رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام المجلد 9

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع) ، 14ق. = 13 -

مشخصات ظاهري : 10ج.

يادداشت : عربي.

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد ششم: 1428ق. = 1386.

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : اسلام -- بررسي و شناخت

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP11 /س2ر5 1300ي

رده بندي ديويي : 297

شماره كتابشناسي ملي : 1053076

ص :1

اشارة

ص:2

رسائل و مقالات

9

ص:3

ص:4

هويّة الكتاب

رسائل ومقالات

يشتمل هذا الجزء على مقالات في: الكلام، العقائد، الفقه، الأُصول، التراجم، وحوارات مع بعض الأعلام، وفيها إرشادات

ودعوة إلى التقريب بين المذاهب

تأليف

الفقيه المحقّق

آية اللّه العظمى الشيخ جعفر السبحاني

الجزء التاسع

نشر

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:5

سبحانى تبريزى، جعفر، 1308 -

رسائل ومقالات: تبحث في مسائل كلامية، عقائدية، فقهية، أُصولية، تراجم، وحوارات مع بعض الأعلام، وفيها إرشادات ودعوة إلى التقريب بين المذاهب / تأليف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1393.

ج. ISBN: 978- 964- 357- 465- 9 (VOL. SET)

ISBN: 978 -964- 357- 543- 4 (VOL.9)

فهرستنويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زيرنويس.

1. اسلام -- مقاله ها وخطابه ها. 2. شيعه -- مقاله ها و خطابه ها. ألف. موسسه امام صادق عليه السلام. ب. عنوان.

1393 5 ر 2 س/ 10/5 / BP 297/08

اسم الكتاب:... رسائل ومقالات

المؤلّف:... العلّامة الفقيه جعفر السبحاني

الجزء:... التاسع

الطبعة:.. الأُولى

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

القطع:... وزيري

التاريخ:... 1435 ه. ق

الكمية:... 1000 نسخة

الناشر:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام - السيد محسن البطاط

تسلسل النشر: 836 تسلسل الطبعة الأُولى: 419

حقوق الطبعة محفوظة للمؤسسة

توزيع

مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

? 7745457؛ 09121519271

www.shia.ir

http://www.imamsadiq.org

ص:6

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف رسله وخاتم أنبيائه وأفضل بريته محمّد وآله الطاهرين الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأحد الثقلين الذين أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالتمسّك بهما صوناً لنا عن الضلالة والزلل.

أمّا بعد؛

فإنّ الجيل الجديد يعيش في عالم يشهد نهضة علمية شاملة خصوصاً في مجال الاتصالات وتبادل المعلومات ساعدت على سرعة انتقال الأفكار والآراء إلى كافة أرجاء العالم خلال مدة قليلة، من غير فرق بين رأي صائب أو رأي خاطئ، فصارت سرعة الاتصالات كسيف ذي حدّين، فالموحّد يتمكّن من إعماله في تبيين عقائده وأفكاره ببيان رصين وبرهان متين، كما أنّ الملحد يتمكّن كذلك.

فلذلك يجب على ذوي الهمم العالية من علماء الإسلام ومفكّريه أن يحصّنوا جيلنا الحاضر وأجيالنا القادمة من أفكار الملحدين وشُبه المبطلين ومكر الشياطين، وأن يغتنموا الفرصة ويكونوا بالمرصاد لما ينشر على صفحات المواقع الالكترونية وما تبثّه وسائل الإعلام ليل نهار من أفكار سامّة وقضايا مكذوبة لتشويه سمعة الإسلام والمسلمين بأساليب رخيصة بعيدة كلّ البعد عن الحقّ والحقيقة.

وراقم هذه السطور - مع كثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقه في الحوزة العلمية وغيرها - ممّن ترصّد بعض هذه الأفكار المغرضة والوسائل الخبيثة

ص:7

فكتب ما استطاع من المقالات دفاعاً عن الإسلام وإبرازاً للحقيقة وتنويراً للأفكار.

وهذا هو الجزء التاسع من هذه المجموعة نقدّمه إلى القرّاء الكرام، وهو يحتوي على مقالات متفرّقة في مواضيع مختلفة يجمعها الدفاع عن العقيدة الإسلامية على ضوء الكتاب والسنّة وما أجمع عليه المسلمون بقلم نزيه بعيد عن التعصّب الأعمى، والجهل المقيت.

ويشتمل هذا الجزء على خمسة فصول، هي:

الفصل الأوّل: مقالات في الكلام والعقائد. ويحتوي على إحدى عشرة مقالة.

الفصل الثاني: مقالات في الأُصول والفقه والرجال. ويحتوي على تسع مقالات.

الفصل الثالث: الرسائل المتبادلة. ويحتوي على مراسلاتنا مع عدد من العلماء والمحقّقين.

الفصل الرابع: رسائل وتقاريظ. ويحتوي على مجموعة من الرسائل الداعية إلى الوحدة والتقريب بين المذاهب، والتقريظ لبعض الكتب.

الفصل الخامس: بيانات وتعازي. ويحتوي على بيانات تستنكر اعتقال جماعة من العلماء والمؤمنين وتخريب قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي، وكذلك رسائل تعزية بمناسبة وفاة الشيخ العمري والفضلي وحسن شحاتة.

وفي الختام أدعو اللّه تبارك وتعالى أن ينفع بهذا الجزء كلّ مَن يجعله مصباحاً منيراً لدربه، إنّه نعم المولى ونعم النصير.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

27 رجب الأصب (عيد المبعث النبوي) - 1435 ه

ص:8

الفصل الأوّل مقالات في الكلام والعقائد

اشارة

1. الإله في كلمة الإخلاص

2. رؤية اللّه طبقاً للكتاب والسنّة

3. الصفات الخبرية في الكتاب والسنّة

4. ثبات الأنواع أو تطوّرها في الذكر الحكيم

5. حياة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قبل البعثة حافلة بالكرامات

6. عصمة أئمة أهل البيت عليهم السلام في الكتاب والسنّة

7. تفسير القرآن بالقرآن منهج مؤيّد بالقرآن والسنّة

8. أسئلة حول البسملة وأجوبتها

9. الناشئ الجديد والظروف المحدقة به

10. ظاهرة التكفير على ضوء القرآن والسنّة الشريفة

11. البهائية وتحريف الآية الخامسة من سورة السجدة

ص:9

ص:10

1 الإله في كلمة الإخلاص

تمهيد

إنّ المسلمين في زيارتهم البيت الحرام يذكرون موقفاً خالداً لنبيهم العظيم صلى الله عليه و آله حيث وقف ذات يوم على صخرة في جبل الصفا منادياً بصوت عالٍ ، وقال: «أرأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم مصدّقيّ؟»

قالوا: بلى ، قال: فإنّي نذير لكم من بين يدي عذاب شديد... ثم دعاهم إلى كلمة التوحيد، وقال: «قولوا لا إله إلّااللّه تفلحوا».

فاستجاب لدعوته قليل من الناس ورفض الأكثرون، ولكن دعوته انتشرت بفضل اللّه تعالى في مكّة والقبائل المحيطة بها، إلى أن عمّت غالب أرجاء الدنيا.

فعلى المسلمين أن يعيدوا النظر في فهمهم لمعنى كلمة التوحيد.

وهذا المقال يتكفّل بتبيين مفهوم الإله، في هذه الكلمة المباركة.

معنى «الإله» في الذكر الحكيم

المشهور أنّ «اللّه» أصله «إله» فحذفت همزته وأُدخل عليه الألف واللام، فخُصّ بالباري، ولتخصّصه به قال تعالى: (رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما

ص:11

فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) .(1)

والمهم هنا، هو تفسير لفظ الإله، وتبيين معناه، وقد فُسّر بوجوه سبعة، إليك بيانها:

1. مشتق: من الأُلوهية التي هي العبادة، فإنّ التألّه، هو التعبّد. يقال: فلان متألّه، أي متعبِّد، قال رؤبة:

للّه درّ الغانيات المُدّهِ (2) لمّا رأين حليي المُموَّهِ

سبّحن واسترجعن من تألّهي

أي من تعبّدي. ويقال: ألِه اللّه فلانٌ إلاهةً ، كما يقال: عبده عبادة(3). فعلى هذا يكون معناه: الّذي يحقّ له العبادة.

2. مشتق من الوله وهو التحيّر، يقال: أله يأله إذا تحيّر.

3. مشتق من قوله: أَلَهْتُ إلى فلان أي فَزِعتُ إليه، لأنّ الخلق يألهون إليه، أي يفزعون إليه في حوائجهم.

4. مشتق من ألِهتُ إليه أي سكنت إليه، لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

5. مشتق من لاه أي احتجب. والمعنى أنّه سبحانه المحتجب بالكيفية عن الأوهام، الظاهر بالدلائل والأعلام.(4)

6. مشتقّ من ألِه الفصيل إذا ولع بأُمّه. والظاهر أنّه يرجع إلى التفسير الثالث، أي أنّه مشتق من أَلَهَ بمعنى «فزع».

7. مشتق من «لاه» إذا ارتفع، واللّه سبحانه وتعالى هو المرتفع عن مشابهة

ص:12


1- . مريم: 65.
2- . المُدَّه، جمع مادِه، وهو المادح.
3- . التبيان في تفسير القرآن: 28/1.
4- . مجمع البيان: 19/1.

الممكنات ومناسبة المحدثات.(1)

والحق أنّه لا صلة لهذه المعاني لما وضع له لفظ «إله» وإنّما هي من لوازم المعنى، لا نفسه ولا جزءه بل لازماً له لأنّ مَن كان إلهاً - بالمعنى الّذي نذكره - للعالمين، يُعبد وتتحيّر العقول في درك كنهه، وتسكن إليه النفس، ويُحتجب عن الأوهام وإن كان وجوده ظاهراً بالدلائل والبرهان.

ما هو المختار؟

اشارة

إنّ لفظ الجلالة وما يعادله في عامّة اللغات موضوع لما يتبادر في عامّة الأذهان بصورة إجمالية من كونه مصدر الخلق والكون الذي يعبّر عنه في لسان الحكماء والمتكلمين بواجب الوجود، أو الذات الجامعة لصفات الجمال والجلال، إلى غير ذلك من الكلمات التي هي تعبير تفصيلي عمّا هو المتبادر عند عامّة الشعوب.

ثمّ إنّ الوثنيين اخترعوا للّه سبحانه أنداداً وأشباهاً على درجات مختلفة من الكمال والجمال، وتفويض الأُمور إليهم، وما هي إلّاأسماء ليس لها من الألوهية شيء سوى الاسم، كما قرّرت ذلك الآية المباركة: (إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (2) فإذا حاول العرب أن يشيروا إلى هذه الآلهة المزعومة مع ما لها من درجات ومراتب مختلفة من القرب والبعد عن اللّه سبحانه يطلقون عليها لفظ الآلهة، وعلى هذا فلفظ الجلالة عَلَمٌ لمصداق كامل لمفهوم الإله، ولكن لفظ الإله موضوع لمعنى كلّي يشمله وسائر الآلهة المزعومة التي ليست على درجة واحدة من الكمال والجمال. فربما يكون إلهاً ولا يكون خالقاً ورازقاً، بل يكفي في كونه معزّاً أو ناصراً أو ممطراً أو غافراً للذنوب أو

ص:13


1- . تفسير الرازي: 158/1-161.
2- . النجم: 23.

مفوّضاً له شيء من أفعاله سبحانه.

وليس من البعيد أنّ لفظ (إله) مأخوذ من كلمة (يهوه) و «ادوناي»... يقول مؤلّف قاموس الكتاب المقدّس - فالإسم الثاني يدلّ على علاقة اللّه مع بني إسرائيل وهو إله تابوت العهد، وإله الرؤيا، والإعلان، وإله الفداء.(1)

والقرآن الكريم إذا أراد أن يشير إلى الفرد المعيّن من الكلّي يستعمل لفظ الجلالة «اللّه»، وإذا أراد أن يشير إلى المعنى الكلّي الشامل لهذا الفرد وغيره، الذي له درجات ومراتب، يستعمل لفظ «إله» كما يقول سبحانه - ناطقاً عن لسان المشركين -: (أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ ) .(2)

ولذلك نرى أنّه في بعض اللغات العالمية يفرّقون بين مفاد لفظ الجلالة، ومفاد «الإله» كتابة، ويعبّرون عن المعنيين بلفظ واحد، فعندما يشيرون إلى «اللّه» يكتبونها بالشكل التالي: ( God )، وعند الإشارة إلى المعنى الكلّي لهذا الفرد يكتبونها بالنحو التالي: ( god ).

هذا هو المدّعى ، والدليل عليه بوجوه:

الأوّل: مادة اللفظين واحدة

إنّ مادة اللفظين واحدة فكيف يفترقان في المعنى ؟ والدليل على ذلك قولهم: إنّ «اللّه» مشتق من لفظ «إلاه».

قال سيبويه في تفسير لفظ الجلالة: إنّ أصله «إلاه» على وزن فعال، فحذفت الفاء الّتي هي الهمزة وجعلت الألف واللام عوضاً لازماً عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في خصوص النداء في نحو قوله: «يا اللّه اغفر لي»، ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما

ص:14


1- . قاموس الكتاب المقدّس: 107.
2- . ص: 5.

لم تثبت في غير هذا الاسم.(1)

فإذا كانت المادة واحدة فيكون لفظ الجلالة بالمعنى الموجود في مادته علماً للشخص. ومن المعلوم أنّ لفظ الجلالة حاك عن الصفات الجلالية والجمالية أو ما أشبه ذلك، فيجب أن تكون مادته حاكية عن هذه المعاني كلّها لا عن معنى المعبود أو غيره من المعاني السبعة فقط.

الثاني: الاحتجاج بعدم وجود إله غير اللّه

إنّه سبحانه حينما يستدلّ على التوحيد وأنّه لا إله إلّااللّه فإنّه يستخدم كلمة الإله ويقول:

(قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) .(2)

ترى أنّه سبحانه يعدُّ تدبير العالم على نحو يعيش الإنسان فيه عيشاً رغيداً من شؤون الإله، ولذلك يقول: (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ ) أو يقول:

(مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ ) فهذا تصريح بأنّ التصرّف في الكون من شؤون الإله، ثم يردّ على المشركين بأن التصرّف في الكون وإن كان من شؤون الإله إلّا أنّه لا إله إلّااللّه.

فلو وضعنا «الخالق البارئ» وغيرها ممّا يعدّ تفسيراً للمعنى الإجمالي للإله، مكانه: لانسجم معنى الفقرة، بأن يقال: لا خالق ولا بارئ ولا مدبّر غير اللّه، لانسجمت.

وأمّا لو جعلنا المعبود مكانه، لاختلّت بلاغة الآية، كأن نقول: هل معبود إلّا

ص:15


1- . لاحظ: مجمع البيان: 19/1.
2- . القصص: 71-72.

اللّه يأتيكم بالنهار أو بالليل. إذ ليس التصرّف في الكون على النحو البديع من شؤون المعبود، وما أكثر المعبودين ولكنّهم لا ينفعون ولا يضرون.

وبعبارة أُخرى: إنّ التصرّف في الكون وتنظيم أسباب الحياة من شؤون مَن بيده الكون ومصير الإنسان، فكأنّه سبحانه يقول: لو اختلّ النظام بأنْ دام النهار أو دام الليل فأيّ إله (مَن بيده الكون) يأتي بالضياء بعد الليل، أو به بعد النهار، وليس هو إلّااللّه، وأمّا لو قلنا بأنّه بمعنى المعبود يكون المعنى كالتالي:

فأي معبود يأتي بالضياء بعد الليل أو العكس. ومن المعلوم أنّ التصرّف في الكون ليس من شؤون مطلق المعبود. وإنّما هو من شؤون مَن بيده الكون إيجاداً وتدبيراً. فيكون الإله في الآيتين بمعنى المتصرّف في الكون والمدّبر وما يرادفه.

الثالث: الاستدلال على التوحيد بلزوم الفساد عند تعدّد الآلهة

استدلّ سبحانه على التوحيد في الربوبية بآيات منها:

1. قوله تعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا) .(1)

فإنّ البرهان على نفي تعدّد الآلهة لا يتمّ إلّاإذا فُسّر «الإله» في الآية بالمتصرّف المدبّر، أو مَن بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين اللفظين. ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لبداهة تعدّد المعبودات في هذا العالم، مع عدم الفساد في النظام الكوني، وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة بالآلهة، ومركزاً لها وكان العالم منتظماً، غير فاسد.

وعندئذٍ يجب على مَن يجعل «الإله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ «بالحق» أي لو كان فيهما معبودات - بالحقّ - لفسدتا، ولمّا كان المعبود بالحقّ مدبِّراً ومتصرّفاً، لزم من تعدّده فساد النظام، وهذا كلّه تكلّف لا مبرّر له، والدليل على ذلك عدم خطوره عند سماعه.

ص:16


1- . الأنبياء: 22.

2. قوله سبحانه: (مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) .(1)

ويتمّ هذا البرهان أيضاً إذا فسّرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلّيّ ما يطلق عليه لفظ الجلالة. وإن شئت قلت: إنّه كناية عن الخالق، أو المدبّر، المتصرّف، أو مَن يقوم بأفعاله وشؤونه. والمناسب في هذا المقام هو الخالق. ويلزم من تعدّده ما رتّب عليه في الآية من ذهاب كلّ إله بما خلق وعلوّ بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لأنّه لا يلزم من تعدّده أي اختلال في الكون. وأدلّ دليل على ذلك هو المشاهدة. فإنّ في العالم آلهة متعدّدة، وقد كان في أطراف الكعبة المشرّفة ثلاثمائة وستون إلهاً ولم يقع أيّ فساد واختلال في الكون.

فيلزم على مَن يفسّر (الإله) بالمعبود إعمال التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدّمة. وما ربّما يتصوّر من غلبة استعمال الإله في المعبود بالحقّ فلا حاجة إلى تقديره، مدفوع باستعماله كثيراً في غيره كقوله: (أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) .(2)

3. قوله سبحانه: (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) .(3)

فإنّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق أو المدبّر المتصرّف أو مَن بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى

ص:17


1- . المؤمنون: 91.
2- . ص: 5. لاحظ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم الّذي صنّفه محمّد فؤاد عبد الباقي المصريّ ، فقد استعمل في كثير من الآيات في مورد المعبود الباطل، لو سلّمنا وضعه للمعبود. ولذلك قلنا في «مورد المعبود الباطل» لا في معناه.
3- . الإسراء: 42.

الأُلوهية، وأمّا تعدّد المعبود، فلا يلزم ذلك إلّابالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

الرابع: الملازمة بين الإلوهية وعدم ورود النار

قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ * لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) .(1)

والآية تستدلّ بورود الأصنام والأوثان في النار على أنّها ليست آلهة، إذ لو كانوا آلهة ما وردوا النار.

والاستدلال إنّما يتمّ لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه فإنّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرّف فيه أو مَن فوّض إليه أفعال اللّه، أجلّ من أن يُحكَم عليه بالنار أو أن يكون حصبَ جهنّم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود، إذ لا ملازمة بين كونها معبودات وعدم كونها حصب جهنم، وعندئذٍ لا يتمّ البرهان. إلّاإذا قُيّد المعبود بقيد أو قيود ترفعه إلى حدّ القداسة المطلقة، وهذا تكلّف واضح، ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه.

الخامس: لزوم اختلال المعنى لو فسّر بالمعبود

قوله سبحانه: (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ) .(2)

فلو فسّر الإله في الآية بالمعبود لزم عدم صحّة المعنى ، إذ المفروض تعدّد المعبود في المجتمع البشري، ولأجل دفع هذا ربما يقيّد الإله هنا بلفظ «الحقّ » أي المعبود الحقّ إله واحد. ولو فسّرناه بالمعنى الإجمالي الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرّف، وإيصال النفع، ودفع الضرّ على نحو الاستقلال، لصحّ

ص:18


1- . الأنبياء: 98-99.
2- . الحج: 34.

حصر الإله - بهذا المعنى - في واحد، بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة، إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة الإنسانية والمجتمع البشري، يتّصف بهذه الصفات التي ذكرناها إلّااللّه سبحانه.

ولا نريد أن نقول: إنّ لفظ «الإله» بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الغافر على وجه التفصيل، إذ لا يتبادر من لفظ «الإله» إلّاالمعنى الإجمالي، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الذي وضع له لفظ الإله. ومعلوم أنّ كونَ هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى الإجمالي، غير كونها معنى موضوعاً له اللّفظ المذكور، كما أنّ كونه تعالى ذا سلطة على العالم كلّه أو سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره، وصف نشير إليه بالمعنى الإجمالي الذي نتلقّاه من لفظ «اللّه»، لا أنّه نفس معناه.

السادس: استعمال لفظ الجلالة مكان الآخر وبالعكس

ربّما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله، ويتجرّد عن معنى العلَمية ويبقى فيه معنى الوصفية، فلذلك يصحّ استعماله مكان الإله، وإليك بعض موارده.

قال سبحانه: (وَ هُوَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) (1)، فالآية تشير إلى أنّ إله السماء هو إله الأرض وليس هناك آلهة بحسب الأنواع والأقوام، فالضمير «هو» مبتدأ ولفظ الجلالة خبر، والمعنى هو المتفرّد بالإلهيّة في السماوات، فوزانها وزان قوله سبحانه: (وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) .(2)

فإنّ اللفظين في الآيتين بمعنى واحد، يعني أنّ لفظ الجلالة في الآية الأُولى خرج عن العلَمية وعاد إلى الكلّية والوصفية، ولذلك صحّ جعله مكان

ص:19


1- . الأنعام: 3.
2- . الزخرف: 84.

الإله في الآية الأُولى، وجيء بنفس لفظ الإله في الآية الثانية.

السابع: معنى «الإله» في تثليث النصارى

حكى القرآن الكريم عقيدة النصارى في اللّه سبحانه، وهي ما تُعرف بعقيدة التثليث، وتتلّخص في وجود ثلاثة أقانيم، هي: الأب، والابن، والروح القدس، أي أنّ هناك إلهاً أباً وإلهاً ابناً وإلهاً باسم: الروح القدس.

وهذا القول لا يخلو من أمرين: إمّا أن يكون كلُّ واحد من هذه الأقانيم الثلاثة جزءاً يشكّلُ وجوده سبحانه، وعندئذٍ تُصبح له شخصية واحدة ذات أجزاء، أو أن يكون كلّ واحد منها ذا شخصية مستقلّة. وعلى كلّ تقدير فالجميع عندهم إله، يقول سبحانه (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النّارُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (1)، ثم قال سبحانه: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .(2)

ففي الآية الأُولى يحكي عنهم قولهم: إنّ اللّه هو المسيح ابن مريم، فالمسيح عندهم هو اللّه المتجسّد.

وردّ عليهم في نفس الآية بأنّه كيف يصحّ ذلك مع أنّ المسيح لا يأمر الناس بعبادته، بل بعبادة غيره، وذلك بقوله: (اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ ) ؟

وفي الآية الثانية يحكي سبحانه عنهم اعتقادهم بالآلهة الثلاثة، فكلّ من الأب والابن والروح القدس عندهم إله، ويردّ عليهم بأنّه لا إله إلّاإله واحد.

أمّا كيفية الاستدلال على أنّ الإله في هذه الآيات وما يليها ليس بمعنى

ص:20


1- . المائدة: 72.
2- . المائدة: 73.

المعبود أو غيره من المعاني السبعة، بل أُريد به ما يُراد من لفظ الجلالة بتجريده عن العلَمية، فواضحة لدى التدبّر، بشرط أن نقف على مغزى الاختلاف بين الموحّدين وأهل التثليث، إذ ليس مصبّ الاختلاف بينهم، وحدة المعبود أو تعدّده، وإنّما هو لازم نزاع آخر يرجع إلى وحدة ذات الواجب أو تعدّدها، فإذا قال سبحانه: (إِنَّمَا اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) (1)، فلا يريد أنّه معبود واحد ليس له ولد، وإنّما يُريد بساطة ذات اللّه ووحدتها.

وإذا قالت النصارى: (إِنَّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) ، فمرادهم أنّه ثالث الآلهة، وإنّ الواجب جلّ اسمه أو ما يشار إليه بلفظ الجلالة، آلهة ثلاثة لا إله واحد، فإذا ردّ عليهم سبحانه بقوله: (وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ) يُريد وحدة الذات وبساطتها.

فالإله في كلام كلّ من الطرفين يشير إلى تلك الذات المقدّسة فيكون مرادفاً للفظ الجلالة، لكن بشرط تجريدها عن العلَمية.

ولو فُسِّر لفظ (الإله) في هذه الموارد بوحدة المعبود أو كثرته، لزم غضُّ النظر عمّا هو موضع النزاع لبّاً عبر قرون.

ومنه يظهر مفاد الإله في الآية التالية، إذ لا محيص من تفسيره بالمعنى المختار الّذي يعبّر عنه بواجب الوجود، الخالق، البارئ، إلى غير ذلك من الصفات.

قال سبحانه: (وَ إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ ) (2)، وذلك أنّ علماء النصارى يتبّنون التثليث وينسبونه إلى عيسى ابن مريم، وأنّه دعا إلى إلهين آخرين من دون اللّه، وهما: نفسه وأمُّه.

ص:21


1- . النساء: 171.
2- . المائدة: 116.

ومن المعلوم أنّ النفي والإثبات يردان على موضوع واحد وهو ادّعاء النصارى أنّ ثمّة إلهين وراء اللّه سبحانه هما: المسيح وأُمّه، وردّ سبحانه على تلك المزعمة بأنّ الإله واحد لا غير.

فعندئذٍ لا يمكن تفسير الإله بمعنى المعبود، إذ الكلام يتعلّق بمقام الذات وأنّه كثير أو واحد لا بمقام المعبودية.

ونظيرها الآية التالية قال سبحانه: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً) .(1)

وحصيلة الكلام هو أنّ الاختلاف والنزاع بين أهل التوحيد وأهل الكثرة راجع إلى وحدة ما يشار إليه بلفظ الجلالة أو تعدّده. وأنّه هل هو ذات بسيطة واحدة أو هو ذات مركبة أو متعدّدة يعبّر عنها بالإله الأب، والإله الابن، والإله الروح القدس.

فحقيقة النزاع عبارة عن دراسة مسألة فلسفية غامضة، وهي أنّ جوهر الذات شيء واحد أو هي أشياء؟ فمن السذاجة أن نعبّر عن واقع النزاع بوحدة المعبود وتعدّده، فإذا قيل: الإله الواحد، أو ثالث الآلهة، فلا يُراد عندئذٍ إلّاما يُشار إليه بلفظ الجلالة الّذي تشير إلى الذات المستجمعة لصفات الجمال والجلال ولكن بقيد تجريده عن العلَمية.

الثامن: وقوع قوله: (لا إِلهَ إِلاّ هُوَ) تعليلاً لحصر الشؤون

قد وقع قوله: (لا إِلهَ إِلاّ هُوَ) في الآيات التالية تعليلاً لحصر الرازقية،

ص:22


1- . النساء: 171.

وربوبية المشرق والمغرب، ومالكية السماوات والأرض في اللّه سبحانه، ولا يصحّ كونه علّة للحصر المذكور إلّاإذ أُريد به المعنى الإجمالي الملازم للخالقية والرازقية والربوبية والمالكية، فعندئذٍ يصلح أن يقع تعليلاً، لما تقدّمه من حصر الأُمور المذكورة في اللّه، والآيات هي:

1. (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ) .(1)

فصدر الآية ينفي أيَّ خالق غير اللّه يرزق الناس، وذيلها أعني قوله: (لا إِلهَ إِلاّ هُوَ) بمنزلة التعليل له ولا يصحّ تعليلاً إلّاإذا أُريد به ذلك المعنى السامي الملازم للشؤون فكأنّه يقول: «إذا لم يكن إله - بهذا المعنى - فلا خالق يرزق الناس إلّااللّه».

2. (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) .(2)

إنّ صدر الآية يصفه سبحانه بكونه (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ ) ، أي رب عالم الشهادة، ثم يأتي بقوله: (لا إِلهَ إِلاّ هُوَ) تعليلاً لما تقدّم، ولا يصحّ ذلك إلّا بتفسير الإله بالمعنى السامي الّذي يدلّ عليه لفظ الجلالة، لكن مجرّداً عن العلَمية فيكون المعنى: إذا لم يكن خالق مدبر و...، إلّااللّه، فهو رب السماوات والأرض و....

ثم عطف عليه قوله: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) لأنّ اتّخاذ الوكيل بمعنى إيكال الأُمور إليه، من شؤونه سبحانه.

3. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ ) (3).

وكيفية الاستظهار هو نفس ما تقدّم في الآيتين المتقدّمتين، فلا يصلح قوله: (لا إِلهَ إِلاّ هُوَ) تعليلاً لما سبق، إلّاإذا أُريد بالإله المعنى الإجمالي السامي الملازم

ص:23


1- . فاطر: 3.
2- . المزمّل: 9.
3- . الأعراف: 158.

للخالقة والرازقية والربوبية وغيرها، فإذا كانت هذه الشؤون منحصرة في اللّه سبحانه فله ملك السماوات والأرض.

التاسع: مفهوم الإله عند الوثنيين
اشارة

يظهر من بعض الآيات أنّ الإله عند المشركين عبارة عمّن ينصر العبدةَ في الشدائد والملمّات، ويورث لهم عزّاً في الحياة.

قال سبحانه حاكياً عن عقيدتهم: (وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ) .(1)

وقال عزّ من قائل: (وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) .(2)

وكانوا يُسوّون بين اللّه والآلهة، يقول سبحانه حاكياً عن قولهم يوم القيامة: (تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (3).

فإذا كانت الآلهة المزعومة عند المشركين هي الناصرة في الشدائد وواهبة العزّة، وفي مستواه سبحانه، فلا يراد بها عند الإطلاق إلّاما يراد من لفظ الجلالة مجرداً عن العلمية.

ولذلك يردّ عليهم سبحانه في غير واحدة من الآيات بأنّ الآلهة لا يملكون من شؤونه سبحانه شيئاً.

ويقول: (وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ) .(4)

والآية تدلّ على أنّ من شؤون الإله هو الخلق، والأصنام فاقدة له.

ويقول: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنّا يُصْحَبُونَ ) (5).

ص:24


1- . يس: 74.
2- . مريم: 81.
3- . الشعراء: 97-98.
4- . الفرقان: 3.
5- . الأنبياء: 43.

والآية تدلّ على أنّ من شؤون الإله هو القدرة والدفاع عن نفسه وعمّن يعبده، وإلهتهم تفقد هذه اللوازم والشؤون.

فالآيتان تدلّان على أنّه كلّما أُطلق الإله لا يتبادر منه إلّامن يملك هذه الشؤون - لا مجرد كونه معبوداً - ولذلك ردّ الوحي الإلهي وصفهم أصنامهم بالإلوهية، بعدم وجود هذه الشؤون فيها.

انتقال هُبَل إلى مكة

ويوضح مكانة الأوثان عندهم ما نقله ابن هشام في سيرته يقول: إنّ عمرو بن لحَيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أُموره، فلمّا قدم مآبَ في أرض البَلْقاء، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام الّتي أراكم تَعْبدون ؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنَسْتمطرها فتُمْطرِنا، ونَسْتَنْصرها فتَنْصرنا؛ فقال لهم: أفلا تُعطُونني منها صَنماً، فأسيرَ به إلى أرض العرب، فيعبدوه ؟ فأعْطَوْه صَنماً يقال له هُبَل، فقدم به مكّة، فَنَصَبه وأمَر الناس بعبادته وتعظيمه.(1)

فإذا كانت الإمطار عند الجفاف والنصر في الحروب والشدائد من شؤون الآلهة المزعومة، فيكون المتبادر منه هو نفس ما يتبادر من لفظ الجلالة، مجرّداً عن العلَمية.

العاشر: الإله في كلام الإمام علي عليه السلام

وممّا يؤيّد ما ذكرناه من عدم الفرق بين الإله، ولفظ الجلالة إلّابالكلّية والجزئية، كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في معرض نقده لكون كلامه سبحانه قديماً، بأنّه لو كان كذلك، لكان إلهاً ثانياً. وإليك نصّه:

«يقول لمن أراد كونه: (كُنْ فَيَكُونُ ) ، لا بصوت يُقرع، ولا بنداء يُسمع،

ص:25


1- . السيرة النبوية: 77.

وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثَّله، لَمْ يَكُ مِنْ قَبلِ ذلِكَ كَائِناً، وَلَوْ كانَ قَدِيماً لَكَانَ إلهاً ثَانِياً».(1)

أي لو كان قديماً، لكان واجب الوجود، أو ما يفيد ذلك، ولا معنى لتفسير الإله بالمعبود، أي لكان إلهاً معبوداً ثانياً.

وفي بعض كلماته أيضاً، إشارة إلى ما ذكرنا، حيث قال:

«أَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلى إِلهِكَ ».(2)

وقال في موضع آخر:

«وَابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذلِكَ بِالإِسْتِعَانَةِ بِإِلهِكَ ».(3)

حصيلة البحث:

1. ليس للإله إلّامعنى واحد وهو نفس ما يفهم من لفظ الجلالة لكن مجرّداً عن العلَمية.

2. أنّ تفسير الإله بالمعاني السبعة أو الأكثر تفسير باللوازم والآثار للإله، لا نفس معناه.

3. لفظ الإله ليس بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الغافر، إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلّاالمعنى البسيط، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الموضوع له لفظ الإله، ومعلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط، غير كونها معنى موضوعاً للّفظ المذكور، فتدبّر.

ص:26


1- . نهج البلاغة: الخطبة 186.
2- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 31.
3- . نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 31.

تصحيح خطأ في الاصطلاح

إنّ لتوحيده سبحانه مراتب:

منها: التوحيد في الخالقية، بمعنى أنّه لا خالق إلّاهو، يقول سبحانه:

(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) .(1)

ومنها: التوحيد في الربوبية، بمعنى أنّه سبحانه مدبّراً للكون بعد خلقه له.

إنّ الوثنيين في جزيرة العرب لم يكونوا يعانون من أي انحراف في مسألة التوحيد في الخالقية وكانوا يعتقدون بأنّه ليس في الكون سوى خالق واحد، بيد أنّ بعضهم أو أكثرهم كانوا يعانون مشكلة في توحيد الربوبية حيث يعتقدون بأنّ اللّه سبحانه فوّض تدبير بعض أُمور الكون إلى الملائكة والجن والكواكب والأرواح المقدّسة إلى غير ذلك، فجاء القرآن يركّز على التوحيد في الربوبية مضافاً إلى التوحيد في الخالقية، قال سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) (2)، وقال سبحانه: (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) .(3)

فقوله: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) إشارة إلى التوحيد في الربوبية وتدبير الكون بعد إيجاده، وأنّ المدبّرية منحصرة به سبحانه لا يشاركه فيها غيره.

ص:27


1- . فاطر: 3.
2- . يونس: 3.
3- . الرعد: 2.

حتّى أنّه سبحانه استدلّ على التوحيد في الربوبية بأنّ تعدّد الآلهة يوجب الفساد، وقال: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ ) (1)، ومثلها قوله سبحانه: (مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ ) .(2)

وبذلك أثبت أنّ المدبّر واحد مضافاً إلى وحدة الخالق، هذا من جانب ومن جانب آخر كلّما أُطلق (الرب) يراد به: مَنْ فوّض إليه أمر الشيء من حيث الإصلاح والتدبير والتربية، فيقال: رب الضيعة، لمن عليه إصلاحها ورعايتها؛ ويقال: رب الدار، لمن عليه حفظها وتصليح خرابها؛ وقد أطلق يوسف عليه السلام كلمة الرب على عزيز مصر حيث قال: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) (3)، كما أنّه سبحانه وصف اليهود والنصارى بأنّهم (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (4)، وقال عبد المطلب لإبرهة: «أنا رب الإبل وللبيت رب».(5)

وهذه الفقرات ترشدنا إلى معنى الرب وأنّه دون الخالق.

إذا علمت ذلك فلنقف على الخطأ في الاصطلاح الّذي وقع فيه ابن عبد الوهاب ومن والاه، حيث فسّر التوحيد في الربوبية بالخالقية، والتوحيد في الإلوهية بمعنى العبادة، فقال في كتاب (تسع رسائل): إذا قيل لك: أين الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية ؟ فقل: توحيد الربوبية فعل الرب، مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنزال المطر وإنبات النبات وتدبير الأُمور.

وتوحيد الإلهية فعلك أيها العبد مثل الدعاء والخوف والرجاء والاستغاثة،

ص:28


1- . الأنبياء: 22.
2- . المؤمنون: 91.
3- . يوسف: 23.
4- . التوبة: 31.
5- . السيرة النبوية لابن هشام: 33/1؛ الكافي: 447/1، باب بلد النبي صلى الله عليه و آله.

وغير ذلك من أنواع العبادة.(1)

ترى أنّه فسّر الربوبية بالخالقية، ولكنّه عطف عليها ما هو داخل في الربوبية؛ كما أنّه فسّر الإلهية بالعبادة، وقد علمت أنّ الإله وما يشتق منه يراد منه معنى سامٍ له مصاديق مختلفة يجمعها كلّها (إله).

فعلى ما ذكرنا في وضع الاصطلاح التعبير الصحيح بالخالقية مكان الربوبية، والتوحيد بالعبادة مكان الإلهية.

تمّت الرسالة ظهيرة يوم الخامس والعشرين

من شهر رمضان المبارك من شهور عام 1431 ه

والحمد للّه الّذي بنعمته تتم الصالحات

جعفر السبحاني

قم المشرّفة

ص:29


1- . تسع رسائل، الرسالة الخامسة: 41، طبعة القاهرة.

2. «رؤية اللّه» طبقاً للكتاب والسنّة

اشارة

نشرت الجمعية العلمية السعودية لعلوم السنّة مقالاً حول رؤية اللّه - جلّ جلاله - يوم القيامة، ونسبتها إلى الصحابة والتابعين وأئمّة الإسلام المعروفين بالإمامة في الدين وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبين إلى السنّة والجماعة، واستند صاحب المقال إلى أدلّة من الكتاب والسنّة على أنّ رؤية اللّه بالأبصار جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة، واستدلّ بآيات متعدّدة سوف ندرسها، كما استدلّ بحديث عن أبي هريرة في الصحيحين.

وقبل دراسة الأدلّة نذكر مقدّمة وهي:

إنّ الاعتقاد بالرؤية عقيدة يهودية أصيلة جاءت في العهد القديم، وإليك مقتطفات منها:

1. رأيت السيد جالساً على كرسي عال فقلت: ويل لي لأنّ عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود.(1)

2. كنت أرى أنّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار.(2)

ص:30


1- . اشعياء: 1/6-6.
2- . دانيال: 9/7.

3. أمّا أنا فبالبر أنظر وجهك.(1)

4. فقال منوح لامرأته: نموت موتاً لأنّنا قد رأينا اللّه.(2)

5. فغضب الرب على سليمان، لأنّ قلبه مال عن الرب، إله إسرائيل الذي تراءى له مرّتين.(3)

6. وقد رأيت الرب جالساً على كرسيّه وكلّ جند البحار وقوف لديه.(4)

7. كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيّين، عند نهر خابور، أنّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى اللّه - إلى أن قال: - هذا منظر شبه مجد الرب ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم.(5)

هذا نزر يسير ممّا ورد في العهد القديم الذي يركّز على رؤية اللّه تعالى في الدنيا فضلاً عن الآخرة.

إنّ مَن تدبّر في آيات الذكر الحكيم يقف على أنّه كلّما يذكر الرؤية فإنّما يذكرها بإنكار واستنكار، يقول سبحانه مسلّياً للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله: (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ...) .(6)

ولمّا سأل الكليم - بضغط من قومه - رؤيته سبحانه وقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) (7) أُجيب بنفي قاطع، قال: (لَنْ تَرانِي) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدلّ

ص:31


1- . مزامير داود: 15/17.
2- . القضاة: 23/13.
3- . الملوك الأوّل: 9/11.
4- . الملوك الأوّل: 19/22.
5- . حزقيال: 1/1 و 28.
6- . النساء: 153.
7- . الأعراف: 143.

على أنّ الرؤية أمر مستحيل وأنّ طلبه محال، وأنّ الإصرار عليه يستوجب العتاب والعقاب.

وأي كلام أوضح في بيان العقيدة الإسلامية من قوله سبحانه: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (1)، ومن المعلوم أنّ الإدراك إذا نسب إلى الأبصار يراد به الرؤية البصرية، وإذا نسب إلى السمع يراد به الإدراك بالسمع. وحاصل الآية: أنّه يَرى ولا يُرى كما تفرّد سبحانه بالصفات التالية: فهو يطعم ولا يُطعَم، ويجير ولا يجار عليه، قال سبحانه: (أَ غَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ ) (2)، وقال سبحانه: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(3)

ولسنا في هذا المقال بصدد سرد أدلّة المنكرين فإنّها مذكورة في الكتب الكلامية والتفاسير وغيرهما، وإنّما الغاية نقد المقال الذي نشرته الجمعية العلمية السعودية لعلوم السنّة (لاحظ موقعهم على شبكة الانترنت بعنوان www.sunnah.org.sa ).

كان الرأي السائد تبعاً للذكر الحكيم وكلمات العترة الطاهرة عليهم السلام هو تنزيه اللّه سبحانه عن الرؤية بالأبصار، إلّاأنّ أوّل من نشر الرؤية بين المحدّثين هو كعب بن ماتع الحميري المعروف بكعب الأحبار، فقد كان حبراً يهودياً ماكراً استطاع أن يستقطب عدداً من الصحابة والمحدّثين بمكره الثعلبي، وكان يركّز في كلماته على أمرين:

1. التركيز على التجسيم

قال: إنّ اللّه تعالى نظر إلى الأرض فقال: إنّي واطئ على بعضك، فاستعلت

ص:32


1- . الأنعام: 103.
2- . الأنعام: 14.
3- . المؤمنون: 88.

إليه الجبال وتضعضعت له الصخرة فشكر لها ذلك، فوضع عليها قدمه فقال: هذا مقامي ومحشر خلقي وهذه جنتي وناري وهذا موضع ميزاني، وأنا ديّان الدين.(1)

2. التركيز على رؤية اللّه

من كلامه أيضاً: إنّ اللّه تعالى قسّم كلامه ورؤيته بين موسى و محمّد(2).

وعلى هذا فلا تعجب من أن تصبح الرؤية عقيدة إسلامية يركّز عليها إمام الحنابلة والأشاعرة والمفكّرون منهم تبعاً لما روي في الصحيحين.

وها نحن ندرس الآيات التي استدلّ بها في المقال المذكور على وجه الإيجاز.

الدليل الأوّل (لصاحب المقال)

قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) .(3)

وقال: وهي من أظهر الأدلّة وأمّا من أبى إلّاتحريفها بما يسمّيه تأويلاً، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، وهذا هو الذي أفسد الدنيا والدين، هكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل حذّرنا اللّه أن نفعل مثلهم، فهل قتل عثمان إلّابالتأويل الفاسد، وكذا ما جرى في يوم الجمل وصفين ومقتل الحسين والحرّة.(4)

أقول: قد عزب عن الكاتب أنّ التدبّر في الآية غير التأويل، فقد أمر اللّه سبحانه بالتدبّر في الآيات وقال: (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (5).

ص:33


1- . حلية الأولياء: 6/20.
2- . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: 3/237.
3- . القيامة: 22-23.
4- . شرح الطحاوية: 189.
5- . محمد: 24.

وقد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة والمعتزلة، فالفرقة الأُولى تصرّ على أنّ النظر بمعنى الرؤية، والثانية تصرّ على أنّها بمعنى الانتظار لا الرؤية.

ونحن نقول: إنّ النظر سواء أُريد به المعنى الأوّل أو المعنى الثاني لا يدلّ على الرؤية، وذلك لأنّ المستدلّ لم يذكر مجموع الآيات الأربع التي كلّ يقابل الآخر، وإليك نقل الآيات ثم تنظيمها:

1. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ * وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) .(1)

هذه هي الآيات الأربع في سورة القيامة، وبالمقابلة يمكن أن يتيسّر لنا فهم الآيات ورفع إبهامها، وليس تفسير الآية بآية أُخرى تأويلاً وإنّما هو تدبّرٌ أُمرنا به، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) يقابلها قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) .

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) يقابلها قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) .

وبما أنّ قوله: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) واضح المعنى، يكون قرينة على المراد من مقابلها، أعني قوله: (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) ، فإذا كان المقصود من المقابل أنّ الطائفة العاصية تظن وتتوقّع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها، ويقصم ظهرها، يكون المراد من عِدله وقرينه عكسه وضدّه، وليس هو إلّاأنّ الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته ومتوقعة فضله وكرمه، لا النظر إلى جماله وذاته وهويته، وإلّا لخرج المتقابلان عن التقابل في المعنى ، وهو خلف.

وأنت ترى أنّ هذا النوع من التفسير استنطاق آية بآية أُخرى، واللّه سبحانه

ص:34


1- . القيامة: 22-25.

يصف القرآن بقوله: (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ ) ، وحاشا أن يكون تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه.

وإن شئت توضيحاً أكثر فنقول:

يجب أن يكون المتقابلان - بحكم التقابل - متّحدي المعنى والمفهوم.

ولا يكونان مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات، فلو كان المراد من المقابل الأوّل - أعني: (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) - هو رؤية جماله سبحانه وذاته، فيجب أن يكون الجزاء في قرينه - أعني: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) - هو حرمان هؤلاء من الرؤية أخذاً بحكم التقابل.

وبما أنّ تلك الجملة - أعني: القرين الثاني - لا تحمل ذلك المعنى - أعني:

الحرمان من الرؤية - بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر، يكون ذلك قرينة على المراد من القرين الأوّل وهو رجاء رحمته وانتظار فرجه وكرمه.

***

ثمّ إنّ في الآية دليلاً واضحاً على أنّ المراد من النظر غير الرؤية؛ وذلك لأنّه إذا أُريدت الرؤية نسب النظر إلى العيون لا إلى الوجوه، فالمسند إليه في الآيتين هو الوجوه:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ )

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ )

وهذا يدلّ على أنّ النظر حتى بمعنى الرؤية كناية عن الانتظار لرحمة اللّه سبحانه، وهو دليل على أنّه كُنّي بالنظر إلى اللّه عن الانتظار لرحمته وشمول فضله وكرمه، وله نظائر في الكتاب العزيز، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَ لا يَنْظُرُ

ص:35

إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .(1)

والمراد من قوله: (وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ) هو المعنى المكنّي عنه، أي عدم شمول رحمته لهم.

إلى هنا تبيّن مفهوم الآية وأنّ ما ذكرناه هو مدلولها لكن بشرط التدبّر، ولا صلة له بالتأويل الباطل الذي ورد في النص النبوي: «أنّ مَن فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار».

ونظير الآية قوله سبحانه في سورة عبس، حيث يحكي أنّ وجوه الناس في يوم القيامة على نحوين، كما يقول: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) .(2)

فإذا أردنا تنزيل تلك الآيات الأربع على ما ورد في سورة القيامة تكون بالشكل التالي:

سورة القيامة --- سورة عبس

1. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) --- 1. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ) .

2. (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) --- 2. (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) .

3. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) --- 3. (وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ) .

4. (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) --- 4. (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) .

فبما أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً فعليك رفع الإبهام عن قوله: (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) بما ورد في سورة عبس، فقد جاء فيها ما يقابله قوله تعالى: (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) فأين هذا من رؤية اللّه تبارك وتعالى.

وعلى هذا فإنّ أصحاب الوجوه الناضرة والوجوه المسفرة نصيبهم

ص:36


1- . آل عمران: 77.
2- . عبس: 38-41.

شمول الرحمة لهم، ولذلك تراها ضاحكة مستبشرة تنتظر رحمة اللّه عزّ وجلّ .

الدليل الثاني (لصاحب المقال)

قال: قد طمع موسى في رؤية اللّه فأخبره ربه أنّه لن يراه في الدنيا ولا يستطيع، قال تعالى: (وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي...) (1).

فلو كانت الرؤية أمراً مستحيلاً لما خفي على موسى أنّه مستحيل.

يلاحظ عليه: أنّ المستدلّ أخذ بآية واحدة، وترك التدبّر في سائر الآيات الواردة حول الموضوع، وتصوّر أنّ الكليم ابتدأ بالسؤال وأُجيب بالنفي، وعلى ذلك بنى استدلاله بأنّه لو كان ممتنعاً لما سأله الكليم.

ولكن الحقيقة غير ذلك وإليك بيانها: إنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ اللّه كلّمه وقرّبه وناجاه، قالوا لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سيناء وسأل اللّه سبحانه أن يكلّمه فلمّا كلّمه اللّه وسمعوا كلامه، قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ) فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم وعتوّهم واستكبارهم.

وإلى هذه الواقعة تشير الآيات التالية:

1. (وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) .(2)

2. (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) .(3)

ص:37


1- . الأعراف: 143.
2- . البقرة: 55.
3- . النساء: 153.

3. (وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ ) .(1)

إلى هذه اللحظة الحسّاسة لم يَحم الكليم حول الرؤية ولم ينبس بها ببنت شفة ولم يطلب شيئاً، بل طلب منه سبحانه أن يجيبهم حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم، فلربما قالوا: إنّك لمّا لم تكن صادقاً في قولك: إنّ اللّه يناجيك، ذهبت بهم فقتلتهم، فعند ذلك أحياهم اللّه وبعثهم معه كما يحكي مقاله عنه سبحانه ويقول: (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ ) .

فلو كان هناك سؤال من موسى عليه السلام فإنّما كان بعد هذه المرحلة وبعد إصابة الصاعقة للسائلين وعودهم إلى الحياة بدعاء موسى.

وعند ذلك يطرح السؤال الآتي:

هل يصحّ أن ينسب إلى الكليم - بعد ما رأى بأُمّ عينيه ما أصاب القوم من الصاعقة والدمار، إثر سؤالهم - طلب الرؤية وأنّه قام بالسؤال لنفسه بلا داع وسبب مبرّر أو بلا ضرورة ؟ أو أنّه ما قام بالسؤال ثانياً إلّابعد إصرار قومه وإلحاحهم عليه أن يسأل الرؤية لا لهم بل لنفسه، حتى تحصل رؤية اللّه مكان رؤيتهم، فيؤمنوا به بعد إخباره لهم بالرؤية.

لا شكّ أنّ الأوّل بعيد جداً لا تصحّ نسبته إلى مَن يملك شيئاً من العقل والفكر، فضلاً عن نبي عظيم مثل الكليم، كيف وقد رأى جزاء مَن سأل الرؤية، فالثاني هو المتعيّن.

ص:38


1- . الأعراف: 155.

وفي نفس الآية قرائن تدلّ على أنّ السؤال في المرّة الثانية كان بإصرار القوم وإلحاحهم وكفى في القرينة عليه، قوله: (أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا) حيث يعدّ سؤال الرؤية من فعل السفهاء، ومعه كيف يصحّ له الإقدام بلا ملزم ومبرّر أو بلا ضرورة وإلجاء، وبما أنّ اللّه سبحانه يعلم بأنّه لم يقدم على السؤال إلّا بإصرار قومه حتى يفحم هؤلاء ويسكتهم، لم يوجّه إلى الكليم أيّة مؤاخذة بل خاطبه بقوله: (لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) .

***

ونحن نعيد السؤال على المستدلّ بأنّ المسلمين اتّفقوا على امتناع رؤية اللّه في الدنيا أو عدم جواز طلبها، فحينئذٍ فهل كان موسى جاهلاً بهذا الأمر، أو عالماً؟ والأوّل غير لائق بمقام كليم اللّه، والثاني ينافي عصمته، إذ مع علمه بالامتناع أو بعدم جواز الطلب، فكيف طلب رؤية اللّه من غير مبرر وبلا سبب وجيه ؟!

الدليل الثالث (لصاحب المقال)

قوله تعالى في الكفّار: (كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ) (1).

فلو كان الحجب عامّاً للكافر والمؤمن لما كان وجه لتخصيص الكفّار به.

يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال مبني على أنّ المراد من الحجب هو الحرمان عن رؤية اللّه سبحانه، مع أنّ المناسب لظاهر الآية كونهم محجوبين عن رحمة ربهم بسبب الذنوب التي اقترفوها.

وإليك الآية مع ما قبلها وما بعدها:

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما

ص:39


1- . المطففين: 15-16.

كانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ) .(1)

فإنّ لحن الآية يكشف عن غضب اللّه عليهم من أجل وصف الآيات بأنّها من أساطير الأوّلين، وعندئذٍ استوجبوا أمرين: (كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) : أي محرومون عن رحمته ومغفرته، وبالتالي: (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ) : أي يُصلون النار، ولا دلالة في الآية على أنّ المراد هو الحجب عن الرؤية وإنّما هو تأويل جرّ القائلَ به الرأيُ المسبق فهؤلاء تبنّوا عقيدة، ثم ذهبوا يطلبون الدليل لها من الذكر الحكيم، وهذا هو نفس تفسير القرآن بالرأي.

الدليل الرابع (لصاحب المقال)

قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) (2)

ثم قال: المراد من الزيادة التي وُعِد بها المؤمنون، هو النظر إلى وجهه الكريم.

يلاحظ عليه: بأي دليل جعل متعلّق الزيادة هو الرؤية ؟ إذ لا دليل على حمل اللام على العهد بل المراد الجنس، ومعنى الآية إنّ الذين أحسنوا لهم المثوبة الحسنى مع زيادة على ما يستحقّونه، فقد جرت سنّة اللّه على جزاء سيئة بمثلها وجزاء الحسنة بأكثر منها. قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .(3)

ص:40


1- . ا لمطففين: 13-16.
2- . يونس: 26.
3- . يونس: 27.

وفي آية أُخرى: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) .(1)

هذه هي الآيات التي استدلّ بها الكاتب تبعاً للرازي وغيره على رؤية اللّه تعالى يوم القيامة.

***

ثمّ إنّ الكاتب قال: تواترت الروايات حول الرؤية، وذكر منها رواية أبي هريرة، قال: وفي الصحيحين عن أبي هريرة: أنّ الناس قالوا: يا رسول اللّه هل نرى ربّنا يوم القيامة ؟ قال: هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا: لا يا رسول اللّه، قال: فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا:

لا. قال: فإنّكم ترونه كذلك.

أقول: إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته وتعدّدت نقلته، لا يصحّ الركون إليه في منطق الشرع والعقل، وذلك لأنّه:

1. أنّه خبر واحد لا يفيد علماً في باب الأُصول والعقائد، وإن كان حجّة في الفروع والأحكام، لأنّ المطلوب في العقائد هو الإذعان ورفع الريب والشكّ عن وجه الشيء، وهو لا يحصل بخبر الواحد أو بخبر الاثنين إنّما يحصل إذا بلغ حدّاً يورث القطع والإذعان.

2. أنّ هذا الحديث رواه مسلم أيضاً في صحيحه عن أبي سعيد الخدري وجاء في ذيله هذه الفقرات:

«... حتى إذا لم يبق إلّامَن كان يعبد اللّه تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال: فما تنتظرون، تتبع كلّ أُمّة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنّا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ باللّه منك لا نُشرك باللّه شيئاً

ص:41


1- . الأنعام: 160.

مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى مَن كان يسجد للّه من تلقاء نفسه إلّاأذن اللّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاء ورياء إلّاجعل اللّه ظهره طبقة واحدة كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه...».(1)

أقول: ماذا يريد الراوي بقوله: «أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من الّتي رأوه فيها... فيقول: أنا ربّكم»؟ فهل كان للّه سبحانه صوراً متعدّدة يعرفون بعضها وينكرون البعض الآخر وما ندري متى عرفوها؟ فهل كان ذلك منهم في الدنيا؟ أو كان في البرزخ أو في الآخرة ؟!

وماذا يريد الراوي بقوله: «نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد للّه من تلقاء نفسه»؟! فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفون اللّه سبحانه بساقه، فكانت هي الآية الدالّة عليه.

***

إنّ القائل بالرؤية تمسّك بآيات زعم دلالتها على إمكان الرؤية ووقوعها يوم القيامة، ولكنّه غضّ النظر عن الآيات الكثيرة التي تصف الرؤية بأنّها أمر غير ممكن، ومن المعلوم أنّ القرآن كلام إلهي ليس فيه أي تناقض واختلاف، وهذه هي واحدة من جهات إعجازه، قال سبحانه: (أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) .(2)

ونحن مهما تجرّدنا عن كلّ شيء لا يمكن أن نتجرّد عن القول بأنّ الرؤية رهن المقابلة والجهة والمكان، فهي عبارة عن وجود الرابطة بين الرائي والمرئي، فيجب أن يكون المرئي في مكان حتى تتحقّق تلك الرابطة بوسيلة الرائي، من غير فرق بين القول بأنّ الرؤية عبارة عن انطباع صورة المرئي في

ص:42


1- . صحيح مسلم: 115/1، باب معرفة طريق الرؤية.
2- . النساء: 82.

العين - كما عليه العلم الحديث - أو بخروج إشعاع منها - كما عليه بعض القدماء - فعلى ذلك فالرؤية سواء أكانت في الدنيا أو الآخرة رهن تواجد المرئي في جهة ومكان، وهذا يضاد صريح القرآن الكريم الذي يقول: (وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) .(1)

ويقول عزّ وجلّ : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) .(2)

ولمّا رأى القائلون بالرؤية أنّ الآيات تكذبها صاروا إلى تأويلها بأنّ المراد:

علمه سبحانه بالأشياء في كلّ مكان، لا ذاته، وهو تأويل باطل على خلاف صريح الآية، ولو تكلّم به أهل التنزيه سوف يتّهمون بأنّهم جهميّون.

نظرية تافهة

التقيت في ماضي السنوات في دمشق مع بعض شيوخ الأشاعرة الذين كانوا يصرّون على إمكان الرؤية، فلمّا ألزمتهم بأنّ الرؤية رهن تصوير مكان للّه سبحانه، وتواجده في جهة، قالوا كلاماً تافهاً حاصله: إنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا، وهذا الكلام عليه مسحة من الحق، لكن لا يعنى به أنّ حقيقة الأشياء في الآخرة تباين حقيقتها في الدنيا، وهذا مثل أن يقال: إنّ حقيقة المربع والمثلث في الآخرة غيرهما في الدنيا، أو إنّ نتيجة (2 * 2) تصير في الآخرة خمسة، بحجّة أنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا، وإنّما المراد من هذه القاعدة هو أنّ كلّ ما يوجد من الأشياء في الآخرة يكون بأكمل الوجود وأمثله، لا أنّه يباينه على وجه الإطلاق، يقول اللّه سبحانه: (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) .(3)

ص:43


1- . الحديد: 4.
2- . المجادلة: 7.
3- . البقرة: 25.

ونظير ذلك حينما قابلني شاب مثقف في مؤتمر في تركيا وقد دارالحديث بيني وبينه حول الرؤية، فقلت له: إنّ لي سؤالاً لو أجبت عنه، لوافقتك على ما تقول، قال: ما هو؟

قلت له: هل المرئي يوم القيامة وجوده سبحانه كلّه أو بعضه، فإن قيل بالأوّل يلزم أن يكون سبحانه مُحاطاً والمشاهِد محيطاً، وهو باطل بالضرورة، قال سبحانه: (وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ ) (1)، فكيف يمكن الإحاطة بوجوده سبحانه ؟

وإن قيل بالثاني فيلزم أن يكون سبحانه مركب من جزأين أو أجزاء، والتركّب آية الإمكان، لاحتياج الكلّ إلى الجزء، والمحتاج ممكن مخلوق حادث، فلا يكون واجباً.

حوار بين الإمام الرضا عليه السلام وبعض المحدّثين

وفي نهاية الكلام نذكر الحوار الذي جرى بين الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام وأحد المحدّثين في عصره.

قال أبو قرّة: فإنّا روينا: أنّ اللّه قسّم الرؤية والكلام بين نبيّين، فقسّم لموسى عليه السلام الكلام ولمحمد صلى الله عليه و آله الرؤية.

فقال أبو الحسن عليه السلام: «فمَن المبلّغ عن اللّه إلى الثقلين الجن والإنس أنّه لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شيء، أليس محمد صلى الله عليه و آله ؟» قال:

بلى .

قال أبو الحسن عليه السلام: «فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّه، وأنّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه، ويقول: إنّه لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شيء، ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً

ص:44


1- . البقرة: 255.

وهو على صورة البشر، أما تستحيون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا: أن يكون أتى عن اللّه بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر».

فقال أبو قرّة: إنّه يقول: (وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ) .(1)

فقال أبو الحسن عليه السلام: «إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال:

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) (2)، يقول: ما كذّب فؤاد محمد صلى الله عليه و آله ممّا رأت عيناه، ثم أخبر بما رأت عيناه، فقال: (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) (3)، فآيات اللّه غير اللّه، وقال: (وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (4) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة»، فقال أبو قرة: فتكذّب الرواية ؟

فقال أبو الحسن عليه السلام: «إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه إنّه لا يحاط به علماً ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء».(5)

وكلمتي الأخيرة هي بذل النصح لهؤلاء الذين يعيشون في إطار محدود وبيئة ضيقة أن يقرأوا ويدرسوا كتب الشيعة الإمامية عن كثب، وأخصّ بالذكر كتب العقائد والمعارف بدقّة وإمعان نظر، من دون نظر مسبق فربما يحصل التقارب بين الطائفتين والتفاهم بين الفئتين، ولعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً.

ص:45


1- . النجم: 13.
2- . النجم: 11.
3- . النجم: 18.
4- . طه: 110.
5- . الاحتجاج للطبرسي: 375/2-376.

3. الصفات الخبرية في الكتاب والسنّة

اشارة

قسّم المتكلّمون صفاته سبحانه إلى قسمين: ثبوتية وسلبية، أو جمالية وجلالية. ويشير الأوّل إلى وجود صفة في ذاته سبحانه كالعلم والقدرة والحياة، ويشير القسم الثاني إلى نفي نقص عنه سبحانه كنفي الجسم والتحيّز والحركة والتغيّر.

وتسمية هذين القسمين بالجمالية والجلالية مأخوذة من الكتاب العزيز، قال تعالى: (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) (1).

كما أنّهم قسّموا صفاته سبحانه إلى صفة الذات وصفة الفعل. ويشير الأوّل إلى ما يكفي في وصف الذات به فرض نفس الذات فحسب، كالقدرة والحياة والعلم. ويشير الثاني إلى ما يتوقّف توصيف الذات به على فرض الغير معه وراء الذات وهو فعله سبحانه، وهذا كالخلق والرزق ونظائرهما.

وهناك تقسيم آخر وهو يختصّ بأهل الحديث حيث يقسّمونها إلى ذاتية وخبرية، وأُريد من الأُولى الصفات الكمالية، وأُريد من الثانية ما أخبر اللّه به في كتابه أو أخبر به النبي صلى الله عليه و آله ككونه ذا وجه، ويدين، وأعين، إلى غير ذلك من الصفات التي لو وصف بها سبحانه بمعانيها المتبادرة عند العرف للزم التجسيم والتشبيه.

ص:46


1- . الرحمن: 78.

هذه هي التقسيمات الرائجة في صفاته سبحانه.

ما هو الميزان في معرفة صفاته تعالى ؟

اتّفق المسلمون - عدا المشبّهة والمجسّمة - على أنّ الميزان في وصفه سبحانه بأي وصف من الأوصاف هو تنزيهه سبحانه عن الجسم والجسمانية والتشبيه بالممكنات ذاتاً ووصفاً، لقوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (1)، وقوله سبحانه: (وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (2)، وهذا هو الأساس، فعلى الباحث في صفاته سبحانه أن يهتمّ به، ولا يجرّه اتّباع السلف أو غيرهم إلى خرق هذه القاعدة.

***

صرف الظاهر عن ظاهره

اشارة

لا شكّ أنّ ظواهر القرآن حجّة بلا كلام، فمن أراد صرف الظاهر عن ظاهره فقد أخطأ خطأً كبيراً بل يُعدّ عمله هذا داهية كبرى وطامّة عظمى ، فإنّ تأويل الظاهر هو مخطّط أهل الكتاب خصوصاً في هذه السنوات التي دلّت البحوث العلمية على بطلان شيء كثير من العهدين فصاروا يأوّلون الظواهر ويصرفونها عن ظواهرها لكي يستروا به عوار العهدين، فما روي عن الصاوي من أنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من أُصول الكفر(3)، أمر غير مقبول، وسيوافيك ما لعلّه هو المقصود منه.

هذا ما هو الأصل بين المحقّقين من علماء الإسلام.

ص:47


1- . الشورى: 11.
2- . التوحيد: 4.
3- . حاشية تفسير الجلالين في تفسير قوله سبحانه: (وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً). (الكهف: 23)

نعم لو دلّ دليل قطعي أو حجّة شرعية على خروج فرد من تحت العام ممّا لا إشكال فيه لجريان السنّة على فصل المخصّصات عن العمومات، والمقيّدات عن المطلقات، من غير فرق بين القوانين الشرعية والقوانين الوضعية، إنّما الكلام في غير هذا المورد فما دلّ عليه ظاهر الكتاب والسنّة يجب الأخذ به دون أدنى تصرّف.

لكن الذي نلفت نظر القارئ إليه أنّ الظواهر على قسمين:

1. كلام له ظهور مستقرّ وليس له إلّامحتمل واحد، وهذا ما لا يجوز صرفه عن ظاهره.

2. كلام له ظهور متزلزل ومحتملات متساوية، فهذا ممّا لابدّ من إرجاعه إلى المحكمات حتى يستقرّ ظهوره. وإرجاع الظاهر المتزلزل إلى المحكم المستقّر ظهوره ليس من باب صرف الظاهر عن ظهوره، وإنّما هو من قسم التدبّر في الآية الذي أمرنا اللّه به في الذكر الحكيم(1) حتى يظهر ما هو المقصود، وذلك من طريق جمع القرائن الداخلية والخارجية، ولعلّ الصاوي أراد هذا القسم من الظواهر، وإلّا فكلامه مردود.

ولنأت بمثال:

يقول سبحانه: (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) (2).

لا شكّ أنّ الآية ظاهرة ظهوراً بدئياً في أنّ للّه سبحانه يدين اثنتين بهما خلق آدم، وفي آية أُخرى تدل على أنّ للّه أيدي فوق الاثنتين قال تعالى: (أَ وَ لَمْ

ص:48


1- . (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (ص: 29).
2- . ص: 75.

يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ ) (1).

إنّما الكلام في أنّ هذا الظهور هل هو ظهور مستقرّ نأخذ به ونتّبعه ؟ أو هو ظهور غير مستقرّ، لابدّ من إرجاعه إلى المحكمات ؟ ومن المعلوم أنّ تفسيره باليدين أو الأيدي الجسمانية أمر يرفضه جلّ المسلمين، لكونه مخالفاً لقوله سبحانه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ ) ، ومن جانب آخر يجب تفسير الآية وفهمها وهناك يأتي دور التحقيق والتدبّر في الآية؛ أمّا الآية الأُولى فالتركيز على أنّه سبحانه خلق آدم بيديه ليس إلّالذم الشيطان لتركه السجود لآدم، قائلاً بأنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتى يمكنك يا إبليس ألّا تسجد له، بل هو مخلوق خلقته بنفسي ونفخت فيه من روحي فهو مخلوقي الذي قمت بخلقه ومع ذلك تمردّت عن السجود له، فقوله سبحانه: (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) جار مجرى: لما خلقت أنا، وذلك مشهور في لغة العرب، يقول أحدهم: هذا ما كسبت يداك، وهذا ما جرّت عليه يداك. وإذا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضرب من الكلام فيقولون: فلان لا تمشي قدمه ولا ينطق لسانه ولا تكتب يده، وكذلك في الإثبات، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الغاية فيه النفي عن الفاعل.(2)

وحصيلة الكلام: أنّ هذا التركيب في لغة العرب يستعمل تارة في إثبات الفعل للفاعل، وأُخرى في نفي الفعل عن غير الفاعل، فليس هذا التفسير صرفاً للظاهر عن ظهوره بل تعييناً لظهوره المستقرّ.

وبعبارة أُخرى: هناك ظهور تصوّري، وهناك ظهور تصديقي؛ فالظهور التصوّري يدفعنا إلى أنّ المراد من اليدين هو الجارحتان، ولكن الظهور التصديقي يدفعنا إلى ما هي الغاية من إلقاء هذا الكلام وهو التركيز على أنّه فعلي لا فعل غيري.

ص:49


1- . يس: 71.
2- . أمالي السيد المرتضى: 565/1.

فعدم سجودك لآدم إهانة لي قبل أن يكون إهانة لآدم.

وأمّا الآية الثانية فالظهور التصوّري يدفعنا إلى القول بالتشبيه والتجسيم، ولكن الظهور التصديقي - بعد التدبّر في موقف الآية وما هو الغرض النهائي منها - يدفعنا إلى تفسيرها بالنحو التالي:

إنّ قوله: (مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) كناية عن تفرّده تعالى بخلق الأنعام وأنّه لم يشاركه أحد فيها، فهي مصنوعة للّه تعالى، والناس مكان أن يشكروا للّه يكفرون بنعمته.

وهذا التفسير ليس صرفاً للظاهر عن ظاهره بل تعييناً لظهوره، وهناك آية ثالثة في هذا المضمار يقول سبحانه: (وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ ) (1)، فالظهور التصوّري يدفعنا إلى أنّ للّه سبحانه جوارح فوق الاثنتين، لكنّ التدبّر في الآية وموقفها وما سيقت لأجله يدفعنا إلى أنّه سبحانه بصدد بيان قوة واستحكام بناء السماء بقرينة قوله: (وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ ) وكأنّه سبحانه يقول: والسماء بنيناها بقدرة عظيمة ونوسعها في الخلقة.

وبعبارة واضحة: لا أقول إنّ الأيدي مستعملة في القوة والقدرة، بل أقول:

إنّ اليد والأيدي مستعملة في المعنى اللغوي، لكنّ الأخذ بالمعنى اللغوي ظهور تصوّري يؤخذ به إذا لم تدلّ قرينة على أنّ المراد هو الظهور التصديقي، وقد عرفت وجود القرائن، أعني: ما سيقت الآيات لأجله، يدفعنا إلى جعل الكلام كناية على أنّه المباشر للفعل لا غيره كما في الآيتين الأُوليين و أنّ المخلوق - السماء - ذو إحكام وإتقان لا يتصدّع ولا ينهدم في الآية الثالثة.

وبذلك عرفت أنّ حمل الآية على خلاف ظاهرها التصديقي الذي استقرّ ظهور الكلام فيه، أمر غير جائز مطلقاً إلّافيما جرت السيرة فيه، أعني: مجال

ص:50


1- . الذاريات: 47.

التشريع، مثل: حمل المطلق على المقيّد، والعام على الخاص وما ربّما يتراءى من المشايخ من «أنّ الظواهر خفيفة المؤونة يمكن التصرّف فيها» صحيح في الظهور البدوي أو الظهور الجزئي لا في الظهور الجملي والتصديقي الاستقراري.

فإن قلت: أو ليس هذا تأويلاً والتأويل على خلاف القاعدة ؟

قلت: سواء أسميته تأويلاً أو لا، فهذا النوع من التفسير عين السنّة الجارية في حوارات العقلاء بعضهم مع البعض الآخر، فالذي يعيّن الظهور هو الغاية التي سيق الكلام لأجلها.

فلو قال: زيد كثير الرماد، وكان الغرض ذمّه، فهو يدلّ على أنّ بيته مليء بالنفايات، ويؤخذ بهذا الظهور؟

وإن كانت الغاية من هذا الكلام بيان جوده وكرمه وإحسانه وتكريمه للضيوف، يؤخذ بالظهور التصديقي وهو كونه كريماً. ونحن لا نستوحش من لفظة التأويل وإنّما نلفت نظر القارئ إلى سيرة العقلاء وسيرة العرب في حواراتهم.

فظهر ممّا ذكرنا أُمور:

1. المتّبع الظهور التصديقي لا التصوّري.

2. المتّبع ما سيق له الكلام من الغاية دون تجريد الكلام عنها.

3. المتّبع هو الظهور الجملي للكلام لا الظهور الجزئي.

إذا عرفت هذه المقدّمات فلنذكر الآراء في الصفات الخبرية التي شغلت بال المحدّثين وقسماً من أهل السنّة عبر قرون.

ص:51

1. قول المشبّهة

وهو إجراء الصفات على اللّه سبحانه بنفس المعاني المرتكزة في أذهان الناس، من دون تصرّف فيها، فقد زعموا أنّ للّه عينين ويدين ورجلين مثل الإنسان.

وبما أنّ هذا القول إلحاد في دين اللّه وخروج عن الدين لا نحوم حوله، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا بحوث في الملل والنحل.(1)

2. قول المثبّتة
اشارة

إنّ المحدّثين وتبعهم الشيخ الأشعري يجرون الصفات الخبرية على اللّه بالمعنى المتبادر منها في العرف، لكن لما استشعروا بأنّ ذلك يورث التشبيه أضافوا إليه قولهم: بلا كيف. يقول الشيخ الأشعري: وإنّ اللّه استوى على عرشه، كما قال: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (2)، وإنّ له وجهاً بلا كيف، كما قال: (وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) .(3) وإنّ له يدين بلا كيف، كما قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) وكما قال: (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) (5) وإنّ له عيناً بلا كيف، كما قال: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (6).(7)

بين التشبيه والتعقيد

أقول: إنّ عقيدة الأشعري ومَنْ قبله، دائرة بين التشبيه والتعقيد، وكلاهما مرفوضان.

ص:52


1- . الملل والنحل: 121/2-127.
2- . طه: 5
3- . الرحمن: 27.
4- . ص: 75.
5- . المائدة: 64.
6- . القمر: 14.
7- . الإبانة: 18.

توضيحه: إنّ اليد والوجه والرجل موضوعة للأعضاء الخاصّة في الإنسان، ولا يتبادر منها إلّاما يتبادر عند أهل اللغة، وحينئذٍ فإن أُريد منها المعنى الحقيقي يلزم التشبيه، وإن أُريد غيره فذلك الغير إمّا معنى مجازي أُريد منه بحسب القرينة فيلزم التأويل وهم يفرّون منه فرار المزكوم من المسك، وإمّا شيء لا هذا ولا ذاك، فما هو ذلك الغير؟ بيّنوه لنا حتى تتّسم العقيدة بالوضوح والسهولة، ونبتعد عن التعقيد والإبهام، وإلّا فالقول بأنّ له وجهاً لا كالوجوه، ويداً لا كالأيدي، ألفاظ جوفاء وشعارات خدّاعة لا يستفاد منها شيء سوى تخديش الأفكار وتضليلها عن جادة الصواب.

وباختصار: إنّ المعنى الصحيح لا يخرج عن المعنى الحقيقي والمجازي، وإرادة أمر ثالث خارج عن إطار هذين المعنيين يعدّ غلطاً وباطلاً، وعلى هذا الأساس لو أُريد المعنى الحقيقي لزم التشبيه بلا إشكال، ولو أُريد المعنى المجازي لزم التأويل، والكلّ ممنوع عندهم، فما هو المراد من هذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة ؟

إنّ ما يلهجون به ويكرّرونه من أنّ هذه الصفات تجري على اللّه سبحانه بنفس معانيها الحقيقية ولكن الكيفية مجهولة، أشبه بالمهزلة، إذ لو كان إمرارها على اللّه بنفس معانيها الحقيقية لوجب أن تكون الكيفية ملحوظة حتى يكون الاستعمال حقيقياً، لأنّ الواضع إنّما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي يكون قوامها بنفس كيفيتها، ويكون عمادها وسنادها بنفس هويتها الخارجية، فاستعمالها في المعاني الحقيقية بلا كيفية أشبه بالأسد بلا ذنب ولا مخلب ولا ولا... فقولهم: «المراد هو أنّ للّه يداً حقيقية لكن لا كالأيدي» أشبه بالكلام الذي يناقض ذيله صدره.

أضف إلى ذلك: أنّه ليس في النصوص من الكتاب والسنّة من هذه

ص:53

«البلكفة» أثر ولا عين، وإنّما هي ذرائع للردّ على الخصم والنقض عليهم، وأنّ لازم إمرارها على اللّه بنفس معانيها، هو التجسيم والتشبيه.

وبما ذكرنا في المقام تقدر على تفسير الآيات التالية وتمييز الظهور التصوّري عن التصديقي، نظير:

1. العين، كقوله سبحانه: (وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (1).

2. اليمين، كقوله سبحانه: (وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ ) .(2)

3. الاستواء، كقوله سبحانه: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (3).

4. النفس، كقوله سبحانه: (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) (4).

5. الوجه، كقوله سبحانه: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (5).

6. الجنب، كقوله سبحانه: (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ ) (6).

7. القرب، كقوله سبحانه: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ ) (7).

8. المجيء، كقوله سبحانه: (وَ جاءَ رَبُّكَ ) (8).

9. الإتيان، كما قال سبحانه: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) (9).

10. الغضب، كما في قوله: (وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ) (10).

ص:54


1- . طه: 39.
2- . الزمر: 67.
3- . طه: 5.
4- . المائدة: 116.
5- . البقرة: 115.
6- . الزمر: 56.
7- . البقرة: 186.
8- . الفجر: 22.
9- . الأنعام: 158.
10- . الفتح: 6.

11. الرضا، كما في قوله: (رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ ) (1).

إلى غير ذلك من الصفات الخبرية التي وردت في القرآن الكريم وأخبر عنها الوحي، فللجميع ظواهر غير مستقرّة لا تلائم الأُصول الواردة في محكمات الآيات، ولكن بالإمعان والدقّة يصل الإنسان إلى مآلها ومرجعها وواقعها، وهذا لا يعني حمل الظاهر على خلافه بل التتبّع لغاية العثور على الظاهر، إذ ليس للمتشابه ظهور مستقرّ في بدء الأمر حتى نتبعه.

إكمال وإيضاح

نقول: إنّ قوله سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) * مركّب من كلمتين:

الاستواء، والعرش...

لا شكّ أنّ الاستواء يحكي عن نوع علو واستعلاء، إنّما الكلام هل المراد هو العلو بالمكان أو المراد العلو المعنوي، فابن تيمية وأتباعه الذين انتشروا في البلاد يصرّون على تفسير الآية بالعلو في المكان ولمّا رأوا أنّ هذا التفسير يوجب اتّهامهم بالتشبيه والتجسيم التجأوا إلى قولهم: «بلا كيف» أو الاستواء اللائق باللّه سبحانه، وقد استخدم الكلمة الأخيرة الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره المسمّى «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن»، قال في تفسير قوله تعالى: (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) : أنّها صفة كمال وجلال لائقة باللّه جلّ وعلا ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله.(2)

ونحن نفسّر الآية على ضوء الضابطة التي بيّناها بتمييز الظهور التصوّري عن التصديقي، والظهور الجزئي الإفرادي عن الظهور الكلّي الجملي، وبالأخصّ ملاحظة الغاية التي سيقت الآية من أجلها.

ص:55


1- . المائدة: 119.
2- . أضواء البيان: 290/7.

أقول: قال شيخ السلف من المفسّرين أبو جعفر الطبري: الاستواء في كلام العرب على وجوه:

1. انتهاء شباب الرجل وقوّته. يقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل...

2. استقامة ما كان فيه أود من الأُمور والأسباب، يقال: استوى لفلان أمره إذا استقام له بعد أود، ومنه قول الطرمّاح:

طال على رسم محدّد أبده وعفا واستوى به بلده

يعني استقام به.

3. الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان، بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه.

4. الاختيار والاستيلاء، كقولهم: استوى فلان على المملكة، أي احتوى عليها وحازها.

5. العلو والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به: عَلَى عليه.

ثم قال: وأولى المعاني بقول اللّه جلّ ثناؤه: (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ ) (1): علا عليهن وارتفع، قد برأهن بقدرته وخلقهن سبع سماوات.(2)

ترى أنّ هذا الشيخ السلفي لا يفسّر الاستواء على العرش بالجلوس، ولا بالاستقرار، بل أشبه بعلو الملك والسلطان على عرشه كما هو المراد من قوله سبحانه: (وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) .

ويدلّ على هذا عدّة أُمور:

1. أنّ العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لا يفهمون من الاستواء - إذا وقع

ص:56


1- . البقرة: 29.
2- . تفسير الطبري: 150/1.

وصفاً لموصوف بالقدرة والعظمة - شيئاً سوى العلو المعنوي، فما جاء في شعر الطرماح، قوله: واستوى به بلده، حيث فسّر بمعنى: استقام به.

2. قول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

يريد أنّه تسلّط على البلد وأهله بلا حرب.

3. قال الشاعر:

ولمّا علونا واستوينا عليهم تركناهم مرعى لنسر وكاسر

فالاستواء في الجميع استعمل في العلو المعنوي والتسلّط التام، لا الاستقرار والجلوس على السرير.

4. العرش يفارق السرير، فإنّ الثاني خاص للنوم والجلوس العالي، وأمّا العرش فهو خاصّ بالاستعلاء عليه وتدبير الأُمور مع الوزراء حوله.

5. إنّ هذه الفقرة جاءت في القرآن الكريم في مواضع سبعة، وقد احتفّت بذكر ما يدلّ على تدبيره سبحانه صحيفة الكون.

ومن تتبّع القرآن الكريم وأمعن النظر في الموارد الّتي ورد فيها استواؤه سبحانه على العرش في موارد متعدّدة يجد أنّه ذكر مقروناً بفعل من أفعاله، دالٍ على غناه المطلق، وتسلّطه التام واستعلائه مثل رفع السماوات بغير عمد، قال سبحانه: (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ) (1).

وإليك سائر الآيات الّتي جاء فيها هذا الأمر، قال سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) (2).

ص:57


1- . الرعد: 2.
2- . الأعراف: 54.

وقال سبحانه: (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) .(1)

وقال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) .(2)

وقال سبحانه: (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ) .(3)

وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها) .(4)

والناظر في هذه الآيات يرى أنّه سبحانه عندما يذكر استواءه على العرش، يذكر آثار قدرته وعظمته من خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وتدبيره الأمر (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، وأنّه لا مؤثّر ولا موجد إلاّ بإذنه (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) ، ومن علمه الوسيع بما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، كلّ ذلك يعرب عن أنّ الآية في جميع الموارد تهدف إلى علوّه سبحانه على عالم الوجود الإمكاني، وأنّه بجملته في سلطانه وقدرته، ولا يخرج شيء من حيطة قدرته، وأين هذا في تفسيره بالجلوس أو الاستقرار على العرش الذي هو فوق السماوات ناظراً إلى ما دونه (تَعالى عَمّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) .

ص:58


1- . يونس: 3.
2- . الفرقان: 59.
3- . السجدة: 4.
4- . الحديد: 4.

وهذا النوع من التفسير ليس صرف الظاهر عن ظاهره بل سعيٌّ لتبيين الظاهر عن غيره، وتمييز الظهور التصديقي عن التصوّري، وتجسيد للتدبير.

ونعم ما فسّر الطبري لفظ (الواسع) في قوله سبحانه: (وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (1) بقوله: واللّه واسع الفضل، جواد بعطاياه، فزوّجوا إماءكم فإنّ اللّه واسع يوسّع عليهم من فضله إن كانوا فقراء.(2)

كما أنّ الشيخ البخاري فسّر الوجه في قوله سبحانه: (كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ) (3) بالملك.(4)

فليس لأنصاف المتعلّمين في هذا اليوم اتّهام العلمين (الطبري والبخاري) بصرف الظاهر عن ظاهره، وبالتأويل الممقوت، وإنّما سعيا في تبيين ما هو الظاهر.

ولعلّ هذا المقدار كافٍ في تزييف هذا القول الذي لا يعدو عن التشبيه أو التعقيد.

ولنصرف الكلام في القول الثالث حول الصفات الخبرية.

3. التفويض أو تعطيل العقول عن التفكير

إنّ جماعة من أهل السنّة جنحوا إلى نظرية التفويض، وحاصلها: الإيمان بكلّ ما جاء في القرآن والسنّة من الصفات التي وصف اللّه سبحانه نفسه بها إجمالاً وتفويض ما يراد منها إليه. يقول الغزالي: وأقلّ ما يجب اعتقاده على المكلّف هو ما يترجمه قوله: لا إله إلّااللّه، محمّد رسول اللّه. ثمّ إذا صدّق الرسول

ص:59


1- . النور: 32.
2- . تفسير الطبري: 98/18.
3- . القصص: 88.
4- . صحيح البخاري: 17/6، تفسير سورة القصص.

فينبغي أن يصدّقه في صفات اللّه بأنّه حيّ قادر، عالم متكلّم مريد، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم، وعلى هذا الاعتقاد المجمل استمرّت الأعراب وعوام الخلق، إلّامن وقع في بلدة تقرع سمعه فيها هذه المسائل كقدم القرآن وحدوثه، ونفي الاستواء والنزول وغيره.(1)

إنّا لا نلوم أصحاب هذه النظرية فإنّها نظرية مَن لا يتعرّض للأبحاث المهمّة ولا يقتحم العقبات، ويرى أنّه يكفيه في النجاة قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلّااللّه، وأنّ محمد رسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم شهر رمضان» فهو يرى أنّ التفويض أسلم من الإثبات الذي ربما ينتهي عند الأخذ بالظاهر التصوّري إلى التجسيم والتشبيه المبغوض أو إلى التعقيد والألغاز إذا قيّد ب «اللاكيف» أو «اللائق بمكانه» الذي لا ينسجم مع سمة سهولة العقيدة.

4. التأويل

إنّ تأويل نصوص الآيات وظواهرها على الإطلاق في مورد الصفات الخبرية وغيرها بلا دليل وحجّة شرعية ليس بأقل خطراً من الجمود، لو لم يكن أكثر، إذ ينتهي ذلك القسم من التأويل إلى الإلحاد وإنكار الشريعة.

ونحن نركّز على لزوم الأخذ بظاهر الكتاب والسنّة الصحيحة لكن الكلام في تشخيص الظاهر التصديقي عن الظاهر التصوّري، والظاهر الجملي عن الظاهر الإفرادي، مثلاً: هل اليد في قوله تعالى: (وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) .(2) ظاهرة في الجارحة المخصوصة، أو كناية عن الجود والبذل (بسط اليد) أو البخل والتقتير (غلّ اليد).

ص:60


1- . علاقة الإثبات: 162، نقلاً عن الرسالة الواعظية.
2- . الإسراء: 29.

وهذا هو الذي يجب بذل الجهد في سبيل معرفته، بدل السب والشتم، أو التفسيق والتكفير.

ولو أنّ قادة الطوائف الإسلامية وأصحاب الفكر منهم، نبذوا الآراء المسبقة والأفكار الموروثة وركّزوا البحث على تشخيص الظاهر عن غيره، حسب المقاييس الصحيحة، لارتفع جدال الناس ونقاشهم حول الصفات، الذي دام مئات السنين.

ونركّز أخيراً أنّ ما أخذناه ليس تأويلاً وإنّما هو استنطاق للمراد من الآية، ولو سمّي به فهو ليس من التأويل الممقوت الذي يتّخذ الآية دليلاً على عقيدة مسبقة، كما هو دأب الملحدين.

ثمّ إنّ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي مؤلف «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» قد تأثّر بالأفكار الوهابية في تفسيره هذا، ومن غريب ما تحامل به على أصحاب التنزيه الذين يفسّرون الاستواء بالاستيلاء قوله: إنّ هؤلاء لم ينكروا أنّ كلمة القرآن هي استوى، ولكن حرّفوها وقالوا في معناها استولى، وإنّما أبدلوها بها، لأنّها أصلح في زعمهم من لفظ كلمة القرآن، لأنّ كلمة القرآن توهم غير اللائق، وكلمة استولى في زعمهم هي المنزّهة اللائقة باللّه مع أنّه لا يعقل تشبيه أشنع هنا تشبيه استيلاء اللّه على عرشه المزعوم، باستيلاء بشر على العراق.

وهل كان أحد يغالب اللّه على عرشه حتى غلبه على العرش، واستولى عليه ؟

وهل يوجد شيء إلّاواللّه مستول عليه، فاللّه مستول على كلّ شيء.

ص:61

وهل يجوز أن يقال إنّه تعالى استوى على كلّ شيء غير العرش ؟(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ تفسير كلمة بكلمة أُخرى لو كان بمعنى أنّ كلمة القرآن توهم غير اللائق، يجب سد باب التفسير، فإنّ المفسّرين - والمؤلّف أحدهم - يوضح معنى الآية بكلمة أُخرى أو بتعبير آخر، فهل معنى ذلك أنّ التعبير القرآني غير لائق.

ثانياً: أنّ ما زعمه: «هل كان أحد يغالب اللّه على عرشه حتى غلبه على العرش» كلام خاوٍ عن المعنى ، وذلك لأنّه بصدد الردّ على الوثنيين الذين زعموا أنّه سبحانه بعد ما خلق السماوات والأرض فوّض أمر التدبير إلى العقول والنفوس أو الملائكة والجن أو الأصنام والأوثان، ولأجل ردّ هذه المزعمة يقول سبحانه: إنّه المدبّر لا غير، وإنّه هو مستعلٍ على العرش، وأنّه على القدرة التي خلق السماوات والأرض فدبّر أمرهما بعد الخلق. ففي الصفحات التي خصّها ببيان الصفات الخبرية التي تناهز 26 صفحة ملاحظات كثيرة لا أُريد أن أُسوّد كتابي بها وبأجوبتها، عفا اللّه عنا وعنه.

ص:62


1- . أضواء البيان: 296/7.

4. ثبات الأنواع أو تطوّرها في الذكر الحكيم

اشارة

ظهرت عام 1859 م نظرية تطور الأنواع التي ترى أنّ الإنسان وكافة الكائنات الحيّة تكوّنت من أنواع سبقتها نتيجة تحوّل تدريجي مستمر من غير فرق بين الإنسان وغيره، على خلاف القول بأصالة الأنواع وأنّ كلّ كائن حيّ خلق خلقاً خاصّاً ولم يتحوّل من نوع آخر.

ثمّ إنّ صاحب النظرية تشارلز داروين (1809-1882 م) بناها على أركان أربعة:

1. ناموس التنازع والبقاء.

2. ناموس الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح.

3. ناموس الوراثة.

4. ناموس الملاءمة مع البيئة.

وقد شرحنا هذه النواميس التي اعتمد عليها داروين في محاضراتنا التي حرّرها ولدنا الفاضل المحقّق الشيخ جعفر الهادي في كتاب «اللّه خالق الكون» فمن أراد الوقوف على تفصيل هذه المباحث فليرجع إليه.(1)

ص:63


1- . ا للّه خالق الكون: 668-681.

إنّما الكلام فيما يستفاد من القرآن حول نظرية خلقة الإنسان وهل القرآن يؤيّد ثبات الأنواع بالأخصّ خلقة الإنسان وأنّه خلق يوم خلق بهذا النحو، أو أنّ خلقته رهن تحول تدريجي من نوع إلى نوع حتى صار إنساناً؟ ومن قرأ القرآن الكريم حول خلقة آدم يقف على مراحل ثلاث مرّت على خلقة آدم أبي البشر ولا صلة لها بالتطوّر الذي يدّعيه أتباع مذهب تطوّر الأنواع، وإليك بيان تلك المراحل الثلاث:

المرحلة الأُولى: التراب المتحوّل

تدلّ الآيات على أنّه مرّت على المرحلة الأُولى التي هي التراب حالات مختلفة، وهي:

1. التراب، قال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) (1).

2. الطين، قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ) (2).

3. الطين اللازب، قال تعالى: (إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) .(3)

4. الحمأ المسنون، قال تعالى: (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) .(4)

5. سلالة من طين، قال تعالى: (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) .(5)

ص:64


1- . آل عمران: 59.
2- . السجدة: 7.
3- . ا لصافات: 11.
4- . ا لحجر: 26.
5- . المؤمنون: 12.

6. الصلصال، قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ) .(1)

هذه هي المرحلة الأُولى من خلقة الإنسان التي تتشكّل من حالات ست.

المرحلة الثانية: مرحلة التصوير

يقول سبحانه: (وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ) .(2)

فكأنّ قوله: (وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ) كناية عن المرحلة الأُولى بحالاتها الست، ولذلك أجمل الكلام وعطف عليه التصوير.

وفي سورة أُخرى يقول: (وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ ) .(3) فعبر عن التصوير بالتسوية.

وأمّا نسبة هذه الأُمور إلى عامّة الناس كما هو الظاهر من ضمائر الجمع في قوله: (وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ) ، فلأجل أنّ خلقة آدم رمز لخلقة أولاده، ولذلك نسب ما للوالد إلى الأبناء أيضاً.

المرحلة الثالثة: مرحلة نفخ الروح

تدلّ الآيات على أنّه سبحانه بعد ما سوّى آدم أبا البشر نفخ فيه من روحه، قال تعالى: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) .(4)

هذه هي المراحل التي تدلّ عليها الآيات الشريفة وقد عرضناها على وجه الإجمال، وتدلّ الآيات بوضوح على أنّه كان لآدم تخطيط خاص لا صلة له بسائر الأنواع، ولم يكن هناك تخطيط مشترك بينه وبين سائر الأنواع.

ص:65


1- . ا لرحمن: 14.
2- . ا لأعراف: 11.
3- . الحجر 28-29.
4- . الحجر: 29.

دليل القائل بتطوّر الأنواع من القرآن

وربّما يستدلّ على النظرية الدارونية ببعض الآيات أوضحها قوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1)، وظاهر الآية أنّه سبحانه اصطفى كلّاً من آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران من الناس الموجودين في زمانهم، ولازم ذلك وجود إنسان في زمان آدم أيضاً حتى يتحقّق الاصطفاء بالنسبة إليه بتقديمه عليه، فلو كان آدم أبا البشر ولم يكن إنسان قبله فما معنى أنّه اصطفاه.

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكر مبني على أنّ المراد من العالمين هو الناس المتواجدون في عصر كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء، مع أنّ المراد بالعالمين هو كلّ إنسان يظهر على صحيفة الوجود من عصر آدم إلى يوم القيامة واللّه سبحانه هو الذي اصطفى هؤلاء منهم.

ويكفي في صدق الاصطفاء في حقّ آدم وجود أقوام بعد عصره إلى يوم القيامة.

هذه هي شجرة وجود آدم أبي البشر، وهي شجرة طيبة لم تختلط بسائر الأنواع النازلة، وأمّا شجرة أبنائه فقد ذكرها سبحانه بقوله: (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) (2)

وبذلك ظهر أنّه لم يتدخل في خلقة أبناء آدم غير شيء واحد يسمّى:

(مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) .

ص:66


1- . آل عمران: 33-34.
2- . السجدة: 8.

وهنا يجب أن ننوّه إلى وجود أمر نفسي وهو أنّ القول بتطوّر الأنواع وأنّ الإنسان كان في بدء وجوده خلية ثم تطوّر إلى نوع بعد نوع حتى أصبح حيواناً ذا قوائم أربع إلى أن تحوّل إلى حيوان ذي قائمتين، كلّ ذلك يورث العقدة في نفس الإنسان حيث يرى أنّ شجرة وجوده حقيرة مهينة. فأي النظريتين أطيب في النفس.

ص:67

5. حياة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قبل البعثة حافلة بالكرامات

اشارة

إنّ المتطلّع على حياة الأنبياء - الذين يذكرهم القرآن الكريم - يجد أنّها حافلة بالكرامات، فهذا هو طاغية مصر كان يذبح أبناء بني إسرائيل خوفاً من ولادة موسى الذي أُخبر أنّ هلاكه على يده، ومع ذلك كلّه فقد شملته الرعاية الإلهية فنجا من الذبح، بل دخل في بيت فرعون وتربّى في رعايته، كما يقول سبحانه: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ * وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .(1)

وهذا هو سيدنا عيسى المسيح عليه السلام فقد شملته العناية الإلهية منذ أن كان في رحم أُمِّه دون أن يكون هناك لقاء بينها وبين رجل، وقد حملته أُمُّه حتى أجاءها المخاض إلى جذع النخلة فقد ولدته تحت جذعها، وتساقط عليها من ذلك الجذع رطب جني، ولمّا جاءت به قومها ووجهوا لها تهمة باطلة، أبطل اللّه سبحانه تهمتهم بأن أنطق صبيّها وهو في المهد، قائلاً: (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا * وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ

ص:68


1- . القصص: 8-9.

وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا).1

فإذا كانت هذه مكانة موسى الكليم والمسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام فالنبي الخاتم صلى الله عليه و آله أولى بأن تشمله الرعاية الإلهية والكرامات المتوالية منذ أيام رضاعه إلى شبابه وحتى بعثته، وها نحن نذكر شيئاً يسيراً من كرامات اللّه سبحانه على نبيّه الخاتم، كما جاء في كتب السيرة.

1. الكرامة الإلهية أيام الرضاع

نقل أهل السِّير عن حليمة السعدية أنّها لمّا دخلت دار عبد المطلب وسمع بمجيئها جاء من ساعته ودخل الدار، ووقف بين يدي حليمة، ففتحتْ حليمة جيبها وأخرجت ثديها الأيسر، وأخذت رسول اللّه صلى الله عليه و آله فوضعته في حجرها، ووضعت ثديها في فمه، والنبيّ صلى الله عليه و آله ترك ثديها الأيسر واضطرب إلى ثديها الأيمن، فأخذت حليمة ثديها الأيمن من يد النبي صلى الله عليه و آله ووضعت ثديها الأيسر في فمه. وذلك أنّ ثديها الأيمن كان جهاماً(1)، وخافت حليمة أنّ النبي صلى الله عليه و آله إذا مصّ الثدي(2) ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ بعده الأيسر، فيأمر عبد المطّلب بإخراجها من الدار، فلمّا ألحّت على النبي صلى الله عليه و آله أن يأخذ الأيسر والنبيّ يميل إلى الأيمن، فصاحت عليه وقالت: يا ولدي مصّ الأيمن حتّى تعلم أنّه جهام يابس لا شيء فيه، قال: فلمّا مصّ النبيّ الأيمن امتلأ فانفتح باللّبن حتّى ملأ شدقيه(3) بأمر اللّه تعالى وببركته، فضجّت حليمة وقالت: واعجباه منك يا ولدي، وحقّ ربِّ السماء ربّيتُ بثديي الأيسر اثني عشر ولداً، وما ذاقوا من ثديي الأيمن

ص:69


1- . أي كان خالياً من اللبن ولم يكن يدرّ به، والجهام: السحاب لا ماء فيه.
2- . في المصدر: الثدي الأيمن.
3- . في المصدر: حتى امتلأ شدقيه كفم رأس الزق، بأمر اللّه.

شيئاً، والآن قد انفتح ببركتك.(1)

إنّ الإنسان المادي أو غيره ممّن اغترّ بقشور العلم قد يُنكر هذه الكرامة أو يشكّك فيها ويعتبرها من نسج الخيال، وولائد الأوهام، ويقول في نفسه كيف يمتلأ الثدي الجهام عبرَ سنين باللبن، بمصّ الطفل ؟ ولكنّ الإنسان الإلهي يؤمن بأنّ قدرة اللّه سبحانه وإرادته النافذة فوق العلل والأسباب الطبيعية وأنّه تعالى: (فَعّالٌ لِما يُرِيدُ) (2)، ولكنّ هذا الإنسان لا يرى تلك الكرامة إلّامظهراً من مظاهر المشيئة المطلقة، الّتي لا يحدّها شيء، وأثراً من الآثار الّتي تصنعها الإرادة المدبّرة، وتقتضيها الحكمة البالغة. وكيف لا يؤمن بذلك، وهو يرى ما يشابهها في حياة مريم أُمّ عيسى عليهما السلام، فالقرآن يحدّثنا عن تساقط الرطب الجنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليها عند المخاض، يقول سبحانه: (أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) .(3)

نعم، ثمّة فرق بين مريم الصدِّيقة وبين حليمة من حيث الملَكات والمكانة والمنزلة، لكن إذا استوجبت منزلة مريم هذا اللطف الإلهي، ففي المقام ما يستوجب هذه العناية الإلهية، أعني: منزلة هذا الوليد العظيم.

2. تعرّف نصارى الحبشة عليه وهو طفل

كان النبي صلى الله عليه و آله في أحضان مرضعته (حليمة) يعيش معها، والذي سبّب إرجاعه إلى عبد المطلب ما ذكره ابن هشام، قال: قال ابن إسحاق: وحدّثني بعض أهل العلم:

ص:70


1- . المناقب لابن شهر آشوب: 24/1؛ بحار الأنوار: 345/15.
2- . هود: 107.
3- . مريم: 24-25.

أنّه ممّا هاج أُمَّه السعدية على ردّه إلى أُمّه، مع ما ذكرتْ لأُمّه ممّا أخبرتها عنه، أن نَفَراً من الحبشة نصارى، رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلّبوه، ثمّ قالوا لها: لنأخذنّ هذا الغلامَ ، فلنذهبن به إلى مَلِكنا وبَلَدِنا، فإنّ هذا غلامٌ كائن له شأن نحن نعرف أمره. فزعم الّذي حدّثني أنّها لم تكد تنفلت به منهم.(1)

وهذا ليس أمراً بعيداً، لأنّه سبحانه يحكي أنّ أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه و آله كما يعرفون أبناءهم، قال سبحانه: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) (2)، ويقول أيضاً: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ ) (3)، إلى غير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنّ أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه و آله بشمائله وصفاته.

3. ابتعاده عن الوثنية منذ نعومة أظفاره

كان النبي صلى الله عليه و آله يعيش في الصحراء مع إخوته لأُمّه الرضاعية، ولمّا تمّت له ثلاث سنين، قال يوماً لحليمة السعدية: مالي لا أرى أخويّ بالنهار؟ قالت له: يا بنيّ ، إنّهما يرعيان غنيمات.

قال: فمالي لا أخرج معهما؟

قالت له: أتحبّ ذلك ؟ قال: نعم.

قالت حليمة: فلمّا أصبح محمّد، دهّنته وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه

ص:71


1- . السيرة النبوية: 167/1.
2- . البقرة: 146؛ الأنعام: 20.
3- . الأعراف: 157.

جزع يماني، فنزعه ثم قال لأُمّه: مهلاً يا أُمّاه فإنّ معي من يحفظني.(1)

4. إعراضه عن الحلف باللّات والعزّى

خرج النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله مع غلام خديجة (ميسرة) إلى الشام، ولمّا حضر رسول اللّه صلى الله عليه و آله سوق بُصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى غيرها، فكان بينه وبين رجل اختلاف في شيء، فقال له الرجل: احلفْ باللّات والعزّى، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «ما حلفت بهما قط، وإنّي لأمرّ فأعرض عنهما».(2)

5. رعيُه الغنم وتعويد النفس على مشاقّ الأُمور

روى ابن هشام عن ابن إسحاق، قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «ما من نبيّ إلّا وقد رعى الغنم». قيل: وأنت يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟ قال: «وأنا».

وجاء في هامش سيرة ابن هشام نقلاً عن «الروض الأُنُف»: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله رعاها بمكة على قراريط لأهل مكّة.(3)

ولعلّ وجه ذلك أنّ رعيَ الغنم من مشاقّ الأُمور، فإنّ شخصية عظيمة يفترض أنّها ستواجه طواغيت قريش كأبي جهل وأبي لهب، لابدّ أن تتسلّح قبل ذلك بسلاح الصبر، وتتجهّز بأداة التحمّل، وتتزوّد بقدرة الاستقامة، وهذا لا يمكن إلّابتعويد النفس على المشاقّ قبل النهوض بعبء المسؤوليّة.

فبناء شخصية كريمة سامية صلبة، لا تلين ولا تستكين أمام إيذاء الجهّال، وسفَه الأنذال، وطغيان الجبابرة، رهنُ ترويض النفس على مشاقّ الأُمور، وصعاب الأعمال والأفعال.

ولعلّ هناك سبباً آخر لانتخابه رعي الغنم في الصحاري، وهو أنّه كان يرى

ص:72


1- . بحار الأنوار: 392/15، نقلاً عن المنتقى للكازروني، الباب الثاني من القسم الثاني.
2- . طبقات ابن سعد: 256/1.
3- . سيرة ابن هشام: 167/1.

بأُمّ عينيه دبيب الظلم والحيف بين قريش، وبخس حقوق الضعفاء منهم، وكان يشقّ عليه أن يرى تعاونهم على الإثم والعدوان وبخس الحقوق، ولا يتمكّن من ردعهم، فاختار العيش في الصحراء حتى يكون بعيداً عن هذه المظاهر المؤلمة المخزية مدة خاصّة.

6. مشاركته في حلف الفضول

حاصله: أنّه دخل رجل من زبيد مكة المكرّمة في شهر ذي القعدة الحرام، وعرض بضاعة للبيع فاشتراها منه العاص بن وائل لكن حبس عنه حقّه، فاستدعى عليه الزبيدي قريشاً وطلب منهم أن ينصروه على العاص، ولأجل أن يبلغ صوته أسماع قريش عامّة نادى بأعلى صوته وهم في أنديتهم حول الكعبة:

يا آل فهر لمظلوم بضاعتُه ببطن مكّة نائي الدار والنَفَر

ومُحرمٌ أشعثٌ لم يَقض عُمْرتَه يا للرِّجال وبين الحِجر والحَجَر

إنّ الحرام لِمَنْ تَمَّت كرامته ولا حَرام لِثوب الفاجر القذرِ

فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر بعض شباب قريش، وبينهم النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله فاجتمعوا في دار عبد اللّه بن جدعان وتحالفوا وتعاهدوا باللّه ليكونن يداً واحدة مع المظلوم في وجه الظالم، حتّى يؤدّي إليه حقَّه، ما أمكنهم ذلك، فمشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

ولمّا كانت أسماء المتحالفين مشتقة من لفظة الفضل (كفضل بن فضالة، وفضل بن الحارث، وفضل بن وداعة)، سُمّي الحلف ب «حلف الفضول»، وقد شارك رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيه، ونقلت عنه هاتان الكلمتان.

قال صلى الله عليه و آله: «لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً لو دعيتُ به في الإسلام لأجبت».

ص:73

وكان يقول: «ما أحبّ أنّ لي به حُمر النِّعَم وإنّي كنت نقضته».(1)

وما ذكرناه حول حياة النبيّ صلى الله عليه و آله أيام طفولته وشبابه يُجسّدُ لنا قوله سبحانه: (أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى * وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى ) .(2)

ص:74


1- . السيرة الحلبية: 156/1-157؛ ولاحظ: الطبقات الكبرى لابن سعد: 129/1.
2- . الضحى : 6-8.

6. عصمة أئمة أهل البيت عليهم السلام

اشارة

في الكتاب والسنّة

قبل الدخول في صلب الموضوع نمهّد له بأمرين:

الأوّل: حقيقة العصمة

اشارة

إنّ حقيقة العصمة عن اقتراف المعاصي ترجع إلى أحد أُمور ثلاثة - على وجه مانعة الخلو، وإن كانت غيرمانعة الجمع - وهي:

1. العصمة الدرجة القصوى من التقوى

العصمة ترجع إلى التقوى لكنّها ترجع إلى درجة أعلى منها، فما توصف به التقوى وتعرف به، تعرف وتوصف به العصمة.

لا شكّ أنّ التقوى حالة نفسانية تعصم الإنسان عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي، فإذا بلغت تلك الحالة إلى نهايتها تعصم الإنسان عن اقتراف جميع قبائح الأعمال، وذميم الفعال على وجه الإطلاق، بل تعصم الإنسان حتى عن التفكير في المعصية، فالمعصوم ليس خصوص مَن لا يرتكب المعاصي ويقترفها، بل هو مَن لا يحوم حولها بفكره.

إنّ العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس لها آثار خاصّة كسائر الملكات النفسانية من الشجاعة والعفّة والسخاء؛ فإذا كان الإنسان شجاعاً وجسوراً،

ص:75

وسخياً وباذلاً، وعفيفاً ونزيهاً، يطلب في حياته معالي الأُمور، ويتجنّب عن سفاسفها فيطرد ما يخالفه من الآثار، كالخوف والجبن والبخل والإمساك، والقبح والسوء، ولا يُرى في حياته أثر منها.

ومثله العصمة، فإذا بلغ الإنسان درجة قصوى من التقوى، وصارت تلك الحالة راسخة في نفسه يصل الإنسان إلى حد لا يُرى في حياته أثر من العصيان والطغيان، والتمرّد والتجرّي، وتصير ساحته نقية عن المعصية.

وأمّا أنّ الإنسان كيف يصل إلى هذا المقام ؟ وما هو العامل الذي يمكّنه من هذه الحالة ؟ فهو بحث آخر لا يسع المقال لبيانه.

فإذا كانت العصمة من سنخ التقوى والدرجة العليا منها، يسهل لك تقسيمها إلى العصمة المطلقة والعصمة النسبية.

فإنّ العصمة المطلقة وإن كانت تختصّ بطبقة خاصّة من الناس، لكن العصمة النسبية تعمّ كثيراً من الناس من غير فرق بين أولياء اللّه وغيرهم، لأنّ الإنسان الشريف - الذي لا يقل وجوده في أوساطنا - وإن كان يقترف بعض المعاصي لكنّه يجتنب عن بعضها اجتناباً تامّاً بحيث يتجنّب حتى التفكير بها فضلاً عن الإتيان بها.

مثلاً الإنسان الشريف لا يتجوّل عارياً في الشوارع والطرقات مهما بلغ تحريض الآخرين له على ذلك الفعل، كما أنّ كثيراً من الناس لا يقومون بقتل الأبرياء ولا بقتل أنفسهم وإن عُرضت عليهم مكافآت مادّية كبيرة، فإنّ الحوافز الداعية إلى هذه الأفعال المنكرة غير موجودة في نفوسهم، أو أنّها محكومة ومردودة بالتقوى التي تحلّوا بها، ولأجل ذلك صاروا بمعزل عن تلك الأفعال القبيحة حتى أنّهم لا يفكّرون فيها ولا يحدّثون بها أنفسهم أبداً.

والعصمة النسبية التي تعرّفت عليها تُقرِّب حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا، فلو بلغت تلك الحالة النفسانية الرادعة في الإنسان مبلغاً كبيراً ومرحلة

ص:76

شديدة بحيث تمنعه من اقتراف جميع القبائح، يصير معصوماً مطلقاً، كما أنّ الإنسان في القسم الأوّل صار معصوماً نسبياً.

وعلى الجملة: إذا كانت حوافز الطغيان والعصيان والبواعث على المخالفة محكومة عند الإنسان، منفورة لديه لأجل الحالة الراسخة، يصير الإنسان معصوماً تامّاً منزّهاً عن كلّ عيب وشين.

***

2. العصمة: نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي

قد تعرّفت على النظريّة الأُولى في حقيقة العصمة وأنّها عبارة عن:

الدرجة العليا من التقوى، غير أنّ هناك نظرية أُخرى في حقيقتها، لا تنافي النظرية الأُولى، بل ربّما تعدّ من علل تحقّق الدرجة العليا من التقوى التي عرّفنا العصمة بها وموجب لتكوّنها في النفس، وحقيقة هذه النظرية عبارة عن «وجود العلم القطعي اليقيني بعواقب المعاصي والآثام» علماً قطعياً لا يُغلب ولا يدخله شكّ ، ولا يعتريه ريب، وهو أن يبلغ علم الإنسان درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال وآثارها في النشأة الأُخرى وتبعاتها فيها، ويصير على حد يدرك بل يرى درجات أهل الجنة ودركات أهل النار، وهذا العلم القطعي هو الذي يزيل الحجب بين الإنسان وتوابع الأعمال، ويصير الإنسان مصداقاً لقوله سبحانه:

(كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) (1)، وصاحب هذا العلم هو الذي يصفه الإمام علي عليه السلام بقوله: «فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون».(2)

فإذا بلغ العلم إلى هذه الدرجة من الكشف يصد الإنسان عن الاقتراب من

ص:77


1- . التكاثر: 5-6.
2- . نهج البلاغة: 187/2، الخطبة 188، طبعة عبده.

المعاصي واقتراف المآثم، بل لا يجول حولها فكره.

ولتوضيح تأثير هذا العلم في صيرورة الإنسان معصوماً من اقتراف الذنب نأتي بمثال:

إنّ الإنسان إذا وقف على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها قتل الإنسان إذا مسّها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المسّ والموت مقترنين، أحجمت نفسه عن مسّ تلك الأسلاك والاقتراب منها دون عائق.

أو أنَّ الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم، إذا وقف على ماء اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السل، لم يقدم على شربه والاغتسال منه ومباشرته مهما اشتدت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يَجُرُّ عليه الشرب والاغتسال بذلك الماء الموبوء، فإذا وقف الإنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الأعمال وعواقب الأفعال ورأى بالعيون البرزخية تبدّل الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة إلى النار المحماة التي تُكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، امتنع عن حبس الأموال والإحجام عن إنفاقها في سبيل اللّه.

قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) .(1)

إنّ ظاهر قوله سبحانه: (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ) هو أنّ النار التي تُكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، ليست إلّانفس الذهب والفضة، لكن بوجودهما الأُخرويّين، وأنّ للذهب والفضة وجودين أو ظهورين في النشأتين فهذه الأجسام الفلزية، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب والفضة، وفي النشأة الأُخروية في صورة النيران المحماة.

ص:78


1- . التوبة: 34-35.

فالإنسان العادي اللامس لهذه الفلزات المكنوزة وإن كان لا يحسّ فيها الحرارة ولا يرى فيها النار ولا لهيبها، إلاّ أنّ ذلك لأجل أنّه يفقد حين المس، الحسَّ المناسب لدرك نيران النشأة الآخرة وحرارتها، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحسّ إلى جانب بقية حواسّه العادية المتعارفة ويدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزات، وهو نيرانها وحرارتها، يجتنبها، كاجتنابه النيران الدنيوية، ولا يقدم على كنزها وتكديسها.

وهذا البيان يفيد أنّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الإنسان عن الوقوع في المعاصي والآثام ولا يكون مغلوباً للشهوات والغرائز.

قال جمال الدين مقداد بن عبد اللّه الأسدي السيوري الحلي في كتابه القيّم «اللوامع الإلهية»: «ولبعضهم كلام حسن جامع هنا قالوا: العصمة ملكة نفسانية يمنع المتّصف بها من الفجور مع قدرته عليه، وتتوقّف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات، لأنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء، والطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس فتصير ملكة».(1)

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد: إنّ القوة المسمّاة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك، لتسرّب إليها التخلّف، ولتخبّط الإنسان على أثره أحياناً، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة، التي تقبل الاكتساب والتعلّم، وقد أشار اللّه في خطابه الذي خصّ به نبيه بقوله: (وَ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) (2) وهو خطاب خاص لا نفقهه

ص:79


1- . اللوامع الإلهية: 170.
2- . النساء: 113.

حقيقة الفقه، إذ لا ذوق لنا في هذا المجال.(1)

وهو قدّس سره يشير إلى كيفية خاصة من العلم والشعور الذي أوضحناه بما ورد حول الكنز وآثاره.

***

3. الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجماله

إنّ هاهنا نظرية ثالثة في تبيين حقيقة العصمة يرجع لبّها إلى أنّ استشعار العبد بعظمة الخالق وحبه وتفانيه في معرفته وعشقه له، يصدّه عن سلوك ما يخالف رضاه سبحانه.

وتلك النظرية مثل النظرية الثانية لا تخالف النظرية الأُولى التي فسّرنا العصمة فيها بأنّها الدرجة العليا من التقوى، بل يكون الاستشعار والتفاني دون الحق سبحانه، والعشق لجماله وكماله، أحد العوامل لحصول تلك المرتبة من التقوى، وهذا النحو من الاستشعار لا يحصل إلّاللكاملين في المعرفة الإلهية البالغين أعلى قممها.

إذا عرف الإنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة، وتعرّف على معدن الكمال المطلق وجماله وجلاله، وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق تعالى، وتعلّقاً خاصّاً به بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرّف عليه الإنسان العارف، يؤجّج في نفسه نيران الشوق والمحبّة، ويدفعه إلى أن لا يبتغي سواه، ولا يطلب سوى إطاعة أمره وامتثال نهيه، ويصبح كلّ ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه، مقبوحاً في نظره، أشد القبح. وعندئذ يصبح الإنسان مصوناً عن المخالفة، بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على رضاه شيئاً، وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بقوله: «ما عبدتك خوفاً من نارك ولا

ص:80


1- . الميزان في تفسير القرآن: 81/5.

طمعاً في جنتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة».(1)

هذه النظريات الثلاث أو النظرية الواحدة المختلفة في البيان والتقرير تعرب عن أنّ العصمة قوة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في مخالفة الرب سبحانه وتعالى، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان الكامل وهويته الخارجية.

نعم هذه التفاسير الثلاثة لحقيقة العصمة، كلّها راجعة إلى العصمة عن المعصية والمصونية عن التمرّد كما هو واضح لمن تأمّل فيها، وأمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي وحفظه وإبلاغه إلى الناس، أو العصمة عن الخطأ في الحياة والأُمور الفردية أو الاجتماعية فلا بدّ أن توجه بوجوه غير هذه الثلاثة.

العصمة عن الخطأ

أمّا العصمة عن الخطأ في تحمّل الوحي وحفظه ونقله إلى الأُمّة في حقّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو عصمة أهل البيت عليهم السلام في الإفتاء ونقل ما ورثوه من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فهي رهن أمر آخر.

أمّا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه سبحانه يسدّده، بالملائكة كما يقول سبحانه:

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً) (2).

فإنّ قوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ ) بمعنى يجعل له رصداً. فهؤلاء الملائكة هم الذين يسدّدون الأنبياء عن الخطأ في القول والفعل؛ وأمّا أهل البيت عليهم السلام، فبما أنّ عصمتهم عن المعصية والخطأ ثابتة بالدلائل الآتية فلا محيص من القول من أنّ

ص:81


1- . عوالي اللآلي: 2/11 برقم 18؛ بحار الأنوار: 41/14.
2- . الجن: 26-28.

لهم مسدّداً في الإفتاء ونقل الأحاديث وتفسير القرآن الكريم.

أمّا ما هو المسدّد فالبحث عنه موكول إلى مقام آخر.

***

الثاني: العصمة لا تلازم النبوّة

إنّ بعض مَن يتحاشى من وصف غير الأنبياء بالعصمة يتصوّرون وجود الملازمة بين العصمة والنبوة، والحال أنّ بينهما من النسب عموماً وخصوصاً من وجه مطلق، فكلّ نبي معصوم وليس كلّ معصوم بنبي.

فهذه هي مريم العذراء الّتي هي الأُسوة والقدوة للنساء كما عليه قوله سبحانه: (وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ ) (1).

وبما أنّه سبحانه جعلها قدوة ومثالاً يحتذى به فلابد أن تكون معصومة عن المعاصي والأخطاء، وإلّا لايصح أن تكون أُسوة قولاً وفعلاً على الإطلاق.

وبالجملة: وجود الملازمة بين الأُسوة المطلقة وبين العصمة.

ويؤيّد عصمتها أيضاً قوله سبحانه: (وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ) (2)، فإن إطلاق قوله:

(وَ طَهَّرَكِ ) يدلّ على طهارتها من الرذائل والذنوب والخطأ والزلل.

كما أنّ منزلة الزهراء عليها السلام في حديث أبيها تعرب عن عصمتها قولاً وفعلاً، فقد روى البخاري عن مسعود بن مخرمة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني»(3).

ص:82


1- . التحريم: 12.
2- . آل عمران: 42.
3- . صحيح البخاري: 910، برقم 3714، فضائل الصحابة؛ فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 7/84.

وروى الحاكم بإسناده عن علي عليه السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لفاطمة: «إنّ اللّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك».(1)

أقول: أيّ مكانة شامخة للزهراء عليها السلام حتّى صار غضبها ورضاها ملاكاً لغضبه سبحانه ورضاه، وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على عصمتها، فهو سبحانه بما أنّه عادل وحكيم لايغضب إلّاعلى الكافر والعاصي ولايرضى إلّاعن المؤمن والمطيع، فلو دلّت الرواية الصحيحة على أنَّ فاطمة غضبت على أحد فهو إمّا كافر أو فاسق.

***

إذا تمّ هذا التمهيد فلنعرّج إلى بيان أدلّة عصمة أهل البيت عليهم السلام كتاباً وسنّة، ونقتصر من الكتاب العزيز بآيتين، ومن السنّة بحديثي الثقلين والسفينة. ويقع الكلام في بحثين:

البحث الأوّل: عصمة أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم

الآية الأُولى:
اشارة

قال سبحانه: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (2)، فيقع الكلام في مقامين:

1. ما هو المراد من أهل البيت عليهم السلام ؟

2. دلالة الآية على عصمتهم وتنزيههم عن الذنوب.

أمّا المقام الأوّل: فلاشكّ أنّ عبارة (أهل البيت) تعمّ النساء والأزواج لغة وكتاباً، ويكفي في ذلك قوله سبحانه: (قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ

ص:83


1- . المستدرك على الصحيحين: 3/154، وقد صحّحه الحاكم.
2- . الأحزاب: 33.

بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (1) فقد عُدّت امرأة إبراهيم عليه السلام من أهل البيت، والخطاب في الآية أعني قوله: (أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ) ناظر إليها.

ومع الاعتراف بذلك لكن المراد به في الآية عبارة عمّن عيّنهم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مرّة بعد أُخرى فخصّهم بعلي وفاطمة وابنيهما فتارة يصرّح صلى الله عليه و آله و سلم بأسمائهم، كما روى الطبري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ وعلي رضى الله عنه وحسن رضى الله عنه وحسين رضى الله عنه وفاطمة رضي اللّه عنها: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .(2)

وأُخرى أدخلهم تحت الكساء، كما أخرج مسلم في صحيحه قال: قالت عائشة: خرج النبي ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فادخله ثم قال: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .(3)

وثالثة تلاوة الآيات على بابهم، كما أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول: الصلاة أهل البيت عليهم السلام (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .(4)

وقد بلغ عدد الروايات الواردة في تخصيص أهل البيت بالخمسة ما يناهز 35 رواية أخرجها الطبري في تفسيره والسيوطي في «الدر المنثور» وغيرهما،(5)وتصل أسانيد الروايات إلى ثمانية من صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهم:

1. أبوسعيد الخدري. 2. أنس بن مالك. 3. ابن عباس. 4. أبوهريرة

ص:84


1- . هود: 73.
2- . تفسير الطبري: 22/9 برقم 21727، دار الفكر - 1415 ه.
3- . صحيح مسلم: 7/130، باب فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم.
4- . تفسير الطبري: 22/9 برقم 21729.
5- . تاريخ الطبري: 22/9-13؛ الدر المنثور: 5/198-199؛ تفسير الرازي: 8/85.

الدوسي. 5. سعد بن أبي وقّاص. 6. واثلة بن الأسقع. 7. أبو الحمراء، أعني:

هلال بن الحارث. 8. أُمهات المؤمنين: عائشة وأُمّ سلمة.

نعم هناك سؤال وهو أنّه لو كان المراد بأهل البيت هؤلاء الخمسة فلماذا وردت الإشارة إليهم في أثناء حديث القرآن عن نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟

الجواب أوّلاً: أنّ عادة الفصحاء في كلامهم أنّهم ينتقلون من خطاب إلى غيره ثم يعودون إليه، والقرآن مليء بذلك الأُسلوب، وكذلك كلام العرب وأشعارهم.

قال الشيخ محمد عبده: إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرّة بعد المرّة.(1)

ولأجل إيقاف القارئ على صحّة ماقاله نأتي بشاهد على ذلك، فنقول:

قال سبحانه ناقلاً عن «العزيز» مخاطباً زوجته: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ ) (2) فنرى أنّ العزيز يخاطب أوّلاً امرأته بقوله: (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ) وقبل أن يفرغ من كلامه معها، يخاطب يوسف بقوله: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) ... ثم يرجع إلى الموضوع الأوّل ويخاطب زوجته بقوله: (وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ) ... فقوله:

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) جملة معترضة وقعت بين الخطابين، والمسوّغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين، وكانت له صلة بحديث المرأة الّتي رفعت الشكوى إلى العزيز.

وثانياً: أنّ الضمائر في الآية كلّها مذكّرة أعني «عنكم» و «يطهركم»، مع أنّ الضمائر في الآيات المتقدّمة والمتأخّرة كلّها جاءت على وجه التأنيث، وربما

ص:85


1- . تفسير المنار: 2/451.
2- . يوسف: 28-29.

يقرب عددها من عشرين ضميراً كلّها مؤنثة، وهذا دليل على أنّ الآية ناظرة إلى غير النساء.

وإليك صور الضمائر: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً * وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ ... يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ ... وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ... يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ ... إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ .. وَ قُلْنَ ... * وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ ... وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللّهَ ... إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .(1)

هذه هي الضمائر المتقدّمة على الآية، وأمّا الضمائر المتأخّرة عنها فهي:

(وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّهِ ) (2)

والذي يؤكّد خروج النساء عن الآية، هو أنّ اللّه سبحانه أفرد لفظ البيت في الآية وقال: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، ولكنّه عبّر عن بيوت أزواجه بصيغة الجمع وقال: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) . وعلى هذا فهناك «بيت» معروف مشخّص أُضيف إليه لفظ «أهل» فأصبحت العبارة «أهل البيت»، وفي الوقت نفسه هناك بيوت لنسائه وأزواجه، فالمتواجد في البيت الأوّل، غيرالمتواجد في البيوت، فإذا كانت البيوت خاصّة لنسائه صلى الله عليه و آله و سلم فيكون البيت خاصّاً لأهل الكساء، إذ الأمر يدور بين الطائفتين ليس غير.

فحول النبي أُسرتان:

أُسرة لها المكانة والفضل لاتّصالها بالنبي لا لذواتهن، ولذا استهلّ سبحانه الآيات بقوله: (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ...) و (يا نِساءَ النَّبِيِّ

ص:86


1- . الأحزاب: 28-33.
2- . الأحزاب: 34.

لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ) كلّ ذلك يعرب عن أنّ كرامتهنّ لأجل اتّصالهنّ بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

وأُسرة لها الفضل والكرامة لاستحقاقهم وقدسية أنفسهم، فقد أعطى سبحانه كلّ أُسرة حقّها، فقد أدّب الأُسرة الأُولى ونهاهنّ عن أُمور، تمسّ بكرامة زوجهنّ . ثم أخذ بوصف الأُسرة الثانية وتكريمها مشعراً بطهارتهم عن كلّ رجس ودنس.(1)

فبذلك يعلم وجه ادغام قوله: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ ...) في ثنايا الآيات النازلة في حقّ نسائه، فكأنّه سبحانه يريد إعطاء كلّ أُسرة حول النبي صلى الله عليه و آله و سلم حقّها.

وممّن أصحر بالحقيقة الإمام الشوكاني، قال: وقالت الزيدية والإمامية: إنّ إجماع العترة حجّة واستدلّوا بقوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وأُجيب بأنّ سياق الآية أنّه في نسائه، ثم أضاف وقال: ويجاب عن هذا الجواب بأنّه قد ورد الدليل الصحيح أنّها نزلت في علي وفاطمة والحسنين، وقد أوضحنا الكلام في هذا في تفسيرنا الذين سمّيناه «فتح القدير» فليرجع إليه.(2)

نعم ربما ذهب بعضهم إلى نزول الآية في نساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم لكنّهم جماعة لا يعتدّ بقولهم، منهم:

1. عكرمة، ومن المعلوم أنّ عكرمة من الإباضية، فهورجل منحرف عن جادة الحق، ولم يكن ليتحرّز الكذب على ابن عباس(3).

ص:87


1- . انظر: دلائل الصدق للشيخ محمد حسين المظفر: 2/72.
2- . إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأُصول: 126.
3- . لاحظ: ترجمته في ميزان الاعتدال: 3/93-97؛ سير أعلام النبلاء: 5/18-29.

2. عروة بن الزبير، ويكفي في عدم حجية قوله عداؤه لعلي وانحرافه عنه.(1)

ومنهم مقاتل بن سليمان، وهو من المشبّهة، وعن الإمام أبي حنيفة قال:

أتانا من المشرق رأيان خبيثان؛ جهم معطل، ومقاتل مشبّه. وفي البخاري: لا شيء البتة. قلت: أجمعوا على تركه).(2)

ولمّا كان هذا الرأي - أعني: اختصاص الآية بنساء النبي صلى الله عليه و آله و سلم - رأياً قاسياً مخالفاً لرأي جمهور المفسّرين، اتّخذ الآلوسي رأياً وسطاً ليكون جامعاً بين القولين وقال: «والذي يظهر لي: إنّ المراد من أهل البيت من لهم مزيد علاقة به صلى الله عليه و آله و سلم ونسبة قوية قريبة إليه عليه الصلاة والسلام بحيث لايقبح عرفاً اجتماعهم وسكناهم معه صلى الله عليه و آله و سلم في بيت واحد، ويدخل في ذلك أزواجه والأربعة أهل الكساء، وعلي كرم اللّه وجهه مع ماله من القرابة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقد نشأ في حجره - عليه الصلاة والسلام - فلم يفارقه وعامله كولده صغيراً وصاهره وآخاه كبيراً.(3)

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ ما ذكره هو خلاف ما فهمه زيد بن أرقم - ذلك الصحابي - من الآية لمّا قيل له: من أهل بيته نساؤه ؟! قال: لا وأيم اللّه إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها.. إلى آخر ما ذكره(4).

وثانياً: أنّ تعميم أهل البيت في الآية إلى النساء خلاف ما نصّ عليه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، روى الحاكم: عن عطاء بن يسار عن أُمّ سلمة - رضي اللّه عنها -

ص:88


1- . لاحظ: سير اعلام النبلاء: 4/421-434.
2- . سير أعلام النبلاء: 7/220.
3- . روح المعاني للسيد محمود الآلوسي البغدادي (المتوفّى 1270 ه): 22/19، في تفسير آية التطهير. ط دار احياء التراث العربي - بيروت.
4- . صحيح مسلم: 7/123، باب فضائل علي عليه السلام.

أنّها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية: (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين - رضي اللّه عنهم - فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي.

قالت أُمّ سلمة: يا رسول اللّه: ما أنا من أهل البيت ؟

قال: إنّك على خير، وهؤلاء أهل بيتي. اللّهم أهلي أحق.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.(1)

وقال الترمذي بعد نقل الحديث: هذاحديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب.(2)

وثالثاً: أنّ ما ذكره يخالف تخصيص النبي صلى الله عليه و آله و سلم الآية بأصحاب الكساء بصور مختلفة حتّى جعلهم تحت الكساء وجلّلهم به، حتّى يكون عمله جامعاً ومانعاً للغير. ومع ذلك كيف يصحّ للسيد الآلوسي - تعميم الآية ؟! فلاحظ.

وبالجملة: الأحاديث المتضافرة بل المتواترة - إجمالاً - على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم، أخبر عن اختصاص الآية بأهل الكساء وحقّق ما يريده بعناوين متنوّعة، كثيرة لايسعنا نقلها في هذا المقال المطلوب فيه الإيجاز والاختصار.

هذا إجمال ما يمكن أن يقال في نزول الآية في حق الخمسة سلام اللّه عليهم، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب أصحابنا فلهم بحوث تفصيلية حول الآية.

***

وأمّا المقام الثاني: أي دلالة الآية على عصمة أهل البيت عليهم السلام، فهي مبتنية على ثبوت أمرين:

ص:89


1- . المستدرك على الصحيحين: 3/147.
2- . سنن الترمذي: 5/361 برقم 3963، باب ما جاء في فضل فاطمة عليها السلام.

1. أنّ الرجس أمر يعمّ المعاصي صغيرها وكبيرها.

2. أنّ الإرادة تكوينية لا تشريعية.

أمّا الأمر الأوّل: فقد استعملت هذه اللفظة في الذكر الحكيم ثمان مرّات ووصف بها الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، والكافر غير المؤمن باللّه، والميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، والأوثان، وقول الزور.

فالجامع بينها القذارة الّتي تتنفّر منها النفوس؛ سواء أكانت مادّية كما في مورد اللحوم، أم معنوية كما هوالحال في الكافر وعابد الوثن ووثنه، فالجامع بينهما هي الأعمال القبيحة عرفاً أو شرعاً.

قال العلّامة الطباطبائي: الرجس - بالكسر والسكون - صفة من الرجاسة وهي القذارة، والقذارة هيئة في النفس توجب التجنّب والتنفّر منها، وهي تكون تارة بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير، قال تعالى: (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) (1) وبحسب باطنه أُخرى، وهي الرجاسة والقذارة المعنوية كالشرك والكفر وأثر العمل السيّئ، قال تعالى: (وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ ) (2)، وقال: (فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (3).

وأيّاً ما كان فهو إدراك نفساني وأثر شعوري يحدث من تعلّق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيّئ، وإذهاب الرجس عبارة عن إزالة كلّ هيئة خبيثة في النفس تضاد حق الاعتقاد والعمل، وعند ذلك يكون إذهاب الرجس معادلاً للعصمة الإلهية الّتي هي صورة علمية نفسانية، تحفظ الإنسان من باطل الاعتقاد

ص:90


1- . الأنعام: 145.
2- . التوبة: 125.
3- . الأنعام: 125.

وسيّئ العمل(1)، هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني: أعني كون الإرادة تكوينية لاتشريعية فأقول:

إنّ انقسام إرادته سبحانه إلى تكوينية وتشريعية أمر واضح، أمّا الأُولى فهي ما تتعلّق بإيجاد الشيء، ومنها قوله سبحانه: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .(2)

وأمّا الثانية فهي ما إذا تعلّقت إرادته بتشريع حكم من الأحكام وبعث الناس إلى العمل به.

فالإرادة التكوينية لا تنفك عن المراد، بخلاف التشريعية فإنّها لغاية بعث الناس إلى الفعل أو الترك مخيّرين بين الطاعة والعصيان.

فنقول: لاشكّ أنّ الإرادة المتعلّقة بإذهاب الرجس عن أهل البيت بالخصوص تكوينية، إذ لو كانت تشريعية لما اختصّت بطائفة دون طائفة؛ لأنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء هو تطهير عامّة الناس عن الذنوب بقوله سبحانه: (وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .(3)

وإن شئت قلت: تخصيص تعلّق الإرادة بجمع خاص يمنع من تفسير الإرادة بالإرادة التشريعية الّتي عمّت الأُمّة جميعاً.

وبعبارة ثالثة: لو كانت الإرادة تشريعية لما احتاج إلى إبراز العناية بصور مختلفة كالتي وردت في الآية، فإليك بيان تلك العناية:

أ. ابتدأ سبحانه كلامه بلفظ الحصر، (إِنَّما) ولا معنى له إذا كانت الإرادة تشريعية، لأنّها غير محصورة بأُناس مخصوصين.

ب. عيّن تعالى متعلّق إرادته بصورة الاختصاص، فقال: (أَهْلَ الْبَيْتِ ) * أي أخصّكم أهل البيت.

ص:91


1- . الميزان في تفسير القرآن: 16/330.
2- . يس: 82.
3- . المائدة: 6.

ج. قد بيّن متعلّق إرادته بلفظة (عَنْكُمُ ) وقال: (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .

د. قد أكّده أيضاً بالإتيان بمصدره بعد الفعل وقال: (وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ليكون أوفى في التأكيد.

ه. أنّه سبحانه أتى بالمصدر نكرة، ليدلّ على الإكبار والإعجاب، أي تطهيراً عظيماً معجباً.

و. أنّ الآية في مقام المدح والثناء، فلو كانت الإرادة إرادة تشريعية لما ناسب الثناء والمدح.

وعلى الجملة: العناية البارزة في الآية تدلّ بوضوح على أنّ الإرادة هناك غير الإرادة العامّة المتعلّقة بكلّ إنسان حاضر أو باد.

وبذلك نقول: تعلّقت إرادته سبحانه بتنزيههم عن القبيح والعصيان كما تعلّقت إرادته بعصمة الأنبياء عن الذنب والعصيان، وقد ثبت في محلّه أنّ العصمة لا تخالف الاختيار، وذلك لأنّ القدرة والتمكّن على من فعل المعصية ثابتان للمعصوم، إلّاأنّ العصمة تصدّه عن ذلك، فهذا يوسف عليه السلام كان قادراً على ارتكاب الفاحشة إلّاأنّ عصمته منعته عن ذلك، وبهذا استحق الثناء والمدح.

شبهتان ضئيلتان

إنّ السيد محمود الآلوسي - مع أنّه من الشرفاء - أخذ يناقش دلالة الآية على عصمة أصحاب الكساء بوجهين ضعيفين لايليقان بساحته:

الأوّل: أنّ الآية لا تدلّ على عصمتهم، بل لها دلالة على عدمها. إذ لا يقال في حقّ مَن هو طاهر: إنّي أُريد أن أُطهّرك، ضرورة امتناع تحصيل الحاصل، غاية ما في الباب أنّ كون هؤلاء الأشخاص (رضي اللّه تعالى عنهم) محفوظين من

ص:92

الرجس والذنوب بعد تعلّق الإرادة بإذهاب رجسهم، يثبت بالآية(1).

يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّ النبي من أصحاب الكساء والداخل تحت قوله تعالى: (أَهْلَ الْبَيْتِ ) فلازم ما ذكره من التفسير: أنّ النبي لم يكن متطهّراً من الرجس قبل هذه الآية وإنّما صار كذلك بعد نزولها، وهو خلاف ما اتّفق عليه المسلمون من عصمته بعد البعثة.

وثانياً: أنّ الإذهاب تارة يطلق ويراد به إذهاب الشيء بعد وجوده كما في قوله تعالى: (وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) (2)، وأُخرى يطلق ويراد حسم أسباب الرجس وإذهاب المقتضي، لا رفعه بعد وجوده، ونعم ما ذكره الزمخشري حيث قال في تفسير الآية: إنّما يريد لئلّا يقارف أهل بيت رسول اللّه المآثم وليتصونوا عنها بالتقوى.(3)

الثاني: لو تعلّقت إرادته التكوينية بعصمتهم، فيتحقّق عندها الفعل، فعندئذٍ فأي حاجة لدعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّهم حيث روى أنّه قال: اللّهم إنّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، إذ عندئذٍ يكون أشبه بحصول واجب الحصول.(4)

يلاحظ عليه: بأنّ دعاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنّما هو للاستمرار، نظير قوله سبحانه:

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (5)، فإنّ معناه طلب استمرار الهداية من اللّه سبحانه، وهكذا دعاء النبي طلب استمرار الطهارة لأهل بيته في المستقبل أيضاً، إذ من المحتمل أن تتعلّق إرادته سبحانه بفترة خاصّة دون عامّة الفترات، فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم

ص:93


1- . روح المعاني: 19/18.
2- . الأنفال: 11.
3- . تفسير الكشّاف: 23/538.
4- . روح المعاني: 19/10.
5- . الفاتحة: 6.

طلب من اللّه شمولها لعامّة الفترات.

يقول العلّامة الطباطبائي في تفسير قوله سبحانه: (وَ إِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) (1): إن تلك القوة القدسية التي استعصم بها يوسف عليه السلام كانت كأمر تدريجي يفيض عليه آناً بعد آن من جانب اللّه سبحانه وليست بالأمر الدفعي المفروغ عنه، وإلّا لانقطعت الحاجّة إليه تعالى، ولذا عبّر عنه بقوله: (وَ إِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي) ولم يقل: «ولم تصرف عني».(2)

وحصيلة الكلام: أنّ الممكن في وجوده وبقائه قائم باللّه سبحانه فهو في حدوثه رهن العلّة، وهكذا في بقائه لأنّه في حدّ الذات لايملك شيئاً فلذلك هو في كل آن رهن الإفاضة من اللّه سبحانه إليه، وهذا هو المصحّح لدعاء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لاستمرار تلك الإفاضة.

وأظنّ أنّ هذه الإشكالات كانت واضحة الجواب عند السيد الآلوسي ولكنّ رأيه المسبق في أئمة أهل البيت عليهم السلام أوجد تلك الأفكار في ذهنه.

سؤال وإجابة

ربما يقال: إنّ الآية على فرض دلالتها على العصمة إنّما تدلّ على عصمتهم من العصيان، وأمّا عصمتهم من الخطأ فالآية غير ناظرة إليها.

والجواب: أنّ بعض المفسّرين عمّم الرجس على الفكر الخاطئ في ذهن الإنسان، وبذلك جعل الآية دالّة على العصمة في كلا الموقفين.(3)

ومع ذلك يمكن الإجابة بالقول بالملازمة بين العصمة من الذنوب والعصمة من الخطأ بالبيان التالي:

ص:94


1- . يوسف: 33.
2- . الميزان في تفسير القرآن: 13/270.
3- . نقله الشوكاني في إرشاد الفحول: 126.

إنّ الهدف الأسمى من وصف أهل البيت عليهم السلام بالعصمة ليس إلّااتّخاذ الأُمّة لهم أُسوة على الصعيد الفردي والاجتماعي، ومعنى ذلك كونهم معصومين من جميع الجوانب، وإلّا فلو كانوا يخطأون في بعض الأحيان لما صحّ جعلهم أُسوة على وجه الإطلاق.

وبعبارة أُخرى: إنّ أهل البيت عليهم السلام أُسوة قولاً وفعلاً، ومعنى ذلك كونهم مصيبين في مجالي القول والفعل.

الآية الثانية: آية طاعة أُولي الأمر

قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (1).

وجه الدلالة: أنّه سبحانه عطف أُولي الأمر على الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وأشرك بينهما وقال: أطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم، ومن المعلوم إنّ إطاعة الرسول غير مقيّدة بشيء لأنّه معصوم لا يأمر إلّابالحق وما فيه رضا اللّه تعالى، فاقتضى أن يكون أُولو الأمر كذلك أيضاً فتجب إطاعتهم مطلقاً، ومن كان كذلك فهو معصوم قطعاً.

وإن شئت فصغه في قالب الكبرى والصغرى، وقل:

أُولو الأمر مَن وجبت إطاعتهم مطلقاً.

ومن وجبت إطاعتهم مطلقاً فهم معصومون.

ينتج: أُولو الأمر معصومون.

وهذا ممّا لا كلام فيه، فقد اعترف بما ذكرنا الفخر الرازي في تفسيره وقال:

ص:95


1- . النساء: 59.

إنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابد أن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبارالواحد، وأنّه محال، فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوماً.(1)

ثم إنّ بعض المفسّرين حمل (أُولِي الْأَمْرِ) على الأمراء والسلاطين، ومن المعلوم أنّ أُولئك غير معصومين، بل أكثرهم من الفسقة والفجرة الذين يتعاملون بحقوق الشعوب بالحرمان والعصيان، وبعضهم فسّره بالعلماء من أهل الحلّ والعقد، وهذا أيضاً كالتفسير السابق إذ ليسوا بمعصومين قطعاً.

وأمّا تفسيرهم بالخلفاء الراشدين فغير تامّ جدّاً؛ لأنّه يستلزم اختصاص الآية بفترة خاصّة لا تتجاوز الأربعين سنة.

فعلى المفسّر المحقّق أن يتحرّى عن المراد ب (أُولِي الْأَمْرِ) فلامعنى لأن يأمر اللّه سبحانه بإطاعة أُولي الأمر ولكنّه لم يعرّفهم.

والذي يجب أن يقال: إنّهم عبارة عن الخلفاء الاثني عشر الذين عرّفهم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بتعابير مختلفة.

أخرج مسلم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لايزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلُّهم من قريش»(2).

ص:96


1- . تفسير الرازي: 10/144.
2- . صحيح مسلم: 6/3، ط. دار الفكر بيروت؛ ولاحظ: سنن أبي داود: 2/309.

إنّ أحاديث الأئمة الاثني عشر من الروايات الواردة في صحيحي البخاري ومسلم بطرق وصور مختلفة، كلّها تحكي عن أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أخبر عن اثني عشر خليفة من بعده، بهم أُنيط عز الإسلام وقوامه، وبما أنّ المقال لا يسع لنقل هذه الروايات فللطالب أن يرجع إلى الصحيحين.(1)

وقد مرّ أن تفسير أُولي الأمر بالخلفاء الراشدين يستلزم اختصاص الآية بفترة معيّنة ولكن تفسيره بالأئمة الاثني عشر يلازم استمرار وجود أُولي الأمر، فإنّ الإمام الثاني عشر (أعني: المهدي ابن الحسن المنتظر عليه السلام) هو حي يرزق سيظهره اللّه تعالى في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ورد في المصادر الحديثية للفريقين.

1. روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «لو لم يبق من الدهر إلّا يوم واحد لبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً».(2)

2. أخرج أبو داود عن عبداللّه بن مسعود: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي».(3)

3. أخرج أبو داود عن أُمّ سلمة - رضي اللّه عنها - قالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة».(4)

4. أخرج الترمذي عن ابن مسعود: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي».(5)

إلى هنا تمّ الكلام في الدليل القرآني على عصمة أهل البيت، بقي الكلام

ص:97


1- . لاحظ صحيح البخاري: 8/127، طبعة دار الفكر، 1401 ه.
2- . مسند أحمد: 1/99، 3/17 و 70.
3- . جامع الأُصول: 11/48 برقم 7810.
4- . جامع الأُصول: 11/48 برقم 7812.
5- . سنن الترمذي: 343/3 برقم 2332، باب ما جاء أنّ الخلفاء من قريش.

في ما ورد في السنّة الشريفة من دلائل عصمتهم.

البحث الثاني: عصمة أهل البيت عليهم السلام في السنّة النبوية

اشارة

لقد جاء ذكر أهل البيت وعترته عليهم السلام على لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعبارات تدلّ على أنّهم لايفارقون الحق ولايميلون إلى الباطل، وقد ورد ذلك المضمون في روايات متعدّدة نخصّ بالذكر منها اثنتين وهما:

1. حديث الثقلين

إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم قرن عترته بالكتاب الكريم وجعل التمسّك بهما سبباً لعدم ضلال الأُمّة، ومن المعلوم أنّ القرآن لايأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، فما فيه عين الحق وحق اليقين، فإذن يكون قرينه الذي لا يفترق عنه، مثله، وهذا ما يعبّر عنه بحديث الثقلين لوروده في بعض المتون، وهانحن نذكر الصور المختلفة المتنوعّة من هذا الحديث الذي نادى به النبي صلى الله عليه و آله و سلم في مواضع مختلفة، ولعلّ الاختلاف في بعض الألفاظ نابع من إيراده في ظروف متعدّدة، وإليك صور الحديث:

أ. لمّا رجع من حجّة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن فقال:

1. كأنّي دعيت فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه تعالى، وعترتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.(1)

2. يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي.(2)

ص:98


1- . أخرجه الحاكم عن زيد بن أرقم، المستدرك: 3/109.
2- . أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر ونقله عنهما في كنز العمال: 1/44.

3. إنّي تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي؛ ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما(1).

4. إنّي تارك فيكم الخليفتين: كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض أو ما بين السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.(2)

وقد اقتصرنا في نقل المصادر بالأقل القليل من الكثير وإلّا فمصادر الحديث كثيرة تناهز العشرات، وقد ألّف غير واحد من أصحابنا كتباً في أسانيد الحديث وتضافره بل تواتره.

ولكن يجب علينا أن نركّز على ما رامه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من الوصاية بهما، فنقول:

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قد حكم في حديث الثقلين عن وجود التلازم بين عترته أهل بيته وبين الكتاب العزيز وأوصى المسلمين بالتمسّك بهما معاً مصطحبين، ليتجنّبوا الوقوع في الضلالة، وأشار صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» إلى أنّهما بمنزلة التوأمين الخليفتين عنه صلى الله عليه و آله و سلم، وهذا يقتضي أن يكون أهل البيت عليهم السلام مقارنين للكتاب في الوجود والحجّة.

وإن شئت قلت: إنّ ذلك يدلّ على أنّه لابدّ في كلّ عصر، في جملة أهل البيت، من حجّة معصوم مأمون يقطع على صحّة قوله.

وممّا يؤيد ما ذكرنا أنّه ورد في ذيل بعض الروايات أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم

ص:99


1- . أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم ونقله في كنز العمال: 1/44، برقم 874.
2- . أخرجه أحمد في مسنده: 5/182 و 189. ولاحظ: مسند أحمد: 3/14 و 17 و 26، طبعة دار صادر - بيروت؛ سنن الترمذي: 5/328؛ فضائل الصحابة للنسائي: 15؛ مجمع الزوائد: 1/88.

بعدماذكر أنّه مخلّف كتاب اللّه وعترته أهل بيته، أخذ بيد علي عليه السلام ورفعها وقال:

«هذا عليٌّ مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض»(1)أفيشك في عصمة القرآن مسلمٌ؟! فلابدّ أن لا يشكّ في عصمة مَن لا يفارقه.

***

2. حديث السفينة

تضافرت الروايات عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أنّه شبّه أهل بيته بسفينة نوح، وقال ما هذا لفظه: «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح مَن ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق».(2)

وفي لفظ آخر: «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني اسرائيل من دخله غُفر له».(3)

إنّ حديث السفينة من الأحاديث المتواترة عند المحدّثين ولايسعنا نقل مصادره، ولمن أراد المزيد الرجوع إلى كتاب المراجعات.(4)

يقول السيد شرف الدين العاملي: وأنت تعلم أنّ المراد بتشبيههم بسفينة نوح، أنّ مَن لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأُصوله عن أئمتهم الميامين نجا من عذاب النار، ومَن تخلّف عنهم كان كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه، غير أنّ ذاك غرق في الماء وهذا في الجحيم والعياذ باللّه.

والوجه في تشبيههم عليهم السلام بباب حطّة هو أنّ اللّه تعالى جعل ذلك الباب

ص:100


1- . الصواعق المحرقة: 124، طبعة المحمدية بمصر.
2- . مستدرك الحاكم: 2/343، و 3/151.
3- . مجمع الزوائد للهيثمي: 9/168. ولاحظ: المعجم الكبير للطبراني: 3/46؛ كنز العمال: 2/435 و ج 12/98.
4- . راجع: المراجعات للسيد شرف الدين: 75، تحقيق حسين الراضي، الطبعة الثانية - 1402 ه.

مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والخضوع لحكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة.

وقد جعل انقياد هذه الأُمّة لأهل نبيّها والاتّباع لأئمتهم مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة. وهذا وجه الشبه، وقد بيّنه ابن حجر في كلامه - بعد أن أورد هذا الحديث وغيره قال -: ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ مَن أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومَن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان.. إلى أن قال: وباب حطّة - يعني: ووجه تشبيههم بباب حطّة - أنّ اللّه تعالى جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الأُمة مودّة أهل البيت سبباً لها.(1)

هذا ما سمح به الوقت وجاد به الفكر، وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

ص:101


1- . المراجعات: 77: الصواعق المحرقة: 151، الطبعة المحمدية، مصر.

7. تفسير القرآن بالقرآن منهج مؤيّد بالقرآن والسنّة

اشارة

7. تفسير القرآن بالقرآن منهج مؤيّد بالقرآن والسنّة(1)

إنّ لتفسير الكتاب العزيز مناهج مختلفة، ومن تلك المناهج رفع إبهام الآية بآية أُخرى، وهذا شيء يصدّقه القرآن الكريم والسنّة النبوية والحديث العلوي.

أمّا القرآن الكريم فيكفي في ذلك ما نتلوه عليك (وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) (2) فإذا كان الكتاب تبياناً لكلّ شيء فحاشا أن لا يكون تبياناً لنفسه بأن يُستوضح معنى الآية بآية أُخرى وردتا في موضوع واحد في سور مختلفة، وقال سبحانه: (وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (3)، ومقتضى كون القرآن نوراً أن يكون ظاهراً بنفسه مظهراً لغيره، فهل يعقل أن يكون مظهراً لغيره دون نفسه ؟

إنّه سبحانه يقول: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) (4)، فالآيات المتشابهة بردّها إلى المحكمات تصير

ص:102


1- . مقال أُلقي في دار تفسير القرآن الكريم للعلّامة الطباطبائي قدس سره ليلة الخميس 2 صفر المظفر 1435 ه.
2- . النحل: 85.
3- . النساء: 174.
4- . آل عمران: 9.

واضحة المعنى، أضف إلى ذلك: أنّه سبحانه يصف القرآن بالأوصاف التالية:

«هدى» و «بيّنات» و «فرقان» و يقول: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ ) (1)، وهذه الآيات عند التدبّر لا تبقي شكّاً بأنّ من أحد المناهج لرفع إبهام الآيات ضمّ آية إلى آية واردتين في موضع واحد واستيضاح إحداهما بالأُخرى إذا كانتا مختلفتي الدلالة من حيث الخفاء والظهور.

وأمّا السنّة فقد روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مرسلاً أنّه قال: «إنّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً»، وقال الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في كلام له يصف فيه القرآن:

«كتاب اللّه تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض».(2)

ولأجل إيضاح المقصود نأتي بأمثلة يرى الباحث من خلالها أنّه كيف يفسّر بعض الآيات البعض الآخر بلا تكلّف، وإليك تلك الأمثلة:

***

الأوّل: يقول سبحانه: (وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ) (3).

الآية تحكي أنّه سبحانه أمطر على قوم لوط مطراً وأهلكهم به، وظاهر المطر هو نزول قطرات الماء من السماء، ولكنّ الآية الأُخرى تبيّن ما هو المقصود ويقول: (وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) (4)، وتبيّن أنّ النازل من السماء هو الأحجار الصغيرة التي تقتل بإذن اللّه كلّ من أصابته.

ص:103


1- . البقرة: 185.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 129.
3- . الشعراء: 173.
4- . الحجر: 74.

الثاني: اتّفق فقهاء الشيعة على أنّ القصر في السفر عزيمة لا رخصة مع أنّ ظاهر الآية هي الثانية حيث يقول: (وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ...) (1)، وهذه المشكلة هي التي عرضها تلميذا أبي جعفر الباقر عليه السلام - أعني: زرارة ومحمد بن مسلم - عليه، فالإمام حلّ العقدة بتفسير تلك الآية بما ورد حول السعي بين الصفا والمروة وقال: أو ليس قد قال اللّه عزّ وجلّ في الصفا والمروة: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (2) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبي صلى الله عليه و آله وذكره اللّه في كتابه».(3)

نعم يقع الكلام في وجه التعبير عن العزيمة «بلاجناح» ووجهه: أنّ الآيتين في مقام دفع توهّم الحظر لا في مقام بيان ما هو الحكم الشرعي فإنّه يطلب من السنّة الشريفة.

أمّا دفع توهّم الحظر في آية الطواف بين الصفا والمروة فيظهر ممّا رواه الطبرسي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه كان في عمرة القضاء، وذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام، فتشاغل رجل من أصحابه حتى أُعيدت الأصنام، فنزلت هذه الآية: (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) : أي والأصنام عليهما.(4)

وأمّا نفي الحظر في آية التقصير فلعلّه لدفع توهّم أنّ التقصير يورث نقصان الصلاة، فردّ بقوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) .

ص:104


1- . النساء: 101.
2- . البقرة: 185.
3- . الوسائل: 5، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
4- . مجمع البيان: 240/1.

الثالث: يقول سبحانه: (وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) .(1)

ففي الآية جهات من البحث، منها: ما هو المراد من الكلمات التي أُبتلي بها إبراهيم عليه السلام ؟

وهناك أقوال وآراء ذكرها المفسّرون، وفي المقام آية أُخرى ترفع إبهام تلك الآية فإنّه سبحانه بعد ما أمر إبراهيم بذبح إسماعيل واستسلم ابنه للذبح يقول سبحانه: (فَلَمّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) (2) فالآية الأخيرة تفسّر لنا ما ابتلي به إبراهيم حيث يقول: (لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) .

***

الرابع: أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام استنبط من إقران آية بآية أُخرى أنّ أقل الحمل هو ستة أشهر، فإنّ اللّه تعالى يقول: (وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (3)، وجعل مدّة الأمرين الحمل والفصال ثلاثون شهراً.

وفي آية أُخرى يحدّد الفصال وهو الرضاع بحولين كاملين ويقول: (وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) (4)، فإذا كانت مدّة الفصال والحمل ثلاثون شهراً وكانت مدّة الرضاع فقط 24 شهراً، فالباقي وهو ستة أشهر هو مدّة الحمل.

ص:105


1- . البقرة: 124.
2- . الصافات: 103-105.
3- . الأحقاف: 15.
4- . البقرة: 233.

الخامس: يقول سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1)، والإبهام في الآية واضح، وأنّ هذه الليلة غير محدّدة فهي أي ليلة من الشهور؟ فيرتفع الإبهام إذا وضعناها إلى جنب الآية التالية وهي قوله تعالى: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (2)، وأمّا موضع ليلة القدر فيبيّنه قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) (3)، فمجموع الآيات الثلاث تثبت أنّ القرآن نزل في ليلة القدر التي هي من ليالي شهر رمضان.

***

السادس: يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ ) (4) غير أنّ حيلولته سبحانه بين المرء وقلبه يعلوها إبهام وأنّه كيف يحول بينهما؟ فيفسّره قوله سبحانه: (وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (5) فبإقران الآيتين يعلم أنّ إنساء الذات عبارة أُخرى عن حيلولته بين المرء وقلبه، ومن نسي ذاته فقد أهلك نفسه.

***

السابع: قوله تعالى: (أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَ اللّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (6) ففي الآية إبهامان:

1. ما هو المراد من الأرض ؟

2. ما هو المراد من النقص ؟

ص:106


1- . الدخان: 3.
2- . القدر: 1.
3- . البقرة: 185.
4- . الأنفال: 24.
5- . الحشر: 19.
6- . الرعد: 41.

أمّا الأوّل: فربّما يتبادر في بادئ النظر أنّ المراد هو الكرة الأرضية بمجموعها، ولكنّه غير صحيح لأنّ الآية الأُخرى تفسّر الأرض بأنّ المراد بها البلد العامر، حيث يحكم سبحانه بنفي المحارب من الأرض ولا يريد إخراجه من الكرة الأرضية بل المراد نفيه وإبعاده عن البلد الذي كان يعيش فيه، يقول سبحانه: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .(1)

فقوله: (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ) هو نفيهم من أوطانهم.

وأمّا الثاني: أعني النقص فقد فسّرته السنّة النبوية بأنّه فقد العلماء.(2)

***

الثامن: قوله سبحانه: (إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) .(3)

فالإبهام موجود في الآية حيث إنّ الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض ماهي ؟ ولكن تفسّره آية أُخرى وهي قوله سبحانه: (وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) .(4) وتبيّن أنّ المراد هو خلافة الإنسان عن اللّه سبحانه التي هي الأمانة الكبرى وضعت على عاتق الإنسان، فمن كان خليفة للّه يجب

ص:107


1- . المائدة: 33.
2- . من لايحضره الفقيه: 186/1، برقم 560.
3- . الأحزاب: 72.
4- . البقرة: 30.

أن يحكي بصفاته وأفعاله صفات اللّه تعالى وأفعاله.

***

التاسع: قوله تعالى: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).

فقد أطلق سبحانه اليد وأبهم المراد منها حيث إنّها تطلق على خصوص الأصابع وعلى خصوص الكفّ وعليه إلى المرافق، وإلى الكتف، فيرتفع الإبهام بقوله سبحانه: (وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً) (2) حيث إنّ المستفاد منه على أنّ مواضع السجود للّه، وراحة الكفّ من مواضع السجود، وما كان للّه لا يقطع.

***

العاشر: قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ ) (3) حيث أمرنا سبحانه بسلوك صراط جماعة لهم ثلاثة أوصاف:

1. الإنعام عليهم.

2. كونهم من غير المغضوب عليهم.

3. كونهم غير ضالّين.

وأمّا مَن هؤلاء الذين حازوا تلك الصفات فالآية التالية ترفع الإبهام، قال تعالى: (وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (4).

ص:108


1- . المائدة: 38.
2- . الجن: 18.
3- . ا لفاتحة: 6-7.
4- . النساء: 69.

هذه نماذج عشرة من تفسير القرآن بالقرآن وتوضيح الآية بأُختها، وهناك أُمور ينبغي التنبيه عليها:

1. هل هذا المنهج يهدف إلى كفاية كتاب اللّه ؟

ربّما يتوهّم أنّ تفسير القرآن بالقرآن يؤدّي إلى القول: «حسبنا كتاب اللّه» الذي تفوّه به عمر بن الخطاب بعد ما طلب النبي صلى الله عليه و آله القلم والدواة ليكتب شيئاً لا تضلّ الأُمّة بعده، فحال هو بين النبي صلى الله عليه و آله والكتابة قائلاً: «حسبنا كتاب اللّه».(1)

والجواب: أنّ السؤال نابع من تصوّر أنّ المفسّر يقتصر بهذا المنهج في كشف عامّة معضلات القرآن، مع أنّ هذا المنهج أحد المناهج ولا يغني عن التفسير بالسنّة خصوصاً فيما يرجع إلى آيات الأحكام التي هي بين مجملة بحاجة إلى التبيين، ومطلقة قيّدت في السنّة، وعامّة جاء مخصّصها هناك.

2. هل هذا المنهج عبارة عن ضرب القرآن بعضه ببعض ؟

إنّ تفسير الآية بالآية ممّا نهي عنه كما في الرواية المنقولة عن إسماعيل بن جابر عن الصادق عليه السلام حيث إنّه بعدما وصف القرآن وقال: «فجعله النبي صلى الله عليه و آله علماً باقياً في أوصيائه، فتركهم الناس، وهم الشهداء على أهل كلّ زمان، حتّى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر، وطلب علومهم، وذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه الناسخ، واحتجّوا بالخاص، وهم يقدّرون أنّه العام، واحتجّوا بأوّل الآية، وتركوا السنّة في تأويلها، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام، وإلى ما يختمه، ولم يعرفوا موارده ومصادره، إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلّوا وأضلّوا».(2)

ص:109


1- . لاحظ: صحيح البخاري، كتاب العلم برقم 114.
2- . جوامع الجامع: 92؛ الوسائل: 18، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 62.

والجواب: أنّ الرواية أجنبية عن الموضوع فإنّها ناظرة إلى مَن عاند مَن أظهر ولاية ولاة الأمر وطلب علومهم وهم فقهاء الشيعة ومحدّثيهم، ثم إنّ هؤلاء بعد ما عاندوهم رجعوا إلى القرآن ليفسّروه بضرب بعضه ببعض، وأمّا ما هو المراد من الضرب فتفسّره الجمل التالية وهي: «احتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه الناسخ، واحتجّوا بالخاص وهم يظنّون أنّه العام، واحتجّوا بأوّل الآية وغفلوا عن آخرها» مضافاً إلى أنّهم تركوا السنّة في تفسير القرآن، إلى غير ذلك من الأُمور التي هي من سمات المعرضين عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام دون من أناخ مطيّته في أبوابهم، ومع ذلك استنار ببعض الآيات في رفع الإبهام عن بعضها الآخر.

***

ثمّ إنّ تفسير الآيات بالآيات ليس شيئاً بديعاً، فهذا هو العلّامة المجلسي جمع الآيات الواردة في كلّ موضوع في باب خاص وفسّرها ثم نقل أحاديث موضوع الآيات، وما هذا إلّالأنّه يريد رفع إبهام بعض الآيات بالبعض الآخر.

وعلى كلّ تقدير فتفسير القرآن بالقرآن يتحقّق على نحو التفسير التجزيئي كما عليه السيد الأُستاذ الطباطبائي رحمه الله كما يتحقّق بالنمط الموضوعي الذي سار على ضوئه العلّامة المجلسي رحمه الله واقتفيناه نحن أيضاً في مشروعنا «مفاهيم القرآن الكريم» باللغة العربية و «منشور جاويد» باللغة الفارسية.

هذا ما سنح به الوقت وجادت

به الذاكرة في يوم الثلاثاء

آخر محرم الحرام 1435 ه

ص:110

8. أسئلة حول البسملة وأجوبتها

اشارة

إنّ البسملة جزء من كلّ سورة من غير فرق بين سورة الحمد وغيرها، عند الإمامية. نعم أكثر الجمهور يعتبرونها جزءاً من سورة الحمد دون سائر السور وللبحث فيه موضع آخر.

إنّ البسملة زين كلّ فعل وكلام وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «كلّ أمر ذي بال لم يبتدأ ببسم اللّه فهو أبتر».(1)

وقد اعتاد المسلمون بابتداء كلّ فعل أو كلام له شأن من الشؤون بالبسلمة، عملاً بالسنّة.

غير أنّ هنا أسئلة حول معنى الآية نطرحها مع أجوبتها:

1. ما معنى الباء في قوله: «بسم اللّه»؟

الباء في قوله: «بسم اللّه» للاستعانة، مثل قولك: كتبت بالقلم. وكأنّ المؤمن يستعين باسم اللّه الّذي هو جامع للأسماء. ويشهد على ذلك قوله سبحانه في ثنايا سورة الحمد: (إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، ويؤيّده أيضاً قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«كلّ أمر ذي بال لم يبتدأ ببسم اللّه فهو أبتر».

وجه الدلالة: أنّ المؤمن الواعي الّذي ينظر بعين المعرفة، يعلم أنّ لكلّ

ص:111


1- . وسائل الشيعة: 7، الباب 17 من أبواب الذكر، الحديث 4؛ كنز العمال: 555/1 برقم 2491.

شيء أسباباً وعللاً، فهو يهيِّئها وعندما يبدأ بالعمل يستفتحه بقوله: «بسم اللّه الرحمن الرحيم»، أي أستعين باسمك في إنجاز عملي باستعمال هذه المقدّمات والأسباب للحصول على مرادي.

2. ما هو سبب حذف الهمزة عند الكتابة ؟

قد دخل حرف الجر على الاسم، والهمزة فيه همزة وصل تسقط عند التلفّظ، ولكنّها تكتب شأن كلّ همزة وصل؛ فعلى ذلك يجب أن تكتب بالنحو التالي: باسم اللّه الرحمن الرحيم، كما هو الحال في قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) (1)، وقوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (2).

ولذلك نرى أنّ الأُدباء يكتبون البسملة عند تجرّدها عن الرحمن الرحيم بالنحو التالي: «باسمه تعالى»، وأمّا غيرهم فيكتبون «بسمه تعالى»، فالتلفّظ عند الفريقين واحد، والإملاء مختلف.

وقد اعتذر عن حذف الألف عند الكتابة في التسمية بوجهين:

الأوّل: أنّ كثرة استعمال تلك الآية المباركة فوق كلّ رسالة، وبداية كلّ عمل، صار سبباً لحذف الهمزة كتابة مثل حذفها تلفّظاً، ولذلك نرى أنّ سليمان عليه السلام كتب إلى بلقيس ملكة سبأ بالنحو التالي: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) (3).

الثاني: أنّه لو كان متعلّق الجار مذكوراً تكتب الهمزة، كما في قوله:

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (4)، وقوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) (5)؛ حيث إنّ الجار متعلّق ب

ص:112


1- . العلق: 1.
2- . الواقعة: 74.
3- . النمل: 30.
4- . الواقعة: 96.
5- . العلق: 1.

«سبّح» أو «إقرأ».

وأمّا إذا كان متعلّق الجار محذوفاً، كما في المقام، فتحذف الهمزة تلفّظاً وكتابة، والمفروض أنّ الجار في الآية متعلّق بالمحذوف، نحو: أستعين، وأشباهه.

3. كيف نستعين بالاسم لا بالذات ؟

هنا سؤال وهو: كيف نستعين باسم اللّه، مع أنّ المستعان هو اللّه سبحانه لا اسمه، فيجب على كلّ مسلم أن يلتجئ إليه لا إلى اسمه، كما يدلّ عليه قوله سبحانه: (وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ )1، فالمسؤول هو ذاته لا اسمه ؟

ربّما يقال في الجواب عن ذلك: أنّ لفظة اسم زائدة، فكأنّ القارئ يقول:

باللّه أستعين، مكان: باسم اللّه استعين.

يلاحظ عليه: أنّ القول باشتمال القرآن على الحروف الزائدة أمر غير صحيح حتّى في قوله سبحانه: (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (1) - كما حقّق في محلّه -،(2) فكيف القول باشتماله على كلمة زائدة وهي «اسم»؟!

ويمكن أن يجاب بأنّ الاسم على قسمين:

1. علَم للشخص إذا أُطلق ينتقل الذهن منه إلى المسمّى الخارجي دون أن يدلّ على أمر زائد. مثلاً إذا سُمّي رجل باسم حسن أو جميل، فإذا أُطلق يتبادر منه نفس المسمّى، سواء أكان حسناً، جميلاً أم لا. والغاية كون الاسم سبباً للانتقال إلى الفرد الخارجي.

ص:113


1- . البلد: 1.
2- . راجع: آلاء الرحمن في تفسير القرآن للعلّامة البلاغي: 1/38-39، طبعة صيدا.

2. علَم للشخص وفي الوقت نفسه بمنزلة الوصف الّذي يحكي عن صفات الجمال والجلال، لأنّه لم يوضع للذات فقط بل للذات الجامعة للصفات العليا، فإذا قلنا (باسم اللّه) فكأنّا قلنا: باسم العالِم القادر السميع البصير، إلى غير ذلك من الصفات العالية، فهذا النوع من الاسم الّذي هو الوصف الحاكي عن صفات الجلال والجمال، قابل للاستعانة به؛ لأنّ الاستعانة به، كأنّها استعانة بالذات، فكأنّ الإنسان يستعين بالموصوف بصفات الجلال والجمال.

وبالجملة الاسم بالمعنى الأوّل علَم محض لا دور له سوى إحضار المسمّى في ذهن المخاطب.

وبالمعنى الثاني اسم، لكنّه في الوقت نفسه لا يفتقد معنى الوصفية، ولذلك يحكي عن الصفات الجمالية والجلالية المندرجة تحت ذلك الوصف.

فالاستعانة بهذا الاسم استعانة بذاته تبارك وتعالى.

نعم: السؤال والجواب متعلّقان بما إذا قلنا بأنّ الباء للاستعانة والمتعلّق هو «أستعين» دون ما إذا كان الجارّ متعلقّ ب (أبتدئ)، وتقدير الكلام: أبتدئ قراءتي بتسمية اللّه أو أقرأ مبتدئاً بتسمية اللّه، قال الطبرسي: هذا القول أقرب للصواب، لأنّا أُمرنا أن نفتتح أُمورنا بتسمية اللّه كما أُمرنا بالتسمية على الأكل والشرب والذبائح، ألا ترى أنّ الذابح إذا قال: باللّه، ولم يقل: باسم اللّه، لكان مخالفاً لما أُمر به.(1)

فالمؤمن في كلّ حال يذكر اللّه سبحانه بخلاف المنافق، قال سبحانه:

(نَسُوا اللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (2).

ص:114


1- . مجمع البيان: 1/21.
2- . الحشر: 19.

4. ما هو المراد من الاسمين: الرحمن الرحيم ؟

قوله: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) * كلاهما من صفات اللّه سبحانه، وأسمائه الحسنى، والكلام يأتي في معنى الرحمة، فالظاهر من الطبرسي أنّها بمعنى النعمة، فقال عند تفسير البسملة وبيان لغتها: «الرحمن الرحيم» اسمان وضعا للمبالغة واشتقا من الرحمة وهي النعمة، إلّاأنّ (فعلان) أشد مبالغة من (فعيل).(1)

وعلى هذا فكلا اللفظين بمعنى المنعم مع تفاوت بينهما، كما سيوافيك.

وأمّا على القول بأنّ الرحمة بمعنى رقة القلب وتأثّره بما يطرأ عليه من الحوادث المؤلمة، كما لو سمع ببكاء يتيم جائع فيرقّ له قلبه ويقوم بإطعامه، والإنعام عليه، فلو كان هذا اللفظ بمعنى رقّة القلب فلا يمكن وصف اللّه سبحانه به؛ لأنّ رقّة القلب وتأثّره بالحوادث محال على اللّه سبحانه لتنزّهه عن الانفعال.

ونظير ذلك وصفه سبحانه بالغضب، فإنّ الغضب عبارة عن فوران الدم في القلب يوجب تشنّجاً في أعضاء الإنسان تهيّؤاً للانتقام، واللّه سبحانه فوق ذلك؛ لأنّ الانفعال من صفات المادّة، واللّه فوقها.

ومع ذلك فقد ورد في الذكر الحكيم قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ) (2).

والجواب عن الموردين - الرحمة بمعنى رقّة القلب، والغضب بمعنى فوران الدم - ونظائرهما واحد، وهو ما يقال: خذ الغايات واترك المبادئ.

توضيحه: أن رقّة القلب تكون مبدأً للتفضّل والإحسان، كما أنّ الغضب يكون سبباً لإيقاع العقوبة والتعذيب، فوصفه سبحانه بهما لأجل الغايات، وهو

ص:115


1- . مجمع البيان: 1/20، ط صيدا.
2- . الممتحنة: 13.

أنّه متفضّل بالإحسان بالنسبة إلى عباده أو آخذ بالعقوبة لمن خالفه وجادله.

فكلّ وصف يكون فيه مبدأٌ مادّي وانفعالي ومع الوصف يكون له غاية تناسب اللّه تبارك وتعالى ، فوصفه به إنّما هو لأجل النتيجة لا لأجل المبدأ.

ومنه يُعلم الجواب عن كثير من الأوصاف الّتي هي من شؤون الإنسان كالمكر والمخادعة والاستهزاء، ولا يمكن وصفه بها سبحانه، ومع ذلك فقد أُطلقت عليه سبحانه في غير واحدة من الآيات منها:

قوله سبحانه: (وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) (1).

وهكذا قوله: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) (2).

وقوله سبحانه حاكياً عن المنافقين: (قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ * اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (3).

ومن المعلوم أنّ المكر والخديعة حرفة العاجز، والاستهزاء عمل النَّوكى ، غير أنّ وجه وصفه سبحانه بهذه الأفعال إنّما هو لأحد أمرين:

1. إمّا رعاية للمشاكلة في الكلام، حيث إنّ القائل وصف عمله مكراً واستهزاءً ، واللّه يعبّر عن ردّ مكرهم وإبطال استهزائهم بنفس عبارة القائل، وهذا من المحسِّنات الكلامية، قال الشاعر:

قالوا اقترح شيئاً نُجد لك طبخُهُ قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا(4)

ص:116


1- . آل عمران: 54.
2- . النساء: 142.
3- . البقرة: 14-15.
4- . هذا البيت لأبي حامد أحمد بن محمد الأنطاكي، المعروف بأبي الرقعمق، نادرة الزمان وجملة الإحسان، وممّن تصرّف بالشعر الجزل في أنواع الجد والهزل، وأحرز قصب الفضل، وهو أحد المداحين المجيدين والفضلاء المحسنين، وهو بالشام كابن الحجّاج في العراق، وكان شاعراً فكهاً، وأقام بمصر طويلاً يمدح ملوكها ووزراءها، وتوفّي فيها سنة 399 ه. لاحظ: يتيمة الدهر

حيث عبّر عن خياطة الجبّة بالطبخ رعاية للمشاكلة في الكلام.

2. ما تقدّم منّا حول وصف فعله سبحانه بالمكر والغضب، وهو حذف المبادئ والأخذ بالغايات، فإذا مكر المنافقون فاللّه سبحانه يجعل فعلهم عقيماً من حيث لا يشعرون، ولذا وصف فعله بالمكر أخذاً بالغايات دون المبادئ، وهكذا الاستهزاء فإنّ المستهزئ يريد الحطّ من النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمؤمنين في أعين الناس، واللّه سبحانه يجعل فعله بلا أثر على نحو يكون المستهزئ ذليلاً في أعين الناس.

5. ما هو الفرق بين الرحمن والرحيم ؟

إذا كان الوصفان مشتقين من الرحمة فما هو الفرق بينهما، خصوصاً على القول بأنّ كليهما على وزان صيغة المبالغة، نظير فعلان وفعيل ؟

أُجيب عن ذلك بوجوه، نذكر منها وجهين:

1. أنّ الرحمن من صفاته المختصّة به سبحانه، ولا يستعمل في حقّ الغير، فلا يصحّ أن يقال: زيد رحمان بل الصحيح عبدالرحمن، بخلاف الرحيم فيمكن أن يوصف به غيره سبحانه، قال تعالى: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (1).

2. أنّ الرحمن أوسع من الرحيم، وذلك أنّ (فعلان) أشد مبالغة من (فعيل)، ولعلّ وجه الأشدّية هو أنّ كثرة المباني تكون غالباً دليلاً على كثرة المعاني، فالرحمن يعمّ جميع الخلق والرحيم بالمؤمنين خاصّة.

ص:117


1- . التوبة: 128.

ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، برّهم وفاجرهم، هو إنشاؤه إيّاهم، وجعلهم أحياء قادرين، ورزقه إيّاهم.

ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين، هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق، وما يفعله بهم في الآخرة من الجنة والإكرام وغفران الذنوب؛ وإليه يشير ما روي عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «الرحمن اسم خاص بصفة عامّة، والرحيم اسم عام بصفة خاصّة».(1)

فقوله عليه السلام: «الرحمن اسم خاص»، لأنّه لا يطلق إلّاعلى اللّه سبحانه، وقوله: «بصفة عامّة»: أي تعمّ رحمته الكافر والمؤمن.

وقوله: «الرحيم اسم عام»، لأنّه يطلق على غيره سبحانه، وقوله: «بصفة خاصّة»، لأنّه يختصّ بالمؤمن فقط.

6. لماذا تقدّم الرحمن على الرحيم ؟

لماذا تقدّم وصف الرحمن على الرحيم، مع أنّ الضابطة في الكلام البليغ هو التدرّج من الضعيف إلى القوي، ومن القليل إلى الكثير، فيقال: فلان عالم بالفقه بل مجتهد، أو يقال: إنّ هذا المسجد يكفي لألف مصلٍّ بل لألفين، وعلى هذا فالمناسب أن يقول: الرحيم الرحمن ؟

وأمّا الجواب عن ذلك فهو أنّه يمكن أن يقال: بما أنّ الرحمن يختصّ باللّه سبحانه وشاع استعماله في ذاته القدسيّة، فقد خرج عن معنى الوصفية وأصبح اسماً له سبحانه، فلفظ الجلالة اسم والرحمن اسم آخر، وبما أنّه اسم فلا يُشعر بشيء من المعاني، على خلاف لفظ (الرحيم) فإنّه باقٍ على وصفيته.

ص:118


1- . مجمع البيان: 1/21.

ومهما يكن، فإنّ مفاد البسملة، هو: أنّ الإنسان الضعيف غير القادر على شيء إلّابعون اللّه عزّوجل، يجب أن يستعين على جميع أُموره باللّه سبحانه، وأن يبتدئ جميع أُموره باسم اللّه، ولا يغفل عن اللّه سبحانه حتّى لا يكون ممّن:

(نَسُوا اللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) (1).

ص:119


1- . الحشر: 19.

9. الناشئ الجديد والظروف المحدقة به

اشارة

تحيط بالناشئ الجديد هذه الأيام ظروف يعبر عنها بعالم الارتباطات، فما من فكرة تتولّد في مكان ما إلّاانتشرت بعد دقيقة أو دقائق في كلّ بقاع العالم.

وهذا النوع من التواصل وإن تضمّن خيراً لكنّه تضمّن شرّاً كثيراً كذلك، وهذا شأن كلّ نتاج حضاري، فله وجهان خير وشر، فصاحب العقل الحصيف والتفكير السليم ينتقي ممّا تنشره وسائل الأعلام على اختلاف أنواعها ما ينفعه عاجلاً وآجلاً، عاملاً بقوله سبحانه: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (1).

وفي مقابل هذا فمن لم يتدرّع بدليل وبرهان واضح ورصين فسوف يتأثّر بالتيارات الإلحادية الكافرة الّتي تبثّها وسائل الأعلام الغربية الّتي تهدف لإبعاد المسلمين عن مبادئهم وتعاليمهم الدينية التي إن التزموا بها فستكون سدّاً حصيناً أمام أطماع الغربيّين الساعين للسيطرة على ثروات وخيرات الشعوب المسلمة.

ومن أسباب سرورنا هو ما بلغنا من أنّ العتبة العبّاسية في كربلاء المقدّسة بصدد إصدار مجلة فكرية علمية تحمي عقائد المسلمين وتردّ على شبهات المخالّفين وتوضح المسير أمام الشباب المتحمّس لدينه وعقيدته، وسررت

ص:120


1- . الزمر: 18.

لهذا النبأ سروراً غامراً، فشكرت اللّه سبحانه لعودة الأجواء في العراق إلى حالتها الطبيعية حتّى أتاحت للمفكّرين نشر أفكارهم بحرية، بعد زوال الأجواء المظلمة الّتي عُدّ فيها التفكير السليم جريمة وعثرة لا تغتفر.

ولأجل أن اشارك في هذا المشروع النافع أتقدّم أوّلاً بالتهاني والتبريكات لهيئة تحرير المجلّة الذين تحمّلوا مسؤوليتهم الإلهية وعزموا على القيام بهذا العمل الثقافي الهام.

وتلبية لطلب الإخوة المشرفين على المجلّة، قمت بتحرير مقال له صلة بالعقيدة الإسلاميّة، راجياً من اللّه القبول، والنفع الوافر لقرّاء المجلة.

***

إنّ من المسائل الّتي تشغل بال أكثر شبابنا هي ما أشار إليه الذكر الحكيم من أنّ الهداية والضلالة من اللّه تعالى، وعندئذٍ تتولّد في أذهانهم شبهة وهي: إذا كان الأمران من اللّه سبحانه فما هو دور الإنسان في أمر الإيمان والكفر؟

وإليك شرح الشبهة والإجابة عنها:

إذا كان الإنسان حرّاً في مسيرته وأنّه يقف على مفترق طريقي الهداية والضلالة بحرية تامة، وأنّ زمام الأُمور بيده فله أن يختار طريق السعادة والفلاح، كما له أن يختار طريق الضلال والشقاء والانحراف، فلماذا ياترى نجد الكثير من الآيات التي قد يستشم منها رائحة «الجبر»، وأنّ مصير الإنسان وعاقبته بيد اللّه سبحانه هو الذي يختار له ما يشاء، كما في الآيات التالية:

(... فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1)، (... وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ...) (2)، (فَإِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ

ص:121


1- . إبراهيم: 4.
2- . النحل: 93.

وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ...) .(1)

فإنّ ظاهر هذه الآيات المباركة أنّ مسألة الهداية والضلالة تابعة للإرادة الإلهية، وإنّ زمام الأُمور هنا بيد اللّه سبحانه، وأنّ الإنسان ليس حرّاً في مقابل الإرادة الإلهية. فأمام هذه الصراحة كيف نوجّه حرية الإنسان أمام الإرادة والمشيئة الإلهية ؟

الجواب: إنّ بحث الهداية والضلال من وجهة نظر القرآن الكريم من البحوث المعمّقة والواسعة النطاق والمفصّلة، بحيث إنّ دراستها دراسة كاملة وشاملة تستدعي أن نأتي بجميع الآيات الواردة في هذا المجال وتسليط الضوء على جميع زوايا تلك الآيات وبيان أسرارها والنكات الكامنة فيها لنستخلص النظرية القرآنية في هذا المجال، وبما أنّ ذلك يستدعي بحثاً مفصّلاً لا ينسجم مع هدف هذا المقال، لذلك سوف نركّز البحث على نوع واحد من الآيات، وهي الآيات التي تقول: (فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) .

الحقيقة أنّ الاستدلال بهذا الطيف من الآيات القرآنية لإثبات نظرية «الجبر» يُعدّ غفلة عن هدف الآيات المذكورة، والسبب في هذه الغفلة هو الخلط بين نوعين من الهداية وعدم التفكيك بينهما، وهما: «الهداية العامة» والأُخرى «الهداية الخاصة»، فإذا سلّطنا الضوء على هذين النوعين من الهداية يتّضح بجلاء مفهوم تلك الآيات والمراد منها، وستنتفي حينئذٍ فكرة الجبر بالكامل.

الهداية العامّة والخاصّة

اشارة

إنّ اللّه سبحانه هو مفيض كلّ شيء، ومن الأُمور التي يفيضها «فيض الهداية» وإنّ له سبحانه نوعين من الإرشاد والهداية، إحداهما عام وشامل بحيث

ص:122


1- . فاطر: 8.

يستوعب ويشمل جميع أفراد الإنسان، والآخر هو الفيض والإرشاد الخاص وهو الذي يشمل بعض الأفراد الذين استفادوا من الهداية العامّة على أحسن وجه وأكمله، فلو أنّ فئة من الناس لم تستغل الهداية العامّة والفيض الشامل لعامّة الناس بل كافّة الكائنات، فحينئذٍ لا تصل النوبة إلى مرحلة الهداية الخاصة ولا يشملها هذا الفيض أبداً.

فالهداية العامّة تتلخّص في نوعين من الهداية، هما:

الف: الهداية العامّة التكوينية

والمقصود هنا أنّ اللّه سبحانه خلق جميع الموجودات وبيّن لكلّ مخلوق مهمّته والوظائف التي ينبغي عليه القيام بها والمسؤوليات التي لابدّ من تحمّلها.

يقول سبحانه في هذا الخصوص:

(... رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) .(1)

ومن الواضح أنّ في هذا النوع من الهداية لا يوجد أدنى استثناء وتمييز وتفاضل، بل حتّى الأفعال التي تنطلق من الحالة الغريزية لبعض الحيوانات والأعمال المنظمة والموزونة التي تصدر منها معلولة لذلك النوع من الهداية، فضلاً عن الهداية الفطرية للإنسان، ففطرة كلّ إنسان تهديه إلى التوحيد ونبذ الشرك، وكذلك العقل الموهوب له المرشد إلى معالم الخير والصلاح.

ب: الهداية العامّة التشريعية

إنّ المراد من الهداية التكوينية هو ذلك النوع من الإرشاد والهداية التي تنبع من داخل الإنسان وكيانه، وأمّا الهداية التشريعية فهي الهداية التي ترد على الإنسان من الخارج والتي تأخذ بيده في مواطن الخطر وترشده إلى ساحل

ص:123


1- . طه: 50.

الأمان وتوصله إلى ما يريده بيسر وطمأنينة، وفي هذا النوع من الهداية - لا يوجد أدنى تمييز وتفاضل - حالها حال الهداية التكوينية كما قلنا - حيث توفّر السماء للإنسان كلّ وسائل الهداية والرشاد والصلاح والتي تتمثّل بما يلي:

1. الأنبياء والرسل عليهم السلام.

2. الأولياء.

3. الكتب السماوية.

4. الأئمّة والقادة عليهم السلام.

5. العلماء والمفكّرون.

وغير ذلك من الوسائل التي وضعها اللّه سبحانه تحت اختيار الجميع بنحو يتسنّى للجميع الاستفادة منها وأن ينهلوا من نميرها العذب على حد سواء بلا فرق وبلا تمايز.

وبسبب شمولية وعمومية هداية هذه المجاميع نراه سبحانه يصف «النبي الأكرم» و «القرآن» بأنّهما هاديان ومرشدان للأُمّة ويخاطب النبي الأكرم وبصراحة:

(... وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .(1)

ويقول سبحانه واصفاً القرآن الكريم:

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ...) .(2)

إنّ العدل الإلهي يقتضي أن توفّر السماء للناس كافّة، جميع سبل الهداية والرشاد وتسهّل لهم الوصول إليها، وفهمها، كما أنّ وظيفة العباد ومهمتهم تقتضي أن يستفيد الإنسان - و من خلال الحرية التي منحت له - من جميع تلك

ص:124


1- . الشورى: 2.
2- . الإسراء: 9.

السبل على أحسن ما يرام وأن يرغم أنف الشيطان وجنوده بالتراب، وأن يتوجّه نحو اللّه سبحانه مستعيناً بكلّ تلك النعم التي توفرت له، ومن المعلوم أنّ الاستفادة من تلك الطرق والوسائل لتحصيل هذا النوع من الهداية غير مشروط بأي شرط أو قيد، وأنّ الإرادة والمشيئة الإلهية تعلّقت بأن تضع كلّ تلك الوسائل تحت تصرّف جميع أفراد الإنسان واختيارهم.

الهداية الخاصة

إنّ هذا النوع من الهداية يختصّ بمجموعة وطائفة خاصة من الناس الذين تشملهم العناية الإلهية الخاصّة، وهذه الطائفة - وكما قلنا - هي تلك المجموعة من عباد اللّه الذين استغلّوا الهداية العامّة واستفادوا منها على أكمل وجه بحيث استنارت قلوبهم وأرواحهم بنور الهداية العامّة.

إنّ هذه الطائفة من الناس حينما استغلت الهداية العامّة - التكوينية والتشريعية - بالنحو الأكمل جعلت من نفسها محلّاً مناسباً لنيل الفيض الإلهي الخاص والرعاية الإلهية الخاصّة، وأن يشملها الإمداد الغيبي والتوفيق والتسديد الإلهي (الهداية الخاصة).

وهذه الحقيقة التي ذكرناها - وهي أنّ الهداية الخاصة تشمل تلك الطائفة من الناس الذين استفادوا من الهداية العامة بأحسن وجه - هي من الحقائق التي بيّنها القرآن الكريم في آيات متعدّدة، حيث قال في بعضها:

(... إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) .(1)

وفي آية أُخرى قال سبحانه:

(... اللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) .(2)

ص:125


1- . الرعد: 27.
2- . الشورى: 13.

إنّ المراد من كلمة (أَنابَ ) في الآية الأُولى و (يُنِيبُ ) في الآية الثانية هو العودة والرجوع والالتفات إلى اللّه سبحانه بصورة متكرّرة، هو أنّ هذا النوع من الهداية من نصيب من أصغى لنداء العقل وخضع واستجاب لنداء المرشدين والمصلحين الإلهيّين، ووضع نفسه في طريق الهداية الخاصّة طالباً من اللّه سبحانه المزيد من التوفيق و السداد و الرعاية والعطف.

وإذا كان الملاك في شمول الهداية الخاصّة للإنسان هو استغلاله لطرق الهداية العامّة على أكمل وجه، فإنّ الملاك في الضلال والخذلان الإلهي هو الإعراض والعصيان والتمرّد على الهداية العامّة وعدم الاستفادة منها بالنحو المطلوب.

يقول سبحانه:

(... فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) .(1)

وفي آية أُخرى يقول سبحانه:

(... وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ ) .(2)

إنّ استفادة الجبر من قوله تعالى: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) * مبني على تصوّر وحدة الضلالة والهداية، بمعنى أنّهم تصوّروا أنّ للّه سبحانه وتعالى نوعاً واحداً من الهداية والضلالة وأنّها تختصّ بذلك الفريق الذي أراد اللّه له الهداية والرشاد ويُحرم منها الفريق الآخر، والحال أنّه يوجد هنا نوعان من الهداية: إحداهما عامّة، والأُخرى خاصة، وانّ الملازم للعدل الإلهي هو النوع الأوّل من الهداية، وأمّا النوع الثاني من الهداية (الهداية الخاصّة) فهو رهين

ص:126


1- . الصف: 5.
2- . إبراهيم: 27.

ببعض الشروط التي من أهمها شرط الاستفادة من النوع الأوّل من الهداية واستغلالها بحيث يضع الإنسان نفسه أمام الرحمة والفيض الإلهي لكي تشمله الرعاية والهداية الخاصّة.

صحيح أنّ اللّه تعالى جعل كلا النوعين من الهداية في إطار مشيئته وإرادته، ولكن إرادته سبحانه ومشيئته لا تكون بدون ملاك وبلا جهة، بل ملاكها وجهتها هو وجود اللياقة والكفاءة والاستعداد اللازم في العبد الذي وصف في بعض الآيات بقوله تعالى: (أَنابَ ) * و (يُنِيبُ ) ولا شك أنّ الحصول على هذا الاستعداد، وتلك اللياقة لا تتسنّى لكلّ إنسان مهما كان.

ولتوضيح فكرة الهداية الخاصة بنحو أتم وبصورة أجلى وأوضح نأتي بالمثال التالي:

لنفرض أنّ مجموعة من الناس قد وقفوا على مفترق طرق وأنّهم يبحثون عن مكان خاص يريدون الوصول إليه، فأرشدهم أحد الأشخاص العارفين بالطريق، وقال: خذوا هذا الاتجاه وبعد أن تصلو إلى المكان الكذائي سوف تجدون هناك شخصاً آخر يدلكم على هدفكم النهائي.

فقسم من الناس يتبعون إرشاد المرشد الأوّل، وقسم آخر لا يلتزمون بقوله. فالطائفة الأُولى الذين استناروا من الهداية الأُولى يستفيدون من الهداية الثانية بخلاف الطائفة الأُخرى الذين بقوا على عنادهم ولم يأخذوا بكلام هذا المرشد، فهؤلاء لا يصلون إلى هدفهم أبداً.

«لأنّ العامل من غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزداده كثرة السير إلّا بعداً».(1)

ص:127


1- . الأُصول الأصيلة للفيض الكاشاني: 148.

من هذا المثال يتّضح لنا أنّ اللّه سبحانه وضع الجميع - وطبقاً لمفاد الآيات - تحت الهداية العامّة فقال سبحانه:

(إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ...) .(1)

(وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) .(2)

ثمّ شاء سبحانه أن يفيض مرّة أُخرى على الذين أدركوا الطريق واهتدوا إلى الحق واستفادوا من الهداية العامّة، بفيض وعناية وهداية خاصة ليتسنّى لهم الوصول إلى قمة هرم الإنسانية، وقد عبّر سبحانه وتعالى عن تلك الحقيقة والنعمة الإلهية والفيض الرباني الخاص بقوله:

(وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ...) .(3)

انطلاقاً من هذا الأصل نرى أنّ اللّه سبحانه وتعالى يعتبر الهداية إحدى ثمار ونتائج جهاد الإنسان وسعيه في طريق اللّه سبحانه حيث قال:

(وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا...) .(4)

هذا من جهة ومن جهة أُخرى تعلّقت المشيئة والإرادة الإلهية أن تترك المنحرفين والضالّين - الذين اختاروا طريق الانحراف والضلالة بإرادتهم، وحرموا أنفسهم من الاستفادة من الهداية العامّة - لحالهم وهذا ما سبب ضلالهم وانحرافهم بصورة أشدّ، لأنّه كلّما توغّل الإنسان في الانحراف ازداد بعداً عن الحقّ ، وهكذا كلّما خطا خطوة في طريق الانحراف فلا يزيده ذلك السير إلّابعداً عن الهدف الذي أراده اللّه له.

ص:128


1- . الإنسان: 3.
2- . البلد: 10.
3- . محمد: 17.
4- . العنكبوت: 69.

إذاً صحيح أنّ اللّه (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ) * ولكن مَن هم هؤلاء الذين يريد اللّه ضلالهم وعدم هدايتهم ؟ القرآن المجيد يجيب عن هذا التساؤل قائلاً:

(... وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ ) .(1)

وفي آية أُخرى:

(... فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ ...) .(2)

نعم أنّ اللّه قادر على أن يأخذ بأعناق الجميع إلى طريق الهداية والصراط المستقيم وأن يجبرهم على طي هذا الطريق حيث يقول سبحانه:

(وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها...) .(3)

ولكن في هذه الحالة لا يكون الإنسان إنساناً، بل يتحوّل إلى آلة ميكانيكية، لا تعمل بإرادتها ومشيئتها وإنّما عملها وحركتها تابع لإرادة العامل الفنّي المشرف عليها، فمتى شاء ضغط على زِرّ التشغيل فتعمل ومتى شاء أطفأها، وأنّها لا تملك القدرة على العصيان أو التمرّد أمام إرادة العامل القاهرة لها، وكذلك يصبح الإنسان عاجزاً أيضاً عن الصمود أمام الغرائز الكامنة فيه، ولذلك سيضطر لتكييف نفسه مع تلك الغرائز والميول وينظم حياته على أساسها حاله في ذلك حال النحل، أو دودة القز أو....

ولكن شاء اللّه تعالى أن يكون الإنسان إنساناً ومخلوقاً خاصاً له إرادته ومشيئته واختياره وحريته الكاملة التي منحها اللّه تعالى له، ليتمكّن من خلال وضعها في الموضع المناسب أن ينطلق بنفسه إلى قمّة هرم الكمال والرقي الإنساني والسموّ المعنوي.

وفي الختام إذا أردنا أن نقرّب الفكرة بمثال عرفي يمكن لنا أن نشبه طريقة

ص:129


1- . البقرة: 26.
2- . الصف: 5.
3- . السجدة: 13.

الخطاب القرآني في الآيات المذكورة، بطريقة مخاطبة المعلم لتلامذته حيث يقول لهم: أنا قد بيّنت لكم الدرس بصورة واضحة وأزلت من أمامكم كلّ حالات الغموض والإبهام الموجودة في المادة، فما بقي عليكم إلّاالمثابرة والجدّ والدراسة على أحسن وجه، فمن يفعل منكم ذلك فسأمنحه الدرجة الكاملة، وأُفيض عليه عطايا أُخرى حسب إرادتي ومشيئتي.

فمن الواضح هنا أنّ المعلم قد ربط مسألة الفيض على الطالب أو عدم الفيض بإرادته ولكنّه في نفس الوقت لاحظ صلاحيات الطالب ومواهبه واستعداداته ومدى استفادته من الجهود التي بذلها الأُستاذ في بيان الدرس وتوضيحه.

جعفر السبحاني

الحوزة العلمية - قم المقدّسة

السابع من رجب المرجب 1435 ه

ص:130

10. ظاهرة التكفير على ضوء القرآن والسنّة الشريفة

اشارة

لا شكّ في أنّ التكفير في هذا العصر وإنْ كان امتداداً للتكفير في العصور السالفة، والّذي تصاعد في القرنين الثالث والرابع الهجريين بفعل المتشدّدين لاسيّما المتشدّدين من أتباع المذهب الحنبليّ ، بَيْد أنّه اشتدّ في أوائل هذا القرن، ثم بلغ ذروته في السنوات العشر الأخيرة، حيث أناخ بكلكله على البلاد الإسلاميّة، وتحوّل إلى ظاهرة بارزة اقترنت بمجازر رهيبة، أقدم عليها شباب مهوّسون، شَحنت بعض المؤسّسات والمدارس الدينية أذهانهم بالأفكار المتشدّدة، ومشاعرهم بالحقد والكراهية لسائر المسلمين لاسيّما أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ثم أطلقت لأيديهم الحرية بممارسة عمليات القتل والذبح والنحر الجماعي للنساء والشيوخ والأطفال في مدن العراق واليمن وباكستان وسوريا وأفغانستان وغيرها، واستباحة الأموال والأعراض، من خلال فتاوى عمياء يصدرها المتعصّبون من أنصاف المتعلّمين الذين عقدوا حلفاً شيطانياً مع محترفي السياسة، فاحتلّوا المواقع العليا في الإفتاء والإرشاد.

وإذا كان التكفير في العصور الماضية يرتبط، في جانب كبير منه، بعوامل داخلية، يشكّل فيها العامل السياسي ركناً من أركانه، فإنّ هذا العامل يشكّل، في

ص:131

الوقت الحاضر، ركناً أساسياً فيه، حيث استغلّت الدوائر الصهيوينة العالمية، وأجهزة المخابرات للدول الاستكبارية، ما في تاريخ المسلمين من خصومات وصراعات مذهبية، وما في تراثهم العقديّ من آفات التكفير والتبديع والتضليل، فأخذت تسخّر شتى الأجهزة من أجل نبشها وتضخيمها، وعرضها بأساليب استفزازية على القنوات الفضائية ووسائل الإعلام.

كما أنّها سلكت مختلف السبل الماكرة المحرّضة الّتي تؤدّي - في إطار تخطيط شامل - إلى تكريس التفرقة بين المسلمين، وإشعال فتيل النزاع، وتأجيج نار الصراع بينهم، بغية إشغال بعضهم ببعض، وتحويلهم إلى تيارات متناحرة فيما بينها، وصولاً للأهداف المبتغاة، وأهمها:

1. تشويه الصورة الناصعة للإسلام، الذي تعاظمت - في العقود الأخيرة - رغبة المثقّفين الغربيّين في التعرّف على مبادئه وقيمه السامية، والانتماء إليه.

2. نشر الفوضى والخراب في بلاد المسلمين، وتمزيق نسيجهم الاجتماعي، لتيسير سبل الهيمنة عليها، ونهب ثرواتها، والتحكّم بمقدّراتها.

3. محاصرة المقاومة الإسلاميّة لاسيما الشيعية منها، وتفتيت قوّتها الّتي كان لها الدور الأكبر في هزيمة الكيان الصهيوني الإرهابي في لبنان وفلسطين، وفي هزيمة أمريكا في العراق.

4. توفير الأمن للكيان الصهيونيّ ، والسعي إلى جعله القوّة الوحيدة الضاربة في المنطقة، لتكون له الغلبة عليها، وليخلو له الجوّ لتكريس وجوده وتوسيعه، وانتهاك مقدّسات المسلمين، وتحقيق سائر مآربه الشرّيرة.

كلّ هذا وغيره دعانا إلى توضيح مبادئ الكفر وأُسسه وأسبابه على ضوء الكتاب والسنّة، حتّى يتضّح للرأي العام الإسلامي والعالمي أنّ الإسلام بعيد كلّ البعد عن أفكار هؤلاء وسلوكياتهم.

وأنّه لو كان ثَمّة جرثومة فساد في المجتمع الإسلامي، فهؤلاء هم الفساد

ص:132

المجسّم حيث حالوا بين الناس وبين معرفة الإسلام الحقيقي، وصدّوهم عن اعتناقه والإيمان بمبادئه، وهذا هو أكبر الفساد، ولو كان ثَمّة منكر فيه، فأعمالهم الإجرامية الّتي لا ترحم صغيراً ولا كبيراً، هي المنكر الأخطر والأكبر الّذي يجب تطهير الأرض منه، بتأييد من اللّه سبحانه... واللّه من وراء القصد. أمّا رسالتنا هذه فتقع في ستة فصول.

الفصل الأوّل: المتطرّفون وتكفير رجال العلم في القرون السابقة

اشارة

الغلوّ عبارة عن الخروج عن حدّ الوسط وهو يتمثّل تارة في الإفراط، وإليه يشير سبحانه بقوله: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ )1، وأُخرى في التفريط ومن ابرز مصاديقه بخس حقوق الناس بذرائع واهية.

جذور التكفير في القرون الأُولى
اشارة

الحكم بالكفر على شخص أو فئة من أخطر الأُمور لما يستتبع من استباحة دماء الأُمّة وأعراضها وأموالها، والتكفير كالحكم بالإيمان حكم شرعي لا يقوم به إلّاالعالم بالكتاب والسنّة المميّز للأُصول عن الفروع وضروري الدين من ضروري الفقه، والشرك الجليّ عن الشرك الخفيّ ، والمتّفق عليه منه من المختلف فيه، إلى غير ذلك من الأُمور التي هي من اختصاصات الفقيه الجامع للشرائط.

ص:133

وأي شيء أخطر من التكفير الذي يجعل كيان المسلمين فريسة سهلة سائغة للأعداء بما يقع بينهم من الفتن.

وممّا نلفت إليه نظر القارئ الكريم هو جذور التكفير في القرون الأُولى وإن كانت خفيفة لكنّها صارت نواة نامية في ثنايا القرن الأوّل.

1. أُسامة بن زيد والآية النازلة فيه

روي عن أُسامة بن زيد قال: بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى الحُرَقَةِ من جُهينة قال: فصبّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلّااللّه، قال: فكفّ عنه الأنصاري فطعنته بُرمحي حتى قتلته، قال: فلما قَدِمنا بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه و آله قال فقال لي: يا أُسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلّااللّه، قال: قلت: يا رسول اللّه: إنّما كان متعوِّذاً. قال: اقتلته بعد ما قال:

لا إله إلّااللّه، قال: فما زال يكررها عليّ حتّى تمنيّت أنّي لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.(1)

وفي لفظ: قال لا إله إلّااللّه وقتلته، قال: قلت: يا رسول اللّه إنّما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قبله حتى تعلم أقالها أم لا.(2)

وبهذا يظهر أنّ التكفير ظاهرة نابعة عن سوء الفهم لأحكام الشريعة المقدّسة ولو كان أُسامة عالماً بحكم الشرع لما أراق دمه.

وفي هذه الواقعة نزل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ

ص:134


1- . صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قوله تعالى: (وَ مَنْ أَحْياها): 1723، برقم 6872.
2- . صحيح مسلم، كتاب الايمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلّااللّه: 67/1، و ح 99/2.

اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .(1)

2. الوليد بن عقبة بن أبي معيط والآية النازلة في حقّه

ذكر المفسرون في تفسير قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (2) أنّ هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة أنّ النبي صلى الله عليه و آله بعث الوليد بن عقبة مصدّقاً إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه فهابهم - في رواية: لإحنة كانت بينه وبينهم - فرجع إلى النبي صلى الله عليه و آله فأخبره أنّهم قد ارتدّوا عن الإسلام، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً أنّهم متمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم.

وفي رواية: أنّ النبي صلى الله عليه و آله بعثه إلى بني المصطلق بعد إسلامهم، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فأخبره أنّ القوم قد همّوا بقتله، ومنعوا صدقاتهم، فهمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله بغزوهم؛ فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فأستمر راجعاً، وبلغنا أنّه يزعم لرسول اللّه صلى الله عليه و آله أنا خرجنا لنقاتله، واللّه ما خرجنا بذلك، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وسُمّيَ الوليدُ فاسقاً أي كاذباً.(3)

وهذا النوع من التكفير إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّه الأساس لتمزيق الأُمّة الإسلامية وإضعاف المسلمين وانهدام الأمن الذي هو من أهم الحاجات الفطرية للإنسان.

ص:135


1- . النساء: 94.
2- . الحجرات: 6.
3- . تفسير الطبري: 78/26-79؛ تفسير القرطبي: 311/16-312، وغيرهما.
3. ذوالخويصرة التميمي واعتراضه على توزيع الغنائم

روى أصحاب السير والتاريخ أنّه بعد أنّ انتصر المسلمون في غزوة هوازن وقام النبي صلى الله عليه و آله بتقسيم الغنائم فإذا جاء رجل من بني تميم يقال له:

ذوالخويصرة فوقف عليه صلى الله عليه و آله وهو يعطي الناس، فقال: يا محمد، قد رأيتُ ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: أجل، فكيف رأيت ؟ فقال: لم أرك عدلت، قال: فغضب النبي صلى الله عليه و آله، ثم قال: ويحك! إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه، ألا أقتله ؟ فقال: لا، دَعه فإنّه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين، حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة.(1)

روى مسلم في صحيحه في باب الخوارج شر الخلق والخليقة عن الإمام علي عليه السلام - عند سيره إلى حرب الخوارج - قال: سمعت رسول اللّه يقول: يخرج قوم من أُمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرأون القرآن يحسبون أنّه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.(2)

4. قد صدّق الخُبر الخبر

قد اشتدت ظاهرة التكفير في غزوة صفين عند ما رضي الإمام علي عليه السلام - بضغط من جيّشه - بالتحكيم، وإليك إجمال القضية.

بعدما رفع أهل الشام المصاحف على رؤوس الرماح يدعون إلى حكم

ص:136


1- . السيرة النبوية لابن هشام: 492/2.
2- . صحيح مسلم: 116/3، ولاحظ: صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدّين باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجّة عليهم، الحديث رقم 6930 و 6931 و 6932 و 6933 و 6934.

اللّه قال الإمام علي عليه السلام: عباد اللّه إنّي أحق من أجاب إلى كتاب اللّه ولكنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وإنّي أعرف بهم منكم صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال، إنّها كلمة حقٍّ يُراد بها باطل، إنّهم واللّه ما رفعوها أنّهم يعرفونها ويعملون بها ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعةً واحدة، فقد بلغ الحقُّ مقطعه، ولم يبق إلّاأن يُقطع دابر الذين ظلموا». فجاءه زهاء عشرين ألفاً مقنعّين في الحديد شاكي السلاح، سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودّت - جباههم من السجود، يتقدمهم مِسعر بن فدكيّ ، وزيد بن حصين، وعصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لا بأمرة المؤمنين: يا عليّ ، أجب القوم إلى كتاب اللّه إذ دُعيت إليه، وإلّا فقلناك كما قتلنا ابنَ عفّان، فواللّه لنفعلنها إن لم تُجبهم.(1)

ثمّ إنّ هؤلاء الجماعة الذين ضغطوا الأمر على عليّ عليه السلام بعد كتابة وثيقة التحكيم بين الطرفين، ندموا من أمرهم التحكيم فجاءوا إلى علي عليه السلام وقد سلّوا سيوفهم واضيعها على عواتقهم، وكان الإمام في خطبة له - فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما تنتظر بهؤلاء القوم أن نمشي إليهم بسيوفنا حتّى يحكم اللّه بيننا وبينهم بالحق. فقال لهم عليّ عليه السلام: «قد جعلنا حُكمَ القرآن بيننا وبينهم، ولا يحلُّ قتالهم حتّى ننظر بم يحكم القرآن».(2)

ولكنهم كانوا يصرون على نقض العهد، وكان شعارهم في المسجد عندما كان علي يخطب: «الحكم للّه لا لك يا علي ولا لأصحابك» والإمام يسامحهم قائلاً: «أمّا إنّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا،

ص:137


1- . وقعة صفين لنصر بن مزاحم: 489-490.
2- . وقعة صفين: 497.

وإنّما فيكم أمر اللّه. ثمّ رجع إلى مكانه من الخطبة.(1)

كانت الحال على هذه الشاكلة ولكن لما بلغ السيل الزبى وبلغ أنّهم قتلوا عبد اللّه بن خبّاب صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم ير بداً من استئصال شأنهم حتى قضى عليهم في حرب النهروان.(2)

5. مسألة خلق القرآن وتفرّق الأُمّةً

لا أُريد أن أخدش في العواطف ولكن نرى قسماً ممن دوّن عقيدة أهل الحديث والحنابلة خلطوا بين المسائل الكلامية والمسائل التي يدور عليها الإسلام والإيمان.

وهذا هو النبي صلى الله عليه و آله يحدد الإسلام بقوله - عندما سأله الإمام علي عليه السلام في غزوة خيبر - قائلاً: يا رسول اللّه على ما أقاتلهم ؟ فقال صلى الله عليه و آله: «على أن يشهدوا أن لا إله إلّااللّه وانّي رسول اللّه فإذا فعلوا ذلك فقد حقنوا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على اللّه عزّ وجلّ ».(3)

وروى عبد اللّه بن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمداً رسول اللّه، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّابحق الإسلام أو حسابهم على اللّه».(4)

ومع ذلك نرى أنّ بعض مَن كتب رسالة في العقيدة الإسلامية جعل المسائل الكلامية من الضروريات التي لو انكرها أحد فقد كفر.

يقول أحمد بن حنبل: والقرآن كلام اللّه ليس بمخلوق فمن زعم أنّ القرآن

ص:138


1- . الكامل في التاريخ: 335/2.
2- . اقرأ تفصيل ذلك في الكامل في التاريخ: 341/3-348.
3- . المستدرك للحاكم: 38/3.
4- . صحيح البخاري: 26، برقم 25، كتاب الإيمان.

مخلوق فهو جهميّ كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام اللّه ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ الفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللّه فهو جهميّ ، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم.(1)

من أين جعل هذه المسائل مداراً للإيمان والكفر، فإن أراد من قوله:

القرآن مخلوق أي مختلق، فهذا ممّا لا شبهة في كفر القائل به، حيث أنكر الرسالة، وأمّا لو أراد غير هذا فالجميع مسائل كلامية لا تُعدّ ميزاناً للكفر والإيمان.

6. مرتكب الكبيرة

ممّا أثار الفتنة بين المسلمين موضوع مرتكب الكبيرة فالازارقة من الخوارج كفّروا مرتكبها(2)، وبما أنّ التحكيم عندهم كان كبيرة كفّروا بها أصحاب التحكيم.

وأمّا المعتزلة فلم يكفروا بها مرتكبها لكنهم حكموا بكونه غير مؤمن وجعلوه وسطاً بين الإيمان والكفر وحكموا بخلوده في النار إذا مات من غير توبة.(3)

لا شكّ انّ كلا القولين بمعزل من التحقيق لأنّ صريح الكتاب في مرتكب الكبيرة وأنّه في معرض الرحمة، يقول سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) .(4)

فإنّ المراد من الغفران هو الغفران بلا توبة و إلّافالغفران معها يشمل

ص:139


1- . كتاب السنّة: 44-50.
2- . الفرق بين الفرق: 83، الملل والنحل: 121/1.
3- . الانتصار: 5، مقالات الإسلاميين: 278/1.
4- . النساء: 48.

الشرك وغير الشرك مع أنّه سبحانه يفصّل بين الشرك وغيره بأنّ الأوّل لا يغفر بخلاف الثاني.

وليست الآية إلّاأنّها بصيص من الرجاء بالنسبة إلى مرتكبي الكبائر، حتى يصلح حالهم فيما يأتي في مستقبل حياتهم.

فهذه الفتاوى وما أشبهها التي لا تستند إلى دليل من الكتاب والسنّة هي التي حملت جمعاً من الشباب المتحمّسين على إيجاد الفتنة وإشعال نار الحرب عبر القرون، وسنذكر نماذج من ذلك:

1. محنة الطبري (224-310 ه)

قبل أن نشير إلى محنة محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، نودّ أن نتعرّف على مكانته العلمية من خلال كلمات بعض الأعلام.

قال الخطيب البغدادي في حقّه: أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحدٌ من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب اللّه، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين... عارفاً بأيام الناس وأخبارهم.(1)

وقال الذهبي: كان من أفراد الدهر علماً، وذكاء، وكثرة تصانيف. قلّ أن ترى العيون مثله. ثم قال: جمع طرق حديث غدير خم في أربعة أجزاء، رأيت شطره، فبهرني سعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك. وأضاف: وكانت الحنابلة حزبَ أبي بكر بن أبي داود(2)، فكثّروا وشغَّبوا على ابن جرير، وناله أذى، ولزم

ص:140


1- . تاريخ بغداد: 2/163، الترجمة 589.
2- . أبو بكر عبداللّه بن سليمان بن الأشعث السِّجستاني (230-316 ه) قال ابن عدي: كان في الابتداءيُنسب إلى شيء من النَّصْب، فنفاه ابن الفرات من بغداد إلى واسط، فردّه ابن عيسى فحدّث، وأظهر

بيته، نعوذ باللّه من الهوى.(1)

وكان ابن جرير قد دفن ليلاً بداره لأنّ العامّة - كما ذكر ابن مِسكويه - اجتمعت ومنعت من دفنه نهاراً، واتهموه بأمرين:

أ. ادّعوا عليه الرفض.

ب. ادّعوا عليه الإلحاد.

وكان علي بن عيسى(2) يقول: واللّه لو سُئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه.(3)

أمّا ابن الأثير فعلّل دفنه ليلاً بداره، بالقول: إنّ بعض الحنابلة تعصّبوا عليه، ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم، ولذلك سبب، وهو أنّ الطبري جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء، لم يصنّف مثله ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن فقيهاً، وإنّما كان محدّثاً، فاشتدّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يُحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه وقالوا ما قالوا.

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً إنّه لدميم(4)

2. هدم جامع (براثا)

قال أبو صالح بن أحمد بن عيسى السليلي في كتابه «الفتن» بعد أن ذكر

ص:141


1- . سير أعلام النبلاء: 14/277، الترجمة 175.
2- . علي بن عيسى بن داود ابن الجرّاح (244-334 ه): وزير المقتدر العباسي والقاهر، وأحد العلماءالرؤساء من أهل بغداد. له كتب منها: «ديوان رسائل» و «معاني القرآن» أعانه عليه ابن مجاهد المقري. الأعلام: 4/317.
3- . الكامل في التاريخ: 8/134 (نقله عن ابن مسكويه).
4- . الكامل في التاريخ: 8/134-135.

فضل جامع براثا الّذي يؤمّه الشيعة ببغداد: فرأيت مسجد براثا وقد هدمه الحنبليون وحفروا قبوراً فيه، وأخذوا أقواماً قد حُفر لهم قبور فغلبوا أهل الميت ودفنوهم فيه، إرادةَ تعطيل المسجد وتصييره مقبرة، وكان فيه نخل فقُطع، وأُحرق جذوعه وسقوفه، وذلك في سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة.(1)

3. التطرّف في تفسير الصفات الخبرية

ذكر ابن الأثير في حوادث سنة (323 ه)، فتنة المتطرّفين (من الحنابلة) في بغداد وأنّهم يأخذون الرجال إذا مشوا مع النساء والصبيان ويحملونهم إلى صاحب الشرطة ويشهدون عليهم بالفاحشة، فأرهجوا بغداد.

إلى أن قال: وزاد شرّهم وفتنتهم، واستظهروا بالعميان وكانوا إذا مرّ بهم شافعي المذهب أغروا به العميان، فيضربونه بعصيّهم حتّى يكاد يموت، فخرج توقيع الراضي بما يُقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم، ويوبّخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه: تارة أنّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون الكفّ والأصابع والرجلين والنعلين المذهَّبين، والشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، تبارك اللّه عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، ثم طعنكم على خيار الأئمة، ونسبتكم شيعة آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم إلى الكفر والضلال، ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة الّتي لا يشهد بها القرآن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمة، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف، ولا نسب، ولا سبب برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وتأمرون بزيارته، وتدّعون له معجزات الأنبياء، وكرامات

ص:142


1- . نقله عنه السيد ابن طاووس في: التشريف بالمنن في التعريف بالفتن (المعروف بالملاحم والفتن): 261، برقم 379، الباب 48.

الأولياء، فلعن اللّه شيطاناً زيّن لكم هذه المنكرات، وما أغواه.(1)

4. فتنة الجهر بالبسملة

يقول ابن الأثير: في هذه السنة (يعني 447 ه) صارت مسألة الجهر بالبسملة والمخافتة بها سبباً للفتنة بين فقهاء الشافعية والحنابلة، فالطائفة الثانية أنكروا الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، ومنعوا من الترجيع في الأذان، والقنوت في الفجر، وأتى الحنابلة إلى مسجدٍ بباب الشعير فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفاً وقال: أزيلوها من المصحف حتّى لا أتلوها.(2)

5. إحراق مسجد الشوافع

لم يكن اختلاف الحنابلة مع الشافعية - حسب زعمهم - إلّافي الفروع، لأنّ أئمتهم كانوا مختلفين فيها، لا في الأُصول الّتي يناط بها الإيمان، ومع ذلك نرى أنّ الحنابلة ربّما يحرقون مسجد الشوافع تعصُّباً.

وإلى هذا أشار ابن جنيد حيث قال: وقد بنى وزير خوارزم شاه للشافعية بمرو جامعاً مشرفاً على جامع الحنفية، فتعصّب شيخ الإسلام (بمرو) وهو مقدّم الحنابلة بها، وجمع الأوباش، فأحرقه. فأنفذ خوارزم شاه فأحضر شيخ الإسلام وجماعة ممّن سعى في ذلك، فأغرمهم مالاً كثيراً.(3)

6. التشكيك في شيخ الأشاعرة

إنّ علي بن إسماعيل المعروف بأبي الحسن الأشعري كان معتزلياً ثم أعلن براءته من هذا المذهب والتحق بمذهب الإمام أحمد، ومع ذلك نرى أنّ الحنابلة

ص:143


1- . الكامل في التاريخ: 8/308.
2- . الكامل في التاريخ: 9/614، حوادث عام 447 ه.
3- . الكامل في التاريخ: 12/158، حوادث عام 596 ه.

لا يعدّونه من أهل السنّة كما لا يعدّون أتباعه الذين يمثّلون كثيراً منهم من أهل السنّة، والتاريخ حافل بوجود منازعات كثيرة بين الحنابلة والأشاعرة، إلى أن احتاج رئيس الأشاعرة في وقته إلى استفتاء أرسله إلى مشاهير العلماء في حال الإمام الأشعري، فكتب كلّ شيئاً في علمه وسيرته، ومع ذلك نرى أنّ نار الفتنة كانت تشتعل بين فينة وأُخرى، حتّى أنّ السبكي خصّص فصلاً يشرح فيه حال الفتنة الّتي وقعت في نيشابور، وآلت إلى خروج أكابر العلماء من تلك المنطقة، وكان ذلك في أيام سلطة طغرل بك السلجوقي ووزيره أبي نصر منصور بن محمد الكندري، وقد وصف السبكي هذه الفتنة بقوله:

وهذه هي الفتنة الّتي طار شررها فملأ الآفاق، وطال ضررها فشمل خراسان، والشام، والحجاز، والعراق، وعظم خطبها وبلاؤها، وقام في سَبِّ أهل السنّة خطيبها وسفهاؤها، إذ أدّى هذا الأمر إلى التصريح بلعن أهل السنّة في الجُمَع، وتوظيف سبّهم على المنابر، وصار لأبي الحسن (الأشعري) بها أُسوة بعليّ بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه)، في زمن بغض بني أُمية، حيث استولت النواصب على المناصب، واستعلى أُولئك السفهاء في المجامع والمراتب.(1)

7. موت البوريّ بحلواء مسمومة

يذكر الجزري في حوادث سنة (567 ه): أنّه مات فيها البوريّ ، الفقيه الشافعيّ ، تفقّه على محمد بن يحيى، وقدم بغداد ووعظ، وكان يذمّ الحنابلة، وكثرت أتباعه، فأصابه إسهال فمات هو وجماعة من أصحابه، فقيل: إنّ الحنابلة أهدوا له حلواء، فمات هو وكلّ مَن أكل منها.(2)

ص:144


1- . طبقات الشافعية: 3/391.
2- . الكامل في التاريخ: 376/11.
8. قتل الأشاعرة في المدرسة النظامية

كان أبو نصر بن أبي القاسم القشيري(1) إماماً على مذهب الإمام الأشعري، فلمّا ورد بغداد حاجّاً جلس في المدرسة النظامية يعظ الناس... و جرى له مع الحنابلة فتن، لأنّه تكلّم على مذهب الأشعري ونصرَه، وكثر أتباعه والمتعصّبون له، وقصد خصومه من الحنابلة ومن تبعهم سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة، وكان من المتعصّبين للقشيري الشيخ أبو إسحاق، وشيخ الشيوخ وغيرهما من الأعيان، وجرت بين الطائفتين أُمور عظيمة.(2)

لم يكن الإمام الأشعري ولا أتباعه مختلفين مع الحنابلة في توحيده سبحانه ولا في رسالة نبينا محمد صلى الله عليه و آله و سلم ولا في معاوية، وإنّما كانوا يختلفون في التنزيه والتشبيه، أفيكون هذا مسوّغاً لإراقة الدماء؟!

هذا شيء قليل من أعمال المتطرّفين عبر قرون، وتحاملهم على رجال العلم والإصلاح من دون دليل وبرهان.

ونكتفي بهذه الشواهد دون حاجة للاستطراد في ذكر الأعمال الإجرامية الّتي حدثت في القرون الوسطى .

وممّا يدلّ على جهل المتعصّبين بمعايير الإيمان والكفر أنّهم كفّروا الأشاعرة أو قتلوهم في أُمور لا تمتّ إلى الإيمان والكفر وإنّما هي مسائل كلامية نظير الصفات الخبرية - أعني: العين واليد والاستواء للّه سبحانه - فالحنابلة يأخذون بها في المعنى اللغوي كما مرّ في بيان الراضي العباسيّ ، والأشاعرة من أهل التنزيه يفسّرونها بوجه لا يوجب التشبيه والتجسيم، وقد مرّ أنّهم آذوا إمام المسجد بحجّة أنّه يجهر بالبسملة. والجهر بها أو القنوت في صلاة الفجر -

ص:145


1- . فهرست النديم: 271؛ وفيات الأعيان: 285/3.
2- . الكامل في التاريخ: 10/104-105، حوادث عام 469 ه.

اللّذين آذوا بسببهما إمام المسجد - حكم فرعي خاضع للاجتهاد، فللمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد، وإمام المسجد لم يكن خارجاً عن أحدهما.

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً * اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (1).

الفصل الثانى: إدانة تكفير أهل القبلة على لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم

إنّ للإيمان والكفر معايير واضحة في الكتاب والسنّة، ولم تفوَّض تلك المعايير إلى أحد حتّى يكفّر من شاء ويعدّ من شاء مؤمناً، وإنّما يتبع كون الرجل مؤمناً أو كافراً تلك المعايير الّتي وردت في الكتاب والسنّة وحفلت بذكرها كتب علماء الفقه والتفسير والكلام. وممّا يؤسف له أنّ أدعياء العلم والاجتهاد يكفّرون أُمّة كبيرة من المسلمين بلا دليل ولا برهان وإنّما يتّبعون الهوى، كما سيظهر من خلال البحث.

وأمّا إدانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّ مَن يكفّر أهل التوحيد فتظهر من كلامه حول قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) .(2)

1. روى البخاري عن أُسامة بن زيد قال: بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الحُرَقة [من جُهَينة] فصبَّحْنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً

ص:146


1- . الكهف: 103-104.
2- . النساء: 94.

منهم، فلمّا غشيناه قال: لا إله إلَّااللّه، فكفّ الأنصاري، فطعنته برُمحي حتّى قتلته، فلمّا قدمنا بلغَ النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «يا أُسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلّااللّه ؟» قلت:

كان متعِّوذاً، فمازال يكرّرها حتّى تمنيّت أنّي لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.(1)

2. روى أبو يعلى الموصلي وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: بعث عليٌّ إلى رسول اللّه من اليمن بذَهَبة في أدَمٍ مقروظ(2) لم تحصَّل(3)، فقسمها بين أربعة نفر: زيد الخيل، والأقرع بن حابس، وعُيَينة بن حِصْن، وعلقمة بن عُلاثة، فقال ناس من المهاجرين والأنصار: نحن كنا أحقّ بهذا، فبلغه ذلك فشقّ عليه... إلى أن قال فقام إليه [آخر] فقال: يا رسول اللّه اتّق اللّه... فقام خالد... فقال:

يا رسول اللّه ألا أضرب عنقه ؟ فقال: لا، إنّه لعلّه يصلّي. قال: إنّه إنْ يصلّي يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال: «إنّي لم أُومر أن أشقَّ (4) عن قلوب الناس، ولا أشقّ بطونهم».(5)

3. أخرج أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «أيّما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً، فإن كان كافراً وإلّا كان هو الكافر»(6).

4. أخرج مسلم عن ابن عمر أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما»(7).

ص:147


1- . صحيح البخاري: 3/86، كتاب المغازي، برقم 4269؛ المصنّف: 10/173، برقم 18720.
2- . في البخاري: «أديم». والأدم جمع أديم، وهو الجلد، والمقروظ: المصبوغ بالقرظ، وهو حبٌّكالعدس يخرج من شجر العضاه.
3- . في البخاري: «لم تحصل من ترابها». والمعنى : لم تميّز ولم تُصفّ من التراب.
4- . في البخاري: أنقُب.
5- . مسند أبي يعلى الموصلي: 2/391، برقم 1163؛ مسند أحمد: 3/371، برقم 10625، وفي الطبعة القديمة: ج 3 ص 4؛ صحيح البخاري: 3/107، برقم 4351، كتاب المغازي.
6- . سنن أبي داود: 4/221، برقم 4687، كتاب السنّة.
7- . صحيح مسلم: 1/56، باب مَن قال لأخيه المسلم: يا كافر، من كتاب الإيمان.

5. أخرج الترمذي في سننه عن ثابت بن الضحاك، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«ليس على العبد نذر فيما لا يملك، ولاعن المؤمن كقاتله، ومَن قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله...»(1).

***

وعلى ضوء هذه الأحاديث المتضافرة والكلمات المضيئة عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم يعلم أنّ تكفير مسلم ليس بالأمر الهيّن بل هو من الموبقات، قال سبحانه: (وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) .(2)

ونؤكد مرّة أُخرى ، أنّ المسلمين لم يزالوا منذ قرون غرضاً لأهداف المستعمرين ومخطّطاتهم في بثّ الفرقة بين صفوفهم وجعلهم فرقاً وأُمماً متناحرة ينهش بعضهم بعضاً، وكأنّهم ليسوا من أُمّة واحدة، كلّ ذلك ليكونوا فريسة سائغة للمستعمرين، وبالتالي ينهبون ثرواتهم ويقضون على عقيدتهم وثقافتهم الإسلاميّة بشتّى الوسائل، ولأجل ذلك نرى أنّهم ربما يُشعلون نيران الفتن لأجل مسائل فقهية لا تمتّ إلى العقيدة بصلة، فيكفّر بعضهم بعضاً مع أنّ المسائل الفقهية لم تزل مورد خلاف ونقاش بين الفقهاء.

الفصل الثالث: إدانة علماء المسلمين تكفير أهل القبلة

اشارة

إذا كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو القدوة والأُسوة للمسلمين عامّة وللعلماء

ص:148


1- . سنن الترمذي: 5/22، برقم 2636، كتاب الإيمان.
2- . آل عمران: 105.

الواعين المخلصين خاصّة، فقد قاموا بالدعوة إلى توحيد الكلمة ورصّ الصفوف وجمع عامّة المسلمين تحت خيمة الإسلام والإيمان، إلّامَن أنكر أحد الأُصول الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد، أو أنكر ما يلازم أحد هذه الأُصول.

وإليك بعض كلماتهم:

1. كلمة الشيخ الجليل الأقدم الفضل بن شاذان الأزدي:

(1)

ولو جعلتم للذين تسمّونهم الرافضة ما في الأرض من ذهب أو فضة على أن يستحلّوا قتل رجل مسلم، أو أخذ ماله، ما استحلّوا ذلك إلّامع إمام مثل عليّ صلوات اللّه عليه في علمه بما يأتي وما يذر، وهو المهدي الّذي تروون أنّه يعدل بين الناس.(2)

2. كلمة الإمام الأشعري:

قال أحمد بن زاهر السرخسي الأشعري: لمّا حضرت الوفاة لأبي الحسن الأشعري في داري ببغداد أمر بجمع أصحابه ثم قال: اشهدوا عليَّ أنّني لا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمّهم.(3)

3. كلمة ابن حزم في المقام

قال ابن حزم الظاهري: وذهبت طائفة إلى أنّه لا يُكفَّر ولا يفسَّق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وإنّ كلّ مَن أجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى

ص:149


1- . المتوفّى (260 ه). وكان من كبار فقهاء الإمامية ومتكلّميهم، كثير التصانيف. قال النجاشي: وهو في قدره أشهر من أن نصفه. رجال النجاشي: 306-307 برقم 840.
2- . الإيضاح: 208، مؤسسة الأعلمي، 1402 ه.
3- . اليواقيت والجواهر للشعراني: 2/126، طبعة عام 1378 ه.

أنّه الحقّ فإنّه مأجور على كلّ حال، إن أصاب الحق فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد. وهذا قول ابن أبي ليلى ، وأبي حنيفة، والشافعي، وسفيان الثوري، وداود، وعلي عليه السلام، وهو قول كلّ مَن عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة، ما نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً.(1)

4. كلمة القاضي الإيجي

قال القاضي الإيجي: قال جمهور المتكلّمين والفقهاء على أنّه لا يكفَّر أحد من أهل القبلة. واستدلّ على مختاره بقوله: إنّ المسائل التي اختلف فيها أهل القبلة من كون اللّه تعالى عالماً بعلم أو موجداً لفعل العبد أو غير متحيّز ولا في جهة ونحوها لم يبحث النبي عن اعتقاد من حكم بإسلامه فيها ولا الصحابة ولا التابعون، فعلم أنّ الخطأ فيها ليس قادحاً في حقيقة الإسلام.(2)

5. كلمة تقي الدين السبكي

قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي: إنّ الإقدام على تكفير المؤمنين عسر جدّاً، وكلّ مَن في قلبه إيمان، يستعظم القول بتكفير أهل الأهواء والبدع مع قولهم لا إله إلّااللّه، محمد رسول اللّه، فإنّ التكفير أمر هائل عظيم الخطر.(3)

6. كلمة التفتازاني

قال: إنّ مخالف الحقّ من أهل القبلة ليس بكافر ما لم يخالف ما هو من ضروريات الدين كحدوث العالم وحشر الأجساد، واستدلّ بقوله: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومن بعده لم يكونوا يفتشون عن العقائد وينبهون على ما هو الحق.(4)

ص:150


1- . الفصل لابن حزم: 3/291.
2- . المواقف: 392.
3- . اليواقيت والجواهر: 2/125.
4- . شرح المقاصد: 5/227.

هذا قليل من كثير من كلمات علماء الإسلام ممّن تنبض قلوبهم رغبة بوحدة المسلمين ورفض أي محاولة لتمزيقهم وهدم كيانهم، فلنذكر شيئاً من كلمات علمائنا المعاصرين:

لمّا أفتى الشيخ عبداللّه بن عبدالرحمن الجبرين بتكفير أتباع أهل البيت وهدر دمائهم مقرونة بسيل من التهم الباطلة والشبهات المختلقة، قامت مجموعة من علماء أهل السنّة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي باستنكار تلك الفتوى الشاذّة عن الكتاب والسنّة والّتي تفرّق الأُمة الإسلاميّة وتمزّق أوصالها، فلنذكر شيئاً من كلماتهم ضمن رسائلهم الّتي أرسلوها إلى العلّامة الحجّة الشيخ التسخيري الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام:

1. كلمة الدكتور سامي حمّود (المدير العام لمركز البحوث والاستشارات العالمية الإسلاميّة - عمّان - الأردن)، قال:

وقد أسفت لصدور مثل هذه الفتوى عمّن يدّعي العلم بالدين، وهو يخالف أمر اللّه للمسلمين بالوحدة والاعتصام بحبل اللّه المتين، وكأنّه لم يقرأ قول اللّه تعالى: (وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) (1).

2. كلمة عبداللّه بن عبد الرحمن البسّام «رئيس الدائرة الحقوقية الأُولى في محكمة التمييز في المنطقة الغربية، وزارة العدل، المملكة العربية السعودية»:

قال:

كلّ ما أشار إليه فضيلتكم - مخاطباً الشيخ التسخيري - هو عين الحق والصواب وهو الّذي نسأل اللّه تعالى أن يحقّقه لتجتمع الكلمة ويتوحّد الصّف، ويكون للإسلام قوّة في وجه أعدائه، إلى أن يقول: ونحن في عصر نُبذ فيه

ص:151


1- . البقرة: 191.

التعصّب، فدعونا نجتمع ونتوحّد على دين اللّه ونتعاون على إعلاء كلمة اللّه ونشر دينه ونشل البشرية الضالّة من حضيض الجهل بدين ربها إلى العلم به.

3. كلمة محمد كمال آدم (عضو مجلس العلماء في أثيوبيا).

قال: لاشكّ أنّ هذه الفتاوى مستنكرة لدى كلّ المسلمين عامّة ولدى كلّ العلماء المخلصين خاصّة، وإصدار مثل هذه الفتاوى الباطلة لا يحقّق إلّاالخدمة للمستكبرين، ومحاولة لتشتيت شمل المسلمين لكي لا يتّحدوا لمواجهة قوى الشر والباطل.

4. كلمة محمد عبده اليماني «رئيس جمعية اقرأ الخيرية، في جدّة»، قال:

إنّ وحدة الأُمّة الإسلاميّة وتلاحمها بوجه أعدائها الذين يحيكون لها المؤمرات من أهم الضرورات، هذا أمر لا يختلف عليه عاقل ويجب أن تنسى الأُمّة كلّ خلافاتها الاجتهادية، الّتي لا تمس التوحيد وأُصول الإيمان، وتنصهر في بوتقة واحدة استجابة لأمر اللّه تعالى: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (1).

5. كلمة أحمد جمال (العضو الخبير لمجمع الفقه الإسلامي - مكّة - الزاهر). قال:

أسفت لما ذكّرتم به من صدور بعض الفتاوى ضد الشيعة بما لا دليل عليه، ووجهة نظري في المسألة أحد أمرين:

إمّا الصبر والصمت وإهمال المسألة وعدم الاهتمام بها، وإمّا الرد عليها بالحجج والأدلّة الّتي تبطل الفتوى وتظهر أنّها مجرد دعوى.

ص:152


1- . آل عمران: 103.

6. كلمة محمود علي السرطاوي (كلية الشريعة - الجامعة الأردنية) قال:

إنّ المفتي لم يستند فيما ادّعاه إلى مستند شرعي من الكتاب الكريم أو السنّة النبوية المطهّرة وعمل السلف وأقوالهم، بل كان دليله الهوى، ولا حول ولا قوة إلّاباللّه العلي العظيم.

عجباً عجباً، هل يستحلّ الأخ الكريم ذبيحة اليهود والنصارى، والزواج منهم، ويحرّم ذبيحة إخواننا من الشيعة الذين يؤمنون باللّه رباّ وبمحمد نبياً ورسولاً وبالقرآن الكريم كتاباً منزلاً من عند اللّه تعالى على قلب محمد صلى الله عليه و آله و سلم وباليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشرّه.

7. كلمة الدكتور محمد علي محجوب (وزير الأوقاف المصري آنذاك، رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة).

قال: لقد تلقّيت كتابكم بشأن الرأي في صدور القتل الجماعي لأتباع مذهب أهل البيت... إلى أن يقول: وكما تعلمون أنّنا في مصر نعاني من مثل هذه الآراء الجافّة والتطرّف في الحكم والفتيا والّذي لن يخلص منه مجتمعنا المسلم إلّا حين تأخذ الوسطية الإسلاميّة طريقها إلى التمكّن ويفسح لها الجميع حتّى تسود وتعلو.

8. كلمة الدكتور طه جابر العلواني (أُستاذ الفقه والأُصول في جامعة محمد بن سعود الإسلاميّة في الرياض).

قال: نحن في عصر قد تكاثرت فيه الأُمم على المسلمين وتداعت عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، ونحن حريّون بأن نتذكر على الدوام قول اللّه

ص:153

تعالى: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (1) ونبذ ذلك التراث المفرّق لكلمة المسلمين المدّمر لوحدة الأُمة... إلى أن قال: إنّ ما نعرفه عن عقائد الشيعة وما يصرّح به أئمتهم المعتبرون كما هو ظاهر في مؤلّفاتهم ويعلن به مشايخهم أنّهم يؤمنون باللّه ربّاً وبمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم نبيّاً ورسولاً ويؤمنون باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويؤمنون بأنّ الإمامة منصب ديني بعد النبوة، وأنّ الأئمة من آل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هم أئمة حق يوالونهم بالمودّة والمحبّة، ولكنّهم لا يؤمنون بألوهيّة الإمام علي عليه السلام أو نبوته.

9. كلمة الشيخ أحمد حمد الخليلي (المفتي العام لسلطنة عمان).

قال: قد اطّلعت على الفتوى الحمقاء الّتي تشرك طائفة لا يستهان بها من أُمّة الإسلام وتدعو إلى قتلهم وهذا ممّا يكون له أبلغ الأثر في إضعاف هذه الأُمّة.

إنّ صدور فتوى كهذه منهم لدليل واضح على ضيق أُفقهم وضحالة تفكيرهم وعدم تخلّقهم بأخلاق العلماء، وأنّهم دعاة فرقة لا وحدة، ودعاة شقاق لا وفاق، وإنْ هم إلّاأداة طيّعة في أيدي أعداء الإسلام - وعَوا ذلك أم لم يعوه - يستغلّونهم في تفتيت الأُمة الإسلاميّة وتمزيق شملها وإبقائها في سبات عميق بعيدة عن فهم الإسلام والعمل بجوهره.

10. كلمة الشيخ عبدالحميد السائح (رئيس المجلس الوطني الفلسطيني)

قال: إذا كان طعام أهل الكتاب بنصّ القرآن حلالاً لنا، ويشمل ذلك الذبح فكيف نحرّم ذبيحة من هو معروف من المسلمين، ولم نتوضح عقيدته، أو لم يصرّح هو شخصه باعتقاده تلك التهم الّتي تستوجب التكفير، والأصل في

ص:154


1- . آل عمران: 103.

الإسلام براءة الذمّة، ولذلك لا يجوز أن نحكم بأنّ فئة من المسلمين لا تؤكل ذبائحهم، بناء على تلك الأقاويل الّتي لا ترقى إلى درجة اليقين والقطع.(1)

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ) (2)

الفصل الرابع: أسباب نشوء ظاهرة التكفير

اشارة

من أسباب التكفير جهل المكّفر أو تجاهله لمذهب مَن يرميه بالكفر، وهذا هو الّذي جرّ البلاء على المسلمين طوال قرون، ولأجل أن يقف القارئ على نماذج من هذا النوع من التجاهل الّذي لا يغفر أبداً، نذكر ما يلي:

1. اختلاق خيانة الأمين

يزعمون أنّ الشيعة تقول: إنّ النبوة كانت لعلي عليه السلام ولكنّ جبرئيل خان الأمانة وأعطاها لمحمد صلى الله عليه و آله و سلم، وقد ألف القصيمي(3) كتاباً باسم «الصراع بين الإسلام والوثنية» وأراد من الوثنية الشيعة الإمامية، وأتى آخر فقرّضه بشعره وعرّف الشيعة الإمامية بقوله:

ويحمل قلبهم بغضاً شنيعاً لخير الخلق ليس له دفاعُ

ص:155


1- . تم نقل هذه النصوص عن مجلة رسالة الثقلين، العدد 2، السنة 1، 1413 ه. (83-97).
2- . ق: 37.
3- . عبداللّه القصيمي (1903-1995 م) وهابي تزندق في آخر عمره، وألف كتاباً باسم: «كيف ذلّ المسلمون» ثم ألف كتاباً آخر باسم: «هذي هي الأغلال»، وقد آثار الكتاب الثاني غضب الوهابيين، فقام بعضهم بالرد عليه بكتاب أسماه: الرد القويم على ملحد القصيم، ثم توالت الردود على كتابه حتّى أنّهم انشأوا فيه قصائد، ورد في أحدها هذا البيت: هذا القصيمي في الأغلال قد كفرا وفاه بالزيغ والإلحاد مشتهرا

يقولون الأمين حبا بوحي وخان وما لهم عن ذا ارتداعُ

فهل في الأرض كفر بعد هذا وحرثُهمُ لمن يهوى متاعُ

فما للقوم دينٌ أو حياءٌ وحسبهمُ من الخزي «الصراع»(1)

أقول: إذا كان هذا مبلغ علم إمام المسجد الحرام وخطيبه فما ظنّكم بحال من هم تحت منبره.

وما نسبه إلى الإمامية من أعظم التهم الّتي سمعت بها أُذن الدنيا بالنسبة إلى أُمّة يعبدون اللّه سبحانه وحده، ويؤمنون بأنبيائه وعلى رأسهم النبي الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم وكتابه وشريعته وسننه، كما يؤمنون بأمانة أمين الوحي جبرئيل الّذي يصفه سبحانه بقوله: (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (2).

وقوله: (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ) .(3)

والشيعة يتلون كتاب اللّه آناء الليل وأطراف النهار، فكيف يصفون الأمين بالخيانة ؟!

فهلمّ معي لنوقفك على مصدر التهمة، وهو رواية منقولة عن الشَّعبي (المتوفّى 103 ه)، جاء فيها: (واليهود تبغض جبرئيل وتقول: هو عدوّنا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول: غلط جبريل في الوحي إلى محمد بترك علي بن أبي طالب)(4).

ص:156


1- . الأبيات من قصيدة للشيخ عبدالظاهر أبي السمح إمام المسجد الحرام وخطيبه آنذاك. توفّي سنة (1370 ه).
2- . البقرة: 97.
3- . البقرة: 98.
4- . العقد الفريد: 2/249-250، تحقيق الدكتور مفيد محمد قميحة. ورواها ابن شاهين (المتوفّى 385 ه) بإسناده عن عبدالرحمن بن مالك بن مِغْول، عن أبيه عن الشعبي. ذكر ذلك ابن تيمية في: منهاج السنة: 1/23.

والرواية المنقولة عن الشعبي من السخافة بمكان، لأُمور منها:

1. أنّ الشعبيّ يسمّي الشيعة بالرافضة، وهذا اللقب الّذي نُبز به الشيعة، ذكر مؤرّخو السنّة أنّه عُرف عند قيام زيد بثورته ضد الحكم الأُموي عام (122 ه) أي بعد وفاة الشعبي بنحو (19) عاماً، فأمّا أن يكون هذا اللقب قد ورد قبل هذا، وهو ما لا تقول به رواياتهم، أو أنّ الرواية مخترعة، وهو الأصحّ .

2. قد وقع في سند هذه الرواية: عبدالرحمن بن مالك بن مِغْول، وهو مجروح عند نقّاد السنّة. قال أحمد والدارقطني: متروك. وقال أبو داود: كذّاب.

وقال مرّة: يضع الحديث. وقال النسائي وغيره: ليس بثقة.(1)

وقد شاء اللّه تعالى أن يفتضح هذا الكذّاب، فقد روى زكريا بن يحيى الساجي بإسناده عنه، عن أبيه، عن الشعبي، قال: ائتني بزيديٍّ صغير أُخرج لك منه رافضياً كبيراً...

نقل ذلك عنه الذهبيّ ، وعلّق عليه بالقول: إنّ الزيدية إنّما وُجدوا بعد الشعبيّ بمدّة.(2)

3. ألا تكفي آلاف المنائر والمساجد عند الشيعة، والّتي تصرخ ليل نهار:

أشهد أنّ محمداً رسول اللّه، للتدليل على أنّ هذه القصة فرية مفتعلة.

4. أنّ كتب عقائد وفقه الشيعة تملأ الدنيا، فهل يوجد في كتاب واحد منها ما يشير إلى هذه الفرية، ونرضى بأن يكون حتّى من المخرّفين ممّن نراهم عند

ص:157


1- . ميزان الاعتدال: 2/584، برقم 4949.
2- . المصدر نفسه، وفيه: (هكذا رواه زكريا الساجي عنه. ورواه غير الساجي عن ابن المثنى ، فقال فيه - بدل زيدي: شيعي. وهذا أشبه، فإنّ الزيدية إنّما وُجدوا بعد الشعبيّ بمدّة). ولم يذكر لنا الذهبي اسم هذا الراوي رحمه اللّه تعالى . هذا، ويعدّ الساجي من الثقات عندهم، وقد مات في سنة (307 ه).

فئة أُخرى. إنّنا نطالب بمصدر واحد اعتمد عليه هؤلاء في نقل ما نقلوه.(1)

2. نسخ الشريعة عن طريق البداء

إنّ البداء حقيقة قرآنية تضافرت الآيات عليها وحقيقتها أنّه ليس للإنسان تقدير واحد لا يتغيّر، بل يمكن للإنسان أن يبدل تقديره بعمل صالح أو طالح، قال سبحانه: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (2).

إلى غير ذلك من الآيات الّتي تدلّ على أنّ للإنسان أن يبدل تقديره بعمله إمّا إلى صالح أو طالح، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) .(3)

هذه هي حقيقة البداء، ولو قالوا: «بدا للّه»، فقد اقتدوا في ذلك بالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا للّه أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص... إلى آخر ما ذكر»(4).

ومن المعلوم أنّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «بدا للّه» ليس بمعناه الحقيقي أي ظهر له بعد ما خفي، وإلّا تعارض مع قوله سبحانه: (وَ ما يَخْفى عَلَى اللّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ ) .(5)

وإنّما هو تعبير مجازي نظير قوله سبحانه: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَ أَكِيدُ

ص:158


1- . انظر: هوية التشيّع: 202-206. وقد ناقش مؤلّفه الدكتور الشيخ أحمد الوائلي، هذه الرواية، وزيّفها بأُمور بلغت أحد عشر أمراً.
2- . الأعراف: 96.
3- . الرعد: 39.
4- . صحيح البخاري: 2/405-406، كتاب أحاديث الأنبياء، الباب 53، برقم 2464.
5- . إبراهيم: 38.

كَيْداً) (1)، وقوله سبحانه: (نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ ) (2)، وهذا من باب المشاكلة في التعبير، أو بضرب من التشبيه والمجاز.

هذه هي حقيقة البداء على وجه الإجمال الّذي هو أمر متفق عليه بين الفرق الإسلاميّة، ولكن نرى أن أبا القاسم البلخي المتكلّم المعتزليّ (المتوفّى 319 ه) ينسب البداء إلى الشيعة، ويفسره بقوله: إن الأئمّة المنصوص عليهم بزعمهم مفوّض إليهم نسخ القرآن وتبديله(3)، وتجاوَزَ بعضهم حتّى خرج من الدين بقوله: إنّ النسخ قد يجوز على وجه البداء وهو أن يأمر اللّه عزّ وجلّ عندهم بالشيء ولا يبدو له، ثم يبدو له فيغيّره، ولا يريد في وقت أمره به أن يغيّره هو ويبدّله وينسخه، لأنّه عندهم لا يعلم الشيء حتّى يكون إلّاما يقدّره فيعلمه علم تقدير، وتعجرفوا فزعموا أنّ ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكّة.

نقل الشيخ الطوسي عنه هذا الكلام، وقال: وأظنّ أنّه عنى بهذا أصحابنا الإماميّة، لأنّه ليس في الأُمّة من يقول بالنص على الأئمة عليهم السلام سواهم، فإن كان عناهم فجميع ما حكاه عنهم باطل وكذب عليهم لأنّهم لا يجيزون النسخ على أحد من الأئمة عليهم السلام ولا أحد منم يقول بحدوث العلم.(4)

هذا وقد سرى الجهل بعقائد الشيعة في أمر البداء إلى كتب المتأخّرين من السنّة ولا نريد التذكير به، والحق أنّ النزاع في البداء لفظي وليس معنوياً.

وقد سألني أحد علماء السنّة عن حقيقة البداء، فدفعت إليه «أوائل المقالات» و «شرح عقائد الصدوق» للشيخ المفيد، فأخذ الكتابين وطالعهما وجاء بهما بعد ستة أيام وقال: البداء بهذا المعنى الموجود

ص:159


1- . الطارق: 15-16.
2- . التوبة: 67.
3- . في المصدر «وتدبيره» وهو تصحيف والصحيح ما أثبتناه، وفقاً للطبعة الحجرية من التبيان: ص 6.
4- . التبيان في تفسير القرآن: 1/13-14، طبعة النجف 1376 ه.

في الكتابين ممّا اتّفق عليه علماء السنّة.

3. رمي الشيعة بتهم زائفة

لم تزل الشيعة تُرمى بالتُّهم الباطلة، من عهد بني أُميّة، وإلى يومنا هذا، ومن أبرز من نسب إليهم تلك الأكاذيب ابن تيمية في كتابه «منهاج السنّة»، وقد ذكرنا شيئاً منها في كتابنا «ابن تيمية فكراً ومنهجاً»(1) ولو أردنا استقصاءها لطال بنا المقام، ونذكر منها هنا أمرين:

1. قال: ومن حماقاتهم كون بعضهم لا يشرب من نهر حفره يزيد.

أقول: لم أر في كتاب ولم أسمع من شيخ أنّ الشيعة لا يشربون من نهر حفره يزيد، فمن أين جاء ابن تيمية بذلك ؟

2. قال: ومن حماقاتهم كونهم يكرهون التلفظ بلفظ (العشرة) أو فعل شيء يكون عشرة حتّى في البناء لا يبنون على عشرة أعمدة، ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك.(2)

ونحن لا نعلّق على ذلك بشيء، إلّابقوله سبحانه:

(وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى ) .(3)

الفصل الخامس: الجهل بالمفاهيم الإسلاميّة

اشارة

إذا كان الداعي الأول هو التجاهل، فهناك سبب آخر وهو الجهل ببعض المفاهيم الإسلاميّة الّتي صارت سبباً لتكفير قوم، وعلى رأس هذا الأمر العنوانان التاليان:

ص:160


1- . لاحظ: ابن تيمية فكراً ومنهجاً: 611-612.
2- . منهاج السنة: 1/38-39، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم
3- . طه: 61.

1. العبادة.

2. البدعة.

فإن كثيراً من الوهابيين إنّما يكفّرون الأُمّة الإسلاميّة جمعاء لأجل جهلهم بمعاني هذين اللفظين، حيث قاموا بتفسير التوحيد في العبادة من عند أنفسهم بشكل لا ينطبق حتّى على أنفسهم. ولأجل رفع الحجاب عن وجه الحقيقة نذكر شيئاً عن هذا الموضوع على وجه الإجمال.

لاشكّ أنّ التوحيد في العبادة من مراتب التوحيد، فالإنسان الموحِّد من يوحِّد اللّه سبحانه ذاتاً وأنّه واحد لا نظير له، وخلقاً وأنّه لا خالق إلّاهو، وتدبيراً وأنّه لا مدبّر إلّاهو، وعبادة وأنّه لا معبود سواه، فمن لم يوحّد اللّه في شيء من هذه المراتب فليس بموحِّد فضلاً عن أن يكون مسلماً أو مؤمناً، وقد بلغ التوحيد في العبادة منزلة كبيرة بحيث صار العلّة الغائية لبعث الأنبياء، قال سبحانه: (وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ ) (1).

وقال سبحانه: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (2).

وعلى هذا فلا نزاع في الكبرى، وأنّ العبادة تختصّ باللّه سبحانه، أخذاً بقوله سبحانه: (إِيّاكَ نَعْبُدُ) (3)، إنّما الكلام في تحديدها تحديداً منطقياً يكون جامعاً للأفراد ومانعاً للأغيار، وممّا يؤسف له أنّ القوم لم يحدّدوها بحدّ تتميّز به العبادة عن غيرها، وإليك التعاريف الواردة في كتب اللغة والتفسير:

ص:161


1- . النحل: 36.
2- . الأنبياء: 25.
3- . الحمد: 5.
كلمات اللغويين

إن أئمة اللغة العربية فسّروا العبادة بما يلي:

1. العبادة: أصل العبودية الخضوع والتذلّل.(1)

2. العبودية إظهار التذلّل، والعبادة أبلغ منها لأنّها غاية التذلّل.(2)

3. العبادة: الطاعة.(3)

فلو رجعت إلى سائر القواميس، تجد تعابير مشابهة.

ولا يخفى أنّه لو كانت العبادة هي الخضوع لعمّ البلاء جميع البشر، حيث إنّه يخضع بعضهم لبعض، كالولد أمام الوالدين، والجندي أمام الضابط، والتلميذ أمام الأُستاذ، وعلى هذا فلا يوجد على أديم الأرض موحّد، حتّى الوهابيّ نفسه.

كلمات المفسّرين

1. قال صاحب المنار: العبادة: ضرب من الخضوع، بالغ حد النهاية، ناشئٌ عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يُعرف منشؤها، واعتقاد بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها.(4)

ولا يخفى أنّ التعريف غير جامع ولا مانع، أمّا الأوّل فإنّ بعض مصاديق العبادة يفقد الخضوع الشديد ولا يكون بالغاً حدّ النهاية، كصلوات الناس العاديّين والعوام منهم، مع أنّ عملهم عبادة.

وأمّا الثاني فربّما يكون خضوع العاشق أمام معشوقته والجندي أمام ضابطه، أشدّ خضوعاً ممّا يقوم به كثير من المؤمنين تجاه ربّ العالمين، ولا

ص:162


1- . لسان العرب: مادة «عبد».
2- . مفردات الراغب: مادة «عبد».
3- . القاموس المحيط: مادة «عبد».
4- . تفسير المنار: 1/57.

يوصف خضوعه بالعبادة.

2. قال شيخ الأزهر: العبادة خضوع لا يحدّ لعظمة لا تحدّ.(1)

ويرد عليه ما أُورد على التعريف الأوّل.

إلى غير ذلك من التعاريف الّتي لا تنطبق على واقع الأمر، وهؤلاء هم ملائكة اللّه قد سجدوا لآدم وخضعوا له نهاية الخضوع، ومع ذلك لم يخرجوا عن حدّ التوحيد قيد شعرة، وهؤلاء أبناء يعقوب ووالداهم سجدوا ليوسف عليه السلام، كما قال سبحانه: (وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (2)، ولم يشركوا بربّهم.

وعلى هذا فلابدّ أن تحدَّد العبادة حدّاً منطقياً جامعاً للأفراد ومانعاً للأغيار، حتّى يقطع كلّ عذر للوهابيّين حيث يعدّون كلّ خضوع وخشوع للأنبياء والأولياء أو أيّ دعاء لهم، عبادة لهم.

وأنت إذا زرت الحرمين الشريفين فستقرع سمعك كلمات الشرك والبدعة أكثر من كلّ الكلمات، وكأنّه ليس في جعبة القوم إلّاأمران: الشرك والبدعة.

التعريف الصحيح للعبادة
اشارة

قد وقفت على أن التعاريف السابقة ليست بجامعة ولا مانعة، واللازم في تعريف العبادة هو التعرّف على القيود المأخوذة في تعريفها، إذ ليست العبادة مجرّد الخضوع بل الخضوع النابع عن اعتقاد خاص، وهذا هو الّذي يميّز العبادة عن التكريم والاحترام، فنقول:

ص:163


1- . تفسير القرآن الكريم: 77. تأليف الإمام محمود شلتوت.
2- . يوسف: 100.
1. العبادة هي الخضوع الناشئ عن الاعتقاد بأُلوهية المعبود

فالذي يميّز العبادة عمّا يشابهها هو الاعتقاد الخاصّ بأنّ المعبود إلهٌ ، سواء أكان إله العالمين أو إلهاً مختلقاً في الواقع وإن لم يكن كذلك في نظر مَن يعبده، وهذا القيد يُدخل كلّ عبادة صحيحة وباطلة تحت التعريف. أمّا الصحيحة فواضحة لأنّ المؤمن يخضع عن اعتقاد بأنّ المخضوع له إله العالمين، وأمّا عبادة الوثني فهو يخضع بتصوّر أنّ الوثن إله صغير، مخلوق لإله أكبر، ولذلك لمّا دعا النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى الإله الواحد، استغرب المشركون وقالوا: (أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ ) (1).

ويدلّ على ما ذكرنا من القيد قوله سبحانه: (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) (2)، فقوله: (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) بمنزلة التعليل وهو أنّ العبادة خاصّة للإله ولا إله إلّااللّه.

وقد أثبتنا في محلّه أنّ الإله يساوق لفظ الجلالة في المعنى غير أنّ الثاني علَم، والإله اسم جنس يعمّ الإله الصادق والإله الكاذب، وأنّ ما اشتهر بأنّ الإله بمعنى المعبود فإنّما هو تفسير باللازم لا أنّه معناه، بل المتبادر منه ما هو المتبادر من لفظ الجلالة ويفترقان بالكلّية والعلَمية.

2. العبادة: هي الخضوع لشيء على أنّه ربّ

(3)

العبادة عبارة عن الخضوع النابع عن أنّ المخضوع له ربّ الخاضع، المالك لشؤونه، المتكفّل بتدبيره وتربيته، وهما من صفات الربّ ، فربّ الدار وربّ الضَّيعة وربُّ الفرس مسؤول عن تربية المربوب وتدبيره.

ص:164


1- . ص: 5.
2- . الأعراف: 59.
3- . البيان للسيد الخوئي: 503.

ويدلّ على ما ذكرنا من القيد قوله سبحانه: (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) فقوله: (وَ أَنَا رَبُّكُمْ ) بمنزلة التعليل للعبادة، ويثبت أنّها من شؤون الربّ ، ولا ربّ إلّااللّه سبحانه فهو ربّ العالمين وربّ الآلهة المكذوبة.

3. العبادة: هي الخضوع أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده

ليس مجرد الخضوع عبادة إلّاإذا كان نابعاً من الاعتقاد الخاصّ بأنّ المخضوع له يملك شأناً من شؤون حياة الخاضع في الدنيا والآخرة.

وعلى هذا فالعبادة قائمة بأمرين:

1. ما يرجع إلى الجوارح وهو الخضوع بالرأس واليد والكلام وغيرها.

2. ما يرجع إلى الجوانح وهو الاعتقاد الخاصّ بأنّ المخضوع له إله أو رب أو بيده شأن من شؤون حياته في الدنيا والآخرة.

4. العبادة على رأي ابن عاشور

ومن أفضل ما عُرّفت به العبادة هو ما ذكره ابن عاشور، حيث قال: إظهار الخضوع للمعبود واعتقاد أنّه يملك نفع العابد وضُرّه ملكاً ذاتياً مستمراً، فالمعبود إله كما حكى اللّه قول فرعون: (وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) (2).(3)

دعاء الصالحين ليس عبادة لهم

إنّ دعاء الصالحين على قسمين وإن كان أوّلهما غير موجود بين المسلمين:

1. دعاؤهم والخضوع لهم بما أنّهم آلهة أو أرباب أو أنّ بيدهم مصير

ص:165


1- . الأنبياء: 92.
2- . المؤمنون: 47.
3- . التحرير والتنوير: 27/45.

الداعي في الدنيا والآخرة. ولا شكّ أنّ الدعاء بهذا القيد عبادة لهم، ولكن لا تجد على أديم الأرض مسلماً يدعو الصالحين بأحد هذه الأوصاف.

2. دعاؤهم بما أنّهم عباد صالحون وبما أنّ لهم منزلة عند اللّه، يستجاب دعاؤهم وتقبل شفاعتهم، والدعاء بهذا المعنى نوع توسّل بأحد الأسباب الّتي دعا إليها القرآن الكريم وقال: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً) (1).

فلو قال القائل: إنّ الآية ناظرة إلى حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولا صلة لها بما بعد موته ؟

قلنا: أوّلاً: نمنع اختصاص الآية بحياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم. بل تشتمل الآية لما بعد الرحيل بشهادة السيرة المستمرة بين المسلمين.

وثانياً: نفترض أنّها راجعة إلى حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم لكن الكلام في مجال آخر وهو أنّ دعاء الصالحين - بما أنّهم عباد اللّه المكرمون - لو كان عبادة لهم لكان كذلك عند حياتهم أيضاً فإنّ الحياة والموت ليستا ميزاناً للتوحيد والشرك، ولو فرض كونهما ميزاناً لكانا ميزاناً في الانتفاع وعدمه فيكون دعاء الحيّ مجدياً، ودعاء الميّت غير مجد، وأين هذا من الشرك ؟

ومن هنا يعلم أنّ ما قاله ابن جبرين في وصف الشيعة الإمامية، نابع عن جهله بمفهوم العبادة، حيث قال: إنّ الرافضة غالباً مشركون حيث يدعون عليّ بن أبي طالب دائماً في الشدّة والرخاء حتّى في عرفات والطواف والسعي ويدعون أبناءه وأئمتهم كما سمعناهم مراراً، وهذا شرك أكبر وردّة عن الإسلام يستحقّون القتل عليها كما سمعناهم في عرفات وهم بذلك مرتدّون حيث جعلوه ربّاً وخالقاً ومتصرّفاً في الكون.

ص:166


1- . النساء: 64.

أقول: كلّ ما ذكره من القيود ناظر إلى الصورة الأُولى ولا تجد أحداً من المسلمين (فضلاً عن الشيعة الذين يوحِّدون اللّه تعالى بأفضل صور التوحيد) مَن يعتقد أنّ علي بن أبي طالب ربٌ أو خالق أو متصرّف في الكون.

(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً) (1)

وبمثل هذه الفتاوى الباطلة المبنية على شفا جرف هارٍ يبيح الشيخ ابن جبرين وغيره من شيوخ الوهابيّة، القتل الجماعي لأُمّة مسلمة موحِّدة يتجاوز عددها المائتي مليون، ويعدّون ثلث المسلمين أو ربعهم.

إنّ الصخب والضوضاء والصراخ الذي يُسمع من أئمة المسجد النبوي أو في المسجد الحرام وأطرافهما، وهم يكِّفرون بملء أفواهم المسلمين عامّة والشيعة خاصّة، ناشئ من الجهل بمفاد الشرك في العبادة، حيث زعموا أنّ الخضوع أمام ضريح النبي الأكرم عبادة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم ولكنّ هؤلاء ذوي العقول الجامدة لم يفرّقوا بين عبادة النبي وبين تكريم النبي صلى الله عليه و آله و سلم الّذي أمر اللّه تعالى المسلمين به، بقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) فالضمائر الثلاثة ترجع إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمراد من التعزير هو تكريمه وتوقيره، لا نصرته؛ لأنّ الإخبار عنها ورد صريحاً بقوله:

(وَ نَصَرُوهُ ) .

دعاء الصالحين في حديث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

كيف يلهج ابن جبرين وغيره بأنّ دعاء الصالحين شرك وعبادة لهم مع أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم علّم ضريراً بأن يتوسّل في دعائه بنفس النبي وشخصه: روى عثمان ابن حنيف، قال: إن رجلاً ضريراً أتى إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: ادعُ اللّه أن يعافيني.

ص:167


1- . الكهف: 5.
2- . الأعراف: 157.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إن شئت دعوتُ ، وإن شئتَ صبرتَ وهو خير؟».

قال: فادعُهُ ، فأمره صلى الله عليه و آله و سلم أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: «اللّهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى ، اللّهم شفّعه فيّ ».

قال ابن حنيف: «فواللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضُرّ».

لا كلام في صحّة سند الحديث ولم يشك أحدٌ إلى الآن في صحّته، حتّى أنّ الكاتب الوهابي المعاصر الرفاعي الّذي يسعى دوماً إلى تضعيف الأحاديث الخاصّة بالتوسّل أذعن بصحّة الحديث، وقال: لاشكّ أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور.(1)

كيف لا يكون صحيحاً مشهوراً عندهم وقد رواه أحمد بن حنبل(2)، وابن ماجة(3)، والترمذي(4)، والنسائي(5)، والطبراني(6)، والحاكم النيسابوري(7)، ابن خزيمة.(8)

وأمّا دلالة الحديث فهي واضحة، فلو قدّمت هذا الحديث إلى من يُحسن اللُّغة العربية جيّداً ويتمتّع بصفاء فكر، بعيد عن مجادلات الوهابييّن وشُبهاتهم ثم سألته: بماذا أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذلك الأعمى عندما علّمه ذلك الدعاء؟ لقال: علّمه

ص:168


1- . التوصل إلى حقيقة التوسّل: 158.
2- . مسند أحمد: 4/138.
3- . سنن ابن ماجة: 326-327 برقم 1385 (وقال: قال ابن إسحاق: هذا حديث صحيح).
4- . سنن الترمذي: 1026 برقم 3589 (وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب).
5- . سنن النسائي: 169/6.
6- . المعجم الكبير: 31/9.
7- . المستدرك على الصحيحين: 1/313.
8- . صحيح ابن خزيمة: 225/2.

النبي أن يقول: يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي. أليس ذلك نداءً للصالحين ودعاء لهم، فكيف علّم نبي التوحيد أُمّته بدعائه وندائه ؟

والعجب أنّ عثمان بن حنيف علّم هذا الدعاء لشخص آخر كان يختلف على عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلمّا علّمه ابن حنيف ذلك الدعاء وعمل بما فيه، قُضيت حاجته، عندما ذهب إليه.(1)

مفاد قولهم: الدعاء مُخّ العبادة

وهناك من الوهابيين مَن يدلّس ويشوّش الأفكار ويقول بأنّ الدعاء يرادف العبادة، ويروي أنّ الدعاء مخّ العبادة، فدعاء الصالح بأيّ معنى كان، يكون عبادة.

وهذا من مغالطاتهم الواضحة فإنّ الدعاء تارة يستعمل في العبادة وأُخرى بمعنى الطلب، فهذا هو مؤمن آل فرعون يدعو قومه ويقول: (وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ) (2)، وقال سبحانه حاكياً عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) (3)، وقال تعالى: (وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) (4) إلى عشرات الموارد الّتي استعمل فيها الدعاء بمعنى الطلب والدعاء. وأمّا ما روي من أنَّ الدعاء مخّ العبادة، فالمراد أنّ دعاء اللّه مخّ العبادة، لا دعاء الصبي أُمّه، والمخدوم خادمه.

وبما أنّ المجال لا يسع لأن نذكر سائر الأدلّة الّتي تدل على جواز التوسل بالصالحين ودعائهم، اكتفينا برواية واحدة وفيها غنىً وكفاية.

ص:169


1- . المعجم الكبير: 9/30-31 برقم 8311.
2- . غافر: 41.
3- . آل عمران: 153.
4- . آل عمران: 104.
البدعة مفهومها وحدّها
اشارة

قد تقدّم أنّ الجهل بمفهوم الأمرين: العبادة والبدعة، وعدم تحديد مفهوم كلٍّ منهما، صار سبباً لمسلسل التكفير، وقد مرّ الكلام في مفهوم العبادة وعرفت أنّ المسلمين عامّة لا يعبدون سوى اللّه تبارك وتعالى، وأنّ توسّلهم أو نداءهم للصالحين لا يمتّ إلى العبادة بصلة، وبقي الكلام في مفهوم البدعة، فإنّ الجهل بها وبحدودها صار سبباً لرمي كثير من الأعمال والسنن والمراسم والشعائر الدينية بالبدعة.

ولاشكّ أنّ البدعة في الدين من كبائر المعاصي وعظائم المحرّمات وقد دلّ على حرمتها الكتاب والسنّة، وأُوعد صاحبها بالنار على لسان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّ المبتدع ينازع سلطان اللّه تبارك وتعالى في التشريع والتقنين، ويتدخّل في دينه فيزيد عليه وينقص منه شيئاً، كلّ ذلك افتراء على اللّه، وهذا أمر اتّفق عليه المسلمون، إنّما الكلام في تحديد مفهوم البدعة.

تعريف البدعة

يمكن تعريف البدعة بالنحو التالي:

البدعة: التدخّل في الدين في الأُصول والفروع، وبعبارة أُخرى: عقيدة وحكماً بزيادة أو نقيصة لكن بشرطين:

1. أن تكون هناك إشاعة ودعوى إلى فعل المبتدع.

2. أن لا يكون هناك دليل في الشرع على جواز الشيء، لا بالخصوص ولا بالعموم.

أمّا التعريف فتعلم صحّته من الآيات الذامّة لعمل المشركين وأحبار

ص:170

اليهود. وأمّا الشرط الأوّل فيقول: (قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1)فتدلّ على أنّ كلّ شيء إذا لم يأذن به، ومع ذلك نُسب إليه سبحانه، يكون من مقولة الافتراء على اللّه.

وأمّا الشرط الثاني فقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) (2) فقولهم: (هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) صريح في أنّهم كانوا يتدخّلون في الشريعة الإلهية فيعرِّفون ما ليس من عند اللّه على أنّه من عند اللّه. وهذا يثبت أنّ الموضوع في هذه الآية وأمثالها هو البدعة في الدين لا مطلقها.

وبذلك ظهر أنّ كلّ أمر مستحدث إذا لم يُنسَب إلى الدين وإلى ما أنزله اللّه فليس ببدعة، وإن اندرج في الحلال تارة والحرام أُخرى.

توضيحه: لاشكّ أنّه قد ظهرت في مجتمعاتنا أُمور جديدة، ومع ذلك لا يمكن وصفها بالبدعة، ولا يشملها قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «كلّ بدعة ضلالة» إذ المراد كلّ بدعة في الدين، لا كلّ أمر جديد، فالمبتدع هو المتدخِّل في الشريعة لا المتدخّل في شؤون الحياة بغير صبغة شرعيّة.

مثلاً جرت العادات في بعض المجتمعات على اختلاط النساء بالرجال، في حفلات الاستقبال من دون حجاب ولا عفاف، فلاشكّ في أنّ ذلك حرام جدّاً ولكنّه ليس بدعة في الدين، لأنّ هؤلاء خاضعون للهوى ولم ينسبوا عملهم إلى الدين. فالأُمور العادية بين مباح ومكروه وحرام، فلا توصف بالبدعة إذا لم تُنسب إلى الدين.

إنّ لكل قوم سُنناً وآداباً خاصة ترسم طبيعة المعاشرة ونوع العلاقات الاجتماعية، كما أنّ لهم أساليبهم الخاصّة في الأُمور العمرانية وفي كيفية استغلال الطبيعة، وغير ذلك، فمثلاً قد تقتضي تقاليد وأعراف قوم تخصيص

ص:171


1- . يونس: 59.
2- . البقرة: 79.

يوم واحد لتكريم زعيم لهم باعتباره رمزاً تاريخياً، أو للاحتفال بذكرى حادثة جليلة ساهمت في صنع أمجادهم، وقد توجب المصالح التطوير في الأُمور العمرانية وما شاكلها، أو في استغلال الطبيعة عن طريق الأجهزة الحديثة، فهذه الأُمور وغيرها قد ترك الشارع طريقة التعامل معها إلى الناس وفق أساليب حياتهم والتجديد الحاصل فيها، ولم يتدخل فيها إلّابوضع الأُطر العامّة لها، وهي أن لا تكون طريقة التعامل مخالفة للقواعد والضوابط الشرعيّة العامّة، ولولا هذه المرونة لما كان الإسلام ديناً عالمياً سائداً، ولتوقّفت حركته منذ أقدم العصور، ونأتي لمزيد من التوضيح بمثال:

قد حدثت في العصور الأخيرة عدّة تقاليد في ميدان الألعاب الرياضية ككرة القدم والسلّة، والطائرة والمصارعة والملاكمة وغير ذلك، فبما أنّها أُمور عادية محدثة فلا تعدُّ بدعة في الدين، ولو صحّ إطلاق البدعة فإنّما هو باعتبار المعنى اللغوي أي الشيء الجديد في ميادين الحياة، لا في الأُمور الشرعية، غاية الأمر يجب أن تحدّد شرعيتها بالضوابط الكلّية بأن لا يكون هناك اختلاط بين اللاعبين نساءً ورجالاً وأن لا يكون هناك ضرر وإضرار كما هو المحتمل في الملاكمة.

إنّ جميع العادات من قول أو فعل محكوم بالإباحة بشرطين:

1. أن لا يدلّ دليل على حرمة بخصوصها، في الكتاب والسنّة.

2. أن لا ينطبق عليه أحد العناوين الثانوية «كالإسراف» و «الإعانة على الإثم» و «تقوية شوكة الكافرين» و «الإضرار بالمسلمين» و «الإضرار بالنفس والنفيس» إلى غير ذلك من العناوين الثانوية المغيّرة لحكم الموضوع. وعلى هذا الأساس فإنّ جميع الأجهزة الحديثة الّتي هي من نتائج التقدّم الحضاري التكنولوجي مثل الهاتف والتلفاز والسيارة والطائرة وما شابهها، هي من هذا القبيل، لعدم وجود دليل خاص على حرمتها وعدم انطباق دليل على تحريمها

ص:172

من العناوين الثانوية.

ومن جهالات المتطرّفين في الأُمور العادية ما يقضى منه العجب، وهذا النوع من التزمّت هو الّذي يعرقل عجلة تبليغ الإسلام.

يقول الشاطبي: إنّ من السلف من يرشد كلامه إلى أنّ العاديات كالعباديات، فكما أنّا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها، فكذلك العاديات.

وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم... ثم قال: ويظهر أيضاً من كلام من قال:

أوّل ما أحدث الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المناخل.(1)

وأضاف الشاطبي: ويُحكى عن الربيع بن أبي راشد أنّه قال: لولا أنّي أخاف من كان قبلي لكانت الجبّانة مسكني إلى أن أموت. والسكنى (أمر) عادي بلا إشكال. وعلى هذا الترتيب يكون قسم العادات داخلاً في قسم العبادات، فدخول الابتداع فيه ظاهر، والأكثرون على خلاف هذا.(2)

وإليك بعض هذه الموارد الدالَّة على هذا الفهم المغلوط للبدعة:

- روى الغزالي: أنّ رجلاً قال لأبي بكر بن عيّاش: كيف أصبحت ؟ فما أجابه، قال: دعونا من هذه البدعة(3).

- وقال محمد بن حمد ابن الحاج المالكي (المتوفّى 737 ه): وقد منع علماؤنا رحمة اللّه عليهم المراوح، إذ أنّ اتخاذها في المساجد بدعة.(4)

- وقال ابن الحاج أيضاً (وهو يذكر ما يسمّيه البدع المحدثة في المساجد): وليحذر أن يفرش السجّادة على المنبر لأنّ ذلك بدعة.. وكذلك

ص:173


1- . يريد أنّ نخل الدقيق بالمُنْخُل بدعة!!
2- . الاعتصام للشاطبي: 2/79.
3- . إحياء علوم الدين: 2/251، كتاب العزلة.
4- . المدخل: 2/217.

ينبغي أن يُمنع ما يُفرش على درج المنبر يوم الجمعة، فإنّه من باب الترفّه، ولم يكن من فعل مَن مضى ، فهو بدعة أيضاً.(1)

وقد ذكر كلٌّ من الشاطبي وابن الحاج نظائر من هذه الأُمور الّتي أدخلت تحت عنوان الابتداع في الدين، فلا نطيل فيها الكلام.(2)

أهؤلاء هم الذين صاروا زيناً لخير القرون وأصبحوا أدّلاء على الإسلام في عامة القرون ؟! لا أدري ولا المنجم يدري.

هذا خلاصة ما يرجع إلى القيد الأوّل وأنّ حقيقة البدعة هي إدخال ما ليس من الدين فيه، بزيادة أو نقيصة، وأنّ قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «شرّ الأُمور محدثاتها»، ناظر إلى الأُمور المنسوبة إلى الدين وهي ليست منه، وأنّ الاستدلال بالحديث على ذم العادات المحدثة استدلال باطل، وإنّما يستنبط حكم المحدثات من ناحية الحلال والحرام من الكتاب العزيز والسنّة النبوية.

بقي الكلام في القيدين الأخيرين أعني:

1. الإشاعة في المجتمع.

2. أن لا يكون هناك دليل في الشرع على جوازها لا بالخصوص ولا بالعموم.

الإشاعة ودعوة الآخرين إلى ما أُحدث

هذا هو أحد مقوّمات البدعة، فلو جلس أحدٌ في البيت وزاد أو نقص شيئاً في الدين فقد ارتكب أمراً حراماً لكن لا يوصف قوله أو فعله بالبدعة، لأنّ عمل المبتدعين عبر القرون - وأخصّ بالذكر عمل المشركين - لم يكن عملاً شخصياً في الخفاء بل كان مقروناً بدعوة الناس إليه كما لا يخفى.

ص:174


1- . المدخل: 2/268.
2- . لاحظ: الاعتصام: 2/68؛ والمدخل: 2/203-239.
عدم وجود أصل لها في الكتاب والسنّة

هذا هو الأمر المهم الّذي يجب التركيز عليه في مقابل المتزمّتين حيث لا يميّزون بين البدعة لغة وبينها شرعاً، فلو أمسك شخص إلى غسق الليل ناوياً به الصوم المفروض فقد ابتدع لغة وشرعاً. إنّما الكلام إذا كان لعمله المحدَث أصل في الشريعة وإن لم يكن عليه دليل بالخصوص فلا يوصف بالبدعة.

قال ابن حجر العسقلاني: والمراد بالبدعة: ما أحدث وليس له أصل في الشرع، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة.(1)

وقال ابن رجب الحنبلي: البدعة: ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه، أمّا ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة.(2)

وقال العلّامة المجلسي: البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ولم يرد فيه نصّ على الخصوص ولا يكون داخلاً في بعض العمومات أو ورد نهي عنه خصوصاً أو عموماً.(3)

ونأتي بمثال: قال تعالى: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ ) (4)، فإنّ قوله: (مِنْ قُوَّةٍ ) موضوع كلّي يشمل عامّة القوى الّتي تحقّق هذا الهدف.

وعلى هذا فالتسلّح بالغوّاصات والأساطيل البحرية والطائرات المقاتلة،

ص:175


1- . فتح الباري: 5/156، و 17/9.
2- . تحفة الأحوذي للمباركفوري: 7/366؛ جامع العلوم والحكم: 160، طبعة الهند.
3- . بحار الأنوار: 74/202.
4- . الأنفال: 60.

من مصاديق القوّة ولا يُعدّ بدعة، بل يُعدّ تجسيداً لهذا الأصل.

وبما ذكرنا تقف على أنّ كثيراً من الأُمور الّتي يصفها الوهابيون بأنّها من البدعة ليس منها، فإنّ لها أُصولاً في الكتاب والسنّة، ونشير إلى بعض الموارد:

1. يقول محمد حامد الفقي: والمواليد والذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم.(1)

وقد تبع الرجل مبدع مسلكه، قال ابن تيمية حول الاحتفال بالمولد النبويّ الشريف: إنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً، لكان السلف أحقّ به منّا، فإنّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعظيماً له منّا وهم على الخير أحرص.(2)

وقد تخبّط الرجلان، أمّا الأوّل فقد عدّ الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم عبادة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم وقد قلنا: إنّ من مقوّمات العبادة الاعتقاد بأُلوهية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو ربوبيته أو كون مصير المحتفل بيده، وليس شيء من ذلك في الاحتفالات وإنّما يقام الاحتفال لتكريم رجل ضحّى بنفسه ونفيسه في طريق توحيده سبحانه، فكيف يكون عبادة له ؟!

وأمّا الثاني (ابن تيمية) فقد ابتدع في تعريف البدعة حيث جعل الميزان في الحلال والحرام عمل السلف، وهذا هو البدعة بعينها، فإنّ الميزان هو الكتاب والسنّة لا عمل السلف.

أضف إلى ذلك: أنّ الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم تجسيد لحبّه الّذي دعا إليه الكتاب والسنّة؛ أمّا الكتاب فقوله سبحانه: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ

ص:176


1- . فتح المجيد (قسم الهامش): 145.
2- . اقتضاء الصراط المستقيم: 293-494.

وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) (1).

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من ولده والناس أجمعين».

وقد تضافرت الروايات على حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم(2).

ولاشكّ أنّ الاتّباع من مظاهر الحبّ ، ولكنّه لا يختصّ بالاتّباع بل له آثار في حياة المحبّ كأن يزور محبوبه ويكرمه ويعظّمه.

ومن المعلوم أنّ المطلوب ليس الحبّ الكامن في القلب من دون أن يُرى أثره في الحياة الواقعية، وعلى هذا يجوز للمسلم القيام بكلّ ما يُعدّ مظهراً لحب النبي صلى الله عليه و آله و سلم شريطة أن يكون عملاً حلالاً بالذات ولا يكون منكراً في الشريعة، ويمكن أن يتجلّى الحب بالأُمور التالية:

1. مدح الرسول صلى الله عليه و آله و سلم نظماً ونثراً، وقد تفجّرت قرائح الشعراء بمدح النبي ضمن قصيدة وقصائد لو جمعت في كتاب لصار موسوعة، وهذا هو كعب بن زهير بن أبي سلمى ينشئ قصيدة مطوّلة في مدح الرسول صلى الله عليه و آله و سلم منطلقاً من حبّه له ويلقيها على روؤس الأشهاد والنبي صلى الله عليه و آله و سلم بينهم ويقول:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ متيّم إثرها لم يُفدَ مكبولُ

إلى أن قال:

إنّ الرسول لنور يستضاء به مهنَّد من سيوف اللّه مسلولُ (3)

ص:177


1- . التوبة: 34.
2- . مسند أحمد: 3/177؛ صحيح البخاري: 1/9.
3- . السيرة النبوية: 2/315. لاحظ: بقية أبيات القصيدة.

2. تقبيل كلّ ما يمتّ إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم بصلة كباب داره وضريحه وأستار قبره، انطلاقاً من مبدأ الحب الّذي عرفته، وهذا أمر طبيعي فكلّ مَن يقبّلون ضرائح الأولياء وأبواب قبورهم فإنّما ينطلقون من مبدأ الحب.

قال عبداللّه بن أحمد بن حنبل: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فيضعها على فيه يُقبّلها، وأحسب أنّي رأيته يضعها على عينه، ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به.

وعلّق الحافظ الذهبي على ذلك قائلاً: أين المتنطع المنكر على أحمد، وقد ثبت أنّ عبداللّه سأل أباه عمّن يلمس رُمّانة منبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ويمسّ الحجرة النبوية، فقال: لا أرى بذلك بأساً، أعاذنا اللّه من رأي الخوارج، ومن البدع.(1)

3. الاحتفال بميلاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم وكلّ من دعا إلى الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أي قرن من القرون، فقد انطلق من حبّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم الّذي أمر به القرآن وأكدّت عليه السنّة، وها نحن نذكر كلمة واحدة من الكلمات الكثيرة لعلماء أهل السنّة، حول الاحتفال بميلاد النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

يقول الديار بكري: لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة المولد الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كلّ فضل عظيم.(2)

4. شدّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم

ممّا يثير غضب الوهابيين وأخصّ بالذكر الفئة التكفيرية، شدّ الرحال

ص:178


1- . سير أعلام النبلاء: 11/212، الترجمة 78.
2- . تاريخ الخميس: 1/323.

لزيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم الّذي سار عليه المسلمون بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا، وأنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا مناسك الحجّ يتوجهون إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهذا شيء لا ينكره إلّاالمكابر، ثم إنّ الفئة التكفيرية تستدلّ على التحريم بالحديث التالي:

«لا تشدّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى»(1).

وهؤلاء المتزّمتون حُرموا فهم الحديث، فإنّه لا صلة له بالسفر لزيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وذلك لأنّ المستثنى منه محذوف وتقدير الحديث: «لا تشدّ الرحال إلى مسجد من المساجد إلّاإلى ثلاثة مساجد».

فالموضوع في المستثنى منه والمستثنى هو المسجد لا غير، ونحن نقول أيضاً: لا تشدّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد.

وأين هو من شدّ الرحال إلى زيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو أحد الأولياء، أو شدّ الرحال إلى صلة الأرحام أو الدراسة في الجامعات ؟ فكلّ هذا خارج عن مدلول الحديث من غير فرق بين المستثنى والمستثنى منه.

يقول الدكتور عبدالملك السعدي: إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى المساجد الأُخرى لأجل أنّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب لأنّه في الثواب سواء، بخلاف الثلاثة لأنّ العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة، فزيادة الثواب تحبّب السفر إليها وهي غير موجودة في بقية المساجد.(2)

ص:179


1- . صحيح مسلم: 4/126، باب لا تشدّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد.
2- . البدعة للدكتور عبدالملك السعدي: 60.
5. قبض اليد اليمنى باليسرى في الصلاة

اتّفق فقهاء السنّة - إلّامالكاً - على أنّ القبض سنّة وليس بفريضة، وقال مالك: يندب إسدال اليدين في الصلاة، ونقل عن الأوزاعي التخيير بين القبض والسَّدل.(1)

ومع ذلك ترى أنّ المتزمّتين يؤاخذون مَن ترك القبض، مع أنّ أبا حُميد الساعدي أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عرض صلاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم على أصحابه وذكر عامّة خصوصيات صلاته ولم يذكر فيها القبض.

روى البيهقي عن أبي حُميد الساعدي: أنا أعلمكم بصلاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قالوا: لِمَ ، ما كنت أكثرنا له تبعاً ولا أقدمنا له صحبة ؟! قال: بلى، قالوا: فاعرض علينا، فقال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتّى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبّر حتّى يقرّ كلّ عضو منه في موضعه معتدلاً، ثم يقرأ، ثم يكبّر ويرفع يديه حتّى يحاذي بها منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه... إلى أن قال:

فلمّا عرض صلاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على أصحابه قالوا جميعاً: صدق، هكذا كان يصلّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.(2)

إلى هنا تمّ الكلام في البدعة وقد أشبعنا الكلام فيها في كتابنا: «البدعة حدّها وآثارها» فمن أراد التفصيل فليرجع إليه.

وإنّما الغرض هنا الإشارة إلى العوامل الّتي صارت سبباً لتكفير المسلمين.

ص:180


1- . رسالة مختصرة في السدل للدكتور عبدالحميد: 5.
2- . السنن الكبرى للبيهقي: 2/72، 73، 101، 102؛ سنن أبي داود: 1/194، باب افتتاح الصلاة، الحديث 730-736.

الفصل السادس: ما هو ملاك الكفر والإيمان ؟

اشارة

إذا كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم مبعوثاً من قبل اللّه سبحانه وموحى إليه، فيجب الإيمان بكلّ ما جاء به، ولا يصحّ التبعيض بأن يؤمَن ببعض ويُكفر ببعض، فإنّ ذلك تكذيب للوحي، غير أنّ ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم في مجال المعارف والأحكام لمّا كان واسعاً مترامي الأطراف لا يمكن استحضاره في الضمير ثم التصديق به، فلذلك ينقسم ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى قسمين؛ قسم منه معلوم بالتفصيل كتوحيده سبحانه والحشر يوم المعاد ووجوب الصلاة والزكاة، وقسم آخر معلوم بالإجمال وهو موجود بين ثنايا الكتاب وسنّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، فلا محيص من الإيمان بما علم تفصيلاً بالتفصيل، وبما علم إجمالاً بالإجمال، هذا هو الموافق للتحقيق وما عليه المحقّقون.

قال عضد الدين الإيجي (المتوفّى 756 ه): الإيمان عندنا وعند الأئمة كالقاضي(1) والأُستاذ(2): التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، فتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيما علم إجمالاً.(3)

وقال السَّعد التفتازاني (المتوفّى 793 ه): هو تصديق النبيّ فيما علم مجيئه به بالضرورة أي فيما اشتهر كونه من الدين بحيث يعلمه من غير افتقار إلى نظر واستدلال كوحدة الصانع ووجوب الصلاة وحرمة الخمر ونحو ذلك، ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالاً، ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلاً

ص:181


1- . يعني: القاضي أبا بكر محمد بن الطيّب الباقلاني (المتوفّى 403 ه)، أحد كبار متكلّمي الأشاعرة.
2- . يريد أبا إسحاق إبراهيم بن محمد الاسفراييني (المتوفّى 418 ه)، من مجتهدي الشافعية ومتكلّميهم.
3- . المواقف: 384.

حتّى لو لم يصدّق بوجوب الصلاة عند السؤال عنه وبحرمة الخمر عند السؤال عنه كان كافراً، وهذا هو المشهور وعليه الجمهور.(1)

ما يجب الإيمان به تفصيلاً

إن الّذي يجب الإيمان به تفصيلاً هو عبارة عن الأُمور التالية:

1. وجوده سبحانه - جلّت عظمته وتقدّست ذاته - وتوحيده وأنّه واحد لاندّ له ولا مثل، وقد تمثّل هذا النوع من التوحيد في سورة الإخلاص، قال سبحانه: (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اَللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ * وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) .(2)

2. أنّه متفرّد في الخالقية، فلا خالق للعالم وما فيه إلّااللّه سبحانه، وقد أكّد القرآن على ذلك في آيات كثيرة، نظير قوله تعالى: (قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ) (3).

3. أنّه متفرّد في الربوبية والتدبير، فلا مدبّر للعالم وما فيه سواه، وقد ركّز القرآن على هذا الأمر في مختلف الآيات نظير قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) (4).

إنّ التوحيد في التدبير لا ينافي الاعتقاد بسائر المدبّرات الّتي تدبّر العالم بإذنه سبحانه والّتي تُعد من جنود اللّه، كما لا ينافي أيضاً القول بتأثير الأسباب الطبيعية في المسبّبات إذ كلّ ذلك بإذنه سبحانه. كيف وقد جاء التصريح به في آيات عديدة.(5)

ص:182


1- . شرح المقاصد: 5/127.
2- . التوحيد: 1-4.
3- . الرعد: 16. ولاحظ: الزمر: 62 وغافر: 62، الأنعام: 101، الحشر: 24.
4- . يونس: 3. ولاحظ: الرعد: 2، آل عمران: 64، التوبة: 31.
5- . لاحظ: الآيات الّتي ورد فيها ذكر الماء ونزول المطر.

4. التوحيد في العبادة الّذي هو الهدف المهم من بعث الأنبياء كما قال سبحانه: (وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (1).

نعم التوحيد في العبادة من شؤون التوحيد في الخالقية والربوبية، فبما أنّ مصير العالم والإنسان آجلاً وعاجلاً بيده سبحانه، فلا يعبد إلّاإيّاه.

5. نبوّة الأنبياء العظام عليهم السلام ونبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ورسالته العالمية الخاتمة، قال سبحانه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (2)، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على نبوّة الأنبياء عليهم السلام ونبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وكونه خاتم الأنبياء.

6. المعاد، والاعتراف بأنّه من أركان الإيمان، وإن غفل عنه أكثر المتكلّمين الباحثين في الإيمان والكفر، ولا يتحقّق للدين - بمعناه الوسيع - مفهوم، ما لم يوجد فيه عنصر العقيدة بيوم المعاد، ولا تتسم العقيدة بسمة الدين إلّابه، ولأجل ذلك قُرن الإيمان به، بالإيمان باللّه سبحانه في غير واحدة من الآيات، قال سبحانه: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ) (3).

هذا كلّه حول العقائد، وأمّا الفروع فالإيمان بالضروريات من مقوّمات الإيمان، كالإيمان بوجوب الصلاة والزكاة والحج وصوم شهر رمضان، بمعنى أنّ منكر وجوب هذه العبادات يخرج من الإيمان.

وما ذكرناه هو حصيلة الروايات المتضافرة الّتي جاءت على صنفين:

ص:183


1- . النحل: 36، ولاحظ: الأنبياء: 25.
2- . البقرة: 285.
3- . النساء: 59، ولاحظ: البقرة 232.

1. ما اقتصر على إظهار الشهادتين.

2. ما جاء فيه الاعتقاد ببعض الفروع.

أمّا الصنف الأوّل فنذكر منها ما يلي:

روى مسلم عن عمر بن الخطاب أنّ عليّاً عليه السلام صرخ: يا رسول اللّه، على ماذا أُقاتل الناس ؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: «قاتلهم حتّى يشهدوا أنّ لا الله إلّااللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك فقد مَنعوا منك دماءهم وأموالهم إلّابحقّها، وحسابهم على اللّه»(1).

وهذا هو المروي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث روى البرقي مسنداً عنه أنّه قال: «الإسلام شهادة أن لا إله إلّااللّه والتصديق برسول اللّه، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث»(2).

وقد روي نظيره عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عن عليّ عليه السلام قال: «قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: أُمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّااللّه، فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماؤهم وأموالهم»(3).

ومن حسن الحظ أنّ أئمة الفقه من السنّة صرّحوا بذلك.

قال الإمام الشافعي: فاعلم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه سبحانه فرض أن يقاتلهم حتّى يظهروا أن لا إله إلّااللّه، فإذا فعلوا منعوا دماءهم وأموالهم إلّابحقّها.(4)

وقال القاضي عياض: اختصاص عصم النفس والمال لمن قال: لا إله إلّا اللّه، تعبير عن الإجابة عن الإيمان، أو أنّ المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحّد، وهم كانوا أوّل من دُعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأمّا غيرهم

ص:184


1- . صحيح مسلم: 1199 برقم 6116، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي عليه السلام.
2- . بحار الأنوار: 68/248، برقم 8.
3- . بحار الأنوار: 68/242، برقم 2.
4- . الأُمّ للشافعي: 7/296-297.

ممّن يقرّ بالتوحيد فلا يكفي في عصمته قوله: لا إله إلّااللّه إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، ولذلك جاء في الحديث الآخر: «وأنّي رسول اللّه، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة»(1).

وهذه النصوص - وغيرها كثير - تُصرّح بأنّ ما تحقن به الدماء وتصان به الأعراض ويدخل به الإنسان في عداد المسلمين ويستظلُّ بخيمة الإسلام، هو الاعتقاد بتوحيده سبحانه ورسالة الرسول، وهذا ما نعبّر عنه ببساطة العقيدة وسهولة التكاليف الإسلامية.

وأمّا الصنف الثاني فنأتي ببعض نصوصه:

1. ما رواه البخاري عن عبد اللّه بن عباس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال (وهو يبيّن معنى الإيمان باللّه وحده): «شهادة أن لا إله إلّااللّه، وأنّ محمداً رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان وأن تُعطوا من المغنم الخُمُس»(2).

2. ما تضافر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن شهد أن لا إله إلّااللّه، واستقبل قبلتنا، وصلّى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم»(3).

3. روى ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمداً رسول اللّه، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّابحقّ الإسلام، وحسابهم على اللّه»(4).

ص:185


1- . بحار الأنوار: 68/243.
2- . صحيح البخاري: 1/21 برقم 53، كتاب الإيمان، باب أداء الخمس.
3- . جامع الأُصول لابن الأثير: 158/1-159.
4- . صحيح البخاري: 1/14 برقم 25، كتاب الإيمان، باب: «فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا الصَّلَوةَ ...» التوبة: 5.

إذا عرفت هذين الصنفين من الروايات فاعلم أنّ الجميع يهدف إلى أمر واحد وهو أنّ الدخول في الإسلام والتظلّل تحت مظلّته ليس بأمر عسير بل سهل جدّاً، وليس في الإسلام ما هو معقّد في المعارف، ولا معسور في الأحكام، وشتّان بين بساطة العقيدة فيه، والتعقيد الموجود في المسيحية من القول بالتثليث وفي الوقت نفسه من الاعتقاد بكونه سبحانه إلهاً واحداً.

وأمّا الاختلاف بين الصنفين فيمكن رفع ذلك بوجهين:

الأوّل: أنّ موقف الصنف الأوّل غير موقف الصنف الثاني، فالأوّل بصدد بيان ما تُصان به الدماء وتحلّ به الذبائح، وتجوز به المناكحة، فيكفي في ذلك الإقرار بالشهادتين المعربتين عن التصديق بهما قلباً. وأمّا الثاني فهو بصدد بيان ما ينجي الإنسان من عذاب الآخرة وهو رهن العمل بالأحكام، وقد ذكرنا نماذج منه، لتكون إشارة إلى غيرها.

الثاني: أنّ ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم ينقسم إلى ضروري يعلم من غير نظر واستدلال، ويعرفه كلّ مَن ورد حظيرة الإسلام، كوجوب الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان؛ وإلى غير ضروري يقف عليه مَن عمّر في الإسلام وعاش بين المسلمين وخالط العلماء والوعاظ، أو نظر في الكتاب والسنّة، فإنّ إنكار القسم الأوّل إنكار لنفس الرسالة، بحيث لا يمكن الجمع - في نظر العرف - بين الشهادة على الرسالة وإنكار وجوب الصلاة والزكاة، ولأجل ذلك لا يعذر فيه ادّعاء الجهل عند الإنكار إلّاإذا دلّت القرائن على جهل المنكر بأنّه ضروريّ ، كما إذا كان جديد عهد بالإسلام. وعلى هذا لا منافاة بين الصنفين، فلعلّ عدم ذكرها في الصنف الأوّل للاستغناء عنها بالاعتراف بالرسالة الّذي لا ينفكّ عن الاعتراف بها.

ص:186

وبذلك يظهر: أنّ المسائل الفرعية والأُصولية الكلامية وإن كانت من صميم الإسلام لكن لا يجب الإذعان القلبي بها تفصيلاً، بل يكفي الإيمان بها إجمالاً حسب ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله فيكفي في الإيمان، الإذعان بأنّ القرآن نزل من اللّه، من دون لزوم عقد القلب بقِدَمِه أو حدوثه، وأنّ اللّه عالم وقادر من دون لزوم تبيين موقع الصفات وأنّها عين الذات أو زائدة عليها، وقس على ذلك جميع المسائل الكلامية والفقهية إلّاما خرج بالدليل.

المرونة في قبول الإسلام
اشارة

إذا عرفت هذه السنن والكلمات فاعلم أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان يقبل إسلام كلّ إنسان يُقرّ ب (لا إله إلّااللّه) و (محمد رسول اللّه).

ومن المعلوم أنّ الإقرار بهما كان يلازم الإقرار بيوم الجزاء، ولم يكن رسول اللّه يسأل أحداً عن سائر الأُمور الكلامية الّتي ظهرت بعد رحلته صلى الله عليه و آله و سلم وتداولتها ألسن المحدِّثين والمتكلِّمين، وما ذلك إلّالأن هذه المسائل لا تمتّ إلى جوهر الإيمان وقوامه بصلة، وإن كان الحق في كلّ مسألة في وجه واحد.

كان الناس يحضرون عند (رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم) زرافات ووحداناً ويتشرّفون بالإسلام بكلمتين أو بكلمة واحدة (تلازم الكلمتين الأُخريين)، ولم يكن النبي صلى الله عليه و آله و سلم يسألهم عن المسائل التالية:

1. هل أنت تعترف بأنّ صفاته سبحانه عين ذاته أو زائدة عليها؟

2. هل أنت تعترف بأنّ الصفات الخبرية في القرآن كالرجل واليد بنفس معانيها، أو هي كناية عن معانٍ أُخرى ؟

3. هل أنت تقول بأنّ القرآن قديم أو محدث ؟

4. هل أنت تعترف بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه أو لا؟

ص:187

5. هل أنت تعتقد بعصمة الأنبياء قبل البعثة أو بعدها؟

6. هل أنت تعتقد برؤية اللّه في الآخرة ؟

إلى غير ذلك من عشرات الأسئلة الّتي صارت ذريعة لتكفير المسلمين، بسبب الاعتقاد بهذه المسائل خصوصاً الصفات الخبرية وحدوث القرآن وقِدَمه أو رؤية اللّه تعالى يوم القيامة.

وأخيراً صارت عدّة مسائل كلامية ذريعة للتكفير أحدثها محمد بن عبدالوهاب إمام الفرقة الوهابية نظير:

1. التوسّل بالأولياء وطلب الشفاعة منهم.

2. البناء على القبور الّذي وصفوه بالوثنية.

وغير ذلك من المسائل الكلامية أو الفقهية الّتي لا تناط بالإيمان والكفر ولم يكن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يسأل عنها كلّ مَن يدخل في حظيرة الإيمان، بل كان يصهر الجميع في بوتقة واحدة ويدخلهم في خيمة الإسلام والإيمان.

وممّا زاد في الطين بلّة، أنّهم يفترون على الشيعة أُموراً مكذوبة، ثم يكفِّرونهم بها، نظير:

1. تأليه الشيعة لعليٍّ وأولاده، وأنّهم يعبدونهم ويعتقدون بإلوهيتهم.

2. إنكارهم ختم النبوة برحيل سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم وأنّ الوحي لم يزل ينزل على عليّ وأولاده.

3. بغض أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وسبّهم ولعنهم وأنّهم أعداء الصحابة من أوّلهم إلى آخرهم.

4. تحريف القرآن الكريم وأنّه حُذف منه أكثر ممّا هو الموجود.

5. نسبة الخيانة لأمين الوحي وأنّه بعث إلى عليٍّ عليه السلام فخان فذهب إلى محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:188

نعم للشيعة الإمامية مسائل كلامية تختصّ بها وربما يكون ذلك سبباً لبعض التُّهم، ومن ذلك:

1. الإيمان بخلافة الخلفاء

إنّ هذا الأمر ليس من الأُصول بل هو من الأحكام الفرعية الّتي لا يضر الاختلاف فيها، ويشهد لِما قلناه كلمات أئمة أهل السنّة:

قال التفتازاني: لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق، لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات، وهي أُمور كلّية تتعلّق بها مصالح دينية أو دنيوية، لا ينتظم الأمر إلّابحصولها فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كلّ أحد، ولا خفاء في أنّ ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية(1).

وقال الإيجي: المرصد الرابع: في الإمامة ومباحثها عندنا من الفروع وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيّاً بمن قبلنا(2).

وقال الجرجاني: الإمامة ليست من أُصول الديانات والعقائد، بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين، إذ نصب الإمام عندنا واجب على الأُمّة سمعاً(3).

فإذا كانت الإمامة من الفروع فما أكثر الاختلاف في الفروع. فكيف يكون الاختلاف موجباً للكفر؟

ص:189


1- . شرح المقاصد: 5/232.
2- . المواقف: 395.
3- . شرح المواقف: 8/344.
2. علم الأئمة عليهم السلام بالغيب

لاشكّ أنّ العلم بالغيب علماً ذاتياً غير مكتسب وغير محدّد بحدٍّ، يختصّ باللّه سبحانه، ولكن لا مانع من أن يُعلِّم سبحانه شيئاً من الغيب لبعض أوليائه فيخبر عن الملاحم لأجل كونهم محدّثين، والمحدّث يسمع صوت الملك ولا يراه، وهو ليس أمراً بدعيّاً في مجال العقيدة، فقد رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء...»(1).

وقد تضافرت الروايات عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ المحدّثين، فأئمة أهل البيت عليهم السلام عند الشيعة من المحدَّثين، فأي إشكال في ذلك ؟ وهل هو يوجب مشاركتهم اللّه في علم الغيب ؟! وأين العلم بالغيب مكتسباً من اللّه محدوداً بحدّ خاص، من علمه الواسع غير المكتسب ولا المحدود؟

3. التقيّة من المسلم

وممّا يخطِّئون به الشيعة هو تقيّتهم من المخالف المسلم، بناءً على اختصاص التقيّة بالكافر مع أنّه أمر صرّح بجوازه غير واحد من أئمة السنّة.

قال الرازي في تفسير قوله سبحانه: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (2): ظاهر الآية يدلّ أنّ التقيّة إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين، إلّاأنّ مذهب الشافعي: أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقيّة محاماة عن النفس.(3)

ص:190


1- . صحيح البخاري: 2/194.
2- . آل عمران: 28.
3- . مفاتيح الغيب: 8/13.

وقال ابن الوزير اليمانيّ (1) في كتابه «إيثار الحقّ على الخلق» ما هذا نصّه:

وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما: خوف العارفين - مع قلّتهم - من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقيّة عند ذلك بنصّ القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق، وقد صحّ عن أبي هريرة أنّه قال، في ذلك العصر الأوّل: حفظت من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وعاءين، أمّا أحدهما فبثثته في الناس، وأمّا الآخر فلو أبثّه لقطع هذا البلعوم.(2)

قلت: إن هذا ليس أمراً مبتدعاً، فقد عمل به أربعة وعشرون محدِّثاً في مقابل السلطان الجائر المسلم، أعني: المأمون، وقد نقل تفصيل القصة الطبري في تاريخه، قال: جاءت رسالة المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم فأحضر لفيفاً من المحدِّثين والذين يربو عددهم على ستة وعشرين محدّثاً فقرأ عليهم رسالة المأمون مرتين حتّى فهموها، ثم سأل كلّ واحد منهم عن رأيه في خلق القرآن، وقد كانت عقيدة المحدّثين بأنّ القرآن غير مخلوق أو غير حادث، فلمّا شعروا بالخطر وقرئت عليهم رسالة المأمون ثانياً وأمره بالتضييق عليهم وأن توثق أيديهم ويرسلوا إليه، أجاب القوم الممتنعون كلّهم وقالوا بخلق القرآن إلّاأربعة منهم: أحمد بن حنبل، وسجّادة، والقواريري، ومحمد بن نوح؛ فلمّا كان من الغد أظهر سجّادة الموافقة وقال بأنّ القرآن مخلوق وخلّي سبيله، ثم تبعه بعد غد القواريري وقال بأن القرآن مخلوق، فخلّي سبيله، وبقي أحمد بن حنبل ومحمّد بن نوح، وللقصة تكملة

ص:191


1- . أبو عبداللّه بن إبراهيم بن علي بن المرتضى الحسني (المتوفّى 840 ه). أثنى عليه الشوكاني، ونعته بالمجتهد المطلق، ثم قال: وكلامه لا يشبه كلام أهل عصره وكلام من بعده، بل هو من نمط كلام ابن حزم وابن تيميّة. البدر الطالع: 2/316 برقم 561.
2- . إيثار الحقّ على الخلق: 141-142، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1407 ه.

ذكرناها بتفاصيلها في كتابنا بحوث في الملل والنحل، فلاحظ.(1)

***

4. تكفير الصحابة

(سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ ) (2) إنّ تكفير الصحابة من الافتراءات الّتي تشهد الضرورة ببطلانها، كيف ؟ وثمّة طائفة من الصحابة هم من رواد التشيّع، ثم كيف ؟ وهذا إمامهم (الّذي يقتدون به ويقتفون أثره)، بل إمام المسلمين عامّة، أعني: عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول في حق الصحابة: «أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ ، وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ ، وَأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ !

أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ . دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ »(3).

ويقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في حقّهم: «اللهمّ وأصحابُ محمّد خاصّةً ، الذين أحَسنوا الصحابة، والذين أبلَوُا البلاءَ الحسَن في نصرهِ ، وكانَفُوه، وأسرعوا إلى وِفادتهِ ، وسابقوا إلى دعوتهِ ... فلا تنسَ لَهُمُ اللهمّ ما تركوا لك وفيك، وأَرضِهِم من رضوانك...»(4)

ثم إنّ لعضد الدين الإيجي في «المواقف» وشارحه السيد الجرجاني في شرحها كلاماً في عدم جواز تكفير الشيعة بمعتقداتهم نأتي بنصهما متناً وشرحاً، فقد ذكرا الوجوه وردّها:

ص:192


1- . بحوث في الملل والنحل: 3/605-614.
2- . النور: 16.
3- . نهج البلاغة: الخطبة 182.
4- . الصحيفة السجادية الكاملة: الدعاء الرابع (في الصلاة على أتباع الرُّسل ومصدّقيهم).

الأوّل: أنّ القدح في أكابر الصحابة الذين شهد لهم القرآن والأحاديث الصحيحة بالتزكية والإيمان (تكذيب) للقرآن و (للرسول حيث أثنى عليهم وعظّمهم) فيكون كفراً.

قلنا: لا ثناء عليهم خاصّة، أي لا ثناء في القرآن على واحد من الصحابة بخصوصه، وهؤلاء قد اعتقدوا أنّ مَن قدحوا فيه ليس داخلاً في الثناء العام الوارد فيه وإليه أشار بقوله: (ولاهم داخلون فيه عندهم) فلا يكون قدحهم تكذيباً للقرآن، وأمّا الأحاديث الواردة في تزكية بعض معيّن من الصحابة والشهادة لهم بالجنّة فمن قبيل الآحاد، فلا يكفَّر المسلم بإنكارها؛ أو تقول: ذلك الثناء عليهم، وتلك الشهادة لهم مقيّدان، بشرط سلامة العاقبة ولم توجد عندهم، فلا يلزم تكذيبهم للرسول.

الثاني: الإجماع منعقد من الأُمّة، على تكفير من كفّر عظماء الصحابة، وكلّ واحد من الفريقين يكفّر بعض هؤلاء العظماء فيكون كافراً.

قلنا: هؤلاء، أي من كفّر جماعة مخصوصة من الصحابة، لا يسلّمون كونهم من أكابر الصحابة وعظمائهم، فلا يلزم كفره.

الثالث: قوله عليه السلام: «مَن قال لأخيه المسلم يا كافر، فقد باء به - أي بالكفر - أحدهما».

قلنا: آحاد، وقد أجمعت الأُمّة على أنّ إنكار الآحاد ليس كفراً، ومع ذلك نقول: المراد مع اعتقاد أنّه مسلم، فإنّ من ظن بمسلم أنّه يهودي أو نصراني فقال له: ياكافر، لم يكن ذلك كفراً بالإجماع(1).

هذا كلامهما ونحن نقول ليس هنا من يكفر الصحابة بل الموجود هو

ص:193


1- . شرح المواقف: 344/8، ط مصر.

دراسة حياة الصحابة بعد رحلة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وهو أمر درج عليه السلف من أصحاب السيرة والتاريخ والرجال كدراسة حال التابعين لهم، وأخذ الدين عنهم لا يصدّنا عن تلك الدراسة العلمية بل يدفعنا إلى أخذها من أُناس صادقين عادلين، فمن زعم أنّ دراسة حياة الصحابي يورث الضعف في الدين أو يوجب الخلل في الإسلام فقد أتى بكلام غير مقبول ولا معقول، وهؤلاء هم علماء الرجال قد ألّفوا موسوعات في أحوال رجال الحديث مبتدئين من التابعين، ونحن نعطف الصحابة على التابعين أيضاً، ونكيل لكلّ من قال الحق وعمل به، المدح العظيم والثناء الجميل.

هذا هو حدّ الإيمان والكفر وحدّ الشرك والبدعة قد وقفت عليها عن كثب، وأنّ فِرَق الإسلام عامّة (غير الغلاة والنواصب) كلّهم داخلون في حظيرة الإسلام، فيجب أن تُحقَن دماؤهم وتُصان أموالهم وأعراضهم وكل ما يمتّ إليهم بصلة، وأنّ مَن يقوم بتكفير أُمّة أو أُمم من المسلمين فإنّما يصدر عن عصبية وعناد، أو عن غرض خبيث يخدم به قوى الكفر والاستبداد والاستكبار.

واللّه سبحانه هو الهادي إلى الطريق الحقّ .

بيان واقتراح

وبعد هذه الجولة العلمية الخاطفة لمناقشة بعض أُسس ومبررات الاتجاهات التكفيرية، لابُدّ لنا أن نعيد التأكيد على ما تمّثله هذه الاتجاهات من خطورة بالغة على مستقبل الإسلام والأُمّة.

فالتكفير اليوم لم يعد مجرد فتوى أو رأي نظري، وليس اتجاهاً لمجموعة محدودة كما كان في العهود السابقة، بل تحوّل إلى تيار فاعل يستقطب الاتباع في بلدان ومجتمعات كثيرة، ويخرّج أجيالاً من ابناء الأُمّة تحمل فكر التطرّف والتشدّد، وتتجه لممارسة العنف والإرهاب، ورأينا ضمن اتباع هذا التيار

ص:194

التكفيري بعض من اعتنقوا الإسلام حديثاً من الشباب الغربيين والذين قتل بعضهم في معارك الصراع والفتن في مناطق عديدة.

كما أصبح لهذا التيار التكفيري وسائل إعلام متطورة ضمن عالم التواصل الاجتماعي الحديث، ولهم معسكراتهم وقدراتهم الحربية الهائلة، وشبكاتهم التنظيمية الواسعة، وامكاناتهم المالية الكبيرة.

وكلّ ذلك يدلّ على أنّ قوىً عالمية كبرى تدعمهم لخدمة اغراضها ومخططاتها ضد الإسلام والمسلمين، وواضح ان بعض الدول والقوى الاقليمية تستفيد منهم في صراعاتها ضد الأنظمة والجهات المنافسة لها، فتدعمهم، ممّا يمنحهم فرص التجديد والتطوير لقدراتهم وفاعليتهم المرعبة.

من هنا لابدّ من إعلان النفير العام في جميع أوساط الأُمة، وخاصّة العلماء والقيادات الفكرية والاجتماعية، ضد هذا الخطر الماحق، والوباء الفتّاك، ولا يصح أبداً أن تتاح للتكفيريين فرصة الاستفادة من مجال الاختلافات المذهبية والسياسية، للعبث بواقع الأُمّة، وتهديد مستقبلها، وتشويه صورة الإسلام أمام العالم.

وأُطالب جميع المخلصين من علماء الأُمّة، وقياداتها الواعية، بتحمّل المسؤولية أمام اللّه والتاريخ تجاه هذا التحدي والخطر الكبير، ضمن النقاط التالية:

1. إظهار الموقف الشرعي الواضح والصريح بإدانة التكفير لأحد من أهل القبلة على أساس الاختلافات المذهبية والعقدية المعروفة في الأُمّة. وتحريم وتجريم ممارسات العنف والإرهاب.

2. تحذير أبناء الأُمّة وتوعيتهم عبر مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، ومنابر الخطاب الديني، من شر وخطر هذه الاتجاهات التكفيرية، فهي أعظم منكر يجب النهي عنه والوقوف أمامه في هذا العصر.

ص:195

3. نشر ثقافة الإسلام، وتعاليمه السامية، في التآخي والرحمة والمحبة والتسامح، بين المسلمين، بل بين أبناء البشرية جمعاء، فالناس صنفان إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام.

4. الجدّية في الحوار والتقارب والتواصل بين قادة المذاهب الإسلامية، وزعامات الأُمّة، وفاعليات مجتمعات المسلمين.

5. استمرار بذل الجهود وتضافر القوى لمواجهة تيارات التكفير عبر انعقاد المؤتمرات، والنشاط العلمي والإعلامي، وتشكيل لجان المتابعة للقرارات والمقترحات.

***

(فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (1)

ص:196


1- . الزمر: 17-18.

11. البهائية وتحريف الآية الخامسة من سورة السجدة

تحريف مفاد الآية

البهائية مسلك سياسي صنعه الاستعمار في القرن الثالث عشر لغاية تمزيق الأُمّة الإسلامية خصوصاً الشعب الإيراني المتمسّك بولاية الأئمّة الاثني عشر (عليهم الصلاة والسلام) أوّلهم الإمام علي عليه السلام وآخرهم المهدي المنتظر (عجل اللّه فرجه الشريف) الذي وعد اللّه به الأُمم.

وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّايوم لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً منّي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً».(1)

وقد ألّف علماء الإسلام عشرات الموسوعات ومئات الكتب حول الإمام المهدي عليه السلام وسجّلوا كلّ دقيق وجليل ممّا يتعلّق بحياته من ولادته عام 255 ه إلى آن ظهوره، فلم يبقوا لمشكّك شكّاً ولا لمريب ريباً.

ورغم وضوح هذه الحقائق إلّاأنّه قد ظهر رجل يُدعى علي محمد من مواليد عام 1225 ه في شيراز، وقد ادّعى في عام 1260 ه أنّه باب الإمام الثاني عشر، ثم بالغ وقال إنّه نفس الإمام، إلى أن آل أمره إلى ادّعائه النبوّة الناسخة لنبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، وقد استجاب لدعوته زمرة قليلة بين جاهل لا يميّز الحقّ عن

ص:197


1- . الغيبة للشيخ الطوسي: 46.

الباطل، ومغرض عميل مرتزق، منهم: أبو الفضل الجرفادقاني فصار داعية من دعاتهم وألّف كتاباً باسم «الفرائد» باللغة الفارسية ونشره في مصر، فخبط خبط عشواء، تقف على مقدار علمه وتعميته الأمر على الجهلة من أتباع مسلكه، فيما نذكره هنا:

إنّه استدلّ على نبوّة ذلك الرجل الذي ادّعى النبوّة عام 1260 ه وقال: إنّ الآية التالية من الأدلّة القاطعة على صحّة الادّعاء، قال سبحانه: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ ) .(1)

وأوضح دلالتها بما يلي: إنّ اللّه ينزل الدين المبين من السماء إلى الأرض ثم بعد نزوله وكماله بالنبيّ والأئمة المعصومين يزول شيئاً فشيئاً ويصعد إلى السماء.

فعلى ما ذكره فيكون معنى الآية على النحو التالي: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) : أي ينزل دينه (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ) فبعد ما كَمُلَ وأخذ الدين بالزوال والضعف ضمن ألف سنة، (ثُمَّ يَعْرُجُ ) هذا الدين (إِلَيْهِ ) : أي إلى اللّه (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

ثمّ حاول تطبيقه على دعوة إمام مسلكه فقال: الأنوار الإلهية أي الوحي النازل على قلب سيد المرسلين والإلهامات الواردة على قلوب الأئمّة الطاهرين كملت ضمن 260 سنة، وبعد ما توفّي الإمام العسكري عليه السلام وأُحيل أمر الدين إلى الفقهاء فصار الدين لأجل اختلاف الآراء يضعف تدريجياً، وصاعداً إلى اللّه شيئاً فشيئاً حتى بلغ الأمر إلى أنّه لم يبق من الإسلام إلّاالاسم، فعندئذٍ ظهر عام 1260 ه من أُفق فارس شمس الهداية، وتحقق ما بشّر به القرآن الكريم.(2)

أقول: لا يخفى ما فيه من الأغاليط والتحريفات، وهي أفضل دليل على أنّ

ص:198


1- . السجدة: 5.
2- . الفرائد: 37-38، طبع مصر.

الرجل اتّخذ لنفسه عقيدة مسبقة ثم حاول أن يستدلّ عليها بشيء من القرآن حتى يقنع الرعرعة الدهماء، وإلّا فالعالم باللغة العربية وقواعدها يقف على أنّه ليس لهذا الاستدلال مسحة من الحق، ولا لمسة من الصدق، وأنّ الجميع أُغلوطة بعد أُغلوطة، وإليك بيانها:

أمّا أوّلاً: فلأنّه فسّر قوله: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) بأنّه ينزل الشريعة، مع أنّ تلك الفقرة وردت في القرآن الكريم أربع مرّات وأُريد بها في الجميع تدبير أمر الخلقة من السماء إلى الأرض،(1) لا نزول الشريعة.

وثانياً: لو أراد اللّه سبحانه تنزيل الشريعة فكان من اللازم أن يقول: «ينزل الشريعة»، ولذلك يقول: (وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (2)، وقال سبحانه: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (3) إلى غير ذلك من الآيات، ولم يُرَ في القرآن الكريم تعبير عن نزول الوحي بتدبير الأمر.

وثالثاً: أنّه لو تمّ الاستدلال بأنّه سبحانه ينزل شريعته وينسخها بعد ألف عام، يجب أن ينسخها بعد مضي ألف عام من نزول القرآن الكريم أو من هجرة النبي أو وفاته، وكلّ ذلك لا ينطبق على ألف ومائتين وستين، بل ينقص عنه.

وقد حاول أن يتخلّص من هذا الإشكال بإدخال حياة الأئمّة الممتدة إلى 260 سنة، ويجعلها جزءاً من كمال الشريعة وتمامها، وهي تمّت عنده بوفاة الإمام العسكري عليه السلام، وهو كما ترى ، فإنّ الشريعة تمّت بوفاة النبيّ وكمل الدين في يوم الغدير.

ص:199


1- . لاحظ: يونس، 3، 31، الرعد: 2، السجدة: 5.
2- . الإسراء: 106.
3- . الإنسان: 23.

ورابعاً: أنّ ما ذكره من الضابطة لا ينطبق على سائر الأنبياء، فإنّ الفاصلة الزمانية بين النبيّ موسى والمسيح عليهما السلام أزيد من ألف سنة فهي تناهز 1500 سنة، كما أنّ الفاصل الزماني بين المسيح عليه السلام ونبي الإسلام صلى الله عليه و آله أقلّ من ألف سنة بكثير.

وخامساً: أنّ القرآن الكريم كتاب عربي نزل بأوضح العبارات وأبلغها، فلو كان المقصود نزول كلّ شريعة ألف سنة ثم نسخها لكان عليه أن يبيّن ذلك بعبارة واضحة ويقول: إنّ اللّه سبحانه ينزل كلّ شريعة وتدوم ألف سنة ثم تنسخ بعد الألف حتى لا يشتبه المراد.

والحقّ أنّ الرجل من مصاديق قوله سبحانه:

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ

هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً

قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ

وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ ) (1).

ص:200


1- . البقرة: 79.

الفصل الثاني مقالات في الأُصول والفقه والرجال

اشارة

1. فلسفة أُصول الفقه

2. الخطابات القانونية ودورها في المسائل الأُصولية

3. أُسس آراء المحقّق النائيني

4. مسند ابن أبي عمير

5. الوزير المغربي تفسيره ومذهبه

6. في الكر

7. حكم الصلاة في المساجد الشيعية

8. صوم مَن به داء العطش

9. مِنى التاريخ والتشريع

10. اختلاف الزوجين في دوام العقد

ص:201

ص:202

1. فلسفة أُصول الفقه

اشارة

1. فلسفة أُصول الفقه(1)

أكثر ما يتناقل على ألسنة أهل العلم هو إطلاق لفظ الفلسفة مجردة دون أن يضاف إلى شيء آخر، وربما يطلق مضافاً إلى شيء ما، نظير فلسفة التاريخ أو فلسفة الفقه ونحو ذلك.

أمّا الأوّل: فيراد منه الفن الأعلى.

وإن شئت قلت: الأُمور العامّة وهو العلم الباحث عن أحوال الموجود بما هو موجود دون أن يكون متحيّثاً بحيثية طبيعية أو رياضية، وربما يعرّف بقولهم:

نعوت كلية تعرض للموجود من حيث هوهو.

وأمّا الثاني - أعني المضاف إلى علمٍ -: فقد طال التشاجر في تبيين مفهومه، ونحن نعرض عن تلك الآراء ونذكر ما هو المقصود من هذا اللفظ المضاف فنقول: المراد هو العلم الذي يقع في خدمة علم آخر بتبيينه وتوضيحه، مثلاً أُصول الفقه يلاحظ على وجهين:

الأوّل: تارة يلاحظ بما فيه من بحوث ومسائل نظير الأوامر والنواهي

ص:203


1- . أُلقيت هذه المقالة في المؤتمر العلمي لتكريم وتقدير الجهود العلمية للشيخ العلّامة محمد حسين الغروي الإصفهاني قدس سره.

والمفاهيم والعموم والخصوص والمطلق والمقيّد، والحجج الشرعية، ففي هذه النظرة يكون الملحوظ عند الباحث هو نفس العلم بما هوهو، ولا يخرج عنه قيد شعرة.

الثاني: النظر إلى ذاك العلم من الخارج، ففي هذه النظرة يكون الملحوظ الأُمور التي لها صلة بهذا العلم وتكون مجيبة لكثير من الأسئلة حول هذا العلم، نظير البحوث التالية:

1. ما هي الغاية من تأسيس علم أُصول الفقه ؟

2. الأُسس التي بُني عليها علم أُصول الفقه.

3. تاريخ علم أُصول الفقه.

4. الطرق المختلفة في تدوين علم أُصول الفقه.

5. موضوع علم الأُصول أي الجهة الجامعة بين موضوعات مسائله.

6. ماهية علم الأُصول ومكانته، فهل هو علم حقيقي أو اعتباري ؟ وتدرس هنا آفات ذلك العلم.

7. تعريف علم الأُصول تعريفاً جامعاً ومانعاً.

8. الأدوار التي مرّ بها علم أُصول الفقه.

وممّا يجب التنبيه عليه أنّ قسماً كبيراً من هذه الأُمور داخل في الرؤوس الثمانية التي كان القدماء يذكرونها في مطالع كتبهم.

ولتبيين هاتين النظرتين: النظرة إلى العلم من صميمه، والنظرة إليه من الخارج نأتي بمثال يوضّح لنا واقع النظرتين.

نفترض أنّ ظاهرة صناعية كسفينة مشحونة بالركاب والبضائع تسير في البحر وتقطع أمواجه العاتية، فهناك من يريد تسجيل خصوصيات السفينة من داخلها، وهناك شخص آخر يريد تسجيلها خصوصيات السفينة من خارجها.

ص:204

أمّا الأوّل فلا يتجاوز نظره عن داخلها فيسجّل ما تشتمل عليه السفينة في طبقاتها المختلفة، وغرفها المتعدّدة وما فيها من قاعات الطعام والاستراحة ومحرّكاتها وغرفة القيادة وأبراج المراقبة والحراسة.

وأمّا الثاني أي الناظر إليها من الخارج فيقع نظره على هيئة السفينة وشكلها وإلى المواد التي صنعت منها، وإلى مكان صنعها، وينظر إلى سرعتها واتّجاهها، وغير ذلك ممّا يقع عليه النظر من الخارج.

فموقف العلم هو موقف الناظر من الداخل، وموقف فلسفة العلم هو موقف الناظر من الخارج.

إذا وقفت على ما ذكرنا فلنبدأ ببيان البحوث التي أشرنا إليها:

الأوّل: ما هي الغاية من تأسيس علم أُصول الفقه ؟

قد وقف غير واحد من الفقهاء خلال القرن الثاني من الهجرة النبوية على أنّ استنباط قسم من الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة رهن ثبوت عدّة من القضايا قبل عملية الاستنباط، وبعبارة أُخرى رهن تسليم فروض لا غنى للفقيه عن قبولها قبله، مثلاً ما لم يثبت أنّ الأمر الحاضر أو الغائب وضعا للوجوب؛ لا يمكن إثبات وجوب الكتابة عند المداينة من قوله سبحانه: (وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) (1)، أو ما لم يثبت أنّ النهي موضوع للحرمة؛ لا يمكن استخراج حرمة الأكل بالباطل من قوله سبحانه: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (2)، إلى غير ذلك من المسائل التي لا يمكن استخراجها من مصادرها ما لم تثبت أُمور تُعدّ أُسساً للاستنباط، وقد سمّيت هذه الأُمور بأُصول الفقه التي هي مبادئ تصديقية لمسائل علم الفقه.

وليس هذا من خصائص علم الفقه بل يعمّ سائر العلوم، مثلاً: التصديق

ص:205


1- . البقرة: 282.
2- . البقرة: 288.

بالقواعد التالية: كلّ فاعل مرفوع، كلّ مفعول منصوب، كلّ مضاف إليه مجرور، رهن ثبوت أُمور تسبّب التصديق بها ولولاها لما حصل التصديق والجزم بها. وتتلخّص تلك الأُمور في التتبع في كلمات البلغاء وخطبهم وأشعارهم وقبل ذلك القرآن الكريم وخطب النبي صلى الله عليه و آله و سلم وكلمات المعصومين عليهم السلام بما أنّهم من أهل اللسان، فهذه الأُمور تُعدّ مبادئ تصديقية لعلم النحو.

الثاني: الأُسس الّتي بُني عليها علم أُصول الفقه

اشارة

إنّ القواعد الأُصولية، وإن كانت مبادئ تصديقية لمسائل علم الفقه، ولكنّها في حدّ نفسها مسائل نظرية لا بديهية فلا تثبت إلّابالدليل والبرهان، ولذلك لا غنى للفقيه من التعرّف على الأُسس الّتي تستمدّ منها مسائل أُصول الفقه وتوصف بالمباني، وهي في بادئ النظر لا تعدو عن مبانٍ سبعة نشير إليها باختصار:

أ. المداليل اللغوية

بما أنّ قسماً من مسائل أُصول الفقه تعدّ مباحث لفظية كدراسة مفاهيم الأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيّد، فالتعرّف على مفاهيمها رهن الوقوف على قواعد لغوية استنبطها أهل اللغة أو نفس الفقيه من كلام العرب ودواوينهم وخطبهم، وربما يستمدّ في تعيين مفاهيم هذه الألفاظ بالتبادر، وعدم صحّة السلب، والاطّراد، وإن كان الأخير عندنا هو الأرجح.

ب. حكم العقل النظري في باب الملازمات

إنّ قسماً من مسائل أُصول الفقه يرجع إلى الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، أو بين حرمة الشيء وحرمة مقدّمته، أو الملازمة بين وجوب

ص:206

الشيء وحرمة ضدّه، إلى غير ذلك ممّا يبحث عنه في باب الملازمات، والحاكم فيها هو العقل النظري إيجاباً أو سلباً، ونظير ما ذكرنا الحكم بثبوت الشيء عند ثبوت شرطه أو وصفه، وارتفاعه عند ارتفاعهما.

ج. الأحكام البديهيّة للعقل النظري

إنّ قسماً من قواعد علم الأُصول يبتني على امتناع اجتماع الضدّين أو امتناع الأمر بغير المقدور، فيعدّ هذا النوع من الحكم أساساً لبعض الأحكام، وعلى هذا بُني قسمٌ من المسائل الأُصولية نظير امتناع تعلّق الأمر والنهي بعنوانين متّحدين في الخارج، لأنّ الأمر يكشف عن الإرادة، والنهي يكشف عن الكراهة وهما متضادّان يستحيل اجتماعهما. ونظيره القول بامتناع الترتّب، حيث إنّ لازم تجويزه، طلب الضدين في ظرف واحد، المستلزم للأمر بغير المقدور، وهل الاستلزام صحيح أو لا؟ فلسنا في مقام تقويمه.

د. حكم العقل العملي في باب التحسين والتقبيح

تستمدّ بعض مسائل أُصول الفقه من حكم العقل العملي بالتحسين والتقبيح، ولذلك بنوا البراءة العقلية على قبح العقاب بلا بيان، كما بنوا لزوم الموافقة القطعية في مورد العلم الإجمالي بوجوب أحد المتباينين، على صحّة العقوبة إذا اقتصر بالامتثال الاحتمالي ولم يصادف الواقع.

ه. سيرة العقلاء

إنّ سيرة العقلاء التي يعبر عنها ببناء العقلاء أيضاً، من مباني أُصول الفقه، مثلاً يحتجّ على حجّية الظواهر أو على حجّية قول الثقة بسيرة العقلاء الجارية في عصر المعصومين عليهم السلام، إذا كانت السيرة بمرأى ومسمع منهم ولم يصدر عنهم أي ردّ فيها.

ص:207

و. كتاب اللّه العزيز

إنّ كتاب اللّه العزيز من مصادر الفقه وفي الوقت نفسه فهو يُعدّ أساساً لقسم من المسائل الأُصولية، مثلاً البراءة الشرعية فهي مبنيّة على ما تضافر في الكتاب من أنّه سبحانه لا يعذّب أُمّة قبل البيان كما يقول: (وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1).

وقوله سبحانه: (وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) .(2)

ز. السنّة الشريفة
اشارة

إنّ قسماً من مسائل أُصول الفقه تستمدّ من السنّة الشريفة ونشير إلى موردين منها:

1. الاستصحاب

فهي قاعدة أُصولية في الشبهات الحكمية تعتمد في حجيّتها على قولهم عليهم السلام: «لا تنقض اليقين بالشكّ ».

2. مرجّحات باب التعارض

إذا وردت روايتان متعارضتان فالقاعدة الأوّلية هي سقوط الروايتين عن الحجيّة، والرجوع إلى قواعد أُخرى في نفس المسألة، غير أنّ قسماً من الروايات ذكر مرجّحات لتقديم إحداهما على الأُخرى، وبالتالي أضفى الحجّية لذي المزيّة كموافقة الكتاب ومخالفة العامّة.

ص:208


1- . الإسراء: 15.
2- . القصص: 59.

هذه هي الأُسس السبعة والتي تبتني عليها مسائل أُصول الفقه.

***

الثالث: تاريخ علم أُصول الفقه

المشهور عند أهل السنّة أنّ الشافعي بتأليف كتابه الموسوم ب «الرسالة» يُعدّ أوّل من ألّف في أُصول الفقه. والحقّ أنّ الرسالة كتاب ممتع غير أنّ محتوياته لا تختصّ بعلم الأُصول فهو يبحث عن الفقه والحديث وشيء من مسائل أُصول الفقه كالإجماع والقياس والاستحسان والنسخ والعام والخاص، ولعلّ الشيء القليل من محتوياته يختص بأُصول الفقه، وأمّا أوّل مَن عطف نظر الفقهاء إلى قواعد هذا العلم هم أئمّة أهل البيت عليهم السلام وأخصّ بالذكر الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام فقد أمليا على أصحابهما قواعد كلّيّة فقهية وأُصولية، وقد جمعها صاحب الوسائل في كتاب خاص أسماه «الفصول المهمّة في أُصول الأئمّة»، وقد قام بعض المتأخّرين بشرح ما في هذا الكتاب من القواعد.

***

الرابع: الطرق المختلفة في تدوين أُصول الفقه

اشارة

إنّ الرسالة للشافعي صارت نواة للتأليف حول أُصول الفقه، ثمّ قام بالتدوين بعده طائفتان هما المتكلّمون والفقهاء، من علماء أهل السنّة.

الطائفة الأُولى كانت تمثّل مذهب الإمام الشافعي الذي ألّف في أُصول الفقه رسالته المعروفة.

والطائفة الثانية كانت تمثّل المذهب الحنفي في الفقه.

ولأجل ذلك تميّز تأليف كلّ طائفة عن الأُخرى ببعض الوجوه، وإليك بعض الميزات التي تمتعت بها طريقة المتكلّمين:

ص:209

أ. النظر إلى أُصول الفقه نظرة استقلالية حتى تكون ذريعة لاستنباط الفروع الفقهية، فأخذوا بالفروع إذا وافقت الأُصول وتركوا ما لم يوافقها، وبذلك صار أُصول الفقه علماً مستقلاً غير خاضع للفروع التي ربّما يستنبطها الفقيه من دون رعاية الأُصول.

ب. تميّزت كتب هذه الطريقة بطابَع عقلي واستدلالي استخدمت فيها أُصول مسلّمة في علم الكلام، فترى فيها البحث عن الحسن والقبح العقليين، وجواز تكليف ما لا يطاق وعدمه، إلى غير ذلك.

ج. ظهر التأليف على هذه الطريقة في أوائل القرن الرابع. وإليك شيئاً من أسماء تلك الكتب:

1. المعتمد، تأليف أبي الحسين البصري (المتوفّى 436 ه).

2. البرهان في أُصول الفقه، تأليف إمام الحرمين الجويني (المتوفّى 478 ه)

3. المستصفى في أُصول الفقه، تأليف أبي حامد الغزالي (المتوفّى 505 ه).

4. المحصول في علم أُصول الفقه، تأليف فخر الدين الرازي (المتوفّى 606 ه).

5. الإحكام في أُصول الأحكام، تأليف سيف الدين الآمدي (المتوفّى 631 ه).

6. منتهى السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل، تأليف ابن الحاجب، (المتوفّى 646 ه)، الذي اشتهر مختصره باسم مختصر ابن الحاجب في الأُصول.

7. التحصيل من المحصول، تأليف محمود بن أبي بكر الأرموي (المتوفّى 656 ه).

8. منهاج الوصول إلى علم الأُصول، تأليف عبد اللّه بن عمر البيضاوي (المتوفّى 685 ه).

ص:210

هذه نماذج من الكتب التي ألّفت على طريقة المتكلّمين التي لوحظت فيها المسائل الأُصولية بصورة مستقلّة.

القواعد الأُصولية المنتزعة من الفروع الفقهية

تقدّم أنّ طريقة المتكلّمين من أتباع الإمام الشافعي هي النظرة إلى القواعد الأُصولية نظرة استقلالية، حتى تتفرع عليها الفروع الفقهية، غير أنّ طريقة الفقهاء الأحناف على خلاف ذلك ولها ميزات نشير إليها:

أ. النظر إلى أُصول الفقه نظرة آلية، بمعنى أنّ الملاك في صحّة الأُصول وعدمها هو مطابقتها للفروع التي عليها إمام المذهب، فكانوا يقرّرون القواعد الأُصولية طبقاً لما قرّره أئمّة المذاهب في فروعهم الاجتهادية الفقهية، ولابدّ أن تكون القاعدة الأُصولية منسجمة مع الفروع الفقهية، فلو خالفتها لما قام لها وزن وإن أيدها البرهان وعضدها الدليل، فتجد كثرة التخريج تشكل الطابع العام في كتبهم التي أُلّفت على هذه الطريقة.

ب. خلوّ هذه الطريقة من الأساليب العقلية والقواعد الكلامية.

ج. ظهور هذه الطريقة في أوائل القرن الثالث، وأوّل من ألّف على هذا الأُسلوب هو عيسى بن أبان بن صدقة الحنفي (المتوفّى 220 ه).

ومن الفقهاء الذين كتبوا على هذه الطريقة:

1. أبو بكر أحمد بن علي الجصّاص الرازي (المتوفّى 370 ه)، مؤلّف كتاب «أُصول الجصّاص».

2. فخر الإسلام البزدوي (المتوفّى 482 ه)، مؤلّف كتاب «كنز الوصول إلى معرفة الأُصول».

3. الحافظ النسفي (المتوفّى 701 ه)، مؤلّف كتاب «منار الأنوار في أُصول الفقه».

ص:211

الجمع بين الطريقتين

يوجد بين فقهاء السنّة مَن جمع بين الطريقتين أي طرح كلّ قاعدة أُصولية ثم ذكر الفروع المترتّبة عليها، وبذلك خرج علم الأُصول من كونه قواعد جامدة، نذكر منهم:

1. ابن الساعاتي (المتوفّى 694 ه) مؤلّف كتاب «البديع في أُصول الفقه» لخّص فيه كتاب «الإحكام» للآمدي الذي ألّف على الطريقة الأُولى ، وكتاب «كنز الأُصول» لفخر الإسلام البزدوي الذي ألّف على الطريقة الثانية.

2. صدر الشريعة عبيد اللّه بن مسعود البخاري (المتوفّى 747 ه) مؤلّف كتاب «تنقيح الأُصول».

3. تاج الدين السبكي (المتوفّى 771 ه) مؤلّف كتاب «جمع الجوامع».

4. كمال الدين ابن الهمّام (المتوفّى 861 ه) مؤلّف كتاب «التحرير في أُصول الفقه».

فهؤلاء هم الذين جمعوا بين الطريقتين.

طريقة التأليف عند فقهاء الشيعة

الطريقة المألوفة لفقهاء الشيعة في تدوين ذلك العلم هي الطريقة الأُولى، وهي النظرة الاستقلالية إلى القواعد الأُصولية، وهذا هو الظاهر من كتاب «التذكرة» للشيخ المفيد و «الذريعة» للسيد المرتضى و «العدّة» للشيخ الطوسي، وعلى هذا المنهج سار المتأخّرون إلى عصرنا هذا، نعم قام الشهيد الثاني في القرن العاشر بابتكار طريقة ثانية وهي الجمع بين القاعدة والتفريع، فألّف كتاباً أسماه ب «تمهيد القواعد» ذكر كلّ قاعدة أُصولية مع الفروع التي تترتّب عليها.

شكر اللّه مساعي الجميع.

***

ص:212

الخامس: موضوع علم الأُصول

لو قلنا بلزوم وجود موضوعٍ لكلّ علم، فالذي يمكن أن يكون موضوعاً لهذا العلم ويكون جامعاً لموضوعات مسائله هو «الحجّة في الفقه» والعوارض التي يبحث عنها في ذلك العلم عوارض تحليلية نعبّر عنها بالتعيّنات. هذا هو إجمال النظرية وإليك تبيينها وهو رهن بيان أمرين:

1. الحجّة في الفقه هو الموضوع لذلك العلم.

2. البحث عن التعيّنات بحثٌ عن عوارض ذلك الموضوع.

أمّا الأوّل: فيدلّ عليه أنّ الداعي إلى تأسيس ذلك العلم ما مرّ من أنّ الفقيه يعلم علماً قطعيّاً أنّ الشريعة الإسلامية شريعة خاتمة، وقد أغنت المجتمع الإسلامي عن كلّ حكم وضعي، ولها في كلّ موضوع حكم شرعي مقرون بالحجّة بحيث لو رجع إليه المجتهد لعثر عليه، فهذا العلم المرتكز هو الذي حفّز الفقهاء إلى تدوين ذلك العلم، فضالّته المنشودة هي التعرّف على الحجج التي تقع في طريق الاستنباط، وهذا أوضح دليل على أنّ بحوثه تدور حول هذا الموضوع لا غير.

وأمّا الثاني: أعني ما هي العوارض التي تعرض على ذلك الموضوع فنقول: إنّ الأعراض الذاتية التي يبحث عنها في كلّ علم أعمّ من أعراض خارجية وأعراض تحليلية، ألا ترى أنّ موضوع الفنّ الأعلى هو الوجود أو الموجود بما هو موجود، ومباحثه هي تعيّناته التي هي الماهيّات، وليس نسبة الماهيات إلى الوجود نسبة العرض الخارجي إلى الموضوع، بل العارضية والمعروضية يتحقّقان بتحليل عقلي، فإنّ الماهيّات بحسب الواقع تعيّنات الوجود، ومتّحدات معه ومن عوارضه التحليلية، فإن قيل الوجود عارض الماهية ذهناً فهو صحيح، وإن قيل الماهية عارضة الوجود وهي تعيّنه، فهو صحيح أيضاً.

ص:213

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ موضوع علم الأُصول هو الحجّة في الفقه، فإنّ الفقيه لمّا رأى احتياجه في الفقه إلى الحجّة توجّه إليها، وجعلها نصب عينيه وبحث عن تعيّناتها التي هي الأعراض الذاتية التحليلية لها، فالحجّة بما هي حجّة، موضوع بحثه، وتعيّناتها التي هي خبر الواحد والظواهر والاستصحاب وسائر المسائل الأُصولية من العوارض الذاتية لها، بالمعنى الذي ذكرنا، فعلى هذا يكون البحث عن حجّية خبر الواحد وغيره بحثاً عن العرض الذاتي التحليلي للحجّة، وتكون روح المسألة أنّ الحجّة هل هي متعيّنة بخبر الواحد أو لا؟ وبالجملة بعد ما علم الأُصولي أنّ للّه تعالى حجّة على عباده في الفقه يتفحّص عن تعيّناتها التي هي العوارض التحليلية لها، فالموضوع هو الحجّة بوصف اللا بشرطية والمحمولات هي تعيّناتها.

وهنا سؤال: وهو أنّه إذا كانت الحجّة هي الموضوع، والتعيّن بخبر الواحد وغيره هو المحمول، فاللازم في تنظيم المسائل أن يقال: الحجّة هي خبر الواحد، مع أنّ القضية المعقودة في الكتب الأُصولية هي العكس ؟

والجواب: أنّ ذلك لأجل السهولة في التعليم، فإنّ المحمول مهما كان أوسع كان أسهل للتعليم نظير ذلك مسائل الفن الأعلى، وقد عرفت أنّ الموضوع هو الوجود بما هوهو، والأعراض تعيّنه بالواجب والممكن، والمجرّد والمادي، مع أنّ المسائل المعقودة على العكس فلا يقال: الموجود عقل أو جسم، بل يقال: العقل أو الجسم موجود.

وقد أشار إليها الحكماء في كتبهم.

***

السادس: ماهية علم الأُصول ومكانته

من الأُمور المهمّة تبيين مكانة كلّ علم يريد الباحث دراسته، فهل هو علم

ص:214

حقيقي كوني، أو هو علم اعتباري.

وبمعرفة مكانة العلم تُعرف آفات البراهين أو صحّتها التي تقام عليها مسائل العلم، وأمّا القسم الأوّل فلمسائل ذلك العلم مصاديق واقعية تطابقها تارة وتخالفها أُخرى، ويصحّ الاستدلال عليها بالدور والتسلسل واجتماع النقيضين أو اجتماع الضدين إلى غير ذلك، فيقال: لولا هذا للزم الدور، أو التسلسل، أو يلزم المحال.

فمسائل تلك العلوم أُمور واقعية لا تختلف هويتها مع اختلاف اللحاظ والاعتبار، فالقواعد الرياضية أو الهندسية أو الفيزيائية قواعد كلّية ثابتة عبر الدهور والقرون، فزوايا المثلث تساوي قائمتين سواء اعتبرها المعتبر أو لا.

وفي مقابل ذلك العلوم الاعتبارية وهي مسائل قائمة بلحاظ الملاحظ واعتبار المعتبر، فالاستدلال على صحّتها أو فسادها لا يخضع للدور والتسلسل، والذي يشترط في صحّة الأُمور الاعتبارية أمران:

1. أن يكون للاعتبار أثر عقلائي وإلّا يلزم اللغو.

2. أن لا يعتبر خلاف ما اعتبره إذ عندئذٍ يلزم نقض الغرض.

لكن مع الأسف أنّ المتأخرين غفلوا عن ماهية علم الأُصول فتلقوه علماً كونياً فاستدلّوا عليه بالبراهين التي يستدلّ بها في العلوم الطبيعية والرياضية والهندسية، حتى الفلسفية، وإليك بيان نظائر ذلك:

1. ذهب المحقّق الخراساني إلى وجود الجامع بين أفراد الصحيح للصلاة، واستدلّ على ذلك بقاعدة الواحد لا يصدر إلّاعن الواحد، وقال: الأثر الواحد - أعني: النهي عن الفحشاء - لا ينفك عن واحد جامع بين أفراد الصلاة، فيستكشف ذلك الجامع من أثره وإن لم نعلم اسمه.

ص:215

وأنت خبير بأنّ مصبّ القاعدة - لو صحّت - هو البسيط من جميع الجهات، مع أنّ النهي عن الفحشاء كثير، فكيف يكون مصداقاً للقاعدة.

2. أقام المحقّق الخراساني براهين كثيرة على امتناع أخذ الأمر في متعلّقه كأن يقال: صلِّ بداعي أمرها، قائلاً بأنّه يستلزم الدور أو التسلسل مع أنّهما من خصائص العلم الحقيقي.

إلى غير ذلك من المسائل التي استدلّ عليها ببراهين كونية، فالباحث الحقيقي هو مَن يعرف مكانة العلم ويستدلّ على مسائله بالطرق التي تنسجم معها.

***

السابع: تعريف علم الأُصول تعريفاً جامعاً ومانعاً

عُرّف علم الأُصول في الآونة الأخيرة بتعاريف مختلفة، فصارت مثاراً للنقاش والجدل، والذي يمكن أن يقال: إنّ التعريف الجامع هو عبارة عمّا يشتمل على أمرين:

الأوّل: الحجج التي يستدلّ بها على الحكم الواقعي ويعبّر عنها بالأمارات.

الثاني: البحث عن الحجج التي تحدّد وظيفة المكلّف عند الشكّ ، وهذا ما يعبّر عنه بالأُصول العملية كالاستصحاب والبراءة والتخيير والاشتغال.

فإذا كان الأمران هما ضالتا المستنبط، فالتعريف الحقيقي لهذا العلم لا ينفكّ من الإشارة إلى ذينك الأمرين بأن يقال: ملكة تعرف بها الحجج الشرعية على الأحكام الكلّية أو ما تعرف بها وظيفة المكلّف عند الشكّ في الحكم الشرعي الواقعي.

***

ص:216

الثامن: الأدوار التي مرّ بها علم أُصول الفقه

اشارة

مرّ علم الأُصول في مراحل حتى بلغ القمة من التكامل ويمكن بيان هذه المراحل بالعناوين التالية:

أ. مرحلة النشأة

قد قام غير واحد من متكلّمي وفقهاء الشيعة بتدوين بعض مسائل أُصول الفقه فصارت نواة للتبلور، نظير:

1. يونس بن عبد الرحمن مؤلّف كتاب علل الحديث.

2. أبو سهل النوبختي مؤلّف كتاب الخصوص والعموم وإبطال القياس.

3. الحسن بن موسى النوبختي مؤلّف كتاب خبر الواحد والعمل به.

مضافاً إلى ما قام به الحسن بن علي العُماني المعاصر للشيخ الكليني أو أبو علي الإسكافي (المتوفّى 381 ه) من إدغام بعض المسائل الأُصولية في كتبهما الفقهية.

وقد بدأ هذه المرحلة فيما بين القرن الثالث والرابع الهجري.

ب. مرحلة التبلور والتفتح

بدأت هذه المرحلة منذ عصر الشيخ المفيد إلى أوائل القرن العاشر، وأوّل من كتب كتاباً جامعاً لكافة مسائل أُصول الفقه هو الشيخ المفيد في كتابه «التذكرة في أُصول الفقه»، ولم يصل إلينا وإنّما الواصل خلاصته التي أوردها تلميذه الكراجكي (المتوفّى 449 ه) وأدرجها في كتابه «كنز الفوائد» المطبوع عدّة مرّات، وأمّا العلماء الذين ساهموا في بلورة هذا العلم وانفتاحه حيث صارت كتب أُصول الفقه معادلة لكتب الآخرين في الاشتمال على أغلب المسائل، فيمكن أن نذكر منهم:

ص:217

1. الشريف المرتضى (المتوفّى 436 ه) مؤلّف كتاب «الذريعة إلى أُصول الشريعة» الذي طبع بتحقيق مؤسستنا سنة 1429 ه.

2. سلّار الديلمي (المتوفّى 448 ه) مؤلّف كتاب «التقريب» في أُصول الفقه.

3. الشيخ الطوسي (المتوفّى 460 ه) مؤلّف كتاب «العدّة في أُصول الفقه».

4. ابن زهرة الحلبيّ (المتوفّى 585 ه) مؤلّف كتاب «غنية النزوع إلى علم الأُصول والفروع». حقّق وطبع في مؤسستنا سنة 1417 ه.

5. سديد الدين الحمصي (المتوفّى 600 ه) مؤلّف كتاب «المصادر في أُصول الفقه».

6. المحقّق الحلّيّ (المتوفّى 667 ه) مؤلّف كتاب «المعارج في أُصول الفقه».

7. العلامة الحلّيّ (المتوفّى 726 ه) مؤلّف كتب كثيرة في ذلك العلم أوسعها كتابه «نهاية الوصول إلى علم الأُصول» الذي حقّق وطبع في مؤسستنا في خمسة أجزاء، طبع الجزء الأخير منه سنة 1429 ه.

8. عميد الدين الأعرجي (المتوفّى 754 ه) مؤلّف كتاب «منية اللبيب في شرح التهذيب» الذي حقّق وطبع في مؤسستنا مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام في جزأين سنة 1431 ه.

9. فخر الدين الأعرجي (الذي كان حياً سنة 740 ه) مؤلّف كتاب «النقول في شرح تهذيب الأُصول».

10. فخر الدين الحلّي (المتوفّى 771 ه) مؤلّف كتاب «غاية السؤول في شرح تهذيب الأُصول».

11. زين الدين (الشهيد الثاني) (المتوفّى 965 ه) مؤلّف كتاب «تمهيد القواعد».

ص:218

هؤلاء من أبرز الشخصيات الذين بذلوا جهودهم في تبسيط هذا العلم ودراسة عامّة المسائل التي كانت مطروحة في كتب الأُصول عند أهل السنّة، ولا يتوهّم أنّ هؤلاء استنسخوا تلك المسائل وإنّما أخذوا العناوين ودرسوا المسائل دراسة معمّقة فربما وافقوهم وربما خالفوهم فيها.

ج. مرحلة الإبداع والابتكار

ظهر المذهب الأخباري في أوائل القرن العاشر وامتدّ إلى أواخر القرن الثاني عشر، ورُفع علم المخالفة لهذا العلم بجد وحماس، وأوجد خمولاً وجموداً في تطوّر هذا العلم، وقلّما يتّفق لفقيه أن يؤلّف كتاباً حوله في تلك الفترة إلّانادراً، نظير الفاضل التوني (المتوفّى 1071 ه) وآقا حسين الخوانساري (المتوفّى 1098 ه) وآقا جمال الدين الخوانساري (المتوفّى 1131 ه)، ولو استثنينا هؤلاء فنحن لم نقف على شخص ألّف كتاباً في أُصول الفقه خلال تلك الأدوار التي كان الشجار والنقاش بين الأخباريين والأُصوليين محتدماً.

وفي أواخر القرن الثاني عشر ظهر الضعف في المدرسة الأخبارية بسبب قوّة احتجاجات المحقّق البهبهاني (المتوفّى 1206 ه) على نحو أقنع رئيس الأخباريين - أعني: المحدّث البحراني (المتوفّى 1185 ه) - بأنّ النزاع في كثير من المسائل لفظي لا حقيقي وفي قسم منها الحق مع الأُصوليين، وقد اعترف بأكثر ما ذكره ذلك المحدّث فانقلب الأمر وبزغ نجم علم الأُصول، فعند ذلك قام المحقّق البهبهاني وجملة من تلاميذه أو تلاميذهم بإبداعات وابتكارات لم يكن لها وجود في كتب السابقين من السنّة أو الشيعة، ولذلك توصف هذه المرحلة بمرحلة الإبداع التي كانت ثمرة ناضجة لجهود ذلك الأُستاذ الكبير وتلاميذه

ص:219

كالشيخ جعفر كاشف الغطاء (المتوفّى 1228 ه) والمحقّق القمّي (المتوفّى 1231 ه) صاحب «قوانين الأُصول»، والسيد علي صاحب الرياض (المتوفّى 1231 ه) (في كتابه رياض المسائل)، فصار علم الأُصول عند الشيعة علماً متكامل الأركان، شاملاً لمسائل جديدة لم تسبق إليها أفكار المتقدّمين من السنّة والشيعة.

د. مرحلة التكامل

وروّاد هذه النهضة العلمية عدّة من نوابغ العصر وفطاحل الدهر، نظير:

شريف العلماء المازندراني (المتوفّى 1245 ه)، والشيخ محمد تقي الاصفهاني (المتوفّى 1248 ه)، والشيخ محمد حسين بن محمد رحيم صاحب الفصول (المتوفّى 1255 ه) والشيخ مرتضى الأنصاري (المتوفّى 1281 ه)، على نحو صار علم الأُصول لدى الشيعة يغاير ما عند السنّة بكثرة المسائل الإبداعية.

ه. مرحلة قمّة التكامل

ولو أنّا أسمينا المرحلة السابقة بالتكامل ويحقّ لنا أن نصف هذه المرحلة بمرحلة قمّة التكامل، فقد تحقّقت بجهود تلاميذ الشيخ الأنصاري الذين أضفوا على هذا العلم مكانة رفيعة، ونذكر منهم: الأساتذة العظام أمثال:

1. الميرزا الشيرازي الكبير (المتوفّى 1312 ه).

2. السيد محمد الفشاركي (المتوفّى 1315 ه).

3. المحقّق الخراساني (المتوفّى 1329 ه).

4. المحقق النائيني (المتوفّى 1355 ه).

5. المحقّق عبد الكريم الحائري (المتوفّى 1355 ه).

6. المحقّق ضياء الدين العراقي (المتوفّى 1361 ه).

ص:220

7. المحقّق الشيخ محمد حسين الاصفهاني (المتوفّى 1361 ه) (الذي زيّن هذا المحفل باسمه وبيان نظريّاته وجهوده العلمية).

8. المحقّق السيد البروجردي (المتوفّى 1380 ه).

9. الإمام السيد روح اللّه الخميني (المتوفّى 1409 ه).

10. المحقّق السيد أبو القاسم الخوئي (المتوفّى 1413 ه).

هؤلاء هم فطاحل هذه المرحلة وأعاظمهم، وبقيت هناك شخصيات بارزة أُخرى ساهموا في رفع منار هذا العلم حفلت بهم كتب التراجم، ونحن نعتذر لمقاماتهم السامية عن ترك ذكر أسمائهم لأنّ الرسالة ضاقت عن التبسّط.

***

المنهج الأُصولي للمحقّق الإصفهاني

اشارة

الشيخ محمد حسين الإصفهاني (1296-1361 ه) شخصية عظيمة، والتعريف الفني لا يفي ببيان مكانته، فهو نابغة الدهر وفيلسوف الزمان وفقيه الأُمّة.

هو البحر من أي النواحي أتيته فنائله الإفضال والعلم ساحله

كان قدس سره متخصّصاً في علوم ومشاركاً في علوم أُخرى، ومتحلّياً بمآثر جمّة وملكات فاضلة حتى في الشعر والأدب والتاريخ، وكأنّ وجوده قدس سره واقع في مركز الدائرة فخطوط العلوم والفضائل إليه متساوية.

تخرج في الأُصول والفقه على نابغتين:

الأوّل: المحقّق الأكبر السيد محمد الإصفهاني الفشاركي (المتوفّى 1315 ه) صاحب النظريات العالية.

الثاني: العلّامة المحقّق الأكبر المولى محمد كاظم الخراساني (المتوفّى

ص:221

1329 ه) ذلك المحقّق الفذ في مستوى العلوم، فقد حضر دروسه مدة ثلاثة عشر عاماً فقهاً وأُصولاً حتى ارتحل الأُستاذ فاستقلّ هو بالتدريس.

وقبل أن نشير إلى آرائه الأُصولية نذكر شيئاً من إبداعاته، فقد كان بصدد الإبداع في أُصول الفقه وتنظيم مباحثه بشكل آخر يختلف تماماً عن المنهج الدارج، وقد بنى أساس تنظيمه على أركان أربعة:

1. المباحث اللفظية.

2. الملازمات العقلية.

3. الحجج الشرعية.

4. الأُصول العملية.

وقد شرع في كتابة مشروعه ولكن الأجل لم يمهله، غير أنّ تلميذه الجليل الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله مشى على نهجه في كتابه «أُصول الفقه».

إذا عرفت ذلك فلنشر إلى بعض آرائه:

1. أداة الشرط تقع موقع الفرض

المعروف بين الأُصوليين أنّ أداة الشرط موضوعة للربط بين الشرط والجزاء، وبينهما صلة قوية، مردّدة بين كون الشرط تمام العلّة أو جزئها، ولكنّه قدس سره أصرّ على أنّ أداة الشرط لإفادة أنّ مدخولها واقع موقع الفرض، والتقدير: أي لو فرضنا كذا لكان كذا.(1)

2. عدم وجوب المقدّمة

ذكر تلميذه الشيخ المظفر أنّ أُستاذه أوّل من تنبّه إلى عدم وجوب

ص:222


1- . نهاية الدراية: 609/1، نشر مؤسسة سيد الشهداء عليه السلام، قم - 1374 ه. ش.

المقدّمة، وأقام برهانه بأُسلوبه الخاص.(1)

3. الحروف موضوعة لبيان الوجود الرابط

الوجود منقسم إلى نفسي ورابطي ورابط، يقول السبزواري:

أنّ الوجود رابط ورابطي ثمة نفسي فهاك فاضبط(2)

4. جريان البراءة قبل الفحص

ذهب المحقّق الإصفهاني إلى أنّ قاعدة العقاب بلا بيان تجري قبل الفحص خلافاً للمشهور من القول بعدم جريانها إلّابعده.(3)

5. الصحّة في المعاملات ليست مجعولة

ذهب الشيخ الإصفهاني رحمه الله إلى أنّ الصحّة في المعاملات كالصحّة في العبادات ليست من الأُمور المجعولة للشارع بل هما أمران اعتباريان.(4)

6. العدلان في الواجب التخييري، واجبان معاً

ذهب الشيخ الإصفهاني رحمه الله إلى أنّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوب كلّ من العدلين والبدلين لوجود الملاك فيهما معاً، غير أنّ تحصيل ملاكهما معاً يعارض مصلحة التسهيل، ولذلك يرخّص المولى في ترك أحدهما على سبيل البدل.(5)

ص:223


1- . لاحظ: أُصول الفقه للشيخ المظفر: 319/2.
2- . نهاية الدراية: 51/1.
3- . نهاية الدراية: 717/2.
4- . نهاية الدراية: 587/1.
5- . نهاية الدراية: 494/1.
7. العلم الإجمالي عند الإصفهاني علّة تامّة للامتثال القطعي

اختلفت كلمة الأُصوليّين في أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة للامتثال القطعي وحرمة المخالفة الاحتمالية فضلاً عن القطعية، أو مقتضٍ لهما، فاختار النظرية الأُولى.(1)

8. العرض الذاتي هو المأخوذ في تحديد المحمول

العرض الذاتي عند المحقّق الخراساني تبعاً للحكيم السبزواري هو العارض على الموضوع بلا واسطة في العروض، سواء أكان واسطة في الثبوت أم لا، وسواء أكانت الواسطة أعمّ أو أخصّ من ذي الواسطة أو مبايناً له، ولكنّه عند المحقّق الإصفهاني عبارة عن كلّ عارض أخذ في تحديده.

مثلاً نقول: الوجود إمّا واجب أو ممكن، والممكن إمّا جوهر أو عرض، فالجميع عارض ذاتي للوجود لأنّه مأخوذ في تحديد المحمول فالواجب هو الوجود الذي يجب وجوده، والممكن هو الوجود العاري عن الإيجابين، وهكذا الجوهر هو الوجود القائم بلا موضوع، والعرض هو الوجود القائم بغيره.(2)

9. أنّ المصدر ليس مادة المشتقّات

المصادر عنده مطلقاً لم توضع لنفس المعاني الخالية من جميع أنحاء النسب، بل المصدر من جملة المشتقّات لاشتماله على نسبة ناقصة ومبدأ من دون فرق بين المجرّد والمزيد فيه.(3)

ص:224


1- . نهاية الدراية: 88/3-92.
2- . نهاية الدراية: 22/1.
3- . نهاية الدراية: 174/1، (آل البيت).
10. أعدام الملكات نظير الاستعدادات، له حظ من الوجود

ذهب المحقّق الإصفهاني إلى أنّ لأعدام الملكات شأناً من الوجود حيث قال: فعدم البياض - الذي هو من أعدام الملكات - كقابلية الموضوع من الحيثيات الانتزاعية منه، فكون الموضوع بحيث لا بياض له هو بحيث يكون قابلاً لعروض السواد، فمتمّم القابلية كنفس القابلية.(1)

تلك عشرة كاملة من آرائه رحمه الله ودراستها في هذه المسائل موكولة إلى محلّها.

جعفر السبحاني

قم المشرفة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

28 محرم الحرام من شهور عام 1435 ه

ص:225


1- . نهاية الدراية: 427/1.

2. الخطابات القانونية ودورها

اشارة

في المسائل الأُصوليّة(1)

اتّفق العلماء على أنّ للّه سبحانه أحكاماً مشتركة بين العالم والجاهل والمؤمن والكافر. والمجتهد بين مصيب ومخطئ، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحدٌ. نعم نسب إلى الأشاعرة إنكار حكم اللّه المشترك بين الجميع وأنّ أحكام اللّه سبحانه تابعة لآراء المجتهدين، وأُورد عليهم بأنّه مستلزم للدور، فإنّ الاجتهاد فرع وجود الحكم حتى يطلبه المجتهد، فلو كان تابعاً لاجتهاده لدار.

وقد تحمّس المحقّق النائيني في نسبة هذا إلى الأشاعرة ولكن الظاهر أنّ النسبة غير صحيحة، وتشهد على ذلك كتبهم الأُصولية، ك «المستصفى» للغزالي و «مختصر الأُصول» لابن الحاجب و «المحصول» للرازي وغيرها، فهم يتّفقون مع سائر الفقهاء في القول بالحكم المشترك.

نعم في ما لم يرد فيه نصّ في القرآن والسنّة فإنّهم يقولون: إنّ حكم اللّه تابع لآراء المجتهدين.

ص:226


1- . أ لقيت هذه المحاضرة في الندوة العلمية الأُصولية حول نظرية الخطاب القانوني مكان الخطاب الشخصي الذي ذهب إليه السيد الأُستاذ الإمام الخميني قدس سره.

وعلى كلّ تقدير فالإمامية قاطبة يقولون به.

ثمّ إنّ المشهور تفسير الحكم المشترك بوجود خطابات كثيرة حسب عدد المكلّفين، فالخطاب الواحد عندهم ينحلّ إلى خطابات، فقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (1) ينحل إلى خطابات لكلّ مكلّف عبر الزمان، فعلى هذا التفسير رتّبوا أُموراً نذكرها:

1. تقسيم الحكم المشترك إلى إنشائي وفعليّ

لا شكّ أنّ لفعليّة الحكم وانبعاث المكلّف إلى المكلّف به، شرائط عامة من البلوغ والعلم والقدرة، فلو كان المكلّف حائزاً لها فالحكم فيه فعليّ وإن كان فاقداً لبعض منها فالخطاب في حقّه شأني، وذلك لأنّ الغاية من البعث هو الانبعاث وهو لا يتصوّر إلّافي الواجد للشرائط، وأمّا الفاقد لها فيخلو عن الانبعاث، وبالتالي يكون البعث الفعلي في حقّه أمراً لغواً ولا محيص من تصوير البعث في مورده بعثاً إنشائياً.

2. شرطية الابتلاء في صحّة التكليف

لمّا كان لكلّ مكلّف خطاب شخصيّ فلصيانته عن اللغويّة يشترط كون المكلّف به مورداً للابتلاء وإلّا يستهجن الخطاب عندئذٍ، فلو كان الخمر في أقاصي البلاد الذي لا تصل إليه يد المكلّف عادة، فخطابه بالاجتناب عنه يصير أمراً مستهجناً، وبذلك يختلف حكم المكلّف به حسب اختلاف الأفراد بالنسبة إلى المكلّف به، فلو كان موردَ ابتلاءٍ لزيد فالحكم فيه فعليّ وفي مورد غيره شأنيّ .

ص:227


1- . المائدة: 6.

3. عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر في العلم الإجمالي

رتّبوا على النتيجة الثانية أنّه إذا خرج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محلّ الابتلاء قبل تعلّق العلم بالموضوع فلا يكون مثل ذلك العلم منجزاً في الطرف الذي وقع مورداً للابتلاء، مثلاً إذا فرضنا إنائين أحدهما خمر والآخر ماء والمكلّف غير عارف بحالهما، ثم خرج أحد الإنائين عن محلّ الابتلاء وحدث العلم الإجمالي بخمرية أحدهما، فلا يجب الاجتناب عن الإناء الموجود، لماذا؟ لأجل أنّه يستهجن خطاب المكلّف بالقول: اجتنب عن هذا الإناء أو الإناء الذي خرج عن محلّ الابتلاء.

4. القدرة شرط التكليف لكلّ مكلّف

لمّا كان الحكم المشترك ظاهراً بصورة الخطاب الشخصي، فيشترط في فعلية الخطاب وجود الشرائط العامة في كلّ مكلّف على حدة وإلّا عاد الحكم إنشائياً.

هذه هي الآثار المترتّبة على تفسير الحكم المشترك بالخطاب الشخصيّ ، وعلى ذلك جرى الشيخ الأنصاري في فرائده والمعلّقون على كتابه، والمحقّق الخراساني وتلاميذه وعامّة مشايخنا رحم اللّه الماضين منهم وحفظ اللّه الباقين.

الخطاب القانوني مكان الخطاب الشخصي

اشارة

كان الرأي العام هو ما ذكرنا في تفسير الحكم المشترك إلى أن وصلت النوبة إلى سيدنا الأُستاذ الإمام الخميني قدس سره فأبدى نظراً خاصّاً، أوجد انقلاباً في الأحكام الأربعة المترتّبة على الخطاب الشخصي، وحاصل نظره: أنّ خطابات الشارع في الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة خطابات قانونية وحجج عقلائية،

ص:228

فالخطاب واحد وإن كان المخاطب متعدّداً، لكن الخطاب الواحد بوحده حجّة على كلّ مكلّف كان مصداقاً للعنوان، من دون حاجة إلى تعدّد الخطاب.

ثمّ قال: إنّه يمكن استئناس ذلك بوجهين:

1. دراسة وضع القانون الوضعي في المجامع التقنينية، فالمقنّن أو القوّة التقنينيّة، ينشئ الحكم على عنوان ليكون حجّة على كلّ مَن يكون مصداقاً له، مثلاً التجنيد الإجباري لكلّ مَن بلغ العشرين، فإذا تمّ التشريع يصير دور الإبلاغ إلى الشعب بالطرق المألوفة في كلّ زمان، فيكون الخطاب في حقّ عامّة المكلّفين فعلياً دون أن يوجد في ذهن المقنّن ولا فريق التقنين خطابات متعدّدة حسب مصاديق العنوان.

2. لو صحّ الانحلال في الإنشاء كما عليه الأُصوليّون لزمت صحّة الانحلال في الإخبار، فلو قال القائل: النار باردة، يلزم أن يتّهم بأنّه كذب في صميم نفسه (لا في لفظه) أكاذيب كثيرة حسب عدد النيران.

ثمّ إنّه قدس سره لمّا بنى على أنّ وجود الحكم المشترك بمعنى وجود الحجّة المشتركة بين عامّة المكلّفين، رتّب على هذا المبنى أُموراً تخالف الرأي العام في الأُمور الماضية بين الأُصوليّين.

ألف. تفسير الحكم الإنشائي والفعلي

قد مرّ تفسير الحكم الإنشائي والفعلي حسب نظر المشهور، وهو صحيح على مختارهم، ولمّا كان المختار عند سيدنا الأُستاذ وحدة الخطاب فسّر الحكم الإنشائي بالحكم الذي تمّ تشريعه ولكن لم يتمّ إبلاغه، وذلك نظير الأحكام المخزونة عند صاحب الأمر فهي أحكام إنشائية وليست فعليّة، وأمّا ما سواها فبما أنّه تمّ تشريعه وابلاغه عن طريق النبي صلى الله عليه و آله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام فالأحكام

ص:229

كلّها أحكام فعليّة لا إنشائية، فلا تجد في الكتاب والسنّة ولا في مورد المكلّفين حكماً إنشائياً بل الجميع فعلي أي تمّ تشريعه وإبلاغه. غاية الأمر لا يكون الحكم منجّزاً إلّافي ظرف وجود الشرائط، وإلّا يكون غير منجّز، فالعاجز عن امتثال المكلّف به، محكوم بحكم فعليّ بمعنى شمول الحجّة له، لأجل صدق العنوان عليه، غاية الأمر عند فقد الشرائط فهو يحتجّ على المولى في ترك الامتثال بالعجز.

ب. عدم شرطية الابتلاء في التكليف

لو كان الخطاب شخصيّاً صحّت شرطية الابتلاء في توجيه الخطاب إلى المكلّف، وأمّا إذا كان الخطاب قانونياً وخطاباً واحداً وحجّة فريدة فلا يشترط وجود الابتلاء بالمكلّف به في كلّ واحد منهم، بل يكفي وجود الابتلاء في جم غفير منهم، وهذا النوع من الابتلاء يصحّح تكليف عامّة المكلّفين ولا يعدّ الخطاب للجميع خطاباً مستهجناً.

ج. وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر

إذا كان الخطاب شخصيّاً صحّ القول بعدم تنجيز العلم الإجمالي فيما إذا خرج الطرف الآخر عن مورد الابتلاء قبل تعلّق العلم الإجمالي، وأمّا على القول بأنّ الخطاب واحد متعلّق بالعنوان فيكفي وجود الابتلاء عند أكثر المكلّفين لا كلّ واحد منهم، فقد تمّت الحجّة على وجوب الاجتناب عن النجس من غير فرق بين تعلّق العلم قبل الخروج عن محلّ الابتلاء أو بعده وكون الخطاب مستهجناً لازم للخطاب الشخصي لا الخطاب القانوني، وعندئذٍ يقال: الاشتغال اليقيني يستلزم البراءة اليقينية ولا يحصل إلّاباجتناب مورد الابتلاء.

ص:230

أضف إلى ذلك: أنّه لو كان الخروج عن محلّ الابتلاء سبباً لاختصاص الحكم التكليفي بمن ابتلي بالمكلّف به دون مَن خرج عن ابتلائه، لزم القول بذلك في الأحكام الوضعية فيكون الخمر نجساً لمن ابتلى به دون من لم يكن كذلك، وهذا ممّا لا يلتزم به فقيه.

د. كفاية وجود الشرائط في جمع من المكلّفين

لو كان التكليف بالخطاب الشخصي يستهجن لمن فقد الشرائط، وأمّا لو كان الخطاب قانونيّاً فيكفي وجود الشرائط في جمّ غفير من المكلّفين وإن كان البعض الآخر فاقداً، ومع ذلك فالخطاب عام يعمّ الحائز والفاقد، غير أنّ الثاني يحتجّ على المولى بالعذر، وهذا غير القول بعدم شمول التكليف له.

ويترتّب على ذلك صحّة خطاب العاصي المتمرّد والكافر الجاحد؛ وذلك لأنّ الخطاب قانوني والحكم موضوع على العنوان العام شامل للعاصي والكافر من دون أخذ خصوصيات المكلّف في الموضوع حتى يستهجن الخطاب بالنسبة إليهما، وهذا من أحد المشاكل في القول بالخطاب الشخصي في مورد العاصي المتمرّد والكافر الجاحد، حيث يستهجن خطاب الكافر بإقامة الصلاة بخطاب شخصي.

***

تصحيح الترتّب بخطابين عرضيّين

لمّا ذهب القوم إلى الخطاب الشخصي، التجأوا في تصحيح الترتّب إلى تقييد الخطاب بالمهم بقيد العصيان على نحو الشرط المتأخّر حتى يكون الخطاب بالمهم في طول الخطاب بالأهم.

ثمّ إنّ سيدنا الأُستاذ أنكر القول بالترتّب وقال: إنّ اختلاف الأمرين في الرتبة لا يصحّح الخطاب بأمرين متضادين. وأوضح ذلك بردّ المقدّمات

ص:231

الخمس التي أقامها المحقّق النائيني على تصحيح الترتّب، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى «تهذيب الأُصول».

ومع ذلك صحّح مورد الترتّب بأمرين عرضيّين على نحو وجود حجّتين مطلقتين:

أحدهما: أزل النجاسة.

والآخر: صل فريضة الظهر.

قائلاً بأنّ الخطاب فيهما قانوني لا شخصي، فالمصلّي أمام حجّتين شرعيّتين يمكن أن يمتثل الأهم ويحتجّ على المولى في ترك الأمر بالمهم بصرف القدرة في الأهم، كما أنّه يمكن له أن يمتثل الأمر بالمهم ولكن يثاب من جهة ويعاقب من جهة ترك الأهم.

ولو فرضنا أنّه ترك كلا الأمرين لتعدّد عقابه؛ وذلك لأنّه كان في إمكان المكلّف أن يقوم بعمل يحتجّ به على المولى بأن يأتي بالأهم، ولمّا تركه يحتجّ عليه المولى ويقول: لِمَ تركت الأمر بالإزالة ؟ فيعاقب.

ثمّ يقول: لِمَ تركت الأمر بالصلاة ؟ فيعاقب.

وتوهّم أنّه كيف يعاقب بعقابين مع وجود قدرة واحدة والتي لا تكفي إلّا لواحد من الواجبين؛ مدفوع بأنّ الملاك في صحّة العقاب هو تمكّن المكلّف من إقامة الحجّة على المولى وامتثال أوامره بنحو يكون له الحجّة على المولى، والمفروض أنّه كان متمكّناً منها بأن يأتي بالأهم ويكتسب رضا المولى. وبما أنّه ترك ذلك كان له الاحتجاج على ترك الأمرين.

ثمّ إنّه قدس سره لما قرّر صحة خطابين عرضيّين بترتيب مقدّمات، ولمّا تمّ كلامه أوردنا عليه الإشكال التالي:

إنّ الإهمال في عالم الثبوت غير معقول، فحينئذٍ عجز المكلّف، والمطاردة والتزاحم وإن كانت بوجودها متأخّرة عن رتبة الجعل والتشريع إلّاأنّ

ص:232

الحاكم يمكن أن يتصوّر حين إرادة التشريع تزاحم هذا الحكم الكلّي مع الكلّي الآخر إذا أراد المكلّف إيجادهما في الخارج.

وبالجملة: يمكن أن يتصوّر تزاحم الحكمين الكلّيين في مقام الامتثال فحينئذٍ نسأل: إنّ الإرادة المتعلّقة على هذا العنوان هل هي باقية على سعتها وعمومها بالنسبة إلى حال التزاحم التي فرضنا أنّ المولى توجّه إليها حين تعلّق الإرادة أولا؟

فعلى الأوّل يلزم تعلّق الإرادة التشريعية بشيء محال، وعلى الثاني يلزم التقييد في جانب الإرادة، ولازمه التقييد في جانب الخطاب، وليس الكلام في مفاد اللفظ حتى يقال: إنّ الإطلاق ليس معناه التسوية في جميع الحالات، بل في الإرادة المولوية التي لا تقبل الإجمال والإهمال.

ثمّ إنّه قدس سره كتب بخطّه الشريف الجواب التالي:

ليس معنى عدم الإهمال الثبوتي أنّ الحاكم حين الحكم يلاحظ جميع الحالات الطارئة على التكليف والمكلّف، ويقايس التكليف مع سائر تكاليفه جمعاً ومزاحمة، ضرورة بطلان ذلك، بل المراد من عدم الإهمال هو أنّ الأمر بحسب اللّبّ إمّا أن تتعلّق إرادته وحكمه بنفس الطبيعة بلا قيد، فتكون الطبيعة بنفسها تمام الموضوع، وإمّا أن تتعلّق بها مع قيد أو قيود، فيكون موضوعها هو المقيّد، والإهمال إنّما هو في مقام البيان لا في مقام الواقع.

وأمّا الحالات الطارئة للمكلّف أو للتكليف بعد جعله، فهي ليست دخيلة في الموضوع حتى يتقيّد بها أو يكون الحاكم ناظراً إليها، فالحاكم في مقام الحكم لا ينظر إلّاإلى موضوع حكمه وكلّ ما هو دخيل فيه لا غير.

هذا موجز ما شرحه قدس سره في عدّة مجالس من درسه.

ص:233

والذي أقترح على الحضّار الكرام دراسة تلك النظرية بإمعان ودقّة لتطوير علم الأُصول و تكامله، وكان قدس سره يحثّ تلاميذه على نقد الآراء ودراستها، وأن لا يقتصروا على تحرير آراء الأُستاذ بل يعلّقوا عليه في الهامش بما يخطر ببالهم «فإنّ الحقيقة بنت البحث».

وأنا أختم الكلام بالشكر الجزيل للمقيمين لهذه الندوة الأُصولية وحضّارها، ونرجو أن يأتي بعدها ندوات أُخرى بإذن اللّه سبحانه.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

26 من شهر ذي الحجة الحرام

عام 1434 ه

ص:234

3. أُسس آراء المحقّق النائيني

اشارة

إنّ للمحقق النائيني رحمه الله (1274-1355 ه) آراءً وأفكاراً نشير إلى رؤوسها على وجه الإجمال ويطلب التفصيل من محالّها.

1. حلّ المشاكل عن طريق القضايا الحقيقية والخارجية

إنّ تقسيم القضايا إلى حقيقية وخارجية تقسيم معروف في المنطق، وإن وقع الاختلاف في تفسيرهما بين الحكيم السبزواري والشيخ الرئيس، لكن المحقّق النائيني قبل ما هو المعروف من عهد الحكيم السبزواري إلى يومنا هذا، فبنى عليه معالجة قسم من مشاكل علم الأُصول، منها: شمول الخطابات القرآنية للغائبين والمعدومين، فقال: إنّ الأحكام الشرعية موضوعة على غرار القضايا الحقيقية التي يحكم فيها بالحكم على الأفراد المحقّقة أو المقدّرة، والغائب والمعدوم بين محقّق ومقدّر.

وتقسيم القضايا إلى القسمين أداة طيّعة بيد النائيني يستعملها في كثير من الموارد وهي بمنزلة تقسيم القضايا إلى مشروطة وحينية أو الحصة التوأمة، في مدرسة المحقّق النراقي، وهما بمنزلة إطلاق المادّة في مدرسة شيخ مشايخنا المحقّق الحائري في درره، وكلّاً وعد اللّه الحسنى.

ص:235

2. إرجاع الشروط إلى الموضوع

من أفكاره إرجاع الشروط إلى الموضوع وبالتالي إرجاع القضايا الشرطية إلى الحملية، فقال: كلّ موضوع شرط وكلّ شرط موضوع، فالموضوع لوجوب الحج هو العاقل البالغ المستطيع، وبذلك تخلّص من البحث في إرجاع القيود إلى الهيئة كما عليه المحقّق الخراساني، أو إلى المادة كما عليه الشيخ الأنصاري (قدس سرهما).

3. نتيجة الإطلاق والتقييد

لمّا كان العلم بالحكم من الانقسامات اللاحقة له فلا يمكن فيه الإطلاق ولا التقييد اللحاظيين لاستلزامه الدور، ولذلك قال بامتناع أخذ العلم قيداً، جزءاً أو شرطاً، في مقام الجعل، كما هو الحال في عامّة الانقسامات اللاحقة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحكم به، كقصد التعبّد والتقرّب في العبادات، وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضاً؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، ولكن الإهمال الثبوتي أيضاً لا يعقل بل لابدّ إمّا من نتيجة الإطلاق بدليل آخر أو من نتيجة التقييد بدليل آخر أيضاً؛ وذلك لأنّ الملاك الذي اقتضى تشريع الحكم إمّا أن يكون في كلتا حالتي الجهل والعلم، فلابدّ من نتيجة الإطلاق، وإمّا أن يكون محفوظاً في حالة العلم فلابدّ من نتيجة التقييد.

وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأوّلي متكفّلاً لبيان ذلك، فلابدّ منه من جعل آخر تستفاد منه إمّا نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد، وهو المصطلح عليه بمتم الجعل، فاستكشاف كلّ من نتيجتي الإطلاق والتقييد يكون بدليل آخر.

وعلى هذا الأساس رتّب أُموراً:

أ. اشتراك الأحكام في حقّ العالم والجاهل.

ص:236

ب. إمكان أخذ ما يقع تحت دائرة الطلب في المتعلّق كقصد التعبّد وقصد الوجه.

ج. إمكان توجيه مقالة الأخباريّين من تقييد الأحكام الواقعية بما أدّى إليه الكتاب والسنّة، كلّ ذلك بدليل ثان خارج عن الجعل الأوّلي.

د. استنباط صحّة الترتّب؛ لأنّ العصيان والطاعة من الانقسامات اللاحقة للأحكام فعصيان الأمر بالأهم متأخّر عنه، وهو موضوع للأمر بالمهم، فيكون الأمر به متأخّراً عن الأمر بالأهم بمرتبتين.

4. اختصاص الأمر بالحصّة المقدورة

يقول: إنّ الغرض من الأمر هو إيجاد الداعي والتحريك في المكلّف، فيكون شموله للعاجز لغواً، فلازم ذلك عدم شمول الأحكام للعاجز لعدم وجود الداعي فيه.

5. تفسير الحجّية في الأمارات بجعل الطريقية

يقول: إنّ المجعول في الأمارات هي الطريقية والكاشفية، فبما أنّ كاشفيتها كانت ناقصة فالشارع أتمّ كاشفيتها وطريقيتها فتلقاها كاشفاً تامّاً في عالم التشريع.

وعلى هذا يقوم مقام العلم في القطع الموضوعي لأنّه وإن لم يكن قطعاً تكوينياً بل قطعاً تشريعياً لكن الشارع نزله منزلة القطع، في مقابل من يقول: إنّ المجعول في الأمارات هو الحكم المماثل لما تؤدّي إليه الأمارات، وفي مقابل من يقول: ليس في مورد الأمارات أي جعل سوى إمضاء ما بيد العرف.

ص:237

6. عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجّية

المعروف أنّه إذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجّية لأجل التعارض تسقط الدلالة الالتزامية لكلّ من المتعارضين التي تتفقان في نفي الثالث ولكنّه رحمه الله يعتقد بعدم التبعية ويأخذ بلوازم الخبرين المتعارضين وهي نفي صحّة الثالث.

7. الموضوع غير المتعلّق

يُستعمل كثيراً الموضوع مكان المتعلّق وبالعكس، ولكنّه قدس سره يخصّص كلّاً منهما بمعنى خاص، فالمكلّف نفسه عنده هو الموضوع وما تعلّق به الوجوب والحرمة هو المتعلّق.

8. تقسيم العقود إلى أقسام

إنّ المحقق النائيني هو البطل العلمي في حلبة فقه المعاملات، فكأنّ متاجر الشيخ أُقفل في صندوق أُعطيت مفاتحه بيده، فهو يشرحها في محاضراته التي جمعها وحرّرها الشيخ موسى الخوانساري بنحو رائع، ومن ابتكاراته تقسيم العقود إلى عقود إذنية وعقود عهدية؛ والعقود العهدية إلى عقود عهدية تنجيزية، وعقود عهدية تعليقية.

والعقود التنجيزية إلى تمليكية وغير تمليكية.

وعلى هذا التقسيم بنى قسماً من آرائه في باب المعاملات.

9. ابتناء القول بالإشاعة على القول ببطلان قول الجزء لا يتجزّأ

يذكر عند البحث في قاعدة اليد وأنّها أمارة الملكية وينتهي كلامه حول الملك المفروز والملك المشاع إلى أنّ القول بالثاني مبني على بطلان الجزء لا يتجزّأ في مقابل القول بالجوهر الفرد. يقول الحكيم السبزواري:

تفكك الرحى ونفي الدائرة وحجج أُخرى لديهم دائرة

ص:238

10. جواز الاجتماع وكيفية تركيب المادّة والصورة

القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه مبني عنده على تركيب المادّة والصورة في الخارج تركيب انضمامي لا اتّحادي، فيكون مركّب الأمر غير مركّب النهي على خلاف القول بأنّ التركيب بينهما اتحادي، فيكون المتعلّق واحداً.

هذا كلّه حول آرائه في الأُصول والفقه ولنذكر شيئاً من آرائه الفلسفية.

1. بطلان قاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد

يعتقد بأنّ قاعدة: الشيء ما لم يجب لم يوجد، غير جارية في أفعال الإنسان، فإنّ فعله حتى عندما تمّت الإرادة مع مبادئها واقع في حيّز الإمكان وتساويه إلى الفاعل، وإنّما يترجّح أحد طرفي الشيء بترجيح من الفاعل، وكأنّه من قبيل تخصيص القاعدة العقلية.

2. تفسير الإرادة بوجه خاص

ويقول: عندما تمت مبادئها، يصدر من الإنسان أمر نفساني، يعبر عنه ب «حملة النفس».

هذا ما سمح به الوقت.

رحم اللّه من تقدّم من علمائنا وحفظ اللّه الباقين منهم.

جعفر السبحاني

قم المقدسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:239

4. مسند ابن أبي عمير

اشارة

يطلق «المسند» ويقع وصفاً للحديث. يقال: «حديث مسند» وهو ما اتّصل اسناده من راويه إلى منتهاه.(1)

ويطلق عليه المتصل وربما يفرّق بينهما بملاحظة الرفع في المسند، فهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و آله. أمّا المتصل فما اتّصل سنده بسماع كلّ راو من رواته عمّن فوقه، سواء أكان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه و آله أم موقوفاً على التابعي.(2)

وأُخرى يطلق على الحديث المدوّن، حيث يجمع المؤلّف أحاديث صحابي في موضوعات مختلفة دون ترتيب بينها، كمسند عبد اللّه بن العباس أو عبد اللّه بن مسعود أو أُبيّ بن كعب.

المسانيد في عصر الأئمّة عليهم السلام

قد تضافر النقل على أنّه روى عن الإمام الصادق عليه السلام من مشهوري أهل العلم، أربعة آلاف إنسان، وصُنِّف من جواباته في المسائل أربعمائة كتاب تُسمّى «الأُصول» رواها أصحابه وأصحاب ابنه موسى الكاظم عليه السلام، يقول المحقّق

ص:240


1- . تدريب الراوي: 1/147، دار الكتاب العربي؛ محاسن الاصطلاح: 46-47، دار الكتب العلمية.
2- . تدريب الراوي: 60.

الحلّي: كتبت من أجوبة مسائل جعفر بن محمد عليه السلام أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف سمّوها أُصولاً.(1)

وقال الشهيد: إنّ أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام كُتب من أجوبة مسائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف، ودوّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام، وكذلك عن مولانا الباقر عليه السلام، ورجال باقي الأئمّة معروفون مشهورون، أُولو مصنّفات مشتهرة ومباحث متكثّرة، قد ذكر كثيراً منهم العامّة في رجالهم، ونسبوا بعضهم إلى التمسّك بأهل البيت عليهم السلام.(2)

إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة، وهذه الأُصول كلّها كانت مسانيد لمؤلّفيها، حيث جمع الراوي ما سمعه من الإمام بلا واسطة أو ممن سمعه كذلك، في أصل.

ولم يكن لهذه الأُصول ترتيب خاص في نقل الروايات حسب الكتب والأبواب؛ وما ذلك إلّالأنّ جلّها من إملاءات المجالس وأجوبة المسائل المختلفة، ويشهد على ذلك ما هو الموجود من هذه الأُصول الستة عشر الّتي وقف عليها أُستاذنا السيد محمد الحجّة الكوه كمري وقام بطبعها.

ومن الواضح أنّ احتمال الخطأ والغلط والسهو والنسيان في الأصل المسموع شفاهاً عن الإمام عليه السلام أو عمّن سمع عنه، أقلّ منها في الكتاب المنقول عن كتاب آخر، فالاطمئنان بصدور عين الألفاظ المندرجة في الأُصول أكثر، والوثوق به آكد. فإذا كان مؤلّف الأصل من الرجال المعتمد عليهم، الواجدين لشرائط القبول، يكون حديثه حجّة لا محالة وموصوفاً بالصحّة، كما عليه بناء القدماء.(3)

ص:241


1- . المعتبر: 1/26.
2- . موسوعة الشهيد الأوّل: 22/1
3- . الذريعة لآقا بزرگ: 2/126.

وعلى هذا فهذه الأُصول كانت مسانيد لأصحابنا في القرنين الثاني والثالث، ولم يكن تأليف الأُصول مختصّاً بحياة الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام بل استمرت كتابتها على هذا النمط إلى عهد الإمام العسكري عليه السلام.

وبما أنّ ابن أبي عمير أدرك أصحاب الإمام الصادق عليه السلام وعاصر الإمام موسى بن جعفر عليه السلام والرضا عليه السلام فما أخذه من تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام أو من الإمامين الهمامين يعدّ أصلاً من الأُصول، وله قيمة كقيمة سائر الأُصول.

لقد امتاز الرجل من بين أقرانه أنّه روى عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ما لم يروه عنهم غيره، حيث بلغ عدد رواياته حسب ما جمعه ولدنا الفاضل الشيخ بشير المحمدي المازندراني (4443) رواية، وهذا يدلّ على مكانته العلمية وولعه بحفظ آثار أئمّة أهل البيت عليهم السلام ونقلها إلى الأجيال الآتية، فالرجل حقّاً من مصاديق قول الإمام الصادق عليه السلام: «اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر روايتهم عنّا».(1)

إنّ التعرّف على شخصية ذلك المحدّث الرفيع يتوقّف على الكلام في محاور ثلاثة:

1. مكانته العلمية والاجتماعيّة.

2. التعرّف على مشايخه الذين يعدّون بالمئات.

3. مراسيله كمسانيده في الحجّية.

أمّا الأوّل: فقد بذل الأُستاذ الفاضل السيد حيدر محمد علي البغدادي (أبو أسد) أحد المحقّقين في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام جهده في تبيين مكانته

ص:242


1- . رجال الكشّي: 9.

العلمية والاجتماعية وثباته على المبدأ والتزامه بالشريعة وذكر آثاره وتآليفه وقوّة حافظته مع بحث موجز حول مشايخه، شكر اللّه مساعيه. وسيوافيك ذلك المقال بعد هذا.

وأمّا الثاني - أي التعرّف على مشايخه -: فقد قامت به لجنة التحقيق في دار الحديث فذكروا مشايخه ومن أخذ عنه الحديث على وجه التفصيل.

وأمّا الثالث: فالسبب لانقلاب مسانيده إلى المراسيل أنّه لما تعرّض للظلم والاضطهاد والتعذيب، وأُصيب بمحنة هلاك كتبه، لم تضعف عزيمته، بل حدّث من حفظه، فأسند ما كان في ذاكرته وأرسل غيره، وقد اشتهر أنّ مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده، وهذا ما أوضحنا حاله في كتابنا «كليات في علم الرجال»، وأثبتنا أنّ الرجل ممّن كان لا يروي إلّاعن ثقة، وأجبنا عن النقوض التي وجهها إليه السيد المحقق الخوئي قدس سره في معجم رجال الحديث.(1)

جعفر السبحاني قم المقدّسة مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:243


1- . لاحظ: كليات في علم الرجال: 216 و 234.

ابن أبي عمير حياته، ومكانته العلمية والاجتماعية

اشارة

يُعدّ ابن أبي عمير من أجلّ الشخصيات الشيعية في عصره، علماً وفضلاً ونُبلاً وجلالة وورعاً وثباتاً على المبدأ، فقد أثنى عليه الفقهاء والرجاليون من الشيعة الإمامية ثناءً بليغاً، كما ذكره من غيرهم أبو عثمان الجاحظ (المتوفّى 255 ه)، ووصفه بأنّه من مشايخ الشِّيَع.

وقبل الشروع في عرض أبرز جوانب حياة هذه الشخصية الفذّة، لابدّ لنا من التعريف به أوّلاً:

اسمه ونسبه:

محمد بن أبي عُمير (واسمه زياد) بن عيسى، أبو أحمد الأزديّ ، من موالي المُهلَّب(1) بن أبي صُفرة.

كذا صرّح النجاشي والطوسيّ بأنّه أزديّ بالولاء(2)، ولكنّ البرقيّ وصفه بالأزديّ ، ولم يقل إنّه من مواليهم.(3)

ص:244


1- . المهلّب بن أبي صُفرة الأزدي العَتَكي (7-83 ه): ولي إمارة البصرة لمصعب بن الزبير. وفقئت عينه بسمرقند. ثم ولّاه عبد الملك بن مروان ولاية خراسان، فقدمها سنة (79 ه)، ومات فيها. الأعلام: 315/7.
2- . انظر: رجال النجاشي: 326 برقم 887، وفهرست الطوسي: 404 برقم 618.
3- . رجال البرقي: 294 برقم 57 (ط. مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1430 ه).
موطنه:
اشارة

قال النجاشيّ : إنّه بغداديّ الأصل والمقام.(1)

وهذا يعني أنّه كان يعيش في عاصمة الدولة الإسلامية، وهي في أزهى عصر من عصور الحضارة (الربع الأخير من القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث)، حيث كانت آنذاك ملتقى العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء وغيرهم.

وهذا يؤشّر على وجود نشاط علميّ مبكّر لرجال الشيعة في هذه المدينة(2)، ساهم، جنباً إلى جنب مع نشاط الآخرين، في ازدهارها علمياً، وفي جعلها مركزاً عالمياً للفكر والعلم والثقافة، على الرغم من الظروف القاسية التي كانت تحيط بالشيعة، وأساليب القمع التي تُمارس ضدهم من قِبَل حكّام الجور وصنائعهم.

كلمات الثناء في حقّه

1. قال علي بن الحسن بن علي بن فضّال (نحو 206 - بعد 270 ه): كان ابن أبي عمير أفقه من يونس، وأصلح وأفضل.(3)

وتتّضح أهمية هذا الرأي، إذا عرفنا منزلة قائله، وعرفنا أيضاً منزلة يونس، فابن فضّال كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم(4)، وقد شهد أبو النضر محمد بن مسعود العيّاشي (المتوفّى حدود 320 ه) بأنّه لم يرَ فيمن لقي بالعراق وخراسان أفقه ولا أفضل منه.(5)

وأمّا يونس بن عبد الرحمن (المتوفّى 208 ه)، فقد كان وجهاً في

ص:245


1- . رجال النجاشي: 326 برقم 887.
2- . سيتضح الأمر أكثر عند الكلام عن المكانة العلمية لابن أبي عمير.
3- . رجال الكشّي: 492 برقم 483.
4- . رجال النجاشي: 257 برقم 676.
5- . انظر: رجال الكشّي: 445 برقم 397.

أصحابنا، متقدّماً، عظيم المنزلة، وكان علي بن موسى الرضا عليه السلام يشير إليه في العلم والفتيا.(1)

ومما يؤكّد سموّ المقام العلميّ لابن أبي عُمير عند المتقدّمين (وإنْ نُقل عنهم تقديم يونس عليه في الفقه)، هو أنّ أبا عمرو الكشيّ (المتوفّى حدود 340 ه) ذكر إجماعهم على تصديق ستة أشخاص من أصحاب الإمامين موسى الكاظم، وعلي الرضا عليهما السلام، والإقرار لهم بالفقه والعلم، وعدّ منهم ابن أبي عمير.(2)

2. و قال أبو العباس النجاشي (المتوفّى 450 ه): جليل القدر، عظيم المنزلة فينا وعند المخالفين. الجاحظ يحكي عنه في كتبه، وقد ذكره في (المفاخرة بين العدنانية والقحطانية)، وقال في «البيان والتبيين»: حدثني إبراهيم بن داحة عن ابن أبي عمير، وكان وجهاً من وجوه الرافضة.(3)

يُذكر أن عبارة الجاحظ في المطبوع من «البيان والتبيين» وردت كالتالي:

قال (بعد ما أورد كلاماً للأئمة: عليّ بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي بن الحسين عليهم السلام): وذكر هذه الثلاثة الأخبار، إبراهيم بن داحة عن محمد بن عمير [كذا]، وذكرها صالح بن علي الأفقم عن محمد بن عمير، وهؤلاء جميعاً من مشايخ الشِّيع، وكان ابن عمير أغلاهم.(4)

3. وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي (المتوفّى 460 ه): وكان من أوثق الناس عند الخاصّة والعامّة، وأنسكهم نُسكاً، وأورعهم، وأعبدهم....(5)

ص:246


1- . انظر: رجال النجاشي: 446 برقم 1208.
2- . انظر: رجال الكشّي: 466.
3- . رجال النجاشي: 326 برقم 887.
4- . البيان والتبيين: 61/1.
5- . فهرست الطوسي: 404 برقم 618.
ثباته على المبدأ، والتزامه بالشريعة

عُرف هارون العبّاسيّ بإيغاله في الاستمتاع بلذائذ دنياه العريضة، وبحبّه الشديد للمُلك، وافتتانه بمغرياته، وحرصه على توريثه لأبنائه، حتى أنّه بايع لابنه محمد (الأمين) بولاية العهد في سنة (175 ه)، وهو ابن خمس سنين!!(1)

ومن هنا، كان هارون - وبدافع هذا الحبّ والحرص، وبهاجس المخاوف من القوى والشخصيات التي تنافسه في الحكم، أو التي تعارضه في سياسته، أو التي لا تمشي في ركابها وتعمل على نشر الوعي في صفوف الجماهير - يمارس سياسة القمع والتنكيل، وكبت الحريات، ويستبيح إراقة الدماء، ومصادرة الأموال.

وكانت الشيعة من الزيدية والإمامية في مقدّمة من تعرّض لظلمه واضطهاده، وعلى رأسهم الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، الذي قضى مسموماً شهيداً في ظلمات سجن السندي بن شاهك ببغداد، عام (183 ه).

وكانت أجهزة هارون القمعية تلاحق أصحاب الإمام عليه السلام، وأتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وتودعهم السجون، وتسفك دماءهم بغير حقّ ، ومن هؤلاء الأبطال الذين قاسوا شدائد السجن والتعذيب، وتحمّلوا الأذى في سبيل المبادئ والقيم الإسلامية، صاحبنا ابن أبي عمير.

قال أبو عمرو الكشّي: وجدت بخطّ أبي عبد اللّه الشاذاني: سمعت أبا محمد الفضل بن شاذان، يقول:

سُعي بمحمد بن أبي عمير إلى السلطان أنّه يعرف أسامي عامّة الشيعة بالعراق، فأمره السلطان أن يسمّيهم فامتنع، فجرّد وعلّق بين القفازين، وضرب مائة سوط.

ص:247


1- . تاريخ الخلفاء، للسيوطي: 348، دار الجيل، طبع عام 1408 ه.

قال الفضل: فسمعت ابن أبي عمير يقول: لما ضرب فبلغ الضرب مائة سوط، أبلغ الضرب الألم إليّ ، فكدتُ أن أُسمّي، فسمعت نداء محمد بن يونس بن عبد الرحمن، يقول:

يا محمد بن أبي عمير، اذكر موقفك بين يدي اللّه تعالى، فتقوّيت بقوله، فصبرت ولم أُخبر، والحمد للّه. قال الفضل: فأضرّ به في هذا الشأن أكثر من مائة ألف درهم.(1)

وعن الفضل أيضاً، قال: وسمعته [أي سمع أباه شاذان] يقول: ضُرب ابن أبي عمير مائة خشبة وعشرين خشبة بأمر هارون لعنه اللّه، تولّى ضربه السندي بن شاهك، على التشيّع، وحُبس فأدّى مائة وإحدى وعشرين ألفاً حتى خُلّي عنه. فقلت: وكان متموّلاً؟ قال: نعم، كان رَبَّ خمسمائة ألف درهم.(2)

وهذا الإيمان العميق، الذي أمدّه بقوة الثبات على الموقف، والصبر على آلام التعذيب، تجسّد أيضاً في التزامه بأحكام الشريعة الغرّاء، والوقوف عند حدودها مهما كانت المصاعب التي تواجهه. وإليك هذه القصة التي تجلّي هذا الأمر:

روى الشيخ الصدوق بسنده عن إبراهيم بن هاشم أنّ محمد بن أبي عمير كان رجلاً بزّازاً، فذهب ماله وافتقر، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم، فباع داراً له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم، وحمل المال إلى بابه، فخرج إليه، فقال:

ما هذا؟

قال: بعتُ داري التي أسكنها، لأقضي دَيني.

فقال محمد بن أبي عمير: حدّثني ذَريح المحاربي، عن أبي عبد

ص:248


1- . رجال الكشي: 493-494، الترجمة 483.
2- . المصدر نفسه: 494.

اللّه عليه السلام: «لا يخرج الرجل عن مسقط رأسه بالدَّين»، ارفعها فلا حاجة لي فيها، وواللّه إنّي محتاج في وقتي هذا إلى درهم، ولا يدخل مُلكي منها درهم!!(1)

مكانته العلمية والاجتماعية

إنّ الاستناد إلى المقاييس والمعايير التالية، يكشف عن تمتّع ابن أبي عمير بمكانة علمية واجتماعية سامية:

1. كلمات الثناء والتبجيل والتعظيم التي صدرت في حقّه من الأعلام، الذين لا يطلقون القول جزافاً، ولا محاباة.

2. توارد كبار العلماء إلى داره ببغداد، وحضورهم مجلسه.

قال الفضل بن شاذان بن الخليل الأزديّ : أخذ يوماً شيخي بيدي، وذهب بي إلى ابن أبي عمير، فصعدنا في غرفة، وحوله مشايخ يعظّمونه ويبجّلونه، فقلت لأبي: من هذا؟ قال: هذا ابن أبي عمير. قلت: الرجل الصالح العابد؟ قال:

نعم.(2)

وقال الفضل أيضاً: بَيْنا أنا قاعد في قطيعة الربيع [ببغداد] مع أبي، إذ جاء شيخ حلو الوجه، حسن الشمائل... حضر فسلّم على أبي، فقام إليه فرحّب به وبجّله، فلمّا أن مضى يريد ابن أبي عمير، قلت لشيخي: هذا رجل حسن الشمائل من هذا الشيخ ؟ فقال: الحسن بن علي بن فضّال.(3)

وهذان الخبران يكشفان عمّا بلغه ابن أبي عمير من مكانة علمية مرموقة، وسمعة فائقة، حيث يقصده جلّة العلماء، وفيهم مثل الفقيه الكبير والمحدّث الورع ابن فضّال (المتوفّى 224 ه)، الذي كان يسكن الكوفة. وما وصف ابن

ص:249


1- . من لا يحضره الفقيه: 190/3.
2- . رجال الكشّي: 494، الترجمة 483.
3- . رجال الكشّي: 434، الترجمة 378.

شاذان له (كما في الخبر الأوّل) بالرجل الصالح العابد، وهو بعدُ لم يعرفه لصغره آنذاك، إلّادليلاً على اشتهار اسمه بين الناس، وعلوّ قدره عندهم.

3. مصاحبة المأمون العباسيّ له بعد استشهاد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، ذكر ذلك نصر بن الصباح.(1)

وروي أنّه حبسه المأمون، حتى ولّاه قضاء بعض البلاد.(2)

ولولا أنّ ابن أبي عمير كان يتمتع بمقام علميّ رفيع، وموقع اجتماعيّ مؤثر، لَما أقدم المأمون على مصاحبته، ولَما أراده على القضاء، وفرض عليه ذلك بالقوة.

4. ويأتي في طليعة المقاييس التي تُقاس بها الدرجة العلمية لأصحاب الأئمة عليهم السلام وتلامذة مدرستهم، هو ذلك المقياس الذي تكشف عنه هاتان الروايتان المرويّتان عن الإمام جعفر الصادق، قال عليه السلام: «اعرفوا منازل الرجال منّا على قَدْر رواياتهم عنا»(3)، وقال عليه السلام: «اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنا، فإنّا لا نعدُّ الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون مُحَدَّثاً»(4). فقيل له: أوَ يكون المؤمن محدَّثاً؟ قال: «يكون مُفهَّماً، والمُفَهَّم: المحدَّث».

فما هي درجة ابن أبي عمير بهذا المقياس ؟ إن التعرّف على ذلك يتمّ من خلال الأُمور التالية:

أ. كثرة تآليفه

بلغت تآليفه - كما نقل ابن بُطّة عن أحمد بن محمد البرقيّ - أربعة وتسعين كتاباً، في شتّى العلوم والمعارف الإسلامية، ذكر منها أبو العباس

ص:250


1- . رجال الكشّي: 493، الترجمة 483.
2- . رجال النجاشي: 326 برقم 887.
3- . رجال الكشّي: 9، في فضل الرواية والحديث.
4- . رجال الكشّي: 9، في فضل الرواية والحديث.

النجاشي (19) كتاباً، وهي:

1. المغازي، 2. الكفر والإيمان، 3. البداء، 4. الاحتجاج في الإمامة 5.

الحجّ ، 6. فضائل الحجّ ، 7. المتعة، 8. الاستطاعة، 9. الملاحم، 10. يوم وليلة، 11.

الصلاة، 12. مناسك الحجّ ، 13. الصيام، 14. اختلاف الحديث، 15. المعارف، 16. التوحيد، 17. النكاح، 18. الطلاق، 19. الرضاع.

ثم قال: فأمّا نوادره، فهي كثيرة، لأنّ الرواة لها كثيرة، فهي تختلف باختلافهم.(1)

وممّن روى نوادره، وهي في ستة أجزاء، أبو غالب الزراريّ (المتوفّى 368 ه) بسنده عن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أيوب بن نوح، عن ابن أبي عمير.(2)

وتسأل: أين صارت هذه الكتب ؟ وهل وصل إلينا منها شيء؟ ويصدمك الجواب حينما يكون بالنفي، لقد كانت - كالكثير من تراث المسلمين الزاخر لا سيّما الشيعة منهم - إحدى ضحايا الظلم والطغيان، أو الإهمال وعدم الاهتمام.

قال أبو العباس النجاشي: قيل: إنّ أُخته دفنت كتبه في حال استتاره وكونه في الحبس أربع سنين، فهلكت الكتب.

وقيل: بل تركتها في غرفة، فسال عليها المطر، فهلكت.(3)

ب. قوّة حافظته

على الرغم ممّا تعرّض له ابن أبي عمير من ظلم واضطهاد وتعذيب، وما ابتلي به من محنة هلاك كتبه، التي تعتبر من أشدّ المحن التي تصيب العلماء، فإنّ

ص:251


1- . رجال النجاشي: 326 برقم 887.
2- . رسالة أبي غالب الزراريّ : 182 برقم 113.
3- . رجال النجاشي: 326 برقم 887.

عزيمته لم تضعف، بل حدّث من حفظه، وممّا كان سلَفَ له في أيدي الناس، ومن هنا قيل: إنّ أصحابنا كانوا يسكنون إلى مراسيله.(1)

وهذا يُعرب عن توقّد ذهنيته، وقوة حافظته، التي أسعفته بعدما قسى عليه القَدَر.

ج. غزارة رواياته عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام مشافهة أو بالواسطة

لقي ابن أبي عمير (المتوفّى 217 ه) الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، وسمع منه أحاديث، كنّاه في بعضها، فقال: يا أبا أحمد، وروى أيضاً عن الإمام عليّ موسى الرضا عليه السلام.(2)

وروى عن الجمّاء الغفير من أصحاب الأئمّة عليهم السلام وتلامذة مدرستهم، وممّن أكثر عنهم: معاوية بن عمّار الدُّهني (المتوفّى 175 ه)، وحمّاد بن عثمان الفزاريّ العرزميّ (المتوفّى 190 ه)، وهشام بن سالم الجواليقيّ ، وعمر بن أُذَينة العبديّ البصريّ ، وجميل بن درّاج النخعيّ ، وعبد الرحمن بن الحجّاج البجليّ ، وعبد اللّه بن بكير بن أعين، وعبد اللّه بن سنان بن طريف.

وقد أورد مؤلف «مشايخ الثقات» أسماء من روى عنهم ابن أبي عمير، فبلغ عددهم (415) شيخاً.(3)

تحقيق موجز حول مشايخه

إنّ من يتتبّع أسماءهم يجد أنّ جماعة منهم ليسوا من مشايخه، وقد عدّهم مؤلِّف «مشايخ الثقات» فيهم اعتماداً على ورود تلك الأسماء في الكتب

ص:252


1- . المصدر نفسه. أمّا البحث في كون مراسيله حجّة، أو ليست بحجّة، فموكول إلى الكتب التي تناولت هذا الموضوع.
2- . انظر: رجال النجاشي: 326 برقم 887.
3- . مشايخ الثقات: 125-200، ط 2، المطبعة العلمية في قم، 1409 ه.

الروائية، التي لا يخلو عدد منها من تصحيفات وتحريفات في أسماء الرجال وفي ألفاظ أسانيدها، ومن فقدان واسطة واحدة أو أكثر من أسانيدها.

وإليك أسماء أحد عشر ممّن عدّهم المؤلّف من مشايخ ابن أبي عمير، ولم يكونوا كذلك:

1. محمد بن سنان (المتوفّى 220 ه).

2. نجية بن إسحاق الفزاري.

3. معاوية بن حفص.

4. عبد الرحمن بن أبي نجران(1).

5. المعلّى بن خنيس(2).

6. جابر [بن يزيد الجعفيّ (المتوفّى 128 ه)].

ورد حديثه عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في «الكافي»(3)، و «الوسائل»(4).

قال الشيخ المامقاني: الظاهر أنّها مرسلة.

وردّ عليه المحقّق الشيخ محمد تقي التستري بقوله: ما قاله أخذه من «جامع الرواة» لكن من أين رواية ابن أبي عمير عنه [أي عن جابر الجعفي]؟ فالخبر بلفظ «عن جابر» ولعلّ المراد به: جابر بن أبحر، أو جابر بن إسماعيل، أو جابر بن شمير، أو...، وهم وإن لم يُذكروا في غير أصحاب الصادق عليه السلام، وهذا روى عن الباقر عليه السلام، إلّاأنّه لا دليل على عدم روايتهم عن الباقر عليه السلام، أو المراد به

ص:253


1- . كان حيّاً سنة (227 ه). انظر: رسالة أبي غالب الزراريّ : 153، تحقيق السيد محمد رضا الجلاليّ .
2- . انظر: كليات في علم الرجال: 227-233، ففيه من الأدلة والقرائن ما يثبت عدم صحة جعل هؤلاء الخمسة من مشايخه.
3- . الكافي: 489/3، كتاب الصلاة، باب النوادر، ح 14.
4- . وسائل الشيعة: 554/3، باب 68 من أبواب أحكام المساجد، ح 2.

غير الجميع، فكم من الأخبار من لم يُذكر في الرجال.(1)

أقول: وأنت ترى ما في هذا الردّ من التكلّف، ويُردّ عليه بأنّ متن الحديث، رواه الشيخ الطوسي في أماليه(2)، وفيه النصّ على أنّه (جابر الجعفي)، ولكن رواه بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن سيف بن عميرة، عن جابر الجعفي، وهذا يعضد القول بسقوط الواسطة في سند حديث ابن أبي عمير (أو بإرساله)، لأنّ الحسن بن محبوب، المعاصر له، والمتوفّى سنة (224 ه) يرويه عن سيف بن عميرة، الذي يروي عنه ابن أبي عمير أيضاً.

7. أبان بن تغلب (المتوفّى 141 ه).

وردت روايته عنه عن زرارة في «الكافي»(3) وفي «رجال الكشّي».(4)

ولا يمكن لابن أبي عمير أن يروي عن أبان بن تغلب للبُعد بين الطبقتين، وليس له رواية عنه إلّافي الموضعين المذكورين، ولم يصحّا، فالصواب في رواية الكافي (ومثلها في الوسائل): عن أبان بن عثمان، بدل أبان بن تغلب، وقد رواها الشيخ الطوسي هكذا في «تهذيب الأحكام»(5)، ويؤيد ذلك كثرة رواية ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان الأحمر.

وأمّا رواية الكشّي، فلابدّ من وقوع سقط في سندها، ويدلّ عليه (بالإضافة إلى البعد بين الطبقتين كما قلنا) أن سند الرواية التي سبقت هذه

ص:254


1- . قاموس الرجال: 547/2، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي، طبع عام 1410 ه.
2- . أمالي الطوسي: 145، المجلس الخامس، ح 237.
3- . الكافي: 140/4، كتاب الصيام، باب من وجب عليه صوم شهرين متتابعين، ح 9، وعنه في «وسائل الشيعة»: 278/7، باب 8 من أبواب بقية الصوم الواجب، ح 2.
4- . رجال الكشّي: 280، الترجمة 156.
5- . تهذيب الأحكام: 216/10، باب القاتل في الشهر الحرام، ح 851.

الرواية، تضمّن واسطتين بين ابن أبي عمير، وبين أبان بن تغلب(1)، فكيف يروي عنه هنا بلا واسطة ؟

8. بُكير بن أعيَن.

9. عبد اللّه بن أبي يعفور.

10. أبو عبيدة الحذّاء.

11. الفضيل بن يسار.

وهؤلاء المشايخ الستة (جابر، فمن بعده) قد توفّوا في حياة الإمام جعفر الصادق عليه السلام (المتوفّى 148 ه)، فلا تصحّ رواية ابن أبي عمير عنهم، لعدم إدراكه عصر الصادق عليه السلام.

والعارف بطبقات الرواة، يجد أنّ هؤلاء المشايخ في طبقة متقدّمة على طبقة من ثبت أنّهم من مشايخ ابن أبي عمير الأزديّ ، وأنّهم (أي مشايخ ابن أبي عمير) قد ماتوا في حياة الإمام موسى الكاظم عليه السلام (المتوفّى 183 ه) أو بعده، ومنهم على سبيل المثال:

عبد اللّه بن بكير، وحمّاد بن عثمان (المتوفّى 190 ه)، وجميل بن درّاج، وعبد الرحمن بن الحجّاج البجليّ (المتوفّى بعد 183 ه)، ومعاوية بن عمّار الدهنيّ (المتوفّى 175 ه)، وإبراهيم بن عبد الحميد الأسديّ ، وابن أذينة، وهشام بن الحكم (المتوفّى 199 ه)، وعبد اللّه بن مسكان، وأبان بن عثمان الأحمر، وعبد اللّه بن سنان بن طريف، وذريح المحاربي، ورفاعة بن موسى الأسديّ ، والحسين بن نُعيم الصحّاف، وحفص بن البختري البغداديّ ، وسيف بن عميرة النخعيّ ، وعاصم بن حُميد الحنّاط (المتوفّى بعد 191 ه)، وعليّ بن أبي حمزة البطائنيّ ، وهشام بن سالم الجواليقيّ ، وعليّ بن يقطين (المتوفّى 182 ه)،

ص:255


1- . رجال الكشّي: 280، الترجمة 156 (والواسطتان، هما: عليّ بن إسماعيل بن عمّار، وابن مسكان).

ومعاوية بن وهب البجليّ ، ويونس بن يعقوب البجليّ (المتوفّى بعد 183 ه)، وعبد اللّه بن يحيى الكاهلي (المتوفّى قبل 183 ه)

وثمة نقطة جديرة بالاهتمام تلقي ضوءاً على هذا الأمر، وهي أنّ كبار المحدّثين، كانوا يحرصون على طلب الأسانيد العالية، فمن البعيد أن يروي ابن أبي عمير عن جابر، وأبان بن تغلب، وعبد اللّه بن أبي يعفور، وغيرهم من رجال هذه الطبقة، ثم يروي عن طبقة متأخّرة عنهم، تضمّ رواة كثيرين، هم من تلامذة تلك الطبقة المتقدّمة ؟

ومهما يكن من أمر، فإنّ هذا العدد الهائل من المشايخ الذين لقيهم ابن أبي عمير وروى عنهم، يُعدُّ من خصائصه التي قلّما تتّفق لغيره، ويدلّ على اهتمامه الواسع بالحديث النبويّ الشريف وروايات أئمة أهل البيت عليهم السلام، ولا يؤثر عليه أبداً عدم اعتبار مجموعة من المحدّثين من مشايخه، وإنّما ذكرنا ذلك استطراداً. أسأل اللّه تعالى أن يقيّض من الباحثين المحقّقين من يكتب بحثاً مستقلّاً في هذا الموضوع، يورد فيه - على وجه الدقّة - مشايخه، ويستبعد من لم تثبت روايته عنهم.

هذا، ولابن أبي عمير روايات جمّة، رواها عنه تلامذته بعناوين مختلفة، منها:

1. ابن أبي عمير.

2. محمد بن أبي عمير.

3. محمد بن زياد.

4. محمد بن زياد الأزديّ .

5. محمد بن زياد البزّاز.

6. محمد بن زياد بن عيسى.

ص:256

وقد جمع الشيخ الفاضل مؤلّف هذا الكتاب، ما روي عنه بالعناوين المتعدّدة، فبلغ (4443) رواية.

أمّا رواياته في الكتب الأربعة، فبلغت (بعدِّ المكرّرات منها) أكثر من (5360) مورداً، منها (645)(1) مورداً بعنوان (محمد بن أبي عمير)، و (4715) بعنوان (ابن أبي عمير)، ومجموعة من الروايات بعناوين أُخرى .(2)

وأمّا الأُصول والكتب التي رواها عن تلامذة الأئمة المعصومين عليهم السلام، فهي كثيرة جداً، ذُكر قسم منها في «رجال النجاشي»، وفي فهرست الشيخ الطوسي، الذي قال في ترجمة ابن أبي عمير: روى عنه أحمد بن محمد بن عيسى، كتب مائة رجل من رجال أبي عبداللّه [الصادق] عليه السلام.(3)

وناهيك بذلك دليلاً ساطعاً على عنايته الفائقة بالحديث والرواية، وعلى همّته الشّمّاء في تتبّع مصادر علوم أئمة أهل البيت، للانتهال منها، وبثّها بين تلامذته، الذين اجتمعوا حوله، وصاروا فيما بعد من الأعلام، ومنهم:

1. أحمد بن محمد بن عيسى الأشعريّ .

2. أيوب بن نوح بن درّاج.

3. محمد بن عبد اللّه بن زرارة.

4. إبراهيم بن هاشم الكوفي القمي.

ص:257


1- . ذكر الشيخ صفاء الدين الخزرجي في مقالته عن (محمد بن أبي عمير الأزدي) هذا العدد من الروايات عنه، وسها عن ذكر ما ورد عنه من روايات بعنوان (ابن أبي عمير) وغيره من العناوين. مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام: 217، العدد 26، السنة السابعة 1423 ه.
2- . انظر: معجم رجال الحديث: 279/14 برقم 10018، 101/22 برقم 14997، 89/16 برقم 10765 و 10766.
3- . فهرست الطوسي: 404 برقم 618. يُشار إلى أنّ الشيخ صفاء الدين الخزرجي استخرج من فهرست الشيخ الطوسي فقط، ما رواه ابن أبي عمير من أصول وكتب مشايخ، فبلغ (78) أصلاً وكتاباً. مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام.

5. محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الهمْدانيّ (المتوفّى 262 ه).

6. معاوية بن حُكيم بن معاوية بن عمّار الدُّهنيّ .

7. موسى بن القاسم بن معاوية بن وهب البجليّ .

8. عبيد اللّه بن أحمد بن نَهيك النخعيّ .

9. محمد بن خالد البرقي.

10. الفضل بن شاذان الأزديّ (المتوفّى 260 ه).

قال الشيخ صفاء الدين الخزرجي: وقد تتلمذ عليه [أي على ابن أبي عمير] نحو خمسين سنة.(1)

وهذا وَهْم، لعله ناشئ من مروره سريعاً - حفظه اللّه تعالى - على رواية الكشّي، التي جاء فيها: سمعت الفضل بن شاذان آخر عهدي به يقول: أنا خلفَ لمن مضى ، أدركت محمد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى ، وغيرهما، وحملت عنهم منذ خمسين سنة.(2)

رحم اللّه تعالى ابن أبي عمير، وجعل الجنّة مأواه، بما جاهد وصبر، وبما تعلّم وعلّم، وعَمِل بما تعلّم.

حيدر محمد علي

البغدادي الطحّان

(أبو أسد)

ص:258


1- . مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام: 212، العدد 26.
2- . رجال الكشّي: 452، الترجمة 416.

5. الوزير المغربي تفسيره ومذهبه

اشارة

اطّلعت عن طريق بعض الإخوة على أنّه توجد من كتاب «المصابيح في تفسير القرآن العظيم» للحسين بن علي المعروف بالوزير المغربي (370-418 ه)، نسخة في جامعة الإمام محمد بن سعود، في الرياض فطلبت من الأخ الدكتور الرسولي سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية هناك أن يسعى للحصول على صورة من هذه النسخة فوافانا الجواب منه - مشكوراً - بإرسال نسخة محقّقة للباحث عبد الكريم بن صالح الزهراني، فقد حقّق الكتاب من سورة الفاتحة إلى آخر سورة الإسراء ونال بهذا العمل درجة الدكتوراه عام 1421 ه.

وقد قرأت مقدّمة الباحث وتصفّحت الموجود من التفسير سريعاً فوجدت أنّ الباحث بذل جهده في تحقيق النصّ وإزالة الصعاب عنه، إلى غير ذلك من المزايا التي أشار إليها في مقدّمته.

وقد حقّق الكتاب بعد الحصول على نسختين:

النسخة الأُولى: وكانت من فاتحة الكتاب إلى آخر سورة الإسراء مع سقط

ص:259

قليل في موردين، وهي من متملّكات عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، وهي مصوّرة على ميكروفيلم في جامعة الإمام محمد بن سعود ضمن مخطوطات قسم التفسير برقم 2002.

النسخة الثانية: نسخة مبتورة من أوّلها وآخرها، فهي تبدأ بسورة النساء وتنتهي بآيات من سورة يوسف، وهي مصوّرة من نسخة في مكتبة تشستربتي برقم 3538، وهي في مركز التراث بجامعة أُم القرى.

ثمّ أشار المحقّق إلى أنّ للكتاب نسخة ثالثة في المغرب بخزانة القرويّين تحت رقم 1476، وقد راجع الباحث المكتبة فأخبره أمينها بأنّها متلاشية جدّاً ولا يمكن تصويرها.

ونحن إذ نثمّن جهوده في إحياء ذلك التراث القيم، غير أنّه لمّا وصل إلى بيان مذهب المؤلّف نقل عن الذهبي في سير أعلام النبلاء أنّه كان شيعياً، لكنّه أضاف: أنّي بعد تتبع آثاره وما كتبه من رسائل لكي أقف على هذه الحقيقة لم أجد ما يدلّ على ذلك، أمّا ما جاء في كتاب المصابيح عندما يذكر أبا جعفر فيقول: عليه السلام، فهذا بلا شك أنّه من الناسخ بدليل سقوط هذه العبارة في النسخة الثانية.(1)

يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره ضعيف جداً، إذ لقائل أن يقول إنّ النسخة كانت مشتملة على التسليم لكن أسقطها الناسخ، هذه مؤاخذة جزئية ولكن الذي يؤخذ على الباحث أنّه لو أمعن النظر في نفس الكتاب الذي حقّقه، يرى فيه دلائل واضحة على أنّه شيعي إمامي لا ريب في ذلك، ولأجل ذلك نذكر شيئاً من حياته التي جاء ذكرها في مصادرنا الرجالية وشيئاً ممّا ورد في مصادر غيرنا، والغاية رفع الستر عن مذهبه فنقول:

ص:260


1- . لاحظ: المصابيح: 39 (رسالة الدكتوراه).

الوزير المغربي في مصادر الشيعة

1. أوّل من ترجم له الرجالي المشهور أبو العباس النجاشي (372-450 ه)، قال: الحسين بن علي بن الحسين بن محمد بن يوسف الوزير «أبو القاسم المغربي» من وُلد بلاس بن بهرام جور، وأُمّه فاطمة بنت أبي عبد اللّه محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني شيخنا صاحب كتاب: الغيبة. له كتب، منها: كتاب خصائص علم القرآن، كتاب اختصار إصلاح المنطق، كتاب اختصار غريب المصنّف، رسالة في القاضي والحاكم، كتاب الإلحاق بالاشتقاق، اختيار شعر أبي تمّام، اختيار شعر البحتري، اختيار شعر المتنبيّ والطعن عليه، توفّي رحمه الله يوم النصف من شهر رمضان سنة ثمان عشرة وأربعمائة.(1)

قال المحقّق التستري: قوله: «شيخنا» وصف للنعماني جدّ الوزير للأُم، ثم أضاف: قول النجاشي: من وُلد بلاس بن بهرام جور، وهم فإنّ بلاساً ليس ابن بهرام، بل ابن فيروز بن يزدجرد بن بهرام، وبلاس عم أنوشيروان، وهو الباني لساباط المدائن، وأصل ساباط (بلاس آباد) فخفف وعُرّب فصار (ساباط)، وعنونه الحموي بقوله: الحسين بن علي بن الحسن بن محمد بن يوسف بن بحر بن بهرام بن المرزبان بن ماهان بن باذام بن سامان بن الحرون من ولد بهرام جور ملك فارس أبو القاسم المعروف بالوزير المغربي الأديب اللغوي الكاتب الشاعر، ولد فجر يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة.(2)

2. ذكره ابن شهرآشوب (488-588 ه) في «معالم العلماء» وقال: أبو القاسم المغربي الوزير له كتاب المصابيح في تفسير القرآن.(3)

ص:261


1- . رجال النجاشي: 191/1-192، برقم 165.
2- . قاموس الرجال: 491/3-496. ولاحظ: معجم الأُدباء: 79/10؛ بغية الطلب في تاريخ حلب: 2537/6، وقد بسط الكلام في ترجمته.
3- . معالم العلماء: 172، برقم 952. فهو أوّل من سمّى تفسيره ب «المصابيح» من الإمامية.

3. ذكره قطب الدين الراوندي (المتوفّى 537 ه): وقال الحسين بن علي المغربي: معنى «إذا قمتم»: إذا عزمتم عليها وهممتم بها، قال الراجز للرشيد:

ما قاسم دون الفتى ابن أُمّه وقد رضيناه فقم فسمّه

فقال: يا أعرابي ما رضيت أن تدعونا إلى عقدة الأمر له قعوداً حتى أمرتنا بالقيام، فقال: قيام عزم لا قيام جسم.

وقال خزيم الهمداني:

فحدثت نفسي أنّها أو خيالها أتانا عشاءً حين قمنا لنهجعا

أي حين عزمنا للهجوع.(1)

4. قال العلّامة الحلّي (647-726 ه): الحسين بن علي بن الحسين بن محمد بن يوسف الوزير المغربي، ثمّ لخّص ما ذكره النجاشي.(2)

5. قال الحرّ العاملي (المتوفّى 1104 ه): الحسين بن علي بن الحسين بن محمد بن يوسف الوزير المغربي، أُمّه فاطمة بنت أبي عبد اللّه محمد بن إبراهيم النعماني، صاحب كتاب الغيبة، ثم ذكر تصانيفه.(3)

6. عنونه القهبائي في «مجمع الرجال» واكتفى بما ورد في النجاشي ثم أشار إليه في ترجمة جدّه من جانب الأُم، أعني: محمد بن إبراهيم بن جعفر مؤلّف كتاب الغيبة.(4)

7. عنونه الأردبيلي في «جامع الرواة» واكتفى بما ورد في رجال النجاشي وخلاصة العلّامة.(5)

ص:262


1- . فقه القرآن: 12/1، ولاحظ: المصابيح: 365.
2- . خلاصة المقال: 120، برقم 303.
3- . أمل الآمل: 97/2، برقم 264.
4- . مجمع الرجال: 189/2.
5- . جامع الرواة: 248/1.

8. عنونه المامقاني في «تنقيح المقال» وذكر نصّ النجاشي ثم الخلاصة، وتكلّم في أنّ قوله شيخنا وصف لمن ؟(1) وقد مرّ من المحقق التستري أنّه وصف للنعماني. وهو بمعنى أنّه شيخ الطائفة.

9. قال السيّد الخوئي: الحسين بن علي بن الحسين بن محمد بن يوسف الوزير أبو القاسم المغربي، ثم اقتصر بما ذكره النجاشي في رجاله.(2)

10. ذكر شيخنا العلّامة اقابزرگ الطهراني مؤلّفات الوزير البغدادي في الذريعة.(3)

إلى هنا تمّ ما ذكره مشايخنا الكبار في ترجمة الوزير المغربي، وهؤلاء اقتصروا بما ذكرنا.

نعم بسط عدّة من علمائنا الكلام في ترجمته ونشير إلى مواضعها من كتبهم:

11. السيّد محمد باقر الخونساري (المتوفّى 1313 ه).(4)

12. المحقّق التستري، وقد نقلنا شيئاً ممّا ذكره.(5)

13. السيّد محسن الأمين.(6)

14. موسوعة طبقات الفقهاء.(7)

وبما أنّا لسنا بصدد ترجمة الوزير اكتفينا بما ذكرنا، وهؤلاء كلّهم متّفقون

ص:263


1- . تنقيح المقال: 338/1 برقم 2996.
2- . معجم رجال الحديث: 44/6، برقم 3521.،
3- . لاحظ: الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 220/4، و 420، 249/1/9.
4- . روضات الجنات: 166/3-169.
5- . لاحظ: قاموس الرجال: 491/3-496.
6- . لاحظ: أعيان الشيعة: 111/6.
7- . موسوعة طبقات الفقهاء: 111/5-114.

على تشيّعه ولذلك عمدوا إلى ترجمته في كتبهم بلا أي ريب وشك، ولأجل رفع الستر عن الموضوع الذي ذكره الباحث على عواهنه، ندرس مذهبه من خلال أمرين:

1. القرائن الخارجية التي ذكرها غير واحد من أصحاب المعاجم.

2. القرائن الداخلية وهي النصوص الموجودة في أثره القيّم المصابيح، على وفق ما حقّقه الباحث عبد الكريم بن صالح بن عبد اللّه الزهراني حفظه اللّه.

القرائن الخارجية الدالّة على تشيّعه

هناك قرائن خارجية (خارج التفسير) تشهد على أنّه كان شيعياً حقيقياً، وإليك ما وقفنا عليه:

1. أنّ أُمّه كانت بنت الشيخ النعماني شيخ الطائفة الإمامية المعاصر للشيخ الكليني (المتوفّى 329 ه) صاحب كتاب الغيبة في الإمام المهدي (عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف) وقد صرّح بذلك الرجالي النجاشي وغيره كما مرّ.

2. ذكر الحموي أنّه كانت وفاته في ميافارقين وحمل بوصية منه إلى الكوفة ودفن بها في تربة مجاورة لمشهد عليّ رضي اللّه عنه وأوصى أن يكتب على قبره:

كنت في سفرة الغواية والجه - ل مقيماً فحان مني قُدوم

تُبت من كل مأثم فعسى يُم - حى بهذا الحديث ذاك القديم

بعد خمس وأربعين لقد ما طلتُ إلّاأنّ الغريم كريمُ (1)

3. قال الجزري: لمّا أحسّ بالموت كتب كتاباً عن نفسه إلى كلّ مَن يعرفه من الأُمراء والرؤساء الذين بينه وبين الكوفة ويعرّفهم أنّ حظيّة له توفّيت وأنّه

ص:264


1- . معجم الأُدباء: 79/10.

قد سيّر تابوتها إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام وخاطبهم في المراعاة لمن في صحبته، وكان قصده أن لا يتعرّض أحد لتابوته بمنع وينطوي خبره. فلمّا توفّي سار به أصحابه، كما أمرهم، وأوصلوا الكتب، فلم يتعرّض أحد إليه. فدفن بالمشهد ولم يعلم به أحد إلّابعد دفنه.(1)

وذكر هذه القضية الصاحب كمال الدين المعروف بابن العديم.(2) وقد ترجم مؤلفنا بصورة مبسّطة.(3)

4. القصيدة التي أنشأها في مدح الأنصار، وقد نقل أكثرها ابن أبي الحديد في شرحه، ونحن نقتبس من هذه القصيدة ما يرجع إلى مهمتنا، وإليك مستهل القصيدة، قال:

نحن الذين بنا استجار فلم يَضِعْ فينا، لأصبح في أعزّ جوار

إلى أن قال:

وتداولتها أربع لولا أبو حسن لقلت: لؤمت من إستار(4)

إلى أن قال:

تاللّه لو ألقوا إليه زمامها لمشى بهم سَجُحاً بغير عِثار

ولو أنّها حلّت بساحة مجده بادي بدا سكنت بدار قرار

إلى أن قال:

وتنقلت في عصبة أموية ليسوا بأطهار ولا أبرار(5)

5. أورد ابن شهر آشوب في «المناقب» أبياتاً للمغربي في الإمام الباقر عليه السلام

ص:265


1- . الكامل في التاريخ: 362/9.
2- . لاحظ: بغية الطلب في تاريخ حلب: 2555/6.
3- . من ص 2532-2555.
4- . الإستار بالكسر أربعة في العدد.
5- . شرح نهج البلاغة: 15/6-16.

والظاهر أنّه أراد به الوزير المغربي لأنّها لا توجد في ديوان ابن هانئ، وهي:

يا ابن الذي بلسانه وبيانه هُدي الأنام ونزّل التنزيل

عن فضله نطق الكتاب وبشرت بقدومه التوراة والإنجيل

لولا انقطاع الوحي بعد محمد قلنا محمد من أبيه بديل

هو مثله في الفضل إلّاأنّه لم يأته برسالة جبريل(1)

6. نقل السيد الأمين عنه الأبيات التالية:

صلّى عليك اللّه يا من دنا من قاب قوسين مقام النبيه

أخوك قد خولفت فيه كما خولف في هارون موسى أخيه

هل برسول اللّه من أُسوة لم يقتد القوم بما هن فيه

ثم قال: وهي أطول من هذا، وقوله:

أيا غامصين المزايا الجليلة من المرتضى والسجايا الجميلة

ويا غامضين عن الواضحات كأن العيون لديها كليلة

إذا كان لا يعرف الفاضلين إلّا شبيههم في الفضيلة

فمن أين للأُمّة الاختيار عفا لعقولكم المستحيلة

عرفنا عليّاً بطيب النجار وفصل الخطاب وحسن المخيلة

تطلع كالشمس رأد الضحى بفضل عميم وأيد جزيلة

فكان المقدّم بعد النبيّ على كل نفس بكل قبيلة(2)

***

هذا ما يرجع إلى القرائن الخارجية، وأمّا ما يرجع إلى القرائن الداخلية

ص:266


1- . المناقب لابن شهر آشوب: 197/4.
2- . أعيان الشيعة: 116/6.

فهي بين الصريح وكالصريح على أنّه شيعي إمامي فنأتي به حسب تسلسل السور، إلى سورة الإسراء، ولو وفق اللّه الباحث أو غيره لتحقيق النصف الآخر من الكتاب ربما زادت القرائن أكثر من ذلك، وإليك البيان.

***

القرائن الداخلية الدالّة على تشيّعه

اشارة

نعني بالقرائن الداخلية ما فسّر به كلام اللّه سبحانه من خطبة الكتاب إلى تفسير آخر سورة الإسراء، ففيها دلائل واضحة على تشيّعه، نشير إلى ما وقفنا عليه:

1. كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله

ابتدأ خطبة الكتاب بقوله: اللّهم إنّا نقدّم بين يديك ما تأمر من عزم... إلى أن قال: ونسألك أن تصلّي على محمد فإنّه رحمتك وعلى أهل بيته المصطفين من بريتك.(1)

فإنّ هذا النوع من الصلاة على النبيّ من خصائص الشيعة حيث لم يعطف الصحابة على أهل بيته، إذ لم يرد حتى في حديث واحد أنّ النبي صلى الله عليه و آله علّم الصلاة عليه بعطف الأصحاب على الآل...

ويذكر في تفسير قوله: (وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ ) (2) أي ادخلوا دين محمد صلّى اللّه عليه وآله.

وأيضاً يذكر في تفسير قوله: (أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (3) أي كانوا يأمرون الناس باتّباع محمد صلّى اللّه عليه وآله.

ص:267


1- . المصابيح: 94.
2- . البقرة: 43.
3- . البقرة: 44.

إلى غير ذلك من الموارد التي يعطف الآل على النبي صلى الله عليه و آله ولا يذكر شيئاً من الصلاة على الأصحاب، ويتجنب الصلاة البتراء التي هي الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله فقط دون عطف الآل عليه، وقد روى البخاري وغيره كيفية الصلاة عليه.(1)

2. كلامه في بسملة كلّ سورة

اختلف الفقهاء في جزئية البسملة من السور:

1. أنّ مالكاً لا يرى أنّ البسملة جزء من السور مطلقاً.

2. الحنفية والحنابلة يرونها جزءاً من فاتحة الكتاب فقط لكن يقرأونها سرّاً، وأمّا الشافعية فيرونها جزءاً من فاتحة الكتاب ويقرأونها في الجهر جهراً وفي السر سرّاً.

وأمّا كونها جزءاً من سائر السور ففيه عن الشافعي قولان، وأمّا الشيعة الإمامية فليس عندهم في المسألة إلّاقول واحد وهو أنّ البسملة جزء من كلّ سورة ويجهر بها في الصلوات الجهرية وجوباً وفي الصلوات السرية سرّاً.(2)

فلنرجع إلى كلام الوزير المغربي يقول: و (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) * عندنا من كلّ سورة غير براءة، بدلالة إثباتهم إيّاها في المصاحف مع توقيهم أن يثبتوا فيها الأخماس والأعشار.(3)

3. الجمع بين الحجّة والعمرة

كان الناس من عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى عصر الخليفة الثاني يجمعون بين

ص:268


1- . صحيح البخاري: 119/4 كتاب بدء الخلق، و ج 27/6، تفسير سورة الأحزاب، و ج 157/7، كتاب الدعوات. وراجع: فتح الباري: 408/6؛ الصواعق المحرقة: 233.
2- . الخلاف: 328/1، المسألة 82، بداية المجتهد: 124/1
3- . المصابيح: 98-99.

العمرة والحج، غير أنّ الخليفة الثاني منع من الجمع كما هو معروف.

يقول الوزير في تفسير قوله تعالى: (وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (1):

اعلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله جمع بين حجّة وعمرة ولم ينزل فيها كتاب ولم ينه عنها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، قال فيها رجل برأيه ما قال - يعني عمر -.(2)

4. كلامه في ليلة المبيت

قال في تفسير قوله سبحانه: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ ) (3): وروى عمر بن شبّة أنّها نزلت في عليّ عليه السلام لمّا بات على فراش رسول اللّه صلى الله عليه و آله عند الهجرة، وكذلك قال أبو جعفر.(4) ولعلّه أراد بقوله: أبو جعفر: الإمام الباقر عليه السلام.

5. كلامه في المباهلة

قال في تفسير قوله سبحانه: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (5): قال في تفسير (نَبْتَهِلْ ) نلتعن، والبهلة: اللعنة، وفي امتناعهم من المباهلة وعدولهم إلى الموادعة أعظم الحجج في نبوّة محمد صلى الله عليه و آله، وأخذ بيد علي عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، كذا روى البلخي والرماني، قال أبو بكر الرازي: وفي الآية دليل على أنّ الحسن والحسين ابناه.(6)

ص:269


1- . البقرة: 196.
2- . المصابيح: 219.
3- . البقرة: 207.
4- . المصابيح: 224.
5- . آل عمران: 61.
6- . المصابيح: 249-250.
6. كلامه في متعة النساء

قال في تفسير قوله سبحانه: (وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (1): عليكم كتاب اللّه فاتبعوه، وقيل: نصب على المصدر تقدّم: كتب اللّه عليكم كتاباً أي فرض، وهذه آية ظاهرة في تحليل المتعة، لأنّه استوفى أقسام ما أحلّه ثم جاء بذكر المتعة بعد ذلك، وفي حرف ابن عباس «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى» وقد روي نسخها بالسنّة. واللّه أعلم.(2) وعزو النسخ إلى (روي) ثم تعقيبه بقوله: واللّه أعلم، دليل على كونه احتمالاً ضعيفاً عنده.

7. كلامه في آية الوضوء

اتّفقت الشيعة الإمامية على مسح الرجلين بدل غسلهما، واتّفقت السنّة على غسلهما دون مسحهما، والاختلاف نابع في أنّ (أَرْجُلَكُمْ ) في قوله:

(وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (3) عطف إلى أين ؟ فالشيعة الإمامية يقولون: عطف على (بِرُؤُسِكُمْ ) ، فعلى قراءة النصب فهو معطوف على محل (بِرُؤُسِكُمْ ) لأنّه مفعول لقوله: (وَ امْسَحُوا) ، وعلى قراءة الجر منصوب على ظاهر (بِرُؤُسِكُمْ ) ، وأمّا السنّة فالقراءة الرائجة هي النصب فقالوا بأنّه معطوف على قوله: (وُجُوهَكُمْ ) وهذا هو الذي ردّ عليه الوزير بوضوح وقال: وقد أجاز قوم أن يكون النصب عطفاً على قوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وهذا إنّما يجوز شبيهه في الكلام المعقّد، أو في ضرورة الشعر، وما يجوز على مثله هُجنة العيّ وظلمة اللبس، فأمّا القول العربي المبين، المتميّز بالبلاغة عن فصاحة العالمين، فلا يجوز أن يأتي فيه جملة طويلة كاملة متعلّقة بمعنى يخصّها، ثم تأتي جُملة أُخرى طويلة كاملة بمعنى يخصّها، فنعطف من آخر

ص:270


1- . النساء: 24.
2- . المصابيح: 304-305.
3- . المائدة: 6.

الجملة الثانية شيئاً على أوّل الجملة الأُولى.(1)

إلى أن قال: ولم يبق إلّاأن يكون هذا التنزيل منسوخاً بالسنّة فقد بلغني عن الشعبي أنّه قال: جاء القرآن بالمسح والسُنّة بالغسل، وعلى أنّه قد حدّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن يزيد الحلبي عن أبي بكر محمد بن زيّاد النيسابوري في كتاب الزيادات أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله مسح ولم يغسل، والكتاب معروف والحديث فيه موجود، وكذلك في كتاب الوضوء لأبي عبيد القاسم بن سلّام، وباللّه التوفيق.(2)

أقول: إنّ القول بأنّ المسح قد نسخ بالسنّة أمر غير صحيح؛ لأنّ سورة المائدة آخر ما نزل على الرسول صلى الله عليه و آله وقد قال غير واحد من المحقّقين أنّه لم ينسخ شيء منها. ومن عجيب الأمر أن ينزل الوحي لتعليم الوضوء للناس ثم يأتي بعد فترة قليلة فينسخ ما نزل في كتاب اللّه بسنّة الرسول صلى الله عليه و آله!!

8. كلامه في الغنائم

قال سبحانه: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ) .(3)

قال الوزير: قال ابن إسحاق: حدّثني أبو جعفر محمد بن علي أنّ التقاءهم ببدر كان صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان من يوم الجمعة.

ثمّ إنّه شرح مواضع الخمس بقوله: ثم يقسّم خمس اللّه ورسوله على خمسة(4) أخماس: للّه خمس؛ وخمس لرسوله، يقبضهما الإمام العدل، يعملُ

ص:271


1- . المصابيح: 367.
2- . المصابيح: 368.
3- . الأنفال: 41.
4- . الصحيح: «ستة».

بهما ما أحبّ ؛ وخمسٌ لذي القربى ، وهم بنو هاشم وبنو المطلّب؛ وخمس ليتامى هذين البطنين، وخمس لمساكينهم، وخمس لابن السبيل منهم ومواليهم في ذلك كلّه يدخلون معهم، إذ كانت الصدقة محرّمة على جميعهم، فعُوّضوا بهذه الأنصاب عنها.(1)

وأمّا فقهاء السنّة فقد اختلفت كلمتهم:

قالت الحنفية: إنّ سهم الرسول صلى الله عليه و آله سقط بموته، وأمّا ذوي القربى فهم كغيرهم من الفقراء يعطون لفقرهم لا لقرابتهم من الرسول صلى الله عليه و آله.

وقالت المالكية: يرجع أمر الخمس إلى الإمام يصرفه حسب ما يراه من المصلحة إلى غير ذلك من الأقوال.(2)

9. كلامه في تفسير قوله تعالى: (وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ )

(3)

قال: أراد بالصادقين هاهنا الذين ذكرهم في موضع آخر فقال: (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ) حمزة بن عبد المطلب (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) علي بن أبي طالب عليه السلام.(4)

10. كلامه في تفسير قوله: (لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)

(5)

قال: روى شيخنا أبو عبد اللّه رحمه الله: أنّ الهادي المبين هاهنا من الهدي والبيان وهو الذي يبيّن شريعة محمد صلى الله عليه و آله ويوضح مجملها كعليّ بن أبي طالب

ص:272


1- . المصابيح: 491-492.
2- . لاحظ: الفقه على المذاهب الخمسة: 188.
3- . التوبة: 119.
4- . المصابيح: 541.
5- . الرعد: 7.

ومحمد عليهما السلام، ومنهم من لم يهد له بمعنى أي لم يبين لهم.(1)

11. كلامه في تفسير قوله: (ذَوِي الْقُرْبى )

قال: تفسير قوله سبحانه: (وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) (2) وذوي القربى : قرابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن عليّ بن الحسين.(3)

هذا ما وقفنا عليه من آرائه في تفسير قسم من الآيات وهو يدلّ على تشيّعه دلالة صريحة أو ما يقرب منها، والتعمية على مذهبه بعيدة عن ساحة الموضوعيين، ولو قُرئ مجموع ما طبع ربما زادت الدلالات على ما ذكرنا.

مآخذ أو محاسن ؟

إنّ الباحث قال في المطلب العاشر: المآخذ على كتاب المصابيح، وما آخذه به قال: إيراده لبعض أقوال المعتزلة دون تعليق عليها، ومن ذلك قوله في معنى الاستواء: على عدّة وجوه منها العلوّ بالقهر، ومنه قوله في سورة الأعراف:

وقد يكون الاستواء بمعنى الاستيلاء، وهو هاهنا متجّه.(4)

أشار إلى قوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) (5).

والباحث بما أنّه نشأ في بيئة المحدّثين بالأخصّ قسم الحنابلة فهؤلاء يريدون أن يحملوا الصفات الخبرية على اللّه سبحانه بنفس معانيها، غاية الأمر

ص:273


1- . المصابيح: 609.
2- . الإسراء: 27.
3- . المصابيح: 666.
4- . المصابيح (قسم المقدّمة): 88.
5- . الأعراف: 54.

يفرّون عن التجسيم بقولهم: بلا كيف ؟ أو الاستواء اللائق.

والوزير المغربي لمّا كان من الشيعة الإمامية وهم أهل التنزيه تبعاً للإمام علي عليه السلام والأئمّة المعصومين عليهم السلام، ذهب إلى أنّ الاستواء على العرش كناية عن الاستعلاء عليه لغاية تدبير العالم، بقرينة ما جاء في الآية من الأُمور المربوطة إلى خلق الكون وتدبيره، فأي إشكال ومؤاخذة على المؤلّف، لولا المؤاخذة على قول المحقّق، فإنّ حمل الصفات الخبرية على اللّه بنفس معانيها اللغوية يستلزم التشبيه والتجسيم، وتقييدها بلا كيف يستلزم التعقيد في العقائد الإسلامية السمحة.

وقد أوضحنا الحال فيها في كتابنا «منية الطالبين في تفسير الكتاب المبين» الجزء الحادي والعشرين، فلاحظ.

الحمد اللّه الذي تتمّ به الصالحات

تمّ تحريره صبيحة يوم الخميس

الثالث والعشرون من شهر صفر المظفر

من شهور عام 1435 ه

ص:274

6. رسالة في الكرّ مساحةً ووزناً

اشارة

الحمد للّه الذي أنزل من السماء ماءً طهوراً، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأشرف بريّته محمّد وآله الذين طهرّهم اللّه من الرجس تطهيراً.

أمّا بعد؛ فهذه رسالة موجزة في بيان حدّ الكرّ الذي اختلفت فيه كلمات علمائنا؛ في المساحة أوّلاً، والوزن ثانياً بعد اتّفاقهم على أنّ الماء إذا كان قدر كرّ لم ينجسّه شيء.(1)

الكُرّ لغةً واصطلاحاً

لاشكّ أنّ الكرّ كان مقياساً من المقاييس، قال الطريحي: الكرُّ - بالضم - أحد أكرار الطعام وهو ستون قفيزاً، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف، فانتهى ضبطه إلى اثني عشر وَسَقاً، والوسق ستون صاعاً.(2)

وعلى هذا فالكرّ في الطعام عبارة عن 720 صاعاً، وإليك صورته الرياضيّة:

12 * 60720 صاعاً.

ص:275


1- . الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1 و 2 و 6.
2- . مجمع البحرين: مادة «كرر».

وهذا أكثر ممّا اعتبره الشارع في عاصميّة الماء. ولنذكر ما هو الكرّ شرعاً.

ولنذكر أقوال أهل السنّة فنقول:

إنّ الحدّ الفاصل عند الشافعية والحنابلة بين القليل والكثير هو القُلّتان (القلّة هي الجرّة سمّيت قلّة لأنها تُقل بالأيدي أو تُحمل) من قلال هجر، وهو خمس قِرَب، في كلّ قربة مائة رطل عراقي، فتكون القلّتان خمسمائة رطل بالعراقي.

وأمّا عند المالكية فلا حدّ للكثرة فلم يحدّوا لها حدّاً مقدّراً، فإذا حلّت فيه نجاسة قليلة كالقطرة، ولم تغيّره فإنّه يكره استعماله في رفع حدث أو إزالة خبث، ولا كراهة في العادات.

وأمّا عند الحنفية فهو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حرّكه آدمي من أحد طرفيه لم تصل الحركة إلى الطرف الثاني منه.

والقلّة ما كان دون عَشْر في عَشْر من أذرعة العامّة، فينجس وإن لم يظهر أثر النجاسة فيه.(1)

وفي «المنتهى»: وقال بعضهم: ما كان كلّ من طوله وعرضه عشرة أذرع في عمق شبر لم ينجس.(2) فعلى هذا فكل من الطول والعرض 20 شبراً يضرب أحدهما في الآخر وتكون النتيجة أربعمائة شبر.

هذه هي أقوال أهل السُّنّة، وأمّا أقوال أصحابنا فربما ناهز عددها الخمسة أو الستة إذا أُضيف إليها قول ابن طاووس، القائل بالتخيير بين الأقوال، وسيوافيك بيانه.

إذا عرفت هذا فلنذكر ما عليه أصحابنا في تحديد الكرّ مساحة

ص:276


1- . الفقه الإسلامي وأدلّته للزحيلي: 1/126-128. ولاحظ: الفقه على المذاهب الخمسة: 19؛ الفقه على المذاهب الأربعة: 1/39.
2- . منتهى المطلب: 1/33.

ووزناً، ويقع الكلام في مقامين:

الأوّل: دراسة الأقوال.

الثاني: دراسة الروايات والأدلّة.

المقام الأوّل: في دراسة أقوال أصحابنا

القول الأوّل

ذهب الشيخ وابن البرّاج وابن إدريس وابن حمزة والمحقّق إلى أنّها عبارة عن ثلاثة أشبار ونصف طولاً، في عرض، في عمق.(1) ويصفه في «المدارك» بأنّه أشهر الأقوال في المسألة.(2) وعلى هذا فيكون الكرّ عبارة عمّا يبلغ مكسره (حجمه) إلى اثنين وأربعين شبراً وسبعة أثمان شبر.

القول الثاني

ذهب ابن بابويه وجماعة القميّين إلى أنّه عبارة عن ثلاثة أشبار طولاً، في عرض، في عمق بإسقاط الأَنصاف في الأبعاد الثلاثة، وعلى هذا فيكون الكرّ عبارة عمّا يبلغ مكسّره (حجمه) إلى سبعة وعشرين شبراً. وهو أيضاً خيرة الشهيد الثاني في «الروضة»، والمحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد(3) وهو خيرة العلّامة في المختلف(4)، ومن المتأخّرين شيخ الشريعة الأصفهاني، والسيّد الخوئي - قدس اللّه أسرارهم -.(5)

ص:277


1- . المبسوط: 1/6؛ المهذّب: 1/21؛ السرائر: 1/60؛ الوسيلة: 73؛ شرائع الإسلام: 1/10.
2- . المدارك: 1/49، ولاحظ نخبة الأزهار للوالد، رسالة في تحديد الكر: 200. وهو تقرير دروس شيخه شيخ الشريعة الاصفهاني. والتنقيح في شرح العروة الوثقى للغروي (تقرير دروس السيد الخوئي): 2/151-209.
3- . الروضة البهية: 1/257؛ مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان: 1/260.
4- . المختلف: 13/184.
5- . كتاب الطهارة للخوئي: 1/197.

القول الثالث

ذهب صاحب المدارك إلى أنّ الكرّ عبارة عمّا إذا بلغ مكسّره إلى ستة وثلاثين شبراً، وحكى في المدارك أنّه يظهر من المحقّق في «المعتبر» الميل إلى هذه الرواية(1). وهو خيرة السيّد الاصفهاني وبعض المعاصرين - قدس اللّه أسرارهم -.

فمن اعتبر الأنصاف استند إلى رواية أبي بصير، ومن أسقطها اعتمد على رواية إسماعيل بن جابر، كما يأتي.

القول الرابع

إنّ الكرّ عبارة عن مائة شبر، وهو خيرة ابن الجنيد.(2)

القول الخامس

الكرّ عبارة عن ما بلغت أبعاده إلى عشرة ونصف ولم يعتبر التكسير، وهو خيرة القطب الراوندي.(3)

وقال العلّامة: وما أشدّ التنافي بين كلامه وكلام ابن الجنيد.

القول السادس

التخيير بين الجمع والعمل بكل ما روي.(4)

ص:278


1- . مدارك الأحكام: 1/49؛ ولاحظ: المعتبر: 1/46.
2- . حكاه عنه العلّامة في المختلف: 1/21.
3- . حكاه العلّامة في المختلف: 1/22. ولاحظ: جواهر الكلام: 1/173.
4- . جواهر الكلام: 1/174.

المقام الثاني: دراسة ما ورد في الروايات

اشارة

وردت في المقام روايات وهي بين ثلاثي الأبعاد وثنائيّها، وإليك نقل الجميع مرّة واحدة ثم دراسة الكلّ واحدة تلو الأُخرى:

1. أبو بصير قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الكرّ من الماء كم يكون قدره ؟ قال: «إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف، في مثله، ثلاثة أشبار ونصف، في عمقه في الأرض، فذلك الكرّ من الماء».(1)

2. الحسن بن صالح الثوري، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إذا كان الماء في الركيّ كرّاً لم ينجسه شيء»، قلت: وكم الكرّ؟

قال: «ثلاثة أشبار ونصف عمقها، في ثلاثة أشبار ونصف عرضها»(2).

3. إسماعيل بن جابر، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: الماء الذي لا ينجسه شيء؟ قال عليه السلام: «ذراعان عمقه، في ذراع وشبر سعته».(3)

4. إسماعيل بن جابر - أيضاً -، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الماء الذي لا ينجّسه شيء؟ فقال: «كرّ» قلت: وما الكرّ؟ قال: «ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار».(4)

دليل القول الأوّل

قد عرفت أنّ المشهور بين الأصحاب أن الكرّ عبارة عمّا كان كلّ واحد من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصفاً، واستدلّ عليه بروايتين:

ص:279


1- . الوسائل: 1، الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحديث 6 وسيوافيك توضيح الرواية.
2- . الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 8. والباب 10، الحديث 5.
3- . الوسائل: 1، الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.
4- . الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 7.

الأُولى: رواية أبي بصير

روى الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى عن ابن مسكان عن أبي بصير قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الكرّ من الماء كم يكون قدره ؟ قال: «إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف،(1) في مثله ثلاثة أشبار ونصف، في عمقه في الأرض فذلك الكرّ من الماء».

دراسة السند

1. محمد بن يحيى العطار القميّ ، شيخ الكليني: ثقة جليل.

2. أحمد بن محمد في الكافي بهذا النحو، نعم نقل عن التهذيب وفي المدارك: أحمد بن محمد بن يحيى، ثم قال: فإنّه مجهول.(2)

وقال في «الجواهر»: أحمد بن محمد بن عيسى، وأنّ يحيى تصحيف «عيسى»(3). وهذا هو الصحيح.

3. عثمان بن عيسى. قال النجاشي: شيخ الواقفة ووجهها وأحد الوكلاء المستبدّين بمال موسى بن جعفر عليه السلام. ورغم ذلك عدّه الكشّي من أصحاب الإجماع الثالث، وحكى عن نصر بن صباح توبته ورجوعه عن الوقف، وقال الطوسي في «العدّة»: عملت الطائفة برواياته لأجل كونه موثوقاً ومتحرّزاً عن الكذب، وعدّه ابن شهرآشوب من ثقات أبي الحسن، له 746 رواية في الكتب

ص:280


1- . في بعض النسخ «نصفاً» عطفاً على ثلاثة أشبار المنصوبة لكونها خبراً ل «كان»، وفي بعضها الآخركالوسائل «نصف» فيكون مجروراً على حذف المضاف وإبقاء أثره أي «قدر نصف»، على حدّ قول القائل: أكل امرئ تحسبين امرءاً ونار توقد بالليل ناراً فقوله: «نار» مجرور بحذف المضاف، أي: كلّ نار توقد بالليل تحسبينها ناراً. وبعبارة أُخرى: إنّ المعطوف عليه أيضاً مجرور على حذف المضاف، أي «قدر ثلاثة أشبار ونصف».
2- . مدارك الأحكام: 1/49
3- . جواهر الكلام: 1/173.

الأربعة.(1) ويدلّ على رجوعه روايته عن الرضا عليه السلام.

روى الكليني بسنده عن عثمان بن عيسى قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: ما تقول في الرجل يعطى الحَجّة فيدفعها إلى غيره ؟ قال:

«لا بأس به»(2). ووجود الروايات الكثيرة في الكتب الأربعة عنه دليل على اعتماد الأصحاب بنقله وروايته. وإلّا لما أصرّوا بنقل أحاديثه الكثيرة وضبطها.

وعلى هذا لا يمكن ردّ الرواية بسهولة، ومفادها هو المشهور بين القدماء.

4. عبداللّه بن مسكان: ثقة بلا كلام.

5. أبو بصير وهو ثقة بلا كلام، وقد أثبتنا في محلّه أن كلّ من كُنّي بأبي بصير كلّهم ثقات، لا فرق بين المرادي والاسدي وغيرهما، لو كان له مصداق غيرهما.(3)

وبهذا عرفت حال السند إنّما الكلام في دلالة الرواية على المطلوب.

أقول: الاستدلال على القول المشهور مبني على تضمّن الرواية بياناً للأبعاد الثلاثة.

وقد اختلفت كلمتهم في دلالة الرواية على الأبعاد الثلاثة وأنّها كيف تتضمّن بيانها، وأوضح الوجوه أن يقال:

1. أنّ قوله: «إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف» بيان لأحد الطرفين: الطول والعرض.

وقوله: «في مثله» بيان للطرف الآخر.

ص:281


1- . الموسوعة الرجالية الميسرة، برقم 3726.
2- . الكافي: 4/309، كتاب الحج، الحديث 3.
3- . لاحظ مقدّمة كتاب «مسند أبي بصير» بقلم المؤلّف.

وقوله: «ثلاثة أشبار ونصف في عمقه» بيان لمقدار العمق وهو خبر ثان ل «كان».

وهذا هو الذي يظهر من شيخنا بهاء الدين العاملي حيث قال: الضمير في قوله «مثله» يعود إلى ما دلّ عليه قوله: «ثلاثة أشبار ونصفاً» أي في مثل ذلك المقدار لا مثل الماء، إذ لا محصّل له.(1)

ثم إنّ لعلمائنا الأبرار كلمات أُخرى في توجيه الرواية، أكثرها يرجع إلى بيان الأبعاد الثلاثة، وأخيرها يرجع إلى أنّ مورد الرواية هو المستدير الغني عن الأبعاد الثلاثة وإليك تلك الوجوه:

الأوّل: أنّ سوق الكلام يدلّ على البعد الآخر والاكتفاء في المحاورات ببيان البعض استغناءً به عن الآخر، أمر ذائع، قال الشاعر:

كانت حنيفة أثلاثاً فُثلثهم من العبيد وثلث من مواليها

حيث فُهم الثلث الآخر وهو من لم يكن عبيداً ولا موالياً من سياق الكلام، وروي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «أُحب من دنياكم ثلاثاً: الطيب والنساء» ولم يذكر القسم الثالث الذي هو الصلاة في هذا الباب.(2)

الثاني: قوله «إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف» بيان لأحد البعدين من العرض أو الطول.

قوله: «في مثله ثلاثة أشبار ونصف» البعد الآخر. لأنّ : «ثلاثة أشبار ونصف» بدل من «مثله».

قوله: «في عمقه في الأرض» بيان للعمق.

يلاحظ عليه: أنّ قوله: «في عمقه في الأرض» عندئذٍ، يصير كلاماً منقطعاً لا يصلح أن يكون مبيّناً لمقدار العمق، إلّاأن تقدّر لفظة «كذلك» بأن يقال: «في

ص:282


1- . الحبل المتين: 1/471، الطبعة المحقّقة.
2- . مجمع البحرين: مادة «كرّ».

عمقه في الأرض كذلك» وهي ليست موجودة.

الثالث: أن يكون قوله: «ثلاثة أشبار ونصف» بياناً لأحد جانبي الطول والعرض، وترك ذكر الجانب الآخر للاكتفاء بذكر أحد البعدين الشائع في الكلام ويكون قوله: «في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه» راجعاً إلى بعد العمق.(1)

الرابع: يكون قوله: «ثلاثة أشبار ونصف» ناظراً إلى قطر المستدير، وقوله:

«في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه» ناظراً إلى العمق، فيضرب نصف القطر في نصف المحيط والنتيجة في العمق ويكون الحاصل 33 شبراً وخمسة أثمان الشبر ونصف ثمن شبر.(2)

صورته هكذا:

المحيط القطر * 17 3123 * 17 311

مساحة الدائرة نصف القطر * نصف المحيط 34 1 * 12 5589

الحجم المساحة * العمق 58 9 * 12 311163333 + 58 + 116

وردّ عليه في الجواهر بوجهين:

1. أنّ الحمل على المدوّر حمل على مالا يعرفه إلّاالخواص.

2. المكسّر ليس كما ذكره، إذ لو ضرب نصف القطر - وهو واحد وثلاثة أرباع - في نصف الدائرة - وهو خمسة وربع - ثم يضرب الحاصل من ذلك في ثلاثة ونصف العمق، يبلغ حينئذٍ ما ذكره تقريباً لا تحقيقاً، إذ التحقيق أنّها تبلغ 32 وثمناً وربع ثمن.(3)

ص:283


1- . لاحظ: مرآة العقول: 13/13.
2- . المصدر السابق.
3- . جواهر الكلام: 1/175.

وأجاب عن الأوّل في «المستمسك»: بأنّ المراد ذكر علامة على الكُرّ وهي أن يكون قطره، ثلاثة ونصف وعمقه كذلك، وهذا ما يعرفه أغلب الأشخاص، ولو كان المراد تحصيل الحجم فهو يتوقّف على العلم بالرياضيات.(1)

يلاحظ على الإشكال والجواب: بأنّ المخاطب في هذه الروايات لا يمكن أن يكون إنساناً أُميّاً لا يعرف من الرياضيات شيئاً، لأنّ المطلوب في الجميع هو مكسّره لا خصوص ما ورد فيها من الأبعاد، فلو كان مكسر الأبعاد، هو ثلاثاً وأربعين شبراً إلّاثمن شبر فهو، وإن اختلفت الأبعاد زيادة ونقصاً. نعم لو كان هناك تعبّد بما ورد في الرواية من الأبعاد، كان لما ذكر في المستمسك وجه، لكنّه مقطوع العدم إذ الميزان هو كثرة الماء ووفرته بحيث تعصمه من الانفعال بالنجس، وعلى هذا فالمخاطب يجب أن يكون على استعداد لتحصيل المساحة بالأبعاد الواردة في الرواية وغيرها.

نعم حمل الرواية على المستدير بعيد، لندرة وجود الغدران والحياض على هذا الشكل، ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من الوجه الأوّل هو أوضح الوجوه، وغيره لا يخلو عن تكلّف.

وعن الثاني: أنّ صاحب الجواهر لمّا ضرب القطر في الثلاثة صارت النتيجة ما ذكره، غير أنّ المجلسي ضرب القطر في الثلاثة مضافاً إلى سُبع القطر فصارت النتيجة ما ذكره.

فخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ السند لا بأس به والدلالة أيضاً تامّة، فيؤخذ بها لو لم يكن في المقام دليل أقوى وأوضح، كما سيوافيك.(2)

ص:284


1- . المستمسك: 1/153.
2- . وأمّا دلالة الرواية على أنّ الكرّ ما يبلغ مكسّره ثلاث وأربعين شبراً إلّاثمن شبر، فصورته

الثانية: رواية الحسن بن صالح الثوريّ

قد ذكرنا أنّه استدلّ على القول المشهور بروايتين: إحداهما ما مرّ من حديث أبي بصير، والثانية ما رواه الكليني بالسند التالي:

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن الحسن بن صالح الثوريّ ، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال:

«إذا كان الماء في الركيّ كرّاً لم ينجسّه شيء»، قلت: وكم الكرّ؟ قال: ثلاثة أشبار ونصف طولها، في ثلاثة أشبار ونصف عمقها، في ثلاثة أشبار ونصف عرضها».(1)

دراسة السند

1. محمد بن يحيى، شيخ الكليني: ثقة.

2. أحمد بن محمد، وقد مرّ أنّه ابن عيسى.

3. ابن محبوب، أعني الحسن المولود عام 150 ه والمتوفّى عام 224 ه من أصحاب الإجماع.

4. الحسن بن صالح الثوريّ . قال الشيخ: زيديّ إليه تنسب الصالحية منهم.

وقال في «التهذيب»: زيديّ بتريّ متروك العمل بما يختصّ بروايته.(2)

وقال ابن النديم في الفهرست: ولد سنة 168 ه، وكان من كبار الشيعة

ص:285


1- . الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 8. ولاحظ الباب 10، الحديث 5 ترى وجود الاختلاف فيها في المتن.
2- . التهذيب: 1/408، باب المياه وأحكامها، الحديث 1.

الزيدية وعظمائهم، وكان فقيهاً متكلّماً وله من الكتب كتاب التوحيد(1).

والرواية صالحة للاحتجاج، لرواية ابن محبوب عن الحسن بن صالح، وما في «التهذيب» من كونه متروك العمل ناظر إلى ما انفرد من الرواية وليس المورد منه. إنّما الكلام في المتن.

دراسة المتن

لو صحّ كون الرواية متضمّنةً للأبعاد الثلاثة، كان دليلاً على المشهور، ولكن لم يصحّ كونها ثلاثية الأبعاد.

أمّا أوّلاً: فإنّ الوارد في «الكافي» كما في «مرآة العقول» هو الثنائي لا الثلاثي، وإليك نصّها: قلت: كم الكرّ؟ قال: «ثلاثة أشبار ونصف عمقها، في ثلاثة أشبار ونصف عرضها». وليس من البعد الثالث أثر فيها، ثم قال: نعم رواه الشيخ في «الاستبصار» هكذا: «ثلاثة أشبار ونصف عمقها، في ثلاثة أشبار ونصف طولها، في ثلاثة أشبار ونصف عرضها»،(2) لكن رواه في «التهذيب» كما في المتن، ليس فيه ذكر الطول.(3)

وثانياً: فإنّ صاحب الوسائل (في الطبعة المحقّقة بقلم الشيخ الرباني) مع أنّه نقل في الباب التاسع برقم 8 ما مرّ، ولكّنه نقله في الباب العاشر برقم 5 هكذا:

«ثلاثة أشبار ونصف عمقها، في ثلاثة ونصف عرضها»، ولم يذكر من الطول شيئاً.(4)

والظاهر أنّه إمّا تبع نسخة الاستبصار، أو تبع نسخة مصحّحة عنده - كما صرّح به في آخر الجزء الثالث - وكأنّه في الجزء الثالث اعتذر عن غفلته وأنّه تبع

ص:286


1- . الفهرست: الفن الثاني من المقالة الخامسة: 267.
2- . الاستبصار: 1/33 و 88
3- . مرآة العقول: 13/12.
4- . لاحظ: الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 8؛ والباب 10، الحديث 5. دار إحياء التراث العربي، بيروت - 1403 ه.

لتلك النسخة، وقد صحّح في الطبعات الأخيرة، وعلى أيّ حال لا يعتدّ بنسخة الإستبصار ولا تلك النسخة، بعد كون الكافي والتهذيب على الثنائي.

نعم حاول المجلسي أن يفسّر الحديث بنحو يطابق فتوى المشهور وقال:

المراد بالعرض السعة يشمل الطول أيضاً، إذ الطول إنّما يطلق فيما إذا كان أحد الجانبين أزيد من الآخر ومع التساوي يصح إطلاق العرض عليهما.(1)

وما يقال من أنّ الطول ربّما لا يكون مساوياً كما في المستمسك صحيح، لكن لو كان غير مساو لنبّه عليه، وسكوته دال على التساوي، وإطلاق العرض وارادة السّعة أمر ذائع، كقوله سبحانه: (وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) .(2)

الركيّ : بئر مستدير ليس له عرض وطول

وربّما استشكل بأنّ الموضوع في رواية الحسن بن صالح الثوري هو الركيّ ، ومن المعلوم أنّه بئر مستدير، ليس فيه طول وعرض، وإنّما فيه قطر ومحيط، ولذلك ذهب العلّامة المجلسي في تفسير رواية الحسن الثوريّ إلى أنّ المراد بالعرض القطر بقرينة كون السؤال عن البئر وهو مستدير غالباً فيبلغ مكسّره ثلاثة وثلاثين شبراً وخمسة أثمان شبر ونصف ثمن.(3)

والظاهر أنّ الاشكال غير وارد ولا حاجة في دفعه لحمل العرض على القطر؛ لأنّ الركيّ ليس مساوياً للبئر المستدير، بل ربّما يكون غير مستدير، خصوصاً إذا كان الماء قريباً من الأرض، جاء في «مجمع البحرين»: الركيّ أيضاً الحوض الكبير والركيّة - بالفتح وتشديد الياء -: البئر، ومنه الحديث: «إذا كان الماء في الركيّ قدر كرّ لم ينجّسه شيء». والذي يدلّ على ذلك أنّ البئر بما له من

ص:287


1- . مرآة العقول: 13/12.
2- . آل عمران: 133.
3- . مرآة العقول: 13/12.

مادّة لا يحكم فيه بالنجاسة وإن قلّ ، فالذي يحتاج إلى كونه كرّاً هو الحوض المبني حول البئر حيث يستخرج الماء من البئر ويجمع فيه، وهو لا يكون مستديراً غالباً.

إلى هنا تمّ الاستدلال على القول الأوّل - أعني: كونه اثنين وأربعين شبراً وسبعة أثمان شبر - وقد عرفت أنّ الروايتين: رواية أبي بصير والحسن الثوريّ لا بأس بالاحتجاج بهما، فإنّ السند معتبر والدلالة لا بأس بها بشرط أن لا يكون هناك دليل مثله أو أقوى.

***

دليل القول الثاني:

قد عرفت أنّ ابن بابويه وجماعة القميّين وغيرهم - كما مرّت الإشارة إليهم - ذهبوا إلى أنّه عبارة عن ثلاثة أشبار طولاً في عرض في عمق ولم يعتبروا النصف، وعلى هذا فيكون الكرّ عبارة عمّا يكون مكسّره سبعة وعشرين شبراً.

وقد عرفت من اختاره من المتأخّرين.

واستدلّ عليه بما رواه الكليني بالسند التالي:

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقيّ ، عن ابن سنان، عن إسماعيل بن جابر، قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الماء الذي لا ينجّسه شيء؟ فقال: «كرّ». قلت: وما الكرّ؟ قال: «ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار».(1)

دراسة السند الأوّل

1. محمد بن يحيى العطار القميّ ، شيخ الكليني: ثقة.

2. أحمد بن محمد بن خالد: الثقة.

ص:288


1- . الوسائل: 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 7.

3. البرقي المراد به: هو محمد بن خالد البرقي والد أحمد بن محمد، قال الشيخ: محمد بن خالد البرقي من أصحاب موسى بن جعفر والرضا عليهم السلام، وعدّه البرقي من أصحاب الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام، والعجب أنّه لم يُعثَر بروايته عن المعصوم إلّافي روايتين.

4. ابن سنان مردّد بين الثقة والضعيف.

5. إسماعيل بن جابر ثقة.

الظاهر أنّ المراد من ابن سنان هو محمد بن سنان الضعيف لا «عبداللّه بن سنان» الثقة، إذ تبعد رواية البرقي (محمد بن خالد) عن عبداللّه بن سنان. ثم إنّ السيد الخوئي أصرّ على أنّ المراد بابن سنان هو عبداللّه بن سنان، لكنّه غفل عن أنّ هذا الإصرار يورث الضعف في الرواية بما عرفت من وجود الاختلاف في الطبقة بين البرقيّ وعبداللّه بن سنان.

دراسة السند الثاني

روى الشيخ:

1. عن محمد بن محمد بن النعمان: شيخه المفيد.

2. عن أحمد بن محمد بن الحسن (بن الوليد): ثقة جليل.

3. عن أبيه (محمد بن الحسن بن الوليد): الثقة، شيخ الصدوق.

4. عن محمد بن يحيى، شيخ الكليني: ثقة.

5. عن محمد بن أحمد بن يحيى: صاحب نوادر الحكمة.

6. عن أحمد بن محمد (بن خالد): ثقة.

7. عن البرقيّ (محمد بن خالد): ثقة.

8. عن عبداللّه بن سنان: ثقة.

ص:289

9. عن إسماعيل بن جابر: ثقة.

والفرق بين هذا السند وما قبله هو ورود ابن سنان في السند السابق مجرّداً عن اسمه، وهنا تصريح باسمه.

ويرد عليه نفس ما أوردناه على السند السابق من أنّ نقل البرقيّ (محمد بن خالد) عن عبداللّه بن سنان - الذي أدرك الإمام الباقر عليه السلام وأكثر الروايات عن الصادق عليه السلام وقلّت روايته عن أبي الحسن الكاظم عليه السلام - بعيد جدّاً.

قال الكشّي: كان من ثقات رجال أبي عبداللّه عليه السلام. قال النجاشي: روى عن أبي عبداللّه عليه السلام، وقيل: روى عن أبي الحسن موسى عليه السلام ولم تثبت.

أقول: روى قليلاً عنه(1).

وقال السيد الخوئي: أدرك الإمام الباقر عليه السلام.(2)

دراسة السند الثالث

نفس السند السابق باختلاف كالتالي قال:

عن سعد بن عبداللّه عن محمد بن خالد (مكان البرقي في السند السابق).

عن محمد بن سنان: ضعيف جداً.

عن إسماعيل بن جابر: ثقة.

وهذا هو السند الصحيح، وقد عرفت اشتماله على الضعيف (محمد بن سنان).

قال النجاشي: هو رجل ضعيف جدّاً لا يعوّل عليه ولا يلتفت إلى ما تفرّد به، مات سنة 220 ه.

ص:290


1- . لاحظ: الكافي: 438/5، باب حدّ الرضاع الذي يحرّم، الحديث 5.
2- . معجم رجال الحديث: 17/224، 227.

وبهذا يظهر أنّ السند الصحيح هو الثالث دون الثاني، ويحتمل انطباق السند الأوّل على الثالث في غير أوّل السند.

نعم رواه الشيخ في التهذيب عن عبداللّه بن سنان مكان محمد بن سنان(1).

وأمّا وجه الاستدلال فبأن يقال: إنّ المراد بأحد البعدين العمق، وبالآخر كلّ من الطول والعرض، وذلك لأنّ الناس في بيان حجم المربع يستغنون بذكر أحد البعدين عن الآخر؛ ويؤيّد ذلك ما رواه الصدوق في المجالس قال: روي أنّ الكرّ هو ما يكون ثلاثة أشبار طولاً في ثلاثة أشبار عرضاً في ثلاثة أشبار عمقاً(2).

ولكنّ الرواية غير صالحة للاحتجاج وقد عرفت أنّ محمد بن سنان ضعيف، مضافاً إلى وجود المعارض لها. مضافاً إلى أنّها معارضة لروايته الأُخرى التي تدلّ على أنّ الكرّ عبارة عمّا بلغ مكسّرهُ إلى ستة وثلاثين شبراً، كما سيوافيك.

وقد تقدّم أنّ المحقّق الخوئي ذهب إلى أنّ مقدار الكرّ بالأشبار عبارة عن سبعة وعشرين شبراً، واستدلّ بروايتين إحداهما هذه الرواية، وحاصل ما أفاده:

والوجه في صراحتها أنّها وإن لم تشتمل على ذكر شيء من الطول والعرض والعمق، إلّاأنّ السائل كغيره يعلم أنّ الماء من الأجسام، وكلّ جسم مكعّب يشتمل على أبعاد ثلاثة لا محالة ولا معنى لكونه ذا بعدين من غير أن يشتمل على البعد الثالث، فإذا قيل ثلاثة في ثلاثة مع عدم ذكر البعد الثالث، عُلم أنّه أيضاً ثلاثة كما يظهر هذا بمراجعة أمثال هذه الاستعمالات عند العرف فإنّهم يكتفون بذكر مقدار بعدين من أبعاد الجسم إذا كانت أبعاده الثلاثة متساوية،

ص:291


1- . التهذيب: 1/37، برقم 101، والظاهر أنّه سهو من قلمه الشريف.
2- . الوسائل: 1، الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.

فتراهم يقولون: خمسة في خمسة أو أربعة في أربعة إذا كان ثالثها أيضاً بهذا المقدار. وعليه إذا ضربنا الثلاثة في الثلاثة فتبلغ تسعة فإذا ضربناها في ثلاثة فتبلغ سبعة وعشرين شبراً.(1)

يلاحظ عليه: أنّه لو تمّت الدلالة فالسند غير تام فلا يحتج بالرواية، لما عرفت من وجود محمد بن سنان في السند.

ثم إنّ السيد الخوئي استدلّ على مختاره، برواية أُخرى لإسماعيل بن جابر التي نذكرها دليلاً على القول الثالث، أعني ما إذا بلغ مكسّرهُ ستة وثلاثين شبراً، وقد وجّه الرواية على نحو يكون مقدار الكرّ، سبعة وعشرين شبراً وبذلك رفع التعارض بين خبري إسماعيل بن جابر.

***

دليل القول الثالث أعني: ما مكسّره 36 شبراً

قد عرفت أنّ صاحب المدارك وجماعة ذهبوا إلى أنّ الكرّ عبارة عمّا إذا بلغ مكسّره ستة وثلاثين شبراً، ويدلّ عليه صحيحة إسماعيل بن جابر:

روى الشيخ باسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أيوب بن نوح، عن صفوان، عن إسماعيل بن جابر، قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: الماء الذي لا ينجّسه شيء؟ قال: «ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته (وسعه خ ل)»(2).

دراسة السند

1. محمّد بن أحمد بن يحيى: ثقة صاحب نوادر الحكمة، وطريق الشيخ في التهذيب إليه، صحيح.

ص:292


1- . التنقيح في شرح العروة الوثقى : 1/202.
2- . الوسائل: 1، الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.

2. أيوب بن نوح: ثقة.

3. صفوان بن يحيى: ثقة.

4. إسماعيل بن جابر: ثقة.

وأمّا دلالة الرواية فلا غبار عليها، حيث إنّه فرض أنّ عمقه ذراعان، وكلّ ذراع قدمان(1)، والقدم شبر، وعليه فكلّ ذراع شبران، فيكون عمقه أربعة أشبار، كما فرضت سعته أو وسعه الذي كُنّي بها عن الطول والعرض، ثلاثة أشبار، فيكون المكسّر كالتالي:

3 * 399 * 436

وقد استدلّ بها صاحب المدارك وغيره على كون الكرّ ستة وثلاثين شبراً.

وعلى هذا فقد روي عن إسماعيل بن جابر، حديثان مختلفان: أحدهما ما مرّ في الاستدلال على القول الثاني من كفاية مكسّره 27 شبراً، والآخر ما ورد في المقام وقد استدلّ به على لزوم كون مكسّره 36 شبراً.

ثم إنّ السيد الخوئي استدلّ بها على كون الكرّ سبعة وعشرين شبراً بحمل المورد على المستدير وقال ما هذا نصه:

إنّ ظاهر قوله: «ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته» هو أنّ مفروض كلامه عليه السلام هو المدوّر، حيث فرض أنّ سعته ذراع وشبر مطلقاً أي من جميع الجوانب والأطراف، وكون السعة بمقدار معيّن من جميع النواحي والأطراف لا يتصوّر إلّافي الدائرة لأنّها هي التي تكون نسبة أحد أطرافها إلى الآخر بمقدار معيّن مطلقاً لا تزيد عنه ولا تنقص.

وهذا بخلاف سائر الأشكال من المربع والمستطيل وغيرهما حتى في متساوي الأضلاع، فإنّ نسبة أحد أطرافها إلى الآخر لا تكون بمقدار معيّن في

ص:293


1- . لاحظ الوسائل: 3، الباب 8 من أبواب المواقيت، الحديث 2 و 3.

جميعها، إذ البعد المفروض بين زاويتين من المربع وأمثاله، أزيد من البعد الكائن بين نفس الضلعين من أضلاعه، وعلى الجملة إنّ ما تكون نسبة أحد جوانبه إلى الآخر بمقدار معيّن في جميع أطرافه ليس إلّاالدائرة.(1)

فإذا عرفت هذه الأُمور، وعرفت أنّ مفروض كلامه عليه السلام هو المدوّر، وقد فرضنا أنّ عمقه أربعة أشبار وسعته ثلاثة أشبار، فلابدّ في تحصيل مساحته من مراجعة الطريق المتعارف عند أوساط الناس في كشف مساحة الدائرة.

وقد جرت طريقتهم خلفاً عن سلف - كما في البنائين وغيرهم - على تحصيل مساحة الدائرة بضرب نصف القطر في نصف المحيط، وقطر الدائرة في المقام ثلاثة أشبار فنصفه واحد ونصف، وأمّا المحيط فقد ذكروا أنّ نسبة قطر الدائرة إلى محيطها ممّا لم يظهر على وجه دقيق. ونسب إلى بعض الدراويش أنّه قال: يا من لا يعلم نسبة القطر إلى المحيط إلّاهو. إلّاأنّهم على وجه التقريب والتسامح ذكروا أنّ نسبة القطر إلى المحيط نسبة السبعة إلى اثنين وعشرين. ثم إنّهم لمّا رأوا صعوبة فهم هذا البيان على أوساط الناس فعبّروا عنه ببيان آخر، وقالوا إنّ المحيط ثلاثة أضعاف القطر. وهذا وإن كان ينقص عن نسبة السبعة إلى اثنين وعشرين بقليل إلّاأنّ المساحة بهذا المقدار لابدّ منها، كما نشير إليه عن قريب.

فعلى هذه القاعدة يبلغ محيط الدائرة في المقام تسعة أشبار، لأن قطرها ثلاثة أشبار، ونصف المحيط أربعة أشبار ونصف، ونصف القطر شبر ونصف، فيضرب أحدهما في الآخر فيكون الحاصل سبعة أشبار إلّاربع شبر، وإذا ضرب الحاصل من ذلك في العمق وهو أربعة أشبار يبلغ الحاصل سبعة وعشرين شبراً

ص:294


1- . التنقيح في شرح العروة الوثقى : 1/200.

بلا زيادة ولا نقصان إلّافي مقدار يسير كما عرفت.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الاستظهار من الرواية بأنّ سعته ذراع وشبر من جميع الأطراف والجوانب، أمر مغفول عنه للعرف، فإنّ المتبادر من هذه التعابير هو كون السعة أي المساحة حسب اصطلاح المهندسين ذراع وشبر، وهذا يكفي أن يكون مربعاً متساوي الأضلاع، ولا يتوقّف على كونه مدوّراً.

وبالجملة قوله: ما تكون نسبة أحد جوانبه إلى الآخر بمقدار معيّن في جميع جوانبه، أمر فُرض على الرواية، وإنّما الظاهر وجود التساوي في الطول والعرض، ولو في نفس الضلعين.

ثم إنّه أيّد كلامه بأنّه قدس سره وزن ماء الكُرّ ثلاثة مرات، حيث قال: إنّا وزنا الكرّ ثلاث مرّات ووجدناه موافقاً لسبعة وعشرين، وهذا يخالف ما ذكره شيخ الشريعة حيث قال: إنّ العلماء قدس اللّه أرواحهم قد وزنوا ألفاً ومائتي رطل من الماء بأوزان عديدة بمياه مختلفة ثقيلاً وخفيفاً في أمصار متعدّدة وفي أمكنة متكثّرة ووجدوها بمعيار ست وثلاثين شبراً من دون زيادة ونقيصة.(2)

ولعلّ الاختلاف يرجع إلى كبر الأشبار وصغرها.

بقي الكلام في دراسة بقية الأقوال.

دراسة بقية الأقوال

1. ما روى عن ابن الجنيد: ما بلغ مكسّره مائة شبر، قال في «المدارك»:

ولم نقف على مأخذه.(3)

ص:295


1- . التنقيح في شرح العروة الوثقى: 1/201.
2- . تحديد الكر بالوزن والمساحة (المطبوع مع نخبة الأزهار في أحكام الخيار) لمحمد حسين السبحاني: 197.
3- . المدارك: 1/52.

ويمكن الاستدلال عليه: بما رواه الصدوق في المقنع(1) مرسلاً من قوله عليه السلام: «إنّ الكرّ ذراعان وشبر في ذراعين وشبر»، بناء على أنّ المراد بيان الأبعاد الثلاثة، فبما أنّ الذراعين أربعة أشبار وهي مع شبر يكون خمسة أشبار، فيكون كلّ من الأبعاد خمسة فيحصل من ضرب الطول في العرض والحاصل في العمق 125 شبراً وصورته كالتالي:

5 * 5 = 25.5 * 25 = 125 وهو غير ما عليه ابن الجنيد. نعم لو حملت الرواية على المستدير يكون مكَسره ثماني وتسعين شبراً وثمن شبر.(2)

2. عن القطب الراوندي: بلوغ مجموع أبعاده الثلاثة، عشرة أشبار ونصف، ومستنده هو رواية أبي بصير بحمل «في» بمعنى «مع» قال: إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف، في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه من الأرض(3) أي مع عمقه، وقد حمل الرواية إلى الجمع بين ثلاثة أشبار ونصف فيكون الحاصل:

عشرة أشبار ونصف.

ويرد عليه: أنّ هذا القول متروك، وخلاف المتبادر من رواية أبي بصير.

ثم إنّ ما ذكره من كون مجموع أبعاده، عشرة أشبار ونصف، قد تكون مساحته مساوية لمساحة الكرّ على القول المشهور كما إذا كان كلّ بعد، ثلاثة أشبار ونصفاً.

وقد تكون ناقصة عنها كما لو فرض طوله ثلاثة أشبار وعرضه ثلاثة وعمقه أربعة ونصف، فمجموع الأبعاد وإن كان عشرة أشبار ونصف لكن

ص:296


1- . المقنع: 10؛ الوسائل: 1، الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحديث 3.
2- . وصورته هكذا: محيط الدائرة = القطر * 3,14--5 * 3,14 = 15,7 مساحة الدائرة = نصف المحيط * نصف القطر -- 2,5 * 7,85 = 19,625 الحجم = مساحة الدائرة * العمق -- 5 * 19,625 = 98,125
3- . الوسائل: 1، الباب 10 من أبواب الماء المطلق، الحديث 6.

مساحته تكون أربعون شبراً ونصف كالتالي:

3 * 3 = 9--4,5 * 9 = 40,5

وقد تكون بعيدة جداً عن المشهور كما لو فرض طوله ستة وعرضه أربعة وعمقه نصف شبر فالمجموع عشرة أشبار ونصف لكن المساحة اثنا عشر شبراً كالتالي:

4 * 6 = 24--0,5 * 24 = 12

إلى هنا تمّت دراسة الروايات الدالّة على مساحة الكرّ بالأشبار، وأنّ ما يمكن الاستناد إليه هو ما جاء في روايتي أبي بصير والحسن الثوريّ هو أنّ الكرّ ثلاثة وأربعون شبراً إلّاثمن شبر، وقد عرفت تمامية السند والدلالة، وفي مقابل ذلك رواية إسماعيل بن جابر الّتي دلّت على أنّ مساحته ستة وثلاثون شبراً، فالروايات متعارضة، ولا ترجيح بين الروايات لو لم نقل أنّ الأحوط هو الأخذ بالقول الأوّل. ولذا اخترنا القول المشهور أخذاً بالاحتياط.

تقدير الكرّ بالوزن

قد عرفت اختلاف الأخبار في تقدير الكرّ بالحجم - أو المساحة حسب اصطلاح الفقهاء - وأنّ القول الواضح هو خيرة صاحب المدارك أعني: ما بلغ مُكسّره ستة وثلاثين شبراً.

وأمّا تقديره بالوزن فلندرس ما ورد حوله سنداً ومتناً.

1. رواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا

روى الكليني عن أحمد بن إدريس، عن محمّد بن أحمد، عن يعقوب ابن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللّه عليه السلام

ص:297

قال: «الكرّ من الماء ألف ومائتا رطل».(1)

دراسة السند

1. أحمد بن إدريس المكنّى بأبي عليّ الأشعري القمّي: ثقة، مات سنة 306 ه.

2. محمّد بن أحمد بن يحيى، مؤلف نوادر الحكمة: ثقة.

3. يعقوب بن يزيد بن حمّاد: ثقة صدوق من أصحاب الرضا والهادي عليهما السلام.

4. ابن أبي عمير محمّد بن زياد: ثقة توفّي سنة 217 ه.

5. بعض أصحابنا: الرواية مرسلة.

فلو قلنا بأنّ مراسيل ابن أبي عمير في حكم المسانيد وأنّه لا يرسل إلّاعن ثقة، فالرواية صحيحة وربما تُردّ كلّية القاعدة بأنّه ربما يروي عن غير الثقة أيضاً، وقد ذكر السيد الخوئي بعض المواضع التي روى فيها ابن أبي عمير عن غير الثقة، ومعه كيف يمكن أن يقال: لا يروي إلّاعن ثقة، فلا يرسل إلّاعنه، وقد أجبنا عن هذه الموارد في كتابنا «كلّيات في علم الرجال».(2)

وأمّا ما هو المراد من الرطل فهل أُريد العراقي أو المدني أو المكّي ؟ فسيوافيك بيانه.

ورواها الشيخ باسناده إلى محمد بن أحمد بن يحيى... الخ إلّاأنّه قال:

«الكرّ من الماء الذي لا ينجّسه شيء».

ورواها الصدوق في «المقنع» مرسلة، قال المحقّق في «المعتبر»: وعلى

ص:298


1- . الوسائل: 1، الباب 11 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1.
2- . كلّيات في علم الرجال: 235-250.

هذه عمل الأصحاب، ولا أعرف منهم رادّاً لها.(1)

2. رواية أُخرى لابن أبي عمير

روى الشيخ في «التهذيب» باسناده عن ابن أبي عمير قال: رُوي لي عن عبداللّه بن المغيرة يرفعه إلى أبي عبداللّه عليه السلام: «إنّ الكر ستمائة رطل».(2)

والرواية مرسلة من جانب ومرفوعة من جانب آخر، حكمها حكم الرواية الأُولى، والعجب أنّ ابن أبي عمير ينقل كلا الوزنين، ولعله أصدق شاهد على إرجاعهما إلى أمر واحد.

3. صحيحة محمّد بن مسلم

روى الشيخ باسناده عن محمّد بن علي بن محبوب، عن العباس - يعني ابن معروف - عن عبداللّه بن المغيرة، عن أبي أيوب، عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث قال: «والكرّ ستمائة رطل»(3).

دراسة السند

سند الشيخ إلى محمد بن علي بن محبوب صحيح في التهذيبين.

1. محمد بن علي بن محبوب، فقد قال عنه النجاشي: شيخ القميين في زمانه، ثقة، عين، فقيه صحيح المذهب.

2. العباس بن معروف: أبو الفضل: قمي، ثقة، له كتاب الآداب من أصحاب الرضا عليه السلام.

3. عبداللّه بن المغيرة: قال النجاشي: أبو محمد البجلي: كوفي ثقة ثقة.

ص:299


1- . لاحظ: الوسائل: 1، الباب 11 من أبواب الماء المطلق، في ذيل الحديث 1.
2- . الوسائل: 1، الباب 11 من أبواب الماء المطلق، الحديث 2.
3- . الوسائل: 1، الباب 11 من أبواب الماء المطلق، الحديث 3.

4. أبو أيوب الخزّاز إبراهيم بن عثمان، أو إبراهيم بن عيسى، قال النجاشي: روى عن أبي عبداللّه وأبي الحسن عليهما السلام: ثقة كبير المنزلة.

5. محمّد بن مسلم الثقفي: ثقة فوق الثقة، مات سنة 150 ه.

فالسند صحيح لا غبار عليه. إنّما الكلام في تبيين ما هو المراد من الرطل.

دراسة المتن

يظهر من غير واحدة من الروايات أنّ الرطل يطلق تارة ويراد به الرطل العراقي أو البغدادي، وأُخرى الرطل المدني، وثالثة الرطل المكّي. والفرق بين الأوّلين أنّ الرطل المدني يزيد على العراقي بثلث.

ويدل على ذلك ما رواه الكليني عن جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام على يدي أبي: جعلت فداك أنّ أصحابنا اختلفوا في الصاع بعضهم يقول الفطرة بصاع المدني، وبعضهم يقول بصاع العراقي. قال فكتب إليّ : «الصاع بستة أرطال بالمدني وتسعة أرطال بالعراقي»، قال: وأخبرني أنّه يكون بالوزن ألف ومائة وسبعين وزنة.(1)

يقول العلّامة المجلسي: اعلم أنّ الرطل يطلق بالاشتراك على المكّي والمدني والعراقي،؛ والعراقي نصف المكي وثلثا المدني.(2)

إذا علمت هذا فلنرجع إلى تبيين حديث ابن مسلم الذي اتّفقوا على صحّته.

أقول: إنّ شيخ الشريعة ذهب إلى أنّ المراد من الصحيحة هو الأرطال المدنية قال بأنّ المتكلّم يخاطب بلسان نفسه لا بلسان مخاطبه، وبما أنّ الإمام مدني، فتحمل الستمائة على الرطل المدني الذي يعادل تسعمائة عراقي وهو

ص:300


1- . الوسائل: 6، الباب 7 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث 1. يريد بالوزنة «الدرهم».
2- . مرآة العقول: 13/15.

يعادل سبعة وعشرين شبراً(1).

يلاحظ عليه: بأنّه لا يمكن حمل الصحيحة «ستمائة» على الرطل المدني، لأنّ صحيحة علي بن جعفر تدلّ على عدم عاصمية ألف رطل مدني والسائل والمجيب مدنيّان. وإليك نصّها:

روى علي بن جعفر في كتابه عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن جرّة ماء فيها ألف رطل وقع فيه أُوقية بول، هل يصلح شربه أو الوضوء منه ؟ قال: «لا يصلح».(2) وحملها على الكراهة بلا دليل.

نعم أورد عليه شيخ الشريعة وقال بأنّ نجاسة ذلك المقدار من الماء يسبب التغيّر لوقوع أُوقية بول، ومن المعلوم أنّ هذا المقدار يغيّر أحد أوصاف الماء، فعدم صحّة الوضوء لأجل هذا لا لقلته عن الكرّ.(3)

يلاحظ عليه: بأنّ الرطل المدني عبارة عن مائة وخمسة وتسعين درهماً، كما في رواية إبراهيم بن محمد الهمداني،(4) والأُوقيّة عبارة عن أربعين درهماً فتكون نسبة الأوقية إلى الرطل قريباً من الخُمس، ومن المعلوم أنّ خمس رطل من الدم أو البول لا يغيّر لون الماء ولا طعمه، إذا كان ألف رطل، وهذا دليل على أنّ المراد من الستمائة غير الرطل المدني.

وممّا ذكرنا يظهر عدم صحّة حمله على الرطل العراقي بطريق أولى، لأنّه إذا كان ألف رطل مدني من الماء غير عاصم من النجاسة، فالعراقي أولى بأن يكون كذلك.

ص:301


1- . نخبة الأزهار: رسالة في الكرّ: 204-205.
2- . الوسائل: 1، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 16.
3- . نخبة الأزهار: تقرير بحوث شيخ الشريعة بقلم الوالد: 199.
4- . الوسائل: 6، الباب 7 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث 4.

إذا علمت هذا فاعلم أنّه يتحقّق بذلك الجمع بين الروايتين؛ فيحمل ما دلّ على ألف ومائتي رطل على العراقي، والصحيحة على الرطل المكّي الذي هو ضعف العراقي. وهذا النوع من الجمع لا يتوقّف على بعض الأُمور التي ذكرها الأصحاب.

مثلاً ربما يقال في إثبات أنّ الرطل في رواية ابن أبي عمير عراقي، بأنّ ابن أبي عمير أو المرسَل عنه كانا عراقيين والإمام صلى الله عليه و آله و سلم تكلّم بلغة السائل، وهذا رجم بالغيب، إذ لم يُعلم أنّ المرسَل عنه كان عراقيّاً ولعلّه كان مدنياً أو مكّياً.

ونظيره ما يقال: إنّ صحيحة ابن مسلم تحمل على الرطل المكّي، لأنّ محمّد بن مسلم ثقفي مكّي، والإمام تكلّم بلسان السائل، وهو ضعيف بوجهين:

أوّلاً: أنّه لم يثبت أنّ محمّد بن مسلم كان يقطن مكّة، فهو وإن كان مكّياً ولادة أو عشيرة، ولكّنه يسكن العراق فهو وزرارة وأمثالهما كلّهم كوفيون عراقيون.

وثانياً: أنّ المتكلّم إنّما يتكلّم بلسان قومه لا بلسان سائله إلّاإذا دلّت القرينة على ذلك.

والحاصل أنّ وجه الجمع هو ما ذكرنا وهو أنّه إذا ارتفع احتمال كون الرطل مدنياً يتردّد الأمر بين العراقي والمكّي، وبما أنّ العراقي ضعف المكّي وقد ورد حكم الوزنين في الرواية فيحمل أحدهما على المكّي والآخر على العراقي.

ولا يعدّ مثل هذا المورد من المتعارضين.

يقول صاحب الوسائل: المراد بالحديث الأوّل الرطل العراقي لأنّه يقارب اعتبار الأشبار، لأنّهم أفتوا السائل على عادة بلده، ولذلك اعتبر في الصاع رطل العراقي؛ ولأنّه يوافق حديث الستمائة، فإنّ المراد به الرطل المكّي وهو رطلان بالعراقي، ولا يجوز أن يراد بستمائة الرطل العراقي ولا المدني لأنّه متروك

ص:302

بالإجماع، ويأتي في أحاديث الماء المضاف ما يدلّ على إطلاقهم الرطل على العراقي.(1)

فإن قلت: أثبت البحث الماضي أنّ الرطل في صحيحة محمد بن مسلم مكّي لا مدني، ولكن يبقى هنا إشكال وهو وجود التعارض بين تلك الصحيحة وما رواه ابن أبي عمير من كون الكرّ ألفاً ومائتي رطل، فإنّ حمله على العراقي لغاية الجمع بينهما جمع تبرعي، بل هما من قبيل المتعارضين، إذ يبقى في رواية ابن أبي عمير احتمالان:

1. أن يكون المراد من ألف ومائتي رطل، الرطل المدني الذي يكون مكسّره ألفاً وثمانمائة رطل عراقي.

2. أن يكون المراد الرطل المكِّي فيكون مكسّره ألفين وأربعمائة بالعراقي، فيقع التعارض عندئذٍ بين صحيحة محمد بن مسلم التي حملت على ألف ومائتي رطل عراقي وبين المرسلة التي يتردّد مفهوم الرطل فيها بين المدني فيكون مكسّره ألف وثمانمائة وبين المكِّي الذي يكون مكسّره ألفين وأربعمائة.

قلت: أحد الاحتمالين منتفٍ قطعاً وهو حمل المرسلة على الرطل المكّي لا لأجل أنّ المُرسِل عراقي، ولا لأنّ المرسل عنه مثله، إذ المرسِل وإن كان عراقياً ولكن لا نعلم أنّ المرسَل عنه كذلك، بل لأجل أنّ رواة الشيعة المتواجدين في العراق الذين أخذ ابن أبي عمير عنهم الحديث، بين عراقي ومدني، فالمكِّي منهم - ولادة ومسكناً - قليل نادر، حتى يحمل الحديث على لسان الراوي، أو يُحمل على لسان الإمام؛ لأنّه أيضاً ليس مكياً.

نعم يبقى احتمال كون المراد من الرطل في المرسلة هو المدني، فيرتقي

ص:303


1- . الوسائل: 1، ص 124.

مكسر الكر إلى ألف وثمانمائة رطل عراقي، والذي يمكن الذبُ به عن الإشكال هو أنّ هذا المقدار من الرطل لم يقل به أحد من الأصحاب، ولا روي عن أحد، وهذا أوضح دليل على أنّهم فهموا من الحديث الأرطال العراقية، فيتحقّق الجمع بين الصحيحة والمرسلة بنحو واضح.

فإن قلت: مقتضى الأصل عند إجمال المخصّص هو الأخذ بالقدر المتيقّن؛ وذلك لأنّ هنا عامّاً يدلّ على انفعال الماء بمجرد ملاقاة النجاسة، خرج منه ما إذا كان الماء كرّاً، فبما أنّ المخصّص منفصل لا يضر بظهور العام ولا حجّيته فيؤخذ بالقدر المتيقّن، وهو خروج ألف ومائتي رطل عراقي وبقي ما دونه تحته.(1)

قلت: ما ذكرته مبني على وجود الإجمال في المخصّص، وقد مرّ عدم الإجمال فيه ولو بفضل الإجماع، والإجماع وإن لم يرفع الإجمال عن دلالة اللفظ ولكن يرفع الإجمال عن المقصود.

تنبيه

إذا كان مقدار الكرّ 1200 رطل عراقي، فما هو مقداره بالكيلوغرامات، فنقول: يمكن أن يقال: إنّ 1200 رطل عراقي يساوي 133 صاعاً وثلث الصاع، أي (133,33)، لأن كلّ صاع يساوي 9 أرطال عراقية.

وبما أنّ وزن كلّ صاع هو ثلاثة كيلوغرامات تقريباً، فيضرب 133,33 * 3 فتكون النتيجة: 399,99 كيلوغراماً.

هذا إذا كان المصدر للتقدير ما روي عن أبي الحسن الثالث عليه السلام، كما مرّ.

وربّما يحاسب بشكل آخر فتكون النتيجة تارة أقل ممّا ذكر وأُخرى أكثر.

ص:304


1- . التنقيح على العروة الوثقى : 1/175.

قال المجلسي رحمه الله: الرطل العراقي عبارة عن مائة وثلاثين درهماً على المشهور، فيكون واحداً وتسعين مثقالاً شرعياً، وبالصيرفي ثمانية وستين مثقالاً وربع مثقال.

وصورة المسألة هي بالنحو التالي:

91 مثقال شرعي = 6,825 مثقالاً صيرفياً

فإذا ضربنا 68,25 في ألف ومائتي رطل تكون النتيجة كالتالي:

68,25 * 1,200 = 81,900

وكل مثقال صيرفي يعادل 460,829 غراماً فتكون النتيجة كالتالي:

460,829 * 81,900 = 377,418,951 غراماً = 377,419 كيلوغراماً.

ولو قلنا بأن كلّ مثقال صيرفي يعادل 46,875 غراماً فتكون النتيجة كالتالي:

46,875 * 81,900 = 383,906,25 غرام = 38,390,625 كيلوغراماً

(وقد راجعنا المواقع في الانترنت فوجدناهم على قسمين في تبديل المثقال بالغرام، ولذا توصلنا إلى النتيجتين المذكورتين).

مشكلة الاختلاف بين التقديرين

ربّما يقال بعدم التطابق بين التحديد بالوزن والتحديد بالحجم (المساحة) يعني الأشبار، وهو أنّ مختار المشهور في التقدير بالمساحة كون مكسّره ثلاثة وأربعين شبراً إلّاثمن شبر وهو لا ينطبق على ألف ومائتي رطل عراقي، لأنّ غير واحد من الأصحاب وزنوا ألفاً ومائتي رطل عراقي فبعضهم يدّعي انطباقه على ستة وثلاثين كما عليه شيخ الشريعة في دروسه، وبعض آخر يدّعي انطباقه على سبعة وعشرين، فكيف يمكن الجمع بين التقدير بالوزن والتقدير بالأشبار؟

ص:305

فلو قلنا: إنّ الكرّ ما يكون مكسّره ستة وثلاثين فقد ادّعي أنّ الوزن منطبق عليه.

وأمّا لو قلنا بمقالة المشهور وقلنا إنّه الأحوط، فالتفاوت بين الوزن والمساحة كثير، فأين نسبة الماء الموجود في ثلاثة وأربعين شبراً إلّاثمن شبر، وبين الماء الموجود في سبعة وعشرين شبراً.

والذي يمكن أن يقال أحد أمرين:

1. أنّ الروايات ناظرة إلى الغدران الموجودة في الصحاري، والحياض المختلفة في البيوت ممّا لا يكون مربعاً أو مستطيلاً حتى يسهل تقديره بالأشبار بشكل دقيق، ولذلك احتاطوا بالتقدير الأكبر - أعني: ثلاثة وأربعين شبراً - حتى يكون طريقاً إلى التقدير الواقعي بالأشبار، أعني: ستة وثلاثين شبراً أو سبعة وعشرين.

2. أنّ الكرّ إذا بلغ ألفاً ومائتي رطل عراقي لا ينفعل بورود الدم أو البول عليه، ولكن إذا غسلت فيه الأواني أو الثياب ينقص منه شيءٌ كثير، وبالتالي لا يكون عاصماً، فلذلك اتّخذوا تقديراً أكثر بالأشبار حتى لا ينتهي الأمر إلى بعض الصور التي يسبب التطهير فيها نقصان الماء عن مقدار الكرّ.

***

تمّت الرسالة بيد المؤلّف جعفر السبحاني

يوم الأحد، ثامن عشر من جمادى الأُولى

من شهور عام 1434 ه

ص:306

7. حكم الصلاة في مساجد الشيعة

اشارة

من خلال برنامج لقاء الجمعة في قناة البرهان سُئل الشيخ عثمان الخميس عن الصلاة في مساجد الشيعة ؟ فأجاب: لا يجوز للمسلم أن يدخل هذه المساجد ليصلّي فيها؛ لأنّها لا تخلو من أُمور تمنع المسلم من الصلاة فيها، وهذه الأُمور كما يلي:

1. إنّ الشيعة كثيراً ما يعظّمون القبور، فيبنون المساجد على القبور أو يجعلون القبور داخل المساجد، أي يدفنون الموتى داخلها، فلا تجوز الصلاة في مسجد فيه قبر.

2. إنّ رائحة الشرك تفوح داخل هذه المساجد، فيذكر غير اللّه ويستغاث بغير اللّه، ويدعون غير اللّه، ويسبّ أولياء اللّه من الصحابة والخلفاء.

3. أفتى بأنّه لو دخل إنسان وصلّى في هذه المساجد حتّى مع علمه بعدم الجواز فصلاته (صحيحة)، لكن الأمر الأوّل فهو عدم جواز دخول هذه المساجد.

هذا ما ذكره عثمان الخميس في برنامج لقاء الجمعة، وهو مبني على أصل مسلّم عنده، وهو حرمة بناء المساجد على قبور الأولياء، وعلى هذا بنى ما ذكره

ص:307

في الفصول الثلاثة؛ ولذا علينا دراسة مبنى كلامه، قبل مناقشة فقرات جوابه، ولذلك فقد بسطنا الكلام في تبيين المبنى وما هو الحق فيه.

وقبل دراسة الموضوع - أي حكم بناء المساجد على القبور - نقدّم شيئاً وهو أنّ الشيخ عثمان الخميس قال: (إنّ الشيعة يبنون المساجد على القبور، أو يجعلون القبور داخل المساجد، أي يدفنون الموتى داخلها)، ونحن نسأله عن مصدر هذا الخبر، هل أنّه شاهد ذلك الأمر في عامّة المساجد للشيعة الّتي تُعدّ بعشرات الآلاف في مختلف البلدان ؟! لا أظن أنّه قد قام بذلك العمل.

ومع ذلك فكيف أصدر هذا الحكم العام ؟!

أقول: كلّ ما ذكره الشيخ في هذا الصدد كذب واضح وافتراء صريح، نابع من أصل مسلّم عند القوم، وهو أنّه لكلّ شيء دليل إلّاالافتراء على الشيعة، بل لكلّ شيء نهاية إلّاالكذب على الشيعة، وكأنّه سبحانه فرض عليهم الكذب مكان الصدق، والافتراء مكان طرح الحقيقة.

ولنفرض جدلاً صحّة قوله، فلندرس حكم هذه المسألة، أعني: بناء المساجد على القبور، على ضوء الكتاب المجيد والسنّة الشريفة.

حكم بناء المساجد على قبور الأولياء

ما أنكره الشيخ من بناء المسجد على قبور الموتى فقد نطق الذكر الحكيم به وعلى جواز قسم منه، وهو إذا كان الموتى من الأولياء، فلا مانع من بناء المسجد على قبورهم تبرّكاً بهم، قال سبحانه: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (1).

إنّ التأمّل في قصة أصحاب الكهف يكشف لنا من أنّ بناء المسجد فوق

ص:308


1- . الكهف: 21.

قبور الأولياء كان سنّة متّبعة عند الأُمم والشرائع السابقة، والقرآن الكريم يشير إلى تلك السنّة من دون أي ردّ ونقد.

إنّ أصحاب الكهف بعد أن انكشف خبرهم اختلف الناس في كيفية احترامهم وتكريمهم وانقسموا إلى قسمين:

1. قسم قالوا: (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) .

وهذا التعبير أي (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) يكشف عن أنّ القائل أو القائلين به لم يكونوا من الموحّدين، حيث حقّروا أُمورهم بقولهم: (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) : أي ربنا أعلم باحوالهم من خير وشرّ وصلاح وفساد.

2. قسم آخر كسب الموقف في النهاية، حيث دعا إلى بناء مسجد على الكهف كي يكون مركزاً لعبادة اللّه بجوار قبور الذين رفضوا عبادة غير اللّه وخرجوا من ديارهم هاربين من الكفر ولاجئين إلى توحيد اللّه وطاعته، وقد حكي عنهم الذكر الحكيم بقوله: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) فالضمير في قوله سبحانه: (غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) يرجع إلى أصحاب الكهف، أي وقفوا على مكانتهم وكشفوا الستر عن حقيقة أمرهم، فقالوا:

(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) وقد اتّفق أعاظم المفسّرين على أنّ القائلين بذلك هم الموحّدون، قال الطبري: فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً فإنّهم أبناء أبائنا، وقال المسلمون: بل نحن أحقّ بهم هم منّا نبني عليهم مسجداً نصلّي فيه ونعبد اللّه فيه.(1)

وقال الرازي: وقال آخرون بل الأَولى أن يبنى على باب الكهف مسجد وهذا القول يدلّ على أنّ أُولئك الأقوام كانوا عارفين باللّه معترفين بالعبادة والصلاة.(2)

ص:309


1- . تفسير الطبري: 15/149.
2- . تفسير الرازي: 21/105.

وقال الزمخشري: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم (لَنَتَّخِذَنَّ ) على باب الكهف (مَسْجِداً) يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم.(1)

وقال النيسابوري: (الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) المسلمون وملكهم المسلم؛ لأنّهم بنوا عليهم مسجداً يصلّي فيه المسلمون، ويتبرّكون بمكانهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم حفظاً لتربتهم بها وضنّاً بها.(2)

إلى غير ذلك من الكلمات في تفاسير الأعاظم، والّتي يتراءى منها أنّ بناء المسجد كان على باب الكهف أو عند الكهف، على خلاف ظاهر الآية، فإنّ ظاهرها يدلّ على أنّ المقترح هو بناء المسجد على قبورهم.

كيفية الاستدلال

الاستدلال بالآية ليس مبنيّاً على استصحاب حكم شرع من قبلنا، بل مبني على أمر آخر وهو أنّا نرى أنّ القرآن الكريم يذكر اقتراح الطائفتين بلا نقد ولا ردّ، ومن البعيد جدّاً أن يذكر اللّه تعالى كلاماً للمشركين ويمرّ عليه بلا نقد إجمالي ولا تفصيلي أو يذكر اقتراحاً للموحّدين وكان أمراً محرّماً في شرعنا من دون إيعاز إلى ردّه.

إنّ هذا تقرير من القرآن على صحّة اقتراح أُولئك المؤمنين، ويدلّ على أنّ سيرة المؤمنين الموحّدين في العالم كلّه كانت جارية على هذا الأمر، وكان يُعتبر عندهم نوعاً من الاحترام لصاحب القبر وتبرّكاً به.

إنّ مَن قرأ القرآن الكريم بتدبّر ووعي يعرف أنّ ما ينقله عن المشركين لو كان أمراً بيّن البطلان ربّما يمر عليه من دون ردّ، وأمّا إذا كان غير واضح البطلان

ص:310


1- . تفسير الكشّاف: 2/334.
2- . تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان المطبوع بهامش تفسير الطبري: 15/119.

فسيكون له موقف آخر منه، مثلاً عندما أحدق الخطر بفرعون وتيقّن أنّه سوف يغرق قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (1).

فالقرآن لم يتركه على حاله إذ ربّما يتوهّم الجاهل أنّه ربما يكفي هذا ا لنوع من الإيمان، فلذلك ردّ عليه بقوله: (آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (2).

إنّ الغاية من ذكر قصة السابقين هي اتّخاذ العبر والمواعظ والتدبّر في مضامينها ومعانيها.

إنّ القرآن الكريم ليس كتاباً قصصياً أو تاريخياً تُسرد فيه حياة الغابرين، وإنّما نزل كدستور حياة للبشر، وكلّ منهم يستنبط من القصص ما ينفعه.

فالمتكلّم يستنبط من قصة أصحاب الكهف إمكان المعاد وتجديد الحياة بعد قرون، ولكن الفقيه يستنبط من هذه القصة أنّه يجوز بناء المساجد على قبور الأولياء للتبرّك بهم.

زلة لا تستقال

إنّ الشيخ الألباني (عفا اللّه عنا وعنه) لمّا وقف على هذا الاستدلال الباهر المتين، حاول أن يناقش في الاستدلال لغاية حفظ موقفه المسبق في المسألة، فقال:

الاستدلال باطل من وجهين:

الأوّل: أنّه لا يصح أن يعتبر عدم الردّ عليهم إقراراً لهم إلّاإذا ثبت أنّهم كانوا مسلمين وصالحين، ومتمسّكين بشريعة نبيّهم، وليس في الآية ما يشير أدنى إشارة إلى أنّهم كانوا كذلك، بل يحتمل أنّهم كانوا كفّاراً أو فجّاراً، فعدم الردّ عليهم لا يعدّ إقراراً بل إنكاراً، لأنّ حكاية القول عن الكفّار والفجّار يكفي في

ص:311


1- . يونس: 90.
2- . يونس: 91.

ردّه عزوه إليهم، فلا يعتبر السكوت عليه إقراراً.(1)

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ في الآية إشارة إلى أنّ القول الأوّل قول غير الموحّدين الّذي لم يكونوا متفاعلين مع أصحاب الكهف، والقول الثاني قول الموحّدين الذين كانت لهم صلة روحية بهم، والشاهد على ذلك أنّ الاقتراح الأوّل ذكر بقولهم: (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) ثم أعقبوا اقتراحهم بقولهم: (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) : أي لا نعرفهم ولا نقول عنهم شيئاً وربنا أعرف بهم، وهذا كلام مَن لا يعرف أصحاب الكهف وعملهم، أو لا يحبّ ان يوصف بشيء من الصلاح والفلاح ولذا يفوّض مصيرهم إلى اللّه.

وأمّا الاقتراح الثاني فهو نابع عن قلب عارف بأصحاب الكهف، حيث قالوا: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ ) عرفوهم بجد (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) وهل يمكن أن يكون هذا الاقتراح ياترى يصدر عن الكافر الفاجر؟!

وعلى هذا كيف يقول الشيخ: يحتمل أنّهم كانوا (المقترحون) فجّاراً كفّاراً؟!!

وثانياً: أنّ الاستدلال ليس مبنيّاً على كون الاقتراح من المسلمين والموحّدين، بل مبني - كما تقدّم - على رؤية قرآنية وهي أنّه لا يذكر شيئاً عن غيره إذا كان أمراً مشتبهاً إلّامع نقده وردّه، والمقام من هذا القبيل، فلو كان في هذا الاقتراح رائحة شرك كما يزعمه من يمنع بناء تلك المساجد، لما سكت عنه القرآن الكريم.

الثاني: قال: إنّ الاستدلال المذكور إنّما يستقيم على طريقة أهل الأهواء من الماضين والمعاصرين الذين يكتفون بالقرآن فقط ديناً ولا يقيمون للسنّة النبوية وزناً.(2)

ص:312


1- . تحذير الساجد من اتّخاذ القبور مساجد: 81-82.
2- . تحذير الساجد من اتّخاذ القبور مساجد: 82.

يلاحظ عليه: أنّ المستدلّ بالآية هو الشيخ أبو الفيض الصدّيق الغماري في كتابه المسمّى : «إحياء المقبور من أدلّة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور» وهو شيخ الحديث في المغاربة وله مدارس وتلاميذ وهو محيي السنّة في منطقته، فكيف يتّهمه بأنّه من أهل الأهواء المعرضين عن السنّة المكتفين بالقرآن ؟!

ولقائل أن يعكس الأمر ويقابله بأنّ كلام المانعين من اتّخاذ قبور الأولياء مساجد كلام المعرضين عن القرآن، المكتفين بالسنّة، ما هكذا تورد يا سعد الإبل!!

والعجب أنّه في بعض كلامه ينسب الاقتراح الأوّل للمؤمنين، ويقول:

ولقائل أن يقول: إنّ الطائفة الأُولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتّخاذ المساجد على القبور فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسدّه وكفّ التعرّض عن أصحابه، فلم يقبل الأُمراء منهم وغاضهم ذلك حتّى أقسموا على اتّخاذ المسجد.(1)

يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره على خلاف قول المفسّرين الذين وقفت على كلماتهم، وهذا هو الإمام الأثري الشيخ الطبري: ينسب القول الأوّل إلى الكافرين والاقتراح الثاني للمؤمنين، وقد مرّت كلمته وكلمات غيره من غير استقصاء.

تأويل مردود للألباني

لمّا أذعن الألباني بأنّ ما ذكره من الردود لا يقابل نص القرآن الكريم حاول أن يؤوّل الآية، قال: وإن أبيت إلّاحسن الظن بالطائفة الثانية، فلك أن

ص:313


1- . تحذير الساجد من اتّخاذ القبور مساجد: 76.

تقول: إنّ اتّخاذهم المسجد عليهم ليس على طراز اتّخاذ المساجد على القبور، المنهي عنه، وإنّما هو اتّخاذ مسجد (عندهم) وقريباً من كهفهم ومثل هذا ليس محذوراً.(1)

يلاحظ عليه: أنّ الموقف المسبق للشيخ الألباني المقلّد لمنهج ابن تيمية وأشباهه، جرّه إلى تأويل القرآن، فليس في الآية القرآنية لفظة (عند) بل الموجود لفظة (على) حيث قالوا: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ ) : أي على قبورهم وعلى كهفهم، بحيث تكون القبور داخل المسجد لا خارجه.

عود إلى كلام عثمان الخميس

لمّا استشعر عثمان الخميس أنّ نهيه عن إقامة الصلاة في مسجد فيه قبر، لا يجتمع مع الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم فالمسلمون عبر قرون يصلّون فيه وفيه قبر النبي والشيخين، فحاول الإجابة عن عمل المسلمين بقوله: «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان حيّاً لمّا بني المسجد، ولمّا دفن لم يدفن في المسجد بل في بيته ولمّا وسع المسجد صار قبره الشريف داخل المسجد، وهنا يختلف الحكم فالمسجد بني على تقوى فتصحّ الصلاة فيه بلا إشكال، أمّا أن يبنى مسجد على قبر أو يدفن ميّت داخل مسجد فإنّه لم يبن على التقوى ولا تجوز الصلاة فيه.

أقول: إنّ كلامه هذا يعبّر عن تصويبه عمل إدخال قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد، بالبيان الّذي ذكره، ولكنّه يخالف ما ذكره الشيخ الألباني حيث لم يرض بعمل السلف بإدخال قبر النبي في المسجد وقال: وقد وقع مع الأسف الشديد بإدخال القبر في المسجد، إذ لا فارق بين أن يكونوا دفنوه صلى الله عليه و آله و سلم حين مات في المسجد، وحاشاهم عن ذلك، وبين ما فعله الذين بعدهم من إدخال

ص:314


1- . تحذير الساجد من اتّخاذ القبور مساجد: 76-77.

قبره في المسجد بتوسيعه، فالمحذور حاصل على كلّ حال.(1)

الإهانة لأهل البيت عليهم السلام والتابعين

إنّ الشيخ الألباني أنكر عمل التابعين في إدخال قبر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد، وقال: إنّ عمر بن عبدالعزيز لمّا كان نائباً للوليد على المدينة في سنة 91 ه، هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب، وهدم حجرات أزواج النبي فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه ثم اعترض عليه بقوله: إن إدخال القبر الشريف في المسجد النبوي وضع حين لم يكن في المدينة أحد من الصحابة، وأنّ ذلك كان على خلاف غرضهم، فلا يجوز لمسلم أن يحتج بما وقع بعد الصحابة.(2)

أقول: من أين علم أنّه لم يكن حيثن ذاك أحد من الصحابة في المدينة ؟!

أليس هذا رجماً بالغيب ؟! فلقد صحب النبي صلى الله عليه و آله و سلم أكثر من مائة ألف صحابي، ولقد سجّل التاريخ أسماء قرابة خمسة عشر ألف غير أنّ تاريخ وفاة أكثرهم غير مسجّلة.

ثم إنّ كلامه هذا مأخوذ من كلام مؤسّس مذهبه ابن تيمية حيث اعتذر بهذا وقال: إنّما أُدخلت الحجرة في المسجد بعد انقراض الصحابة. لاحظ كتابه «الجواب الباهر في زوّار المقابر» فقد طبع في المطبعة السلفية في القاهرة كما يحكيه نفس الألباني.

نفترض أنّه لم يكن في المدينة أحد من الصحابة ولكن كان منهم مَن عاش إلى ثلاث وتسعين سنة، أعني: أنس بن مالك (راوية الحديث النبوي بعد أبي هريرة) فهذا هو الذهبي يقول في ترجمته: وقال عدّة وهو الأصحّ أنّه مات

ص:315


1- . تحذير الساجد من اتّخاذ القبور مساجد: 89.
2- . تحذير الساجد من اتّخاذ القبور مساجد: 93.

سنة ثلاث وتسعين؛ قاله: ابن عدي وسعيد بن عامر والمدائني وأبو النعيم والفلاس والقعنب.(1)

فلا محال وقف عليه أنس بن مالك، سواء أكان في المدينة أم غيرها، ولكن مع ذلك لم ينبث فيه ببنت شفة، ولم ينقل عنه أنّه اعترض أو أنكر هذا العمل.

وهذا هو أبو الطفيل آخر مَن مات من الصحابة فقد مات كما يقول الذهبي سنة مائة وقيل: مات بعد تلك السنة وأقام بمكة.(2)

أفيمكن أن لا يطّلع عليه ذلك الصحابي والمدنيون يحجّون كلّ سنة وينقلون أخبارها ومع ذلك لم ينقل عنه أي إنكار؟!

نفترض أنّه لم يكن يوم أُدخل قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد أي صحابي ولكن كان في المدينة فقهاء وأصحاب الفتيا وعلى رأسهم الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام الّذي أطبق المؤرّخون والمحدّثون على علمه وزهده وعلمه، وقد أخذ عنه جمع غفير من الفقهاء وأصحاب الفتيا، وكما أسّس مدرسة للفقه والحديث، وقد أُحصي أكثر من مائة وستين من التابعين ممّن كانوا ينهلون من معينه، ويروون عنه.

فقد حدّث عنه: سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبو الزناد، ويحيى بن أُمّ الطويل، وعمر بن دينار، والزهري، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعد الأنصاري، وطائفة.

روي عن الزهري، أنّه قال: ما رأيت أحداً كان أفقه منه.(3) فلو كان إدخال قبره صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد أمراً غير صحيح لما سكت الإمام عنه، ولما سكت عنه

ص:316


1- . سير أعلام النبلاء: 3/406 برقم 62.
2- . سير أعلام النبلاء: 3/470 برقم 97.
3- . لاحظ: سير أعلام النبلاء 6 4/389؛ تاريخ مدينة دمشق: 41/371.

ولده الإمام الباقر ومن بعده ولده الصادق عليهم السلام.

هذا وقد صلّى المسلمون يوم أُدخل القبر في المسجد عبر قرون ولم يُسمع من أي ابن أُنثى أنّه أنكر ذلك العمل، بل المسلمون كلّهم يصلّون في المسجد ويتبرّكون بقبره الشريف إلى أن ولد الدهر ابن تيمية ومن لفّ لفّه فأظهروا نكيرهم لهذا العمل.

أليس اتّفاق المسلمين أو الفقهاء وأهل الفتيا في قرن واحد على عمل دليلاً على حلّية العمل وجوازه ؟ فإنّ الإجماع عند القوم من أداة التشريع كالكتاب والسنّة، فلماذا لم نجعل هذا الاتّفاق دليلاً على الجواز بل الاستحباب ؟!

وهذه هي المدن الإسلاميّة في الشامات كلّها تحتضن قبور الأنبياء العظام عليهم السلام وفيها مساجد جنب القبور، وما هذا إلّاليتبرّك المصلّي بقبور الأنبياء العظام عليهم السلام الذين كرّسوا حياتهم في نشر التوحيد ومكافحة الوثنية، ومن الظلم الواضح عدّ الصلاة عند قبورهم تبرّكاً بهم، شركاً أو ما يفوح منه رائحة الشرك! ومن يوم سيطرت الوهابية على قسم من تلك البلاد أخذوا يفصلون المساجد عن قبورهم ومشاهدهم بشيء من الستر.

ومن عجيب الأمر أنّ القوم حسب ما رووا عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّ خير أُمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.(1) جعلوا هذه القرون الثلاثة من أفضل القرون، وصار المقياس بين تمييز السنّة عن البدعة هو ما ظهر في هذه القرون من أمر جديد وما ظهر بعدها.

فعلى هذا فلماذا نقضوا غزلهم فلقد حدث هذا الأمر في خير القرون بيد التابعين ؟! فلماذا صارت أمراً غير مرضي يا ترى؟!!

ص:317


1- . فتح الباري: 7/3.

نعم قبر النبي يونس عليه السلام في الموصل في داخل المسجد وكذلك قبر نبي اللّه شيث هناك كذلك في المسجد.

دراسة أدلّة المانعين

تمسّك الوهابيون بمجموعة من الأحاديث على حرمة بناء المسجد عند قبور الصالحين، ونحن ندرس المهم منها. وليس إلّاحدثين.

الحديث الأوّل:

روى البخاري: لمّا مات الحسن بن الحسن بن عليّ ، ضربت امرأته القُبّة على قبره سنة، ثمّ رفعتْ ، فسمِعوا صائحاً يُقول: ألا هل وَجَدوا ما فَقَدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا.(1)

أقول: هذا الحديث الّذي رواه البخاري - وهو أصحّ الكتب عند القوم - دليل على جواز أمرين تنكرهما الوهابية:

1. نصب المظلّة والقبّة على القبر، لأنّ امرأة الحسن ضربت القبّة على قبر زوجها بمرأى ومسمع من التابعين وبينهم الفقهاء وأصحاب الفتيا وأهل الحديث، ولم يعرف من أحد منهم استنكار ذلك، وهذا أوضح دليل على جواز نصب القبّة على القبور، وكان ذلك في أفضل القرون الّذي هو الفاصل بين البدعة والسنّة.

2. أنّه تجوز الصلاة عند قبور الأولياء وقد ضربت زوجته القبّة لإقامة الصلاة عند قبره وتلاوة القرآن الكريم. والحسن بن الحسن المعروف بالمثنّى ، من أسباط النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وكفى في فضله أنّه كان وصي أبيه وولي صدقة عليّ بن أبي طالب عليه السلام في عصره، وقد روى عن أبيه الحسن بن علي بن أبي

ص:318


1- . صحيح البخاري: 2/90، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتّخاذ المساجد على القبور، بعد رقم 1329.

طالب عليهم السلام وابن عمه عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب إلى غير ذلك. وقد هدّده الحجاج يوم كان أمير المدينة بالقبض عليه لو لم يدخل شخصاً غير صالح في صدقة عليٍّ ، فقام في وجهه وقال: لا أُغيّر شرط عليٍّ ، ولا أُدخل فيها من لم يُدخل.(1)

وأمّا قول الراوي: فسمعوا صائحاً يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا.

ففيه أوّلاً: أنّه أشبه بقول غير الصالح؛ لأنّ كلامه هذا نوع من الشماتة لأهل المصيبة فكان عليه أن يعزّيها بشيء لأجل موت زوجها كما هو السنّة فصار يَشمُت بأهل المصيبة بلغة لاذعة وهي ليست من أخلاق الصالحين. ومثله في ذلك ما أجابه الصائح المزعوم الآخر.

وثانياً: أنّ إقامة تلك المرأة على قبر زوجها الفقيد لم يكن على أمل عودته إلى الحياة حتّى يقال أنّها يئست بل كان لغايات قدسية أشرنا إليها. فقول ذلك الصائح وجواب الآخر ليس حجّة شرعية، إذ لم يعتمدوا على كتاب اللّه ولا على سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بل أبرزوا أحقادهم وضغائنهم يوم ابتليت المرأة الصالحة بموت زوجها.

الحديث الثاني:

روى البخاري عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال في مرضه الّذي مات فيه: «لعن اللّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مسجداً» قالت:

ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّي أخشى أن يتّخذ مسجداً.(2)

إنّ هذا الحديث مهما صحّ سنده لا يمكن قبول ظاهره، بل لابدّ من تبيين

ص:319


1- . تهذيب الكمال: 6/92.
2- . صحيح البخاري: باب ما يكره من اتّخاذ المساجد على القبور برقم 1330.

المراد منه بشيء وذلك للأسباب التالية:

أوّلاً: أنّ تاريخ اليهود لا يتّفق مع مضمون هذا الحديث، لأنّ سيرتهم قد قامت على قتل الأنبياء وتشريدهم وإيذائهم إلى غير ذلك من أنواع البلايا الّتي كانوا يصبّونها على أنبيائهم ويكفي في ذلك قوله سبحانه: (لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) (1).

وقوله سبحانه: (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .(2)

وقوله سبحانه: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ) (3).

وثانياً: أنّ هناك قرائن شاهدة على أنّ النصارى كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم قبلة لهم، تصرفهم عن التوجّه إلى القبلة الواجبة، فأين هذا من الصلاة في مسجد النبي أو مسجد فيه قبر أحد أولياء اللّه سبحانه متوجّهاً إلى الكعبة، مصلّياً للّه سبحانه تالياً آيات اللّه، متبرّكاً بالأرض المقدّسة ؟!

والّذي يدلّ على ذلك أُمور:

1. ما روي أنّ أُمّ حبيبة وأُمّ سلمة ذكرتا كنيسة رأيناها في الحبشة فيها تصاوير، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوّروا فيه تلك الصور أُولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة.(4)

2. والهدف من وضع صور الصالحين بجوار قبورهم إنّما كان لأجل

ص:320


1- . آل عمران: 181.
2- . آل عمران: 183.
3- . النساء: 155.
4- . صحيح مسلم: 2/66، كتاب المساجد؛ ولاحظ: سنن النسائي: 2/41.

السجود عليها أو على قبورهم، بحيث يكون القبر والصورة قبلة لهم، أو يكونا كالصنم المنصوب يُعبدان ويسجد لهما.

ويشهد على ذلك أنّ أحمد بن حنبل في «مسنده» ومالك بن أنس في «الموطأ» رويا تتمة لهذا الحديث وهي: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال - بعد النهي عن اتّخاذ القبور مساجد -: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْري وَثَناً يُعْبَد».(1)

إنّ هذا يدلّ على أنّ أُولئك كانوا يتّخذون القبر والصورة الّتي عليها قبلة يتوجّهون إليها، بل صنماً يعبد، من دون اللّه سبحانه.

2. إنّ التأمّل في حديث عائشة - الحديث الثاني - يزيد في توضيح هذه الحقيقة، حيث إنّها بعد الرواية عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تقول:

«لولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّي أخشى أن يُتَّخذ مسجداً». أي جعلو حاجزاً.

ونتساءل: إقامة الجدار حول القبر يمنع عن أيّ شيء؟!

من الثابت أنّ الجدار يمنع من الصلاة على القبر نفسه وأن يتّخذ وثناً يُعبد، وعلى الأقل لا يكون قبلة يُتوجّه إليها.

أمّا الصلاة بجوار القبر - من دون عبادة القبر أو جعله قبلة للعبادة - فلا يمنع منها بشهادة أنّ المسلمين - منذ أربعة عشر قرناً - يُصلّون بجوار قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حين أنّهم كانوا يتوجّهون إلى الكعبة ويعبدون اللّه تعالى، فوجود الحاجز لم يمنعهم من هذا كلّه.

وحصيلة الكلام: إنّ تتمة الحديث الثاني - الّتي هي من كلام عائشة - تُوضّح معنى الحديث، لأنّها تذكر السبب الّذي منع من إبراز قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه للحيلولة دون اتّخاذه مسجداً، ومرادها من اتخاذ مدفنه مسجداً.

ص:321


1- . مسند أحمد: 248/3.

قبلة يصلي إليه كما سيأتي التصريح من شراح الحديث، ولهذا أُقيم الجدار الحاجز حول القبر الشريف.

فالحاجز يمنع من شيئين:

1. من أن يتحوّل القبر إلى وثن يقف الناس بين يديه يعبدونه، فمع وجود الحاجز لا يمكن رؤية القبر فلا يمكن اتّخاذه وثناً للعبادة.

2. من أن يُتَّخذ قبلة، ذلك لأنّ اتّخاذه قبلة فرع رؤيته.

وأمّا الصلاة في المسجد الّذي دفن فيه فلم يمنع عنه بالبداهة، وهذا دليل على أنّ قلق الرسول على فرض صحة الحديث من مدفنه، اتّخاذ قبره صنماً يُعبد أو يسجد عليه.

فإن قال قائل: إنّ اتخاذ القبر قبلة لا يتوقّف على الرؤية بشهادة أنّ الكعبة قبلة للمسلمين في حين أنّ أكثر المسلمين لا يرونها وقت العبادة.

فالجواب: لا تصحّ المقارنة والمقايسة بين الكعبة والقبر، لأنّ الكعبة قبلة عامّة لجميع المسلمين في كافّة أرجاء الكرة الأرضية، وليست قبلة للعبادة فقط، بل للعبادة وغيرها كالذبيحة والدفن وما شابه، فهي قبلة في جميع الأحوال، ولا علاقة للرؤية فيها بأيّ وجه.

أمّا اتّخاذ قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبلة، فإنّما يمكن للّذين يتواجدون في مسجده ويقيمون الصلاة عنده، فإبراز القبر الشريف يمهّد لهذا الاحتمال - على رأي عائشة طبعاً - بينما يكون الستر مانعاً عن ذلك.

وثالثاً: من القرائن الدالّة على أنّ نهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنّما هو عن عبادة القبور، هو أنّ الكثير من شارحي صحيح البخاري ومسلم فسّروا الحديث بمثل ما فسّرناه، وفهموا منه مثل ما فهمناه... فمثلاً:

يقول القسطلاني - في كتاب إرشاد الساري -:

ص:322

إنّما صوّر أوائلهم الصُّور ليستأنسوا بها ويتذكّروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم ويعبدوا اللّه عند قبورهم، ثمّ خَلَفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أنّ أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويُعظّمونها، فحذَّر النبي عن مثل ذلك.

إلى أن يقول:

قال البيضاوي: لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها واتّخذوها أوثاناً، مُنع المسلمون عن مثل ذلك، فأمّا من اتّخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرُّك بالقرب منه - لا للتعظيم ولا للتوجّه إليه - فلا يدخل في الوعيد المذكور.(1)

وليس القسطلاني منفرداً في هذا الشرح، بل يقول به السندي - شارح السُّنن للنسائي - حيث يقول:

«اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» أي: قبلة للصلاة يُصلّون إليها، أو بنوا مساجد عليها يُصلّون فيها. ولعلّوجه الكراهة أنّه قد يُفضي إلى عبادة نفس القبر.(2)

ويقول أيضاً:

يُحذّر (النبي) أُمّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتّخاذهم تلك القبور مساجد، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها، أو بجعلها قبلة يتوجّهون في الصلاة إليها.(3)

ص:323


1- . إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 2/437، باب بناء المساجد على القبور. وقد مال إلى هذا المعنى ابن حجر - في فتح الباري: 208/3 حيث قال: إنّ النهي إنّما هو عمّا يؤدّي بالقبر إلى ما عليه أهل الكتاب، أمّا غير ذلك فلا إشكال فيه.
2- . السنن للنسائي: 21/2 مطبعة الأزهر.
3- . نفس المصدر السابق.

ويقول النووي - في شرح صحيح مسلم -:

قال العلماء: إنّما نهى النبي عن اتّخاذ قبره وقبر غيره مسجداً، خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربّما أدّى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأُمم الخالية، ولمّا احتاجت الصحابة والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين كثر المسلمون وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أُمّهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة، مدفن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصاحبيه بَنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله، لئلاّ يظهر في المسجد فيصلّي إليه العوام...

ولهذا قالت «عائشة» في الحديث: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنّه خُشي أن يُتَّخذ مسجداً.(1)

أقول: مع هذه القرائن ومع ما فهمه شُرّاح الحديث لابدّ من القول به، ولا يمكن استنتاج غير ذلك أو الافتاء بغيره.

وجود المساجد في المشاهد المشرّفة لا صلة له بهذه الأحاديث

إنّ مورد الحديث هو ما إذا كان المسجد مبنيّاً فوق القبر، فلا علاقة له بالمشاهد المشرَّفة، لأنّ المسجد - في كلّ المشاهد - ما عدا مسجد النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنّما هو بجوارها لا عليها، بشكل ينفصل أحدهما عن الآخر.

وبعبارة أُخرى: هناك حرم وهناك مسجد، فالحرم خاصٌّ للزيارة والتوسّل إلى اللّه تعالى بذلك الوليّ الصالح، والمسجد - بجواره - للصلاة والعبادة، فالمشاهد المشرَّفة - في هذه الحالة - خارجة عن مفاد الحديث ومعناه - على فرض أن يكون مفاده ما يدّعيه الوهّابيّون -.

وبذلك يظهر مفاد الأحاديث الّتي جمعها الشيخ الألباني في صدر كتابه

ص:324


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 13/5-14.

باسم «تحذير الساجد من اتّخاذ القبور مساجد»، الّذي بلغ عددها إلى أربعة عشر، فالجلّ لولم نقل الكلّ ناظر إلى عمل النصارى من اتّخاذ القبور قبلة أو السجود عليها، وأمّا مجرد الإتيان بالصلاة تبرّكاً بالموضع الّذي فيه قبر نبي التوحيد فخارج عن مفاد هذه الروايات.

إلى هنا تمّ ما أردناه من تبيين حكم بناء المساجد على قبور الأولياء، الّذي هو الأساس لنقد كلام عثمان الخميس.

دراسة مقاطع ثلاث في كلام عثمان الخميس

اشارة

إذا تبيّن ذلك فلنرجع إلى مقاطع ثلاث في كلامه.

المقطع الأوّل

منع عثمان الخميس من الصلاة في مساجد الشيعة لأمرين:

1. لأنّ الشيعة كثيراً ما يعظمون القبور، فيبنون المساجد على القبور أو يجعلون القبور داخل المساجد، أي يدفنون الموتى داخلها، فلا تجوز الصلاة في مسجد فيه قبر.

ولنا مع الشيخ في كلامه هذا بعض الأسئلة:

أوّلاً: أنّ الشيخ أفتى في كلامه بأنّه لا يجوز للمسلم أن يدخل مساجد الشيعة ويصلّي فيها لأنّها تشتمل على القبور.

نسأله أنّ الإفتاء بالقضية الكلّية رهن مشاهدة الشيخ أكثر مساجد الشيعة المنتشرة في العالم أو كلّها، حتّى يستطيع إلى الحكم بالقضية الكلّية. أفهل قام الشيخ بهذا العمل، وشاهد المساجد الشيعية كلّها بعينه حتّى يحكم بهذا الحكم ؟

إنّ للشيعة مساجد تعدّ بعشرات الآلاف في إيران والعراق ولبنان وپاكستان والهند وأفغانستان وغيرها من البلاد الإسلاميّة والغربية، فلا يصحّ

ص:325

للشيخ أن يفتي بقضية كلّية دون أن يشاهد هذه المساجد ويرى بأُمّ عينه دفن الموتى فيها.

وقد روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سُئل عن الشهادة فقال: «هل ترى الشمس ؟ على مثلها فاشهد أو دع».(1) ولا أظنّ أنّ الشيخ ولا أترابه الذين يجترّون ما ذكره ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب قاموا بهذا العمل ولو بنسبة ضئيلة. وقد مرّ التذكير بذلك في صدر المقال.

ثانياً: كيف يتهم الشيعة بأنّهم يدفنون الموتى في مساجدهم مع أنّ فقهاء الشيعة صرّحوا في الكتب الفقهية بتحريم ذلك، هذا هو السيد الطباطبائي في «العروة الوثقى » عقد فصلاً في بعض أحكام المسجد وقال: لا يجوز دفن الميّت في المسجد(2). لمنافاة الدفن جهة الوقف، فمن خصّ أرضاً بالمسجد فقد فكّ ملكه عن نفسه وجعله للّه سبحانه، ومع ذلك كيف يتصرف في ملك اللّه، فهل قرأ الشيخ صفحة من فقه الشيعة، وصدر في هذه الفتيا عن علم وكثب ؟! نعم الحرام دفن الموتى بعد بناء المساجد، وأمّا بناء المساجد على قبورهم لا صلة له بما ذكرنا من الحرمة. وبذلك يظهر أنّ الصلاة في حرم أئمة أهل البيت عليهم السلام الّتي تضمّنت أجسادهم الطاهرة، لا صلة له بمسألة دفن الموتى في المساجد، بل بنيت مشاهدهم بعد دفنهم، كما أنّ هذه المشاهد لا تُعدّ مساجداً عند الشيعة.

نعم ربّما يوجد في بعض الأمكنة بصورة نادرة أنّ الواقف يجعل لنفسه غرفة خاصة خارج المسجد متصلة به ليدفن فيها، لأجل أن يستغفر له المصلّون ويقرأوا الفاتحة ويُهدوا ثوابها إليه، ولا يوجد مثل هذا أيضاً إلّانادراً.

ثالثاً: أنّ المانع عند أُستاذه هو القبر الظاهر وأمّا القبر غير الظاهر فيجوز فيها الصلاة، هذا هو الألباني يقول: إنّ العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة

ص:326


1- . كنز العمال: 23/7 برقم 17782.
2- . العروة الوثقى: 407/2، فصل في بعض أحكام المسجد.

وأمّا ما في بطن الأرض من القبور فلا يرتبط بها حكم شرعي من حيث الظاهر بل الشريعة تتنزّه عن مثل هذا الحكم لأنّا نعلم بالضرورة والمشاهدة أنّ الأرض كلّها مقبرة الأحياء، كما قال تعالى: (أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً * أَحْياءً وَ أَمْواتاً) (1).(2) فالقبور في مساجد الشيعة على فرض غير صحيح ليست ظاهرة، فكيف يفتي بعدم جواز الصلاة فيها؟!

دراسة المقطع الثاني من كلامه
اشارة

أمّا السبب الثاني للمنع فيوضّحه بقوله: إنّ رائحة الشرك تفوح داخل هذه المساجد.

1. فيذكر غير اللّه.

2. ويستغاث بغير اللّه.

3. ويدعون غير اللّه.

4. ويسبّ أولياء اللّه من الصحابة والخلفاء.

فقد ذكر في كلامه هذا أُموراً أربعة:

الأوّل: يذكرون غير اللّه،

فنسأله: هل ذكر غير اللّه في المسجد عبادة للغير؟! ولو صار ذلك ملاكاً للتوحيد والشرك فلا يوجد على أديم الأرض أي موحّد، فالخطباء يذكرون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ورواة الحديث وأسماء العلماء وغير ذلك، وربّما يذكر الواعظ أسماء الصالحين والطالحين وقصصهم وأحوالهم.

الثاني: ويستغاث بغير اللّه،

وهذا هو المهم في كلامه، فنقول: هل الاستغاثة بغير اللّه أمر حرام، فهذا القرآن يذكر قصة الرجل الّذي استغاث بموسى عليه السلام وهو من شيعته لينصره على عدوه القبطي واستجاب له موسى عليه السلام

ص:327


1- . المرسلات: 25-26.
2- . تحذير الساجد من اتّخاذ القبور مساجد: 113.

كما في قوله تعالى: (وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (1).

فلو كانت الاستغاثة أمراً شركياً فلماذا استجاب له موسى عليه السلام ولم يستنكر عليه، ولعلّ عثمان الخميس كأسياده يجيبون عن ذلك، بأنّه من قبيل استغاثة الحي بالحي وكلامنا هو في استغاثة الحي بالميّت، ولكن المجيب لم يعرف أنّ الحياة والموت ليسا ملاكين للتوحيد والشرك، بل ملاكين للجدوى وعدمها، فله أن يمنع الاستغاثة بالميّت لعدم الجدوى لا للشرك. ولكنّه يصرّ على أنّ الاستغاثة بالميت شرك أفهل يمكن أن يكون عمل واحد توحيداً في حالة وشركاً في حالة آخر؟!

وأمّا كون الاستغاثة بالميت مجدية أو لا، فهو خارج عن مصبّ كلامنا.

الثالث: ويدعون غير اللّه

ماذا يريد من دعاء الغير؟ هل يريد الدعاء بالمعنى اللغوي، أي دعاء شخص شخصاً، لا أظنّ أنّ أحداً يحرّمه، فهذا هو الرسول صلى الله عليه و آله و سلم دعا في غزوة أُحد أصحابه الذين تركوا ساحة الحرب وولّوا هابرين، قال تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) .(2)

وإن أراد عبادة الغير فهو بهتان عظيم، فإنّ العبادة عبارة عن الخضوع أمام مَن هو خالق أو مدبّر الأُمور وبيده مصائر العباد، والشيعة جمعاء - وفاقاً لعامّة المسلمين - يعتقدون بالتوحيد في الخالقية والربوبية، وأنّ الأُمور كلّها بيد اللّه سبحانه، ولا يملك أحدٌ لنفسه ولا لغيره شيئاً إلّاالدعاء لنفسه أو لغيره بإذن من اللّه سبحانه.

ص:328


1- . القصص: 15.
2- . آل عمران: 153.

وإن أراد من دعاء الغير طلب الدعاء والشفاعة فهذا أمر اتّفق على جوازه المسلمون إلّاشذّاذ الآفاق.

هذا هو الترمذي يروي عن أنس أنّه قال: سألت النبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: فأين أطلبك، قال: على الصراط(1).

وهذا هو سواد بن قارب وفد على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وطلب منه الشفاعة ضمن قصيدة، فيها:

وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب(2)

ولا يختص طلب الشفاعة من الحي بل يشمل طلب الشفاعة من الميّت، فهذا هو ابن عباس يقول: لمّا فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من تغسيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللّهِ ! لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ - إلى أن قال: - اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ ، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ !...»(3).

ويروى أيضاً أنّه لمّا توفّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كشف أبو بكر عن وجهه ثمّ أقبل عليه فقبّله ثم قال: «بأبي أنت وأُمّي أمّا الموتة التي كتب اللّه عليك فقد ذقتها، ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبداً»(4).

إنّ هاتين الروايتين - وأمثالهما - تدلّان على أنّه لا فرق بين طلب الشفاعة من الشفيع في حياته وبعد وفاته، وقد كان الصحابة يطلبون الدعاء من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد وفاته، فلو كان طلب الدعاء منه صحيحاً بعد وفاته، فإنّ طلب الشفاعة - الّذي هو نوع من طلب الدعاء - سيكون صححياً أيضاً.

وليس للشيعة في مساجدهم إلّاطلب الشفاعة، أي طلب الدعاء من النبي

ص:329


1- . سنن الترمذي: 4/42، باب ما جاء في شأن الصراط.
2- . الدرر السنية لزيني دحلان: 29.
3- . نهج البلاغة: من قصار كلامه 235.
4- . السيرة النبوية: 2/655-656.

وآله، وقد دلّت الآيات والروايات على حياتهم ووجود الصلة بيننا وبينهم، فلنفترض - فرضاً باطلاً - أنّهم غير أحياء وأنّهم لا يسمعون كلامنا، فغاية ما يمكن أن يقول به الرجل هو عدم الجدوى في طلب الدعاء من العبد الّذي لا يسمع، فلا يكون ذلك دليلاً على الشرك.

الرابع: سبّ الأولياء من الصحابة والخلفاء

إنّ الشيعة تقتفي إثر أئمة أهل البيت عليهم السلام وإثر إمام المتقين وقدوة الموحّدين علي أمير المؤمنين عليه السلام وهانحن ننقل شيئاً من كلامه حول الصحابة:

«أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ ، وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ ، وَأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ !

قال: ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة، فأطال البكاء، ثم قال عليه السلام:

أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ . دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ ».(1)

وهذا هو الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام يدعو لصحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويقول: «اللّهم وأصحاب محمد صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته - إلى أن يقول: - فلا تنس لهم اللّهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك، وبما حاشوا الخلق عنك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم»، ثم يقول: «اللّهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون: ربنا أغفر لنا»(2).

ص:330


1- . نهج البلاغة: الخطبة 182.
2- . الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 4، الصلاة على مصدّقي الرسل.

هذا هو منطق أئمة الشيعة والمسلمين، والمسلمون كلّهم سائرون عليه، والعجب أنّه يتّهم الشيعة بسبّ الصحابة في عامّة مساجدهم ولذلك منع من الدخول إليها، ومع ذلك كلّه نرى في أصحّ كتبهم وهو صحيح البخاري سبّ بعض الصحابة البعض الآخر في مجلس النبي صلى الله عليه و آله و سلم وحضوره، وإن كنت في ريبّ فلنتلوا عليك رواية واحدة نقلها البخاري في صحيحه باختصار:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قصة الإفك: «مَن يعذرني من رجل [المراد به عبداللّه بن سلول] قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فواللّه ما علمت على أهلي، إلّا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّاخيراً وما كان يدخل على أهلي إلّا معي».

فقام سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: يا رسول اللّه أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عُنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت [عائشة]: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال لسعد: كذبت، لعمر اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أُسيد بن حضير وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر اللّه لنقتلنّه فإنّك منافق، تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيّان الأُوس والخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يُخفّضهم حتّى سكتوا وسكت(1).

النقد والتقييم غير السبّ

إنّ النقد القائم على أُسس صحيحة وموازين سليمة هو قبلة طالبي الحقيقة، والساعين إلى الفضيلة.

وأمّا السبّ والشتم فهو وليد العصبية ونتاج الغيظ والحقد والهوى، وبتعبير

ص:331


1- . صحيح البخاري بشرح الكرماني: 17/14-15.

آخر: السبّ هو النيل من كرامة الشخص بكلمات مبتذلة، ولسان بذيء لغاية التشفّي وهدم الكرامة.

وأمّا النقد: فهو دراسة حياة الشخص من منظار موضوعي وبيان ما له من الفضيلة والكرامة، أو ما اقترف من المآثم والخطايا، فيُمدح على الأوّل ويذمّ على الثاني.

فالذي في كتب الشيعة عند المرور بآيات الذكر الحكيم هو دراسة النقد لا السبّ .

ولو كان هذا سبّاً فكتب القوم هي التي فتحت هذا الباب على مصراعيه بوجه المسلمين، وهذا هو البخاري، ومسلم رووا في صحاحهم روايات كثيرة في ارتداد الصحابة بعد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، ونحن ننقل منها رواية واحدة:

روى أبو هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي - أو قال: من أُمّتي - فيحلّؤون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقري».(1)

دراسة المقطع الثالث

مع أنّ المفتي أفتى بحرمة الصلاة في مساجد الشيعة إلّاأنّه أفتى أخيراً بأنّ الإنسان لو دخل وصلّى في هذه المساجد، حتّى مع علمه بعدم الجواز، فصلاته صحيحة.

أقول: كيف يفتي بصحّة الصلاة، مع أنّ المصلّي فيها - حسب روايتهم - ملعون بعمله هذا، فكيف تنسجم حرمة العمل مع صحّته، وكيف ينسجم كون

ص:332


1- . صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض، برقم 6576، ولاحظ بقية الأحاديث بالأرقام: 6582، 6583، 6584، 6585، 6586، 6587.

المصلّي ملعوناً مع كون صلاته مقبولة ؟!

وكيف يتمشّى قصد التقرّب وامتثال الأمر مع كونه مطروداً من رحمة اللّه ؟!

ولعمر الحق فما أرخص هذا الاجتهاد الّذي لا يحتاج إلى إتقان المبادئ والمقدّمات اللازمة.

فكأنّ الإفتاء عند القوم لا يحتاج إلى مبادئ ومقدّمات تؤهّل المفتي لاستنباط الحكم الشرعي من كتاب اللّه وسنّة رسوله صلى الله عليه و آله و سلم، فيفتي بلا دليل على حرمة الدخول، ثم ينقض ما أبرمه، بلا دليل ولا برهان.

هذا ما سمح به الوقت في دراسة هذه الفتوى ونقدها نقداً علمياً، والتي وجدناها على شفا جرف هار.

والحمد للّه رب العالمين

جعفر السبحاني

قم المقدسة - الحوزة العلمية

21 رجب المرجب 1435 ه

ص:333

8. رسالة في صوم مَن به داء العطش ومَن أصابه العطش

وفيها مسألتان:

المسألة الأُولى: مَن به داء العطش

قال السيد الطباطبائي اليزدي: مَن به داء العطش فإنّه يفطر؛ سواء كان بحيث لا يقدر على الصبر، أو كان فيه مشقّة، ويجب عليه التصدّق بمدّ والأحوط مدّان، من غير فرق بين ما إذا كان مرجوّ الزوال أو لا.

والأحوط بل الأقوى وجوب القضاء عليه، إذا تمكّن من بعد ذلك، كما أنّ الأحوط أن يقتصر على مقدار الضرورة.(1)

ولكن السيّد الحكيم: يقول: الأقوى عدم وجوب القضاء، والسيد الخوئي يقول: في القوة إشكال، وإن كان القضاء أحوط(2).

ويدلّ عليه صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «الشيخ الكبير

ص:334


1- . العروة الوثقى: 3/626، كتاب الصوم، الفصل الحادي عشر: موارد الرخصة في الإفطار، الثالث. تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، قم - 1420 ه.
2- . لاحظ تعليقتهما على العروة الوثقى : 3/626. وقال السيد الخوئي أيضاً في كتاب الصوم: 1/52: بل الأقوى عدمه.

والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان، ويتصدّق كلّ منهما في كلّ يوم بمدّ من طعام، ولا قضاء عليهما، فإن لم يقدرا فلا شيء عليهما».(1)

ورواية داود بن فرقد، عن أبيه، عن أبي عبداللّه عليه السلام فيمن ترك الصيام، قال:

«إن كان من مرض فإذا برئ فليقضه، وإن كان من كبر أو عطش فبدل كلّ يوم مدّ»(2).

والروايتان المعتبرتان صريحتان في عدم وجوب القضاء وبذلك يُخصّص ما دلّ على وجوب القضاء للمريض، أعني قوله سبحانه: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (3)، بل يمكن أن يقال انصراف المريض عن مثله، بل أُريد به مَن كان مريضاً يوماً أو أياماً، ثم تعود صحّته إليه، لا مثل من به داء العطش الذي لا يرجى برؤه إلّاباحتمال ضعيف.

والأولى أن يستدلّ على عدم القضاء بقوله سبحانه: (وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) (4) كما استدلّ به الإمام أبو جعفر عليه السلام على ما رواه محمّد بن مسلم في قول اللّه عزّوجلّ : (وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) قال: «الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش».(5) والإطاقة عبارة عمّن يقوم بالعمل بجهد كبير وبذل نهاية طاقته، لا العاجز المطلق، ومَن به داء العطاش من مصاديقها الواضحة.

ص:335


1- . الوسائل: 7، الباب 15 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 1.
2- . الوسائل: 7، الباب 10 من أبواب الصوم المندوب، الحديث 1.
3- . البقرة: 184.
4- . البقرة: 184.
5- . الوسائل: 7، الباب 15 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 3.

المسألة الثانية: مَن أصابه العطش

قال السيد الطباطبائي اليزدي: إذا غلب على الصائم العطش بحيث خاف من الهلاك يجوز له أن يشرب الماء مقتصراً على مقدار الضرورة، ولكن يفسد صومه بذلك، ويجب عليه الإمساك بقية النهار، إذا كان في شهر رمضان، وأمّا في غيره من الواجب الموسّع والمعيّن فلا يجب الإمساك، وإن كان الأحوط في الواجب المعيّن.(1)

فقد خصّ السيد الطباطبائي جواز الإفطار بمَن خاف من الهلاك، وكان عليه أن يعطف عليه مَن غلبه العطش على نحو صار الصوم حرجياً كثيراً فوق الحرج الذي هو لازم ذات الصوم، بل صار على حدٍّ لا يتحمّل مثله عادة، كما عليه السيد الأُستاذ البروجردي في رسالته العملية.

وهذه المسألة غير المسألة الأُولى فإنّ الملاك في الأُولى هو مَن به داء العطش، وأمّا المقام فهو إنسان سالم غلبه العطش لعوامل خارجية، كوقوعه في المفازة، أو في مصنع حار، وأمّا الدليل على جواز الشرب فروايتان:

الأُولى: موثّقة عمّار عن أبي عبداللّه عليه السلام في الرجل يصيبه العطاش حتّى يخاف على نفسه ؟ قال: «يشرب بقدر ما يمسك رمقه، ولا يشرب حتّى يروى»(2).

أمّا السند فرواه الكليني عن شيخه أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد - أي: محمد بن أحمد بن يحيى صاحب نوادر الحكمة - إلى هنا كلّ الرواة ثقات

ص:336


1- . العروة الوثقى : 3/585، الفصل الثالث: في المفطرات، كتاب الصوم، المسألة 5.
2- . الوسائل: 7، الباب 16 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث 1.

إماميّون، عن أحمد بن الحسن - أي: أحمد بن الحسن بن علي بن فضّال فهو فطحيّ ، وقيل بعدوله عن الفطحيّة -، عن عمرو بن سعيد الفطحيّ ، عن مصدق بن صدقة - الفطحيّ - عن عمّار بن موسى، وهؤلاء الثلاثة فطحيّون لكن يعمل برواياتهم.

وأمّا المتن فربّما يورد عليه بأنّ الوارد في الرواية العطاش، وأُريد به من به داء العطش، فتكون الرواية من أخبار المسألة الأُولى.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ العطاش يطلق على شدّة العطش أيضاً، هذا ابن الأثير يقول: العطاش - بالضم -: شدّة العطش وقد يكون داءً يصيب الإنسان يشرب الماء فلا يروي(1).

وثانياً: أنّ قوله: «يصيبه» ظاهر في كون العطش أمراً طارئاً لا أمراً مستمرّاً.

وثالثاً: أنّ الحرّ العاملي وإن رواها عن الكليني بلفظ العطاش، ولكن الصدوق ذكرها بلفظ العطش، قال: روى عمّار بن موسى عن أبي عبداللّه عليه السلام في الرجل يصيبه العطش.(2)

كما أنّ الشيخ في «التهذيب»(3) رواها عن الكليني بلفظ: يصيبه العطش، وهذا يدلّ على أنّ نسخة الكافي الّتي كانت عند الشيخ، وكذا الّتي عند الصدوق - إذا أخذه من الكليني - قد ورد فيهما لفظ «العطش».

رابعاً: لو كان المراد من به داء العطش، فما معنى نهيه عن الارتواء، حيث إنّه لا يرتوي.

خامساً: أنّ الإمام عليه السلام أمره بالإمساك مع أنّ ذي العطاش داخل في من:

«يطيقونه» فهو مأمور بالكفّارة لا الصوم.

ص:337


1- . النهاية لابن الأثير: مادة «عطش» ومثله الطريحي.
2- . الفقيه: 2/84 برقم 376.
3- . تهذيب الأحكام: 4/240 برقم 702، باب العاجز عن الصيام.

سادساً: أنّ ظاهر الرواية أنّ من أصابه العطش صائم، وذو العطاش لا يصوم أبداً.

سابعاً: أنّ صاحب الوسائل مع أنّه نقل كلمة العطاش، لكن لم يذكر الرواية في باب من به داء العطاش الذي عقد له الباب الخامس عشر، بل ذكرها في باب آخر برقم 16، وهذا يدلّ على أنّه فهم من الرواية ما ذكرناه، ويعرب عنه عنوان الباب حيث قال: إنّ الصائم إذا خاف التلف من العطش جاز له الشرب بقدر ما يمسك الرمق ولم يجز له أن يشرب حتّى يروى.

***

الرواية الثانية: ما رواه الكليني بسند صحيح عن المفضّل بن عمر، قال:

قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: إن لنا فتيات وشباباً لا يقدرون على الصيام من شدّة ما يصيبهم من العطش ؟ قال: «فليشربوا بقدر ما تروى به نفوسهم، وما يحذرون»(1).

نعم الاستدلال بالرواية مبني على كون المفضّل بن عمر ثقة، واختلفت فيه كلمات الرجاليين:

عدّه المفيد في «الإرشاد» من خاصّة أبي عبداللّه عليه السلام وبطانته وثقاته، وعدّه الشيخ الطوسي في «الغيبة» من الممدوحين.

وقد تضاربت الروايات في حقّه ولكن الظاهر أنّه جليل ثقة ويدلّ على جلالته كتابه المعروف ب «توحيد المفضّل» الذي يرويه عن الإمام الصادق عليه السلام.

وعلى كلّ تقدير فجواز الشرب بمقدار الضرورة لا إشكال فيه.

إنّما الكلام في القضاء.

وأمّا القضاء فهذا هو الظاهر من السيد الطباطبائي ولم يعلّق عليه أحد،

ص:338


1- . الوسائل: 7، الباب 16 من أبواب من يصحّ منه الصيام، الحديث 2.

وهذا يدلّ على أنّ المشهور هو وجوب القضاء، ولا شكّ أنّه أحوط، وأستدلّ عليه بأنّه تناول المفطّر إختياراً، ودليل الاضطرار لا يدلّ على صحّة الصوم لأنّه إنّما يرفع الحكم التكليفي فغايته جواز الشرب الذي كان محرّماً في نفسه، وأمّا صحّة الصوم بالإمساك إلى آخر النهار فلا دليل عليه.

يلاحظ عليه بوجهين:

الأوّل: الملازمة العرفية بين تجويز الإفطار بمقدار الضرورة بحيث يمسك رمقه، ولا يشرب حتّى يروى وبين صحّة صومه، إذ لو فسد صومه فلا وجه لهذا التحديد، بل يرخّص له الإفطار والشرب حتّى يروى. ولا دليل على وجوب الإمساك تأدّباً في المقام بعد فساد صومه.

الثاني: أنّ الصحّة مقتضى إطلاق لسان الروايتين لكون الإمام عليه السلام لم يذكر عن القضاء شيئاً، واحتمال أنّ سكوته لأجل كون المخاطب عارفاً به، كماترى، لأنّ الإمام عليه السلام يلقي كلامه على السائل وغيره، فكيف يعتمد على العلم الشخصي ؟!

وهناك أسئلة أو إشكالات أُثيرت حول الموضوع نذكرها تباعاً:

الإشكال الأوّل: أنّ المشهور قد أعرض عن الروايتين حيث أفتوا بفساد صومه ووجوب قضائه، ولم يقل أحد بصحّة صومه.

يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الفقهاء عملوا بكلتا الروايتين بشهادة أنّهم أفتوا بجواز الشرب غير أنّ كثيراً منهم لم يعتبروا ترك البيان دليلاً على سقوط القضاء، وعلى هذا فالروايتان معتبرتان عندهم.

وثانياً: أنّ قسماً من الفقهاء أفتوا بعدم القضاء إمّا بالسكوت، أو بالتصريح.

أمّا السكوت فهذا هو الصدوق قال في «المقنع»: إذا لم يتهيّأ للشيخ أو الشاب أو المرأة الحامل أن تصوم من العطش والجوع أو تخاف المرأة أن يضرّ بولدها

ص:339

فعليهم جميعاً الإفطار، ويتصدّق كلّ واحد عن كلّ يوم بمدٍّ من طعام.(1)

قال العلّامة بعد نقل هذا الكلام عن الصدوق: وهذا الكلام يشعر بسقوط القضاء، والمشهور بين علمائنا وجوب القضاء عليها.(2)

وأمّا التصريح فإليك مَن وقفت على كلماتهم:

1. قال العلّامة: روى الشيخ عن عمّار الساباطي قال: سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الصائم يصيبه عطش.. إلى آخر الرواية، ثم يقول: والرواية مناسبة للمذهب لأنّه في محل الضرورة. إذا ثبت هذا، فهل يجب عليه القضاء أو لا؟ الوجه: عدم الوجوب لأنّه شرب بقدر ما يمسك رمقه مخافة التلف، كان بمنزلة المكره.(3)

وقال في «تحرير الأحكام» بعد نقل رواية عمّار: وهي جيّدة، والأقرب عدم وجوب القضاء.(4)

2. قال الأردبيلي بعد نقل رواية المفضّل بن عمر: وأنّ الظاهر عدم القضاء لعدم الدليل، ولعدم ظهور بطلان الصوم، بل الظاهر أنّ الصوم في حقّهم ذلك.(5)

هذا ما وقفت عليه على عجالة.

الإشكال الثاني: ما الفرق بين مَن أصيب بداء العطاش فيبطل صومه بشرب الماء وعليه الكفّارة، وبين مَن أصابه العطش فيشرب الماء فيصحّ صومه ؟ ولو كانت الغاية التسهيل على المكلّف، فمَن أُصيب بداء العطاش أولى بذلك بأن يأمر بالإمساك إلى المغرب ويصحّ صومه كما هو الحال فيمَن أصابه العطش.

ص:340


1- . المقنع: 194.
2- . مختلف الشيعة: 3/349.
3- . منتهى المطلب: 9/139.
4- . تحرير الأحكام: 1/480.
5- . مجمع الفائدة والبرهان: 5/326.

يلاحظ عليه: الفرق بين الشخصين واضح، لوجود الفرق بين الضعيف والقويّ ، فذو العطاش ضعيف مريض لا يستطيع الصوم لأجل مرضه، فأُمر بالأفطار دون الإمساك فلا يصلح التسهيل في مورده، وأمّا من أصابه العطش فهو إنسان سالم مستطيع ليس مريضاً غير أنّه ألجأته الضرورة لشرب جرعة أو جرعتين لحفظ نفسه أو رفع حرجه، ولذلك أُمر بالإمساك وصحّ صومه دون الأوّل.

وإن شئت قلت: إنّ ذا العطاش استحقّ بالامتنان الأكثر فأُمر بالإفطار والكفّارة وعدم القضاء على قول (كما مرّ من السيد الحكيم والسيد الخوئي)، أو القضاء إذا أمكن على قول الآخرين.

وهذا بخلاف مَن أصابه العطش، إذ هو ليس مستحقّاً لهذا النوع من الامتنان فلا يجوز له الإفطار بل يجب عليه الإمساك إلى المغرب.

هذا ما حقّقناه في سالف الزمان في شرحنا على العروة الوثقى .(1)

الإشكال الثالث: لو فرضنا أنّ الخبّاز الذي يعمل أمام التنور يعطش ساعة بعد ساعة، فهل يجوز له أن يشرب من الماء ساعة بعد ساعة إلى الغروب، عشر مرات، ويصحّ صومه عند ذلك ؟

يلاحظ عليه: أنّ مورد الرواية وفرض الفقهاء مَن أصابه العطش صدفة من دون اختيار، وأمّا مَن عرض نفسه على عمل يسبب العطش ساعة بعد ساعة فهو خارج عن فرض الروايات وفتوى المشهور.

وقد أُثيرت في شهر رمضان هذه السنة حول هذه الفتوى تساؤلات ولعلّ هذه الرسالة تكفي في الإجابة عنها.

ومع ذلك كلّه فلا شك ّ أنّ القضاء هو الأحوط، واللّه العالم.

ص:341


1- . لاحظ كتابنا: الصوم في الشريعة الإسلاميّة الغرّاء: 1/270-272.

9. «منى ، التاريخ والتشريع»

اشارة

لقد وقفت على كتاب للأُستاذ الدكتور الشيخ عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان بعنوان «منى التاريخ والتشريع»(1)، وبعد أن طالعته وجدته كتاباً ممتعاً جدّاً ولذلك قمت بتلخيص ما جاء فيه لينتفع به طلاب العلم والمختصون بمباحث الحج ومناسكه، واللّه من وراء القصد.

والمؤلف: عضو هيئة كبار العلماء في مكّة المكرّمة، ومسؤول مكتبة الحرم المكّي الشريف المشيّدة في محل ولادة نبي اللّه الأكرم صلى الله عليه و آله.

والكتاب: عبارة عن بحث ألقاه فضيلة الشيخ في أحد المعاهد العلمية المتعلقة بأُمور الحجّ ، في 28 ذي القعدة 1427 ه.

ويتألف البحث من تمهيد وخاتمة، بينهما قسمان:

القسم الأوّل: منى المشعر، ويشتمل على مبحثين.

القسم الثاني: منى التشريع، ويشتمل على ثلاثة مباحث.

ص:342


1- . طبع الكتاب بالحجم المتوسط (الرقعي) عام 1428 ه، في 75 صفحة، في مطابع سحر بجدّة، ولوأسماه ب «منى تاريخاً وتشريعاً» لكان أفضل.

أمّا التمهيد

اشارة

فقد ركّز الدكتور فيه على دراسة منى من ستة جوانب:

1. منى العَلَم على المكان

وعرّفها بقوله:

منى عَلَمٌ على أحد أهم الأمكنة التي تقام فيها معظم شعائر الحجّ ، ابتداءً بيوم التروية (الثامن) وانتهاء برمي الجمرات في اليوم الثالث عشر من ذي الحجّة (الثالث من أيام التشريق). وذكر بعد ذلك وضع منى الاجتماعي ومن يسكنها والملامح العمرانية، والقصور المشيّدة فيها، وأسماء الأحياء السكنية المحيطة بها.

2. شوارع منى الرئيسية

وذكر في أوّلها الطريق الأعظم وهو الذي سلكه النبي صلى الله عليه و آله إلى جمرة العقبة، وقال: إنّه يتوسط وادي منى في خط مستقيم من مزدلفة مارّاً بوادي محسّر، ويتمثّل هذا الطريق في الوقت الحاضر في طريق المشاة الممتد من عرفات، فمزدلفة، فوادي محسّر، منتهياً إلى منى ، فجمرة العقبة.

3. سبب تسميتها منى

وقد ذكر لذلك وجوهاً ثلاثة:

أ. تمنّي آدم عليه السلام الجنّة في هذه البقعة.

ب. سمّيت منى لما يمنى (أي يراق) فيها من الدماء تقرّباً إلى اللّه عزّ وجلّ .

ج. كلّ موضع يُجتمع فيه، فهو «منى » عند العرب.

ص:343

4. أيام منى، أسماؤها وخصائصها

قال: تُعدّ أيام منى من أعظم أيام الإسلام وأحبّها، جمعت من العبادات ما تتميّز به عن غيرها من المناسبات الدينية، فعنونت بخصائصها، ووضع لأيامها عنوان يشملها وهو «أيام التشريق» لكثرة تشريق اللحم في الشمس فيها بعد تقطيعه وتقديده.

واليوم الأوّل من هذه الأيام الثلاثة يقال له: «يوم القرّ»(1) وسُمّي «يوم الرؤوس» وله فضائل عظيمة وخصائص بارزة.

ويُسمّى أيضاً «يوم النحر» أو «يوم الحج الأكبر» أو «يوم عيد الأضحى».

وأمّا اليوم الثاني من أيام التشريق (الثاني عشر من ذي الحجّة) فيقال له: «يوم النفر الأوّل» وقيل يقال له: «يوم الرؤوس».

وأمّا اليوم الثالث من أيام التشريق فيقال له: «يوم الخلاء» لأنّ منى تخلو فيه من أهلها، ويُسمّى: «يوم الخلا» كما يُسمّى «يوم النفر الآخر».

أقول: وبعد أن ذكر المؤلّف الأسماء الخاصّة بأيام التشريق قال: ثم إنّ هذه الأيام مصنّفة إلى نوعين: أيام معدودات، وأيام معلومات. وقد ورد في القرآن الكريم ذكر الأيام المعدودات أوّلاً في قوله تعالى: (وَ اذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ ) (2)، وذكرت الأيام المعلومات ثانياً في قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ ) .(3)

وبذلك دخل الباحث في موضوع قرآني فقهي شيّق لبيان آراء الفقهاء والمفسّرين ليوضّح الفرق بين المعلومات والمعدودات.

ص:344


1- . وذلك لأنّ الناس يستقرّون فيه بمنى ، وقيل هو اسم لليوم الثاني من أيام التشريق.
2- . البقرة: 203.
3- . الحج: 28.
5. حدود منى الشرعية

قال الباحث - نقلاً عن «كشاف القناع» للبهوتي -: حدّها من واد محسِّر إلى جمرة العقبة، ووادي محسّر وجمرة العقبة ليسا من منى، وفي الآثار ما يؤيّد هذا.

ثم قال: وفي ضوء هذا التحديد رسمت حدود منى في الوقت الحاضر ووضعت لوحات إرشادية لبيانها، وفي مرحلة تاريخية سابقة شيّدت العلامات الإرشادية بناء بالحجر والأسمنت المسلح، ومازالت قائمة إلى الآن، ثمّ تطرق إلى بيان آراء المذاهب الأربعة في تحديد حدود منى. وقال في آخر هذا الموضوع: رقعة منى محدودة المساحة، وهي مكان إقامة الحجّاج لأيام عديدة، تتجلّى سماحة الإسلام ويسر تشريعاته حين يزدحم الحاج، ويضيق المكان، ويتحدّد الزمان، ويضعف الإنسان، أو تضيق عنده ذات اليد لإكمال النواقص وتعويض الواجبات، فالأخذ بالمقصد التشريعي التيسير والسماحة هو المخرج من هذا المأزق الحرج.

6. فضائل منى

نقل الباحث عن الأزرقي عدد من الروايات عن فضل مسجد الخيف والصلاة فيه، وقال:

وعن ابن جريج عن إسماعيل بن أُميّة أنّ خالد بن مضرس أخبره أنّه رأى أشياخاً من الأنصار يتحرّون مصلّى النبي صلى الله عليه و آله أمام المنارة قريباً منها.(1)

وبهذا تمّ التمهيد الذي أعدّه الباحث في 27 صفحة.

القسم الأوّل: منى في ذاكرة التاريخ الإسلامي

اشارة

هذا هو المبحث الأوّل من القسم الأوّل الذي أسماه في مقدّمة الكتاب

ص:345


1- . أخبار مكّة للأزرقي: 768/2.

«منى المشعر» وتحدّث في هذا المبحث عن تاريخ منى المدوّن المتّفق عليه الذي يبدأ من عهد أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وكيف أنّ جبريل علّم إبراهيم مناسك الحجّ حتى انتهى به إلى عرفة فقال له: أعرفت مناسكك ؟ فسمّيت عرفات لذلك.

وتحدّث الكاتب عن أوّل من نصب الأنصاب في منى وكيف أنّها بعد أن كانت ترمز إلى توحيد عبادة اللّه عز وجل تحوّلت إلى مكان لعبادة الأوثان، ويتحمّل وزر هذا التغيير عمرو بن لحيّ الذي نصب بمنى سبعة أصنام، وقسّم عليهن حصى الجمار.(1)

وأشار الكاتب إلى الأحداث التاريخية التي جرت في أرض منى ومنها حلف الأحزاب، وبيعتا العقبة، اللتان آتيا ثمارهما نصراً مؤزّراً، وفتحاً مبيناً، فأصبحتا - بما تمّ فيهما من عهود بين النبي صلى الله عليه و آله والأنصار - بداية الانطلاق للدين الإسلامي.

الأماكن المأثورة الثابتة تاريخياً

هذا هو المبحث الثاني من القسم الأوّل، وذكر المؤلّف فيه:

1. مصلّى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بمنى ، وقال: الأحجار التي بين يدي المنارة وهي موضع مصلّى النبي صلى الله عليه و آله، ونقل عن الأزرقي قوله: وقال جدي: لم نزل نرى الناس وأهل العلم يصلّون هناك ويقال له: مسجد العيشومة، فيه عيشومة أبداً خضراء في الجدب وفي الخصب، بين حجرين من القبلة، وتلك العيشومة قديمة لم تزل ثم.(2)

ص:346


1- . أخبار مكة: 771/2.
2- . أخبار مكة: 769/2.

2. مسجد الخيف، وسمّي بذلك لأنّه بني على خيف(1) الجبل، وروى الأزرقي بسنده إلى ابن عباس قال: صلّى في مسجد الخيف سبعون نبيّاً مخطمون بالليف، قال مروان: يعني: رواحلهم».

وبسنده - أيضاً - عن مجاهد أنّه قال: حجّ خمسة وسبعون نبياً، كلّهم قد طاف بالبيت، وصلّى في مسجد منى ، فإن استطعت أن لا تفوتك الصلاة في مسجد منى فافعل».

وبسنده إلى ابن جريج عن عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقول: لو كنت من أهل مكّة لأتيت مسجد منى كلّ سبت.(2)

ثم قال المؤلّف: وقد جدّد بناؤه في العهد السعودي، وتمّت به توسّعات كبيرة، وأُزيل منه كلّ ما يشير إلى المواقع الأثرية فيه!!؟

3. مسجد الكبش، أي الكبش الذي هبط على إبراهيم فداءً لابنه إسماعيل عليهما السلام، وقيل: إنّه الكبش الذي ذبحه ابن آدم فتقبل منه، أو ذبحه إبراهيم فداءً لولده إسحاق.

ونقل الباحث عن العلّامة الكردي - فيما يخصّ وجود هذا المسجد -:

نقول: إنّه لم يبق اليوم لهذا المسجد من أثر.(3)

4. مسجد البيعة (شعب الأنصار)، ويقع على يسار الذاهب إلى منى .

وقد تمّت فيه بيعتا العقبة الأُولى والثانية اللتان غيّرتا مجرى التاريخ الإنساني، وتركت آثارها على أرض الواقع شاهداً على ما دار في تلك الأماكن من أحداث ووقائع تمثّل مرحلة حاسمة في تاريخ الإسلام، وأنّ من الواجب الاحتفاظ به معلماً تاريخياً من معالم التاريخ الإسلامي.

ص:347


1- . الخيف في الأصل ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع من مسيل الماء.
2- . أخبار مكّة: 768/2.
3- . التاريخ القويم لمكّة وبيت اللّه الكريم لمحمد طاهر الكردي: 28/6.

5. موضع منزل رسول اللّه بمنى ومنازل أصحابه، وقد نظم رسول اللّه صلى الله عليه و آله منازل صحابته الكرام بمنى، فأقام المهاجرين أمام مسجد الخيف، والأنصار من ورائه، وأقام صلى الله عليه و آله منزله على يسار المصلّى.

6. غار المرسلات (مسجد المرسلات) وهو الذي نزلت فيه سورة المرسلات، ويقع خلف مسجد الخيف أسفل الجبل يأثره الخلف عن السلف، وهو غير موجود في الوقت الحاضر، وقد جاءت عليه الهدميات وتوسعة منى وإزالة المباني منها.

ونقل عن العلّامة الكردي - فيما يخصّ هذا المسجد - قوله: قال الغازي: ومنها: مسجد لطيف يماني مسجد الخيف فيه غار به أثر يقال: إنّه أثر رأس رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلحف الجبل المشرف على مسجد الخيف المسمّى بالضب... قال الغازي: هنا أقول: قد اندرس مسجد المرسلات الآن، ولم يبق أثر للمسجد، ولا للغار.(1)

القسم الثاني: منى التشريع

قال الكاتب: منى الشعيرة مجموعة من الآيات البينات، والتشريعات حوت من مقاصد الشريعة في الحجّ مجموعة ما تحقّق منفرداً في بقية المشاعر:

مقاصد عقدية، ومقاصد تشريعية، مقاصد علمية وفكرية، مقاصد سياسية، مقاصد اقتصادية، مقاصد اجتماعية.

ثم تحدّث المؤلّف عن هذه المقاصد واحد واحداً وذكر في قسم المقاصد العقدية فائدتان هي: أنّ الحجّ مدرسة إيمانية، عملية تطبيقية، لحمتها وسداها التوحيد الخالص للّه عزّ وجلّ ، والآخر هو أنّه يجب على الحاج أن يستفيد من أداء شعيرة الحج دروساً مستقبلية في العقيدة الصحيحة، والمداومة

ص:348


1- . التاريخ القويم لمكّة وبيت اللّه الكريم: 127/6.

على ذكر اللّه تعالى والثناء عليه كما كان حاله في أثناء أدائه لمناسك الحجّ .

ثمّ تعرض المؤلّف إلى بيان المقاصد العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، وفي نهاية آخرها قال: [إنّ ] مقاصد هذا الركن الإسلامي العظيم وأسراره جذبت أنظار المثقّفين في الأُمّة:

الفقيه ينطلق من توجه فقهي محض، يستخرج الأحكام.

العالم المقاصدي يستنبط المقاصد الشرعية والحِكم المرعية في الشريعة.

عالم السلوك ينطلق من توجه روحي صاف.

الأديب يستلهم المشاعر والعواطف في تلك المجتمعات الإيمانية.

عالم الاجتماع يتحدّث من منطلق اجتماعي، وكذلك المفكّر، وعالم الاقتصاد، وهكذا تتآخى كلّ تلك المقاصد ولا تتنازع، أو تتقاطع، أو تتعارض.

ثمّ إنّ المؤلّف انتقل لبيان المقاصد الشرعية التي تتجلّى واضحة بارزة أعظم ما تكون مجتمعة في مشعر منى، وأشدّ ما يحتاج إليه منها حاضراً، وذكر لذلك نماذج منها:

[المقصد الأوّل]: (مقصد) التيسير ورفع الحرج عن الأُمّة في شعائر منى.

وذكر في هذا المقصد القاعدة الأُولى من القواعد الخمس التي درسها في هذا القسم من بحثه، وهي: قاعدة تردّد الأحكام بين الجواز والفضيلة، وقال:

تجلّى الاتجاه نحو التيسير واضحاً صريحاً، ودليلاً قاطعاً في [الوجوه] التالية:

1. إجابات المصطفى صلى الله عليه و آله في قوله: «افعل ولا حرج».

2. أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله حجّ مرّة واحدة ؟

3. اجتهاد الأئمة - رحمة اللّه تعالى عليهم - واختلافهم.

4. تأثّر الفقهاء في دراسة أحكام المناسك بكلّ ما تقدّم.

المقصد الثاني: التنويع مع التخيير في الأحكام أداء، وقضاءً (وجعلها

ص:349

القاعدة الثانية) وذلك يتمثّل في أنّ المكلّف مختار في أن يأخذ بما يناسبه من الأحكام التالية:

1. التمتّع أو القران.(1)

2. العقوبة لارتكاب محظور من محظورات الإحرام، (الكفّارة).

3. التحلّل الأصغر عند المالكية.

القاعدة الثالثة: اختلاف المذاهب، واختيار الأرفق والأوفق منها في الفتيا، ومن ذلك:

رمي الجمرات أيام التشريق الثلاثة يبدأ من الزوال إلى الفجر، وذكرهنا رأي الإمام محمد بن علي الباقر عليهما السلام كما ورد عنه في الأمالي بقوله: فارم الجمار كلّ يوم عند زوال الشمس، وأي ساعة شئت غير أنّ أفضل ذلك عند زوال الشمس، ثم قال عليه السلام: إرم قبل الظهر، وبعده، وإن شئت ضحى، وإن شئت بالعشي.(2)

القاعدة الرابعة: التلفيق، أو تتبع الرخص، وقال: لهذه القاعدة الشرعية دور بارز في تخفيف الكثير من القضايا الحرجة في الحجّ التي يصعب تطبيقها حسب الأوامر الشرعية الإسلامية، كما هو الحال في نساء الحجيج إذا حضن قبل طواف الإفاضة، ولم يمكنهن الإقامة حتى الطهر.

القاعدة الخامسة: نظرية أنّ الشريعة الإسلامية جاءت أصالة على مرتبتين: التخفيف والتشديد.

ص:350


1- . التمتع للنائي والقران لمن ساق الهدي في مذهب أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
2- . يُبدأ بالرمي من طلوع الشمس إلى المغرب في مذهب أئمّة أهل البيت عليهم السلام. وقد نقل مسلم في صحيحه كيفية حج رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الإمام الباقر عليه السلام، لاحظ للوقوف على تفصيل هذه الرواية: صحيح مسلم: 39/4-43، باب حجّة النبي صلى الله عليه و آله؛ سنن أبي داود: 182/2، الحديث 1905، شرح صحيح مسلم للنووي 170/8، باب حجّة النبي صلى الله عليه و آله.

وأنّ المكلّفين على قسمين: قويّ وضعيف، ولكلّ من هذين القسمين أحكام تناسبه.

المبحث الثاني [من القسم الثاني]: مناسك منى يوم النحر (العاشر من ذي الحجّة):

1. أداء الصلوات بمنى، وقال: اختلفت المذاهب الفقهية في سبب القصر والجمع في الحجّ هل هي من قبيل النسك، أو بسبب السفر؟ وأجاب الباحث عن هذا السؤال بذكر آراء المذاهب الأربعة.

2. ابتداء وقت التكبير وانتهاؤه.

3. رمي جمرة العقبة يوم العيد.

4. نحر الهدي، أو ذبحه.

5. الحلق أو التقصير.

6. طواف الإفاضة.(1)

7. تقديم سعي الحجّ لأهل مكة.

8. ترتيب مناسك يوم النحر.

9. صلاة العيد.

المبحث الثالث: مناسك أيام التشريق وعلاقتها بقواعد التيسير، وقد أورد في هذا المبحث المناسك التالية:

1. المبيت بمنى ، 2. رمي الجمرات أيام التشريق، 3. النيابة في رمي الجمرات.

وبعد أن أتمّ هذا المبحث لخّص الباحث دراسته في خاتمة جميلة في

ص:351


1- . أو طواف النساء (في فقه مذهب أهل البيت عليهم السلام).

خمس صفحات، وممّا ذكره هناك:

إنّ التصرّف فيها [يعني الآثار التاريخية الإسلامية] بالهدم والإزالة هو محو لصفحات مشرقة في التاريخ الإسلامي، يتحوّل التاريخ من حقيقة إلى أُسطورة تروى، يكفي أنّ السلف حافظوا عليها قروناً عديدة، ولم يروا في إبقائها والمحافظة عليها أي محظور شرعي يمسّ العقيدة الصحيحة، ونحن في العصر الحاضر أولى أن نحافظ عليها لتظل شاهداً حيّاً على تضحيات السلف، وما لاقاه نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من مشقّة في إبلاغ الدعوة، ونشر عقيدة التوحيد.

ثمّ إنّ المؤلف عاد ليذكر ظواهر بارزة لقواعد التيسير على المكلّفين في أحكام الشريعة الإسلامية فتوى وقضاء أمر إلهي، ومقصد شرعي قطعي منشود في كلّ مظاهر التشريع الإسلامي.(1)

وقد جمع هذه الظواهر في عشرة نماذج جميلة، أضفت على البحث صبغة جعلته جديراً بالمطالعة، واكتفي بذكر عاشر هذه النماذج، قال:

الفائدة المرجوّة من تلك الرحلة الإيمانية هو أنّ تسلم للأُمّة عقيدتها، وتصحّ لها جوانبها الفقهية التشريعية، مكسوّة برداء التيسير والتسامح، فتستقيم أُمورها الاجتماعية والسلوكية، [و] يتحقّق لها كلّ ذلك من أداء شعيرة الحجّ السنوية كما أرادها المولى عزّ وجلّ ، لتصبح عنواناً عملياً على الفكر والسلوك، والتعامل المثالي، فتحقّق بجدارة أنّها أُمّة مسلمة، تستعيد مكانتها، وتميّزها بين أُمم الأرض.

***

إلى هنا تمّ عرض رسالة «منى ، التاريخ والتشريع» بتلخيص، غير أنّ

ص:352


1- . لا شكّ أنّ الأحكام الشرعية نابعة عن مقاصد وغايات ترجع إلى صلاح الفرد والمجتمع، وإنّما يعتبر ملاكاً لتسرية الحكم إلى ما لا نصّ فيه فيما لو دلّ الدليل الشرعي على أنّ ما دلّ عليه الدليل ملاك قطعيّ فريد في بابه، وليس من مقولة الحكمة، والتفصيل في محلّه.

المؤلّف اكتفى بإشارة إلى لزوم صيانة الآثار الإسلامية وما يترتّب على هدمها من نتائج، ونحن نزيد بياناً ونقول:

إنّ كلّ واقعة أو أي حادثة من الحوادث تُعدّ في الأيام الأُولى لوقوعها من الحقائق القطعيّة لدى المعاصرين لها، ولكنّها مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال تفقد - تلك الواقعة - قطعيتها، بصورة تدريجيّة بنحو يلقي الشك والترديد بظلاله عليها إلى درجة قد تصل الحالة إلى أن تعتبر أُسطورة خيالية في نظر البعض.

ولا شكّ أنّ الحوادث والوقائع التاريخية غير مستثناة من هذه الحالة، فبالرغم من قطعيّتها ووضوحها في الأيام الأُولى، ولكنّها قد تصل إذا أُهملت ولم تلق عناية خاصّة إلى أن تصبح أُسطورة تاريخية في نظر الأجيال القادمة.

بل أنّ تكرار هذا الخطر وتلك الفاجعة في الحضارة الإسلامية أخطر من غيرها، وذلك باعتبار أنّ الرسالة الإسلامية هي خاتمة الرسالات، وهي الرسالة الخالدة التي تسير مع الإنسان وترسم له طريقه إلى يوم القيامة، ولا شكّ أنّ الأجيال القادمة إنّما تتبع هذه الرسالة، وتنهل من نميرها العذب إذا كانت تلك الأجيال على يقين من أحقّية تلك الرسالة وعلى علم بواقعيتها وأصالتها، وممّا لا ريب فيه أنّ أحد العوامل الفاعلة والمهمة في ثبوت «قطعيّة» الرسالة وأصالتها، وتحكيم جذورها التاريخية، تكمن في الحفاظ على الآثار المتعلّقة بتاريخ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وجهاده وقيادته وحركته في المجتمع.

فصيانة هذه الآثار على وجه الإطلاق تضفي على الشريعة في نظر غير معتنقيها واقعية وحقيقة، وتزيل عن وجهها أيّ ريب أو شكّ في صحّة البعثة والدعوة، وجهاد الأُمّة ونضال المؤمنين.

ولقد بذل علماؤنا وسلفنا الصالح جهوداً جبّارة ومساعي مشكورة في مجال الحفاظ على ذلك التراث المهم، وأوصلوا الأمانة سالمة إلى الأجيال اللاحقة، وبذلك قدّموا خدمات عظيمة للأجيال من خلال ذلك العمل الرائع

ص:353

المتمثّل في صيانة الآثار وحفظها، ممّا كان له أثره الفاعل في النظر إلى الدين الإسلامي نظرة واقعية، وإلى الشخصيات الإسلامية نظرة قطعيّة لا ريب ولا تردّد فيها أبداً.

من هنا يستطيع المسلمون أن يتحدّثوا عن دينهم ويدعوا الناس إليه بقوّة واطمئنان تامّين، فهم يواجهون العالم مرفوعي الرأس ويقولون: أيّها الناس لقد بعث رجل في أرض الحجاز قبل 1400 سنة لقيادة المجتمع البشري، وقد حقّق نجاحاً باهراً في مهمته التي استمرت 23 عاماً موزّعة على مرحلتين: 13 عاماً منها في مكّة، وعشرة منها في المدينة، وهذه آثار حياته محفوظة تماماً في مكّة والمدينة، فهذه الدار التي ولد فيها، وهذا مسجده، وهذا البيت الذي دفن فيه، وهذه بيوت زوجاته، وهذا غار حراء الذي كان يتعبّد فيه والذي هبط الوحي عليه فيه وهو في سن الأربعين من عمره الشريف، ومنه بدأت حركة الرسالة الإسلامية، فآمنت به طائفة وكفرت أُخرى، وقد واجه في طريق الدعوة أشدّ المصاعب في مكة ممّا اضطره للهجرة إلى المدينة، وفي طريق هجرته لجأ إلى «غار ثور» في جنوب مكّة، وبعد أن أمن الطلب توجّه صوب المدينة مهاجراً ليستقبله الأوس والخزرج، ويؤسّس هناك نواة الحكومة الإسلامية الجديدة.

وقد خاض صلى الله عليه و آله في تلك الفترة من حياته الشريفة معارك ضارية مع المشركين واليهود، قدّم خلالها قافلة من الشهداء في بدر وأُحد وخيبر وحنين، كما قام صلى الله عليه و آله بإرسال المبلّغين إلى سائر أراضي الجزيرة العربية يدعون الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك والوثنية، وبعد أن أتمّ رسالته وأدّى مهمته على أحسن وجه، لبّى نداء ربّه في السنة الحادية عشرة من هجرته الشريفة، وقد استلم الراية التي رفعها أهل بيته وأنصاره وأصحابه، وساروا على النهج الذي سار عليه ونشروا مفاهيم القرآن وقيمه في أرجاء المعمورة.

والآن، إذا قضينا على هذه الآثار، فقد قضينا على معالم وجوده صلى الله عليه و آله ودلائل

ص:354

أصالته وحقيقته، ومهّدنا السبيل لأعداء الإسلام ليقولوا ما يريدون.

إنّ هدم آثار النبوّة وآثار أهل بيت العصمة والطهارة لا يُعد إساءة إليهم عليهم السلام وهتكاً لحرمتهم فقط، بل هو اعتداء سافر على أصالة نبوّة خاتم الأنبياء ومعالم دينه القويم. إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبدية وسوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة، ولابدّ للأجيال القادمة - على طول الزمن - أن تعترف بأصالتها وتؤمن بقداستها. ولأجل تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ - دائماً - على آثار صاحب الرسالة المحمدية صلى الله عليه و آله لكي نكون قد خطونا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين وبقائه على مدى العصور القادمة، حتّى لا يشكّك أحد في وجود نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله كما شكّكوا في وجود النبي عيسى عليه السلام.

لقد اهتمّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبي محمد صلى الله عليه و آله وسيرته وسلوكه، حتّى أنّهم سجّلوا دقائق أُموره وخصائص حياته ومميّزات شخصيته، وكلّ ما يرتبط به كخاتمه، ونعله، وسواكه، وسيفه، ودرعه، ورمحه، وجواده، وإبله، وغلامه، حتّى الآبار التي شرب منها الماء، والأراضي التي أوقفها لوجه اللّه سبحانه، والطعام المفضّل لديه، بل وكيفية مشيه وأكله وشربه، وما يرتبط بلحيته المقدّسة وخضابه لها، وغير ذلك، ولا زالت آثار البعض منها باقية إلى يومنا هذا.(1)

هذا، وإذا استعرضنا تاريخ الشرائع السماوية نجد في تاريخ السيد المسيح عليه السلام خير شاهد على ما نذهب إليه، فمن المسلّم به أنّ الإنسان المسلم - وتبعاً للقرآن الكريم والسنّة المطهّرة - يذعن بوجود السيد المسيح عليه السلام، ويعتقد اعتقاداً راسخاً بأنّ هذه الشخصية تمثّل حلقة من سلسلة الرسالات والنبوّات الطويلة، وأنّ للسيد المسيح وجوداً حقيقياً ودوراً فاعلاً في تاريخ البشرية عامّة

ص:355


1- . حول هذا الموضوع راجع الطبقات الكبرى لابن سعد: 360/1-503.

وتاريخ الرسالات خاصّة، حيث جاء بتعاليم وإرشادات ودساتير سماوية من خلال كتابه «الإنجيل».

ولكن - وللأسف الشديد - نجد الشباب الغربيّين لعدم معرفتهم بالمعارف القرآنية الحقّة وعدم اعتقادهم بالدين الإسلامي الذي جاء به الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والذي يعتبر أفضل طريق وأصفى مرآة لإثبات حقيقة السيد المسيح عليه السلام، نجدهم ينظرون اليوم إلى شخصية السيد المسيح عليه السلام نظرة ارتياب وشكّ وتردّد، وذلك لأنّ الشاب الغربي قد جال ببصره وتتبع الآثار التاريخية، فلم يجد لهذه الشخصية العملاقة أثراً ملموساً لكي يركن إليه، فلم يجد له قبراً(1)، أو لأُمّه مريم، أو لأحد حواريّيه، كما لم يجد له كتاباً متّفقاً عليه، وإنّما نسبت إليه أناجيل كثيرة مضطربة مختلفة فيما بينهما لا يمكن تمييز الحق من الباطل منها بسهولة.

وخلاصة الأمر: أنّ الشاب الغربي لم يعثر على شيء ملموس يؤدّي به إلى الاطمئنان بأصالة هذه الشخصية والركون إلى أنّها واقعية حقيقية لا يمكن التردّد فيها.

ومن هنا ينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ العبر والدروس من التاريخ المسيحي، وأن نسعى بكلّ ما أُوتينا من قوّة وجهد في سبيل صيانة الآثار الإسلامية عامّة، وآثار الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله خاصّة مهما كانت صغيرة، وذلك لأنّها تمثّل الشاهد الحيّ على أصالتنا وأحقيّة دعوتنا، وأن نتجنّب تدميرها بمعول محاربة الشرك الذي اتّخذه البعض - وللأسف الشديد - ذريعة للقضاء على هذه الآثار التاريخية الملموسة والمعالم الإسلامية المهمّة، كي لا يصيب أجيالنا القادمة ما أصاب الشباب الغربي من داء التردّد والشك في شخصية السيد المسيح عليه السلام.

ص:356


1- . هذا الكلام يصدق وفقاً للتفكير المسيحي المنحرف الذي يذهب إلى أنّ المسيح عليه السلام صلب فعلاً. وأمّا حسب النظرية الإسلامية فلا يصح.

القرآن الكريم وحفظ الآثار

لقد أكّد القرآن الكريم أنّ الأُمم السالفة كانت تحتفظ بآثار أنبيائها وتحافظ عليها وتصونها وتتبرّك بها، وكانت تحملها معها في الحروب، ليتسنّى لها من خلال التبرّك بها التغلّب والانتصار على عدوهم.

ومن النماذج التي ذكرها القرآن الكريم في هذا المجال تابوت بني إسرائيل الذي كانت فيه مواريث آل موسى وهارون، قال تعالى:

(وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .(1)

ولا ريب أنّ هذا التابوت عظيم البركة بشهادة أنّ الملائكة هي التي تحمله، فلو كان حفظ الآثار وصيانتها بصورة عامّة وحفظ هذا التابوت المقدّس بصورة خاصّة غير لائق وغير جدير بالاهتمام، فلماذا يتحدّث عنه القرآن الكريم بهذا اللحن من الخطاب الإيجابي الذي يظهر منه تأييد الفكرة واستحسانها؟! ولماذا تتصدى الملائكة على عظمتها وقداستها لحمله ؟! ولماذا تكون عملية استرجاعه من أيدي العمالقة آية على حقّانية قائد الجيش في وقته ؟!

نعم أنّ الجهلة وذوي العقول الصبيانية هم الذي يعبثون بتراثهم ولا يعيرون له أهمية تذكر، ولا يرون له ذلك الأثر الفاعل في حركتهم المستقبلية، وأمّا الوارث العاقل واللبيب فإنّه يتعامل مع ذلك الموروث بطريقة أُخرى وبنحو يختلف اختلافاً جوهرياً عن الطريقة السالفة، وذلك لأنّه يعي جيداً ما تنطوي عليه تلك الآثار من تراث معنوي واجتماعي، وما يعكسه هذا التراث من أصالة

ص:357


1- . البقرة: 248.

وحقّانية وإثبات للهوية، لذلك تجده يعض عليها بالنواجذ، ويبذل في سبيل صيانتها الغالي والنفيس.

ومن حسن الحظ أنّ الأُمّة الإسلامية ومنذ الأيام الأُولى قد التفتت إلى أهمية هذا التراث الإسلامي المهم، فحافظت عليه كما حدّثنا التاريخ الإسلامي، حيث كانوا يحتفظون بكلّ ما يمتّ إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بصلة - كما ذكرنا -، من: ثياب، وسلاح، ودار، وكتاب، وغير ذلك من الحاجات الشخصية التي كان يستعملها، بل حتى «شعره» كانوا يحتفظون به في صندوق خاص.

ص:358

10. اختلاف الزوجين في دوام العقد وانقطاعه

اشارة

إذا اختلف الزوجان في العقد الواقع بينهما في أنّه هل كان على وجه الدوام أو على وجه الانقطاع، فالزوج يدّعي الثاني والمرأة تدّعي الأوّل، وليس لهما أي شاهد أو بيّنة يثبت قول أحدهما.

الظاهر أنّه يحمل على الدوام لا على الانقطاع بحجّة أنّ الأوّل لا يحتاج إلى التقييد بخلاف الثاني، فهو بحاجة إليه، إذ هما قد اتّفقا على أصل العقد وإنّما اختلفا في القيد الزائد - أعني: التوقيت - فالأصل عدمه؛ هذا مضافاً إلى أنّ مقتضى الاستصحاب، هو بقاء العقد.

ويمكن الاستئناس لما ذكرنا (مقتضى الإطلاق هو الدوام وأنّه لا يحتاج التقييد بخلاف التوقيت) بالأُمور التالية:

1. ما اختاره جمع من الأُصوليين من أنّ إطلاق الأمر ينصرف إلى النفسي لا الغيري، وإلى العيني لا الكفائي، وإلى التعييني لا التخييري، مع أنّ كلّاً من القسمين من الأقسام الثلاثة يتميّز عن المقسم بقيد زائد وإلّا يلزم أن يكون القسم عين المقسم، ومع ذلك يتلقّى العرف الأمر الوارد على وجه الإطلاق أنّه نفسي، عيني، تعييني، وما هذا إلّالأجل أنّه يرى أنّ الثلاثة في مقام الإفادة غنية

ص:359

عن التقييد دون غيرها، ونظير الأمر عقد النكاح فهو بلا قيد أشبه بالأمر النفسي العيني التعييني، فالإطلاق يكفي في إثبات كونه محكوماً بالدوام دون الآخر، وأنّ الأوّل غني عن التقييد دون الثاني.

وعلى هذا فلو شككنا في تقييد الإطلاق بالمدّة فالأصل عدم القيد، وهذا النوع من الأصل ليس مثبتاً كما سيتضح.

وبعبارة أُخرى: السكوت عن ذكر القيد كافٍ في إفادة الدوام بخلاف المؤقّت فلا يكفي في إنشائه إلّاذكر القيد، وإذا شُكّ في ذكر القيد ينفى بالأصل فيكون وجود العقد مع عدم التقارن بذكر المدّة كافياً في إفادة الدوام.

فإن قلت: إنّ اختلاف الزوجين في كون العقد دائماً أو مؤقّتاً يرجع إلى سعة المنشأ وضيقه، فالقائل بالدوام يدّعي سعة المنشأ والقائل بالانقطاع يدّعي ضيقه، فيرجع الأمر إلى الشك في الأقل والأكثر فيؤخذ بالأقل (أي الانقطاع) دون الأكثر أي الدوام.

قلت: إنّ ظاهر هذا الكلام هو أنّ الدوام في النكاح من أجزاء المنشأ فالقائل: «أنكحت» فكأنّه يقول: جعلت العلقة الدائمة بين الزوجين، ولكنّ الظاهر أنّ الدوام من أحكام المنشأ المجرد عن القيد بالسلب التحصيلي (إذا كان هناك عقد ولم يكن قيد) لا السلب المعدولي (أي العقد الموصوف بعدم القيد) والجزء الأوّل محرز بالوجدان والثاني بالأصل.

والدليل على ما ذكرنا من أنّ الدوام والانقطاع من أحكام المنشأ لا من أجزائه كونه المتبادر من سائر العقود، كالبيع والهبة، فقول العاقد: بعت، لا يرمي إلّا إلى إيجاد العلقة بين المالين وإنشاء المبادلة بينهما دون أن يكون الدوام أو اللزوم مأخوذاً في المنشأ وإنّما الدوام أو اللزوم من أحكام البيع عرفاً أو شرعاً.

ومنه يظهر مفاد قول القائل: «أنكحت» فليس المنشأ إلّاالعلقة بين الزوجين لا العلقة الموصوفة بالدوام حتى يكون جزء المنشأ.

ص:360

ويؤيد ما ذكرنا من أنّ الدوام ليس داخلاً في المنشأ وإنّما هو من أحكام العقد ما ورد عنهم عليهم السلام من أنّه من ترك ذكر الأجل في عقد المتعة انقلب دائماً، روى الكليني بسند صحيح عن عبد اللّه بن بكير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام في حديث: «إن سُمّي الأجل فهو متعة، وإن لم يسم الأجل فهو نكاح بات».(1)

وروى أيضاً عن أبان بن تغلب أنّه قال لأبي عبد اللّه عليه السلام: فإنّي أستحي أن أذكر شرط الأيام، قال: «هو أضر عليك» قلت: وكيف ؟، قال: «لأنّك إن لم تشترط كان تزويج مقام ولزمتك النفقة في العدّة وكانت وارثاً».(2)

فإن قلت: إنّ الإهمال ثبوتاً لا معنى له والعاقد لا ينشئ العقد مهملاً بل إمّا يريد الدوام أو الانقطاع إلّاأن يكون غافلاً أو ساهياً.

وتشهد لذلك أُمور:

1. لا يزال الفقهاء الأعلام يقسّمون النكاح إلى دائم ومنقطع.

2. قد ورد التعبير في بعض الروايات عن النكاح الدائم بنكاح المقام.

3. لا يزال العاقدون يقولون عند إنشاء العقد بالفارسية «به عقد دائمى و زوجيت هميشگى درآورم موكلۀ خودم فلانه را...» هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت ونيّة العاقد واقعاً.

نعم في مقام الإثبات إذا لم يذكر عند إنشاء العقد المدّة يكون إشارة إلى الدوام بحسب نية المنشي.

فعلى هذا فأصالة عدم ذكر المدّة - عند الشكّ - لازمه العقلي قصد الدوام من ناحية العاقد ويترتّب على هذا اللازم العقلي، أحكامه الشرعية فهذا هو الأصل المثبت قطعاً. وأمّا قياس مانحن فيه بالبيع والهبة، قياسٌ مع الفارق لأنّ

ص:361


1- . الوسائل: 14، الباب 20 من أبواب المتعة، الحديث 1.
2- . الوسائل: 14، الباب 20 من أبواب المتعة، الحديث 2.

البيع لا ينقسم إلى الدائم والمؤقّت وكذا الهبة، ولهما قسمٌ واحد طبيعته البقاء، والحال أنّ النكاح ينقسم إليهما في كلمات العلماء حتى في الروايات وعند أهل العرف.

وبعبارة واضحة: إذا اعترفنا بوجود النكاح المؤقّت، لابدّ أن نعترف بأنّ مقابله النكاح الدائم لا النكاح المهمل بالإهمال الثبوتي.

فوجود المؤقّت في باب النكاح أدلّ دليل على أنّ مقابله هو النكاح الدائم بخلاف البيع والهبة.

قلت: إنّ ما ذكر من أنّ «الإهمال الثبوتي لا معنى له، والعاقد لا ينشئ العقد مهملاً بل هو إمّا أن يريد الدوام أو الانقطاع» إنّما يفيد في المقام لو كان الدوام والانقطاع من مقوّمات النكاح دونما إذا كان كلٌّ من عوارضه وأحكامه، وعلى هذا فلا وجه لأن يقصد أحدهما، والشاهد على ذلك أنّك لا تجد أي أثر منهما في سائر العقود، وأمّا ذكر الدوام عند العقد باللغة الفارسية فهو من احتياطات علمائنا رحم اللّه الماضين وحفظ الباقين منهم.

وأمّا ما قيل من أنّ النكاح لا يقاس بالبيع لأنّ الثاني لا ينقسم إلى الدائم والمؤقّت بخلاف النكاح، فهو غير تام أيضاً؛ وذلك لأنّ نفس التقسيم يوجد في البيع لكن بصورة أُخرى وهي انقسامه إلى اللازم والجائز، فكما هما غير مأخوذين في حقيقة البيع، فكذلك الدوام والتوقيت في النكاح غير مأخوذين في حقيقته.

والذي يشهد على أنّ الدوام غير مأخوذ في حقيقة النكاح هو أنّه لو عقد رجل على امرأة في غير البيئات الشيعية وذكر قيد الدوام في العقد ربما يستغرب من فعله هذا.

ص:362

لزوم الأخذ بطبع العقد

إنّ العناوين الاعتبارية كالبيع والنكاح وغيرهما أُمور عقلائية استخدمها العقلاء لرفع حاجاتهم في حياتهم الاجتماعية، ومن المعلوم أنّ الذي يرفع الحاجة في هذه الأُمور هو ما إذا كان المعتبر بطبعه مقتضياً للدوام، فلا يرتاح العاقد إلّاإذا كان النكاح بطبعه مقتضياً للدوام والبيع كذلك، لأنّ بناء الأُسرة على أساس اللزوم أو الدوام، كما أنّ أساس التجارة على لزوم البيع ودوامه، وعلى هذا فطبيعة النكاح تلازم الدوام، والنكاح المؤقّت أمر طارئ عليه اعتبره الشارع لرفع بعض الضروريات في السفر وغيره، ونعم ما قاله أحد السادة في مقابلة مع أحد الصحفيين الذي كان ينتقد النكاح المؤقّت، قال: النكاح المؤقّت دواء لا غذاء.

فالاختلاف يكمن في جانب واحد وعليه تدور رحى البحث، وهو هل الدوام مقتضى طبيعة النكاح أو أنّه قيد في المنشأ؟ فنحن على الأوّل والقائل بالقول الآخر على الثاني.

فإذا كان الدوام مقتضى الطبيعة فيؤخذ بمقتضاها حتى يثبت الخلاف ويحكم بالدوام حتى يثبت أنّ العقد مؤقّت، فالحكم بدوام العقد ليس رهن القيد حتى يُنفى بالأصل كما قيل، بل يكفي إطلاقه لأنّ طبعه مقتضٍ للدوام، فالأخذ بمقتضى الطبع (الدوام) في غنى عن إقامة الدليل، والقائل بخلاف الطبع عليه الدليل على خلافه (المؤقّت) وليس هذا أمراً غريباً وله شواهد في الفقه، نظير:

1. الأصل في بيع الوقف هو الفساد، فمدّعي الصحّة بحاجة إلى دليل.

2. الأصل في بيع مال اليتيم هو الفساد، فعلى مدّعي الصحّة الدليل على وجود الغبطة.

3. الأصل في النظر إلى النساء هو الحرمة، وجواز النظر يحتاج إلى إثبات

ص:363

عنوان مجوّز من العناوين السبعة.

4. الأصل في اللحوم هو الحرمة، ومدَّعي الحلّية بحاجة إلى إثبات التذكية.

ثمّ إنّي بعد ما حرّرت هذا البحث، وقفت على كلام لأحد المحقّقين في المسألة، ألا وهو الفقيه الجليل، السيد علي البهبهاني قدس سره، قال ما هذا لفظه: إنّ تقابل الدوام والانقطاع من قبيل التناقض ويكون مرجع الدوام إلى إطلاق العقد وعدم كونه مؤجّلاً، وعندئذٍ يقع دائماً، لأنّ الدوام ليس شيئاً زائداً على نفس العقد حتّى يحتاج إلى القصد. ثم يقول: التحقيق أنّ تقابلهما من قبيل تقابل التناقض، ضرورة أنّ مرجع دوام عقد الازدواج إلى عدم تقييده بأجل ومدّة، فهو منتزع من إطلاق العقد وعدم تقييده، فلا يكون أمراً زائداً على نفس العقد، وإلّا وجب ذكر الدوام في العقد الدائم، كما وجب ذكر الأجل في العقد المنقطع، فاختلافهما ليس في الحقيقة والماهية بل في كيفية الإيجاد مع اتّحاد الحقيقة والماهية النوعية. فإن أوجد عقد الازدواج على وجه الإطلاق فهو دائم، وإن أوجد بأجل معيّن فهو منقطع.(1)

جعفر السبحاني

قم المقدّسة - 1434 ه

ص:364


1- . الفوائد العلية: 446/2-447، ط دارالعلم، أهواز، 1405 ه.

الفصل الثالث الرسائل المتبادلة

اشارة

1. مراسلاتنا مع الدكتور وهبة الزحيلي (1-10)(1)

2. مراسلاتنا مع الدكتور عبد الوهاب إبراهيم (11-23)

3. مراسلة مع الدكتور الشيخ على محيي الدين القره داغي (24-25)

4. مراسلة مع الشيخ أنس الكتبي الحسنى (26-27)

5. مراسلة مع الشيخ عبد اللّه الدشتي (28-29)

ص:365


1- . ما بين القوسين أرقام الرسائل حسب ترتيبنا.

ص:366

1 مراسلاتنا مع الدكتور وهبة الزحيلي

فضيلة الأُستاذ الدكتور وهبة الزحيلي أعزكم اللّه تعالى

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

في هذه الأجواء المعطّرة بنفحات ذكرى مولد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أودّ أن أزفّ إليكم أجمل التهاني، وأسمى التبريكات بهذه المناسبة الطيّبة.

وأودّ أيضاً أن أُزجي لكم كتاب «القصص القرآنية» مشفوعاً بصادق ودادي، وخالص دعائي لكم بالتوفيق والسعادة والحياة الهانئة في ظلال القرآن الكريم، وأن يجعلني وإيّاكم من حفظته وأتباعه.

أحمد اللّه تعالى على ما منّ به من التوفيق لارتياد آفاقه الواسعة، راجياً أن أكون قد أسهمت في خدمة هذا الكتاب الخالد، الّذي نتطلّع إلى أن تهتدي أُمّتنا الإسلامية بأنواره، وتحكّمه في شؤون حياتها، وتسترشد به في مواقفها في هذا المنعطف الخطير، الّذي يتكالب فيه الأعداء للإجهاز على الإسلام ومبادئه السامية، وتحطيم شخصية أُمّتنا العريقة، وصولاً إلى الهدف الخبيث المعلن:

إقامة الشرق الأوسط الكبير، وفق مقاييسهم الشيطانية، اعتماداً على نشر ما يسمّونه: الفوضى البنّاءة.

لقد بذل أعلامنا وأساتذتنا الكرام أمثال السيد حسين الطباطبائي

ص:367

البروجردي، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمهم اللّه تعالى، وغيرهم من الأعلام الذين اتّسموا بالإخلاص واتّساع الأفق والهمم العالية، بذلوا جهوداً مشتركة جبارة في توعية الأُمة وإرشادها إلى النهج القويم ودعوتها إلى الوحدة والتآلف والتضامن، وصيانتها من التفكّك والتمزّق.

ونحن إذ نذكر ذلك، نتمنّى أن يواصل الأعلام في هذه الأيام العصيبة، حمل لواء التقريب والوئام بين أبناء المذاهب الإسلامية، لدرء الفتنة التي تسعى لإثارتها أمريكا والكيان الصهيوني وأذنابهما، والّتي تستهدف بثّ الشقاق، وتأكيد الخلاف بين أبناء الأُمّة الواحدة من خلال تحريض المنتفعين والجهلة وقاصري النظر على إصدار أقوال وارتكاب أعمال سفيهة، يُراد منها تأجيج الصراع وإشعال المنطقة برمّتها وصولاً إلى الهدف المذكور آنفاً، وصدق شاعر حلب الكبير أبو فراس الحمداني، في قوله:

وقد يكبر الخطب اليسير وتجتني أكابر قوم ما جناه الأصاغر

ومهما تآمر الأعداء على أُمّتنا، فكلّي أمل وتفاؤل، بأنّ أُمّتنا، ستُفشل مخطّطاتهم وتُخيِّب مساعيهم، وستبقى أُمّة واحدة كالجسد الواحد، مادام فيها رجال مخلصون، من الطائفتين، تنبض قلوبهم غيرة على الإسلام، ويتواصلون بينهم في محبّة واستشعار بأُخوّة الإيمان، وأرى أنّكم - أخي المفضال - أحد الأعلام الذين يُعوَّل عليهم في هذا الميدان. وفّقكم اللّه تعالى وسدّد خطاكم.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

20 ربيع الأوّل 1428 ه

ص:368

2 صاحب الفضيلة الشيخ الجليل آية اللّه جعفر السبحاني أيده اللّه تعالى

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته وبعد:

أسأله سبحانه أن يتمّ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وأن يحميكم من كل سوء، ويحفظ عليكم نعمة الإيمان والصحّة والسلامة في الدين والدنيا والآخرة.

ثم إنّني لشاكر فضلكم بإرسال هدية «القصص القرآنية» الجزء الأوّل في ثوب قشيب وجديد بتتبع قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بحسب التسلسل التاريخي، وهو أحد إنجازاتكم العلمية المبتكرة الّتي يمطرها عليّ فضلكم العظيم بالهدايا المتتابعة الدالّة على وفائكم وصفاتكم الطيبة، والّتي غرست حبي وتقديري لسماحتكم منذ تشرّفي بزيارتكم في مركزكم العلمي العامر.

وقد بشّرني سماحة آية اللّه سفيركم الكبير في دمشق بأنّه سيعقد مؤتمراً للعلماء في سورية يجمع طوائف العلماء من كلّ بلد، وأنّكم في طليعة المدعوين، وأنتظر ذلك، ويشرّفني الاجتماع بكم في دمشق.

نحن كما ذكرتم أهل العلم واجبنا الاتّفاق على مرضاة اللّه، والحفاظ على قيم الإسلام الكبرى فيما يخصّ اجتماعنا على الحقّ لمواجهة باطل المستعمرين الدخلاء والمستكبرين الذين يزرعون الفتن بين الطوائف الإسلامية، واللّه ناصرنا بفضله ومشيئته.

حقّق اللّه الآمال، وأيدكم بروح من عنده، واللّه يحب المحسنين.

أخوكم وهبة مصطفى الزحيلي دمشق 12 من ربيع الآخر سنة 1428 ه - 2007/4/29 م

ص:369

3 حضرة الأُستاذ الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي المحترم

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في دوام الصحّة والسلامة، جادّين في حلبة التحقيق والتأليف وإنارة الطريق لطلاب الحقّ وروّاده.

سمعنا من الأخبار أنّ أحد المفتين أفتى بجواز الجمع بين الظهرين بالشكل التالي: وهو أن يصلي الظهر قرب نهاية وقتها - مثلاً الساعة 3، 30 بعد الظهر - وبعدها يصلّي العصر، فتقع الظهر في آخر وقتها والعصر في ابتداء وقتها، وبذلك أزالوا الحرج ممّا يعانيه المصلّون جراء التفريق في الجو الحار أو البارد.

ولكن هذا النوع من الجمع ليس بأقل حرجاً من التفريق الرائج، وأنّ دائرة الجمع أوسع من ذلك إذا نظرنا إلى السنّة المطهّرة.

وقد قمت ببيان ذلك في رسالة خاصّة أُقدّمها إليكم، والرجاء إلقاء النظر فيها وتزويدنا بملاحظاتكم.

كما أرجو أن لا تنسوني في صالح دعواتكم، في الخلوات وأعقاب الصلوات.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

8 ربيع الثاني 1432 ه

ص:370

4 سماحة العلّامة الجليل الشيخ جعفر السبحاني أيّده اللّه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته وبعد:

أدعواللّه تعالى لكم بطول العمر وغزارة النتاج العلمي وتمام العافية والصحّة، وأشكركم شكراً جزيلاً على أفضالكم ورفدكم العلمي الذي تتحفني به بين الفينة والأُخرى، علماً بأنّني لا أنسى زيارتي لمنزلكم العامر في «قُم» وغرس محبتكم وتقديركم في القلب.

والشكر موصول لسماحتكم على الكتابين الأخيرين الزاخرين في بيان طريق الوحدة والتعايش ومواقيت الصلاة.

أما مواقيت الصلاة فأحسنتم صنعاً ببيان أدلّة إثبات الأوقات الخمسة للفرائص الخمس من الآيات والأحاديث الثابتة، لا سيّما آية: (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أي مفروضة في أوقات محدّدة.

وأمّا الجمع بين الصلاتين من جنس واحد: فالجمع يكون في وقت صلاة إحداهما جمع تقديم أو تأخير بسبب أداء مناسك الحج، والسفر، والمطر، والمرض، ويجوز الجمع للأعذار أو الحاجة استثناء من الأصل ولو في غير تلك الأعذار المذكورة، وهذا يعني لا يجوز اتخاذ الجمع طريقاً مشروعاً على مدى العمر من غير حاجة ولا عذر، وهذا مذهب الحنابلة في الجمع لعذر أو حاجة.

وأنت على حقٍّ وصواب في ترجيح ذلك ص 82، 88، وأنّه سماحة الإسلام.

وأجاز الجمع الصوري - وهو ليس في الحقيقة جمعاً - فقهاء المالكية بأن

ص:371

يُصلّى الظهر في آخر وقته، ثم العصر في أوّل وقته، وهو رأي الشوكاني.

فلا يصحّ تعمّد الجمع من غير عذر ولا حاجة، وهو محلّ نظر وتأمّل، كما لا يصحّ تعمّد تأخير الصلاة لآخر الوقت من غير سبب، وهو رأيكم ص 52 - 58. ولا يقبل أيضاً تأخير الصلاة لآخر الوقت عمداً لمنافاة ذلك للآيات، والإنكار النبوي على مَن يؤخّر الصلاة عن أوّل وقتها. وقد أحسنتم في بيان الأفضل في ص 98 ومابعدها.

أدامكم اللّه ذخراً للإسلام والعلم، واللّه يحب المحسنين.

أخوكم: وهبة مصطفى الزحيلي

دمشق

17 من ربيع الآخر، سنة 1432 ه

2011/2/22 م

ص:372

5 فضيلة الأُستاد الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي

دامت معاليه وتواترت بيض أياديه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وصلتني - وصلكم اللّه - رسالتكم القيّمة بواسطة الأخ العزيز السيد الوزيري - دام علاه -، وكان المرجو من سماحتكم إمعان النظر في الروايات الدالّة على جواز الجمع بين الصلاتين الّتي يناهز عددها الثلاثين، فإنّ حمل تلك الروايات على صورة الأعذار أو الجمع بين آخر وقت الصلاة الأُولى وأوّل وقت الثانية أمر لا تتحمّله هذه الروايات.

فلو صحّ الاستدلال عندكم فالرجاء طرح المسألة في المجامع العلمية عسى أن يكون ذلك دعامة لتعرّف الآخرين على هذه الحنفية السهلة الّتي بعث بها النبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

نبعث إليكم الآن كتاب «الشركة» وقد درسنا فيه أحكام شركات التأمين الحديثة الموجودة حالياً، أقدّمه إليكم عسى أن يقع موقع دراستكم ومناقشتكم.

والرجاء الأكيد من فضيلة الأُستاذ - الّذي يتمتع بكلمة نافذة في البيئات الإسلامية - دعوة المسلمين إلى الوحدة وتقارب الخطى عسى أن يعود المسلمون إخوة متحابّين في اللّه.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

10 جمادى الآخرة 1432 ه

ص:373

6 سماحة الشيخ الجليل العلامة جعفر السبحاني حفظه اللّه تعالى

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته وبعد:

أسأل اللّه تعالى أن تكون مع أهلك وعيالك وأولادك بخير وعافية وسعادة غامرة. أمّا ما طلبته منّي من البحث في روايات الجمع فقد فعلت والقضية خلافية، وليس عندي قدرة على حمل المجامع على بحث موضوع ما.

وقد نظرت في الروايات وتبيّن لي ما يلي:

هذه الروايات أغلبها صحيح، وبعضها ضعيف، ولكن بغض النظر عن هذه الروايات فإنّ أصل التشريع هو القرآن الكريم الذي نصّ على توقيت الصلوات الخمس مثل: (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (1) أي مفروضة في أوقاتها، ودلّت السنّة النبوية العملية والقولية والإجماع العملي القطعي على أنّ صلاة النبي صلى الله عليه و آله كانت في أوقاتها الخمسة، وسار الخلفاء الراشدون وبقية الصحابة والتابعين وعلى مدى القرون الأربعة عشر ونيِّف على توارث طريقة أداء هذه الصلوات، فلا نعطل أوّلاً هذه الأدلّة المقرّرة شرعاً وعقلاً ووارثاً، ولا نتعصّب لرواية ابن عباس على الرغم من صحّتها وقوله في الجمع:

«أراد - أي النبي - ألّا يحرج أُمّته» وهو واضح أنّ الجمع الاستثنائي لأعذار فقط كالسفر والمطر والمرض أو بطريقة الجمع الصوري، ولو تجاوزنا ذلك لكان

ص:374


1- . النساء: 103.

ينبغي التزام قول ابن عباس في تجويز الجمع أحياناً، والقول بجواز الجمع مطلقاً - كما تفعلون - مشروط بأن لا يتخذ ذلك خُلُقاً (سلوكاً) وعادة. وقد نصح الإمام الخميني رحمه الله الشيعة بالتقيّد بالأوقات الخمسة لا الثلاثة كما تفعلون.

فالرجاء منكم وأنتم في قسمة الإفتاء والعلم التوجيه لهذا الاتجاه.

وأشكركم على كتابكم القيّم «الشركة والتأمين» ففيه معلومات مدلّلة ومعلّلة وأُؤيدكم في إيراد ما يدلّ على الشخصية المعنوية من كلام الفقهاء، وربما لا أوافقكم على عدم تجويز الشركات المساهمة القائمة على أحكام شركتي العنان والمضاربة، وهذا اجتهاد الأغلبية، ولا غرر فيها مع تبيان أنظمة هذه الشركة في القوانين التي تحدّد معالمها وتصرفات مديرها ومجلس إدارتها، ممّا يمنع عنها الخلل، وكيف تمنعون هذه الشركة من أجل الغرر، ولا تمنعون شركات التأمين التقليدية القائمة على المعاوضة والغرر الفاحش باعتراف القانونيّين. فهي معاوضة مشوبة بغرر، خلافاً للتأمين التعاوني القائم على التبرّع، لا المعاوضة، ومناقشتك قول المانعين بسبب الغرر أو الرهان أو المقامرة أو الربا محلّ نظر، والصحيح عكسه، ففي التأمين التقليدي مثالب وأسباب خمسة ذكرتموها ترجح قول القائلين بالمنع، وهو ما قررته المجامع الفقهية كلّها وكذلك جمهور الأئمة الأعلام، وإن كان الشيخ مصطفى الزرقا وبعض ا لعلماء أجازوا العقد، وأقرّوا بأنّ هذه الشركات تعتمد كالبنوك الربوية على نظام الفائدة الربوية، علماً بأنّ النهي عن الغرر أصل من أُصول الشريعة.

والمعتمد عند الشافعية مشروعية ضمان الدَّرَك خلافاً لرأي البعض.

نفع اللّه الأُمّة بعلمكم، لكن الاقتصار على رأي الشيعة وحدهم ينفع أهل المذهب فقط، ولا يكون له أثر على جماهير المسلمين.

ص:375

أكرر الإشادة بكم والشكر لمكارمكم في جلسة قصيرة في مكتبكم، ولما تفضّلتم به من تحف هداياكم من الكتب، وفقنا اللّه جميعاً لاتّباع الحق، والترّفع عن التعصّب، واللّه يحب المحسنين.

أخوكم: وهبة مصطفى الزحيلي

دمشق

الخميس 1 رجب سنة 1432 ه

2011/6/2 م

ص:376

7 سماحة الأُستاذ الفاضل الدكتور وهبة الزحيلي حفظه اللّه ورعاه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وبعد:

وصلتني - وصلكم اللّه - رسالتكم القيّمة، المعطرّة بالودّ والإخلاص ووقفت على آرائكم حول رسالتي في الجمع بين الصلاتين. وقد ذكرتم فيها أمرين:

1. قولكم: بغض النظر عن هذه الروايات فإنّ أصل التشريع هو القرآن الكريم الذي نصّ على توقيت الصلوات الخمس، كقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (1): أي مفروضة في أوقاتها الخمسة - لا الثلاثة -.

أقول: إنّ الجمع بين الصلاتين لا يعني إرجاع الأوقات الخمسة إلى ثلاثة، إذ لا يمكن لفقيه أن ينكر الأوقات الخمسة للصلوات غير أنّ الكلام في تحديد الأوقات الخمسة. ففقهاء أهل السنّة على أنّ وقت صلاة الظهر هو من الزوال إلى أن يصير ظل الشاخص مثله، ثم يدخل وقت العصر إلى الغروب، وفقهاء الشيعة يقولون بنفس القول لكنّهم يحدّدون الوقت كما يلي: إنّ وقت صلاة الظهر يدخل من الزوال إلى أن يمضي من الوقت بمقدار أداء أربع ركعات، ثم بعدها يدخل

ص:377


1- . النساء: 103.

الوقت المشترك لصلاتي الظهر والعصر ويمتد حتّى يبقى إلى غروب الشمس بمقدار أربع ركعات وهو يختصّ بصلاة العصر فقط.

فالقائل بجواز الجمع لا يختلف مع غيره في عدد المواقيت بل يختلفان في تحديدها، فقد جاء عن أهل البيت عليهم السلام: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان إلّا أنّ هذه قبل هذه».(1)

وبتعبير آخر: الإمامية تبعاً لأئمتهم يعتقدون أنّ الوقت - بعد مضي مقدار أربع ركعات من الزوال - مشترك بين الصلاتين، على خلاف ما يذهب إليه فقهاء السنّة حيث لا يقولون بالوقت المشترك. وهكذا الحكم في صلاتي المغرب والعشاء فلكل منهما وقت خاص ولهما وقت مشترك.

فالقولان في عدد الأوقات سيّان، وإنّما الاختلاف في تحديدها.

2. تفضّلتم أنّ صلاة النبي صلى الله عليه و آله كانت في أوقاتها الخمسة وسار الخلفاء الراشدون وبقية الصحابة والتابعين وعلى مدى القرون الأربعة عشر ونيف على المقرّرة عقلاً وشرعاً ووارثاً...

أقول: إنّكم بحمد اللّه تحيطون بعلم الأُصول ولكم فيه آثار مشرقة بين الايجاز والتبسيط، وأنتم من أبطال هذا العلم ومن المقرّر فيه: أنّ العمل، وبتعبير آخر: أنّ السيرة العملية لا لسان لها، وإنّما يؤخذ من دلالتها بالقدر المتيقّن وهو جواز التفريق أو كونه أفضل وأمّا إيجابه، فلا يستفاد من السيرة، كما أنّ الترك يدلّ على جواز ترك الفعل ولا يدلّ على أنّ الفعل حرام خلافاً لبعض أنصاف المتعلّمين الذين يستدلّون بترك الصحابة شيئاً ما على عدم جوازه، مع أنّ الفعل والترك قاصران عن الدلالة على الوجوب في ناحية الفعل، وعلى الحرمة في ناحية الترك.

ص:378


1- . وسائل الشيعة: ج 4، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 5.

نسأل اللّه أن ينفعنا بعلومكم وآرائكم. والمأمول من طرح هذه البحوث هو رأب الصدع وتقريب الخطى بين المسلمين.

وبإمكانكم وأنتم في كلية الشريعة طرح النظريتين وإيكال القضاء بين القولين للحضّار، إذ فيه تنمية للعلم وخروج عن الجمود والتقليد.

وأمّا ما ذكرتم حول كتابنا «الشركة والتأمين» فنحيل الكلام فيه إلى وقت آخر.

أدعو اللّه سبحانه أن يوفّقكم وكلّ من حولكم لكلّ الخير خدمة للإسلام والمسلمين.

والحمد للّه ربّ العالمين

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

17 رجب المرجب 1432 ه

ص:379

8 فضيلة الأُستاذ الدكتور وهبة الزحيلي دامت معاليه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد؛ فيسرّني أن أغتنم فرصة حلول شهر رمضان المبارك بتقديم التبريكات الزاكية إلى سماحتكم وإلى جميع العلماء الفضلاء في سوريا المحميّة.

وأودّ هنا، أن أقتطف شيئاً من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله في هذا الشهر الفضيل، قال صلى الله عليه و آله في خطبة له في آخر جمعة من شهر شعبان المعظّم:

«أيّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهر اللّه بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند اللّه أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللّه، وجعلتم فيه من أهل كرامة اللّه، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فأسألوا اللّه ربّكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقي من حرم غفران اللّه في هذا الشهر العظيم».(1)

وفي الختام نقدّر لسماحتكم دعواتكم الطيّبة إلى جمع كلمة المسلمين، ولمّ شملهم، ونبذ الخلاف الذي يخدم مخططات الاستكبار العالمي التي تهدف

ص:380


1- . أمالي الصدوق: 154، خطبة الرسول صلى الله عليه و آله في شهر رمضان، عيون أخبار الرضا عليه السلام: 265/2؛ فضائل الأشهر الثلاثة: 77.

إلى القضاء على الأُمّة الإسلامية، وإدخال المسلمين في معارك جانبية يقتل فيها بعضهم بعضاً، ونهيب بكم، لما لكم من مقام سامٍ ، بذل المزيد من المساعي في هذا المجال، ولكم من اللّه التوفيق.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المشرفة

28 شعبان المعظّم 1432 ه

ص:381

9 فضيلة الشيخ الجليل جعفر السبحاني أيده اللّه تعالى

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

بعد

يسعدني تهنئتكم بحلول شهر رمضان المبارك، وأدعو اللّه تعالى أن يكون هذا الشهر مثلاً عالياً لتعميم سمو الشفافية والشعور بالمسؤولية والأُخوّة بين أبناء الأُمّة الواحدة، فذلك الشهر منطلق الخير والإحسان والتضامن والاتحاد، لتفويت الفرصة على الأعداء.

وإنّي ما زلت في قسمة الدعاة إلى وحدة الصف والأُخوّة منذ أكثر من ربع قرن، وحينئذٍ نتجاوز عن الاختلافات المذهبية والسياسية الموروثة.

واللّه يحب المحسنين

وكل عام وأنتم بخير

وهبة الزحيلي

الأربعاء 10 من رمضان سنة 1432 ه

2011/8/10 م

ص:382

10 صاحب الفضيلة والسماحة العلّامة جعفر السبحاني أيّده اللّه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته و بعد:

وصلتني رسالتكم الكريمة المعبّرة عن روح الإخاء والصفاء والعلم الذي انطبع لدي منذ لقائكم الأوّل في قم، فبارك اللّه فيكم، وزادكم من فضله وحكمته، وجعلني وإيّاك ممّن يعملون على الدوام في التوفيق والتقريب بين وجهات النظر في الأُصول وترك إثارة المزيد من الخلافات في الفروع، لجمع الأُمّة الإسلامية وتبديد كلّ ما يثير النزاعات والمشكلات فيما بينها، حرصاً على وحدة الأُمّة أمام أعدائها، وعلينا جميعاً في مجال العلم والسياسة معاً أن نبقى على هذا المنهج، وإلّا كنا جميعاً مسؤولين أمام اللّه تعالى.

وسعدت بإهداء كتابكم «دور الشيعة في الحديث والرجال» لبيان منطلقات الحياة العلمية والدينية أساساً للجمع والوفاق، وحسناً فعلتم في إبراز هذا الجانب في العناية بالسنّة النبوية الشريفة، وتقديمها على المرويات التي تحتاج إلى تدقيق وتحقيق.

وقناعتي أنّه لن يستطيع فريق ثني الآخر عن أُصوله ومنهجه في استفتاء الأحكام الشرعية فذلك مما استقر أمره في التاريخ. وإنّني بطبيعتي لا أحب الجدل والمماحكة، واعذر غيري في منهاجه وعمله، علماً بأنّني منذ ست سنوات أصبحت متقاعداً من جامعة دمشق وكلية الشريعة ولم يعد لي شأن في تسيير أُمورها ودراساتها، واللّه الموفق وسنبقى بإذن اللّه تعالى إخوة، لا تزعزعنا الاختلافات الفقهية، واللّه يرعاكم.

أخوكم: وهبة مصطفى الزحيلي

دمشق

12 من ذي القعدة سنة 1432 ه - 2011/10/9 م

ص:383

2 مراسلاتنا مع الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

اشارة

11

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الفقيه الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

حيث إنّ الحقيقة بنت البحث، والنقاش مرقاة التكامل العلمي، فإنّي قرأت القسم الثاني من التطبيقات المعاصرة لقضايا الضرورة من كتاب «فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة» والّذي أشرفتم على إعداده. وسوف أذكر لكم هنا مسألتين من مسائله وأتعرض لمناقشتهما وبيان مختارنا فيهما.

المناقشة الأُولى حول الأوقات الشرعية في المناطق القطبية

اشارة

اطّلعت في كتابكم المذكور على العلاج الّذي قدمته هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في تاريخ 12/4/1398 ه، فيما يتعلق بمواقيت الصلاة والصوم في الأقطار الّتي يقصر فيها الليل جدّاً في فترة من السنة ويقصر النهار جدّاً في فترة أُخرى، أو الّتي يستمر ظهور الشمس فيها ستة أشهر وغيابها ستة أشهر. وكان جوابهم يدور حول محاور ثلاثة:

ص:384

1. البلاد الّتي يستمر فيها الليل أو النهار 24 ساعة فأكثر بحسب اختلاف فصول السنة، فقالوا بأنّه تقدّر مواقيت الصلاة والصيام وغيرهما في هذه البلاد على حسب أقرب الجهات إليها ممّا يكون فيها ليل، ونهار متمايزان في ظرف أربع وعشرين ساعة.

2. البلاد الّتي لا يغيب فيها شفق الغروب حتّى يطلع الفجر، بحيث لا يتميز شفق الشروق من شفق الغروب فقالوا بأنّه في هذه الجهات يقدّر وقت العشاء الآخرة والإمساك في الصوم وقت صلاة الفجر بحسب آخر فترة يتمايز فيها الشفقان.

3. البلاد الّتي يظهر فيها الليل والنهار خلال أربع وعشرين ساعة وتتمايز فيها الأوقات إلّاأنّ الليل يطول فيه في فترة من السنة طولاً مفرطاً ويطول النهار في فترة أُخرى طولاً مفرطاً، ففي هذه البلاد تصلى الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة. ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله أفطر ويقضي الأيام الّتي أفطرها في أي شهر تمكّن من القضاء.

ملاحظاتنا على هذه المحاور:

1. ما أفاده العلماء من الحل في المحور الأوّل إنما يناسب البيئة الّتي تتوفر فيها أدوات ووسائل حديثة ومتطورة يمكن للقاطنين هناك معرفة أوقات البلاد المتقاربة يوماً بعد يوم أو شهراً بعد شهر. وهذا وإن أمكن ذلك في عصرنا الحاضر ولكنّه كان أمراً عسيراً في العصور الغابرة. وحكم اللّه سبحانه في كلّ عصر وزمان واحد، فهل كان الاطّلاع على وقت غروب وطلوع الفجر في البلاد المتقاربة - والّتي ربما تبعد مئات الفراسخ عن محل الابتلاء - أمراً سهلاً في عامّة العصور خصوصاً قبل تطوّر وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية، والإسلام دين عامّة العصور، دين البساطة والسهولة ؟!

ص:385

2. وأمّا المحور الثاني فإنّ العبارة فيه لا تخلو عن تشويش إذ أنّ المجيب افترض فيها أوّلاً عدم تميّز شفق الشروق من شفق الغروب وقال: «بحيث لا يتميز شفق الشروق من شفق الغروب» ثم قال في ذيل جوابه: «بحسب آخر فترة يتمايز فيها الشفقان».

ولعلّ الصحيح هو «آخر فترة (في البلاد الّتي) يتمايز فيها الشفقان».

فلو كان هذا هو المراد فيرد عليه أنّ الهيئة العلمية افترضت أنّ الليل والنهار غير مميّزين في المناطق القطبية وأنّ الزمان إمّا نهار فقط أو ليل فقط، ولذلك قدّموا هذه الحلول. ولكن الحقيقة ليست كذلك ولذلك قدّمنا حلولاً غيرها نأتيكم بنصّها.

ما هو المختار عندنا في تحديد أوقات الصلاة والصوم ؟

المختار عندنا أنّ المناطق القطبية تتمتّع في عامّة الفصول بليل ونهار وإن كانت تختلف كيفية الليل والنهار عن المناطق المعتدلة، وبذلك تنحلّ العقدة، ويظهر ذلك في البيان التالي:

إذا كان النهار أطول من الليل وممتداً إلى شهر أو شهرين إلى أن يصل إلى ستة أشهر، فرائدنا في تمييز النهار عن الليل هو الشمس، حيث إنّ حركتها في تلك المناطق حسب الحس حركة رحوية حيث تدور حول الأُفق مرة واحدة ضمن 24 ساعة بأوج وحضيض، فتبدأ حركتها من الشرق إلى جانب الغرب في خط قوسيّ ، وكلّما ارتفعت الشمس وسارت إلى الغرب ازداد ظلّ الشاخص إلى أن يصل إلى حدّ تتوقّف فيه الزيادة ثمّ ينعكس الأمر ويحدث في جانب الشرق، وعند ذلك تصل الشمس في تلك النقطة إلى نصف النهار، ويعلم بذلك أوقات الظهر والعصر، ثمّ تأخذ الشمس بالسير في هذا الخط المنحني إلى أن تنخفض نهاية الانخفاض وإن لم تغرب ثمّ تبدأ بالحركة من الغرب إلى الشرق وعند ذاك، يدخل الليل إلى أن تنتهي في حركتها إلى النقطة الّتي ابتدأت منها.

ص:386

ويُعد قُبيل وصولها إلى نقطة الشرق أوّل الفجر.

وعلى ذلك فحركة الشمس هي رائدنا في العلم بأوّل النهار ووسطه وأوّل الليل وبدء الفجر. ولا يتصوّر أنّ ذلك استحسان منّا، بل المناخ يؤيد ذلك، وهو أنّه إذا بدأت الشمس بالحركة من الشرق إلى أن تنتهي إلى جانب الغرب يكون الجو مضيئاً جدّاً كنهار المناطق المعتدلة، وعندما انخفضت الشمس إلى جانب الغرب وبدأت بالحركة من الغرب إلى الشرق يميل الجو إلى الغبرة والظلمة الخفيفة، ولذلك يتعامل سُكّان تلك المناطق بالحركة الأُولى للشمس معاملة النهار وبالحركة الثانية معاملة الليل، فيقيمون أعمالهم فيها وينامون في الثانية.

وعلى ذلك فليس المناخ على وتيرة واحدة ضمن 24 ساعة، بل يتغيّر من الإضاءة إلى الغبرة، أو من الإضاءة الشديدة إلى الضعيفة، وما ذلك إلّالأنّ الحركة الأُولى تلازم وجود النهار في المناطق المعتدلة كما أنّ الحركة الثانية تلازم وجود الليل فيها أيضاً، غير أنّ ميلان مركز دوران الأرض حول نفسها مقدار 23/5 درجة سبَّب لأن تخيِّم الشمس عليها في بعض الفصول مدّة مديدة لا ترى لها غروباً وإن كان يُرى لها ارتفاعاً وانخفاضاً.

هذا كلّه إذا ظلّ النهار مدّة مديدة.

وأمّا إذا انعكس بأن غمر الليلُ تلك المناطق مدّة مديدة إلى أن ينتهي إلى ستة أشهر، فيعلم حكمه ممّا ذكرناه في الصورة الأُولى، فإنّ الشمس وإن كانت تغرب عن تلك المناطق مدّة طويلة لكن ليست الظلمة على نمط واحد، بل تتضاءل تارة وتزداد أُخرى، فزيادتها آية سلطة الليل في المناطق المعتدلة كما أنّ تضاؤلها علامة سلطة النهار عليها كذلك، وبذلك يمكن أن نميّز النهار عن الليل حيث إنّ الزمان (24 ساعة) ينقسم إلى ظلمة دامسة (بحتة) وظلمة داكنة أي (مزيجة بالنور الضئيل)، فيعدّ ظهور الظلمة الداكنة الّتي يخالطها نور ضئيل فجراً لهم، وتستمر هذه الحالة ساعات إلى أن تحلّ الظلمة الدامسة، فهذا المقدار من

ص:387

الساعات يعدّ نهاراً لهم فيصام فيها، كما أنّ وسطه يعدّ ظهراً لهم فيقيمون الظهر والعصر.

فتبيّن من ذلك أنّ المناطق القطبية أو القريبة منها على أنحاء ثلاثة:

الأوّل: أن يوجد الليل والنهار بشكل متميّز وإن كانا غير متساويين ولكنّ هناك شروقاً وغروباً، فتؤدّى الفرائض النهارية عند الشروق، والليلية عند الغروب وإن كان قصيراً.

الثاني: إذا كان هناك نهار طويل سواء بلغ ستة أشهر أو لم يبلغ، فبما أنّ الشمس مرئية وحركتها رحوية، فإذا بدأت بحركتها من الشرق إلى الغرب يعدّ نهاراً، وإذا وصلت إلى دائرة نصف النهار يعدّ ظهراً، وإذا تمّت الحركة الشرقية وأخذت بالاتجاه إلى جانب الغرب يعدّ ليلاً، فإذا تمّت الحركة الغربية وبدأت بالحركة إلى جانب الشرق فهو أوّل فجرهم، وبذلك تتم الدورة النهارية والليلية في 24 ساعة.

الثالث: الليل الطويل فالشمس فيها وإن كانت غير مرئية، لكن الظلمة ليست على نسق واحد، بل هي بين ظلمة دامسة وظلمة داكنة، فعندما تسود الأُولى يحسب ليلاً لهم وتكون بدايتها أوّل صلاة المغرب والعشاء، وإذا بدأت بالظلمة الداكنة وظهر بصيص من النور يحسب أوّل الفجر، فإذا خفّت الظلمة يعدّ نهاراً لهم إلى أن تعود الحالة السابقة.

والرجاء عرض نظريتنا على هيئة كبار العلماء في المملكة، إذ أنّ في تضارب الآراء طريقاً لتجلي الحقيقة.

***

المناقشة الثانية حول السعي فوق سقف المسعى

اشارة

وممّا ألفت نظري إجابة هيئة كبار العلماء حول السعي فوق سقف المسعى، وقد خرجوا بالنتيجة التالية وهي: الإفتاء بجواز السعي فوق سقف

ص:388

المسعى عند الحاجة بشرط استيعاب ما بين الصفا والمروة وأن لا يخرج عن مسامتة المسعى عرضاً.

واستدلّوا على ذلك بوجوه:

1. حكم السعي فوق سقف المسعى حكمه على الأرض

إنّ حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملّك والاختصاص ونحوهما فللسعي فوق سقف المسعى حكم السعي على أرضه.

يلاحظ على هذا الوجه: أنّ اللّه سبحانه حدّد وظيفة الناسك في المسعى بالسعي بين الجبلين أو الطواف بينهما، فقال سبحانه (إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ) (1).

فعلى الناسك أن يطوف بين الجبلين، وسقف المسعى إن كان بين الجبلين فالسعي فيه بينهما صحيح لا إشكال فيه، ولو كان فوق الجبلين فلا يصدق عليه التحديد الوارد في الآية، وعندئذ يسقط وجوب السعي لعدم التمكّن منه، إلّاإذا أرشدنا الدليل إلى حلول أُخرى، وسيوافيك بيانها.

هذا هو مقتضى الدليل في المقام، وأمّا ما استدل به على جواز السعي فوق سقف المسعى قائلاً: «بأنّ حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملّك والاختصاص» فلا علاقة له بجواز السعي فوق سقف المسعى، لأنّ وحدة حكم الأعلى والأسفل في التملّك موضوع، والسعي فوق سقف المسعى وتحته موضوعٌ آخر، ولو قلنا بحجية القياس فإنّما نقول به فيما لو جمع المقيس والمقيس عليه جامع قريب كالإسكار بين الخمر وسائر المسكرات. ومجرّد اشتمال المسعى على الأسفل والأعلى كاشتمال الملك عليهما لا يكون مسوّغاً

ص:389


1- . البقرة: 158.

للقياس. ومن المعلوم أنّه يجب أن تكون بين المقدّم والتالي ملازمة عقلية أو شرعية أو عرفية، وأي تلازم بين مالكية الإنسان أعلى الأرض وأسفلها، وجواز السعي فوق سقف المسعى وأسفله، والتملّك أمر عقلاني، يكون تابعاً لسعة اعتبار العقلاء أو ضيقه، وجواز السعي حكم شرعي تابع لسعة جعل الشارع وضيقه، فكيف يستنتج من الأوّل، الأمر الثاني، ولو صحّ هذا النوع من الاستدلال يلزم تسويغ ترتّب آثار الأرض عامّة على المسعى وهو لا يخلو من توالي فاسدة غير خافية على سماحتكم.

2. جواز السعي راجلاً وراكباً

يجوز للحاج والمعتمر أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة راكباً لعذر باتّفاق، ولغير عذر على خلاف من بعضهم، فمن يسعى فوق سقف المسعى يشبه مَن كان يسعى راكباً بعيراً ونحوه، إذ الكلّ غير مباشر للأرض في سعيه، وعلى رأي من لا يرى جواز السعي راكباً لغير عذر فإنّ ازدحام السعاة في الحج يعتبر عذراً يبرر الجواز.

يلاحظ عليه: أنّ الإشكال في السعي فوق سقف المسعى لا يكمن في عدم مباشرة الأرض حتّى يدفع بوجود نفس الإشكال في السعي راكباً، وإنّما يكمن في الخروج عن التحديد الوارد في الآية، أعني: السعي بين الجبلين وعدمه.

والساعي فوق السقف، ساع فوق الجبلين، والساعي راكباً ساع بين الجبلين، ولايصح استنتاج حكم الصورة الأُولى من الثانية.

3. قياس السعي باستقبال ما فوق الكعبة

أجمع أهل العلم على أنّ استقبال ما فوق الكعبة من هواء في الصلاة

ص:390

كاستقبال بنائها، بناء على أنّ العبرة بالبقعة لا بالبناء، فالسعي فوق سقف المسعى كالسعي على أرضه.

يلاحظ عليه: بأنّ الضرورة قاضية بأنّه ليس نفس البناء قبلة للمسلمين عامّة خصوصاً بعد وضوح القول بكروية الأرض فلا محال من أن يكون الميزان هوالبقعة حسب تعبيركم لا البناء أو الجهة حسب تعبير الفقهاء، قال سبحانه:

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (1).

فالموضوع هو التوجّه إلى المسجد الحرام وهو متحقّق من القريب والبعيد، وأمّا المقام فالسعي هناك محدّد بما بين الجبلين، والساعي فوق السقف، ساع فوق الجبلين.

وبعبارة أُخرى: دلّ الدليل على أنّ الكعبة من تخوم الأرض إلى عنان السماء قبلة، وأين هذه السعة من السعي ؟!

4. قياس السعي بالرمي راكباً

اتّفق العلماء على أنّه يجوز الرمي راكباً، وماشياً، واختلفوا في الأفضل منهما، فإذا جاز رمي الجمرات راكباً جاز السعي فوق سقف المسعى، فإنّ كلّاً منهما نسك أُدّي من غير مباشرة مؤدّيه للأرض الّتي أدّاه عليها، بل السعي فوق السقف أقرب من أداء أي شعيرة من شعائر الحج أو العمرة فوق البعير ونحوه، لما في البناء من الثبات الّذي لا يوجد في المراكب.

يلاحظ عليه: بما ناقشنا به الوجه السابق، فإنّ الإشكال ليس في عدم المباشرة للأرض حتّى يقاس السعي فوق السقف بالرمي راكباً، بل الإشكال في موضع آخر وهو أنّ الرمي لم يحدّد بشيء بل تمام الموضوع بصحّة الرمي هو

ص:391


1- . البقرة: 144.

الرمي المطلق من أي قيد مثلاً راجلاً أو راكباً - أخذاً بإطلاق الدليل - وأمّا السعي فهو محدّد بما بين الجبلين فقياس الأمر المحدّد بغيره كما ترى.

5. السعي فوق سقف المسعى لا يخرج عن مسمّى السعي بين الصفا والمروة

يلاحظ عليه: بأنّ التسامح إنّما يجوز إذا لم يكن هناك تحديد من الشرع فيتسامح فيه، وأمّا لو كان هناك تحديد من الشرع كما إذا قال: اسع سبعة أشواط فلا يجوز الاكتفاء بالستة، وهكذا في غير هذا المورد.

ما هو مقتضى القاعدة ؟

إذا كان السعي بين الصفا والمروة شاقّاً حرجيّاً على الناسك فمقتضى القاعدة هو الصبر حتّى يخف الزحام، ومن لم يتمكّن من الصبر أو علم باستمرار الزحام يجب عليه أن يستنيب مَنْ لا يكون عليه العمل شاقّاً، وفي غير هاتين الصورتين يسعى فوق سقف المسعى لقاعدة الميسور وهي قاعدة محكمة ناصعة في الفقه الإمامي فقد ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الميسور لا يترك بالمعسور»، و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه».(1) وهذه القاعدة تكون مرجعاً عند الزحام، ولا تُرى أية منافاة بين مفاد الآية وهذه القاعدة، شأن كلّ العناوين الثانوية بالنسبة إلى العناوين الأوّلية.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

18 رمضان المبارك 1426 ه

ص:392


1- . لاحظ عوالي اللآلي: 58/4 برقم 205 و 207.

12

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة الشيخ جعفر السبحاني

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

سيدي: بنيتم رأيكم بالنسبة للأوقات الشرعية في المناطق القطبية على «أنّ الشمس مرئية وحركتها محورية...» أمّا الجزئية الأُولى فإنّها لا تتّفق مع واقع الشمس في تلك المناطق بل فيما هو أبعد منها ممّا لا يتميّز فيها الليل والنهار، فقد عشت في بريطانيا خمس سنوات، وعرفت شتاءها وصيفها في شمالها وجنوبها، وقد لاحظت نهارها في الشتاء وخصوصاً في الشمال لايميّز الليل من النهار خصوصاً وأنّ فصل الشتاء تكثر فيه الغيوم والأمطار، ولا يستطيع المرء أن يميّز النهار من الليل، وتزداد الدنيا ظلمة كلما اقتربنا من القطب الشمالي يكاد ينعدم النهار تماماً، وكذلك بالنسبة للصيف في الشمال فإنّ الليل، أو بالأصح تكسو الأفق ظلمة خفيفة جدّاً بما لا يزيد عن ساعة أو ساعتين، والأمر يزداد ويتضاعف بحيث لا يرى أثر لليل في الصيف، أو نهار في الشتاء كلّما اقتربنا من القطب.

وقول سماحتكم (الثاني: إذا كان هناك نهار طويل...) الخ صحيح وسليم لو فرض ظهور الشمس، ولكن ظهور الشمس هناك منعدم تماماً في الشتاء في

ص:393

بعض البلاد التي تبعد عن القطب، فما بال سماحتكم بالقطب وما دنا منه من البلدان.

أمّا الظلمة فأُؤكد لسماحتكم في تلك البلاد فإنّها تجري على نسق واحد في الغالب كما عهدت هذا في شمال بريطانيا وفي البلاد الاسكندنافية القريبة من القطب، وكذلك بالنسبة للنهار في الصيف.

المناقشة الثانية: حول السعي فوق سقف المسعى:

1. قال سماحتكم ص 4: ولو كان فوق الجبلين فلايصدق عليه التحديد الوارد في الآية.. الخ.

لعلّي أُجيب عن هذه النقطة: أنّ مَنْ أكمل المسافة بين الصفا والمروة سعياً وامتد سعيه إلى أعلى الجبلين فقد أدّى ما وجب عليه أساساً وكمالاً، ويكون شأنه شأن المتوضّئ الذي يرتفع وضوء أعضائه إلى ما فوق الحدّ المعلوم، وهذا لامحظور فيه بل هو مندوب، أمّا سقوط وجوب السعي لعدم التمكّن فلا أعتقد أنّ هذا وارد هنا فقد جعل اللّه في الشريعة سعة، وأناط الأمر بالمجتهدين في كلّ زمان ومكان.

2. قول هيئة كبار العلماء: «بأنّ حكم أعلى الأرض وأسفلها تابع لحكمها في التملّك والاختصاص» تمامه كما جاء في الكتاب (ونحوهما) لعلّ هذه الكلمة ليست موجودة بنسختكم فإنّه يدخل تحت هذه الكلمة أحكام العبادات فالصلاة جماعة في الدور الأعلى لها حكمها في الدور الأرضي، وهكذا كلّ مثال جاء في القرار يدخل تحت كلمة (ونحوهما) كما لا يخفى على سماحتكم.

2. قول سماحتكم: «الساعي فوق السقف ساع فوق الجبلين والساعي راكباً ساع بين الجبلين ولا يصح استنتاج حكم الصورة الأُولى من الثانية».

ص:394

لي موقف من هاتين النقطتين:

أ. الساعي فوق السقف ساعٍ بين الجبلين وزيادة فقد أكمل المسافة بين الصفا والمروة وهي المطلوب وقد تحقّق.

ب. الساعي راكباً الشاهد منه أنّ قدمي الراكب لم تباشر أرض المسعى، بل إنّه في حقيقة الأمر سعى في فضائها فكما أنّ حكم هذا الجواز فكذلك بالنسبة للساعي في الدور الثاني، والجامع بينهما هو كونها عبادة فهو قياس حالة في عبادة على حالة في عبادة.

وقد خلص سماحتكم إلى ما ذكرتموه أخيراً (ما هومقتضى القاعدة) ما ورد من اقتراح في هذه الفقرة هو الصبر حتى يخف الزحام، أو الاستنابة. هذه حلول سليمة في غير هذه الأيام التي تشابكت فيها الأُمور وتعقّدت من حجوزات للطيران، وزحام يستمر حتى نهاية شهر ذي الحجة والمحرّم، وعدم وجود النائب إلى غير ذلك ممّا يجعل الأمر أبعد من أن يقال له (مشقّة)، وفي رأيي القاصر أنّ الاجتهاد الذي توصّل إليه مجلس هيئة كبار العلماء (وإن لم أشارك فيه) سليم من الناحية العلمية الفقهية ومتطابق مع الواقع، وهما أمران رئيسيان في صحّة الفتوى وانسجامها مع مقاصد الشريعة في الوقت الحاضر.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

عبدالوهاب أبو سليمان

23/9/1426 ه

ص:395

13

سماحة العلامة الشيخ جعفر السبحاني

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وبعد

كما لا يخفى على سماحتكم أنّ رجم جمرة العقبة يبدأ من نصف ليلة عيد الأضحى عند الشافعية والحنابلة وهو وقت الجواز، ومن عداهم من طلوع الفجر، وهو وقت فضيلة عند السابقين.

حدث لي هذا العام أن مررت بمنى مبكراً قادماً من مزدلفة فشاهدت جموعاً من الشيعة متجّهين إلى رمي جمرة العقبة عشاء، فسألت أحد المرشدين فأخبرني بالجواز في مذهبهم، رجعت إلى كتابكم النفيس (الحج في الشريعة الإسلامية الغرّاء) ج 2 فعرفت أنّه لم يصله التأليف فعدت إلى (تذكرة الفقهاء) فذكر العبارة التالية:

«فإنّه يستحب له إذا دخل منى بعد طلوع الشمس رمي جمرة العقبة حالة وصوله» 8/214، لم يذكر وقت الجواز.

وفي كتاب الخلاف للإمام الطوسي رحمه الله:

«وقت الاستحباب لرمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس من يوم النحر بلا خلاف، ووقت الإجزاء من عند طلوع الفجر عند الاختيار، فإن رمى قبل ذلك لم

ص:396

يجزه، وللعليل، ولصاحب الضرورة والنساء يجوز الرمي بالليل» 2/344.

هنا أمران أود الاستفسار عنهما:

1. «يجوز الرمي بالليل» هل هو مطلق الليل سواء قبل نصف الليل وبعده ؟

2. من لم يكن «عليلاً أو صاحب ضرورة» من الذكور والنساء هل يجوز له تقديم الرمي للعقبة قبل نصف الليل ؟

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

عبد الوهاب أبو سليمان

13/12/1427 ه

ص:397

14

الأُستاذ الفاضل الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان دام عزّه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وأمّا ما طرحتموه من الأسئلة - والسائل أعلم من المسؤول - ولكن امتثالاً لأمركم نذكر لكم ما هو المشهور عند الإمامية:

المعروف عند الإمامية أنّ وقت الرمي لغير المعذور هو من طلوع الشمس في الأيام الثلاثة إلى غروبها.

قال الشهيد الأوّل: وخامسها: وقوع الرمي في وقته، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها، فلو رمى ليلة النحر أو قبل طلوع الشمس لم يجز إلّا للمعذور كالمريض والمرأة والخائف والعبد.(1)

نعم ذهب بعض المشايخ كالشيخ الطوسي في الخلاف وابن زهرة في الغنية والعلّامة في التحرير إلى جواز رمي جمرة العقبة عند طلوع الفجر مع الاختيار، لكن هذا الرأي غير معروف عندهم، ففي صحيح صفوان بن مهران قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «إرم الجمار ما بين طلوع الشمس إلى غروبها»(2).

ص:398


1- . الدروس الشرعية: 1/429.
2- . الوسائل: 10، الباب 13 من أبواب رمي جمرة العقبة، الحديث 2.

وفي صحيح إسماعيل بن همّام قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: «لا ترم الجمرة يوم النحر حتّى تطلع الشمس»(1).

هذا كلّه في المختار، وأمّا المعذور فالمشهور عندهم أنّه يجوز له الإفاضة قبل طلوع الفجر من مزدلفة. قال المحقّق الحلّي: وتجوز الإفاضة قبل الفجر للمرأة ومن يخاف من غير جبران(2).

ويدلّ على قولهم صحيحة أبي بصيرقال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «لا بأس بأن تقدّم النساء إذا زال الليل فيقفن عند المشعر ساعة، ثمّ ينطلق بهن إلى منى فيرمين الجمرة، ثم يصبرن ساعة، ثمّ يقصرن وينطلقن إلى مكّة فيطفن، إلّا أن يكن يردن أن يذبح عنهن فإنّهنّ يوكّلن من يذبح عنهن».(3)

وقد فسّر «زوال الليل» في قوله: «إذا زال الليل» بانتصاف الليل فعلى هذا يجوز الرمي بعد انتصاف الليل قبل الفجر وبعده قبل طلوع الشمس، هذا هو المعروف لدى الإمامية في المختار والمضطرّ.

وقد أوضحنا حالها في الجزء الرابع من كتابنا «الحج في الشريعة الإسلامية الغرّاء» وهو قيد الطبع.

سيدي: لي أيضاً سؤال أُريد أن تشرحه لنا، وهو:

إنّ الرائج في مكّة والمدينة بل في دمشق وعمان الأذان قبل الفجر بساعة لإيقاظ الناس لصلاة الليل، ولا شكّ أنّ نافلة الليل عمل مستحب وكفى في حقّها قوله سبحانه: (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً) (4) إلّاأنّ الأذان عبادة

ص:399


1- . الوسائل: 10، الباب 13 من أبواب رمي جمرة العقبة، الحديث 7.
2- . شرائع الإسلام: 1/256؛ ولاحظ المنتهى للعلّامة الحلي: 11/92.
3- . الوسائل: 10، الباب 17 من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث 7.
4- . المزّمّل: 6.

توقيفية لا يُرخّص إلّافيما شُرّع وهو الأذان للفرائض.

وعندئذ يطرح هذا السؤال هل هناك دليل خاصّ من السنّة على جواز الأذان لقيام الناس لصلاة الليل أوّلاً، وهل كانت هذه الطريقة موجودة في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو بعده في عصر الخلفاء في مورد إيقاظ الناس لأداء نافلة الليل، ثانياً.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

15 ذي الحجّة الحرام 1427 ه

ص:400

15

صاحب السماحة العلّامة الشيخ جعفر السبحاني

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وبعد

سيدي: أفدتموني بموقف السادة من المذهب الإمامي في توقيت رمي جمرة العقبة ليلة عيد الأضحى، وهو موقف يتّفق مع مذهب السادة من المذاهب الأربعة وإن كان الأمر متّسعاً في المذهبين الشافعي والحنبلي بخصوص بداية رمي جمرة العقبة، فالجواز لدى هذين المذهبين يبدأ للجميع بعد نصف الليل. كنت أتوقع أن يكون مَن سألته عن رمي مجموعة من إخوتنا الشيعة بعد أذان العشاء مباشرة أنّه يطبق المذهب ولكن تبيّن أنّ الأمر غير ذلك كما أفاد سماحتكم.

عرض سماحتكم السؤال التالي:

إذ أنّ الرائج في مكة والمدينة بل في دمشق وعمان الأذان قبل الفجر بساعة لإيقاظ الناس لصلاة الليل.... الخ.

إنّ الأذان (الأوّل) لم يقصد به ولم يدر بخلد أحد أنّه أذان لقيام الناس

ص:401

لصلاة الليل وأنّه أذان للنافلة، وما قال به أحد كتابة أو مقالة فيما أحاط به علمي المحدّد.

ثانياً: أنّ هذا الأذان قصد به التأهّب والاستعداد لصلاة الفريضة لا غير، كما تدلّ عليه الأحاديث التالية.

ثالثاً: «وهل كانت هذ الطريقة موجودة في عصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو بعده في عصر الخلفاء في مورد إيقاظ الناس لأداء نافلة الليل»؟

كما سبق أن وضحت أنّ هذا الأذان (الأوّل) ليس لأداء نافلة الليل بتاتاً.

الأحاديث الواردة في الأذان الأوّل والهدف منه هو ما جاء ذكره من الأحاديث في صحيح البخاري صراحة:

«باب الأذان قبل الفجر».

«أي هذا باب في بيان حكم الأذان قبل طلوع الفجر هل هو مشروع أو لا؟ وإذا شرع هل يكتفي به عن إعادة الأذان بعد الفجر أم لا؟ وميل البخاري إلى الإعادة بدليل إيراده الأحاديث في هذا الباب الدالة على الإعادة» العيني: 133/5.

الحديث الآتي يبيّن المقصود من الأذان الأوّل قبل دخول وقت الفجر ما رواه الإمام البخاري رحمه اللّه بسنده عن عبد اللّه بن مسعود رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:

«لا يمنعن أحدكم أو أحداً منكم أذان بلال من سحوره فإنّه يؤذن بليل؛ ليرجع قائمكم، ولينبّه نائمكم، وليس أن يقول: الفجر، أو الصبح، وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتّى يقول هكذا، وقال [زهير] بسبابتيه إحداهما فوق الأُخرى، ثم مدهما عن يمينه وعن شماله».

يقول الإمام العيني رحمه الله: «ومعناه يرد قائمكم أي المتهجد إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطاً، وليوقظ نائمكم ليتأهب للصبح بفعل ما أراده من تهجد

ص:402

قليل، أو تسحر، أو اغتسال...» العيني: 5/130.

فمن ثم يتبيّن لسماحتكم أنّ الأذان الأوّل لم يقصد به لا في الزمن الماضي ولا المتأخّر أن يكون أذاناً لنافلة الليل البتة، وبهذا يصدق ما ذكرتموه في رسالتكم (لأن الأذان عبادة توقيفية لا يرخص إلّافيما شرع وهو الأذان للفرائض) وهو موضع اتّفاق من الجميع بل من الأُمور المجمع عليها من جميع المذاهب.

أُعيد هذا الأذان بمكة المكرمة والمدينة المنورة من ثلاثة عقود من السنين تقريباً للغرض المذكور في نصّ الحديث، وإنّي أرفق لسماحتكم صورة من شرح عمدة القاري شرح صحيح البخاري فيما يتصل بهذا الموضوع، سائلاً المولى جل وعلا أن ينفعنا بما علمنا وأن يبارك في عطائكم وعلمكم وأن يمنحكم الصحة والعافية إنّه سميع مجيب.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

عبد الوهاب أبو سليمان

19/12/1427 ه

ص:403

16

سماحة العلّامة الحجّة الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وصلتنا رسالتكم المبسوطة حول موضوع الأذان قبل الفجر وكانت رسالة مفيدة أوضحت لنا بعض النقاط الّتي كانت غائبة عنّا، شكر اللّه مساعيكم الجميلة، ومع ذلك فإنّي لم أقتنع بالأذان قبل الفجر على النحو الرائج في المدينة المنوّرة ومكة المكرّمة وسائر البلاد لوجوه سأذكرها تباعاً، وقبل ذلك نذكر ما رواه البخاري في المقام وهو كالتالي:

1. عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «لا يمنعن أحدكم - أو أحداً منكم - أذانُ بلالٍ من سحوره فإنّه يؤذن - أو ينادي - بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم وليس أن يقول الفجر أو الصبح».

2. عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ بلالاً يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتّى يؤذّن ابنُ أُم مكتوم».

3. عن عائشة: (بنفس ألفاظ الرواية الثانية).

والاستدلال بما ذُكر على مشروعية الأذان قبل الفجر على النحو الرائج في زماننا يواجه تساؤلات:

1. أنّ أقصى ما تدلّ عليه هذه الروايات هو جواز الأذان قبل الفجر في شهر رمضان، وأمّا جوازه في غير هذا الشهر فلا يستفاد منها، وذلك لأنّه فرق بين الدليل اللفظي والدليل اللبيّ الّذي لم يرد فيه لفظ عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وإنّما قرّر

ص:404

عملاً صدر عن صحابي في حضوره ولم يعترض عليه. ففي الأوّل الدليل اللفظي يؤخذ بالإطلاق كما إذا قال: اعتق رقبة، وسكت عن القيد.

وأمّا الثاني أي الدليل اللبيّ - كما في المقام - فيؤخذ بالقدر المتيقّن ويقتصر على مورده.

وبعبارة أُخرى: فرق بين أن يقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: يجوز الأذان قبل الفجر فيؤخذ بإطلاقه، وبين أن يؤذّن أحد الصحابة في ظرف خاص بمرأى ومسمع من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فيقرّه عليه، فيؤخذ بنفس العمل في ذلك الظرف.

وعلى ضوء ما ذكرنا فالذي صدر من بلال رحمه الله ولم يعترض عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان في شهر رمضان والناس أيقاظ بين متهجّد وآكل للسحور أو مستعد للقيام، ففي هذه الظروف يصحّ الأذان قبل الفجر، وأمّا تعميمه لبقية الشهور والناس على غير هذه الحالة فإنّه يحتاج إلى دليل ولا يمكن التمسّك بالعمل الفاقد للسان بل يكتفى بالقدر المتيقّن كما قلنا.

2. أنّ أذان بلال قبل الفجر كان قبيل الفجر وكان الفاصل الزماني بين أذانه والفجر قليلاً جدّاً على نحو ربما كان بعض الناس يتخيّل دخول الفجر فنبّه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ أذانه ليس دليلاً على دخول الفجر، فلو دلّ العمل على الجواز فإنّما يدلّ في هذا الحدّ، لا ما إذا كان الفاصل الزماني يقترب من ساعة كاملة كما هوالحال الآن، ولذلك ينقل ابن حجر في فتح الباري عن ابن دقيق قوله: كان وقت الأذان مشتبهاً محتملاً لأن يكون عند طلوع الفجر فبيّن صلى الله عليه و آله و سلم أنّ ذلك لا يمنع الأكل والشرب بل الّذي يمنعه طلوع الفجر الصادق. قال: وهذا يدلّ على تقارب وقت أذان بلال من الفجر. ثم قال ابن حجر: ويقوّيه أيضاً ما تقدّم من أن الحكمة في مشروعيته، التأهّبُ لإدراك الصبح في أوّل وقتها.(1)

3. يحتمل جدّاً أنّ بلالاً كان يؤذّن ببعض فصول الأذان لا بأذان تام

ص:405


1- . فتح الباري: 2/106.

الأجزاء، لأنّ الغرض كما نُصّ عليه في الرواية هو: «ليرجع قائمكم ولينبّه نائمكم»، ويفسّره العيني في شرحه بقوله: إنّما يؤذن بالليل ليعلمكم أنّ الصبح قريب فيرد القائم المتهجد إلى راحته لينام لحظة ليصبح نشيطاً ويوقظ نائمكم ليتأهّب للصبح بفعل ما أراده من تهجّد قليل أو تسحّر أو اغتسال(1).

وهذا يحصل ببعض الفصول لا بأذان تام، ولذلك نرى الاختلاف في النقل بين «ينادي» و «يؤذن».

روى البخاري في باب الأذان بعد الفجر عن عبد اللّه بن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: إنّ بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتّى ينادي ابن أُمّ مكتوم، ولعل التعبير بالنداء والعدول عن كلمة الأذان إشارة إلى أنّ الصادر من بلال لم يكن أذاناً حقيقياً جامعاً لعامة فصوله بل كان يلتقط شيئاً من فصول الأذان وينادي بها.

نعم كان أذان ابن أُم مكتوم أذاناً واقعياً والتعبير عنه ب «ينادي» لأجل وقوعه ضمن سياقه.

ولهذا نرى أنّ عبد اللّه بن مسعود يرويه على الوجهين فيقول فإنّه يؤذن - أو ينادي - بليل.

4. أنّ الحنفية ذهبت إلى أنّه لا يسنّ الأذان قبل وقت الصبح حتّى تجرّأ بعضهم وقال: إنّه كان نداءً لا أذاناً.

أو ليس الأولى عندئذ ترك هذا الأذان والاكتفاء به في شهر رمضان.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

25 ذي الحجّة الحرام 1427 ه

ص:406


1- . عمدة القاري: 5/130-134.

17

سماحة العلّامة الحجّة الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

اشارة

دام عزّه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد؛

لقد سبرت مصنّفكم الموسوم: «منهج البحث في الفقه الإسلامي» ووجدت أنّ كافة البحوث الواردة فيه كانت جميلة ووافية، وأنّ الكتاب جدير بأن يتخذ منهجاً دراسياً في كلّيات الفقه.

غير أنّ هذا لا يصدنا عن أن نذكر شيئاً بسيطاً لا ينقص من قيمة الكتاب.

ذكرتم حفظكم اللّه في المبحث الثالث موضوع: «صناعة الاجتهاد ومتطلباتها في الوقت الحاضر»، وقد أفضتم فيه الكلام، ولكنّا نرى أنّ هذا البحث يتطلّب ذكر أُمور ثلاثة كلّها أيضاً من أدوات الاجتهاد:

الأوّل: تاريخ التشريع الإسلامي

يجب على الفقيه دراسة تاريخ التشريع الإسلامي فإنّ تاريخ العلم يلقي ضوءاً أو أضواء على نفس العلم، وقد عُرّف ذلك: بأنّه العلم الّذي يبحث عن حالات الفقه الإسلامي في عصر الرسالة وما بعده من العصور، وبيان الظروف الّتي أُنشئت فيها تلك الأحكام، وبيان ما طرأ عليها، وعن سيرة الفقهاء والمجتهدين، وماكان لهم من دور في تخريج تلك الأحكام.

ص:407

ولنذكر مثالاً لتأثير العلم بتاريخ التشريع في الاجتهاد: أفتى بعض الفقهاء على أنّ المتمتع يتخيّر بين الحلق والتقصير مستدلّاً بقوله سبحانه: (لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ ) (1).

ومن المعلوم أنّ (الواو) هنا للتخيير، فقال بالتخيير بين الأمرين في الخروج عن الإحرام في حجّ التمتع. والاستدلال نابع عن عدم الاطّلاع على تاريخ التشريع، فإنّ الآية راجعة إلى العمرة المفردة الّتي أتى بها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في السنة السابعة، وأين هي من الإحرام لحج التمتع ؟ وكم لهذا الموضوع من نظائر في الفقه.

ثم في ظل هذا العلم يعرف الناسخ من المنسوخ كما يتّضح مفاد آيات الأحكام، وغير ذلك من الفوائد.

الثاني: التمييز بين ثابتات الأحكام ومتغيّراتها

كما أنّ هذا الموضوع صار ذريعة لإنكار كثير من مسلمات الفقه الإسلامي تحت غطاء متطلّبات العصر ومتغيرات الأحكام، وكان على المؤلف حفظه اللّه إرخاء عنان القلم في هذا الموضوع لينبه القارئ على تقسيم الأحكام إلى قسمين:

ثابتة: لا تزعزعها عواصف الدهر.

ومتغيّرة: تتغير حسب المصالح ومتطلبات العصر.

الثالث: التركيز على الاجتهاد المطلق

كان على المؤلّف أن يركّز على الاجتهاد الحر الخارج عن إطار المذاهب

ص:408


1- . الفتح: 27.

المعيّنة، فهذا هو الأصل الّذي يجب أن يهتم به فقهاء العصر، وليس هذا بمعنى تناسي عطاءات قُدامى الفقهاء وما بذلوه من جهود في إرساء أركان هذا العلم.

بل بمعنى أنّ كل واحد من أتباع هذه المذاهب إنسان غير معصوم قابل للخطأ فالأصحّ بذل الجهد في دائرة أوسع من التأثر بالمذاهب المعينة.

وليس من البعيد أن ينال الآخرون ما لم ينله الأوائل، كما ورد في المثل المعروف: «كم ترك الأوّل للآخر».

وفي الختام أُؤكد على أنّ هذه التعليقة المختصرة لا تنقص من قيمة الكتاب قيد شعرة.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

21 محرّم الحرام 1428 ه

ص:409

18

العلّامة الجليل فضيلة الشيخ جعفر السبحاني

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

سيدي: إنّي سعيد كل السعادة أن أجد من فضيلتكم الاهتمام الكامل، والدراسة الشاملة لكتاب (منهج البحث في الفقه الإسلامي: خصائصه، ونقائصه، وترتيب موضوعاته)، وإبراز بعض النقاط والموضوعات الّتي يرى فضيلتكم أن تضم بين دفتي الكتاب، وهي لا شكّ مهمّة جداً، وسيكون لها مكانها من الكتاب في الطبعة القادمة إن شاء اللّه، وقد عنيتم فضيلتكم بالتحديد «أن هذا البحث يتطلب ذكر أُمور ثلاثة كلها أيضاً من أدوات الاجتهاد...» إني اتفق مع فضيلتكم كل الاتفاق على أهميتها:

تاريخ التشريع، التمييز بين ثابتات الأحكام ومتغيراتها، التركيز على الاجتهاد المطلق.

أود الإشارة إلى نقطة منهجية بأنّ مجال هذا وتفصيله هو علم أُصول الفقه، وقد أفاض علماء أُصول الفقه في شروطه وأهميته، وهذا الكتاب في الحقيقة هو مجرد إضاءات لطالب الفقه والباحث فيه، وكما لا يخفى على فضيلتكم أنّ الباحثين فيه لا يجدون دليلاً يأخذ بأيديهم خصوصاً وأنّه قد قَلَّ

ص:410

العلماء بيننا الذين ينيرون الطريق في هذا المجال، وكما رأى فضيلتكم أنّ الكثير من الموضوعات المدوّنة قد كتب فيها أكثر بكثير ممّا جرى عرضه، ومن أجل أن أوفّر على القارئ وقته أحلته في نهاية بعض الموضوعات إلى كتب أُخرى يشبع منها نهمه ويروي ظمأه.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

محبّكم

عبدالوهاب أبوسليمان

1428/1/23 ه - 2007/2/11 م

ص:411

19

سماحة العلّامة الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

السلام عليكم وعلى من حولكم من الأعزاء الكرام ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد:

فقد وصلتني رسالتكم القيّمة المؤرّخة 1428/1/23 ه، ولقد ذكرتم في رسالتكم بأنكم ستقومون بتحرير المواضع الثلاثة الّتي هي من أدوات الاجتهاد في الطبعة القادمة.

وهذا ما حثّني على إرسال مقال حول واحد من هذه الأُمور، ألا وهو «الأحكام الشرعية بين الثوابت والمتغيرات» لأكون مشاركاً لكم في الأجر في هذا الصدد، ولعلكم تجدون فيه ثغرة أو ثغرات ننتظر أن تنبهوا عليها.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

مستهل صفر المظفر 1428 ه

ص:412

ملحق الأحكام الشرعية بين الثوابت والمتغيّرات

اشارة

ملحق(1)الأحكام الشرعية بين الثوابت والمتغيّرات

اتّفق المسلمون على أنّ نبي الإسلام محمداً صلى الله عليه و آله و سلم هو خاتم الأنبياء وأنّ شريعته خاتمة الشرائع، وكتابه خاتم الكتب، وأنّ تشريعاته خالدة لا تنسخ إلى يوم القيامة، فهي ثابتة، خالدة، دائمة، إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّ التطوّر الاجتماعي يستلزم تطوّراً في قوانين المجتمع إذ القانون الموضوع في ظرف خاص ربما لا يجدي نفعاً في ظرف آخر، ومقتضيات الزمان تختلف باختلاف المجتمعات وألوان الحياة فما صحّ أمس لا يصحّ اليوم، وما يصحّ اليوم ربّما لا يصحّ غداً.

فكيف يمكن التوفيق بين الأمرين:

أقول: هذا هو الإشكال الّذي ربما يطرحه بعض المنبهرين بالقوانين الغربية، لغاية إحلال القوانين الوضعية محلّ القوانين الشرعية بحجة أنّ مقتضيات الزمان تتطلّب ذلك.

وحاصل كلامهم: أنّ الحياة الاجتماعية لو استمرت على وتيرة واحدة،

ص:413


1- . ملحق بالرسالة السابقة.

لصحّ للتشريع أن يسود في جميع الأزمنة، وأمّا لو كانت على وتائر مختلفة متحوّلة ومتغيّرة، فلا يسود القانون الواحد في أزمنة متباينة.

ولأجل حلّ الإشكال الّذي علق بالكثير من الأذهان نميط الستر عمّا هو المراد بالقوانين الثابتة، وما هو المقصود بالمقرّرات المتغيّرة، على وجه لا يمسُ التغيّرُ والتحوّل صميمَ الشريعة، وفي نفس الوقت تنطبق الشريعة الخالدة على عامّة المقتضيات وألوان الحياة، وإليك بيانه:

إنّ للإنسان مع قطع النظر عمّا يحيط به من شروط العيش المختلفة، روحيات وغرائز خاصّة تلازمه، ولا تنفك عنه، إذ هي في الحقيقة مشخّصات تكوينية له، بها يتميّز عن سائر الحيوانات وتلازم وجوده في كلّ عصر ولا تنفك عنه بمرور الزمان.

فهاتيك الغرائز الثابتة والروحيات الخالدة، لا تستغني عن قانون ينظم اتّجاهها، وتشريع ينظمها، وحكم يصونها عن الإفراط والتفريط، فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته وصالحاً لتعديلها، ومقتضياً لصلاحها، ومانعاً لفسادها، لزم خلوده بخلودها وثبوته بثبوتها.

وهؤلاء قد قصروا النظر على ما يحيط به من شروط العيش المختلفة المتبدّلة، وذهلوا عن أنّ للإنسان خلقاً وروحيات وغرائز، قد فطر عليها، لاتنفك عنه ما دام إنساناً، وكلّ واحد منها يقتضي حكماً يناسبه ولايباينه، بل يلائمه، ويدوم بدوامه ويثبت بثبوته عبر الأجيال والقرون.

ودونك نماذج من هذه الأُمور ليتبيّن لك بأنّ التطوّر لا يعمّ جميع نواحي الحياة، وأنّ الثابت منها يقتضي حكماً ثابتاً لا متطوّراً:

1. إنّ الانسان بما هو موجود اجتماعي، يحتاج لحفظ حياته وبقاء نسله إلى العيش الاجتماعي والحياة العائلية، وهذان الأمران من أُسس حياة الإنسان، لا تفتأ تقوم عليهما في جملة ما تقوم عليه منذ بدء حياته.

ص:414

وعلى هذا، فإذا كان التشريع الموضوع لتنظيم المجتمع مبنياً على العدالة، حافظاً لحقوق أفراده، خالياً عن الظلم والجور والتعسّف، وموضوعاً على ملاكات واقعية، ضامناً لمصلحة المجتمع وصائناً له عن الفساد والانهيار، لزم بقاؤه ودوامه، ما دام مرتكزاً على العدل والإنصاف.

2. إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس، فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً، على رغم كلّ الدعايات السخيفة الكاذبة، التي تريد إزالة كلّ تفاوت بينهما، ولأجل ذلك، اختلفت أحكام كلّ منهما عن الآخر، اختلافاً يقتضيه طبع كلّ منهما، فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما، ظل ثابتاً لا يتغيّر بمرور الزمان، لثبات الموضوع، المقتضي ثبات محموله.

3. الروابط العائلية، كرابطة الولد بالوالدين، والأخ بأخيه، هي روابط طبيعية، لوجود الوحدة الروحية، والوحدة النسبية بينهم، فالأحكام المتفرّقة المنسّقة لهذه الروابط من التوارث ولزوم التكريم، ثابتة لا تتغير بتغيّر الزمان.

4. التشريع الإسلامي حريص جداً على صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والانحلال، وممّا لا شكّ فيه، أنّ في تعاطي الخمر، ولعب الميسر، وشيوع الإباحة الجنسية؛ ضربة قاضية للأخلاق، وقد عالج الإسلام تلك الناحية من حياة الإنسان بتحريمها، وإجراء الحدود على مقترفيها، فالأحكام المتعلّقة بها، من الأحكام الثابتة مدى الدهور والأجيال، لأنّ ضررها ثابت لا يتغيّر بتغيّر الزمان، فالخمر يزيل العقل، والميسر ينبت العداوة في المجتمع، والإباحية الجنسية تفسد النسل والحرث دائماً ما دامت السماوات والأرض، فتتبعها أحكامها في الثبات والدوام.

هذا وأمثاله من الموضوعات الثابتة في حياة الإنسان الاجتماعية قد حدّدها ونظّمها الإسلام بقوانين ثابتة تطابق فطرته، وتكفل للمجتمع تنسيق

ص:415

الروابط الاجتماعية والاقتصادية على أحسن نسق وحفظ حقوق الأفراد وتنظيم الروابط العائلية.

وحصيلة البحث: أنّ تطور الحياة الاجتماعية في بعض نواحيها لا يستلزم تغيّر النظام السائد على غرار الفطرة، ولا تغيّر الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية، من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها، فلو تغيّر لون الحياة في وسائل الركوب، ومعدّات التكتيك الحربي و... مثلاً، فإنّ ذلك لا يقتضي أن تنسخ حرمة الظلم ووجوب العدل ولزوم أداء الأمانات ودفع الغرامات والوفاء بالعهود والأيمان و...

فإذا كان التشريع على غرار الفطرة الانسانية، وكان النظام السائد حافظاً لحقوق المجتمع وموضوعاً على ملاكات في نفس الأمر، تلازم الموضوع في جميع الأجيال، فذلك التشريع والنظام يحتلّ مكان التشريع الدائم.

المقررات المتطوّرة في الإسلام

إنّ للانسان مع هذه الصفات والمشخّصات الذاتية، ظروفَ عيش اخرى زمانية ومكانية، لا تزال تتغيّر، ويتغيّر معها وضع الانسان، من حال إلى حال، فمثل هذه الظروف الطارئة تتغيّر أحكامها بتغيّرها.

ونحن نطلق على الأحكام المتعلّقة بهذه الظروف - الطارئة - عنوان «المقررات»، كما نطلق على الأحكام المتعلّقة بالظروف الثابتة، عنوان «القوانين».

وهذه المقررات ليست بمعزل عن القوانين الكلية الإسلامية، ولا تكون اعتباطاً وفوضى بل تجري في ضوء القوانين الكلية الثابتة، بحيث لا تناقضها ولا تعطّلها، وإن شئت قلت: إنّ هنا أحكاماً وخطوطاً عريضة تمثل القاعدة المركزية في التشريع الإسلامي وهي مصونة عن التحوّل والتبدّل، مهما اختلفت الأوضاع وتباينت الملابسات.

ص:416

وهناك أحكام متفرّعة على تلكم الخطوط، مستخرجة منها، بإمعان ودراية خاصّة، يستنبطها الباحث الإسلامي باستفراغ وسعه على ضوء هذه الخطوط العريضة، بشرط أن لا يصادمها، وهذا القسم من الأحكام يتجدد بتجدد العهود وتباين الظروف وتعدّد الملابسات واختلاف الشرائط.

فمن قواعد الدين الإسلامي ما هو خالد وثابت وهو ما يمس الفطرة الإنسانية وله صلة بالكون والطبيعة، وما هو متغيّر ومتبدّل، وهو الذي لا يمس واقع العلاقات الاجتماعية والشؤون البشرية، ولا يتجاوز حدود الظواهر الاجتماعية وقد منح هذا التطور الدين الاسلامي، أسباب الخلود والبقاء والمسايرة مع عامّة الحضارات، بشرط أن لا يصطدم التحوّل على أي أساس من أُسسه ولا يتجاوز حدّاً من حدوده.

فالحكم الكلي الذي يعالج القضايا البشرية على غرار الفطرة، وصعيدها الكوني، ثابت وخالد في كل العصور والأزمنة، وإن تطورت الأوضاع الاجتماعية والسياسية واختلفت حاجات الناس فإنّ الأنظمة الإسلامية والدساتير الشرعية، تساير الفطرة الإنسانية الثابتة، وتوالي الطبيعة الكونية، ولا تتخلف عنهما قدر شعرة، فإذا كان التشريع معبّراً عن الكون الثابت، ومبتنياً عليه، فيخلد بخلوده ويدوم بدوامه.

أجل أنّ تقلّب الأحوال وتحوّل الأوضاع الاجتماعية يتطلّب تحوّلاً في السنن والأنظمة، وتبدّلاً في المقررات، غير أنّه لا يتطلّب تحولاً فيما يمس واقع الانسانية السائد في جميع الأحوال ومختلف الأوضاع، كما لا يتطلب تحوّلاً في القوانين الكونية التي أصبحت تدبّر الكون بأُصوله الثابتة، فلا تتغير النسب الرياضية ولا النتائج الهندسية وإن تطوّرت الأوضاع وتبدلت الحضارات.

وإنّما المتغير هو المظاهر والقشور، والشكل التطبيقي لهاتيك الأحكام في مختلف الأوضاع وتطور المجتمع، والمتأثّر بالأوضاع هو القسم الثاني لا الأوّل،

ص:417

ولا ضير فيه فإنّ الدين الإسلامي إنّما يستعرض القضايا التي تمس واقع البشرية، والمسائل التي لها صلة بالكون والطبيعة، ويترك التطبيق بعد لنفس المكلف حسب ظروفه وأحواله.

وبذلك تقف على أنّ التطور والتحوّل، فيما كتب له التغيّر والتبدّل جزء جوهري للدين، عنصر داخل في بناء التشريع الإسلامي كما أنّ الثبات والدوام فيما فرض له ذلك، أحد عناصر الدين ومن أجزاء ذاك البناء التشريعي السامي، فتجريده من أي واحد من عنصريه يوجب انحلال المركب وفناء الدين، وتأخره عن مسايرة الحضارة.

ودونك نماذج من هذا القسم، أي من الأحكام المتطورة المتغيّرة بتغيّر الزمان:

1. في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية: يجب على الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامة، وأمّا كيفية تلك الرعاية، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية، فتارة تقتضي المصلحة السلام والمهادنة والصلح مع العدو، واُخرى تقتضي ضد ذلك.

وهكذا تختلف المقررات والأحكام الخاصة في هذا المجال، باختلاف الظروف ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين، كقوله سبحانه: (وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (1).

وقوله سبحانه: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا

ص:418


1- . النساء: 141.

عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (1).

2. العلاقات الدولية التجارية: فقد تقتضي المصلحة عقد اتفاقيات اقتصادية وإنشاء شركات تجارية أو مؤسسات صناعية، مشتركة بين المسلمين وغيرهم، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور له، الفقيد المجدد، السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وانجلترا، إذ كانت مجحفة بحقوق الاُمّة المسلمة الإيرانية لأنّها خوّلت لانجلترا حق احتكار التنباك الإيراني.

3. الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء، قانون ثابت لا يتغيّر، فالمقصد الأسنى لمشرّع الإسلام، إنّما هو صيانة سيادته عن خطر أعدائه وأضرارهم، ولأجل ذلك أوجب عليهم تحصيل قوّة ضاربة ضد الأعداء، وإعداد جيش عارم جرّار تجاه الأعداء كما يقول سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) (2) فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيده العقل والفطرة. أمّا كيفية الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان، تتغير بتغيره، ولكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإسلام أصل ثابت، حتى مسألة التجنيد الإلزامي، الذي أصبح من الاُمور الأصلية في غالب البلدان.

وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب، أو وضع كتاب خاص، لأحكام السبق والرماية، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة ونقل أحاديث في ذلك الباب، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وأئمّة الإسلام، فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام، دعا إليها الشارع بصورة

ص:419


1- . الممتحنة: 8-9.
2- . الأنفال: 60.

أساسية ثابتة، بل كانت هي نوع تطبيق لذلك الحكم، الغرض منه تحصيل القوّة الكافية، تّجاه العدو في تلكم العصور، وأمّا الأحكام التي ينبغي أن تطبق في العصر الحاضر، فإنّها تفوض إلى مقتضيات العصر نفسه.

فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الإسلام ومعتنقيه عن الخطر، ويصدّ كلّ مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب إمكانيات الوقت.

والمقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به، لا يجب عليه التعرض إلى تفاصيل الاُمور وجزئياتها، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والاُصول ليساير قانونه جميع الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظه من البقاء قليلاً جدّاً.

4. نشر العلم والثقافة، واستكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع مادّياً ومعنوياً يعتبر من الفرائض الإسلامية، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدّد بحدّ خاص، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي، واللجان المقررة لذلك من جانبه حسب الامكانات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.

وبالجملة: فقد ألزم الإسلام، رعاة المسلمين، وولاة الأمر نشر العلم بين أبناء الانسان واجتثاث مادة الجهل من بينهم ومكافحة أي لون من الاُمّية، وأمّا نوع العلم وخصوصياته، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم بحوائج عصره.

فرب علم لم يكن لازماً، لعدم الحاجة إليه، في العصور السابقة، ولكنّه أصبح اليوم في الرعيل الأوّل من العلوم اللازمة التي فيها صلاح المجتمع كالاقتصاد والسياسة.

5. حفظ النظام وتأمين السبل والطرق، وتنظيم الاُمور الداخلية ورفع مستوى الاقتصاد و... من الضروريات، فيتبع فيه وأمثاله مقتضيات الظروف

ص:420

وليس فيه للإسلام حكم خاص يُتبع، بل الذي يتوخّاه الإسلام هو الوصول إلى هذه الغايات، وتحقيقها بالوسائل الممكنة، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنّما ذلك متروك إلى امكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر، وكلّها في ضوء القوانين العامّة.

6. قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال وهو قوله سبحانه:

(وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (1) وقد فرّع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً في صحة عقد البيع أو المعاملة فقالوا: يشترط في صحّة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلّا فلا تصحّ المعاملة، ومن هنا حرّموا بيع (الدم) وشراءه.

إلّا أنّ تحريم بيع الدم أو شرائه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام بل التحريم كان في الزمان السابق صورة تطبيقية لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل، وكان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً له فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تخرج المعاملة عن أن تكون أكل المال بالباطل) وعدم تحقّق الفائدة، فلو ترتبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدّل حكم الحرمة إلى الحلّية، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) .

وفي هذا المضمار ورد أنّ عليّاً عليه السلام سُئل عن قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: «غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود»؟ فقال عليه السلام: «إنّما قال صلى الله عليه و آله و سلم ذلك والدين قلٌّ ، فأمّا الآن فقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤٌ وما اختار»(2).

ويقول الشيخ الرئيس ابن سينا في هذا المقام في الشفاء:

ويجب أن يفوّض كثير من الأحوال خصوصاً في المعاملات إلى الاجتهاد، فإنّ للأوقات أحكاماً لا يمكن أن تنضبط، وأمّا ضبط المدنية بعد ذلك

ص:421


1- . البقرة: 188.
2- . نهج البلاغة: الكلمات القصار، برقم 16.

بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل والخرج واعداد أُهب الأسلحة والحقوق والثغور وغير ذلك فينبغي أن يكون ذلك إلى السائس من حيث هو خليفة ولا تفرض فيها أحكام جزئية فإنّ في فرضها فساداً لأنّها تتغيّر مع تغيّر الأوقات، وفرض الكلّيات فيها مع تمام الاحتراز غير ممكن، فيجب أن يجعل ذلك إلى أهل المشورة(1).

وأنّ عنوان «مقتضى الزمان» و «حتمية التاريخ» وغيرهما من العناوين صار رمزاً لكل من أراد أن يتحرّر من القيم الأخلاقية، ويعيش متحلّلاً من كل قيد وحدّ، خالعاً كل عذار، والكثير من أفراد الانسان في العصر الحاضر، حينما رأوا، الاباحة الجنسية واختلاط الرجال والنساء، واتخاذ الملاهي على أنواعها وشرب المسكر واللعب بالميسر واقتراف المعاصي واخذ الربا مما راج في البيئات الغربية بلا استنكار وقد حرّمها الشرع ورفضتها قوانين الأخلاق الصحيحة، والفطرة السليمة، لم يجدوا مبرّراً لاقترافها والانصياع التام للشهوات الجامحة إلّا بأن يتمسّكوا بإحدى هذه العناوين - مقتضيات الزمان - وليست الغاية من هذه القالة عندهم، إلّااقتراف السيئات والانغمار في الشهوات.

كما أنّ هذه العناوين قد صارت ملجأ لكل من أراد هدم الثقافة الشرقية الأصيلة وتحويرها، وسوق الشرق إلى الإنصياع لتوجيهات الغرب، وتناسي كل ما كان له من كرامة قديمة وقطع صلته بها.

ترى المنادين باستعمال الحروف اللاتينية بدل الحروف الشرقية الإسلامية يتمسّكون بأعذار، ويستدلون بأُمور منها: كون ذلك من مقتضيات الزمان، ونتيجة يحتمها التاريخ، غير أنّ الباحث الحرّ، يرى للقديم كرامته الموروثة وللحديث نضارته الموجودة، فيأخذ منهما كل ما يليق بالأخذ ويصلح

ص:422


1- . الشفاء، قسم الالهيات: 566.

للاقتفاء، فلا يعقد حلفاً مع كل قديم حتى الخرافات، ولا يكب على كل حديث وإن أضر به وبكرامته وشرفه.

فعلى كلّ من يريد أن يحافظ على كرامة الإنسان وكيانه وقيمه الأخلاقية، أن يتوخّى الأصلح من مقتضيات الزمان ويصلحه على ضوء العقل والفطرة، لا أن يطبق عمله عليه، فليس مقتضى العصر وحياً اوحي إلى المجتمع، مصوناً عن الخطأ أو نقياً عن الاشتباه.

على أنّ هؤلاء المتشدّقين بأمثال هذه العبارات - تقليداً للغرب والحضارة الغربية بلا تأمّل ولا روية - قد عزب عنهم أنّ «هذه الحتمية» و «اقتفاء مقتضى الزمان» التي ينادون بها، غير معترف بها عند أعيان القوم، ومفكري المجتمعات، بل أكابرهم فيها، فكم نبّه علماء وحذّر مفكرون من أبناء الغرب، من عواقب السير على منهج هذه الحضارة، واستخفّوا خطتها وتنبّأوا بانهيارها ونادوا بوجوب نقض أُسسها(1).

والحمد للّه رب العالمين

ص:423


1- . نذكر على سبيل المثال منهم، العلّامة «الكسيس كارل» فارجع إلى ما حرره في كتابه «الانسان ذلك المجهول».

20

سماحة العلّامة الشيخ جعفر السبحاني

حفظه اللّه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

ذكر فضيلتكم موضوع الصلاة حول الكعبة على الشكل الدائري. أبعث أوّلاً لفضيلتكم بالنصّ المقتبس من تاريخ الأزرقي حول هذه النقطة، ولعل ما فيه يكفي ويغني.

وفي نظري القاصر: أنّه في الشكل الدائري لا يوجد تقدّم لمن هو في محيط الدائرة، والإمام ليس فيها فهو المتقدّم بل هو المتقدّم على الجميع في كل الاتجاهات، وموافقة وتأييد كبار علماء التابعين لهذا العمل وترجيحه يزيل الإشكال.

أمر آخر: المعروف من مذاهب الأئمة عدم جواز تقدّم المأموم على الإمام عدا المالكية فيرون الكراهة. ولعلّ هذا الحكم - كما أعرفه - من أجل تيسير متابعة المأموم للإمام، ومن دون تأخره في السابق لا تتيسر له المتابعة، وفي الوقت الحاضر وُجدت الوسائل والسبل الّتي تتيح له المتابعة. وإلى جانب هذا ما يرى من شدّة الزحام في مساجد مكّة المكرمة أيام الحج فإن الأخذ برأي

ص:424

المالكية هو الأولى توسعة للناس إذا ضمنت متابعة الإمام، والأمل في رأي سماحتكم من الموضوع حفظكم اللّه.

هذا وأسأل المولى جل وعلا أن يلهمنا الصواب وأن يسدد الرأي في صلاح الأُمّة ديناً ودنيا، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

عبدالوهاب أبو سليمان

الخميس 19 رجب 1428 ه

2 أغسطس 2007 م

ملحق أوّل من ادار الصفوف حول الكعبة

ملحق أوّل من ادار الصفوف حول الكعبة(1)

حدّثنا أبو الوليد قال: حدّثني جدّي عن سفيان بن عيينة قال: أوّل من أدار الصفوف حول الكعبة خالد بن عبداللّه القسري، حدّثني جدّي قال: حدثني عبد الرحمن بن حسن بن القاسم بن عقبة الأزرقي عن أبيه قال: كان الناس يقومون قيام شهر رمضان في أعلى المسجد الحرام، تركز حربة خلف المقام بربوة فيصلي الإمام خلف الحربة والناس وراءه فمن أراد صلى مع الإمام ومن أراد طاف بالبيت(2) وركع خلف المقام، فلما ولي خالد بن عبداللّه القسري مكّة لعبد الملك بن مروان وحضر شهر رمضان، أمر خالد القرّاء أن يتقدّموا فيصلوا خلف المقام، وأدار الصفوف حول الكعبة، وذلك أنّ الناس ضاق عليهم أعلى المسجد فأدارهم حول الكعبة فقيل له: تقطع الطواف لغير المكتوبة قال: فأنا آمرهم يطوفن بين كل ترويحتين سبعاً فأمرهم ففصلوا بين كل ترويحتين بطواف سبع، فقيل له: فإنّه يكون في مؤخر الكعبة وجوانبها من لا يعلم بانقضاء طواف

ص:425


1- . ملحق بالرسالة السابقة.
2- . كذا في جميع الأُصول، وفي د (بالبيد) محذوفة.

الطائف من مصل وغيره فيتهيأ للصلاة، فأمر عبيد الكعبة أن يكبروا حول الكعبة يقولن: الحمد للّه واللّه أكبر، فإذا بلغوا الركن الأسود في الطواف السادس سكتوا بين التكبيرتين سكتة حتّى يتهيأ الناس ممن في الحجر ومن في جوانب المسجد من مصل وغيره فيعرفون ذلك بانقطاع التكبير ويصلي ويخفف المصلي صلاته ثم يعمدون إلى التكبير حتّى يفرغوا من السبع، ويقوم مسمع فينادي الصلاة رحمكم اللّه، قال: وكان عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار ونظراؤهم من العلماء يرون ذلك ولا ينكرونه.

حدّثني جدّي عن مسلم بن خالد الزنجي وسعيد بن سالم قالا: حدثنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: إذا قل الناس في المسجد الحرام أحب إليك أن يصلوا خلف المقام أو يكونوا صفاً واحداً حول الكعبة قال: بل يكونوا صفاً واحداً حول الكعبة، قال: (وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) .(1)

ص:426


1- . الزمر: 75.

1

2. سماحة الأُستاذ الفاضل عبد الوهاب إبراهيم أبوسليمان

دام علاه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

إنّ سؤالي عن الصلاة جماعة حول الكعبة لم يكن مركّزاً على تقدّم المأموم على الإمام، حيث إنّ جوابكم عن هذا الإشكال واضح وكافٍ ، إلّاأنّي كنت قد سألت عن مواجهة المأموم للإمام في بعض الصفوف، كما إذا وقف الإمام قريباً من مقام إبراهيم عليه السلام فالصفوف المنعقدة في النصف الثاني من المسجد يواجه المصلّون فيها إمام الجماعة، ولم أقف على مَن قال بصحّة الجماعة في حال مواجهة المأموم للإمام.

فالتقدّم والتأخّر أمر مختلف فيه، فالسادة المالكية على الكراهة والباقون على التحريم.

وأمّا مواجهة الإمام فهو موضوع آخر، فما هو الحل لهذه المشكلة، أفيدونا، شكر اللّه مساعيكم.

جعفر السبحاني

22 رجب المرجب 1428 ه

ص:427

22

مؤسسة الإمام الصادق للتحقيق والتأليف

سماحة العلّامة الشيخ جعفر السبحاني

حفظه اللّه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وبعد

سيدي: عرضكم لقضية مواجهة المصلّين إمام الجماعة وقول سماحتكم:

ولم أقف على مَن قال بصحّة الجماعة في مواجهة المأموم للإمام.. فما هو الحل لهذه المشكلة ؟!!

وقولكم «وأمّا مواجهة الإمام فهو موضوع آخر».

لا يخفى عليكم أنّ الموضوع قد بحثه الفقهاء من هذا الوجه الّذي ذكرتموه وإنّي أبعث بالنصوص الواردة في هذا الموضوع عند كلّ من الحنفية والشافعية والحنابلة في كتبهم المعتمدة، آملاً أن تتطابق نصوصهم مع ما عرضتموه.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

عبدالوهاب أبو سليمان

25/7/1428 ه

ص:428

23

الحوزة العلمية مؤسسة الإمام الصادق للتحقيق والتأليف

سماحة العلّامة الفقيه الشيخ جعفرالسبحاني

حفظه اللّه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وبعد

سيدي: مناقشة سماحتكم لبحث رؤية الهلال مناقشة مفيدة احتاجت مني إلى تأملها بعناية واهتمام، واسمحوا أن أسطر لسماحتكم بعض النقاط التي قد تكون توضيحاً لبعض ما أثاره سماحتكم.

ذكر سماحتكم في الفقرة الأخيرة من الصفحة الأُولى:

«نعم لا يحتج بقولهم [الفلكيين] في ثبوت الهلال، وأنّ الليلة أوّل الشهر لأنّ الصوم والإفطار معلّقان على الرؤية لا على العلم بوجود الهلال في السماء...».

وذكرتم سماحتكم (أنّ قول الفلكيين حجّة في مورد دون مورد) وضع سماحتكم يده على نقطة النزاع، أو كما يقول الفقهاء (تحرير محل النزاع).

في اعتقادي أنّ محلّ النزاع هو هل الرؤية وسيلة، أو مقصد وغاية ؟

هذا محلّ النزاع بين العلماء فالذي آراه - واللّه أعلم - أنّ اللّه لم يتعبّدنا بالرؤية بالعين المجردة والوسائل وإنّما تعبّدنا بالصوم. الرؤية بالعين المجردة

ص:429

كانت الوسيلة الوحيدة في زمن النبوة والخلفاء الراشدين، ولكن ذكر الرؤية في الأحاديث الشريفة لا يصادر ولا يمنع ما عداها إذا أمكن أن يقودنا إلى الحقيقة الشرعية وهو الصوم.

سيدي: شرحت في البحث منهج الإمام الشاطبي عن مناط الحكم، ودليل الحكم، مناط الحكم من اختصاص أهل الذكر وهم هنا الفلكيون، والحكم ودليله شأن الفقهاء الرؤية المباشرة أو بمساعدة الأجهزة هما سبب واحد منصبّ على موضوع واحد، وقد بنى سماحتكم النظر على أنّهما سببان، وقد صدرت الفتوى عن المجامع الفقهية ودور الفتوى على أنّهما شيء واحد.

الاستلزامات الفقهية التي ذكرتموها لا اتّفق في الرأي مع سماحتكم، إنّ بعض الأمثلة تتداخل فيها قواعد ومبادئ فقهية عديدة مثلاً:

موضوعنا الرؤية هو الواقع إذا علمناه بأي وسيلة متاحة، أمّا ما جهلناه ولم يبلغه علمنا فهو عفو وهذا معدود في سماحة الإسلام، و (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها) (1) مثل هذه الأمثلة التي ذكرها سماحتكم في (ب، ج، د)، بالنسبة للرؤيا هو الصوم إذا توصلنا إلى ظهور الهلال بأي وسيلة بصرية أو علمية.

سيدي: أود أن أطمئن سماحتكم أنّ الموقف الديني الرسمي في المملكة يلتزم الرؤية بالعين المجرّدة في كلّ المناسبات الدينية ولا يقيمون وزناً للفلكيين لا في النفي ولا في الإثبات.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

عبدالوهاب أبو سليمان

28/12/1429 ه

ص:430


1- . البقرة: 286.

3 مراسلة مع الدكتور الشيخ علي محيي الدين القره داغي

اشارة

24

فضيلة الدكتور الشيخ علي محيي الدين القره داغي

- حفظه الباري تعالى -

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في فلاح وصلاح وأن يمنّ على المسلمين بالأمن والسلام.

كان المرجو من أمثالكم من العلماء الكبار التصدّي لدرء الفتنة وتوجيه النصيحة إلى المسؤولين من أجل إصلاح الوضع العام في المجتمع الإسلامي، فإنّ للعلماء في ذلك المجال مسؤولية كبرى.

أبعث اليكم كتاب «أحكام القصاص في الشريعة الإسلامية الغرّاء»، كما أنّه لو خرج شيء من آثاركم من الطبع، فنحن بشوق لرؤيته ومطالعته.

ولكم من اللّه التوفيق

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

آخر جمادى الأُولى 1434 ه

ص:431

25

سماحة آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني المحترم

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

وبعد التحية والتقدير

قد تسلّمت بيد الشكر و التقدير كتبكم التي أرسلتموها إليّ مع سعادة الأخ الفاضل الأُستاذ محمد مهدي أحمدي المحترم، المستشار الثقافي لسفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية - الدوحة.

وإنّني إذ أشكركم على إهداء هذه الكتب أتشرّف بأن أهدي إليكم كتيباً صغيراً حول السلم، داعياً اللّه تعالى أن يبارك في جهود الجميع لخدمة الإسلام، وعلومه الخالصة.

ودمتم في رعاية اللّه وعنايته

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أخوكم

ا. د. علي محيي الدين القره داغي

أُستاذ بجامعة قطر و رئيس مجلس أُمناء جامعة التنمية البشرية والحائز على جائزة الدولة، والخبير بالمجامع الفقهية وعضو المجلس الأُوربي للإفتاء والبحوث.

ص:432

4 مراسلة مع الشيخ أنس الكتبي الحسني

اشارة

26

سماحة العلّامة الشيخ جعفر السبحاني دام ظله

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

من جوار القبّة الخضراء والروضة الغرّاء وقبور الأئمة الأطهار نرسل لكم هذا الكتاب، من المدينة المنوّرة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله الأطهار.

سماحة شيخنا الجليل منذ سنوات وقد دار الحديث بيني وبينكم حول شروعي في كتاب «فقه الإسلام» وهو كتاب على المذاهب الإسلاميّة المختلفة، والهدف منه الوحدة الإسلاميّة مع اختلاف المذاهب ومدى التقارب، ولعمر اللّه أنّ الهدف من هذا التأليف هو مخاطبة طبقة العوام من الناس وأبنائنا من الأجيال الصاعدة والّتي احتارت واستهدفت من المتشدّدين والمتطرّفين بالمجازفة بالتكفير، دون الوعي لأدب الحوار والقول بالدليل والبرهان، والهدف هنا أن نقول لهم: إنّ فقه الإسلام في جميع المذاهب لا يختلف في جذوره بل هو متقارب الأفعال، وكلّ هؤلاء يأخذون من النبي وآله، وإنّ الكتاب والعترة هما الثقلان اللذان يعوّل عليهما، وإنّ عملاً كهذا يا سماحة الشيخ يحتاج إلى فريق عمل يقوم بمساعدتي، وقد تفضّلتم من قبل في إحدى رسائلكم لي بقولكم إنّ هذا العمل يحتاج إلى فريق يقوم على وجه الاعتبار بالمساعدة والنظر.

ص:433

والحقيقة إنّني وضعت خطة عمل بما أنهيته من قسم الطهارة، ولعلّ حامل هذه الرسالة حبيبنا الأجل صاحب الخطوات المحفوفة بالولاية الشيخ محمد مهدي المعراجي حفظه اللّه وبارك في جهوده يطلعكم عليها، وإنّنا ياسماحة شيخنا السبحاني نستمد من علمكم ونظرتكم لما لكم الباع الكبير في هذا المجال بتوجيهاتكم السديدة لما ترونه من إشراف ومتابعة، واللّه نسال أن يجعل ذلك في ميزان حسناتكم.

وقد وضعت بعض الاعتبارات لتنفيذ العمل وهي كالآتي:

1. إكمال الكتاب على غرار ما بدأنا.

2. الحرص على الاختصار بالتبسيط والوصول إلى المضمون دون الإخلال في النص والنقل وقد أرفقت نموذج للعمل.

3. الإحالة إلى أُمّهات المصادر لكلّ مذهب بحيث ان لا يقل عن أربع مصادر معتبرة.

4. الاستشهاد بالنص القرآني في بعض المواضع، والأحاديث المروية المعتبرة.

5. الحرص على أن يكون هذا الكتاب مرجعاً مبسطاً خالياً من الألفاظ المعقّدة لكلّ بيت بسهولة العبارات ووصول الفتاوى دون أي تعقيدات أو إطالة، يستفيد منه العوام ويستأنس به طلبة العلم، ويعتمده العلماء، وقد قمت بعمل خطة مرفقة مع نماذج لطريقة العمل والإحالات، وتقسيم الأبواب والمطالب على المنهج الفقهي السليم، بما يقارب منهج كتاب الشيخ محمد جواد مغنية «الفقه على المذاهب الخمسة».

أُؤكّد لسماحتكم أنّنا نرى أن نيسّر ولا نعسّر نكون للتقريب أقرب

ص:434

وللتنفير أبعد، نرى أن نعلّم العوام أنّنا تحت لواء الوحدة الإسلاميّة لا كما ينقل من المتطرفين المتنطعين.

واللّه من وراء القصد

محبّكم

الشريف أنس بن يعقوب الكتبي الحسني

خطة العمل في كتاب «فقه الإسلام»

اشارة

الكتاب عبارة عن مرجع فقهي على منهج كتب الفقه المعتبرة، ويكون التخريج لكلّ فرقة بأُمّهات كتبها في الفقه، مع الاهتمام بالتخريج بتعدّد المراجع ولا يكون الاعتماد على كتاب أو كتابين بل أكثر من ذلك.

قول النبيّ وأهل البيت:... بتوافق مع أصل المذهب بين الإمامية والزيدية والإسماعيلية والعلوية.

قول المالكية:...

قول الحنفية:...

قول الشافعية:...

قول الحنابلة:...

قول الإمامية:...

قول الزيدية:...

قول الإسماعيلية:...

قول الأباضية:...

قول العلويّة:...

أقوال ابن حزم والأوزاعي، أقوال الفقهاء السبعة، فقه سعيد بن المسيّب،

ص:435

إبراهيم النخعي، أبي ثور، الحسن البصري، سفيان الثوري، مكحول الشامي، إمام الحرمين الجويني، ابن تيمية، ابن جرير الطبري وحمّاد بن أبي سليمان، زيد بن ثابت، ابن رشد، عمر بن عبدالعزيز، الليث بن سعد، جابر بن عبداللّه، أبي هريرة، عبداللّه بن عمر، عبداللّه بن مسعود، عبداللّه بن عباس وغيرهم.

القسم الأوّل: العبادات

الطهارة - النجاسات - المطهّرات - موجبات الوضوء ونواقضه - غايات الوضوء - فرائض الوضوء - شروط وأقسام الصيام - الوضوء - الغسل - الحيض - الاستحاضة - مس الميّت - التيمّم - المذاهب وآية التيمّم - الصلاة - القبلة - ما يجب ستره وما يحرم النظر إليه من البدن - ما يجب ستره من البدن في حالة الصلاة - مكان المصلّي - الأذان - فرائض الصلاة وأركانها - السهو والشك في الصلاة - صلاة الجمعة - صلاة العيدين - صلاة الكسوف والخسوف - صلاة الاستسقاء - صلاة القضاء - صلاة الجماعة - صلاة المسافر - مبطلات الصلاة - الصيام - شروط الصيام - المفطّرات - الزكاة - الأموال الّتي تجب فيها الزكاة - زكاة الذهب والفضة - أصناف المستحقّين للزكاة - زكاة الفطرة - الخمس - الحج - فروع الاستطاعة - الاستنابة - العمرة - أنواع الحج - مواقيت الإحرام - الإحرام:

واجباته ومستحقّاته - محظورات الإحرام - الطواف - السعي والتقصير - منى - المبيت بمنى - الوقوف بعرفة - الوقوف بمزدلفة - رمي الجمرات - جمرة العقبة - الهدي - التعجّل في الحج - بين مكّة ومنى - صور الحج - هلال ذي الحجّة - زيارة المدينة واجبة والسلام على الرسول الأعظم.

ص:436

القسم الثاني: الأحوال الشخصية

الزواج: العقد وشروطه - شروط العقدين - شروط الزوجة على الزوج - دعوى الزواج - المحرّمات - الولاية - الكفاءة - العيوب - خيار الشرط - المهر - لو افتض الزوج بكارة الزوجة بغير المعتاد - اختلاف الزوجين - الجهاز - النسب - التلقيح الصناعي - الحضانة - استحقاق النفقة - تقدير النفقة - نفقة الأقارب.

الطلاق: المطلق - الطلاق رجعي وبائن - الخلع - العدّة - الرجعة - تصديق المدّعي بلا بيّنة - طلاق القاضي - الظهار والإيلاء.

الوصايا: الوصايا - مقدار الوصية - تصرّفات المريض - الوصاية.

المواريث: أحكام التركة - الموجبات والموانع - توزيع التركة - التعصيب - العول - الحجب - الردّ - الحمل وولد الملاعنة والزنا - زواج المريض وطلاقه - ميراث الأب - ميراث الأُم - ميراث الأولاد وأولادهم - ميراث الإخوة والأخوات - ميراث الأعمام والأخوال - ميراث الزوجين - أموال المفقود - ميراث الحرقى والغرقى والمهدوم عليهم.

الوقف: تعريفه - شروط الواقف وألفاظه - الولاية على الوقف - بيع الوقف.

الحجر: شروط الحجر - السفيه - ساقط الأفعال - ولي الصغير والمجنون والسفيه - المفلس.

ص:437

27

حضرة الفاضل الشيخ أنس الكتبي الحسني دام موفقاً

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في جوار القبة الخضراء ومشاهد الأئمة الأطهار عليهم السلام في صلاح وفلاح موفقين لكلّ خير.

قرأنا رسالتكم الشريفة المتضمّنة لمشروعكم الثقافي القيّم، الذي لا يقوم به إلّاالأمثل فالأمثل من رجال العلم، وكبار الفقهاء.

فبشرى لكم من همة قعساء لا تدانيها قمم الجبال.

شيخنا الجليل قرأنا ما كتبتم بدقة ولكن هذا العمل بالنحو الذي ذكرتموه بحاجة إلى مؤسسة علمية فقهية مؤلّفة من فرق وجماعات، يقوم كلّ فريق منهم بجانب من جوانب العمل، خاصّة ما أشرتم إليه في الصفحة 3، أعني: أقوال الفقهاء السبعة، وهذا أمر صعب ويحتاج إلى زمن طويل، فمن اللازم عليكم الاقتصار على المذاهب الخمسة أوّلاً، وأن لا يكتب عن كلّ مذهب فقهي، إلّا أحد أعلامه وأخصائيه ثانياً، وعليكم في الوقوف على آراء فقهاء الإمامية مراجعة واقتناء الكتب التالية:

1. الخلاف للشيخ الطوسي.

2. شرائع الإسلام للمحقّق الحلّي.

ص:438

3. تذكرة الفقهاء للعلّامة الحلي.

4. جواهر الكلام للفقيه النجفي.

إلى غير ذلك من الموسوعات الفقهية.

وختاماً ندعو اللّه تعالى أن يوفّقكم لمرضاته وأن لا تنسونا من صالح دعواتكم في الخلوات وأعقاب الصلوات، وبالأخصّ عند تشرّفكم للحرم النبوي الشريف.

أبقاكم اللّه ورعاكم

جعفر السبحاني

قم المشرفة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

20 جمادى الآخرة 1434 ه

ص:439

5 مراسلة مع الشيخ عبد اللّه دشتي

اشارة

28

سماحة العلّامة الحجّة الشيخ عبد اللّه دشتي

دامت معاليه وتواترت بيض أياديه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد؛ فقد حالفني التوفيق لقراءة ما دبّجه يراعكم حول تطهير المناهج من التكفير الذي أرسله إليّ الأخ الدكتور عبد العزيز حسن - حفظه اللّه - والكتاب كافٍ لرد الجاحد عن جحوده، لو كانت هناك أسماعٌ صاغية.

وأودّ أن أُلفت نظركم السامي إلى أُمور ربّما تؤكّد آراءكم في المقام، وهي:

الأوّل: ذكرتم في (ص 22، 23) أربع آيات التي تدلّ بصراحة على أنّ المشركين في عهد الرسالة كانوا مشركين في الربوبية، وأُضيف إليها الآية الخامسة، قال تعالى:

(وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ) .(1)

ص:440


1- . يس: 74.

فقد كانوا يحملون أصنامهم في الحروب طلباً للنصر منها.

الثاني: ذكرتم - حفظكم اللّه - في (ص 19) أدلّة الخصم على توحيد المشركين في الربوبية مثل قوله: (وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ ...) .(1)

يلاحظ على دليل الخصم: أنّ هذه الآيات من أدلّة توحيد المشركين في الخالقية لا في الربوبية، فإنّ الخصم منذ زمن محمد بن عبد الوهاب لم يفرّقوا بين توحيد الخالقية وتوحيد الربوبية، فاستعملوا المصطلح الثاني مكان الأوّل مع أنّ بينهما بوناً شاسعاً، فالخالق هو الموجد من العدم، والرب هو مَن يدبر الشيء الموجود، فعلى هذا فهذه الآيات - مع قطع النظر عن الأجوبة التي تفضّلتم بها - لا صلة لها بتوحيد الربوبية، ولذلك يجب أن يفرّق بين قوله سبحانه: (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) ، وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) .(2) نعم تدبير الكون يلازم الخالقية لكن الملازمة انّما هي في المصداق، إذ تدبير الكون إنّما هو بإفاضة الفيض، لا في المفهوم إذ هما حسب المفهوم مختلفان كما ربما يكونان كذلك مصداقاً في موارد، فربّ الضيعة غير خالقها، وربّ الدار غير بانيها.

الثالث: أمّا من زعم أنّ اللّه سبحانه اتّخذ ولداً، فهذا النوع من الشرك يرجع إلى شرك آخر وهو التوحيد في الذات، فقد قال النصارى بالأقانيم الثلاثة:

إله الأب، إله الابن، وروح القدس؛ فالجميع في نظرهم آلهة متعدّدة، وفي الوقت نفسه إله واحد، معتقدين بأنّ هذا النوع من التناقض نؤمن به وإن لم نستطع حلّه.

فعلى هذا لا مُلزم لعدّ هذا الشرك (اتّحاد الولد) كما هو الظاهر من كلامكم دليلاً

ص:441


1- . العنكبوت: 61.
2- . المؤمنون: 86.

على الشرك في الربوبية، بل هو شرك فوق الربوبية والخالقية، فلو كانت العرب في الجاهلية قائلة باتّخاذ الولد لكان شركهم أسوأ الأقسام.

الرابع: نقلتم - حفظكم اللّه - في (ص 51) أنّ الشيخ صالح فوزان قسّم الدعاء إلى: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.

أقول: إنّ هذا التقسيم غير مفيد وإنّما حاول صاحب الكلام الفرار عن السؤال في الأُمور الدنيوية، فزعم أنّ الميزان في تمييز التوحيد عن الشرك في دعاء المسألة هو كون المسؤول قادراً أو عاجزاً، فزعم أنّ الأوّل ليس بشرك، إذ عليه دعائم الحياة والبشرية، وأنّ الثاني شرك.

لكنّه غفل عن أنّ الميزان في دعاء المسألة ليس كون المسؤول قادراً أو غير قادر، بل الميزان في تمييز الشرك عن التوحيد هو اعتقاد السائل بأنّ المسؤول يقوم بالعمل مستقلاً وبقدرة ذاتية أو يقوم به بإقدار من اللّه سبحانه؛ فعلى الأوّل فهو شرك حتى في الأُمور التي عليها دعائم الحياة ويعدّ من المقدورات كالسقي وغيره؛ وعلى الثاني لا يكون شركاً حتى في غير المقدور، غاية الأمر أنّ المسؤول لو كان قادراً على المسؤول عنه بإقدار من اللّه وإذنه، يكون صائباً في رأيه وإلّا يكون خاطئاً في رأيه وجاهلاً بالموضوع.

ولو فرضنا أنّ إنساناً سأل صاحب الحوت (النبي يونس عليه السلام) عن إحياء الموتى بإذن اللّه، وفرضنا أنّ المسؤول لم يكن قادراً عليه وأنّه سبحانه لم يعط له تلك القدرة، فيكون عندئذٍ جاهلاً لا مشركاً ولا مبتدعاً كما في بعض كلماتكم حسب ما فهمته ولعلّي أكون خاطئاً.

الخامس: أنّ من أغلاط القوم تفسير الإلوهية بالعبادة فإنّ الإله في القرآن ليس بمعنى المعبود ولا الإلوهية بمعنى العبادة، بل كونه معبوداً لازم كونه إلهاً،

ص:442

ويدلّ على ذلك غير واحدة من الآيات وأوضحنا حال ذلك المصطلح في كتابنا «مفاهيم القرآن» الجزء الأوّل.

السادس: جاء التعبير في (ص 61، السطر 14) هكذا: «إذا سألت حاجة من أخيك» ولعلّ الأفضل: إذا سألت أخاك حاجة، لأنّ مادة السؤال تتعدّى بنفسها بالنسبة إلى المسؤول.

وفي الختام أتقدّم بالشكر إليكم من عالم مجاهد في سبيل اللّه لا يخاف لومة لائم وتقبّلوا منّي خالص الدعاء، وبلّغوا سلامي إلى من حولكم من الأخوان لا سيّما الدكتور عبد العزيز حسن الذي نعدّ هذا اللقاء الفكري من بركات وجوده.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

29 جُمادى الاولى 1433 ه

ص:443

29

المحضر المبارك للعلّامة الكبير آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني

دام ظلّه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد؛ فقد انتابتني فرحة عارمة لعنايتكم بما سطّره العبد الفقير بعنوان: «تطهير المناهج من التكفير»، وهو أمر ليس ببعيد عن شخصكم الكريم الذي عاش ومازال يعيش هموم الأُمّة ويتحمّل المسؤوليات الجسام في هدايتها لشرع اللّه وملّة رسوله الكريم ونهج أهل بيته الأطهار عليهم السلام، وما زال يسطّر بيده المباركة الكتب والرسائل التي تضيء للمؤمنين سبيل الحق والصراط المستقيم.

ولا يسعني في هذه الفرصة إلّاأن أرفع لكم تقديري وتقدير كلّ المؤمنين، أوّلاً: لما صرفتم من عمركم المبارك في هذه الكتابات الإرشادية الرائعة على مستوى جميع فنون الإسلام وعلومه، فلقد كان لها الدور العظيم في ردّ الشبهات وتثبيت إيمان أيتام آل محمد صلى الله عليه و آله، وثانياً: لعنايتكم الخاصّة بالأوضاع التي يمرّ بها وطننا الإسلامي، عموماً والخليجي بصورة خاصّة، فقد أبلغني الأخ العزيز الدكتور عبد العزيز حسن حفظه اللّه مدى متابعتكم لأوضاع المؤمنين عندنا واستجابتكم السريعة في صدّ الهجمات وسد الثغرات، فلك جزيل الشكر والعرفان.

ونهايةً أقول: ليس من حالفه الحظّ إلّاأنا الذي وفقت لأن ينظر علم من

ص:444

أعلام الأُمّة لبضاعته المزجاة، وينقدها نقد الأُستاذ الخبير الناصح، ولا شكّ بأنّ لمثل هذه العناية الكريمة منكم أكبر الأثر في رفع همة أمثالي ودفعهم لبذل الجهد الأكبر والأدق على مستوى إيصال الخير والحقائق للناس عامّة والمسلمين خاصة.

وسترى إن شاء اللّه انعكاس نقدكم على الطبعات الجديدة لو قدر لها ذلك، فلك جزيل الشكر وعظيم الامتنان منّي شيخنا العزيز.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

عبداللّه دشتي

18 جمادى الآخرة 1433 ه

ص:445

ص:446

الفصل الرابع رسائل وتقاريظ

اشارة

1. القرآن الكريم وسعة آفاق مداليله

2. رسالة إلى الشيخ محسن الأراكي حول كتابه «ثبوت الهلال في الأماكن المتباعدة»

3. رسالة إلى الأُستاذة عائشة يوسف المناعي

4. التقريب ضرورة دينية وحاجة ملحّة

5. دعوة إلى الاعتصام بحبل اللّه ونبذ الخلافات

6. الذكريات العطرة

7. رسالة من الدكتور أحمد بدر الدين حسّون المفتي العام في سورية

8. رسالة إلى شيخ الجامع الأزهر فضيلة الدكتور أحمد الطيّب بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك

9. لقاء بين العلّامة المجتهدي والشاعر العراقي خضر عباس الصالحي

10. رسالة إلى الأخ الفاضل الدكتور عبدالعزيز حسن

ص:447

ص:448

1 القرآن الكريم وسعة آفاق مداليله

1 القرآن الكريم وسعة آفاق مداليله(1)

القرآن الكريم، هو الحجر الأساس للتشريع الإسلامي، وهو أجلّ من أن يكون بحاجة إلى تعريف، إذ هو نور مستطيل شامل، ظاهر بنفسه مظهر لغيره:

وإذا استطال الشيء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا

القرآن الكريم الدعامة الأُولى للمسلمين واللبنة الأساسية في بناء الحضارة الإسلاميّة لا سيّما الجانب الأخلاقي والفقهي.

وكفانا في ذلك قول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في الدعوة إلى التمسّك بالقرآن: «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنّه شافع مشفّع، وماحل مصدّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار».(2)

وكتاب هذا شأنه والذي يصفه الوحي الإلهي بقوله: (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ ) (3)

ص:449


1- . تقديم لكتاب: «تمسّك العترة الطاهرة بالقرآن الكريم» للشيخ محمد جعفر الطبسي.
2- . الكافي: 599/2، كتاب فضل القرآن.
3- . النحل: 89.

لا مناص من أن يكون المصدر الرئيسي لاستنباط ما يحتاج إليه الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية، ولذلك عكف العلماء، عبر القرون، على دراسته وعلى تفسيره بصور متنوّعة وأنماط مختلفة. ولو جمع إنسان عامّة ما خدم به المسلمون ذلك الكتاب السماوي لشكّل مكتبة عظيمة تُبهر العقول وتملأ العيون.

ومن عجيب ما ذهب إليه بعض إخواننا الإخباريين من أنّ القرآن الكريم لا يُحتجّ بنصوصه وظواهره إلّافي ظل النصوص الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

وهذه النظرية وإن عفا عليها الدهر، ومع ذلك كلّه ربّما بقي منها في بعض الأذهان صبابة قليلة، ولذلك عمد المتأخّرون من أصحابنا إلى الإجابة عنها، غير أنّ الذي نودّ أن نلفت إليه نظر أصحاب هذه النظرية ومن يميل إليها: أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام استدلّوا بظواهر القرآن بعمومه ومطلقاته وظواهره ومحكماته عند الإجابة عن أسئلة السائلين، وبذلك أقنعوا كثيراً من روّاد الحقيقة.

وقد اتّخذوا لأنفسهم عليهم السلام عند الاستدلال بالآيات موقف المعلم، المرشد إلى جهة دلالة الآيات على مقاصدهم مع غضّ النظر عن كونهم أئمّة معصومين رُزقوا العلم من عند اللّه سبحانه وورثوا علوم النبي صلى الله عليه و آله.

وقد كان من آمالي في السنين السابقة جمع الأحاديث الّتي استدل بها الأئمّة عليهم السلام بالآيات الشريفة على الأحكام الشرعية بصفة أنّهم معلّمون والسامع متعلّم، وقد شرع بعض حضّار دروسنا في سالف الزمان، في تحقيق هذا الأمل، إلّا أنّ الحظّ لم يسعفه في مواصلة العمل.

وبعد مضيّ سنين أتحفني الشيخ الفاضل حجة الإسلام محمد جعفر

ص:450

الطبسي بباقة زهور بذل جهده في قطفها وتنضيدها، تمثّلت في موسوعته الّتي أسماها «تمسّك العترة الطاهرة بالقرآن الكريم» وهذا هو الجزء الأوّل منها الذي يزفّه الطبع إلى القرّاء الكرام.

غير أنّ اللازم الإشارة إلى أنّ لهذا الجهد الذي بذله شيخنا الفاضل أثراً آخر وهو تبيين سعة دلالة آفاق القرآن - الّتي ربّما غفل عنها أكثر الفقهاء - عند الاستدلال على الأحكام الشرعية فإنّ من رجع إلى تلك الأحاديث يظهر له هذا الأثر البارز، وها نحن نذكر نوعاً من هذه السعة حتّى يكون كأُنموذج لما لم نذكر.

قُدِّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحدّ، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يُضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكّل إلى الإمام علي الهادي عليه السلام يسأله، فلمّا قرأ الكتاب، كتب يضرب حتّى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلّة، فكتب: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) .(1)

فأمر به المتوكّل فضرب حتّى مات.(2)

إنّ الإمام الهادي عليه السلام ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه الّتي لا تتجاوز ثلاثمائة

ص:451


1- . غافر: 84-85.
2- . مناقب آل أبي طالب: 405/4.

آية أو أزيد بقليل، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته، لا يلتفت إليه إلّامَن نزل القرآن في بيتهم، وليس هذا الحديث غريباً في مورده، بل له نظائر في كلمات الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

ومن رجع إلى المأثورات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يقف على نظائر من هذا النوع من الاستنباط، وقد سمعنا عن سيد مشايخنا أنّ بعض الفقهاء استدلّوا بما ورد في سورة «المسد» من الآيات على لفيف من الأحكام، كما استدلّوا بما ورد حول حوار موسى مع شعيب عليهما السلام - الذي ذكرته سورة القصص - أحكاماً فقهية حول الصداق وغيره.

كلّ ذلك يبعثنا على أن نرجع إلى القرآن الكريم من جديد ونستكشف آفاقه الواسعة في عالم التشريع.

ونحن نبارك هذه الخطوة الموفّقة لشيخنا الفاضل - أمد اللّه في عمره وتوفيقه - حيث لم يزل منذ شبابه إلى يومه هذا جادّاً في طريق التأليف والتصنيف، ذاباً عن حريم أهل البيت عليهم السلام بقلمه وبنانه، وكلامه وبيانه، كيف وهو وليد بيت العلم والتقى والدين، وسليل آية اللّه الشيخ محمد رضا الطبسي أعلى اللّه مقامه، ولم يزل البيت شامخاً ومضيئاً بأبنائه الفضلاء واحداً بعد الآخر. رحم اللّه الماضين من علمائنا وحفظ الباقين منهم.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

15 شهر شوال المكرّم من شهور عام 1434 ه

ص:452

2 سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محسن الأراكي (دامت بركاته)

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في صلاح وفلاح وفي صحّة وعافية.

أمّا بعد

أشكركم على هديتكم الثمينة «ثبوت الهلال في الأماكن المتباعدة» فقد قرأت الرسالة حسب ما سمح به الوقت، فوجدتها رسالة قيّمة جديرة بالمطالعة، فإنّ مسألة الهلال بعامّة جوانبها شائكة تحتاج إلى تحقيق أكثر.

أنا أوافقكم في الأمر الثاني، أعني: عدم كفاية رؤيته بالعين المسلحة، ويدلّ على عدم الكفاية وراء ما تفضّلتم، أمران آخران:

الأوّل: أنّه إذا كان الموضوع للإفطار كلتا الرؤيتين - أعني: المجردة والمسلحة - يلزم التخيير بين الأقل والأكثر، الأقل الذي يتقدّم على الأكثر دائماً، فتكون العلامة الثانية لغواً، وذلك لأنّ الرؤية بالعين المسلحة تتقدّم على الرؤية بالعين المجردة غالباً، فكيف جعل الشارع العلامتين حجّة مع أنّ الثانية لغو.

اللّهم إلّاأن تخصّص العلامة الثانية بالفترات التي لم يكن للعين المسلحة عين

ص:453

ولا أثر، وإثبات ذلك دونه خرط القتاد.

الثاني: يلزم كون أئمّة أهل البيت عليهم السلام مفطرين في رمضان وصائمين في شوال، فإنّ صيامهم وإفطارهم كانا بالعين المجردة، والمفروض أنّ الهلال الشرعي كان موجوداً محقّقاً ولم تكن لهم آلة للوصول إليه، فأفطروا في رمضان وصاموا في شوال.

وأمّا الأمر الآخر الذي لا أوافقكم فيه فهو كفاية الرؤية الواحدة على عامّة الأمكنة والآفاق، وبتعبير واضح القول باتّحاد ثبوت الهلال في الأماكن المشتركة في جزء من الليل الذي ثبت فيه الهلال وإن تعدّدت وتباعدت. وهذا ما قلنا فيه بعدم الكفاية، وإن أصرّ عليه السيد الخوئي قدس سره، والدليل عليه ما قرّرناه في الرسالة المرفقة، فأرجوا النظر فيها لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً.

مع فائق الاحترام

جعفر السبحاني

قم المقدّسة، مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

14 رجب المرجب 1434 ه

ص:454

3 الأُستاذة الفاضلة عائشة يوسف المناعي - حفظها اللّه تعالى -

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن يعيد على بلاد الإسلام والمسلمين الأمن والسلام حتّى يصبح أبناء الأُمة الإسلامية اخوّة متحابيّن وأن يقطع أيادي المجرمين عن بلادنا وأراضينا.

بعثنا مع سماحة الأُستاذ أحمدي كتاب «النصّ الخالد لم ولن يحرّف» ليكون مرجعاً ثانياً لإكمال كتابكم، فما ورد فيه من النصوص يرجع غالبه إلى علماء الشيعة الإمامية، وقليل منه إلى علماء أهل السنّة الذين برّأوا ساحة الشيعة عن القول بالتحريف.

وفي الختام ندعو اللّه لكافّة المسلمين بالفوز والصلاح.

والحمد للّه رب العالمين

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

آخر جمادى الأُولى 1434 ه

ص:455

إلى مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية - طهران

4 التقريب ضرورة دينية وحاجة ملحّة

التقريب بين الطوائف الإسلامية من الأماني العزيزة، التي يتمنّاها كلّ مسلم واع بصير، خصوصاً في الأوضاع الراهنة، والأجواء السائدة على المسلمين، والظروف المحيطة بهم في شتّى النواحي والأقطار، ولا يشك في ضرورته إلّااثنان: جاهل مغفّل، وجاحد معاند ماكر. إذ لا يمرّ على المسلمين يوم إلّاوفيه مجازر رهيبة، وحروب دامية طاحنة، فرضتها عليهم القوى الكافرة، التي تخاف من سيادة الإسلام في ربوع العالم، وانتشاره فيها، فعادتْ تؤجّج نار الحرب بين آونة وأُخرى، فتضرب المسلم بالمسلم تارة، وبالكافر أُخرى فَتحقّق أُمنيتها الكبرى.

ناهيك عن المجازر الدامية في فلسطين المحتلة التي يرتكبها الصهاينة، بمرأى و مسمع من عامة المسلمين.

إنّ هذه الحوادث والوقائع الأليمة وعشرات من أمثالها، تدفع المسلمَ الحرّ الذي يجري في عروقه دمُ الغيرة والحمية، إلى التفكير في داء مجتمعه ودوائه، وفي إعادة مجده التالد، وكيانه السابق، فلا يجدْ دواءً ناجعاً سوى التمسّك

ص:456

بالإسلام في مجالي العقيدة والشريعة ومن أبرز أُصوله ما دعا إليه الذكر الحكيم في قوله سبحانه: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (1)، و قوله تعالى:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (2) إلى غير ذلك من الآيات إلى تَحُثّ على الوحدة والوئام، والابتعاد عن التمزّق والتفرّق، وقد أكّد الرسولُ الكريم ما دعا إليه القرآن بقوله:

«مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».(3)

وقال الإمام علي عليه السلام:

«وألزموا السواد الأعظم، فإنّ يد اللّه مع الجماعة وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب، ألا مَنْدعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه».(4)

وفي ضوء الوضع الراهن نخاطب المسلمين وفي مقدّمتهم الرُؤساء والمشايخ وقادة الفكر وأرباب القلم بقولنا: قاربوا الخطى أيّها المسلمون، وقلِّلوا الخلافَ ، وأكثروا الوئام، وتمسّكوا بالأُصول المشتركة المتوفّرة في مجالي العقيدة والشريعة، ابتعدوا عن التنافر والتناكر، حتى تكونوا صفّاً واحداً في وجه الأعداء لا يزعزعكم مكرُ الشياطين وحيل أعدائكم في المناطق كلّها.

فلو أراد المسلمون حفظ نواميسهم، ومقدّساتهم التي أصبحت في هذه

ص:457


1- . آل عمران: 103.
2- . الحجرات: 10.
3- . مسند أحمد: 270/4.
4- . نهج البلاغة: 261، الخطبة 127، طبعة عبده.

الأيام فريسة للصهاينة ومؤيّديهم، فعليهم أن يقاربوا الخطى ويتمسّكوا بحبل الوحدة الذي هو حبل اللّه المتين ويتعايشوا عيشة أخوية ويحمل كلّ ما عليه من الأفكار والعقائد في ظل مشتركات كثيرة، فإنّ ما يجمعهم أكثر وأكثر ممّا يفرقهم.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

15 ربيع الأوّل 1434 ه

ص:458

5 الدعوة إلى الاعتصام بحبل اللّه ونبذ الخلافات

(وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) (1)

صدق اللّه العليُّ العظيم

إنّ اللّه سبحانه يأمر المسلمين أن يعتصموا بحبل اللّه، ولعلّ اختصاص الحبل بالذكر دون غيره للإشارة إلى أنّ مَثَل الأُمّة المتفكّكة المتفرّقة كالمتردّي في البئر، لا تكتب له النجاة منه إلّابالاعتصام بالحبل الذي يُلقى إليه.

ويكفي في أهمية ذلك أنّ الوحي الإلهي كلّما مرّ على توحيد الكلمة ورصّ الصف يمدحه ويأمر به، وكلّما مرّ على التفرقة يذمّها، حتّى أنّه عدّ التفرّق في عداد البلايا السماوية، حيث قال: (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) .(2)

فعلى المسلمين جميعاً أن يقتدوا بكتاب اللّه ويوحّدوا الصفوف ويجتنبوا عن كلّ ما يفرّقهم ويشتّتهم وخاصّة في هذه الأيام التي اتّفقت فيها قوى الكفر والاستكبار على تفتيتهم وتفريقهم وإراقة دماء بعضهم بيد بعض، بغية تحقيق مآربهم الشيطانية في الهيمنة على البلدان الإسلامية، ونهب خيراتها، وتوفير

ص:459


1- . آل عمران: 103.
2- . الأنعام: 65.

الأمن للكيان الصهيوني الجاثم على صدر فلسطين الحبيبة والقدس الشريف.

إنّ ظاهرة التكفير ظاهرة سيئة، فالمسلمون كلّهم يعبدون اللّه وحده ويعتقدون برسالة الرسول الخاتم صلى الله عليه و آله و سلم ويوم القيامة، وكفى ذلك في دخولهم في حضيرة الإسلام حسب ما رواه البخاري في صحيحه في غزوة خيبر. وها هو الإمام الإشعري حينما حضره الموت جمع تلاميذه وقال: اشهدوا على أنّني لا أُكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأنّي رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمّهم(1).

وكلّ ذلك يلزمنا أن نحترم مشاعر الآخرين واعتقاداتهم ولا نقابلهم بشيء ممّا يسبّب التفرّق ويورث العداوة والبغضاء، وعلى ذلك كانت سيرة السلف الصالح الذين عاشوا متآلفين ومتحابين.

إنّ تهمة سبّ الصحابة التي أُلصقت بالشيعة إنّما هي تهمة باطلة، وهم بُراء منها، وهم يقتدون في نظرتهم إلى الصحابة وفي موقفهم منهم بالإمام الطاهر علي بن الحسين عليهما السلام الذي كان يدعو اللّه سبحانه بقوله: «اللّهمّ وأصحاب محمّد خاصّةً ، الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلَوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه، وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته»(2).

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

19 جمادى الأُولى 1434 ه

ص:460


1- . اليواقيت والجواهر للشعراني: 58.
2- . الصحيفة السجادية، الدعاء الرابع، الصلاة على مصدّقي الرُّسل.

6 الذكريات العطرة

6 الذكريات العطرة(1)

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف رسله وخاتم أنبيائه محمّد وآله الطيبين الطاهرين، الغرّ الميامين، الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا.

ثمّ السلام على الإخوة والأخوات جميعاً ورحمة اللّه وبركاته.

يسرّني في بدء القول أن أقدّم جزيل الشكر والتقدير للإخوة المشرفين على عقد هذا المؤتمر الكريم الذي تشرّف باسم الإمام موسى بن جعفر عليه وعلى آبائه وأولاده أفضل الصلاة والسلام.

إنّ عقد هذا المؤتمر يعرب عن الولاء الخالص للعترة الطاهرة الذين فرض اللّه علينا طاعتهم ومودّتهم، وجعلهم أعدالاً للكتاب الكريم وقرناءه في حديث الثقلين، وشبّههم بسفينة نوح قائلاً بأنّ مَن تمسّك بها نجا ومَن تخلّف عنها غرق.

إنّ كلّ شيء مهما بلغ من السموّ والرفعة، فهو بحاجة إلى تعريف وتبيين حتّى يقف العالم على ما فيه من الجمال والكمال. ولا يشذ عن تلك الضابطة

ص:461


1- . رسالة إلى المؤتمر الكريم الذي أُقيم في الكاظمية في جوار قبر الإمام موسى بن جعفر سلام اللّه عليهما.

أئمة أهل البيت عليهم السلام فالتعرّف عليهم رهن التبيين والتشريح.

و هذا الملتقى ينهض، إن شاء اللّه تعالى، بحمل شرف هذه المسؤولية.

والحقيقة أنّ الهدف من إلقاء المحاضرات، وتدبيج المقالات، وتأليف الكتب والموسوعات، وعقد الندوات والمؤتمرات الّتي تتحدّث عن الإمام الكاظم عليه السلام.. أنّ الهدف من كلّ ذلك هو الكشف عن الجوانب المشرقة من حياة هذا الإمام الهُمام، في شتىّ المجالات: العلمية، والاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية.

ونحن نأمل أن يكون هذا الملتقى مناراً على هذا الطريق، ومحققّاً لهذا الهدف.

إنّ الإحاطة بما لرجال الوحي وأوصيائهم من الفضائل والمناقب والخدمات التي قدّموها للمجتمع الإسلامي أمر غير ميسّر؛ لأنّ الجانب الروحي لهؤلاء أشبه بعالَم الطبيعة، فكما أنّ الإحاطة بجميع أسرار الطبيعة ورموزها وقوانينها أمر غير ميسّر، وإنّما يقوم الأمثل فالأمثل بكشف جانب من أسرارها، فهكذا الحال في رجالات الوحي وأساتذة السماء وأوصيائهم، فلا غَرو في أن تقوم ثلّة جليلة من علماء المسلمين سنّة وشيعة، عبر القرون، بتأليف كتب وموسوعات حول حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام المشكور عملهم، ومع ذلك تبقى هناك جوانب كثيرة بحاجة للبحث والتفتيش من قبل الثلة المتأخّرة حتى يعرف الناس كمالاتِهم ومناقبَهم وتضحياتهم على طريق نشر الإسلام وهداية الأُمم.

***

من جوار السيدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر عليها السلام أبعث إليكم بهذه الكلمة القصيرة والّتي لا أرى أنّها تليق بتلك العتبة الطاهرة، لكنّني

ص:462

كتبتها وحرّرتها رجاء أن يُكتب اسمي في قائمة المشاركين والحاضرين في هذا الملتقى الكريم.

اللّهم اجعلنا من المتمسّكين بالعترة الطاهرة والمهتدين بهُداهم والمقتدين بهم.

كما أدعو اللّه تعالى أن يمنّ على هذا البلد بالأمن والاستقرار والعزّة والكرامة

إنّه بالإجابة جدير وعلى كلّ شيء قدير.

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

مؤسّسة الإمام الصادق عليه السلام

23 جمادى الآخرة من شهور سنة 1433 ه

المصادف 15/5/2012 م

ص:463

7 سماحة الشيخ جعفر السبحاني حفظه اللّه تعالى مرجع مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام للتحقيق والتأليف

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، أمّا بعد:

فإنّا نحمد اللّه إليكم على نعمة الإيمان والإسلام، ومحبة آل بيت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام، وجمعنا اللّه وإيّاكم على ذلك، وحشرنا وإيّاكم على مثل ذلك.

ونحن مع سماحتكم في كون المذاهب الفقهية تخرج من مشكاة واحدة، وتضيء طريق المؤمنين من سراج سيد الأنبياء والمرسلين، وبزيت متعدّد الخصائص، ولكنّه في النهاية زيت ربانيّ ، ونور إلهيّ ، يكشف للناس هدى الإسلام، وجمال الإيمان.

نشكر سماحتكم على هديتكم العلمية، فجزاكم اللّه خير الجزاء، عن أُمّة الإسلام، وبارك اللّه في جهود سماحتكم، ونفع العالم بعلومكم.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته دمشق في 1433/5/11 ه الموافق ل 2012/4/2 م

المفتي العام

رئيس مجلس الإفتاء الأعلى في الجمهوريّة العربيّة السُّوريّة

الدكتور أحمد بدر الدين حسّون

ص:464

8 فضيلة الدكتور أحمد الطيّب شيخ الجامع الأزهر

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

أمّا بعد؛ فيسرّني أن أغتنم فرصة حلول شهر رمضان المبارك بتقديم التبريكات الزاكية إلى سماحتكم وإلى جميع العلماء الفضلاء في مصر المحميّة.

وأودّ، هنا، أن أقتطف شيئاً من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله في هذا الشهر الفضيل، قال صلى الله عليه و آله في خطبة له في آخر جمعة من شهر شعبان المعظّم:

«أيّها الناس، إنّه قد أقبل إليكم شهر اللّه بالبركة والرحمة و المغفرة، شهر هو عند اللّه أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللّه، وجعلتم فيه من أهل كرامة اللّه، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فأسألوا اللّه ربّكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقيّ من حرم غفران اللّه في هذا الشهر العظيم».(1)

وفي الختام نقدّر لسماحتكم دعواتكم الطيّبة إلى جمع كلمة المسلمين، ولمّ شملهم، ونبذ الخلاف الذي يخدم مخططات الاستكبار العالمي التي تهدف

ص:465


1- . أمالي الصدوق: 154، خطبة الرسول صلى الله عليه و آله في شهر رمضان؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام: 265/2؛ فضائل الأشهر الثلاثة: 77.

إلى القضاء على الأُمّة الإسلامية، وإدخال المسلمين في معارك جانبية يقتل فيها بعضهم بعضاً، ونهيب بكم، لما لكم من مقام سام، بذل المزيد من المساعي في هذا المجال، ولكم من اللّه التوفيق.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المشرّفة

26 شعبان المعظم 1432 ه

ص:466

9 لقاء بين العلّامة المجتهدي والشاعر العراقي خضر عباس الصالحي

مقدّمة

زارني الصديق الشاعر العراقي خضر عباس الصالحي(1) في مدينة تبريز سنة 1387 ه، وطلب منّي ترتيب لقاء له مع العلّامة الحجّة المتتبّع الخبير الميرزا عبد اللّه بن الميرزا مصطفى المجتهدي التبريزي (1320-1396 ه) (الذي كان من نوابع عصره، ونوادر دهره، وكلّ مَن شاهده وجلس معه وحضر ناديه، تعجّب من إحاطته باللغة والتاريخ والأدب، وكان يتقن اللغة العربية إتقاناً كاملاً، ضمن إتقانه للغات كثيرة كالتركية الآذرية، والأناضولية، والفرنسية، والانجليزية، والروسية، وكان أديباً في اللغة الفرنسية مضافاً إلى كمالاته السامية في الرياضيات والفقه وأُصوله).

وقد قمت بترتيب اللقاء بين الأُستاذ خضر عباس الصالحي والعلّامة المجتهدي بتبريز، فكنت معهما فدار الكلام عن الشعر والأدب، والشخصيات

ص:467


1- . خضر عباس الصالحي كان أديباً شاعراً متمكّناً من اللغة العربية. درس في دار المعلّمين الريفية، وتخرج منها وزاول التعليم في عدّة مدارس حتى استقر في بغداد. أصدر سنة 1962 م ديواناً شعرياً باسم «ضباب الحرمان». وكانت له مساهمات شعرية في المهرجانات التي كانت تقام في مدينة كربلاء خلال الفترة 1950-1960 م، كما نشرت أشعاره في المجلات الأدبية كمجلّة العرفان ومجلّة الأديب. توفّي ببغداد سنة 1983 م عن خمسين سنة من عمره. مستدركات أعيان الشيعة: 161/6.

الأدبية في الإسلام، فما زال الزائر العراقي يتعجّب من تبحّره في الأدب والتاريخ، وأنّه كيف أنجبت هذه البلاد شخصيات لامعة في الأدب العربي مع البعد بين البلدين، ولمّا غادر تبريز إلى طهران كتب مقالاً نشره في مجلّة «الإخاء» يوم ذاك أعرب عن إعجابه بالعلّامة المجتهدي وإحاطته بأسرار اللغة ودواوين الشعر. ومن حسن الحظ استطعت العثور على المقال المذكور بعد البحث المضنيّ والمتابعة الطويلة، وها أنا أقوم بنشره مجدّداً وفاءً وتكريماً لصديقنا الأُستاذ خضر الصالحي رحمه الله والعلاّمة المجتهدي قدس سره واللّه وليّ التوفيق.

لقاء مع الشيخ عبد اللّه مجتهدي علّامة تبريز الكبير

(1)

اتّصل صديقي الشيخ جعفر السبحاني تلفونياً بالعالم الأكبر الشيخ عبد اللّه مجتهدي، وضرب معه موعداً للالتقاء به.

وفي الموعد المحدّد ذهبنا إلى حي «حرمخانه» وحين وصلنا البيت، طرق الشيخ جعفر السبحاني الباب، فخرج إلينا الخادم، ورحّب بنا، وأخذنا إلى غرفة الاستقبال.

وما هي إلّالحظات قصار حتى أطلّ علينا العلّامة الكبير الشيخ «عبداللّه مجتهدي» بوجهه البشوش، وابتسامته الرائقة، وعينيه اللتين تتقدان ببريق الذكاء والعبقرية، وعانقنا بحرارة بالغة، ومودّة صادقة.

والعالم الفذ «الشيخ عبداللّه مجتهدي» الذائع الصيت، والذي طارت شهرته في الآفاق، قد أصبح اسمه ملء الأسماع والأبصار، بما يملك من النكات البارعة، والطرف النادرة، يرسلها من دون تكلّف، ويرويها في أناة، فجعلت منه

ص:468


1- . نشر هذا المقال في مجلة «الإخاء» الصادرة في طهران، العدد 101، السنة السابعة، 26 - خرداد - 1346 ه. ش، الموافق ل: 7 ربيع الأوّل - 1387 ه. ق.

زينة المجالس، ويعدّ بحق ركيزة أساسية في الأبحاث الدينية المركّزة، وحجّة في الآداب العالمية الحيّة كالعربية والفارسية، والتركية والانجليزية والفرنسية، ومفخرة من مفاخر مدينة «تبريز» التي أنجبته ابناً بارّاً رفع رأسها عالياً في مختلف مناحي الحياة الثقافية، فهو ذو شخصية متّسمة بالروعة الأدبية، والخصب الفكري والتعمّق العلمي، ومهما اتّسعت مسالك البحث كان هو المبرز فيها، لما يتمتع به من سعة الاطّلاع، والثقافة المميّزة ذات الأصالة، وتتطلّع إليه الأفئدة لما في روحه من قوة النفاذ، وما جبل عليه من خلق رفيع، فهو ممتلئ شهامة وكرماً ونبلاً، كبير الهمّة، عزيز النفس، عف الضمير، معروف بمناصرته للحقّ ، وتجرّده عن الطمع، ينسى ذاته في سبيل خدمة أُمّته، ونفسه مفعمة بنوازع الخير، ونبل العواطف، يسعى دوماً إلى إسعاد الغير، مهما كابد من عناء وعنت... وله في الحياة منهج خاص، وموقف مقرّر، وخطة مرسومة...!

وبالإضافة إلى كلّ هذا فهو أحد القادة الأحرار في الطلائع النضالية التي لعبت دوراً عظيماً على مسرح الحياة، وسارت في درب الجهاد المقدّس حتى النهاية... لضمان استقلال إيران وصيانة وحدتها الوطنية، والحفاظ على حرية شعبها...!

وبعد فترة صمت قصيرة تكلّم العالم الجهبذ «عبداللّه مجتهدي» وعلى شفتيه ترتسم ابتسامة مشرقة، ووجه يطفح بالسرور، وروحه المرحة تطلّ بين كلماته فقال:

من الحقائق الناصعة التي لا يرقى إليها الشك أنّ العراق الجار العزيز، والبلد الشقيق، تربطنا به أوثق الصلات، وأمتن الوشائج... وإنّ قوة العلاقات وعمق الروابط التي تشدّ القطرين إلى بعضهما لم تكن وليدة اليوم أو بنت الساعة، وإنّما تاريخها موغل في القدم... فإنّ الإسلام ذلك النبراس الوهاج الذي

ص:469

يوضح معالم الطريق، هو الذي عزّز بين الشعبين العربي والإيراني التلاحم الوطيد لضمان الوقوف بوجه كلّ ما يهدّد سلامة واستقلال البلدين، وأقام أرسخ دعائم التقارب لسعادة ورفاه وخير الشعبين على أساس المصالح المتبادلة، والاحترام المتقابل، والتعاون المخلص، فاستحكم بينهما تعاطف الأرواح والقلوب، وتوثّقت بينهما عرى الصداقة والمودّة، واحتضن كلّ منهما المراقد المقدّسة التي تفرض على سكان البلدين أن يفدوا إليهما سنوياً لزيارتها والتبرّك بها...!

وقد زادت الأواصر توثّقاً، والعلاقات توطّداً في الظروف الراهنة، إذ أنّ الشعبين يتطلّعان إلى الحياة الكريمة الحرّة في ظل التعايش السلمي، ويدعمان الحركات التحرّرية للشعوب المستضعفة التي تكافح بضراوة وعنف لبلوغ الأهداف الوطنية في الخلاص من قيود الاستعمار، وأغلال التخلّف وكابوس الفقر!

وبلغة أدبية سليمة آثارت وافر إعجابي بشكل لا يوصف راح يتحدّث عن الشعر العربي المعاصر الذي هو مادّة الثقافة العربية، وحدّد المعالم الرئيسة لمسؤولية الشاعر، بما فيها من آراء هادفة، لها مساس مباشر بأفكار الشعب وأحاسيسه، واحتكاك بالجماهير وتعرّض لمعالجة مشاكل الحياة، وأداء دوره الطليعي في المجتمع... كتوجيه نقدات خالية من كلّ غرض شخصي، ساعية إلى خدمة مجموع المواطنين، وإلّا لظلّ الشعر في حالة تقوقع!

وممّا يحزّ في النفس ويبعث على الأسف الشديد أنّ المفاهيم الجديدة قد غزت أذهان الشعراء من الشباب الذين يعتقدون أنّ نظم الشعر يجب أن يكون محاكاة للغرب، فانطلقوا وحطّموا كلّ المقاييس والقيم، وادّعوا لوناً جديداً من الشعر أطلقوا عليه اسم «الشعر الحر» ولم يكن غير رصّ ألفاظ

ص:470

جاهزة يلوكونها ويمضغونها ويجترونها إلى درجة الإسفاف والتبذّل... مع ركاكة الأُسلوب، وضحالة المادّة، وتفاهة المغزى... ركضاً وراء الشهرة الزائفة، وسعياً لنيل الأمجاد الكاذبة!

ومن المؤلم حقّاً أن تلقى هذه الحركة الشعرية المشبوهة كلّ مناصرة وتعضيد من لدن بعض الفئات الحاقدة على الشعر العمودي، والداعية إلى الخروج على الأوزان والقوافي، وترحّب به المجلّات المحلّية فتنشره في أماكن بارزة من صفحاتها...

ونحن لا نعتقد بضرورة الأخذ به، ونرى في الأوزان والقوافي عناصر مهمة في إبراز العمل الشعري الناجح، والتحرّز منهما يعدّ ضرباً من الانحراف والتزييف لا مبرر لهما على الإطلاق!

ومن الطريف في الأمر أنّ ناظمي الشعر الحر لا يستطيعون التمثّل به في مجالات الاستشهاد، ولا يتركون أي أثر في النفوس لو ألقوه في اجتماع جماهيري كبير، فهو لا يهزّ الجموع، ولا ينتزع تصفيق المستمعين... وأنّ الكثير منهم لا يحفظونه عن ظهر قلب.

وقد استثار عجبي حينما طفق يقرأ القصيدة الرائية التي قالها الشاعر العراقي الكبير «محمد مهدي الجواهري» في رثاء الزعيم اللبناني الخالد «حميد كرامي» وراح يقارنها بقصيدة الشاعر المعروف «مهيار الديلمي» على نفس الروي والقافية، ويظهر لنا بمهارة فائقة السرقات التي استحوذ عليها الجواهري...

فكانت هذه الالتفاتة البارعة قد دلّلت على ما يتمتّع به شيخنا الجليل من رسوخ قدم في تاريخ الأدب العربي الحديث.

لقد كان الشيخ الفاضل «عبداللّه مجتهدي» يسمع الشعر ويأنس إليه، ملمّاً

ص:471

بقضايا الفكر العالمية، وعناصر الدقّة العلمية، والموضوعات المنهجية... وقد تميّزت أحاديثه التي لا تخلو من طرفة ونكتة، بإبداع في الرأي، وجودة في البيان، وفصاحة في اللسان، والنظرة العميقة، إلى الواقع، يدعمه العقل الحصيف.

ويسنده الذكاء المفرط... وكان مثالاً حيّاً للفكر الصائب، والرأي البنّاء. والتوجيه السليم...

وعندما استأذّنا منه بالانصراف قام على الفور وعانقنا ثانية... ولمّا خرجنا وادعنا إلى الباب... وغادرنا منزله العامر، ونحن مأخوذون بكريم عاطفته، ورقيق شعوره، مسحورون بسجاياه النبيلة ومزاياه الأصيلة... فقد لقينا منه ضروب التجلّة والتقدير.

بغداد - خضر علي الصالحي

ص:472

10 سماحة الأخ الفاضل الدكتور عبد العزيز حسن (دام عزّه)

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

عظّم اللّه أُجورنا وأُجوركم بمناسبة ذكرى وفاة النبي الخاتم صلى الله عليه و آله والسبط الأكبر وعالم آل محمد الإمام الرضا عليه السلام.

أمّا بعد

فقد زارنا العلّامة الحجّة الشيخ عبد اللّه الدشتي في مكتبنا زيارة قصيرة وكان الرجاء أكثر من ذلك.

وممّا أتحفنا به كراس نقل فيه عن ابن عثيمين قوله: «الدعاء الموجب للوقوع في الشرك بخصوص لو دعا غير اللّه فيما لا يقدر عليه إلّااللّه»، ونقله أيضاً عن مؤسّس منهجه ابن عبد الوهاب في «كشف الشبهات».

نقول: ما ذكراه أمر باطل يضاد القرآن الكريم:

أوّلاً: أنّ سليمان عليه السلام طلب ممّن حوله أن يحضر له عرش بلقيس، قبل أن يقوم من مقامه، وهو أمر لا يقدر عليه أحد إلّااللّه، أفصار سليمان عليه السلام مشركاً بهذا الدعاء؟! كلا ولا ما كفر سليمان عليه السلام ولكنّ الشياطين كفروا.

ثانياً: أنّه لو طلب أمراً مقدوراً للناس لكن بشرط أن يقوم به مستقلّاً من دون استعانة بقدرة اللّه فقد أشرك، وعليه عامّة المادّيّين في مناهجهم، فعلم بذلك أنّ الميزان ليس كون الشيء مقدوراً أو غير مقدور بل الميزان القيام بالفعل بقدرة اللّه وعونه فهو عين التوحيد سواء تعلّق بالأمر العادي أو غيره، ولو طلب

ص:473

أن يقوم به مستقلّاً مستغنياً عن قدرة اللّه فهو مشرك من غير فرق بين كون المطلوب مقدوراً أو غير مقدور.

هذا وأرجو إبلاغ سلامنا إلى العلّامة الدشتي وهذه الورقة هدية منّا إليه.

حفظه اللّه من كاتب قدير وعالم جليل عارف بالظروف.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني

قم المقدّسة

28 صفر 1435 ه

ص:474

الفصل الخامس بيانات وتعازى

اشارة

1. كلمة تأبينية بمناسبة وفاة العلّامة الشيخ محمد علي العمري

2. رسالة تعزية بمناسبة وفاة الشيخ محمد علي العمري

3. بيان تعزية بمناسبة وفاة العالم الكبير الشيخ عبد الهادي الفضلي

4. بيان تعزية واستنكار بمناسبة استشهاد الشيخ حسن شحاته

5. بيان صادر بمناسبة اعتقال جماعة من العلماء والمؤمنين من قبل السلطات السعودية

6. تخريب قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي رضي اللّه عنه

ص:475

ص:476

1 كلمة تأبينية بمناسبة وفاة العلّامة الشيخ محمد علي العمري

الحمدللّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

إنّ للشيعة تاريخاً عريقاً في المدينة المنوّرة، لأنّها مهد نبيّهم ومحلّ ولادة أئمّتهم أئمة أهل البيت عليهم السلام وموطنهم، وقد كان للصادقَين عليهما السلام مدرسة علمية زاخرة فيها.

كيف لا تكون كذلك وقد كانت الحكومة فيها بيد الأشراف الحسنّيين منذ عام 381 ه إلى زمان استيلاء الوهابيين على الحرمين الشريفين في القرن الرابع عشر.

ويظهر من ابن حجر في كتابه: «الصواعق المحرقة» وجود الشيعة في القرن التاسع والعاشر بكثرة في الحرمين الشريفين، ولذلك برز من المدينة المنوّرة محدّثون وعلماء احتفل بهم التاريخ وكتب التراجم.

غير أنّ لشيخنا الراحل العلّامة الحجّة محمدعلي العمري دوراً هامّاً في حفظ التشيّع في المدينة وصيانة الشيعة من التشرذم والتفرّق رغم وجود الضغط الشديد عليه وعلى الموالين.

وقد سمعت من العلّامة المحقّق الشيخ عبد الحسين الأميني (صاحب الغدير) قدس سره أنّ الشيخ الراحل قد حُكم عليه بالحبس ستة أشهر لمجرّد حمله

ص:477

كتاب الغدير وهو في طريق عودته من النجف إلى المدينة، ومن ذلك يظهر مقدار ما تحمّله الشيخ رحمه الله من القهر والاستبداد طول حياته في مهبط الوحي.

والحق أنّ الشيخ العمري سجّل منعطفاً رائعاً في تاريخ الشيعة وتحمّل في أداءِ رسالته المشاكل الكثيرة، حتى حكم عليه بالتبعيد أوّلاً، وبالإعدام ثانياً، ولكن اللّه سبحانه حفظه من شرور الأعداء.

إنّ المدينة المنوّرة هي أرض آبائه وأجداده من عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى يومنا هذا، وهم الأصلاء فيها، وأمّا الآخرون فهم طارئون عليها، ولكنّ الأُمور عُكست.

كما كان لحياة الشيخ رحمه الله أثر بالغ في حفظ التشيّع، فهكذا كان لرحيله أيضاً أثر بارز في حفظ وحدة الشيعة وتعاونهم، فقد شُيّع جثمانه تشييعاً جماهيرياً اشترك فيه جَمع كبير من أهل المدينة ومن خارجها، وكان تشييعاً مهيباً لم يُر مثله لغيره.

إنّ خسارتنا بفقد الشيخ كبيرة، إلّاأنّ الآمال معقودة في زماننا هذا على نجله، أعني: العلّامة الشيخ كاظم العمري - دامت إفاضاته -، فعليه أن يقتفي خُطى الوالد في نشر مبادئ التعاون والتعاضد بين الشيعة، والعمل على نشر الثقافة بين الشباب حسب الإمكانات الموجودة، وذلك من خلال تأسيس حوزة علمية للبنين والبنات، ليواكب الشيعة ما تتطلّبه الظروف الحاضرة.

فسلام على الشيخ الراحل يوم ولد ويوم توفّي ويوم يبعث حيّاً.

وتغمده اللّه برحمته الواسعة.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

جعفر السبحاني 25 شوال المكرّم 1432 ه

ص:478

2 رسالة تعزية بمناسبة وفاة الشيخ محمد علي العمري

سماحة حجة الإسلام الشيخ محمد كاظم العمري - دامت بركاته -

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

تلقّينا ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة والدكم المعظّم حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد علي العمري قدس سره فأمسى المصاب به إليماً، والرزء جليلاً.

لقد كان الراحل إلى جوار ربّه، علماً من أعلام الإسلام، مدافعاً عن حوزة الدين وعن التشيع طيلة عمره الشريف، وقد لقي في هذا السبيل صعوبات ومشاكل تحمّلها للّه تعالى بإيمان وصبر راسخين، تغمّده اللّه برحمته الواسعة.

وأخيراً نتقدّم بأحرّ التعازي لكم، وللعلماء كافة وبالأخصّ علماء المدينة المنوّرة، ولسائر أفراد الأُسرة الكريمة. نسأل اللّه تعالى أن يلهم الجميع الصبر والسلوان.

جعفر السبحاني

22 / صفر / 1432 ه

ص:479

3 بيان تعزية بمناسبة وفاة العالم الكبير الشيخ عبد الهادي الفضلي

(إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ )

تلقينا ببالغ الحزن والألم نبأ رحيل العالم الجليل والمحقّق الكبير الشيخ عبدالهادي الفضلي رحمه الله، الذي كرّس حياته لخدمة الفقه والتاريخ والأدب وترك آثاراً قيمّة خالدة في حقول مختلفة.

وفقيدنا الغالي منذ أن أتمّ دراساته العالية في الجامعة الدينية الكبرى للشيعة في النجف الأشرف، انتقل إلى وطنه فخدم العلم والنشأ الجديد بقلمه وبيانه، وبذلك زرع له في قلوب المؤمنين، مكانة سامية.

وها نحن نعزّي إمام العصر والزمان، وعلماء الإسلام لاسيّما في المنطقة الشرقية وأُسرة الراحل وأبناءه ومحبيه.

نسأل اللّه تعالى له أن يحشره مع مَن تولّاه من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة الأطهار.

وأن يمنّ على أهله وذويه بالصبر والسلوان

جعفر السبحاني

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

28 جمادى الأُولى 1434 ه

ص:480

4 بيان تعزية واستنكار بمناسبة استشهاد الشيخ حسن شحاته

«إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ »

ببالغ الأسى والأسف تلقّينا نبأ استشهاد الأُستاذ الفاضل، والمجاهد الكبير الشيخ حسن شحاته مع ثلاثة آخرين من أتباع أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في بلاد مصر الحبيبة على يد شرذمة من العصابات التكفيرية، التي ارتبطت بالحلف الشيطاني الذي تقوده أمريكا والكيان الصهيوني لإثارة الفتن ودواعي الشقاق والخصام بين أبناء الأُمّة الواحدة، وإشاعة الفوضى والخراب والدمار في بلادنا الإسلامية.

وبهذه المناسبة الأليمة، نعزّي إمام العصر المهديّ المنتظر (عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف) وعلماء المسلمين في أقطار الأرض لا سيّما شيوخ الأزهر وأساتذته، الذين نهيب بهم، وبالشعب المصري الكريم، أن يقفوا بوجه هذه الزُّمر الشرّيرة، التي تعيث فساداً في أقطارنا العربية والإسلامية، ويفضحوا أغراض هذا المخطّط اللئيم الذي يستهدف إسلامنا الحنيف وأُمّتنا وقيمنا الإنسانية النبيلة.

وليس من شكّ أنّ الفتاوى التحريضية، الشاذّة عن الكتاب والسنّة هي من

ص:481

أهم أسباب إيقاظ الفتنة، وإثارة الأحقاد والضغائن بين المسلمين، وهي التي أفضت إلى ارتكاب مثل هذه الفعلة الآثمة والجناية البشعة وغيرها من الجنايات بحق الشيوخ والنساء والأطفال، ولو لم يرفع العلماء المخلصون أصواتهم عالياً برفض تلك الفتاوى وإدانتها وفضح أصحابها الذين ارتبطت مصالحهم بمصالح الساسة الفاسدين، فإنّ ذلك سيفتح على الأُمّة - لاسمح اللّه - باب شرّ لا ينسدّ أبداً، وستمتد مخالب هؤلاء الذين نزعت من قلوبهم مشاعر الخير والمحبّة والرحمة، لتنهش لحوم الناس، وتولغ في دمائهم، وتعتدي حتى على أصحاب تلك الفتاوى المقيتة.

(اللّهم أنطِقنا بالهدى ، وألهمنا التقوى ، واستعملنا بما هو أرضى ، واسلُك بنا الطريقة المثلى )

جعفر السبحاني

18 شعبان المعظّم 1434 ه

ص:482

5 بيان صادر بمناسبة اعتقال جماعة من العلماء والمؤمنين من قبل السلطات السعودية

ختم سماحة آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني محاضراته الفقهية في يوم الأربعاء 22 جمادى الآخرة 1434 ه، بالبيان التالي:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن سمع رجلاً ينادي ياللمسلمين فلم يجبه، فليس بمسلم».

وهانحن نسمع ذلك النداء من رجال صالحين ومصلحين اعتقلوا من قبل السلطات في السعودية، بعد أن أُلصقت بهم تهم واهية، وعلى رأسهم سماحة الشيخ باقر النمر، الذي كرّس عمره في الوعظ والإرشاد وتربية الشباب تربية إسلامية.

وقد اعتقل هو وإخوانه الذين عرفوا بالعلم والتقوى والصلاح، وما نقموا منهم إلّاأنّهم طالبوا برفع الاستضعاف عن شعبهم المستضعف عبر عقود.

اعتقل هؤلاء بتهم واهية والتي تشهد حياتهم الطيبة في مجالي العلم والتربية وخدمة المجتمع على أنّها تهم مكذوبة شأنها شأن التهم التي يُرمى بها رجال الإصلاح في أقطار العالم.

ص:483

ولمّا كانت رسالتهم الإصلاحية على طرف النقيض من مصالح الفئة الحاكمة لم تجد السلطات شيئاً في صحيفة حياتهم ما تبرّر به العنف إلّاإيكال تهم ليس لها وزن في ميزان العدل والقضاء وهم براء منها براءة يوسف ممّا اتّهم به.

ونحن نهيب بالسلطات السعودية التي تعاملت منذ تأسيسها مع هذه الطائفة بغصب الحقوق والضرب وهدم المساجد والبيوت إلى غير ذلك من الأعمال الظالمة، فلم تكن لهذه الأعمال من نتائج إلّاصمود الشعب أمام العنف - نهيب بهم - أن يجرّبوا أُسلوباً آخر وهو بسط العدل والإنصاف وإحقاق الحقوق إلى ذويها، ثم لينظروا أي الأُسلوبين أنفع في إقرار الأمن والسلام، أو فيه رضى اللّه ورضى رسوله ورضى المسلمين عامّة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ) (1)

قم المقدسة

الحوزة العلمية

22 جمادى الأُولى 1434 ه

ص:484


1- . سورة ق: 37.

6 تخريب قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي رضى الله عنه

قال اللّه تبارك وتعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً * اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)

صدق اللّه العليُّ العظيم

أمّا بعد:

بلغنا أنّ مجموعة إرهابية تكفيرية من الذين لا يحفظون للّه ولرسوله وأصحابه حرمة، قاموا بالاعتداء على مقام الصحابي الجليل حجر بن عدي والعبث بقبره الشريف وحفره، وهذا العمل اعتداء سافر على المقدّسات الإسلاميّة.

ونحن نناشد علماء الإسلام في كافة أقطار العالم الإسلامي بأن يقوموا بوجه هؤلاء المجرمين الذين يتذرّعون برفع شعار التوحيد ومكافحة الشرك، والدفاع عن الصحابة، إلّاأنّهم في الوقت نفسه يتجرّأون ويهتكون كرامة النبي صلى الله عليه و آله و سلم وصحبه الكرام الذين بذلوا مهجهم في طريق نشر التوحيد ونبذ الشرك.

ص:485

إنّ هذه الجريمة وما سبقها بادرة خطيرة سوف تتبعها - لا سامح اللّه - أعمال أخطر، فيجب على الحكومات الإسلاميّة وعلماء المسلمين الأجلّاء وخطباء جمعهم ومساجدهم تعبئة الجماهير الإسلاميّة للوقوف بوجه هذه الموجة الحاقدة والخطرة على الإسلام والمسلمين.

إنا للّه وإنا إليه راجعون

وإلى اللّه المشتكى

جعفر السبحاني

قم المقدسة

الحوزة العلمية

22 جمادى الآخرة 1434 ه

ص:486

فهرس المحتويات

الموضوع الصفحة

مقدّمة المؤلّف 7

الفصل الأوّل

مقالات في الكلام والعقائد

1. الإله في كلمة الإخلاص... 11

تمهيد... 11

معنى «الإله» في الذكر الحكيم... 11

ما هو المختار في معنى الإله ولفظ الجلالة ؟ وفيه وجوه... 13

الأوّل: مادة اللفظين واحدة... 14

الثاني: الاحتجاج بعدم وجود إله غير اللّه... 15

الثالث: الاستدلال على التوحيد بلزوم الفساد عند تعدّد الآلهة... 16

الرابع: الملازمة بين الإلوهية وعدم ورود النار... 18

الخامس: لزوم اختلال المعنى لو فسّر بالمعبود... 18

السادس: استعمال لفظ الجلالة مكان الآخر وبالعكس... 19

السابع: معنى «الإله» في تثليث النصارى... 20

الثامن: وقوع قوله: (لا إله إلّاهو) تعليلاً لحصر الشؤون... 22

التاسع: مفهوم الإله عند الوثنيين... 24

ص:487

الموضوع... الصفحة

انتقال هُبَل إلى مكة... 25

العاشر: الإله في كلام الإمام علي عليه السلام... 25

تصحيح خطأ في الاصطلاح... 27

2. «رؤية اللّه» طبقاً للكتاب والسنّة... 30

كعب الأحبار أوّل من نشر فكرة الرؤية بين المحدّثين... 32

تركيز كعب الأحبار على التجسيم والرؤية... 32

الآيات التي استدلّ بها صاحب المقال على الرؤية... 33

نظرية تافهة... 43

حوار بين الإمام الرضا عليه السلام وبعض المحدّثين... 44

3. الصفات الخبرية في الكتاب والسنّة... 46

ما هو الميزان في معرفة صفاته تعالى ؟... 47

صرف الظاهر عن ظاهره... 47

أقوال المحدّثين والعلماء في الصفات الخبرية... 52

1. قول المشبّهة... 52

2. قول المثبّتة... 52

بين التشبيه والتعقيد... 52

إكمال وإيضاح... 55

3. التفويض أو تعطيل العقول عن التفكير... 59

4. التأويل... 60

4. ثبات الأنواع أو تطوّرها في الذكر الحكيم... 63

المرحلة الأُولى: التراب المتحوّل... 64

ص:488

الموضوع... الصفحة

المرحلة الثانية: مرحلة التصوير... 65

المرحلة الثالثة: مرحلة نفخ الروح... 65

دليل القائل بتطوّر الأنواع من القرآن... 66

5. حياة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قبل البعثة حافلة بالكرامات... 68

1. الكرامة الإلهية أيام الرضاع... 69

2. تعرّف نصارى الحبشة عليه وهو طفل... 70

3. ابتعاده عن الوثنية منذ نعومة أظفاره... 71

4. إعراضه عن الحلف باللّات والعزّى... 72

5. رعيُه الغنم وتعويد النفس على مشاقّ الأُمور... 72

6. مشاركته في حلف الفضول... 73

6. عصمة أئمة أهل البيت عليهم السلام في الكتاب والسنّة... 75

الأوّل: حقيقة العصمة، وفيها أُمور... 75

1. العصمة الدرجة القصوى من التقوى... 75

2. العصمة: نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي... 77

3. الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجماله... 80

العصمة عن الخطأ... 81

الثاني: العصمة لا تلازم النبوّة... 82

أدلّة عصمة أهل البيت عليهم السلام كتاباً وسنة وفيه بحثان... 83

البحث الأوّل: عصمة أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم... 83

الآية الأُولى: آية التطهير... 83

شبهتان ضئيلتان... 92

ص:489

الموضوع... الصفحة

سؤال وإجابة... 94

الآية الثانية: آية طاعة أُولي الأمر... 95

البحث الثاني: عصمة أهل البيت عليهم السلام في السنّة النبوية... 98

1. حديث الثقلين... 98

2. حديث السفينة... 100

7. تفسير القرآن بالقرآن، منهج مؤيّد بالقرآن والسنّة... 102

هل هذا المنهج يهدف إلى كفاية كتاب اللّه ؟... 109

هل هذا المنهج عبارة عن ضرب القرآن بعضه ببعض ؟... 109

8. أسئلة حول البسملة وأجوبتها... 111

1. ما معنى الباء في قوله: «بسم اللّه»؟... 111

2. ما هو سبب حذف الهمزة عند الكتابة ؟... 112

3. كيف نستعين بالاسم لا بالذات ؟... 113

4. ما هو المراد من الاسمين: الرحمن الرحيم ؟... 115

5. ما هو الفرق بين الرحمن والرحيم ؟... 117

6. لماذا تقدّم الرحمن على الرحيم ؟... 118

9. الناشئ الجديد والظروف المحدقة به... 120

الهداية العامّة والخاصّة... 122

في أقسام الهداية العامّة... 123

الف: الهداية العامّة التكوينية... 123

ب: الهداية العامّة التشريعية... 123

الهداية الخاصة... 125

ص:490

الموضوع... الصفحة

10. ظاهرة التكفير على ضوء القرآن والسنّة الشريفة، وفيها فصول... 131

الفصل الأوّل: المتطرّفون وتكفير رجال العلم في القرون السابقة... 133

جذور التكفير في القرون الأُولى... 133

1. أُسامة بن زيد والآية النازلة فيه... 134

2. الوليد بن عقبة بن أبي معيط والآية النازلة في حقّه... 135

3. ذوالخويصرة التميمي واعتراضه على توزيع الغنائم... 136

4. قد صدّق الخُبر الخبر... 136

5. مسألة خلق القرآن وتفرّق الأُمّةً ... 138

6. مرتكب الكبيرة... 139

الفرق والمذاهب الإسلامية وتأجيح نار الفتنة عبر التاريخ... 140

1. محنة الطبري (224-310 ه)... 140

2. هدم جامع (براثا)... 141

3. التطرّف في تفسير الصفات الخبرية... 142

4. فتنة الجهر بالبسملة... 143

5. إحراق مسجد الشوافع... 143

6. التشكيك في شيخ الأشاعرة... 143

7. موت البوريّ بحلواء مسمومة... 144

8. قتل الأشاعرة في المدرسة النظامية... 145

الفصل الثانى: إدانة تكفير أهل القبلة على لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 146

الفصل الثالث: إدانة علماء المسلمين تكفير أهل القبلة... 148

1. كلمة الشيخ الجليل الأقدم الفضل بن شاذان الأزدي... 149

ص:491

الموضوع... الصفحة

2. كلمة الإمام الأشعري:... 149

3. كلمة ابن حزم في المقام... 149

4. كلمة القاضي الإيجي... 150

5. كلمة تقي الدين السبكي... 150

6. كلمة التفتازاني... 150

الفصل الرابع: أسباب نشوء ظاهرة التكفير... 155

1. اختلاق خيانة الأمين... 155

2. نسخ الشريعة عن طريق البداء... 158

3. رمي الشيعة بتهم زائفة... 160

الفصل الخامس: الجهل بالمفاهيم الإسلاميّة... 160

كلمات اللغويين... 162

كلمات المفسّرين... 162

التعريف الصحيح للعبادة... 163

1. العبادة هي الخضوع الناشئ عن الاعتقاد بأُلوهية المعبود... 164

2. العبادة: هي الخضوع لشيء على أنّه ربّ ... 164

3. العبادة: هي الخضوع أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده... 165

4. العبادة على رأي ابن عاشور... 165

دعاء الصالحين ليس عبادة لهم... 165

دعاء الصالحين في حديث النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم... 167

مفاد قولهم: الدعاء مُخّ العبادة... 169

ص:492

الموضوع... الصفحة

البدعة مفهومها وحدّها... 170

تعريف البدعة... 170

الإشاعة ودعوة الآخرين إلى ما أُحدث... 174

عدم وجود أصل لها في الكتاب والسنّة... 175

نماذج من الأُمور التي يصفها الوهابيون بالبدعة... 176

4. شدّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 178

5. قبض اليد اليمنى باليسرى في الصلاة... 180

الفصل السادس: ما هو ملاك الكفر والإيمان ؟... 181

ما يجب الإيمان به تفصيلاً... 182

المرونة في قبول الإسلام... 187

بعض التهم الموجّهة للشيعة... 189

1. عدم الإيمان بخلافة الخلفاء... 189

2. علم الأئمة عليهم السلام بالغيب... 190

3. التقيّة من المسلم... 190

4. تكفير الصحابة... 192

بيان واقتراح... 194

11. البهائية وتحريف الآية الخامسة من سورة السجدة... 197

تحريف مفاد الآية... 197

الفصل الثاني

مقالات في الأُصول والفقه والرجال

1. فلسفة أُصول الفقه، وفيها بحوث... 203

ص:493

الموضوع... الصفحة

الأوّل: ما هي الغاية من تأسيس علم أُصول الفقه ؟... 205

الثاني: الأُسس الّتي بُني عليها علم أُصول الفقه... 206

أ. المداليل اللغوية... 206

ب. حكم العقل النظري في باب الملازمات... 206

ج. الأحكام البديهيّة للعقل النظري... 207

د. حكم العقل العملي في باب التحسين والتقبيح... 207

ه. سيرة العقلاء... 207

و. كتاب اللّه العزيز... 208

ز. السنّة الشريفة... 208

1. الاستصحاب... 208

2. مرجّحات باب التعارض... 208

الثالث: تاريخ علم أُصول الفقه... 209

الرابع: الطرق المختلفة في تدوين أُصول الفقه... 209

القواعد الأُصولية المنتزعة من الفروع الفقهية... 211

الجمع بين الطريقتين... 212

طريقة التأليف عند فقهاء الشيعة... 212

الخامس: موضوع علم الأُصول... 213

السادس: ماهية علم الأُصول ومكانته... 214

السابع: تعريف علم الأُصول تعريفاً جامعاً ومانعاً... 216

الثامن: الأدوار التي مرّ بها علم أُصول الفقه... 217

أ. مرحلة النشأة... 217

ص:494

الموضوع... الصفحة

ب. مرحلة التبلور والتفتح... 217

ج. مرحلة الإبداع والابتكار... 219

د. مرحلة التكامل... 220

ه. مرحلة قمّة التكامل... 220

المنهج الأُصولي للمحقّق الإصفهاني... 221

1. أداة الشرط تقع موقع الفرض... 222

2. عدم وجوب المقدّمة... 222

3. الحروف موضوعة لبيان الوجود الرابط... 223

4. جريان البراءة قبل الفحص... 223

5. الصحّة في المعاملات ليست مجعولة... 223

6. العدلان في الواجب التخييري، واجبان معاً... 223

7. العلم الإجمالي عند الإصفهاني علّة تامّة للامتثال القطعي... 224

8. العرض الذاتي هو المأخوذ في تحديد المحمول... 224

9. أنّ المصدر ليس مادة المشتقّات... 224

10. أعدام الملكات نظير الاستعدادات، له حظ من الوجود... 225

2. الخطابات القانونية ودورها في المسائل الأُصوليّة، وفيها أُمور... 226

1. تقسيم الحكم المشترك إلى إنشائي وفعليّ ... 227

2. شرطية الابتلاء في صحّة التكليف... 227

3. عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر في العلم الإجمالي... 228

4. القدرة شرط التكليف لكلّ مكلّف... 228

الخطاب القانوني مكان الخطاب الشخصي... 228

ص:495

الموضوع... الصفحة

ألف. تفسير الحكم الإنشائي والفعلي... 229

ب. عدم شرطية الابتلاء في التكليف... 230

ج. وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر... 230

د. كفاية وجود الشرائط في جمع من المكلّفين... 231

تصحيح الترتّب بخطابين عرضيّين... 231

3. أُسس آراء المحقّق النائيني... 235

آراؤه الأُصولية... 235

1. حلّ المشاكل عن طريق القضايا الحقيقية والخارجية... 235

2. إرجاع الشروط إلى الموضوع... 236

3. نتيجة الإطلاق والتقييد... 236

4. اختصاص الأمر بالحصّة المقدورة... 237

5. تفسير الحجّية في الأمارات بجعل الطريقية... 237

6. عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجّية... 237

7. الموضوع غير المتعلّق... 238

8. تقسيم العقود إلى أقسام... 238

9. ابتناء القول بالإشاعة على القول ببطلان قول الجزء لا يتجزّأ... 238

10. جواز الاجتماع وكيفية تركيب المادّة والصورة... 238

بعض آراء المحقّق النائيني الفلسفية... 239

1. بطلان قاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد... 239

2. تفسير الإرادة بوجه خاص... 239

4. مسند ابن أبي عمير... 240

ص:496

الموضوع... الصفحة

المسانيد في عصر الأئمّة عليهم السلام... 240

ابن أبي عمير حياته، ومكانته العلمية والاجتماعية اسمه ونسبه... 244

موطنه... 245

كلمات الثناء في حقّه... 245

ثباته على المبدأ، والتزامه بالشريعة... 247

مكانته العلمية والاجتماعية... 249

أ. كثرة تآليفه... 250

ب. قوّة حافظته... 251

ج. غزارة رواياته عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام مشافهة أو بالواسطة... 252

تحقيق موجز حول مشايخه... 252

5. الوزير المغربي تفسيره ومذهبه... 259

الوزير المغربي في مصادر الشيعة... 261

القرائن الخارجية الدالّة على تشيّعه... 264

القرائن الداخلية الدالّة على تشيّعه... 267

1. كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله... 267

2. كلامه في بسملة كلّ سورة... 268

3. الجمع بين الحجّة والعمرة... 268

4. كلامه في ليلة المبيت... 269

5. كلامه في المباهلة... 269

6. كلامه في متعة النساء... 270

7. كلامه في آية الوضوء... 270

ص:497

الموضوع... الصفحة

8. كلامه في الغنائم... 271

9. كلامه في تفسير قوله تعالى: (وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ) ... 272

10. كلامه في تفسير قوله: (لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ... 272

11. كلامه في تفسير قوله: (ذَوِي الْقُرْبى ) ... 273

مآخذ أو محاسن ؟... 273

6. رسالة في الكرّ مساحةً ووزناً... 275

الكُرّ لغةً واصطلاحاً، وفيه مقامان... 275

المقام الأوّل: في دراسة أقوال أصحابنا... 277

المقام الثاني: دراسة ما ورد في الروايات... 279

الركيّ : بئر مستدير ليس له عرض وطول... 287

تقدير الكرّ بالوزن... 297

تنبيه: وزن الكر بالكيلو غرام... 304

مشكلة الاختلاف بين الوزن والحجم... 305

7. حكم الصلاة في مساجد الشيعة... 307

حكم بناء المساجد على قبور الأولياء... 308

كيفية الاستدلال... 310

زلّة لا تستقال... 311

تأويل مردود للألباني... 313

عود إلى كلام عثمان الخميس... 314

الإهانة لأهل البيت عليهم السلام والتابعين... 315

دراسة أدلّة المانعين... 318

ص:498

الموضوع... الصفحة

وجود المساجد في المشاهد المشرّفة لا صلة له بهذه الأحاديث... 324

دراسة مقاطع ثلاثة في كلام عثمان الخميس... 325

المقطع الأوّل... 325

دراسة المقطع الثاني من كلامه وفيه أُمور... 327

1. الشيعة يذكرون غير اللّه... 327

2. الشيعة يستغيثون بغير اللّه... 327 3. الشيعة يدعون غير اللّه... 328

4. الشيعة يسبّون الأولياء من الصحابة والخلفاء... 330

النقد والتقييم غير السبّ ... 331

دراسة المقطع الثالث... 332

8. رسالة في صوم مَن به داء العطش ومَن أصابه العطش، وفيها مسألتان... 334

المسألة الأُولى: مَن به داء العطش... 334

المسألة الثانية: مَن أصابه العطش... 336

9. «منى ، التاريخ والتشريع»... 342

تمهيد وفيه جوانب... 343

1. منى العَلمَ على المكان... 343

2. شوارع منى الرئيسية... 343

3. سبب تسميتها منى ... 343

4. أيام منى، أسماؤها وخصائصها... 344

5. حدود منى الشرعية... 345

ص:499

الموضوع... الصفحة

6. فضائل منى... 345

القسم الأوّل: منى في ذاكرة التاريخ الإسلامي... 345

الأماكن المأثورة الثابتة تاريخياً... 346

القسم الثاني: منى التشريع... 348

القرآن الكريم وحفظ الآثار... 357

10. اختلاف الزوجين في دوام العقد وانقطاعه... 359

لزوم الأخذ بطبع العقد... 363

الفصل الثالث

الرسائل المتبادلة

1. مراسلاتنا مع الدكتور وهبة الزحيلي... 367-383

2. مراسلاتنا مع الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان... 384-430

ملاحظات حول كتاب «فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة» وفيه مناقشتان... 384

المناقشة الأُولى حول الأوقات الشرعية في المناطق القطبية... 384

ملاحظاتنا على هذه المحاور... 385

ما هو المختار عندنا في تحديد أوقات الصلاة والصوم ؟... 386

المناقشة الثانية حول السعي فوق سقف المسعى ... 388

1. حكم السعي فوق سقف المسعى حكمه على الأرض... 389

2. جواز السعي راجلاً وراكباً... 390

3. قياس السعي باستقبال ما فوق الكعبة... 390

4. قياس السعي بالرمي راكباً... 391

ص:500

الموضوع... الصفحة

5. السعي فوق سقف المسعى لا يخرج عن مسمّى السعي بين الصفا والمروة... 392

ما هو مقتضى القاعدة ؟... 392

جواب الدكتور على رسالتنا... 393

سؤال الدكتور أبو سليمان عن الرمي ليلاً... 396

جواب العلّامة السبحاني... 398

الأذان قبل الفجر وتوضيح الدكتور... 401

اشكالات العلّامة السبحاني حول مسألة الأذان قبل الفجر... 404

ملاحظات حول كتاب منهج البحث في الفقه الإسلامي... 407

أُمور من أدوات الاجتهاد... 407

الأوّل: تاريخ التشريع الإسلامي... 407

الثاني: التمييز بين ثابتات الأحكام ومتغيّراتها... 408

الثالث: التركيز على الاجتهاد المطلق... 408

ملحق: الأحكام الشرعية بين الثوابت والمتغيّرات... 413

المقررات المتطوّرة في الإسلام... 416

الصلاة حول الكعبة بشكل دائري... 424

ملحق: أوّل من ادار الصفوف حول الكعبة... 425

3. مراسلة مع الدكتور الشيخ علي محيي الدين القره داغي... 431

4. مراسلة مع الشيخ أنس الكتبي الحسني دام موفقاً... 433

مراسلة مع الشيخ عبد اللّه دشتي... 440

ص:501

الموضوع... الصفحة

الفصل الرابع

رسائل وتقاريظ

1. القرآن الكريم وسعة آفاق مداليله... 449

2. رسالة إلى الشيخ الأراكي حول كتاب «ثبوت الهلال في الأماكن... 453

3. رسالة إلى الأُستاذة الفاضلة عائشة يوسف المناعي... 455

4. التقريب ضرورة دينية وحاجة ملحّة... 456

5. دعوة إلى الاعتصام بحبل اللّه ونبذ الخلافات... 459

6. الذكريات العطرة... 461

7. رسالة من الدكتور أحمد بدرالدين حسون المفتي العام في سورية... 464

8. رسالة إلى فضيلة الدكتور أحمد الطيّب شيخ الجامع الأزهر... 465

9. لقاء بين العلّامة المجتهدي والشاعر العراقي خضر عباس الصالحي... 467

10. رسالة إلى الأخ الفاضل الدكتور عبد العزيز حسن (دام عزّه)... 473

الفصل الخامس

بيانات وتعازي

1. كلمة تأبينية بمناسبة وفاة العلّامة الشيخ محمد علي العمري... 477

2. رسالة تعزية بمناسبة وفاة سماحة حجة الإسلام الشيخ محمد كاظم...... 479

3. بيان تعزية بمناسبة وفاة العالم الكبير الشيخ عبد الهادي الفضلي... 480

4. بيان تعزية واستنكار بمناسبة استشهاد الشيخ حسن شحاته... 481

5. بيان صادر بمناسبة اعتقال جماعة من العلماء والمؤمنين من قبل...... 483

6. تخريب قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي رضى الله عنه... 485

فهرس المحتويات... 487

ص:502

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.