رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام المجلد 6

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع) ، 14ق. = 13 -

مشخصات ظاهري : 10ج.

يادداشت : عربي.

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد ششم: 1428ق. = 1386.

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : اسلام -- بررسي و شناخت

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP11 /س2ر5 1300ي

رده بندي ديويي : 297

شماره كتابشناسي ملي : 1053076

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

ص :5

ص :6

ص :7

ص :8

رسائل و مقالات (ج6)

الفصل الاول في المسائل الفلسفية و الكلامية

1 اجتماع علتين أو قادرين على معلول أو مقدور واحد

اشارة

قد تطرقت الفلاسفة و المتكلّمون إلى مسألة اجتماع علّتين أو قادرين على معلول أو مقدور واحد، و لكن كلاً من الطائفتين نظروا إلى هذه المسألة من منظار خاص.

أمّا الفلاسفة (1)فبما أنّهم بصدد دراسة أحكام الوجود فقد جرّهم البحث إلى دراسة أحكام العلة و المعلول فابتكروا قاعدتين معروفتين بقاعدتي الواحد و هما:

أ.لا يصدر من الواحد إلاّ الواحد.

ب.لا يصدر الواحد إلاّ من الواحد.

و القاعدة الثانية هي المسألة المطروحة في المقام و حاصلها أنّه يمتنع اجتماع علتين تامتين على معلول واحد.

ص:9


1- 1) .الأسفار الأربعة:210/2- 211؛درر الفوائد:280- 281.

و مرادهم من الواحد ليس هو الواحد بالنوع،بل الواحد البسيط البحت الّذي ليس فيه رائحة التركيب، فقالوا بأنّ مثل هذا لا يصدر إلاّ من علّة واحدة و يمتنع اجتماع علتين مستقلتين على مثله.و سيوافيك برهانه.

و أمّا المتكلّمون فقد اتفقت المجبرة (و تبعهم الأشاعرة) و المعتزلة على صحة القاعدة و إتقانها و أنّه يمتنع اجتماع قادرين على مقدور واحد لكن الأشاعرة لما فسّرت التوحيد في الخالقية،بأنّه لا خالق أصلياً و لا ظلياً إلاّ اللّه سبحانه،نفتْ دور العبد في أفعاله و جعلتها مخلوقة للّه سبحانه لا للعبد،و إلاّ فلو كان له دور فيها-مع اللّه سبحانه-يلزم اجتماع قادرين على مقدور واحد.

و كأنّهم اتخذوا القاعدة ذريعة لعقيدتهم في التوحيد في الخالقية على نحو لو لا هذه القاعدة لأخذوا بها أيضاً. (1)

و أمّا المعتزلة (2)فلمّا سلكوا مسلكاً يضاد مسلك المجبرة فقالوا بأنّ المؤثر في فعل العبد هو قدرة العبد و أنّ فعله منقطع عن اللّه سبحانه و العبد فاعله و خالقه،و إلاّ فلو كان للّه سبحانه دور فيها يلزم اجتماع قادرين على مقدور واحد.

فظهر انّ كلاً من الطائفتين اتّخذوا القاعدة ذريعة لمقاصدهم الكلامية،أمّا في حصر الخالقية في اللّه سبحانه،و إلاّ يلزم الاجتماع المحال،أو في قطع نسبة فعل العبد إلى اللّه و إلاّ يلزم المحذور المتقدّم.

ثمّ إنّ الأشاعرة ربما استأنسوا لإثبات القاعدة بما ذكره المعتزلة في تقرير برهان التمانع الّذي أُقيم لإثبات وحدة الواجب و سيوافيك شرحه. (3)

ص:10


1- 1) .التمهيد في أُصول الدين للنسفي:60.
2- 2) .التمهيد في أُصول الدين للنسفي:67.
3- 3) .كشف المراد:309؛التوحيد لابن رُشيد:625؛المعتمد في أُصول الدين للملاحمي الخوارزمي:508.

هذه هي دراسة لماهية المسألة و غاياتها و الجهة الّتي طرحوها،و إليك بيان القاعدة من منظار الفلسفة الإسلامية.

تقرير القاعدة ببرهان فلسفي

فنقول:من القواعد المسلّمة عند الفلاسفة امتناع«صدور الواحد من الكثير»،و لزوم«صدور الواحد من الواحد».و المراد من الواحد هنا هو الواحد البسيط البحت الّذي ليس فيه رائحة التركيب و الاثنينية،فخرج صدور الحرارة من الشمس و النار من محلّ البحث،فإنّ الحرارة الصادرة منهما متكثرة في الخارج،فإنّ الحرارة المتولدة من الشمس غير الحرارة المتولدة من النار و هكذا.فأكثر ما ينتقض به تلك القاعدة خارج عن محط البحث.فالوحدة في الموارد الّتي تُعدّ نقضاً للقاعدة وحدة نوعية لا وحدة شخصية.

يقول السيد العلاّمة الطباطبائي:فلو صدر واحد عن الكثير،فإمّا أن يكون الواحد واحداً نوعياً ذا أفراد كثيرة يستند كلّ فرد منها إلى علّة خاصة،كالحرارة الصادرة عن النار و النور و الحركة و غيرها. (1)

و حاصل برهانهم على القاعدة (لا يصدر الواحد إلاّ من الواحد) هو أنّ صدور كلّ معلول عن علّته رهن وجود خصوصية تُسوِّغ صدوره منها،و إلاّ فلو صدر المعلول بلا هذه الخصوصية يلزم أن يكون كلّ شيء علّة لكلّ شيء،مثلاً الأكل يوجب الشبع دون الريّ،و شرب الماء يوجب الارتواء دون الشبع.و هذا يدلّ على أنّ بين الأكل و الشبع و الشرب و الارتواء خصوصية توجب حدوث أحد المعلولين دون الآخر.

ص:11


1- 1) .نهاية الحكمة:215.

و على ضوء هذا لو صدر واحد عن كثير يجب أن يكون فيه خصوصيّتان تُسوِّغان صدوره من علتين مستقلتين و افتراض تعدد الخصوصية يوجب انقلاب المعلول الواحد إلى الكثير. (1)

يقول المحقّق الطوسي:الخصوصية:كون العلّة بحيث يصدر عنها المعلول،و هي بهذا المعنى متقدّمة على المعلول،و هو أمر واحد إن كان المعلول واحداً،أمّا إذا كان المعلول فوق واحد فلا محالة يكون ذلك الأمر مختلفاً و تلزم فيه الكثرة في ذات العلة. (2)

ثمّ إنّ الفلاسفة بسطوا الكلام في ذلك و أثبتوا أنّ القاعدة لا تنتج«عزل الواحد (اللّه عزّ اسمه) عن مراتب الوجود بزعم أنّ الصادر عنه هو الصادر الأوّل،و أمّا الصوادر الأُخرى فهي مقطوعة الصلة باللّه سبحانه»،و ذلك لأنّ الوجود الإمكاني على مراتبه المختلفة وجود رابط قائم بالوجود النفسي و معنى حرفيّ يتقوّم بالمعنى الاسمي،فالقول:بصدور الموجودات عنه تعالى بالترتيب و النظام لا يعني استقلال الوسائط عن اللّه تعالى. (3)

***

إلى هنا تمّ الكلام حسب النمط الفلسفي،فلنرجع إلى البحث عنه حسب النمط الكلامي.

أمّا الإمامية فقد اصفقوا مع الأشاعرة بأنّه لا خالق إلاّ اللّه سبحانه و انّه لا مؤثر في الوجود إلاّ هو،لكنّهم يفسرون هذا الأصل بغير النمط الّذي فسرت به

ص:12


1- 1) .شرح المنظومة:129. [1]
2- 2) .الإشارات و التنبيهات:127/3؛ [2]لمعات إلهية للحكيم عبد اللّه الزنوزي:142. [3]
3- 3) .الأسفار الأربعة:210/2؛ [4]شرح المنظومة:128. [5]

الأشاعرة فقالوا:بأنّ الموجودات الإمكانية و ما يتبعها من الأفعال و الآثار بل حتّى الإنسان و ما يصدر منه مخلوقات للّه سبحانه بلا مجاز و لا شائبة،و ليس معنى هذا إنكار نظام العلّة و المعلول و الأسباب و المسببات في صحيفة الكون،بل كلّ ما في الكون مخلوق له سبحانه إمّا بالمباشرة أو بالتسبيب.

فمعنى التوحيد في الخالقية أنّ هنا خالقاً واحداً أصيلاً و هو اللّه سبحانه،و أمّا غيره فبين غير خالق لشيء كالجمادات و بين خالق بإذنه و مشيئته و إقداره.

ثمّ إنّهم بهذا القول خرجوا بنتائج ثلاثة:

الأُولى:جمعوا بهذه النظرية بين القول بالتوحيد في الخالقية وسعة قدرته،و القول بوجود النظام العلّي و المعلولي و السببي و المسببي في العالم الإمكاني.

الثانية:أنّهم رفضوا الجبر للاعتراف بنظام العلل و المعاليل في صحيفة الكون،-الّتي منها إرادة الإنسان و اختياره و حريّته في العمل-كما رفضوا التفويض باعتبار عدم انقطاع النظام الإمكاني عن قدرته سبحانه و قيامه به.

الثالثة:قالوا بامتناع اجتماع قادرين على مقدور واحد بنسبة واحدة،لكنّهم في الوقت نفسه جوزوا اجتماع علّتين على معلول واحد،إذا كانتا بنسبتين،فاللّه سبحانه هو المؤثر المستقل في الكون،و العلل و الأسباب مؤثرات بإذنه و إقراره،فالعلتان ليستا في عرض واحد،بل الثانية في طول الأُولى،و أنّه يمتنع اجتماع قادرين في عرض واحد على مقدور واحد.

و أمّا المعتزلة فقد ذهبوا إلى أنّ القدرة المؤثرة في فعل العبد الاختياري هو قدرته لا قدرة اللّه سبحانه، و ما هذا إلاّ لأجل الحفظ على عدله سبحانه بين العباد،ثمّ اتخذوا القاعدة ذريعة لمعتقدهم و قالوا لو لا هذا.

يلزم اجتماع قدرتين على مقدور واحد.

ص:13

و الّذي جرّهم إلى تخصيص فعل العبد بقدرته و نفي صلته بقدرة اللّه سبحانه هو اضفاء الاختيار على فعله و سلب الجبر،زاعمين أنّه لو كان لقدرة اللّه سبحانه تأثير في فعل العبد،يلزم الجبر.

و أمّا أهل السنّة فالمجبرة منهم يعتقدون بتأثير قدرة واحدة في فعل العبد،و ليس للعباد أيّ دور في أفعالهم،و إلاّ يلزم تأثير اجتماع قدرتين على مقدور واحد.و هذه النظرية هي المنسوبة إلى المجبرة.

و أمّا الأشاعرة فقد نفت اجتماع قادرين على مقدور واحد يؤثران بنسبة واحدة،و مع ذلك قالوا بإمكان اجتماع قادرين على مقدور واحد،باختلاف النسبتين،كما هو الحال في أفعال العباد،ففيها لقدرة اللّه دور، كما أنّ لقدرة العبد دوراً.لكن قدرة اللّه سبحانه قدرة الاختراع،و قدرة العبد قدرة الاكتساب (1)،فقدرة اللّه سبحانه خالقة لفعل العبد و موجدة له،و أمّا قدرة العبد كاسبة؛فاللّه خالق و العباد كاسبون.و بذلك فارقوا المجبرة،لفظاً لا معنى،إذ ليس للكسب معنى صحيح.

إلى هنا خرجنا بالنتائج التالية:

1.الإمامية يُحيلون اجتماع قادرين على مقدور واحد لكن يجوّزون اجتماعهما على مقدور واحد، بشرط أن تكون إحدى القدرتين مستقلة و الأُخرى تبعية لها.و إلاّ يستحيل عندهم اجتماع قادرين على مقدور واحد بنسبة واحدة.

2.المعتزلة يمنعون اجتماع قادرين على مقدور واحد،و ليس عندهم حلٌّ لاجتماعهما على النحو المذكور عند الإمامية.

3.الأشاعرة فقولهم في هذه المسألة أشبه بقول الإمامية (لو كان للكسب

ص:14


1- 1) .شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري:92. [1]

معنى معقول) فهم يحيلون اجتماع قادرين على مقدور واحد و لكن يجوزون اجتماعهما باختلاف النسبة،كما إذا كان أحد القادرين مؤثراً في الإيجاد (الخلق) و الاختراع،و القدرة الأُخرى مؤثرة في الكسب.

إذا عرفت ذلك فلنذكر كلماتهم.

قالت المعتزلة:إنّ تدبير اللّه تعالى منقطع عن أفعال العباد،و الخلق هم الذين يتولّون إخراجها من العدم إلى الوجود و إحداثها و إيجادها و خلقها.ثمّ إنّ أوائل المعتزلة ما كانوا يتجاسرون على إثبات اسم الخالق للفاعل،بل يسمّون العباد بأنّهم موجودون محدِثون،و لكن لما نشأ أبو علي الجبائي أثبت للعباد صفة الخالقية، و قال:إنّهم خالقون لأفعالهم.

و استدلّوا على ذلك بأنّه لو كان للّه سبحانه دور في أفعال العباد يلزم اجتماع قدرتين مستقلتين على مقدور واحد.

و لذلك قالوا بانقطاع صلة أفعال العباد عن اللّه سبحانه.

و أمّا أهل السنة فهم بين مجبرة و أشاعرة.

فامّا المجبرة فإنّهم قالوا:بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه،و ليس للعباد فيها دور.و عندئذٍ أصبحت الأفعال المسماة بالاختيارية عندهم كحركات المرتعش و حركات العروق النابضة و صارت إضافتها إلى الخلق مجازاً و هي على حسب ما يضاف إلى محله دون ما يضاف إلى محصِّله. (1)

و أمّا الأشاعرة فمن جانب حاولوا الاحتفاظ بالأصل المسلم عند الموحّدين و هو التوحيد في الخالقية، و أنّه«هل من خالق غير اللّه سبحانه؟»،و من جانب آخر أرادوا أن يتحرّزوا من مغبّة الجبر و جَعْلِ الأفعال الاختيارية كالأفعال

ص:15


1- 1) .التمهيد في أُصول الدين:60- 61.

الاضطرارية،فقالوا:إنّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه بقدرة الاختراع،و للعباد بقدرة الاكتساب،و لا مانع من اجتماع قدرتين على مقدور واحد إذا كان تأثيرهما مختلفاً.

يقول النسفي:إنّ دخول مقدور واحد تحت قدرتين احداهما قدرة الاختراع و الأُخرى قدرة الاكتساب جائز،و انّما الممتنع دخوله تحت قدرتين كلّ واحد منهما قدرة الاختراع أو قدرة الاكتساب. (1)

و يقول الشيخ جمال الدين الغزنوي الحنفي(المتوفّى 593ه):دخول مقدور واحد تحت قدرتين إحداهما قدرة الاختراع و الأُخرى قدرة الاكتساب جائز كما في الحسيّات،و إنّما الممتنع الدخول تحت قدرتين فكلّ واحدة قدرة:الاختراع أو الاكتساب. (2)و يشير البزدوي إلى الامتناع مطلقاً دون أن يفصّل بين قدرة الاختراع و قدرة الاكتساب حيث يقول:

1.الفعل الواحد لا يصلح أن يكون مفعولاً لفاعلين فإنّه يستحيل ذلك. (3)و مراده من امتناع الاجتماع ما إذا كانت القدرتان متحدتي النسبة.

و يظهر من مجموع ما طرحه الأشاعرة و المعتزلة أنّ الجميع يقولون باستحالة اجتماع قدرتين على مقدور واحد،غير أنّ المعتزلة يعتقدون بقدرة واحدة و هي قدرة العباد،و أمّا الأشاعرة فتعتقد بقدرتين لكن مختلفتي النسبة،يقول الغزالي:قد تفرّق الناس في هذا أحزاباً،فذهبت المجبّرة إلى إنكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة و الحركة الاختيارية و لزمها أيضاً استحالة تكاليف

ص:16


1- 1) .التمهيد في أُصول الدين:66-67.و شرح الفقه الأكبر لملا علي القارئ:93. [1]
2- 2) .أُصول الدين للشيخ جمال الدين الغزنوي:168.
3- 3) .أُصول الدين للبزدوي:105. [2]

الشرع.

و ذهبت المعتزلة إلى إنكار تعلّق قدرة اللّه بأفعال العباد من الحيوانات و الملائكة و الجن و الإنس و الشياطين و زعمت أنّ جميع ما يصدر عنها،من خلق العباد و اختراعهم.

و أمّا أهل السنّة فقالوا:القول بالجبر محال باطل و القول بالاختراع اقتحام هائل،و إنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد،و القول بمقدور منسوب إلى قادرين.فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد،و هذا إنّما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد،فإن اختلفت القدرتان و اختلف وجه تعلّقهما فتوارد التعلقين على شيء واحد غير محال. (1)

و لكن الغزالي و أمثاله ممّن انتحلوا تأثير قدرة العبد في الكسب لم يأتوا بشيء واضح حول مفاد الكسب،و اقصى ما قالوه فيه هو أنّ الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة.

و عندئذٍ يتوجه إليه السؤال التالي:

هل الكسب الّذي يحدثه العبد هو أمر وجودي أو عدمي،فلو كان عدمياً فلا معنى للعقوبة و المجازاة على الأمر العدمي،و إن كان أمراً وجودياً يكون ممكناً و الممكن يجب أن يكون له خالق و ليس له خالق إلاّ العبد،فعاد محذور الثنوية.

و حصيلة الكلام في المقام:أنّ من تكلّم في أفعال العبد من المجبرة و المعتزلة و الأشاعرة قد أخضعوا القاعدة (امتناع اجتماع القادرين على مقدور واحد) إلى عقائدهم.

ص:17


1- 1) .الاقتصاد في الاعتقاد:117- 118. [1]

فالمجبرة لأجل المبالغة في التوحيد في الخالقية رفضوا تأثير قدرة العبد لئلا تلزم نظرية الثنوية من وجود خالقين في صفحة الوجود،و صارت النتيجة عندهم امتناع اجتماع قادرين على مقدور واحد.

فالقاعدة الكلامية كانت نتيجة عقيدتهم في فعل العبد.

و المعتزلة لأجل حفظ عدله سبحانه و الاعتقاد بالحسن و القبح العقليين و أنّه سبحانه لا يفعل القبيح - لأجل تلك الغايات-قالوا بانقطاع فعل العبد عن اللّه سبحانه و انتحلوا نظرية الثنوية و ان في صفحة الكون خالقين أصيلين:فاللّه سبحانه هو خالق الكون،و العبد خالق أفعاله،فصارت النتيجة امتناع اجتماع قادرين(اللّه و العبد) على مقدور واحد.

و الأشاعرة لأجل الحفاظ على أصلين:

أ.التوحيد في الخالقية.

ب.التفريق بين الأفعال الاختيارية و الاضطرارية.

قالوا بتأثير القدرتين في فعل العبد لكن الأثر مختلف.أثر إحداهما الاختراع و أثر الأُخرى الكسب.

و هؤلاء فصّلوا في تقرير القاعدة بين وحدة سنخ التأثير و تعدد سنخه،فقالوا بامتناع الأوّل دون الثاني.

و أمّا الإمامية فهم أحالوا اجتماع قادرين على مقدور واحد و سيأتيك برهانه تالياً.و مع ذلك قالوا بنسبة الفعل إلى اللّه سبحانه و إلى العبد.و لكن عند المتألهين منهم ليس هناك قدرتان مختلفتان.و إنّما هي قدرة واحدة هي قدرة العبد الّتي هي من مظاهر قدرته سبحانه و معطياتها في مقام العمل،و شعارهم في ذلك قولهم:«و الفعل فعل اللّه و هو فعلنا».

إذا عرفت ذلك فلندرس برهان علة اجتماع قادرين على مقدور واحد.

ص:18

امتناع اجتماع قادرين على مقدور واحد

إنّ اجتماع قادرين مستقلين على مقدور واحد بحيث يكون كلّ واحد منهما علّة تامة مؤثرة في وجود المقدور أمر محال جدّاً.ضرورة انّ مقدوراً واحداً بهويته الشخصية و وجوده الواحد الشخصي لا يعقل أن يستند إلى قادر بتمام الاستناد مع استناده إلى آخر أيضاً مطلقاً و لو ببعض الاستناد،و استدلوا عليه بالبرهان التالي:

إنّه لو كانت كلّ واحدة من القدرتين بخصوصها علة مستقلة لمقدور واحدة بخصوصه لزم احتياجه إلى كلّ واحد منهما لكونهما سبباً له،و استغناؤه عن كلّ واحدة منهما لكون الأُخرى مستقلة في إيجاده،و هو محال،و لو لم تكن كلّ واحدة منهما بخصوصها سبباً مستقلاً له،بل كانت العلة هي القدر المشترك بينهما يكون خارجاً عن الفرض. (1)

ثمّ إنّ غير واحد من المتكلّمين اعتمدوا على هذا البرهان في إثبات امتناع اجتماع قادرين على مقدور واحد،و هم بين مطنب في التقرير و ملخص له؛فمن الأوّل العلاّمة الحلّي في كشف الفوائد عند تقرير دليل الأشاعرة على عدم إعطاء دور لقدرة العبد في الفعل الصادر عنه،قال:يلزم اجتماع قادرين على مقدور واحد.

ثمّ أوضح البرهان بالنحو التالي فقال:

أمّا الشرطية فلو أنّ العبد كان مؤثراً بقدرته و قد ثبت أنّه تعالى قادر على كلّ مقدور لزم اجتماع القادرين.

و أمّا بطلان التالي فلأنّ ذلك المقدور إمّا أن يقع بكلّ واحد منهما على الانفراد،أو على الجميع؛أو بأحدهما،أو لا بواحد منهما،و الكلّ باطل:

ص:19


1- 1) .درر الفوائد للشيخ محمد تقي الآملي:381. [1]

أمّا الأوّل فلاستلزامه عدم وقوعه بكلّ واحدٍ منهما لأنّ وقوعه بكلّ واحد منهما يقتضي استغناءه عن الآخر فلو وقع بهما لاستغنى عنهما و المستغني لا يقع عن المستغنى عنه.

و أمّا الثاني فلأنّ كلّ واحد منهما حينئذٍ لا يكون قادراً على إيجاده و لا يكون واقعاً به،بل بالمجموع و قد فُرض قادراً؛هذا خلف.

و أمّا الثالث فلاستلزامه المطلوب و هو خروج أحدهما عن كونه قادراً فيبقى القادر واحداً.

و كذا الرابع (1)،أي هو أيضاً خلف،لأنّ وجود المقدور رهن القدرة و المفروض عدم قدرة سواهما.

و من الثاني:أي الملخص سعد الدين التفتازاني،قال:يمتنع اجتماع العلتين المستقلتين على معلول واحد و إلاّ يلزم احتياجه إلى كلّ من العلتين المستقلتين لكونهما علة،و استغناؤه عن كلّ منهما لكون الأُخرى مستقلّة بالعليّة. (2)

ففي هذا التلخيص يظهر واقع البرهان و هو أنّ افتراض استقلال كلٍ في الايجاد-كما هو المفروض لا المشاركة-يستلزم استغناء كلّ عن الآخر و افتراض صدور المقدور الواحد عن كلّ من القدرتين يلازم حاجة كلّ إلى الأُخرى،فيلزم الاستغناء عن كلّ مع الحاجة إلى كلّ و هذا هو التناقض.

ثمّ إنّ هناك تقريراً آخر يناسب مصطلح الفلاسفة و هو:

إنّه لو كان كلّ واحدة منهما علة فلا يخلو امّا أن يتوقف على كلّ واحدة منهما،أو يتوقف على واحدة منهما بعينها،أو لا بعينها،أو لا يتوقف على شيء

ص:20


1- 1) .كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد:232؛لاحظ اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية:75. [1]
2- 2) .شرح المقاصد:88/2. [2]

منهما.فعلى الأوّل يكون مجموعُهما مجموعَ ما يتوقف عليه المعلول فلا يكون شيء منهما علة مستقلة لكونه بعض مجموع ما يتوقف عليه المعلول و المفروض توقّف المعلول عليهما معاً.و على الثاني يكون ذاك الواحد المعين هو العلة دون الآخر.و على الثالث يكون القدر المشترك بينهما هو العلة.و على الأخير لا يكون شيئاً منهما بعلة لا بخصوصه و لا بالقدر المشترك بينه و بين الآخر. (1)

الاستئناس من برهان التمانع لإثبات القاعدة

إنّ للمتكلّمين في تقرير وحدة الإله بياناً خاصاً باسم برهان التمانع،و حاصله لو فرضنا تعدد إلهين قادرين فربما يحصل بينهما التمانع،فلو أراد أحدهما تحريك جسم و الآخر تسكينه لكان لا يخلو أن يحصل مرادهما،أولا يحصل مرادهما،أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر.

لا يجوز أن لا يحصل مرادهما،لأنّ هذا يوجب أن يكونا ضعيفين عاجزين.و لا يجوز أن يحصل مرادهما لأنّ هذا يوجب أن يكون الجسم متحركاً ساكناً في حالة واحدة-و هذا محال؛فلم يبق إلاّ أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر.فالّذي يحصل مراده يجب أن يكون هو الإله،لأنّ من لم يحصل مراده يكون متناهي المقدور،و متناهي المقدور يكون قادراً بقدرة،و القادر بالقدرة يكون جسماً و الجسم يكون محدثاً، و صانع العالم لا يجوز أن يكون محدثاً. (2)

هذا هو برهان التمانع و هل هو تام أو لا؟نحيل البحث فيه إلى محله،و هذا البرهان للمعتزلة و قد استعان به الأشاعرة بنحو خاص في إثبات القاعدة و هو

ص:21


1- 1) .درر الفوائد:381. [1]
2- 2) .في التوحيد لأبي رُشيد النيسابوري:625؛ [2]المعتمد في أُصول الدين لركن الدين الخوارزمي:508. [3]

امتناع اجتماع قادرين على قدرة واحدة؛فقالوا:إنّ العبد لو كان قادراً على الفعل لزم اجتماع قادرين على مقدور واحد،و التالي باطل فالمقدم مثله.بيان الشرطية انّه تعالى قادر على كلّ مقدور فلو كان العبد قادراً على شيء لاجتمعت قدرته و قدرة اللّه تعالى عليه.و أمّا بطلان التالي فلأنّه لو أراد اللّه تعالى ايجاده و أراد العبد اعدامه فإن وقع المرادان أو عدماً لزم اجتماع النقيضين،و إن وقع مراد أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح.

قال العلاّمة-بعد تقرير هذا الدليل-عن جانب الأشاعرة:هذا الدليل أخذه بعض الأشاعرة من الدليل الّذي استدل به المتكلّمون على الوحدانية-مع وجود الفرق بين الموردين،إذ هناك يتمشى الدليل لتساوي قدرة الالهين المفروضين أمّا هنا فلا،بل يقع مراد اللّه تعالى لأنّ قدرته أقوى من قدرة العبد و هذا هو المرجح. (1)

إنّ الإرادتين في برهان التمانع يتّجهان في اتجاهين مختلفين كما مرّ:(أحد الإلهين يريد تحريك الجسم و الآخر ثباته) بخلاف المقام فإن اتجاه الإرادتين إلى أمر واحد.

ص:22


1- 1) .كشف المراد:309- 310.

2

اشارة

إعادة المعدوم بعينه إمكاناً و امتناعاً

إنّ إعادة المعدوم بعينه من المسائل الّتي اهتمّ بها كلّ من الحكماء و المتكلّمين،لكن كلّ لغاية خاصة تهمّه.

فالطائفة الأُولى يدرسون المسألة كسائر المسائل المتعلقة بالأُمور العامة فيخرجون في دراستهم بالامتناع،و لم أر أحداً منهم قال بإمكانها.

و أمّا الطائفة الثانية فيدرسونها بما أنّها ذريعة لإثبات حشر الأجساد حيث زعموا أنّ القول بحشرها فرع إمكان إعادة المعدوم بعينه فيصرّون على إمكان الإعادة ليتسنّى لهم إثبات المعاد الجسماني،و ستوافيك كلماتهم في ذلك المقام.

نعم أكثر المتكلّمين على الإمكان من غير فرق بين الأشاعرة و المعتزلة و شذّ من الطائفة الأخيرة أبو الحسين البصري و محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (1)،فذهبا إلى الامتناع و تصافقا مع الحكماء في هذا الباب.

ص:23


1- 1) .تلخيص المحصل:39؛شرح المواقف:289/8؛شرح تجريد العقائد للقوشجي:60.

و المعتزلة و الأشاعرة و إن اتّفقوا في الكبرى،أعني:جواز إعادة المعدوم،لكنّهم اختلفوا في الصغرى، فالأشاعرة على أنّ الموجود ينعدم بالكلية ثمّ يعود.و لكن المعتزلة لما قالوا بتقرّر الماهيات منفكة عن الوجود،قالوا ببقاء الأمر المشترك بين المبتدأ و المعاد و هو الذات فالوجود ينعدم و تبقى ماهيته و ذاته ثمّ يعود الوجود عارضاً على الماهية فالإعادة ليس بالإعادة بالكلية و إنّما هي إعادة عروض الوجود على الماهية. (1)

الدراسة الموضوعية تفرض علينا تفكيك المسألتين:

أ.إمكان إعادة المعدوم أو امتناعها.

ب.إمكان حشر الأجساد يوم القيامة.

و إن كانت المسألة الأُولى مؤثّرةً في المسألة الثانية حسب نظر الأشاعرة و إن لم يكن كذلك عندنا.

تحرير محل النزاع

اشارة

إنّ تحرير محل النزاع هو المهم في المسألة،فالحكماء على أنّ موضوع الامتناع هو إعادة الشيء بعينه و بشخصه و بعامة خصوصياته،حتّى الزمان الّذي كان فيه الشيء،سواء أقلنا بأنّ الزمان من المشخصات أم قلنا بأنّه من أمارات التشخص أو من قبيل الإضافات.إذ على كلّ تقدير فالشيء الواقع في الزمان يتميز به عن الشيء الواقع في الزمان الآخر فيحكمون بأنّ إعادة الشيء بهذه الخصوصية أمر ممتنع ببراهين قاطعة.

و أمّا المتكلّمون فالظاهر أنّهم يريدون إعادة الشيء مجرداً عن الزمان الّذي

ص:24


1- 1) .شرح المواقف:289/8.

كان فيه الشيء،فيعود المعاد مثل المبتدأ لا عينه،و يدلّ على ذلك أنّهم اتخذوا إمكان الإعادة دليلاً على حشر الأجساد،و أنّه لو لا إمكانها لامتنع المعاد الجسماني الّذي اتّفق عليه المسلمون.و من المعلوم أنّ المعاد يوم القيامة عين المبتدأ،لكن عينية عرفية لا عقلية،لعدم عود الزمان الّذي كان الإنسان يعيش فيه في الدنيا يوم القيامة.و ستوافيك كلماتهم في موضعها.

و بذلك تُصبح المسألة نزاعاً لفظياً فالمعاد الّذي يعتقد به المتكلّمون لا ينفيه الحكماء،و ما ينفيه الحكماء ليس ممّا يثبته المتكلّمون.

و مع أنّ المسألة عند أكثر القوم مسألة نظرية نرى أنّ الشيخ الرئيس و تبعه الرازي في بعض كتبه قالا ببداهة الامتناع.

قال الرازي:و نعم ما قال الشيخ من أنّ كلّ من رجع إلى فطرته السليمة و نفض عن نفسه الميلَ و العصبيةَ،شهد عقلُه بأنّ إعادة المعدوم ممتنع،و كما قد يتوهم في غير البديهي أنّه بديهي لأسباب خارجية، فكذلك قد يتوهم في البديهي أنّه غير بديهي لموانع من الخارج. (1)

و مع ذلك استدل القائلون بالامتناع بوجوه:

الدليل الأوّل:عدم قبول المعدوم للإشارة

قال الشيخ الرئيس:إعادة المعدوم لا يصحّ فانّه لا يكون للمعدوم عين ثابت يشار إليه في حال العدم حتّى يمكن إعادته بعينه،بل إن كان فالذي يقال:إنّه أُعيد هو مثل المعدوم لا عينه. (2)

ص:25


1- 1) .المباحث المشرقية:48/1؛الفصل العاشر من الباب الأوّل. [1]
2- 2) .التعليقات:179. [2]

قال المحقّق الطوسي في تجريده:و المعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود. (1)

توضيحه:أنّ معنى الإعادة هو أن يكون الشيء موجوداً في زمان،ثمّ عدم في زمان ثان،ثمّ وجد في زمان ثالث.

و لا شكّ في أنّه إذا عدم،بطلت ذاته،فلا تكون ذاته ثابتة بناء على ما ثبت من مساوقة الوجود للثبوت.

فلو كانت ذاته ثابتة في الزمان الثاني،لأمكن لا محالة أن يحكم على الموجود في الزمان الثالث،أنّه هو الموجود في الزمان الأوّل.و قد أُعيد كما في الصفات الّتي لا يلزم من زوالها عن الذات الموصوفة بها،انعدامُ ذاتِ الموصوف و بطلانها،مثل الجسم إذا كان أبيض في زمان،ثمّ زال عنه البياض في زمان ثان،ثمّ أُعيد إليه البياض في زمان ثالث،فإنّه لا شبهة في صحّة الحكم على الأبيض في الزمان الثالث،بأنّه هو الأبيض في الزمان الأوّل.

و أمّا إذا لم تكن الذات ثابتة،كما في صورة زوال الوجود،فانّ نسبة الوجود إلى الماهية ليست نسبة العوارض الّتي يجوز تبدلها و اختلافها مع انحفاظ وحدة الذات،لم يكن الحكم على الموجود الثالث أنّه هو الموجود الأوّل.و على الموجود الأوّل أنّه هو الّذي أعيد في الزمان الثالث.و ذلك لعدم استمرار الذات،فلا يكون الموضوع واحداً. (2)

يلاحظ على الاستدلال بالنقض أوّلاً:و هو أنّه إذا لم يجز الحكم عليه بجواز الإعادة و إمكانه فلا يجوز أيضاً الحكم عليه بامتناع إعادته مع أنّ القائل يحكم

ص:26


1- 1) .كشف المراد:73،قسم المتن.
2- 2) .شوارق الإلهام:504/1؛ [1]كشف المراد:74.

عليه بالثاني و يقول: إعادة المعدوم ممّا امتنعا و بعضهم فيه الضرورة ادّعى

و بالحلّ ثانياً:و هو أنّ الحكم عليه لا يقتضي وجود المعدوم في الخارج بل يكفي استحضاره بالوجود الذهني فيشار إلى ما ثبت قبل الانعدام،و يقال يمتنع أو يجوز إعادتها،و إلى ما ذكرنا يشير العلاّمة في«كشف المراد»و بقوله:إنّ الحكم يستدعي الوجود الذهني لا الوجود الخارجي. (1)

نعم اعترض المحقّق اللاهيجي على هذا الجواب بقوله:الموجود في الذهن ليس هو الموجود في الخارج بعينه بل مثله كما مرّ. (2)

يلاحظ عليه:أنّ في كلامه خلطاً بين اللحاظين للعلم:اللحاظ الطريقي و اللحاظ الموضوعي ففي الأوّل تكون الصورة الذهنية فانية في الواقع،حاكية عنه تمام الحكاية و لا تعدّ مثلَه بخلاف الثاني،ففيه تكون الصورة الذهنية ملحوظة مستقلة كسائر أوصاف النفس فيحكم عليها بانّها مثل الواقع.

ثمّ إنّ القائلين بالقول المعروف«المعدوم المطلق لا يمكن الإخبار عنه»ابتلوا بنفس الإشكال و تخلّصوا عنه بنحو يقرب ممّا ذكرناه. (3)

فتلخص أنّ الدليل الذي أُقيم على امتناع إعادة المعدوم غير تام.

الدليل الثاني:يلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه

قال المحقّق الطوسي:و لو أُعيد،تَخَلّلَ العدمُ بين الشيء و نفسه. (4)

ص:27


1- 1) .كشف المراد:74.
2- 2) .الشوارق:505/1. [1]
3- 3) .كشف المراد:73، [2]قسم المتن.
4- 4) .شرح المنظومة السبزواري:46- 47.

توضيحه:أنّ المفروض هو إعادة الشيء بعينه و بشخصه دون أي تفاوت بين المبتدأ و المعاد قيدَ شعرة، فعندئذٍ يلزم ما ذكر من التالي،إذ المفروض أنّ الموجود في الزمان الأوّل و الثالث شيء واحد بعينه،و قد انعدم ذلك الشيء و بطل ذاته في الزمان الثاني،و هو [الزمان] متخلل بين الزمان الأوّل و الزمان الثالث فيتخلّل العدم الّذي فيه بين الموجودين في الزمان الأوّل و الثالث اللذين هما واحدان بعينهما.

و أمّا بطلان التالي أي تخلل العدم بين الشيء و نفسه فهو أمر بديهي البطلان لأنّ لازمه تقدّم الشيء على نفسه بالزمان. (1)

ثمّ إنّ صاحب المواقف جعل هذا الوجه بياناً لدعوى ضرورية الامتناع.

و أورد (2)عليه التفتازاني بأنّه مخالف لكلام القوم و للتحقيق،فإنّ ضرورية مقدّمة الدليل لا توجب ضرورية المدعى. (3)

و قد أورد على الاستدلال بأنّ حاصله:تخلل العدم بين زماني وجوده بعينه،و ما ذاك إلاّ كتخلل الوجود بين العدمين للشيء بعينه. (4)

حاصله:أنّه لا يلزم تخلل العدم بين الشيء و نفسه و إنّما يلزم تخلل العدم بين الزمانين:زمان المبتدأ و زمان المعاد،نظير تخلل الوجود بين العدمين كما إذا كان معدوماً فوجد ثمّ عدم.

يلاحظ عليه:أنّ ما ذكره إنّما يصحّ لو كان المُعاد مثل المبتدأ لا عينه،ففي

ص:28


1- 1) .كشف المراد:74؛الشوارق:508/1. [1]
2- 2) .المواقف:371، [2]الرصد الثاني عن المقصد الأوّل.
3- 3) .شرح المقاصد:86/5،الفصل الثاني من المبحث الأوّل. [3]
4- 4) .شرح المقاصد:84/4. [4]

الأوّل يجوز أن يتخلل العدم بين الوجودين،لا في الثاني،لأنّ المفروض أنّ الثاني هو نفس الأوّل بلا تفاوت حتّى من حيث الزمان،فإذا كانا متحدين من هذه الجهة يلزم بالبداهة تخلل العدم بين الشيء و نفسه.

الدليل الثالث:ترتب مفاسد ثلاثة

قد تقدّم في تحرير محل النزاع أنّ محط نظر المنكرين هو عود الشيء بعامّة قيوده و خصوصياته حتّى الزمان سواء أقلنا أنّه من المشخصات كما عليه الحكماء قبل الفارابي،أو من أمارات التشخص كما عليه المتأخرون،أو من قبيل الإضافات كما عليه المتكلّمون.و على ضوء هذا فتجويز إعادة الشيء بالخصوصيات الّتي اكتنف بها،تترتب عليه مفاسد ثلاث أشار إليها المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد بقوله:

أ.لم يبق فرق بينه و بين المبتدأ.

ب.صَدَق المتقابلان عليه دفعة واحدة.

ج.لزم (1)التسلسل في الزمان.

أمّا المفسدة الأُولى:فلو أُعيد المعدوم لأُعيد زمانه،و لو أُعيد زمانه لم يبق فرق بين المعاد من حيث هو معاد و بين المبتدأ من حيث هو مبتدأ،و ذلك لأنّ الأوّل إنّما يتميز عن الثاني إذا كان الأوّل في الزمان الأوّل، و الثاني في الزمان الثالث،و مع إعادة نفس الزمان الأوّل لا يتميز المبتدأ من المعاد بل ترتفع الاثنينية من البين.

ص:29


1- 1) .في نسخ التجريد يلزم بصيغة المضارع و لكن الأصحّ كما عليه صاحب الشوارق [1]هو لزم،لاحظ الشوارق:510/1. [2]

أمّا المفسدة الثانية:أي صدق المتقابلين عليه دفعة واحدة فوجهه واضح لأنّه إذا أُعيد الزمان الأوّل مع وصف أوّليّته لكونها من عوارضه الذاتية،كان المعاد أيضاً في الزمان الأوّل بحكم كون الأوّليّة من العوارض الذاتية،فيكون من حيث هو مبتدأ،معاداً،و من حيث هو معاد،مبتدأ،و هذا جمع بين المتقابلين. (1)

قال الحكيم ميثم البحراني:لو كانت إعادة المعدوم جائزة لكانت إعادة الوقت الّذي حدث فيه أوّلاً جائزة،لكن اللازم باطل فالملزوم كذلك.بيان الملازمة:انّ الوقت الأول من شرائط وجود ذلك الشخص المعين و مشخصاته،فيستحيل وجوده ثانياً بعينه من دون ذلك الشرط.

بيان بطلان اللازم:انّه لو أُعيد ذلك الوقت بعينه لكان ذلك الإيجاد إحداثاً له في وقته الأوّل،فيكون من حيث هو معاد مبتدأ.هذا خلف. (2)

و أورد عليه التفتازاني بوجهين:

1.لا نسلم كون الوقت من المشخصات،لأنّا قاطعون بأنّ هذا الكتاب هو بعينه الّذي كان بالأمس، حتّى أنّ من زعم خلاف ذلك نُسب إلى السفسطة.و تغاير الاعتبارات و الإضافات لا ينافي الوحدة الشخصية حسب الخارج.

2.إنّ المبتدأ هو الواقع أوّلاً لا الواقع في الزمان الأوّل،و المعاد هو الواقع ثانياً لا الواقع في الزمان الثاني. (3)

يلاحظ على الوجه الأوّل:بأنّ جعل الزمان من المشخصات أو من قبيل الإضافات لا يؤثر في المقام، لأنّ الزمان و إن لم يكن من المشخصات-حسب الفرض-لكن به يحصل التمييز،فيكون المبتدأ في الزمان الأوّل متميّزاً بزمانه عن

ص:30


1- 1) .الشوارق:509/1. [1]
2- 2) .قواعد المرام في علم الكلام:147. [2]
3- 3) .شرح المقاصد:86/1. [3]

المعاد المتميز أيضاً بزمانه الثاني،و عندئذٍ لا يكون المقام من قبيل إعادة المعدوم بعينه بل إعادة المعدوم بمثله،و هو خلف.

و به يظهر الإشكال في الوجه الثاني:إذ لا فرق بين التعبيرين:المبتدأ هو الواقع أوّلاً أو الواقع في الزمان الأوّل،و المعاد هو الواقع ثانياً أو الواقع في الزمان الثاني،و ذلك لأنّ الأوّلية و الثانوية نوع وصف لكلّ منهما، و الاختلاف في الوصف يستلزم الاختلاف في الموصوف فلا يكون من مقولة إعادة المعدوم بعينه.

أمّا المفسدة الثالثة:أي لزوم التسلسل في الزمان فبيانه انّه لو أُعيد الزمان لكان وجوده ثانياً مغايراً لوجوده أوّلاً و المغايرة ليست بالماهية و لا بالوجود و صفات الوجود،بل بالقبلية و البعدية لا غير فيكون للزمان زمان آخر يوجد فيه تارة و يعدم أُخرى و ذلك يستلزم التسلسل. (1)

و بعبارة أُخرى أنّه لا مغايرة بين المبتدأ و المعاد بالماهية،و لا بالوجود،و لا بشيء من العوارض،و إلاّ لم يكن إعادة له بعينه،بل بالقبلية و البعدية،بأن هذا في زمان سابق،و ذلك في زمان لاحق،فيكون للزمان زمان يمكن إعادته بعد العدم و يتسلسل. (2)

و هنا ملاحظة بالنسبة إلى هذا التالي الفاسد.

و حاصلها:انّ السابقية ليست شيئاً عارضاً على الزمان،بل هي نفس الزمان و جوهره كما أنّ اللحوق نفسه،فعلى هذا فلو أُعيد الزمان السابق لم يكن للزمان زمان،إذ لا يحتاج السبق إلى زمان آخر بل يكفي نفس الزمان المعاد الّذي جوهره السبق.

ثمّ إنّ المحقّق السبزواري أشار إلى هذا الإشكال بقوله:

ص:31


1- 1) .كشف المراد:75.
2- 2) .شرح المقاصد:87. [1]

فإن قلت:سابقية الزمان المبتدأ بنفس ذاته لا بكونه في زمان آخر سابق (أي فلا يلزم التسلسل).

و أجاب عنه بقوله:«قلت فعلى هذا لا يصدق عليه المعاد،لانّ السابقية ذاتية له،فلا تتخلف،و لا تصير لاحقية. (1)

توضيحه:أنّه إذا كانت السابقية ذاتية للزمان السابق و اللحوق ذاتياً للزمان اللاحق فلا يمكن إعادة الزمان السابق لاستلزامه تفكيك الذاتي عن الشيء.

و يمكن أن يقال ببقاء التسلسل أيضاً،لأنّ امتياز الزمان الثاني عن الزمان الأوّل بأحد الأمرين:

1.السابقية و اللاحقية الذاتيتين.

2.كون الزمان الأوّل في زمان سابق،و الزمان الثاني في زمان لاحق.

أمّا الأوّل فقد عرفت امتناعه،لأنّ السبق ذاتي للزمان،فلا ينفك عنه.فانحصر الامتياز بكون الزمن السابق في زمان و الزمن اللاحق في زمان،و هذا هو نفس التسلسل.

و هذه التوالي الفاسدة الثلاثة مترتبة على تجويز إعادة المعدوم.

الدليل الرابع:انّه على تقدير جواز الإعادة جاز أن يوجد ما يماثله

لو جازت إعادة الشيء بعينه بعد انعدامه جاز إيجاد ما يماثله من جميع الوجوه ابتداءً و هو محال،لأنّ وجود فرد بهذه الصفات من جملة الممكنات فلا يصحّ تجويز الإعادة و عدم تجويز إيجاد مماثل المعاد،لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز

ص:32


1- 1) .شرح المنظومة:202. [1]

و ما لا يجوز واحد،فلو وجد يلزم عدم الميز بينهما،لأنّ المفروض اشتراكهما في الماهية و جميع العوارض فلم يكن أحدهما مستحقاً لأن يكون معاداً و الآخر لأن يكون حادثاً جديداً،بل امّا أن يكون كلّ واحد منهما معاداً أو كلّ واحد منهما جديداً. (1)

قال الرازي:(فإن قيل) ذلك إنّما يستحق الحكم بأنّه هو لا غيره لأنّه هو الّذي كان موجوداً ثمّ عدم و بعد عدمه هو الّذي أُعيد بعينه و أمّا مثله فليس كذلك.

(فنقول) هذا هو الّذي وقع الإشكال فيه،فإنّ الحكم على واحد بأنّه هو الّذي كان و على الآخر بانّه ليس هو الّذي كان،مع تساويهما في الماهية و لوازمها مما هو يستحيل قطعاً،فما ذكرتم في معرض الفرق هو الّذي وقع عنه السؤال. (2)

الدليل الخامس:تسلسل عدد العود بلا نهاية

لو جازت الإعادة لم يكن عدد العود بالغاً حدّاً معيّناً يقف عليه،إذ لا فرق بين العودة الأُولى و الثانية و الثالثة،و هكذا إلى ما لا نهاية له،حتى يتبين الوقوف على مرتبة،و تعيّن العدد من لوازم وجود الشيء المتشخّص و تخصيص العود بأحدها تخصيص بلا مخصّص. (3)

الدليل السادس:عدم تصور وجودان لشيء واحد

أنّ تشخص الشيء بوجوده،و الماهية أمر ينتزع من مراتب الوجود العرضية

ص:33


1- 1) .شرح المنظومة:198؛ [1]نهاية الحكمة:24. [2]
2- 2) .المباحث المشرقية:48/1. [3]
3- 3) .شرح المنظومة:201. [4]

أو الطولية،فإذا فرض انعدام الشيء برأسه و كلّه فإعادته يكون إيجاداً ثانياً و الإيجاد الثاني كيف يكون نفس الايجاد الأوّل،و إلاّ يلزم اجتماع العينية و الغيرية:فالعينية رهن إيجاد واحد و الإعادة و الغيّرة رهن إيجاد ثان،و عليه تقوم إعادة المعدوم،فالجمع بالعينية و الإعادة جمع بين المتناقضين.

يقول صدر المتألّهين:العدم ليس له ماهية إلاّ رفع الوجود؛و حيث علمت أنّ الوجود للشيء نفس هويته،فكما لا يكون لشيء واحد إلاّ هوية واحدة فكذلك لا يكون له إلاّ وجود واحد و عدم واحد،فلا يتصور وجودان لذات بعينها و لا فقدانان لشخص بعينه.فهذا ما رامه العرفاء بقولهم:«إنّ اللّه لا يتجلى في صورة مرتين». (1)

القضاء بين القولين

و الذي أظن انّ الإثبات و النفي لا يتواردان على موضوع واحد و أنّ المتكلّمين القائلين بإعادة المعدوم بعينه لا يريدون العينية بالدقة العقلية،حتّى الوحدة في الايجاد أو الوحدة في الزّمان و إنّما يريدون بالعينية شيئاً أشبه بالمثلية،و ليس هذا أمراً محالاً عند الحكماء،و بذلك يعود النزاع بينهما إلى النزاع اللفظي.

و الّذي يدلّ على ذلك أنّهم استخدموا هذه المسألة في المعاد،و لذلك يقول التفتازاني:الحكم بأنّ الموجود ثانياً ليس بعينه الموجود أوّلاً ضروري لا يتردّد فيه العقل عند الخلوص عن شوائب التقليد و التعصّب.

قال البغدادي:و أمّا الكلام على من أقرّ بالحدوث (حدوث العالم) و أنكر الإعادة فوجه الاستدلال عليه أن يقاس الإعادة على الابتداء فإنّ القادر على إيجاد

ص:34


1- 1) .الأسفار الأربعة:353/1. [1]

الشيء عن العدم ابتداءً،بأن يكون قادراً على إعادته،أولى إذا لم يلحقه عجز.و في هذه الطائفة أنزل اللّه: «وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» 1. 2

و يشهد على ما ذكرنا،ما قاله السيد الشريف في ذيل القاعدة حيث صوّر المعاد على نحو يلازم المثلية لا العينية،فقال:أجمع أهل الملل و الشرائع عن آخرهم على جوازه و وقوعه (حشر الأجساد).أمّا الجواز فلأنّ جمع الأجزاء على ما كانت عليه و إعادة التأليف المخصوص فيها أمر ممكن لذاته،و ذلك أنّ الأجزاء المتفرقة المختلطة بغيرها قابلة للجمع بلا ريبة،و إن فرض أنّها عدمت جاز إعادتها ثمّ جمعها و إعادة ذلك التأليف فيها لما عرفت من جواز إعادة المعدوم،و اللّه سبحانه و تعالى عالم بتلك الأجزاء و أنّها لأيّ بدن من الأبدان،قادر على جمعها و تأليفها لما بيّنا من عموم علمه تعالى لجميع المعلومات و قدرته على جميع الممكنات و صحّة القبول من القابل و الفعل عن الفاعل توجب الصحّة أي صحّة الوقوع و جوازه قطعاً و ذلك هو المطلوب. (1)

و قال أيضاً:(و يمكن) في إثبات جواز الإعادة (أن يقال:الإعادة أهون من الابتداء) كما ورد في الكلام المجيد (و له المثل الأعلى لأنّه) أي ذلك المعدوم (استفاد بالوجود الأوّل) الّذي كان قد اتصف به (ملكة الاتصاف بالوجود) فيقبل الوجود أسرع. (2)

ص:35


1- 3) .شرح المواقف:294/8- 295.
2- 4) .شرح المواقف:291/8.

و قال التفتازاني في مبحث المعاد:إنّ المعاد عند الحكماء روحاني فقط،و عند جمهور المسلمين جسماني فقط بناء على أنّ الروح جسم لطيف،و عند المحقّقين منهم كالغزالي،و الحليمي،و الراغب، و القاضي،و أبي زيد:روحاني و جسماني ذهاباً إلى تجرد النفس،و عليه أكثر الصوفية و الشيعة و الكرامية، و ليس بتناسخ،لأنّه عود في الدنيا إلى بدن ما،و هذا عود في الآخرة إلى بدن من الأجزاء الأصلية للبدن الأوّل، و القول بأنّه ليس هو الأوّل بعينه لا يضر،و ربما يؤيد بقوله تعالى: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» 1 و قوله تعالى: «أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى» 2. 3

و هذه الكلمات من أساطين الكلام تكشف عن أنّ مرادهم من الإعادة هو المثلية لا العينية على وجه الدقة،فيكفي في صدق المعاد جمع الأجزاء الباقية أو خلقها ثانياً فإنّه إعادة للأوّل عرفاً و إن لم يكن إعادة بالدقة.

و بذلك يستغني المتكلّمون عن إقامة البرهان على الجواز،لما عرفت من أنّ مصبّ الحوار عندهم غير مصبّ المنع عند الحكماء و مع ذلك نذكر ما استدلوا به على الجواز.

استدلال المجوّزين لإعادة المعدوم

استدلّ القائلون بالجواز بوجوه:

الأوّل:إنّ عود الوجود للمعدوم بعد الوجود،لو كان ممتنعاً،لكان ذلك الامتناع مستنداً،إمّا إلى ماهية المعدوم نفسها،أو إلى لازمها،و إمّا إلى عارض من

ص:36

عوارضها.

و على الأوّل و الثاني يلزم أن لا يوجد ابتداء،لأنّ عود الوجود عبارة عن الوجود ثانياً،فإذا كانت الماهية أو لازمها منشأ لامتناع الوجود ثانياً،يلزم أن يكون منشأ لامتناعه ابتداء،ضرورة أنّ مقتضى ذات الشيء و لازمه لا يتخلف بحسب الأزمنة.

و على الثالث:يكون منشأ الامتناع جائز الزوال،فيجوز زوال الامتناع،فيكون العود جائزاً و هو المطلوب.

و قد أجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله:و الحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهية.

توضيح الجواب:انّ منشأ الامتناع ليس هو الماهية المطلقة أو أمراً لازماً للماهية،بل منشأ الامتناع الماهية المقيدة بوصف العدم بعد الوجود،فيكون منشأ الامتناع أمراً لازماً لهذه الماهية المقيدة من حيث إنّها مقيدة.

و على هذا لا يترتب عليه امتناع وجودها ابتداءً،لأنّ ماهية الوجود المبتدأ ماهية مطلقة لا ماهية مقيّدة بالعدم بعد الوجود. (1)

و يمكن أن يجاب بوجه أوضح،بأن الامتناع لأمر لازم لوجوده لا لماهيّته،و هو الوجود بعد العدم. (2)

الثاني:الاستدلال بقاعدة الإمكان،أعني ما قاله الحكماء:«كلّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان»فإنّ هذه القاعدة معتبرة عند الحكماء. (3)

ص:37


1- 1) .الشوارق:514/1. [1]
2- 2) .نهاية الحكمة:25.
3- 3) .شرح الإشارات و التنبيهات:418/3. [2]

قال الشيخ:نصيحة:إياك أن يكون تكيّسك و تبرّؤك من العامّة هو أن تنبري منكراً لكلّ شيء،فذلك طَيْش و عجز،و ليس الخرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعدُ جليّتُهُ دون الخرق في تصديقك بما لم تقم بين يديك بينته،بل عليك الاعتصام بحبل التوقف،و إن أزعجك استنكار ما يوعيه سمعك مما لم تُبرهن استحالته لك،فالصواب لك أن تسرِّح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان ما لم يذدك عنها قائم البرهان». (1)

يلاحظ على الاستدلال بأنّ المستدل خلط بين الإمكان الاحتمالي و الإمكان الوقوعي.و الكلام في الثاني من الإمكانين.

و أمّا الإمكان الأوّل فهو لا يغني عن الثاني شيئاً،لأنّ معناه عدم التسرّع إلى الجزم بأحد الطرفين بمجرد السماع أو الاستبعاد و أمّا أنّه هل هو من أقسام الممكن أو الممتنع في الواقع فلا يستدل به عليه.

الثالث:ما استدلّ به سديد الدين محمود الحمصي من الإمامية حيث قال:يجوز إعادته،لأنّ التذكر حصول عين العلم السابق بعد عدمه بالنسيان و هذا هو الإعادة.

و أُجيب عنه بمنع الاتحاد.نعم الحاصل ثانياً تعلّق بعين ما تعلق به الأوّل،و هو لا يستلزم الاتحاد بل المماثلة و تماثلُ المعاد و المبتدأ لا يقتضي اتحادهما. (2)

و قال المحقّق الطوسي في«تلخيص المحصّل»في نقد الاستدلال المذكور:بأنّ التذكّر لا يتصوّر إلاّ مع بقاء المذكور في الذهن و تخلل العدم بين الالتفات الأوّل إليه و الالتفات الثاني،و هاهنا لم يمكن أن يكون شيء باقياً أصلاً. (3)

ص:38


1- 1) .شرح الإشارات و التنبيهات:418/3،الفصل الحادي و الثلاثين من النمط العاشر من الإشارات. [1]
2- 2) .كشف الفوائد في شرح العقائد:323.
3- 3) .تلخيص المحصل:392.

3

اشارة

نظرية الأحوال البهشمية

اشتهر أبو هاشم الجبائي(ت321ه) ب آراء كلامية مذكورة في الكتب،و هو و أبوه-أبو علي-الجبائي (ت303ه) من أوتاد منهج الاعتزال و أعيان المعتزلة،و مع أنّهما يستقيان من معين واحد إلاّ أنّهما يختلفان في قسم من المسائل الكلامية خصوصاً بما يتعلّق بمسألة الجزاء يوم القيامة،فقد أشار العلاّمة الحلّي تبعاً للمحقّق الطوسي إلى بعض آرائهما في قسم المعاد من كتاب كشف المراد. (1)

و قد اشتهر أبو هاشم بالقول بوجود الواسطة بين الوجود و العدم و سمّاها بالأحوال،و هذا نظير العالمية و القادرية فهما عنده من صفات الموجود،و لكنّهما في الوقت نفسه ليستا موجودة و لا معدومة.و انّما سماها أحوالاً لأنّها يصفان لنا حال الموجود و أنّه على كذا.

هذه النظرية هي النظرية الأُم.

و قد أشار المحقّق الطوسي إلى تلك النظرية مع نقده لها و قال:و هو (الوجود) يرادف الثبوتَ،و العدمُ النفيَ،فلا واسطة.

ص:39


1- 1) .لاحظ كشف المراد:407- 426. [1]

و قال العلاّمة الحلّي في شرح كلامه:ذهب أبو هاشم و أتباعه من المعتزلة و القاضي(الباقلاني) و الجويني من الأشاعرة إلى أن هاهنا واسطة بين الموجود و المعدوم و هي ثابتة و سموها الحال. (1)

ثمّ إنّ أبا هاشم رتب على القول بالواسطة و ثبوت الأحوال قضية أُخرى و هو القول بتقرر الماهيات قبل الوجود في وعائها و أسماها بالثابتات الأزلية.

يقول صدر المتألهين امّا مذهب المعتزلة بانّ المعدوم شيء و انّ المعدومات في حال عدمها،منفكة عن الوجود متميزة بعضها عن بعض و انّه مناط علم اللّه بالحوادث في الأزل،فهو عند العقلاء من سخيف القول و باطل الرأي. (2)

فهذه النظرية وليدة النظرة الأُولى،إذ لو لا القول بوجود الواسطة بين الوجود و العدم لا يمكن القول بالقضية الثانية فهي من متفرعات القضية الأُولى.

و إلى ذلك يشير المحقّق الطوسي-بعد ابطال الواسطة-بقوله:فبطل ما فرّعوا عليهما (ثبوت المعدوم (3)و الحال) من تحقّق الذوات غير المتناهية في العدم و قال العلاّمة في شرحه:لما أبطل مذاهب القائلين بثبوت المعدوم و الحال،أبطل ما فرعوا عليهما،و قد ذَكَرَ من فروع إثبات الذوات في العدم أحكاماً اختلفوا في بعضها. (4)

و نحن ندرس في المقام نظرية الأحوال و نحيل البحث في الثابتات الأزلية إلى مقام آخر.

ص:40


1- 1) .كشف المراد:35.
2- 2) .الأسفار الأربعة:182/6. [1]
3- 3) .لا يخفى انّ التعبير بثبوت المعدوم في كلام الطوسي و العلامة إنّما يصح على نظرية المشهور،و إلاّ فالحال عند أبي هاشم،ليست معدومة،كما انّها ليست موجودة.
4- 4) .كشف المراد:37.

و قد أخذ المحققون من الحكماء و المتكلّمين بنقد الواسطة بين الوجود و العدم منذ أن ظهرت هذه النظرية في الأوساط الكلامية،و لم يدم عُمرها إلى أن أفلت في القرن الخامس الهجري بموت إمام الحرمين الجويني (1)(المتوفّى:478ه) أو بموت الغزالي (المتوفّى:505ه) حيث نسب إليه أيضاً القول بهذه النظرية.

ثمّ إنّ تحقيق الحال فرع البحث في جهات:

الأُولى:في تصوير النظرية

إنّ أكثر من طرح مسألة الأحوال لم يُبذل سعيه في تصوير النظرية و تبيين ما يرومه أبو هاشم سواء أ كان صحيحاً أم باطلاً،و لكن المحقّق اللاهيجي كشف واقع النظرية،فيظهر منه أنّ المبنى للقول بالأحوال هو اتخاذ اصطلاح في تفسير لفظ«موجود»-تبعاً لأهل الأدب و هو تخصيص الموجود بما له ذات و وجود كالجواهر فخرج عنه ما تمحض في الوصف و فقد الذات كالعلم فهو ليس بموجود يقول في شرح قول المحقّق الطوسي«و هو يرادف الثبوت...»:إنّ المعلوم إن لم يكن له ثبوت أصلاً في الخارج فهو المعدوم.

و إن كان له ثبوت في الخارج:

فإمّا باستقلاله و باعتبار ذاته فهو الموجود.

و أمّا باعتبار التبعية لغيره فهو الحال.

فالحال:واسطة بين الموجود و المعدوم،لأنّه عبارة عن صفة للموجود،لا تكون موجودة و لا معدومة، مثل العالمية و القادرية (2)،و نحو ذلك.

ص:41


1- 1) .الشامل في اصول الدين،12،ط بيروت. [1]
2- 2) .الأولى أن يمثِّل بنفس الوصف كالعلم و القدرة.

و المراد بالصفة ما لا يُعلم و لا يخبر عنه بالاستقلال بل بتبعية الغير،و الذات يخالفها،و هي لا تكون إلاّ موجودة أو معدومة بل لا معنى للموجود إلاّ ذات لها صفة الوجود،و الصفة لا تكون ذاتاً فلا تكون موجودة، فلذا قيّدوا [الحال] بالصفة.

و إذا كانت صفة للموجود لا تكون معدومة أيضاً،لكونها ثابتة في الجملة،فهي واسطة بين الموجود و المعدوم. (1)

و من هذا البيان الضافي ظهر أنّ أبا هاشم لم يأت بشيء جديد و انّما اخترع اصطلاحاً في إطلاق لفظ الموجود فخصّه-وفاقاً لأهل الأدب-بذات ثبت لها الوجود،و خص الوصف بالفاقد لها فعندئذٍ تخرج الصفة عن تحت الموجود.

و بما أنّ للصفة نوع ثبوت في الخارج و لو بتبع الغير تخرج عن تحت المعدوم و تكون واسطة بين الموجود و المعدوم،و عندئذٍ يصحّ تعريف الحال-كما سيأتي،بأنّها صفة للموجود و لكنّها ليست موجودة و لا معدومة.و سيوافيك من صدر المتألهين ما يؤيده.

الثانية:تعريف الأحوال

عرف القاضي الباقلاني«الأحوال»بقوله:كلّ صفة لموجود لا تتصف بالوجود فهي حال،سواء أ كان المعنى الموجب ممّا يشترط في ثبوته الحياة أو لم يشترط،ككون الحي حيّاً و عالماً و قادراً و كون المتحرك متحركاً و الساكن ساكناً و الأسود و الأبيض إلى غير ذلك. (2)

ص:42


1- 1) .شوارق الإلهام:247/1- 248. [1]
2- 2) .نهاية الاقدام في علم الكلام:132، [2]نقلاً عن القاضي الباقلاني.قوله:«و كون المتحرك الخ»مثال للشق الثاني في كلامه،أعني:«أو لا يشترط».

و عرفها العلاّمة الحلي بقوله:كلّ صفة بأنّها صفة لموجود لا توصف بالوجود و العدم. (1)

و التعريف الأخير أكمل من الأوّل،لأنّ الأحوال لا توصف بالوجود و لا بالعدم،و قد ترك القاضي الباقلاني القيد الأخير.

و مع ذلك كلّه فقد ذكر الشهرستاني أنّه ليس للحال حدّ حقيقي يذكر حتّى نعرّفها بحدّها و حقيقتها على وجه يشمل جميع الأحوال فإنّه يؤدي إلى إثبات الحال للحال. (2)

الثالثة:وجه تسميتها بالحال

أمّا وجه تسمية الحال حالاً فيظهر من الباقلاني بأنّ وجهها كونها مبيّنة لحال الذات و انّه على حال كذا يفارق بها عمّن ليس كذا؛قال:ما أنكرتم أن تكون دلالة الفعل على أنّ فاعله عالم قادر،دلالة على حال له، فارق بها من ليس بعالم و لا قادر. (3)

و يظهر ذلك الوجه من القاضي عبد الجبار أيضاً عند بيان الفرق بين نظرية الوالد أبي علي في صفاته سبحانه و نظرية الولد فيها حيث قال:ذهب أبو علي إلى أنّه تعالى يستحق هذه الصفات الأربع-الّتي هي كونه قادراً عالماً حيّاً موجوداً-لذاته و ذهب أبو هاشم إلى أنّه يستحقها لما هو عليه في ذاته. (4)أي يستحقها لما

ص:43


1- 1) .كشف المراد:35.
2- 2) .نهاية الاقدام:130. [1]تأمّل في ذيل كلامه لعلّك تجد معنى صحيحاً له.
3- 3) .تمهيد الأوائل و تلخيص الدلائل:230.
4- 4) .شرح الأُصول الخمسة:182. [2]

هو عليه من الحال،في ذاته.فصفاته سبحانه كلها أحوال:أي انّ الذات على حال من العلم و القدرة و الحياة،تتميز بها عمّا سوّاها.

الرابعة:منشأ النظرية

إنّ القول بالأحوال ظهر من الاختلاف في كيفية وصفه سبحانه تبارك و تعالى بالصفات الأربع أو الأكثر.

فقد كان في الساحة قولان معروفان:

الأوّل:انّ صفاته سبحانه عين ذاته و أنّه ليس هناك ذات و علم أو ذات و حياة بل هناك شيء واحد بسيط من جميع الجهات موصوف بالعلم و الحياة و هما نفس وجوده سبحانه و لا مانع من أن يكون العلم و القدرة زائدين على الذات في الممكنات و يكون نفس الذات في الواجب سبحانه نظراً للقول بالتشكيك.

فالصفات الكمالية في الموجودات الإمكانية غير الذات و لكنّها في الواجب نفس ذاته،و هذا هو خيرة قسم من المعتزلة و الإمامية قاطبة،و بما أنّ الأشاعرة و أهل الحديث لم يقفوا على حقيقة هذا القول رموهم بنفي الصفات و سمّوهم بنفاتها،و زعموا أنّ القول بعينية الصفات للذات يلازم نفيها عن اللّه تبارك و تعالى.

الثاني:انّ صفاته سبحانه أزلية لكنّها زائدة على ذاته سبحانه و انّه سبحانه يعلم بعلم زائد،و يقدر بقدرة زائدة إلى غير ذلك و انّما أصروا على الزيادة للفرار عن وصمة نفي الصفات و هؤلاء هم الموصوفون بالصفاتية. (1)

و لما كانت النظريتان عند أبي هاشم غير خاليتين عن الإشكال عدل إلى قول ثالث لما في القول الأوّل من نفي الصفات أي عدم وجود وصف للّه سبحانه

ص:44


1- 1) .منظومة السبزواري:162؛نهاية الحكمة،285. و الأشعريّ بازدياد قائلة و قال بالنيابة المعتزلة

باسم العلم و القدرة،و لما في القول الثاني من لزوم التركيب بين الذات و الصفات،و لذلك حاول أن يبدي نظرية ثالثة تكون نزيهة عن الإشكالين و هو جعل صفاته سبحانه من مقولة الأحوال و هي صفات لموجود و في الوقت نفسه ليست بموجودة و لا معدومة بل متوسطة بينهما،و ذلك بالنحو التالي:

أنّها ليست موجودة فتخلص به عن مغبَّة التركيب بين الذات و الصفات،لأنّ التركيب إنّما يلزم إذا كانت الصفات موجودة مثل الذات دون ما إذا لم تكن موجودة و لكن ثابتة وصفاً للموجود.و انّها ليست معدومة، فتخلص به عن مغبّة نفي الصفات.

فبذلك استطاع إبداع نظرية ثالثة في صفاته سبحانه زعم أنّها وراء القولين:اتّحاد الصفات مع الذات،أو زيادة الصفات على الذات.

الخامسة:إبهام النظرية

مع أنّ أبا هاشم و من تبعه كالقاضي الباقلاني و الجويني و حتّى الغزالي قد بذلوا جهودهم في تبيين النظرية،و لكنّها بقيت مبهمة مغمورة غير مفهومة.

و ذلك لأنّ هذا القول ليس قولاً جديداً بل راجع إلى القول بزيادة الصفات على الذات،فإنّ الأحوال لا تخلو امّا أن لا تكون لها واقعية،أو تكون لها واقعية.فعلى الأوّل يكون القائل بالأحوال من نفاة الصفات، و على الثاني يلزم التركيب في ذاته سبحانه و القول بأنّها ليست موجودة و لكنّها ثابتة فهو جعل اصطلاح.

يقول صدر المتألهين:و ربما أثبتوا واسطة بين الموجود و المعدوم،حتّى يقال الثابت على بعض المعدوم و هو المعدوم الممكن و على نفس الوجود و على أمر ليس بموجود و لا معدوم عندهم ممّا سموه حالاً،و كأنّ هذه الطائفة من الناس إمّا أن يكون غرضهم مجرد اصطلاح تواضعوا عليه في التخاطب،و إمّا أن يكونوا ذاهلين

ص:45

عن الأُمور الذهنية،فإن عنوا بالمعدوم،المعدوم في خارج العقل،جاز أن يكون الشيء ثابتاً في العقل معدوماً في الخارج،و إن عنوا غير ذلك كان باطلاً و لا خبر عنه و لا به. (1)

و لذلك جُعِلت نظرية الأحوال في جنب النظريتين المبهمتين الأُخريين:طفرة النظام و كسب الأشعري و اشتهرت بالمعميات الثلاث،و بذلك قال الشاعر: ممّا يقال و لا حقيقة عنده

السادسة:أدلّة القول بالأحوال

اشارة

و قد استدلوا على وجود الواسطة بين الموجود و المعدوم بوجوه:

1.الوجود ليس موجوداًً

الوجود ليس موجوداً و لا معدوماً،حيث إنّ الوجود زائد على الماهية بحجة انّا نتصور الإنسان منفكّاً عن الوجود،و عندئذٍ فالوجود إمّا أن يكون موجوداً أو معدوماً،أو لا موجوداً و لا معدوماً.و الأوّلان باطلان.

أمّا الأوّل فلأنّه لو كان للوجود وجود يلزم التسلسل،لأنّنا ننقل الكلام إلى الوجود الثاني،فلو كان أيضاً موجوداً أي له ذات و وجود ننقل الكلام إلى الوجود الثالث و هكذا.

و أمّا الثاني فلأنّه يلزم منه اتصاف الشيء بنقيضه،فبقي الثالث.

و قد أجاب عنه المحقّق الطوسي:و الوجود لا ترد عليه القسمة،و أوضحه

ص:46


1- 1) .الأسفار الأربعة:76/1. [1]

العلاّمة الحلّيّ بقوله:لاستحالة انقسام الشيء إلى نفسه و إلى غيره،فكما لا يقال:السواد إمّا أن يكون سواداً أو بياضاً،كذلك لا يقال:الوجود إمّا أن يكون موجوداً أو لا يكون.

و لأنّ المنقسم إلى الشيئين أعمّ منهما و يستحيل أن يكون الشيء أعمّ من نفسه. (1)

و يمكن الإجابة بنحو آخر فنقول:الوجود موجود لكن لا بوجود زائد،بل بنفس الوجود الّذي وقع ابتداءً.

يقول التفتازاني:قلنا موجود،وجوده عينه. (2)

و هناك جواب آخر و هو انّ الحقائق الفلسفية لا تُقتنص بالاستعمالات العاميّة فإنّ الموجود لذى العامة عبارة عن الذات الّتي يعرضها الوجود فلا بدّ أن يكون فيه شيئان:ذات و وجود،فإطلاقه بهذا المعنى على الوجود غير صحيح.و لكن إطلاقه على اللّه سبحانه و على الوجود الإمكاني ليس بهذا المعنى،بل بمعنى أنّه موجود أي نفس الوجود.

و ذلك لأنّه إذا كانت الذات موجودة بفضل الوجود فالوجود أولى أن يكون موجوداً. (3)

2.فصول الاعراض ليست موجودة و لا معدومة

إنّ اللونية أمر ثابت مشترك بين السواد و البياض فيكون كلّ واحد من

ص:47


1- 1) .كشف المراد:35.
2- 2) .شرح المقاصد:63/1.
3- 3) .نهاية الحكمة:10. [1]

السواد و البياض ممتازاً عن الآخر بأمر زائد على ما به الاشتراك.ثمّ الوجهان (الفصلان) إن كانا موجودين لزم قيام العرض بالعرض،و إن كانا معدومين لزم أن يكون السواد أمراً عدمياً و كذلك البياض،و هو باطل بالضرورة،فثبتت الواسطة.

و قد أجاب عنه المحقّق الطوسي بوجهين:

أ.انّ الكلي ثابت ذهناً فلا ترد عليه هذه القسمة.

ب.قيام العرض بالعرض جائز. (1)

توضيح الجواب الأوّل:أنّ فصل كلّ من السواد و البياض أمر ذهني و ليس جزءاً خارجياً حتّى يلزم قيام العرض بالعرض،يقول الفاضل القوشجي:إنّ الكلي جزء ذهني لجزئياته (مصاديقه)،و ذلك انّما يقتضي وجوده في الذهن و هو موجود فيه و ليس جزءاً خارجياً له حتّى يلزم تحققه في الخارج. (2)

و توضيحه:أنّ الأعراض بسائط خارجية ليس فيها تركيب من جنس و فصل بل أمر واحد لا يتبعض.

و لكن الإنسان إذا تصوره و قاس البياض مع السواد ينتزع الذهن من كلّ أمراً مشتركاً و هو اللونية.و أمراً مميزاً لهما و هو كونه قابضاً لنور البصر كما في السواد أو باسطاً لنوره كما في البياض.

ثمّ إنّ للقائلين بالأحوال وجوهاً تمسكوا بها و هي من الوهن بمكان.و لعلّ هذا المقدار من الدراسة كاف في المقام.

ص:48


1- 1) .كشف المراد:35؛شرح التجريد للقوشجي:20.
2- 2) .شرح التجريد:22.

4

اشارة

حول تسلسل العلل و المعاليل بلا نهاية

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السلام على من بعثه رسولاً يُعلّم الناس الكتاب و الحكمة، و يدعوهم إلى سبيله بالحكمة و الموعظة الحسنة و يجادلهم بالتي هي أحسن،و على أوصيائه الطاهرين الهداة المهديّين.

تفتخر مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بإصدار الجزء الثاني من كتاب«شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام»تأليف الحكيم المتأله عبد الرزاق اللاّهيجي رضوان اللّه عليه،بصورة محققة مزدانة بالتعاليق.

و يشتمل هذا الجزء على مباحث مهمة حول الماهية و الوجود.و أخصّ بالذكر منها مسألة تسلسل العلل و المعاليل إلى غير نهاية.

و قد أقام المصنّف براهين عشرة-بل أزيد (1)-على امتناعه،حتّى أنّ البرهان

ص:49


1- 1) .و البراهين هي: 1.ما ابتكره المحقّق الطوسي و هو مشهور عنه،2.برهان التطبيق،3.ما استخرجه المحقّق الطوسي من برهان التطبيق،4.ما ذكره الشيخ الرئيس في كتابي:«الإشارات»و«المبدأ و المعاد»،5.برهان الطرف و الوسط،6.برهان التّضايف،7.برهان الحيثيات،8.برهان الترتب،9.برهان الأسدّ الأخصر،10.ما يقارب برهان التطبيق و ليس نفسه،11.البراهين الّتي اخترعها بعض المتأخّرين و قُرر بوجوه خمسة.و قد اعترف المحقّق اللاهيجي في آخر المبحث بأنّ في أكثرها مجالاً للمناقشة كما لا يخفى على الناقد البصير و العالم الخبير.

العاشر ربّما يقرر بوجوه مختلفة.

و لأجل إيضاح امتناع التسلسل في سلسلة العلل و المعاليل،و كمقدمة لما أفاده المصنّف في هذا الباب، نوضح البرهان الأقوم الأتم على امتناعه.

و قبل الخوض فيه و النتيجة المترتبة عليه أودّ أن أذكر ما حفظته الذاكرة بعد مضي أكثر من نصف قرن، أعني:ما شاهدته في أوّل لقاء حصل بين العلاّمة السيد الطباطبائي و الشيخ المطهري-رضوان اللّه عليهما-و فيه تعرّف السيد عليه،و دار البحث بينهما في ذلك اللقاء حول امتناع التسلسل،و إليك التفصيل:

في شتاء عام 1370ه زرت العلاّمة الطباطبائي قدس سره في بيته العامر،و قد كنت أسأله عن بعض المسائل الفلسفية،و هو يجيبني عنها،و حينما كان الحوار دائراً بيني و بين الأُستاذ فُوجِئْنا بدخول العلمين الجليلين:

الشيخ علي أصغر كرباسچيان (1)المعروف بالعلاّمة،و الشيخ الشهيد مرتضى المطهري،و كان للأوّل صلة وثيقة بالعلاّمة السيد الطباطبائي،إلاّ أنّ السيد لم يكن آنذاك قد تعرّف على سماحة الشيخ الشهيد،فأخذ العلاّمة الطهراني بالتعريف بالشيخ المطهري واصفاً إيّاه بأنّه من أفاضل الحوزة و مدرّسيها و له باع طويل في المسائل العقلية،فاستقبله السيد الطباطبائي بوجه مشرق و رحّب به أحسن ترحيب.

و استأذن الشيخُ المطهري السيّدَ الطباطبائي في طرح إشكاله الّذي لم يزل عالقاً بذهنه و فكره منذ زمان، و قال ما هذا مثاله:

إنّ البراهين الّتي أقامها الفلاسفة على إبطال التسلسل و امتناعه هي

ص:50


1- 1) .انّ صديقنا المغفور له الشيخ علي أصغر كرباسجيان،قد غادر الحوزة العلمية في قم المقدسة1376ه،و نزل العاصمة طهران فأسّس فيها مدرسة ثانوية كان لها أثر بارز في تثقيف المتخرّجين منها بالعلم و المعرفة الدينيّة،تغمّده اللّه برحمته.

براهين واقعة في غير موقعها.فإنّ أكثرها أشبه بالبراهين الهندسية الّتي تجري و تتحكم في الأُمور المتناهية،كبرهان التطبيق و غيره،و المفروض في المقام تسلسل أُمور غير متناهية،فكيف يستدل بالبراهين الّتي هي من خصائص الأُمور المتناهية على أمر غير متناه؟ فما هو الدليل المتقن لامتناعه الّذي لا يختص بالأُمور المتناهية،بل يتحكّم حتّى في ما لا يتناهى؟

فلمّا أتمّ الشيخ المطهري كلامه و بلغ النهاية في إيضاح مراده،أخذ السيد الطباطبائي بالكلام مبتدئاً بأنّ علاقة المعلول بالعلّة كعلاقة الوجود الرابط بالوجود النفسي،فكما لا يتصوّر وجود الرابط دون أن يكون هناك وجود نفسي،فهكذا لا يتصوّر تسلسل أُمور كلّها موصوفة بكونها معاليل دون أن يكون بينها علّة غير موصوفة بالمعلولية.

و بعبارة أُخرى:انّ مَثَل علاقة المعلول بالعلّة كمثل علاقة المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي،فكما لا تتصور معان حرفية دون أن يكون بينها معنى اسمي،فكذلك لا يتصور تسلسل معاليل موصوفة بكونها معاليل دون أن يكون بينها علّة تامة ليست بمعلولة.

و هذا هو لبُّ ما ذكره السيد الطباطبائي و لكن ببيان مفصّل سوف نوضحه تالياً.

و بعد ان سمع الشيخ المطهري هذا الجواب،استشففت ما في وجهه من سرور و قد امتلأ بالرضا و القبول،فصار ذلك اللقاء فاتحة للقاءات متواصلة،أضحى فيها الشيخ من عُشّاق العلاّمة الطباطبائي،إذ حضر بحوثه في تدريس كتاب«الشفاء»،كما حضر عليه في دراساته العليا حول أُصول الفلسفة و مبانيها الّتي نشرت باسم«أُصول الفلسفة»في أجزاء خمسة و قد علّق عليها المطهري

ص:51

تعليقات نافعة نالت شهرة عالمية و ترجمت إلى لغات أُخر.

نعم كانت العلاقات الوُدّية بينهما متبادلة،و كان السيد الطباطبائي يحب الشيخ المطهري كثيراً لما كان يلمس فيه من قوّة التفكير و عمق التدبّر،و لمّا استشهد العلاّمة المطهري بيد الأعداء و المنافقين،أجرى مراسِلُ التلفزيون الإيراني مقابلة مع السيد الطباطبائي ذكر فيها الأُستاذ فضائل تلميذه و مناقبه بقلب مكمد و صوت حزين إلى أن انقطع صوته بالبكاء و النحيب رضوان اللّه عليهما.

و إليك إيضاح ما ذكره العلاّمة الطباطبائي في ضمن أُمور:

الأوّل:أصالة الوجود و اعتبارية الماهيّة

إنّ للقول بأصالة الوجود و اعتبارية الماهيّة دوراً كبيراً في حلّ الكثير من المسائل الفلسفية و الكلامية المعقّدة.

و حاصل هذه النظرية:أنّه إذا قلنا:الإنسان موجود،يتبادر إلى ذهننا مفهومان؛أحدهما:مفهوم الإنسان، و الآخر:مفهوم الوجود الحاكي عن تحقق فرد منه في الخارج،فعندئذٍ يقع الكلام فيما هو الأصيل منهما بمعنى ما يترتب عليه الأثر في الخارج،بعد افتراض بطلان أصالتهما معاً.

فهل الأصيل هو نفس الإنسان المجرّد عن التحقق؟ أو الأمر الثاني المعبّر عنه بأنّه موجود؟ الحقّ هو الأمر الثاني،إذ لا ريب في أنّ مفهوم الإنسان بما هو إنسان مفهوم لا يترتب عليه أيُّ أثر إلاّ إذا اقترن بالوجود و التحقق،فعندئذٍ يكون الثاني هو الأصيل إذ به يصير الإنسان إنساناً واقعياً حقيقياً تترتب عليه الآثار.

نعم القول بأصالة الوجود لا يعني بأنّه ليس في الدار سوى ذات الوجود الإمكاني المطلق غير المحدد بشيء،فإنّ ذلك على خلاف الوجدان و البرهان،إذ لا

ص:52

شكّ أنّ الإنسان متحقق في الخارج و هو ليس نفس الوجود المجرّد عن كل لون و حدّ،فإنّ ما يُتبادر من الإنسان غير ما يتبادر من الوجود.

و انّما يعني أنّ الأصل الّذي يترتب عليه الأثر إنّما هو الوجود،غاية الأمر أنّه متحدد بالإنسانية.فالوجود يؤثر في تحقق الإنسانية و جعلها أمراً واقعياً،كما أنّ الإنسانية تكون حداً للوجود و تحديداً له من حيث درجات الوجود و مراتبه.

و لذلك قلنا في محله:إنّ نسبة الوجود إلى الماهيّة من قبيل الواسطة في الثبوت لا الواسطة في العروض،فكما أنّ الوجود متحقق في الخارج فهكذا الإنسانية متحقّقة لكن بفضل الوجود و ظله.

و لعلّ هذا المقدار يكفي في إيضاح المسألة الّتي طالما كانت مثاراً للنزاع،و قد ألفتُ رسالةً مستقلةً في هذا الباب نشرت تحت عنوان«قاعدتان فلسفيتان».

الثاني:تقسيم الوجود إلى نفسي و غيري

من الآثار المترتبة على نظرية أصالة الوجود إمكان تقسيمه-تقسيماً ثلاثياً-إلى وجود نفسي،و رابطي، و رابط.

أمّا الأوّل:فهو عبارة عمّا استقل تصوّراً و وجوداً،و ذلك كالجواهر؛مثل الإنسان و الحيوان و الشجر.

فكلّ منها مستقل تصوّراً،كما أنّها في وجودها غير معتمدة-حسب الظاهر (1)على شيء.

و أمّا الثاني:فيراد به ما هو مستقل تصوّراً غير مستقل وجوداً،و ذلك

ص:53


1- 1) .احتراز ممّا سيوافيك من أنّ العالم الإمكاني بجواهره و اعراضه-بالنسبة إلى الواجب -،وجود رابط قائم به من غير فرق بين أصنافه الثلاثة.

كالاعراض،فإذا قلنا:«الجسم أبيض»فالمحمول في الحقيقة-الّذي هو البياض-مستقل مفهوماً غير مستقل وجوداً،إذ هو قائم بالجسم و لولاه لما كان للبياض أثر في عالم الوجود.

و أمّا الثالث:فهو ما يكون غير مستقل لا تصوّراً و لا وجوداً،و ذلك كالمعاني الحرفية،فإذا قلنا:«سرت من البصرة إلى الكوفة»فكلّ من لفظتي«من»و«إلى»يفيدان معنى مندكاً في المتعلّق،فالابتداء الحرفي كالانتهاء،لا يتصوّران مستقلين و انّما يتصوّران في ضمن الغير،و يتحققان في ضمنه فيكونان غير مستقلين وجوداً و تحقّقاً.

هذا التقسيم الثلاثي للوجود الإمكاني-كما قلنا في الهامش-إنّما هو بحسب الظاهر مع قطع النظر عن تعلّقه و قيامه بمبدإ المبادئ و واجب الوجود.و أمّا بالنسبة إليه فتنقلب النسبة و يكون الجميع بالنسبة إليه كالوجود الرابط و المعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي،كما سيوافيك بيانه.

الثالث:العلّة هو مفيض الوجود

العلّة عند الإلهي غيرها عند المادي،فالعلّة عند الإلهي يُطلق على مفيض الوجود،أي من يُفيض الوجود على الأشياء و يخرجها من العدم و يصيّرها موجودة بعد أن كانت معدومة.

و على ذلك فالمادة بذاتها و صورتها و جميع شئونها معلولة لمن أعطاها الوجود و الصورة و أخرجها من ظلمة العدم إلى حيّز الوجود.

و هذا بخلاف العلّة عند المادي فالعلّة عنده يطلق على المادة المتحوّلة إلى مادة أُخرى كالحطب المنقلب إلى رماد،و الوقود المنقلب إلى طاقة،و الكهرباء

ص:54

المنقلبة صوتاً أو حرارة أو ضوءاً.

فكأنّ المادي لا يعترف إلاّ بنوعين من العلل الأربعة؛العلّة المادية و العلّة الصورية و يغفل عن العلّة الفاعلية و العلّة الغائية.

و على ضوء ذلك فالكون بمادته و صورته و غايته مخلوق للواجب،موجود به،قائم به.و إلى ما ذكرنا يشير الحكيم السبزواري: معطي الوجود في الإلهي فاعل معطي التحرك في الطبيعي قائل

الرابع:معنى الإمكان في الوجود غيره في الماهيّة

توصف الماهيّة بالإمكان كما يوصف الوجود به،غير أنّ للإمكان في كلّ من الموردين معنى خاصّاً يجب أن يُفرّق بينهما.

توصف الماهيّة بالإمكان و يراد به:مساواة نسبة الوجود و العدم إليها،فإذا تصوّرنا الإنسان بجنسه و فصله نجد فيه مفهومين مجرّدين عن كلّ شيء حتّى الوجود و العدم،إذ لو كان الوجود جزءاً له يكون واجب الوجود،و لو كان العدم جزءاً له يكون ممتنع الوجود،مع أنّا افترضناه ماهيّة ممكنة.

نعم يعرض كلّ من الوجود و العدم للإنسان في رتبة متأخّرة عن مقام الذات فيقال:الإنسان موجود أو معدوم،أمّا عروض الوجود فهو رهن وجود العلّة،و أمّا العدم فيكفي فيه عدم العلة.

و أمّا وصف الوجود بالإمكان فيختلف معناه مع وصف الماهيّة به،فيصحّ قولنا:الإنسان ماهيّة ممكنة، و نسبة الوجود و العدم إليه متساوية،و لكن لا يصحّ قولنا:الوجود المفاض من العلة العليا،وجود ممكن، و نسبة الوجود و العدم إليه متساوية،إذ كيف يتصوّر أن تكون نسبة الوجود و العدم إلى الوجود متساوية،مع

ص:55

أنّ الموضوع هو الوجود،و نسبة الوجود إلى الوجود بالضرورة (1)لا بالإمكان؟!

فلا محيص من تفسير الإمكان في الوجود بوجه آخر و هو:كونه قائماً بتمام ذاته بالواجب و متدلياً به بحيث لو فرض انقطاعه عنه،لما بقي منه أثر.

و لو أردنا أن نوضح المقام بمثال-و إن كان بين المثال و الممثّل فرق واضح-لقلنا:إنّ نسبة الوجود الإمكاني بالنسبة إلى الواجب كنسبة الصور الذهنية إلى النفس الّتي تصنعها في صقعها فهي قائمة بها قيام صدور على نحو لو تغافلت عنها النفس لما بقي منها أثر في صفحة الوجود.

فخرجنا بالنتيجة التالية:إنّ الإمكان في الوجود بمعنى كونه قائماً بالعلّة.

الخامس:واقع الوجود الإمكاني هو الفقر

إنّ الحاجة و الفقر عين حقيقة الوجود الإمكاني لا شيء عارض له،و إلاّ يلزم أن يكون في حدّ ذاته غنيّاً عرضته الحاجة و الفقر،و هو يلازم انقلاب الواجب إلى ممكن،و هو باطل،فلا محيص من القول بأنّ الفقر و الحاجة عين حقيقة الوجود الإمكاني و ذاته،و هذا في مقام التمثيل كالمعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي.

فكما أنّ المعاني الحرفية متدليات بالذات مفهوماً و وجوداً،لا يمكن تصوّرها مستقلة عن المتعلّق كما لا تتحقّق مجرّدة عنه.فهكذا الوجود المفاض عن العلّة،فواقعه،هو القيام بالغير،و التدلّي به،فالفقر ذاته و جوهره،و الحاجة لبّه و حقيقته،و الربط و القيام بالغير،كينونته و تقرّره،لا انّه شيء عرضه الفقر و الحاجة و الربط.

فالعالم الإمكاني بأرضه و سمائه،ماديّة و مجرّدة،موجودات متدليات قائمات

ص:56


1- 1) .يراد بالضرورة،الضرورة الذاتية،لا الضرورة الأزلية الّتي من خصائصه سبحانه.

بالغير،و افتراض استغنائها عن العلّة يساوق عدمها.

إذا وقفت على هذه الأُمور تتجلى لك الحقيقة بأوضح صورها و تذعن بأنّ فرض تسلسل العلل و المعاليل إلى غير النهاية دون أن يكون بينها ما هو علّة و ليس بمعلول،افتراض غير معقول مشتمل على التناقض الصريح في الفرض.

و ذلك انّ كلّ جزء من هذه السلسلة غير المتناهية و إن كان علّة للمتأخر و معلولاً للمتقدّم لكن ذلك لا يصدّنا عن وصفها بأنّها سلسلة موصوفة بالمعلولية،و أنّه ليس فيها ما لا يكون كذلك بأن يكون علّة و لا يكون معلولاً؛إذ عندئذٍ يلزم انقطاع السلسلة،و هو خلف.

فإذاً المدّعى-إمكان التسلسل-مركب من جزءين:

أ.السلسلة المفروضة موصوفة بالمعلولية.

ب.السلسلة تفقد ما يكون علّة و لا يكون معلولاً.

فنقول:إنّ الجمع بين هذين الجزءين من المدعى جمع بين المتناقضين.

لأنّ افتراض كونها معلولة يلازم كونها وجوداً رابطاً غير غنيّ عن الوجود النفسي حتّى يقوم به.

فكيف يجتمع هذا الفرض مع الجزء الثاني،أي أنّ السلسلة تفقد الوجود النفسي،و ما هو علّة و ليس بمعلول؟!

و اشتمال الفرض على التناقض دليل واضح على بطلانه و امتناعه.

و إلى ما ذكرنا من البرهان يشير العلاّمة الطباطبائي في كتابه القيّم«نهاية الحكمة»و يقول:و التسلسل في العلل محال.و البرهان عليه أنّ وجود المعلول رابط بالنسبة إلى علّته لا يقوم إلاّ بعلته،و العلّة هو المستقل الّذي يقوّمه.و إذا كانت علّته معلولة لثالث و هكذا كانت غير مستقلّة بالنسبة إلى ما فوقها،فلو ذهبت

ص:57

السلسلة إلى غير نهاية و لم تنته إلى علّة غير معلولة تكون مستقلة غير رابطة،لم يتحقق شيء من أجزاء السلسلة لاستحالة وجود الرابط إلاّ مع مستقل. (1)

و إن شئت قلت:إنّ المعلول في مصطلح الإلهيّين هو:ما يكون مفاضاً-بمادته و صورته و كل شئونه - من جانب العلّة و قائماً بها،و صادراً عنها.و هذا يعني أنّ كلّ حلقة من تلك الحلقات،و كلّ جزء من تلك السلسلة كان معدوماً فوجد بسبب علّته،و تحقق بجميع شئونه بفضلها،فبما أنّ أفراد هذه السلسلة برمّتها تتّسم بصفة«المعلولية»كان جميعها متصفاً بالفقر و التعلق بعلته،أي لو أنّنا سألنا كلّ حلقة عن كيفية وجودها لأجابتنا-بلسان التكوين-:بأنّها مفتقرة في وجودها و في جميع شئونها إلى العلة الّتي سبقتها،فإذا كان هذا هو لسان حال كلّ واحدة من حلقات هذه السلسلة،تكون السلسلة برمّتها سلسلة فقر و احتياج،سلسلة تعلّق و ارتباط.و عند ذلك يُثار هذا السؤال:

كيف انقلبت هذه السلسلة الفقيرة الفاقدة لكلّ شيء إلى سلسلة موجودة بالفعل؟! و كيف وجدت هذه السلسلة المرتبطة بحسب ذاتها من دون أن تكون هناك نقطة اتكاء قائمة بنفسها؟!

تقرير آخر لامتناع التسلسل

و هناك تقرير آخر لبطلان التسلسل ربما يكون مفيداً للمتوسطين من طلاب العلوم العقلية.

و حاصله:أنّ فرض صحة التسلسل فرض تحقق قضايا مشروطة و إن لم يتحقق شرطه.

ص:58


1- 1) .نهاية الحكمة:168.

توضيحه:انّ وجود المعلول الأخير إذا كان مشروطاً بوجود ما يسبقه من العلّة و كانت تلك العلّة المتقدّمة مشروطة في وجودها بوجود ما قبلها،و استمر هذا الاشتراط إلى غير النهاية،تكون النتيجة تصوّر موجودات غير متناهية،مشروط وجود كلّ واحد منها بوجود ما قبله،بحيث إذا سألت كلّ واحد عن شرط تحقّقه،لأجابك بأنّه لا يتحقّق إلاّ أن يتحقّق ما يتقدّمه،و لو سألت ما يتقدّمه لأجابك بهذا أيضاً،و هكذا....

و على هذا:لو كان هناك موجود مطلق،و قضية غير مشروطة،لم يشترط وجودها بشيء-كما هو الحال إذا أنهينا السلسلة إلى خالق أزلي-فعند ذاك يتحقّق شرط كلّ حلقة،و قضية،فتصبح السلسلة موجودة لتحقّق شرط الجميع،و أمّا إذا كان الجميع أُموراً مشروطة و قضايا معلّقة،فبما انّها لا تتوقّف السلسلة عند حدّ لا يكون الشرط النهائي متحقّقاً،و في هذه الحالة كيف يتحقّق المشروط بلا تحقّق شرطه.

إنّ النتيجة في هذه الحالة هي أن يمتنع تحقّق قضايا مشروطة لا يوجد بينها-أو لا تنتهي إلى-قضية مطلقة،و لنأت بمثال لتوضيح ذلك:

لو أنّ أحداً اشترط التوقيع على ورقة بتوقيع شخص آخر،و الثاني بتوقيع ثالث،ثمّ رابع،و هكذا إلى غير نهاية،فانّ من البديهي انّه لا تُمضى تلك الورقة أبداً،و لا يتمّ التوقيع عليها مطلقاً.

و هكذا لو أنّ أحداً اشترط حمل صخرة بحمل شخص آخر لها و مساعدته له،و اشترط الثاني حملها بحمل ثالث،و الثالث بحمل رابع،و هكذا إلى غير نهاية،فانّ هذه الصخرة لن يتمّ حملها إلى الأبد لتسلسل الشرائط،و توقّف كلّ حمل على حمل يسبقه.

ص:59

هذا ما سمح به الوقت لتقرير هذا البحث بوجه يكون مقنعاً للطبقة العليا و المتوسطة...

نشكر اللّه سبحانه على ما رزق المؤسسة و محققيها من توفيق لتقديم هذا الجزء إلى عشاق العلوم العقلية محققاً و مصححاً خالياً عن الغلط و التشويش.و مزداناً بالتعاليق المفيدة،و سيتلوه إن شاء اللّه الجزء الثالث من الأجزاء الخمسة الّتي سيتم إخراج الكتاب فيها بإذن اللّه سبحانه.

انّه خير مسئول و خير مجيب.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم-إيران

25جمادي الآخرة من شهور عام1426ه

ص:60

5

اشارة

تجرّد النفس أو الحدّ الفاصل بين المنهجين:المادّي و الإلهي

خصّ المحقّق اللاهيجي الجزءَ الثالث بالجوهر و الجزءَ التالي بالأعراض،و قد قسّمَ الحكماءُ الجوهرَ إلى العقل و النّفس و الصورة و الهيولى و الجسم،المركب منهما عند المشّائين منهم.و أمّا ما هو تعريف الجوهر؟ و ما هي أقسامه؟ و ما هو الملاك في تقسيمه إلى الأقسام الخمسة؟ فخارجٌ عن موضوع بحثنا في هذا التقديم،و الّذي نحن بصدد بيانه هو تجرّد النفس الذي طرحه المصنّف في المسألة الرابعة من الفصل الرابع.و استدلّ عليها تبعاً للمتن بوجوه سبعة،و هي:

1.تجرّد عارض النفس و هو العلم:إذا كانت المعلومات مجرّدة عن الموادّ فيكون معروضها-أعني:

النفس-مجرّدة كذلك.

2.عدم انقسام العلم:إنّ العلم العارض للنفس غير منقسم،فمعروضه كذلك.و في الحقيقة هذان الدليلان وجهان لدليل واحد حيث يتطرق إلى تجرّد

ص:61

العلم و من ثَمَّ إلى تجرّد العالِم و هو النفس.

3.قدرة النفوس البشرية على ما لا يتناهى:النفوس البشرية تقوى على ما لا تقوى عليه المقارنات للمادّة،لأنّها تقوى على ما لا يتناهى،و القوى الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى.

4.عدم حلول النفس في البدن:إنّ النفس لو كانت جسمانية لحلّت في جزء من البدن من قلب أو دماغ، فيلزم أن تكون دائمة التعقّل له،أو غير عاقلة له أصلاً.و التالي باطل،لأنّ النفس تعقل القلب و الدماغ في وقت دون وقت.

5.استغناء النفس في التعقّل عن المحلّ:إنّ النفس الناطقة تستغني في عارضها و هو التعقّل عن المحلّ، بدليل أنّها تعقل ذاتها و لآلتها من غير حاجة إلى آلة كما مرّ،فتكون في ذاتها مستغنية عن المحلّ،و إلاّ لكان المحلّ آلة لها في التعقّل،فلا تكون مستغنية عن الآلة في تعقّلها أيضاً.هذا خلف.

6.عدم تبعية النفس للجسم:إنّ النفس الناطقة لو كانت منطبعة في الجسم لكانت تابعة له في الضعف و الكمال كالسمع و البصر،و التالي باطل.فإنّ الإنسان في سنّ الانحطاط يقوى تعقّله و يزداد مع كون البدن في النقصان و الانحطاط.

7.النفس الناطقة ليست منطبعة في الجسم:إنّ النفس الناطقة غير منطبعة في الجسم لحصول ضد ما هو حاصل للقوى المنطبعة من حيث هي منطبعة،للنفس الناطقة.

توضيحه:أنّ القوى الداركة بالآلات يعرض لها الكلال من إدامة العمل،و الأمر في القوى العقلية بالعكس،فإنّ إدامتها للعقل و تصوّرها للأُمور الّتي هي أقوى يُكسبها قوّة و سهولة قبول لما بعدها.

ص:62

هذه هي الوجوه الّتي اعتمد عليها المؤلّف في هذا الجزء (1)،و قد وقعت هذه الأدلّة موضع نقاش، و ذكرها الشارح و دفع النقاشات عنها،لكنّ الأدلّة الدالّة على تجرّد النفس أكثر من ذلك،و قد ذكر بعض المحقّقين من المعاصرين أنّه جمع أدلّة تجرّدها من المصادر العلمية حيث ناهزت أكثر من سبعين دليلاً.

و قال:إنّ عدّة منها تدلّ على تجرّدها البرزخيّة،و طائفة منها تدلّ على تجرّدها العقلية. (2)

أقول:اللازم في هذه العصور دراسة تجرّد النفس دراسة أوسع من ذلك لأجل أمرين:

1.أنّ تجرّد النفس هو الحدّ الفاصل بين الماديّين و الإلهيّين،لأنّ الفئة الأُولى قالوا بمساواة الوجود بالمادّة و أنّه ليس وراءها ملأ و لا خلأ«و ليس وراء عبّادان قرية»،و لكن الطائفة الثانية قالوا بسعة الوجود و أنّه أعمّ من المادّة،و ركّزوا على أنّ العلوم المادّية لها حق الإثبات و ليس لها حقّ النفي،بمعنى أنّ له أن يقول:إنّ الذرّة موجودة و أنّها تتشكّل من جزءين:«الكترون»و«بروتون»،و أمّا أنّه ليس وراء الذرّة عالم آخر فليس له حقّ النفي،لأنّه يعتمد في قضائه على التجربة،و الغاية المتوخّاة منها إثبات ظاهرة مادّة موجودة،و أمّا نفي ما وراء تلك الظاهرة فلا يرومه المجرِّب في مختبراته.فإذن التجربة أداة وضعت لدراسة الأمر المادّي و تحليله من دون نظر إلى ما وراء المادّة.

فإذا قام الدليل القطعي على وجود عالم أو عوالم فوق عالم المادّة،يكون دليلاً قاطعاً على سعة الوجود و ضيق المادّة،و برهاناً دامغاً على إبطال الماديّة.

ص:63


1- 1) .لاحظ شوارق الإلهام:459/3،473. [1]
2- 2) .كشف المراد:278 تعليقة الحكيم الشيخ حسن حسن زاده الآملي-دام ظلّه -.

2.أنّ المعاد الجسماني الّذي اتّفق عليه المتكلّمون و رُوّاد الحكمة المتعالية-قدّس اللّه أسرارهم - لا يتحقّق إلاّ بالقول بتجرّد الروح و النفس الناطقة عن المادّة و أنّها باقية بعد الموت،و فناء البدن.

فإذا قامت القيامة و رجع الروح إلى نفس البدن الّذي اجتمعت أجزاؤه بأمر اللّه سبحانه،يكون المعاد يوم القيامة هو نفس الإنسان الموجود في الدنيا.

و أمّا لو قلنا بأنّه ليس هناك وراء البدن شيء آخر،و أنّ الإنسان يُفني بتفرّق أجزاء بدنه،فالقول بالمعاد الجسماني بعينه يواجه أمراً مشكلاً،إذ كيف يمكن أن يقال:إنّ المعاد هو نفس المبتدأ مع وجود الفاصل الزمني عبر قرون،الملازم لكون المعاد-حين ذاك-مثلاً للمتبدإ لا عينه؟

فلو فرضنا أنّ اللبنة بعد ما جفّت،كسرها أحد و طيّنها و صنع منها لبنة جديدة،يكون المعاد غير المبتدأ، و ما ذلك إلاّ لفقد الصلة بين المعدوم و الموجود،فالقائل بالمعاد الجسماني يقول:إنّ المعاد بعد الفناء هو نفس المبتدأ لا مماثل له،و لا محيص عن القول بوجود حلقة بين المبتدأ و المعاد تحفظ وحدة الأمرين،و إنّما يختلفان زماناً لا عيناً.

و إن شئت قلت:إنّ المعاد جسمانياً و روحانياً-كما هو الحقّ-عبارة عن القول بتركّب الإنسان من بدن و نفس،فللبدن كمال و مجازاة،و للنفس كمال و مجازاة.و الّذي يُحقِّق العينية هو وجود الصلة بين البدن الدنيوي و الأُخروي.

هذا ما يستفاد من الذكر الحكيم في قوله: «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ* قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ». 1

ص:64

إنّ القرآن يجيب عن شبهة القوم-أعني:ضلال الإنسان بموته و تشتّت أجزاء بدنه في الأرض - بجوابين:

أوّلهما:قوله: «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ».

و ثانيهما:قوله: «قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ».

و الأوّل:راجع إلى بيان باعث الإنكار،و هو أنّ السبب الواقعي لإنكار المعاد،ليس ما يتقوّلونه بألسنتهم من ضلال الإنسان و تفرّق أجزاء بدنه في الأرض،و إنّما هو ناشئ من تبنّيهم موقفاً سلبياً في مجال لقاء اللّه، فصار ذلك مبدأ للإنكار.

و الثاني:جواب عقلي عن هذا السؤال،و تُعلم حقيقتُه بالإمعان في معنى لفظ«التوفّي»،فهو و إن كان يفسّر بالموت،و لكنّه تفسير باللازم،و المعنى الحقيقي له هو الأخذ تماماً.و قد نصّ على ذلك أئمّة أهل اللغة، قال ابن منظور في«اللسان»:«توفّي فلان و توفّاه اللّه:إذا قبض نفسه،و توفَّيْتُ المال منه،و استوفيته:إذا أخذته كلّه،و توفّيت عدد القوم:إذا عددتهم كلّهم.و أنشد أبو عبيدة: إنّ بني الأدرد ليسوا من أحد و لا توفّاهم قريش في العدد

أي لا تجعلهم قريش تمام عددهم و لا تستوفي بهم عددهم». (1)

إنّ آيات القرآن الكريم بنفسها كافية في ذلك،و أنّ التوفّي ليس بمعنى الموت،بل بمعنى الأخذ تماماً الّذي ربّما يتصادقان،يقول سبحانه: «اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» 2 .فإنّ لفظة«التي»، معطوفة على

ص:65


1- 1) .لسان العرب:400/15، [1]مادة«و في».

الأنفس،و تقدير الآية:و اللّه يتوفّى التي لم تمت في منامها.و لو كان التوفّي بمعنى الإماتة،لما استقام معنى الآية،إذ يكون معناها حينئذٍ:اللّه يميت التي لم تَمُتْ في منامها.و هل هذا إلاّ تناقض؟ فلا مناص من تفسير التوفّي بالأخذ،و له مصاديق تنطبق على الموت تارة،كما في الفقرة الأُولى؛و على الإنامة أُخرى،كما في الفقرة الثانية.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى قوله سبحانه: «قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ» ،فمعناه:يأخذكم ملكُ الموتِ الّذي وُكّل بِكُم ثُم إنَّكُم إلى اللّه ترجَعُون.و أنّ ما يُمثّل شخصيّتكم الحقيقية(النفس) لا يضل أبداً في الأرض،و انّما يأخذه و يقبضه ملك الموت و هو عندنا محفوظ لا يتغيّر و لا يتبدّل و لا يضلّ،و أمّا الضالّ،فهو البدن الذي هو بمنزلة اللباس لهذه الشخصية.

فينتج أنّ الضال-حسب نظركم-لا يُشكّل شخصية الإنسان،و ما يشكّلها و يقوّمها فهو محفوظ عند اللّه،الذي لا يضلّ عنده شيء.

و الآية تعرب عن بقاء الروح بعد الموت و تجرّدها عن المادة و آثارها،و هذا الجواب هو الأساس لدفع أكثر الشبهات التي تطرأ على المعاد الجسماني العنصري.

فإذا كان لتجرّد النفس تأثير في الفلسفة و العقيدة الدينية،فكان من اللازم صب الاهتمام الكثير على دراسته و عدم الاقتناع بما ذكره القدماء من المشّائين و غيرهم و نقلت في الكتب،و لأجل تلك الغاية نأتي ببعض البراهين الّتي لم يذكرها الشارح اللاهيجي.و تُقنع الباحث النابه.

البرهان الأوّل:ثبات الشخصية في دوّامة التغيّرات الجسديّة

و هذا البرهان يتألّف من مقدّمتين:

ص:66

الأُولى:أنّ هناك موجوداً تنسب إليه جميع الأفعال الصادرة عن الإنسان،ذهنية كانت أو بدنية.و لهذا الموجود حقيقة،و واقعية يشار إليها بكلمة«أنا».

الثانية:أنّ هذه الحقيقة التي تعدّ مصدراً لأفعال الإنسان،ثابتة و باقية و مستمرة في مهبّ التغيرات،و هذه آية التجرّد.

أمّا المقدّمة الأُولى،فهي غنية عن البيان،لأنّ كلّ واحدٍ منّا ينسب أعضاءه إلى نفسه و يقول:يد،رجلي، عيني،أذني،قلبي،...كما ينسب أفعاله إليها،و يقول:قرأت،كتبت،أردت،أحببت،و هذا ممّا يتساوى فيه الإلهي و المادي و لا ينكره أحد،و هو بقوله:«أنا»و«نفسي»،يحكي عن حقيقة من الحقائق الكونية،غير أنّ اشتغاله بالأعمال الجسمية،يصرفه عن التعمّق في أمر هذا المصدر و المبدأ،و ربّما يتخيّل أنّه هو البدن،و لكنّه سرعان ما يرجع عنه إذا أمعن قليلاً حيث إنّه ينسب مجموع بدنه إلى تلك النفس المعبّر عنها ب«أنا».و يقول بدني.

و أمّا المقدّمة الثانية:فكلّ واحد منّا يحسّ بأنّ نفسه باقية ثابتة في دوامه التغيّرات و التحوّلات التي تطرأ على جسمه،فمع أنّه يوصف تارة بالطفولة،و أُخرى بالصبا،و ثالثة بالشباب،و رابعة بالكهولة،فمع ذلك يبقى هناك شيء واحد يُسند إليه جميع هذه الحالات،فيقول:أنا الذي كنت طفلاً ثمّ صرت صبياً،فشاباً،فكهلاً، و كلّ إنسان يحسّ بأنّ في ذاته حقيقة باقية و ثابتة رغم تغيّر الأحوال و تصرّم الأزمنة؛فلو كانت تلك الحقيقة التي يحمل عليها تلك الصفات أمراً ماديّاً،مشمولاً لسنّة التغيّر،و التبدّل،لم يصحّ حمل تلك الصفات على شيء واحد،حتى يقول:أنا الذي كتبت هذا الخط يوم كنت صبياً أو شابّاً،فلولا وجود شيء ثابتٍ و مستمرٍّ إلى زمان النطق،للزم كذب القضية،و عدم صحّتها،

ص:67

لأنّ الشخص الذي كان في أيام الصبا،قد بطل-على هذا الفرض-و حدث شخص آخر.

لقد أثبت العلمُ أنّ التغيّر و التحوّلَ من الآثار اللازمة للموجودات المادية،فلا تنفك الخلايا التي يتكوّن منها الجسم البشري،عن التغيّر و التبدّل،فهي كالنهر الجاري تخضع لعملية تغيير مستمر،و لا يمضي على الجسم زمن إلاّ و قد حلّت الخلايا الجديدة مكان القديمة.و قد حسب العلماء معدَّل هذا التجدّد،فظهر لهم أنّ التبدّل يحدث بصورة شاملة في البدن،مرة كلّ عشر سنين.

و على هذا،فعملية فناء الجسم المادي الظاهري مستمرة،و لكن الإنسان،في الداخل (أنا)،لا يتغيّر.

و لو كانت حقيقة الإنسان هي نفس هذه الخلايا لوجب أن يكون الإحساس بحضور«أنا»في جميع الحالات أمراً باطلاً،و إحساساً خاطئاً.

و حاصل هذا البرهان عبارة عن كلمتين:وحدة الموضوع لجميع المحمولات،و ثباته في دوّامة التحوّلات،و هذا على جانب النقيض من كونه ماديّاً.

البرهان الثاني:علم الإنسان بنفسه مع الغفلة عن بدنه

(1)

إنّ الإنسان قد يغفل في ظروف خاصة عن كلّ شيء،عن بدنه و أعضائه،و لكن لا يغفل أبداً عن نفسه، سليماً كان أم سقيماً،و إذا أردت أن تجرب ذلك،

ص:68


1- 1) .هذا البرهان ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات:92/2.و الشفاء قسم الطبيعيات في موردين ص 282 و 464.

فاستمع إلى البيان التالي:

افرض نفسك في حديقة زاهرة غنّاء،و أنت مستلق لا تُبصر أطرافك و لا تتنبّه إلى شيء،و لا تتلامس أعضاءك،لئلاّ تحسّ بها،بل تكون منفرجة،مرتخية في هواء طلق،لا تحسّ فيه بكيفية غريبة من حرٍّ أو بردٍ أو ما شابه،ممّا هو خارج عن بدنك.فإنّك في مثل هذه الحالة تغفل عن كلّ شيء حتى عن أعضائك الظاهرة،و قواك الداخلية،فضلاً عن الأشياء التي حولك،إلاّ عن ذاتك،فلو كانت الروح نفسَ بدنك و أعضائك و جوارحك و جوانحك،للزم أن تغفل عن نفسك إذا غفلت عنها،و التجربة أثبتت خلافه.

و بكلمة مختصرة:«المغفول عنه،غير اللامغفول عنه».و بهذا يكون إدراك الإنسان نفسه من أوّل الإدراكات و أوضحها.

البرهان الثالث:عدم الانقسام آية التجرّد

الانقسام و التجزّؤ من آثار المادة،غير المنفكّة عنها،فكلّ موجود مادّي خاضع لهما بالقوة،و إذا عجز الإنسان عن تقسيم ذلك الموجود،فلأجل فقدانه أدواته اللازمة.و لأجل ذلك ذكر الفلاسفة في محلّه،بطلان الجزء الذي لا تتجزّأ.و ما يسمّيه علم الفيزياء،جزءاً لا يتجزأ،فإنّما هو غير متجزّئ بالحسّ،لعدم الأدوات اللازمة،و أمّا عقلاً فهو منقسم مهما تناهى الانقسام،لأنّه إذا لم يمكن الانقسام،لصغره و عجز الوهم عن استحضار ما يريد أن يقسّمه-حتى بالمكبّرات-لكن العقل يتمكن من فرض انقسامه بأن يفرض فيه شيئاً غير شيء،فحكم بأنّ كلّ جزء منه يتجزّأ إلى غير النهاية،و معنى عدم الوقوف أنّه لا ينتهي

ص:69

انقسامه إلى حدّ إلاّ و يتجاوز عنه. (1)

و من جانب آخر،كلّ واحدٍ منّا إذا رجع إلى ما يشاهده في صميم ذاته،و يعبّر عنه ب«أنا»،وجده معنىً بسيطاً غير قابل للانقسام و التجزّي،فارتفاع أحكام المادة دليل،على أنّه ليس بمادّي.

إنّ عدم الانقسام لا يختص بما يجده الإنسان في صميم ذاته و يعبّر عنه ب«أنا»،بل هو سائد على وجدانياته أيضاً من حبّ،و بغضٍ،و إرادةٍ،و كراهةٍ،و تصديقٍ،و إذعانٍ.و هذه الحالات النفسانية،تظهر فينا في ظروف خاصة،و لا يتطرّق إليها الانقسام الذي هو من أظهر خواص المادة.

اعطف نظرك إلى حبّك لولدك،و بغضك لعدوك فهل تجد فيهما تركّباً؟ و هل ينقسمان إلى جزء فجزء؟ كلا،و لا.

فإذا كانت الذات و الوجدانيات غير قابلة للانقسام،فلا تكون منتسبةً إلى المادة التي يعدّ الانقسام من أظهر خواصّها.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الروح و آثارها،و النفس و النفسانيات،كلّها موجودات واقعية خارجة عن إطار المادة، و من المضحك قول المادي إنّ التفحّص،و التفتيش العلمي في المختبرات لم يصل إلى موجود غير مادّي، حتى نذعن بوجوده،فقد عزب عنه أنّ القضاء عن طريق المختبرات يختصّ بالأُمور المادّية،و أمّا ما يكون سنخ وجوده على طرف النقيض منها،فليست المختبرات محلاً و ملاكاً للقضاء بوجوده و عدمه.

هذا و للحكيم المتأله المؤسس السيد العلاّمة الطباطبائي بحوث شيقة حول

ص:70


1- 1) .لاحظ شرح المنظومة،للحكيم السبزواري:206.

تجرد النفس في كتابه«أُصول الفلسفة الإسلامية»و ما ذكرناه قبس من إفاضاته و أنوار علومه قدس سره.

و في الختام نشكر المحقّق الفاضل،«عليزاده»حيث قدَّم هذا الجزء إلى الطبع مزداناً بتعاليق أرشد فيها القارئ الكريم إلى مكان المسائل في الكتب،حتّى يرجع إليها من أراد التبسّط.

و الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

1رجب المرجب من شهور عام 1427ه

ص:71

6

اشارة

شرح«واجب الاعتقاد»

الماتن:العلامة الحلي(648- 726ه).

الشارح:أحد أعلام القرن التاسع الهجري.

تحقيق:محمد عبد الكريم بيت الشيخ.

بسم اللّه الرحمن الرحيم

تمهيد

*تحتل مؤلّفات العلاّمة الحلّي(648- 726ه) مساحة واسعة من إصدارات مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام المحقّقة،فبعد«نهاية المرام في علم الكلام»و«تحرير الأحكام»و«نهاية الوصول إلى علم الأُصول»توجّهت الجهود الحثيثة لإصدار أثرٍ آخر من مصنّفات العلاّمة رحمه الله،و هو كتاب«تسليك النفس إلى حظيرة القدس».

و خلال عملنا مع الإخوة في«قسم التصحيح و المراجعة»في المؤسسة-لإتمام عمل محقّقة الكتاب المذكور (1)-عثرنا على نسخة من«شرح واجب الاعتقاد»

ص:72


1- 1) .السيدة فاطمة رمضاني و التي نالت بتحقيقه شهادة الماجستير بدرجة (امتياز) في علم الإلهيات من كلية الإلهيات في جامعة طهران عام 1426ه.

مجهولة المؤلّف،مؤرخة في عام 841ه،مكتوبة في حاشية النسخة الخطية الّتي اعتمدتها المحقّقة كأصل،و هي واحدة من مخطوطات مكتبة المتحف البريطاني برقم10971 RO،و توجد صورتها في مركز إحياء التراث الإسلامي في قم المقدسة برقم 1804،و قد رمزنا لها هنا بالحرف«ن». (1)

لذلك عقدنا العزم على تحقيق هذا الشرح و ضبط عباراته و تهيئته و طبعه بشكل لائق يستفيد منه طلاب المعارف الإسلامية الأصيلة،و استعنّا على ذلك بنسخة أُخرى موجودة في مكتبة آية اللّه العظمى السيد المرعشي النجفي قدس سره في قم المقدسة برقم 10668/4،يعود تاريخ نسخها إلى القرن العاشر الهجري، و قد رمزنا لها بالحرف«م». (2)

كما اعتمدنا في تصحيح عبارات المتن على ما ورد في«الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد»للمقداد السيوري. (3)

و قد واجهتنا مشاكل و معوقات أعاننا اللّه على تذليلها بإشراف سماحة آية اللّه العلاّمة جعفر السبحاني(حفظه اللّه) و مساعدة إخواننا من محقّقي المؤسسة العامرة،حفظهم اللّه و رعاهم لما فيه الخير و الصلاح.

*و«واجب الاعتقاد»هو أحد الآثار الكلامية و الفقهية للعلاّمة الحلّي رحمه الله،قد بيّن فيه ما يجب معرفته على العباد من العقائد الدينية و المسائل الفرعية ما عدا المعاد،و انتهى رحمه الله في الفروع إلى آخر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

ص:73


1- 1) .فهرست 3نسخه هاى عكسى مركز احياء ميراث اسلامى:271/5- 272.
2- 2) .فهرست 3نسخه هاى خطى كتابخانه عمومى حضرت آيت اللّه مرعشى نجفى:121/27.
3- 3) .طبع هذا الشرح ضمن كتاب«كلمات المحققين»من منشورات مكتبة المفيد،قم المقدسة،1402ه.

و قد أشرنا في«معجم التراث الكلامي» (1)إلى هذا الكتاب و شرّاحه و شروحه و النسخ الخطية لها، و ذكرنا هناك أنّه لم يطبع من هذه الشروح إلاّ شرح المقداد السيوري،و أمّا الشروح الأُخرى فلم ترَ النور بعد.

و الشرح الّذي سنورده هنا-مقروناً بالمتن-هو لأحد علماء القرن التاسع الهجري،و قد أشار صاحب كشف الحجب (2)و الذريعة (3)إليه،و لم يتمكنّا من تحديد اسم الشارح،و خلال تحقيقنا هذه المخطوطة عثرنا على قرائن تساعد على نسبة هذا الشرح إلى ابن فهد الحلّي (757- 841ه)و هذه القرائن هي:

1.انّ تاريخ كتابة النسخة«ن»و هو في محرم الحرام من عام 841ه،و هي سنة وفاة ابن فهد رحمه الله إلاّ أنّ المصادر التاريخية لم تذكر الشهر الذي توفّي فيه.

2.تصدّي ابن فهد رحمه الله لشرح أغلب كتب العلاّمة الحلّي رحمه الله.

3.انّ النسخة الخطية«ن»كتبت-كما قلنا-على حاشية نسخة«تسليك النفس»،و هذه النسخة تحتوي على اختام و عبارات تمليك و كذلك توجد كتابة حول الكتاب و هي بخط إبراهيم بن عبد اللّه بن فتح اللّه بن عبد الملك بن إسحاق الواعظ،بتاريخ 899ه.

و إبراهيم بن عبد اللّه الواعظ(المتوفّى:950ه) (4)هو ابن المولى العالم الواعظ الّذي ذكره ابن أبي الجمهور الأحسائي حيث قال:

و حدثني المولى العالم الواعظ،وجيه الدين عبد اللّه بن المولى علاء الدين فتح

ص:74


1- 1) .معجم التراث الكلامي:400/1 برقم 1670؛171/2 برقم 3271؛97/4 برقم 7984-7987؛427/5 برقم 12332؛و 4942/5برقم12634.
2- 2) .كشف الحجب:598.
3- 3) .الذريعة:163/14و 4/25. [1]
4- 4) .انظر ترجمته في«تراجم الرجال»للسيد أحمد الحسيني:17/1.

اللّه بن عبد اللّه بن فتحان الواعظ القمي الأصل القاشاني المسكن عن جدّه عبد الملك عن الشيخ الكامل العلاّمة خاتمة المجتهدين أبو العباس أحمد بن فهد قال:حدثني.... (1)

أقول:إنّ من سبر كتاب الذريعة و أمثاله يجد انّ أهل هذا البيت يمتلكون مكتبة غنية بالكثير من الكتب الشيعية القيّمة،و بما أنّ جدهم رضي الدين عبد الملك بن إسحاق القمّي (2)هو من تلاميذ ابن فهد الحلي فقد قوى احتمالنا بعد أن عثرنا على هذه الملاحظات الموجودة في آخر نسخة«التسليك».

و لنا وقفة أُخرى هي:أنّ صاحب الذريعة قد أورد احتمال أن يكون الشارح هو السيد المهنا بن سنان، و هذا لا يصح إذ انّ ابن سنان توفي في عام 754ه.

4.ما ذكره الشارح في تعريف الإمامة:«رئاسة عامة...الخ»ثمّ ما انفردت به النسخة«ن»من ذكر هذه العبارة:قوله:رئاسة عامة...يشير إلى أنّه قد أخذ هذا التعريف من أُستاذه (المقداد السيوري) الّذي أورده في «النافع يوم الحشر»،كما سنذكره آنفاً.

و نحن ندعو اللّه سبحانه أن تتاح لنا فرصة أُخرى للاستمرار في البحث و التحقيق و الخروج بنتيجة قطعيّة نعرضها على القرّاء الكرام.

كما ندعوه سبحانه أن ينفع بعملنا هذا الإخوة المؤمنين و أن يجعله لنا ذخراً إلى يوم القيامة.

و الحمد للّه ربّ العالمين

محمد عبد الكريم بيت الشيخ

ص:75


1- 1) .عوالي اللآلي:24/1. [1]
2- 2) .الذريعة:143/20 برقم 2308. [2]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه على نعمائه،و صلّى اللّه على سيد رسله و أشرف أنبيائه محمّد المصطفى و على المعصومين من أُمنائه (1).*

*أقول:(الحمد):هو الوصف بالجميل على جهة التعظيم و التبجيل،فقولنا:بالجميل ليخرج الوصف بالقبيح،فإنّه ليس حمداً بل ذمّاً،و قولنا:على جهة التعظيم و التبجيل ليخرج الاستهزاء.

فاللّه تعالى هو الذات الموصوفة بجميع الكمالات الّتي هي مبدأ لجميع الموجودات،و اللام فيه للملك و الاستحقاق،أي (2)اللّه تعالى مالك الحمد و مستحق له.و أتى بالجملة الاسمية دون الفعلية-دون - (حمدت) و (أحمدُ)،لدلالتها على الثبوت و الدَّوام و دلالة الفعلية على التجدّد و الانصرام.

و النعمة:هي المنفعة الواصلة إلى الغير على جهة الإحسان إليه.

و الصلاة (3)؛لها معنيان:لغوي،و اصطلاحي.

فمعناها في اللّغة:الرحمة إن كانت من اللّه تعالى،و الاستغفار إن كانت من الملائكة،و الدعاء إن كانت من الناس.

و في الاصطلاح:عبارة عن أذكار معهودة مذكورة في كتب الشرع.

و قوله:(سيد رسله و أشرف أنبيائه) إنّما كان سيد رسله لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:«أنا سيد ولد آدم،و لا فخر» (4)، و الرسل من بني آدم،و إنّما كان أشرفهم لكثرة كمالاته

ص:76


1- 1) .أبنائه خ ل.
2- 2) .في نسخة«م»:يعني أن.
3- 3) .في نسخة«م»:و صلّى اللّه:الصلاة.
4- 4) .بحار الأنوار:48/8 [1]عن تفسير العياشي.

و بعد:فقد بيّنت في هذه المقالة واجب الاعتقاد على جميع العباد،و لخصت فيها ما تجب معرفته من المسائل الأُصولية (1)،و ألحقت به بيان الواجب من أُصول العبادات،و اللّه الموفق للخيرات.*

العلمية و العقلية (2)و الخُلقية،و لأنّه تعالى بعد ذكر النبيين عليهم السلام أمره أن يقتدي بهم في قوله تعالى:

«أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» 3. [و] أمره تعالى أن يأتي بجميع ما أتوا به من العلوم النظرية و العملية، فوجب أن يكون عالماً بكلّ ما علموه (3)،و متّصفاً بجميع ما اتّصفوا به من الأخلاق الحميدة الفاضلة،فوجب أن يكون أفضل من الجميع (4)،فكان أشرف أنبيائه.

(محمد المصطفى):عطف بيان لقوله سيد رسله و أشرف أنبيائه،و إنّما سمّي محمّداً لكثرة خصاله المحمودة في السماء،[و] أحمد:لكثرة حمده و شكره،و المصطفى:المختار.

و المعصومون:هم الموصوفون بالعصمة،و هي عبارة عن لطف يفعله اللّه بالنبيّ أو الإمام بحيث يمتنع منه وقوع معصية مع قدرته عليها؛و إلاّ لم يكن مثاباً على ترك القبائح.

و قوله:(من أنبائه) و هم المنبئون أي المخبرون عنه،و في بعض النسخ:«من امنائه» (5)،و في بعضها:

«و أبنائه» (6)؛فعلى الأوّلين يدخل علي عليه السلام فيهم،لأنّه سيّد الأُمناء و الأنباء،و على الثالث يختصّ بما عدا علياً عليه السلام من الأئمة عليهم السلام.

*(بعد):كلمة تسمّى فصل الخطاب،تأتي إذا أُريد الانتقال من كلام إلى

ص:77


1- 1) .على الأعيان خ ل.
2- 2) .في نسخة«م»:العملية.
3- 4) .في نسخة«م»:علموا به.
4- 5) .في نسخة«م»:فوجب أن يكون أفضل من كلّ واحدٍ منهم،فكان أفضل من الجميع.
5- 6) .في«ن»:أبنائه.
6- 7) .في«ن»:أُمنائه.

يجب على المكلّف أن يعرف أنّ اللّه تعالى موجود،لأنّه أوجد العالم بعد إذ لم يكن،إذ لو كان العالم قديماً لكان إمّا متحرّكاً أو ساكناً،و القسمان باطلان.

أمّا الحركة،فلأنّ ماهيتها تستدعي المسبوقية بالغير،و القديم لا يصحّ أن يكون مسبوقاً بالغير فلا (1)يعقل قدم الحركة،و كذلك السّكون،لأنّه عبارة عن الكون الثاني في المكان الأوّل،فيكون مسبوقاً بالكون الأوّل بالضرورة.فالأزليّ (2)لا يكون مسبوقاً بغير (3)فثبت حدوث العالم،فيجب أن يكون له محدث بالضرورة،و هو المطلوب،و لا يجوز أن يكون ذلك المحدِث محدَثاً و إلّا لافتقر إلى محدِثٍ آخر؛فامّا أن يتسلسل،أو يدور،أو يثبت المطلوب و هو إثبات مؤثر غير مُحدَث،و الدور و التسلسل باطلان،فثبت المطلوب.*

آخر،و معناها هنا الشروع في شيء آخر بعد حمد اللّه سبحانه و تعالى،و الصلاة على نبيّه.و أوّل من نطق بها داود عليه السلام.

قيل:و هو الّذي عناه تعالى بقوله: «وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ». 4

و قيل:قيس بن ساعدة الأيادي.

و قيل:علي عليه السلام.

قوله:(بيّنت):أي ذكرت،(واجب الاعتقاد):أي ما يجب أن يعتقد.و الاعتقاد ما يجزم به الإنسان من التصديقات.

و قوله:(على جميع العباد):هم المكلّفون....

و التلخيص:هو حذف الزوائد،و الإتيان بالفوائد،و تقريب المتباعد.

*[ أقول:] اعلم أنّ هذا الكلام مشتمل على بحثين:

ص:78


1- 1) .و لا.خ ل.
2- 2) .و الأزلي.خ ل.
3- 3) .بالغير.خ ل.

الأوّل:وجوب معرفة اللّه تعالى.

الثاني:الطريق إلى معرفته.

أمّا الأوّل:على المكلّف نِعمٌ جمّةٌ من الوجود و الحياة و القدرة و غير ذلك،و يعرف ضرورة أنّها ليست منه فتكون من غيره،فذلك الغير إمّا أن يكون واجباً،أو ممكناً.

فإن كان الأوّل كان الفاعل لها هو اللّه تعالى،و ذلك ظاهر.

و إن كان الثّاني يكون هو تعالى أيضاً،لأنّه سبب لفاعلها،و فاعل السبب فاعل المسبّب،فيكون اللّه تعالى فاعلاً لها حينئذٍ على كلا التقديرين فيكون منعماً،و شكر المنعم واجب،فيجب شكره،و لا طريق إلى ذلك إلاّ بمعرفته،فيكون الشكر مناسباً لحاله و لائقاً بكماله و حسب معرفته.

فإن قلت:هذا يلزم منه إثبات مذهب الجبرية،و هو أن يكون الفاعل لأفعال العباد كلّها من الخير و الشر هو اللّه تعالى،و هو خلاف مذهبكم.

قلنا:لا خلاف في كونه علّة بعيدة،و إنّما الخلاف في أنّ المباشر لأفعال العباد كلّها هو اللّه تعالى أو العبد،فعند المجبرة أنّه اللّه تعالى،و عندنا أنّه العبد،فافترقا.و ما كان من أفعال الخير ينسب إليه تعالى،لأنّه بأمره؛و ما كان من أفعال الشر فهو من العبد،و نسب إليه تعالى،لأنّه تعالى نهاه عنه،قال تعالى: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ». 1

و أمّا الثاني:و هو الطريق إلى معرفة اللّه تعالى و هو حدوث العالم،و تقريره موقوف على بيان مقدّمات:

ص:79

الأُولى:أنّ العالم لا ينفك عن الحركة و السكون،لأنّ المراد بالعالم هنا الأجسام،و الجسم لا بدّ له من مكان،فلا يخلو حينئذٍ إمّا أن يكون لابثاً في ذلك المكان،أو منتقلاً عنه؛فإن كان لابثاً فهو الساكن،و إن كان منتقلاً فهو المتحرك.فالعالم حينئذٍ لا يخلو عن الحركة و السكون،و هو بيان المقدّمة الأُولى.

و أمّا بيان المقدّمة الثانية،أعني:حدوث الحركة و السكون،فنقول:هما حادثان.أمّا الحركة،فلأنّها عبارة عن الحصول الأوّل في المكان الثاني،و المكان الثاني مسبوق بالمكان الأوّل،و هو غيره،فيكون مسبوقاً بغيره،و كلّ مسبوق بالغير حادث،فالسكون حادث،فالسكون مسبوق بالزمان و الحركة بالمكان.

و أمّا بيان المقدّمة الثالثة و هو قولنا:انّ كلّ ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث،فالدليل على ثبوتها أنّه لو لا ذلك لزم:إمّا قدم الحادث،أو انفكاك ما فرض عدم انفكاكه،و اللازمان محالان.

و بيان ذلك:أنّ كلّ ما ينفكّ عن الحوادث لو لم يكن حادثاً لكان قديماً،و حينئذٍ لا يخلو إمّا أن تكون الحوادث مصاحبة له،موجودة معه في القدم،أو لا.فإن كان الأوّل لزم قدم الحادث،و إن كان الثاني لزم انفكاك ما فرضنا عدم انفكاكه،فتصدق المقدمة الّتي ذكرناها،أعني قولنا:إنّ كلّ ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث،فالعالم حادث حينئذٍ،و كلّ حادث لا بدّ له من محدث ضرورة،فالعالم لا بدّ له من محدث حينئذٍ،فإن كان قديماً ثبت المطلوب،و إن كان محدثاً افتقر إلى محدث آخر،فمحدثه إمّا قديم أو محدث،و هكذا فإمّا أن يعود إلى الأوّل فيلزم الدور،أو يذهب إلى غير نهاية فيلزم التسلسل،أو ينتهي إلى محدث قديم.و الدور و التسلسل باطلان كما سيأتي،فتعيّن انتهاؤه إلى محدث قديم،

ص:80

و ذلك هو اللّه تعالى لا غير،فيكون اللّه تعالى موجوداً،و ذلك هو المطلوب.

و أمّا بيان بطلان الدور و التسلسل؛أمّا الدور،فلأنّه عبارة عن توقّف كلّ واحد من الشيئين في وجوده على الآخر إمّا بلا واسطة،كما يتوقّف«أ»على«ب»و«ب»على«أ»؛أو بواسطة كما يتوقّف«أ»على«ب»و «ب»على«ج»و«ج»على«د»و«د»على«أ»،و هو محال،لأنّه يلزم منه توقّف الشيء على نفسه،و هو محال أيضاً للزومه تقدّم الشيء على نفسه،إذ الموقوف عليه متقدّم على الموقوف،و تقدّم الشيء على نفسه باطل و إلاّ للزم أن يكون الشيء الواحد في زمان واحد موجوداً معدوماً،لأنّ المتقدّم من حيث كونه متقدّماً يجب أن يكون موجوداً،و المتأخّر من حيث كونه متأخّراً يجب أن يكون معدوماً،فيلزم ما قلناه،و هو أن يكون الشيء موجوداً معدوماً في زمان واحد،و ذلك ضروري البطلان،فيكون الدور باطلاً.

و أمّا بطلان التسلسل،فلأنّه عبارة عن ذهاب أُمور موجودة مترتبة غير متناهية،و هذا محال أيضاً،لأنّ تلك الأُمور الذاهبة إلى غير النهاية ممكنة لكونها مركّبة،و كلّ مركّب ممكن فتكون ممكنة،فتفتقر إلى مؤثر، فالمؤثر فيها إمّا نفسها أو جزءها أو الخارج عنها.

و الأوّل و الثاني باطلان للزومهما تأثير الشيء في نفسه المتبين استحالته في بطلان الدور.

و الثالث باطل،لأنّ الخارج عن جميع الممكنات واجب الوجود،فتنقطع السلسلة لانتهائها إلى الواجب،إذ الواجب لا علّة له،فيكون التسلسل باطلاً،و هو المطلوب.

ص:81

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى واجب الوجود،لأنّه لو كان ممكن الوجود لافتقر إلى مؤثر؛فإمّا أن يدور،أو يتسلسل،او ينتهي إلى واجب الوجود،و هو المطلوب.*

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى قديمي أزليّ باق أبديّ،لأنّه لو جاز عليه العدم لم يكن واجبَ الوجود،و قد ثبت أنّه تعالى واجب الوجود.**

*اعلم أنّه لمّا ثبت أنّ للعالم [محدثاً] قديماً (1)-و كان ذلك لا يستلزم وجوب وجوده على مذهب بعضهم،و الغرض إثبات وجود واجب الوجود-أراد أن يستدلّ على كونه واجباً،فقال:و يجب أن يعتقد انّه واجب الوجود....

و برهانه أنّه لو لم يكن واجباً لكان ممكناً،لأنّه موجود لِما تقدّم،و كلّ موجود إمّا أن يكون واجباً أو ممكناً لا جائز أن يكون ممكناً و إلاّ لافتقر إلى مؤثر،لأنّ الممكن هو الّذي تتساوى النسبتان-أعني:الوجود و العدم-إليه،فإذا ترجّح أحدهما على الآخر لا بدّ له من مرجح،و قد ترجّح الوجود هنا،إذ التقدير ذلك فلا بدّ له من مؤثر حينئذٍ.فمؤثره إمّا واجب أو ممكن.فإذا كان واجباً،فهو القديم الّذي تقدّم ثبوته؛و إن كان ممكناً افتقر إلى مؤثر لما قلناه؛و هكذا أمّا أن يعود إلى الأوّل فيلزم الدور،أو يذهب إلى غير نهاية فيلزم التسلسل، و هما باطلان لما تقدّم،فتعيّن انتهاؤه إلى مؤثر هو واجب الوجود،بمعنى أنّ ذاته اقتضت وجوده،و ذلك هو اللّه تعالى لا غير،و هو المطلوب.

**اعلم أنّه لمّا فرغ من إثبات واجب الوجود شرع في إثبات صفاته،و هي قسمان:ثبوتية،و سلبية.

ص:82


1- 1) .في نسخة«م»:صانع قديم.

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى قادر،لأنّه لو كان موجباً لزم قدم العالم لاستحالة انفكاك المعلول عن علّته (1)، و قد بيّنا أنّ العالم محدث.*

فالثبوتية ما يحكم عليه بها،ككونه تعالى قادراً عالماً حيّاً موجوداً.

و السلبية ما تنفى عنه،ككونه ليس بجسم و لا جوهر و لا عرض و إنّما قدّم الصفات الثبوتيّة على السلبيّة، لكونها وجودية و تلك عدميّة و الوجود أشرف من العدم،فلهذا قدّمها،و هي أُمور متعدّدة كما سيأتي.

فمنها كونه تعالى قديماً،أزليّاً،باقياً،أبديّاً.

و القديم هو الموجود الّذي لا أوّل لوجوده،و الأزل هو دوام الوجود في الماضي،و البقاء هو استمرار الوجود،و الأبد هو دوام الوجود في المستقبل.

فإذا عرفت معاني هذه الصفات الّتي ذكرناها،فنقول:يجب أن يكون اللّه تعالى متصفاً بها،لأنّه لو لم يتّصف بها لا تصف بالعدم السابق أو اللاحق،فلا يكون واجب الوجود،لأنّ واجب الوجود هو الّذي تقتضي ذاته وجوده،و كلّ مقتض ذاته وجوده لم يجز عليه العدم،لأنّ ما بالذات لا يزول.فإذا اتّصف بشيء من الأعدام لا يكون واجباً لما قلناه.و قد ثبت أنّه تعالى واجب الوجود فيجب أن يكون تعالى قديماً أزلياً باقياً أبدياً،و هو المطلوب.

*اعلم أنّ من جملة صفات اللّه تعالى الثبوتية كونه تعالى قادراً،بل هي أظهر صفاته تعالى و أشهرها و أبينها بظهور آثارها في هذا العالم،و القادر المختار هو الّذي إن شاء فعل و إن شاء ترك.

و اعلم أنّ الفاعل هو الّذي صدر عنه الفعل،و هو ينقسم إلى قسمين:قادر

ص:83


1- 1) .العلة.خ ل.

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى عالم،لأنّه فعل الأفعال المحكمة المتقنة،و كلّ من كان كذلك عالماً بالضرورة.*

و موجب،لأنّ كلّ من صدر عنه الفعل فإمّا أن يصدر عنه مع جواز أن لا يصدر أو مع استحالته،و الأوّل قادر و الثاني موجب.إذا تقرر هذا فنقول:اللّه تعالى قادر،لأنّه لو لم يكن قادراً لكان موجباً لثبوت انحصار الفاعل فيهما لما قلناه،و إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر،فلو لم يكن قادراً لكان موجباً،ثمّ نقول:لو كان موجباً للزم قدم العلم،و التالي باطل،فالمقدّم مثله.

أمّا بيان الملازمة،فلأنّ أثر الموجب يجب أن يكون مقارناً معه غير منفك عنه،لكونه علّة تامة في وجوده و المعلول لا يفارق علّته،و قد ثبت أنّ العالم فعل اللّه تعالى،و أثره يجب أن يكون ملازماً له غير منفك عنه،و هو تعالى قديم فيكون العالم قديماً.

و أمّا بطلان التالي-أعني:قدم العالم-فلما تقدّم من حدوثه فيبطل المقدّم،و هو كونه موجباً فثبت نقيضه،و هو كونه قادراً مختاراً،و ذلك هو المطلوب.

*اعلم أنّ من جملة الصفات الثبوتية للّه تعالى الّتي يجب أن يعتقدها المكلّف كونه تعالى عالماً،و معناه أنّ الأشياء ظاهرة له حاضرة لديه غير غائبة عنه،و الدليل على ذلك أنّه فَعَلَ الأفعال المحكمة المتقنة،و كلّ من فعل الأفعال المحكمة المتقنة كان عالماً،فاللّه تعالى عالم.

أمّا بيان المقدّمة الأُولى أعني:أنّه فعل الأفعال المحكمة المتقنة....

الفعل المحكم المتقن هو المستجمع الخواص الكثيرة،المشتمل على الأشياء

ص:84

الغريبة،فيظهر لمن تأمّل مصنوعات اللّه تعالى و مخلوقاته و خصوصاً في من نظر في تشريح بدن الإنسان،و هو [يرى] أنّ كلّ جزءٍ من أجزائه له قوّة تجذب إليه الغذاء،إذ الغذاء يصل إلى جميع البدن،فخلق اللّه تعالى في كلّ جزء من أجزائه قوة تجذب إليه فضلاً من الغذاء،و هي القوة الجاذبة.

و قوّة تمسك الغذاء،لأنّ الغذاء لزج و ذلك الموضع لزج فيزلق عنه و لا يحصل التغذي،فيؤدي ذلك إلى ضرر و فساد فاقتضت حكمة اللّه تعالى أن يخلق هناك قوة تمسك الغذاء و هي الماسكة.

و قوة تهضم الغذاء،أي تجعله مناسباً لطبيعة ذلك الجزء،إذ الغذاء منه ما يصير لحماً،و منه ما يصير عظماً،و منه ما يصير دماً،و منه ما يصير جلداً،فاقتضت حكمة اللّه تعالى أن يخلق هناك قوّة تفعل ما ذكرناه، و هي الهاضمة.

و قوة تدفع الفضل،إذ الغذاء الّذي تأتي به القوة الجاذبة لا يصير كلّه جزءاً من ذلك،بل بعضه و الباقي يصير فضلاً،فاقتضت حكمة الباري أن يخلق هناك قوة تدفع الفضل لئلاّ يبقى و يؤدّي إلى فساد ذلك الجزء، و هي القوة الدافعة،و هذا هو معنى الإحكام و الإتقان الّذي ذكرناه،و إليه الإشارة بقوله تعالى: «وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ». 1

و أمّا بيان المقدّمة الثانية أعني قوله:و كلّ من كان كذلك....

أي و كلّ من فعل الأفعال المتقنة المحكمة كان عالماً،فبديهية،لأنّ العلم باستلزام ذلك الفاعل ضروري،إذ الجاهل لا يصدر عنه فعل المحكم المتقن.

فالمقدمة الأُولى حسيّة و الثانية بديهية،و المقدّمتان ضروريتان،إذ الحسيّات من أقسام الضروريات، فيكون عالماً بالضرورة،و هو المطلوب.

ص:85

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى حيٌّ،لأنّ معنى الحيّ هو الّذي يصحّ منه أن يقدر و يعلم،و قد بيّنا أنّه تعالى قادر عالم فيكون حيّاً بالضرورة.*

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى قادر على كلّ مقدور،عالم بكلّ معلوم،لأنّ نسبة المقدورات إليه على السويّة،لأنّ المقتضي لاستناد الأشياء إليه هو الإمكان،و جميع الأشياء مشتركة في هذا المعنى،و ليس علمه ببعض الأشياء أولى من علمه بالبعض الآخر،فإمّا أن لا يعلم شيئاً منها و قد بيّنا استحالته،أو يعلم الجميع، و هو المطلوب.**

*اعلم أنّه يجب على المكلّف أن يعتقد أنّه تعالى حيٌّ،و معنى الحيّ هنا ما صحّ عليه الاتّصاف بالقدرة و العلم،و قيل معناه:ما لم يستحيلا عليه.فعلى الأوّل مفهوم الحي ثبوتي،و على الثاني سلبي.

و على كلا التقديرين هما ثابتان،لأنّا قد بيّنا أنّه تعالى قادر عالم فيصحّان عليه،و إلاّ لما ثبتا له؛و ليسا بممتنعين عليه لما قلناه أيضاً،و إذا كان كذلك كان حيّاً،لأنّ معناه ما صحّ اتّصاف الفاعل بالقدرة و العلم،أو لم يستحيلا عليه فيكون حيّاً بالضرورة،و هو المطلوب.

**اعلم أنّه لمّا أثبت كونه تعالى قادراً و عالماً في الجملة أراد أن يثبت عموم ذلك بالنسبة إلى جميع المقدورات و جميع المعلومات،فنقول:اللّه تعالى قادر على جميع المقدورات،و عالم بجميع المعلومات.

أمّا بيان الأوّل:فلأنّ السبب المقتضي لتعلّق القدرة بالمقدورات هو الإمكان،إذ لو كان المقدور واجباً أو ممتنعاً لما تعلّقت القدرة به،فالعلّة المقتضية حينئذٍ هي الإمكان،و الإمكان موجود في جميع الممكنات، و كلّما تحقّقت العلّة تحقق

ص:86

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى سميع بصير،لأنّه عالم بكلّ المعلومات و من جملتها المسموع و المبصر، فيكون عالماً بهما،و هو كونه سميعاً بصيراً.*

المعلول،لأنّ وجود العلّة مستلزم لوجود المعلول فيكون قادراً على جميع المقدورات.

و أمّا بيان الثاني:و هو كونه عالماً بجميع المعلومات،لأنّه لو لم يكن كذلك لكان لا يخلو إمّا أن لا يعلم شيئاً،أو يعلم البعض دون البعض.لا جائز أن يعلم البعض دون البعض،لأنّ ذاته تعالى مجرّدة فنسبتها إلى الجميع على سبيل السويّة،فلو تعلّق علمه بالبعض دون البعض لزم التخصيص بلا مخصّص،و هو محال،فبقي القسم الأوّل و هو أن يكون عالماً بجميع المعلومات،و هو المطلوب.

*اعلم أنّ من جملة صفات اللّه تعالى الثبوتية كونه سميعاً بصيراً و اتّفق المسلمون على وصفه تعالى بهما،لقوله تعالى: «وَ كانَ اللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً» 1 و اختلفوا في معناهما فذهب بعضهم إلى أنّهما صفتان زائدتان على العلم،و ذهب بعضهم إلى أنّهما نفس العلم و هو الحق،لأنّ المراد بكونه تعالى سميعاً بصيراً علمه بالمسموعات و المبصرات.و الدّليل على كونهما بهذا المعنى ما تقدّم من إثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات،و من جملتها المسموع و المبصر،فيكون عالماً بهما،و هو معنى كونه سميعاً بصيراً.

ص:87

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى واحدٌ،لأنّه لو كان معه إله آخر لزم المحال،لأنّه لو أراد أحدهما حركة جسم و أراد الآخر تسكينه،فإمّا أن يقعا معاً و هو محال،و إلّا لزم اجتماع المتنافيين،و إمّا أن لا يقعا معاً،فيلزم خلوّ الجسم عن الحركة و السكون؛و أمّا أن يقع أحدهما دون الآخر،و هو ترجيح من غير مرجّح.*

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى مريد،لأنّ نسبة الحدوث إلى جميع الأوقات بالسوية فلا بدّ من مخصّص هو الإرادة.**

*اعلم أنّ من جملة صفات اللّه تعالى الثبوتية أنّه تعالى واحد،و قد استدلّ عليه بما استدلّ عليه المتكلّمون،و سمّوه دليل التمانع،و هو مستخرج من قوله تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا» 1 ،و هو إنّما يدلّ على ثبوت الوحدانية للإله القادر المريد.

و تقريره أن يقال:لو كان في الوجود إلهان واجبي الوجود،و أراد أحدهما حركة جسم و أراد الآخر تسكينه،فإمّا أن يقع مرادهما فيلزم اجتماع المتنافيين-أعني:الحركة و السكون-أو لا يقع مراد أحدهما، فيلزم محالان:

أحدهما:خلو الجسم عن الحركة و السكون.

و الثاني:عجزهما.

أو يقع مراد أحدهما دون الآخر،فيلزم عجز من لم يقع مراده،فلا يكون إلهاً،[و] هذا خلف.

و الأقسام كلّها باطلة،و هي لازمة على تقدير أن لا يكون واحداً فيجب أن يكون الإله واحداً،و هو المطلوب.

**اعلم أنّ من جملة صفات اللّه تعالى الثبوتية الّتي يجب على المكلّف أن

ص:88

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى كاره،لأنّه نهى عن المعاصي فيكون كارهاً لها.*

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى ليس بجسم و لا عرض و لا جوهر،و إلّا لكان متحيّزاً أو حالاً في المتحيّز فيكون محدثاً.و أنّه تعالى يستحيل عليه الحلول في محلّ أو جهة،و إلّا لكان مفتقراً إليهما فلا يكون واجباً.**

يعتقدها كونه مريداً،و اتّفق المسلمون على اتّصافه بهذه الصفة،لأنّه أوجد العالم في زمان دون زمان، و على شكل دون شكل مع تساوي الجميع بالنسبة إليه،فلا بدّ من مخصص إيجاده بزمان دون زمان،و على وجه دون وجه،و إلاّ لزم التخصيص بلا مخصّص،و ذلك المخصّص هو الإرادة فيكون مريداً،و هو المطلوب.

*اعلم أنّ من جملة الصفات الثبوتية كونه تعالى كارهاً،و الكراهة عبارة عن علمه تعالى باشتمال الفعل على المفسدة الصارفة عن إيجاده.و الدليل على كونه تعالى كارهاً هو أنّه نهى عن المعاصي،لقوله تعالى: «وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى» 1 ،و «وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ» 2 ، «وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ» 3 ،و أمثال ذلك،و النهي عن الشيء يستلزم كراهته و إلاّ لكان قبيحاً،و هو تعالى منزّه عن القبيح فيكون كارهاً،و هو المطلوب.

**اعلم أنّه لمّا فرغ من الصفات الثبوتية شرع في الصفات السلبية،و هي أُمور متعدّدة منها:أنّه ليس بجسم و لا عرض و لا جوهر.

و الجسم:هو الطويل العريض العميق.

و الجوهر:هو المتميز الّذي لا يقبل القسمة في جهة من الجهات.

و العَرض:هو الحالّ في المتحيّز.

ص:89

و انّه تعالى لا يتحد بغير لأنّ الاتحاد غير معقول.*

و الدليل على نفي هذه الأشياء المذكورة عنه أنّه لو اتّصف بها أو بواحد منها لكان إمّا متحيّزاً إن كان جوهراً أو جسماً،أو حالاً في المتحيّز إن كان عَرضاً،و كلّ واحد منهما محدث،أمّا الجسم فلما تقدّم.

و أمّا الجوهر فالدليل الّذي ذكر على حدوث الأجسام فهو دليل على حدوثه أيضاً.

و أمّا العَرض فلأنّ حدوث المحل مستلزم لحدوث الحال أولى،لتقدّم المتحيّز على الحالّ فيه.

فالحاصل:أنّه لو كان تعالى جسماً أو جوهراً أو عرضاً لكان حادثاً،و قد تقدّم أنّه تعالى قديم،فلا يكون جسماً و لا جوهراً و لا عرضاً،و هو المطلوب.

و من الصفات السلبية انّه تعالى يستحيل عليه الحلول في محل أو جهة،و المحل إنّما يقال بالنسبة إلى العرض و هو مقابل الحيّز [و] المكان بالنسبة إلى الجسم،و الجهة هي مقصد المتحرك.و الحلول عبارة عن مقاربة موجود لموجود بحيث يبطل وجود الحال لوجود المحلّ،و الدليل على أنّه تعالى يستحيل عليه الحلول أنّ الحال مفتقر إلى محلّه كما ظهر من معنى الحلول،فكلّ ممكن مفتقر،فلو جاز عليه الحلول لكان ممكن الوجود،و قد قلنا:إنّه تعالى واجب الوجود بنفسه فيستحيل عليه الحلول.

*اعلم أنّ من جملة صفاته تعالى السلبية أنّه لا يتّحد بغيره كما يقول النصارى و بعض الصوفية.

و الاتّحاد:عبارة عن صيرورة الشيئين الموجودين شيئاً واحداً موجوداً،و هذا غير معقول،لأنّ الاثنينيّة تقتضي نفي الوحدة،فكونه اثنين و واحداً غير معقول.

ص:90

و أنّه [ تعالى ] غير مركّب عن شيء و إلّا لكان في جهة،و قد بيّنا بطلانه.

و أنّه تعالى تستحيل عليه الحاجة و إلّا لكان ممكناً و هو محال.*

و الدليل على أنّه لا يتّحد بغيره،وجوه:

الأوّل:ما قلناه من كون الاتحاد غير معقول،و إذا لم يكن معقولاً لا (1)يتصف به تعالى.

الثاني:انّه بعد الاتّحاد لا يخلو إمّا أن يبقيا أو يعدما،أو يبقى أحدهما و يعدم الآخر،فإن بقيا موجودين فلا اتّحاد؛لأنّ الاتّحاد عبارة عما قلناه من صيرورتهما شيئاً واحداً،و الاثنان ليسا بواحد؛و إن عدما فلا اتحاد [و لا حلول] أيضاً،لأنّه لم يبق هناك شيء موجود لا واحد و لا اثنان،و إن عدم أحدهما و بقي الآخر لم يكونا موجودين فلا اتّحاد أيضاً.

الثالث:أنّه لو اتّحد الواجب بغيره لكان لا يخلو إمّا أن يكون ذلك الغير واجباً أو ممكناً.

فإن كان واجباً لزم تعدّد الواجب،و هو محال.

و إن كان ممكناً،و الباقي بعد الاتّحاد إمّا ممكن أو واجب؛فإن كان ممكناً يلزم صيرورة الواجب ممكناً، و إن كان واجباً يلزم صيرورة الممكن واجباً.و القسمان باطلان،فالاتّحاد باطل،فلا يتّحد تعالى بغيره.

*اعلم أنّ من جملة صفات اللّه تعالى السلبية كونه غير مركب عن شيء،و لا مرئيّاً،و لا محتاجاً.

أمّا الأوّل:فلأنّ كلّ مركّب مفتقر إلى الغير،و كلّ مفتقر في وجوده إلى غيره يكون ممكناً،فلو كان الواجب تعالى مركباً لكان ممكناً،[و] هذا خلف،فلا يكون

ص:91


1- 1) .لم خ ل.

و يجب أن يعتقد أنّه تعالى حكيم،لأنّه لا يفعل قبيحاً و لا يخلّ بواجب،و إلّا لكان ناقصاً،تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.*

مركباً عن شيء،و هو المطلوب.

و أمّا الثاني:و هو كونه تعالى ليس مرئيّاً بحاسّة البصر،فالدليل عليه من جهة المعقول هو أنّ كلّ مرئيّ بحاسة البصر يجب أن يكون في جهة،فلو كان تعالى مرئياً لكان في جهة،و قد تقدّم نفي الجهة عنه تعالى فلا يكون مرئياً،و هو المطلوب.

[أمّا] الثالث:كونه تعالى ليس محتاجاً في ذاته و لا في صفاته،فلو كان محتاجاً لكان ممكناً.

أمّا الاحتياج في الذات فظاهر،و أمّا في الصفات فلأنّه لو كان محتاجاً في صفاته إلى غيره لكان وجودها بوجود الغير و عدمها بعدمه،و الواجب متوقّف على أحدهما،و كلّ واحد منهما متوقّف على الغير كما قلناه، فيكون الواجب متوقّفاً في وجوده على غيره،فيكون ممكناً،و هذا محال.

فلا يكون محتاجاً لا في ذاته و لا في صفاته،و هو المطلوب.

*اعلم أنّه يجب على المكلّف أن يعتقد أنّه تعالى حكيم،و معناه أنّه لا يفعل قبيحاً و لا يخلّ بواجب.

و الدليل على أنّه لا يفعل قبيحاً أنّه (1)لو فعله لكان لا يخلو إمّا أن يكون جاهلاً بقبحه،أو عالماً (لا جائز أن يكون عالماً) (2)،لأنّ علمه بقبحه يصرفه عن فعله فلا يفعله،فتعيّن أن يكون جاهلاً،و الجهل نقص و هو تعالى منزّه عن صفات

ص:92


1- 1) .لأنّه.خ ل.
2- 2) .في نسخة«م»:لأنّه لو فعله لكان لا يخلو إمّا أن يكون جاهلاً بقبحه أو عالماً به لأنّ علمه بقبحه....

و يجب أن يعتقد بنبوة نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم،لأنّه ادّعى النبوة و ظهر المعجزة على يده،فيكون نبيّاً حقاً و المقدّمتان قطعيتان.*

النقص،فلو فعله لكان ناقصاً،تعالى اللّه عن ذلك كما قلناه،فلا يفعل قبيحاً و لا يخلّ بواجب،فيكون حكيماً،و هو المطلوب.

*اعلم أنّه لمّا فرغ من إثبات ذات اللّه تعالى و صفاته الثبوتية و السلبية و هو باب التوحيد،و إثبات أفعاله و هو باب العدل،شرع في الركن الثالث من أركان هذا العلم و هو باب النبوّة.

و النبي:هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بغير واسطة أحد من البشر.

إذا تقرر ذلك فاعلم:أنّ محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى الله عليه و آله و سلم نبيّ حقّ،لأنّه ادّعى النبوة و ظهر المعجز على يده مطابقاً.و كلّ من كان كذلك فهو نبي حقّ.

أمّا بيان الصغرى:و هو أنّه ادّعى النبوة فذلك معلوم بالتواتر،إذ جميع الخلق من أرباب المُلك و غيرهم اتّفقوا على أنّه ظهر شخص في مكة شرّفها اللّه تعالى يقال له:محمد بن عبد اللّه و ادّعى النبوّة.

و أمّا أنّه ظهر المعجز على يده فذلك معلوم بالتواتر أيضاً حتّى عدّوا له ألف معجزة،و منها القرآن الذي هو موجود الآن فإنّه تحدّى به فصحاء العرب،فعجزوا عن معارضته،و عدلوا عن الأسهل إلى الأشق الّذي هو القتل و استرقاقهم،و عدولهم من الأسهل إلى الأشق دليل على عجزهم،فيكون معجزاً.

و أمّا بيان الكبرى:أعني قولنا:و كلّ من ادّعى النبوة و صدّقه اللّه بظهور المعجز المطابق لدعواه يكون نبيّاً حقاً،لأنّه لو لا ذلك لكان اللّه تعالى مصدّقاً للكاذب،و تصديق الكاذب قبيح،و اللّه تعالى لا يفعل القبيح لما تقدّم،فكلّ من

ص:93

و يجب أن يعتقد أنّه صلى الله عليه و آله و سلم معصوم،و إلّا لارتفع الوثوق عن إخباراته،فتبطل فائدة البعثة.*

و يجب أن يعتقد أنّه خاتم الرسل،لأنّه معلوم بالضرورة من دينه صلى الله عليه و آله و سلم.**

ادّعى النبوة حينئذٍ و ظهر المعجز المطابق لدعواه على يده يكون نبياً حقّاً،فمحمد صلى الله عليه و آله و سلم نبي حق،و هو المطلوب.

*اعلم أنّه لمّا فرغ من إثبات النبوة شرع في إثبات صفاته،و هي أُمور منها:العصمة:و العصمة لطف يفعله اللّه تعالى بالنبي بحيث يمتنع منه وقوع المعصية مع قدرته عليها،و هو صلى الله عليه و آله و سلم معصوم في أربعة أشياء:

في أقواله و أفعاله و تروكه و تقريره.

و الدليل على عصمته صلى الله عليه و آله و سلم أنّه لو لم يكن معصوماً لجاز أن لا يصدق في إخباره،فيرتفع الوثوق حينئذٍ بما يخبر به عن اللّه تعالى،فلا يحصل الانقياد إلى متابعة أفعاله و أقواله،فتبطل فائدة البعثة،لأنّ الغرض منها الانقياد و المتابعة له ظاهراً و باطناً،كما قال تعالى: «ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» 1 ،و هذا كلّه متوقّف على كونه معصوماً فيجب أن يكون معصوماً،و هو المطلوب.

**و اعلم أنّه صلى الله عليه و آله و سلم خاتم الأنبياء بمعنى أنّه ختم مراتب النبوة،و أشخاصها لقوله تعالى: «وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ». 2

و لأنّه نقل عنه صلى الله عليه و آله و سلم نقلاً متواتراً أنّه:«لا نبي بعدي»فيكون خاتماً،و هو المطلوب.

ص:94

و يجب أن يعتقد أنّ الإمام الحقّ من بعده بلا فصل علي بن أبي طالب عليه السلام،لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم نصّ عليه نصّاً متواتراً بالخلافة،و لأنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً،لأنّ الإمامة لطف،لأنّ الناس إذا كان لهم رئيس مرشد كانوا إلى الصلاح أقرب،و من الفساد أبعد،و اللطف واجب على اللّه تعالى،فتعيّن عليه نصب الإمام،و ذلك الإمام لا يجوز أن يكون جائز الخطأ،و إلّا لافتقر إلى إمام آخر و يتسلسل،فثبت أنّه معصوم،و غير علي بن أبي طالب عليه السلام ممّن ادّعى الإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ليس بمعصوم بالإجماع،و الأدلّة في ذلك أكثر من أن تحصى.*

*اعلم أنّه لمّا فرغ من النبوة شرع في الإمامة الّذي هو الباب الرابع من أبواب هذا العلم.

و الإمامة:رئاسة عامّة في أُمور الدين و الدنيا لشخص من الأشخاص بواسطة البشر.

فقولنا:رئاسة،شامل لجميع الرئاسات؛و قولنا (1):عامّة،يخرج الرئاسات الخاصة.

و قولنا (2):في أُمور الدين،يخرج الرئاسة المتعلّقة بأُمور الدنيا كرئاسة الحكام و السلاطين.

[و] قولنا (3):و الدنيا،يخرج الرئاسة المتعلّقة بأُمور الدين لا غير،كرئاسة العلماء و الفقهاء.

و قولنا:بواسطة البشر يخرج النبوة فإنّها بواسطة المَلك.

ص:95


1- 1) .الموجود في نسخة«ن»:«قوله»،و ربما يعني به ما ذكره المقداد السيوري في«النافع يوم الحشر»في شرح الباب الحادي عشر للعلاّمة الحلّي،في الفصل السادس«في الإمامة»،قال:الإمامة رئاسة عامة في الدين و الدنيا،لشخص من الأشخاص.
2- 2) .الموجود في نسخة«ن»:«قوله»،و ربما يعني به ما ذكره المقداد السيوري في«النافع يوم الحشر» [1]في شرح الباب الحادي عشر للعلاّمة الحلّي،في الفصل السادس«في الإمامة»، [2]قال:الإمامة [3]رئاسة عامة في الدين و الدنيا،لشخص من الأشخاص.
3- 3) .الموجود في نسخة«ن»:«قوله»،و ربما يعني به ما ذكره المقداد السيوري في«النافع يوم الحشر»في شرح الباب الحادي عشر للعلاّمة الحلّي،في الفصل السادس«في الإمامة»،قال:الإمامة رئاسة عامة في الدين و الدنيا،لشخص من الأشخاص.

إذا تقرر ذلك فاعلم أنّ الخليفة الحق بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلا فصل هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

و الدليل عليه من وجوه:

الأوّل:النقل المتواتر،المفيد لليقين،من النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه هو الخليفة من بعده كما نقله الشيعة من زمان النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى زماننا هذا في جميع أقطار العالم،فيكون هو الخليفة.

الثاني:أنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً،و غير علي عليه السلام ممّن ادّعي فيه الإمامة ليس بمعصوم.

أمّا بيان المقدّمة الأُولى،و هو كون الإمام يجب أن يكون معصوماً،فلأنّ الإمام لطف،و اللطف واجب على اللّه تعالى.

أمّا أنّ الإمام لطف و هو ما كان مقرّباً إلى الطاعة و مبعّداً عن المعصية،و لا ريب أنّ الناس إذا كان لهم رئيس مرشد يخافون سطوته و لا يأمنون عقوبته،كانوا إلى الصلاح أقرب،و من الفساد أبعد،و لا نعني باللطف إلاّ ذلك كما قلنا،فيكون لطفاً.

و أمّا بيان أنّ اللطف واجب على اللّه تعالى،فقد تقرّر ذلك في باب العدل.

و إذا كان واجباً عليه تعالى،فتعيّن عليه نصب الإمام فينصبه حينئذٍ.و ذلك الإمام الّذي نصبه اللّه تعالى لا يجوز أن يكون جائز الخطأ،و إلاّ لافتقر إلى إمام آخر،لأنّ العلّة المُحوجة إلى نصب الرئيس هو جواز صدور الخطأ من الأُمّة،فلو جاز على الرئيس الخطأ أيضاً لافتقر إلى رئيس آخر،و ينتقل الكلام إليه و نقول فيه كما قلنا في الأوّل،و هكذا فيلزم التسلسل،و التسلسل محال،فلا يكون حينئذٍ جائز الخطأ فيكون معصوماً، و هو المطلوب.

ص:96

و يجب أن يعتقد أنّ الإمام من بعد علي عليه السلام ولده الحسن،ثمّ الحسين،ثمّ علي،ثمّ محمد،ثمّ جعفر،ثمّ موسى،ثمّ علي،ثمّ محمّد،ثمّ علي،ثمّ الحسن ثمّ الخلف الحجة صلوات اللّه عليهم أجمعين،لأنّ كُلّ إمام منهم نصّ على من بعده نصّاً متواتراً بالخلافة،و لأنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً و غيرهم ليس بمعصوم بإجماع المسلمين،فتعيّنت الإمامة فيهم صلوات اللّه عليهم أجمعين.*

و أمّا بيان المقدمة الثانية،و هو أنّ غير علي عليه السلام ممّن ادّعي فيه الإمامة ليس بمعصوم،فبالإجماع العام منّا و من الخصم،و إذا ثبت أنّ غير علي عليه السلام ليس بمعصوم،فغيره ليس بإمام.

و إذا لم يكن غيره إماماً تعيّن أن يكون هو الإمام لا غير،و إلاّ لخرج الحقّ عن الأُمة،و ذلك باطل فيكون هو الإمام بلا فصل بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و هو المطلوب،و الأدلّة في هذا المطلوب أكثر من أن تحصى لكن اقتصرنا على ما ذكرناه،لأنّه هو العمدة في هذا الباب،و لمناسبة الاختصار المطلوب في هذه الرسالة.

*اعلم أنّه لمّا فرغ من إثبات إمامة علي عليه السلام شرع في إثبات الإمامة لولده الأحد عشر عليهم السلام المذكورين في الكتاب،و للإمامية على إثبات هذا المطلوب أدلّة متعدّدة،و المصنّف اقتصر على ما هو المشهور منها،و هو دليلان:

الأوّل:أنّ كلّ واحد منهم عليهم السلام نصّ على مَنْ بعده نصّاً متواتراً،نقله الإمامية خلفٌ عن سلف،فيكون إماماً.

الثاني:أنّ كلّ واحد منهم عليهم السلام معصوم و غيره ممّن ادّعي فيه الإمامة ممّن كان في زمانه ليس بمعصوم، فلا يكون إماماً،فيكون هو الإمام،و إلاّ لخرج الحقّ عن الأُمّة،و هو باطل فتعيّنت الإمامة فيهم عليهم السلام.

ص:97

و يجب أن يعتقد أنّ الإمام الحجّة (صلوات اللّه عليه) حيٌّ موجودٌ في كلّ زمان بعد موتِ أبيهِ الحسن عليه السلام،لأنّ كل زمان لا بدّ فيه من إمام معصوم،و غيره ليس بمعصوم بالإجماع،و إلّا لخلا الزمان من إمام معصوم مع أنّ اللطف واجب على اللّه تعالى في كلّ وقت.*

*اعلم أنّه يجب أن يعتقد أنّ الإمام الحق محمد بن الحسن عليه السلام موجود في هذا الزمان،لأنّ الإمامة لطف،و اللطف واجب على اللّه تعالى،و اللّه تعالى لا يخل بالواجب،و قد تقدّم بيان هذه المقدّمات،فيجب عليه تعالى أن ينصب إماماً معصوماً،و كلّ من قال بذلك قال بوجوده عليه السلام فيكون هو الإمام الموجود و الخليفة الحق في هذا الزمان،لأنّه لو لا ذلك لكان إمّا أن لا يكون موجوداً أصلاً،فيلزم إخلاله تعالى بالواجب،و هو محال؛أو يكون موجوداً،و لا يكون الذي ذكرناه ملزم خلاف إجماع الأُمة،و هو باطل أيضاً،فالإمام الحقّ المعصوم الموجود في هذا الزمان هو محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام،و ذلك هو المطلوب.

و استبعاد الخصم طول عمره عليه السلام جهل محض،يعلم ذلك من العلم بقدرة اللّه تعالى و ما اشتمل عليه الكتاب العزيز من ذكر نوح عليه السلام و كتب التواريخ في أخبار المعمرين. (1)

***

تمّ شرح واجب الاعتقاد يوم الجمعة السادس عشر من شهر محرم الحرام سنة 841ه.

ص:98


1- 1) .جاء في نسخة«م»:و هذا آخر ما ذكرناه في شرح المسائل الأُصولية على الوفاء و التمام و الحمد للّه ربّ العالمين،و قد وافق الفراغ يوم الأربعاء على يد أقل عباد اللّه و أحوجهم إلى رحمته و غفرانه صالح ابن الشيخ أحمد السعدي....

7

اشارة

مصطلح أهل الحديث لغة و اصطلاحاً و تطبيقاً

«أهل الحديث»مصطلح مركب من كلمتين:«الأهل»و«الحديث».

أمّا الأوّل فيطلق على جماعة يجمعهم،نسب أو دِين أو بلد أو صناعة و نحو ذلك. (1)

و أمّا الثاني:فهو في اللغة بمعنى الجديد في الأشياء،و قد يطلق على الخبر،نحو قوله تعالى: «إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» 2 .و عنى بالحديث في الآية،الخبر الوارد في القرآن الكريم في هذا الموضع،فالحديث و الخبر في اللغة مترادفان،لكن إذا أُطلق الحديث بين العلماء يراد به ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم من قول أو فعل أو تقرير،بل صفة خُلْقية أو خَلْقية على وجه يكون مرادفاً للسنة الّتي يطلق و يراد به قول المعصوم أو فعله أو تقريره. (2)

ص:99


1- 1) .المفردات للراغب،مادة«أهل».
2- 3) .البداية،للشهيد الثاني:18؛وصول الاخيار إلى أُصول الاخبار،للشيخ الحسين العاملي:88؛السنة قبل التدوين،لمحمد عجاج الخطيب:22.

فإذا أُطلق مصطلح«أهل الحديث»فيراد به جماعة يزاولون حفظه و نقله و تدوينه.

و من هنا يعلم وجه تسميتهم بأهل الحديث و أصحابه،قال الشهرستاني:ثمّ المجتهدون من أئمّة الأُمّة محصورون في صنفين لا يعدوان إلى ثالث:أصحاب الحديث و أصحاب الرأي،إلى أن قال:و إنّما سُمُّوا بأصحاب الحديث،لأنّ عنايتهم بتحصيل الأحاديث و نقل الأخبار و بناء الأحكام على النصوص و لا يرجعون إلى القياس الجلي و الخفي ما وجدوا خبراً أو أثراً. (1)

و يعرفهم الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بقوله:إنّ قوماً استغرقوا أعمارهم في سماع الحديث و الرحلة فيه و جمع الطرق الكثيرة و طلب الأسانيد العالية و المتون الغريبة.

و هؤلاء على قسمين:قسم قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صحيح الحديث من سقيمه و هم مشكورون على هذا القصد إلاّ أنّ إبليس يُلبّس عليهم بأن يشغلهم بهذا،عما هو فرض عين من معرفة ما يجب عليهم و الاجتهاد في أداء اللازم و التفقّه في الحديث.

و قسم منهم قوم أكثروا سماع الحديث و لم يكن مقصودهم صحيحاً و لا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق و إنّما كان مرادهم العوالي و الغرائب فطافوا البلاد ليقول أحدهم لقيت فلاناً،ولي من الأسانيد ما ليس لغيري،و عندي أحاديث ليست عند غيري. (2)

ص:100


1- 1) .الملل و النحل:217/1. [1]
2- 2) .تلبيس إبليس:164-166،ط مكتبة الحياة.

أصحاب الحديث البارزون

يذكر الشيخ الأقدم الفضل بن شاذان الأزدي النيشابوري (المتوفّى260ه) أسماء عدة من أصحاب الحديث و يقول:و منهم أصحاب الحديث مثل سفيان الثوري و يزيد بن هارون و جرير بن عبد اللّه و وكيع بن الجراح و أشباههم من العلماء الذين يرون أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:...ثمّ يذكر شيئاً من الأحاديث الغرائب الّتي يرويها أهل الحديث. (1)

و ما ذكره ابن شاذان هم أصحاب الحديث واقعاً حسب التعريف المذكور،لكن الشهرستاني توسّع في بيان المصاديق و قال:أصحاب الحديث هم أهل الحجاز،و هم أصحاب مالك بن أنس،و أصحاب إدريس بن محمد الشافعي،و أصحاب سفيان الثوري،و أصحاب أحمد بن حنبل،و أصحاب داود بن علي بن محمد الاصفهاني. (2)

و قال ابن المرتضى:(قال الحاكم) و منهم:أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه،و داود بن محمد و الكرابيسي،و من متأخّريهم:محمد بن إسحاق ابن خزيمة صنف كتاباً في أعضاء الرب تعالى ذلك. (3)

و يرى السيّد المرتضى:ابن المبارك و يزيد بن هارون من شيوخ أصحاب الحديث. (4)

ص:101


1- 1) .الإيضاح:7،ط.الاعلمي.
2- 2) .الملل و النحل:217/1. [1]
3- 3) .المنية و الأمل:24. [2]
4- 4) .الانتصار:421.

الأُصول الّتي يعتقدونها

لم يكن لأهل الحديث عقائد خاصة و آراء كلامية،إذ لم يظهروا في الساحة بصورة نحلة كلامية،و إنّما الأمر الّذي جمعهم تحت هذا العنوان هو ولعهم بحفظ الحديث النبوي و تدوينه و نشره.و قال ابن المرتضى:

«الحشويّة لا مذهب لهم منفرد». (1)

و بما أنّه لم تكن لهم صبغة كلامية تجاه سائر الفرق،روى السيوطي أنّ أهل الحديث لم يكونوا على وتيرة واحدة،بل كان فيهم مرجئي يرى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان،كإبراهيم بن طهمان و أيوب بن عائذ الطائي،و ناصبي كان ينصب العداء لعلي و أهل بيته كإسحاق بن سويد العبدي،و متشيّع يرى الفضل لعلي في الإمامة و الخلافة نظير إسماعيل بن أبان و أبان بن تغلب،و قدريّ ينسب محاسن العباد و مساوئهم إليهم لا إلى اللّه كثور بن زيد المدني و حسان بن عطية،و جهميّ يعتقد بخلق القرآن و حدوثه كبشر بن سريّ،و خارجي ينكر على عليّ مسألة التحكيم كعكرمة مولى ابن عباس،و واقفي لا يتكلم في القرآن بشيء من الحدوث و القدم و لا في تحكيم عليّ أبا موسى نظير علي بن هشام،و متقاعد يرى لزوم الخروج على أئمة الجور و لا يباشر بنفسه كعمران بن حطّان. (2)

فهؤلاء مع انتمائهم إلى نِحَل مختلفة كان يجمعهم عنوان«أهل الحديث»،إذ ليس لهم أُصول و آراء كلامية و لا عقائد خاصة،بل الجميع على اختلاف نحلهم كانوا ينضوون تحت عنوان أهل الحديث.

ص:102


1- 1) .المنية و الأمل:24.
2- 2) .تدريب الراوي،للسيوطي:328/1.سيأتي تفصيل ذلك في البحث عن مصطلح أهل السنة في المقال الآتي،فانتظر.

و لما طلع نجم أحمد بن حنبل بعد المحنة الّتي تعرّض لها في مسألة خلق القرآن،و صار إماماً لأهل الحديث،حدّهم تحت أُصول خاصة استخرجها حسب استنباطه من الكتاب و السنّة و جعل الجميع كتلة واحدة بعد ما كانوا على سُبل شتّى،و هذه الأُصول هي الّتي حرّرها أحمد بن حنبل في كتاب السنّة (1)،و بعده الإمام الأشعري في كتاب«مقالات الإسلاميين». (2)

و يظهر ممّا نقله ابن أبي يعلى (المتوفّى:526ه) في طبقاته أنّ أكثر أهل الحديث قبل تصدّر أحمد بن حنبل للرئاسة كان عثمانيّ الهوى،إذ هو الّذي قال بالتربيع و جعل علياً رابع الخلفاء،فقد ذكر ابن أبي يعلى بالاسناد عن وديزة الحمصي:قال:دخلت على أبي عبد اللّه أحمد بن حنبل،حين أظهر التربيع بعلي رضي اللّه عنه،فقلت له:يا أبا عبد اللّه إنّ هذا لطعن على طلحة و الزبير.فقال:بئسما قلت،و ما نحن و حرب القوم و ذِكْرها.فقلت:أصلحك اللّه إنّما ذكرناها حين ربّعتَ بعلي،و أوجبت له الخلافة،و ما يجب للأئمّة قبله.فقال لي:و ما يمنعني من ذلك؟ قال:قلت:حديث ابن عمر.فقال لي:عمر خير من ابنه.قد رضي علياً للخلافة على المسلمين،و أدخله في الشورى،و علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قد سمّى نفسه أمير المؤمنين،فأقول أنا:

ليس للمؤمنين أمير؟ فانصرفتُ عنه. (3)و على ما ذكر صار علي رابع الخلفاء رتبة و فضيلة. (4)

نعم كان أهل الحديث الكوفيون يقدمون علياً على عثمان،بل يقدّمونه في الفضل على أبي بكر و عمر (5)،غير أنّ عظمة الإمام أحمد قد غلبت على سائر الآراء

ص:103


1- 1) .كتاب السنة:44- 50.
2- 2) .مقالات الإسلاميين:320- 325.
3- 3) .طبقات الحنابلة:393/1. [1]
4- 4) .مقالات الإسلاميين:294.
5- 5) .البداية و النهاية لابن كثير:11/8. [2]

و جعل المفاضلة بينهم حسب ترتيب خلافتهم،يقول ابن عبد البر في الاستيعاب:إنّ الإجماع المدّعى في تفضيل الخلفاء الأربعة و ترتيبهم لم يحصل إلاّ في زمن أحمد بن حنبل. (1)

و قد عقد الأشعري فصلاً لعقائد أهل الحديث و قال:هذه حكاية جملة قول أهل الحديث و أهل السنة.

ثمّ ذكر آراءهم و عقائدهم،نذكر منها ما يلي:

1.إنّ اللّه سبحانه على عرشه كما قال: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى». 2

2.و انّ له يدين بلا كيف،و انّ له عينين بلا كيف،و انّ له وجهاً.

3.انّ اللّه وفق المؤمنين لطاعته و خذل الكافرين،و لطف بالمؤمنين و نظر لهم و أصلحهم و هداهم و لم يلطف بالكافرين و لا أصلحهم و لا هداهم،و لو أصلحهم لكانوا صالحين،و لو هداهم لكانوا مهتدين،و انّ اللّه سبحانه يقدر أن يصلح الكافرين و يلطف بهم حتّى يكونوا مؤمنين و لكنّه أراد أن لا يصلح الكافرين و يلطف بهم حتّى يكونوا مؤمنين و لكنّه أراد أن يكونوا كافرين كما علم و خذلهم و أظلهم و طبع على قلوبهم.

4.انّ اللّه سبحانه يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنين و لا يراه الكافرون.

5.و يرون الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح و أن لا يخرجوا عليهم بالسيف و أن لا يقاتلوا في الفتنة.

6.انّ الأطفال أمرهم إلى اللّه إن شاء عذبهم و إن شاء فعل بهم ما أراد. (2)

ص:104


1- 1) .الاستيعاب:154/3.
2- 3) .مقالات الإسلاميين:290- 296. [1]

و ما ذكرنا من عقائدهم يعرب عن تغلغل فكرة التشبيه و التجسيم و الجبر في عقائدهم،و إن كانوا لا يصرحون بذلك،و لكن مآل أقوالهم تلك إلى ذلك.

قال ابن المرتضى:«و أجمعوا على الجبر و التشبيه و جسّموا و صوروا و قالوا بالأعضاء و قِدَمِ ما بين الدفتين من القرآن.قال الحاكم:و منهم أحمد بن حنبل،و إسحاق بن راهويه و داود بن محمد و الكرابيسي، و من متأخّريهم محمد بن إسحاق بن حزيمة صنف كتاباً في أعضاء الربّ تعالى عن ذلك. (1)

و قد ألف المفسر أبو عثمان إسماعيل الصابوني(المتوفّى 449ه) رسالة في عقيدة السلف و أصحاب الحديث و ذكر فيها بعض هذه الأُصول و قد نشرت ضمن مجموعة الرسائل المنيرية. (2)

التطور في مصطلح«أهل الحديث»

ثمّ إنّه ربما يطلق على أهل الحديث،الحشويةُ أو السلفيةُ إشارة إلى وحدة هذه العناوين في مقام التطبيق و إن كانت المفاهيم مختلفة.

ثمّ إنّ السلفية أو الحشوية صورة أُخرى لأصحاب الحديث.

قال السيد المرتضى:«الحشوية لا يعتد بخلافهم فانّه-تحريف القرآن-مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنُّوا صحتها،لا يرجع إلى مثلها عن المعلوم المقطوع عليه. (3)

لقد سارت دراسة الحديث بعد الإمام أحمد على المنهج الّذي سلكه

ص:105


1- 1) .المنية و الأمل:24.
2- 2) .لاحظ:مجموعة الرسائل المنيرية:105/1- 135.
3- 3) .الذخيرة في علم الكلام:363.

إمامهم،إلى أن ظهر أحمد بن تيمية في أواخر القرن السابع و أوائل القرن الثامن فتبنّى آراء الإمام أحمد و مدرسته،و لكنّه أتى بأُمور لا توافق مسلك إمامه،نشير إلى بعضها:

1.آراؤه الخاصة حول الأنبياء و الصلحاء و الحطّ من منازلهم.

2.حرمة التوسل بالأنبياء و الأولياء و زيارة قبورهم.

3.إعمال النظر و الاجتهاد في الأحكام.

إلى غير ذلك ممّا أبدعه ابن تيمية في عصره و تبعه على ذلك من جاء بعده،فهم و إن كانوا ينتمون إلى الإمام أحمد في معظم آرائهم الاعتقادية و الفقهية و لكن فارقوه في الأُمور السابقة و غيرها،فهم ليسوا من أهل الحديث بالمصطلح السابق،نعم أكثر من ينتمي إلى أهل الحديث في الحياة المعاصرة،هؤلاء الذين يقتفون أثر ابن تيمية في أكثر المسائل،و ربما يوجد في المغرب الإسلامي جماعة من أهل الحديث تاركين عقائد ابن تيمية سالكين طريق سائر أهل السنّة.

ص:106

8

اشارة

أهل السنة لغة و اصطلاحاً و تطبيقاً

«أهل السنّة»

مركّب من كلمتين:«أهل»و«السنّة».

أمّا الأهل فيفسره الراغب بقوله:«أهل الرجل:من يجمعه و إيّاهم نسب أو دين،أو ما يجري مجراهما من صناعة و بيت و بلد.

و أمّا السنّة في اللغة فيقول ابن الأثير:«الأصل فيها الطريقة و السيرة»يقول سبحانه: «سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» 1 ،و في اللسان:السنة:الطريقة المحمودة المستقيمة. (1)

و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«سَنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب»أي خذوهم على طريقتهم و أجروهم في قبول الجزية منهم. (2)

و ربما تستعمل في الطريقة المعتادة،سواء أ كانت حسنة أم سيئة كما في

ص:107


1- 2) .لسان العرب:13، [1]مادة«سنن».
2- 3) .النهاية:2، [2]مادة«سن».

الحديث:«من سنّ سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء،و من سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». (1)

و أمّا اصطلاحاً فلها إطلاقان:

1.السنّة ما أمر به النبي أو نهى عنه أو ندب إليه قولاً و فعلاً ممّا لم ينطق به الكتاب العزيز،و لذا يقال أدلة الشرع عبارة عن الكتاب و السنة. (2)

2.السنة في مقابل البدعة،فكلّ ما يسند إلى أُصول الشريعة فهو سنّة في مقابل ما ليس كذلك. (3)و هذا كثير الاستعمال في كلمات الإمام علي عليه السلام قال:

1.«ما أُحْدِثَتْ بِدْعَة إِلاّ تُرِكَ بِها سُنَّة،فاتَّقُوا البِدَع وَ أَلْزِمُوا المهْيَع». (4)

2.«أوّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه،و تدبّروا الفرض فأقاموه،أحيُوا السنة و أماتوا البدعة». (5)

هذا كلّه حول لفظ«السنة».

و أمّا إذا أُضيف الأهل إلى السنة فيظهر من الغزالي في«فضائح الباطنية»ورود هذا التعبير في لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم في افتراق الأُمة إلى فرق متعددة حيث روى عنه صلى الله عليه و آله و سلم:ستفترق أُمّتي نيفا و سبعين فرقة،الناجية منها واحدة فقيل:و من هم؟ فقال:أهل السنة و الجماعة،فقيل و ما السنة و الجماعة؟ فقال:ما أنا الآن عليه

ص:108


1- 1) .مستدرك الوسائل:229/12رقم 13956. [1]
2- 2) .النهاية:409/2. [2]
3- 3) .الأُصول العامة للفقه المقارن:121- 122.
4- 4) .بحار الأنوار:264/2،الحديث15. [3]
5- 5) .نهج البلاغة،الخطبة182. [4]

و أصحابي. (1)

و لكنا لم نجد مثل هذه العبارة في المجامع الحديثية نعم روى السيوطي في«الدر المنثور»عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ» 2 قال:تبيض وجوه أهل السنة و تسوّد وجوه أهل البدع.

و أخرج أيضاً عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قرأ: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ» قال صلى الله عليه و آله و سلم:

تبيض وجوه أهل الجماعات و السنة و تسود وجوه أهل البدع و الأهواء. (2)

و رواه ابن كثير في تفسير الآية عن ابن عباس أنّه قال:حينما تبيض وجوه أهل السنة و الجماعة و تسود وجوه أهل البدعة و الفرقة. (3)

و لكن أمارات الوضع لائحة على مثل هذه الأحاديث و الّذي يدل على الوضع-مضافاً إلى ما حقّق في محله من أنّ حديث افتراق الأُمم كلّها ضعاف - (4)انضمام لفظ الجماعة إلى السنة في الأخيرين،مع العلم بان لفظ الجماعة استعمل يوم تسنّم معاوية عرش الخلافة فسَمُّوا نفس السنة بعام الجماعة لاجتماع الناس - بزعمهم-على أمير واحد.

قال ابن عساكر:ثمّ قتل علي رضي اللّه عنه في شهر رمضان سنة أربعين و صالح الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان و سلّم له الأمر و بايعه الناس جميعاً

ص:109


1- 1) .فضائح الباطنية:78. [1]
2- 3) .الدر المنثور:291/2. [2]
3- 4) .تفسير ابن كثير:389/1. [3]
4- 5) .بحوث في الملل و النحل:24/1- 25.

فسمِّي عام الجماعة. (1)

نعم أتى عمر بن عبد العزيز في رسالته الّتي كتبها في آخر القرن الأوّل أو رأس القرن الثاني الهجري رداً على القدرية بكلمة«أهل السنة»فقال:و قد علمتم أهل السنة كانوا يقولون:الاعتصام بالسنة نجاة و سيقبض العلم قبضاً سريعاً. (2)

و أمّا ما ذا يراد به عند الإطلاق فهو فرع تعيين المراد من«السنة»:

فإن أُريد في كلمات هؤلاء من«السنة»في«أهل السنة»،الطريقة فيتعين المقصود في الذين اتّبعوا طريقةَ الصحابة و التابعين في الآيات المتشابهات و صفات اللّه من غير خوض في معانيها،بل أجروها على ظاهرها و تركوا علمها على اللّه،و هؤلاء يقولون:انّ للّه يداً و عيناً و ساقاً،لكن لا نعرف واقعها و لا نخوض فيها بل نثبتها عليه بنفس معانيها،دون تحقيق.

و قد كان للصفات الخبرية دور كبير في شق الأُمة إلى فرقتين:فرقة تُثبتها على اللّه دون تحقيق و تأويل، و أُخرى تثبتها على اللّه بتأويل مقبول أو غير مقبول،و على ضوء ذلك فإطلاقه بهذا المعنى في مقابل المعتزلة المؤوّلين للصفات الخبرية.المنزّهين للّه سبحانه عن التجسيم و التشبيه.

و إن أُريد من السنة في«أهل السنة»الحديث فيتعين المقصود في الذين ليس لهم مهنة سوى مدارسة الحديث و جمعه و قراءته و تحمِّله و نقله،و يعتمدون في كلا الصعيدين:العقيدة و الفقه على الحديث دون أن يكون لهم مدرسة فقهية واضحة الأُسس،و لا مدرسة كلامية مبنية على أُصول عقلية.

ص:110


1- 1) .تاريخ مدينة دمشق:35/28. [1]لاحظ:اسد الغابة:387/4؛ [2]تهذيب الكمال:199/22؛سير أعلام النبلاء للذهبي:137/3،و غيرها كثير.
2- 2) .حلية الأولياء:ترجمة عمر بن عبد العزيز:346/5.

و قد ظهر في أواخر القرن الأوّل و أوائل القرن الثاني اتجاهان مختلفان:

1.أصحاب الحديث و الأثر.

2.أصحاب الرأي و القياس.

فأصحاب السنّة هم الذين يقتفون أثر الرسول و سنّته في القول و الفعل و التقرير في مقابل من يعمل بالرأي و القياس اللّذين لم يردا في السنة.

يقول الغزالي:و ما كان أصحاب الرسول إلاّ على الاتباع و التعليم في كلّ ما شجر بينهم و تحكيم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فيه لا على اتباع رأيهم و عقولهم،و دلّ على أنّ الحقّ في الاتّباع لا في نظر العقول. (1)

فقد كان النزاع بين التيّارين قائماً على قدم و ساق عند ظهور المدرستين؛مدرسة الحديث و الأثر الّتي يقودها المحدثون،و على رأسهم أحمد بن حنبل (264- 241ه)في أوائل القرن الثالث و مدرسة الرأي و القياس الّتي كان على رأسها أبو حنيفة و تلاميذه.

كان أصحاب الحديث و السنة قبل تصدّر أحمد بن حنبل في مجال العقائد على فرق و شيع و لم تكن عندهم أُصول موحدة،إلاّ انّ الإمام أحمد لمّا تسنّم منصة الإمامة في مجال العقائد لأهل السنة،جمعهم على أُصول خاصة ذكرها في كتاب«السنة»و عليها درج الاشعري في كتاب«الإبانة».

و يشهد على ما ذكر،وجود مسالك مختلفة و الأهواء المتضادة عند أهل الحديث قبل تسنّمه منصّة الرئاسة لهم فهم-على ما ذكره،السيوطي كانوا بين:

مرجئي يرى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان و أنّه لا تضر معه معصية كما

ص:111


1- 1) .فضائح الباطنية:78- 79. [1]

لا تنفع مع الكفر طاعة،و نقدم إليك بعض أسمائهم من الذين عاشوا قبل إمامة أحمد أو عاصروه، نظراء:

1.إبراهيم بن طهمان،2.أيّوب بن عائذ الطائي،3.ذرّ بن عبد اللّه المرهبي،4.شبابة بن سوار،5.عبد الحميد بن عبد الرحمن،6.أبو يحيى الحماني،7.عبد المجيد بن عبد العزيز،8.ابن أبي راود،9.عثمان بن غياث البصري،10.عمر بن ذرّ،11.عمر بن مرّة،12.محمد بن حازم،13.أبو معاوية الضرير،14.ورقاء بن عمر اليشكري،15.يحيى بن صالح الوحاظي،16.يونس بن بكير.

إلى ناصبي لعلي و أهل بيته الطاهرين،نظراء:

1.إسحاق بن سويد العدوي،2.بهز بن أسد،3.حريز بن عثمان،4.حصين بن نمير الواسطي،5.

خالد بن سلمة الفأفاء،6.عبد اللّه بن سالم الأشعري،7.قيس بن أبي حازم.

إلى متشيع يحب علياً و أولاده و يرى الولاء فريضة نزل بها الكتاب و يرى الفضيلة لعلي في الإمامة و الخلافة،نظراء:

1.إسماعيل بن أبان،2.إسماعيل بن زكريا الخلقاني،3.جرير بن عبد الحميد،4.أبان بن تغلب الكوفي،5.خالد بن محمد القطواني،6.سعيد بن فيروز،7.أبو البختري،8.سعيد بن أشوع،9.سعيد بن عفير،10.عباد بن العوام،11.عباد بن يعقوب،12.عبد اللّه بن عيسى،13.ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، 14.عبد الرزاق بن همام،15.عبد الملك بن أعين،16.عبيد اللّه بن موسى العبسي،17.عدي بن ثابت الأنصاري،18.علي بن الجعد،19.علي بن هاشم بن البريد،20.الفضل بن دكين،21.فضيل بن مرزوق الكوفي،22.

ص:112

فطر بن خليفة،23.محمد بن جحادة الكوفي،24.محمد بن فضيل بن غزوان،25.مالك بن إسماعيل أبو غسان،26.يحيى بن الخراز.

إلى قدري ينسب محاسن العباد و مساويهم و معاصيهم إلى أنفسهم و لا يُسند فعلهم إلى اللّه سبحانه، نظراء:

1.ثور بن زيد المدني،2.ثور بن يزد الحمصي،3.حسان بن عطية المحاربي،4.الحسن بن ذكوان، 5.داود بن الحصين،6.زكريا بن إسحاق،7.سالم بن عجلان،8.سلام بن مسكين،9.سيف بن سلمان المكي،10.شبل بن عباد،11.شريك بن أبي نمر،12.صالح بن كيسان،13.عبد اللّه بن عمرو،14.أبو معمر عبد اللّه بن أبي لبيد،15.عبد اللّه بن أبي نجيح،16.عبد الأعلى بن عبد الأعلى،17.عبد الرحمن بن إسحاق المدني،18.عبد الوارث بن سعيد الثوري،19.عطاء بن أبي ميمونة،20.العلاء بن الحارث،21.

عمرو بن زائدة،22.عمران بن مسلم القصير،23.عمير بن هاني،24.عوف الأعرابي،25.كهمس بن المنهال،26.محمد بن سواء البصري،27.هارون بن موسى الأعور النحوي،28.هشام الدستوائي،29.

وهب بن منبه،30.يحيى بن حمزة الحضرمي.

إلى جهمي ينفي كلّ صفة للّه سبحانه و يعتقد بخلق القرآن و حدوثه،نظير:بشر بن السري.

إلى خارجي ينكر على أمير المؤمنين مسألة التحكيم و يتبرأ منه و من عثمان و من طلحة و الزبير و أُمّ المؤمنين عائشة و معاوية و غيرهم،نظراء:

1.عكرمة مولى ابن عباس،2.الوليد بن كثير.

إلى واقفي لا يقول في التحكيم أو في القرآن بشيء من الحدوث و القدم و إنّه

ص:113

مخلوق أو غير مخلوق،نظير:علي بن هشام.

إلى متقاعد يرى لزوم الخروج على أئمّة الجور و لا يباشره بنفسه،نظير:عمران ابن حطّان. (1)

إلى غير ذلك من ذوي الأهواء و الآراء الذين قضى الدهر عليهم و على آرائهم و مذاهبهم بعد ما وصل أحمد بن حنبل إلى قمة الإمامة في العقائد.فصار أهل الحديث مجتمعين تحت الأُصول التي استخرجها أحمد و جعل الكلّ كتلة واحدة،بعد ما كانوا على سبل شتى.

فخرجنا بالنتيجة التالية:انّ من كان يفزع في حقلي الأحكام و العقيدة إلى الحديث و الأثر المحفوظ عن الرسول و أصحابه كان من أهل السنة و أمّا من كان يفزع،وراء ذلك إلى الرأي و القياس و سائر أدوات الاستنباط أو يحتج بالبرهان على العقيدة فهو خارج عن حدود هذه اللفظة،قبل أن يظهر التطور في ذلك المصطلح و هذا ما نشرحه في ما يلي:

التطور في مصطلح أهل السنة

و عند ما ظهر الإمام الأشعري في الساحة عام305ه تائباً عن الاعتزال-الّذي عاش معه قرابة أربعين سنة-و التحق بالإمام أحمد،ظهر تطور في التسمية بأهل السنة حيث أفرغ عقائد الإمام أحمد و أتباعه في قوالب كلامية،فصار هو،رأس أهل السنة و أتباعه و إليك نزراً من كلمات الأشعري و أتباعه:

1.يقول أبو الحسن الأشعري(260- 324ه):جملة ما عليه أهل الحديث

ص:114


1- 1) .تدريب الراوي للسيوطي:328/1.

و السنّة الإقرار باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و ما جاء من عند اللّه و ما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

و قد (1)أطال الكلام في بيان عقائد الإمام أحمد بن حنبل،و قال في آخره:«و يرون مجانبة كلّ داعٍ إلى بدعةٍ». (2)

2.و يقول في«الإبانة»في تعريف أهل الحق و السنّة:قولنا الّذي نقول به و ديانتنا الّتي ندين بها التمسك بكتاب ربّنا-عزّ و جلّ و سنة نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم-و ما روي عن السادة الصحابة و التابعين و أئمّة الحديث،و نحن بذلك معتصمون و بما كان يقول-أبو عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل-نضّر اللّه وجهه و رفع درجته و أجزل مثوبته،قائلون،و لمن خالف قوله مجانبون. (3)

3.يقول عبد القاهر البغدادي(المتوفّى 429ه)-و هو من الأشاعرة -:قد ذكرنا في الباب الأوّل من هذا الكتاب أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لمّا ذكر افتراق أُمّته بعده ثلاثاً و سبعين فرقة،و أخبر أنّ فرقة واحدة منها ناجية،سئل عن الفرقة الناجية و عن صفتها،فأشار إلى الذين هم على ما عليه هو و أصحابه،و لسنا نجد اليوم من فرق الأُمّة من هم على موافقة الصحابة-رضي اللّه عنهم-غير أهل السنة و الجماعة من فقهاء الأُمّة و متكلّميهم الصفاتية، دون الرافضة،و القدرية و الخوارج،و الجهمية،و النجارية،و المشبهة،و الغلاة،و الحولية. (4)

4.يقول سعد الدين التفتازاني بعد ما ذكر رجوع الأشعري عن الاعتزال و حواره مع أُستاذه المعتزلي الجبائي و عجزه عن إقناع الأشعري قال:و ترك

ص:115


1- 1) .مقالات الإسلاميين:345/1. [1]
2- 2) .نفس المصدر:350. [2]
3- 3) .الابانة عن أُصول الديانة:43.
4- 4) .الفرق بين الفرق:318- 319. [3]

الأشعري مذهبه و اشتغل هو و من تبعه بإبطال رأي المعتزلة و إثبات ما ورد به السنة و مضى عليه الجماعة فسمّوا:«أهل السنة و الجماعة». (1)

ترى أنّه كيف تطور لفظة أهل السنة بعد ظهور المدرسة الكلاميّة للأشعري فقد كان يستعمل في خصوص من يعمل بالحديث و يقتصر عليه و لا يعتمد على العقل بتاتاً قياساً كان أو استدلالاً كلامياً،و لكن بعد ما ظهر الإمام الأشعري و جاء بمدرسة كلامية فصار من أنصار السنة و أصحابها و كان الأشعري شافعياً في الفقه،فصار أصحاب المدارس الكلامية و الفقهية من أنصار السنة و أصحابها في مقابل سائر الفرق كالمعتزلة و المرجئة و الشيعة و الخوارج.

و قد تنبه ببعض ما ذكرنا ابن حزم فقال:فِرقُ المقرّين بملة الإسلام خمسة:أهل السنة و المعتزلة و المرجئة و الشيعة و الخوارج...إلى أن قال:فأقرب فرق المرجئة إلى أهل السنة من ذهب مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه،في أنّ الإيمان هو التصديق باللسان و القلب معاً و أنّ الأعمال هي شرائع الإيمان و فرائضه فقط،و أبعدهم أصحاب جهم بن صفوان و أبو الحسن الأشعري. (2)

ترى أنّه يحاول اخراج أبي حنيفة من أهل السنة لقوله بأنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان كما أنّه عد أبا الحسن الأشعري أيضاً أبعد الناس عن أهل السنة فيختص أهل السنة عنده بأهل الحديث و من يعمل بالظواهر.

و مع أنّ الأشعري دخل في سلك الحنابلة و عدّ نفسه منهم و تاب عن الاعتزال و لكن الحنابلة لم يواجهوه بالقبول،حكى ابن أبي يعلى في طبقاته قال:قرأت على عليّ القومسي عن الحسن الأهوازي قال:

سمعت أبا عبد اللّه الحمراني

ص:116


1- 1) .شرح العقائد النسفية:16. [1]
2- 2) .الفصل في الملل و الأهواء و النحل:265/2. [2]

يقول:لما دخل الأشعري بغداد جاء إلى البَرْبهاري فجعل يقول:رددت على الجبائي و على أبي هاشم، و نقضت عليهم و على اليهود و النصارى و المجوس،و قلت و قالوا،و أكثرَ الكلامَ،فلمّا سكتَ قال البَرْبَهاري:

و ما أدري ممّا قلتَ لا قليلاً و لا كثيراً،و لا نعرف إلاّ ما قاله أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل،قال:فخرج من عنده و صنف كتاب«الإبانة»فلم يقبله منه،و لم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها. (1)

و ما هذا إلاّ لأنّ الأشعري يستحسن الخوض في علم الكلام و قد ألف رسالة في استحسان الخوض في هذا العلم طبعت في حيدرآباد بالهند و قد جئنا بنصها كاملاً في الجزء الثاني من موسوعتنا«بحوث في الملل و النحل». (2)

و ما ذلك إلاّ لأنّ«أهل السنة»كان يومذاك لقب مجموعة من المحدثين الذين لا يهمّهم إلاّ الحديث في عامة الحقول،حتّى أنّهم ضاقوا عن تسمية عدّة من المحدثين بأهل السنة،كعبد اللّه بن سعيد الكلاّب و أبي العباس أحمد بن عبد الرحمن القلانسي و الحارث بن أسد المحاسبي الذين يردّون على عقائد المعتزلة بالدليل العقلي مع أنّهم من أعاظم علماء السنة يوم ذاك.و ربما كانت آراء هؤلاء الثلاثة في الرد على المعتزلة كنواة لمذهب الإمام الأشعري.

المشاجرة بين الحنابلة و الأشاعرة

إنّ المنافرة و التباغض بين الحنابلة و الأشاعرة كانت قائمة على قدم و ساق مع أنّ الأشعري قد ظهر في الساحة بعنوان انّه ناصر السنة و مقتفي الإمام أحمد في العقائد،و لكنّه لمّا صبغ عقائد أهل السنة بصبغة كلامية خالفهم الحنابلة و لم

ص:117


1- 1) .تبيين كذب المفتري،قسم التعليقة:391.
2- 2) .بحوث في الملل و النحل:51/2- 67.

يرتضوا به و دامت المنافرة بين الطائفتين عبر قرون،و قد ذكر تاج الدين السبكي وقوع الفتنة بين الحنابلة و الأشاعرة عام 436ه. (1)

و قد أوردنا ما ذكره من المناقشات و تدخل الحكومة في فصل النزاع في كتابنا«بحوث في الملل و النحل». (2)

و قد انتهت هذه الصراعات المستمرة إلى تكفير الأشاعرة الحنابلة،و قد ذكر ابن الجوزي في«المنتظم» أنّه ذهب الشريف أبو القسام البكري المغربي،و هو مدرس بالنظامية،إلى جامع المنصور و هو مركز تجمع الحنابلة.في حراسة الشرطة و وعظ فيه،و هاجم الحنابلة،و رماهم بالكفر قائلاً «ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا...» ما كفر أحمد بن حنبل،إنّما كفر أصحابه،فرماه الحنابلة بالآجر. (3)

و ذكر اليافعي في تاريخه في حوادث عام 566ه أنّه جاء إلى بغداد محمد بن البروي فوعظ بالنظامية و نصر مذهب الأشعري و بالغ في ذم الحنابلة و كان يقول:لو كان لي أمر لوضعت عليهم الجزية.ثمّ إنّ الحنابلة دسوا عليه مَنْ سمّه. (4)

و قد أفل شيئاً فشيئاً نجم الحنابلة الذين احتكروا لأنفسهم اصطلاح أهل السنة و كانوا لا يرضون لأحد أن يستظل تحته فكانوا هم أهل السنة فقط و الأشاعرة و المعتزلة و الشيعة و الاباضية كلّهم في مقابلهم.و لكن لما ظهر ابن تيمية في الساحة أخذ يروج المذهب الحنبلي خصوصاً عقيدة التشبيه و التجسيم من أوائل القرن الثامن،و قد قبض عليه مرة بعد أُخرى و حكم عليه بالحبس و ابتعاد

ص:118


1- 1) .طبقات الشافعية347/30- 375. [1]
2- 2) .بحوث في الملل و النحل:277/2- 307.و [2]قد الّفنا رسالة حول«الحنابلة و تأجيج الفتن عبر التاريخ و ستوافيك في هذا الجزء من الموسوعة».
3- 3) .المنتظم:403/9؛ [3]الكامل للجزري:124/10. [4]
4- 4) .مرآة الزمان:292/8.

الناس عنه حتّى قضى نحبه في السجن عام 728ه.و لم يكن لكتبه و أفكاره تأثير بارز في بيئته لأنّها كانت بيئة علمية فيها الكثير من أعلام السنة و الفقهاء و الحكماء.لكن عند ما خرج محمد بن عبد الوهاب في أواسط القرن الثاني عشر (1160ه) محيياً لما اندرس من تفكيرات ابن تيمية أخذت الحنبلية تنتعش و تحتكر لنفسها اسم السنة و تكفر عامة المسلمين إلاّ من تبعهم (1)،و قد زاد انتعاشهم عند ما بايعه السعوديون على أن يكون الحكم لهم و الإفتاء و ما يتعلّق به للشيخ و آله.

و كما كانت البيئة التي ظهر فيها ابن عبد الوهاب حاملاً آراء ابن تيمية و أفكاره بيئة امّية جاهلة صار النجاح حليفاً له خصوصاً بعد بيعة السعوديين له،فهم يدعون أنّهم هم أهل السنة لا غير إلى يومنا هذا.

الماتريدية و أهل السنة

في العصر الّذي ظهر مذهب الأشعري بطابَع الفرعية لمذهب أهل الحديث-و إن كان بين المذهبين فروقاً كثيرة-ظهر مذهب آخر بهذا اللون و الشكل لغاية نصرة السنة و أهلها و بالتالي إقصاء المعتزلة عن الساحة،كلّ ذلك بالتصرف في مذهب أهل الحديث و تعديله،و هذا المذهب هو مذهب الإمام محمد بن محمد بن محمود الماتريد السمرقندي (المتوفّى 333ه).

و الداعيان كانا في عصر واحد و يعملان على صعيد واحد و لم تكن بينهما أية

ص:119


1- 1) .كشف الشبهات:5؛حيث جعل الغلو في الصالحين ملاكاً للشرك و المسلمون عندهم كلهم مغالون في الصالحين بالتوسل و غيره،إلى غير ذلك من لكلمات الصريحة في تكفير المسلمين،و قد ألف المحقّق حسن بن فرحان المالكي كتاباً اسماه«محمد بن عبد الوهاب داعية و ليس نبياً»أخرج من هذا الكتاب موارد تناهز ثلاثين مورداً تدلّ على أنّه كان يكفر عامّة المسلمين غير من تبعه.

صلة،غير أنّ الأشعري يكافح الاعتزال و يناصر السنة في العراق متقلداً مذهب الشافعي في الفقه و الماتريدي يناضل المعتزلة في الشرق الإسلامي متقلداً مذهب الإمام أبي حنيفة في الفقه.

و مع أنّ ثقافته و آراءه في الفقهين الأكبر و الأصغر ينتهيان إلى إمام مذهبه أبي حنيفة و هو في عصره من أصحاب الرأي و القياس دون أهل السنة،و لكن حصل تطور آخر في مصطلح أهل السنّة فصار الماتريدي و أصحابه من أهل السنة.

يقول مؤلف مفتاح السعادة:إنّ رئيس أهل السنة و الجماعة في علم الكلام رجلان:أحدهما حنفي، و الآخر شافعي.أمّا الحنفي فهو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي،و أمّا الشافعي فهو شيخ السنة أبو الحسن البصري الأشعري. (1)

قال السيد الزبيدي الشهير بمرتضى في اتحاف السادة المتقين بشرح احياء علوم الدين:«قال الخيالي في حاشيته على شرح العقائد:الأشاعرة هم أهل السنة و الجماعة،هذا هو المشهور في ديار خراسان و العراق و الشام و أكثر الأقطار،و في ديار ما وراء النهر يطلق ذلك على الماتريدية أصحاب الإمام أبي منصور و بين الطائفتين اختلاف في بعض المسائل كمسائل التكوين و غيرها.

و قال الكستليّ في حاشيته عليه:المشهور أنّ أهل السنّة في ديار خراسان و العراق و الشام و أكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري،أوّل من خالف أبا علي الجبائي و رجع عن مذهبه إلى السنة أي طريق النبي و الجماعة أي طريقة الصحابة (رض).و في ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي تلميذ أبي بكر الجوزجاني صاحب أبي

ص:120


1- 1) .مفتاح السعادة و مصباح السيادة:22/2- 23،طبعة الهند. [1]

سليمان الجوزجاني صاحب محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة،فبين الطائفتين اختلاف في بعض الأُصول كمسألة التكوين و مسألة الاستثناء في الإيمان،و مسألة إيمان المقلد،و المحققون من الفريقين لا ينسب أحدهما الآخر إلى البدعة و الضلالة.

ثمّ إنّه حكى عن السبكي قصيدته النونية الّتي جمع فيها المسائل الاختلافية بين الأشاعرة و أهل الحديث يظهر فيها عمق الاختلاف و النزاع و التشاجر بين الطائفتين،و سنذكر منها هنا بعض الأبيات: كذب ابن فاعلة يقول بجهله

ص:121

هكذا ظهر التطور في استعمال عبارة أهل السنة،فأين هؤلاء العاكفون على المناهج الفقهية و الكلامية من أهل السنة العاكفين على الحديث و ترك ما سواه.

نفثة مصدور

إذا كان أهل السنة هم الذين عكفوا على سنة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم-قوله و فعله-و جعلوها نصب أعينهم و طبقوا الحياة عليها و صانوها من الاندراس و الضياع،بالتحديث و الكتابة و النقل إلى الأجيال،فعليه جمهور الصحابة و التابعين إلى نهاية القرن الأوّل لم يكونوا من أهل السنة لأنّهم تركوا تحديثه و كتابته إلى قرن من الزمان.روى ابن جرير أنّ الخليفة عمر بن الخطاب كان كلما أرسل حاكماً أو والياً إلى قطر أو بلد،يوصيه في جملة ما يوصيه:جرّدوا القرآن و أقلّوا الرواية عن محمّد و أنا شريككم. (1)

ص:122


1- 1) .تاريخ الطبرى:273/3،طبعة الأعلمي [1]بالأُفست.

و قد شيع عمر قرظة بن كعب الأنصاري و من معه إلى«صرار»على ثلاثة أميال من المدينة،و أظهر لهم أنّ مشايعته لهم إنّما كانت لأجل الوصية بهذا الأمر،و قال لهم ذلك القول.

قال قرظة بن كعب الأنصاري:أردنا الكوفة،فشيّعنا عمر إلى«صرار»فتوضأ فغسل مرتين،و قال:

تدرون لم شيعتكم؟ فقلنا:نعم،نحن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فقال:إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل،فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم،جرّدوا القرآن،و أقلّوا الرواية عن رسول اللّه،و امضوا و أنا شريككم. (1)

و قد حفظ التاريخ أنّ الخليفة قال لأبي ذر،و عبد اللّه بن مسعود،و أبي الدرداء:ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمّد؟! (2)

و ذكر الخطيب في«تقييد العلم»عن القاسم بن محمد:أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّ في أيدي الناس كتباً،فاستنكرها و كرهها،و قال:أيّها الناس إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب،فأحبها إلى اللّه،أعدلها و أقومها،فلا يبقين أحد عنده كتاب إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي.قال:فظنوا أنّه يريد ينظر فيها و يقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف،فأتوه بكتبهم،فأحرقها بالنار ثمّ قال:أمنية كأمنية أهل الكتاب. (3)

و قد صار عمل الخليفتين سنّة،فمشى عثمان مشيهما،و لكن بصورة محدودة و قال على المنبر:لا يحلّ لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر و لا عهد عمر. (4)

كما أنّ معاوية اتّبع طريقة الخلفاء الثلاث فخطب و قال:يا ناس أقلّوا الرواية عن رسول اللّه،و إن كنتم تتحدّثون فتحدّثوا بما كان يتحدّث به في عهد عمر. (5)

حتّى أنّ عبيد اللّه بن زياد عامل يزيد بن معاوية على الكوفة،نهى زيد بن أرقم الصحابي عن التحدّث بأحاديث رسول اللّه. (6)

ص:123


1- 1) .طبقات ابن سعد:7/6؛ [1]المستدرك للحاكم:102/1.
2- 2) .كنز العمال:293/10ح29479.
3- 3) .تقييد العلم520.
4- 4) .كنز العمال:295/10،ح 29490.
5- 5) .كنز العمال:291/10،ح 29473.
6- 6) .فرقة السلفية،ص 14،نقلاً عن مسند الإمام أحمد.

و بذلك أصبح ترك كتابة الحديث سنّة إسلامية،و عدّت الكتابة شيئاً منكراً مخالفاً لها.

فلو أغمضنا الطرف عن كلّ ما قيل حول كتابة الحديث تحريماً و كتابة فشيعة أئمة أهل البيت هم أهل السنة لم يُعروا أي اهتمام بسيرة الصحابة و التابعين فقد دوّنوا سنة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق أئمّة أهل البيت منذ رحيله إلى يومنا هذا،فها هو كتاب علي الّذي جمع فيه إملاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عليه من العلوم و المعارف و الأحكام و فيه كلّ شيء حتّى أرش الخدش،و توالى تدوين الحديث بين شيعة الإمام إلى زماننا هذا.

هذا و قد فصلنا الكلام في دور الشيعة في الحفاظ على سنة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من خلال تدوينها و تأليف المجاميع الحديثية فيها في موسوعتنا«بحوث في الملل و النحل». (1)

التسامح في استعمال أهل السنة

قد تعرفت على مصطلح«أهل السنة»و ما حصل فيه من التطور،و لكن هناك من يستعمله في من يعتقد بخلافة الخلفاء الأربعة من دون فرق بين الحنابلة و الأشاعرة و المعتزلة و الاباضية إلى غير ذلك من الفرق فالجميع عندهم أهل السنة سوى من ينفي خلافتهم،و لكنّه بما أنّه اصطلاح لا بأس به إلاّ أنّه لا ينطبق على تاريخ هذا المصطلح.

و هناك نكتة و هي أنّ عد علي عليه السلام من الخلفاء لم يكن أمراً متفقاً عليه بين أصحاب الحديث إلى عصر الإمام أحمد،فإنّه هو الّذي جاء بالتربيع و جعل

ص:124


1- 1) .انظر:بحوث في الملل و النحل:668/6- 675. [1]

علياً عليه السلام الخليفة الرابع.

و قد ذكر ابن أبي يعلى بالاسناد عن وديزة الحمصي قال:«دخلت على أبي عبد اللّه أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي رضي اللّه عنه فقلت له:يا أبا عبد اللّه إنّه لطعن على طلحة و الزبير،فقال:بئس ما قلت و ما نحن و حرب القوم و ذكرها،فقلت:أصلحك اللّه إنّما ذكرناها حين ربّعتَ بعلي و أوجبت له الخلافة و ما يجب للأئمّة قبله،فقال لي:و ما يمنعني من ذلك،قال:قلت:حديث ابن عمر،فقال لي:عمر خير من ابنه فقد رضي علياً للخلافة على المسلمين و أدخله في الشورى و علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قد سمّى نفسه أمير المؤمنين فأقول أنا ليس للمؤمنين بأمير.فانصرفتُ عنه. (1)

ص:125


1- 1) .طبقات الحنابلة:393/1. [1]

9

اشارة

تفضيل الأئمّة على الأنبياء و عدمه

هل الأئمّة الاثنا عشر أفضل من الأنبياء أو لا؟

إنّ القضاء بين أولياء اللّه أمر مشكل،كما أنّ تفضيل بعضهم على بعض أمر سماوي.نعم أنّ اللّه سبحانه فضّل بعض الأنبياء على بعض و قال: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» 1 ،و في آية أُخرى: «وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً». 2

و مع ذلك ففي المسألة احتمالات ثلاثة ذكرها الشيخ المفيد.

و قال:قد قطع قوم من أهل الإمامة بفضل الأئمة من آل محمد على سائر من تقدّم من الرسل و الأنبياء سوى نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم.

و أوجب فريق منهم لهم الفضل على جميع الأنبياء سوى أُولي العزم منهم عليهم السلام.

و أبى القولين فريق منهم آخر،و قطعوا بفضل الأنبياء كلّهم على سائر

ص:126

الأئمّة.

ثمّ قال:و هذا باب ليس للعقول في إيجابه و المنع منه مجال،و لا على أحد الأقوال فيه إجماع،و قد جاءت آثار عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أمير المؤمنين عليه السلام و ذريته من الأئمّة و الاخبار عن الأئمّة الصادقين أيضاً من بعد،و في القرآن مواضع تقوي العزم على ما قاله الفريق الأوّل في هذا المعنى،و أنّي ناظر فيه و باللّه اعتصم من الضلال. (1)

و قد نقل ابن شهرآشوب عن الشيخ المفيد استدلال أكثر أصحابنا على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أفضل من كافة البشر سوى النبي صلى الله عليه و آله و سلم من ثلاثة أوجه:

1.كثرة الثواب.

2.و ظواهر الأعمال.

3.المنافع الدينية بالأعمال.

أمّا الأوّل مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«أنا سيد البشر»و قوله:«أنا سيد ولد آدم و لا فخراً»و إذا ثبت أنّه سيد البشر، وجب أن يليه أمير المؤمنين في الفضل،لدلالة المحكوم له بأنّه نفسه في آية المباهلة بالإجماع.و قد علم أنّه لم يُرد بالنفس ما به قوام الجسد من الدم السائل و الهوام و نحوه.

و لم يرد نفس ذاته،إذا كان لا يصلح دعاء الإنسان نفسه فلم يبق إلاّ أنّه أراد المِثْل و العِدْل و التساوي في كلّ حال إلاّ ما أخرجه الدليل.

و ما ذلك إلاّ أنّه جعله في أحكام حبه و بغضه و حروبه سواء مع نفسه بلا فصل،و قد علم أنّه لم يضع الحكم في ذلك للمحاباة بل وضعه على

ص:127


1- 1) .أوائل المقالات:81- 82. [1]

الاستحقاق،فوجب أن يكون مساوياً له في الأحكام كلّها إلاّ ما أخرجه الدليل.

و أمّا الثاني أي ظواهر الأعمال فانّه لا يوجد في الإسلام لبشر ما يوجد لعلي،و إذا كان الإسلام أفضل الأديان لأنّه أعمّ مصلحة للعباد،كان العمل في تأديبه و شرائعه أفضل الأعمال مع الإجماع على أنّ شريعة الإسلام أفضل الشرائع و العمل بها أفضل الأعمال.

و أمّا المنافع الدينية بالأعمال و هو أنّ النفع بالإسلام الّذي جاء به النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذا كان انّما وصل إلى هذه الأُمّة بأمير المؤمنين،ثبت له الفضل الّذي وجب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم من جهة ربه على القواعد الكلامية في القضاء بالفضائل من جهة النفع العام و تفاضل الخلق فيه بحسب كثرة القائمين للدين و المنتفعين بذلك من الإمام. (1)

ما هو المختار عندنا؟

أمّا الإمام أمير المؤمنين فلا شكّ أنّه أفضل الخلائق بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و ذلك بوجهين:

الأوّل:أنّه سبحانه عدّه نفس النبي و نزله منزلته،و ليس المراد التنزيل في السيماء الظاهرية،بل المراد التنزيل في الصفات الروحية من الإيمان القوي و التقوى العاصمة و العلم النافع و الشجاعة المتناهية،كلّ ذلك يدلّ على أنّه أفضل الخلائق بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

الثاني:انّ حديث الطير:الّذي جاء فيه قول رسول اللّه:«اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك و إليّ يأكل معي فجاء علي عليه السلام فأكل معه»،يدلّ على

ص:128


1- 1) .متشابه القرآن و مختلفه:44/2. [1]

فضيلة رابية ليست في غيره سوى النبي الأكرم،فأحبّ الناس إلى اللّه يكون أشرف الخلائق بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

يقول المفيد قدس سره:«إنّ التواتر قد ورد بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام احتج به في مناقبه يوم الدار فقال:أُنشدكم اللّه هل فيكم أحد قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطائر،فجاء أحد غيري؟»قالوا:اللّهم لا.قال:«اللهم اشهد».فاعترف الجميع بصحته،و لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام ليحتج بباطل،لا سيّما و هو في مقام المنازعة و التوصل بفضائله إلى أعلى الرتب الّتي هي الإمامة و الخلافة للرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و إحاطة علمه بأنّ الحاضرين معه في الشورى يريدون الأمر دونه،مع قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«علي مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار». (1)

و قد بحث المحقّق السيد حامد حسين عن حديث الطير سنداً و متناً في كتابه الكبير المعروف ب «عبقات الأنوار».و ارجع في خلاصة بحوثه إلى كتاب:«نفحات الأزهار»الجزء الثالث عشر و الرابع عشر.

و أمّا سائر الأئمّة فالّذي يمكن أن يقال أنّ الأنبياء على قسمين:

1.قسم بلغوا مرتبة الإمامة بعد النبوة كالخليل و من جاء بعده من الأنبياء أُولي العزم،فانّه سبحانه تبارك و تعالى أعطاه مقام الإمامة بعد ما كان نبيّاً و رسولاً كما هو ظاهر قوله سبحانه: «وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ». 2

فقد ابتلى اللّه إبراهيم بكلمات عند ما كان نبياً من ذبح إسماعيل و غيرها،

ص:129


1- 1) .الفصول المختارة من العيون و المحاسن:65. [1]

فلما أتمّها صار إماماً.

2.قسم آخر بقوا على مقامهم في النبوة دون أن يكونوا أئمّة.

أمّا القسم الأوّل فلا يمكن تفضيل الأئمّة عليهم لمشاركتهم في ملاك التفضيل.

و أمّا القسم الثاني فلا مانع من القول بتفضيل الأئمّة عليهم السلام عليهم.

و للعلاّمة السيد محمد علي الشهرستاني كلاماً في هذا المقام قال:أمّا بالقياس إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فالجميع دونه في جميع الفضائل،و إنّما فضائلهم رشحات من فضله و علومهم مقتبسة من علمه و شرفهم فرع شرفه.

و أمّا بالقياس إلى سائر الأنبياء السالفين فلا يبعد أن تكون جملة من هؤلاء أفضل و أشرف من جملة في أُولئك،لأنّ في هؤلاء من هو أعلم و أشرف و أكثر جهاداً في سبيل اللّه و اصبر و اعظم نفعاً للبشر علمياً و أدبياً و أخلاقياً و اجتماعياً،فلا يبقي ما يقف عثرة في سبيل التفضيل سوى ميزة النبوة،و قد قررت في محله أنّ الخلافة لأفضل الأنبياء قد يعتبر أعظم درجة من بعض الأنبياء.

و بعبارة أُخرى:لم يثبت انّ الخلافة الإلهية عن أعظم أنبياء أقلّ درجة من كلّ نبيّ.

و يمكن أن يصاغ ذلك الأمر العقلي في قالب مثال و هو:قياس ملك مملكة صغيرة إلى وزير مملكة كبيرة،فانّ وزيرها ربما يكون أقوى من ملك بلد صغير. (1)

ص:130


1- 1) .أوائل المقالات،قسم الهوامش،ص 81- 82.

10سبّ المسلم و لعنه

السبّ في اللغة

هو الشتم.يقال:سبّه إذا شتمه.و هو من المفاهيم الواضحة الغنيّة عن التبيين و التوضيح، و هو من المحرّمات.و قد نقل الفريقان عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم،أنّه قال:«سباب المؤمن فسوق». (1)

و روى الإمام الباقر عليه السلام أنّ رجلاً من تميم أتى النبي فقال:أوصِني،فكان فيما أوصاه،أن قال:«لا تسبَّ الناس فتكسب العداوة لهم». (2)

و قال الصادق:«سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة». (3)

و روى الشريف الرضي أنّ عليّاً سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم في صفين،فقال لهم:«إنّي أكره أن تكونوا سبّابين،و لكن لو وصفتم أعمالهم و ذكرتم حالهم،كان أصلبَ في القول و أبلغَ في العذر». (4)

ص:131


1- 1) .صحيح البخاري:71/4،كتاب الدعوات؛وسائل الشيعة:8،الباب158 من أبواب أحكام العشرة،الحديث2. [1]
2- 2) .وسائل الشيعة:8،الباب158 من أبواب أحكام العشرة،الحديث3. [2]
3- 3) .المصدر السابق:الحديث4.
4- 4) .نهج البلاغة،الخطبة 206. [3]

فعلى هذا يكون سبُّ المسلم أمراً محرماً من غير فرق بين كون المسبوب صحابياً أو تابعياً أو غيرهما.

و أنّ من يتهم الشيعة بأنّهم يسبّون بعض الصحابة إنّما يفتري عليهم من غير دليل.

هذا كلّه حول السب.و أمّا اللعن فهو يفترق عن السب جوهراً ففي«لسان العرب»:اللعن:الإبعاد و الطرد عن الخير.و قيل:الطرد و الإبعاد عن اللّه سبحانه،يقال:لعنه:طرده و أبعده.و أمّا هو من الخلق،دعاء على الملعون. (1)

فإذا كان اللعنُ من اللّه طرداً،و من الخلق دعاءً بالطرد،فيكون من فروع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،حيث يتبرأ اللاعن عن فعل الملعون و يُظهر انزجاره من عمله،بشرط أن يكون للّعن ملاك، و سيوافيك ملاكه.

اللعن في القرآن الكريم

إنّ اللّه سبحانه و تعالى لعن طوائف مختلفة في كتابه العزيز نظراء:

1.الكافرون: «إِنَّ اللّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً». 2

2.الشيطان: «لَعَنَهُ اللّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً». 3

3.اليهود: «وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا». 4

ص:132


1- 1) .لسان العرب:ج13، [1]مادة«لعن»؛النهاية:255/4.و [2]قد تسامح في إدخال السب في تعريف اللعن.فلاحظ.

4.رامي المحصنات بالزنا: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ». 1

5.مؤذي الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ». 2

إلى غيرهم من كاذبين و ظالمين و مفسدين.

لم يقتصر سبحانه على لعن هذه الفئات،بل أخبر في كتابه العزيز عن الشجرة الملعونة،و قال: «وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً». 3

و أمّا ما هي هذه الشجرة الّتي كُني بها عن طائفة خاصة متواجدة في عصر الرسول و بعده،فقد جاء في روايات كثيرة بأنّهم بنو أمية.

فقد روى السيوطي:قال:أخرج ابن أبي حاتم،عن يعلى بن مرة،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«رأيت بني أمية على منابر الأرض و سيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء».و اغتمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لذلك.و لذلك أنزل اللّه سبحانه: «وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا...» الآية.

و قال أيضاً:أخرج ابن مردويه،عن الحسين بن علي رضي اللّه عنهما إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصبح و هو مهموم،فقيل:ما لك يا رسول اللّه؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم:إنّي رأيت في المنام:كأنّ بني أمية يتعاورون منبري.فقيل:يا رسول اللّه.لا تهتم

ص:133

فإنّها دنيا تنالهم.فأنزل اللّه: «وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا...» الآية. (1)

كلّ ذلك يدلّ على أنّ اللعن ليس من الأُمور القبيحة بالذات،و إلاّ لما صدر من اللّه الحكيم،العالم بقبح الأشياء و حسنها.

نعم،اللعن بلا ملاك،إهانة للملعون و إدانة بلا سبب،و لا شكّ في أنّه قبيح و حرام.

اللعن في أحاديث الرسول

إنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم لعن طوائف خاصة،فقد لعن السارق و الواصلة و الموصولة،و المتشبّهين من الرجال بالنساء،و من ذبح لغير اللّه،و من سبّ والديه أو مثّل بالحيوان،إلى غير ذلك من الأصناف حتّى الراشي و المرتشي و بائع الخمر. (2)

و لم يقتصر على ذلك،بل لعن أشخاصاً بأعيانهم.

1.روى أحمد،أنّ رسول اللّه قال:أمرني ربي أنّ العن قريشاً مرتين،و أمرني ربي أن أُصلي عليهم، فصليت عليهم مرتين. (3)

2.و روى الشعبي،قال سمعت عبد اللّه بن الزبير،و هو مستند إلى الكعبة،و هو يقول:برب هذه الكعبة، لقد لعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلاناً و ما ولد من صلبه. (4)

3.و روى الحاكم في مستدركه:لعن رسول اللّه الحَكَم و ولدَه. (5)

ص:134


1- 1) .الدر المنثور:191/4،ط دار [1]المعرفة،بيروت.
2- 2) .فهارس مسند الإمام أحمد:56/2- 58. [2]
3- 3) .مسند أحمد:387/4. [3]
4- 4) .مسند أحمد:5/4. [4]
5- 5) .مستدرك الحاكم:481/4.

و الرواية الأخيرة تكشف عن المراد من«فلاناً»في الرواية السابقة.

***

فقد خرجنا بالنتيجة التالية و هي:أنّ منشأ السب حالة نفسية تدفع الإنسان إلى التفوه بكلمات نابية مسيئة إلى الطرف الآخر،و ليس للسابّ أي مبرر سوى إرضاء ما في نفسه من عُقَد روحية.

و أمّا اللعن فهو عمل نابع عن شعور ديني بالنسبة إلى من يرتكب المحرمات،و يقترف السيئات، و يتعدى حدود اللّه تعالى.فلأجل ردعه عن عمله السيّئ يتبرأ منه و من فعله و يحوِّل أمره إلى اللّه تعالى، فيقول اللاعن:لعنه اللّه،بمعنى طلب طرده عن رحمته.و هذا لا يقوم به إلاّ الأمثل فالأمثل من رجالات الدين، الذابّين عن حياضه،و لذلك نرى اللعن في الكتاب العزيز و السنة النبوية.فلو كان أمراً قبيحاً لما صدر من الحكيم المطلق.

إذا عرفت ذلك،فلنعد إلى تبيين حل معضلة اجتماعية،لم تزل تتخذ ذريعة للتهجم على الشيعة، فنقول:

إنّ صحابة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم بما أنّهم رأوا النور النبوي،و شاركوا معه في الغزوات،و ضحّوا بأنفسهم و نفائسهم،فهم محترمون مكرّمون،خصوصاً من حضر في المواقف العصيبة،كبدر و أُحد و الأحزاب و حنين، من غير فرق بين من استشهد و ضرّج بدمه،أو بقي حيّاً إلى ما بعد،و خرج إلى الجهاد و فتح البلاد،و كسر الأصنام و دمّر الشرك و أشاع التوحيد.

هذا هو الإمام علي يتأوّه على أصحاب النبي فيقول:

أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه،و تدبّروا الفرض فأقاموه،أحيوا السنة و أماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا،و وثقوا بالقائد

ص:135

فاتبعوه». (1)

و هذا هو الإمام الطاهر سيد العابدين علي بن الحسين،يقول في دعاء له:«اللّهمّ و أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة و الذين أبلُوا البلاءَ الحسن في نصره،و كانَفُوه و أسرعوا إلى وفادته،و سابَقوا إلى دعوته،و استجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته،و فارقوا الأزواج و الأولاد في إظهار كلمته،و قاتلوا الآباءَ و الأبناء في تثبيت نبوّته،و انتصروا به،و من كانوا منطوين على محبّته،يرجُون تجارة لن تبور في مودّته، و الّذين هجرتْهم العشائرُ.إذا تعلّقوا بعروته،و انتفت منهم القربات،إذا سكنوا في ظل قرابته،فلا تنسَ اللهم ما تركوا لك و فيك،و أرضِهم مِن رضوانك،و بما حاشوا الخلق عليك،و كانوا مع رسولك،دعاة لك إليك.

و اشْكُرْهم على هَجرهم فيك ديارَ قومهم،و خروجِهم من سعة المعاش إلى ضيقه،و من كثرتْ في إعزاز دينك من مظلومهم.اللّهم و أوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا». (2)

فبعد هذين النصين من الإمامين الهمامين للشيعة بل للمسلمين عامة،أ يصحّ أن يُرمى الشيعة بفرية لعن الصحابة؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.

نعم،هنا كلام آخر،و هو أنّه إذا صدر عن صحابي ما،عمل مخالف للشرع على نحو يدخله تحت أحد الأصناف الّذين لعنهم اللّه و رسوله،كما لو كان ظالماً،أو كاذباً،أو مؤذياً للرسول،فلا شكّ أنّه يجوز التبري منه و الدعاء عليه،لا بما أنّه صحابي،بل بما أنّه أحد الظالمين أو الكاذبين،أو المؤذين لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص:136


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة رقم 182. [1]
2- 2) .الصحيفة السجادية الدعاء الرابع مع شرح [2]«في ظلال الصحيفة السجادية»:55- 56. [3]

بل هو أشدّ استحقاقاً للطرد و الإبعاد،لأنّ مقتضى صحبته للرسول صلى الله عليه و آله و سلم،أن يقتدي به و يأتمّ به أكثر من غيره.فهو بعمله هذا هتك حرمة الصحبة و الصحابة،بل حرمة النبي،و يستحق العذاب المضاعف،كما قال سبحانه: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً». 1

فإذا كانت نساء النبي على ما هن عليه من صحبة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،قد استحققن العذاب المضاعف،فما ظنك بغيرهن.

يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً». 2

و لو افترضنا انّ صحابياً ارتكب عملاً آذى به رسول اللّه،فهو حسب هذه الآية محكوم باللعن في الدنيا و الآخرة،و لو لعنه أحد من المسلمين فقد جسد مفاد الآية و لم يتجاوزها.

غير انّه لعنه و طرده ليس لأجل انّه صحابي يستحق بذلك،العياذ باللّه،بل هو من هذا الجانب مستحق للتكريم بل لأجل انّه إنسان مكلف،ارتكب جريمة لم ينب عنها فهو مستحق للتبري و الابتعاد.

و أمّا من فيه ملاك استحقاق اللعن و من لم يكن فيه،فهو محوّل على عاتق التاريخ،و لا صلة له بهذه المسألة.

ص:137

11مع محقّق كتاب الإشاعة لأشراط الساعة

اشارة

قد ألّفت في سالف الزمان كتاباً حول العقيدة الإسلامية،يحتوي على 150 أصلاً فيما يرجع إلى الإسلام و التشيع بصورة واضحة.

نشرت هذا الكتاب ردّاً على ما يكتبه أعداء الشيعة حول عقيدتهم جهلاً و عدواناً،و لا يمضي شهر إلاّ و تُخرج المطابع كتاباً أو رسالة ردّاً على شيعة آل البيت عليهم السلام و نقداً لعقائدهم و تاريخهم دون أن يكون للمؤلف اطلاع صحيح عن عقيدتهم.

و قد أهدى صديقنا الوفي الأُستاذ الفاضل الشيخ حسين الرضواني ممثل قائد الجمهورية الإسلامية في المدينة المنوّرة نسخة من كتابي هذا إلى الأُستاذ حسين محمد علي شكري الّذي حقّق كتاب«الإشاعة لأشراط الساعة»تأليف محمد بن الرسول البرزنجي الحسيني مع تعليقات محمد زكريا الكاندهلوي.

و بعد أن اطّلع الأُستاذ الفاضل حسين محمد علي شكري على كتابنا أرسل لنا رسالة يذكر فيها انطباعاته فيه،و إليك نصّ رسالته:

ص:138

بسم اللّه الرحمن الرحيم

حضرة العلاّمة الأُستاذ جعفر السبحاني الموقر

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

فقد تواصلت معكم الصلة بما وقفت عليه من بعض مؤلفاتكم،و بما حمله إليّ مشكوراً مأجوراً الفاضل المحب الشيخ رضواني من كتابكم«العقيدة الإسلامية»ففرحت بما حمل و سعدت بالهدية منكم.

لقد جلت بين صفحات الكتاب و وقفت فيه على عجالة على فوائد غالية و معلومات جديرة بالتقدير و الإشادة،و صارت لدي رغبة ملحة في الحصول على ما تسطره يراعتكم من مؤلفات جعل اللّه فيها النفع للمسلمين و توحيد كلمتهم و رفع رايتهم.

و لقد قيل:العلم رحمٌ بين أهل،و وسيلة الصلة هي المراسلات العلمية و الإهداءات لتلك الكتب الحاملة للفوائد.فلا (رحمنا) (1)الوصل و الصلة و جعل اللّه عملنا و عملكم لوجهه الكريم.

و دمتم بخير محفوظين

محب الصلة بكم

حسين محمد علي شكري

1426/5/10ه

ص:139


1- 1) .كذا في الرسالة و قد يكون الصحيح:فلا عدمنا.أو:فلا حرمنا.

***

أخذت الرسالة و كانت مرفقة ب«كتاب الاشاعة لاشتراط الساعة»،فقرأت شيئاً منه،و رأيت أنّ المؤلف بحق أماط اللثام عن عدد من الحقائق و خرق الأقنعة الّتي صنعها المتزلفون إلى الأمويين و العباسيين،و مع ذلك رأيت في الكتاب عثرة لا تستقال،و كان المرجو من محقّق الكتاب أن يعلّق عليها شيئاً،قياماً بواجب التحقيق،و لأجل ذلك بعثت إليه الرسالة التالية،و إليك نصّها:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الأُستاذ الفاضل حسين محمد علي شكري المحترم

السّلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في سلامة و عافية و أن يوفقكم لنشر المآثر و الآثار القيّمة الّتي تركها لنا السلف من العلماء الأبرار.

لقد وافتني رسالتكم الميمونة،مرفقة بكتاب«الاشاعة لأشراط الساعة»تأليف العلاّمة محمد بن الرسول البرزنجي الحسيني مع تعليقات محمد زكريا الكاندهلوي رحمهما اللّه.و قد سُررت بنشره و وقفت على ما تحملتم من جهود مشكورة في تقويم النص و إخراجه بصورة جميلة تهفو إليه النفوس و تستسيغ قراءته.

غير أنّ هذا لا يصدّنا عن إبداء النظر في بعض المواضيع،إذ النقاش العلمي المجرّد عن الهوى و العصبية،سيرة السلف الصالح و دعامة حفظ الدين عن التحريف و هديّة علمية هي من أغلى الهدايا و أثمنها يقدّمها القارئ المستفيد إلى المؤلف المفيد،المشكور جهده،أو المحقّق المقبول سعيه.

ص:140

نقل عن بعض الأعلام (1):«إنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأُمّة الّتي أعظم اللّه بها عليهم النعمة،حيث حفظهم عن وصْمة محاباة أهل الكتابين،المؤدية إلى تحريف ما فيهما،و اندراس تينك الملتين،فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلاّ بيّنوه،و لفاعل فعلاً فيه تحريف إلاّ قوّموه،حتّى اتضحت الآراء،و انعدمت الأهواء،و دامت الشريعة الواضحة البيضاء على امتلاء الآفاق بأضوائها،و شفاء القلوب بها من أدوائها،مأمونة من التحريف،مصونة عن التصحيف».

و انطلاقاً من هذا المبدأ نذكر انطباعتنا عن هذا السّفْر القيّم راجين الإمعان و الدقة في السطور التالية:

لقد أماط السيد المؤلف رحمه الله اللثام عن عدد من الحقائق،و مزّق في عدة مواضع الأقنعة الّتي صنعها الطامعون و المتزلّفون و المرتجفون لإخفاء الصورة الحقيقية لأسيادهم الطغاة و أعوانهم،الذين قفزوا إلى السلطة بالبغي و المكر و العدوان،فاستبدّوا بالحكم،و استأثروا بالأموال،و غرقوا في المتَع و الشهوات،و ضلّوا و أضلّوا،و أرادوا جموعاً من المسلمين،و اللّه تعالى سائلهم عن ذلك في يوم تشخص فيه الأبصار،و ينادى فيه: «أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ».

و من المواضع الّتي أبدى فيها المؤلف شجاعة أدبية،حديثه الصريح المعزّز بالروايات و الأخبار عن بني أُمية الذين أطفئوا البسمة من على شفتي نبيّنا الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،حينما رآهم ينزون على منبره الشريف كما تنزوا القردة،فما رئي صلى الله عليه و آله و سلم

ص:141


1- 1) .الناقل هو شيخ الشريعة الأصفهاني أحد أعلام النجف الأشرف و مراجع الفتيا،المتوفّى عام 1339ه.

ضاحكاً مستجمعاً حتّى توفّى (ص 61- 62 من الكتاب).

و أنّى له صلى الله عليه و آله و سلم-فدته نفسي و نفوس العالمين-أن فتّر ثغره عن ضحكة،و هو يعلم-بإخبار اللّه تعالى له - ما سيرتكبه هؤلاء في حقّ دينه و أُمّته و ذريّته من جرائم و موبقات.أشنعها قتلُ سبطه و ريحانتِه من الجنة، الحسين الشهيد و أهل بيته الذين ما كان على وجه الأرض لهم يومئذٍ شبيه،على حدّ تعبير الحسن البصري(ص 68).

وليت المؤلف رحمه الله الّذي تحدّث عمّا لحق بأهل البيت من ظلم و اضطهاد،و روى في علامات ظهور المهدي أنّ منادياً ينادي من السماء:انّ الحقّ في آل محمد(ص224)...ليته كان أكثر إنصافاً في حديثه عن شيعة آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم الذين استضاءوا بنورهم و انتهلوا من علومهم و سلكوا منهاجهم.

و كم كان حريّاً به أن يزيح بعض الستائر الّتي وضعتها يد السياسة و الأهواء و الأطماع لحجب الرؤى و إرباك الأفكار و تزييف الحقائق.

و كم كان جديراً به أن يكشف بعض الحيف و الظلم و القهر الّذي أصابهم،كما أصاب من قبل أئمتهم من أهل البيت عليهم السلام.

و إنّي أرى أنّ المؤلف-غفر اللّه تعالى لي و له-قد أحسن الظنّ ببعض من كتب عن الإمامية جهلاً أو تعصّباً و عناداً،فأورد في كتابه هذا بعض كلماتهم الّتي لا تمت إلى الحقيقة بصلة.

و منها:إنّ الإمامية تقول إنّ المهدي دخل سرداب سامراء طفلاً صغيراً،و هم ينتظرونه كلّ يوم،و يقفون بالخيل على باب السرداب،و يصيحون به:أن أخرج يا مولانا...ثمّ يرجعون بالخيبة و الحرمان،فهذا دأبهم...و لقد أصبح هؤلاء عاراً على بني آدم،و ضحكة يسخر منها كلّ عاقل.(ص230).

ص:142

إنّ هذا الكلام الّذي نقله المؤلف-كما يبدو-عن ابن حجر في صواعقه الّتي احرقته-حسب تعبير أحد الأعلام-و لم يذكر مستنده ما هو إلاّ افتراء،يُراد منه التشنيع على الإمامية،و الحطّ عليهم لمآرب شيطانية، و إلاّ ما معنى هذا الإصرار على نسبة مثل هذه الأُمور إلى الإمامية،و هم يبرءون منها و ينفونها عن أنفسهم قولاً و عملاً.

انّ واضع هذه الأسطورة حاكها في غير موضعها فإنّ سامراء مدينة سنيّة من عصر العباسيين إلى يومنا هذا،لا يوجد فيها من الشيعة إلاّ القليل الذين ليس لهم شأن،فكيف يمكن لهم أن يقفوا بالخيل على باب السرداب و يصيحوا عليه أن أخرج يا مولانا؟!

و ما أشبه هذه الأسطورة بكذبة اخوة يوسف حيث أتوا بقميصٍ سالمٍ من أي خرق أو شق و عليه دماء يوسف يدّعون....

إنّ ما يقوم به الشيعة،هو زيارة مرقد الإمامين العسكريين في سامراء و الصحن الّذي فيه السرداب(الّذي يكثر،وجوده في بيوت العراق القديمة)،لأنّها كانت مصلاّهم و محل عبادتهم عليهم السلام،و موضع سكناهم،و هم يعبّرون بزيارتها عن حبّهم و وفائهم لأهلها،و ينشدون تعزيز الروابط الروحية معهم،مجسّدين بذلك ما قاله الشاعر: أمرّ على الديار ديار ليلى

و ممّا جانب فيه المؤلف الحقيقة،قوله:و ظهر بهذا كذب الرافضة و افتراؤهم أنّ علياً واطأ أبا لؤلؤة في قتل عمر رضي اللّه عنهما،و انّه انّما قتله عن أمر علي رضي اللّه عنه(ص 39).

ص:143

و لم يذكر المؤلف المصدر الّذي اعتمده في نقل هذا الكلام السقيم،و من هو هذا الحاقد الّذي نسجتْ مخيّلتُه المريضة هذا الكذب المحض.و كان المتوقع من محقّق الكتاب،التعليق على هذه المواضع الّتي ليس لها مسحة من الحقّ و لا لمسة من الصدق.

و مع كلّ هذا أرى أنّ طبع هذا الكتاب أو نشره في المملكة العربية السعودية،يُعدّ خطوة متقدّمة على طريق الانفتاح على الحقائق التاريخية،و التأشير على المواضع السوداء في صفحات التاريخ.

و انّ مثل هذه الأعمال ستساهم-بلا ريب-في تعزيز إيمان و وعي المسلمين،و تنأى بهم عن الجمود و التحجّر أو الانصياع لبعض الرؤى و إن حفلت بالمتناقضات،و قيّدت من آفاق النظر.

فشكراً لجهودكم يا سماحة العلاّمة الشيخ حسين محمد علي شكري و بارك اللّه تعالى فيكم و سدّد خطاكم،و أملنا أن تشيروا في المستقبل إلى مثل هذه الموارد الّتي تسيء لإخوانكم،و تعلّقوا عليها في الهامش،انتصاراً للحق،و سعياً وراء تمتين الروابط بين المسلمين و تعزيز العلاقات بينهم،و دمتم بكلّ خير.

المخلص

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

18جمادى الآخرة1426ه

ص:144

بسم اللّه الرحمن الرحيم

حضرة الفاضل المحقّق الشيخ جعفر سبحاني

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

لقد سعدت بتواصلكم و تحميلكم ثنايا رسالتكم ما أبديتموه،كما أفدتموني كلاماً نفيساً عالي القيمة و الأثر.

و لقد تضمّنت رسالتكم تنبيهات و مساءلات أرى من منطلق ما أفدتمونيه من كلام أحد علمائكم أن تكون عدم المحاباة أساس البحث و المناظرة،فلذا سأجعل جوابي إليكم مفصّلاً بعض الشيء،و أرجو أن يتسع له صدر المتلقي.

1.بالنسبة لموضع ما جرى من بني أُمية خلال حكمهم،و ما فعله يزيد-قاتله اللّه-ابن سيدنا معاوية، فهذا ممّا لا نشك في انتقام اللّه منه،و من أعوانه الظلمة عاملهم اللّه بعدله.

2.لكن لما ذا لا نكون منصفين للّه ثمّ لتاريخنا،ما ذا فعل بنو العباس في آل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أجل الوصول إلى سدة الحكم و البقاء فيها مع بني عمومتهم،و من هم أحق بالخلافة منهم؟ أ ليس ما فعلوه بهم كان ممكناً

ص:145

فعله مع سيدنا الحسين عليه السلام و آل بيته؟،أ ليس جرائمهم في آل البيت أكثر و أشنع؟

فعلينا أن نكون منصفين،و لا نجعل مسألة الكارثة التي حلت بسيدنا الحسين و آل بيته عليهم سلام اللّه و رضوانه شيئاً لا يمكن أن يفعله غير بني أمية،بل يفعله كلّ من بغى و تطلع للحكم دون مراعاة لأي رابطة.ثمّ هذا المؤلف من آل البيت تكلم بما هو من الإنصاف،و كما قيل:صاحب الدار أدرى بما فيه،و هو من ذرية الإمام الحسين عليه السلام.فما قولكم؟!

3.ما المقصود من قولكم شيعة آل محمد.فهذا المصطلح غير واضح عندنا في عرفكم،فأمّا هو عندنا فنحن نطلقه على جميع من يحبهم و ينصر قضيتهم دون أن يكون متمذهباً بمذهب آل البيت،سواء كان إمامياً،أو زيداً،أو إسماعيلياً،أو،أو...إلخ.

و نحن أهل السنّة نستمد من علومهم و نتدارس سيرتهم و مناقبهم،و نربي صغارنا على وجوب حبهم جميعاً،و لكن ليس مضيقين ذلك مثلكم في الأئمة الاثني عشر فقط،بل مفهوم آل البيت عندنا واسع يشمل نسل سيدا شباب أهل الجنة عليهم السلام جميعاً.

4.لقد أكبرت غفلتكم عن مصدر ما نقله السيد الإمام البرزنجي-و نحن نعتبره من علماء آل البيت من أهل السنة-حول مسألة الإمام المهدي المشار إليها ص230 من كتاب الإشاعة،مع العلم بأنّ المؤلف رحمه الله تعالى قد ذكر ص 229 المصدر،و ختم كلامه ص 231 بقوله:انتهى ملخصاً بمعناه».

فهلا تأنيتم في القراءة و بعدتم عن التسرع الذي مصدره:حاجة في نفس يعقوب.ثمّ ما نقلتموه عن أحد الأعلام،قد سمعنا عن عدة أعلام أنّ صواعق

ص:146

يمينه قد أحرقت؛و سَلِمَت.

5.قلتم:إنّ مدينة سامراء هي مدينة سنية منذ عصر العباسيين حتى يومنا هذا،و هذه المعلومة ليست ذات فائدة في موضوع البحث،فلم يقل أحد بأنّ سامراء مدينة شيعية أو سنية حتى يكون لذلك علاقة في وجود شعائر لأي طائفة،إلا إن كان عندكم أنّ المدينة الشيعية تكون صبغتها الدينية و عباداتكم بها غير ما يعرفه المسلمون.

ثمّ قلتم بعد استنكاركم أن يفعل الشيعة ما ذكر،و قلتم أنّ زيارة الشيعة لمرقد الإمامين العسكريين(؟؟)في سامراء و الصحن الذي فيه السرداب،هو تعبير حبهم و وفائهم،لكن كيف حورتم في الكلام و قلتم بأنّ الصحن يكثر وجوده في بيوت العراق القديمة،و لم تبينوا هل عند الشيعة،أم عند غيرهم قصدتم.

ثمّ أين الإمام الغائب إن لم تقول الشيعة أو الرافضة أنّه دخل السرداب،فأين غاب؟!

6.ما ذكرتم من مجانبة المؤلّف للحقيقة في ردّه على الرافضة-ما هو الفرق عندكم بين مصطلح الرافضة و الشيعة-ص 39،أرى من الواجب أن تفيدوا بما هو الحق عندكم،و ما هو موقفكم مما ذكر من قول الرافضة مما لم تكملوا نقل عبارته عن المؤلف كاملة؟

7.معلومة أخيرة أحب إفادتكم عنها أنّ الكتاب قد طبع في لبنان و ليس بالسعودية،و هو يوزع على نطاق واسع بالعالم الإسلامي،و توجد له عدة طبعات داخل المملكة و خارجها و ليس هو محظور في المملكة العربية السعودية.

أرجو في ختام هذه العجالة أن لا يضيق صدركم،و أن يكون عملي هذا

ص:147

مطابقاً لقولكم في هذه الأعمال تنأى عن الجمود و التحجّر،أو الانصياع لبعض الرؤى و إن حفلت بالمتناقضات،و قيدت من آفاق النظر.

نصر اللّه الحق و أهله و وفق لما يحبه اللّه سبحانه و تعالى و رسوله عليه و على آله أجمعين الصلاة و السلام.

و دمتم بخير.

خادم العلم و طلابه

بمدينة المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم

حسين محمد علي شكري

/15شعبان1426/ه

ص:148

الأُستاذ الكريم حسين محمد علي شكري أعزكم اللّه تعالى

السلام عليكم و رحمة و بركاته

انتهز فرصة الإجابة عن رسالتكم المؤرخة في /15شعبان1426/ه لأعبّر لكم عن أطيب تحياتي، و أصدق دعواتي بقبول صيامكم و أورادكم في هذا الشهر الفضيل شهر رمضان المكرّم،راجين المولى جلّ شأنه أن يسدّد خطاكم على طريق الخير و الفلاح.

أمّا بعد؛

فنحن نشاطركم رأيكم السديد الّذي أبديتموه في رسالتكم بشأن ما فعله بنو العباس من جرائم مع بني عمومتهم من أجل الوصول إلى سدة الحكم و البقاء فيها.

و لا ريب في أنّ الحكام المستبدّين منهم قد فاقوا حكّام الشجرة الملعونة في القرآن في ظلم و اضطهاد المسلمين عامة،و العلويين بشكل خاص،و منهم أئمّة أهل البيت الذين عاصروا تلك الفترة (جعفر الصادق و موسى الكاظم و علي الرضا و محمد الجواد و علي الهادي و الحسن العسكري عليهم السلام (1)) الذين تعتقد الشيعة

ص:149


1- 1) .كان المتوكل العباسي قد أحضر الإمام علي الهادي من المدينة و أقرّه بسامراء(و تسمّى العسكر)،فعُرف (هو و ابنه الحسن) بالعسكري،و غلبت هذه النسبة على ابنه أكثر.قال اليافعي في ترجمة (علي بن محمد الهادي):كان متعبّداً فقيهاً إماماً.مرآة الجنان:159/2- 160( [1]سنة 254ه).

الإمامية بإمامتهم و عصمتهم،و يجلّهم سائر المسلمين و يُشيدون بفضائلهم و مناقبهم و مكانتهم العلمية و الدينية.

إنّ الحقّ الّذي صدعتم به و صدع به الواعون من أبناء الأُمّة سيعلو بلا شك على الرغم من كلّ المساعي الّتي بُذلت و تُبذل للتغطية على تلك الجرائم أو تبريرها،و ستملأ الأسماع تلك الصرخة الّتي أعلنها منذ مئات السنين الشاعر الفحل و الفارس المغوار أبو فراس الحمداني،و هو يتحدّث عن المآسي الّتي لحقت ب آل عليّ و أهل البيت عليهم السلام على أيدي بني العباس،فيقول من جملة قصيدة في ذلك: ما نالَ منهم بنو حربٍ و إن عظُمت

أ أنتم آلُهُ فيما ترون،و في

كما أنّ جمهور الناس كان ينشد هذا البيت الساخر الّذي اشتهر في عصرهم: يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباس في النار

و إنّني إذا أُقدّر قولكم (فعلينا أن نكون منصفين)،و جسّدتموه فعلاً في موقفكم من يزيد-قاتله اللّه-و الطغاة من بني العباس،آمل أن يكون هذا

ص:150

الإنصاف،هو المنطلق في نظرتكم إلى معاوية بن أبي سفيان أيضاً.

فيزيد المتفق على فسقه و فجوره،لم يكن ليقترف ما يقترف من جرائم،لو لا سعي أبيه الجادّ و بكل الوسائل غير النزيهة-كما حفلت بذكر ذلك التواريخ-إلى تنصيبه ملكاً،و تسليطه على المسلمين.

و الداهية الكبرى،هي أنّ أباه كان يعلم علم اليقين بما تنطوي عليه شخصية ولده من رجس و دنس، و لكنّ عدم مبالاته بالأُمّة و استهزاءه بالشريعة و هواه في ولده (كما أعرب هو بنفسه عن ذلك بقوله:لو لا هواي في يزيد لأبصرت قصدي-أو طريقي -) (1)،كلّ ذلك و غيره،هو الّذي دفعه إلى اتخاذ هذا الموقف المُشين.

ليت شعري،هل كان خفيَ عليه ما قاله ولده يزيد في الجيش الّذي أصابه الجوع و المرض عند غزوه للقسطنطينية،و كان يزيد قد تخلّف عنه،فأنشأ يقول: ما إن أُبالي بما لاقت جموعهم

فطوبى لك يا أبا يزيد،إذ مكّنتَ يزيد الابنَ المدلّل المائع من العرش،ليزيد في عدد صفحات حياتك السوداء،و ليكن موبقة من موبقاتك الكثيرة،و الّتي لم يذكر منها الحسن البصري سوى أربعة،و كفى بها لمن أبصر و اعتبر،قال رحمه الله:(أربع خصال كنّ في معاوية،لو لم تكن فيه إلاّ واحدة لكانت موبقة:انتزاؤه على هذه الأُمة بالسيف حتّى أخذ الأمر من غير شورة و فيهم بقايا

ص:151


1- 1) .تاريخ مدينة دمشق:395/65،برقم 8349( [1]ترجمة يزيد).

الصحابة و ذوو الفضيلة،و استخلافه بعده ابنه سكّيراً خمّيراً يلبس الحرير و يضرب الطنابير،و ادعاؤه زياداً و قد قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:الولد للفراش و للعاهر الحجر،و قتله حُجراً و أصحابه،فيا ويلاً له من حُجر! و يا ويلاً له من حجر و أصحاب حجر). (1)

إنّ انتزاءه على هذه الأُمّة بالسيف،و قيادته للفئة الباغية (2)على الخليفة الشرعي الإمام علي عليه السلام (الّذي بايعه المهاجرون و الأنصار و سائر المسلمين) قد أثخن الأُمة بالجراح و أوهنها و أطمع فيها المتربصين بها، و كأنّ في أُذنيه وقراً عن سماع ما هتف به النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من فضائل أمير المؤمنين و مناقبه الجمّة،و الّتي لو حظي بواحدة منها (معاوية) لتبجّح بها ليله و نهاره،و لذا راح المتزلفون و المتعصّبون ينسجون الروايات الكاذبة في فضائله،و لكنّ اللّه تعالى قيّض من تصدّى لدحضها و تزييفها.

و لعلّ في قصة الحافظ أبي عبد الرحمن النسائي خير دليل على عقم تلك الجهود،إذ بان الصبح لكلّ ذي عينين لما قال (و قد سُئل في دمشق عن فضائل معاوية):ما أعرف له فضيلة إلاّ«لا أشبع اللّه بطنه» (3)، و لكن كلمة الحقّ هذه جعلته يدفع الثمن باهضاً،إذ داسه الجامدون و عُبّاد الرجال و أخرجوه من المسجد، فلم يزل عليلاً إلى أن توفّي رحمه الله. (4)

ص:152


1- 1) .تاريخ الأُمم و الملوك:232/3( [1]سنة 51ه)،الكامل في التاريخ:487/3( [2]سنة 51ه).
2- 2) .قال الذهبي:و قُتل عمّار مع عليّ،و تبيّن للناس قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:تقتله الفئة الباغية.سير أعلام النبلاء:119/3،برقم 25(ترجمة معاوية).
3- 3) .رواه الطيالسي في مسنده:برقم 2688.
4- 4) .انظر:وفيات الأعيان:77/1برقم 29، [3]سير أعلام النبلاء:125/14برقم 67.

أمّا الملاحظات و التساؤلات الّتي وردت في رسالتكم،فنمرّ عليها مروراً سريعاً،لأنّ المجال لا يتسع لأكثر من ذلك:

الفائدة من معلومة أنّ مدينة سامراء سُنيّة،هي أنّ تلك الشعائر المنسوبة كذباً للشيعة،لو كان لها نصيب من الواقع لتحدّث عنها أهل تلك المدينة و لشاعت بين أهل العراق،و لكنّنا لا نجد من يتحدّث عنها (في العصور الماضية) سوى من نأى عن ذلك البلد و عن أهله،و تحكّم به التعصّب المقيت،ثمّ كيف يتأتّى للشيعة ممارسة شعائرهم عصر كلّ يوم في مدينة ليس لهم فيها تواجد عبر القرون،لا سيما في عصر مختلق هذه الفرية؟؟!! و هذا هو المراد من قولنا:إنّ مدينة سامراء مدينة سنيّة.

و أرغب إليك-عزيزي الشيخ-أن تحسن الظنّ بإخوانك الشيعة الذين ينفون عن أنفسهم ممارسة تلك الشعائر التافهة،و ليس ثَمّة عبادات عندهم يؤدونها في مدنهم غير ما يعرفه المسلمون.

كما أنّنا لم نلجأ إلى تحوير الكلام،و إنّما كان قصدنا انّ السراديب-لا الصحون كما فهمتم-يكثر وجودها في بيوت العراقيين،و من هنا ينتفي تساؤلكم حول وجودها في بيوت الشيعة أو في بيوت غيرهم.

و من الغريب قولكم:أين الإمام الغائب إن لم تقل الشيعة أو الرافضة أنّه دخل السرداب،فأين غاب؟!

فكأنّ الأمر منحصر في طريق واحد،و كأنّ قدرة اللّه تعالى-إذا اقتضت حكمته جلّ شأنه حفظ إنسان لمصلحة رسالية-محدودة و ليست مطلقة،و لنا في تاريخ الأنبياء و الأولياء شواهد عديدة تعلمونها.

أمّا الفرق بين مصطلح الرافضة و الشيعة،فنحن لا نستعمل مصطلح

ص:153

الرافضة،و لا تجد شيعياً واحداً يُطلق على نفسه هذا المصطلح الّذي استحدثه بعض المتعصبين و المغرضين،و أُلصق بالشيعة الّذين ناهضوا الطغاة و الفجّار في محاولة منهم لتشويه سمعتهم،و إبعادهم عن ساحة الحياة،و تهميش أو إلغاء دورهم فيها.

و أمّا عن مصطلح شيعة آل محمد،فهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار،و قد تولّى فريق من علماء الشيعة الإمامية-قديماً و حديثاً-عرض عقائد الشيعة و أفكارهم و شرحها و تبيينها بشكل وافٍ، و بإمكانكم الرجوع إليها و الاطلاع عليها.

و لست أدري كيف ترون:أنّ مفهوم آل البيت واسع،يشمل نسل سيدي شباب أهل الجنة عليهم السلام ؟!

و لعلكم-سماحة الشيخ-لم تلتفتوا إلى الآية الكريمة «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» (الأحزاب:33) و غيرها من الآيات و الأحاديث الّتي خصّصت أهل البيت بأفراد معينين، (1)و إلاّ فإنّ جمعاً غفيراً جداً من ذرية السبطين عليهما السلام،ستشمله-حسب المفهوم الّذي ذكرتموه-هذه الآية و غيرها، و يصبحون جميعهم مُبرَّءين من الإثم مطهّرين من مذامّ الأخلاق، (2)و هذا

ص:154


1- 1) .أخرج مسلم بسنده عن عائشة،قالت:خرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم غداة،و عليه مرط مرجّل من شعر أسود،فجاء الحسن بن علي فأدخله،ثمّ جاء الحسين فدخل معه،ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها،ثمّ جاء علي فأدخله،ثمّ قال:«إِنّما يريد...»الآية.انظر:صحيح مسلم برقم (2424)،و حديث الكساء هذا رواه أحمد في مسنده:298/6 و 304؛و [1]الترمذي برقم (3205) و (3787) و غيرهما.
2- 2) .قال ابن حجر:ثمّ هذه الآية منبع فضائل أهل البيت النبوي لاشتمالها على غرر من مآثرهم و الاعتناء بشأنهم،حيث ابتدأت ب(إنّما) المفيدة لحصر إرادته تعالى في أمرهم على إذهاب الرجس الّذي هو الإثم أو الشك فيما يجب الإيمان به عنهم و يطهرهم من سائر الأخلاق و الأحوال المذمومة.الصواعق المحرقة:144،الباب الحادي عشر،الفصل الأوّل. [2]

أمر لا يقبله المنطق،و لا يؤيده الواقع.

أمّا بشأن التأنّي في القراءة و الابتعاد عن التسرّع،فهو أمر لازم لكلّ باحث موضوعي،و من هنا يتسع صدره لمن يُذكّره به،بيد أنّ النصّ الموجود في (ص 320) من كتاب الإشاعة قد تمّت قراءته جيّداً،و أوردناه كما هو،و لم ننسبه للمؤلف،بل صدّرناه بقولنا(و إنّي أرى المؤلف قد أحسن الظن ببعض من كتب عن الإمامية،فأورد في كتابه هذا بعض كلماتهم)،و الاشتباه فقط في المصدر الّذي نقل عنه المؤلف،و لا نرى كبير أهمية لذلك،لأنّ كليهما (ابن حجر الهيتمي و صاحب ذلك المصدر) سيّان في التعصب على الشيعة و التحامل عليهم و التحدث عنهم بغير دليل و لا برهان.

و الأمر الّذي كنّا قد رجوناه،و نعتب فيه عليكم،هو مروركم على مثل هذه الخرافة دون التحقيق فيها و التعليق عليها،و العتب علامة الحبّ كما تعلم.

أُحييكم مرة أُخرى،و لكم مني وافر التقدير و الاحترام.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

إيران-قم

6 رمضان المبارك1426ه

ص:155

12في تسمية الولد بعبد الرسول الأُستاذ الفاضل بسام ظبيان المحترم رئيس تحرير مجلة«الشريعة»الغرّاء

اشارة

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

وصلنا العدد(479) من مجلتكم القيّمة الّتي تلمع في سماء المطبوعات لمعان البرق في طيّات السحاب.

و لذا نقدم لكم الشكر الجزيل،و لنا مع مجلتكم وقفة قصيرة.

فقد جاء في قسم الفتاوى أسئلة مختلفة أجاب عنها الأساتذة-حفظهم اللّه تبارك و تعالى -.و من تلك الأسئلة تسمية الولد بعبد المسيح أو عبد الرسول أو غير ذلك و أُجيب عنه بوجوه ثلاثة،نركِّز على الوجه الأوّل منها (لأنّ الوجهين الآخرين يختصان بعبد المسيح و لا كلام لنا فيهما».و الوجه الأوّل هو ما قال فيه المجيب:«انّ كلّ اسم معبِّد لغير اللّه تحرم التسمية به بإجماع المسلمين».

لكن المجيب لم يوضح معنى العبد في قولهم:«عبد الرسول»و لو قام

ص:156

بإيضاحه لما ادّعى الإجماع على حرمته،لأنّ العبودية تطلق و يراد بها معان مختلفة و يختلف حكمها حسب اختلاف الموارد و هذا بيانه:

1.العبودية التكوينية

،و هي بهذا المعنى ناشئة من المملوكية التكوينية التي تعمّ جميع العباد،و منشأ المملوكية كونه سبحانه خالقاً،و الإنسان مخلوقاً.فالعبودية إذا كانت رمزاً للملوكية الناشئة من الخالقية،فهي لا تضاف إلاّ إلى اللّه سبحانه كما يقول سبحانه: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً». 1

و قال سبحانه حاكياً عن المسيح: «إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا». 2

2.العبودية الوضعية

الناشئة من غلبة إنسان على إنسان في الحروب،و قد أمضاها الشارع تحت شرائط معينة مذكورة في الفقه.

فأمر الأُسارى-الذين يقعون في الأسر بيد المسلمين-موكول إلى الحاكم الشرعي فهو مخيّر بين إطلاق سراحهم بلا عوض أو بأخذ مال منهم أو استرقاقهم.

فإذا اختار الثالث فيكون الأسير عبداً للمسلم،و لذلك ترى أنّ الفقهاء عقدوا باباً باسم«العبيد و الإماء».

قال سبحانه: «وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ». 3

ص:157

تجد أنّه سبحانه ينسب العبودية و الإمائية إلى الذين يتملكونهم و يقول «عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ» فيضيف العبد إلى غير اسمه جلّ ذكره.

3.العبودية

بمعنى الطاعة و بها فسرها أصحاب المعاجم. (1)

و المعنى الثالث هو المقصود من تلك الأسماء فيسمُّون أولادهم باسم عبد الرسول أي مطيع الرسول و عبد الحسين أي مطيعه و كلّ مسلم مطيع للرسول و الأئمّة من بعده و لا شكّ انّه يجب إطاعة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أُولي الأمر.

قال سبحانه: «أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ». 2

فعرّف القرآنُ النبيّ بأنّه مطاعاً و المسلمين مطيعين،و لا عتب على الإنسان أن يظهر هذا المعنى في تسمية أولاده و فلذات كبده.

نعم المسمّى بعبد الرسول هو عبد للرسول و في الوقت نفسه عبد للّه أيضاً،و لا منافاة بين النسبتين لما عرفت من أنّ العبودية في الصورة الأُولى هي العبودية التكوينية النابعة من الخالقية،و لكنّها في الصورة الثانية و الثالثة ناجمة عن تشريعه سبحانه حيث جعل الغالب مولى و الأسير عبداً،كما جعل النبي مطاعاً و غيره عبداً أي مطيعاً و شتان ما بينهما و بين المعنى الأوّل و لا أجد مسلماً على أديم الأرض يسمّي اسمَ ولده بعبد الرسول و يقصد به العبودية التكوينية للرسول،و انّما يقصد المعنى الثالث و هو كونه مطيعاً للرسول.و غاية ما يمكن أن يقال يقصد العبودية التشريفية و التنزيلية بضرب من المجاز و تشبيهاً بالعبودية الرائجة بين الموالي العرفية و عبيدهم.

ص:158


1- 1) .لسان العرب:مادة عبد،و كذلك القاموس المحيط في نفس المادة.

و في الختام:ندعو لأُسرة التحرير و في مقدمتهم قيس الظبيان المدير العام و لكم بالخير و العافية.

***

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

السادس عشر من ذي الحجة 1426ه

***

و قد قامت المجلة مشكورة بنشر الرسالة في العدد(484) مرفقة بالشكر المتواصل حيث جاء فيها:

الشكر الموصول للعلاّمة جعفر السبحاني،و أن أُسرة تحرير مجلة الشريعة تثمن عالياً اهتمامات سماحته في متابعة ما يكتب فيها من مواضيع دينية و حرصه على تقديم الإيضاحات خدمة للقراء...فجزاه اللّه عنا و عنهم كلّ الخير.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

ص:159

13 المهدي المنتظر و الشرائع السماوية

اشارة

هل الشرائع السماوية الّتي يُعبّر عنها بالأديان الإلهية تتّفق على ظهور مصلح عالمي في آخر الزمان،أو لا؟ و على فرض كون الجواب إيجابياً فهل هناك فروق في صفات هذا المصلح عن المهدي الّذي جاء ذكره في الدين الإسلامي؟

و قبل الخوض في الإجابة عن السؤال الثاني نقدم أمراً نراه جديراً بالذكر،و هو:

إنّ القول بظهور مصلح في آخر الزمان هو النتيجة القطعية لقانون التكامل الّذي عمّ حياة المجتمع الإنساني،و القول بهذا القانون يدلّنا على وجود مجتمع إنساني مثالي في برهة من الزمان حتّى يعود التكامل في الحياة الإنسانية تكاملاً شاملاً لا تكاملاً خاصاً و محدوداً،و إليك توضيح ذلك.

لم تزل الحياة البشرية تتقدم شيئاً فشيئاً و ها هي بلغت إلى ما نشاهد حالياً حيث إنّ الطبيعة قد سُخّرت و استثمرت كلّ منابعها و خيراتها،بل امتدت يد البشر لتسخير الفضاء و الاستفادة منه علمياً و تكنولوجياً،فهذا التطور العلمي

ص:160

تبعه تطوّر في كافة مجالات الحياة الصناعية و التجارية و الاتصالات،حيث إنّ الإنسان يتكلّم في أقصى الغرب و يسمعه من هو في أقصى الشرق بلا أدنى تأخير.

إنّ هذا التطوّر انعكس على الحالة السياسية و الاجتماعية حيث ساهم في ظهور نظريات سياسية و اجتماعية متطوّرة و متنوعة ساهمت في وصول الإنسان-مادّيّاً-إلى المستوى النموذجي تقريباً أو إلى ما كان يتمنّاه.

إلاّ أنّ هناك سؤالا هو:هل أنّ هذا التكامل المادي في كافّة المجالات يضفي السعادة التامة على حياة الإنسان؟ و هل هو تكامل يشمل الحياة المادية و المعنوية معاً أم لا؟

إنّ الاتّجاه نحو التكامل المادي في ظل التقدّم الحاصل لا ينكر،و أمّا في الجانب المعنوي و الأخلاقي فبين الإنسان و التكامل فيهما بون شاسع،تشهد عليه ظواهر كثيرة،نذكر منها ما يلي:

1.انّ الحروب الدامية بين الأُمم الّتي حدثت خلال القرن العشرين تثبت بوضوح أنّ المجتمعات الغربية بل حتّى الشرقية ما زالت في بداية الحياة الإنسانية حيث إنّ الحرب العالمية الأُولى و الثانية قضت على النفس و النفيس،فقد بلغ عدد القتلى و المفقودين و الجرحى في الحرب العالمية الأُولى حوالي عشرة ملايين، و في الثانية بلغ ما يناهز المائة مليون نفر،فهل يمكن الادّعاء انّ المجتمع الإنساني بلغ في جانبي المادة و المعنويات درجة لا يشق شأوها و لا يتصوّر فوقها شيء ؟!

2.أثّر التقدّم الصناعي في بعض المجالات تأثيراً سلبياً على سلامة البيئة على وجه لو استمر هذا الخط التصاعدي لانتهى إلى انقراض النسل البشري،و رغم إقامة العديد من المؤتمرات حول هذه الأزمة،إلاّ أنّ الدول المتقدّمة صناعياً لم تصل إلى حلٍّ ناجحٍ لهذه المشكلة،و تعاملت معها بصورة سطحية بعيدة عن

ص:161

المسئولية،و هذا ما نلاحظه من مواقف الولايات المتحدة الامريكية حيث لم تشارك في بعض هذه المؤتمرات إلاّ بشكل ثانوي أو أنّها أرسلت مراقب من جانبها فقط.

3.التمييز العنصري مشكلة قائمة في حياة البشر عبر قرون حيث كان الملونون أسرى بيد غيرهم،و لم يزل هذا الخطر قائماً و سائداً حتّى الآن بأشكال و صور مختلفة يقف عليها كلّ من سبر حياة الملونين في الغرب و أمريكا،فأصبح شائعاً في تلك الدول أن يقسم المواطن فيها إلى درجتين أولى و ثانية.

4.شيوع الفقر في قارة إفريقية،و هذه هي الإحصاءات تخبر عن وجود مليار إنسان جائع،و ربّما ينتهي الأمر إلى هلاك الكثير منهم مع أنّ إفريقية تشتمل على موارد و خيرات طبيعية كثيرة و متنوّعة إلاّ أنّها تنهب من جانب الغرب و أمريكا.

5.أعلنت الإحصائيات العالمية أنّ 85%من الثروة العالمية بيد 15%من سكان العالم،كما أنّ 15%من الثروة العالمية بيد 85%من سكان العالم.

6.لم تزل الدول المتقدّمة و على رأسها أمريكا و الغرب يسعون لإثارة الحروب بين الشعوب و الدول، و ذلك لبيع أسلحتهم على الجانبين حتّى يعم القتل و الدمار بواسطة هذا السلاح و يغتنمون هم ثروات هذه الدول،و هذا ما نشاهده في الحروب الدامية في آسيا و الشرق الأوسط و غيرها من الدول.

و قد أشعل الغرب فتيل الحرب العراقية الإيرانية الّتي استمرت ثمان سنوات و الّتي أدت إلى هلاك مئات الآلاف،و ما زالت آثارها السيئة مشاهدة في البلدين.

7.ظاهرة التجارة بالإنسان،و هي ظاهرة جديدة حيث توجد هناك شركات سرية لسرقة الأطفال ذكوراً و إناثاً لبيعهم لأصحاب الثروات للاستفادة

ص:162

منهم في تحقيق أهدافهم الدنيئة و لإشباع غرائزهم الحيوانية،و هذا نوع جديد من الرق في القرن الحادي و العشرين،و مع ذلك نرى أنّ الغرب يدّعي القضاء على الرقية،و لكنه دخل من باب آخر ألا و هو سرقة الأطفال و بيعهم لغايات رذيلة.

8.شيوع الأمراض الفتاكة و انتشارها كمرض فقد المناعة (الإيدز) و الّذي ينشأ و ينتشر بسبب انغماس الإنسان في الشهوات.

9.قد بلغ الإنسان في المجتمع الغربي إلى درجة من الانحطاط الأخلاقي حتّى انتشر الزواج بالجنس المماثل،و صار هذا الزواج أمراً قانونياً في أمريكا و بعض الدول الغربية،و لو شاع هذا العمل القبيح لربّما أدى إلى انقراض الإنسان.

10.الإعلام العالمي أصبح بلاءً على الشعوب حيث استخدم الرجال و النساء الأذكياء لتشويش الأذهان و سوق المجتمع بألوان من الدعاية إلى مطامع رجال السياسة و المال فهم لا يتبنون الواقع،بل يتبنون ما يكفل أغراض أصحاب السلطة و القوة و أهدافهم،و هذا بلاء فادح واضحة آثاره السلبية.

هذه نماذج تدلّ بوضوح على أنّ التكامل الصناعي تكامل ناقص سلبي لا يغطي كافة جوانب الحياة، و هذا النوع من التكامل أشبه بتكامل أعضاء الجسم الإنساني للطفل و عدم تكامل القوى العقلية له،و من المعلوم أنّ هذا النوع من التكامل الناقص يؤدي بحياة الطفل في آخر الأمر.

و بما أنّ قانون التكامل قانون نابع عن الحياة الإنسانية فلا بدّ من الاعتراف بضرورة مجيء يوم تنقلب الحسابات إلى صالح المستضعفين و ضد المستكبرين فيصل المجتمع إلى الكمال المادي و المعنوي جنباً إلى جنب،و هذا هو الّذي سيتحقق في عصر ظهور المهدي المنتظر.

ص:163

فالقول بالمهدي المصلح المنتظر ليس مسألة نقلية محظة،بل أنّ العقل يساعد على القول بها و يبرهن عليها قانون التكامل.

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى ما قالته الأديان أو الشرائع السماوية حول المصلح المنتظر.

المهدي المنتظر في العهدين

إنّ العهد القديم و الجديد رغم تطرق التحريف عليهما،فقد ورد فيهما ذكر ظهور المصلح في آخر الزمان في أكثر من مكان على غرار المواصفات التي ذكرها القرآن الكريم.

قال سبحانه: «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ». 1

فقد أخبر سبحانه في هذه الآية بأنّه سبحانه كتب في الزبور بعد التوراة أنّ الأرض يرثها الصالحون.

و من حسن الحظ أنّ نفس هذا النص موجود في الزبور حالياً لم تتطرق له يد التحريف،فقد جاء فيه:

«و الشرير عمّا قليل لا يكون،تبحث عن مكانه فلا يكون».

ثمّ قال:«أمّا الوضعاء فالأرض يرثون،و بسلامٍ وفير ينعمون». (1)

كما أنّا نقرأ نصوصاً مشابهة وردت في أماكن أُخرى من العهدين سنذكرها مع الإشارة إلى محلها و هي كالتالي:

ص:164


1- 2) .الكتاب المقدس،(العهد القديم)،سفر المزامير:المزمار37،الفقرة10- 11،الصفحة1164.

1.«و يكون شعبُك كُلُّه أبراراً،و للأبد يَرِث الأرض». (1)

2.«الويل للحوامل و المرضعات في تلك الأيّام فستنزل الشدّة بهذا البلد و ينزل الغضب على هذا الشعب،فيسقطون قتلى بحدّ (بفَم) السيف و يؤخذون أسرى إلى جميع الأُمم،و تدوس أُورشلم أقدامُ الوثنيين إلى أن ينقضي عهد الوثنيين».

«و ستظهر علامات في الشمس و القمر و النجوم،و ينال الأُمم كربٌ في الأرض و قلقٌ من عجيج البحر و جيشانه،و تزهق نفوس الناس من الخوف و من توقع ما ينزل بالعالم،لأنّ أجرام السماء تتزعزع،و حينئذٍ يرى الناسُ ابن الإنسان آتياً في الغمام في تمام العِزّةِ و الجلال». (2)

3.«و سيمسح كل دَمعةٍ من عيونهم،و للموت لن يبقى وجود بعد الآن،و لا للحزن و لا للصراخ و لا للألم لن يبقى وجود بعد الآن،لأنّ العالَم القديم قد زال.انّي سأُعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً.إنّ الغالب سيرث ذلك النصيب». (3)

و لنعقد الآن مقارنة بين نظرتي الإسلام و الشرائع الأُخرى للاعتقاد بالمصلح المنتظر،فنقول توجد مشتركات كما توجد فوارق بينهما.

أمّا المشتركات فالشرائع السماوية جميعاً متفقة بالأُمور التالية:

1.انتشار الظلم و الجور في العالم على نحو ينقطع الأمل و يعمّ اليأس من الخلاص.

ص:165


1- 1) .الكتاب المقدس،(العهد القديم)،سفر أشعيا:الإصحاح10،الفقرة21 الصفحة 1625.
2- 2) .الكتاب المقدس(العهد الجديد) لوقا:الإصحاح21،الفقرة 23- 27 الصفحة 266.
3- 3) .رؤيا القدّيس يوحنا،الاصحاح21 الفقرة:4 و 7.

2.المصلح الموعود بشر و ليس بملك.

3.أعوانه كلّهم من الصلحاء يشاركونه في الهدف.

4.يملأ الأرض بالقسط و العدل.

5.يستلم الصالحون مقاليد الحكم في الأرض.

و هذه الأُمور هي المشتركات في عامة الشرائع،و أمّا الفوارق فنشير إليها بما يلي:

1.المصلح الموعود هو من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و قد ورد فيه من جانب الفريقين 407 روايات.

2.المصلح المنتظر من أولاد علي و فيه 225رواية.

3.المهدي المنتظر من أولاد فاطمة بنت النبي و فيه 203روايات.

4.المهدي الموعود هو تاسع أولاد الحسين بن علي و فيه 208 رواية.

5.المهدي المنتظر من أولاد الإمام زين العابدين فيه 195 رواية.

6.المهدي المنتظر من أولاد الحسن العسكري و فيه 107رواية.

7.المهدي المنتظر هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت و فيه 151رواية.

8.المهدي الموعود قد ولد و فيه 426رواية.

9.المهدي المنتظر يعمّر عمراً طويلاً و فيه 318رواية.

10.للمهدي المنتظر له غيبة طويلة و فيه 100رواية.

11.المهدي المنتظر ينشر الإسلام في أرجاء المعمورة و يكون الإسلام ديناً عالمياً،و فيه 22رواية.

ص:166

12.يؤسس المهدي المنتظر حكومة عالمية واحدة و هذه الميزة من أبرز خصائص العقيدة بالمهدي في الشريعة الإسلامية،و حينذاك تنحسر كافة الحكومات الظالمة عن الوجود،و تكون الساحة خالصة للحكم الواحد و هو حكم الإسلام.

و قد جاء في الروايات التصريح بذلك،نذكر منها ما يلي:

1.إذا قائم القائم عليه السلام ذهبت دولة الباطل. (1)

2.يبلغ سلطانه المشرق و المغرب. (2)

و قد ورد في القرآن الكريم قوله سبحانه: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ». 3

و الآية و إن كانت مطلقة لكن الحكومة الّتي يؤسسها المصلح المنتظر من أبرز مصاديق هذه الآية. (3)

علائم الظهور

قد وردت في الروايات أُمور عُدّت من علائم ظهور الإمام المهدي و من مقتضيات نهضته،و نذكر شيئاً من هذه الروايات:

1.عن قتادة قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:أنّه يستخرج الكنوز،و يقسم المال،و يلقي الإسلام بجرانه. (4)

ص:167


1- 1) .منتخب الأثر:471. [1]
2- 2) .نفس المصدر:472. [2]
3- 4) .نور الثقلين:506/3؛تفسير البرهان:196/3.
4- 5) .منتخب الأثر:472. [3]

2.عن الإمام الباقر عليه السلام قال:إنّ عيسى عليه السلام ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا،فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ و لا غيره إلاّ آمنوا به قبل موتهم،و يصلّي عيسى خلف المهدي عليه السلام. (1)

3.قال الإمام الصادق عليه السلام:«إذا قام قائمنا وضع اللّه يده على رءوس العباد فجمع بها عقولهم،و كملت به أحلامهم». (2)

4.و عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:«إنّ قائمنا إذا قام مدّ اللّه لشيعتنا في أسماعهم و أبصارهم حتّى لا يكون بينهم و بين القائم بريد،يكلّمهم فيسمعون،و ينظرون إليه و هو في مكانه».

5.عن (3)الإمام الحسن عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام قال:«يبعث اللّه رجلاً في آخر الزمان،و كلب من الدهر،و جهل من الناس،يؤيده اللّه بملائكة و يعصم أنصاره،و ينصره ب آياته،و يظهره على أهل الأرض حتّى يدينوا طوعاً أو كرهاً،يملأ الأرض عدلاً و قسطاً و نوراً و برهاناً،يدين له عرض البلاد و طولها،لا يبقى كافراً إلاّ آمن،و لا طالح إلاّ صلح،و تصطلح في ملكه السباع،و تخرج الأرض نبتها،و تنزل السماء بركتها، و تظهر له الكنوز،يملك ما بين الخافقين أربعين عامّاً،فطوبى لمن أدرك أيامه و سمع كلامه». (4)

و هذا هو بعض ما ورد حول العلامات الّتي تسبق أو تعاصر ظهور الإمام المهدي عليه السلام.

ص:168


1- 1) .منتخب الأثر:479. [1]
2- 2) .منتخب الأثر:483. [2]
3- 3) .منتخب الأثر:483. [3]
4- 4) .منتخب الأثر:487. [4]

14نموذج من الأخبار الموضوعة

اشارة

(1)

الحديث النبوي هو أحد مصادر العقيدة و الشريعة،فهو بعد الكتاب المجيد حجة ثانية يعتمد عليها الفقهاء و المتكلّمون في كلا المجالين،و لا يعادله بعد الكتاب العزيز شيء.

و مع هذا المكانة السامية له،فقد ابتلي بمصائب من الخارج و الداخل حتّى أصبح تمييز الصحيح عن غيره أمراً صعباً يحتاج إلى دراسة و تعمّق.

و من هذه الابتلاءات:منع تدوين الحديث بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم منعاً باتاً،أو منعاً نسبياً إلى أواخر القرن الأوّل،بل إلى أواسط القرن الثاني حيث بدأ المسلمون بكتابة الحديث في عصر المنصور عام (143ه). (2)

و منها:فسح المجال للأحبار و الرهبان،فقد مُني الإسلام من جانبهم ببدع يهودية و خرافات مسيحية و أساطير مجوسية،فبثّوها بين المسلمين كحقائق راهنة،و تلقّاها السذج من المحدّثين بالقبول.

ص:169


1- 1) .كتبنا هذا المقال بعد اطّلاعنا على مقال نشرته إحدى المجلات يتضمّن انفراد مصادر الحديث عند الشيعة باشتمالها على الموضوعات.
2- 2) .تاريخ الخلفاء للسيوطي:261.

يقول الشهرستاني:زادت المشبّهة في الأخبار أكاذيب وضعوها و نسبوها إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و أكثرها مقتبسة من اليهود،فإنّ التشبيه فيهم طباع. (1)

و منها كذلك:التجارة بالحديث من قبل سماسرة الأهواء،فقد أدخلوا في السنّة النبوية ما ليس منها، و ربّما ناهز عدد الوضّاعين إلى 700 رجل. (2)

و لأجل ذلك قام غير واحد من العلماء بتأليف كتب و موسوعات من أجل تمييز الموضوعات عن غيرها.

و من هذه الموضوعات الخبر الوارد في كتب الفريقين حول حمارٍ كلّمه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و سأله عن اسمه؟ فأجابه بأنّه قد أخرج اللّه من نسل جده ستين حماراً لا يركبها إلاّ نبي...إلى آخر ما سيوافيك نصه.

و هذا الحديث و إن كان أمراً ممكناً غير محال،إذ ليس الحمار بأقلّ من الهدهد الّذي كلّمه سليمان و أجاب عن أسئلته،يقول سبحانه حاكياً عن سليمان: «ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» إلى آخر ما ذكره سبحانه من قصة تكلم سليمان مع الهدهد و جوابه له. (3)

و مع ذلك كلّه فالأمر غريب جدّاً في هذا الحديث و إن أورده الكليني في«الكافي»و هو من الشيعة و لكن بسند مرسل لا مسند،و نقله عنه المجلسي في«البحار».

ص:170


1- 1) .الملل و النحل:106/1. [1]
2- 2) .الغدير:257/5.
3- 3) .النمل:20- 35. [2]

الحديث في كتب أهل السنّة

1.روى الحافظ أبو نعيم في«دلائل النبوة»بسند يتصل إلى معاذ بن جبل قال:أتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو بخيبر حمارٌ أسود فوقف بين يديه،فقال:من أنت؟

قال:أنا عمرو بن فلان،كنا سبعة إخوة كلنا ركبنا الأنبياء،و أنا أصغرهم،و كنت لك فملكني رجل من اليهود،فكنت إذا ذكرتك كبوت به فيوجعني ضرباً.فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:فأنت يعفور. (1)

ثمّ قال:هذا حديث غريب.

2.و رواه ابن الجوزي (510- 597ه) في«الموضوعات»،قال:«باب تكليم حماره يعفور له»فروى بالسند المتصل إلى أبي منظور-و كانت له صحبة-قال:لمّا فتح اللّه عزّ و جلّ على نبيه خيبر أصابه من سهمه أربعة أزواج نعال و أربعة أزواج خفاف و عشرة أواق ذهب و فضة و حمار أسود.قال:فكلم النبي صلى الله عليه و آله و سلم الحمار، فقال له:ما اسمك؟ قال يزيد بن شهاب،اخرج من نسل جدي ستين حماراً كلهم لم يركبه إلاّ نبي،و لم يبق من نسل جدي غيري و لا من الأنبياء غيرك...إلى آخر الرواية. (2)

و قال ابن الجوزي في آخره:هذا حديث موضوع،فلعن اللّه واضعه،فإنّه لم يقصد إلاّ القدح في الإسلام و الاستهزاء به.

قال أبو حاتم بن حبان:لا أصل لهذا الحديث،و إسناده ليس بشيء،و لا يجوز الاحتجاج بمحمد بن مزيد. (3)

ص:171


1- 1) .البداية و النهاية،لابن كثير:11/6. [1]
2- 2) .الموضوعات:294/1.
3- 3) .نفس المصدر.

3.و روى كمال الدين الدميري في«حياة الحيوان»عن ابن عساكر في تاريخه،بسنده إلى أبي منصور قال:لما فتح النبي صلى الله عليه و آله و سلم خيبر أصاب حماراً أسود،فكلّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الحمار،فقال له:ما اسمك؟قال:

يزيد بن شهاب أخرج اللّه من نسل جدّي ستين حماراً لا يركبها إلاّ نبي،و قد كنت أتوقعك لتركبني،و لم يبق من نسل جدّي غيري و لا من الأنبياء غيرك،و قد كنت قبلك عند رجل يهودي،و كنت أتعثر به عمداً كان يجيع بطني و يركب ظهري.

فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:فأنت يعفور،يا يعفور تشتهي الإناث؟ قال:لا.

فكان النبي صلى الله عليه و آله و سلم:يركبه في حاجته. (1)

4.و رواه الدياربكري أيضاً عن ابن عساكر بنفس لفظ الدميري،و قال-في رواية:إنّ اسمه-أي اليهودي الّذي يركبه-مرحب،و كان إذا سمع اسمك يتكلم بما لا يليق بك،و كنت أتعثر به عمداً...إلى آخر الرواية. (2)

5.و رواه الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفّى852ه) في«لسان الميزان»عن أبي عبد الرحمن السلمي،عن أبي منظور-و كانت له صحبة-قال:لمّا فتح اللّه على نبيه...إلى آخر الحديث،بنفس الألفاظ السابقة.

ثمّ قال:قال ابن حبّان:هذا خبر لا أصل له،و إسناده ليس بشيء. (3)

و قد ذكره ابن حجر في«الإصابة» (4)و بنفس الألفاظ الّتي ذكرت في«أُسد الغابة»عن ابن موسى.

6.و رواه القاضي عياض و قال:و ما روي عن إبراهيم بن حماد بسنده من

ص:172


1- 1) .حياة الحيوان:228/1. [1]
2- 2) .تاريخ الخميس:187/2. [2]
3- 3) .لسان الميزان:376/5.
4- 4) .الإصابة:321/7. [3]

كلام الحمار الذي أصابه بخيبر و قال له:ما اسمك.قال:اسمي يزيد بن شهاب،فسمّاه النبي صلى الله عليه و آله و سلم يعفوراً. (1)

7.و رواه الحلبي (المتوفّى 1044ه) في السيرة قال:و روي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا فتح خيبر أصاب حماراً أسود، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:ما اسمك...الخ...ثمّ قال:قال ابن حبان:هذا خبر لا أصل له و إسناده ليس بشيء. (2)

8.و ذكره ابن حبّان في كتاب«المجروحين»و قال في آخره:و هذا حديث لا أصل له،و إسناده ليس بشيء،و لا يجوز الاحتجاج بهذا الشيخ (يعني محمد بن مزيد). (3)

9.و قد ذكره أيضاً ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق. (4)

10.و قال ابن الأثير في«أُسد الغابة»:و روى باسناد له عن أبي منظور أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لما فتح خيبر...و ذكر الحديث،ثمّ أعقبه بقوله:و أطال فيه أبو موسى و قال:هذا حديث منكر جدّاً اسناداً و متناً،لا أُحلّ لأحد أن يرويه عنّي إلاّ مع كلامي عليه. (5)

11.رواه المقريزي عن أبي نعيم. (6)

الحديث في كتب الشيعة

1.روى الكليني في«الكافي»قال:و روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال:إنّ

ص:173


1- 1) .الشفا بتعريف حقوق المصطفى:604/1، [1]ط.عمان:دار الفيحاء،1407ه.
2- 2) .السيرة الحلبية:774/2. [2]
3- 3) .المجروحين:309/2.
4- 4) .تاريخ مدينة دمشق:232/4. [3]
5- 5) .أُسد الغابة:307/5. [4]
6- 6) .إمتاع الأسماع:268/5 و ج226/7. [5]

ذلك الحمار كلّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:بأبي أنت و أُمّي إنّ أبي حدّثني،عن أبيه،عن جدّه،عن أبيه أنّه كان مع نوح في السفينة فقام إليه نوح فمسح على كفله،ثمّ قال:يخرج من صلب هذا الحمار حمار يركبه سيّد النبيّين و خاتمهم،فالحمد للّه الّذي جعلني ذلك الحمار. (1)

2. و رواه القطب الراوندي في«الخرائج و الجرائح»و في الباب الأوّل في معجزات نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم في الفصل الثاني الّذي سمّاه باسم«فصل من روايات العامّة في معجزاته صلى الله عليه و آله و سلم».عن الصدوق بسند أكثر رواته من السنة. (2)و نقله المجلسي في«بحار الأنوار»عن«قصص الأنبياء»للراوندي أيضاً. (3)

3.يقول الشيخ الأميني:و للقوم (قصة حمار) عدّوها من دلائل النبوة ذكرها ابن كثير بالإسناد المتصل في تاريخه،و نحن نذكرها محذوفة السند و نحيل البحث عنها إلى أُولي الألباب من الأُمّة المسلمة. (4)

و في الختام:يجب التنبيه على أمر،و هو أنّ الكتب الروائية بحاجة ماسة إلى التنقيح و التنقيب،و مع أنّ هذه الكتب مصدر ثان للعقيدة و الشريعة بعد الكتاب العزيز،و مع ذلك فالسنّة تحتاج إلى تهذيب و دراسة، فليس لأحد أن يعترض على فئة باشتمال كتاب من كتبهم على قصة خرافية بعد ما نرى نقل الفريقين لها.

و مع ذلك فننبّه على أمرين هامّين هما:

أوّلاً:أنّ الكليني نقله مرسلاً دون أن يذكر له سنداً حيث قال:و روي أنّ

ص:174


1- 1) .أُصول الكافي:237/1؛ [1]عنه البحار:405/17 ح23. [2]
2- 2) .الخرائج و الجرائح:42/1ح 49.
3- 3) .بحار الأنوار:404/17ح21 [3]عن قصص الأنبياء:307. [4]
4- 4) .الغدير:106/11. [5]

أمير المؤمنين قال:إنّ ذلك الحمار....

و الخبر المرسل في غير الغرائب ليس بحجّة،فكيف في هذا الأمر الغريب؟!

و ثانياً:أنّ شرّاح الحديث قالوا:لا يتعقل معنى صحيح لهذه المرسلة تحمل عليه،و لعلّها ممّا وضعه الزنادقة استهزاءً بالمحدِّثين السُّذّج،كما أنّهم وضعوا كثيراً من الأحاديث لتشويه صورة الدين.

و بهذا نستنتج أنّ رواة هذا الحديث من أهل السنّة هم أكثر من رواته من الشيعة،و هو في كتب السنّة أكثر ممّا في كتب الشيعة،و قد اتّفق الفريقان على أنّ هذا الخبر من الأحاديث الموضوعة....

ص:175

ص:176

الفصل الثاني:في المسائل الفقهية و الأُصولية

اشارة

1.بيعتان في بيعة

2.تعليق على فتوى الشيخ القرضاوي في تزويج البكر

3.مع كتاب فقه المعاملات الحديثة

4.اتجاهان في تدوين أُصول الفقه و اقتراحات لتطويره

5.إجماع العترة الطاهرة

6.صلاة الطواف و حكمها عند الزحام

7.لو باع بثمن معيّن و تبيّن عدمه

8.دور التاريخ في استنباط الأحكام الشرعية

9.طلاق المرأة و هي حائض و تزويجها-بعد العدة-برجل آخر

ص:177

ص:178

1 بيعتان في بيعة

اشارة

صاحب الفضيلة حجة الإسلام السيد عبد الفتاح نواب-دامت معاليه -

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في صلاح و فلاح،كما أرجو أن يكون أخونا الكريم الأُستاذ الفذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم في صحة و عافية.

ذكرتم أنّ الأُستاذ-حفظه اللّه-قد طلب منكم رأي فقهاء الشيعة الإمامية في مسألة«البيعتين في بيعة واحدة»،و اقترحتم عليّ أن أُحرّرها،فقمت تلبية لاقتراحاتكم بتحرير المسألة بوجه موجز،و لا نقول:إنّه رأى عامة فقهائهم،إذ ليس لهم في المسألة رأي موحَّد و التفصيل يطلب من مظانّه.

اختلفت كلمة الفقهاء في تفسير هذا العنوان (البيعتان في بيعة واحدة) الّذي ورد في روايات السنّة و الشيعة.و لنذكر ما رواه الفريقان أوّلاً،ثمّ ندخل في صلب الموضوع:

1.ما رواه الفريقان في المقام:

1.روى الترمذي في سننه في باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة،عن

ص:179

أبي هريرة قال:نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن بيعتين في بيعة.

و قال في شرح الحديث:و قد فسّره بعض أهل العلم قالوا:بيعتين في بيعة،أن يقول:أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة و بنسيئة بعشرين.... (1)

2.رووا أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن بيع و شرط. (2)

و أمّا الشيعة الإماميّة فقد أخرج الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (المتوفّى 460ه) في كتاب «التهذيب»عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

3.نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن سلف و بيع،و عن بيعين في بيع،و عن بيع ما ليس عندك. (3)

و روى محمد بن بابويه الصدوق (المتوفّى 381ه) عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام في مناهي النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال عليه السلام:نهى عن بيعين في بيع. (4)

4.روى الشيخ الطوسي بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام قال بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رجلاً من أصحابه والياً فقال:إنّي بعثتك إلى أهل اللّه يعني أهل مكة فانههم عن بيع ما لم يقبض،و عن شرطين في بيع،و عن ربح ما لم يضمن.

2.ما هو المقصود من الحديث؟

اشارة

قد فُسّر الحديث بوجوه و إليك سردها إجمالاً:

الأوّل:أن يبيع الرجل السلعة فيقول:هي نقداً بكذا و نسيئة بكذا،و بطبيعة الحال يكون الثمن الثاني أكثر من الأوّل.

ص:180


1- 1) .سن الترمذي:ج3،كتاب البيوع،الباب18، [1]رقم الحديث1232.
2- 2) .المهذب للشيرازي:275/1؛العزيز في شرح الوجيز:105/4؛المغني:308/4،الشرح الكبير:56/4 و [2]لم أقف على نص الحديث في الصحاح و السنن لقلّة التتبع.
3- 3) .التهذيب:230/7،حديث رقم1005.
4- 4) .من لا يحضره الفقيه:4/4رقم1.

و هذا على قسمين:فتارة يفترق المتبايعان مع الالتزام في النهاية بأحد الثمنين،و أُخرى يفترقان على الإبهام من دون أن يلتزما بأحد الثمنين.

الثاني:أن يتبايعا مع تردّد المبيع أو الثمن بين شيئين،كأن يقول:اشتريت بالدينار شاةً أو ثوباً،أو يقول:

بعت السلعة بدينار أو بشاة.

الثالث:أن يبيع السلعة بمائة إلى سنة على أن يشتريها بعد البيع حالاً بثمانين.

الرابع:أن يشترط بيعاً أو شرطاً في بيع كأن يقول:بعتك هذه الدار بألف على أن تبيع دارك منّي بكذا،أو يبيع الدار و يشترط عليه أن يسكنه إلى شهر....

الخامس:أن يشتري حنطة بدينار نقداً سلماً إلى شهر،فلما حلّ الأجل،قال البائع:اشتري منك الصاع الّذي بذمّتي بصاعين إلى شهرين.

السادس:أن يجمع بين شيئين مختلفين في عقد واحد بثمن واحد،كبيع و سلف،أو إجارة و بيع،أو نكاح و إجارة.

هذه هي الوجوه التي فُسّر بها الحديث النبويّ،و بذلك ربّما عاد الحديث مجملاً في مفهومه،لا يصحّ الاستدلال به على واحد من هذه المحتملات،إلاّ إذا عاضدته قرينة معيّنة،إذ من البعيد أن يكون الجميع مقصوداً للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم.و سيوافيك ما هو الأقرب منها إلى مضمون الحديث في آخر المقال.

إذا تبين ذلك،فنحن ندرس عامة المحتملات على ضوء القواعد العامة المستفادة من الكتاب و السنّة، ثمّ نعود إلى تفسير ما روي في المقام،فنقول:إنّ القضاء الحاسم في هذه الصور رهن بيان أمرين تاليين:

ص:181

1.الأصل صحّة كلّ عقد و بيع عقلائي

دلّت الآيات و الروايات على صحّة كلّ عقد و بيع عقلائي،يتعلّق به الغرض و لا يعدُّ لغواً،إلاّ ما دلّ الدليل الشرعي على عدم صحّته.فلو شكّ في صحّة عقد،أو بيع في مورد،فيحكم بصحّته أخذاً بإطلاق الآيات التالية:

1. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ». 1

2. «وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا». 2

3. «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ». 3

فإنّ مفاد الآيات:انّ كلّ ما صدق عليه العقد أو البيع،أو التجارة عن تراض وجب الوفاء به،و هو ممّا أحلّه اللّه،و لا يعد أكلاً بالباطل.

فكلّ مورد شكّ في صحّة عقد أو بيع،و جواز أكل شيء،فالصحّة محكّمة إلاّ إذا دلّ الدليل على بطلانه، فما لم يرد في الشريعة،نهي عن عقد أو بيع،أو لم ينطبق عليه أحد العناوين المحرّمة في الشرع فالعقد نافذ و البيع ماض،و الأكل به حلال إلاّ إذا دلّ الدليل على خروجه عن الإطلاقات كالعقد الربوي،و بيع الخمر، و ثمن الفحشاء و إن رضي الطرفان،فعندئذٍ يُحكم عليه بالحرمة،و أحياناً بالفساد.

فكما أنّ مقتضى الآيات هو صحّة كلّ عقد أو بيع شكّ في صحته،فهكذا مقتضى إطلاق السنة،في مورد شك في صحّته،نظير:

1.الناس مسلّطون على أموالهم.

2.لا يحلّ مال امرئ إلاّ بطيب نفسه.

ص:182

فالإنسان مسلط على أمواله،فله أن يبيع ماله و يهبه بأي نحو شاء،و ليس لأحد منعه عن التقلب في أمواله.إلاّ إذا ورد النهي عنه في الشريعة المقدسة.

و به تظهر كيفية الاستدلال بالحديث الثاني،فالملاك في الحلية،هو طيب النفس في أيِّ مورد،فإذا كان المالك راضياً و طابت نفسه لتصرف الآخر،يكون نافذاً و صحيحاً و ممضى عند الشرع إلاّ إذا دلّ الدليل على بطلانه.

هذا حال العقود و البيوع و إليك الكلام في الشروط.

2.الأصل صحّة كلّ شرط عقلائي

الأصل في الشروط أيضاً الصحة و النفوذ إلاّ إذا قام الدليل على عدم صحّته،و المراد من الشرط هو طلب فعل من البائع أو المشتري على غرار قوله: «عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ» 1 .حيث شرط في نكاح بنته من موسى،خدمة ثماني حجج.

نعم لا يكون الشرط نافذاً و صحيحاً و واجب الوفاء،إلاّ إذا كان جامعاً للأُمور التالية:

1.أن يكون داخلاً تحت القدرة.

2.أن يكون سائغاً و جائزاً لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ المسلمين عند شروطهم إلاّ شرطاً حرم حلالاً أو أحلّ حراماً». (1)فلو باعه شيئاً و اشترط في ثمن العقد أن يشتري منه شيئاً معيناً،أو يبيعه شيئاً آخر،أو يُقرضه،شيئاً معيناً،أو يستقرضه صحّ،لإطلاق قوله:«المسلمون عند شروطهم»إلاّ ما خرج بالدليل.

ص:183


1- 2) .الوسائل:12،الباب6 من أبواب الخيارات،الحديث5. [1]

3.أن يكون عقلائياً،لا سفهياً،كما إذا شرط الكيل بميزان معين،مع مساواته بسائر الموازين الصناعية الدقيقة.

4.أن يكون داخلاً تحت القدرة،فخرج ما ليس في قدرة المشترَط عليه.

5.أن لا يكون مخالفاً للكتاب و السنة،ككون الطلاق بيد الزوجة أو اشتراط إرث أجنبي.

6.أن لا يكون مخالفاً لمقتضى العقد،كما لو باع بلا ثمن أو آجر بلا أُجرة،فإنّ ماهية الشرط مخالفة لماهية البيع،فالبيع ربط بين المالين و تبادل بينهما،و الإجارة ربط بين العين و الأُجرة أو بين العمل و الأُجرة.

و على كلّ تقدير يتقوّمان بمالين أو بعمل و مال،فالبيع بلا ثمن أو بلا أُجرة أشبه بأسد بلا رأس و لا ذنب.

7.أن لا يكون مجهولاً جهالة توجب الغرر،لاستلزامه جهالة العوضين،كما إذا باع شيئاً و شرط على المشتري أن يبني له جداراً مبهماً من حيث الطول و العرض،فإنّ الشرط كالجزء من العوضين فيكون محكوماً بالبطلان.

هذا بعض ما يعتبر في صحّة الشروط و نفوذها في البيع و سائر العقود،و ربّما ذكرت هناك شروط أُخرى لنفوذها لا حاجة لذكرها في المقام،و قد بسطنا الكلام فيها في كتابنا«المختار في أحكام الخيار». (1)

فظهر ممّا ذكرنا أمران:

أ.الأصل في العقود و البيوع هو الصحّة و المضيّ،إلاّ إذا قام دليل شرعي على عدم اعتباره في الشريعة المقدسة،كالبيع الربوي،و غيره.

ب.الأصل في الشروط هو الصحة إذا كان واجداً للشروط المعتبرة فيها.و أنّه يجب الالتزام بها،ما لم يكن مؤدِّياً إلى جهالة المبيع أو الثمن أو مخالفاً للكتاب

ص:184


1- 1) .لاحظ ص 449- 500.

و السنة،إلى غير ذلك من الشروط الّتي مضت أكثرها.

فعلى هذا فالضابطة في صحّة الشرط هو أنّه إذا لم يكن مؤدّياً إلى جهالة المبيع أو الثمن أو مخالفاً للكتاب و السنة إلى غير ذلك من الشروط،صحّ كلّ شرط في العقود.

و على ذلك فاللازم أوّلاً:

عرض هذه الوجوه المحتملة الستة على هذه القواعد العامة و استخراج حكمها على ضوئها.

و ثانياً:

العود إلى دراسة ما روى في المقام الّذي أوعزنا إليه في صدر البحث و التأمّل فيه،كي يظهر مدى انسجامه مع القواعد العامة.و إليك البيان.

أمّا الوجه الأوّل:و هو أن يبيع الرجل السلعة نقداً بكذا و نسيئة بكذا،فقد مرّ أنّ طبيعة الحال تقتضي أن يكون الثمن الثاني أكثر من الأوّل.

و قد مرّ أنّ لهذا المحتمل صورتين:تارة يفترق المتبايعان بعد الإيجاب و القبول من دون أن يلتزما بأحد الثمنين.و أُخرى يفترقان مع تعيين أحد الثمنين في قبول المشتري.

أمّا الأوّل:

فقد ذهب جماعة كالشيخ الطوسي في«المبسوط»و ابن إدريس الحلي في«السرائر»إلى بطلان العقد و البيع لجهالة الثمن،لتردّده بين درهم و درهمين،و قد مرّ أنّ الجهالة من أسباب بطلان الشرط.

و إن شئت قلت:يبطل للغر،و للإبهام الناشئ من الترديد،القاضي بعدم تملّك البائع حال العقد أحد الثمنين بالخصوص،و هو مناف لمقتضى سببية العقد

ص:185

لتملك البائع الثمن مقابل تملك المشتري المثمن.

هذا مقتضى القاعدة و لكن رُوي عن علي عليه السلام أنّه يكون للبائع أقلّ الثمنين في أبعد الأجلين (1).و قد عمل بالحديث جماعة من فقهاء الإمامية. (2)

و كان وجهه:انّه إن رضي بالأقل فليس له الأكثر في البعيد،و إلاّ لزم الربا،لأنّه قَبَض الزيادة في مقابل تأخير الثمن لا غير.

و مع ذلك فإنّ مضمون الحديث ينافي الضوابط العامة،لأنّ الإلزام بالأقل إلى الأجل الأبعد ليس تجارة عن تراض و العمل به أمر مشكل و القول بالبطلان أقوى،و في الوقت نفسه أحوط.و الرواية حسنة و ليست بصحيحة،و بمثلها لا يصحّ الخروج عن الضوابط العامّة.

و يؤيّد البطلان ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم انّه قال:«لا يحل صفقتان في واحد». (3)

هذا كلّه إذا أمضى البائع البيع،دون أن يختار المشتري أحد الفرضين.

و أمّا الثاني أي ما إذا اختار المشتري أحدهما في قبوله فالظاهر صحّة البيع و العقد،لأنّ الجهالة ترتفع بقبول المشتري أحد الفرضين،فإمّا أن يقول قبلت البيع بدرهم نقداً أو بدرهمين إلى أجل،و لا دليل على أنّ الجهالة حال الإيجاب و ارتفاعها عند القبول مورث للبطلان،فمقتضى القاعدة صحّة البيع و العقد حسب ما يلتزم به المشتري.

ص:186


1- 1) .الوسائل:12،الباب2 من أبواب أحكام العقود،الحديث 1،2.و [1]تسمية الحال أجلاً باعتبار ضمّه إلى الأجل في التثنية و هو قاعدة مطردة و منه الابوان و القمران.
2- 2) .الجواهر:103/2- 104.
3- 3) .الوسائل:12،الباب2 من أبواب أحكام العقود،الحديث4.

و أمّا الوجه الثاني:و هو أن تبايعا مع تردد المبيع أو الثمن بين شيئين كأن يقول:اشتريت بالدينار شاةً أو ثوباً،أو يقول:بعت السلعة بدينار أو شاة،و يأتي في هذه الصورة ما ذكرناه في الصورة المتقدمة،فإن تم الإيجاب و القبول بلا التزام بأحد الفرضين فالبيع باطل لجهالة أحد العوضين،و إلاّ فالظاهر الصحة لارتفاعها بقبول المشتري أو إيجاب البائع متأخّراً و لا دليل على اشتراط المعلومية أزيد من ذلك.

و أمّا الوجه الثالث:أعني أن يبيع السلعة بمائة إلى شهر على أن يشتريها بعد البيع حالاً بثمانين.و بعبارة أُخرى:أن يبيع الشيء بثمن مؤجل بمائة بشرط أن يشتريه البائع من المشترى ثانياً بثمن حالّ أقل من ثمنه، فهذا هو بيع العينة،فكلّ من قال بفساد بيع العينة يقول بفساده.و هو يعد من حيل الربا فإنّ السلعة رجعت إلى صاحبها..و ثبت له في ذمة المشتري مائة مع أنّه دفع إليه ثمانين.

و الذي عليه أكثر فقهاء الإمامية:

إنّه إذا اشترط تأخير الثمن إلى أجل،ثمّ ابتاعه البائع قبل حلول الأجل دون أن يشترط في البيع الأوّل جاز مطلقاً،بزيادة كان أو بنقصان،حالاً أو مؤجلاً-بخلاف ما إذا اشترط في ضمن العقد،فقد اختارت جماعة البطلان في هذه الصورة (صورة الاشتراط).

و قد ذكروا في وجه البطلان عندئذٍ أمرين:

1.استلزامه الدور،لأنّ بيع المشتري للبائع،يتوقف على ملكه له،المتوقف على بيعه للبائع.

يلاحظ عليه (1):بأنّ المشتري يملك بمجرد العقد،و لا يتوقف ملكه على

ص:187


1- 1) .التذكرة:251/10. [1]

العمل بالشرط،أي بيعه للبائع و الّذي يتوقف عليه،هو لزوم البيع الأوّل لا تملكه.

2.عدم قصد الخروج عن ملكه،بشهادة انّه يشترط شراءَه من المشتري ثانياً،و ليس الغرض إلاّ تملك الفائض.

يلاحظ عليه:بأنّه ربما يتحقّق القصد لغرض تملك الفائض،حيث يبيع بمائة و يشتري بثمانين.

و المهم انّه ذريعة محلّلة للربا،و للبحث صلة تطلب في محلّه.

و أمّا الوجه الرابع:أعني:أن يشترط بيعاً في بيع كأن يقول:بعتك هذه الدار بألف على أن تبيع دارك بكذا.فهذا على قسمين:فتارة يشترط البيع الآخر و لا يحدد ثمن المبيع الثاني و هذا باطل لأجل الجهالة، و أُخرى يشترط في البيع بيعاً آخر و يحدد المبيع و الثمن كأن يقول بعتك داري هذه بألف على أن تبيعني دارك بألف و خمسين،و هذا صحيح لعدم الجهالة.

و الحاصل:أنّ المدار في الصحة و البطلان هو وجود الجهالة في أحد العوضين و عدمها و المفروض عدمها.

و أمّا الوجه الخامس:أعني:أن يشتري حنطة بدينار نقداً سلماً إلى شهر:فلمّا حلّ الأجل قال البائع:

أشتري منك الصاع الّذي بذمتي بصاعين إلى شهرين.

و الظاهر بطلان البيع،لأنّه بيع كال بكال أوّلاً و بيع ربوي بجنسه متفاضلاً.

و أمّا الوجه السادس:أعني:أن يجمع بين شيئين مختلفين في عقد واحد بثمن واحد (كبيع و سلف)، كما إذا قال:بعتك هذا العبد و عشرة أقفزة حنطة موصوفة بكذا،مؤجلاً إلى كذا بمائة درهم،أو«إجارة و بيع» كما إذا قال:آجرتك الدار و بعتك العبد بكذا،أو«نكاح و إجارة»كما إذا قال:أنكحتك نفسي

ص:188

و آجرتك الدار بكذا،فالظاهر الصحة لصدق العقد عليه و لم يدل دليل على خروجه عن إطار الآيات و الروايات.

و هذا العقد في الظاهر عقد واحد و في المعنى عقدان أو عقود،و لذا يجري عليه حكم كلّ منهما لنفسه من غير مدخلية للآخر،فلو جمع بين البيع و الإجارة فخيار المجلس للأوّل دون الثاني.

و لو احتيج إلى أن يقسط العوض لتعدّد المالك قسّط على النحو المقرّر في باب الاروش.

نعم تأمّل المحقّق الأردبيلي في صحّة هذا النوع من العقد،من جهتين:

1.الشكّ في صحّة مثل هذا العقد (بيع و إجارة)،حيث لا يدخل في اسم كلّ منهما،فهو لا بيع،و لا إجارة.

2.انّ الجهالة و الغرر و إن ارتفعا بالنسبة إلى هذا العقد،إلاّ انّهما متحقّقان بالنسبة إلى البيع و الإجارة،و قد نهى الشارع عنهما في كلّ منهما.

و ارتفاع الجهالة بالنسبة إلى المجموع غير مجد.

يلاحظ على الأوّل:بما عرفت في صدر البحث،أنّ الموضوع للصحة هو العقد،و قوله:آجرتك تلك الدار و بعتك العبد بمائة دينار،عقد عقلائي كفى في دخوله تحت قوله سبحانه: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ». 1

و يلاحظ على الثاني:أنّ الجهالة بالنسبة إلى كلّ من ثمن البيع و أُجرة الإجارة و إن كانت متحقّقة لكنّها انّما تضرّ إذا كان البيع أو الإجارة عقداً مستقلاً لا جزء عقد،فعموم قوله سبحانه: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» كافٍ في ثبوت مشروعيته.

ص:189

و ليست اللام في«العقود» إشارة إلى العقود المتعارفة في عصر نزول الآية،بل هي ضابطة كلية،في عالم التشريع تأمر المكلّفين بالوفاء بكلّ ما يصدق عليه عقد عرفي عقلائي إلاّ ما خرج من الدليل. (1)

هذا كلّه حول الأمر الأوّل،أي عرض المحتملات على الضوابط العامّة المستفادة من الكتاب و السنّة.

دراسة الحديث

بقي الكلام في الأمر الثاني و هو دراسة الحديث و مدى موافقته للقواعد.

و إجمال الكلام فيه:انّ الحديث بعد سريان الاحتمالات إليه،صار مجملاً من حيث الدلالة،مبهماً من حيث المقصود،فلا يمكن الاحتجاج به على واحد من هذه الصور المختلفة،و من البعيد أن يكون الجميع مقصوداً للنبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم،فلأجل إجمال الحديث و تطرق الاحتمالات المتنوعة إليه،يسقط عن الاحتجاج به،و يرجع في كلّ مورد إلى القواعد و الضوابط العامة.

***

و مع ذلك كلّه يمكن أن يقال:إنّ أقرب الاحتمالات إلى مفهوم الحديث النبوي هو الوجه الأوّل،أي البيع نقداً بكذا و نسيئة بكذا،على وجه أصفق عليه البائع،من دون أن يلتزم المشتري بأحد الثمنين،و قد عرفت وجه البطلان لوجود الجهالة و الغرر.

و أبعد الاحتمالات هو الوجه الرابع و هو أن يبيع شيئاً أو يشتريه و يشترط أحد المتبايعين شرطاً،فإنّ جواز مثل هذا النوع من البيع أظهر من الشمس و أبين

ص:190


1- 1) .الجواهر:234/23. [1]

من الأمس لجريان السيرة على الاشتراط من الجانبين.

و ممّا يقضي منه العجب،أن تقع مثل هذه المسألة:باع شيئاً مع الشرط،مثاراً للخلاف بين الفقهاء،على وجه حتّى روى عن أبي حنيفة و الشافعي بطلان البيع و الشرط.و دونك ما نقله الشيخ الطوسي و غيره في المقام.قال قدس سره: (1)

المسألة40:من باع بشرط شيء،صحّ البيع و الشرط معاً إذا لم يناف الكتاب و السنة.و به قال ابن شبرمة.

و قال ابن أبي ليلى:يصحّ البيع،و يبطل الشرط.

و قال أبو حنيفة و الشافعي:يبطلان معاً.

و في هذا حكاية رواها محمّد بن سليمان الذهلي،قال:حدثنا عبد الوارث ابن سعيد،قال:دخلت مكة فوجدت بها ثلاثة فقهاء كوفيين،أحدهم أبو حنيفة،و ابن أبي ليلى،و ابن شبرمة.

فصرت إلى أبي حنيفة فقلت:ما تقول في مَن باع بيعاً و شرط شرطاً؟ فقال:البيع فاسد،و الشرط فاسد.

فأتيت ابن أبي ليلى،فقلت ما تقول في رجل باع بيعاً و شرط شرطاً؟ فقال:البيع جائز،و الشرط باطل.فأتيت ابن شبرمة،فقلت:ما تقول في مَن باع بيعاً و شرط شرطاً؟ فقال:البيع جائز،و الشرط جائز.

قال:فرجعت إلى أبي حنيفة فقلت:إنّ صاحبيك خالفاك في البيع.

فقال:لست أدري ما قالا؟ حدثني عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن جدّه انّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن بيع و شرط.

ثمّ أتيت ابن أبي ليلى فقلت:انّ صاحبيك خالفاك في البيع،فقال:ما أدري ما قالا؟ حدّثني هشام بن عروة،عن أبيه،عن عائشة أنّها قالت:لما

ص:191


1- 1) .الخلاف:29/3- 30،لاحظ المحلى لابن حزم:415/8؛و بداية المجتهد:158/2- 159.

اشتريت بريرة جاريتي شرط عليّ مواليها أن أجعل ولاءها لهم إذا أعتقتها،فجاء النبي فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«الولاء لمن أعتق»فأجاز البيع،و أفسد الشرط.

فأتيت ابن شبرمة فقلت:إنّ صاحبيك قد خالفاك في البيع فقال:لا أدري ما قالا؟ حدّثني مسعر،عن محارب بن دثار،عن جابر بن عبد اللّه قال:ابتاع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم منّي بعيراً بمكة،فلما نقدني الثمن شرطت عليه أن يحملني على ظهره إلى المدينة،فأجاز النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم البيع و الشرط.

و الظاهر أنّ مرادهم من الشرط،هو القسم الفاسد،كما يظهر من رواية«عائشة»،و إلاّ فاشتراط الصحيح منه في العقود،أمر رائج بين العقلاء و عليه جرت سيرة المسلمين.

هذا ما أسعف به الوقت في تحرير هذه الرسالة

و تمت يوم السابع و العشرين من شهر رجب المرجب من شهور عام 1425ه

الحمد للّه الّذي بنعمته تتم الصالحات

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:192

2 تعليق على فتوى الشيخ القرضاوي في تزويج البكر

اشارة

الأُستاذ قيس ظبيان المدير العام لمجلة الشريعة المحترم

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه أن تكونوا بخير و عافية،و تكون مجلتكم الغرّاء مشعة مضيئة،و هادية إلى السبيل الأقوم.

كما ندعو اللّه تعالى أن يوصل ثواب هذه المجلة الدينية إلى مؤسسها المغفور له تيسير ظبيان رحمه الله، الّذي سنّ هذه السنة الحسنة الّتي تجري كجري الشمس و القمر.

و قد قرأنا في مجلتكم الغرّاء (العدد 474،ربيع الثاني 1426ه) جواباً للفقيه المعاصر الشيخ يوسف القرضاوي عن سؤال هو:

هل صحيح أنّ الإمام الشافعي جعل من حق الأب أن يزوّج ابنته البالغة بغير رضاها؟ و إذا كان هذا صحيحاً فهل يتفق هذا مع المنهج الإسلامي العام في اشتراط موافقة الفتاة المسبقة؟

ص:193

و حاصل ما أجاب به سماحته هو:

أوّلاً:انّ هنا قاعدة أساسية لا يختلف فيها اثنان و هي انّ كلّ مجتهد يُصيب و يُخطئ،و انّ كلّ واحد يؤخذ من كلامه و يترك إلاّ المعصوم.و الإمام الشافعي بشر غير معصوم.

ثانياً:من الانصاف للمجتهدين أن نضع آراءهم في إطارها التاريخي فإنّ المجتهد أعرف ببيئته و زمنه، و لا يمكن إغفال العنصر الذاتي للمجتهد.

و قد عاش الشافعي في عصر قلّما كانت تعرف فيه الفتاة عمّن يتقدّم لخطبتها شيئاً إلاّ ما يعرفه أهلها عنه،لهذا أُعطي والدُها خاصة حق تزويجها و لو بغير استئذانها.

ثمّ قال:و من يدري لعل الشافعي لو عاش إلى زماننا و رأى ما وصلت إليه الفتاة من ثقافة و علم و انّها أصبحت قادرة على التمييز بين الرجال الذين يتقدمون إليها ربّما غيّر رأيه.

على هامش جواب الشيخ القرضاوي

اشارة

انطلاقاً من القول المشهور:«الحقيقة بنت البحث»لنا حول هذا الجواب مناقشات نطرحها على طاولة البحث،و ربّما يكون لدى الأُستاذ جواب عنها.

المناقشة الأُولى

إنّ رسالة الإسلام رسالة أبدية و كتابها القرآن الكريم خاتم الكتب،فلا بدّ أن تكون هذه الشريعة بشكل يوافق فطرة الإنسان و يواكب عامة الحضارات في مختلف العصور.

و قد اختلفت كلمات الفقهاء في لزوم الاستئذان و عدمه،فقال مالك

ص:194

و الشافعي و ابن أبي ليلى:للأب فقط أن يجبرها على النكاح.

و قال أبو حنيفة و الثوري و الأوزاعي و أبو ثور و جماعة:لا بدّ من اعتبار رضاها،و وافقهم مالك في البكر على أحد القولين عنه. (1)

فلا بدّ في تمييز ما هو الصواب من الآراء،من عرض المسألة على الكتاب و السنة،فالسنة المروية تدعم الرأي الثاني.و قد ألمح إلى هذه الروايات الأُستاذ في ثنايا جوابه.

روى أبو هريرة أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:لا تنكح الأيّم حتّى تُستأمر،و لا تُنكح البكر حتّى تُستأذن.

فقالوا:يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:كيف إذنها؟ قال:إذا سكتت.

و روى أبو داود و ابن ماجة عن ابن عباس:أنّ جارية بكر أتت النبي صلى الله عليه و آله و سلم فذكرت أنّ أباها زوّجها و هي كارهة فخيّرها النبي صلى الله عليه و آله و سلم. (2)

و الروايات المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام تدعم القول الثاني.

روى منصور بن حازم عن الإمام الصادق عليه السلام:«تستأمر البكر و غيرها و لا تنكح إلاّ بأمرها». (3)

إلى غير ذلك من الروايات المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام الّتي تؤكد شرطية إذن المرأة في نكاحها.

أضف إلى ذلك:انّ التزويج هو النواة الأُولى لتأسيس المجتمع الكبير،فهل يجوز في منطق العقل الحصيف أن يكون للأب حق التزويج من دون استئذان

ص:195


1- 1) .بداية المجتهد:5/2،كتاب النكاح.
2- 2) .لاحظ الخلاف للطوسي كتاب النكاح،المسألة10؛بداية المجتهد:5/2،كتاب النكاح؛المغني لابن قدامة:516/6.
3- 3) .الوسائل:14،الباب9 من أبواب عقد النكاح،الحديث1. [1]

البنت؟ هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا العقد ليس قصيراً،بل قد يدوم إلى خمسين سنة أو أكثر، فكيف نتصور إلزامها على هذه الحياة من دون أن تعلم أو تفكر أو تأذن فيها؟!

إنّ البيع هو إنشاء علاقة بين مالين،و النكاح إنشاء علاقة بين نفسين،و اللّه سبحانه يشترط التراضي في صحة التجارة و يقول: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ». 1

فهل يسوغ في منطق العقل أن تكون صحة التجارة منوطة بالتراضي دون النكاح؟!

و هل البيع و التجارة أسمى و أهم من النكاح و الزواج الّذي عليه يقوم المجتمع؟!

هذا من الجانب الفقهي و لا نطيل فيه،و قد فصلنا الكلام فيه في كتابنا«نظام النكاح في الشريعة الإسلامية الغرّاء»،ج1،ص 172- 193).

المناقشة الثانية

لو افترضنا انّ التشريع الإسلامي في حقّ الفتاة هو جواز إنكاحها بغير إذنها و جواز إجبار الأب إياها للنكاح و إن كانت غير راضية به،كما عليه فتوى الإمام الشافعي و الإمام مالك على أحد قوليه.

فلو كان التشريع على هذا الحال فكيف يمكن أن يتغير حكمه بتغير الظروف،مع أنّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة؟

و ما اعتذر به الأُستاذ من وجود الثقافة و العلم عند الفتاة المعاصرة دون

ص:196

مثلها الّتي عاشت في عصر الشافعي،غير وجيه،لأنّ معنى ذلك أنّ التشريع الإسلامي موضوع للأُميّات و الجاهلات و لا يعم المثقّفات و العارفات.

هب أنّ الأُستاذ نجح في توجيه هذه الفتوى فكيف يفسّر رأياً آخر للإمام الشافعي حول لمس المرأة الأجنبية الّذي عدّه من نواقض الوضوء؟ و إليك نص الفتوى.

و قال الشافعية:إذا لمس المتوضّئ امرأة أجنبية بدون حائل انتقض الوضوء.

و بعبارة أُخرى:مباشرة النساء من غير حائل إذا كنّ غير ذوات محارم تنقض الوضوء بشهوة كانت أو بغير شهوة،باليد كانت أو بالرجل أو بغيرهما من الجسد،عامداً أو ناسياً. (1)و من المعلوم أنّ هذا الرأي غريب من وجهين:

1.انّه لا رصيد له من الكتاب و السنّة،فقوله سبحانه في آية الوضوء: «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» 2 كناية عن الدخول و الجماع كما هو الحال في آيات الطلاق،قال سبحانه: «إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ» 3 ،و قال: «وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ». 4

2.إنّ هذه الفتيا لا تنسجم مع كرامة المرأة و منزلتها في الشريعة الإسلامية،حيث إنّ الذكْر العزيز قد وصف المرأة بأنّها عِدْل للزوج و أنّه يسكن إليها،قال سبحانه: «خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها». 5

إنّ التشريع الإسلامي يعتمد في أُصوله الكلية على الفطرة البشرية و لا يتغير

ص:197


1- 1) .الأُمّ:15/1؛المبسوط:67/1، [1]أحكام القرآن للجصاص:369/2 إلى غير ذلك من المصادر.

حكمه بتغير الزمان و المكان،فما دام هذا الإنسان موجوداً على ظهر هذا الكوكب فالحكم الشرعي يواكب فطرته و لا يشذ عنه قيد شعرة فلا بدّ أن يكون مستمراً و دائماً و أبدياً.

نعم قد ثبت في محله أنّ لعنصري الزمان و المكان دوراً في الاستنباط و الاجتهاد،و لكن ذلك لا يعني نسخ الأحكام و إخراجها من الساحة و إحلال حكم آخر مكانها لأجل ذينك العنصرين،بل بمعنى انّ الحضارة و التقدم قد تؤثر في الموضوع بإخراجه عن موضوع حكم و إدخاله تحت موضوع حكم آخر مع التحفظ على كلا الحكمين في موردهما و لنأت بمثال.

إنّ بيع الدم حرام في الفقه الإسلامي لعدم الانتفاع به في أمر محلّل،إذ كان الانتفاع ربما منحصراً في الأكل،و لكن التقدم الحضاري مكّن الطبيب من الانتفاع به انتفاعاً حلالاً و ذلك في عمليات نقل الدم من إنسان لآخر محتاج إليه في المستشفيات.

المناقشة الثالثة

إنّ قول الأُستاذ بأنّ الإمام الشافعي لو كان قد عاش إلى زماننا و رأى ما وصلت إليه الفتاة من ثقافة و علم لعلّه لو رأى ذلك لغيّر رأيه،فإنّ ذلك يدفعنا إلى التسليم بضرورة الرجوع إلى المجتهد الحي في عامة المسائل،و ذلك لنفس النكتة الّتي ذكرها الأُستاذ،ذلك لأنّ فقهاء الإسلام مع الاعتراف بأنّهم أعلام الهدى و مصابيح الدجى،لا فرق بين من لحق بالرفيق الأعلى منهم،و من هو حيٌّ يُرزق.لكن المجتهد الحي أعرف بالظروف السائدة في المجتمع،و انطلاقاً من قول القائل:«الشاهد يرى ما لا يراه الغائب»،فهو يعرف مقتضيات الزمان و المكان،على نحو لو كان الفقيه الفقيد حاضراً في هذا الزمان لربما عدل عن رأيه و أفتى

ص:198

بغير ما أفتى به سابقاً،و هذا ما يدفع الفقهاء إلى ترويج تقليد المجتهد الحي أو اللجنة الفقهية المتشكّلة من الأحياء و ترك تقليد غيرهم بتاتاً.

نعم هذا الاقتراح ربّما يكون ثقيلاً على من اعتاد تقليد غير الأحياء،و لكنّه ينسجم مع الفطرة الإنسانية التي بُنيت عليها أُسس الدين الإسلامي،و ليس ذلك أمراً بعيداً عن حياة البشر،فإنّ المجتمع في حاجاته يرجع إلى الأطباء و المهندسين الأحياء،لأنّهم أعرف بحاجات العصر و بالداء و الدواء.

هذا بالإضافة إلى أنّه لم يدل دليل على انحصار المذاهب الفقهية في الأربعة،و قد كان المسلمون يعملون بالشريعة و لم يُولد أحد من الأئمة و لم يثبت انّهم أعلم و أفضل من كل من جاء و لحق بهم من الفقهاء العظام-رضوان اللّه عليهم-لو لم يثبت خلافه.

إنّ مواهبه سبحانه و رحمته الواسعة لا تختص بجيل دون جيل و لا بعصر دون عصر و قد تكامل الفقه بيد عشاق الفقه في كلّ عصر،حتّى ربما صار المتأخّر،أبصر و أدق من المتقدم.

لا شكّ انّ الاستنباط الجماعي أوثق من الاستنباط الفردي،و أنا أقترح على فقهاء المذاهب في كلّ صقع،ان يشكّلوا مجمعاً فقهياً حراً يضم إلى جنبه،فقهاء كباراً من عامة البلاد،فيكون هو المرجع في المسائل الخلافية،قديمة كانت أو حادثة.

و بتعبير آخر:أن يدرسوا عامة المسائل الخلافية من جديد،و إذا خرج الجميع،أي الأكثر منهم برأي، يكون هو المفزع لعامة الناس،سواء أوافق أحد المذاهب الأربعة أم لا.

إنّ الجمود على فتوى إمام خاص ربما يُوقع الحجاج في حرج شديد،فإنّ

ص:199

بعض المذاهب:يفرض رمي الجمار باليوم العاشر من مطلع الشمس إلى دلوكها و لا يجوّز بعد الظهر بخلاف اليومين التاليين فلا يرخص فيهما صباحاً،بل يفرض أن يكون الرمي بعد الظهر.

إنّ هذا التضييق في وقت الرمي يورث حرجاً شديداً على الحجاج و ينتهي إلى قتل العشرات منهم بفعل الازدحام.مع أنّ في بعض المذاهب رخصة أوسع من ذلك حيث يجوز الرمي من مطلع الشمس إلى مغربها.

هذا هو المقترح و لكنّ الموانع ربّما تحول بين الإنسان و أُمنيته. ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه .....................

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

إيران-قم المقدّسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

2 جمادى الآخرة 1426ه

ص:200

3

اشارة

مع كتاب«فقه المعاملات الحديثة»

وصلتني هدية قيّمة من صديقي الوفيّ الأُستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان حفظه اللّه...ألا و هي كتابه«فقه المعاملات الحديثة»المطبوع بدار ابن الجوزي عام 1426ه،بطباعة أنيقة و تجليد رائع.

و الكتاب يشتمل على مقدمات أربع و أبواب ثمانية في مسائل متنوعة لا غنى للفقيه المعاصر عنها،و مع أنّ الكتاب أُلّف عبر سنين عديدة لكن تسود على الكلّ صياغة واحدة،و هي السهولة في التعبير و الاجتناب عن التعقيد،و نقل الآراء و الكلمات برحابة صدر،و النقد العلمي البنّاء لها،مع رعاية التكريم لأصحابها و صيانة كرامتهم،و هذه خصيصة ذاتية أو موهبة إلهية تميّز بها الأُستاذ المؤلف في تآليفه و آثاره بين أقرانه و أمثاله،فلا تجد في صفحات الكتاب كلمة مشينة،فللأُستاذ الماجد الشكر الوافر على هذا الخلق السامي.

و قد لاحظت قسماً من أبواب الكتاب و أعجبني ما استعرضه المؤلف فيها،و بالأخص في الباب الأوّل حول عقد التوريد،شكر اللّه مساعيه،و قد سجّلت

ص:201

بعض الملاحظات عند قراءتي لباب الإجارة و هو أحد أبواب الكتاب و الّذي يشمل بحوثاً قيّمة،و ها أنا أُقدّمها إلى سماحة الأُستاذ-حفظه اللّه و رعاه-لعلّه يعالجها أو يحلّلها كما هو دأبه في كلّ موقف.

***

ملاحظات حول تعريف الإجارة

اشارة

نقل المؤلف المحترم للإجارة تعاريف عن المذاهب الأربعة و هي كما يلي:

الحنفية:عقد على المنافع بعوض.

المالكية:عقد وارد على المنافع لأجل،و بعبارة أدق:تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض.

الشافعية:عقد على منفعة معلومة مقصودة قابلة للبذل،و الإباحة بعوض معلوم وضعاً.

الحنابلة:عقد على منفعة مباحة معلومة،مدة معلومة من عين معلومة،أو موصوفة في الذمة أو عمل بعوض معلوم.

و يظهر من الأُستاذ أنّه قد اختار التعريف الأخير لتضمنه ما في التعاريف السابقة مع إضافات أُخرى. (1)

الملاحظة الأُولى:أخذ العقد في التعريف زائد بل مخلّ

أقول:إنّ التعاريف الأربعة تشتمل على أخذ العقد في تعريف الإجارة بإضافته إلى المنافع.لكن الّذي يجب التركيز عليه هو أنّ أخذ لفظ العقد في

ص:202


1- 1) .فقه المعاملات الحديثة:235.

تعريف المعاملات عامّة و الإجارة خاصة غير صحيح جدّاً.

و ذلك لأنّ ألفاظ المعاملات-كما حقّق في محلّه-أسماء للمسببات الاعتبارية الّتي تدور عليها رحى الحياة،و العقد،سبب لإيجادها في عالم الاعتبار و ليس نفسُ المعاملة،و أخذ السبب في تعريف المسبب أخذ شيء زائد في التعريف.

إنّ العقلاء منذ عصور اخترعوا معاملات،و اعتبروا أُموراً،بها قوام معاشهم و حياتهم في مجالات مختلفة،كالبيع و الإجارة و الرهن و النكاح فلكلّ منها حدود تميّزه عن الآخر،كما أنّ لكلّ أسباباً قولية و فعلية تؤثر في تكونها في عالم الاعتبار.

فالبيع مثلاً:تمليك مال بمال،و هذا حدّه،و أمّا العقد أو المعاطاة،أو الكتابة في الدوائر الرسمية،فهي أسباب لإنشائها و إيجادها،خارجة عن واقعها،سواء أ كان السبب لفظاً من الألفاظ أو فعلاً من الأفعال أو غيرهما.

و على ضوء ما ذكرنا:أنّ أخذ لفظ العقد في تعريف الإجارة من قبيل لزوم ما لا يلزم لو لم يكن مضراً.

نعم من قال أنّ ألفاظ المعاملات أسماء للأسباب فله وجه،و لكنّه قول شاذ باطل لا يساعده الدليل.

و من ذلك تعلم حال الإجارة،فهي معاملة اعتبارية اعتبرها العقلاء.فعلى الفقيه أن يُعرّف نفسَ الإجارة بما هي هي من دون أن يُدخل السبب في التعريف.

الملاحظة الثانية:الإجارة تتعلّق بالعين،لا بالمنافع
اشارة

يظهر من عامة التعاريف الّتي نقلها الأُستاذ عن أصحاب المذاهب الأربعة انّ الإنشاء في الإجارة يتعلّق بالمنافع ابتداءً و بالدلالة المطابقية،فالمالك

ص:203

يؤجّر منفعة الشيء لا نفسه،و لذلك ترى اتفاق كلّ التعاريف على أخذ المنفعة المعلومة في تعريفها و إضافة العقد إليها،حيث قالوا:«عقد على المنافع»و هو لا يخلو عن خلط بين متعلّق الإجارة و غايتها.

إذ لا شكّ أنّ الغاية من الإجارة هو الانتفاع بالعين بالشرائط الخاصة،لكن الإجارة لا تتعلق بالمنفعة مباشرة،بل تتعلّق بالعين و لذلك تقول:آجرتك الدار أو آجرتك هذا الفرس،أو هذه السيارة إلى مدّة معينة، و لا تقول أبداً:آجرتك منفعة هذه الدار.

و هذا يعرب عن أنّ هنا أمرين:

1.ما تتعلّق به الإجارة مباشرة.

2.ما يراد بالإجارة نهاية.

فمتعلّق الإجارة نفس العين لا المنفعة.نعم الغاية من الإجارة هي الانتفاع.

و إن شئت فعبِّر بتعبير علمي و هو:أنّ العين في الإجارة ملحوظة بالمعنى الاسمي و باللحاظ الاستقلالي، و أمّا المنفعة كالسكنى فهي ملحوظة بالمعنى الحرفي و باللحاظ غير الاستقلالي.

التعريف الصحيح للإجارة

و على ذلك فالصحيح في التعريف أن يقال:الإجارة هو تسليط المالكِ المستأجرَ على العين تسليطاً اعتبارياً و إنشائياً لغاية الانتفاع بها بعوض إلى مدة معينة.

فالمنشأ في قوله:«آجرتك الدار»هو هذا التسليط الإنشائي،و أمّا التسليط

ص:204

الخارجي الّذي يعبَّر عنه بالإقباض فهو وفاء لذلك التسليط الإنشائي المعتبر شرعاً.فالمالك بما أنّه مالك،مسلّط على العين،ينتفع بها على النحو المطلوب منها،و عند ذلك يتفق المستأجر مع المالك الموجر، على أن يجعل العين في متناوله و يُسلّطه عليها حتّى ينتفع بها في مدة معلومة بأُجرة معيّنة،فالمُنشأ هو التسليط،و الغاية هي الانتفاع.

و بذلك يظهر عدم تمامية ما حكاه المؤلف عن كتاب«الأُمّ»للشافعي حيث قال:فقد جرى الاصطلاح الفقهي على تخصيص العقد بكلمة البيع،و العقد على المنافع بكلمة الإجارة،برغم أنّ الإجارة في الحقيقة بيع و لكنّه بيع منافع،و لهذا عدّها كثير من الفقهاء صنفاً من البيع. (1)

و لنا هنا وقفتان:

1.أنّ العقد على فرض أخذه في التعريف يتعلّق بالعين في كلّ من البيع و الإجارة،فيقول:بعتك الدار في البيع،أو آجرتك الدار في الإجارة،و لا يقال:آجرتك منفعة هذه الدار.و ليس في صيغة الإجارة ما يدلّ على أنّ الإجارة من مقولة بيع المنافع.

نعم الغاية القصوى من تسليط المستأجر على العين هو الانتفاع،و لكنّه ليس بمعنى كونه نفس ماهية الإجارة.

2.أنّ عدّ الإجارة من أقسام البيع فيه تساهل واضح،فإنّ البيع هو تمليك مال بمال،و الإجارة هو تسليط الغير على المال تسليطاً تشريعياً يستعقبه التسليط التكويني،و ليس كلّ تسليط،تمليكاً للعين.

ص:205


1- 1) .نفس المصدر:235.
الملاحظة الثالثة:الاستدلال على مشروعية الإجارة بالكتاب

استدل المؤلف على إثبات مشروعية الإجارة بالأدلة الثلاثة؛الكتاب و السنّة و الإجماع،ثمّ سرد الآيات الواردة الكاشفة عن وجود الإجارة في الأُمم السابقة،أعني:

1.قوله سبحانه: «فَانْطَلَقا حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً». 1

2.و قوله: «قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ». 2

3.و قوله تعالى: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ». 3

و نقل عن السري و ابن زيد انّهما فسرا الآية الأخيرة بأنّ معنى قوله تعالى: «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» ،أي يسخّر الأغنياء الفقراءَ فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض. (1)

و هنا لنا وقفتان:

الأُولى:انّ الإجارة و سائر المعاملات الرائجة في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،في غنى

ص:206


1- 4) .نفس المصدر:236- 237.

عن الاستدلال على مشروعيتها بالآيات المذكورة،و ذلك لأنّ هذه المعاملات كانت سائدة بين الأُمم المتحضرة كما كانت رائجة في الجزيرة العربية أمام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و تشريعه السامي،فسكوته صلى الله عليه و آله و سلم يكفي في إمضائه فلو كانت محرّمة لردع عنها الصادع بالحق كما ردع عن الربا،و قال سبحانه: «قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا» 1 .و كما نهى عن عدة من البيوع و أقسام من النكاح إلى غير ذلك.

فكلّ معاملة كانت سائدة في عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و سكت عنها الشرع فهي ممضاة من قبله،و هل وراء إمضائه أمر آخر،«و هل قرية وراء عبادان».

الثانية:انّ الآيتين الأُوليين إنّما تكشفان عن مشروعية الإجارة في الأُمم و الشرائع السابقة،فلا تكون دليلاً على مشروعيتها في الشريعة الإسلامية إلاّ على القول بحجية«شرع من قبلنا»فيما لم يكن فيه نص في شريعتنا أو باستصحاب الحكم الثابت في الشريعة السابقة و جرّه إلى الشريعة اللاحقة،و كلا الأمرين مورد بحث و نقاش،و عقد الاجارة الّذي ملأ الخافقين في عصر الرسالة و عمل به الناس في عصره من دون أي ردع،في غنى عن الاستدلال على جوازه بشرع من قبلنا،أو باستصحاب حكمه.

و أغرب من هذا تفسير الآية الأخيرة بفرض البعض غنياً و الآخر فقيراً ليسخّر الأوّل الثاني بالاستئجار للخدمة و العمل.

إنّ هذا التفسير لا ينسجم مع قوله سبحانه: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» فانّ ظاهره انّه سبحانه أعطى لكلّ إنسان ما يعيش به غاية الأمر رفع بعضهم على بعض درجات،و أين هذا من تفسيرها بالفقير الّذي لا يجد ما

ص:207

يسدّ به رمقه،و الغنيّ الّذي يملك ما لا يعد.

و على ضوء ما ذكرنا من تقسيم اللّه سبحانه المعيشة بين أبناء الإنسان مطلقاً،يكون المراد من التسخير هو التسخير الجَماعي،أي يكون كلّ واحد مسخِّراً،و في الوقت نفسه مسخَّراً،لأنّ كلّ واحد يعاضد بما لديه الآخرَ،و بالتالي يكون معاضَداً بالآخر.

مثلاً الخبّاز يحتاج إلى ما عند السقّاء من الماء،و بالعكس فهما يتعاونان بالمعاوضة،بما لدى الآخر.

فلو كان هناك تسخير فهو من الطرفين لا من طرف واحد.

الملاحظة الرابعة:شرطية بقاء العين في الإجارة

لا شكّ أنّ الغاية من تسليط المستأجر على العين لمدة معيّنة هي الانتفاع بها ثمّ ردّ العين إلى صاحبها.

غير أنّ الأُستاذ-دام ظله-استنتج منها عدم صحة الإجارة في موارد:

كأن يستأجر بستاناً لثمرته،لأنّ الإجارة تستحق بها المنفعة لا الأعيان،أو أن يستأجر حيواناً ليأخذ لبنه أو حيواناً يرضع ولده أو أن يستأجر حيواناً ليأخذ صوفه و شعره أو وبره أو ولده،لأنّ مورد عقد الإجارة المنافع و المقصود هنا العين و هي لا تملك و لا تستحق بالإجارة. (1)

وجه الملاحظة:انّه لا شكّ أنّ المنفعة تستعمل كثيراً في الأعراض كالركوب على الدابة،و السكنى في البيت،و لكن هذا لا يكون سبباً لجمودنا في تفسير المنفعة عليها،بل المنفعة أمر عرفي عقلائي يُرجع إليهم في تحديدها لا إلى الكتب

ص:208


1- 1) .نفس المصدر:246.

الفقهية،و لا شكّ أنّ منفعة كلّ شيء بحسبه،فالثمرة أو اللبن أو الولد أو الصوف إذا لوحظت على وجه الاستقلال فهي أعيان كسائر الجواهر،و أمّا إذا لوحظت بالنسبة إلى البستان و الحيوان فهي منافع لهما،و لذلك تصحّ إجارة البستان لغاية الانتفاع بثمرته،فالثمرة بالنسبة إلى البستان منفعة واضحة،كما تصحّ إجارة الحيوان لغاية لبنه،فاللبن بالنسبة إلى الحيوان يعدّ منفعة له.

و الحاصل:يجب في تحديد المنفعة الرجوع إلى العرف،لا إلى تحديد الفقيه.

و لذا نرى أنّه سبحانه يستعمل لفظ الاجرة في مورد إرضاع الأُمّ ولد الرجل و يقول: «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ». 1

و المرضعة هنا و إن كانت الأُم و لكن الحكم ثابت إذا كانت المرضعة غير الأُمّ.

و قد عنون الفقهاء إجارة فحل الضراب،مع أنّ المنفعة متمثلة في نطفته.

و الحاصل:انّ المعيار في عدّ شيء منفعة للشيء هو العرف،لا الاصطلاح الفقهي،و العرف يساعد على أنّ هذه الأُمور منافع و إن كانت في أنفسها أعياناً.

الملاحظة الخامسة:تأجيل الأُجرة فيما لو كانت المنفعة مؤجّلة

طرح المصنّف في هذا المقام مسألة«جواز تأجيل الأُجرة»،إذا كانت المنفعة المستأجرة مضمونة في الذمة،كعمل الصناع و استئجار الحيوانات للعمل،فنقل الإشكال في جواز تأجيل الأُجرة لأجل أنّ المنفعة المعقود عليها مؤجلة،فإذا كانت الأُجرة أيضاً مؤجلة كان العقد بيع دين بدين و هو غير جائز. (1)

ص:209


1- 2) .فقه المعاملات الحديثة:254- 255.

ثمّ عرض المصنّف المسألة على المذاهب الأربعة،و نقل آراءهم.

و نحن لا نحوم حول ما جاء في المذاهب الأربعة من الآراء،و انّما نركّز على أساس المسألة،و هو انّ الشبهة نشأت من تعريف الإجارة بتمليك المنفعة،فصار ذلك سبباً للإشكال في تأجيل الأُجرة فيما لو كانت المنفعة مؤجلة حيث إنّ كليهما مؤجلان فأشبه ذلك ببيع دين بدين.

و لنا أن ندفع الشبهة بأساسها و هي أنّها مبنية على كون الإجارة هي تمليك المنفعة،فبما أنّ المنفعة تدريجية فقسم منها معجل و قسم منها مؤجل،فلا يصحّ تأجيل الأُجرة إذا كانت المنفعة تدريجية لدفع محذور بيع الدين بالدين.

و لكن الصغرى غير صحيحة كالكبرى.

أمّا الصغرى فقد عرفت أنّ واقع الإجارة تسليط المستأجر على العين،و العين شيء حاضر لا يتصور فيه تعجيل و لا تأجيل.

و بعبارة أُخرى:أنّ العين رمز المنفعة و يعد وجودها وجوداً بالقوة للمنفعة،فالتسلط على العين تسلط على منافعها الحاضرة و المستقبلية.

و بعبارة ثالثة:انّ المستأجر بتسلطه على العين يتسلط على المنافع عرفاً و إن كانت المنفعة أمراً تدريجياً، نظير البئر فالإنسان بتسلطه عليه يعدّ مسلطاً على كلّ ما ينبع منه عبر الزمان.

هذا كلّه فيما لو كان مورد الإجارة عيناً من الأعيان و كانت منافعها تدريجية الحصول،و أمّا لو كان موردها عملاً في الذمة فلا يستلزم التأجيل شبهة كونه بيع دين بدين،و ذلك لأنّ حضور العامل القادر على العمل و جعل نفسه في اختيار المستأجر يعد حضوراً بالقوة للانتفاع و بذلك يخرج أحد الطرفين عن كونه كالئاً أو ديناً.

ص:210

و أمّا الكبرى فلأنّ الممنوع هو بيع دين بدين،و الإجارة ليست بيعاً؛و لا معنى لقياس باب الإجارة بباب الدين مع اختلافهما بالهوية.

و بعبارة أُخرى:لو افترضنا أنّ شرط التأجيل في الإجارة يستلزم كون الطرفين ديناً،و لكن لا نقبل الكبرى،لأنّ الممنوع هو بيع دين بدين لا الإجارة،و الإجارة و البيع من الأُمور المختلفة من حيث الماهية، و مع الاختلاف فيها كيف يقاس أحدهما بالآخر؟

الملاحظة السادسة:حول ثبوت خياري المجلس و الشرط

تطرق المصنّف إلى أنّ الإجارة تعد عند الجمهور نوعاً من أنواع البيع و الكثير من أحكام البيع يثبت للإجارة قياساً،فيثبت فيها الخياران (المجلس و الشرط).

يلاحظ عليه:انّك قد عرفت أنّ الإجارة من مقولة،و البيعُ من مقولةٍ أُخرى و لا يجمعهما إلاّ كونهما من المعاملات العقلائية،فقياس أحدهما بالآخر و إسراء حكم الآخر إليه غير صحيح حتّى على القول بحجية القياس للفرق الشاسع بين ماهية البيع و الإجارة.و مصبّ القياس هو إسراء حكم المماثل إلى المماثل،أو المشابه إلى المشابه،لا المباين إلى المباين،و إلاّ يلزم تأسيس فقه جديد.و مجرد اشتراكهما تحت عنوان النقل:نقل الأعيان و نقل المنافع لا يسوّغ إسراء حكم أحدهما إلى الآخر.

و الوارد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو قوله:«البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»لا الموجر و المستأجر.

و ختاماً انّ المؤلف يستخدم تارة عبارة«خيار الشرط»و يقول:يدخل خيار

ص:211

الشرط في الإجارة. (1)و أُخرى يستخدم عبارة«شرط الخيار»و يقول:و يصحّ شرط الخيار في الإجارة. (2)

و من المعلوم أنّ بين التعبيرين فرقاً جوهرياً في مصطلح الفقهاء.و ليس هذا شيئاً خفياً على الأُستاذ الفاضل.

هذا ما خطر ببالي الفاتر أُقدّمه إلى الأُستاذ الدكتور راجياً منه إمعان النظر فيه،و لا ينقص ما ذكرت من قيمة الكتاب و أهميته.فهو بحق مصباح الطالب،و أُمنية المجتهد،و مرجع الفقيه.

أدعو اللّه أن يديم صحّة المؤلف و يوفّقه لما فيه الخير و السداد.و كم للأُستاذ من أياد بيضاء عليّ حفظه اللّه و رعاه.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

إيران-قم المقدسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

7 جمادى الآخرة1426ه

ص:212


1- 1) .نفس المصدر:258.
2- 2) .نفس الصفحة.

تعقيب على المقال

اشارة

ثمّ إنّ الأُستاذ الفاضل الدكتور عبد الوهاب بن إبراهيم-دامت معاليه-كتب رسالة تعقيباً على الملاحظات الّتي أثرناها حول كتابه«فقه المعاملات الحديثة»و إليك نص رسالة الأُستاذ ننشرها مع التقدير و الإكبار.

صاحب الفضيلة العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

و بعد:فأسأل المولى الكريم من جوار بيته الطاهر أن يمدَّ فضيلتكم بعونه و يمنَّ عليكم بالصحّة و التوفيق.

سيّدي:تسلّمتُ رسالتكم الكريمة بتاريخ 7جمادى الآخرة عام1426ه و سُرِرتُ بها كل السُّرور،و كان بودّي أن أُجيب سماحتكم مباشرة،أطال اللّه عمركم في خدمة العلم و طلابه،و لكنّ كنت على عجلة من أمري،أتأهب لسفر خارج المملكة.

كان مصدر سعادتي في رسالتكم الكريمة نظراتكم العلمية الفاحصة في كتابي«فقه المعاملات الحديثة»و أنّه يجد من سماحتكم العناية و الاهتمام العلمي،و هو شيء أعتزُّ به كل الاعتزاز،كما أنّ حسن صنيعكم-حفظكم اللّه-يُحيي سنة من سنن العلماء الأجلاء في تراثنا الإسلامي و ذلك هو النقد العلمي النزيه أفادكم اللّه.

سيدي:أكرر فأقول جزاكم اللّه خير الجزاء،و يعلم اللّه كم أنا مسرور بما

ص:213

خطّه قلمكم الشريف،و اسمحوا لي بأن أُجيب على الملاحظات الّتي أثرتموها فيما يخصّ عقد الإجارة.

حول الملاحظة الأُولى

قول سماحتكم:«أنّ أخذ لفظ العقد في تعريف الإجارة من قبيل لزوم ما لا يلزم لو لم يكن مضراً...» الخ.

لا يخفى على سماحتكم أنّ التعريفات إمّا أن تكون بالماهية و هو التعريف بالحد،أو بالأوصاف و هو التعريف بالرسم،و التعريفات الّتي قدمتها بكلمة«عقد»هي تعريف بالماهية و معناه كما شرحته في ص 232 «ربط بين كلامين ينشأ عنه حكم شرعي بالالتزام لأحد الطرفين»،فمن ثمّ يترتب على هذا الكلام:(الإيجاب و القبول) نتائجه و ثمرته و هو كما ذكر سماحتكم«العقد سبب لإيجادها في عالم الاعتبار»و هو جزء الماهية، و في بعض المدوّنات الفقهية من كتب الشافعية مثلاً عرّفوا الإجارة بمثل تعريفكم و لكنه بعبارة أُخرى:

«تمليك منفعة بعوض»كما جاء عن جلال الدين المحلى على منهاج الطالبين للإمام النووي، و استدرك عليه بعض المحشين:«و لو عبر بدل التمليك بالعقد كان أولى»ج2،ص 67(حاشية قليوبي)، و لهذا«فمن دون الإيجاب و القبول لا يكون التمليك و لا التسلط على العين المؤجرة».

حول الملاحظة الثانية

إنّ كلّ من عرف الإجارة بأنّها عقد على المنافع خلط بين متعلق الإجارة و غايتها فالإجارة تتعلّق بالعين أوّلاً و بالذات و يكون الانتفاع هو الغاية».

لا أظنّه،هذا خصوصاً إذا عرفنا أنّ التعريف الّذي ذهب إليه الجمهور هو

ص:214

تعريف بالماهية و بحقيقة الشيء،و لهذا لو سمح لي فضيلتكم بالمقارنة البسيطة بين تعريف الجمهور و تعريف فضيلتكم.

قولكم:«تسليط المالك المستأجر»:يكفي عن عبارة«المالك و المستأجر»كلمة (عقد) و كما لا يخفى على فضيلتكم أنّ التعريفات يُتفادى فيها التطويل،و كلمة (عقد) تغني عن كلمة (تسليط) لأنّ هذا نتيجة العقد و ثمرته.

أرجو التكرم بالنظر في ص 232 من كتابي لمدلول كلمة (عقد) و أرى أنّ الخلاف لفظي،و كلا التعريفين له مجال من النظر.

حول الملاحظة الثالثة

في الاستدلال بالآيات الّتي تحكي تشريعات الأُمم السابقة،و قول فضيلتكم:إن إقرار النبي لسائر المعاملات الرائجة في عصره فيه غنية عن الاستشهاد بشرع من قبلنا.

ملاحظة و وقفة جيدة و لكن إقرار النبي عليه السلام لتلك المعاملة دون اعتراض عليها هو استكمال للقاعدة الأُصولية،و توضيح لها:

«شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يطرأ عليه ناسخ»و توجيهكم الكريم،مع الاستشهاد بالآيات يعطي مثالاً و شاهداً ناصعاً و كاملاً لهذه القاعدة.أفادكم اللّه و جزاكم خيراً.

حول الملاحظة الرابعة

قولكم حفظكم اللّه:«المعيار في عد شيء منفعة للشيء هو العرف»أوافقكم على هذا إجمالاً و تفصيلاً، و اعتراض فضيلتكم صحيح و وارد أفادكم اللّه،

ص:215

بل إنّ أموراً فقهية كثيرة بُنيت على العرف من ذلك الزمان،و ينبغي أن ننظر في ضوء ما تجد من الأعراف،و للعلاّمة ابن القيّم و غيره كلام جميل في هذا الشأن الفقهي جزاكم اللّه خيراً.

حول الملاحظة الخامسة

الملاحظة الخامسة مبنية على القياس المنطقي الّذي ذكرتموه و حديثكم،أو بالأحرى ملاحظتكم هذه مبنية على أساس تعريف سماحتكم الإجارة بأنّها (تسليط المستأجر) في حين أنّنا نعرفها بالماهية (عقد)، (إيجاب و قبول).

كما أنّ الإجارة في مفهومنا،أو مفهوم الجمهور (بيع المنفعة) فهي نوع من البيع،و لا أرى الخلاف في هذا إلاّ لفظياً،سماحتكم يقول:إنّها ليست بيعاً فأنتم تنفون فلا يصحّ عندكم قياس الإجارة على البيع، و الجمهور يرى أنّها من باب واحد هي المعاملات المالية،المحظور أن يقاس ما في المعاملات على موضوع مباين كالأنكحة،أو الحدود و الجنايات هذه أُصول متفق عليها فقهاً،و حينئذٍ تكون الملاحظة السادسة داخلة تحت تلك القاعدة،و على هذا لا محظور في قياس خيار الشرط في الإجارة على خيار الشرط في البيع.

أعترف لفضيلتكم بوجود الفرق بين عبارتي (خيار الشرط) فهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، و عبارة (شرط الخيار) فهو من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف و بينهما فرق جوهري واسع.أرجو أن يكون استعمالي للمصطلحين صحيحاً في البحث.

ختاماً لا أملك إلاّ الشكر و الدعاء لفضيلتكم على ملاحظاتكم القيمة فقد أفدت منها في تحريك فكري الأكمد،و إنّي ممتن لفضيلتكم على هذا الاهتمام

ص:216

و أسأل اللّه أن يجزيكم عني و عن العلم خير الجزاء،و سأوافيكم قريباً برسالة أُخرى على الرسالة الأخيرة.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

المخلص

عبد الوهاب أبو سليمان

1426/6/4

تعقيب على تعقيب

اشارة

قد تعرفت على ملاحظات الأُستاذ أبو سليمان على ما كتبنا حول كتابه«فقه المعاملات الحديثة»قسم الإجارة:و مع تقديرنا لما أفاده الأُستاذ نقوم-بإيضاح ما ذكرناه في مقالنا السابق،حتّى يرتفع الخفاء عن المراد.

حول الملاحظة الأُولى

إنّ في أسماء المعاملات قولين بين الفقهاء هما:

1.انّها أسماء للأسباب(العقود) التي بها ينشأ الأمر الاعتباري،(مبادلة مال بمال) في البيع أو (تمليك منافع العين)-حسب تعريف القوم في الإجارة-و هكذا فلفظ البيع أو الإجارة اسم للسبب،أعني:العقد الّذي يوجد به ذلك الأمر الاعتباري عند العقلاء فمعنى قوله سبحانه: «وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ» 1 -على

ص:217

هذا المبنى-أي أحلّ العقد الّذي يحقّق مبادلة مال بمال،كما أنّ معنى قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«الصلح جائز بين المسلمين»أي يجوز العقد الذي يُحقِّق التصالح بين المسلمين-،فالاسم موضوع للمحقِّق (بالكسر) لا للمحقَّق(بالفتح).

2.انّها أسماء للمسببات،و المنشئات الاعتبارية الّتي تدور عليها رحى الحياة الاجتماعية،و أمّا انّ العقلاء كيف انتقلوا إلى هذه الأُمور الاعتبارية،فهو موكول إلى محلّه.نعم كانت الأسباب لإيجاد المسببات في العصور الأُولى،هو المعاطاة في مجال أكثر المعاملات،و لما اتسعت دائرة الحضارة الإنسانية قام السبب اللفظي و أخيراً الكتبي مكان السبب الفعلي.

و بذلك يعلم أنّ الأصل في البيع هو المعاطاة و البيع بالصيغة تبع له ظهر بعد تطور الحضارة على خلاف ما هو المشهور بين الفقهاء حيث يرون البيع بالصيغة أصلاً و البيع بالمعاطاة فرعاً.

إذا تبين ذلك نقول:إنّ لفظ الإجارة عند الأُستاذ لا يخلو عن أحد وجهين متقدمين:إمّا أن يكون اسماً للسبب فعندئذٍ يصحّ ما اختاره الأُستاذ من التعريف:«عقد على منفعة مباحة معلومة».و إمّا أن يكون موضوعاً للمسبب أي الأمر الاعتباري.و عندئذٍ يكون إدغام لفظ العقد في التعريف زائداً،و هذا من قبيل ما قلناه:لزوم ما لا يلزم.

و أمّا ما ورد في ذيل كلامه:«فمن دون الإيجاب و القبول لا يكون التمليك و لا التسلط على العين الموجرة»و إن كان صحيحاً لكن لا يبرّر إدخال السبب في تعريف المسبب الّذي لا يتحقّق إلاّ بالسبب،و هذا أشبه بإدخال النجار في تعريف الكرسي بحجة انّه لا يتحقّق إلاّ به.

و تلخص ممّا ذكرنا:أنّ التعريف بالعقد إنّما يكون تعريفاً بالماهية إذا قلنا يكون لفظ الإجارة مثلاً موضوعاً موضوع للسبب دون المسبب.و لكن هذا القول بعيد عن اعتبار العرف.

حول الملاحظة الثانية:قد قلنا فيها:إنّ كلّ من عرف الإجارة:«بأنّها»عقد على المنافع»قد خلط بين متعلّق الإجارة و غايتها،فالأُجرة تتعلّق بالعين أوّلاً و بالذات و الانتفاع بالمتاع هو الغاية،و الشاهد على ما ذكر قول الموجر:آجرت الدار،أو آجرت الدابة،و لا يقول:آجرت منافع الدار و السيارة،و ما تفضّل به الأُستاذ في مقام الإجارة كأنّه لا يرتبط بالملاحظة،فلاحظ.

و أمّا الملاحظة الثالثة و الرابعة:فقد أبدى دام ظله-موافقته لنا و هذا من شيمه و أخلاقه الفاضلة فهو يصافق الحقّ أينما وجد.

الملاحظة الخامسة:تدور حول تأجيل الأُجرة:إذا كانت المنفعة مضمونة في الذمة فيكون من قبيل بيع دين بدين،حسب ما قاله الأُستاذ.

و قد قلنا في مقالنا:إنّ الإشكال مبني على أمرين غير مسلمين:

ص:218

1.الإجارة من مقولة تمليك المنفعة حتّى يتصور فيها تعجيل و تأجيل.

2.الإجارة من مقولة البيع حتّى يتصور فيها:بيع دين بدين.

و الأُستاذ-دام ظله-يصر في رسالته على أنّ الإجارة نوع من البيع،فإذا كانت الأُجرة مؤجلة و المنفعة أيضاً كذلك لترتب عليه المحذور.

و أنا ألفت نظر الأُستاذ إلى ما هو الدارج بين الناس،ترى أنّهم يؤجرون البيوت و الشقق و السيارات و غيرها،فلا يدور في خلد أحدهم أنّه باع منفعة الدار حتّى يأتي فيه مسألة التعجيل و التأجيل،و إذا سألته عن عمله قال:أجرت السيارة و جعلتها في متناول الغير بأُجرة معينة لمدة خاصة،و هذا يعرب عن صحّة

ص:219

ما قلناه من أنّ واقع الإجارة و حقيقتها هو تسليط الغير على العين لغاية الانتفاع سواء انتفع أم لا.

فحضور العين (كالبئر) حضور رمزيّ للمنفعة.

نعم العقد هو السبب لإنشاء هذا التسليط الاعتباري،و أمّا الإقباض و القبض اللّذَين يقوم بهما الموجود المستأجر فهو نوع وفاء بالاتّفاق على التسليط الذي حصل بالعقد الإنشائي.

و أمّا الملاحظة السادسة فقد أبدى الأُستاذ المحترم موافقته لما قلنا.حفظه اللّه و رعاه.

ص:220

4

اشارة

اتّجاهان في تدوين أُصول الفقه و اقتراحات لتطويره

أُصول الفقه علم بالقواعد الّتي تستنبط بها الفروع الفقهية أو ما ينتهي إليه المجتهد عند اليأس من الحصول على الأدلة الاجتهادية،كأصالة البراءة و الاحتياط و غير ذلك ممّا يسمى بالأُصول العملية.

و تمتدّ جذور هذا العلم إلى القرن الأوّل،حيث أملى الإمامان المعصومان محمد الباقر و جعفر الصادق عليهما السلام قواعد في هذا المضمار،و صار ما أملياه مبدأ لتأسيس قواعد أُصولية بين الشيعة الإمامية.

و أمّا السنّة فالمعروف عندهم أنّ الإمام الشافعي (150- 204ه) هو الّذي وضع اللبنة الأُولى لأُصول الفقه بتأليف كتابه المعروف ب«الرسالة».

ثمّ عكف المتأخرون من كلتا الطائفتين على تأليف رسائل و كتب و موسوعات كثيرة في هذا العلم، تصعب الإحاطة بأسمائها و خصوصياتها جميعاً.

و ثَمّة

اتجاهان سائدان على تلك المؤلفات،هما:

اشارة

ص:221

أوّلاً:الاتجاه النظري المحض

و نعني به النظرَ إلى أُصول الفقه نظرة استقلالية،يَستنبط الفقيهُ على ضوئها الفروعَ الفقهية،فيأخذ بالفروع إذا وافقت الأُصول و يترك ما خالفها.و انطلاقاً من ذلك صار علم أُصول الفقه علماً مستقلاً غير خاضع للفروع الّتي قد يُفتي فيها إمام مذهب فقهيّ من دون رعاية للأُصول،و هذا الاتجاه سار عليه المتكلمون من الأُصوليين و أهل النظر و الاستدلال منهم،و لذلك تميّزت كتبهم بطابَع عقلي و استدلالي، و ربما يستعان فيها بالأُصول المسلّمة في علم الكلام،فترى في هذه الكتب بحوثاً عقلية،مثل:

1.التحسين و التقبيح العقليان.

2.امتناع التكليف بما لا يطاق.

3.الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدّمته أو حرمة ضده.

إلى غير ذلك من المسائل العقلية.

و امتازت كتب الإمامية في أُصول الفقه بهذا الاتجاه منذ تدوين أُصول الفقه في القرن الثاني إلى يومنا هذا.

و أمّا أهل السنّة فلديهم اتجاهان.

نفس الاتجاه النظري المحض و هو الّذي لا يتأثر بفروع أيّ مذهب فقهي،فعلم أُصول الفقه ميزان و قانون كلي تجب مراعاته عند استنباط الأحكام الشرعية،و على هذا الخط درج بعدَ الإمام الشافعي عددٌ من علماء أُصول الفقه نذكر منهم:

1.أبو بكر الصيرفي (المتوفّى 330ه) مؤلف كتاب«البيان في دلائل

ص:222

الاعلام على أُصول الأحكام». (1)

2.محمد سعيد القاضي(المتوفّى 346ه) مؤلف كتاب«الهداية»الذي كان محور الدراسة بين علماء خوارزم. (2)

3.القاضي أبو بكر الباقلاني (المتوفّى 403ه) مؤلف«أُصول التقريب و الإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد».

4.أبو حامد الطوسي الغزالي (450- 505ه) مؤلف«المستصفى في الأُصول».

5.سيف الدين الآمدي(551- 630ه) مؤلف كتاب«الإحكام في أُصول الأحكام».و كان حنبلي المذهب ثمّ صار شافعياً.

6.فخر الدين الرازي (543- 606ه) مؤلف«المحصول في علم الأُصول».

إلى غير ذلك من أئمّة أُصول الفقه من السنة الذين أقاموا صَرْح هذا الاتجاه بكتبهم.

ثانياً:الاتجاه المتأثر بالفروع الفقهية

و في هذا الاتجاه تخدم أُصولُ الفقه مذهبَ إمام فقهي معيّن،كأبي حنيفة و غيره و تُثبت الموافقةُ سلامةَ الاتجاه،فإذا وافقت القاعدة مذهب ذلك الإمام يؤخذ بها و إلاّ فتطرح،أي أنّه يُنظر إلى أُصول الفقه نظرة آلية بمعنى أنّ الملاك في صحّة الأُصول و عدمها هو مطابقتها للفروع الّتي عليها إمام المذهب.فأصحاب

ص:223


1- 1) .الفتح المبين:180/1.
2- 2) .نفس المصدر:185/1.

هذا الخط يقررون القواعد الأُصولية طبقاً لما قرره أئمّة المذهب في فروعهم الاجتهادية الفقهية، و تكون القاعدة الأُصولية منسجمة مع الفروع الفقهية و لو خالفتها لسقطت عن الاعتبار.

و ممّا امتازت به هذه المؤلفات:

أ.كثرة التخريج بعد كلّ قاعدة لتكون دليلاً على صحّة القاعدة.

ب.خلوّها من الأساليب العقلية و القواعد الكلامية.

ج.ظهور هذا الاتجاه في أوائل القرن الثالث،و أوّل من ألّف على هذا الأُسلوب هو عيسى بن أبان بن صدقة الحنفي (المتوفّى 220ه)،ثمّ تلاه مؤلفون آخرون نظير:

1.أبو الحسن الكرخي(260- 340ه) له رسالة في علم الأُصول. (1)

2.أبو منصور الماتريدي (المتوفّى 330ه) مؤلف كتاب«مأخذ الشرائع في الأُصول». (2)

3.أبو بكر الجصاص(305- 370ه) له كتاب في أُصول الفقه يعرف ب«أُصول الجصاص».

4.فخر الإسلام البزدوي(المتوفّى 482ه) الفقيه الحنفي،مؤلف كتاب«كنز الوصول إلى معرفة الأُصول».

و قد ابتكر هذا الاتجاه فقهاء الأحناف.

ص:224


1- 1) .الفتح المبين:186/1.
2- 2) .بحوث في الملل و النحل:11/3. [1]

الجمع بين الاتجاهين

و هناك من جمع بين الاتجاهين،فبحثوا الأُصول مجرّدة عن الفروع ثمّ تولّوا طريقة تطبيقها عليها،و قد ظهرت هذه الطريقة في القرن السابع فحاولوا تطبيق القواعد الأُصولية و إثباتها بالأدلة ثمّ تطبيقها على الفروع الفقهية.

و من أبرز المؤلفين على هذه الطريقة ابن الساعاتي (المتوفّى 694ه)مؤلف كتاب«البديع»الذي جمع فيه بين طريقتي الآمدي في كتابه«الإحكام»الّذي اقتفى الاتجاه النظري و عنى في كتابه بالقواعد الكليّة، و طريقة فخر الإسلام البزدوي في كتابه الذي اقتفى نظرية التأثر بالفروع الفقهية و عنى في كتابه بالشواهد الجزئية الفرعية.

يقول ابن الساعاتي في مقدمة كتابه:لخصته من كتاب«الإحكام»و رصّعته بالجواهر الفقهية من«أُصول فخر الإسلام»فانّهما البحران المحيطان بجميع الأُصول الجامعان لقواعد المعقول و المنقول،هذا حاو للقواعد الكلية الأُصولية،و ذاك مشمول بالشواهد الجزئية الفرعية.

اقتراحات لتطوير تدوين علم الأُصول

اشارة

إنّ الاهتمام بالفقه و الأُصول من أقوى الاهتمامات في الأوساط الشيعية،و ذلك لأنّ باب الاجتهاد لم يزل مفتوحاً عندهم بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومهم هذا،و لهذا احتلَّ علما الأُصول و الفقه مكانة عليا، تبوّأ بسببها الفقيه أعلى المناصب في الأوساط الشيعية.و رغم أنّ علم الكلام هو الفقه الأكبر و العلم بالأحكام هو الفقه الأصغر و لكن صار للفقه الأصغر حظ أكبر و إقبال أكثر،و مع هذا فإنّ علم أُصول الفقه عندنا يحتاج إلى تجديد في التدوين و الدراسة،و نشير

ص:225

هنا إلى بعض المقترحات لتطوير دراسة هذا العلم و تدوينه،و هي:

الأوّل:إفراد المسائل الكلامية و الفلسفية المؤثرة بالتدوين و الدراسة

يعتمد أُصول الفقه عند الشيعة على قواعد كلامية و استعان في العصور الأخيرة ببعض القواعد الفلسفية،و من هنا يلزم فصل هذه القواعد عن أُصول الفقه و تدوينها بشكل تكون كالمبادئ التصديقية للمسائل الأُصولية حتى تدرس مستقلة،من دون إحالتها إلى الكلام و الفلسفة و إليك بعض الأمثلة:

أ.أمّا ما أُخذ من علم الكلام فإنّ للتحسين و التقبيح العقليين دوراً كبيراً في مسائل أُصول الفقه،فعند ما يدرس الطالب البراءة العقلية المبنية على قبح العقاب بلا بيان يصعب عليه تصديق المسألة من دون أن يكون له إلمام بما تبتني عليه هذه القاعدة الأُصولية.و قس عليها كلّ ما يبتنى عليهما من القواعد الأُصوليّة.

ب.و أمّا ما أُخذ من الفلسفة فقد بنى المحقق الخراساني (1255-1329 ه) تبعاً لصاحب الفصول(المتوفّى 1255) صرح القواعد الأُصولية على أساس بعض المسائل الفلسفية المؤثرة فيها،و إليك نماذج ممّا استخدمه الأُصوليون لا سيّما العَلَمَين المذكورين-قدّس اللّه سرّهما -:

1.الأعراض الذاتية و الأعراض الغريبة عند البحث في القاعدة المعروفة:«موضوع كلّ علم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية». (1)

2.لا يصدر الواحد إلاّ من الواحد،و استخدمها المحقق الخراساني في كشف وجود الجامع بين أفراد الصحيح من الصلاة قائلاً:بأنّ الأثر الواحد

ص:226


1- 1) .الفصول:11. [1]

كمعراج المؤمن لا يصدر إلاّ من الواحد و هو الجامع بين أفراد الصحيح. (1)

3.ذهب الأكثرون إلى أنّ الفرق بين المشتق و المبدأ نفس الفرق بين الجنس و الفصل و الصورة و المادة،و حصيلة الفرق؛أنّ المشتق مأخوذ لا بشرط فيحمل،و المبدأ مأخوذ بشرط لا فلا يحمل نظير الجنس و الفصل المأخوذين لا بشرط فيحمل أحدهما على الآخر فيقال بعض الحيوان ناطق،و المادة و الصورة المأخوذين بشرط لا فلا يحمل أحدهما على الآخر. (2)

4.الجهات التعليلية في الأحكام العقلية جهات تقييدية فلو حكم العقل بوجوب نصب السلّم لكونه مقدمة فهو عنوان تعليلي في الظاهر،و لكنّه عنوان تقييدي في الواقع فالواجب في الواقع عنوان المقدمة. (3)

5.أصالة الوجود أو أصالة الماهية و قد اتخذ بعض المتأخرين هذه القاعدة سنداً لتعيين متعلق الأمر و النهي و أنّه هل يتعلق بالطبائع أو بالأفراد. (4)

6.بنى المحقّق النائيني (1274- 1355ه) جواز اجتماع الأمر و النهي على مسألة فلسفية و هي:أنّ تركيب الهيولى و الصورة هل هو اتحادي أو انضمامي،فعلى الأوّل يمتنع اجتماع الأمر و النهي بخلاف الثاني. (5)

7.الشيء ما لم يجب لم يوجد،قاعدة فلسفية شريفة تدل على أنّ وجود الشيء رهن اجتماع أجزاء علل تامة حتى تُسد أبواب العدم على الشيء و قد استخدم المحقق الخراساني هذه القاعدة في ذيل بحث اجتماع الأمر و النهي. (6)

ص:227


1- 1) .كفاية الأُصول:36/1. [1]
2- 2) .الفصول:62. [2]
3- 3) .نهاية الدراية،(بحث وجوب المقدمة الموصلة):131/2.
4- 4) .كفاية الأُصول:222/1 و240/1. [3]
5- 5) .أجود التقريرات:331/1. [4]
6- 6) .كفاية الأُصول:271/1.

8.الخارج المحمول و المحمول بالضميمة،و قد استخدمهما المحقق الخراساني في بعض الموارد منها أنّ الأحكام الوضعية متأثرة بالجعل أو منتزعة من الأحكام التكليفية أو مختلفة. (1)

9.حصر حكماء الاغريق مراتب الوجود الإمكاني في عشر مقولات عرفت ب«المقولات العشر»و هي:

الجوهر بأنواعه الخمسة و الأعراض بأجناسها التسعة منها:الأين و الوضع و الجِدة و قد استخدمها بعض الأُصوليين في بابي اجتماع الأمر و النهي عند بيان حقيقة الصلاة،و في باب تبيين بعض الأحكام الوضعية كالملكية. (2)

10.الحركة القطعية و الحركة التوسطية،استخدمها المحقّق الخراساني عند البحث في جريان الاستصحاب في الأُمور غير القارّة. (3)

11.امتناع انتقال العرض،استخدمها الشيخ الأنصاري في إثبات لزوم بقاء الموضوع عند الاستصحاب. (4)

12.تفكيك الحقائق عن الأُمور الاعتبارية،استفاد الأعلام الثلاثة:المحقّق الاصفهاني،و الإمام الخميني،و السيد الطباطبائي من هذه القاعدة في كثير من المباحث الأُصولية. (5)

فهذه نماذج من المسائل الفلسفية التي أدخلها المتأخرون في المباحث الأُصولية،و صارت أساساً لقسم منها،فسواء أصح تأثيرها في علم

ص:228


1- 1) .كفاية الأُصول:306/2.
2- 2) .تعاليق أجود التقريرات:339/1- 340.
3- 3) .كفاية الأُصول:315/2. [1]
4- 4) .فرائد الأُصول،مبحث شرطية بقاء الموضوع في الاستصحاب.
5- 5) .انظر:نهاية الدراية؛و تهذيب الاصول؛و تعليقة الكفاية.

الأُصول أم لا فنحن أمام أمر واقع،إذ أدخلت في علم الأُصول و اعتُمد عليها في كتبهم و تقريراتهم فلا بدّ ان يدرسها المتعلم قبل دراسته لعلم الأُصول بصورة مستقلة.

الثاني:تفكيك القواعد الفقهية عن مسائل علم الأُصول

إنّ المتأخرين و إن كانوا قد بذلوا جهودهم لبيان الفرق بين القواعد الأُصولية و القواعد الفقهية إلاّ أنّهم أدخلوا قسماً من القواعد الفقهية في كتب الأُصول استطراداً،نظير أصالة الصحة في فعل الغير و قاعدة التجاوز و قاعدة اليد و قاعدة القرعة و قاعدة لا ضرر و قاعدة لا حرج-و هذا مما سبّب إطالة مدة الدراسة-فإنّ هذه القواعد الشريفة و إن كانت قواعد مفيدة لكن البحث فيها يعرقل مسيرة الطالب في تحصيل علم الأُصول.

الثالث:حذف ما لا علاقة له بعلم الأُصول

و من اللازم على الأساتذة الذين تنبض قلوبهم بالرغبة الصادقة لتدريس علم الأُصول في مدة قصيرة هو حذف ما لا علاقة له بعلم الأُصول كالبحث عن الجبر و التفويض،و الأمر بين الأمرين عند البحث في مفاد مادة الأمر،فقد فتح ذلك الباب المحقّق الخراساني و تبعه أكثر من جاء بعده فصارت مسألة كلامية أو فلسفية جزءاً من الأُصول بحسب الظاهر.

إنّ البحث عن الجبر و التفويض رهن الإحاطة بأتقن القواعد الكلامية و الفلسفية حتى يُوفَّق الإنسان لحل مشاكلها،و قلّما يتّفق لإنسان أن يشق شعرها و يحلّ عقدها،و لذلك قد لا تحصل النتيجة المبتغاة من طرح هذه المسألة في ثنايا

ص:229

المسائل الأُصولية و ما ذلك إلاّ لعدم دراسة مبانيها و أسسها بشكل مستقل قبل دراسة علم الأُصول و انّما يريد من ذلك العلم ما لا يعطيه.

الرابع:الاتجاه التطبيقي

إنّ الاتجاه النظري و إن كان اتجاهاً رائعاً و لكنّه إذا جُرّد عن التطبيق و التمرين،أصبح علم الأُصول قواعد جافّة لا تربّي ملكة الاجتهاد،و قد ذكرنا أنّ بعض الأُصوليين من أهل السنة جمعوا بين الاتجاهين، لكن هنا فرقاً بين ما تبنّاه هذا البعض كابن الساعاتي و من تبعه و ما نقترحه،و ذلك لأنّه أراد تطبيق القواعد الأُصولية-بعد دراستها مستقلة-على فروع مذهب أئمّتهم،و لكننا نقترح ان ندرس القواعد الأُصولية مجردة عن فتوى أي إمام أو مذهب فقهي ثمّ نقوم بتطبيقها على الفروع التي يمكن أن تستخرج من هذه القواعد،من دون نظر إلى فتوى إمام دون إمام،و قد عالجنا هذه النقيصة في بعض محاضراتنا ككتاب«المحصول في علم الأُصول»و«إرشاد العقول إلى علم الاصول»،و ما اقترحناه أمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان لأنّ المسائل الأُصولية كالمسائل الرياضية أو الهندسية التي يمليها الأُستاذ على الطلاب،و لكن العلم بالقواعد لا يجعل الإنسان عالماً رياضياً أو عالماً هندسياً إلاّ بعد حلّ التمارين المتعلقة بقواعد هذين العلمين.

الخامس:الدراسة التاريخية لبعض المسائل الأُصولية

من المسائل التي تذكر في مباحث حجّية الظن،حجية قول اللغوي،و قد اتفقت كلمتهم تبعاً لصاحب الكفاية و شيخه الأنصاري على عدم حجّيته.

قال في«الكفاية»:لا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع،بل لا

ص:230

يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك،بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال،بداهة انّ همّه ضبط موارده،لا تعيين أنّ أيّاً منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازاً،و إلاّ لوضعوا لذلك علامة،و ليس ذكره أوّلاً علامة كون اللفظ حقيقة فيه للانتقاض بالمشترك. (1)

و قد درج على هذا الكلام كلّ من جاء بعده مسلّمين بذلك مع أنّ تصديق هذه القاعدة يحتاج إلى دراسة تاريخية لتدوين معاجم اللغة.

و أنا أظن انّ الواقع خلاف ما ذكره،و ذلك لأنّ مؤلفي أُمّهات المعاجم قد ضربوا آباط الإبل إلى مختلف القبائل و البلدان و عاشروا الناطقين بالعربية غير المختلطين بالأعاجم زمناً غير قليل و تكررت على مسامعهم الألفاظ حتى حصل لهم القطع بمعانيها،و أصبحوا في غنى عن تمييز الحقائق عن المجازات بالتبادر و سائر العلامات.

إنّ الأساتذة-قدّس اللّه أسرارهم-قد قصروا النظر على أصحاب المعاجم المتأخرين (المرتزقين على معاجم المتقدمين) الذين ليس لهم شأن إلاّ تبيين موارد الاستعمال؛و أمّا أصحاب المعاجم الأوائل كالعين للخليل (المتوفّى 170ه)،و الجمهرة لمحمد بن الحسن المعروف بابن دريد (المتوفّى321ه)، و صحاح اللغة لإسماعيل بن حمّاد الجوهري (المتوفّى393 ه)،و المقاييس لأحمد بن فارس (المتوفّى395) إلى غير ذلك من فطاحل علماء اللغة فقد أخذوا المعاني من أفواه العرب الأقحاح بالدقة حتى أنّ ابن فارس قد بذل جهده-في كتابه-لإرجاع المعاني المختلفة إلى أصل واحد و استشهد على ذلك بالشعر و الحديث.

و على كلّ تقدير فسواء أصح ما ادّعيناه أم لم يصح فالقول بعدم حجّية قول

ص:231


1- 1) .كفاية الأُصول:287. [1]

اللغوي من غير دراسة لتاريخ تدوين علم اللغة أشبه بالرجم بالغيب.

و ليست مسألة حجية قول اللغوي فريدة في المقام،بل لها نظير آخر و هو:

اختلفت كلمتهم في حجّية الخبر الواحد فالمتقدمون على عدم الحجّية و المتأخرون من الإمامية على حجّيته،فمنهم من خص الحجية بالصحيح و منهم من عمّمها إلى الموثق و الحسن إلى غير ذلك من الأقوال، و لسنا في مقام ترجيح أحد الأقوال على غيره و إنّما نلفت نظر القارئ إلى نكتة و هي أنّ التصديق بالحجّية و عدمها رهن دارسة المراحل التي مرت بها عملية تدوين الأخبار المروية عن أهل البيت عليهم السلام و ما بذله جهابذة هذا الفن من جهود مضنية في سبيل حفظ ما يسمعونه من الأئمة و كتابته و التحدّث به،فالاطلاع على تاريخ تدوين الحديث من عصر الصادقين عليهما السلام إلى أصحاب الكتب الأربعة يورث الجزم بحجّية قول الثقة عند أصحاب أئمّة أهل البيت عليهم السلام و أنّه كان على ذلك ديدنهم و معاشهم،فلو دُون تاريخ علم الحديث عند الشيعة بصورة واضحة يكون التصديق بحجية خبر الواحد أسهل و أوضح و يكون مغنياً عن الاستدلال ببعض الآيات التي لا يخلو الاستدلال بها على حجّة الخبر الواحد من إشكال.

السادس:أخيرها لا آخرها:حفظ الصلة بين القديم و الجديد

مما يجب إلفات نظر مديرية التعليم في الحوزة العلمية إليه،هو حفظ الصلة بين القديم و الجديد،أي بين ما ألّفه القدامى و ما ألّفه أو يؤلّفه علماء العصر الحاضر،فالانكباب على ما دُوّن في العصر الأخير مع الانقطاع عما ألفه جهابذة الفن في العصور المتقدمة خسارة لا تجبر.

هذا من جانب و من جانب آخر فأنّ ما ألفه مشايخنا القُدامى (رضوان اللّه

ص:232

عليهم) لا يخلو من تعقيد و إعضال،لا يوافق روح العصر الحاضر التي تتطلّب السهولة و الوصول إلى النتيجة بسرعة.

و لا يحصل الجمع بينهما إلاّ بعد تأليف لجنة علمية من الأساتذة ليقوموا بتهذيب ما ألفه المشايخ كالشيخ الأنصاري و من جاء بعده و تنقيحه و تجديد النظر في بعض العبارات و عرضها بطريقة سهلة.

و هذه هي اقتراحاتنا الستة لتطوير دراسة علم الأُصول و تهذيبه،ذكرتها هنا أملاً بالأخذ بها و دراستها حتى تكون مثمرة و عملية بإذن اللّه سبحانه.

و لعل هناك مقترحات أُخر ربما تكون أنفع مما اقترحت و أوفى بالمراد،و لذلك قلت في كلامي السابق «أخيرها لا آخرها».

و لعلّ مجلة أُصول الفقه أفضل منبر لطرح هذه المسائل و مناقشتها،و لذا أطلب من الأساتذة دراسة هذه الأفكار و نقدها نقداً بنّاءً موضوعياً لأجل الوصول إلى الواقع المنتظر.

ص:233

5

اشارة

إجماع العترة الطاهرة

يُعدّ كتاب«نهاية الوصول إلى علم الأُصول»للعلاّمة الحلي (648- 726ه) موسوعة أُصولية تتكفّل ببيان القواعد الأُصولية الّتي يبتني عليها استنباط الأحكام الشرعية،و قد نهج مؤلفه رحمه الله في ترصيف هذا الكتاب المنهجَ المقارن،فلذلك نجده يعرض آراء الأُصوليّين من مختلف المذاهب و يذكر أدلّتهم في مسألة واحدة ثمّ يقضي و يبرم و يخرج بالنتيجة المطلوبة،و قلّما تجد مثيلاً لهذا الكتاب بين المؤلّفات الأُصولية،إذ يسلك أغلب الأُصوليّين منهجاً خاصّاً يوافق مذهب إمامه و متبنّياته.

و من المسائل الأُصولية المهمّة الّتي وردت في هذا الجزء:مسألة الإجماع محصّلِه و منقولِه و ما تبتني عليه حجّية الاتفاق،و قد أغرق المصنّف نزعاً في التحقيق فلم يُبق في القوس منزعاً.

و من العناوين الطرّة في هذا الفصل الّتي ألفتت نظري هو إجماع العترة الّذي غفل عنه أكثر الأُصوليين، إلاّ نجم الدين الطوفي،فقد عدّه من مصادر التشريع الإسلامي في رسالته. (1)

ص:234


1- 1) .رسالة الطوفي كما في كتاب:«مصادر التشريع الإسلامي»لعبد الوهاب خلاّف:109.

و يا للعجب أنّ بعض الأُصوليّين يعدّون إجماع أهل المدينة،بل إجماع أهل الكوفة و إجماع الخلفاء من مصادر التشريع،بل ربّما يعدّون ما هو أنزل من ذلك كقول الصحابي،و لكن لا يذكرون شيئاً عن إجماع العترة الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً!!

و مع ذلك كلّه فقد اختصر المؤلّف الكلام في هذا البحث،على الرغم من ضرورة التفصيل فيه حتّى يتّضح الحق بأجلى صوره،و لذلك رأينا أن نذكر في تقديمنا على كتاب«نهاية الأُصول»هذا شيئاً ممّا يرجع إلى حجّية أقوال العترة الطاهرة فضلاً عن إجماعهم،و ذلك بالبيان التالي:

إجماع العترة

(1)

كلّ من كتب في تاريخ الفقه الإسلامي و تعرض لمنابع الفقه و الأحكام غفل عن ذكر أئمّة أهل البيت عليهم السلام و حجّية أقوالهم فضلاً عن حجّية اتّفاقهم،و ذلك بعين اللّه بخس لحقوقهم،و حيث إنّ المقام يقتضي الاختصار نستعرض المهم من الأدلّة الدالّة على حجّية أقوالهم فضلاً عن اتّفاقهم على حكم من الأحكام، كقوله سبحانه: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً». 2

و الاستدلال بالآية على عصمة أهل البيت،و بالتالي على حجّية أقوالهم رهن أُمور:الأوّل:الإرادة في الآية إرادة تكوينية لا تشريعية،و الفرق بين الإرادتين واضحة،فإنّ إرادة التطهير بصورة التقنين تعلّقت بعامّة المكلّفين من غير

ص:235


1- 1) .و هو نفس تعبير الطوفي في رسالته،و إلاّ فالحجّة عندنا قول أحد العترة فضلاً عن إجماعهم.

اختصاص بأئمّة أهل البيت عليهم السلام،كما قال سبحانه: «وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ». 1

فلو كانت الإرادة المشار إليها في الآية إرادة تشريعية لما كان للتخصيص و الحصر وجه مع أنّا نجد فيها تخصيصاً بوجوه خمسة:

أ.بدأ قوله سبحانه بالأداة «إِنَّما» المفيدة للحصر.

ب.قدّم الظرف «عَنْكُمُ» و قال: «لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ» و لم يقل ليذهب الرجس عنكم،لأجل التخصيص.

ج.بيّن من تعلّقت إرادته بتطهيرهم بصيغة الاختصاص،و قال: «أَهْلَ الْبَيْتِ» أي أخصّكم.

د.أكّد المطلوب بتكرير الفعل،و قال: «وَ يُطَهِّرَكُمْ» تأكيداً لقوله: «لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ».

ه.أرفقه بالمفعول المطلق،و قال: «تَطْهِيراً».

كلّ ذلك يؤكد أنّ الإرادة الّتي تعلّقت بتطهير أهل البيت غير الإرادة الّتي تعلّقت بعامّة المكلّفين.

و نرى مثل هذا التخصيص في خطابه لمريم البتول قال سبحانه: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ». 2

الثاني:المراد من الرجس كلّ قذارة باطنية و نفسية،كالشرك،و النفاق،و فقد الإيمان،و مساوئ الأخلاق،و الصفات السيئة،و الأفعال القبيحة الّتي يجمعها الكفر و النفاق و العصيان،فالرجس بهذا المعنى أذهبه اللّه عن أهل البيت،و لا شكّ

ص:236

انّ المنزّه عن الرجس بهذا المعنى يكون معصوماً من الذنب بإرادة منه سبحانه،كيف و قد ربّاهم اللّه سبحانه و جعلهم هداة للأُمّة كما بعث أنبياءه و رسله لتلك الغاية.

الثالث:المراد من أهل البيت هو:علي و فاطمة و أولادهما،لأنّ أهل البيت و إن كان يطلق على النساء و الزوجات بلا شك،كقوله سبحانه: «أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» 1 ،و لكن دلّ الدليل القاطع على أنّ المراد في الآية غير نساء النبي و أزواجه،و ذلك بوجهين:

أ.نجد أنّه سبحانه عند ما يتحدّث عن أزواج النبي يذكرهنّ بصيغة جمع المؤنث و لا يذكرهنّ بصيغة الجمع المذكر،فإنّه سبحانه أتى في تلك السورة (الأحزاب) من الآية 28- 34 باثنين و عشرين ضميراً مؤنثاً مخاطباً بها نساء النبي،و هي كما يلي:

1.كُنْتُنَّ،2.تُرِدْنَ،3.تَعَالَيْنَ،4.أُمَتِّعْكُنَّ،5.أُسَرِّحْكُنَّ. (1)

6.كُنْتُنَّ،7.تُرِدْنَ،8.مِنْكُنَّ. (2)

9.مِنْكُنَّ. (3)

10.مِنْكُنَّ. (4)

11.لَسْتُنَّ،12.إِنِ اتَّقَيْتُنَّ،13.فَلاَ تَخْضَعْنَ،14.قُلْنَ. (5)

15.قَرْنَ،16.فِي بُيُوتِكُنَّ،17.تَبَرَّجْنَ،18.أَقِمْنَ،19.آتِينَ،20.أَطِعْنَ اللّهَ. (6)

ص:237


1- 2) .الأحزاب:28.
2- 3) .الأحزاب:29. [1]
3- 4) .الأحزاب:30. [2]
4- 5) .الأحزاب:31. [3]
5- 6) .الأحزاب:32. [4]
6- 7) .الأحزاب:33. [5]

21.اذْكُرْنَ،22.فِي بُيُوتِكُنَّ. (1)

و في الوقت نفسه عند ما يذكر أئمّة أهل البيت عليهم السلام في آخر الآية 33 يأتي بضمائر مذكّرة و يقول: «لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ... وَ يُطَهِّرَكُمْ» ،فإنّ هذا العدول دليل على أنّ الذكر الحكيم انتقل من موضوع إلى موضوع آخر،أي من نساء النبي إلى أهل بيته،فلا بدّ أن يكون المراد منه غير نسائه.

ب.أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أماط الستر عن وجه الحقيقة،فقد صرّح بأسماء من نزلت الآية بحقّهم حتّى يتعيّن المنظور منه باسمه و رسمه و لم يكتف بذلك،بل أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء و منع من دخول غيرهم.

و لم يقتصر على هذين الأمرين (ذكر الأسماء و جعل الجميع تحت كساء واحد) بل كان كلّما يمرّ ببيت فاطمة عليها السلام إلى ثمانية أشهر يقول:الصلاة،أهل البيت: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

و قد تضافرت الروايات على ذلك،و لو لا خوف الإطناب لأتينا بكلّ ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و لكن نذكر من كلّ طائفة أنموذجاً:

أمّا الطائفة الأُولى:أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نزلت الآية في خمسة:في و في علي رضي اللّه عنه و حسن رضي اللّه عنه،و حسين رضي اللّه عنه،و فاطمة رضي اللّه عنها، «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» الحديث. (2)

و أمّا الطائفة الثانية:فقد روى السيوطي و أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم عن عائشة،قالت:خرج رسول اللّه غداة

ص:238


1- 1) .الأحزاب:34. [1]
2- 2) .و لمن أراد المزيد فليرجع إلى تفسير الطبري و [2]الدر المنثور للسيوطي [3]في تفسير آية التطهير. [4]

و عليه مرط مرجل من شعر أسود،فجاء الحسن و الحسيين رضي اللّه عنهما فأدخلهما معه،ثمّ جاء علي فأدخله معه،ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

و لو لم تذكر فاطمة في هذا الحديث،فقد جاء في حديث آخر،حيث روى السيوطي،قال:و اخرج ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه عن سعد،قال:نزل على رسول اللّه الوحي،فأدخل علياً و فاطمة و ابنيهما تحت ثوبه،قال:«اللّهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي».

و في حديث آخر جاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى فاطمة و معه حسن و حسين،و علي حتّى دخل،فأدنى علياً و فاطمة فأجلسهما بين يديه و أجلس حسناً و حسيناً كلّ واحد منهما على فخذه،ثمّ لفّ عليهم ثوبه،ثمّ تلا هذه الآية: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

و أمّا الطائفة الثالثة:فقد أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول:الصلاة أهل البيت «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

و الروايات تربو على أربع و ثلاثين رواية،رواها من عيون الصحابة:أبو سعيد الخدري،أنس بن مالك، ابن عباس،أبو هريرة الدوسي،سعد بن أبي وقاص،واثلة بن الأسقع،أبو الحمراء-أعني:هلال بن حارث-و أُمهات المؤمنين:عائشة و أُمّ سلمة. (1)

و بذلك تبيّنت حجية أقوال كلمات أهل البيت عليهم السلام في مجالي العقيدة

ص:239


1- 1) .و للوقوف على مصادر هذه الروايات لاحظ:صحيح مسلم:122/7- 123؛تفسير الطبري:5/22-7؛ [1]الدر المنثور:198/5- 199؛ [2]جامع الأُصول لابن الأثير:103/10.

و الشريعة لاعتصامهم بحبل اللّه تعالى،فإذا كان قول واحدٍ منهم حجة فكيف هو حال إجماعهم؟

فما أصدق قول القائل: فوالِ أُناساً قولهم و كلامهم روى جدُّنا عن جبرئيل عن الباري

رزقنا اللّه زيارتهم في الدنيا،و شفاعتهم في الآخرة.

عصمة أُولي الأمر

دلت آية التطهير على عصمة أهل البيت عليهم السلام كما عرفت آنفاً و في الوقت نفسه دلّت آية الطاعة - بالإضافة إلى وجوب طاعتهم-على عصمة الرسول و أُولي الأمر،أعني قوله سبحانه: «أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ». 1

و الاستدلال مبني على دعامتين:

1.إنّ اللّه سبحانه أمر بطاعة أُولي الأمر على وجه الإطلاق؛أي في جميع الأزمنة و الأمكنة،و في جميع الحالات و الخصوصيات،و لم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم و نواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية.

2.إنّ من الأمر البديهي كونه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر و العصيان: «وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» 2 من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آخر أو نهي ناهٍ،أو يقومون به بعد صدور أمر و نهي من أُولي الأمر.

فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين (وجوب إطاعة أُولي الأمر على وجه

ص:240

الإطلاق،و حرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان) أن يتحقق في أُولي الأمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الإطلاق،خصوصية ذاتية و عناية إلهية ربّانية،تصدّهم عن الأمر بالمعصية و النهي عن الطاعة.و ليس هذا إلاّ عبارة أُخرى عن كونهم معصومين،و إلاّ فلو كانوا غير واقعين تحت تلك العناية،لما صحّ الأمر بإطاعتهم على وجه الإطلاق أي بدون قيد أو شرط.فنستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمالَ المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.و ممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره، و يطيب لي أن أذكر نصّه حتى يمعن فيه أبناء جلدته و أتباع طريقته،قال:

إنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية،و من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم و القطع لا بدّ و أن يكون معصوماً عن الخطأ؛إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ أن يكون قد أمر اللّه بمتابعته،فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ،و الخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه،فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر و النهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد،و أنّه محال،فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم،و ثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ و أن يكون معصوماً. (1)

بيد أنّ الرازي،و بعد أن قادته استدلالاته المنطقية إلى هذه الفكرة الثابتة المؤكّدة لوجوب العصمة بدأ يتهرّب من تبعة هذا الأمر،و لم يستثمر نتائج أفكاره،لا لسبب إلاّ لأنّها لا توافق مذهبه في تحديد الإمامة، فأخذ يؤوّل الآية و يحملها على غير ما ابتدأه و عمد إلى إثباته،حيث استدرك قائلاً بأنّا عاجزون عن معرفة

ص:241


1- 1) .مفاتيح الغيب( [1]للرازي):144/10.

الإمام المعصوم،عاجزون عن الوصول إليه،عاجزون عن استفادة الدين و العلم منه،فإذا كان الأمر كذلك،فالمراد ليس بعضاً من أبعاض الأُمّة،بل المراد هو أهل الحلّ و العقد من الأُمّة.

إلاّ أنّ ادّعاءه هذا لا يصمد أمام الحقيقة القويّة التي لا خفاء عليها،و في دفعه ذلك الأمر مغالطة لا يمكن أن يرتضيها هو نفسه،فإنّه إذا دلّت الآية على عصمة أُولي الأمر فيجب علينا التعرّف عليهم،و ادّعاء العجز هروب من الحقيقة،فهل العجز يختص بزمانه أو كان يشمل زمان نزول الآية؟ لا أظنّ أن يقول الرازي بالثاني.

فعليه أن يتعرّف على المعصوم في زمان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و عصر نزول الآية،و بالتعرّف عليه يعرف معصوم زمانه، حلقة بعد أُخرى،و لا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي بإطاعة المعصوم ثمّ لا يقوم بتعريفه حين النزول،فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة أُولي الأمر فإنّه من المنطقي و المعقول له أن يؤمن بقيام الوحي الإلهي بتعريفهم بواسطة النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم؛إذ لا معنى أن يأمر اللّه سبحانه بإطاعة المعصوم،و لا يقوم بتعريفه.

إكمال:أهل السنّة و وجه حجّية الإجماع

قد حقّق المصنّف في ثنايا بحثه عن حجّية الإجماع،أنّ الإجماع بما هو هو ليس بحجّية شرعية و ليس من أدلّة التشريع،و إنّما هو حجّة لأجل كشفه عن دليل شرعي يُعدّ حجّة في المسألة.

و أمّا الإجماع عند أهل السنّة فهو من أدلّة التشريع و يُعدّ حجّة في عرض الكتاب و السنّة،و هذا لا يعني تقابله معهما،بل بمعنى أنّ كلّ واحد حجّة في مضمونه و محتواه،و ذلك بالبيان التالي:

ص:242

إذا اتّفق المجتهدون من أُمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم في عصر من العصور على حكم شرعي،يكون المجمع عليه حكماً شرعياً واقعياً عند أهل السنّة و لا تجوز مخالفته،و ليس معنى ذلك أنّ إجماعهم على حكم من تلقاء أنفسهم يجعله حكماً شرعياً،بل يجب أن يكون إجماعهم مستنداً إلى دليل شرعي قطعي أو ظنّي،كالخبر الواحد و المصالح المرسلة و القياس و الاستحسان.

فلو كان المستند دليلاً قطعياً من قرآن أو سنّة متواترة يكون الإجماع مؤيداً و معاضداً له؛و لو كان دليلاً ظنّياً كما مثلناه،فيرتقي الحكم حينئذٍ بالإجماع من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع و اليقين.

و مثله ما إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة،فالاتّفاق على حكم شرعي استناداً إلى ذلك الدليل يجعله حكماً شرعياً قطعياً،كزيادة أذان لصلاة الجمعة في عهد عثمان لإعلام الناس بالصلاة كي لا تفوتهم،حتّى صار الأذان الآخر عملاً شرعياً إلهياً و إن لم ينزل به الوحي. (1)

فلو صحّ ذلك فقد أعطى سبحانه للإجماع و اتّفاق الأُمّة منزلة كبيرة على وجه إذا اتّفقوا على أمر،يُصبح المجمع عليه حكماً شرعياً قطعياً كالحكم الوارد في القرآن و السنّة النبويّة،و يكون من مصادر التشريع.

يلاحظ عليه:أنّه لو كان الإجماع بما هو هو من أدلّة التشريع و أنّ الدليل الظني ببركة الإجماع يرتقي إلى مرتبة القطع و اليقين و يكون حجّة في عرض سائر الحجج،فمعنى ذلك أنّ التشريع الإسلامي لم يختتم بعد رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم و أنّ هناك نبوة بعد نبوّته،و هو على خلاف ما اتّفق المسلمون عليه من إغلاق باب الوحي و التشريع و اختتام النبوة،فلا محيص عن القول إلاّ بالرجوع إلى

ص:243


1- 1) .الوجيز في أُصول الفقه لابن وهبة الزحيلي:49.

ما عليه الشيعة الإمامية من أنّ الإجماع كاشف عن الدليل الصادر عن الصادع بالحق صلى الله عليه و آله و سلم كما أنّ حجّية العقل في مجالات التشريع من هذه المقولة،فليس العقل مشرعاً و إنّما هو كاشف عن الحكم الإلهي في موارد خاصة.

هذه خلاصة القول في المقام و التفصيل يطلب من موسوعاتنا الأُصولية.

خبر مؤسف

يعزّ علينا أن نكتب هذا التقديم و نحن نفتقد علماً من أعلام التحقيق في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ألا و هو العلاّمة الشيخ إبراهيم البهادري-تغمده اللّه برحمته الواسعة-الّذي لبّى دعوة ربّه في خامس شهر شعبان المعظم من شهور عام 1426ه،و قد شُيّع جثمانه الطاهر في موكب مهيب و دفن في مدينة قم المقدسة.

و الشيخ البهادري رحمه الله بكلمة قصيرة كان رجلاً زاهداً دءوباً في العمل لا يبتغي إلاّ مرضاة اللّه تعالى،فهو من أبرز مصاديق ما قاله العلاّمة الكبير السيد هبة اللّه الشهرستاني:إنّ الناشر(و المحقّق) لصحائف العلماء الأُمناء،يؤمّن لقومه الحياة الطيبة أكثر ممّن ينوّرون الطرق في الظلماء،و[يمهدون السبيل] إلى الماء. (1)

كرّس المغفور له عمره في تحقيق تراث أهل البيت عليهم السلام و نشر علومهم،مدة من عمره تناهز ربع قرن.

و قد قام بتحقيق كتب قيّمة نذكر منها:«تحرير الأحكام»للعلاّمة الحلّي في ستة أجزاء،و«الاحتجاج» للطبرسي في جزءين،و«معالم الدين في فقه آل ياسين»لابن قطّان الحلّي في جزءين،و«غنية النزوع إلى علمي الأُصول و الفروع»لابن زهرة

ص:244


1- 1) .مجلة المرشد:78/1،ط بغداد.

الحلبي في جزءين،و«إصباح الشيعة»للكيدري،و غيرها.

و من أبرز ما حقّقه في أواخر عمره الجزء الأوّل و الثاني و بداية الجزء الثالث من هذه الموسوعة الأُصولية.

فسلام اللّه عليه يوم ولِد،و يوم ماتَ و يومَ يُبعث حيّاً.

و الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة-ايران

25 صفر المظفر 1427ه

ص:245

6

اشارة

صلاة الطواف و حكمها عند الزحام

اتّفق الفقهاء على وجوب ركعتين بعد الطواف في الحجّ إلاّ ما يحكى عن الشافعي في أحد قوليه (1)، و الكلام في المقام في مكانها عند الزحام و غيره،و الأصل في ذلك قوله سبحانه: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» أي اتّخذوا من مقام إبراهيم موضع صلاة تصلّون فيه.

و المعروف حسب النصوص و الروايات و كلمات العلماء أنّ المقام-الذي هو موضع وقوف إبراهيم عند بنائه للبيت-هو صخرة على شكل مكعّب متساوي الأضلاع و طول الضلع ذراع واحد،بذراع اليد،أي ما يساوي50 سنتيمتراً تقريباً،و هذا المقدار لا يتسع لأداء الصلاة،لأنّ ما يشغله المصلّي المستوي الخلقة-عادة - من المساحة الكافية لوقوفه و ركوعه و سجوده و جلوسه هو 50 سم عرضاً في 100 سم طولاً،و أين هذا من مساحة الحجَر؟ (2)فيقع الكلام في تفسير الآية

ص:246


1- 1) .الخلاف:327/2.
2- 2) .مبادئ علم الفقه:210/3.

و سوف يوافيك معناه.

إنّ تعبير المحقّق«يجب أن يصلّي ركعتي الطواف في المقام»أثار بحثاً بين الشرّاح،قال في «المدارك»:إنّه غير جيّد.أمّا لو قلنا:بأنّ المقام نفس العمود الصخري فواضح،و أمّا إن أُريد به مجموع البناء الذي حوله فلأنّه لا يتعيّن وقوع الصلاة فيه قطعاً. (1)

و قريب منه في المستند. (2)

يرد على الاحتمال الثاني،أنّ البناء كان أمراً مستحدثاً و لم يكن في عصر الرسول حين نزول الآية حتّى تفسر به.و قد أزيل في السنين الأخيرة و كان موجوداً أوائل العقد الثامن من القرن الرابع عشر،أعني:سنة 1381 و قد صلّيت فيه مراراً.

و قد وافقه صاحب الجواهر،فقال إنّ تعبير بعض الفقهاء بالصلاة في المقام مجاز تسمية لما حول المقام باسمه،إذ القطع بأنّ الصخرة التي فيها أثر قدمي إبراهيم لا يصلّى عليها. (3)

ثمّ إنّ بعض المفسرين من أهل السنّة حاول حفظ ظهور الآية،و هو أنّ كون الصلاة في المقام حقيقة فقال:المراد من مقام إبراهيم هو عرفة و المزدلفة و الجمار،لأنّه قام في هذه المواضع و سعى فيها،و عن النخعي:الحرم كلّه مقام إبراهيم. (4)

و احتمل بعضهم أنّ المراد من المقام هو المسجد الحرام،و لكنّه محجوج بفعل النبي؛حيث إنّه بعد ما طاف سبعة أشواط أتى إلى المقام فصلاّهما،و تلا

ص:247


1- 1) .المدارك:141/8. [1]
2- 2) .المستند:139/12. [2]
3- 3) .الجواهر:318/19. [3]
4- 4) .الكشاف:287/1. [4]

قوله تعالى: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» ،فأفهم الناس أنّ هذه الآية أمر بهذه الصلاة و هنا مكانها. (1)

و في صحيح مسلم بسنده عن جابر في بيان حجّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم:حتّى إذا أتينا البيت معه،استلم الركن ثلاثاً فرمل ثلاثاً و مشى أربعاً،ثمّ نفذ إلى مقام إبراهيم و قرأ: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى». 2

توضيح مفاد الآية

المهم هو توضيح مفاد الآية فهناك فرق بين قولنا:«فاتّخذوا مقام إبراهيم مصلّى»و قوله: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» .و إنّما يلزم المحال عند الجمود على ظاهر الأوّل،لعدم التمكّن من الصلاة في المقام الذي هو الصخرة.

و أمّا الثاني فقد ذكروا في الجار«من»احتمالات،من كونها للتبعيض،أو للابتداء،أو بمعنى في،أو بمعنى عند.و الأولى الرجوع إلى الآيات التي ورد فيها هذا النوع من التركيب حتّى يتعيّن أحد الاحتمالات.

قال سبحانه: «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً». 3

و قال سبحانه: «تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً». 4

هذا كلّه في مورد إضافة الأخذ إلى المكان،و أمّا في الإضافة إلى غيره فمثل قوله سبحانه:

«لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً». 5

ص:248


1- 1) .سنن الترمذي:211/3 [1] رقم الحديث856؛سنن النسائي:235/5.

«وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا». 1

«تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً». 2

و مثّل في«الجواهر»و قال:«اتّخذت من فلان صديقاً ناصحاً،و وهب اللّه لي من فلان أخاً مشفقاً». (1)

ترى في هذه الموارد أنّ شيئاً عامّاً يؤخذ منه جزء لغرض،فالنحل تتخذ من الجبال جزءاً بصفة البيت، أو أنّهم كانوا يتّخذون من سهول الأرض قصوراً،أو أنّ الشيطان يتّخذ من عباد اللّه نصيباً،إلى غير ذلك.

فإذا كان هذا ظاهر هذه التراكيب،فالآية منزّلة على هذا النمط من الكلام،فيراد من«المقام»في الآية ما يجاوره و يقاربه تسميةً لما حول المقام باسمه،ضرورة أنّ المقام لا يتبعض لأخذ المصلّى منه،فعلى الطائف أن يأخذ جزءاً من هذا المقام المجازيّ مصلّى يصلّي فيه،و إطلاق الآية يعمّ الخلف و ما حوله من اليمين و اليسار،و لا يختصّ مفاده بالخلف؛لأنّ المقام-حسب ما استظهرناه-هو المكان المتّسع قربَ المقام الحقيقي،المسوِّغ لتسمية ذلك المكان مقاماً أيضاً،فالموضوع هو الصلاة قربه.

فخرجنا بتلك النتيجة:أنّ المقام أُطلق و أُريد منه ما يجاوره و يليه،و أنّ«من»تبعيضيّة لا غير،و سائر الاحتمالات الأُخرى غير واضحة.

و على ضوء ما ذكرنا،فاللازم هو التصرّف في لفظ«المقام»على ما عرفت؛و أمّا التصرف في الجار، أعني:«من»و جعله تارة بمعنى«في»و أُخرى

ص:249


1- 3) .الجواهر:319/19. [1]

بمعنى«عند»فغير وجيه.

و ذلك لأنّ مجرد جواز استعمال«من»مكان«في»أو«عند»-على فرض صحّته-لا يسوّغ تفسير الآية بهما؛لأنّ مادّة الفعل«الأخذ»لا يتعدى لا ب«في»و لا ب«عند»،و لو فرض صحّة استعماله فهو استعمال شاذ،لا يحمل عليه الذكر الحكيم.

هذا هو مفاد الآية،فإن دلّت الروايات على أوسع من الآية أو أضيق منه،نأخذه،و إلاّ فمفاد الآية هو المتّبع.

و سيوافيك أنّ المستفاد من الروايات كفاية إتيان الصلاة قريباً من المقام،من غير فرق بين الخلف و أحد الجانبين،فما دام يصدق على العمل كونه«عنده»فهو مسقط للفريضة،و أمّا التركيز على كونها خلف المقام كما في طائفة من الروايات،فالظاهر أنّه بصدد الرد على جواز تقديم الصلاة على المقام،و التأكيد على لزوم تأخّرها عنه.لا لزوم كونها خلفه لا جنبه،و هو يصدق مع إتيانها يميناً و يساراً و خلفاً.

العناوين الواردة في كلمات الفقهاء

اشارة

إذا عرفت ذلك،فلنذكر العناوين الواردة في كلمات فقهائنا،ثمّ ما هو الوارد في لسان الروايات.

أمّا الأُولى:فقد اختلفت كلمة الفقهاء في التعبير عن موضع الصلاة على الشكل التالي:

1.الصلاة في المقام.

2.الصلاة خلف المقام.

3.الصلاة عند المقام.

ص:250

أمّا الأوّل:فقد عبّر عنه كثير من الفقهاء.

قال المحقّق في الشرائع:يجب أن يصلّي ركعتي الطواف في المقام. (1)

و قال العلاّمة:و تجبان-الركعتان-في الواجب بعده في مقام إبراهيم عليه السلام حيث هو الآن و لا يجوز في غيره. (2)

و أمّا الثاني:أي خلف المقام،فقال ابن الجنيد:ركعتا طواف الفريضة فريضة عقيبه خلف مقام إبراهيم، و كذا قال ابن أبي عقيل. (3)

و بذلك عبّر الشهيد في«الروضة» (4)،و الأردبيلي في«مجمع الفائدة» (5)،و البحراني في«الحدائق». (6)

و أمّا الثالث:أي عند المقام،فقال ابن البراج:و الصلاة-ركعتا الطواف-عند مقام إبراهيم. (7)

و الظاهر أنّ الجميع يرشد إلى معنى واحد و هو الصلاة قرب مقام إبراهيم،و لذلك نرى أنّ الصدوق بعد ما قال:ثمّ ائت مقام إبراهيم فصلّ ركعتين،قال:و اجعله أمامك. (8)

هذا كلّه ناظر إلى كلمات الفقهاء.

و أمّا النصوص الواردة في تحديد موضع صلاة الطواف فهي على طوائف،و تتلخّص في العناوين التالية:

1.خلف المقام.

2.جعل المقام إماماً.

ص:251


1- 1) .الشرائع:268/1. [1]
2- 2) .قواعد الأحكام:427/1.
3- 3) .المختلف:201/4.
4- 4) .الروضة البهية:250/2. [2]
5- 5) .مجمع الفائدة:87/7.
6- 6) .الحدائق:135/16.
7- 7) .المهذب:231/1.
8- 8) .الهداية:58. [3]

3.في المقام.

4.عند المقام.

و الظاهر رجوع العنوان الثاني إلى الأوّل،فإن من جعل المقام إماماً،يقع خلف المقام،فليس هذا عنواناً جديداً،ففي صحيحة معاوية بن عمار قال:قال أبو عبد اللّه عليه السلام:«إذا فرغت من طوافك فائت مقام إبراهيم عليه السلام فصلّ ركعتين و اجعله إماماً» (1).و معنى ذلك:لا تتقدّم عليه و كن خلفه.و لا فرق بين خلفه أو يمينه و يساره ما لم يكن متقدّماً عليه.

و لنقتصر على نقل ما يدلّ على لزوم الإتيان بها في موقع خاص من هذه المواقع،على نحو ينفي في بدء النظر جواز إتيانها في موقع آخر،فتكون النتيجة وجود المنافاة بين الروايات.و أمّا ما يدلّ على الجواز في بعض هذه المواقع،كفعل النبي أو الإمام الذي لا يستفاد منه التعين،أو ما لا يدلّ على المطلوب،لكون الرواية في مقام بيان أمر آخر،فنتركه للقارئ الكريم.

الطائفة الأُولى:تعيّن إتيان الصلاة خلف المقام

1.صحيحة معاوية بن عمّار الماضية قال:«فائت مقام إبراهيم عليه السلام فصلّ ركعتين،و اجعله إماماً،و اقرأ في الأُولى منهما سورة التوحيد «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ» و في الثانية: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ،ثمّ تشهّد و احمد اللّه و اثن عليه، و صلّ على النبي صلى الله عليه و آله و سلم و اسأله أن يتقبّل منك». (2)

و قد مرّ أنّ مفاد الحديث هو إتيان الصلاة خلف المقام،و الأمر ظاهر في

ص:252


1- 1) .الوسائل:9،الباب 71 من أبواب الطواف،الحديث3. [1]
2- 2) .الوسائل:9،الباب 72 من أبواب الطواف،الحديث3. [2]

التعين،و اشتمال الرواية على قسم من المندوبات لا يضرّ بظهورها فيه،إذ المتبع هو الظهور ما لم يدلّ دليل على الخلاف.

2.مرسلة صفوان،عمّن حدّثه،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«ليس لأحد أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة إلاّ خلف المقام،لقول اللّه عزّ و جلّ: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» ،فإن صلّيتها في غيره فعليك إعادة الصلاة». (1)

و دلالتها على تعيّن إتيان الصلاة خلف المقام واضحة،و إن كانت دلالة الآية عليه (خلف المقام)،غير واضحة لنا.

3.خبر أبي عبد اللّه الأبزاري قال:«سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل نسي فصلّى ركعتي طواف الفريضة في الحِجر،قال:يعيدهما خلف المقام،لأنّ اللّه تعالى يقول: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» عنى بذلك ركعتي طواف الفريضة». (2)

و دلالتها على تعيّن إتيان الصلاة خلف المقام واضحة،و إن كانت دلالة الآية عليه غير واضحة لنا.

4.معتبرة سليمان بن حفص المروزي،عن الفقيه عليه السلام قال:«إذا حجّ الرجل فدخل مكّة متمتّعاً فطاف بالبيت و صلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام و سعى بين الصفا و المروة و قصّر،فقد حلّ له كلّ شيء ما خلا النساء،لأنّ عليه لتحلّة النساء طوافاً و صلاة». (3)

و دلالته بظاهره على لزوم إتيانها خلف المقام لا غبار عليها.

5.مرسل جميل،عن بعض أصحابنا،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«يصلّي

ص:253


1- 1) .الوسائل:9،الباب 72 من أبواب الطواف،الحديث1. [1]
2- 2) .الوسائل:9،الباب 72 من أبواب الطواف،الحديث2. [2]
3- 3) .الوسائل:9،الباب 82 من أبواب الطواف،الحديث7. [3]

الرجل ركعتي طواف الفريضة خلف المقام». (1)

6.صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام،قال:«إنّما نسك الذي يقرن بين الصفا و المروة مثل نسك المفرد ليس بأفضل منه إلاّ بسياق الهدي،و عليه طواف بالبيت،و صلاة ركعتين خلف المقام،وسعي واحد بين الصفا و المروة،و طواف بالبيت بعد الحجّ». (2)

و دلالته على لزوم الإتيان بها خلفه في التمتّع،لأجل اشتراك الأقسام:التمتّع،و القران و الإفراد في الحكم إلاّ ما خرج.

7.صحيح زرارة قال:سألت أبا جعفر عليه السلام في تعريف المتعة؟ فقال:«يهلّ بالحجّ في أشهر الحجّ،فإذا طاف بالبيت فصلّى الركعتين خلف المقام و سعى بين الصفا و المروة قصّر و أحل...». (3)

فالحديث في مقام بيان مقدّمات حجّ التمتّع،و أنّ منها الصلاة خلف المقام.

و لعلّ هذا المقدار من النصوص كاف و الروايات أكثر ممّا نقلت،و إنّما تركت بعضها لعدم وضوح دلالتها على التعيين.و سيوافيك أنّ التأكيد على الصلاة خلف المقام لأجل ردّ جواز الصلاة بين البيت و المقام.

فانتظر.

الطائفة الثانية:وجوب إتيان الصلاة عند المقام

هناك روايات تدلّ على لزوم الإتيان بها«عند المقام»نذكر منها ما يلي:

1.حديث جميل بن دراج،عن أحدهما عليهما السلام أنّ الجاهل في ترك الركعتين

ص:254


1- 1) .الوسائل:9،الباب 1 من أبواب الطواف،الحديث9. [1]
2- 2) .الوسائل:8،الباب2 من أبواب أقسام الحج،الحديث6. [2]
3- 3) .الوسائل:8،الباب5 من أبواب أقسام الحج،الحديث3. [3]

عند مقام إبراهيم بمنزلة الناسي. (1)

2.صحيح أبي الصباح الكناني،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن امرأة طافت بالبيت في حجّ أو عمرة،ثمّ حاضت قبل أن تصلّي الركعتين؟ قال:«إذا طهرت فلتصلّ ركعتين عند مقام إبراهيم،و قد قضت طوافها». (2)

3.صحيح معاوية بن عمار،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«القارن لا يكون إلاّ بسياق الهدي،و عليه طواف بالبيت و ركعتان عند مقام إبراهيم،وسعي بين الصفا و المروة،و طواف بعد الحجّ،و طواف النساء». (3)

4.صحيحته الأُخرى في بيان ما يعتبر في حجّ التمتّع عن أبي عبد اللّه:«على المتمتّع بالعمرة إلى الحجّ ثلاثة أطواف-إلى أن قال:-و ركعتان عند مقام إبراهيم عليه السلام». (4)

5.صحيحه الثالث قال:«المفرد للحجّ عليه طواف بالبيت و ركعتان عند مقام إبراهيم». (5)

و الأحاديث الثلاثة لابن عمار،بصدد بيان أجزاء الحجّ بأقسامه الثلاثة:القران،و التمتع و الإفراد،و من أجزاء الحجّ بأقسامه الثلاثة:القران،و التمتع و الإفراد،الصلاة عند المقام.

6.موثّقة سماعة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«المجاور بمكّة إذا دخلها بعمرة في غير أشهر الحج-إلى أن قال:-فليخرج إلى الجِعْرَانة فيحرم منها،ثمّ يأتي

ص:255


1- 1) .الوسائل:9،الباب 74 من أبواب الطواف،الحديث3. [1]
2- 2) .الوسائل:9،الباب 88 من أبواب الطواف،الحديث2. [2]
3- 3) .الوسائل:8،الباب2 من أبواب أقسام الحج،الحديث12. [3]
4- 4) .الوسائل:8،الباب2 من أبواب أقسام الحج،الحديث8. [4]
5- 5) .الوسائل:8،الباب2 من أبواب أقسام الحج،الحديث13. [5]

مكّة و لا يقطع التلبية حتّى ينظر إلى البيت،ثمّ يطوف بالبيت و يصلي الركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام ...». (1)

إلى غير ذلك من الأحاديث المبثوثة في أبواب أقسام الحجّ و الطواف.

الطائفة الثالثة:الصلاة في المقام

و هناك ما يدلّ على أنّ المعتبر هو الصلاة في المقام:

1.صحيحة محمّد بن مسلم،عن أحدهما عليهما السلام قال:«سُئل عن رجل طاف الفريضة و لم يصل الركعتين - إلى أن قال:-و يرجع إلى المقام فيصلّي الركعتين» (2).أي فيه.

2.خبر أحمد بن عمر الحلاّل قال:سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل نسي أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة فلم يذكر حتّى أتى منى؟ قال:«يرجع إلى مقام إبراهيم فيصلّيهما» (3)،أي فيه.

3.و في صحيح معاوية بن عمار،عن أبي عبد اللّه عليه السلام:«إذا فرغت من طوافك فائت مقام إبراهيم فصلّ ركعتين» (4).أي فيه.

الجمع الدلالي بين الروايات الواردة

و قد مرّ أنّ ما ذكر«جعل المقام إماماً»يريد به كون المصلّي خلف المقام،و أمّا الصنف الأخير،الدالّ على الإتيان بها في المقام،فقد مرّ أنّ الصلاة فيه غير

ص:256


1- 1) .الوسائل:8،الباب8 من أبواب أقسام الحج،الحديث2. [1]
2- 2) .الوسائل:9،الباب 74 من أبواب الطواف،الحديث5. [2]
3- 3) .الوسائل:9،الباب 74 من أبواب الطواف،الحديث12. [3]
4- 4) .الوسائل:9،الباب 3 من أبواب الطواف،الحديث1. [4]

ممكنة فلا بدّ أن يراد به حول المقام،فلم يبق من العناوين إلاّ العنوانان التاليان:

1.خلف المقام.

2.عند المقام.

و أمّا الجمع بينهما فهو:أنّ التأكيد على الإتيان بها خلف المقام،لغاية نفي التقدّم على المقام،كما إذا صلّى بين البيت و المقام على نحو يكون المقام خلفه،و لعلّ الإصرار على ذلك هو اشتهار أنّ المقام كان ملصقاً بالبيت ثمّ أُتي به إلى المكان المعهود،فكان ذلك سبباً لإتيان الصلاة قبل المقام،فتأكيد أئمّة أهل البيت عليهم السلام على الإتيان بالصلاة وراء المقام،كان ردّاً لتلك الفكرة،و يشهد على هذا صحيح إبراهيم ابن أبي محمود قال:قلت للرضا عليه السلام:أُصلّي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام حيث هو الساعة،أو حيث كان على عهد رسول اللّه قال:«حيث هو الساعة». (1)

و في صحيح محمّد بن مسلم:«كان الناس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يطوفون بالبيت و المقام و أنتم اليوم تطوفون ما بين المقام و بين البيت،فكان الحدّ موضع المقام اليوم». (2)

و حاصل الكلام:كان المعروف في عصر صدور الروايات،أنّ المقام كان ملصقاً بالبيت،و كان ذلك سبباً لتوهم جواز الإتيان بالصلاة بين البيت و المقام،و جعله أمامه لا خلفه،عند ذلك يكون الموضوع«كون الصلاة عند المقام»و قد مرّ أنّ المراد من«اتخاذ المقام»هو:حوله.و هو يصدق على الصلاة خلفه أو أحد جانبيه.

و الحاصل:كما أنّ للآيات شأنَ نزول،كذلك للروايات أيضاً سببَ صدور،

ص:257


1- 1) .الوسائل:9،الباب71 من أبواب الطواف،الحديث1. [1]
2- 2) .الوسائل:9،الباب28 من أبواب الطواف،الحديث1. [2]

و بالرجوع إليه يرتفع الإبهام عن مفادها.

و على ضوء ذلك،يمكن أن يقال:إنّ سبب التركيز على وقوع الصلاة خلف المقام لا لأجل اعتبار الخلفيّة في مقابل اليمين و اليسار،بل التركيز لأجل نفي التقدّم،و لذلك أمر الإمام أن يجعل المقام إماماً،أي لا يتقدّم عليه.

فيكون الموضوع حسب الآية و الروايات«الصلاة عند المقام ولديه»سواء كان خلف المقام أو اليمين أو اليسار،لكن بشرط عدم التقدّم عليه.

و أمّا على مختار الأصحاب من التركيز على شرطية الخلف و عدم كفاية الصلاة في أحد الجانبين فالموضوع عندهم مركب من أمرين:

1.كون الصلاة خلف المقام.

2.كون الصلاة عند المقام.

و على ذلك لو صدق كون الصلاة خلف المقام و لم يصدق كونها عنده،فلا يكفي ذلك كما إذا صلّى خلف المقام لكن بعيداً عنه.

كما أنّه لو صلّى عند المقام دون خلفه،فلا يكفي،كما إذا صلّى في أحد الجانبين:اليمين و اليسار.

نعم ورد في خبر أبي بلال المكّي،قال:رأيت أبا عبد اللّه عليه السلام طاف بالبيت ثمّ صلّى فيما بين الباب و الحجر الأسود ركعتين،فقلت له:ما رأيت أحداً منكم صلّى في هذا الموضع،فقال:«هذا المكان الّذي تيب على آدم فيه». (1)

فلو كان المراد من الباب باب الكعبة كما هو الظاهر لزم أن يكون الإمام صلّى الركعتين و المقام خلفه لا أمامه.

ص:258


1- 1) .الوسائل:9،الباب73 من أبواب الطواف،الحديث3. [1]

و احتمال أنّ الإمام صلّى عند المقام محاذياً بين الباب و الحجر الأسود غير صحيح،لأنّ هذا لا يثير تعجّب الراوي،إذ يكون عملاً عاديّاً.

كما أنّ حمل الصلاة على التطوّع غير صحيح،لأنّ الظاهر أنّ الإمام صلّى في الموضع الّذي صلّى فيه لأجل طوافه بالبيت حيث قال:طاف بالبيت ثمّ صلّى فيه.فالرواية لا يُحتج بها لأنّها معرض عنها.

اللّهمّ إلاّ أن يحمل على الطواف المجرّد عن سائر الأعمال فيجوز إتيان صلاته حيث شاء و يدل عليه خبر زرارة. (1)

و من ذلك يعرف النظر في بعض الكلمات على ما عرفت و أنّه ليس للخلفية موضوعية،و إنّما الموضوعية لعند المقام ولديه.

حكم الصلاة عند الزحام

اشارة

ما ذكرنا من الحفظ على عنوان«العنديّة»فقط أو«الخلفيّة»و«العنديّة»راجع إلى حال الاختيار و عدم الزحام،و أمّا عند كثرة الطائفين فكثيراً ما يكون خلف المقام مطافاً للطائفين فيأتون زرافاتٍ و وحداناً و المصلّون من الشيعة خلف المقام بين قائم و راكع و ساجد،و عند ذلك يقع التدافع و تثور ثورة الطائفين من جانب و منع المصلّين من جانب آخر،و ينتهي الأمر إلى الجدال الممنوع في الحجّ فما هو الواجب في هذه الحالة؟

و بما أنّ المسألة ليست حديثة الابتلاء،بل لها جذور في تاريخ الحجّ تعرض لها الفقهاء في كتبهم،و قد اختلفت كلمتهم في هذا الموضع بالنحو التالي:

ص:259


1- 1) .الوسائل:9،الباب73 من أبواب الطواف،الحديث1. [1]
1.مخيّر بين وراء المقام أو أحد جانبيه

قال المحقّق:فإن منعه زحام صلّى وراءه أو إلى أحد جانبيه. (1)

2.تقدّم الخلف على الجانب مع الإمكان

قال صاحب الرياض:الأحوط تقدّم الخلف على الجانب مع الإمكان. (2)

3.تحرّي الأقرب فالأقرب

و اختار الفاضل الاصبهاني تحرّي القرب منه ما أمكن،و إذا تعذّر لزحام جاز البعد بقدر الضرورة. (3)

و على كلّ تقدير يقع الكلام تارة في حكمها من حيث القواعد،و أُخرى من حيث النصوص.

أمّا مقتضى القواعد فهناك احتمالان:

أ.سقوط وجوب الصلاة عند تعذّر الشرط.

ب.سقوط وصف«العندية»أو الخلفية لا نفس الصلاة.

أمّا الأوّل:فهو ضعيف جدّاً بشهادة أنّه لو نسي صلاة الطواف يقضيها أينما تذكّر إذا شق عليه الرجوع، و إلاّ يرجع فيصلّي في المقام كما سيوافيك.

بقي الثاني:و لكن سقوط العنديّة على وجه الإطلاق بمجرّد الزحام غير صحيح،بل يتربّص إلى الحد الّذي لا تفوت معه الموالاة بين الصلاة و السعي.

فإذا لم يسقط الواجب و لم يتمكّن من الصلاة عند المقام حتّى بعد الصبر

ص:260


1- 1) .شرائع الإسلام:268/1. [1]
2- 2) .رياض المسائل:540/6. [2]
3- 3) .كشف اللثام كما في الرياض:540/6. [3]

و التربّص يلزم-على المختار عندنا-عليه الصلاة في كلّ نقطة أقرب إلى المقام بشرط أن لا يتقدّم عليه،من غير فرق بين الخلف و الجانبين،بل الموضوع هو حفظ«العنديّة»مهما أمكن،أي الأقرب فالأقرب، و على ذلك ينزل ما روى عن حسين بن عثمان بسندين:أحدهما نقيّ و الآخر غير نقيّ.

أمّا الأوّل،فقد رواه الكليني في«الكافي».قال:رأيت أبا الحسن موسى عليه السلام يصلّي ركعتي طواف الفريضة بحيال المقام قريباً من ظلال المسجد.

و أمّا الثاني فقد رواه الشيخ و قال:رأيت أبا الحسن عليه السلام يصلّي ركعتي الفريضة بحيال المقام قريباً من الظلال لكثرة الناس. (1)

و التعبير في كليهما واحد غير وجود التصريح بالسبب في رواية«التهذيب»دون«الكافي»،و ما ذكر فيه السبب،و إن كان ضعيف السند،لكن وحدة المتن يكشف عن صدق الراوي في الحديث،و من البعيد أن يزيد من جانبه شيئاً.و بذلك يعلم أنّ ابتعاد الإمام عليه السلام عن حول المقام لأجل كثرة الناس،و أمّا انتخابه قريباً من ظلال المسجد و في الوقت نفسه حيال المقام لأجل أنّه كان في ذلك الوقت أقرب من سائر الأمكنة.

هذا على المختار،و أمّا على مختار الأصحاب فبما أنّ المعتبر عندهم رعاية أمرين:الخلفية و العنديّة، فقد فصلّوا في ذلك كالتالي:

ففي نجاة العباد:يختار عند الزحام الأقرب إلى المقام من الخلف،و إلاّ فيختار أحد الجانبين،و إلاّ فحيث يشاء مع رعاية الأقرب إلى الخلف. (2)

تمّت المسألة و الحمد للّه ربّ العالمين

ص:261


1- 1) .الوسائل:9،الباب75 من أبواب الطواف،الحديث1و2. [1]
2- 2) .نجاة العباد:33.

7 لو باع بثمن معين و تبيّن عدمه

سؤال:لو كان المبيع معيّناً في مقابل ثمن معين بالوصف كأن باع أرضه في مقابل بستان في منطقة معينة موصوفة،ثمّ بان عدم وجود البستان في المنطقة أو عدم كونه مالكاً له،فهل المعاملة باطلة،أو صحيحة؟

و على فرض الصحّة هل للبائع حق الفسخ أو للمشتري إجباره بقبول ثمن المثل؟

***

الجواب:إنّ بيع الشيء في مقابل ثمن معين على وجهين:تارة يكون تعيّن الثمن غير داخل في غرض المتبايعين،كما إذا باع الكتاب بعملة معينة موجودة في الصندوق.

و أُخرى يكون داخلاً في غرض المتبايعين،كما هو الحال في البستان الذي وقع ثمناً للمبيع،فقد تعلّقت رغبة البائع بتعويض المبيع بالبستان الموصوف لا بقيمته و ثمنه،ففي الصورة الأُولى تصحّ المعاملة إذا لم يكن الثمن موجوداً في الصندوق و يجب على المشتري دفع عملة أُخرى مثلها،إذ لا فرق بين عملة

ص:262

و أُخرى إذا كان لبلد واحد،و ربّما يعدّ تعيين الثمن عندئذٍ أمراً لغواً لمساواة العملات في تأمين الأغراض.

و أمّا الصورة الثانية فالمعاملة باطلة لعدم وجود الثمن،أو لعدم كونه في ملك المشتري،فأشبه بما إذا باع بلا ثمن،و لا يحتاج إلى فسخ البائع.

ص:263

8 دور التاريخ في استنباط الأحكام الشرعية

اشارة

هل للتاريخ دور في استنباط الأحكام الشرعية؟ و هل يعتبر من أحد الأُصول الّتي يجب على المستنبط الاطلاع عليها؟ أو ليس له دور هنا؟

أقول:إنّ للتاريخ في مورد السؤال معنيين:

1.الحوادث و الطوارئ الّتي كانت تسبّب نزول الآية فيها أو تسبّب صدور الحديث عن المعصوم في علاجها بحيث تكون الواقعة كالقرينة المتصلة لفهم الآية و الحديث.

2.تاريخ الفقه الإسلامي و تطوّره و تكامله الّذي أُدّي إلى ظهور مذاهب فقهية و مناهج مختلفة في مجال الاستنباط.

أمّا المعنى الثاني فقد أشبعنا الكلام فيه في كتابنا ب«أدوار الفقه الإسلامي»و ذكرنا هناك تطور الفقه من عصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إلى يومنا هذا بين فقهاء السنة و الشيعة.و نركّز الكلام في المقام على المعنى الأوّل و هو تأثير التاريخ في استنباط

ص:264

الأحكام الشرعية،بمعنى أنّ العلم بالوقائع و الطوارئ المحيطة بنزول الآية أو صدور الحديث يؤثّر في استنباط الأحكام،و ليس للفقيه أن يلغي دور التاريخ بشكل تام.و نأتي بنماذج من ذلك:

1.عمرة القضاء و التحلّل بالتقصير عن إحرام الحج

اشارة

نقل المفسّرون أنّ اللّه تعالى أرى نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية«أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام»،فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا و حسبوا أنّهم يدخلون مكّة عامهم ذلك، و قد أعدّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه العدّة للعمرة المفردة وفق هذه الرؤية،فلمّا وصلوا إلى أدنى الحلّ (الحديبية) منعتهم قريش من الدخول إلى الحرم و قامت بوجه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه إلى أن اصطلح الفريقان على أن يرجع النبي و أصحابه في هذه السنة من ذلك المكان ثمّ يزوروا البيت في العام المقبل و يأتوا بعمرة مفردة، و يقيموا في مكّة ثلاثة أيام و أن لا يحملوا من السلاح إلاّ سلاح السفر.و لمّا مُنعوا عن دخول الحرم و انصرفوا قال المنافقون:«ما حَلَقْنا و لا قصّرنا و لا دَخلنا المسجد الحرم»فأنزل اللّه هذه الآية و أخبر أنّه أرى رسوله صلى الله عليه و آله و سلم الصدقَ في منامه لا الباطل و أنّهم يدخلونه و أقسم على ذلك،فقال: «صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ» يعني العام المقبل «إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ» -أي مُحرمين يحلق بعضُكم رأسه و يقصّر بعض. (1)

هذا هو شأن نزول الآية و الواقعة الّتي سبّبت نزولها،و أمّا صلة ذلك بالاستنباط فتتضح بالبيان التالي:

ص:265


1- 1) .مجمع البيان:126/5،طبعة صيدا.
التحلّل عن إحرام العمرة

إنّ المُحْرم بإحرام العمرة المفردة يتحلّل بأحد شيئين:الحلق و التقصير.يقول المحقّق:«و يتحلّل من العمرة المفردة بالتقصير و الحلق أفضل». (1)

و يقول صاحب الجواهر بعد كلام المحقّق:«إجماعاً».

ثمّ استدل بقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه دعا للمحلّقين و المقصرين معاً،و هذا يدلّ على كفاية واحد منهما في التحلل عن الإحرام. (2)

روى المحدّث الحرّ العاملي عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يجيء معتمراً عمرة مبتولة،قال:«يجزئه إذا طاف بالبيت و سعى بين الصفا و المروة و حلق،أن يطوف طوافاً واحداً بالبيت،و من شاء أن يقصّر قصّر». (3)

هذا كلّه حول إحرام العمرة المفردة و أنّ المُحرم يتحلّل بأحد الأمرين على ضوء الكتاب و الحديث، إنّما الكلام في المحرم بإحرام الحج،و إليك بيانه.

التحلّل عن إحرام الحجّ

إذا أحرم الرجل للحج من المسجد الحرام أو من موضع من مكة المكرمة تحرم عليه عدّة أُمور و تحلّ أكثرها يوم النحر بأحد الأمرين:الحلق أو التقصير معيّناً أو مخيراً:و قد اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ غير الصرورة يتحلّل بأحدهما و لا يتعين عليه الحلق.

و أمّا الصرورة فالمشهور أنّه يتعيّن عليها الحلق،غير أنّ المحقّق الأردبيلي

ص:266


1- 1) .شرائع الإسلام:303/2. [1]
2- 2) .الجواهر:466/20. [2]
3- 3) .وسائل الشيعة:10،الباب9 من أبواب العمرة،الحديث1. [3]

و المحقّق الخوئي-قدّس سرّهما-من المتأخرين ذهبا إلى التخيير بين الحلق و التقصير كغير الصرورة، و استدلّوا بالآية الماضية.

قال المحقّق الأردبيلي:«لعل المراد من الآية الإحلال بأحدهما في منى في الحجّ مطلقاً ثمّ دخوله في الطواف». (1)

و قد حمل المحقّق الأردبيلي«الواو»في قوله: «مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ» على التخيير.

و قال المحقّق الخوئي:و يدلّ على التخير إطلاق الآية المباركة: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ». 2

فقد استدلّ قدس سره تبعاً للأردبيلي على أنّ المحرم بإحرام الحجّ حتّى الصرورة يتحلل بأحد الأمرين؛و ذلك:

1.أخذاً بإطلاق الآية بناء على إطلاقها و شمولها لكلا الإحرامين.

2.انّ قوله تعالى: «مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ» كلاهما حالان من الضمير في«لتدخلن»و هما يبنيان حال الدخول في المسجد الحرام أي انّهم يدخلون المسجد في حالةٍ حلقوا رءوسهم أو قصّروا أظافرهم،و من المعلوم أنّ تلك الحالة لا تتحقق إلاّ فيما إذا أحرم إلى الحجّ و حاول أن يدخل المسجد الحرام بعد أعمال منى.

و أمّا العمرة المفردة،فالمحرم يدخل المسجد الحرام قبل الحلق و التقصير كما هو واضح،و هذا دليل على أنّ الآية ناظرة إلى التحلّل من إحرام الحجّ. (2)

ص:267


1- 1) .زبدة البيان في أحكام القرآن:290. [1]
2- 3) .المعتمد:329/29، [2]بتلخيص.

و بين الوجهين فرق واضح،فالأوّل منهما مبني على شمول الآية لكلا الإحرامين،و الثاني منهما يخص الآية بخصوص إحرام الحجّ.

يلاحظ على الاستدلال:أنّ الآية ناظرة إلى خصوص العمرة المفردة،و ذلك لأمرين:

1.اتّفاق المفسرين على شأن نزول الآية في العمرة المفردة-و عليه كتب السيرة (1)،فلا يمكن الاستدلال بالتخيير الوارد في الآية على كيفية التحلّل من إحرام الحج من غير فرق بين أن يكون المحرم صرورة أو غير صرورة.

2.إنّ صدر الآية شاهد على نزولها في العمرة،أعني قوله تعالى: «لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» ،و ليس هناك رؤية متعلّقة بفريضة الحج إلاّ ما رآه قبل عمرة القضاء،و معه كيف يمكن الاستدلال بالتخيير الموجود في الآية على التخيير في التحلل عن إحرام الحج؟

و أمّا الدليل الثاني الّذي استند إليه المحقّق الخوئي من أنّ اللفظتين «مُحَلِّقِينَ» و «مُقَصِّرِينَ» حالان عن الضمير المستتر في قوله: «لَتَدْخُلُنَّ» و هو يلازم تقدّم الحلق و القصر على الدخول كما هو الحال في الحجّ دون العمرة لتأخّرهما فيها.

فيلاحظ عليه:بأنّ ما ذكره مبنيّ على كون اللفظين حالين من الضمير المستتر في الفعل «لَتَدْخُلُنَّ».

و هناك احتمال آخر و هو أن يكون اللفظان حالين عن الضمير في قوله: «إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ» و تكون النتيجة أنّكم يعمكم الأمن في الحلق و التقصير دون أن يحيط بكم الخوف،و على ذلك يكون الحلق و التقصير متأخّرين عن

ص:268


1- 1) .السيرة النبوية لابن هشام:329/2.

الدخول.

ثمّ إنّ بعض المفسرين جعلوا اللفظين حالاً من الضمير المستتر في «لَتَدْخُلُنَّ» و قالوا:إنّ الأحوال الثلاثة (آمنين،محلقين،مقصّرين) تبيّن حال الداخلين المسجد الحرام لكنها بين كون بعضها حالاً موجودة و بعضها الآخر حالاً مقدرة،فالأمن حال موجودة،و أمّا الحلق و القصر فهما حالان مقدرتان.

قال ابن كثير قوله: «مُحَلِّقِينَ و مُقَصِّرِينَ» حال مقدّرة،لأنّهم في حال دخولهم لم يكونوا محلقين و مقصرين و إنّما كان هذا في ثاني الحال،و كان منهم من حلق رأسه و منهم من قصر. (1)

و ليس القول بالحال المقدر أمراً بعيداً لتوفره في الألسن كقول القائل:رأيت رجلاً بيده صقر صائداً به غداً.

فتلخص من ذلك أنّ دراسة تاريخ الحديبية و عمرة القضاء و ما نزل فيها من الآيات تصدّ الفقيه عن الإفتاء بالتخيير بين الحلق و التقصير في التحلل عن إحرام الحج لأجل هذه الآية،بل عليه طلب الدليل على التخيير من السنة و غير ذلك.

2.المسح على الخفّين و حديث جرير بن عبد اللّه

اتّفق المفسرون على أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم.روى الحاكم عن جبير بن نفيل،قال حججتُ و دخلتُ على عائشة،و قالت لي:يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت:نعم،قالت:أما إنّها آخر سورة نزلت،فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه و ما وجدتُم من حرام فحرّموه. (2)

ص:269


1- 1) .تفسير القرآن الكريم:201/3. [1]
2- 2) .المستدرك على الصحيحين:311/2.

و من الآيات الواردة فيها آية الوضوء الّتي تأمر بغسل الوجوه و الأيدي و المسح بالرءوس و الأرجل.

يقول سبحانه: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ». 1

و على ضوء الآية يجب المسح على بشرة الأرجل و لا يجزي المسح على الخفّين،غير أنّ لفيفاً من فقهاء السنة أجازوا المسح على الخفين في حال الاختيار،و أنّ المكلّف مخيّر بين مباشرة الرجلين في الغسل، و الخفين بالمسح،و استدلّوا برواية جرير بن عبد اللّه البجلي:

روى مسلم في صحيحه عن إبراهيم عن همام قال:بال جرير ثمّ توضأ،و مسح على خفيه فقيل:تفعل هذا؟ قال:نعم.رأيت رسول اللّه بال،ثمّ توضأ و مسح على خفّيه. (1)

نحن لا نحوم حول سند الرواية لأنّها مرويّة في أحد الصحيحين عند أهل السنّة و الصحيحان عندهم لا يقبلان الخدش،كما لا نحوم حول جواز نسخ القرآن بالسنة المروية بخبر الواحد،إذ لو صحّ خبر«جرير»لزم أن يكون الحديث ناسخاً للقرآن الكريم مع أنّ الحقّ عدم جواز نسخ القرآن و حتّى تخصيصه بخبر واحد، لأنّ القرآن أعلى منزلة و أرفع شأناً من أن يُخصَّص أو يُنسَخ بخبر الواحد الظنّي.نعم يصحّ تبيين إجمال الآية بخبر الواحد و كم فرق بين التبيين،و النسخ و التخصيص.

و إنّما نحوم حول أمر آخر و هو أنّ الاستدلال بسيرة النبي في وضوئه و لو مرّة

ص:270


1- 2) .شرح صحيح مسلم للنووي:164/3- 165،الحديث27.

واحدة في حديث جرير فرع ثبوت أمرين:

1.أن يكون إسلام جرير بعد نزول سورة المائدة.

2.أن يكون عمل النبي و مسحه على خفّيه في هذه الفترة.

فلو ثبت الأمر الأوّل،لثبت الأمر الثاني،لأنّه إنّما نقل ما شاهده بعد أن أسلم و التحق بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم لكن الأمر الأوّل غير ثابت بل ثبت خلافه،و ذلك أنّ الشعبي حدّث عن جرير أنّه قال:قال لنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ أخاكم النجاشي قد مات»و هذا يدلّ على أنّ إسلام جرير كان قبل السنة العاشرة،لأنّ النجاشي مات قبل ذلك.

قال الذهبي:قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم للناس:إنّ أخاكم قد مات بأرض الحبشة فخرج بهم إلى الصحراء و صفّهم صفوفاً،ثمّ صلّى عليه،فنقل بعض العلماء انّ ذلك كان في شهر رجب سنة تسع من الهجرة. (1)

و على ضوء هذا فلا يصحّ الاحتجاج بخبر جرير،لأنّه من المحتمل جدّاً أن يكون عمل النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل نزول سورة المائدة فنسخته السورة،كما قال علي عليه السلام:«سبق الكتاب الخفين». (2)

3.تحليل المتعة عام أوطاس

نقل عن غير واحد من أهل السنة:أنّ المتعة شرّعت في عام الفتح،ثلاثة أيام ثمّ نُهي عنها.اعتماداً على ما أخرجه مسلم عن أياس بن سلمة عن أبيه قال:رخّص رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عام أوطاس في المتعة ثلاثاً ثمّ نهى عنها. (3)

ص:271


1- 1) .سير أعلام النبلاء:443/1،برقم 86.
2- 2) .الوسائل:1،الباب38 من أبواب الوضوء،الحديث5 و [1]يظهر من الحديث انّ كلمة الإمام علي عليه السلام كانت معروفة دارجة على الألسن.
3- 3) .صحيح مسلم:131/4،باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.

أقول:نحن لا نحوم حول عقد المتعة و ما هي ماهيتها و شروطها و أنّه كيف حرّمت بعد رحيل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،لأنّا قد استوفينا البحث فيها في بعض كتبنا (1)،غير أنّا نركز في هذا الموقف على أنّ هذا الحديث لا يمكن الاستدلال به على تحريم المتعة،لأنّه يخالف التاريخ القطعي لنزول قوله سبحانه: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ». 2

قال الرازي في تفسير الآية:إنّ الأُمّة مجمعة على أنّ نكاح المتعة كان جائزاً في الإسلام و لا خلاف بين أحد من الأُمّة فيه،إنّما الخلاف في طريان الناسخ.

و قد اتّفق مفسّرو الشيعة و كثير من مفسّري السنة على أنّ قوله سبحانه: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» .نزلت في المتعة،و إليك أسماء من قالوا بنزول الآية في عقد المتعة،مضافاً إلى كتب الصحاح و السنة:

أمّا من الصحاح و السنن،فقد ذكره البخاري و مسلم في صحيحهما،كما ذكره أحمد في مسنده، باسنادهم عن عمران بن حصين. (2)

و أمّا من التفاسير فقد جاء في الكتب التالية عند تفسير الآية:

1.أحكام القرآن للجصاص:178/2.

2.تفسير البغوي:423/1.

3.تفسير الزمخشري:360/1.

4.تفسير القرطبي:130/5.

ص:272


1- 1) .الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف:481/1- 551. [1]
2- 3) .انظر صحيح البخاري:1642/4،الحديث 424؛صحيح مسلم:71/3،الحديث172،كتاب الحجّ،مسند أحمد:436/4 و ج603/5.

5.تفسير الرازي:200/3.

6.تفسير الخازن:357/1.

7.تفسير البيضاوي:269/1.

8.تفسير أبي حيان:217/3.

9.تفسير ابن كثير:140/1.

10.تفسير أبي السعود:251/3.

فقد نقل هؤلاء نزول الآية في عقد المتعة،و إن اختلفوا في كونها منسوخة أو لا.

و الهدف من هذه النقول أنّ أكثر المفسرين اتفقوا على أنّ عقد المتعة أحلّ بالآية المباركة في سورة النساء،و هي من السور الّتي نزلت في أوائل الهجرة،و ورد فيها احتجاج النبي صلى الله عليه و آله و سلم على أهل الكتاب كما هو واضح لمن قرأ السورة بإمعان.

و أين أوائل الهجرة من عام الفتح الّذي هو عبارة عن العام الثامن؟

فتلخص ممّا ذكرنا أنّ ما نقله مسلم في صحيحه عن أياس بن مسلم عن أبيه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم رخص في المتعة عام أوطاس مخالف للتاريخ الصريح القاطع بانّها أحلّت بقوله سبحانه: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ» ،و قد نزلت الآية في أوائل الهجرة لا في أواخرها،و هل الراوي كان جاهلاً بالتاريخ،و على أي تقدير لا يصلح الإفتاء على وفقها؟!

4.الجهر بالبسملة في الصلوات النهارية

المشهور بين فقهاء الشيعة استحباب الجهر بالبسملة في الصلوات النهارية و هذه سيرة مستمرة بينهم، و قد عدّ في بعض الروايات الجهر بها من علائم

ص:273

الإيمان،و قد وردت هناك إطلاقات تعمّ الصلوات النهارية أيضاً.

روى حنان بن سدير قال:صليت خلف أبي عبد اللّه عليه السلام فتعوذ بإجهار ثمّ جهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم. (1)

2.في حديث الأعمش عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث«شرائع الدين»قال:و الإجهار ببسم اللّه في الصلاة واجب. (2)

إلى غير ذلك من الأحاديث الحاثّة على الجهر بالبسملة على وجه الإطلاق.

هذا و أنّ سيّد مشايخنا المحقّق البروجردي قدس سره كان يرى أنّ الجهر بالبسملة في الصلوات النهارية على خلاف الاحتياط،قائلاً بأنّ هذه الإطلاقات ناظرة إلى عمل أهل السنة حيث إنّهم كانوا يسرّون البسملة في الصلوات الّتي يجهر فيها،أو لا يقرءونها بتاتاً.

أخرج مسلم عن شعبة قال:سمعت قتادة يحدث عن أنس قال:صليت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أبي بكر و عمر و عثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأبسم اللّه الرحمن الرحيم.

و أخرجه أيضاً بسند آخر عن أنس بن مالك أنّه قال:صلّيت خلف النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أبي بكر و عمر و عثمان فكانوا يستفتحون ب«الحمد للّه ربّ العالمين»لا يذكرون بسم اللّه الرحمن الرحيم في أوّل قراءة و لا في آخرها.

و لعلّ من أشاع ترك البسملة أو الإسرار بها هو معاوية،و لذلك كان علي عليه السلام يجهر بالبسملة،أخرج الحاكم:أنّ أنس بن مالك قال:صلّى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة فيهابسم اللّه الرّحمن الرّحيم لأُمّ القرآن و لم يقرأ

ص:274


1- 1) .وسائل الشيعة:4،الباب21 من أبواب القراءة،الحديث3. [1]
2- 2) .وسائل الشيعة:4،الباب21 من أبواب القراءة،الحديث5. [2]

بسم اللّه الرحمن الرحيم للسورة الّتي بعدها حتّى قضى تلك القراءة فلما سلّم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين و الأنصار من كلّ مكان:أ سرقتَ الصلاة أم نسيتَ؟ فلمّا صلّى بعد ذلك قرأبسم اللّه الرحمن الرحيم للسورة الّتي بعد أُمّ القرآن و كبّر حتّى يهوى ساجداً. (1)

و لذلك نرى أنّ الرازي يقول في تفسيره:أنّ علي بن أبي طالب كان يجهر بالبسملة فقد ثبت بالتواتر، و من اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى،و الدليل عليه قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:اللّهم أدر الحقّ مع عليّ حيث دار. (2)

و الحاصل:انّ مراجعة التاريخ تدلّ على أنّه كان هناك جدال و نقاش بين الأمويين،و علي و شيعته،و كان علي و أتباعه مصرين على الإجهار و الأمويين على ضدهم.

ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ البروجردي يجعل هذه النقطة التاريخية دليلاً على انصراف الإطلاقات الّتي ورد فيها الجهر بالبسملة إلى الصلوات الّتي يجهر فيها بالبسملة و لا تشمل الصلوات النهارية.

أقول:ما ذكره سيد مشايخنا رحمه الله أمر دقيق حيث يخطّط لنا طريقة الاستنباط و أنّ على الفقيه في مواضع خاصة الرجوع إلى التاريخ.

لكن ما استنتجه في المقام إنّما يصحّ إذا كانت الروايات الواردة الآمرة بالجهر مختصة بالإطلاقات، و هي منصرفة إلى الصلوات الجهرية و لكن هناك روايات خاصة واردة في الجهر بالبسملة حتّى في الصلوات النهارية،ذكرها الحرّ العاملي في وسائل الشيعة نتبرك بذكر واحدة منها:

ص:275


1- 1) .التفسير الكبير:204/1. [1]
2- 2) .نفس المصدر:204/1. [2]

روى الكليني عن صفوان الجمّال،قال:صلّيت خلف أبي عبد اللّه عليه السلام إماماً فكان إذا كانت صلاة لا يجهر فيها جهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم،و كان يجهر في السورتين معاً. (1)

هذه نماذج من المسائل الّتي كان للعلم بالحوادث المحيطة بها دور في استنباط أحكامها،و عليك أن تسير على ضوئها و تضيف إليها المسائل الّتي لا تسكن النفس فيها إلاّ إذا رجع إلى التاريخ.

ص:276


1- 1) .وسائل الشيعة:6،كتاب الصلاة،الباب11 من أبواب القراءة في الصلاة، [1]الحديث1.

9 طلاق المرأة و هي حائض و تزويجها برجل آخر

اشارة

سماحة العلاّمة الحجّة الشيخ زين العابدين قرباني

دامت معاليه و تواترت بيض أياديه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

وصل إلينا من مكتبكم سؤال عبر الفاكس فنزلنا عند رغبة المكتب و قمنا بتحرير الجواب التالي:

طلاق المرأة و هي حائض و تزويجها-بعد العدة-برجل آخر

مسألة:لو طُلّقت المرأةُ و هي حائض-مع الجهل بالحكم-ثمّ تزوّجت-بعد خروج العدّة-برجل و دخل بها فولدت،فما حكمها بالنسبة إلى زوجها الثاني و ما حكم ولدها.

الجواب:الطلاق باطل،و العقد وقع على ذات البعل،و الدخول محكوم بالشبهة،و الولد ولد حلال يرث و يُورث.

و إليك التفاصيل:

أمّا الأوّل:أي انّ الطلاق باطل،فلأنّ طلاق الزوجة و هي حائض باطل

ص:277

عند الإمامية و عند بعض من فقهاء أهل السنة،و إطلاق الدليل يقتضي البطلان من غير فرق بين العلم بالحكم و الجهل به،فيكفي في ثبوت الإطلاق،ما ورد في الكتاب و السنّة حول شرطية الطهارة من الحيض لصحّة الطلاق.

ففي الكتاب قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ». 1

فإن قلنا:بأنّ العدّة عبارة عن الأطهار الثلاثة،فدلالة الآية على شرطية الطهارة لصحّة الطلاق واضحة، و«اللام»امّا بمعنى«في»أي طلّقوهنّ في الزمان الّذي يصلح لئن يعتددن،أو بمعنى«لام الغاية»أي طلّقوهنّ لغاية الاعتداد.و إطلاق الآية كاف في ثبوت شرطية الطهارة من الحيض في حالتي العلم و الجهل.

و إن قلنا بأنّ العدة عبارة عن الحيضات الثلاث،فبما انّ الحيضة الّتي تطلق المرأة فيها لا تحسب من العدة إجماعاً من عامّة الفقهاء-و إن صحّ الطلاق عند بعضهم-يكون المراد مستقبلات لعدتهن،و لا يصدق الاستقبال للعدة (الحيضات الثلاث) إلاّ إذا وقع الطلاق في الطهر،حتّى تكون مستقبلة لها.

و على كلّ تقدير فالآية مطلقة،يؤخذ بها ما لم يدل دليل على التقييد.

على أنّ الإجماع منعقد على اشتراك العالم و الجاهل في الأحكام إلاّ في موضعين كالإتمام مكان القصر (لا العكس) و الجهر مكان المخافتة و بالعكس.

أمّا السنّة فقد تضافرت الروايات من الفريقين على أنّ عبد اللّه بن عمر طلق زوجته ثلاثاً و هي حائض، فأبطله رسول اللّه.

ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام:قال من طلق امرأته ثلاثاً في مجلس و هي حائض فليس بشيء،و قد ردّ رسول اللّه طلاق عبد اللّه بن عمر إذ طلّق

ص:278

امرأته ثلاثاً و هي حائض و أبطل رسول اللّه ذلك الطلاق و قال:«كلّ شيء خالف كتاب اللّه فهو ردّ إلى كتاب اللّه»و قال:«لا طلاق إلاّ في عدّة». (1)

و يظهر من الذيل انّ وجه الإبطال وقوع الطلاق في الحيض الّتي لا تحسب عدة في عامة المذاهب.

و احتمال كون الإبطال لأجله تعدد الطلاق في مجلس واحد،مرفوض،لأنّ الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد صحيح لكن يحسب واحداً.-مضافاً-إلى أنّ ذيل الحديث صريح في أنّ وجه البطلان وقوعه في الحيض الذي لا يحسب عدة و إنّما يحسب إذا وقع الطلاق في الطهر فتكون الحيضة الأُولى عدة.

و قد روى حديث طلاق ابن عمر زوجته في الحيض و إبطال رسول اللّه إيّاه البيهقي في سننه. (2)و لم يكن طلاقه عن علم بالحكم،بل عن جهل به كما هو واضح.

فإن قلت:إذا شككنا في شرطية الطهارة عن الحيض عند الجهل بحكمها يكون المورد مجرى لقوله:«رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون»فيحكم بصحّة الطلاق حينئذٍ.

قلت:دليل البراءة محكوم بالدليل الاجتهادي في المقام عموماً و خصوصاً.

أمّا الأوّل فلإطلاق دليل شرطية الطهارة عن الحيض لصحّة الطلاق في الكتاب و السنّة. (3)و ليس لدليل المشروط نظير قوله عليه السلام«الطلاق أن يقول الرجل لامرأته:أنت طالق (4)إطلاق حتّى يتحقق التعارض بين إطلاق دليل الشرط

ص:279


1- 1) .الوسائل:15،الباب8 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه،الحديث7.و [1]لاحظ في نفس الباب رقم 1و 4 و 8 و 9.
2- 2) .لاحظ السنن:324/7- 325.
3- 3) .الوسائل:15،الباب8 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه.
4- 4) .الوسائل:15،الباب16 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه،الحديث7. [2]

الدالّ على شرطية الطهارة في صورة الجهل،و إطلاق دليل المشروط الدال بإطلاقه على عدم الشرطية في هذه الحالة.

و أمّا الثاني،فلحديث ابن عمر المتضافر،فقد حكم النبي ببطلان طلاقه مع جهله بالحكم كما مرّ.

***

أمّا الثاني:أي انّ العقد وقع على ذات البعل فقد اتّضح ممّا ذكرنا فإذا كان الطلاق باطلاً تكون المرأة في حبال الزوج السابق،و من عقد عليها فقد عقد على ذات البعل،و حكمه واضح و هو انّه لو تزوجها-و هي ذات بعل-مع العلم بالموضوع،فالتزوّج باطل و هي محرمة عليه مؤبداً سواء دخل بها أم لم يدخل.

و لو تزوّجها مع الجهل بالموضوع لم تحرم عليه إلاّ بالدخول بها.

و قد ألحق المشهور التزويج بذات البعل بالتزويج في العدة في التفصيل المذكور إمّا من باب القياس الأولويّ،لأنّ علاقة الزوجية أقوى من علاقة الاعتداد.أو بالنصوص الواردة في المسألة،(التزويج بذات البعل) و هي على قسمين:

تارة ينزّل العقد على المعتدّة مكان العقد على ذات البعل.

و أُخرى يبيّن حكم العقد على ذات البعل من دون تعرّض للتنزيل.

أمّا الأوّل:فهو ما رواه حمران بن أعين قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن امرأة تزوجت في عدّتها بجهالة منها بذلك...إلى أن قال:-إن كانت تزوجته في عدة لزوجها الّذي طلقها عليها،فيها الرجعة فإنّي أرى أنّ عليها الرجم» (1)،فالرواية تتلقى العقد على المعتدة أنّه عقد على ذات البعل،و يكون الحكم في المنزل عليه

ص:280


1- 1) .الوسائل:14،الباب17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة،الحديث17. [1]

أقوى من الحكم في المنزل،فإذا ثبت الحكم في المنزّل يثبت في المنزّل عليه بوجه أولى.

و من المعلوم أنّ العقد على المعتدة مع الجهالة إذا كان مع الدخول تحرم أبداً،فيكون العقد على ذات البعل في هذه الصورة مثل العقد على المعتدّة.

و أمّا الثاني:أي ما يبيّن حكم العقد على ذات البعل من دون تعرض للتنزيل فقد وردت فيه روايات أربع،اثنتان منها واردة في العقد على المعتدّة مع الجهل بالموضوع،و مقتضى إطلاقهما نشر الحرمة مطلقاً سواء دخل بها أو لا،و الأُخريان وردتا في نفس الموضوع لكن تخصّ الحرمة بصورة الدخول،و مقتضى القاعدة تخصيص الأُوليين بالأُخريين.

أمّا الأوّلتان فهما:

1.موثق أديم الحرّ قال:قال أبو عبد اللّه عليه السلام:«الّتي تزوجت و لها زوج يفرق بينهما ثمّ لا يتعاودان». (1)

2.مرفوعة أحمد بن محمد:انّ رجلاً تزوج امرأة و عُلِم أنّ لها زوجاً فُرّق بينهما و لم تحل أبداً. (2)

و مصب الروايتين،هو الجاهل بالموضوع،إذ من البعيد،بل النادر أن يعقد المسلم في المجتمع الإسلامي على ذات البعل،و إنّما يعقد عليها لأجل الجهل به،كما إذا أتاه الخبر بأنّها مات زوجها أو طلقها فحصل اليقين بعدم المانع فعقد عليها ثمّ تبيّن الخلاف.

و هاتان الروايتان مطلقتان تعمّان صورة الدخول و عدمه.

ص:281


1- 1) .الوسائل:14،الباب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة،الحديث1. [1]
2- 2) .الوسائل:14،الباب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة،الحديث10. [2]

و أمّا الأُخريان فهما صحيحتان لزرارة أو موثقتان له.

3.عن أبي جعفر عليه السلام في امرأة فُقِد زوجها أو نُعي عليها فتزوجت ثمّ قدم زوجها بعد ذلك فطلّقها قال:

«تعتد منهما جميعاً ثلاث أشهر عدة واحدة و ليس للآخر أن يتزوجها أبداً». (1)

و مصبّ الرواية هو الجاهل بالموضوع المقرون بالدخول بشهادة قوله:«تعتد منهما»و ليس في الرواية شيء يشكل سوى الحكم بكفاية عدة واحدة و هو على خلاف المشهور.

4.عن أبي جعفر عليه السلام قال:إذا نُعي الرجل إلى أهله أو أخبروها أنّه قد طلقها فاعتدت ثمّ تزوجت فجاء زوجها الأوّل فانّ الأوّل أحقّ بها من هذا الأخير دخل بها أم لم يدخل بها،و ليس للآخر أن يتزوجها أبداً،و لها المهر بما استحلّ من فرجها». (2)

و مورد الرواية هو المدخولة بشهادة قوله:«و لها المهر بما استحل من فرجها».

و أمّا قوله:«دخل بها أم لم يدخل بها»فالتسوية راجعة إلى ما تقدّم،أعني:«فإنّ الأوّل أحقّ بها من هذا الأخير»و ليست راجعة إلى قوله:«و ليس للآخر أن يتزوجها أبداً»بل هو مختص بصورة الدخول.

فمقتضى القواعد تقييد إطلاق الأُوليين بما ورد من القيد في الأخيرين فتكون النتيجة هي التفصيل في صورة الجهل بين الدخول فتحرم أبداً،و عدمه فلا تحرم.

هذا حكم الجاهل،و أمّا العالم بالموضوع فحكمه هو أنّها تحرم مطلقاً دخل

ص:282


1- 1) .الوسائل:14،الباب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة،الحديث2. [1]
2- 2) .الوسائل:14،الباب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة،الحديث6. [2]

بها أم لم يدخل،أخذاً بالتنزيل فإنّ العقد على المعتدّة مع العلم يورث الحرمة مطلقاً،فكذلك ما هو أولى منه أعني العقد على ذات البعل.

و قد عرفت في رواية حمران أنّ الإمام نزّل المعتدّة منزلة ذات البعل.

بقي هنا روايتان ربما يتوهم كونهما معارضين لما سبق،و هما:

1.صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل تزوّج امرأة و لها زوج و هو لا يعلم،فطلقها الأوّل أو مات عنها،ثمّ علم الأخير،أ يراجعها؟ قال:«لا،حتّى تنقضي عدّتها». (1)

و الظاهر عدم المعارضة،لأنّ الرواية خاصة بالجاهل بالموضوع بشهادة قوله:«ثمّ علم الأخير»،و مطلقة تعم صورتي الدخول و عدمه،و عندئذٍ يفيد إطلاقها بما ورد في الأخيرتين من الحرمة الأبدية في صورة الدخول.

2.صحيحة الآخر:قال سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل تزوج امرأة،ثمّ استبان له بعد ما دخل بها انّ لها زوجاً غائباً فتركها،ثمّ إنّ الزوج قدم فطلقها أو مات عنها،أ يتزوجها بعد هذا الّذي كان تزوجها،و لم يعلم انّ لها زوجاً،قال عليه السلام:«ما أحب له أن يتزوجها حتّى تنكح زوجاً غيره». (2)

وجه المعارضة:

1.انّ قوله:«ما أحبّ له أن يتزوّجها»ظاهر في الكراهة،و أين هي من الحرمة الأبدية؟!

2.تجويز التزوّج بها،بعد أن تنكح زوجاً غيره.

يلاحظ على الأوّل:أنّ هذا التعبير في لسان أئمة أهل البيت عليهم السلام أعمّ من

ص:283


1- 1) .الوسائل:14،الباب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة،الحديث3. [1]
2- 2) .الوسائل:14،الباب16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة،الحديث4. [2]

الكراهة المصطلحة كما في نظيره:«لا ينبغي»،فقد ادّعى صاحب الحدائق ظهوره في الحرمة،أو عدم ظهوره في الكراهة المصطلحة.

يلاحظ على الوجه الثاني:بأنّه و إن كان ظاهراً في جواز التزويج،لكن لا يمكن الأخذ بهذه الرواية لاشتمالها على ما يخالف الإجماع أو القدر المتيقن من هذه الروايات،و ذلك لأنّ ظاهر الرواية انّ المرأة كانت عالمة بالموضوع غير جاهلة به حيث قال:«ثمّ استبان له بعد ما دخل بها انّ لها زوجاً غائباً فتركها»حيث خصّ الاستبانة بالزوج دون الزوجة،و من المعلوم حرمة التزويج بذات البعل عند العلم مطلقاً،فكيف مع الدخول،فالرواية معرض عنها.

قال السيّد الاصفهاني:يلحق بالتزويج في العدّة في إيجاب الحرمة الأبدية،التزويج بذات البعل فلو تزوّجها مع الجهل لم تحرم عليه إلاّ مع الدخول بها. (1)

و أمّا الثالث:أي انّ الدخول محكوم بالشبهة و ليس من أقسام الزنا،فلأنّه دخل بها على أنّها زوجته الشرعية.فيكون من مقولة الوطء بالشبهة،فتكون الثمرة أيضاً،ولداً شرعياً،فهو يَرثُ و يُورث.و اللّه العالم.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

20رجب المرجب 1427ه

ص:284


1- 1) .وسيلة النجاة،فصل النكاح في العدّة،المسألة5،ص 333، [1]الطبعة الثامنة.

الفصل الثالث:في المسائل التاريخية و الاجتماعية

اشارة

1.الدعوة إلى إقامة الذكرى المئوية السابعة لرحيل العلّامة الحلّي قدس سره

2.تعقيب على مقال:انتفاضة إقليم الأحواز

3.المؤرخ الزرقاوي و المصير الأصفهاني

4.تعقيب على مقال:المؤرخ الزرقاوي و المصير الأصفهاني

5.رسالة مفتوحة إلى الأمين العام لمنظمة الأُمم المتحدة

6.الأواصر العلمية بين علماء الشيعة و السنّة و شرح العلّامة الحلّي لمختصر الحاجبي

7.رسالة الأُستاذ الفذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم حول المقال السابق

8.الإلهيات و دورها في سدّ الفراغ الفكري

9.تعليق على مقال الدكتور عبد الكريم عكيوي«تعقيب على تعقيب»

10.نظرة على كتاب«حقيقة و ليس افتراء»

11.الحنابلة و تأجيج نار الفتنة عَبْر التاريخ

ص:285

ص:286

1 الدعوة إلى إقامة لذكرى المئوية السابعة لرحيل العلاّمة الحلّيّ قدس سره

إنّ تقدير العلماء و تخليد ذكرهم يُعدّ من صفات الأُمم الراقية و المجتمعات الواعية،لأنّه يُساهم في تكريس قيمة العلم،و إعلاء دوره و مكانته،و في جعل العالِم في موضع الأُنموذج و القدوة الّتي تُحتذى،ممّا يحفِّز هِمم الأجيال الصاعدة للتسابق إلى كسب العلم،و إحراز المواقع المتقدّمة في ميادينه.

كما أنّ تجديد ذكرى العلماء المتميّزين يوجّه أنظار أبناء الأُمّة إلى آرائهم و عطائهم و مواقفهم،فتصبح محوراً للدراسة و الاهتمام،و مورداً للبحث و الاستلهام.

و لأجل ذلك،نرى المجتمعات المتقدّمة تبتكر مختلف الأساليب و الوسائل لتقدير و تخليد عظمائها و علمائها،كعقد المؤتمرات لدراسة أفكارهم و آرائهم،و رصد الجوائز التقديرية بأسمائهم،و السعي إلى إبرازهم على المستوى العالمي كرموز و شخصيات عالمية تستقطب الاهتمام و الاحترام على الصعيد البشري

ص:287

العامّ.

و في تاريخ أُمّتنا الإسلامية الحضاري و العلمي كفاءات عظيمة و شخصيات رائدة لكنّها لم تنل ما يناسب حقّها و مكانتها من الاحترام و التقدير،فأغلب تلك الكفاءات واجهت في حياتها المشاكلَ و الصعوبات من قبل الحاكمين المستبدِّين،و الحاسدين الحاقدين،و الجهلاء الغوغائيين؛و بعد وفاتها قوبلت بالتجاهل و الإهمال.

لقد ضاع كثير من تراث علمائنا السابقين،و لا يزال قسم كبير منه مخطوط يتراكم عليه الغبار،و لم تُتَح له فرصة النشر و الظهور.

و كم من أفكار عميقة،و آراء دقيقة،و نظريات ثريّة،تفتّقت عنها أذهان علماء أفذاذ،تستحق الدراسة و البحث،و أن تُعقد حولها المؤتمرات،و لكنّها بقيت مركونة مهملة بسبب أجواء التخلّف الّتي أبعدتنا عن الاهتمام بتقدير العلماء و تخليد ذكراهم،فكان في ذلك حرمان لأجيال الأُمّة،و خسارة لمستقبلها في العلم و المعرفة.

و في طليعة علماء الأُمّة الأفذاذ الذين يستحقّون أعلى درجات التقدير و التمجيد و التخليد،نابغة عصره و نادرة دهره آية اللّه العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الأسدي (648- 726ه).

لقد ظهر نبوغه العلمي في حداثة سنِّه،و انتهت إليه زعامةُ الشيعة الإماميّة الذين لا يلقون أزمة أُمورهم و مرجعيتهم الدينية إلاّ للمتفوّق على أهل زمانه في العلم و الفضل.

كان رحمه الله كتلة من النشاط و الحركة العلمية الدائبة طوال حياته الشريفة،لم يترك البحث و التأليف حتّى في حالة السفر و ركوب الدابة.

ص:288

و من أهم نقاط تميّزه العلمي،عمق أبحاثه و دقّة تحقيقاته و ثراء عطائه في مجال الأُصولين:أُصول الدين و أُصول الفقه،حيث تبلغ مؤلّفاته في هذين الحقلين أكثر من ثلاثين كتاباً،بعضها يقع في عدة مجلدات،إضافة إلى كتاباته المختلفة في سائر مجالات العلوم،كمؤلّفاته الكثيرة العميقة في الفقه الإسلامي.

و لو لم يكن من عطاء العلاّمة الحلّي إلاّ كتابه«نهاية الوصول إلى علم الأُصول»لكفى ذلك في إظهار عبقريته،و إبراز تفوّقه،و كشف عمق تفكيره وسعة معارفه،و إحاطته بالآراء المطروحة في المسائل الأُصولية في زمانه.

كما يكشف الكتاب عن مستوى أخلاقي متقدّم لدى العلاّمة الحلّي يتجلّى في أمانة نقله لآراء الآخرين،و اجتهاد في فهم مقولاتهم على أفضل فروض الصحة ما أمكن.ثمّ التزام النهج العلمي و الموضوعية في مناقشة الآراء بعيداً عن التعصّب و الانحياز،إلاّ إلى ما يقود إليه الدليل الصادق و البرهان الصحيح.

إنّ هذا النهج في البحث العلمي و الحوار الموضوعي الّذي سلكه العلاّمة الحلّي و أرسى قواعده في كتاباته المختلفة لهو النهج الّذي تحتاجه الأُمّة لتجاوز حالات القطيعة و النزاع بين طوائفها و اتّباع مذاهبها الإسلامية المختلفة.

فالتعارف الصحيح الّذي يوضح صورة كلّ طرف أمام الآخر على حقيقتها،و ليس من خلال الإشاعات و الاتّهامات الباطلة،هو الأرضية المناسبة للتقارب و التوصل بين فئات الأُمّة على تنوّع مشاربها و مذاهبها،كما يقول الإمام شرف الدين:إنّ المسلمين إذا تعارفوا تآلفوا.

كما أنّ الحوار العلمي الموضوعي شرط ضروري لإثراء المعرفة،و بلورة الرأي و الاقتراب من موقع الحقيقة و الصواب.

ص:289

و من توفيق اللّه تعالى لمؤسسة الإمام الصادق عليه السلام أن تقوم بتحقيق هذا الكتاب و تقديمه إلى عالم الفكر و المعرفة بطباعة أنيقة جميلة.

***

و نودّ الإشارة أخيراً إلى أنّ هذا العام(1426ه) يصادف الذكرى المئوية السابعة لوفاة العلاّمة الحلّيّ سنة (726ه)،لذا نهيب بحوزاتنا العلمية،و مؤسّساتنا الدينية،أن تستثمر هذه المناسبة في الاحتفاء بذكرى هذا الطود العظيم في العلم و المعرفة،الّذي كرّس حياته للدفاع عن خط أهل البيت عليهم السلام و تبيين معالم مدرستهم في العقيدة و الشريعة.

و من أهم مظاهر الاحتفاء بذكرى العلاّمة الحلي الاهتمام بتحقيق و طبع تراثه العلمي و نتاجه المعرفي على شكل موسوعة كاملة،و ترجمة بعض مؤلّفاته إلى اللغات العالمية الحيّة،ليرى المفكرون المعاصرون سعة أُفق الفكر الإسلامي و عمق مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

كما أنّ عقد مؤتمر علمىٍّ في هذه المناسبة لدراسة حياة هذا الرجل العظيم و قراءة أفكاره و آرائه، سيبعث حركة و موجاً ثقافياً فكرياً في أوساطنا العلمية و ساحتنا الإسلامية.

رحم اللّه العلاّمة الحلّي و أعلى درجته و مقامه،و وفق اللّه العاملين في خدمة الدين و العلم،لمواصلة مسيرته المقدسة،و تخليد ذكراه العطرة،بإحياء آثاره و علومه.

و الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم المقدسة مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

10ربيع الأوّل 1426ه

ص:290

2

تعقيب على مقال:انتفاضة إقليم (الأحواز)

في العدد(474) من مجلة«الشريعة»الأُردنية المؤرّخ جمادى الاولى 1426 نُشر مقال بعنوان «انتفاضة إقليم الأحواز»أبرز كاتبه فيه النفس الطائفي المذموم في تعامله مع الأحداث السياسية و التاريخية، و تحدّث بلغة طائفة داعياً أهل إقليم (خوزستان) في الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى التحرك و الاستقلال - كما يدّعيه-عن الحكم الفارسي.

و قد تصدّى أحد محقّقي مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام للرد على هذا المقال الكاذب و نشرته المجلة في عددها المرقم«480»المؤرخ شوال 1426ه.

و ها نحن نكتفي هنا بذكر الرد و الّذي يوضح ما جاء في مقال المجلة.

إنّ الكلمة مسئولية و أمانة أمام اللّه سبحانه و الناس و الضمير،و تتضاعف تلك المسئولية كلّما اقترب شعار صاحبها من الدين و الشريعة و القيم السماوية العليا،و خاصة إذا اقترن الشعار باسم أو بمفهوم مقدّس يحمل طابعاً إسلامياً و أخلاقياً و تربوياً،و هذا ما يصدق على مجلة«الشريعة»الغرّاء الّتي حينما يتناولها القارئ.يجد أنّها عُرفت بمجلة البيت الإسلامي،و أنّها تحمل الآية الكريمة «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» شعاراً لها،

ص:291

هذا من جانب و من جانب آخر ينظر فيرى أنّ مؤسسها هو المرحوم تيسير ظبيان الكاتب الإسلامي المعروف و مديرها العام هو الدكتور قيس ظبيان...كلّ هذه المؤشرات تقود القارئ إلى أنّه سوف يتصفّح مجلة إسلامية ملتزمة بكتاب اللّه و سنّة نبيه،و سائرة على هدى الإسلام في نبذ العصبية القومية و عدم إلقاء التهم و الأقاويل في غير موقعها و بدون دليل،كما أنّه يتوقع أن يجد هذه المجلة تنظّر للوحدة الإسلامية و تدعو إليها و ترصّ صفوف المسلمين للوقوف بوجه أعدائهم،لا أن تنشر-و للأسف-مقالات سبق أن قرأنا أمثالها كثيراً في مجلات كان يمولها رئيس نظام مقبور ما نفع بلاده و جرّ على شعبه الويل و الثبور.

إنّ ما يرجوه المثقف العربي المسلم من صحفنا و مجلاتنا هو:

1.الانطلاق من مفاهيم الشريعة السمحاء،و التقاطع مع كلّ ما لا ينسجم مع الشريعة،و على رأس هذه الأُمور الابتعاد عن منطق العصبية القومية أو العرقية.و إنّ القضاء عليها و إزالتها من النفوس-الّتي نشأت عليها قروناً متطاولة-كان أحد مهام الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم.

2.الاعتماد على الواقعية و تحرّي الحقيقة،و الابتعاد عن الظن و التخمين و الحدس،و ذلك بالاستناد إلى لغة الدليل و البرهان الّذي يوفر للمقال صفتي الإقناع و إمكانية الدفاع.

3.الاتصاف بالشمولية الّتي تنطلق من البعدين الإنساني و الديني متّخذة من قوله تعالى: «وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ...» ،و قوله تعالى: «وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» ...شعاراً لها.

و من المسلم به أنّه ينبغي لكلّ مجلة أو صحيفة المحافظة على سمعتها

ص:292

و سمعة رجالها و محرّريها،خاصة إذا كانوا بمستوى رجال و محرّري مجلة الشريعة.

إلاّ أنّنا و للأسف الشديد فوجئنا بمقال نشر في هذه المجلة أحبط آمالنا فيها،إذ أنّه لا يتوفر فيه الحد الأدنى من الشروط الّتي أوردناها.

إنّ من يتصفّح العدد رقم 474 من مجلة الشريعة و في صفحاتها الأُولى يستلفت نظره على مقال،كُتب تحت عنوان:(وراء الاحداث) يتحدث فيه كاتبه و الّذي لم يذكر اسمه-و كأنّه أحد أعضاء أُسرة التحرير-عمّا ادعاه«معاناة»عرب الأحواز أو إقليم عربستان.

و قد يطالبنا القارئ الكريم ان نذكر شاهداً لشباهة هذا المقال بمقالات قومية علمانية حاقدة كتبت منذ سنوات و تكتب لحد الآن،و لكن في مجلات لا تحمل صفة إسلامية،و لا تحمل شعاراً كشعار هذه المجلة الكريمة،و ليس مؤسسها و مديرها كتيسير و قيس.

نحن نربأ بالكاتب المسلم أن يصف علماء الدين المجاهدين الذين يتولون إدارة الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية...نربأ به أن يطلق عليهم اسم (الملالي)...

كما أنّنا لا نتوقع انّ القلم الّذي يسوق الكثير من الأكاذيب و يرتّب عليها الخطوط الرئيسية لمقالته كأنّها حقائق،لا نتوقع أنّ هذا القلم يحافظ على صفته الرسالية و إسلاميته و تعهداته و نزاهته الصحفية،حيث إنّ الاعتماد على البيانات الّتي تصدر بين حين و آخر و يكتبها و ينشرها عملاء الامبريالية و حزب البعث العراقي و رئيسه المقبور،لا يمكن اعتبارها حقائق،و إلاّ فليقدم لنا الكاتب المحترم سنداً مستقلاً يشير إلى وجود تمايز و تفريق بين أبناء خوزستان العرب و الفرس.و انّ إيران و كما يذكر صاحب المقال تتركب من قوميات متعددة،و نحن

ص:293

ننتظر أن يتحفنا صاحب المقال أو غيره بدليل معتبر يشير إلى وقوع حيف أو ظلم على أحد كان سببه هو كونه ممن لاحقتهم لعنة كونهم من أقلية قومية،و كذلك ننتظر واحدة من علامات«جزاء سنمّار».

و على النقيض ممّا يتوهمه صاحب المقال فهل يعلم بالفارق البارز بين حياة العرب في هذه المحافظة الآن و بين حياتهم أيام شاه إيران المقبور؟! و هل يستطيع أن يتناسى حقهم في ترشيح أبناء بلدتهم إلى البرلمان و مجالس البلديات؟! و هل يعلم انّ اللغة العربية تدرس في المدارس الرسمية إلى جانب الفارسية و منذ الدراسة المتوسطة؟!

ثمّ ما علاقة (أحداث المدائن) و(التدخلات الإيرانية السافرة) بموضوع أحداث الشغب في الأهواز، و هل أنّ قتل عشرات المدنيين الشيعة في المدائن و القاءَهم في مياه دجلة مكتوفي الأيدي،أو تهجيرهم من منطقة المدائن و أبعادهم قسراً عن بيوتهم هل هو تدخل إيراني؟! ثمّ ليذكر لنا كاتب المقال الأدلة على تابعية الأهواز إلى العراق(أو الوطن العربي) و ما هي الدراسة التاريخية الّتي اعتمدها؟! و ليدرس حياة شيخ خزعل الّذي كان يطالب بامارة مستقلة عن العراق و إيران تضم الأهواز و البصرة،و ليس إلحاق الأهواز بالبلاد العربية.

إنّ أبناء إقليم خوزستان يعتزون بانتسابهم إلى الجمهورية الإسلامية و يفتخرون بكونهم أكثر القوميات الإيرانية تحمّلاً لأضرار الحرب العدوانية المفروضة الّتي شنها الاستكبار العالمي-ضد الثورة الإسلامية آملاً في القضاء عليها-و قد دفعت الامبريالية شرطيّها في المنطقة صدام،و أوعزت لبعض حكام المنطقة بالوقوف إلى جنبه و دعمه و تأييده.و في هذه الحرب الّتي كانت باسم العروبة و دفاعاً عن البوابة الشرقية للأُمّة العربية اجتاحت جيوش صدام إقليم

ص:294

خوزستان بالكامل،و وقف العربي إلى جانب الفارسي و غيره في الدفاع عن أرض الإسلام و إخراج المعتدي.

إنّ التحرق الّذي يبديه كاتب هذا المقال على أجزاء الوطن العربي المحتلة لم نجد له مثيلاً على الأجزاء المحتلة الأُخرى كالاسكندرونة الّتي ذكرت في المقال ببرود واضح،أو كقلب الوطن الإسلامي فلسطين المحتلة و بيت المقدس الطاهر و الّذي لم يذكر بالمرة هناك...و كذلك فإنّ لبلاد المغرب العربي مدناً تقع تحت السيطرة الاسبانية نسيها أو تناساها صاحب المقال لأسباب نعلمها لا نفصح عنها احتراماً له...!!

و في الختام نوجه خطابنا لمدير المجلة المحترم و أُسرة التحرير،مذكّرين بالأُمور التالية:

- إنّ تحليل إحدى القضايا الميدانية يتطلب دلائل و مستندات لا يصعب على أمثالكم الحصول عليها، ذلك لأجل إقناع القارئ بما تريدون إيصاله له.

- إنّ احترام الإنسان من واجبات أخيه الإنسان فكيف بالمثقف و الصحفي الرسالي المسلم؟! فإطلاق بعض الكلمات المشينة على قادة و ساسة دولة إسلامية صديقة للشعب الأردني ما هو إلاّ خروج عن المألوف و المعهود.

- إنّ كلمات الاحتلال الفارسي و الاضطهاد الفارسي،و المعاناة و الغبن و التعتيم و التدخل،كلمات عفى عليها الزمان نحب أن لا نقرأها مرة ثانية في مجلة الشريعة الغراء،و خاصة إذا استعملت في غير محلّها الّذي لا يرضي اللّه تعالى.

- إنّ أمثال هذه المقالات هو جزء من مسلسل المؤامرات الّتي تحاك ضد الدولة الإسلامية ابتداءً بحادثة طبس و انتهاء بمهزلة الاستفادة من الطاقة النووية و أُسطورة تخصيب الأورانيوم للأغراض العسكرية، و مروراً بالحرب العراقية

ص:295

الغاشمة ما هي إلاّ محاولات خائبة لقوى الكفر العالمي من أجل إبعاد الإسلام عن الساحة السياسية و إثبات كونه عاجزاً عن الوقوف على قدميه و إركاعه و إذلال أهله و إبقائهم تحت نير الاستعمار و جعل بلادهم بقرة حلوباً لنفط غال يعودون على المنطقة بمنتجات مصانعهم التي تدار بهذا النفط،و بقاء هذه المنطقة و كالسابق سوقاً يدر عليهم بالدولار و اليورو....

و كلمة ناصحة أخيرة؛ننتظر من الأخوة الاعزاء في المجلة الكريمة-و حفاظاً على سمعتها أن تقدّم اعتذاراً عما جاء في المقال،أو تعمد على الأقل إلى نشر مقالنا هذا،و الّذي سوف نتلقّاه كاعتذار مبطّن للقائمين على إدامة مسيرة هذه المجلة الغراء صاحبة العقود الخمسة داعين لهم بالتوفيق.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الحوزة العلمية في قم المقدسة

إيران

19 جمادى الآخرة 1426ه

ص:296

3

اشارة

المؤرخ الزرقاوي و المصير الأصفهاني

دكتور أحمد راسم النفيس

نشرت جريدة القاهرة بتاريخ 2005/7/26

الزرقاوي مؤرخاً!!

نشرت وسائل الإعلام و شبكات الانترنيت كلمة الزرقاوي المقبور و قد أباح فيها قتل الشيعة و سفك دمائهم،و ممّا جاء فيها اتّهام الوزير«العلقمي»بأنّه سبب سقوط بغداد و سفك دماء المسلمين،و قد كرر هذه الفرية في كلمته أكثر من مرة،و هذا الاتّهام ليس بدعاً منه و لكنّه قد أخذه عمن سبقه.

و قد ردّ على هذه التهمة الدكتور أحمد راسم النفيس المصري في مقال نشر على صفحات الانترنيت، و بالنظر لأهميته و إكباراً لكاتبه ننشره هنا مع تعقيب لنا بعده.

لا زال الأخ أبو مصعب الزرقاوي حامي حمى العروبة و الإسلام و البوابة الشرقية للأُمّة العربية يُتحفنا بدرره العلمية و الأخلاقية فضلاً عن تلك الجهادية التي أصبحنا نعرفها جيداً.

الأخ أبو مصعب و رغم انشغاله بالمسلخ البشري الذي نصبه في العراق لم

ص:297

ينصرف عن واجبه في تنوير الأُمّة و تعريفها بما غاب عن وعيها من علم و معرفة!!

من بين تلك الدرر وصفه للشيعة في بياناته التاريخية بالعلقميين!

فما هي حكاية العلقميين هذه؟؟!!

يزعم المؤرخ الكبير أبو مصعب الزرقاوي أنّ الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي و كان من الشيعة هو من قام بتسليم مفاتيح بغداد للغزاة المغول،و بالتالي فالرجل و من ثمّ الشيعة أجمعون من يومها إلى يوم الدين هم المسئولون عن كارثة سقوط بغداد فضلاً عن نكسة يونيو حزيران عام 1967.

و لو أنّ الرجل توقف برهة عن سفك الدماء و كلّف خاطره قراءة التاريخ لعلم أنّ بغداد لم تسقط في يد التتار منذ اللحظة الأُولى حيث حاول البعض و من بينهم ابن العلقمي منع هذا السقوط المحتوم،و لكنّها سقطت بعد ذلك بسبب الفساد و التفكك اللذين عانى و لا زال يعاني منهما عالمنا الإسلامي المريض،حيث يروي ابن أبي الحديد و كان معاصراً لتلك الكارثة (و كان مدبر أمر الدولة و الوزارة في هذا الوقت هو الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد العلقمي و لم يحضر الحرب«أي أنّه لم يكن قائداً للجيش»،بل كان ملازماً ديوان الخلافة يمد العسكر الإسلامي من آرائه و تدبيراته بما ينتهون إليه و يقفون عنده فحملت التتار على عسكر بغداد حملات متتابعة ظنوا أن واحدة منها تهزمهم،لأنّهم قد اعتادوا أن لا يقف عسكر من العساكر بين أيديهم فثبت اللّه لهم عسكر بغداد مما اضطر التتار للانسحاب من حولها).

أمّا السبب الحقيقي في الهجمة التترية على العالم الإسلامي الذي يجهله المؤرخ الزرقاوي فكان حمق بعض حكام المسلمين و طغيانهم،و يكفي أن نورد شهادة المؤرخ المصري المعاصر الدكتور يوسف زيدان - الذي نقل عن ابن الأثير

ص:298

في حوادث سنة 617 هجرية ما نصه:(فإنّ هؤلاء التتر انّما استقام لهم الأمر لعدم المانع،و سبب عدمه أنّ محمد خوارزمشاه كان قد استولى على البلاد و قتل ملوكها و أفناهم،و بقى هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلمّا انهزم من التتر لم يبق في البلاد من يمنعهم و لا من يحميها).

لا فارق بينه و بين حامي حمى البوابة الشرقية للأُمّة العربية سيِّئ الذكر التكريتي!!

و يكمل الدكتور زيدان فيقول:(دفعتني هذه الملاحظة إلى التأمل فيما كان من أمر محمد خوارزمشاه، فوجدته حاكماً عربياً شديد المعاصرة! كان خوارزمشاه قد ملك المنطقة الممتدة من فرغانة إلى بحر آرال، و من نهر سيحون (سرداريا) إلى أفغانستان،و هي منطقة واسعة تستغرق الرحلة فيها اليوم بالطائرات ساعات.

و مع ذلك دفعه الطيش و سطوة السلطة إلى الاستيلاء على بغداد،فأرسل لها جيشاً سيطر أولاً على همذان،ثمّ انطلق منها قاصداً بغداد...و في كردستان هبت عاصفة ثلجية شديدة فبدّدت شمل الجيش و قتلت الألوف، و تخطف الأكراد ما تبقى من فلول الجيش فلم يعد منهم إلى خوارزم إلاّ عدد قليل،و لم يهدأ محمد خوارزمشاه بعد هذه الواقعة و إنّما واصل رعونته و أحلامه التوسعيّة،و نجح في استفزاز أقوى قوة عسكريّة في العالم آنذاك جنكيز خان..بدأ الأمر باتصال بينهما و تبادل سفارات و إبداء الرغبة في التعاون بين البلدين المملكة الخوارزميّة و الدولة المغوليّة التي كان جنكيز خان قد أقامها على أنقاض امبراطوريّة الصين التي احتلها،و كان خوارزمشاه يحلم بامتلاكها و بدأ النشاط التجاري بين الدولتين بقافلة أرسلها جنكيزخان مع هدايا لخوارزمشاه و رسالة تقول ضمن كلمات تودّد:إنّه لا يخفى علي عظيم شأنك و ما بلغت من سلطان و إنّي أرى مسالمتك من جملة

ص:299

الواجبات و أنت عندي مثل أعز أولادي.و لا يخفى عليك أيضاً أنّني ملكت الصين و ما يليها من بلاد الترك و قد خضعت لي قبائلهم..فإن رأيت أن تهيئ للتجار في الجهتين سبيل التردّد و الحركة عمّت المنافع و شملت الفوائد.

و اعتقد خوارزمشاه أنّ جنكيزخان أهانه! لأنّه وصفه بأنّه (مثل أعز أولادي) فأرسل لحاكم مدينة (أوترار) الواقعة على الحدود بينهما بأن يتم الاستيلاء على القافلة التجاريّة التي بادر جنكيزخان بإرسالها و تُباع حمولتُها (خمسمائة جمل تحمل سلعاً تجارية) و يُرسل المال إلى خوارزمشاه! بل أكثر من ذلك،يقتل جميع أفراد القافلة..فقتلوا جميعاً (كانوا450رجلاً،كلهم من المسلمين).

و بالطبع استشاط جنكيزخان غضباً و لم يصدق أنّ خوارزمشاه يفعل ذلك،فأرسل له سفارة مؤلفة من ثلاثة رجال أحدهما مسلم و الآخران مغوليّان و معهم خطاب احتجاج على ما جرى من الغدر بالقافلة،فما كان من خوارزمشاه إلاّ أن قتل المبعوث المسلم،و حلق لحية زميليه المغوليين إمعاناً في إذلالهما.

و هكذا اندفع جنكيزخان بجيوشه ليجتاح مشرق العالم الإسلامي و انتقم لكرامته بقتل كلّ ما كان حيّاً في البلاد التي صادفته الناس الحيوان الشجر،و مات مئات الأُلوف من المسلمين رجالاً و نساء و أطفالاً،أمّا خوارزمشاه نفسه..فقد هرب!!

هذا هو تاريخنا الذي لم يقرأه أحد اكتفاء بقصة وا إسلاماه و تحميل الوزير العلقمي مأساة احتلال بغداد، فضلاً عن تحميل الصول إسماعيل مأساة نكبة يونيو 1967م.

المسلمون و الصراعات الطائفية و الغزو المغولي

يحكي لنا ابن أبي الحديد واقعة أُخرى عن الطريقة التي تصرف و لا يزال

ص:300

المسلمون يتصرفون بها في عصور الانحطاط فيقول:(و لم يبق للتتار إلاّ أصفهان حيث نزلوا عليها مراراً سنة 633ه فحاربهم أهلها،و قتل من الفريقين مقتلة عظيمة،و لم يبلغوا منها غرضاً حتى اختلف أهل أصفهان على طائفتين حنفية و شافعية و بينهم حروب متواصلة،فخرج قوم من الشافعية إلى من يجاورهم من ملوك التتار فقالوا لهم:اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم،فأرسل إليهم جيوشاً و الصراع على أشده بين الأحناف و الشوافع،و فتح الشافعية أبواب المدينة على عهد بينهم و بين التتار أن يقتلوا الحنفية و يعفوا عن الشافعية،فلمّا دخلوا المدينة بدءوا بالشافعية فقتلوهم قتلاً ذريعاً و لم يقفوا مع العهد الذي عاهدوه،ثمّ قتلوا الحنفية ثمّ قتلوا سائر الناس و سبوا النساء و شقوا بطون الحبالى و نهبوا الأموال و صادروا الأغنياء ثمّ أضرموا النار في أصفهان حتى صارت تلا من الرماد).

التتار يحكمون مصر!!

الذي لا يعرفه الكثيرون أيضاً أنّ التتار قد حكموا مصر بالفعل و ان (الملك العادل زين الدين كتبغا) الذي تسلّط على عرش مصر سنة 693ه كان جندياً في جيش هولاكو أسر في واقعة«عين جالوت»ثمّ دارت به و بنا الأيام ليصبح هذا العبد التتري ملكاً لمصر.

أمّا الأسوأ من هذا فهو التمادي في وصف المخالفين في المذهب و الرأي بتهم الخيانة و العمالة و تسليم مفاتيح بغداد لا لشيء سوى أنّهم فعلوا الممكن و اجتهدوا في حقن دماء المسلمين الذين أسلمهم حكامهم للتتار،و هو ما لم يكن قاصراً على مسلمي البوابة الشرقية في بغداد،بل هو نفس ما فعله شيوخ دمشق و من بينهم ابن تيمية.

ص:301

ففي العام 698ه غزا التتار بلاد الشام على عهد السلطان محمد بن قلاون حيث كان كثير من قيادات الجيش المملوكي المصري أو (الغز) من التتر المتعاونين مع عدوهم غازان ملك التتار آنئذ و هزم الجيش المصري يومها و كاد التتار يدخلون دمشق و العهدة على ابن تغري بردي (لما بلغ أهل دمشق كسرة السلطان، عظم الضجيج و البكاء و خرجت المخدرات حاسرات لا يعرفن أين يذهبن و الأطفال بأيديهن و صار كلّ واحد في شغل عن صاحبه إلى أن ورد الخبر أنّ ملك التتار«قازان»مسلم و أن غالب جيشه على ملة الإسلام و أنّهم لم يتبعوا المهزومين و بعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحداً ممن وجدوه و إنّما يأخذون سلاحه و مركوبه و يطلقونه،فسكن بذلك روع أهل دمشق قليلاً،فاجتمعوا و تشاوروا و أرسلوا وفداً يطلب الأمان من قازان حيث حضر الوفد من الفقهاء:قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة خطيب جامع دمشق،و الشيخ زين الدين الفارقي،و الشيخ تقي الدين ابن تيمية،و قاضي قضاة دمشق نجم الدين ابن صصري،و الصاحب فخر الدين بن الشيرجي،و غيرهم).

لا حاجة بنا أن نوغل في التفاصيل المتعلّقة بتلك التهمة الافتراء عن خيانات ابن العلقمي المزعومة، و يكفينا شهادة ابن الأثير عن السبب المباشر لاجتياح التتار للعالم الإسلامي،و كلّ ما يمكننا قوله:إنّ الزرقاويّين يصرون على مواصلة التصرف على طريقة المتحاربين من أهل أصفهان،ممّا أدى في النهاية إلى هلاكهم و هلاك مدينتهم،و لا شك أنّ ما يفعله هؤلاء من تأجيج نيران الصراعات الطائفية جميعاً إلى مصير مشابه على الطريقة الأصفهانية.

دكتور أحمد راسم النفيس

2005/7/19

ص:302

4

معالي الدكتور أحمد راسم النفيس المحترم

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

تحيّة طيّبة مباركة مرفقة بباقات من ورود الإخلاص و المودّة الإسلامية الصافية في سبيل اللّه و حبّ آل البيت عليهم السلام.

أهدى إليّ بعض الإخوان نسخة من مقالتكم القيمة في جريدة القاهرة تحت عنوان«المؤرّخ الزرقاوي و المصير الاصفهاني»،و أودّ أن أُضيف إن القوم-مكان أن يحقّقوا علل الهزيمة و عواملها التي تكمن في سيرة الخلفاء العباسيين و وزرائهم و حواشيهم عبر القرون-حاولوا أن يصبُّوا جام غضبهم تارة على ابن العلقمي - هذا الوزير الذي سعى في صد عاتية التتار بحزمه و عقله و لم يتوفّق لذلك بسبب مخالفة مَن أحاطوا بالخليفة - و أُخرى على معلم الأُمة و حافظ التراث بعد إقالة التتار نصير الدين الطوسي.

و ها نحن نذكر هنا بعض النصوص التاريخية-مضافاً إلى ما ذكرتم-ليعلم المغفّل أن سبب الهزيمة كان موجوداً في داخل الخلافة.

*هب أنّ الوزير العلقمي أو نصير الدين الطوسي هو السبب لسقوط الخلافة العباسية و سيلان الدماء في عاصمتها،فما هو السبب للدماء التي بدأت

ص:303

تسيل من أقصى المشرق الإسلامي إلى العاصمة بغداد،فها هو ابن الأثير (المتوفّى عام 630ه) قبل سقوط الخلافة الإسلامية بخمس و عشرين سنة يصف تلك الداهية العظمى بالنحو التالي:

«من الّذي يسهل عليه أن يكتب نعيَ الإسلام و المسلمين و من ذا الّذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أُمّي لم تلدني،و يا ليتني متُّ قبل حدوثها و كنت نسياً منسيّاً إلاّ أنّي حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها و أنا متوقف ثمّ رأيت أن ترك ذلك لا يُجدي نفعاً فنقول:

هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى و المصيبة الكبرى الّتي عقمت الأيام و الليالي عن مثلها،عمت الخلائق و خصّت المسلمين،فلو قال القائل:إنّ العالم مذ خلق اللّه سبحانه و تعالى آدم و إلى الآن لم يبتل بمثله لكان صادقاً،فإنّ التاريخ لم يتضمن ما يقاربها و لا ما يدانيها-إلى أن قال:هؤلاء لم يُبقوا أحداً،بل قتلوا النساء و الرجال و الأطفال،و شقّوا بطون الحوامل و قتلوا الأجنّة،فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.فإنّ قوماً خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر و بلاسغون،ثمّ منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند و بُخارى و غيرها فيملكونها و يفعلون بأهلها ما نذكره،ثمّ تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها مُلكاً و تخريباً و قتلاً،ثمّ يتجاوزونها إلى الريّ و هَمَدان و بلاد الجبل و ما فيها من البلاد إلى حدّ العراق،ثمّ يقصدون بلاد آذربيجان و أرانية و يخربون و يقتلون أكثر أهلها و لم ينج إلاّ الشريد النادر في أقل من سنة،هذا ما لم يسمع بمثله. (1)

فها نحن نسأل الكاتب:هل كانت يد العلقمي أو نصير الدين تلعب في هذه الحوادث المرّة تحت الستار؟ أو أنّ للدمار عللاً تكمن في سيرة الخلفاء

ص:304


1- 1) .الكامل في التاريخ:358/12- 359.و [1]لكلامه ذيل من أراد فليرجع.

و الأُمراء عبر سنين حيث اشتغلوا بالخلافات الداخلية،و اشتغل الخلفاء باللهو و اللعب،و شرب الخمور و عزف المعازف و سماع المغنيّات،و قد تبعهم الرعاع و السوقة فذهبت الخيمة الإسلامية التي سيطرت على العالم في أوائل قرون العصر الإسلامي.

يقول ابن كثير:أحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كلّ جانب حتّى أُصيبت جارية تلعب بين يدي الخليفة و تضحكه،و كانت من جملة حظاياه،و كانت مولدة تسمّى عرفة،جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها و هي ترقص بين يدي الخليفة،فانزعج الخليفة من ذلك و فزع فزعاً شديداً،و أحضر السهم الّذي أصابها بين يديه،فإذا عليه مكتوب:«إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه و قدره أذهب ذوي العقول عقولهم»فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز و كثرت الستائر على دار الخلافة،و كان قدوم هولاكوخان بجنوده كلها-و كانوا نحو مائتي ألف مقاتل-إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة. (1)

نشكركم على هذه المواقف الشجاعة دفاعاً عن الحق و الحقيقة.

أخي العزيز عندي بحث في توضيح حقيقة«أبي هريرة»و دور السيد شرف الدين العاملي في هذا التوضيح،و مراسلاته مع شيوخ الأزهر و منهم الشيخ عبد المتعال الصعيدي،و يعوزني في هذا المجال، مقالاته المطبوعة في مجلة«الرسالة»المصرية و ردود الشيخ عبد المتعال الصعيدي و مداخلات السيد شرف الدين عليها،هي منشورة في مجلة الرسالة،السنة الخامسة عشرة،عدد715(ص 323)،بتاريخ 1947/3/17، و 718(ص409) بتاريخ 1947/4/7،و عدد 721

ص:305


1- 1) .البداية و النهاية:200/13- 213. [1]

بتاريخ 1947/4/28،و عدد 724(ص 575) بتاريخ 1947/5/19،و عدد 725 بتاريخ 1947/5/26.

لو تفضلتم عليّ بالحصول على هذه المقالات من أرشيف إحدى المكتبات المصرية و إرسالها إليّ تكون منّة كبيرة،و نعمة جسيمة لا تنسى أبداً. (1)

و كذلك وصلنا خبر نشر كتبكم على الانترنت بمشاركة إحدى دور النشر اللبنانية،فنهنئكم عليها و نسأل اللّه لكم مزيد التوفيق و التسديد،إنّه عليّ قدير.

و دمتم سالمين غانمين.

أخوكم في الإيمان

الشيخ جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم-الجمهورية الإسلامية الإيرانية

الخامس من شهر رجب 1426ه

ص:306


1- 1) .و قد قام مشكوراً بإرسال الجميع عن طريق الانترنت،شكر اللّه مساعيه الجميلة.

5 رسالة مفتوحة إلى الأمين العام لمنظمة الأُمم المتحدة

اشارة

السيد كوفي عنان المحترم

حول التعرض للنبيّ الأعظم

في الإعلام الغربي

نرفع إلى حضرتكم أسمى آيات التقدير و الاحترام

إنّ منصب الأمانة العامة للأُمم المتحدة (و هو أعلى منصب في المنظمات الدولية)،الّذي تتسنمون مقامه يستدعي منكم المحافظة على حقوق جميع الشعوب و التصدّي لجميع التجاوزات و الانتهاكات الّتي تحدث في العالم و استنكارها.

و في الآونة الأخيرة قامت مجموعة من الصحف الأُوربية بجرح مشاعر أكثر من مليارد و ثلاثمائة مليون مسلم من خلال التعرّض لرمزهم الأوّل«النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم»و الإساءة له عبر نشر رسوم مهينة،تحت ذريعة:

«حرية الرأي».

حرية الرأي أم حرية الإهانة

إنّ ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأُمم المتحدة و الممضى من قبل

ص:307

رؤساء الدول الأعضاء في المنظمة و الّذي تضمن الحفاظ على حرية الرأي،أصبح وسيلة يتذرع بها البعض لهتك حرمة المقدّسات الدينية لمليارات المتدينين في العالم.و قد شاهدنا أخيراً بعض الصحف الغربية تنشر رسوماً مهينة لنبي الإنسانية و الإسلام النبي الأكرم(نبي الرحمة)،جارحة بذلك مشاعر المسلمين بل جميع المتدينين في العالم،و الأنكى من ذلك أنّنا نجد بعض السياسيّين الغربيّين-و الذين ما كان منتظراً منهم أن يؤيدوا هذا التحرك البغيض-قد تصدّوا للدفاع عن ذلك العمل الشنيع و تبريره تحت ذريعة حرية التعبير عن الرأي.

حقاً أنّ مفهوم الحرية مفهوم جذّاب و محبب إلى النفوس إلاّ أنّه استعمل-و للأسف-على طول التاريخ ضد الحرية نفسها.

و الملاحظ انّ الّذين دوّنوا قانون حرية الرأي و الّذي أمضاه رؤساء دول العالم،لم يرسموا حدود تلك الحرية و لم يبيّنوا الدائرة الّتي تنطلق فيها و لا ينبغي تجاوزها؟! و لذا أصبح-و لشديد الأسف-خيمة يحتمي فيها العنف بجميع أشكاله و أنواعه!

1.فهل يُباح و تحت مظلة حرية التعبير عن الرأي تشويه سمعة الآخرين و تمكين الجهّال للقيام ضدهم و إهدار حقوقهم المدنية و الاجتماعية و إهانتهم و تعذيبهم و قتلهم؟!

2.و هل يجوز استغلال حرية التعبير عن الرأي للتفريق بين الشعوب و الأقوام و الدول،و إثارة نار الحقد و الكراهية و الشحناء في أوساطهم إلى حد نشوب الحروب و القتال بينهم؟!

3.و هل تسمح حرية التعبير عن الرأي بأن يتجاوز البعض على مقدّسات الأُمم ليهينها كالتجاوز على علم الدولة أو الدستور أو القيادة؟!

ص:308

4.و هل يجوز تحت شعار حرية التعبير عن الرأي الافتراء على الآخرين و شهادة الزور ضدهم لسحق حقوقهم و تشويه صورتهم أمام العالم؟!

5.حدد علماء الأخلاق الكثير من جرائم اللسان و قد أقرّ القانون المدني و الدولي الكثير منها،فهل يُراد يا ترى-و تحت شعار حرية التعبير عن الرأي-سحق تلك القوانين و التذرّع بالحرية المذكورة و الاختفاء وراء ستارها؟!

6.من المناسب جداً إعادة النظر في ميثاق حقوق الإنسان و دراسته بدقّة ليتضح للجميع هل أنّ ما سنّ هو قانون يتكفّل حرية الرأي،أو هو قانون سنّ لإطلاق الحرية لهتك الحرمات و سحق المقدّسات و كرامة الشعوب و الأقوام؟!

لا ريب انّ الشيء المغفول عنه هنا هو التفاوت بين حرية التعبير عن الرأي و بين حرية هتك كرامة الإنسان و إهانته و الاستهزاء به.

7.انّ حرية التعبير عن الرأي حق أُعطي لكلّ فرد،و لكن شريطة أن لا يتجاوز على حقوق الآخرين، و إذا كان قانون حرية التعبير عن الرأي لا يخضع لأي قيد أو شرط،فلا ريب انّه لا تكون ثمرة ذلك القانون إلاّ الفساد و الهرج و المرج و الانفلات،من هنا يجب أن يكون قانون حرية التعبير عن الرأي مقيّداً بأن لا يمس حقوق الآخرين و لا يعتدي عليها.و إذا أراد شخص ما استغلال القانون للتجاوز على حقوق الآخرين،فلا بدّ أن يتعامل معه باعتباره مجرماً قانونياً.

8.انّ الذين يحاولون تبرير انتهاك مقدسات الآخرين تحت ذريعة حرية التعبير عن الرأي،يحجمون عملياً عن السماح للآخرين في المساس بمقدساتهم حتّى لو كنت على مستوى الأفكار و النظريات العلمانية، فلا يسمح للمواطن البريطاني أو غيره المساس بملكة انجلترا،أو بدستور البلاد،أو بعلم الدولة،و يرون أنّ المرتكب لهذه الأعمال أو بعضها متجاوزاً على القانون،بل نراهم

ص:309

يذهبون إلى أكثر من ذلك فلا يسمحون بدراسة قضية تاريخية مثل«محرقة اليهود»الهلوكوست،و ان من يقترب منها قد اقترب أو تجاوز الخط الأحمر،و عليه أن يمثل أمام القضاء و القانون لتنزل بحقه أشدّ العقوبات،و الدليل عليه ما شاهدناه أخيراً و تحديداً في الثالث من شباط 2006م من محاكمة المؤرخ الانجليزي السيد ديفيد ايروينج،و الحكم عليه بالسجن ثلاث سنين لا لجرم ارتكبه سوى انّه أثار بعض التساؤلات المشروعة حول تلك المحرقة المزعومة.

نعم،هذا شاهد صارخ على ما قلناه من الكيل بمكيالين و التعامل بازدواجية مع القانون المذكور.

9.و هل يا ترى يُباح استغلال قانون حرية التعبير عن الرأي لضرب منافع الشعوب و الدول و بثّ شبكات التجسس و العمالة للدول الأجنبية في أوساط الشعوب الأُخرى؟!

10.انّنا نشاهد اليوم انّ بعض الدول تعترف رسميّاً بأقبح الفواحش الإنسانية و الأخلاقية كحرية ممارسة الجنس مع المماثل،أو حرية التعرّي و الخلاعة،فهل يا ترى يسمح قانون حرية التعبير عن الرأي للآخرين بالتصدّي لهذه الظواهر المستهجنة و لو بالاعتراض الكلامي فقط،أو انّ الّذي يعترض عليها يُعدّ متجاوزاً على حريات الآخرين؟!!

إنّ هذه نماذج أثرناها هنا ليتضح جليّاً أنّ القضية تحمل طابعاً سياسياً،و انّ الذين أهانوا مقدسات المسلمين و حماتهم إنّما تذرّعوا بحرية التعبير عن الرأي،بل اتّخذوها العوبة لنيل الأهداف السياسية الّتي ينشدونها.

و انطلاقاً من الحكمة المعروفة (ربّ ضارة نافعة) أو: و إذا أراد اللّه نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود

ص:310

فإنّ أصحاب الرسوم الكاريكاتورية المهينة-بالرغم من فظاعتها و قبحها،و رفضها منّا،و ادانتها - إلاّ أنّ الّذي سعى إلى تحقيقه أصحاب تلك الرسوم،لا أنّه لم يتحقّق فحسب،بل أصبح عملهم سبباً لالتفات المسلمين إلى الخطر الّذي يحيط بهم ممّا أدّى إلى إيجاد نوع من الوحدة و الانسجام و الاتحاد بين الشعوب الإسلامية من شرق الأرض إلى غربها باختلاف أُصولهم و لغاتهم و أوطانهم حيث وقف الجميع يداً واحدة وصفاً واحداً أمام ذلك التجاوز و الانتهاك معلنين ادانتهم و رفضهم لهذا المنطق الأهوج الّذي يعتمده البعض من الغربيين،و لكي يتضح الأمر جليّاً نترجم بعض فقرات الدساتير المعتمدة في الدول الغربية.

حدود الحرية في الثورة الفرنسية الكبرى

إنّ مراجعة بعض فقرات القوانين الغربية توضح و بجلاء ما قلناه من أنّ حرية التعبير عن الرأي ليس قانوناً مجرداً عن كلّ قيد و شرط،فقد ورد في المادة الحادية عشرة من القانون الأساسي الفرنسي المصوّب عام 1789م،ما يلي:

«يحق لكلّ مواطن التعبير عن رأيه و طرح أفكاره بحريّة تامة شريطة أن لا يتجاوز الحدود الّتي رسمها القانون».

كما نرى في القانون الأساسي الفرنسي لعام 1889م بعض الفقرات القانونية الّتي سنّها المقنن الفرنسي من قبيل:حفظ الأسرار الطبية (سر المهنة)،الحفاظ على الحرمات الشخصية للأفراد،منع إثارة التمييز العنصري و المذهبي،منع شتم الأفراد و المساس بشخصية الآخرين،و منع كلّ أنواع التعبير ضد السامية و ضد المرأة،ممّا مثل تحديداً و تقييداً لقانون حرية التعبير عن الرأي.

فهل يصح مع كلّ هذه الفقرات القانونية التذرّع بحجّة حرية التعبير عن

ص:311

الرأي لتبرير قضية الرسوم المسيئة لنبي الرحمة صلى الله عليه و آله و سلم ؟!

صحيح انّ الغرب قد سلب القداسة عن الدين و لكنّه ألبس بعض الأُمور الأُخرى لباس القداسة، كالهلوكوست و احترام الطفولة و المساواة،و أنّ من ينقد تلك الأُمور في الغرب يُعد بمثابة من يهين المقدّسات.

ثمّ إنّ هذا الأمر-وضع الخطوط الحمر-لا يختص بالقانون الفرنسي بل ترى ذلك في دساتير الكثير من البلدان الغربية كالقانون الأساسي الدانماركي فانّه يعتبر إهانة بعض الناس بسبب معتقداتهم الدينية أمراً ممنوعاً،و لقد صرّح بتلك الحقيقة رؤساء الكنائس الدانماركية خلال لقائهم بشيخ الأزهر السيد محمد طنطاوي و وزير الأوقاف المصري السيد حمدي زقزوق و مفتي الديار المصرية السيد علي جمعة،بتاريخ 9شباط 2006م.

إنّ هذه الأعمال ترتكب،بالرغم من أنّها و طبقاً لصريح ميثاق حقوق الإنسان المدني و السياسي - المصوب يوم 26 ديسمبر1966م،و الّذي وجب تنفيذه طبقاً للقرار 2200 المصوب بتاريخ 23 آذار 1976م، و الموقَّع عليه من قبل الدول الأعضاء بما فيها الدول الأُوربية و أمريكا-تُعد جرائم قانونية.نعم،إنّ ما قامت به الصحف الدانماركية يُعدّ جرماً و مخالفة قانونية صارخة لبنود القوانين الدولية المذكورة حيث تنص الفقرة الثانية من المادة العشرين للميثاق المذكور على:انّ كلّ أنواع الحث على النفرة القومية أو العرقية أو المذهبية و الّتي تؤدي إلى الدفع نحو التمييز و العداء و العنف تعد وفقاً للقانون المذكور أمراً محظوراً.

اكره لغيرك ما تكره لنفسك

حقاً انّ هذه الحكمة تكشف عن اعوجاج منطق الغربيّين الذين يريدون

ص:312

من الآخرين احترام عقائدهم و عدم المساس بمقدساتهم و عدم تجاوز الخطوط الحمراء عندهم، و الحال انّهم لا يعيرون لمقدّسات الآخرين و حرماتهم وزناً،ففي الوقت الّذي يدعون فيه إلى الحوار و التعددية (الپلوراليسيم) و يعتبرون ذلك من مفاخر ثقافتهم الفكرية و السياسية،نجدهم يناقضون أنفسهم في حصر الحوار و السماح للحرية الفكرية بمن هو على مذهبهم الفكري،أو ممّن يسير على نهجم من الشرقيين المغتربين.

إنّ الغرب و إن ترك وراءه مرحلة الاستعمار المباشر و لكنّه لم يتجرّد عن الفكر الاستعماري لحد هذه اللحظة فهو يعيش إلى الآن فكر الهيمنة و التسلط على الآخرين و لكن هذه المرّة باسلوب جديد حيث يسعى للهيمنة على أفكار الآخرين و إملاء ما يؤمن به عليهم.

و لا ننسى أن نشير إلى أنّ جريمة الاعتداء على حرم الإمامين العسكريين عليهما السلام في مدينة سامراء،و الّتي هي جزء من سلسلة المؤامرات للاعتداء على المقدسات و إهانتها.

إنّه حدث فجيع و عمل وحشي هزّ العالم الإسلامي بأسره و من الاعماق،و جرح قلوب المحبين للنبي الأكرم و أهل بيته الطاهرين عليهم السلام و أحزنهم حزناً كبيراً.

لقد انكشفت حلقتان من حلقات السيناريو التآمري على الإسلام و المسلمين و هتك مقدّساتهم،و لا شكّ انّ اليد الخفية الّتي تقف وراء هذه الأعمال الأجرامية هي يد الصهيونية العنصرية و الغرب الاستعماري، فتارة يسعون لإثارة الحروب الصليبية بين المسيحيّين و الإسلام،و أُخرى يسعون لإثارة الفتنة بين أبناء الدين الواحد الشيعة و السنّة،انّهم حقاً يتصيّدون بالماء العكر.

من هنا يجب على قادة الدول الإسلامية وقادة و علماء الأديان مواجهة هذا

ص:313

الخطر و القضاء على الخطط الشيطانية،و إخمادها في مهدها،و صيانة حريم الأديان من مخالب ثلة من المجرمين الذين لا يعرفون للإنسانية معنى من خلال رسم خطط و برامج دقيقة و حوارات بناءة.

و لا شكّ انّ منظمة العالم الإسلامي لها الدور الفاعل و المهم في هذا المجال،إذ باستطاعتها أن تلعب دوراً عظيماً،و كذلك الأمين العام للأُمم المتحدة المحترم هو الآخر يمكن أن يمارس دوراً أساسياً في هذا المجال و الإسراع في تقديم هؤلاء الجناة إلى المحاكم الدولية للقضاء على هذه الفتنة الّتي يراد إثارتها،و بهذا يكون الأمين العام قد أدّى الأمانة الّتي أُلقيت على عاتقه أمام المنظمة و الدول الأعضاء.

و أخيراً نطالب جنابكم بالسعي الجادّ في كشف الجناة و تقديمهم إلى المحاكم الدولية من أجل تعزيز الصلح و السلام العالميين و صيانة حقوق كافة الشعوب و الأقوام.

جعفر السبحاني

إيران-قم

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

1384/12/4ه.ش.

الموافق 23شباط 2006م.

ص:314

6 الأواصر العلمية بين علماء الشيعة و السنة و شرح العلاّمة الحلّي لمختصر الحاجبي

اشارة

العلاقة بين علماء الشيعة و السنّة كانت وطيدة و راسخة عبر القرون،و لم تمنع الاختلافات الفكرية أو العقائدية من حصول الزمالة بينهم في مجالات العلم و الفكر و الأدب،و السبب في ذلك هو وجود مشتركات هائلة بينهم،فكان العمل على ضوئها موجباً لنشر الثقافة الإسلامية و إرساء دعائمها،و هذا هو التاريخ يُحدّثنا عن تبادل التحديث بينهم،و تتلمذ لفيف من علماء السنة لدى علماء الشيعة و بالعكس في شتى مجالات المعارف الإسلامية.و إليك نماذج من التعامل العلمي.

1.الشيخ الكليني:محمد بن يعقوب الرازي الكليني (المتوفّى 329ه) مؤلف الكافي في سبعة أجزاء أحد الجوامع الحديثية للشيعة،حدّث ببعلبك و روى عنه غير واحد من شيوخ السنة منهم:ابن عساكر قال:

أبو جعفر الكليني الرازي من شيوخ الرافضة،قدم دمشق و حدّث ببعلبك عن أبي الحسين محمد بن علي

ص:315

الجعفري السمرقندي،و محمد بن أحمد الخفّاف النيسابوري،و علي بن إبراهيم بن هاشم.

روى عنه أبو سعد الكوفي شيخ الشريف المرتضى،و أبو عبد اللّه أحمد بن إبراهيم،و أبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي،و عبد اللّه بن محمد بن ذكوان.

أنبأنا أبو الحسن...بن جعفر قالا:أنا جعفر بن أحمد بن الحسين بن السراج،أنا أبو القاسم المحسن بن حمزة...الورّاق بتنيس أنا أبو علي الحسن بن علي بن جعفر الديبلي بتنيس في المحرم سنة خمس و تسعين و ثلاثمائة،أنا أبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي،أخبرني محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم إلى أن انتهى الاسناد إلى أمير المؤمنين أنّه عليه السلام قال:«إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله». (1)

2.الشيخ الصدوق محمد بن الحسين بن بابويه (306- 381ه) شدّ الرحال لطلب الحديث إلى أرجاء العالم الإسلامي كالريّ،و استرآباد،و جرجان،و نيسابور،و مشهد الرضا عليه السلام،ومروالروذ،و سرخس، و إيلاق،و سمرقند،و فرغانة،و بلخ من بلاد ما وراء النهر،و همدان و بغداد،و الكوفة،و فيد،و مكة،و المدينة.

فقد أخذ في هذه البلاد الحديثَ عن مشايخها من غير فرق بين السني و الشيعي،و قد بلغ عدد مشايخه إلى مائتين و ستين شيخاً من أئمّة الحديث،و لا بأس بأن نذكر أسماء بعض محدثي السنة الذين أخذ الحديث منهم.

حدّثه بنيسابور أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن عبيد الضبي المرواني

ص:316


1- 1) .تاريخ ابن عساكر:297/56؛ [1]مختصر تاريخ دمشق:362/23.

النيسابوري،و قد روى عنه في علل الشرائع. (1)

حدّثه بإيلاق،بكر بن علي بن محمد بن فضل الحنفي الشاشي (2)الحاكم. (3)

كما أخذ عنه الحديث جماعة من السنّة منهم:محمد بن طلحة النعالي البغدادي من شيوخ الخطيب البغدادي،و أبو بكر محمد بن علي بن أحمد،و آخرون. (4)

هذه نماذج من مشايخ الصدوق من السنة و تلامذته منهم.

3.و إذا ما وقفنا قليلاً عند تلميذه العبقري الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان البغدادي) لتجلّت لنا مكانته السامية في أوساط الأُمّة،و قدرته الفائقة على اجتذاب القلوب،فكان يرتاد مجلسه العلماء و روّاد المعرفة من كافة الطوائف الّتي احتشدت عند موته باكية،نادبة عالمها الفذ،ذا القلب الكبير،و الإيمان الراسخ، و العطاء الثرّ.

و إليك بعض الكلمات الّتي تصف جلالته و سمو شخصيته،و التفاف الناس حوله.

كان له مجلس بداره بدرب رباح يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف. (5)

و قال الذهبي نقلاً عن تاريخ ابن أبي طيّ:كان قوي النفس كثير البرّ عظيم الخشوع عند الصلاة و الصوم. (6)

ص:317


1- 1) .علل الشرائع:56.
2- 2) .الشاش مدينة في ما وراء النهر ثمّ ما وراء نهر سيحون.
3- 3) .كمال الدين:170. [1]
4- 4) .موسوعة طبقات الفقهاء:434/4. [2]
5- 5) .المنتظم:157/15؛البداية و النهاية:17/12. [3]
6- 6) .سير أعلام النبلاء:344/17.

كما نقل عنه ابن حجر في«لسان الميزان»:ما كان ينام من الليل إلاّ هجعة ثمّ يقوم يصلي أو يطالع أو يدرس أو يتلو القرآن. (1)

توفي ببغداد سنة ثلاث عشرة و أربعمائة و كان يوم وفاته يوماً مشهوداً.

و صلّى عليه الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بميدان الاشنان و ضاق على الناس مع كبره. (2)

و كان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه و كثرة البكاء من المخالف و المؤالف. (3)

4.إمام الأدب و التفسير و الفقه الشريف المرتضى (355- 436ه) وصفه ابن بسام الأندلسي في أواخر كتاب الذخيرة بقوله:كان هذا الشريف إمام أئمّة العراق بين الاختلاف و الاتفاق،إليه فزع علماؤها،و عنه أخذ عظماؤها،صاحب مدارسها،و جَمّاع شاردها و آنسها،ممن سارت أخباره و عرفت له أشعاره،و حمدت في ذات اللّه مآثره و آثاره،إلى تواليفه في الدين و تصانيفه في أحكام المسلمين ممّا يشهد أنّه فرع تلك الأُصول و من أهل ذلك البيت الجليل. (4)

و يقول ابن خلكان في وصف كتابه الأمالي:و له الكتاب الّذي سماه«الغرر و الدرر»و هي مجالس أملاها تشتمل عن فنون من معالي الأدب تكلم فيها على النحو و الفقه و غير ذلك،و هو كتاب ممتع يدل على فضل كثير و توسع في الاطلاع و العلوم. (5)

ص:318


1- 1) .لسان الميزان:368/5.
2- 2) .رجال النجاشي برقم1067.
3- 3) .فهرست الشيخ الطوسي:238 برقم 711. [1]
4- 4) .وفيات الأعيان:313/3،برقم 443 [2] نقلاً عن ابن بسّام.
5- 5) .المصدر نفسه. [3]

5.شيخ الطائفة الطوسي محمد بن الحسن (385- 460ه)،أخذ عن مشايخ الشيعة كالمفيد و المرتضى،و في الوقت نفسه أخذ عن غيرهم كأبي علي بن شاذان و أبي منصور السكري. (1)

يقول الذهبي:كان الشيخ الطوسي مقيماً ببغداد و كانت داره منتجعاً لروّاد العلم و بلغ الأمر من الاكبار له أن جعل له القائم بأمر اللّه كرسي الكلام و الإفادة. (2)

و يقول الشيخ محمد أبو زهرة المصري أحد كبار علماء السنة:كان شيخ الطائفة في عصره غير منازع و كتبه موسوعات فقهية،و علمية،و كان مع علمه بفقه الإمامية،و كونه أكبر رواته،عالماً بفقه السنة،و له في هذا دراسات مقارنة،و كان عالماً في الأُصول على المنهاجين:الإمامي و السنّي. (3)

6.فقيه الطائفة أبو جعفر محمد بن المنصور المعروف بابن إدريس الحلّي (543-598ه) ذكر في كتابه صلته بفقهاء أهل عصره من الشافعية.قال:و قد كتب إليّ بعض فقهاء الشافعية،و كان بيني و بينه مؤانسة و مكاتبة:هل يقع الطلاق الثلاث عندكم؟ و ما القول في ذلك عند فقهاء أهل البيت عليهم السلام ؟فأجبته:أمّا مذهب أهل البيت فإنّهم يرون أنّ الطلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس واحد و حالة واحدة دون تخلل المراجعة لا يقع منه إلاّ واحدة. (4)

7.المؤرّخ الكبير عبد الكريم بن محمد الرافعي القزويني من أعلام القرن السادس أخذ الحديث من شيخ الشيعة علي بن عبيد اللّه المعروف بمنتجب الدين

ص:319


1- 1) .مقدمة«التبيان»:52- 53،عند عدّ مشايخه،برقم 7-8.
2- 2) .سير اعلام النبلاء:334/18،برقم 155.
3- 3) .موسوعة طبقات الفقهاء:281/5. [1]
4- 4) .كتاب السرائر:678/2- 679.

صاحب الفهرس المعروف (المتوفى سنة 600ه)،و قال في حقّه:علي بن عبيد اللّه بن حسن بن حسين بن بابويه،الرازي،شيخ ريّان من علم الحديث،سماعاً و ضبطاً و حفظاً و جمعاً،يكتب ما يجد و يسمع ممن يجد،و يقلّ من يدانيه في هذه الأعصار في كثرة الجمع و السماع و الشيوخ الذين سمع منهم و أجازوا له، و ذلك على قلّة رحلته و سفره.ثمّ ذكر مشايخه على التفصيل،إلى أن قال:لم يزل كان يترقب بالري و يسمع من دبّ و درج،و دخل و خرج و جمع الجموع و كان يسوّد تاريخاً كبيراً للري فلم يُقض له نقله إلى البياض، و أظن أن مسودّته قد ضاعت بموته و من مجموعه كتاب الأربعين الّذي نبأه (1)على حديث سلمان الفارسي رضى اللّه عنه،المترجم لأربعين حديثاً و قد قرأته عليه بالريّ سنة أربع و ثمانين و خمس (2)مائة.

و يظهر أيضاً أنّه قرأ عليه في سنة أُخرى أيضاً:يقول و قد قرأت عليه في شوّال سنة خمس و ثمانين و خمسمائة. (3)

8.إمام اللغة و الأدب مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الفيروزآبادي مؤلف كتاب«القاموس» الطائر الصيت،روى عن فخر المحقّقين محمد بن الحسن الحلّي (682- 771ه) كتاب«التكملة و الذيل و الصلة لكتاب تاج اللغة و صحاح العربية»و ذكر روايته عنه في اجازته لابن الحلواني قال:أجزت للمولى الإمام،الحبر الهمام،البحر الهلقام،زبدة فضلاء الأيام فخر علماء الأنام،عماد الملة و الدين«عوض» الفلك آبادي الشهير بابن الحلواني سقاه اللّه تعالى من الكلم

ص:320


1- 1) .و يحتمل أنّه«بناه».
2- 2) .التدوين في أخبار قزوين:372/3 و 374،375. [1]
3- 3) .نفس المصدر:377/3. [2]

الغرّ عذاب نطافها كما رزقه من أثمار العلوم لطاف اقطافها،أن يروي عني هذا الكتاب المسمى ب «التكملة،و الذيل و الصلة لكتاب تاج اللغة و صحاح العربية»بحق روايتي عن شيخي و مولاي-علامة الدنيا - بحر العلوم و طود العلى فخر الدين أبي طالب محمد بن الشيخ الإمام الأعظم،برهان علماء الأُمم،جمال الدين أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر،بحق روايته عن والده بحق روايته عن مؤلّفه الإمام الحجة برهان الأدب،ترجمان العرب ولي اللّه الوالي رضي الدين أبي الفضائل الحسن بن محمد الصغاني-رضي اللّه عنه و أرضاه و قدس مضجعه و مثواه-إلى أن قال:و كتبت هذه الأحرف في شهر ربيع الأوّل عمّت محاسنه - سنة سبع و خمسين و سبعمائة. (1)

9.أُسوة الحكماء و المتكلمين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي المعروف بنصير الدين (597- 672ه) وصفه الصفدي بقوله:كان رأساً في علم الأوائل لا سيما في الإرصاد المجسطي،و يقول بروكلمان الألماني:هو أشهر علماء القرن السابع و أشهر مؤلفيه إطلاقاً أخذ عن علماء السنة ككمال الدين بن موسى بن يونس بن محمد الموصلي الشافعي (المتوفّى639ه).

كما أخذ عنه العديد من كبار السنة كقطب الدين محمد بن مسعود الشيرازي و شهاب الدين أبو بكر الكازروني و أبو الحسن علي بن عمر القزويني الكاتبي. (2)

و قد ألف كتاباً أسماه ب«تجريد العقائد»،و قد طار صيت هذا الكتاب و اشتهر في الأوساط العلمية و شرحه غير واحد من السنّة،كشمس الدين محمد الاسفرائيني البيهقي،و شمس الدين محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الاصفهاني

ص:321


1- 1) .الجاسوس على القاموس:129- 130،طبعة قسطنطينة.
2- 2) .موسوعة طبقات الفقهاء:244/7. [1]

(المتوفّى 984ه) و علاء الدين علي بن محمد المعروف بالفاضل القوشجي(المتوفّى 879ه) الّذي وصف الكتاب المذكور بقوله:تصنيف مخزون بالعجائب،و تأليف مشحون بالغرائب،فهو و إن كان صغير الحجم،وجيز النظم،لكنّه كثير العلم،عظيم الإسلام،جليل البيان،رفيع المكان،حسن النظام،مقبول الأئمة العظام.لم يظفر بمثله علماء الأعصار،و لم يأت بمثله الفضلاء في القرون و الأدوار،مشتمل على إشارات إلى مطالب هي الأُمهات،مشحون بتنبيهات على مباحث هي المهمات،مملوء بجواهر كلّها كالفصوص،و محتو على كلمات يجري أكثرها مجرى النصوص،متضمن لبيانات معجزة في عبارات موجزة. (1)

10.جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب (570- 646ه) الأُصولي الطائر الصيت من كبار العلماء في الأدب و الفقه و الأُصول حيث ألف الشافية في الصرف و الكافية في النحو و قد شرحهما إمام الأدب و العربية في عصره رضي الدين الاسترآبادي(686ه) يصفه السيوطي بقوله:الرضي الإمام المشهور صاحب شرح الكافية لابن الحاجب،الّذي لم يؤلّف عليها،بل و لا في غالب كتب النّحو، مثلها،جمعاً و تحقيقاً،و حسنَ تعليل.و قد أكبّ النّاس عليه،و تداولوه و اعتمده شيوخ هذا العَصْر فمَن قبلهم، في مصنّفاتهم و دروسهم،و له فيه أبحاث كثيرة مع النّحاة،و اختيارات جَمّة،و مذاهب ينفرد بها؛و لقبه نجم الأئمّة،و لم أقف على اسمه و لا على شيء من ترجمته؛إلاّ أنّه فرغ من تأليف هذا الشرح سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة. (2)

و ألف ابن الحاجب كتاباً في أُصول الفقه أسماه«منتهى السئول و الأمل في

ص:322


1- 1) .شرح التجريد لعلاء الدين القوشجي:1.
2- 2) .بغية الوعاة:567/1 برقم 1188.

علمي الأُصول و الجدل»و هو مطبوع،ثمّ اختصره و سماه«مختصر السئول و الأمل»و هو أيضاً مطبوع و يعرف بمختصر ابن الحاجب و كان مداراً للتدريس لقرون،و قد اعتنى العلماء بشرحه،و قد ذكر محقّق كتاب «رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب»شرّاح المختصر فأنهى عددهم إلى خمسة و أربعين. (1)

و ممن شرحه إمام الشيعة في الفقه و الأُصول الحسن بن يوسف بن مطهر الحلّي (648- 726ه)،الّذي يصفه ابن حجر في«لسان الميزان»بقوله:عالم الشيعة و إمامهم و مصنفهم و كان آية في الذكاء. (2)

و ذكر شرحه ابن حجر في الدرر الكامنة،و قال:و شرحه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن في حل ألفاظه و تقريب معانيه. (3)

هذه نبذة عن الأواصر العلمية بين علماء الشيعة و السنة في مجالات الأدب و الحديث و الأُصول و غيرها،و هذه هي سيرة السلف الصالح،الّتي نأمل أن يقتدي بها الخلف الصالح من خلال الأخذ بالمشتركات،و انتهاج الأُسلوب العلمي في مناقشة المسائل المختلف فيها،بعيداً عن التعصب و التحزب.

و بما أنّ كتاب مختصر ابن الحاجب في أُصول الفقه كان كتاباً دراسياً حتّى في الأوساط الشيعيّة،فقد كان المحقّق الأردبيلي يُدرّس شرح العضدي على المختصر المذكور لتلميذيه المعروفين:الحسن بن زين الدين المعروف بصاحب المعالم،و السيد محمد بن علي المعروف بصاحب المدارك، (4)فلذلك عمدنا إلى

ص:323


1- 1) .رفع الحاجب:191/1- 224.
2- 2) .لسان الميزان:317/2برقم 1295 ذكره-للأسف بعنوان الحسين بن يوسف المطهر،مع أنّ اسمه الحسن،كما أنّه عنونه أيضاً باسم الحسين في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة:71/2. [1]
3- 3) .الدرر الكامنة:71/2. [2]
4- 4) .ريحانة الأدب:392/3؛ [3]روضات الجنات:48/7. [4]

إحياء ذلك الميراث القيّم الّذي كاد أن يعفي عليه الدهر و لم نعثر إلاّ على نسختين منه أشرنا إلى خصائصهما في تقديمنا على الجزء الأوّل من الكتاب.

***

و قبل الحديث عن مؤلف و شارح هذا المختصر نذكر معظم ما ألفه علماء الشيعة في أُصول الفقه إلى زمن العلاّمة الحلي رحمه الله.أي نهاية القرن السابع و أمّا الثامن فالعلاّمة الحلّي من أبطال ذلك العلم فيه و قد ألّف كتباً و ربّى جيلاً.

لم يكن علم أُصول الفقه أمراً مغفولاً عنه في عصر أئمّة أهل البيت عليهم السلام،و قد أملى الإمام الباقر و أعقبه الإمام الصادق عليه السلام قواعد كلية في الاستنباط و مشى على ضوئها أصحابهما و قد جمع ما أملاه الإمامان المحدّث الحر العاملي(المتوفّى 1104ه) في كتاب خاص و أسماه«الفصول المهمة في أُصول الأئمة».

كما جمع العلاّمة السيد شبر (1242ه) تلك الأحاديث في كتاب خاص أسماه«الأُصول الأصلية».

و تلاه السيد الشريف هاشم بن زين العابدين الخوانساري (المتوفّى 1318ه) فأودع تلك الأحاديث بشكل خاص في كتاب خاص أسماه«أُصول آل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم».

هذا ما يرجع إلى القرنين الأوّلين.

و أمّا في القرن الثالث فلم نقف إلاّ على كتاب«اختلاف الحديث و مسائله»لفقيه الشيعة يونس بن عبد الرحمن (المتوفّى 208ه). (1)

و في القرن الرابع قام العلمان الجليلان من بيت بني نوبخت بدور رئيسي في هذا الصدد،و هما:

ص:324


1- 1) .رجال النجاشي:211برقم 810.

أ.أبو سهل النوبختي إسماعيل بن علي (237- 311ه) فقد ألف الكتب التالية:

1.الخصوص و العموم.

2.الأسماء و الأحكام.

3.إبطال القياس.

يقول النجاشي:كان شيخ المتكلّمين من أصحابنا و غيرهم،له جلالة في الدنيا و الدين،ثمّ ذكر الكتابين الأوّلين. (1)

و يقول ابن النديم:هو من كبار الشيعة،و كان فاضلاً عالماً متكلّماً،و له مجلس يحضره جماعة من المتكلّمين،ثمّ ذكر الكتاب الأخير له. (2)

ب.الحسن بن موسى النوبختي،يعرّفه النجاشي بقوله:شيخنا المتكلّم المبرّز على نظرائه قبل الثلاثمائة و بعدها،ثمّ ذكر أنّ له كتاب:خبر الواحد و العمل به. (3)

و في القرن الخامس بلغ علم الأُصول مرحلة جديدة،و قد بسط أصحابنا فيها الكلام و نذكر منها ما يلي:

1.محمد بن محمد بن النعمان المفيد (336- 413ه) و هو شيخ الشيعة في عصره،صنف كتاباً باسم «التذكرة بأُصول الفقه»،و قد طبع ضمن مصنفات الشيخ المفيد.

2.الشريف المرتضى (355- 436ه) عرّفه النجاشي بقوله:هذا من

ص:325


1- 1) .رجال النجاشي:برقم 67.
2- 2) .فهرست ابن النديم:225. [1]
3- 3) .رجال النجاشي:برقم 146.

العلوم ما لا يدانه أحد في زمانه. (1)ألف كتاباً باسم الذريعة و قد طبع في جزءين،و قد فرغ منه عام 430ه.

3.سلاّر بن عبد العزيز الديلمي الشيخ المقدم في الفقه و الأدب،ألّف كتاب«التقريب في أُصول الفقه». (2)

4.الشيخ الطوسي(385- 460ه) الشيخ الجليل صاحب المؤلفات الكثيرة،ألف كتاب«العُدّة»في أُصول الفقه،و هو مطبوع منتشر.

و في القرن السادس:ازدهر علم أُصول الفقه أكثر ممّا سبق،و نذكر ممّا ألف فيه الكتابين التاليين لمؤلفين جليلين:

1.ابن زهرة الحلبي (511- 558ه) ألف كتاباً باسم:«غنية النزوع إلى علمي الأُصول و الفروع»خصّ الجزء الأوّل من هذا الكتاب بالكلام و أُصول الفقه،و هو مطبوع.

2.سديد الدين الحمصي الرازي،قال عنه منتجب الدين الرازي:الشيخ الإمام سديد الدين،علاّمة زمانه في الأُصولين،ورع ثقة،و ذكر مصنفاته الّتي منها:المصادر في أُصول الفقه،و التبيين و التنقيح في التحسين و التقبيح،حضرت مجلس درسه سنين. (3)

و قد فرغ من كتابه«المنقذ من التقليد و المرشد إلى التوحيد»عام 581 ه في الحلّة الفيحاء عند منصرفه من زيارة الحرمين بالحجاز. (4)

و قد أشار إلى كتابه هذا ابن إدريس في سرائره قال:و لقد أحسن شيخنا محمود الحمصي رحمه الله فيما أورده في كتابه المصادر في أُصول الفقه. (5)

ص:326


1- 1) .رجال النجاشي:برقم 1067.
2- 2) .الذريعة:365/4. [1]
3- 3) .فهرست منتجب الدين:برقم389. [2]
4- 4) .المنقذ من التقليد:17.
5- 5) .السرائر:290/3.

و قد أكثر ابن إدريس من الثناء عليه و لا بأس بذكر ما قاله في حقه؛قال:سألني شيخنا محمود بن علي بن الحسين الحمصيّ،المتكلّم الرازي عن معنى قول أبي جعفر عليه السلام:قضى أمير المؤمنين عليه السلام بردّ الحبيس و إنفاذ المواريث،فقلت:الحبيس:الملك المحبوس على بني آدم من بعضنا على بعض مدة حياة الحابس دون حياة المحبوس عليه،فإذا مات الحابس فإنّ الملك المحبوس يكون ميراثاً لورثة الحابس و يحلّ حبسه على المحبوس عليه،فقضى برده إلى ملك الورثة-إلى أن قال:- فأعجبه ذلك،و قال:كنت اتطلّع على المقصود فيه و حقيقة معرفته و كان منصفاً غير مدع لما لم يكن عنده معرفة حقيقية و لا في صنعته،و ختاماً أقول:لقد شاهدته على خُلق قل ما يوجد في أمثاله من عودة إلى الحق و انقياده إلى ربقته،و ترك المراء و نصرته كائناً ما كان صاحب مقالته،وفقه اللّه و إيّانا لمرضاته و طاعته. (1)

و في القرن السابع ألف نجم الدين الحلي المعروف بالمحقّق (602- 676ه) ذلك الإمام الكبير في الفقه و الأُصول ألف كتابه:المعارج في أُصول الفقه،و قد طبع عدة مرات،و هو مع صغر حجمه إلاّ أنّه كبير المعنى.

قال في«أعيان الشيعة»:و من كتبه«نهج الوصول إلى معرفة علم الأُصول». (2)

المؤلف و الشارح بين يدي أصحاب التراجم

الكتاب الّذي نقدّمه إلى القرّاء الكرام هو تأليف عالمين كبيرين معروفين في الأوساط العلمية الإسلامية،و هما غنيان عن التعريف و التوصيف إلاّ أنّنا سنذكر

ص:327


1- 1) .السرائر:190/2.
2- 2) .أعيان الشيعة:192/4 و ج26/24. [1]

موجزاً من حياتهما ليكون ذلك كالتقدير لما بذلاه من جهود مضنية في إرساء و إغناء المعارف الإسلامية.

المؤلّف

هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الدوني (1)ثمّ المصري،الفقيه المالكي المعروف بابن الحاجب،الملقب ب«جمال الدين».كان والده حاجباً للأمير عز الدين موسك الصلاحي،و كان كردياً.

و اشتغل ولده أبو عمرو المذكور بالقاهرة في صغره بالقرآن الكريم،ثمّ بالفقه على مذهب الإمام مالك،ثمّ بالعربية و القراءات و برع في علومها و أتقنها غاية الإتقان.ثمّ انتقل إلى دمشق و درّس في جامعها في زاوية المالكية و كان الأغلب عليه علم العربية. (2)

ولد ابن الحاجب سنة 570 أو 571 ه،ب«إسنا»من بلاد الصعيد. (3)

و قال ابن خلكان:كان من أحسن خلق اللّه ذهناً...و جاءني مراراً بسبب أداء شهادات و سألته عن مواضع في العربية مشكلة،فأجاب أبلغ جواب بسكون كثير و تثبت تام. (4)

و يقول السيوطي:و صنف في الفقه مختصراً،و في الأُصول مختصراً،و في النحو الكافية و شرحها و نظمها،الوافية و شرحها،و في التصريف،الشافية و شرحها،و في العروض قصيدة،و شرح المفصّل سماه الإيضاح،و له الأمالي في النحو.

ص:328


1- 1) .و لعل الصحيح هو الدويني نسبة إلى دوين في آخر آذربيجان من جهة إيران،و بلاد الكرك.معجم البلدان:558/2. [1]
2- 2) .وفيات الأعيان:248/3برقم 413. [2]
3- 3) .سير اعلام النبلاء:265/23.
4- 4) .بغية الوعاة:250/3.

و أضاف:و مصنفاته في غاية الحسن،و قد خالف النحاة في مواضع،و أورد عليهم إشكالات و إلزامات مفحمة يعسر الجواب عنها،و كان فقيهاً مناظراً مفتياً مبرزاً في عدة علوم متبحراً ثقة ديناً ورعاً متواضعاً. (1)إلى غير ذلك من كلمات أصحاب التراجم الّتي تشبه بعضها بعضاً.

تصانيفه

ألف ابن الحاجب تصانيف-كما قال السيوطي-في نهاية الحسن،و إليك أسماء بعضها:

1.الكافية في النحو (مطبوع).

2.الشافية في الصرف (مطبوع).

3.المقصد الجليل و هي قصيدة في العروض (مطبوع).

4.مختصر في الفقه و يسمى جامع الأُمهات.

5.منتهى السئول (2)و الأمل في علمي الأُصول و الجدل(مطبوع).

6.مختصر منتهى السئول و الأمل،و يعرف بمختصر ابن الحاجب (مطبوع).

إلى غير ذلك من التصانيف الّتي احتفلت بذكرها كتب التراجم،و قد أنهاها محقّق كتاب«رفع الحاجب» إلى أربع و عشرين مؤلّفاً.

و في ختام كلامنا عن المؤلف نتحف القارئ الكريم بشيء نافع و جميل،و هو أنّ السيوطي يقول عند ذكر مؤلفاته:و له في العروض قصيدة و في نظمه قلاقة. (3)

ص:329


1- 1) .بغية الوعاة:165/2برقم 1632.
2- 2) .طبع دار الكتب العلمية (بيروت،1405ه) بعنوان«منتهى الوصول و الأمل».
3- 3) .بغية الوعاة:135/2.

فلو صحت هذه النسخة فالمعنى انّ في نظمه قلقاً و اضطراباً.

و لكن المنقول في الروضات عن الذهبي:و في نظمه بلاغة. (1)

و لعلّ الصحيح هو الثاني،لأنّه حسب الظاهر في مقام المدح لا الذم،و على كلّ تقدير فنحن نعرض هنا شيئاً من شعره الرائق في المؤنثات السماعية،و الّتي جمعها في ثلاثة و عشرين بيتاً،و انّي قد سمعتها لأوّل مرة من أُستاذي الكبير ميرزا محمد علي المدرس الخياباني (1296- 1373ه) مؤلف«ريحانة الأدب».

و كنت قد عزمت على شرح هذه القصيدة و أنا في أواسط العقد الثاني من عمري و لم يُقدّر لي القيام بذلك.

قال ابن الحاجب: نفسي الفداء لسائل وافاني

و عروض شعر و الذراع و ثعلب و الملح ثمّ الفاس و الوركان

ص:330


1- 1) .روضات الجنات:174/5.لم نعثر عليه في«سير اعلام النبلاء»و لا في«تاريخ الإسلام»،مع أنّ أكثر ما ذكره صاحب الروضات في ترجمته مأخوذ من هذين المصدرين.و لعلّه أخذ هذا الموضع من غير الذهبي دون أن يشير إلى مصدره.

و القوس ثمّ المنجنيق و ارنب

و ما أفاده في آخر القصيدة:«و قصيدتي تبقى...».

كلام حق،فقد بقت قصيدة في الأذهان و الكتب و ان بَلي جسمه.

و لعلّ هذا المقدار في التعرف على المصنّف كاف،و لمن أراد المزيد فليرجع إلى المعاجم خصوصاً «موسوعة طبقات الفقهاء»حيث وردت فيها مصادر ترجمته. (1)

ص:331


1- 2) .موسوعة طبقات الفقهاء،تأليف لجنة التحقيق في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام:152/7.

الشارح

لا عتب على اليراع إن وقف عن الإفاضة في تحديد شخصية لامعة تُعدّ من أبرز النوابغ و الفطاحل الذين يضنّ بهم الزمان إلاّ في فترات قليلة،فإنّ شارح المختصر هو من تلك الطبقة العليا و من أعاظم الفقهاء و الأُصوليين.و في كلمة:انّه شيخ الإسلام،و المجتهد الأكبر،و المتكلّم الفذ،و الباحث الكبير،جمال الدين أبو منصور المعروف بالعلاّمة الحلّي،و بآية اللّه على الإطلاق،و بابن المطهّر.ولد في شهر رمضان سنة 648ه و أخذ عن والده الفقيه المتكلم البارع سديد الدين يوسف،و عن خاله شيخ الإمامية المحقّق الحلي الذي كان له بمنزلة الأب الشفيق،فحظى باهتمامه و رعايته،و لازم الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي مدة و اشتغل عليه في العلوم العقلية و برع فيها و هو لا يزال في مقتبل عمره.

يعرفه معاصره أبو داود الحلي،بقوله:شيخ الطائفة،و علاّمة وقته،و صاحب التحقيق و التدقيق،كثير التصانيف،انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول و المنقول. (1)

و قال الصفدي:الإمام العلاّمة ذو الفنون،عالم الشيعة و فقيههم،صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته...و كان يصنف و هو راكب...و كان ريّض الأخلاق،مشتهر الذكر...و كان إماماً في الكلام و المعقولات. (2)

و قال ابن حجر في«لسان الميزان»:عالم الشيعة و إمامهم و مصنفهم،و كان آية في الذكاء...و كان مشتهر الذكر،حسن الأخلاق. (3)

ص:332


1- 1) .رجال أبي داود:119 برقم 461.
2- 2) .الوافي بالوفيات:85/13برقم 79. [1]
3- 3) .لسان الميزان:317/2.

يقول في الدرر الكامنة:اشتغل في العلوم العقلية فمهر فيها و صنّف في الأُصول و الحكمة،و كان رأس الشيعة بالحلّة،و اشتهرت تصانيفه و تخرج به جماعة،و شرحه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن في حل ألفاظه و تقريب معانيه،و صنف في فقه الإمامية و كان قيّماً بذلك داعية إليه...إلى أن قال:بلغت تصانيفه مائة و عشرين مجلداً. (1)

تصانيفه في علم الأُصول

قد تقدّم تصريح ابن حجر بأنّ تصانيف العلاّمة قد بلغت مائة و عشرين مجلداً،و من أراد أن يطلع على تصانيفه في مختلف العلوم الإسلامية من الفقه و الأُصول و المنطق و الكلام و الفلسفة و التفسير و الرجال فعليه أن يرجع إلى ما ألفه السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمه الله في ذلك المضمار و أسماه ب«مكتبة العلاّمة الحلّي».إلاّ أنّنا نقتصر في المقام بذكر تصانيفه في علمي المنطق و الأُصول،لأنّ هذا التقديم مختص بأحد كتبه في هذين المضمارين،فنقول:إنّ العلاّمة الحلّي قد ضرب في علمي المنطق و الأُصول بسهم وافر،فألّف فيهما مختصرات و متوسطات و مطوّلات،نشير أوّلاً إلى كتبه في علم الأُصول ثمّ نتطرق فيما بعد إلى كتبه في المنطق،فنقول:إنّ له في الأُصول كتباً عديدة،هي:

1.«مبادئ الوصول إلى علم الأُصول»،مطبوع،ذكره المصنّف لنفسه في الخلاصة،و في إجازته للسيد المهنّا.

2.«منتهى الوصول إلى علمي الكلام و الأُصول»ذكره المصنّف في الخلاصة،و في إجازته للسيد المهنّا،فرغ منه يوم الجمعة السادس عشر من شهر جمادى

ص:333


1- 1) .الدرر الكامنة:71/2. [1]

الأُولى سنة 687ه.

3.«نهج الوصول إلى علم الأُصول»،ذكره المصنّف في الخلاصة،و في إجازته للسيد المهنّا.و أحال في مبحث الحقيقة الشرعيّة من هذا الكتاب إلى كتاب«نهاية الوصول».

4.«تهذيب الوصول إلى علم الأُصول»مطبوع،ذكره المصنّف في الخلاصة،و إجازته للسيد المهنّا،و له شروح كثيرة.

5.«نهاية الوصول إلى علم الأُصول».ذكره المصنّف في إجازته للسيد المهنّا.

و عرّفه في«الخلاصة»بقوله:كتاب جامع في أُصول الفقه لم يسبقه أحد،فيه ما ذكره المتقدّمون و المتأخّرون ألّفه بالتماس ولده فخر الدين.و قد قامت لجنة التحقيق في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بتحقيقه و خرج منه ثلاثة أجزاء و الباقية منه قيد التحقيق و سيتم الكتاب في أجزاء خمسة إن شاء اللّه.

6.«غاية الوصول و إيضاح السبل»في شرح مختصر منتهى السئول و الأمل في علمي الأُصول و الجدل لابن الحاجب(المتوفّى 646ه) ذكره المصنّف في خلاصة الرجال،و هذا هو الكتاب الّذي بين يدي القارئ الكريم.

7.النكت البديعة في تحرير«الذريعة»للسيد المرتضى.

تصانيفه في المنطق

و قد عبّر ابن الحاجب عن المنطق بالجدل،و قد ألّف العلاّمة في هذا المضمار ما يقرب من عشرة كتب نشير إلى بعضها:

1.الأسرار الخفية في العلوم العقلية:فالجزء الأوّل منه في المنطق،و هو مطبوع.

ص:334

2.الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد:شرح فيه قسم المنطق من كتاب التجريد لأُستاذه المحقّق نصير الدين الطوسي،و هو مطبوع منتشر.

3.القواعد الجلية في شرح الشمسية:توجد نسخه في المكتبات. (1)

4.مراصد التدقيق و مقاصد التحقيق في المنطق و الطبيعي و الإلهي:ألفه لسعد الدين صاحب الديوان توجد نسخه في المكتبات. (2)

ثمّ إنّ البحاثة السيد عبد العزيز الطباطبائي ذكر له أربعة كتب في المنطق،و بما أنّها مفقودة فقد أعرضنا عن ذكرها. (3)

***

لمّا وقف الأُستاذ أبو سليمان على هذا المقال،أعجبه طرة عنوانه،أعني:الأواصر العلمية بين علماء الفريقين،كتب إلينا رسالة أبدى فيها بعض الملاحظات حوله الذي منها تغيير عنوانه إلى«بين علماء الشيعة و السنة»و نحن أيضاً امتثلنا أمره فغيّرنا العنوان إلى ما اقترحه.شكر اللّه مساعيه من عالم واع داع للتقريب قولاً و عملاً و ها نحن ننشر رسالته بتقدير و إكبار.

ص:335


1- 1) .مكتبة العلاّمة الحلّي:160.
2- 2) .نفس المصدر:185.
3- 3) .نفس المصدر:52،63،77،114،135،173،206.

7

رسالة الأُستاذ الفذ:الدكتور عبد الوهاب إبراهيم حول المقال السابق

سماحة العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة و بركاته

و بعد

فأسأل المولى جل و علا لسماحتكم دوام الصحة و العافية و حسن العاقبة.

سيدي:أشكر لسماحتكم كبير اهتمامكم بمراسلاتكم العلمية المفيدة أجلكم اللّه و رفع قدركم.

سيدي:تأملت بكثرة من الاهتمام الأوراق النفيسة الّتي بعثتم بها إليّ عبر الفاكس،و سررت بإبراز فضيلتكم هذه الحقيقة حقيقة التسامح بين علماء السنة و الشيعة الأقدمين،و ينبغي أن يطلع على هذا أبناء الإسلام في الوقت الحاضر حتى تضيق الفجوة الّتي يسعى لتوسعتها المغرضون.

أود أن أُشير إلى بعض الجوانب الّتي ارتأيتها أثناء القراءة لما خطته أناملكم الكريمة تقديماً للكتاب الأُصولي:

1.العنوان (الأواصر العلمية بين علماء الفريقين).

ما رأي سماحتكم لو كان العنوان بهذه العبارة:

(الأواصر العلمية بين علماء السنة و علماء الشيعة رحمهمُ اللّه) بدلاً من كلمة

ص:336

(الفريقين) فإنّها توحي بشيء من التفرقة و النزاع و هو ما نريد أن نتفاداه.

2.في الفقرة الثانية:«هذه نبذة عن زمالة الشيعة و السنة...»فقرة جميلة جداً فقط آمل استبدال عبارة (الّذي ينبغي أن تكون عليه أُمة الإسلام مهما تعدّدت مشاربها و اختلفت مذاهبهم) بالعبارة الموجودة (إذا ساعدت الظروف ذلك) أعتقد أنّ هذا واجب العلماء من كلا المذهبين السني و الإمامي،و يجب أن نوجد الظروف لهذا الاتجاه بحق و صدق كما فعل العلماء السابقون من كلا المذهبين.

سيدي:أشكر لسماحتكم سعة صدركم،و قد وقفت هذه الأيام على كتاب نفيس عنوانه (مختصر كتاب الموافقة بين أهل البيت و الصحابة).و هو مهم في موضوعه و محتواه،و أعتقد أنّ دراسته و نشره سيحقق و يحيي آمال المخلصين من العلماء الداعين للتقريب،و إنّي أحتفظ لسماحتكم بنسخة منه إن لم يكن متوافراً لديكم.

في الختام أُكرر شكري و دعائي لسماحتكم و سلامي العاطر لكافة الأساتذة و العلماء لديكم ممن حظيت بلقائهم و تشرفت بالاجتماع معهم،و إلى لقاء قريب على الأرض الطاهرة،إن شاء اللّه.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرفق لسماحتكم صورة غلاف كتاب الموافقة بين أهل البيت و الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين.

المخلص

عبد الوهاب أبو سليمان

1427/1/11ه

ص:337

8

«الإلهيات»و دورها في سد الفراغ الفكري

وصلتنا رسالة من أحد مثقفي العراق أشاد فيها بكتاب«الإلهيات»و ذكر أنّه سدّ الفراغ الموجود في الجانب العقائدي فيما يرجع إلى المبدأ و المعاد،و وقع الكتاب مورد إعجابه و نحن قبل أن نورد نص رسالته نشير إلى أمر:

روى أُستاذنا الأعظم السيد حسين البروجردي و هو طريح على فراشه في أواخر أيّام عمره الشريف أواسط شوال المكرم من شهور عام 1380ه عن جدّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«و أخلص العمل فإنّ الناقد بصير». (1)

و معنى الحديث أنّه سبحانه هو الناقد الّذي يعرف الخالص من المغشوش،و العمل العاري عن الرياء و السمعة عن العمل المقترن بهما.

و انطلاقاً من هذا الحديث أنّ تأثير كتاب«الإلهيات»في الأوساط الإسلامية و خاصة الشيعة الإمامية نابع من أنّ هذه المحاضرات قد دوّنت و حررت بمداد الإخلاص.فأرجو من اللّه سبحانه أن يجعل سائر أعمالنا خالصة لوجهه.

و إليك نص الرسالة المشار إليها:

ص:338


1- 1) .الاختصاص للمفيد:341؛بحار الأنوار:432/13 ح23. [1]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

و الصلاة و السلام على أكمل و أجمل الخلق أجمعين محمد و على آله الطيّبين الطاهرين.

الأُستاذ العلاّمة آية اللّه العظمى الشيخ جعفر السبحاني«دام ظله الوارف»

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد:

حين البدء في الكتابة لشخصكم الكريم نازعني أمران:

الأوّل:شدة الشوق إليكم،و الآخر التردد في الكتابة،و السبب هو أنّني لا أعلم إن كانت مخاطبتكم فيها شيء من الجرأة غير المستحسنة،فمثلنا ليس بالجدارة التي تؤهله لكي يكتب إليكم و لكن عذرنا ينبع من حسن النية في ذلك.

حتماً أنّكم تعلمون أنّنا في العراق عشنا فترة قاسية جداً،و لا أود الخوض في جوانبها المتعددة،بل فقط الإشارة إلى كبت الحرية الفكرية الحالكة،فكأنّ القول يبدو حقيقياً لو قلنا:إنّ من يحصل على كتاب ديني مهم كمن يجاهد في سبيل اللّه،فقد أصحرت المكتبات و قتل و سُجن الكثير من أصحاب الفكر الشيعي،إلاّ أنّ ثقتنا باللّه تعالى من أنّه برحمته لا يسمح للظلام أن يحط بكلكله تماماً،فكانت نعمة كبرى ان بدأنا مشوار معرفتكم في العام 1998 م من خلال مؤلفكم الفذ-الإلهيات-فأصبحت كلماتكم نقاط ضوء تجمعت و كبرت فأزالت سُدفة كادت أن تعشي القلوب.

و هكذا أخذنا و ضمن حلقة صغيرة من الشباب المؤمن نتذاكر في مواضيعه

ص:339

و قد وقانا اللّه العزيز من جلاوزة الدولة الذين يتابعون كلّ شيء حتّى الضيوف الذين يزورون بيوتنا.

لا أُريد الاطالة على سماحتكم و لكن لنؤكد فضل اللّه و فضلكم علينا في العراق في تلك الفترة و انّه كبير جداً،فقد كانت مقدمة كتابكم ساحرة و اخاذة تحولت إلى مفتاح لنشر أُصول الدين و باسلوبكم المجدد و المتجدّد حيث كنت أتحدّث بها لبعض الناس فكانوا ينجذبون لها بشكل غريب و عجيب ممّا يجعلهم يطلبون المزيد،و ما زلتُ أُواصل هذا العمل بعد سقوط النظام.

و قبل المقام لنا طلب لو سمحتم بتحقيقه لنا،و هو انّنا بحاجة إلى دعائكم لنا بالتوفيق على صعيد الآخرة و ليس الدنيا،لأنّكم من سبل اللّه تعالى.

و في الختام نبتهل إلى اللّه جل شأنه أن يُطيل بظلكم الظليل علينا و يزيدكم نوراً و يمتعكم بالصحة خدمة له تعالى و لأهل بيت النبوة سلام اللّه و صلاته عليهم و للشيعة و دمتم للمذهب و للإسلام و المسلمين.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

الفقير إلى اللّه

خادمكم كاظم أبو زيد-بغداد-العراق

حررت في 21 محرم1426/ه

الموافق 4 آذار2005/م

ص:340

9

اشارة

تعليق على مقال الدكتور عبد الكريم عكيوي

«تعقيب على تعقيب»

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قرأت في مجلة«بصائر الرباط»الّتي تُصدرها«دائرة الرباط العلمية للبحث و الدراسات الإسلامية»في المغرب،مقالاً يحمل عنوان:«تعقيب على تعقيب»بقلم د.عبد الكريم عكيوي،و قد نُشر المقال في العدد الثاني،المحرم 1427ه الموافق ل فبراير 2006م.و كان المقال تعقيباً على مقالي (1)الّذي نشر في نفس هذا العدد،و هو بدوره كان تعقيباً على مقال الدكتور الّذي نشر في العدد الأوّل من المجلة.

و كان الأحرى بالمجلة اتّباع الاسلوب المتعارف في المجلات،بالفصل بين المقال و ما يكتب تعقيباً عليه.و لكن خُولف هذا الأُسلوب فنُشر المقالُ و التعقيب في عدد واحد.

و نحن إذ نشكر هذا النفس الطويل لكاتبنا العزيز الّذي استغرق تعقيبه إحدى و عشرين صفحة،نذكر فيما يلي خلاصة ما جاء فيه ممّا يتعلق بموضوعنا،مع تعقيبها بالتحليل:

ص:341


1- 1) .لاحظ الجزء الخامس من الرسائل و المقالات:639- 645.

الأمر الأوّل

اشارة

ذكر الدكتور أنّ منهج البحث العلمي يقتضي ذكر كلّ مسألة في موضعها و بيانها في موطنها المناسب، فلا يجمع بين مفترقين.حيث إنّ بحثه كان في اختبار كذب الراوي عن طريق التاريخ و أمّا تعقيبنا فكان في مسألة عرض متن الحديث على التاريخ ليعلم كذبه أو علّته،و هما مسألتان متمايزتان،فلا معنى لتعقيب المسألة الأُولى (الّتى هي موضوع البحث للدكتور) بالمسألة الثانية الّتي هي موضوع التعقيب.

تحليلنا

لقائل أن يقول:إنّ هنا مسألة واحدة،لها صورتان:

أمّا المسألة فهي عرض الحديث-سنداً و مضموناً-على التاريخ.و الحديث-الّذي يعتمد عليه-يتألف من السند و المتن،فالراوي تارة يَكْذِب في جانب السند عن طريق التدليس،فيُظهر المرسَل مسنداً، و الموقوف مرفوعاً،إلى غير ذلك من أساليب التدليس.و أُخرى يَكْذِب في المضمون،فيسند إلى المعصوم ما لم يقله.فإذا عرضنا الحديث على التاريخ،فتارة يُستكشف كذب الراوي في جانب السند،و أُخرى كذبه في مضمون الحديث حيث أسند إلى المعصوم ما لم يقله.

فهاتان صورتان لمسألة واحدة،و هي عرض الحديث على التاريخ بسنده و مضمونه.فكما يمكن عدُّهما مسألتين،كذلك يصح لقائل أن يجعلهما صورتين لمسألة واحدة.و لا مشاحة في اختلاف الاعتبار، إذا كان هناك اتفاق في المعتبَر.

و ها نحن نمثل لكلّ من الصورتين حتّى يتضح انّهما وجهان لشيء واحد.

أمّا الصورة الأُولى:فنأتي بنفس المثال الّذي كتبه الدكتور،و هو ما أخرجه الخطيب البغدادي بسنده عن عفير بن معدان الكلاعي،قال:قدم علينا عمرو

ص:342

بن موسى حمص،فاجتمعنا إليه في المسجد فجعل يقول:حدثنا شيخكم الصالح،فلما أكثر علينا، قلت له:من شيخنا الصالح هذا سمّه لنا نعرفه؟ فقال:خالد بن معدان.قلت له:في أيّ سنة لقيتَه.قال:سنة ثمان و مائة،قلت:فأين لقيته؟ قال:لقيته في غزاة أرمينية.فقلت له:اتق اللّه يا شيخ و لا تكذب،مات خالد بن معدان سنة أربع و مائة،و أنت تزعم أنّك لقيته بعد موته بأربع سنين.

فهنا كشفَ التاريخُ عن كذب الراوي فيما ورد السند.

و أمّا الصورة الثانية:فنأتي بمثال ثالث غير ما كتبته في مقالي السابق،و هو أنّه إذا أسند إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم أحد سماسرة الأهواء ممن أشار إليهم الرسول الكريم في قوله:لا تكذبوا عليّ،فإنّ من كذب عليّ فليلج في النار (1)،و قال:إنّ قوله سبحانه «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ» 2 ،نزل في علي بن أبي طالب،و أنّ قوله سبحانه: «وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ» 3 نزل في عبد الرحمن بن ملجم،فإنّنا نستكشف من التاريخ كذب الحديث،إذ لم يكن عبد الرحمن بن ملجم صحابياً و لم ير النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتّى في صغره،حيث إنّه هاجر في خلافة عمر. (2)

و لعل القارئ الكريم يتعجب من هذا الحديث الموضوع و ربما يرى أنّه لم يتفوه به أحد،و لكن العجب في غير مورده،فإنّ من وقف على حياة المنحرفين عن الإمام عليّ يسهل عليه تصديق ذلك.

ص:343


1- 1) .رواه البخاري.لاحظ:فتح الباري:199/1برقم 38.
2- 4) .الاعلام للزركلي:339/3. [1]

و يكفيك ما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال:أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال:ما منعك ان تسُبَّ أبا التراب؟ فقال:أمّا ما ذكرتُ ثلاثاً قالهنَّ له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلن أسبَّهُ.

لأن تكون لي واحدةٌ منهنَّ أحبُّ إليَّ من حُمُر النِّعم.سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول له و قد خلَّفه في بعض مغازيه،فقال له عليٌّ:يا رسول اللّه خلَّفتني مع النّساء و الصّبيان فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوّة بعدي»و سمعتُهُ يقول يوم خيبر:«لأُعطينَّ الرّاية رجلاً يحبُّ اللّه و رسوله و يحبهُ اللّه و رسوله»قال:فتطاولنا لها،فقال:ادعوا لي عليّاً.فأُتي به أرمد فبصق في عينه و دفع الراية إليه ففتح اللّه عليه،و لمّا نزلت هذه الآية «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ» 1 دعا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً و فاطمة و حسناً حسيناً عليهم السلام فقال:«اللّهمّ هؤلاء أهلي». (1)

فإذا كان هذا حال كاتب الوحي و خال المؤمنين-حيث يحرّض سعداً على سبّ الإمام علي و يتعجب من امتناع«سعد»عنه-فما ظنك بحال غيره من محرفي الكلم عن مواضعه،فترى أنّه يحدث بأن آية النفاق نزلت في حقّ الإمام علي و آية الإيثار نزلت في عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي عليه السلام !! فدع عنك نهباً صِيح في حجَراته و لكن حديثاً ما حديث الرواحل

الأمر الثاني

اشارة

ذكر الدكتور قائلاً:و الّذي ظهر لي أنّ صاحب التعليق أراد أن يفهمنا أنّ المحدثين-و يقصد أهل السنّة خاصة-غاية جهدهم و منتهى طاقتهم النظر في

ص:344


1- 2) .صحيح مسلم:7 باب فضائل علي بن أبي طالب:ص 120.

الأسانيد و التعليق على الرواة،و لا شأن لهم بالمعاني و المتون،أي لا يعرفون شيئاً عن مسألة النقد الداخلي.ثمّ استشهد بكلامي و قال:هذا ما يفهم من قوله:«لا شكّ أنّ السنّة النبوية هي المصدر الثاني للعقيدة و الشريعة و أنّ المسلمين بذلوا جهودهم لجمع ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم من قول أو فعل أو تقرير بنحو لا مثيل له في الأُمم السابقة،و لكن هذا لم يكن مانعاً من وضع ضوابط لتمييز الصحيح من السنة عن السقيم،«و قد لجأ الأكثرون»في تمحيص السنة المتداولة إلى سبيل النقاش في أسانيد الحديث و رجاله،و خرجوا بنتائج باهرة، و صار التوفيق حليفاً لهم إلى حدٍّ ما.

تحليلنا

إنّما نسبه إليّ بقوله:«إنّ المحدثين غاية جهدهم و منتهى طاقتهم النظر في الأسانيد،و لا شأن لهم بالمعاني و المتون،و لا يعرفون شيئاً عن مسألة النقد الداخلي»،لا يوافق نص كلامي حيث قلت:«و قد لجأ الأكثرون»في تمحيص السنة المتداولة إلى سبيل النقاش في أسانيد الحديث»،و أين هذا من السالبة الكلية الّتي نسبها إلي؟ و قد أخذ مقالي موضوعاً للنقد.

و حاصل كلامي في المقال،و في كتابي المنشور باسم«الحديث النبوي بين الرواية و الدراية»:أنّ المحدثين ركّزوا على مناقشة الأسانيد دون المتون،و أنّ أكثر جهودهم كانت منصبّة على الأسانيد،و هذا لا ينافي وقوع النقد الداخلي في بعض الأحايين.و قد ذكر الدكتور موارد منها.

و الشاهد على ذلك أنّ المحدثين ألّفوا موسوعات كبيرة،أشبه بالمحيطات،حول الرجال،من عصر يقارب تدوين الحديث إلى يومنا هذا.

ص:345

فلاحظ ما ألّفه البخاري في هذا المجال باسم تاريخه،و الرازي باسم الجرح و التعديل،و ما جاء بعد ذلك من عشرات المؤلفات إلى عصر الذهبي و ابن حجر و غيرهما.

و أمّا النقد الداخلي فلم يؤلف فيه أي كتاب مفرد في ذلك.و لو كان لهم نقاش فانّما يذكرونه أحياناً بعد إيراد الحديث.

نعم،في الآونة الأخيرة،ألف الأُستاذ المصري،أبو رية،كتاباً باسم«أضواء على السنّة المحمدية»،و جاء بعده الأُستاذ محمد الغزالي فكتب كتاباً باسم«الحديث النبوي بين أهل النقل و الفهم»،فأحدث الكتابان ضجة كبرى في المجامع العلمية،حتّى أنّ أكثر خطباء الجمعة في السعودية،صبّوا جام سخطهم عليهما،و كأنّ الرجلين خرجا من دين اللّه تعالى،لمجرد مناقشتهم لمتون بعض الأحاديث.

و هذا ليس بمعنى أنّ كلّ ما ناقشوه صحيح،و لكنّهما شقّا طريقاً لتمييز الصحيح عن غيره،بهذين التأليفين.

و لو كان النقد الداخلي كالنقد السندي،لما اتَّسم كتابا البخاري و مسلم بالصحة و القدسية لكلّ ما ورد فيهما.

و هذا هو حديث الجساسة المروي في صحيح مسلم عن تميم الداري (1)،لا يقبله العقل و لا النقل، و لكن الاعتقاد بقدسية الكتابين،حال دون نقدهما.

الأمر الثالث

اشارة

ذكر الدكتور:انّ المؤاخاة الّتي كانت في المدينة انّما هي من آثار الأُخوّة في الدين و من فوائدها، فحصولها في المدينة لا يفيد أبداً أنّ الأُخوّة بين المهاجرين

ص:346


1- 1) .صحيح مسلم:203/8.

و الأنصار منتفية قبل ذلك و انّما هي الوجه العملي التطبيقي للاخوة،فقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأصحابه:«تآخوا في اللّه أخوين أخوين»لا يدل بوجه من الوجوه على أنّه ينفي عنهم الأُخوّة قبل الهجرة.

ثمّ فرّع على ذلك أنّه لا تعارض بين حصول المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار بالمدينة و بين قوله صلى الله عليه و آله و سلم لأبي بكر(في مكة):«أنت أخي».

و لا تعارض أيضاً بين قوله:أنت أخي و هما في المدينة و بين قوله له ذلك في مكة،لأنّه لا معنى للقول أنّه لمّا قال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لأبي بكر:أنت أخي في المدينة فلا يمكن أن يكون قد سبق أنّه قال مثل ذلك بمكة من قبل. (1)

تحليلنا

ما ذكره الدكتور-حفظه اللّه-أمر صحيح لا يخفى على من له إلمام بأساليب الكلام و لكنه أجنبي عن كلامي و مرامي و مقالي،و كأنّه-حفظه اللّه-لم يمعن النظر فيما كتبت،و إلاّ لمّا أطنب الكلام في نقد هذه الفقرة قرابة ست صحائف،و أقول صريحاً:إنّ ما نسبه إليّ [من اعتقادي بوجود التعارض بين حصول المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار في المدينة و قوله صلى الله عليه و آله و سلم لأبي بكر:«أنت أخي»].في مكة إلى آخر ما ذكره،غير صحيح جدّاً و إنّما هو استنباط شخصي له من كلامي،قادته إليه عاطفته الّتي طغت أحياناً،فصغت به عن منهج البحث العلمي،و دفعته إلى التجنّي في بعض الموارد،كقوله:أم أن صاحب التعليق غرضه أن يوصل إلينا....

و نحن لا نؤاخذه بشيء من ذلك،فصدرنا قد اتّسع و يتسع لأكثر منه،

ص:347


1- 1) .مجلة بصائر الرباط،العدد2،ص 138- 139.

و إنّما فقط نسجّل عتبنا عليه.

إذا ذهب العتابُ فليس ودٌّ و يبقى الودّ ما بقيَ العتابُ

هذا و من الواضح أنّ إثبات الأُخوّة في ظرف لا ينافي إثباتها في ظرف آخر متقدم عليه،خصوصاً إذا كان الموضوع مختلفاً بالعموم (المؤاخاة بين المهاجر و الأنصار) و الخصوص (المؤاخاة بين النبي و أبي بكر).

و لإيضاح مرامنا نذكر أُموراً نتمنى من الدكتور أن يمعن النظر فيها ثمّ يكتب ما يريد:

الأوّل:انّ الاخوة الدينية المطروحة في الحوار وردت في مواضع ثلاثة:

أ.ما رواه البخاري عن عروة أنّ النبي خطب عائشة إلى أبي بكر فقال له أبو بكر:انّما أنا أخوك فقال له:

انّما أنت أخي في دين اللّه و كتابه،و هي لي حلال.

هذا الحديث يُشكل موضوع البحث،و قد قلنا:إنّ التاريخ لا يصدقه و سيوافيك توضيحه.

ب.ما تضافرت عليه كتب الحديث من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم آخى في المدينة بين أصحابه من المهاجرين و الأنصار فآخى بين حمزة بن عبد المطلب و زيد بن حارثة،و بين الزبير و عبد اللّه بن مسعود إلى آخر ما ذكرناه في مقالنا السابق.

ج.ما رواه البخاري في باب فضائل أبي بكر عن أبي سعيد الخدري قال:خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الناس و قال:إنّ اللّه خيّر عبداً بين الدنيا و بين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند اللّه،قال:فبكى أبو بكر فعجبنا لبُكائه أن يُخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن عبد خُيّر فكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم هو المخيَّر و كان أبو بكر أعلمنا فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته و ماله أبا بكر و لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر و لكن أُخوّة الإسلام و مودّته لا يبقينّ في المسجد بابٌ إلاّ

ص:348

سُدَّ إلاّ باب أبي بكر. (1)و رواه مسلم (2)و نص الحديث يكشف عن أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قاله في مرض موته أو قُبيل ذلك الوقت،و من حُسن الحظ أنّ هذا الحديث لم يُرم بما رُمي به حديث الكتف و الدواة الذي رواه البخاري في غير موضع واحد من صحيحه فلاحظ.

و الحوار بيننا و بين الدكتور مركز على الحديث الأوّل فقط دون الثاني و الثالث و لو ورد الكلام حولهما فانّما هو لغاية الإيضاح أو الاستشهاد.

الثاني:الأُخوّة الدينية الإسلامية على وجهين:

أ.الأُخوّة الدينية الإسلامية الّتي عزز بها سبحانه الأُمة الإسلامية تشمل عامة المؤمنين،قال سبحانه:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» ثمّ رتب عليه آثاراً من قوله: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» و قوله: «لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ» ،و قوله: «وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ» 3 إلى غير ذلك من الآثار المترتبة على الأُخوّة الدينية العامة.

و هذا الوجه من الأُخوّة لا يختص بالمهاجرين و لا بالأنصار،بل يشمل كلّ من يستظل بظل الإيمان باللّه و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم.

و ما ورد من أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لعمر يا أخي أو لزيد:أنت أخونا،و لأُسامة:أنت أخي،فإنّما يراد به تلك الأُخوّة الواردة في الآية الكريمة،أعني قوله سبحانه: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ». 4

ب.الأُخوّة الدينية الإسلامية الخاصة الّتي تنعقد بين مسلمين،كالتي تمتّ

ص:349


1- 1) .صحيح البخاري:4/5،باب لو كنت متخذاً خليلاً.ط مصر.
2- 2) .صحيح مسلم:108/5كتاب فضائل الصحابة.

بعد هجرة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة المنورة،و كانت على أساس المشاكلة و المماثلة بين كلّ اثنين في الدرجات النفسية،و لذلك وقعت المؤاخاة فيها بين المهاجرين و الأنصار حتّى بين المهاجرين أنفسهم.روى الحاكم في«المستدرك»:أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم آخى بين أصحابه فآخى بين أبي بكر و عمر،و بين طلحة و الزبير،و بين عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف،فقال علي عليه السلام:يا رسول اللّه انّك قد آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:أما ترضى يا علي أن أكون أخاك؟ قال ابن عمر:و كان علي جلداً شجاعاً،فقال علي:بلى يا رسول اللّه،فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أنت أخي في الدنيا و الآخرة». (1)

ترى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم يضم الشكل إلى الشكل و يؤلف بينهما و يؤاخي بين أبي بكر و عمر،و بين طلحة و الزبير،و ادّخر صلى الله عليه و آله و سلم علياً لنفسه فخصّه بذلك.

و كان من آثار تلك الأُخوة التوارث.

ذكر ابن سعد بأسانيد الواقدي إلى جماعة من التابعين قالوا:لمّا قدم النبي المدينة آخى بين المهاجرين و آخى بين المهاجرين و الأنصار على المواساة،و كانوا يتوارثون و كانوا تسعين نفساً بعضهم من المهاجرين و بعضهم من الأنصار،و قيل:كانوا مائة،فلمّا نزل «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ» بطلت المواريث فيهم بتلك المؤاخاة.

الثالث:انّ الخُلّة المنفية في الحديث الثالث أي ما ذكره النبي صلى الله عليه و آله و سلم في مرض وفاته و قال:«و لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر،و لكن أُخوّة الإسلام و مودته»هي الخلّة الخاصة لا الخُلّة العامة و إلاّ فهي ثابتة للمؤمنين عامة قال سبحانه: «الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ» 2 ،و في الوقت نفسه

ص:350


1- 1) .مستدرك الحاكم:ج3،كتاب الهجرة:ص 14؛فتح الباري:271/7.

يكون قرينة على أنّ المراد من الأُخوّة في ذيل الحديث هي الأُخوّة الدينية العامة و لذلك قال صلى الله عليه و آله و سلم:

«و لكن أُخوّة الإسلام و مودّته».و لم يقل أنت أخي.

***

إذا تبين ما ذكرنا فلنعد إلى دراسة الحديث الأوّل و هو أنّ الحديث يتضمن أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم خطب عائشة إلى أبي بكر فقال له أبو بكر:إنّما أنا أخوك فقال له:إنّما أنت أخي في دين اللّه و كتابه و هي لي حلال».

فعندئذٍ يقع الكلام فيما هو المراد من الأُخوّة المطروحة في كلام أبي بكر فهنا احتمالان:

1.أن يراد بها الأُخوّة الدينية العامة،لكنّها احتمال بعيد جدّاً...إذ لا يخفى على مسلم أنّ هذا الوجه من الأُخوّة غير مانع من التزويج و إلاّ لبطل نكاح المسلمين مع المسلمات قاطبة.

2.أن يريد به الأُخوّة الخاصة الّتي تنعقد بين شخصين التي جسّدها النبي صلى الله عليه و آله و سلم في المدينة المنورة بين المهاجرين و الأنصار حتّى بين أبي بكر و عمر،فهذا النوع من الأُخوّة يصلح أن يكون ذريعة للامتناع من التزويج بأن تقوم الأُخوّة الاعتباريّة مكان الأُخوّة النسبية كما قامت الأُخوّة الرضاعية مكان النسبية،و بهذا يفسر قول زيد بن خارجة انّ بنت حمزة بنت أخي. (1)

و قد ورد أنّ النبي آخى بينهما في المدينة المنورة.

و هذا الاحتمال لو ثبت يكون للحديث معنى صحيح،لكنّه بعيد من وجهين:

أوّلاً:ننزه أبا بكر عن الاعتقاد بأنّ الأُخوّة الاعتبارية بين شخصين تمنع عن

ص:351


1- 1) .فتح الباري:271/7.

التزويج و تقوم مقام الأُخوّة النسبية.

و أمّا إيجابها التوارث،فإنّما ثبت بنص النبي و بيانه في دار الهجرة،و لو لا تصريحه بذلك،لما تبادر إلى ذهن أحد ترتّب التوارث على هذا النوع من الأُخوّة.

نعم قد يحتمل حرمة التزويج،الإنسانُ البسيط الغافل عن الشريعة و تعاليمها.

ثانياً:سلّمنا أنّ أبا بكر كان يعتقد بأنّ الأُخوّة الاعتبارية تمنع عن تزويج البنت للأخ لكن التسليم انّما يفيد لو تحقّق ذلك النوع من الأُخوّة بين النبي و أبي بكر قبل الهجرة،و هو في غاية البعد،إذ لو كانت لاشتهرت بين الصحابة،لأنّها فضيلة رابية لا تدانيها فضيلة أُخرى.و لكن لم يرد في حديث مسند أو مرسل أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم آخى بينه و بين أبي بكر كما آخى في المدينة بينه و بين علي عليه السلام.نعم نقل ابن حجر عن عبد البرّ انّه كانت المؤاخاة مرتين،مرة بين المهاجرين خاصة و ذلك بمكة و مرّة بين المهاجرين و الأنصار (1)و لو صحّ ما ذكره فقد كانت المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم،لا بين النبي و شخص آخر على أنّ عبد البرّ تفرد في نقله هذا و لم نقف على سنده،و على فرض الصحة فقد آخى بين المسلمين بمكة لا بين نفسه و شخص آخر،و لو أنّه اختار أبا بكر أخاً لنفسه لاشتهر و بان.

هذا ما قصدناه في مقالنا.

و حصيلة الكلام أوّلاً:أنّ المؤاخاة العامة لا تصلح أن تكون ذريعة للامتناع من التزوج،و أمّا المؤاخاة الخاصة فهي تصلح أن تكون مانعة لكن عند بعض البسطاء لا عند مثل أبي بكر.

و ثانياً:لو تنزّلنا و قلنا بأنّه كان يعتقد بأنّ حرمة تزويج البنت من آثار الأُخوّة

ص:352


1- 1) .فتح الباري:271/7.

الاعتبارية التنزيليّة لكن وجود الموضوع (الأُخوّة) بعيد جداً،إذ لو كان لاشتهر و بان. (1)

الأُخوّة العرفية

يظهر من بعض مواضع كلام الدكتور أنّ مراد أبي بكر من قوله:«إنّما أنا أخوك»ما يمكن أن يعبر عنه بالأُخوّة العرفية حيث قال:«فأخوة أبي بكر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و صحبته له أشهر من أن يحتاج أبو بكر إلى موقف خاص يشهد له:فهو بمنزلة أخيه لقرب سنيهما و لقوة صحبتهما و كثرة اجتماعهما حتّى كأنّهما أخوان من أب واحد تحت سقف واحد.و من وجوه هذا قصة الهجرة حين اشتد الأذى على رسول اللّه استأذنه أبو بكر في الخروج-ثمّ ذكر حديث خروجه من مكة إلى المدينة-ثمّ يقول:و من هذا الحديث يقول السيد جعفر السبحاني:«انّ ما هو مسلم به هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمضى هو و أبو بكر ليلة الهجرة و ليلتين أُخريين بعدها في غار ثور الّذي يقع جنوب مكة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة»-إلى أن قال-و قد خلد الذكر الحكيم هذا المقام لأبي بكر فهو يُتلى و يتعبد بتلاوته إلى أن تقوم الساعة.

تحليلنا

إنّ تفسير الأُخوّة بالنحو الّذي عُلم من كلام الدكتور لا يمنع من التزويج عند العقلاء،فالمعاشرة القريبة بين الشخصين لا تجعلهما أخوين على نحو تحرم بنت أحدهما على الآخر عرفاً حتّى تكون مانعاً عن التزويج عند أبي بكر.

ص:353


1- 1) .نطلب من سماحة الدكتور،ان لا يذهب يميناً و لا يساراً بل،يبيّن آراءه و نظرياته حول ما ذكرناه.

ثمّ إنّ ما نقله عنا حيث قال:«و عن هذا الحديث يقول السيد جعفر السبحاني إلى آخره»ليس له في مقالنا المنشور في المجلة عين و لا أثر و لو نقله عن مصدر آخر كان عليه الإشارة إلى مصدر النقل.

إنّ الّذي حدا بالكاتب إلى الإسهاب،و التعرض للمسائل الجانبية،هو العاطفة الدينية،و إلاّ فأيّة صلة بين دراسة الحديث و بين هذا التفصيل في موضوع هجرة أبي بكر مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟ إذ كان يكفي الإشارة إليه و الحديث عنه بإيجاز.

و لو لا خشية الابتعاد عن الموضوع،و خدش العواطف،لتناولنا بالدراسة الآية الّتي خصّت النبي بالسكينة في غار ثور «فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها» 1 ،و الآيات الّتي تحدّثت عن نزول السكينة على الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و على المؤمنين،في بعض المواقف،كقوله تعالى: «ثُمَّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» 2 ، و قوله: «فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ». 3

و لكن حفظاً للوئام و ان لا تُكدر مياه الصفو،تركنا الكلام فيها.

الأمر الرابع

اشارة

قال الدكتور:الحديث الثاني أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال:كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان و لا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه و آله و سلم:يا نبي اللّه ثلاثٌ أعطنيهن،قال:نعم.قال:عندي أحسن العرب و أجمله أُم حبيبة بنت أبي

ص:354

سفيان أزوجكها.قال:نعم.قال:و معاوية تجعله كاتباً بين يديك.قال:نعم.قال و تؤمّرني حتّى أُقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.قال:نعم.و قد جزم السيد جعفر السبحاني أنّ الحديث موضوع لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم تزوج أُم حبيبة قبل إسلام أبيها أبي سفيان بزمن طويل.و أورد الدكتور في هذا المقام ما هذا حاصله:

«-إنّ الجزم بالوضع و القطع به لا يكون إلاّ عند ما يتبين صريحاً،و لم يكن للحديث محمل من الوهم و الغلط بوجه من الوجوه.و هذا الحديث ليس بهذه الصفة.فجهة الإشكال فيه إنّما في تسمية أم حبيبة فقط.

أمّا باقي العناصر فليس فيها إشكال.أمّا زواج النبي من بنت أبي سفيان فهو ثابت مقرر،و أمّا كون معاوية كاتباً فلا اعتراض عليه،و أمّا جهاد أبي سفيان بعد إسلامه فحاصل في مشاهد مختلفة في زمن النبوة و بعده».

«ثمّ قال:و لما انحصر الإشكال في تسمية أُم حبيبة،نظر المحدثون في سائر ملابسات الحديث و الظروف المتصلة به فوجدوا أنّ زواجه صلى الله عليه و آله و سلم من أُم حبيبة ثابت صحيح،و وجدوا أيضاً أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم عرضت عليه بنت أُخرى لأبي سفيان و هي أُخت أُم حبيبة.فقوي بذلك احتمال حصول الوهم لأحد رواة الحديث».

«فعند مسلم (ح2626) عن أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان قالت:دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقلتُ له هل لك في أُختي بنت أبي سفيان فقال:أفعل ما ذا؟ قلت:تنكحها،قال:أو تحبين ذلك؟ قلت:لست لك بمخليةٍ و أحبُّ من شركني في الخير أُختي،قال:فإنّها لا تحلُّ لي.قلت:فإنّي أُخبرت أنّك تخطب درَّة بنت أبي سلمة.

قال:بنت أُمّ سلمة! قلت:نعم قال:لو أنّها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلّت لي إنّها ابنةُ أخ من الرضاعة أرضعتني و أباها ثويبةُ فلا تعرضن عليَّ بناتكنَّ و لا أخواتكنَّ».

ص:355

«فإذا ثبت أنّ أُمّ حبيبة عرضت أُختها على رسول اللّه،فالاحتمال قائم على أن تكون هي الّتي عرضها أبوها أيضاً غاية الأمر أنّ ذكر اسم«أُمّ حبيبة»وهم.ثمّ استشهد بكلام الصنعاني بأنّ في الحديث غلط و وهم في اسم المخطوب لها النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هي عزّة-بفتح العين المهملة و تشديد الزاء-و هي أُخت أُمّ حبيبة، فخطب أبو سفيان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بها و خطبته لها أُختها،كما ثبت في الصحيحين فأخبرها بتحريم الجمع بين الأُختين».

تحليلنا

1.ما نسبه الدكتور إليّ من كون الحديث موضوعاً غير صحيح و انّما قلت:عليل،و إليك نص كلامي في مقالي المطبوع في المجلة و في نفس العدد.

«لا يشك أي باحث متضلع في التاريخ الإسلامي أنّ الحديث عليل،لاتّفاق المسلمين على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم تزوج بأُمّ حبيبة قبل فتح مكة». (1)

و كونه عليلاً واضح جدّاً بشهادة أن أقطاب الحديث صاروا إلى تصحيحه بوجوه مختلفة أفضلها عند الدكتور طروء الوهم و الغلط على الحديث و انّ المخطوب لها كانت أُخت أُمّ حبيبة لا نفسها.

2.روى مسلم في صحيحه أنّ أُمّ حبيبة قالت للنبي صلى الله عليه و آله و سلم هل لك في أُختي بنت أبي سفيان،فقال:أفعل ما ذا؟ قلت تنكحها...الخ.

و هذا عليل مضموناً،فكيف يكون شاهداً لتصحيح الخبر السابق؟ ذلك أنّ اقتراح أُمّ حبيبة كان بعد عام الفتح الّذي أسلم فيه أبو سفيان و هو العام الثامن من الهجرة،فهل يتصور أن تجهل زوجة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حكم الجمع بين

ص:356


1- 1) .بصائر الرباط،العدد:2 ص 124.

الأُختين حتّى تخطب أُختها لرسول اللّه؟! كيف و قد أمر سبحانه زوجات النبي بالقعود بالبيت و تلاوة كتاب اللّه و قال: «وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً». 1

و قد ملأ أسماع المسلمين قوله سبحانه: «وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً». 2

و ليست مسألة الجمع بين الأُختين من المسائل الّتي لا تتعلق بالنساء حتّى يستسهل جهلهن بها،بل هي من المسائل التي لها مساس بحياتهن العائلية.

فإذا كان حال الشاهد فكيف حال المشهود له؟!

3.انّ الدكتور أشار في غير موضع من كلامه بحسن إسلام أبي سفيان فقال في موضع:و أمّا جهاد أبي سفيان بعد إسلامه فحاصل من مشاهد مختلفة في زمن النبوة و بعدها،و في موضع آخر:و إسلام أبي سفيان و دخوله في صف المجاهدين مع رسول اللّه بعد إسلامه معروف.

يلاحظ عليه:كان على الدكتور رعاية ما لفت نظرنا إليه،بقوله:«انّ نقاد الحديث يستحضرون كلّ ما يتصل بالحديث من الظروف العامة و الملابسات و اللوازم و كلّ ما له صلة بمضمون الحديث من قريب و بعيد...و لهذا فإنّ التحقيق في الخبر يوجب النظر فيه موصولاً بغيره من الحوادث السابقة و اللاحقة، مضموماً إلى ما سواه في الأخبار و الحوادث المتصلة بالزمان الّذي يتعلق به،و المكان الّذي يجري فيه»...إلى آخر ما ذكر،فيا ليت الدكتور استحضر هذا أو بعضه،في موضوع تاريخي له صلة بأبي سفيان الّذي تحدّى الرسالة الإسلامية منذ

بزوغ فجرها،و وقف في وجهها معانداً و محرّضاً و محارباً،و آذى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه أشد الإيذاء، و جرّعهم أنواع الغصص هو و أصحابه الطغاة،وقاد كتائب الشرك لقتالهم و إطفاء نور اللّه الّذي أبى جلّ شأنه إلاّ أن يتمّه و لو كره المشركون.

فهل تمّ التحقيق في الخبر الوارد في شأنه موصولاً بهذه الحوادث السابقة؟

و هل درس مضموماً إلى ما سواه من الأخبار الّتي تتحدث عن تاريخه (النضالي) ضد الإسلام و المسلمين؟!

قال الذهبي و هو يترجم لأبي سفيان:رأس قريش،و قائدهم يوم أُحد و يوم الخندق،و له هنات و أُمور صعبة،لكن تداركه اللّه بالإسلام يوم الفتح فأسلم شبه مكرَه خائف.ثمّ بعد أيّام صلح إسلامه. (1)

لقد يئس أبو سفيان من قدرته على مقاومة الزحف الإسلامي المقدّس،و أحسّ بموازين القوى و هي

ص:357


1- 3) .سير أعلام النبلاء:105/2برقم 13.

تتغير لصالح الإسلام،و قد عبّر عن ذلك يوم فتح مكة بقوله:«يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبَلَ لكم به» (1)،و لذا استسلم (أو أسلم شبه مكره خائف) ممّا دعا الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن يتألّفه بإعطائه حصة من الغنائم.

و أنّى للباحث المنصف غير المنُساق مع ميوله أن يثبت القول بأنّه (صلح إسلامه)،و قد (كان يحب الرئاسة و الذكر) (2)و يُعرب في كلّ فرصة يجدها مناسبة عن نواياه غير السليمة تجاه الإسلام و المسلمين و قضاياهم المختلفة،في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بعده،و لا سيما في عهد خلافة ابن عمه عثمان،و الّتي كان له فيها سُورة

ص:358


1- 1) .الكامل في التاريخ:246/2. [1]
2- 2) .هذا الوصف للذهبي نفسه.

[أي منزلة] كبيرة على حد تعبير الذهبي.

و إليك شيئاً من أفعاله و أقواله بعد إسلامه في حياة النبي و بعدها:

أ.لما انهزم المسلمون في غزوة حنين-و الحديث ذو شجون-قال أبو سفيان:لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. (1)و قال كلدة بن الحنبل:ألا بطل السحر. (2)

ب.لما بويع عثمان دخل إليه بنو أبيه حتّى امتلأت بهم الدار ثمّ أغلقوها عليهم،فقال أبو سفيان:

«أ عندكم أحد من غيركم؟ قالوا:لا.قال:يا بني أُمية تلقفوها تلقف الكرة،فو الّذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب و لا جنة و لا نار و لا بعث و لا قيامة». (3)

ج.مرّ أبو سفيان بقبر حمزة و ضربه برجله و قال:يا أبا عمارة إنّ الأمر اجتلدنا عليه بالسيف،أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به. (4)

د.روى أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة:كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد بعث أبا سفيان ساعياً و رجع من سعايته و قد مات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلقيه قوم فسألهم،فقالوا:مات رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:من ولي بعده؟ قالوا:أبو بكر، قال:أبو فضيل! قالوا:نعم،قال:فما فعل المستضعفان:عليٌّ و العباس! أما و الّذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما.

قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز و ذكر الراوي-و هو جعفر بن سليمان-أنّ أبا سفيان قال شيئاً آخر لم تحفظه الرواة؛فلما قدم المدينة قال:إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم! قال:فكلّم عمر أبا بكر،فقال:إنّ أبا سفيان قد قدم.و إنّا لا

ص:359


1- 1) .السيرة النبوية لابن هشام:443/4. [1]
2- 2) .نفس المصدر.
3- 3) .شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:53/9 [2]نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري. [3]
4- 4) .المصدر السابق:136/16. [4]

نأمن شرّه،فدفع له ما في يده،فتركه فرضى.

و روى أحمد بن عبد العزيز،قال:جاء أبو سفيان إلى علي عليه السلام،فقال:وليتم على هذا الأمر أذلّ بيت في قريش،أما و اللّه لئن شئت لأملأنها على أبي فضيل خيلاً و رجلاً،فقال علي عليه السلام:طالما غششت الإسلام و أهله فما ضررتم شيئاً! لا حاجة لنا إلى خيلك و رجالك. (1)

هذه بعض أقواله و سيرته و لو جمعت من هنا و هناك لرسمت لنا نفسية هذا الرجل وصلته بالإسلام.

هذا ما سمح به المجال لتحليل ما كتبه الدكتور،و نعتذر إليه و إلى القراء من الإسهاب في المقام.

نحمده و نشكره و نستعين به و نصلّي و نسلم على نبيه و آله الطاهرين.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

30جمادى الآخرة 1427ه.

ص:360


1- 1) .شرح نهج البلاغة،53/9.و في تاريخ ابن الأثير:326/2: [1]فزجره عليّ،و قال:و اللّه إنّك ما أردت بهذا إلاّ الفتنة.و إنّك و اللّه طالما بغيت للإسلام شرّاً!

10 نظرة على كتاب«حقيقة و ليس افتراء»

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

فضيلة الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في صلاح و فلاح و في خير و سعادة.

لفَتَ نظري كتابُ«حقيقة و ليس افتراء»تأليف أبي معاذ الإسماعيلي و قد صُدِّر بتقديمكم و سرّني ما جاء في التقديم من دعوتكم إلى توحيد الكلمة بين المسلمين و ضرورة وقوفهم صفّاً واحداً أمام اليهود و النصارى و سائر الكفّار.

و لما قرأت صحائف من الكتاب وجدته على خلاف ما دعوتم إليه،ففي الكتاب سبّ لاذع لكبار العلماء وقادة الفكر،فها هو يصف نصير الدين الطوسي بقوله:«أمّا نصير الدين الطوسي فتعامله مع التتار لا ينكره أحد من علماء الشيعة،بل يذكرون كونه سبباً في جريان دماء المسلمين كالأنهار في نكبة التتار...إلى أن قال:و الأولى تسميته بخائن الدين صاحب مذبحة بغداد». (1)

و يقول في مكان آخر:«و هناك ضربة قاصمة لظهر الشيخ المفيد». (2)

ص:361


1- 1) .حقيقة و ليس افتراء:66.
2- 2) .المصدر نفسه:61.

و يقول في موضع ثالث:«ليُدرك خزعبلات و خرافات السيد جعفر مرتضى بشكل خاص» (1)إلى أمثال ذلك من الكلمات البائسة الّتي لا تصدر إلاّ من كاتب ناقم،ذي نفس داكنة و قلب مريض.فلو كانت الغاية تحقيق الموضوع لما احتاج إلى مثل هذه الكلمات.و بما أنّ الرجل أهان إمام العلم و مفخرة المسلمين - أعني:نصير الدين الطوسي-نذكر شيئاً موجزاً حول هجوم المغول على بغداد،ليُبصر مَن له عينان ان عدم كفاءة الخليفة و من حوله من الوزراء و الأُمراء،و انغماسهم في الشهوات و اللذائذ،هو الّذي أدّى إلى سقوط الخلافة العباسية:

يقول ابن كثير:«و أحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كلّ جانب حتّى أصيبت جارية تلعب بين يدي الخليفة و تُضحكه،و كانت من جملة حظاياه،و كانت مولدة تسمى عرفة،جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها و هي ترقص بين يدي الخليفة،فانزعج الخليفة من ذلك و فزع فزعاً شديداً،و أحضر السهم الّذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب:«إذا أراد اللّه انفاذ قضائه و قدره أذهب من ذوي العقول عقولهم»، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز و كثرة الستائر على دار الخلافة. (2)

هب أنّ نصير الدين الطوسي هو السبب لسقوط الخلافة العباسية و سيلان الدماء في عاصمتها،فما هو سبب ذلك الدمار الواسع و الانهيار الشامل الّذي عمّ البلاد من أقصى المشرق الإسلامي إلى العاصمة بغداد، و ها هو ابن الاثير (المتوفّى عام 630ه) أي قبل سقوط الخلافة الإسلامية بست و عشرين سنة يصف تلك الداهية العظمى بالنحو التالي:

ص:362


1- 1) .المصدر نفسه:34.
2- 2) .البداية و النهاية:213/13. [1]

«من الّذي يسهل عليه أن يكتب نعيَ الإسلام و المسلمين و من ذا الّذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أُمّي لم تلدني،و يا ليت متُّ قبل حدوثها و كنت نسياً منسيّاً إلاّ انّي حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها و أنا متوقف،ثمّ رأيت أن ترك ذلك لا يُجدي نفعاً فنقول:

هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى و المصيبة الكبرى الّتي عقمت الأيام و الليالي عن مثلها،عمت الخلائق و خصّت المسلمين،فلو قال القائل أنّ العالم مذ خلق اللّه سبحانه و تعالى آدم و إلى الآن لم يبتل بمثله لكان صادقاً،فإنّ التاريخ لم يتضمن ما يقاربها و لا ما يدانيها-إلى أن قال:-هؤلاء لم يُبقوا أحداً،بل قتلوا النساء و الرجال و الأطفال،و شقّوا بطون الحوامل و قتلوا الاجنّة،فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون.فإنّ قوماً خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر و بلاسغون ثمّ منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند و بُخارى و غيرها فيملكونها و يفعلون بأهلها ما نذكره ثمّ تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها مُلكاً و تخريباً و قتلاً،ثمّ يتجاوزونها إلى الريّ و هَمَدان و بلاد الجبل و ما فيها من البلاد إلى حد العراق،ثمّ يقصدون بلاد آذربيجان و أرانية و يخربون و يقتلون أكثر أهلها و لم ينج إلاّ الشريد النادر في أقل من سنة هذا ما لم يسمع بمثله. (1)

و هنا نسأل الكاتب:هل كانت يد المحقّق الطوسي تلعب في كلّ هذه الخطوات المرّة من وراء الستار؟ أو أنّ للدمار عوامل تكمن في حياة المسلمين عبر السنين،حيث اشتغلوا بالخلافات الداخلية و انصرف الخلفاء إلى اللهو و اللعب،و شرب الخمور و عزف المعازف و سماع المغنيّات،و قد تبعهم الرعاع و السوقة فذهبت الخيمة الإسلامية التي سيطرت على العالم في أوائل قرون العصر

ص:363


1- 1) .الكامل في التاريخ:358/12- 359.و [1]لكلامه ذيل من أراد فليرجع.

الإسلامي.

كان المحقق الطوسي مقيماً مع الإسماعيليّين في«قلعة ألموت»الّتي قاومت الهجوم إلى أن سقطت بيد التتار،فأُخذ أسيراً،و لما علموا بفضله خصوصاً بالنسبة إلى النجوم و الفلكيات،و قد كان للتتار رغبة كبيرة في هذه العلوم،صار ذلك سبباً لقربه من الحاكم فكان يدفع عاديتهم عن المسلمين مهما أمكن.

يقول الصفدي:«كان رأساً في علم الأوائل لا سيّما في الارصاد و المجسطي و وصفه بالجود و العلم و حسن العشرة و الدهاء. (1)

و قال بروكلمان الألماني:هو أشهر علماء القرن السابع و أشهر مؤلفيه إطلاقاً. (2)

و قد خدم الثقافة الإسلامية و حفظها من شر التتار بدهائه و حنكته حيث رغّب التتار في حفظ العلوم حتّى وُفِّق لجمع العلماء المختفين في أكناف العالم إلى بناء قبة و رصَدَ عظيم في«مراغة»و تأسيس مكتبة كبيرة،احتوت على أربعمائة ألف مجلّد،فوفد إليها العلماء من النواحي حتّى أنّ ابن الفوطي صنف في ذلك كتاباً سماه«من صعد الرصد».

يقول الدكتور مصطفى جواد البغدادي في مقدمته لكتاب«مجمع الآداب في معجم الألقاب»:أنشأ نصير الدين الطوسي دار العلم و الحكمة و الرصد بمراغة من مدن آذربيجان،و هي أوّل مجمع علمي حقيقي«أكاديمية»في القرون الوسطى بالبلاد الشرقية،فضلاً عن الاقطار الغربية الجاهلة أيامئذ. (3)

ص:364


1- 1) .الوافي بالوفيات:779/1برقم 112. [1]
2- 2) .طبقات الفقهاء:243/7.
3- 3) .مجمع الآداب في معجم الألقاب:20. [2]

و قال الأُستاذ عبد المتعال الصعيدي في كتابه (المجتهدون في الإسلام) و هو يتحدث عن نصير الدين الطوسي:و لم يمت إلاّ بعد أن جدّد ما بليَ في دولة التتر من العلوم الإسلامية،و أحيا ما مات من آمال المسلمين.

هذا و قد ألف بعض المحقّقين-من أهل السنّة-حول هذه الفرية الشائنة كتاباً أثبت فيه براءة المحقّق ممّا اتّهمه به سماسرة الأهواء من المؤرخين الذين يرمون العظماء بتهمة واضحة لا تليق بمن هو أدنى من المحقّق الطوسي في العلم و التقى.

و الحاقدون على الطوسي بدل أن يبحثوا عن العلل الحقيقية للهزيمة و عواملها،حاولوا أن يصبّوا جام غضبهم على معلم الأُمّة و حافظ تراثها،و هو رحمه الله قد لقى ربّه الّذي لا تخفى عليه خافية،و سوف يحكم بينه و بين خصمائه الذين رموه عن جهل أو ضغينة.

و أمّا الشيخ المفيد و ما أدراك ما المفيد،فهذا هو اليافعي يعرفه بقوله:في سنة 413ه توفي عالم الشيعة و عالم الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة شيخهم المعروف بالمفيد و بابن المعلم البارع في الكلام و الجدل و الفقه،و كان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة و العظمة في الدولة البويهية.قال ابن أبي طي:و كان كثير الصدقات عظيم الخشوع،كثير الصلاة و الصوم خشن اللباس. (1)

و قال ابن كثير بعد الإشارة إلى كتبه و كنيته:و كان يحضر مجلسه خلق عظيم من جميع طوائف الإسلام. (2)

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي تعرب عن جلالة الرجل و عظمته عند

ص:365


1- 1) .مرآة الجنان:1338/3،طبع الهند. [1]
2- 2) .البداية و النهاية:15/12،طبع مصر.

الجميع.

و أمّا العالم الثالث،أعني:الأُستاذ الجليل السيد جعفر مرتضى العاملي فهو محقّق بارع،له باع طويل في الرجال و الحديث و التاريخ،فقد ألف كتاباً حول«الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم»،و الذي آثار حفيظة الكاتب أنّه أثبت فيه كثيراً من الحوادث التاريخية الّتي لا تلائم فكرته.

و على كلّ تقدير،فنحن ننزّه الشيخ الجليل الدرويش عن مباركة ما يسوّده هؤلاء الكتّاب من صحائف، تسيء إلى الحق و أصحابه،و تعكّر صفو الأُخوّة بين المسلمين.

و ها أنا أكتب هذه السطور،و وكالات الأنباء تحكي بكلمة واحدة قصف المدنيين الأبرياء و الأطفال و النساء في لبنان و هدم الأبنية و مشاريع الخدمات العامة حتّى محطات الكهرباء،بيد الصهاينة المجرمين المحتلين للأراضي الإسلامية و قتل المسلمين في لبنان و فلسطين.

و العجب أنّ هذه الجنايات تقوم بها دولة إسرائيل بمباركة من بعض زعماء المسلمين و سكوت أكثر المفتين و علماء المسلمين خوفاً من حكوماتهم،فو الله لم أزل أتعجب من سكوت العلماء في البلاد الإسلامية حتّى نقلت بعض الإذاعات أنّ بعض المفتين حرّم إغاثة هؤلاء المظلومين في لبنان العزيز بحجة أنّ من يقاتل إسرائيل هو كذا و كذا...!!

فلنرجع إلى تحرير مسألة زواج أُمّ كلثوم بنت الإمام علي عليه السلام بعمر بن الخطاب فهل هي أُسطورة أو لها حقيقة؟ و على الثاني هل كان هناك تزويج عن طيب نفس أو كانت هناك عوامل ألجأت آل البيت إلى الإجابة لمثل هذا الزواج.

فهاهنا نظريات نطرحها على صعيد التحليل:

اشارة

ص:366

الأُولى:إنكار التزويج

ذهب الشيخ المفيد و غيره إلى إنكار هذا التزويج،و أنّه لم يثبت عن طريق موثوق به،و إليك نصّ كلامه:

إنّ الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين عليه السلام ابنته من عمر غير ثابت،و طريقه من الزبير بن بكّار و لم يكن موثوقاً به في النقل و كان متّهماً فيما يذكره،و كان يبغض أمير المؤمنين عليه السلام و غير مأمون فيما يدّعيه على بني هاشم.و إنّما نشر الحديثَ اثباتُ أبي محمد الحسن بن يحيى صاحب النسب ذلك في كتابه،فظن كثير من الناس أنّه حق لرواية رجل علوي له،و هو إنّما رواه عن الزبير بن بكار.

و الحديث بنفسه مُختلف فتارة يُروى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام تولى العقد له على ابنته،و تارة يُروى أنّ العباس تولى ذلك عنه.

و تارة روي أنّه لم يقع العقد إلاّ بعد وعيد من عمر و تهديد لبني هاشم.

و تارة يُروى أنّه كان عن اختيار و إيثار.

ثمّ إنّ بعض الرواة يذكر أنّ عمر أولدها ولداً أسماه زيداً.

و بعضهم يقول:إنّه قُتِلَ قبل دخوله بها.

و بعضهم يقول:إنّ لزيد بن عمر عقباً.

و منهم من يقول:إنّه قتل و لا عقب له.

و منهم من يقول:إنّه و أُمّه قُتلا.

و منهم من يقول:إنّ أُمّه بقيت بعده.

و منهم من يقول:إنّ عمر أمهر أُمّ كلثوم أربعين ألف درهم.

و منهم من يقول:أمهرها أربعة آلاف درهم.

و منهم من يقول:كان مهرها خمسمائة درهم.

ص:367

و بدوّ هذا الاختلاف فيه يبطل الحديث،فلا يكون له تأثير على حال. (1)

و أورد عليه الكاتب بأنّ«اختلاف الروايات في مهر أُمّ كلثوم و وفاتها مع ابنها زيد في يوم واحد و قتلهما من عدمه،هذا الاختلاف بين المؤرخين لا يعني عدم حدوث الزواج،فلا علاقة تربط بينهما،لقد اختلف العلماء و المؤرخون و كتّاب السير في يوم دفن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و كذا اختلفوا في تواريخ معارك و أحداث و وفيات كثير من المشاهير و العظماء بل و مولدهم أيضاً،فهل هذا يعني عدم وجودهم أصلاً؟

يلاحظ عليه:أنّ اضطراب الروايات في جوانب قضية واحدة إلى حدّ يناهز إلى اثني عشر قولاً، يوجب الشك و التردد في صحة الواقعة،إذ لا معنى أن تختلف الأقوال حول حادثة واحدة إلى هذا الحد من الاختلاف.و لا تركن النفس إلى حديث ظهر فيه الاضطراب إلى هذا الحد الهائل.

و أمّا قياس المقام بالاختلاف بيوم دفن النبي فقياس مع الفارق،فالدفن أمر محقق لا يرتاب فيه أحد و انّما الاختلاف في زمانه،و على كلّ تقدير فهذا قول الشيخ المفيد و من تبعه و هذا دليله.

الثانية:أمّ كلثوم كانت ربيبة علي عليه السلام

هناك من اختار أنّ أُمّ كلثوم الّتي تزوج بها عمر كانت ربيبة علي عليه السلام،و هي بنت أسماء بنت عميس الّتي تزوجها أبو بكر-بعد موت زوجها،جعفر بن أبي طالب-و رُزق منها ولدان:

1.محمد بن أبي بكر.

ص:368


1- 1) .مصنفات الشيخ المفيد،ج7،المسائل السروية:86- 90،قم - [1]1413ه.

2.أُمّ كلثوم بنت أبي بكر.

و لما توفّى أبو بكر و تزوجها علي عليه السلام انتقلت إلى بيت علي عليه السلام مع ولديها محمد بن أبي بكر و أُمّ كلثوم،فتزوّج عمر بن الخطاب بربيبة علي لابنته من صلبه. (1)

يلاحظ عليه:أنّ أصحاب المعاجم لم يذكر و لأسماء بنت عميس ولداً من أبي بكر إلاّ محمد بن أبي بكر.

قال ابن الأثير:هاجرت أسماء بنت عميس إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فولدت له بالحبشة عبد اللّه و عوناً و محمّداً ثمّ هاجرت إلى المدينة.فلمّا قتل عنها جعفر بن أبي طالب عليه السلام تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر،ثمّ مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب عليه السلام فولدت له يحيى. (2)

نعم كانت لأبي بكر بنت اسمها أُمّ كلثوم،لكن أُمّها بنت وليد بن خارجة يقول ابن الأثير:

أُمّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق،و أُمّها بنت وليد بن خارجة،و قد تزوجت هي بطلحة بن عبيد اللّه. (3)

نعم ذكر عمر رضا كحالة:

أُمّ كلثوم بنت أسماء راوية من راويات الحديث،روت عن عائشة و أُمّ سلمة و روى عنها ابنها موسى بن عقبة. (4)

و لكن لم يعلم أنّ أسماء هذه من هي؟ فهل هي أسماء بنت عميس أو غيرها؟ و على كلّ تقدير فهل هي زوجة أبي بكر أو زوجة غيره؟

ص:369


1- 1) .ينسب هذا القول إلى السيد الجليل:السيد ناصر حسين الموسوي الهندي (المتوفّى 1387ه).
2- 2) .أُسد الغابة:395/5. [1]
3- 3) .أُسد الغابة:612/5. [2]
4- 4) .أعلام النساء:250/4.
الثالثة:التزويج عن كُرهٍ
اشارة

هذه النظرية تعترف بصحّة الزواج،و لكنها ترى أنّ التزويج لم يكن عن طيب نفس،بل كانت هناك عوامل سبّبت ذلك التزويج على وجه لولاها لما فوّض الإمام أمر بنته إلى العباس،و إليك ما يدلّ على ذلك على نحو لو تدبر فيه المحقّق لوقف على صحّتها:

1.ما هو السبب للزواج؟

ذكر ابن سعد أنّ الحافز إلى ذلك الزواج أنّ عمر بن الخطاب قال:سمعت عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:كلّ نسب و سبب منقطع يوم القيامة إلاّ نسبي و سببي،و كنت قد صحبته فأحببت أن يكون هذا أيضاً. (1)فهذا هو الّذي سبّب رغبة الخليفة إلى التزوج بسبط النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و لكن الظاهر أنّه يكمن هناك سبب آخر،و هو أنّ عمر بن الخطاب حاول بذلك الأمر ان يغطي على ما صدر عنه بالنسبة إلى بنت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و بيتها،حيث كشف بيت فاطمة و هدّدها بالإحراق كما سيوافيك بيانه،و قد سبّب ذلك العمل جُرحاً في قلوب أبناء فاطمة لا يندمل أبداً،فأراد بذلك استمالتهم حتّى يندمل الجرح بالزواج على عادة العرب حيث كان التزويج يُنسي ما سبق.فاعتذر الإمام بوجوه مختلفة لكي يترك عمر هذا الموضوع،و إليك ما اعتذر به:

2.اعتذار الإمام بطرق ثلاثة

أ.لما خطب عمر بن الخطاب إلى علي ابنته أُمّ كلثوم قال له:يا أمير المؤمنين

ص:370


1- 1) .طبقات ابن سعد:463/8؛و [1]في الاستيعاب:1954/4: [2]انّها صغيرة.

إنّها صبية.

فأجاب عمر:انّك و اللّه ما بك من ذلك و لكن قد علمنا ما بك. (1)

و قال الدولابي:خطب عمر بن الخطاب إلى علي بن أبي طالب عليه السلام بنته أُمّ كلثوم،فأقبل علي عليه فقال:

هي صغيرة،فقال عمر:لا و اللّه ما ذلك،و لكن أردت منعي.

ب.و لمّا تكرّرت الخطبة،فعاد علي عليه السلام يعتذر بعذر آخر،فقال:إنّما حبست بناتي على بني جعفر عليه السلام فقال عمر:أنكحنيها يا علي فو الله ما على ظهر الأرض رجل يرصد من حسن صحابتها ما أرصد. (2)

و لعلّ الخليفة يشير بكلامه إلى أنّه يحسن معاشرته معها لما اشتهر من فظاظته و غلظته خاصّة بالنسبة إلى النساء.

ج.خطب عمر إلى علي بن أبي طالب أُمّ كلثوم فأجاب بأنّه يستشير العباس و عقيلاً و الحسين و لما استشارهم الإمام خالف عقيل هذا الأمر.

قال ابن حجر الهيتمي:فقال عليُّ للحسن و الحسين زوجا عمّكما،فقالا:هي امرأة من النساء تختار لنفسها. (3)

كلّ ذلك يعرب عن أنّ البيت العلوي لم يكن راضياً بذلك الزواج،حتّى أنّ

ص:371


1- 1) .الذرية الطاهرة لابي بشر محمد بن أحمد بن حماء الأنصاري الرازي،(224- 310ه) ص 55،مؤسسة الأعلمي،بيروت؛و طبقات ابن سعد:464/8.و [1]ما أجاب به عمر يكشف عن أنّ ما اعتذر به الإمام كان عذراً ظاهرياً للفرار عن الزواج حتّى وقف عليه الخليفة فقال ما قال بالرمز و الإشارة.
2- 2) .الطبقات،ابن سعد:464/8.
3- 3) .مجمع الزوائد:272/4- 273،كتاب النكاح باب في الشريفات.دار الكتاب العربي،بيروت.(بتلخيص).

الحسنين أظهرا عدم رضاهما بقولهما:هي امرأة من النساء تختار لنفسها،و لعلّ مشاورة الإمام علي مع هؤلاء كان لكسب ذريعة للامتناع،و مع ذلك كلّه كان من الخليفة الإصرار و من البيت العلوي الامتناع.

تمّ إلى هنا ما نقله الحفاظ من السنّة،و هناك شيء آخر تفرد به الإماميّة و هو ما رواه الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام:لما خطب إليه قال له أمير المؤمنين عليه السلام:«إنّها صبية،قال:فلقى العباس فقال له:مالي؟ أبيّ بأسٌ؟ قال:و ما ذاك؟ قال:خطبت إلى ابن أخيك فردّني.اما و اللّه لأعورنّ زمزم و لا أدع لكم مكرمة إلاّ هدمتها و لأقيمنّ عليه شاهدين بأنّه سرق و لأقطعن يمينه،فأتاه العباس فأخبره و سأله أن يجعل الأمر إليه،فجعله إليه. (1)

أُمور يندى لها الجبين

اشارة

هذا ما حفظته يد التاريخ،مع ما في المصادر من أُمور لا يصحّ أن تنسب إلى الرعاة و السوقة،فقد نسبوا إلى علي عليه السلام و إلى الخليفة أُموراً غير معقولة:نذكر شيئاً منها:

إنّ علياً دعا أُمّ كلثوم و أعطاها حلّة،فقال:انطلقي بهذه إلى أمير المؤمنين:يقول لك أبي كيف ترى هذه الحلّة،فأتته بها فقالت له ذلك،فأخذ عمر بذراعها،فاجتذبتها منه،فقالت:أرسل،فأرسلها فقال:حصان كريم انطلقي و قولي له ما أحسنها و أجملها،و ليست و اللّه كما قلت،فزوّجها إياه. (2)

و في الاستيعاب:بعثها علي إليه ببرد و قال له:قد رضيت رضى اللّه عنك،

ص:372


1- 1) .الكافي:346/5،كتاب النكاح،باب تزويج أُمّ كلثوم،الحديث2. [1]
2- 2) .الذرية الطاهرة:154.

و وضع يده على ساقها،فقالت:أ تفعل هذا؟ لو لا أنّك أمير المؤمنين لكسرت أنفك،ثمّ خرجت حتّى جاءت أباها،فأخبرته الخبر،و قالت:بعثتني إلى شيخ سوء فقال لها:يا بنية،انّه زوجك.... (1)

و قال أيضاً:إنّ عمر بن الخطاب خطب إلى علي ابنته أُمّ كلثوم،فذكر له صغرها،فقيل له:ردّك،فعاوده فقال له علي:ابعث بها إليك فإن رضيت فهي امرأتك،فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها فقالت:مه و اللّه لو لا إنّك أمير المؤمنين للطمت عينك. (2)

هذه الأُمور ما ذكرنا و ما لم نذكره،تكشف عن أنّ للوضاعين دوراً حول هذا الخبر،أمّا في أصله أو فروعه،حاولوا بذلك الإساءة إلى آل البيت،و انّه لم يكن لعلي عليه السلام أي اهتمام بحفظ كرامة بنته،فيرسلها إلى بيت الرجل،و هو يعاملها بما يثير غضب هذه الكريمة و تقول له ما قالت.

***

هذا ما حفظته يد التاريخ مع وجود الهيمنة عليه في العصرين الأموي و العباسي و هو يدل-بوضوح - على أنّ البيت العلوي كان يرغب عن هذا التزويج و يعتذر مرّة بعد أُخرى لكي يتخلّص منه.

و حول الموضوع ملابسات لو تأمل فيها الباحث النابه لأذعن بأنّ تحقّق النكاح عن طوع و رغبة أمر بعيد غايته،فالحادثة إمّا لم تتحقّق،أو تحقّقت لكن عن كراهة و دون طيب نفس،و إليك تلك الملابسات:

ص:373


1- 1) .الاستيعاب:1955/4. [1]
2- 2) .الاستيعاب:1955/4. [2]
الأوّل:أُمّ كلثوم و تهديد بيت أُمّها بالإحراق

دلت النصوص القطعية على أنّ عمر بن الخطاب هدّد بيت فاطمة-ريحانة الرسول-بالإحراق لأخذ البيعة لأبي بكر،و هذا أمر لا يمكن للباحث إنكاره إذا وقف على مصادره و مداركه.و إن كنت في شكّ فيما ذكرنا فاستمع لكلمات المحدّثين و المؤرخين مسندة و مرسلة.

1.ما رواه ابن أبي شيبة-شيخ البخاري-بسند صحيح قال:حدثنا محمد بن بشر،حدثنا عبيد اللّه بن عمر،حدثنا زيد بن أسلم،عن أبيه أسلم أنّه حين بويع لأبي بكر بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان عليٌّ و الزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول اللّه فيشاورونها و يرتجعون في أمرهم،فلمّا بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتّى دخل على فاطمة فقال:

يا بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و اللّه ما من أحد أحبّ إلينا من أبيك،و ما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك، و أيم اللّه ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك،إن أمرتهم أن يُحرق عليهم البيت،قال:فلما خرج عمر جاءوها،فقالت:تعلمون أنّ عمر قد جاءني و قد حلف باللّه لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت،و أيم اللّه ليمضين لما حلف عليه،فانصرفوا راشدين. (1)

2.روى البلاذري في ضمن بحث مفصل عن أمر السقيفة:لما بايع الناس أبا بكر اعتزل علي و الزبير...

إلى أن قال:إنّ أبا بكر أرسل إلى علي يريد البيعة،فلم يبايع،فجاء عمر معه فتيلة،فتلقته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة:يا ابن الخطاب،أتراك محرّقاً عليّ بابي؟ قال:نعم،و ذلك أقوى فيما جاء به أبوك. (2)

ص:374


1- 1) .المصنف:752/8،ط دار الفكر،بيروت.
2- 2) .أنساب الأشراف:586/1،طبع دار [1]المعارف القاهرة.

و قد نقل تلك الحادثة غير واحد من أعلام التاريخ و الحديث نقتصر على ذكر أسمائهم و أسماء كتبهم و مواضع نقلهم لها:

1.ابن قتيبة في الإمامة و السياسة ص 12- 13.

2.الطبراني في تاريخه:43/2،ط بيروت.

3.ابن عبد ربه في العقد الفريد:87/4.

4.ابن عبد البر في الاستيعاب:975/3.

5.ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة:45/2.

6.أبو الفداء في المختصر في أخبار البشر:156/1.

7.النميري في نهاية الإرب في فنون الأدب:40/19،ط القاهرة.

8.السيوطي في مسند فاطمة:36،طبع مؤسسة الكتب الثقافية.

9.المتقي الهندي في كنز العمال:651/5برقم 14138.

10.الدهلوي في إزالة الخفاء:178/2.

11.محمد حافظ إبراهيم،صاحب القصيدة العمرية،التي جاء فيها: و قولةٍ لعلي قالها عمر

إلى غير ذلك من المصادر الّتي اقتصرت على ذكر أصل التهديد مع التكتم على ما بعده.

و هناك رجال شجعان رفعوا الستر عن وجه الحقيقة و ذكروا انّ القوم الذين هدّدوا البيت بالحرق قد دخلوا البيت و كشفوه حتّى أنّ أبا بكر أظهر الندم على

ص:375

هذا العمل القبيح الّذي وقع بأمره و رضاه و على مرأى و مسمع منه،و قال في أواخر أيام حياته ما يُشير إلى ذلك.

روى أبو عبيد عن عبد الرحمن بن عوف قال دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفّي فيه فسلّمت عليه،و قلت:ما أرى بك بأساً،و الحمد للّه،و لا تأس على الدنيا،فو الله إن علمناك إلاّ كنت صالحاً مصلحاً.

فقال:إنّي لا آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتهُن،و وددتُ أنّي لم أفعلهن،و ثلاث لم أفعلهن وددتُ انّي فعلتهن،و ثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنهم،فأمّا التي فعلتها و وددت انّي لم أفعلها،فوددتُ أنّي لم أكن فعلت كذا و كذا،لعلة ذكرها-قال أبو عبيد:لا أريد ذكرها-و وددت انّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين:عمر أو أبي عبيدة،فكان أميراً و كنت وزيراً،و وددت انّي حيث كنت وجّهت خالداً إلى أهل الردة أقمت بذي القصة،فإن ظفر المسلمون ظفروا و إلاّ كنت بصدد لقاء أو مدد.

الخ. (1)

ثمّ إنّ أبا عبيد صاحب«الأموال»و إن لم يصرح بلفظ الخليفة و كره التلفّظ به،لكن غيره جاء بنفس النص الذي أدلى به الخليفة يوم كان طريح الفراش.

قال المبرد عن عبد الرحمن بن عوف أنّه قال:دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي مات فيه، فسلمت و سألته:كيف به؟ فاستوى جالساً،إلى أن قال:قال أبو بكر:أما إنّي لا آسى إلاّ على ثلاث فعلتُهن وددتُ انّي لم أفعلهنّ،و ثلاث لم أفعلهن وددت انّي فعلتهن،و ثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه عنهن.

فأمّا الثلاث الّتي فعلتها:وددت أنّي لم أكن كشفت عن بيت فاطمة و تركته

ص:376


1- 1) .الأموال:193- 194، [1]مكتبة الكليات الأزهرية.

و لو أُغلق على حرب. (1)

و ليس المبرد المتفرد في نقل هذا القول بل نقله غيره،نظراء:

1.الطبراني في المعجم الكبير:62/1 برقم 43.

2.ابن عبد ربه في العقد الفريد:93/4.

3.ابن عساكر في مختصر تاريخ دمشق:122/13.

4.ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة:46/2.

5.الذهبي في تاريخ الإسلام:117/3- 118.

6.نور الدين الهيتمي في مجمع الزوائد:202/5.

7.ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان:188/4.

8.المتقي الهندي في كنز العمال:631/5 برقم 14113.

إلى غير ذلك من رواة الأخبار و محققي التاريخ الّذين قد ذكروا ندم الخليفة عند موته لأجل كشف بيت فاطمة الّذي قام به عمر بن الخطاب.

إنّ المخطوبة-أُمّ كلثوم-و إن كانت صغيرة عند هذه الواقعة و لكن الحديث ممّا تناولته الألسن في البيت العلوي و هي تسمع ما يدور فيه،و طبيعة الحال تقتضي أن تكون غاضبة على من هدّد بيتها بالإحراق أوّلاً،ثمّ كشف البيت و هتك حرمته ثانياً،أ يتصور أن تكون مع هذه الأجواء المحيطة بها راضية بالنكاح طيبة نفسها به؟

الثاني:انّ الخاطب معروف بالفظاظة

إنّ عمر بن الخطاب كان رجلاً خشناً فظاً على الإطلاق خصوصاً بالنسبة

ص:377


1- 1) .الكامل:11/1. [1]

للنساء و لذلك لما انتخب للخلافة من قبل أبي بكر اعترضه الصحابة.

قال أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم البغدادي (1)صاحب أبي حنيفة في«الخراج»ما لفظه:

حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد بن الحارث،عن ابن سابط،قال:لما حضرت الوفاة أبا بكر، أرسل إلى عمر يستخلفه،فقال الناس:أ تستخلف علينا فظاً غليظاً،لو قد مَلِكَنا كان أفظ و أغلظ،فما ذا تقول لربك إذا لقيتَه و قد استخلفت علينا عمر،قال:أ تخوفونني ربي،أقول:اللّهم أمّرت عليهم خير أهلك. (2)

و في الطبقات في ترجمة أبي بكر في قصة استخلاف أبي بكر لعمر ما لفظه:و سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بدخول عبد الرحمن و عثمان على أبي بكر و خلوتهما به فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم:

ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا و قد ترى غلظته،فقال أبو بكر:اجلسوني،أ باللّه تخوفوني؟ خاب من تزوّد من أمركم بظلم،أقول:اللهم استخلفت عليهم خير أهلك. (3)

و قال أبو بكر عبد اللّه بن محمد العبسي المعروف بابن أبي شيبة في كتابه المصنف:حدثنا وكيع،و ابن إدريس،عن إسماعيل بن أبي خالد،عن زبيد بن الحرث،أنّ أبا بكر حين حضره الموت أرسل إلى عمر يستخلفه فقال الناس:

ص:378


1- 1) .أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري البغدادي مات 182،فقيه أُصولي مجتهد محدث حافظ عالم بالسير و المغازي و أيام العرب.تاريخ بغداد:242/14؛ [1]الكامل لابن الأثير:53/6؛تذكرة الحفاظ:269/1؛البداية و النهاية:180/10؛ [2]تاريخ التراجم:60؛مفتاح السعادة:100.
2- 2) .الخراج:100. [3]
3- 3) .الطبقات الكبرى:199/3. [4]

تستخلف علينا فظاً غليظاً،و لو قد ولينا كان أفظ و أغلظ،فما تقول لربك إذا لقيته و قد استخلفت علينا عمر (1)،إلخ.و هل تطيب نفسك أن تزوّج بنتك لرجل شديد الخلق على الأهل،فظ القلب و هي وردة حياتك.

الثالث:بنت أبي بكر تردّ خطبة عمر

إنّ عمر بن الخطاب خطب بنتاً لأبي بكر اسمها أُمّ كلثوم،و لكنّها ردت طلبه معتذرة بأنّه رجل خشن.

روي أنّ رجلاً من قريش قال لعمر بن الخطاب:أ لا تتزوج أُمّ كلثوم بنت أبي بكر فتحفظه بعد وفاته و تخلفه في أهله؟فقال عمر:بلى إنّ لأُحبّ ذلك فاذهب إلى عائشة فاذكر لها ذلك و عُد إليّ بجوابها.فمضى الرسول إلى عائشة فأخبرها بما قال عمر.فأجابته إلى ذلك و قالت له:حباً و كرامة،و دخل عليها عقب ذلك المغيرة بن شعبة فرآها مهمومة،فقال لها:مالك يا أُمّ المؤمنين؟ فأخبرته برسالة عمر و قالت:إنّ هذه جارية حدثة و أردت لها ألين عيشاً من عمر.

فقال لها:عليّ أن أكفيك،و خرج من عندها فدخل على عمر،فقال:بالرفاء و البنين فقد بلغني ما أتيته من صلة أبي بكر في أهله و خطبتك أُمّ كلثوم.فقال:قد كان ذاك،قال:إلاّ أنّك يا أمير المؤمنين رجل شديد الخلق على أهلك و هذه صبية حديثة السن فلا تزال تُنكر عليها الشيء فتضربها فتصيح فيغمك ذلك،و تتألم له عائشة و يذكرون أبا بكر فيبكون عليه فتجدد لهم المصيبة مع قرب عهدها في كلّ يوم...الخ. (2)

ص:379


1- 1) .المصنف:449/5. [1]
2- 2) .أعلام النساء:250/4.نقلها عن المصادر التالية:تهذيب التهذيب لابن حجر،التهذيب للذهبي،الإصابة لابن حجر،العقد الفريد لأبي عبد ربه إلى غير ذلك من المصادر.
الرابع:عدم التناسب في السن

إنّ أُمّ كلثوم كانت صبية لا يتجاوز عمرها عن عشر سنين أو إحدى عشر سنة،و أمّا الخاطب فقد خطبها و عمره يناهز الستين،و من الواضح أنّ حفظ المناسبات العرفية ممّا يعتبر في رغبة البنت للزواج،و العجب انّ عمر بن الخطاب قال للناس:لينكح الرجل لُمته.

قال الفيروزآبادي في لغة اللؤم:و قول عمر لينكح الرجل لمته بالضم أي شكله و مثله. (1)

فهل كانت السيدة أُمّ كلثوم و هي زهرة فاطمة الزهراء و هي في أوان تفتحها مِثلاً لمن طعن في السن؟!

الاحتكام إلى روح علي عليه السلام و وجدانه

بلغ الإمام علي القمة في سموّ روحه و نُبله،و كان قلبه يتفجّر رحمة و عطفاً و حناناً،و هو من عُرف بحدَبِهِ على المسلمين عامة و على أبنائه،و بمراعاته لموازين العدل و أحكام الوجدان في كلّ شأن و قضية.

كما عُرف ببشاشة وجهه،و كثرة تبسّمه،و سجاحة خلُقه،و رقّة روحه،فهل يُعقل و هو بهذه الصفات و الخلال أن يعرّض ريحانته للذبول و الجفاف،و أن يدفع بإحدى قواريره الّتي يعتزّ بها لتنالها يد العنف و الشدة؟!

هذا إذا أعرضنا عن الأجواء السلبية الّتي كنت تحكم العلاقة بين البيتين،و الظروف الّتي كانت تسودها آنذاك.

ص:380


1- 1) .القاموس المحيط:174/4، [1]مادة«لؤم».

كلّ هذه الأُمور تثير الشكّ في أصل تحقّق الأمر و إن ذكره غير واحد من المؤرخين و المحدثين،لما هو المحقّق في محله من أنّه كان للأمويين الدور الأوّل في حركة تدوين الحديث و التاريخ بما يخدم مصالح النظام الأموي و اتجاهاته السياسية و الفكرية و الغلبة على فكر أهل البيت عليهم السلام و كرامتهم.

و على فرض تحقّقه فلا محيص من القول:إنّه كانت هناك عوامل سبّبت وقوع النكاح و دفعت البيت العلوي إلى التسليم،و لا يُعدّ مثل هذا الزواج دليلاً على وجود التلاحم بين البيتين،و الجرح بعدُ لم يندمل.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

5 رجب المرجب 1427ه

ص:381

11 الحنابلة و تأجيج نار الفتنة عَبْر التاريخ

اشارة

إنّ الحنابلة إحدى الطوائف الإسلامية الذين يقتفون في الأُصول و الفروع إثر منهج الإمام أحمد بن حنبل(164- 241ه) مؤلف«المسند»الطائر الصيت.و قد كان أحمد حافظاً كثير الحديث و الحفظ و كان لا يترك صوم الاثنين و الخميس و الأيّام البيض،و قد سجنه المعتصم شهراً لامتناعه عن القول بخلق القرآن،و مع ذلك فلم يرجع عمّا يعتقد،و لمّا ولي المتوكل أمر الخلافة أكرمه و قدمه،و بهذا تألّق نجمه في هذه الفترة. (1)

و هو أحد رواة حديث الغدير فقد رواه في مواضع كثيرة من مسنده قال محمد بن منصور الطوسي:

سمعت أحمد بن حنبل يقول:ما روي لأحد من الفضائل أكثر ممّا روي لعليّ بن أبي طالب. (2)

ص:382


1- 1) .موسوعة طبقات الفقهاء:88/3. [1]
2- 2) .طبقات الحنابلة:319/1. [2]

و نقل أيضاً:قال كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل:يا أبا عبد اللّه،ما تقول في هذا الحديث الّذي يروى:أنّ علياً قال:«أنا قسيم النار»؟ فقال:و ما تنكرون من ذا؟ أ ليس روينا أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لعلي:لا يحبّك إلاّ مؤمن و لا يبغضك إلاّ منافق»؟ قلنا:بلى.قال:فأين المؤمن؟ قلنا:في الجنة.قال:و أين المنافق؟ قلنا:في النار.قال:فعليٌّ قسيم النار. (1)

و سئل الإمام أحمد بن حنبل عن علي و معاوية،فقال:إنّ علياً كان كثير الأعداء،ففتّش أعداؤه عن شيء يعيبونه به فلم يجدوا فجاءُوا إلى رجل قد حاربه و قاتله،فأطروه كيداً منهم به. (2)

إنّ هذا الإمام الجليل كان يتعاطف مع أئمّة أهل البيت عليهم السلام و أكثر المسلمين،غير أنّ له عبر التاريخ أتباعاً خرجوا عن خط إمامهم و أجّجوا النار بين الطوائف الإسلامية فقُتِلَ مَنْ قُتِل وَ جُرِحَ مَنْ جُرِح،و ها نحن نذكر في هذه الصفحات بعض الفتن الّتي أوجدها قسم من أتباع الإمام أحمد بلا مبرّر،بل عن تعصب و عناد و جهل بالمبادئ الإسلامية.

1.موقفهم من الطبري بعد وفاته

محمد بن جرير الطبري أحد المؤرّخين الكبار في الإسلام و له أثران خالدان:أحدهما في التاريخ، و الآخر في التفسير.و من الواضح أنّه لا يصحّ لباحث أن يعترف بصحة كلّ ما ورد في هذين الكتابين،و مع ذلك فالأثران لهما الدور البارز في تدوين تاريخ الإسلام،و الروايات المروية عن الصحابة و التابعين حول تفسير

ص:383


1- 1) .طبقات الحنابلة:319/1. [1]
2- 2) .المراجعات:255، [2]عن الصواعق المحرقة لابن حجر:125،ط المحمدية. [3]

الآيات،و بما أنّه كان يتلاءم مع أئمة أهل البيت و المجتمع الشيعي،فلمّا توفّي عام (310ه) اجتمعت الحنابلة فمنعوا من دفنه نهاراً،و ادّعوا عليه الرفض ثمّ ادّعوا عليه الإلحاد،فدفن في داره ليلاً.هذا ما ذكر ابن الأثير و نقل عن علي بن عيسى أنّه قال:و اللّه لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض و الإلحاد لما عرفوه و ما فهموه.

هكذا ذكره ابن مسكوية صاحب تجارب الأُمم.

و أمّا ابن الأثير فقد نقل الفتنة و قال:إنّ بعض الحنابلة تعصّبوا عليه و وقعوا فيه،فتبعهم غيرهم،و لذلك سبب و هو أنّ الطبري جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله،و لم يذكر فيه أحمد بن حنبل فقيل له في ذلك،فقال:لم يكن فقيهاً و إنّما كان محدِّثاً،فاشتدّ ذلك على الحنابلة،و كانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه،و قالوا ما أرادوا: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداءٌ له و خصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً و بغياً إنّه لدميم (1)

و قال الذهبي:لما بلغ (محمد بن جرير) أنّ ابن أبي دؤاد تكلّم في حديث غدير خمّ عمل كتاب الفضائل و تكلّم في تصحيح الحديث ثمّ قال:قلت:رأيت مجلّداً من طرق الحديث لابن جرير فاندهشت له و لكثرة تلك الطرق. (2)

و قال ابن كثير:إنّي رأيت له كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خمّ في مجلدين ضخمين،و كتاباً جمع فيه طرق حديث الطير.. (3)

ص:384


1- 1) .الكامل في التاريخ:134/8، [1]حوادث سنة 313ه.
2- 2) .طبقات الذهبي:254/2.
3- 3) .تاريخ ابن كثير:157/11.

2.الاقتتال في تفسير«مقاماً محموداً»

اتّفق المسلمون أنّه سبحانه ليس بجسم و لا جسماني و أنّه ليس كمثله شيء،غير أنّ بعض الحنابلة اغترّوا ببعض الأحاديث الدخيلة و المستوردة من اليهود فصار التجسيم و التشبيه من ميزات مذهبهم،و أني أُجلّ الإمام أحمد عن هذه التهمة،لكن قسماً من أتباعه يجاهرون بذلك و لأجله يقول الزمخشري: و إنّ حنبلياً قلت قالوا بأنّني ثقيل حلولي بغيض مجسم (1)

و قد حدثت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروزي الحنبلي و غيرهم من العامة،و دخل كثير من الجند فيها،و سبب ذلك أنّ أصحاب المروزي قالوا في تفسير قوله تعالى: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» 2 و أنّ اللّه سبحانه يُقعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم معه على العرش،و قالت الطائفة الأُخرى:إنّما هو الشفاعة، فوقعت الفتنة و اقتتلوا،فقتل بينهم قتلى كثيرة. (2)

3.الحنابلة و توقيع الراضي في ذمّهم

لا شكّ أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من دعائم الإسلام و أركانه،فأي مجتمع تركهما فهو كميّت بين الأحياء،كما في الحديث العلوي. (3)و قد ورد في حدودهما و شروطهما روايات بحث عنها الفقهاء في كتبهم،غير أنّ التشدّد و سوء الظن أيضاً هو من الأُمور المنكرة.و مع الأسف لم تكن الحنابلة مميزين بينهما،

ص:385


1- 1) .الكشاف:310/4.
2- 3) .الكامل:212/8، [1]حوادث سنة 317ه.
3- 4) .الكافي:384/8؛ [2]الوسائل:11،الباب3 من أبواب الأمر بالمعروف،الحديث4.

و بذلك أجّجوا فتنة ببغداد عام 323ه،يقول ابن الأثير:و فيها[أي سنة 323ه] عظم أمر الحنابلة و قويت شوكتهم و صاروا يكبسون من دور القوّاد و العامّة،و إن وجدوا نبيذاً أراقوه،و إن وجدوا مغنّية ضربوها و كسروا آلة الغناء،و اعترضوا في البيع و الشراء،و مشي الرجال مع النساء و الصبيان،فإذا رأوا ذلك سألوه عن الّذي معه مَن هو،فأخبرهم،و إلاّ ضربوه و حملوه إلى صاحب الشرطة،و شهدوا عليه بالفاحشة،فأرهجوا بغداد.

فركب بدر الخرشَنيُّ،و هو صاحب الشُّرطة،عاشر جمادى الآخرة،و نادى في جانبَيْ بغداد،في أصحاب أبي محمّد البربهاريّ الحنابلة،ألاّ يجتمع منهم اثنان و لا يتناظروا في مذهبهم و لا يصلّي منهم إمام إلاّ إذا جهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم في صلاة الصبح و العشائين،فلم يفد فيهم،و زاد شرّهم و فتنتهم، و استظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون المساجد،و كانوا إذا مرّ بهم شافعيُّ المذهب أغروا به العميان، فيضربونه بعصيّهم،حتّى يكاد يموت.

فخرج توقيع الراضي بما يُقرأ على الحنابلة يُنكر عليهم فعلهم،و يوبّخهم باعتقاد التشبيه و غيره،فمنه تارة أنّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين،و هيئتكم الرذلة على هيئته، و تذكرون الكفّ و الأصابع و الرجلَيْن و النعلَيْن المُذهّبين،و الشعر القطط،و الصعود إلى السماء،و النزول إلى الدنيا،تبارك اللّه عمّا يقول الظالمون و الجاحدون علوّاً كبيراً،ثمّ طعنكم على خيار الأئمّة و نسبتكم شيعة آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم إلى الكفر و الضلال،ثمّ استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة و المذاهب الفاجرة الّتي لا يشهد بها القرآن،و إنكاركم زيارة قبور الأئمّة و تشنيعكم على زوّارها بالابتداع،و أنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف و لا نسب و لا سبب

ص:386

برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و تأمرون بزيارته و تدّعون له معجزات الأنبياء و كرامات الأولياء،فلعن اللّه شيطاناً زيّن لكم هذه المنكرات،و ما أغواه.

و أمير المؤمنين يقسم باللّه قسماً جهداً إليه يلزمه الوفاء به،لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم و معوج طريقتكم،ليوسعنّكم ضرباً و تشريداً،و قتلاً و تبديداً،و ليستعملنّ السيف في رقابكم،و النار في منازلكم و محالّكم. (1)

4.فتنة الجهر بالبسملة و غير ذلك

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على الجهر بالبسملة،و كانت سيرة الإمام علي عليه السلام و الأئمّة من بعده على الجهر بها،كما تضافرت الروايات عن طريق أهل السنّة أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يجهر بالبسملة،فهذا هو الحاكم أخرج في مستدركه عن أبي هريرة قال:كان رسول اللّه يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم (2)،كما أخرج عن أنس بن مالك قال:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم.

و قد صارت مسألة الجهر بالبسملة و المخافتة بها سبباً للفتنة،يقول ابن أثير:و في هذه السنة(أي 447ه) وقعت الفتنة بين فقهاء الشافعية و الحنابلة ببغداد،و مقدّم الحنابلة أبو علي بن الفرّاء،و ابن التميمي،و تبعهم من العامّة الجم الغفير،أنكروا الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم،و منعوا من الترجيع في الأذان،و القنوت في الفجر،و وصلوا إلى ديوان الخليفة،و لم ينفصل حال،و أتى الحنابلة إلى مسجد

ص:387


1- 1) .الكامل في التاريخ:307/8- 308، [1]حوادث سنة 323ه.
2- 2) .المستدرك:232/1. [2]

بباب الشعير،فنَهوا إمامه عن الجهر بالبَسملة،فأخرج مُصحفاً و قال:أزيلوها من المصحف حتّى لا أتلوها. (1)

5.الفتنة بين الأشاعرة و الحنابلة

إنّ الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري(260- 324ه) كان معتزلياً ثمّ أعلن براءته من هذا المذهب،و التحق بمذهب الإمام أحمد،و نادى من عُلى المنبر بأعلى صوته و قال:من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي،أنا فلان بن فلان،كنت قلت بخلق القرآن و إنّ اللّه لا يُرى بالأبصار،و إنّ أفعال الشر أنا فاعلها،و أنا تائب مقلع معتقد للردّ على المعتزلة.

و كان أبو (2)نصر بن أبي القاسم القشيري إماماً على مذهب الإمام الأشعري،فلما ورد حاجّاً إلى بغداد و جلس في المدرسة النظامية يعظ الناس و جرى معه من الحنابلة فتن،لأنّه تكلّم على مذهب الأشعري و نصره و كثر أتباعه و المتعصبون له،و قصد خصومه من الحنابلة و من تبعهم سوق المدرسة النظامية و قتلوا جماعة. (3)

لم يكن الإمام الأشعري و لا أتباعه مختلفين مع الحنابلة في توحيده سبحانه و لا في رسالة نبينا محمد صلى الله عليه و آله و سلم و لا في معاوية،و انّما كانوا يختلفون في التنزيه و التشبيه أ فيكون هذا مسوغاً لإراقة الدماء؟!

ص:388


1- 1) .الكامل:614/9، [1]حوادث سنة 447ه.
2- 2) .فهرست النديم:271؛ [2]وفيات الأعيان:285/3. [3]
3- 3) .الكامل لابن أثير:104/10، [4]حوادث عام 469ه.

6.موت البوريّ بحلواء مسمومة

يذكر الجزري في حوادث سنة 567ه:انّه مات فيها البوري،الفقيه الشافعيّ،تفقّه على محمد بن يحيى،و قدم بغداد و وعظ،و كان يذمّ الحنابلة،و كثرت أتباعه،فأصابه إسهال فمات هو و جماعة من أصحابه، فقيل:إنّ الحنابلة أهدوا له حلواء فمات هو و كلّ من أكل منها. (1)

7.الفتنة بين الشافعية و الحنابلة

لم تكن هذه الفتنة أوّل فتنة أجّج نارها الحنابلة في بغداد،بل تلتها فتن أُخرى كما ستقف عليه تالياً؛ يذكر ابن أثير في حوادث عام 475ه أنّه قد ورد إلى بغداد هذه السنة الشريف أبو القاسم البكري،المغربي، الواعظ و كان أشعريَّ المذهب،و كان قد قصد نظام الملك،فأحبّه و مال إليه،و سيّره إلى بغداد و أجرى عليه الجراية الوافرة فوعظ بالمدرسة النظاميّة،و كان يذكر الحنابلة و يعيب،و يقول: «وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا» 2 .و اللّه ما كفر أحمد و لكن أصحابه كفروا.

ثمّ إنّه قصد يوماً دار قاضي القضاة أبي عبد اللّه الدامغاني بنهر القلائين،فجرى بين بعض أصحابه و بين قوم من الحنابلة مشاجرة أدّت إلى الفتنة،و كثر جمعه،فكبس دور بني القرّاء،و أُخذ كتبهم و أخذ منها كتاب الصفات لأبي يعلى فكان يُقرأ بين يديه و هو جالس على الكرسي للوعظ فيشنع به عليهم،و جرى له معهم خصومات و فتن. (2)

ص:389


1- 1) .الكامل:376/11. [1]
2- 3) .الكامل:124/10- 125، [2]حوادث سنة 475ه.

8.إحراق مسجد الشوافع

لم يكن اختلاف الحنابلة مع الأشاعرة-حسب زعمهم-إلاّ في الفروع،لأنّ أئمّتهم كانوا مختلفين فيها، لا في الأُصول الّتي يناط بها الإيمان،و مع ذلك نرى أنّ الحنابلة ربما يحرقون مسجد الشوافع تعصباً.يروي ابن جنيد و يقول:و قد بنى وزير خوارزم شاه للشافعية بمرو جامعاً مشرفاً على جامع الحنفية،فتعصّب شيخ الإسلام (بمرو) و هو مقدّم الحنابلة بها،قديم الرئاسة،جمع الأوباش،فأحرقه.فأنفذ خوارزم شاه فأحضر شيخ الإسلام و جماعة ممّن سعى في ذلك،فأغرمهم مالاً كثيراً. (1)

9.التشكيك في شيخ الأشاعرة

اشارة

لم تزل المنافسة بين الحنابلة و الأشاعرة قائمة على قدم و ساق منذ ظهر مذهب الإمام الأشعري بين أهل السنة و استقطب مجموعة كبيرة من العلماء و اشتهر باسم أهل السنة و لكن الحنابلة رفضوا قبوله كجزء منهم.

حكى ابن أبي يعلى في طبقاته قال:قرأت على علي القومسي عن الحسن الأهوازي قال:سمعت أبا عبد اللّه الحمراني يقول:لما دخل الأشعري بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول:رددت على الجبائي و على أبي هاشم،و نقضت عليهم و على اليهود و النصارى و المجوس،و قلت و قالوا:و أكثر الكلام،فلما سكت،قال البربهاري:و ما أدري ممّا قلت لا قليلاً و لا كثيراً،و لا نعرف إلاّ ما قاله أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل، قال:فخرج من عنده و صنف كتاب«الإبانة»فلم يقبله منه،و لم

ص:390


1- 1) .الكامل لابن الأثير:158/12، [1]حوادث سنة 596ه.

يظهر ببغداد إلى أن خرج منها. (1)

و هذا يدلّ على أنّ شيخ الحنابلة البربهاري(المتوفّى 329ه) لم يقبله بما أنّه جزء منهم،و كان هذا الخط سائداً طول قرون حتّى حدثت فتنة بمدينة نيسابور،انتهت إلى خروج إمام الحرمين،و الحافظ البيهقي، و الأُستاذ أبو القاسم القشيري من نيسابور،و دارت الدائرة على من رام مذهب الأشعري.

و قد وقعت الفتن حوالي عام 436ه،و لذلك صدر استفتاء بعد استفتاء يتعلق بحال الشيخ أبي الحسن الأشعري من أنّه هل هو من أهل السنة أم لا؟ و قد نقل هذه الاستفتاءات السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، و يظهر منه أنّ الاستفتاء الأوّل صدر بخراسان و الثاني و الثالث ببغداد،و الأوّلان يرجعان إلى الشيخ الأشعري و الثالث إلى أبي نصر القشيري المرجع الكبير للأشاعرة في عصره،و إليك الاستفتاء الأوّل:

هل كان الأشعري من أهل السنّة؟

قال السبكي:كتب استفتاء فيما يتعلق بحال الشيخ فكان جواب القشيري ما نصّه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم،اتّفق أصحاب الحديث أنّ أبا الحسن عليّ بن إسماعيل الأشعري كان إماماً من أئمّة أصحاب الحديث،و مذهبه مذهب أصحاب الحديث،تكلّم في أُصول الديانات،على طريقة أهل السنة،و ردّ على المخالفين من أهل الزيغ و البدعة،و كان على المعتزلة و الروافض و المبتدعين من

ص:391


1- 1) .تبيين كذب المفتري،قسم التعليقة:391.

أهل القبلة و الخارجين من الملة سيفاً مسلولاً،و من طعن فيه أو قدح،أو لعنه أو سبّه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنة.

بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الدرج في ذي القعدة،سنة ست و ثلاثين و أربعمائة:

و الأمر على هذه الجملة المذكورة في هذا الذكر.و كتبه عبد الكريم بن هوازن القشيري.

هذا ما أجاب به القشيري ثمّ أيده لفيف من أكابر الأشاعرة بالنحو الّذي يحكيه السبكي و يقول:

و كتب تحته الخبازي:كذلك يعرفه محمد بن علي الخبّازي،و هذا خطه.

و الشيخ أبو محمد الجويني:الأمر على هذه الجملة المذكورة فيه،و كتبه عبد اللّه بن يوسف.و بخط أبي الفتح الشاشي،و علي بن أحمد الجويني،و ناصر العُمري،و أحمد بن محمد الأيّوبي،و أخيه علي،و أبي عثمان الصابوني،و ابنه أبي نصر بن أبي عثمان،و الشريف البكري،و محمد بن الحسن،و أبي الحسن الملقاباذي.

و قد حكى خطوطهم ابنُ عساكر.

و كتب عبد الجبار الاسفرائيني بالفارسية:اين ابو الحسن اشعرى آن امام است،كه خداوند عز و جل اين آيت را در شأن وى فرستاد: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ» 1 و مصطفى عليه السلام در آن وقت به جدّ وى:أبو موسى الاشعرى أشارت كرد؛و قال:هم قوم هذا. (1)

ص:392


1- 2) .ترجمة هذه الفقرة:لقد أنزل اللّه عزّ و جلّ هذه الآية:«فَسَوفَ يَأْتِي اللّه بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ»بحق الإمام أبو الحسن الأشعري،و المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم أشار إلى جده أبو موسى الأشعري بذلك،و قال:هم قوم هذا.

كتبه عبد الجبار علي بن محمد الاسفرائيني بخطه. (1)

استفتاء ثان كتب ببغداد

ثمّ نقل استفتاء آخر كتب في بغداد،و إليك نصّه:

ما قول السادة الأئمة الأجلة في قوم اجتمعوا على لعن فِرقة الأشعري و تكفيرهم،ما الّذي يجب عليهم؟

فأجاب قاضي القضاة أبو عبد اللّه الدامغاني الحنفي،قد ابتدع و ارتكب ما لا يجوز،و على الناظر في الأُمور-أعز اللّه أنصاره-الإنكار عليه و تأديبه بما يرتدع به هو و أمثاله عن ارتكاب مثله.و كتب محمد بن علي الدامغاني. (2)

ثمّ أيد الاستفتاء الأعلام التالية اسماؤهم:

1.الشيخ أبو إسحاق الأهوازي.

2.الشيخ علي بن إبراهيم الفيروزآبادي.

3.محمد بن أحمد الشاشي.

و أكد الكل على أنّ الأشعرية أعيان أهل السنة و نصّار الشريعة فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة.

و أمّا الاستفتاء الثالث فيرجع إلى شخص أبي نصر القشيري و قد كتب في بغداد.

و من أراد فليرجع إلى طبقات الشافعية الكبرى(ج3 ص 376).

10.الفتنة في نيشابور

اشارة

ثمّ إنّ السبكي خصّص فصلاً يشرح فيه حال الفتنة الّتي وقعت في

ص:393


1- 1) .طبقات الشافعية الكبرى:374/3- 375. [1]
2- 2) .طبقات الشافعية:375/3. [2]

نيشابور و آلت إلى خروج أكابر العلماء من تلك المنطقة،و كان ذلك في أيام سلطة طغرل بك السلجوقي و وزيره أبي نصر منصور بن محمد الكندري،و قد وصف السبكي هذه الفتنة بقوله:

و هذه هي الفتنة الّتي طار شررها فملأ الآفاق،و طال ضررها فشمل خراسان،و الشام،و الحجاز، و العراق،و عظم خَطْبها و بلاؤها،و قام في سَبِّ أهل السنة خطيبها و سفهاؤها،إذ أدّى هذا الأمر إلى التصريح بلعن أهل السنة في الجمع،و توظيف سبّهم على المنابر،و صار لأبي الحسن (كرم اللّه وجهه) بها أسوة لعلي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه،في زمن بعض بني أمية،حيث استولت النواصب على المناصب،استعلى أولئك السفهاء في المجامع و المراتب. (1)

و بما أنا ذكرنا تفصيل الفتنة في كتابنا بحوث في الملل و النحل (2)اختصرنا على هذا المقدار في هذا المقام.

خاتمة المطاف

انّ سمات المسلم،هي ما يذكره اللّه سبحانه في الذكر الحكيم و يقول: «أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ...» 3 و يا للأسف،كان بعض هؤلاء-لا كلّهم-على خلاف ما ذكر سبحانه.

من نتائج هذه الحوادث الّتي ذكرنا بعضاً منها،ضعف المسلمين و تشتتهم و غفلتهم عما يحيط ببلادهم من أخطار فاصبحوا-بعد زمان قليل-طعمة سائغة

ص:394


1- 1) .طبقات الشافعية:391/3.
2- 2) .راجع إلى موسوعتنا:بحوث في الملل و النحل:299/2- 304.

أمام الأعداء،و سهل على جيوش التتار أن تحتل بلادهم واحداً بعد الآخر و تنزل بهم من البلاء و العذاب ما تقشعر له الجلود،و ما يعجز القلم عن وصفه.

فتوجه التتار إلى البلاد الإسلامية و احتلوها ابتداءً من المشرق إلى ان وصلوا إلى دار السلام بغداد فازالوا الخلافة العباسية و جرّعوا المسلمين كؤوس البلاء و العذاب على نحو لا يستطيع ابن الأثير الجزري أن يسرد تلك الحوادث المرّة فيقول،في حوادث سنة 617ه،عند ذكر خروج التتار إلى بلاد الإسلام:

لقد بقيتُ عدّة سنين مُعرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها،كارهاً لذكرها،فأنا أقدّم إليه [رِجلاً] و أُؤخّر أُخرى،فمن الّذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام و المسلمين،و من الّذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أُمّي لم تلدني،و يا ليتني مُتّ قبل حدوثها و كنتُ نَسياً منسيّاً،إلاّ أنّي حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها و أنا متوقّف،ثمّ رأيتُ أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً،فنقول:هذا الفعل يتضمّن ذكر الحادثة العظمى، و المصيبة الكبرى الّتي عقمت الأيّام و الليالي عن مثلها،عمّت الخلائق و خصت المسلمين،فلو قال قائل:إنّ العالم مذ خلق اللّه سبحانه و تعالى آدم،و إلى الآن،لم يُبْتَلَوا بمثلها؛لكان صادقاً،فإنّ التواريخ لم تتضمّن ما يقاربها و لا ما يُدانيها.

و من أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصّر ببني إسرائيل من القتل،و تخريب البيت المقدّس،و ما البيت المقدّس بالنسبة إلى ما خرّب هؤلاء الملاعين من البلاد،الّتي كلّ مدينة منها أضعاف البيت المقدّس،و ما«بنو إسرائيل»بالنسبة إلى من قتلوا،فانّ أهل مدينة واحدة ممّن قتلوا أكثر من بني إسرائيل،و لعلّ الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم،و تفنى الدنيا،إلاّ يأجوج و مأجوج.

ص:395

و أمّا الدجّال فإنّه يُبقي على من اتّبعه،و يُهلك من خالفه،و هؤلاء لم يُبقوا على أحد،بل قتلوا النساء و الرجال و الأطفال،و شقّوا بطون الحوامل،و قتلوا الأجنّة،فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون،و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العلي العظيم.

لهذه الحادثة الّتي استطار شررها،و عمّ ضررها،و سارت في البلاد كالسحاب استدبرته الرّيح،فإنّ قوماً خرجوا من أطراف الصين،فقصدوا بلاد تُركِستان مثل كاشْغَرَ و بلاساغون،ثمّ منها إلى بلاد ما وراء النهر،مثل سمرقند و بُخارى و غيرهما،فيملكونها،و يفعلون بأهلها ما نذكره،ثمّ تعبر طائفة منهم إلى خراسان،فيفرغون منها مُلكاً،و خريباً،و قتلاً،و نهباً،ثمّ يتجاوزونها إلى الرَّيّ،و همدان،و بلد الجبل و ما فيه من البلاد إلى حدّ العراق،ثمّ يقصدون بلاد أذرَبيجان و أرّانيّة،و يخرّبونها،و يقتلون أكثر أهلها،و لم ينج إلاّ الشريد النادر في أقلّ من سنة،هذا ما لم يُسمع بمثله.

ثمّ لمّا فرغوا من أذربيجان و أرّانيّة ساروا إلى دربند شِروان فملكوا مُدنه،و لم يسلم غير القلعة الّتي بها ملكهم،و عبروا عندها إلى بلد ألاّن،و اللّكْز،و من في ذلك الصُّقع من الأمم المختلفة،فأوسعوهم قتلاً،و نهباً، و تخريباً؛ثمّ قصدوا بلاد قَفجاق،و هم من أكثر الترك عدداً،فقتلوا كلّ من وقف لهم،فهرب الباقون إلى الغياض و رءوس الجبال،و فارقوا بلادهم،و استولى هؤلاء التتر عليها،فعلوا هذا في أسرع زمان،لم يلبثوا إلاّ بمقدار مسيرهم لا غير.

إلى آخر ما ذكره. (1)

ص:396


1- 1) .الكامل في التاريخ لابن الأثير:358/12- 360. [1]
التاريخ يعيد نفسه

مع أنّ التجربة علم ثان فقد جرب المسلمون،الآثار السلبية للتفرقة و النزاع الطائفية و رأوا بام أعينهم كيف صار النزاع الداخلي ذريعة لتسلط الكفار على بلاد المسلمين و نواميسهم،و مع ذلك نرى أنّ التاريخ اعاد نفسه في أرض العراق الجريح...فإن أكثر العراقيين في زمن تسلط النظام البعثي كانوا مضطهدين و واقعين تحت نير ظلم البعثيين،و بعد ما ازيلت هذه السلطة الغاشمة بيد كافر مثلها،ففي مثل هذه الظروف العصيبة فالإسلام يفرض على المسلمين أن يتحدوا و يتعاونوا و يؤسسوا دولة عادلة تحفظ كيان البلد و ناموسه و يحكم فيهم بالعدل و القسط و يجسّدوا قوله سبحانه: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ». 1

هذا هو الفرض اللازم على عامّة المسلمين و في مقدّمتهم الشعب العراقي،و لكن-يا للأسف-عادت البلوى بثوب آخر و طار شرر الظلم من جديد فما يمرّ يوم إلاّ و تقتل فيه زرافات من الأبرياء بيد المحتلين و أذنابهم من البعثيّين و التكفيريّين الجهلاء الذين تنكّروا للمبادئ و القيم،و كأنّهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه:

«وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً». 2

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

28 من ذي الحجة الحرام 1426ه

ص:397

ص:398

الفصل الرابع في التقاريظ و المكاتبات

اشارة

تقاريض لأربعة كتب في الأُصول و الفقه و اللغة

ثلاثة أسئلة حول الحجّ موجّهة إلى الدكتور عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان

جواب الدكتور أبو سليمان عن الأسئلة المتعلّقة بالحجّ

رسالة إلى الدكتور عبد الوهاب بن إبراهيم و فيها إشكال حول الرمي

رسالة جوابية للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان

رسالة إلى السيد محمد حسين فضل اللّه

رسالة إلى الدكتور فاروق حمادة

رسالة إلى السيد جعفر مرتضى العاملي

خطاب مفتوح إلى جناب الباب بنديكت السادس عشر

ص:399

ص:400

بسم اللّه الرحمن الرحيم

1-تقريط لكتاب العربية للناشئين

الحمد للّه الّذي خلق الإنسان و علّمه البيان،و الصلاة و السلام على خير من نطق بالضاد محمد و آله الأطهار.

أمّا بعد،فالعربية،لغة القرآن الكريم و السنّة النبوية و أحاديث العترة الطاهرة،و لغة العبادة و الدعاء بين المسلمين.

فالمسلمون جميعاً يقيمون الفرائض ليلاً و نهاراً و يدعون اللّه سبحانه بلغة الضاد،و هذا ما يدعوهم إلى تعلّم هذه اللغة بأحسن وجه،و الّتي هي من دعائم الوحدة بين المسلمين كسائر المشتركات الأُخرى.

و قد قام كثير من أهل الأدب بتدوين كتب خاصّة لتعليم العربية لغير الناطقين بها،و قد انتشر أخيراً كتاب «العربية للناشئين»في ستة أجزاء،يتمكّن الناشئ بدراستها من المذاكرة و المفاهمة باللغة العربية و إلقاء المحاضرات بها،و هي خطوة كبيرة في تثقيف عشاق اللغة العربية.

و قد وفق اللّه سبحانه الناشئ الذكي«السيد جابر الموسوي راد»و هو في مقتبل العمر لتأليف معجم في ستة أجزاء على غرار الكتاب المذكور لإيضاح مفرداته باللغة الفارسية.و قد لاحظت الجزء الأوّل فوجدته - بحمد اللّه-كتاباً

ص:401

نافعاً للناشئين و غيرهم.

و نحن إذ نبارك له هذا العمل نأمل أن يقوم بأعمال مفيدة أُخرى في المستقبل،فالأماني معقودة بنواصيه،و قد لمست منه التوقّد و الذكاء و النبوغ عند زيارته لنا في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام.

وفقه اللّه لما يحب و يرضى

جعفر السبحاني

إيران-قم المقدسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

9جمادى الاولى 1426ه

ص:402

بسم اللّه الرحمن الرحيم

2-تقريط لكتاب اصول

الحمد للّه ربّ العالمين،و أشرف الصلاة و أتم السلام على المصطفى من خليقته و خاتم أنبيائه و رسله محمد الأكرم،و على عيبة علمه و حفظة سننه و خزنة سرّه الأئمة المعصومين الطيّبين الطاهرين.

أمّا بعد؛

إنّ حياة الدين رهن دراسته و مذاكرته و بذل الجهود في فهم معارفه و أحكامه،و لو لا هذا لضاع الدين و تطرّق التحريف إلى أُصوله و فروعه،فالاجتهاد في الدين رمز بقائه و نضارته و مرونته و انسجامه مع متطلّبات كلّ عصر.

و من دعائم الاجتهاد في الفقه التعرف على القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية و ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل بعد اليأس عن الدليل.

و قد أُلفت-من سالف العصور إلى يومنا هذا-في هذا المضمار عشرات الموسوعات و مئات الكتب من قبل علمائنا العظام،إلى أن انتهى الزمان إلى فخر الشيعة و عالم الشريعة المحقق البارع الشيخ محمد كاظم الهروي الخراساني (1255- 1329ه) و الّذي ألف نادرته المعروفة ب«كفاية الأُصول»و لخص فيها

ص:403

آراء المتقدّمين و المتأخرين،ضامّاً إليها ما توصل إليه بتفكيره و نبوغه،بأوجز العبارات و أقصرها،فصار هذا الكتاب محور الدراسة في الحوزات العلمية الشيعية إلى ما يربو على قرن كامل.

و قد دوّن غير واحد من تلاميذ المؤلف و من تبعهم تعاليق ذكر أسماءها شيخنا المجيز شيخ الباحثين آقا بزرگ الطهراني في ذريعته في فصل الحواشي،جزاهم اللّه عن العلم و الإسلام خير الجزاء.

و ممّن شاركهم في هذا المضمار الشيخ الفاضل الألمعي الزكي حسين الساعدي حفظه اللّه تعالى، و الذي خاض في عباب الكفاية فشرح مقاصد المؤلف و بيّن مراميه،بأوضح العبارات و أنصعها.

و قد أسعفني الحظ فقرأت قسماً ممّا يرجع إلى فصل الأوامر فوجدته وافياً للغرض مؤدياً لمقاصد الكتاب.

ادعو اللّه سبحانه أن يوفقه لما يحب و يرضى انّه ولي التوفيق

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

الخامس من شهر ذي القعدة الحرام 1426ه

ص:404

بسم اللّه الرحمن الرحيم

3-الشريعة المتكاملة

يتألف المجتمع الإنساني من كيانات صغيرة هي الأُسَر و العوائل الّتي يرتبط أفرادها بعلاقات و أواصر مختلفة.

و كما عالج الإسلام حقوق المجتمع من مختلف الجوانب بقوانين ثابتة و متغيرة تواكب التطور البشري، فقد عالج أيضاً حقوق الأُسرة و تنظيم علاقات مكوّناتها على شاكلة تلك القوانين.

فالكيان الصغير يضمّ أفراداً مختلفين،لا يسع لكلّ منهم أن يقوم بأمر النفقة،ففيهم الزوجة الّتي تعتني بتربية الأولاد و إدارة شئون البيت،و هي بحكم مسئولياتها الكبيرة لا تستطيع-في الأعم الأغلب-أن تُنفق على نفسها و أولادها،كما قد تشتمل الأُسرة على بعض الأقارب كالأب و الأُم اللذين طعنا في السن،و هما غير قادرين على الاستمرار في الحياة و العيش بكرامة إلاّ بإنفاق من بذلا عمرهما لأجله و تولّيا تربيته.

و الكتاب الماثل بين يديك قد اهتمَّ بأمر الإنفاق في فصول ثلاثة:

1.نفقة الزوجة و ملاكها عقد الزوجية.

2.نفقة القرابة و ملاكها الحاجة و الفقر.

ص:405

3.نفقة المملوك إنساناً كان أو حيواناً.

و قد اختصر المؤلف الكلام في نفقة المملوك (الإنسان) و نعم ما فعل،لعدم الحاجة إليه في الوقت الحاضر بعد فقدان الموضوع.

و يتميز الكتاب بخصائص،أهمها:

أ.نقل أقوال الفقهاء متقدّميهم و متأخّريهم برحابة صدر،دون أن يمنعه حجاب المعاصرة من نقل أقوال المعاصرين.

ب.لا ريب في أنّ للزمان و المكان دوراً مهمّاً في بعض موارد النفقة،إذ رُبّ أمر لم يكن من لوازم الحياة،قد أصبح اليوم من ضرورياتها،فالمؤلّف قد استمدّ في استنباط الحكم الشرعي من هذه القاعدة الّتي تمسّ موضوع الأحكام لا الأحكام نفسها،فإنّ الشريعة خالدة ما كرّ الجديدان.

ج.عقد المؤلف فصلاً بحثَ فيه نفقة الحيوان،و كنا نأمل أن يُشبع هذا الموضوع أكثر.

و مهما يكن،فقد أثبت أنّ الشريعة الإسلامية قد أطلّت على عالم الحياة من أفق عال قبل أن يتبنَّى الغرب مسألة حقوق الحيوان.

و نحن نبارك هذا الأثر القيّم لمؤلفه العلاّمة الحجة الشيخ عبد اللّه أحمد اليوسف دام عزّه،و نرجو أن يكون هذا الكتاب باكورة خير لخطوات أُخرى في مجال الحقوق و التشريع الإسلامي.

و السلام

جعفر السبحاني

قم المشرفة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

18صفر المظفر 1427ه

ص:406

4-تقريط لرسالة أصولية حول الصحيح و الاعم

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على خاتم أنبيائه محمد و آله الطاهرين.

أمّا بعد؛

فإنّ علم الفقه من أهم المعارف الدينية،يتكفل ببيان الحلال و الحرام،و المنجيات و المهلكات؛و من أُسسه علم الأُصول الّذي يدور عليه استنباط الأحكام من أدلّتها الشرعية،و قد قام أئمّة أهل البيت عليهم السلام ببيان ضوابط كلية في هذا المضمار أصبحت محوراً عند المتأخرين لإرساء قواعد الأُصول و بالأخص فيما يرجع إلى المباحث العقلية.

و ممن خاض في هذا المجال الأُستاذ الفاضل محمد مهدي الأحمدي الشاهرودي-حفظه اللّه-فقد ألف رسالة حول الصحيح و الأعم و درس أقوال الأُصوليين و آراءهم في هذه المسألة،و خرج من دراسته هذه بنتائج باهرة.

و لعلّ هذا الكتاب باكورة خير لرسائل أُخرى تعقبه،كيف لا و قد تربى المؤلف في حجر العلم و الثقافة الدينية السامية و ترعرع بين يدي والد فقيه أُصولي

ص:407

كرّس عمره في نشر الشريعة و الدفاع عن حياضها،أعني آية اللّه الشيخ أحمد علي الأحمدي الشاهرودي طاب ثراه.

أرجو من اللّه سبحانه أن يوفق المؤلف لما يحب و يرضى.

انّه سميع مجيب

جعفر السبحاني

قم المقدسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

حرر في يوم الأربعاء

18ذي القعدة الحرام 1426ه

ص:408

بسم اللّه الرحمن الرحيم

5-الأُستاذ الفاضل الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان المحترم

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أسعد اللّه أيامكم و وفقكم لما يحب و يرضى.

لقد سررت بقراءة كتابكم فقه المعاملات الحديثة الّذي هو نوع جديد و طراز حديث في تحليل المعاملات على ضوء أحدث الأفكار و أفضلها مع الالتزام بنصوص الشريعة الإسلامية.

و قد قرأت شيئاً كثيراً من الكتاب و أعجبني استيعابكم لآراء المذاهب الأربعة في عامّة المسائل و خاصّة في مسألة التوريد.

رفع اللّه مناركم و سدد خطاكم.

لقد أرسلنا رسالة تتضمن السؤال عن خلوق الكعبة و ما هو واقعه و ماهيته،و هل تُطيَّب به الكعبة المشرفة هذه الأيام أيضاً أو لا؟

و نعرض لسماحتكم سؤالاً آخر و هو:

أنّه لا شكّ في وجوب السعي بين الصفا و المروة؛و لكنّ الّذي يهمنا هو

ص:409

الوقوف على مقدار ارتفاع الجبلين،و في الوقت نفسه نحتاج إلى معرفة امتداد الجبلين و هل يتحدد رسالة الى الدكتور عبد الوهاب بن ابراهيم و فيها ثلاثة اسئلة عن الحج بعرض الطريق المسقف الموجود حالياً و هو المسعى أو انّ امتدادهما كان أوسع من عرض الطريق المسقف؟ و يترتب على ذلك سؤال ثالث و هو هل أنّ الطبقة الفوقانية في المسعى هي فوق الجبلين أو دونهما و لو قليلاً.

هذه أسئلة ثلاثة عرضتها على سماحتكم عسى أن نقف على أجوبتها،لأنّنا في حاجة شديدة لجوابها في تحرير هذه المسائل من خلال بحثنا في كتاب«الحج في الشريعة الإسلامية الغرّاء».و أنتم من أهل البيت، أدرى بما في البيت.

و خلاصتها:

1.ما هو خلوق الكعبة؟

2.ما هو مقدار امتداد الجبلين،و هل يتحدد بعرض المسعى حالياً أو أنّه كان أوسع؟

3.هل الطبقة الفوقانية الآن هي أعلى من الجبلين أو بينهما؟

و هذه الرسالة مرفقة بالجزء الثاني من كتاب«نهاية الوصول إلى علم الأُصول»و هو موسوعة أُصولية من القرن السابع الهجري بقلم العلاّمة الحلي رحمه الله.

رحم اللّه علماءنا الماضين و حفظ الباقين منهم.

مع فائق الاحترام و الودّ

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

إيران-قم المقدسة

السابع من جمادى الاولى 1426ه

ص:410

بسم اللّه الرحمن الرحيم

6-سماحة العلامة الشيخ جعفر السبحاني حفظه اللّه

السلام عليكم و رحمة و بركاته

و بعد

فأسأل المولى جل و علا أن تكونوا بصحة و سعادة أنتم و من لديكم من الأهل و الأساتذة و الخلاّن.

سيدي الفاضل:تسلمت بالغبطة و السرور هداياكم من الكتب النفيسة،فأوصلتم بها ما انقطع سابقاً من أجزائها فاكتملت كملكم اللّه و أنار بسماحتكم سبل الهدى،آمين.

سيدي:وجهتم إليّ بعض الأسئلة التي يهمّكم التأكد منها و أنتم بإجابتها عالمون،و هذا شأن العلماء الراسخين.

أوّلاً:مقدار ارتفاع جبلي الصفا و المروة و امتدادهما.

و هل الطبقة الفوقانية في المسعى هي فوق الجبلين أو دونهما و لو قليلاً؟

هذا الموضوع حرّره فقهاء مكة و مؤرّخوها قديماً و حديثاً فيما يتصل بالشق

ص:411

الأوّل من السؤال،و ها أنا أقتبس بعض العبارات المختصرة للإجابة و من ثمّ أُحيل سماحتكم إلى المصدر المقتبس منه:

«قال الغازي في تاريخه (تحت الطبع):الصفا هو مبدأ المسعى.قال الفاسي:هو في أصل جبل أبي قبيس على ما ذكره البكري و النووي و غيرهما،و هو مكان مرتفع من جبل له درج...»التاريخ القويم لمكة و بيت اللّه الكريم 352/5.

و الّذي عاصرته من هذا المشعر بعد التوسعة السعودية للمسعى و الحرم الشريف،و قبل ذلك أنّ الصفا امتداد لجبل أبي قبيس من الناحية الشمالية الشرقية،و كان هذا الامتداد ظاهراً متصلاً،تعاقب عليه التطور لتخطيط مكة المكرمة فقد كان الجبل الّذي يمتد منه الصفا ظاهراً،و طريقاً مرتفعاً تمر منه السيارات،هو الطريق الوحيد في تلك الجهة الّذي يربط شمال مكة بجنوبها و مشعر الصفا في جزء منخفض منه.

و أُلفِتُ نظر سماحتكم إلى الصورة رقم 193،ص 344 من الجزء الخامس من كتاب«التاريخ القويم» و عسى أن يكون ضمن مكتبة الحوزة العامرة لمشاهدة واقع هذا الامتداد قبل الإحداثات الأخيرة.

أمّا المروة فكما جاء في«التاريخ القويم»:

«و المروة في الشمال الشرقي للمسجد الحرام و هي منتهى السعي من أصل جبل قعيقعان...».

و قد ظهرت في الكتاب الآنف الذكر صورة المؤلف رحمه الله في المروة عند هدمها و هي بالفعل امتداد للجبل المذكور (353/5).و لعل سماحتكم شاهد جزءاً من ما تبقى من الجبلين في الصفا و المروة،فكلاهما امتداد للجبل حذاءه.

ص:412

و قد أوسع العلامة المؤرخ المكي الشيخ محمد طاهر كردي البحث في هذا الموضوع بما لا مزيد عليه،و الأهم من هذا أنّه كان أحد المشرفين المباشرين لأُمور توسعة الحرم،و كان عالماً،فقيهاً،آثارياً كان له الفضل بعد اللّه عزّ و جلّ في تحقيق المشاعر و المحافظة على أماكنها في حرص و تتبع علمي و تاريخي و واقعي شديد.

أمّا عرض الطريق المسقف فلا إشكال فيه،لأنّ المسعى هو الوادي طولاً و عرضاً،و قد عرض المؤرخ المكي الشيخ محمد طاهر كردي النقول و المقولات في هذا من كتب و مدونات التاريخ المكي القديمة.

الدور الأعلى للمسعى لا شكّ أنّه فوق الجبلين بصورة (متمكنة أمكن) و لو وقف سماحتكم و نظر من خلال (الجلا) الفتحة في أعلى الصفا لوجدتم جدارها الأخير فوق نهاية الجبل المتبقي في الدور الأسفل،و ما خلف الجدار حتّى القصور هو امتداده ذلك الجبل قد مهد و خفض ليكون صالحاً للسير.

و لو ذهبتم إلى المروة من الدور الأعلى لوجدتم أنّ جبل المروة ممتد إلى ما وراء جدار المسجد الحرام،دليل ذلك أنّ مستوى الدور الأعلى يقود مباشرة إلى مستوى الجبل الممتد،و الآتي من قبل المدعى يشعر بأنّه يرقى صعوداً إلى مرتفع،و قد ظهر المؤرخ كردي رحمه الله في المرة عند هدمها،منظر رقم 200، 353/5بما لا يدع مجالاً أنّ الدور الأعلى (متمكن أمكن) على الجبلين،في الثلث الأوّل من امتدادهما.

أرجو أن يتاح لسماحتكم الاطلاع على التحقيق الفريد لهذا الموضوع في هذا الكتاب،بل انّي أذهب إلى أبعد من هذا و هو أن السعي في الدور الأعلى هو في درجة اليقين في استكمال شعيره السعي إذا وصل الساعي مستديراً حول الفتحتين اللتين تشرف أحدهما على الدور

ص:413

الأرضي للصفا،و الأُخرى الّتي تطل على الدور الأرضي للمروة،و قد عملت كذلك ليتأكد الحاج من أنّ سعيه بالدور الأعلى كاملاً و سليماً.

ثانياً:خلوق الكعبة:خلاصة روح الورد تطيب به الكعبة،لدى غسلها من الداخل،يخلط العطر الخاص بها بماء و تغسل جنباتها و أرضيتها به ثمّ تضمخ جدرانها بخالص عطر الورد خالياً من الكحول.

و لو جمعتني مناسبة بكبير سدنة الكعبة المشرفة فسأحصل منه على معلومات كافية إن شاء اللّه.

ثالثاً:امتداد جبل الصفا:هو امتداد لجبل أبي قبيس من الناحية الجنوبية الشرقية.و المروة:امتداد لجبل قعيقعان.

رابعاً:الدور الأعلى للمسعى و سطح الحرم من تلك الجهة أخفض من مستوى قمة الجبلين بكثير.

هذا و إنّي أكرر شكري و أتوجّه إلى اللّه بالدعاء على ما تولونني به من عناية،و ما تبعثونه لي من كتب نفيسة و مصادر مفيدة ستكون موضع دراساتي و اهتمامي و تقبلوا أصدق التحيات و خالص الحب و التقدير.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

المخلص

عبد الوهاب أبو سليمان

1426/6/4

ص:414

بسم اللّه الرحمن الرحيم

7-رسالة الى الدكتور ابو سليمان

الأُستاذ الفاضل:الشيخ عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان المحترم

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته سلام كنشر العنبر المتضوع

إنّ كاتب هذه السطور مشتاق إلى كريم لقاءك،غاية الاشتياق و يرجو من اللّه سبحانه أن يبدل الفراق بالتلاق و يرزقه زلال وصالك،و الاغتراف من بحار إفاضاتك.

سيدي زرت بيت اللّه الحرام أوّل مرة عام 1375ه،بعد رحيل الملك عبد العزيز بسنتين.ثمّ رافقني التوفيق في بعض السنوات و الظاهرة البارزة في مناسك يوم منى،لإخواننا أهل السنة هي:

إنّهم يرمون جمرة العقبة يوم العيد بعد طلوع الشمس إلى الزوال و لا يرمون بعده و لكنّهم في اليومين التاليين:الحادي عشر و الثاني عشر يعكسون فيرمون الجمرات الثلاث بعد الزوال فقط لا أقول إنّ هذا سيرة الكلّ،لكن الّذي لمست

ص:415

انّ هذه سيرة الجلّ،فعندئذٍ يطرح السؤال التالي:ما هو الدليل من السنة على هذا التفريق،و المطلوب هو إيقافنا على الدليل على التضييق و لا حاجة إلى نقل الأقوال؟ مع انّ السنوات الأخيرة شهدت أحداث مؤسفة لعوامل متعددة منها ضيق وقت الرمي و تحديده ببعد الزوال في اليومين الحادي عشر و الثاني عشر و قبله في اليوم العاشر.

نعم في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام انّ بياض اليوم من طلوع الشمس إلى مغربها،وقت للرمي في الأيام الثلاثة.

أسأل اللّه سبحانه السلامة و التوفيق لسماحتكم،و لمن حولكم من الأعزاء.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

إيران-قم المقدسة

27جمادى الآخرة 1426ه

***

فلما وصلت رسالتنا هذه إلى سماحته أجابنا بالجواب التالي معرباً عن أنّ بعض علماء أهل السنة أفتوا بجواز الرمي قبل الزوال و أرسل رسائله في ذلك المضمار عبر الفاكس و إليك نص جوابه:

ص:416

8-رسالة جوابية للدكتور فاروق حماد

سماحة العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني حفظه المولى جلّ و علا

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

و بعد

فأبعث لسماحتكم بهذه الرسالة القيّمة الّتي تستدل بجواز الرمي قبل الزوال بأدلة لم أر من سبقه إليها، و سأبعث لسماحتكم حفظكم اللّه ببحثي في هذا الموضوع.

تقبّلوا منّي خالص الدعاء بالعفو و العافية و حسن العاقبة.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

المخلص عبد الوهاب أبو سليمان

1426/12/14ه

***

و قد أرفق هذه الرسالة بكراس عنوانه«يُسر الإسلام في أحكام حج بيت اللّه الحرام»،و فيه التحقيق لجواز رمي الجمار قبل الزوال.

و بعد ذلك أرسل لنا نسخة من مقال له يتعلق بالموضوع نشرته مجلة«البحوث الفقهية المعاصرة» الصادرة في مكّة المكرمة.

ص:417

بسم اللّه الرحمن الرحيم

9-رسالة الى السيد محمد حسين فضل الله

رسالة الى السيد محمد حسين فضل الله

سماحة العالم الجليل حجّة الإسلام و المسلمين

السيّد محمّد حسين فضل اللّه دام ظلّه

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه لكم دوام الصحّة،و التوفيق المطّرد في ما ترومونه من خدمات صالحة للدين الحنيف و المجتمع الإسلامي.

لا شكّ أنّ سماحتكم ممّن توفّرت فيه المواهب الفكرية و العلمية التي تتجلّى في آثاركم المنتشرة و محاضراتكم القيّمة في المؤتمرات الإسلامية،و لا شكّ انّ هذه المواهب من ذخائر المسلمين.انّكم تحيطون علماً بأنّ في الساحة الإسلامية خصوصاً بين الشباب في الجامعات مسائل فكرية و علمية تتطلب أجوبة علمية مقنعة،و لا يقوم بها إلاّ الأمثل فالأمثل من علماء الإسلام،و منهم فضيلتكم.

فإنّه لم تزل الأساتذة في الجامعات يثيرون هذه الأسئلة و قد كتب الغربيون حولها كتباً و رسائل عديدة و كثيرة،منها:

1.هل المعرفة البشرية تتجاوز حدّ الحس و المادة أو لا؟

ص:418

2.هل الدين يوافق الحرية الفكرية أو انّه يعارضها و يقضي عليها أو يعرقل حركتها؟

3.هل الدين ظاهرة مادية حدثت في المجتمع غبّ عوامل كالجهل بالعلل الطبيعية،أو ضغط الإقطاعيين و الرأسماليين على الفلاحين و العمال،أو عوامل أُخرى كالجنس و غيره من الأُمور المذكورة في كتب الماديين؟

4.هل الدين أمر إحساسي شهودي لا يخضع للبرهان،أو أنّه أمر عقلي برهاني خاضع له؟

5.ما ذا نفعل في مجال معارضة العلم مع الدين،مع أنّ الفروض العلمية ربما تعارض مقرّرات الدين أحياناً؟

6.ما هي صيغة الاقتصاد الإسلامي على وجه التفصيل،و ما هي الحلول الإسلامية للأزمات الراهنة في هذا الصعيد؟

7.ما هي صيغة الدولة الإسلامية بين الصيغ المختلفة؟

8.إذا كان الدين الإسلامي ديناً جامعاً فما هي صيغة سياسته الخارجية؟

9.لقد ظهر في ميدان التجارة العالمية شركات عملاقة باعتبارات مختلفة ذكرها الفقه الوضعي و ليس لها في الفقه الإسلامي أي أثر،و في الوقت نفسه تطلب حلولاً من منظار فقهي يعبر عن موقف الإسلام تجاهها و قد ألف في ذلك المضمار شيء يسير لا يسمن و لا يغني.

10.إنّ الفقه الوضعي ككتاب«الوسيط»للسنهوري المصري يليق بأن يدرس من منظار شيعي؟

و القيام بهذه الوظائف يتطلب جهداً حثيثاً و أذهاناً منوّرة.

إلى غير ذلك من شبهات للمستشرقين الحاقدين في حياة الأنبياء و الأولياء،

ص:419

إلى شبهات للوهابيين المتزمتين،إلى تصادمات مع الصوفية التي تخدع شبابنا بمرونتهم في قضايا الحياة.

أو ليس من الفريضة على أمثالكم،الاشتغال بهذه المباحث في إطار تربية جيل واع قادر على حلّ هذه المشاكل الخطيرة،تحت رعايتكم؟ و قد قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام:«إذا اشتغل الناس بالنوافل فاشتغل أنت بالفرائض».

فهذا يفرض عليكم إيقاف البحث حول«الباب»و«الجدار»و المسائل التي توجب صدعاً في الصف الشيعي أوّلاً،و يُفرح العدوّ المتربِّص ثانياً.

فرجاؤنا الأكيد الاهتمام بما هو من الأمراض و الأدواء الأصلية التي تُضَعْضِع الكيان الإسلامي و تهدد المسلمين بل الإلهيين قاطبة في صميم عقيدتهم.

و شهيدي اللّه إنّي إنّما قمت بهذه الرسالة أداء للوظيفة و خدمة للوحدة،و توقيراً لمقامكم،و صيانة لشخصيتكم،و تقبلوا فائق احترامي.

تحريراً في 20 شعبان المعظم 1417

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

جعفر السبحاني

ص:420

10 رسالة الى الدكتور فاروق حماد

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الأُستاذ الفاضل:الدكتور فاروق حمادة المحترم

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في صحة و عافية.

اغتنم فرصة سفر العلاّمة الحجة الأُستاذ الفاضل:السيّد محمد رضا الجلالي-دامت بركاته-إلى الديار المغربية لإلقاء محاضرات فيها،لأكتب لكم هذه الرسالة،و بما أنّنا في شهر رمضان المبارك فأودّ أن أهديكم خطبة الرسول الّتي خطبها في آخر جمعة من شهر شعبان المعظم و الّتي جمع فيها فضائل هذا الشهر،و قد رواها الشيخ الصدوق (306- 381ه) بسنده إلى الإمام علي الرضا عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين علي عليهم السلام قال:«إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خطبنا ذات يوم فقال:

أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهرُ اللّه بالبركَة و الرّحمةِ و المغفرة،شهر هو عند اللّه أفضل الشهور،و أيّامه أفضل الأيّام،و لياليه أفضل اللّيالي،و ساعاته أفضل الساعات،هو شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة اللّه و جعلتم فيه من أهل كرامة اللّه،أنفاسكم فيه تسبيحٌ،و نومكم فيه عبادةٌ،و عملكم فيه مقبولٌ،و دعاؤكم فيه

ص:421

مستجابٌ،فاسألوا اللّه ربّكم بنيّات صادقةٍ و قلوبٍ طاهرة أن يوفّقكم لصيامه و تلاوة كتابه،فإنّ الشقي من حرم غُفران اللّه في هذا الشهر العظيم،و اذكروا بجوعكم و عطشكم فيه جوعَ يوم القيامة و عطشه، و تصدقوا على فقرائكم و مساكينكم،و وقّروا كباركم و ارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم و احفظوا ألسنتكم، و غضوا عمّا لا يحلُّ النظر إليه أبصاركم و عمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم،و تحنَّنوا على أيتام الناس يتحنَّن على أيتامكم،و توبوا إليه من ذنوبكم،و ارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلاتكم،فإنّها أفضل الساعات،ينظر اللّه عزّ و جلّ فيها بالرحمة إلى عباده،يجيبهم إذا ناجوه،و يلبيهم إذا نادوه،و يستجيب لهم إذا دعوه.

أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم،و ظهوركم ثقليةٌ من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم،و اعلموا أنّ اللّه تعالى ذكره أقسم بعزته أن لا يُعذب المصلين و الساجدين و أن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

أيّها الناس من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند اللّه عتق نسمة و مغفرةٌ لما مضى من ذنوبه.قيل:يا رسول اللّه و ليس كلنا يقدر على ذلك.فقال صلى الله عليه و آله و سلم:اتقوا النار و لو بشق تمرةٍ،اتقوا النّار و لو بشربةٍ من ماءٍ...».هذا و للحديث صلة.

و صديقنا المعزز:السيد الجلالي غني عن التعريف و البيان و هو كاتب قدير و له مواقف مشكورة،و آثار و تصانيف ثمينة،و هو-مع ما له من مكانة عالية في الفقه و الأُصول-خبير في علمي الرجال و الدراية،أسأل اللّه سبحانه أن يوفقه في هذه الرحلة لما يحب و يرضاه.

ص:422

و أود أن ترسلوا لي كتابكم حول حياة الأئمة الاثني عشر،فإنّه دليل على ولائكم الخالص إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام.

كما أخبركم بأنّه لم يصل من مجلة بصائر الرباط إلاّ العدد الأوّل منها،و نحن ننتظر بفارغ الصبر سائر الأعداد.

و قد أرسلنا إليكم مقالاً حول«اكتشاف كذب الرواية في التاريخ»،راجياً نشره-و لو مع النقد-على صفحات المجلة.

و هذه الرسالة مرفقة بكتاب«أُصول الحديث و أحكامه»،أرجو أن يحظى برضاكم.

بلّغوا سلامي إلى الأهل و العيال،و لا تنسونا من صالح دعواتكم في أسحار شهر رمضان.

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

إيران-قم

7 رمضان 1426ه

ص:423

11 رسالة الى السيد جعفر مرتضى العاملى

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سماحة أخي العزيز الحجّة

العلاّمة السيد جعفر مرتضى العاملي دامت بركاته

السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

أمّا بعد؛

أرجو من اللّه سبحانه أن تكونوا في صحة و عافية.

استلمت بيد التكريم هديتكم السنيّة«تفسير سورة هل أتى»بجزأيه و قد عشتُ معه فترة فأعجبني استيعاب البحث في عامة ما يرجع إلى تلك السورة.

و لا عجب لأنّ سماحتكم تستوفون البحث في كلّ موضوع تبحثون فيه.و هذا الأثر القيّم كسائر آثاركم سيبقى خالداً مشعاً.

ولي اقتراح في هذا الصدد ألا و هو تفسير ما نزل من الآيات حول أهل البيت عليهم السلام تفسيراً جامعاً، و لعلّكم بذلك العمل تسدون فراغاً في المكتبة الإسلامية و سيكون بديعاً في موضوعه.

ص:424

و في الختام أرجو أن لا تنسونا من صالح دعواتكم كما أرجو إبلاغ سلامي إلى أخيكم العزيز مرتضى مرتضى العاملي.

و دمتم ذخراً للإسلام و المسلمين

و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

3 ربيع الثاني 1427ه

ص:425

12 أبيات شعرية مهداة الى العلامة السبحانى

أبيات مهداة إلى سماحة العلاّمة الفقيه الشيخ

جعفر السبحاني-أعزه اللّه تعالى-

بمناسبة شفائه من مرض ألم به: أيّها البلبلُ غرِّدْ

حيدر محمد علي البغدادي(أبو أسد)

ص:426

13 خطاب مفتوح إلى جناب البابا بنديكت السادس عشر

اشارة

(1)

بعد السلام

أودّ أن أسترعي انتباهكم إلى الأُمور التالية:

1.انّ الحوار الهادف و البنّاء يقوم على أُسس الاحترام المتبادل،فكان بإمكان سموكم أن تطرحوا نظرياتكم بأُسلوب جذاب و عبارات بعيدة عن التعصب و إهانة الآخرين،و عندها لا يحق لأحد الاعتراض عليكم طبقاً لقانون حرية الكلمة،نعم بإمكان كلّ إنسان أن يرد عليكم بنفس الأُسلوب من باب النقاش الموضوعي،إلاّ انّه و لشديد الأسف نرى أنّ خطابكم كان خطاباً مهيناً بكلّ أبعاد الكلمة.

2.انّ مسألة«عقلانية الدين»مسألة تخصصية صرفة،من هنا ينبغي أن تطرح في فضاء علمي ينسجم مع عمق الفكرة،فليس من الصحيح و المناسب أن تطرح هذه القضية في فضاء مفتوح يحضره حوالي 000،260ألف إنسان،الكثير منهم حضر بسبب علاقته و حبه لشخصكم و لا يفهم من الأُمور الفلسفية

ص:427


1- 1) .وجّه هذا الخطاب إلى البابا بعد كلمته في إحدى الجامعات الألمانية و الّتي أساء فيها للإسلام و للنبي الأكرم 6.

و الكلامية شيئاً،من هنا نرى أنّ طرح مثل هذه المسائل في مثل هكذا فضاء بعيد كلّ البعد عن الذوق البلاغي و أدب الخطاب.

3.انّ تخصّصكم في الكلام المسيحي يفسح لك المجال للحديث عن المسيحية،فمن حقّكم الحديث عنها و وصفها بالعقلانية و انّ الدين المسيحي عجين بالعقلانية و التعقّل!!

و لكن دعنا نسألكم أي شهادة أو تحصيل علمي تملكونه حول الدين الإسلامي بحيث يسمح لكم من خلاله الحديث عن الإسلام و الديانة الإسلامية؟ و الّذي يظهر من خطابكم انّكم لا تملكون شيئاً في هذا المجال،فلا تعرفون عن الإسلام الحقيقي و كتب و مؤلفات العلماء المسلمين الحقيقيّين شيئاً.من هنا نراكم استندتم في إثبات مدعياتكم إلى كلام امبراطور مسيحي باسم«عمانوئيل الثاني»الأمر الّذي يبعث على العجب و الحيرة من كلامكم.

لأنّ الواقع التاريخي يثبت أنّ السلاطين و أصحاب الحكومات يستندون في إثبات حقّانيتهم و توجيه حكوماتهم و شرعية عملهم إلى كلام العلماء و الروحانيين و أصحاب الاختصاص في الشأن الديني،أمّا أن ينعكس الأمر فهذا أمرٌ عجيب حقاً،هذا ما وقعتم فيه!! حيث نرى مقاماً دينياً و علمياً يستند لإثبات نظريته إلى كلام إنسان حكم في القرون الوسطى،متهماً أُمّة كبيرة بالجهل و عدم العقلانية!! و بعبارة أُخرى:انّكم قد خالفتم نص الإنجيل الّذي يقول:«دع ما لقيصر لقيصر و ما لعيسى لعيسى»،فما كان يجدر بكم الاستناد إلى كلام حاكم يعيش في القرون الوسطى و قد تحدث عن أمر هو بالكامل خارج عن مجال تخصصه.

4.من الملاحظ في كلّ حوار أو نقاش يدور هناك أخذ ورد من الطرفين،و هنا من المناسب أن يُسأل الامبراطور عمّا أجابه المثقف الإيراني الّذي هو طرف

ص:428

في الحوار،فكيف جاز لك يا سماحة البابا أن تنقل السؤال فقط و تغض الطرف عن الجواب؟ هل عملكم هذا ينسجم مع روح الحوار و المناظرة العلمية الصحيحة؟!

دع عنك ذلك،من الملاحظ في كلامكم أنّكم لم تذكروا اسم المثقف الإيراني و اكتفيتم بوصفه العام، و الحال انّ البحث الموضوعي يقتضي أن يذكر اسم هذا المثقف لنرى مدى صلاحيته للحوار العلمي،و هل يمتلك من المؤهلات و الجدارة العلمية ما يسمح له في الخوض في مثل هكذا حوارات معمّقة و تخصّصية؟!

لا شكّ أنّ عملكم هذا لا يؤدي إلاّ إلى الإبهام في الحوار و تشويش الفكر و إضعافه.

5.استنبطتم من كلام الامبراطور حتمية اطّلاعه على قوله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» و أضفت انّ هذه الآية وردت في الفترة الأُولى«العهد الملكي»حينما لم يكن محمد يملك-حسب تعبيركم-أية سلطة بل و كان عرضة للتهديد.

و هنا أرى من الضروري أن أُذكركم بأنّ استنباطكم المذكور و نسبة العلم بواقع الآية إلى الامبراطور بعيد عن الواقع،بل انّه خلاف الواقع،و ذلك لأنّ الآية المذكورة «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» هي إحدى آيات سورة البقرة و انّها من السور المدنية،أي أنّها نزلت على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حينما كان صلى الله عليه و آله و سلم صاحب دولة و قوة استطاع أن يخضع محيط المدينة و شطراً من الجزيرة العربية لسلطة و حاكمية الدولة الإسلامية و تحت راية التوحيد، و قد ذكر المفسرون سبب نزول هذه الآية،قال في«مجمع البيان»:نزلت في رجل من الأنصار يدعى أبا الحصين،و كان له ابنان،فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت،فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم

ص:429

ابنا أبي الحصين،فدعوهما إلى النصرانية فتنصّرا و مضيا إلى الشام،فأخبر أبو الحصين رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،فأنزل اللّه تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ». 1

و من الواضح و المسلّم به أنّ الدين أمرٌ قلبي لا ينسجم بحال من الأحوال مع الإكراه،فمن الممكن أن يجبر الإنسان على القيام بعمل ما،و لكن لا يمكن أبداً تغيير ما في القلب و تبديله عن طريق الجبر و الإكراه، فهل يمكن إجبار الإنسان أن يعتقد في رائعة النهار انّ الوقت الآن ليل؟ و الآية المباركة «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» ناظرة إلى هذا المعنى.

6.انّ حجة و مستند من ألصقوا بالإسلام تهمة العنف و الخشونة تنطلق من القانون المقدّس«قانون الجهاد»فهل فكرت لما ذا يستعمل مصطلح«الجهاد»هذا المصطلح الجذاب و لم يستفد من مصطلح «القتال»؟!

فالجهاد بمعنى السعي و المثابرة و بذل الوسع،و هذا يعني على الجميع النهوض و السعي الجاد لتخليص البشرية من مخالب الوثنية و عبادة الأبقار،و الحجارة،و الكواكب،فالإنسان الّذي هو سيّد المخلوقات لا يمكن أن ينحني أمام البقر أو الحجارة و يخضع لها بالولاء و العبودية!! هذا في الفكر الإسلامي، و لكننا نرى في الفكر المسيحي أنّ الكنيسة قد اخترعت مصطلح«الحرب المقدسة»في القرون الوسطى و في حروبها ضد المسلمين و بقيت هذه الفكرة تعيش في الأوساط الفكرية للكنيسة الكاثوليكية،و استطاعت من خلالها تعبئة الشباب المسيحي و توجيههم نحو الشرق في حربها الّتي سمّيت بالحروب الصليبية.

فهل يمكنكم يا سماحة البابا إنكار هذا الواقع التاريخي و إسدال الستار

ص:430

على تلك الحروب الّتي انطلقت تحت راية القداسة و اصطبغت بالصبغة الدينية؟!

و لا حاجة لنا للحديث عن التاريخ الماضي فقد يناقش تحت أية ذريعة،و لكن الحرب الّتي وقعت قبل ثلاثة أشهر و الّتي قام بها الصهاينة تدعمهم الماكنة الحربيّة و السياسية و الإعلامية الأمريكية و الغربية،ضد شعب أعزل و دولة فقيرة،فراح ضحيتها الكثير من الشباب و الأطفال و النساء و الرجال و أُريقت دماؤهم ظلماً، في الوقت الّذي لم نرَ من جنابكم أية مبادرة لإدانة هذه الحرب أو السعي لإيقافها،و إذا ما صدرت بعض الكلمات فهي كلمات خجولة لا تعالج موقفاً و لا تحل مشكلة!!

7.انّ الجهاد الإسلامي شأنه شأن الجهاد لدى سائر الأنبياء و المرسلين لم يكن الهدف منه إراقة الدماء و سلب الأموال و انتهاك الأعراض،بل كان في حقيقته أُسلوباً علاجياً للوقوف أمام المتغطرسين و المهيمنين على مقدّرات الناس من الحكام الظلمة الذين يسعون و من أجل الحفاظ على مصالحهم الشخصية للحيلولة بين عامة الناس و بين المعرفة الدينية و يتصدون للمبلغين المؤمنين و لا يسمحون لهم بنشر الدين الإلهي، فيوقعون في هؤلاء المبلغين القتل و التنكيل و التعذيب،الأمر الّذي يجعل جهاد هؤلاء الظلمة أمراً ضرورياً لرفع تلك الموانع و العقبات الّتي تعترض طريق الناس،و تحول بينهم و بين الدين و عرض رسالة الدين بصورة واقعية،بعد ذلك يأتي النداء الإلهي: «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ».

فكان من الحري بكم أن تلتفتوا في خطابكم المذكور إلى هذا المعنى الدقيق للجهاد،و الّذي يعني رفع الموانع و إزالة العقبات عن طريق الناس و الدفاع عن حريم الحرية الشخصية و الاجتماعية،لا انّه أُسلوب قهري لفرض العقيدة و تحميل

ص:431

الدين على الناس،ثمّ إنّكم بكلامكم المذكور و نفيكم للجهاد قد أشرتم بأصابع الاتّهام لجميع الكتب السماوية و الإلهية.

إنّ عدد سور القرآن الكريم 114 سورة تجد 113سورة منها تبدأ بكلمة «بسم اللّه الرحمن الرحيم» ، و هذا يعني أنّ كلّ فرد يقرأ القرآن الكريم يبدأ بمعرفة الرب بصفتي«الرحمن الرحيم»و أن يجعل من حياته مظهراً لتجلّي الصفات الإلهية،فكيف يا ترى يصحّ اتّهام الرسول الّذي جاء بمثل هذه التعاليم السامية بالإرهاب و العنف و الخشونة؟!

8.لا بدّ من التفريق بين الفيلسوف و النبي،فالفيلسوف يبلور نظريته ثمّ يضعها تحت متناول الناس من خلال الكتب أو أي طريق آخر،و لا يهمه نشرها و السعي في إشاعتها،في الوقت الّذي نرى الأنبياء حملة للرسالة الإلهية و أنّهم مأمورون بإيصال هذا النداء إلى مسامع البشرية جمعاء،فهل يصحّ لهؤلاء الرسل الجلوس في زوايا بيوتهم و عدم الاهتمام بنشر الرسالة حتّى إذا لم تصل إلى مسامع البشرية؟!

9.انّ الأديان الثلاثة:المسيحية و اليهودية و الإسلام هي ديانات إبراهيمية،تتّخذ من إبراهيم عليه السلام أُسوة و قدوة لها،و هنا نتساءل:هل كان إبراهيم عليه السلام يكتفي بالكلمة فقط لطرح رسالته و الأفكار الّتي جاء فيها؟! أم انّه كان يستعمل القوة إذا اقتضى الأمر،و هذا ما يتجلّى في موقفه من الأصنام حينما دخل بيوت الأصنام و حطمها بمعوله ليثبت للجميع خواءها و ذلتها،و لينقذ الناس من الذل و الهوان الّذي كانوا عليه من خلال عبادتهم لها.

10.و هنا نتساءل أيضاً،هل الجهاد من التشريعات الّتي تختص بها الرسالة الإسلامية فقط،أم انّه مشرع في كلّ من الديانتين اليهودية و المسيحية؟

ص:432

لا أظن أنّ جنابكم يجهل ما جاء في التوراة و الإنجيل.

فقد ورد في إنجيل«متى»:

«لا نظن أنّي لألقي سلاماً على الأرض،ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً،فإنّي جئت لأُفرِّق الإنسان ضدَّ أبيه و الابنة ضدَّ أُمّها و الكنّة ضد حماتها». (1)

كما جاء في الحديث في العهد القديم عن جهاد الأنبياء نكتفي بنموذج واحد و هو المقطع الّذي يتحدث عن جهاد داود عليه السلام مع عمالقة عصره:

«و قال داود في قلبه إنّي سأهلك يوماً بيد شاول فلا شيء خيرٌ لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين فييأسُ شاول مني فلا يفتش عليَّ بعد في جميع تخوم إسرائيل فأنجو من يدهِ،فقام داود و عبر هو و الستُّ مائة الرجل الذين معه إلى أخيش بن معوك ملك جتِّ (2)- إلى أن قال-:و كان عدد الأيّام الّتي سكن فيها داود في بلاد الفلسطينيين سنة و أربعة أشهر،و صعد داود و رجاله و غزوا الجشوريين و الجرزيين و العمالقة لأنّ هؤلاء من قديم سكان الأرض من عند شور إلى أرض مصر،و ضرب داود الأرض و لم يستبق رجلاً و لا امرأة و أخذ غنماً و بقراً و حميراً و جمالاً و ثياباً و رجع و جاء إلى أخيش». (3)

إنّ الحديث عن الجهاد و السعي في الإسلام كثير جداً و لا يمكن إعطاء البحث حقّه خلال هذه الرسالة المختصرة،و لكن نلفت نظر سموكم إلى هذه النكتة:

لو أغمضنا النظر عن تاريخ البشرية الطويلة و نركز الحديث على القرن

ص:433


1- 1) .انجيل متى:الباب10،الآية 34،طبع لندن عام 1838.
2- 2) .انجيل متى:474،صموئيل الأوّل 26 و 27 الاصحاح السابع و العشرون الآيات:1-3.
3- 3) .إنجيل متى:475،صموئيل الأوّل 26 و 27 الاصحاح السابع و العشرون الآيات:8-10.

العشرين من عام 1901- 2000،لنرى أي الشعوب شهرت سيفها و حركت جحافلها و جيّشت جيوشها و بصورة مستمرة لتحتل تلك الأرض و تهاجم هذا الشعب أو ذاك،و لتنهب خيرات هذه البلاد أو تلك؛هل هم المسلمون؟! أم الامبراطوريات المسيحية هي الّتي أشعلت فتيل الحربين العالميتين الأُولى و الثانية و الّتي راح ضحيتها الملايين من البشرية.فالحرب العالمية الأُولى راح ضحيتها 10 ملايين بين قتيل و جريح و مفقود،و الحرب العالمية الثانية قارب العدد فيها المائة مليون!

فإذا كان هناك جماعة تستحق النصيحة منك فينبغي أن تبدأ بهؤلاء القوم.

كما أنّنا نعيش هذه الأيام في أوليات القرن الواحد و العشرين،و تشاهدون و يشاهد الجميع الجيوش المسلحة بأحدث الأسلحة الفتاكة في كلّ من أفغانستان و العراق و لبنان و السودان و...الأمر الّذي يظهر و بوضوح للجميع أنّ أغلب هذه الحروب يكون رجالاتها و مثيروها هم من المسيحيين.

العقلانية في محاضرتكم

اشارة

لقد اعتبرتم المسيحية منسجمة مع العقلانية و أنّها مطابقة لمنطق العقل مائة بالمائة،و في المقابل اعتبرتم الإسلام بعيداً عن العقلانية و التعقّل،و نحن هنا نقف أمام مدّعاكم هذا من زاويتين و نتحدّث معكم في ناحيتين:

1.عقيدة التثليث و العقلانية المسيحية

إنّ كلمات الآباء الروحانيين قد ركّزت و لسنوات طويلة في كتبهم الكلامية على أنّ مسألة التثليث من المسائل الأساسية في الفكر المسيحي،و أنّها من المسائل التعبّدية الّتي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي، لأنّ التصوّرات البشرية لا

ص:434

تستطيع أن تصل إلى فهمه،كما لا تخضع للمقاييس المادية،لأنّها حقيقة فوق المقاييس المادية،فهي منطقة محرمة على العقل،و مع تركيزهم على التثليث في جميع أطوار حياتهم و عصورهم يعتبرون أنفسهم موحّدين و من أتباع الديانة الإبراهيمية الّتي ما جاءت إلاّ لتحطيم الشرك و دعوة الناس إلى التوحيد؛ و يعتقدون بالأقانيم الثلاثة:الأب،و الابن،و روح القدس.

من هنا نلفت نظر سموكم إلى أنّ القول بالتثليث لا ينسجم قطعاً مع التوحيد،لأنّ كون الآلهة ثلاثاً لا يخلو عن إحدى حالتين:

إمّا أن يكون لكلّ واحد من هذه الثلاثة وجود مستقل،و هذا يتنافى مع التوحيد؛و إمّا أن تكون هذه الآلهة الثلاثة ذات شخصية واحدة لا متعدّدة،و في هذه الصورة يستلزم القول بالتثليث،التركيب في الذات الآلهية.

و حينما الآباء الروحانيون و القساوسة بهذا الإشكال يفرون من الإجابة عنه بإخراج القضية عن حيطة العقل و إدخالها في عالم التعبد و الوحي!! و يطلبون الإيمان بها أوّلاً ثمّ التفكير فيها و تعقّلها ثانياً.

و العجيب هنا أنّنا لم نجد من استطاع بعد الإيمان بالفكرة تعبداً أن يحدث توازناً عقلياً بينها و بين منطق العقل و لم يوفق أحد منهم لرفع هذا التضاد.

و هنا نسأل:هل مع وجود هذا التضاد و التناقض يمكن لأحد أن يدّعي الانسجام التام بين الفكر المسيحي و منطق العقل؟!

2.عيد الميلاد

من الأُمور الّتي يعتقد بها في الفكر المسيحي ميلاد الرب«المسيح»ففي الخامس و العشرين من كانون الأوّل«جنوري»تلد السيدة مريم الرب!! فهل

ص:435

يوجد توجيه عقلاني لفكرة ولادة الرب؟ فهل الرب الواحد أو الثلاثة مصدر وجود العالم و مبدعه، و كيف بعد خلق العالم و إبداعه من قبل الرب يولد الرب؟!

3.نظرية الفداء

هل يمكن توجيه مسألة فداء المسيح عليه السلام من الناحية العقلية؟ اطرح هنا مسألة الفداء الّتي يؤمن بها المسيحيون و اطلب من جنابكم توجيهها لي من خلال المنطق.انّ الفكر الكنسي يعتقد أنّ جميع الناس يولدون مذنبين و غير مطهرين،لا لأنّهم اكتسبوا الذنب و وقعوا في الخطيئة بأنفسهم،بل أنّهم يحملون الخطيئة إرثاً من أبيهم آدم!! و بغض النظر عن صحّة هذه النظرية أساساً،و مع التسليم بها،فإنّ الطريق الصحيح للتطهّر من الذنب و الخطايا-و الّذي ينسجم مع العقل-هو أن يقوم الإنسان و من خلال العبادة و التوبة و الإنابة إلى اللّه بتطهير نفسه و إزالة الأدران و الآثام الّتي لحقت به،و لكن نجد في الفكر الكنسي أنّهم يعالجون القضية من خلال طريق آخر،حيث يقولون:إنّ المسيح عليه السلام قد اعتلى قبل 2000 عام خشبة الصلب و اختار القتل صلباً ليفدي أُمّته،أي يكون جزاء إيثاره هذا أن يقوم الرب تعالى بالعفو عن ذنوب بني آدم و تطهيرهم.و هنا نتساءل هل من الممكن أن يصلب شخص ليعفى عن الآخرين؟! انّ الإنسان الضعيف من الممكن أن يقوم بتقوية بدنه من خلال ممارسة الرياضة بنفسه،فهل يصحّ-يا ترى-أن يمارس الرياضة شخص ليقتدر غيره و يقوى بدنه؟! و هل يصحّ أن يتناول الطعام اللذيذ و المقوي شخص و يلتذ و يشبع غيره؟!!

4.العشاء الرباني

جاء في الفكر الكنسي:إنّ العشاء الرباني الّذي يتكون من خمر و خبز

ص:436

يستحيل إلى جسد و دم السيد المسيح-نعم هناك خلاف طويل بين الكنائس و لكنّنا نصوّر الكنيسة الغربية-فمن أكل من الخبز و شرب من الخمر فقد أدخل المسيح في جسده بلحمه و دمه،و تلك مسألة لم تجد لها زاوية في عقول الشباب الغربي فثار عليها. (1)

و في المؤتمر الكنسي الّذي عقد في روما 1215م.أقرّ ما شاع:من أنّ الخبز و الخمر في العشاء الرباني يتحوّل إلى جسد و دم السيد المسيح و جعله مبدأ دينياً. (2)

و هنا نسأل جنابكم:أيّ واحد من أجزاء هذه النظرية ينسجم مع العقل و المنطق؟!

من هنا نرى اليوم المفكّر المسيحي و الآباء الروحانيين و لبعد تلك الأفكار عن المنطق و العقل،يلوذون للخلاص من الإشكالات المتوجّهة إلى النظرية،بستار التعبد حيث يخرجون القضية عن حيطة العقل و يضعونها تحت خيمة الإيمان لا العقل و يقولون:إنّ مجال و محيط الإيمان غير محيط العقل.

و قد سلك الآباء الروحانيون لحل هذه التناقضات و الإشكالات العلمية المتوجّهة للعهدين،طريق التفريق بين طريقي العلم و الإيمان،فللعلم طريقه و للإيمان طريقه،فلا ضير على ما جاء في العهدين من مخالفات للعقل و العلم،لأنّ طريقهما غير طريق العلم.لأنّ منطق الدين غير منطق العلم!!!

5.لقد رفعت الكنيسة في القرون الوسطى راية مواجهة العلم و التصدّي للمخترعين و المكتشفين من خلال محاكم التفتيش العقائدي،حيث أُحرق الكثير من المخترعين و المكتشفين لمخالفة ما توصلوا إليه من خلال البحث العلمي مع

ص:437


1- 1) .أضواء على المسيحية لمتولي يوسف شلبي:129.
2- 2) .نفس المصدر:115.

ما ورد في العهدين،و لقد أشارت إلى تلك الأحداث المروعة المصادر الّتي كتبت بأقلام مسيحية. (1)

و لا شكّ أنّكم تعلمون بما لا مجال للشك فيه بهذا التناقض الواضح بين منطق الكنيسة و منطق العلم، و لو أردنا أن نبيّن لكم حقيقة الأمر و نطيل البحث معكم هنا لكنا مصداقاً للمثل العربي:«كناقل التمر إلى هجر» لعلمكم بكلّ خفايا و أبعاد القضية و كلّ ما حدث في تلك البرهة الزمنية من انتهاكات علمية و مواجهة مع منطق الفكر و البحث و التنقيب.

6.كيف يكون«البابا»الّذي هو إنسان كسائر الناس منزّه عن الذنوب و الخطايا؟! و نحن إذا ما قلنا بعصمة الأنبياء فإنّما ننطلق في ادّعائنا هذا من كونهم مرتبطين بالوحي و قد تربوا في أحضانه،و لا ندّعي العصمة لكلّ إنسان حتّى إذا كان بمستوى مرجع التقليد أو الحكيم الإلهي.

فهل نظرية التثليث الثانية الّتي ظهرت في الفكر المسيحي و التي يكون أحد أركانها:جنابكم«البابا»، و ركنها الآخر«بولس»الذي استطاع بأفكاره الّتي أثارها تحويل المسيحية البسيطة و الشعبية إلى مسيحية لها طقوس خاصة ذات أُبَّهة ملوكية مجلّلة و ديانة شركية،و الركن الثالث الكنيسة.

فكيف ينسجم ذلك مع العقلانية و التعقّل؟!

7.هل الرهبنة و منع القساوسة من الزواج و تشكيل الأُسرة يُعد ظاهرة عقلانية؟! فمن المسلّم به أنّ القس إنسان كسائر الناس يحمل ميولاً و رغبات طبيعية و غريزية.و أنّ من الضروري تلبية تلك الرغبات و إشباع تلك الغرائز من خلال الطرق المشروعة،فإنّ الوقوف أمام هذا الأمر الفطري لا ينتج إلاّ الفساد في

ص:438


1- 1) .انظر:قصة الحضارة لويل ديورانت،بحث محاكم التفتيش.

أوساط القساوسة.و هذه حقيقة ظاهرة للجميع و لا يمكن إخفاؤها.

8.دعنا هنا نسأل جنابكم الكريم هل من منطق العقل أن تتحدّثون باسم المسيحيين جميعاً و أنتم لا تمثلون إلاّ«المسيحية الكاثوليكية»و تتجاهلون المذاهب المسيحية الأُخرى كالبروتستانية و الارتودكس، الّذين لم يؤيدوا خطابكم؟!

9.ثمّ هل من منطق العقل و العقلانية أن توجه سهامك إلى الدين الإسلامي فقط و نبيّه الأكرم و تتجاهل الديانات و المذاهب الأُخرى كاليهودية و الديانات الشرقية و الغربية و الديانات الوثنية المنتشرة في العالم؟!

و إذا كانت الذريعة الّتي تتسترون بها هي الحديث عن الإرهاب و العنف،فهل يا ترى أن تلك الأديان خالية من تلك الصفة؟!

إنّ الجدير بمن يتسنّم منصب الأب الروحي أن يتصدّى للعنف و الإرهاب أينما كان و من أي دين صدر،و يدعو الناس إلى الصلح و السلام و الوئام و أن يظهر البعد الرحماني و الرحيمي في الدين الإلهي بصورة شفافة،فهل من العقلانية تغافلكم عن كلّ ما تنطوي عليه الأديان الأُخرى من عنف و إرهاب فكري و جسدي،و تصب جام غضبك على الإسلام و المسلمين؟!

10.و هل من العقلانية الحديث عن الحوار و في الوقت نفسه تتحدّثون مع أتباع الديانات الأُخرى بطريقة استعلائية و بلحن الآمر الناهي و من جانب واحد،و الحال انّ الدعوة إلى الحوار و الجدال و النقاش العلمي هي الدعوة الّتي رسمها القرآن الكريم و حددت معالمها الآية المباركة الشريفة: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ». 1

ص:439

نرجو منكم أن تقارنوا بين لحن هذه الآية و أُسلوب خطابها مع خطابكم،حينها تدرك جيداً انّ الداعي إلى الحوار و السباق إليه هو نبي الإسلام الأكرم محمد صلى الله عليه و آله و سلم لا جنابكم يا حضرة البابا.و لو تأملت في الآية المباركة الّتي جاء بها الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،لوجدتها تتوفر على الخصائص التالية:

أوّلاً:تبدأ الكلام بأُسلوب يحفظ للطرف الآخر احترامه و بأُسلوب الاحترام المتبادل مع أهل الكتاب، داعية الجميع للتمسك بنقطة الاشتراك و الالتقاء المتفق عليها بين جميع الأديان الإلهية و الّتي تحمل قيمة عليا لدى الجميع و هي كلمة التوحيد و عبادة الإله الواحد.

ثانياً:التحذير من الغلو في بعض الشخصيات،و وضعها في مصاف الرب أو جعلها هي الرب،الأمر الّذي ينطوي على مخاطر كبيرة و يؤدي إلى نشوء الكثير من الانحرافات العقائدية و غير العقائدية.

ثالثاً:إن استجاب أهل الكتاب لهذه الدعوة المباركة حينها يمدّ لهم المسلمون يد المسالمة و الوئام و العيش معاً بسلام و أمان،و إن لووا أعناقهم و لم يذعنوا لهذا الخطاب الإلهي و النداء الرحماني فهنا أيضاً لا يشن عليهم المسلمون الحرب و لا يشهرون بوجوههم السيف،بل يكون الخطاب الإسلامي معهم «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ» يعني انّنا لا نحيد عن إسلامنا و عبادة ربّنا و لا نخضع لدعوة غيرها في الشرك كما لا نجبر أحداً على الإذعان لديننا.

قارن بين هذا الخطاب و بين محاضرتكم الّتي ألقيتموها في جامعة«ريجسنبورغ»ثمّ أحكم أيكما هو السبّاق و الداعي إلى الحوار و العقلانية رسول الإسلام أم أنتم و أجدادكم؟!

و هل من المنهج العقلاني أن تركز على شخصية واحد من الآلاف من

ص:440

علماء المسلمين و هي شخصية ابن حزم الظاهري (المتوفّى 456ه) في الوقت الّذي يعلم الجميع انّه من علماء إحدى فرق المسلمين الّتي عفى عليها الدهر و إنّ أكثر علماء المسلمين قد ردّوا آراء هذه الفرقة و لم يرتضوا منهجها الفكري،و وضعوها في زاوية الإهمال و النسيان؟

إنّ الجدير بالمنهج العقلاني الّذي تتحدّثون عنه هو أن تستندوا إلى النظرات و الآراء المطروحة من قبل كبار علماء المسلمين و فلاسفته كالفارابي و ابن سينا و ابن رشد و نصير الدين الطوسي و غيرهم من الشخصيات الّتي يعرفها العالم الغربي أكثر منّا.

الإسلام و العقلانية

1.انّ موقفكم من الإسلام و القاعدة الّتي اعتمدتموها في إدانة الإسلام و الحكم عليه قاعدة بعيدة كلّ البعد عن الإنصاف و العقلانية،فكان من الأجدر بكم لإثبات عقلانية الإسلام أو عدمها الرجوع إلى المتون الإسلامية لا الاستناد إلى مصنّفات المخالفين للإسلام الّتي صنّفت بطريقة مغرضة هدفها الإساءة للإسلام و تعاليمه السامية،و حتّى لو استندوا إلى المصادر الإسلامية فإنّما يستندون إلى النظريات الخاطئة و الآراء الباطلة الّتي لا تمثل رأي الإسلام الحنيف،و إنّما هي آراء لشخصيات إسلامية لم يوفقوا لاكتشاف النظرية الإسلامية بصورة صحيحة،فهي في الحقيقة آراء مسلمين لا رأي الإسلام كدين و كفكر.

2.انّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و منذ الأيام الأُولى لدعوته دعا الناس إلى الإسلام بأُسلوب عقلي و منهج برهاني،و لا زالت معجزته الخالدة«القرآن الكريم»كما هي لم تمسّها يد التحريف و لم تتطرق إليها عوامل الزيغ و الانحراف،و لم يستطع أحد

ص:441

أن يمسّها بأدنى تحريف.

فقد تحدّى سبحانه و تعالى في السورة الثانية من كتابه المشركين قائلاً: «وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ». 1

3.من الواضح انّ جميع الرسل و الأنبياء اعتمدوا في دعوتهم المنهج البرهاني و العقلي،و الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن بدعاً من الرسل في هذا المجال فقد انتهج نفس المنهج.

4.انّ نظرة عابرة إلى مصطلحات«العقل»و«الفكر»و«العلم»الواردة في القرآن الكريم تظهر و بوضوح انّ رسول الإسلام يدعو الناس إلى التفكّر و التعقّل،و حسبك أن تعلم بأن:

أ.انّ مادة«العقل»جاءت في القرآن 49مرّة.

ب.و جاءت مادة«الفكر و التفكّر»22 مرة.

ج.و جاءت مادة«العلم»779 مرة،بصور مختلفة.

و قد أُمر رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم من قبله تعالى أن يتحدث مع الناس من خلال ثلاثة طرق:

أ.حينما يتحدّث مع المفكرين يعتمد أُسلوب و لغة المنطق و الاستدلال و البرهان.

ب.و حينما يتحدّث مع عامة الناس و أصحاب المستوى الفكري المتوسط يعتمد أُسلوب الوعظ و النصيحة و الإرشاد.

ج.و حينما يتحدّث مع المخالفين يعتمد منهج الحوار و الجدال بالتي هي

ص:442

أحسن.

قال تعالى: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ». 1

فهل يصح بمنطق العقل ان نصف النبي الّذي يعتمد هذا المنهج الراقي ذا الأركان الثلاثة العالية بأنّه إنسان بعيد عن العقلانية و مؤمن بمنطق العنف و الإرهاب؟!!

5.انّ البراهين العقلية و المنطقية الّتي وردت في القرآن الكريم لإثبات التوحيد كانت بدرجة من الإتقان و القوّة بحيث أذعن أمامها كبار الفلاسفة.

نشير إلى بعض هذه الآيات:

أ. «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا». 2

ب. «مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ». 3

و يقول سبحانه في إبطال أصالة المادة،و خلق العالم بنفسه: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ». 4

و نحن لو أردنا أن نستعرض جميع الأدلة البرهانية و المنطقية في هذا المجال لأحوجنا الأمر إلى تدوين كتاب مستقل.

6.انّ المتتبع لنتاجات المتكلمين المسلمين و الذين يعتمدون المنهج العقلي و المنطقي،يجد ما لا حصر له من المصنّفات.و قد دوّن علماء الشيعة وحدهم في

ص:443

هذا المجال أكثر من 12000مصنف،و لو أضفنا إليهم نتاجات علماء سائر المذاهب الإسلامية الأُخرى لازداد العدد زيادة كبيرة،فكيف و بعد ملاحظة كلّ هذا التراث الحي-و الّذي تحتفظ المكتبات و المتاحف الاوروبية بقسم كبير من مخطوطاته و المطبوع منه-يمكن وسم الإسلام بأنّه ديانة بعيدة عن المنهج العقلي و المنطقي؟!

7.عامة الحقوقين و رجال القانون الغربيين يعلمون جيداً أنّ«العقل»هو أحد مصادر التشريع الإسلامي،و انّ الأحكام الإسلامية تستنبط عن طريق القرآن و السنة و العقل و الإجماع.و مع هذه المنزلة الّتي يوليها الإسلام للعقل هل يصحّ اتّهامه و وصفه بأنّه ديانة مضادة للعقل و العقلانية؟!

8.إنّ محاضرتكم الّتي أُلقيت أمام حشد من الناس أكثرهم بعيد عن المسائل العقلية و لا يملكون تخصصاً في هذا الشأن بالإضافة إلى جهلهم بالتاريخ الإسلامي و معارفه،لا تعتبر أُسلوباً عقلانياً؟

9.في الوقت الّذي يعيش العالم إرهاصات حرب صليبية جديدة بين الشرق و الغرب و وجود الكثير من الأزمات و بؤر الاضطراب بين الطرفين هل كان من المناسب من شخصية روحانية و في مثل هذه الأجواء المشحونة أن يلقي كلمة يسيء فيها إلى إحدى الديانات الإبراهيمية،فتكون ثمرة هذا الخطاب دعماً للإرهاب و اسناداً للعنف المنافي و البعيد عن الإنسانية بعداً تامّاً.

10.يوجد في الوسط الإسلام و المسيحي رجال يتحرقون لإعادة السلم و الصفاء إلى البشرية مرة أُخرى،و قد بذلوا في هذا الطريق الكثير من الجهود و تحمّلوا الآلام و المعاناة،و قاموا بحوارات و لقاءات بنّاءة في هذا المجال على أمل أن يأتي اليوم الذي يرون فيه أتباع الديانات السماوية تحت خيمة

ص:444

واحدة ينعمون بالصلح و المودّة و السلام،و لكن و لشديد الأسف كان خطابكم و في هذا المركز العلمي و مقابل مئات الآلاف من عامة المستمعين كان بمثابة المعول الّذي حطم جهود هؤلاء العلماء المخلصين و جعل كلّ جهودهم في مهب الريح.

و لا ريب انّ سلوككم هذا بعيد عن العقلانية الّتي تتهم بها الآخرين.

إنّك بخطابك هذا لا يمكنك أن تشترك في حوار الأديان،و ذلك لأنّ حوار الأديان انّما يهدف إلى تقريب آراء نظريات أتباع الديانات الإبراهيمية،و أنتم بصدد إبعاد الآراء و وجهات النظر و هو خطوة في طريق الفرقة و التنافر،فكانت نتيجتها ان وضعت العالم على أعتاب حرب صليبية،و قد أثبتّم بسلوككم هذا انّكم طرف غير جدير للحوار و التقارب.

إنّ الفلاسفة و المتكلّمين المسلمين طرحوا بحوثاً جيدة جذابة و عقلية في مجال صفات اللّه تعالى و أفعاله،كما تتصف تلك الأبحاث بالدقة و العمق،و ممّا جعل بعض المفكرين المسيحيين يعترفون بأنّ هذه البحوث قد استطاعت أن ترفع الكثير من الإبهامات و الإشكاليات في هذا المجال،و لو كنتم و من يسير في ركابكم على علم بهذه البحوث و قيمتها العلمية لا شكّ انّكم ستدركون انّ هذه البحوث ترفع الكثير من الإبهامات في الفكر الكنسي في باب صفات اللّه،و لكن و لشديد الأسف أنّ تخصصكم في الكلام المسيحي و عدم معرفتكم و تخصصكم بالكلام الإسلامي جعلكم لا تعرفون حقيقة الدين الإسلامي و مفاهيمه.

أختم الحديث معكم عند هذه النقطة،على أمل أن يأتي اليوم الّذي تعترف به بخطئكم و تعتذر لأكثر من مليارد و نصف المليارد من المسلمين.

ص:445

و أخيراً أنا على استعداد تام لحوار علمي يسوده الودّ و الموضوعية،سواء في الفاتيكان أو في إيران أو في أي مكان آخر من أجل تقريب الأفكار و الرؤى في أوساط أتباع الديانات الإبراهيمية.

جعفر السبحاني

إيران-قم

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

29شعبان المعظم 1427ه

1385/7/1ه.ش

ص:446

توضيح حول خطاب البابا

* ألقى البابا بنديكت السادس عشر يوم الثلاثاء المصادف 12سيبتمبر من عام2006م في جامعة ريجسنبورغ الألمانية كلمة تحت عنوان«الإيمان و العقل و الجامعة:ذكريات و تأملات»استمع إليه فيه 000،260ألف شخص.

*مقتطفات من الخطاب كما وردت في موقع«شفاف».

بدأ البابا حديثه عن ذكرياته الدارسية في جامعة«بون»عام 1959م فقال:...و كانت تجري حوارات مفعمة بالحيوية بين المؤرخين و الفلاسفة و علماء اللغة و هذا أمرٌ طبيعي بين كلتي اللاهوت اللتين تضمّهما هذه الجامعة...ثمّ قال:و إنّنا كنّا جميعاً نعمل في جميع الميادين على أُسس عقلائية واحدة تتسم بأوجه مختلفة،و أنّنا كنّا نتقاسم المسئولية عن الاستخدام السليم للعقل،إنّ هذه الحقيقة أصبحت تجربة معاشة...

و انّه حتّى بازاء الشك الجذري (في وجود اللّه) فقد ظل ضرورياً و معقولاً أن نطرح موضوع اللّه عبر استخدام العقل،و ان نفعل ذلك في إطار الإيمان المسيحي.بعد هذه المقدمة عرّج للحديث عمّا قرأه في الكتاب الّذي نشره البروفسور تيودور خوري،لقسم من جدال دار بين الامبراطور البيزنطي عمانوئيل الثاني و فارسي مثقف حول موضوع المسيحية و الإسلام و حقيقة كلّ من هذين الإيمانين.

فأشار إلى النقاش-السجال-السابع.حيث يتطرّق الامبراطور إلى مقولة«الجهاد».فقال:و لا بدّ انّ الامبراطور كان مطلعاً على السورة رقم 2 الآية 256 الّتي جاء فيها «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» و هذه السورة وردت في الفترة الأُولى«يقصد

ص:447

المكية»حينما لم يكن محمد يملك أيّة سلطة بل كان عرضه للتهديد،ثمّ يضيف البابا:و لكن الامبراطور كان بالطبع مطلعاً على التعليمات الّتي طوّرت لاحقاً و تم تدوينها في القرآن الّتي تتعلق بالجهاد،ثمّ ينقل نص السؤال الّذي وجهه الامبراطور للمثقف الفارسي:«قل لي ما هو الجديد الّذي أتى به محمد،إنّك لن تجد سوى أشياء شريرة و لا إنسانية،مثل الأمر بنشر الإيمان الّذي بشر به بحد السيف؟ بعد ذلك و بفاصلة قصيرة تطرّق إلى مسألة إسرائيل قائلاً:و في العهد القديم،وصل المسار الّذي بدأ في العلّيقة المحترقة إلى مرحلة نضج جديد في فصل«الهجرة حينما تمّ الإعلان عن أنّ إله إسرائيل-إسرائيل الّتي باتت محرومة من أرضها و من عبادتها-هو إله السماوات و الأرض و وصف في صيغة بسيطة تحاكي كلمات العلّيقة المحترقة «أنا هو».

و بعد أن يستعرض الأبعاد التاريخية و التحولات الفكرية في الفكر المسيحي يقول:و إذا ما كشفنا من جديد الآفاق الشاسعة للعقل نصبح قادرين على القيام بحوار الحضارات و حوار الأديان الّذي أصبح ضرورة من ضرورات العصر. (1)

لقطات إجمالية من حياة البابا بنديكت السادس عشر

اشارة

من الجدير بالاهتمام انّه و قبل الدخول في مناقشة الأفكار الّتي طرحها البابا في محاضرته أن نلقي الضوء على بعض اللقطات من حياته:

1.الرجل مواطن آلماني و قبل أن يدخل السلك الروحاني كان عضواً في منظمة الشباب النازي،بعدها التحق بكلية اللاهوت فرع الكلام المسيحي و نال شهادته الجامعية في هذا الفرع.

ص:448


1- 1) .اقتطفنا هذه المقاطع من النص الكامل لمحاضرة البابا المنشورة في موقع«شفاف»على الانترنت.

2.الملاحظة من نمط حياته أنّ الرجل سيّئ الظن بالإسلام و المسلمين،و حينما انتخب لهذا المنصب صدرت دعوات تحذيرية بسبب عدم انسجامه مع مسلمي العالم ممّا قد يؤدي إلى ظهور بعض المشكلات في هذا المجال،إلاّ أنّ أمريكا و إسرائيل سرعان ما بادرتا إلى مباركة هذا الانتخاب و تأييده.

3.بعد أن انتخب إلى هذا المقام و في أوّل خطاب له-و على خلاف البابا السابق له-لم يتحدّث عن الصلح و السلام و المحبة و المحرومين و الجياع.بل أكد في خطابه على منهجه في الوقوف أمام البدع و التصدي لها،من هنا شرع بإدخال بعض المقررات الصارمة في الكنيسة و أصدر بصورة رسمية قانوناً يمنع على المطلقين الدخول إلى الكنيسة،كما أنّه لم يبد ارتياحه لمسألة الموسيقى الّتي كانت تتخذ كأسلوب لجلب الشباب إلى الكنيسة.

4.في إحدى سفراته الّتي قام بها إلى بولندا حضر إلى معسكر«آشوتيس»و هناك حاول كسب عطف الصهاينة،فقال:«إلهي!! كيف سمحت لك عدالتك أن ترى تلك الجرائم؟!».

5.من المعروف أنّ الرجل مختص بالكلام المسيحي و لا يملك شهادة دراسية في الأديان الأُخرى، نعم قد تكون له مطالعات جانبية في هذا المجال. (1)

ص:449


1- 1) .أخذنا هذه المعلومات حول حياة الرجل من موقع«شفاف»و«اسلام آن لاين».
تذييل

بعد أن تمّ العمل في إخراج هذا الجزء من موسوعة«رسائل و مقالات»ارتأينا أن نلحق به مقالتين،هما:

الأُولى:«الأذان قبل الفجر»الذي شاع في بعض المدن الإسلامية لعدة قرون لإيقاظ الناس للتهجّد قبل الفجر،و هل هو أمر مشروع أو لا؟ و على فرض المشروعية فهل جوازه يختصّ بشهر رمضان أو يعمّ بقية الشهور؟

الثانية:«ميثم البحراني عالم رباني،و فيلسوف إلهي»،حيث أُقيم مؤخّراً مؤتمر عالمي لتكريم هذا العلاّمة المفكّر و كانت لنا مشاركة فيه،و هي هذه المقالة الّتي نوردها هنا.

ص:450

حكم الأذان قبل الفجر

الحمد للّه على سوابغ نعمه حمداً لا نهاية له و لا انقطاع،ثمّ أُصلّي و أُسلّم على خير خلقه محمد و آله الطيبين الطاهرين.

أمّا بعد فلقد رزقنا اللّه سبحانه زيارة بيته الحرام عام ألف و ثلاثمائة و خمس و سبعين ه.ق،و فوجئت هناك برفع الأذان قبل الفجر بساعة أو أكثر في المدينة المنورة،و مكّة المكرمة.حيث إنّ الأذان المشروع هو الأذان عند الفجر،و قد راسلت أخيراً في ذلك صديقي العزيز،الشيخ عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان،من كبار علماء مكة المكرمة،و سألته عن الدليل،فأفاد بأنّ الدليل على جواز ذلك هو الرواية الواردة في«صحيح البخاري»،يعني:

قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يمنعن أحدكم-أو أحداً منكم-أذان بلال من سحوره،فإنّه يؤذن بليل،ليرجع قائمكم،و لينبّه نائمكم،و ليس أن يقول:الفجر،أو الصبح...». (1)

و لأجل إيضاح الموضوع نرجع إلى دراسته عن طريق كلمات الفقهاء و الروايات الواردة حوله.

ص:451


1- 1) .صحيح البخاري:153/1،كتاب الأذان.

قال الشيخ الطوسي:يجوز الأذان قبل طلوع الفجر إلاّ أنّه ينبغي أن يعاد بعد طلوع الفجر،و به قال الشافعي إلاّ أنّه قال:السنّة أن يؤذّن للفجر قبل طلوع الفجر،و أُحبّ أن يُعيد بعد طلوع الفجر فإن لم يفعل و اقتصر على الأوّل أجزأه.و به قال مالك و أهل الحجاز و الأوزاعي و أهل الشام و أبو يوسف و داود و أحمد و إسحاق و أبو ثور.و قال قوم:لا يجوز أن يؤذّن لصلاة الصبح قبل دخول وقتها كسائر الصلوات،ذهب إليه الثوري و أبو حنيفة و أصحابه. (1)

و قال العلاّمة الحلّي:لا يجوز الأذان قبل دخول الوقت في غير الصبح لإجماع علماء الإسلام،لأنّه وضع للإعلام بدخول الوقت فلا يقع قبله،أمّا في صلاة الصبح فيجوز تقديمه رخصة لكن يُعاد بعد طلوعه.

و به قال الشافعي و مالك و الأوزاعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور و داود و أبو يوسف.

و قال أبو حنيفة و الثوري:لا يجوز إلاّ بعد طلوع الفجر. (2)

و قال في«الجواهر»:و قد رُخّص في تقديمه على وقت الصبح عند المعظم من أصحابنا،بل في المعتبر عندنا،بل عن المنتهى عند علمائنا.و لعلّه أذان مشروع في نفسه لتنبيه الناس على التهيّؤ للصلاة و الصوم في مثل شهر رمضان،كالأذان في إذن المولود و نحوه،و ربما كان ذلك ظاهر موضع من الذكرى،بل هو ظاهر العلاّمة في المختلف و غيره.و ربما تنقدح لفظية النزاع بحمل كلام المانع كالجعفي و الكاتب و التقي و الحلّي و المرتضى-بل ربما استظهر من الأخير الإجماع عليه-على إرادة أذان الصلاة،و كلام المجوّز على إرادة المشروعية في نفسه.لكن قد ينافي ذلك ما ذكره المصنّف و غيره من أنّه يستحب إعادته بعد طلوعه-أي

ص:452


1- 1) .الخلاف:269/1.
2- 2) .التذكرة:78/3. [1]

الفجر -.

و الظاهر عدم تقدير زمان للتقدّم بسدس الليل و نحوه،كما أنّه لا يعتبر في المؤذّن الاتحاد. (1)

و جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية نظير ما نقلناه عن الكتابين المذكورين،و إليك نصّه:

أمّا بالنسبة للفجر فذهب مالك و الشافعي و أحمد و أبو يوسف من الحنفية إلى أنّه يجوز الأذان للفجر قبل الوقت،في النصف الأخير من الليل عند الشافعية و الحنابلة و أبي يوسف،و في السدس الأخير عند المالكية.و يسنّ الأذان ثانياً عند دخول الوقت لقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ بلالاً يؤذن بليل فكلوا و اشربوا حتّى يؤذن ابن أُمّ مكتوم»و عند الحنفية-غير أبي يوسف-لا يجوز الأذان لصلاة الفجر إلاّ عند دخول الوقت،و لا فرق بينها و بين غيرها من الصلوات،لما روى شداد مولى عياض بن عامر أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لبلال:«لا تؤذن حتّى يستبين لك الفجر». (2)

و هذه الكلمات و نظائرها موجودة في سائر الكتب،و المهم دراسة ما ورد في السنّة:فقد روى البخاري في المقام روايتين:

1.عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:لا يمنعن أحدكم-أو أحداً منكم-أذانُ بلالٍ من سحوره فإنّه يؤذن-أو ينادي-بليل ليرجع قائمكم و لينبه نائمكم و ليس أن يقول الفجر أو الصبح.

2.عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:إنّ بلالاً يؤذن بليل،فكلوا و اشربوا حتّى يؤذن ابنُ أُمّ مكتوم.

ص:453


1- 1) .الجواهر:77/9- 81. [1]
2- 2) .الموسوعة الفقهية الكويتية:363/2.

3.عن عائشة:(بنفس ألفاظ الرواية الثانية). (1)

إنّ الاستدلال بالحديثين اللّذين ذكرهما البخاري في المقام قاصر عن إضفاء المشروعية للأذان قبل الفجر في طول السنة بساعة أو أكثر فضلاً عن نصف الليل،و إليك بيانه:

1.انّ أقصى ما تدلّ عليه هذه الروايات هو جواز الأذان قبل الفجر في شهر رمضان،و أمّا جوازه في غير هذا الشهر فلا يستفاد منها و ذلك،لأنّه فرق بين الدليل اللفظي و الدليل اللبيّ الّذي لم يرد فيه لفظ عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و إنّما قرر عملاً صدر عن صحابي في حضوره و لم يعترض عليه.ففي الأوّل أي الدليل اللفظي يؤخذ بالإطلاق كما إذا قال:«اعتق رقبة»و سكت عن القيد.

و أمّا الثاني أي الدليل اللبي-كما في المقام-فيؤخذ بالقدر المتيقن و يقتصر على مورده.

و بعبارة أُخرى:فرق بين أن يقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم يجوز الأذان قبل الفجر فيؤخذ بإطلاقه،و بين أن يؤذن أحد الصحابة في ظرف خاص بمرأى و مسمع من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فيقرّه عليه فيؤخذ بنفس العمل في ذلك الظرف.

و على ضوء ما ذكرنا فالأذان الّذي صدر من بلال رحمه الله و لم يعترض عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان في شهر رمضان و الناس أيقاظ بين متهجّد و آكل للسحور أو مستعد للقيام،ففي هذه الظروف يصحّ الأذان قبل الفجر،و أمّا تعميمه لبقية الشهور و الناس على غير هذه الحالة فإنّه يحتاج إلى دليل،و لا يمكن التمسّك بالعمل الفاقد للسان،بل يكتفى بالقدر المتيقّن كما قلنا.

2.انّ أذان بلال قبل الفجر كان قبيل الفجر و كان الفاصل الزماني بين

ص:454


1- 1) .صحيح البخاري:153/1،باب الأذان قبل الفجر.

أذانه و الفجر قليلاً جدّاً على نحو ربما كان بعض الناس يتخيل دخول الفجر،فنبّه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّ أذانه ليس دليلاً على دخول الفجر،فلو دلّ العمل على الجواز فإنّما يدلّ في هذا الحدّ لا ما إذا كان الفاصل الزماني يقترب من ساعة كاملة كما هو الحال الآن،و لذلك ينقل ابن حجر في«فتح الباري»عن ابن دقيق قوله:كان وقت الأذان مشتبهاً محتملاً لأن يكون عند طلوع الفجر،فبيّن صلى الله عليه و آله و سلم أنّ ذلك لا يمنع الأكل و الشرب،بل الّذي يمنعه طلوع الفجر الصادق.قال:و هذا يدلّ على تقارب وقت أذان بلال من الفجر.ثمّ قال ابن حجر:و يقويه أيضاً ما تقدّم من أنّ الحكمة في مشروعيته،التأهبُ لإدراك الصبح في أوّل وقتها. (1)

3.يحتمل جدّاً أنّ بلالاً كان يؤذن ببعض فصول الأذان لا بأذان تام الأجزاء،لأنّ الغرض كما نُصّ عليه في الرواية هو:«ليرجع قائمكم و لينبه نائمكم»،و يفسره العيني في شرحه بقوله:إنّما يؤذن بلال ليعلمكم انّ الصبح قريب فيرد القائم المتهجد إلى راحته لينام لحظة ليصبح نشيطاً و يوقظ نائمكم ليتأهب للصبح بفعل ما أراده من تهجد قليل أو تسحّر أو اغتسال. (2)

و هذا يحصل ببعض الفصول لا بأذان تام،و لذلك نرى الاختلاف في النقل بين«ينادي»و«يؤذن».

روى البخاري في باب الأذان بعد الفجر عن عبد اللّه بن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:إنّ بلالاً ينادي بليل،فكلوا و اشربوا حتّى ينادي ابن أُمّ مكتوم. (3)و لعل التعبير بالنداء و العدول عن كلمة الأذان إشارة إلى أنّ الصادر من بلال لم

ص:455


1- 1) .فتح الباري:106/2.
2- 2) .عمدة القاري:134/5.
3- 3) .صحيح البخاري:153/1،باب الأذان قبل الفجر.

يكن أذاناً حقيقياً جامعاً لعامة فصوله بل كان يلتقط شيئاً من فصول الأذان و ينادي بها.

نعم كان أذان ابن أُمّ مكتوم أذاناً واقعياً و التعبير عنه ب«ينادي»لأجل وقوعه ضمن سياقه.

و لهذا نرى أنّ عبد اللّه بن مسعود يرويه على الوجهين فيقول فإنّه يؤذن-أو ينادي-بليل.

4.انّ الحنفية ذهبت إلى أنّه لا يسنّ الأذان قبل وقت الصبح حتّى تجرأ بعضهم و قال:إنّه كان نداءً لا أذاناً.

أو ليس الأولى عندئذٍ ترك هذا الأذان و الاكتفاء به في شهر رمضان.

و هناك ملاحظتان حول الحديثين من جانب آخر:

الأُولى:انّ ابن مكتوم كان أعمى بينما كان بلال بصيراً فمقتضى الحال أن ينسب الأذان قبل الفجر إلى ابن مكتوم و الأذان عند الفجر إلى بلال،و هذا يدلّ على أنّ الحديث نُقل على وجه غير صحيح،و يدلّ على ما ذكرنا:

1.ما رواه النسائي في«سننه»بسنده عن حبيب بن عبد الرحمن عن عمته أنيسة قالت:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«إذا أذّن ابن أُمّ مكتوم فكلوا و اشربوا و إذا أذّن بلال فلا تأكلوا و لا تشربوا». (1)

2.ما رواه أحمد بن حنبل في«مسنده»بسنده عن حبيب قال:سمعت عمتي تقول:إنّ ابن أُمّ مكتوم ينادي بليل فكلوا و اشربوا حتّى ينادي بلال. (2)

3.و رواها البيهقي في«سننه»بسنده عن زيد بن ثابت انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص:456


1- 1) .سنن النسائي:11/2،باب«هل يؤذنان جميعاً أو فرادى».
2- 2) .مسند أحمد:433/6. [1]

قال:إنّ ابن أُمّ مكتوم يؤذن بليل فكلوا و اشربوا حتّى يؤذن بلال. (1)

4.و رواها الزيلعي في«نصب الراية»عن ابن خزيمة في صحيحه بسنده عن عائشة:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«إنّ ابن مكتوم ينادي بليل فكلوا و اشربوا حتّى يؤذن بلال»و كان بلال لا يؤذن حتّى يطلع الفجر. (2)

و يؤيّد ذلك ما روي عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم السلام،و هو أنّ ابن أُمّ مكتوم هو الّذي كان يؤذِّن قبل الفجر،و أنّ بلالاً هو المؤذِّن عند الفجر.

روى الكليني في«الكافي»بسنده عن الحلبي،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ فقال:«بياض النهار من سواد الليل».قال:و كان بلال يؤذن للنبي صلى الله عليه و آله و سلم و ابن أُمّ مكتوم-و كان أعمى - يؤذِّن بليل،و يؤذِّن بلال حين يطلع الفجر،فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«إذا سمعتم صوت بلال فدعوا الطعام و الشراب فقد أصبحتم». (3)

و رواه أيضاً الصدوق في«الفقيه» (4)،و رواه الشيخ الطوسي في«التهذيب». (5)

الثانية:لو صحّ أنّ الأذان قبل الفجر كان من ابن أُمّ مكتوم و الأذان الثاني كان من قبل بلال يمكن أن يقال:

إنّ عمله هذا لا يدلّ على تقرير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم له،لأنّه كان أعمى قد يخطأ في وقت الأذان من غير اختيار،و قد قال سبحانه: «لَيْسَ

ص:457


1- 1) .سنن البيهقي:382/1.
2- 2) .نصب الراية:289/1.
3- 3) .الكافي:98/4،الحديث 3. [1]
4- 4) .من لا يحضره الفقيه:189/1،الحديث905.
5- 5) .التهذيب:184/4،الحديث 315.

عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ» 1 ،و ربّما كان سكوت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عدم تعرضه له و ردعه لعدم ترتب مفسدة عليه،إذ انّ الاعتماد كان منصباً على أذان بلال.

هذا كلّه على ضوء ما رواه أهل السنة و أمّا على ضوء أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام فالظاهر من الشيخ الطوسي في«الخلاف» (1)،و المحقّق في«المعتبر» (2)،و العلاّمة في المنتهى (3)هو الاتّفاق على الجواز، و لكنّه ليس بتام حيث خالف فيه ابن جُنيد و المرتضى و أبو الصلاح و ابن إدريس (4)،و ربما استظهر من كلام المرتضى الإجماع على عدم الجواز،فلا يمكن الاعتماد على نقل هذا النوع من الإجماع لا من المجوز و لا من المانع،و العمدة عطف النظر إلى الروايات الواردة في هذا المجال.

نقول يدلّ على الجواز:

1.صحيح ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:قلت له:إنّ لنا مؤذِّناً يؤذِّن بليل؟ فقال عليه السلام:«أما إنّ ذلك ينفع الجيران لقيامهم إلى الصلاة،و أمّا السنة فإنّه يُنادى مع طلوع الفجر». (5)

2.ما رواه ابن سنان أيضاً عن الصادق عليه السلام قال:سألته عن النداء قبل الفجر؟ قال عليه السلام:«لا بأس،و أمّا السنّة مع الفجر،و انّ ذلك لينفع للجيران»-يعني قبل الفجر-. (6)

ص:458


1- 2) .الخلاف:269/1.
2- 3) .المعتبر:138/2. [1]
3- 4) .المنتهى:425/11. [2]
4- 5) .الجواهر:89/9. [3]
5- 6) .الوسائل:4،الباب8 من أبواب الأذان و الإقامة،الحديث7. [4]
6- 7) .نفس المصدر،الحديث 8. [5]

هذا و لا يخفى أنّ لحن الحديث أظهر في عدم الجواز حيث يعدُّ الأذان قبل الفجر مقابل السنّة،و يعلّل الجواز بقيام الجيران إلى الصلاة،كلّ ذلك يدلّ على أنّ الظروف كانت لا تسمح للإمام عليه السلام بأن يصرح بعدم الجواز.

و يؤيد ما ذكرنا الروايات التالية:

1.روى معاوية بن وهب،عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال:«لا تنتظر بأذانك و إقامتك إلاّ دخول وقت الصلاة». (1)

2.روى عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال:كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول لبلال إذا دخل الوقت:«يا بلال اعلُ الجدارَ و ارفع صوتك بالأذان». (2)و لحن الحديث يكشف عن اهتمام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بأذان بلال في مقابل أذان ابن أُمّ مكتوم.

كلّ ذلك يبعث الفقيه إلى عدم الإفتاء بالجواز،و استخدام وسيلة أُخرى لإيقاظ الناس للصلاة،فالأحوط و الأولى ترك رفع الأذان قبل الفجر و الاكتفاء بأذان واحد عند الفجر.

و لو تنزلنا فأقصى ما يمكن أن يقال:إنّه يجوز الأذان قبل الفجر بدقائق في خصوص شهر رمضان المبارك كما هو مورد الحديث و عدم التجاوز عنه.

و أمّا قياس سائر الشهور بشهر رمضان فغير صحيح،لما علمت من وجود الفرق بين هذا الشهر و سائر الشهور.

ص:459


1- 1) .الوسائل:4،الباب8 من أبواب الأذان و الإقامة،الحديث1. [1]
2- 2) .نفس المصدر:الحديث5. [2]
ميثم البحراني عالم رباني،و فيلسوف إلهي

اتّفقت كتب التراجم على أنّ ميثماً البحراني كان عالماً ربّانياً و فيلسوفاً إلهياً،جال في أكثر من ميدان من ميادين العلم،إلاّ أنّه أولع بعلمي الحكمة و الكلام،فجلّى في ميدانهما،و ذاعت شهرته بهما في الأوساط العلمية،و عند رجال الدولة في العراق،كعبد العزيز بن جعفر بن ليث النيسابوري،و علاء الدين الجويني اللّذين اهتما بترويج العلم و رعاية العلماء في القرن السابع الهجري.هذا ما تقوله عنه كتب التراجم.

غير أنّ التعرّف عليه عن طريق هؤلاء هو أحد الطرق الّتي راجت في التعرّف على الشخصيات العلمية،إلاّ أنّ لنا في المقام طريقاً آخر للتعرف على قابلياته العلمية و إنجازاته و ما اكتسبه في الصعيدين:

العلمي و السلوكي.

و هذا الطريق يتمثّل في دراسة حياة أساتذته،و تلاميذه،و ما ترك من آثار علمية.فإنّ دراسة هذه الجوانب الثلاثة تلقي أضواءً على شخصيته و ما حصل له في مجالي العلم و العمل.

أمّا أساتذته فقد تتلمذ على يد الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي

ص:460

الّذي يضنّ الدهر بمثله إلاّ في فترات يسيرة،و بينه و بين أُستاذه مساجلات و مكاتبات تدلّ على رفيع منزلته و ولعه باكتساب العلم.

و أمّا تلامذته فيكفي في ذلك أنّ العلاّمة الحلّي الّذي يضرب به المثل في عالم الذكاء هو ممّن تخرج عليه.و مثله لا يخضع إلاّ لدرس عالم كبير يروي عطشه.

و أمّا الثالث و هو التعرّف على الآثار العلمية الّتي تركها،فهي و إن كانت كثيرة.و لكن بيت القصيد من مؤلّفاته-مع ماله من آثار و مؤلفات قيّمة سنتطرق إلى ذكر أسمائها في آخر مقالنا-هو شرحه لنهج البلاغة الّذي أسماه بمصباح السالكين،و قد جاء الاسم مطابقاً للمسمّى حيث تناول في هذا الشرح جانباً خاصّاً من جوانب نهج البلاغة و هو الجانب الفلسفي،و العرفاني اللّذان قلّما وَلَجه شُرّاح ذلك الكتاب الّذين ناهز عددهم المائة.

إنّ موضوعات نهج البلاغة متعدّدة و متنوعة،و غالباً ما يكرّس شرّاحه جهودهم لتفسير و تبيين و تحقيق موضوع واحد منها أو موضوعين-كلٌّ وفق اختصاصه و على قدر بضاعته من العلم-أمّا سائر موضوعاته فيتناولونها بإيجاز أو بشكل غير مُرضٍ.

ثَمّة شرّاح ركّزوا على الجانب الأدبي فيه،و حاولوا إبراز ما فيه من (عجائب البلاغة،و غرائب الفصاحة، و جواهر العربية،و ثواقب الكَلِم الدينية و الدنيوية)؛و اعتنى آخرون بالجانب التاريخي فيه،و تبيان الوقائع و الأحداث التاريخية،و ربما جمع بعضهم بين هذين الجانبين؛إلاّ أنّ شيخنا البحراني سلك فيه مسلكاً يتلاءم مع اختصاصه،حيث ملأه بالمباحث الإلهية و المسائل الكلامية و العقائدية و الأسرار العرفانية،و أشبعها بحثاً و توضيحاً،و لذا لم يُعط سائر الموضوعات حقّها من الشرح و التحقيق.

ص:461

و لعل الأجواء السياسية و الاجتماعية المضطربة الّتي كانت سائدة في عصره،قد ساعدت في دفعه إلى اختيار هذا المسلك،حيث عاصر الغزو العسكري للبلاد الإسلامية من قِبَل التتار،و انهيار الدولة العباسية، و ضعف المسلمين،و تغلّب الروح الانهزامية لدى معظم ساسة البلاد و قادتها،و شاهد بأُمّ عينيه تفشي الانحرافات في المجتمع و طغيان الروح المادية فيه.

هذا هو ابن كثير يعكس لنا في تاريخه،الوضع المؤسف السائد في بلاط الخلافة العباسي الّذي كان يرقص فيه الخليفة مع جواريه،و جيوش التتار أحاطت بسور دار السلام بغداد،و نصبوا عليه المجانيق و العرّادات،يقول:

قال اللّه تعالى: «إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» 1 ،ثمّ قال:و أحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كلّ جانب حتّى أُصيبت جارية تلعب بين يدي الخليفة و تضحكه،و كانت من جملة خطاياه و كانت مولدة تسمّى عرفة،جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها و هي ترقص بين يدي الخليفة،فانزعج الخليفة من ذلك و فزع فزعاً شديداً،و أحضر السهم الّذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب:«إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه و قدره أذهب عن ذوي العقول عقولهم»فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز،و كثرة الستائر على دار الخلافة و كان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها-و كانوا نحو مائتي ألف مقاتل-إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة. (1)

فإذا كان هذا هو حال الخليفة و مقدار اهتمامه بحفظ الخلافة

ص:462


1- 2) .البداية و النهاية:200/13. [1]

فما بال غيره!! إذا كان ربّ البيت بالدف مولعاً فشيمة أهل البيت كلّهم الرقص

فالدواء الناجع لهذا المجتمع الغارق في العيث و الفساد و الترفه هو الدعوة إلى القيم و المثل الأخلاقية و ذكر اللّه سبحانه و ذكر مقامات الأولياء و الأنبياء و المثوبات و العقوبات،و هذا هو الّذي دفع العلاّمة البحراني إلى التركيز عليه في شرحه لنهج البلاغة،فحاول رحمه الله أن يَغرس في النفوس حبَّ اللّه تعالى،و حبَّ الفضائل و المكارم،و يحثّها على انتهاج سبيل الحق،و الرجوع إلى اللّه تعالى،و سلوك الطريق الموصل إليه،و ضرورة التحلّي بالفضائل النفسانية،و الابتعاد عن رذائل الأخلاق.

و ممّا يدخل في هذا الإطار،قوله قدس سره:كما علمت أنّ كمال القوة النظرية إنّما هو باستكمال الحكمة النظرية،كذلك كمال القوة العملية إنّما هو باستكمال الحكمة العملية،و هي استكمال النفس بكمال الملكة التامة على الأفعال الفاضلة حتّى يكون الإنسان ثابتاً على الصراط المستقيم،متجنّباً لطَرَفي الإفراط و التفريط في جميع أفعاله. (1)

آثاره العلمية

و في الختام نشير إلى أسماء عدد من مؤلفات العلاّمة البحراني رحمه الله:

1.مصباح السالكين(الشرح الكبير لنهج البلاغة) في خمسة أجزاء.

2.اختيار مصباح السالكين (الشرح المتوسط لنهج البلاغة).

3.شرح على المائة كلمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

ص:463


1- 1) .شرح نهج البلاغة:80/1.

4.قواعد المرام في علم الكلام.

5.النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة.

6.الاستقصاء في إمامة الأئمّة الاثنى عشر.

7.أُصول البلاغة.

8.رسالة في الإمامة.

9.رسالة في الوحي و الإلهام.

10.شرح الإشارات في الحكمة النظرية.

و الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

قم المقدسة

25 ذي الحجة الحرام 1427ه

ص:464

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.