباهاة فی عصره، فوشی به للبدویة محبوبة الآمر، فسألت الخلیفة الآمر فی حمل الجرن إلیها، فأرسل إلی ابن حدید بإحضار الجرن، فلم یجد بدّا من حمله من البستان، فلما صار إلی الآمر أمر بعمله فی الهودج، فقلق ابن حدید، و صارت فی قلبه حرارة من أخذ الجرن، فأخذ یخدم البدویة، و من یلوذ بها بأنواع الخدم العظیمة الخارجة عن الحدّ فی الکثرة حتی قالت البدویة: هذا الرجل أخجلنا بکثرة تحفه، و لم یکلفنا قط أمرا نقدر علیه عند الخلیفة مولانا، فلما قیل له هذا القول عنها قال: ما لی حاجة بعد الدعاء للّه بحفظ مکانها، و طول حیاتها فی عزّ ردّد الفسقیة التی قلعت من داری التی بنیتها فی أیامها من نعمتهم تردّ إلی مکانها، فتعجبت من ذلک، و ردّتها علیه، فقیل له: حصلت فی حدّ أن خیّرتک البدویة فی جمیع المطالب، فنزلت همتک إلی قطعة حجر، فقال: أنا أعرف بنفسی، ما کان لها أمل سوی أن لا تغلّب فی أخذ ذلک الحجر من مکانه، و قد بلغها اللّه أملها، و کان هذا المکین قضاء الإسکندریة، و نظرها فی أیام الآمر.
و بلغ من علوّ همته، و عظم مروءته أنّ سلطان الملوک حیدرة أخا الوزیر المأمون بن البطائحیّ: لما قلده الآمر ولایة ثغر الإسکندریة فی سنة سبع عشرة و خمسمائة، و أضاف إلیه الأعمال البحریة، و وصل إلی الثغر، و وصف له الطبیب دهن شمع بحضور القاضی المذکور، فأمر فی الحال بعض غلمانه بالمضیّ إلی داره لإحضار دهن شمع. فما کان أکثر من مسافة الطریق إلا أن أحضر حقا مختوما فکّ عنه، فوجد فیه مندیل لطیف مذهب علی مداف بلور فیه: ثلاثة بیوت، کل بیت علیه قبة ذهب مشبکة مرصعة بیاقوت و جوهر، بیت دهن بمسک، و بیت دهن بکافور، و بیت دهن بعنبر طیب، و لم یکن فیه شی‌ء مصنوع لوقته، فعندما أحضره الرسول، تعجب المؤتمن و الحاضرون من علوّ همته، فعندما شاهد القاضی ذلک بالغ فی شکر أنعامه، و حلف بالحرام إن عاد إلی ملکه، فکان جواب المؤتمن قد قبلته منک لا لحاجة إلیه، و لا لنظر فی قیمته بل لإظهار هذه الهمة، و إذاعتها، و ذکر أن قیمة هذا المداف، و ما علیه: خمسمائة دینار، فانظر رحمک اللّه، إلی من یکون دهن الشمع عنده فی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 429
إناء قیمته: خمسمائة دینار و دهن الشمع لا یکاد أکثر الناس یحتاج إلیه البتة، فماذا تکون ثیابه، و حلیّ نسائه، و فرش داره، و غیر ذلک من التجملات، و هذا إنما هو حال قاضی الإسکندریة، و من قاضی الإسکندریة بالنسبة إلی أعیان الدولة بالحضرة؟ و ما نسبة أعیان الدولة، و إن عظمت أحوالهم إلی أمر الخلافة، و أبهتها إلّا یسیر حقیر.
و ما زال الخلیفة الآمر یتردّد إلی الهودج المذکور إلی أن رکب یوم الثلاثاء رابع ذی القعدة سنة أربع و عشرین و خمسمائة یرید الهودج، و قد کمن له عدّة من النزاریة فی فرن عند رأس الجسر من ناحیة الروضة، فوثبوا علیه، و أثخنوه بالجراحة حتی هلک، و حمل فی العشاریّ إلی اللؤلؤة، فمات بها، و قیل: قبل أن یصل إلیها، و قد خرب هذا الهودج، و جهل مکانه من الروضة، و للّه عاقبة الأمور.
قصر القرافة: و کان لهم بالقرافة قصر بنته: السیدة تغرید أم العزیز بالله بن المعز فی سنة: ست و ستین و ثلثمائة، علی ید الحسین بن عبد العزیز الفارسیّ المحتسب هو، و الحمام الذی فی غربیه، و بنت البئر، و البستان و جامع القرافة، و کان هذا القصر نزهة من النزه من أحسن الآثار فی إتقان بنیانه و صحة أرکانه، و له منظرة ملیحة کبیرة محمولة علی قبو مادّ تجوز المارّة من تحته، و یقیل المسافرون فی أیام القیظ هناک، و یرکب الراکب إلیه علی زلاقة، و کان کأحسن ما یکون من البناء، و تحته حوض لسقی الدواب یوم الحلول فیه، و کان مکانه بالقرب من مسجد الفتح.
و لما کان فی سنة عشرین و أربعمائة جدّده الخلیفة الآمر، و عمل تحته مصطبة للصوفیة و کان یجلس فی الطاق بأعلی القصر و یرقص أهل الطریقة من الصوفیة، و المجامر بالألویة موضوعة بین أیدیهم و الشموع الکثیرة تزهر، و قد بسط تحتهم حصر من فوقها بسط، و مدّت لهم الأسمطة التی علیها کل نوع لذیذ و لون شهیّ من الأطعمة، و الحلوی أصنافا مصنفة، فاتفق أن تواجد الشیخ أبو عبد اللّه بن الجوهریّ الواعظ، و مزق مرقعته، و فرّقت علی العادة خرقا، و سأل الشیخ أبو إسحاق إبراهیم المعروف بالقارح المقری خرقة منها، و وضعها فی رأسه، فلما فرغ التمزیق، قال الخلیفة الآمر بأحکام اللّه: من طاق بالمنظرة یا شیخ أبا إسحاق، قال: لبیک یا مولانا، قال: أین خرقتی؟ فقال مجیبا له فی الحال: ها هی علی رأسی یا أمیر المؤمنین، فاستحسن الآمر ذلک، و أعجبه موقعه فأمر فی الساعة، و الوقت فأحضر من خزائن الکسوات ألف نصفیة، ففرّقت علی الحاضرین، و علی فقراء القرافة، و نثر علیهم متولی بیت المال من الطاق ألف دینار، فتخاطفها الحاضرون، و تعاهد المغربلون الأرض التی هناک أیاما لأخذ ما یواریه التراب، و ما برح قصر الأندلس بالقرافة، حتی زالت الدولة، فهدم فی شهر ربیع الآخر سنة سبع و ستین و خمسمائة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 430
المنظرة ببرکة الحبش : و کانت لهم منظرة تشرف علی برکة الحبش، قال الشریف أبو عبد اللّه محمد الجوانی فی کتاب النقط علی الخطط: إن الخلیفة الآمر بأحکام اللّه بنی علی المنظرة التی یقال لها بئر دکة الخرکة منظرة من خشب مدهونة فیها طاقات، تشرف علی خضرة برکة الحبش، و صوّر فیها الشعراء کل شاعر و بلده، و استدعی من کل واحد منهم قطعة من الشعر فی المدح، و ذکر الخرکاه، و کتب ذلک عند رأس کل شاعر، و بجانب صورة کل منهم رف لطیف مذهب، فلما دخل الآمر، و قرأ الأشعار أمر أن یحط علی کل رف، صرّة مختومة فیها: خمسون دینارا، و أن یدخل کل شاعر، و یأخذ صرّته بیده، ففعلوا ذلک، و أخذوا صررهم، و کانوا عدّة شعراء.
البساتین: و کان للخلفاء عدّة بساتین یتنزهون بها: منها البساتین الجیوشیة، و هما بستانان کبیران أحدهما من عند زقاق الکحل، خارج باب الفتوح إلی المطریة، و الآخر یمتدّ من خارج باب القنطرة إلی الخنذق، و کان لهما شأن عظیم، و من شدّة غرام الأفضل بالبستان الذی کان یجاور بستان البعل، عمل له سورا مثل سور القاهرة، و عمل فیه بحرا کبیرا، و قبة عشاری تحمل ثمانیة أرادب، و بنی فی وسط البحر منظرة محمولة علی أربع عوامید من أحسن الرخام، و حفها بشجر النارنج، فکان نارنجها لا یقطع حتی یتساقط و سلط علی هذا البحر أربع سواق، و جعل له معبرا من نحاس مخروط زنته قنطار، و کان یملأ فی عدّة أیام، و جلب إلیه من الطیور المسموعة شیئا کثیرا، و استخدم للحمام الذی کان به عدّة مطیرین، و عمر به أبراجا عدّة للحمام و الطیور المسموعة، و سرّح فیه کثیرا من الطاوس، و کان البستانان اللذان علی یسار الخارج من باب الفتوح بینهما بستان الخندق، لکل منهما أربعة أبواب من الأربع جهات علی کل منها عدّة من الأرمن، و جمیع الدهالیز مؤزرة بالحصر العبدانیّ، و علی أبوابها سلاسل کثیرة من حدید، و لا یدخل منها إلّا السلطان، و أولاده و أقاربه.
قال ابن عبد الظاهر: و اتفقت جماعة علی أن الذی یشتمل علیه مبیعهما فی السنة من زهر و ثمر: نیف و ثلاثون ألف دینار، و إنها لا تقوم بمؤنهما علی حکم الیقین لا الشک، و کان الحاصل بالبستان الکبیر، و المحسن إلی آخر الأیام الآمریة، و هی سنة: أربع و عشرین و خمسمائة: ثمانمائة، و أحد عشر رأسا من البقر، و من الجمال: مائة و ثلاثة رؤوس، و من العمال و غیرهم ألف رجل.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 431
و ذکر أنّ الذی دار سور البساتین من سنط، و جمیز، و أثل من أوّل حدّهما الشرقیّ، و هو رکن برکة الأرمن مع حدّهما البحریّ و الغربی جمیعا إلی آخر زقاق الکحل فی هذه المسافة الطویلة: سبعة عشر ألف ألف، و مائتا شجرة، و بقی قبلیهما جمیعا لم یحصن.
و إنّ السنط تغصن حتی لحق بالجمیز فی العظم، و إنّ معظم قرظه یسقط إلی الطریق، فیأخذه الناس، و بعد ذلک یباع بأربعمائة دینار، و کان به کل ثمرة لها دویرة مفردة، و علیها سیاج، و فیها نخل منقوش فی ألواح علیها برسم الخاص لا تجنی إلّا بحضور المشارف، و کان فیهما لیمون تفاحیّ یوکل بقشرة بغیر سکر، و أقام هذان البستانان بید الورثة الجیوشیة مع البلاد التی لهم مدّة أیام الوزیر المأمون، لم تخرج عنهم، و کشف ذلک فی أیام الخلیفة الحافظ، فکان فیهما ستمائة رأس من البقر، و ثمانون جملا، و قوّم ما علیهما من الأثل و الجمیز، فکانت قیمته: مائتی ألف دینار، و طلب الأمیر شرف الدین و کانت له حرمة عظیمة من الخلیفة الحافظ قطع شجرة واحدة من سنط فأبی علیه، فتشفع إلیه، و قوّمت بسبعین دینارا، فرسم الخلیفة إن کانت وسط البستان تقطع، و إلا فلا، و لما جری فی آخر أیام الحافظ ما جری من الخلف ذبحت أبقاره، و جماله، و نهب ما فیه من الآلات و الأنقاض، و لم یبق إلّا الجمیز و السنط و الأثل لعدم من یشتریه، انتهی.
و کان هذان البستانان من جملة الحبس الجیوشیّ، و هو أن أمیر الجیوش بدر الجمالیّ حبس عدّة بلاد و غیرها، منها فی البرّ الشرقیّ بناحیة بهتیت، و الأمیریة، و المنیة، و فی البرّ الغربیّ ناحیة سفط و نهیا و وسیم مع هذین البستانین المذکورین علی عقبة، فاستأجر هذا الحبس الوزیر مدّة سنین بأجرة یسیرة، و صار یزرع فی الشرقیّ منه، الکتان و منه ما تبلغ قطیعته ثلاثة دنانیر و نصفا و ربعا عن کل فدّان فیتناولون فیه ربحا جزیلا لأنفسهم، فلما بعد العهد انقرضت أعقابه، و لم یبق من ذرّیته سوی امرأة کبیرة، فأفتح الفقهاء بأن هذا الحبس باطل، فصار للدیوان السلطانیّ یتصرّف فیه، و یحمل متحصله مع أموال بیت المال و تلاشت البساتین، و بنی فی أماکنها ما یأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی، و بنی العزیز بالله بستانا بناحیة سردوس.
قبة الهواء: و کان من أحسن منتزهات الخلفاء الفاطمیین، قبة الهواء، و هی مستشرف بهج بدیع، فیما بین التاج، و الخمس وجوه یحیط به عدّة بساتین، لکل بستان منها: اسم، و لهذه القبة فرش معدّة فی الشتاء، و الصیف و یرکب إلیها الخلیفة فی أیام الرکوبات التی هی یوم السبت و الثلاثاء.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 432
بحر أبی المنجا : و کان من منتزهات الخلفاء، یوم فتح بحر أبی المنجا، قال ابن المأمون: و کان الماء لا یصل إلی الشرقیة إلّا من السردوسیّ، و من الصماصم، و من المواضع البعیدة، فکان أکثرها یشرق فی أکثر السنین، و کان أبو المنجا الیهودیّ مشارف الأعمال المذکورة، فتضرّر المزارعون إلیه، و سألوا فی فتح ترعة یصل الماء منها فی ابتدائه إلیهم، فابتدأ بحفر خلیج أبی المنجا فی یوم الثلاثاء السادس من شعبان سنة ست و خمسمائة، و رکب الأفضل بن أمیر الجیوش ضحی، و صحبته القائد أبو عبد اللّه محمد بن فاتک البطائحیّ، و جمیع إخوته و العساکر تحاذیه فی البرّ و جمعت شیوخ البلاد و أولادها، و رکبوا فی المراکب، و معهم حزم البوص فی البحر، و صار العشاریّ، و المراکب تتبعها إلی أن رماها الموج إلی الموضع الذی حفروا فیه البحر، و أقام الحفر فیه سنتین، و فی کل سنة تتبین الفائدة فیه، و یتضاعف من ارتفاع البلاد، ما یهوّن الغرامة علیه.
و لما عرض علی الأفضل جملة ما أنفق فیه استعظمه و قال: غرمنا هذا المال جمیعه، و الاسم لأبی المنجا، فغیر اسمه، و دعی بالبحر الأفضلیّ، فلم یتم ذلک، و لم یعرف إلّا بأبی المنجا ثم جری بین أبی المنجا، و بین ابن أبی اللیث، صاحب الدیوان بسبب الذی أنفق خطوب أدت إلی اعتقال أبی المنجا عدّة سنین، ثم نفی إلی الإسکندریة بعد أن کادت نفسه تتلف، و لم یزل القائد أبو عبد اللّه بن فاتک، یتلطف بحاله إلی تضاعف من عبرة البلاد ما سهل أمر النفقة فیه.
و رأیت بخط ابن عبد الظاهر، و هذا أبو المنجا هو جدّ بنی صفیر الحکماء الیهود، و الذین أسلموا منهم، و لما طال اعتقال أبی المنجا فی الإسکندریة فی مکان بمفرده مضیقا علیه، تحیل فی تحصیل مصحف، و کتب ختمة، و کتب فی آخرها: کتبها أبو المنجا الیهودیّ، و بعثها إلی السوق لیبعها، فقامت قیامة أهل الثغر، و طولع بأمره إلی الخلیفة، فأخرج.
و قیل له: ما حملک علی هذا؟ فقال: طلب الخلاص بالقتل، فأدّب، و أطلق سبیله.
و قیل: إنه کان فی محبسه حیة عظیمة، فأحضر إلیه فی بعض الأیام لبن، فرأی الحیة، و قد شربت منه، و دخلت حجرها، فصار فی کل یوم یحضر لها لبنا، فتخرج و تشرب منه، و تدخل مکانها، و لم تؤذه.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 433
و لما ولی المأمون البطائحیّ وزارة الآمر بأحکام اللّه بعد الأفضل بن أمیر الجیوش، تحدّث الآمر معه فی رؤیة فتح هذا الخلیج، و أن یکون له یوم کخلیج القاهرة، فندب الآمر معه عدی الملک أبا البرکات بن عثمان وکیله، و أمره بأن یبنی علی مکان السدّ منظرة متسعة، تکون من بحریّ السدّ، و سرّع فی عمارتها بعد کمال النیل، و ما زال یوم فتح سدّ هذا البحر یوما مشهودا إلی أن زالت الدولة الفاطمیة.
فلما استولی بنو أیوب من بعدهم علی مملکة مصر، أجروا الحال فیه علی ما کان، قال القاضی الفاضل فی متجدّدات سنة سبع و سبعین و خمسمائة: و رکب السلطان الملک الناصر صلاح الدین یوسف بن أیوب لفتح بحر أبی المنجا، و عاد. و قال: و فی سنة تسعین و خمسمائة، کسر بحر أبی المنجا بعد أن تأخر کسره عن عید الصلیب بسبعة أیام، و کان ذلک لقصور النیل فی هذه السنة، و لم یباشر السلطان الملک العزیز عثمان ابن السلطان صلاح الدین بنفسه، و رکب أخوه شرف الدین یعقوب الطواشی لکسره، و بدت فی هذا الیوم من مخایل القبوط ما یوجبه سوء الأفعال من المجاهرة بالمنکرات، و الإعلان بالفواحش، و قد أفرط هذا الأمر، و اشترک فیه الآمر و المأمور، و لم ینسلخ شهر رمضان، إلّا و قد شهد ما لم یشهده رمضان قبله فی الإسلام و بدا عقاب اللّه فی الماء الذی کانت المعاصی علی ظهره، فإنّ المراکب کان یرکب فیها فی رمضان الرجال و النساء مختلطین، مکشفات الوجوه، و أیدی الرجال تنال منها ما تنال فی الخلوات، و الطبول، و العیدان مرتفعات الأصوات، و الصنجات، و استنابوا فی اللیل عن الخمر بالماء، و الجلاب ظاهرا، و قیل: إنهم شربوا الخمر مستورا، و قربت المراکب بعضها من بعض، و عجز المنکر عن الإنکار إلّا بقلبه، و رفع الأمر إلی السلطان، فندب حاجبه فی بعض اللیالی، ففرّق منهم من وجده فی الحالة الحاضرة، ثم عادوا بعد عوده، و ذکر أنه وجد فی بعض المعادی خمرا فأراقه.
و لما استهل شوّال و هو مطموع فیه تضاعف هذا المنکر، و فشت هذه الفاحشة، و نسأل اللّه العفو و العافیة عن الکبائر، و التجاوز عما تسقط فیه المعاذر.
و قال: فی سنة اثنتین و تسعین و خمسمائة: کسر بحر أبی المنجا، و باشر العزیز کسره، و زاد النیل فیه أصبعا، و هی الأصبع الثامنة عشرة من ثمانی عشر ذراعا، و هذا الحدّ یسمی عند أهل مصر: اللجة الکبری، و قد تلاشی فی زمننا أمر الاجتماع فی یوم فتح سدّ بحر أبی المنجا، و قلّ الاحتفال به لشغل الناس بهتمّ المعیشة.
قصر الورد بالخاقانیة: و کان من أیام منتزهات الخلفاء یوم قصر الورد بناحیة الخاقانیة، و هی قریة من قری قلیوب ، کانت من خاص الخلیفة، و بها جنان کثیرة
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 434
للخلیفة، و کانت من أحسن المنتزهات المصریة و کان بها عدّة دویرات یزرع فیها الورد، فیسیر إلیها الخلیفة یوما، و یصنع له فیها قصر عظیم من الورد، و یخدم بضیافة عظیمة.
قال ابن الطویر عن الخلیفة الآمر بأحکام اللّه: و عمل له بالخاقانیة و کانت من خاص الخلیفة، قصر من ورد فسار إلیها یوما، و خدم بضیافة عظیمة، فلما استقرّ هناک، خرج إلیه أمیر یقال له: حسام الملک من الأمراء الذین کانوا مع المؤتمن أخی المأمون البطائحیّ، و تخاذلوا عنه، فوصل إلی الخاقانیة، و هو لابس لأمة حربه و التمس المثول بین یدیه یعنی الخلیفة، فاستقلّ ما جاء به فی ذلک الوقت، مما ینافی ما فیه الخلیفة من الراحة، و النزهة و حیل بینه و بین مقصوده، فقال لجماعة من حواشی الخلیفة: أنتم منافقون علی الخلیفة إن لم أصل إلیه، فإنه یعاقبکم بذلک، فأطلعوا الخلیفة علی أمره، و حلیته بالسلاح، و قوله فأمر بإحضاره، فلما وقعت عینه علیه قال: یا مولانا، لمن ترکت أعداءک؟ یعنی الوزیر المأمون البطائحیّ، و أخاه، و کان الآمر قد قبض علیهما، و اعتقلهما هذا و العهد قریب غیر بعید أ أمنت الغدر؟ فما أجابه إلّا و هو علی الرهاویج من الخیل، فلم تمض ساعة إلّا، و هو بالقصر، فمضی إلی مکان اعتقال المأمون و أخیه، فزادهما وثاقا و حراسة، و فی أثناء ذلک، وصل ابن نجیب الدولة الذی کان سیره المأمون فی وزارته إلی الیمن، لتحقیق نسبه أنه ولد من جاریة نزار بن المستنصر، لما خرجت من القصر، و هی به حامل و یدعو إلیه بقیة الناس، و أحضر إلی القاهرة علی جمل مشوّه، فأدخل خزانة البنود، و قتل هو و المأمون، و جماعة فی تلک اللیلة، و صلبوا ظاهر القاهرة.
برکة الجب: هی بظاهر القاهرة من بحریها، و تسمیها العامّة فی زمننا هذا الذی نحن فیه: برکة الحاج لنزول الحجاج بها عند مسیرهم من القاهرة إلی الحج فی کل سنة، و نزولهم عند العود بها، و منها یدخلون إلی القاهرة و من الناس من یقول: جب یوسف، و هو خطأ، و إنما هی أرض جب عمیرة، و عمیرة هذا هو: ابن تمیم بن جزء التجیبی من بنی القرناء، نسبت هذه الأرض إلیه، فقیل لها: أرض جب عمیرة، ذکره ابن یونس، و کان من عادة الخلیفة المستنصر بالله أبی تمیم معدّ بن الظاهر بن الحاکم فی کل سنة أن یرکب علی النجب مع النساء، و الحشم إلی رجب عمیرة هذا، و هو موضع نزهة بهیئة أنه خارج إلی الحج علی سبیل اللعب و المجانة، و ربما حمل معه الخمر فی الروایا عوضا عن الماء، و یسقیه من معه، و أنشده مرّة الشریف أبو الحسن علیّ بن الحسین بن حیدرة العقیلیّ فی یوم عرفة:
قم فانحر الراح یوم النحر بالماءو لا تضح ضحی إلّا بصهباء
و ادرک حجیج الندامی قبل نفرهم‌إلی منی قصفهم مع کل هیفاء
و عج علی مکة الروحاء مبتکرافطف بها حول رکن العود و النائی
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 435
قال ابن دحیة: فخرج فی ساعته بروایا الخمر تزجی بنغمات حداة الملاهی و تساق، حتی أناخ بعین شمس فی کبکبة من الفساق، فأقام بها سوق الفسوق علی ساق، و فی ذلک العام أخذه اللّه تعالی، و أهل مصر بالسنین، حتی بیع فی أیامه الرغیف: بالثمن الثمین، و عاد ماء النیل بعد عذوبته کالفسلین، و لم یبق بشاطئیه أحد بعد أن کانا محفوفین بحور عین.
و قال ابن میسر: فلما کان فی جمادی الآخرة من سنة: أربع و خمسین و أربعمائة، خرج المستنصر علی عادته إلی برکة الجب، فاتفق أن بعض الأتراک جرّد سیفا فی سکر منه علی بعض عبید الشراء، فاجتمع علیه طائفة من العبید و قتلوه، فاجتمع الأتراک بالمستنصر، و قالوا: إن کان هذا عن رضاک، فالسمع و الطاعة، و إن کان عن غیر رضاک، فلا نرضی بذلک، فأنکر المستنصر ما وقع، و تبرّأ مما فعله العبید، فتجمع الأتراک لحرب العبید، و برز بعضهم إلی بعض، و کان بین الفریقین قتال شدید علی کوم شریک، انهزم فیه العبید، و قتل منهم عدد کثیر، و کانت أمّ المستنصر تعین العبید، و تمدّهم بالأموال و الأسلحة، فاتفق فی بعض الأیام أن بعض الأتراک ظفر بشی‌ء مما تبعث به أمّ المستنصر إلی العبید، فأعلم بذلک أصحابه، و قد قویت شوکتهم بانهزام العبید، فاجتمعوا بأسرهم، و دخلوا علی المستنصر و خاطبوه فی ذلک، و أغلظوا فی القول، و جهروا بما لا ینبغی، و صار السیف قائما، و الحروب متتابعة إلی أن کان من خراب مصر بالغلاء و الفتن، ما کان، و کان من قبل المستنصر یتردّدون إلی برکة الجب.
قال المسبحیّ: و لاثنتی عشرة خلت من ذی القعدة سنة أربع و ثمانین و ثلثمائة، عرض العزیز بالله عساکره بظاهر القاهرة، عند سطح الجب فنصب له مضرب دیباج رومیّ، فیه ألف ثوب بصفریة فضة، و نصبت له فازة مثقل، و قبة مثقل بالجوهر، و ضرب لابنه الأمیر أبی علیّ منصور مضرب آخر، و عرضت العساکر، و کان عدّتها مائة عسکری، و أقبلت أساری الروم، و عدّتهم مائتان و خمسون، فطیف بهم، و کان یوما عظیما حسنا لم تزل العساکر تسیر بین یدیه من ضحوة النهار إلی صلاة المغرب، و ما زالت برکة الجب منتزها للخلفاء و الملوک من بنی أیوب، و کان السلطان صلاح الدین یبرز إلیها للصید، و یقیم فیها الأیام، و فعل ذلک الملوک من بعده، و اعتنی بها الملک الناصر محمد بن قلاون، و بنی بها أحواشا و میدانا کما سیأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی، و برکة الجب، و ما یلیها فی درک بنی صبرة، و هم ینسبون إلی صبرة ابن بطیح بن مغالة بن عجان بن عنب بن الکلیب بن أبی عمرو بن دمیة بن جدس بن أریش بن أراش بن جزیلة بن لخم، فهم أحد بطون لخم، و فیهم بنو جذام بن صبرة بن بصرة بن غنم بن غطفان بن سعد بن مالک بن حرام بن جذام أخی لخم.
المشتهی: و کان من مواضعهم التی أعدّت للنزهة المشتهی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 436

ذکر الأیام التی کان الخلفاء الفاطمیون یتخذونها أعیادا، و مواسم تتسع بها أحوال الرعیة، و تکثر نعمهم

اشارة

و کان للخلفاء الفاطمیین فی طول السنة: أعیاد و مواسم، و هی: موسم رأس السنة، و موسم أوّل العام، و یوم عاشوراء، و مولد النبیّ صلّی اللّه علیه و سلّم، و مولد علیّ بن أبی طالب رضی اللّه عنه، و مولد الحسن، و مولد الحسین علیهما السلام، و مولد فاطمة الزهراء علیها السلام، و مولد الخلیفة الحاضر، و لیلة أوّل رجب، و لیلة نصفه، و لیلة أوّل شعبان، و لیلة نصفه، و موسم لیلة رمضان، و غرّة رمضان، و سماط رمضان، و لیلة الختم، و موسم عید الفطر، و موسم عید النحر، و عید الغدیر، و کسوة الشتاء، و کسوة الصیف، و موسم فتح الخلیج، و یوم النوروز، و یوم الغطاس، و یوم المیلاد، و خمیس العدس، و أیام الرکوبات.
موسم رأس السنة: و کان للخلفاء الفاطمیین اعتناء بلیلة أوّل المحرّم فی کل عام لأنها أوّل لیالی السنة و ابتداء أوقاتها، و کان من رسومهم فی لیلة رأس السنة أن یعمل بمطبخ القصر عدّة کثیرة من الخراف المقموم و الکثیر من الرءوس المقموم، و تفرّق علی جمیع أرباب الرتب، و أصحاب الدواوین من العوالی و الأدوان أرباب السیوف و الأقلام مع جفان اللبن، و الخبز، و أنواع الحلواء، فیعمّ ذلک سائر الناس من خاص الخلیفة، و جهاته و الأستاذین المحنکین إلی أرباب الضوء، و هم المشاعلیة، و یتنقل ذلک فی أیدی أهل القاهرة و مصر.
موسم أوّل العام: و کان لهم بأوّل العام عنایة کبیرة فیه، یرکب الخلیفة بزیه المفخم، و هیئته العظیمة کما تقدّم، و یفرّق فیه دنانیر الغرّة التی مرّ ذکرها عند ذکر دار الضرب، و یفرّق من السماط الذی یعمل بالقصر لأعیان أرباب الخدم من أرباب السیوف، و الأقلام بتقریر مرتب، خرفان شواء، و زبادی طعام و جامات حلواء، و خبر و قطع منفوخة من سکر، و أرز بلبن، و سکر، فیتناول الناس من ذلک ما یجل وصفه، و یتبسطون بما یصل إلیهم من دنانیر الغرّة من رسوم الرکوب کما شرح فیما تقدّم.
یوم عاشوراء : کانوا یتخذونه یوم حزن تتعطل فیه الأسواق، و یعمل فیه السماط
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 437
العظیم المسمی: سماط الحزن، و قد ذکر عند ذکر المشهد الحسینیّ، فانظره. و کان یصل إلی الناس منه شی‌ء کثیر، فلما زالت الدولة اتخذ الملوک من بنی أیوب یوم عاشوراء، یوم سرور، یوسعون فیه علی عیالهم، و یتبسطون فی المطاعم، و یصنعون الحلاوات، و یتخذون الأوانی الجدیدة، و یکتحلون، و یدخلون الحمام جریا علی عادة أهل الشام التی سنّها لهم الحجاج فی أیام عبد الملک بن مروان، لیرغموا بذلک آناف شیعة علیّ بن أبی طالب، کرّم اللّه وجهه، الذین یتخذون یوم عاشوراء یوم عزاء، و حزن فیه علی الحسین بن علیّ، لأنه قتل فیه، و قد أدرکنا بقایا مما عمله بنو أیوب من اتخاذ یوم عاشوراء، یوم سرور، و تبسط و کلا الفعلین غیر جید، و الصواب ترک ذلک، و الاقتداء بفعل السلف فقط.
و ما أحسن قول أبی الحسین الجزار الشاعر یخاطب الشریف شهاب الدین ناظر الأهراء، و کتب بها إلیه لیلة عاشوراء عند ما أخر عنه ما کان من جاریه فی الأهراء:
قل لشهاب الدین ذی الفضل الندی‌و السید بن السید بن السید
أقسم بالفرد العلیّ الصمدإن لم یبادر لنجاز موعدی
لأحضرنّ للهناء فی غدمکحل العینین مخضوب الید
یعرّض للشریف: یما یرمی به الأشراف من التشیع، و إنه إذا جاء بهیئة السرور فی یوم عاشوراء، غاظه ذلک لأنه من أفعال الغضب، و هو من أحسن ما سمعته فی التعریض فللّه دره.
عید النصر: و هو السادس عشر من المحرّم عمله: الخلیفة الحافظ لدین اللّه، لأنه الیوم الذی ظهر فیه من محبسه، و یفعل فیه ما یفعل فی الأعیاد من الخطبة، و الصلاة، و الزینة، و التوسعة فی النفقة، و کتب فیه أبو القاسم علیّ بن الصیرفیّ إلی بعض الخطباء:
عید النصر، و هو أفضل الأعیاد، و أسناها و أعلاها، و أدلها علی تقصیر الواصف إذا بلغ و تناهی، و نحن نأمرک أن تبرز فی یوم الأحد السادس عشر من المحرّم سنة اثنتین و ثلاثین و خمسمائة علی الهیئة التی جرت العادة بمثلها فی الأعیاد، و توعد بأن تقرأ علی الناس الخطبة التی سیرناها إلیک قرین هذا الأمر بشرح هذا الیوم و تفصیله، و ذکر ما خصه اللّه به من تشریفه و تفضیله، و تعتمد فی ذلک ما جری الرسم فیه کل یعید، و تنتهی فیه إلی الغایة التی لیس علیها مزید، فاعلم هذا، و اعمل به إن شاء اللّه تعالی.
الموالید الستة: کانت مواسم جلیلة عمل الناس فیها، میزان من ذهب، و فضة و خشکنانج، و حلواء کما مرّ ذلک.
لیالی الوقود الأربع: کانت من أبهج اللیالی، و أحسنها، یحشر الناس لمشاهدتها من کل أوب، و تصل إلی الناس فیها أنواع من البرّ، و تعظم فیها میزة أهل الجوامع و المشاهد، فانظره فی موضعه تجده.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 438
موسم شهر رمضان: و کان لهم فی شهر رمضان عدّة أنواع من البرّ منها: کشف المساجد، قال الشریف الجوّانی فی کتاب النقط: کان القضاة بمصر إذا بقی لشهر رمضان ثلاثة أیام، طافوا یوما علی المشاهد، و المساجد بالقاهرة و مصر، فیبدأون بجامع المقس، ثم بجوامع القاهرة، ثم بالمشاهد، ثم بالقرافة، ثم بجامع مصر، ثم بمشهد الرأس لنظر حصر ذلک، و قنادیله، و عمارته، و إزالة شعثه، و کان أکثر الناس ممن یلوذ بباب الحکم، و الشهود، و الطفیلیون یتعینون لذلک الیوم، و الطواف مع القاضی لحضور السماط.
إبطال المسکرات: قال ابن المأمون: و کانت العادة جاریة من الأیام الأفضلیة فی آخر جمادی الآخرة من کل سنة: أن تغلق جمیع قاعات الخمارین بالقاهرة و مصر، و تختم و یحذر من بیع الخمر، فرأی الوزیر المأمون لما ولی الوزارة بعد الأفضل بن أمیر الجیوش، أن یکون ذلک فی سائر أعمال الدولة، فکتب به إلی جمیع ولاة الأعمال، و أن ینادی بأنه من تعرّض لبیع شی‌ء من المسکرات، أو لشرائها سرّا، أو جهرا فقد عرّض نفسه لتلافها و برئت الذمّة من هلاکها.
و منها غرّة رمضان: و کان فی أوّل یوم من شهر رمضان، یرسل لجمیع الأمراء، و غیرهم من أرباب الرتب و الخدم لکل واحد طبق، و لکل واحد من أولاده، و نسائه طبق فیه حلواء، و بوسطه صرّة من ذهب، فیعم ذلک سائر أهل الدولة، و یقال لذلک غرّة رمضان.
و منها رکوب الخلیفة فی أوّل شهر رمضان: قال ابن الطویر: فإذا انقضی شعبان اهتمّ برکوب أوّل شهر رمضان، و هو یقوم مقام الرؤیة، عند المتشیعین، فیجری أمره فی اللباس و الآلات، و الأسلحة، و العرض و الرکوب و الترتیب، و الموکب و الطریق المسلوکة، کما وصفناه فی أوّل العام لا یختلّ بوجه، و یکتب إلی الولاة، و النوّاب و الأعمال بمساطیر مخلقة یذکر فیها رکوب الخلیفة.
و منها سماط شهر رمضان: و قد تقدّم ذکر السماط فی قاعة الذهب من القصر.
سحور الخلیفة: قال ابن المأمون: و قد ذکر أسمطة رمضان، و جلوس الخلیفة بعد ذلک فی الروشن إلی وقت السحور، و المقرئون تحته یتلون عشرا، و یطرّبون بحیث یشاهدهم الخلیفة، ثم حضر بعدهم المؤذنون، و أخذوا فی التکبیر، و ذکر فضائل السحور، و ختموا بالدعاء، و قدّمت المخادّ للوعاظ، فذکروا فضائل الشهر، و مدح الخلیفة و الصوفیات، و قام کل من الجماعة للرقص، و لم یزالوا إلی أن انقضی من اللیل أکثر من نصفه، فحضر بین یدی الخلیفة أستاذ بما أنعم به علیهم، و علی الفرّاشین، و أحضرت جفان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 439
القطائف، جرار الجلاب برسمهم، فأکلوا، و ملأوا أکمامهم، و فضل عنهم ما تخطفه الفرّاشون، ثم جلس الخلیفة فی السدلا التی کان بها عند الفطور، و بین یدیه المائدة معبأة جمیعها من جمیع الحیوان و غیره، و القعبة الکبیرة الخاص مملوءة أوساطه بالهمة المعروفة، و حضر الجلساء، و استعمل کل منهم ما اقتدر علیه، و أومأ الخلیفة بأن یستعمل من القعبة، فیفرّق الفرّاشون علیهم أجمعین و کل من تناول شیئا قام، و قبل الأرض، و أخذ منه علی سبیل البرکة لأولاده، و أهله لأنّ ذلک کان مستفاضا عندهم غیر معیب علی فاعله، ثم قدّمت الصحون الصینیّ مملوءة قطائف، فأخذ منها الجماعة الکفایة.
و قام الخلیفة، و جلس بالباذهنج، و بین یدیه السحورات المطیبات من لبئین رطب و مخض، و عدّة أنواع عصارات و افطلوات و سویق ناعم، و جریش جمیع ذلک بقلوبات و موز، ثم یکون بین یدیه صینیة ذهب مملوءة سفوفا، و حضر الجلساء، و أخذ کل منهم فی تقبیل الأرض، و السؤال بما ینعم علیه منه، فتناوله المستخدمون، و الأستاذون و فرّقوه، فأخذه القوم فی أکمامهم، ثم سلم الجمیع و انصرفوا.
و منها الختم فی آخر رمضان: و کان یعمل فی التاسع و العشرین منه.
قال ابن المأمون: و لما کان التاسع و العشرون من شهر رمضان، خرج الأمر بأضعاف ما هو مستقرّ للمقرئین، و المؤذنین فی کل لیلة برسم السحور بحکم أنها لیلة ختم الشهر، و حضر الأجل الوزیر المأمون فی آخر النهار إلی القصر للفطور مع الخلیفة، و الحضور علی الأسمطة علی العادة، و حضر إخوته، و عمومته، و جمیع الجلساء، و حضر المقرئون، و المؤذنون، و سلموا علی عادتهم و جلسوا تحت الروشن، و حمل من عند معظم الجهات، و السیدات و الممیزات من أهل القصور ثلاجی ، و موکبیات مملوءة ملفوفة فی عراضی دیبقیّ، و جعلها أمام المذکورین، لتشملها برکة ختم القرآن الکریم، و استفتح المقرئون من الحمد إلی خاتمة القرآن تلاوة و تطریبا، ثم وقف بعد ذلک من خطب، فأسمع و دعا، فأبلغ و رفع الفرّاشون ما أعدّوه برسم الجهات، ثم کبر المؤذنون، و هللوا و أخذوا فی الصوفیات إلی أن نثر علیهم من الروشن دنانیر، و دراهم و رباعیات، و قدّمت جفان القطائف علی الرسم مع البسندود، و الحلواء فجروا علی عادتهم، و ملأوا أکمامهم، ثم خرج أستاذ من باب الدار الجدیدة، بخلع خلعها علی الخطیب، و غیره و دراهم تفرّق علی الطائفتین من المقرئین و المؤذنین.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 440

ذکر مذاهبهم فی أوّل الشهور

اعلم أن القوم کانوا شیعة، ثم غلوا حتی عدوّا من غلاة أهل الرفض، و للشیعة فی أثناء الشهور عمل، أحسن ما رأیت فیه.
ما حکاه أبو الریحان محمد بن أحمد البیروتیّ فی کتاب الآثار العافیة عن القرون الخالیة قال: و فی سنین من الهجرة نجمت ناجمة لأجل أخذهم بالتأویل إلی الیهود و النصاری، فإذا لهم جداول و حسبانات یستخرجون بها شهورهم، و یعرفون منها صیامهم، و المسلمون مضطرّون إلی رؤیة الهلال، و تفقد ما اکتساه القمر من النور وجدوهم شاکین فی ذلک مختلفین فیه، مقلدین بعضهم بعضا فی عمل رؤیة الهلال بطریق الزیجات، فرجعوا إلی أصحاب علم الهیئة، فألفوا زیجاتهم مفتتحة بمعرفة أوائل ما یراد من شهور العرب بصنوف الحسبانات، فظنوا أنها معمولة لرؤیة الأهلة، فأخذوا بعضها، و نسبوه إلی جعفر بن محمد الصادق علیهما السلام، و زعموا أنه سرّ من أسرار النبوّة، و تلک الحسبانات مبنیة علی حرکات التدبیر الوسطی دون المعدّلة أو معمولة علی سنة القمر التی هی: ثلثمائة و أربعة، و خمسون یوما و خمس یوم، و سدس یوم، و أن ستة أشهر من السنة تامة، و ستة أشهر ناقصة، و إن کل ناقص منها، فهو تال لتامّ، فلما قصدوا استخراج الصوم و الفطر بها، خرجت قبل الواجب بیوم فی أغلب الأحوال، فأوّلوا قوله علیه السلام: «صوموا لرؤیته و أفطروا لرؤیته» و قالوا: معنی صوموا لرؤیته: أی صوموا الیوم الذی یری فی عشیته، کما یقال: تهیؤا لاستقباله، فیقدّم التهیؤ علی الاستقبال، قال: و رمضان لا ینقص عن ثلاثین یوما أبدا.
قافلة الحج: قال فی کتاب الذخائر و التحف: إن المنفق علی الموسم کان فی کل سنة تسافر فیها القافلة: مائة ألف و عشرین ألف دینار منها: ثمن الطیب، و الحلواء و الشمع راتبا فی کل سنة: عشرة آلاف دینار، و منها: نفقة الوفد الواصلین إلی الحضرة: أربعون ألف دینار، و منها فی ثمن الحمایات، و الصدقات، و أجرة الجمال، و معونة من یسیر من العسکریة، و کبیر الموسم، و خدم القافلة، و حفر الآبار، و غیر ذلک: ستون ألف دینار، و إنّ النفقة کانت فی أیام الوزیر البازوریّ: قد زادت فی کل سنة، و بلغت إلی مائتی ألف دینار، و لم تبلغ النفقة علی الموسم مثل ذلک فی دولة من الدول.
موسم عید الفطر: و کان لهم فی موسم عید الفطر عدّة وجوه من الخیرات منها: تفرقة الفطرة، و تفرقة الکسوة، و عمل السماط، و رکوب الخلیفة لصلاة العید، و قد تقدّم ذکر ذلک کله فیما سبق.
عید النحر: فیه تفرقة الرسوم من الذهب و الفضة، و تفرقة الکسوة لأرباب الخدم من
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 441
أهل السیف و القلم، و فیه رکوب الخلیفة لصلاة العید، و فیه تفرقة الأضاحی، کما مرّ ذلک مبینا فی موضعه من هذا الکتاب.
عید الغدیر : فیه تزویج الأیامی، و فیه الکسوة، و تفرقة الهبات لکبراء الدولة، و رؤسائها و شیوخها و أمرائها، و ضیوفها و الأستاذین المحنکین، و الممیزین، و فیه النحر أیضا، و تفرقة النحائر علی أرباب الرسوم، و عتق الرقاب، و غیر ذلک کما سبق بیانه فیما تقدّم.
کسوة الشتاء و الصیف: و کان لهم فی کل من فصلی الشتاء، و الصیف، کسوة تفرّق علی أهل الدولة و علی أولادهم، و نسائهم و قد مرّ ذکر ذلک.
موسم فتح الخلیج : و کانت لهم فی موسم فتح الخلیج وجوه من البرّ منها:
الرکوب لتخلیق المقیاس، و مبیت القرّاء بجامع المقیاس، و تشریف ابن أبی الردّاد بالخلع و غیرها، و رکوب الخلیفة إلی فتح الخلیج، و تفرقة الرسوم علی أرباب الدولة من الکسوة، و العین و المآکل و التحف، و قد تقدّم تفصیل ذلک.

ذکر النوروز

و کان النوروز القبطیّ فی أیامهم من جملة المواسم، فتتعطل فیه الأسواق، و یقلّ فیه سعی الناس فی الطرقات، و تفرّق فیه الکسوة لرجال أهل الدولة، و أولادهم و نسائهم و الرسوم من المال، و حوائج النوروز.
قال ابن زولاق: و فی هذه السنة، یعنی سنة ثلاث و ستین و ثلثمائة، منع المعز لدین اللّه من وقود النیران لیلة النوروز فی السکک، و من صب الماء یوم النوروز.
و قال: فی سنة أربع و ستین و ثلثمائة: و فی یوم النوروز زاد اللعب بالماء و وقود النیران، و طاف أهل الأسواق، و عملوا فیلة، و خرجوا إلی القاهرة بلعبهم، و لعبوا ثلاثة أیام، و أظهروا السماجات و الحلی فی الأسواق، ثم أمر المعز بالنداء بالکشف، و أن لا توقد نار و لا یصب ماء، و أخذ قوم، فحبسوا و أخذ قوم، فطیف بهم علی الجمال.
و قال ابن میسر: فی حوادث سنة ست عشرة و خمسمائة: و فیها أراد الآمر بأحکام اللّه أن یحضر إلی دار الملک فی النوروز الکائن فی جمادی الآخرة فی المراکب علی ما کان علیه الأفضل بن أمیر الجیوش، فأعاد المأمون علیه أنه لا یمکن، فإنّ الأفضل لا یجری مجراه مجری الخلیفة، و حمل إلیه من الثیاب الفاخرة برسم النوروز للجهات، ما له قیمة جلیلة.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 442
و قال ابن المأمون: و حل موسم النوروز فی التاسع من رجب سنة سبع عشرة و خمسمائة، و وصلت الکسوة المختصة به من الطراز، و ثغر الإسکندریة مع ما یبتاع من المذابّ المذهبة و الحریری و السوادج، و أطلق جمیع ما هو مستقرّ من الکسوات الرجالیة، و النسائیة، و العین و الورق و جمیع الأصناف المختصة بالموسم علی اختلافها بتفصیلها، و أسماء أربابها، و أصناف النوروز البطیخ و الرّمان و عراجین الموز، و أفراد البسر، و أقفاص التمر القوصیّ، و أقفاص السفرجل، و بکل الهریسة المعمولة من لحم الدجاج، و لحم الضأن، و لحم البقر من کل لون بکلة مع خبز برّ مارق.
قال: و أحضر کاتب الدفتر: الإثبابات بما جرت العادة به من إطلاق العین و الورق، و الکسوات علی اختلافها فی یوم النوروز، و غیر ذلک من جمیع الأصناف، و هو أربعة آلاف دینار، و خمسة عشر ألف درهم فضة، و الکسوات عدّة کثیرة من شفق دیبقیّ مذهبات، و حریریات، و معاجر و عصائب مشاومات ملوّنات، و شفق لاذ مذهب و حریریّ، و مشفع و فوط، دیبقیّ حریریّ.
فأما العین و الورق، و الکسوات فذلک لا یخرج عمن تحوزه القصور، و دار الوزارة، و الشیوخ و الأصحاب و الحواشی و المستخدمون، و رؤساء العشاریات، و بحارتها، و لم یکن لأحد من الأمراء علی اختلاف درجاتهم فی ذلک نصیب، و أما الأصناف من البطیخ و الرمّان و البسر و التمر و السفرجل و العناب، و الهرائس علی اختلافها فیشمل ذلک جمیع من تقدّم ذکرهم، و یشکرهم فی ذلک جمیع الأمراء أرباب الأطواق، و الأقصاب و سائر الأماثل، و قد تقدّم شرح ذلک، فوقع الوزیر المأمون علی جمیع ذلک بالإنفاق.
و قال القاضی الفاضل فی تعلیق المتجدّدات لسنة أربع و ثمانین و خمسمائة: یوم الثلاثاء أربع عشر رجب یوم النوروز القبطیّ، و هو مستهل توت، و توت أوّل سنتهم، و قد کان بمصر فی الأیام الماضیة، و الدولة الخالیة یعنی دولة الخلفاء الفاطمیین من مواسم بطالاتهم، و مواقیت ضلالاتهم، فکانت المنکرات ظاهرة فیه، و الفواحش صریحة فی یومه و یرکب فیه أمیر موسوم: بأمیر النوروز، و معه جمع کثیر، و یتسلط علی الناس فی طلب رسم رتبه علی دور الأکابر بالجمل الکبار، و یکتب مناشیر، و یندب مترسمین، کل ذلک یخرج مخرج الطیر، و یقنع بالمیسور من الهبات، و یتجمع المؤنثون، و الفاسقات تحت قصر اللؤلؤة بحیث یشاهدهم الخلیفة، و بأیدیهم الملاهی، و ترفع الأصوات، و تشرب الخمر و المزر شربا ظاهرا بینهم، و فی الطرقات، و یتراش الناس بالماء، و بالماء و الخمر، و بالماء ممزوجا بالأقدار، فإن غلط مستور، و خرج من داره لقیه من یرشه، و یفسد ثیابه، و یستخف
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 443
بحرمته، فإما فدی نفسه، و إما فضح، و لم یجر الحال فی هذا النوروز علی هذا، و لکن قد رش الماء فی الحارات، و أحیی المنکر فی الدور أرباب الخسارات.
و قال: فی سنة اثنتین و تسعین و خمسمائة: و جری الأمر فی النوروز علی العادة من رش الماء، و استجدّ فیه هذا العام التراجم بالبیض، و التصافع بالأنطاع، و انقطع الناس عن التصرّف، و من ظفر به فی الطریق رش بمیاه نجسة و خرق به.
قال مؤلفه رحمه اللّه تعالی: إنّ أوّل من اتخذ النوروز: جمشید، و یقال فی اسمه أیضا: جمشاد أحد ملوک الفرس الأول، و معناه: الیوم الجدید، و للفرس فیه آراء، و أعمال علی مصطلحهم غیر أنه فی غیر هذا الیوم. و قد صنف علیّ بن حمیرة الأصفهانیّ کتابا مفیدا فی أعیاد الفرس.
و ذکر الحافظ أبو القاسم بن عساکر من طریق حماد بن سلمة عن محمد بن زیاد عن أبی هریرة قال: کان الیوم الذی ردّ اللّه فیه إلی سلیمان بن داود خاتمه یوم النوروز، فجاءت إلیه الشیاطین بالتحف، و کانت تحفة الخطاطیف أن جاءت بالماء فی مناقیرها فرشته بین یدی سلیمان، فاتخذ الناس رش الماء من ذلک الیوم.
و عن مقاتل بن سلیمان قال: سمی ذلک الیوم: نیروزا، و ذلک أنه وافق هذا الیوم الذی یسمونه النیروز، فکانت الملوک تتیمن بذلک الیوم، و اتخذوه عیدا، و کانوا یرشون الماء فی ذلک الیوم، و یهدون کفعل الخطاف، و یتیمنون بذلک، و للّه درّ القائل:
کیف ابتهاجک بالنوروز یا سکنی‌و کل ما فیه یحکینی و أحکیه
فناره کلهیب النار فی کبدی‌و ماؤه کتوالی دمعتی فیه
و قال آخر:
نورز الناس و نورزت و لکن بدموعی
و ذکت نارهم و النار ما بین ضلوعی
و قال غیره:
و لما أتی النوروز یا غایة المنی‌و أنت علی الإعراض و الهجر و الصدّ
بعثت بنار الشوق لیلا إلی الحشی‌فنورزت صبحا بالدموع علی الخدّ
المیلاد: و هو الیوم الذی ولد فیه عبد اللّه، و رسوله المسیح عیسی ابن مریم صلّی اللّه علیه و سلّم، و النصاری تتخذ لیلة یوم المیلاد عیدا، و تعمله قبط مصر فی التاسع و العشرین من کیهک ،
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 444
و ما برح لأهل مصر به اعتناء، و کان من رسوم الدولة الفاطمیة فیه: تفرقة الجامات المملوءة من الحلاوات القاهریة، و التمارد التی فیها السمک، و قرابات الجلاب، و طیافیر الزلابیة، و البوری، فیشمل ذلک أرباب الدولة أصحاب السیوف، و الأقلام بتقریر معلوم علی ما ذکره ابن المأمون فی تاریخه.
الغطاس: و من مواسم النصاری بمصر عمل الغطاس فی الیوم الحادی عشر من طوبة .
قال المسعودیّ فی مروج الذهب: و للیلة الغطاس بمصر شأن عظیم عند أهلها، لا ینام الناس فیها، و هی لیلة إحدی عشرة من طوبة و لقد حضرت سنة ثلاثین و ثلثمائة لیلة الغطاس بمصر، و الإخشید محمد بن طفج فی داره المعروفة بالمختار فی الجزیرة الراکبة علی النیل، و النیل مطیف بها، و قد أمر فأسرج من جانب الجزیرة، و جانب الفسطاط ألف مشعل غیر ما أسرج أهل مصر من المشاعل و الشمع، و قد حضر النیل فی تلک اللیلة: مئو ألوف من الناس من المسلمین و النصاری منهم: فی الزواریق، و منهم فی الدور الدانیة من النیل، و منهم علی الشطوط لا یتناکرون کل ما یمکنهم إظهاره من المآکل، و المشارب، و آلات الذهب و الفضة، و الجواهر و الملاهی و العزف و القصف، و هی أحسن لیلة تکون بمصر، و أشملها سرورا، و لا تغلق فیها الدروب، و یغطس أکثرهم فی النیل، و یزعمون أنّ ذلک أمان من المرض، و نشرة للداء.
و قال المسبحیّ: فی سنة ثمان و ثمانین و ثلثمائة: کان غطاس النصاری، فضربت الخیام و المضارب، و الأشرعة فی عدّة مواضع علی شاطی‌ء النیل، فنصبت أسرّة للرئیس فهد ابن إبراهیم النصرانیّ کاتب الأستاذ برجوان، و أوقدت له الشموع و المشاعل، و حضر المغنون، و الملهون، و جلس مع أهله یشرب إلی أن کان وقت الغطاس، فغطس و انصرف.
و قال: فی سنة خمس عشرة و أربعمائة، و فی لیلة الأربعاء رابع ذی القعدة کان غطاس النصاری، فجری الرسم من الناس فی شراء الفواکه، و الضأن و غیره، و نزل أمیر المؤمنین الظاهر لإعزاز دین اللّه بن الحاکم لقصر جدّه العزیز بالله بمصر، لنظر الغطاس، و معه الحرم، و نودی أن لا یختلط المسلمون مع النصاری عند نزولهم إلی البحر فی اللیل، و ضرب بدر الدولة الخادم الأسود متولی الشرطتین خیمة عند الجسر، و جلس فیها، و أمر الخلیفة الظاهر لإعزاز دین اللّه بأن توقد المشاعل و النار فی اللیل، فکان و قیدا کثیرا، و حضر الرهبان و القسوس بالصلبان، و النیران، فقسسوا هناک طویلا إلی أن غطسوا.
و قال ابن المأمون: إنه کان من رسوم الدولة أنه یفرّق علی سائر أهل الدولة الترنج
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 445
و النارنج و اللیمون المراکبی، و أطنان القصب، و السمک و البوری برسوم مقرّرة لکل واحد من أرباب السیوف و الأقلام.
خمیس العهد: و یسمیه أهل مصر من العامّة: خمیس العدس، و یعمله نصاری مصر قبل الفصح بثلاثة أیام و یتهادون فیه، و کان من جملة رسوم الدولة الفاطمیة فی خمیس العدس ضرب خمسمائة دینار ذهبا، عشرة آلاف خرّوبة، و تفرقتها علی جمیع أرباب الرسوم کما تقدّم.
أیام الرکوبات: و کان الخلیفة یرکب فی کل یوم سبت و ثلاثاء إلی منتزهاته بالبساتین، و التاج، و قبّة الهواء و الخمس وجوه، و بستان البعل، و دار الملک، و منازل العز، و الروضة، فیعمّ الناس فی هذه الأیام من الصدقات أنواع ما بین ذهب، و مآکل، و أشربة، و حلاوات، و غیر ذلک کما تقدّم بیانه فی موضعه من هذا الکتاب.
صلاة الجمعة: و کان الخلیفة یرکب فی کل سنة ثلاث رکبات لصلاة الجمعة بالناس فی جامع القاهرة الذی یعرف بالجامع الأزهر مرّة، و فی جامع الخطبة المعروف: بالجامع الحاکمیّ مرّة، و فی جامع عمرو بن العاص بمصر أخری، فینال الناس منه فی هذه الجمع الثلاث، رسوم و هبات و صدقات، کما ستقف علیه إن شاء اللّه تعالی عند ذکر الجامع الأزهر.
و للّه در الفقیه عمارة الیمنی فقد ضمن مرثیته أهل القصر جملا مما ذکر، و هی القصیدة التی قال ابن سعد فیها، و لم یسمع فیما یکتب فی دولة بعد انقراضها أحسن منها:
رمیت یا دهر کف المجد بالشلل‌و جیده بعد حسن الحلی بالعطل
سعیت فی منهج الرأی العثور فإن‌قدرت من عثرات الدهر فاستقل
جدعت ما رنک الأقنی فأنفک لاینفک ما بین قرع السنّ و الخجل
هدمت قاعدة المعروف عن عجل‌سعیت مهلا أما تمشی علی مهل
لهفی و لهف بنی الآمال قاطبةعلی فجیعتها فی أکرم الدول
قدمت مصر فأولتنی خلائفهامن المکارم ما أربی علی الأمل
قوم عرفت بهم کسب الألوف و من‌کمالها أنها جاءت و لم أسل
و کنت من وزراء الدست حین سمارأس الحصان یهادیه علی الکفل
و نلت من عظماء الجیش مکرمةو خلة حرست من عارض الخلل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 446 یا عاذلی فی هوی أبناء فاطمةلک الملامة إن قصرت فی عذلی
بالله در ساحة القصرین و ابک معی‌علیهما لا علی صفین و الجمل
و قل لأهلیهما و اللّه ما التحمت‌فیکم جراحی و لا قرحی بمندمل
ما ذا عسی کانت الإفرنج فاعلةفی نسل آل أمیر المؤمنین علی
هل کان فی الأمر شی‌ء غیر قسمة ماملکتموا بین حکم السبی و النفل
و قد حصلتم علیها و اسم جدّکم‌محمد و أبوکم غیر منتقل
مررت بالقصر و الأرکان خالیةمن الوقود و کانت قبلة القبل
فملت عنها بوجهی خوف منتقدمن الأعادی و وجه الودّ لم یمل
أسلت من أسفی دمعی غداة خلت‌رحابکم و غدت مهجورة السبل
أبکی علی ما تراءت من مکارمکم‌حال الزمان علیها و هی لم تحل
دار الضیافة کانت أنس وافدکم‌و الیوم أوحش من رسم و من طلل
و فطرة الصوم إذ أضحت مکارمکم‌تشکو من الدهر حیفا غیر محتمل
و کسوة الناس فی الفصلین قد درست‌ورث منها جدد عندهم و بلی
و موسم کان فی یوم الخلیج لکم‌یأتی تجملکم فیه علی الجمل
و أوّل العام و العیدین کم لکم‌فیهنّ من وبل جود لیس بالوشل
و الأرض تهتز فی یوم الغدیر کمایهتز ما بین قصریکم من الأسل
و الخیل تعرض فی وشی و فی شیةمثل العرائس فی حلی و فی حلل
و لا حملتم قری الأضیاف من سعة الأطباق إلا علی الأکتاف و العجل
و ما خصصتم ببرّ أهل ملتکم‌حتی عممتم به الأقصی من الملل
کانت رواتبکم للذمتین و للضیف المقیم و للطاری من الرسل
ثم الطراز بتنیس الذی عظمت‌منه الصلات لأهل الأرض و الدول
و للجوامع من إحسانکم نعم‌لمن تصدّر فی علم و فی عمل
و ربما عادت الدنیا فمعقلهامنکم و أضحت بکم محلولة العقل
و اللّه لا فاز یوم الحشر مبغضکم‌و لا نجا من عذاب اللّه غیر ولی
و لا سقی الماء من حرّ و من ظمأمن کف خیر البرایا خاتم الرسل
و لا رأی جنة اللّه التی خلقت‌من خان عهد الإمام العاضد ابن علی
أئمتی و هداتی و الذخیرة لی‌إذا ارتهنت بما قدّمت من عملی
تاللّه لم أوفهم فی المدح حقهم‌لأنّ فضلهم کالوا بل الهطل
و لو تضاعفت الأقوال و اتسعت‌ما کنت فیهم بحمد اللّه بالخجل
باب النجاة هم دنیا و آخرةو حبهم فهو أصل الدین و العمل
نور الهدی و مصابیح الدجی و محل‌الغیث إن ربت الأنواء فی المحل
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 447 أئمة خلقوة نورا فنورهم‌من محض خالص نور اللّه لم یغل
و اللّه ما زلت عن حبی لهم أبداما أخر اللّه لی فی مدّة الأجل
و بسبب هذه القصیدة قتل عمارة رحمه اللّه، و تمحلت له الذنوب، انتهی ما ذکره رحمه اللّه تعالی.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 448

ذکر ما کان من أمر القصرین، و المناظر بعد زوال الدولة الفاطمیة

و لما مات العاضد لدین اللّه فی یوم عاشوراء سنة سبع و ستین و خمسمائة، احتاط الطواشی قراقوش علی أهل العاضد، و أولاده، فکانت عدّة الأشراف فی القصور: مائة و ثلاثین، و الأطفال خمسة و سبعین، و جعلهم فی مکان أفرد لهم خارج القصر، و جمع عمومته، و عشیرته فی إیوان بالقصر، و احترز علیهم، و فرّق بین الرجال و النساء لئلا یتناسلوا، و لیکون ذلک أسرع لانقراضهم.
و تسلم السلطان صلاح الدین یوسف بن أیوب القصر، بما فیه من الخزائن و الدواوین، و غیرها من الأموال و النفائس، و کانت عظیمة الوصف، و استعرض من فیه من الجواری و العبید، فأطلق من کان حرّا، و وهب و استخدم باقیهم، و أطلق البیع فی کل جدید، و عتیق، فاستمرّ البیع فیما وجد بالقصر، عشر سنین، و أخلی القصور من سکانها، و أغلق أبوابها، ثم ملکها أمراءه، و ضرب الألواح علی ما کان للخلفاء و أتباعهم من الدور و الرباع، و أقطع خواصه منها، و باع بعضها.
ثم قسم القصور، فأعطی القصر الکبیر: للأمراء فسکنوا فیه، و أسکن أباه نجم الدین أیوب بن شادی فی قصر اللؤلؤة علی الخلیج، و أخذ أصحابه دور من کان ینسب إلی الدولة الفاطمیة، فکان الرجل إذا استحسن دارا أخرج منها سکانها، و نزل بها.
قال القاضی الفاضل: و فی ثالث عشریه یعنی ربیعا الآخر سنة سبع و ستین: کشف حاصل الخزائن الخاصة بالقصر، فقیل: إن الموجود فیه مائة صندوق کسوة فاخرة من موشح، و مرصع و عقود ثمینة، و دخائر فخمة، و جواهر نفیسة، و غیر ذلک من ذخائر جمة الخطر، و کان الکاشف بهاء الدین قراقوش، و بیان، و أخلیت أمکنة من القصر الغربیّ سکن بها الأمیر موسک و الأمیر أبو الهیجاء السمنیّ، و غیره من الغزو، ملئت المناظر المصونة عن الناظر، و المنتزهات التی لم یخطر ابتذالها فی الخاطر، فسبحان
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 449
مظهر العجائب، و محدثها، و وارث الأرض و مورثها.
قال: و مقدار ما یحدس أنه خرج من القصر ما بین دینار و درهم، و مصاغ و جوهر، و نحاس، و ملبوس، و أثاث، و قماش، و سلاح ما لا یقی به ملک الأکاسرة، و لا تتصوّره الخواطر الحاضرة، و لا یشتمل علی مثله الممالک العامرة، و لا یقدر علی حسابه إلّا من یقدر علی حساب الخلق فی الآخرة.
و قال الحافظ جمال الدین یوسف الیغموریّ: وجدت بخط المهذب أبی طالب محمد ابن علیّ بن الخیمیّ، حدّثنی الأمیر عضد الدین مرهف بن مجد الدین سوید الدولة بن منقذ:
أن القصر أغلق علی ثمانیة عشر ألف نسمة عشرة آلاف شریف و شریفة، و ثمانیة آلاف عبد، و خادم و أمة و مولدة و تربیة.
و قال ابن عبد الظاهر عن القصر لما أخذه صلاح الدین، و أخرج من به کان فیه اثنا عشر ألف نسمة لیس فیهم فحل، إلّا الخلیفة، و أهله، و أولاده و لما أخرجوا منه، أسکنوا فی دار المظفر، و قبض أیضا صلاح الدین علی الأمیر داود بن العاضد، و کان ولیّ العهد و ینعت بالحامد للّه، و اعتقل معه جمیع إخوته الأمیر أبو الأمانة جبریل، و أبو الفتح، و ابنه أبو القاسم، و سلیمان بن داود، و عبد الظاهر حیدرة بن العاضد، و عبد الوهاب بن إبراهیم ابن العاضد، و إسماعیل بن العاضد، و جعفر بن أبی الظاهر بن جبریل، و عبد الظاهر بن أبی الفتوح بن جبریل بن الحافظ، و جماعة من بنی أعمامه، فلم یزالوا فی الاعتقال بدار الأفضل من حارة برجوان إلی أن انتقل الملک الکامل محمد بن العادل بن أبی بکر بن أیوب من دار الوزارة بالقاهرة إلی قلعة الجبل، فنقل معه ولد العاضد و إخوته و أولاد عمه، و اعتقلهم بالقلعة، و بهامات العاضد، و استمرّ البقیة حتی انقرضت الدولة الأیوبیة، و ملک الأتراک إلی أن تسلطن الملک الظاهر: رکن الدین بیبرس البندقداریّ.
فلما کان فی سنة ستین و ستمائة: أشهد علی من بقی منهم، و هم کمال الدین إسماعیل بن العاضد و عماد الدین أبو القاسم ابن الأمیر أبی الفتوح بن العاضد، و بدر الدین عبد الوهاب بن إبراهیم بن العاضد أن جمیع المواضع التی قبلیّ المدارس الصالحیة من القصر الکبیر، و الموضع المعروف: بالتربة ظاهرا و باطنا بخط الخوخ السبع، و جمیع الموضع المعروف بالقصر الیافعیّ، بالخط المذکور، و جمیع الموضع المعروف بسکن أولاد شیخ الشیوخ، و غیرهم من القصر الشارع بابه قبالة دار الحدیث النبویّ الکاملیة، و جمیع الموضع المعروف بالقصر الغربیّ، و جمیع الموضع المعروف: بدار الفطرة بخط المشهد الحسینیّ، و جمیع الموضع المعروف: بدار الضیافة بحارة برجوان، و جمیع الموضع:
المعروف باللؤلؤة، و جمیع قصر الزمرّذ، و جمیع البستان الکافوریّ: ملک لبیت المال المولویّ السلطانیّ الملکیّ الظاهریّ من وجه صحیح شرعیّ لا رجعة لهم فیه، و لا لواحد
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 450
منهم فی ذلک و لا فی شی‌ء منه، و لا مثوبة بسبب ید، و لا ملک، و لا وجه من الوجوه کلها، خلا ما فی ذلک من مسجد للّه تبارک و تعالی أو مدفن لآبائهم، و ورخ ذلک الإشهاد بثالث عشر ربیع الأوّل سنة ستین و ستمائة، و أثبت علی قاضی القضاة الصاحب تاج الدین عبد الوهاب ابن بنت الأعزّ الشافعی رحمه اللّه تعالی.
و تقرّر مع المذکورین أن مهما کان قبضوه من أثمان بعض الأماکن المذکورة التی عاقد علیها و کلاؤهم، و اتصلوا إلیه یحاسبوا به من جملة ما یحرز ثمنه عند وکیل بیت المال، و قبضت أیدی المذکورین عن التصرّف فی الأماکن المذکورة و غیرها، و رسم ببیعها فباعها وکیل بیت المال کمال الدین ظافر أوّلا فأوّلا، و نقضت شیئا شیئا، و بنی فی أماکنها ما یأتی ذکره إن شاء اللّه تعالی. المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت ؛ ج‌2 ؛ ص450
اشتری قاعة السدرة بجوار المدرسة، و التربة الصالحیة قاضی القضاة شمس الدین محمد بن إبراهیم بن عبد الواحد بن علیّ بن مسرور المقدسیّ الحنبلیّ، مدرس الحنابلة بالمدرسة الصالحیة: بألف و خمسة و سبعین دینارا فی رابع جمادی الآخرة سنة ستین و ستمائة من کمال الدین ظافر بن الفقیه نصر وکیل بیت المال، ثم باعها المذکور للملک الظاهر بیبرس فی حادی عشری جمادی الآخرة المذکورة، و قاعة السدرة هذه، قد صارت هی، و قاعة الخیم أصل المدرسة الظاهریة الرکنیة البیبرسیة البندقداریة.
قال القاضی الفاضل: و فی یوم الاثنین سادس شهر رجب، یعنی من سنة أربع و ثمانین و خمسمائة، ظهر تسحب رجلین من المعتقلین فی القصر أحدهما من أقارب المستنصر، و الآخر من أقارب الحافظ، و أکبرهما سنا کان معتقلا بالإیوان حدث به مرض، و أثخن فیه، ففک حدیده، و نقل إلی القصر الغربیّ فی أوائل سنة ثلاث و ثمانین، و استمرّ لما به، و لم یستقل من المرض، و طلب ففقد، و اسمه: موسی بن عبد الرحمن أبی حمزة بن حیدرة بن أبی الحسن أخی الحافظ، و اسم الآخر: موسی بن عبد الرحمن بن أبی محمد بن أبی الیسر بن محسن بن المستنصر، و کان طفلا فی وقت الکائنة بأهله، و أقام بالقصر الغربیّ مع من أسر به إلی أن کبر و شب.
قال: و ذکر أن القصر الغربیّ قد استولی علیه الخراب، و علا علی جدرانه التشعث، و الهدم، و إنه یجاور اصطبلات فیها جماعة من المفسدین، و ربما تسلق إلیه للتطرّق للنساء المعتقلات، و المتسلق منه إذا قویت نفسه علی التسحب لم تکن عقلته فی القصر المذکور مانعة من التسحب.
المواعظ و الإعتبار بذکر الخطط و الآثار، بیروت، ج‌2، ص: 451
قال: و عدد من بقی من هذه الذریة بدار المظفر و القصر الغربیّ و الإیوان: مائتان و اثنان و خمسون شخصا، ذکور ثمانیة و تسعون، و إناث مائة و أربعة و خمسون، تفصیله المقیمون بدار المظفر: أحد و ثلاثون ذکور، أحد عشر کلهم أولاد العاضد لصلبه، أناث عشرون: بنات العاضد خمسة، إخوته أربع، جهات العاضد أربع، بنات الحافظ ثلاث، جهات یوسف ابنه و جبریل ابن عمه أربع، المعتلقون بالإیوان خمسة و خمسون رجلا منهم الأمیر أبو الظاهر بن جبریل بن الحافظ، المقیمون بالقصر الغربیّ: مائة و ستة و ستون شخصا ذکور اثنان و ثلاثون، أکبرهم: عمره عشرون سنة، و أصغرهم عمره سبع عشرة سنة، إناث: مائة و أربع، و ثلاثون: بنات أربع و ستون، أخوات و عمات و زوجات سبعون.
قال: و فی جمادی الآخرة سنة ثمان و ثمانین و خمسمائة، کانت عدّة من فی دار المظفر بحارة برجوان، و القصر الغربیّ، و الإیوان من أولاد العاضد، و أقاربه، و من معهم مضافا إلیهم ثلثمائة و اثنتین و سبعین نفسا. دار المظفر، أحرار و ممالیک: مائة و ست و ستون نفسا، القصر الغربیّ: أحرار مائة و أربعون نفسا، الإیوان: تسعة و سبعون رجلا بالغون، و أما منازل العز، فاشتراها الملک المظفر تقیّ الدین عمر بن شاهنشاه بن نجم الدین أیوب بن شادی فی نصف شعبان سنة: ست و ستین و خمسمائة، و جعلها مدرسة للفقهاء الشافعیة، و اشتری الروضة، و جعلها وقفا علی المدرسة المذکورة، و اللّه تعالی أعلم بالصواب، و إلیه المرجع، و المآب، و صلی اللّه علی سیدنا محمد و آله و سلم.
تم الجزء الثانی، و یلیه الجزء الثالث و أوله: «ذکر حارات القاهرة و ظواهرها»

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.