رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام المجلد 3

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 -

عنوان و نام پديدآور : رسائل و مقالات: تبحث في مواضيع فقهيه، اصوليه، كلاميه، تراجم، و مكاتبات و حورات مع بعض الاعلام/ تاليف جعفر السبحاني.

مشخصات نشر : قم: موسسه الامام الصادق (ع) ، 14ق. = 13 -

مشخصات ظاهري : 10ج.

يادداشت : عربي.

يادداشت : فهرست نويسي بر اساس جلد ششم: 1428ق. = 1386.

يادداشت : كتابنامه.

موضوع : اسلام -- بررسي و شناخت

شناسه افزوده : موسسه امام صادق (ع)

رده بندي كنگره : BP11 /س2ر5 1300ي

رده بندي ديويي : 297

شماره كتابشناسي ملي : 1053076

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

رسائل و مقالات (ج3)

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السلام على سيّدنا و نبيّنا محمد و على آله الطيبين الطاهرين و صحبه المنتجبين.

أمّا بعد،فهذا هو الجزء الثالث من كتابنا«رسائل و مقالات»نزفّه إلى القراء الكرام بحلة قشيبة عسى أن تنال رضاهم و يقع موقع قبولهم.

ثمّ الرسائل و المقالات تدور حول محاور ستة:

فالأوّل:يبحث في الأُصول و العقائد،و اخترنا الموضوعات الّتي استأثرت باهتمام واسع من قبل السلفيّين و المحدِّثين.

و الثاني:يتناول المسائل الفقهية الّتي يبتلي بها الناس في هذه الأعصار.

و الثالث:يتطرق إلى الحديث و التاريخ و اخترنا مسألتين مطروحتين على صعيد واسع،و هما:

1.دراسة الحوادث المريرة الّتي جرت على الزهراء عليها السلام عُقْب وفاة أبيها.

2.دراسة أسانيد زيارة عاشوراء الّتي ربما يتهاون بعض من لا خبرة له بتضعيفها.

و الرابع:يركز فيه البحث على ما للحج من آثار اجتماعية و سياسية مضافاً إلى آثاره العبادية.

و ركّزنا على ذلك لما نرى انّ تلك الشعيرة الإلهية تقام دون أن يترتب عليها ما

ص:5

يتبناه الشارع في كتابه و سنته،و دون أن ينتفع بها المسلمون بالنحو المطلوب.

و الخامس:يتضمن عدة تراجم.

أ.ترجمة فاطمة الزهراء عليها السلام،الكوثر الفياض بوجه موجز.

ب.زين الدين العاملي المعروف الشهيد الثاني رائد النهضة العلمية في القرن العاشر.

ج.الفقيه المتكلم ميرزا يوسف القراجه داغي التبريزي.

و أمّا السادس:فيتمحور حول نقد الكتب الّتي طرأ عليها التحريف عبر التاريخ،أو اشتملت على آراء غير صحيحة و في هذا البحث عبرة لأولى الأبصار.

و في الختام نود أن نلفت نظر القارئ إلى انّ هذه المقالات لم تكتب في ظرف واحد،بل ألفت في ظروف مختلفة.

و الحافز الّذي دعاني إلى كتابة هذه الموضوعات المتشتتة هو الذبّ عن حياض الإسلام و اماطة اللثام عن وجه الحقيقة،و نرجو من اللّه سبحانه أن يوفقنا لمواصلة العمل في الأجزاء التالية،انّ بذلك قدير و بالاجابة جدير.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

20 جمادى الأُولى من شهور عام 1423 ه.ق

ص:6

الفصل الأوّل في العقائد

اشارة

1.التحسين و التقبيح العقليّان

2.الإنسان بين الجبر و التفويض

3.نظرية الكسب عند الأشاعرة

4.الإرادة الإلهية:التكوينية و التشريعية

5.رؤية اللّه في الآخرة

6.أهل البيت،المرجع العلمي بعد رحيل الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم

ص:7

ص:8

1

اشارة

التحسين و التقبيح العقليان

و

مكانتهما في العقيدة و الشريعة

شغلت قاعدةُ التحسين و التقبيح العقليّين بالَ كثير من المفكّرين من أقدم العصور إلى يومنا هذا،إذ قلّما يتّفق أن يخوض باحث في العلوم الإنسانية دون أن يُشير إليها،لعلاقتها بعلم الكلام و الأخلاق،و الفقه و أُصوله.

مثلاً الباحث في علم الكلام عند ما يصل بحثه إلى أفعاله سبحانه،يصف بعضه بالوجوب و الحتمية،و يقول يجب عليه سبحانه بعث الرسل،لهداية الناس و إيصالهم إلى الغاية المتوخّاة من خلقتهم،كما يصف البعض الآخر بالامتناع و عدم الجواز كإعطاء المعجزة بيد المدّعي الكاذب،و يتّخذ الحسن و القبح أساساً لقضائه البات في المسألتين حيث يحسنُ الأوّل و يقبح الثاني.

و ليس معنى ذلك،فرض التكليف على اللّه سبحانه؟! بأن يحكم العبد عليه تعالى بالإيجاب و الامتناع كما ربما يتصوّره بعض المنكرين للحسن و القبح العقليين. (1)

ص:9


1- 1) .شرح المقاصد:150/2 طبعة استنبول؛ [1]التبصير في الدين:153.

و ذلك لأنّ هناك فرقاً بين فرض التكليف على اللّه،و بين كشف ما عنده من الحكم من خلال صفاته و كمال ذاته،فالقائل بالتحسين و التقبيح العقليين لا يفرض على اللّه تكليفاً إذ أين التراب و رب الأرباب،بل يستدلّ خلال ما عنده من الصفات على اللزوم و الامتناع فيقول:إنّه سبحانه بما هو عادل،لا يجور على عباده،و بما انّه حكيم لا يعبث في فعله،إلى ذلك من الأحكام المستكشفة من خلال دراسة صفاته و سنوضحه-بإذن اللّه-في المستقبل.

هذا حال الباحث في علم الكلام و حاجته إلى تنقيح مسألة التحسين و التقبيح العقليين،و مثله الباحث في الأخلاق حينما يطرح القيم الأخلاقية على طاولة البحث فيعتمد على تلك القاعدة في تقييم الأفعال الإنسانية من حيث كونه فضيلة أو رذيلة.

و ليست حاجة الفقيه إلى تلك القاعدة بأقلّ من حاجة الطائفتين،فانّ خلود الأحكام الفقهية عبر الزمان و كون الشريعة الإسلامية،خاتمة الشرائع،رهن القول بالتحسين و التقبيح العقليين،فكلّ حكم شرعي يستمد ملاكه من تلك القاعدة فهو حكم مؤبّد بتأبيد ملاكه-الحسن و القبح - فلا يتغير و لا يتبدّل،فانّ الحسن،حسن على كلّ حال،و القبيح قبيح كذلك،و الحكم المستمَدّ منه يكون كذلك فالاعتراف بالحسن و القبح العقليّين الأبديّين يُضفى على الأحكام الشرعية المستكشفة بهما،وصفَ الأبديّة.

و أمّا حاجة الأُصولي إلى القاعدة فواضحة جدّاً،حيث إنّ العقل أحد الأدلّة الأربعة التي يستنبط بها الأحكام و من أحكامه،الحكم بحسن الفعل و قبحه مثلاً إذا افترضنا انّ المكلّف شكّ في حكم موضوع بعد الفحص عن مظانّه في الكتاب و السنّة و لم يعثر فيهما على حكمه،فعند ذاك يستقل العقل بقبح عقاب المكلّف إذا

ص:10

ارتكب مع احتمال الحرمة،أو ترك مع احتمال الوجوب استناداً إلى قبح العقاب بلا بيان.

و خلاصة القول:إنّ القاعدة إذا فُسِّرت بصورة صحيحة،تعدّ حجر الأساس لكثير من المسائل في العلوم الإنسانية كما عرفت نماذجها.

و لمّا كانت القاعدة أساساً لثبات القيم الأخلاقية،و القوانين الشرعية السماوية،المبنية على التحسين و التقبيح العقليّين،عاد بعض المفكّرين من الغربيّين الذين لا يروقهم ثبات القيم و دوامها،و بقاء الشريعة السماوية،يثيرون الشكوك حول القاعدة.

نعم سبقهم في إنكار القاعدة طائفة من المتكلّمين و هم الأشاعرة،لا لهذه الغاية،بل لاستنكارهم استطاعة العقل على إدراك حسن الفعل أو قبحه،و قالوا:إنّ المرجع في تمييز الحسن عن القبح هو الشرع،و بذلك افترق المسلمون إلى طائفتين:

1.من يقول بالتحسين و التقبيح العقليّين تمثّلهم الإمامية و المعتزلة.

2.من ينكر التحسين و التقبيح العقليّين و يقول بالشرعيّين منهما،و هم الأشاعرة و أهل الحديث،و سيوافيك انّ من أنكر استطاعة إدراك الحسن و القبح من الأفعال لا يتسنّى له،إثبات التحسين و التقبيح مطلقاً حتّى الشرعي منهما.

هذا هو دور القاعدة في العقيدة و الشريعة،و هذا خلاف طائفة من المتكلّمين و جماعة من المفكّرين الغربيّين،لكن تبيين الموضوع و مناقشة الأقوال و الآراء،و القضاء بين أدلة الطرفين و الثمرات المترتبة على المسألة على وجه الإيجاز،يأتي في ضمن فصول:

ص:11

1

اشارة

ملاكات التحسين و التقبيح العقليّين

إنّ القول بأنّ العقل قادر على درك حسن الأفعال و قبحها،يُفسّر على وجوه،فلا بدّ من ذكرها و تعيين ما هو محطّ البحث بين المثبتين و المنكرين.

1.التحسين و التقبيح الذاتيان

إذا كان الفعل الصادر عن الفاعل المختار-سواء أ كان واجباً أم ممكناً-على نحو إذا نظر إليه العقل و تجرّد عن كلّ شيء،يحكم بحسنه و لزوم فعله أو بقبحه و لزوم تركه،فالعقل في قضائه هذا بالحسن أو القبح،لا ينظر إلاّ إلى نفس الموضوع،دون ما يترتّب عليه من المصالح و المفاسد العامّة،أو كونه موافقاً لغرض الفاعل أو الإنسان الحاكم أو غير ذلك من الأُمور الخارجة عن ذات الفعل،فهذا هو المسمّى بالتحسين و التقبيح العقليّين الذاتيّين.

مثاله،الإحسان و الظلم فيستقل العقل بحسن الأوّل و قبح الثاني،من دون نظر إلى مصالح الفعل أو مفاسده،أو كونه مؤمِّناً لغرض الفاعل أو الحاكم،فكأنّ الحسن و القبح داخلان في ذات الفعل و جوهره،لا ينفكان عنه،ففرض الفعل يلازم فرض أحد الحكمين.

و سيوافيك انّ هذا هو محطّ البحث بين المثبت و النافي.

ص:12

2.التحسين و التقبيح في إطار المصالح و المفاسد

تؤكد هذه النظرية على القول بالتحسين و التقبيح العقليّين،لكن بالنظر إلى المصالح و المفاسد المترتبة على الفعل،ففي هذه النظرة لا يكون الفعل بما هو هو،موضوعاً للحسن و القبح كما عليه النظرية السابقة بل باعتبار كونه مبدأ للمصالح و المفاسد،و ربّما يعبّر عن المصالح و المفاسد،بالأغراض و المقاصد.

و المراد منها،هي الأغراض النوعية لا الشخصية و إلاّ يلزم الهرج و المرج في وصف الأفعال،فإنّ الظلم يؤمِّن غرض الظالم،دون المظلوم فيوصف بالقبح عند الأوّل دون الثاني،بل المراد المصالح و الأغراض العقلائية التي يدور عليها بقاء النظام و هذا كالعدل فانّه حسن إذ به قوام النظام،و الظلم فانّه قبيح لأنّه هادم للنظام.

و سيوافيك انّ وصف الأفعال بالحسن و القبح باعتبار الآثار المترتّبة عليها و إن كان صحيحاً،لكنّه يصلح لوصف قسم من الأفعال بهما و هو أفعال الإنسان الذي يحمل فعْلُه المصلحةَ النوعية أو مفسدتها و لا يشمل فعل اللّه سبحانه فإن فعله يوصف بالحسن و القبح دون أن يكون هناك حديث المصلحة أو المفسدة كأخذ البريء بذنب المجرم،و نقض العهد و الميثاق،و إساءة المحسن فانّه قبيح من دون أن يكون هنا أي فساد،فشمولية المسألة،لفعل المولى سبحانه و عبده يقتضي خروج هذا النوع من الحسن و القبح عن محط البحث.

و بما انّ الغاية الكبرى من الخوض في هذه المسألة،هو التعرف على أفعاله سبحانه و تمييز ما يجوز عليه عمّا لا يجوز،فلا محيص من القول بأنّ الملاك لوصف الفعل بالحسن و القبح في إطار عام حتّى يشتمل فعله سبحانه،هو الملاك الأوّل،

ص:13

أي ما يكون الفعل بما هو هو،مجرّداً عن القيود التالية:

1.كون الفاعل واجباً أو ممكناً.

2.كون الفعل ممّا يترتّب عليه المصلحة أو لا.

3.كونه مؤمِّناً للغرض أو لا.

موضوعاً لحكم العقل بالحسن أو القبح.

3.موافقة العادات و التقاليد

إنّ لكلّ قوم عادات و تقاليد تخصّهم،فملاك الحسن و القبح موافقة الفعل للعادات و التقاليد و مخالفتها،و ربّما يطلق عليه الحسن و القبح العرفيان،و التحسين و التقبيح بهذا المعنى و إن كان صحيحاً لكنّه لا يصلح لأن تكون ملاكاً للبحث عند المتكلّمين أو الأُصوليين،لانّهما بهذا المعنى يُصبحان أمرين نسبيين أوّلاً،لأنّ المعروف عند قوم ربما يكون منكراً عند قوم آخر؛و لا يكون معياراً لمعرفة وصف أفعاله سبحانه ثانياً، لأنّها فوق العادات و التقاليد.

فخرجنا بالنتيجة التالية:

إنّ لوصف الأفعال بالحسن و القبح ملاكات ثلاثة فالذي يصلح لأن يكون ملاكاً للبحث في المقام،هو كون الفعل مجرّداً عن أي قيد و شرط،صالحاً لوصفه عند العقل بأحدهما،دون الملاكين الآخرين،كوصفه بهما باعتبار ما يترتّب عليه من المصالح و المفاسد،و المنافع و المضار النوعية،أو باعتبار موافقته العادة السائدة على القوم أو مخالفتها،فإنّ هذين الملاكين تحدّد المسألة على وجه يخرج فعله سبحانه عن موردها.

ص:14

2

تقسيم الحكمة إلى نظريّة و عمليّة

تنقسم الحكمة،لدى الحكماء منذ عهد مبكِّر إلى حكمة نظرية و حكمة عملية،فلو تعلّق الإدراك بما من شأنه أن يُعلم،كانقسام الموجود إلى واجب و ممكن،فهو حكمة نظريّة و لو تعلّق بما من شأنه أن يعمل كقولنا:العمل بالميثاق حسن و نقضه قبيح فهو حكمة عملية فالحكمتان:النظرية و العملية كلاهما من أقسام الإدراك و إنّما الاختلاف في المتعلَّق.

و هذا هو المعنى المعروف عند الفلاسفة و المتكلّمين و هو الظاهر من عبارة الفارابي حيث قال:النظرية هي التي بها يحوز الإنسان علم ما من شأنه أن يعلمه إنسان،و العملية هي التي يعرف ما من شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته. (1)

و العقل المدرِك للحكمة الأُولى عقل نظري و المدرِك للثانية منهما عقل عمليّ و ليس معناه انّ هنا عقلين مختلفين جوهراً بل عقل واحد يوصف تارة بالنظري و أُخرى بالعملي باعتبار اختلاف متعلقه.

و هنا مصطلح آخر للعقل العملي،يجعله في عداد القوى العاملة التي هي مبدأ محرّك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئيّة (2)،أعرضنا عن ذكره تفصيلاً روماً للاختصار.

ص:15


1- 1) .شرح منظومة السبزواري:310.
2- 2) .النجاة لابن سينا:164،ط مصر،و ص202 ط بيروت.

3

تقسيم القضايا إلى ضرورية و غير ضرورية

تنقسم الحكمة النظرية إلى ضرورية و غير ضروريّة فالأولى ما يحضر في النفس بلا نظر،و الثانية،ما يحصل فيها بعد إعمال الفكر و النظر.وجه التقسيم انّه لو كانت القضايا بأجمعها ضروريّة لما احتاجت إلى التفكير و لم يكن هناك أية مشكلة فكرية،و لو كانت بأسرها غير ضرورية لتاه الإنسان في دوّامة من المشاكل الفكرية دون أن يجد حلولاً لها،لأنّ المفروض كون القضايا على نمط واحد،فلم يكن بد من أن تكون القضايا في الحكمة النظرية منقسمة إلى قسمين حتّى يستمد في حل غير الضروري،من الضروري.

فكما أنّ القضايا في الحكمة النظرية تنقسم إلى قسمين،فهكذا الحال في الحكمة العملية تنقسم إلى ضرورية و غير ضرورية بنفس الدليل السابق في الحكمة النظرية،فانّ القضايا التي يحكم العقل بحسنها أو قبحها،و بالتالي يمدح الفاعل و يذمُّه و يُلزم العمل على وفقه أو الاجتناب عنه لا تخلو من حالتين:

1.إمّا أن تكون قضايا واضحة يدركها العقل بلا توسيط مقدّمة،و هي القضايا الضرورية في الحكمة العملية.

و أمّا أن لا يدركها إلاّ بإرجاعها إلى قضايا أُخرى حتّى تنتهي إلى أُم القضايا

ص:16

العملية الضرورية لتكون مفتاحاً لحمل سائر القضايا.

فإذا كان امتناع اجتماع الضدّين أو ارتفاعهما أُمّ القضايا في الحكمة النظرية و بهما تثبت صحّة كلّ القضايا في العلوم،فحسن العدل و قبح الظلم أُمّ القضايا في الحكمة العملية،فلا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلاّ إذا انطبق على الفعل أحد العنوانين.

و بذلك يظهر انّ تقسيم القضايا إلى ضروريّة و غير ضروريّة،لا ينحصر بالحكمة النظريّة،بل يعمّ القسمين،و الدليل على التقسيم جار في كلا القسمين.

ص:17

4

اشارة

أدلّة القول بالتحسين و التقبيح العقليّين

أقام القائلون بالتحسين و التقبيح العقليّين أدلّة ساطعة على أنّ العقل يدرك حسن الأفعال و قبحها و لا يقتصر على مجرّد الإدراك،بل يبعث إلى الأوّل و يمدح فاعله،و يزجر عن الثاني و يذم فاعله،و الرسالة الحاضرة لا تتحمل البسط بنقل عامة الدلائل و نكتفي من الكثير بالقليل.

الأوّل:بداهة العقل

كلّ إنسان يجد في نفسه حسن العدل و قبح الظلم،و إذا عَرَضَ الموضوعين على وجدانه،يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل و استحساناً له، و تنفراً عن الظلم و تقبيحاً له،و هكذا سائر الأفعال التي تعد من مشتقات العدل و الظلم.

و لقائل أن يقول:إنّ الحكم بالتحسين و التقبيح ليس ناتجاً من صميم العقل و إنّما هو وليد التعاليم الدينية الراسخة التي يعتمد عليها المصلحون في دعوتهم فصار ذلك سبباً لرسوخ تلك الفكرة في أذهان الناس.

لكن وقفة قصيرة أمام هذا السؤال تبطل هذا الاحتمال،إذ لو كانت الفكرة ناتجة من دعوة المصلحين لاختصت الفكرة بهم و بمن وقع في إطار دعوتهم،و لكنّا نجد الفكرة أوسع من ذلك فقد غطَّت كافةَ الأُمم و طوائف البشر حتّى الّذين لا

ص:18

يمتلكون ايماناً بالشرائع.

و إلى ما ذكر يشير العلاّمة الحلي في شرح تجريد الاعتقاد و يقول:إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء،و قبح بعضها من غير نظر إلى شرع،فإنّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان و يمدح عليه و بقبح الإساءة و الظلم و يذم عليه،و هذا حكم ضروري لا يقبل الشك و ليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة و الملاحدة به من غير اعتراف بالشرائع. (1)

الثاني:عدم ثبوتهما مطلقاً لو قلنا بالشرع فقط

إنّ نفاة القول بالتحسين و التقبيح العقليّين ذهبوا إلى أنّ التعرّف على حسن الأفعال و قبحها رهن بيان الشرع،فما حسّنه الشارع فهو حسن و ما قبحه فهو قبيح،و ليس للعقل سبيل إلى معرفة حسن الأفعال و قبحها،و لكنّهم غفلوا عن مضاعفات هذا القول،إذ لازمه عدم ثبوت الحسن و القبح مطلقاً حتّى الشرعي منهما.

بيان ذلك:أنّه لو قلنا بأنّه لا سبيل للعقل إلى معرفة حسن الفعل أو قبحه و لا يُعرفان إلاّ بتصريح الشرع بأنّ العدل حسن أو الظلم قبيح،لا يحصل الجزم بقوله،لتجويز الكذب عليه و بالتالي نحتمل أن يكون ما وصفه بالحسن،قبيحاً واقعاً،و ما وصفه بالقبح،حسناً كذلك.

و لو افترضنا انّ الشارع أضاف إلى ما ذكره قوله:الصدق حسن و الكذب قبيح،لا ينفعنا في الجزم بما حكم على العدل و الظلم،من تحسين الأوّل و تقبيح الثاني لتجويز الكذب عليه في كلّ ما يخبر حتى قوله:«الصدق حسن»«و الكذب قبيح»،فلا يدفع هذا الاحتمال إلاّ بثبوت حسن الصدق و قبح الكذب قبل كلّ

ص:19


1- 1) .كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد:59 المطبوع مع تعاليقنا عليه.

شيء بفضل العقل فما لم يثبت هذا الأصل بدليل العقل و حكمه لما حصل اليقين بصدق الأحكام الصادرة عن الشارع.

و حصيلة الكلام:أنّه ما لم يثبت حسن الصدق و قبح الكذب عن طريق العقل لا يثبت حسن أيِّ فعل أو قبحه بحكم الشرع،لأنّه من المحتمل أن يأمر بما هو المنكر عنده أو ينهى عمّا هو المعروف عنده و لو أخبر عن طريق أنبيائه و سفرائه انّه إنّما يأمر بالعدل و الإحسان،و ينهى عن الفحشاء و المنكر،فلا يحصل اليقين بصدق كلامه و أخباره،لمكان احتمال الكذب في كلامه هذا،و لا يُنفى هذا الاحتمال إلاّ إذا ثبت عن غير طريق الشرع حسن الأوّل و قبح الثاني و انّه سبحانه فاعل مختار حكيم،مثله لا يكذب،و لا يعبث بكلامه.

و لو تدبّر نفاة القول بالتحسين و التقبيح العقليّين في هذا الدليل لرجعوا عن إنكارهم إلى الصراط المستقيم.

الثالث:إنكارهما يلازم امتناع إثبات الشرائع السماوية
اشارة

من ادّعى السفارة من اللّه سبحانه و كونه نبيّاً مبعوثاً عنه،لا يمكن لنا تصديقه إلاّ في ظل القول بالحسن و القبح العقليّين،لأنّ الدليل الوحيد أو المؤثر على عامة الطبقات،كونه مبعوثاً بالمعاجز و البيّنات،فيستدلُّ بها على أنّه كان مبعوثاً من اللّه سبحانه لهداية الناس،هذا من جانب.

و من جانب آخر انّ المعاجز لا تفيد اليقين بأنّه مبعوث من اللّه سبحانه إلاّ إذا ثبت أصل في باب النبوة و هو:

انّه سبحانه لا يزوِّد الكاذب بقدرة خارقة ليضلّ الناس عن طريقه لأنّه أمر قبيح عقلاً لا يصدر منه سبحانه،فلو لم يثبت هذا الأصل بحكم العقل لا يمكن الإذعان بصدق دعواه لاحتمال انّ المزوَّد بالمعاجز،مدّع كاذب،إذ لم يثبت بعدُ

ص:20

قبح تسلط الكاذب على المعاجز و البيّنات.

و لو صدع الشارع بأنّه لا يسلط الكاذب على القوة الخارقة،لا يمكن الإيمان بصدق قوله،لعدم ثبوت قبح الكذب على الشارع كما مرّ في الدليل الأوّل.

يقول العلاّمة الحلّي حول هذا الدليل:لو كان الحسن و القبح سمعيّاً لا عقلياً،لما قبح من اللّه شيء،و لو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين،و تجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوة إذ إظهار المعجزة بعد ادّعاء النبوة لا يكون دليلاً لصدق ادّعائه إذا كان باب احتمال إظهار المعجزة على يد الكاذب مفتوحاً. (1)

الحسن و القبح العقليّان في الذكر الحكيم

من سبر القرآن الكريم و أمعن في دعوته إلى الصلاح و الفلاح يقف على أنّ القرآن يتّخذ وجدان الإنسان قاضياً ليحكم في قضايا كثيرة بشيء يرجع إلى الحسن و القبح،فالآيات التي نتلوها عليك تُسلّم انّ الإنسان الحرّ المجرّد عن سائر النزعات،قادر على درك حسن الفعل أو قبحه،و لذلك يترك القضاء فيها إليه و يقول:

1. «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجّارِ». 2

2. «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» . (2)

3. «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ» . (3)

ففي هذه الطائفة من الآيات يوكِّل الذكر الحكيم القضاءَ إلى وجدان

ص:21


1- 1) .نهج الحقّ و كشف الصدق،84 [1] بتصرف.
2- 3) .القلم:35. [2]
3- 4) .الرحمن:60. [3]

الإنسان،و انّه هل يصحّ التسوية بين المفسدين و المتّقين،و المسلمين و المجرمين،كما يتّخذ من الوجدان قاضياً،في قوله: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ» .

و هناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل و الإحسان،و إيتاء ذي القربى،و تنهى عن الفحشاء و المنكر و البغي على نحو تسلِّم انّ المخاطب بها،يعرفها معرفة ذاتية و لا يحتاج إلى الشرع ليعرِّفه الموضوع،و كأنّ الشرع يؤكد ما يجده الإنسان بفطرته،يقول سبحانه:

1. «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . (1)

2. «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ» . (2)

3. «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» . (3)

و كيفية دلالة هذه الآيات على قابلية العقل على درك الحسن و القبح عُلِمَتْ ممّا سبق.

و ثمة آية أُخرى تندِّد بعمل المشركين حينما ينسبون بعض أعمالهم المنكرة إلى أمره سبحانه،و هو يردُّ عليهم بأنّ عملهم فحشاء و اللّه لا يأمر به،و الآية صريحة في انّ الإنسان بفضل الوجدان يعرف الفحشاء عن غيرها بلا حاجة إلى تعريف الشارع،كما هي صريحة في انّ اللّه سبحانه منزّه عن ارتكاب القبائح و المنكرات التي يعرفها الانسان بوجدانه،و يقول:

«وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ». 4

إلى هنا تمت أدلة القائلين بالتحسين و التقبيح العقليّين.

ص:22


1- 1) .النحل:90. [1]
2- 2) .الأعراف:33. [2]
3- 3) .الأعراف:157. [3]

5

اشارة

أدلّة المنكرين للتحسين و التقبيح العقليّين

ذهبت الأشاعرة تبعاً لأهل الحديث إلى أنّ الفعل عاجز عن إدراك حسن الأفعال و قبحها و و إنكارهم هذا أشبه بإنكار السوفسطائيين في إنكار الحقائق الخارجية،حتّى وجودهم و أنفسهم لأجل شبهات واهية،و ذلك لأنّه لا يوجد على أديم الأرض إنسان ينكر جداً حسن الإحسان و قبح الظلم،حسن العمل بالميثاق و قبح نقضه،حسن جزاء الإحسان بالإحسان و قبح جزائه بالسوء،إلى غير ذلك من القضايا الواضحة التي تعد أُسساً للحياة الفردية و الاجتماعية.

و هؤلاء المنكرون و إن رفعوا راية الإنكار و لكنّهم تراجعوا عنها باختراع معاني متعددة للحسن و القبح فسلّموا حكم العقل بالتحسين و التقبيح في بعضها دون البعض الآخر و ليس التعرّف عليها بمهم.

و إنّما المهم في المقام دراسة أدلّتهم على الإنكار،و إليك البيان:

الأوّل:لو كانا بديهيين لما اختلف فيه اثنان
اشارة

لو كان العلم بحسن بعض الأفعال و قبحها ضرورياً لما وقع التفاوت بينه و بين العلم بزيادة الكل على الجزء،و الثاني باطل بالوجدان، لوقوع الاختلاف بين العلمين،فانّ العلم بزيادة الكلّ على الجزء أوضح و أبين من التحسين و التقبيح.

ص:23

على هامش الاستدلال

الاستدلال كأنّه مبني على ردّ الدليل الأوّل للمثبتين حيث قالوا:إنّ حسن الأفعال و قبحها من الأُمور البديهية،فردّ عليه النفاة بأنّه لو كان بديهياً،لما تفاوت العلمان:العلم بزيادة الكلّ على الجزء و حسن العدل و قبح الظلم،و العلوم الضرورية لا تتفاوت.

و الاستدلال مبني على أصل غير أصيل و هو عدم وجود التفاوت في العلوم الضرورية،و ذلك لأنّ القضايا اليقينية التي تتمتع بالبداهة على أقسام ستة و كلّها قضايا ضرورية مع وجود التفاوت بينهما.

1.الأوّليات:الكلّ أعظم من الجزء.

2.المشاهدات:و هي إمّا مشاهدة ظاهرية كقولنا:الشمس مشرقة،أو باطنية،كقولنا انّ لنا جوعاً و عطشاً.

3.التجربيات:انبساط الفلز في الحرارة.

4.الحدسيات:نور القمر مستفاد من الشمس.

5.المتواترات:مكّة المكرمة موجودة.

6.الفطريات:الأربعة زوج.

فأين قولنا:«الكلّ أعظم من الجزء»الذي يعد من الأوّليات في البداهة من قولنا:«نور القمر مستفاد من الشمس»الذي هو من الحدسيات، فوجود التفاوت بين هذه العلوم واضح جدّاً.

و أمّا سبب التفاوت فيرجع غالباً إلى وجود الاختلاف بين تصوّر مفرداتها.مثلاً قوله:«كلّ ممكن يحتاج إلى علّة»،حكم بديهي كما أنّ قولنا:«الكلّ أعظم من

ص:24

الجزء»أيضاً بديهي،و سبب الاختلاف يرجع إلى أظهريّة مفردات الثاني من مفردات الأوّل،فأين الإمكان و الحاجة و العلة في الظهور من «الكل»و«الجزء»و«العِظَم»،فاختلاف المفردات من حيث الظهور و الخفاء،يورث ظهوراً و خفاءً في المركب أيضاً.

الثاني:الكذب النافع ليس بقبيح
اشارة

«لو كان الكذب قبيحاً،لكان الكذب المفضي إلى تخليص النبي من يد الظالم قبيحاً أيضاً،و التالي باطل لأنّه يحسن تخليص النبي من يد الظالم،فالمقدّم مثله،فيصبح الكذب النافع غير قبيح،فلو كان قبح الكذب ذاتيّاً،لما تغيّر قبحه،بل يبقى عليه و إن ما بلغ.

على هامش الاستدلال

إنّ في المقام أمرين قبيحين:

1.الكذب و الإغراء بالجهل.

2.ترك نصرة النبي و تعريضه للهلاك.

و قد دار الأمر بين ارتكاب أحد القبيحين.

1.أن يكذب و فيه نجاة النبي.

2.أن يترك نصرة النبي و يعرّضه للهلاك و فيه ترك الكذب القبيح.

و العقل عندئذٍ يحكم بتقديم أخف القبيحين على الآخر،تخلصاً عن ارتكاب الأقبح.فالكذب باق على قبحه،لكنّه يقدّم ارتكابه على الأقبح و يكون معذوراً في ارتكابه.

و يمكن أن يقال:إنّ إنقاذ النبي لا يتوقّف على الكذب مطلقاً إذا كان باب التعريض و التورية مفتوحاً،و لهذا قيل:«إنّ في التعاريض لمندوحة».

ص:25

الثالث:التحسين و التقبيح فرض تكليف على اللّه
اشارة

هذا الدليل هو أكثر تداولاً على ألسنة السذَّج من الناس الذين يغترون بأدلّة المنكرين للتحسين و التقبيح العقليّين قالوا بأنّ القائلين بهما يوجبون على اللّه ما يوجبون على العبد،و يحرِّمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد،و يسمّون ذلك العدل،و الحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمتهم. (1)

على هامش الاستدلال

إنّ المستدل خلط بين فرض التكليف على اللّه،و كشف ما عنده من الحُكْم من خلال صفاته و كماله،فالقائل بالملازمة لا يفرض التكليف على اللّه،و يقول:أين التراب و رب الأرباب،بل يستكشف ما عنده من الأحكام من خلال دراسة صفاته الكمالية،فهو بما انّه عادل،لا يجور،و حكيم لا يعبث،و عالم لا يجهل،نستكشف بها الأحكام اللائقة به حسب صفاته فالتكاليف يستنبطها العقل من قبيل التكاليف التي فرضتها على اللّه حكمته و عدله و علمه.فلو قلنا لا يجوز على اللّه سبحانه تعذيب البريء أو أخذه بذنب المجرم،لا نعني انّا نفرض هذا التكليف عليه،و انّه يجب أن يقوم به،و إنّما نريد أنّ لازم صفاته الكمالية هو أن لا يفعل ذلك.

و هذا نظير ما يقوم به العلماء من كشف أسرار الطبيعة و قوانينها،فلو قال القائل:بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين،فهذا لا يعني إلاّ أنّه في الواقع كذلك،لا انّه يجب أن يكون كذلك لأجل حكمه به.

ص:26


1- 1) .التبصير في الدين:153؛شرح المقاصد:150/2طبعة اسطنبول.

فإذا كان النظام السائد على الكون نظاماً مبنياً على العلم و العدل و الحكمة فلازم ذلك أن لا يؤخذ البريء بذنب المجرم،فكشف هذا الحكم نظير كشف القوانين السائدة على الكون في العلوم الطبيعية و الرياضية و الفلكية.

و في كلام بعض الأشاعرة إلماع لما ذكرنا،يقول النسفي (المتوفّى537ه):و في إرسال الرسل،حكمة.

و يقول التفتازاني (المتوفّى791ه) في شرحه على ذلك الموضع من كلام النسفي:أي مصلحة و عاقبة حميدة.و في هذا إشارة إلى أنّ الإرسال واجب لا بمعنى الوجوب على اللّه تعالى،بل بمعنى أنّ قضية الحكمة تقتضيه لما فيه من الحِكَم و المصالح و ليس بممتنع. (1)

و كلامه هذا نفس ما ذكرناه،و هذا دليل على أنّ الأشاعرة قد أظهروا نوعاً من المرونة للعدلية عبر الزمان.

الدوافع من وراء إنكار التحسين و التقبيح العقليّين

إنّ التحسين و التقبيح العقليّين من المسائل الواضحة لدى العقل و العقلاء و التي لا تحتاج إلى مزيد بيان،و من أنكرهما فإنّما ينكرهما بلسانه دون قلبه،و على الرغم من ذلك نرى وجود فئة كبيرة من المتكلّمين-كالأشاعرة-غلب عليهم إنكار هذا الأصل،فما هو الدافع الذي جرّهم إلى إنكاره؟

أقول:إنّ الدافع من وراء إنكار الحسن و القبح في أفعاله سبحانه غير الدافع الذي جرّهم إلى إنكارهما في أفعال الإنسان.

ص:27


1- 1) .شرح العقائد النسفية:164. [1]

فالدافع في الأوّل هو زعمهم المنافاة بين القول بهما و بين وصفه سبحانه بالمالك المطلق و السلطان بلا منازع الذي له أن يتصرف في ملكه كيف ما شاء حتى لو جازى الإحسان بالسوء.

كما أنّ الدافع في الثاني(إنكارهما في أفعال الإنسان) هو قولهم بالجبر في أفعاله و انّ الإنسان مضطر في فعله لا محيص له عن ارتكابه، و مع ذلك كيف يمكن أن يوصف فعله بالحسن و القبح؟!

يقول المحقّق الخراساني (المتوفّى1329ه) في هذا الصدد:

و إنّما أنكر الأشاعرة الحسن و القبح العقليّين مطلقاً،أو في أفعاله تعالى فلبنائهم انّه تعالى كلّما فعل،صدر منه في محله،لأنّه مالك الخلق كلّه،فلو أثاب العاصي و عاقب المطيع لم يأت بقبيح،لأنّه تصرّف في ملكه،و هو لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون.

و أمّا في أفعال العباد،فلبنائهم على عدم صدور الأفعال منهم بالاختيار،بل بالجبر و الاضطرار،و لا شيء من أفعال المجبور بحسن و لا قبيح. (1)

الرابع:جواز التكليف بما لا يطاق

اعتمد الفخر الرازي في إنكاره للحسن و القبح العقليّين على أنّ التكليف بما لا يطاق قبيح عقلاً عند العدلية،مع أنّ الشرع أمر به،و إليك نصّه:

1.لو كان قبيحاً لما فعله اللّه تعالى،و قد فعله بدليل أنّه كلّف الكافر بالإيمان،مع علمه بأنّه لا يؤمن،و علمه بأنّه متى كان كذلك كان الإيمان منه محالاً.

ص:28


1- 1) .درر الفوائد في شرح الفرائد:339.

2.لأنّه كلّف أبا لهب بالإيمان،و من الإيمان تصديق اللّه تعالى في كلّ ما أخبر عنه،و ممّا أخبر عنه أنّه لا يؤمن،فقد كلّفه بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن،و هو تكليف الجمع بين الضدين. (1)

يلاحظ عليه:أنّ الرازي تصور انّه قد وقف على دليل حاسم في المقام،فاستدلّ بما ذكرته المجبرة قبله بقرون و أجابت عنه العدلية بوجوه،و قال الرازي في بعض كلماته:لو اجتمعت جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلاّ بالتزام مذهب هشام و هو انّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها. (2)

أقول:إنّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم فرية عليه كما أوضحناه في محله (3)،و إليك الإجابة عن الدليلين الأوّلين،أمّا الدليل الأوّل فلأنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل من فاعله على وجه الإطلاق،بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات المتوفرة فيه.

و على ضوء ذلك فقد تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر،بلا شعور،كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش،عالماً بلا اختيار،و لكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان عن اختيار منه،فتعلّق علمه بوجود الإنسان و صدور فعله منه اختياراً،يؤكِّد الاختيار و يدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

و إن شئت قلت:إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة،و مريدة و مختارة كالإنسان،فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات و انصباغ

ص:29


1- 1) .المحصل:153، [1]ط دار الفكر؛نقد المحصل:339،ط طهران.
2- 2) .شرح المواقف:155/8.
3- 3) .لبّ الأثر في الجبر و القدر:150 [2]

فعلها بصبغة الاختيار و الحرية،فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه،و أمّا لو صدر فعله منه عن جبر و اضطرار بلا علم و شعور،أو بلا اختيار و إرادة،فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

و أمّا الجواب على الدليل الثاني فحاصله:انّ أبا لهب مكلّف بالإيمان لكونه أمراً اختيارياً له،و أمّا الإخبار بعدم إيمانه فقد نزل به الوحي بعد ما ختم اللّه على قلبه،و عندئذٍ فليس مكلّفاً بما جاء في القرآن من أنّه لا يؤمن بل هو من اخبارات القرآن كسائر أخباره.

إلى هنا تمّ بيان أدلّة المثبتين و المنكرين،و أظن انّ الحقّ تجلّى بأجلى مظاهره،و هو أحقّ أن يتبع،و ما جاء به المنكرون تسويلات سحروا أعين المغترين بها و استرهبوهم و لكن نور الحقيقة لا يفتأ متبلجا.

بقي الكلام في الآثار و الثمرات المترتبة على القاعدة و هو موضوعنا في الفصل الآتي.

ص:30

6

اشارة

النتائج المترتّبة

على التحسين و التقبيح العقليّين

إنّ قيمة كلّ بحث رهن الآثار التي تترتّب عليه،و الثمار التي يقتطفها الباحث،و من حسن الحظ انّ للمسألة دوراً عظيماً في العلوم الإنسانية لا سيما في الكلام و الأخلاق،و قد مضى الالماع إليه في صدر الرسالة و إليك شيئاً من هذه الثمرات.

1.وجوب المعرفة عقلاً
اشارة

اتّفق المتكلمون على لزوم معرفة المنعم،لكن اختلفوا في وجه لزومه.

ذهبت الأشاعرة المنكرون للحسن و القبح العقليّين إلى أنّ معرفة المنعم (اللّه سبحانه) واجبة شرعاً مع أنّه أمر غير معقول،إذ كيف تجب معرفته شرعاً مع أنّ الشريعة لم تثبت بعدُ حتّى يثبت وجود معرفة اللّه في ضمن سائر أحكامه.

و ذهبت الإمامية و المعتزلة إلى أنّ معرفته واجبة عقلاً،و استدلّوا على ذلك بوجهين:

ص:31

الف:لزوم شكر المنعم

لا شكّ انّ حياة الإنسان رهن النعم التي يعيش فيها،فليس مصدر النعم هو نفسه بل شخص آخر هذا من جانب.

و من جانب آخر انّ العقل يدفع الإنسان إلى شكر من أحسن إليه و لا يصح الشكر إلا بمعرفته،فينتج وجوب معرفته عقلاً.

ب:دفع العقاب المحتمل بالمعرفة

إنّ معرفة اللّه دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف،و دفع الخوف حسن بالضرورة. (1)

توضيحه:انّه ذهب الإلهيون إلى أنّ العالم و ما فيه مخلوق للّه سبحانه-و هم جماهير الناس،و إن خالفهم شرذمة قليلة من المادّيين-و يدّعون أنّ للّه سبحانه سفراء و أنبياء حوّل إليهم بيان وظائف العباد في أبعاد مختلفة و إنّ في مخالفتهم مضاعفات و عقوبات.

و حيث إنّ الإنسان يحتمل جداً صدق مقولتهم فيبعثه عقله إلى وجوب معرفته و معرفة سفرائه و يحسنه كما يزجره عن ترك المعرفة و يقبحه،و لو لا القول بالحسن و القبح العقليّين لما كان هناك أي باعث إلى معرفته سبحانه.

2.وصفه بالعدل و الحكمة
اشارة

إنّ وصفه سبحانه بالعدل و الحكمة فرع ثبوت التحسين و التقبيح العقليّين،و لو لا استقلال العقل بحسن العدل و قبح الظلم لما صحّ وصفه سبحانه بالعدل أو

ص:32


1- 1) .نهج الحق و كشف الصدق:51. [1]

تنزيهه عن الظلم،و نظير ذلك وصفه بكونه حكيماً لا يعبث،لأنّ الفعل العبث قبيح عقلاً،و من عزل العقل عن درك التحسين و التقبيح العقليين لما تسنّى له إثبات هذين الوصفين له و الاعتماد في إثباتهما على اخبار الشرع قد علمت عدم صحّته. (1)

الدليل على نفي صدور القبيح عن اللّه سبحانه

اعتمد المتكلّمون على نفي صدور القبيح منه سبحانه على و صفين:

أ.علمه بالحسن و القبح.

ب.غناه و عدم حاجته إلى شيء.

و نحن في حياتنا اليومية نشاهد ذلك بالعيان،فانّ من يرتكب القبيح فإنّما يرتكب لإحدى جهتين:إمّا لجهله بقبح الفعل،أو لإحساس الحاجة إليه (و إن كان ربّما لا يكون محتاجاً إليه في الواقع) و من فقد هذين الأمرين فلا يصدر منه القبيح.

فإذا كان هذا هو السبب الأساسي لصدور القبيح من الإنسان،فهذا هو السبب أيضاً في صدوره عن اللّه سبحانه،فإذا كان سبحانه نفس العلم و الغنى يمتنع صدور فعل القبيح منه.

3.لزوم اللطف على اللّه

اللطف عبارة عمّا يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة و أبعد عن فعل المعصية،و قد قسموا اللطف إلى:المقرِّب نحو الطاعة،و إلى المحصِّل لها؛فلو كان موجباً لقرب المكلّف إلى فعل الطاعة و البعد عن فعل المعصية،فهو لطف مقرّب،و لو ترتّبت عليه الطاعة فهو لطف محصّل.

ص:33


1- 1) .لاحظ ص 19 من الكتاب.

و حاصل اللطف عبارة عن فسح المجال أمام المكلّف بُغْية حصول الطاعة و الابتعاد عن المعصية،و هو أمر غير إعطاء القابلية للمكلّف بل فوقه،فانّ القدرة شرط عقلي و لولاها لقبح التكليف،و المراد انّه سبحانه يتلطّف على العبد-وراء إعطائه القابلية و القدرة-بفعل أُمور يرغب معها إلى الطاعة و ترك المعصية،فلو توقّف تحصيل الغرض(طاعة العبد) وراء إعطاء القدرة،على فعل المرغِّبات إلى الطاعة و ترك المعصية كوعده و إيعاده كان على المكلّف القيام به لكيلا ينتفي الغرض،و إلى هذا الدليل يشير المحقّق الطوسي،و يقول:و اللطف واجب لتحصيل الغرض به.

4.بعثة الأنبياء

إنّ العقل يحكم بلزوم بعث الأنبياء،و ذلك لأمرين رئيسيّين:

الأوّل:انّ للعقل أحكاماً كلية كلزوم شكر المنعم و عبادته،إلاّ أنّه عاجز عن الخوض في تفاصيلها،فوجب من باب اللطف بعث الأنبياء، لغاية إيضاح كيفية أداء الواجب و بيان المزيد من التفاصيل.

الثاني:انّ إدراك العقل حسن الفعل أو قبحه ربّما لا يكون باعثاً أو زاجراً إلاّ إذا افترض بوعد و وعيد من قبل المولى سبحانه و هو لا يتحقّق إلاّ ببعث الأنبياء الناطقين عنه سبحانه،و بذلك يعلم أنّ دور الأنبياء بالنسبة إلى ما يدركه العقل أحد أمرين،إمّا دور الإرشاد إلى التفاصيل التي لا يدركها العقل،و إمّا دور الدعم لحكمه.

5.حسن التكليف

إذا كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث،يستقلّ العقل بالحكم بلزوم إيصال

ص:34

كلّ مكلّف إلى الغايات التي خلق لها،و ذلك بتكليفهم بما يوصلهم إلى الكمال،و زجرهم عمّا يمنعهم عنه،حتى لا يُتركوا سدىً و تنفتح في ضوء التكليف طاقاتهم الروحيّة و علم الإنسان بالحسن و القبح لا يكفي في استكماله،إذ هناك أُمور يقصر عن إدراك حكمه،علم الإنسان، و لا تعلم إلاّ عن طريق الوحي و الشرع.

مضافاً إلى أنّ حفظ النظام أمر حسن و اختلاله و زعزعته أمر قبيح،و لا يسود النظام في المجتمع الإنساني إلاّ بتقنين قوانين سماويّة (1)تكفل تحقيق العدل و المساواة بين كافة الشعوب.

إلى غير ذلك من الثمرات المذكورة لحسن التكليف.

6.لزوم تزويد الأنبياء بالبيّنات و المعاجز

إنّ بداهة العقل قاضية بعدم جواز الخنوع و الخضوع لأي ادّعاء ما لم يعضده الدليل و البرهان،فمقتضى الحكمة الإلهية تزويد الأنبياء بالمعاجز و البيّنات حتى تتحقّق الغاية المتوخّاة من بعثهم،و لولاها لأصبح بعثهم سدىً و عملاً بلا غاية و هو قبيح.

7.لزوم النظر في برهان مدّعي النبوة

إذا كان مقتضى الحكمة الإلهية دعم الأنبياء بالبراهين،فيلزم على العباد عقلاً النظر في برهان مدّعي النبوة،لاستقلال العقل بذلك،و لدفع الضرر المحتمل.

و أمّا من عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال،فليس له أن يثبت لزوم النظر إلاّ عن طريق الشرع،و هو بعد غير ثابت،فتطرح مشكلة الدور.

ص:35


1- 1) .خرجت الوضعية فانّها لا تسعد بها الإنسان،العيان يكفيك عن البيان.
8.العلم بصدق دعوى الأنبياء

إذا اقترنت دعوة المتنبّئ بالمعاجز و البيّنات الواضحة-فبناء على استقلال العقل بالحسن و القبح العقليّين-لحكمنا بصدقه،لقبح إعطاء البيّنات للمدّعي الكذّاب لما فيه من إضلال الناس،و أمّا إذا عزلنا العقل عن الحكم المذكور،فلا دليل على صدق نبوّته.

9.الخاتمية و استمرار أحكام الإسلام

إنّ استقلال العقل بالتحسين و التقبيح-بالمعنى الذي عرفت-أساس الخاتمية و بقاء أحكام الإسلام و خلودها إلى يوم القيامة،لأنّ الفطرة - التي هي العماد لإدراك الحسن و القبح-مشتركة بين جميع أفراد البشر و لا تتبدّل بتبدّل الحضارات و تطور الثقافات،فإنّ تبدّلها لا يمسّ فطرة الإنسان و لا يُغير جبلته،فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالداً إلى يوم القيامة،دون أن يتطرّق إليه التبدّل و التغيّر.

10.اللّه عادل لا يجور
اشارة

من أبرز مصاديق حكمته-تعالى-هو عدله،بمعنى قيامه بالقسط،و أنّه لا يجور و لا يظلم،و يترتب عليه بعض النتائج التي منها:

أ.قبح العقاب بلا بيان

إذا كان اللّه تعالى عادلاً،فانّه لا يعاقب عباده دون أن يبيّن لهم تكاليفهم،لحكم العقل بقبح العقاب بلا صدور بيان،أو مع صدور دون أن يقع في متناول العباد،و لزوم تنزّه الواجب عنه.

ص:36

ب.قبح التكليف بما لا يطاق

من نتائج حكم العقل بعدله تعالى،حكمه بلزوم تكليفه بما يطيقه العبد،و أنّ تكليفه و إلزامه بما هو فوق طاقته ظلم و قبيح لا يصدر عن الحكيم.

ج.مدَى تأثير القضاء و القدر في مصير الإنسان

هذه المسألة على الرغم من أهميتها البالغة في العقيدة الإسلامية،فقد احتدم الجدل حولها إلى درجة التكفير و إراقة الدماء خاصة في العصور الأُولى،فهل تأثيرهما إلى حدّ يسلب الاختيار عن الإنسان،أو لا.و الأوّل قبيح عند العقل فيتعين الثاني.

د.اختيار الإنسان.

من جملة المسائل المترتبة على عدله تعالى،اختيار الإنسان في أفعاله دون أن يكون مجبوراً مسيَّراً فيما يقوم به من ظلم و جور.

11.ثبات الأخلاق و القيم

إنّ مسألة ثبات الأخلاق في جميع العصور و الحضارات أو تبدّلها تبعاً لاختلافها،ممّا طرح مؤخراً عند الغربيّين و دارت حوله نقاشات حادة،فمن قائل بثبات أُصولها،و من قائل بتبدّلها و تغيّرها حسب تغير الأنظمة و الحضارات،و لكن المسألة لا تنحل إلاّ في ضوء التحسين و التقبيح العقليّين الناشئين من قضاء الجبلّة الإنسانية و الفطرة الثابتة،فعند ذاك تتسم أُصول الأخلاق بسمة الثبات و الخلود.

خذ على سبيل المثال«إكرام المحسن»فانّه أمر يستحسنه العقل،و لا يتغير حكم العقل هذا أبداً،و إنّما الذي يتغيّر بمرور الزمان،وسائل الإكرام و كيفيته.

ص:37

إنّ الثابت عبارة عن الأُصول الفطرية التي لها جذور في عمق الإنسان،و طبيعته،و بما انّ الفطرة الإنسانية واحدة في جميع الشرائط و الظروف لا تتغير بتغيّرها،تُصبح الأُصول المبنية على الفطرة الإنسانية أُصولاً ثابتة لا تتغيّر أيضاً،فقوله سبحانه: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» 1 ثابت و لا يتغيّر عبر القرون،لأنّ العدل و الإحسان قد جبل الإنسان عليهما،نعم ثمة تغيّر يطرأ على الأساليب المقررة لإجراء تلك الأُصول الثابتة تبعاً لتغيّر الزمان،فهي لم تزل تتغيّر حسب تغيّر الحضارات و هذا التغيّر ليس جوهرياً يمس ثبات تلك الأُصول.

إنّ للإنسان-مع غض النظر عن البيئة التي يعيش فيها-سلوكاً باطنياً يلازمه و لا ينفك عنه،و فطرة ثابتة و يعدّ جزءاً مهماً من شخصيته يميّزه عن سائر الحيوانات و يلازم وجوده في كلّ زمان و مكان.

فهذا السلوك الباطني الثابت لا يستغني عن قانون ينظم اتجاهاته،و يصونه عن الإفراط و التفريط،فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته،و صالحاً لتعديل ميولها،لزم خلوده بخلوده،و ثبوته بثبوته،فمن زعم أنّ الأخلاق تتطور حسب تطور الظروف و الشرائط غفل عن أنّ للإنسان سلوكاً باطنياً و فطرة ثابتة لا تنفك عنه ما دام الإنسان إنساناً.

نعم إنّ الذي يتغيّر و تتغيّر بتبعه العادات و التقاليد،لا صلة له بالأخلاق و ثباتها،و ها نحن نذكر من الأُصول الثابتة في علم الأخلاق نماذج:

1.لا يشك ذو مسكة أنّ بقاء النظام في المجتمع الإنساني رهن قوانين

ص:38

تؤمِّن حقوق جميع شرائح المجتمع بعيداً عن الظلم و الجور و التعسّف،و هذا أصل ثابت لا يشك فيه أحد،بيد أنّ الذي يتغيّر هو الأساليب التي تتكفّل إجراء هذا الأصل،فلا تجد على أديم الأرض من ينكر حسن تقنين مبنيّ على العدل و بسطه بين الناس،و قبح الظلم و التعسف.

و هذا الأصل الثابت لم يتغيّر منذ ان وجد الإنسان على البسيطة و أصبحت له حياة اجتماعية.

2.الاختلاف بين الرجل و المرأة أمر تكويني محسوس،فهما موجودان مختلفان عضوياً و روحياً على الرغم من الأبواق الإعلامية التي تبغي كسر الحواجز بينهما،و لذلك اختلفت أحكام كلّ منهما عن الآخر.

فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما و مسايراً لطبعهما يظل ثابتاً لا يتغيّر بمرور الزمان،لثبات الموضوع المقتضي لثبات المحمول.

3.الروابط العائلية،كرابطة الابن بأبويه،و رابطة الأخ بأخيه،و هي روابط طبيعية،تتحد فيها الأواصر الروحية و النسبية،فالأحكام التي شُرِّعَتْ لتنظيم تلك الروابط باتت ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الزمان.

4.انّ التشريع الإسلامي بالغ في الاهتمام بالأخلاق للحيلولة دون تفسّخها،كما عالج أسباب التفسّخ الخلقي كالخمر و الميسر و الإباحة الجنسية بوضع حلول تتناسب معها من خلال تحريمها و إقامة الحدود على مقترفيها،و هذه الحلول ليست مقطعية تتغيّر بتغير الزمان،بل هي ثابتة لا تتغير،لأنّ الآثار التي تتركها المفاسد الخلقية أيضاً ثابتة،فالخمر يزيل العقل،و الميسر ينبت العداوة في المجتمع،و الإباحة الجنسية تفسد النسل و الحرث.

ص:39

هذا و أمثالها من الأحكام الثابتة في حياة الإنسان الاجتماعية،و هي تنسجم قبل كلّ شيء مع فطرته.

و خلاصة البحث:أنّ تطوّر الحياة الاجتماعية في بعض مجالاتها،أو تغيّر الأحكام الموضوعة على وفق ملاكات واقعية متغيّرة لا يكون ذريعة لنسخ قبح الظلم و حسن العدل و لزوم أداء الأمانة،و دفع الغرامات،و الوفاء بالعهود و المواثيق و أضرابها.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

ص:40

2

اشارة

الإنسان

بين

الجبر و التفويض

إنّ للشخصية الإنسانية أبعاداً مختلفة،و من تلك الأبعاد معرفة كون الإنسان فاعلاً مختاراً فيما يفعل أو يترك،أو كونه مسيّراً قد رُسِم مصيرُ حياته بيد القَدَر أو عامل آخر-كما سيوافيك-و لا محيص له إلاّ السير في الطريق الذي خُطّ له.

مع انّ دراسة هذا البعد من أبعاد الشخصية الإنسانية دراسة مسألة فلسفية محضة يَلجها كبار الحكماء و الفلاسفة عبر القرون و لهم فيها آراء و أفكار،لكن و في الوقت نفسه مسألة يشتاق إلى فهمها عامّة الناس و قلّما وجدت في حياة الإنسان مسألة لها تلك الميزة،و في الحقيقة هي من إحدى المسائل الأربع التي يتطلّع إلى فهمها الجميع ألا و هي:

1.من أين جاء إلى الدنيا؟

2.لما ذا جاء إليها؟

ص:41

3.إلى أين يذهب؟

4.و هل هو في إعماله مخيّر أو مسير؟

و لأجل ذلك لا يمكن تحديد الزمن الذي طُرِحت فيه مسألة الجبر و الاختيار،كما لا يمكن تحديد مكانها،و إنّ باذرها هل هو إفريقي أو روميّ أو هندي أو صيني أو إيراني؟ و على كلّ تقدير فللمسألة جذور عميقة في تاريخ حياة الإنسان.

ثمّ إنّ الآراء المطروحة في المسألة تدور على محورين:

1.الإنسان مسيّر لا مخيّر،مجبور في أفعاله و ليس بمختار.

2.الإنسان مخيّر في أفعاله لا مسيّر،مختار فيها و ليس بمجبور.

و لكلّ من الرأيين قائل و دليل يعضد رأيه،إلاّ أنّ المهم هو الوقوف على الرأي السائد حين نزول الوحي على النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فالسير في الحديث و التاريخ يُثبت بأنّ الرأي العام في الجزيرة العربية قبل البعثة كان هو الجبر،و قد بقيت رسوبات تلك الفكرة بعد البعثة و حتى رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم.و لأجل تبيين هذا الجانب من جوانب البحث نعقد الفصل التالي.

ص:42

1

اشارة

الجبر على مسرح التاريخ الإسلامي

إنّ التأمّل في عقائد العرب في الجاهلية يُثبت بأنّهم أو طائفة منهم كانوا معتقدين بالقدر السالب للاختيار عن الإنسان،يقول سبحانه:

«سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ». 1

و ليست الآية،آية وحيدة تكشف عن عقيدة العرب في العصر الجاهلي حول فعل الإنسان،بل هناك آية أو آيات أُخرى تشير إلى عقيدتهم،يقول سبحانه: «وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ». 2

فقولهم: «وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها» إشارة إلى أنّ عبادة الوثن أمر قدّره اللّه سبحانه و ليس لنا الفرار ممّا قُضي به،و اللّه سبحانه يردّ على مزعمتهم بقوله: «قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ،فلا يأمر بها و لا يقدِّرها بالمعنى الذي تدّعون.

و أمّا جذور هذه العقيدة و انّها كيف تسرّبت إلى الجزيرة العربية حتّى سادت

ص:43

على المشركين فقد ظلّت مجهولة؟

و العجب انّ رسوبات فكرة الجبر بقيت بعد بزوغ نجم الإسلام و سادت حال حياة الرسول و بعد رحيله أيضاً.

روى الواقدي في مغازيه عن أُمّ الحارث الأنصارية و هي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت:مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً، فقلت:ما هذا؟ فقال عمر:أمر اللّه. (1)

و معنى ذلك انّه لم يكن دور للغزاة من المسلمين في هزيمة حنين،و قد كانت الهزيمة تقديراً قطعياً لم يكن محيص من التسليم امامها.

و هذا هو نفس الجبر لا يفترق عنه قيد شعرة،مع أنّه سبحانه يقول: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ». 2

و قد أشار سبحانه إلى عامل الهزيمة و هو أمران:

الأوّل:إعجابهم بكثرتهم،فاعتمدوا على الكثرة،مكان الاعتماد على اللّه سبحانه أوّلاً و على قواهم الذاتية ثانياً كما يقول: «إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ».

الثاني:الانسحاب عن ساحة الحرب بدل الثبات،كما يقول سبحانه «ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» مع أنّهم أمروا بالثبات كما يقول تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ». 3

و العجب انّ هذه العقيدة كانت سائدة بعد رحيل الرسول و باقية في اذهان الصحابة،و هذا السيوطي ينقل عن عبد اللّه بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر،فقال:أ رأيت الزنا بقدر؟ قال:نعم،قال:فإنّ اللّه قدّره عليّ ثمّ يعذّبني؟ قال:نعم

ص:44


1- 1) .المغازي:904/3. [1]

يا بن اللخناء أما و اللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك. (1)

لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر فسأل الخليفة عن كون الزنا مقدّراً من اللّه أم لا؟ فلما أجاب الخليفة بنعم،استغرب من ذلك،لأنّ العقل لا يسوّغ تقديره سبحانه شيئاً سالباً للاختيار عن الإنسان في فعله أو تركه ثمّ تعذيبه عليه،و لذلك قال:«فانّ اللّه قدّره عليّ ثمّ يعذبني؟!» فعند ذاك أقرّه الخليفة على ما استغربه،و قال:نعم يا ابن اللخناء.

استغلال الأُمويّين للقدر

إنّ طبيعة الحكومات الاستبدادية هي تبرير كلّ ما يسود المجتمع من الفقر و الظلم و الاعتساف بعامل خارج عن دائرة حكمهم كقضاء اللّه سبحانه و قدره حتّى لا يعترض عليهم معترض.

و من هنا وجد التفسيرُ الخاطئ للدين طريقَه إلى المجتمع الحاضر و انّه وسيلة لدعم الجهاز الحاكم،و قد استغل الشيوعيون و العلمانيون هذه الفكرة لإبعاد الناس عن الدين و لكنّهم خلطوا سهواً أو عمداً بين كون الدين الواقعي-الذي أُلهم على قلوب الأنبياء-و لا يكون مسانداً للجهاز الظالم و بين التفسير الباطل للدين،إذ كيف يكون الدين مسانداً للسلطات الزمنية الجائرة مع أنّه يأمر بالعدل و الاحسان و ينهى عن الظلم و الفحشاء؟! يقول إمام المسلمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام راوياً عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:«لن تقدس أُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متتعتع». (2)

1.انّ الأمويّين استغلّوا الجبر لإرساء قواعد حُكْمِهم حتى أنّ معاوية لمّا

ص:45


1- 1) .تاريخ الخلفاء للسيوطي:95. [1]
2- 2) .نهج البلاغة، [2]قسم الرسائل برقم53.

نصب ولده يزيداً خليفة للمسلمين و سلّطه على رقاب المسلمين اعترضت عليه أُمّ المؤمنين عائشة،فأجابها معاوية:إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء و ليس للعباد الخيرة من أمرهم. (1)

2.و بهذا أيضاً أجاب معاوية عبد اللّه بن عمر عند ما سأل معاوية عن تنصيبه يزيدَ للحكم؟ بقوله:إنّي أُحذرك أن تشق عصا المسلمين و تسعى في تفريق ملئهم و أن تسفك دماءهم،و انّ أمر يزيد قد كان قضاءً من القضاء و ليس للعباد خيرة من أمره. (2)

3.و قد سرى هذا الاعتذار إلى غير الأمويّين من الذين ساروا في ركب الخلفاء،فهذا هو عمر بن سعد بن أبي وقاص،قاتل الإمام الشهيد الحسين عليه السلام فلمّا اعترض عليه عبد اللّه بن مطيع العدوي بقوله:اخترت همدَان و الريَ على قتل ابن عمك؟! فقال عمر:كانت أُمور قُضِيتْ من السماء و قد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلاّ ما أبى. (3)

4.و قد برّرت عائشة أُم المؤمنين خلافَها مع علي عليه السلام بالقضاء و القدر،على ما رواه الخطيب عن أبي قتادة فعند ما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة أجابته أُمّ المؤمنين بقولها:و ما يمنعني ما بيني و بين عليّ أن أقول الحق،سمعت النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول:«تفترق أُمّتي على فرقتين تمرق بينهما فرقة محلّقون رءوسهم،مخفّون شواربهم،أزرهم إلى أنصاف سوقهم،يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يقتلهم أحبهم إليّ،و أحبهم إلى اللّه»،قال:يا أُمّ المؤمنين فأنت تعلمين هذا فلم كان الذي منك؟! قالت:يا قتادة و كان أمر اللّه قدراً مقدوراً،و للقدر أسباب!!. (4)

ص:46


1- 1) .الإمامة و السياسة لابن قتيبة:167/1. [1]
2- 2) .الإمامة و السياسية:171/1.
3- 3) .طبقات ابن سعد:148/5،ط بيروت. [2]
4- 4) .تاريخ بغداد:160/1. [3]
التقدير المساوي للجبر عقيدة مستوردة

و من العوامل التي صارت سبباً لتركيز فكرة الجبر بين المسلمين هي الأساطير التي حاكها الأحبار و الرهبان و نشروها بين المسلمين حول القضاء و القدر،فهذا هو حماد بن سلمة يروي عن أبي سنان قال:سمعنا وهب بن منبه،قال:كنتُ أقول بالقدر حتّى قرأت بضعة و سبعين كتاباً مَنْ كتب الأنبياء في كلّها:من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر،فتركتُ قولي. (1)

و المراد من القدر في قوله:«كنت أقول بالقدر»ليس القول بتقدير اللّه سبحانه و قضائه،بل المراد هو القول بالاختيار و المشيئة للعبد كما يظهر من ذيل كلامه.

و هذا النقل يعطي انّ القول بنفي الاختيار و المشيئة للإنسان،قد تسرّب إلى الأوساط الإسلامية عن طريق هذه الجماعة و عن الكتب الإسرائيلية أ فيصحّ بعد هذا أن نعد القول بنفي المشيئة للإنسان عقيدة جاء بها القرآن و السنّة النبوية،و نكفّر من قال بالمشيئة له و لو مشيئة ظلية تابعة لمشيئته سبحانه،و نقاتل في سبيل هذه العقيدة؟!

حديث«الفراغ من الأمر»بدعة يهوديّة

يجد الباحث في ثنايا الأحاديث و كلمات المحدّثين قولهم:«إنّ اللّه سبحانه قد فرغ من الأمر»،أي قد فرغ سبحانه من أمر التدبير و التكوين فلا يتغيّر ما قُدّر،و لا يتبدّل ما قضى به،و هو بظاهره نفس الجبر،إذ معناه انّه لا محيص للإنسان إلاّ

ص:47


1- 1) .ميزان الاعتدال:353/4.

العمل بما قُدّر و قضى و لا يتمكّن من تغييره و تبديله،و بالتالي لا خيرة للإنسان في حياته فيما يختار أو يترك مع أنّه سبحانه يحكم على خلافه و يقول: «وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ* يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ». 1

و هل يمحو إلاّ ما أثبتَ؟! فلو كان قد فرغ من الأمر فما معنى محو ما أثبته و قدّره؟ كيف و اللّه سبحانه مبسوط اليد لا يكبّله تقديره و قضاؤه،فله السيادة على القضاء و القدر دونهما عليه؟!

و هذا هو الثعلبي ينقل عن مجاهد قال:قالت قريش:«حينما أنزل «ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ» ما لنا نراك يا محمد تملك من شيء و قد فرغ من أمره،فأنزلت هذه الآية تخويفاً و وعداً لهم،أي أن يشأ أحدثها من أمر-إلى أن قال:-و يُحدث في كلّ رمضان في ليلة القدر و يمحو و يُثبت ما يشاء من أرزاق الناس و مسائلهم و ما يؤتيهم و يُنسأهم له. (1)

و قد تطرق عن طريق تلامذة الاحبار و الرهبان انّه سبحانه يمحو ما يشاء و يثبت إلاّ الحياة و الموت و الشقاء و السعادة فانّهما لا يتغيران، و نقله السيوطي عن غير واحد من الصحابة و التابعين الذين كانوا يحسنون الظن باحبار اليهود و رهبان النصارى.

أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: «يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ...» قال:إلاّ الحياة و الموت،و الشقاء و السعادة فانّهما لا يتغيّران. (2)

ص:48


1- 2) .تفسير الثعلبي، [1]المسمّى بالكشف و البيان:298/5؛الدر المنثور:659/4 و [2]اللفظ للثاني.
2- 3) .الدرّ المنثور:663/4،661،662. [3]

أخرج الطبراني في الأوسط و ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عمر:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ» :إلاّ الشقوة و السعادة و الحياة و الموت. (1)

و قد روى عن ابن عباس:قال: «يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ» قال:«ذلك كلّ ليلة القدر يرفع و يخفض و يرزق»أي غير الحياة و الموت و الشقاوة و السعادة،فإنّ ذلك لا يزول. (2)

و أظنّ أنّ الرواية مكذوبة على لسان ابن عباس تلميذ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام،فإنّ الإمام عليه السلام و بيته الرفيع مجمعون على إمكان تغيير المصير حتّى السعادة و الشقاء بالأعمال الصالحة و الطالحة.

إنّ سيادة القدر على مصير الإنسان على نحو يسلب عنه الاختيار و لا يتمكّن من تبديل ما قدّر إلى خلافه،نفس القول بالجبر و سيادته.

إنّ هذا القول مرفوض عقلاً،و كتاباً،فإنّ إطلاق الكتاب يعمّ الجميع من الموت و الحياة و السعادة و الشقاء.

إنّ قوم يونس قد غيّروا مصيرهم السيّئ بالتوبة و العمل الصالح.يقول سبحانه: «فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ». 3

و يدلّ على ذلك أيضاً الروايات المتضافرة.

أخرج ابن أبي شيبة في«المصنّف»و ابن أبي الدنيا في الدعاء،عن ابن

ص:49


1- 1) .الدرّ المنثور:663/4،661،662. [1]
2- 2) .الدرّ المنثور:663/4،661،662. [2]

مسعود رضى الله عنه قال:ما دعا عبد قطّ بهذه الدعوات إلاّ وسّع اللّه له في معيشته:يا ذا المن و لا يُمنُّ عليه،يا ذا الجلال و الإكرام،يا ذا الطول لا إله إلاّ أنت،ظهر اللاجئين،وجار المستجيرين،و مأمن الخائفين،إن كنت كتبتني عندك في أُمّ الكتاب شقيّاً فامح عني اسم الشقاء و أثبتني عندك سعيداً...،-إلى أن قال -:فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت «يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» . (1)

ص:50


1- 1) .الدر المنثور:661/4،و [1]بهذا المضمون روايات أُخرى لاحظ ص 663.

2

أحاديث لا تفارق الجبرَ قيد شعرة

إنّ اتّفاق المحدّثين على أنّ الصحيحين و بعدهما السنن الأربع،من أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم،عاق الكثير من المحقّقين من الخوض فيهما نقداً و تمحيصاً،و لو لا هذا الاتّفاق لقام المحقّقون بالنقد و التمحيص فيما كان مخالفاً للكتاب و السنّة النبوية القطعية و العقل الصريح،و ها نحن نسرد في المقام بعض ما جاء في الصحيحين ما لا يفارق الجبر قيد شعرة و هو إمّا مؤوّل أو موضوع على لسان الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

1.روى مسلم في صحيحه عن زيد بن وهب،عن عبد اللّه قال:حدّثنا رسول اللّه-و هو الصادق-أنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمّه أربعين يوماً،ثمّ يكون في ذلك علقة مثل ذلك،ثمّ يكون في ذلك مضغة مثل ذلك،ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات:بكتب رزقه و أجله و عمله و شقي أو سعيد،فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع،فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها،و إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع،فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. (1)

ص:51


1- 1) .صحيح مسلم:44/8،كتاب القدر.

فعلى هذا لا يقدر الإنسان على إضلال نفسه و لا هدايتها كما لا يقدر على أن يجعل نفسه من أهل الجنة أو النار،و لو حاول لتحصيل شيء منها،سبقَ الكتابُ حائلاً بينه و بين إرادته،و هذا هو نفس القول بأنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر.

ثمّ إنّ الإمام النووي الشارح لصحيح مسلم نظر إلى هذه الأحاديث بعين الرضا و القبول،فلما رأى انّها لا تفارق الجبر قيد شعرة حاول تأويل قوله:«فيسبق عليه الكتاب»في كلا الموضعين،و قال:«انّ هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنّه غالب فيهم».

ثمّ إنّ من لطف اللّه تعالى وسعة رحمته انقلابُ الناس من الشر إلى الخير في كثرة و أمّا انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور و نهاية القلة،و هو نحو قوله تعالى:«إنّ رحمتي سبقت غضبي و غلبت غضبي». (1)

يلاحظ عليه أوّلاً:بانّ حمل أحد الطرفين على الغلبة و الطرف الآخر على وجه الندرة قسمة ضيزى فانّ ظاهر الحديث أنّ سبق الكتاب في الطرفين سيان.

و ثانياً:انّ الحديث ظاهر في غلبة القدر على عمل الإنسان و نيته فربما يجعل الصالح طالحاً و الطالح صالحاً،و لا صلة له بسبق رحمته على غضبه و الظاهر انّ هذه الأحاديث حيكت على وفق عقائد اليهود الذين ذهبوا إلى انّ يده سبحانه مغلولة غُلَّت أيديهم.

2.و روى عنه أيضاً حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة و أربعين ليلة فيقول:يا رب

ص:52


1- 1) .شرح صحيح مسلم للنووي:435/16.

أ شقي أو سعيد؟ فيكتبان،فيقول:أي رب أذكر أو أُنثى؟ فيكتبان،و يكتب عمله و أثره و أجله و رزقه،ثمّ تُطوى الصحف فلا يزاد فيها و لا ينقص». (1)

فعلى هذا فالصحف الأُولى التي قُدِّر فيها مصير الإنسان مطوية لا تفتح فلا يزيد فيها شيء و لا ينقص،و هذا لا يختلف عن الجبر قيد شعرة.

إنّ تفسير القضاء و القدر-اللّذين هما من المعارف العليا في الإسلام-بالمعنى الوارد في الرواية يجعل الإنسان مكتوف اليدين في خضمِّ الحياة فيسلب عنه كلّ سعي في طريق السعادة إذا كتب من أهل الشقاء أو في طريق الشقاء إذا كتب من أهل السعادة.

3.روى عبد اللّه بن عمر،عن أبيه قال:يا رسول اللّه أ رأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو فيما قد فرغ منه؟ فقال:بل فيما قد فرغ منه،يا ابن الخطاب و كلّ ميسر،أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة،و أمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء.

و في رواية قال:لمّا نزلت «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ» سألت رسول اللّه،فقلت:يا نبي اللّه فعلام نعمل،على شيء قد فرغ منه،أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال:بل على شيء قد فرغ منه و جرت به الأقلام يا عمر،و لكن كلّ ميسر لما خلق له. (2)

و هذا الحديث يعرب عن أنّه قد تمّ القضاء على الناس في الأزل و جعلهم صنفين و كلّ ميسر لما خلق له في الأزل لا لما لم يخلق له،فأهل السعادة ميسّرون للاعمال الصالحة فقط و أهل الشقاء ميسّرون للأعمال الطالحة فقط،و أي جبر أوضح و أبين ممّا جاء في هذا الحديث.

ص:53


1- 1) .صحيح مسلم:45/8،كتاب القدر.
2- 2) .جامع الأُصول:516/10- 517.

3

اشارة

مضاعفات القول بالجبر

إنّ للقول بالجبر و إنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر،مضاعفات كثيرة،نشير إلى قسم منها و نحيل الباقي إلى مجال آخر:

1.انتفاء الغرض من بعثة الأنبياء

إنّ الغرض من بعثة الأنبياء هو دعوة الناس و إرشادهم إلى معالم التوحيد و نهيهم عن الشرك في مجال العقيدة،و إلى محاسن الأخلاق و زجرهم عن مساويها في مجال العمل،يقول سبحانه: «وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ» 1 ،و قال سبحانه:

«كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ» 2 إلى غير ذلك من الآيات التي تعكس الهدف المنشود من وراء بعث الأنبياء،و لا يتحقّق هذا الغرض إلاّ في ظل كون الإنسان مخيّراً لا مسيراً،فلو كان مسيّراً فكلّ إنسان كتب عليه النار،فهو يدخلها،إذن فما هو فائدة بعث الأنبياء،فإنّ دعوة الأنبياء و عدمها بالنسبة إليه سيّان؟! و هذا من الوضوح بمكان لا يحتاج إلى التطويل.

ص:54

2.انتفاء فائدة المناهج التربوية

التربية عبارة عن توفير أرضية مناسبة لخروج ما هو بالقوة إلى منصّة الظهور و الفعلية،و هذا كالمزارع و الفلاح القائمين بتربية البذور و النباتات فيوفّران ما يحتاجان إليه في إخراج الاستعداد المكنون فيهما إلى حيز الظهور و الكمال،فليس للمربّى دور الخلق و الإيجاد،بل تهيئة الظروف المناسبة لأن يُظهر الشيءُ كمالَه المستور لكي ينقلب البذر زرعاً و النبات شجراً.

و على ضوء ذلك فالمناهج التربوية في الإنسان،شعارها رفع المستوى الفكري له و سوقه نحو الفضائل و منعه من السقوط في هاوية الرذائل،و من المعلوم أنّ تحقّق هذه الغاية رهن وجود الحرية في الإنسان لكي يقع في إطار التربية،فيسير حسب الضوء الذي يريه المربي،فلو كان مسيّراً لا مخيّراً فإعمال الأساليب التربوية يُصبح أمراً لغواً غير مؤثر.

3.تكذيب الكتاب العزيز

إنّ من سبر الكتاب العزيز و تجرد عن عامّة الرواسب يجد انّ القرآن يصوّر الإنسان فاعلاً مختاراً يخاطبه فينصحه تارة،و يأمره أُخرى، و يزجره ثالثاً،و يعده رابعاً و يوعده خامساً،إلى غير ذلك من علائم الاختيار و آثاره،و نذكر منها ما يلي:

1.قوله سبحانه: «إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً».

2.قوله سبحانه: «وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً». 1

ص:55

و للّه در الشهيد السعيد زين الدين العاملي حينما أنشد: لقد جاء في القرآن آيةُ حكمة

3.قال سبحانه: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ». 1

4.قال سبحانه: «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ». 2

5.قال سبحانه: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ». 3

6.قال تعالى: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى* وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى* ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى». 4

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ الإنسان مخيّر فيما يختار و يترك و ليس في حياته عاملُ ضغط باسم القدر و القضاء أو غيره، يسلب عنه الاختيار،و أمّا الآيات التي ربّما يستشم منها الجبر،ككون الهداية و الضلال بيد اللّه سبحانه فسيوافيك تفسيرها.

4.الجبري يعمل خلافاً لعقيدته

كلّ من رفع راية الجبر و اتّسم به في الحياة،و بنى عليه منهجاً فلسفياً،فهو يغالط نفسه،فترى أنّه إذا ظُلم و غصب حقّه،يندِّد بالظالم و يرفع شكواه إلى

ص:56

المحاكم حتّى يأخذ الحاكم حقّه من الغاصب و الظالم،فلو لم يكن لخصمه خيرة و اختيار فما معنى التنديد و التعرض له؟ و هذا يدلّ على أنّه يصوّر الخصم المخالف إنساناً مختاراً غصب ما يملكه عن اختيار.

و بالجملة كلّ من رفع عقيرته بالجبر فهو حين الجدال و السجال و إن كان جبريّاً و لكنّه في حياته الاجتماعية اختياري على ضد الجبر و لا يقبل أيّ عذر لخصمه!!

5.الجبر واجهة لنيل المزيد من الحرية
اشارة

إنّ من دوافع القول بالجبر هو اشباع الميول و الغرائز الحيوانية في الحياة،فالجبري يطلب المزيد من الحرية من وراء ادّعائه الجبر، و يتستر تحت واجهة الجبر ليخلِّص نفسه من عهدة التكليف و المسئولية،ففي الحقيقة هو لا يؤمن بالجبر كمنهج للحياة،بل يعتقد بالحرية فيها ليعيش فيها وفقاً لما تمليه عليه غرائزه الجامحة.

إلى هنا تم الحديث عن بعض مضاعفات الجبر.

ص:57

شبهات و حلول

ثمّ إنّ للقائلين بالجبر شبهات مختلفة ربما يغتر بها السذج من الناس،فها نحن نستعرض تلك الشبهات و نضع أمام القارئ حلولاً لها على نحو لا يبقى لمشكك شك و لا لمريب ريب،فنقول:

1.مثلث الشخصية

إنّ فعل الإنسان تعبير عن شخصيّته المكوّنة بأُصول ثلاثة يعبّر عنها بمثلث الشخصية و إن كانت الأضلاع في بنائها و مقدار تأثيرها غير متساوية،و لكن كلّ ضلع يؤثر فيها تأثيراً قطعيّاً،و أمّا أضلاعها:

أ.ناموس الوراثة.

ب.الثقافة.

ج.البيئة.

أمّا الأوّل:فهو أمر اعترف به العلم و التجربة و يلمسه كل إنسان واع،فالولد كما يرث الصفات الجسمانية للوالدين كذلك يرث صفاتهما الخُلقية و ينشأ عليها،يقول الشاعر: ينشأ الصغير على ما كان والده انّ الأُصول عليها ينبت الشجر

ص:58

فاللبنة الأُولى في بناء الشخصية الصالحة أم الطالحة هي ما يرث الولد من الوالدين من الفضائل و الرذائل،و قد كشف العلم أنّ الجينات الموجودة في النطفة الإنسانية سبب طبيعي و عامل لانتقال هذه الصفات من الوالدين إلى الطفل.

و أمّا الثاني فيأتي دوره بعد دور الوراثة حيث إنّ المعلّم يمثِّل المدرسة التربوية الثانية بعد مدرسة الأبوين،و لهذا يكون دور التعليم في مصير الطفل دوراً حسّاساً في قلبه.

و أمّا الثالث فيأتي دوره إذا أتمّ دراسته و بدأ ممارسة العمل،فعندئذٍ يتأثر في سلوكه و خُلقه بالبيئة التي يعيش فيها،فإذا كانت العوامل الثلاثة متجانسة في الغاية و الأثر،يقع الكلّ في طريق تكوين الشخصية الواحدة بلا صراع بينها و لا نزاع،و أمّا إذا كان بينها نزاع و صراع في الغاية و الدعوة،فتكون النتيجة من حيث السلوك،تابعة لأقوى العوامل و أرسخها في الروح و هو يختلف حسب اختلاف تأثير الأوفر سهماً من هذه، و لأجل ذلك يوجد من يختار سلوك الآباء كما يوجد من يتركه و يقتفي أثر الثقافة أو البيئة.

و على كلّ تقدير فالإنسان مختار صورة،لكنّه مسيّر سيرة يخط مصيره هذه العوامل أو أقواها تأثيراً.

يلاحظ عليه:أوّلاً:بأنّ ما ذكر من تأثير العوامل الثلاثة في بناء الشخصية أمر لا غبار عليه،إنّما الكلام في كونها علّة تامّة أو معدّات تُوجِد أرضية لنمو مقتضاها،و لا توجد حتمية،غير قابلة للتغيير:

أمّا العامل الأوّل فلا شكّ في تأثيره،و قد قال سبحانه: «وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً». 1 و في الآيات و الروايات

ص:59

تصريحات و إشارات إلى ذلك،لكن أثرها بين غير قابل للتغيير،كالبُله و الحُمق و البلادة،و بين قابل له في ظلّ عوامل تربوية،و لأجل ذلك ربما يكون الولد المتولّد من أبوين بارّين،خائناً و جانياً،كما ربما يكون الولد المتولّد من أبوين طاغيين،إنساناً صالحاً مطيعاً،و الأوّل كولد نوح،و الثاني كعمر بن عبد العزيز الأموي.

و مثله العامل الثاني،فليس عاملاً حتميّ الأثر و قطعيّ النتيجة،فربّما يسعى الوالدان،لتغيير ما أوجده التعلّم من الآثار الطيّبة أو الخبيثة.

و لا يقلُّ عنه العامل الثالث،فقد أثّرت البيئة الفاسدة على امرأة نوح و امرأة لوط،فأفسدتهما (1)و في الوقت نفسه بقيت في بيت نوح عدّة على صلاحهم و فلاحهم.فهذه العوامل بأجمعها معدّات،لا علّة تامّة في بناء الشخصية الحتمية غير القابلة للتغيير.

ثانياً:أنّ العوامل المكوِّنة للشخصية الإنسانية لا تنحصر في العوامل الثلاثة المذكورة التي اختارها المادي،لأنّها تناسب ما يبتغيه،كيف و انّ هناك أبعاداً روحية للإنسان و أحاسيس خاصة،توحي إليه خير الحياة و تدفعه إليها،بحماس،و إن لم يكن علّة تامة أيضاً في التخطيط،و هي عبارة عن الإدراكات النابعة من داخل الإنسان و فطرته من دون أن يتدخل في الإيحاء عامل خارجي،كإحساسه بالجوع و العطش،و رغبته في الزواج في سنين معيّنة،و الاشتياق إلى المال و المنصب في فترات من حياته و ميله إلى ما هو حسن بالذات و هروبه عمّا هو قبيح كذلك، كالإحسان و الأمانة و الوفاء بالميثاق،و في مقابله الظلم،و الخيانة،و نقض العهد.تلك المعارف-و إن شئت سمّيتها بالأحاسيس-تنبع من ذات الإنسان و أعماق وجوده.

ص:60


1- 1) .لاحظ سورة التحريم،الآية 10

شبهات و حلول

2 أفعال الإنسان

في

إطار القضاء و القدر

القدر بمعنى انّه سبحانه يقدّر وجود الشيء و يحدّده كمّاً و كيفاً و زماناً و مكاناً إلى غير ذلك من الخصوصيات الحافّة بالشيء.هذا هو التقدير،و أمّا القضاء فهو حكمه القطعي بتحقّق ذلك الشيء المقدّر في ظرفه.

هذا حسَب أُصولنا و أمّا على أُصول غيرنا،«فالقضاء»هو إرادته سبحانه الأزلية،«و القدر»هو ايجاد الشيء على قدر مخصوص كما سيوافيك. (1)

و التقدير و القضاء بهذا المعنى يشمل كلّ ما في الكون من الموجودات الممكنة من السماء و الأرض و ما فيها حتّى الإنسان وجوده و فعله.

و إن أردنا أن نشبه المعقول بالمحسوس فنقول:

التقدير و القضاء أشبه بعمل الخياط عند ما يأخذ قياسات الثوب،ثمّ يشرع بخياطته و لو لا ذلك لتعسّر عليه الخياطة.

ما هو محط النزاع في المقام؟

إنّ محطّ النزاع في القضاء و القدر،هو أفعال الإنسان،التي يترتّب عليها الثواب و العقاب،و يحمد أو يذمّ،فهل وقوعها في إطار القضاء و القدر يسلب عنه

ص:61


1- 1) .لاحظ ص 64. [1]

الاختيار و يسود عليها،الجبر و الحتم،أو لا؟!

و أمّا ما وراء ذلك من الأُمور الكونية سواء أ كان له صلة بحياة الإنسان و أفعاله أم لا،فخارج عن محط النزاع،فالقول بسيادة الجبر عليه، نظر إلى الخصوصيات الكامنة في وجوده،تعبير واضح عن واقع وجوده مثلاً.

1.انّ حركة الشمس و القمر و ما بينهما و فوقهما من السيارات و الكواكب و المجرّات،حركات جبرية لأنّه سبحانه قدّر وجودها، و حركاتها بهذه الخصوصية و قضى عليها به،يقول سبحانه: «وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» 1 فالجميع فواعل،تسخرية غير شاعرة بأفعالها.

2.ما يقوم به النحل و النمل من الأفاعيل العجيبة،المحيّرة للعقول حركات تسخرية،يقوم به عن شعور،و لكن لا بحرية و اختيار فقد كتبت عليهما بقلم الفضاء ان يتخذ من الجبال بيوتاً و الشجر و ممّا يعرشون يقول سبحانه حاكياً عن القضاء المحتوم على النحل: «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». 2

فالنحل ذاته و وجوده و عمله و صنعه واقع في إطار التقدير و القضاء و النظام السائد على ذلك،هو سيادة الجبر عليه و أشباهه.

3.انّ خلقة الإنسان و نشوءه من النطفة إلى العلقة،إلى المضغة إلى العظام إلى غير ذلك ممّا يجري عليه إلى أن يوكد و ينمو و يشبّ و يشيب،و يموت كلّها واقع في إطار التقدير و القضاء،لا خيار للإنسان فيه،شاء أم لم يشأ،فالقول بسيادة الجبر عليه في هذه المرحلة تعبير واقعي، لا ينافي حكم العقل و الشرع.

ص:62

4.انّ ما يواجهه الإنسان في حياته،ممّا يبتلي به غير مريد به كالطوفان الجارف الذي يكتسح مزرعته،و السيل العارم الذي يهدم منزله و بيته،و الزلزال الشديد،الذي يزعزع بنيانه و بالتالي يخسر و يتضرر،كلّها بقدر من اللّه سبحانه لا يُلام بها الإنسان و لا يذمّ و هو أيضاً كسوابقه خارج عن محطّ البحث.

فالذي تدور عليه رحى النزاع و الدراسة،ما يصدر عن الإنسان من الأفعال التي في وسعه تركها أو فعلها،فهل وقوعها في إطار التقدير يجرّنا إلى القول بالجبر،أو لا صلة بين القول بالقضاء و القدر،و استنتاج الجبر منه؟

و هذا موضوع بحثنا و دراستنا.

إنّ كثيراً من الناس زعموا انّ القول بالقضاء و القدر يضادّ كون الإنسان مخيراً،و قد كان ذلك الزعم سائداً في عصر الإمام أمير المؤمنين حيث أقبل شيخ إلى الإمام علي عليه السلام عند منصرفه من صفين فقال:أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام،أ بقضاء اللّه و قدره؟

فقال:«أجل يا شيخُ ما علَوتُم من تلْعة و لا هبطتم من وادٍ إلاّ بقضاء من اللّه و قدره فقال الشيخ:عند اللّه احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. (1)

فقال أمير المؤمنين عليه السلام:«يا شيخ،فو الله لقد عظّم اللّه لكم الأجر في مسيركم،و أنتم سائرون،و في مقامكم إذ أنتم مقيمون،و في منصرفكم و أنتم منصرفون،لم تكونوا في شيء من حالاتكم مُكْرَهين،و لا إليه مضطرّين».

فقال الشيخ:فكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين،و لا إليه مضطرين و كان بالقضاء و القدر مسيرنا و منقلبنا و منصرفنا؟!

فقال أمير المؤمنين عليه السلام:«أ تظن أنّه كان قضاءً حتماً،و قدراً لازماً،إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب،و الأمر و النهي،و الزجر من اللّه تعالى،و سقط معنى

ص:63


1- 1) .و معنى هذه الجملة:انّي لم أقم بعمل اختياري،و لأجل ذلك احتسب عنائي عند اللّه

الوعد و الوعيد،و لم تكن لائمة للمذنب،و لا مَحْمَدَة للمحسن،و لكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن،و لكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب،و تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان و خصماء الرحمن،و حزب الشيطان و قدرية هذه الأُمّة و مجوسها،و انّ اللّه كلّف تخييراً و نهى تحذيراً،و أعطى على القليل كثيراً،و لم يُعص مغلوباً،و لم يُطع مكرهاً،و لم يملِّك مفوِّضاً،و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلاً، و لم يبعث النبيّين مبشّرين و منذرين عبثاً،ذلك ظن الّذين كفروا فويل للّذين كفروا من النار». (1)

و الحديث جمع بين القول بين القدر و القضاء و كون الإنسان مخيّراً لا مسيّراً.و انّ الإيمان بالقدر،لا يجعل الإنسان مكتوف اليدين بل هو مختار غير مكرَه.

و لقد بقيت الفكرة بعد رحيل الإمام علي عليه السلام و تسرّبت إلى كثير من الأوساط فجعلوا القضاء و القدر من أدلّة الجبر.

و لمّا كان في القول بالقضاء و القدر وصمة الجبر،أنكرت المعتزلة وقوع الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد متعلّقة بالقضاء و القدر، خلافاً للأشاعرة فقد جعلوا الأفعال متعلّقاً للقضاء و القدر،فقالوا:إنّ قضاء اللّه هو إرادته الأزلية المتعلّقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال، و قدره إيجادها إيّاها على قدر مخصوص و تقدير معيّن في ذواتها و أحوالها. (2)

أقول:لا شكّ انّ كلّ ما في الكون من كبير و صغير و جليل و دقيق من الجواهر و الأعراض كلّها واقعة في إطار القدر و القضاء،غير أنّ استنتاج الجبر من القدر و القضاء،استنتاج خاطئ،بل القول بهما يؤكد الاختيار على خلاف ما يستنتجه القائلون بالجبر.و إليك توضيح المقام فانّه يطلق القضاء و القدر على معنيين:

ص:64


1- 1) .الصدوق:التوحيد:380،الحديث28. [1]
2- 2) .شرح مواقف:180/8-181.

التفسير الأوّل للقضاء و القدر

1

6

القضاء و القدر هو السنن الكونية

يُطلق القضاء و القدر و يراد بهما السنن الكونية الواردة في الكتاب و السنّة السائدة على الكون عامّة،و الإنسان خاصة و بيد الإنسان مفتاح التظلّل تحت أي سنّة من السنن،و نذكر من هذه السنن،الشيء القليل من الكثير:

1.قال سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح عليه السلام: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً». 1

فترى أنّ نوحاً عليه السلام يجعل الاستغفار سبباً مؤثراً في نزول المطر و كثرة الأموال و جريان الأنهار،و وفرة الأولاد.و إنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة.و موقف الاستغفار هنا موقف العلّة التامّة أو المقتضي بالنسبة إليها،و الآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى اللّه و إقامة دينه و أحكامه،يسوق المجتمع إلى النظر و العدل و القسط،إذ في ظلّه تنصبّ القوى على بناء المجتمع على أساس

ص:65

صحيح،فتُصرف القوى في العمران و الزراعة و سائر مجالات المصالح الاقتصادية العامّة؛كما أنّ العمل على خلاف هذه السنّة،و هو رجوع المجتمع عن اللّه و عن الطهارة في القلب و العمل،ينتج خلاف ذلك.

و للمجتمع الخيار في التمسّك بأهداب أيّة من السُّنتين،فالكلّ قضاء اللّه و تقديره.فمن تمسّك بالأُولى فقد تمسّك بقضاء اللّه،كما أنّ تمسّك بالثانية فقد تمسّك به أيضاً.

2.قال سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ». 1

3.قال سبحانه: «إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ». 2

4.قال سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ». 3

و التقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها و للإنسان الخيار في الأخذ بأيّة من السنتين.

5.و قال سبحانه: «وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ». 4

ترى أنّ الآية تتكفّل ببيان كلا طرفي السنّة الإلهية إيجاباً و سلباً،و تُبيّن النتيجة المترتّبة على كلّ واحد منهما.و الكلّ قضاؤه و تقديره و الخيار في سلوكهما للمجتمع.

ص:66

6.و قال سبحانه: «وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ». 1

7.و قال سبحانه: «يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ». 2

فالمجتمع المؤمن باللّه و كتابه و سنّة رسوله إيماناً راسخاً يثبّته اللّه سبحانه في الحياة الدنيا و في الآخرة،كما أنّ الظالم و العادل عن اللّه سبحانه يخذله سبحانه و لا يوفّقه إلى شيء من مراتب معرفته و هدايته.و لأجل ذلك يُرتِّب على تلك الآية قوله: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ». 3

8.و قال سبحانه: «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ». 4

فالصالحون لأجل تحلِّيهم بالصلاح في العقيدة و العمل،يغلبون الظالمين و تكون السيادة لهم،و الذلّة و الخذلان لمخالفيهم.

9.و قال سبحانه: «وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ». 5

فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان باللّه و العمل الصالح و إقامة دينه على

ص:67

وجه التمام،و يترتّب عليه-وراء الاستخلاف-ما ذكره في الآية من التمكين و تبديل الخوف بالأمن.

10.و قال سبحانه: «أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها». 1

و الآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض و الاعتبار بما جرى على الأُمم السالفة لأجل عتوّهم و تكذيبهم رسل اللّه سبحانه،كثيرة في القرآن الكريم،تبيّن سنّته السائدة على الأُمم جمعاء.

11.و قال سبحانه: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ». 2

12.و قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ». 3

13.و قال سبحانه: «ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ* وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النّارِ». 4

و الآية من أثبت الآيات المبيّنة لسنته تعالى في الذين كفروا،فلا يصلح للمؤمن أن يغرّه تقلّبهم في البلاد،و عليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح

ص:68

و الأحزاب من بعدهم،حتّى يقف على أنّ للباطل جولة و للحقّ دولة،و انّ مردّ الكافرين إلى الهلاك و الدمار كما أنّ مردّ المؤمنين إلى الجنة،و الإنسان مخيّر بين التظلّل تحت أي واحد منهما.

14.و قال سبحانه: «وَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً* اِسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً». 1

و ما ذكرنا من الآيات نبذة من السنن الإلهيّة السائدة على الفرد و المجتمع.و في وسع الباحث أن يتدبّر في آيات الكتاب العزيز حتّى يقف على سننه تعالى و قوانينه،ثمّ يرجع إلى تاريخ الأُمم و أحوالها فيُصدِّق قوله سبحانه: «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً».

فالجميع من قضائه و قدره،و للبشر أن يتظلل بأي واحد منهما شاء...و ليس في القول بالقضاء و القدر بهذا المعنى،رائحة الجبر،بل فيها تأكيد للاختيار.هذا هو المعنى الأوّل لهما و إليك المعنى الثاني.

ص:69

المعنى الثانى للقضاء و القدر

2

7
اشارة

علمه الأزلي بتحقّق الشيء مع خصوصياته

المراد من القدر هو علمه سبحانه بالأزل بحد الشيء و خصوصيات وجوده و حدوده،كما أنّ المراد من القضاء هو علمه بتحقّقه و وجوده،و هذا ما يسمّى بالتقدير و القضاء العلميّين.

و ربما يتوهّم انّ دخول فعل الإنسان في اطار القدر و القضاء يوجب سلب الاختيار عن الإنسان،لأنّه سبحانه يعلم في الأزل فعل الإنسان حسب ما له من الخصوصيات،و يعلم تحقّقه في المستقبل،فإذا كان فعل الإنسان معلوماً للّه سبحانه تقديراً و قضاءً فلا يبقى له الاختيار.

على هامش الشبهة

إنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق،بل تعلّق علمه بصدور كلّ فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه،و على ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر بلا شعور،

ص:70

كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش،عالماً بلا اختيار،و لكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار و الحرية،فتعلّق علمه بوجود الإنسان و كونه فاعلاً مختاراً،و صدور فعله عنه اختياراً،يؤكّد الاختيار و يدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

و إن شئت قلت:إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة،و مريدة و مختارة كالإنسان،فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات، و انصباغ فعلها بصبغة الاختيار و الحرية.فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه؛و أمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر و اضطرار بلا علم و شعور،أو بلا اختيار و إرادة،فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

و نقول توضيحاً لذلك:إنّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين:قسم يصدر منه بلا شعور و لا إرادة،كأعمال الجهاز الدمويّ، و الجهاز المعويّ،و جهاز القلب،و الأحشاء،التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية،غير الاختيارية؛و قسم آخر يصدر منه عن إرادة و اختيار،و يتّسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية،كدراسته،و كتابته،و تجارته،و زراعته.

و لمّا كان علم اللّه تعالى تعبيراً عن الواقع على نحو لا يتخلّف عنه قيدَ شعرة،فيتعلّق علم اللّه بأفعال الإنسان على ما هي عليه من الخصائص و الألوان.فتكون النتيجة أنّه سبحانه يعلم من الأزل صدور فعل معين في لحظة معيّنة من إنسان معيّن إمّا بالاضطرار،أو الإكراه،أو بالاختيار و الحرية،و تعلّق مثل هذا العلم لا يُنتج الجبر،بل يلازم الاختيار.و لو صدر كلّ قسم على خلاف ما اتّسم به لكان ذلك تخلّفاً عن الواقع.

ص:71

و لمّا كان الموضوع ممّا ضلّ فيه كثير من الأفهام،و زلّت أقدام غير واحد من الباحثين،ندرس الموضوع على وجه التفصيل،و نرفع النقاب عن وجه الواقع،بذكر بعض الأمثلة:

1.إذا كان تعلّق العلم بالفعل سالباً للاختيار و موجباً للجبر يلزم أن يكون سبحانه-نعوذ باللّه-فاعلاً بالجبر،لعلمه بفعله قبل إيجاده،و اللّه سبحانه هو الفاعل المختار لا يخضع لشيء.

2.انّ المعلم الذي يمارس التدريس،بإمكانه التنبّؤ بنتائج الامتحان الذي سيقام لتلاميذه آخر الفصل الدراسي،حيث يستطيع أن يميز بين الناجح منهم و الراسب و تكون نتيجة الامتحان وفق ما تنبّأ به،أ فيصح للراسب في الامتحان أن يلقي وزر ذلك على عهدة معلمه؟!

فإنّ علم المعلّم وصّاف كشّاف يحكي عن الواقع و لا يؤثّر عليه و إنّما المؤثر على الواقع مؤهّلات التلميذ و سعيه و كدحه.

3.انّ علمه سبحانه لا يتعلّق بالمسبّب بما هو مسبّب و إنّما يتعلّق بضم المسبّب إلى أسبابه و النتائج إلى مقدّماتها،فإذا كان السبب و المقدمة أمراً اختيارياً،فأولى أن يكون المسبب كذلك.

كلمة للشيخ الغزالي في استنتاج الجبر من العلم الإلهي

و للشيخ محمد الغزالي كلمة في نقد انّ العلم الإلهي يسلب الاختيار،يقول:إنّ عامّة المسلمين يطوون أنفسهم على ما يشبه عقيدة الجبر و لكنّهم حياءً من اللّه يسترون الجبر باختيار خافت موهوم،و قد أسهمت بعض المرويات في تكوين هذه الشبهة و تمكينها،و كانت بالتالي سبباً في إفساد الفكر الإسلامي و انهيار الحضارة

ص:72

و المجتمع.

إنّ العلم الإلهي المحيط بكلّ شيء وصّاف،كشاف،يصف ما كان،و يكشف ما يكون،و الكتاب الدالّ عليه يسجّل للواقع و حسب! لا يجعل السماء أرضاً و لا الجماد حيواناً،إنّه صورة تطابق الأصل بلا زيادة و لا نقص و لا أثر لها في سلب أو إيجاب.

إنّ هذه الأوهام(التقدير سالب للاختيار) تكذيب للقرآن و السنّة،فنحن بجهدنا و كدحنا ننجو أو نهلك،و القول بأنّ كتاباً سبق علينا بذلك و أنّه لا حيلة لنا بازاء ما كتب أزلاً هذا كلّه تضليل و إفك،لقوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» . (1)«وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ». 2

و الواقع انّ عقيدة الجبر تطويح بالوحي كلّه و تزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق إلى قيام الساعة،بل هي تكذيب للّه و المرسلين قاطبة،و من ثمّ فإنّنا نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم و غيره:انّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار،فيدخلها،و إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار...».

إلى أن قال:و كلّ ميل بعقيدة القدر إلى الجبر فهو تخريب متعمّد لدين اللّه و دنيا الناس،و قد رأيت بعض النقلة و الكاتبين يهوِّنون من الإرادة البشرية و من أثرها في حاضر المرء و مستقبله و كأنّهم يقولون للناس أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه و مسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه،فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا من

ص:73


1- 1) .الأنعام:104. [1]

الخط المرسوم لكم مهما بذلتم.

إنّ هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا،و لا اقتداء دقيقاً بسنّة نبينا انّه تخليط قد جنينا منه المرّ.

و كل أثر مروي يشغب على حرية الإرادة البشرية في صنع المستقبل الأُخروي يجب أن لا نلتفت إليه،فحقائق الدين الثابتة بالعقل و النقل لا يهدّها حديث واهي السند أو معلول المتن، لكنّنا مهما نوّهنا بالإرادة الإنسانية فلا تنسى انّنا داخل سفينة يتقاذفها بحر الحياة بين مد و جزر و صعود و هبوط،و السفينة تحكمها الأمواج،و لا تحْكم الأمواجَ،و يعني هذا انّ نُلْزم موقفاً محدداً بازاء الأوضاع المتغيرة التي تمرّ بنا هذا الموقف من صنعنا و به نحاسب. (1)

ص:74


1- 1) .السنّة النبوية بين أهل الفقه و أهل الحديث للشيخ الغزالي:144- 157.

شبهات و حلول

3

8
اشارة

الهداية و الضلالة بيد اللّه

دلّت الآيات القرآنية على أنّ الهداية و الضلالة بيده سبحانه،فهو يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء،فإذا كان أمر الهداية مرتبطاً بمشيئته، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية و لا في الضلالة،فالضال يعصي بلا اختيار،و المهتدي يطيع كذلك و هذا بالجبر،أشبه منه بالاختيار.

قال سبحانه: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». 1

فإذا كانت الهداية و الضلالة بيد اللّه سبحانه فما معنى الاختيار؟

على هامش الشبهة

هذه هي الشبهة أو الاستدلال على القول بالجبر و لكن الإجابة عليها ليست أمراً مشكلاً بشرط أن نقف على أنّ الهداية على أقسام،و نميز الهداية العامّة التي

ص:75

عليها تبتني مسألة الجبر و الاختيار و الهداية الخاصة التي مفتاحها بيد الإنسان،و إليك التفصيل:

1.الهداية العامّة التكوينية

و المراد منها خلق كلّ شيء و تجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها:قال سبحانه حاكياً كلام النبي موسى عليه السلام: «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» 1 ،و جهز كلّ موجود بجهاز يوصله إلى الكمال،فالنبات مجهّز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتح طاقاته،فالحبة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية و عوامل خارجية كالماء و النور إلى أن تصير شجرة مثمرة،و مثله الحيوان و الإنسان فهذه الهداية عامة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض و تمييز.

قال سبحانه: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى* وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى». 2

و قال سبحانه: «أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ* وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ». 3

و قال سبحانه: «وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها». 4

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي تنبع من ذات الشيء بما أودع اللّه فيها من الأجهزة و الالهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة من غير فرق بين المؤمن و الكافر،فقوله سبحانه عام يعمّ مجموع البشر مؤمنه

ص:76

و كافره «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ». 1

ففطرة كلّ إنسان تهديه إلى التوحيد و نبذ الشرك،و من أجهزة الهداية التكوينية،العقل الموهوب للإنسان المرشد له إلى معالم الخير و الصلاح.و هذا النوع من الهداية العامة لكلّ موجود فضلا عن الإنسان.

2.الهداية العامّة التشريعية

المقصود من الهداية العامة التشريعية هو بعث الأنبياء و إرسال الرسل و إنزال الكتب لهداية الناس،و هذا الفرع من الهداية يشمل عامّة البشر،و لا يختص بطائفة دون أُخرى،قال سبحانه:

«لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ». 2

فالآية بظاهرها تثبت الهداية العامة لكافة البشر.

3.الهداية الخاصة

و هناك هداية خاصة تختص بجملة من الأفراد الذين استضاءُوا بنور الهداية العامة،تكوينيّا و تشريعيّها فيقعون مورداً للعناية الإلهية، فمن اقتفى أثر الأنبياء و عمل بكتابهم يصلح لأن تشمله هداية خاصة و هو تسديده في مزالق الحياة إلى سبيل النجاة.

كما أنّ من لم يستضئ بنور الهداية التشريعية العامة يحرم من تلك الهداية

ص:77

الخاصّة،و هذا النوع من الهداية بيد اللّه تعالى و إليه يشير قوله سبحانه: «وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ». 1 و لكن شموله لطائفة دون أُخرى ليس اعتباطياً،بل تشمل من استضاء بالهدايتين الأُوليين فتعمه هذه الهداية الخاصة،كما أنّ من أعرض عنهما يحرم منها و تكون النتيجة خذلانه في الحياة،و هذا النوع من الهداية تابع لملاكات (1)خاصة فيشير إليها سبحانه عند البحث عنهما،يقول:

1. «إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ».

فهذه الهداية هداية تشريعية خاصة و لا تشمل إلاّ لمن وُصف بالانابة و التوجّه إلى اللّه كما يقول «وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ» ،و بما ذكرنا يتّضح معنى كثير من الآيات الباحثة عن الهداية و يصفها بأنّها بيد اللّه يضلّ و يهدي،و لكن يهدي من اكتسب لنفسه أهلية خاصة لشمولها و يحرم منها من حرم نفسه عن الهدايتين الأُوليين،و إليك باقي الآيات:

و قال سبحانه: «اللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ». 3

و قال سبحانه: «وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» 4 فمن أراد وجه اللّه سبحانه يمدّه بالهداية إلى سبله.

و قال سبحانه: «وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً». 5

و قال سبحانه: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً* وَ رَبَطْنا عَلى

ص:78


1- 2) .النحل:93

قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً». 1

و كما أنّه علق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهب العناية الخاصّة،علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال و بمعنى الحرمان من الهداية الخاصة.

قال سبحانه: «وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ». 2

و قال سبحانه: «وَ يُضِلُّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللّهُ ما يَشاءُ». 3

و قال سبحانه: «وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ». 4

و قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ». 5

و قال سبحانه: «فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ». 6

فالمراد من الإضلال هو عدم الهداية لأجل عدم استحقاق العناية و التوفيق الخاص،لأنّهم كانوا ظالمين و فاسقين.كافرين و منحرفين عن الحقّ.و بالمراجعة إلى الآيات الواردة حول الهداية و الضلالة يظهر أنّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالاً إلاّ ما كان مسبوقاً بظلم من العبد أو فسق أو كفرٍ أو تكذيب

ص:79

و نظائرها التي استوجبت قطع العناية الخاصة و حرمانه منها.

إذا عرفت ما ذكرنا،تقف على أنّ الهداية العامة التي بها تناط مسألة الجبر و الاختيار،عامة شاملة لجميع الأفراد،ففي وسع كلّ إنسان أن يهتدي بهداها.و أمّا الهداية الخاصة و العناية الزائدة فتختص بطائفة المنيبين و المستفيدين من الهداية الأُولى.فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية و الضلالة على مشيئته سبحانه ناظرٌ إلى القسم الثاني لا الأوّل.

أمّا القسم الأوّل فلأنّ المشيئة الإلهية تعلقت على عمومها بكلّ مكلّف بل بكل إنسان،و أمّا الهداية فقد تعلقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف و لم تكن مشيئته،مشيئة جزافية،بل الملاك في شمولها لصنف خاص هو قابليته لأن تنزل عليه تلك الهداية،لأنّه قد استفاد من كلّ من الهداية التكوينية و التشريعية العامتين،فاستحق بذلك العناية الزائدة.

كما أنّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلاّ لأجل اتصافهم بصفات رديئة لا يستحقون معها تلك العناية الزائدة.

و لأجل ذلك نرى أنّه سبحانه بعد ما يقول: «فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» ،يذيّله بقوله: «وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» 1 ،مشعراً بأنّ الإضلال و الهداية كانا على وفاق الحكمة،فهذا استحقّ الإضلال و ذاك استحق الهداية.

ص:80

9

هل الإيمان بالقدر ركن

من أركان الإيمان؟

إنّ الإيمان بالقدر من المعارف القرآنية و قد ورد في غير واحد من الآيات.

قال سبحانه: «إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ». 1

و قال عزّ اسمه: «وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً». 2

فالكون و ما فيه،خُلِق عن علم و تقدير،فقُدِّر كلّ شيء بما له من الصفات و الخصوصيات،و المقادير و الأشكال قبل وقوعها،و سُجِّل ذلك في كتاب خاص،قال سبحانه: «وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ». 3

و قال عزّ شأنه: «وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ». 4

و قال في المصائب التي تحدث في الأرض و ما يواجهه الإنسان من خير و شر: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها

ص:81

إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ». 1

فالمصائب قدرت من حيث الخصوصيات و قضى عليها بالوجود،في كتاب قبل أن يُخلق الكون و ما فيه.

لكن الكلام في أنّ الإيمان بالقدر هل هو ركن من الأركان،كما عليه أكثر أهل السنّة فيكون الإيمان به في جنب الإيمان باللّه و كتبه و رسله،و يوم ميعاده،أو هو أصل و معرفة قرآنية كسائر المعارف الواردة في الكتاب العزيز؟ و الظاهر هو الثاني،و أمّا الأوّل فلا دليل عليه،إذ كون شيء معدوداً من المعارف القرآنية غير كونه ركناً من أركان الإيمان،إذ رب معرفة وردت في القرآن،و ليست ركناً من الإيمان،كالحياة البرزخية، و الشفاعة،و التوبة،و مع ذلك فليست من أركان الإيمان.

و لو كان ركناً من الأركان لجاءت الإشارة إليه في ثنايا الآيات المشيرة إلى أركان الإيمان كقوله سبحانه: «وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ». 2

و قال تعالى: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ». 3

فقد جاء فيهما أركان الإيمان و هي الإيمان باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و لم ترد فيهما أية إشارة إلى الإيمان بالقدر،فلو كانت له هذه المنزلة،لما أهملها الذكر الحكيم.

ص:82

و أظنّ انّ الغلو في القدر جاء من قبل الأحبار و الرهبان،و عدّ من أركان الإيمان في عصر الأمويين،و قد أحصى الأحاديث الواردة فيه ابن الوزير اليمني (1).فبلغت 227 حديثاً،منها 72 حديثاً في وجوب الإيمان بالأقدار،و155 حديثاً في ثبوتها. (2)

و قد تفلسف بعضهم في عدّه من أركان الإيمان من أنّ الإيمان بالقدر داخل ضمناً في الإيمان باللّه،بل جزء حقيقي منه،لأنّ معناه الإيمان باحاطة علم اللّه تعالى بكلّ شيء و شمول إرادته لكلّ ما يقع من الكون و نفوذ قدرته في كلّ. (3)

أقول:لو كان السرّ في عدّه من أركان الإيمان،كونه تعبيراً آخر عن إحاطة علمه و شمول إرادته لكلّ شيء،فلما ذا عدل عن المعنى الواضح إلى المعنى المبهم الذي لا ينتقل إلى ما ذكره إلاّ العلماء.فمقتضى البلاغة أن تُعدّ إحاطة علمه و شمول إرادته لكلّ شيء من أركان الإيمان.

و من قرأ تاريخ نشوء فكرة القدر،و انتشاره بين المحدّثين،يقف على أنّ إكبار القدر و جعله من أركان الإيمان،كان سياسة أموية،لأجل تبكيت الناس و كبح جماحهم،و الحط من مظاهراتهم أمام أعمال السلطة،و لا أظن أنّ معبد الجهني،و غيلان الدمشقي،كانا ينكران سعة علمه،أو إرادته سبحانه حتّى ذهب الثاني ضحيّة جهاده،و مكافحته مع الظالمين و قُتل بفتوى فقيه السلطة«الأوزاعي».

ص:83


1- 1) .تقرأ ترجمة ضافية له في كتابنا«الزيدية في موكب التاريخ».
2- 2) .نقله عنه مؤلّف الإيمان بالقدر.
3- 3) .الإيمان بالقدر:9.
10
اشارة

التفويض و مضاعفاته

لما كانت السلطة الأُموية مروّجة للقدر و القضاء بالمعنى السالب للاختيار و كان ذلك مخالفاً للفطرة الإنسانية و قضاء العقل و سيرة العقلاء،قام رجال أحرار في وجه هذه العقيدة يركِّزون على القول بحرية الإنسان في إطار حياته و لكنّ السلطة اتّهمتهم بنفي القضاء و القدر ثمّ وضعت السيوف على رقاب بعضهم.

هذا هو معبد الجهني اتّهموه بنفي القدر فذهب إلى الحسن البصري فقال له:إنّ بني أُميّة يسفكون الدماء و يقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر اللّه تعالى،فقال:كذب أعداء اللّه. (1)

و مثله غيلان الدمشقي فقد اتّهم بنفس ما اتّهم به معبد الجهني فقد جاهر بمذهبه أيام هشام بن عبد الملك و أحضر الأوزاعي لمناظرته فأفتى بقتله فصلب على باب كيسان بدمشق. (2)

و لا أظن انّ الرجلين كانا ينكران القضاء و القدر،إذ كيف يمكن لمسلم أن ينكر أصلاً قرآنياً يعد من المعارف العليا للقرآن الكريم،و إنّما كانا ينكران تبرير

ص:84


1- 1) .الخطط المقريزية:356/2. [1]
2- 2) .الملل و النحل للشهرستاني:47/1.

ظلم الظالمين و تعدّي الجائرين،بالقضاء و القدر.

نعم صار ذلك سبباً بعد فترة من الزمن لظهور نظرية التفويض التي تدّعي تفويض الأُمور إلى العباد و انّه ليس للّه سبحانه أيّ صنع في أفعالهم فجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله،مستغنياً عن اللّه سبحانه في ايجاد أفعاله،فصار الإنسان على حسب هذه النظرية كالإله في مجال الأفعال كما كان القضاء و القدر عند الجبريّين حاكماً على كلّ شيء و لا يمكن تغييره إلى صورة أُخرى من الصور،فالطرفان يحيدان عن جادة التوحيد و يميلان إلى جانبي الإفراط و التفريط.و إليك نقد النظرية على وجه الإيجاز:

1.القول بالتفويض يلازم الشرك

إنّ القول بالتفويض يلازم الشرك الخفي،أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلّين في الخلق و الإيجاد:أحدهما العلّة العليا التي خلقت الموجودات و الكائنات و الإنسان،و الأُخرى الإنسان نفسه فإنّه يستقل بعد الخلقة في أفعاله و تنقطع حاجته إلى اللّه بعد وجوده و هو نفس تصوير المِثْل للّه سبحانه.

2.الإنسان في دوّامة الحدوث

إنّ الموجود الطبيعي في النظرة الأُولى له حدوث و بقاء و لكنّه في النظرة الدقيقة كلّه حدوث بعد حدوث،لأنّ مقتضى الحركة الجوهرية هو كون العالم في تبدل مستمر و تجدّد دائم،بأعراضها و جواهرها،فذوات الأشياء في تجدد و اندثار متواصل،و ما أشبه العالم بالصورة المنعكسة في الماء الجاري،فهي ثابتة في النظرة الأُولى،و لكنّها في النظرة الدقيقة متعددة متبدّلة حسب تبدّل الماء و قال سبحانه:

ص:85

«وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ». 1

و بما أنّ المروي عن المفوضة انّ الإنسان محتاج إلى اللّه في حدوثه لا في بقائه،و لذلك قالوا باستغنائه في الفعل عنه تعالى،فليبين موقف الوجود الإمكاني إلى الواجب تبارك و تعالى نأتي بمثال:

الأُولى:انّ مثل الموجودات الإمكانية بالنسبة إلى الواجب كمثل المصباح الكهربائي المضيء فالحس الخاطئ يزعم انّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأوّل،و يتصور انّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء دون استمراره.

و الحال انّ المصباح فاقد للإضاءة في مقام الذات محتاج في ضوئها إلى ذلك المولّد في كلّ لحظة،لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو استضاءة بعد استضاءة و استنارة بعد استنارة من المولد الكهربائي.

فينطفئ المصباح إذا انقطع الاتصال بينه و بين المولد،فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً فهو لكونه فاقداً للوجود بالذات يحتاج إلى العلّة(الواجب الوجود) في حدوثه و بقائه،لأنّه يأخذ الوجود آناً بعد آن و زماناً بعد زمان.

فإذا كان هذا حال الفاعل و ذاته،فكيف حال الفعل فالمحتاج إلى الواجب في كلّ آن،محتاج إليه في الفعل و الإيجاد،لأنّ الفعل رهن الذات و موقوف عليها،و الذات في كلّ آن رهن العلّة العليا و موقوفة عليها،فينتج انّ الفعل رهن العلّة العليا و موقوف عليها.

ص:86

11
اشارة

الأمر بين الأمرين

كان الرأي السائد في المسألة أحد الرأيين،إمّا الجبر،و إمّا التفويض؛و بذلك ضلّ القائلون إمّا في متاهات الجبر أو بوقوعهم في حبال الشرك.

ثمّ إنّ الداعي لاختيار أحد المذهبين هو انّ القائلين بالجبر زعموا أنّ صيانة التوحيد في الخالقية (لا خالق و لا مؤثر إلاّ اللّه سبحانه) رهن القول بالجبر،فلو قلنا بالاختيار يلزم أن يكون الإنسان خالقاً لفعله،جاعلاً لعمله و هو ينافي التوحيد الأفعالي الذي يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية.

كما أنّ القائلين بالتفويض زعموا أنّ صيانة عدله سبحانه و تنزيهه عن الظلم و التعدّي،رهن القول بالتفويض و تصوير انّ الإنسان فاعل مختار مستغن في فعله عن الواجب سبحانه بل محتاج في حدوثه إلى اللّه لا في بقائه فكيف في فعله؟

و على كلّ تقدير فالجبري يعتقد بانقطاع فعل الإنسان عنه،و انّه فعل اللّه تماماً من دون أن يكون له صلة بالفاعل إلاّ كونه ظرفاً لفعل الخالق.

و القائل بالتفويض يعكس الأمر و يعتقد بانقطاع نسبة الفعل إلى الخالق،و كونه مخلوقاً للإنسان تماماً من دون أن يكون هناك صلة بين فعله و خالق الكون.فالطائفة الأُولى يحسبون أنّهم بالقول بالجبر يرفعون راية التوحيد في الخالقية،كما أنّ الطائفة الثانية يزعمون أنّهم بالقول بالتفويض ينزهون الرب عن كلّ عيب و شين.

ص:87

كان الرأيان سائدين و لكن أئمّة أهل البيت ضربوا على وجه الرأيين و قالوا:إنّ موقف الإنسان بالنسبة إلى اللّه غير موقف الجبر المشوِّه لسُمعة المذهب،و غير موقف التفويض المُلْحِق للإنسان بمكان الشرك،بل موقفه أمر واقع بين الأمرين.

إنّ صيانة التوحيد في الخالقية ليس منوطاً بالقول بالجبر،أو صيانة عدله و قسطه ليس منحصراً بالقول بالتفويض،بل يمكن الجمع بين الرأيين برأي ثالث،و هو انّ الإنسان ذاته و فعله قائمان بذاته سبحانه،و بذلك لا يصحّ فصل فعل الإنسان عنه سبحانه لافتراض قيامهما و عامة العوالم بوجوده سبحانه.

و في الوقت نفسه انّ فعله غير منقطع عنه،و ذلك لأنّ مشيئة اللّه تعلّقت بنظام قائم على أسباب و مسببات،و صدور كلّ مسبب (فعل الإنسان) عن سببه و هو الإنسان،فلا يصحّ فصل المسبّب عن سببه،فالنتيجة هو انّ لفعل الإنسان صلة باللّه وصلة بسببه،و هذا هو الأمر بين الأمرين.

نحن نعتقد بالتوحيد في الخالقية الذي يعبر عنه بالتوحيد الأفعالي،و لكن لا بمعنى إنكار العلل و الأسباب و إنكار الروابط بين الظواهر الكونية و نفي أيّ سبب ظلّي يعمل بإذنه سبحانه،فإنّ إلغاء الأسباب مخالف للضرورة و الوجدان و الذكر الحكيم.

بل بمعنى انّ العوالم الحسيّة و الغيبيّة بذواتها و أفعالها قائمة به سبحانه،و كما انّ تأثيرها و سببيّتها بإذنه و مشيئته،فكلّ ظاهرة كونية لها نسبة إلى أسبابها،كما أنّ لها نسبة إلى خالق أسبابها،فإلغاء كلّ سبب و علّة،و نسبة الظاهرة إلى ذاته سبحانه،غفلة عن تقديره سبحانه لكلّ شيء سبباً،كما أنّ نسبة الفعل إلى السبب القريب و فصله عن اللّه سبحانه غفلة عن واقع السبب و انّه بوجوده و أثره قائم باللّه سبحانه،فكيف يمكن فصل أثره عنه تعالى؟!

ص:88

و لأجل إيضاح الموضوع نقول:إنّ الأسباب الطبيعية على أقسام:

1.سبب مؤثر-بإذن اللّه-فاقد للشعور.

2.سبب مؤثر-بإذن اللّه-واجد للشعور،لكن فاقد للاختيار كحركة المرتعش.

3.سبب مؤثر-بإذن اللّه-واجد للشعور و الاختيار كتحريك الإنسان ليده.

فالحرارة تصدر من النار بإذنه سبحانه بلا شعور.

و حركة يد المرتعش تصدر منه مع علم الفاعل بلا اختيار.

و الأفعال التي يُثاب بها الإنسان أو يعاقب و بها تناط سعادته و شقاؤه يوم القيامة تصدر منه عن علم و اختيار،كلّ ذلك بإذنه و مشيئته.

فلا القول بالتوحيد الأفعالي (لا مؤثر و لا خالق إلاّ هو) يصادم الاختيار،لأنّ حصر الخالقية المستقلّة باللّه لا ينافي نسبة الخالقية غير المستقلة و غير النابعة من إذنه إلى الإنسان،و لا القول بالاختيار يزاحم سلطانه و قدرته،فالفعل فعل الإنسان،لأنّه السبب القريب و في الوقت نفسه منسوب إليه سبحانه لكونه السبب البعيد (1)الذي أوجد الإنسان و أفاض عليه القدرة و زوّده بالاختيار.

هذا بيان موجز لهذا القول الموروث من أئمّة أهل البيت و استقبل المفكّرون من أهل السنّة هذه الفكرة،كالإمام الرازي و الشيخ عبده في رسالة التوحيد،لمّا رأوا انّ في القول بالجبر الأشعري مضاعفات لا تحتمل،و قد شاع ذلك القول بين المفكّرين المصريّين لما تأثّروا بالأفكار الغربية المروّجة للحرية و الاختيار.

و تتجلّى قيمة هذا المذهب ببيان برهانه العقلي أوّلا،و تحليل ما يدلّ عليه من الذكر الحكيم ثانياً،و الأحاديث الصحيحة ثالثاً.

ص:89


1- 1) .قد استخدمنا«السبب البعيد»لأجل تقريب المطلب،و إلاّ فالواقع فوق ذلك.
1.نسبة الفعل إلى اللّه بالتسبيب و إلى العبد بالمباشرة

إنّ نسبة فعل العبد إلى اللّه بالتسبيب و إلى العبد بالمباشرة،فإنّ اللّه سبحانه وهب الوجود و الحياة و العلم و القدرة لعباده و جعلها في اختيارهم،و انّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أي مورد شاء فيُنسب الفعل إلى اللّه تعالى لكونه مفيض الأسباب،و إلى العبد لكونه هو الذي يصرفها في أي مورد شاء.و هناك مثال يبين حال النظريات الثلاث:الجبر،و التفويض،و الأمر بين الأمرين.

لو فرضنا شخصاً مرتعش اليد،فاقد القدرة،فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً و هو يعلم انّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر و يُهلكه،فإذا وقع السيف و قتله،ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف،دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.

و لو فرضنا أنّ رجلاً أعطى سيفاً لمن يملك حركة يده و تنفيذ إرادته فقتل هو به رجلاً،فالأمر على العكس،فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى.

و لكن لو فرضنا شخصاً مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلاّ بإيصال رجل آخر التيّار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوّة و نشاطاً بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آنٍ،انقطعت القوة عن جسم هذا الشخص في الحال و أصبح عاجزاً.فلو أوصل الرجل تلك القوة إلى جسم هذا الشخص،فذهب باختياره و قتل إنساناً،و الرجل يعلم بما فعله،ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كلّ منهما،أمّا إلى المباشر فلأنّه قد فعل باختياره و إعمال قدرته،و أمّا إلى الموصل فلأنّه أقدره و أعطاه التمكّن،حتّى في حال الفعل و الاشتغال بالقتل،كان متمكناً من قطع القوة عنه في كلّ آنٍ شاء و أراد.

ص:90

فالجبري يمثِّل فعل العبد بالنسبة إلى اللّه تعالى كالمثال الأوّل،حيث إنّ اليد المرتعشة فاقدة للاختيار و مضطرة إلى الإهلاك.

كما أنّ التفويضي يمثّل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني،فهو يصور أنّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة و الحياة منه سبحانه حدوثاً لا بقاءً و العلّة الأُولى كافية في بقاء القدرة فيه إلى نهاية المطاف،كما أنّه كان الأمر في المثال كذلك،فكان الإنسان محتاجاً إلى رجل آخر في أخذ السيف، و بعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي.

و القائل بالأمر بين الأمرين يصوّر النسبة كالمثال الثالث،فالإنسان في كلّ حال يحتاج إلى إفاضة القوة و الحياة منه إليه بحيث لو قُطع الفيض في آن واحد بطلت الحياة و القدرة،فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه و حياة كذلك من غير فرق بين الحدوث و البقاء.

و الحاصل إنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين،إحداهما:نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره و إعمال قدرته؛ و ثانيتهما:نسبته إلى اللّه تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة و القدرة في كلّ آن و بصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل. (1)

و هناك مثال آخر ذكره شيخنا المفيد،فقال:

نفترض انّ مولى من الموالي العرفيّين يختار عبداً من عبيده و يزوّجه إحدى فتياته ثمّ يقطع له قطيعة و يخصه بدار و أثاث و غير ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود و لأجل مسمّى.

فإن قلنا إنّ المولى و إن أعطى لعبده ما أعطى و ملّكه ما ملك،لكنّه لا

ص:91


1- 1) .المحاضرات:87/2-88؛ [1]أجود التقريرات:90/1. [2]

يملك،و أين العبد من الملك؟ كان ذلك قول المجبرة.

و إن قلنا:إنّ المولى بإعطائه المال لعبده و تمليكه،جعله مالكاً و انعزل هو عن المالكية و كان المالك العبد،كان ذلك قول المعتزلة.

و لو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين،و قلنا:إنّ المولى مقامه في المولوية،و للعبد مقامه في الرقية،و انّ العبد يملك في ملك المولى،فالمولى مالك في حين انّ العبد مالك،فهنا ملك على ملك.

كان ذلك القول الحق الذي رآه أهل البيت عليهم السلام و قام عليه البرهان. (1)

و في بعض الروايات إشارات واضحة إلى الأمر بين الأمرين.

روى الصدوق في توحيده عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«قال اللّه عزّ و جلّ:يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء،و بإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد». (2)

ترى أنّه يجعل مشيئة العبد و إرادته مشيئة اللّه سبحانه و إرادته،و لا يعرّفهما مفصولتين عن اللّه سبحانه،بل الإرادة في نفس الانتساب إلى العبد،لها نسبة إلى اللّه سبحانه.

2.الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز

إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين في فعل العبد:نسبة إلى اللّه سبحانه و نسبة إلى العبد من دون أن تزاحم إحدى النسبتين،النسبةَ الأُخرى،فقد قرره الكتاب العزيز ببيانات مختلفة:

ص:92


1- 1) .الميزان:100/1. [1]
2- 2) .التوحيد:340،باب المشيئة و الإرادة،الحديث10.

1.انّه ربما ينسب الفعل إلى العبد و في الوقت نفسه يسلبه عنه و ينسبه إلى اللّه سبحانه،يقول: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». 1

و لا يصحّ هذا الإيجاب «إِذْ رَمَيْتَ» في عين السلب «وَ ما رَمَيْتَ» إلاّ على الوجه الذي ذكرنا،و هذا يعرب عن أنّ للفعل نسبتين و ليست نسبتُه إلى العبد،كلَّ حقيقته و واقعه،و إلاّ لم تصح نسبته إلى اللّه،كما أنّ نسبته إلى اللّه ليست خالصة (و إن كان قائماً به تماماً) بل لوجود العبد و إرادته تأثير في طروء عناوين عليه.

2.قال سبحانه: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ». 2

فالظاهر انّ المراد من التعذيب هو القتل،لأنّ التعذيب الصادر من اللّه تعالى بأيدي المؤمنين ليس إلاّ ذاك،لا العذاب البرزخي و لا الأُخروي فانّهما راجعان إلى اللّه سبحانه دون المؤمنين،و على ذلك فقد نسب فعل واحد(التعذيب) إلى المؤمنين و خالقهم و لا تصح هاتان النسبتان إلاّ على هذا المنهج،و إلاّ ففي منهج الجبر لا تصح النسبة إلاّ إليه سبحانه.و في منهج التفويض على العكس،و المنهج الذي يصحّح كلتا النسبتين هو منهج الأمر بين الأمرين.

3.الأمر بين الأمرين في الروايات

لقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام إلى فعل الإنسان فيما يثاب به و يعاقب عليه،أمر بين الأمرين،و قد جمع الصدوق القسم الأوفر من الروايات

ص:93

في توحيده،و العلاّمة المجلسي في بحاره،و نحن نذكر رواية واحدة ذكرها صاحب«تحف العقول»و هي مأخوذة عن رسالة كتبها الإمام الهادي عليه السلام في نفي الجبر و التفويض،و مما جاء فيها:

فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به،فهو قول من زعم انّ اللّه عزّ و جلّ أجبر العباد على المعاصي و عاقبهم عليها،و من قال بهذا القول فقد ظلم اللّه في حكمه و كذّبه و ردّ عليه قوله: «وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» 1 و قوله: «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ» 2 و قوله:

«إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 3 فمن زعم انّه مجبر على المعاصي،فقد أحال بذنبه على اللّه،و قد ظلمه في عقوبته،و من ظلم اللّه فقد كذب كتابه،و من كذب كتابه فقد لزمه الكفر بإجماع الأُمّة.

و من زعم انّ اللّه تعالى فوّض أمره و نهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز.

لكن نقول:إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق الخلق بقدرته،و ملّكهم استطاعة تعبّدهم بها،فأمرهم و نهاهم بما أراد،و هذا،هو القول بين القولين ليس بجبر و لا تفويض.

تمّ الكلام في مسألة الجبر و التفويض و الأمر بين الأمرين

صبيحة يوم الأحد في السادس و العشرين

من ربيع الثاني من شهور عام 1423ه

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:94

بسم اللّه الرحمن الرحيم

3 نظرية الكسب عند الأشاعرة

اشارة

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السلام على سيّد المرسلين و آله الطاهرين و أصحابه المنتجبين.

أمّا بعد،فهذه رسالة موجزة وضعتُها لتبيين معالم نظرية الكسب التي تبنّاها الإمام الأشعري و أشاعها في الأوساط العلمية.

و حقيقة تلك النظرية ترجع إلى أنّ اللّه هو الخالق و العبد هو الكاسب،و أنّ الخلق و الإيجاد في أفعال الإنسان من اللّه سبحانه،و الكسب و الاكتساب من العبد،فالثواب و العقاب لأجل الكسب.

و لمّا كان القول بنظرية الكسب نابعاً من القول بالتوحيد في الخالقية و حصرها في اللّه سبحانه بالمعنى الذي اختاره أهل الحديث،يجب تبيين نظريتهم في هذا الأصل أوّلاً،ثمّ تبيين نظرية الكسب التي تبنّاها الأشعري و غيره لدفع وصمة الجبر عن أفعال العباد ثانياً،و إيضاح المراحل التي مرّت على النظرية عبر قرون ثالثاً.

فتبيين الحقّ في عامّة جوانب الموضوع يأتي ضمن فصول:

ص:95

1

نظرية الكسب عند الأشاعرة

إنّ من الأُصول المسلَّمة عند أهل الحديث (1)-و تبعهم الإمام الأشعري-انّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه و ليس للإنسان أيُّ دور في إيجاد أفعاله و إنشائها،بل كلّ ما في الكون من الجواهر و الأعراض مخلوق للّه سبحانه بالمباشرة،و ليس بينه سبحانه و عالم الكون أيّ واسطة في الإيجاد و الإفاضة حتّى على نحو الظلِّية و التبعيَّة و بإذن اللّه سبحانه.

و بعبارة أُخرى:ليس في صفحة الوجود مؤثّر أصلي و تبعي،ذاتي و ظلّي إلاّ اللّه سبحانه،و هو تعالى اسمُه،قائم مكان عامّة العلل التي تتصوّرها الفلاسفة و المتكلّمون و أخصُّ بالذكر علماء الطبيعة،عللاً مؤثّرة و لو بإذنه تعالى و لا يشذُّ منه فعل الإنسان فهو مخلوق للّه سبحانه، خلقاً مباشرياً و يعبّر عنه ب«خلق الأعمال»أو«خلق الأفعال».

قد انتقل الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (260- 324ه) من الاعتزال-بعد ما قضى أربعة عقود من عمره فيه-إلى منهج أهل السنّة و بالأخص منهج الإمام أحمد بن حنبل (164- 241ه)،و قد دخل جامع البصرة

ص:96


1- 1) .سيوافيك انّه من الأُصول المسلّمة عند الجميع سوى المعتزلة و إنّما الاختلاف بين الإمامية و الأشاعرة في التفسير.

و ارتقى كرسياً و نادى بأعلى صوته أيّها الناس:من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي،أنا فلان بن فلان؛كنت أقول بخلق القرآن،و انّ اللّه لا تراه الأبصار،و انّ أفعال الشر أنا أفعلها؛و أنا تائب مقلع،معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم و معايبهم. (1)

و لأجل ايقاف القارئ الكريم على حقيقة التوحيد في الخالقية بالمعنى-الذي تبنّاه الإمام أحمد و بعده الإمام الأشعري،نأتي ببعض نصوصهم.

1.قال الشيخ الأشعري في الباب الثاني من كتاب«الإبانة»:

إنّه لا خالق إلاّ اللّه،و إنّ أعمال العبد مخلوقة للّه و مقدورة كما قال: «وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» 2 .و انّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً و هم يُخْلَقون،كما قال سبحانه: «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ» 3. 4

2.و قال في«مقالات الإسلاميّين»عند نقل عقائد أهل الحديث و أهل السنّة:و اقرّوا:انّه لا خالق إلاّ اللّه،و انّ سيئات العباد يخلقها اللّه،و انّ أعمال العباد يخلقها اللّه عزّ و جلّ،و انّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً. (2)

3.و قال في«اللمع»:إن قال قائل:لم زعمتم أنّ أكساب العباد مخلوقة للّه تعالى؟ قيل له:قلنا ذلك لأنّ اللّه تعالى قال: «وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ» و قال: «جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ،فلمّا كان الجزاء واقعاً على أعمالهم كان الخالق لأعمالهم. (3)

ص:97


1- 1) .وفيات الأعيان:285/3، [1]فهرست ابن النديم:257. [2]
2- 5) .مقالات الإسلاميين:321/1. [3]
3- 6) .اللمع:69. [4]

و ترى لِدَّة هذه العبارات في غير واحد من الرسائل التي أُلّفت لبيان عقيدة أهل الحديث و الأشاعرة-التي اشتُقَّت من أهل الحديث-ننقل منها ما يتعلّق بالمتأخرين منهم.

4.قال السيد الشريف الجرجاني في«شرح المواقف»:إنّ أفعال العباد الاختيارية،واقعة بقدرة اللّه سبحانه وحدها و ليس لقدرتهم تأثير فيها،و اللّه سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة و اختياراً،فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما،فيكون فعل العبد مخلوقاً للّه إبداعاً و إحداثاً و مكسوباً للعبد،و المراد بكسبه إيّاه،مقارنته لقدرته و إرادته من غير أن يكون هناك من تأثير و مدْخل في وجوده، سوى كونه محلاً له،و هذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري. (1)

5.و قال الزبيدي في«إتحاف السادة»:انّ الإله،هو الذي لا يمانعه شيء،و انّ نسبة الأشياء إليه على السويّة،و بهذا بطل قول المجوس و كلّ من أثبت مؤثراً غير اللّه من علّة أو طبع أو ملك أو إنس أو جن-و لذلك-لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان. (2)

و لعلّ هذا المقدار من النصوص يكفي فيما هو المقصود(و ما أبعد بينه و بين ما يمرّ عليك من ابن تيميّة من أنّ أكثر أهل السنّة يعترفون بالعلل الطبيعية).

و حاصل تلك العقيدة هو إنكار الأسباب و المسببات في صحيفة الوجود عامّة،فليس هنا إلاّ خالق واحد هو اللّه سبحانه و ما سواه مخلوق،و ليس بين الخالق و عامّة المخلوقات أيُّ سبب تبعي أو علّة يؤثر بإذنه سبحانه.

ص:98


1- 1) .شرح المواقف:146/8.
2- 2) .إتحاف السادة:135/2 [1]

و على ضوء هذا التفسير:أنكروا العلّيّة و المعلولية و التأثير و التأثّر بين الموجودات الإمكانية،فزعموا انّ آثار الظواهر الطبيعية كلّها مفاضة منه سبحانه من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية و آثارها،فعلى مذهبهم«النار حارّة»بمعنى انّه جرت سنّة اللّه على إيجاد الحرارة عند وجود النار مباشرة من دون أن تكون هناك علقة بين النار و حرارتها،و الشمس و إضاءتها،و القمر و إنارته،بل اللّه سبحانه جرت عادته على إيجاد الضوء و النور مباشرة عقيب وجود الشمس و القمر دون أن يكون هناك نظام و قانون تكويني باسم العلّيّة و المعلولية،و على ذلك فليس في صفحة الوجود إلاّ علّة واحدة،و مؤثر واحد،يؤثّر بقدرته و سلطانه في كلّ الأشياء من دون أن يُعمل سبحانه قدرته و يظهر سلطانه عن طريق إيجاد الأسباب و المؤثرات،بل هو بنفسه شخصياً قائم مقام جميع ما يُتصور من العلل و الأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.

و قد سادت هذه الفكرة على شرائح واسعة من العلماء و المفكّرين طيلة عصور متمادية،فيقولون:«جرت عادة اللّه على خلق هذا بعد ذلك»أي خلق الحرارة بعد النار و البرودة بعد الماء،و قد بلغ إصرارهم على إنكار أصل العلّيّة حداً كفّروا من يتفوّه بالعلّيّة أو مقتضى الطبيعة-كما نقله الزبيدي -.

و هذا هو الأزهر كان يُدرس فيها قول الناظم: و من يقل بالطبع أو بالعلّة فذاك كفر عند أهل الملّة

نعم ظهر في الآونة الأخيرة مفكِّرون آثروا اتّباع الحقّ على تقليد الأئمة و أصحروا بالحقيقة كما تأتي أسماؤهم و نصوصهم فانتظر.

ص:99

2

التوحيد في الخالقية عند الإماميّة

(1)

اتّفق أهل القبلة-إلاّ من شذّ كالمعتزلة-على التوحيد في الخالقية و انّه لا خالق إلاّ اللّه سبحانه،و قد قامت الإمامية منهم بتفسيره بوجه لا ينافي القول بنظام الأسباب و المسببّات و العلل الطبيعية و معاليلها،و إليك حاصل نظريتهم.

إنّ الخالقية المستقلّة النابعة من الذات،غير المعتمدة على شيء منحصرة باللّه سبحانه و لا يشاركه فيها شيء،و أمّا غيره سبحانه فإنّما يقوم بأمر الخلق و الإيجاد بإذن منه و تسبيب،و يعدّ الكلّ جنوداً للّه سبحانه،يعملون بتمكين منه لهم.و يظهر هذا المعنى من ملاحظة الأُمور التالية:

الأوّل:لا يشك المتدبّر في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يُسنِد آثاراً إلى الموضوعات الخارجية و الأشياء الواقعة في دار المادة،كالسماء و كواكبها و نجومها و الأرض و جبالها و بحارها و براريها و عناصرها و معادنها و السحاب و الرعد و البرق و الصواعق و الماء و الأعشاب و الأشجار و الحيوان و الإنسان إلى غير ذلك من

ص:100


1- 1) .قلنا«عند الإمامية»و لم نقل عند العدلية،لأنّ هذا التفسير يختصّ بهم و أمّا المعتزلة الذين يُعدّون من العدلية فقد أنكروا هذا الأصل،لأجل الصيانة بعدله سبحانه زاعمين أنّ القول بهذا الأصل يضاد أصل العدل،غافلين عن انّ المضاد هو التفسير الأشعري،لا الإمامي.و قد فصّلنا الكلام في ذلك في محاضراتنا:«الإلهيات»فلاحظ.

الموضوعات الواردة في القرآن الكريم.فمن أنكر إسناد القرآن آثار تلك الأشياء إلى أنفسها فإنّما أنكره باللسان،و قلبه مطمئن بخلافه، و سيوافيك في الفصل الثالث شيء من الآيات الناصّة على ذلك.

الثاني:انّ القرآن يُسند إلى الإنسان أفعالاً لا يقوم بها إلاّ هو،و لا يصحّ إسنادها إلى اللّه سبحانه بلا واسطة،كأكله و شربه و مشيه و قعوده و نكاحه و نموه و فهمه و شعوره و سروره و صلاته و صيامه،فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه،فهو الذي يأكل و يشرب و ينمو و يفهم و يصلّي و يصوم و هو سبحانه منزّه عن هذه الأفعال.

الثالث:انّ اللّه سبحانه أمر الإنسان بالطاعة أمر إلزام،و نهاه عن المعصية نهيَ تحريم،فيجزيه بالطاعة،و يعاقبه بالمعصية.فلو لم يكن للإنسان دور في ذلك المجال،و تأثير في الطاعة و العصيان فما هي الغاية من الأمر و النهي،و ما معنى الجزاء و العقوبة؟!

و هذه الأُمور الثلاثة إذا قارنها الباحث إلى قوله سبحانه: «قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ» 1 الذي يدلّ على بسط فاعليته و علّيته على كلّ شيء،يَستنتج منها انّ النظام الإمكاني على اختلاف هويّاته و أنواعه،فعّال و مؤثر في آثاره،لكن بتقديره سبحانه و مشيئته و إذنه و هو القائل جلّ و علا «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» 2 و قال تعالى: «وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى» 3 و أنّ مظاهر الكون و أعمالها و آثارها و حركاتها و سكناتها تنتهي إلى قضائه و تقديره و هدايته و إجرائه نظام الأسباب و المسببات في صحيفة الكون.

فعلى هذا فالأشياء في جواهرها و ذواتها و حدود وجودها و خصوصياتها تنتهي

ص:101

إلى الخلقة الإلهية،كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل تلك الخصوصيات تنتهي إليها أيضاً و ليس العالم و مجموع الكون إلاّ مجموعة متوحّدة يتّصل بعضها ببعض و يتلاءم بعضها مع بعض،و يؤثر بعضها في بعض،و اللّه سبحانه وراء هذا النظام و معه و بعده و لا خالق و لا مدبّر حقيقة و بالأصالة إلاّ هو كما لا حول و لا قوة إلاّ باللّه.

و بعبارة أُخرى:انّ التدبر في الآيات الواردة في التوحيد في الخالقية إذا فسّرت على نحو التفسير الموضوعي (1).يثبت أنّ آثار الموجودات الإمكانية آثار لها،و في الوقت نفسه تنتهي الأسباب إلى اللّه سبحانه.فجميع هذه الأسباب و المسببات يرتبط بعضها ببعض و يؤثر بعضها في بعض،و في الوقت نفسه مرتبطة باللّه سبحانه و إليه ينتهي النظام الإمكاني و العلل و المعاليل.

و ليس السبب منقطعاً عن اللّه،و في الوقت نفسه ليس المسبب فعلاً مباشرياً له سبحانه فبذلك يجمع بين القول بحصر الخالقية في اللّه سبحانه،و القول بنظام العلل و المعاليل المنتهية إليه و القائمة به،فالخالقية المستقلة النابعة من الذات،منحصرة باللّه سبحانه،و الخالقية الظلية و التبعية،النابعة من قدرته سبحانه من خصائص النظام الإمكاني و لنعم قال القائل«فالفعل فعل اللّه و هو فعلنا».

و باختصار:إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه،فالجليل و الحقير،و الثقيل و الخفيف عنده سواسية،لكن ليس معنى الاستواء هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة،و خلع التأثير عن الأسباب و العلل،بل يعني أنّ اللّه سبحانه يُظهر قدرته و سلطانه عن طريق خلق الأسباب،

ص:102


1- 1) .نريد من التفسير الموضوعي هو جمع الآيات الواردة في أي موضوع من الموضوعات و استنطاق بعض الآيات ببعض و الخروج بنتيجة واحدة،هي حصيلة عامة الآيات.و قد ألّفنا موسوعة قرآنية على هذا الغرار و أسميناها ب«مفاهيم القرآن»انتشرت في عشرة أجزاء.

و بعث العلل نحو المسببات و المعاليل،و الكلّ مخلوق له،و مظاهر قدرته و حوله،و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه.

فالأشعري،خلع الأسباب و العلل-و هي جنود اللّه سبحانه-عن مقام التأثير و الإيجاد،كما أنّ المعتزلي (1)عزل سلطانه عن ملكه و جعل بعضاً منه في سلطان غيره،أعني:فعل العبد في سلطانه.

و الحقّ الذي عليه البرهان و يصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين،لكن لا بقدرتين متساويتين،و لا بمعنى علّتين تامّتين،بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى و شئونها و جنودها: «وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ» 2 و قد جرت سنّة اللّه تعالى على خلق الأشياء بأسبابها،فجعل لكلّ شيء سبباً،و للسبب سبباً،إلى أن ينتهي إليه سبحانه،و المجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامّة كافية لإيجاد الفعل، و التفصيل يطلب من محله،و نكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق عليه السلام:«أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب،فجعل لكلّ شيء سبباً و جعل لكلّ سبب شرحاً». (2)

و بهذه النظرية-أي نظرية كون العالم مخلوقاً على النظام السببي و المسببي و انّ فيه فواعل اضطرارية كما أنّ فيه فواعل اختيارية-تتناسق الأُمور الثلاثة الماضية و تتوحّد نتائجها،و هذا بخلاف ما قلنا بالنظرية الأُولى فانّها توجب التضاد بين الأُمور الثلاثة المسلمة الماضية.

ص:103


1- 1) .انّ المعتزلة،أنكرت صلة أفعال الإنسان باللّه سبحانه،لغاية حفظ عدله و تنزيهه من الظلم و العمل السيّئ،و زعمت انّ وجود الإنسان مخلوق للّه و فعله مخلوق لنفس الإنسان فقط،فأخرجت أفعال العباد عن سلطان اللّه تبارك و تعالى،و نعم ما قال الإمام الكاظم عليه السلام:«مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله،فأخرجوه عن سلطانه».
2- 3) .الكافي:183/1،باب معرفة الإمام،الحديث7. [1]

3

اشارة

التوحيد في الخالقية عند الأشعري

و مضاعفاته

قد تقدّم انّ المسلمين إلاّ من شذّ تبعاً للذكر الحكيم و البراهين العقلية اتّفقوا على حصر الخالقية في اللّه سبحانه و عدُّوه من مراتب التوحيد و لا يصحّ الحصر و لا ينسجم مع سائر الأُصول إلاّ إذا فسر على النحو الذي مرّ آنفاً،فالقول بهذا الحصر-على ما فسرنا-لا ينافي الإيمان بالعلل و الأسباب الطولية و النظام السائد على العالم من العلّية و المعلولية،المنتهي إلى اللّه سبحانه.

غير انّ الإمام الأشعري و من تبعه أخذوا بظواهر بعض الآيات فأنكروا أصل التأثير حتّى الظلي و التبعي في غيره سبحانه و لم يعترفوا إلاّ بعلة واحدة و هي اللّه سبحانه،القائم مكان عامة العلل،فجعلوا الظواهر كلّها مخلوقة للّه بالمباشرة و بلا توسط سبب و كأنّ من أنكر ذلك التفسير فقد أنكر التوحيد في الخالقية،غير انّ التوحيد في الخالقية صحيح،و التفسير المذكور له مردود من جهات نشير إلى بعضها.

الأُولى:تصريح القرآن بتأثير العلل الطبيعة

إنّ القرآن الكريم يصرح بوضوح كامل بتأثير بعض الأشياء في بعض

ص:104

و يكشف عن نظام سائد على العالم نظاماً عليّاً و معلولياً،سببياً و مسببياً،و نحن نذكر في المقام بعض الآيات:

1. «وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ». 1

و جملة «يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ» كاشفة عن دور الماء و أثره في إنبات النباتات و نمو الأشجار،و مع ذلك يُفضل بعض الثمار على بعض.

و أوضح دليل على ذلك قوله تعالى في الآيتين التاليتين:

2. «وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ». 2

3. «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ». 3

ففي هاتين الآيتين يصرح الكتاب العزيز-بجلاء-بتأثير الماء في الزرع،إذ أنّ«الباء»تفيد السببية-كما نعلم -.

4. «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ». 4

ففي هذه الآية نرى-لو أمعنا النظر-كيف بيّن القرآن الكريم المقدّمات الطبيعية لنزول المطر و الثلج من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث و يطّلع

ص:105

عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية و اكتشاف عللها و مقدّماتها.

فقبل أن يتوصل العلم الحديث إلى معرفة ذلك-بزمن طويل-سبق القرآن إلى بيان تلك المقدّمات في عبارات هي:

1.يزجي (يحرك) سحاباً.

2.ثمّ يؤلّف (و يركِّب) بينه.

3.ثمّ يجعله ركاماً (أي كتلة متراكمة متكاثفة).

فينسب هذه المراحل إلى اللّه تعالى.ثمّ يقول:

4.فترى الودق (أي المطر) يخرج من خلاله.

5.يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.

و هكذا يصرح اللّه سبحانه بتأثير الأسباب و العلل الطبيعية في المرحلتين الأخيرتين،غاية ما هنالك أنّ تأثير هذه العلل و الأسباب بإذن اللّه و مشيئته بحيث إذا لم يشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثير.

5. «اللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ». 1

و أيّة جملة أوضح من قوله: «فَتُثِيرُ سَحاباً» أي الرياح،فالرياح في نظر القرآن هي التي تثير السحاب و تسوقه من جانب إلى جانب آخر.

إنّ الإمعان في عبارات هذه الآية يهدينا إلى نظرية القرآن و رأيه الصريح حول«تأثير العلل الطبيعية بإذن اللّه».

ففي هذه الجمل جاء التصريح:

ص:106

1.بتأثير الرياح في نزول المطر.

2.و تأثير الرياح في تحريك السحب.

3.كما جاء التصريح بانتساب تبسيط السحاب في السماء.

4.ثمّ تجمعه-فيما بعد-على شكل قطع متراكمة إلى اللّه سبحانه.

5.ثمّ نزول المطر بعد هذه التفاعلات و المقدمات.

فإذا ينسب القرآن هذين الأمرين الثالث و الرابع إلى اللّه و انّه (هو) يبسط السحاب في السماء و(هو) الذي يجعله كسفاً،فإنّما يقصد-من وراء ذلك-التنبيه إلى مسألة«التوحيد الأفعالي»الذي يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية،و في الوقت نفسه«لا منافاة بين هذه النسبة و القول بتأثير العلل الطبيعية في بسط السحب فجمعها.

على أنّ الآيات-التي تؤكِّد على دور العلل الطبيعية و تأثيرها المباشر و تعتبر العالم مجموعة من الأسباب للمسببات التي تعمل بإرادة اللّه و إذنه،و تكون فاعليتها فرعاً من فاعليته سبحانه-أكثر من أن ينقل في المقام،و فيما ذكرنا من الآيات كفاية لمن تدبّر.

الثانية:انتفاء الغاية من إيجاد القدرة في الإنسان

إذا صحّ تقسيم الفاعل إلى فاعل قادر مختار،يتوصّل إلى مقاصده بالمشيئة و إعمال القدرة؛و فاعل مضطرّ،يقع مصدراً للآثار،من دون إرادة و اعمال القدرة،فالإنسان من مصاديق القسم الأوّل بل من أفضل مصاديقه،فهو يصدر عن فكر و رويّة و ميل و اشتياق،و عزم و جزم،و إعمال للقدرة التي وهبها اللّه سبحانه له،و هذا شيء يدركه وجدان كلّ إنسان حرّ التفكير و لا يبطله أي دليل و برهان حتّى

ص:107

أنّ الشيخ الأشعري استدلّ على كون الإنسان مختاراً في فعله،بالفرق بين الحركتين:الاكتسابية و الاضطرارية فقال:فإذا كانت حركة المرتعش من الفالج و المرتعد من الحمى حركة اضطرارية،و إذا كانت الحركة الأُخرى بخلاف هذا الوصف لم يكن اضطراراً،لأنّ الإنسان في ذهابه و مجيئه،و إقباله و إدباره بخلاف المرتعش من الفالج و المرتعِد من الحمى،يعلم الإنسان التفرقة بين الحالين من نفسه و غيره علمَ اضطرار لا يجوز معه الشك. (1)

فإذا كان هذا حال الإنسان و هذه مواهبه و عطاياه،فما هو الغاية من خلق القدرة في الإنسان التي لا دور لها في الإنشاء و الإيجاد،سوى حديث المقارنة،مقارنة القدرة مع الحادثة من دون أن يكون بين قدرة العبد و فعله أي صلة.

انّ إبعاد قدرة العبد عن التأثير في مصير الإنسان،يضادّ وجدانَ كلّ فاعل،أوّلاً،و يُضفي على تزويد الإنسان بها،شأن اللغوية ثانياً،و يُعرِّف خالق القدرة لاعباً ثالثاً،قال سبحانه: «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ». 2

إنّ التوحيد في الخالقية،من المعارف العليا القرآنية و التي لم يصل إليها حتى الأوحدي من الفلاسفة إلاّ عن طريق التدبّر في آيات الذكر الحكيم،و من خالفه من المعتزلة فإنّما خالفه بزعم انّه يخالف عدلَه و تنزيهه سبحانه غير انّ الذي يخالف عدله،و يضاد تنزيهه،هو حصر الخالقية بالمعنى الذي تبنّاه أهل الحديث و الأشاعرة،فانّه يضاد كونه حكيماً،عادلاً،نزيهاً عن اللغو و اللعب حيث خلق في الإنسان القدرة التي لا دور لها في حياته في عاجله و آجله،و أمّا تفسيره على النهج الذي عرفت و قد سار عليه أئمة أهل البيت فهو يدعم كونه سبحانه حكيماً،عادلاً، نزيهاً من اللغو و العبث. و كم من عائب قولاً صحيحاً و آفته من الفهم السقيم

ص:108


1- 1) .اللمع:75. [1]
الثالثة:كلّ فاعل مسئول عن فعله

إنّ العقلاء قاطبة-حتى أهل الحديث و الأشاعرة-يرى الإنسان مسئولاً عن فعله و عمله،و ليس المحسِن و المسيء عندهم سواسية،بل يُثاب الأوّل،و يُعاقب الثاني،كلّ،وفقَ عمله،و مدى مسئوليته،و هذا فرع أن يكون للفاعل دور في فعله،و عمله،و لو أصاب رأسه حجر فأدماه، فيحمل مسئولية الإدماء على عاتق الرامي،دون الحجر،و ذلك لأنّ له شعوراً و ارادة،دون الآخر،و على ضوء ذلك يصف الذكر الحكيم بأنّ الإنسانَ مسئول عن عمله و يقول: «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» 1 بل يعد أدواة المعرفة أيضاً،مسئولة و يقول «إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً» 2 ،و ذلك لأنّها بيد الإنسان،أداة طيّعة يستخدمها كيف ما شاء.

فإذا كان هذا لسانَ العقل و العقلاء و صريحَ الذكر الحكيم فلو كانت أفعاله و أعماله،مخلوقة للّه،على نحو تفقد صلتَها بالإنسان،فما معنى كونه مسئولاً عن عمل،قام به غيره،أو مجزّياً بفعل غيره،و ليس لجسمه أو روحه دور،سوى كونه ظرفاً و وعاءً لفعل الغير يخلقه فيه.

إذ كيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له فيه شأن؟! و كيف يكون معاقباً و قد جنى غيره وفق قول القائل: غيري جنى و أنا المعاقَبُ فيكم فكأنني سبّابة المتندم

إنّ هذه التوالي الفاسدة التي يدركها كلّ إنسان واع و وجدان حرّ دفعت الشيخ الأشعري،و من لفّ لفّه إلى الخروج عن هذا المأزق باختراع«نظرية

ص:109

الكسب»حتّى يتخلّصوا ممّا يترتب على خلق الأعمال من التوالي الفاسدة فإذا قيل لهم كيف يُثاب المرء أو يُعاقب على عمل لم يوجده هو؟ و كيف يتفق هذا مع ما هو مقرّر في عدالة اللّه و حكمته في تكليف خلقه؟

أجابوا:انّ العباد و إن لم يكونوا خالقين لأعمالهم لكنّهم كاسبون لها،و هذا الكسب هو مناط التكليف و مدار الثواب و العقاب و به يتحقّق عدل اللّه و حكمته فيما شرّع للمكلّفين.

قالوا:إنّ هنا نصوصاً تثبت بأنّه لا خالق إلاّ هو،كقوله «اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» 1 ، «هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ» 2 إلى غير ذلك.

و بجانب هذا توجد نصوص،تَنسب أعمال العباد إليهم،و تُعلّق رضوان اللّه للمحسنين منهم و تعلّق غضبه للمسيئين منهم و يقول: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» 3 ، «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها» 4 إلى غير ذلك من الآيات.

فحملوا النصوص الأُولى على الخلق،و حملوا الثانية على الكسب جمعاً بين الأدلّة،فإذا قيل ما هذا الكسب؟ و ما يراد به؟ و هل هو أيضاً موجود أو معدوم؟ فمالوا يميناً و يساراً حتّى يأتوا به تفسيراً معقولاً مع أنّه مضت على النظرية قرون عشرة لكنّها بقيت في محاق الإبهام،بل دخلت أخيراً في مدحرة الإنكار،و هذا هو الذي ندرسه في الفصول المقبلة بعد مقدّمة موجزة.

ص:110

4

اشارة

نظرية الكسب بين

التفسير،و التكامل،و الإبطال

قد تعرفت على أنّ القول بالتوحيد في الخالقية-الذي يعبّر عنه اليوم بعموم القدرة و الإرادة-بنحو التفسير الذي قام به أهل الحديث و الأشاعرة،صار ذا مضاعفات عديدة أهمها،كون الإنسان مجبوراً لا مختاراً،مسيّراً لا مخيّراً،غير مسئول عن عمله و فعله،لأنّ الفعل فعل اللّه لا فعله،و هو خالقه و موجده و ليس له دور،سوى كونه وعاءً لفعل اللّه سبحانه.

كما تعرّفت على أنّ الشيخ الأشعري قد وقف على ما يترتب على تفسيره من النتائج الفاسدة،حاول أن يتخلّص من ذلك المأزق بطرح نظرية الكسب حتّى يكون للإنسان دور في مجال أفعاله و أعماله فصار سهم الخالق هو الإيجاد و الإنشاء و سهم الإنسان هو الكسب و الاكتساب، و الثواب و العقاب على الكسب.

و قد مرّت على النظرية مراحل مختلفة عبر أجيال،و ذلك لأنّ باذر الفكرة و غارسها مرّ عليها بإجمال دون أن يفسّرها و يبيّنها،فأخذ رُوّاد منهج الأشعري بتبيينها و تفسيرها أوّلاً،و تطويرها و إكمالها ثانياً،إلى أن وصلت النوبة إلى العقول الحرّة،فأنكروها و أبطلوها و صرّحوا بأنّها نظرية لا تسمن و لا تغني من جوع و انّ المضاعفات و التوالي الفاسدة باقية بحالها،فها نحن نشرح كلّ واحدة من هذه المراحل الثلاث واحدة بعد الأُخرى حتى تسهل الإحاطة بها.

ص:111

لمرحلة الأُولى
اشارة

في تبيين النظرية و تفسيرها

يظهر من غير واحد من كُتّاب تاريخ العقائد و المناهج الكلامية،انّ الإمام الأشعري ليس مبتكراً لنظرية الكسب،بل لها جذور في كلمات من سبق عليه كجهم بن صفوان (المتوفّى128ه) و ضرار بن عمرو العيني الذي يعدّ من رجال منتصف القرن الثالث.

قال القاضي عبد الجبار:إنّ جهم بن صفوان ذهب إلى أنّ أفعال العباد لا تتعلّق بنا و قال:إنّما نحن كالظروف لها،حتى أنّ ما خلق فينا كان و إن لم يخلق لم يكن.

و قال ضرار بن عمرو:إنّها متعلّقة بنا و محتاجة إلينا،و لكن جهة الحاجة إنّما هي الكسب،فقد شارك جهماً في المذهب و زاد عليه في الإحالة. (1)

إنّ الشيخ الأشعري نقل في كتاب«مقالات الإسلاميّين و اختلاف المصلّين»انّ ضرار بن عمرو ممّن كان يذهب إلى أنّ العبد كاسب،قال:

و الذي فارق ضرار بن عمرو به المعتزلة،قوله:إنّ أعمال العباد مخلوقة و انّ فعلاً واحداً لفاعلين أحدهما خَلَقَه و هو اللّه،و الآخر اكتسبه و هو العبد،و انّ اللّه عزّ و جلّ فاعل لأفعال

ص:112


1- 1) .شرح الأُصول الخمسة:363. [1]

العباد في الحقيقة،و هم فاعلون لها في الحقيقة. (1)

و قد نقل العلاّمة الحلّي نظرية الكسب عمّن تقدّم على الشيخ الأشعري كالنجّار و حفص الفرد. (2)

فسواء أ كانت النظرية للإمام الأشعري أم لغيره،فقد مرّت عليها مراحل أولاها،مرحلة التبيين و التفسير حتى تخرج عن الإبهام و الغموض.

مرحلة التبيين

قد حاول غير واحد من أعيان الأشاعرة،أن يرفع النقاب عن وجه النظرية منهم الغزالي(450-505ه) من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس و أوائل القرن السادس فقام بإيضاحها بكلام مبسوط يتلخّص في العنوان التالي:

1.الكسب صدور الفعل من اللّه،عند حدوث القدرة في العبد

قال:ذهبت المجبرة إلى إنكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة،و الحركة الاختيارية،و لزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع.و ذهبت المعتزلة إلى إنكار تعلّق قدرة اللّه تعالى بأفعال العباد من الحيوانات و الملائكة و الجن و الإنس و الشياطين،و زعمت أنّ جميع ما يصدر منها،من خلق العباد و اختراعهم،لا قدرة اللّه تعالى عليها بنفي و لا إيجاب،فلزمتها شناعتان عظيمتان:

إحداهما:إنكار ما أطبق عليه السلف من أنّه لا خالق إلاّ اللّه،و لا مخترع

ص:113


1- 1) .مقالات الإسلاميين و اختلاف المصلين:281. [1]
2- 2) .كشف المراد،الفصل الثالث من الإلهيات:189،ط صيدا.

سواه.

و الثانية:نسبة الاختراع و الخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه،كأعمال النحل و العنكبوت و غيرهما من الحيوانات التي تقوم بأعاجيب الأعمال و غرائبها،ثمّ قال:و إنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد،و القول بمقدور منسوب إلى قادرين،فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد.و هذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد،فإن اختلفت القدرتان،و اختلف وجه تعلّقهما فتوارد التعلّقين على شيء واحد غير محال،كما نبيّنه.

ثمّ إنّه حاول بيان تغاير الجهتين،و حاصل ما أفاد هو:إنّ الجهة الموجودة في تعلّق قدرته سبحانه على الفعل غير الجهة الموجودة في تعلّق قدرة العبد.و الجهة في الأُولى جهة إيجادية تكون نتيجتُها وقوعَ الفعل في الخارج،و حصوله في العين.و الجهة في القدرة الثانية جهة أُخرى،و هي صدور الفعل من اللّه سبحانه عند حدوث القدرة في العبد.

فلأجل ذلك تُسمّى الأُولى خالقاً و مخترعاً،دون الثانية،فاستعير لهذا النمط من النسبة،اسم الكسب تيمّناً بكتاب اللّه تعالى.

هذا توضيح مرامه و إليك نصّ عبارته:لما كانت القدرة (قدرة العبد) و المقدور جميعاً بقدرة اللّه تعالى:سُمي خالقاً و مخترعاً،و لما لم يكن المقدور بقدرة العبد و إن كان معه،فلم يسمّ خالقاً و لا مخترعاً. (1)

ثمّ اعترض على نفسه بما هذا حاصله:كيف تصحّ تسمية القدرة المخلوقة في العبد قدرة،إذا لم يكن لها تعلّق بالمقدور،فإنّ تعلق القدرة بالمقدور ليس إلاّ

ص:114


1- 1) .الاقتصاد في الاعتقاد:92. [1]

من جهة التأثير و الإيجاد-و حصول المقدور بها-و أجاب عنه:بأنّ التعلّق ليس مقصوراً على الوقوع بها،بل هناك تعلّق آخر غير الوقوع، نظير تعلّق الإرادة بالمراد،و العلم بالمعلوم،فإنّهما يتعلّقان بمتعلّقهما بتعلّق،غير الوقوع ضرورة أنّ العلم ليس علّة للمعلوم،فإذاً لا بدّ من إثبات أمر آخر من التعلّق سوى الوقوع. (1)

و قد قام التفتازاني بتفسير الجهتين في شرح مقاصده و قال ما يقرب من كلام الغزّالي:«لما بطل الجبر المحض بالضرورة،و كون العبد خالقاً لأفعاله بالدليل،وجب الاقتصاد في الاعتقاد،و هو انّها مقدورة بقدرة اللّه تعالى اختراعاً و بقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه بالاكتساب و ليس من ضرورة،تعلّق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع. (2)

يلاحظ عليه:أنّ الغزالي لم يأت في تفسير نظرية الكسب بأمر جديد،و حاصله يتلخّص في كلمتين:

1.إنّ دور قدرة العبد ليس إلاّ دور المقارنة،فعند حدوث القدرة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل.

2.إنّ للتعلّق أنواعاً و لا تنحصر في الإيجاد و الوجود،و الإيقاع و الوقوع،بل هناك جهة أُخرى يُعبّر عنها بالكسب-فالعبد مصدر لهذه الجهة،و بذلك يسمّى كاسباً -.

و مع هذا التطويل فالإشكال باق بحاله،فإنّ وقوع الفعل مقارناً لقدرة العبد،لا يُصحّح نسبة الفعل إلى العبد،و لا تحمَّل مسئوليته،فإنّ نسبة المقارن إلى المقارن كنسبة تكلم الإنسان إلى نزول المطر في الصحراء،فإذا لم يكن لقدرة العبد

ص:115


1- 1) .الاقتصاد:92- 93. [1]
2- 2) .شرح المقاصد:127. [2]

تأثير في وقوع الفعل،كيف يصحّ في منطق العقل التفكيك بين الحركة الاختيارية،و الحركة الاضطرارية؟ و الغزالي بكلامه هذا نقض ما ذكره في صدر البحث حيث ردّ على المجبّرة بوجدان الفرق بين الحركتين،و هذا الفرق لا يتعقّل إلاّ في ظل تأثير قدرة العبد على الوقوع و الوجود.

و أضعف من ذلك تنزيل تعلّق قدرة العبد بتعلّق العلم على المعلوم،مع أنّ واقعية العلم و ماهيته هي الكشف التابع للمكشوف،فلا يصحّ أن يكون مؤثّراً في المعلوم و موجداً له،و لكن واقعية القدرة و السلطة،واقعية الإفاضة و الإيجاد،فلا يتصوّر خلعها عن التأثير مع فرضه قدرة كاملة و بصورة علّة تامّة.

2.الكسب:توجه قدرة العبد صوب الفعل عند صدوره من اللّه

قام التفتازاني(712-792ه) في«شرح العقائد النسفية»بتفسير الكسب بالوجه التالي و هو انّ صرف العبد قدرته و إرادته إلى الفعل كسب،و إيجاد اللّه تعالى الفعلَ عقيب ذلك خلق.و المقدور الواحد داخل تحت قدرتين،لكن بجهتين مختلفتين.فالفعل مقدور اللّه تعالى بجهة الإيجاد،و مقدور العبد بجهة الكسب،و هذا القدر من المعنى ضروري و إن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق اللّه تعالى و إيجاده،مع ما فيه للعبد من القدرة و الاختيار. (1)

و يقرب من ذلك ما في متن المواقف للعضدي و شرحه للشريف الجرجاني قالا:و أمّا التكليف و التأديب و البعثة و الدعوة فانّها قد تكون دواعي للعبد،إلى الفعل و اختياره،فيخلق اللّه الفعل عقيبها عادة و باعتبار ذلك الاختيار المترتب على الدواعي،يصير الفعل طاعة إذا وافق ما دعاه الشرع إليه،و معصية إذا

ص:116


1- 1) .شرح العقائد النسفية:117. [1]

خالفه و يصير علامة للثواب و العقاب. (1)

و يرد على ما ذكروه انّ العزم و الارادة و الاختيار من الأُمور الوجودية الممكنة فمن خالفها أو هو اللّه سبحانه؟ أم العبد؟ و على الأوّل يلزم الجبر و على الثاني ينتقص القاعدة،أعني التوحيد في الخالقية.

ثمّ إنّ نظرية الكسب بلغت من الإبهام إلى حد أنّ القمة من مشايخ الأشاعرة كالتفتازاني يعترف بعجزه عن تفسيره حيث قال:«و إن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة...».

إلى هنا تمت المرحلة الأُولى من المراحل (2)التي مرّت على نظرية الكسب،و هنا من سلك مسلك العلمين:الغزالي و التفتازاني في تفسير النظرية،أعرضنا عن نقله روماً للاختصار،و حان وقت الانتقال إلى المرحلة الثانية أعني مرحلة التطوير و التكامل.

ص:117


1- 1) .شرح المواقف:155/8.
2- 2) .و لا يفوتنّك انّ هذه المراحل الثلاث لم تتكون حسب التسلسل الزمني بل تكوّنت عبر قرون لا تأبى أن تكون بعضها في عرض الآخر.
المرحلة الثانية
اشارة

مرحلة التطوير و التكامل

قد يرى الباحث في كلمات الأشاعرة في هذه المرحلة معاني و مفاهيم جديدة حول نظرية الكسب على وجه يخرجها عن الإبهام الذي كان يصحب النظرية في المرحلة الأُولى،حتى كانت النظرية موصوفة باللغز كما في قول القائل: ممّا يقال و لا حقيقة عنده

فعدّ الشاعرُ نظريةَ الكسب في إحاطة الإبهام بها في عداد نظرية«الحال»عند أبي هاشم و«الطفرة»عند النظام.و هذا دليل على قصور النظرية و عدم كفايتها لحلّ العقدة،و هناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه:

قال:إنّ فساد المذهب قد يكون بأحد طريقين:

أحدهما:بأن يُبيّن فساده بالدلالة.

و الثاني:بأن يُبيّن أنّه غير معقول في نفسه،و إذا ثبت أنّه غير معقول في نفسه،كفيت نفسَك مئونة الكلام عليه،لأنّ الكلام على ما لا يعقل لا يمكن...و الذي يبيّن لك صحّة ما نقوله أنّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالفو

ص:118

المجبّرة في ذلك،من الزيدية و المعتزلة و الخوارج و الإمامية.فإنّ دواعيهم متوافرة،و حرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى،فلمّا لم يوجد في واحد من هذه الطوائف-على اختلاف مذاهبهم،و تنائي ديارهم،و تباعد أوطانهم،و طول مجادلتهم في هذه المسألة-من ادّعى أنّه عقل هذا المعنى أو ظنّه أو توهّمه،دلّ على أنّ ذلك ممّا لا يمكن اعتقاده و الإخبار عنه البتة.

و أحد ما يدلّ على أنّ الكسب غير معقول،هو أنّه لو كان معقولاً لوجب-كما عقله أهل اللغة و عبروا عنه-أن يعقله غيرهم من أرباب اللغات،و أن يضعوا له عبارة تُنبئ عن معناه.فلمّا لم يوجد شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة،دلّ على أنّه غير معقول. (1)

قال الشيخ المفيد:

ثلاثة أشياء لا تُعقل،و قد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يتناقض المعنى فيها على مفهوم الكلام:

1.اتحاد النصرانية.

2.كسب النجارية.

3.أحوال البهشمية.

إلى أن قال:و من ارتاب فيما ذكرناه في هذا الباب فليتوصل إلى إيراد معنى-في واحد منها-معقول،و الفرق [كذا] بينها في التناقض و الفساد،ليعلم أنّ خلاف ما حكمنا به هو الصواب! و هيهات. (2)

ص:119


1- 1) .شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار:364- 366. [1]
2- 2) .حكايات الشيخ المفيد برواية الشريف المرتضى لاحظ مجلة«تراثنا»العدد3،من السنة الرابعة،118.

و لأجل وجود هذا النقص الواضح حول النظرية حاول بعض روّاد الأشاعرة الذين قامت بهم خيمة هذا المنهج و أشادوا بنيانه،و رفعوا قوائمه،ان يُفسّر النظرية مزيجة بشيء من التطوير و الإكمال حتّى يخرج عن عداد الأحوال لابي هاشم أو الطفرة للنظام،و اذكر منهم الأقطاب الثلاثة:

1.أبو بكر محمد الطيب القاضي المعروف بابن الباقلاني(403ه)

إنّ القاضي الباقلاني من أئمّة الأشاعرة،فقد بذل وسعه في دعم المنهج الأشعري و الذب عنه بحماس و لو لا القاضي و بعض أترابه،كابن فورك الاصفهاني (المتوفّى 406ه) لما كان للمنهج الأشعري نصيب من السعة و الشمول،و قد اعتنقه-إلى يومنا هذا-عامّة أهل السنّة-غير أهل الحديث-.

و قد أضفى القاضي على نظرية الكسب مفهوماً جديداً،صحّ أن يعبر عنه بالتطوير،و قال ما هذا حاصله:

الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد،لكن ليست الأفعال أو وجوهها و اعتباراتها تقتصر على وجهة الحدوث فقط،بل هاهنا وجوه أُخرى هي وراء الحدوث.

ثمّ ذكر عدّة من الجهات و الاعتبارات و قال:إنّ الإنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين قولنا:أوجد،و بين قولنا:صلى و صام و قعد و قام.و كما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد،فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد،جهة ما يضاف إلى الباري تعالى.

فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة،و أثرها هو الحالة الخاصة،و هو جهة من جهات الفعل،حصلت نتيجة تعلّق القدرة الحادثة بالفعل، و تلك الجهة هي

ص:120

المتعيّنة لأن تكون مقابلة بالثواب و العقاب،فإنّ الوجود من حيث هو وجود لا يُستحق عليه ثواب و عقاب،خصوصاً على أصل المعتزلة،فإنّ جهة الحسن و القبح هي التي تقابل بالجزاء،و الحسن و القبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود،فالوجود من حيث هو وجود ليس بحسن و لا قبيح.

قال:فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان،جاز لي إثبات حالة هي متعلّق القدرة الحادثة،و من قال هي حالة مجهولة،فبيّنا بقدر الإمكان جهتها،و عرفنا أي شيء هي،و مثلناها كيف هي. (1)

و حاصل كلامه-مع ما قمنا بتلخيصه -:هو أنّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين و الخصوصيات التي هي ملاك الثواب و العقاب،و هذه العناوين وليدة قدرة العبد،حادثة بها،و إن كان وجود الفعل حادثاً بقدرته سبحانه.

فوجود الفعل مخلوق للّه سبحانه،لكن تعنونه بعنوان الصوم و الصلاة و الأكل و الشرب راجع إلى العبد و القدرة الحادثة فيه.

يلاحظ عليه:أنّ هذه العناوين و الجهات التي صارت ملاكاً للطاعة و العصيان لا تخلو من صورتين:إمّا أن تكون من الأُمور الوجودية و عندئذٍ تكون مخلوقة للّه سبحانه حسب الأصل المسلم.

و إمّا أن تكون من الأُمور العدمية فعندئذٍ لا تكون للكسب واقعية خارجية،بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد و القدرة.و مثل ذلك كيف يكون ملاكاً للثواب و العقاب.

و باختصار:إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية موصوفة بالوجود فحينئذٍ

ص:121


1- 1) .الملل و النحل:97/1-98. [1]

يكون مخلوقاً للّه سبحانه،و لا يكون للعبد نصيب في الفعل،أو لا تكون له تلك الواقعية بل يكون أمراً وهمياً ذهنياً،فحينئذٍ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتّى يثاب عليه أو يعاقب.

2.كمال الدين بن الهمام (789-861ه)

إنّ كمال الدين محمد بن همام الدين مؤلّف كتاب«المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة» (1)تخلّص عن المأزق بالقول بتخصيص ما دلّ على حصر الخالقية باللّه،بعزم العبد و قصده،فكلّ شيء مخلوق للّه سبحانه و هو خالقه إلاّ عزم العبد على الطاعة و العصيان فالخالق هو العبد، و إليك نصّه في ذلك المجال.

فإن قيل:لا شكّ انّه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال،و لذا يدرك تفرقة ضرورية بين الحركة المقدورة و غيرها.

قلنا:إنّ براهين وجوب استناد كلّ الحوادث،إلى القدرة القديمة بالإيجاد،إنّما تلجئ إلى القول بتعلّق القدرة بالفعل بلا تأثير،لو لم تكن عمومات تحتمل التخصيص.فأمّا إذا وجد ما يوجب التخصيص فلا.لكن الأمر كذلك.و ذلك المخصّص أمر عقلي،هو أنّ إرادة العموم فيها يستلزم الجبر المحض المستلزم لضياع التكليف و بطلان الأمر و النهي.

ثمّ أوضح ذلك بقوله:لو عرّف اللّه تعالى العبد العاقل أفعالَ الخير و الشر،ثمّ خلق له قدرة أمكنه بها من الفعل و الترك،ثمّ كلّفه بالإتيان بالخير و وعده عليه.و ترك الشر و أوعده عليه،بناء على ذلك الإقدار لم يوجب ذلك نقصاً في الألوهية.إذ غاية ما فيه أنّه أقدره على بعض مقدوراته لحكمة صحّة التكليف و اتجاه الأمر

ص:122


1- 1) .طبع في القاهرة مع شرح كمال الدين الشريف.

و النهي.غير أنّ السمع ورد بما يقتضي نسبة الكلّ إليه تعالى بالإيجاد و قطعها عن العباد.فلنفي الجبر المحض و صحّة التكليف وجب التخصيص،و هو لا يتوقّف على نسبة جميع أفعال العباد إليهم بالإيجاد،بل يكفي لنفيه أن يقال:

جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات،و كذا التروك التي هي أفعال النفس من الميل و الداعية التي تدعو و الاختيار،بخلق اللّه تعالى،لا تأثير لقدرة العبد فيه.و إنّما محلّ قدرته،عزمه عقيب خلق اللّه تعالى هذه الأُمور في باطنه عزماً مصمّماً بلا تردّد،فإذا أوجد العبد ذلك العزم،خلق اللّه تعالى له الفعل.فيكون منسوباً إليه تعالى من حيث هو حرّكه،و إلى العبد من حيث هو زناً و نحوه.فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة للّه تعالى،صحّ تكليفه و ثوابه و عقابه.و كفى في التخصيص تصحيح التكليف هذا الأمر الواحد.أعني:العزم المصمّم.و ما سواه ممّا لا يحصى من الأفعال الجزئية و التروك كلّها مخلوقة للّه تعالى و متأثّرة عن قدرته ابتداءً بلا واسطة القدرة الحادثة. (1)

يلاحظ عليه:أنّ المجيب تصوّر أنّ القول بانحصار الخلق باللّه سبحانه يستند إلى دليل سمعي قابل للتخصيص كسائر عمومات الكتاب و السنّة في الأحكام الشرعية و السنن.و لكن القول به يستند إلى برهان عقلي غير قابل للتخصيص،و هو أنّ الممكن في ذاته و فعله قائم باللّه سبحانه،متدلٍّ به،و ليس يملك لنفسه ذاتاً و لا فعلاً.و لا فرق في ذلك بين الأفعال الخارجية و الأفعال القلبية،أعني:العزم و الجزم فالكلّ ممكن، و الممكن يحتاج إلى واجب في وجوده و تحقّقه،فينتج أنّ العزم و الجزم في وجوده و تحقّقه محتاج إلى الواجب و معلول لوجوده.

ص:123


1- 1) .شرح العقائد الطحاوية،ص 122- 126،نقلاً عن المسايرة. [1]

نعم،لو كان صاحب المسايرة و أساتذته و تلامذته ممّن يفرقون بين الخلقين:خلق على وجه الاستقلال و خلق على النحو التبعي لما صعب عليهم المقام.

3.ابن الخطيب«قدرة اللّه مانعة عن قدرة العبد»

إنّ لسان الدين بن الخطيب يرى أنّ الكسب فعل يخلقه اللّه في العبد،كما يخلق القدرة و الإرادة و العلم فيضاف الفعل إلى اللّه خلقاً لأنّه خالقه،و إلى العبد كسباً لأنّه محله الذي قام به-إلى أن قال:-انّ الطاعة و المعصية للعبد من حيث الكسب،و لا طاعة و لا معصية من حيث الخلق، و الخلق لا يصحّ أن يضاف إلى العبد،لأنّه إيجاد من عدم و الفعل موجود بالقدرة القديمة لعموم تعلّق القدرة الحادثة بها.

فالقدرة الحادثة تتعلق و لا تؤثّر و هي-القدرة الحادثة-تصلح للتأثير لو لا المانع و هو وجود القدرة القديمة،لأنّهما إذا تواردتا لم يكن للقدرة الحادثة تأثير. (1)

و حاصل هذه النظرية:أنّ لقدرة العبد شأناً في التأثير لو لا المانع،و لكن وجود القدرة القديمة مانع عن تأثير قدرة العبد الحادثة،و لو لا سبق القدرة القديمة لكان المجال للقدرة الحادثة مفتوحاً.

يلاحظ عليه:

أوّلا:إذا كان دور الإنسان في مجال أفعاله دور الظرف و المحل،فلا معنى لإلقاء المسئولية في الشرائع السماوية و الأنظمة البشرية على عاتقه،لأنّ مكان الفعل لا يكون مسئولاً عن الفعل المحقّق فيه،و قد صرح صاحب النظرية بكون الإنسان محلاً لإعمال قدرته سبحانه.

ص:124


1- 1) .القضاء و القدر:187 [1] نقلاً عن كتاب الفلسفة و الأخلاق،للسان الدين بن الخطيب:55.

ثانياً:أنّ ما جاء في هذا البيان يغاير ما عليه الأشعري و أتباعه،فإنّهم لا يقيمون لقدرة الإنسان وزناً و لا قيمة،و لكن ابن الخطيب يعتقد بكونها قابلة للتأثير لو لا سبق المانع و هو القدرة القديمة،و مع ذلك ليس بتام.

و ذلك لأنّ فرض المانعية لإحدى القدرتين بالنسبة إلى الأُخرى إنّما يتم لو صحّ فرض كونه سبحانه هو الفاعل المباشر لكلّ ما ظهر على صفحة الوجود الإمكاني،فعند ذاك يصحّ جميع ما يتصوّر من أنّ القدرة في الإنسان مغلوبة لقدرة الخالق،و لكنّه لم يثبت،بل الثابت خلافه،و أنّ النظام الإمكاني نظام مؤلف من أسباب و مسببات،و كلّ مسبب يستمد-بإذنه سبحانه-عمّا تقدّمه من السبب تقدّماً زمانياً أو تقدّماً رتبياً و كمالياً.

و على ذاك الأصل يسقط حديث مانعية إحدى القدرتين،بل تُصبح قدرة العبد بالنسبة إلى قدرته تعالى،مجلى لإرادته و مظهراً لمشيئته، كيف و قد تعلّقت مشيئته بصدور فعل كلّ فاعل عن مبادئه التي أفاضها عليه،حتّى تكون النار مبدأً للحرارة عن إجبار و اضطرار،و الإنسان مصدراً لأفعاله عن قدرة و اختيار،فلو قام كلّ بفعله فقد قام في الجهة الموافقة لإرادة اللّه لا المضادّة و المخالفة،فقيام هؤلاء أشبه بقيام الجنود بأمر آمرهم: «وَ لِلّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً» 1 ، «وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ». 2

ثالثاً:أنّ هذه المحاولات و التمحّلات ناشئة عن تصوير القدرتين في عرض واحد،فلأجل ذلك يتصوّر تارة كون قدرته سبحانه مانعاً عن تأثير قدرة العبد،و أُخرى بأنّه لو تعلّقت قدرة العبد على ما تعلّقت به قدرته،يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد.

ص:125

و لكن الحقّ كون فعل العبد مقدوراً و متعلّقاً بهما،و لا يلزم من ذلك أيّ واحد من المحذورين،لا محذور التزاحم و التمانع،و لا محذور اجتماع القدرتين التامتين على مقدور واحد،و ذلك لأنّ قدرة العبد في طول قدرة اللّه سبحانه،فاللّه سبحانه بقدرته الواسعة أوجد العبد و أودع في كيانه القدرة،و أعطاه الإرادة و الحرية و الاختيار،فلو اختار أحد الجانبين فقد أوجده بقدرة مكتسبة من اللّه سبحانه،و اختيار نابع عن ذاته، و حريّة هي نفس واقعيته و شخصيته،فالفعل منتسب إلى اللّه لكون العبد مع قدرته و إرادته،و ما يحفّ به من الخصوصيات،قائم بذاته سبحانه، متدلّية بها،كما أنّه منتسب إلى الإنسان لكونه باختياره الذاتي و حريته النابعة من نفسه،اختار أحد الجانبين و صرف قدرته المكتسبة في تحقّقه، كما قال سبحانه: «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللّهَ رَمى» 1 ، «وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ». 2

فنفى عنه الرمي بعد إثباته له،و أثبت له المشيئة في ظل المشيئة الإلهية.

و ما جاء في هذه الآيات من المعارف الإلهية لا يصل إليها إلاّ المتأمّل في آي الذكر الحكيم،و ما نشر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام حولها، و عليه«فالفعل فعل اللّه و هو فعلنا». (1)

ص:126


1- 3) .شرح المنظومة للسبزواري:ص 175 اقتباس من قوله فيها: لكن كما الوجود منسوب لنا و الفعل فعل اللّه و هو فعلنا.
المرحلة الثالثة
اشارة

مرحلة

الإنكار و الإبطال

قد تعرّفت على المرحلتين المتقدّمتين اللتين مرّتا على نظرية الكسب و هي فيهما بين التبيين و التطوير-و لكن مشايخ الأشاعرة-عفا اللّه عنّا و عنهم-و إن بذلوا جهودهم الحثيثة لإيضاحها و تطويرها،و لكنّهم لم يأتوا بشيء يُسمن و يغني من جوع،أو يروي الغليل-و كان الأمر على هذه الحالة إلى أن بعث اللّه رجالاً أبطالاً أدركوا خطورة الموقف،و جفاف النظرية و مضاعفاتها السيّئة،فنفضوا غبار التقليد عن عقولهم، و تفكّراتهم،و نظروا إلى الموضوع نظر متحرّر عن كلّ رأي مسبق،فجعلوا لقدرة الإنسان نصيباً في أفعاله و أعماله،منهم:

1.إمام الحرمين الجويني(المتوفّى 478ه) نسبة الفعل إلى قدرة العبد حقيقة

إنّ أبا المعالي المعروف بإمام الحرمين،ذهب إلى أنّ لقدرة العباد تأثيراً في أفعالهم،و أنّ قدرتهم ستنتهي إلى قدرة اللّه سبحانه و إقداره، و أنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب و المسبّبات،و كلّ مسبّب يستمد من سببه المقدّم عليه،و في الوقت نفسه،ذاك السبب يستمد من آخر، إلى أن يصل إلى اللّه سبحانه.و إليك نص عبارته التي نقلها الشهرستاني:

ص:127

إنّ نفي هذه القدرة و الاستطاعة ممّا يأباه العقل و الحس،و أمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه،فهو كنفي القدرة أصلاً.و أمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل،فهو كنفي التأثير،فلا بدّ إذاً من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث و الخلق،فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم،و الإنسان كما يحسُّ من نفسه الاقتدار،يحسّ من نفسه أيضاً عدم الاستقلال.فالفعل يستند وجوده إلى القدرة،و القدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب،كنسبة الفعل إلى القدرة،و كذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتّى ينتهي إلى مسبب الأسباب،و هو الخالق للأسباب،و مسبباتها المستغني على الإطلاق-فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه،محتاج من وجه،و الباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له و لا فقر. (1)

قال الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا:و هذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيّين،و أبرزه في معرض الكلام.و ليس تختص نسبة السبب إلى المسبّب-على أصله-بالفعل و القدرة (قدرة الإنسان) بل كلّ ما يوجد من الحوادث فذلك حكمه،و حينئذٍ يلزم القول بالطبع و تأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً،و تأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً،و ليس ذلك مذهب الإسلاميّين،كيف،و رأي المحقّقين من العلماء أنّ الجسم لا يؤثر في الجسم. (2)

هذا هو ما علّقه الشهرستاني على كلام إمام الحرمين و آخذه عليه،و هو غير صحيح.فإنّ المراد من العلّية الطبيعية بين الأجسام و المظاهر المادية،ليس هو الإيجاد و الإحداث من كتم العدم،بل المراد هو تفاعل الأجسام و الطبائع،بعضها

ص:128


1- 1) .الملل و النحل:98/1-99. [1]
2- 2) .المصدر نفسه. [2]

مع بعض بإذنه سبحانه،كانقلاب الماء إلى البخار،و المواد الأرضية إلى الأزهار و الأشجار،و غير ذلك ممّا كشف عنه الحسّ و العلم.

و أمّا الصور الطارئة على الطبائع عند التفاعل و الانقلاب كصور الزَّهْر و الشجر،فليست مستندة إلى نفس الطبائع،بل الطبائع معدات و ممهدات لنزول هذه الصور من علل عليا،كشف عنها الذكر الحكيم عند ما صرح بأنّ لعالم الكون مدبرات يدبرونه بإذنه سبحانه،قال:

«فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً». 1

إنّ كون العبد فاعلاً لفعله،و عالم الطبائع مؤثراً في آثاره فإنّما هو بمعنى كونهما«ما به الوجود»لا«ما منه الوجود»،و كم من فرق بين التعبيرين.فمن اعترف بالتأثير فقد اعترف بالمعنى الأوّل و السببية الناقصة،لا بالمعنى الثاني،أعني إفاضة الوجود،و الخلق بالمعنى القائم باللّه سبحانه،فإنّ الخلق فيض يُبتدئ منه سبحانه،و يجري في القوابل و القوالب فيتجلّى في كلّ مورد بصورة و شكل،و الإنسان بما أنّه مجبول على الاختيار،يصرف باختياره ما أُفيض عليه في مكان دون مكان و في صورة دون صورة.نعم ليس لغيره من الطبائع إلاّ طريق واحد و تجلٍّ فارد.

و أظن أنّ الشهرستاني لو وقف على الفرق بين الفاعلين،لما اعترض على كلام إمام الحرمين-بأنّه ليس من مذهب الإسلاميين-نعم هو ليس من مذاهب الحنابلة و الأشاعرة،و أمّا العدلية بعامة طوائفها فهم قائلون بذلك،و قد عرفت قضاء القرآن و العقل في ذاك المجال.

ص:129

2.أحمد بن تيمية(662- 728ه) يعترف بتأثر قدرة العبد

إنّ أحمد بن تيمية من دعاة السلفية في القرن الثامن،و هو الذي أحيا مذهب السلف،بعد اندراسه،و دعا إليه بحماس و خالف الرأي العام في مسائل عديدة في العقائد و الفقه،و أخذ برأي أهل الحديث في عامّة الموارد،حتّى في إجلاسه سبحانه فوق عرشه،و وصفه بأنّ له أطيطاً كأطيط الرحل،إلاّ أنّه خالفهم في تأثير العلل الطبيعية و قدرة العبد و استطاعته،و أنّما عدل عن آرائهم في هذا الموضوع و أخذ برأي العدلية من الإمامية و المعتزلة لأجل قوة البراهين التي أقامها العلاّمة الحلي رداً على قول الأشاعرة بأنّه لا دور للعبد في أفعاله،و ذلك لأنّ مقالة مثل هذه يستلزم أشياء شنيعة.

فلم يجد ابن تيمية محيصاً إلاّ العدول عن رأي أهل الحديث و الانسلاك في صفوف العدلية،و ممّا يقضى به العجب انّه نسب مختاره إلى جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر،و كأنّ الإمام أحمد أو الإمام الأشعري ليسا من أئمة أهل السنّة.

و على كلّ تقدير،فهذا نصّ كلامه:

انّ جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر،لا يقولون بما ذكره،بل جمهورهم يقولون بأنّ العبد فاعل حقيقة،و أنّ له قدرة حقيقية و استطاعة حقيقية،و هم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرّون بما دلّ عليه العقل من أنّ اللّه تعالى يخلق السحاب بالرياح،و يُنزّل الماء بالسحاب و يُنبِت النباتَ بالماء،و لا يقولون بأنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها،بل يقرون أنّ لها تأثيراً لفظاً و معنى.

و لكن هذا القول الذي حكاه هو (العلاّمة الحلّي) قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري و من وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد،حيث لا

ص:130

يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع و يقولون:إنّ اللّه فعل عندها لا بها،و يقولون:إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل،و أبلغ من ذلك قول الأشعري بأنّ اللّه فاعل فعل العبد،و أنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد،بل كسب له،و إنّما هو فعل اللّه،و جمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك،و أنّ العبد فاعل لفعله حقيقة. (1)

أقول:إنّ الإمام في العقائد لدى أهل السنّة،هو الإمام أحمد،و بعده الإمام الأشعري،و المفروض أنّهم لا يقولون بعدم تأثير قدرة العبد في فعله،و معه:كيف يمكن أن ينسب إلى أهل السنّة غيره؟!

و الحقّ أنّ ابن تيمية من رماة القول على عواهنه فيقضي و يبرم و ينقض من دون أن يصدر من مصدر صحيح.

و العجب انّه ينسب إلى أهل السنّة بأنّهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية!!

كيف يقول ذلك و الأزهر و الأزهريون يردّدون في ألسنتهم قول القائل: و من يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة

3.نظرية الشعراني(911-973ه) و تأثير قدرة العبد في فعله

إنّ الشيخ الشعراني مؤلف كتاب«اليواقيت و الجواهر في بيان عقائد الأكابر»من أقطاب الحديث و الكلام و التصوف،فقد أدرك بصفاء ذهنه انّ العقيدة بالكسب لا تفارق الجبر قدر شعرة،فحاول أن يعالج المسألة من طريق الكشف فقال:

ص:131


1- 1) .منهاج السنة:266/1.

اعلم يا أخي أنّ هذه المسألة من أدقّ مسائل الأُصول و أغمضها،و لا يُزيل إشكالها إلاّ الكشف الصوفي،أمّا أرباب العقول من الفرق فهم تائهون في إدراكها،و آراؤهم فيها مضطربة.إذ كان أبو الحسن الأشعري يقول:ليس للقدرة الحادثة (قدرة العبد) أثر،و إنّما تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير.

و قد اعترض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها و عدمها سواء،فإنّ قدرة لا يقع بها المقدور،بمثابة العجز.و لقوة هذا الاعتراض لجأ أصحاب الأشعري إلى القول بالجبر.و قال آخرون إنّ لها تأثيراً ما،و هو اختيار الباقلاني،لكنّه لما سئل عن كيفية هذا التأثير في حين التزامه باستقلال القدرة القديمة في خلق الأفعال،لم يجد جواباً.و قال:إنّا نلتزم بالكسب لأنّه ثابت بالدليل،غير أنّي لا يمكنني الإفصاح عنه بعبارة.و تمثل الشيخ أبو طاهر بقول الشاعر: إذا لم يكن إلاّ الأسنّة مركباً فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها

ثمّ قال:ملخص الأمر:أنّ من زعم أنّه لا عمل للعبد،فقد عاند،و من زعم أنّه مستبد بالعمل،فقد أشرك؛فلا بدّ أنّه مضطر على الاختيار. (1)

هذا،و قد أحسن الشيخ في نقد الكسب و لكن الإحالة إلى الكشف الصوفي إحالة إلى المجهول،أو إحالة إلى إدراك شخصي لا يكون حجّة للغير.

4.الشيخ عبده(1266-1323ه)،و تأثير قدرة العبد في فعله

لم نجد بين رحيل الشيخ الشعراني عام 937ه إلى عصر مفتي الديار

ص:132


1- 1) .اليواقيت و الجواهر [1]في بيان عقائد الأكابر:139- 141.

المصرية من ينفض غبار التقليد عن تفكيره،و لعلّ في هذه الفترة رجالاً أحراراً في التفكير،وصلوا إلى ما وصل إليه إمام الحرمين و من جاء بعده،و على كلّ تقدير فقد خالف الشيخ محمد عبده،الرأي السائد على الأزهر و الأزهريين و قام بوجههم و صرح بتأثير قدرة العبد في فعله.

كانت العقيدة الإسلامية في مصر تتجلّى في المذهب الأشعري و كان إنكار العلّية و المعلولية و الرابطة الطبيعية بين الطبائع و آثارها من أبرز سمات ذاك المذهب،و كان التفوّه بخلافه آية الإلحاد و الكفر،و قد شنّ الماديون على هذه العقيدة أُموراً ملئوا بها صحفهم و كتبهم،منها:

1.إنّ الإلهيّين لا يعترفون بناموس العلّية و المعلولية،و ينكرون الروابط الطبيعية بين الأشياء و آثارها،مع أنّ العلم-بأساليبه التجريبية المختلفة-يثبت ذلك بوضوح.

2.إنّ الإلهيّين يعترفون بعلّة واحدة و هي اللّه تعالى،و هم يقيمونه مقام جميع العلل،و ينسبون كلّ ظاهرة مادية إليه سبحانه،و أحياناً إلى العوالم العِلْوية التي يعبّر عنها بالملك و الجن و الروح.

3.إنّ الإلهيّين-بسبب قولهم بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه-لا يعتقدون بدور للإنسان في حياته و عيشه،فهو مجبور في السير على الخط الذي يرسمه له خالقه،و مكتوف الأيدي أمام تلاطم أمواج الحوادث،فلأجل ذلك لا يؤثر في الإنسان شيء من الأساليب التربوية و لا يغيره إلى حال.

إلى غير ذلك من الإشكالات و المضاعفات و التوالي الفاسدة،التي لا تقف عند حدّ.

و قد وقف الشيخ عبده على خطورة الموقف،و أنّه ممّا يستحقّ أن يشتري لنفسه اللوم و الذم،بل الأمر الأشد من ذلك،في سبيل إظهاره الحقيقة،حتّى يدفع

ص:133

الهجمات الشعواء عن وجه الإسلام و المسلمين بقوة و رصانة.

نعم،قد أثّر في تفكير الشيخ عبده و أوجد فيه هذا الحافز و الاندفاع،عاملان كبيران،كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية و الفلسفية و الاجتماعية و السياسية،و هما:

1.اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام في منفاه(بيروت).

2.اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسدآبادي (1254- 1316ه).

ففي ضوء هذين العاملين،خالف الرأي العام في كثير من الموارد،و منها أفعال العباد،فقال في رسالة التوحيد التي كتبها عام 1303ه للتدريس في المدارس الإسلامية في بيروت سنة إقصائه من مصر إليها-فقال:

يشهد سليم العقل و الحواسّ من نفسه أنّه موجود و لا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه،و لا معلم يرشده،كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختيارية،يزن نتائجها بعقله،و يقدّرها بإرادته،ثمّ يصدرها بقدرة ما فيه،و يعد إنكار شيء من ذلك مساوياً لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل.

كما يشهد بذلك في نفسه يشهده أيضاً في بني نوعه كافة،متى كانوا مثله في سلامة العقل و الحواس...و على هذا قامت الشرائع،و به استقامت التكاليف،و من أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه،و هو عقله الذي شرفه اللّه بالخطاب في أوامره و نواهيه.

إلى أن قال:و دعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد. (1)لأفعاله يؤدي إلى

ص:134


1- 1) .و لعلّه استخدم لفظ الكسب ليكون واجهة لبيان مقصده بتعبير مقبول عند أهل السنّة و إلاّ فما ذكره لا صلة له بالكسب المصطلح،إلاّ أن يريد الكسب القرآني،أعني قوله سبحانه:«لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ»البقرة:286. [1]

الإشراك باللّه-و هو الظلم العظيم-دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب و السنّة،فالإشراك اعتقاد أنّ لغير اللّه أثراً فوق ما وهبه اللّه من الأسباب الظاهرة،و أنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين،و هو اعتقاد من يعظم سوى اللّه مستعيناً به في ما لا يقدر العبد عليه....

جاءت الشريعة لتقرير أمرين عظيمين،هما ركنا السعادة و قوام الأعمال البشرية:

الأوّل:إنّ العبد يكسب بإرادته و قدرته ما هو وسيلة لسعادته.

و الثاني:إنّ قدرة اللّه هي مرجع لجميع الكائنات،و إنّ من آثارها ما يحول بين العبد و بين إنفاذ ما يريده،و إنّ لا شيء سوى اللّه يمكن له أن يمدّ العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.

و قد كلّفه سبحانه أن يرفع همّته إلى استمداد العون منه وحده،بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر و إجادة العمل.

و هذا الذي قرّرناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة،فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم،و عوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني، و إن أنكر عليه بعض من لم يفهمه. (1)

5.الزرقاني و الجمع بين النصوص

إنّ الشيخ محمد بن عبد العظيم الزرقاني مؤلّف كتاب«مناهل العرفان في علوم القرآن»أحد المحقّقين في العلوم القرآنية،و كتابه هذا، يدلّ على سعة باعه

ص:135


1- 1) .رسالة التوحيد:59- 62 [1] بتلخيص.

و اطّلاعه و نزاهة قلمه و دماثة خلقه مع المخالفين،فقد طرح في كتابه مسألة خلق الأفعال و قال:و لنعلم أنّ المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم،إخواناً مسلمين،تُظلّهم راية القرآن و يضمّهم لواء الإسلام.

في القرآن الكريم و السنّة النبوية نصوص كثيرة على أنّ اللّه تعالى خالق كلّ شيء،و انّ مرجع كلّ شيء إليه وحده،و انّ هداية الخلق و ضلالهم بيده سبحانه،ثمّ ذكر شيئاً من الآيات و الروايات الواردة في هذا الصدد.

ثمّ قال:بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضاً من الكتاب و السنّة،تنسب أعمال العباد إليهم و تعلن رضوان اللّه و حبّه للمحسنين فيها، كما تعلن غضبه و بغضه للمسيئين،ثمّ ذكر قسماً من الآيات و الروايات الدالّة على ذلك،ثمّ خرج بالنتيجة التالية:

إنّ أهل السنّة بهرتهم النصوص الأُولى فقالوا:إنّ العبد لا يخلق أفعالَ نفسه الاختيارية و إنّما هي خلق اللّه وحده.و إذا قيل لهم:كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ و كيف يتّفق هذا و ما هو مقرر من عدالة اللّه و حكمته في تكليف خلقه؟ قالوا:إنّ العباد-و إن لم يكونوا خالقين لأعمالهم-كاسبون لها.و هذا الكسب هو مناط التكليف و مدار الثواب و العقاب،و به يتحقّق عدل اللّه و حكمته فيما شرع للمكلّفين.

و هكذا حملوا النصوص الأُولى على الخلق و حملوا الثانية على الكسب جمعاً بين الأدلّة.

أمّا المعتزلة فقد بهرتهم النصوصُ الثانية و ما يظاهرها من برهان العقل فرجّحوها و قالوا:إنّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية.و إذا قيل لهم:أ ليس اللّه

ص:136

خالق كلّ شيء و منها أعمال العبد؟ قالوا:بلى إنّه خالق كلّ شيء حتّى أعمال عباده الاختيارية،بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة و خلق بعضها الآخر بواسطة،و أعمال المكلّفين من القبيل الثاني،خلقها اللّه بوساطة خلق آلاتها فيه،و آلاتها هي القدرة الكلية و الإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكلّ من الطرفين.و ليس لنا من حول و لا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها،إمّا بحسن الاختيار و إمّا بسوء الاختيار.ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده،و لكن على سبيل المجاز،باعتبار أنّه خالق أسبابها و وسائلها.

ثمّ قال هو:و لقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية اللّه و عدله،و يؤمنون بقدره و أمره،و يؤمنون بهذه النصوص و تلك النصوص، و يؤمنون بأنّ العبد يعمل ما يعمل و أنّ اللّه خالق كلّ شيء،و يؤمنون بأنّه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوباً أو عاجزاً،و تنزّه في أمره و تكليفه عن أن يكون ظالماً أو عابثاً.ثمّ بعد ذلك يصمتون،فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة اللّه،و نصيبه من قدرة العبد.و لا يتعرّضون لبيان مدى ما يبلغ فعل اللّه في قدره،و لا لبيان مدى ما يبلغ فعل العبد في امتثال أمره،ذلك ما لم يعلموه و لم يحاولوه، لأنّهم لم يكلّفوه،و كان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلّفهم إيّاه،لأنّه من أسرار القدر أو يكاد،و العقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد.

و من شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه «وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً». لم يمتحنّا بما تعيا العقولُ به حرصاً علينا فلم نرتب و لم نهم (1)

ص:137


1- 1) .مناهل العرفان في علوم القرآن:506/1- 511،و [1]الشعر جزء من قصيدة البوصيري في مدح النبي صلى الله عليه و آله و سلم
6.الشيخ شلتوت(1310-1383ه) العبد فاعل بإرادته و قدرته

إنّ الشيخ شلتوت أحد المجتهدين الأحرار في القرن الماضي لا تأخذه في اللّه لومة لائم،فإذا شاهد الحق أجهر به،و لا يطلب رضى أحد، و لا يخاف غضب آخر،فهو ممّن اعترف بحرية الإنسان في مجال العمل،قال:

و قد تناول علماء الكلام في القديم و الحديث هذه المسألة،و عُرِفت عندهم بمسألة الهدى و الضلال،أو بمسألة الجبر و الاختيار،أو بمسألة خلق الأفعال،و كان لهم فيها آراء فرّقوا بها كلمة المسلمين،و زلزلوا بها عقائد الموحدين العاملين،و صرفوا الناس بنقاشهم في المذاهب و الآراء عن العمل الذي طلبه اللّه من عباده،و أخذوا يتقاذفون فيما بينهم بالإلحاد و الزندقة،و التكفير و التفسيق،و ما كان اللّه-و آياته بينات واضحات-ليقيم لهم وزناً فيما وقفوا عنده،و داروا حوله،و دفعوا الناس إليه.

ثمّ إنّ ذلك العيلم بعد ما ذكر آراء السلف المختلفة قال:

و الذي نراه كما قلنا أنّ للعبد قدرة و إرادة و لم يخلقهما اللّه فيه عبثاً،بل خلقهما ليكونا مناط التكليف و مناط الجزاء و أساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية،و اللّه يترك عبده و ما يختار لنفسه،فإن اختار الخير تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه،و لا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه؛و إن اختار الشر،تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه،و لا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه،و العبد و قدرته و اختياره كل ذلك بمشيئة اللّه و قدرته و تحت قهره،و لو شاء لسلب قوة الخير فكان العبد شرّاً بطبعه لا خير فيه،و لو شاء لسلبه قوة الشر فكان خيراً بطبعه لا شر فيه، و لكن حكمته الإلهية في التكليف و الابتلاء،قضت بما رسم،و كان فضل اللّه على الناس عظيماً.

ص:138

و من هنا يتبين أنّ العبد ليس مجبوراً،لا ظاهراً و لا باطناً،و لا مجزياً على ضلاله بإضلال اللّه إياه،فإنّ هذا أمر تأباه حكمة الحكيم و عدل العادل،و تمنع تصوّره.

القضاء و القدر ليس معناهما الإلزام

و بهذا يكون المؤمنون عمليّين،لا يعتذر الواحد منهم عن تقصير في واجب بالقضاء و القدر،فليس في القضاء و القدر إلاّ العدل المطلق، و الحكمة الشاملة العامة،ليس فيهما إلاّ الحكم و الترتيب،و ربط الأسباب بالمسببات على سنّة دائمة مطّردة،هي أصل الخلق كلّه،و هي أساس الشرائع كلّها،و هي أساس الحساب و الجزاء عند اللّه،و ليس فيهما شيء من معاني الإكراه و الإلزام.و إنّما معناهما الحكم و الترتيب،فقضى:حكم و أمر،و قدر:رتب و نظم،و علم اللّه بما سيكون من العبد باختياره و طوعه-شأن المحيط علمه بكلّ شيء-ليس فيه معنى إلزام العبد بما علم اللّه أنّه سيكون منه،و إنّما هو العلم الكامل الذي لا يقصر عن شيء في الأرض و لا في السماء،و لا فيما كان و ما يكون. (1)

و بذلك تمت المراحل التي مرّت على نظرية الكسب التي شغلت بالَ المفكّرين عدة قرون و تركتْ بصماتِها على ثقافة المسلمين و على حياتهم بحجة انّ الإنسان مكتوف اليد،ليس له و لا لقدرته و إرادته أيُّ أثر في حياته.

قال أحمد أمين:غالت المعتزلة،بحرية الارادة،و غلوا فيها أمام قوم،سلَبُوا الانسانَ إرادتَه،حتّى جعلوه كالريشة في مهب الريح،أو كالخشبة في اليمّ.و عندي انّ الخطأ في القول بسلطان العقل،و حرية الإرادة،و الغلوّ فيهما،خير من

ص:139


1- 1) .تفسير القرآن الكريم،للشيخ شلتوت:240- 242.

الغلوّ في أضدادهما،و في رأيي انّه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم كان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي،و قد أعجزهم التسليمُ و شلّهم الجبرُ،و قعد بهم التواكل. (1)

و لو كان الكاتب واقفاً على منهج أئمّة أهل البيت في حرية الإنسان،و حدود سلطان العقل لأذعن بأنّ المنهج في تحديد الحرية،خال عن الغلوّ،و انّه أعطى لكلّ حقّه،فما عاقه القول بالتوحيد في الخالقية،عن القول بحرية الإنسان،و انّ مصيره من حيث السعادة و الشقاء بيده،كما لم يمنعه القول بتأثير قدرة العبد في انتخابه و اختياره عن القول بالتوحيد في الأفعال،و انّ كلّ ما في الكون من دقيق و جليل قائم به سبحانه،و مفاض منه عبر العلل و الأسباب.

لم يزل النقاش و الجدال قائماً بين الأشاعرة و المعتزلة على قدم و ساق،و كلّ يتهم الآخر بأشنع التهم،فالأشعري يتّهم المعتزلي بالشرك و انّ القول باستقلال الإنسان في فعله يستلزم أن يكون للّه شركاء بعدد الإنسان و هم عباده المكلّفون،و هذا يناقض عقيدة التوحيد،و برهان الوحدانية؛كما أنّ المعتزلة تتّهم الأشاعرة بأنّ قولهم بخلق الأعمال لا يتّفق مع القول بعدله و حكمته سبحانه،إذ كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده.

و لو رجع روّاد المنهجين،إلى منهج أئمّة أهل البيت لوقفوا على الحقّ الصراح،و انّ القول بالتوحيد في الخالقية لا يزاحم القول بالعدل و الحكمة،(بشرط أن يفسر على النهج الصحيح) و انّ بين الأصلين كمال التلاؤم.

رُوي انّ القاضي عبد الجبار المعتزلي(المتوفّى415) دخل دارَ الصاحب بن عباد فرأى فيه أبا إسحاق الاسفرائني الأشعري(المتوفّى413ه) فقال القاضي:

ص:140


1- 1) .ضحى الإسلام:7/3.

سبحان من تنزّه عن الفحشاء (يريد بذلك انّ القول بخلق الاعمال يستلزم انّه سبحانه خلق الفحشاء)،فأجابه أبو إسحاق:سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما شاء،و يريد انّ القول بوقوع أفعال العباد بلا مشيئة منه سبحانه يستلزم القول بتحقّق أُمور خارجة عن سلطانه. (1)

و لو تتلمذ عميدا المعتزلة و الأشاعرة على خريجي منهج أئمّة أهل البيت عليهم السلام لوقفا على أنّ الشعارين غير متزاحمين،فاللّه سبحانه في الوقت الذي تنزّه عن الفحشاء لا يجري في ملكه إلاّ ما شاء،فَجعْلُ كلّ من الشعارين مقابلاً للآخر رهن الجمود على القول بعموم الخلقة على التفسير الذي سار عليه الأشعري،و على انقطاع فعل العبد عن قدرته سبحانه على النحو الذي سار عليه المعتزلة.

هذا تمام الكلام حول نظرية الكسب،و مراحلها التي مرّت بها و ما لها من التوالي و المضاعفات.

بقيت هنا عدّة أُمور نذكرها تباعاً في خاتمة المطاف.

ص:141


1- 1) .شرح المقاصد:145/2؛ [1]شرح المواقف:156/8.

خاتمة المطاف

اشارة

و فيها أُمور:

الأمر الأوّل:نسبة فعل العبد إلى اللّه فوق التسبيب

ربما يقال:انّ نسبة فعل العبد إلى اللّه سبحانه نسبةُ المسبّب إلى السبب،و اللّه سبحانه خلق الإنسان و زوّده بالقدرة فهو يفعل بقدرته سبحانه،و بما انّ العبد و القدرة من أفعاله سبحانه،يكون الصادر عن قدرة العبد فعلاً له سبحانه تسبيباً.

أقول:إنّ حديث التسبيب هو متلقّى النظر الساذج و كفى في النجاة الاعتقاد بذلك.

و أمّا في النظرة الدقيقة فانّ نسبة فعل العبد إلى اللّه سبحانه فوق ذلك،لأنّ العالم الإمكاني بجواهره و أعراضه و طبائعه و مجرداته فقير بالذات لا يملك لنفسه شيئاً من الوجود،فالجميع قائم باللّه سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي،فلا يُمكن الفصل بين الوجود الإمكاني و وجود الواجب،فانّ الفصل آية الغناء،و هو يلازم الوجوب و المفروض انّه فقير بالذات حدوثاً و بقاء.

و أفضل جملة تعبر عن هذه العلقة الوثيقة قوله سبحانه: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» 1 و قوله سبحانه: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ

ص:142

إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا» 1 و مفاد هاتين الآيتين هو كونه سبحانه مع كلّ موجود إمكاني من دون فرق بين الإنسان و فعله.

و ليس المراد من المعية هو حلوله سبحانه في ذوات الأشياء و آثارها،بل المراد هو المعية القيومية.

و قد ذكر صدر المتألّهين تمثيلاً في المقام،و إليك بيانه:

إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلاً لشخصين على الحقيقة،فلاحظ النفس الإنسانية،و قواها،فاللّه سبحانه خلقها مثالاً،ذاتاً و صفة و فعلاً،لذاته و صفاته و أفعاله،قال سبحانه: «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ». 2 و قد أُثر عن النبي و الوصي القول بأنّه«من عرف نفسه،عرف ربّه». (1)

إنّ فعل كلّ حاسّة و قوة من حيث هو فعل تلك القوة،فعل النفس أيضاً،فالباصرة ليس لها شأن إلاّ إحضار الصورة المبصرة،أو انفعال البصر منها،و كذلك السامعة،فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها بها،و مع ذلك فكلّ من الفعلين،كما هو فعل القوة،فعل النفس أيضاً، لأنّها السميعة البصيرة في الحقيقة،و ليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك.لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد انّ نفوسنا بعينها الشاعرة في كلّ إدراك جزئي،و شعور حسّي،كما أنّها المتحركة بكلّ حركة طبيعية أو حيوانية منسوبة إلى قواها.و بهذا يتّضح انّ النفس

ص:143


1- 3) .غرر الحكم:268،طبعة النجف.و روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله:«أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه»أمالي المرتضى:329/2.

بنفسها في العين قوّة باصرة،و في الأُذن قوة سامعة،و في اليد قوة باطشة،و في الرّجل قوّة ماشية،و هكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء،فبها تبصر العين و تسمع الأُذن و تمشي الرجل.فالنفس مع وحدتها و تجرّدها عن البدن و قواه و أعضائه،لا يخلو منها عضو من الأعضاء عالياً كان أو سافلاً،و لا تباينها قوة من القوى مدركة كانت أو محركة،حيوانية كانت أو طبيعية.

إذا عرفت ذلك،فاعلم أنّه كما ليس في الوجود شأن إلاّ و هو شأنه،كذلك ليس في الوجود فعل إلاّ فعله،لا بمعنى أنّ فعل زيد مثلاً ليس صادراً عنه،بل بمعنى انّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل اللّه بالحقيقة.فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقّق في الواقع، منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز،و هو مع ذلك شأن من شئون الحقّ الأوّل،فكذلك علمه و إرادته و حركته و سكونه و جميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز و الكذب.فالإنسان فاعل لما يصدر عنه و مع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحقّ الأوّل على الوجه اللائق بذاته سبحانه. (1)

و في الحديث القدسي إلماع إلى هذا النوع من النسبة بين الخالق و المخلوق،قال:«يا ابن آدم بمشيئتي كنتَ أنتَ الذي تشاء لنفسك ما تشاء،و بقوتي أدّيتَ إليّ فرائضي،و بنعمتي قوِيتَ على معصيتي،جعلتك سميعاً بصيراً قوياً». (2)

فالأشاعرة خلعوا الأسباب و العلل و هي جنود اللّه سبحانه،عن مقام التأثير و الإيجاد.كما أنّ المفوّضة عزلتْ سلطانَه عن ملكه و جعلت بعضاً منه في سلطان غيره.و الحقّ الذي أيّده البرهان و يصدّقه الكتاب كون الفعل موجوداً بقدرتين،لكن لا بقدرتين متساويتين و لا بمعنى علّتين تامّتين بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى و شئونها و جنودها، «وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ» . (3)

ص:144


1- 1) .الأسفار:377/6- 378،و ص 374. [1]
2- 2) .البحار:57/5. [2]
3- 3) .المدثر:31. [3]
الأمر الثاني:تنمية العلم في ظلّ القول بنظام الأسباب و المسبّبات

قد أوضحنا في محاضراتنا في«الإلهيات»انّ القول بانّ المادة لم تزل أزلية،و لو صارت ذات سنن و قوانين فإنّما هي وليدة الصدفة،لا يدفع بالإنسان إلى التحقيق و سبر أغوار الطبيعية،و ذلك إذ لا علم له بوجود سنن و أنظمة في داخل العالم حتّى يبحث عنه الإنسان،فلا محيص للباحث في سنن العالم و المستطلع للحقائق السائدة فيه-قبل الفحص عن السنن-عن اعتناق نظرية الخلقة و هي انّ العالَم مصنوع علم و قدرة واسعة،أخرجه من العدم إلى الوجود و أجرى فيها سنناً و أنظمة.

و الحاصل:انّ الذي يبعث الإنسان إلى الفحص عن النظم و السنن هو نظرية الإلهيّين و هو انّ العالم مخلوق موجود واجب عالم قد مر، و أمّا النظرية الأُخرى أي عدم تدخّل علم و قدرة في النظم و السنن فيعرقل خطا الباحث عن الغور في العالم.

هذا هو الذي أوضحنا حاله في«الإلهيات».

فنقول:إنّ إنكار العلل و المعاليل و الأسباب و المسبّبات و الاعتقاد بعلّة واحدة مكان العلل نظير القول بأنّ النظام مخلوق صدفة،و ذلك لأنّ الذي يبعث الباحث عن الوجود و أسراره هو اعتقاده بانّ كلّ ذرة في ذات هذا العالم مشتملة على قانون يريد أن يستكشفه و يفرغه في قالب العلم،و أمّا إذا اعتقد خلاف ذلك و انّه ليس للعالم إلاّ علّة واحدة و أنكر الأنظمة و السنن فلا يجد في نفسه باعثاً نحو الفحص و التحقيق،إذ لا علم له بوجود السنن و الأنظمة حتّى يبحث عنها،فدعامة العلم لا تقوم إلاّ بالقول بأنّه سبحانه تبارك و تعالى خلق العالم على نظام خاص و أجرى فيه شيئاً هي مظاهر علمه و قدرته.

ص:145

و قد جرت سنّة اللّه تعالى على خلق الأشياء بأسبابها،فجعل لكلّ شيء سبباً و للسبب سبباً إلى أن ينتهي إلى اللّه سبحانه،و المجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامّة كافية لإيجاد الفعل،و نكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال:«أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب،فجعل لكلّ شيء سبباً و جعل لكلّ سبب شرحاً». (1)

الأمر الثالث:

إنّ المنقول عن الفيلسوف الفرنسي«مالبرانس»(1631- 1715م) يتّحد مع نظرية الأشعري حرفاً بحرف،و من المظنون أنّه وقف على بعض الكتب الكلامية للأشاعرة،فأفرغ نظرية الكسب حسب ما تلقّاه من تلك الكتب،و حاصل ما قال:

إنّ كلّ فعل إنّما هو في الحقيقة للّه،و لكن يظهر على نحو ما يظهر،إذا تحقّقت ظروف خاصة إنسانية أو غير إنسانية حتّى لكأنّها يخيّل للإنسان أنّ الظروف هي التي أوجدته.

فهذه النظرية أولى بأن تسمّى بنظرية الاتّفاقية،أو نظرية الظروف و المناسبات،و هي نفس نظرية الأشعري حيث يرى أنّه لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث،و إنّما جرت سنّة اللّه بأن يلازم بين الفعل المحدَث و بين القدرة المحدثة (بالكسر) له إذا أراد العبد و تجرد له،و يسمى هذا الفعل كسباً.فيكون خلقاً من اللّه،و كسباً من العبد،عند ما يقع في متناول قدرته و استطاعته،من غير تعلّقه عليه. (2)

ص:146


1- 1) .الكافي:183/1،باب معرفة الإمام،الحديث7. [1]
2- 2) .القضاء و القدر للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب:182.

و قد نقل«ذكاء الملك»نظرية ذلك الفيلسوف الفرنسي في موسوعته الفلسفية.و هي تبتني على إنكار قانون العلّية و المعلولية بين الأشياء،و أنّ كلّ ما يعدّ علّة لشيء فهو من باب المقارنة.فلو رأينا أنّ جسماً يحرك جسماً آخر،فذلك إدراك سطحي،و المحدث هو اللّه سبحانه، و تلاقي الجسمين ظرف لقيامه بالتحريك،و مثله تحريك النفس عضواً من أعضاء البدن،فالمحرّك هو اللّه سبحانه و إرادة النفس ظرف و محلّ لظهور فعله سبحانه.

و لا نعلّق على هذه النظرية سوى القول بأنّها مخالفة للبراهين الفلسفية القائمة على وحدة حقيقة الوجود في جميع المراتب،و اختلافها بالشدة و الضعف.فعندئذٍ لا معنى لأن يختصّ التأثير ببعض المراتب دون آخر مع الوحدة في الحقيقية.

إنّ إنكار التأثير على وجه الإطلاق بين الظواهر الطبيعية و ما فوقها يخالف البرهان العقلي الفلسفي،أوّلاً؛و صريح الذكر الحكيم،ثانياً؛ و الفطرة السليمة الإنسانية،ثالثاً،و التفصيل في الجهات الثلاث موكول إلى محلّه.

الأمر الرابع:التفسير الخاطئ في قسم من الأُصول

قد تعرّفت على التفسير الخاطئ للتوحيد في الخالقية و انّ هذه العقيدة القرآنية كيف فسِّرت بصورة مشوهة حتّى صارت سبباً لانتفاء الغاية من خلق القدرة في الإنسان إلى غير ذلك من المضاعفات التي تعرّفت عليها.

و في تاريخ العقائد نظائر لهذا الأصل ابتليت بتفاسير خاطئة استوجب توالي فاسدة،نظير:

1.القضاء و القدر وسعتها لأفعال البشر.

ص:147

2.علمه سبحانه بالكائنات و أفعال الإنسان.

3.البداء و انّ للإنسان أن يغيّر مصيره بالأعمال الصالحة و الطالحة.

4.التقية التي هي سلاح الضعيف أمام من صادر حرياته.

و نظائرها فانّ كلاً من هذه الأُصول لها دلائل ساطعة في القرآن الكريم و السنّة تعدّ من المعارف العليا في الإسلام و لكنّها مع الأسف الشديد وقعت في إطار تفاسير باطلة صارت سبباً للطعن و الغمز.

أمّا القضاء و القدر فقد فسّرا بنحو صارت نتيجته كون الإنسان مكتوف اليد،أو كالريشة في مهب الريح،أو كالخشبة في اليم،أو غير ذلك.

و أمّا الثاني،فقد جعلوا علمه الوسيع سبباً للجبر و انّه ليس للخاطئ إلاّ ارتكاب الخطأ و إلاّ ينقلب علمه جهلاً.

و أمّا الثالث،فقد فسروه بظهور ما خفي عليه سبحانه،و تعالى عن ذلك.

و أمّا الرابع،فقد جعلوه من فروع النفاق.

فيجب على الباحث أن يستنطق الكتاب و السنة فيها مجرداً عن كلّ رأي مسبق حتّى يقف على حقائق تلك الأُصول.

و بما انّه قد استوفينا الكلام في هذه الأُصول في عدة من مؤلّفاتنا فلا نجد حاجة إلى تكرارها،و من أراد فليرجع إلى الصفحة أدناه. (1)

ص:148


1- 1) .انظر 1.الإلهيات في أربعة أجزاء:الجزء الأوّل و الثاني؛2.مفاهيم القرآن في عشرة أجزاء،الجزء الأوّل؛3.الملل و النحل،الجزء الأوّل و الثالث؛4.مع الشيعة الإمامية في تاريخهم و عقائدهم.
الأمر الخامس:تغيير عنوان المسألة في كتب المتأخّرين

إنّ العنوان الرائج في كتب القدماء هو خلق الأعمال و الأفعال و لكن العنوان الموجود بين المتأخرين غير ذلك فهم يعبرون عن المسألة بالعنوان التالي:

إنّ اللّه قادر على كلّ المقدورات أو انّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه سبحانه و تعالى وحده. (1)

و لعل التعبير الثاني أفضل،و ذلك لأنّ مادة الخلق لا تنسب إلى الفعل في لغة العرب،فلا تجد في الكتاب و السنّة و لا عند شعراء العصر الجاهلي من ينسب الخلق إلى الفعل و يقول خلق الأكل أو الشرب.

نعم ورد في القرآن الكريم قول إبراهيم: «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً» 2 فقد نسب الخلق إلى الإفك الذي هو يعدّ فعلاً للإنسان.

و لكن الإمعان في الآية يفسر لنا وجه هذه النسبة،فانّ الإفك كناية عن الاعتقاد بكون الأصنام إلهاً يُعبد،فقد صار هذا سبباً لنسبة الخلق إلى الفعل(الإفك) المتجسّم في ضمن«الأوثان»التي يتعلّق بها«الخلق».

و هذا يعرب عن أنّ العنوان الواضح هو ما اختاره المتأخّرون من عمومية قدرته لأفعال العباد.

الأمر السادس:في إيضاح الجهمية و النجارية و الضرارية

إنّ هذه الطوائف الثلاث من دُعاة القول بالجبر و خلق الأعمال و انّ نصيب

ص:149


1- 1) .لاحظ شرح المواقف:145/8.

العبد من الفعل هو الكسب،و لذا حاولنا أن نقول فيهم كلمة للإيضاح.

تنتسب الجهمية إلى جهم بن صفوان(المتوفّى 128ه) و هو تلميذ الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد اللّه القسري سنة 124ه.

و يليهم في القول بالجبر النجارية و هم أصحاب الحسين بن محمد بن عبد اللّه النجار (المتوفّى عام 230ه) و له مناظرات مع النظام.

و عرفهم الشهرستاني بقوله بأنّهم يقولون إنّ الباري تعالى هو خالق أعمال العباد خيرها و شرها،حسنها و قبيحها و العبد مكتسب لها، و يثبتون تأثيراً للقدرة الحادثة و يسمّون ذلك كسباً. (1)

الضرارية نسبة إلى ضرار بن عمرو،و قد ظهر في أيام واصل بن عطاء(80-130)،و قد ألف قيس بن المعتمر كتاباً في الردّ على ضرار سمّاه كتاب«الردّ على ضرار».

إنّ هذه الطائفة أيضاً تقول بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه حقيقة و العبد مكتسبها. (2)

بلغ الكلام إلى هنا ظهيرة يوم الخميس

السادس و العشرين من شهر صفر

المظفر من شهور عام 1423

من الهجرة النبوية

و آخر دعوانا

ان الحمد للّه ربّ العالمين

ص:150


1- 1) .لاحظ الملل و النحل للشهرستاني:89/1. [1]
2- 2) .مقالات الإسلاميين:129؛الملل و النحل:90/1. [2]

4

اشارة

في الإرادة الإلهيّة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الذي تجلّى لعباده بأسمائه و صفاته،و بما أراهم من سطوته و قدرته،و انحسرت العقول عن كنه معرفته،فلم تجد مَساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته.

و الصلاة و السلام على أفضل بريّته،و أشرف خليقته،محمّد و آله الذين هم عيبة علمه،و حفظة سننه،و حجج اللّه في أرضه،ما دامت الشمس و القمر دائبين،يبليان كل جديد،و يقرّبان كل بعيد.

أمّا بعد،فهذه رسالة وجيزة وضعتها لتحقيق معنى الإرادة الإلهية و مدى تأثيرها في اختيار الإنسان.

و قد طال فيها الكلام و كثر فيها النقاش،فعدّها بعضهم من صفات الذات و هم الحكماء،و عدّها الآخرون-أعني:المحدّثين و المتكلّمين - من صفات الفعل.

و تحقيق الحقّ في ما هو الإرادة الإلهية و نسبتها إلى إرادة العبد و اختياره يأتي ضمن فصول:

المؤلّف

ص:151

1

اشارة

في تقسيم صفاته

إنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى قسمين:ثبوتية،و سلبية.و إن شئت قلت:جمالية و جلالية.فإن كانت الصفة مثبتة لجمال و كمال في الموصوف،و كانت مشيرة إلى واقعية في ذاته،تسمّى ثبوتية ذاتية أو جمالية؛و إن كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص و حاجة عنه سبحانه،تسمّى سلبية أو جلالية.

فالعلم و القدرة و الحياة من الصفات الثبوتية التي تشير إلى وجود كمال و واقعية في الذات الإلهية،كما أنّ نفي الجسمانية و التحيّز و الحركة و التغيّر من الصفات السلبية التي تهدف إلى سلب ما يعدّ نقصاً في الموجود،عن ساحته سبحانه.

و هذان الاصطلاحان«الجمالية و الجلالية»قريبان ممّا ورد في الكتاب العزيز قال سبحانه: «تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ». 1

فصفة الجلال تدلّ على ما جلّت ذاتُه عن التلبّس به،و صفة الإكرام ما تكرّمت ذاتُه به و تجمّلت،فيُوصف بالكمال،و يُنزّه بالجلال.

ثمّ إنّ علماء العقائد حصروا الصفات الجمالية في ثماني و هي:العلم،القدرة،الحياة،السمع،البصر،الإرادة،التكلّم،و الغنى؛كما حصروا

ص:152

الصفات السلبية في سبع و هي:انّه تعالى ليس بجسم،و لا جوهر،و لا عرض،و انّه غير مرئي،و لا متحيّز،و لا حالٍّ في غيره،و لا يتّحد بشيء.

غير أنّ النظر الدقيق يقتضي عدم حصر الصفات في عدد معين،فإنّ الحقّ أن يقال:انّ الملاك في الصفات الجمالية و الجلالية هو أنّ كلّ وصف يعدّ كمالاً للوجود فاللّه موصوف به.و كلّ وصف يعتبر نقصاً و عجزاً و حاجة فهو منزّه عنه،و ليس علينا أن نُحصر الكمالية و الجلالية في عدد معيّن.

و على ذلك يمكن إرجاع جميع الصفات الثبوتية إلى وصف واحد،و الصفات السلبية إلى أمر واحد،و يؤيّد ما ذكرناه انّ الأسماء و الصفات التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرّات العدَد الذي ذكره المتكلّمون.

تقسيم آخر

قسّم المتكلّمون صفاته سبحانه إلى:صفة الذات،و صفة الفعل.و الأوّل ما يكفي فرض الذات في حمل الوصف عليه كالعلم و الحياة و القدرة،فيقال:اللّه عالم،حيّ،قادر؛و الثاني ما يتوقّف وصف الذات به على فرض شيء وراء الذات،و هو فعله سبحانه.

فصفات الفعل هي المنتزعة من مقام الفعل،بمعنى انّ الذات توصف بالصفة عند ملاحظة الذات مع الفعل،و ذلك كالخلق و الرزق و نظائرهما من الصفات الفعلية الزائدة على الذات بحكم انتزاعها من مقام الفعل.

و معنى انتزاعها انّا إذا لاحظنا النِّعَم التي يتنعّم بها الناس نسمّيه سبحانه لأجل هذا الفعل رزاقاً،كما نسمّيه رحيماً و غافراً لأجل رحمته لعباده و غفرانه لذنوبهم.

ص:153

ثمّ إنّهم اختلفوا في بعض الصفات و انّه هل هو من صفات الذات أو من صفات الفعل كالإرادة و التكلّم؟ فأهل الحديث و المتكلّمون على أنّ الإرادة من صفات الفعل تنتزع من إعمال القدرة خلافاً للحكماء فإنّهم جعلوها من صفات الذات بالمعنى المناسب لذاته سبحانه،نظير الاختلاف في الكلام فالأشاعرة على أنّه من صفات الذات،و المعتزلة و الإمامية على أنّه من صفات الفعل.

أمّا وجه الاختلاف في الكلام فهو مذكور في محلّه و خارج عن هدف الرسالة.

و أمّا وجه اختلافهم في الإرادة و ذهاب بعض إلى أنّه من صفات الذات و البعض الآخر إلى أنّه من صفات الفعل،فحاصله:

إنّ من جعلها من صفات الذات فباعتبار أنّ الإرادة من صفات الكمال بشهادة انّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد،فسلبها عن الذات يستلزم كونه فاعلاً غير مريد،و هو نقص في الفاعلية،سواء أ كانت مع الشعور أم بدونه.

و أمّا من جعلها من صفات الفعل فلأجل انّ الإرادة أمر تدريجي بالذات،توجد بعد وجود مقدّمات من تصوّر الموضوع و التصديق بفائدته و اشتياقاً إلى فعله إلى أن ينتهي إلى الجزم و التصميم،و الإرادة بهذا المعنى أمر حادث تعالى سبحانه عن أن تقع ذاته محلاًّ للحوادث.

فلأجل هذين الأمرين اختلفت أنظارهم في أمر الإرادة و أنّها هل هي من صفات الذات أو من صفات الفعل؟ فمن جانب انّ الإرادة وصف كمال لا يمكن خلو الذات عن ذلك الكمال،و من جانب آخر انّ حقيقة الإرادة حقيقة متجدّدة،و التجدّد عين الحدوث،و الحدوث عين الفقر، و اللّه سبحانه منزّه عن ذلك.

ص:154

2

اشارة

في حقيقة الإرادة الإنسانية ما هي حقيقة الإرادة؟

إنّ الإرادة و الكراهة كيفيّتان نفسانيّتان كسائر الكيفيّات النفسانية،يجدهما الإنسان بذاتهما بلا توسط شيء مثل اللّذة و الألم و غيرهما من الأُمور الوجدانية.و المقصود في المقام تحليل ذلك الأمر الوجداني و صياغته في قالب علمي،و قد اختلفت أنظارهم في واقع الإرادة في الإنسان فضلاً عن اللّه سبحانه.و إليك الآراء المطروحة في الإرادة الإنسانية:

1.نظرية المعتزلة:الاعتقاد بالنفع

فسّرت المعتزلة الإرادة ب«اعتقاد النفع»و الكراهة ب«اعتقاد الضرر»قائلين بأنّ نسبة القدرة إلى طرفي الفعل و الترك متساوية،فإذا حصل في النفس الاعتقاد بالنفع في أحد الطرفين،يرُجَّح بسببه ذلك الطرف و يصير الفاعل مؤثراً فيه. (1)

يلاحظ عليه:أنّ مجرّد الاعتقاد بالنفع لا يكون مبدأ و باعثاً نحو المراد،إذ كثيراً ما يعتقد الإنسان بوجود النفع في كثير من الأفعال و لا يريدها،و ربّما لا

ص:155


1- 1) .الأسفار:337/6. [1]

يعتقد بوجوده فيها،بل يعتقد بوجود الضرر و مع ذلك يريدها لموافقتها لبعض القوى الحيوانية.

2.نظرية الأشاعرة:المخصّصة للقدرة بأحد المقدورين

فسّرت الأشاعرة الإرادة بأنّها صفة مخصِّصة للقدرة بأحد المقدورين و هي مغايرة للعلم و القدرة،لأنّ خاصية القدرة صحّة الإيجاد و اللاإيجاد ،و ذلك بالنسبة إلى جميع الأوقات و إلى طرفي الفعل و الترك على السواء.

يلاحظ عليه:أنّ تفسير الإرادة،بما يخصِّص القدرة بأحد المقدورين،تفسير لها بأثرها و لازمها،من دون إلماع إلى حقيقتها و واقعها،إذ من آثار الإرادة هو تحديد القدرة و سوقها إلى صوب المراد،و لكنّه غير واقع الإرادة الذي نحن بصدد بيانه.

3.النظرية المعروفة:الشوق النفساني

و قد اشتهر بين المحصلين انّ الإرادة عبارة عن الشوق النفساني الذي يحصل في الإنسان تلو اعتقاده بالنفع. (1)

يلاحظ عليه:أوّلاً:أنّه ربّما يوجد هذا الميل و الشوق،دون أن يكون هناك إرادة،كما في الإنسان المتديّن بالنسبة للمحرمات.

و ثانياً:قد يوجد الفعل بدون الشوق النفساني أو الشوق المؤكّد كما في الأفعال العادية من تحريك الأعضاء و كثير من الأفعال العبثية و الجزافية،و كما في تناول الأدوية غير المستساغة و غيرها،فإنّ الإنسان يشرب الدواء المرّ عن إرادة لا عن شوق.

ص:156


1- 1) .الأسفار:337/6. [1]
4.الإرادة:القصد و العزم

الإرادة كيفية نفسانية متخلّلة بين العلم الجازم و الفعل و يعبّر عنها بالقصد و العزم تارة،و بالإجماع و التصميم أُخرى.و ليس ذلك القصد من مقولة الشوق بقسميه المؤكّد و غير المؤكّد،كما أنّه ليس من مقولة العلم رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيات النفسانية.

و باختصار،حقيقة الإرادة هي العقد و الميل القاطع نحو الفعل،و هذا هو المختار و يشهد عليه الوجدان.

و على كلّ حال فسواء أصحّت هذه التفاسير للإرادة الإنسانيّة أم لا،لكن لا يمكن تفسير الإرادة الإلهية بهذه الوجوه.

أمّا الأوّل:فقد عرفت أنّ تفسير الإرادة باعتقاد النفع ملازم لإنكار الإرادة مطلقاً في الموجودات الإمكانية فضلاً عن اللّه سبحانه،و ذلك لأنّ مرجع الارادة-عندئذٍ-إلى العلم بالنفع مع أنّا نجد في أنفسنا شيئاً وراء العلم و الاعتقاد بالنفع،و من فسر الإرادة بالاعتقاد بالنفع فقد أثبت العلم و أنكر الإرادة.

و أمّا الثاني:أعني:تفسير الإرادة بتخصيص القدرة بأحد المقدورين،ففيه:انّه لا يناسب شأنه سبحانه،لأنّ التخصيص أمر حادث فتعالى أن تكون ذاته مركزاً للحوادث إلاّ أن يرجع إلى تفسير الإرادة الفعلية به دون الذاتية،فالإرادة في مقام الفعل هو ما جاء في هذا التفسير،و على هذا تكون الإرادة من صفات الفعل دون صفات الذات فيلزم خلوها عن ذلك الكمال.

و أمّا الثالث:ففيه انّ الشوق من مقولة الانفعال تعالى عنه،مضافاً إلى أنّ الشوق شأن الفاعل الناقص الذي يريد الخروج عن النقص إلى الكمال فيشتاق إليه شوقاً أكيداً.

ص:157

و أمّا الأخير:فسواء أ فسّرت بالقصد و العزم أو الإجماع و التصميم فحقيقتها الحدوث بعد العدم،و الوجود بعد اللاوجود،و هي بهذا المعنى يستحيل أن يوصف به سبحانه.

و لأجل عدم مناسبة هذه التعاريف لذاته سبحانه صار المتألّهون على طائفتين:

الأُولى:من يحاول جعلها من صفات الذات و لكن يتصرف في معنى الإرادة.

الثانية:من لا يتصرف في نفي الإرادة و لكن يجعلها من صفات الفعل كالخلق و الرزق،فالجميع ينتزع من فعله سبحانه و إعمال قدرته.

و أصحاب هذا القول قد أراحوا أنفسهم من الإشكالات المتوجهة إلى كون الإرادة من الصفات الذاتية للّه سبحانه.

و إليك الكلام حول هذين القولين في فصلين مختلفين.

ص:158

3

اشارة

الإرادة الإلهية

من

صفات الذات

قد عرفت أنّ الإرادة بتفاسيرها المختلفة لا تليق أن تنسب إلى اللّه سبحانه،و لذلك عاد القائلون بأنّ الإرادة من صفات الذات إلى تفسيرها بنحو يناسب ذاته سبحانه،و إليك تفاسيرهم:

الأُولى:الإرادة هو العلم بالأصلح

يظهر من صدر المتألّهين و غيره،أنّ إرادته سبحانه عبارة عن العلم بالأصلح،فقال الأوّل:فثبت انّ إرادة اللّه ليست عبارة عن القصد،بل الحقّ في كونه مريداً،انّه سبحانه و تعالى يعقل ذاته،و يعقل نظام الخير الموجود في الكلّ من ذاته،و انّه كيف يكون؟ و ذلك النظام يكون لا محالة كائناً مستفيضاً و هو غير مناف لذات المبدأ الأوّل جلّ اسمه،لأنّ ذاته كلّ الخيرات الوجودية كما مرّ مراراً من أنّ البسيط الحق،كلّ الأشياء الوجودية،فالنظام الأكمل الكوني الإمكاني تابع للنظام الأشرف الواجبي الحقّي،و هو عين العلم و الإرادة

ص:159

فعلم المبدأ بفيضان الأشياء عنه،و انّه غير مناف لذاته،هو إرادته لذلك و رضاه،فهذه هي الإرادة الخالية عن النقص و الإمكان. (1)

أقول:إنّ تفسير الإرادة الإلهية بالعلم بالأصلح هو الظاهر من أكثر المتأخّرين بعد صدر المتألّهين،و قد تلقّاه الحكيم السبزواري أصلاً مسلّماً ففسّرها به،قال في منظومته: عقيب داع،دركنا الملائما

يلاحظ عليه:أنّ تفسير الإرادة الإلهية بالعلم بالأصلح أو العلم العنائي و إن كان سليماً عن إشكال الحدوث و التدرّج حيث إنّ علمه سبحانه بذاته علم فعلي قديم منزّه عن وصمة الحدوث و التدرج،إلاّ أنّ إرجاع الإرادة إلى العلم،يلازم نفي واقع الإرادة عنه سبحانه،لأنّ العلم و الإرادة حقيقتان مختلفتان،فتفسير الثانية بالأوّل،إثبات لوصف العلم،و نفي لوصف الإرادة،فيُصبح سبحانه فاعلاً عالماً غير مريد،مع أنّ الفاعل العالم المريد أفضل و أكمل من الفاعل العالم غير المريد.

و قد نبّه بذلك بعض أئمّة أهل البيت.روى بكير بن أعين أنّه قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:علمه و مشيئته هما مختلفان أو متّفقان؟ فقال:« العلم ليس هو المشيئة،أ لا ترى أنّك تقول:سأفعل كذا

ص:160


1- 1) .الأسفار:316/6، [1]الموقف الرابع،الفصل الثاني.و لاحظ أيضاً ص 341،342.

إن شاء اللّه و لا تقول:سأفعل كذا إن علم اللّه،فقولك:إن شاء اللّه دليل على أنّه لم يشأ،فإذا شاء،كان الذي شاء كما شاء و علم اللّه السابق للمشيئة». (1)

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي ممّن يسلّم انّ علمه بنظام الخير مبدأ له،و مع ذلك يُنكر تسمية العلم بالأصلح و النظام الأتم إرادة فقال:إنّ ما ذكره صدر المتألّهين و غيره من الحكماء المتقدّمين من أمر الإرادة الذاتية،و أقاموا عليه البرهان،فهو حقّ،لكن الذي تثبته البراهين انّ ما سواه تعالى يستند إلى قدرته التي هي مبدئيته المطلقة للخير و علمه بنظام الخير،و أمّا تسمية العلم بالخير و الأصلح،إرادة أو انطباق مفهوم الإرادة بعد التجريد على العلم بالأصلح الذي هو عين الذات فلا.

نعم قام البرهان على أنّه واجد لكلّ كمال وجودي،و هذا لا يوجب تخصيص الإرادة من بينها بالذكر في ضمن الصفات الذاتية.

و بالجملة ما ذكروه حق من حيث المعنى و إنّما الكلام في إطلاق لفظ الإرادة و انطباق ما جرّد من مفهومها،على صفة العلم. (2)

و ليعلم أنّ القول باتّحاد صفاته سبحانه مع ذاته ليس بمعنى أنّ كلّ وصف عين الوصف الآخر كأن تكون الإرادة عين العلم،بل المراد أنّ ذاته سبحانه كلّه علم و في الوقت نفسه كلّه قدرة و كلّه حياة دون أن يشكّل العلم جزءاً من الذات و القدرة جزءاً آخر حتّى يلزم التركيب،فلا يصحّ أن يقع القول بعينيّة صفاته مع الذات،ذريعة لتفسير الإرادة بالعلم بالأصلح.

ص:161


1- 1) .الكافي:109/1،باب الإرادة من صفات الفعل. [1]
2- 2) .الأسفار:316/6قسم التعليقة.
الثانية:إرادته سبحانه هو ابتهاجه بذاته

هذه هي النظرية الثانية التي اختارها بعض المحقّقين من مشايخ مشايخنا-قدّس اللّه أسرارهم-فقد فسّر الإرادة بالابتهاج و جعل له مرحلتين:

1.الابتهاج الذاتي و هو الإرادة في مقام الذات.

2.الابتهاج الفعلي ينبعث من الابتهاج الأوّل قائلاً:فإنّ من أحب شيئاً أحبّ آثاره،و هذه المحبة الفعلية هي الإرادة في مقام الفعل و أسماها بالإرادة الفعلية،فقال في كلام مبسوط:

«لا ريب عند أهل النظر أنّ مفاهيم الصفات-حسبما يقتضيه طبعها متفاوتة متخالفة،لا متوافقة مترادفة،و إن كان مطابَقها واحداً بالذات من جميع الجهات،فكما أنّ مفهوم العلم غير مفهوم الذات و سائر الصفات،و إن كان مطابق مفهوم العلم و العالِم،ذاته بذاته؛حيث إنّ حضور ذاته لذاته،بوجدان ذاته لذاته،و عدم غيبة ذاته عن ذاته،كذلك ينبغي أن يكون مفهوم الإرادة بناء على كونها من صفات الذات-كمفهوم العلم-مبايناً مع الذات و مفهوم العلم،لا أنّ لفظ الإرادة معناه العلم بالصلاح،فانّ الرجوع الواجب هو الرجوع في المصداق،لا رجوع مفهوم إلى مفهوم.و من البين أنّ مفهوم الإرادة-كما هو مختار الأكابر من المحقّقين-هو الابتهاج و الرضا،و ما يقاربهما مفهوماً،و يعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا.

و السرّ في التعبير عنها بالشوق فينا،و بصرف الابتهاج و الرضا فيه تعالى:أنا لمكان إمكاننا ناقصون غير تامّين في الفاعلية،و فاعليتنا لكلّ شيء بالقوة،فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى أُمور زائدة على ذواتنا-من

ص:162

تصوّر الفعل و التصديق بفائدته و الشوق الأكيد-المميلة جميعاً للقوة الفاعلة المحرّكة للعضلات،بخلاف الواجب تعالى فإنّه-لتقدّسه عن شوائب الإمكان و جهات القوة و النقصان-فاعل و جاعل بنفس ذاته العليمة المريدة،و حيث إنّه صرف الوجود،و صرف الوجود صرف الخير،فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج،و ذاته مرضية لذاته أتمّ الرضا.و ينبعث من هذا الابتهاج الذاتي-و هي الإرادة الذاتية-ابتهاج في مرحلة الفعل، فإنّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره،و هذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل،و هي التي وردت الأخبار عن الأئمّة الأطهار-سلام اللّه عليهم - بحدوثها (1)؛لوضوح أنّ المراد هو الإرادة التي هي غير المراد،دون الإرادة الأزلية التي هو عين المراد؛حيث لا مراد في مرتبة ذاته إلاّ ذاته،كما لا معلوم في مرتبة ذاته إلاّ ذاته. (2)

و يظهر من الحكيم السبزواري ارتضاؤه،قال في منظومته: مبتهج بذاته بنهجة

ص:163


1- 1) .أُصول الكافي:85/1-86،باب الإرادة،نشر المكتبة الإسلامية؛و توحيد الصدوق:146- 148،باب صفات الذات و الأفعال،الحديث 15- 19،نشر جماعة [1]المدرسين.
2- 2) .نهاية الدراية:278/1- 279. [2]

رضاؤه بالذات بالفعل رضا و ذا الرضا إرادة لمن قضى (1)

يلاحظ على تلك النظرية بما مرّ في النظرية السابقة،فإنّ تفسير الإرادة الإلهية بابتهاج الذات و إن كان يدفع مشكل التدريج و الحدوث، لكن الإشكال الآخر باق بحاله،فإن واقع الابتهاج في الإنسان من مقولة الانفعال،و الإرادة أشبه بمقولة الفعل،فتفسير الإرادة بالابتهاج-حتّى مع التجريد عن النقص-يستلزم نفي وصف الإرادة عنه سبحانه.

إنّ الإرادة في الإنسان رمز الاختيار و الحرية،فالفاعل المريد،مختار في فعله،يوجده بإرادته،و أين هي من تفسير الإرادة بالابتهاج الذي هو رمز كون الفعل ملائماً لذات الفاعل و طبعه؟!سواء أ كان اختياريّاً أم لا فتفسير أحدهما بالآخر نفي لواقع المفسَّر.

ص:164


1- 1) .شرح المنظومة:180

4

اشارة

الإرادة الإلهية

من صفات الفعل

قد مضى في الفصل السابق بعض الأنظار الذي يفسر الإرادة الإلهية بأنّها من صفات الذات،و حان وقت البحث عن الأنظار التي تعدّها من صفات الفعل،فخصصنا هذا الفصل بهذا كما خصصنا الفصل السابق بالنظر الآخر.

ذهب غير واحد من المحقّقين إلى أنّ الإرادة أشبه بصفة الفعل،نظير الخلق و الإيجاد و الرحمة،و قبل الخوض في بيانها نقدّم شيئاً ربّما مضى التنبيه عليه في صدر الرسالة،و هو:

أثبتت البراهين الفلسفية انّ كلّ كمال وجودي فإنّه موجود للواجب في حدّ ذاته،و إلاّ يلزم تطرّق النقص إليه،و فرض موجود أكمل منه، لأنّ كون الفاعل وراء كونه عالماً،مريداً مختاراً،كمال للذات فلا يمكن سلبه عنه.

و من جانب آخر انّ الإرادة كيفية نفسانية،و ماهية ممكنة و الواجب منزّه عن الماهية و الإمكان،و ليست الإرادة كالعلم فإنّه يصلح وصف الواجب به إذا جرّد عن النقص و بقى منه سوى الكشف،و هذا بخلاف الإرادة فإنّها مهما جرّدت عن شوائب الإمكان و النقص لا يوصف بها الواجب،لأنّ واقعيّة الإرادة

ص:165

هي الخروج من القوّة إلى الفعل،و من التصوّر إلى التصديق بالفائدة و منه إلى الشوق و منه إلى القصد و العزم،و هذا المعنى مهما جرّد من النقص لا يصلح لأن يوصف به الواجب.

ثمّ إنّ هذين الأمرين صارا سبباً لذهاب جمع إلى أنّه من صفات الذات أخذاً بالأمر الأوّل و ذهاب جمع آخر إلى أنّها من صفات الفعل،منهم السيد الطباطبائي قدَّس سرَّه فقال في تعاليقه على«الأسفار»ما هذا لفظه:

تعاليق السيد الطباطبائي قدَّس سرَّه على الأسفار
1.الإرادة صفة منتزعة من حضور العلّة التامّة للفعل

لو كان بين كيفيّاتنا النفسانية،كيفيّة متميّزة متخلّلة بين العلم الجازم و الفعل،باسم الإرادة فهو القصد،و هو ميل نفساني نحو الفعل،نظير ميل الجسم الطبيعي من مكان إلى مكان و ليس من الشوق أو الشوق المؤكّد في شيء،كما سيجيء،و ليس هو العلم و إن كانت الصفات و الأحوال النفسانيّة كالحبّ و البغض و الرضا و السخط و الحزن و السرور و غيرها،علميّة شعورية،لأنّ الإرادة لو كانت أمراً متميّزاً في نفسها فهي متخلّلة بين العلم و الفعل فليست فينا علماً.

و من هنا يظهر أنّا لو جرّدناها من شوائب النقص و أجرينا وصفها عليه تعالى لم ينطبق على علمه تعالى،لأنّ مفهومها غير مفهوم العلم و لا ينفع التجريد مع تغاير المفهومين،بخلاف تجريد معنى العلم مثلاً،فإنّه و إن تبدّلت خصوصيّاته و حدوده بالتجريد حتّى عاد وجوداً واجبياً منفياً عنه جميع خصائص الكيفية النفسانية الخاصة لكن معناه الأصلي و هو حضور شيء لشيء محفوظ باق بعد التجريد و عند الإجراء على ما كان عليه قبل.

ص:166

و يظهر أيضاً أنّ الإرادة لو أخذت صفة له تعالى بعد التجريد،كانت صفة فعل نظير الخلق و الإيجاد و الرحمة،منتزعة عن مقام الفعل، فتماميّة الفعل من حيث السبب إذا نسب إلى الفعل سمّيت إرادة له،فيكون الفعل مراداً له تعالى،و إذا نسبت إلى اللّه كانت إرادة منه فهو مريد،كما أنّ كلّ ما يستكمل به الشيء في بقائه رزق،فالشيء مرزوق و هو تعالى رزّاق و هكذا.

إلى أن قال:و ما ذكره الحكماء الإلهيون من أمر الإرادة الذاتية و أقاموا عليه البرهان،فهو حقّ لكن الذي تثبته البراهين أنّ ما سواه تعالى يستند إلى قدرته التي هي مبدئيته المطلقة للخير و علمه بنظام الخير،و أمّا تسمية العلم بالخير و الأصلح،إرادة أو انطباق مفهوم الإرادة بعد التجريد على العلم بالأصلح الذي هو عين الذات فلا. (1)

و قال في مقام آخر:إنّ الإرادة منتزعة من مقام الفعل من حيث انتسابه إلى قدرته تعالى القاهرة أو من اجتماع الأسباب الموجبة عليه من حيث انتسابها إليه. (2)

و قد ذكر عصارة نظريته في«نهاية الحكمة»حيث قال:

لا ينبغي أن تقاس الإرادة بالعلم الذي يقال إنّه كيفية نفسانية ثمّ يجرّد عن الماهية و يجعل حيثية وجودية عامة موجودة للواجب تعالى وصفاً ذاتياً هو عين الذات.و ذلك لأنّا و لو سلمنا أنّ بعض مصاديق العلم و هو العلم الحصوليّ كيف نفساني،فبعض آخر من مصاديقه و هو العلم الحضوريّ جوهر أو غير ذلك،و قد تحقّق أنّ المفهوم الصادق على أكثر من مقولة واحدة وصف

ص:167


1- 1) .الأسفار:315/6- 316، [1]قسم التعليقة.
2- 2) .الأسفار:353/6، [2]قسم التعليقة.

وجودي غير مندرج تحت مقولة،منتزع عن الوجود بما هو وجود،فللعلم معنى جامع يهدى إليه التحليل و هو حضور شيء لشيء.

و أمّا الإرادة المنسوبة إليه تعالى فهي منتزعة من مقام الفعل،إمّا من نفس الفعل الذي يوجد في الخارج،فهو إرادة ثمّ إيجاب،ثمّ وجوب، ثمّ وجود؛و إمّا من حضور العلّة التامة للفعل كما يقال عند مشاهدة جمع الفاعل أسباب الفعل ليفعله،أنّه يريد كذا فعلاً. (1)

يلاحظ على النظرية:لا شكّ أنّ أكثر ما ذكره السيد الأُستاذ حقّ لا غبار عليه،و قد مرّ بعض ما ذكره في البحوث السابقة،أعني:

1.أنّ ماهية الإرادة و واقعيتها غير واقعية العلم.

2.أنّ الإرادة في الإنسان مهما جرّدت عن و صفة الإمكان لا يوصف به الواجب.

3.أنّ الإرادة من صفات الكمال،و الموجود المريد أفضل من غير المريد فلا بدّ من وصفه سبحانه بأنّه مريد.

كلّما ذكره من هذه الأُمور صحيح،و لكن تفسير الإرادة بحضور العلّة التامة للفعل يناقض الأصل الثالث،و قد صرّح به أيضاً في ثنايا كلامه،حيث قال:

«نعم قام البرهان بأنّه واجد لكلّ كمال وجودي،و مع ذلك كيف يمكن خلوّ الذات عن هذا الكمال الوجودي و حصره في مقام الفعل».

و لو كانت الإرادة منتزعة من حضور العلّة التامّة للفعل،يلزم أن تكون الفواعل الطبيعية كلّها مريدة لحضورها عند آثارها.

ص:168


1- 1) .نهاية الحكمة:299- 300.

و بالجملة تصوّر خلوّ الذات عن واقع الإرادة يلزم أن يكون سبحانه فاعلاً غير مريد و لا مختار،و هذا نقص في الفاعل تعالى عنه سبحانه.

و سيوافيك ما هو الحقّ في معنى الإرادة الذاتية في اللّه سبحانه.

***

2.الإرادة إعمال القدرة

إنّ المحقّق الخوئي بعد ما طرح تفسير الإرادة بالعلم و الابتهاج و الرضا و نقدهما بما مرّ ذكره،حاول أن يفسّر الإرادة الإلهية بإعمال القدرة،فقال:إنّ الإرادة لا تخلو من أن تكون بمعنى إعمال القدرة،أو بمعنى الشوق الأكيد و لا ثالث لهما،و حيث إنّ الإرادة بالمعنى الثاني لا تعقل لذاته سبحانه،يتعيّن الإرادة بالمعنى الأوّل له سبحانه و هو المشيئة و إعمال القدرة. (1)

و قال في موضع آخر:إنّ أفعال العباد لا تقع تحت إرادته سبحانه و تعالى و مشيئته.

و الوجه ما تقدّم بشكل مفصّل،من أنّ إرادته تعالى،ليست من الصفات العليا الذاتية،بل هي من الصفات الفعلية التي هي عبارة عن المشيئة و إعمال القدرة. (2)

يلاحظ عليه أوّلاً:أنّ تفسير الإرادة بإعمال القدرة يرجع إلى كونها من صفات الفعل،و معنى ذلك خلوّ الذات عن ذلك الكمال الوجودي و هو يستلزم تصوّر الأكمل و الأفضل من الواجب.

و ثانياً:أنّ القول بأنّ أفعال العباد خارجة من متعلّق الإرادة الإلهية مخالف

ص:169


1- 1) .المحاضرات:37/2. [1]
2- 2) .المحاضرات:72/2. [2]

للبرهان،فإنّ الفعل ممكن كذاته،فكما أنّ الذّات تتعلّق به الإرادة الإلهية،فهكذا الفعل و إلاّ يلزم تحديد سلطانه سبحانه،و تحقّق بعض الأشياء بلا إرادة منه و هو كما ترى،و قد ورد في غير واحد من الروايات الردّ على تلك الفكرة.

روى هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«إنّ اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون،و اللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (1)

يقول سبحانه: «وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ». 2

و يقول سبحانه: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ». 3

إلى غير ذلك من الروايات و الآيات الدالّة على أنّ أفعال العباد غير خارجة عن إرادته سبحانه بها،و أمّا كيفيّة الجمع بين عموم إرادته و القول بالاختيار،فسيوافيك بيانه.

3.الإرادة الإلهية في روايات أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام

إنّ السابر في ما صدر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في مورد الإرادة الإلهية يقف على أنّهم نظروا إليها من زوايا ثلاث:

1.الإرادة الإلهيّة غير العلم و القدرة.

2.ما من ظاهرة من الظواهر الكونية إلاّ و قد تعلّقت بها إرادته سبحانه.

3.إرادته سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.

فلنقتصر في كلّ من هذه المواضيع الثلاثة بالقليل عن الكثير.

ص:170


1- 1) .بحار الأنوار:41/5،كتاب العدل و المعاد،الحديث64. [1]
الف:إرادته غير علمه و قدرته

قد ناظر الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أحد المتكلّمين في خراسان-أعني:سليمان المروزي-و المناظرة مبسَّطة نقتصر على ما له صلة بالمقام:

قال سليمان:إنّ إرادته علمه.

قال الرضا عليه السلام:«...و على هذا فإذا علم الشيء فقد أراده».

قال سليمان:أجل.

قال الرضا عليه السلام:«فإذا لم يرده،لم يعلمه».

قال سليمان:أجل.

قال الرضا عليه السلام:«من أين قلنا ذلك و ما الدليل على أنّ إرادته علمه،و قد يعلم ما لا يريده أبداً؟

ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» 1 ،فهو يعلم كيف يذهب و لا يذهب به أبداً».

قال سليمان:إنّه سبحانه قد فرغ من الأمر،فليس يزيد فيه شيئاً.

قال الرضا عليه السلام:«هذا قول اليهود،فكيف قال تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» ». (1)

قال سليمان:إنّما عنى بذلك أنّه قادر عليه.

قال الرضا عليه السلام:«أ فيعد ما لا يفي به؟ فكيف قال: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» 3 و قال عزّ و جلّ: «يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» 4 و قد فرغ من الأمر...»فلم يحر سليمان جواباً. (2)

ص:171


1- 2) .المؤمن:60. [1]
2- 5) .عيون أخبار الرضا:189/1. [2]

إنّ ما دار بين الإمام و المروزي كاف في نقد ما يتخيّل بأنّ إرادته سبحانه هي علمه بالأصلح.

ب.عموم إرادته سبحانه بكلّ ظاهرة كونية

أمّا عموم إرادته سبحانه بكلّ ظاهرة كونية فهو يبتني على مقدّمات فلسفية ثابتة،و إليك الإشارة إليها على وجه الإيجاز:

1.سعة قدرته و خالقيته سبحانه،و انّ كلّ ما في صفحة الكون من دقيق و جليل و ذات و فعل مخلوق للّه سبحانه لا على النحو الذي فسّر به الأشاعرة عموم قدرته بأن يكون الواجب الفاعل المباشري لكلّ ظاهرة مجردة أو مادية،بل على النحو المختار لدى الإمامية. (1)

2.إنّ كلّ ما في دار الإمكان،قائم بالواجب غير مستغن عنه في شأن من شئونه لا في ذاته و لا في فعله،و إنّ غناء فعل الإنسان عن الواجب يستلزم خروجه عن حدّ الإمكان و انقلابه موجوداً واجباً،و هذا خلف،فما في الكون يجب أن يكون منتهياً إلى الواجب قائماً به قيام المعنى الحرفي بالاسمي،فالقول باستقلال الإنسان في فعله أشبه بمقالة الثنوية.

3.شهادة الروايات على عموم قدرته،و نقتصر على روايات ثلاث:

1.روى الصدوق في توحيده بسنده عن حفص بن فرط،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«من زعم أنّ اللّه تعالى يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على اللّه،و من زعم أنّ المعاصي من غير قوة اللّه،فقد كذب على اللّه،و من

ص:172


1- 1) .لاحظ الإلهيات:275/2. [1]

كذب على اللّه أدخله النار». (1)

2.روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«إنّ اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون،و اللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (2)

3.و روى عن حمزة بن حمران،قال:قلت له:إنّا نقول إنّ اللّه لم يكلّف العباد إلاّ ما آتاهم و كلّ شيء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع،و لا يكون إلاّ ما شاء اللّه،و قضى و قدر و أراد؟ فقال:«و اللّه إنّ هذا لديني و دين آبائي». (3)

ج:الإرادة من صفات الفعل

من سبر فيما ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في مجال الرواية يقف على اهتمام الأئمّة بتوجيه أصحابهم إلى أنّ الإرادة من صفات الفعل لا من صفات الذات،و قد عقد الشيخ الكليني باباً في ذلك المجال ننقل منه ما يلي:

1.روى عاصم بن حميد،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:قلت:لم يزل اللّه مريداً؟ قال:«إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه،لم يزل اللّه عالماً قادراً ثمّ أراد». (4)

2.روى صفوان بن يحيى،عن الإمام الكاظم عليه السلام:أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق؟ فقال:«الإرادة من الخلق الضمير،و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل،و أمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك،لأنّه لا يروِّي و لا يهمّ و لا يتفكّر،و هذه الصفات منفية عنه و هي صفات الخلق،فإرادة اللّه،الفعل،لا غير

ص:173


1- 1) .توحيد الصدوق:359،باب نفي الجبر و التفويض،الحديث2. [1]
2- 2) .بحار الأنوار:41/5،كتاب العدل و المعاد،الحديث64. [2]
3- 3) .بحار الأنوار:41/5،الحديث65. [3]
4- 4) .الكافي:109/1،باب الإرادة من صفات الفعل،الحديث1. [4]

ذلك،يقول له:كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة و لا تفكّر و لا كيف لذلك،كما أنّه لا كيف له». (1)

3.روى محمد بن مسلم،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«المشيئة محدثة». (2)

تحليل الروايات الماضية

لا يشكّ ذو مسكة في أنّ الروايات ظاهرة في كون الإرادة من صفات الفعل دون صفات الذات،لما يترتّب على القول الثاني من قدم العالم و غيره،و لما كان القول بكونها من صفات الفعل مخالفاً للأصل المبرهن في الفلسفة الإسلامية من أنّ الإرادة وصف كمال للموجود بما هو موجود،حاول صدر المتألّهين تفسير الروايات بنحو يوافق أُصوله فقال:

«و التحقيق انّ الإرادة تطلق بالاشتراك الصناعي على معنيين:

أحدهما:ما يفهمه الجمهور و هو ضد الكراهة،و هي التي تحصل فينا عقيب تصوّر الشيء الملائم،و عقيب التردّد حتّى يترجح عندنا الأمر،الداعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدُهما منّا،و هذا المعنى فينا من الصفات النفسانية،و هي و الكراهة فينا كالشهوة و الغضب فينا و في الحيوان،و لا يجوز على اللّه،بل إرادته نفس صدور الأفعال منه من جهة علمه بوجه الخير،و كراهته عدم صدور الفعل القبيح عنه لعلمه بقبحه.

و ثانيهما:كون ذاته بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته،لا كاتّباع الضوء للمضيء و السخونة للمسخِّن،و لا كفعل المجبورين و المسحّرين،و لا كفعل المختارين بقصد زائد و إرادة ظنيّة يحتمل الطرف المقابل،و قد تحقّقت انّ قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس

ص:174


1- 1) .الكافي:109/1،باب الإرادة من صفات الفعل،الحديث 3و7. [1]
2- 2) .الكافي:109/1،باب الإرادة من صفات الفعل،الحديث 3و7. [2]

ذاته العليم الذي هو أتمّ العلوم،فإذن هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بإرادة ترجع إلى علمه بذاته،المستتبع لعلمه بغيره،المقتضي لوجود غيره في الخارج لا لغرض زائد و جلب منفعة-إلى أن قال:-و لما كان فهم الجمهور لا يصل إلى الإرادة بهذا المعنى،بل إلى النحو الذي في الحيوان أو ضدّه الكراهة و يكون حادثاً عند حدوث المراد،جعلها (الإمام) من صفات الأفعال و من الصفات الإضافية المتجدّدة كخالقيته أو رازقيته. (1)

و قال المولى محمد صالح المازندراني في شرحه على أُصول الكافي:الإرادة تطلق على معنيين كما صرّح به بعض الحكماء الإلهيّين.

أحدهما:الإرادة الحادثة و هي الّتي فُسرت في الحديث بأنّها نفس الإيجاد و احداث الفعل.

و ثانيهما:الإرادة التي هي من الصفات الذاتية التي لا توصف الذات بنقيضها أزلاً و أبداً،و هي التي وقع النزاع فيها.

فذهب جماعة إلى أنّها نفس علمه الحق بالمصالح و الخيرات و عين ذاته الأحدية.

و ذهبت الأشاعرة إلى أنّها صفة غير العلم. (2)

نقد و تحليل

إنّ هذا التفسير للروايات يتمتع بنقاط قوّة،و هي:

أوّلاً:فسّر الإرادة بمعنيين و هي بأحدهما صفة ذات و بالمعنى الآخر صفة فعل.

ص:175


1- 1) .شرح أُصول الكافي:278/1. [1]
2- 2) .شرح أُصول الكافي،للمولى محمد صالح المازندراني:345/3.

ثانياً:الإرادة الإنسانية تمتنع أن تقع وصفاً للّه سبحانه فلا محيص من إرجاع الإرادة بهذا المعنى في حقّه سبحانه إلى كونها صفة فعل.

ثالثاً:الإرادة الذاتية بالمعنى المناسب لذاته كانت حقيقة لا تُدرك الأفهام الساذجة غورَها،بل حتّى الأفهام الحادة كسليمان المروزي، فلذلك لم يذكر الإمام من الإرادة إلاّ ما هو وصف للفعل.

و رابعاً:انّ إصرار أئمّة أهل البيت عليهم السلام على كون الإرادة من صفات الفعل للحيلولة دون وصف ذاته بالإرادة بهذا المعنى،و لأجل ذلك ركزوا على أنّها من صفات الفعل.

و خامساً:انّ جعل الإرادة من صفات الذات كان مثاراً لشبهة قدم الإرادة بقدم الذات و بالتالي قدم العالم و عامّة مخلوقاته.و لأجل الحيلولة دون طروء هذه الشبهة في الأذهان كان الأئمّة عليهم السلام يعدّون الإرادة من صفات الفعل.

و ممّا يعرب عن ذلك ما رواه سليمان بن جعفر الجعفري قال:قال الرضا عليه السلام:«المشيئة و الإرادة من صفات الأفعال،فمن زعم أنّ اللّه تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد». (1)

هذه هي نقاط القوة في هذا النوع من التفسير،و على الرغم من ذلك فلا يخلو التفسير المذكور من ضعف،و هو انّ إرجاع الإرادة الذاتية إلى العلم بالأصلح إنكار للإرادة و الكمال المطلق للموجود.

ص:176


1- 1) .توحيد الصدوق:338. [1]

5

ما هو المختار في الإرادة الالهيّة؟

قد مرّ آنفاً التفاسير المطروحة للإرادة الإلهية و عرفت وجوه الضعف فيها،و الذي يمكن أن يقال:انّ الإرادة تنقسم إلى:إرادة في مقام الفعل،و إرادة في مقام الذات.

فالإرادة في مقام الفعل هو ما مرّ تفسيره في الأحاديث و كلمات المحقّقين فلا نطيل،و نظير الإرادة هو العلم فإنّه ينقسم إلى العلم في مقام الفعل و العلم في مقام الذات.

فما سوى اللّه علمه سبحانه في مقام الفعل،فكلّ الأشياء بما انّه فعله و خلقه،أيضاً علمه و عرفانه،نظير الصور الذهنية المخلوقة للنفس فهي في حدّ كونها فعلاً للنفس،علم لها.

و هذا هو المستفاد من رواية أئمّة أهل البيت عليهم السلام،و لكنّا لا نرى فيها ما يدلّ على نفي الإرادة الذاتية بالمعنى المتناسب لمقام ذاته.

و أمّا الإرادة في مقام الذات فبيانه رهن مقدّمة،و هي انّ الفاعل من حيث العلم بفعله و إرادته و اختياره ينقسم إلى أقسام أربعة:

أ.ما يفعل بلا شعور،كالعلل الطبيعية مثل النار و الحرارة.

ص:177

ب.ما يفعل مع شعور دون أن يكون له إرادة و اختيار،كحركة يد المرتعش.

ج.ما يصدر عن الفاعل عن علم و إرادة و لكنّه ليس مختاراً بل مضطرّاً إلى الفعل،و هذا كإرادة المكرَه،فالمكرَه عندنا من أقسام المريد لكنّه ليس بمختار،فانّه يرجح أحد المحذورين على الآخر بإرادته،و لكنّه ليس في ترجيح هذا مختاراً،و لو لم يكن هناك ضغط خارجي لترك العمل من رأس.

د.ما يصدر عن علم و إرادة و اختيار،فهذا النوع من الفواعل أتمُّها و أفضلها،لأنّ الفعل يصدر عن الفاعل من صميم ذاته فهو شاعر،مقابل ما ليس بشاعر،مريد،في مقابل من ليس بمريد،مختار في فعله دون أن يكون مكرهاً و عليه ضغط من خارج يبعثه إلى إرادة أحد العملين حتّى يرجح أقل المحذورين.

هذه هي أقسام الفواعل و الأخير أفضلها.

إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الفاعل المختار من جميع الجهات واجد لكمالات المراتب السابقة،أعني:العلم و الإرادة،فانّ الغاية من العلم و الإرادة هو جعل الفاعل فاعلاً مختاراً،فإذا حصل الاختيار للفاعل و كان مختاراً في فعله،و الفعل صادراً عن صميم ذاته دون أن يكون هناك مكرَهاً فهو واجد لكمالات المراتب السابقة خصوصاً الإرادة.

و على ضوء ذلك انّه سبحانه تبارك و تعالى مريد بالذات فهو بهذا المعنى أي أنّه مختار و الفاعل المختار واجد لكمال الإرادة و إن لم يكن واجداً لها بحدّها،و هذا ما نسمّيه بالإرادة البسيطة.

ص:178

و الحاصل:انّ الإرادة التفصيلية التي تتألّف من تصوّر الفعل و التصديق بالفائدة و رفع الموانع و الشوق المؤكّد ثمّ الجزم و التصميم و إن لم تكن موجودة في الذات و لكن نتيجة الإرادة كون الفاعل مختاراً بالذات،متحقّق في الذات و هي موصوفة بها،فكونه مختاراً جامع لعامّة الكمالات السابقة.

و إن شئت قلت:إنّ الإرادة صفة كمال لا لأجل كونها حادثة طارئة متقضّية بعد حدوث المراد،و إنّما هي صفة كمال لكونها رمز الاختيار وسمة عدم المقهورية حتّى أنّ الفاعل المريد المكرَه له قسط من الاختيار،حيث يختار أحد طرفي الفعل على الآخر تلو محاسبات عقلية فيرجّح الفعل على الضرر المتوعّد به،فإذا كان الهدف و الغاية من وصف الفاعل بالإرادة هو إثبات الاختيار و عدم المقهورية فوصفه سبحانه بكونه مختاراً غير مقهور في سلطانه،غير مجبور في إعمال قدرته،كاف في جري الإرادة عليه،لأنّ المختار واجد لكمال الإرادة على النحو الأتم و الأكمل.

و قد ثبت في محلّه انّه يلزم في إجراء الصفات ترك المبادئ و الأخذ بجهة الكمال،فكمال الإرادة ليس في كونها طارئة زائلة عند إيجاد المراد أو كون الفاعل خارجاً بها عن القوة إلى الفعل أو من النقص إلى الكمال،بل كمالها في كون صاحبها مختاراً مالكاً لفعله،آخذاً بزمام عمله، فلو كان هذا هو كمال الإرادة،فاللّه سبحانه واجد له على النحو الأكمل،إذ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه «وَ اللّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ» (1). (2)

ص:179


1- 1) .يوسف:21. [1]
2- 2) .لاحظ الإلهيات:175/1. [2]

6

اشارة

الإرادة التكوينية و التشريعية

تنقسم الإرادة إلى تكوينية و تشريعية،و اختلفوا في تفسير هذا التقسيم إلى نظريات:

الأُولى:نظرية المحقّق الخراساني

قال المحقّق الخراساني:الإرادة التكوينية عبارة عن العلم بالنظام على النحو الكامل التام،و الإرادة التشريعية هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف. (1)

و فسّرهما في موضع آخر بالعبارة التالية و قال:لا محيص عن اتّحاد الإرادة و الطلب و ان يكون ذلك الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة(التكوينيّة) أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك (لا بالمباشرة) مسمّى بالطلب و الإرادة. (2)

و العبارة الأُولى ناظرة إلى تفسير الإرادتين في حقّه سبحانه،و الثانية ناظرة إلى تفسيرهما في الإنسان.

فالإرادة التكوينية على التفسير الأوّل هو العلم بالنظام على النحو

ص:180


1- 1) .الكفاية:99/1. [1]
2- 2) .الكفاية:96/1. [2]

الكامل،و الإرادة التشريعية هو العلم بالمصلحة في فعل المكلّف؛و لكنّهما على التفسير الثاني عبارة عن الشوق المؤكّد المستتبع إمّا لتحريك العضلات فهي الإرادة التكوينية،أو المستتبع لأمر العبيد به فهي التشريعية.

و لا يخفى ضعف التفسيرين.

أمّا الأوّل،فلأنّ تفسير الإرادة الإلهية التكوينية بالعلم بالنظام على النحو الكامل و التشريعية بالعلم بالمصلحة،تفسير غير تام،لما مرّ من أنّ واقع الإرادة غير واقع العلم.

و أمّا التفسير الثاني،فلأنّ تفسير الإرادة بالشوق المؤكّد الذي هو الجامع بين الإرادة التكوينية و التشريعية في الإرادة الإنسانية تفسير ضعيف،إذ ليس الشوق من مبادئ الإرادة و لا نفس الإرادة بشهادة انّ الإنسان كثيراً ما يريد شيئاً و يفعله بلا شوق كشرب الدواء المرّ،و ربّما يشتاق و لا يفعله كما في المحرّمات.

الثانية:نظرية المحقّق الأصفهاني

إنّ الإرادة التكوينية تتعلّق بفعل المريد نفسِه،و التشريعية تتعلّق بفعل الغير.ثمّ ذكر في توضيح الثانية ما هذا نصّه:

إنّ فعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى الشخص،ينبعث من الشوق إلى تلك الفائدة،شوق إلى فعل الغير بملاحظة ترتّب تلك الفائدة العائدة إليه،و حيث إنّ فعل الغير-بما هو فعل اختياري له-ليس بلا واسطة مقدوراً للشخص،بل يتبع البعث و التحريك إليه،لحصول الداعي للغير فلا محالة ينبعث للشخص(الآمر) شوق إلى ما يوجب حصول فعل الغير اختياراً و هو

ص:181

تحريكه إلى الفعل.

فالإرادة التشريعية ليست ما تعلّق بالتحريك و البعث فانّهما من أفعاله (1)،فلا مقابلة بين التشريعية و التكوينية،بل التشريعية من الشوق المتعلّق بفعل الغير اختياراً،و أمّا إذا لم يكن لفعل الغير فائدة عائدة إلى الشخص فلا يعقل تعلّق الشوق به بداهة انّ الشوق النفساني لا يكون بلا داع. (2)

و لمّا كان تفسير الإرادة التشريعية بالشوق المتعلّق بفعل الغير اختياراً،موجباً لانتفاء الإرادة التشريعية في اللّه سبحانه،لعدم تعقّل الشوق في ساحته تعالى،حاول أن يفسّر الإرادة التشريعية بوجه،يناسب ساحته تعالى و قال:

نعم من جملة النظام التام-الذي لا أتمّ منه-نظام إنزال الكتب و إرسال الرسل و التحريك إلى ما فيه صلاح العباد،و الزجر عمّا فيه الفساد، فالمراد بالإرادة الذاتيّة بالعرض لا بالذات،هذه الأُمور دون متعلّقاتها فلا أثر للإرادة التشريعية في صفاته الذاتية؛كما في الخبر الشريف المروي في توحيد الصدوق قدّس سرَّه بسنده عن أبي الحسن عليه السلام قال عليه السلام:«إنّ للّه إرادتين و مشيّتين:إرادة حتم و إرادة عزم،ينهى و هو يشأ،و يأمر و هو لا يشأ»الخ،و هو ظاهر في أنّ الإرادة التشريعية حقيقتها الأمر و النهي،و انّ حقيقة الإرادة و المشيئة هي الإرادة التكوينية. (3)

ص:182


1- 1) .أي ليست الإرادة التشريعية هي الإرادة المتعلّقة بالبعث،إذ على هذا لا تبقى مقابلة بين الإرادتين حيث تتعلّقان بفعل الآمر.
2- 2) .نهاية الدراية:280/1- 281. [1]
3- 3) .نهاية الدراية:281/1- 282،الطبعة المحقّقة. [2]

يلاحظ عليه:أوّلاً:أنّ الإرادة التكوينية و إن كانت تقابل الإرادة التشريعية لكن التقابل لا يقتضي تفسير الأُولى بما يتعلّق بفعل المريد، و الأُخرى بما يتعلّق بفعل الغير،بل يكفي وجود التغاير بينهما في خصوصيات المتعلّق بأن يقال:انّ الإرادة مطلقاً في التكوينية و التشريعية تتعلّق بفعل النفس و المريد؛غاية الأمر انّه لو كان متعلّقها إيجاد شيء في الخارج كالأكل و الشرب توصف بالتكوينية،و لو كان متعلّقها بعث المكلّف إلى إيجاد شيء في الخارج تسمّى تشريعية،و بذلك يظهر عدم صحّة قوله:فالإرادة التشريعية ليست ما تتعلّق بالتحريك و البعث فانّهما من أفعاله فلا مقابلة (أي يلزم عدم المقابلة) بين الإرادتين،لما عرفت من أنّه يكفي في التقابل،وجود الاختلاف في خصوصيات المتعلّق بعد اشتراكهما في كون المتعلّق فيهما هو فعل المريد،غاية الأمر ينقسم فعل المريد إلى قسمين،كما عرفت.

و ثانياً:أنّ لازم تفسير التشريعية بالشوق إلى فعل الغير لما فيه فائدة عائدة إلى الشخص المريد،هو كون الإرادة التكوينية أيضاً من مقولة الشوق،و قد عرفت أنّ الإرادة ليست من مقولة الشوق،و ربّما يكون هنا شوق و لا إرادة كما تكون إرادة و لا يكون شوق.

و ثالثاً:أنّ تقسيم الإرادة إلى التكوينية و التشريعية في مورده سبحانه و الإنسان بملاك واحد،و هو إن تعلّقت الإرادة بإيجاد الشيء تكويناً، فالإرادة تكوينية مطلقاً في المالك و المملوك،و إن تعلّقت بالإنشاء و البعث فهي تشريعية كذلك،و هذا بخلاف ما أفاده قدَّس سرَّه حيث فسّر الإرادة التكوينية:بحبه بذاته لذاته،و حبه لأفعاله بالعرض،و أمّا الإرادة التشريعية فهي عبارة عن إرسال الرسل و إنزال الكتب.

ص:183

رابعاً:انّ إرسال الرسل و إنزال الكتب من مظاهر الإرادة التكوينية،حيث إنّها عبارة عن ابتهاج الواجب ذاته بذاته و ابتهاجه بأفعاله و ما يدخل في دار الوجود،بالعرض،و من أفعاله إرسال الرسل و إنزال الكتب و معه كيف عدّهما من مظاهر الإرادة التشريعية؟!

الثالثة:نظرية العلاّمة الطباطبائي

و حاصل النظرية عبارة عمّا ذكرناه في نقد نظرية المحقّق الأصفهاني من أنّه لا فرق بين الإرادة التكوينية و التشريعية في أنّ كليهما يتعلّقان بفعل المريد،غاية الأمر إن تعلّقت بفعل المريد غير البعث و الزجر فهي إرادة تكوينية،و إن تعلّقت ببعث الغير و زجره عن الشيء فهي إرادة تشريعية،فمتعلّق الإرادتين في الحقيقة فعل المريد؛غاية الأمر انّ المتعلّق إن كان الفعل الخارجي فهو إرادة تكوينية،و إن تعلّقت بإنشاء البعث و الزجر الذي هو أيضاً فعل المريد فالإرادة تشريعية.

قال قدّس سرّه معلّقاً على قول صاحب الكفاية«المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك»ما هذا لفظه:إنّ الإرادة في استتباعها لأمر العبيد من قبيل إرادة الفعل بالمباشرة،و أمّا بالنسبة إلى إرادة فعل العبد مثلاً فلا إرادة في النفس تتعلّق بفعل الغير،بل إنّما هي إرادة إنشائية و تسميتها إرادة متعلّقة بفعل الغير مجاز أو مسامحة،لمكان التلبّس الواقع بين الأمر و المأمور به.

و به يتبيّن انّ القول بتعلّق الإرادة بفعل المأمور به مسامحة أو خطأ واضح تابع من الاتّحاد المتوهّم بين الأمر و المأمور به،و ذلك انّ الإرادة حيثية حقيقية رابطة بين الذات المريدة و فعلها القائم بها،و أمّا النفس و فعل غيرها فلا رابطة

ص:184

بينهما حتّى يتوسط بينهما حيثية الإرادة،فالإرادة المتعلّقة بفعل المأمور توهّماً متعلّقة بالحقيقة بأمره بالفعل فتنسب إلى نفس الفعل مجازاً،أو انّ إرادة الأمر لتعلّقها بفعل ما(البعث) له ارتباط بفعل المأمور تعد متعلّقة بنفس فعل المأمور تجوّزاً،كما يقال:أردت الخبز و إنّما أراد أكله،و هذا النحو من الاسناد أو النسبة كثير الدوران في الاستعمال. (1)

و حاصل تلك النظرية:انّ تقسيم الإرادة إلى التكوينية و التشريعية صرف اصطلاح نشأ من غرض خاص،و إلاّ فالإرادة في كلا القسمين تتعلّق بفعل المريد،إذ يمتنع أن تتعلّق الإرادة بفعل الغير،لأنّها لا تتعلّق إلاّ بما كان تحت اختيار المريد و فعل الغير خارج عن اختياره فكيف تتعلّق إرادته به؟! هذا ما بعث السيد العلاّمة الطباطبائي إلى القول بأنّ كلا القسمين من نسيج واحد،و إنّما الاختلاف في المراد،فتارة يكون المراد أمراً تكوينياً،و أُخرى أمراً اعتبارياً كإنشاء البعث المنتزع من الأمر.

و بعبارة أُخرى:إنّ الإنسان بما انّه طالب للكمال ربّما يقوم بالفعل بنفسه الذي يرى فيه الكمال و ربّما يستخدم الغير لأجل تبسيط قدرته و نيل الكمال المطلوب عن طريقه،فتكون الغاية من الإرادة التشريعية هو الوصول إلى الكمال المطلوب عن طريق استخدام الغير و بعثه نحو المراد.

هذه هي الإرادة التشريعية الإنسانية،و أمّا الإرادة التشريعية الإلهية فهي أجل من أن تكون لتلك الغاية،لأنّه كمال مطلق لا يتطرّق إليه النقص و لا يتصوّر فوقه كمال،إنّما الغاية لأمره و نهيه هو إيصال المأمور إلى الكمال،و على هذا فالإرادة التشريعية في عامّة المراتب بمعنى واحد غير أنّ الغاية

ص:185


1- 1) .حاشية الكفاية،للعلاّمة الطباطبائي:78. [1]

تختلف في الإنسان و غيره،فالغرض منها في الإنسان هو طلب الكمال لنفسه و في حقّه سبحانه هو إيصال الغير إلى الكمال.

تمّ تحرير الرسالة حول الإرادة الإلهية

في السابع و العشرين من شهر ربيع الأوّل

من شهور عام 1423ه.

و آخر دعوانا

أن الحمد للّه ربّ العالمين

ص:186

5

اشارة

الرؤية في الكتاب و السنّة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه المعروف من غير رؤية،و الخالق من غير رويّة،و الصلاة و السلام على خير خلقه و صفوة رسله،و على آله الطيّبين الطاهرين و أصحابه المنتجبين.

أمّا بعد،فهذه رسالة موجزة حول رؤية اللّه سبحانه في الدارين التي أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الإسلامية،فالمفكِّرون الواعون على تنزيهه سبحانه عن التجسيم و التشبيه و الجهة و الرؤية،و مقلِّدة أخبار الآحاد و المخدوعون بالإسرائيليات على جواز الرؤية في الآخرة.و رائدنا في الرسالة،الكتاب،و السنّة الصحيحة،و العقل الصريح الذي به عرفنا اللّه سبحانه و صفاته و أنبياءه و يأتي كلامنا فيها ضمن فصول:

ص:187

1

الرؤية فكرة يهودية مستوردة

لما انتشر الإسلام في الجزيرة العربية و ضرب بجرانه أراضيها،و دخل الناس في الإسلام زرافات و وحداناً،لم تجد اليهود و النصارى محيصاً إلاّ الاستسلام للأمر الواقع،فدخلوا في الإسلام متظاهرين به غير معتقدين غالباً،إلاّ من شملتهم العناية الإلهية منهم و كانوا قليلين،و لكن الأغلبية الساحقة منهم خصوصاً الأحبار و الرهبان بقوا على ما كانوا عليه من العقائد.

كانت الأحبار و الرهبان عارفين بما في العهدين من القصص و الحكايات و الأُصول و العقائد،فعمدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاص و بطريقة علمية،و كانت السذاجة سائدة على أكثر المسلمين فزعموهم علماء ربانيّين يحملون العلم،فأخذوا منهم ما يلقون،بقلب واعٍ و نيّة صادقة،فأوجد ذلك أرضية صالحة لنشر القصص الخرافية و العقائد الباطلة خصوصاً فيما يرجع إلى التجسيم و التشبيه و تحقير الأنبياء في أنظار المسلمين بإسناد المعاصي الموبقة إليهم،و لم تكن رؤية اللّه بأقلّ ممّا سبق في تركيزهم عليها،فما ترى في كتب الحديث قديماً و حديثاً من الأخبار الكثيرة حول التجسيم و التشبيه و الرؤية و نسبة المعاصي إلى الأنبياء و التركيز على القدر و القضاء السالبين للاختيار،فكلّها من آفات المستسلمة من اليهود و النصارى،فحسبها بعض السلف حقائق راهنة و قصصاً صادقة،فتلقّوها

ص:188

بقبول حسن و نشروها بين الخلف،و دام الأمر على ذلك حتّى يومنا هذا.و يكفيك الحديث التالي:

قصد الحنابلة الإمام العلاّمة محمد بن جرير الطبري يوم الجمعة في الجامع و سألوه عن حديث جلوسه سبحانه على العرش،فقال أبو جعفر:أمّا أحمد بن حنبل فلا يعدّ خلافه،فقالوا له:فقد ذكره العلماء في الاختلاف؛فقال:ما رأيته روي عنه،و لا رأيت له أصحاباً يعوّل عليهم، و أمّا حديث الجلوس على العرش فمحال،ثمّ أنشد: سبحان من ليس له أنيس و لا له في عرشه جليس

فلما سمعوا ذلك وثبوا فرموه بمحابرهم،و قد كانت أُلوفاً،فقام بنفسه و دخل داره فردموا داره بالحجارة حتّى صار على بابه كالتل العظيم،و ركب«نازوك»صاحب الشرطة في عشرات أُلوف من الجند يمنع عنه العامّة،و وقف على بابه إلى الليل،و أمر برفع الحجارة عنه،و كان قد كتب على بابه البيت المتقدّم فأمر«نازوك»بمحو ذلك،و كتب مكانه بعض أصحاب الحديث: لأحمدَ منزلٌ لا شكَّ عَالٍ

عَلى عرشٍ يُغَلِّفُهُ بطيبٍ على الأكبادِ من بَاغٍ و عَانِدْ

ص:189

له هذا المُقامُ يكونُ حقا كَذاكَ رواه ليثٌ عن مُجَاهِدْ (1)

أ هكذا يُتعامل مع إمام كبير و فقيه عظيم،و محدّث بصير مثل الطبري و لا ذنب له إلاّ أنّه إمام مفكّر،لا يؤمن بأساطير اليهود،و إن تلقّاها «مجاهد»و نظراؤه حقيقة راهنة؟!

و من العوامل التي فسحت المجال للأحبار و الرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين،حظر تدوين حديث الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و نشره و نقله و التحدّث به أكثر من مائة سنة،فأوجد الفراغ الذي خلفه هذا العمل،أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية و نصرانية،و سخافات مسيحية و أساطير يهودية خصوصاً من قبل كهنة اليهود و رهبان النصارى.

يقول الشهرستاني:وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث متعدّدة في مسائل التجسيم و التشبيه،و كلّها مستمدة من التوراة. (2)

قال ابن خلدون:إنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب و لا علم و إنّما غلبت عليهم البداوة و الأُمّية،و إذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكوّنات و بدء الخليقة و أسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم،و يستفيدونه منهم و هم أهل التوراة من اليهود و من تبع دينهم من النصارى مثل كعب الأحبار و وهب بن منبه و عبد اللّه بن سلام و أمثالهم

ص:190


1- 1) .قال الطبري في التفسير:حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال:حدثنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله:عسى الخ قال:يجلسه معه على عرشه.لاحظ مقدمة اختلاف الفقهاء للطبري:11
2- 2) .الملل و النحل:117/1.

فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم،و تساهل المفسرون في مثل ذلك و ملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات،و أصلها كلّها كما قلنا من التوراة أو ممّا كانوا يفترون. (1)

و من أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام هو كعب الأحبار،فقد خدع عقول المسلمين و حتى الخلفاء و المترجمين له من علماء الرجال،و قد أسلم في زمن أبي بكر،و قدم من اليمن في خلافة عمر فأخذ عنه الصحابة و غيرهم.

قال الذهبي:العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبيّ،و قدم المدينة من اليمن في أيام عمر،و جالس أصحاب محمد،فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية و يحفظ عجائب-إلى أن قال:-حدّث عنه أبو هريرة و معاوية و ابن عباس و ذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي و هو نادر عزيز،و حدّث عنه أيضاً أسلم«مولى عمر»و تبيع الحميري ابن امرأة كعب،و روى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار و غيره مرسلاً،وقع له رواية في سنن أبي داود و الترمذي و النسائي. (2)

و عرّفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه بأنّه من أوعية العلم. (3)

فقد وجد الحبر الماكر جوّاً ملائماً لنشر الأساطير و القصص الوهمية،و بذلك بثّ سمومه القتّالة بين الصحابة و التابعين،و قد تبعوه و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.

و قد تنبّه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر،لفيف من السابقين،

ص:191


1- 1) .مقدّمة ابن خلدون:439. [1]
2- 2) .سير أعلام النبلاء:489/3.
3- 3) .تذكرة الحفّاظ:52/1.

منهم ابن كثير في تفسيره حيث إنّه بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام قال:و الأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقّاة عن أهل الكتاب،ممّا وجد في صحفهم كروايات كعب و وهب-سامحهما اللّه تعالى-في ما نقلاه إلى هذه الأُمّة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد و الغرائب و العجائب ممّا كان و ما لم يكن،و ممّا حُرِّف و بُدِّل و نُسِخَ،و قد أغنانا اللّه سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه و أنفع و أوضح و أبلغ. (1)

و الذي يدلّ على عمق مكره و خداعه لعقول المسلمين أنّه ربّما ينقل شيئاً من العهدين،و في الوقت ذاته نرى أنّ بعض الصحابة الذين تتلمذوا على يديه و أخذوا منه،ينسب نفس ما نقله«كعب»إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و الذي يبرّر ذلك العمل حسن ظنّهم و ثقتهم به،فحسبوا المنقول شيئاً صحيحاً،فنسبوه إلى النبيّ،زاعمين أنّه إذا كان كعب الأحبار عالماً به،فالنبيّ أولى بالعلم منه.

فإن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ نصّين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تاريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر الشمس و القمر يوم القيامة،و الآخر للإمام ابن كثير صاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،و مضمون الحديث ينادي بأعلى صوته بأنّه موضوع مجعول على لسان الوحي نشره الحبر الخادع و قَبِلَه الساذج من المسلمين و نسبه إلى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم.

1.قال الطبري:عن عكرمة قال:بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال:يا ابن عباس سمعتُ العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس و القمر قال:و كان متّكئاً فاحتفر ثمّ قال:و ما ذاك؟ قال:زعم يُجاء بالشمس و القمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيُقذفان في جهنم، قال عكرمة:فطارت

ص:192


1- 1) .ابن كثير:التفسير،قسم سورة النمل:339/3.

من ابن عباس شفة و وقعت أُخرى غضباً،ثمّ قال:كذب كعب،كذب كعب،كذب كعب،ثلاث مرّات،بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام،اللّه أجلّ و أكرم من أن يعذّب على طاعته،أ لم تسمع قول اللّه تبارك و تعالى: «وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ» إنّما يعني دءوبهما في الطاعة،فكيف يعذِّب عبدين يُثني عليهما أنّهما دائبان في طاعته.قاتلَ اللّه هذا الحبر و قبّح حبريته،ما أجرأه على اللّه و أعظم فريته على هذين العبدين المطيعين للّه،قال:ثمّ استرجع مراراً. (1)

2.قال ابن كثير:روى البزار عن عبد العزيز بن المختار قال:سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد مسجد الكوفة،و جاء الحسن فجلس إليه فحدث قال:حدثنا أبو هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«إنّ الشمس و القمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة»فقال الحسن:

و ما ذنبهما؟ فقال:أُحدثك عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و تقول أحسبه قال:و ما ذنبهما؟! ثمّ قال:لا يروى عن أبي هريرة إلاّ من هذا الوجه. (2)

إنّ كعب الأحبار لمّا أسلم بعد رحيل الرسول لم يتمكّن من إسناد ما رواه من الأسطورة إلى النبيّ الأكرم،و لو كان مدركاً لحياته و إن كان قليلاً لنسبها إليه و لكن حالت المشيئة الإلهية دون أمانيّه الباطلة.

و لكنّ أبا هريرة لمّا صحب النبي و استحسن الظن بكعب الأحبار-أُستاذه في الأساطير-نسب الرواية إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

هذا نموذج قدّمته إلى القارئ لكي يقف على دور الأحبار و الرهبان في نشر

ص:193


1- 1) .الطبري:التاريخ:44/1،ط بيروت. [1]
2- 2) .ابن كثير:التفسير:475/4،ط دار [2]الاحياء.

البدع اليهودية و النصرانية بين المسلمين،و لا يُحسن الظن بمجرّد النقل بلا تأكيد من صحته.

هذا غيض من فيض و قليل من كثير ممّا لعب به مستسلمة اليهود و النصارى في أحاديثنا و أُصولنا،و لو لا أنّ اللّه سبحانه قيّض في كل آونة رجالاً مصلحين كافحوا هذه الخرافات و أيقظوا المسلمين من السبات،لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام و صفائه و جلاله.

ص:194

2

الرؤية في العهد القديم

قد سبق انّ الرؤية فكرة مستوردة أدخلها مستسلمة أهل الكتاب بين المسلمين و نشروها بينهم حتّى صارت عقيدة إسلامية ربما يُكفّر من ينكرها،و قد استمد الأحبار و الرهبان في نشر تلك الفكرة من العهدين المتوافرين بين أيديهم،و ها نحن نذكر نصوصاً من العهد القديم حول الرؤية ليتّضح صدق ما قلناه.

1.و قال (الرب) لا تقدر أن تَرى وجهي لأنّ الإنسان لا يراني و يعيش.قال الرب هو ذا عندي مكان،فتقف على الصخرة،و يكون من اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة و أترك بيدي حتّى اجتاز،ثمّ أرفع يدي فتنظر ورائي و أمّا وجهي فلا يُرى.

سفر الخروج آخر الاصحاح الثالث و الثلاثين.

و على هذا فالرب يُرى قفاه و لا يرى وجهه.

2.رأيت السيد جالساً على كرسي عالٍ...فقلت ويل لي لأنّ عيني قد رأتا الملك رب الجنود.

سفر أشعيا الاصحاح 6 الفقرة 1-6.

و المقصود من السيد هو اللّه جلّ ذكره.

ص:195

3.كنت أرى انّه وضعت عروش و جلس القديم الأيام،لباسه أبيض كالثلج و شعر رأسه كالصوف النقي و عرشه لهيب نار.

سفر دانيال الاصحاح 7 الفقرة 91.

4.أمّا أنا فبالبرّ أنظر وجهك.

مزامير داود الاصحاح 17 الفقرة15.

5.فغضب الرب على سليمان لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين.

سفر الملوك الأوّل الاصحاح 11 الفقرة 9.

و قد رأيت الرب جالساً على كرسيه و كلّ جند البحار وقوف لديه.

سفر الملوك الأول الاصحاح 22 الفقرة 19.

6.كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر و أنا بين المسبيين عند نهر خابور،انّ السماوات انفتحت فرأيت رئي اللّه - إلى أن قال-هذا منظر شبه مجد الرب،و لمّا رأيته خررت على وجهي و سمعت صوت متكلّم.

سفر حزقيال الاصحاح 1،الفقرة 1-28.

هذه نماذج ممّا في العهد القديم حول الرؤية،و عليه اعتمد الحبر الماكر في نشر أفكاره،و قد كان يركّز على فكرتين يهوديتين.

الأُولى:فكرة التجسيم.

الثانية:رؤية اللّه.

يقول في الفكرة الأُولى:إنّ اللّه تعالى نظر إلى الأرض فقال:إنّي واطئ على بعضك.فاستعلت إليه الجبال،و تضعضعت له الصخرة، فشكر لها ذلك فوضع

ص:196

عليها قدمه فقال:هذا مقامي،و محشر خلقي و هذه جنتي و هذه ناري،و هذا موضع ميزاني،و أنا ديان الدين. (1)

ففي هذه الكلمة من هذا الحبر تصريح على تجسيمه تعالى أوّلاً،و تركيز على أنّ الجنة و النار و الميزان ستكون على هذه الأرض،و مركز سلطانها سيكون على الصخرة،و هذا من صميم الدين اليهودي المحرّف.هذا حول التجسيم.

و أمّا تركيزه على الرؤية فقد أشاع فكرة التقسيم،فقال:إنّ اللّه تعالى قسم كلامه و رؤيته بين موسى و محمد،و منه انتشرت هذه الفكرة، أي فكرة التقسيم بين المسلمين. (2)

و من أعظم الدواهي انّ الرجل تزلّف إلى الخلفاء في خلافة عمر و عثمان و حدّث عن الكثير من القصص الخرافية،و بعد ما توفّي عثمان تزلّف إلى معاوية و نشر في عهده ما يؤيد به ملكه و دولته،و من كلماته في حقّ الدولة الأموية،يقول:مولد النبي بمكة،و هجرته بطيبة،و ملكه بالشام. (3)

و بذلك أضفى على الدولة الأموية صبغة شرعية،و جعل ملكهم و سلطتهم امتداداً لملك النبي و سلطته.

إنّ فكرة الرؤية تسرّبت إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار و الرهبان،و صار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن العقيدة الإسلامية (4)،بحيث يكفر منكرها أحياناً و يفسق،و لمّا صارت تلك

ص:197


1- 1) .حلية الأولياء لابن نعيم الاصفهاني:20/6.
2- 2) .شرح نهج البلاغة:237/3.
3- 3) .الدارمي في السنن:5/1. [1]
4- 4) .مقالات الإسلاميين رسالة الأشعري في عقيدة أهل الحديث،الفقرة21.

العقيدة راسخة في القرنين الثاني و الثالث بين المسلمين،عاد المتكلّمون المحقّقون للبرهنة و الاستدلال على بطلان الفكرة من الكتاب أوّلاً و السنّة ثانياً،و لو لا رسوخها بينهم لما تحمّلوا عبء الاستدلال و جهد البرهنة،و سوف يوافيك أنّ الكتاب العزيز يردُّ فكرة الرؤية و يستعظم أمرها و ينكرها و يستفظعها بشدة و حماس،و ما استدلّ به على جواز الرؤية من الكتاب فلا مساس له بالموضوع،فانتظر حتّى يأتيك البيان.

ص:198

3

اشارة

الرؤية في منطق العلم و العقل

إنّ الرؤية في منطق العلم و العقل لا تتحقّق إلاّ إذا كان الشيء مقابلاً أو حالاًّ في المقابل،من غير فرق بين تفسيرها حسب رأي القدماء أو حسب العلم الحديث،فإنّ القدماء كانوا يفسرون الرؤية على النحو التالي:

إنّها عبارة عن خروج الشعاع من العين و سقوطه على الأشياء ثمّ انعكاسه عن الأشياء فرجوعه إلى العين و عندئذٍ تتحقق الرؤية،و لكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير،و قال:

إنّها عبارة عن صدور الأشعة من الأشياء و دخولها إلى العين عن طريق عدستها و سقوطها على شبكية العين فتتحقّق الرؤية.

و على كلّ تقدير فالضرورة قاضية على أنّ الإبصار بالعين متوقّف على حصول المقابلة بين العين و المرئي،أو حكم المقابلة كما في رؤية الصور في المرآة،و هذا أمر تحكم به الضرورة و إنكاره مكابرة واضحة،فإذا كانت ماهية الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحقّقها فيما إذا تنزّه الشيء عن المقابلة أو حكمها.

و بعبارة واضحة:انّ العقل و النقل اتّفقا على كونه سبحانه ليس بجسم و لا جسماني و لا في جهة،و الرؤية فرع كون الشيء في جهة خاصة،و ما شأنه هذا لا يتعلّق إلاّ بالمحسوس لا المجرد.

ص:199

المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية
اشارة

إنّ مفكّري الأشاعرة الذين لهم أقدام راسخة في المسائل العقلية لمّا وقفوا أمام هذا الدليل ذهبوا يميناً و يساراً للجمع بين الرؤية و التنزيه،و إليك بيان ذلك:

1.الرؤية بلا كيف

هذا العنوان هو الذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة و ربّما يعبر عنه خصومهم ب«البلكفة»و معناه انّ اللّه تعالى يُرى بلا كيف و أنّ المؤمنين في الجنة يرونه بلا كيف،أي منزّهاً عن المقابلة و الجهة و المكان.

يلاحظ عليه:أنّ تمنّي الرؤية بلا مقابلة و لا جهة و لا مكان،أشبه برسم أسد بلا رأس و لا ذنب على جسم بطل،فالرؤية التي لا يكون المرئي فيها مقابلاً للرائي و لا متحقّقاً في مكان و لا متحيزاً في جهة كيف تكون رؤية بالعيون و الأبصار؟!

و الحقّ أنّ قول الأشاعرة كأهل الحديث«بلا كيف»مهزلة لا يُعتمد عليها،فانّ الكيفية ربما تكون من مقوّمات الشيء و لولاها لما كان له أثر،فمثلاً يقولون:إنّ للّه يداً و رجلاً و عيناً و سمعاً بلا كيف،و يصرحون بثبوت واقعيات هذه الصفات حسب معانيها اللغوية للّه سبحانه لكن بلا كيفية.

و هذا كما ترى،فإنّ اليد في اللغة العربية وضعت للجارحة حسب ما لها من الكيفية،فإثبات اليد للّه بالمعنى اللغوي مع حذف الكيفية، يكون مساوياً لنفي معناها اللغوي و يكون راجعاً إلى تفسيرها بالمعاني المجازية التي يفرّون منها فرار المزكوم من المسك،و مثله القدم و الوجه.

و بعبارة أُخرى:انّ الحنابلة و الأشاعرة يصرّون على أنّ الصفات الخبرية

ص:200

كاليد و الرجل و القدم و الوجه في الكتاب و السنّة يجب ان تفسر بنفس معانيها اللغوية،و لا يجوز لنا حملها على معانيها المجازية كالقدرة في اليد مثلاً،و لمّا رأوا انّ ذلك يلازم التجسيم التجئوا إلى قولهم:يد بلا كيف أو وجه بلا كيف،و لكنّهم مادروا انّ الكيفية في اليد و الوجه و غيرهما مقوّمة لمفاهيمها،فنفي الكيفية يساوق نفي المعنى اللغوي،فكيف يمكن الجمع بين المعنى اللغوي و الحمل عليه بلا كيف؟! و منه يعلم حال الرؤية بالبصر و العين فإنّ التقابل مقوّم لمفهومها،فإثباتها بلا كيف يلازم نفي أصل الرؤية،و الكلام في المقام إنّما هو النظر بالبصر و الرؤية بالعين،لا الرؤية بالقلب أو في النوم فانّها خارجة عن محط البحث.

2.اختلاف الأحكام باختلاف الظروف

إنّ بعض المثقّفين من الجدد لمّا وجدوا انّ الرؤية لا تنفك عن الجهة التجئوا إلى القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا،و لعلّ الرؤية تتحقّق في الآخرة بلا هذا اللازم السلبي.و هذا ما سمعته عن بعض المشايخ في دمشق.

يلاحظ عليه:بأنّه رجم بالغيب،فإن أرادوا من المغايرة بأنّ الآخرة ظرف للتكامل و انّ الأشياء توجد في الآخرة بأكمل وجودها و أمثلها، فهذا لا مناقشة فيه،يقول سبحانه: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً». 1 و إن أرادوا انّ القضايا العقلية البديهية تتبدّل في الآخرة إلى نقيضها،فهذا يوجب انهيار النُّظم الكلامية و الأساليب العلمية التي يعتمد عليها المفكّرون من أتباع الشرائع و غيرهم،إذ معنى ذلك انّ النتائج المثبتة في جدول الضرب سوف تتبدّل في الآخرة إلى ما يباينها،فتكون النتيجة ضرب 2*2 5 أو

ص:201

10 أو...و انّ قولنا:«كلّ ممكن يحتاج إلى علّة»يتبدّل في الآخرة إلى أنّ الممكن غني عن العلّة،فعند ذلك لا يستقر حجر على حجر و تنهار جميع المناهج الفكرية،و يصير الإنسان سوفسطائيا.

3.عدم الاكتراث عن إثبات الجهة

إنّ أساتذة الجامعات الإسلامية في الرياض و مكة المكرمة و المدينة المنورة بدل أن يُجهدوا أنفسهم في فهم المعارف و يتجردوا في مقام التحليل عن الآراء المسبقة،نرى أنّهم يدعمون شباب الجامعات و خرّيجيها بدعم مالي و فكري ليجمعوا من هنا و هناك أُموراً حول الرؤية، ليخرجوا بنتيجة هي إثبات الجهة للّه حتّى يتسنّى لهم إثبات الرؤية،و هذا العمل أشبه بدفع الفاسد بالأفسد،و إن كنت في شك من ذلك فاستمع لما يلي:

يقول الدكتور أحمد بن محمد آل حمد خريج جامعة أُم القرى:إنّ إثبات رؤية حقيقيّة بالعيان من غير مقابلة أو جهة،مكابرة عقلية لأنّ الجهة من لوازم الرؤية،و إثبات اللزوم و نفي اللازم مغالطة ظاهرة.

و مع هذا الاعتراف تخلّص عن الالتزام بإثبات الجهة للّه بقوله:إنّ إثبات صفة العلو للّه تبارك و تعالى ورد في الكتاب و السنّة في مواضع كثيرة جدّاً،فلا حرج في إثبات رؤية اللّه تعالى في هذا العلو الثابت له تبارك و تعالى،و لا يقدح هذا في التنزيه،لأنّ من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحقّ اللّه تعالى من صفات الكمال.

أمّا لفظة الجهة فهي من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها و لا إثباتها بالنص فنأخذ حكم مثل هذه الألفاظ. (1)

ص:202


1- 1) .رؤية اللّه تعالى:61،نشر معهد البحوث العلمية في مكة المكرمة.
يلاحظ عليه:

أوّلاً:من أين ادّعى انّ الكتاب و السنّة أثبت العلو للّه الذي هو مساوق للجهة،فإن أراد قوله سبحانه: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» فقد حقّق في محلّه بأنّ استواءه على العرش كناية عن استيلائه على السماوات و الأرض،و عدم عجزه عن التدبير،و أين هو من إثبات العلوّ للّه؟! و قد أوضحنا مفاد هذه الآيات في أسفارنا الكلامية. (1)

و إن أراد ما جمعه ابن خزيمة و أضرابه من حشويات المجسّمة و المشبّهة،فكلّها بدع يهودية أو مجوسية تسرّبت إلى المسلمين يرفضها القرآن الكريم و روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام.

ثانياً:إذا افترضنا صحّة كونه موجوداً في جهة عالية ينظر إلى السماوات و الأرض،فكيف يكون محيطاً بكل شيء و موجوداً مع كلّ شيء ؟! «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» 2 فإذا كان هذا معنى التنزيه فسلام اللّه على التجسيم،و لعلّ شاعر المعرة تمنّى الموت أمام أمثال هذه الأقوال و الآراء و قال: يا موت زر إنّ الحياة ذميمة و يا نفس جدي إنّ دهرك هازل

أقول:إنّ الذي تستهدفه رسالات السماء كان يتلخّص في توحيده سبحانه و أنّه واحد لا نظير له و لا مثيل أوّلاً،و تنزيهه سبحانه عن مشابهة الممكنات و الموجودات ثانياً.

لكنّ لفيفاً من أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغّلوا في وحل الشرك و التجسيم و أبطلوا كلتا النتيجتين؛فقالوا بحماس بقدم القرآن و عدم حدوثه،

ص:203


1- 1) .الإلهيات:330/1- 340.

فأثبتوا بذلك مِثْلاً للّه في الأزلية و كونه قديماً كقدمه سبحانه.

و أثبتوا للّه سبحانه العلو و الجهة اغتراراً ببعض الظواهر و الأحاديث المستوردة،فأبطلوا بذلك تنزيهه سبحانه و تعاليه عن مشابهة المخلوقات.

فخالفوا رسالات السماء في موردين أصليّين:

1.التوحيد،بالقول بقدم القرآن. (1)

2.التنزيه بإثبات الجهة و الرؤية.

«كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً» . (2)

ص:204


1- 1) .القول بقدم القرآن غير القول بقدم علمه سبحانه،و الثاني صحيح لا ريب فيه،و أمّا الأمر الأوّل فهو شرك و إثبات ندّ للّه سبحانه فلا يختلط عليك الأمر.
2- 2) .النحل:92. [1]

4

موقف الذِّكر الحكيم من أمر الرؤية إجمالاً

إنّ الذكر الحكيم يصف اللّه سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى أنّه منزّه عن الجسم و الجسمانية،و أنّه ليس له مثل و لا نظير،و لا ندّ و لا كفو،و أنّه محيط بكل شيء،و لا يحيطه شيء،إلى غير ذلك من الصفات المنزّهة التي يقف عليها الباحث عند جمع الآيات الواردة في هذا المجال،و بدورنا نشير إلى بعضٍ منها:

قال سبحانه:

1. «فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». 1

2. «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ* اَللّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» . (1)

3. «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . (2)

4. «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ

ص:205


1- 2) .الإخلاص:1- 4. [1]
2- 3) .الحديد:3. [2]

مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». 1

5. «هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ». 2

6. «هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . (1)

7. «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». 4

8. «أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ». 5

9. «اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ». 6

10. «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ». 7

و حصيلة هذه الآيات أنّه لا يوجد في صفحة الوجود له مثل،و هو أحد لا كفو له،لم يلد و لم يولد بل هو أزليّ،فبما أنّه أزليّ الوجود، فوجوده قبل كل شيء أي لا وجود قبله،و بما أنّه أبديّ الوجود فهو آخر كل شيء إذ لا وجود بعده،و بما أنّه

ص:206


1- 3) .الحشر:24. [1]

خالق السماوات و الأرض فالكون قائم بوجوده فهو باطن كل شيء،كما أنّ النظام البديع دليل على وجوده فهو ظاهر كل شيء.

لا يحويه مكان لأنّه خالق السماوات و الأرض و خالق الكون و المكان،فكانَ قبل أن يكون أيّ مكان،و بما أنّ العالم دقيقه و جليله،فقير محتاج إليه قائم به،فهو مع الأشياء معيّة قيومية لا معيّة مكانية،و مع الإنسان أينما كان.فلا يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم و لا خمسة إلاّ هو سادسهم،و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا و ذلك مقتضى كونه قيّوماً و ما سواه قائماً به،و لا يمكن للقيوم الغيبوبة عمّا قام به، و في النهاية هو محيط بكل شيء لا يحيطه شيء،فقد أحاط كرسيّه السماوات و الأرض،فالجميع محاط و هو محيط،و من كان بهذه المنزلة لا تدركه الأبصار الصغيرة الضعيفة و لا يقع في أُفقها و لكنّه لكونه محيطاً،يدرك الأبصار.

هذه صفاته سبحانه في القرآن ذكرناها على وجه الإيجاز و أوردناها بلا تفسير.و قد ثبت في محله أنّ من سمات العقيدة الإسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها و لا لُغز فلو وجدنا شيئاً في السنّة أو غيرها يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إن صحّ السند،أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح،فمن تلا هذه الآيات و تدبّر فيها،يحكم بأنّه سبحانه فوق أن يقع في وهم الإنسان و فكره و مجال بصره و عينه؛و عند ذلك لو قيل له:إنّه جاء في الأثر أنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا (البدر) لا تضامون في رؤيته (1)،يتلقّاه أمراً مناقضاً لما تلا من الآيات أو استمع إليها،و يحدث في نفسه و يقول:الخالق البارئ الذي هو ليس بجسم و لا جسماني،لا يحويه مكان،محيط بالسماوات و الأرض كيف يُرى يوم القيامة كالبدر

ص:207


1- 1) .البخاري:الصحيح:200/4.

في جهة خاصة و ناحية عالية مع أنّه كان و لا علو و لا جهة،بل هو خالقهما؟! و أين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنّه لا يحويه مكان و لا يقع في جهة و هو محيط بكل شيء ؟!

و لا يكون التناقض بين الوصفين بأقل من التناقض الموجود في العقيدة النصرانية من أنّه سبحانه واحد و في الوقت نفسه ثلاثة،و كلّما حاول القائل بالرؤية الجمع بين العقيدتين،لا يستطيع أن يرفع التعارض و الاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الآيات و الرواية، و من جرّد نفسه عن المجادلات الكلامية و المحاولات الفكرية للجمع بين المعرفتين يرى التعريفين متصادمين،فأين القول بأنّه سبحانه بعيد عن الحسّ و المحسوسات،منزّه عن الجهة و المكان،محيط بعوالم الوجود،من تنزيله سبحانه منزلة الحسّ و المحسوسات،واقعاً بمرأى و منظر من الإنسان يراه و يُبصره كما يبصر البدر،يشاهده في أُفق عال؟! و قد تعرّفت على أنّ السهولة في العقيدة و خلوّها من الألغاز هو من سمات العقيدة الإسلامية،فالجمع بين المعرفتين كجمع النصارى بين كونه سبحانه واحداً و ثلاثاً.

هذا من جانب،و من جانب آخر نرى أنّه سبحانه كلّما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنّما طرحها باستعظام من أن ينالها الإنسان و يتلقّى سؤالها و تمنّيها من الإنسان أمراً فظيعاً و قبيحاً و تطلّعاً إلى ما هو دونه.

1.قال سبحانه: «وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». 1

2.و قال سبحانه: «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ

ص:208

فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً». 1

3.و قال سبحانه: «وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ». 2

4.و قال سبحانه: «وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ». 3

فالمتدبّر في هذه الآيات يقضي بأنّ القرآن الكريم يستعظم الرؤية و يستفظع سؤالها و يقبّحه و يعدّ الإنسان قاصراً عن أن ينالها على وجه ينزل العذاب غبَّ سؤالها.فلو كانت الرؤية أمراً ممكناً و لو في وقت آخر لكان عليه سبحانه أن يتلطّف عليهم بأنّكم سترونه في الحياة الآخرة لا في الحياة الدنيا،و لكنّا نرى أنّه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثمّ يحييهم بدعاء موسى،كما أنّ موسى لمّا طلب الرؤية و أُجيب بالمنع، تاب إلى اللّه سبحانه و قال: «أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» بأنّك لا تُرى.فإذا كانت الرؤية نعمة عظمى كما يدّعيها القوم،فلا وجه لنزول العذاب عند طلبها، غاية الأمر يجاب السائل بعدم الإمكان في الدنيا.

ص:209

فالإمعان بما ورد فيها من عتاب و تنديد،بل و إماتة و إنزال عذاب يدلّ بوضوح على أنّ الرؤية فوق قابلية الإنسان،و طلبه إليها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال.

فعند ذلك لو قيل للمتدبّر بالآيات:إنّه روى قيس بن أبي حازم أنّه حدّثه جرير و قال:خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليلة البدر فقال:«إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» (1)؛يجد الحديث مناقضاً لما ورد في هذه الآيات،و يحدِّث نفسه أنّه كيف صار الأمر الممتنع،أمراً ممكناً،و الإنسان غير المؤهّل للرؤية مؤهّلاً لها؟!

ص:210


1- 1) .البخاري:الصحيح:200/4.

5

اشارة

الرؤية في الذكر الحكيم تفصيلاً

الآية الأُولى:
اشارة

«لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ»

قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالاً،و انّه يعد طلب الرؤية و سؤالها أمراً فظيعاً قبيحاً موجباً لنزول الصاعقة و العذاب،فالآيات السابقة وضّحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن على وجه الإجمال،غير أنّا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات،نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل.و قد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق حتّى نتأكد ممّا فهمنا من دراسة الكتاب العزيز،و إليك البيان:

قال سبحانه: «ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» .

«لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ». 1

تقرير الاستدلال يتم في مرحلتين:

ص:211

المرحلة الأُولى:في بيان مفهوم الدرك

الدرك في اللغة:اللحوق و الوصول و ليس بمعنى الرؤية،و لو أريد منه الرؤية فإنّما هو باعتبار قرينية المتعلّق.

قال ابن فارس:الدرك له أصل واحد (أي معنى واحد) و هو لحوق الشيء بالشيء و وصوله إليه،يقال:أدرك الغلام و الجارية:إذا بلغا، و تدارك القوم:لحق آخرُهم أوّلَهم. (1)

و ذكر ابن منظور نحو ما ذكره ابن فارس و أضاف:ففي الحديث أعوذ بك من درك الشقاء أي لحوقه،يقال:مشيت حتّى أدركته،و عشت حتّى أدركته،و أدركته ببصري أي رأيته. (2)

و منه قوله سبحانه: «حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ». 3 أي حتّى إذا لحقهم الغرق فأظهروا الإيمان و لات حين مناص.

إذا كان الدرك بمعنى اللحوق و الوصول فدرك كلّ شيء و وصوله بحسبه،فالإدراك بالبصر،التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر، و الإدراك بالمشي كما في قول ابن منظور مشيت حتى أدركت،التحاق الماشي المتأخر،بالمتقدّم بالمشي،و هكذا.

فإذا قال سبحانه: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» يتعيّن ذلك المعنى الكلّي،أي اللحوق و الوصول بالرؤية،و يكون المعنى انّ الأبصار لا تلحق باللّه بالرؤية،فإنّ لحوق البصر يتحقّق عن طريق الرؤية،و هذا الوصف ممّا تفرّد به سبحانه.

ص:212


1- 1) .مقاييس اللغة:366/2. [1]
2- 2) .لسان العرب:419/10، [2]نفس المادة.
الثانية:في مفهوم الآيتين

إنّه سبحانه لما قال: «وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» ربّما يتبادر إلى بعض الأذهان انّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء،يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية،فدفعه بأنّه سبحانه مع كونه وكيلاً لكلّ شيء «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ».

و لما يتبادر من ذلك الوصف إلى بعض الأذهان انّه إذا تعالى عن تعلّق الابصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية و بطل الربط الوجودي الذي هو مناط علمه بمخلوقاته،دفعه بقوله: «وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» مشيراً إلى وجود الربط الذي هو مناط علمه بهم.

ثمّ إنّه سبحانه أتم كلامه بذكر و صفين:أعني:

1.اللطيف،2.الخبير.

و الظاهر انّ الأوّل،راجع إلى قوله: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» ،و الثاني إلى قوله: «وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ».

فهو بما انّه«لطيف»فوق الحس،لا تدركه الأبصار،و بما انّه«خبير» «يُدْرِكُ الْأَبْصارَ».

و بعبارة أُخرى:انّ الأشياء في مقام التصوّر على أصناف:

1.ما يَرى و يُرى،كالإنسان.

2.ما لا يَرى و لا يُرى،كالأعراض النسبية كالأُبوّة و البنوة.

3.ما يُرى و لا يَرى كالجمادات.

4.ما يَرى و لا يُرى.

ص:213

و هذا القسم تفرّد به خالق جميع الموجودات بأنّه يَرى و لا يُرى،و الآية بصدد مدحه و ثنائه،بأنّه جمع بين الأمرين يَرى و لا يُرى لا بالشقّ الأوّل وحده نظير قوله سبحانه: «فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ». 1 و دلالة الآية على انّه سبحانه لا يُرى بالأبصار بمكان من الوضوح.

الآية الثانية:الرؤية إحاطة علمية باللّه سبحانه

قال سبحانه: «يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً». 2

إنّ الآية تتركب من جزءين:

الأوّل:قوله: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ».

الثاني:قوله: «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً».

و الضمير المجرور في قوله:«به»يعود إلى اللّه سبحانه.

و معنى الآية:اللّه يحيط بهم لأنّه: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ» و يكون معادلاً لقوله: «وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» و لكنّهم «لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» و يساوي قوله: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ».

و أمّا كيفية الاستدلال فبيانها انّ الرؤية سواء أوقعت على جميع الذات أم على جزء منه،نوع إحاطة علمية من البشر به سبحانه،و قد قال:

«وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» .

ص:214

الآية الثالثة:ردّ السؤال بنفي الرؤية مؤبّداً
اشارة

قال سبحانه: «وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ». 1

لا شكّ انّنا إذا عرضنا الآية على عربي صميم لم يتأثّر ذهنه بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النفاة و المثبتين و طلبنا منه أن يبيّن الإطار العام للآية و مفادها و مَنْحاها و انّها بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها،يجيب بصفاء ذهنه بأنّ الإطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية و انّ سؤاله أمر عظيم فظيع لا يمحى أثره إلاّ بالتوبة،ففهم ذلك العربي حجة علينا لا يجوز لنا العدول عنها،و القرآن نزل بلسان عربي مبين و لم ينزل بلسان المتكلّمين أو المجادلين.

كما أنّا إذا أردنا أن نفسر مفاد الآية تفسيراً صناعياً،فلا شكّ أنّه يدلّ أيضاً على تعاليه عنها و ذلك بوجوه:

1.الإجابة بالنفي المؤبّد

لمّا سأل موسى رؤية اللّه تبارك و تعالى أُجيب ب «لَنْ تَرانِي» و المتبادر من هذه الجملة أي قوله «لَنْ تَرانِي» هو النفي الأبدي الدالّ على عدم تحقّقها أبداً.

و الدليل على ذلك هو تتبّع موارد استعمال كلمة«لن»في الذكر الحكيم،فلا

ص:215

تراها متخلّفة عن ذلك حتّى في مورد واحد.

1.قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ». 1

2. «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ». 2

3. «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ». 3

4. «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ». 4

5. «وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ». 5

6. «فَإِنْ رَجَعَكَ اللّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا». 6

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ«لن»تفيد التأبيد.

2.تعليق الرؤية على أمر غير واقع

علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل و بقائه على الحالة التي هو عليها عند التجلّي،و عدم تحوّله إلى ذرات ترابية صغار بعده، و المفروض انّه لم يبق على حالته السابقة و بطلت هويته و صار تراباً مدكوكاً،فإذا انتفى المعلّق عليه ينتفي المعلّق،و هذا النوع من الكلام طريقة معروفة حيث يعلّقون وجود الشيء بما يعلم

ص:216

أنّه لا يكون و اللّه سبحانه بما أنّه يعلم أنّ الجبل لا يستقرّ في مكانه-بعد التجلّي-فيعلّق الرؤية على استقراره،حتّى يستدلّ بانتفائه على انتفائه،قال سبحانه: «وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ». 1

3.تنزيهه سبحانه-بعد الافاقة-عن الرؤية

تذكر الآية بأنّ موسى لما أفاق فأوّل ما تكلّم به هو تسبيحه سبحانه و تنزيهه و قال: «سُبْحانَكَ» ،و ذلك لأنّ الرؤية لا تنفك عن الجهة و الجسمية و غيرهما من النقائص،فنزّه سبحانه عنها،فطلبها نوع تصديق لها.

4.توبته لأجل طلب الرؤية

إنّه عليه السلام بعد ما أفاق،أخذ بالتنزيه أوّلاً،و التوبة و الإنابة إلى ربّه ثانياً،و ظاهر الآية انّه تاب من سؤاله كما أنّ الظاهر من قوله: «وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» أنّه أوّل المصدّقين بأنّه لا يُرى بتاتاً.

إجابة عن سؤال

إنّ سؤال الرؤية من الكليم دليل على إمكانها،فلو كان أمراً محالاً لما سألها.

و الجواب عن الشبهة واضح،فإنّ الاستدلال بطلب موسى إنّما يصحّ إذا طلبها الكليم باختيار و من دون ضغط من قومه،فعندئذٍ يصلح للتمسّك به ظاهراً،لكن القرائن تشهد على أنّه سأل الرؤية على لسان قومه حين كانوا مصرّين على ذلك.

ص:217

و يدلّ عليه قوله سبحانه: «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ». 1

و بعد ما عادوا إلى الحياة بدعاء موسى طلبوا منه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتّى يسمعوا النصّ من عند اللّه باستحالة ذلك. (1)

فعند ذاك لم يكن لموسى محيص إلاّ الإقدام على السؤال و قال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» فأجيب بقوله: «لَنْ تَرانِي».

و على ذلك ما كان طلب الرؤية إلاّ ليكبت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء و ضُلاّلاً و تبرّأ من فعلهم،و ذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم و أعلمهم الخطأ و نبّههم على الحقّ فلجّوا و تمادوا في لجاجهم،و قالوا لا بدّ و لن نؤمن حتّى نرى اللّه جهرة،فأراد أن يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة ذلك و هو قوله: «لَنْ تَرانِي» ليتيقّنوا و ينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة،فلذلك قال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ». 3

إلى هنا تمت دراسة الآيات الصريحة في امتناع رؤية اللّه تبارك و تعالى بطرق مختلفة،و من أمعن فيها و تجرد عن العقيدة التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره لرأى انّ الذكر الحكيم صريح في تعاليه سبحانه عن أن يقع في إطار الرؤية و أنّ طلب الرؤية تمنّي باطل.

ص:218


1- 2) .أو تسأل لنفسه و تحل رؤيته مكان رؤيتهم كما حلّ سماعه للوحي محل سماعهم لكلامه تعالى.

6

الرؤية في كلمات أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام

إنّ المراجع إلى خطب الإمام علي عليه السلام في التوحيد و ما أُثر عن أئمّة العترة الطاهرة في مجال الرؤية،يقف على أنّ مذهبهم هو امتناعها و انّه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب،فكيف بأبصار العيون؟ و إليك نزراً يسيراً ممّا ورد في هذا الباب.

1.قال الإمام علي عليه السلام في خطبة الأشباح:«الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله،و الآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، و الرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه». (1)

2.و قد سأله ذعلب اليماني،فقال:هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام:«أ فأعبد ما لا أرى؟»فقال:و كيف تراه؟ فقال:«لا تدركه العيون بمشاهدة العيان و لكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان،قريب من الأشياء غير ملابس،بعيد منها غير مباين». (2)

3.و قال عليه السلام:«الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد،و لا تحويه المشاهد،و لا تراه النواظر،و لا تحجبه السواتر». (3)

ص:219


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة87. [1]
2- 2) .نهج البلاغة،الخطبة 174. [2]
3- 3) .نهج البلاغة،الخطبة180. [3]

إلى غير ذلك من خطبه عليه السلام الطافحة بتقديسه و تنزيهه عن إحاطة القلوب و الأبصار به. (1)

و أمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام فحدث عنه و لا حرج.

1.روى الصدوق عن عبد اللّه بن سنان،عن أبيه قال:حضرت أبا جعفر (محمد الباقر) عليه السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له:يا أبا جعفر أيّ شيء تَعبد؟ قال:«اللّه»،قال:رأيته؟ قال:«لم تره العيون بمشاهدة العيان و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان،لا يُعرف بالقياس و لا يُدرك بالحواس،و لا يُشبه بالناس،موصوف بالآيات،معروف بالعلامات،لا يجور في حكمه،ذلك اللّه لا إله إلاّ هو»قال:فخرج الرجل و هو يقول:اللّه أعلم حيث يجعل رسالته. (2)

2.روى الصدوق عن أبي الحسن الموصلي،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال:يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال:ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره،و قال:كيف رأيته؟ قال:ويلك لا تُدرِكه العيون بمشاهدة الأبصار،و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان». (3)

3.ما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في مناظرته مع أحد المحدّثين باسم أبي قرة،ذكر أبو قرة الحديث الموروث عن الحبر الماكر كعب الأحبار من أنّه سبحانه قسم الرؤية و الكلام بين نبيّين فقسّم لموسى عليه السلام الكلام و لمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم الرؤية.

فقال أبو الحسن عليه السلام:«فمن المبلّغ عن اللّه إلى الثقلين الجن و الإنس إنّه «لا

ص:220


1- 1) .لاحظ الخطبتين 48و81.
2- 2) .التوحيد:108،باب ما جاء في الرؤية الحديث5،و السائل كان من الخوارج.
3- 3) .التوحيد:109،الحديث6.و السائل أحد أحبار اليهود.

تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» ، «لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» أ ليس محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ؟»قال:بلى.

قال أبو الحسن عليه السلام:«فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم انّه جاء من عند اللّه،و انّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه،و يقول إنّه: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» ، «لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» و «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» ثمّ يقول:أنا رأيته بعيني و أحطت به علماً و هو على صورة البشر،أما تستحيون؟! أما قدرت الزنادقة ان ترميه بهذا،أن يكون أتى عن اللّه بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر». (1)

ص:221


1- 1) .الاحتجاج:375/2. [1]

7

شبهات القائلين بالرؤية

إنّ للقائلين بالرؤية في الآخرة شبهات ربّما يغتر بها من ليس له إلمام بالكتاب و السنّة فيتصوّر المغالطة دليلاً،نذكر منها ما هو المهم، و هو:

قوله سبحانه: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ»

استدلّوا على تحقّق الرؤية في الآخرة بهذا المقطع الوارد في الآيات التالية:

«كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ* وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ». 1

يقول المستدل:إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة،و يقال:انتظرته،و إذا كان بمعنى التفكّر يستعمل بلفظة«في»،و إذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة«اللام»،و إذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة«إلى»فيحمل على الرؤية. (1)

أقول:سواء أقلنا إنّ النظر في الآية بمعنى الانتظار أو قلنا بمعنى الرؤية،فالآية لا تدلّ على جواز الرؤية يوم القيامة بتاتاً،و ذلك لوجوه:

ص:222


1- 2) .شرح التجريد للقوشجي:334.

الأوّل:انّه سبحانه نسب النظر إلى الوجوه لا إلى العيون،فلم يقل عيون يومئذٍ ناظرة إلى ربّها ناضرة،بل قال: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» ،فلو كان المراد الجدي هو الرؤية الحسّية لكان المتعيّن استخدام العيون بدل الوجوه،و أنت لا تجد في الأدب العربي قديمه و حديثه مورداً نسب فيه النظر إلى الوجوه و أُريدت به الرؤية الحسية بالعيون و الأبصار،بل كلّما أُريد منه الرؤية نسب إلى العيون أو الأبصار.

يقول سبحانه: «يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ». 1

و قال سبحانه: «وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها». 2

و قال سبحانه: «وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ». 3

فأداة الرؤية في القرآن الكريم هي العين و البصر لا الوجه،يقول سبحانه: «وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ». 4

الثاني:نحن نوافق المستدلّ بأنّ النظر إذا استعمل مع إلى يكون بمعنى الرؤية،لكن ربّما تكون الرؤية كناية عن معنى آخر،فعندئذٍ يكون المقصود الحقيقي هو المكنّى عنه لا المكنّى به.

مثلاً إذا أردنا وصف زيد بالجود يقال:«زيد كثير الرماد»،فالمعنى اللغوي ذم حيث يحكي عن كثرة النفايات في الدار،و لكن المعنى المكنّى عنه الذي هو المتبادر العرفي هو مدح يحكي عن جوده و سخائه،فالعبرة في تفسير الآية هو المراد الجدي لا المراد الاستعمالي.

و الآية الكريمة-أعني قوله: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» -من هذا القبيل فهو حسب الإرادة الاستعمالية بمعنى وجوه ناظرة إلى اللّه سبحانه أي رائية له،و لكنّه كناية عن

ص:223

انتظار الرحمة أو العذاب مثلاً:يقول الشاعر: وجوه ناظرات يوم بدر إلى الرحمن يأتي بالفلاح

فلا يشكّ الإنسان انّ قوله:«وجوه ناظرات»بمعنى رائيات،و لكنّه كُنّي به عن انتظار النصر و الفتح.

و منه الشعر التالي: أني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر

لا شكّ انّ المراد من النظر في كلا الموردين هو الرؤية،استعمالاً،و لكنّه كناية عن انتظار إنجاز الوعد و وصول العطاء.

و الحاصل:انّ النظر إذا أُسند إلى العيون يكون المعنى الاستعمالي و الجدي هو الرؤية،و لكن إذا أُسند إلى الشخص أو الوجه تكون بمعنى الرؤية استعمالاً و يكون كناية عن الانتظار جداً،مثلاً يقال:أنا ناظر إلى فلان ما يصنع بي،يريد معنى التوقع و الرجاء.

ينقل الزمخشري انّه سمع سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم و يأوون إلى مقايلهم،تقول:«عُيينتيّ نويظرة إلى اللّه ثمّ إليكم»تقصد راجية و متوقعة لإحسانهم إليها كما هو معنى قولهم:«أنا أنظر إلى اللّه ثمّ إليك»أتوقع فضل اللّه ثمّ فضلك. (1)

الثالث:كان على من يستدلّ بالآية أن يرفع إبهامها بمقابلها،فإنّ الآيات تتألف من ثلاث مقاطع متقابلة،بالنحو التالي:

ص:224


1- 1) .الكشاف:294/3. [1]

1. «كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ» يقابلها «وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ».

2. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ» يقابلها «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ».

3. «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» يقابلها «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ».

فقوله: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» كما ترى يقابلها قوله: «تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» ،فبما انّ الجملة المقابلة صريحة في أنّ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم و يظنون نزوله و مثل هذا الظن لا ينفك عن الانتظار،فتكون قرينة على أنّ أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربّهم،أي يرجون رحمته،حتّى تكون الجملة متقابلة لمقابلها.

و إلاّ فلو حمل قوله سبحانه: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» إلى رؤية اللّه خرجت الجملة عن التقابل و يعود كلاماً عارياً عن البلاغة و يكون مفاد المتقابلين كالشكل التالي:

أصحاب الوجوه الناضرة......ينظرون إلى اللّه و يرونه سبحانه.

أصحاب الوجوه الباسرة......ينتظرون نزول العذاب و النقمة.

و هو كما ترى لا يليق أن ينسب إلى الوحي.

على أنّك تجد هذا التقابل و الانسجام في آيات أُخرى و كأنّ الجميع سبيكة واحدة.

1. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ»« ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ».

2. «وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ»« تَرْهَقُها قَتَرَةٌ». 1

فإنّ قوله: «ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ» قائم مقام قوله: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» فيرفع

ص:225

إبهام الثاني بالأوّل.

3. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ»« عامِلَةٌ ناصِبَةٌ* تَصْلى ناراً حامِيَةً». 1

4. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ»« لِسَعْيِها راضِيَةٌ* فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ». 2

انظر إلى الانسجام البديع،و التقابل الواضح بينها،و الاستهداف الواحد،و الجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة،إلى ناضرة و مسفرة، و ناعمة و إلى باسرة،و سوداء(غبرة) و خاشعة.

أ فبعد هذا البيان يبقى الشكّ في أنّ المراد من «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» هو انتظار الرحمة،و القائل بالرؤية يتمسّك بهذه الآية و يغض النظر عمّا حولها من الآيات،و من المعلوم أنّ هذا من قبيل محاولة إثبات المدّعى بالآية،لا محاولة الوقوف على مفادها.

و في الختام أرى من الجدير بالذكر أن أنقل الحوار القصير الذي دار بيني و بين أحد المثقّفين في تركيا،و كان يُجيد اللغتين التركية و العربية و الثانية كانت لغته الأُمّ،لأنّه كان من الإسكندرونة المحتلّة-حسب زعم السوريين-،و قد كان يرافقني عند ما حللت ضيفاً على تركيا لإلقاء محاضرة في المؤتمر الذي انعقد لبيان أحكام السفر،و قد استرسلنا في الحوار إلى أن سألني عن رؤية اللّه تبارك و تعالى في الآخرة؟

فأجبته بالنفي.

قال:لما ذا؟

ص:226

قلت له:هل يُرى سبحانه كلّه أو بعضه.

فعلى الأوّل يكون الرائي محيطاً و اللّه سبحانه محاطاً مع أنّه تعالى محيط بكلّ شيء.

و على الثاني يكون مركباً ذا أجزاء يكون بعض أجزائه غائبة من البعض الآخر و المجموع محتاجاً إلى أجزائه،و الحاجة آية الإمكان و هو آية الفقر الذي هو على طرف النقيض من اللّه الغني.

فتحيّر السائل من بياني هذا و لم يجب بشيء.

ص:227

8

اشارة

رؤيته تعالى في الأحاديث النبوية

قد تعرّفت على موقف الكتاب من رؤيته سبحانه و أنّه كلّما يذكر الرؤية و سؤالها و طلبها،يستعظمه و يستفظعه إجمالاً،و عند ما يطرحها تفصيلاً،يعدّها أمراً محالاً،كما عرفت أنّ ما تمسك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدلّ على ما يدّعون.

بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح و المسانيد،و دلالتها على المطلوب واضحة كما ستوافيك،لكن الكلام في حجية الروايات التي تضاد الذكر الحكيم،و تباينه،فإذا كان الكتاب العزيز مهيمناً على سائر الكتب فلما ذا لا يكون مهيمناً على السنن المروية عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم التي دوّنت بعد مضي 143 سنة من رحيله صلى الله عليه و آله و سلم و لم تَصُن عن دسّ الأحبار و الرهبان؟! قال سبحانه: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» 1 و قال تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» 2 و لا يعني ذلك،حذف السنّة من الشريعة و رفع شعار:حسبنا كتاب اللّه،بل يعني التأكد من الصحّة ثمّ تطبيق العمل عليها.

ص:228

و إليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية:

روى البخاري في باب«الصراط جسر جهنم»بسنده عن أبي هريرة قال:قال أُناس:يا رسول اللّه هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال:«هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟»قالوا:لا يا رسول اللّه،قال:«هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟»قالوا:لا يا رسول اللّه،قال:«فإنّكم ترونه يوم القيامة،كذلك يجمع اللّه الناس فيقول:من كان يعبد شيئاً فليتبعه،فيتبع من كان يعبد الشمسَ،و يتبع من كان يعبد القمر،و يتبع من كان يعبد الطواغيت،و تبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها،فيأتيهم اللّه في غير الصورة التي يعرفون،فيقول:أنا ربكم،فيقولون:نعوذ باللّه منك،هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا فإذا أتانا ربّنا عرفناه فيأتيهم اللّه في الصورة التي يعرفون،فيقول:أنا ربكم،فيقولون:أنت ربّنا فيتبعونه و يضرب جسر جهنم...-إلى أن يقول:- و يبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول:يا ربّ قد قشبني ريحها،و أحرقني ذكاؤها،فاصرف وجهي عن النار،فلا يزال يدعو اللّه فيقول:لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره.

فيقول:لا و عزتك لا أسألك غيره،فيصرف وجهه عن النار،ثمّ يقول بعد ذلك:يا رب قرّبني إلى باب الجنة،فيقول:أ ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك،فلا يزال يدعو فيقول:لعلّي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره،فيقول:لا و عزتك لا أسألك غيره،فيعطي اللّه من عهود و مواثيق أن لا يسأله غيره،فيقرّبه إلى باب الجنّة فإذا رأى ما فيها،سكت ما شاء اللّه أن يسكت،ثمّ يقول:ربي أدخلني الجنّة،ثمّ يقول:

أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره،ويلك يا ابن آدم ما أغدرك،فيقول:يا رب لا تجعلني أشقى خلقك،فلا يزال يدعو حتى يضحك (اللّه) فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها...الحديث. (1)

ص:229


1- 1) .البخاري:الصحيح:117/8 باب الصراط جسر جهنم.

و رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير. (1)

و رواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن و فيه:حتى إذا لم يبق إلاّ من كان يعبد اللّه تعالى من برّ و فاجر أتاهم ربّ العالمين سبحانه و تعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها،قال:فما تنتظر تتبع كل أُمّة ما كانت تعبد،قالوا:يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنّا إليهم و لم نصاحبهم،فيقول:أنا ربكم،فيقولون:نعوذ باللّه منك،لا نشرك باللّه شيئاً،مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب،فيقول:هل بينكم و بينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون:نعم،فيكشف عن ساق،فلا يبقى من كان يسجد للّه من تلقاء نفسه،إلاّ أذن اللّه له بالسجود،و لا يبقى من كان يسجد اتقاءً و رياءً إلاّ جعل اللّه ظهره طبقة واحدة،كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه...الحديث. (2)

و قد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص،و رواه أحمد في مسنده. (3)

تحليل الحديث

إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته،و تعددت نقلته لا يصح الركون إليه في منطق الشرع و العقل بوجوه:

1.إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول و العقائد،و إن كان مفيداً في باب الفروع و الأحكام،إذ المطلوب في الفروع هو الفعل و العمل،و هو أمر ميسور

ص:230


1- 1) .مسلم:الصحيح:113/1،باب معرفة طريق الرؤية.
2- 2) .مسلم:الصحيح:115/1،باب معرفة طريق الرؤية.
3- 3) .أحمد بن حنبل:المسند:368/2.

سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أو لا،بل يكفي قيام الحجّة على لزوم تطبيق العمل عليه،و لكن المطلوب في العقائد هو الإذعان و عقد القلب و نفي الريب و الشك عن وجه الشيء،و هو لا يحصل من خبر الواحد و لا من خبر الاثنين،إلاّ إذا بلغ إلى حدٍّ يُورِث العلم و الإذعان، و هو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.

2.إنّ الحديث مخالف للقرآن،حيث يثبت للّه صفات الجسم و لوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين - رحمه اللّه -.

3.ما ذا يريد الراوي في قوله:«فيأتي اللّه في غير الصورة التي يعرفون،فيقول:أنا ربكم»؟! فكأنَّ للّه سبحانه صوراً متعددة يعرفون بعضها،و ينكرون البعض الآخر،و ما ندري متى عرفوا التي عرفوها،فهل كان ذلك منهم في الدنيا،أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟!

4.ما ذا يريد الراوي من قوله:«فيقولون:نعم،فيكشف عن ساق،فلا يبقى من كان يسجد للّه من تلقاء نفسه...»؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين و المنافقين يعرفونه سبحانه بساقه،فكانت هي الآية الدالّة عليه.

5.كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين-رحمه اللّه-حيث قال:إنّ الحديث ظاهر في أنّ للّه تعالى جسماً ذا صورة مركّبة تعرض عليها الحوادث من التحوّل و التغيّر،و أنّه سبحانه ذو حركة و انتقال،يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها،و فيها مؤمنوها و منافقوها، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل.فيقول لهم:أنا ربكم،فينكرونه متعوذين باللّه منه،ثمّ يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون.فيقول لهم:أنا ربكم،فيقول المؤمنون و المنافقون جميعاً:نعم،أنت ربّنا.و إنّما عرفوه بالساق،إذ كشف لهم

ص:231

عنها،فكانت هي آيته الدالة عليه،فيتسنّى حينئذ السجود للمؤمنين منهم،دون المنافقين،و حين يرفعون رءوسهم يرون اللّه ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارونَ فيه،كما كانوا في الدنيا لا يُمارون في الشمس و القمر،ماثلين فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب،و إذا به،بعد هذا يضحك و يعجب من غير معجب،كما هو يأتي و يذهب إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على اللّه تعالى، و لا على رسوله،بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة و غيرهم،فلا حول و لا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم. (1)

2.روى البخاري في كتاب الصلاة،باب مواقيت الصلاة،و فضيلتها عن قيس (بن أبي حازم) عن جرير قال:كنّا عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم فنظر إلى القمر ليلة-يعني البدر-فقال:إنّكم ترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و قبل غروبها فافعلوا ثمّ قرأ: «وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ» 2.

و حديث قيس بن أبي حازم مع كونه مضاداً للكتاب ضعيف من جانب السند و إن رواه الشيخان،و يكفي فيه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده،ترجمه ابن عبد البر و قال:قيس بن أبي حازم الأحمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي صلى الله عليه و آله و سلم في عهده و صدق إلى مصدِّقه،و هو من كبار التابعين،مات سنة ثمان أو سبع و تسعين و كان عثمانياً. (2)

ص:232


1- 1) .كلمة حول الرؤية:65،و هي رسالة قيّمة في تلك المسألة و قد مشينا على ضوئها-رحم اللّه مؤلفها رحمة واسعة -.
2- 3) .الاستيعاب:3 برقم 2126. [1]

و قال الذهبي:قيس بن أبي حازم عن أبي بكر و عمر،ثقة حجة كاد أن يكون صحابياً،وثّقه ابن معين و الناس،و قال علي بن عبد اللّه عن يحيى بن سعيد:منكر الحديث،ثمّ سمّى له أحاديث استنكرها،و قال يعقوب الدوسي:تكلّم فيه أصحابنا،فمنهم من حمل عليه،و قال:له مناكير، فالذين أطروه عدّوها غرائب و قيل:كان يحمل على عليّ رضى الله عنه إلى أن قال:و المشهور أنّه كان يقدم عثمان،و قال إسماعيل:كان ثبتاً قال:و قد كبر حتى جاوز المائة و خرف. (1)

و قد تقدم أنّ العدل و التنزيه علويان،كما أنّ الجبر و التشبيه أمويان،و هل يصح في ميزان النصفة الأخذ برواية رجل عثماني الهوى، معرضاً عن الإمام علي عليه السلام،و عاش حتى خرف؟! أو أنّ الواجب ضربها عرض الحائط؟

نرجو من اللّه سبحانه أن تكون هذه البحوث مصباحاً منيراً للشباب المتطلّعين إلى الحقيقة الذين استهدفوا من قبل أعداء الإسلام بغية سلب هويتهم و أصالتهم الإسلامية.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:233


1- 1) .ميزان الاعتدال:3برقم 6908.

ص:234

6

اشارة

أهل البيت عليهم السَّلام

المرجع العلمي و الفكري

بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

كان للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم رئاسة دينية تامّة في إدارة دفّة الحكم.

فهو من جانب كان يدير الجيوش،و يسدّ الثغور،و يقيم الحدود،و يُقسِّم الفيء بين المسلمين،و يقضي بينهم.إلى غير ذلك من الأُمور الّتي لها صلة بالأُمور الدنيوية.

و من جانب آخر كان يقوم بأُمور لها صلة بالأُمور المعنوية:

أوّلاً:يبيّن الأحكام الشرعية كلية و جزئية،و يجيب على الحوادث المستجدّة الّتي لم يُبيّن حكمها في الكتاب و لا في السنّة الموجودة.

ثانياً:يفسّر القرآن الكريم فيبيّن مجملاته،و يقيّد مطلقاته،و يخصِّص عموماته إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى رفع إبهامات الكتاب.

ثالثاً:يردّ على الشبهات و التشكيكات الّتي يلقيها أعداء الإسلام من مشركي مكة المكرمة و اليهود و النصارى بعد الهجرة.

رابعاً:يصون الدين من أيِّ محاولة تحريفية،و من أيّ دسٍّ في التعاليم المقدسة.

ص:235

فأمّا الجانب الأوّل أي إدارة دفة الحكم بعد رحيله،فقد تناوله العلماء بالبحث و التحليل،و تمخض عن طرح رأيين:

الأوّل:نظرية التنصيص و انّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قد نصّ على خليفته و عيّن من يدير دفة الحكم بعده في مواقف مختلفة أشهرها و أعمها حديث الغدير الذي ألقاه النبي صلى الله عليه و آله و سلم في محتشد عظيم عند منصرفه عن حجّة الوداع في غدير خم عام 10 ه و قال:أ لست بكم أولى من أنفسكم؟ قالوا:

بلى فقال:«من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه،اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله».

و الحديث من الأحاديث المتضافرة المتواترة عبر القرون و قد نقل جم غفير من الصحابة و التابعين و العلماء عبر القرون،و ربما تنتهي أسانيد الحديث إلى أكثر من مائة صحابي و قد ألّف في ذلك كتب و موسوعات و أُلقيت حولها العديد من المحاضرات و المناظرات لا نطيل بذكرها المقام. (1)

الثاني:نظرية الشورى،و انّ صيغة الحكم تخضع لتلك النظرية و على صحابة النبي عامة أو على أهل الحل و العقد منهم خاصة أن يجتمعوا و يشاروا و ينتخبوا من يأخذ بزمام الحكم و يدير دفته،و هذه النظرية هي النظرية المعروفة بنظرية الشورى أو نظرية الانتخاب.

و بما انّ ذلك الجانب قد أُشبع بالبحث و التحليل على وجه احتل مسافة شاسعة من الأبحاث الكلامية و العقائدية،لذا آثرنا الإحجام عنه خوفاً من الإطناب.

و لذلك نكرس البحث في الجانب الآخر الذي له صلة بالأُمور المعنوية و قد عرفت فيما سبق انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يقوم بالأُمور الأربعة السالفة الذكر التي لا

ص:236


1- 1) .و كفانا في ذلك ما ألّفه العلاّمة المحقّق الشيخ عبد الحسين الأميني (رضوان اللّه عليه) مؤلف الغدير.

يتولاها إلاّ من له مؤهلات خاصة من قبل اللّه سبحانه و لا يقوى على النهوض بهذه المهمة إلاّ من علّمه اللّه سبحانه من لدنه علماً،كما قال في مصاحب موسى. (1)

و لا ريب انّ من كان يقوم بمثل هذه المسئوليات،يورث فقدُه و غيابُه من الساحة،فراغاً هائلاً في الحياة الاجتماعية،و ثغرة كبرى في القيادة لا يسدّها إلاّ إخلاف من يتحلّى بنفس المؤهلات الفكرية و العلمية التي كان النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم يتحلّى بها ما عدا خصيصة النبوة و تلقّي الوحي.

و من الخطأ أن نتهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم-و العياذ باللّه-بأنّه قد ارتحل من دون أن يفكّر في ملء تلك الثغرات المعنوية الحاصلة برحيله.

و هذا ما يسوقنا إلى الفحص في كلمات الرسول الأعظم حتّى نتعرف على من عيّنه الرسول لملء هذه الثغرات.

فإذا راجعنا أحاديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم نقف بوضوح على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قد سدّ هذه الثغور بإخلاف من جعلهم قرناء الكتاب و أعداله،و أناط هداية الأُمّة بالتمسك بهما.

و ها نحن نذكر الشيء القليل الّذي هو كنموذج من كلماته الكثيرة في ذلك المجال.

1.روى ابن الأثير الجزري في جامع الأُصول عن جابر بن عبد اللّه،قال:

رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع يوم عرفة و هو على ناقته القصواء يخطب،فسمعته يقول:«إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا:كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي». (2)

ص:237


1- 1) .لاحظ الاسراء:65.
2- 2) .جامع الأُصول:424/1.

2.و أخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم،قال:

قام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خماً بين مكة و المدينة،و حمد اللّه و أثنى عليه و وعظ و ذكر،ثمّ قال:

أمّا بعد:ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب،و أنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما:كتاب اللّه فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به فحثّ على كتاب اللّه و رغب فيه.

ثمّ قال:و أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي،أذكركم اللّه في أهل بيتي،أذكركم اللّه في أهل بيتي. (1)

3.أخرج الترمذي في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري،قال:رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة يوم عرفة على ناقته القصواء يخطب فسمعته،يقول:يا أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا،كتاب اللّه و عترتي. (2)

4.أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر:كتاب اللّه حبل ممدود إلى السماء و الأرض،و عترتي أهل بيتي،و انّها لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. (3)

و هذا الحديث المعروف بحديث الثقلين رواه عن النبي أكثر من ثلاثين صحابياً،و دوّنه ما يربو على ثلاثمائة عالم في كتبهم في مختلف العلوم و الفنون،و في جميع الأعصار و القرون،فهو حديث صحيح متواتر بين المسلمين،و قد عين النبي صلى الله عليه و آله و سلم ببركة هذا الحديث من يسدّ هذه الثغرات و يكون المرجع العلمي بعد رحيله و ليس هو إلاّ أهل بيته.

ص:238


1- 1) .صحيح مسلم:325/2.
2- 2) .سنن الترمذي:662/5،باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم. [1]
3- 3) .مسند أحمد:14/3. [2]

من هم أهل البيت؟

و أمّا من هم أهل بيته الّذين هم أحد الثقلين،و أشار إليهم سبحانه في قوله: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» . (1)فقد عرّفهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم في مواطن متعددة،بل كان له صلى الله عليه و آله و سلم عناية وافرة بتعريفهم لم ير مثلها إلاّ في موارد نادرة.

أوّلاً:صرّح بأسماء من نزلت الآية في حقّهم،حتّى يتعين المنزول فيه باسمه و رسمه.

ثانياً:قد أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء و منع من دخول غيرهم.

ثالثاً:كلّما خرج إلى الصلاة كان يمر ببيت فاطمة عليها السَّلام عدّة شهور،و يقول:الصلاة أهل البيت «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» و لنذكر لكلّ موطن نموذجاً:

أمّا الأوّل:أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال،قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:نزلت الآية في خمسة:في و في علي عليه السلام و حسن عليه السلام و حسين عليه السلام و فاطمة عليها السَّلام «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .

و قد رويت في هذا المجال روايات فمن أراد فليرجع إلى تفسير الطبري و الدر المنثور للسيوطي.

و أمّا الثاني:فقد أخرج السيوطي عن ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم عن عائشة قالت:خرج رسول اللّه غداة و عليه مرط مرجّل

ص:239


1- 1) .الأحزاب:33. [1]

من شعر أسود فجاء الحسن و الحسين عليهما السلام فأدخلهما معه،ثمّ جاء علي فأدخله معه،ثمّ قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

و لو لم تذكر فاطمة عليها السَّلام في هذا الحديث فقد جاء في حديث آخر،حيث روى السيوطي،و قال:أخرج ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه عن سعد،قال:نزل على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الوحي فأدخل علياً و فاطمة و ابنيهما تحت ثوبه،ثمّ قال:اللّهمّ إنّ هؤلاء أهلي و أهل بيتي.

و في حديث آخر جاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلىّ فاطمة و معه حسن و حسين،و علي حتّى دخل فأدنى علياً و فاطمة فأجلسهما بين يديه و أجلس حسناً و حسيناً كلّ واحد منهما على فخذه ثمّ لفّ عليهم ثوبه و أنا مستدبرهم،ثمّ تلا هذه الآية: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .

و أمّا الثالث:فقد أخرج الطبري عن أنس انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يمر ببيت فاطمة عليها السَّلام ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة،فيقول الصلاة أهل البيت «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» . (1)

***

ص:240


1- 1) .و للوقوف على مصادر هذه الروايات لاحظ تفسير الطبري:5/22-7 و [1]الدر المنثور:198/5- 199،و [2]الروايات تربو على أربع و ثلاثين رواية،و رواها من عيون الصحابة:أبو سعيد الخدري،أنس بن مالك،ابن عباس،أبو هريرة الدوسي،سعد بن أبي وقاص،واثلة بن الأسقع،أبو الحمراء أعني هلال بن حارث،و من أُمّهات المؤمنين:عائشة و أُمّ سلمة. و رواه من أصحاب الصحاح:مسلم في صحيحه:122/7-123 و الترمذي في سننه:699/5برقم 3871،و لاحظ جامع الأُصول لابن الأثير:100/10-103.

اعتراف أئمّة المذاهب بأفقهية أهل البيت عليهم السَّلام

إنّ كثيراً من علماء أهل السنّة-قديماً و حديثاً-اعترفوا بأفقهية أئمّة أهل البيت عليهم السلام،فها نحن نذكر هنا شيئاً قليلاً من كثير.

روى ابن عساكر في تاريخه في ترجمة السجاد (علي بن الحسين عليه السلام) عن أبي حازم انّه قال:ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين،و ما رأيت أحداً كان أفقه منه. (1)

و قال الشافعي:إنّ علي بن الحسين،أفقه أهل البيت. (2)

و قال عبد اللّه بن عطاء:ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر،لقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم كأنّه متعلّم. (3)

و قال أبو حنيفة:ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الصادق عليه السلام. (4)

و نقل الإمام الشافعي في رحلته:انّه سمع من مالك قوله للرجل الّذي أجاب على مسائله:

قرأت-أو سمعت-الموطأ؟ قال:لا.

قال:فنظرت في مسائل ابن جُريج؟ قال:لا.

قال:فلقيت جعفر بن محمد الصادق ؟ قال:لا.

قال:فهذا العلم من أين لك؟ (5)

ص:241


1- 1) .سير اعلام النبلاء:394/4.
2- 2) .شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:274/15. [1]
3- 3) .حلية الأولياء:186/3.
4- 4) .تهذيب الكلمات:79/5.
5- 5) .رحلة الإمام الشافعي:25.

قد خرجنا بالنتيجة التالية:

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد ارتحل و قد خلف الثقلين لترجع إليهما الأُمّة في حلّ معضلاتها و مشكلاتها،و انّه عيّن المقصود من أهل بيته و أشاد بهم في مواقف مختلفة و عرفهم للأُمّة بيد انّ هناك سؤالاً يطرح نفسه،و هو:

إجابة على سؤال

اشارة

إنّ أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عترته الطاهرة قد ارتحلوا فأين تراثهم و علومهم حتّى ترجع إليها الأُمّة.هب انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم تعبّدنا بالرجوع إليهم و التمسك بأحاديثهم و كلماتهم فأين أحاديثهم و علومهم حتّى نرجع إليهم؟

و الجواب عنه واضح،و هو انّ تراث أئمّة أهل البيت عليهم السلام و أحاديثهم و معارفهم تتمثل في الأُمور التالية:

الأوّل:كتاب علي

فقد كان لعلي كتاب خاص بإملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و قد حفظته العترة الطاهرة عليهم السلام و صدرت عنه في مواضع كثيرة و نقلت نصوصه في موضوعات مختلفة،و قد بث الحرّ العاملي في موسوعته الحديثية،أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات،و من أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.

و قال الإمام الصادق عليه السلام عند ما سئل عن الجامعة؟ فقال:فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه،و ليس من قضية إلاّ فيها حتّى أرش الخدش.

و كان كتاب علي مصدراً لأحاديث العترة الطاهرة يرثونه واحد بعد آخر و ينقلون عنه و يستدلون به على السائلين.

ص:242

و هذه هو أبو جعفر الباقر عليه السلام يقول لأحد أصحابه-أعني حمُران بن أعين-و هو يشير إلى بيت كبير:يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ علي عليه السلام و إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لو وُلّينا الناس لحكمنا بما أنزل اللّه لم نعد ما في هذه الصحيفة.

و هذا هو الإمام الصادق عليه السلام يعرّف كتاب علي عليه السلام بقوله:«فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من فلق فيه و خط علي بن أبي طالب عليه السلام بيده،فيه و اللّه جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة حتّى أنّ فيه أرش الخدش و الجلدة و نصف الجلدة».

و يقول سليمان بن خالد:سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:«إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعا،إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم خطّ عليّ عليه السلام بيده،ما من حلال و لا حرام إلاّ و هو فيها حتّى أرش الخدش».

و يقول أبو جعفر الباقر عليه السلام لبعض أصحابه:يا جابر إنّا لو كنّا نحدثكم برأينا و هوانا لكنّا من الهالكين،و لكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم». (1)

و قد كان علي عليه السلام أعلم الناس بسنة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و كيف لا يكون ذلك،و هو يقول:كنت إذا سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم انبأني و إذا سكت ابتدأني.

و قد كان يصدر عن ذلك الكتاب إمام بعد إمام،و هذا هو ولده الإمام الحسن السبط عليه السلام و هو يصف كتب علي:

«إنّ العلم فينا و نحن أهله،و هو عندنا مجموع كلّه بحذافيره،و منه لا يحدث

ص:243


1- 1) .قد جمع العلاّمة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتاب علي في موسوعته بحار الأنوار:18/26- 66 تحت عنوان باب جهات علومهم و ما عندهم من الكتب،الحديث12،1،10،20.

شيء إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلاّ و هو عندنا مكتوب،بإملاء رسول اللّه و خطّ علي بيده». (1)

و قال الإمام زين العابدين عليه السلام لرجل شاجره في مسألة فقهية:«يا هذا لو صرت إلى منازلنا لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا،أ يكون أحد أعلم بالسنة منّا». (2)

و قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام للحكم بن عتيبة:

اذهب أنت و سلمة و أبو المقدام،حيث شئتم-يميناً و شمالاً-فو الله،لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل. (3)

و قال عليه السلام لسلمة بن كهيل و الحكم:«شرّقا و غرّبا،لن تجدا علماً صحيحاً إلاّ شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت». (4)

إلى غير ذلك من كلمات أئمّة أهل البيت عليهم السلام و الّتي تعرب عن علمهم بالسنّة و الكتاب،و انّهم أعرف الناس بمواقع الكتاب و السنّة.

الثاني:الصحيفة السجادية

هذه الصحيفة المعروفة بالصحيفة السجادية أو زبور آل محمّد من مظاهر علوم أهل البيت عليهم السلام و هي خالدة على جبين الدهر، و أسانيدها إلى الإمام متسلسلة متضافرة بل متواترة.و هناك وراء اتصال الأسانيد شيء آخر و هو انّ فصاحة ألفاظها و بلاغة معانيها و علوّ مضامينها و ما فيها من أنواع التذلّل للّه تعالى و الثناء عليه،و الأساليب العجيبة في طلب عفوه و كرمه و التوسّل إليه أقوى

ص:244


1- 1) .الحاكم،المستدرك:125/3. [1]
2- 2) .الاحتجاج:287/1.
3- 3) .نزهة الناظر للحلواني:45.
4- 4) .رجال النجاشي برقم 966.

شاهد على صحّة نسبتها إليه و انّ هذا الدرّ من ذلك البحر و هذا الجوهر من ذلك المعدن،و هذا الثمر من ذلك الشجر،مضافاً إلى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب.و تعدد أسانيدها المتصلة إلى مُنشئِها،فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعددة المتصلة إلى زين العابدين عليه السلام. (1)

الثالث:رسالة الحقوق

إنّ للإمام علي بن الحسين عليهما السلام رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق،أوردها الصدوق في خصاله بسند معتبر،كما رواها الحسن بن شعبة في تحف العقول مرسلة،و هي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق،يذكر الإمام فيها حقوق اللّه سبحانه على الإنسان و حقوق نفسه عليه، و حقوق أعضائه من اللسان و السمع و البصر و الرجلين و اليدين و البطن و الفرج،ثمّ يذكر حقوق الأفعال،من الصلاة و الصوم و الحجّ و الصدقة و الهدي التي تبلغ خمسين حقاً،آخرها حقّ الذمة.

الرابع:رسالة الإمام الرضا عليه السلام في الفرائض و السنن

روى المحدثون انّ المأمون بعث الفضل بن سهل إلى الرضا عليه السلام فقال:إنّي أُحبّ أن تجمع لي من الحلال و الحرام،و الفرائض و السنن فانّك حجة اللّه على خلقه و معدن العلم،فدعا الرضا عليه السلام بدواة و قرطاس و قال للفضل اكتب:

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

«حسبنا شهادة أن لا إله إلاّ اللّه أحداً،صمداً لم يتّخذ صاحبة و لا ولداً...».

و الرسالة مطبوعة في كتاب تحف العقول عن آل الرسول. (2)

ص:245


1- 1) .في رحاب أئمّة أهل البيت:414/3. [1]
2- 2) .تحف العقول:306- 311.
الخامسة:رسالة الإمام الهادي عليه السلام

روى المحدثون عن الإمام الراشد الصابر أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام رسالة في الردّ على أهل الجبر و التفويض و إثبات العدل و المنزلة بين المنزلتين،و قد نقلها بنصها ابن شعبة الحراني في تحف العقول. (1)

هذه الرسائل هي المدونة من قبل الأئمّة عليهم السلام أنفسهم و هناك رسائل أُخرى بأقلامهم لم نذكرها روماً للاختصار.

و أمّا ما رُوي عنهم و دونها أئمّة أهل الحديث عبر القرون فحدث عنه و لا حرج و نشير إلى بعضها.

السادس:نهج البلاغة

إنّ كتاب نهج البلاغة من أعرف الكتب و أشهرها عند الفريقين،و هو يتضمن خطب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام و كتبه و كلماته القصار قام بجمعها الشريف الرضي (المتوفّى عام 406ه).

و قد حذف الأسانيد و جاء بالمتون لاشتهار صدورها عن علي عليه السلام،و قد قام غير واحد من الأصحاب بالاستدراك على ما نقله الشريف الرضي،فذكروا خطباً و رسائل كثيرة كما استخرج بعضهم أسانيد نهج البلاغة من الكتب المؤلفة قبل الشريف الرضي،و قد قيل في حقّه:إنّه دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوق.

السابع:أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنّف

إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام قد ربّوا جيلاً كبيراً من الفقهاء و المحدّثين،فدوّنوا

ص:246


1- 1) .تحف العقول:338- 352. [1]

ما وعوه عنهم في كتبهم المعروفة بأربعمائة مصنَّف،و لم يزل بعضها موجوداً إلى الآن بهيئتها و وضعها.

غير انّ كثيراً منها قد انتقل موادها إلى الأُصول المؤلفة على يد علماء الشيعة في الأعصار المتأخّرة و هي بين جوامع أوّلية كالمحاسن لأحمد بن محمد بن أبي خالد البرقي (المتوفّى 274ه) و نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى الأشعري القمي (المتوفّى 293ه) و كتاب الجامع لأحمد بن البزنطي (المتوفّى 221ه) و كتاب الثلاثين للأخوين الحسن و الحسين ابني سعيد بن حماد الأهوازي.

و بين جوامع ثانوية ك«الكافي»للشيخ الكليني (المتوفّى 329ه)،و«من لا يحضره الفقيه»للمحدّث الخبير أبي جعفر الصدوق (المتوفّى 381ه) و«التهذيب»و«الاستبصار»للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفّى 460ه).

و بين جوامع متأخرة ك«الوافي»لمحمد بن محسن الفيض الكاشاني (المتوفّى 1091ه) و«وسائل الشيعة»للحرّ العاملي (المتوفّى 1104ه) و«بحار الأنوار»لمحيي السنة الشيخ محمد باقر المجلسي (المتوفّى عام 1110ه).

فهذه الجوامع و غيرها الّتي لم نشر إليها بغية الاختصار قد احتضنت علوم أهل البيت عليهم السلام في مختلف المجالات،و من أراد أن يتمسك بالثقلين فهذا هو كتاب اللّه،و هذه هي سنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الّتي نقلها أئمّة أهل البيت عليهم السلام عنهم.

و هناك نكتة جديرة بالإشارة و هي انّه إذا كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام مطهرين من الرجس حسب تنصيص الكتاب،و المرجع العلمي بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و قرناء القرآن و أعداله بنفس رواية الثقلين،إلى غير ذلك من سمات و مواصفات فلما ذا غفل إخواننا أهل السنة عن الرجوع إليهم و الاستضاءة بأنوارهم و ركوب

ص:247

سفينتهم حتّى ينجوا من الغرق.

و العجب انّهم رجعوا إلى كلّ صحابي و تابعي و كلّ إنسان يتّسم بالسلفية و مع ذلك لا نرى أنّهم يتمسكون بأحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام إلاّ نزراً قليلاً لا يذكر.

فهم طرقوا كلّ باب حتّى باب مستسلمة أهل الكتاب نظراء كعب الأحبار و وهب بن منبّه إلى غير ذلك و لم يطرقوا باب أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

نسأله سبحانه أن يلمّ شعث المسلمين و يرزقهم توحيد الكلمة كما رزقهم كلمة التوحيد.

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

4 ربيع الثاني من شهور عام 1422

ص:248

الفصل الثاني مقالات في الفقه

اشارة

1.التشريع في الحكومة الإسلامية

2.حول سعة المطاف و الرمي

3.شرطية السوم في تعلّق الزكاة

4.إرث المسلم من الكافر

5.إلماع إلى تاريخ علم الأُصول

ص:249

ص:250

1

اشارة

التشريع في الحكومة الإسلامية

(1)

ينمُّ اتّساع الحياة الاجتماعية للإنسان و اضمحلال الحياة الفردية في الغابات و البوادي،عن ميله الطبيعي للحياة الاجتماعية كي يتسنّى له عن طريق التعاون مع أبناء جنسه،التغلّب على ما يكتنفها من مصاعب،هذا من ناحية،و من ناحية أُخرى فإنّ الإنسان موجود أناني و يمثل حبّ الذات أمراً غريزياً فيه و هو يطمح في الاستحواذ على كلّ شيء،و إذا ما خضع يوماً للقوانين الاجتماعية الصارمة فإنّما يفعل ذلك اضطراراً،و لو لا الاضطرار لما تخلّى عن طبيعته الأنانية،و خير دليل على ذلك هو عدم تورّعه عن سحق حقوق الآخرين كلّما سنحت له الفرصة.من هنا فقد اتّفقت آراء العلماء على أنّ إقامة المجتمع الإنساني السليم،تستلزم تشريع منهج كامل،لكي تتضح في ضوئه حقوق و واجبات الأفراد في الحياة الاجتماعية،و ذلك المنهج هو عبارة عن القوانين الاجتماعية التي تمثل البنية التحتية للمجتمع الإنساني،فلنحقّق من الذي يضطلع بمهمة وضع هذا المنهج؟

ص:251


1- 1) .أُلقي هذا المقال في المؤتمر الرابع للفكر الإسلامي الذي عقدته منظمة الإعلام الإسلامي في طهران عام 1415ه.

الحكومة في الإسلام

جرى بنا القول على نحو الإجمال أنّ المشرّع إنّما يريد من خلال سنّه للتعاليم الفردية و الاجتماعية توجيه المجتمع نحو الكمال و توفير السعادة المادية و المعنوية لأفراده عن طريق تحديد واجباتهم و تأمين حقوقهم.

و من هنا يجب أن يتوفر في المشرّع،الشرطان التاليان:

1.أن يكون على معرفة بالطبيعة الإنسانية:فإذا كان الهدف من التقنين هو تأمين حاجات الإنسان الجسدية و الروحية،فلا بدّ و الحالة هذه من أن يكون المقنّن عارفاً على نحو الدقة بكلّ خفايا الإنسان ببعديه الجسدي و الروحي،و بعبارة أُخرى على المشرّع أن يكون على معرفة دقيقة بالطبائع الفردية و الجماعية.

2.النزاهة من النوازع النفعية:يستلزم التحلّي بالرؤية الواقعية و صيانة مصالح المجتمع أن يكون المشرّع مجرداً من كلّ أنواع الأنانية و النفعية عند وضعه للقانون؛إذ إنّ غريزة حب الذات تخلق حاجزاً كثيفاً أمام البصيرة،و الإنسان مهما كان عادلاً و منصفاً و واقعياً في رؤيته فلا بدّ من أن يقع تحت تأثير نوازع الأنانية و حبّ الذات.

علينا أن نبحث أين يجتمع هذان الشرطان على الوجه الأكمل؟ لا ريب في أنّ المشرّع لو أُريد له أن يكون عالماً بخفايا الإنسان على أفضل وجه،فليس ثمّة من يُوصف بهذه الميزة سوى اللّه سبحانه؛و ليس هنالك من يملك معرفة بمخلوق ما،أكثر من خالقه؛و قد أشار القرآن إلى هذا المعنى بقوله: «أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» . (1)

ص:252


1- 1) .الملك:14. [1]

فالخالق الذي أبدع المخلوق من خلايا لا حصر لها و ركّب أجزاء بدنه على اختلافها،من المسلّم أنّه أعلم من الآخرين بما خفي و ظهر من حاجات مخلوقه و بمصالحه و مفاسده؛فهو تعالى بعلمه محيط بعلاقات الأفراد و نتائجها و الواجبات التي تمثل مصدراً لانسجام المجتمع، و الحقوق التي يستحقها كلّ إنسان.

و لا يتوفر الشرط الثاني-الذي هو عبارة عن التجرّد عن النفعية أثناء وضع القانون-إلاّ في الذات الإلهية المقدسة،و ذلك لاستغنائه تعالى عن أية منفعة لدى المجتمع البشري و نزاهته عن كلّ أنواع الغرائز لا سيما غريزة حبّ الذات،في حين أن بني الإنسان بأسرهم تستحوذ عليهم - إلى حدٍّ ما-نزعة الأنانية،و هي الآفة التي تهدد سلامة التقنين،و مهما حاولوا الانعتاق من مخالب هذه الشهوة،نجدهم يقعون فيها من جديد.

نقدّم بعد هذا التمهيد شرحاً للموضوعات التالية:

أُسلوب التشريع في الحكومة الإسلامية

ليس هنالك-في نظر القرآن-من مُقنّن أو مشرّعٍ سوى اللّه سبحانه،سواء أ كانت الجهة المقنّنة فرداً أم جماعة،أمّا الآخرون-كالفقهاء و العلماء-فإنّهم بمثابة خبراء بالقانون و يضطلعون بمهمة بيان الأحكام الإلهية من خلال الرجوع إلى مصادر التشريع.

يتّضح من خلال استقراء الآيات القرآنية،أنّ التقنين أو التشريع مختصّ باللّه سبحانه وحده،و لا توجد في النظام التوحيدي حجّة على نفوذ رأي شخص في حقّ شخص آخر،و لا حقّ لأحد في فرض آرائه على الفرد أو المجتمع،أو

ص:253

استخدام القوة لإجبار الناس على تنفيذها.

إنّ أفراد المجتمع الإنساني كما صرّح بذلك الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم:«سواسية كأسنان المشط» (1)لا فضل لأحدٍ منهم على الآخر،من هنا لا يوجد أي مسوّغ يبيح لفرد أو فئة إصدار حكم يصب في صالح فردٍ أو جماعةٍ أو ضرر فرد أو جماعة أُخرى،ثمّ يدعو الناس لاتّباعه.

و أسمى مظاهر المساواة في ظل النظام التوحيدي هو ما صرّح به الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم قوله:«الناس أمام الحقّ سواء»،و انّ القانون يُطبق على المجتمع دون أي اعتبار للامتيازات.و قد قارع الإسلام بكلّ ضراوة،النظامَ الطبقي الجائر الذي كان سائداً في العهد الساساني حيث كانت فئة من الناس ترى نفسها فوق القانون،بينما كان هناك فئة أُخرى تخضع لحكم القانون.

هناك آيات قرآنية كثيرة ترى انحصار التقنين في الذات الإلهية،و نحن نكتفي هنا بذكر بعضٍ منها؛قال تعالى:

«ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . (2)

و قد وردت عبارة «إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ» مرّتين في هذه السورة(سورة يوسف) إحداهما في هذه الآية،و الأُخرى في الآية 67 من السورة حيث قال تعالى:

«وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي

ص:254


1- 1) .الناس كأسنان المشط سواسية(من لا يحضره الفقيه:272/4).
2- 2) .يوسف:40. [1]

عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ». 1

و المراد من الحكم في الآية الثانية هو الحكم التكويني؛بمعنى انّ الكون كلّه بيده و يخضع لتدبيره،و سائر جُمَل الآية يؤيد هذا المعنى،إذ إنّ يعقوب حينما كان يرشد أبناءه إلى سبيل الوصول إلى هدفهم و يوضح لهم طريق النصر و يأمرهم بالدخول من أبواب متفرقة،سرعان ما يقول لهم: «وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» .

و يفيد منحى الآية انّ الهدف منها هو بيان الحكم التكويني للباري تعالى؛فقد أشارت إلى ذلك في موضع آخر بالقول: «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» 2 ،و مراد يعقوب هو انّ جميع الأفعال في الكون و كل الانتصارات و الهزائم إنّما هي بيده تعالى،في حين انّ المراد منها في الآية الأُولى هو الحكم التشريعي،أي أنّ اللّه سبحانه هو صاحب الحقّ في الأمر و النهي و التحليل و التحريم،و سرعان ما يقول: «أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ» و كأنّ سائلاً سأله بعد عبارة «إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ» ،إذا كان منصب الحكم و التشريع مختصاً باللّه دون سواه فما هو حكم اللّه في العبودية؟ فأجابه على الفور: «أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ» .

بناء على ذلك،فانّ المراد من عبارة «إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ» هو الحكومة التي تقوم على أساس السلطة التشريعية،و مثل هذا المنصب إنّما يختصّ باللّه سبحانه و لا حقّ لغيره في التدخل فيه،و السلطة التشريعية و التقنين شأن خاص باللّه و لا حق لأحد بإصدار حكم أو تشريع فريضة دون إذن منه تعالى.

ص:255

القوانين الثابتة و المتغيّرة

ثمّ تساؤل يثار هنا و هو:إذا لم يكن ثمّة مشرّع غير اللّه،و لا وجود لقوانين سوى قوانين الوحي المدوّنة في الكتاب و السنّة،فكيف و الحالة هذه يتسنّى إدارة مجتمع متغيّر بقوانين ثابتة؟

و بعبارة أُخرى:إنّ المجتمع المتغير و المتطور يحتاج إلى قوانين متغيّرة و متطوّرة في حين انّ القوانين الإلهية ثابتة لا تغيّر فيها.

و أمّا الإجابة فقد ثبت خلال البحوث المتعلّقة بالنبوة الخاتمة وجود نوعين من القوانين في الإسلام هما:

1.القوانين الثابتة أو ما يصطلح عليها بالدائمية التي لا سبيل إلى تغييرها.

2.الأحكام و التشريعات المتغيرة التي تتغير بتغير الظروف و المستجدّات.

بعد أن بيّنتْ الآيات القرآنية مسألة التوحيد التشريعي بجلاء،علينا البحث في شأن دور السلطة التشريعية فيما يخص هذا الجانب من الأحكام أي في المجموعة من الأحكام التي تتبدّل شكلاً و مضموناً مع مرور الزمن و تبعاً لتغيّر الأوضاع.

فنقول:هنالك مجموعة من القواعد الثابتة التي لا يمكن تخطّيها،و التغير الذي يطرأ عليها إنّما هو في مظهر الحكم و هيكله الخارجي لا جوهره؛فعلى سبيل المثال ربما تتخذ علاقة الحكومة الإسلامية بالدول الأجنبية أنماطاً متفاوتة؛فقد تقتضي الظروف ان تتعامل معها الحكومة الإسلامية من باب الصداقة و تُقيم روابطها على هذا الأساس و تقوم بتطوير علاقاتها السياسية و الثقافية و الاقتصادية معها،و قد تستدعي الظروف قطع تلك الروابط أو تقليص علاقاتها الاقتصادية و الثقافية معها إلى أمدٍ على أقل تقدير.و هذا التغيير يقع في شكل الحكم و طريقة

ص:256

تنفيذه و ليس في جوهره؛فالجوهر غير قابل للتغيير بالمرة.فعلى الحاكم الإسلامي المحافظة على مصالح الإسلام و صيانة عزّة المسلمين و أن لا يسمح بخضوع البلد الإسلامي لسيطرة الكفّار و المستعمرين؛و هذا تعبير عن الحكم الوارد في الآية: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» 1 .إنّ الشيء المهم هو الحفاظ على كيان الإسلام؛و قد تستدعي المحافظة على الإسلام قطع العلاقات تارة أو توطيدها تارة أُخرى.

و كذا الأمر فيما يتعلّق بمبدإ تقوية الجانب الدفاعي في الإسلام؛فهناك مبدأ عام يوضحه القرآن الكريم بقوله: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» 2 ،فهذا المبدأ الذي يؤكد ضرورة تفوق الجيش الإسلامي على سائر الجيوش،لا يقبل التغيير على الإطلاق،و الجانب الخاضع للتغيير منه هو شكله و أسلوب تطبيقه في مختلف الأعصار؛ففي العهود المنصرمة كانت قوة الجيش الإسلامي تتأتى عن طريق توفير السهام و السيوف و الرماح،أمّا في الوقت الحاضر فهو يُطبّق بطريقة أُخرى،و لا بدّ من تجهيز الجيش الإسلامي بأحدث الأسلحة و بشتّى أنواعها البرية و الجوية و البحرية.

و الخلاصة هي انّ التشريع الإلهي لا تطاله يد البشر أبداً؛و الأحكام الّتي بيّنت الشريعة روحها و جوهرها لا يحق للحاكم الإسلامي سوى التصرف بشكلها و مظهرها.

الاجتهاد و استنباط الأحكام

الاجتهاد يعني السعي العلمي للوصول إلى الحكم الشرعي من خلال اتباع

ص:257

المنهج الصحيح استناداً إلى الكتاب و الروايات و الإجماع و العقل.و الاجتهاد و التفقّه الذي وصف بأنّه القوة المحركة للإسلام،يعد أحد عوامل خلود الإسلام؛إذ يتيسّر عن طريقه استنباط أية مسألة من القرآن و الروايات،و بذلك يمكن الاستغناء عن قوانين الآخرين.

يعلم المطّلعون على تاريخ الفقه بأنّ الاجتهاد كان موجوداً على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و بعد رحيله و عن العهود التي تلت ذلك،و لا بدّ من الانتباه إلى وجود فارق بين الاجتهاد في ذلك الزمان و بين الاجتهاد في زماننا هذا،فقد كان الاجتهاد آنذاك بسيطاً و يسيراً لتوفر القرائن المساعدة على فهم الأحاديث بالإضافة إلى إمكانية الاستفسار من النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو أئمّة أهل البيت عليهم السلام لكشف ما يكتنفها من الغموض و الإبهام في حالة وجود تعقيد أو لبس في فهم الآية أو الرواية،و لكن كلّما ابتعدنا عن ذلك الزمان اتخذ الاجتهاد طابعاً فنياً نتيجة الاختلاف في الآراء و الروايات و الطعون الواردة بحقّ بعض الرواة،و ازدياد حاجة الأُمّة للاجتهاد و اتّساع مدياته.

قال الإمام الباقر عليه السلام لأبان بن تغلب،و كان من جملة المتفقهين من أصحابه:«اجلس في مجلس المدينة و أفتِ الناس،فانّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك». (1)

مكانة الفقيه في النظام الإسلامي

الفقيه هو الذي يستنبط الأحكام الشرعية من مصادرها الأربعة و يضعها بين أيدي الناس،و هو ليس المشرِّع أو المقنّن في النظام الإسلامي،فهو لا يضع

ص:258


1- 1) .مستدرك وسائل الشيعة:315/17( [1]طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السَّلام).

حكماً و لا يبطل حكماً،و لكن بما انّ استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها يحتاج إلى التخصّص و الأهلية العلمية،فالمجتهد-و بعد حصوله على مجموعة من الكفاءات-يصبح قادراً على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب و السنّة و العقل و الإجماع،فيكفي الآخرين الكثير من العناء.

فإذا تلخّص الاجتهاد في معرفة التشريع و استنباط الأحكام من مظانّها،فهو في هذه الحالة يُعد وسيلة لتشخيص القانون،و عن طريقه يمكن تشخيص الحقّ من الباطل و معرفة ما هو شرعي و ما هو غير شرعي.

و يرى فقهاء الشيعة كفاية الأدلة الأربعة لا سيما سنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم التي وصلتنا عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم السلام لاستنباط الأحكام الشرعية و الإفتاء بشأن الوقائع المستجدة في المجتمع.و قد أثبتوا صحّة هذه الرؤية على مدى القرون الأربعة عشر من تاريخ الإسلام.و يكفينا أن نعرف في هذا الصدد أنّ أحد كتب الحديث و هو كتاب«وسائل الشيعة»يحتوي على ما يناهز ست و ثلاثين ألف رواية فقهية،و إذا أضفنا إليه كتاب «مستدرك الوسائل»ستتجلى أمامنا سعة مصادر الفقه الشيعي الإسلامي،خاصة إذا عرفنا أنّها تضم مجموعة من الأُصول الكلية و القواعد الشاملة التي بوسعها أن تلبّي الكثير من المتطلبات.

يقول الكاتب السوري المعاصر مصطفى أحمد الزرقاء مؤلف كتاب«المدخل الفقهي العام»:

«و لا يخفى انّ نصوص الكتاب و السنّة محدودة متناهية و الحوادث الواقعة و المتوقعة غير متناهية،فلا سبيل إلى إعطاء الحوادث و المعاملات الجديدة منازلها و أحكامها في فقه الشريعة إلاّ على طريق الاجتهاد بالرأي». (1)

ص:259


1- 1) .المدخل الفقهي العام:77/6.

إذا كانت الغاية من الاجتهاد،هو معرفة حكمه سبحانه فهو رهن أن يكون له واقع معيّن خارج نطاق المعرفة في الكتاب و السنّة أو في مراتب العلم الإلهي كاللوح المحفوظ،و لكن إذا لم يكن له وجود سوى في حدود الفكر،ففي مثل هذه الحالة يتحول الاجتهاد من وسيلة للمعرفة إلى مصدر لها،و يتحول الفقيه من عالم بالتشريع إلى مقنن و مشرّع،في حين انّ الاجتهاد و كذا مسألة التصويب و التخطئة لها في الفقه الشيعي منحًى آخر.

ففي هذا المذهب تضمنت المصادر الدينية حكم ما كان و ما يكون،فأصبحت الشريعة بأكملها في متناول أيدي الفقهاء المجتهدين،و ما عليهم إلاّ المبادرة لاستنباط الأحكام من خلال السعي الحثيث،و قد يصيبون في هذا السبيل أو يخطئون،لكنّهم بريئو الذمّة إذا ما وقعوا في الخطأ، و لم يُوكل أمر التقنين لأحد حتّى في إطار مجموعة قواعد الاستنباط كالقياس و الاستحسان.

دور مجلس الشورى الإسلامي

تتركز مهمة مجلس الشورى الإسلامي على التخطيط في ضوء الأحكام الإسلامية،فلا غنى لأي بلد،مهما بلغت درجة تقدّمه الحضاري،عن وضع الخطط لأبنائه لمواجهة مختلف المتطلبات المستجدّة يوماً بعد يوم.و إذا ما دخلت قرارات مجلس الشورى الإسلامي حيز التنفيذ تكون بمثابة التعاليم الإلهية التي تخرج من طابعها الكلي إلى الجزئي.

و نظراً لاحتمال تجاوز النواب للأحكام الإسلامية العامة أثناء عملية وضع الخطط و تعارض قراراتهم مع هذه الأحكام،فلا بدّ من وجود مجموعة من الفقهاء المعروفين إلى جانب مجلس الشورى كي يدققوا فيما يقرره المجلس،و يدرسوا مدى تطابقه مع أُصول الشرع المقدس.

ص:260

مشكلة اختلاف الفتاوى في النظام الإسلامي

يمثل الاجتهاد في الفقه عنصراً لبقاء الشريعة و ديمومتها،لكنّه يُعتبر في الوقت ذاته مبعث اختلاف و ازدواجية.و هنا يتبادر إلى الأذهان هذا التساؤل و هو:كيف يتسنّى تقويض الاختلاف في الفتاوى في ظل النظام الإسلامي،لا سيما و انّ باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه في الفقه الشيعي،و ربما يصطدم رأي المجتهد مع آراء كافة ذوي الرأي،بل و حتى المشهورين من أئمّة الفقه.و مثل هذا الاجتهاد الواسع الأبواب يؤدي إلى وقوع الاختلاف و يتسبب في خلق مشكلة على صعيد حياة الأُمّة،و ما تخطط له الحكومة و القائمون على القضاء؟!

و حديثنا هنا يختصّ بمرحلة سيادة النظام الإسلامي و خمود نيران الفتن و المؤامرات و عدم وجود حالة طوارئ بل انّ حالة الطوارئ خارجة عن موضوع بحثنا؛فمواطن الضرورة تختلف فيما بينها كماً و نوعاً و طريقة معالجتها تخضع للظروف السائدة فيها.من هنا فانّ الحديث يتركز هنا على نظام مستتب لا يعيش حالة استثنائية.

و قد تبرز مشكلة الاختلاف في الفتيا على ثلاثة مستويات هي:

1.حياة الناس و علاقاتهم.

2.الجهاز القضائي.

3.خطط الحكومة.

و لكلّ واحدة من هذه الحالات أسلوب حلّ خاص بها:

1.لا شكّ في أنّ الفقه الشيعي يعتقد انّ باب الاجتهاد المطلق مفتوح و يرى وجوب تقليد المجتهد الحي،و هذا ما جعله فقهاً متكاملاً و قادراً على تلبية متطلبات كلّ عصر؛فالبقاء على تقليد الميت يعوق ازدهار الفقه و يكبّل مسيرته

ص:261

نحو التكامل.

و المشهور بين الفقهاء الشيعة انّهم لا يوجبون تقليد الحيّ فحسب،بل يوجبون أيضاً تقليد الأعلم في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها و يوجّهون الناس إلى تقليد الأعلم و الأفقه الذي غالباً ما يجري التعريف به عن طريق ذوي الاختصاص و تتجه الأنظار نحوه،و بالتالي فانّ الأكثرية من الأُمّة لا تواجه مشكلة فيما يتعلّق باختلاف الفتيا حيث تجتمع المرجعية العامة في شخص واحد.

2.هذه المشكلة محلولة تلقائياً في الجهاز القضائي انطلاقاً من المعايير التي وضعها الفقه الشيعي في هذا المجال،فمشكلة اختلاف الفتاوى في الجهاز القضائي ترتفع بتوفر شرط الاجتهاد في القاضي،فلا بدّ للقاضي-في الفقه الشيعي-أن يكون مجتهداً و فقيهاً مستنبطاً و قادراً على استخراج حكمه في القضية استناداً للمصادر الاستدلالية دون الرجوع إلى قانون مدوّن.

إنّ وضع قانون مكتوب للقضاة يُعَدُّ ضرباً من تقليد المحاكم في الغرب و جاء نتيجة للغفلة عن شرط الاجتهاد المطلق في القاضي،و هذا بطبيعة الحال لا ينسجم مع الأُسس الفقهية عند الشيعة،إذ إنّ الاشتكاء إمّا أن يكون حقوقياً أو جزائياً،و بعبارة أُخرى إمّا أنّه يتعلق بالدعاوي المالية و الحقوقية أو يتعلق بالحدود و التعزيرات.

ففي الحالة الأُولى يتعيّن على القاضي القضاء وفقاً لرأيه و اجتهاده،فإذا ما تطابق مضمون القانون الوضعي مع رأيه فخير،و إلاّ فعليه القضاء برأيه و اجتهاده.

أمّا بالنسبة إلى الحالة الثانية فانّ الحدود و الأحكام الجزائية في الإسلام قد جرى توضيحها و ربما يطرأ عليها تغيير نادراً،و انّ وضع قانون موحدٍ إنّما هو من

ص:262

قبيل«لزوم ما لا يلزم»،و اجتهاد القاضي يغنيه عن الرجوع لمثل هذا القانون.

أمّا التعزيرات فهي في نظر الفقه الإسلامي منوطة بتشخيص القاضي،أو كما يصطلح عليها الفقهاء موكولة«على ما يراه الحاكم من المصلحة»،من هنا فلا داعي لوضع قانون مدوّن و تزويد القضاة به لغرض تجنب الاختلاف في و جهات النظر بشأن التعزيرات.

و هذا الجانب يعد من الأبعاد المشرقة في الفقه الإسلامي،حيث تناط طريقة و مدى التعزير بما يراه القاضي و لا تجري معاقبة الجناة - و إن تشابهت جرائمهم-بعقوبات متشابهة،فربما يصلح مجرم من خلال توبيخه،و قد لا يصلح مجرم آخر اقترف جريمة مشابهة إلاّ بجلده خمسين جلدة،و الإصرار على وضع قانون موحّد للتعزيرات يعمل جميع القضاة وفقاً له يتعارض مع القاعدة المتقدم ذكرها و التي تتفق آراء كبار فقهاء المسلمين بشأنها.

إنّ الإصرار على تدوين قانون موحّد للمحاكم،سواء كان حقوقياً أم جزائياً،منشؤه تجاهل شرط الاجتهاد في القاضي،أو لحكم الضرورة التي تستدعي استخدام قضاة لا قدرة لديهم على الاستنباط،و نظراً لافتقاد هؤلاء القُضاة لعنصر الاجتهاد فلا بدّ و الحالة هذه من تدوين قانون و وضعه بين أيديهم.

3.إنّ اختلاف الفتاوى لا يثير أي مشكلة لا للحكومة و لا لأعضاء مجلس الشورى الإسلامي،سواء أ كان على شكل مشروع أم على شكل لائحة،للأسباب التالية:

أ:إنّ الأحكام الشرعية العامة،بدءاً من الطهارة و انتهاءً بالديات،خارجة عن حدود خطط و لوائح مصادقة النواب؛فمثل هذا الصنف من الأحكام مختصّ بفقهاء الإسلام و لا مجال لإبداء الرأي فيه من قبل جهة أُخرى؛فعلى سبيل المثال

ص:263

لا مجال أبداً لإخضاع أحكام البيع و الربا و القصاص و الديات للتصويب،لأنّ الحكم الإلهي أرفع من أن يصوّت عليه عباد اللّه.

ب:يجب أن يكون كلّ ما يخطط له النواب على الأصعدة الثقافية و الاقتصادية و السياسية و كذا ما تقرره الحكومة محصوراً في إطار القوانين الإلهية العامة،و يبقى تشخيص مطابقتها أو معارضتها للشرع المقدس على عاتق الفقهاء الذين توكل إليهم مهمة الإشراف على ما يصادق عليه المجلس.و هذه المهمة تُلقي مسئولية ثقيلة على عاتق فقهاء مجلس صيانة الدستور الذين لا بدّ من أن يتوفر فيهم الاجتهاد المطلق و الاطلاع و الإتقان التام للأُسس الفقهية،و هم الذين يبتّون في مدى صحّة الأحكام بعد إحرازهم لمطابقتها للموازين الشرعية،و لا يمكنهم في هذا المجال التعويل على رأي مجتهد آخر.

اتّضح ممّا تقدّم انّ الاختلاف في الفتاوى لا يثير مشكلة إلاّ في حالة الضرورة.فقدان الاجتهاد في القاضي و بطبيعة الحال يجب تدوين كلّ ما يصادق عليه المجلس،و صياغته على شكل«قانون مدوّن»أو بتعبير أدق«مقررات مدونة»و تلتزم به الدوائر التنفيذية و يعمل الجميع على ضوئه.

المذهب الرسمي للدولة الإسلامية

ربما يجري الحديث أحياناً حول دولة واحدة كالجمهورية الإسلامية في إيران،و تارةً عن جمهوريات إسلامية متحدة حين تزول الحدود المصطنعة بين البلدان الإسلامية و تتلاحم كلّ هذه الدول تحت راية واحدة،و الحديث عن الحالة الثانية خارج عن إطار بحثنا؛لأنّه من غير الصواب إبداء وجهة نظر قاطعة بهذا المجال ما لم تتوفر عوامل تحقّق مثل هذه الوحدة؛و لا يمكن الحديث بنحو

ص:264

قاطع إلاّ حينما تتضح طبيعة و معالم تلك الحكومة المتحدة.

موضوع الحديث هذا يخصّ حالة الدولة الواحدة؛فلا شكّ في أنّ المذاهب الفقهية-بصريح الدستور محترمة و الأفراد أحرار في اختيار المذهب الفقهي،هذا من ناحية،و من ناحية أُخرى لا بدّ من وجود بُنية دينية تحتية تقوم عليها النشاطات الاقتصادية و الثقافية و السياسية للحكومة بحيث تجري نشاطاتها على ضوئها و تتخذ لها مساراً واحداً في تحركها،فمن المتعذر تنظيم معاملات البلاد دون الاستناد إلى نظام فقهي منسجم،و هذا المذهب الفقهي هو الذي يحكمها.و بما انّ الحكومة منبثقة من صلب الأُمّة فلا بدّ بطبيعة الحال من سيادة مذهب الأكثرية فيصبح مذهباً رسمياً للدولة،و لكن بما انّ الاختلاف في الفتاوى المتعلقة بالأحوال الشخصية موجود في جميع المذاهب الفقهية،و خضوع أتباع كلّ مذهب لأحكام مذهبهم في مسائل الزواج و الطلاق و الميراث و غيرها،و اعتراف القانون بهذه المذاهب أيضاً،فلا بدّ من تحديد قضاة معروفين من هذه المذاهب للحكم وفقاً لما تنصّ عليه مذاهبهم إذا ما احتاج أتباع هذه المذاهب لمراجعة الجهات القضائية.و لحسن الحظ فانّ القوانين الحقوقية و الجزائية في الإسلام فيها من المشتركات من الكثرة ما يحول دون بروز أيّة مشاكل نتيجة اختلاف الفتاوى بين المذاهب الفقهية في هذا المجال.

حقوق الأقليات في ظل الحكومة الإسلامية

اشارة

ليس ثمة دين أو حكومة في العالم كالإسلام يحرص على ضمان الحريات للأقليات و يحافظ على كرامتهم و حقوقهم القومية؛فالإسلام هو الدين الوحيد الذي يوفر العدالة الاجتماعية بتمامها في البلد الإسلامي،و ليس للمسلمين

ص:265

وحدهم بل لجميع القاطنين في دولته مع ما يوجد بينهم من اختلاف في الدين و العنصر و اللغة و اللون.و هذه إحدى المزايا الإنسانية العظمى التي يعجز أي دين أو قانون غير الإسلام عن تحقيقها؛فالأقليات الدينية تستطيع العيش في البلد الإسلامي بحرية و التمتع بالحقوق الاجتماعية و الأمنية داخلياً و خارجياً شأنهم شأن المسلمين،و ذلك بعقدهم لعهد الذمة و الحصول على الانتماء للبلد الإسلامي.

1.شروط عقد الذمة

لعقد الذمة ثلاثة شروط،و بزوالها ينتفي هذا العقد،و هي:

أ:أن لا يقوم أهل الذمة بما يتنافى مع مفاد العقد المبرم،كالتآمر على الإسلام و مصالح المسلمين و شن الحرب ضدّهم و مساندة أعدائهم و المشركين.

ب:أن يلتزم أهل الذمّة بأحكام الإسلام الجزائية التي تُطبق بحقّهم.

ج:دفع مبلغ سنوي تحت عنوان (الجزية) للدولة الإسلامية.

و تمثل هذه الشروط الثلاثة شروطاً أساسية في عقد الذمة.أمّا إذا أدرجت شروط أُخرى في العقد فيجب على أهل الذمة الالتزام بها.هذا العقد يوجب لأهل الذمة حقوقاً على المسلمين،و يلزم الحكومة بحمايتهم من جميع أشكال التجاوز و الاعتداء و الاضطهاد،و يضمن لهم حرية إقامة شعائرهم الدينية و طقوسهم العبادية.

إنّ هذا التسامح من قبل المسلمين إزاء أهل الكتاب«اليهود و النصارى و المجوس»يسمّيه المسلمون«عقد الذمة أو المعاهدة»،و هو يقوم على أساس نوع من«التعايش السلمي»،و بالرغم من بعض القيود التي يعاني منها أهل الذمة في ظل الحكومة الإسلامية إلاّ أنّ الإسلام يضمن لهم الحرية و الاستقرار قدر الإمكان،

ص:266

و هذه مسئولية الدولة الإسلامية في أن تحترم أموالهم و أرواحهم و أعراضهم،و أن لا تسمح بأن تتعرض حقوقهم للانتهاك بأي نحو كان.

ففي نظر الإسلام تحظى أعراض الأقليات الدينية،التي تخضع لذمة الإسلام و تعقد مع المسلمين عقد المعاهدة.بالاحترام كأعراض المسلمين.من هنا فإنّ علياً عليه السلام لما بلغه هجوم بعض العتاة بأمر من معاوية على إحدى المدن في العراق و تجاوزهم على أموال الناس و أرواحهم و أعراضهم،غضب عليه السلام كثيراً و أبدى أسفه و قال:

«لقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة و الأُخرى المعاهدة،فينتزع حجلها و قُلبها و قلائدها و رُعثها ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع و الاسترحام». (1)

كانت أعراض المسلمين و المعاهدين موضع احترام عند أمير المؤمنين عليه السلام بحيث إنّه قال:

«فلو أنّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً،بل كان به عندي جديراً». (2)

2.الجزية ضريبة عادلة

تمثل الجزية نوعاً من العون المادي الذي يقدّمه أهل الذمة للدولة الإسلامية في مقابل المسئولية التي تتحمّلها في توفير الأمان لهم.

و لا يوجد مقدار معين للجزية،و هي تتردد وفقاً لقدرات الذميين.و سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن مقدار الجزية فقال:

ص:267


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة27. [1]
2- 2) .المصدر نفسه. [2]

«ذلك إلى الإمام يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء،على قدر ماله و ما يطيق». (1)

يقول المؤرخ المسيحي الشهير جرجي زيدان في كتابه تاريخ التمدّن الإسلامي:

وضع الرومان الجزية على الأمم التي أخضعوها و كانت أكثر بكثير ممّا وضعه المسلمون بعدئذ؛فإنّ الرومان لما فتحوا غاليا(فرنسا) وضعوا على أهلها جزية يختلف مقدارها ما بين 9 جنيهات و15 جنيهاً في السنة،أو نحو سبعة أضعاف جزية المسلمين. (2)

يتضح من هذا الحكم انّ ظروف الذميين قد أُخذت بنظر الاعتبار في أخذ الجزية أيضاً،و هذا ينمّ عن غاية التسامح و الوئام و العفو و الصفح الذي يتصف به المسلمون.

يقول محمد بن مسلم:سألت الصادق عليه السلام عمّا يجب أن يدفعه أهل الذمة لحفظ دمائهم و أموالهم؟ فقال عليه السلام:

«الخراج،و إن أخذ من رءوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم،و ان أخذ من أرضهم فلا سبيل على رءوسهم».

يتبين من هذه الرواية أنّ على أهل الذمة إمّا أن يدفعوا الجزية،و إمّا خراج الأراضي.و من هنا فلا يجوز للدولة الإسلامية استيفاء ما يزيد عن هاتين الضريبتين(الجزية و الخراج) من الأقليات الدينية.و هذا ما يؤكده محمد بن مسلم حيث يقول:

ص:268


1- 1) .وسائل الشيعة:149/15( [1]طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السَّلام).
2- 2) .جرجي زيدان، [2]مجموعة مؤلفاته الكاملة:285/11.

سألتُ الباقر عليه السلام في أهل الذمة هل يؤخذ من أموالهم و مواشيهم شيء سوى الجزية؟ قال:لا.

بناء على ذلك فإنّ الجزية تعدّ شيئاً ضئيلاً في قبال المسئوليات التي تتحملها الحكومة الإسلامية،إذ إنّ أهل الذمة بتسديدهم المبلغ السنويّ مقابل ضمان أمنهم بالكامل فإنّهم لا تقع عليهم أية مسئولية من الناحية العسكرية و الدفاعية،و لا تشملهم الضرائب التي تتقاضاها الحكومة الإسلامية من المسلمين بناءً على ما جاء في القانون الإسلامي.

إنّ الواجبات المفروضة على المسلمين إزاء الحكومة الإسلامية أكثر بكثير و أصعب ممّا هي عليه بالنسبة لأهل الذمة؛لأنّ المسلمين مكلّفون بأداء الخمس و الزكاة و الخراج و الصدقات إلى الحكومة و عليهم أداء الخدمة العسكرية عند الحاجة،في حين أنّ أهل الذمة بتسديدهم لمبلغ ضئيل ينتفعون بكلّ ما توفره الحكومة الإسلامية و يقفون على قدم المساواة مع المسلمين،و الحكومة تتعامل مع الجميع على حدّ سواء من حيث توفير الأمن و أسباب الاستقرار و الرفاهية العامة.

3.الاعتراف بحقوق الأقليات

يوضح القرآن الكريم بصريح الكلام السياسة الإسلامية العامة فيما يتعلق بالمحافظة على حقوق سائر الأديان فيقول:

«لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». 1

أي لو أنّ الأقليات الدينية و من يقف في صف المعارضة للإسلام لم ينهضوا

ص:269

لقتالكم و لم يمارسوا الضغوط عليكم أو يخرجوكم من دياركم،فليس لكم إلاّ التعامل معهم بالقسط و الإحسان.و هكذا يسمح الإسلام للأقليات الدينية و لمعارضيه أن يعيشوا داخل المجتمع الإسلامي و يتمتعوا بكامل الحقوق الإنسانية،شريطة أن لا يؤذوا المسلمين أو يناهضوهم.

يقول تعالى في آية أُخرى:

«إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ» . (1)

تُستفاد من هاتين الآيتين معالم السياسة العامة للإسلام بشأن الأقليات الدينية و المناهضين للإسلام؛فما دامت الأقلية لا تتعدى على حقوق الأكثرية و لا تحوك المؤامرات ضدّ الإسلام و المسلمين فإنّها تتمتع بكامل الحرية في البلد الإسلامي على المسلمين التعامل معها بالقسط و الإحسان،أمّا إذا تواطئوا مع بلدان أُخرى للعمل ضدّ المسلمين،حينها يتعيّن على المسلمين التصدي لممارساتهم و عدم النظر إليهم بعين المودّة.

4.حسن التعامل مع الأقليات الدينية

يحث الإسلام المسلمين على احترام عقودهم فيما يتعلّق بحماية أهل الذمة و مداراتهم و حسن التعامل معهم،و قد جاء في القرآن الكريم:

«وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ». 2

ص:270


1- 1) .الممتحنة:9. [1]

و قد أوصى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين بالرفق بأهل الكتاب و مداراتهم،فقد ورد حديث عنه صلى الله عليه و آله و سلم يقول فيه:

«من ظلم معاهداً و كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه يوم القيامة». (1)

و يقول في موضع آخر:

«من آذى ذمياً فأنا خصمه،و من كنتُ خصمه خصمتُه يوم القيامة». (2)

ص:271


1- 1) .فتوح البلدان، [1]البلاذري،تحقيق عبد اللّه أنيس الطباع،بيروت،مؤسسة المعارف،1407ه،ص167.
2- 2) .روح الدين الإسلامي،274.

ص:272

2 سعة المطاف و الرمي

اشارة

تُثار بين الحين و الآخر،مشاكل فقهيّة على الصعيد العملي في فريضة الحجّ فرفعناها إلى سماحة آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني دام ظلّه لإبداء الحلول المناسبة لها،فتفضل بالجواب مشكوراً.

و إليك نصّ الأسئلة و الأجوبة:مجلة الميقات

السؤال1

اشارة

حدود الطواف،و ما يسبّبه ضيق المطاف من حرج.هلاّ حدثتمونا عن هذه المسألة بشكلها الفقهي؟ علماً بأنّ هذه المسألة (الطواف بين البيت و المقام) ليس لها أثر مهمّ في دائرة الفقه السنّي لسعة دائرة المطاف عندهم و إنّما هي مسألة يبدو أنّها مختصّة بالفقه الشيعيّ.

الجواب
اشارة

إنّ المطاف هو الحدّ الفاصل بين الكعبة و مقام إبراهيم،و هو يقرب من نحو 12 متراً،فعلى الطائف أن لا يخرج عن هذا الحدّ في الجوانب الأربعة للكعبة.

غير أنّ مبدأ هذا الحدّ في الأضلاع الثلاثة هو جدار الكعبة.

و أمّا الضلع الذي يتصل به حجر إسماعيل،فهل يُحاسب الحد الفاصل

ص:273

من جدار الكعبة كما هو المشهور بين أكثر فقهائنا،أو يحاسب من جدار الحجر إلى نهاية اثني عشر متراً،كما عليه لفيف من المتقدّمين و المعاصرين؟

فلو قلنا بالاحتمال الأوّل فبما أنّ الحجر خارج عن المطاف حيث لا يجوز السلوك فيه،يكون مقدار المسافة للطواف نحو ثلاثة أمتار و هو سبب الحرج في أكثر الأوقات،و لازم ذلك أن يكون المطاف في الأضلاع الثلاثة هو 12 متراً و في الضلع المتصل به حجر إسماعيل ثلاثة أمتار.

و أمّا لو قلنا بالاحتمال الثاني،فبما أنّ مبدأ المسافة هو خارج الحجر،يكون المطاف نظير سائر الأضلاع،و بذلك يزول الحرج في غالب الأوقات.

إنّما الكلام في استظهار أحد القولين من الأدلّة.

و الدليل الوحيد في المقام هو رواية محمد بن مسلم المضمرة-و الإضمار من مثله غير ضائر-قال:سألته عن حد الطواف بالبيت،الذي من خرج عنه لم يكن طائفاً بالبيت؟ قال:«كان النّاس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يطوفون بالبيت و المقام،و أنتم اليوم تطوفون ما بين المقام و بين البيت،فكان الحد،من موضع المقام اليوم،فمن جازه فليس بطائف،و الحدّ قبل اليوم،و اليوم واحد قدر ما بين المقام و بين البيت (1)من نواحي البيت كلّها،فمن طاف فتباعد من نواحيه أبعد (2)من مقدار ذلك،كان طائفاً بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد لأنّه طاف في غير حدّ،و لا طواف له». (3)

و الاستدلال بالحديث رهن صحّة السند و إتقان الدلالة.

ص:274


1- 1) .في التهذيب:«و من».
2- 2) .في التهذيب:«أكثر».
3- 3) .الكافي:413/4،باب حدّ الطواف؛و [1]لاحظ الوسائل:9،الباب 28 من أبواب الطواف،الحديث1. [2]

أمّا الأوّل أي السند فكلّ من ورد في طريق الحديث ثقة غير«ياسين الضرير»فانّه لم يوثّق،بل هو مهمل من ذلك الجانب و إن لم يكن مجهولاً،و مع ذلك فحديثه معتبر.

قال النجاشي:«ياسين الضرير»الزيّات البصري،لقي أبا الحسن عليه السلام لمّا كان بالبصرة،و روى عنه،ثمّ ذكر كتابه و سنده إليه.كما ذكره الشيخ و كتابَه و سندَه إليه أيضاً،و للصدوق أيضاً إلى كتابه سند.

و بما انّ المعنونين في رجال النجاشي إماميون إلاّ أن يصرِّح على الخلاف فيمكن استظهار كون الرجل إمامياً فعناية المشايخ الثلاثة بذكره و ذكر كتابه و استحصال السند إليه،تعرب عن صلاحية كتابه للاحتجاج،فالرواية صالحة له.

و جاء السند في«الكافي»بالنحو التالي:

عن محمد بن يحيى و غيره،عن محمد بن أحمد(بن يحيى بن عمران الأشعري) عن محمد بن عيسى،عن ياسين الضرير،عن حريز بن عبد اللّه،عن محمد بن مسلم. (1)

نعم رواه الشيخ في«التهذيب»بسند لا يخلو من تشويش،قال:محمد بن يعقوب،عن محمد بن يحيى،عن غير واحد،عن أحمد بن محمد بن عيسى،عن ياسين الضرير. (2)

و عليه فالسند مشتمل على مجهول،و بما انّ مصدر نقل الشيخ هو«الكافي»فالظاهر تطرق التحريف إلى سند التهذيب.

هذا كلّه حول السند.

و أمّا الثاني أي إتقان الدلالة فقد ذهب المشهور من فقهائنا إلى أنّ الحدّ

ص:275


1- 1) .الكافي:413/4،باب حدّ الطواف. [1]
2- 2) .التهذيب:126/5،باب الطواف برقم 23.

الفاصل يحتسب في عامّة الجوانب من جدار البيت أخذاً بظاهر قوله:«قدر ما بين المقام و بين الطواف من نواحي البيت كلّها فمن طاف فتباعد من نواحيه أكثر من مقدار ذلك،كان طائفاً بغير البيت».

و على ذلك يكون المطاف في الأضلاع الثلاثة،اثني عشر متراً،إلاّ الضلع المتصل به حجر إسماعيل،فبما انّ الحجر مستثنى من المطاف ينحصر المطاف بالباقي بعده و هو لا يزيد على ثلاثة أمتار التي تساوي ستة أذرع و نصف.

أقول:إنّ الرواية لأوّل وهلة تحتمل أحد معنيين،و لا يتعيّن المقصود النهائي إلاّ في الإمعان في الغرض الذي سيقت له،فإليك الاحتمالين:

1.انّ الرواية بصدد بيان حدي المسافة،و يكون غرضها مصروفاً إلى بيان المبدأ و المنتهى.

2.انّ الرواية بصدد بيان مقدار المسافة التي يطوف فيها الطائف بحيث لو تجاوز عنها في جانب المقام لبطل طوافه.و إنّما ذكر المبدأ ليتيسّر له ذكر المسافة التي لو خرج عنها الطائف لبطل طوافه.

فإذا كان المقصود هو الأوّل،لكانت الرواية مؤيدة للقول المشهور،غير انّ القرائن المتوفرة تشهد بأنّ الغرض هو بيان مقدار المسافة التي لا يجوز الخروج عنها،و أمّا المبدأ فهو و إن تعرضت إليه الرواية بقولها:«قدر ما بين المقام و بين البيت من نواحي البيت كلّها»إلاّ أنّه لم تصب اهتمامها عليه،و إنّما جاء ذكره ليكون مقدّمة لبيان حدّ المسافة التي لا يجوز للطائف الخروج عنه.

و قبل أن نذكر القرائن نود أن نقدّم لمحة تاريخية عن مقام إبراهيم،و ما طرأ عليه من النقل عبر التاريخ.

روى الصدوق بسنده في«علل الشرائع»،عن سليمان بن خالد،عن أبي

ص:276

عبد اللّه عليه السلام قال:«لما أوحى اللّه تعالى إلى إبراهيم أن أذّن في الناس بالحجّ،أخذ الحجر الذي فيه أثر قدميه و هو المقام فوضعه بحذاء البيت لاصقاً بالبيت بحيال الموضع الذي هو فيه اليوم-إلى أن قال:-فلمّا كثر الناس و صاروا إلى الشر و البلاء ازدحموا عليه فرأوا أن يضعوه في هذا الموضع الذي هو فيه اليوم ليخلو المطاف لمن يطوف بالبيت،فلمّا بعث اللّه تعالى محمداً صلى الله عليه و آله و سلم ردّه إلى الموضع الذي وضعه فيه إبراهيم، فما زال فيه حتّى قبض رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و في زمن أبي بكر و أوّل ولاية عمر،ثمّ قال عمر:قد ازدحم الناس على هذا المقام فأيّكم يعرف موضعه في الجاهلية؟ فقال له رجل:أنا أخذت قدره بقدر قال:و القدر عندك قال:نعم،قال:فائت به فجاء به فأمر بالمقام فحمل و ردّ إلى الموضع الذي هو فيه الساعة». (1)

فالحديث يدلّ على أنّه لم يكن في عصر الإمام أيّ تشويش فكري بالنسبة إلى المبدأ،فلو كانت هناك بلبلة في الفكر،فإنّما هي في جانب المقام لما طرأ عليه من النقل من مكان إلى آخر.

إذا عرفت ذلك،فلنشر إلى القرائن المؤيدة لما اخترناه من المعنى للحديث،فنقول:إنّ هناك قرائن،نشير إليها تباعاً:

أ.نفس سؤال الراوي حيث ركّز على الحدّ الذي لا يجوز الخروج عنه و قال:سألته عن حدّ الطواف بالبيت الذي«من خرج عنه»لم يكن طائفاً بالبيت،فلا بدّ أن يكون الجواب ناظراً إلى تلك الجهة أي بيان الحدّ الذي لا يجوز الخروج عنه.

ب.انّ الإمام عليه السلام يبيّن كيفية طواف الناس أيّام رسول اللّه بالبيت و المقام،

ص:277


1- 1) .علل الشرائع:423/2،طبعة النجف؛و [1]في طبعة الأعلمي:128/2 سقط فلاحظ.

ثمّ يبيّن انقلاب الأمر بعده حتى صار الناس يطوفون بين البيت و المقام،ثمّ يؤكد بأنّ ذلك لا يؤثر في تغيير الحدّ بقوله:«فكان الحدّ، موضعَ المقام اليوم فمن جازه فليس بطائف»،فهذه التعابير تشير كلّها إلى أنّ المقصود الأصلي في الرواية هو بيان المسافة التي يطاف فيها و لا يجوز الخروج عنها.و إن نقل المقام في العهدين لا يؤثر في ذلك.

ج.«فالحد قبل اليوم و اليوم واحد،قدر ما بين المقام و بين البيت»و هو ظاهر في أنّ تغيير مكان المقام لا يؤثر في تحديد المسافة و مقدارها فهي في جميع الظروف واحدة لا تتغير،و إن ذكر المبدأ(بين البيت) فلأجل أن يتيسّر له بيان حدّ المسافة التي لا يجوز الخروج عنه

و قد لخّص العلاّمة المجلسي في شرحه الغرض من الحديث و قال:و الحاصل انّ المعتبر دائماً مقدار ما بين الموضع الذي فيه المقام الآن و بين البيت سواء أ كان المقام فيه أم لم يكن. (1)

و على ضوء ذلك فالرواية تركز على بيان الحدّ الفاصل الذي لا يجوز الخروج عنه في عامة الجوانب لا على مبدئه.

فإذا كانت الرواية ظاهرة في تبيين المسافة التي يسلكها الطائف و تساويها في جميع الأضلاع فيجب الأخذ بها في عامة الجوانب.

لكن الأخذ به واضح في الأضلاع الثلاثة.إنّما الكلام في الأخذ به في الضلع المتصل بحجر إسماعيل،فهو يتحقّق بأحد أمرين:

الأوّل:أن يكون الحجر جزءاً من المسافة و المطاف فيجوز للطائف سلوكه.

الثاني:أن لا يكون الحجر جزءاً منها بل خارجاً عنها.

ص:278


1- 1) .ملاذ الأخيار:393/7. [1]

و بما انّ الروايات المتضافرة تمنع عن دخول الحجر في الطواف و السلوك فيه،فينتفي الاحتمال الأوّل،و يتعيّن الاحتمال الثاني،فيكون المبدأ خارج الحجر إلى نهاية 12 متراً.

ثمّ إنّ المشهور و إن ذهب إلى أنّ المبدأ هو البيت في ذلك الضلع الخاص،غير أنّ جماعة من الفقهاء اختاروا ما ذكرناه،و إليك مقتطفات من كلماتهم:

1.قال الشهيد الثاني في«الروضة»:و تحتسب المسافة من جهة الحجر من خارجه و إن جعلناه خارجاً من البيت. (1)

2.و قال أيضاً في«المسالك»:و تجب مراعاة هذه النسبة من جميع الجهات فلو خرج عنها و لو قليلاً بطل،و من جهة الحجر تحتسب المسافة من خارجه بأن ينزله منزلة البيت و إن قلنا بخروجه عنه.

ثمّ إنّه قدَّس سرَّه تردد فيما ذكر و قال:مع احتمال احتسابه(الحجر)منها على القول بخروجه و إن لم يجز سلوكه. (2)

يلاحظ عليه:أنّ المتبادر من الرواية جواز السلوك في المسافة المحدّدة في عامة الجوانب،فلو كان الحجر جزءاً من المسافة جاز السلوك فيه مع تضافر الروايات على المنع.

3.و قال سبطه في«المدارك»:و قد قطع الأصحاب بأنّه يجب مراعاة قدر ما بين البيت و المقام من جميع الجهات،و في رواية محمد بن مسلم دلالة عليه،و تحتسب المسافة من جهة الحجر من خارجه و إن كان خارجاً من البيت،لوجوب إدخاله في الطواف،فلا يكون محسوباً من المسافة. (3)

ص:279


1- 1) .الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية:249/2. [1]
2- 2) .مسالك الأفهام:333/2. [2]
3- 3) .مدارك الأحكام:131/8. [3]

4.و قال المحقّق السبزواري في«الذخيرة»:و قد ذكر جماعة من المتأخرين انّه يحتسب المسافة من جهة الحجر من خارجه،و منهم من قال:و إن كان خارجاً من البيت،و منهم من علّله بوجوب إدخاله في الطواف فلا يكون محسوباً من المسافة. (1)

5.كما نقله المحقّق النراقي عن جماعة من المتأخرين (2).

6.و قال في«الجواهر»:نعم لا إشكال في احتساب المسافة من جهة الحجر من خارجه،بناءً على أنّه من البيت،بل في«المدارك»و غيرها و إن قلنا بخروجه عنه لوجوب إدخاله في الطواف فلا يكون محسوباً من المسافة. (3)و إن استشكل في ما ذكره و زعم انّه خلاف ظاهر الخبر.

و يؤيد ذلك أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم طاف في عمرة القضاء مع أصحابه الذين صدّهم المشركون في العام الماضي،فهل يمكن أن يطوف هذا الجمّ الغفير في مسافة قليلة لا تتجاوز عن ثلاثة أمتار.

قال ابن هشام:ثمّ استلم النبي صلى الله عليه و آله و سلم الركن و خرج يهرول و يهرول أصحابه معه حتّى إذا واراه البيت منهم و استلم الركن اليماني مشى حتّى يستلم الركن الأسود،ثمّ هرول كذلك ثلاثة أطواف و مشى سائرها. (4)

و قد شارك النبي في غزوة الحديبية حوالي 700 رجل و لما صُدُّوا في ذلك العام،قضوا عمرتهم في السنة القادمة،و الظاهر انّهم شاركوا في القضاء بلا استثناء.

قال ابن إسحاق:خرج معه المسلمون ممن كان صدّ معه في عمرته تلك،

ص:280


1- 1) .ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد:628. [1]
2- 2) .مستند الشيعة:76/12. [2]
3- 3) .الجواهر:298/19. [3]
4- 4) .السيرة النبوية:371/2، [4]عمرة القضاء.

و هي سنة سبع،فلمّا سمع به أهل مكة خرجوا عنها. (1)

جواز الطواف خارج المقام عند الضرورة

قد عرفت أنّ مقدار المسافة في عامّة الأضلاع واحد دون أن يكون المطاف في الأضلاع الثلاثة أوسع من الآخر،لكن الكلام في أشهر الحجّ عند وجود الحجاج في أوائل شهر ذي الحجة الحرام،فالمسافة المذكورة لا تسع لهذا العدد الهائل من الحجيج،فهل يجوز الطواف في خارج المقام للضرورة أو يجوز مطلقاً على كراهة؟ قولان:

الأوّل:انّه يجوز الطواف خارج المقام اختياراً على كراهة،و قد اختاره قليل من الفقهاء،منهم:

1.الصدوق في الفقيه،حيث روى بسند صحيح عن أبان بن عثمان عن محمد بن علي الحلبي،قال:سألت أبا عبد اللّه عن الطواف خلف المقام،قال:«ما أحب ذلك و ما أرى به بأساً،فلا تفعله إلاّ أن لا تجد منه بُدّاً». (2)

فلو قلنا بأنّ قوله عليه السلام:«ما أحب ذلك»ظاهر في الكراهة،و هي تزول مع الضرورة،يكون دليلاً على أنّ الصدوق ممّن يجوِّز الطواف خارج المقام اختياراً و إن كان مكروهاً،و تزول الكراهة في الضرورة.

2.و قال المحقّق الأردبيلي بعد نقل الرواية المذكورة:فانّها ظاهرة في الجواز خلف المقام على سبيل الكراهة،و تزول مع الضرورة، و لكن قال في المنتهى:و هي تدلّ على ذلك مع الضرورة و الزحام و شبهه.

ص:281


1- 1) .السيرة النبوية:370/2. [1]
2- 2) .الفقيه:399/2،الباب 219،ما جاء في الطواف خلف المقام.

و أنت تعلم انّ دلالتها على ما قلناه(جواز الطواف خلف المقام اختياراً) أظهر إلاّ أن يقال:انّه لا قائل به فيحمل على ما قاله في«المنتهى».

على أنّ أبان الظاهر انّه ابن عثمان،و فيه قول فلا يقبل منه ما ينفرد به. (1)

يلاحظ عليه:أنّ أبان بن عثمان من أصحاب الإجماع و قد اتّفقوا على وثاقة هؤلاء.

فتلخّص ممّا ذكرنا انّ الصدوق و الأردبيلي ذهبا إلى جواز الطواف خلف المقام اختياراً،و أمّا غيرهما كابن الجنيد و غيره فقد اختاروا الجواز عند الضرورة.

الثاني:اختصاص الجواز بصورة الضرورة و الزحام،و عليه ابن الجنيد و العلاّمة في بعض كتبه،و إليك كلماتهم:

1.قال العلاّمة في«التذكرة»بعد ما نقل خبر الفقيه:و هو يعطي الجواز مع الحاجة كالزحام. (2)

2.قال العلاّمة:المشهور انّه لا يجوز إدخال المقام في الطواف،و قال ابن الجنيد:يطوف الطائف بين البيت و المقام الآن،و قدره من كلّ جانب فإن اضطر أن يطوف خارج المقام أجزأه. (3)

و هناك دليل آخر على الجواز حين الزحام،و حاصله:

انّه سبحانه يأمر مجموع الحجيج الحاضرين في المسجد بالطواف بقوله: «وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» 4 هذا من جانب.

و من جانب آخر يقول سبحانه: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». 5

ص:282


1- 1) .مجمع الفائدة و البرهان:87/7.
2- 2) .التذكرة:93/8. [1]
3- 3) .المختلف:183/4.

فمقتضى دعوة الحاضرين في المسجد إلى الطواف مع رعاية عدم تسبب الحرج هو كون المطاف في هذه الظروف أوسع من الحدّ المذكور مع ملاحظة الأقرب فالأقرب.

السؤال 2

اشارة

تكرّرت الحوادث المفجعة حين رمي الجمرات خاصّة في السنوات الأخيرة...لأسباب منها سوء الإدارة و التنظيم،أو جهل الناس بأحكامهم،أو لعجلتهم في أداء هذا المنسك.إلاّ أنّ هناك من يلقي باللوم على الفقهاء في أنّهم عسّروا على الناس الشريعة و هي السهلة السمحاء، بل و لم يعلّموا الناس أحكامهم.

فهلا وضّحتم الموقف الفقهي بشكل جليّ لهذه المسألة؟ و هل هناك مجال أو حلّ شرعيّ يساهم في درء مثل هذه الحوادث أو تقليلها؟

الجواب

إنّ لتكرر الحوادث المفجعة حين رمي الجمرات سبباً آخر غير مذكور في السؤال و هو ظاهرة«الافتراش»فانّ كثيراً من البدويين يسدون طريق الحجيج من خلال افتراشهم.الأمر الذي يفرض على الحكومة السعودية أن تُجليهم عن المكان و تتخذ لهم أماكن سكن مناسبة.

و هناك أُسلوب آخر لحلّ الأزمة و هو استغلال اختلاف الفتاوى بالنحو التالي:

ص:283

إنّ أصحاب المذاهب الأربعة يخصّون جواز الرمي في اليوم العاشر من ذي الحجة بما قبل الظهر،كما أنّهم يخصّونه في الحادي عشر و الثاني عشر بما بعد الظهر،فعلى الشيعة لا سيما غير الأقوياء أن تستغلّ هذا الظرف المناسب من خلال الرمي في اليوم العاشر بعد الظهر و في اليومين الأخيرين قبله.

على أنّ الأقوى هو جواز الرمي من فوق الجمرات عبر الجسر الجديد الذي يمتد فوقها.

هذا هو الحلّ العاجل غير انّه لا بدّ من حلّ الأزمة جذرياً دون أن يمس أصل الحكم الشرعي.

السؤال3

اشارة

غالباً ما يكون الذبح خاصّة في السنوات الأخيرة خارج منى؟

فما هي حدود منى؟ و هل تتّسع بكثرة الحجيج؟ و هل يصحّ الذبح خارج منى كأن يكون في بلد الحاج،إذا لم تتوفر شروط الذبح الشرعية بشكل كامل؟

الجواب

منى بلدة قريبة من مكّة و هي أقرب المواقع الرئيسية إلى مكّة ثمّ المزدلفة ثمّ عرفة،فإذا دخلت منى من مكّة كانت أوّل جمرة،هي جمرة العقبة،و حدّ منى هي ما بين جمرة العقبة و وادي محسّر طولاً،و أمّا عرضاً فهو ما بين الجبلين أو الجبال الشاهقة،فوادي محسّر أبعد من مكة من منى و إنّما يقع بينها و بين المزدلفة.

و أمّا مسألة الذبح فيجوز تأخير الذبح إلى اليوم الثاني عشر من ذي

ص:284

الحجة،فإذا أمكن الذبح في هذه المدة بمنى فيقدم ذلك،فإذا لم يتمكن كما هو السائد عند كثرة الحجيج فيجب الذبح خارج منى في وادي محسّر مع الأخذ بنظر الاعتبار الأقرب فالأقرب،و لا يجزي الذبح في بلد الحاج وكالة،و قد قال سبحانه: «وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ» 1 و هو لا يتحقّق إلاّ أن يكون الذبح في الأماكن المقدسة.

السؤال 4

اشارة

كيف ترون مناسك الحجّ و أداءها مستقبلاً مع عظمة القادمين لأداء هذه الشعيرة المقدّسة و كثرتهم،و احتمال إجراء تغييرات عمرانيّة تتناسب و كثرة الحجيج،فهل يكون للفقه الزمكاني أثر يذكر في هذه المسألة؟

الجواب

قد ذكرنا في رسالة مستقلة (1)دور الزمان و المكان في الاستنباط و أشرنا إلى بعض الروايات الواردة في هذا الموضوع عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام و التي تناهز العشرين رواية،كما ذكرنا كلمات الفقهاء من عصر الصدوق إلى يومنا هذا من الفريقين،و ذكرنا انّ الظروف الطارئة لا تمس كرامة الأحكام الواقعية و لا تحدث أي خدشة فيها و لكن يؤثر في أساليب تنفيذ الأحكام،فالأحكام ثابتة و أساليب تنفيذها متغيّرة،و منها الحج،و لا بدّ أن يكون كل تغيير عمراني تقتضيه كثرة

ص:285


1- 2) .لاحظ رسائل و مقالات:141/2-113. [1]

الحجيج خاضعاً لهذا الإطار،أي أن يكون الحكم الواقعي ثابتاً و أسلوب إجرائه متغيراً.

و إليك نموذجاً من هذا النوع:

لا شكّ انّ هناك أُموراً وقعت موضوعاً لأحكام شرعية نظير:

1.الاستطاعة:قال سبحانه: «وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» 1.

2.الفقر:قال سبحانه: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ ... وَ ابْنِ السَّبِيلِ» 2.

3.الغنى:قال سبحانه: «وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» 3.

4.بذل النفقة للزوجة: قال سبحانه: «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ» 4.

5.إمساك الزوجة بالمعروف:قال سبحانه: «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» 5.

و من الواضح انّ مصاديق هذه الموضوعات تتغيّر حسب تغيّر أساليب الحياة،فالإنسان المستطيع بالأمس للحجّ،لا يعد مستطيعاً اليوم، لكثرة حاجات الإنسان في الزمان الثاني دون الأوّل،و بذلك يتضح حال الفقر و الغنى،فربّ غني بالأمس فقير اليوم.

كما أنّ نفقة الزوجة في السابق كانت منحصرة في الملبس و المأكل

ص:286

و المسكن،و أمّا اليوم فقد ازدادت حاجاتها على نحو لو لم يقم الرجل ببعض تلك الحاجات يعد عمله بخساً لحقها،و امتناعاً من بذل نفقتها.

السؤال5

اشارة

منافع الحجّ،السياسيّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة...كثيرة،و الحديث عنها لا ينتهي،فهلا تفضل سماحتكم بالحديث عنها؟

الجواب
اشارة

الإمعان و الدقة في الآيات الواردة حول الحجّ و مناسكه و ما رويت حوله من النبي الأكرم و العترة الطاهرة من الروايات و ما استقرت عليه سيرة المسلمين في القرون الأُولى الإسلامية،يعرب عن أمرين مهمين،يُعرّفان ماهية الحجّ و حقيقته و أهدافه و هما:انّ الحجّ عمل عبادي،و في الوقت نفسه ملتقى سياسي للمسلمين،و يطيب لي أن أذكر كلا الأمرين بعبارات موجزة مستشهداً بآيات الذكر الحكيم،و ما أثر في ذلك المجال.

الحج عمل عباديّ

و الذي يدل على أنّ الحجّ عمل عبادي هو:

1.انّ الحجّ عمل يقصد به الإنسان كسب رضاه سبحانه تلبية لنداء الخليل عليه السلام حيث قام بدعوة الناس إلى الحجّ الذي أقامه بعد انهيار، و عمّره بعد خراب،كما قال سبحانه: «وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ

ص:287

يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ...» 1 .

2.الحجّ تذكار و ذكر للّه سبحانه في كافة مراحله و مواقفه و مراسمه و مشاهده،و قد أمر سبحانه في غير واحد من الآيات حجّاج بيته أن يذكروه في جميع المواقف،قال سبحانه: «فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً » 2 .

و يقول سبحانه: «وَ اذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» 3 .

3.الحجّ تطهير للنفس من دنس الأقذار الخلقية و توجيهها إلى المثل العليا و كبح للنفس عن اللذائذ الدانية النفسانية.قال سبحانه:

«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ...» 4 .

و لأجل انّ الحجّ تطهير للنفوس سميت أعماله مناسكاً،و هو من نسك ثوبه أي غسله،فكأنّ تلك الأعمال تغسل ما عليها من صدأ الذنوب و درن الآثام،قال سبحانه: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ» 5 .

4.الحجّ تدريب و تربية للنفس للغلبة على الهوى و تحصيل التقوى الذي

ص:288

هو خير الزاد للإنسان،قال سبحانه في ثنايا آيات الحجّ: «فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» 1 .

5.قد كان الهدف الأسمى من تجديد بناء البيت بيد بطل التوحيد،دعوة الناس إلى عبادة اللّه وحده و رفض عبادة الأنداد و الشرك بألوانه، قال سبحانه: «وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ» 2 ،و قال سبحانه: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ» 3 و لأجل ذلك كان شعار الخليل عليه السلام عند بناء البيت و رفع قواعده هو الطلب من اللّه سبحانه أن يجعل ذرّيته أُمّة مسلمة و يريهم مناسكهم و يتوب عليهم بالرحمة.قال سبحانه حاكياً عنه عليه السلام «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» 4 .

6.انّ الخليل أنزل أُسرته بأرض قاحلة عند البيت المحرّم لغاية إقامة الصلاة،و في الوقت نفسه طلب من اللّه سبحانه أن يوجّه أفئدة الناس إلى هذا البيت لتلك الغاية السامية،قال سبحانه حاكياً عن الخليل: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» 5 .

7.الحجّ تزهيد عن الدنيا و اكتفاء من زخرفها و زبرجها بثوبين يرتدي بأحدهما و يتّزر بالآخر،و يردد في جميع الحالات الشكر و الثناء امتثالاً لأمره سبحانه: «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» 6 .

8.الحجّ عمل رمزي لكثير من العبادات و الطقوس الواردة في الشريعة

ص:289

المفروضة في ظروف خاصّة،فصار الحجّ بمفرده مظهراً لها و مجسّداً لكثير منها حيث نجد فيه الأعمال التالية المعربة عن جانبه العبادي،أعني:النيّة،الطهارة من الحدث و الخبث،الصلاة،الصوم،الطواف بالبيت،الذبح للّه،إطعام القانع و المعتر من اللحوم،الاعتكاف الذي يجسده الوقوف في المشاعر،و رجم الشيطان العدو الوحيد للإنسان الذي يوسوس في صدور الناس.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الحجّ عبادة للّه و تقرب إليه يصل به الإنسان إلى مدارج الكمال.

الحجّ ملتقى سياسيّ

إنّ كون الحجّ أمراً عبادياً أو مجسّداً لأكثر العبادات لا ينافي أن يشتمل على بعد آخر فيه حياة للمسلمين و قوام لعيشهم و إقامة لشئونهم الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و العسكرية و الحكومية،و هذا ما نعبّر عنه بكون الحجّ ملتقى سياسياً تجتمع فيه هذه الآثار الحيوية،و هذا ما يدعمه أيضاً الذكر الحكيم و تؤيّده السنّة النبوية و عمل المسلمين في القرون الإسلامية الأُولى.

أمّا الآيات التي ترمز إلى تلك الأبعاد فنكتفي منها بما يلي:

الف.قال سبحانه: «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً» 1 و المراد من كونه مثابة كونه مرجعاً للناس و المسلمين عامّة،و لأجل انّ الحجّ عمل اجتماعي يجب أن يخيّم عليه الأمن و يسيطر عليه السلام،حتى يقوم الناس بعمل اجتماعي لأهداف اجتماعية،قال سبحانه: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» 2 ،و قال تعالى حاكياً عن خليله: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» 3.

ص:290

فالحجّ بما انّه أمر اجتماعي و ملتقى للشعوب المختلفة،بحاجة إلى استتباب الأمن و الهدوء حتى يقوم كلّ إنسان و شعب ببيان فكرته و نظريته و لا يخاف من إنسان و لا دولة،و يتجلّى الحجّ كمنبر حرّ للمسلمين كلّهم،و هذا ما نعبّر عنه بكونه عملاً اجتماعياً.

و في جانب ذلك فالحجّ ملتقى ثقافي يلتقي فيه المفكرون الكبار و العلماء في شتّى الحقول،فيقومون بعرض الاطروحات و التجارب على الصعيد الثقافي و العلمي و الاقتصادي كي تتعرف كلّ طائفة على ما عند الأُخرى من الأفكار القيمة و النظريات المفيدة فيؤدي ذلك إلى التقاء الأفكار و الاحتكاك بينها.

إذاً الحجّ عمل اجتماعي و ملتقى ثقافي و في الوقت نفسه مؤتمر سياسي سنوي يجتمع فيه قادة المسلمين فيتشاورون في مهام الأُمور بغية التنسيق و التعاون فيما بينهم،و لعلّ إلى تلك الجوانب الثلاثة يشير قوله تعالى: «جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ» 1 .

فسواء كان القيام بمعنى القوام و ما به حياة المسلمين،أو كان بمعنى ضدّ القعود،فالآية تتضمن نكتة مهمة و هي انّ كيان المسلمين معقود بناصية الحجّ فبه يقومون و في ظلّه قوام حياتهم،فالآية نظير قوله سبحانه: «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً» 2 .

فوصف سبحانه أموال الناس بكونها قياماً لهم أي بها يقومون في الحياة،أو بها قوام حياتهم الاجتماعية،فاقتران الآيتين يعرب عن كون الحجّ ركناً في حياة المسلمين و بقاء كيانهم.و يشير أيضاً إلى تلك الجوانب قوله سبحانه: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ

ص:291

اَلْأَنْعامِ» 1 فكانت الغاية من دعوة كلّ راجل و راكب إلى الاجتماع في أيّام الحجّ خصوصاً في المواقف و المشاهد،حيازة المنافع الكبيرة التي يحتوي عليها الحجّ.فما جاء في الآية تعبير جامع يتضمن كلّ نفع يرجع إلى المسلمين في ذلك الملتقى،و لا يصحّ لنا تخصيصه بالنفع المعنوي بإخراج النفع المادي،أو تخصيصه بنفع دون نفع،ففي ذلك الوفود إلى اللّه سبحانه منافع كثيرة يصطادها المسلمون حسب قابلياتهم و صلاحياتهم.

هذا ما لخّصناه للقارئ الكريم من الذكر الحكيم،و أمّا السنّة الشريفة فيكفي في ذلك انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر الإمام عليّاً عليه السلام بأن يتلو آيات البراءة في يوم الحجّ الأكبر.قال سبحانه: «وَ أَذانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ...» 2 و هل يشك ذو مسكة في أنّ البراءة و رفع الأمان عن المشركين و إمهالهم أربعة أشهر عمل سياسي قام به قائد الإسلام أيّام رسالته و ازدهار دعوته،حتى يكون ذلك قوّة للمسلمين في الأجيال اللاحقة؟

هذا هو الإمام الطاهر الحسين بن علي عليهما السلام أطاح بطاغية عصره ففضحه بعرض جناياته و أعماله المخزية على الصحابة الكرام و التابعين لهم بإحسان في موسم الحجّ في أرض منى،و قد اجتمع تحت منبره قرابة ثمانمائة منهم،و أبان في خطابه موقف أهل البيت من الإسلام،ثمّ ذكر مظالم الجهاز الأموي الحاكم،و طلب من الجميع أن يحملوا خطابه و هتافه إلى إخوانهم و أوطانهم حتى يقفوا على فداحة الكارثة التي ألمّت بهم من جراء تسلّم بني أُمية لمنصة الحكم،و قد جاءت خطبته في كتب السير و التاريخ،فمن أراد فليرجع إليها.

و بعد ذلك انّ في سيرة المسلمين لدليلاً واضحاً على أنّ الحجّ ملتقى سياسي

ص:292

وراء كونه عملاً عبادياً،فانّ الإصلاحات الجذرية التي قام بها المفكّرون المسلمون قد انعقدت نطفها في الأراضي المقدسة و في موسم الحجّ،فحملوا الفكرة التي تبنّوها في جوار بيت اللّه الحرام و في ذلك المحتشد العظيم،ثمّ غذّوها بفكرتهم و تجاربهم إلى أن أُتيحت لهم الفرص لبناء مجتمع طاهر أو حكومة عادلة أو ثورة عارمة في وجه الطغاة و الظالمين،و بذلك يتضح انّ الحجّ الإبراهيمي ليس مجرد طقوس و سنن يقوم بها الفرد أو الجمع في أيّام معلومات،بل فيه آية العبادة و شارة السياسة و فيه منافع للمسلمين في عاجلهم و آجلهم،فيجب على المسلمين إحياء هذه السنة الكريمة الحجّ الحقيقي الذي وضع حجره الأساس إبراهيم الخليل عليه السلام.كلّ ذلك بفضل الحجّ و ببركة ذلك المحتشد العظيم.

جعفر السبحاني

ص:293

ص:294

بسم اللّه الرحمن الرحيم

3

اشارة

في شرطية السوم

دون اعتبار عدم العمل

الحمد للّه ربّ العالمين،و الصلاة و السلام على سيّد النبيين،و آله الطاهرين،و أصحابه المنتجبين إلى يوم الدين.

أمّا بعد،فالذي دعاني إلى تأليف هذه الرسالة-بعد ما انتهيت من القاء محاضرات في مسائل الزكاة-هو وقوفي على فتوى لبعض أعاظم العصر و أجلاّئه-دام ظله الوارف-تدور حول الغاء شرطية السوم في تعلق الزكاة بالأنعام الثلاثة و الاقتصار بمانعية العمل،فصارت النتيجة هو تعلق الزكاة بالأنعام الثلاثة مطلقاً سائمة كانت أم معلوفة إلاّ إذا كانت عوامل فلا تتعلق بها و من المعلوم انّ العمل من خصائص الإبل و البقر فقط فتكون النتيجة وجوب الزكاة في الغنم بكلا قسميه،و هكذا الإبل و البقر مطلقاً إلاّ إذا كانا عوامل.

فاغتنمت الفرصة لدراسة الموضوع بنظرة ثاقبة و جرّدت نفسي عمّا اخترته في السابق من الرأي فانّ الحقّ هو منشودي الأعلى، و مقصودي الاسنى،سواء أوافق نظري السابق أم خالف،فالحقّ أحقّ أن يتبع أينما وجد و كتبت حصيلة

ص:295

دراستي و تفكيري في الموضوع،و قدمته إلى سدنته،عسى أن يقع موضع القبول.و قبل الخوض في المقصود نذكر أُموراً ثلاثة:

الأوّل:اقتصار المتقدمين على شرط واحد

يظهر من كلمات غير واحد من الفقهاء من المتأخرين انّه يشترط في تعلق الزكاة بالانعام أُمور أربعة:

1.النصاب،2.الحول،3.السوم،4.عدم العمل.

و على هذا فالسوم،و عدم العمل شرطان مستقلان و لكن المتقدمين من أصحابنا اقتصروا على شرط واحد و هو السوم فقالوا بشرطية السوم و عدم تعلق الزكاة بالمعلوفة،من دون أن يخوضوا في الشرط الرابع،و على هذا فالزكاة تتعلق بالأنعام الثلاثة إذا كانت سائمة،لا معلوفة و أمّا العوامل،فعدم تعلقها بها ليس لأجل كون العمل بما هو هو مانعاً من التعلق،بل لأجل كونه ملازماً للتعليف في المعاطن و غيرها و ذلك لانّ الماشية على قسمين و الغرض منها أحد أمرين:

1.الدرّ و النسل فمثله يُرسَل إلى الصحراء للرعي و لا يُربط في المِعْلَف و ربما لا يراه المالك عدّة شهور.

2.ما يقصد به العمل،كالركوب،و النضح و نقل الأمتعة فمثله تربط في المعاطن و يُعلف ليكون في متناول المالك متى شاء و يندر فيه السوم،و يغلب عليه التعليف فلو استثنيت العوامل فلأجل كونها فاقدة للشرط أي السوم،لما عرفت من الملازمة العرفية بين العمل و التعليف،لا لكون العمل بما هو هو مانعاً.

هذا ما يستفاد من كلمات المتقدمين المقتصرين على شرط واحد و هو السوم،من دون أن يذكروا العمل و لنستعرض نماذج من نصوصهم:

ص:296

1.قال المفيد(336- 413):فأمّا الأنعام فإنّما تجب الزكاة فيها على السائمة إذا حال عليها الحول.

و قال في باب«حكم الخيل في الزكاة»و تُزكّى العتاق الاناث السائمة و البراذين السائمة سنة غير فريضة لما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام انّه وضع على الخيل العتاق،و الاناث السائمة عن كلّ فرس في كلّ عام دينارين،و جعل على البراذين السائمة الاناث،في كلّ عام ديناراً. (1)

2.و قال الشيخ (385- 460) في النهاية:و امّا الإبل و البقر و الغنم فليس في شيء منها زكاة إلاّ إذا كانت سائمة و يكون قد حال عليها الحول فصاعداً،فأمّا المعلوفة منها فليس في شيء منها زكاة على حال-إلى أن قال -:و أمّا الخيل ففيها الزكاة مستحبة إذا كانت سائمة فإذا كانت معلوفة فليس فيها شيء. (2)

3.و قال في المبسوط:شرائط وجوب زكاة الإبل أربعة:الملك و النصاب و السوم و حئول الحول. (3)

5.و قال سلار(ت463) عند بيان الشروط.

أحدها السوم،و الثاني التأنيث و كلاهما يعتبر في النعم و لا تجب في المعلوفة زكاة و لا في الذكورة،بالغاً ما بلغت. (4)و ما ذكره من اشتراط الأُنوثة لم يوافقه أحد و في رواية ابن أبي عمير الماع إلى اشتراط الأُنوثة في خصوص الإبل و سيوافيك الكلام فيها،قال كان علي عليه السلام لا يأخذ من جمال العمل صدقة كانّه لم يحب أن

ص:297


1- 1) .المقنعة:246. [1]
2- 2) .النهاية:177. [2]
3- 3) .المبسوط:191/1. [3]
4- 4) .المراسم العلوية:139.

يؤخذ من الذكورة بشيء لانّه ظهر يحمل عليها. (1)

6.و قال ابن البراج (400- 481):«ليس تجب زكاة الإبل إلاّ بشروط:الملك و السوم،و النصاب و حلول الحول»و ذكر نفس هذه الشروط في زكاة البقرة و الغنم. (2)

7.و قال ابن زهرة(511- 585)و شرائط وجوبها في الأصناف الثلاثة من المواشي أربعة:الملك و الحول،و السوم و بلوغ النصاب. (3)

8.و قال ابن إدريس(539- 598):لا تجب الزكاة في الإبل إلاّ بشروط أربعة:الملك و النصاب و السوم و حئول الحول و كذلك في البقر و الغنم ثمّ قال:الأظهر أن يزاد في شروط الإبل و البقر،و الغنم شرطان آخران،هما إمكان التصرف بلا خلاف بين أصحابنا و كمال العقل. (4)

9.و قال الكيدري(ت600) في الأصناف الثلاثة من المواشي أربعة شروط:الملك و الحول و السوم و بلوغ النصاب.

10.و قال ابن سعيد الحلي (601- 690):و أمّا الإبل فشروط الزكاة فيها الملك و السوم و الحول ثمّ قال:و أمّا البقر فشروط الزكاة فيها مثل شروط الإبل،إلى أن قال:و أمّا الغنم فشروط الزكاة فيها مثل الإبل و البقر. (5)

هذه عشرة كاملة من نصوص فقهائنا القدامى الذين اقتصروا على شرط

ص:298


1- 1) .الوسائل:6،الباب7 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث4. [1]
2- 2) .المهذب:161/1،163،164.
3- 3) .الغنية:119. [2]
4- 4) .السرائر:432/1.
5- 5) .الجامع للشرائط:126- 129.

واحد و هو السوم و لم يذكروا من مانعية العمل شيئاً.

و بما انّ سيرة قسم منهم هو الاقتصار على الفقه المنصوص يمكن القول بانّ المشهور عند أصحاب الأئمة هو شرطية السوم و مانعية التعليف،و أمّا عدم كون الماشية عاملة فليس شرطاً مستقلاً و إنّما هو لأجل الملازمة العرفية بين العمل و التعليف إذ قلما يتّفق أن تكون الإبل و البقر عاملة و مع ذلك سائمة،فانّ العمل يستوجب أن تكون الماشية تحت متناول المالك و في حظيرته لا بعيدة عنه،سائمة في الصحراء.

نعم يظهر من الشيخ في الخلاف و المحقق في الشرائع انّ عدم العمل شرط برأسه وراء كون السوم شرطاً قال في الخلاف:لا تجب الزكاة في الماشية حتّى تكون سائمة للدر و النسل فإن كانت سائمة للانتفاع بظهرها و عملها فلا زكاة فيها. (1)ترى انّه عدّ العمل مانعاً من تعلق الزكاة مع كون الماشية سائمة.

و قال في الشرائع:الشرط الثاني السوم إلى أن قال:الشرط الرابع أن لا تكون عوامل فانّه ليس في العوامل زكاة و لو كانت سائمة. (2)

و قال في الجواهر بعد قول المحقّق«فانّه ليس في العوامل زكاة و لو كانت سائمة»قال:بلا خلاف أجده بل الإجماع بقسميه عليه. (3)

أقول:لو كان مصبّ الإجماع عدم تعلقها بالعوامل فهو صحيح لما عرفت من الملازمة العادية بين العمل و التعليف و أمّا لو كان مصبّه عدم تعلقها بها و إن كانت سائمة فهو كما ترى ضرورة خلو كلمات الأصحاب إلى عصر المحقق من

ص:299


1- 1) .الخلاف:2،كتاب الزكاة،المسألة62.
2- 2) .الشرائع:110/1. [1]
3- 3) .الجواهر:120/15. [2]

هذا الشرط إلاّ ما عرفت من الخلاف.

هذا و أمّا موقف أهل السنة في هذين الشرطين فإليك بيانه:

موقف فقهاء السنة من الشرطين

1.قال الخرقي في مختصر«و ليس فيما دون خمس من الإبل سائمة صدقة».

2.و قال:«و في ذكر السائمة احتراز من المعلوفة و العوامل فانّه لا زكاة فيها عند أكثر أهل العلم،و حكى عن مالك«في الإبل النواضح و المعلوفة،الزكاة لعموم قوله عليه السلام«في كلّ خمس شياه». (1)ترى انّه جعل قيد السائمة احترازاً عن العوامل،للملازمة العرفية بينها و بين العاملة و على ذلك يكون عطف العوامل على المعلوفة من قبيل عطف الخاص على العام.

3.و قال في الخلاف:«و قال مالك«تجب في النعم الزكاة سائمة كانت أو غير سائمة فاعتبر الجنس.قال أبو عبيد:«و ما علمت أحداً قال بهذا قبل مالك،و قال الثوري مثل قول أبي عبيد،الحكاية. (2)

الثالث:دراسة الروايات الواردة في المقام

قد عرفت انّ المتقدمين من الأصحاب ذهبوا إلى انّ هنا شرطاً واحداً و هو السوم و لا يجب في غير السائمة،نعم ظهر القول بتعدد الشرط منذ عصر المحقّق و من تلاه كما عرفت اتفاق فقهاء السنة على شرطية السوم في التعلق و انّه لم يقل بتعلقها بالمعلوفة إلاّ مالك و قد تبع مشايخه كربيعة و مكحول و قتادة.

ص:300


1- 1) .المغني:441/2.
2- 2) .الخلاف:2،كتاب الزكاة،المسألة61.

ثمّ هل المتبادر من الروايات توفر شرط واحد و هو السوم أو توفر شرطين و هما وراء السوم،عدم كونها عاملة و هذا ما ندرسه تالياً.

إذا عرفت ذلك فلنذكر الروايات:

1.صحيحة الفضلاء الخمسة:زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير و بريد العجلي و الفضيل عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام في حديث زكاة الإبل،قال:

و ليس على العوامل شيء إنّما ذلك على السائمة الراعية. (1)

2.صحيحة الفضلاء الخمسة:عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث زكاة البقر،قال:

و لا على العوامل شيء إنّما الصدقة على السائمة الراعية. (2)

3.صحيحة الفضلاء الخمسة:قالا:

ليس على العوامل من الإبل و البقر شيء إنّما الصدقات على السائمة الراعية. (3)

أقول:الحديث الأوّل كان حول الإبل و الحديث الثاني كان حول البقر و الحديث الثالث حول كليهما حيث جمع بين الإبل و البقر،فهل الجمع من الإمام فيكون حديثاً ثالثاً أو من الفضلاء فلا يكون حديثاً مستقلاً.

و الذي يهمّنا في هذه الأحاديث الثلاثة هو بيان أمرين:

الأوّل:انّ الإمام جعل السائمة في مقابل العوامل و ما ذلك إلاّ لأجل أن الغالب عليها هو عدم السوم،فلو لم تكن الزكاة دائر مدار السوم و عدمه فلا معنى للتقابل.

ص:301


1- 1) .الوسائل:6،الباب8 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث 1،2،5. [1]
2- 2) .الوسائل:6،الباب8 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث 1،2،5. [2]
3- 3) .الوسائل:6،الباب8 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث 1،2،5. [3]

الثاني:انّ الإمام جعل الضابطة في آخر الحديث هو السوم و قال:«إنّما ذلك على السائمة الراعية»،و هذا يدلّ على انّ الميزان هو السوم.

4.و يقرب من هذا صحيحة زرارة قال:قلت لأبي عبد اللّه هل على الفرس و البعير يكون للرجل يركبها شيء،فقال:لا.

ليس على ما يعلف شيء إنّما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها،عامها الذي يقتنيها فيها الرجل،و أمّا ما سوى ذلك فليس فيه شيء. (1)

وجه الدلالة على انّ الشرط هو السوم و انّ عدم تعلق الزكاة بالعامل لأجل الملازمة بينها و بين التعليف هو انّ السائل سأل عن الفرس و البعير المركوبين،و أجاب الإمام بانّه ليس على ما يُعلف شيء و إنّما الصدقة على السائمة،فلو كان للعمل موضوعية و مانعية فكان على الإمام أن يجيب بانّه ليس على المركوب شيء و لكنّه عليه السلام يجيبه بانّه«ليس على ما يعلف شيء»و هذا دليل على انّ عدم تعلقها بالمركوب لأجل كونها معلوفة لا عاملة.

ثمّ إنّ الإمام أشار إلى الضابطة الكلية و قال:«إنّما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها»و من المعلوم انّ السائمة المرسلة في المرج لا تعد للركوب و لا للنضح و لا للنقل إذ تكون خارجة عن متناول يد المالك حتّى يستعملها في هذه الموارد.

نعم ربما يتبادر من بعض الروايات التالية كون العمل مانعاً عن تعلق الزكاة برأسه و إن كانت الماشية سائمة.

5.ما رواه ابن أبي عمير في حديث قال:كان علي لا يأخذ من جمال العمل صدقة كانّه لم يحب أن يؤخذ من الذكورة شيء لانّه ظهر يحمل عليها. (2)

ص:302


1- 1) .الوسائل:6،الباب7 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث 3،4. [1]
2- 2) .الوسائل:6،الباب7 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث 3،4. [2]

يلاحظ عليه:بانّ لفظ الإمام ينتهي عند قوله:«لا يأخذ من جمال العمل صدقة»و ليس في كلامه إشارة إلى ما هو السبب من عدم الأخذ فهل هو التعليف كما استظهرناه أو لكون العمل مانعاً مستقلاً.

و أمّا ما ذكره ابن أبي عمير من قوله«كأنّه لم يحب أن يؤخذ من الذكورة شيء لانّه ظهر يحمل عليه»فهو استنباط شخصي من الراوي من شرطية الأُنوثة،و مانعية العمل.

6.موثقة زرارة عن أحدهما قال:ليس في شيء من الحيوان زكاة غير هذه الأصناف الثلاثة:الإبل و البقر و الغنم.

و كلّ شيء من هذه الأصناف من الدواجن و العوامل فليس فيها شيء. (1)

يلاحظ عليه انّ الحديث على المطلوب أدل لانّه يقسم الأنعام إلى أقسام ثلاثة:

1.السائمة في الصحراء المرسلة في مرجها و هذا هو المراد من قوله«الإبل و البقر و الغنم».

2.الدواجن و الأنعام الأهلية التي تُربّى في المنازل.

3.العوامل التي تُعلف عليها في المعطِن و المِعْلف و عدم التعلق بالأخيرين لكونها معلوفة.

هذه روايات الباب التي يمكن أن يكون مستنداً لأحد الرأيين.

نعم هناك روايات تدلّ على تعلق الزكاة بالعوامل و قد رواها إسحاق بن عمّار. (2)و قد حملها الشيخ على الاستحباب فلاحظ.

ص:303


1- 1) .الوسائل:6،الباب7 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث7و8. [1]
2- 2) .الوسائل:6،الباب7 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث7و8.

هذا دراسة ما رواه صاحب الوسائل و أمّا ما ورد في غيرها فهو أيضاً يدعم موقفنا في المسألة،و أنّ هنا شرطاً واحداً و هو السوم.

روى القاضي النعمان(259- 263) عن جعفر بن محمد انّه قال:الزكاة في الإبل و البقر و الغنم السائمة يعني الراعية. (1)

ثمّ لو غضضنا النظر عن كلّ ذلك،فنقول:انّ العمل يتصوّر في الإبل و البقر فلو قلنا بمانعية العمل فإنّما يمنع في خصوصهما و إمّا الغنم فالموضوع فيه منتف و يرجع فيه إلى ما تضافر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أئمّة أهل البيت عليهم السلام من قولهم«في أربعين من الغنم السائمة شاة»على القول بمفهوم الوصف.

قال المحقّق الأردبيلي(ت993):و ما رأيت في أخبارنا في الغنم شيئاً بخصوصه لعلّ العمومات (مثل قولهم عليهم السلام انّ الصدقات على السائمة الراعية) المذكورة تشمله لانّ الاعتبار باللفظ و لا يخصصه خصوص السبب كما ثبت في الأُصول،و الإجماع و عدم القول بالواسطة و رواية العامة تؤيده. (2)

و مقصوده من رواية العامة ما رواه أبو داود في سننه عن كتاب النبي الذي بعث مصدقه به و فيه«و في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة». (3)

و العجب انّ المحقّق الأردبيلي لم يقف على الحديث الوارد من طرقنا في خصوص الغنم السائمة و هي موثقة زرارة،قال:سألت أبا جعفر عن صدقات الأموال،فقال في تسعة أشياء ليس في غيرها شيء في الذهب و الفضة و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الإبل و البقر و الغنم السائمة هي الراعية و ليس في شيء

ص:304


1- 1) .مجمع الفائدة و البرهان:54/4.
2- 2) .مجمع الفائدة و البرهان:54/4.
3- 3) .سنن أبي داود:97/2،باب زكاة السائمة برقم1567؛ [1]صحيح البخاري:146/2؛سنن الدارقطني:114/2 و سنن البيهقي:100/4.

من الحيوان غير هذه الثلاثة أصناف شيء،و كلّ شيء كان من هذه الثلاثة أصناف فليس فيه شيء حتّى يحول عليه الحول منه يوم ينتج. (1)

و السند موثق لوجود علي بن الحسن بن فضال في السند.

إلى هنا تبين انّ الإمعان في الروايات يثبت بانّه ليس هنا إلاّ شرطاً واحداً و هو السوم و انّ العمل ليس بمانع و إنّما يمنع لأجل كونه معلوفاً غالباً.

و على فرض التسليم فالعمل إنّما يمنع في الإبل و البقر و إن كانت سائمة و أمّا الغنم فمقتضى ما دلّ على شرطية السوم مطلقاً و خصوص الموثقة هو التفصيل بين السائمة و المعلوفة،فتتعلق الزكاة بالأُولى دون الثانية.

إذا عرفت ما ذكرنا من الأُمور الثلاثة فحان دراسة الدليل و الوجوه المؤيّدة التي تمسك بها بعض الأعاظم على إنكار شرطية السوم و الأخذ بمانعية العمل بما هو هو،و هي وجوه ستة مع وجه سابع اسماه احتياطاً نذكرها واحداً تلو الآخر.

دراسة دليل بعض الأعاظم و الوجوه المؤيّدة

1.قال-مُدَّت ظلاله الوارفة-في اشتراط السوم إشكال قوي و إن كان ظاهرَ الأصحاب،لظهور روايات الباب في اشتراط أن لا تكون عوامل.

و أمّا كونها سائمة فهو من اللوازم القهرية لعدم كونها عوامل لعدم الداعي إلى ابقائها في حظائرها حينئذٍ عادة بل تسرح في مرجها و تساق إذا ساعدت الظروف،و هذا المقدار غير كاف في إثبات الاشتراط و يؤيد ما ذكرناه أُمور:

1.عدم ذكر هذا الشرط في صحيحة الفضلاء في الغنم بل ذكر في الإبل

ص:305


1- 1) .الوسائل:7،الباب8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و ما تستحب فيه،الحديث9. [1]

و البقر فقط.

2.عدم ذكر المعلوفة مستقلة في الروايات بل انضمت إلى العوامل.

3.ابتدأ حول السخال من حين النتاج مع انّها ليست بسائمة.

4.عدم الاكولة من النصاب مع انّها معلوفة غالباً.

5.عدم وقوع السؤال عن المعلوفة و غيرها في آداب المصدِّق.

6.خروج غالب الأنعام من حكم الزكاة بناءً على اشتراطها.

فالأحوط الزكاة في المعلوفة أيضاً و الظاهر انّ مستند المجمعين أيضاً الروايات السابقة التي لا تدلّ على مختارهم. (1)

فلندرسها واحداً تلو الآخر.

اشارة

أمّا الدليل فقد ادّعي فيه ظهور روايات الباب في اشتراط عدم كونها عوامل و أمّا كونها سائمة فهي من اللوازم القهرية لعدم العمل.

يلاحظ عليه:انّه إذا كان الموضوع لعدم تعلّق الزكاة هو عدم العمل فاللازم في مقام الاجابة،هو التركيز على عدم العمل من دون حاجة إلى ذكر السوم مع انّا نرى انّ الأمر على العكس ففي الروايات الثلاثة الأُول يقول الإمام«و ليس على العوامل شيء إنّما ذلك على السائمة الراعية» فإذا كان العمل مانعاً من تعلق الزكاة من دون مدخلية للسوم و العلف في تعلقها فذكر الضابطة أعني قوله«و إنّما الصدقة على السائمة الراعية» يُصبح أمراً لغواً و إن كان عدم العمل يلازم السوم في المرج.

و إن شئت قلت:إذا كان تمام الموضوع للتعلق هو عدم العمل فكان اللازم

ص:306


1- 1) .تعليقات على العروة الوثقى:330.

في مقام الاجابة أن يركِّز الإمام على ما هو الموضوع للتعلق مع انّا نرى انّ الإمام يتجاوز عن ذلك و يعطي ضابطة كلية و يقول:إنّما الصدقة على السائمة الراعية فهذا يدلّ على انّ الأمر على العكس و انّ الميزان هو السوم و انّ عدم التعلق بالعوامل لأجل كونها معلوفة غالباً.

و أوضح من ذلك صحيحة زرارة فانّ الراوي فيها يسأل عن الفرس و البعير المركوبين و الإمام مكان التركيز على عدم تعلقه بالمركوب يجيب بقوله:«ليس على ما يعلف شيء،إنّما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها»،فالسؤال إنّما هو عن العوامل و لكن الإجابة بالتعليف و عدمه.و هذا يشهد على انّ المحور السوم و التعليف لا الركوب و عدمه.و أمّا ما ذكره من المؤيدات فإليك تحليلها.

ثمّ إنّه دام ظله أيّد مقاله بأُمور ستة:

المؤيّد الأوّل:عدم ذكر السوم في صحيحة الفضلاء في الغنم بل ذكر في الإبل و البقر فقط

يلاحظ عليه:بانّ لفضلاء أصحاب الصادقين روايات ثلاث:

الأُولى:ما صدرت الرواية بنفس الإبل و اتخذته موضوعاً للبحث حوله،فقالا:في صدقة الإبل:في كلّ خمس شاة إلى أن تبلغ خمساً و عشرين فإذا بلغت ذلك،ففيها ابنة مخاض-إلى أن قالا بعد ذكر اثني عشر نصاباً للإبل -:و ليس على النيّف شيء و لا على الكسور شيء و ليس على العوامل شيء،إنّما ذلك على السائمة الراعية. (1)

الثانية:ما اتخذت البقرة موضوعاً لبيان أحكامها،قالا:في البقر في كلّ ثلاثين

ص:307


1- 1) .التهذيب:4،باب زكاة الإبل،الحديث4.

بقرة تبيع حولي و ليس في أقل من ذلك شيء و في أربعين بقرة،بقرة مسنة-و بعد ما أنهى الكلام في نصاب البقر،قالا:و ليس على النيف شيء و لا على الكسور شيء و لا على العوامل شيء،إنّما الصدقة على السائمة الراعية. (1)

الثالثة:ما اتخذت الإبل و البقر معاً موضوعاً،فقالا:ليس على العوامل من الإبل و البقر شيء إنّما الصدقات على السائمة الراعية. (2)

و قد نقل صاحب الوسائل الروايتين الأُوليين بتلخيص كثير و اقتصر على ما يهم الباب ثمّ نقل الثالثة. (3)و قد سبق منّا انّ الحديث الثالث ليس حديثاً مستقلاً بل جمع بين الحديثين امّا من الإمام أو من الرواة.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ عدم ذكر هذا الشرط في الغنم في صحيحة الفضلاء لأجل انّ الموضوع في الأُولى من بدأ الحديث إلى ختامه هو بيان نصاب الإبل و في الثانية هو البقر لا نصاب الغنم و قد انجرّ كلامه بعد بيان الانصاب إلى ذكر أُمور يرتبط بهما و هو العوامل فعدم مجيء هذا الشرط في الغنم في الصحيحة لأجل كون البحث فيهما مركزاً على الإبل و البقر و ما يختصّ بهما من العمل فلا يعدّ عدم الذكر دليلاً على عدم الاشتراط.

أضف إلى ذلك انّك قد عرفت انّ الإمام قد صرّح في الغنم بشرطية

ص:308


1- 1) .التهذيب:4،باب زكاة البقر،الحديث1.
2- 2) .التهذيب،باب وقت الزكاة،الحديث15.
3- 3) .لاحظ الوسائل:7،الباب7 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث1،2،5.

السوم ففي موثقة زرارة عن أبي جعفر:«و الغنم السائمة و هي الراعية» (1)

فبعد هذا التصريح في خصوص الغنم تكون النتيجة التصريح بشرطية السوم في الأنعام الثلاثة الإبل و البقر في صحيحة الفضلاء باعتراف المستدلّ و الغنم في موثقة زرارة.

المؤيّد الثاني:عدم ذكر المعلوفة مستقلة في الروايات بل منضمّة إلى العوامل

يلاحظ عليه:انّ الموضوع هو السائمة و قد ركز الإمام على بيانها في صحيحة الفضلاء،فقال في المواضع الثلاثة:«إنّما الصدقة على السائمة الراعية»على وجه الحصر و هذا يدلّ على عدم الصدقة في المعلوفة تارة لأجل الحصر«إنّما»و أُخرى لأجل دلالة الوصف«السائمة الراعية»و هذا يكفي في بيان الحكم.

و بعبارة أُخرى فالواجب هو التصريح بموضوع الوجوب و هي السائمة و أمّا التصريح بموضوع عدم الوجوب فلا ملزم له و على فرض تسليم الالزام يكفي الإشارة إليه بأداة الحصر أولا و مفهوم الوصفين (السائمة،الراعية) ثانياً.

المؤيّد الثالث:ابتداء حول السخال من حين النتاج مع انّها ليست بسائمة

المراد من السخلة في المقام ولد الأنعام الثلاثة مطلقاً و لو مجازاً،فقد اتفقت كلمتهم على انّ السخال لا تعد مع الأُمهات بل لكلّ منهما حول بانفراده و قد وصفه في الجواهر بقوله:بلا خلاف أجده بل الإجماع في محكي الخلاف و المنتهى و الانتصار و غيرها عليه.مضافاً إلى ظهوره من النصوص السابقة في مسألة ابتداء حولها.

إنّما الكلام في مبدأ حولها،فهل المبدأ حين النتاج و الولادة أو بعد استغنائها بالرعي فيه قولان:أحدهما:انّ المبدأ هو وقت النتاج، مستدلاً بموثقة زرارة قال:عن أحدهما عليهما السلام ليس في الحيوان زكاة غير هذه الأصناف الثلاثة:الإبل و البقر

ص:309


1- 1) .الوسائل:6،الباب8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة،الحديث9. [1]

و الغنم،و كلّ شيء من هذه الأصناف من الدواجن و العوامل فليس فيها شيء،و ما كان من هذه الأصناف فليس فيها شيء حتّى يحول عليها الحول منذ يوم تُنتج. (1)

يلاحظ على الاستدلال أوّلاً:انّ السند يشتمل على فطحيين كعلي بن الحسن في صدر السند و عبد اللّه بن بكير في أثنائه.

و ثانياً:انّ الرواية نقلها الشيخ بسند آخر عن زرارة مجردة عن الذيل(منذ يوم تنتج) قال:عن أبي جعفر ليس في صغار الإبل و البقر و الغنم شيء إلاّ ما حال عليه الحول عند الرجل و ليس في أولادها شيء حتّى يحول عليه الحول. (2)

و ثالثاً:لو افترضنا العمل بالرواية فنقول:انّ السخلة قبل التمكن من الرعي ليست بسائمة و لا معلومة فلو دلّ الدليل على اشتراط السائمة فإنّما يدلّ على ما إذا كان الحيوان قابلاً للسوم و التعليف و السخلة التي تعيش بلبن الأُمّ لا سائمة و لا معلوفة فلا يضرّ عدّها من النصاب باشتراط السوم في تعلق الزكاة لانّ الشرط مختص بما يقدر عليه دون ما لا يقدر.

رابعاً:انّ الموضوع هي السائمة فإذا كان أيّام الرضاع أيّاماً قليلة فبالاستغناء عن الرضاع إذا أرسلت إلى الرعي في الصحراء يصدق عليه انّها سائمة.

يقول المحقّق الأردبيلي:الاعتبار بالتسمية و ليس في الأخبار اعتبار طول السنة صريحاً و قد مرّ انّ المعتبر هو التسمية و ليس ذلك ببعيد لانّها غير معلوفة

ص:310


1- 1) .الوسائل:6،الباب9 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث4. [1]
2- 2) .التهذيب:4،الباب وقت الزكاة،الحديث20؛الوسائل:6،الباب9 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث5. [2]

يقيناً،و انّ زمان الرضاع الذي لا ترعى أيضاً قليل و انّ السوم و العلف إنّما يعتبر في زمان يصلح لذلك فالظاهر صدق الاسم. (1)

هذا كلّه على فرض العمل بالرواية غير انّ لفيفاً من المحقّقين كالمحقّق و العلاّمة و أكثر المتأخرين طرحوا الرواية و قالوا بانّ ابتداء الحول من حين استغناء السخال عن اللبن بالرعي.

يقول العلاّمة:و لا تعد السخال إلاّ بعد استغنائها بالرعي. (2)

و قال في المختلف:لا تعد السخال مع الأُمّهات بل لها حول بانفرادها،و هل يعتبر الحول من حين الانتاج أو من حين السوم،الأقرب الثاني،و المشهور الأوّل،لنا انّ الشرط السوم فلا تعد قبله،و قد ورد في صحيحة الفضلاء إنّما الصدقات على السائمة الراعية.

ثمّ ذكر احتجاج الشيخ و ابن الجنيد و أتباعهما بموثقة زرارة و أجاب عنه بقوله:

1.المنع من صحّة السند.

2.و بان كون الحول غاية فانّه لا ينافي ثبوت غاية أُخرى للحديث الصحيح الذي ذكرناه(يريد صحيحة الفضلاء). (3)

فظهر من ذلك انّ المسألة مورد اختلاف،و على فرض العمل بالرواية لا ينافي اشتراط السوم لانّ الشرط راجع إلى الحيوان القابل للتعليف و السوم أوّلاً،و قلة الزمان الفاصل يكفي في صدق السائمة ثانياً.

ص:311


1- 1) .مجمع الفائدة و البرهان:60/4.
2- 2) .مجمع البرهان و الفائدة،قسم المتن:58/4.
3- 3) .مختلف الشيعة:168/3.
المؤيّد الرابع:عد الاكولة من النصاب مع انّها معلوفة غالباً

يلاحظ عليه:انّ المؤيد مخدوش صغرى و كبرى،أمّا الصغرى فانّ الأكولة تفسر تارة بالشاة التي تعزل للأكل و تُسمَّن،و يكره للمصدِّق أخذها. (1)و أُخرى بالتي ترعى للأكل. (2)و مع ذلك فكيف يفسر بالأوّل.

و أمّا الكبرى فليس بمورد اتفاق قال العلاّمة في الإرشاد:و لا تعد الأكولة و لا فحل الضراب من النصاب مستدلاً بصحيحة عبد الرحمن بن حجاج عن أبي عبد اللّه قال:ليس في الأكيلة و لا في الربى التي تربي اثنين و لا شاة لبن و لا فحل الغنم صدقة. (3)

و أمّا من قال بعدّها من النصاب فقد حمل قوله«ليس في الأكيلة»على عدم الأخذ لا على عدم العدّ مستدلاً بموثقة سماعة عن أبي عبد اللّه،قال:لا تؤخذ الأكولة الكبيرة من الشاة تكون في الغنم و لا والدة و لا كبش الفحل. (4)و لا منافاة بين الحديثين حتّى يحمل الأوّل على الثاني، فالأكولة لا تعد و لا تؤخذ.

و حصيلة الكلام انّ الروايات تضافرت من قبل الفريقين على شرطية السوم في تعلق الزكاة فرفع اليد عن الإطلاقات المتضافرة في كتب الفريقين بهذين الفرعين اللذين وقع فيهما النقاش أمر غير تام بل الأولى التمسك بالمطلقات المتضافرة و القضاء في هذه الفرع بمقتضاها.

ص:312


1- 1) .الصحاح، [1]مادة أكل.
2- 2) .العين للخليل و المقاييس لابن فارس.
3- 3) .مجمع الفائدة،قسم المتن:58/4.
4- 4) .الوسائل:6،الباب10 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث2. [2]
المؤيّد الخامس:عدم وقوع السؤال عن المعلوفة و غيرها في آداب المصدق

يلاحظ عليه أوّلاً:انّه ورد آداب المصدق في روايتين.

إحداهما:ما رواه الكليني بسند صحيح عن بريد بن معاوية،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:بعث أمير المؤمنين مصدقاً من الكوفة إلى باديتها،فقال له:يا عبد اللّه انطلق و عليك بتقوى اللّه وحده لا شريك له (1)...الخ.

الثاني:ما رواه الشيخ الحر العاملي عن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين في وصية كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات:انطلق على تقوى اللّه وحده لا شريك له،و لا تروعنّ مسلماً (2)...الخ.

لكن عدم الورود لا يعدّ دليلاً على عدم الاعتبار ضرورة انّ موقع الروايتين بيان آداب المصدق لا بيان ما تجب فيه الزكاة فالمحور فيهما ما يمت إلى المصدّق بصلة،فلو لم يذكر فيه السائمة و لا المعلوفة فلأجل عدم الحاجة إلى ذكرها إذ المقام،مقام بيان وظيفة المصدق و لأجل ذلك لم يذكر فيه سائر الشروط كالنصاب و لا حولان الحول و لا الملك و لا العقل و لا سائر الشرائط.

و ثانياً:انّ في الرواية ايعازاً إلى انّ مورد الصدقة هي السائمة حيث يقول:«بعث أمير المؤمنين مصدقاً من الكوفة إلى باديتها»و السائد على البادية هو الرعي في الصحراء لا التعليف و فيما نقله عن نهج البلاغة الماع إلى ذلك أيضاً حيث قال:فإذا قدمت إلى الحيّ فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم»و هذا يعرب عن كون الأنعام سائمة لانّ المعلوف يكون حول الحيّ لا البعيد عنه كالنقطة التي فيها الماء و ربما يكون بين الماء و الاحياء مسافة لا يستهان بها.

ص:313


1- 1) .الوسائل:6،الباب14 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث1و7. [1]
2- 2) .الوسائل:6،الباب14 من أبواب زكاة الأنعام،الحديث1و7. [2]

و نضيف على ذلك ما ذكرناه في المؤيدين السابقين من انّ الضابطة هو رد المتشابه إلى المحكم و قد تضافرت الروايات على شرطية السوم فلا يصحّ رفع اليد عنها بهذه الوجوه التي هي أشبه بالاستئناس لا الاستدلال.

المؤيد السادس

خروج غالب الأنعام من حكم الزكاة بناء على اشتراطها.

يلاحظ عليه:بانّ شرطية السوم لا توجب خروج أكثر الأنعام عن مصبّ الحكم و ذلك لانّ الحكم مترتب على السائمة لا السوم،فانّ الغنم إذا سامت إلى حد يصدق عليها عرفاً انّها سائمة،فكما يصدق عليها في حال السوم انّها سائمة فكذلك حال اشتغالها بالاعتلاف يصدق عليها انّها سائمة إلاّ أن يبلغ الاعتلاف حدّاً يصدق انّها غير سائمة،و الحدّ الموجب مصدق السائمة و المعلوفة موكول إلى العرف.

انّ صدق عنوان السائمة و المعلوفة كصدق عنوان النجار و الخباز،فكما انّ عدم مزاولة النجارة و الخبازة لمدة قصيرة لا يضرّ بصدق العنوان،فهكذا الحال في السائمة و المعلوفة فتعليف السائمة لمدة قصيرة لا يخرجها عن صدق عنوان السائمة و مثلها المعلوفة فانّ رعيها في المراتع أياماً معدودة لا يخرجها عن صدق عنوان المعلوفة فكأنّ المالك يقسم ماشية إلى قسمين:

قسم منها خاص للرعي في الصحراء للدر و النسل و لا يرجعها إلى المعلف إلاّ لغاية خاصة كالبرد و غيره،و قسم منها معدّة للتعليف في المعلف و لا يرسلها إليه إلاّ لغاية خاصة.

فما دامت الماشية تحمل أحد هذين العنوانين:من شأنها الرعي في المرج أو

ص:314

من شأنها التعليف في المعلف يترتب على كلّ منها حكمه الخاص.

و على ضوء ذلك فالتعليف يوماً أو اسبوعاً أو شهراً أو أكثر لأجل مانع كالبرد و غيره لا يضر بالتسمية إذا كانت الأنعام معدّة للسوم في الصحراء للدرّ و النسل و على ذلك فلا يخرج أغلب الأنعام من حكم الزكاة.

ثمّ إنّه دام ظله ذكر انّ الأحوط ايجاب الزكاة في المعلوفة أيضاً و هو أمر عجيب لانّ الأمر دائر بين محذورين فانّ ايجاب الزكاة و إن كان لصالح الفقراء و لكنّه لا ينفك عن الحاق الضرر بالمالك.

و هذا كايجاب الزكاة على مال اليتيم و المجنون أخذاً بالاحتياط و قد قلنا في محله انّ الأمر دائر بين المحذورين فالمرجع في المقام هو البراءة لا الاحتياط كما انّ المتعيّن هو الأخذ بما هو المشهور بين الفريقين،و الصفح عمّا تفرّد مالك،تبعاً لشيوخه الثلاثة:مكحول و ربيعة و قتادة. (1)

هذا ما جاد به اليراع و سنحت به الفرصة قدَّمته إلى سماحته (دام ظله الوارف) أملاً أن يبدي نظره السامي فيما حرّرت.

ظهيرة يوم الثلاثين30

صفر المظفر من شهور

عام 1423ه

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

جعفر السبحاني

ص:315


1- 1) .المدونة الكبرى لفتاوى مالك:313/1؛المغني:456/2.

ص:316

4

اشارة

المسلم يرث الكافر دون العكس

إنّ للإرث في الفقه الإسلامي موجبات و موانع

أمّا الموجبات له فسببان:النسب و السبب.و قد قيل: الإرث في الشرع بأمرين وجب بالنسب الثابت شرعاً و سبب

و أمّا الموانع فهي الكفر و القتل و الرقّ فنُهمِلُ الكلامَ في المانعين الأخيرين،و نركّز على المانع الأوّل ضمن مسألتين:

الأُولى:توريث الكافر من المسلم

لا يرث الكافر المسلم مطلقاً إجماعاً محقّقاً بين المسلمين مع تضافر الروايات عليه.

قال المفيد في«المقنعة»:و لا يرث كافر مسلماً على حال. (1)

و قال الطوسي في«المبسوط»:و الكافر لا يرث المسلم بلا خلاف. (2)

و قال ابن قدامة:أجمع أهل العلم على أنّ الكافر لا يرث المسلم. (3)

و بما انّ هذه المسألة ممّا لم يختلف فيها اثنان،و هو مورد اتفاق بين الفريقين نكتفي بهذا المقدار و نركّز البحث على المسألة الثانية.

ص:317


1- 1) .المقنعة:700.
2- 2) .المبسوط:79/4. [1]
3- 3) .المغني:340/6.

الثانية:توريث المسلم من الكافر

اشارة

هذه المسألة اختلفت فيها كلمات الفقهاء،فالإمامية و لفيف من غيرهم على انّه يرث الكافر،و لكن الأكثرية من غيرهم على المنع.

و تحقيق الكلام في هذه المسألة التي أصبحت مثار بحث و جدل واسع بين المذهبين،يتم ببيان أُمور:

ص:318

1

استعراض كلمات الفقهاء

1.قال الشيخ الطوسي:ذهبت الإمامية قاطبة تبعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام،و معاذ بن جبل و معاوية بن أبي سفيان من الصحابة،و مسروق و سعيد و عبد اللّه بن معقل و محمد بن الحنفية و إسحاق بن راهويه من التابعين إلى أنّ المسلم يرث الكافر.

و قال جمهور الصحابة و الفقهاء على أنّه لا يرث المسلم الكافر. (1)

2.و قال ابن قدامة:قال جمهور الصحابة و الفقهاء:لا يرث المسلم الكافر.يروى هذا عن أبي بكر و عثمان و علي و أُسامة بن زيد و جابر بن عبد اللّه،و به قال عمرو بن عثمان و عروة و الزهري و عطاء و طاوس و الحسن و عمر بن عبد العزيز و عمرو بن دينار و الثوري و أبو حنيفة و أصحابه و مالك و الشافعي و عامّة الفقهاء،و عليه العمل.

و روي عن عمر و معاذ و معاوية،أنّهم ورَّثوا المسلم من الكافر و لم يورِّثوا الكافر من المسلم.و حكي ذلك عن محمد بن الحنفية،و علي بن الحسين،و سعيد بن المسيب،و مسروق،و عبد اللّه بن معقل،و الشعبي،و النخعي،و يحيى بن يعمر،

ص:319


1- 1) .الخلاف:23/4،كتاب الفرائض،المسألة16.

و إسحاق؛و ليس بموثوق به عنهم،فإنّ أحمد قال:ليس بين الناس اختلاف في أنّ المسلم لا يرث الكافر. (1)

و جدير بالذكر انّهم ينسبون عدم الإرث إلى علي عليه السلام و علي بن الحسين المعروف بزين العابدين عليه السلام مع أنّ روايات أئمة أهل البيت متضافرة على خلافه كما سيوافيك.

ص:320


1- 1) .المغني:340/6.
2

الكتاب حجّة قطعية

لا يعدل عنه إلاّ بدليل قطعي

إنّ الكتاب حجّة قطعية سنداً و دلالة في غير المجملات و المبهمات و المتشابهات و لا ترفع اليد عن مثله إلاّ بدليل قطعي آخر،فإنّ كون الكتاب حجّة ليس ككون خبر الواحد حجّة،بل هو من الحجج القطعية الذي لا يعادله شيء إلاّ نفس كلام المعصوم لا الحاكي عنه الذي يحتمل أن يكون كلام المعصوم أو موضوعاً على لسانه،و قد سمّاه النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حديث الثقلين بالثقل الأكبر،و معه كيف يمكن رفع اليد عن ظواهر القرآن بخبر الواحد و إن كان ثقة؟!

و لذلك قلنا في الأُصول:إنّ رفع اليد عن إطلاق الكتاب و عمومه بمجرّد ورود خبر ثقة مشكل جدّاً،إلاّ إذا احتفّ الخبر بقرينة يوجب اطمئنان الإنسان بصدوره من المعصوم يجعله بمثابة تسكن النفس إليه،و لأجل ذلك لم تجوّز طائفة من الأُصوليّين تخصيص القرآن بخبر الواحد.

قال الشيخ الطوسي-بعد نقل الآراء في تخصيص الكتاب و تقييده بخبر الواحد:

و الذي أذهب إليه انّه لا يجوز تخصيص الكتاب بها [بأخبار الآحاد] على كلّ حال،سواء خُصّ أم لم يخصّ،بدليل متّصل أو منفصل، و الذي يدلّ على

ص:321

ذلك انّ عموم القرآن يوجب العلم،و خبر الواحد يوجب غلبة الظن،و لا يجوز أن يترك العلم بالظن على حال فوجب بذلك أن لا يخصّ العموم به. (1)

و أيّده المحقّق الحلّيّ فقال:لا نسلّم انّ خبر الواحد دليل على الإطلاق،لأنّ الدلالة على العمل به،هي الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة فإذا وجدت الدلالة القطعية سقط وجوب العمل. (2)

و حاصل كلامهما وجود الشكّ في سعة دليل حجّية خبر الواحد،و انّه هل يعمّ ما إذا كان في المورد دليل قطعي مثل الكتاب؟!

إنّ كثيراً من الأُصوليّين و إن كانوا يتعاملون مع الكتاب العزيز معاملة سائر الحجج،أعني:السنّة الحاكية،لكنّ الكتاب أعظم شأناً من أن يكون عِدْلاً لأمثالها بل هو حجة قطعية،فعموم القرآن و إطلاقاته حجّة على المجتهد إلاّ إذا وقف على حجّة أُخرى تسكن النفس إليها و يطمئن بها المجتهد،فعند ذلك يقيّد عموم القرآن و إطلاقاته به.

إذا عرفت ذلك فلندخل في صلب الموضوع و نقدّم أدلّة القائلين بالإرث على أدلّة نفاته.

ص:322


1- 1) .عدّة الأُصول:135/1. [1]
2- 2) .المعارج:46.
3
اشارة

أدلّة القائلين

بإرث المسلم الكافر

استدلّ القائلون بأنّ المسلم يرث الكافر مطلقاً،كتابياً كان أو وثنياً بوجوه:

1.إطلاقات الكتاب العزيز

إنّ مقتضى إطلاقات الكتاب و عموماته،هو التوارث في الحالتين،من دون فرق بين إرث الكافر،المسلم و بالعكس،قال سبحانه:

«يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ». 1

و قال سبحانه: «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ...». 2

و قال سبحانه: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ

ص:323

وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ...». 1

غير أنّ الدليل القطعي و هو اتّفاق المسلمين قام على إخراج إرث الكافر من المسلم عن تحت هذه الإطلاقات و العمومات.

و أمّا إرث المسلم من الكافر فخروجه رهن دليل قطعي تسكن إليه النفس حتّى يعد عديلاً للقرآن في الحجّية و يخصّ الكتاب أو يقيّد بهذا الدليل،فلا بدّ من دراسة الروايات التي استدلّ بها على عدم توريث المسلم من الكافر،و انّه هل هي بهذه المثابة أو لا؟ و ستتم دراسته في الفصل القادم.

2.إجماع الإمامية على الإرث

اتّفقت الإمامية على أنّ المسلم يرث الكافر مطلقاً،و لم يختلف فيه اثنان منهم،و قد نصّت الإشارة إلى إجماع الطائفة في كلام الشيخ الطوسي،و لنذكر غيرها،حتّى يتّضح اتّفاقهم في المسألة.

1.قال المفيد(336- 413ه):و يرث أهل الإسلام بالنسب و السبب أهلَ الكفر و الإسلام،و لا يرث كافر مسلماً على كلّ حال.فإن ترك اليهودي،أو النصراني،أو المجوسي،ابناً مسلماً و ابناً على ملّته،فميراثه عند آل محمد لابنه المسلم دون الكافر؛و لو ترك أخاً مسلماً و ابناً كافراً، حجب الاخُ المسلم الابنَ في الميراث و كان أحقّ به من الابن الكافر،و جرى الابن الكافر مجرى الميت في حياة أبيه،أو القاتل الممنوع بجنايته من الميراث. (1)

2.و قال السيد المرتضى(355- 436ه) في«الانتصار»:و ممّا انفردت به

ص:324


1- 2) .المقنعة:700.

الإمامية عن أقوال باقي الفقهاء في هذه الأزمان القريبة و إن كان لها موافق متقدّم الزمان:القول بأنّ المسلم يرث الكافر و إن لم يرث الكافر،المسلم.

و قد روى الفقهاء في كتبهم موافقة الإمامية على هذا المذهب عن سيدنا علي بن الحسين عليه السلام و محمد بن الحنفية و عن مسروق و عبد اللّه بن معقل المزني و سعيد بن المسيب و يحيى بن يعمر و معاذ بن جبل،و معاوية بن أبي سفيان. (1)

3.و قال الطوسي(385- 460ه) و الكافر لا يرث المسلم بلا خلاف،و المسلم يرث الكافر عندنا،حربياً كان أو ذمّيّاً،أو كافر أصل،أو مرتداً عن الإسلام. (2)

4.و قال ابن زهرة(511-585ه):إنّ الكافر لا يرث المسلم فأمّا المسلم فانّه يرث الكافر عندنا و إن بعد نسبه.و يدلّ على ذلك الإجماع الماضي ذكره،و ظاهر آيات الميراث،لأنّه إنّما يخرج من ظاهرها ما أخرجه دليل قاطع. (3)

5.و قال ابن إدريس(539- 598ه):قد بيّنا فيما مضى انّ الكافر لا يرث المسلم،فأمّا المسلم فانّه يرث الكافر عندنا و إن بعد نسبه و يحجب من قرب عن الميراث بلا خلاف بيننا.

6.و قال الكيدري (...- 600ه):المسلم يرث الكافر،و إن بعد نسبه،أمّا بالعكس فلا،كما مضى. (4)

7.و قال المحقّق الحلي:(602- 676ه):و يرث المسلم الكافر،أصلياً

ص:325


1- 1) .الانتصار:587،المسألة323.
2- 2) .المبسوط:79/4. [1]
3- 3) .غنية النزوع:328، [2]تحقيق مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام.
4- 4) .إصباح الشيعة بمصباح الشريعة:370. [3]

و مرتداً،و لو مات كافر و له ورثة كفّار،و وارث مسلم،كان ميراثه للمسلم. (1)

8.قال الشهيد الثاني-معلّقاً على كلام المحقّق«و يرث المسلم الكافر»-:هذا موضع وفاق بين الأصحاب. (2)

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي يجدها الباحث في مظانّها،و لا حاجة إلى نقلها تفصيلاً.

و هذا النوع من الإجماع الموسوم بالإجماع المحصّل حجّة بنفسه حسب أُصول المخالفين،و كاشف عن رأي المعصوم على أُصولنا، و هو حجّة قطعية لا يعدل عنها إلى غيرها.

3.الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام

قد تضافرت الروايات على أنّ المسلم يرث الكافر و لا عكس،و قد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في كتاب الفرائض الباب الأوّل من أبواب موانع الإرث،و هي تناهز عشر روايات،و إليك استعراضها:

1.أخرج الصدوق بسند صحيح عن أبي ولاّد،قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:«المسلم يرث امرأته الذمّيّة،و هي لا ترثه». (3)

و مورد الرواية هو إرث المسلم زوجته،و لكن المورد غير مخصّص خصوصاً بقرينة ما يأتي من المطلقات و العمومات.

2.أخرج الصدوق عن الحسن بن صالح،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«المسلم يحجب الكافر و يرثه،و الكافر لا يحجب المسلم و لا يرثه». (4)

ص:326


1- 1) .الشرائع:814/2. [1]
2- 2) .مسالك الأفهام:31/13. [2]
3- 3) .الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث 1و2. [3]
4- 4) .الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث 1و2. [4]

و على ذلك فلو كان للكافر ابن كافر،و أخ مسلم يحجب الأخ إرث الابن الكافر؛و الكلام في المقام في إرث المسلم،الكافر،و كونه-وراء ذلك-حاجباً عن إرث الكافر مسألة ثانية،و لا ملازمة عقلاً بين المسألتين،إذ يمكن الفصل بين المسألتين عقلاً،بأن يكون وارثاً،لا حاجباً.

نعم دلّت الروايات على كونه حاجباً أيضاً،فيحجب إرث الكافر من الكافر،سواء كان الحاجب متّحداً مع الممنوع في الطبقة أو متأخّراً عنه،فالولد المسلم يحجب الولد الكافر،كما أنّ الأخ المسلم يحجب إرث الولد الكافر.

3.أخرج الشيخ بسند معتبر عن أبي خديجة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:«لا يرث الكافر المسلم،و للمسلم أن يرث الكافر،إلاّ أن يكون المسلم قد أوصى للكافر بشيء». (1)

4.أخرج الشيخ عن عبد الرحمن بن أعين،عن أبي جعفر عليه السلام في النصراني يموت و له ابن مسلم،أ يرثه؟ قال:«نعم،إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يزدنا بالإسلام إلاّ عزّاً،فنحن نرثهم و هم لا يرثوننا». (2)

5.ما أخرجه الصدوق بسند موثّق عن سماعة،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:سألته عن المسلم هل يرث المشرك؟ قال عليه السلام:«نعم،فأمّا المشرك فلا يرث المسلم». (3)

6.أخرج الفقيه بسند معتبر عن محمد بن قيس،عن أبي جعفر عليه السلام،قال:سمعته،يقول:«لا يرث اليهودي و النصراني المسلمين،و يرث المسلمون اليهود و النصارى». (4)

ص:327


1- 1) .الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث 3،4،5،7. [1]
2- 2) .الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث 3،4،5،7. [2]
3- 3) .الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث 3،4،5،7. [3]
4- 4) .الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث 3،4،5،7. [4]

7.أخرج الشيخ في«التهذيب»عن أبي العباس (البقباق)قال:سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:«لا يتوارث أهل ملّتين(يرث هذا هذا،و يرث هذا هذا) إلاّ أنّ المسلم يرث الكافر و الكافر لا يرث المسلم». (1)

8.أخرج الكليني بسند صحيح عن جميل و هشام،عن أبي عبد اللّه عليه السلام انّه قال:فيما روى الناس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: لا يتوارث أهل ملّتين،قال:نرثهم و لا يرثونا،انّ الإسلام لم يزده في حقّه إلاّ شدّة.

و في رواية الشيخ الطوسي«انّ الإسلام لم يزده إلاّ عزّاً في حقّه». (2)

ثمّ إنّ الرواية السابعة و الثامنة تفسران ما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من أنّه لا يتوارث أهل ملّتين كما سيوافيك بيانه،و حاصل التفسير:انّ نفي التوارث كما يحصل بعدم إرث كلّ الآخر،يتحقّق أيضاً بعدم إرث الكافر المسلم دون المسلم،الكافر.

و بذلك أيضاً يفسر بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت بنفس اللفظ النبوي أو قريب منه،نظير الروايات التالية:

9.أخرج الشيخ بسند معتبر عن حنان بن سدير،عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:سألته يتوارث أهل ملّتين؟،قال:«لا». (3)

10.و نظيره ما رواه علي بن جعفر عليه السلام،عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام،قال:سألته عن نصراني يموت ابنه و هو مسلم،فهل يرث،فقال:

«لا يرث أهل ملّة».

و في المصدر:لا يرث أهل ملّة ملّةً. (4)

ص:328


1- 1) .الوسائل،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث15،14،20. [1]
2- 2) .الوسائل،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث15،14،20. [2]
3- 3) .الوسائل،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث15،14،20. [3]
4- 4) .لاحظ الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث24.

و هو محمول على عدم التوارث من الطرفين فلا ينافي إرث المسلم الكافر.

إلى هنا تمّت دراسة ما دلّ على إرث المسلم الكافر،و هي متضافرة تفيد الاطمئنان بالصدور.

الروايات المعارضة

ثمّ إنّ هناك روايات ربّما يتراءى التعارض بينها و بين ما سبق،لا تعارضاً مطلقاً،بل تعارضاً نسبياً،و هي القول بإرث المسلم الكافر إلاّ في مورد الزوج و الزوجة أو خصوص الزوجة.

و مقتضى صناعة الفقه تخصيص المطلقات السابقة بهذه الروايات المتعارضة،إلاّ أنّها فاقدة للحجّية فيطرح تخصيصها بها،و إليك ما يعارضها بظاهره:

1.ما رواه الصدوق مرسلاً،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السلام في الرجل النصراني تكون عنده المرأة النصرانية فتسلم أو يسلم ثمّ يموت أحدهما؟ قال:«ليس بينهما ميراث». (1)

2.رواية عبد الملك بن عمير القبطي،عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال للنصراني الذي أسلمت زوجته:«بضعها في يدك،و لا ميراث بينكما». (2)

3.رواية عبد الرحمن البصري،قال:قال أبو عبد اللّه عليه السلام:«قضى أمير المؤمنين عليه السلام في نصراني،اختارت زوجته الإسلام و دار الهجرة:

أنّها في دار الإسلام لا تخرج منها،و أنّ بضعها في يد زوجها النصراني،و أنّها لا ترثه و لا

ص:329


1- 1) .الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث12و22. [1]
2- 2) .الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث12و22. [2]

يرثها». (1)

4.رواية عبد الرحمن بن أعين قال:قال أبو جعفر عليه السلام:«لا نزداد بالاسلام إلاّ عزّاً،فنحن نرثهم و لا يرثونا،هذا ميراث أبي طالب في أيدينا،فلا نراه إلاّ في الولد و الوالد،و لا نراه في الزوج و المرأة». (2)

و هذه الروايات لا يعتمد عليها في مقابل ما تضافر.

أمّا الأُولى فهي مرسلة الصدوق في«المقنع»و ليست مسندة إلى المعصوم.

و أمّا الثانية فهي-مضافاً إلى كونها مرسلة لما في سندها من قوله:عن أُمّي الصيرفي أو بينه و بينه رجل،عن عبد الملك بن عمير القبطي - انّ عبد الملك لم يوثق.

و أمّا الثالثة فسندها و إن كان موثّقاً و مقتضى الجمع الصناعي هو تنصيص ما دلّ على إرث المسلم الكافر بهذه الرواية و تكون النتيجة:

إرث المسلم الكافر،إلاّ الزوجة المسلمة فإنّها لا ترث الزوج الكافر.

و لكن العمل بهذه الرواية في مقابل ما تضافر و تواتر عنهم غير صحيح،مضافاً إلى أنّ مقتضى التعليل الوارد في رواية عبد الرحمن بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السلام:«لا يتوارث أهل ملّتين،نحن نرثهم و لا يرثونا،إنّ اللّه عز و جلّ لم يزدنا بالإسلام إلاّ عزّاً». (3)هو عدم الفرق بين الزوجة و غيرها،لأنّ التعليل آب عن التخصيص.

و أمّا الرواية الرابعة فيرد عليها أمران:

ص:330


1- 1) .الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث 23و19. [1]
2- 2) .الوسائل:17،الباب1 من أبواب موانع الإرث،الحديث 23و19. [2]
3- 3) .انظر الرواية الرابعة.

الأوّل:انّ ظاهر الرواية هو عدم إيمان أبي طالب،و هذا ممّا اتّفق أئمّة أهل البيت على خلافه.

الثاني:انّ إخراج الزوجة و الزوج خلاف مقتضى التعليل الوارد في نفس هذه الرواية.

أضف إلى ذلك إعراض المشهور عن هذه الروايات الأربع و مخالفتها لصحيح أبي ولاّد(الرواية الأُولى) على نحو التباين.

فخرجنا بالنتيجة التالية:انّ الرأي السائد عند أتباع أئمّة أهل البيت عليهم السلام هو إرث المسلم الكافر،من دون فرق في المسلم بين كونه زوجاً أو زوجة.

و أمّا هذه الروايات الأربع،فهي بين ضعيفة كمرسلة الصدوق و رواية عبد الملك بن عمير،أو مخالفة للتعليل الآبي عن التخصيص، كالرواية الثالثة،أو مخدوش في المضمون لاشتماله على كفر أبي طالب،مضافاً إلى أنّ إخراج الزوج و الزوجة خلاف التعليل الوارد فيها و خلاف صحيحة أبي ولاّد.

إلى هنا تمّت دراسة الروايات المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

الرابع

4 :الآثار المروية في السنن

ثمّ إنّ هناك آثاراً مروية عن الصحابة تؤيّد موقف الإمامية في المسألة،و إليك بعض ما وقفنا عليه:

1.أخرج أبو داود عن عبد اللّه بن بريدة،انّ أخوين اختصما إلى يحيى بن يعمر،يهودي و مسلم فورّث المسلم منهما،و قال:حدّثني أبو الأسود انّ رجلاً حدّثه،انّ معاذاً حدّثه،قال:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:الإسلام يزيد و لا

ص:331

ينقص،فورث المسلم. (1)

2.أخرج أبو داود عن عبد اللّه بن بريدة،عن يحيى بن يعمر،عن أبي الأسود الدؤلي انّ معاذاً أتى بميراث يهودي وارثه مسلم،بمعناه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم. (2)

3.أخرج الدارمي عن مسروق قال:كان معاوية يورِّث المسلم من الكافر و لا يورث الكافر من المسلم،قال:قال مسروق:و ما حدث في الإسلام قضاء أحب إليّ منه،قيل لأبي محمد تقول بهذا،قال:لا. (3)

قال السيد المرتضى بعد نقل قضاء معاذ:و نظائر هذا الخبر موجودة كثيرة في رواياتهم.

و على كلّ تقدير ففي الكتاب مع ما تضافر من الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام و في هذه الآثار كفاية لمن رام الحق،و لكن لا يتم الإفتاء إلا بدراسة دليل المخالف فانتظر.

الخامس

5 :حرمان المسلم خلاف الامتنان

إنّ من درس موارد الحرمان في الإرث يقف على أنّه إمّا للإرغام،أو لضعة الوارث.

و الأوّل كما في القاتل فلا يرث المقتول،و ذلك لأنّه حاول بقتله أن يرثه معجلاً،فانعكس الأمر و صار محروماً بتاتاً.

و الثاني كما في الرق حيث لا يرث الحر لضعة مرتبته و درجته.

ص:332


1- 1) .سنن أبي داود:126/3،حديث رقم2912. [1]
2- 2) .سنن أبي داود:126/3،برقم 2913. [2]
3- 3) .سنن الدارمي:370،باب في ميراث أهل الشرك و أهل الإسلام. [3]

فعلى ضوء ما ذكرنا يجب أن يرث المسلمُ الكافرَ دون العكس،و إلاّ يلزم أن يكون حرمان المسلم إرث الكافر ارغاماً له،و هو كما ترى.

و إن شئت قلت:إنّ التشريع الإسلامي قائم على الترغيب و الترهيب،ففي الموضع الذي يكون المورِّث كافراً و الوارث على و شك اعتناق الإسلام،فلو قيل له أنت لو أسلمت يكون جزاء إسلامك هو حرمانك من عطايا والدك و أُمّك التي يتركها لك،فهو يرجع إلى الوراء و يتعجب من هذا التشريع الذي يُرهِّب مكان الترغيب،و يبعِّد بدل التقريب إلى الإسلام و يعده على طرف النقيض من الترغيب.

إلى هنا تمّ ما دلّ على إرث المسلم الكافر.

فحان حين البحث في أدلّة نفاة الإرث و هي على قسمين:

1.الأحاديث الواردة في الموضوع.

2.الآثار المنقولة عن الصحابة.

فإليك دراسة كلّ واحد على حدة.

ص:333

4
اشارة

أدلّة القائلين بعدم التوريث

استدلّ القائلون بعدم توريث المسلم من الكافر بأحاديث و آثار،نشير إلى الجميع.

1.حديث عمر و ابن شعيب

أخرج أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن جدّه عبد اللّه بن عمرو،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يتوارث أهل ملّتين شتى». (1)

و أخرج الدارقطني بسنده عن عمرو بن شعيب،قال:أخبرني أبي،عن جدّي عبد اللّه بن عمرو،انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قام يوم فتح مكة، قال:«لا يتوارث أهل ملّتين». (2)

و أخرجه البيهقي بنفس السند،قال:لا يتوارث أهل ملّتين شتّى.و في لفظ آخر:و لا يتوارثون أهل ملّتين. (3)

و رواه أيضاً ابن ماجة في سننه. (4)

ص:334


1- 1) .سنن أبي داود126/3،برقم2911. [1]
2- 2) .سنن الدارقطني:72/2،برقم16.
3- 3) .سنن البيهقي:218/6،باب لا يرث المسلم الكافر.
4- 4) .سنن ابن ماجة:912/2،الحديث2731.

و نقله الدارمي عن عمر مرسلاً عن النبي،و عن أبي بكر و عمر موقوفاً أنّ رسول اللّه و أبا بكر و عمر قالوا:لا يتوارث أهل دينين.و نقل عن عمر قال:لا يتوارث أهل ملّتين. (1)

و لكن الاستدلال غير تام دلالة و سنداً.

أمّا الدلالة فقد أُشير إليه في غير واحد من روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام،و حاصله:انّ الحديث بصدد نفي التوارث لا الإرث من كلّ جانب و يصدق نفي التوارث بعدم توريث الكافر عن المسلم دون العكس،فلو قيل:ما تضارب زيد و عمرو،كفي في صدقه عدم الضرب من جانب واحد،فيقال:لم يكن هنا تضارب بل ضرب من جانب واحد،فالنبي بصدد نفي التوارث و هو لا ينافي الإرث من جانب واحد،و هذه الروايات و إن مرّت الإشارة إليها لكن نأت بواحد منها.

أخرج الكليني عن جميل و هشام،عن أبي عبد اللّه عليه السلام انّه قال:فيما روي الناس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم انّه قال:لا يتوارث أهل ملّتين،قال:

«نرثهم و لا يرثونا،انّ الإسلام لم يزده في حقّه إلاّ شدة». (2)

هذا كلّه حول دلالة الرواية،و أمّا السند فقد تفرّد بروايته عمرو بن شعيب و أبوه و جدّه عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،أ فيمكن ترك الكتاب بالخبر الذي تفرد به هؤلاء؟!

على أنّ عمرو بن شعيب مطعون به،فقد ترجم له ابن حجر في«التهذيب»ترجمة ضافية على نحو يسلب سكون النفس إلى روايته، حيث قال:قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد:حديثه عندنا واه.

و قال علي عن ابن عيينة:حديثه عند الناس فيه شيء.

ص:335


1- 1) .سنن الدارمي:369/2. [1]
2- 2) .لاحظ الرواية الثامنة.

و قال أبو عمرو بن العلا:كان يعاب على قتادة و عمرو بن شعيب انّهما كانا لا يسمعان شيئاً إلاّ حدّثا به.

و قال الميموني:سمعت أحمد بن حنبل يقول:له أشياء مناكير،و إنّما يكتب حديثه يعتبر به فأمّا أن تكون حجّة فلا.

إلى أن قال:و قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين:إذا حدّث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه فهو كتاب،و من هنا جاء ضعفه. (1)

فمن قرأ ترجمته المتّصلة في هذا الكتاب و أقوال العلماء المتضاربة في حقّه،يقف على أنّه لا يمكن تقييد الكتاب و تخصيصه بروايته.

2.حديث أُسامة

أخرج البخاري عن أبي عاصم،عن ابن جريج،عن ابن شهاب،عن علي بن الحسين،عن عمرو بن عثمان،عن أُسامة بن زيد انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:لا يرث المسلم الكافر،و لا الكافر المسلم. (2)

أخرج مالك عن عمرو بن عثمان بن عفان،عن أُسامة بن زيد،انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:لا يرث المسلم الكافر. (3)

أخرج مسلم بنفس هذا السند انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:لا يرث المسلم الكافر و لا يرث الكافر المسلم. (4)

و أخرجه البيهقي في سننه (5)،إلى غير ذلك من المصادر.

يلاحظ على الاستدلال:أوّلاً:أنّه خبر واحد تفرّد بنقله أُسامة بن زيد كما

ص:336


1- 1) .تهذيب التهذيب:48/8برقم80. [1]
2- 2) .فتح الباري:40/12،برقم 6764.
3- 3) .الموطأ:519/2،الحديث10. [2]
4- 4) .صحيح مسلم:59/5،كتاب الفرائض.
5- 5) .سنن البيهقي:218/6.

تفرد بنقله من نقل عنه،و طبيعة المسألة تقتضي أن يقوم بنقلها غير واحد من الصحابة و التابعين لا سيما في العهد النبوي و من بعده حيث إنّ شرائح كبيرة من المجتمع كانت تبتلي بتلك الظاهرة،فتفرّد أُسامة بسماع الحكم دون غيره يورث الشك بالرواية.

و ثانياً:أنّ الزهري ينقل عن علي بن الحسين،و هو عن عمرو بن عثمان عن أُسامة انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:«لا يرث المسلم الكافر و لا الكافر المسلم» (1)،مع أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام و منهم علي بن الحسين عليهما السلام كانوا يروون و يفتون على خلاف ذلك فقد عرف أنّ آل محمّد متفردون على ذلك الرأي.

و ثالثاً:أنّ الدارمي نقل الحديث عن علي بن الحسين عن أُسامة بحذف عمرو بن عثمان من السند. (2)

و قد نقل المرتضى في«الانتصار»أنّ الزهري نقله عن عمرو بن عثمان و لم يذكر علي بن الحسين،فالاختلاف في السند يوجب الطعن في الرواية. (3)

و رابعاً:أنّ أحمد بن حنبل ينقل عن مالك،عن الزهري،عن علي بن الحسين عليهما السلام عن عمرو بن عثمان،عن أُسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم«لا يرث المسلم الكافر» (4)من دون أن يرويه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،مباشرة و هذا أيضاً اختلاف و اضطراب في الرواية،يحطّ من الاعتماد عليها.

3.حديث عامر الشعبي

عن عامر الشعبي انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أبا بكر و عمر قالوا:لا يتوارث أهل دينين.

ص:337


1- 1) .مسند أحمد:208/5. [1]
2- 2) .سنن الدارمي:370/2.
3- 3) .نقله المرتضى في الانتصار،ص 590.
4- 4) .مسند أحمد:208/5. [2]

و لكن الرواية مرسلة،لأنّ الشعبي (1)ولد بالكوفة سنة 19ه و قيل:سنة 21ه،و رأى الإمام عليّاً و صلّى خلفه،فكيف ينقل عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ؟! و المعروف أنّ الشعبي كان من الموالين لبني أُميّة أعداء أهل البيت عليهم السلام،فكيف يمكن الاعتماد على روايته؟!

4.الاستدلال بالآثار المروية عن الصحابة

و قد استدلّ بالروايات الموقوفة على الصحابة من دون أن تسند إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هي كثيرة:

1.أخرج الدارمي عن عامر الشعبي،عن عمر قال:لا يتوارث أهل ملّتين. (2)

2.عن عامر انّ المغيرة بنت الحارث توفيت باليمن و هي يهودية،فركب الأشعث بن قيس و كانت عمّته إلى عمر في ميراثها،فقال عمر:

ليس ذلك لك،يرثها أقرب الناس منها من أهل دينها،لا يتوارث ملّتان. (3)

3.عن ابن سيرين،قال عمر بن الخطاب:لا يتوارث ملّتان شتّى و لا يحجب من لا يرث. (4)

يلاحظ على الاستدلال بهذه الآثار:أنّها موقوفات لم تسند إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فهي حجّة على أصحابها على أنّ قوله:«لا يتوارث أهل ملّتين»أو قوله:«لا يتوارث ملّتان شتّى»لا يصلح دليلاً على عدم توريث المسلم من الكافر،لما عرفت من أنّه يهدف إلى نفي التوارث،و يكفي في صدقه عدم توريث الكافر من المسلم.نعم فهم الخليفة و اضرابه،نفي الإرث من كلّ جانب ففهمهم حجّة على

ص:338


1- 1) .انظر موسوعة طبقات الفقهاء:414/1،برقم181. [1]
2- 2) .سنن الدارمي:369/2،370؛ [2]سنن البيهقي:218/6.
3- 3) .سنن الدارمي:369/2،370؛ [3]سنن البيهقي:218/6.
4- 4) .سنن الدارمي:369/2،370؛ [4]سنن البيهقي:218/6.

أنفسهم دون غيرهم.

و لذلك يمكن أن يقال:انّ الحرمان من كلا الطرفين كان سنّة للخليفة لمصلحة رآها،و ليس ذلك ببعيد،فإنّ له نظيراً غير هذا المورد.

أخرج مالك في موطّئه عن الثقة عنده انّه سمع سعيد بن المسيب يقول:أبى عمر بن الخطاب أن يورث أحداً من الأعاجم،إلاّ أحداً ولد في العرب. (1)

قال مالك:و إن جاءت امرأة حامل من أرض العدو و وضعته في أرض العرب،فهو ولدها يرثها إن ماتت و ترثه إن مات. (2)

و بذلك يعلم أنّ ما نسب إلى سعيد بن المسيب انّه قال:مضت السنّة أن لا يرث المسلم الكافر. (3)فلعلّ مراده من السنّة هو سنّة الخلفاء لا سنّة الرسول،و إلاّ لنسبها إليه صلى الله عليه و آله و سلم.

و أمّا ما رواه البيهقي في سننه عن مالك،عن يحيى بن سعيد،عن سعيد بن المسيب انّ عمر بن الخطاب قال:لا نرث أهل الملل و لا يرثونا. (4)

فهو مخدوش،لأنّ المعروف انّ سعيد بن المسيب ممّن يقول بالإرث،و قد نقله عنه غير واحد من الفقهاء.

و في الحاوي:و حكي عن معاذ بن جبل و معاوية انّ المسلم يرث الكافر و لا يرث الكافر المسلم،و به قال محمد بن الحنفية و سعيد بن المسيب و مسروق و النخعي و الشعبي و إسحاق بن راهويه. (5)

و نقله أيضاً النووي في شرح صحيح مسلم. (6)

ص:339


1- 1) .الموطأ:520/2،برقم 14. [1]
2- 2) .الموطأ:520/2،برقم 14. [2]
3- 3) .نقله المرتضى في الانتصار:589.
4- 4) .سنن البيهقي:219/6.
5- 5) .الحاوي:78/8.
6- 6) .شرح صحيح مسلم:52/11.

إلى هنا تمت دراسة أدلّة المانعين،و هي على أقسام:

1.غير تامّة دلالة،أعني:ما يركز على نفي التوارث بين المسألتين الذي يصدق بنفي الإرث من جانب الكافر فقط.

2.تامّة سنداً و دلالة،مثلما أخرجه البخاري،لكنّه خبر واحد لا يقاوم الكتاب.

3.غير تامّة سنداً كرواية عمرو بن شعيب،و قد عرفت ضعفها.

4.آثار موقوفة ليست حجّة إلاّ على أصحابها.

بقي للمانعين دليل آخر و حاصله:انّ الإرث من آثار الولاية،و لا ولاية بين الكافر و المسلم.

5.انقطاع الولاية بين الكافر و المسلم

استدلّ القائل بنفي التوريث مطلقاً بوجه آخر و هو انّه سبحانه قال: «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» فإنّ الآية بصدد بيان نفي الولاية من الكفّار و المسلمين،فإن كان المراد به الإرث فهو إشارة إلى أنّه لا يرث المسلم الكافر،و إن كان المراد به مطلق الولاية ففي الإرث الولاية لأحدهما على الآخر. (1)

و قال ابن حجر:إنّ التوارث يتعلّق بالولاية،و لا ولاية بين المسلم و الكافر،لقوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» . (2)

ص:340


1- 1) .المبسوط للسرخسي:30/30.
2- 2) .فتح الباري:50/12.
يلاحظ عليه بأمرين:

أوّلاً:بأنّ الإرث من آثار الولاية في العتق و ضمان الجريرة،فميراث المعتَق للمعتِق لأجل الولاء،و هكذا الأمر في ضمان الجريرة.

و أمّا الوراثة في غير هذين الموردين فلم يعلم أنّه من آثار الولاية،بل من آثار النسب و السبب.

و الذي يدلّ على ذلك انّ التوارث أمر عقلائي لا يختصّ بأصحاب الشرائع،بل يعمّ قاطبة البشر،و الملاك عند الجميع هو العلقة التكوينية بين أصحاب النسب أو الاعتبارية في السبب و وجود الولاية بين الوالد و الولد أو غيرهما و إن كان أمراً ثابتاً مع العلقة التكوينية،لكن ليس كلّ مقرون بها يكون موضوعاً للوراثة.

و الذي يوضح ذلك انّ الفقهاء يذكرون عند بيان أسباب الإرث،السبب و النسَب مقابل الولاء. أسباب ميراث الورى ثلاثة

و ثانياً:أنّ كون الولاية هي السبب للميراث يخالف ما عليه الحنفية و من تبعهم من أنّ المسلم،يرث المرتد مع انقطاع الولاية بين المسلم و المرتد.

قال النووي في شرح المهذب:قال أبو حنيفة و الثوري:ما اكتسبه قبل الردة ورث عنه،و ما اكتسب بعد الردة يكون فيها. (1)

و قال النووي في شرح صحيح مسلم:أمّا المسلم فلا يرث المرتد عند

ص:341


1- 2) .المجموع:57/17.

الشافعي و مالك و ربيعة و ابن أبي ليلى و غيرهم،بل يكون ماله فيئاً للمسلمين.

و قال أبو حنيفة و الكوفيون و الأوزاعي و إسحاق:يرثه ورثته من المسلمين،و روي ذلك عن علي و ابن مسعود و جماعة من السلف. (1)

و قال في الشرح الكبير عن أحمد ما يدلّ على أنّ ميراث المرتد لورثته من المسلمين،يروى ذلك عن أبي بكر الصديق و علي و ابن مسعود(رض)،و به قال سعيد بن المسيب و جابر بن زيد و الحسن و عمر بن عبد العزيز و عطاء و الشعبي و الحكم و الأوزاعي و الثوري و ابن شبرمة و أهل العراق و إسحاق. (2)

و من غريب القول:إنّ المسلم لا يرث الكافر و لكن الكافر يرث عتيقه المسلم،و هو منقول عن أحمد كما في الموسوعة الفقهية. (3)

و نكتفي بهذا المقدار من البحث،و لعلّ فيه غنى و كفاية لمن ألقى السمع و هو شهيد،و أمّا الكلام في الفروع الأُخرى،أعني:

1.حجب المسلم الكافر.

2.إذا أسلم الكافر قبل القسمة و بعدها.

3.اشتراط عدم حجب المسلم الكافر في عقد الذمّة.

فنحيل الكلام فيها إلى مجال آخر،فإنّ هذه الفروع اختلفت فيها كلمة الفريقين بخلاف الفرع الأوّل،فجماهير أهل السنّة على المنع و الإمامية على الجواز،و قد دام هذا الخلاف إلى يومنا هذا،و لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً.

ص:342


1- 1) .شرح النووي لصحيح مسلم:52/11.
2- 2) .المغني:167/7.
3- 3) .الموسوعة الفقهية:25/3،مادة إرث نقله عن العذب الفائض:31/1.

5

إلماع إلى تاريخ أُصول الفقه

(1)

لم يكن علم الأُصول بمحتواه أمراً مغفولاً عنه عند الشيعة الإمامية،فقد أملى الإمامان الباقر و الصادق عليهما السلام على أصحابهما قواعد كلية في الاستنباط و رتّبها بعض الأصحاب على ترتيب مباحث أُصول الفقه،نظير:

1.«الفصول المهمة في أُصول الأئمّة»للشيخ الحر العاملي (المتوفّى عام 1104ه).

2.«الأُصول الأصلية»للسيد عبد اللّه شبر (المتوفّى 1242ه).

3.«أُصول آل الرسول»للسيد الشريف هاشم الخوانساري (المتوفّى عام 1318ه).

ثمّ إنّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام لمسوا ضرورة تدوين أُصول الفقه،فألّفوا في ذلك رسائل مختصرة نظير:

1.«اختلاف الحديث و مسائله»ليونس بن عبد الرحمن(المتوفّى عام 208ه).

2.كتاب«الخصوص و العموم»،و«الأسماء و الأحكام»،و«إبطال القياس»،

ص:343


1- 1) .إلماعة عابرة بتاريخ علم الأُصول و قد بسطنا الكلام فيه في مقدمة الجزء الأوّل من كتاب«الوسيط في أُصول الفقه». [1]

لشيخ المتكلّمين إسماعيل بن علي النوبختي(المتوفّى عام 311ه).

3.«خبر الواحد و العمل به»لحسن بن موسى النوبختي ابن أُخت إسماعيل بن علي النوبختي.

لم تكن هذه الكتب جامعة لعامة المسائل الأُصولية و إنّما اقتصرت على بعض المواضيع الأساسية،و لمّا وصلت النوبة إلى شيخ الأُمّة محمد بن محمد بن النعمان المشهور بالمفيد (336- 413ه) ألّف رسالة«التذكرة بأُصول الفقه» (1)،ثمّ تبعه تلميذه البارع السيد الشريف المرتضى (355- 436) فألّف كتابه الكبير«الذريعة»و فرغ منه سنة 400 أو 430ه.

ثمّ أعقبه تلميذه الفقيه الشيخ سلاّر الديلمي (المتوفّى م 448ه) فألّف كتاب«التقريب في أُصول الفقه»،كما تلاه الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (385- 460) فألف كتابه«العدة في أُصول الفقه»و قد طبع غير مرة.

فهذه الكتب هي النواة الأُولى لتقرير أُصول الفقه في القرون اللاحقة،و قد ألّفت عامة تلك الكتب في القرن الخامس،غير ما ألّفه المفيد، فانّه من المحتمل انّه ألّفه في مختتم القرن الرابع.

قام الفقيه البارع في القرن السادس المعروف بابن زهرة الحلبي (511- 585) بتأليف كتاب أسماه«غنية النزوع إلى علمي الأُصول و الفروع»فخص الجزء الأوّل منها بالأُصولين.

و تلاه سديد الدين الشيخ محمود الحمصي (الذي كان حيّاً عام 581ه فتألّف«المصادر في أُصول الفقه»و هو من أقطاب الكلام و الأُصول في القرن السادس.

ص:344


1- 1) .و قد طبعت ضمن مصنفاته التي طبعها المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى الألفية على وفاة المفيد،انظر الجزء:5/9 و لخصها الكراجكي في كتابه كنز الفوائد.

كما ألّف-في القرن السابع-نجم الدين المعروف بالمحقّق الحلي(602-676ه) كتاب«المعارج في أُصول الفقه»،و تلاه كتاب آخر باسم«نهج الوصول إلى علم الأُصول»و قد طبع الأوّل دون الثاني.

و قام بعده ابن أخته،العلاّمة على الإطلاق الحسن بن يوسف(648- 726ه) بتأليف كتب بين الإيجاز و الإسهاب فألّف«مبادئ الوصول إلى علم الأُصول»و قد طبع في ذيل المعارج للمحقّق و هو في غاية الإيجاز،و أردفه ب«تهذيب الوصول إلى علم الأُصول»و هو أبسط من الأوّل، كما ألّف«نهاية الوصول إلى علم الأُصول»و هي موسوعة أُصولية في عصره لم ير النور إلى يومنا هذا.

و قد تتابع التأليف بين علماء الشيعة الإمامية في أُصول الفقه من القرن السابع إلى القرن العاشر غير انّه لم يستمر على هذا المنوال،بل أُصيب في أوائل القرن الحادي عشر بنكسة لأجل ظهور الحركة الأخبارية على يد الشيخ محمد أمين الاسترآبادي (المتوفّى عام 1033ه) حيث شنَّ حملة شعواء على الأُصول و الأُصوليين و زيّف مسلك الاجتهاد المبني على القواعد الأُصولية،و قد أوجدت الحركة الأخبارية فجوة شاسعة في مواقف علماء الإمامية،فمن مندّد بالأخبارية إلى مؤيد لها،و دام ذلك النزاع قرابة قرنين إلى أن ظهر المحقّق البهبهاني (1118- 1206ه) و استطاع بردوده القاطعة و براهينه الساطعة أن يشيد للأُصول أركاناً جديدة و يجمع الجميع على صراط واحد،فهو يعد من مجدّدي الاجتهاد و الأُصول في أواخر القرن الثاني عشر و أوائل القرن الثالث عشر.

ثمّ إنّه قدَّس سرَّه ربى جيلاً كبيراً أغنوا المباحث الأُصولية بأفكارهم النيرة،منهم:

1.الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء(1156- 1228) مؤلف«كشف

ص:345

الغطاء».فقد طرح في مقدمته المسائل الأُصولية و أبدى فيها آراءه.

2.المحقّق أبو القاسم القمي(1115- 1231ه) مؤلف«قوانين الأُصول».

3.السيد علي الطباطبائي(1161- 1231ه).

ثمّ جاء دور الجيل الثاني من تلاميذ تلاميذ المحقّق البهبهاني،منهم:

1.الشيخ محمد تقي الاصفهاني (المتوفّى عام 1248ه) صاحب«الحاشية على المعالم».

2.شقيقه الشيخ محمد حسن بن عبد الرحيم الاصفهاني(المتوفّى عام 1261ه) صاحب كتاب«الفصول في علم الأُصول».

و قد بلغ ذلك العلم في عصر المحقّق الشيخ مرتضى الأنصاري (1214- 1281) ذروة السنام،فقد صارت مصنفاته في الفقه و أُصوله محور الدراسة و تداول العلماء ابتكاراته و أفكاره بالبحث و النقاش.

ثمّ جاء دور تلاميذ الشيخ الأنصاري الذين نشروا أفكاره بعد ان استوعبوها و زادوا عليها ما جادت به أذهانهم من ابتكارات نشير إلى أسماء بعضهم:

1.السيد المجدد الشيرازي(1224- 1312ه).

2.المحقّق الكبير الشيخ محمد كاظم الخراساني(1255- 1329ه) مؤلف كفاية الأُصول.

3.المحقّق البارع الميرزا حسين النائيني(1274- 1355ه) و قد نشر تلاميذه أفكاره و آراؤه.

4.الشيخ المحقّق ضياء الدين العراقي (1278- 1361ه) صاحب كتاب«المقالات في علم الأُصول».

5.الشيخ المحقّق محمد حسين الاصفهاني (1296- 1361ه) مصنف

ص:346

كتاب«نهاية الدراية في التعليقة على الكفاية».

6.الشيخ عبد الكريم الحائري(1274- 1355ه) مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة و مؤلف كتاب«درر الفوائد».

7.السيد المحقّق حسين البروجردي (1292- 1380ه).صاحب التعليقة على الكفاية.

8.أُستاذنا الجليل الفقيه و الأُصولي البارع السيد محمد الحجّة الكوهكمري (1301- 1372ه) و دوّن دروسه تلميذه المحقّق:الحاج آقا علي الصافي دامت بركاته و قد طبع و انتشر.

9.المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي (1317- 1411ه).فقد دونت أفكاره عبر تلاميذه،و يعد صاحب مدرسة أُصولية متميزة.

أخيرهم لا آخرهم أُستاذنا الكبير المحقّق الإمام السيد روح اللّه الموسوي الخميني (1320- 1409ه) فقد ساهم في تطوير الأُصول مساهمة فعالة،و قد قمنا بتدوين آرائه و أفكاره فيه نشرت باسم«تهذيب الأُصول»كما أنّه قدَّس سرَّه برز من قلمه الشريف كتاب«مناهج الوصول إلى علم الأُصول».

هذه إشارة عابرة إلى تاريخ علم الأُصول،و أرفع آيات الاعتذار إلى المشايخ الذين لعبوا دوراً فعّالاً في تصعيد نشاط الحركة الأُصولية لكن ضيق المجال عاق عن الإشارة إلى أسمائهم و آثارهم.

و قد استغنى بعض الفقهاء عن الخوض في المسائل الأُصولية على نحو الاستقلال من خلال إدراج أُمّهات المسائل في طيات كتبهم الفقهية،كما هو الحال عند ابن زهرة (511- 585ه) في«الغنية»،و الشيخ يوسف البحراني(المتوفّى عام 1186ه) في«الحدائق»،و الشيخ كاشف الغطاء(المتوفّى عام 1228ه) في«كشف الغطاء»و غيرهم قدّس اللّه أسرارهم.

ص:347

ص:348

الفصل الثالث:في الحديث

اشارة

1.الحجّة الغراء على شهادة الزهراء عليها السلام

2.دراسة لسند زيارة عاشوراء

ص:349

ص:350

1

اشارة

المقالة الاولى:لحجّة الغراء على شهادة الزهراء عليها السَّلام

هبّت رياح الفتن عُقْبَ وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم على المسلمين و غُربِلُوا غربالاً شديداً حتّى تميز المؤمن الراسخ في عقيدته،عن المنافق الذي تستر بواجهة الإسلام،و صدق قوله سبحانه:

«وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ». 1

و قد أسفرت هذه الفتن المحدقة بالمسلمين عن ظهور العُقَد و الضغائن الكامنة حيال أهل بيت النبوة عليهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيراً و في طليعتهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام المنصوص على خلافته في غير موضع من المواضع. (1)

ص:351


1- 2) .منها:يوم الدار بعد نزول قوله سبحانه:«وَ أَنْذِرْ عَشيرتَكَ الأَقْرَبين»(الشعراء:214). و منها:يوم مغادرته المدينة صوب تبوك فقال لعلي:«أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي». و منها يوم الغدير الذي أبلغ فيه المسلمين برمتهم إمامة علي و خلافته بعد رحيله في محتشد عظيم لا ينكر.فراجع في تفاصيله إلى الكتب المؤلفة في هذا الموضوع.

فقد كان اللازم على المسلمين التمسّك باهداب وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم في تعيين أمير المؤمنين خليفة عليهم بعد رحيله،و الاستظلال تحت رايته،و الاحتراز عن الخلافات التي كانت تهدِّد كيان الدولة الإسلامية الفتيّة التي لا تزال بعد مهددة بأخطار جسيمة على الصعيد الداخلي و الخارجي.

أمّا الداخلي فحزب النفاق الذي كان ينشر بذور العداء و الشحناء في صفوف المسلمين بُغية نيل مآربه و هي الإطاحة بالدولة الإسلامية و القضاء على زعيمها النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و كان يترصّد بالمسلمين الدوائر للانقضاض عليهم،و ما برح على هذا النحو حتى قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نحبه و اختاره اللّه لجواره.

و من غريب الأمر أن يمدّ أبو سفيان يده للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام للبيعة-و هو يجهز النبي صلى الله عليه و آله و سلم للدفن-قائلاً:

«و اللّه إنّي لأرى عجاجة لا يُطفئها إلاّ دم،يا آل عبد مناف فيما أبو بكر من أُموركم،أين المستضعفان أين الأذلاّن:علي و العباس،و قال:يا أبا حسن أبسط يدك حتى أُبايعك».

فأبى علي عليه و زجره و قال:

«إنّك و اللّه ما أردت بهذا إلاّ الفتنة و انّك و اللّه طال ما بغيت الإسلام شرّاً لا حاجة لنا في نصيحتك». (1)

و كان علي عليه السلام واقفاً على خبث سريرته و سوء باطنه،و أنّه و أتباعه من المنافقين بصدد الانقضاض على الإسلام و القضاء عليه لو سُنِحت لهم الفرص.

إنّ حزب النفاق الذي أعرب سبحانه عن مدى خطورتهم على الإسلام من خلال كثرة الآيات الواردة التي تفضح خططهم،و ما زالوا بوفرة في المدينة و حولها

ص:352


1- 1) .تاريخ الطبري:449/2، [1]حوادث سنة11ه.

متربّصين بالإسلام الدوائر.

هذا هو الخطر الداخلي و أمّا الخارجي فقد كان خطر الروم يهدّد كيان الإسلام،و كانت تربطه بحزب النفاق روابط وثيقة،و لم يكن هجومه على المدينة أمراً بعيداً عن الأذهان و لم يغب عن بال النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطرُهم حتى على فراش الموت فكان يوصي أصحابه بالانضواء تحت لواء أُسامة بن زيد بغية المسير إلى ثغورهم،و كان يُلحّ عليهم بالذهاب كلّما أفاق من مرضه و يلعن من تخلّف عنه و يقول:

«جهّزوا جيش أُسامة لعن اللّه من تخلّف عنه». (1)

و ثمّة عامل ثالث كان محطَّ إثارة قلق لكلّ من ينبض قلبه للإسلام،و هو طروء روح العصيان على القبائل المجاورة للمدينة حيث كانوا على عتبة الارتداد من أجل التخلّف عن أداء الزكاة و دفع الضرائب للحكومة المركزية.

هذه العوامل الثلاثة التي تكفي واحدة منها في إثارة القلق و الاضطراب صارت سبباً لغض الإمام علي عليه السلام عن حقه و سكوته أمام المؤامرات التي حيكت في السقيفة،فلو كان الإمام مصرّاً على تسنّم منصة الخلافة و خوض غمار الحرب من أجل الوصول إلى هدفه،فليس من البعيد أن تتاح الفرصة للمنافقين للتصيّد بالماء العكر،و بالتالي هجوم الروم على المدينة و محو الإسلام،و قد نوه الإمام بهذه الأُمور العصيبة الداعية إلى السكوت في بعض خطبه،و قال:

«فو الله ما كان يُلقى في روعي،و لا يخطر ببالي،انّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه و آله و سلم عن أهل بيته،و لا أنّهم مُنحّوه عني ممّا بعده! فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه،فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام،يدعون

ص:353


1- 1) .الشهرستاني:الملل و النحل:23/1؛ [1]ابن أبي الحديد:شرح نهج البلاغة:20/2،ط مصر.

إلى محق دين محمد صلى الله عليه و آله و سلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله ان أرى فيه ثلماً أو هدماً،تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما كان،كما يزول السراب،أو كما يتقشع السحاب،فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل و زهق، و اطمأنّ الدين و تنهنه». (1)

إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان ينظر بنور اللّه و قد تنبّأ في بعض كلامه بالأخطار التي كانت تحدق بعلي عليه السلام و أهل بيته بعد رحيله.

أخرج الحاكم في مستدركه انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لعلي عليه السلام:أما أنت ستلقى بعدي جهداً،قال علي عليه السلام:في سلامة من ديني؟،قال:في سلامة من دينك. (2)

و أخرج المحب الطبري انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لعلي عليه السلام:«ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلاّ من بعدي». (3)

و في كلام آخر للنبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا علي انّك ستبتلى بعدي فلا تقاتلن». (4)

و هذه الروايات تعرب عن أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان عالماً بتضافر الأُمّة على هضم حقوق الإمام عليه السلام و لذلك أوصاه بالصبر و المثابرة دون أن يتعرض للقوم بعنف.

السقيفة و الحوادث التي رافقتها

اشارة

ابتدرت الأنصار إلى عقد مؤتمر السقيفة للتباحث فيمن يلي أمر الحكومة بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم و كان على رأسهم سعد بن عبادة و عشيرته.

ص:354


1- 1) .نهج البلاغة،من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر،برقم 62. [1]
2- 2) .مستدرك الحاكم:130/3 و صحّحه الذهبي أيضاً.
3- 3) .محب الدين الطبري:الرياض النضرة:210/2. [2]
4- 4) .كنز الدقائق:للمناوي:188.

و لكن ثمة سؤال يطرح نفسه و هو ما هي الدواعي التي حدت بهم إلى عقد السقيفة في وقت مبكِّر؟

و للإجابة عنه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثمة مخاوف كانت تساور الأنصار حيال المهاجرين،ذلك انّهم قتلوا جمّاً غفيراً من أرحام المهاجرين في معارك بدر و أُحد،و كانوا يخافون من اعتلاء المهاجرين منصَّة الحكم،و ممارستهم الظلم و الاضطهاد في حقّهم انتقاماً لما بدر منهم.فهذه المخاوف حدت بهم إلى عقد مؤتمر بغية تعيين الخليفة من بينهم ليكون لهم الشوكة و المنعة من الحوادث المريرة التي ربما يُتعرضون لها على يد المهاجرين.

فاجتمعت قبائل الأوس و الخزرج في سقيفة بني ساعدة،و قام سعد بن عبادة رئيس الخزرج ينشد فضائل الأنصار و يقول:

يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين و فضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب انّ محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم لبث بضعة عشر سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن و خلع الأنداد و الأوثان،فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل و ما كان يقدرون على أن يمنعوا رسول اللّه و لا أن يُعزّوا دينَه و لا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً و عمُّوا به،حتّى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة و خصّكم بالنعمة،فرزقكم اللّه الإيمان به و برسوله، و المنع له و لأصحابه و الإعزاز له و لدينه و الجهاد لأعدائه،فكنتم أشدّ الناس على عدّوه منكم و أثقله على عدوه من غيركم،حتى استقامت العرب لأمر اللّه طوعاً و كرهاً،و أعطى البعيد المقاد صاغراً داخراً حتى اثخن اللّه عزّ و جلّ رسوله بكم الأرض و دانت بأسيافكم له العرب و توفّاه اللّه و هو عنكم

ص:355

راضٍ و بكم قرير عين،استبدّوا بهذا الأمر دون الناس. (1)

كان سعد بن عبادة يخطب في سقيفة بني ساعدة و المهاجرون كلّهم حيارى يتشاورون في تعيين مثوى النبي صلى الله عليه و آله و سلم و كيفية تجهيزه و تغسيله و الصلاة عليه،فإذا بنفرين أحدهما معن بن عدي،و الآخر عويم بن ساعدة يتكلّمان مع أبي بكر و يهمسان في أُذنه بأنّ الأنصار اجتمعوا في سقيفة بين ساعدة لتعيين الخليفة،فعندئذٍ اعتزل أبو بكر و عمر و أبو عبيدة عن جماعة المهاجرين دون أن ينبسوا ببنت شفة و يخبروهم عن مقصدهم و مآربهم حتى جاءوا سقيفة بني ساعدة و سعد على بساط متكئاً على وسادة و هو يخطب،فأراد عمر أن يتكلّم،فنهاه أبو بكر و تكلم و قال:

نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً و أكرمهم أحساباً و أوسطهم داراً و أحسنهم وجوهاً و أمسهم برسول اللّه رحماً،و أنتم إخواننا في الإسلام و شركاؤنا في الدين نصرتم فواسيتم فجزاكم اللّه خيراً،فنحن الأُمراء و أنتم الوزراء. (2)

و مع أنّ سعد بن عبادة و أبا بكر قد خطبا و ذكر كلّ مالهم من فضل و كرامة،و لكن يقع السؤال انّه لما ذا تم الاقتراع و خرجت القرعة باسم أبي بكر؟!

و الجواب انّ بشير بن سعد ابن عم سعد بن عبادة قد حسد ابن عمه و رأى انّه على قاب قوسين أو أدنى من الخلافة و الرئاسة ألقى خطاباً لصالح قريش و طلب من الأنصار التخلّي عن دعواهم في الخلافة،فقال:

يا معشر الأنصار انّا و اللّه لئن كنّا أولى فضيلة في جهاد المشركين و سابقة في هذا الدين ما أردنا به إلاّ رضا ربنا و طاعة نبيّنا...إلى

ص:356


1- 1) .تاريخ الطبري:455/2 -456. [1]
2- 2) .العقد الفريد:86/4. [2]

أن قال:ألا انّ محمّداً من قريش و قومه أحقّ به و أولى،و أيم اللّه لا يراني اللّه أنازعهم هذا الأمر أبداً فاتقوا اللّه و لا تخالفوهم و لا تنازعوهم.

ثمّ قام فبايع أبا بكر:

و لقد تنبأ الحباب بن منذر لما دعاه إلى هذه البيعة،فخاطبه و قال:«يا بشير بن سعد عققت عقاقي ما أحوجك إلى ما صنعت،أ نَفِسْت على ابن عمك الإمارة». (1)

ثمّ رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد،و ما تدعوا إليه قريش و ما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة،قال بعضهم لبعض:و اللّه لئن وليتها الخزرج عليكم مرّة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة،فقام رئيسهم أُسيد بن حضير فبايع أبا بكر،و صار ذلك سبباً لبيعة عشيرته واحداً تلو الآخر،فأنكر على سعد بن عبادة و على الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم.

و قد اكتفى أبو بكر ببيعة الأوس فخرجوا من السقيفة قاصدين المسجد يأخذون البيعة من كلّ من رأوه في الطريق إلى أن وصلوا إلى المسجد. (2)

دع ما وقع في السقيفة من صخب و هياج و ضرب و شتم،فانّ الحديث ذو شجون.

و قد أخذت البيعة طوعاً و كرهاً و علي عليه السلام و أهل بيته يجهزون النبي صلى الله عليه و آله و سلم و يا ليت الخليفة و أتباعه اكتفوا بما وقع و لكنّهم حاولوا أخذ البيعة من علي و أهل بيته بالقوة و العنف و التهديد،و ذلك عند ما اجتمع رجال من بني هاشم في بيت علي معترضين على هذا النوع من البيعة.

ص:357


1- 1) .تاريخ الطبري:457/2- 458. [1]
2- 2) .انظر تاريخ الطبري:459/2.

و هناك ظهرت حوادث مريرة للغاية،و قد سكت قسم من المؤرخين عن سردها خوفاً و رهبة أو تزلّفاً و طمعاً.

و هناك من أخذته الحمية في الدين فسجلوا تلك الوقائع بنحو موجز،و هم على قسمين:

أ.من اقتصر على ما دار بين علي و البيت الهاشمي مع عمر من مناشدات و احتجاجات و تهديدات.

ب.من أزاح الستار عما قام به عمر بن الخطاب من أخذ البيعة بالعنف حتى انتهى الأمر إلى إحراق الباب و كسره و ما تلاه من حوادث.

فها نحن نذكر كلمات كلا الفريقين ليعلم أنّ حديث الباب و شهادة بنت المصطفى من جرّاء تلك القلاقل ليست أُسطورة تاريخية و إنّما هي حقيقة تاريخية.

***

قد قرأت في هذه الأيّام مقالاً لبعض الكتاب الجُدد،نقل فيه شيئاً من فضائل الزهراء عليها السَّلام ليكون ذريعة لما يريد إثباته و هو انّ شهادة الزهراء عليها السَّلام أُسطورة تاريخية لا نصيب لها من الحقيقة،و من أمعن في المقال يقف على أنّ الكاتب لا خبرة له في التاريخ،و قد جرّه رأيه المسبق إلى إنكار الحقيقة الساطعة،و لأجل ذلك ارتأينا أن نضع امام القارئ مصادر متقنة تُثبت شهادتها و هتك حرمتها.

و يدور بحثنا حول محاور ثلاثة:

ص:358

الأوّل:عصمة الزهراء عليها السَّلام في لسان النبي.

الثاني:المكانة الرفيعة لبيت الزهراء عليها السَّلام في القرآن و السنّة.

الثالث:الحوادث المريرة التي جرت عليها عقب وفاة أبيها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم.

الأوّل:عصمة الزهراء عليها السَّلام في لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم

حظيت الزهراء عليها السَّلام بمقام رفيع عند الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،حتّى قال صلى الله عليه و آله و سلم في حقّها:

«فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها فقد أغضبني». (1)

إنّ إغضاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم يستعقب إيذاءه،و من آذاه فقد حكم عليه بالعذاب الأليم،قال سبحانه:

«وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ». 2

و في رواية أُخرى،بين انّ غضب الزهراء عليها السَّلام و رضاها يوجب غضب اللّه سبحانه و رضاه،فقال:

«يا فاطمة إنّ اللّه يغضب لغضبك و يرضى لرضاك». (2)

فأية مكانة شامخة للزهراء عليها السَّلام حتّى صار غضبها و رضاها ملاكاً لغضبه سبحانه و رضاه،و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عصمتها،فهو سبحانه بما انّه عادل و حكيم لا يغضب إلاّ على الكافر و العاصي،و لا يرضى إلاّ على المؤمن و المطيع.

ص:359


1- 1) .فتح البارى في شرح صحيح البخاري:84/7،و أيضاً صحيح البخاري:491/6،باب علامات النبوة،و البخاري:110/8،باب المغازي.
2- 3) .مستدرك الحاكم:154/3؛مجمع الزوائد:203/9،و قد استدرك الحاكم في كتابه الأحاديث الصحيحة حسب شروط البخاري و مسلم و لكن لم يخرجاه.و على ذلك فهذا الحديث صحيح عند الشيخين و هو متفق عليه.

و في ظل تلك الكرامة أصبحت في لسان النبي صلى الله عليه و آله و سلم سيدة نساء العالمين،فقال صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا فاطمة أ لا ترضين أن تكوني سيّدة نساء العالمين،و سيّدة نساء المؤمنين،و سيدة نساء هذه الأُمّة». (1)

و على الرغم من أنّ الزهراء عليها السَّلام معصومة لا تعصي و لا تذنب،و لكنّها ليست بنبيّة،إذ لا ملازمة بين العصمة و النبوة،و هذه هي مريم البتول العذراء فهي معصومة بنصّ الكتاب الحكيم لكنّها ليست بنبية.

امّا انّها معصومة،فلقوله سبحانه في حقّها:

«وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ». 2

فانّ الإخبار عن تطهير مريم بعد اصطفائها دليل على تطهيرها من الذنوب و مخالفة شريعة زمانها.

و أمّا انّها ليست بنبية فأمر واضح لا يحتاج إلى بيان.فلتكن بنت خاتم الرسل سيّدة نساء العالمين،كمريم البتول معصومة غير نبيّة.

و لنقتصر في بيان فضائل الزهراء عليها السَّلام بهذا القدر اليسير،فانّ استيفاء البحث فيها بحاجة إلى تصنيف مفرد.

ص:360


1- 1) .المستدرك للحاكم:156/3.
الثاني:المكانة الرفيعة لبيت الزهراء عليها السَّلام في القرآن و السنّة

نزل قوله سبحانه: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» 1 على قلب سيد المرسلين و هو صلى الله عليه و آله و سلم في المسجد الشريف،فقام إليه رجل فقال:أي بيوت هذه يا رسول اللّه؟ قال:بيوت الأنبياء،فقام إليه أبو بكر،فقال:يا رسول اللّه:أ هذا البيت منها؟-مشيراً إلى بيت علي و فاطمة عليهما السلام-قال:نعم،و من أفاضلها».

فقوله سبحا (1)نه: «فِي بُيُوتٍ» ظرف لما تقدمه من قوله «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ...» 3 فالنور الذي نوهت به الآية بما له من صفات،مصدر إشعاعه هذه البيوت التي أذن اللّه أن ترفع،فكيف لا يكون لها منزلة و كرامة.

قال السيوطي:أخرج الترمذي و صححه،و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه،و ابن مردويه،و البيهقي في سننه من طرق عن أُمّ سلمة (رضي اللّه عنها) قالت:في بيتي نزلت: «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ» و في البيت فاطمة،و علي و الحسن،و الحسين عليهم السلام،فجلّلهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكساء كان عليه،ثمّ قال:هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً.

و قال أيضاً:و أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و حسنه،و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أنس:انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

ص:361


1- 2) .الدر المنثور:303/6، [1]تفسير سورة النور؛روح المعاني:174/18. [2]

كان يمرّ بباب فاطمة عليها السَّلام إذا خرج إلى صلاة الفجر،و يقول:«الصلاة يا أهل البيت الصلاة «إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» . (1)

فإذا كانت هذه منزلة البيت و كرامته عند اللّه،فيعد اقتحامه و كشفه من أكبر الذنوب و أقبحها.

لكن لم تُراعَ وصية النبي صلى الله عليه و آله و سلم في احترام هذا البيت و أهله،

الثالث الحوادث المريرة التي جرت عليها عقب وفاة أبيها

و شهد حوادث مريرة تعرض لها جمع من المؤرخين و المحدّثين ننقل نصّ أقوالهم حسب التسلسل الزمني.

ص:362


1- 1) .الدر المنثور:605/6،ط دار [1]الفكر،بيروت؛المصنف:527/7. [2]

1.ابن أبي شيبة و المصنف

2.البلاذري و كتاب الأنساب

3.ابن قتيبة و الإمام و السياسة

4.الطبري و تاريخه

5.ابن عبد ربّه و العقد الفريد

6.ابن عبد البر و الاستيعاب

7.ابن أبي الحديد و شرح نهج البلاغة

8.أبو الفداء و المختصر في تاريخ البشر

9.النويري و نهاية الارب في فنون الأدب

10.السيوطي و مسند فاطمة

11.المتقي الهندي و كنز العمال

12.الدهلوي و إزالة الخفاء

13.محمد حافظ إبراهيم و القصيدة العمرية

14.عمر رضا كحالة و أعلام النساء

ص:363

ص:364

أقوال المؤرخين و المحدثين

1.ابن أبي شيبة و«المصنف»
اشارة

أخرج عبد اللّه بن محمد بن أبي شيبة الكوفي العبسي(المتوفّى سنة 235) في كتابه«المصنف»المطبوع،في الجزء الثاني في باب«ما جاء في خلافة أبي بكر و سيرته في الردة»أخرج،و قال:حدّثنا محمد بن بشر،حدّثنا عبيد اللّه بن عمر،حدّثنا زيد بن أسلم،عن أبيه أسلم،انّه حين بويع لأبي بكر بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان علي و الزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيشاورونها و يرتجعون في أمرهم،فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتّى دخل على فاطمة،فقال:

يا بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ! و اللّه ما من أحد أحبّ إلينا من أبيك،و ما من أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك،و أيم اللّه ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك،أن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت،قال:فلما خرج عمر جاءوها،فقالت:تعلمون انّ عمر قد جاءني و قد حلف باللّه لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت،و أيم اللّه ليمضين لما حلف عليه،فانصرفوا راشدين،فروا رأيكم و لا ترجعوا إلي،فانصرفوا عنها فلم يرجعوا إليها حتّى بايعوا لأبي بكر. (1)

إنّ الاحتجاج بهذا الحديث رهن وثاقة المؤلف و رواته،فلنبدأ بدراسة

ص:365


1- 1) .المصنف:572/8،ط دار الفكر،بيروت،تحقيق و تعليق سعيد محمد اللحام.

سيرتهم.

أمّا ابن أبي شيبة،فكفى في وثاقته ما ذكره الذهبي في«ميزان الاعتدال»حيث قال:

عبد اللّه بن محمد بن أبي شيبة الحافظ الكبير،الحجة،أبو بكر.حدث عن أحمد بن حنبل،و البخاري،و أبي القاسم البغوي،و الناس و وثقه جماعة.

ثمّ قال:أبو بكر«يريد به أبو شيبة»،ممّن قفز القنطرة،و إليه المنتهى في الثقة،مات في أوّل سنة 235. (1)

هذا حال المؤلف،و أمّا حال الرواة فلنبدأ بالأوّل فالأوّل:

محمد بن بشر

يعرفه ابن حجر العسقلاني،بقوله:محمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار الحافظ العبدي،أبو عبد اللّه الكوفي.

وثقه ابن معين،و عرفه أبو داود بأنّه أحفظ من كان بالكوفة،قال البخاري و ابن حبان في الثقات:مات سنة 203.

ثمّ نقل توثيق الآخرين له. (2)

عبيد اللّه بن عمر

يعرفه ابن حجر العسقلاني،بقوله:عبيد اللّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي،العمري،المدني،أبو عثمان أحد الفقهاء السبعة،و قد توفّي عام 147ه.

ص:366


1- 1) .ميزان الاعتدال:490/2،رقم 4549.
2- 2) .تهذيب التهذيب:73/9، [1]رقم الترجمة90.

قال عمرو بن علي:ذكرت ليحيى بن سعيد قول ابن مهدي:إنّ مالكاً أثبت من نافع عن عبيد اللّه،فغضب و قال:قال أبو حاتم عن أحمد:

عبيد اللّه أثبتهم و أحفظهم و أكثرهم رواية.

قال ابن معين:عبيد اللّه من الثقات.

و قال النسائي:ثقة،ثبت.

و قال أبو زرعة و أبو حاتم:ثقة.

إلى غير ذلك من كلمات الإطراء. (1)

زيد بن أسلم العدوي

عرفه ابن حجر العسقلاني،و قال:زيد بن أسلم العدوي،أبو أُسامة،و يقال:أبو عبد اللّه المدني،الفقيه،مولى عمر،وثّقه أحمد و أبو زرعة و أبو حاتم و محمد بن سعد،و ابن خراش.

و قال يعقوب بن شيبة:ثقة،من أهل الفقه و العلم،و كان عالماً بتفسير القرآن،مات سنة 136. (2)

أسلم العدوي

أسلم العدوي،مولاهم أبو خالد،و يقال أبو زيد،غير انّه حبشي،و قيل من سبي عين التمر،أدرك زمن النبي و روى عن أبي بكر،و مولاه عمر،و عثمان و ابن عمر،و معاذ بن جبل،و أبي عبيدة،و حفصة.

قال العجلي:مدني،ثقة،من كبار التابعين.

ص:367


1- 1) .تهذيب التهذيب:38/7- 40، [1]رقم الترجمة71.
2- 2) .تهذيب التهذيب:396/3، [2]رقم الترجمة727.

و قال أبو زرعة:ثقة.

و قال أبو عبيد:توفي سنة ثمانين.

و قال غيره:هو ابن مائة و أربعة عشرة سنة. (1)

و قد اكتفينا في ترجمة رجال السند بما نقله ابن حجر العسقلاني،و لم نذكر ما ذكره غيره في حقّهم روماً للاختصار.

فتبين من هذا البحث انّ الرواية صحيحة،و الاسناد في غاية الصحّة.

2.البلاذري و«الأنساب»
اشارة

إنّ أحمد بن يحيى بن جابر البغدادي،الكاتب الكبير،صاحب التاريخ المعروف،نقل الحادثة المريرة في كتابه و قال:في ضمن بحث مفصل عن أمر السقيفة:

لما بايع الناس أبا بكر اعتذر علي و الزبير،إلى أن قال:إنّ أبا بكر أرسل إلى علي يريد البيعة،فلم يبايع،فجاء عمر و معه فتيلة،فتلقته فاطمة على الباب،فقالت فاطمة:يا ابن الخطاب،أتراك محرقاً عليّ بابي؟ قال:نعم،و ذلك أقوى فيما جاء به أبوك. (2)

و الاستدلال بالرواية رهن وثاقة المؤلف و من روى عنهم،فنقول:

أمّا المؤلف فقد وصفه الذهبي في كتاب«تذكرة الحفاظ»ناقلاً عن الحاكم بقوله:كان واحد عصره في الحفظ و كان أبو علي الحافظ.و مشايخنا يحضرون مجلس وعظه يفرحون بما يذكره على رءوس الملأ من الأسانيد،و لم أرهم قط غمزوه في اسناد

ص:368


1- 1) .تهذيب التهذيب:266/1،رقم الترجمة501.
2- 2) .أنساب الاشراف:586/1،طبع دار [1]المعارف بالقاهرة.

إلى آخر ما ذكره. (1)

و قال أيضاً في سير أعلام النبلاء:العلاّمة،الأديب،المصنف،أبو بكر،أحمد بن يحيى بن جابر البغدادي،البلاذري،الكاتب،صاحب «التاريخ الكبير». (2)

و قال ابن كثير في كتاب«البداية و النهاية»نقلاً عن ابن عساكر:كان أديباً،ظهرت له كتب جياد. (3)

هذا هو حال المؤلف،و أمّا حال الرواة الواردة أسماؤهم في السند،فإليك ترجمتهم:

المدائني

و هو علي بن محمد أبو الحسن المدائني الأخباري،صاحب التصانيف،روى عنه الزبير بن بكار،و أحمد بن زهير،و الحارث بن أبي أُسامة،و نقل الذهبي عن يحيى انّه قال:المدائني ثقة،ثقة،ثقة،توفّي عام 293. (4)

مسلمة بن محارب

مسلمة بن محارب الزيادي عن أبيه،ذكره البخاري في تاريخه. (5)

و قد قال أهل العلم انّ سكوت أبي زرعة أو أبي حاتم أو البخاري عن الجرح في الراوي توثيق له،و قد مشى على هذه القاعدة الحافظ ابن حجر

ص:369


1- 1) .تذكرة الحفاظ:892/3 برقم 860.
2- 2) .سير اعلام النبلاء:162/13،رقم 96.
3- 3) .البداية و النهاية:65/11، [1]حوادث سنة 279.
4- 4) .ميزان الاعتدال:153/3،رقم الترجمة5921.
5- 5) .التاريخ الكبير:387/7،رقم الترجمة1685.

في«تعجيل المنفعة»فتراه يقول في كثير من المواضع:ذكره البخاري و لم يذكر فيه جرحاً. (1)

سليمان بن طرخان

سليمان بن طرخان التيمي-ولاءً-روى عن أنس بن مالك و طاووس و غيرهم،قال الربيع بن يحيى عن سعيد:ما رأيت أحداً أصدق من سليمان التيمي.

و قال عبد اللّه بن أحمد عن أبيه:ثقة.

و قال ابن معين و النسائي:ثقة.

و قال العجلي:تابعي،ثقة فكان من خيار أهل البصرة.

إلى غير ذلك من التوثيقات،توفّي عام 97. (2)

ابن عون

عون بن ارطبان المزني البصري،رأى أنس بن مالك(توفّي عام 151).

قال النسائي في الكنى:ثقة،مأمون.

و قال في موضع آخر:ثقة،ثبت.

و قال ابن حبان في الثقات:كان من سادات أهل زمانه،عبادة و فضلاً و ورعاً و نسكاً و صلابة في السنة و شدة على أهل البدع. (3)

إلى هنا تبين صحّة السند و انّ الرواية صحيحة،رواتها كلّهم ثقات،و كفى

ص:370


1- 1) .لاحظ قواعد في علوم الحديث:385و 403 و تعجيل المنفعة:219،223،225،254.
2- 2) .تهذيب التهذيب:202/4، [1]رقم الترجمة341.
3- 3) .تهذيب التهذيب:348/5، [2]رقم الترجمة600.

في ذلك حكماً.

و هذان النصان المرويان عن الثقات يعرب عن نوايا سيئة للخليفتين،و سيوافيك في القسم الثاني انّهم جسّدوا نواياهم حيال أهل بيت النبوة عليهم السلام.

3.ابن قتيبة و«الإمامة و السياسة»
اشارة

المؤرخ الشهير عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري (212- 276) و هو من رواد الأدب و التاريخ،و قد ألف كتباً كثيرة منها«تأويل مختلف الحديث»و«أدب الكاتب»و غيرهما من الكتب. (1)

قال في كتابه الإمامة و السياسة المعروف بتاريخ الخلفاء:

إنّ أبا بكر رضي اللّه عنه تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند علي كرم اللّه وجهه،فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم و هم في دار علي،فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب،و قال:و الذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لأحرقنها على من فيها،فقيل له:يا أبا حفص انّ فيها فاطمة،فقال:و إن.

إلى أن قال:

ثمّ قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا فاطمة فدقوا الباب فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها:يا أبت[يا] رسول اللّه،ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب،و ابن أبي قحافة،فلما سمع القوم صوتها و بكاءها انصرفوا.و كادت قلوبهم تتصدع و أكبادهم تتفطر و بقي عمر و معه قوم فأخرجوا علياً فمضوا به إلى أبي بكر،

ص:371


1- 1) .الاعلام:137/4. [1]

فقالوا له بايع،فقال:إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا:إذاً و اللّه الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك.... (1)

إنّ من قرأ كتاب«الإمامة و السياسة»يرى أنّها نظير سائر الكتب لقدمائنا المؤرخين كالبلاذري و الطبري و غيرهم،و قد نسب هذا الكتاب إليه ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة،و نقل عنه مطالب كثيرة ربما لا توجد في هذه النسخة المطبوعة بمصر،و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على تطرق التحريف لهذا الكتاب،كما نسبه إليه الياس سركيس في معجمه. (2)

نعم ذكر صاحب الأعلام انّ للعلماء نظراً في نسبته إليه،و معنى ذلك انّ غيره تردد في نسبته إليه،و التردد غير الإنكار.

و على كلّ حال فهو كتاب تاريخي نظير سائر الكتب التاريخية.

4.الطبري و تاريخه

محمد بن جرير الطبري (224- 310ه) صاحب التاريخ و التفسير المعروفين بين العلماء،و قد صدر عنهما كلّ من جاء بعده،قد ذكر قصة السقيفة المحزنة،و قال:

حدثنا ابن حُميد،قال:حدثنا جرير،عن مغيرة،عن زياد بن كليب قال:أتى عمر بن الخطاب،منزل علي و فيه طلحة و الزبير و رجال من المهاجرين فقال:و اللّه لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة فخرج عليه الزبير،مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه. (3)

ص:372


1- 1) .الإمامة و السياسة:12،13 طبعة المكتبة [1]التجارية الكبرى،مصر.
2- 2) .معجم المطبوعات العربية:212/1. [2]
3- 3) .تاريخ الطبري:443/2،طبع بيروت. [3]

و هذا المقطع من تاريخ الإسلام يعرب عن أنّ أخذ البيعة للخليفة كان عنوة،و إنّ من تخلف عنها سوف يواجه مختلف أساليب التهديد من حرق الدار و تدميره،و بما انّ الطبري نقل الأثر بالسند فعلينا دراسة سنده مثلما درسنا ما رواه ابن أبي شيبة و البلاذري حتى يعضد بعضه بعضه و لا يبقى لمشكك شك و لا لمرتاب ريب.

أمّا الطبري فليس في إمامته و وثاقته كلام،فقد وصفه الذهبي بقوله:الإمام الجليل،المفسر،صاحب التصانيف الباهرة،ثقة،صادق. (1)

و أمّا دراسة رواة السند،فنقول:

ابن حميد

هو محمد بن حميد الحافظ،أبو عبد اللّه الرازي،روى عن عدّة منهم يعقوب ابن عبد اللّه القمي،و إبراهيم بن المختار،و جرير بن عبد الحميد،و روى عنه أبو داود و الترمذي،و ابن ماجة،و أحمد بن حنبل،و يحيى بن معين،إلى غير ذلك.

نقل عبد اللّه بن أحمد،عن أبيه:لا يزال بالري علم ما دام محمد بن حُميد حيّاً.

و قيل لمحمد بن يحيى الزهري:ما تقول في محمد بن حميد:قال:أ لا تراني هو ذا،أُحدث عنه.

و قال ابن خيثمة:سأله ابن معين،فقال:ثقة،لا بأس به،رازي،كيّس.

و قال أبو العباس بن سعيد:سمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسي،يقول:ابن حُميد ثقة،كتب عنه يحيى.مات سنة 248ه. (2)نعم ربما جرحه بعض غير انّ قول المعدل مقدم على الجارح.

ص:373


1- 1) .ميزان الاعتدال:498/4،رقم 7306.
2- 2) .تهذيب التهذيب:128/9- 131، [1]رقم الترجمة180.
جرير بن عبد الحميد

جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي،أبو عبد اللّه الرازي،القاضي،ولد في قرية من قرى أصفهان،و نشأ بالكوفة،و نزل الري،روى عنه إسحاق بن راهويه،و ابنا أبي شيبة،و علي بن المديني،و يحيى بن معين و جماعة.

كان ثقة يرحل إليه.

و قال ابن عمار الموصلي:حجّة،كانت كتبه صحيحة. (1)

المغيرة بن مِقْسم الضبي

المغيرة بن مِقْسم الضبي،الكوفي،الفقيه،روى عنه شعبة،و الثوري،و جماعة،قال أبو بكر بن عياش:ما رأيت أحداً أفقه من مغيرة فلزمته.

قال العجلي:المغيرة ثقة،فقيه الحديث.

و قال النسائي:ثقة،توفي سنة 136ه.

و ذكره ابن حِبّان في الثقات. (2)

زياد بن كُليب

عرفه الذهبي بقوله:أبو معشر التميمي،الكوفي،عن إبراهيم و الشعبي و عنه مغيرة،مات كهلاً في سنة 110ه،وثّقه النسائي و غيره. (3)

و قال ابن حجر:قال العجلي:كان ثقة في الحديث،و قال ابن حبان:كان من الحفاظ المتقنين. (4)

ص:374


1- 1) .تهذيب التهذيب:75/2، [1]رقم الترجمة116.
2- 2) .تهذيب التهذيب:270/10،برقم 482. [2]
3- 3) .ميزان الاعتدال:92/2،برقم 2959.
4- 4) .تهذيب التهذيب:382/2،برقم 698. [3]

إلى هنا تمّت دراسة سند الرواية التي رواها الطبري،و لنقتصر في دراسة الاسناد بهذا المقدار لانّ فيما ذكرنا غنى و كفاية.

5.ابن عبد ربه و العقد الفريد

إنّ شهاب الدين أحمد المعروف بابن عبد ربه الأندلسي(المتوفّى عام 463ه) عقد فصلاً لما جرى في سقيفة بني ساعدة،و قال:تحت عنوان«الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر»:

علي و العباس،و الزبير،و سعد بن عبادة،فأمّا علي و العباس و الزبير فقعدوا في بيت فاطمة حيث بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليُخرجهم من بيت فاطمة،و قال له:إن أبوا فقاتلهم،فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار فلقيته فاطمة،فقالت:يا ابن الخطاب أ جئت لتحرق دارنا؟ قال:نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأُمّة. (1)

و هذا النص من هذا المؤرخ الكبير،أقوى شاهد على انّ الخليفة قد رام احراق الباب و الدار بغية أخذ البيعة من علي و من لازم بيته،و ما قيمة بيعة تؤخذ عنوة.

6.ابن عبد البر و الاستيعاب

روى أبو عمرو يوسف بن عبد اللّه بن محمد بن عبد البر (368- 463ه) في كتابه القيم«الاستيعاب في معرفة الأصحاب»بالسند التالي:

حدّثنا محمد بن أحمد،حدثنا محمد بن أيّوب،حدّثنا أحمد بن

ص:375


1- 1) .العقد الفريد:87/4،تحقيق خليل شرف الدين. [1]

عمرو البزاز،حدّثنا أحمد بن يحيى،حدّثنا محمد بن نسير،حدّثنا عبد اللّه بن عمر،عن زيد بن أسلم،عن أبيه،انّ عليّاً و الزبير كانا حين بُويع لأبي بكر يدخلان على فاطمة فيشاورانها و يتراجعان في أمرهم،فبلغ ذلك عمر،فدخل عليها عمر،فقال:يا بنت رسول اللّه،ما كان من الخلق أحد أحبّ إلينا من أبيك،و ما أحد أحبّ إلينا بعده منك،و لقد بلغني أنّ هؤلاء النفر يدخلون عليك،و لئن بلغني لأفعلنّ و لأفعلنّ.ثمّ خرج و جاءوها.فقالت لهم:إنّ عمر قد جاءني و حلف لئن عدتم ليفعلنّ،و أيم اللّه ليفينّ بها. (1)

ثمّ إنّ أبا عمرو لم ينقل نصّ كلام عمر بن الخطاب،و إنّما اكتفى بقوله:«لأفعلن و لأفعلنّ».

و قد تقدّم نصّ كلامه في نصوص الآخرين كابن أبي شيبة و البلاذري و الطبري،و لعلّ الظروف لم تسنح له بالتصريح بما قال.

7.ابن أبي الحديد و شرح نهج البلاغة

نقل عبد الحميد بن هبة اللّه المدائني المعتزلي(المتوفّى عام 655) عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري انّه قال:

لما بويع لأبي بكر كان الزبير و المقداد يختلفان في جماعة من الناس إلى عليّ،و هو في بيت فاطمة،فيتشاورون و يتراجعون أمورهم، فخرج عمر حتى دخل على فاطمة عليها السَّلام،و قال:يا

ص:376


1- 1) .الاستيعاب:975/3،تحقيق علي محمد البجاوي، [1]ط،القاهرة.

بنت رسول اللّه،ما من أحد من الخلق أحبّ إلينا من أبيك،و ما من أحد أحبّ إلينا قلت بعد أبيك،و أيم اللّه ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بتحريق البيت عليهم،فلمّا خرج عمر جاءوها،فقالت:تعلمون انّ عمر جاءني،و حلف لي باللّه إن عدتم ليحرقن عليكم البيت،و أيم اللّه ليمضين لما حلف له. (1)

8.أبو الفداء و المختصر في أخبار البشر

ألّف إسماعيل بن علي المعروف بأبي الفداء(المتوفّى عام 732ه) كتاباً أسماه«المختصر في أخبار البشر»ذكر فيه قريباً ممّا ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد،حيث قال:

ثمّ إنّ أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي و من معه ليخرجهم من بيت فاطمة رضي اللّه عنها،و قال:إن أبوا عليك فقاتلهم،فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار فلقيته فاطمة رضي اللّه عنها،و قالت:إلى أين يا ابن الخطاب،أ جئت لتحرق دارنا؟ قال:نعم،أو يدخلوا فيما دخل فيه الأُمّة. (2)

9.النويري و«نهاية الارب في فنون الأدب»

أحمد بن عبد الوهاب النويري (677- 733ه) أحد كبار الأدباء،له خبرة في التاريخ يعرّفه في الأعلام بقوله:عالم،بحاث،غزير الاطّلاع و قال في كتابه

ص:377


1- 1) .شرح نهج البلاغة:45/2،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
2- 2) .المختصر في تاريخ البشر:156/1،ط دار المعرفة،بيروت.

«نهاية الإرب في فنون الأدب»-الذي وصفه الزركلي بقوله:إنّ نهاية الارب على الرغم من تأخر عصره يحوي أخباراً خطيرة عن صقيلة نقلها عن مؤرخين قدماء لم تصل إلينا كتبهم مثل ابن الرقيق،و ابن الرشيق و ابن شداد و غيرهم (1)-قال:

روى ابن عمر بن عبد البر،بسنده عن زيد بن أسلم،عن أبيه:انّ عليّاً و الزبير كان حين بويع لأبي بكر،يدخلان على فاطمة،يشاورانها في أمرهم،فبلغ ذلك عمر،فدخل عليها،فقال:يا بنت رسول اللّه ما كان من الخلق أحد أحبّ إلينا من أبيك و ما أحد أحبّ إلينا بعده منك،و قد بلغني انّ هؤلاء النفر يدخلون عليك و لئن بلغني لأفعلنّ و لأفعلنّ! ثمّ خرج و جاءوها،فقالت لهم:إنّ عمر قد جاءني و حلف إن عدتم ليفعلنّ و أيم اللّه ليفين. (2)

10.السيوطي و مسند فاطمة

جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (848- 911ه) ذلك الباحث الكبير،و المؤرخ الخبير،يذكر في كتابه«مسند فاطمة»نفس ما رواه المؤرخون عن زيد بن أسلم عن أبيه أسلم:

انّه حين بويع لأبي بكر بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان علي و الزبير يدخلون على فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و يشاورونها و يرجعون في أمرهم،فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة،فقال:يا بنت رسول اللّه،و اللّه ما من الخلق أحد أحبّ

ص:378


1- 1) .الاعلام:165/1. [1]
2- 2) .نهاية الارب في فنون الأدب:40/19،ط القاهرة، [2]1395ه.

إليّ من أبيك و ما من أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك،و أيم اللّه ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك،ان آمرهم أن يحرق عليهم الباب،فلما خرج عليهم عمر جاءوا،قالت:تعلمون انّ عمر قد جاءني و قد حلف باللّه لئن عدتم ليحرقنّ عليكم الباب،و أيم اللّه ليمضين لما حلف عليه. (1)

11.المتقي الهندي و كنز العمال

نقل علي بن حسام الدين المعروف بالمتقي الهندي (المتوفّى عام 975) في كتابه القيم«كنز العمال»ما جرى على بيت فاطمة الزهراء عليها السَّلام وفق ما جاء في كتاب«المصنف»لابن أبي شيبة،حيث قال:

عن أسلم انّه حين بويع لأبي بكر بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان علي و الزبير يدخلون على فاطمة عليها السَّلام بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و يشاورونها و يرجعون في أمرهم،فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتّى دخل على فاطمة عليها السَّلام،فقال:يا بنت رسول اللّه ما من الخلق أحد أحبُّ إليَّ من أبيك،و ما من أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك،و أيم اللّه ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يحرق عليهم الباب.إلى آخر ما ذكر. (2)

ص:379


1- 1) .مسند فاطمة:السيوطي:36،ط مؤسسة الكتب الثقافية،بيروت.
2- 2) .كنز العمال:651/5،برقم 14138.
12.الدهلوي و إزالة الخفاء

نقل ولي اللّه بن مولوي عبد الرحيم العمري،الدهلوي،الهندي،الحنفي(1114- 1176ه) في كتابه«إزالة الخفاء»ما جرى في سقيفة بني ساعدة،و قال:

عن أسلم باسناد صحيح على شرط الشيخين،و قال:

انّه حين بويع لأبي بكر بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان عليّ و الزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيشاورونها و يرتجعون في أمرهم،فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب،خرج حتّى دخل على فاطمة،فقال:يا بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و اللّه ما من الخلق أحد أحبّ إلينا من أبيك، و ما من أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك،و أيم اللّه فانّ ذلك لم يكن بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يحرق عليهم البيت. (1)

و ذكر قريباً من ذلك في كتابه الآخر«قرة العينين». (2)

13.محمد حافظ إبراهيم و القصيدة العمرية

محمد حافظ بن إبراهيم فهمي المهندس،الشهير بحافظ إبراهيم(1287- 1351ه)،شاعر مصر القومي.طبع ديوانه في مجلدين،و له قصيدة عمرية احتفل بها أُدباء مصر،و ممّا جاء فيها قوله: و قولة لعلي قالها عمر أكرم بسامعها أعظم بملقيها

ص:380


1- 1) .إزالة الخفاء:178/2.
2- 2) .قرة العينين:78.

حرقت دارك لا أبقي عليك بها

و العجب انّ شاعر النيل يجعل الموبقات منجيات،و يعد السيئات من الحسنات،و ما هذا إلاّ لأنّ الحب يعمي و يصم.

و معنى هذا انّه لم يكن لبنت المصطفى أي حرمة و مكرمة عند عمر حين استعد لإحراق الدار و من فيها لكي يصبح أبو بكر خليفة للمسلمين.

قال الأميني عقب نقله للأبيات الثلاثة،ما هذا نصّه:

ما ذا أقول بعد ما تحتفل الأُمّة المصرية في حفلة جامعة في أوائل سنة 1918م بإنشاد هذه القصيدة العمرية التي تتضمن ما ذكر من الأبيات،و تنشرها الجرائد في أرجاء العالم،و يأتي رجال مصر نظراء أحمد أمين،و أحمد الزين،و إبراهيم الابياري،و علي جارم،و علي أمين، و خليل مطران،و مصطفى الدمياطي بك و غيرهم و يعتنون بنشر ديوان هذا شعره،و بتقدير شاعر هذا شعوره،و يخدشون العواطف في هذه الازمة،في هذا اليوم العصيب،و يعكرون بهذه النعرات الطائفية صفو السلام و الوئام في جامعة الإسلام،و يشتتون بها شمل المسلمين،و يحسبون انّهم يحسنون صنعاً.

إلى أن قال:وتراهم بالغوا في الثناء على الشاعر و قصيدته هذه كأنّه جاء للأُمّة بعلم جم أو رأي صالح جديد،أو أتى لعمر بفضيلة رابية تسرُّ بها الأُمّة و نبيُّها المقدَّس،فبشرى بل بشريان للنبي الأعظم،بأنّ بضعته الصديقة لم تكن لها أي حرمة و كرامة عند من يلهج بهذا القول،و لم يكن سكناها في دار طهّر اللّه أهلها يعصمهم منه و من حرق الدار عليهم.فزهٍ زهٍ بانتخاب هذا شأنه،و بخٍ بخٍ ببيعة

ص:381

تمت بهذا الارهاب و قضت بتلك الوصمات. (1)

14.عمر رضا كحالة و«اعلام النساء»
اشارة

عمر رضا كحالة من الكتاب المعاصرين اشتهر بكتابه«أعلام النساء»ترجم فيه حياة بنت النبي فاطمة الزهراء عليها السَّلام و ممّا قال في ترجمتها:

و تفقد أبو بكر قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي بن أبي طالب كالعباس،و الزبير و سعد بن عبادة فقعدوا في بيت فاطمة،فبعث أبو بكر إليهم عمر بن الخطاب،فجاءهم عمر فناداهم و هم في دار فاطمة،فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب،و قال:و الذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنّها على من فيها.فقيل له:يا أبا حفص إنّ فيها فاطمة،فقال:و إن....

ثمّ وقفت فاطمة على بابها،فقالت:لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم تركتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جنازة بين أيدينا و قطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا و لم تردوا لنا حقاً». (2)

***

إلى هنا تمّ ما وقفنا عليه في كتب أهل السنة ممّن أشار إلى نوايا الخليفة السيئة حيال بنت المصطفى و بيتها و من فيه،إلاّ أنّ أغلب هذه المصادر لم تخض في التفاصيل و لم تشر إلى الحوادث المريرة التي تلتها،لكن هناك أُناساً أبدوا شجاعة في اظهار الحقّ حيث أشاروا إلى الحوادث المريرة التي مرت على البيت الهاشمي.

و ها نحن نشير إلى أسمائهم حسب التسلسل التاريخي.

ص:382


1- 1) .الغدير:86/7- 87. [1]
2- 2) .علام النساء:114/4.
كشف بيت فاطمة عليها السَّلام على لسان المؤرخين

15.أبو عبيد و كتاب الأموال

16.ابن سعد و الطبقات الكبرى

17.النظام و كتاب الوافي بالوفيات

18.المبرد و كتاب الكامل

19.المسعودي و مروج الذهب

20.ابن أبي دارم و ميزان الاعتدال

21.الطبراني و المعجم الكبير

22.ابن عبد ربه و العقد الفريد

23.ابن عساكر و مختصر تاريخ دمشق

24.ابن أبي الحديد و شرح نهج البلاغة

25.الجويني و كتاب فرائد السمطين

26.الذهبي و تاريخ الإسلام

27.نور الدين الهيتمي و مجمع الزوائد

28.ابن حجر العسقلاني و لسان الميزان

29.المتقي الهندي و كنز العمال.

30.عبد الفتاح عبد المقصود و كتاب الإمام علي

ص:383

ص:384

كشف بيت فاطمة عليها السَّلام على لسان المؤرخين

15.أبو عبيد و كتاب«الأموال»

أبو عبيد قاسم بن سلاّم(المتوفّى عام 224) أحد الفقهاء الكبار في القرن الثالث،و قد اشتهر بكتابه النفيس«الأموال»الذي طبع غير مرة.

فقد أزاح الستار عن وجه الحقيقة،و أشار إلى ما جرى على بيت فاطمة من المصائب.فقد نقل عن عبد الرحمن بن عوف قوله:

دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفّي فيه فسلمت عليه،و قلت:ما أرى بك بأساً،و الحمد للّه،و لا تأس على الدنيا،فو اللّه إن علمناك إلاّ كنت صالحاً مصلحاً.

فقال:إنّي لا آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتهم،و وددت أنّي لم أفعلهم،و ثلاث لم أفعلهم وددت انّي فعلتهم،و ثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنهم،فأمّا التي فعلتها و وددت انّي لم أفعلها،فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا و كذا.لخلة ذكرها قال أبو عبيد:لا أريد ذكرها - و وددت انّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة،فكان أميراً و كنت وزيراً،و وددت انّي حيث كنت وجهت

ص:385

خالداً إلى أهل الردة أقمت بذي القصة،فإن ظفر المسلمون ظفروا و إلاّ كنت بصدد لقاء أو مدد.الخ. (1)

ثمّ إنّ صاحب«الأموال»و إن لم يصرح بلفظ الخليفة و كره التلفّظ به،لكن غيره جاء بنفس النص الذي أدلى به الخليفة يوم كان طريح الفراش و ستقف على كلام الآخرين في هذا المجال.

16.ابن سعد و«الطبقات الكبرى»

يذكر محمد بن سعد (المتوفّى عام 229ه) عند ترجمة أبي بكر ما هذا نصّه:

قال:أخبرنا عبد اللّه بن الزبير،حدّثنا إسماعيل بن عامر،قال:جاء أبو بكر إلى فاطمة حين مرضت فاستأذن،فقال علي:هذا أبو بكر على الباب،فإن شئت أن تأذني له؟ قالت:و ذلك أحب إليك؟ قال:نعم،فدخل عليها و اعتذر إليها و كلّمها فرضيت عنه. (2)

فلولا أنّه تعدى على حقوقها و ظلمتها،فلما ذا اعتذر.

17.النظام و«الوافي بالوفيات»

ألّف صلاح الدين خليل بن إيبك الصفدي كتاباً أسماه«الوافي بالوفيات»،استدرك على كتاب«وفيات الأعيان»لابن خلكان،و قد ترجم فيه النظام المعتزلي إبراهيم بن سيار البصري (160- 231ه).

و قال:قالت المعتزلة إنّما لقب ذلك(النظام) لحسن كلامه نظماً و نثراً،و كان

ص:386


1- 1) .الأموال:193- 194، [1]مكتبة الكليات الأزهرية.
2- 2) .الطبقات:27/8،ط دار صادر.

ابن أُخت أبي هذيل العلاف شيخ المعتزلة،و كان شديد الذكاء،و نقل آراءه،فقال:

انّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتّى ألقت المحسن في بطنها. (1)

18.المبرد و«الكامل»

محمد بن يزيد بن عبد الأكبر البغدادي(110- 285ه) أحد الأُدباء الكتّاب،و صاحب الآثار الممتعة،و قد نقل في كتاب«الكامل»ما روي عن عبد الرحمن بن عوف عند ما زار أبا بكر في مرضه الذي مات فيه،و قال:

دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي مات فيه فسلمت و سألته:كيف به؟ فاستوى جالساً،إلى أن قال:قال أبو بكر:أمّا إنّي لا آسى إلاّ على ثلاث فعلتهنّ و وددت انّي لم أفعلهنّ،و ثلاث لم أفعلهنّ و وددت انّي فعلتهن،و ثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه عنهم.

فأمّا الثلاث التي فعلتها و وددت انّي لم أكن كشفت عن بيت فاطمة و تركته و لو أُغلق على حرب،و وددت انّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين:عمر أو أبي عبيدة،فكان أميراً و كنت وزيراً،و وددت انّي إذا أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته و كنت قتلته بالحديد أو أطلقته.

ص:387


1- 1) .الوافي بالوفيات:17/6؛و [1]الملل و النحل للشهرستاني:57/1 طبع دار [2]المعرفة،و لاحظ في ترجمة النظام كتابنا«بحوث في الملل و النحل»:248/3- 255.

و أمّا الثلاث التي تركتها و وددت انّي فعلتها....الخ. (1)

19.المسعودي و«مروج الذهب»

إنّ أبا الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي(المتوفّى عام 346ه)،أحد المؤرخين البارعين الذين كان لهم دور هام في تدوين تاريخ الإسلام،و قد ذكر في تاريخه المعروف ب«مروج الذهب»عند ذكر أبي بكر و نسبه و لمع من أخباره و سيره،قال:

و من كلامه انّه لما احتضر،قال:ما آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتها وَدِدْتُ انّي تركتها،و ثلاث تركتها وَدِدْتُ انّي فعلتها،و ثلاث وَدِدْت انّي سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنها،فأمّا الثلاث التي فعلتها و وددت انّي تركتها،فوددت انّي لم أكن فتشت بيت فاطمة-و ذكر في ذلك كلاماً كثيراً-و وددت انّي لم أكن حرقت الفجاءة و أطلقته نجيحاً أو قتلته صريحاً،و وددت انّي يوم سقيفة بني ساعدة قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين فكان أميراً و كنت وزيراً،و الثلاث التي تركتها و وددت انّي فعلتها...الخ. (2)

ص:388


1- 1) .شرح نهج البلاغة:45/2- 47 و لاحظ الكامل:11/1،تحقيق الدكتور محمد أحمد [1]الدّالي،مؤسسة الرسالة،بيروت،و يظهر من محقّق الكتاب انّه وجد النص في الكامل حيث نقل شيئاً منه حول هذا النص.إلاّ انّ اليد الأمينة على التراث حرفت الباقي فلم تذكر الرواية برمتها حسب ما نقله ابن أبي الحديد عن الجوهري عن الكامل للمبرد. نعم أشار المحقق في ذيل الصفحة إلى ما رواه صاحب العقد الفريد.
2- 2) .مروج الذهب:301/2،ط دار [2]الأندلس،بيروت.
20.ابن أبي دارم و«ميزان الاعتدال»

أحمد بن محمد المعروف بابن أبي دارم،المحدث الكوفي (المتوفّى عام 357ه) الذي يعرفه الذهبي،بقوله:كان موصوفاً بالحفظ و المعرفة. (1)و ينقل عنه الحاكم.

و يقول أيضاً في كتابه«ميزان الاعتدال»:كان مستقيم الأمر عامة دهره،ثمّ في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب و حضرته و رجل يقرأ عليه:

انّ عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن. (2)

21.الطبراني و«المعجم الكبير»

أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني(260- 360ه) صاحب«المعجم الكبير»يعرفه الذهبي في ميزانه،و يقول:حافظ،ثبت. (3)

فقد نقل في فصل أسماه«مما اسند أبو بكر عن رسول اللّه»فجاء في ذلك الفصل حديث عبد الرحمن بن عوف أبا بكر في مرضه الذي توفّي فيه،فقال أبو بكر له:

أمّا انّي لا آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتهن و وَدِدْتُ انّي لم أفعلهن،و ثلاث لم أفعلهن وددت انّي فعلتهن،و ثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنها،فأمّا الثلاث اللاتي وددت انّي لم أفعلهن،فوددت انّي لم أكن كشفت بيت فاطمة و تركته و ان أُغلق على الحرب،و وددت انّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت

ص:389


1- 1) .سير اعلام النبلاء:578/15،رقم الترجمة349.
2- 2) .ميزان الاعتدال:139/1،رقم الترجمة552.
3- 3) .ميزان الاعتدال:195/2،رقم الترجمة3423.

الأمر في عنق أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر،فكان أميراً و كنت وزيراً...الخ. (1)

22.ابن عبد ربه و«العقد الفريد»

قد تقدّم كلام ابن عبد ربه عند ذكر الحوار الذي دار بين فاطمة و عمر بن الخطاب من دون أن يشير هناك إلى الحوادث المريرة التي وقعت بعده و لكنّه صرح في مورد آخر بكشف الدار حيث نقل حديث عبد الرحمن بن عوف عند ما زار أبا بكر في مرضه،فقال:و قال تحت عنوان استخلاف أبي بكر لعمر:

أجل انّي لا آسي على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهن،و وددت اني تركتهن،و ثلاث تركتهن و وددت انّي فعلتهن،و ثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنهن.

فأمّا الثلاث التي فعلتهن و وددت انّي تركتهن،فوددت انّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء و إن كانوا أغلقوه على الحرب،...الخ. (2)

23.ابن عساكر و«مختصر تاريخ دمشق»

ألف علي بن حسن المعروف بابن عساكر (المتوفّى عام 571ه) كتاباً في تاريخ دمشق طبع في ثمانين جزءاً و قد لخصه محمد بن مكرم المعروف بابن منظور (620- 711ه) فجاء في ترجمة أبي بكر انّه دخل على أبي بكر في مرضه الذي توفّي فيه،فأصابه مفيقاً إلى أن قال:

ص:390


1- 1) .المعجم الكبير:62/1،برقم 43.
2- 2) .العقد الفريد:93/4، [1]تحت عنوان استخلاف أبي بكر لعمر.

فقال أبو بكر:لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهن و وددت أنّي لو تركتهن،و ثلاث تركتهن و وددت انّي فعلتهن،و ثلاث وددت لو أنّي سألت عنهن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.فأمّا التي وددت انّي تركتهن:يوم سقيفة بني ساعدة وددت لو أنّي ألقيت هذا الأمر في عنق أحد هذين الرجلين-يعني عمر و أبا عبيدة-فكان أحدهما أميراً،و كنت وزيراً،وددت انّي لم أكن كشفت بيت فاطمة عن شيء مع أنّهم أغلقوه على الحرب. (1)

24.ابن أبي الحديد و«شرح نهج البلاغة»

عبد الحميد بن هبة اللّه المدائني المعتزلي (المتوفّى عام 655ه) المؤرخ و الكاتب القدير مؤلف«شرح نهج البلاغة»في عشرين جزءاً، فيها تاريخ و أدب،و كلام و فلسفة،يعرب عن تضلّعه في العلوم الإسلامية عامة،فقد نقل عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري مؤلف كتاب «السقيفة» (2)بلا غمز و ردّ.

فذكر قوله:إنّي لا آسى إلاّ على ثلاث فعلتهن و وددت انّي لم أفعلهنّ،و ثلاث لم أفعلن و وددت انّي فعلتهن،و ثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنهنّ؛فأمّا الثلاث التي فعلتها و وددت انّي لم أكن فعلتها،فوددت انّي لم أكن كشفت عن بيت فاطمة و تركته

ص:391


1- 1) .مختصر تاريخ دمشق:122/13.
2- 2) .كتاب السقيفة لمؤلفه أحمد بن عبد العزيز،أقدم و أبسط كتاب تناول حوادث السقيفة بالشرح و التفصيل،ينقل عنه ابن أبي الحديد كثيراً في أجزاء مختلفة من كتابه فقد قام الفاضل محمد هادي الأميني بجمع نصوص الكتاب من شرح النهج لابن أبي الحديد و نشره و بذلك عاد الكتاب إلى الساحة و لو بصورة ناقصة.

و لو أُغلق على حرب. (1)

و قال في مكان آخر نقلاً عن القاضي عبد الجبار:

و أمّا حديث الإحراق فلو صحّ لم يكن طعناً على عمر لأنّ له أن يهدد من امتنع عن المبايعة إرادة للخلافة على المسلمين. (2)

25.الجويني و«فرائد السمطين»

إبراهيم بن محمد الحديد المعروف بالجويني(المتوفّى عام 722ه) من مشايخ الذهبي،يقول في حقه:إمام،محدث،فريد،فخر الإسلام و صدر الدين. (3)

فقد روى في كتاب فرائد السمطين بالسند المذكور فيه عن ابن عباس،انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن عليه السلام، فلما رآه بكى،ثمّ قال:إليَّ إليَّ يا بُنيّ فما زال يُدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى.ثمّ أقبل الحسين عليه السلام فلمّا رآه بكى،ثمّ قال:إليَّ إليَّ يا بُنيّ، فما زال يُدنيه حتّى أجلسه على فخذه اليُسرى.ثمّ أقبلت فاطمة عليها السَّلام،فلمّا رآها بكى،ثمّ قال:إليَّ إليَّ يا بُنيّة فاطمة،فاجلسها بين يديه.ثمّ أقبل أمير المؤمنين علي عليه السلام،فلمّا رآه بكى،ثمّ قال:إليّ إليّ يا أخي،فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن.

فقال له أصحابه يا رسول اللّه! ما ترى واحداً من هؤلاء إلاّ بكيت! أو ما فيهم من تسرّ برؤيته؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم:و الذي بعثني بالنبوة، و اصطفاني على جميع البرية،

ص:392


1- 1) .شرح نهج البلاغة:46/2- 47.
2- 2) .شرح نهج البلاغة:272/16 و قال المعلق:نقله المرتضى في الشافي:234- 235.
3- 3) .معجم شيوخ الذهبي:125 رقم الترجمة156.

إنّي و إيّاهم لأكرم الخلائق على اللّه عزّ و جلّ و ما على وجه الأرض نسمة أحبَّ إليَّ منهم.

إلى أن قال:و أمّا ابنتي فاطمة فانّها سيدة نساء العالمين من الأوّلين و الآخرين،و هي بضعة منّي و هي نور عيني،و هي ثمرة فؤادي،و هي روحي التي بين جنبيّ،و هي الحوراء الانسية،متى قامت في محرابها بين يدي ربها جلّ جلاله،زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض.

و يقول اللّه عزّ و جلّ لملائكته:يا ملائكتي،انظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي قائمة بين يدي،ترعد فرائصها من خيفتي و قد أقبلت بقلبها على عبادتي،أُشهدكم انّي قد أمّنت شيعتها من النار.و انّي لما رأيتها ذكرتُ ما يُصنع بها بعدي كأنّي بها و«قد دخل الذُّل بيتها و انتهكت حرمتها و غصب حقّها،و منعت إرثها،و كُسر جنبها،و أسقطت جنينها،و هي تنادي يا محمداه فلا تجاب،و تستغيث فلا تغاث. (1)

26.الذهبي و«تاريخ الإسلام»

يقول شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (المتوفّى 748ه) في كتاب تاريخ الإسلام:

روى علوان بن داود البجلي،عن حميد بن عبد الرحمن عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه،و قد رواه الليث بن سعد عن علوان عن صالح نفسه،قال:دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه فسلمت عليه و سألته كيف أصبحت؟

ص:393


1- 1) .فرائد السمطين:34/2- 35،ط بيروت. [1]

فقال:بحمد اللّه بارئاً،إلى أن قال:ثمّ قال:انّي لا آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتهن و ثلاث لم أفعلهن،و ثلاث وددت أنّي سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنهن:وددت انّي لم أكن كشفت بيت فاطمة و تركته و أن أُغلق عليّ الحرب،وددت انّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق عمر أو أبي عبيدة. (1)

27.نور الدين الهيتمي و«مجمع الزوائد»

أخرج الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيتمي(المتوفّى سنة 807ه) في كتابه مجمع الزوائد و ضبع الفوائد في باب كراهة الولاية و لمن تستحب.

روى و قال:فعن عبد الرحمن بن عوف،قال:دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفي فيه و سلمت عليه و سألته كيف أصبحت؟ فاستوى جالساً و قال:أصبحت بحمد اللّه بارئاً-إلى أن قال:-أمّا انّي لا آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتهن وددت انّي لم أفعلهن،و ثلاث لم أفعلهن وددت انّ فعلتهن،و ثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنهن.

فأمّا الثلاث التي وددت انّي لم أفعلهنّ فوددت انّي لم أكن كشفت بيت فاطمة و تركته و ان اغلق على الحرب،وددت انّي يوم سقيفة بني ساعدة قذفت الأمر في عنق الرجلين أبو عبيدة أو عمر و كان أمير المؤمنين و كنت وزيراً. (2)

ص:394


1- 1) .تاريخ الإسلام:117/3- 118. [1]
2- 2) .مجمع الزوائد:202/5- 203.
28.ابن حجر العسقلاني و لسان الميزان

أخرج الإمام الحافظ شهاب الدين أبو الفضل المعروف بالعسقلاني (المتوفّى سنة 852ه) في كتابه لسان الميزان بسنده عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه،قال:

دخلت على أبي بكر أعوده فاستوى جالساً فقلت:أصبحت بحمد اللّه بارئاً،فقال أبو بكر:أمّا إنّي على ما ترى بي...انّي لا آسى على شيء إلاّ على ثلاث وددت انّي لم أفعلهن وددت انّي لم أكشف بيت فاطمة و تركته و إن أُغلق على الحرب،وددت انّي يوم السقيفة كنت قذفت الأمر في عنق أبي عبيدة أو عمر فكان أميراً و كنت وزيراً. (1)

29.المتقي الهندي و«كنز العمال»

روى علاء الدين المتقي الهندي(المتوفّى عام 975ه) في كنز العمال حديث عبد الرحمن بن عوف بنحو مفصل،و قال:

عن عبد الرحمن بن عوف انّ أبا بكر الصديق،قال له في مرض موته:إنّي لا آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتهن و وددت انّي لم أفعلهن و ثلاث لم أفعلهن ودِدت انّي فعلتهن،و ثلاث وددت انّي سألت رسول اللّه عنهن،فأمّا اللاتي فعلتها و وددت انّي لم أفعلها فوددت انّي لم أكن أكشف بيت فاطمة و تركته و إن كانوا قد غلقوه على الحرب.... (2)

ص:395


1- 1) .لسان الميزان:188/4- 189.
2- 2) .كنز العمال:631/5،رقم الحديث14113.
30.عبد الفتاح عبد المقصود و كتاب«الإمام علي عليه السلام»

إنّ عبد الفتاح مؤلف كتاب«الإمام علي عليه السلام»أحد الكتّاب البارعين في العصر الحاضر،فقد جدّ و ثابر و بذل جهوداً جبارة و أخذ زبدة المخض من الحقائق الناصعة و قدم بكتابه هذا خدمة مشكورة و قال في حادثة الدار:

إنّ عمر قال:و الذي نفسي بيده،ليخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها.

قالت له طائفة-خافت اللّه،ورعت الرسول في عقبه -:يا أبا حفص انّ فيها فاطمة....

فصاح لا يبالي:و إن

و اقترب و قرع الباب،ثمّ ضربه و اقتحمه...و بدا له عليّ.

و رنّ حينئذاك صوت الزهراء عند مدخل الدار.

فان هي إلاّ رنة استغاثة أطلقتها«يا أبت رسول اللّه...»تستعدي بها الراقد بقربها في رضوان ربّه على عسف صاحبه،حتّى تبدّل العاتي المدل غير إهابه،فتبدّد على الأثر جبروته،و ذاب عنفه و عنفوانه،و ودّ من خزى لو يخرّ صعقاً تبتلعه مواطئ قدميه ارتداد هدبه إليه.

و عند ما نكص الجمع،و راح يفرّ كنوافر الظباء المفزوعة أمام صيحة الزهراء،كان عليّ يقلّب عينيه من حسرة و قد غاض حلمه،و ثقل همّه،و تقبضت أصابع يمينه على مقبض سيفه كهمّ من غيظه أن تغوص فيه. (1)

ص:396


1- 1) .عبد الفتاح عبد المقصود:الإمام علي عليه السلام:274/4- 277.و له كلمة أُخرى في هذا الموضوع لاحظ الجزء192/1- 193 لم نأت بها روماً للاختصار.

خاتمة المطاف

اشارة

انّ ما ذكرناه من المصادر الجمّة يكفي في إثبات المقصود و لو أضفنا إليه ما ذكره مؤرّخو الشيعة و محدّثوهم حول حوادث السقيفة، لأصبحت القضية من المتواترات بل الضروريات التي لا يشكّ فيها من له إلمام بالتاريخ.

و قد كانت القضية في العصور الأُولى من الأُمور المسلمة حتى أنّ بعض من تلطّخت أيديهم بدماء المسلمين أخذوا يبرّرون ما يقترفونه بعمل الخليفة،و إليك هاتين الوثيقتين التاريخيتين.

الوثيقة الأُولى

روى المسعودي«انّ ابن الزبير عمد إلى مكة من بني هاشم،فحصرهم في الشعب،و جمع لهم حطباً عظيماً لو وقعت فيه شرارة من نار لم يسلم من الموت أحد،و في القوم محمد بن الحنفية.

ثمّ قال و حدّث النوفلي في كتابه في الاخبار،عن ابن عائشة،عن أبيه،عن حماد بن سلمة،قال:كان عروة بن الزبير يعذِّر أخاه إذا جرى ذكر بني هاشم و حصره إياهم في الشعب و جمعه لهم الحطب لتحريقهم،و يقول:إنّما أراد بذلك إرهابهم ليدخلوا في طاعته إذا هم أبوا البيعة فيما سلف،و هذا خبر لا يحتمل ذكره هنا،و قد أتينا على ذكره في كتابنا في مناقب أهل البيت و أخبارهم المترجم بكتاب«حدائق الأذهان». (1)

و نقله ابن أبي الحديد أيضاً و قال:و كان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد اللّه في حصر بني هاشم في الشعب،و جمعه الحطب ليحرقهم و يقول:إنّما أراد بذلك ألا

ص:397


1- 1) .مروج الذهب:77/3،ط دار [1]الأندلس.

تنتشر الكلمة،و لا يختلف المسلمون،و أن يدخلوا في الطاعة،فتكون الكلمة واحدة،كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لمّا تأخروا عن بيعة أبي بكر،فانّه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار. (1)

الوثيقة الثانية

و روى البلاذري قال:لما قتل الحسين عليه السلام كتب عبد اللّه بن عمر إلى يزيد بن معاوية:

أمّا بعد،فقد عظمت الرزية وجلت المصيبة،و حدث في الإسلام حدث عظيم،و لا يوم كيوم قتل الحسين.

فكتب إليه يزيد:أمّا بعد،يا أحمق،فانا جئنا إلى بيوت مجدَّدة،و فرش ممهدة،و وسادة منضّدة،فقاتلنا عنها فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا.و إن كان الحقّ لغيرنا،فأبوك أوّل من سنّ هذا،و استأثر بالحقّ على أهله. (2)

قرائن و شواهد

إنّ هناك قرائن و شواهد تدل بوضوح على أنّ سيدة نساء العالمين استقبلت بعد رحيل أبيها حوادثَ مريرة من قبل من تسنّم منصة الخلافة،و يدل على ذلك الأُمور التالية:

أ.انّ فاطمة هجرت أبا بكر و لم تكلمه إلى أن ماتت.

أخرج البخاري في كتاب الخمس«فغضبت فاطمة بنت رسول اللّه فهجرت

ص:398


1- 1) .شرح نهج البلاغة:147/20.
2- 2) .نهج الحق و كشف الصدق:356، [1]علق عليه فرج اللّه الحسيني،مكتبة المدرسة.نقله عن الأنساب للبلاذري.

أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت». (1)

و أخرج في كتاب الفرائض و قال:فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت. (2)

و ذكر في كتاب المغازي في باب غزوة خيبر قوله:فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت. (3)

فما ظنك بروايات يرويها الإمام البخاري،و ما هذا إلاّ لأنّها انتهكت حرمتها حتى لاذت بقبر أبيها،و قالت: ما ذا على من شمّ تربة أحمدٍ

ب.انّ عليّاً لما جهز فاطمة الزهراء و أودعها في قبرها،هاج به الحزن،و خاطب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و قال:

«ستنبّئك ابنتك بتضافر أُمّتك على هضمها،فأحفها السؤال،و استخبرها الحال،هذا و لم يطل العهد و لم تخل منك الذكر». (4)

كلّ ذلك يعرب عن أنّها عليها السَّلام ماتت مظلومة،مقهورة،مغصوبة الحقّ.

ج.انّها دفنت ليلاً بإيصاء منها،فما هو السرّ في هذا الإيصاء.

قال البلاذري بعد ذكره السند:انّ علياً دفن فاطمة عليها السَّلام ليلاً،إلى أن قال:و أوصت فاطمة عليها السَّلام أن تحمل على سرير طاهر، فقالت لها أسماء بنت عميس:

ص:399


1- 1) .صحيح البخاري:4،كتاب الخمس.
2- 2) .صحيح البخاري:9،كتاب الفرائض.
3- 3) .صحيح البخاري:5،باب غزوة خيبر.
4- 5) .نهج البلاغة:الخطبة 202. [1]

اصنع لك نعشاً كما رأيت أهل الحبشة يصنعون فأرسلت إلى جريد رطب فقطعته،ثمّ جعلت لها نعشاً،فتبسمت و لم تر متبسمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلاّ ساعتها تيك،و غسلها عليّ،و أسماء،و بذلك أوصت و لم يعلم أبو بكر و عمر بموتها. (1)

***

و نختم الرسالة بالسلام على الصدّيقة الشهيدة الممنوعة إرثها،،المكسور ضلعها،

المظلوم بعلها،المقتول ولدها سلاماً،لا بداية له و لا نهاية.

و هي سلام اللّه عليها كما يصفها السيد الحميري: انّها أسرع أهلي ميتة و لحاقاً بى،فلا تكثر جزع

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

/29ذي الحجة الحرام من شهور عام 1421ه.

ص:400


1- 1) .أنساب الأشراف:405/1. [1]

2

اشارة

دراسة لسند زيارة عاشوراء

إنّ استحباب زيارة سيد الشهداء الحسين بن علي عليهما السلام في اليوم العاشر من محرم الحرام ممّا أصفق عليه علماء الطائفة الإمامية عبر القرون،و اتفاقهم هذا من أتقن الأدلّة على صحّتها و صدورها عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

قد ورد إلينا سؤال عن سندها في كتب الإمامية،فقمنا بتأليف هذه الرسالة لإزالة الشبهة العالقة ببعض الأذهان،فنقول:

إنّ زيارة سيد الشهداء في العاشر من محرم وردت بطرق خمسة،رواها شيخ الطائفة بطرق ثلاثة غير انّ السند الأوّل يختصّ ببيان ثواب الزيارة دون النصّ المعروف،و الأخيرين طريقان لنفس النصّ،و يعلم ذلك بالإمعان في ما نقله الشيخ في هذا المضمار.

و رواها ابن قولويه بطريقين،فيكون الطرق إليها خمسة و إليك الأسانيد بنصها و تحليلها.

الطرق إليها

السند الأوّل إلى بيان ثواب زيارة الحسين عليه السلام
اشارة

قال الشيخ الطوسي:روى محمد بن إسماعيل بن بزيع،عن صالح بن عقبة،عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام،قال:«من زار الحسين بن علي عليهما السلام في يوم عاشوراء من محرم الحرام حتّى يظلّ عنده باكياً القى اللّه عزّ و جلّ يوم يلقاه

ص:401

بثواب ألفي حجة و ألفي عمرة و ألفي غزوة،ثواب كلّ غزوة و حجّة و عمرة كثواب من حجّ و اعتمر و غزا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و مع الأئمة الراشدين».

قال:قلت جعلت فداك فما لمن كان في بعيد البلاد و أقاصيه و لم يمكنه المصير إليه في ذلك اليوم؟

قال:«إذا كان كذلك برز إلى الصحراء أو صعد سطحاً مرتفعاً في داره و أومأ إليه بالسلام و اجتهد في الدعاء على قاتله و صلّى من بعدُ ركعتين،و ليكن ذلك في صدر النهار قبل أن تزول الشمس،ثمّ ليندب الحسين عليه السلام و يبكيه،و يأمر من في داره ممن لا يتّقيه بالبكاء عليه،و يقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه،و ليعزّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين عليه السلام،و أنا الضامن لهم إذا فعلوا ذلك على اللّه تعالى جميع ذلك».

قلت:جعلت فداك أنت الضامن ذلك لهم و الزعيم؟!

قال:«أنا الضامن و أنا الزعيم لمن فعل ذلك».

قلت:فكيف يُعزّي بعضنا بعضاً؟

قال:«تقولون:أعظم اللّه أُجورنا بمصابنا بالحسين عليه السلام و جعلنا و إيّاكم من الطالبين بثاره مع وليه الإمام المهدي من آل محمد عليهم السلام،و إن استطعت أن لا تنتشر يومك في حاجة فافعل فانّه يوم نحس لا يُقضى فيه حاجة مؤمن،فإن قضيت لم يبارك له فيها و لم ير فيها رشداً،و لا يدَّخرن أحدكم لمنزله فيه شيئاً فمن ادّخر في ذلك اليوم شيئاً لم يبارك له فيما ادّخره،و لم يبارك له في أهله،فإذا فعلوا ذلك كتب اللّه تعالى لهم أجر ثواب ألف حجّة و ألف عمرة و ألف غزوة كلّها مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و كان له أجر و ثواب مصيبة كلّ نبي و رسول و وصي و صدّيق و شهيد

ص:402

مات أو قتل منذ خلق اللّه الدنيا إلى أن تقوم الساعة». (1)

إلى هنا تمّ سند الشيخ إلى بيان ثواب زيارة الحسين يوم عاشوراء دون أن يذكر فيه نصّ خاص للزيارة،بل اقتصرت الرواية في نيل الثواب على ما جاء في الرواية من البروز إلى الصحراء أو الصعود إلى السطح المرتفع و الإيماء إليه بالسلام و الاجتهاد في الدعاء على قاتله...إلى آخر ما جاء في نفس الرواية،و ليس فيها أي أثر من الزيارة الخاصة التي نحن بصدد تقويم سندها.

و إليك دراسة سندها:

أقول:قد أخذ الشيخ الرواية من كتاب محمد بن إسماعيل بن بزيع،و نقل سنده إلى كتابه في الفهرست بالنحو التالي:

ابن أبي جيد،عن محمد بن الحسن بن الوليد،عن علي بن إبراهيم،عن محمد بن إسماعيل بن بزيع. (2)

و على هذا فالشيخ يروي ثواب زيارة الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء عن المشايخ التالية:

1.ابن أبي جيد.

2.محمد بن الحسن بن الوليد.

3.علي بن إبراهيم.

4.محمد بن إسماعيل بن بزيع.

5.صالح بن عقبة.

6.عقبة بن قيس.

7.عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.

و إليك دراسة أحوالهم:

ص:403


1- 1) .مصباح المتهجد و سلاح المتعبد:713. [1]
2- 2) .الفهرست:165 باب محمد:برقم 606؛و [2]ذكره أيضاً ص 183 برقم 705.
1.ابن أبي جيد

علي بن أحمد بن محمد بن أبي جيد المكنّى بأبي الحسين،و هو من مشايخ النجاشي و الشيخ،و مشايخ النجاشي كلّهم ثقات.

2.محمد بن الحسن بن الوليد

محمد بن الحسن بن الوليد(المتوفّى عام 343ه) و هو من مشايخ الطائفة و أجلاّئها،غني عن الوصف و البيان،و يصدر عنه الشيخ الصدوق في التعديل و التجريح.

3.علي بن إبراهيم القمي

علي بن إبراهيم و هو شيخ الكليني الذي كان حيّاً عام 307ه،و هو من مشايخ الطائفة الذين لا يُشق غبارهم.

4.محمد بن إسماعيل بن بزيع

محمد بن إسماعيل بن بزيع من أصحاب أبي الحسن الأوّل و الرضا و الجواد عليهم السلام،يقول الشيخ في رجاله:ثقة صحيح كوفي. (1)و يقول النجاشي:من صالحي هذه الطائفة و ثقاتهم،كثير العمل. (2)

5.صالح بن عقبة

صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان.

عرّفه النجاشي بقوله:صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ربيحة.

ص:404


1- 1) .رجال الشيخ:364،أصحاب الرضا عليه السلام،برقم 6.
2- 2) .رجال النجاشي:214/2 برقم 894.

روى عن أبيه عن جدّه.

و روى عن زيد الشحام.

روى عنه محمد بن الحسين بن أبي الخطاب.

و ابنه إسماعيل بن صالح بن عقبة. (1)

و ليس المراد منه صالح بن عقبة بن خالد الأسدي،و ذلك لأنّ محمد بن إسماعيل بن بزيع يروي عنه بواسطة محمد بن أيوب كما يظهر من طريق النجاشي إلى كتاب خالد الأسدي،حيث قال،بعد ذكر عدّة من المشايخ:...عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن محمد بن أيّوب عن صالح بن عقبة بن خالد الأسدي. (2)

كما أنّ الشيخ اقتصر على ذكر شخص واحد،و قال:صالح بن عقبة له كتاب أخبرنا به ابن أبي جيد عن ابن الوليد عن الصفار محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عنه. (3)و مراده هو:صالح بن عقبة بن قيس لا خالد الأسدي.فما احتمله المحقّق التستري ليس في محلّه. (4)

إذا ظهر ذلك فاعلم:

انّ الضابطة في كلّ ما يذكره النجاشي هو انّه إماميّ فلو كان غير إمامي لتعرض إلى مذهبه،كما أنّه لو كان قدح فيه لذكره.

و على ذلك بنى جمع من علمائنا الرجاليين كالسيد بحر العلوم الطباطبائي رحمه اللّه في الفائدة العاشرة من فوائده الرجالية. (5)فذهب إلى أنّ جميع من

ص:405


1- 1) .رجال النجاشي:444/1،برقم 530.
2- 2) .رجال النجاشي:445/1،برقم 532.
3- 3) .الفهرست:110،برقم 364. [1]
4- 4) .قاموس الرجال:465/5برقم 3633.
5- 5) .الفوائد الرجالية:114/4. [2]

ذكره الطوسي و النجاشي في كتابيهما من الشيعة الإمامية صحيح المذهب،ممدوح بمدح عام يقتضيه الوضع لذكر المصنفين العلماء و الاعتناء بشأنهم و شأن كتبهم و ذكر الطريق إليهم و ذكر من روى عنهم و من رووا عنه إلاّ من نص فيه على خلاف ذلك من الرجال كالزيدية و الفطحية و الواقفية و غيرهم.

و على ضوء ذلك فهو إمامي ممدوح بمدح عام و الذي جاء سبباً لذكره في الكتب.

هذا من جانب و من جانب آخر يروي عنه شيخان عظيمان من مشايخ الشيعة الكبار هما:

1.محمد بن الحسين بن أبي الخطاب(المتوفّى عام 262ه).

2.محمد بن إسماعيل بن بزيع من كبار مشايخ الشيعة.

نعم ضعّفه ابن الغضائري،كما نقله العلاّمة في خلاصته و قال:

غالٍ،كذّاب لا يلتفت إليه. (1)

و لكن ذم الغضائري لا يعتد به،لأنّه قدح كثيراً من ثقاتنا و علمائنا الذين لا يُشق غبارهم و قد كان له عقائد خاصّة في حقّ الأئمّة الاثني عشر فمن تجاوز عنها وصفه بالغلو،و من روى رواية في ذلك الموضوع برواية لا توافق عقيدته وصفه بالكذب و لذلك رتب في كلامه على كونه غالياً،قوله:كذّاباً لا يلتفت إليه.و هذا دليل على أنّ وصفه بالكذب،لتوهم الغلوّ فيه.

كيف يمكن أن يوصف بالغلو و الكذب من هو من مشايخ محمد بن الحسين بن أبي الخطاب أو محمد بن إسماعيل بن بزيع الذي ذكر عند الرضا عليه السلام فقال:«وددت انّ فيكم مثلَه»و من اعتنى بذكره و ذكر كتابه الشيخان النجاشي

ص:406


1- 1) .الخلاصة،القسم الثاني:ص 23؛رجال النجاشي،برقم 894.

و الطوسي.فوثاقته قويّة و روايته معتبرة.

6.عقبة بن قيس بن سمعان

عنونه الشيخ في رجاله و عدّه من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام (1)،و كونه من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام يدلّ على أنّه إمامي و لم يظفر الشيخ بشيء من الذم فيه.

إلى هنا تمت دراسة السند الأوّل للشيخ إلى بيان ثواب زيارة الحسين في يوم عاشوراء.

و السند لا بأس به و هو من الحسن بمعنى الممدوح بالمدح العام لا الممدوح بالمدح الخاص.

***

السند الثاني إلى نصّ الزيارة لشيخ الطائفة

و المهم في المقام هو دراسة سند الشيخ إلى نصّ الزيارة،قال قدَّس سرَّه:

صالح بن عقبة،و سيف بن عميرة،قال علقمة بن محمد الحضرمي،قلت لأبي جعفر عليه السلام:علّمْني دعاء أدعو به ذلك اليوم إذ أنا زرته من قرب و أومأت من بعد البلاد،و من داري بالسلام إليه.

قال:فقال لي يا علقمة:إذا أنت صليت الركعتين بعد أن تومئ إليه بالسلام فقل عند الإيماء إليه من بعد التكبير هذا القول،فانّك إذا قلت ذلك فقد دعوت بما يدعوا بن زوّاره من الملائكة،و كتب اللّه لك مائة ألف ألف درجة و كنت كمن استشهد مع الحسين عليه السلام حتى تشاركهم في درجاتهم ثمّ لا تعرف إلاّ مع الشهداء

ص:407


1- 1) .رجال الشيخ:142،أصحاب الإمام الباقر عليه السلام،برقم 74. [1]

الذين استشهدوا معه و كتب لك ثواب زيارة كلّ نبي و كلّ رسول و زيارة كلّ من زار الحسين عليه السلام منذ يوم قتل عليه السلام و على أهل بيته.

الزيارة:

السّلام عليك يا أبا عبد اللّه،السّلام عليك يا ابن رسول اللّه،السّلام عليك يا ابن أمير المؤمنين و ابن سيد الوصيين،السّلام عليك يا ابن فاطمة سيدة نساء العالمين....

ثمّ قال-بعد السلام مرّة و اللعن مرة-:ثمّ تسجد و تقول:

اللّهمّ لك الحمد،حمد الشاكرين،لك على مصابهم،الحمد للّه على عظيم رزيّتي،اللّهمّ ارزقني شفاعة الحسين عليه السلام يوم الورود،و ثبت لي قدم صدق عندك مع الحسين و أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام.

قال علقمة:قال أبو جعفر عليه السلام:و إن استطعت أن تزوره في كلّ يوم بهذه الزيارة من دارك فافعل فلك ثواب جميع ذلك. (1)

إلى هنا تمت زيارة عاشوراء سنداً و متناً،و إليك دراسة السند فنقول:

سياق العبارة ظاهر في أنّ الشيخ أخذ الرواية من كتاب محمد بن إسماعيل بن بزيع الذي لا كلام في وثاقته،إنّما الكلام فيمن يروي هو عنه،

فقد روى محمد بن إسماعيل نصّ الزيارة بالسند التالي:

أ.صالح بن عقبة و سيف بن عميرة،و هما:

ب.عن علقمة بن محمد الحضرمي.

أمّا صالح بن عقبة فقد تقدمت ترجمته و قد عرفت أنّه في الكتب الرجاليّة إمامي ممدوح بالمدح العام لا الخاص،و لكن دلّت القرائن على كونه مقبول الرواية

ص:408


1- 1) .مصباح المتهجّد:715- 718. [1]

و إنّ ذم الغضائري لا يعتد به.

فلو افترضنا عدم ثبوت وثاقته،فلا يضرّ بصحّة هذا السند لأنّ محمد بن إسماعيل بن بزيع يروي نص الزيارة عن شخصين،أحدهما صالح بن عقبة و الآخر سيف بن عميرة و الثاني ثقة بلا كلام.

قال النجاشي:سيف بن عميرة النخعي،عربي،كوفي،ثقة،يروي عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن،له كتاب يرويه عنه جماعات من أصحابنا. (1)

و صرّح بوثاقته الشيخ في الفهرست. (2)

فالرواة إلى هنا كلّهم ثقات،فالرواية صحيحة.إنّما الكلام في الراوي الأخير،أعني:علقمة بن محمد الحضرمي.

و أمّا علقمة فعدّه الشيخ في رجاله في أصحاب الباقر عليه السلام،و الصادق عليه السلام. (3)

و ليست في الكتب الرجالية تصريحاً بوثاقته،و لكن القرائن تدلّ على وثاقته:

1.روى الكشي عن بكار بن أبي بكر الحضرمي،قال:دخل أبو بكر و علقمة على زيد بن علي و كان علقمة أكبر من أبيه فجلس أحدهما عن يمينه و الآخر عن يساره و كان بلغهما انّه قال:«ليس الإمام منّا من أرخى عليه ستره،إنّما الإمام من شهر سيفه».

فقال له أبو بكر-و كان أجرأهما-:يا أبا الحسين أخبرني عن علي بن أبي طالب عليه السلام أ كان إماماً و هو مرخ عليه ستره أو لم يكن إماماً حتى خرج و شهر

ص:409


1- 1) .رجال النجاشي:425/1 برقم 502.
2- 2) .فهرست الشيخ:104 برقم 335.
3- 3) .رجال الشيخ:140،قسم أصحاب الباقر عليه السلام برقم 38؛و قسم أصحاب الصادق عليه السلام ص262 برقم 641.

سيفه،و كان زيد يبصر الكلام فسكت فلم يجبه،فرد عليه الكلام ثلاث مرات كلّ ذلك لا يجيبه بشيء.

فقال له أبو بكر:إن كان علي بن أبي طالب عليه السلام إماماً فقد يجوز أن يكون بعده إمام مرخ ستره،و إن كان علي عليه السلام لم يكن إماماً و هو مرخ عليه ستره فأنت ما جاء بك هاهنا.

فطلب علقمة من أبي أن يكف عنه فكف. (1)

و الحديث يكشف عن أنّ الأخوين كانا على بصيرة من أمر الإمامة.

2.ما سيوافيك عند دراسة السند الثالث للشيخ من انّ سيف بن عميرة الثقة،اعترض على صفوان بن مهران الثقة بأنّ ما دعا به،لم يرد في رواية العلقمي عن الباقر عليه السلام و اعتذر صفوان-بما سيوافيك في محله-بأنّه سمعه من الإمام الصادق عليه السلام عند زيارته لجدّه الحسين.فالاحتجاج بعدم نقله،و الجواب عنه بأنّه سمعه من الإمام الصادق عليه السلام،حاك عن تسليم الرجلين الثقتين،وثاقة علقمة بن محمد الحضرمي،و إلاّ لما احتجّ به «سيف بن عميرة»،و لما أجاب عنه صفوان بالسماع عن الصادق عليه السلام.

و بذلك يعلم:أنّ الدعاء الوارد بعد الزيارة ليس لعلقمة و إن اشتهر بأنّه منه بل هو لصفوان بن مهران.

فخرجنا بالنتيجة التالية:

1.سند الشيخ إلى كتاب محمد بن إسماعيل بن بزيع صحيح في الفهرست.

2.انّ محمد بن إسماعيل بن بزيع ثقة بالاتفاق.

3.انّ سيف بن عميرة ثقة،صرّح بها النجاشي.

ص:410


1- 1) .الكشي:رقم الترجمة416و 417.

4.علقمة بن محمد الحضرمي،ثقة حسب القرائن التي عرفتها.

إلى هنا تمّ السند الثاني،فلو قلنا بوثاقة علقمة كما هو الحقّ فالسند صحيح و إلاّ فهو حسن بالمدح العام.

السند الثالث إلى نص الزيارة

ثمّ إنّ للشيخ سنداً ثالثاً في«مصباح المتهجد»إلى نصّ الزيارة نأتي بنصه:

قال الشيخ الطوسي:

و روى محمد بن خالد الطيالسي عن سيف بن عميرة،قال:خرجت مع صفوان بن مهران الجمّال و عندنا جماعة من أصحابنا بعد ما خرج أبو عبد اللّه عليه السلام [فسرنا] (1)من الحيرة إلى المدينة.

فلما فرغنا من الزيارة صرف صفوان وجهه إلى ناحية أبي عبد اللّه[الحسين] عليه السلام،فقال لنا:

تزورون الحسين عليه السلام من هذا المكان من عند رأس أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه من هاهنا،و أومى إليه أبو عبد اللّه[الصادق] عليه السلام و أنا معه.

قال:فدعا صفوان بالزيارة التي رواها علقمة بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام في يوم عاشوراء ثمّ صلّى ركعتين عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام و ودّع في دبرهما أمير المؤمنين عليه السلام و أومى إلى الحسين بالسلام منصرفاً بوجهه نحوه و ودّع و كان فيما دعاه في دبرها.

يا اللّه،يا اللّه،يا اللّه،يا مجيب دعوة المضطرين....[الدعاء المعروف بدعاء علقمة].

ص:411


1- 1) .الظاهر انّه زائد و انّ قوله:«من الحيرة إلى المدينة»متعلق بقوله:«خرج أبو عبد اللّه».

و الرواية صريحة في أنّ صفوان زار الإمام الحسين عليه السلام بالزيارة التي رواها علقمة بن محمد الحضرمي و في آخر الرواية،قال:سيف بن عميرة،فسألت صفوان:انّ علقمة بن محمد الحضرمي لم يأت بهذا (الدعاء) أعني:يا اللّه يا اللّه يا اللّه،يا مجيب دعوة المضطرين...و إنّما أتانا بدعاء الزيارة(أي نصّ الزيارة)،فقال صفوان:وردت مع سيدي أبا عبد اللّه عليه السلام إلى هذا المكان ففعل مثل الذي فعلناه في زيارتنا و دعا بهذا الدعاء عند الوداع. (1)

فالاختلاف إنّما كان في الدعاء الذي يُقرأ بعد الزيارة بعد تسليم نصّها المعروف.

دراسة السند الثالث

إنّ الشيخ أخذ الرواية من كتاب محمد بن خالد الطيالسي و ذكر سنده إلى كتابه في«الفهرست»و قال:له كتاب رويناه عن الحسين بن عبيد اللّه(الغضائري)،عن أحمد بن محمد بن يحيى(شيخ الصدوق)،عن أبيه (محمد بن يحيى العطار القمي)،عن محمد بن علي بن محبوب، عنه. (2)

و سنده إلى الكتاب صحيح،و أحمد بن محمد بن يحيى من مشايخ الصدوق و ينقل عنه مع الترضّي عليه،و المشايخ في غنى عن التوثيق.

إذا علمت ذلك فاعلم انّ الحكم بصحة السند،يتوقف على دراسة أحوال الرواة الواردين فيه و هم:

1.محمد بن خالد الطيالسي.

2.سيف بن عميرة.

ص:412


1- 1) .مصباح المتهجد:718و 719و 723. [1]
2- 2) .فهرست الشيخ:176 برقم 648. [2]

3.صفوان بن مهران الجمال.

أمّا الثاني أعني سيف بن عميرة فقد عرفت أنّ النجاشي وثّقه،بقي الكلام في الأوّل و الثالث.

أمّا محمد بن خالد الطيالسي فقد عدّه الشيخ في رجاله في أصحاب الكاظم عليه السلام (1)و تؤيد وثاقته رواية المشايخ الأعاظم عنه نظراء:

1.علي بن الحسن بن فضال.

2.سعد بن عبد اللّه القمي.

3.حميد بن زياد قال الشيخ في فهرسته (2):محمد بن خالد الطيالسي يكنى أبا عبد اللّه روى عنه حميد أُصولاً كثيرة.

4.علي بن إبراهيم القمي.

5.محمد بن علي بن محبوب.

6.محمد بن يحيي المعادي.

7.معاوية بن حكيم. (3)

و قال النجاشي:محمد بن خالد بن عمر الطيالسي التميمي أبو عبد اللّه مات لثلاث بقين من جمادي الآخرة سنة 259و هو ابن 97 سنة. (4)

و لعلّ هذا المقدار يثبت وجاهته في الحديث و انّ له منزلة عند المحدّثين،فيكون إماميّاً ممدوحاً بل مقبول الرواية.

و أمّا الثالث،أعني:صفوان بن مهران فهو كوفي ثقة،يكنّى أبا عبد اللّه. (5)

ص:413


1- 1) .رجال الشيخ:343،من أصحاب الكاظم عليه السلام برقم 26.و لاحظ أيضاً باب من لم يرو عن الأئمّة برقم 11.
2- 2) .فهرست الشيخ:176 برقم 648. [1]
3- 3) .معجم رجال الحديث:76/17. [2]
4- 4) .رجال النجاشي:229/2،برقم 911.
5- 5) .رجال النجاشي:440/1،برقم 523.

إلى هنا تمت دراسة أساتيد الشيخ الثلاثة،فخرجنا بالنتيجة التالية:

إنّ السند الأوّل من الأسانيد الثلاثة،طريق الشيخ إلى ما يترتب على زيارة الحسين عليه السلام على وجه الإطلاق من الثواب،و هو ليس بمطروح عندنا في هذا المقال،و إنّما ذكرناه استطراداً،لأنّ الشيخ روى الجميع في مقام واحد.

و أمّا السند الثاني فرواه الشيخ:

عن سيف بن عميرة و هو ثقة بالاتفاق.

عن علقمة بن محمد الحضرمي و لم يصرح بوثاقته و إنّما دلّت القرائن على وثاقته.

و أمّا السند الثالث فرواه الشيخ:

عن محمد بن خالد الطيالسي،

عن سيف بن عميرة،

عن صفوان بن مهران.

و الأخيران ثقتان و الأوّل لم يصرح بوثاقته و إنّما دلّت القرائن على مقبولية روايته في الحديث.

فحان البحث عن سند ابن قولويه إلى نصّ الزيارة.

ص:414

سند ابن قولويه

اشارة

إلى زيارة عاشوراء

روى ابن قولويه في كتاب«كامل الزيارات»زيارة عاشوراء بالسند التالي:

حدثني حكيم بن داود بن حكيم و غيره.

عن محمد بن موسى الهمداني،

عن محمد بن خالد الطيالسي،

عن سيف بن عميرة و صالح بن عقبة جميعاً،

عن علقمة بن محمد الحضرمي،

عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:«من زار الحسين يوم عاشوراء حتّى يظلّ عنده باكياً لقى اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة بثواب ألفي حجّة...».

و محمد بن إسماعيل،عن صالح بن عقبة،عن مالك الجهني،عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:«من زار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء من محرم حتى يظل عنده...». (1)

و قد تمّ السند الأوّل بقوله:«عن علقمة بن محمد الحضرمي»ثمّ ابتدأ بسند آخر و قال:و محمد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة.

و على ذلك ففي قوله:و محمد بن إسماعيل احتمالان:

ص:415


1- 1) .كامل الزيارات:174،الباب 71. [1]

الأوّل:انّ ابن قولويه شرع بأوّل السند و أخذ الرواية عن كتاب محمد بن إسماعيل بن بزيع لما عرفت من أنّ الشيخ روى نفس الزيارة عن ذلك الكتاب،و طريقه إليه صحيح فينتج قيام الحجة على وجود نصّ الزيارة في ذلك الكتاب و قد تناول كلّ من العلمين الطوسي و ابن قولويه نقلها من ذلك الكتاب،غير انّا نعلم بسند الشيخ إلى الكتاب و لا نعلم سند ابن قولويه إليه،و لكنّه لا يضر بصحّة الرواية للعلم بوجود الرواية في ذلك الكتاب عن طريق الشيخ.

و هذا الاحتمال هو الأوجه و عليه يكون لابن قولويه سندان إلى زيارة عاشوراء.

الثاني:انّ قوله«و محمد بن إسماعيل»عطف على قوله:«محمد بن خالد الطيالسي»و انّ سند ابن قولويه إلى كتاب محمد بن إسماعيل نفس سنده إلى كتاب محمد بن خالد الطيالسي،فيروي كتاب ابن بزيع عن الطريق الذي يروي به كتاب الطيالسي.

و على ذلك يكون سنده إليه كالتالي:

حكيم بن داود،عن محمد بن موسى الهمداني،عن محمد بن إسماعيل بن بزيع؛و هذا الاحتمال بعيد.

و ثمة احتمال ثالث لا يتفوّه به من له إلمام بالرجال،و هو انّ قوله«و محمد بن إسماعيل»عطف على قوله:«علقمة بن محمد الحضرمي» و جزء من السند السابق،لانّه بعيد عن الصواب غاية البعد،لأنّ علقمة من أصحاب الباقر و الصادق عليهما السلام و ابن بزيع من أصحاب الرضا و الجواد عليهما السلام،و مع الاختلاف في الطبقة كيف يعطف المتاخر طبقة،على المتقدم كذلك؟!

إذا عرفت ذلك فلنتاول رواة السند الأوّل بالبحث.

ص:416

1.حكيم بن داود بن حكيم

أحد مشايخ جعفر بن قولويه و قد وثّق مشايخه إجمالاً في أوّل كتابه فقال:لا يذكر في كتابه إلاّ ما وقع له من جهة الثقات،و روى عنه في كامل الزيارات في الباب الثاني،الحديث11 و الباب 54 الحديث الثالث. (1)

مضافاً إلى الباب 71،الحديث 9.

2.محمد بن موسى بن عيسى الهمداني

ذكره النجاشي بقوله:محمد بن موسى بن عيسى أبو جعفر الهمداني السمان،يروي عنه محمد بن يحيى العطار القمي على ما في طريق النجاشي إلى كتابه،حيث قال:أخبرنا ابن شاذان،عن أحمد بن محمد بن يحيى،عن أبيه،عنه بكتبه.

كما يروي عنه محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري،الذي هو شيخ مشايخ الكليني،و قد ورد في أسناد نوادر الحكمة، للأشعري،غير انّ الغضائري ضعّفه،و مع ذلك قال:ضعيف،يروي عن الضعفاء و يجوز أن يخرج شاهداً.

و ضعّفه ابن الوليد أُستاذ الصدوق.

غير انّ تضعيف هؤلاء يرجع إلى الاختلاف في مقامات الأئمّة فانّ للقميين و على رأسهم محمد بن الوليد عقائد خاصة في حقّ أهل البيت عليهم السلام ربما لا يرتضيه محقّقو الإمامية.

يقول الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد:و قد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد لم نجد لها دافعاً في التفسير و هي ما حكي عنه انّه قال:أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي و الإمام عليه السلام،فإن صحّت هذه

ص:417


1- 1) .قاموس الرجال:3برقم 2385.

الحكاية عنه فهو مقصر مع أنّه من علماء القميين و مشيختهم،و قد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهراً في الدين و ينزلون الأئمّة عليهم السلام عن مراتبهم و يزعمون انّهم كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم،و رأينا في أُولئك من يقول انّهم ملتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي و الظنون و يدّعون مع ذلك انّهم من العلماء،و هذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه. (1)

و على هذا فلا بعد أن يكون تضعيفه من جانب ابن الوليد لأجل اختلافهما في مقامات الأئمّة،و لأجل ذلك لما نقل النجاشي قول ابن الوليد بأنّه يقول كان يضع الحديث،عقّبه بقوله(و اللّه أعلم). (2)

3.محمد بن خالد الطيالسي

قد مرت ترجمته عند دراسة السند الثالث للشيخ الطوسي و قد دلّت القرائن على كونه مقبول الرواية.

4.سيف بن عميرة

قد مرّ انّه ثقة بلا إشكال.

5.صالح بن عقبة

مرّت ترجمته عند دراسة السند الأوّل للشيخ.و انّه امامي ممدوح بالمدح العام.

ص:418


1- 1) .تصحيح الاعتقاد:66.
2- 2) .رجال النجاشي:227/2برقم 905.
6.علقمة بن محمد الحضرمي

تقدّمت ترجمته عند دراسة سند الشيخ إليه،و قلنا بأنّ القرائن تدلّ على وثاقته.

إلى هنا تمّ السند الأوّل للشيخ بن قولويه.

و إليك دراسة السند الثاني.

***

دراسة السند الثاني لابن قولويه

روى محمد بن إسماعيل،عن صالح بن عقبة،عن مالك الجهني،عن أبي جعفر الباقر عليه السلام:من زار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء من محرم حتّى يظل عنده باكياً.

و هذا السند غني عن الدراسة إلاّ ترجمة مالك الجهني.

فانّ محمد بن إسماعيل و صالح بن عقبة قد تقدمت ترجمتهما،و أمّا مالك الجهني فقد عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الباقر و من أصحاب الصادق عليهما السلام قائلاً:الكوفي مات في حياة أبي عبد اللّه عليه السلام. (1)

و يمكن استظهار وثاقته من الأُمور التالية:

الأوّل:ما رواه علي بن إبراهيم،عن محمد بن عيسى،عن يونس،عن يحيى الحلبي،عن مالك الجهني،قال:قال أبو جعفر:يا مالك أنتم شيعتنا أ لا ترى انّك تفرّط في أمرنا،إنّه لا يقدر على صفة اللّه فكما لا يقدر على صفة اللّه،

ص:419


1- 1) .رجال الشيخ:145،قسم أصحاب الباقر عليه السلام برقم 11 و أصحاب الصادق عليه السلام ص302 برقم 458. [1]

كذلك لا يقدر على صفتنا،و كما لا يقدر على صفتنا كذلك لا يقدر على صفة المؤمن،إنّ المؤمن ليلقى المؤمن فيصافحه،فلا يزال اللّه ينظر إليهما و الذّنوب تتحاتُّ عن وجوههما،كما يتحاتُّ الورق من الشّجر،حتّى يفترقا،فكيف يقدر على صفة من هو كذلك. (1)

و الرواية و إن كانت تنتهي إلى نفس مالك الجهني لكن اعتناء علي بن إبراهيم القمي و محمد بن عيسى بن عبيد و يونس بن عبد الرحمن بنقلها حاك عن اعتمادهم على روايته.

الثاني:روى الكليني،عن عيسى الحلبي،عن ابن مسكان،عن مالك الجهني قال:قال لي أبو عبد اللّه:يا مالك أما ترضون أن تقيموا الصلاة و تؤتوا الزكاة و تكفّوا و تدخلوا الجنّة؟ يا مالك إنّه ليس من قوم ائتموا بإمام في الدنيا إلاّ جاء يوم القيامة يلعنهم و يلعنونه إلاّ أنتم و من كان على مثل حالكم،يا مالك إنّ الميت و اللّه منكم على هذا الأمر لشهيد بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل اللّه. (2)

الثالث:انّ مدحه للإمام الباقر عليه السلام يعرب عن وقوفه بمقام الإمام و انّه كان يجاهر بالولاء يوم كان الجهر به محظوراً،و قال: إذا طلب الناس علم القرآ

***

ص:420


1- 1) .الكافي:180/2ح6. [1]
2- 2) .الروضة:146،برقم 122. [2]

هذه إشارة سريعة إلى أسانيد زيارة عاشوراء،و قد عرفت صحّة بعضها و مقبولية البعض الآخر،و المجموع يشد بعضه بعضاً و يورث العلم أو الاطمئنان المتاخم للعلم بصدور الرواية عن المعصوم عليه السلام مضافاً إلى أمرين:

1.اتفاق العصابة و مواظبتهم على قراءتها عبر القرون و هي إحدى القرائن على صدور الرواية.

2.انّ الإمعان في مضمون الزيارة يعرب عن أنّه صدر من قلب ملؤه الشجون و الأحزان،لا يسكن دمعه ولوعه إلاّ بأخذ الثأر،و هو يتفق بذلك مع مضامين سائر الروايات الواردة في الأدعية و الزيارات.

إلى هنا تمّ ما أردنا بيانه في هذه الرسالة من

دراسة سند زيارة الحسين عليه السلام

في عاشوراء

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

حررت في 20 صفر المظفر من شهور عام 1422ه

ص:421

ص:422

الفصل الرابع حول الحج

اشارة

1.في الحجّ و انّه ملتقى عبادي و سياسي

2.اعلان البراءة في الحجّ

3.ما ذا يهدف إليه الحجّ

4.أبعاد الحجّ الاجتماعية و السياسية في الكتاب

5.أبعاد الحجّ الاجتماعية و السياسية في السنّة

6.أبعاد الحجّ الاجتماعية و السياسية في سيرة السلف

7.أبعاد الحجّ الاجتماعية و السياسية في كلمات العلماء

ص:423

ص:424

1

الحج

موسم عبادي،و ملتقى سياسي

جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس و جعل الحجّ موسماً للعبادة،و فرصة لالتقاء المسلمين الوافدين من كلّ صقع و صوب ليتعارفوا،و ليتعرّفوا على معالم دينهم و يطّلعوا على أحوالهم،فهذا هو-بعد العبادة-من أظهر مصاديق قوله تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» ،و أيّ منفعة-بعد العبادة-أكبر من أن يلتقي الإخوة في اللّه في نقطة واحدة بعيداً عن جميع الاعتبارات الشخصية و الاجتماعية و الحواجز القومية و الإقليمية و العرقية يُخيِّم عليهم ظلال الدين،و تَغمرهم مشاعر المحبّة و المودّة و تجمعهم روح الاخوّة الصادقة الصافية؟

و أيّ مسألة أهمّ من أن يتعرّف المسلمون على الأخطار و المشاكل المحدِقة بهم،و يتدارسوا حلولها المناسبة و يعملوا معاً و بيد واحدة، و عزيمة متضافرة لإزالتها،أو يخفّضوا من وطأتها و ثقلها عن كواهلهم.

و أيّ مشكلة هي أكثر ضغطاً على المسلمين اليوم من مشكلة الاستكبار المتشكّل بأشكال مختلفة الّذي يحتلّ بلاد المسلمين عسكرياً، أو يسيطر عليها سياسياً،أو يغزوها ثقافياً،و ينهب ثروات المسلمين،و يثير الفتن بينهم،

ص:425

و يقتل أبناءهم،و يُفسد شبابهم،و....

أ ليس«الحجّ»خير مكان لإعلان الاستياء الإسلامي العام من هذا الاستكبار الخبيث البغيض و في طليعته أمريكا و أذنابها.

و إذا كان المسلمون المظلومون،المضطهدون في بلادهم لا يستطيعون الإعلان عن استيائهم و غضبهم على المستعمرين في عقر ديارهم،لوجود حكومات عميلة تخنق الأصوات،و تُكمّ الأفواه،أ فلا يكون الحجّ أفضل فرصة و أحسن مكاناً لإعلان هذا الاستياء و الغضب جنباً إلى جنب مع كافّة الإخوة المسلمين إلى جانب العبادة و الخضوع و التضرّع و الإنابة؟

أ ليس رفض الطواغيت الذي يعتبر الخضوع لحكمها،و السير في ركابها،و الركون إليها من مصاديق«الشرك في الطاعة»من أبرز مظاهر التوحيد الّذي جعل اللّه الحجّ تجسيداً له،و تحقيقاً لحقيقته؟

و لقد أدرك المسلمون اليوم هذه الحقيقة،و مع تنامي الحركة الإسلامية و تصاعد الصحوة الإسلامية أدركوا أنّ الحجّ هو المكان المناسب و الفرصة المناسبة لتوحيد صفوف المسلمين،و إيقاظهم،و إيقافهم على حقيقة الأحداث المأساوية الّتي يقف وراءها أعداء الإسلام:أمريكا و إسرائيل و بريطانيا و فرنسا و غيرهم من قوى الاستكبار و الاستعمار.

لقد أدركوا أنّ الحجّ خير فرصة لإعلان الاستياء الإسلامي العام من الاستعمار البغيض جنباً إلى جنب مع العبادة و الإنابة امتثالاً لقوله تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ...» 1 الذي يشير إلى فلسفة الحجّ المزدوجة:العبادية و السياسية و جانبيه الدنيويّ و الأُخروي.

ص:426

و لكن مع الأسف نجد بعض من يدّعي العلم،و يتصدّر مقام الدعوة إلى الإسلام يخالف بشدة هذه الحركة المباركة و هذه الخطوة العظيمة المؤثرة التي لا تهدف إلاّ إنقاذ المحرومين و المظلومين،و شجب الاستعمار و الاستعباد،و هو يسمع باستمرار أخبار المذابح و المجازر الّتي تؤدي بحياة الكثير من أبناء الأُمّة الإسلامية كلّ يوم و بسبب مباشر من كيد الاستعمار في فلسطين و لبنان و أفغانستان و ارتيريا،و البوسنة و الهرسك و غيرها.

هذا البعض بدل أن يضمّ صوته إلى أصوات بقيّة المسلمين المستنكرة لأعمال الاستعمار،الشاجبة لجرائمهم بحقّ الإسلام و المسلمين نجده يضمّ صوته إلى أصوات الدوائر الاستعمارية و يهرّج في أبواقه الإعلامية ضدّ المسلمين،و يستنكر غضبهم على الاستعمار المتمثّل اليوم في أمريكا و إسرائيل و بريطانيا و فرنسا الملطّخة أيديهم بدماء المسلمين المبنيّة قصورهم على جماجم أبناء الإسلام.

و أعجب من كلّ هذا تمسّكه لتحريم هذه الخطوة المباركة بقوله تعالى: «فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ» الذي لا علاقة له بهذه المسألة أصلاً.

ذلكم هو الشيخ عبد اللّه الخيّاط إمام و خطيب المسجد الحرام الذي اعتبر طرح مشاكل المسلمين السياسية في موسم الحجّ خروجاً عن مفاهيم الحجّ،و استدلّ لذلك بقول اللّه تعالى: «...فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ...» . (1)

و قال:و كما أرادها الرسول في قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«من حجّ و لم يرفثْ و لم يَفسق عادَ

ص:427


1- 1) .البقرة:197. [1]

كيوم ولدَتهُ أُمّه».

أمّا دعوة إيران الخميني التي يريد أن يحوّل الحجّ إلى شعارات سياسية،و إلى مظاهرات دعائية،و إلى ممارسات فوضوية،فهي مرفوضة شكلاً و مضموناً لأنّها تتنافى مع تعاليم ديننا الحنيف،و تخرج عن مفاهيمه و مبادئه السمحة،و لأنّها تقوّض ركناً من أركانه،ففيها انتهاك لحرمات اللّه،و اجتراء على شعائر اللّه،و خروج على النهج الّذي رسمه اللّه.

إنّ دعوة إيران الخميني تثير الفتنة و تشتّت الشمل و تحوّل المحبّة إلى أحقاد،و تحوّل المشاعر المقدّسة إلى ساحات لرفع الشعارات السياسية،و نشر الدعوات المشبوهة،فما من مسلم على وجه الأرض إلاّ و يرفض هذه الدعوة و يستنكرها،لأنّ فيها خروجاً على الإسلام و انتهاكاً لشعائره.

و الحجّ لا يمكن أن يكون إلاّ ملتقىً روحياً و مؤتمراً سنوياً يجتمع فيه المسلمون الوافدون من كلّ فجّ عميق. (1)

إنّ ما ورد في هذا الخطبة من العبارات و الكلمات هي الّتي نسمعها من الخطباء في كلّ عام،فهم لا يتجاوزون عن تلاوة نفس الآية، و اتّباعها بما سمعتَ من هذا الخطيب من الكلمات و العبارات الجوفاء.

و نحن-هنا-لا نقابل الشيخ إلاّ بما أمرنا به سبحانه في قوله: «وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» فنشرح معنى الآية و نوضحها حتّى يظهر المراد منها،و يعلم الجميع أنّ المظاهرات السياسية و إعلان البراءة من الكفّار و شجب أعمالهم المعادية للإسلام و المسلمين،و دعوة المسلمين إلى الوحدة الّتي هي روح تلك المظاهرات التي أمر بها الإمام الخميني،ليست مصداقاً للجدال الوارد في الآية.

ص:428


1- 1) .مجلة رابطة العالم الإسلامي،السنة الحادية و العشرون،العدد الثاني عشر.

2

اشارة

إعلان البراءة و الجدال في الحج

يقول سبحانه: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ» . (1)

و إليك تفسير الآية و إيضاح مفهومها.

1.إنّ تكرار لفظ«الحجّ»في الآية ثلاث مرّات مضافاً إلى أنّه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر،فيه لطف الإيجاز،فإنّ المراد بالحجّ الأوّل:زمان الحجّ،و بالحجّ الثاني:نفس العمل،و بالثالث:زمان الحجّ و مكانه،و لو لا الإظهار لم يكن بدّ من إطناب غير لازم.

قال صاحب تفسير المنار:

«إنّ من بلاغة الإيجاز في الآية التصريح في مقام الإضمار بذكر الحجّ ثلاث مرّات،المراد بأوّلها:زمان الحجّ،و بالثاني:الحجّ نفسه المسمّى بالنسك،و بالثالث:ما يعمّ زمان أدائه و مكانه و هو أرض الحرم و ما يتبعها كعرفات». (2)

2.المراد من قوله: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ» أي ألزم نفسه بالشروع في

ص:429


1- 1) .البقرة:197. [1]
2- 2) .تفسير المنار:228/2.

الحجّ بالنيّة قصداً باطناً و الإحرام فعلاً ظاهراً،و بالتلبية نطقاً مسموعاً. (1)

3.المشهور أنّ الرفث هو الجماع،و عن عبد اللّه بن عمر و طاوس و عطاء و غيرهم الرفث،الإفحاش للمرأة بالكلام (2)أو مطلق الفحش (3)و قيل غير ذلك.

4.و فسّر الفسوق بجميع المعاصي كلّها،و قال ابن زيد و مالك:الفسوق الذبح للأصنام،و قال الضحّاك:الفسوق التنابز بالألقاب،و قال ابن عمر:الفسوق السباب،و القول الأوّل هو الأصحّ،لأنّه يتناول جميع الأقوال.

و قد روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:

«من حَجّ فلم يرفث و لم يفسق رجع كيوم ولدَتهُ أُمّه»و«الحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلاّ الجنّة»أخرجه مسلم و غيره. (4)

5.و الجدال في اللغة هو المنازعة و المشاجرة و المخاصمة.

يقال:جدلت الحبل فتلته،و الجديل زمام البعير.

و سمّيت المخاصمة مجادلة لأنّ كلّ واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه.

و المهمّ في المقام هو تفسير قوله تعالى: «وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ» و تعيين المقصود منه،و قد اتّخذه المخالف دليلاً على حرمة المظاهرات و إلقاء الخطب السياسية،و المناشدات الجماعية و إظهار البراءة من الكفّار و المنافقين.

و لا يتبيّن مقدار دلالة الآية على ما يرتئيه هؤلاء إلاّ بنقل جميع الاحتمالات الّتي ذكرها الكبار من المفسّرين و إليك بيانها:

ص:430


1- 1) .تفسير القرطبي:406/2. [1]
2- 2) .المصدر نفسه. [2]
3- 3) .تفسير الكشاف للزمخشري:264/1.
4- 4) .تفسير القرطبي:408/2. [3]

المعنى الأوّل:

ما ذكره القاضي البيضاوي و مال إليه الرازي (1)من حمل قوله سبحانه: «فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ» على الخبر،و معناه أنّ الحجّ لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد،لأنّه كالضدّ لها،و هي مانعة من صحّته،و على ذلك يجب أن يحمل الألفاظ الثلاثة على أعمال تفسد الحجّ،و توجب القضاء من قابل إذا كان واجباً،فيفسّر«الرفث»بالجماع،و«الفسوق»بالزنا،لأنّه مفسدة،و يحمل الجدال على خصوص الشكّ في الحجّ و وجوبه و صحّة تشريعه و كونه عملاً موافقاً للعقل.

و الحاصل:انّ الظاهر هو حصول المضادّة بين هذه الأشياء و الحجّ الّذي أمر اللّه تعالى به ابتداءً.

و على ذلك...فكما لا يمكن الأخذ بمطلق«الفسوق»إذ ليس كلّ فسوق مفسداً كالكذب و الغيبة لا يمكن الأخذ بمطلق«الجدال»إذ ليس كلّ جدال مفسداً غير مجامع مع الحجّ بل جدالاً خاصّاً غير مجامع معه كالشكّ في وجوبه و صحّة تشريعه،و القول بلغوية الطواف على الحجر و التراب و الأخشاب.

و هذا المعنى الذي اختاره القاضي و جنح إليه الرازي في تفسيره،هو المختار لكثير من الفقهاء في بعض التراكيب مثل قوله:«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»أو«لا صلاة إلاّ بطهور»و المقصود نفي الصحّة بدونهما،و أنّ حقيقتهما تتقوّم بهما،كما أنّ المقصود من الآية أيضاً نفي صحّة الحجّ مع أحد هذه الأُمور الثلاثة.

فلو صحّ ذلك الاحتمال،فلا يصحّ الاستدلال معه على ما يرتئيه هؤلاء من حرمة مطلق الجدال،و منه المظاهرات،إذ الآية بصدد بيان حرمة الجدال الذي لا يجتمع مع صحّة الحجّ،و ليس بصدد بيان حرمة كلّ جدال و إن جامع مع صحته.

ص:431


1- 1) .مفاتيح الغيب:175/2 و [1]نقله عن القاضي أيضاً.

و المظاهرات على فرض كونها جدالاً (1)حراماً ليست مفسدة للحجّ بالضرورة.

المعنى الثاني

التفريق بين الأُمور الثلاثة بحمل الأوّلين على النهي،و إن كان عدولاً عن ظاهر اللفظ أي:لا ترفثوا و لا تفسقوا،و حمل الثالث على الخبر، أي أنّه لا جدال و لا خلاف في وقت الحجّ و مكانه،و على هذا فالمراد:لا جدال و لا خلاف في وقت الحجّ و مكانه،و هذا المعنى هو الّذي أصرّ عليه ابن جرير الطبري في تفسيره (2)و ذكره الزمخشري (3)و استشهدا عليه بوجهين:

الأوّل:إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم-قال:«مَن حجّ للّه و لم يرفث و لم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أُمّه»و لم يقل«و لم يجادل»و في هذا دلالة على أنّ الأوّلين بمعنى النهي عن الرفث و الفسوق،دون الثالث،و إلاّ كان عليه عطف الثالث عليهما بصورة النهي،بل هو بمعنى الخبر و نفى من اللّه جلّ و عزّ عن شهور الحجّ الاختلاف في وقته و مكانه الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها.

الثاني:إنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام و سائر العرب بعرفة،و كانوا يقدّمون الحجّ سنة و يؤخّرونه سنة و هو المعروف ب«النسيء»فردّ إلى وقت واحد،و ردّ الوقوف إلى عرفة،فأخبر اللّه تعالى أنّه قد ارتفع الخلاف في الحجّ،و قد أخبر اللّه عن النسيء بأنّه «زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً». 4

ص:432


1- 1) .سيوافيك انّ إعلان البراءة ليس من مصاديق الجدال.
2- 2) .تفسير الطبري:162/2. [1]
3- 3) .تفسير الكشاف:246/1. [2]

نعم رجع الحجّ إلى زمانه و مكانه في حجّة الوداع قال صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات و الأرض»و قال القرطبي:

يعني رجع أمر الحجّ كما كان،أي عاد إلى يومه و وقته،و قال صلى الله عليه و آله و سلم لمّا حجّ:«خذوا عنّي مناسككُم»فبيّن بهذا مواقف الحجّ و مواضعه. (1)

فلو قلنا بهذا الوجه لما كان لقوله تعالى صلة بما يرتئيه الخطيب الخيّاط،إذ ليس هو بمعنى النهي حتّى يكون تكليفاً إلزامياً شاملاً لمطلق الجدال،بل هو كلام خبري،و الخبر حقيقة تكوينية و أنّ أمر الحجّ-بعد عمل رسول اللّه و تحديده المواقف و المشاعر،و تثبيته في شهر خاصّ - أصبح كالشمس في رائعة النهار فهو أرفع من أن يحوم حوله الشكّ من حيث الزمان و المكان.فأيّ صلة لهذا الكلام بحرمة المجادلة أوّلاً،و حرمة المظاهرات السياسية ثانياً،لو قلنا بأنّها من مصاديق الجدال.

قال ابن جرير:

«و أعجب الأقوال إليّ في ذلك-إذ كان الأمر على ما وصفت-قراءة من قرأ«فلا رفَث وَ لا فُسُوقٌ وَ لا جِدالَ فِي الحَجَّ»برفع الرفث و الفسوق و تنوينهما،و فتح الجدال بغير تنوين،و ذلك هو قراءة البصريّين و كثير من أهل مكّة منهم عبد اللّه بن كثير،و ابن عمرو بن العلاء». (2)

و إنّما رفع الأوّلان و نصب الثالث حملاً للأوّلين على معنى النهي كأنّه قيل:فلا يكوننَّ رفث،و لا فسوق،و الثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنّه قيل:و لا شكّ و لا خلاف في الحجّ،أي في موعده و زمانه.

ص:433


1- 1) .تفسير القرطبي:410/2. [1]
2- 2) .تفسير ابن جرير:161/2.

المعنى الثالث

ما اختاره كثير من المفسّرين هو حمل النفي على النهي و الغاية هو النهي عن الأُمور الثلاثة،و عندئذٍ يتوهّم المستدلّ أنّ ظاهر الآية هو النهي عن مطلق الجدال و منه المظاهرات السياسية.

غير أنّه يجب على المريد للحقيقة وقفة قليلة حتّى يتبيّن أمران:

1.إنّ الجدال ينقسم إلى محرّم و مباح و مندوب،فهل المنهيّ عنه هو مطلق الجدال أو يختصّ بالقسم الأوّل منه؟ و كونه محرّماً في غير الحجّ يلازم كونه محرّماً فيه أيضاً،بل تكون الحرمة أشدّ.

2.إنّ المظاهرات السياسيّة،و إلقاء الخطب،و إيقاظ المسلمين عن غفلاتهم،و إظهار البراءة من أعدائهم الشرقيّين و الغربيّين،هل هي من مصاديق الجدال و موارده أو لا صلة لها بذلك أبداً؟ و إليك بيان الأمرين:

إنّ المراد بالجدال هنا هو المراء الذي يجب الاجتناب عنه في الحجّ و غيره،و لكنّه في الحجّ أولى.

قال الزمخشري:

«و لا جدال:أي و لا مراء مع الرفقاء و الخدم و المكارين،و إنّما أمر باجتناب ذلك،و هو واجب الاجتناب في كلّ حال،لأنّه في الحجّ اسمج كلبس الحرير في الصلاة،و التطريب في قراءة القرآن». (1)

و قال في المنار:

«الجدال:المراء و الخصام،فتكون هذه المناهي كلّها آداب لسانية،و يجب أن

ص:434


1- 1) .الكشاف:263/1. [1]

يكون المرء في أوقات العبادة و الحضور مع اللّه سبحانه على أكمل الآداب و أفضل الأحوال». (1)

قال الجصّاص:

«الجدال:المراء،و قال ابن عبّاس:الجدال أن تجادل صاحبك حتّى تغيضه.ثمّ قال:إنّ المُحْرم منهي عن السباب و المماراة في أشهر الحجّ و في غير ذلك و عن الفسوق،و إن كانت محظورة قبل الإحرام،فإنّ اللّه نصّ على حظرها في الإحرام تعظيماً لحرمة الإحرام،و لأنّ المعاصي في حال الإحرام أعظم و أكبر عقاباً في غيرها منها». (2)

و يوضّح ذلك اقتران«الجدال»مع«الفسوق»فهو يكشف عن كون الأمرين من قماش واحد و جنس واحد،فلا يصحّ تعميمه إلى مطلق الجدال المباح أو المندوب في الشريعة.

و في الشريعة الإسلامية أنواع جدال مباحة بل و مندوبة لا تعمّها الآية.

أمّا المباح منها فهو ما ورد في قوله سبحانه:

«قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّهِ» . (3)

فلو حدَث مثل هذا الأمر في الحجّ لم يكن محرّماً لا من المتكلّم و لا من المستمع.

و يدلّ على أنّ المراد من الجدال هو الجدال الممنوع و المراء اللازم الاجتناب،أنّهم فسّروا الجدال في الآية بأُمور لا تخرج جميعها عن الجدال و المراء الممنوع.

ص:435


1- 1) .تفسير المنار:227/2- 228.
2- 2) .أحكام القرآن:308/1. [1]
3- 3) .المجادلة:1. [2]

قال الرازي:«ذكر المفسّرون وجوهاً في هذا المجال:

1.هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب و التكذيب و التجهيل.

2.قال محمّد بن كعب القرضي:إنّ قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم:حجّنا أتمّ،و قال آخرون:بل حجّنا أتمّ،فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك.

3.قال مالك في الموطّأ:الجدال في الحجّ أنّ قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح و كان غيرهم يقفون بعرفات و كانوا يتجادلون يقول هؤلاء:نحن أصوب،و يقول هؤلاء:نحن أصوب،قال اللّه تعالى: «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ* وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» 1 قال مالك:هذا هو الجدال.

4.قال القاسم بن محمّد:الجدال في الحجّ أن يقول بعضهم:الحجّ اليوم،و آخرون:بل غداً،و ذلك أنّهم أُمروا أن يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلّة.

5.قال القفّال:يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول اللّه حين أمرهم بفسخ الحجّ إلى العمرة فشقّ عليهم ذلك،و قالوا:نروح إلى منى و مذاكيرنا تقطر منيّاً؟! فقال صلى الله عليه و آله و سلم:لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي و لجعلتها عمرة،و تركوا الجدال حينئذٍ.

6.قال عبد الرحمن بن زيد:جدالهم في الحجّ بسبب اختلافهم في أيّهم المصيب في الحجّ لوقت إبراهيم عليه الصلاة و السّلام.

7.إنّهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم:لا جدال في الحجّ فإنّ الزمان

ص:436

استدار و عاد إلى ما كان عليه الحجّ في وقت إبراهيم.

فهذا مجموع ما قاله المفسّرون في هذا الباب. (1)

فهذه الأمثلة تفيد أنّ المراد من الجدال في الآية هو الجدال المنهيّ عنه سواء أ كان منهيّاً عنه بالنهي التحريميّ أو النهي التنزيهيّ الكراهيّ.

و جاء في«الفقه على المذاهب الأربعة»:و يحرم الخروج عن طاعة اللّه تعالى بأيّ فعل محرّم،و إن كان ذلك محرماً في غير الحجّ،إلاّ أنّه يتأكّد فيه و تحرم المخاصمة مع الرفقاء و الخدم و نحوهم لقوله تعالى: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ» و الجدال:المخاصمة. (2)

و على ذلك فالجدال المباح و المناقشة من غير أن يثير غضب الآخر كالجدال الوارد في قوله سبحانه: «قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللّهِ» خارج عن مصبّ الآية،فلو كانت المرأة الشاكية محرمة،و قد رفعت أمرها إلى النبيّ و طلبت حقّها من زوجها،لم يُعَدّ ذلك من الجدال المحرّم و المراء المنهيّ عنه و المخاصمة المبغوضة بل يعدّ طلباً للحقّ عن طريقه.

روى المفسّرون أنّ امرأة من الأنصار بعد ما ظاهر منها زوجها جاءت إلى النبي و قالت:إنّ زوجي تزوّجني و أنا شابة غانية ذات مال و أهل حتّى إذا أكل مالي و أفنى شبابي و تفرّق أهلي و كبر سنّي ظاهر منّي...إلى آخر ما ذكرته.

فإذا كان الجدال المباح خارجاً عنها فالجدال المندوب أولى بالخروج منه،كيف لا و قد أمر سبحانه نبيّه بالجدال المندوب في كتابه.

ص:437


1- 1) .تفسير الإمام الفخر الرازي:175/1.
2- 2) .الفقه على المذاهب الأربعة:524/1. [1]

فلو طرحت في أثناء الحجّ مسألة فقهية أو عقائدية أو تفسيرية و عرض كلّ واحد رأيه في المسألة و جادله الآخر بالتي هي أحسن،فلا يكون ذلك حراماً محظوراً بل هو عمل بقوله: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...» . (1)

و لو جرى بحث في مخيّمات عرفات حول مسألة فقهية أو كلامية فأخذ أحد المسلمين موقفاً خاصّاً،و دافع عن معتقده بالدليل و البرهان من دون إبراز مخاصمة أو لجاج أو عناد فلا شكّ في جواز ذلك،و لا يعدّ ذلك داخلاً في الجدال الوارد في الآية.

هذا ما لدى القوم و أمّا ما عند أهل البيت الذين هم أعدال الكتاب و قرناؤه في لسان النبيّ الأعظم (2)فقد فسّر الجدال المذكور في الآية بقول الرجل:لا و اللّه و بلى و اللّه،فإذا حلف بثلاث أيمان متتابعات صادقاً فقد جادل و عليه دم،و إذا حلف بيمين واحدة كاذبة فقد جادل و عليه دم. (3)

و أين هذا من تحريم مطلق الجدال الّذي يدّعيه القوم؟! و إنّما المحرّم حسب رواياتهم هو الجدال الخاصّ كما عرفت.

لنفترض أنّ الآية تعمّ جميع المجادلات المحرّمة في غير الحجّ و المباحة و المندوبة كافة،غير أنّ المراد هو مجادلة الحاج مع الحاج الآخر،أو مجادلة الحاج مع من في الحرم،و أمّا المظاهرات التي تقوم بها جموع الحجّاج المسلمين و إعلان البراءة

ص:438


1- 1) .النحل:125. [1]
2- 2) .تواتر عنه صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا»و قد نشرت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية رسالة خاصة في تحقيق اسناده و متونه.
3- 3) .نور الثقلين:162/1،و [2]لاحظ كتب الحديث كالوسائل و غيره. [3]

من الكفّار و الغضب من ممارساتهم المعادية للإسلام و المسلمين،و الدعوة إلى الاتحاد و الوحدة بين المسلمين لمواجهة الأخطار و التحدّيات،فليس شيء من ذلك من الجدال أصلاً،فليس في ذلك المحتشَد إلاّ المسلمون و هم يد واحدة و ليس في مقابلهم أحد من الكفّار و المنافقين حتّى يقع الجدال بين الطرفين.

ترى هل يعدّ ما فعله الإمام عليّ عليه السلام حيث قرأ آيات من سورة البراءة على الكفّار خلال موسم الحجّ بأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جدالاً؟ أم أنّه إعلان لبراءة اللّه و رسوله من الكفّار و المشركين،و أيّ فرق بين المقامين؟!

و إنّ المظاهرات الّتي يقوم بها المسلمون الحجّاج خلال الحجّ ليس إلاّ تجسيداً و تحقيقاً لما جاء في قول اللّه تعالى: «...أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ...» . (1)

نعم إنّ السلطة بمنعها المسلمين من إعلان الغضب على الكفّار و الاستياء من أعمالهم الإجرامية توجد جوّاً من الجدال الممنوع،و تمنع المسلمين من أداء واجبهم الإسلامي،و تدفعهم إلى مناقشتهم و مجادلتهم،فتكون السلطات السعودية هي المجادلة و هي سبب الجدال.

فلو أُتيحت الفرصة لاتّفق الحجّاج على ضرورة المشاركة في هذه التظاهرات الشاجبة لأعمال الكفّار و جرائم الملحدين،و لما حدث أيُّ نقاش بينهم،و في الختام نسأل الخيّاط:أنّه يقول في خطابه أنّ الحجّ مؤتمر سنوي يجتمع فيه المسلمون من كلّ فجّ عميق،لو كان الحجّ على ما زعم فما ذا يجب أن يطرح في هذا المؤتمر من مسائل؟

هل يجب أن تلقى كلمات بسيطة حول كراهة أكل البصل و الثوم لمن يريد

ص:439


1- 1) .الفتح:29. [1]

دخول المسجد،أو غسل الأقدام و الأحذية من الأتربة و العَرَق كما سمعناه مراراً من خطباء المسجد الحرام في أيّام الحجّ و جمعاتهم، و كأنّه ليست هناك مسألة إسلامية غير هذا.

فإذا تبيّن لك أيّها القارئ بطلان ما قاله الخيّاط و بطلان استدلاله،بل عدم علاقة الآية بالمقام،ينبغي أن نقف معاً على فلسفة الحجّ الحقيقية بصورة مفصّلة و في ضوء الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة و الوقائع التاريخية من سيرة السلف و إليك ذلك إجمالاً.

ص:440

3

ما ذا يهدف إليه الحجّ؟ الحجّ عبادة أوّلاً

لا شكّ أنّ أوّل ما يهدف إليه الحجّ و أهمّ ما تقصده مناسكه هو المزيد من توجيه العبد إلى اللّه،و دفعه إلى الخضوع له،و تقوية صلاته به سبحانه،و تعميق الإيمان في قلبه،و تكريس الاعتقاد بوحدانيته في ضميره.

و نقول بإيجاز:إنّ الهدف الأهمّ من الحجّ هو العبادة و التعبّد،ابتداءً من الإحرام للعمرة،و مروراً بالطواف بالكعبة المشرَّفة فالصلاة فالسعي فالتقصير ثمّ الإحرام ثانية للحج فالوقوف بعرفة فالإفاضة إلى المزدلفة و الوقوف بها،فالذهاب إلى منى و المبيت بها ليالي،فالرمي فالنحر أو الذبح فالحَلق فالطواف بالكعبة المعظّمة أيضاً،و انتهاءً بالسعي بين الصفا و المروة،و ما يتخلّل كلّ ذلك،أو يصاحبه من أدعية و أذكار، و امتناع عن محرّمات خاصّة،قربة إلى اللّه سبحانه و تعالى.

إنّها العبادة في أفضل أشكالها.

و إنّها إظهار العبودية في أعلى مظاهرها.

و إنّها الخضوع لذي الجلال في أسمى صوره و أنماطه.

و إنّها التضرّع إلى اللّه في أعمق أنواعه.

ص:441

فالحجّ عبادة جامعة تتوفّر فيها كلّ عناصر إظهار العبودية،و كلّ أشكال الخضوع و الطاعة للربّ العظيم الكريم،من انقطاع عن الدنيا، و إعراض عن الشهوات و تضحية بالمال،و تذلّل و ذِكر،و تهليل و تسبيح و تحميد و تكبير،و توحيد للّه في الطاعة و الانقياد و الخضوع و الالتماس، و الاستعانة و العبادة،و خروج عن إطار الرغبات الماديّة،و تناسٍ موقّت للمال و الولد و الأهل و الوطن في سبيل اللّه،و من أجل اللّه،و بأمر اللّه، و تقرّباً إلى اللّه،و امتثالاً لحُكم اللّه،و تنفيذاً لإرادة اللّه،و تلبيةً لنداء اللّه وحده لا شريك له.

إنّها عبادة و لا شكّ،و لكن هل يتلخّص هدف الحجّ هذا المنسك العظيم في العبادة المحضة؟

و هل فرض الحجّ على عامّة المسلمين رجالاً و نساءً،شيباً و شبّاناً،و من كلّ لون و جنس،ليؤدّوا أمراً في مجال العلاقة بربّهم خاصّة،دون أن يكون لهذا الواجب المقدّس أيّ مفهوم اجتماعي،و أيّ ارتباط بحياتهم و شئونهم؟

و هل أصغر عمل عباديٌّ في الإسلام يخلو عن مفهوم اجتماعي،حتّى يخلو منه هذا المنسك العظيم،و هذه الفريضة الكبرى ذات الأجزاء و العناصر الكثيرة،و ذات الطابع الاجتماعي-كصلاة الجمعة-؟!

إنّ الآيات القرآنية،و السنّة الشريفة،و سيرة السَّلف،و أقوال العلماء،كلّها تُجمع على أنّ هدف الحجّ لا ينحصر و لا يتلخّص في كونه مجموعة من المراسم العبادية المحضة و تضرّع يُبديه العبد بحياته الاجتماعية،شأنه شأن غيره من الفرائض الإسلامية كالصلاة و الصيام و الزكاة و الجهاد و غيرها الّتي لا تشتمل على الأُمور التعبّدية فقط،بل تنطوي على أهداف اجتماعية و آثار سياسية في حياة المسلمين،أفراداً و شعوباً.

ص:442

و هو أمر يؤيّده العقل السليم و يؤكّده المنطق المستقيم.

إنّ الإسلام دين شامل أي أنّه نظام عباديّ و سياسيّ و اقتصاديّ و اجتماعيّ،و أنّه على العكس من اليهودية و النصرانية الحاضرة و المبادئ البشرية الوضعية،ليس إلاّ مجموعة متناسقة من المعتقدات و القوانين و الأخلاق في شتّى حقول الحياة،بل و كلّ جزء من هذا الدين هو الآخر خليط مدروس،و مزيج محسوب من الأبعاد المختلفة،و تركيب متوازن من الفرد و الجماعة،و العبادة و السياسة و الاقتصاد و الصحة،و الدنيا و الآخرة.

بل العبادة في منطق هذا الدين يتسع نطاقها حتّى تشمل الحياة كلّها و تعمّ جميع الأعمال البشرية إذا كانت لأجل اللّه،فلا تقتصر على الشعائر التعبّدية المعروفة من صلاة و زكاة و حجّ،إنّها تشمل كلّ عمل ترتقي به الحياة و يسعد به الناس.

و لهذا قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم لأبي ذر:

«ليكن لك في كلّ شيء نيّة صالحة حتّى في النوم». (1)

فالحجّ كما نكتشف ذلك من الكتاب و السنّة و سيرة السلف و أقوال العلماء المحقّقين لا يتلخّص في كونه موسماً عبادياً-بالمفهوم المألوف عند كثيرين-بل هو إلى جانب ذلك مؤتمر سياسيّ عالميّ و ملتقى اجتماعيّ عامّ يوفّر للمسلمين القادمين من شتّى أنحاء المعمورة فرصة التعارف و التآلف و اللقاء و الانتفاع بعضهم ببعض،و مداولة أُمورهم،و حلّ مشاكلهم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية في جوٍّ من الأمن و القداسة و الصفاء و المحبّة.

و هذا هو ما نبتغي استعراضه و التدليل عليه في هذه الصفحات القلائل مع

ص:443


1- 1) .مدينة البلاغة في خطب النبيّ و كتبه و مواعظه:469/1.

الاعتراف بأنّ هذه المسألة و دراسة أبعاد الحجّ العبادية و السياسية و الاجتماعية أوسع بكثير من أن تستوعبها هذه الدراسة الموجزة، و لهذا نأمل أن يكون ما جاء في هذا الفصل مجرّد دليل لا أكثر،و على المسلمين عامّة،و الحجّاج خاصّة أن يحاولوا-بأنفسهم-التعرّف على المزيد من الحقائق في هذا المجال و ذلك بالتدبّر في هذه الفريضة و مناسكها،و التأمّل في الآيات و الأحاديث الشريفة في هذا الصعيد.

ص:444

4

اشارة

أبعادُ الحجّ الاجتماعية و السياسية في القرآن

لقد وصف القرآن الكريم«الحجّ»في عدّة مواضع بأنّ فيه ما ينفع الناس و يضمن مصالحهم،إذ قال تبارك و تعالى:

«وَ أَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ* ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ* ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ* لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ». 1

1.مشاهدة المنافع في الحجّ

و الملاحَظ في الآية الثانية من الآيات أُمورٌ ثلاثة:

أوّلاً:جعل المنافع إلى جنب ذكر اللّه و في مقابله و هو يوحي بأنّ الحجّ ذو

ص:445

بُعدين:

أحدهما عباديّ و يتجسّد في ذكر اللّه،و الآخر غير عباديّ بالمعنى المصطلح المألوف و يتمثّل في المنافع.

ثانياً:تقديم«المنافع»على«ذكر اللّه»الّذي يمثّل الجانب العبادي.

ثالثاً:جعل المنافع مطلقة غير مقيّدة،فلم يقل سبحانه:منافع اقتصادية،ممّا يوحي بأنّ هذه المنافع تشمل المنافع الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية،و غيرها.

قال الإمام الراحل الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق في تفسير الآية:

«فالمنافع الّتي جُعل الحجّ سبيلاً لشهودها و الحصول عليها-و هي أوّل ما ذكر في حكمة الحجّ-عامّة مطلقة لم تُقيَّد بنوع دون نوع،و لا ناحية دون ناحية،و هي بعمومها و إطلاقها تشمل كلّ ما ينفع الفرد و الجماعة،و تصلح شأنهما،فطهارة النفس و التقرّب إلى اللّه منفعة،و التشاور في رسم خطط العلم و الثقافة،و في جمع الكلمة على تركيز الدعوة،و العمل على إظهار الإسلام و أحكامه الرشيدة منفعة،و إعداد العُدَد لنسج خيوط الشخصية الإسلامية من التحلّل و الذوبان منفعة،و هكذا تتعدّد المنافع،و تتنوّع على حسب مقتضيات الأحوال الّتي توحي بها الأزمنة و مواقف الناس من الناس». (1)

و قال أيضاً:«و الحجّ باعتبار مكانته في الإسلام،و غايته المقصودة منه للفرد و الجماعة جدير بأنّه يتّجه إليه رجال العلم و الرأي،و رجال التربية و الثقافة،و رجال النظام و الإدارة،و رجال المال و الاقتصاد،و رجال الشرع

ص:446


1- 1) .الشريعة و العقيدة:151.

و الدين،و رجال الحرب و الجهاد.

جدير أن تفد إليه الطبقات ذات الرأي و الحزم،ذات النظر و الاجتهاد،ذات الإيمان الصادق و الأهداف السياسية التي يجب أن يقصدها المسلمون في حياتهم،جدير أن يتجه إليه هؤلاء جميعاً فتراهم و قد نشرت مكّة أجنحتها عليهم،و جمعتهم بكلمة اللّه حول بيت اللّه يتعارفون و يتشاورون و يتعاونون ثمّ يعودون إلى بلادهم أُمّة واحدة متّحدة القلب،متّحدة الشعور و الإحساس». (1)

2.الحج و صلته بالجهاد

هذا و الجدير بالذكر أنّ آيات الحجّ هذه تستمر حتّى تنتهي و تتصل بقوله تعالى:

«إِنَّ اللّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ». 2

و ليس من قبيل الصدفة-حاشا القرآن عن ذلك-أن تنتظم الآيات بهذا الشكل دون أن يكون بينها ارتباط.

إنّ وحدة السياق و توارد هذه الآيات بهذا النحو يشعر بوجود صلة قويّة بين الحجّ و العمل السياسي و لا نريد القول بأن يتحوّل الحجّ إلى ساحة قتال،و لكن

ص:447


1- 1) .المصدر السابق:150.

أقلّ ما يوحي به السياق هو أن يكون الحجّ مرحلة للإعداد للمواجهة.

إنّ أقلّ ما يمكن استفادته من هذا النظم و السياق الذي جمع بين آيات الحجّ و الجهاد،و مقاومة الظلم و النصر الإلهي للمظلومين هو أنّ الحجّ خير مكان لتعبئة المسلمين روحياً و نفسياً لمواجهة الظلم و الظالمين،و مقارعة الاستكبار و المستكبرين و الاستعمار و المستعمرين.

إنّه خير فرصة لأن يلوّح المسلمون المجتمعون هناك من كلّ قطر بما لديهم من قوّة و شوكة،و يعلنوا عن موقفهم السياسيّ الموحّد، و يلقّنوا الأعداء درساً لا ينسوه و إن كان هذا لا ينحصر في الحجّ،فمقارعة الظلم و الظالمين و الإعلان عن الاستياء ضدّ أعداء اللّه لا يخضع لحدود الزمان و المكان.

هذا و قد فسّر المفسّرون المنافع بما يعمّ أُمور الدنيا و الدين،فعن ابن جرير الطبري بعد نقله أقوالاً في تفسير المنافع:

«و أولى الأقوال بالصواب قول من قال:عني بذلك «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» من العمل الّذي يرضي اللّه و التجارة،و ذلك أنّ اللّه عمّ منافع لهم جميع ما يشهد له الموسم،و يأتي له مكّة أيّام الموسم من منافع الدنيا و الآخرة و لم يخصّص شيئاً من منافعهم بخبر و لا عقل فذلك على العموم في المنافع». (1)

3.الكعبة و «قِياماً لِلنّاسِ»

ثمّ إنّ القرآن الكريم يصف الكعبة المشرّفة بأنّها جُعلت قياماً للناس إذ يقول:

«جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ...» . (2)

ص:448


1- 1) .تفسير الطبري:108/17. [1]
2- 2) .المائدة:97. [2]

و قد وردت كلمة«قيام»في شأن المال أيضاً إذ يقول سبحانه:

«وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً...» . (1)

و هذا يوحي بوجه التشابه بين الحجّ و المال،فكما أنّ الاقتصاد و المال يقيم حياة الناس،و يضمن مصالح الأُمّة الإسلامية فكذلك الحجّ، و هذا يعني أنّ إطار الحجّ لا يقتصر على العبادة و التعبّد و الضراعة بل يتّسع حتّى يشمل كلّ ماله ارتباط بمصالح المسلمين ممّا يقيم حياتهم و كيانهم،و أيّ شيء يقيم حياتهم أفضل من العمل السياسي الّذي يعني مقاومة الاستعمار و الاستعباد و الاستغلال،و تحقيق الاستقلال في جميع المجالات،و تنبيه المسلمين باستمرار على ما يدور حولهم من مؤامرات و كيد و مكر،و دفعهم إلى اتّخاذ موقف واحد موحّد يجابه العدو و يصدّ المهاجم.

ثمّ إذا كان المال لا يجوز إعطاؤه للسفهاء الذين لا يعرفون كيف يتصرّفون فيه لعدم رشدهم أو لنقصان عقولهم،فلا يجوز بطريق أولى أن يُترك الحجّ لمن لا يعرفون قيمته و وزنه و أهميّته في حياة الأُمّة الإسلامية.

و إليك ما قاله بعض المفسّرين في هذه الآية:قال ابن جرير الطبري:

«يقول تعالى ذكره:صيّر اللّه الكعبة البيت الحرام قواماً للناس الذين لا قوام لهم من رئيس يحجز قويّهم عن ضعيفهم،و مسيئهم عن محسنهم،و ظالمهم عن مظلومهم،و جعلها معالم لدينهم و مصالح أُمورهم». (2)

و في تفسير المنار:

«انّه جعلها قياماً للناس في أمر دينهم المهذِّب لأخلاقهم المزكّي

ص:449


1- 1) .النساء:5. [1]
2- 2) .تفسير الطبري:49/7. [2]

لأنفسهم بما فرض عليهم من الحجّ الذي هو من أعظم أركان الدين لأنّه عبادة روحية مالية اجتماعية».

و قال أيضاً:

«إنّ جعل اللّه تعالى هذه الأشياء-أي مناسك الحجّ-هو جعل تكوينيّ تشريعي معاً و هو عامّ شامل لما تقوم به و تتحقّق مصالح دينهم و دنياهم». (1)

4.البراءة عن المشركين

و لو تغاضينا عن كلّ ذلك هل يمكن أن نتغاضى عن أنّ سورة«البراءة»التي تعلن عن أوضح موقف سياسي تجاه المشركين نزلت لتتلى في أيّام الحجّ،و هو عمل سياسي بدون شك.

و لنستمع إلى الذكر الحكيم و هو يقول:

«بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَ أَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ* وَ أَذانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ». 2

و قد أمر النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً عليه السلام بأن يبلّغ هذا الإنذار و النداء إلى المشركين في أيّام الحجّ ففعل الإمام عليّ عليه السلام ذلك بشهادة كلّ المفسّرين و المؤرّخين و المحدِّثين.

ص:450


1- 1) .تفسير المنار:119/7.

نقل الطبري ضمن حديث مسند:

«إذا كان يوم النحر قام عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه فأذّن في الناس بالذي أمره رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:

يا أيّها الناس أُمرت بأربع:

1.أن لا يقرب البيت بعد العام مشرك.

2.و لا يطوف بالبيت عريان.

3.و لا يدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة.

4.و أن يتمّ إلى كلّ ذي عهد عهده.و في رواية أُخرى:و من كان له عهد عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فهو إلى مدّته». (1)

و إن شئت قلت:إنّ قوله سبحانه: «بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» و قوله عزّ من قائل: «وَ أَذانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ» إنّ البراءة في هاتين الآيتين لا تختصّ بمشركي قريش أو مشركي الجزيرة العربية،و إنّما البراءة فيهما هتاف إلهي يعمّ البراءة من مشركي العالم كلّه،الموجودين في عصر الرسالة و من بعدهم إلى يوم القيامة.

فالذكر الحكيم يؤدّب الأُمّة الإسلامية و ينصّ على وظيفتهم الدينية و يلزمهم بإنشاء البراءة في كلّ زمان من المشركين عامّة،و على ذلك فلو قام ضيوف الرحمن كلّهم بالبراءة من الملحدين و المشركين-المتسلّطين على رقابهم-لأدّوا واجبهم بشكل جماعي.

ص:451


1- 1) .تفسير الطبري:47/10.و [1]الحديث مكرّر بأسناد مختلفة و متعدّدة،و تجد مثلها في مسند أحمد و تفسير ابن كثير و [2]الدرّ المنثور [3]في تفسير الآيات و في سنن الترمذي و البيهقي و غيرها.

و ربما يتخيّل:أنّ البراءة و الاستنكار الواردين في هذه الآيات مختصّان بعصر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و لا يتجاوز غيره،إنّه قول بلا دليل،و هو يُشبه بقول الذين يريدون أن يخصّصوا رسالة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و هداية الذكر الحكيم بعصر خاصّ دون غيره.

إنّ المسلم الحرّ لا يشكّ بأنّ الشيوعيين و الملتفّين حولهم أسوأ من المشركين الذين أوجب الوحي الإلهي البراءة منهم.كما لا اعتقد أن يشكّ المنصف في أنّ الشيطان الأكبر-أمريكا-أسوأ من المشركين و أضرّ منهم.

ص:452

5

أبعاد الحجّ الاجتماعية و السياسية في السنّة

إنّ السنّة و السيرة النبوية الشريفة هي الأُخرى تشير إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مارس الأعمال السياسية في الحجّ،هذا مضافاً إلى أنّ هناك أحاديث تفيد بأنّ الحجّ نوع من الجهاد لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«نِعْمَ الجهاد الحجّ». (1)

و قوله-عليه و على آله السلام -:

«الحجّ جهاد». (2)

و قوله-صلوات اللّه عليه و آله -:

«الحجّ جهاد كلّ ضعيف». (3)

و قوله صلى الله عليه و آله و سلم في جواب نسوة استأذنه في الجهاد:

«جهاد كنّ الحجّ». (4)

و في بعض الأحاديث قرَنَ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الحجّ بالجهاد دون بقية الفرائض،إذ

ص:453


1- 1) .صحيح البخاري:221/3،كتاب الجهاد.
2- 2) .سنن ابن ماجة:968/2و 995،مسند أحمد:294/6و 303.
3- 3) .مسند أحمد بن حنبل:294/6و 303و 314. [1]
4- 4) .مسند أحمد:71/6.

قال:«الغازي في سبيل اللّه و الحاج و المعتمر وَفْدُ اللّه دعاهم فأجابوه و سألوه فأعطاهم». (1)

و هو يوحي بوجود الصلة و أوجه التشابه في الآثار و الأهداف بين هاتين الفريضتين.

و إن شئت قلت:إنّ ذلك يوحي بأنّ الحجّ ليس مجرّد عبادة-بالمعنى المتعارف-بل عمل مشابه للجهاد في الآثار و الأهداف،أي أنّه عبادة و عمل سياسي،فهو موسم للعمل السياسي كما هو موسم للعبادة و الضراعة و التوجّه إلى اللّه بالتعبّد.

ثمّ إنّ السيرة تحدّثنا بأنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم خطب في موضعين:عرفة (2)و منى و أعلن في خطبتيه عن مواقف و أحكام اقتصادية و سياسية و اجتماعية إسلامية هامّة نذكر هنا مقاطع منها:

1.إنّ دماءكم و أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا،في شهركم هذا،في بلدكم هذا.

2.ألا و إنّ كلّ شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمَيَّ هاتين.

3.و دماء الجاهلية موضوع و أوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث-و كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل-.

ص:454


1- 1) .سنن ابن ماجة،المناسك:966/2 برقم 2892.
2- 2) .في سنن الترمذي:عن جابر في باب حجّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:لمّا كان يوم التروية و توجّهوا إلى منى أهلّوا بالحجّ،فركب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فصلّى بمنى الظهر و العصر و المغرب و العشاء و الصبح،ثمّ مكث قليلاً حتى طلعت الشمس و أمر بقبّة من شعر فضربت له ب«نَمِرَة»فسار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى أتى عرفة فوجد،القبّة قد ضربت له فنزل بها حتّى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتّى أتى بطن الوادي فخطب الناس فقال...(سنن الدارمي:47/2) [1]

4.و ربا الجاهلية موضوع،و أوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطّلب فإنّه موضوع كلّه.

5.إنّ كلّ مسلم أخو المسلم،و إنّ المسلمين إخوة،فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلاّ أعطاه عن طيب نفسه منه.

6.ثلاث لا يُغِلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم:إخلاص العمل للّه،و النصيحة لأئمّة الحقّ،و اللزوم لجماعة المؤمنين.

7.الناس في الإسلام سواء.لا فضل لعربيّ على عجميّ إلاّ بتقوى اللّه.

8.إنّ المسلم أخو المسلم لا يغشّه و لا يخونه و لا يغتابه،و لا يحلّ له دمه و لا شيء منه إلاّ بطيبة نفسه.

9.لا ترجعوا بعدي كفّاراً مضلّين،يملك بعضكم رقاب بعض.

10.إنّكم مسئولون فليبلغ الشاهدُ منكم الغائب.

ثمّ استشهدهم على ما بلّغ فشهدوا له بذلك. (1)

و لعلّ ما جاء و صحّ عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من الأدعية و الأذكار في الحجّ-تلك الّتي تتضمّن معان سياسية إلى جانب معانيها التوحيدية - خير شاهد على أنّ الحجّ موسم مناسب لأن يظهر فيه المسلمون موقفهم من أعداء اللّه و الإسلام خاصّة و إذا عرفنا أنّه يستحبّ ترديد هذه الأدعية ضمن مناسك الحجّ مثل الدعاء التالي:

«لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له،له المُلك و له الحمد،يحيي و يُميت و هو علي كلّ شيء قدير».«لا إله إلاّ اللّه وحده وحده،أنجز وعده، و نَصَر عبده،و هَزَم

ص:455


1- 1) .و قد وردت هاتان الخطبتان اللّتان دمجناهما هنا في صحيح مسلم في حديث حجّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و في سنن أبي داود،و سيرة ابن هشام و غيرها.

الأحزابَ وحده». (1)

هذا مضافاً إلى ما في مناسك الحجّ من رمزية،فكلّ منسك من هذه المناسك يرمز إلى شيء اجتماعي و سياسي و أخلاقي مضافاً إلى كونها عبادةً و انقياداً و إن لم يمكن الوقوف الكامل على كلّ ما تنطوي عليه هذه المناسك من معانٍ.

و قد أشار كثير من علماء الإسلام و المفكّرين الإسلاميّين إلى ما ترمز إليه هذه المناسك من أُمور معنوية و اقتصادية و اجتماعية و سياسية نحيل القارئ الكريم إليها رعاية للاختصار.

هذا مضافاً إلى أنّ هناك ما يدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مزج الأعمال العبادية بالأهداف و الممارسات السياسية في الحجّ.

ففي البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال:

«لمّا قَدِمَ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لعامه الذي استأمن فيه قال:ارملوا-ليُري المشركين قوّتهم -». (2)

قال ابن الأثير في النهاية:

أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم برَمَل الطواف أصحابه في عمرة القضاء ليُري المشركين قوّتهم حيث قالوا:وهنتهم حمّى يثرب و هو مسنون في بعض الأطواف دون بعض.

و لمّا استقرّ أمر الإسلام و استتب قال عمر:فيم الرَّمَلان-أي الطواف بتلك الكيفية-أو الكشف عن المناكب و قد أطّأ اللّه الإسلام و نفى الكفر

ص:456


1- 1) .سنن أبي داود:213/2، [1]المناسك، [2]سنن الترمذي:213/2 الحج. [3]
2- 2) .صحيح البخاري:181/5،باب عمرة القضاء.

و أهله...».

و هذا يشير إلى أنّه يجوز أن يضمّ الحاج إلى مناسكه مقاصد سياسية و أغراض جهادية مثل إرهاب الأعداء و استنكار أعمالهم،و شجب مؤامراتهم و فضح خططهم.

ثمّ أ لا يدلّ اختيار الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لسورتي التوحيد «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ» و الكافرون «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» في صلاة الطواف (1)و استحباب قراءتهما للمسلم الحاج،و الحال أنّ هناك سوراً أُخرى أو آيات أُخرى قد تحتوي على معان و أبعاد أخلاقية و تربوية أكثر،و يشهد على أنّ الحجّ هذا المشهد الإسلامي العالمي،و هذا المجمع العام خير وقت لإعلان الموقف السياسي الصارخ ضدّ قوى الكفر و الاستكبار،كما و يوحي بذلك أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول إذا كبّر و استلم الحجر:

«بسم اللّه و اللّه أكبر على ما هدانا،لا إله إلاّ اللّه،لا شريك له،آمنت باللّه و كفرت بالطاغوت». (2)

ثمّ إنّ الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال في بيان فلسفة الحجّ ضمن ما قال:

«إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق الخلق لا لعلّة إلاّ أنّه شاء ففعل فخلقهم إلى وقت مؤجّل،أمرهم و نهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين و مصلحتهم من أمر دنياهم،فجعل فيه الاجتماع من المشرق إلى المغرب ليتعارفوا...و لتعرف آثار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و تعرف أخباره و لا تُنسى، و لو كان كلّ قوم إنّما يتّكلون على بلادهم و ما فيها

ص:457


1- 1) .راجع صحيح مسلم:40/4كتاب الحجّ باب حجّة النبيّ-صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم-.
2- 2) .تاريخ مكّة:339/1 طبعة مكّة [1]المكرّمة عام 1385ه.

هلكوا و خربت البلاد و سقط الجلب و الأرباح،و عميت الأخبار و لم يقفوا على ذلك،فذلك علّة الحجّ». (1)

و عنه عليه السلام أنّه قال أيضاً:

«ما من بقعة أحبّ إلى اللّه من المسعى،لأنّه يذلّ فيه كلّ جبّار». (2)

ص:458


1- 1) .بحار الأنوار:33/99 [1] عن علل الشرائع للصدوق.
2- 2) .بحار الأنوار:49/99. [2]

6

أبعاد الحجّ الاجتماعية و السياسية في سيرة السلف

إنّ التاريخ يحدّثنا أنّ السلف الصالح لم يقتصر في الحجّ على المناسك و العبادة بل استغلّوا هذه المناسبة للعمل السياسي كجزء طبيعي من هذه الفريضة لا كشيء زائد عليها أو أجنبي عنها.

فها هو الإمام الحسين بن علي سبط الرسول و حفيده-صلوات اللّه عليهم أجمعين-يحتجّ على حاكم جائر من حكّام زمانه في منى أيام الحجّ.

فقد جمع عليه السلام بني هاشم و رجالهم و نساءهم و مواليهم من حجّ منهم و من لم يحجّ و من الأنصار من يعرفونه و أهل بيته،ثمّ لم يدع أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و من أبنائهم و التابعين و من الأنصار المعروفين بالصلاح و النسك إلاّ جمعهم،فاجتمع عليه بمنى أكثر من ألف رجل،و الحسين عليه السلام في سرادقه عامّتهم التابعون و أبناء الصحابة،فقام الحسين عليه السلام فيهم خطيباً فحمد اللّه و أثنى عليه،ثمّ قال:

«أمّا بعد،فإنّ هذا الطاغية قد صنع بنا ما قد علمتم و رأيتم و شهدتم و بلغكم،و إني أُريد أن أسألكم عن أشياء فإن صدقت فصدّقوني،و إن كذبت فكذّبوني،اسمعوا مقالتي و اكتموا قولي ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم و قبائلكم من أمنتموه و وثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ

ص:459

و يذهب،و اللّه متمّ نوره و لو كره الكافرون». (1)

فما ترك الحسين شيئاً أنزل اللّه فيهم من القرآن إلاّ قاله...و قال:

«أُنشدكم باللّه إلاّ رجعتم و حدّثتم به من تثقون به».

ثمّ نزل و تفرّق الناس على ذلك.

و ها هو عثمان بن عفّان يكتب إلى جميع الأمصار الإسلامية أيّام خلافته كتاباً قال فيه:

«إنّي آخذ عُمّالي-أي ولاتي-بموافاتي في كلّ موسم-أي موسم الحجّ-و قد سلّطت الأُمّة على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،فلا يُرفَع عليّ شيء و لا على أحد من عُمّالي إلاّ أعطيته،و ليس لي و لا لعُمّالي حقٌّ قِبَل الرعية إلاّ متروك لهم،و قد رفع إليّ أهل المدينة أنّ أقواماً يشتمون و يضربون فمن ادّعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم-أي فليأت إلى الحجّ-يأخذ حقّه حيث كان منّي أو من عُمّالي،أو تصدّقوا إنّ اللّه يجزي المتصدّقين». (2)

بل و وجد غير المسلمين فرصتهم في الحجّ ليعرضوا على الخليفة شكاواهم،فيقوم الخليفة بإنصافهم في زمن الحجّ لا بعدئذٍ،فكلّنا يعلم قصّة ابن القبطي الّذي سابق ابن والي مصر و فاتحها عمرو بن العاص فسبق القبطي فضربه ابن عمرو،فأنهى أبوه مظلمته إلى عمر فاقتصّ منه في موسم الحجّ على مرأى و مسمع من أُلوف الحجيج،ثمّ قال للوالي عمرو بن العاص كلمته أمام شهود المؤتمر الكبير:

«يا عمرو متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أُمّهاتهم أحراراً». (3)

ص:460


1- 1) .الاحتجاج للطبرسي:88/2؛كتاب سليم بن قيس:183. [1]
2- 2) .راجع العبادة في الإسلام:للدكتور يوسف القرضاوي.
3- 3) .راجع المصدر السابق،و كذلك كتاب«ما ذا خسر العالم الإسلامي»لأبي الحسن الندوي نقلاً عن تاريخ ابن الجوزي.

و قد جاء في كتب الفريقين:أنّ هشام بن عبد الملك حجّ في خلافة أبيه و طاف بالبيت فأراد استلام الحجر فلم يقدر عليه من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه إذ أقبل عليّ بن الحسين عليهما السلام و عليه إزار و رداء،من أحسن النّاس وجهاً و أطيبهم رائحة و بين عينيه سجادة كأنّها ركبة عنز،فجعل يطوف بالبيت فإذا بلغ الحجر تنحّى عنه النّاس حتّى يستلمه هيبةً له و إجلالاً،فغاظ ذلك هشاماً فقال رجل من أهل الشام لهشام:من هذا الّذي قد هابه الناس هذه الهيبة و أفرجوا له عن الحجر؟ فقال هشام:لا أعرفه،لئلاّ يرغب فيه أهل الشام فقال الفرزدق-و كان حاضراً-:لكنّي أعرفه،فقال الشامي:من هو يا أبا فراس؟ فأنشأ قصيدة نذكر بعض أبياتها هنا: هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته

إلى أن قال: فجدّه في قريش في أرومتها

و هكذا نجد هذا الشاعر الإسلامي الكبير يجابه ذلك الخليفة الجائر بهذه

ص:461

القصيدة الحماسية و يعرّف بالإمام الحقّ من آل الرسول في مواجهة سياسية حامية،الأمر الذي يدلّ على شرعية هذا العمل في موسم الحجّ و جوازه لعدم إنكار أحد من المسلمين عليه،لا آنذاك و لا بعدئذٍ.

و بعبارة أُخرى:إنّه يستغلّ تلك المناظرة السياسية القوية ليُعرّف الإمام أمام جموع الحجيج الوافدة إلى بيت اللّه الحرام،باعتباره وارثاً محقّاً لآل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و هذه الحادثة تعطينا الدليل الناصع على أنّ العمل السياسي في موسم الحجّ يعتبر قانونياً و شرعياً،و ذلك لأنّه لم يتمّ منع أو تحريم أداء مثل هذه الممارسات سواء في تلك الأيام أو الأعوام التي أعقبت ذلك.

و يجدر هنا أن نشير إلى ما كتبه الكاتب الإسلامي المعاصر فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيّم«العبادة في الإسلام»في هذا الصدد:

«عرف الخلفاء قيمة هذا الموسم العالمي،فجعلوا منه ساحة لقاء بينهم و بين أبناء الشعب القادمين من كلّ فجّ عميق،و بينهم و بين ولاتهم في الأقاليم،فمن كانت له من الناس مَظْلمة أو شكاية فليتقدّم بها إلى الخليفة ذاته بلا وساطة و لا حجاب،و هناك يواجه الشعبُ الوالي أمام الخليفة بلا تهيّب و لا تحفّظ،فيغاث الملهوف و ينصف المظلوم و يردّ الحقّ إلى أهله،و لو كان هذا الحقّ عند الوالي أو الخليفة». (1)

فإذا كان الحجّ موسماً لبيان الظلامات و الشكاوى من الحكّام و الولاة المسلمين،أ فلا يكون من الأولى أن يجوز فيه الشكوى من الاستعمار و أذنابه و عملائه،و استنصار المسلمين عليهم؟ و هل يجوز أن نشكو الوالي إذا تعدّى حدوده،و لا يجوز أن نشكو المستعمر الظالم و الأجنبيّ الغازيّ و هو يرتكب كلّ تلك الجرائم و المجازر؟

ص:462


1- 1) .العبادة في الإسلام:293.

7

أبعاد الحجّ السياسية و الاجتماعية

في أقوال العلماء

لقد كتب العلماء و المفكّرون الإسلاميون الكثيرَ عن أهمية الحجّ سياسياً و اجتماعياً و اعتبروه خير موسم و أفضل فرصة للمسلمين للتعبير عن قوّتهم و شوكتهم،و يقظتهم و وحدتهم بالقول و العمل بالشعار و الشعور.

فها هو العلاّمة محمّد فريد وجدي يكتب في دائرة معارفه،مادّة«حج»قائلاً:

«أمّا حكمة فرض الحجّ على المسلمين،فممّا لا يتسع لبيانه مثل هذا المؤلّف و ممّا يتبادر إلى الذهن من أمر الحجّ أنّ أصحاب السلطة في المسلمين لو أرادوا أن يستخدموه في إحداث الوحدة الإسلامية لنجحوا،فإنّ اجتماع عشرات الأُلوف من الوفود في صعيد واحد من سائر أقطار الأرض و اتجاه قلوبهم و آذانهم في ذلك الموقف المهيب لكلّ ما يلقى إليهم،يستوجب أن يتأثر الكلّ بروح واحدة لا سيّما إذا دعوا إلى ما فيه خيرهم،فإذا رجعوا إلى أقطارهم و تشعّبوا في قراهم و أمصارهم أذاعوا ما تعلّموه بين إخوانهم و كانوا لهم كأعضاء مؤتمر عامّ شكّل من جميع الأجناس و الأجيال يجتمع أعضاؤه في كلّ عام مرّة.فأيّ أثر تقدّره لذلك الحادث

ص:463

الجليل في حياة هذه الأُمّة الضخمة،و أي نتائج جليلة ترجوها منه إذا سوعد نهوض هذه الأُمّة من رقدتها،فسيكون الحجّ من أكبر عواملها و لا يسبقن إلى فكرك أنّ الأُمم الأجنبية المحتلّة لبعض بلاد المسلمين،تمنع رعاياها عن الحجّ إذ ذاك،فإنّ حركة الحياة لو دبّت في الأُمم فلا يستطيع أن يوقفها شيء و للّه الأمر من قبل و من بعد». (1)

و جاء في كتاب«الدين و الحجّ على المذاهب الأربعة»:

«الحجّ سبيل التعارف و التآلف و التعادل و توثيق العلاقات و الروابط و الصلات بين سائر الشعوب الإسلامية فتأتلف قلوبهم و تتّحد كلمتهم فيعملون ما يصلح شأنهم و يقوّم ما اعوجّ من أمرهم».

و كتب الأُستاذ محمّد المبارك المستشار في جامعة الملك عبد العزيز يقول:

«و التجرّد لمعنى العبادة الخالصة واضح في الحجّ بالإضافة إلى المعنى الاجتماعي الرائع،فهو مؤتمر عالمي يجتمع المشتركون فيه على صعيد واحد لعبادة إله واحد،و مع ذلك فإنّ هذه العبادة المتجرّدة الخالصة ليست منعزلة عن الحياة بل متصلة بها،إذ يقولُ اللّه تعالى في كتابه الكريم: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ» فشهود منافعهم معنى عام يمكن أن يشمل مختلف مصالح المسلمين».

فإذا كان العمل السياسي يجوز في الحجّ-كما عرفت من الكتاب و السنّة و سيرة السلف و أقوال العلماء الأجلاّء،بل أنّ الحجّ فرصة مناسبة لتخويف الأعداء و إرهابهم و شجب مؤامراتهم-فأيّ عدوّ أعدى علينا من الولايات المتحدة التي

ص:464


1- 1) .دائرة المعارف:350/3.

تتآمر ضدّ الإسلام و المسلمين على الدوام و تنهب خيراتهم و تسرق بترولهم؟

و أيّ عدوّ أعدى علينا من إسرائيل التي اغتصبت أرضنا و شرّدت شعبنا و قتلت و لا تزال تقتل أبناء فلسطين و تستبيح دماءهم و أعراضهم؟

و أيّ عدوّ أعدى علينا من روسيا الّتي تعادي الإسلام و المسلمين في العقيدة و في كلّ شيء و التي قد مارست القتل العام بحقّ مسلمي أفغانستان و الشيشان،و تدافع عن الصرب الجناة في تطهيرهم العرقي للمسلمين البوسنيين.

و أيّ عدوّ أعدى علينا من بريطانيا الّتي أوجدت الدولة اللقيطة إسرائيل و تآمرت و لا تزال تتآمر ضدّنا في حقد صليبيّ عريق؟

و أيّ عدوّ أعدى علينا من فرنسا التي قتلت مئات الآلاف من شعبنا المسلم في الجزائر و لا تزال لها مجازر و مؤامرات هنا و هناك في بلاد المسلمين؟

و لما ذا نفرّق بين الولايات المتحدة و روسيا و كلّهم ملّة واحدة في الكفر بديننا و التآمر البغيض علينا و قتل شعوبنا و سرقة ثرواتنا؟

و لما ذا نترك فرصة الحجّ العظيمة و الاجتماع المليوني الفريد من نوعه و الّذي تكون من 40 قطراً إسلامياً،يذهب أدراج الرياح دون أن نستثمره لإيقاظ المسلمين و إيقافهم على جرائم الغرب و الشرق ضدّنا،و هل نحن عارفون بأحكام الحجّ أكثر من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و السلف الصالح من بعده الذين كانوا يخلطون في الحجّ بين العبادة و العمل السياسي؟

و لما ذا لا نفسح المجال في مكّة و المدينة و عرفات و منى لمظلومي فلسطين و الفليبين و العراق و إيران و أفغانستان و أفريقيا و لبنان و اريتريا و غيرها ليبيّنوا ظلامتهم و يوقفوا المسلمين على ما يلاقونه من ظلم و حيف و قتل و جناية الاستعمار و أذنابه و عملائه؟

ص:465

لما ذا لا نفسح المجال في مكّة و المدينة لأن تقام مؤتمرات و ندوات لإيقاف المسلمين على حقيقة الاستعمار الأمريكي و الروسي و البريطاني و الفرنسي و خططهم الجهنّمية،و يطلعوهم على ما يفعله هؤلاء الغزاة الأجانب من نهب و سلب و قتل و استغلال؟

إلى متى يعطّل الحجّ من آثاره الاجتماعية و السياسية نزولاً عند رغبة الأجانب؟

و إلى متى يجتمع هذا العدد الهائل من المسلمين من كلّ أنحاء العالم ثمّ ينفضّ دون أن يتعرّف الأخ على أخيه و دون أن يقف الأخ على آلام أخيه و آماله؟

و إلى متى نخسر هذه الفرصة العظيمة الّتي هيَّأها الإسلام لهذه الأُمّة؟

و إذا فاتنا الحجّ فأين يمكن الحصول على مثل هذا الجمع الحاشد و العدد الهائل،و هذه الجماهير المؤمنة المهيّأة للعمل و التجاوب مع أيّ نداء إسلامي يطلبهم للجهاد و يستحثّهم على النهوض؟

و كيف تسمح السلطة في الحجاز أن يهدروا هذه الفرصة العظمى،و يحرموا المسلمين من الانتفاع بها كما أمر اللّه سبحانه: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» ؟

بل و كيف يسمح المسلمون لأنفهسم أن يتركوا فرصة الحجّ تذهب هدراً دون أن يستثمروها في سبيل قضاياهم الملحّة و حلّ مشكلاتهم؟

«إنّما أشكو بثّي و حزني إلى اللّه»

و آخر دعوانا

ان الحمد للّه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص:466

الفصل الخامس:في التراجم

اشارة

1.فاطمة الزهراء عليها السلام الكوثر الفيّاض

2.الشهيد الثاني

3.الفقيه،المتكلّم،الأديب،ميرزا يوسف القراجه داغي

ص:467

ص:468

بسم اللّه الرحمن الرحيم

1

فاطمة الزهراء عليها السَّلام

الكوثر الفيّاض

...نشأت في بيت النبوة،و رَضعَت حبّ الإيمان و مكارم الأخلاق،و نعمت بحنان والديها الكريمين،فصار مستقرّها خير مستقر،و منبتها خير منبت،فهي بنت النبي المصطفى،أفضل الخليقة على البسيطة،و خاتم الأنبياء و أُمّها خديجة سيدة النساء،عديلة مريم بنت عمران.

فسلام اللّه عليها حين كانت نوراً في الأصلاب الشامخة و الأرحام المطهرة و حينما كُتب لها الحياةُ في أحضان الطبيعة فأصبحت مظهراً للشجرة الطيبة التي أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربّها.

لقد آثر اللّه الزهراء بالنعمة الكبرى فحصر في وُلدها ذرية نبيّه المصطفى،و حفظ بها أشرف سلالةٍ عرفتها البشرية،منذ كانت،كما كرّم اللّه زوجها-عليّاً عليه السلام-و جعل من صلبه نسلَ خاتم الأنبياء فكان له من هذا الشرف،مجد الدهر و عزة الأبد. (1)

ص:469


1- 1) .تراجم سيدات بيت النبوة،بقلم الدكتورة بنت الشاطى.

و قد وصفها سبحانه بالكوثر فقال:مخاطباً لأبيها-الذي لم يزل يُستهزأ به بكونه أبتر- «إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ* إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ».

و على الرغم من وضع طواغيت الزمان سيوفهم على نحور أولادها لاستئصالها،و قطع نسلها لكنّ قد غطّ البسيطةَ أولادُ فاطمة و نجم فيهم العلماء و الحكماء و الساسة كالباقر و الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السلام. (1)

و قد أكرمها اللّه سبحانه بفضائل جمة و مآثر كثيرة حتّى جعل بيتها من بيوت النبوة و ممّا أذن اللّه أن ترفع و يذكر فيها اسمه.

روى الحفاظ:لما قرأ النبي قوله سبحانه: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ...» في المسجد قام إليه رجل فقال:أيّ بيوت هذه يا رسول اللّه قال:بيوت الأنبياء،فقام إليه أبو بكر،فقال يا رسول اللّه أ هذا البيت منها؟-مشيراً إلى بيت علي و فاطمة عليهما السلام-قال:نعم،من أفاضلها. (2)

فالزهراء عليها السَّلام جماع الفضائل،و موئل المكارم،و الشّذا الفوّاح،و الأُسوة المُثلى لروّاد الفضيلة و بغاة الكمال من الرجال و النساء.

و قد أُلّفت حول حياة الزهراء عليها السَّلام كتب و رسائل كثيرة تناولت كلّ ناحية من نواحي حياتها و سيرتها العطرة،إذ في كلّ جانب من جوانب حياتها،دروس عبر،من ولادتها إلى شهادتها،من يوم زهرت السماوات السبع بنورها،إلى زمان دفنها ليلاً و سرّاً و إعفاء قبرها،و قلما يتفق لكاتب القاء الضوء على أكثر جوانب حياتها فضلاً عن عامتها.

ص:470


1- 1) .تفسير الرازي،تفسير سورة الكوثر.
2- 2) .الدر المنثور:203/6 [1] تفسير سورة النور؛روح البيان:174/18.

لكن مؤلفنا العلاّمة الحجّة الشيخ محمد جواد الطبسي-حفظه اللّه-قد ضرب في هذا الباب بسهم وافر و قد أعانه في هذا المجال،ولائه الشديد بآل طه و يس،و ذكاؤه الحادّ،و ذهنه المتوقد و سعيه الحثيث،و الغور في المصادر فقد فتح-مع ايجاز الكتاب-آفاقاً في حياة الصديقة الطاهرة أمام جيل الشباب،المتعطش لمعرفة ما لها من الفضائل و المناقب و ما جرى عليها بعد رحيل أبيها من الحوادث و المكاره.

فللمؤلف منا،أصدق الشكر،و أعمقه و أجزله و للسيدة الزهراء أفضل التحيات،فسلام اللّه عليها يوم ولدت،و يوم استشهدت،و يوم تبعث راضية مرضيّة.

حرره ببنانه و يراعه المتمسك بولاء العترة الطاهرة

جعفر السبحاني

قم مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

1ربيع الأوّل من شهور عام 1423

ص:471

ص:472

2

اشارة

الشهيد الثاني(911- 965ه)

رائد النهضة العلمية في القرن العاشر

قد حفل مسرح التاريخ بظهور شخصيات عظيمة يَضنُّ بهم الدهر إلاّ في فترات يسيرة،و من أبرزها،شيخنا الإمام السعيد زين الدين بن علي بن أحمد بن جمال الدين الجبعي العاملي المعروف بالشهيد الثاني (911 -965).و قلّما يجد الباحث في التراجم،شخصية فذّة،واسعة الأُفق،و متنوعة الثقافة و غزيرها كشخصيته.

فهو في حقل التدريس رائد فياض بعلوم ناجعة ربّى خلالها جيلاً كبيراً من الفقهاء الذين سُطِّرت اسماؤهم على أنصع صفحات التاريخ، كما انّه في حقل التأليف و التصنيف نبراس مضيء و ضياء مشرق يأخذ بناصية اللغة العربية في كلّ فنّ يريد الخوض فيه،و خلف تراثاً علمياً ضخماً في شتّى الموضوعات التي ناهزت إلى 75 كتاباً و رسالة،نظير:«مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام»في خمسة عشر جزءاً،«الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية»في عشرة أجزاء،و الأخير لم يزل كتاباً دراسياً في الجامعات الإسلامية منذ أُلِّف إلى يومنا هذا،و كُتب عليه شروح و تعاليق متعددة،و سجل الشيخ المتتبع الطهراني في كتابه الذريعة ما يقرب من تسعين حاشية و شرح لها. (1)

ص:473


1- 1) .انظر الذريعة:90/6 و292/13- 296.

و قد خاض المترجم قدّس سرَّه غمار علوم جمّة و برع فيها حتى أصبح يشار إليه بالبنان.

ففي الفقه فقيه متبحر،بارع ملمّ بآراء أئمة الفقه و مذاهبه،يُفتي كلّ فرقة بما يوافق مذهبها و يدرّس في المذاهب كتبها.

و في أُصول الفقه محقّق كبير يعرب عن مكانته،كتابهُ«تمهيد القواعد الأُصولية و العربية لتفريع الأحكام الشرعية»جارى به ما ألّفه الأسنوي الشافعي(704- 772ه) في هذا الباب،و رتّبه على قسمين:مائة قاعدة في الأُصول،و مائة قاعدة في القواعد العربية،و رتب لها فهرساً مبسوطاً.

و في الدراية و الرجال فارس حلبتهما و مرتكز لوائهما،و يكفي في ذلك كتابه«الدراية»الذي هو شرح لكتابه«بداية الدراية»و هو لم يزل كتاباً دراسياً في الحوزات العلمية.

و في الأخلاق،أخلاقي كبير يكشف عنه كتابه المعروف«كشف الريبة في أحكام الغيبة و النميمة»حيث تناول فيه الموضوعين بالتحليل.

و في العلوم التربوية،باحث تربوي خبير بأساليب تربية الناشئة تربية صالحة تقودها إلى قمّة الكمال،ناهيك عن كتابه«منية المريد في آداب المفيد و المستفيد»و هو كتاب تربوي لطيف لا يستغني عنه الطالب و العالم،يحتوي على ما ينبغي أن يتحلّى به طلاب العلوم الدينية و العلماء و القضاة،فهو إذن بحر لا يدرك ساحله. هو البحر من أي النواحي أتيته فلجّته المعروف و الجود ساحله (1)

فكأنّه أُمّة تجسدت فيه جهودها و ثقافتها،اقتداء بأبيه إبراهيم الخليل عليه السلام كما قال سبحانه: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ». 2

ص:474


1- 1) .الشعر لأبي تمّام الطائي

فلا غرو في أن تناله سهام الحسد و الحقد للنيل منه و الطعن به و قد أسفرت عن استشهاده.

هذه ملامح موجزة لشخصية الشهيد الثاني زهت بها كتب التراجم و السير لا سيما ما ألفه تلميذه المعروف ابن العودي،فقد صنف رسالة في حياة و سيرة أُستاذه و أسماها ب«بغية المريد في الكشف عن أحوال الشهيد»الذي رافقه مدّة مديدة إلى أيّام استشهاده،و مع الأسف انّه لم يصل الكتاب برمّته إلينا،بل وصل منه ما أدرجه حفيد صاحب المعالم،أعني:الشيخ علي بن محمد بن الحسن في كتابه«الدر المنثور»المطبوع المنتشر.

لكن الذي يجب التركيز عليه في حياة الشهيد الثاني هو رؤيته السياسية و الاجتماعية التي ظلت طيّ الخفاء.

فشيخنا المترجم له لم يكن منطوياً على نفسه بل منفتحاً على المجتمع الإسلامي فرسم بأفكاره و آرائه أُصول الحكومة الإسلامية التي دعا إليها الكتاب و السنّة منذ بعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و بذلك أثبت انّ الشريعة الإسلامية ليست مجرّد طقوس و أوراد بل هي شريعة جامعة لكافة مجالات الحياة و لو بذل المتتبع جهده في استخلاص آرائه في باب الحكومة و السياسة لخرج بنسخة تامة تبين فيها أُصول الحكومة و قوامها، و إليك بعض ما وقفنا عليه من كلماته في هذا المضمار.

1.السلطة التنفيذية

اشارة

إنّ السلطة التنفيذية إحدى دعائم الحكم في العالم اليوم،و يكون مهمتها تنفيذ الأحكام و المقررات فالفقيه الجامع للشرائط هو رئيس السلطة التنفيذية التي يقع على عاتقها مهمة إدارة البلاد،و قد أشار الشهيد إلى ذلك في مواضع مختلفة من كتبه.

ص:475

فيقول في تفسير قول المحقّق«من إليه الحكم و حقّ النيابة»المراد به الفقيه العدل الإمامي الجامع شرائط الفتوى،لأنّه نائب الإمام عليه السلام و منصوبه. (1)

ثمّ إنّه يعلق على قول المحقق«دفعت الزكاة إلى الفقيه المأمون»و يقول:المراد بالفقيه-حيث يطلق على وجه الولاية-الجامع لشرائط الفتوى،و بالمأمون من لا يتوصل إلى أخذ الحقوق مع غنائه عنها بالحيل الشرعية فانّ ذلك و إن كان جائزاً إلاّ أنّ فيه نقصاً في همته و حطاً لمرتبته فانّه منصوب للمصالح العامة. (2)

ولاية الفقيه و إجراء الحدود

إنّ الشهيد الثاني ممّن يعتقد بإجراء الحدود الشرعية في عصر الغيبة و يراه من وظيفة السلطة التنفيذية التي يمارسها الفقيه في عصر الغيبة،و بذلك أضفى على الشريعة الإسلامية،الشمولية.

فقال عند قول المحقّق:«و لا يجوز أن يتعرض لإقامة الحدود إلاّ عارف بالأحكام،مطلع على مأخذها عارف بكيفية إيقاعها على الوجوه الشرعية».

ما هذا لفظه:المراد بالعارف المذكور،الفقيه المجتهد و هو العالم بالأحكام الشرعية بالأدلة التفصيلية،و جملة شرائطه مفصلة في مظانها - و هذا الحكم-و هو عدم جواز الحكم بغير المذكور موضع وفاق بين أصحابنا و قد صرحوا فيه بكونه إجماعياً. (3)

ثمّ ذكر قدَّس سرَّه الفرق بين الحكم و الإفتاء بما هو خارج عن موضوع البحث.

فالشهيد الثاني يذهب إلى أنّ الفقيه يمارس إجراء الحدود في عصر الغيبة

ص:476


1- 1) .مسالك الأفهام:476/1. [1]
2- 2) .مسالك الأفهام:427/1. [2]
3- 3) .مسالك الأفهام:108/3. [3]

بعامة شقوقها و فروعها،و هذه الصلاحية خوّلها الشارع إلى الفقيه الجامع للشرائط.

ولاية الفقيه تابعة للمصالح

إنّ ولاية الفقيه عند الشهيد الثاني ليست ولاية فوضى يمارسها الفقيه كيف شاء و إنّما هي ولاية نابعة من إحساس الحاجة و مصالح المسلمين،و بذلك تفترق ولايته عن ولاية المالك الشخصي.

يقول:إنّ ولاية الحاكم ليست كولاية المالك مطلقاً بل هي منوطة بالحاجة و المصلحة. (1)

ولاية الفقيه ولاية عامة

يعتقد الشهيد بعمومية الولاية في عصر الغيبة،و معنى ذلك انّ الفقيه يحمل هموم المسلمين عامة و يعالج مشاكلهم حسب ما تقتضيه مصالح الزمان من استخدام الخبراء و اعمال أساليب في سبيل تحقق الهدف المنشود.

يقول:إنّ الفقهاء نواب الإمام عليه السلام على العموم بقول الصادق عليه السلام:«انظروا في رجل قد روى حديثنا و عرف أحكامنا فارضوا به حاكماً فانّي قد جعلته عليكم حاكماً»الحديث و غيره ممّا في معناه،و جعله حاكماً من قبله،على العموم الشامل للمناصب الجليلة التي هي وظيفة الإمام كالقضاء و إقامة الحدود و غيرها،يدخل فيه الصلاة المذكورة(صلاة الجمعة) بطريق أولى،لأنّ شرطيتها به أضعف و من ثمّ اختلف فيها بخلاف هذه المناصب فانّها متوقّفة على إذنه قطعاً.

لا يقال:مدلول الإذن هو الحكم بين الناس،لأنّه هو موضع سؤال السائل

ص:477


1- 1) .المسالك:43/4. [1]

و الصلاة خارجة.

لأنّا نقول موضع الدلالة كونه منصوباً من قبلهم عليهم السلام مطلقاً فيدخل فيه موضع النزاع،و إن حصل شكّ في الإطلاق فالطريق ما بيّناه من أنّ ما تناوله النص أقوى من الصلاة و لا يقدح فيه كونه في زمن الصادق عليه السلام،لأنّ حكمهم و أوامرهم عليهم السلام شاملة لجميع الأزمان و هو موضع نص و وفاق. (1)

و الباحث إذا سبر كتاب«المسالك»و«الروضة البهية»و ما ألفه من الرسائل يجد نظير هذه الكلمات فيها.

هذا كلّه حول السلطة التنفيذية المتمثلة بولاية الفقيه.

و إليك الكلام في السلطة القضائية.

2.السلطة القضائية

اشارة

يرى الشهيد الثاني انّ السلطة القضائية إحدى أركان الحكومة،و انّ الإسلام أرساها و أحكم قواعدها و خوّلها إلى الفقيه الجامع للشرائط و انّه لا محيص للفقيه من ممارستها،لأنّه من واجباته،فمن اعتزل عنها فانّما اعتزل بوجوه غير مرضية عنده.

يقول في هذا الصدد:عُرّف القضاء شرعاً بأنّه ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية،على أشخاص معينة من البرية،بإثبات الحقوق و استيفائها للمستحق.

و مبدؤه:الرئاسة العامة في أُمور الدين و الدنيا.

و غايته قطع المنازعة.

ص:478


1- 1) .رسائل(رسالة صلاة الجمعة):87.

و خواصه:انّ الحكم فيه لا ينتقض بالاجتهاد،و صيرورته أصلاً ينفذه غيره من القضاة و إن خالف اجتهادَه،ما لم يخالف دليلاً قطعياً و هو من متمّمات نظام النوع الإنساني و الأصل فيه-قبل الإجماع-الكتاب و السنة قال اللّه تعالى: «يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ» 1 و قال تعالى: «إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ» 2 و الأخبار فيه كثيرة و فعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم و من بعده من الخلفاء بنصب القضاة أمر مشهور. (1)

أهمية القضاء عند الشهيد الثاني

يقول وظيفة القضاء من فروض الكفاية،لتوقف نظام النوع الإنساني عليه،و لأنّ الظلم من شيم النفوس فلا بدّ من حاكم ينتصف للمظلوم من الظالم،و لما يترتب عليه من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،و قد روي انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«إنّ اللّه لا يقدس أُمّة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقّه»و لعظم فائدته تولاه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و من قبله من الأنبياء بأنفسهم لأُمّتهم،و من بعدهم من هم خلفاؤهم.

و لما كان متوقفاً على نصب إمام فمن أمره به يجب عليه إجابته إليه،و من لم يأمره به لم يجز له تعاطيه،إلاّ على وجه التراضي. (2)

إلى هنا تمّ بعض ما أردنا نقله من كلمات الشهيد الثاني حول الركنين الأساسيين من أركان الحكومة الإسلامية.

1.السلطة التنفيذية.

2.السلطة القضائية.

ص:479


1- 3) .المسالك:325/13- 326. [1]
2- 4) .المسالك:336/13. [2]

و أمّا السلطة التشريعية فلم يتعرض لها الشهيد و هو نابع من صميم ولاية الفقيه،لأنّ الفقيه يعالج المشاكل بالأحكام الثانوية أوّلاً، و بترجيح الأهم بعد المهم ثانياً،و بما يدركه العقل من المصالح العامة ثالثاً،و بالرجوع إلى الخبراء رابعاً،فكلّ ذلك رهن سلطة تشريعية ثابتة للفقيه تأخذ على عاتقها تخطيطاً لإجراء الأحكام في مختلف العصور.

بعض نظراته الفقهية

قد كان الدارج في العصور الغابرة تسليط شخص أو أشخاص على أراضي مفتوحة عنوة من دون مبرّر و مسوغ سوى انّهم من حواشي السلطة مع أنّها ليست ملكاً لفرد بل هي ملك لعامة المسلمين و لا يجوز التصرف فيها إلاّ للنبي و خلفائه.

يقول الشهيد في تفسير قول المحقّق:

و للنبي صلى الله عليه و آله و سلم أن يحمي لنفسه و لغيره من المصالح كالحمى لنعم الصدقة و كذا عندنا لإمام العصر،و ليس لغيرهما من المسلمين أن يحمي لنفسه.

يقول:المراد بالحمى أن يحمي بقعة من الموات لمواش بعينها،و يمنع سائر الناس من الرعي فيها.و كان يجوز ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لخاصة نفسه،لأنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم،و لكنّه لم يفعل،و إنّما حمى النقيع-بالنون-لإبل الصدقة و نعم الجزية و خيل المجاهدين في سبيل اللّه و كذا يجوز الحمى عندنا للإمام عليه السلام. (1)

مصارف بيت المال عند الشهيد

قال الشهيد الثاني عند قول المحقّق (و يجوز للمؤذن)،هذه المعدودات

ص:480


1- 1) .المسالك:420/12- 421. [1]

كلّها من جملة مصالح الإسلام التي هي محلّ الرزق من بيت المال،و هو غير منحصر فيمن ذكر بل ضابطته:كل مصلحة دينية و منه مدرس العلوم الشرعية،و أئمّة الصلوات،و العدل المرصد للشهادة و غير ذلك.

و المراد بصاحب الديوان من بيده الكتاب الذي يجمع فيه أسماء الجند و القضاة و المدرسين،و غيرهم من المرتزقة و من يكتبه و نحوهما،و والي بيت المال و خازنه و حافظ الماشية و راعيها و نحوهما،و معلّم آداب الأُمور الحكمية و العلوم الأدبية من النحو و اللغة و شبههما. (1)

صلاة الجمعة واجب عيني

قال في رسالته-في صلاة الجمعة -:

«إنّ الأصحاب اتّفقوا على وجوبها عيناً مع حضور الإمام أو نائبه الخاص،و إنّما اختلفوا فيه في حال الغيبة و عدم وجود المأذون له فيها على الخصوص.فذهب الأكثر-حتى كاد أن يكون إجماعاً أو هو إجماع على قاعدتهم المشهورة من أنّ المخالف إذا كان معلوم النسب لا يقدح فيه-إلى وجوبها أيضاً مع اجتماع باقي الشرائط غير إذن الإمام،و الذي نعتمده من هذه الأقوال و نختاره و ندين اللّه تعالى به هو المذهب الأوّل، أي الوجوب العيني.ثمّ استدل للقول المختار بوجوه. (2)

نظراته الاجتماعية
اشارة

إنّ للشهيد الثاني آراءً اجتماعية نابعة من انفتاحه وسعة باعه و نظره إلى المجتمع نظرة شمولية موضوعية،و ليست هذه الآراء نابعة من ذهنه منقطعة عن

ص:481


1- 1) .المسالك:350/13. [1]
2- 2) .رسالة في صلاة الجمعة:3-4.

النظر في الكتاب و السنّة،بل انّه صقلها من خلال الغور في الكتاب و السنّة فهي آراء اجتماعية و في الوقت نفسه فقهية،و لنذكر نماذج لذلك.

1.تخويل حقّ الاستيطان للمرأة.

ذكر قدَّس سرَّه عند قول المحقّق:(إذا شرط أن لا يخرجها من بلدها) ما هذا لفظه:إنّ ذلك شرط مقصود للعقلاء،و الأغراض تتعلق باللبث في المنازل،و الاستيطان في البلدان التي حصل بها الأنس و النشوء،و ملازمة الأهل و رعايتهم مصلحتها،و ذلك أمر مهم،فجاز شرطه في النكاح توصّلاً إلى هذا الغرض المطلوب المشتمل على الحكمة الواضحة. (1)

2.ما هو السبب لارتكاب الغيبة دون غيرها من المعاصي؟

يقول الشهيد الثاني:لأنّ مثل ذلك في المعاصي لا يخلّ عرفاً بمراتبهم و منازلهم من الرئاسات لخفاء هذا النوع من المنكر على من يرومون المنزلة عنده من أهل الجهالات و لو وسوس إليهم الشيطان ان اشربوا الخمر أو زنوا بالمحصنات ما أطاعوه لظهور فحشه عند العامة و سقوط محلهم به لديهم،بل عند متعاطي الرذائل الواضحات و لو راجعوا عقولهم و استضاءوا بأنوار بصائرهم لوجدوا بين المعصيتين فرقاً شاسعاً و تفاوتاً شديداً،بل لا نسبة بين المعاصي المستلزمة للإخلال بحقّ اللّه سبحانه على الخصوص و بين ما يتعلّق مع ذلك بحقّ العبيد خصوصاً أعراضهم فانّها أجلُّ من أموالهم و أشرف،و متى شرف الشيء عظم الذنب في انتهاكه مع ما يستلزمه من الفساد الكلي. (2)

ص:482


1- 1) .المسالك:250/8. [1]
2- 2) .كشف الريبة:4.
3.تحذيره العلماء من التردد على بلاط السلاطين

إنّ الشهيد الثاني يحذّر العلماء من التردد على بلاط السلطة الحاكمة،و الخضوع لها و يقول:يجب أن يكون العالم عفيف النفس،عالي الهمة،منقبضاً عن الملوك و أهل الدنيا،لا يدخل إليهم طمعاً،ما وجد إلى الفرار منهم سبيلاً،صيانة للعلم عمّا صانه السلف.فمن فعل ذلك،فقد عرض نفسه و خان أمانته،و كثيراً ما يثمر عدم الوصول إلى البغية و إن وصل إلى بعضها لم يكن حاله كحال المتعفّف المنقبض،و شاهده مع النقل، الوجدان.

قال بعض الفضلاء لبعض الأبدال:ما بال كبراء زماننا و ملوكها لا يقبلون منّا،و لا يجدون للعلم مقداراً،و قد كانوا في سالف الزمان بخلاف ذلك؟

فقال:إنّ علماء ذلك الزمان كان يأتيهم الملوكُ و الأكابر و أهل الدنيا،فيُبذلون لهم دنياهم و يلتمسون منهم علمهم فيبالغون في دفعهم و ردّ مُنّتهم عنهم،فصغرت الدنيا في أعين أهلها و عَظُم قدر العلم عندهم،نظراً منهم إلى أنّ العلم لو لا جلالته و نفاسته ما آثره هؤلاء الفضلاء على الدنيا و لو لا حقارة الدنيا و انحطاطها لما تركوها رغبة عنها.

و لما أقبل علماء زماننا على الملوك و أبناء الدنيا و بذلوا لهم علمهم التماساً لدنياهم،عَظُمت الدنيا في أعينهم،و صغر العلم لديهم لعين ما تقدّم.

و قد سمعت جملة من الأخبار في ذلك سابقاً،كقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:الفقهاء أُمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا،قيل:يا رسول اللّه! و ما دخولهم في الدنيا،قال:اتّباع السلطان،فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم. (1)

ثمّ إنّ الشهيد يحدد هذه الظاهرة الاجتماعية و يفصّل المذموم عن الممدوح،

ص:483


1- 1) .منية المريد:64. [1]

و يقول:انّ القدر المذموم من ذلك ليس هو مجرّد اتّباع السلطان كيف اتّفق،بل اتّباعه ليكون توطئة له و وسيلة إلى ارتفاع الشأن،و الترفع على الأقران و عِظَم الجاه و المقدار و حبّ الدنيا و الرئاسة و نحو ذلك،أمّا لو اتبعه ليجعله وُصلة إلى إقامة نظام النوع و إعلاء كلمة الدين و ترويج الحقّ و قمع أهل البدع و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،و نحو ذلك،فهو من أفضل الأعمال فضلاً عن كونه مُرخّصاً،و بهذا يجمع بين ما ورد من الذمّ و ما ورد أيضاً من الترخيص في ذلك،بل قد فعله جماعة من الأعيان كعلي بن يقطين و عبد اللّه النجاشي و أبي القاسم بن روح أحد أبواب الشريعة و محمد بن إسماعيل بن بزيع و نوح بن درّاج و غيرهم من أصحاب الأئمّة،و من الفقهاء مثل السيدين الأجلين المرتضى و الرضي و أبيهما و الخواجه نصير الدين الطوسي،و العلاّمة جمال الدين ابن المطهر و غيرهم.

و قد روى محمد بن إسماعيل بن بزيع و هو الثقة الصدوق عن الرضا عليه السلام انّه قال:

«إنّ للّه تعالى بأبواب الظالمين من نوّر اللّه به البرهان و مكّن له في البلاد،ليدفع به عن أوليائه و يصلح اللّه به أُمور المسلمين،لأنّه ملجأ المؤمنين من الضرر،و إليه يَفزع ذو الحاجة من شيعتنا،بهم يُؤمّن اللّه روعةَ المؤمن في دار الظلمة،أُولئك المؤمنون حقّاً،أُولئك أُمناء اللّه في أرضه،أُولئك نور اللّه تعالى في رعيتهم يوم القيامة،و يزهر نورهم لأهل السماوات،كما تزهر الكواكب الزاهرة لأهل الأرض،أُولئك من نورهم نور القيامة تضيء منهم القيامة،خُلِقُوا و اللّه للجنّة و خلقت الجنة لهم،فهنيئاً لهم،ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله»قال:قلت:بما ذا جعلني اللّه فداك؟

قال:«تكون معهم فتسرنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا

ص:484

فكن منهم يا محمد». (1)

المحافظة على الشعائر

ذكر الشهيد الثاني في المحافظة على الشعائر كلاماً ما هذا نصّه:

أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام و ظواهر الأحكام،كإقامة الصلوات في مساجد الجماعات محافظاً على شريف الأوقات،و إفشاء السلام للخاص و العام مبتدئاً و مجيباً،و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،و الصبر على الأذى بسبب ذلك،صادعاً بالحقّ باذلاً نفسه للّه لا يخاف لومة لائم متأسياً في ذلك بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم و غيره من الأنبياء متذكراً ما نزل بهم من المحن عند القيام بأوامر اللّه تعالى. (2)

هذه إلمامة عابرة بحياة شيخنا الإمام السعيد و آرائه السياسية و الاجتماعية و الإحاطة بملامح حياته و سيرته رهن كتاب مفرد،و لعلّ من بين المشاركين المساهمين في المؤتمر من يكفينا هذه المئونة.

و في الختام نتقدم بالشكر الجزيل لمؤسسي هذا المؤتمر و الذين ساهموا فيه بخطبهم و محاضراتهم و مقالاتهم.

و كنت أودُّ أن أشاركهم في الحفل الشريف غير انّ العوائق حالت بيني و بين أُمنيتي«و ما كل ما يتمنى المرء يدركه».

فسلام اللّه على الإمام الشهيد السعيد،يوم ولد،و يوم استشهد،و يوم يبعث حيّاً.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

27صفر المظفر من شهور عام 1422ه.ق

ص:485


1- 1) .منية المريد:63- 65،ط مجمع [1]الذخائر الإسلامية.
2- 2) .منية المريد:64. [2]

ص:486

3

الفقيه،المتكلّم،الأديب

ميرزا يوسف القراجه داغي

(1279- 1337)

شاعر مفلق،و خطيب مفوه،و متكلم بارع و فقيه واسع الاطلاع.ولد عام 1279ه في مدينة تبريز في بيت عريق بالعلم.كان والده هو العالم الفقيه،العابد،ميرزا علي ابن العلامة محمد علي القرجه داغي صاحب شرح تبصرة العلاّمة الحلّي.و لما أتم الأوليات في موطنه،غادره إلى النجف الأشرف و ألقى فيها رحل الإقامة،و قرأ على الأساتذة:الفاضل الايرواني،و الشيخ محمد هادي الطهراني.ثمّ عاد إلى موطنه قائماً بأعباء التدريس و الزعامة.

و كان قدَّس سرَّه في مجال الخطابة و الوعظ،خطيباً مِصْقَعاً،و واعظاً مفوَّهاً،يعظ بلسان ذلق-يأخذ بمجامع القلوب.

و في مجال التأليف ألّف«لسان الحق أو مظالم المسيحيين في الرد على النصارى و التثليث»طبع في تبريز عام 1336،كما ألّف«حكم ترجمة القرآن إلى سائر اللغات»التي كانت مسألة رائجة في تلك الأيام في الأوساط العلمية.

و أمّا في مجال القريض و نضد الشعر،فهو واسطة عقده و مرتكز لواءه و قد

ص:487

كان هو و ابن عمه آية اللّه ميرزا صادق التبريزي يتباريان في إنشاد الشعر على ضفاف نهر الكوفة،و قد كان مترجمنا أشعر منه،و الثاني أفقه منه.

و الديوان الذي تركه شاهد على ذلك،فنظمه جميل،و قصائده جميلة،و غالب قصائده في مدح أهل البيت عليهم السلام مرتب على حروف الهجاء،و بعض قصائده في أغراض أُخرى و هي قليلة بالنسبة إلى مدائح أهل البيت.و من السير في شعره تعرف انّه شاعر و عالم.

و ها نحن نسرد شيئاً من شعره،و نقدم ما نظمه في رثاء أُستاذه الشيخ هادي الطهراني،فيقول في مستهلّ قصيدته: ما وقوفي على الطلول البوالي و سؤالي،و هل يفيد سؤالي؟

(بحر الخفيف)

إلى أن يقول في حقّه: عجَباً للثرى و قد حلّ فيه

و يقول في آخر القصيدة: لا يطيبنّ للعيون كَراها

ص:488

(مجزوء الرمل)

و من شعره المطرب قوله: عاد أيام التداني

(بحر السريع)

و له من قصيدة فريدة في مدح علي عليه السلام: صيغت له ذات مقدسة من جوهر التقديس غذاها

هو-دونهم-ماض على سنن

(1)

ص:489


1- 2) .لاحظ ديوانه المخطوط،ص 76- 77

خرج في سنة 1337ه قاصداً العتبات المقدسة في العراق،فمرض في الطريق،حتى إذا وصل مدينة الكاظمية في ليلة 16 صفر المظفر اشتدّ به المرض،و في صبيحة ذلك اليوم انتقل إلى رحمة اللّه و دفن في الرواق الشريف بجوار الكاظمين عليهما السلام و عمره 58 سنة.

و تحتفظ مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بنسخة من ديوانه في 114 صفحة بخط حفيده الشيخ علي أصغر ابن ميرزا علي بن ميرزا يوسف المترجم،و قد وافاه الأجل في هذا العام (أي 1423ه) و أرجو من اللّه سبحانه أن يقيِّض أرباب الهمم و أصحاب الأدب على طبع ديوانه محققاً و مشكولاً،لانّه استخدم قريحته في مدح أهل البيت و رثائهم.

و قد نقل الواعظ ميرزا علي الخياباني (المتوفّى 1367ه) قسماً كبيراً من قصائده في وقائع الأيام،الجزء المختص بالمحرم فلاحظ الصفحات 70،380،423،624.

فسلام اللّه عليه و على ولائه

الخالص و تفانيه في حب

آل البيت عليهم السلام

سلاماً لا نهاية له

ص:490

4

اشارة

المسائل الخلافيّة

و

دورها في الاستنباط

الحمد للَّه الّذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا اللَّه،و الصلاة و السلام على أفضل خليقته و أشرف بريّته أبي القاسم محمد و على خلفائه المبشّرين المعصومين،الموصوفين بكل جميل،ما تعاقب جيل بعد جيل.

أمّا بعد؛فإنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأُمّة الّتي أعظم اللَّه بها عليهم النعمة،حيث حفظهم عن وَصْمة محاباة أهل الكتابين،المؤدِّية إلى تحريف ما فيهما،و اندراس تينك الملّتين،فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلاّ بيّنوه،و لفاعل فعلاً فيه تحريف إلاّ قوّموه،حتّى اتّضحت الآراء و انعدمت الأهواء،و دامت الشريعة الواضحة البيضاء على امتلاء الآفاق بأضوائها،و شفاء القلوب بها من أدوائها،مأمونة من التحريف،مصونة عن التصحيف. (1)

ص:491


1- 1) .إبانة المختار لشيخ الشريعة الأصفهاني نقله عن بعض الأعلام في مقدمة الكتاب.

إنّ القرآن الكريم يُشيد بالوحدة،و اتّفاق الكلمة و الاعتصام بالعروة الوثقى،و رفض التشتّت و التفرّق،و يندِّد بالاختلاف و الفرقة،يقول سبحانه: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا». 1

فهذا المقطع من الآية الكريمة بإيجازها يتكفّل بيان أمرين:

1.يأمر بتوحيد الكلمة و الاعتصام بحبل اللَّه.

2.يزجر عن التفرّق و التشتّت.

و هذان الأمران من الوضوح بمرتبة لا يختلف فيهما اثنان.

و مع الاعتراف بذلك كلّه فاختلاف الكلمة إنّما يضرّ إذا كان صادراً عن ميول و أهواء،فهذا هو الّذي نزل الكتاب بذمّه في غير واحدة من آياته،يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» 2 ،و يقول: «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» 3 فهؤلاء اختلفوا بعد ما تمّت عليهم الحجة و بانت لهم الحقيقة،فهذا النوع من الاختلاف آية الأنانية أمام الخضوع للحقائق الراهنة.

و أمّا إذا كان الاختلاف موضوعياً نابعاً عن حبّ تحرّي الحقيقة و كشف الواقع،فهذا أمر ممدوح،و أساس للوصول إلى الحقائق المستورة،و إرساء لقواعد العلم و دعائمه.

إنّ الاختلاف بين الفقهاء أشبه بالخلاف الّذي وقع بين نبيّين كريمين:داود و سليمان-على نبينا و آله و عليهما السلام-في واقعة واحدة حكاها سبحانه في كتابه

ص:492

العزيز و قال: «وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ* فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً». 1

و كما آتى سبحانه لكلّ منهما حكماً و علماً،فقد آتى لكلّ فقيه ربّاني فهماً و علماً،يدفعه روح البحث العلمي إلى إجراء المزيد من الدقّة و الفحص في الأدلّة المتوفّرة بين يديه،بُغية الوصول إلى الواقع،و هذا العمل بطبيعته يورث الاختلاف و تعدّد الآراء.

و لأجل ذلك نجم الاختلاف في الشريعة بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم و اتّسعت شقّته في القرن الثاني و الثالث.

و قد اهتمّ كثير من العلماء منذ وقت مبكِّر بالمسائل الخلافية و صنّفوا فيها كتباً متوفّرة،جمعوا فيها آراء الفقهاء في مسائل خلافية إلى أن عادت معرفة العلم بالخلافيات علماً برأسه و أساساً لصحّة الاجتهاد،حتّى قيل:إنّ معرفة الأقوال في المسألة نصف الاستنباط.و إليك فيما يلي أسماء بعض الكتب الّتي أُلّفت في الخلافيات،فمن السنَّة:

1.«الموطّأ»للإمام مالك (المتوفّى 179 ه) يذكر فيه أقوال الفقهاء السابقين في مختلف أبوابه.

2.كتاب«الأُمّ»الّذي جمع فيه البويطي ثمّ الربيع المرادي أقوالَ الإمام الشافعي،و قد ضمَّ فصولاً عديدة في اختلاف أبي حنيفة و ابن أبي ليلى،و اختلاف أبي حنيفة و الأوزاعي،و اختلاف الشافعي مع محمد بن الحسن.

3.«مسائل إسحاق الكوسج»قد تضمنت اختلاف الإمام أحمد مع معاصريه كابن راهويه و غيره.

ص:493

4.«اختلاف الفقهاء»تأليف الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن نصر المروزي (202- 294 ه) المطبوع بتحقيق الدكتور محمد طاهر حكيم،ط عام 1420 ه.

5.«اختلاف الفقهاء»تأليف الإمام أبي بكر محمد بن المنذر النيسابوري الشافعي (المتوفّى 309 ه).

6.«اختلاف الفقهاء»تأليف الإمام محمد بن جرير الطبري (المتوفّى 310ه).

ذكر في كتابه اختلاف مالك و الأوزاعي و الثوري و الشافعي و أبي حنيفة مع أبي يوسف و محمد بن الحسن ثمّ أبي ثور،و ذكر بعض فقهاء الصحابة و التابعين و أتباعهم إلى المائة الثالثة،و لم يذكر فيه أحمد بن حنبل،و حكي انّه سئل عن سبب ذلك؟ فقال:لم يكن أحمد فقيهاً و انّما كان محدِّثاً.

و قد لعب بالكتاب طوارق الحدثان و لم يبق منه إلاّ القليل يبتدأ بكتاب المدبّر فالبيوع و الصرف و السلم و المزارعة و المساقاة و الغصب و الضمان،و المطبوع من الكتاب مجلد واحد يشتمل عليها.

7.«اختلاف العلماء»تأليف الإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي الحنفي (المتوفّى 321 ه) و اختصره الإمام أبو بكر أحمد بن علي الجصّاص الحنفي (المتوفّى 370 ه) و نشره الدكتور محمد صغير حسن.

8.«اختلاف الفقهاء»تأليف محمد بن محمد الباهلي الشافعي (المتوفّى 321 ه).

9.«الخلافيات»للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (384- 458 ه) ناقش فيه أدلّة الحنفية و انتصر لمذهب الشافعية.و طبعت بتحقيق مشهور بن حسن آل سلمان.

ص:494

10.«اختلاف العلماء»تأليف أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي الوزير (المتوفّى 555 ه).

هذه عشرة كاملة ذكرناها لإيقاف القارئ على أهمية معرفة الخلافيات و عناية الفقهاء بها.هذا ما لدى السنّة و أمّا الشيعة فهي بدورها قد اهتمّت بهذا العلم أيضاً منذ عصر مبكِّر و ألّفت فيه كتباً،نذكر منها ما يلي:

1.كتاب«الاختلاف»لأبي عبد اللَّه محمد بن عمر الواقدي (130- 207 ه) ذكر ابن النديم:انه كان يتشيّع،حسن المذهب،يلزم التقية، و قال:و كتاب«الاختلاف»يحتوي على اختلاف أهل المدينة و الكوفة في الشفعة و الصدقة و العمرى و الرقبى و الوديعة و العارية و البضاعة و المضاربة و الغصب و السرقة و الحدود و الشهادات،و على نسق كتب الفقه ما يبقى.

2.«اختلاف الفقهاء»للقاضي أبي حنيفة نعمان بن أحمد المصري المغربي (المتوفّى 363 ه) نقله ابن خلّكان عن ابن زولان في كتابه «أخبار مصر»،قال:إنّه ينتصر فيه لأهل البيت عليهم السلام عبّر عنه في«كشف الظنون»باختلاف أُصول المذاهب.

3.«مسائل الخلاف في الفقه»للشريف المرتضى (355- 436 ه) ذكره الشيخ الطوسي في«الفهرست».و قد أحال المصنّف إليها في كتاب«الناصريات».

4.«مسائل الناصريات»ألّفه الشريف المرتضى وفاءً لجده الناصر على الرغم من اختلاف المذهب بينهما،و يتجلّى فيه روح التفاهم و التسالم بين عالمين إماميّ و زيديّ،و هو لا يقتصر على المسائل الخلافية بين الإمامية و الزيدية،بل يحوي جلّ الخلافات الفقهية على مستوى المذاهب.

5.«الخلاف في الأحكام»لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفّى 460 ه) و يقال له«مسائل الخلاف»و هو مرتّب على ترتيب

ص:495

كتب الفقه،و قد صرح فيه بأنّه ألّفه بعد كتاب«التهذيب»و«الاستبصار»و ناظر فيه المخالفين جميعاً،و قد طبع مراراً.

6.«المؤتلف من المختلف بين أئمة السلف»تأليف أمين الإسلام فضل بن الحسن الطبرسي (471- 548 ه) و قد لخّص به كتاب «الخلاف»للشيخ الطوسي و نشر في ثلاثة أجزاء،و أثبت هو في ذلك الكتاب انّ الخلاف بين الشيعة و السنّة في المسائل الفقهية ليس على نحو التباين،بل كثيراً ما يوافق الشيعة مذهباً و يخالف مذهباً آخر،و هذا هو الأمر السائد في معظم المسائل الفقهية.

7.«خلاف المذاهب الخمسة في الفقه»للشيخ تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلّي (647- 707 ه) صاحب كتاب الرجال المشهور برجال ابن داود.

8.«تذكرة الفقهاء»للعلاّمة حسن بن المطهر (648- 726 ه) و الكتاب مشحون بنقل أدلّة الفقهاء على اختلاف مذاهبهم،و قد طبع قديماً و يطبع حالياً طبعة جديدة محقّقة من قبل مؤسسة آل البيت عليهم السَّلام حيث صدر منه أكثر من 12 جزءاً.

9.«منتهى المطلب في تحقيق المذهب»للعلاّمة الحلي و هو أفضل ما أُلّف في الفقه المقارَن نقلاً و تحقيقاً،يذكر آراء العلماء برحابة صدر و يناقش فيها،و الكتاب من حسنات الدهر.و قد طبع قديماً و حديثا.

10.«مختلف الشيعة»له أيضاً و هو يختص ببيان اختلافات الشيعة في المسائل الفقهية،و قد طبع طبعات عديدة محقّقة. (1)

ص:496


1- 1) .لاحظ في الوقوف على أسماء هذه الكتب و ميزاتها،كشف الظنون:64/1،مادة«اختلاف»؛الذريعة:360/1، [1]نفس المادة و 236/7مادة الخلاف،و مقدمة كتاب اختلاف الفقهاء للمروزي،و مقدمة الخلافيات للبيهقي،و مقدمة اختلاف الفقهاء لأبي جعفر الطبري و غيرها.

هذا بعض ما يمكن أن يذكر في المقام،و لعلّك تلمس بما ذكرناه اهتمام العلماء بالخلافيات،و جدير بالذكر انّ الخلاف بين العلماء كان مرافقاً في الغالب برعاية أدب الخلاف و صحيح الحوار.

***

هذا البحث الموجز أوقفك على وجود الاختلاف في المسائل الفقهية في عصر الصحابة و التابعين و الفقهاء إلى يومنا هذا،إلاّ أنّ الكلام في أسباب الاختلاف و دوافعه،فهناك أمران:

الأوّل:ما هو الحافز لاختلاف فقهاء السنّة أنفسهم بينهم حتّى أُفردت كتب كثيرة كما مرّت-لبيان اختلاف أئمة المذاهب السائدة أو البائدة؟!

الثاني:ما هو سبب الاختلاف بين الفقهين:الإماميّ و السنّيّ؟

أمّا الأوّل فلا نحوم حوله و نتركه عسى ان نستوفي حقّه في مجال آخر،و انّما المهم في المقام بيان سبب الاختلاف بين الفقه السنّيّ و الفقه الشيعيّ،مع أنّهما صنوان من أصل واحد يصدران عن الكتاب و السنّة،و مع ذلك نرى بين الفقهين اختلافاً واضحاً.

إنّ هناك أسباباً للاختلاف في الفتاوى و الآراء لا يمكن استقصاؤها في هذا التقديم،و انّما نذكر في المقام،العناصر الّتي تركت تأثيراً كبيراً على اتّساع الهوّة بين الفقهين:

1.الاختلاف في ثبوت السنّة

اتّفقت الأُمّة الإسلامية على حجّية السنّة و انّها مصدر ثان للتشريع بعد الذكر الحكيم،لكن الكلام في شرائط ثبوت السنّة النبوية.

ص:497

فالشيعة الإمامية اعتبروا وثاقة الراوي في عامّة سلسلة السند من دون فرق بين الصحابي و التابعي و من تلاهم.فلا يأخذون بحديث إلاّ إذا أُحرزت وثاقة الرواة جميعهم بلا استثناء.

و أمّا السنّة فقد اعتبروا إحراز الوثاقة في سلسلة السند إلاّ في الصحابة،لبنائهم على عدالة كل صحابي،سواء عُرف أم لم يعرف،وُثّق أم لم يوثّق،صدر منه ما يخالف الكتاب و السنّة أم لم يصدر،فالكلّ عدول مطهّرون و في غنى عن التوثيق و التعديل،فعند ذلك يظهر الاختلاف في ثبوت السنّة.

فتكون النسبة بين النظرين عموماً و خصوصاً مطلقاً،فالسنّة الثابتة عند الشيعيّ ثابتة أيضاً عند السنّيّ دون العكس.

2.الاختلاف في حجية العقل

إنّ العقل أحد الحجج الأربع الّذي اتفق فقهاء الشيعة على حجيته في موارد خاصة،و الاستدلال بالعقل يتم بأحد طرق ثلاثة:

أ.الاستقراء.

ب.التمثيل.

ج.القياس المنطقي.

فالاستقراء التام،أعني:تتبّع عامّة الموارد،غير المورد الّذي يريد إقامة الدليل عليه،حجة عند أكثر فقهاء السنّة أو جميعهم،و أمّا الناقص فلم يعتبروه إلاّ القليل منهم.

و أمّا التمثيل الّذي هو عبارة عن القياس الأُصولي،فأصحاب المذاهب الأربعة مجمعون على حجيّته خلافاً للشيعة و الظاهرية حيث حرّموا العمل بالقياس.

ص:498

إنّما الكلام في القياس المنطقي و هو الاحتجاج بحكم العقل في الحقل الّذي للعقل فيه إدراك و حكم،فهو حجة عند الشيعة الإمامية القائلين بالحسن و القبح العقليين دون الأشاعرة نفاة التحسين و التقبيح العقليّين-و تنحصر حجية القول في مجال الاستنباط في مجالين:

الأوّل:إذا استقلّ العقل بحسن شيء أو قبحه مع قطع النظر عن كل شيء يترتّب عليه من المصالح و المفاسد،فالشيعة على أنّه حجّة في كشف حكم الشارع عليه بالوجوب و الحرمة،و هذا ما يعبّر عنه بالمستقلاّت العقلية.

الثاني:إذا كانت إحدى المقدّمتين عقلية،و الأُخرى شرعية كما في باب الملازمات العقلية،فإنّ العقل يحكم بثبوت التلازم بين وجوب الشيء و وجوب مقدّمته،و انّ طالب الشيء طالب لمقدّماته أيضاً،أو يحكم بثبوت التلازم بين الأمر بالشيء و حرمة أضداده،و يكشف عن أنّ حكم الشرع في كلا الموردين أيضاً كذلك.

و من الواضح انّه لا يمكن التوصّل بهذا الحكم الكلّي،أي وجوب الوضوء إلاّ بعد تنصيص الشارع بوجوب الصلاة و توقّفها عليه،فيقال - إذا أُريد ترتيب القياس و أخذ النتيجة:الوضوء ممّا يتوقّف عليه الواجب (الصلاة)،و هذه مقدّمة شرعية،و كلّ ما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب عقلاً،و هذه مقدّمة عقلية،فينتج:الوضوء واجب عقلاً.و هذا ما يعبّر عنه بغير المستقلاّت العقلية.نعم يعلم وجوب الوضوء شرعاً بالملازمة بين حكمي العقل و الشرع.

و من عجيب الأمر انّ الفقه السنّي يعمل بالاستقراء و القياس و كلاهما دليلان ظنّيان و لا يأخذ بالقياس المنطقي-الّذي هو دليل قطعي-إلاّ في فترات يسيرة.

ص:499

3.أحاديث العترة الطاهرة

إن العترة الطاهرة بتنصيص النبي صلى الله عليه و آله و سلم-قرناء الكتاب و أعداله حيث قال:«إنّي تارك فيكم الثقلين:كتاب اللَّه و عترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».و الحديث متواتر أو متضافر رواه الفريقان.أخرجه مسلم في صحيحه و الترمذي في سننه و أحمد في مسنده إلى غير ذلك من المصادر المتوفّرة. (1)

فعلى ذلك قولهم حجة قاطعة مصون من الخطأ كالكتاب العزيز بحكم انّهما عِدْلان و صنوان.

و الحديث يركِّز على أنّ المرجع العلمي بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو الكتاب و العترة،و انّ قول العترة قول الرسول و كلامه،و بقولهم تحفظ السنّة عبر القرون،غير أنّ أصحاب المذاهب الأربعة و غيرهم تلقّوا روايات أهل البيت فتاوى خاصة لهم،فلم يعتبروها حجّة شرعية على الجميع،و هذا النوع من التفسير لأحاديثهم مخالف لحديث الثقلين أوّلاً و كلامهم ثانياً،فإنّهم يعتبرون كل ما يروون،سنّة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم يرويه كابر عن كابر إلى أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

هذا هو النجاشي ينقل في ترجمة محمد بن عذافر الصيرفي عن أبيه قال:كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر عليه السلام،فجعل يسأله، و كان أبو جعفر عليه السلام مكرِماً،فاختلفا في شيء،فقال أبو جعفر عليه السلام:«يا بني قم فأخْرِج كتاب عليّ عليه السلام»فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً،ففتحه و جعل ينظر حتّى أخرج المسألة،فقال أبو جعفر عليه السلام«هذا خط عليّ عليه السلام و إملاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم»و أقبل على

ص:500


1- 1) .لاحظ صحيح مسلم:122/7و123،باب فضائل علي؛سنن الترمذي:308/2؛مستدرك الصحيحين:109/3و 148؛مسند احمد:17/3و 26و 371/4،و 18/5؛الطبقات الكبرى لابن سعد:2/2؛حلية الأولياء:355/1و649؛و كنز العمال:47/1 و96.

الحكم،و قال:«يا أبا محمد اذهب أنت و سلمة بن كهيل و أبو المقدام حيث شئتم يميناً و شمالاً،فو الله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل عليه السلام». (1)

فإذا كانت هذه مكانة أقوال أئمة أهل البيت فلا حجّة للسنّيّ في الإعراض عن أحاديثهم و الالتجاء إلى قواعد،كالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة وسد الذرائع و فتحها و قول الصحابي إلى غير ذلك من القواعد الّتي ألجأهم إلى تأسيسها و إرسائها قلّة النصوص النبويّة في الشريعة و الأحكام الفرعية.

و لكنّهم لو رجعوا فيما لم يرد فيه نصّ في الكتاب و السنّة النبويّة إلى أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام،لاستغنوا عن إرساء هذه القواعد و العمل بالظنون الّتي لا تغني من الحق شيئاً.

ففي هذه النقطة بالذات تتّسع الشقّة بين الفقهين،فقهاء الشيعة يعملون بكلا الثقلين،و لكن فقهاء السنّة يعملون بالكتاب دون الثقل الآخر و يعتبرون مكانه قواعد ظنيّة اخترعت لأجل إعواز النصوص،و قد كان لقلّة النصوص بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم دور في توسيع الشقّة بين الصحابة،حتّى أنّ بعض المتورّعين من الصحابة ينهون عن السؤال عمّا ليس في الكتاب و السنّة.

روى الدارمي في سننه عن ابن عمر و قد جاءه رجل فسأله عن شيء،فقال له:و لا تسأل عمّا لم يكن.

و قال القاسم:إنّكم تسألون عن أشياء ما كنّا نسأل عنها،و تنقرون عن أشياء ما كنّا ننقر عنها،تسألون عن أشياء ما أدري ما هي؟! و لو علمناها ما حلّ لنا أن نكتمها.

ص:501


1- 1) .رجال النجاشي:262/1،الترجمة967.

و قال عبادة بن يسر الكندي:أدركت أقواماً ما كانوا يشدّدون تشديدكم،و لا يسألون مسائلكم. (1)

و لكن التورّع عن الإجابة كان لبعض الصحابة دون الأكثرية،فجماهيرهم إذا لم يجدوا جمعوا رؤساء الناس فاستشاروهم،فإذا اجتمع رأيهم على شيء قُضي به،و على ذلك جرى الخلفاء بعد الرسول. (2)

يقول عبد اللَّه بن مسعود:من عرض له منكم قضاء فليقضينّ بما في كتاب اللَّه،فإن لم يكن في كتاب اللَّه فليقضينّ بما قضى به نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم،فإن جاء أمر ليس في كتاب اللَّه و لم يقض به نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم فليقض بما قضى به الصالحون،فإن جاء أمر ليس في كتاب اللَّه و لم يقض به نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم و لم يقض به الصالحون فليجتهد برأيه،فإن لم يحسن فليقم و لا يستحي. (3)

و في الحقيقة انّ الفقه المبنيّ على هذه الموازين غير المستندة إلى الكتاب و السنّة أشبه بالفقه الوضعي،لأنّه من نتائج الفكر و ضرب الآراء بعضها على بعض.

و قد كان عمر بن الخطاب-و من جاء بعده-واقفاً على قيمة هذا النوع من الرأي،فقد روي أنّ رجلاً لقاه،فقال عمر بن الخطاب له:ما صنعت ؟

قال:قضى عليّ و زيد بكذا،قال:لو كنتُ أنا لقضيت بكذا،قال:فما يمنعك و الأمر اليك؟ قال:لو كنت أردّك إلى كتاب اللَّه أو إلى سنّة نبيّه لفعلت،و لكنّي أردّك إلى رأي،و الرأي مشترك،فلم ينقض ما قال عليّ و زيد. (4)

ص:502


1- 1) .سنن الدارمي:49/1و 50. [1]
2- 2) .اعلام الموقعين:62/1.
3- 3) .اعلام الموقعين:62/1،63.
4- 4) .اعلام الموقعين:65/1.

4.الاختلاف فيما هو المرجع عند عدم النصّ

اشارة

هذا هو السبب الرابع لوجود الاختلاف بين الفقهين،فالمرجع عند عدم النصّ في الفقه الشيعي،عبارة عن القواعد العامّة السارية في عامّة أبواب الفقه على نظام خاصّ.

1.البراءة فيما إذا كان الشك في أصل التكليف،كما إذا شك المجتهد في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شيء من المأكولات و الملبوسات،فالمرجع بعد التفحّص في الكتاب و السنّة و عدم العثور على الدليل هو أصل البراءة من الوجوب و الحرمة.

لقوله سبحانه: «وَ ما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً» 1 و الرسول كناية عن البيان،و بهذا المضمون آيات أُخرى.

و لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:«رفع عن أُمّتي تسعة أشياء:الخطأ،و النسيان،و ما أُكرهوا عليه،و ما لا يعلمون...». (1)

2.الاحتياط و الاشتغال فيما إذا كان الشك في المكلّف به مع العلم بالتكليف،كما إذا شك في أنّ الواجب هو القصر أو التمام،فالواجب عندئذ هو الجمع بينهما أخذاً بحكم العقل،و هو انّ الاشتغال اليقيني بالواجب يقتضي البراءة اليقينية،و هو لا يحصل إلاّ بالجمع بين الصلاتين.

و نظير ذلك إذا شك في القبلة في الصحراء مع عدم الأمارة المورثة للاطمئنان فيصلّي إلى جهات أربع.

3.التخيير:و مجراه عبارة عمّا إذا دار حكم الموضوع بين الوجوب و الحرمة،

ص:503


1- 2) .الوسائل:11،الباب56،من أبواب جهاد النفس،الحديث1. [1]

فبما انّ الاحتياط غير ممكن فيحكم العقل بالتخيير.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن للحكم أو الموضوع حالة سابقة و إلاّ فتصل النوبة إلى الأصل الرابع،أعني:

4.الاستصحاب:و هو الأخذ بالحالة السابقة موضوعاً و حكماً،و الدليل عليه قول الإمام الصادق عليه السلام«لا تنقضوا اليقين بالشك»إلى غيره من الأحاديث.

نعم ربّما يتمسّك ببعض هذه الأُصول فقهاء السنّة،و لكنّهم لم يبيّنوا مجاريها و شروطها و مراتبها على النحو المقرر في الفقه الشيعي.

و أمّا المرجع فيما لا نص فيه عند أهل السنّة فهو القواعد الّتي أشرنا إليها في الأمر الثالث،فهم يعملون بالقواعد التالية على اختلاف بينهم في حجية البعض.

كالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة وسد الذرائع أو فتح الذرائع و قول الصحابي و نظائرها،غير أنّ إثبات حجّية هذه الأُصول و القواعد دونه خرط القتاد،فمعظم الفقه السنّي يستنبط من أمثال تلك القواعد،فلو كان لها مثل هذا الشأن لورد النص عليها في الكتاب و السنّة، مع أنّك لا ترى فيهما دليلاً واضحاً على حجّية هذه الأُصول و انّما ألجأهم إلى تأسيسها إعواز النصوص و رفض العقل في المجالين الماضيين خصوصاً الأوّل منهما،و الأدلّة الّتي زعموها قائمة على حجية هذه الأُصول ليست إلاّ انطباعات لهم من الكتاب و السنّة دون أن يكون الكتاب و السنّة مشيرين إليها.

هذه إلمامة عابرة لبيان ميزات الفقه الإمامي و أسباب الاختلاف مع نظيره السنّي.

و مع ذلك فإنّ وجود الشقّة بين الفقهين لم يكن مانعاً عن موافقة المذهب الشيعيّ لأحد المذاهب الفقهيّة غالباً،إلاّ في نوادر الأُمور و شواذّها،كالعول

ص:504

و التعصيب و الإيصاء بالوارث.

هذا و قد سمعتُ من الفقيه المعاصر الدكتور وهبة الزحيلي عند ما حلَّ ضيفاً علينا في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام عام 1422ه.ق و دار الحديث بين الفقهين،فقال:إنّ الخلاف بين الفقهين ليس بأكثر من وجود الخلاف بين فقهاء السنّة أنفسهم،بل الاختلاف في الأوّل أقلّ من الثاني.

و هذا قول من ألّف دورة فقهيّة و ألمّ بالأقوال و الآراء.

السيرة الذاتية لابن قطان الحلّي

الحلّة الفيحاء مدينة كبيرة تقع بين الكوفة و بغداد،بناها سيف الدولة الأسدي لمّا نزل بها في محرم سنة 495 ه،فبنى بها المساكن الجليلة و الدور الفاخرة،و تأنّق أصحابه في مثل ذلك،فصارت ملجأً،و قد قصدها التجّار فصارت أفخر بلاد العراق و أحسنها مدة حياة سيف الدولة،فلمّا قتل بقيت على عمارتها. (1)

و قد بخس الحموي حق المؤسّس أو لم تسنح له الفرصة لأداء حقّه،فلم يذكر عنه إلاّ شيئاً طفيفاً،مع أنّ لهذا الأمير،المساعي المشكورة و الأيادي البيض في تأسيس الحلّة الفيحاء و جَعْلها مقر إمارته و عاصمة ملكه،و إنشائه المعاهد العلمية فيها حتّى أصبحت محط رجال العلماء و دار هجرة الأُدباء بعد ما كانت قاعدة إمارة آبائه،بلدة النيل،و كانت له رغبة باقتناء الكتب،فألّف خزانة كتب قيّمة.

فإذا كان هذا حال الأمير فبه يعرف حال الرعايا،فلم تزل تربة الحلّة تربة

ص:505


1- 1) .معجم البلدان:2، [1]مادة«حلة».

خصبة تُربّي العلماء و الأُدباء و الشعراء في أحضانها،و كفى فخراً لها انّ الفقيه البارع محمد بن إدريس (المتوفّى 598 ه) صاحب السرائر،و نجم الدين أبا القاسم جعفر بن الحسن المعروف بالمحقّق الحلي (المتوفّى 676 ه)،و ابن أُخته نابغة الآفاق الإمام حسن بن المطهر الحلّي (المتوفّى 726 ه)،و عشرات من أمثالهم من أبنائها.

و قد كانت مركزاً فكرياً و ثقافياً في أكثر القرون،لا سيّما القرنين السابع و الثامن،فقد كانت البلدة في أوائل القرن الثامن و أواخر السابع تحتضن أكثر من 440 مجتهداً. (1)

يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في مقدّمته على كتاب«البابليات»تأليف الشيخ محمد علي اليعقوبي:

و قد ساعد الحلّيّين على هذه العبقرية و لطف القريحة و الأريحيّة،طيب التربة و لطافة الهواء و عذوبة الماء،و من هنا شاع نعتها بالحلّة الفيحاء،و نبغ منها العشرات بل المئات من أساطين علماء الإمامية و دعائم هذا المذهب الحق،ناهيك بابن إدريس و المحقّق و أُسرته الكرام بني سعيد،و ابن عمه يحيى بن سعيد صاحب الأشباه و النظائر،و آل طاوس،و آل المطهر كالعلاّمة و أبيه سديد الدين و ولده فخر المحقّقين،انّ كثيراً من أمثال هؤلاء الأماثل من مشايخ الإجازة. (2)

مشايخ ابن قطّان

ففي هذه التربة المباركة نبغ الفقيه البارع محمد بن شجاع الأنصاري المعروف بشمس الدين بن القطّان الحلّيّ (الّذي كان حيّاً عام 832 ه) و اشتغل

ص:506


1- 1) .رياض العلماء:361/1.
2- 2) .البابليات،قسم المقدمة،بقلم الشيخ كاشف الغطاء.

بالفقه و الحديث،و روى عن الفقيهين:

1.المقداد عبد اللَّه الأسدي السيوري الحلي (المتوفّى 826 ه).

يقول العلاّمة بحر العلوم:و قد تكرّر ذكره في الإجازات،ففي إجازة الشهيد الثاني للشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي والد الشيخ البهائي:و عن الشيخ شمس الدين بن داود،عن السيد الأجل المحقّق السيد علي دقماق الحسيني،عن الشيخ الفاضل المحقّق شمس الدين محمد بن شجاع القطّان،عن الشيخ المحقّق أبي عبد اللَّه المقداد بن عبد اللَّه السيوري الحلّيّ الأسديّ،عن الشهيد.

ثمّ قال:رأيته أيضاً في إجازة الشيخ شمس الدين محمد الشهير ب«ابن المؤذن»شيخ الشهيد الثاني و ابن عم الشهيد الأوّل،قال:و أجزت له أن يروي عنّي جميع كتب أصحابي الماضين،عن السيد علي بن دقماق،عن شيخه الشيخ محمد بن شجاع القطّان،عن شيخه أبي عبد اللَّه المقداد. (1)

2.زين الدين علي بن الحسن الاسترآبادي (المتوفّى حدود 837 ه) من كبار علماء الإمامية،روى عنه شيخنا المترجم في كتابه«نهج العرفان». (2)

و يروي عنه السيد علي بن محمد بن دقماق الحسيني (المتوفّى 840 ه)،كما مرّ ذكره في الإجازات.

الإطراء عليه في كتب التراجم

و الحق انّ التاريخ بخس حقّ الرجل مع انّا راجعنا أكثر من خمسة عشر مصدراً لم نظفر له بترجمة وافية.و نذكر ما قيل في حقّه.

ص:507


1- 1) .رجال السيد بحر العلوم، [1]المعروف بالفوائد الرجالية:278/3- 279.
2- 2) .كما في الذريعة:422/24. [2]

قال الشيخ الحر العاملي في«أمل الآمل»:الشيخ شمس الدين محمد بن شجاع القطّان فاضل صالح،يروي عن المقداد بن عبد اللَّه السيوري. (1)

و بنفس هذا التعبير ذكره في«الرياض». (2)

و المحدّث القمّيّ في«الفوائد الرضوية». (3)

و السيد الخوئي في«معجم رجال الحديث». (4)و باختلاف يسير في الكنى و الألقاب. (5)

آثاره العلمية

قد ترك شيخنا المترجم آثاراً فقهية و أخلاقية عسى أن يقيّض المولى سبحانه أصحابَ الهمم العالية للتفحّص عنها في المكتبات و نشرها في الملأ العلمي مرفّقاً بالتحقيق.

1.نهج العرفان في أحكام الإيمان:فرغ من تصنيفه 819 ه،و فرغ من تبييضه سنة 831 ه.ذكره شيخنا الطهراني في«الذريعة»و وصفه بقوله:رتّب الكتاب على قاعدتين و خاتمة،فالقاعدة الأُولى في الإيمان،و فيها كُتُب،أوّلها كتاب الإيمان،و فيه أبواب أوّلها حقيقة الإيمان، و رواياته عن الكليني و الصدوق و الطوسي بالاسانيد المتصلة إلى الشهيد.يقول في أوّله:«يقول الفقير إلى اللَّه محمد بن شجاع الأنصاري مصنّف الكتاب عفا اللَّه عنه:إنّ هذا الحديث أبلغ ما سمع في هذا

ص:508


1- 1) .أمل الآمل:275/2، [1]رقم الترجمة:811.
2- 2) .رياض العلماء:108/5.
3- 3) .الفوائد الرضوية:538.
4- 4) .معجم رجال الحديث:176/1 برقم 10941.
5- 5) .الكنى و الألقاب:70/3.

الباب.و ذكر في آخره انّه فرغ من تصنيفه في 19 شعبان من شهور سنة 819 ه،و النسخة موجودة في الخزانة الغروية بخط المؤلف. (1)

2.المقنعة في آداب الحج:قال الأفندي التبريزي في«الرياض»:رأيته في أردبيل بخط الشيخ زين الدين علي بن الحسن بن علالة المجاز من أُستاذه الفاضل المقداد في سنة 822 ه،و في آخر الكتاب:[هذا آخر كلام المصنّف دامت فضائله،حرّره العبد علي بن حسن بن علالة في يوم الأحد الحادي عشر من شعبان سنة 822 ه ]. (2)

3.معالم الدين في فقه آل ياسين:رتّبه على أربعة أقسام تبعاً لمن تقدّم عليه من كبار الفقهاء،كالمحقق الحلّيّ في«الشرائع»و غيره، و إليك الإلمام بهذه الأقسام على وجه موجز:

الأوّل:في العبادات:ابتدأ بكتاب الطهارة و أنهاه بكتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

الثاني:في العقود:ابتدأ بكتاب الصلح و ختمه بكتاب النكاح.

الثالث:في الإيقاعات:ابتدأ بكتاب الطلاق و ختمه بكتاب الكفّارات.

الرابع:في الأحكام:ابتدأ بكتاب المواريث و ختمه بكتاب الديات.

و يعدّ الكتاب دورة فقهية كاملة،جرّد المؤلّف فيه الفتاوى عن ذكر الروايات و استعراض الأقوال غالباً،و كرّس جهوده في الإشارة إلى عامّة مسائل الباب حتّى لا يفوته فرع مذكور في الكتب الفقهية المتداولة،و قد سار على ضوء كتاب«القواعد»للعلاّمة الحلي و«الدروس» للشهيد الأوّل غالباً،و«الشرائع»

ص:509


1- 1) .الذريعة:422/24، [1]مادة«نهج».
2- 2) .الذريعة:124/22. [2]

للمحقّق الحلّيّ،و«التنقيح الرائع»لأُستاذه الفاضل المقداد في بعض الأحيان.

و قد كان الكتاب موضع اهتمام كبار الفقهاء حتّى أنّ الشيخ الأنصاري نقل آراء المؤلف في كتاب«المكاسب» (1)،و رسالة المواسعة و المضايقة. (2)

و أكثر ما أفتى به موافق للمشهور،إلاّ أنّه خالف في بعض الموارد،نذكر منها ما يلي:

1.أفتى بأنّ الحدث بين الصلاة و صلاة الاحتياط لا يبطل،فعليه الإتيان بصلاة الاحتياط بعد تحصيل الطهارة.

2.لو كان في أوّل الوقت حاضراً و في آخره مسافراً أو بالعكس،فلو لم يصلِّ أوّل الوقت و صلّى آخره،فهو مخيّر بين الإتمام و القصر.

و بذلك يعلم صحّة ما قاله العلاّمة بحر العلوم في حق الكتاب من أنّه قد يغرب في بعض التفاريع،قال قدَّس سرَّه:

وجدت في ظهر نسخة لهذا الكتاب:بلغ مقابلة من أوّله إلى آخره مع النسخة الّتي قرئت على مصنّفه،و فيه خطّه طاب ثراه،و هو محمد بن

ص:510


1- 1) .المكاسب المحرمة،مسألة بيع كلب الماشية:55 و نقل عنه أيضاً في الجواهر:427/29. [1]
2- 2) .رسالة المواسعة و المضايقة25،المطبوعة ضمن الرسائل الفقهية للشيخ الأنصاري.

شجاع الأنصاري الحلّيّ،و يظهر من تتبع الكتاب فضيلة المصنّف،و هو على طريقة الفاضلين [المحقّق الحلّيّ و العلاّمة الحلّيّ ] في أُصول المسائل،لكنّه قد يغرب في التفاريع،و الّذي أرى صحة النقل عنه. (1)

و من غرائب الكلام ما ذكره إسماعيل باشا في«إيضاح المكنون»في الذيل على كشف الظنون حيث قال:معالم الدين في آل ياسين لشمس الدين محمد بن شجاع القطّان الحلّيّ الشيعي من تلاميذ المفيد!! (2)

فأين المؤلّف الّذي كان حيّاً عام 832 ه من الشيخ المفيد الّذي توفّي عام 413 ه ؟! و لعلّ«المفيد»مصحف«المقداد»،مضافا إلى أنّه وصف الكتاب بأنّه«في آل ياسين»و الصحيح في فقه آل ياسين.

هذا و لشيخنا المترجم تراجم موجزة في كتب التراجم و الفهارس-وراء ما مرّ ذكره-. (3)

منهجيّة التحقيق

قد تقدّم في وصف الكتاب انّه جرّد الفتاوى عن ذكر الروايات و استعراض الأقوال،و لذلك ركّز محقّق الكتاب العلاّمة الحجّة الشيخ إبراهيم البهادري المراغي (حفظه اللَّه) جهوده الحثيثة على تقويم النصِّ و تمييز الصحيح عن السقيم،و تقطيع العبارات حسب مقاصدها، و تقدير كلمة أو جملة بين المعقوفتين يقتضيها سياق العبارة،و الاستعانة لتسهيل فهم مقاصد الكتاب بنقل عبارات الفقهاء في الهامش،إلى غير ذلك من الأُمور الّتي تيسِّر فهم مقاصد الكتاب.

هذا و قد اعتمد في تصحيح الكتاب و تحقيقه على نسخ ثلاث،هي:

1.نسخة مكتبة آية اللَّه الگلپايگاني المسجّلة برقم 30143،فهي تشتمل على 262 ورقة و كل ورقة على 19 سطراً،و رمز إليها المحقّق ب «أ».

ص:511


1- 1) .رجال بحر العلوم:280/3. [1]
2- 2) .إيضاح المكنون:503/4. [2]
3- 3) .تنقيح المقال في علم الرجال:131/3 برقم 846؛إيضاح المكنون:694/2؛أعيان الشيعة:363/9؛طبقات اعلام الشيعة:118/4؛معجم المؤلفين:64/10؛فهرست نسخه هاى خطّى:414/1برقم 399؛ريحانة الأدب:157/8؛فرهنگ بزرگان:15/4؛معجم دهخدا:340/2.

2.نسخة مكتبة آية اللَّه المرعشي المسجّلة برقم 399 في فهرس المخطوطات و قد سقطت من أوّلها ورقة فهي تشتمل على 198 ورقة، و كل ورقة على 18 سطراً،و رمز إليها المحقّق ب«ب».

3.نسخة المكتبة الرضويّة في مشهد،المسجّلة برقم 781،و تشتمل على 335 ورقة و كلّ ورقة على 18 سطراً،و هي بخط الناسخ محمد بن عراد الحسيني،و لم يذكر تاريخ نسخها،و هي ناقصة من أوّلها.و لكنّها أدقّ النسخ و أضبطها.و رمز إليها المحقِّق ب«ج».

و لم يقتصر المحقّق في تقويم النصّ على هذه النسخ،بل راجع الكتب الّتي سار المصنّف على ضوئها حين التأليف فميّز الصحيح من السقيم على ضوء عباراتها،كما أنّه استعان بها في توضيح العبارات المغلقة.

فهاك نسخة صحيحة تامّة،هي حصيلة جهود محقّق صرف جلّ عمره في إحياء التراث الإسلامي و نشر فضائل أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام و آثار الفقهاء،و قد صدر له لحدّ الآن تحقيق الكتب التالية:

1- الاحتجاج:لشيخنا أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في جزءين.

2.إصباح الشيعة:للفقيه الأقدم قطب الدين البيهقي الكيدري.

3.إشارة السبق:تأليف الشيخ علاء الدين أبي الحسن علي بن أبي الفضل،المعروف بالحلبي.

4.جواهر الفقه:للقاضي ابن البراج.

5.الرسائل الاعتقادية:للشيخ الطوسي.

6.عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار عليّ بن أبي طالب عليه السلام:لابن البطريق الحلّي في جزءين.

ص:512

7.غنية النزوع إلى علمي الأُصول و الفروع:لابن زهرة الحلبي في جزءين.

8.المسائل الميّافارقية:للسيد الشريف المرتضى.

9.تحرير الأحكام:للعلاّمة الحلّي في خمسة أجزاء سادسها الفهارس العامّة للكتاب..

10.مضافا إلى هذا الكتاب الماثل بين يديك و الّذي يزفّه الطبع إلى القرّاء الكرام.

و نحن بدورنا نبارك له هذه الخدمات الّتي قدّمها إلى المكتبة الإسلامية،و نرجو له من اللَّه سبحانه مزيداً من التوفيق و دوام الصحّة.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

19 ربيع الثاني عام 1423 ه

ص:513

ص:514

الفصل السادس:في نقد الكتب

اشارة

1.ظاهرة الافتراء على الشيعة عبر التاريخ

2.التحريف في كتب الحديث

3.حوار مع الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش حول نهج البلاغة

ص:515

ص:516

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ظاهرة الافتراء على الشيعة

اشارة

عبر التاريخ

إنّ الكذب و الافتراء من الكبائر الموبقة التي نهى عنها الكتاب و السنّة،و الموضوع من الوضوح بمكان غني عن الاستشهاد عليه بآية أو رواية.و قد بلغ قبح الكذب إلى حدّ لا يجتمع مع الإيمان.قال علي عليه السلام:«جانبوا الكذب فانّه مجانب للإيمان». (1)

و قد سار العقل جنباً إلى جنب الشرع في التأكيد على ذم الظاهرة المذكورة و التنديد بها،و تقبيح فاعلها على نحو لا يختلف فيه اثنان.

و أوّل من افتري عليه،هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى بلغ به الحال أن يرتقي المنبر و يخاطب جموع المسلمين بقوله:«من كذّب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار». (2)

و لم يقتصر هذا الافتراء على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،بل تعدّاه إلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين عليهم السلام الذين أُثِر عنهم الروايات التالية:

ص:517


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة86. [1]
2- 2) .نهج البلاغة،الخطبة210،و غيره [2]من المصادر المتوفرة.

1.روى زياد بن أبي الجلال قال:اختلف أصحابنا في أحاديث جابر الجعفي فقلت:أنا أسأل أبا عبد اللّه عليه السلام،فلمّا دخلت،ابتدأني،فقال:

«رحم اللّه جابر الجعفي كان يصدق علينا،لعن اللّه المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا». (1)

2.روى عيسى بن أبي منصور و أبو أسامة و يعقوب الأحمر،قالوا:كنّا جلوساً عند أبي عبد اللّه عليه السلام،فدخل زرارة بن أعين فقال له:إنّ الحكم بن عتيبة روى عن أبيك أنّه قال له:صلّ المغرب دون المزدلفة؟ فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام:«بأيمان ثلاثة ما قال أبي هذا قط،كذب الحكم بن عتيبة على أبي». (2)

ثمّ إنّ خصوم أئمّة أهل البيت و مناوئيهم لم يقتصروا في الكذب على آل الرسول،بل عمّ أيضاً شيعتهم،فافتروا عليهم-و كأنّهم-يتقرّبون بذلك إلى اللّه سبحانه.

و لأجل إيقاف القارئ على نماذج ممّا افتروا به على الشيعة نأتي أوّلاً بما افتروا به على بطل من أبطالهم في حقل الكلام و المناظرة،ثمّ نأتي ببعض ما افتروا به على الشيعة جمعاء ثانياً.

الافتراء على هشام بن الحكم

هل تعلم مَنْ هو هشام بن الحكم،و ما مكانته عند المتكلّمين و الفلاسفة؟! هذا هو ابن النديم يعرّفه بقوله:

هو من متكلّمي الشيعة الإمامية و بطانتهم،و ممّن دعا له الصادق عليه السلام و قال:«أقول ما قال رسول اللّه لحسّان:لا تزال مؤيَّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك»و هو الذي فتقَ الكلام في الإمامة،و هذّب المذهب و سهّل طريق الحجاج إليه،

ص:518


1- 1) .رجال الكشي:169، [1]رقم الترجمة:78.
2- 2) .رجال الكشي:182، [2]رقم الترجمة85.

و كان حاذقاً بصناعة الكلام،حاضر الجواب. (1)

و لأجل مكانة الرجل في الكلام و براعته في الحجاج يقول أحمد أمين في حقّه:أكبر شخصية شيعية في الكلام و كان جدّاً قوي الحجة، ناظر المعتزلة و ناظروه،و نقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة تدلّ على حضور بديهته و قوة حججه.

و قد أفرد العلاّمة الشيخ عبد اللّه نعمة كتاباً في سيرة هشام بن الحكم،فقد أغرق نزعاً في التحقيق و أغنانا عن كلّ بحث و تنقيب.

و مع هذا نرى أنّ ابن حزم ينقل عنه و يقول:قال جمهور متكلّمي الرافضة كهشام بن الحكم الكوفي و تلميذه أبي علي الصكاك و غيرهما يقول:إنّ علم اللّه تعالى محدث،و انّه لم يكن يعلم شيئاً حتّى أحدث لنفسه علماً،و هذا كفر صريح،و قد قال هشام هذا في عين مناظرته لأبي الهذيل العلاف انّ ربه سبعة أشبار بشبر نفسه،و هذا كفر صريح. (2)

و ليس ابن حزم وحيداً في اختلاق هذه الفرية،بل سبقه ابن قتيبة في«مختلف الحديث» (3)،و الخيّاط في«الانتصار» (4)و هما عدوّان لدودان لهشام بن الحكم لا يُعتمد عليهما فيما ينقلان عنه.

و قد دافع الشريف المرتضى في كتاب الشافي عن هشام بن الحكم بما لا مزيد عليه،فمن أراد فليرجع إليه. (5)

و قد تبعهم الشهرستاني في«الملل و النحل»و نسب إلى هشام بن الحكم ما لا يتفوّه به من له أدنى علم و ذكاء،حيث قال:قال هشام بن الحكم متكلّم الشيعة:

ص:519


1- 1) .فهرست ابن النديم:257. [1]
2- 2) .الفصل:182/4.
3- 3) .تأويل مختلف الحديث:68.
4- 4) .الانتصار:36. [2]
5- 5) .الشافي في الإمامة:83/1.

إنّ اللّه جسم ذو أبعاض في سبعة أشبار بشبر نفسه في مكان مخصوص وجهة مخصوصة. (1)

و قال في موضع آخر:إنّ اللّه على صورة إنسان،أعلاه مجوّف،و أسفله مصمّت،و هو نور ساطع يتلألأ،و له حواسُ خمس،و يد و رجل و أنف و أذن و عين،و فم،و له وفرة سوداء،و هو نور أسود لكنّه ليس بلحم و لا دم،و انّ هشاماً هذا أجاز المعصية على الأنبياء مع قوله بعصمة الأئمّة. (2)

كيف يرمون هشام بهذه التُّهم و قد أفرد هو كتاباً باسم الدلالة على حدوث الأجسام،و كتاباً آخر أسماه«الرد على الزنادقة»،و كتاباً ثالثاً هو «الرد على أصحاب الطبائع»،و رابعاً في الرد على ارسطاطاليس في التوحيد،إلى آخر ما ذكره النجاشي في ترجمة الرجل. (3)أ فيصح في ميزان العقل من له هذه الثقافة،أن يتفوه بهذه السفاسف؟!كلاّ لا.

قال العلاّمة الأميني-بعد ذكر نماذج من الآراء المختلفة و الأكاذيب عن كتاب الملل و النحل -:هذه عقائد باطلة،عزاها إلى رجالات الشيعة المقتصين أثر أئمتهم عليهم السلام اقتصاصَ الظل لذيه،فلا يعتنقون عقيدة،و لا ينشرون تعليماً،و لا يبثون حكماً،و لا يرون رأياً إلاّ و من ساداتهم الأئمة على ذلك برهنة دامغة،أو بيان شاف،أو فتوى سديدة أو نظر ثاقب.

على أنّ أحاديث هؤلاء كلّهم في العقائد و الأحكام و المعارف الإلهية مبثوثة في كتب الشيعة تتداولها الأيدي،و تشخص إليها الأبصار، و تهش إليها الأفئدة فهي و ما نسب إليهم من الأقاويل على طرفي نقيض و هاتيك كتبهم و آثارهم الخالدة لا

ص:520


1- 1) .الملل و النحل:165/1. [1]
2- 2) .الملل و النحل:165/1. [2]
3- 3) .النجاشي:الرجال:397/2 برقم 1165.

ترتبط بشيء من هذه المقالات بل إنّما هي تدحرها و تضادها بألسنة حداد. (1)

قد تقدّم إنّ الافتراء على الشيعة جمعاء يتجلّى بصورتين،فتارة تتوجه سهام الاتّهام إلى شخص،و أُخرى تكون الشيعة عامّتهم في معرض التهم و الافتراءات.

فتجد نماذج من هذه الافتراءات في:كتاب«العقد الفريد»لابن عبد ربّه،و«الانتصار»للخيّاط،و«الفرق بين الفرق»للبغدادي،و«منهاج السنة»لابن تيمية،و«البداية و النهاية»لابن كثير،و«المحاضرات»للخضري المصري،و«السنّة و الشيعة»للسيد محمد رشيد رضا،و«الصراع بين الإسلام و الوثنية»للقصيمي،و«فجر الإسلام»لأحمد أمين،و«جولة في ربوع الشرق»محمد ثابت المصري،و أخيراً«الوشيعة في عقائد الشيعة» لموسى جار اللّه.

و أمّا الجُدَد الذين أخذوا يكتبون حول الشيعة و عقائدهم لا سيّما بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران فكثيرون،و نالت كثير من أُطروحاتهم رُتَب الشرف و ما هذا إلاّ لانّ فيها تحاملاً واضحاً على الشيعة و عقائدهم.

فهذا هو ناصر القفاري ألّف كتاباً باسم«أُصول مذهب الشيعة الإمامية»،و الكتاب رسالة تقدّم بها المؤلّف لنيل درجة الدكتوراة في قسم العقيدة و المذاهب المعاصرة لجامعة محمد بن سعود الإسلامية،و قد أُجيزت هذه الرسالة بمرتبة الشرف الأُولى مع التوفير بطبعها و تبادلها بين الجامعات.

و يكفي في كونه علبة للسفاسف و الخزايا التي يندى لها جبين الإنسان ما يذكره في حقّ السيد الخميني قدَّس سرَّه و يقول:إنّ الخميني أدخل اسمه في أذان الصلاة و قدّمه على الشهادتين. (2)

نحن لا نعلّق عليه شيئاً،فإنّ العيان لا يحتاج إلى البيان،هذا أذان الشيعة

ص:521


1- 1) .الغدير:205/3. [1]
2- 2) .أُصول مذهب الشيعة الإمامية:1154/3.

يذاع من آلاف المآذن في المحافظات و المدن و الإذاعات ليس فيه أثر لهذه الفرية،و السيد الخميني كان إنساناً مثالياً أفنى عمره في الذب عن حياض الإسلام،و هو أجل و أرفع من أن يأمر بالإتيان باسمه في الأذان؟!

الأكاذيب المفتعلة لابن تيمية

و ها نحن نذكر هنا لمة من الأكاذيب المفتعلة لابن تيمية ممّا نسبها إلى الشيعة،نذكرها من دون أي تعليق،لأنّ بطلانها من الوضوح أغنانا عن إفاضة الكلام في نقدها.

1.يقول:من حماقات الشيعة انّهم يكرهون التكلم بلفظ العشرة أو فعل شيء يكون عشرة،حتّى في البناء لا يبنون على عشرة أعمدة و لا بعشرة جذوع و نحو ذلك لبغضهم العشرة المبشرة إلا علي بن أبي طالب،و من العجب انّهم يوالون لفظ التسعة و هم يبغضون التسعة من العشرة. (1)

2.يقول:من حماقاتهم اتّخاذهم نعجة و قد تكون نعجة حمراء لكون عائشة تسمّى حميراء،و يجعلونها عائشة،و يعذبونها بنتف شعرها و غير ذلك،و يرون أنّ ذلك عقوبة لعائشة. (2)

3.و اتّخاذهم حيساً مملوء سمناً ثمّ يشقون بطنه فيخرجون السمن فيشربونه،و يقولون هذا مثل ضرب عمر و شرب دمه. (3)

4.قال:و تارة يكتبون أسماءهم على أسفل أرجلهم،حتّى أنّ بعض الولاة جعل يضرب رجل من فعل ذلك،و يقول:إنّما ضربت أبا بكر و عمر،و لا أزال أضربهما حتّى أعدمهما. (4)

6.و منهم من يسمّي كلابه باسم أبي بكر و عمر و يلعنهما. (5)

ص:522


1- 1) .لاحظ منهاج السنة:11/1و 24-30 و الجزء:145/2.
2- 2) .لاحظ منهاج السنة:11/1و 24-30 و الجزء:145/2.
3- 3) .لاحظ منهاج السنة:11/1و 24-30 و الجزء:145/2.
4- 4) .لاحظ منهاج السنة:11/1و 24-30 و الجزء:145/2.
5- 5) .لاحظ منهاج السنة:11/1و 24-30 و الجزء:145/2.

إلى غير ذلك من الخزايات و الحماقات التي نسبها إلى الشيعة و هم براء منه.

و أنت لا تجد على أديم الأرض إنساناً عاقلاً يحمل روح التشيع و يقوم ببعض هذه الأعمال أو يعتقد بها.

كان على ابن تيمية الذي نسب نفسه شيخاً للإسلام أن يذكر مصدر هذه الأقاويل و الخزايا و لا يفرق صفوف المسلمين بتلك الكلمات، و لكنّه يا للعجب أخذها حقائق راهنة و نشرها بين الأُمّة!!

و ليست هذه الافتراءات و الأكاذيب بعيداً عمن يعرّفه الحافظ ابن حجر في كتابه«الفتاوى الحديثة»قال:«ابن تيمية عبد خذله اللّه و أضلّه و أعماه و أصمّه و أذلّه،و بذلك صرّح الأئمّة الذين بيّنوا فساد أحواله و كذب أقواله،و من أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتَّفق على إمامته و جلالته و بلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي و ولده التاج و الشيخ الإمام العزّ بن جماعة،و أهل عصرهم و غيرهم من الشّافعيّة و المالكيّة و الحنفيّة،و لم يقصر اعتراضه على متأخّري الصوفيّة،بل اعترض على مثل عمر بن الخطّاب و عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

و الحاصل:أن لا يُقام لكلامه وزنٌ بل يُرمى في كلِّ وعرٍ و حزن،و يُعتقد فيه أنّه مبتدعٌ ضالٌّ مضلٌّ غالٍ،عامله اللّه بعدله،و أجارنا من مثل طريقته و عقيدته و فعله،آمين.إلى أن قال:إنّه قائلٌ بالجهة،و له في إثباتها جزءٌ،و يلزم أهل هذا المذهب،الجسميّةُ و المحاذاةُ و الاستقرارُ،أي فلعلّه في بعض الأحيان كان يصرِّح بتلك اللوازم فنُسبت إليه،سيّما و ممّن نسب إليه ذلك من أئمّة الإسلام المتَّفق على جلالته و إمامته و ديانته، و إنّه الثقة العدل المرتضى المحقِّق المدقِّق،فلا يقول شيئاً

ص:523

إلاّ عن تثبّت و تحقّق و مزيد احتياطٍ و تحرٍّ،سيّما إن نسب إلى مسلم ما يقتضي كفره و ردّته و ضلاله و إهدار دمه. (1)

الموضوعات لابن الجوزي

ثمّ إنّي وقفت في سيري كتاب«الموضوعات»لابن الجوزي على أكاذيب و خزايا و مفتعلات نسبها إلى الشيعة بضرس قاطع،ثمّ رأيتها في كتاب«العقد الفريد» (2)فتبيّن لي انّه أخذها من ذلك الكتاب من دون أن يذكر المصدر فالافتراءات في الكتابين تتّحد روحاً و معنى،و تختلف صورة و الغاية تشبيه الشيعة باليهود و بالتالي إثارة البغض على شيعة آل البيت عليهم السلام.

و من حسن الحظ انّ لهذه الافتراءات جولة و لكن للحق دولة،و هي و إن كانت ربّما تنطلي على السُّذّج و البسطاء لكنّها تعود بالفائدة على الشيعة،و ذلك عند ما يرجع القارئ المنصف من السنّة إلى كتب الشيعة أو يلتقي بهم،يسيء الظن بتلك التهم التي حيكت حول الشيعة،بل يسيء الظن أيضاً بكلّ ما جاء في كتب أهل السنّة حول الشيعة و يفقد ثقته بعلمائهم،الأمر الذي يؤدّي إلى تعاطفه مع الشيعة أو اعتناقه مذهب التشيع.

و هذا صار سبباً لتحول عدد كبير من المفكّرين إلى مذهب التشيّع كما هو ملموس في البلاد العربية.

و ما ذكرناه هو ما لمسه أيضاً الدكتور حسن فرحان المالكي في لقاء أجرته معه«مجلة المجلة»،حيث قال لما طرح عليه السؤال التالي:

ما هي الصورة الذهنية الخاطئة عن الشيعة؟

ص:524


1- 1) .الفتاوى الحديثة،ص86.
2- 2) .العقد الفريد:104/2.

فأجاب بما هذا نصه:و من الأسباب العامة الرئيسية في تحول الدكتور التيجاني و غيره من السنّة إلى الشيعة،الصورة الذهنية الخاطئة عن الشيعة التي صوّرناها تصويراً مشوّهاً بتعميم يخالف الحقيقة،فعند ما يأتي الدكتور التيجاني إلى الشيعة الذين ينشر غلاة السنّة بأنّهم،أي الشيعة إنّما يعبدون علياً و يزعمون انّ جبرئيل أخطأ،و انّهم يريدون الكيد للإسلام من باب التشيّع،و انّهم يمتلكون مصاحف أُخرى غير مصاحفنا، و انّهم حاقدون على الإسلام و يتزاوجون سفاحاً،إلى غير ذلك من التشويهات بل الافتراءات التي قد تزيد شباب السنّة شكوكاً إذا اكتشفوا الحقيقة و إذاً فقدوا الثقة في علمائهم و باحثيهم فلا ينتظر منهم العلماء إلاّ هذا التحوّل الحاد و الشكّ بالمنظومة السنيّة كلّها،بل و الحقد على هذا التواطؤ في الكذب و التشويه و التعميم،فهذا من الأسباب العامّة التي يتحمّلها المجتمع السنّي الذي يجب عليه أن ينقل الصورة كاملة. (1)

«فَبَشِّرْ عِبادِ* اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ

أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» . (2)

ص:525


1- 1) .مجلّة المجلة،العدد1082،الصادرة بتاريخ 2000/11/11م.
2- 2) .الزمر:17- 18. [1]

نظرة تمحيصية في كتاب الموضوعات

اشارة

لابن الجوزي(510- 597ه)

قد راج الكذب على لسان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حياته و بعد رحيله و قد تنبّأ به في حديث متضافر أو متواتر و قال:«من تعمد عليّ كذباً فليتبوّأ مقعده من النار».

و أفضل دليل على وجود الكذب الهائل في الروايات هو انّ أصحاب الصحاح و السنن أخرجوا رواياتهم من بين روايات كثيرة هائلة.

فقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف و ثمانمائة حديث،و قال:انتخبته من خمسمائة ألف حديث. (1)

و يحتوي صحيح البخاري في الخالص بلا تكرار على ألفي حديث و سبعمائة و واحد و ستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث. (2)

و في صحيح مسلم أربعة آلاف حديث أُصول دون المكررات صنّفه من ثلاثمائة ألف. (3)

و ذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث و قد انتخبه من أكثر من

ص:526


1- 1) .طبقات الحفاظ:154/2؛تاريخ بغداد:57/9؛ [1]المنتظم لابن الجوزي:97/5. [2]
2- 2) .إرشاد الساري:28/1؛صفة الصفوة:143/4. [3]
3- 3) .المنتظم لابن الجوزي:32/5؛ [4]طبقات الحفاظ:151/2،157؛شرح صحيح مسلم للنووي:32/1.

سبعمائة و خمسين ألف حديث،و كان يحفظ ألف ألف حديث. (1)

و كتب أحمد بن الفرات (المتوفّى 258ه) ألف ألف و خمسمائة ألف حديث،فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير و الأحكام و الفوائد و غيرها. (2)

ثمّ إنّ أسباب الوضع مختلفة،نذكر منها ما يلي:

1.فسح المجال للأحبار و الرهبان لنقل ما في الكتب المحرّفة إلى الساحة الإسلامية،فقد نشروا بدعاً يهودية و سخافات مسيحية و أساطير مجوسية بين المسلمين،و تلقّاها المحدّثون حقائق راهنة،و نقلوها في كتب الحديث جيلاً بعد جيل.

2.التجارة بالحديث،فقد وضعوا أحاديث للتزلّف إلى أهل الدنيا و الطمع بها،ترى ذلك في الفضائل الموضوعة في حقّ الخلفاء،و لا سيّما معاوية و من بعده.

3.وضع الحديث لنصرة المذهب،فقد افتعلوا أكاذيب على لسان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مناقب أئمتهم،فهناك مناقب حكيت في أبي حنيفة (3)،و أُخرى في حقّ الإمام مالك (4)،و ثالثة حول الإمام أحمد (5)،كما حكيت في حقّ الإمام الشافعي (6)،و كأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم تنبّأ بأنّ الأُمّة الإسلامية ستفترق في القرن الرابع و ما بعده إلى مذاهب أربعة فقهية لا غير،فأخذ بتعريفهم قبل قرنين أو أكثر.

و هناك دواع أُخرى للوضع تركنا التعرض لها.

و لأجل ذلك قام غير واحد من المحدّثين بجمع الأخبار الضعاف و الموضوعات،و قد جمعوا اليسير منها نشير إلى بعضها:

ص:527


1- 1) .طبقات الذهبي:17/2.
2- 2) .الغدير:292/5- 293. [1]
3- 3) .تاريخ بغداد:289/2.
4- 4) .ابن الحوت:أسنى المطالب:14.
5- 5) .مناقب أحمد:455.
6- 6) .أسنى المطالب:14 [2]

أ.«الموضوعات»:لمؤلّفه أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي(510-597ه)،طبع مرّتين في ثلاثة أجزاء.

ب.«المقاصد الحسنة في كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة»:للشيخ أبي عبد اللّه محمد بن عبد الرحمن السخاوي (المتوفّى902ه)،رتّبه على حروف أوائل الحديث.

ج.«اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة»:للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (848- 911ه).

د.«تمييز الطيب من الخبيث مما يدور على ألسنة الناس من الحديث»:لعبد الرحمن بن علي الشيباني الشافعي (866- 944ه).

ه.«سلسلة الأحاديث الضعيفة و الموضوعة»تأليف محمد ناصر الدين الألباني المعاصر في 5 أجزاء،كلّ جزء يشتمل على 500 حديث،تحدّث عن أسانيدها و حكم عليها بالضعف أو النكارة أو الوضع أو البطلان،مع أنّه لم يكن منصفاً في قضائه حيث يميل إلى التجسيم و النصب.

و لعلّ هناك كتباً أُخرى أُلّفت في هذا المضمار لم نطّلع عليها.

و الذي هدانا إلى تحرير هذه الرسالة الموجزة هو ما وقفنا عليه في كتاب«الموضوعات»لابن الجوزي من التحامل على الشيعة،و هو بصدد تمحيص الصادق عن الكاذب،فنسب إلى الشيعة أُموراً هم بُرآء منها مع أنّه كان يعيش في بغداد و كانت العاصمة(بغداد) يومذاك معقل الشيعة و فيها فطاحل الأُمّة.

و الحقّ انّ سيرة المؤلّف في كتبه لم تكن على وتيرة واحدة،فكتابه«المنتظم»في عشرين جزءاً،من أفضل الآثار في تنظيم حياة العلماء و الفقهاء و غيرهم من الأعاظم،و لكنّه في كتابه«مناقب أحمد بن حنبل»-لأجل نصرة

ص:528

مذهبه و إعلاء شأن إمامه-تشبّث بأضغاث أحلام و استدلّ بها،و على ضوء ذلك فلا عجب في أن ينسب في كتاب«الموضوعات»أُموراً تافهة إلى الشيعة،ليست لها مسحة من الحقّ و لا لمسة من الصدق.

و قبل أن نناقش التهم التي رمى بها الشيعة،نشير إلى ما ذكره محقّق كتاب«الموضوعات»في مقدّمته حيث قال:

من أمثال ما وضعوه في مناقب علي(رض) من الأحاديث المكذوبة التي هي في مرتبة دون مراتب الغلو و الإطراء الشركي،التي غلوا بها فيه،ثمّ ذكر أحاديث عشرة من الموضوعات في حقّ الإمام على حسب زعمه.

نحن لا نناقش موقف الرجل حول حال هذه الروايات و هل هي موضوعات أو لا ؟ إنّما نركّز على أمر واحد،هل الموضوعات في مجال المناقب مختصة بحقّ الإمام علي عليه السلام،أو أنّها تعمّ الخلفاء الأربعة و العشرة المبشّرة و غيرهم من الأُمويّين و العباسيّين؟ فإذا كان الحال كذلك فلما ذا اقتصر على الأوّل و لم يشر حتّى إلى شيء طفيف من الموضوعات في حقّ غيره؟! و ما هذا إلاّ أنّ الرجل في منأى عن حب أهل البيت لو لم نقل انّ فيه روح النصب.

و ها نحن نذكر نموذجاً واحداً من الموضوعات،و إن شئت قلت:من أحاديث الغلو أو قصص الخرافة في حقّ الخليفة أبي بكر ذكره الشيخ إبراهيم العبيدي المالكي في كتابه«عمدة التحقيق في بشائر آل الصديق» (1)كما نقله غيره. (2)

روي انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال يوماً لعائشة:إنّ اللّه تعالى لمّا خلق الشمس خلقها من

ص:529


1- 1) .ص184 هامش روض الرياحين لليافعي المطبوع بمصر،سنة1315ه.
2- 2) .لاحظ نزهة المجالس:184/2؛ [1]الغدير:237/7. [2]

لؤلؤة بيضاء بقدر الدنيا مائة و أربعين مرة و جعلها على عجلة،و خلق للعجلة ثمانمائة و ستّين عروة،و جعل في كلّ عروة سلسلة من الياقوت الأحمر،و أمر ستّين ألفاً من الملائكة المقرَّبين أن يجرّوها بتلك السلاسل مع قوّتهم التي اختصّهم اللّه بها،و الشمس مثل الفلك على تلك العجلة و هي تدور في القبّة الخضراء،و تجلو جمالها على أهل الغبراء،و في كلّ يوم تقف على خطّ الاستواء فوق الكعبة،لأنّها مركز الأرض و تقول:يا ملائكة ربّي إنّي لأستحي من اللّه عز و جلّ إذا وصلت إلى محاذاة الكعبة التي هي قبلة المؤمنين أن أجوز عليها،و الملائكة تجرّ الشمس لتعبر على الكعبة بكلّ قوّتها فلا تقبل منهم و تعجز الملائكة عنها،فاللّه تعالى يوحي إلى الملائكة وحي إلهام فينادون:أيّها الشمس بحرمة الرّجل الذي اسمه منقوش على وجهك المنير إلاّ رجعت إلى ما كنت فيه من السير.فإذا سمعت ذلك تحرّكت بقدرة المالك.

فقالت عائشة رضي اللّه عنها:يا رسول اللّه! من هو الرَّجل الذي اسمه منقوش عليها؟ قال:هو أبو بكر الصدِّيق يا عائشة! قبل أن يخلق اللّه العالم،علم بعلمه القديم أنّه يخلق الهواء،و يخلق على الهواء هذه السماء،و يخلق بحراً من الماء،و يخلق عليه عجلة مركباً للشمس المشرقة على الدنيا؛و إنّ الشمس تتمرّد على الملائكة إذا وصلت إلى الاستواء،و إنّ اللّه تعالى قدّر أن يخلق في آخر الزمان نبيّاً مفضَّلاً على الأنبياء و هو بعلك يا عائشة! على رغم الأعداء،و نقش على وجه الشمس اسم وزيره،أعني:أبا بكر صدّيق المصطفى،فإذا أقسمت الملائكة عليها به زالت الشمس،و عادت إلى سيرها،بقدرة المولى،و كذلك إذا مرّ العاصي من أُمّتي على نار جهنّم و أرادت النار على المؤمن أن تهجم،فلحرمة محبة اللّه في قلبه و نقش اسمه على لسانه ترجع النار إلى ورائها هاربة،و لغيره طالبة.

قال العلاّمة الأميني:هناك مسألة لا أدري من المجيب عنها،و هي انّ إرادة

ص:530

اللّه الفائقة على كلّ قوّة جامحة،و هي تمسك السماء بغير عمد ترونها و تسير الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مرّ السحاب صنع اللّه الذي أتقن كلّ شيء،لِمَ لم تقم مقام أولئك المسخرين لجر الشمس حتى لا يوقفها تمرد،و لا تحتاج إلى عُرى و سلاسل أو الإقسام بمن كتب اسمه عليها؟! و ما الذي أحوج المولى سبحانه في تسيير الشمس إلى هذه الأدوات من العجلة و العرى و السلاسل و خلق أُولئك الجم الغفير من الملائكة و استخدامهم بالجر الثقيل،و هو الذي إذا أراد شيئاً أن يكون يقول له:كن فيكون؟!

ثمّ إنّ الشمس هلاّ كانت تعلم أنّ إرادة اللّه سبحانه ماضية عليها يجريها إلى الغاية المقصودة،فما هذا التوقّف و التمرّد و اللّه تعالى أعلم بعظمة الكعبة و شرفها منها و قد جعلها في خطة سيرها،أنّى للشمس أن تجهل بها؟! و هي الشاعرة بخط الاستواء و محاذاة الكعبة و وصولها إلى تلك النقطة المقدّسة و هي العارفة لمقامات الصديق و ان اسمه منقوش عليها،و انّ من واجبها أن تنقاد و لا تجمح على من أقسم به عليها. (1)

أقول:أو ما كان في وسع المحقّق أن يشير إلى شيء قليل من هذه الموضوعات أو قصص الخرافة في حقّ أبي بكر أو في غيره من الخلفاء الثلاث في جانب ما ذكره من الأحاديث الموضوعة في حقّ عليّ عليه السلام حتى يكون في قضائه موضوعياً؟!

فلنرجع إلى ما هو المقصود من وضع هذه الرسالة؟

***

عقد ابن الجوزي فصلاً في فضائل أبي بكر الموضوعة،كما عقد مثل هذا

ص:531


1- 1) .الغدير:239/7. [1]

الفصل في حقّ عمر بن الخطاب،و عثمان بن عفان،و أخيراً عقد فصلاً في باب فضائل علي.و ذكر في هذا الفصل ما لا يصحّ عنده من الفضائل في حقّ علي،و نحن نمرّ على هذه الأحاديث و ما علّق عليها،إنّما الكلام في التّهم التي رمى بها الشيعة و ألصقها بهم،فها نحن نذكر تلك التهم مع إيضاح حالها.

التهمة الأُولى:

قال:محنة الرافضة محنة اليهود،قالت اليهود:لا يصلح الملك إلاّ في آل داود،و قالت الرافضة:لا تصلح الإمارة إلاّ في آل علي.

إنّ المؤلف سوّى بين شيعة علي و محبّيه الذين يجسّدون قول اللّه تبارك و تعالى فيهم: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» 1 ،سوّى بينهم و بين اليهود حيث إنّ الشيعة تقول:لا يصلح الملك إلاّ في آل علي نظير قول اليهود بأنّه لا يصلح إلاّ في آل داود.

أقول:لا شكّ انّ الشرائع السماوية تشترك في كثير من الأُمور و إن كان تختلف في بعض آخر.

و هذا هو الذكر الحكيم يصوّر الشرائع السماوية بأنّها تتّحد جوهراً و تختلف في الشريعة و المشرب،يقول سبحانه: «وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ». 2

ص:532

فلا غرو في أن يشارك المسلمون أهل الكتاب في كثير من الفروع،فالجميع أمروا بالصلاة و الصوم و حرمة الربا و تحريم المحارم، أ فيصح أن يقال:انّ محنة أهل السنّة محنة اليهود قالت اليهود بالصلاة و الصوم و قالت السنّة بهما أيضاً؟!

فاشتراك الشيعة مع اليهود في اختصاص القيادة الإلهية ببيت رفيع كبيت داود و بيت علي عليه السلام يشبه باشتراك الجميع في الصلاة و الصوم.

أو ما كان في وسع الرجل أن يشبه قول الشيعة بقول إبراهيم حيث طلب أن تكون الإمامة في ذريته فاستجيبت دعوته إلاّ في حقّ الظالمين،قال سبحانه: «وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ». 1

إنّه سبحانه جعل النبوة و الكتاب في ذرّية إبراهيم و قال: «وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ». 2

فإذا جعل سبحانه السفارة الإلهية في آل إبراهيم،فأي وازع من أن يجعل الخلافة الإسلامية و الإمامة في أشرف و أرفع بيت و أفضل منبت و هو بيت علي؟! أ فيصح في منطق العقل تشبيه شيعة علي و محبّي أئمة أهل البيت باليهود لأجل اشتراكهم في هذا النوع من القول؟!

كيف يسوّي الشيعة باليهود في قولهم بأنّ الأمارة لا تصلح إلاّ في آل علي،و قد قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم على ما أخرجه مسلم في صحيحه:لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان. (1)

ص:533


1- 3) .صحيح مسلم:3/6،باب الناس تبع لقريش.

أخرج مسلم في صحيحه عن سماك بن حرب،قال:سمعت جابر بن سمرة قال:سمعت رسول اللّه،يقول:لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة،ثمّ قال كلمة لم أفهمها.

قال:قلت لأبي:ما قال؟

فقال:كلّهم من قريش. (1)

و أيّ فرق بين حصر الملك في آل علي الذين هم أحد بطون قريش و حصره في قريش؟!

هذا و من سبر في كتب العقائد يرى أنّ المتكلّمين ذكروا من شرائط الخليفة أن يكون من قريش،و لم يذهب إلى خلافه إلاّ الخوارج.

قال الباقلاني (المتوفّى 403ه):يشترط أن يكون قرشياً من صميم. (2)

و قال عبد القاهر البغدادي (المتوفّى 429ه) قال أصحابنا:إنّ الذي يصلح للإمامة ينبغي أن يكون فيه أربعة أوصاف-إلى أن قال:-الرابع:

النسب من قريش. (3)

و قال أبو الحسن البغدادي الماوردي (المتوفّى 450ه):و الشروط المعتبرة في الإمامة سبعة-إلى أن قال:- السابع:النسب،و هو أن يكون من قريش. (4)

و قال ابن حزم(المتوفّى 456ه):يشترط فيه أُمور:1.أن يكون صلبه من قريش. (5)

و قال القاضي سراج الدين الأرموي(المتوفّى 689ه):صفات الأئمة تسع-

ص:534


1- 1) .المصدر نفسه،باب الناس تبع لقريش.
2- 2) .التمهيد:181.
3- 3) .أُصول الدين:277. [1]
4- 4) .الأحكام السلطانية:6.
5- 5) .الفصل:186/4.

إلى أن قال:-التاسع:أن يكون قرشياً. (1)

أو يظن ابن الجوزي في حقّ هؤلاء مثل ما ظنّه في حقّ الشيعة حيث إنّهم أيضاً قالوا مثل قول اليهود لا يصلح الملك إلاّ في قريش؟

التهمة الثانية:

قالت اليهود:لا جهاد في سبيل اللّه حتّى يخرج المسيح الدجال،و قالت الرافضة:لا جهاد حتّى يخرج المهدي. (2)

يلاحظ عليه:أنّه لو صحّ ما نسبه إلى اليهود فقياس الرافضة-حسب تعبيره-باليهود قياس مع الفارق،فانّ اليهود يقولون:لا جهاد في سبيل اللّه حتّى يخرج المسيح الدجال،فعندئذٍ يجاهدون لقتله و إعدامه ثمّ يتخلّون عن الجهاد؛و أمّا الشيعة فهم يقولون-على فرض صحة النسبة-:لا جهاد في سبيل اللّه حتّى يخرج المهدي فيجاهدوا في ركابه إلى استقرار حكومته في الأرض و تجسم ما وعد به سبحانه على الأُمم و قال: «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ» 3

فشتّان بين قوم لا يجاهدون إلاّ في وقت خاص لقتل عدوهم المزعوم،و بين قوم ينتظرون ظهور إمامهم المهدي الذي وعد اللّه به الأُمم حتّى يجاهدوا في كلّ وعر و حزن في أقاصي العالم و أقطاره لاستقرار حكومته الإلهية حتّى ترفرف راية الإسلام خفَّاقة على ربوع الأرض.

و هناك نكتة أُخرى غفل عنها ابن الجوزي،و هي انّ الشيعة تقول بالجهاد

ص:535


1- 1) .مطالع الأنوار:470.
2- 2) .الموضوعات:338/1- 339.

الابتدائي و يطلق عليه بالجهاد التحريري و هو مشروع عندهم للغايات التالية:

1.تحرير البشرية من الشرك.

2.إزالة الرقابة المفروضة على الشعوب في استماع قول الحقّ.

3.انقاذ المستضعفين من براثن الظالمين.

إلى غير ذلك من مبرّرات الجهاد الابتدائي قبالة الجهاد الدفاعي.

غير أنّ جمهور فقهاء الإمامية ذهبوا إلى أنّه لا جهاد إلاّ بإذن إمام معصوم.و على ضوء ذلك فالشرط الرئيسي هو إذن الإمام،سواء أ كان حاضراً أم غائباً،غير أنّ تحصيل الإذن في زمان الغيبة أمر مشكل،فكم فرق بين أن يقال لا جهاد إلاّ مع إمام حاضر أو نقول:لا جهاد إلاّ بإذن الإمام المعصوم؟! و إن كان تحصيل إذنه حضوراً أسهل من تحصيله في زمان الغيبة.

هذا و انّ لفيفاً من فقهاء الشيعة ذهبوا إلى كفاية إذن الإمام العادل و إن لم يكن معصوماً،و المسألة محررة في محلّها.

التهمة الثالثة:

اليهود يؤخّرون صلاة المغرب حتّى تشتبك النجوم و كذلك الرافضة.

يلاحظ عليه:ما نسبه إلى اليهود ممّا لا نحوم حوله،و أمّا ما نسبه إلى الرافضة فهي فرية واضحة،و قد جاءت الروايات على خلافه،فهذا هو الإمام الصادق عليه السلام قال:«ملعون ملعون من أخّر المغرب طلباً لفضلها».

و قيل له:إنّ أهل العراق يؤخّرون المغرب حتّى تشتبك النجوم،فقال:«هذا من عمل عدو اللّه أبي الخطاب».

ص:536

و في رواية أُخرى قال:«من أخّر المغرب حتّى تشتبك النجوم من غير علّة فأنا إلى اللّه منه بريء».

و في رواية رابعة عن ذريح،قال:قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:إنّ أُناساً من أصحاب أبي الخطّاب يُمْسُون بالمغرب حتّى تشتبك النجوم،قال:

«أبرأ إلى اللّه ممّن فعل ذلك متعمّداً».

إلى غير ذلك من الروايات التي نقلها الشيخ الحرّ العاملي في«وسائل الشيعة»في كتاب الصلاة،أبواب المواقيت. (1)

إنّ ابن الجوزي نسب رأي طائفة بائدة هالكة من الشيعة إلى عامّتهم مع أنّ أئمّتهم قد تبرّءوا من الخطابية مرة بعد أُخرى.

التهمة الرابعة:

اليهود يُولُّون عن القبلة شيئاً و كذا الرافضة.

يلاحظ عليه:أنّنا نترك الحديث حول ما نسبه إلى اليهود كسابقتها،لكن ما نسبه إلى الشيعة نسبة خاطئة بعيدة عن الصواب،فهم لا يولّون بوجههم عن صوب القبلة،بل يولّون من القبلة إلى القبلة،هذه هي مجمل القضية،و إليك التفصيل.

قد وردت الروايات انّ من توجّه إلى القبلة من أهل العراق و المشرق قاطبة،فعليه أن يتياسر قليلاً ليكون متوجّهاً إلى المسجد الحرام. (2)

و قال المحقّق في«الشرائع»:و أهل العراق و من والاهم يجعلون الفجر على

ص:537


1- 1) .الوسائل:6،الباب18 من أبواب المواقيت،الحديث12 و لاحظ الأحاديث 6،7،8.
2- 2) .نهاية الشيخ:63،باب معرفة القبلة و أحكامها. [1]

المنكب الأيسر،و المغرب على الأيمن،و الجدي على محاذي خلف المنكب الأيمن،و عين الشمس عند زوالها على الحاجب الأيمن، و يستحب لهم التياسر إلى يسار المصلّي منهم قليلاً. (1)

قال ابن فهد الحلي في شرحه على النافع المختصر:حضر المحقّق الطوسي ذات يوم حلقة درس المحقّق رحمه اللّه بالحلّة،فقطع المحقّق الدرس تعظيماً له و إجلالاً لمنزلته،فالتمس منه الخواجة إتمام الدرس،فجرى البحث في مسألة استحباب التياسر للمصلّي بالعراق، فأورد المحقّق الخواجة بأنّه لا وجه لهذا الاستحباب،لأنّ التياسر إن كان من القبلة إلى غير القبلة فهو حرام و إن كان من غيرها إليها فهو واجب.

فأجاب المحقّق بأنّه من القبلة إلى القبلة،فسكت الخواجة،ثمّ إنّ المحقّق ألّف رسالة لطيفة في المسألة و أرسلها إلى المحقّق الطوسي فاستحسنها. (2)

و حاصل الجواب:منع الحصر بل التياسر في القبلة،و لا مانع من أن يختصّ بعض جهات القبلة بمزيد الفضيلة على بعض،أو يكون الانحراف لأجل الاستظهار،بسبب الانحراف،و الثاني هو الأظهر كما يظهر من الرواية و انّه لأجل تحصيل اليقين باستقبالها.

توضيحه:انّ لفقهائنا قولين:

أحدهما:انّ الكعبة قبلة لمن كان في الحرم و من خرج عنه،و التوجّه إليها متعيّن على التقديرات،فعلى هذا لا معنى للتياسر أصلاً.

ثانيهما:انّها قبلة لمن كان في المسجد،و المسجد قبلة لمن كان في الحرم،و الحرم

ص:538


1- 1) .شرائع الإسلام:66/1. [1]
2- 2) .روضات الجنان:188/2. [2]

قبلة لمن خرج عنه،و على هذا،فالآفاقي لا يتوجّه إلى الكعبة بل إلى الحرم،حتّى أنّ استقبال الكعبة في الصف المتطاول متعذّر لأنّ عنده جهة كل واحد من المصلّين،غير جهة الآخر،إذ لو خرج من وجه كل واحد منهم خط مواز،للخط الخارج من وجه الآخر،لخرج بعض تلك الخطوط عن ملاقاة الكعبة،فحينئذٍ يسقط اعتبار الكعبة بانفرادها في الاستقبال،و يعود الاستقبال مختصّاً باستقبال ما اتّفق من الحرم. (1)

ثمّ إنّ القول باستحباب التياسر شيئاً طفيفاً مبني على هذا القول.و وجهه ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام و قد سُئل عن سبب التحريف عن القبلة ذات اليسار؟ فقال:«إنّ الحرم عن يسار الكعبة ثمانية أميال و عن يمينها أربعة أميال،فإذا انحرف ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة و إن انحرف ذات اليسار لم يكن خارجاً عن القبلة». (2)

و هذا الحديث يؤذن بأنّ المقابلة قد يحصل معها احتمال الانحراف.

و قد عرفت أنّ المسألة اختلافية و أنّ التياسر مبنيّ على كون الحرم هو القبلة للآفاقي،و هذا أمر مختلف فيه،و لأجل ذلك استشكل فيه غير واحد من الفقهاء،منهم المحقّق الأردبيلي،فمن أراد التفصيل فلينظر«مجمع الفائدة و البرهان». (3)

و على كلّ تقدير فهل يصحّ لمؤرّخ موضوعي أن يتّهم الشيعة بهذه التهمة و يلحقهم باليهودية مع أنّك عرفت أنّ المسألة لها جذور في الحديث و الفقه،و أنّها اختلافية حسب اختلاف الرؤى في القبلة.

ص:539


1- 1) .المهذب البارع:313/1- 314.
2- 2) .من لا يحضره الفقيه:178/1،الحديث2،الباب42 من أبواب القبلة.
3- 3) .مجمع الفائدة و البرهان:71/2-74.

التهمة الخامسة:

اليهود تسدل أبوابها و كذلك الرافضة.

هكذا في النسخة المطبوعة في دار الفكر،و يحتمل أن يكون مصحّف:تسد،و الظاهر انّ مراد ابن الجوزي اتّهام الشيعة بالبخل حيث يسدّون أبوابهم،أو يسدلون الستار لئلاّ يدخل عليهم أحد فيأكل على مائدتهم.

و هل ابن الجوزي جرب ذلك في عامّة ربوع الأرض التي تقطن فيها الشيعة أو جرّبها في مورد دون مورد؟!

و هل تكون هذه التجربة الناقصة حجّة على الكلّ؟! و لعمر الحقّ انّ كلامه هذا أشبه بالمهزلة،فإنّ طائفة الشيعة من أسخى الطوائف حيث يوقفون الأموال الطائلة و يبذلونها بين الفقراء،و يساهمون في المشاريع الخيرية أكثر من سائر الطوائف،و الشاهد عليه انّهم يعطون كلّ سنة خمس أرباحهم إلى إمامهم لصرفه في الأُمور الخيرية و ترويج الشريعة إلى غير ذلك.

و لو حاول ابن الجوزي أن يعرف البخلاء و السفهاء،فعليه أن يرجع إلى كتاب«البخلاء»للجاحظ و هو و ابن الجوزي كلاهما صنوان من أصل واحد،فعند ذلك يعرف من البخيل هل هم الشيعة أو غيرهم؟!

التهمة السادسة:

اليهود حرّفوا التوراة و كذلك الرافضة حرّفوا القرآن.

اتّفق المسلمون على أنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو القرآن المنزل على قلب سيّد المرسلين دون أن يكون فيه نقص أو زيادة،و لم يخالف في ذلك إلاّ شُذّاذ من الفريقين حيث تمسّكوا بروايات ضعيفة تنتهي إلى الضعاف.

ص:540

و قد ذهب مشايخ الشيعة تبعاً لأئمتهم إلى عدم طروء النقص و التحريف على القرآن الكريم و ذلك بالبيان التالي:

إنّ القرآن الكريم كان موضع عناية للمسلمين من أوّل يوم أُتُوا به،فقد كان المرجع الأوّل لهم فيهتمون به قراءة و حفظاً،كتابة و ضبطاً، فتطرق التحريف إلى مثل هذا الكتاب لا يمكن إلاّ بقدرة قاهرة حتّى تتلاعب بالقرآن بالنقص،و لم يكن للأمويّين و لا للعباسيّين تلك القدرة القاهرة،لأنّ انتشار القرآن بين القرّاء و الحفّاظ،و انتشار نسخه على صعيد هائل قد جعل هذه الأمنية الخبيثة في عداد المحالات.

إنّ للسيد الشريف المرتضى بياناً في المقام نأتي بنصه،يقول:إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار،و الوقائع العظام،و الكتب المشهورة و أشعار العرب المسطورة،فإنّ العناية اشتدت و الدواعي توفرت على نقله و حراسته،و بلغت إلى حد لم يبلغه غيره، لأنّ القرآن معجزة النبوة،و مأخذ العلوم الشرعية و الأحكام الدينية،و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية،حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته،فكيف يجوز أن يكون مغيّراً و منقوصاً مع العناية الصادقة و الضبط الشديد؟!

قال:و العلم بتفسير القرآن و أبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته،و جرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ككتاب سيبويه و المزني،فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما،و معلوم أنّ العناية بنقل القرآن و ضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشعراء. (1)

ص:541


1- 1) .مجمع البيان:15/1 نقلاً عن المرتضى.

هذا و انّ علماء الشيعة الذين هم المراجع في العقائد و الأحكام صرحوا ببطلان التحريف من لدن عصر الفضل بن شاذان (المتوفّى 260ه) إلى يومنا هذا،و قد ذكرنا نصوصهم في كتاب مصادر الفقه الإسلامي و منابعه. (1)

كما أجبنا في ذلك الكتاب عن الشبهات التي صارت سبباً لاحتمال طروء التحريف إلى القرآن الكريم.

نعم،توجد في كتب الفريقين روايات يستشم منها طروء التحريف،و هي لا تختصّ بفرقة دون أُخرى،هذا هو الإمام البخاري ينقل في صحيحه:

خطب عمر عند منصرفه من الحجّ و قال:إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم،يقول قائل لا نجد حدّين في كتاب اللّه،فقد رجم رسول اللّه و رجمنا،و الذي نفسي بيده لو لا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللّه تعالى لكتبتها:«الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة»فأنا قد قرأناها. (2)

و بما انّا قد استوفينا الكلام في هذا الموضوع نقتصر على ذلك المقدار،فمن أراد التفصيل فعليه الرجوع إلى المصادر التالية. (3)هذا و قد ألّف غير واحد من أصحابنا رسائل خاصة في هذا الموضوع،نخصّ بالذكر:

1.«آلاء الرحمن»للشيخ الحجة البلاغي.

2.«البيان في تفسير القرآن»للعلاّمة الحجّة السيد أبو القاسم الخوئي.

3.«الميزان في تفسير القرآن»(سورة الحجر) للعلاّمة الطباطبائي.

4.صيانة القرآن عن التحريف،تأليف المحقّق المعاصر محمد هادي معرفة.

ص:542


1- 1) .مصادر الفقه الإسلامي و منابعه:49- 52. [1]
2- 2) .صحيح البخاري:208/8-211.
3- 3) .مصادر الفقه الإسلامي و منابعه:32- 78؛ [2]ارشاد العقول:137/1- 152. [3]

التهمة السابعة:

اليهود يستحلّون دم كلّ مسلم و كذلك الرافضة.

اللّهم ما أجرأه على الفرية و الافتعال! ما أجرأه على الكذب و إلصاق التهم بشيعة آل البيت الذين يقتدون بالنبي و أهل بيته في كلّ جليل و دقيق!

و هذا هو إمام الشيعة بل إمام المسلمين جعفر الصادق عليه السلام يقول:«الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه،و التصديق برسول اللّه،به حقنت الدماء،و عليه جرت المناكح و المواريث». (1)

و روى التميمي عن الإمام الرضا عليه السلام،عن آبائه،عن علي عليه السلام قال:قال النبي:«أُمرت أن أُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه،فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماؤهم و أموالهم». (2)

و روى البرقي مسنداً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:«الإسلام يحقن به الدم،و تؤدّى به الأمانة،و يستحلّ به الفرج،و الثواب على الإيمان». (3)

و هذه كتب الشيعة في العقائد و الفقه مشحونة بذكر أركان الإيمان و هي التوحيد و الرسالة و المعاد،فمن آمن بها فهو مسلم محقون الدم و له من الأحكام ما لسائر المسلمين،و بما انّ المسألة من البداهة بوضوح نطوي الكلام عنها،و من أراد التفصيل فعليه أن يرجع إلى كتاب«الإيمان و الكفر على ضوء الكتاب و السنّة»بقلم المؤلّف.

ص:543


1- 1) .بحار الأنوار:248/68،الحديث3. [1]
2- 2) .البحار:242/68. [2]
3- 3) .البحار:243/68. [3]

التهمة الثامنة:

اشارة

اليهود لا يرون طلاق الثلاث بشيء و كذلك الرافضة.

نحن لا نتكلم فيما نسبه إلى اليهود،لأنّ القضاء فيه رهن الوقوف على أحكامهم،غير أنّ ما نسبه إلى الشيعة صحيح،و لكنّهم لا يقيمون وزناً للطلاق الثلاث تبعاً للكتاب و السنّة و يرون من يقول بها،منحرفاً عن المصدرين.

إنّ الكتاب و السنّة يدلاّن على بطلان الطلاق ثلاثاً و انّه لا يحسب إلاّ طلاقاً واحداً،إذ يجب أن تكون الطلقة واحدة بعد الأُخرى يتخلّل بينها رجوع أو نكاح،فلو طلق ثلاثاً مرّة واحدة أو كرر الصيغة في مجلس واحد فلا يقع الثلاث و عند بعضهم يقع طلاقاً واحداً.

ثمّ إنّ الاستدلال على المسألة عن طريق الكتاب و السنّة خارج عن وضع الرسالة،و قد أشبعنا البحث فيها في كتاب«الاعتصام بالكتاب و السنّة»،غير انّنا نذكر طائفة من الروايات النبوية ليتّضح من خلالها انّ الشيعة لا تميل عن السنّة قيد شعرة.

1.أخرج النسائي عن محمود بن لبيد،قال:أخبر رسول اللّه عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً،فقام غضبان ثمّ قال:«أ يلعب بكتاب اللّه و أنا بين أظهركم؟!»حتّى قام رجل و قال:يا رسول اللّه أ لا أقتله؟ (1)

إنّ محمود بن لبيد صحابي صغير و له سماع،روى أحمد باسناد صحيح عنه،قال:أتانا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فصلّى بنا المغرب في مسجدنا فلما سلم منها قال:اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم للسبحة بعد المغرب. (2)

ص:544


1- 1) .سنن النسائي:142/6؛الدر المنثور للسيوطي:283/1. [1]
2- 2) .مسند أحمد بن حنبل:428/5. [2]

2.روى ابن إسحاق،عن عكرمة،عن ابن عباس،قال:طلّق«رُكانة»زوجته ثلاثاً في مجلس واحد،فحزن عليها حزناً شديداً،فسأله رسول اللّه:«كيف طلّقتها؟»قال:طلّقتها ثلاثاً في مجلس واحد.قال:«إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها». (1)

3.أخرج الإمام أحمد باسناد صحيح عن ابن عباس،قال:طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد،فحزن عليها حزناً شديداً،قال:فسأله رسول اللّه:«كيف طلّقتها؟»قال:طلّقتها ثلاثاً،قال،فقال:«في مجلس واحد؟»قال:نعم،قال:«فإنّما تلك واحدة فأرجعها إن شئت»،قال:فارجعها،فكان ابن عباس يرى انّما الطلاق عند كلّ طهر. (2)

الاجتهاد مقابل النصّ:

التحق النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالرفيق الأعلى و قد حدث بين المسلمين اتّجاهان مختلفان،و صراعان فكريّان،فعلي عليه السلام و من تبعه من أئمّة أهل البيت كانوا يحاولون التعرّف على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية و رواية و لا يعملون برأيهم أصلاً،و في مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتعرّف على الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة و وضع الحكم وفق متطلباتها.

و على ضوء ذلك فالتاريخ يشهد بأنّ أوّل من ترك النص و أخذ بالاجتهاد في هذه المسألة هو عمر بن الخطاب،و قد صارت البدعة بمرور الزمان سنّة و السنّة بدعة،و إن كنت في شك من ذلك فاقرأ هذه النصوص:

ص:545


1- 1) .بداية المجتهد:61/2.
2- 2) .مسند أحمد بن حنبل:265/1. [1]

1.أخرج مسلم عن ابن عباس،قال:كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر:طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب:إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة،فلو أمضيناه عليهم،فأمضاه عليهم. (1)

2.أخرج مسلم عن ابن طاوس عن أبيه:انّ أبا الصهباء قال لابن عباس:أتعلم أنّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أبي بكر و ثلاثاً من خلافة عمر؟ فقال:نعم. (2)

3.و أخرج مسلم أيضاً:انّ أبا الصهباء قال لابن عباس:هات من هناتك،أ لم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللّه و أبي بكر واحدة؟ قال:قد كان ذلك،فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. (3)

4.أخرج البيهقي،قال:كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس،قال:أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أبي بكر و صدراً من إمارة عمر فلمّا رأى الناس قد تتابعوا فيها،قال:أجيزوهن عليهم. (4)

فأيّ الفريقين-يا ابن الجوزي-أحقّ بالأمن،أمّن يتّبع السنّة اللّاحبة و الطريق المهيع أو مَن يجتهد أمام النص؟! و اللّه سبحانه يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». 5

ص:546


1- 1) .صحيح مسلم:4،باب الطلاق ثلاث،الحديث1-3.
2- 2) .المصدر السابق.
3- 3) .المصدر السابق.
4- 4) .سنن البيهقي:339/7؛الدر المنثور للسيوطي:279/1. [1]

و قد حاول غير واحد من المتفقّهة أن يبرّروا فتوى الخليفة أمام الكتاب و السنّة و لكن خابت محاولاتهم،فهذا هو ابن قيم الجوزية أحد المتحمّسين في الدفاع عن الخليفة في هذه الفتيا يقول:لم نجد بداً من القول بأنّ المصلحة في زماننا هذا على عكس ما كان عليه زمن الخليفة، و انّ تصحيح التطليق ثلاثاً،جرّ الويلات على المسلمين في أجوائنا و بيئاتنا و صار سبباً لاستهزاء الأعداء بالدين و أهله،و انّه يجب في زماننا هذا الأخذ بنصّ الكتاب و السنّة،و هو انّه لا يقع منه إلاّ واحد. (1)

التهمة التاسعة:

اليهود يبغضون جبرئيل و يقولون هو عدونا من الملائكة،و كذلك الرافضة يقولون غلط بالوحي.

لا شكّ انّ اليهود يبغضون جبرئيل و غيره بنصّ القرآن الكريم،قال سبحانه: «قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ». 2

و أمّا سبب عدائهم لجبرئيل فقد فصّل الكلام فيه فخر الدين الرازي في تفسيره،و من أسباب عدائهم زعمهم انّ أمين الوحي جبرئيل خان حيث أُمر أن يجعل النبوة فينا [اليهود] فجعلها في غيرنا. (2)

و هذا يعرب عن أنّ مسألة«خان الأمين»فكرة يهودية قد أخذها عدو آل

ص:547


1- 1) .اعلام الموقعين عن ربّ العالمين:36/3.
2- 3) .تفسير الفخر الرازي:195/2. [1]

البيت من اليهود و نسبها إلى الشيعة أو إلى الرافضة على حدّ تعبير ابن الجوزي،و الشيعة براء من هذه التهمة،فلا تجد أي أثر لهذه الفرية في كتبهم.

و من هوان الدنيا على الكاتب الإسلامي-كابن الجوزي-أن يعتمد على أُسطورة تاريخية لاكتها اليهود فيأخذها من يد اليهود و ينسبها إلى شيعة آل البيت الذين ليس لهم ذنب سوى حبهم لأهل البيت عليهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً.

التهمة العاشرة:

فضلت صنف من اليهود أو النصارى على الرافضة بخصلتين سُئلت اليهود مَنْ خيرُ أهل ملّتكم،قالوا:أصحاب موسى.و سئلت النصارى،فقالوا:أصحاب عيسى،و سئلت الرافضة من شرّ أهل ملّتكم،فقالوا حواريّ محمد،و أُمروا بالاستغفار لهم فسبّوهم.

إنّ هذا الكلام يشتمل على فريتين:

الأُولى:سألت الرافضة من شرّ أهل ملّتكم،فقالوا:حواري محمد.

الثانية:أمروا بالاستغفار لهم فسبّوهم.

أمّا الأُولى فهي فرية شائنة لا تجد أي سند لها في كتب الشيعة،فإنّ لصحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند الشيعة منزلة خاصة لأنّهم رأوا نور الوحي و استضاءوا به و آمنوا بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم و نصروه.

و هذا هو إمام الشيعة علي أمير المؤمنين عليه السلام يصف الصحابة بقوله:

1.لقد رأيت أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله و سلم فما أرى أحداً يُشبههم منكم،لقد كانوا يُصبحون شُعثاً غبراً،و قد باتوا سُجّداً و قياماً،يراوحون بين جباههم،و خدودهم،

ص:548

و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم! كأنّ بين أعينهم رُكب المِعْزى من طول سجودهم! إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم، و مادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب و رجاءً للثواب. (1)

2.و قال الإمام زين العابدين عليه السلام:اللّهم و أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله و سلم خاصة الذين أحسنوا الصحبة،و الذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، و كانفوه و أسرعوا إلى وفادته،و سابقوا إلى دعوته،و استجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته،و فارقوا الأزواج و الأولاد في إظهار كلمته،و قاتلوا الآباء و الأبناء في تثبيت نبوته،و انتصروا به،و من كانوا منطوين على محبته،يرجون تجارة لن تبور في مودته،و الذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروقه،و انتفت منهم القربات إذ سكنوا في ظل قرابته،فلا تنس اللّهم ما تركوا لك و فيك،و أرضهم من رضوانك و بما حاشوا الخلق عليك، و كانوا مع رسولك،دعاة لك إليك،و اشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم و خروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه،و من كثّرتَ في إعزاز دينك من مظلومهم.

اللّهمّ و أوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا و لإخواننا». (2)

هذا كلّه حول الفرية الأُولى،و أمّا الفرية الثانية من أنّهم أُمروا بالاستغفار فسبّوهم فيا ليت انّه تكفّل عناء البحث وراء هذه المسألة في كتب الشيعة،دون أن ينسبه إليهم دون دليل.

و الحقّ انّ الشيعة لا يسبّون أحداً من الصحابة،فإنّ سباب المؤمن فسوق،و لكنّهم لا يعتقدون بعدالة الصحابة كلّهم،و لا يغالون في حقّ من عُدّ من

ص:549


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 97. [1]
2- 2) .الصحيفة السجادية:الدعاء4. [2]

الصحابة بحجّة انّهم رأوا أو سمعوا حديث النبي أو عاشروه،بل يعتقدون أنّ الصحابة كالتابعين ففيهم الصالح و الطالح و العادل و الفاسق، و يشهد على ذلك القرآن الكريم حيث يصف بعضهم بالفسق و يقول: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ». 1

إنّ القول بعدالة جميع الصحابة لم يظهر في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و لا في عهد الخلفاء و إنّما ظهر في عهد الأمويّين للحيلولة دون التفاف الرأي العام حول أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

غير أنّ ابن الجوزي أعرف بصحاح أهل السنّة و مسانيدهم،و قد تعرضت هذه الكتب للصحابة بالطعن و الارتداد،و لأجل إيقاف القارئ على شيء ممّا جاء في هذه الكتب من الطعن على الصحابة،نذكر بعض ما روي في ذلك المجال،و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب«جامع الأُصول»لابن الأثير:119/11.

1.روى عبد اللّه بن مسعود،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أنا فرطكم على الحوض،و ليُرفعنّ إليّ رجال منكم،حتّى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني،فأقول:أي رب،أصحابي،فيقال:إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. (1)

2.روى أنس بن مالك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صاحبني حتّى إذا رأيتهم و رفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولنّ:أي ربّ،أصحابي،أصحابي،فليقالن لي:إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. (2)

3.روت عائشة،قالت:سمعت رسول اللّه،يقول-و هو بين ظهراني

ص:550


1- 2) .أخرجه البخاري و مسلم.
2- 3) .أخرجه البخاري و مسلم.

أصحابه -:إنّي على الحوض أنتظر من يرد عليّ منكم،فو الله ليقطعنّ دوني رجال،فلأقولنّ:أي ربّ،مني و من أُمّتي! فيقول:إنّك لا تدري ما عملوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم. (1)

4.روت أسماء بنت أبي بكر،قالت:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:إنّي على الحوض،أنظر من يرد عليّ و سيؤخذ ناس دوني،فأقول:يا ربّ، مني و من أُمّتي،و في رواية،فأقول:أصحابي،فيقال:هل شعرت ما عملوا بعدك؟ و اللّه ما برحوا يرجعون على أعقابكم. (2)

5.روى سعيد بن المسيب انّه كان يحدِّث عن أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي،فيُحلئون عنه،فأقول:يا ربّ،أصحابي،فيقول:إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك.إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. (3)

6.روى أبو هريرة،قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و الذي نفسي بيده،لأذودن رجالاً عن حوضي،كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض. (4)

باللّه عليك يا ابن الجوزي من السابّ لأصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فهل هناك سب فوق الارتداد،و المرتد خارج عن ربقة الإسلام،كافر باللّه و رسله و كتبه،ضال مضلّ ملعون في الدنيا و الآخرة؟!

نعم هناك فرق بين وصف ما ارتكبه بعض الصحابة من الأعمال

ص:551


1- 1) .أخرجه مسلم.
2- 2) .أخرجه البخاري و مسلم.
3- 3) .أخرجه البخاري.
4- 4) .أخرجه البخاري و مسلم.

المشينة و بين سبّهم،فالسبّ يضاد روح الإسلام،و لكن وصف الرجل بما له من الأعمال الحسنة و السيئة هو طريقة المحقّق المتحرّي للحقائق.

عفا اللّه عنّا و عن ابن الجوزي حيث جرّنا إلى تحرير هذه الكلمات التي ربّما تعكر صفو المياه و ترخي عرى الوحدة الإسلامية، و استغفر اللّه لي و له.

ص:552

خاتمة المطاف

1 ما أشبه الليلة بالبارحة

و ربما يتصوّر القارئ انّ ابن الجوزي رمى الشيعة بهذه التهم بعد ان لمسها بعينه و شاهدها.و لكن الغريب حقّاً انّه لم يعش مع الشيعة قط ليرى تلك الأُمور بأُمّ عينيه،بل نقلها من كاتب متساهل هو ابن عبد ربّه الأندلسي في كتابه«العقد الفريد»دون أي تحقيق و تتبّع،فإنّ الثاني سعى أن يشبّه الرافضة حسب تعبيره باليهود من جهات شتّى و كأنّهم هم اليهود،و إليك نزراً ممّا اختلقه من التشبيه حيث قال:

1.الرافضة يهود هذه الأُمّة يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النصرانية.... (1)

و كلامه هذا لا يوافق كلام صاحب الرسالة في حق شيعة علي حيث قال:أنت و شيعتك هم الفائزون ذكره صلى الله عليه و آله و سلم في تفسير قوله: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» 2 . (2)

2.محنة الرافضة محنة اليهود قالت اليهود لا يكون الملك إلاّ في آل داود و قالت الرافضة لا يكون الملك إلاّ في آل علي. (3)

ص:553


1- 1) .العقد الفريد:104/2. [1]
2- 3) .تفسير الدر المنثور [2]في تفسير الآية.
3- 4) .العقد الفريد:104/2. [3]

و هذا المورد بعينه كسائر الموارد اجترّه ابن الجوزي و أعاد ذكره في كتابه تقليداً لا تحقيقاً،و غافلاً عن الحديث المتضافر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي رواه بضع و عشرون صحابياً حيث قال:«إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي:كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي،و انّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».نقله ابن حجر في صواعقه عن بضع و عشرين صحابياً. (1)

3.اليهود يؤخّرون صلاة المغرب حتّى تشتبك النجوم و كذلك الرافضة.

و قد سبق منّا الحديث عنه،فلاحظ.

4.اليهود لا ترى الطلاق الثلاث شيء و كذا الرافضة.

و قد سبق منّا الحديث عنه و انّ ما نسبه إلى الرافضة كان الأولى أن ينسبه إلى القرآن الكريم حيث إنّه سبحانه يقول: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» إلى أن يقول: «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ». 2

قال العلاّمة الأميني:و من جلية الحقائق انّ تحقّق المرتين أو الثلاث يستدعي تكرر وقوع الطلاق،كما يستدعي تخلّل الرجعة بينهما أو النكاح،فلا يقال للمطلّقة مرتين بكلمة واحدة أو في مجلس واحد إنّما طلقت مراراً،كما إذا كان زيد أعطى درهمين لعمرو بعطاء واحد،لا يقال إنّه أعطى درهمين مرّتين و هذا معنى يعرفه كلّ عربي صميم. (2)

5.اليهود لا ترى على النساء عدّة و كذلك الرافضة.

6.اليهود تستحل دم كلّ مسلم و كذا الرافضة.

ص:554


1- 1) .الصواعق المحرقة:228. [1]
2- 3) .الغدير:123/3. [2]

7.اليهود حرّفوا التوراة و كذلك الرافضة حرّفت القرآن.

8.اليهود تبغض جبرئيل و تقول هو عدونا من الملائكة و كذلك الرافضة تقول:غلط جبرئيل في الوحي إلى محمد بترك علي بن أبي طالب.

9.اليهود لا تأكل لحم الجزور و كذا الرافضة.

و جاء بعد ابن الجوزي شيخ البدع و الضلالة ابن تيمية في«منهاج السنة»الذي هو أولى أن يسمّى منهاج البدعة،فسار على منهاج سلفه فرأى أنّ ما افتعله أسلافه شيئاً قليلاً فحاول أن يضيف عليها تهماً أُخرى،فقال:

اليهود يستحلّون أموال الناس كلّهم و كذلك الرافضة.

اليهود تسجد على قرونها في الصلاة و كذلك الرافضة.

اليهود لا تسجد حتّى تخفق برءوسها مراراً تشبيهاً بالركوع و كذلك الرافضة.

اليهود يرون غش الناس و كذلك الرافضة. (1)

إلى غير ذلك من الخرافات و السفاسف ممّا لا يحتاج إلى النقد و الرد لمن ألقى السمع و هو بصير.

و نمر على تلك السفاسف مرار الكرام و نقول:

«هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى

كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» . (2)

و آخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ

ص:555


1- 1) .منهاج السنة:7/1-8.
2- 2) .الشعراء:221-223. [1]

ص:556

2

اشارة

التحريف

في كتب الحديث و التاريخ

التحريف لغة هو التغيير و التبديل،قال ابن منظور:تحريف الكلم عن مواضعه،تغييره. (1)

و في الاصطلاح:كلّ دخل و تصرّف في كلام الغير و أثره على نحو يخالف مرماه فهو تحريف.

إنّ التراث الإسلامي الذي توارثناه عبر الأجيال-خلفاً عن سلف-أمانة إلهية في أعناقنا،له ما لغيره من الأحكام و لا محيص عن حفظ هذا التراث و الاهتمام به،و أيّ دخل و تصرف فيه على نحو يؤدي إلى تحويره،يُعدُّ خيانة للأمانة.

و قد قال سبحانه: «يا أَيُّهَا النّاسُ . إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها». 2

و قال: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ» . (2)

و قال أيضاً: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ

ص:557


1- 1) .لسان العرب:3، [1]مادة«حرف».
2- 3) .المؤمنون:6. [2]

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» . (1)

و من أشدّ أنواع ذلك تحريف كتب التفسير و الحديث و التاريخ التي هي المعوَّل في الوقوف على أُصول الدين و فروعه و سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم.

و قد أخبر سبحانه في غير واحد من الآيات انّ عملية التحريف بدعة يهودية توارثتها تلك الطائفة خلفاً عن سلف،فحرّفوا الكلمَ عن مواضعه حسب أهوائهم و ما تُمليه عليهم مصالحهم.

و قد ندّد اللّه سبحانه بهذا العمل الإجرامي الذي كانت اليهود تقوم به من حين إلى حين آخر في غير واحد من الآيات.

قال سبحانه: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ». 2

فكانت اليهود يقومون بكتابة الكتب السماوية و لكن بالتغيير و التبديل ثمّ يُضيفونها إلى اللّه سبحانه ليشتريه العوام في مقابل الثمن البخس مع أنّهم تركوا فيه الحقّ و أظهروا الباطل ليأخذوا على ذلك شيئاً.

و قال تعالى: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ». 3

فالآية بصدد التسلية للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فتقول:لا تعجبنّ يا محمد من هؤلاء اليهود الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إليك و إلى أصحابك و ينكثوا العهد الذي بينك

ص:558


1- 1) .الأنفال:27. [1]

و بينهم و يغدروا بك،فانّ ذلك دأبهم و عادات أسلافهم،فقد أخذتُ ميثاقهم على طاعتي في زمن موسى و بعثت منهم اثني عشر نقيباً فنقضوا ميثاقي و عهدي،فلعنتُهم بنقضهم ذلك العهد و الميثاق.و كان من فعالهم انّهم نبذوا الكتاب و ضيّعوا حدوده و فرائضه و كتموا صفات النبي صلى الله عليه و آله و سلم في كتبهم و قد كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

يقول سبحانه: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» . (1)

و قد بلغ خبثهم بمكان عند ما أُمروا بطلب الغفران و حطِّ الذنوب عند دخول الباب،غيّروا و بدّلوا كلام اللّه سبحانه،فقالوا مكان الحطَّة، الحِنْطة يقول سبحانه:

«وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ». 2

أجمع المفسرون على أنّهم أُمروا بدخول الأرض المقدّسة و هي«بيت المقدس»أو«أريحا»قرب بيت المقدس،و قد أُمروا أن يسجدوا عند الدخول و يقولوا:«حطة»،فقالوا سخرية:«حنطة».

«فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ». 3

و لسنا بصدد بيان ما نزل من الآيات حول التحريف و الطرق التي سلكتها اليهود في تحريف الكتب السماوية بالإنكار تارة مع وجودها فيها،و حذفها

ص:559


1- 1) .البقرة:146. [1]

أُخرى،إلى غير ذلك من ألوان التحريف.

فإذا كان هذا حال التحريف و موقفه من الذكر الحكيم،فعلى المسلم الواعي أن يبتعد عن تلك الوصمة و يبالغ في حفظ تراثه سواء أوافق أهواءه أم خالفها،فانّه أمانة إلهية يجب أداؤها إلى الجيل الآتي.

لكن ما عشتَ أراك الدهر عجباً،نرى أنّ طائفة من الكُتّاب و المحقّقين أو النسّاخ و أصحاب دور النشر في مصر و سورية و بيروت دأبوا على تحريف التراث حيثما خالف هواهم،و بما انّنا لمسنا ذلك في موارد كثيرة،فهذا يصدُّنا عن القول بأنّها هفوة قلم أو صدرت منهم اشتباهاً و عفواً لا قصداً،و ها نحن نستعرض في هذه المقالة بعض الموارد التي طرأ عليها التحريف ليقف القارئ على أنّ ما ادّعيناه ليس دعوى بلا برهان .

ص:560

1 تفسير الطبرى و حديث يوم الدار

تفسير ابن كثير و حديث يوم الدار

حياة محمد و حديث يوم الدار

ذكر المفسرون انّه بعد ما نزل قوله سبحانه: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» 1 دعا النبي صلى الله عليه و آله و سلم علياً عليه السلام و خمسة و أربعين رجلاً من سراة بني هاشم و وجوههم،و عزم على أن يَصدع لهم من أمر رسالته في خلال تلك الضيافة،و أمر علياً عليه السلام بإعداد الطعام و اللبن،و بعد أن فرغوا من الطعام تكلّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال:

«إنّ الرائد لا يكذب أهله،و اللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصّة و إلى الناس عامّة،و اللّه لتموتُنّ كما تنامون و لتُبعثنّ كما تستيقظون و لتحاسبُّنّ بما تعملون و انّها الجنة أبداً و النار أبداً».

ثمّ قال:

«يا بني عبد المطلب إنّي و اللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به،انّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة،و قد أمرني اللّه عزّ و جل أن أدعوكم إليه،فأيّكم يؤمن بي و يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟».

ص:561

قال علي عليه السلام فأحجم القوم عنها جميعاً،و قلت و انّي لأحدثهم سنّاً،و أرمصهم عيناً،و أعظمهم بطناً،و أحمشهم ساقاً:«أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه»فأخذ برقبتي ثمّ قال:«إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم،فاسمعوا له و أطيعوا»قال:فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب:

قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيعه. (1)

لقد ذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه حديث يوم الدار بشكل مفصل و لكنّه حرّف الحديث عن مواضعه في تفسيره،فعند ما حاول أن يفسر قوله «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ذكر ما مرّ من التاريخ و لكنّه بدّل تصريح الرسول بالوصاية و الخلافة لعلي،إلى الكناية،و إليك لفظه:

فقال يا بني عبد المطلب:إنّي و اللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة و قد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه.

فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و كذا و كذا.

فأحجم القوم عنها جميعاً.قلت -(يعني علياً و إنّي لأحدثهم سناً...-:أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك فأخذ برقبتي ثمّ قال:

إنّ هذا أخي و كذا و كذا فاسمعوا له و أطيعوا له. (2)

و لا ريب انّ الذي دفع الطبري أو ناسخ كتابه-على احتمال قويّ-إلى أن يرتكب مثل ذلك التحريف هو تعصبه المذهبي،فبما انّه لا يعتبر الإمام

ص:562


1- 1) .تاريخ الطبري:62/2-63؛تاريخ الكامل:40/2- 41؛مسند أحمد:111/1،إلى غير ذلك من المصادر المتوفرة في المقام.
2- 2) .تفسير الطبري:75/19. [1]

علياً عليه السلام خليفة رسول اللّه بلا فصل،و من جانب آخر انّ تينك الكلمتين:«خليفتي و وصيي»تصرّحان بخلافة علي للنبي صلى الله عليه و آله و سلم بلا فصل،غيّر الحديث نصرةً لمذهبه.

2.و لقد فعل ابن كثير (المتوفّى774ه) نظير هذا في تاريخه و في تفسيره (1)و سلك نفس الطريق الذي سلكه-من قبل-سلفه الطبري أو ناسخ كتابه ضارباً عرض الجدار مبدأ أمانة النقل.

و نحن لا نعذر ابن كثير في عمله هذا أبداً،لأنّه قد اعتمد في رواياته التاريخية،في تاريخه و تفسيره معاً،تاريخ الطبري لا تفسيره،و لا شكّ انّه قد مرّ على هذه القصة في تاريخ الطبري،و لكنّه مع ذلك حاد عن الطريق السويّ فأعرض عن نقل رواية التاريخ في هذه الحادثة و عمد - بصورة متوقعة-إلى نقل رواية التفسير.

3.و الأعجب من تينك الخيانتين ما ارتكبه في عصرنا الحاضر وزير المعارف المصرية الأسبق الدكتور هيكل في كتابه«حياة محمّد»، و فتح بعمله باب التحريف في وجه الجيل الحاضر.

إنّ المؤلِّف هاجم في مقدّمته جماعة المستشرقين بشدة و انتقدهم بعنف لتحريفهم الحقائق التاريخية،و اختلاقهم لبعض الوقائع في حين لم يقصر هو عنهم في هذا السبيل و ذلك:

أوّلاً:نقل الواقعة المذكورة (دعوة الأقربين المعروفة) بحادثة«يوم الدار»أو حديث«بدء الدعوة»في الطبعة الأُولى من كتابه المذكور بصورة مبتورة و مقتضبة

ص:563


1- 1) .لاحظ تفسير ابن كثير:231/5 في تفسير الآية،و تاريخه:38/2 ط دار الكتب اللبنانية.

جداً و اكتفى من الجملتين الأساسيتين بذكر واحدة منها فقط و هي قول النبي للأقربين الحضور في ذلك اليوم:«من يؤازرني يكون أخي و وصيّي و خليفتي»بينما حذف بالمرّة الجملة التي قالها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لعلي بعد أنْ قام للمرّة الثالثة و أعلن مؤازرته للنبي و هي قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي».

ثانياً:انّه خطا في الطبعات الثانية و الثالثة و الرابعة،خطوة أبعد حيث حذف كلتا الجملتين معاً،و بهذا قد وجه ضربة قاضية إلى قيمة كتابه . (1)

و للقارئ أن لا يُحمِّل وزر التحريف إلى أبي جعفر الطبري على وجه القطع و اليقين لاحتمال صدوره من ناسخي تفسيره و لكن نزعات ابن كثير الأموية تورث الاطمئنان بأنّه كان من فعله لا من جانب نسّاخ كتابه،كما نقول باطمئنان خاص انّ وزر التحريف في كتاب«حياة محمد» على مؤلّفه محمد حسين هيكل،فقد طرأ التغيير على كتابه و هو على قيد الحياة،و قيل انّه تَعرّض لضغوط كبيرة من قبل علماء الأزهر فلم يجد بدّاً من التحريف و التغيير في الطبعات اللاحقة.

«فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ

وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ» . (2)

ص:564


1- 1) .راجع حياة محمد:142،الطبعة الثالثة عشر،مكتبة النهضة المصرية،القاهرة-1968م.
2- 2) .البقرة:79. [1]

2 الفتوحات المكية و حذف أسماء أئمة

أهل البيت عليهم السَّلام

إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يكتف بتنصيب عليّ منصب الإمامة و الخلافة،كما لم يكتف بإرجاع الأُمّة الإسلامية إلى أهل بيته و عترته الطاهرة،و لم يقتصر على تشبيههم بسفينة نوح في الحديث المعروف:«مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق» (1)،بل قام ببيان عدد الأئمّة الذين يقومون بأمر الخلافة بعده،واحداً بعد واحد حتّى لا يبقى لمرتاب ريب،و لا لشاك شك،و قد جاء ذلك في الصحاح و المسانيد بصور مختلفة و نشير إلى حديث واحد.

أخرج مسلم عن جابر بن سمرة قال:سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول:لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة،ثمّ قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي:ما قال؟ قال:قال:كلّهم من قريش. (2)

و أئمة الشيعة الاثنا عشر الذين أشار إليهم النبيّ في كلامه هم:

1.أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (المولود قبل البعثة بعشر سنوات و المستشهَد عام 40 هجري) و المدفون في النجف الأشرف.

ص:565


1- 1) .الصواعق المحرقة:184و 234 ط المحمدية [1]بمصر؛إسعاف الراغبين:109،و غيرهما.
2- 2) .صحيح مسلم:3/6،باب الناس تبع لقريش من كتاب الإمارة.

2.الإمام الحسن بن علي المجتبى (3-50ه.ق) المدفون في البقيع بالمدينة.

3.الإمام الحسين بن علي سيّد الشهداء (4- 61ه.ق) المدفون في كربلاء.

4.الإمام عليُّ بن الحسين بن علي زين العابدين(38- 94ه.ق) المدفون في البقيع.

5.الإمام محمد بن علي باقر العلوم (57- 114 ه.ق) المدفون في البقيع.

6.الإمام جعفر بن محمد الصادق (83- 148 ه.ق) المدفون في البقيع.

7.الإمام موسى بن جعفر الكاظم(128- 183 ه.ق) المدفون في الكاظمية قرب بغداد.

8.الإمام عليّ بن موسى الرضا (148- 203 ه.ق) المدفون في خراسان بإيران.

9.الإمام محمد بن علي الجواد(195- 220ه.ق) المدفون في الكاظمية.

10.الإمام عليُّ بن محمد الهادي(212- 254 ه.ق) المدفون في سامراء بشمال بغداد.

11.الإمام الحسن بن علي العسكري (233-260ه.ق) المدفون في سامراء.

12.الإمام محمد بن الحسن المعروف بالمهديّ،و الحجّة-عجّل اللّه فرجه الشريف-و هو الإمام الثاني عشر،و هو حيٌّ حتى يظهر بأمر اللّه(طبقاً للوعود الواردة في القرآن في سورة النور:54،و سورة التوبة:33 و سورة الفتح:28 و سورة

ص:566

الصف:9) و يقيم الحكومة الإلهيّة على كلّ الكرة الأرضيّة. (1)

و لقد جاءت تفاصيل حياة أئمّة الشيعة الاثني عشر في كتب التاريخ و السيرة و إنّ الإمام الثاني عشر لا يزال حيّاً،و يتولّى منصب الإمامة بإرادة اللّه تعالى.

ثمّ إنّ الشيخ عبد الوهاب الشعراني عقد باباً في كتاب«اليواقيت و الجواهر في بيان عقائد الأكابر»لبيان أشراط الساعة التي أخبر بها الشارع و كلّها تقع قبل قيام الساعة،و عدّ من ذلك خروج المهدي،و قال:و هو من أولاد الإمام الحسن العسكري و مولده عليه السلام ليلة النصف من شعبان سنة 255ه و هو باق إلى أن يجتمع به عيسى ابن مريم عليه السلام فيكون عمره إلى وقتنا هذا و هو سنة 958 ه،706 سنين،ثمّ قال:

عبارة الشيخ محيي الدين في الباب السادس و الستين و ثلاثمائة من الفتوحات هكذا:

و اعلموا أنّه لا بد من خروج المهدي لكن لا يخرج حتّى تمتلئ الأرض جوراً و ظلماً فيملؤها قسطاً و عدلاً،و لو لم يكن من الدنيا إلاّ يوم واحد طوّل اللّه تعالى ذلك اليوم حتّى يلي ذلك الخليفة،و هو من عترة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ولد فاطمة رضي اللّه عنها،جدُّه الحسين بن علي بن أبي طالب و والده حسن العسكري بن الإمام علي النقي (بالنون) ابن محمد التقي (بالتاء) بن الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام زين العابدين علي بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه يواطئ اسمُه

ص:567


1- 1) .قد وقع بعض الاختلاف في تواريخ وفيات و مواليد بعض الأئمّة،و قد ذكرنا أحد الأقوال فمن شاء فليرجع إلى المصادر.

اسمَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يبايعه المسلمون بين الركن و المقام يُشبه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أخلاقه و اللّه تعالى يقول: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .

ثمّ ذكر أوصاف المهدي بقوله:هو،أجسى الجبهة،أقنى الأنف،أسعد الناس به أهل الكوفة،يقسم المال بالسوية،و يعدل في الرعية.... (1)

هذا و إذا رجعنا إلى«الفتوحات المكية»المطبوعة بمصر المحمية التي أعاد طبعها دار صادر في بيروت وجدناها محرفة مبدلة،و إليك نصّ ما جاء فيها:

اعلم أيّدنا اللّه إنّ للّه خليفة يخرج و قد امتلأت الأرض جوراً و ظلماً فيملؤها قسطاً و عدلاً،لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد طوَّل اللّه ذلك اليوم حتّى يلي هذا الخليفة من عترة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من ولد فاطمة يواطئ اسمه اسم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جدّه الحسن بن علي بن أبي طالب،يبايع بين الركن و المقام،يُشبه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في خلقه(بفتح الخاء) و ينزل عنه في الخلق (بضم الخاء) لأنّه لا يكون أحد مثل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أخلاقه و اللّه يقول فيه: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» . (2)

و أنت إذا قارنت ما نقله الشعراني في كتابه و ما هو الموجود حالياً في الفتوحات المكية التي نقلنا نصها،ترى أنّ الكاتب حذف أسماء الأئمة برأسها،كما أنّه حرّف كلمة الحسين بالحسن حيث قال:جدّه الحسن بن علي بن أبي طالب،و كان عليه أن يقول جدّه الحسين،و هذا تحريف في تحريف.

«وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» . (3)

ص:568


1- 1) .الجواهر و اليواقيت:143/2،طبعة عام 1378ه الموافق 1959م.
2- 2) .الفتوحات المكية:327/3. [1]
3- 3) .فاطر:14. [2]

3 تاريخ اليعقوبي

و تحريف حديث الغدير

إنّ أحمد بن أبي يعقوب المشتهر بابن واضح العباسي(المتوفّى290ه) صاحب التاريخ المعروف بتاريخ اليعقوبي ذكر في فصل ما نزل من القرآن بالمدينة قوله:و قد قيل انّ آخر ما نزل عليه «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» و هي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة و كان نزولها يوم النصّ على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بغدير خم. (1)

و لكن جاء في طبعة دار صادر،فقال بعد نقل الآية«هي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة و كان نزولها يوم النفر على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعد ترحم»فقد حرّف لفظين:

1.حرّف«يوم النص»إلى«يوم النفر».

2.حرّف«بغدير خم»إلى بعد ترحم. (2)

«وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» . (3)

ص:569


1- 1) .تاريخ اليعقوبي:35/2، [1]المكتبة الحيدرية،النجف،1383ه-1964م.
2- 2) .تاريخ اليعقوبي:43/2، [2]دار صادر،بيروت.
3- 3) .الكهف:104. [3]

4 الأذكار النووية و طروء التحريف إليها

اشارة

إنّ بعض ما تقدّم من التحريف كان يرجع إلى تحريف الأحاديث و التاريخ إمّا من جانب المؤلِّفين أو من جانب النسّاخ.

و هناك لون آخر من التحريف خارج عن هذا الإطار و هو انّ داخل أصحاب دور النشر في مصر و دمشق و بيروت (1)،عناصر مشبوهة تسعى في تغيير و حذف ما ورد في كتب السلف نزولاً عند رغباتها أو رغبات المؤسسات التي تُموّلها،و هذا خطر كبير يهدّد تراثنا الإسلامي العريق حيث أضحى عرصة لتجوال حفنة من المرتزقة،الذين باعوا دينهم بدنياهم،و إليك نموذجاً من هذا النوع من التحريف.

إنّ الأحاديث الشريفة التي رواها المحدّثون حول زيارة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم على حد تغنينا عن التحقيق في سندها و رواتها بسبب كثرتها و تواترها،و قد سجّلها الحفّاظ من جميع المذاهب الإسلامية في كتبهم و صحاحهم،و هي بمجموعها تدلّ على أنّ زيارة قبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت من المستحبات الثابتة لديهم،و لو أردنا أن نذكر كلّ تلك الأحاديث لطال بنا المقام و نكتفي بذكر واحد منها.

عن عبد اللّه بن عمر:انّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

ص:570


1- 1) .و لعلّ منه ما مرّ من طروء التحريف إلى تاريخ اليعقوبي.

«من زار قبري وجبت له شفاعتي».

جاء هذا الحديث في كتاب«الفقه على المذاهب الأربعة»:590/1،و قد أفتى علماء المذاهب الأربعة وفقاً لهذا الحديث،و للاطّلاع على مصادره راجع كتاب«وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى»ج4،ص 1336.

و ممّا لا شكّ فيه انّ حديثاً يرويه الحفاظ و العلماء منذ منتصف القرن الثاني الهجري حتّى هذا اليوم لا يمكن أن يكون مزوّراً لا أساس له.

إنّ الإمام النووي الدمشقي (631- 676ه) ألّف كتاب«الأذكار النووية»و استعرض فيه زيارة قبر النبي و أذكارها و عقد لها فصلاً كالتالي:

فصل في زيارة قبر رسول اللّه و أذكارها

اعلم أنّه ينبغي لكلّ من حجّ أن يتوجّه إلى زيارة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،سواء أ كان ذلك في طريقه أم لم يكن،فانّ زيارته صلى الله عليه و آله و سلم من أهمّ القربات و أربح المساعي و أفضل الطلبات،فإذا توجّه للزيارة أكثَرَ من الصلاة عليه صلى الله عليه و آله و سلم في طريقه،فإذا وقع بصره على أشجار المدينة و قُراها و ما يعرّف بها،زاد من الصلاة و التسليم عليه صلى الله عليه و آله و سلم،و سأل اللّه تعالى أن ينفعه بزيارته صلى الله عليه و آله و سلم و أن يسعده بها في الدارين.

و ليقل:اللَّهُمَّ افْتَحْ عَليَّ أبْوابَ رَحمَتِكَ وَ ارْزُقْني في زيارَة قَبْرِ نَبِيِّك صلى الله عليه و آله و سلم ما رَزَقْتَهُ أولِياءَكَ وَ أهْل طاعَتِكَ وَ اْغْفِر لي وَ ارْحَمْني يا خَيْرَ مَسْئول. (1)

هذا هو نص الكتاب في الطبعة الأُولى التي حقّق نصوصها و خرّج أحاديثها و علق عليها«محيي الدين متقي»و قام بطبعها دار ابن كثير دمشق-بيروت.

ترى فيها انّ عنوان الفصل هو:

ص:571


1- 1) .الأذكار النووية:333.

1.فصل في زيارة قبر رسول اللّه.

2.و نصّ على انّ المقصد من قطع الفيافي هو زيارة رسول اللّه حيث قال:«ان يتوجّه إلى زيارة رسول اللّه».

3.و نصّ به أيضاً في سؤال الزائر:و سأل اللّه أن ينفعه بزيارته صلى الله عليه و آله و سلم.

4.و ورد النصّ به أيضاً في دعاء الزائر حيث قال:قوله:«و ارزقني في زيارة قبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم».

و لكن يا للأسف نرى تحريفات في طبعة أُخرى قام بتصحيحها عبد القادر الارناءوط و نشرتها دار الهدى،الرياض،عام 1408ه.و إليك نصّ الطبعة:

فصل في زيارة مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم

«اعلم انّه يُستحب لمن أراد زيارة مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يكثر من الصلاة عليه صلى الله عليه و آله و سلم في طريقه،فإذا وقع بصره على أشجار المدينة و حرمها و ما يعرّف بها،زاد من الصلاة و التسليم عليه صلى الله عليه و آله و سلم و سأل اللّه تعالى أن ينفعه بزيارته لمسجده صلى الله عليه و آله و سلم و أن يُسعده بها في الدارين و ليقل:

اللّهمّ افتَحْ عَليَّ أبْواب رَحْمَتِكَ،وَ ارزُقْني فِي زيارَةِ مَسْجِدِ نبيّك صلى الله عليه و آله و سلم ما رَزَقْته أولياءك وَ أهل طاعَتِكَ،و اغفر لي وَ ارحَمْني يا خَيرَ مَسْئول. (1)

فقد غيّر المواضع الأربعة:

1.غير الفصل،إلى زيارة مسجد رسول اللّه.

2.و غيّر المقصود من السفر حيث قال:من أراد زيارة مسجد رسول اللّه.

ص:572


1- 1) .الأذكار النووية:295،نشر دار الهدى،الرياض،الطبعة الثانية،1408،تحقيق عبد القادر الارناءوط.

3.كما حرف سؤال السائل،و قال:أن ينفعه بزيارته لمسجده.

4.حرف دعاء الزائر و قال:في زيارة مسجد نبيّك صلى الله عليه و آله و سلم.

كلّ ذلك لما انّ الوهابية لا تقيم لزيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و لا لآله و لا لأصحابه وزناً على الرغم من أنّها لا تحرمها.

و هناك سبب آخر دعاهم إلى التحريف و هو زعمهم بأنّ شدّ الرحال إلى زيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم حرام،و عنوان الفصل و المضمون الوارد فيه يشير إلى استحباب شدّ الرحال إلى زيارة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.فخان الأمانة الإلهية لنصرة المذهب.

حيا اللّه الأمانة الإسلامية.

«أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ» . (1)

ص:573


1- 1) .البقرة:12. [1]

5 البخاري

و حديث«و هو وليّكم بعدي»

إنّ البخاري و إن ذكر شيئاً من فضائل علي و أهل بيته و أصحابهم،إلاّ أنّ قلمه يرتعش عند ما يصل إلى فضائلهم فيعبث بالحديث مهما أمكن،و إليك نموذجين:

إنّ حديث الولاية،يعني قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّ علي عليه السلام:«علي منّي و أنا من علي،و هو وليّكم من بعدي»من الأحاديث المتضافرة الذي أخرجه غير واحد من أئمّة الصحاح و السنن و حفّاظ الحديث،و قد نقله جمّ غفير من كبار أئمّة الحديث في كتبهم،ربّما يبلغ عددهم حسب ما استخرجه المحقّق المتتبع السيد حامد حسين اللكهنوي(المتوفّى1306ه) في كتابه«عبقات الأنوار»إلى 65 محدثاً و حافظاً،و على رأسهم:

1.سليمان بن داود الطيالسي(المتوفّى204ه).

2.أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن أبي شيبة(المتوفّى 239ه).

3.أحمد بن حنبل(المتوفّى241ه).

4.محمد بن عيسى الترمذي(المتوفّى279ه).

5.أحمد بن شعيب النسائي (المتوفّى303ه).

ص:574

إلى غير ذلك من أئمّة الحفّاظ و المحدّثين (1)،و إليك نصّ الحديث:

1.أخرج النسائي في خصائصه قائلاً:حدثنا واصل بن عبد الأعلى،عن ابن فضيل،عن الأعرج،عن عبد اللّه بن بريدة،عن أبيه،قال:بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى اليمن مع خالد بن الوليد،و بعث علياً على جيش آخر،و قال:إن التقيتما فعليٌّ على الناس،و إن تفرّقتما فكلّ واحدٍ منكما على جنده،فلقينا بني زبيد من أهل اليمن،و ظفر المسلمون على المشركين،فقتلنا المقاتلة و سبينا الذرية،فاصطفى عليّ جاريةً لنفسه من السبي،فكتب بذلك خالد بن الوليد إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أمرني أن أنال منه.قال:فدفعت الكتاب إليه و نلت من عليّ،فتغيّر وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقلت:هذا مكان العائذ،بعثتني مع رجلٍ و ألزمتني بطاعته فبلّغت ما أُرسلت به.فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لي:«لا تقعنَّ يا بريدة في عليّ،فإنّ عليّاً منّي و أنا منه،و هو وليّكم بعدي». (2)

2.و أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس،عن بريدة،قال:غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة،فلمّا قدمتُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكرت عليّاً فتنقّصته فرأيت وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتغيّر،فقال:«يا بريدة أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»،قلت:بلى يا رسول اللّه،قال:«من كنت مولاه فعليّ مولاه». (3)

و ما جاء في الحديث الذي أخرجه النسائي من قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«عليّ منّي و أنا من علي و هو وليكم بعدي»لا ينافي المنقول في مسند أحمد،و لعلّ الرسول جمع بين الكلمتين،أو أنّ الراوي نقل بالمعنى فقال:من كنت مولاه فهذا علي مولاه.

و على كلّ حال فالحديث كان مذيّلاً بما يدلّ على ولايته بعد رحيل

ص:575


1- 1) .لاحظ نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار:51/15-54. [1]
2- 2) .خصائص علي بن أبي طالب:167،تحقيق محمد باقر المحمودي، [2]الطبعة الأُولى-1403ه.
3- 3) .مسند أحمد بن حنبل:347/5. [3]

الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

و يؤيد ذلك انّ الإمام أحمد أخرج الحديث عن عمران بن حصين بالشكل التالي:

3.قال:بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سرية و أمّر عليهم علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) فتعاقد أربعة من أصحاب محمد أن يذكروا أمره لرسول اللّه،قال عمران:و كنّا إذا قدمنا من سفرنا بدأنا برسول اللّه،فسلّمنا عليه،قال:فدخلوا عليه،فقام رجل منهم،فقال يا رسول اللّه:إنّ عليّاً فعل كذا و كذا،فأعرض عنه.

ثمّ نقل قيام الثلاثة الباقين و تكرارهم ذلك القول و إعراض الرسول عنهم،حتى انتهى إلى قوله:فأقبل رسول اللّه على الرابع و قد تغيّر وجهه،فقال:«دعوا عليّاً،إنّ عليّاً مني و أنا منه،و هو وليّ كلّ مؤمن بعدي». (1)

4.و أخرج الترمذي عن عمران بن حصين و نقل الحديث مثل ما نقل أحمد بن حنبل،إلى أن قال:فقام الرابع،فقال مثل ما قالوا،فأقبل إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم-و الغضب يُعرف في وجهه-فقال:«ما تريدون من عليّ! ما تريدون من عليّ! ما تريدون من عليّ! إنّ عليّاً مني و أنا منه و هو ولي كلّ مؤمن بعدي». (2)

ترى أنّ الرواية تنصّ على الولاية الدالّة على أنّه الإمام بعد رحيل الرسول لكن البخاري كعادته أخرج الحديث عن بريدة،فذكر شيئاً من الحديث و حذف بيت القصيد منه،فأخرج الحديث عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه بالنحو التالي:

قال:بعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً إلى خالد ليقبض الخمس و كنت أبغض علياً،و قد اغتسل،فقلت لخالد:أ لا ترى إلى هذا،فلمّا قدمنا على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذكرت ذلك له.

ص:576


1- 1) .مسند أحمد:437/4. [1]
2- 2) .سنن الترمذي:632/5. [2]

فقال:«يا بريدة أتبغض عليّاً؟»فقلت:نعم،قال:«لا تبغضه فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك». (1)

ترى أنّه حذف الفقرة الأخيرة من الحديث التي هي بمنزلة بيت القصيد منه و هي:«انّ علياً منّي و أنا منه،و هو وليّكم بعدي».

و من المؤسِف انّ الشيخين:البخاري و مسلماً لم ينقلا عن علي عليه السلام في صحيحهما إلاّ ثلاثة و أربعين حديثاً (2)،و في الوقت نفسه نقلا عن أبي هريرة ما يناهز ستمائة و سبعة أحاديث (3).و الأوّل باب علم النبي و أوّل من آمن به و لازمه منذ نعومة أظفاره إلى رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و الثاني أسلم سنة سبع،و أدرك من عصر النبوة أربع سنين و قضى سنة منها في البحرين و صاحب النبي قرابة ثلاثة أعوام.

«تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» . (4)

ص:577


1- 1) .صحيح البخاري:163/5،باب بعث علي بن أبي طالب و خالد ابن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع.
2- 2) .الجمع بين الصحيحين للحميدي:157/1-173.
3- 3) .الجمع بين الصحيحين:5/3-322.
4- 4) .النجم:22. [1]

6 البخاري

و حديث«تقتلك الفئة الباغية»

أخرج الفريقان عن غير واحد من الصحابة قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم لعمار:«أبشر تقتلك الفئة الباغية»غير انّ البخاري لعب بالحديث فنقله بصورة بتراء.

أخرج البخاري عن عكرمة-مولى ابن عباس-رضي اللّه عنهما،قال:قال لي ابن عباس و لابنه علي:«انطلقا إلى أبي سعيد،فاسمعا من حديثه،فانطلقنا،فإذا هو في حائطٍ يصلحه،فأخذ رداءه فاحتبى،ثمّ أنشأ يحدثنا حتّى أتى على ذكر بناء المسجد،فقال:كنّا نحمل لبنَةً لَبِنَة،و عمّار لَبِنَتَيْن لبنتين.فرآه النبي صلى الله عليه و آله و سلم،فجعل يَنفضُ التراب عنه و يقول:ويحَ عمّار،يدعوهم إلى الجنّة،و يدعونه إلى النّار.قال:يقول عمار:أعوذ باللّه من الفِتن». (1)

و في رواية له:أنّ ابن عباس قال له و لعليّ بن عبد اللّه:«ائتيا أبا سعيد،فاسمعا من حديثه.قال:فأتيناه،و هو و أخوه في حائط لهما،فسلّمنا.

فلما رآنا جاء فاحتَبى و جلس،و قال:كنّا نَنقل لَبنَ المسجد لَبِنَةً لَبنة.و كان عمّار ينقل لَبنتين لَبنتين.فمرّ به النبي صلى الله عليه و آله و سلم،و مسح عن رأسه الغُبار، و قال:ويح عمّار؛يدعوهم إلى

ص:578


1- 1) .صحيح البخاري،الصلاة:541/1(447).

اللّه،و يدعونه إلى النار.فقال عمّار:أعوذ باللّه من الفتن». (1)

قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين:في هذا الحديث زيادة مشهورة،لم يذكرها البخاري أصلاً من طريقي هذا الحديث،و لعلّها لم تقع إليه فيهما،أو وقعت فحذفها لغرض!!! قصده في ذلك.و أخرجها أبو بكر البُرقاني،و أبو بكر الإسماعيلي قبله.و في هذا الحديث عندهما:«أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:ويحَ عمّار تَقتُلهُ الفِئَة الباغية،يدعوهم إلى الجنة،و يدعونه إلى النار».

قال أبو مسعود الدمشقي في كتابه:لم يذكر البخاري هذه الزيادة،و هي في حديث عبد العزيز بن المختار،و خالد بن عبد اللّه الواسطي و يزيد بن زريع،و محبوب بن الحسن؛و شعبة.كلّهم عن خالد الحذّاء عن عكرمة.و رواه إسحاق عن عبد الوهاب،هكذا.و أمّا حديث عبد الوهاب الذي أخرجه البخاري،دون هذه الزيادة،فلم يقع إلينا من غير حديث البخاري.هذا آخر ما قاله أبو مسعود. (2)

و قال ابن الأثير-بعد نقل كلام الحميدي حسب ما نقلناه -:

قلت أنا:و الذي قرأته في كتاب البخاري من طريق أبي الوقت عبد الأول السجزي رحمه اللّه من النسخة التي قرئت عليه و عليها خطه.أما في متن الكتاب فبحذف الزيادة و قد كتب في الهامش هذه الزيادة،و صحح عليها.و جعلها في جملة الحديث،و أنّها من رواية أبي الوقت هكذا، بإضافتها إلى الحديث.و ذلك في موضعين من الكتاب.أوّلهما:في«باب التعاون في بناء المسجد من كتاب الصلاة»و الثاني:في«باب مسح الغبار عن الرأس في كتاب الجهاد»و ما عدا هذه النسخة،

ص:579


1- 1) .صحيح البخاري،الجهاد:30/6(2813).
2- 2) .الجمع بين الصحيحين:461/2رقم 1794.

فلم أجد الزيادة فيها،كما قاله الحميدي،و من قبله.و اللّه أعلم. (1)

و على أيّ تقدير فقد جاءت الزيادة في الموردين التاليين في النسخ المطبوعة مشيراً بلفظه«لا»،«إلى»انّها غير موجودة في النسخة الأصلية.

1.كتاب الصلاة باب التعاون في بناء المسجد،رقم 447.

2.كتاب الجهاد،باب مسح الغبار،رقم2812،ط دار الفكر.

كما جاء في فتح الباري:430/1 باب التعاون على بناء المسجد.

ص:580


1- 1) .جامع الأُصول:31/10 باب فضائل عمّار.

7 صحيح مسلم

و حديث

«خير نساء العالمين أربع»

أخرج الحاكم في«المستدرك»عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال:قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلاّ ما كان من مريم بنت عمران».قال:هذا حديث صحيح الاسناد و لم يخرجاه.

و قال:و إنّما تفرّد مسلم بإخراج حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:خير نساء العالمين أربع. (1)و لم أجد فيما بأيدينا من نسخ صحيح مسلم أي أثر من هذا الحديث.

ص:581


1- 1) .مستدرك الحاكم:154/3.

8 صحيح مسلم

و حديث

«المهدي و هو من ولد فاطمة»

أخرج المتقي الهندي عن صحيح مسلم و سنن أبي داود قوله صلى الله عليه و آله و سلم:«المهدي من عترتي من ولد فاطمة». (1)

و قال ابن حجر الهيتمي في«الصواعق المحرقة»:«و من ذلك ما أخرجه مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة و البيهقي و آخرون:

«المهدي من عترتي من ولد فاطمة». (2)

و لم نعثر عليه في صحيح مسلم مع الفحص الأكيد.

ص:582


1- 1) .كنز العمال:264/14،رقم 38662.
2- 2) .الصواعق المحرقة:163،ط مكتبة [1]القاهرة،عام 1385.

9 معارف ابن قتيبة

و خبر

«إسقاط فاطمة محسناً»

روى ابن شهرآشوب في فصل«حلية فاطمة و تواريخها(فاطمة) و قال:أولادها:الحسن و الحسين و المحسن،سقط و في معارف القتيبي:انّ محسناً فسد من زخم«قنفذ»العدوي،و زينب و أُمّ كلثوم. (1)

و قال أبو عبد اللّه محمد بن يوسف بن محمد القرشي الكنجي الشافعي المقتول 658ه،في كتاب«كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب»...و زاد على الجمهور و قال:إنّ فاطمه عليها السَّلام أسقطت بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذكراً كان سمّاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم محسناً،و هذا شيء لم يجد عند أحد من أهل النقل إلاّ عبد اللّه بن قتيبة. (2)

و لكن في المطبوع من المعارف:«عند ذكر ولد علي بن أبي طالب»و أمّا محسن بن علي فهلك و هو صغير. (3)

ص:583


1- 1) .المناقب لابن شهرآشوب،طبع بيروت،دار الأضواء،ج407/3،و [1]طبعة قم:358/3.
2- 2) .كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب [2]في فصل ذكر عدد أولاده،ص 372 ط بيروت،عام 1413ه.
3- 3) .المعارف:122، [3]دار الكتب العلمية،بيروت،عام 1407.

10

الصواعق المحرقة

و حديث

«ذكر عليّ عبادة»

إنّ كتاب«الصواعق المحرقة»تأليف أحمد بن حجر الهيتمي المكي(899- 974ه) طبع عام 1312ه في مصر في المطبعة الميمنية، و جاء فيها نفس الحديث في صفحة 74 السطر34.

أخرج الديلمي عن عائشة انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:خير إخوتي عليّ،و خير أعمامي حمزة،ذكر عليّ عبادة».

و لكنّه حرف في الطبعة التي حقّقها عبد الوهاب عبد اللطيف عام 1385ه،و إليك ما جاء في هذه الطبعة:

أخرج الديلمي عن عائشة انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«خير إخوتي عليٌّ،و خير أعمامي حمزة». (1)

ص:584


1- 1) .لاحظ الصفحة 124،السطر الأخير.

11

الصواعق المحرقة

و حديث

«كانت لعلي ثمانية عشر منقبة»

جاء في الطبعة الميمنية،الصفحة 76،السطر14 الحديث التالي:و أخرج ابن عساكر عنه قال:ما نزل في أحد من كتاب اللّه تعالى ما نزل في عليّ.و أخرج منه أيضاً قال:نزل في علي 300 آية.و أخرج الطبراني عنه قال:«كانت لعلي ثمانية عشر منقبة ما كان لأحد من هذه الأُمّة».

و أخرج أبو يعلى عن أبي هريرة...الخ.

و لكنّه حُرّف في الطبعة الثانية التي مرّ الإيعاز إليها،و جاء الحديث فيها صفحة 127،السطر12،بالنحو التالي:أخرج ابن عساكر عنه قال:

ما نزل في أحد من كتاب اللّه تعالى ما نزل في عليّ.و أخرج عنه أيضاً،قال:نزل في علي ثلاثمائة آية.و أخرج أبو يعلى عن أبي هريرة...

الخ.

ترى أنّ قوله:«كانت لعلي ثمانية عشر منقبة ما كان لأحد من هذه الأُمّة»حذف من الأساس.

ص:585

12

اشارة

التحريف في دواوين الشعراء

إنّ للتحريف ألواناً مختلفة و من أقسامها تحريف قصائد شعراء الشيعة في مدائح أئمّة أهل البيت،و ها نحن نذكر في هذه العجالة طروء التحريف على دواوين شعراء الشيعة الذين كان لقصائدهم صدى واسع في العصور الغابرة،و ربما كان لقصيدة منهم أثر ديوان كامل في إثارة العواطف و إنارة العقول و حشد الرأي العام ضد الظالمين.

1.التحريف في ديوان الكميت

و هذه هي قصيدة الشاعر المفلق الكميت (60- 126ه) التي مستهلّها: نفى عن عينك الأرق الهجوعا و همٌّ يمتري منها الدموعا

فقد عاثت في طبعها يد النشر الأمينة على ودائع العلم فنقصت منها شيئاً كثيراً لا يستهان به.

قال العلاّمة الأميني:و قد آن ليد التنقيب أن تميط الستار عن هذه الجنايات المخبئة فانّ المطبوع من القصيدة في ليدن سنة 1904 يتضمن 536 بيتاً،و المشروحة بقلم الأُستاذ محمد شاكر الخياط 560بيتاً،و المشروحة بقلم الأُستاذ

ص:586

الرافعي 458 بيتاً ثمّ ذكر موارد التحريف في هذه الطبعات. (1)

2.التحريف في ديوان حسان

و يقول في حقّ ديوان حسان:إنّ لحسان في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام مدائح جمة غير انّ يد الأمانة لم تقبض عليها يوم مدّت إلى ديوانه، فحرّفت الكلم عن مواضعها،و لعبت بديوان حسان كما لعبت بغيره من الدواوين و الكتب و المعاجم التي أسقطت منها مدائح أهل البيت عليهم السلام و فضائلهم،و الذكريات الحميدة لأتباعهم،كديوان الفرزدق الذي اسقطوا منها ميميته المشهورة في مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام مع إشارة الناشر إليها في مقدمة شرح ديوانه و قد طفحت بذكرها الكتب و المعاجم،و كديوان كميت فانّه حرفت منه أبيات كما زيدت عليه أُخرى، و كديوان أمير الشعراء أبي فراس،و كديوان كشاجم الذي زحزحوا عنه كمية مهمة من مراثي سيدنا الإمام السبط الشهيد سلام اللّه عليه،و كتاب «المعارف»لابن قتيبة الذي زيد فيه ما شاءه الهوى للمحرّف و نقص منه ما يلائم خطّته،بشهادة الكتب الناقلة عنه من بعده،إلى غير هذه من الكتب التي عاثوا فيها لدى النشر أو حرفوها عند النقل. (2)

3.التحريف في ديوان أبي تمام

أبو تمام هو حبيب بن أوس أحد رؤساء الإمامية كما قال الجاحظ (3)،و الأوحد من شيوخ الشيعة في الأدب في العصور المتقدمة، صاحب الديوان

ص:587


1- 1) .الغدير:181/2. [1]
2- 2) .الغدير:42/2. [2]
3- 3) .رجال النجاشي برقم 365.

المعروف و قد جاءت فيه رائيته التي مستهلها. أ ظبية حيث استنّت الكثب العُفر

و جاء فيها قوله: و يوم الغدير استوضح الحقّ أهله بضحياء لا فيها حجاب و لا ستر

و قد نقل النجاشي عن زميله أحمد بن الحسين الغضائري انّه رأى نسخة عتيقة من ديوان شعر أبي تمام كتبت في أيّامه أو قريباً منه و فيها قصيدة يذكر فيها الأئمّة حتّى انتهى إلى أبي جعفر الثاني لأنّه توفّي في أيّامه. (1)

و لكن ليس في ديوانه أي قصيدة تعرب عن ولائه و عقيدته سوى الرائية.

قال المحقّق الأميني:إنّ يد الأمانة في طبع الكتب حذفت تلكم القصائد عند تمثيل الديوان إلى عالم الطباعة كما صنعت مع غيره أيضاً،أو انّها لم تصل إليها عند النشر،أو انّ المطبوع اختصار أبي العلاء المعري.

كيف و يقول النجاشي له شعر في أهل البيت كثير.

هذه نماذج من التحريفات التي عاثت بدواوين شعراء الشيعة و آثارهم.

4. التحريف في«روح المعاني»للآلوسي

و من أقبح التحريفات حذف فصل خاص من الكتاب لأنّه لا يوافق

ص:588


1- 1) .رجال النجاشي برقم365.

عقيدة الناشر،و إن كنت في شكّ من هذا فاقرأ ما نتلوه عليك في صنيعة نعمان الآلوسي ولد علامة العراق الشيخ محمود الآلوسي مؤلف تفسير«روح المعاني».

يقول مؤلّف ردود على شبهات السلفية:إنّ التحريف و حذف الأحاديث شأن السلفية و ديدنهم،إنّ نعمان الآلوسي حرّف تفسير والده المكرم علاّمة العراق الشيخ محمود الآلوسي (تفسير روح المعاني) و لو لا تحريفه لكان التفسير الفريد و جامع الجوامع،و أمّا الحذف و النسخ للعبارات و الأحاديث فحدث عنه و لا حرج:و لقد طبعوا المغني لابن قدامة الحنبلي فحذفوا منه مبحث«الاستغاثة»،و طبعوا شرح صحيح مسلم فسلخوا منه أحاديث الصفات،هذا ما عثرنا عليه من خيانتهم العلمية و قبيح عملهم،و سيحاسبهم اللّه على سوء صنيعهم و هو مطّلع عليه و إن خفى عنّا. (1)

و في ذيل مقالات الكوثري لأحمد خيري قوله في نعمان:و هو ليس بأمين على تفسير والده،و لو قابله أحدهم بالنسخة المحفوظة اليوم بمكتبة راغب پاشا باسطنبول و هي النسخة التي أهداها إلى السلطان عبد الحميد خان لوجد ما يطمئن إليه. (2)

«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا

الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ» . (3)

ص:589


1- 1) .الردود على الشبهات السلفية:249.
2- 2) .تبديد الظلام للكوثري،مكتبة الأندلس بحمص،سوريا.
3- 3) .مريم:59. [1]

13

اشارة

تحريف السنّة

للابتعاد عن الشيعة

إنّ الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع،و نبيها خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم،و كتابه خاتمة الكتب،و شريعته خالدة،فحلال محمد حلال إلى يوم القيامة،و حرامه حرام إلى يوم القيامة،من غير فرق بين الواجب و الحرام و السنن و الطقوس،فليس على المسلم تغيير أحكامه في أيّ مجال من المجالات.

و لكنّا نرى أنّ بعض أهل السنّة رجّحوا ترك السنّة النبوية،و سمّوها البدعة بحجة انّ طائفة من المسلمين ملتزمون بالعمل بها،فلأجل الابتعاد عن التشابه بها أخذوا بالبدعة و تركوا السنّة،و لنذكر نماذج لهذا النوع من البدعة.

1.تسطيح القبر سنّة ترفض لأنّها شعار الشيعة

قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي:

السنّة في القبر،التسطيح.و هو أولى على الراجح من مذهب الشافعي. (1)

و قال أبو حنيفة و مالك و أحمد:التسنيم أولى،لأنّ التسطيح صار شعاراً

ص:590


1- 1) .الدمشقي:رحمة الأُمة في اختلاف الأئمّة:88/1،في هامش الميزان للشعراني.

للشيعة.

و قال الغزالي و الماوردي:إنّ تسطيح القبور هو المشروع،لكن لمّا جعلته الرافضة شعاراً لهم عدلنا عنه إلى التسنيم.

و قال مصنّف«الهداية»من الحنفيّة:إنّ المشروع التختّم في اليمين،و لكن لمّا اتّخذته الرافضة جعلناه في اليسار. (1)

و قال الرافعي:إنّ النبي سطّح قبر ابنه إبراهيم،و عن القاسم بن محمد قال:رأيت قبر النبي و أبي بكر و عمر مسطّحة.

و قال ابن أبي هريرة:إنّ الأفضل الآن العدول من التسطيح إلى التسنيم،لأنّ التسطيح صار شعاراً للروافض،فالأولى مخالفتهم،و صيانة الميت و أهله عن الاتّهام بالبدعة.

و مثله ما حكي عنه أنّ الجهر بالتسمية إذا صار في موضع شعاراً لهم،فالمستحب الإسرار بها مخالفة لهم.و احتجّ له بما روي انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يقوم إذا بدت جنازة،فأخبر انّ اليهود تفعل ذلك،فترك القيام بعد ذلك مخالفة لهم.

و هذا الوجه هو الذي أجاب به في الكتاب و مال إليه الشيخ أبو محمد و تابعه القاضي الروياني لكن الجمهور على أنّ المذهب،الأوّل.

قالوا:و لو تركنا ما ثبت في السنّة،لإطباق بعض المبتدعة عليه،لجرّنا ذلك إلى ترك سنن كثيرة،و إذا اطرد جرينا على الشيء خرج عن أن يعدّ شعاراً للمبتدعة. (2)

ص:591


1- 1) .الغدير:209/10. [1]
2- 2) .العزيز في شرح الوجيز:453/2.
2.الجهر بالبسملة

قال الإمام الرازي:روى البيهقي عن أبي هريرة قال:كان رسول اللّه يُجهر في الصلاة ب«بسم اللّه الرحمن الرحيم»و كان عليٌّ رضى الله عنه يُجهر بالتسمية و قد ثبت بالتواتر،و كان علي بن أبي طالب يقول:يا من ذكره شرف للذاكرين،و مثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه.

و قالت الشيعة:السنّة،هي الجهر بالتسمية،سواء أ كانت في الصلاة الجهرية أو السرية،و جمهور الفقهاء يُخالفونهم-إلى أن قال -:إنّ عليّاً كان يُبالغ في الجهر بالتسمية،فلمّا وصلت الدولة إلى بني أُميّة بالغوا في المنع من الجهر،سعياً في إبطال آثار عليّ رضى الله عنه (1).

3.الصلاة على المؤمن مفرداً سنّة ترفض

قال الزمخشري في تفسير قوله سبحانه: «إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ».

فإن قلت:فما تقول في الصلاة على غيره؟

قلت:القياس جواز الصلاة على كلّ مؤمن لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ» و قوله تعالى: «وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» و قوله:اللّهم صَلّ على آل أبي أوفى،و لكنّ للعلماء تفصيلاً في ذلك و هو أنّها إن كانت على سبيل التبع كقولك:صلى اللّه على النبي و آله فلا كلام فيها،و أمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه،لأنّ ذلك صار شعاراً لذكر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و لأنّه

ص:592


1- 1) .مفاتيح الغيب:205/1-206. [1]

يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض. (1)

و في«فتح الباري»:اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتّفاق على مشروعيته في الحيّ،فقيل يشرع مطلقاً،و قيل بل تبعاً و لا يفرّد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة،و نقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني. (2)

و معنى ذلك انّه لم يجد مبرّراً لترك ما شرّعه الإسلام،إلاّ عمل الرافضة بسنة الإسلام،و لو صحّ ذلك،كان على القائل أن يترك عامة الفرائض و السنن التي يعمل بها الروافض.

و قد عزب عليه انّ الإمام البخاري ذكر في صحيحه عليّاً مقروناً بالسلام عليه في خمسة و ثلاثين موضعاً كما أحصاه بعض المعاصرين.

4.ترك المستحبات إذا صارت شعاراً للشيعة

قال ابن تيمية-عند بيان التشبّه بالروافض-:و من هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات إذا صارت شعاراً لهم،فانّه و إن لم يكن الترك واجباً لذلك،لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم فلا يتميّز السنّي من الرافضي،و مصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم و مخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحبّ. (3)

5.ترك فعل الخيرات و إقامة المآتم يوم عاشوراء

حكى البرسوي عن كتاب«عقد الدرر و اللآلي و فضل الشهور و الليالي،للشيخ شهاب الدين الشهير بالرسام:المطلب الثالث

ص:593


1- 1) .الكشاف:549/2. [1]
2- 2) .فتح الباري:14/11.
3- 3) .منهاج السنّة:143/2.

المستحب في ذلك اليوم-يوم عاشوراء-فعل الخيرات من الصّدقة و الصوم و الذكر و غيرهما،و لا ينبغي للمؤمن أن يتشبّه بيزيد الملعون في بعض الأفعال،و بالشيعة و الروافض و الخوارج أيضاً.يعني لا يجعل ذلك اليوم يوم عيد أو يوم مأتم،فمن اكتحل يوم عاشوراء فقد تشبّه بيزيد الملعون و قومه،و إن كان للاكتحال في ذلك اليوم أصلٌ صحيح،فإنّ ترك السنّة سنّة إذا كان شعاراً لأهل البدعة؛كالتختّم باليمين فانّه في الأصل سنّة،لكنّه لمّا كان شعار أهل البدعة و الظلمة صارت السنّة أن يجعل الخاتم في خنصر اليد اليسري في زماننا كما في شرح القهستاني.

و من قرأ يوم عاشوراء و أوائل المحرم مقتل الحسين رضي اللّه عنه،فقد تشبّه بالروافض،خصوصاً إذا كان بألفاظ مخلّة بالتعظيم لأجل تحزين السامعين،و في كراهية القهستاني:لو أراد ذكر مقتل الحسين ينبغي أن يذكر أوّلاً مقتل سائر الصحابة لئلا يشابه الروافض.

و قال الغزالي:يحرم على الواعظ و غيره رواية مقتل الحسين و حكايته و ما جرى بين الصحابة من التشاجر و التخاصم،فانّه يهيج بغض الصحابة و الطعن فيهم و هم أعلام الدين،و ما وقع بينهم من المنازعات فيحمل على محامل صحيحة،و لعلّ ذلك لخطأ في الاجتهاد لا لطلب الرئاسة و الدنيا كما لا يخفى. (1)

و لكن ما قيمة اجتهاد،برّر سفك دماء آلاف من المسلمين في حرب الجمل و صفين!!

«قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ

أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدى» . (2)

ص:594


1- 1) .روح البيان:142/4. [1]
2- 2) .طه:135. [2]

14

التدليس

و مضاعفاته الخطيرة على التراث

إنّ التحريف بمعنى قلب الحقائق و عرض غير الواقع بصورة الواقع شيمة كثير من المحدّثين و الرواة الذين ملئت أسماؤهم و رواياتهم كتب الرجال و الحديث،و هذا هو الحاكم يذكر أسماء كبار من المحدّثين رووا عن أُناس ما سمعوا منهم و هم يدّعون السماع بظاهر ألفاظهم، يقول:

فليعلم صاحب الحديث انّ الحسن لم يسمع من أبي هريرة و لا من جابر و لا من ابن عمر و لا من ابن عباس شيئاً قطّ،و أنّ الأعمش لم يسمع من أنس،و أنّ الشعبي لم يسمع من صحابي غير أنس،و انّ الشعبي لم يسمع من عائشة و لا من عبد اللّه بن مسعود و لا من أُسامة بن زيد و لا من علي إنّما رآه رؤية و لا من معاذ بن جبل و لا من زيد بن ثابت،و أنّ قتادة لم يسمع من صحابي غير أنس،و أنّ عامة حديث عمرو بن دينار عن الصحابة غير مسموعة،و أنّ عامة حديث مكحول عن الصحابة حوالة،و أنّ ذلك كلّه يخفى إلاّ على الحفاظ للحديث. (1)

إنّ التدليس نوع من الكذب و الدجل يروي الحاكم عن حماد بن زيد انّه

ص:595


1- 1) .معرفة علوم الحديث:111 و 103.

يقول:المدلّس متشبّع بما لم يعط،و ينقل عن عبد الصمد بن عبد الوارث يحدث عن أبيه،قال:التدليس ذلّ،قال سليمان:التدليس و الغش و الغرور و الخداع و الكذب،يحشر يوم تبلى السرائر في نَفاذ واحد. (1)

و قال بعد ذكر أقسام التدليس و أسماء طائفة من المدلّسين،قال ما هذا لفظه:

و قال أبو عبد اللّه:قد ذكرت في هذه الأجناس الستة أنواع التدليس ليتأمّله طالب هذا العلم فيقيس بالأقل على الأكثر و لم استحسن ذكر أسامي من دلّس من أئمّة المسلمين صيانة للحديث و رواته غير انّي أدلّ على جملة يهتدي إليها الباحث عن الأئمّة الذين دلّسوا و الذين تورّعوا عن التدليس. (2)

و مع أنّ الذهبي ممّن يكن للحديث و المحدثين احتراماً خاصاً،و يحاول الستر على كثير من معايبهم و مطاعنهم،و على الرغم من ذلك فقد ألّف كتاباً في الضعفاء جاء فيه بأسماء 7855 راوياً و محدّثاً ضعيفاً لا يحتجّ بحديثه و لا يؤخذ به،و كفى في ذلك الرجوع إلى كتابه«المغني في الضعفاء»تحقيق أبي الزهراء حازم القاضي.

و أمّا خصوص الكذّابين و الوضّاعين الذين صرح أئمة الرجال بوصفهم و كذبهم فحدث عنه و لا حرج،و قد جمع العلاّمة الأميني أسماء 700 كذّاب و وضّاع في موسوعته الغدير. (3)

ينقل ابن حِبّان في كتابه المجروحين من المحدثين و الضعفاء و المتروكين عن

ص:596


1- 1) .معرفة علوم الحديث:111 و 103.
2- 2) .معرفة علوم الحديث:111.
3- 3) .الغدير:208/5-275. [1]

يحيى بن معين قال:كتبنا عن الكذّابين و سجّرنا به التنّور فأخرجنا به خبزاً نضيجاً،و لما توفّي يحيى بن معين في مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و حمل على نعش،فرأيتهم ينادون:معاشر الناس هذا ذاب الكذب عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كذا و كذا عاماً. (1)

و ما ذكرناه هذا هو الذي خرج من قلم هؤلاء عفواً،و لو كانوا بصدد رفع الستر عن الواقع لوقفت انّ الدجل و الكذب و الوضع شيمة كثير من الرواة و المحدّثين،غير انّ حبّ الستر حال دون بيان الحقائق.

قال الذهبي:ثمّ من المعلوم أنّه لا بدّ من صون الراوي و ستره،...و لو فتحت على نفسي تليين هذا الباب لما سلم معي إلاّ القليل،إذ الأكثر لا يدرون ما يروون،و لا يعرفون هذا الشأن،إنّما سُمِّعوا في الصغر،و احتيج إلى علوّ سندهم في الكبر،فالعمدة على من قرأ لهم،و على من أثبت طباق السماع لهم،كما هو مبسوط في علوم الحديث. (2)

و يقول أيضاً في كتاب«معرفة الرواة المتكلم فيهم»:لو فتحنا هذا الباب (جرح الأئمّة) على نفوسنا،لدخل فيه عدّة من الصحابة و التابعين و الأئمّة،فبعض الصحابة كفّر بعضَهم. (3)

فإذا كتم الحاكم النيسابوري أسامي من دلّس من أئمّة المسلمين،صيانة للحديث،و منع صونُ الراوي و ستره،الباحثَ الكبير مثلَ الذهبي، عن الإصحار بالحقيقة،أو تليين هذا الباب-على حدّ تعبيره-فهل تبقى ثقة بالصحاح و المسانيد و السنن؟!

ص:597


1- 1) .المجروحين لابن حبان،ص 56.
2- 2) .ميزان الاعتدال:4/1.
3- 3) .معرفة الرواة:45.

هذا و ذاك ممّا يُلزم الباحث دراسة تاريخ الحديث من جديد،و وضع ضوابط خاصة في تمييز حديث المصطفى و سنّة أبي القاسم صلى الله عليه و آله و سلم عمّا وضع على لسانه.

و إلى اللّه المشتكى

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ

بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ

فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ». (1)

ص:598


1- 1) .الحجرات:6. [1]

6

حوار

اشارة

مع الشيخ

صالح بن عبد اللّه الدرويش

(القاضي بالمحكمة الكبرى بالقطيف)

حول«تأمّلات في نهج البلاغة»

الحمد للّه رب العالمين،و الصلاة و السلام على أشرف خليقته محمد و آله الطاهرين و من اتبعهم و والاهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد؛فإن الحوار عبارة عن تبادل الكلام بين شخصين أو أكثر،إما لغاية إظهار الحق و إبطال الباطل،أو لإثبات قوله،و إبطال قول صاحبه.

فالأوّل هو الجدال بالحق الذي دعا إليه الكتاب العزيز بقوله: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» 1.

و الثاني هو الجدال المنهي عنه في غير واحد من الأحاديث و الآثار،و يطلق عليه«المراء».

ص:599

و قد كان الحوار شعار الأنبياء،و واقع رسالتهم في التبليغ و الدعوة إلى اللّه،و مارسه المسلمون و أصحاب الفكر و النظر منهم-خلا بعض الحنابلة كالبربهاريّ و من تبعه (1)-قروناً متطاولة،و كان شعار الجميع قوله سبحانه: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» 2.

و قد عرض القرآن الكريم جانباً من مناظرات الأنبياء و حواراتهم،كما تكفّلت كتب الحديث و التاريخ بعرض جانب آخر منها،و رائدنا في ممارسة هذا الأسلوب الحضاري هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم الّذي نقل لنا التاريخ حواره مع نصارى نجران و خروجه منه ظافراً،و غير ذلك من الحوارات. (2)

و ممّا لفتَ نظري في هذه الأيّام،هو اطلاعي على كتاب«تأمّلات في نهج البلاغة»،تصدّرته مقدمة لأحد علماء الحنابلة،يدعو فيها إلى تحكيم لغة الحوار،و يتمنى شيوعها في الأوساط الإسلامية بعد غيابها في هذه الأيّام،و يؤكد أن الكتاب الّذي هو بصدد التقديم له أُلِّف على هذا الغرار.

فشكرت اللّه سبحانه على هذه النعمة،بالتزام جانب المرونة من أحد علماء الحنابلة،و كلِّي أمل أن يكون هذا خطوة على طريق الانفتاح على الآخرين،و التخفيف من سوْرة العنف السائدة في كتاباتهم و أقوالهم و أفعالهم.

و قد وضعتُ هذا المؤلّف لمناقشة ما ورد في الكتاب الآنف الذكر من موضوعات،مستعيناً باللغة الهادئة و الحوار البنّاء.

فأقدم كتابي هذا إلى فضيلة الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش و مؤلف

ص:600


1- 1) .راجع كتاب السنة:71،للبربهاويّ.
2- 3) .انظر حواره مع الأنصار في غزوة حنين.

الكتاب-لو كانا شخصين-راجيا إمعان النظر فيما طرحتُ فيه من أفكار،فإن أصبتُ في أنظاري فذلك من فضل ربي و إن أخطأت فالرجاء إرشادي إليه،و قد قال الإمام الصادق عليه السلام:أَحبُّ إخواني من أهدى إليّ عيوبي.

جعفر السبحاني

قم-مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

17 جمادي الأُولى من شهور عام

1423 ه

ص:601

نقطتان جديرتان بالاهتمام

اشارة

في المقدّمة

تمهيد:

اشار فضيلة الشيخ صالح بن عبد اللّه الدرويش في تقديمه للرسالة إلى توحيد الكلمة و وحدة الصف تجاه الاعداء لقوله تعالى: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً».

و قد استوقفني في مقدمته نقطتان جديرتان بالاهتمام نركِّز عليهما على وجه الاختصار:

الأُولى:

الواقع المأساوي للأُمّة الإسلامية من حيث ضعفها و انقساماتها و كثرة ما يحيط بها من فتن و بلايا،و في الوقت نفسه أسباب الضعف كثيرة من أهمها:كثرة الاختلافات في الأُمّة،فنجد الانقسامات في السنّة و الشيعة.و مع هذه الاختلافات قلّ الساعي للإصلاح و جمع الكلمة و وحدة الصف.

الثانية:

انّ الأُمّة الإسلامية تفتقد لغة الحوار و الخطاب و نحن بأمسّ الحاجة إلى هذا الأُسلوب،و الرسالة الّتي بين يدي القارئ أُلّفت بلغة الحوار و الطرح،و قد حرص المؤلّف على الاختصار و سهولة العبارة.

هاتان النقطتان تمثّلان خلاصة ما جاء في مقدّمة فضيلة الشيخ.

و نحن بدورنا نؤيّد موقفه في كلتا النقطتين،و نأسف للوضع المزري

ص:602

للمسلمين و واقعهم المتخلّف،و قلّة المصلحين على هذا الصعيد.هذا من جهة،و من جهة أُخرى نبارك له موقفه الداعي إلى فتح باب الحوار.و مع هذا فلنا مع سماحته وقفة قصيرة في هذا المقام.

على هامش المقدّمة:

اشارة

1-إن ظاهر كلام الشيخ انّه من دعاة الوحدة و بتعبير آخر من دعاة التقريب بين المسلمين و تضييق الشقة بينهم.و هذا الموقف الّذي يتّخذه فضيلة الشيخ يناقض بالتمام موقف إمام مدرسة الوهابيّة:محمد بن عبد الوهاب (1115-1206 ه) في كتابه«كشف الشبهات»،فإنّه - سامحه اللّه-قد كفّر فيه المسلمين قاطبة إلّا من التفّ حوله من الأعراب الذين شاركوا معه في سفك دماء الأبرياء و نهب أموال القبائل المجاورة، ففضيلة الشيخ إذن بين أحد أمرين:

إمّا أن يرفع راية الإصلاح و التقريب بين المسلمين عملا بقوله سبحانه: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» و يرفض نهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب بضرس قاطع،و إمّا أن يتّخذه قدوة و سيفاً بتّاراً على رقاب المخالفين من الشيعة و السنّة،ليخلو الميدان لأتباعه،و يكافح كلّ دعوة ترفع لواء التقريب بين المذاهب.

2-ما ذكره فضيلة الشيخ من غياب لغة الحوار أمر لا غبار عليه،و لكن الذي أُلْفِتُ إليه نظره السامي هو أنَّ الشيعة قد فتحت هذا الباب على مصراعيه و آية ذلك كتاب«المراجعات»الّذي يمثّل حواراً بنّاءً بين علمين كبيرين من أعلام الأُمّة.أحدهما من الشيعة و الآخر من السنّة - رحمهما اللّه-.

و قد ترك الحوار نتائج بنّاءة اعترف بها كلّ من طالع الكتاب و عرف صدق نوايا المتحاورين و حرصهما على جمع الكلمة،لكن الرقابة حالت دون انتشار هذا

ص:603

النوع من الكتب في الأوساط السنّية لا سيّما في المملكة العربية السعودية،و مع ذلك فهل تبقى فائدة للحوار؟!

و مهما يكن من أمر فنحن نزولاً عند رغبة الشيخ نذكر مضامين الكتاب بأوجز العبارات و نناقشها بلغة هادئة.نبتدئ بكلام الشيخ ثمّ نعقبه بكلامنا.

و الرسالة و إن لم تكن بقلم الشيخ بحسب الظاهر،و لكن التقديم لها حاك عن تأييده الضمني للأفكار و المضامين المطروحة فيها،فكأنّ الشيخ نطق بها بلسان الحال لا بلسان المقال،و لأجل ذلك اتّخذناه طرفاً للحوار،و اللّه من وراء القصد.

ص:604

1 أوهام حول«نهج البلاغة»

يقول الشيخ:

قال بعض علماء أهل السنّة عن«نهج البلاغة»:«...ألَّفه لهم الشريف الرضي و أعانه عليه أخوه المرتضى،و طريقتهما في تأليفه أن يعمدا إلى الخطبة القصيرة المأثورة عن أمير المؤمنين فيزيدان عليها...و انّ الصحيح من كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة قد يبلغ عشره أو نصف عشرة،و الباقي من كلام الرضي و المرتضى (1).و قيل أيضاً:إنّ الّذي ألّفه هو الشريف المرتضى المتوفّى سنة (436 ه).

فبالرغم من هذه الشقة البعيدة من السنين بينهما و بين علي عليه السلام إلّا أنّهما يرويان عنه مباشرة بدون إسناد.

و قد انتهج مثل ذلك،صاحب الكتاب المسمّى«مستدرك نهج البلاغة»؟! فكيف لهذا المعاصر (2)أيضاً أن يروي عن علي عليه السلام الّذي عاش في القرن الأوّل الهجري و هو قد عاش في القرن الرابع عشر بدون ذكر المصادر أو الاسناد؟! و ما يدرينا لعلّه بعد سنين أو قرون من يأتي و يروي عن علي عليه السلام و بالطريقة نفسها (3).

ص:605


1- 1) .مختصر التحفة الاثني عشرية:شاه عبد العزيز الدهلوي:58.
2- 2) .هو الهادي بن عباس كاشف الغطاء (1289-1361 ه).
3- 3) .تأمّلات في كتاب نهج البلاغة:9.
المناقشة:
اشارة

إنّ كلام الشيخ يدور على محاور ثلاثة:

الأوّل:انّ الشريف الرضي هو الذي أبدع نهج البلاغة و أعانه عليه أخوه المرتضى،بل قيل إنّ المؤلّف هو الشريف المرتضى.

الثاني:كيف يروي الشريف الرضي عن علي عليه السلام مباشرة بلا اسناد مع وجود شقة بعيدة بينه و بين علي؟!

الثالث:قد انتهج مؤلّف«مستدرك نهج البلاغة»ذلك المنهج و هو من أبناء القرن الرابع عشر.

و ها نحن نأخذ بمناقشة المحاور واحداً بعد الآخر.

1.إنّ الشريف الرضي هو الجامع لا المنشئ

إنّ نهج البلاغة اسم وضعه الشريف الرضي لكتابٍ جمع فيه المختار من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه،و جعله يدور على أقطاب ثلاثة:

الخطب و المواعظ،و العهود و الرسائل،و الحكم و الآداب.و قد بيّن ذلك الرضي نفسه في مقدّمة الكتاب و قال:«علماً بأنّ ذلك يتضمّن من عجائب البلاغة و غرائب الفصاحة و ثواقب الكلم الدينية و الدنيوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام و لا مجموع الأطراف في كتاب. (1)

و لم يشكّ أحد من أعلام الفكر و جهابذة العلم أنّ الرضي هو الجامع لكلمات أمير المؤمنين عليه السلام.

و ليس الشريف الرضي قدس سره أوّل و آخر من جمع كلام الإمام علي عليه السلام

ص:606


1- 1) .نهج البلاغة، [1]المقدّمة.

في المحاور الثلاثة،بل سبقته أُمّة كبيرة في ذلك المضمار،كما لحقته أُمّة أُخرى.

هذا هو المسعودي (المتوفّى 346 ه) يقول:و الّذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة و نيف و ثمانون خطبة (1).

و لأجل إيقاف القارئ على العناية البالغة بجمع كلام أمير المؤمنين عليه السلام قبل صدور نهج البلاغة،نورد-على سبيل المثال لا الحصر - أسماء مَن تصدّوا لذلك،و هم:

- خطب علي؛لأبي إسحاق إبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي المفسر من رجال القرن الثامن (2).

- كتاب الخطب؛لأبي إسحاق إبراهيم بن سليمان بن عبد اللّه بن خالد النهمي-نسبة الى منهم،بطن من همدان-الكوفي الخزاز،و له مقتل أمير المؤمنين من رجال القرن الثاني (3).

- كتاب رسائل علي و حروبه؛لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي الكوفي (المتوفّى 283 ه)،و له كتاب كلام علي في الشورى،و له كتاب بيعة أمير المؤمنين،و له كتاب مقتل أمير المؤمنين (ذكرها الطوسي) (4).

- خطب أمير المؤمنين؛لأبي يعقوب إسماعيل بن مهران بن محمد السكوني الكوفي،المتوفّى بعد سنة 148 ه (ذكره النجاشي و الطوسي) (5).

- خطب أمير المؤمنين على المنابر في الجُمَع و الأعياد و غيرها؛لزيد بن وهب الجهني الكوفي،المتوفّى سنة 96 ه.(ذكرها الطوسي) (6).

ص:607


1- 1) .مروج الذهب:431/2. [1]
2- 2) .رجال النجاشي:15،الفهرست:35. [2]
3- 3) .رجال النجاشي:18،الفهرست:38. [3]
4- 4) .الفهرست:36. [4]
5- 5) .رجال النجاشي:26؛الفهرست:46 و 52. [5]
6- 6) .الفهرست:130. [6]

- خطب أمير المؤمنين؛لأبي الخير صالح بن أبي حمّاد الرازي،المتوفّى بعد سنة 214 ه،من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام.(ذكره النجاشي) (1).

- خطب عليّ؛لأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي الأزدي البصري المتوفّى سنة 332 ه،و له كتاب شعر علي، و له كتاب ذكر كلام عليّ في الملاحم،و له كتاب قول علي في الشورى،و له كتاب ما كان بين علي و عثمان من الكلام،و له كتاب الأدب عن عليّ، و كتب أُخرى فيها آثار الإمام عليه السلام:رسائل علي،و مواعظ علي،و خطب عليّ.(ذكرها النجاشي) (2).

- خطب أمير المؤمنين؛لأبي بشر (أبي محمد) مسعدة بن صدقة العبدي الكوفي،الراوي عن الإمام الكاظم عليه السلام،المتوفّى سنة 183 ه.

(ذكره النجاشي) (3).

- خطب و كتب أمير المؤمنين عليّ عليه السلام؛لأبي المفضل نصر بن مزاحم المنقري الكوفي العطار،المتوفّى سنة 212 ه،(ذكره النجاشي) (4).

- خطب عليّ عليه السلام؛لأبي منذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي،المتوفّى سنة 206 ه،كان والده محمد من أصحاب الإمام الباقر و الصادق عليهما السلام،و له تفسير القرآن،توفّي سنة 146 ه،و جدّه السائب،و أخوه عبيد و عبد الرحمن،و أبوهم بشر شهد الجمل و صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام.(ذكره النجاشي) (5).

و قد أنصف الأستاذ علي العرشي الحنفي في«استناد نهج البلاغة»بقوله:«ليس بخافٍ على أبناء العلم و المولعين به أنّ معظم محتويات نهج البلاغة توجد في كتب المتقدّمين و لو لم يذكرها الشريف الرضي،و لو لم يعر بغداد ما عراها من

ص:608


1- 1) .رجال النجاشي:198.
2- 2) .رجال النجاشي:240-242.
3- 3) .رجال النجاشي:415.
4- 4) .رجال النجاشي:428.
5- 5) .رجال النجاشي:434-435؛و فهرست ابن النديم:1406. [1]

الدمار على يد التتر،و لو بقيت خزانة الكتب الثمينة التي أحرقها الجهلاء لعثرنا على مرجع كلّ مقولة مندرجة في نهج البلاغة» (1).

و أمّا ما أُلّف بعد نهج البلاغة في خطب الإمام عليه السلام و رسائله و كلمه،فحدّث عنه و لا حرج.و لسنا في حاجة إلى ذكر أسمائهم و كتبهم،فقد تكفّلت بعض المصادر بإيراد ذلك،فراجعها (2).

و قد اشتهر من بين هذه الكتب كتاب نهج البلاغة،لأنّ جامعه كان صائغاً يعرف الذهب الخالص من غيره.

نعم،من أوائل من بذر بذرة التشكيك في«نهج البلاغة»و فيمن جمعه هو ابن خلكان (608-681 ه)،حيث قال عند ترجمة السيد المرتضى:

«و قد اختلف الناس في كتاب (نهج البلاغة) المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب-رضى اللّه عنه-هل هو جَمْعه أم جمع أخيه الرضي؟ و قد قيل:إنّه ليس من كلام علي،و إنّما الذي جمعه و نسبه اليه هو الذي وضعه،و اللّه أعلم (3).

أقول: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ» إنّ ابن خلّكان قد تبع الظن و بذر بذرة التشكيك و لم يأت على ذلك بأي دليل،و أعجب من ذلك أنه نقل اختلاف الناس فيمن هو الجامع أو المؤلّف هل هو السيد المرتضى أو الرضي؟ مع أنّه لم يختلف اثنان إلى عصر ابن خلكان في أنّ الجامع هو الرضي و قد صرح به في غير واحد من آثاره (4).

ص:609


1- 1) .استناد نهج البلاغة:20.
2- 2) .ارشاد المؤمنين إلى معرفة نهج البلاغة المبين:215/1-216،و مصادر نهج البلاغة و أسانيده:51/1-65. [1]
3- 3) .وفيات الاعيان:3/3. [2]
4- 4) .لاحظ المجازات النبوية:40 و حقائق التأويل:167.و كلاهما من تأليفات الرضي.
ابن خلّكان و نزعته الأُموية:

إنّ من يحمل نزعة أموية و يكون مغرَماً بشعر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان،لا يستضيء بنور نهج البلاغة،بل تحمله نزعاته إلى بذر الشك فيه،كيف و هو يصف نفسه بأنّه أوّل من جمع شعر يزيد بن معاوية و اعتنى به و هو صغير الحجم في ثلاثة كراريس؟! ثمّ قال:و كنت حفظت جميع ديوان يزيد لشدة غرامي به سنة 633 ه بمدينة دمشق و عرفت صحيحه من المنسوب إليه.

و كان ابن خلّكان مستهزءاً بالقيم الأخلاقية،حيث ابتلي في أواخر أيامه بحب أحد أولاد الملوك،و هو مسعود بن الملك المظفر،حتى أنّ الغلام زاره في بعض الأيام فبسط له ابن خلكان الطرحة (1)و قال له:ما عندي أعزّ من هذا تطأ عليه و لمّا فشا أمرهما،و علم به أهله،منعوه من الركوب إليه،فقال ابن خلكان في ذلك أشعاراً ذكر بعضها ابن شاكر في (فوات الوفيات) و قد شغفه حبّه،و تيّمه هواه حتى امتنع من النوم فكان يدور الليل كلّه،و يكرر قول ابن سكرة الهاشمي: أنا و اللّه هالك

إلى أن يصبح على هذه الحال،و يروى أنّه مات و هو ينشدهما،و كان ذلك آخر ما نطق به (2).

قل لنا يا صاحب الفضيلة أي الرجلين أحقّ بالاتّباع؟ هل هذا الرجل الذي تعرّفنا عليه عن كثب،أو السيد الرضي الذي يعرّفه الثعالبي في اليتيمة

ص:610


1- 1) .الطرحة هي الطيلسان و هو كساء أخضر يلبسه القضاة و المشايخ يوم ذاك.
2- 2) .فوات الوفيات:101/1 و 102.

بقوله:هو اليوم أبدع أبناء الزَّمان،و أنجب سادة العراق،يتحلّى مع محتده الشريف،و مفخره المنيف،بأدبٍ ظاهرٍ،و فضلٍ باهرٍ و حظٍّ من جميع المحاسن وافر. (1)

و يعرّفه ابن الجوزي بقوله:كان الرَّضي نقيب الطالبيِّين ببغداد حفظ القرآن في مدَّة يسيرة بعد أن جاوز ثلاثين سنة و عرف من الفقه و الفرائض طرفاً قويّاً و كان عالماً فاضلاً و شاعراً مترسِّلاً،عفيفاً عالي الهمَّة متديِّناً. (2)

إلى غير ذلك من كلمات الثناء التي يضيق المقام بنقل قليل منها.

أضف إلى ذلك انّه لو كانت هذه الخطب و الرسائل و الكلم من منشآت الرضي فلما ذا نسبها إلى الإمام أمير المؤمنين،بل كان الأولى أن ينسبها إلى نفسه فيما يصلح أن يكون راجعاً إليه كخطبه في التوحيد و الأخلاق و السياسة و الآداب.

ليس في النهج دخيل

إنّ كلام صاحب الفضيلة ربّما يعرب أن في«نهج البلاغة»دخيلاً،حيث نقل عن عبد العزيز الدهلوي أن الصحيح من كلام أمير المؤمنين قد يبلغ عشره أو نصف عشرة و الباقي من كلام الرضيّ و المرتضى.

قد عرفت أنّ ابن خلّكان نسب الجميع إلى الشريفين،و هذا القائل نسب ما وراء العشر أو نصف العشر إليهما.

أقول:إنّ الدسّ في الخطب البليغة الّتي هي في أقصى مراتب الفصاحة و المحتوية على كنوز علوم الحكمة و المعرفة ليس كالدسّ و الإدخال في الحديث

ص:611


1- 1) .ديوان الشريف الرضي:42/2. [1]
2- 2) .المنتظم:115/15 برقم 3065. [2]

و الرواية،و لا يتمكن من هذا الأمر كلّ من عرف اللغة العربية و مارس الأدب و الشعر.

ثمّ إن هذا الدسّ إمّا أن يكون من الشريفين أو من غيرهما،و كلا الاحتمالين باطلان جدّاً،أمّا الأوّل،فيكفي في ذلك ما ذكره ابن الخشّاب، في ردّ من زعم أن إحدى الخطب منحولة،فقال:لا و اللّه و إنّي لأعلم أنّها كلامه (الإمام)،كما أعلم أنّك مصدِّق.قال:فقلت له:إنّ كثيراً من

الناس يقولون إنّها من كلام الرضيّ؛فقال:أنّى للرضيّ و لغير الرضيّ هذا النفس و هذا الاسلوب؟! قد وقفنا على رسائل الرضيّ،و عرفنا طريقته و فنّه في الكلام المنثور،و ما يقع مع هذا الكلام في خلّ و لا خمر (1).

و أفاض ابن أبي الحديد في بيان هذا المعنى،فقال:لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه،و الأوّل باطل بالضرورة لأنّا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام...و الثاني يدلّ على ما قلناه،لأنّ من قد أنس بالكلام و الخطابة،و شدا طرفاً من علم البيان،و صار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرّق بين الكلام الركيك و الفصيح،و بين الفصيح و الأفصح،و بين الأصيل و المولّد،و إذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط،فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين و يميّز بين الطريقتين...و أنت إذا تأملتَ نهج البلاغة وجدته ماءً واحداً و نَفَساً واحداً و أسلوباً واحداً،كالجسم البسيط الّذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية. (2)

و أمّا الثاني أي أن يكون الدّسّ من جانب غيرهما،فهو من المحالات العاديّة،إذ لا نعرف في التاريخ شيعياً قبل زمن الشريف أو في عصره بلغ في

ص:612


1- 1) .شرح نهج البلاغة:205/1.
2- 2) .شرح نهج البلاغة:128/10.

الفصاحة و البلاغة شأواً يقتدر به أن يساجل أمير المؤمنين عليه السلام في فصاحته،و يأتي بمثل كلامه و يُدخله فيه،و لو كان في الشيعة أو في الصوفية من لديه هذه القدرة لاشتهر أمره و عُرِف خبره و لعدّ من أعاظم الخطباء و أكابر الحكماء.

مصادر نهج البلاغة

إن الشريف الرضي ذكر الخطب و الرسائل و الكلم القصار مجرّدة عن المصادر و الأسانيد،و ذلك للغرض الّذي كان يتوّخاه و هو أن يخرج للناس جانباً من كلام أمير المؤمنين عليه السلام الّذي يتضمن من عجائب البلاغة و غرائب الفصاحة و جواهر العربية و ثواقب الكلم الدينية و الدنيويّة ما لا يوجد مجتمعاً في كلام و لا مجموع الاطراف في كتاب (1).

و مع ذلك فإن جميع ما نقله الشريف الرضيّ،موجود في الكتب المؤلفة قبل الرضيّ،فالمصادر الّتي يجد الباحث مجموع النهج فيها، موجودة الآن و متوفّرة،و هي على أقسام:

1-ما ألّفت قبل سنة أربعمائة الّتي هي عام صدور نهج البلاغة.

2-ما ألِّفت بعد زمن الشريف و لكن روت كلام الإمام بأسانيد متصلة لم تمرّ في طريقها على الرضي و لا على كتابه.

3-كتب صدرت بعد الرضيّ و لكنها نقلت كلام الإمام بصورة تختلف عمّا في النهج.

و قد وفّق اللّه سبحانه العالم المتتبع الموفق السيد عبد الزهراء لاستخراج عامّة مصادر نهج البلاغة من تلك المصادر المتوفّرة و قد بلغ عددها حسب ما ذكره

ص:613


1- 1) .مقدمة نهج البلاغة. [1]

إلى 114 مضافاً إلى ما ذكره الرضيّ من المصادر،و مع هذا فهل يصحّ لباحث أن يشكّ في نهج البلاغة ؟ (1)و ليس يصحّ في الافهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

***

المحور الثاني:كيف يروي الشريف عن علي عليه السلام مباشرة؟

هذا هو المحور الثاني من كلام فضيلة الشيخ و هو أنه يتعجب من رواية الرضيّ الّذي ولد عام 359 ه و توفّي عام 406 ه عن أمير المؤمنين عليه السلام الّذي توفّي عام 40 ه ؟

إنّ كتاب«نهج البلاغة»و ما أدراك ما نهج البلاغة-دونه أكثر المصادر شأناً و استعرضته الافكار و نخبة الآراء-،و قد أظهره الشريف في عصر ازدهرت فيه الآداب،و نبغ النوابغ،و أنتج للأُمّة العربية أعظم ثروة علمية.فهو كان على يقين من صدور هذه الخطب عن إمام الفصاحة و البلاغة،و كانت المصادر الدالة على صدورها عن الإمام عليه السلام متوفّرة،فلأجل ذلك لم يكن يشك فيها ذو مسكة،فلأجل ذلك حذف المصادر و أتى بلبّ اللباب،فلو لم يكن على يقين منه و ثقة به،لما حذف الأسانيد و المصادر.

و ممّا يؤيد ذلك أنه يذكر لخصوص بعض الخطب و الكتب و الكلم القصار مصدرها،و ذلك فيما لم تثبت عنده نسبته إلى أمير المؤمنين عليه السلام بخلاف غيره فانّه كان على ثقة منه و يقين،فلم يكن محتاجاً إلى ذكر مصدر له،تكون العهدة عليه في النقل و النسبة،و كان هذا إحدى السنن الدارجة بين القدماء في التأليف.

ص:614


1- 1) .مصادر نهج البلاغة:29-41.

و ها نحن نذكر بعض المصادر الّتي أشار إليها الرضي في ذيل بعض الخطب و الرسائل و الكلم:

- كتاب البيان و التبيين لعمرو بن بحر الجاحظ.

- كتاب المقتضب للمبرد في باب اللفظ بالحروف.

- كتاب المغازي لسعيد بن يحيى الأموي.

- كتاب الجمل للواقدي.

- كتاب المقامات في مناقب أمير المؤمنين لأبي جعفر الاسكافي.

- تاريخ ابن جرير الطبري.

- حكاية أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام.

- رواية اليماني عن ابن قتيبة.

- ما وجد بخط هشام بن الكلبي.

- خبر ضرار بن حمزة الضبابي.

- رواية أبي جحفة.

- حكاية ثعلب.

3-مؤلّف مستدرك نهج البلاغة يروي عن علي عليه السلام مباشرة

هذا هو المحور الثالث في كلام الشيخ،يتعجّب من عمل الشيخ هادي كاشف الغطاء الّذي يروي عن علي مباشرة،و لكن التعجب في غير محلّه لأنّه ألّفه على منوال نهج البلاغة مرتّباً كتابه على الأبواب الثلاثة.ففضيلة الشيخ يتعجّب كيف يروي المؤلّف الّذي عاش في

ص:615

القرن الرابع عشر عن الإمام الّذي عاش في القرن الأوّل؟! و لكن الشيخ لم يقرأ مقدّمة الكتاب و لو قرأها لما تفوّه بذلك!! فإنه صرّح في مقدّمة كتابه أنّه ألّف هذا الكتاب ناهجاً منهج السيد الشريف،جرياً على سنته،لأنّه-كما يقول-قدوتي في هذا المشروع الجليل و أُسوتي في هذا العمل الصالح...الخ.

ص:616

2 اين النص الالهي لعلي في نهج البلاغة

يقول الشيخ:

فبالرغم من مكانة هذا الكتاب عند الشيعة و المكانة الّتي يُعطونها لعلي لكن النهج خالٍ عن التنصيص بالإمامة،فلو كان الإمام علي منصوصاً من جانب اللّه سبحانه لاستدلّ به الإمام في خطبه و رسائله.

المناقشة:

يبدو أن فضيلة الشيخ لم يمعن النظر في«نهج البلاغة»،أو لم يقرأ منه إلّا صحائف قليلة،و لو طالع الكتاب برمّته لما تسرّع في هذا الحكم،فإنّ في خطب الإمام احتجاجاً على إمامته و إمامة أهل البيت عليهم السلام بالوصاية،و نحن نذكر فقرات من خطبه و كلماته في مواطن مختلفة:

1-[يقول في حق آل النبي:لا يُقاسُ بآل محمد من هذه الأُمّة أحد،و لا يسوَّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً،هم أساس الدين و عماد اليقين.إليهم يَفيء الغالي،و بهم يلحق التالي،و لهم خصائص حق الولاية،و فيهم الوصية و الوراثة.الآن إذ رجع الحق إلى أهله و نُقل إلى منتقله (1).

ص:617


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 2،ط عبده. [1]

فقوله:«فيهم الوصية»دليل على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أوصى بخلافتهم و إمامتهم،كما أنّ قوله«فيهم الوراثة»دليل على ميراث المال، و يا للأسف فإن الأُمّة-لا كلّها-تركت كلا الأمرين وراء ظهرها.و الدليل على أنّ المراد من الوصاية هو الخلافة،قوله في ذيل الخطبة«الآن إذ رجع الحق إلى أهله و نقل إلى منتقله»فما هو المراد من الحق الّذي كان خارجاً ثمّ رجع إلى أهله؟ أ ليس هو الإمامة و الخلافة الّتي غُيِّب عنها الإمام طيلة 25 سنة ثمّ رجعت إليه بعد تلك الفترة؟

2-أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا،كذبوا بغياً علينا أن رفعنا اللّه و وضعهم و أعطانا و حرمهم و أدخلنا و أخرجهم،بنا يُستعطى الهدى و يُستجلى العمى.إنّ الأئمة من قريش غُرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم و لا تصلح الولاة من غيرهم. (1)

و أيّة كلمة أوضح من قوله«إن الأئمة من قريش»؟ و بما أن قريشاً كانت ذات بطون،حدّد الإمام البطن الّذي غُرست فيه الإمامة بقوله:

«غرسوا في هذا البطن من هاشم».

و فيه تصريح بأنّ الإمامة لا تصلح إلّا في قريش من بطن هاشم خاصة،و لم يدّع أحد من بني هاشم الإمامة إلّا أمير المؤمنين عليه السلام.

و لمّا كان هذا الكلام صريحاً في التنصيص على الإمامة لم يجد ابن أبي الحديد شارح كتاب نهج البلاغة بدّاً من الإذعان به،حيث قال:

و إنْ صحّ أن عليّاً عليه السلام قاله،قلتُ كما قال،لأنّه ثبت عندي أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال:«إنّه مع الحق و إن الحق يدور معه حيثما دار» (2).

ص:618


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة 14. [1]
2- 2) .شرح نهج البلاغة:88/9.

3-فو اللّه ما زلت مدفوعاً عن حقّي مستأثراً عليّ،منذ قبضَ اللّه نبيه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى يوم الناس هذا (1).

ما هو الحق الّذي استأثره الناس على علي عليه السلام منذ أن قبض اللّه نبيه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى يوم الناس هذا؟ فلو كان المراد من الحق،هو الحق الناتج عن بيعة الناس فلم يكن هناك أيّة بيعة عامّة لعلي يوم ذاك حتّى يكون الإمام ذا حق من تلك الجهة،فيتعيّن أن يكون هو الحق الّذي حبا اللّه به علياً في غير واحد من المواضع،كحديث يوم الدار،و غزوة خيبر،و غزوة تبوك،و غدير خم إذ نصّبه إماماً بمرأى و مسمع جموع غفيرة من الناس.

إنّ الإمام يذكر في هذه الخطبة الّتي أخذنا منها ذلك المقطع،عصيان طلحة و الزبير عليه و هو يضرب بالمقبل إلى الحق،المدبر عنه،ثمّ خروجهما يقول:ليس هذا أوّل مرة هُضم فيها حقه،بل هُضمَ منذ أن قبض نبيه صلى الله عليه و آله و سلم.

4-و قد قال قائل:إنّك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص،فقلت:بل أنتم و اللّه لأحرص و أبعد،و أنا أخصّ و أقرب،و إنما طلبت حقاً لي و أنتم تحولون بيني و بينه،و تضربون وجهي دونه،فلمّا قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين،هبَّ كأنه بُهت لا يدري ما يجيبني به.

اللهم إني استعينك على قريش و من أعانهم؟ فإنهم قطعُوا رحمي و صغّروا عظيم منزلتي،و أجمعوا على منازعتي أمراً هُوَ لي،ثمّ قالوا:أ لا إنَّ في الحق أن تأخذه،و في الحقّ أن تتركه (2).

إنّ الإمام يذكر في هذه الخطبة ما جرى في يوم السقيفة،حيث قال له أبو

ص:619


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة 5. [1]
2- 2) .نهج البلاغة،الخطبة 167،ط عبده. [2]

عبيدة بن الجراح:إنك على هذا الأمر لحريص،فأجابه الإمام بقوله:«بل أنتم و اللّه لأحرص و أبعد،و أنا أخصّ و أقرب».

ثمّ يقول«و إنما طلبت حقاً لي و أنتم تحولون بيني و بينه و تضربون وجهي دونه»،فما هو الحق الّذي كان الإمام يطلبه و أصحاب السقيفة يحولون بينه و بينه و يضربون وجهه دونه؟! أ ليس هو التنصيص من اللّه سبحانه عن طريق نبيه على خلافته و قيادته،و إلّا لم يكن هناك حق حتّى يطلبه علي عليه السلام،بل كان عليه أن يصبر حتّى يتم أمر البيعة فعندئذ يتبيّن صاحب الحق عن غيره.

هذا غيض من فيض ممّا صرح به الإمام على خلافته و إمامته بالحق الثابت له،و لو أنّ فضيلة الشيخ يتأمّل هذه الفقرات و غيرها لأذعن بأنّ الإمام يعرِّف نفسه وصياً للرسول في أمر الخلافة،و إماماً للمسلمين بعد رحيل الرسول،و كونه ذا حق ثابت و قد حيل بينه و بين حقه،و ها نحن نذكر مقاطع أُخرى على وجه الإيجاز،و ربّما سبق ذكره في بعض ما تقدم أيضاً تاركين التفصيل إلى وقت آخر.

قال ابن أبي الحديد:و اعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنه عليه السلام بنحو من هذا القول،نحو قوله:«ما زلت مظلوماً منذ قبض اللّه رسوله حتّى يوم الناس هذا».

و قوله:«اللّهم أخز قريشاً،فإنّها منعتني حقي،و غصبتني أمري».

و قوله:«فجزى قريشاً عنِّي الجوازي،فإنّهم ظلموني حقي،و اغتصبوني سلطان ابن أُمّي».

و قوله،و قد سمع صارخاً ينادي:أنا مظلوم،فقال:«هلمّ فلنصرخ معاً،فإنّي ما زلت مظلوماً».

و قوله:«و انه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى».

و قوله:«أرى تراثي نهبا».

ص:620

و قوله:«أصغيا بإنائنا،و حَمَلا الناسَ على رقابنا».

و قوله:«إنّ لنا حقاً إن نُعْطَه نأخذه،و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السُّرى».

و قوله:«ما زلت مستأثراً عليّ،مدفوعاً عمّا أستحقه و استوجبه». (1)

و لعلّ هذا المقدار يكفي في إقناع الشيخ و من على طريقته بأنّ الإمام احتجّ على إمامته و خلافته في مواضع مختلفة من النهج.

و هنا نكتة أُخرى و هي أنّ«نهج البلاغة»ليس كتاباً عقائدياً يشرح كل عقيدة و يبرهن عليها،و انّما هو مجموع خطب و رسائل و كلم، انتخبها الرضي من كثير من خطبه و رسائله و كلمه.

و كتاب كهذا لا يمكن أن نتوقع منه أن يلج في كل صغير و كبير-و إن كانت الولاية الإلهية لعليّ من مهامّ الأُمور-.

ص:621


1- 1) .شرح نهج البلاغة:306/9.

3 رفض الإمام عليه السلام لبيعته

يقول الشيخ:

ففي نهج البلاغة خطبة لعلي حينما دعوه إلى البيعة بعد مقتل عثمان-رضى اللّه عنه-قال فيها:دعوني و التمسوا غيري،فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه و ألوان،لا تقوم له القلوب،و لا تثبت عليه العقول...إلى أن قال:و إن تركتموني فأنا كأحدكم و لعلِّي أسمَعُكم و أطوعُكم لمن ولّيتموه أمركم،و أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً». (1)

فلله العجب إذ لو كان أمر الإمامة أو الخلافة كما يصوّرها الشيعة بأنها نص إلهي في علي عليه السلام و أبنائه الأحد عشر من بعده،...كيف يستطيع علي عليه السلام أن يقول دعوني و التمسوا غيري؟ هل يتّهم الشيعة الإمام علي عليه السلام بعصيان اللّه؟ أين حبهم لعلي؟

إنّ علياً عليه السلام هنا يقرر أن الخلافة يجوز أن تكون له أو لغيره،و يقول نفسه عن نفسه:أكون مقتدِياً خير لي من أن أكون إماماً،فهو لا يرى الأمر كما يراه الشيعة (2).

ص:622


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة 88،ط عبده. [1]
2- 2) .تأمّلات في كتاب نهج البلاغة:10-11.
المناقشة:

كان على فضيلة الشيخ أن يتأمّل مورد صدور الكلام من الإمام،و انّه في أيّ موقف رفض بيعة القوم و قال:«دعوني و التمسوا غيري».و أي خلافة رفضها،و قال في حقها ما قال؟

إنّ الذين أرادوه على البيعة هم الذين بايعوا الخلفاء السابقين،و كان عثمان منهم،و قد منع حقّ كثير منهم في العطاء،فلمّا قُتِل قالوا لعلي:

نبايعك على أن تَسير فينا بسيرة أبي بكر و عمر لأنّهما لا يستأثران بالمال لأنفسهما و لا لأهلهما فطلبوا من علي عليه السلام البيعة على أن يسير بسيرتهما،فاستعفاهم و سألهم أن يطلبوا غيره ممّن يسير بسيرتهما،ثمّ ذكر عدم قبوله في ذيل كلامه و هو«إنّا مستقبلون أمراً له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول،و ان الآفاق قد أغامت و المحجة قد تنكرت»مشيراً إلى أنّ الشبهة قد استولت على العقول و القلوب، و جهل أكثر الناس محجّة الحق،ففي مثل هذه الظروف لا أقدر ان أسير فيكم بسيرة الرسول في أصحابه مستقلّاً بالتدبير،لفساد أحوالكم،و تعذر صلاحكم.

و قد صدق الخُبْر الخَبَر،فلمّا قام الإمام بالأمر و قسّم الأموال بينهم بالعدل،نكثت طائفة،و مرقت أُخرى،و قسط آخرون (1).

فالذي رفضه الإمام هو الخلافة الّتي يتقمّصها الإمام عن طريق البيعة،و أمّا الخلافة الالهية الّتي ألبسها اللّه سبحانه إيّاه يوم الغدير و غيره فلم تكن مطروحة لدى البائعين و الإمام،حتّى يستقيلها أو يقبلها.

ص:623


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 3. [1]

فالخلافة الّتي ينحلها الناس عن طريق البيعة،فالإمام و غيره أمامها سواء،و في حقها قال:دعوني و التمسوا غيري.و أمّا الخلافة الإلهية الّتي تدّعيها الشيعة بفضل النصوص الكثيرة فهي غنية عن البيعة،غير خاضعة لإقبال الناس و إدبارهم.و ليست الناس أمامها سواء،بل تختص بمن خصه سبحانه بها،و ليس لمن خصَّه بها رفضها و لا استقالتها.و الإمامة بهذا المعنى لم تكن مطروحة حين الحوار حتّى يرفضها الإمام.

و ليس هذا أول كلام للامام و آخره حول رفضه بيعة القوم و إنّ أصرّوا عليه و تداكّوا عليه تداكّ الإبل على حياضها يوم وِرْدها،يقول:

«و بسطتم يدي فكففتها،و مددتموها فقبضتها ثمّ تداككتم عليّ تداكّ الابل الهِيْم على حياضها يوم وِردها،حتّى انقطعت النعل،و سقط الرداء،و وطئ الضعيف و بلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير،و هدج إليها الكبير،و تحامل نحوها العليل،و حسرت إليها الكعاب». (1)

قال ابن أبي الحديد في شرح مفردات الخطبة:

التداك:الازدحام الشديد،و الإبل الهيم:العطاش.

و هدج اليها الكبير:مشى مشياً ضعيفاً مرتعشاً،و المضارع يهدج،بالكسر.

و تحامل نحوها العليل:تكلّف المشي على مشقّة.

و حسرت إليها الكعاب:كشفت عن وجهها حرصاً على حضور البيعة،و الكعاب:الجارية الّتي نهد ثديها،كعُب تكعُب (بالضم).

قوله:«حتّى انقطع النعل و سقط الرداء»شبيه بقوله في الخطبة الشقشقية:«حتّى لقد وطئ الحسنان و شُقَّ عِطفاي» (2).

ص:624


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 224،ط عبده. [1]
2- 2) .شرح نهج البلاغة:3/13-4.

أقول:إنّ الذين جاءوا لمبايعة علي من الصحابة و التابعين،إنّما حاولوا أن يبايعوه كما بايعوا الخلفاء الماضين،فالخليفة في هذا المقام يستمد شرعية خلافته من بيعة الناس،و هي التي وقف منها الإمام موقفاً رافضاً لعدم رغبته فيها،و علماً منه بأنّ المبايعين لا يطيقون عدله وقضاءه.

و أين ذلك من الإمامة الإلهية الثابتة له بتنصيص النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غير واحد من المواقف؟! فإنّ المبايعين في تلك الظروف العصيبة لم يكن لهم همّ سوى تنصيب الخليفة من دون نظر إلى الإمامة المنصوصة لعلي عليه السلام.حتّى يستقيلها الإمام أو يقبلها.

و في الختام نودّ الإشارة إلى نكتة،و هي أنّ البيعة الّتي تمّت لعلي عليه السلام على النحو الّذي وصفها الإمام عليه السلام كانت ظاهرة استثنائية لم يكن لها مثيل في من سبقه من الخلفاء،و مع ذلك نرى أنّه لمّا استتب الأمر للإمام عليه السلام ظهرت بوادر التمرّد و العصيان عليه،و التي شغلت باله عليه السلام منذ تولِّيه منصب الخلافة و حتّى استشهاده عليه السلام.

ثمّ إنّ الإمام في نهاية الأمر يبيّن وجه قبوله لبيعة هؤلاء (مع عدم رغبته في الخلافة) في خطبة أُخرى،حيث يقول:

أما و الّذي فلق الحبة،و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر،و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم، و لا سغب مظلوم،لألقيت حبلها على غاربها،و لسقيت آخرها بكأس أوّلها،و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (1).

ص:625


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة رقم 3. [1]

و هذه الفقرات تعرب عن وجه قبول الخلافة و مبايعة الناس،كما تعرب عن مكانة الحكم عند الإمام عليه السلام.

استدلال آخر بكلام علي عليه السلام:

قال فضيلة الشيخ:ورد في نهج البلاغة قول علي عليه السلام و هو يذكر أمر الخلافة و الإمامة:رضينا عن اللّه قضاءه،و سلمنا للّه أمره...فنظرت في أمري،فإذا طاعتي سبقت بيعتي و إذا الميثاق في عنقي لغيري» (1).

المناقشة:

إنّ فضيلة الشيخ-سامحه اللّه-لم ينقل كلام الإمام علي عليه السلام على ما هو عليه،و حذف منه جُملاً لها مدخلية تامة في فهم مراده،و وضع مكانها عدة نقاط،فكلام الإمام في النهج على النحو التالي:

«رضينا عن اللّه قضاءه،و سلمنا للّه أمره،أ تراني أكذب على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أنا أوّل من صدّقه،فلا أكون أوّلَ من كذب عليه».

«فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي،و إذا الميثاق في عنقي لغيري».

و لكل من الفقرتين موضوع خاص.فالموضوع في الفقرة الأُولى يتعلّق بالتنبّؤ عن المستقبل و الإخبار عن الملاحم التي تعلّمها من رسول اللّه.

في حين يتعلّق الموضوع في الفقرة الثانية،بالخلافة.

و فضيلة الشيخ-عفا اللّه عنه-،اقتطع جزءاً من الفقرة الأُولى-أعني

ص:626


1- 1) .تأمّلات في كتاب نهج البلاغة:12. [1]لاحظ نهج البلاغة [2]طبعة عبده رقم 36.

قوله:«رضينا عن اللّه قضاءه،و سلمنا للّه أمره»-و ضمّه للفقرة الثانية حتى يتمّ استدلاله على ما يرتئيه.غافلاً عن أنّ التنقيب ورائه و اللّه من وراء القصد.

إذا تبين ذلك،نقول:إنّ كلام الإمام يدور حول محورين:

الأوّل:انّ الإمام عليه السلام كان يتنبّأ بالملاحم التي سمعها من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و لمّا تفرّس في قوم من عسكره انّهم يتّهمونه فيما يخبرهم به عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من أخبار الملاحم و الغائبات،أجابهم بقوله:«رضينا عن اللّه قضاءه-إلى قوله:فلا أكون أوّل من كذب عليه».

فليس لقوله:«رضينا عن اللّه»أي صلة بالخلافة،و إلّا انقطعت الصلة بينه و بين قوله:«أ تراني أكذب على رسول اللّه،و اللّه لأنا أوّل من صدّقه...».

الثاني:انّ الإمام عليه السلام كان يصف حاله بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،حيث إن الغالبية نسيت أو تناست وصية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حق علي و إمامته و خلافته في غير واحد من مواقفه و مع ذلك فقد أوصاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و عهد إليه أن لا ينازع في أمر الخلافة مع القوم طلباً للمصلحة، فالإمام يحكي هذه الحقيقة بقوله:

«فإذا طاعتي سبقت بيعتي»أي وجوب طاعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم،و وجوب امتثالي أمرهُ،سابق على بيعتي للقوم،فلا سبيل لي إلى الامتناع من البيعة،لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم أمرني بها.

«و إذا الميثاق في عنقي لغيري»،أي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أخذ عليّ الميثاق بترك الشقاق و المنازعة،فلم يحلّ لي أن أتعدّى أمره أو أُخالف نهيه (1).

و أين هذا الكلام من نفي الوصاية الإلهية؟! بل هو دليل على أنّ الإمام عليه السلام أمسك و لم ينازع لأجل مصلحة عامّة بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،فلو قام على أخذ حقّه

ص:627


1- 1) .شرح نهج البلاغة:296/2.

لكانت المصيبة عليه أعظم من ذهاب الحق الّذي كان له.و ها نحن نأتي بكلمة للإمام عليه السلام يصف فيها حاله بعد السقيفة و انه مع اعتقاده بخلافته و إمامته صبر و أمسك يده لمصالح عالية.

1-يقول في خطبة:فنظرت فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت،و اغضيتُ عن القذى،و شربتُ على الشجى، و صبرت على أخذ الكظم،و على أمرَّ من طعم العلقم. (1)

و طلع الفجر:

إنّ القضاء البات في موضوع يقتضي جمع كل ما يمت بصلة إلى الموضوع من أقوال المتكلّم،و عند ذاك يتّخذ الباحث موقفاً حاسماً، و يُدلي برأيه القاطع حسب شهادة القرائن بعضها على بعض.

و أمّا القضاء بملاحظة بعض ما يرجع إلى الموضوع و تناسي غيره فهو ليس قضاء صحيحاً.

إنّ فضيلة الشيخ ورد من الطريق الثاني حيث أخذ ببعض الكلم و لم يرفع إبهام البعض بالبعض الآخر.و كان عليه أن يرجع في الموضوع إلى الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقية،فإنّ الإمام بيّن فيها موقفه من خلافة الخلفاء،و قد قال ابن الخشاب في حق هذه الخطبة:إنّي وقفت عليها في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة،و لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها و أعرف خطوط من هو من العلماء و أهل الادب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.

و قال ابن أبي الحديد:قد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف

ص:628


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 25،ط عبده. [1]

شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديّين من المعتزلة،و كان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة،و وجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلّمي الإمامية،و هو الكتاب المشهور المعروف بكتاب«الإنصاف»و كان أبو جعفر من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي و مات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي؛موجوداً (1).

و ها هو الإمام يبيّن موقفه من خلافة الخلفاء و يقول:

«أما و اللّهِ لقد تقمّصها ابن أبي قحافةَ،و إنّهُ ليعلم أنَّ محلّي منها محلُّ القُطبِ من الرّحى،ينحدِرُ عنّي السّيلُ،و لا يرقى إليّ الطيرُ،فسدلتُ دونها ثوباً،و طويتُ عنها كشحاً،و طفقتُ أرتئي بين أنْ أصول بيدٍ جذّاء،أو أصبر على طخيةٍ عمياءَ،يهرمُ فيها الكبيرُ،و يشيبُ فيها الصّغيرُ، و يكدحُ فيها مؤمنٌ حتّى يلقى ربّهُ،فرأيتُ أنَّ الصّبر على هَاتَا أحجى،فصبرتُ و في العينِ قذًى،و في الحلقِ شجًا أرى تُراثي نهباً.

حتّى مضى الأوّل لسبيلهِ،فأدلى بها إلى ابن الخطّابِ بعدهُ (ثمَّ تمثَّل بقول الأعشى): شتّان ما يومي على كورها و يومُ حيّان أخي جابرٍ

فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياتهِ! إذ عقدها لآخر بعدَ وفاتهِ،لشدَّ ما تشطّرا ضرعيها،فصيّرها في حوزةٍ خشناءَ،يَغلُظُ كَلْمُها و يخشُنُ مسُّها،و يكثرُ العثارُ فيها،و الاعتذارُ منها،فصاحبها كراكبِ الصعبةِ،إنْ أشنق لها خرمَ،و إنْ أسلسَ لها تقحَّم،فمني النّاس-لعمرُ اللّهِ-بخبطٍ و شماسٍ،و تلوّنٍ و اعتراضٍ،فصبرتُ على طولِ المدَّةِ،و شدَّةِ المحنةِ.

ص:629


1- 1) .شرح نهج البلاغة:205/1-206.

حتّى إذا مضى لسبيلهِ،جعلها في جماعةٍ زعمَ أنّي أحدهم،فيا للّهِ و للشورى،متى اعترض الريبُ في مع الأوّل منهم؟ حتّى صرِتُ أقرنُ إلى هذهِ النظائر،لكنّي أسففتُ إذ أسفّوا،و طرتُ إذ طاروا،فصغا رجلٌ منهم لضغنهِ،و مالَ الآخرُ لصهرهِ،مع هنٍ و هنٍ.

إلى أن قام ثالثُ القومِ نافجاً حضنيهِ،بينَ نثيلهِ و معتلفهِ،و قام معهُ بنو أبيهِ يخضمون مال اللّهِ خَضْمَةَ الإبلِ نبتة الربيع،إلى أنِ انتكث عليه فتلهُ،و أجهز عليه عملُهُ،و كَبت به بطنتهُ.

فما راعني إلّا و الناس كعُرْف الضَّبُع إليّ،ينثالون عليّ من كل جانب،حتّى لقد وُطئ الحسنان،و شُقّ عطفاي... (1)

أ فيصح-بعد هذا التصريح...انّ موقف الإمام بالنسبة إلى الخلفاء موقف المادح الّذي لا يرى في حياتهم و خلافتهم ما يؤخذ عليهم؟!

ص:630


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة 3. [1]

4

اشارة

ثناء الإمام عليه السلام على الخلفاء

يقول الشيخ:

ورد في النهج انّ عمر بن الخطاب-رضى اللّه عنه-لما استشار عليّاً عند انطلاقه لقتال فارس،و قد جمعوا للقتال،أجابه:«إنّ هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا قلّة و هو دين اللّه تعالى الّذي أظهره...و العرب اليوم و إن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطباً و استدر الرحى بالعرب» (1).

المناقشة:

إنّ الإمام عليه السلام قد كشف النقاب عن موقفه في التعامل مع الخلفاء كافة في كلامه الآتي،و ذلك لأنّه شهد-بعد إقصائه عن الحكم و استتباب الأمر للخليفة الأوّل-استفحال المؤامرات الداخلية و الخارجية ضد الإسلام و أهله،فأحسّ انّ وظيفته في هذا الموقف العصيب هي نصرة الإسلام و المسلمين،و التعاون مع الخلفاء بُغية تحقيق مصالح الإسلام العليا،و القضاء على المؤامرات الّتي استهدفته،فهذا هو الحافز الّذي دعا بالإمام إلى التعاون مع الخلفاء.

ص:631


1- 1) .تأمّلات في نهج البلاغة:14.و [1]لاحظ نهج البلاغة:الخطبة 142 و [2]شرح نهج البلاغة:95/9.

إنّ المسألة الّتي حازت على اهتمام الإمام علي عليه السلام في كلامه المتقدّم،هي مسألة الإسلام الكبرى،و ما دام الخليفة الثاني أو أي شخص آخر يقود هذا الركب فالإمام عليه السلام يبذل له النصح و المشورة،و هذه الحقيقة جاءت في كتاب الإمام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لمّا ولّاه إمارتها، فقال:

فو اللّه ما كان يُلقى في روعي و لا يخطر ببالي انّ العرب تُزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه و آله و سلم عن أهل بيته و لا انّهم مُنحُّوه عنّي من بعده،فما راعني إلّا انثيال الناس على فلان يبايعونه،فأمسكت يدي حتى رأيت راجعةَ الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه و آله و سلم فخشيتُ إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً،تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاعُ أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب،فنهضتُ في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل و زهق،و اطمأنّ الدين و تنهنه (1).

و بالجملة فالظروف السائدة آنذاك فرضت على الإمام عليه السلام التعاون معهم و الإشارة بالحق و الصلاح عند الاستشارة،و الإدلاء بالحق عند طلبه،و ليس في هذا أي مدح لشخص الخليفة،و لو كان في كلامه تكريم فانّما هو لمقام الخلافة سواء أ تقمّصها عمر بن الخطاب أم غيره.

و منه يظهر وجه كلام الإمام لمّا استشاره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزوة الروم،فقال الإمام عليه السلام:

و قد تَوكّلَ اللّهُ لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة،و ستر العورة،و الّذي نصرهم و هم قليل لا ينتصرون،و منعهم و هم قليل لا يمتنعون،حيّ لا يموت...الخ (2).

ص:632


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 62،ط عبده. [1]
2- 2) .نهج البلاغة:الخطبة 130،ط عبده. [2]

لم يكن الإمام عليه السلام-نعوذ باللّه-بالذي يُضمر حقداً أو ضغينة حتى يضنّ بنصيحةٍ أو مشورةٍ فيها عزٌّ للإسلام و حفظ لكيان المسلمين، فهو عليه السلام مثال الإنسان الكريم النفس،العالي الهمّة،الذي يقهر ذاته،و يذوب إخلاصاً لمبادئه،و يفيض حبّاً و رأفة و حناناً،فلا غرو إذن أن يسجّل مثل هذه المواقف الرائعة،و أن يشير بحكمته البالغة إلى ما فيه صلاح الإسلام و المسلمين.

ص:633

5

اشارة

احتجاج الإمام بمبايعة الناس لأبي بكر و عمر

يقول الشيخ:

و أورد المرتضى في النهج عن علي عليه السلام في كتابه الذي كتبه إلى معاوية:

«إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه،فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد،و إنّما الشورى للمهاجرين و الأنصار،فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماماً كان ذلك للّه رضىً فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين و ولّاه اللّه ما تولّى» (1).

و هنا يستدل الإمام على صحة خلافته و انعقاد بيعته بصحة بيعة من سبقه،و هذا يعني بوضوح أنّ علياً كان يعتقد بشرعية خلافة أبي بكر و عمر و عثمان (2).

المناقشة:

لقد سها قلم الشيخ و قال:قال المرتضى مكان أن يقول قال الرضي،كما أنّه حذف من آخر الخطبة ما يبيّن مقصود الإمام الذي لا صلة له بما

ص:634


1- 1) .نهج البلاغة:446، [1]قسم الرسائل:6،ط محمد [2]عبده.
2- 2) .تأمّلات في نهج البلاغة:16. [3]

يرتئيه المستدلّ.و هو قوله:

و لعمري-يا معاوية-لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان،و لتعلمنّ أنّي كنت في عزلة عنه،إلّا أن تتجنّى فَتَجَنَّ ما بدا لك و السلام (1).

و ليس فضيلة الشيخ أوّل من استدلّ بهذا الكلام على أنّ بيعة المهاجرين و الأنصار طريق إلى الإمامة و الخلافة،بل استدلّ شيوخ المعتزلة به على مقاصدهم،و لكنّهم-سامحهم اللّه-غفلوا عن الظروف الّتي أدلى بها الإمام عليه السلام كلامه هذا.

كما غفلوا عن مخاطَبه،و تصوّروا أنّ الإمام يُدلي بقاعدة كلامية عامّة حول الإمامة،مفادها انّ الشورى حق للمهاجرين و الأنصار،فإذا اجتمعوا على رجل و سمّوه إماماً كان ذلك إماماً و للّه فيه رضا.

و هذا التفسير لكلام الإمام عليه السلام مرفوض جدّاً،إذ ليس الإمام بصدد تبيين قاعدة كلامية،بل هو بصدد الاحتجاج على خصم عنود لدود بايع الخلفاء السابقين الذين استمدوا شرعية خلافتهم من بيعة المهاجرين و الأنصار و لكنّه لم يبايع عليّاً و خالفه و نازعه.

فالإمام يحتجّ على هذا الشخص«بأنّ بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام،لأنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه،فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد».

فهذا النوع من الاحتجاج هو الجدل الذي دعانا إليه الذكر الحكيم و قال:

«ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ

ص:635


1- 1) .نهج البلاغة: [1]قسم الرسائل:6.

أَحْسَنُ» 1 .

فالاستدلال بالبرهان هو الدعوة بالحكمة،كما أنّ الدعوة بالنصائح هي الدعوة بالموعظة الحسنة،و الاستدلال على الخصم بعقائده و أفكاره و أعماله هو الجدال بالتي هي أحسن.

فالإمام ورد من الطريق الثالث فاحتج على الخصم بما هو موضع قبوله،فلذلك بدأ رسائله بقوله:

«فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام لأنّه بايعني القوم» (1).

و ختمها بقوله:«و لعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ الناس من دم عثمان،و لتعلمنَّ أنّي كنت في عزلة عنه،إلّا أن تتجنّى فتجنَّ ما بدا لك و السلام». (2)

و الرسالة طويلة لخّصها الرضي،لأنّه يقتصر على الموضع البليغ من كلامه و من قرأ كتاب الإمام إلى خصمه بتمامه لوقف على أنّ الإمام اتّخذ موقف المجادل الذي يحتجّ على خصمه بمقبولاته و أفكاره،و لا يعدّ مثل ذلك دليلاً على أنّه من مسلّماته و مقبولاته.

و ها نحن نذكر ما تركه الرضي من الرسالة ليكون دليلاً على صدق ما بيّناه قال الإمام في ذيل كلامه السابق:

«و إنَّ طلحة و الزبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي،و كان نقضهما كردِّهما،

ص:636


1- 2) .إنّ قوله:«فانّ بيعتي بالمدينة»و ان لم يكن موجوداً في نسخة«نهج البلاغة» [1]لكنه جاء في سائر المصادر.لاحظ كتاب صفين:29 [2] لنصر بن مزاحم.
2- 3) .نهج البلاغة: [3]قسم الرسائل:6.

فجاهدتهما على ذلك حتّى نجا الحق و ظهر أمر اللّه و هم كارهون.فادخُلْ فيما دخل فيه المسلمون؛فإنَّ أحبَّ الأُمور إليَّ فيك العافية،إلا أن تتعرض للبلاء.فإن تعرضت له قاتلتك و استعنت اللّهَ عليك.و قد أكثرتَ في قتلة عثمان فادخلْ فيما دخل فيه المسلمون،ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك و إيّاهم على كتاب اللّه.فأمّا تلك التي تريدها فخُدعة الصبيِّ عن اللبن.و لعمري لئن نظرتَ بعقلكَ دون هَواك لتجدنِّي أبرأَ قريشٍ من دم عثمان.و اعلم أنّك من الطلقاء (1)الذين لا تحلُّ لهم الخلافة،و لا تعرض فيهم الشُّورى.و قد أرسلتُ إليك و إلى من قِبلك جرير بن عبد اللّه،و هو من أهل الإيمان و الهجرة.فبايعْ و لا قوة إلّا باللّه».

ص:637


1- 1) .الطلقاء:جمع طليق،و هو الأسير الذي أطلق عنه إساره و خلّى سبيله.و يراد بهم:الذين خلّى عنهم رسول اللّه يوم فتح مكة و أطلقهم و لم يسترقهم.

6

اشارة

وصف الخليفة بأعلى الصفات

يقول الشيخ:

و في النهج عن علي عليه السلام:«للّه بلاء فلان لقد قوّم الأود،و داوى العمد،و أقام السنّة،و خلّف البدعة،و ذهب نقي الثوب،قليل العيب،أصاب خيرها و اتّقى شرها،أدّى للّه طاعته و اتقاه بحقه،رحل و تركهم في طرق متشعبة،لا يهتدي إليها الضال،و لا يستيقن المهتدي» (1).

ثمّ قال:لقد وصف الإمام عمر بن الخطاب من الصفات بأعلى مراتبها و ناهيك بها (2).

تنبيه:

قبل مناقشة كلام الشيخ نذكر بعض التصرفات التي جاءت في نقل الكلام،و هي أُمور:

1-بلاء فلان،و في النهج«بلاد فلان».

2-«خلّف البدعة»و في النهج«خلّف الفتنة».

ص:638


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة 223، [1]شرح محمد عبده.
2- 2) .تأمّلات في نهج البلاغة:18.

3-«اتقى شرها»و في النهج«سبق شرَّها».

4-«لا يهتدي إليها الضال»و في النهج«لا يهتدي فيها الضال».

و لعل النسخة المتوفرة عند الشيخ كانت على غرار ما كتب.و لكن الأولى و الأصح لا يخفى على من له إلمام بالكلام الفصيح.

تفسير مفردات الخطبة:

1-يقال:للّه بلاد فلان:يراد البلاد التي أنشأته و انبتته،و ربّما يقال:«للّه در فلان»و يراد:للّه الثدي الذي أرضعه.و لو كانت النسخة للّه بلاء فلان فهي بمعنى للّه ما صنع.

2-«الأوَد»:العوج.

3-«العَمدَ»:انفضاخ سنام البعير.و المراد في المقام«العلّة».

4-أصاب خيرها:خير الولاية.

5-سبق شرّها:مات قبل استفحاله.

6-و اتّقاه بحقه:أي بادر حقه و القيام به (1).

المناقشة:

اختلف شرّاح نهج البلاغة في المكنّى عنه بهذا الكلام و لهم فيه آراء:

1-ذهب قطب الدين الراوندي إلى أنّه عليه السلام مدحَ به بعض أصحابه بحسن السيرة.و انّ الفتنة هي التي وقعت بعد رسول اللّه من الاختيار و الإثرة.

2-و ذهب ابن أبي الحديد إلى أنّ المكنّى عنه هو عمر بن الخطاب قال:و قد

ص:639


1- 1) .شرح النهج:5/12-6. [1]

وُجدتْ النسخةُ التي بخط الرضي أبي الحسن جامع نهج البلاغة و تحت«فلان»«عمر»حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي.

3-يظهر من الطبري أنه ليس من كلام الإمام،بل هو من كلام«ابنة أبي حثمة».و أنّ الإمام صدّقها في كلمتين«ذهب بخيرها،نجا من شرها»أي ذهب بخير الولاية و نجا من شرها الّذي ابتلي به عثمان.روي عن صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة قال:لما مات عمر-رضى اللّه عنه-بكتْه ابنةُ أبي حثمة فقالت:وا عمراه،أقام الأود،و أبرأ العَمدَ،أمات الفتن،و أحيا السنن،خرج نقيّ الثوب،بريئاً من العيب.

قال:و قال المغيرة بن شعبة لمّا دفن عمر أتيت علياً عليه السلام و أنا أُحبُّ ان أسمع منه في عمر-رضى اللّه عنه-شيئاً،فخرج ينفض رأسه و لحيته و قد اغتسل و هو ملتحف بثوب لا يشك أنّ الأمر سيعود إليه،فقال:يرحم اللّه ابن الخطاب لقد صدَقَتْ ابنة أبي حثمة:لقد ذهب بخيرها و نجا من شرها.أما و اللّه ما قالت و لكن قُوّلت (1).

و الظاهر طروء النقص على عبارة الطبري،إذ كيف ارتجل الإمام بكلامه و قال:رحم اللّه ابن الخطاب من دون أن يتكلم المغيرة بن شعبة بكلام حول عمر،و هذه قرينة على أنّ المغيرة عند ما واجه علياً أخبره بما سمعه من ابنة أبي حثمة،فَحلفَ الإمام بأنّها ما قالت و لكن قوّلت.

و يريد أنّ الكلام لم يكن من إنشائها،بل من إنشاء شخص آخر،و قد علّمه إيّاها لكي تندب به الخليفة.و لعلّه عليه السلام يشير بذلك إلى التواطؤ الّذي كان بينها و بين المغيرة،و سيوافيك أنّها كانت نادبة.

ص:640


1- 1) .تاريخ الطبري:575/2 ط دار [1]الكتب العلمية،بيروت.

و لقد كان للخليفة يد بيضاء على المغيرة بدرء الحد عنه لمّا اتّهم بالزنا في عصر الخليفة و هو أمير على الكوفة،فقد شهد عليه بالزنا:أبو بكرة و نافع و شبل بن معبد،و قالوا بأنّهم رأوه يولجه و يخرجه،فلمّا قدم الرابع (زياد بن أبيه) للشهادة،حاول الخليفة أن يدرأ عنه الحدّ بالشبهة، فخاطبه بقوله:إنّي لأرى رجلاً لم يخز اللّه على لسانه رجلاً من المهاجرين... (1).

و لقد جازاه المغيرة بما قام به بعد وفاته.

و قال ابن شبّه (2):بلغنا انّ عبد اللّه بن مالك بن عيينة الأزدي حليف بني المطلب،قال:لمّا انصرفنا مع عليّ-رضى اللّه عنه-من جنازة عمر-رضى اللّه عنه-دخل فاغتسل،ثمّ خرج إلينا فصمت ساعة،ثمّ قال:«للّه بلاء نادبة عمر قالت:وا عمراه أقام الأود،وا عمراه،ذهب نقيّ الثوب، قليل العيب،وا عمراه أقام السنّة و خلّف الفتنة.ثمّ قال:و اللّه ما درتْ هذا و لكنها قوَّلَته،و صدقت و اللّه أصاب عمر خيرها و خلّف شرها.... (3)

باللّه عليك يا صاحب الفضيلة،هل يصحّ الاستدلال بكلام لم يُعرف قائله،و هل هو من نسج المغيرة أو من نسج غيره؟! و قد أُلقي إلى النادبة توخّياً لمصالح معينة،و خلافاً لنهي عمر عن ندب الموتى.

و من المحتمل جداً أن يكون تكرار الإمام لكلام النادبة من باب إظهار التعجب منه،إذ سيرة الخليفة لم تكن تنسجم و مضامين ذلك الكلام.

ص:641


1- 1) .سير أعلام النبلاء:28/3 رقم الترجمة 7؛الأغاني:146/14؛ [1]تاريخ الطبري:207/4؛ [2]الكامل:228/2. [3]
2- 2) .أبو زيد عمر بن شبّه النميري البصري:(173-262 ه).
3- 3) .تاريخ المدينة المنورة:941/3-942،تحقيق فهيم محمد شلتوت.

و في نهاية المطاف نقول:إنّ حياة الخليفة كانت مزيجاً من الإيجابيات و السلبيّات،و من أبرز صفاته أنّه لم يكن مستأثرا ببيت المال،و لا مُسلّطاً بني عدي على رقاب الناس،و لا مترفعاً على المهاجرين و الأنصار،إلى غير ذلك من الصفات البارزة الّتي تعد من سمات خلافته؛مقابل خلافة عثمان الّذي استأثر ببيت المال،و حمل بني أبي معيط على رقاب الناس،و سلّم الأُمور بيد مروان بن الحكم اللعين بن اللعين على لسان رسول اللّه (1)،إلى غير ذلك من الأُمور الّتي أثارت غضب المهاجرين و الأنصار و من تبعهم من سائر البلاد،فقتل في عقر داره بمرأى و مسمع منهم.

فلو صحّ صدور هذا الكلام من الإمام و أغمضنا النظر عمّا حوله من الشكوك و الإبهامات،فقد صدر منه لغاية الإيعاز إلى الحكم الّذي سوف يُبتلى به المسلمون و لذلك وصفه بقوله«و خلّف الفتنة»و هي الّتي رافقت خلافة عثمان،فقد كان مشغوفاً بحب بني أبيه،آل أُمية و تفضيلهم على الناس،و قد تنشّب ذلك في قلبه و كان معروفاً به من أوّل يومه،و لذلك قال عمر بن الخطاب لابن عباس:لو وليها عثمان لحمل آل أبي معيط على الناس،و لو فعلها لقتلوه. (2)

و بكلمة قصيرة:إنّ المدح و التنزيه نسبيّان،و ليسا بمطلقين،يعلم ذلك من التدبّر في كلامه عليه السلام.

ص:642


1- 1) .المستدرك للحاكم:481/4.
2- 2) .انساب البلاذري:16/5 و [1]قد رويت كلمة الخليفة بصورة مختلفة لاحظ الغدير:289/8.

7

اشارة

مدح عثمان على لسان الإمام

يقول الشيخ:

جاء في«نهج البلاغة»على لسان عليّ بخصوص عثمان رضي اللّه عنهما:

«و اللّه ما أدري ما أقول لك؟ ما أعرف شيئاً تَجْهله،و لا أدلّك على أمر لا تعرفه،إنّك لتعلم ما نعلم،ما سبقناك إلى شيء فنُخبرك عنه،و لا خلونا بشيء فنبلِّغكه،و قد رأيتَ كما رأينا و سمعتَ كما سمِعنا و صحبت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كما صحبنا،و ما ابن أبي قحافة و لا ابن الخطاب بأولى بعمل الحق منك،و أنت أقرب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وشيجة رحم منهما و قد نلت من صهره ما لم ينالا».

فانظر هذا المدح و الثناء على عثمان من علي رضي اللّه عنهما و انظر إلى قوله:«و ما ابن أبي قحافة و لا ابن الخطاب،بأولى بعمل الحق منك»فهذه شهادة على أنّ أبا بكر و عمر رضي اللّه عنهم كانا على الحق و عملا به و ليسا بأولى من عثمان-رضى اللّه عنه-في ذلك،فهو لعمل الحق أهل. (1)

المناقشة:

إنّ فضيلة الشيخ ذكر كلام الإمام مبتوراً و قد حذف صدره،كما حذف

ص:643


1- 1) .تأمّلات في كتاب نهج البلاغة:20. [1]

ذيله،مع أنّ صدر كلامه و ذيله يشهدان بوضوح أنّ الإمام بصدد بذل النصح للخليفة بُغية معالجة المشاكل التي حاقت بالخلافة قبل ان تستفحل الفتنة الّتي أودت بحياته،و ما وصفه بكونه«أقرب إلى رسول اللّه وشيجة رحم منهما و قد نال من صهره ما لم ينالا»إلّا لأجل تشجيعه على إخماد نار الفتنة،و تنشيط عزمه،على إقامة السنّة و إماتة البدعة الّتي غطت حياة الخلافة في عصره.

و لأجل إيقاف القارئ على مقاصد الإمام في كلامه هذا نأتي بنصّ كلامه مشفوعاً بمقدّمة الرضي:

و من كلام له عليه السلام لعثمان بن عفّان.قالوا:

لمّا اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين عليه السلام،و شكوا إليه ما نقموه على عثمان،و سألوه مخاطبته عنهم و استعتابه لهم،فدخل عليه السلام على عثمان،فقال:

«إنَّ النَّاسَ وَرَائي و قدِ اسْتَسْفَرُوني بينكَ و بينهمْ؛وَ وَ اللّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ،وَ لا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لَا تَعْرِفُهُ !

إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ؛مَا سَبَقْنَاكَ إلى شَيء فَنُخْبرَكَ عَنْهُ،وَ لَا خَلَوْنَا بِشَيء فَنُبَلِّغَكَهُ؛وَ قَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا،وَ سَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا،وَ صَحِبْتَ رَسُول اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم كَمَا صَحِبْنَا.وَ مَا ابْنُ أَبي قُحَافَةَ وَ لَا ابْنُ الخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الحقّ مِنْكَ،وَ أَنْتَ أَقْرَبُ إلى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله و سلم وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا، وَ قَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالَا؛فَاللّهَ اللّه في نَفْسِكَ،فَإنَّكَ وَ اللّهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى،وَ لَا تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ؛وَ إنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ،وَ إنَّ أعلامَ الدِّينِ لقائمةٌ.

فَاعلَمْ أنَّ أفضل عباد اللّه عند اللّهِ إمامٌ عادلٌ؛هُدِيَ و هَدَى،فأقام سُنَّةً معلومةً،و أمات بدعةً مجهولةً؛و إنَّ السُّننَ لنيرةٌ لها أعلامٌ،و إنَّ البدع لظاهرةٌ لها أعلامٌ؛و إنَّ شرَّ الناس عند اللّهِ إمامٌ جائرٌ ضلَّ و ضُلَّ به؛فأمات سنَّةً مأخوذةً،و أحيا

ص:644

بدعةً متروكةً! و إنِّي سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقولُ:يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر،و ليس معه نصيرٌ و لا عاذرٌ،فيلقى في نار جهنَّمَ، فيدور فيها كما تدور الرَّحى؛ثمَّ يرتبط في قعرها.

و إنِّي أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأُمَّة المقتول! فإنَّهُ كان يقال:يقتل في هذه الأُمَّة إمامٌ يفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة،و يُلبِس أُمورها عليها،و يبثُّ الفتن فيها،فلا يبصرون الحقَّ من الباطل؛يموجون فيها موجاً،و يمرجون فيها مَرجاً.فلا تكوننَّ لمروان سيِّقةً يسوقك حيث شاء بعد جَلال السِّنِّ،و تقضِّي العمر».

فقال له عثمان-رضى اللّه عنه-:

كَلِّم النَّاس في أَنْ يؤجِّلوني،حتَّى أخرج إليهم من مظالمهم.

فقال عليه السلام:

«ما كان بالمدينة فلا أجل فيه؛و ما غاب فأجله وصولُ أمرك إليه». (1)

أقول:إنّ من أمعن في خطبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام و أحاط بالظروف الحرجة التي صدرت فيها،يقف على أنّ الإمام عليه السلام ليس بصدد مدح الخليفة و تنزيهه عمّا نقم عليه الناس،و إنّما كان يتوخّى تحقيق هدفين:

الأوّل:إعادة الخلافة الإسلامية إلى مسارها الصحيح بعد أن زاغت عنه بممارسة الجهاز الحاكم

للأعمال المنافية لأهدافها الكبرى،كالاستئثار بأموال المسلمين،و تعيين أغلمة بني أُمية و شبابها المترف في الولايات و الأعمال، و توطيد السبل لطغيانهم و استطالتهم على الناس،و غير ذلك من الأُمور الّتي فتحت باب الفتن و الجور على مصراعيه.

ص:645


1- 1) .نهج البلاغة،الخطبة 159؛ [1]شرح النهج:261/9-262. [2]

فكان في نيّة الإمام بكلامه هذا أن يقوم الخليفة بتغيير الوضع السائد،بعزل ولاة الجور و إعطاء أزمّة الأُمور إلى الصالحين من الأُمّة، و تقسيم بيت المال على المسلمين بالعدل و الإنصاف.

الثاني:إنقاذ الخليفة من القتل بيد الثائرين من المهاجرين و الأنصار و من تبعهم من سائر الأمصار الإسلامية،و لم يكن من مصلحة الإسلام قتل الخليفة،و لذلك كان الإمام عليه السلام يخاطب عثمان بقوله:«و إنّي أنشدك اللّه أن لا تكون إمام هذه الأُمّة المقتول».

هذان هما الهدفان اللّذان كان الإمام عليه السلام يتوخّاهما،و يدلّ على ما ذكرنا،الأُمور التالية:

1-انّ الإمام عليه السلام كان يندِّد بأعمال عثمان و ينقم عليه في غير موقف من مواقفه،فيقول عند بيان الدافع الحقيقي وراء قتل عثمان:

«اسْتَأْثَرَ فَأسَاءَ الأَثَرةَ،وَ جَزِعْتُمْ فَأسَأْتُمُ الجَزَعَ،وَ للّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ في المُسْتَأْثِرِ و الجَازِعِ». (1)

2-لما سيّر عثمان أبا ذر ذلك الصحابي العظيم لتنديده بأعمال عثمان و ولاته،خرج عليّ يشايعه،و قال له:

«يَا أَبَا ذَرّ،إنَّكَ غَضِبْتَ للّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ.إنَّ القَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ،وَ خِفتَهُمْ عَلى دِينكَ،فَاتْرُك في أيْديهمْ ما خَافُوكَ عَلَيه و اهْرُبْ بِمَا خِفْتَهُم عَلَيْه،فَمَا أحْوَجَهَم إلى مَا مَنَعْتَهمْ وَ مَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ». (2)

فمع هذه العبارات الواضحة،كيف يُنتظَر من الإمام بعد ذلك أن ينزّه

ص:646


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 29، [1]شرح محمد عبده.
2- 2) .نهج البلاغة:الخطبة 126، [2]شرح محمد عبده.

الخليفة عمّا نُقم عليه،و يبالغ في إطرائه و الثناء عليه،و كأنّه لم يجترح آثاماً،و لم يُحدث أحداثاً،أو يُبدع بدعاً؟!

3-روى الطبري عن الواقدي،أنّ عبد اللّه بن محمد حدّثه عن أبيه،قال:لما كانت سنة 34 ه،كتب أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعضهم إلى بعض أن أقدموا،فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد و كثر الناس على عثمان و نالوا منه أقبح ما نيل من أحد،و أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يرون و يسمعون ليس فيهم أحد ينهى و لا يذب إلّا نفير:زيد بن ثابت و أبو أسيد الساعدي و كعب بن مالك و حسان بن ثابت،فاجتمع الناس و كلّموا علي بن أبي طالب،فدخل على عثمان،فقال:«الناس ورائي و قد كلّموني فيك،و اللّه ما أدري ما أقول لك،و ما أعرف شيئاً تجهله،و لا أدلّك على أمر لا تعرفه،إنّك لتعلم ما نعلم،ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه،و لا خلونا بشيء فنبلّغك،و ما خُصِّصنا بأمر دونك...» (1).

إنّ الإمام عليه السلام باعتباره سفير الناس إلى الخليفة لاطّلاعه على تذمّرهم منه و نقمتهم عليه،كان يتوخّى أفضل السبل لإنجاز مهمّته المتمثّلة في نصح الخليفة و إرشاده،و تليين موقفه المتصلّب الرافض لاستعتابهم و تلبية مطالبهم،و لهذا بدأ عليه السلام كلامه بهذا الأسلوب الرقيق الّذي يحرّك في النفس نوازع الخير من خلال التذكير بذلك العهد الّذي أظلّتهم فيه رحمة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و عدله و استقامته و خلقه المعطار.

ثمّ أعقبه بكلام يحمل في طيّاته تحذيراً شديداً من مغبّة التمادي في سلوك طريق الضلال و الإضلال و في إمامة السنّة و إحياء البدعة.

و قد نجح الإمام عليه السلام بهذا الاسلوب-الّذي يجمع بين الترغيب و التحذير-

ص:647


1- 1) .تاريخ الطبري:375/3، [1]حوادث سنة 34 ه.

في تحقيق أهدافه السامية في كبح روح العناد لدى الخليفة،و دفعه إلى استعتاب الثائرين،و آية ذلك النجاح تأثّر الخليفة بكلامه و إقباله عليه،الأمر الّذي حداه إلى مخاطبة الإمام بقوله:كلِّمِ الناس في أن يؤجّلوني حتّى أَخرُجَ إليهم من مظالمهم.

و على ضوء ما تقدّم،يُعلم مغزى كلام الإمام عليه السلام و أنه ليس بصدد الحديث عن وفور علم عثمان،و إنّما بصدد لفت نظره و تذكيره بمصاحبته للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم،من أجل حثّه على مراعاة العدل و مجانبة الظلم و الجور و الرفق بالرعية و إنصافهم و غير ذلك من الأُمور العامة الّتي ينبغي أن يكون قد وعاها من حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و سيرته العظيمة.و عليه فإن ما استنتجه فضيلة الشيخ من أنّ كل ما يعلمه الإمام يعلمه عثمان،ليس في محلّه،و بعيد عن الصواب،لغفلته أو تغافله عن ملاحظة الظرف الّذي صدر فيه كلام الإمام عليه السلام.

و نحن إذا غضضنا الطرف عن مسألة اختصاص الإمام برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و ملازمته له من لدن أن كان وليداً إلى آخر لحظات حياته صلى الله عليه و آله و سلم و انتهاله من نمير علمه و بحر عطائه،و لم نأخذ بعين الاعتبار أيضاً مسألة الاختلاف الطبيعي بين الأشخاص في المواهب و القابليات و الملكات، و رجعنا إلى التاريخ،فإنّنا لم نجد فيه من يدّعي المساواة بين علم عثمان و علم أبي بكر و عمر فضلاً عن المساواة بينه و بين علم علي الّذي شاع فيه القول:إنّه أفصح الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أكثرهم علماً و زهداً و تنمّراً في ذات اللّه تعالى.

قيل لعطاء بن أبي رباح:أ كان في أصحاب محمد صلى الله عليه و آله و سلم أعلم من علي؟ قال:لا و اللّه لا أعلم. (1)

و قالت عائشة:علي أعلم الناس بالسنّة. (2)

ص:648


1- 1) .أسد الغابة:22/4. [1]
2- 2) .مختصر تاريخ دمشق:25/18.

و قال سعيد بن المسيب:كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن. (1)

أمّا قوله عليه السلام:«و ما ابن أبي قحافة و لا ابن الخطاب أولى بعمل الحق منك،و أنت أقرب إلى رسول اللّه وشيجة»،فيمكن بيانه على النحو التالي:

لا يشك أحدٌ في أنّ سيرة أبي بكر و عمر في خطوطها العامّة كانت أفضل من سيرة عثمان،و لهذا أراد الإمام بهذا القول أن يحثّه على انتهاج سيرتهما،و أن ينأى بنفسه عن استئثار بني أبيه و أقاربه بالأموال و الولايات و المناصب،و أن يعدل في الرعية،و يرفع عنها مظالمها،و هذا لا يعني أنّه عليه السلام كان راضياً عن سيرة الشيخين في تفاصيلها،لأنّ هذا المعنى خارج عن موضوع الكلام.

و ممّا يؤكد ما نذهب إليه،هو أن الخلافة كانت من علي على طرف الثُّمام (2)،و لكنّه عليه السلام رغب عنها بعد أن اشترط عليه عبد الرحمن بن عوف الاقتداء بسيرة الشيخين!!

فلو كانت سيرتهما مستضيئة بالكتاب و السنّة في كلّ تفاصيلها،لما كان هناك مساغ لرفضه عليه السلام لهذا الشرط.

ص:649


1- 1) .أسد الغابة:22/4-23؛ [1]تهذيب الكمال:485/20.
2- 2) .جمع الثمامة،نبت،سهل التناول مثل يضرب لكل أمر يسهل تناوله.

8

اشارة

مدح الإمام و ثناؤه على أصحاب النبي-صلّى اللّه عليه و آله و سلم-

يقول الشيخ:

ورد في«نهج البلاغة»خطبة علي عليه السلام و التي تدور حول مدح و ثناء على أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم و نعرض هنا جزءاً منها:

«لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه و آله و سلم فما أرى أحداً منكم يشبههم،لقد كانوا يصبحون شُعثاً غبراً،و قد باتوا سجّداً و قياماً،يراوحون بين جباههم و خدودهم،و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم،كأنّ بين أعينهم رُكَب المعزى من طول سجودهم،إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتى تَبُلَّ جيوبهم،و مادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف،خوفاً من العقاب و رجاءً للثواب» (1).

و قال أيضاً مادحاً أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه،و قرءوا القرآن فأحكموه،و هيجُوا إلى القتال فَوَلهوا وَلَهَ اللقاح إلى أولادها،و سلبوا السيوف أغمادها،و أخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً،وصفاً صفاً،بعضٌ هلك،و بعض نجا،لا يُبَشَّرون بالأحياء،و لا يُعَزَّوْنَ بالموتى،مُرْهُ العيون من البكاء،خُمصُ البطون من الصيام،ذُبَّل الشفاه من الدعاء،صُفرُ الألوان من السَّهَر،على وجوههم غبرة الخاشعين،أُولئك إخواني الذاهبون،فحقَّ

ص:650


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 93، [1]شرح محمد عبده؛شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:77/7. [2]

لنا أن نظمأ إليهم،و نَعضَّ الأيدي على فراقهم» (1).

و قد نقل الشيخ الخطبتين،و فيهما بعض التصحيف،و تمّ تصحيحهما على الأصل.

المناقشة:
اشارة

أوّلاً:إنّ الإمام عليه السلام ليس بصدد الثناء على عامّة أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم حتّى يستدلّ بكلامه على عدالة الجميع،إذ أين هذه السمات الواردة في الخطبتين من الأعراب و الطلقاء و المرتدّين؟! و انّما يثني على صنف خاص منهم،و هم الذين آمنوا و جاهدوا إبّان ضعف الإسلام و خموله و كانوا أرباب زهد و عبادة و جهاد في سبيل اللّه،نظراء:

- مصعب بن عمير القرشي،من بني عبد الدار.

- سعد بن معاذ الأنصاري من الأوس.

- جعفر بن أبي طالب.

- عبد اللّه بن رواحة الأنصاري،من الخزرج

- عمّار بن ياسر.

- أبو ذر الغفاري.

- المقداد الكندي.

- سلمان الفارسي.

- خَبّاب بن الأرتّ و نظرائهم مضافاً إلى جماعة من أصحاب الصُّفَّة و فقراء المسلمين أرباب

ص:651


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 117، [1]شرح محمد عبده؛شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:291/7.و [2]لاحظ تأمّلات في كتاب نهج البلاغة:21.و [3]قد نقل الكاتب الخطبتين،و فيهما بعض التصحيف،و تمّ تصحيحهما على الأصل.

العبادة الذين قد جمعوا بين الزهد و الشجاعة.

فإطراء هؤلاء و هذه سماتهم و صفاتهم لا يكون دليلاً على إخلاص صحابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قاطبة،و سيوافيك أنّ الإطراء على جميع الصحابة لا يعدّ دليلاً على إطراء كلّ واحد واحد منهم.

و ثانياً:نحن نشاطر فضيلة الشيخ في أنّه لا يجوز سب المؤمن فضلاً عن سب أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم،الذين رأوا نور الوحي و استضاءوا به خصوصاً من شهد بدراً و أُحداً و الأحزاب و اتّبعوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم طيلة حياته و أحسنوا الصحبة معه.

و للأئمة المعصومين كلمات أُخرى غير ما ذكره فضيلة الشيخ حول الصحابة،منقولة في كتب الشيعة،و هذا هو الإمام زين العابدين يقول في دعائه:«اللّهم و أصحاب محمد صلى الله عليه و آله و سلم خاصة الذين أحسنوا الصحبة و الذين أبلوا البلاء الحسن في نصره،و كانفوه و أسرعوا إلى وفادته،و سابقوا إلى دعوته...» (1).

و مع الإيمان بهذا كلّه،فلنا وقفات مع فضيلة الشيخ:

الأُولى:حب الصحابة كرامة للمحب

لا أظن انّ أحداً يؤمن باللّه و رسوله و يحب اللّه و رسوله يبغض الصحابة و يسبّهم،لأنّهم صحابة نبيّهم،لأنّ الإيمان بالرسول و الحب له لا يجتمع مع بغض من أعانه و فدّاه بنفسه و نفيسه قبل الهجرة و بعدها،من غير فرق بين مَن آمن بمكة و عُذِّب و قتل أو مات،و بين مَن هاجر إلى المدينة و شارك النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غزواته و شايعه في ساعة العسرة كالبدريّين و الأُحديّين و غيرهم من الصحابة الذين حفل القرآن الكريم و التاريخ بذكرهم و ذكر تضحياتهم،و هذا شيء لا يختلف فيه اثنان

ص:652


1- 1) .الصحيفة السجادية:الدعاء الرابع. [1]

من المسلمين،فرميُ الشيعة بسبّ الصحابة فرية ليس فيه مرية،خصوصاً أنّ قسماً من صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم كانوا رُوّاد التشيّع و أتباع علي عليه السلام قبل رحيل الرسول و بعده،و لازموه إلى أن وافاهم الأجل،و قد تكفّل التاريخ بذكر أسمائهم،و عقدنا البحث في سيرهم في كتاب مفرد.

و هذه التهمة أشاعها أعداء أهل البيت عليهم السلام لا سيّما الأُمويّين ثمّ العباسيّين و من تبعهم،و ما ذلك إلّا لأنّ الشيعة منذ ظهورهم لم يوالوا السلطات الزمنية قط،بل قاموا بوجهها،و لذلك رمتهم السلطات الظالمة بهذه التهمة،و هم منها براء كبراءة يوسف ممّا اتّهم به.

و يشهد على ذلك كلمات الإمام في«نهج البلاغة»،و دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام في صحيفته السجادية كما مرت الإشارة إلى ذلك.

الثانية:إنّ النقد الموضوعي لأعمال الصحابة على ضوء الكتاب و السنّة لا يعني سبَّهم،

فإنّ سباب المسلم فسوق،كما أنّ دراسة حياة الصحابي وفق المعايير العلمية و الّتي قد تنتهي بنتيجة قاسية في حق الصحابي لا تعد سبّاً.و ها نحن نذكر أسماء عدد قليل من الصحابة الذين رأوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عاشوا معه و صحبوه و مع ذلك يندّد بهم القرآن الكريم و السنّة النبوية و التاريخ الصحيح.

1-الوليد بن عقبة الفاسق

إنّ القرآن الكريم يحثُّ المؤمنين و في مقدّمتهم الصحابة الحضور،على

ص:653

التحرّز من خبر الفاسق حتّى يتبيّن،فمن هذا الفاسق الّذي أمر القرآن بالتحرز منه؟ اقرأ أنت ما نزل حول الآية من شأن النزول و احكم بما هو الحق.

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» 1.

اتّفق المفسرون على أنّ الآية نزلت في حقّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط و قد سوّد الرجل صحائف حياته بأعمال سيئة سجلها التاريخ، و قد أمّ المصلّين في مسجد الكوفة و هو سكران،إلى غير ذلك من موبقات الأعمال الّتي تعدّ من مسلّمات التاريخ.

2-أبو الغادية قاتل عمّار

يعرّفه ابن حجر بقوله:أبو الغادية الجهني،اسمه:يسار،سكن الشام،و روي أنّه سمع النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول:إنّ دماءكم و أموالكم حرام،و قال الدوري عن ابن معين:أبو الغادية الجهني قاتل عمار،له صحبة.

و العجب أنّ ابن حجر مع ذكره هذا و نقله عن البخاري و مسلم،يقول:إنّه كان متأوّلاً،و للمجتهد المخطئ أجر (1).

و يا للعجب يقطر التاريخ ظلماً و دماً باسم الدين و الاجتهاد و إصلاح الأُمور!! و كلّما كثر الذنب،ازداد الاجر للمجتهد.

3-مسلم بن عقبة قاتل أهل المدينة

مسلم بن عقبة الأشجعي من صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم،ذكره ابن حجر في

ص:654


1- 2) .الإصابة:150/3،باب الكنى. [1]

«الإصابة»برقم 7977،و كفى في حقّه ما ذكره الطبري في حوادث سنة 64 ه،يقول:و لمّا فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة و إنهاب جنده أموالهم ثلاثاً،شخَصَ بمن معه من الجند متوجّهاً إلى مكة،فلمّا وصل إلى قفا المشلل نزل به الموت،و ذلك في آخر محرم من سنة 64 ه (1).

4-بسر بن أبي أرطأة ذابح ولدي عبيد اللّه بن العباس

كان من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،شهد فتح مصر و احتفظ بها،و كان من شيعة معاوية،و كان معاوية وجّهه إلى اليمن و الحجاز في أوّل سنة أربعين و أمره أن ينظر من كان في طاعة علي فيوقع بهم،ففعل ذلك.

و قد ارتكب جرائم كثيرة ذكرها التاريخ،و لمّا كانت تمسّ عدالة الصحابة و كرامتهم أعرض ابن حجر عن استعراضها مكتفياً بالقول:و له أخبار شهيرة في الفتن لا ينبغي التشاغل بها!!

و من جرائمه الّتي لا تستقال و لا تغتفر ذبحه ولدي عبيد اللّه بن العباس.

قال الطبري:أرسل معاوية بن أبي سفيان بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطأة فساروا من الشام حتى قدموا المدينة،و عامل علي على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري ففرّ منهم أبو أيوب.ثمّ صعد بسر على المنبر و نادى:يا أهل المدينة و اللّه لو لا ما عهد إليَّ معاوية ما تركت بها محتلماً إلّا قتلته-إلى أن قال:-ثمّ مضى بسر إلى اليمن و كان عليها عبيد اللّه بن عباس،فلمّا بلغه مسيره فرّ إلى الكوفة و استخلف عبد اللّه بن عبد المدان الحارثي على اليمن،فأتاه بسر فقتله و قتل ابنه،و لقي بسر ثَقَلَ عبيد اللّه بن عباس و فيه ابنان له،فذبحهما (2).

ص:655


1- 1) .تاريخ الطبري:381/4، [1]حوادث سنة 64.
2- 2) .تاريخ الطبري:107/4، [2]حوادث سنة أربعين؛سير اعلام النبلاء:409/3،برقم 65.
5-معاوية بن أبي سفيان رأس الفئة الباغية

نحن لا نصف معاوية بالأحاديث الذامّة في حقّه و بينها صحاح و حسان،بل نكتفي بالأمر المتواتر و هو انّه كان يرأس الفئة الباغية الّتي قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقّها:ويح عمار تقتلك الفئة الباغية،يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار». (1)

هذه نماذج من الصحابة الذين ألبسهم أهل السنّة ثوب العدالة بل العصمة،فلا تراهم يذكرون شيئاً مما يرجع إلى موبقات أعمالهم.

إنّ القرآن الكريم يذكر من بين الصحابة فئات و يصفهم بأنّهم:

1-المنافقون المعروفون (2).

2-المنافقون المختفون (3).

3-مرضى القلوب (4).

4-السمّاعون (5).

5-خالطوا العمل الصالح بغيره (6).

6-المشرفون على الارتداد (7).

7-المؤلّفة قلوبهم (8).

8-المولّون أمام الكفّار (9).

9-الفاسقون (10).

و مع هذا التقسيم و التصنيف كيف يمكن أن نصف عامة الصحابة

ص:656


1- 1) .صحيح البخاري،الجهاد:30/6 رقم 2813.و لاحظ الجمع بين الصحيحين للحميري:47/2 رقم 1794.
2- 2) .المنافقون:1.
3- 3) .التوبة:101.
4- 4) .الأحزاب:12.
5- 5) .التوبة:47.
6- 6) .التوبة:102.
7- 7) .الأعراف:154.
8- 8) .التوبة:60. [1]
9- 9) .الأنفال:15-16.
10- 10) .الحجرات:6.

بالعدل و التقى؟! و هذا لا يعني أنّ كلّهم-نعوذ باللّه-كانوا كذلك،بل نقول:إنّ حكمهم حكم التابعين،فالشيعة لا تفرّق بين الصحابي و التابعي،و لا تعدّ وصف أعمالهم بما ثبت في التاريخ الصحيح سبّاً لهم،و لا تغضّ النظر عن التاريخ الصحيح.

و أمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ» و قوله: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ» .

و قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم:إنّ اللّه اطّلع على أهل بدر-انْ كان الخبر صحيحاً-فكلّه مشروط بسلامة العاقبة،و لا يجوز أن يخبر الحكيم فرداً غير معصوم بأنّه لا عقاب عليه فليفعل ما شاء.

و بعبارة أُخرى:كلّ ما ورد من الثناء على المهاجرين و الأنصار في الكتاب العزيز فانّما هو ثناء على مجموعهم لا على كلّ فرد فرد منهم و إن تبيّن فسقه و بانت زلّته،و كم له في الذكر الحكيم من نظير:

1-انّه سبحانه أثنى على بني إسرائيل في غير واحد من الآيات و قال: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» 1.

2-و قال تعالى: «وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» 2.

أ فيصح لأحد أن يستدلّ بهذه الآيات على تنزيه كلّ فرد من بني إسرائيل؟!

3-و قال تعالى في حق أُمّة نبيّنا: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» 3.

ص:657

فالآية تصف الأُمّة المرحومة بأنّها خير أُمّة و لكنّها ليست بصالحة للاستدلال على صلاح كلّ مسلم و فلاحه.

و نحن لم نزل نسمع من كلّ من يحاول إثبات عدالة كلّ صحابي،الاستدلال بهذه الآيات و لكنّهم غفلوا عن نكات:

الأُولى:انّ الآيات نزلت في حقّ المهاجرين و الأنصار فأين هي من الأعراب و الطلقاء و المرتدّين و المنافقين المندسّين في الصحابة؟!

الثانية:انّها ثناء على مجموعة و لا يخص كلّ فرد فرد منهم،فإذا أثنى الشاعر على الأُمّة العربية فانّما يريد المجموعة من الأُمّة لا كلّ فرد فرد حتّى أولئك الخونة الذين باعوا الأراضي الإسلامية بثمن زهيد.

الثالثة:الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الخلاف

ثمّ إنّ كثيراً من المحدّثين و المؤرّخين لمّا وقفوا على الموبقات الّتي ارتكبها بعض صحابة النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد رحيله،أسّسوا هنا أصلاً مفاده ضرورة الإمساك عمّا شجر بين الصحابة من الخلاف،و ربّما يقولون تلك دماء طهّر اللّه منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا!! و القول منسوب إلى عمر بن عبد العزيز و ربّما ينسب إلى الإمام أحمد بن حنبل.

و أنت خبير بأنّها تغطية و تعمية على الحقائق الثابتة.لما ذا أوجبوا الإمساك عمّا شجر بينهم من الخلاف،و هم بين ظالم و مظلوم،و هذه الشريعة الغرّاء تدعونا إلى أن نكون للظالم خصماً،و للمظلوم عوناً.

على أنّ الكلام المنسوب لعمر بن عبد العزيز أو أحمد بن حنبل يوهم بأنّ تلك الدماء كلّها قد سفكت بغير حق،فكأنّ القاتلين و المقتولين في الحروب

ص:658

الثلاثة:الجمل و صفين و النهروان كلّهم طغاة و بغاة،يجب أن لا نلوّث ألسنتنا بدمائهم.

هذا غيض من فيض ممّا يمكن أن يقال في الصحابة،و لو أردنا ان نفصّل البحث فيهم و نسرد أسماء من ظهر منهم الظلم و الفسق - كالحكم بن أبي العاص،و ابنه مروان بن الحكم،و وحشي بن حرب قاتل حمزة،و عبد اللّه بن وهب الراسبي من رءوس الخوارج و أمثالهم - لاحتجنا إلى كتاب مفرد،و عند ذاك أذعنت انّ الحقّ مع الشيعة حيث تنظر إلى الصحابة و التابعين بنظرة واحدة،و تكيلهما بكيل واحد و لا ترى دراسة أحوال الصحابة بالمعايير الصحيحة،سبّاً لهم،و ذلك اقتداءً بالكتاب العزيز أوّلاً،و السنّة النبوية ثانياً،و السلف الصالح ثالثاً،فإنّ الجميع يحفل بذكر الفضائل و المناقب،كما يحفل بذكر مساوئ الأعمال و قبائح الأفعال.

ص:659

9

اشارة

إنّ عليّاً لم يكفّر أحداً ممّن قاتله

يقول الشيخ:

إنّ عليّاً لم يكفّر أحداً ممّن قاتله حتّى و لا الخوارج،و لا سبّ ذرية أحد منهم،و لا غنم ماله،و لا حكم في أحد ممّن قاتله بحكم المرتدّين كما حكم أبو بكر و سائر الصحابة في بني حنيفة و أمثالهم من المرتدّين،بل كان يترضّى عن طلحة و الزبير و غيرهما ممّن قاتلهم،و يحكم فيهم و في أصحاب معاوية ممّن قاتلهم بحكم المسلمين،و قد ثبت بالنقل الصحيح عند أهل السنّة و غيرهم أنّ مناديه نادى يوم الجمل لا يُتبع مدبر، و لا يُجهز على جريح و لا يغنم مال.و استفاضت الآثار أنّه كان يقول عن

قتلى معاوية:إنّهم جميعاً مسلمون ليسوا كفّاراً و لا منافقين.و هذا ثبت بنقل الشيعة عن نفسها (1).

المناقشة:

ما ذكره فضيلة الشيخ لا غبار عليه،و نحن الشيعة لا نكفِّر أحداً من الصحابة و لا التابعين و لا سائر الفرق ممّن يشهدون بالأُصول الثلاثة:

ص:660


1- 1) .تأمّلات في كتاب نهج البلاغة:23.

1-التوحيد.

2-رسالة النبي الخاتم.

3-المعاد.

و هذا هو معيار الإيمان و الكفر في كتبهم و نقتصر هنا على كلمتين لعلمين من قدماء الإمامية:

قال ابن ميثم البحراني (المتوفّى 679 ه) شارح النهج:الكفر إنكار صدق الرسول و إنكار شيء ممّا علم مجيئه به بالضرورة. (1)

و قال الفاضل المقداد (المتوفّى 828 ه):الكفر اصطلاحاً هو إنكار ما علم ضرورة مجيء الإسلام به (2).

و لو حاولنا أن نذكر نصوص علمائنا القدامى في معيار الإيمان و الكفر لطال بنا الكلام في المقام مع أنّ أساس الرسالة قائم على الإيجاز و الاختصار.

و ها نحن نردف النصّين المذكورين بنصّين آخرين لأشهر مراجع الفتيا بين الشيعة في هذه الأعصار:

قال السيد الطباطبائي:و المراد بالكافر من كان منكراً للأُلوهية أو التوحيد أو الرسالة أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضروريّاً بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة (3).

و قال السيد الإمام الخميني:الكافر:هو من انتحل غير الإسلام،أو انتحله و جحد ما يعلم من الدين ضرورة بحيث يرجع جحوده إلى إنكار الرسالة أو تكذيب النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو تنقيص شريعته المطهّرة (4).

ص:661


1- 1) .قواعد المرام:171. [1]
2- 2) .إرشاد الطالبين:443. [2]
3- 3) .العروة الوثقى،كتاب الطهارة، [3]قسم النجاسات الثامن:الكافر:24.
4- 4) .تحرير الوسيلة:118/1. [4]

و على ذلك،فأبناء الفرق الإسلامية سنّيّهم و شيعيّهم محكومون بالإسلام ما داموا يستظلّون بخيمة التوحيد و الرسالة و الاعتقاد بالمعاد و لا ينكرون شيئاً من ضروريات الدين التي ربّما يرجع إنكارها إلى انكار الرسالة.

فأين التكفير الذي يفترى على الشيعة بالنسبة إلى سائر الفرق؟! و قد عرفت أنّ وصف الأعمال و دراسة حياة الصحابي و التابعي لا يمَتُّ إلى السبّ و لا إلى التكفير،و لو كان هناك خطب فانّما هو في كتب الآخرين و أفعالهم،و بما أنّ فضيلة الشيخ من الحنابلة نذكر شيئاً قليلاً من تكفيراتهم المروّعة لطوائف من المسلمين،حتّى يتبيّن الداعي إلى وحدة الكلمة عن مفرّق الجماعة و الصفوف!!

مسلسل التكفير في كتب الحنابلة:
اشارة

إنّ فضيلة الشيخ رمى الشيعة تلويحاً بتهمة تكفير البعض،و قد عرفت أنّ الشيعة بريئة من هذه التهمة،و انّ كل من آمن بالأُصول الثلاثة و لم ينكر شيئاً من ضروريات الدين فهو مسلم،و المسلم أخو المسلم من غير فرق بين شيعيّهم و سنّيّهم،و يجب على الجميع الاعتصام بحبل اللّه و الوقوف بوجه كلّ من يتربّص بالإسلام الدوائر.

و لكن أُلفِتُ نظر الشيخ لنكتة مهمة و هي وجود مسلسل التكفير في كتب الحنابلة بالنسبة إلى بعض أئمة المذاهب الفقهية و سائر المسلمين،و ها نحن نذكر نماذج لهذا الموضوع:

1-تكفير أبي حنيفة و الحنفية:

هذا هو عبد اللّه بن أحمد بن حنبل (المتوفّى 290 ه) كفّر في كتابه

ص:662

«السنّة»أبا حنيفة و عرّفه بالنحو التالي:كافر،زنديق،مات جهمياً،ينقض الإسلام عروة عروة،ما ولد في الإسلام أشأم و لا أضرَّ على الأُمّة منه،و أنّه أبو الخطايا،و أنّه يكيد الدين،و أنّه نبطي غير عربي و أنّ الخمّارين خير من أتباع أبي حنيفة،و أنّ الحنفية أشدّ على المسلمين من اللصوص،و أنّ أصحاب أبي حنيفة مثل الذين يكشفون عوراتهم في المساجد! و أنّ أبا حنيفة سيُكبّه اللّه في النار،و أنّه أبو جيفة،و انّ المسلم يؤجر على بغض أبي حنيفة و أصحابه... (1)

و ربّما يتصوّر القارئ أن التكفير يختصّ بالولد و أنّ الوالد-أعني الإمام أحمد-منزّه عن هذه الوصمة،و لكنّه لو رجع إلى كتبه المطبوعة باسمه يرى أنّ الولد تبع والده في التكفير.

2-تكفير من قال:القرآن كلام اللّه:

هذا هو الوالد يقول:من زعم أن القرآن مخلوق فهو جهميّ كافر،و من زعم أنّ القرآن كلام اللّه و وقف و لم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأوّل،و من زعم أنّ ألفاظنا به و تلاوتنا له مخلوقة و القرآن كلام اللّه فهو جهمي،و من لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم (2).

تجد أنّ الإمام يكفّر من قال بأنّ القرآن كلام اللّه و وقف،بل يراه أخبث ممّن يقول بأن القرآن مخلوق،و حتّى يكفّر من لم يكفّرهم.

و عندئذ نسأل فضيلة الشيخ:انّ مسألة خلق القرآن و عدمه أو حدوث القرآن و قدمه،مسألة ليس لها جذور في الكتاب و السنّة و إنّما طُرحت في أيام خلافة المأمون و كانت بصمات يوحنّا النصراني

ص:663


1- 1) .كتاب السنّة:184/1-210،و لكلامه صلة فمن أراد فليرجع إلى نفس الكتاب.
2- 2) .طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى:29/1. [1]

الدمشقي (1)عليها واضحة،أ ليس اللازم على الإمام أحمد-حسب أُصول المحدّثين و السلفيّين-أن لا يخوض في هذه المسألة عند المرور عليها و يسكت عن وصف القرآن بالقدم أو الحدوث؟!

و ربما يتصوّر القارئ أن مسلسل التكفير قد انتهى في أوساط الحنابلة بموت الوالد و الولد،و لكن المتتبع في التاريخ يرى استمرار التكفير على يد علماء الحنابلة.كابن تيميّة و تلميذه ابن القيم و نذكر من الاخير شيئاً.

3-التكفير عند ابن قيّم الجوزية:

لقد نحا ابن قيّم الجوزية (المتوفّى 751 ه) منحى أُستاذه ابن تيميّة في تكفير المسلمين فأطلق على المسلمين قاطبة اسم«المعطّلة» و على منهجه و منهج أُستاذه اسم«المثبتة»حيث اختلفا مع سائر المسلمين في مفاد الصفات الخبرية كيد اللّه،و عين اللّه،و غيرهما،فالمسلمون على إجراء هذه الصفات على اللّه سبحانه مع تجريدها من التشبيه و التجسيم،و لكنّهما يصرّان على إجرائها على اللّه سبحانه بنفس معانيها اللغوية من دون تجريد عن التجسيم و التشبيه،و لذلك يطلقون على فرق المسلمين من الأشاعرة و المعتزلة و الإمامية اسم«المعطّلة».

يقول ابن القيّم في نونيته المعروفة،المشحونة بالتشبيه و التجسيم: لكن أخو التعطيل شر من أخي الإشراك بالمعقول و البرهان

ص:664


1- 1) .و هو من حفدة سرجون بن منصور الرومي النصراني المشرف على الشئون المالية للدولة الأُموية في عصر معاوية و من بعده إلى زمن عبد الملك.و قد بسطنا-في كتابنا«بحوث في الملل و النحل»ج 3- [1]الكلام في تاريخ مسألة حدوث القرآن و قدمه و أنّها من أين نشأت؟ و كيف دخلت في حوزة الإسلام؟

ان المعطَّل جاحد للذات أو

4-تشبيه الروافض باليهود و النصارى:

إنّ من البحوث الدارجة في كتب الحنابلة هو تشبيه الشيعة أو الروافض حسب مصطلحهم باليهود و النصارى،و هذا هو ابن الجوزي (510-597 ه) قد فتح باباً في كتاب«الموضوعات»في تشبيه الروافض باليهود و النصارى،و ذكر هناك وجوهاً عشرة تجمعهم،فقال:

1-محنة الرافضة،محنة اليهود قالت اليهود لا يصلح الملك إلّا في آل داود و قالت الرافضة لا تصلح الإمارة إلّا في آل علي.

2-و قالت اليهود لا جهاد في سبيل اللّه حتى يخرج المسيح الدجال و قالت الرافضة لا جهاد حتى يخرج المهدي... (1)

و قد سبقه إلى ذلك ابن حزم الظاهري (المتوفّى 456 ه) فذكر نفس الوجوه التي اعتمد عليها ابن الجوزي في«الموضوعات»و الظاهر انّ ابن الجوزي أخذها عن ابن حزم «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» 3 .

قل لنا يا صاحب الفضيلة:هل رأيتم شيعياً يُشبّه أخاه السنّيّ باليهود و يختلق له وجوهاً عشرة،كيف يطيب لكم إخراج هذه الكتب و طبعها و نشرها

ص:665


1- 2) .الموضوعات:338/1-339.

و قراءتها دون أن تؤدّوا واجبكم أمام هذه التهم؟! أ فرأيتم شيعياً،يصلّي إلى غير الكعبة،أو ينتحل غير دين الإسلام،أو يختلف في القرآن أنّه كلام اللّه سبحانه النازل على قلب سيد المرسلين ليكون من المنذرين،أو يختلف في الصلوات الخمس،أو في حج بيت اللّه الحرام،و ما ضاهاها من الأُصول و الفروع.

نعم يفارق الشيعة إخوانَهم السنّة في مسائل اجتهادية،فهم مثلاً يمسحون الأرجل مكان غسلها-تبعاً لظاهر الكتاب-و لا يروْن المسح على الخفين مجزياً،و يجهرون بالبسملة في الصلوات الجهرية،و يقولون بجواز الجمع بين الصلاتين في السفر و الحضر من دون عذر؛أخذاً بما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم متضافراً:«جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الظهر و العصر جميعاً،و المغرب و العشاء من غير خوف و لا سفر»،و يروْن القصر و الإفطار في السفر عزيمة لا رخصة،و يقيمون نوافل رمضان (التراويح) فرادى في البيوت عملاً بوصية الرسول صلى الله عليه و آله و سلم،و يصدرون في هذه الموارد و نظائرها عن الكتاب و السنّة.

نعم لو لا الدعايات الخادعة،من الأُمويّين و العباسيّين ثمّ العثمانيّين عبر القرون في تشويه سمعة الشيعة،لعلمتم أنّ الشيعي هو الأخ الذي افتقدتموه طيلة قرون،و التشيّع و التسنّن صنوان من أصل واحد،و الاختلاف بين الشيعة و السنّة،ليس بأكثر من الاختلاف بين المذاهب الأربعة.يعرف ذلك من له إلمام بالفقه على المذاهب الخمسة.

و هذا هو ابن جبرين المعاصر،جلس على منصة الفتيا في السعوديّة و كفّر الشيعة في جواب سؤال رُفع إليه،فقال في جواب السؤال:

أما بعد؛فلا يحل ذبح الرافضي و لا أكل ذبيحته،فإنّ الرافضة غالباً مشركون،حيث يدعون علي بن أبي طالب دائماً في الشدة و الرخاء حتى في عرفات

ص:666

و الطواف و السعي... (1)

سبحان اللّه تُؤكل ذبيحة اليهودي و النصراني في الحرمين الشريفين،و في عامَّة بلادهم مع أنّها ذبيحة لم يذكر عليها اسم اللّه،و لكن لا تباح ذبيحة من آمن باللّه رباً،و بمحمد رسولاً،و بالإسلام ديناً،و بالقرآن كتاباً،و بالكعبة قبلة!!

و قد حكى بعض المعاصرين في كتابٍ له أنّه رأى رسالة عنوانها«بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود»و أضاف قائلاً:

نشأنا هنا في الخليج عامة و في المملكة خاصة على أن الشيعة فيهم معظم صفات اليهود و النصارى و أنّهم أسوأ من اليهود و النصارى بخصلتين حتى طبعت في ذلك الكتب و نوقشت الرسائل العلمية! مع أنّ كل هذا أخذناه من ابن تيمية،فقد ذكره ابن تيمية في مقدّمة منهاج السنة معتمداً على رواية مكذوبة من رواية أحد الكذّابين و اسمه عبد الرحمن بن مالك بن مغول رواها عن والده عن الشعبي،و هما بريئان من تلك الرواية.

أبعد مسلسلات التكفير و التفسيق هذه،يصح لشيخنا القاضي أن يشتكي الشيعة بتكفيرهم و تفسيقهم الآخرين،فأيّ الفريقين أولى بالإثم،فاقضِ بوجدانك الحرّ؟!!

حرام على بلابله الدوح

قل لنا يا صاحب الفضيلة:أنتم من قضاة المحكمة الكبرى في القطيف-حسب العنوان المكتوب على غلاف الرسالة-و القطيف جزء من المنطقة الشرقية،

ص:667


1- 1) .الجواب المؤرخ:1412/2/22 ه و قد ألّفنا رسالة مفردة في رد ما افترى على الشيعة في هذه الفتيا القصيرة،و طبعت باسم:«القول المبين في الرد على ابن جبرين».

يغلب عليها التشيّع من العصور الأُولى إلى يومنا هذا،فلما ذا تصادرون الكتب الشيعية،و في الوقت نفسه،تدخل المجلات الغربية التي رسالتها الدعوة إلى الخلاعة و الانحلال الأخلاقي،بوفرة من دون رقابة؟! أ حرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس

هذا و قد أصبحت الرياض-بحمد اللّه-عاصمة للثقافة عام 2000 م،و مع هذا،لا تزال الكتب الشيعية حتى المصاحف المطبوعة في إيران،و الصحيفة السجادية تصادر بلا اكتراث من قبل رجال الجمارك،و يُمنع الزائرون من إدخالها.

و قد اقتصرتُ في هذا المقام على بثّ القليل من الشكوى،و نحيل الباقي إلى آونة أُخرى. فدع عنك نهباً،صِيحَ في حجَراته و لكن حديثاً ما حديث الرواحل

اللهم ارزق المسلمين توحيد الكلمة،كما رزقتهم كلمة التوحيد،و اجعل الجميع صفاً واحداً أمام الأعداء و أرنا الحقّ و وفّقنا لاتّباعه، و أرنا الباطل و أعنّا على اجتنابه بمنِّك وجودك و إحسانك.

ص:668

10 الشيعة خالفوا إمامهم عليّاً

يقول الشيخ:

إنّ عليّاً يذم الذين ادعوا التشيع له و خالفوا أوامره من شيعة الكوفة حتى قال فيهم:

1-«لودِدْتُ أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم،فأخذ منّي عشرة منكم،و أعطاني رجلا منهم.يا أهل الكوفة منيتُ منكم بثلاث و اثنتين:صم ذوو أسماع،و بكم ذوو كلام،و عمي ذوو أبصار» (1).

2-و قال:«اللهم إنّي مللتُهم و ملّوني،و سئمتهم و سئموني فأبدلني بهم خيراً منهم،و أبدلهم بي شرّاً منّي» (2).

و قال:«يا أشباه الرجال و لا رجال! حلوم الأطفال،و عقول ربّات الحجال لوَدِدْت أنّي لم أَرَكم،و لم أعرفْكم معرفةً-و اللّه-جرّت ندماً و أعقبتْ سَدَماً،قاتلكم اللّه لقد ملأتم قلبي قيحاً،و شحنتم صدري غيظاً،و جرّعتموني نُغَبَ التهمام أنفاساً،و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و الخذلان». (3)

ص:669


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 93 [1] ط عبده؛شرح نهج البلاغة:70/7-71.
2- 2) .نهج البلاغة:الخطبة 24 ط عبده؛ [2]شرح نهج البلاغة:333/1.
3- 3) .نهج البلاغة:الخطبة 26، [3]ط عبده؛شرح نهج البلاغة:74/2-75.
المناقشة:

إنّ فضيلة الشيخ يتصوّر أنّ أهل العراق كانوا على رأي واحد،و كانوا كلهم شيعة الإمام عليه السلام،و ذم الإمام عليه السلام يتوجّه إلى شيعته و تابعيه، و بذلك استدلّ على أنّ الشيعة خالفوا إمامهم،و لكنّه لو قلب صفحات التاريخ لوقف على أنّ أهل العراق كانت لديهم أهواء مختلفة و مشارب متنوّعة.

يقول ابن أبي الحديد:إنّ أصحاب علي كانوا فرقتين:

إحداهما:تذهب إلى أن عثمان قُتل مظلوماً و تتولّاه و تبرأ من أعدائه.

و الأُخرى-و هم جمهور أصحاب الحرب و أهل الغَناء و البأس-:يعتقدون أنّ عثمانَ قتِل لأحداث أوجبت عليه القتل،و قد كان منهم من يصرّح بتكفيره.و كل من هاتين الفرقتين يزعم أنّ علياً عليه السلام موافق لها على رأيها،و تطالبه في كل وقت بأن يبدي مذهبه في عثمان و تسأله أن يجيب بجواب واضح في أمره،و كان عليه السلام يعلم أنّه متى وافق إحدى الطائفتين باينته الأُخرى و أسلمته و تولّت عنه و خذلته،فأخذ عليه السلام يعتمد في جوابه و يستعمل في كلامه ما يظن به كل واحدة من الفرقتين أنّه يوافق رأيها و يماثل اعتقادها (1).

و الإمام و إن كان يخاطب أهل الكوفة و يذمّهم،إلّا أنّ المجتمع الكوفي لم يكن آنذاك معقل الشيعة حسب،بل كانت تتقاسمه اتجاهات مختلفة:

1-طائفة كانت علويّة الهوى تقاتل مع علي عليه السلام عن عقيدة و ثبات بما أنّه خليفة الرسول الذي نصّ على خلافته في يوم الغدير و غيره، و هم الشيعة الخلّص كعمار بن ياسر،و حجر بن عدي،و عمرو بن الحَمِق،و صعصعة بن صوحان،و زيد

ص:670


1- 1) .شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:73/7-74. [1]

بن صوحان،و كميل بن زياد،و ميثم التمار،و غيرهم من أعيان الشيعة و روّادهم.

2-طائفة أُخرى كانت على عقيدة التربيع،و أنّ الإمام رابع الخلفاء و تجب إطاعته كإطاعة السابقين،فلذلك أجابوا دعوته و حاربوا الناكثين في البصرة و القاسطين في صفين و المارقين في النهروان.

3-طائفة ثالثة كانت عثمانية الهوى،و هم أهل البصرة الذين ساندوا طلحة و الزبير في محاربتهما عليّاً،و لمّا قُتلا انضمّوا إلى جيش علي عليه السلام كرهاً لا طوعاً،و كانوا يضمرون لعلي عليه السلام الحقد و الكراهية،و يطيعونه في الظاهر.

4-طائفة رابعة هي الطابور الخامس لمعاوية،كالأشعث بن قيس (و من كان معه) الذي أفسد الأمر على الإمام في قضية رفع المصاحف، و حتى خُدع به جمع غفير ممّن كان في عسكر الإمام عليه السلام و إنْ ندموا على فعلهم فيما بعد،و هم الخوارج.

و الذي يوقفك على أنّ الإمام لا يخاطب فئة خاصة،بل يخاطب المجتمع الكوفي بكافة عناصره،ما رواه المؤرخون في أنّ الإمام عليه السلام بعد ما خاطب القوم بقوله:«يا أشباه الرجال و لا رجال حُلوم الأطفال،و عقول ربَّات الحجال»قام إليه رجل آدم طوال،فقال:ما أنت بمحمد،و لا نحن بأُولئك الذين ذكرت،فقال عليه السلام:«أحسن سمعاً تُحسن إجابة،ثكلتكم الثواكل! ما تزيدونني إلّا غمّاً! هل أخبرتكم أنّي محمد،و أنّكم الأنصار! إنّما ضربت لكم مثلاً،و إنما أرجو أن تتأسّوْا بهم» (1).

ثمّ قام رجل آخر،فقال:ما أحوج أمير المؤمنين اليوم و أصحابه إلى أصحاب النهروان.ثمّ تكلّم الناس من كل ناحية و لغطوا،و قام رجل منهم،فقال بأعلى صوته:استبان فقدُ الأشتر على أهل العراق! أشهد لو كان حيّاً لقلّ اللغط،و لعلم

ص:671


1- 1) .شرح نهج البلاغة:89/1-90.

كلّ امرئ ما يقول.

فقال علي عليه السلام:«هبلتكم الهوابل! أنا أوجب عليكم حقّاً من الأشتر،و هل للأشتر عليكم من الحقّ إلّا حقّ المسلم على المسلم»!

فقام حجر بن عدي الكندي و سعيد بن قيس الهمداني،فقالا:لا يسوؤك اللّه يا أمير المؤمنين،مرنا بأمرك نتبعه،فو الله ما نعظم جزعاً على أموالنا إن نفدتْ،و لا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك،فقال:«تجهّزوا للمسير إلى عدونا». (1)

و قد ابتُلي الإمام بهذه الطوائف المختلفة الأهواء المتعددة المشارب،و مع ذلك حارب بها الناكثين و القاسطين و المارقين،و هذا يدلّ على حكمته و صبره.

قال ابن أبي الحديد:

إنّ علياً كان يقرأ في صلاة الصبح و خلفه جماعة من أصحابه،فقرأ واحد منهم رافعاً صوته،معارضاً قراءة أمير المؤمنين عليه السلام «إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» 2 فلم يضطرب عليه السلام و لم يقطع صلاته و لم يلتفت وراءه،و لكنّه قرأ معارضاً له على البديهة «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» 3 .و هذا صبر عظيم (2).

ص:672


1- 1) .شرح نهج البلاغة:90/1.
2- 4) .شرح نهج البلاغة:73/7.

11

اشارة

الإمام ينهى عن الجزع في المصيبة

يقول الشيخ:

1-و في نهج البلاغة:و قال علي عليه السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم مخاطباً إيّاه:لو لا أنّك أمرت بالصبر و نهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون (1).

2-و ذكر في نهج البلاغة أيضاً انّ علياً عليه السلام قال:من ضرب يده على فخذه عند مصيبته حبط أجره (2).

المناقشة:

إنّ فضيلة الشيخ ذكر هاتين الكلمتين تحت في عداد البحث عن الغلو مع أنّهما لا صلة لهما بالغلو و انّما هي مسألة أُخرى،و هي جواز البكاء على الميت و عقد المجالس لأجله،و هذه مسألة فقهية ثبت جوازها بقول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و فعله،و إليك التفصيل:

الحزن و التأثّر عند فقدان الأحبّة أمر جُبلت عليه الفطرة الإنسانية،فإذا ابتلي الإنسان بمصاب عزيز من أعزّائه أو فلذة من أفلاذ كبده و أرحامه،يحسُّ

ص:673


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 230، [1]شرح محمد عبده؛شرح نهج البلاغة:24/13. [2]
2- 2) .نهج البلاغة:قصار الحكم،144؛ [3]شرح نهج البلاغة:342/18.

بحزن شديد،تُذرف على أثره الدموع،دون أن يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه.

و لا أجد أحداً ينكر هذه الحقيقة إنكارَ جدٍّ و موضوعية،و من الواضح بمكان انّ الإسلام دين الفطرة يجاريها و لا يخالفها.

قال سبحانه: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها» 1.

و لا يمكن لتشريع عالميٍّ أن يمنع الحزن و البكاء على فقد الأحبّة و يحرّم البكاء إذا لم يقترن بشيء يُغضبُ الربّ.

و من حسن الحظ نرى أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم و الصحابة الكرام و التابعين لهم بإحسان ساروا على وفق الفطرة.

فهذا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يبكي على ولده إبراهيم،و يقول:«العين تدمع،و القلب يحزن،و لا نقول إلّا ما يُرضي ربنا،و إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون» (1).

روى أصحاب السِّيَر و التاريخ،أنّه لمّا احتضر إبراهيم ابن النبي،جاء صلى الله عليه و آله و سلم فوجده في حجر أُمّه،فأخذه و وضعهُ في حجره،و قال:«يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّه شيئاً-ثمّ ذَرفتْ عيناه و قال:-إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون،تَبكي العينُ و يحزن القلبُ و لا نقول ما يسخط الربّ، و لو لا أنّه أمرٌ حقٌّ و وعدٌ صدقٌ و أنّها سبيل

مأتيّة،لحزَنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا».

و لمّا قال له عبد الرحمن بن عوف:«أو لم تكن نهيت عن البكاء»؟ أجاب بقوله:«لا،و لكن نَهيتُ عن صوتين أحمقين و آخرين،صوت عند مصيبة و خمش

ص:674


1- 2) .سنن أبي داود:58/1؛ [1]سنن ابن ماجة:482/1.

وجوه و شقّ جيوب و رنّة شيطان،و صوت عن نغمة لهو،و هذه رحمة،و من لا يَرحم لا يُرحَم» (1).

و ليس هذا أوّل و آخر بكاء منه صلى الله عليه و آله و سلم عند ابتلائه بمصاب أعزّائه،بل كان صلى الله عليه و آله و سلم بكى على ابنه«طاهر»و يقول:«إنّ العين تذرف و إنّ الدمع يغلب و القلب يحزن،و لا نعصي اللّه عزّ و جلّ» (2).

هذا و لو حاولنا أن نجمع الموارد التي بكى فيها النبي و الصحابة و التابعون على أعزائهم عند افتقادهم،لخرجنا برسالة مفردة و لكننا نقتصر هنا على بعض الموارد: (3)

1-لما أُصيب حمزة-رضى اللّه عنه-و جاءت صفية بنت عبد المطلب تطلبه فحال بينها و بينه الأنصار،فقال صلى الله عليه و آله و سلم دعوها،فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و إذا نشجت نَشَجَ،و كانت فاطمة-عليها السَّلام-تبكي،و رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كلّما بكت يبكي،و قال:

لن أُصاب بمثلك أبداً (4).

2-و لما رجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أُحد بكت نساء الأنصار على شهدائهن،فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال:لكن حمزة لا بواكي له،فرجع الأنصار فقالوا لنسائهم لا تبكين أحداً حتى تبدأن بحمزة،قال:فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميّتاً إلّا بدأن بحمزة (5).

3-و هذا هو صلى الله عليه و آله و سلم ينعى جعفراً و زيد بن حارثة و عبد اللّه بن رواحة وعيناه

ص:675


1- 1) .السيرة الحلبية:348/3. [1]
2- 2) .مجمع الزوائد للهيثمي:8/3.
3- 3) .لاحظ كتابنا«بحوث قرآنية في التوحيد و الشرك»:141-149.
4- 4) .امتاع المقريزي:154. [2]
5- 5) .مجمع الزوائد:120/6.

تذرفان (1).

4-و هذا هو صلى الله عليه و آله و سلم قد زار قبر أُمّه و بكى عليها و أبكى من حوله (2).

5-و هذا هو صلى الله عليه و آله و سلم يقبّل عثمان بن مظعون و هو ميت و دموعه تسيل على خده (3).

6-و هذا هو صلى الله عليه و آله و سلم يبكي على ابن لبعض بناته،فقال له عبادة بن الصامت:ما هذا يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:الرحمة التي جعلها اللّه في بني آدم و إنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء (4).

7-و هذه الصدّيقة الطاهرة تبكي على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و تقول:يا أبتاه مِنْ ربه ما أدناه،يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه،يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه،يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه (5).

إذا وقفت على ذلك لتبيّن ان البكاء على الميت و الحزن على فقدان الأحبّة أمر جميل جرت عليه السيرة،نعم الجزع المُعرِب عن الاعتراض على قضاء اللّه أمر مذموم و هذا ما قصده الإمام من قوله:«و لو لا أنّك أمرت بالصبر و نهيت عن الجزع».

إنّ ما أجاب به النبي صلى الله عليه و آله و سلم على اعتراض عبد الرحمن بن عوف يوضح ما هو المنهي عنه في المقام حيث قال صلى الله عليه و آله و سلم:«إنّما نهيت عن صوتين أحمقين،و آخرين:صوت عند مصيبة و خمش وجوه و شقّ جيوب و رنة شيطان»و معنى ذلك هو انّ

ص:676


1- 1) .سنن البيهقي:70/4.
2- 2) .سنن البيهقي:70/4.
3- 3) .سنن أبي داود:63/2. [1]
4- 4) .سنن أبي داود:58/2، [2]سنن ابن ماجة:481/1.
5- 5) .مستدرك الحاكم:163/3.

المنهي عنه هو الجزع الملازم لخمش الوجوه و شق الجيوب و رنة الشيطان،و من المعلوم أنّ الجزع بهذا المعنى لا يفارق الاعتراض على قضاء اللّه و تقديره،و أين هو من البكاء على فقد الأحبّة،مسلّماً لقضاء اللّه و راضياً بتقديره،دون أن يتكلّم بشيء يغضب الربّ أو يعمل عملاً يسخطه.

و الّذي يدلّ على ذلك أنّ الإمام جعل ضرب اليد على الفخذ عند المصيبة سبباً لحبط أجره،لأنّ الضرب نظير خمش الوجوه و شقّ الجيوب.

و الحاصل:انّ البكاء و الندب على فقد الأحبة و تبادل التعازي،لا ينافي الصبر الّذي أمرنا اللّه به سبحانه و قال: «وَ بَشِّرِ الصّابِرِينَ* اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» 1.

و ليس كبح النفس عن البكاء،و عدم تذريف الدموع آية الصبر،و خلافها آية الجزع بل يجمعهما الرضا بالقضاء و القدر سواء أبكي أم لا، ذرفت عينه الدموع أم لا.

نعم،بقي هنا كلام،و هو ان فضيلة الشيخ ندّد بمظاهر الحزن التي تُنشر في أيام عاشوراء و جعلها من أمارات الجزع.

و نُلفت نظر فضيلة الشيخ إلى النقاط التالية،و إنْ كان الموضوع يحتاج إلى بسط في الكلام:

الأُولى:إنّ اجتماع الشيعة في أيّام عاشوراء و إظهار الحزن على ما جرى على الحسين عليه السلام و أولاده و أصحابه في ذلك اليوم،يُعد من مظاهر الحب للرسول صلى الله عليه و آله و سلم و آله،و من الواضح أنّ حبَّ الرسول و أهل بيته من أُصول الإسلام،فقد تضافرت الأدلّة على ذلك و يكفيك ما يلي!

ص:677

فقد أمر الكتاب و السنّة بحب النبي صلى الله عليه و آله و سلم و ودّه أوّلاً،و تكريمه و توقيره ثانياً،و حثّ عليهما في الشريعة قال سبحانه: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» 1.

1-و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده و ولده و الناس أجمعين» (1).

2-و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«و الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبّ الناس إليه من والده و ولده» (2).

3-و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«ثلاث من كنَّ فيه وجَدَ حلاوة الإيمان و طعمه:أن يكون اللّه و رسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما،و أن يُحبّ في اللّه و يُبغض في اللّه،و أن تُوقَد نار عظيمة،فيقع فيها أحبّ إليه من أن يشرك باللّه شيئاً (3).

و هل يشك أحد في أنّ إظهار الحزن و الندب يوم عاشوراء بصور و مظاهر مختلفة آية حب النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته عليهم السلام،نعم كثيراً ما نسمع من خطباء الحرمين أنّ الحبّ هو الاتّباع،و هذا لا يخالف ما ذكرنا فإنّ للتعبير عن الحب مظاهر مختلفة،فالاتّباع من مظاهره،كما أنّ الفرح يوم فرحهم و الحزن يوم حزنهم من مظاهره.

الثانية:إنّ إقامة المآتم ليس أمراً بدْعيّاً،فقد قام بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم حال حياته و أهل بيته بعد رحيله صلى الله عليه و آله و سلم في مواقف مختلفة،نذكر منها موردين ليكون نموذجاً لما لم نذكر:

ص:678


1- 2) .جامع الأُصول:237/1-238 برقم 20 و 21 و 22.و هنا روايات،تعطف حبّ العترة على حب الرسول فلاحظ.
2- 3) .المصدر السابق.
3- 4) .المصدر السابق.

1-أخرج إمام الحنابلة أحمد في المسند عن عبد اللّه بن نجيّ،عن أبيه:أنّه سار مع علي-رضى اللّه عنه-فلما جازوا نينوى و هو منطلق إلى صفين،فنادى علي:اصبر أبا عبد اللّه! اصبر أبا عبد اللّه بشطّ الفرات! قلت:و ما ذا؟ قال:دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذات يوم وعيناه تفيضان.

قلت:يا نبي اللّه:أغضبك أحد؟ ما شأن عينيك تفيضان؟ قال:بل قام من عندي جبريل قبل فحدّثني:أنّ الحسين يُقتل بشطِّ الفرات،قال:فقال:هل لك إلى أن اشهدك من تربته؟ قال:قلت:نعم،فمدَّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا (1).

2-أخرج الحافظ الترمذي عن رزين قال:حدثتني سلمى،قالت:دخلت على أُم سلمة و هي تبكي فقلت:ما يبكيك؟ قالت رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم-تعني في المنام-و على رأسه و لحيته التراب،فقلت:مالك يا رسول اللّه؟ قال شهدتُ قتل الحسين آنفاً (2).

اقتصرنا على ذكر هذين الموردين،و من أراد الوقوف على عدد المآتم التي أُقيمت في عصر الرسول و بعد رحيله بين أهل بيته فعليه الرجوع إلى كتاب«سيرتنا و سنتنا سيرة نبيّنا و سنته»للعلّامة الأميني.

الثالثة:إن الغاية من عقد المجالس و تشكيل الأندية ليس هو إظهار الحزن و الندب على شهيد الطف فحسب،بل ثمة غاية أُخرى و هي تخليد الثورة الحسينية في نفوس الأُمّة حتى يتّخذها الأحرار نبراساً مضيئاً ينير درب الجهاد و التضحية،فإن الحسين عليه السلام كما يعرّفه ابن أبي الحديد

هو:سيد أهل الإباء الذي علّم الناس الحميّة و الموت تحت ظلال السيوف،اختياراً له على الدنيّة،أبو عبد

ص:679


1- 1) .مسند أحمد:60/2-61. [1]
2- 2) .سنن الترمذي:193/13. [2]

اللّه الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام عُرض عليه الأمان،فأنف من الذل،و خاف من ابن زياد ان يناله بنوع من الهوان إن لم يقتله،فاختار الموت على ذلك. (1)

نعم،إنّ الذين يسودهم الجبن و يروْن الخروج على الإمام الظالم حراماً لا تروقهم تلك المظاهر الحزينة و يكنّون للأحرار و سيّدهم حقداً دفيناً،يقول الشيخ عمر النسفي في كتابه العقائد النسفية:

و لا ينعزل الإمام بالفسق-أي الخروج على طاعة اللّه تعالى و ظلم عباده-لأنّ الفاسق من أهل الولاية،و ربّما يعلّل ذلك بأنّه قد ظهر الفسق و اشتهر الجور من الأئمة و الأمراء بعد الخلفاء الراشدين،و السلف كانوا ينقادون لهم،و لا يروْن الخروج عليهم. (2)

و ما أتقنه من برهان؟!

ص:680


1- 1) .شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:249/3. [1]
2- 2) .شرح العقائد النسفية [2]ممزوجاً مع المتن:185-186.

12

اشارة

نهي الإمام علي عليه السلام عن الغلو

يقول الشيخ:

1-و جاء في نهج البلاغة أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام قال:«و سيهلك في صنفان:محبّ مفرط يذهب به الحبّ إلى غير الحق،و مبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق،و خير الناس فيَّ حالاً النمط الأوسط فالزموه،و الزموا السواد الأعظم فإنّ يد اللّه مع الجماعة و إيّاكم و الفرقة» (1).

2-و جاء في نهج البلاغة ما يخالف اعتقاد الشيعة في عصمة الأئمة-حيث قال أمير المؤمنين-كما يروي صاحب النهج:«فلا تكفُّوا عن مقالة بحقّ،أو مَشُورة بعدل،فانّي لست في نفسي بفوق أن أُخْطِئ و لا آمن ذلك من فعلي» (2).

3-و في نهج البلاغة أيضاً كان علي عليه السلام يوصي ابنه الحسن عليه السلام حيث قال:

«فإن أشكل عليك في ذلك فاحمله على جهالتك به،فانّك أوّل ما خُلِقْتَ جاهلاً ثمّ علمت،و ما أكثرَ ما تجهل من الأمر و يتحيّر فيه رأيك، و يَضلُّ فيه بصرك ثمّ تُبصره بعد ذلك» (3).

ص:681


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 123، [1]شرح محمد عبده؛شرح ابن أبي الحديد:112/8. [2]
2- 2) .نهج البلاغة:الخطبة 211، [3]شرح محمد عبده؛شرح ابن أبي الحديد:101/11-102. [4]
3- 3) .نهج البلاغة: [5]قسم الرسائل:31،شرح محمد عبده؛شرح ابن أبي الحديد:74/16. [6]

4-كان علي يناجي ربّه بهذا الدعاء كما يروي صاحب النهج:«اللّهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني فإن عُدْتُ فَعُدْ علي بالمغفرة»إلى آخر الدعاء. (1)فهذا علي يدعو اللّه بأن يغفر ذنوبه من السهو و غيره فهل هذا ينافي العصمة. (2)

المناقشة:

الغلو هو عبارة عن تجاوز الحد و منه غلا السعر،يغلو غلاءً،و غلا بالجارية لحْمُها و عظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لِداتها.

و الغلو ممقوت أينما كان و حيثما كان و في أي أمر كان،و لا سيّما في الدين،و قد نهى عنه سبحانه في الكتاب العزيز مرتين،و قال: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» 3.

و المراد غلو النصارى في المسيح حيث اتّخذوه ربّاً و إلهاً.و على ذلك فالغلو هو الإفراط و يمكن أن يكون المراد هو الأعم حتّى يعمّ التقصير و التفريط أيضاً كغلو اليهود في أُمّ عيسى حتّى قذفوا مريم،فيكون المنهي عنه هو مطلق الخروج عن الحد الحقيقي من غير فرق بين الإفراط و التفريط و عليه بعض المفسرين. (3)

و قد نقل الزمخشري عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام قوله:«إنّ دين اللّه بين المقصّر و الغالي،فعليكم الفرقة الوسطى فيها يلحق المقصِّر و يرجع إليها الغالي» (4).

ص:682


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 75، [1]شرح محمد عبده؛شرح ابن أبي الحديد:176/6. [2]
2- 2) .تأمّلات في شرح نهج البلاغة:27.
3- 4) .تفسير القرطبي:21/6. [3]
4- 5) .ربيع الأبرار للزمخشري. [4]

و هناك كلمة قيّمة أُخرى نقلها الرضي عن علي عليه السلام في قصار الحكم،و هي:«الثناء بأكثر من الاستحقاق مَلَق،و التقصير عن الاستحقاق عِيٌّ أو حسد» (1).

إلّا أنّ المهم هو معرفة الحد الواقعي الذي لا ينبغي أن يتجاوزه الإنسان،لأنّ الإفراط في الثناء يعد ملقًى و التقصير يعد عيّاً أو حسداً،لكنَّه موضوع آخر خارج عن وضع هذا المؤلَّف،و لكن نقتصر على دراسة كلمات الإمام التي استدلّ بها فضيلة الشيخ على عدم عصمة الإمام أو عصمة ولده الحسن عليهما السلام.

أمّا الخطبة الأُولى فلا صلة لها بما يرتئيه الشيخ فإنّه يخبر عن صنفين:محب مفرط و مبغض مفرط،فالأوّل يذهب به الحب إلى غير الحق،كما إذا ذهب إلى أنّه ربّ،و الثاني يذهب به البغض إلى غير الحق فيصبح ناصبيّاً،و ليس هذا منطق الإمام وحده بل منطق القرآن الكريم.

و الشيعة تكفر من قال هو بربوبيته و من حسن الحظِّ ان الدهر قضى عليهم.

نعم ثَمّة شيء ربّما يخفيه فضيلة الشيخ في قرارة نفسه،و هو أنّه يظن أن الشيعة الإمامية من المحبّين المفرطين بشهادة أنّهم ينقلون فضائله و كراماته،و إخباره عن الغيب-بتعليم من نبيّه-و استجابة دعائه في برأ الأمراض الصعبة العلاج و زيارة ضريحه و التبرّك به و الدعاء و الصلاة عند مرقده،و لكنّ عزب عن الشيخ أنّه لو كان هذا ملاك الغلو فالمسلمون قاطبةً-إلّا من شذّ من أتباع محمد بن عبد الوهاب-من الغلاة حيث يعتقدون كل ما ذكرناه في حق النبي و يعملون نفس ما أشرنا إليه.

فأيّ غلو في نقل الفضائل التي ملأت الصحاح و المسانيد.

و أيّ غلو في أن يخبر الإمام عن الغيب بتعليم من النبي كما أخبر غير واحد من الأنبياء عن الغيب بتعليمه تعالى،و هذا هو النبي صالح عليه السلام يخبر عن

ص:683


1- 1) .قصار الحكم،برقم 347.

هلاك قومه بعد ثلاثة أيّام حيث قال لهم: «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» 1.

و هذا هو النبي يوسف عليه السلام يُخبر عن الغيب بتعليم من اللّه سبحانه في مواضع متعددة من الذكر الحكيم،منها قوله: «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» 2.

فعلم الغيب النابع من الذات غير المحدّد كمّاً و كيفاً من خصائص اللّه سبحانه،و أمّا الإخبار عنه في موارد محدّدة بإعلام من اللّه و تعليم منه فهو من خصائص الأنبياء و الأئمة و الأولياء.

و منه يُعلم سائر ما يعتقده الشيعة في حق إمامهم،و قد صدروا في اعتقادهم هذا عن الدليل.و التفصيل موكول إلى كتب العقائد.

و قد أوضح الإمام نفسه هذا الأمر،حينما قال له بعض أصحابه من بني كلب لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب،فضحك عليه السلام،و قال :

يا أخا كلب،ليس هو بعلم غيب و إنّما هو تعلّم من ذي علم! و إنما علم الغيب علم الساعة،و ما عدَّده اللّه بقوله: «إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ» ...فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلّا اللّه،و ما سوى ذلك فعِلمٌ علَّمَه اللّه نبيَّه فعَلَّمَنيهِ،و دعا لي بأن يَعِيَهُ صدري،و تضطمَّ عليه جوانحي (1).

و قال عليه السلام أيضاً:...فو الّذي فَلَقَ الحبّة،و بَرَأَ النَّسَمَةَ،إن الّذي أُنبِّئُكم به

ص:684


1- 3) .نهج البلاغة:الخطبة 124، [1]شرح محمد عبده.

عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم،ما كَذَب المُبَلِّغ،و لا جَهِلَ السامعُ... (1)

و أمّا الخطبة الثانية الّتي ربّما يستظهر منها جواز الخطأ على الإمام،أعني قوله:«فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل،فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ،و لا آمن من ذلك من فعلي إلّا أن يكفي اللّه من نفسي ما هو أملك به منّي» (2).

فهي على خلاف مقصود المستدل أدلّ،و ذلك لأنّ كلّ إنسان حسب ذاته ليس بفوق أن يخطئ كيف و هو فقير بالذات،لا يملك كمالاً، قال سبحانه: «يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» 3 .و قوله سبحانه:

«إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» 4 و إنّما يصان عن الخطأ في مرحلتي الفكر و العمل باعتصام من اللّه سبحانه و لا ينال تلك الفضيلة إلّا الأمثل فالأمثل بفضله سبحانه،و قد أشار يوسف في قوله «وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي» 5 إلى كلا الأمرين:

فإلى الأوّل:أي انّ الإنسان حسب ذاته لا يملك كمالاً و لا عصمة أشار إليه بقوله: «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ» .

و إلى الثاني:أي إنّ العصمة لطف من اللّه سبحانه أشار إليه بقوله: «إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّي» .

و من عجيب الأمر انّ الإمام في كلامه السابق يشير إلى كلا الأمرين أيضاً:

ص:685


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 97، [1]شرح محمد عبده.
2- 2) .نهج البلاغة:الخطبة 211، [2]شرح محمد عبده.

الأوّل:انّه حسب الذات ليس مصوناً عن الخطأ.

الثاني:انّه سبحانه إذا كفاه يكون مصوناً عن الخطأ.

فيشير إلى الأوّل بقوله:«فإنّي لست في نفسي بفوق ان أُخطِئ».

و إلى الثاني بقوله:«إلّا أن يكفي اللّه من نفسي ما هو أملك به منّي».

و كان على الشيخ أن يجتني من الشجرة الطيبة (خطبة الإمام) الثمرة الطيبة (عصمة الإمام عن الخطأ) و لكنه مع الأسف لأجل اعتقاده المسبق أفسد الثمرة و لم يستسغها.

و ليس هذا (كلّ إنسان خاطئ بالذات مصون عنه باعتصام اللّه) منطق الإمام وحده،بل منطق الأنبياء كلّهم،حيث يأمر سبحانه نبيه أن يقول: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاّ ما شاءَ اللّهُ» 1.

و أما الخطبة الثالثة-أعني:خطاب الإمام لنجله الحسن عليه السلام-:«فإن أشكل عليك في ذلك فاحمله على جهالتك به،فإنّك أوّل ما خُلِقْت جاهلاً ثمّ علمتَ،و ما أكثر ما تجهل من الأمر و يتحيّر فيه رأيك و يضلّ فيه بصُرك ثمّ تُبصره بعد ذلك» (1).

فقد استدلّ به الشيخ على أن الإمام الحسن عليه السلام لم يكن مصوناً عن الخطأ،و لكنّ الاستنتاج بعيد عن الصواب،و نابع عن عدم الدقة في معرفة هدف الرسالة،و ذلك:

إنّ الرسالة و إن كانت موجّهة إلى الحسن عليه السلام،و هو فيها محور توجيهات أمير المؤمنين عليه السلام،إلّا أنّ الغاية القصوى منها-كما هو الشأن في رسائل المصلحين

ص:686


1- 2) .نهج البلاغة: [1]قسم الرسائل:31،شرح محمد عبده.

- هي الإرشاد و النصح لعامّة الآباء و الأبناء.

و يؤيّد ذلك أنّ الإمام يخاطبه بقوله:«إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية،ما أُلقي فيها من شيء قَبِلَتْه،فبادرتُكَ بالأدب قبل أن يقسو قلبك و يشتغل لبُّك».

يخاطبه الإمام بهذا القول مع أنّ الحسن عليه السلام كان يومذاك من أبناء الخمسة و الثلاثين حيث إنّ الإمام كتبها عند منصرفه من صفين في منطقة«حاضرين»و عندئذ فما معنى قوله«فبادرتك بالأدب»و قد انقضى شبابه و التحق بالكهول (1).

و قد قلنا:إنّ ما سلكه الإمام من الخطاب لولده العزيز و الغاية هي عامّة أولاد المسلمين،هو مسلك المصلحين حيث يخاطبون أبناءهم و مَن يتعلّق بهم و يوبّخونهم،لغاية إسماع الغير،و قد ورد في المثل:«إيّاك أعني و اسمعي يا جارة».

على أنّ المراد من الجهل في العبارة هو الجهل بأسرار القدر و خفاء وجه الحكمة في بعض الأُمور،فلم يدلّ دليل على أنّ السبط الحسن عليه السلام يعلم عامّة أسرار الخلقة،و لعلّ هناك علوماً استأثر اللّه بها لنفسه.

و أمّا الخطبة الرابعة-أعني قوله-:«اللّهم اغفر لي ما أنت أعلم به منّي فإن عُدْتُ فعُد عليَّ بالمغفرة...».

فالعارف بأدعية الإمام و أهل بيته الواردة في الصحيفة العلوية أو الصحيفة السجادية يعرف أنّ هذه الأدعية لغاية تأديب الناس و تعليمهم كيفيةَ الاستغفار من الذنوب،فاقرأ يا فضيلة الشيخ دعاء«كميل»تجد فيه حلاوة المناجاة،و انّ أكثر ما ذكره الإمام و استغفر منه لا يُحتمل في حقّه، بل لا يحتمل في حقّ من دونه،و إنّما ذكرها تأدّباً و تعليماً.

و هناك بيان آخر ذكره الكاتب الكبير أبو الفتح الإربلي (المتوفّى 693 ه) في

ص:687


1- 1) .الكهل من كان بين الثلاثين و الخمسين في العمر.

كتاب«كشف الغمة في معرفة الأئمة»فقال:إنّ الأنبياء و الأئمة عليهم السلام تكون أوقاتهم مشغولة باللّه تعالى،و قلوبهم مملوءة به،و خواطرهم متعلّقة بالملإ الأعلى،و هم أبداً في المراقبة،كما قال عليه السلام:«أعبد اللّه كأنّك تراه،فإن لم تراه فانّه يراك»،فهم أبداً متوجهون إليه و مقبلون بكلّهم عليه.

فمتى انحطّوا عن تلك الرتبة العالية،و المنزلة الرفيعة،إلى الاشتغال بالمأكل و المشرب،و التفرغ إلى النكاح و غيره من المباحات،عدّوه ذنباً و اعتقدوه خطيئة و استغفروا منه (1).

و حاصل كلامه عبارة عمّا ورد في بعض الآثار من أن«حسنات الأبرار سيئات المقرّبين»و على هذا يحمل ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال:«إنّه ليُران على قلبي و إنّي لأستغفر اللّه بالنهار سبعين مرّة».

ص:688


1- 1) .كشف الغمة:47/3. [1]

13

اشارة

ليس لدفع الموت سبيل

يقول الشيخ:

جاء في نهج البلاغة عن عليّ أنّه قال:«أُوصيكم بتقوى اللّه الذي ألبسكم الرياش و أسبغ عليكم المعاش،و لو أن أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً أو لدفع الموت سبيلاً لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام» (1).

و يضيف الشيخ بأنّ كلام الإمام ينقض ما نقله الكليني في«الكافي»بأنّ الأئمة يعلمون متى يموتون،و انّهم لا يموتون إلّا باختيار منهم، كيف؟ و عليّ يقول:أو لدفع الموت سبيلاً.

المناقشة:

لا شك في أنّه لم يكتب لأحد البقاءُ إلّا لِذات اللّه سبحانه و وجهه،قال تعالى «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ* وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ » 2 .و هو من أوضح المعارف القرآنية.

و الإمام في خطابه بصدد إيقاظ الغافل،غير المكترث بفرائض اللّه سبحانه

ص:689


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 177، [1]شرح محمد عبده؛شرح ابن أبي الحديد:92/10. [2]

و عزائمه،المعتمد على قوته و منعته،غافلاً عن أنّ المنعة و القدرة غير مانعة عن قضاء اللّه سبحانه،و لو كانت مانعة لكان سليمان النبي أولى بذلك،حيث كانت الريح العاصفة تجري بأمره،و الشياطين يعملون له و... (1)و مع ذلك ما أغنته عند ما قُضي عليه الموت و أدركه الأجل (2).

و الآن نرجع إلى ما نقله عن«الكافي»،فقد نقل عنه أمرين:

1-إنّ الأئمة يعلمون متى يموتون.

2-إنّ الأئمة يموتون باختيارهم.

و زعم أنّ بين هذين الأمرين و ما ذكره الإمام في خطبته تعارضاً.

أقول:أيّة معارضة،بين ما جاء في خطاب الإمام من فناء كل إنسان و بين ما روي أنّ فريقاً من الناس يعلمون متى يموتون،و هل علم الإنسان بوقت الموت عين بقائه في الدنيا ؟

و إن كنت في ريب فلاحظ القضيتين التاليتين:

1-كل من عليها فان.

2-بعض الناس يعلم متى يموت.

فهل ترى بين القضيتين تعارضاً مع أنّه يشترط في التناقض وحدة المحمول،فهل المحمول فيهما واحد؟

و أمّا الأمر التالي و هو أنّهم لا يموتون إلّا باختيارهم فليس معناه أنّهم لو اختاروا البقاء في الدنيا،لما ماتوا،كيف و قد ورد الوحي في بيوتهم: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها

ص:690


1- 1) .الأنبياء:81-82. [1]
2- 2) .سبأ:14. [2]

فانٍ» 1 و «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» 2 بل معناه انّه سبحانه كتب لهم آجالاً مختلفة فخيّرهم بينها.

أضف إلى ذلك انّ كتاب«الكافي»،كتاب حديث خاضع للنقاش في السند و الدلالة،و ليس عندنا كتاب صحيح غير خاضع للمناقشة إلّا كتاب اللّه سبحانه،حتّى و لو صحّ السند و تمت الدلالة فلا يكون أيضاً دليلاً على العقيدة،لأنّه لا يحتج بخبر الآحاد على المسائل الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها الإذعان،إذ لا يحصل اليقين بالخبر الواحد.هذا و للبحث صلة لا يسعها المقام.

ص:691

14

اشارة

هل الأئمة يوحى إليهم

أو

أنهم محدَّثون

يقول الشيخ:

جاء في نهج البلاغة عن علي-رضى اللّه عنه-انّه قال في حق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:«أرسله على حين فترة من الرسل...فقفّى به الرسل و ختم به الوحي». (1)

فأين هذا القول مما في الكافي (2)«في الفرق بين الرسول و النبي و الإمام ان الرسول ينزل عليه جبرائيل فيراه و يسمع كلامه،و الإمام هو الّذي يسمع الكلام و لا يرى الشخص» (3).

المناقشة:

لا شك ان سيدنا محمداً صلى الله عليه و آله و سلم رسول اللّه و خاتم الرسل و به خُتم الوحي و الرسالة،و يعدّ ذلك من ضروريات الدين،فمن أنكر الخاتمية فقد أنكر أصلا ضروريّاً من أُصول الإسلام،و إنكاره يلازم إنكار رسالته صلى الله عليه و آله و سلم و قد أشبعنا البحث في

ص:692


1- 1) .نهج البلاغة:الخطبة 133، [1]شرح محمد عبده؛و شرح النهج. [2]
2- 2) .الكافي:176/1. [3]
3- 3) .تأمّلات في كتاب نهج البلاغة:29. [4]

ذلك في كتابنا«الخاتمية في الكتاب و السنّة»و ذكرنا الآيات الكريمة و الروايات المتضافرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أئمة أهل بيته عليهم السلام الدالة على الخاتمية.

و قد أشار الإمام علي عليه السلام إلى خاتمية الرسول في غير واحدة من خطبه و منها في الخطبة الأُولى من قوله:«إلى أن بعث اللّه سبحانه محمداً رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لإنجاز عِدَته و تمامِ نبوته،مأخوذاً على النبيّين ميثاقُه،مشهورة سماتُه».

غير أن فضيلة الشيخ خلط بين النبي صلى الله عليه و آله و سلم و المحدَّث و زعم أن كل من أُلهِم فهو نبيّ،و أنّ الوحي و الإلهام أمر واحد.و هذا وهْم،كيف و قد أصفقت الأمّة الإسلامية على أن في الأُمّة لدة ما في الأمم السابقة أناس محدَّثون،و قد أقرّ بذلك النبي الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم كما ورد في الصحاح و المسانيد من طرق الفريقين العامّة و الخاصّة-كما سيوافيك-.

و المحدَّث من تُكلِّمه الملائكة بلا نبوة و لا رؤية صورة،أو يُلهم و يُلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام و المكاشفة من المبدأ الأعلى،أو يُنكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره،أو غير ذلك من المعاني الّتي يمكن أن يراد منه،فوجود مَنْ هذا شأنه من رجالات هذه الأمّة مُتَّفَق عليه بين فرق الإسلام،بيد أن الخلاف في تشخيصه،فالشيعة ترى انّ عليّاً أمير المؤمنين و أولاده الأئمة عليهم السلام من المحدَّثين،و أهل السنّة يروْن أن منهم عمر بن الخطاب:

1-أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب عن أبي هريرة،قال:قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء،فإن يكن من أمتي منهم أحدٌ فعمر (1).

2-أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال:قال رسول اللّه انّه قد

ص:693


1- 1) .صحيح البخاري:ج 2 باب مناقب عمر بن الخطاب.و الحديثان تحت رقم 3689.

كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدَّثون إنْ كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب. (1)

3-أخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون فان يكن في أمتي منهم أحد فان عمر بن الخطاب منهم (2).

و قد فسِّر المحدَّث بالملْهَم.

قال أبو جعفر الطحاوي:معنى قوله«محدَّثون»أي مُلْهمون،و كان عمر-رضى اللّه عنه-ينطق بما كان ينطق ملهماً (3).

و قال النووي في شرح مسلم اختلف تفسير العلماء في المراد بمحدثون،فقال ابن وهب:«ملْهمون»و قيل«مصيبون إذا ظنوا»فكأنما حُدِّثُوا بشيء فظنوه،و قيل«تكلمهم الملائكة»و جاء في رواية«مكلّمون»و قال البخاري«يجري الصواب على ألسنتهم و فيه إثبات كرامات الأولياء» (4).

قال ابن الأثير:انهم الملهمون و الملهم هو الذي يُلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدساً و فراسة.و هو نوع يختص به اللّه عز و جل من يشاء من عباده الذين اصطفى مثل عمر،كأنهم حُدِّثوا بشيء فقالوه (5).

و قال القرطبي:انهم تكلّموا بأمور عالية من أنباء الغيب،و نطقوا بالحكمة

ص:694


1- 1) .المصدر السابق.
2- 2) .صحيح مسلم بشرح النووي:15 برقم الحديث 6154.
3- 3) .مشكل الآثار:178/2 رقم الحديث 1787.
4- 4) .شرح صحيح مسلم للنووي:ذيل الحديث 6154.
5- 5) .النهاية: [1]مادة حدّث.

الباطنة فأصابوا فيما تكلّموا و عُصِموا فيما نطقوا (1).

و لأعلام القوم حول المحدَّث و الروايات الواردة في حقه كلمات وافية تعرب-بوضوح-عن وجود الفرق بين المحدَّث و النبي و انّه ليس كل من يُنكت في أذنه أو يلقى في قلبه نبياً،و اختلاف الشيعة مع السنّة إنّما هو في المصاديق فالشيعة-كما قلنا-يرون أن عليّاً أمير المؤمنين و أولاده الأئمة من المحدثين و أهل السنّة يرون أن منهم عمر بن الخطاب.

فما هذه الهمهمة و الدمدمة مع الاتفاق في الكبرى و الاختلاف في الصغرى،و بذلك تستطيع على تفسير كل ما ورد حول علم الأئمة عليهم السلام،مما أشار إليه فضيلة الشيخ،فخلط بين النبي و المحدَّث.

أن اللّه سبحانه ينسب إلى بعض عباده علما لدنّيّاً و يقول: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً» 2.

و قد بلغ من العلم شأواً أنْ صار معلّماً لنبي زمانه و رسول عصره و قد جاءت قصته في سورة الكهف على نحو مفصَّل.إن صاحب موسى في السفينة و غيرها لم يكن نبيّاً،و لكنه أوتي من العلم ما لم يؤت موسى الكليم،و لذلك قال له موسى: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً» 3.

و هذه القصة توقفنا على عدم الملازمة بين كون الإنسان محدَّثاً من جانب الغيب،و معلماً من لدنه و كونه نبياً.

و كان المتوقع من الشيخ الفاضل أن يحيط علماً بما في الصحيحين و شروحهما و لا يتّهم كل من يقول بالإلهام و التحدث بالغيب بالقول بالنبوة.هذا ما كنا نتمناه

ص:695


1- 1) .تفسير القرطبي:79/12. [1]

و لكن (ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه) و لو كان فضيلة الشيخ عارفاً بمنطق الشيعة و عقائدهم لعرف أن جميع ما في الكافي ممّا يتعلّق بهذا الموضوع يرجع إلى أنهم محدَّثون مُلهَمون من دون أن يكونوا أنبياء.

و لأجل إيقافه على جليّة الحال،نذكر حديثاً واحداً في المقام ليعلم ما هو المراد من تكلم الملائكة معهم.

أخرج الكليني عن حُمران بن أَعيَن قال:قال أبو جعفر عليه السلام:«إنّ عليّاً كان مُحدَّثاً»فخرجتُ إلى أصحابي فقلتُ:جئتكم بعجيبة.فقالوا:

و ما هي؟ فقلت:سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:كان عليٌّ مُحدَّثاً،فقالوا:ما صنعت شيئاً أ لا سألته من كان يحدِّثه؟ فرجعت إليه فقلت:إني حدّثت أصحابي بما حدّثتني فقالوا:ما صنعت شيئاً أ لا سألته من كان يحدّثه؟ فقال لي:«يحدِّثه ملَك».قلت:تقول إنّه نبيٌّ؟ قال:فحرّك يده هكذا،«أو كصاحب سليمان (1)،أو كصاحب موسى (2)،أو كذي القرنين (3)،أ وَ ما بلغكم أنّه قال:و فيكم مثله». (4)

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ

أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ» (5)

ص:696


1- 1) .يشير إلى قوله سبحانه: «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» .النمل:40. [1]
2- 2) .يشير إلى قوله سبحانه: «...وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً» الكهف:65. [2]
3- 3) .يشير إلى قوله سبحانه: «إِنّا مَكَّنّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً» الكهف:84. [3]
4- 4) .الكافي:270/1 باب ان الأئمة محدَّثون. [4]
5- 5) .ق:37.

الآنَ حَصْحَص الحق

هنا خاتمة المطاف،و نهاية الحوار،و قد درسنا جلَّ ما طرحه الشيخ حول النهج من تأمّلات و إشكالات،فحصحص الحق،و بانت الحقيقة بأجلى مظاهرها و تبيّن أنّ أكثر ما تبنّاه،انتزاعات شخصية من كلام الإمام جرّته إليها عقيدته المسبقة،و لا صلة لها بكلام الإمام.

ثمّ ان فضيلة الشيخ-حفظه اللّه-،وعد في آخر الرسالة ان له مع القرّاء لقاءات أُخرى تدور حول منزلة آل البيت في كتب السنّة،و هو موضوع كلامه في اللقاء القادم.

و نحن بدورنا نقترح عليه أمراً-فيه صلاح الأُمّة الإسلامية و صيانة وحدتها و سعادتها و رقيّها-و هو السعي في عقد مؤتمر حرّ يضمّ إلى جانبه لفيفاً من علماء الفريقين لمناقشة الموضوعات التي هو بصدد طرحها في الأعداد القادمة،و الأخذ بنتائج المؤتمر و نشرها بين الملأ الإسلامي،فإنّ يد اللّه مع الجماعة،و فيه ضمان لتوحيد الكلمة و حفظ الوئام و السلام و الدفاع عن شرف النحلة و كيان الملّة و الشريعة،و الاعتصام بحبل اللّه المتين الذي لا ينفصم.

إن فضيلة الشيخ صالح الدرويش قاض بالمحكمة الكبرى بالقطيف فالمتوقع من فضيلته التواصل مع علماء الشيعة و مفكريهم في نفس منطقة عمله«القطيف»و الّتي احتضنت التشيع منذ بداية العهد الإسلامي،و لا يزال أهلها متمسكين بمذهب أهل البيت عليهم السلام،و فيها علماء فضلاء،فلو كان فضيلته على اتصال و تواصل معهم،لأمكنه الاطلاع على و جهات نظر الشيعة من مصادرهم المعتمدة،و الحوار و التباحث حول مختلف القضايا المطروحة.

ص:697

كما أن ذات التواصل بين علماء الأُمّة و إن اختلفت مذاهبهم أمر مطلوب و مفيد،يساعد على تجنب التفرقة و الخصام،و يعين على تحقيق الوحدة و الوئام،و يوفّر الاجواء المناسبة للبحث و الحوار،و يتيح المجال لكل طرف أن يعرف الآخر على حقيقته،بعيداً عن التوهمات و الاشاعات المغرضة.

نسأل اللّه تعالى أن يجمع شمل المسلمين و يوحد كلمتهم و يكفيهم شر الاعداء إنّه سميع مجيب.

هذا هو اقتراحنا على صاحب الفضيلة،و لعلّه يقع منه موقع القبول،و إن أبى و استمرّ في طرح هذه المواضيع فنحن أيضاً على أهبة الاستعداد لمناقشتها بالحجج و البراهين،و قد اشتهر«إن الحقيقة بنت البحث».

و اللّه من وراء القصد

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

20 جمادى الأُولى1423/ ه

ص:698

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.